You are on page 1of 80

‫أسباب ورود الحديث‬

‫تحليل و تأسيس‬
‫العدد (‪)37‬‬

‫جمادى األولى ‪ 1414‬هـ‪ ،‬السنة الخامسة عشرة‬

‫الدكتور‪:‬محمد رأفت سعيد‬

‫تـــقــــديـــــم‪ :‬عمر عبيد حسنه‬


‫الحمد هلل الذي اختص األمة المسلمة بالرسالة الخاتمة‪ ،‬وناط بها حملها‪ ،‬ونقلها‪ ،‬وحراستها‪ ،‬والدعوة‬
‫إليها‪ ،‬وجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‪ ،‬وتؤمن باهلل‪ ،‬وربط‬
‫استمرار الخيرية والتمكين‪ ،‬بحمل األمانة‪ ،‬والقيام بأعباء االستخالف اإلنساني‪ ،‬وفق منهج اهلل‪ ،‬في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬الذين يشكالن المعيار المعصوم‪ ،‬ومركز الرؤية‪ ،‬ودليل العمل‪ ،‬والتعامل مع الحياة‬
‫واألحياء‪ ..‬هذا المعيار‪ ،‬أو هذه المعيارية‪ ،‬تعتبر من أخص خصائص الرسالة السماوية الخاتمة‪،‬‬
‫حتى ال يداخلها أي شك‪ ،‬أو احتمال تحريف أو تبديل‪ ،‬فالقرآن معيار‪ ،‬يقول تعالى‪( :‬وأنزلنا إليك‬
‫الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه) (المائدة‪ ،)48:‬فالهيمنة هنا تعني فيما‬
‫تعني‪ :‬المعيارية‪ ،‬والتصويب‪ ،‬والرقابة‪ ،‬لما داخل الكتب السماوية السابقة‪ ،‬من التحريف‪ ،‬والتبديل‪،‬‬
‫واإلخفاء‪ ،‬واإللغاء‪ ،‬والنسيان‪.‬‬

‫فالقرآن الخالد بهذا يصوب التاريخ‪ ،‬ويصوب الحاضر‪ ،‬ويصوب التوجه نحو المستقبل‪.‬‬

‫والرسول صلى اهلل عليه وسلم بسنته‪ ،‬وسيرته‪ ،‬وبيانه للقرآن‪ ،‬وتجسيده له في الواقع ‪ ،‬معياُر أيضًا‪،‬‬
‫يقول تعالى‪( :‬يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا وُم بِّش ًر ا ونذيًر ا )(األحزاب‪ ،)45:‬ويقول‪( :‬ليكون‬
‫الرسول عليكم شهيًد ا )(الحج ‪ ،)78‬والشهادة تعني‪ :‬بيان الحق‪ ،‬وإ دانة الباطل‪ ،‬وكشف الزيف‪.‬‬

‫واألمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب والسنة‪ ،‬هي أمة معيارية أيضًا‪ ،‬يقول‬
‫تعالى‪( :‬وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا ُش هداء على الناس… )(البقرة‪.)143:‬‬

‫فالشهادة على الناس‪ ،‬والقيادة لهم‪ ،‬وفق منهج اهلل في الكتاب والسنة‪ ،‬هي من أخص خصائص‬
‫المعيارية‪ .‬ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة يستحيل عليها عقًال وواقعًا‪ ،‬أن تتواطأ على الخطأ‪ ،‬ألنها‬
‫تمتلك القيم المعيارية المعصومة‪ ،‬ويمثلها ويجسدها باستمرار ظهور الطائفة القائمة على الحق‪ ،‬التي‬
‫ال يضرها من خالفها‪ ،‬حتى يأتي أمر اهلل‪ ،‬وهي على ذلك‪ ،‬األمر الذي يقتضي عصمة عموم األمة‪،‬‬
‫التي يشير إليها قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪( :‬ال تجتمع أمتي على خط أ)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬ما‬
‫كان اهلل ليجمع هذه األمة على ضاللة أبًد ا )(رواه الحاكم)‪.‬‬

‫ألن من لوازم الرسالة الخاتمة‪ ،‬أو من لوازم الخاتمية‪ ،‬وتوقف النبوات‪ ،‬والتصويب‪ :‬استمرار القيم‬
‫في الكتاب والسنة‪ ،‬صحيحة سليمة من كل تحريف‪ ،‬أو تبديل‪ ،‬أو تأويل‪ ،‬ليصبح التكليف صحيحًا‬
‫عقًال وشرعًا‪ ،‬ويترتب الثواب والعقاب‪ ..‬ومن لوازمها أيضًا‪ ،‬الخلود‪ ،‬الذي يعني‪ :‬استمرار تجسد‬
‫هذه القيم في الواقع‪ ،‬وقدرتها على إنتاج نماذج تثير االقتداء‪ ،‬وتظهر بالحق في كل زمان ومكان‪،‬‬
‫وتمتلك اإلمكانية لمعالجة المشكالت الطارئة‪ ،‬والتعامل مع المتغيرات‪ ،‬حتى يرث اهلل األرض ومن‬
‫عليها‪.‬‬

‫ولعل من مقتضيات الخاتمية أيضًا‪ ،‬تكفل اهلل سبحانه وتعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة‪ ،‬من أي‬
‫تحريف أو تبديل‪ ،‬سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه‪ ،‬أو تحريفه بالتأويل‪ ،‬وهو الخروج‬
‫بالمعنى عما وضع له اللفظ‪ ،‬قال تعالى‪( :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإ نا له لحافظون )(الحجر‪ ،)9:‬وقال‪:‬‬
‫(إَّن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع ُقرآنه * ثم إن علينا بيانه )(القيامة‪ ، )19-17:‬فالتكفل‬
‫بالحفظ للنص اإللهي‪ ،‬والحفظ والحراسة لبيانه عن طريق النبوة‪ ،‬يعتبر من أبرز سمات الرسالة‬
‫الخاتمة‪ ،‬وأخص خصائصها‪.‬‬

‫والصالة والسالم على معِّلم الناس الخير‪ ،‬المبين للناس ما نزل إليهم‪ ،‬يقول تعالى في بيان مهمته‪:‬‬
‫(وأنزلنا عليك الذكر لُتبِّين للناس ما ُنِّز ل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل‪ ،)44:‬فجاء حفظ السنة‬
‫والبيان النبوي‪ ،‬والعناية بهما‪ ،‬ثمرة الزمة لحفظ القرآن‪ .‬وامتازت األمة المسلمة عن غيرها من‬
‫األمم السابقة والالحقة‪ ،‬بالرواية واإلسناد‪ ،‬تلك الوسيلة التي ال بد منها لحفظ القيم‪ ،‬والقيام بمهمة‬
‫البالغ المبين‪ ،‬والتوصيل‪ ،‬والنقل الثقافي‪ ،‬على الوجه الصحيح‪ ،‬التي اعتبرها اهلل سبحانه وتعالى‬
‫سبيل النجاة‪ ،‬بقوله‪( :‬قل لن يجيرني من اهلل أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا * إال بالغًا من اهلل‬
‫ورساالته )(الجن‪ ،)22،23:‬وأمر بها الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع بقوله‪( :‬ليبلغ‬
‫الشاهد الغائب‪ ،‬فإن الشاهد عسى أن يبِّلغ من هو أوعى له منه )(رواه البخاري)‪ ،‬وقال‪( :‬فُر َّب مبَّلغ‬
‫أوعى من سامع )(رواه الترمذي وأحمد)‪ ،‬وبذلك لم يقتصر الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أهمية‬
‫النقل (الرواية)‪ ،‬وإ نما نبه أيضًا إلى فقه الرواية ووعيها (الدراية)‪ ،‬وبهذا استحق المسلمون وراثة‬
‫القيادة الدينية‪ ،‬بعد نقض بني إسرائيل للميثاق‪ ،‬وتحريفهم للقيم السماوية‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬
‫فهذا كتاب األمة السابع والثالثون‪( :‬أسباب ورود الحديث‪ ،‬تحليل وتأسيس)‪،‬للدكتور محمد رأفت‬
‫سعيد‪ ،‬في سلسلة "كتاب األمة"‪ ،‬التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة األوقاف والشؤون‬
‫اإلسالمية في دولة قطر‪ ،‬مساهمة في بناء شخصية المسلم المعاصر‪ ،‬وتقويم سلوكه ‪ ،‬وضبط حركته‬
‫بالقيم اإلسالمية‪ ،‬األمر الذي ال يتأتى إال بإعادة بناء المرجعية‪ ،‬وتشكيل مركز الرؤية‪ ،‬التي تحققها‬
‫معرفة الوحي في الكتاب والسنة‪ ،‬وتنطلق منها‪ ،‬وتمتد بها معارف العقل‪ ،‬ليستأنف المسلم دوره‪،‬‬
‫ويستعيد فاعليته لحمل األمانة‪ ،‬التي كلفه اهلل بها‪ ،‬وتحقيق العبودية هلل‪ ،‬وإ لحاق الرحمة بالناس‬
‫أجمعين‪ ،‬وإ بصار طريق العمران البشري‪ ،‬الذي ينسجم مع نسقه الحضاري‪ ،‬ومعادلته االجتماعية‪،‬‬
‫في ضوء قيمه‪ ،‬واستصحاب تطبيقها في الواقع‪ ،‬من خالل تحديد موقعه بدقة في المسيرة التاريخية‬
‫لألمة المسلمة‪ ،‬بعيًد ا عن األنماط‪ ،‬والقيم االستعمارية لحضارة الغالب‪ ،‬المفروضة عليه‪.‬‬

‫وقد تكون المعادلة الصعبة المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم‪ ،‬والتي ُيْطلُب إليه اإلحاطة بعلمها‪،‬‬
‫ليكتشف الخلل‪ ،‬ويبصر سبيل الخروج‪ :‬هي في انتمائه لماٍض متألق‪ ،‬على األصعدة المتعددة‪،‬‬
‫ومعايشته لواقع متخلف‪ ،‬يعاني منه على مختلف األصعدة أيضًا‪ ،‬على الرغم من أن أمته المسلمة‪،‬‬
‫صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة‪ ،‬وأنها تمتلك الخطاب اإللهي السليم‪ ،‬الذي يصوب طريقها‪ ،‬ويمنحها‬
‫الطاقات الفاعلة‪ ،‬والقيم الروحية‪ ،‬والتجربة الحضارية التاريخية‪ ،‬كما تمتلك اإلمكانات‪ ،‬والطاقات‬
‫المادية الهائلة‪ ،‬المركوزة في بالدها‪ ،‬والتي يمكن ‪ -‬لو ُأحسن توظيفها ‪ -‬أن تقود حركة العالم‪،‬‬
‫وتعّين وجهته‪ ،‬وتسترد إنسانية إنسانه‪ ،‬وفقًا لمنهج اهلل‪.‬‬

‫وإ ذ حق لنا أن نقول‪ :‬بأن الحاضر هو مستقبل الماضي‪ ،‬أدركنا أن واقعنا وحاضرنا‪ ،‬جاء ثمرة‬
‫ألصول حضارية‪ ،‬ومذهبيات وفلسفات عقائدية‪ ،‬بعيدة عن قيمنا‪،‬وتاريخنا‪ ،‬ونسقنا الحضاري؛ وأن‬
‫فجوة التخلف التي نعاني منها‪ ،‬أو المعادلة الصعبة التي نعيشها‪ ،‬إنما هي بسبب انسالخنا عن قيمنا‬
‫في الكتاب والسنة‪ ،‬وليس بسبب التزامنا بها‪ ،‬وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا‪ ،‬ونحاول قياسه‪،‬‬
‫وتصويبه‪ ،‬بقيم غريبة عنه‪ ،‬مع أن األمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض‪،‬‬
‫وإ بصار سبل الخروج‪ ،‬أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها‪ ،‬بأصولها وقيمها الحضارية‪ ،‬ال بأصول‬
‫وقيم حضارية غريبة عنها‪ ،‬لنكتشف الخلل‪ ،‬ونصّو ب المعادلة‪.‬‬

‫وإ ذا صح لنا‪ ،‬من استقراء التاريخ‪ ،‬ودراسة سنن التداول الحضاري‪ ،‬القول‪ :‬بأن نهوض أي مجتمع‪،‬‬
‫مرهون إلى حد كبير‪ ،‬بتوفير ظروف وشروط ميالده األول‪ ،‬أدركنا في ضوء ذلك‪ ،‬قولة اإلمام مالك‬
‫رحمه اهلل تعالى‪ :‬ال يصلح آخر هذه األمة إال بما صلح به أولها‪ ،‬وأدركنا األبعاد الكاملة‪ ،‬لحديث‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم الذي يرويه اإلمام أبو داود في المالحم‪" :‬يبعث اهلل لهذه األمة على‬
‫رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"‪ ..‬هذا التجديد‪ ،‬الذي يعني فيما يعني‪ :‬العودة إلى األصول‪،‬‬
‫والينابيع األولى‪ ،‬ومحاولة إزالة الغبش‪ ،‬واستئصال نابتة السوء واالبتداع‪ ،‬وتحكم بعض التقاليد‬
‫االجتماعية‪ ،‬واختالطها بالتعاليم الشرعية‪ ،‬واستلهام التطبيق في المجتمع األول القدوة‪ ،‬واستدعاء‬
‫المناخ التربوي والنفسي والثقافي‪ ،‬لظروف وشروط الميالد األول‪ ،‬الذي يمكن من التجديد‪،‬‬
‫واالنبعاث‪ ،‬وإ عادة النهوض‪.‬‬

‫ومن هنا يتأكد لنا أيضًا‪ ،‬وفي كل الظروف واألحوال‪ ،‬أهمية العودة باستمرار إلى دراسة الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬كقيم معيارية؛ ودراسة السيرة النبوية‪ ،‬كأنموذج بياني تطبيقي‪ ،‬لتنزيل هذه القيم على الواقع‪،‬‬
‫واألخذ بيده لالرتقاء‪ ،‬وتقويم سلوكه بها؛ والتبصر بأسباب النزول للقرآن‪ ،‬والورود للحديث‪ ،‬كوسائل‬
‫إيضاح معينة على فهم آليات التطبيق والتنزيل للقيم على الواقع‪ ،‬وكيفيات التعامل معها‪ ،‬من خالل‬
‫االستطاعات المتاحة‪ ،‬والظروف المحيطة‪.‬‬

‫ولعل من األمور األساسية‪ ،‬التي ال بد من مداومة التأكيد عليها‪ ،‬وتكرار القول فيها‪ :‬أن من لوازم‬
‫الخاتمية وتوقف النبوة‪ :‬سالمة خطاب التكليف‪ ،‬من التحريف‪ ،‬والتبديل واالنتحال‪ ،‬والغلو‪ ،‬والتأويل‪،‬‬
‫حتى يكون التكليف صحيحًا‪ ،‬ويترتب عليه الثواب والعقاب ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬ويتحقق العدل اإللهي‪..‬‬
‫وأن من لوازم الخاتمية أيضًا‪ :‬الخلود‪ ،‬وتجرد النص اإللهي في الكتاب والسنة‪ ،‬عن حدود الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وأسباب النزول والورود‪ ،‬ألن العبرة بعموم اللفظ‪ ،‬ال بخصوص السبب‪ ،‬كما هو مقرر عند‬
‫علماء األصول‪ ،‬فالخلود يعني‪ :‬القدرة على العطاء‪ ،‬واالمتداد‪ ،‬وتوليد األحكام‪ ،‬والبرامج‪ ،‬واالستجابة‬
‫لمعالجة المشكالت‪ ،‬ومواجهة المتغيرات‪ ،‬في كل زمان ومكان‪ ،‬والقدرة على إنتاج النماذج التي‬
‫تظهر بالحق‪ ،‬وتثير االقتداء في كل زمان ومكان أيضًا‪.‬‬

‫وقد يكون من أخطر اإلشكاالت واإلصابات‪ ،‬التي لحقت بالنص السماوي السابق‪ ،‬هي في عملية‬
‫تحريف الكلم عن مواضعه‪ ..‬والتحريف كما هو معلوم‪ ،‬قد يكون بتبديل األلفاظ‪ ،‬ليتغير المعنى‬
‫والتكليف المطلوب‪ ،‬تبعًا لذلك‪ ،‬أو تغييب وإ خفاء بعض ما أنزل اهلل‪ ،‬وإ براز اآلخر‪ ،‬لكي يتوافق مع‬
‫الرغبات واألهواء‪ ،‬ويحقق المصالح الموهومة في الدنيا‪ ..‬هذا التقطيع للرؤية الشاملة‪ ،‬التي يمنحها‬
‫النص اإللهي‪ ،‬أو هذا اإليمان‪ ،‬ببعض الكتاب والكفر ببعض‪ ،‬هو سبب الخزي الذي لحق بأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬والذي اعُتبر من علل التدين‪ ،‬وأسباب االنقراض‪ ،‬التي ُح ِّذ ر المسلمون من الوقوع فيها‪ ،‬يقول‬
‫تعالى‪( :‬فبما نقضهم ّم يثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ُيحّر فون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما‬
‫ذِّك روا به وال تزال تّطلع على خائنة منهم إال قليًال منهم فاعف عنهم واصفح إن اهلل يحب المحسنين )‬
‫(المائدة‪ ..)13:‬وذاك اللون من التحريف الذي وقع به أهل الكتاب‪ ،‬يتناسب مع شيوع العامية‪،‬‬
‫وانعدام وسائل الكتابة‪ ،‬والقراءة‪ ،‬جاء ليمثل مرحلة من مراحل التحريف‪ ..‬ويكاد هذا أن يكون‬
‫مستحيًال بالنسبة للمسلمين‪ ،‬ألن اهلل تكفل بحفظ النص السماوي‪ ،‬وتكفل بحفظ بيانه أيضًا‪ ،‬كما هو‬
‫معلوم‪ ،‬ولشيوع الكتابة والقراءة والحفظ‪ ،‬التي بدأت منها الخطوات األولى للرسالة اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد تكون المشكلة بالنسبة للمسلمين‪ ،‬أو احتماالت التحريف‪ ،‬هي‪ :‬الخروج بالمعنى عما وضع له‬
‫اللفظ‪ ،‬لذلك كان من األهمية بمكان ‪ -‬إلى جانب حفظ النص اإللهي‪ ،‬الذي تعهد اهلل بحفظه‪ ،‬وقراءته‬
‫‪ -‬حفظ السنة‪ ،‬والتعهد بحفظ البيان النبوي أيضًا‪ُ( :‬ثّم إّن علينا بيانه )(القيامة‪ )19:‬الذي يحول دون‬
‫التحريف‪ ،‬أو التأويل‪ ،‬الذي يعني عدم مس ألفاظ وحروف النص‪ ،‬بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى‬
‫تأويًال عما وضع له اللفظ‪.‬‬

‫فالسنة والسيرة هما البيان العملي‪ ،‬الذي يحول دون التأويل المنحرف‪ ،‬والذي يمنح ملكة فقه التنزيل‬
‫للنص على الواقع‪ ،‬لذلك فاالجتهاد يعني‪ :‬تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة (سبب‬
‫النزول وسبب الورود)‪ ،‬واالمتداد به‪ ،‬وتعدية الرؤية‪ ،‬وامتالك القدرة في التنزيل على الواقع‪،‬‬
‫بواسطة العقل القائس‪ ..‬نقول‪ :‬بأن العقل الذي أطلقه اإلسالم لتحقيق خلود النص‪ ،‬باالجتهاد‪ ،‬وفسح‬
‫أمامه آفاقًا رحبة لالمتداد به‪ ،‬له أن يمتد‪ ،‬ويمتد‪ ،‬ويلمح آفاقًا بعيدة‪ ،‬ويولد أحكامًا وروًئ‪ ،‬ويضع من‬
‫البرامج ‪ ،‬في ضوء قيم‪ ،‬ومقاصد النص اإللهي‪ ،‬ما شاء اهلل له االمتداد‪ ،‬ليحقق االستجابة لكل جديد‪،‬‬
‫ومتغير‪ ..‬لكن ال يجوز للعقل‪ ،‬أو االجتهاد‪ ،‬والتفسير بالرأي‪ ،‬بحال من األحوال‪ ،‬أن يخرج‪ ،‬أو يغير‪،‬‬
‫أو يلغي‪ ،‬اإلطار العام للتفسير بالمأثور‪ ،‬أو البيان النبوي‪ ،‬وإ ال كان الخروج‪ ،‬والتأويل الفاسد‪،‬‬
‫وتحريف الكلم عن مواضعه‪.‬‬

‫لذلك يمكن أن نقول‪ :‬إن البيان النبوي‪ ،‬أو التفسير بالمأثور‪( ،‬الذي يشكل سبب النزول والورود‬
‫وسيلته المعينة)‪ ،‬يشكل اإلطار المرجعي‪ ،‬والضابط المنهجي‪ ،‬والنسق المعرفي‪ ،‬ألي بيان أو‬
‫استنباط‪ ،‬أو تفسير بالرأي للنص‪ ،‬كما يعتبر من عواصم العقل من التجاوز‪ ،‬واالنحراف‪ ،‬واإللغاء‪،‬‬
‫والقطيعة‪ ،‬أو التقطيع للنص‪ ..‬فللمجتهد أن يكتشف آفاقًا وأبعادًا لمقاصد النص‪ ،‬ومراميه‪ ،‬في ضوء‬
‫الظروف المستجدة‪ ،‬لكن ليس له أن يتجاوز البيان النبوي‪ ،‬أو يخرج عليه‪ ،‬باسم التفسير‪ ،‬أو التأويل‪،‬‬
‫الذي يقود إذا ما تجاوز المأثور‪ ،‬إلى التحريف في المقاصد‪ ،‬واالنحراف في السلوك‪.‬‬

‫وقد يكون ‪-‬وألمر يريده اهلل‪ -‬انقطاع استمرار الرشد الكامل‪ ،‬بعد جيل القدوة‪ ،‬الذي أوصى الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم باتباع سنته‪ ،‬بقوله‪…( :‬فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين‪،‬‬
‫وتمسكوا بها‪ ،‬وعضوا عليها بالنواجذ… )(رواه أحمد)؛ ليبقى هذا الجيل وحده‪ ،‬هو محل االقتداء‬
‫والتأسي‪ ،‬وال تحسب الممارسات التاريخية لألفراد والحكام‪ ،‬على اإلسالم‪ ،‬وذلك حتى ال يصبح‬
‫التاريخ‪ ،‬أو األشخاص‪ ،‬هم المعيار‪.‬‬

‫لذلك كان التفسير بالمأثور‪ ،‬أو فقه التنزيل على الواقع‪ ،‬في السنة والسيرة‪ ،‬وفهم خير القرون‪ ،‬هو‬
‫المأمن‪ ،‬والعاصم‪ ،‬من التأويل الباطني‪ ،‬أو اإلشاري‪ ،‬أو العرفاني‪ ،‬الذي يخرج عن كل الضوابط‬
‫المنهجية‪ ،‬ويعتمد التذوق الذاتي‪ ،‬وبذلك يصير لكل إنسان كتاب وسنة‪.‬‬
‫ولعل مفرق الطريق‪ ،‬أو نقطة االنطالق للتفسير العرفاني الصوفي والباطني غير المنضبط‪ ،‬تبدأ من‬
‫توهين إسناد السنة‪ ،‬أو البيان النبوي‪.‬‬

‫ونحن بسبيل الكالم عن التفسير بالمأثور‪ ،‬وأهمية اعتماده كإطار مرجعي‪ ،‬في النظر العقلي‪،‬‬
‫والتفسير بالرأي‪ ،‬ال بد أن نذكر أن الكثير من أصحاب التفسير الباطني‪ ،‬والصوفي‪ ،‬واإلشاري‪ ،‬أو‬
‫بكلمة مختصرة‪ :‬التفسير العرفاني‪ ،‬حاولوا توهين إسناد ومتون بعض األحاديث المبينة للقرآن‪،‬‬
‫ليكون ذلك مندوحة لهم‪ ،‬للخروج‪ ،‬والرفض‪ ،‬والتجاوز‪ ،‬وإ ذا لم يجدوا في إسنادها ومتونها وهنًا‪،‬‬
‫ردوها على أنها من خبر اآلحاد‪ ،‬الذي يفيد الظن‪ ،‬وال يحقق علم اليقين‪ .‬مع أن المعتمد عند جميع‬
‫العلماء‪ ،‬أن أحاديث اآلحاد‪ ،‬وأخبار اآلحاد‪ ،‬يؤخذ بها في أحكام الفروع‪ ،‬وفي بيان آيات القرآن‪ ،‬أي‬
‫في التفسير بالمأثور‪ ،‬حتى في مجال بيان آيات العقائد‪ ،‬عند من لم يعتمدها في إثبات العقائد‪ ..‬وقد‬
‫يكون األمر المستغرب حًقا‪ ،‬أن ُتلغى أحاديث اآلحاد‪ ،‬ألنها تفيد الظن ‪-‬وقد توفر لها صحة النقل‪،‬‬
‫بشروطه المعروفة عن المعصوم‪ -‬باجتهاد ال يخرج عن نطاق الظن‪ ،‬من شخص ال عصمة له‪ ،‬أي‬
‫يرد الوارد عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬ألن سند نقله‪ ،‬ال يفيد اليقين‪ -‬باجتهاد ونظر عقلي‪،‬‬
‫ممن يجري عليه الخطأ والصواب ‪-‬بأصل الخلق‪ -‬حيث األصل في اجتهاده الظن‪ ،‬وعدم اليقين‪.‬‬

‫وأسباب النزول والورود ‪-‬وهي من البيان النبوي‪ -‬هي أشبه ما تكون بوسائل إيضاح‪ ،‬لتنزيل النص‬
‫على الواقع‪ ،‬ولتكون أداة معينة على التنزيل في كل زمان ومكان‪ .‬لكن هذه الوسائل من أسباب‬
‫النزول والورود‪ ،‬ال تعتبر قيودًا للنص‪ ،‬تجمده في نطاق المناسبة‪ ،‬بمقدار ما تمنح من فقه للتنزيل‬
‫على الواقع‪ ،‬ألن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب ‪ -‬كما أسلفنا‪ -‬ذلك أن أسباب النزول‬
‫والورود‪ ،‬أو البيان النبوي‪ ،‬هو أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية‪ ،‬التي تعتبر األساس‬
‫لالنطالق منها‪ ،‬والتصنيع في ضوئها‪ ،‬واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة‪ ،‬داخل المجتمع‪،‬‬
‫التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبرية‪ ،‬وال تخرج عليها‪.‬‬

‫وقد يكون من المفيد‪ ،‬أن نتوقف قليًال‪ ،‬عند قضية فقه التنزيل‪ ،‬التي يمكن أن نعبر عنها‪ :‬باالجتهاد في‬
‫مورد النص‪..‬واالجتهاد في مورد النص الذي نعنيه‪ ،‬أمر آخر غير االجتهاد المرفوض‪ ،‬حيث ال‬
‫اجتهاد مع النص‪ ،‬على خالف ما هو شائع من أنه ال اجتهاد في مورد النص‪ ،‬خاصة إذا اعتبرنا أن‬
‫مورد النص‪ ،‬هو محله‪ ،‬وأن هذا المحل‪ ،‬ال بد أن تتوفر فيه استطاعات معينة‪ ،‬ليصبح أهًال ومحًال‬
‫لتنزيل الحكم ‪ -‬النص ‪ -‬عليه‪ ،‬ذلك أن فقه المحل‪ ،‬يعتبر من األهمية بمكان‪ ،‬إلى جانب فقه النص‪،‬‬
‫أو حفظ النص‪ ..‬فحفظ النص‪ ،‬أو حمله‪ ،‬أو فقه حكمه‪ ،‬يمثل نصف المطلوب‪ ،‬أو نصف الحقيقة‪،‬‬
‫ويبقى النصف اآلخر‪ ،‬وهو فقه المحل‪ ،‬أو االجتهاد في معرفة استطاعة المحل‪ ،‬ومدى إمكانية‬
‫حصول التكليف‪ ،‬وتنزيل النص عليه‪ ،‬وهي قضية على غاية األهمية‪ ،‬لو تأملنا في الفقه النبوي‪ ،‬و‬
‫فقه خير القرون‪ ،‬لوجدنا أنها مدار ومدى التكليف كله‪ ،‬وقد تنبه ألهميتها بعض علمائنا بشكل‬
‫خاص‪ ..‬وقد يكون من المفيد استدعاء بعض ما قدموه إلى ساحة االهتمام المعاصر‪ :‬يقول اإلمام‬
‫الشاطبي رحمه اهلل (المتوفى عام ‪790‬هـ)‪" :‬ليس كل ما ُيعلم مما هو حق‪ُ ،‬يطلب نشُر ه‪ ،‬وإ ن كان من‬
‫علم الشريعة‪ ،‬ومما يفيد علمًا باألحكام‪ ،‬بل ذلك ينقسم‪ :‬منه ما هو مطلوب النشر‪ ،‬وهو غالب على‬
‫الشريعة‪ ،‬ومنه ما ال يطلب نشره بإطالق‪ ،‬أو ال يطلب نشره بالنسبة إلى حال‪ ،‬أو وقت‪ ،‬أو شخص "‪.‬‬

‫ويضيف موضحًا‪ ،‬ومفصًال‪ ،‬ومنبهًا إلى المنهج العلمي‪ ،‬في التعامل مع أحكام الشرع‪ ،‬وتوجيهاته‪،‬‬
‫وقضايا األفراد والمجتمع‪ ،‬فيقول‪" :‬ليس كُّل علٍم ُيبث وينشر‪ ،‬وإ ن كان حقًا‪ ،‬وقد أخبر مالك عن‬
‫نفسه‪ ،‬أنه عنده أحاديث‪ ،‬وعلمًا‪ ،‬ما تكلم فيها‪ ،‬وال حَّد ث بها‪ ،‬وكان يكره الكالم‪ ،‬فيما ليس تحته عمل‪،‬‬
‫فتنبه لهذا… وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة‪ ،‬فإن صحت في ميزانها‪ ،‬فانظر مآلها‪،‬‬
‫بالنسبة إلى حال الزمان وأهله‪ ،‬فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة‪ ،‬فاعرضها في ذهنك على العقول‪ ،‬فإن‬
‫قبلتها‪ ،‬فلك أن تتكلم فيها‪ ،‬إما على العموم‪ ،‬إن كانت مما تقبلها العقول‪ ،‬وإ ما على الخصوص‪ ،‬إن‬
‫كانت غير الئقة بالعموم‪ ..‬وإ ن لم يكن لمسألتك هذا المساغ‪ ،‬فالسكوت عنها هو الجاري‪ ،‬وفق‬
‫المصلحة الشرعية والعقلية" (الموافقات ‪.)190-4/189‬‬

‫فاألمر ال يتعلق فقط بمعرفة الحكم‪ ،‬وما يطلبه الشرع منا‪ ،‬والتأكد منه‪ ،‬واالنطالق إلنجازه‪ ،‬بل يتعلق‬
‫أيضًا‪ ،‬باستكمال أبعاد أخرى تخص المحل ومساحة التنفيذ‪ ،‬والتنزيل على الواقع وكيفياته‪ ،‬ومنهجية‬
‫ومرحلية اإلنجاز‪ ،‬خصوصًا في مراحل انتقاص آثار النبوة في الخلق‪ ،‬وضعف صلة الناس باإلسالم‬
‫فهًم ا وممارسة‪ ،‬حيث يحتاج االجتهاد إلى بصيرة نافذة‪ ،‬وعقل راشد‪ ،‬وفقه نضيج‪ ،‬يمتلك مفاتيح‬
‫المعادالت المركبة‪ ،‬التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل‪ ،‬والصواب والخطأ‪ ،‬والمصلحة والمفسدة‪،‬‬
‫وهو ما عناه الفقهاء بقولهم‪" :‬ليس الفقيه هو من يعرف‪ :‬بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة‪ ،‬بل الفقيه هو‬
‫الذي يعرف‪ :‬خير الخيرين ‪ ،‬وشر الشرين"‪.‬‬

‫فالَع اِلُم كما يقول اإلمام ابن تيمية رحمه اهلل (‪ 728-661‬هـ)‪" :‬تارة يأمر‪ ،‬وتارة ينهى‪ ،‬وتارة يبيح‪،‬‬
‫وتارة يسكت‪ ،‬عن األمر والنهي‪ ،‬أو اإلحاطة‪ ..‬كما قيل‪ :‬إن من المسائل مسائل جوابها السكوت‪ ،‬كما‬
‫سكت الشارع في أول األمر‪ ،‬عن األمر بأشياء‪ ،‬حتى عال اإلسالم وظهر‪.‬‬

‫فالَع اِلُم ‪ ،‬في البالغ والبيان كذلك‪ ،‬قد يؤخر البيان والبالغ ألشياء‪ ،‬إلى وقت التمكن‪ ،‬كما أخر اهلل‬
‫سبحانه إنزال آيات‪ ،‬وبيان أحكام‪ ،‬إلى وقت تمكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى بيانها‪.‬‬

‫فالمحيي للدين‪ ،‬والمجدد للسنة‪ ،‬ال يبِّلغ إال ما أمكن علمه‪ ،‬والعمل به‪ ،‬كما أن الداخل في االسالم‪ ،‬ال‬
‫يمكن حين دخوله‪ ،‬أن ُي َلّقَن جميع شرائعه ‪ ،‬ويؤمر بها كلها‪ ،‬وكذلك التائب من الذنوب‪ ،‬والمتعلم‪،‬‬
‫والمسترشد‪ ،‬ال يمكن أول األمر‪ ،‬أن يؤمر بجميع الدين‪ ،‬ويذكر له جميع العلم‪ ،‬فإنه ال يطيق ذلك‪،‬‬
‫وإ ن لم يطقه‪ ،‬لم يكن واجًبا عليه في هذه الحال‪ ،‬وإ ذا لم يكن واجبًا‪ ،‬لم يكن للعالم واألمير أن يوجبه‬
‫عليه ابتداًء ‪ ،‬بل يعفو عن األمر والنهي‪ ،‬بما ال يمكن علمه وعمله‪ ،‬إلى وقت اإلمكان‪ ،‬كما عفا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم عما عفا عنه‪ ،‬إلى وقت بيانه‪ ،‬وال يكون ذلك من باب إقرار المحرمات‪،‬‬
‫وترك األمر بالواجبات‪ ،‬ألن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل‪ ..‬ومن هنا يتبين سقوط‬
‫كثير من هذه األشياء‪ ،‬وإ ن كانت واجبة‪ ،‬أو محرمة في ا ألصل‪ ،‬لعدم إمكان البالغ‪ ،‬الذي تقوم به‬
‫حجة اهلل‪ ،‬في الوجوب أو التحريم‪ ،‬فإن العجز مسقط لألمر والنهي‪ ،‬وإ ن كان في األصل" (مجموعة‬
‫الفتاوى ‪.)60-20/58‬‬

‫وقد تكون الحكمة من أن القرآن‪ ،‬جاء ترتيب آياته وسوره توقيفًيا من اهلل‪ ،‬ولم يرتب بحسب تاريخ‬
‫وأسباب النزول ‪ -‬واهلل أعلم ‪ -‬إنما هي لتحقيق الخلود‪ ،‬وتحرير النص اإللهي الخاتم‪ ،‬من قيد الزمان‬
‫والمكان والمناسبة‪ ،‬وتقديم الرؤية الشاملة‪ ،‬التي تصلح لكل األحوال‪ ،‬واألزمان‪ ،‬واألماكن‪،‬‬
‫والمتغيرات‪ ،‬وبذلك يمكن تنزيل أحكامه على الواقع‪ ،‬في ضوء استطاعاته وظروفه‪ ،‬دون التجمد‬
‫على حال واحدة‪ ،‬بحيث يصبح االجتهاد المطلوب‪ :‬أين يكون موقع الحاضر ‪ -‬من خالل ظروفه‪،‬‬
‫واستطاعاته ‪ -‬من الرؤية الشاملة؟ وما هي األحكام التي تناسبه في هذه المرحلة‪ ،‬في إطار هذه‬
‫الرؤية؟‬

‫لذلك فقد يكون فقه المحل‪ ،‬وما يتنزل عليه من األحكام‪ ،‬بحسب استطاعته‪ ،‬من أهم األمور المطلوبة‬
‫للفقيه المسلم اليوم‪ ،‬ذلك أن الكثير من النصوص في الكتاب والسنة‪ ،‬أحاطت بها ظروف‪ ،‬وشروط‪،‬‬
‫ومناسبات‪ ،‬ال بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع‪ .‬ولعلي أعتبر سبب النزول‪،‬‬
‫وسبب الورود‪ ،‬نوًع ا من فقه المحل‪ ،‬وإ عانة للمجتهد على إدراك وأهمية توفر الشروط والظروف‬
‫نفسها‪ ،‬للتنزيل‪.‬‬

‫فعندما نهى الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن ادخار لحوم األضاحي ‪ -‬إذا لم نعلم السبب ‪ -‬قد نقع‬
‫في مشكلة تأبيد التحريم‪ ،‬في األحوال كلها‪ ،‬بينما لو علمنا سبب الورود‪ ،‬ندرك أن التحريم كان بسبب‬
‫طروء الفقر‪" :‬للدافة"‪ ،‬ثم لما انتهت الحال التي عليها الناس‪ ،‬عاد الحل‪ ،‬وُس مح باألكل واالدخار بقوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إنما نهيتكم ‪ -‬أي عن أكل لحوم األضاحي بعد ثالث ‪ -‬من أجل الدافة التي‬
‫دفت‪ ،‬فكلوا‪ ،‬واّد خرو‪ ،‬وتصدقوا" (رواه مسلم) وقوله‪( :‬كلوا وأطعموا واّد خروا‪ ،‬فإن ذلك العام ‪-‬أي‬
‫العام الذي نهى فيه عن االدخار‪ -‬كان بالناس جهد‪ ،‬فأردت أن تعينوا فيها )(رواه البخاري)‪.‬‬

‫إن هذا الفهم للمحل واستطاعته‪ ،‬وظروفه‪ ،‬الذي يمنحه لنا فقه سبب النزول والورود‪ ،‬يدفعنا قبل‬
‫تنزيل األحكام على الواقع‪ ،‬إلى فهم ظروف وشروط الواقع‪ ،‬وهذا هو االجتهاد المطلوب في مورد‬
‫النص‪ ،‬ومعرفة مدى استطاعته‪ ،‬وحدود تكليفه‪.‬‬
‫والقضية التي ال بد أن نعرض لها أيًض ا‪ ،‬هي‪ :‬أننا أثناء التنزيل للنص على الواقع‪ ،‬الذي قد يقتضينا‪:‬‬
‫االستثناء‪ ،‬أو التأجيل‪ ،‬أو التدرج في الحكم‪ ،‬فإن ذلك ال يعني أن هذه الحال التي عليها المحل‪ ،‬هي‬
‫الصورة النهائية‪ ،‬أو المرحلة النهائية للحكم الشرعي‪ ،‬وإ نما يعني مرحلة في طريق الترقي‪،‬‬
‫وتحضير المحل‪ ،‬ليكون أهًال للحكم النهائي‪ ..‬والمشكلة كل المشكلة ‪ -‬في نظري ‪ -‬قد تكون في هذا‬
‫الفقه الغائب‪ ،‬الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه (سبب النزول والورود)‪ ،‬ذلك أن األحكام الشرعية في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬شاملة لجميع األحوال والظروف‪ ،‬التي يكون عليها الناس‪ ،‬حتى يرث اهلل األرض‪،‬‬
‫ومن عليها‪ ،‬لكن تبقى المشكلة المطروحة هي‪ :‬الفقه بكل حالة‪ ،‬وما يناسبها من األحكام‪ ،‬في هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬وتحضيرها لما بعدها من المراحل‪ ،‬في طريق التدرج والترقي للوصول إلى الكمال‪.‬‬

‫فاألحكام الشرعية‪ ،‬أشبه ما تكون باألدوية المتوفرة‪ ،‬لكل األدواء الممكنة الوقوع‪ ،‬والحاالت التي قد‬
‫يكون عليها المريض‪ ،‬لكن تبقى المشكلة‪ ،‬أو الفقه المطلوب والغائب‪ ،‬هو ‪ :‬أي دواء من األدوية‬
‫يحتاج إليها الحال‪ ،‬والمرض الذي نعاني منه؟‬

‫إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود‪ ،‬أصاب عملية االجتهاد والتجديد‪ ،‬أو فقه التنزيل‪،‬‬
‫في مقاتل‪ ،‬وجعل الكثير من االجتهادات‪ ،‬هي أقرب للتجريدات النظرية ‪ ،‬منها إلى البصارة والفقه‬
‫العملي الميداني‪ ،‬وجعلنا ننزل النص‪ ،‬أو الحكم الشرعي‪ ،‬على غير محله‪ ،‬وتوهمنا أن كل حكم‪،‬‬
‫يصلح لكل األحوال‪ ،‬أو أنه ينزل بإطالق‪ ،‬دون مراعاة الشروط والظروف ومالبسات الحال‪ ،‬حتى‬
‫أصبحنا نوقع الّنسخ في غير موقعه‪ ،‬وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم‪،‬‬
‫والدعوة‪ ،‬والبالغ‪ ،‬ونعطل الكثير من األحكام‪ ،‬على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع‬
‫اإلسالمي األول‪ ،‬في مراحل تحويله إلى اإلسالم‪ ،‬ثم تجاوزها إلى ما فوقها‪ ،‬فأصبحت منسوخة أو‬
‫معطلة‪ ،‬دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة‪ ،‬يعني خلود المشكالت التي عرضا لها‪ ،‬والحلول التي‬
‫قدماها‪ ،‬وأن األمة في تاريخها الطويل‪ ،‬سوف تتعرض لحاالت كثيرة من السقوط والنهوض‪،‬‬
‫والهزيمة والنصر‪ ،‬والضعف والقوة‪ ،‬وأن لكل حالة حكمها‪ ،‬وفقهها‪ ،‬وأنه ال يكفي حفظ النصوص‪،‬‬
‫وفهمها‪ ،‬بعيًد ا عن أسباب نزولها‪ ،‬وورودها‪ ،‬التي تعين على فهم الحال التي تتنزل عليه‪.‬‬

‫وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان‪ ،‬وامتالك القدرة على تعدية الرؤية إلى‬
‫األشباه والنظائر‪ ،‬وقياس المستجد‪ ،‬الذي ال نص فيه‪ ،‬على المشابه الذي فيه نص وحكم‪ ،‬في ضوء‬
‫مقاصد الدين وكلياته العامة‪ ،‬بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته‪ ،‬وقدرته‪ ،‬وما يالئمه من‬
‫النصوص واألحكام‪ ..‬فالقضية االجتهادية‪ ،‬ذات أبعاد متعددة‪ ،‬وحاالت مختلفة‪.‬‬

‫وقد تكون المشكلة‪ ،‬أو اإلشكالية‪ ،‬التي يعاني منها العقل المسلم‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬أو المعادلة الصعبة‪ ،‬التي‬
‫ال بد من حلها وتصويبها‪ ،‬حتى يستقيم الحال‪ ،‬أن الكثير من الذين يفقهون النص‪ ،‬يجهلون العصر‪،‬‬
‫وأن جل الذين يفهمون العصر‪ ،‬يجهلون فقه النص‪ ،‬وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬إنما يتنزل من خالق اإلنسان‪ ،‬العالم بأحواله وحاجاته األصلية‪ ،‬التي فطر عليها‪ ،‬فإن‬
‫فهم العصر‪ ،‬محل تنزيل الحكم‪ ،‬هو من فقه الحكم أيًض ا‪ ..‬ولعلنا نقول‪ :‬إن فهم أسباب النزول‬
‫والورود‪ ،‬يشكل مدخًال أو منهجا للفقيه والباحث‪ ،‬إلدراك أهمية فهم العصر‪ ،‬والظروف والمالبسات‬
‫التي تحيط بالحكم الشرعي‪ ،‬وليس فقط فهم أبعاد النص‪.‬‬

‫إن فهم العصر‪ ،‬ال يتأتى إال بإدراك السنن والقوانين االجتماعية‪ ،‬والتمكن من آليات الفهم االجتماعي‪،‬‬
‫التي لها علومها ومعارفها‪ ،‬والتي لم يمتد بها المسلمون باألقدار المطلوبة‪ ،‬بحيث أصبح خطابهم في‬
‫توصيل اإلسالم‪ ،‬وبيان أحكامه إلى الناس‪ ،‬يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون‪ ،‬دون معرفة ما‬
‫هو كائن‪ ،‬وما يناسبه من األحكام في هذه المرحلة‪ ،‬ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس‪،‬‬
‫حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون‪.‬‬

‫وما لم تحل هذه المعادلة في العقل المسلم‪ ،‬فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط األحكام‪ ،‬وبعدها عن‬
‫مواقع التنزيل‪.‬‬

‫وهنا أمر آخر‪ ،‬قد يكون من المفيد التوقف عنده‪ :‬فلقد بذل علماؤنا وما يزالون‪ ،‬جهودا فائقة ومتميزة‪،‬‬
‫في مجال استنباط الحكم الشرعي‪ ،‬أو الفقه التشريعي‪ ،‬وكان ميدان اجتهادهم ونظرهم هو آيات‬
‫األحكام‪ ،‬التي ال تزيد عند أكثرهم على خمسمائة آية‪ ،‬وعلى أحاديث األحكام أيضًا‪ ،‬وكان نظرهم في‬
‫هذه اآليات واألحاديث‪ ،‬ال يتجاوز بعض مقاصدها وأغراضها في بيان أحكام الحالل والحرام‪.‬‬

‫ومع تقديرنا لهذا العمل العظيم‪ ،‬وتأكيدنا ألولويته في النظر العقلي‪ ،‬والفقهي‪ ،‬حتى يكون المؤمن على‬
‫بينة من أمره‪ ،‬فيما يفعل وما يدع‪ ،‬ذلك أن خالصة الشريعة عند علماء األصول‪ ،‬تكاد تتلخص في‬
‫كلمتين‪ :‬افعل‪ ،‬أو ال تفعل‪ ،‬ليطابق سلوك المسلم‪ ،‬منهج اهلل وهديه؛ نقول‪ :‬مع تقديرنا لهذا العمل‬
‫العظيم‪ ،‬وما اقتضاه من مناهج في أصول الفقه‪ ،‬والحديث‪ ،‬والتفسير‪ ،‬واللغة‪ ،‬فإنه يبقى يشكل بعض‬
‫مقاصد القرآن والسنة‪ ،‬ويمثل بعض جوانب الرؤية القرآنية والبيان النبوي‪.‬‬

‫ولعل السبب في ذلك‪ ،‬لعل السبب هو أن الجيل األول‪ ،‬أو المجتمع اإلسالمي األول‪ ،‬كان يتمثل عملـَّيا‬
‫الرؤية القرآنية الشاملة‪ ،‬في تصوره‪ ،‬وسلوكه‪ ،‬ولم يكن بحاجة إلى االجتهاد‪ ،‬وتوليد القواعد والمناهج‬
‫والعلوم في شعب المعرفة المختلفة‪ ،‬أو في الميادين المعرفية األخرى‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪،‬‬
‫واألخالقية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬كحاجته إلى فقه الحالل والحرام‪.‬‬

‫وكم كان اإلنسان يتمنى أن يتوجه االجتهاد‪ ،‬وتؤصل مناهجه أيضًا‪ ،‬في ميادين الحياة المختلفة‪ ،‬وال‬
‫يقتصر على ميدان الفقه التشريعي‪ ..‬كم كان اإلنسان يتمنى أن تتوجه االجتهادات إلى إنتاج فقه‬
‫تربوي‪ ،‬وفقه اجتماعي‪ ،‬وفقه سياسي‪ ،‬وفقه اقتصادي‪ ،‬وفقه أخالقي‪ .‬أو بكلمة مختصرة‪( :‬فقه‬
‫حضاري) بشكل عام‪ ،‬وأن تكون آيات القرآن واألحاديث كلها محًال لالستنباط واالجتهاد‪ ،‬وأال‬
‫يقتصر على بعض المقاصد‪ ،‬أو بعض اآليات واألحاديث‪ ..‬فبمقدار ما نعتقد أن الفقه التشريعي‪،‬‬
‫يشكل ضرورة وحاجة ودليال لسلوك اإلنسان‪ ،‬بمقدار ما نعتقد أن بناء اإلنسان‪ ،‬وتشكيله طبقًا للرؤية‬
‫القرآنية‪ ،‬في التربية‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬والسياسة‪ ،‬وتحضيره ليصبح محًال للحكم التشريعي‪ ،‬ضروري‬
‫أيضًا‪ ،‬ذلك أن االعتناء بتوليد األحكام التشريعية فقط‪ ،‬بعيًد ا عن بناء اإلنسان ‪ ،‬محل الحكم‪ ،‬واالمتداد‬
‫بشعب المعارف المختلفة‪ ،‬قد يفتقد قيمته العملية إذا اقتصرنا عليه‪ ..‬فال قيمة للحكم إذا افتقدنا محله‪،‬‬
‫الذي هو اإلنسان‪.‬‬

‫إن االهتمام بالحكم التشريعي‪ ،‬المعرفة التشريعية‪ ،‬أو اعتبار أن القرآن والسنة مصدر للفقه التشريعي‬
‫فقط‪ ،‬يشكل خلًال ال بد من استدراكه‪ ،‬ببذل الجهود العتبار القرآن وبيانه الخالد‪ ،‬مصدرا للمعرفة‬
‫بشكل عام‪ ،‬أو مصدًر ا لشعب المعرفة جميعا‪ ،‬ذلك أن آيات وأحاديث األحكام التشريعية‪ ،‬هي بعض‬
‫آيات القرآن وبيانه‪ ،‬وأن األحكام التشريعية هي بعض مقاصد آيات وأحاديث األحكام‪.‬‬

‫إن هذا التبعيض في التعامل مع آيات القرآن عمليا‪ ،‬وترك بقية آياته ومقاصدها للتبرك‪ ،‬أقول‪ :‬إن‬
‫هذا التبعيض في التعامل‪ ،‬وال أقول في اإليمان بآيات القرآن كلها‪ ،‬أورثنا الكثير من الخزي‪،‬‬
‫والتخاذل‪ ،‬والتخلف عمليًا‪.‬‬

‫إن مجتمعات األنبياء‪ ،‬وما كانت تعانيه من أمراض وعلل اجتماعية‪ ،‬وما كان يشيع فيها من مسالك‬
‫وأخالق‪ ،‬ومواقف الكبراء وأتباعهم‪ ،‬من دعوة األنبياء‪ ،‬يعتبر منجمًا ال ينضب للفقه االجتماعي‪ ،‬أو‬
‫لعلم االجتماع‪ ..‬كما أن السنن التي أشار إليها القرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف‪ ،‬واستشهد لها من‬
‫تاريخ البشرية على األرض‪ ،‬وطلب من اإلنسان التوغل في التاريخ اإلنساني ‪ ،‬للتأكد من حتميتها‪،‬‬
‫ونفاذها‪ ،‬وتحدى بترتب عواقبها نفسها‪ ،‬إذا توفرت مقدماتها؛ يعتبر من القوانين االجتماعية‬
‫الصارمة‪ ،‬الخالدة في الرؤية القرآنية‪ ،‬وبيانها النبوي‪ ،‬والتي ما تزال معطلة في حياة المسلمين‪..‬‬
‫ولعل الكثير من اإلصابات التي تلحق بنا‪ ،‬إنما هي بسبب الغفلة عن هذه السنن االجتماعية‪ ،‬والنفسية‪،‬‬
‫والمادية‪ ،‬التي ما تزال تعمل عملها فينا‪ ،‬دون أن نلتفت إليها‪ ،‬ونظن أن غاية االجتهاد‪ ،‬والتأصيل‪،‬‬
‫والمنهجية‪ ،‬هي في الوصول إلى الفقه التشريعي‪ ،‬أو االقتصار على المطالبة بتطبيق الشريعة فقط‪.‬‬

‫إن الكثير من المخاطر واإلصابات الفكرية‪ ،‬أو الغزو الثقافي ألمتنا‪ ،‬إنما جاء بسبب منا‪ ،‬ألننا توقفنا‬
‫عن االمتداد بالكثير من شعب المعرفة‪ ،‬التي تمنحها الرؤية القرآنية والحديثية‪ ،‬في المجاالت‬
‫االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬واألخالقية‪ ،‬ولم نؤصل لها المناهج واألصول‪،‬‬
‫ونستنبط قوانينها أو نظرياتها من مصدرها في الكتاب والسنة‪.‬‬
‫إن توقفنا في ذلك‪ ،‬أحدث فراًغ ا مخيًفا‪ ،‬سمح بامتداد المناهج واآلليات والنظم المعرفية الغربية‪،‬‬
‫وطغيانها على رؤيتنا القرآنية‪ ،‬ومرجعيتنا اإلسالمية ‪ ،‬ولسوف تستمر هذه اإلصابات‪ ،‬وتمتد‪،‬‬
‫وتتأصل‪ ،‬وتتجذر في مجتمعنا‪ ،‬ما لم نمتلك القدرة على جعل الكتاب والسنة مصدرًا للمعرفة بشكل‬
‫عام‪ ،‬مصدًر ا للفقه التربوي‪ ،‬والفقه السياسي‪ ،‬والفقه االجتماعي‪ ،‬واألخالقي‪ ..‬إلخ‪ ،‬ونحسن التوجه‬
‫صوب اإلنسان‪ ،‬محل الحكم ‪ ،‬بالقدر نفسه‪ ،‬أو يزيد‪ ،‬عن توجهنا إلى تأصيل الحكم واستنباطه‪.‬‬

‫وقد يكون من البدهيات التي ال بد من إثباتها‪ :‬أن مدرسة الحديث‪ ،‬أو أهل األثر واالجتهاد الذي يعتمد‬
‫البيان النبوي كإطار مرجعي‪ ،‬كانوا وما يزالون‪ ،‬هم السد العظيم‪ ،‬الذي حال دون تسلل الخرافة‬
‫بشكل أعم‪ ،‬وتفشي البدع‪ ،‬وتجاوزات الرأي‪ ،‬وكانوا دائًم ا وراء حركات التصويب‪ ،‬وإ عادة األمة إلى‬
‫الينابيع األولى‪ ،‬والوقوف بالمرصاد لكل دارس‪ ،‬أو باحث‪ ،‬أو عابد‪ ،‬تضل به الطريق‪ ،‬إلى درجة لم‬
‫يعد أحد معها أن يجرؤ على القول في الدين بدون تحقيق وتثبت‪.‬‬

‫والحقيقة أن الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء‪ ،‬وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ‪ ،‬في حفظ شريعتهم‬
‫من الكتاب والسنة‪ ،‬بما لم تعن به أمة من قبلهم‪ ،‬حيث حفظوا القرآن‪ ،‬وكتبوه‪ ،‬ورووه عن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬متواتًر ا آية آية‪ ،‬وكلمة كلمة‪ ،‬وحرًفا حرًفا‪ ،‬حتى رووا أوجه نطقه بلهجات‬
‫القبائل‪ ،‬كما حفظوا كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو المبلغ عن ربه‪،‬‬
‫والمبين لشرعه؛ تعتبر مفخرة من مفاخر الحفظ‪ ،.‬والنقل الثقافي‪.‬‬

‫لكن على الرغم من القيمة العظيمة‪ ،‬التي قدمها علماء مصطلح الحديث لتنقية السنة من الدخيل‪،‬وما‬
‫قام به الباحثون في تحقيقهم للنصوص ونشرهم للمخطوطات‪ ،‬إال أن هذه الجهود إذا توقفنا عندها‪،‬‬
‫تبقى تمثل نصف الطريق إلى المطلوب‪ ،‬أو تشكل الوسيلة والمقدمة‪ ،‬التي ال بد من توفيرها‪ ،‬لتبدأ‬
‫المرحلة األهم‪ ،‬والتي تشكل المقصد والنتيجة‪ ،‬وهي فقه هذه النصوص‪ ،‬واإلفادة منها‪ ،‬في اإلجابة‬
‫عن أسئلة الحاضر‪ ،‬واستشراف وتشكيل المستقبل‪ ،‬واكتشاف أسباب السقوط والنهوض‪ ،‬وإ عادة‬
‫البناء‪.‬‬

‫إن حامل الفقه‪ ،‬وناقل الفقه‪ ،‬ليس بالضرورة أن يكون فقيًها‪ ،‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫"نّض ر اهلل عبًد ا سمع مقالتي فوعاها ثم بّلغها عني‪ ،‬فُر ّب حامل فقٍه غير فقيه‪ ،‬وُر ّب حامل فقه إلى‬
‫من هو أفقه منه " (رواه ابن ماجة ‪ -‬وهو صحيح)‪ ..‬فالحمل‪ ،‬والتوصيل‪ ،‬والنقل الثقافي‪ ،‬ال بد منه‪،‬‬
‫ألنه يشكل المقدمة واألساس‪ ،‬لكن ال قيمة كاملة لهذا الحمل‪ ،‬إذا لم يحقق الفقه‪ ،‬والحل المطلوب‬
‫لمشكالت الحاضر‪.‬‬

‫وبعـ ــد‪:‬‬
‫فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة‪ ،‬قد يتميز بطبيعته التخصصية الدقيقة‪ ،‬التي لم يألفها قارئ‬
‫السلسلة‪ ،‬حيث كان خطابنا له‪ ،‬أو الموقع الذي اخترناه للسلسلة‪ ،‬مخاطبة المثقف المسلم بشكل عام‪،‬‬
‫وترك شأن الكتب المتخصصة إلى مجاالتها‪ ،‬لكن هذا ‪ -‬في نظرنا‪ -‬ال يمنع‪ ،‬بين الفترة واألخرى‪،‬‬
‫من تقديم بعض الكتب التخصصية‪ ،‬التي تشكل لنا نقاط ارتكاز‪ ،‬وتسهم ببناء المرجعية‪ ،‬وتعيد إلى‬
‫بيان كيفية التلقي عن الينابيع األولى في الكتاب والسنة‪ ،‬وتفتح نوافذ على العلوم األصلية‪ ،‬وتمنح‬
‫الضوابط الضرورية‪ ،‬للحيلولة دون المجازفات‪ ،‬والجنوح الفكري‪ ،‬وتكسب االطمئنان إلى مواريثنا‬
‫الفكرية‪ ،‬التي تضمها القيم في الكتاب والسنة‪ ،‬وتحقق لنا التقوى من الزلل واالنحراف‪.‬‬

‫المـــقــدمـــة‬
‫نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك‪ ،‬ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫فقد شغلت بموضوع أسباب ورود الحديث منذ وقت طويل؛ يعود إلى مرحلة الدراسة للماجستير؛ فقد‬
‫كانت تتطلب مني تتبع مرويات "معمر بن راشد الصنعاني" في كتب السنة‪ ،‬باعتباره من أوائل من‬
‫جمع العلم؛ ألتعرف على مصادره‪ ،‬ومنهجه‪ ،‬وأثره في رواية الحديث من خالل هذه المرويات‪.‬‬

‫وأتاحت لي هذه الدراسة تأمل مرويات كثيرة‪ ،‬وجدت بعضها يرتبط ببعضها اآلخر ارتباًطا ال سبيل‬
‫إلى حسن الفهم لها جميًع ا‪ ،‬إال بتجميع هذه الروايات في موضع واحد‪ ،‬وفي مصنف واحد‪.‬‬

‫فهو ارتباط السبب بالمسبب أحياًنا‪ ،‬وارتباط العام بمخصصه أحياًنا‪ ،‬والمطلق بمقيده‪ ،‬والسؤال‬
‫بجوابه‪ ،‬والوصف بمالبساته وظروفه‪ ،‬والحكم بمقاصده‪.‬‬

‫واستمر البحث والجمع في هذا‪ ،‬وتأخر إخراج نتائج هذا البحث وصياغته إلى هذا الوقت رغبة في‬
‫العثور على ما فقد من جهود مذكورة في هذا الموضوع‪.‬‬

‫ولما استقر األمر على الجزم (النسبي) بعدم وجود المؤلفات المذكورة اسًم ا وعنواًنا‪ ،‬لم أجد مبررًا‬
‫في تأخير إخراج هذا البحث‪ ،‬محلًال ما وجدت من مؤلفات في موضوعه‪ ،‬ومؤسسًا للمنهج الذي أراه‬
‫في تقديم مصنفات جديدة‪ ،‬تأخذ بإيجابيات األعمال السابقة‪ ،‬وتتجاوز ما يمكن االستغناء عنه من‬
‫األمور التي وجدت في بدايات التصنيف في هذا الموضوع‪.‬‬

‫ورأيت ضرورة التقديم لهذا بفصل تمهيدي‪ ،‬أعرض فيه أهم األسس في حسن الفهم لألحاديث‬
‫النبوية‪ ،‬والتي تقي من الزلل في التعامل معها‪ .‬وأتناول منها األساس اللغوي‪ ،‬والتوثيق‪ ،‬والجمع بين‬
‫األحاديث‪ ،‬وإ عمال قاعدة النسخ‪ ،‬والترجيح ووجوهه‪ ،‬مع تقديم بعض النماذج التي توضح هذا‪،‬‬
‫لنتناول بعد ذلك بالتفصيل البحث في أسباب ورود الحديث لنتعرف على بداية التأليف في أسباب‬
‫الورود‪ ،‬وارتباط سبب الورود بسبب النزول‪ ،‬واعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي‪،‬‬
‫ومعرفة السببين تعين على إدراك حقيقة السبب وأبعاده‪ ،‬وتزيل اإلشكال في الفهم‪.‬‬

‫وأسباب الورود عند السابقين‪ :‬البلقيني‪ ،‬والسيوطي‪ ،‬وابن حمزة الدمشقي‪.‬‬

‫وفي الخاتمة أهم النتائج‪ ،‬وتقديم المنهج لتصنيف جديد‪.‬‬

‫واهلل المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫الفصل األول التمهيدي‬


‫أسس التعامل مع األحاديث النبوية‬
‫إن حسن الفهم لما أثر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم من قول‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو تقرير‪ ،‬أو صفة‪ ،‬يقتضي‬
‫تحصيل مجموعة من األسس التي ال غنى عنها لقارئ السنة‪ ،‬تحقيًقا لهذا الفهم الصحيح‪.‬‬

‫وإ همال أساس من هذه األسس يحدث اضطراًبا في الفهم واختالًفا بين النصوص؛ ليس اختالًفا ذاتيًا‬
‫في النصوص‪ ،‬وإ نما اختالف نشأ من هذا التقصير في التحصيل لدى الناظرين في السنة‪.‬‬

‫فال يتوقع االختالف والتضاد بين النصوص‪ ،‬عندما يكون المصدر واحًد ا‪ ،‬فإذا أضفنا إلى وحدة‬
‫المصدر عصمته ألنه من وحي اهلل‪ ،‬فمحال أن يوجد بينها اختالف (ولو كان من عند غير اهلل لوجدوا‬
‫فيه اختالًفا كثيًر ا )(النساء‪ .)82:‬فاالختالف في نصوص الوحي‪ ،‬ليس ذاتًيا فيها‪ ،‬وإ نما هو من‬
‫طرف واحد ‪-‬إن حدث‪ -‬وهو طرف الناظرين فيها بغير كفاءة‪ ،‬وسنة النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫من وحي اهلل وتعليمه لنبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وبيانه له‪ ،‬وتشهد بذلك آيات القرآن الكريم (وأنزلنا‬
‫إليك الذكر لُتبّين للناس ما ُنِّز ل إليهم )(النحل‪ .)44:‬وقال تعالى‪ُ( :‬ثّم إّن علينا بيانه )(القيامة‪.)19:‬‬
‫فالبيان للقرآن الكريم في سنة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهذا البيان تكفل به تعليًم ا لرسوله (وعّلمك‬
‫ما لم تكن تعلم )(النساء‪ .)113:‬وحفًظا له (إنا نحن نزلنا الذكر وإ نا له لحافظون )(الحجر‪.)9:‬‬

‫ولذلك فإن وجود االختالف والتضاد‪ ،‬ال يتجاوز عقول الناظرين في السنة‪ .‬والتخلص منه‪ ،‬يكون‬
‫بالوقوف على هذه األسس التي نذكرها في هذا المبحث على سبيل اإلجمال‪ ،‬مصحوبة بنماذج من‬
‫تصحيح الفهم تشهد لسلف هذه األمة‪ ،‬بالعناية بهذه المسألة لنفرد بعد ذلك بشيء يسير من التفصيل‬
‫أساًس ا يحتاج إلى تحليل ما كتب فيه ‪-‬وهو يسير‪ -‬وتأسيس منهج نسير عليه‪ ،‬طلًبا للمزيد من هذه‬
‫النماذج‪ ،‬التي ُع ني فيها بأسباب ورود الحديث‪ .‬فمن هذه األسس‪:‬‬

‫األساس اللغـــــوي‬
‫وهو األساس األول في فهم النص‪ ،‬وهو أساس عام لكل نص في كل لغة‪ ،‬فال يتوقع فهم لمن ال‬
‫يعرف لغة "ما" لنص مكتوب بها‪.‬‬

‫فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتميز به اللغة العربية ‪-‬التي نزل بها القرآن الكريم (نزل به الروح األمين‬
‫على قلبك لتكون من المنذرين‪ ،‬بلساٍن عربٍّي ُم بين )(الشعراء‪ .)193:‬وتكلم بها النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم في بيانه‪ ،‬وهو أفصح العرب‪ -‬من أساليب متعددة منها الحقيقة والمجاز‪ ،‬وما طرأ على‬
‫المفردات اللغوية على سعتها من تغير في الدالالت‪ ،‬وما تتسع له اللغة العربية من االشتقاق‪ ،‬وغير‬
‫ذلك مما تحفل به مراجع اللغة بنحوها وصرفها وفقهها وأساليبها وبالغتها وآدابها ‪ -‬عرفنا كيف‬
‫يخطئ في الفهم‪ ،‬ويقع في التناقض‪ ،‬من يجهل هذه الجوانب اللغوية في التعامل مع النصوص الواردة‬
‫بها‪ ،‬وأهمها وأشرفها بعد كتاب اهلل تعالى سنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وإ همال هذا األساس يجعلنا كذلك المستشرق الذي فسر كلمة "الطائر" في قوله تعالى‪( :‬وكل إنساٍن‬
‫ألزمناه طائره في ُعُنقه )(اإلسراء‪ .)13:‬بأنه العصفور وغيره من الطيور التي عنى بها في حياته‪.‬‬

‫توثيق النــص‬
‫وذلك ألن النصوص الواردة ليست سواء في درجة ثبوتها ونسبتها إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫وقد كفانا علماؤنا منذ عصر الصحابة رضوان اهلل عليهم هذا الجانب المعين على التوثيق في جانبي‬
‫الرواية؛ أي في جهة السند‪ ،‬وفي جهة المتن‪.‬‬

‫وقدمت الدراسات التي تشهد لعلماء الحديث بالسبق والريادة والدقة العلمية في توثيق الروايات‪،‬‬
‫وتمييز بعضها من بعض‪ ،‬بالفوارق اليسيرة التي ال يتنبه إليها إال من ُع ني بتحقيق اليقين‪ ،‬فيما‬
‫ينسب إلى الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم ؛ ألنه الدين‪.‬‬

‫فُنِظ ر إلى اإلسناد على أنه دين‪ ،‬فلينظر المرء عمن يأخذ دينه‪ ،‬وقدمت المصنفات في أسماء الرواة‬
‫وكناهم وصفاتهم‪ ،‬بل نظر في تطور أحوالهم خالل سنوات أعمارهم‪ ،‬وفي شيوخهم وتالميذهم‪،‬‬
‫ووضع لكل راو لقبه المناسب‪ ،‬وإ ن اختلفت األنظار إليهم عرف ذلك‪ ،‬وكيف يكون التعامل مع‬
‫الموِّثقين والمجِّر حين‪ ،‬بل اشتهر من عرف بالتشدد في الحرج والتعديل‪ ،‬ومن عرف باالعتدال‪ ،‬أو‬
‫التساهل‪.‬‬

‫ودّو ن كل هذا ‪ ،‬ويسر تصنيفه‪ ،‬للرجوع إليه عند الحكم على الحديث‪.‬‬

‫كما فّص ل القول في متن الحديث‪ ،‬وعالمات قبوله‪ ،‬وعالمات رّد ه‪ ،‬وكل ما يتعلق به؛ ألنه الغاية من‬
‫السند‪.‬‬

‫وعرف لكل حديث بسنده ومتنه درجته المطابقة لحاله‪ ،‬بل عرف للدرجة الواحدة مستويات متفاوتة‪،‬‬
‫فالحديث الصحيح درجات‪ ،‬وكذلك الحسن‪ ،‬بل الضعيف له مستويات‪.‬‬

‫فإذا لم يحصل الناظر في الحديث هذه المعارف‪ ،‬كان نظره قاصًر ا‪ ،‬ووقوعه في الخطأ محققا‪،‬‬
‫وظهور االختالف والتناقض بين النصوص التي ينظر فيها مؤكًد ا‪.‬‬

‫وهذا ما جعل بعض المغرضين الذين حرموا المعرفة بهذه المقاييس في التصحيح والتضعيف‪،‬‬
‫يستشهدون على أفكار سقيمة بروايات ضعيفة أو موضوعة‪ ،‬وفي مصادر ليست معتبرة عند علماء‬
‫الحديث‪ ،‬ليضربوا بها نصوًص ا صحيحة ‪-‬أو على األقل‪ -‬أرجح منها‪.‬‬

‫ولذلك فإن بداية التعامل مع الروايات تكون بتوثيقها‪ ،‬وإ عمال المعايير النقدية ألهل الحديث فيها‪،‬‬
‫ومعرفة كل رواية وما قيل في الحكم عليها‪.‬‬

‫الجمع بين النصوص الصحيحة‬


‫فإذا تحقق التوثيق‪ ،‬وتيقن الناظر من صحة الروايات في الموضوع الذي يدرسه‪ ،‬فإن المنهج‬
‫الصحيح في النظر أن يجمع بين هذه الروايات‪ ،‬وذلك بحسن توجيهها في الموضوع الذي وردت فيه‬
‫‪ -‬بال تعسف ‪ -‬ودون أن يهمل رواية منها‪ ،‬فالجمع بينها مقدم؛ ألن إعمال النص الصحيح خير من‬
‫إهماله‪ .‬وهذا يقتضي من الباحث سعة العلم‪ ،‬وحسن الفهم‪ ،‬حتى يكون تأويله لها صحيحًا‪ ،‬وحتى‬
‫يكون جمعه فيما بينها موفًقا غير متكلف‪ ،‬وغير متناقض‪ ،‬مع المعاني القرآنية الكريمة‪ ،‬والمقاصد‬
‫الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وهذا الجمع بين الروايات له أهميته؛ ألنه يدل على استيعاب السنة لجوانب الموضوع الواحد‪ ،‬عل‬
‫الرغم من ورود الروايات عل لسان رواة متعددين‪ ،‬وفي مواقف متعددة‪ ،‬وفي أزمان متعاقبة‪.‬‬

‫فطبيعة البيان النبوي‪ ،‬تقتضي هذا التعدد حسب المبين لهم‪ ،‬وعلى مقتضى الحال‪ ،‬الذي يقدم فيه‬
‫البيان‪ ،‬وبجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد‪ ،‬يتبين للعلماء كيف أحاطت السنة بجوانب‬
‫الموضوع‪ ،‬مما يؤكد جانب الوحي فيها‪.‬‬

‫فضًال عن أن هذا الجمع بهذا التتبع‪ ،‬يتيح الفهم الدقيق لكل رواية على حدة‪ ،‬الرتباطها بموقفها‬
‫وظروفها ومالبساتها‪ ،‬قبل أن تنسجم في بناء الموضوع الواحد‪ .‬وأقدم لبيان ذلك تطبيقًا لبيان كيفية‬
‫الجمع بين األحاديث الواردة في الغنى والفقر‪ ،‬وما يتصل بذلك من المعاني‪.‬‬

‫الجمع بين أحاديث الغنى والفقر‬


‫ولما وجدت أن بعض المصنفين للحديث النبوي‪ ،‬قد جعلوا أبوابًا مستقلة بعضها يمتدح الفقر‪ ،‬ويذم‬
‫الغنى‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬نجد أحاديث أخرى فيها االستعاذة باهلل من الفقر‪ ،‬وفيها الثناء على المال‬
‫الصالح‪ ،‬ووجدت أن هذا المسلك‪ ،‬يحدث اضطراًبا في الفهم‪ ،‬ألحاديث الغنى والفقر‪ ،‬رأيت أن هذه‬
‫الدراسة ينبغي أن تستوعب األحاديث الواردة في الجانبين‪ ،‬وتحليل ما ورد فيها‪ ،‬والخلوص إلى‬
‫النتيجة التي تالزم القارئ‪ ،‬عندما يقرأ حديًثا متفرًد ا يذكر الغنى أو الفقر؛ سواء ُبِّو ب له بالمدح أو‬
‫الذم‪.‬‬

‫فعندما نقرأ كتاب "الرقاق" من صحيح اإلمام البخاري نجد أنه رحمه اهلل‪ ،‬جعل منه باًبا بعنوان "فضل‬
‫الفقر"‪.‬‬

‫فهل يفهم من هذه الترجمة‪ ،‬الفضل المطلق للفقر فيرد به ما جاء في مدح الغنى؟ سواء كان هذا المدح‬
‫في أحاديث مفردة تحت عناوين أخرى‪ ،‬أو كانت تحت عناوين تمدح الغنى؟‬

‫إن المتأمل في األحاديث التي أوردها اإلمام البخاري تحت هذا العنوان تجيبنا عن هذا التساؤل‪.‬‬

‫فأول حديث في الباب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال‪ :‬مَّر رجل على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال لرجل عنده‪ ،‬جالس‪ :‬ما رأيك في هذا؟‬

‫فقال‪ :‬رجل من أشراف الناس‪ ،‬هذا ‪-‬واهلل‪ -‬حرُّي إن خطب أن ينكح‪ ،‬وإ ن شفع أن ُيشّفع‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسكت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ثم مر رجل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما‬
‫رأيك في هذا ؟ فقال‪ :‬يا رسول اهلل هذا رجل من فقراء المسلمين‪ ،‬هذا حرّي إن خطب أن ال ينكح‪،‬‬
‫وإ ن شفع أن ال ُيشّفع‪ ،‬وإ ن قال أن ال يسمع لقوله‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬هذا خير‬
‫من ملء األرض مثل هذا"‪.‬‬

‫فهل استحق الرجل الفقير هذه الخيرية بسبب فقره؟‬

‫إن الحديث ال يذكر هذا‪ ،‬وإ نما يصحح مفاهيم الناس في موازين الرجال‪ ،‬وأن الفضل قد يكون للرجل‬
‫الفقير إذا كان صالًح ا‪ ،‬وقد يكون للغني إذا كان صالًح ا‪ ،‬أما اتخاذ الغنى وحده مقياًس ا للتفاضل بين‬
‫الناس‪ ،‬فهذا ما صححه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في هذا الحديث‪.‬‬

‫والحديث الذي يليه يؤكد هذا المعنى‪ ،‬قال فيه األعمش‪ :‬سمعت أبا وائل قال‪ُ :‬ع دنا خباًبا فقال‪:‬‬
‫هاجرنا مع النبي صلى اهلل عليه وسلم نريد وجه اهلل‪ ،‬فوقع أجرنا على اهلل‪ ،‬فمنا من مضى لم يأخذ من‬
‫أجره‪ ،‬منهم مصعب بن عمير قتل يوم ُأحد‪ ،‬وترك نمرة‪ ،‬فإذا عّطينا رأسه بدت رجاله‪ ،‬وإ ذا غطينا‬
‫رجليه بدا رأسه‪ ،‬فأمرنا النبي صلى اهلل عليه وسلم أن نغطي رأسه‪ ،‬ونجعل على رجليه من االذخر‪،‬‬
‫ومنا من أينعت له ثمرته فهو يْهُد ُبها"‪.‬‬

‫فكالم خباب رضي اهلل عنه في بيان حال المهاجرين وكان منهم أغنياء وفقراء‪ ،‬والكل يريد وجه اهلل‪.‬‬

‫وكان منهم مصعب بن عمير رضي اهلل عنه ‪ ،‬وكان مترًفا في الجاهلية يرفل في النعيم‪ ،‬فلما مَّن اهلل‬
‫عليه باإلسالم‪ ،‬بذل نفسه معلًم ا ومجاهًد ا واستشهد في ُأحد‪ ،‬وما زال المسلمون في بداية الدعوة‪ ،‬لم‬
‫تفتح لهم الدنيا‪ ،‬حتى كان حاله أن ُتغطى رجاله باإلذخر‪ .‬فهذا الذي نّو ر اهلل قلبه باإليمان قد دعاه‬
‫حب اهلل ورسوله إلى هذه الحالة‪ ،‬وأجره على اهلل‪.‬‬

‫ومن المهاجرين كذلك من َم َّد اهلل في عمره وجمع بين أجر الهجرة والجهاد وما فتح اهلل من الطيبات‬
‫فهو "يهدبها" أي يجتني الثمرة التي نضجت وحان قطافها‪.‬‬

‫ففضيلة مصعب رضي اهلل عنه وسائر المهاجرين رضوان اهلل عليهم بجهادهم وبذلهم مع إيمانهم‬
‫وحبهم هلل ولرسوله‪.‬‬

‫ويدعم هذا التوجيه ما رواه أحمد والبزار ورواتهما ثقات‪ ،‬وابن حبان في صحيحه عن عبد اهلل بن‬
‫عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬هل تدرون أول‬
‫من يدخل الجنة من خلق اهلل عز وجل؟ قالوا‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬الفقراء المهاجرون الذين ُتسد‬
‫بهم الثغور‪ ،‬وتتقى بهم المكاره‪ ،‬ويموت أحدهم وحاجته في صدره ال يستطيع لها قضاء‪ ،‬فيقول اهلل‬
‫عز وجل لمن يشاء من مالئكته‪ :‬ائتوهم فحيوهم؛ فتقول المالئكة ‪ :‬ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك‬
‫من خلقك‪ ،‬أفتأمرنا أن نأتي هؤالء فنسلم عليهم؟ قال‪ :‬إنهم كانوا عباًد ا يعبدونني‪ ،‬وال يشركون بي‬
‫شيًئا‪ ،‬وتسد بهم الثغور‪ ،‬وتتقى بهم المكاره‪ ،‬ويموت أحدهم وحاجته في صدره‪ ،‬ال يستطيع لها قضاء‪،‬‬
‫قال‪ :‬فتأتيهم المالئكة عند ذلك‪ ،‬فيدخلون عليهم من كل باب (سالُم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‬
‫)(الرعد‪.)24:‬‬

‫فأعمال هؤالء وجهادهم وبذلهم وإ يمانهم من ناحية‪ ،‬وصبرهم ورضاهم على قلة المال‪ ،‬حتى أن‬
‫أحدهم يموت وحاجته في صدره‪ ،‬ال يستطيع لها قضاء‪ .‬فالفقر ‪-‬إذن‪ -‬ال يكون بإطالقه سبًبا‬
‫للفضل‪ ،‬بل الفقر إن كان المبتلى به صابًر ا راضيًا له درجة صبره ورضاه‪ ،‬وقد وعد اهلل سبحانه‬
‫الصابرين بقوله تعالى‪( :‬إنما ُيوّفى الصابرون أجرهم بغير حساب )(الزمر‪ .)10:‬كما أن الغنى ‪-‬‬
‫كذلك‪ -‬ال يكون سبًبا للمذمة أو المدح‪ ،‬إال بما يقترن به من أعمال وأحوال‪ ،‬فمن ابتلي بالغنى فشكر‬
‫وصبر نفسه مع الغنى على ما أمر كان الغنى محموًد ا‪.‬‬

‫ويتفاضل الناس بما جعله اهلل ميزاًنا للتفاضل (إّن أكرمكم عند اهلل أتقاك م)(الحجرات‪.)13:‬‬

‫يتضح ذلك ‪-‬أيًض ا‪ -‬في رواية أبي ذر رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬يا‬
‫أبا ذر‪ ،‬أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬فترى قلة المال هو الفقر؟ "قلت‪:‬‬
‫نعم يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬إنما الغنى غنى القلب‪ ،‬والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش‪،‬‬
‫قال‪" :‬هل تعرف فالًنا؟ " قلت نعم يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬فكيف تراه‪ ،‬أو ُتراه؟" قلت‪ :‬إذا سأل ُأعطي‪،‬‬
‫وإ ذا حضر ُأدخل‪ ،‬قال‪ :‬ثم سألني عن رجل من أهل الصفة‪ ،‬فقال‪" :‬هل تعرف فالًنا؟" قلت‪ :‬ال واهلل يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فما زال ُيجّليه وينعته حتى عرفته‪ ،‬فقلت‪ :‬قد عرفته يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬فكيف تراه‪ ،‬أو‬
‫ُتراه؟" قلت ‪ :‬هو رجل مسكين من أهل الصفة‪ ،‬فقال‪" :‬هو خير من طالع األرض من اآلخر"‪ .‬قلت‪:‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬أفال يعطى من بعض ما ُيعطى اآلخر؟ قال‪" :‬إذا ُأعطي خيًر ا فهو أهله‪ ،‬وإ ذا ُص رف‬
‫عنه فقد ٌأعطي حسنة "‪..‬‬

‫فغنى القلب‪ ،‬وفقر القلب‪ ،‬وما يتبعهما من سلوك‪ ،‬هو أساس الفضل والخيرية‪ ،‬وعلى ذلك إذا ذكر‬
‫الفقراء بالمدح فالتقييد لهذا اإلطالق بما جاء في األحاديث األخرى من مواصفات التفضيل والتقديم‪،‬‬
‫وكذلك إذا ذكر األغنياء بالذم فإنما بما يصحب الغني من كفران النعمة‪ ،‬أو استعمالها في الفخر‬
‫والكبر‪ ،‬أو منع ما في المال من حقوق‪ ،‬أو ما يتبع الكثرة من الحساب؛ من أين اكتسبه‪ ،‬وفيم أنفقه؟‬

‫وعلى هذا يفهم الحديث الثالث‪ ،‬الذي أورده اإلمام البخاري رحمه اهلل في فضل الفقر‪ ،‬والذي رواه‬
‫عمران بن حصين رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬اطلعت على أهل الجنة‬
‫فرأيت أكثر أهلها الفقراء‪ ،‬واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء "‪.‬‬
‫فهو تقرير لما يكون‪ ،‬وليس لبيان علة دخول الجنة أو النار‪ ،‬وهو كذلك تحذير من طغيان المال‪،‬‬
‫وتصبير لمن ابتلوا بالفقر‪ ،‬حتى يجّد وا في الصالحات‪ ،‬وتنبيه للنساء حتى ال يكفرن العشير‪.‬‬

‫وأما الحديثان األخيران في الباب فيتعلقان بحياة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬والتي كان فيها قدوة‬
‫للناس أجمعين‪ ،‬والذي يعنينا ‪-‬هنا‪ -‬أنه صلى اهلل عليه وسلم قدوة لألغنياء حيث كان يجتمع أمامه‬
‫المال الكثير‪ ،‬فال يمضي وقت يسير إال وقد وجد المال طريقه إلى الناس‪.‬‬

‫وهو قدوة للفقراء‪ ،‬كيف يصبرون‪ ،‬وكيف يرضون‪ ،‬فلم يختر لنفسه حياة المترفين‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫بّين للناس كيف أحل اهلل الطيبات من الرزق‪.‬‬

‫فتذكر رواية أنس ‪-‬في الباب نفسه‪ -‬رضي اهلل عنه قال‪" :‬لم يأكل النبي صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫"خوان" حتى مات‪ ،‬وما أكل خبًز ا ُم رقًقا حتى مات "‪.‬‬

‫والرواية األخيرة في الباب ألم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬لقد توفي النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وما في َر ّفي من شيء يأكله ذو كبد‪ ،‬إال َش ْطُر شعير في رّف لي‪ ،‬فأكلت منه حتى طال‬
‫َع لّي فكلُته َفَفِنَي "‪.‬‬

‫فهذا ما اختاره النبي صلى اهلل عليه وسلم من حياة العبودية هلل سبحانه‪ ،‬وعدم الترف فيجوع يوًم ا‬
‫ويشبع يوًم ا؛ ليكون قدوة للجائع كيف يتوجه ويدعو‪ ،‬وللشبعان كيف يحمد ويشكر‪.‬‬

‫فأحاديث الباب ‪ -‬إذن ‪ -‬توجه إلى ما يصحب حالة الفقر من الصبر والرضى‪ ،‬والخفة التي تدفع‬
‫إلى الهمة والنشاط في الطاعة والمسارعة في الخيرات‪.‬‬

‫وقبل أن ندعم هذا التوجيه في أحاديث الباب بما ذكره اإلمام البخاري رحمه اهلل من أحاديث أخرى‬
‫في كتب وأبواب سابقة‪ .‬نذكر ما أحس به الكرماني نحو أحاديث الباب‪ ،‬فقد ذكر تعليًقا عليها يقول‪:‬‬
‫واعلم أن األمة طائفتان‪ :‬القائلون بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر‪ ،‬والقائلون بالعكس‪.‬‬

‫فالطائفة األولى قالوا‪ :‬ليس في األحاديث ما يوجب أفضلية الفقراء؛ إذ حديث سهل يحتمل أن يكون‬
‫خيًر ا منه لفضيلة أخرى كاإلسالم‪ ،‬وحديث خباب ليس فيه ما يدل على فضله فضًال عن أفضليته؛ إذ‬
‫المقصود منه أن يبقى منهم إلى حين فتح البالد‪ ،‬ونالوا من الطيبات‪ ،‬خشوا أن يكون قد عجل لهم أجر‬
‫طاعتهم بما نالوا منها‪ ،‬إذ كانوا على نعيم اآلخرة أحرص‪.‬‬
‫وحديث عمران يحتمل أن يكون إخباًر ا عن الواقع‪ ،‬كما يقول أكثر أهل الدنيا الفقراء‪ ،‬وأما تركه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم األكل على الخوان؛ فألنه لم يرض أن يستعمل من الطيبات‪ ،‬وكذلك حديث‬
‫عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬

‫ثم إنه معارض باستعاذته صلى اهلل عليه وسلم من الفقر‪ ،‬وبقوله تعالى‪" :‬ترك خيًر ا"‪ :‬أي ماًال ‪،‬‬
‫وبقوله تعالى‪( :‬ووجدك عائًال فأغنى )(الضحى‪ ،)8:‬وبأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توفي في‬
‫أكمل حاالته وهو موسر بما أفاء اهلل عليه‪ ،‬وبأن الغنى وصف للحق‪ ،‬والفقر وصف للخلق‪.‬‬

‫فأجابت الطائفة األخرى بأن السياق يدل على الترجيح للفقراء؛ إذ الترجيح باإلسالم ونحوه ال حاجة‬
‫له إلى البيان‪ ،‬وبأن من لم ينقص من أجره شيء في الدنيا يكون أفضل وأكثر ثواًبا عند اهلل يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وبأن اإليماء إلى أن علة دخول الجنة الفقر يشعر بأفضليته‪ ،‬وأما حكاية ترك النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فهي دليل لنا ال علينا؛ إذ معناه أنه اختار الفقر‪ ،‬ليكون يوم القيامة ثوابه أكثر‪ ،‬وحديث‬
‫االستعاذة من الفقر معارض بحديث االستعاذة من الغنى‪ ،‬وأما اآليتان فنحن ال ننكر أن المال خير‪،‬‬
‫إنما النزاع في األفضلية‪ ،‬ال في الفضل‪ ،‬أو المراد باألغنياء في اآلية الثانية غنى النفس‪ ،‬وأما قصة‬
‫وفاته فال نسلم اإليسار إذ كان ما أفاء اهلل صدقة‪ ،‬وكان درعه رهنا عند يهودي بقليل من الشعير‪،‬‬
‫وأما غنى اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فليس بمعنى الذي نحن فيه فليس من البحث"‪ ،‬والكرماني رحمه اهلل‬
‫عرض قول الطائفتين دون أن يذكر ترجيًح ا لقول طائفة على أخرى‪.‬‬

‫إال أن قول الطائفة الثانية فيه نظر يجعل الطائفة األولى أرجح في قولها لموافقة النصوص المجموعة‬
‫في الموضوع‪.‬‬

‫فالسياق ليس فيه داللة على ترجيح الفقراء بسبب الفقر‪ ،‬وكما سنرى في سائر النصوص‪ ،‬أن علة‬
‫الفقر ليست هي المعتبرة وحدها‪ ،‬وإ ال فما قيمة فقر بغير رضى‪ ،‬أو صبر أو طاعة؟‬

‫ثم إن فضل اهلل على عباده في الدنيا بالرزق الحالل والطيبات ليس معناه قلة في ذلك باآلخرة فدعاء‬
‫المؤمنين‪( :‬ربنا آتنا في الدنيا حسنًة وفي اآلخرة حسنًة وقنا عذاب النار )(البقرة‪ .)201:‬ويقول اهلل‬
‫تعالى‪( :‬قل من حرم زينة اهلل التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة‬
‫الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك ُنفصل اآليات لقوم يعلمون )(األعراف‪ .)32:‬وعلة دخول الجنة‬
‫وجعلها في الفقر مجرًد ا ال دليل عليه‪ ،‬بل النصوص متضافرة بخالف ذلك‪.‬‬

‫وأما اختيار النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقد سبق اإلشارة إلى ارتباط ذلك بالقدوة لجميع األمة فقيرها‬
‫وغنيها‪ ،‬كيف يكون حاله مع الغنى‪ ،‬وكيف يكون حاله مع الفقر‪ ،‬واالستعاذة في الحالتين إنما هي‬
‫استعاذة من الغنى المطغي‪ ،‬فالغنى مع الطغيان مذموم‪ ،‬كما أن الفقر غير مرغوب‪ ،‬وإ ذا كان الدافع ‪-‬‬
‫كما يرى أصحاب هذا القول ‪ -‬طلب المزيد من الحسنات‪ ،‬فإن الغني الشاكر‪ ،‬يستطيع أن يفعل بالمال‬
‫الصالح ما ال يستطيعه الفقير‪ ،‬ولذلك جاء في الحديث (ذهب أهل الدثور باألجور )‪ ،‬وسيأتي هذا‬
‫الحديث بعد قليل‪.‬‬

‫فاألفضلية في نهاية األمر‪ ،‬تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن‪ ،‬وليس األمر على إطالق‬
‫أفضلية الفقر‪.‬‬

‫والذي يدعم هذا التوجيه‪ ،‬تصنيف اإلمام البخاري رحمه اهلل واختياره لألحاديث قبل هذا الباب‪،‬‬
‫ويكفي أن نعرض بعض هذه االختيارات‪.‬‬

‫ففي كتاب الدعوات‪ :‬باب "الدعاء بعد الصالة" عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم‪ ،‬قال‪ :‬كيف ذاك‪ ،‬قال‪ :‬صلوا كما صلينا‪ ،‬وجاهدوا كما‬
‫جاهدنا‪ ،‬وأنفقوا من فضول أموالهم‪ ،‬وليست لنا أموال‪ ،‬قال‪ :‬أفال أخبركم بأمر تدركون من كان‬
‫قبلكم‪ ،‬وتسبقون من جاء بعدكم‪ ،‬وال يأتي أحد بمثل ما جئتم إال من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل‬
‫صالة عشًر ا‪ ،‬وتحمدون عشًر ا‪ ،‬وتكبرون عشًر ا "‪.‬‬

‫ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال عندما يكون في أيد صالحة‪ ،‬فليس الغنى وحده سبًبا للسبق‪ ،‬كما أن‬
‫الفقر ليس سبًبا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتالئه بالفقر أن يتدارك األمر‪ ،‬وأن يدرك األجر‬
‫بالتسبيح والتحميد والتكبير ُد بر كل صالة ‪-‬كما جاء في الحديث‪.-‬‬

‫وفي هذا جْب ر لقلوب الفقراء‪ ،‬وأنه ال يفوتهم األجر بسبب الفقر‪ .‬فالدثور‪ :‬هي األموال الكثيرة‪.‬‬

‫وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم مقترن باألعمال‪ ،‬وذكر منها ‪ ،‬الصالة‪ ،‬والجهاد‪،‬‬
‫والزيادة التي تناسب حالهم‪ ،‬أنهم ينفقون من فضول أموالهم‪ .‬وُع وض الفقراء ‪-‬فضًال من اهلل‪-‬‬
‫بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه ‪-‬كذلك‪ -‬في هذا الذكر‪.‬‬

‫فالغنى والفقر ‪-‬إًذ ا‪ -‬ليسا مادة تفضيل بإطالق‪ ،‬بل بما يصحبهما من قرائن‪ ،‬وال شك أن من يملك‬
‫أكثر يستطيع أن يعمل أكثر‪.‬‬

‫ولذلك فإن أهل الدثور يستطيعون ‪-‬أيًض ا‪ -‬مشاركة الفقراء في األذكار بعد الصالة‪ ،‬ويكون ذلك من‬
‫فضل اهلل الذي يؤتيه من يشاء‪.‬‬
‫وفي الكتاب نفسه في باب "دعوة النبي صلى اهلل عليه وسلم لخادمه بطول العمر‪ ،‬وبكثرة ماله" نجد‬
‫حديث أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬قالت أمي ‪ :‬يا رسول اهلل خادمك أنس ادع اهلل له‪ ،‬قال‪" :‬اللهم أكثر‬
‫ماله وولده‪ ،‬وبارك له فيما أعطيته "‪.‬‬

‫فأم أنس وهي الرميصاء األنصارية المشهورة بأم سليم رضي اهلل عنها‪ ،‬تطلب من الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أن يدعوا ألنس‪ ،‬فيدعو له النبي صلى اهلل عليه وسلم بما هو محبوب للناس من تكثير‬
‫المال‪ ،‬والولد‪ ،‬والبركة فيما يعطي اهلل سبحانه‪ ،‬يقول الكرماني‪ :‬وقد استجاب اهلل دعاءه‪ ،‬فيه بحيث‬
‫صار أكثر أصحابه ماًال فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين‪ ،‬وأكثر ولًد ا‪ ،‬فكان يطوف بالبيت‪،‬‬
‫ومعه أكثر من سبعين نفًس ا من نسله‪.‬‬

‫ودعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم دليل على محبة هذا المدعو به عند اهلل وعند رسوله؛ عندما يكون‬
‫لمثل أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫ومما يدعم كذلك وجهتنا في النظر إلى الغنى والفقر‪ ،‬وأن المدح والذم يرتبط بالقرائن‪ ،‬ما أورده‬
‫اإلمام البخاري في كتاب الدعوات ‪ -‬كذلك ‪ -‬وفي باب التعوذ من المأثم والمغرم‪.‬‬

‫فقد أخرج عن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬أن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يقول‪" :‬اللهم‬
‫إني أعوذ بك من الكسل‪ ،‬والهرم‪ ،‬والمأثم‪ ،‬والمغرم؛ ومن فتنة القبر‪ ،‬وعذاب القبر‪ ،‬ومن فتنة النار‬
‫وعذاب النار‪ ،‬ومن شر فتنة الغنى‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة الفقر‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‪،‬‬
‫اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد‪ ،‬ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب األبيض من‬
‫الدنس‪ ،‬وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب "‪.‬‬

‫فاالستعاذة في هذا من شر فتنة الغنى‪ ،‬ومن فتنة الفقر‪ ،‬فإذا كانت الفتنة في الغنى أو الفقر فهي مما‬
‫يستعاذ باهلل منها‪ ،‬وهذا تأكيد لهذه القرينة فيذم الغنى بها‪ ،‬وكذلك الفقر‪.‬‬

‫كما جعل اإلمام البخاري رحمه اهلل بابًا ترجم له بقوله‪" :‬االستعاذة من فتنة الغنى" وأتبعه بباب آخر‬
‫في "التعوذ من فتنة الفقر" أورد في األول عن هشام عن أبيه عن خاله أن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كان يتعوذ‪" :‬اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار‪ ،‬ومن عذاب النار‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة القبر‪ ،‬وأعوذ بك‬
‫من عذاب القبر‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة الغنى‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة الفقر‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة المسيح‬
‫الدجال "‪.‬‬

‫كما يورد في الباب الثاني حديث السيدة عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وقد سبق ذكره وفيه‪" :‬وشر فتنة‬
‫الغنى‪ ،‬وشر فتنة الفقر"‪.‬‬
‫كما يكرر اإلمام البخاري رحمه اهلل باًبا ذكره من قبل‪ ،‬ولكن برز في ترجمته ‪-‬هنا‪ -‬المعنى المراد‬
‫فيقول "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة"‪ .‬ويورد فيه حديث أم سليم رضي اهلل عنها ودعاء الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ألنس رضي اهلل عنه بكثرة المال والولد والبركة"‪.‬‬

‫وأما في كتاب الرقاق فقد ترجم اإلمام البخاري رحمه اهلل ألبواب كثيرة تؤدي إلى المعنى نفسه‪ ،‬وهو‬
‫التحذير من االغترار بكثرة المال‪ ،‬وليس الذم المجرد له‪ ،‬وقد ذكرنا بعضها في المباحث السابقة‪،‬‬
‫ونذكر ما لم يرد من قبل‪،‬فمن ذلك‪:‬‬

‫باب (مثل الدنيا في اآلخرة) وقوله تعالى‪( :‬اعلموا أّنما الحياة الدنيا لعب ولهُو وزينة وتفاخر بينكم‬
‫وتكاثر في األموال واألوالد كمثل غيٍث أعجب الُك فاَر نباُته ثم يهيج فتراه مصفًّر ا ثم يكون حطاًم ا‪،‬‬
‫وفي اآلخرة عذاٌب شديد ومغفرٌة من اهلل ورضواٌن ‪ ،‬وما الحياة الدنيا إال متاُع الغرو ر)(الحديد‪.)20:‬‬

‫وفي باب "ما ُيحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" يورد أحاديث منها‪ :‬عن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪( :‬إن أكثر ما أخاف عليكم ما ُيخرج اهلل لكم من بركات األرض‪ ،‬قيل‪ :‬وما‬
‫بركات األرض؟ قال‪ :‬زهرة الدنيا )‪.‬‬

‫فقال له رجل‪ :‬هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى ظننا أنه ُيْن زل عليه‪ ،‬ثم‬
‫جعل يمسح عن جبينه فقال‪ :‬أين السائل‪ ،‬قال‪ :‬أنا‪ .‬قال أبو سعيد‪ :‬لقد حمدناه حين طلع ذلك‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫يأتي الخير إال بالخير‪ ،‬إن هذا المال خضرٌة حلوة‪ ،‬وإ ن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا‪ ،‬أو ُي لم إال آكلة‬
‫الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت‪ ،‬ثم عادت فأكلت‪،‬‬
‫وإ ن هذا المال حلوة من أخذه بحقه‪ ،‬ووضعه في حقه‪ ،‬فنعم المعونُة هو‪ ،‬ومن أخذه بغير حقه‪ ،‬كان‬
‫كالذي يأكل وال يشبع"‪.‬‬

‫فالتحذير ‪-‬هنا‪ -‬من التنافس في التكاثر مع عدم الحذر‪ ،‬وكان هذا المعنى في بيان الخوف مما يخرج‬
‫من بركات األرض‪ ،‬ووصف هذا بأنه خير‪ ،‬وكان سؤال الصحابي‪ :‬وهل يأتي الخير بالشر؛ أي هل‬
‫تصير النعمة عقوبة‪ ،‬وكان سؤال السائل سبًبا في هذه اإلفادة‪ ،‬فكان السائل في موضع الحمد‪ ،‬بعد أن‬
‫خشي الصحابة أن يكون صمت النبي صلى اهلل عليه وسلم دليال على مذمة السؤال‪.‬‬

‫وإ جابة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أن الخير ال يأتي إال بالخير‪ ،‬وما قضى اهلل أن يكون خيًر ا‪ ،‬ال بد‬
‫أن يكون ‪ ،‬والذي يخاف عليه هو التصرف فيه زائًد ا على الكفاية‪ ،‬وال يتعلق ذلك بالنعمة نفسها‪،‬‬
‫وضرب لذلك المثل‪" :‬إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا"‪ .‬والمعنى‪ :‬أن نبات الربيع وخضره يقتل‬
‫حبطا بالتخمة وانتفاخ البطن لكثرة األكل‪ ،‬أو يقارب القتل‪ ،‬إال إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو‬
‫إليه الحاجة‪ ،‬وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه ال يضره‪.‬‬
‫وهكذا "المال" هو كنبات الربيع‪ ،‬مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه‪ ،‬فمنهم‪ :‬من يستكثر منه‪،‬‬
‫ويستغرق فيه‪ ،‬غير صارف له في وجوهه‪ ،‬فهذا يهلكه‪ ،‬أو يقارب إهالكه‪.‬‬

‫ومنهم‪ :‬من يقتصد فيه فال يأخذ إال يسيًر ا‪ ،‬وإ ن أخذ كثيًر ا فرقه في وجوهه‪ ،‬كما تثلط الدابة فهذا ال‬
‫يضره‪.‬‬

‫فمن يأخذ ماًال بحقه يبارك له فيه‪ ،‬ومن يأخذ ماًال بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل وال يشبع‪.‬‬

‫قال األزهري‪ :‬فيه مثالن‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬للمكثر من الجمع‪ ،‬المانع من الحق‪ ،‬وإ ليه اإلشارة بقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إن كل ما‬
‫أنبت الربيع يقتل حبطا "؛ ألن الربيع ينبت أجرار البقول‪ ،‬فتستكثر منه الدابة حتى تهلك‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬للمقتصد‪ ،‬وإ ليه اإلشارة بقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إال آكلة الخضر " ألن الخضر ليس‬
‫من أجرار البقول‪.‬‬

‫وقال عياض‪ :‬ضرب صلى اهلل عليه وسلم مثًال بحالتي المقتصد والمكثر‪ ،‬فكأنه قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬أنتم تقولون ‪ :‬إن نبات الربيع خير‪ ،‬وبه قوام الحيوان‪ ،‬وليس هو كذلك مطلًقا‪ ،‬بل منه ما يقتل‪،‬‬
‫أو يقارب القتل‪ ،‬فحالة المبطون المتخوم‪ ،‬كحالة من يجمع المال‪ ،‬وال يصرفه في وجوهه‪ ،‬فأشار‬
‫صلى اهلل عليه وسلم إلى أن االعتدال‪ ،‬والتوسط في الجمع أحسن‪.‬‬

‫ثم ضرب مثًال لمن ينفعه إكثاره‪ ،‬وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه‬
‫الشرعية‪ .‬ووجه الشبه‪ :‬أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط‪ .‬وهكذا من‬
‫يجمعه ثم يصرفه واهلل أعلم‪.‬‬

‫وفي باب (ما يتقى من فتنة المال) وقوله تعالى‪( :‬واعلموا أنما أموالكم وأوالدكم فتنة )( األنفال‪:‬‬
‫‪ )28‬يورد اإلمام البخاري رحمه اهلل ما يؤكد أن الذم ال يكون إال بالخروج عن الحق مع المال‪ ،‬فإذا‬
‫كان األصل في عالقة اإلنسان بالمال أن يستخدمه‪ ،‬وأن ينتفع به‪ ،‬فإن المذمة عند انقالب الحال‪،‬‬
‫فيستعبد المال صاحبه‪ ،‬وعندئذ تكون تعاسته بالمال‪.‬‬

‫فيروى عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬تعس عبد الدينار‬
‫والدرهم والقطيفة والخميصة‪ ،‬إن ُأعطي رضي‪ ،‬وإ ن لم ُيعط لم يرض "‪.‬‬
‫والتعاسة بمعنى الهالك والسقوط‪ ،‬وعبد الدينار‪ :‬أي خادمه وطالبه؛ كأنه عبد له‪ ،‬والقطيفة هي الدثار‬
‫المخمل‪ ،‬والخميصة هي الكساء األسود المربع‪ ،‬ومعنى ذلك أن الفتنة بالمال أخذت عليه حواسه‪،‬‬
‫وصار خادًم ا للمال في صورته النقدية‪ ،‬أو في مظاهره األخرى ومنها الملبوسات‪.‬‬

‫وفي ظل هذه العبودية للمال يهلك اإلنسان نفسه‪ ،‬حيث ال يرضى إن لم يعط كما في هذا الحديث‪،‬وإ ن‬
‫أعطي كذلك لم يرض‪ ،‬ولم يشبع‪ ،‬كما سيأتي في الحديث اآلتي من الباب نفسه‪.‬‬

‫والذي رواه البخاري رحمه اهلل عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬يقول‪ :‬سمعت النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يقول‪" :‬لو كان البن آدم واديان من مال البتغى ثالًثا‪ ،‬وال يمأل جوف ابن آدم إال التراب‪،‬‬
‫ويتوب اهلل على من تاب "‪.‬‬

‫كما يبين البخاري رحمه اهلل موقف صحابي جليل كعمر رضي اهلل عنه من المال وزينته‪ .‬وأن‬
‫اإلنسان ال يستطيع إال أن يفرح بما زينه اهلل لنا‪ ،‬والمحمود من يجعل الفرحة صحيحة بالتعامل‬
‫الصحيح مع المال‪ ،‬ويدعو اهلل أن يحقق له ذلك‪.‬‬

‫فيروى في باب "قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هذا المال خضرة حلوة "‪ ،‬وقال اهلل تعالى‪ُ( :‬ز ين‬
‫للناس حُّب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الَّذ هب والفضة والخيل المسومة‬
‫واألنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) قال عمر‪" :‬اللهم إنا ال نستطيع إال أن نفرح بما زينته لنا‪،‬‬
‫اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه"‪.‬‬

‫وفي ارتباط ما يشعر بذم اإلكثار بالقرائن من األعمال نجد ‪ -‬كذلك ‪ -‬في كتاب "الرقاق" باب‬
‫" المكثرون هم المقلون" وقوله تعالى‪( :‬من كان ُيريد الحياة الدنيا وزينتها ُنوّف إليهم أعمالهم فيها‪،‬‬
‫وهم فيها ال ُيبخسون‪ ،‬أولئك الذين ليس لهم في اآلخرة إال النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا‬
‫يعملون )(هود‪ .)15،16:‬يروي اإلمام البخاري رحمه اهلل حديث أبي ذر رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫خرجت ليلة من الليالي‪ ،‬فإذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يمشي وحده‪ ،‬وليس معه إنسان‪ .‬قال‪:‬‬
‫فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد‪ ،‬قال‪ :‬فجعلت أمشي في ظل القمر‪ ،‬فالتفت فرآني فقال‪ :‬من هذا؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أبو ذر جعلني اهلل فداءك‪ ،‬قال‪ :‬يا أبا ذر َتَع اَله‪ ،‬قال‪ :‬فمشيت معه ساعة فقال‪ :‬إن المكثرين هم‬
‫المقلون يوم القيامة إال من أعطاه اهلل خيًر ا فنفح فيه يمينه وشماله‪ ،‬وبين يديه‪ ،‬ووراءه‪ ،‬وعمل فيه‬
‫خيًر ا… "‪.‬‬

‫بل نجد من روايات البخاري في كتاب الرقاق باب "قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما أحب أن لي‬
‫مثل أحد ذهًبا" ما يؤكد أنه ال مذمة في الغنى وحده‪ ،‬بدليل أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم لم يكره‪،‬‬
‫أو ُيشعر بمذمة من يكون له مثل أحد ذهًبا‪ ،‬وهذا مال كثير‪ ،‬ما دام سيفعل مثلما جاء في الحديث الذي‬
‫يرويه أبو ذر‪ -‬أيًض ا‪ -‬رضي اهلل عنه قال‪" :‬كنت أمشي مع النبي صلى اهلل عليه وسلم في حرة‬
‫المدينة فاستقبلنا ُأُح ـٌد ‪ ،‬فقال يا أبا ذر قلت‪ :‬لبيك يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬ما يسرني أن عندي مثل أحد‬
‫هذا ذهًبا‪ ،‬تمضي علي ثالثة وعندي منه ديناُر ‪ ،‬إال شيًئا أرصده لدين‪ ،‬إال أن أقول به في عباد اهلل‬
‫هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه‪ ،‬ثم مشى‪ ،‬فقال‪ :‬إن األكثرين هم األقلون يوم القيامة‪ ،‬إال‬
‫من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله‪ ،‬ومن خلفه‪ ،‬وقليل ما هم… "‪.‬‬

‫وال يخفى حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على التزام ما يأمر اهلل به نحو هذا المال‪ ،‬ومداومة‬
‫التذكير والتحذير من الفتنة بالمال عند كثرته وتضييع ما يرتبط به من حقوق اهلل في الزكاة‬
‫والصدقات‪ ،‬وفي حقوق العباد من ديون‪ ،‬فالغنى ‪-‬إذن‪ -‬ما دام بحقه في كل مجاالته‪ ،‬وما دام مقترًنا‬
‫بما ال يخرجه عن حقه‪ ،‬فهو في موضع المحمدة وليس المذمة‪.‬‬

‫ولذلك يجمع الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم لألمة بين الغنى الحسي المادي‪ ،‬والغنى النفسي‪،‬‬
‫الذي يعين على صيانة الحق مع الغنى‪ ،‬ويجعل اإلمام البخاري رحمه اهلل باًبا لذلك في كتاب الرقاق‬
‫بعنوان‪" :‬الغنى غنى النفس" وقول اهلل تعالى‪( :‬أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين ) إلى قوله‬
‫تعالى‪( :‬من دون ذلك ُهم لها عاملون )(المؤمنون‪ )63-55:‬قال ابن عيينة‪ :‬لم يعملوها‪ ،‬ال بد من‬
‫أن يعملوها"‪:‬‬

‫يقول الكرماني‪ :‬غرض البخاري من ذكر اآلية أن المال مطلًقا ليس خيًر ا‪ ،‬وأما كالم سفيان بن‬
‫عيينة‪ ،‬فهو تفسير لقوله تعالى‪" :‬ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون "‪ .‬يروي البخاري رحمه‬
‫اهلل في هذا الباب عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ليس الغنى عن‬
‫كثرة العرض‪ ،‬ولكن الغنى غنى النفس "‪.‬‬

‫والعرض ‪-‬بفتح الراء‪ -‬حطام الدنيا‪ ،‬وبالسكون‪ :‬المتاع‪ ،‬يعني‪ :‬ليس الغنى الحقيقي المعتبر هو من‬
‫كثرة المال‪ ،‬بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا‪ ،‬ولهذا ترى كثيًر ا من المتمّو لين‬
‫فقير النفس مجتهًد ا في الزيادة‪ ،‬فهو لشدة شرهه‪ ،‬وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير‪ ،‬وأما غنى‬
‫النفس فهو من باب الرضا بقضاء اهلل تعالى لعلمه أن ما عند اهلل ال ينفد وهو خير له؛ ألن ما قضى به‬
‫ألوليائه فهو الخيار‪.‬‬

‫وبعد تتبعنا ألبواب اإلمام البخاري‪ ،‬فيما يتصل بالغنى والفقرة‪ ،‬نرى من حسن صنيع البخاري رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬أن يورد األحاديث في أبواب متعددة مقترنة بالترجمة التي تعين على فهم المراد منها‪ ،‬إال أنه‬
‫ينبغي أن تجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد حتى يتسق الفهم لها‪.‬‬
‫ظهر لنا ذلك من إمساكنا في بداية األمر بباب "فضل الفقر" وتبين لنا ‪-‬بعد الجمع‪ -‬المراد من هذا‪،‬‬
‫وأنه ليس من قبيل المدح المطلق للفقر‪ ،‬وإ نما يقترن بالفقر أحوال‪ ،‬تجعل المبتلى به في موضع‬
‫الفضل‪ ،‬والحال نفسه مع الغنى‪ ،‬فيمكن أن نقول‪" :‬فضل الغنى" ولكن ليس بإطالق ‪-‬أيًض ا‪ -‬أي إذا‬
‫اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد‪.‬‬

‫وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين األحاديث عند جمعها‪ ،‬والنظر فيها مجتمعة‪.‬‬

‫وقد قدمنا ما يدعم هذا في صحيح اإلمام البخاري رحمه اهلل‪.‬‬

‫وأما ما جاء في كتب السنة األخرى فكثير‪ ،‬وفيه ما يشعر بمدح الفقراء‪ ،‬وذم األغنياء والبعد عنهم‪.‬‬

‫وهذا يحتاج إلى تدبر النصوص الواردة في ذلك؛ ألن كل رواية فيها ما ينسجم مع النتيجة التي‬
‫توصلنا إليها من تتبع أبواب البخاري رحمه اهلل‪ ،‬فإذا ما جمعت زاد األمر وضوًح ا‪.‬‬

‫فمثًال توجيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم ألم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها بالكفاف‪ ،‬وعدم‬
‫مجالسة األغنياء‪ ،‬من باب استمرار القدوة في بيت النبوة‪ ،‬والذي يشهد المال الكثير‪ ،‬ويتحقق فيه‬
‫معنى الغنى‪ ،‬ولكن ال يبقي شيًئا من المال‪ ،‬ألنه يجد طريقه إلى الناس‪ ،‬ويبقى البيت قدوة للفقراء في‬
‫الصبر والرضى‪ ،‬وقد وجه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى‪( :‬يا أيها النبي قل ألزواجك‬

‫إن ُك نتن ُتردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسِّر حكن سراًح ا جميًال * وإ ن ُك نتن ُتِر دن اَهلل‬
‫ورسولَه والداَر اآلخرة فإن اهلل أعد للمحسنات منكن أجًر ا عظيًم ا )(األحزاب‪ .)29-28:‬واخترن اهلل‬
‫ورسوله والدار اآلخرة‪ ،‬وكن على هذه الحالة التي ترضي اهلل ورسوله‪.‬‬

‫فعن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إن سرك‬
‫اللحوق بي‪ ،‬فليكفك من الدنيا كزاد الراكب‪ .‬وإ ياك ومجالسة األغنياء‪ ،‬وال تستخلقي ثوًبا حتى‬
‫ُترِّقعيه " أخرجه الترمذي‪ ،‬وزاد رزين‪ :‬قال عروة‪ :‬فما كانت عائشة تستجّد ثوًبا حتى ترقع ثوبها‬
‫وتنكسه‪ ،‬ولقد جاءها يوًم ا من عند معاوية ثمانون ألًفا فما أمسى عندها درهم‪ ،‬فقالت جاريتها‪ :‬فهًال‬
‫اشتريت لنا منه بدرهم لحما؟ فقالت‪ :‬لو ذكرتيني لفعلت"‪.‬‬

‫فهذا صنيع بيت النبوة الذي يملك‪ ،‬وال يبقي لنفسه شيًئا مما يملك‪ ،‬بل يخرجه للمحتاجين‪.‬‬

‫وهذا ما اختاره الرسول الكريم لنفسه‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال ‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يقول‪ :‬اللهم اجعل رزق آل محمد قوًتا‪ ،‬وفي أخرى "كفاًفا" أخرجه الشيخان والترمذي‪ .‬و‬
‫"الكفاف" الذي ال يفضل عن الحاجة‪.‬‬
‫وهذا يفسر لنا معنى دعوة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬والتي رواها أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬اللهم أحييني مسكيًنا‪ ،‬وأمتني مسكيًنا‪ ،‬واحشرني في زمرة‬
‫المساكين يوم القيامة‪ .‬قالت عائشة‪ :‬لم يا رسول اهلل؟ قال‪ :‬إنهم يدخلون الجنة قبل األغنياء أربعين‬
‫خريًفا‪ .‬يا عائشة! ال تردي المسكين ولو بشق تمرة‪ ،‬يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم‪ ،‬فإن اهلل‬
‫يقربك يوم القيامة "‪ .‬والمراد بالخريف السنة‪ ،‬وفي حديث آخر خمسمائة عام‪ .‬والجمع بينهما‪ :‬أن‬
‫المراد باألربعين تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص‪ ،‬وبالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على‬
‫الغني الراغب‪ ،‬فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد‪،‬‬
‫وهذا نسبة األربعين إلى خمسمائة‪.‬‬

‫يقول ابن األثير‪ :‬وهذا التقدير وأمثاله ال يجري على لسان الرسول صلى اهلل عليه وسلم ُج زاًفا وال‬
‫اتفاًقا‪ ،‬بل لسر أدركه‪ ،‬ونسبة أحاط بها علمه‪ ،‬فإنه ال ينطق عن الهوى‪ .‬فهذه الدعوة ‪-‬إذن‪ -‬من باب‬
‫القدوة‪ ،‬ومن باب جبر القلوب‪ ،‬وإ عانة أهل البالء بالفقر على الصبر والرضى والسعي الجميل‬
‫والتعفف‪ .‬وأما اإلخبار بالسبق فاالستواء في القرائن الصالحة‪ ،‬والتي نبه إليها ابن األثير في الجمع‬
‫بين األربعين والخمسمائة‪ ،‬فيكون الزائد من الفقير صبره‪ ،‬والمناسب للغنى كثرة حسابه على كثرة‬
‫ماله‪.‬‬

‫وإ ن كان أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي قد وجه المسكنة توجيًها آخر نفى فيه أن يكون المراد‬
‫بالمسكنة الفقر فقال في ذلك‪" :‬قرأ بعضهم الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري‬
‫والطبراني عن عبادة بن الصامت‪" :‬اللهم أحيني مسكيًنا‪ ،‬وأمتني مسكيًنا‪ ،‬واحشرني في زمرة‬
‫المساكين "‪.‬‬

‫ففهم من المسكنة الفقر من المال‪ ،‬والحاجة إلى الناس‪ ،‬وهذا ينافي استعاذة النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫من فتنة الفقر‪ ،‬وسؤاله من اهلل تعالى العفاف والغنى‪ ،‬وقوله لسعد‪" :‬إن اهلل يحب العبد الغني التقي‬
‫الحفي " وقوله لعمرو بن العاص‪" :‬نعم المال الصالح للمرء الصالح "‪.‬‬

‫ومن أجل ذلك رد الحديث المذكور‪ ،‬والحق أن المسكنة ‪ -‬هنا ‪ -‬ال يراد بها الفقر‪ ،‬كيف وقد استعاذ‬
‫باهلل منه وقرنه بالكفر‪" :‬اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر "‪ ،‬وقد امتن ربه عليه بالغنى فقال‪:‬‬
‫"ووجدك عائًال فأغنى "‪.‬‬

‫إنما المراد بها التواضع وخفض الجناح‪ ،‬قال العالمة ابن األثير‪ :‬أراد به التواضع واإلخبات‪ ،‬وأال‬
‫يكون من الجبارين المتكبرين‪ .‬وهكذا عاش صلى اهلل عليه وسلم بعيًد ا عن حياة المستكبرين"‪.‬‬
‫وإ ذا كان ظاهر الرواية التي ذكرتها تعني الفقراء‪ ،‬فيبقى التوجيه الذي استخلصناه من دراسة‬
‫األحاديث مجتمعة في ارتباط األمر بالقرائن من ناحية‪ ،‬وفي استمرار تهذيب النفس‪ ،‬حتى ال تطغى‬
‫بالمال من ناحية أخرى‪ ،‬وفي تسلية الفقراء من ناحية ثالثة‪.‬‬

‫قال الحافظ المنذري‪" :‬وقد ورد من غير ما وجه‪ ،‬ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪" :‬أن عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل عنه يدخل الجنة حبًو ا لكثرة ماله" وال يسلم‬
‫أجودها من مقال‪ ،‬وال يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن‪ ،‬ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬نعم المال الصالح للرجل الصالح "‪ .‬فأَّنى تنقص درجاته في اآلخرة‪ ،‬أو‬
‫يقصر به دون غيره من أغنياء هذه األمة؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره‪ ،‬إنما صح سبق فقراء هذه‬
‫األمة أغنياءهم على اإلطالق‪ ،‬واهلل أعلم"‪.‬‬

‫والسبق الذي ذكره الحافظ المنذري لمن تساووا في النسبة إلى هذه األمة‪ ،‬ويبقى المعنى الذي ذكرناه‬
‫في السبق مع االستواء في كثرة الحساب الناشئ عن كثرة المال‪.‬‬

‫فعن أسامة بن زيد رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬قمت على باب الجنة‬
‫فكان عامة من دخلها المساكين‪ ،‬وأصحاب الجد محبوسون‪ ،‬غير أن أصحاب النار قد ُأمر بهم إلى‬
‫النار‪ .‬وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" أخرجه الشيخان‪.‬‬

‫ومما يدعم ما ذهبنا إليه كذلك من اعتبار القرائن‪ ،‬ما جاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬اللهم أحيني مسكيًنا‪ ،‬وتوفني مسكيًنا‪،‬واحشرني‬
‫في زمرة المساكين‪ ،‬وإ ن أشقى األشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب اآلخرة" رواه ابن ماجة‬
‫إلى قوله‪ :‬المساكين‪ ،‬والحاكم بتمامه‪،‬وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬

‫فقد نبه النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى أن الفقر وحده ليس محمدة فأشقى األشقياء من اجتمع عليه فقر‬
‫الدنيا وعذاب اآلخرة؛ ألنه لم يكن على ما يرضي اهلل من أحوال‪.‬‬

‫ولتسلية الفقراء وتشجيعهم على الصبر والرضا بقضاء اهلل‪ ،‬تأتي كثير من األحاديث التي قد يفهم‬
‫منها الثناء على الفقر‪.‬‬

‫ففي حديث عائذ بن عمرو رضي اهلل عنه‪ ،‬أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبالل في نفر‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬ما أخذت سيوف اهلل من عنق عدو اهلل مأخذها‪ ،‬فقال أبو بكر رضي اهلل عنه‪ :‬أتقولون هذا‬
‫لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فأجاره‪ ،‬فقال‪" :‬يا أبا بكر‪ ،‬لعلك أغضبتهم‪،‬‬
‫لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت رّبك" فأتاهم أبو بكر‪ ،‬فقال‪" :‬يا أخوتاه أغضبتكم؟" قالوا‪ :‬ال‪ ،‬يغفر اهلل‬
‫لك يا أخي " رواه مسلم‪ ،‬وغيره‪.‬‬

‫وفي هذا المعنى ‪-‬أيًض ا‪ -‬رواية أبي ذر رضي اهلل عنه قال‪ :‬أوصاني رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بخصال من الخير‪ :‬أوصاني أن ال أنظر إلى من هو فوقي‪ ،‬وأنظر إلى من هو دوني‪،‬‬
‫وأوصاني بحب المساكين‪ ،‬والدنّو منهم‪ ،‬وأوصاني أن أصل رحمي‪ ،‬وإ ن أدبرت" الحديث رواه‬
‫الطبراني في األوسط وابن حبان في صحيحه‪.‬‬

‫وفي حديث مصعب بن سعد قال‪ :‬رأى سعد رضي اهلل عنه أن له فضًال على من دونه‪ ،‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬هل تنصرون وترزقون إال بضعفائكم " رواه البخاري‪ ،‬والنسائي وغيره‬
‫فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إنما تنصر هذه األمة بضعفائها‪ :‬بدعوتهم وصالتهم وإ خالصهم "‪.‬‬

‫وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬ابغوني‬
‫ضعفاءكم‪ ،‬فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " رواه أبو داود‪ ،‬والترمذي والنسائي‪.‬‬

‫وعن علي رضي اهلل عنه قال‪ :‬بينما نحن جلوس مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬إذ طلع علينا‬
‫مصعب بن عمير رضي اهلل عنه ‪ ،‬ما عليه إال ُبْر دة ُم رّقعة بفرو ‪ ،‬فلما رآه صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫بكى للذي كان فيه من النعمة‪ ،‬ثم قال‪ :‬كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى ووضعت بين‬
‫يديه َص ْح َفة ورفعت أخرى‪ ،‬وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا‪ :‬يا رسول اهلل نحن يومئذ خير منا‬
‫اليوم‪ ،‬نكفي المؤنة ونتفرغ للعبادة‪ .‬فقال‪ :‬بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ‪ .‬أخرجه الترمذي‪.‬‬

‫وهكذا ‪-‬رأينا‪ -‬أن األحاديث الواردة في الفقر والغنى تبين أن اإلنسان مبتلى بهما‪ ،‬والذي يكون في‬
‫موضع المحمدة منهما‪ ،‬هو من يفلح في االختبار‪ ،‬وعلى ذلك فإن الفقر والغنى يرتبطان بأسباب‬
‫المدح والذم‪.‬‬

‫وأن ما يرد من الثناء على الفقر والفقراء فهو لبيان منزلة الصبر على الفقر‪ ،‬وعدم الطغيان بالغنى‪،‬‬
‫والحب واالحترام المتبادل بين األغنياء والفقراء‪ ،‬وتحقيق التكافل في األمة‪.‬‬

‫وما يكون من التحذير من الغنى فلحماية اإلنسان من الطغيان بالمال والتنبيه إلى شدة الحساب‬
‫وكثرته‪.‬‬

‫ونختم هذا المبحث بما يدل على ذلك فيما رواه محمود بن لبيد رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪" :‬اثنتان يكرههما ابن آدم‪ :‬الموت‪ ،‬والموت خير من الفتنة‪ ،‬ويكره قلة المال‪ ،‬وقلة المال‬
‫أقل للحساب"‪.‬‬
‫الجمع بين أحاديث "ترك التزين" و "التزين"‬
‫ويرتبط بهذا الموضوع ما ورد في "ترك التزين" وفي "التزين" مما يشعر باالختالف‪ ،‬ولكن يزول‬
‫بجمع األحاديث وتأملها وتوجيه المعاني فيها‪ .‬ففي تيسير الوصول نجد عنوانين في كتاب اللباس‪:‬‬
‫أحدهما "ترك الزينة" واآلخر يليه "التزين"‪ .‬ووضع العنوان "ترك الزينة" يتعارض مع اآلية الكريمة‬
‫"قل من حرم زينة اهلل التي أخرج لعباده" فكيف ال يكون متعارًض ا مع أحاديث النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم في الزينة‪ .‬إال أن المتأمل في أحاديث ترك الزينة يرى أن الترك إنما يعود إلى أسباب أخرجت‬
‫الزينة وصاحبها من منزلة الحالل إلى الحرام‪.‬‬

‫فمثًال نجد رواية معاذ بن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬من ترك‬
‫اللباس متواضًع ا‪ ،‬وهو يقدر عليه‪ ،‬دعاه اهلل يوم القيامة على رؤوس الخالئق حتى يخّيره من أي حلل‬
‫اإليمان شاء يلبسها )‪ .‬فهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن‪ .‬إال أن في إسناده عبد الرحيم بن‬
‫ميمون‪ ،‬وقد ضعفه ابن معين‪ ،‬وفيه أيًض ا سهل بن معاذ‪ ،‬وضعفه كذلك ابن معين‪ .‬ولكن مع افتراض‬
‫حسنه‪ ،‬فإن المعنى فيه‪ :‬أن من كان لديه دواعي الكبر في الملبس وتغلب على نفسه وهواها‪ ،‬وترك‬
‫اللباس إخضاًع ا لنفسه وكسًر ا لمظاهر الكبر فيها‪ ،‬فإن جزاء هذه المجاهدة أن ُيدعى من قبل اهلل‬
‫سبحانه على رءوس الخالئق‪ ،‬وفي هذا داللة على أنه تغلب على شهوة الكبر على الخالئق ورغبة‬
‫الظهور عليهم في الدنيا‪ ،‬فأبدله اهلل عًّز ا وكرامة أمامهم في اآلخرة‪ .‬وإ ذا كان قد ترك ثوب شهرة‬
‫وخيالء تواضًع ا هلل‪ ،‬فإن اهلل سبحانه يخيره من أي الحلل شاء‪.‬‬

‫ويتضح هذا المعنى‪ ،‬ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هذا العنوان فعن ابن عمر رضي‬
‫اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬من لبس ثوب شهرة ألبسه اهلل ثوب مذلة "‪.‬‬
‫وفي رواية‪( :‬ألبسه اهلل إياه يوم القيامة‪ ،‬ثم ألهب فيه النار )‪ .‬أخرج الرواية األولى أبو داود‪ ،‬والثانية‬
‫رزين‪ ،‬وهي ‪-‬أيًض ا‪ -‬في أبي داود‪.‬‬

‫وثوب الشهرة‪ :‬هو الذي إذا لبسه اإلنسان افتضح به واشتهر بين الناس‪ ،‬والمراد به ما ال يجوز‬
‫للرجال لبسه شرًع ا وال عرًفا‪ .‬فترك الزينة ‪ -‬إًذ ا ‪ -‬مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها‪ ،‬وإ ال فإن‬
‫التزين هو األصل‪ ،‬وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر األماكن "خذوا زينتكم عند كل مسجد‬
‫" (األعراف‪.)31:‬‬

‫وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومنها‪ :‬عن أبي األحوص‬
‫عن أبيه قال‪ :‬أتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وعلّي ثوب دوٍن فقال‪ :‬ألك مال؟ قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬من أي المال؟ قلت‪ :‬من كل المال قد أعطاني اهلل تعالى‪.‬‬

‫قال‪ :‬فإذا آتاك اهلل تعالى ماًال فلُير أثر نعمة اهلل عليك وكرامته"‪.‬‬

‫فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هذا التوجيه الذي يأخذ أمًر ا عاًم ا في‬
‫نعم اهلل كلها‪ ،‬وأن اهلل سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده‪ .‬وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة‬
‫اهلل خشية الحسد‪ ،‬فالمؤمن يرى كالشامة وإ ن خشي شيًئا فليستعذ باهلل من شره‪.‬‬

‫وعن محمد بن يحيى بن حيان قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬ما على أحدكم إن وجد‬
‫سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته "‪ .‬وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة‪،‬‬
‫وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة‪ ،‬فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله‬
‫ونظافته‪.‬‬

‫وعن جابر رضي اهلل عنه قال‪ :‬نظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهًر ا لنا‬
‫وعليه ُبردان قد أخلقا‪ .‬فقال‪ :‬أما له غير هذين؟ قلت‪ :‬بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ادعه‪ ،‬فليلبسهما‪ ،‬فلبسهما‪ .‬فلما وّلى‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما له ‪ ،‬ضرب اهلل عنقه‪.‬‬
‫أليس هذا خيًر ا؟ فسمعه الرجل‪ ،‬فقال ‪ :‬في سبيل اهلل يا رسول اهلل‪ .‬فقال‪ :‬في سبيل اهلل‪ .‬فقتل الرجل‬
‫في سبيل اهلل‪.‬‬

‫فالرسول الكريم لم يكتف في هذا الحديث بالتوجيه فحسب‪ ،‬وإ نما دعا إلى التنفيذ‪ ،‬وأن يلبس الثوبين‪،‬‬
‫ولبسهما‪ ،‬وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسًنا التزين‪.‬‬

‫ويختم هذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بال إسراف‪ ،‬وبال تقتير‪.‬‬

‫فعن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬نهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن هاتين اللبستين‪:‬‬
‫المرتفعة والّد ون‪.‬‬

‫ومن هذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم ليس فيها اختالف‪ ،‬وإ نما يحتاج األمر إلى‬
‫جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها‪ ،‬دون أن نضرب بعض األحاديث ببعض‪.‬‬

‫وعلى ذلك فإن اإلنسان في جملة النصوص يقبل على رزق اهلل‪ ،‬وهو واثق فيما عند اهلل‪ ،‬يطلبه بما‬
‫أحل اهلل‪ ،‬فإذا وصله لم يفتن به‪ ،‬بل تعامل فيه بمنطق إيمانه‪ ،‬ال يفرح بما أوتي‪ ،‬وال يحزن على ما‬
‫فات‪ ،‬وال بأس أن يصل في الجالل إلى ما شاء اهلل‪ ،‬وإ ن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء اهلل‪ ،‬وعليه‬
‫أن يصبر‪ ،‬وأن يسعى سعًيا حميًد ا للخروج من الفقر‪ ،‬كما أن أثر النعمة ُيرى عليه‪.‬‬
‫عن أبي ذر رضي اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬ليست الزهادة في الدنيا‬
‫بتحريم الحالل‪ ،‬وال إضاعة المال‪ ،‬ولكن الزهادة أن تكون بما في يد اهلل تعالى أوثق منك بما في‬
‫يدك‪ ،‬وأن تكون في ثواب المصيبة إذا ُأصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك "‪.‬‬

‫وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى اهلل عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيًد ا في غناه‪،‬‬
‫وفي فقره‪ ،‬ال يطغيه غناه‪ ،‬وال يجزع في فقره‪ ،‬بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى‪،‬‬
‫يجد حالوة القليل‪ ،‬كما يعم غيره بسرور غناه‪.‬‬

‫وتتابع مثل هذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم لترسخ هذا المعنى‪:‬‬

‫فعن عبيد اهلل بن ُم حّص ن الخطمي رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬من‬
‫أصبح منكم آمًنا في سربه‪ ،‬معافى في بدنه‪ ،‬عنده قوت يومه‪ ،‬فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيره ا"‪.‬‬
‫فاألمن النفسي مع المعافاة في البدن‪ ،‬ولو كان يحوز قوت اليوم فحسب يحقق للمؤمن الشعور بأنه‬
‫يملك الدنيا بأسرها‪.‬‬

‫وعن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال‪ :‬سأل ناس من األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فأعطاهم ما سألوه‪ ،‬ثم سألوه‪ ،‬فأعطاهم ما سألوه‪ ،‬ثم سألوه‪ ،‬فأعطاهم ما سألوه‪ ،‬حتى إذا نفد ما عنده‪.‬‬
‫قال‪" :‬ما يكون عندي من خير فلن أّد خره عنكم‪ .‬ومن يستعفف يعفه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يغنه اهلل‪ .‬ومن‬
‫يتصبر يصبره اهلل‪ ،‬وما أعطي أحد عطاء هو خير له أوسع من الصبر "‪.‬‬

‫فتعليق النبي صلى اهلل عليه وسلم على موقف هؤالء الناس مع عطائه لهم ثالث مرات حتى نفد ما‬
‫عنده يوجه نحو القناعة والرضى‪ ،‬وأن الذي يطلب ذلك من اهلل يحققه له‪.‬‬

‫وقد مر بنا كيف سمي المال بالخير‪ ،‬وقد سماه النبي صلى اهلل عليه وسلم بالخير كذلك‪" :‬ما يكون‬
‫عندي من خير" أي من مال‪.‬‬

‫وفي تحقيق هذا الرضا يروى أبو هريرة رضي اهلل عنه قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إذا‬
‫نظر أحدكم إلى من ُفّض ل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه‪ ،‬فذلك أجدر أن ال‬
‫تزدروا نعمة اهلل عليكم" أخرجه الشيخان والترمذي‪ .‬وزاد رزين في رواية ‪ :‬قال عون بن عبد اهلل‬
‫بن عتبة رحمه اهلل‪ :‬كنت أصحب األغنياء‪ ،‬فما كان أحد أكثر هًم ا مني‪ .‬كنت أرى دابة خيًر ا من‬
‫دابتي‪ ،‬وثوًبا خيًر ا من ثوبي‪ .‬فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت "‪.‬‬
‫وقد مر بنا كيف حقق الرسول الكريم في حياته المباركة ما يجعل منها مواساة للفقراء ورضا‬
‫بالقضاء‪ ،‬وإ شعاًر ا لألغنياء باحترام الفقراء وعدم الكبر عليهم‪ ،‬كما ينبه إلى عدم التعلق بزخارف‬
‫الحياة‪ ،‬والتفكير في المصير تفكيًر ا يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز باآلخرة‪.‬‬

‫فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬دخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد نام على رمال‬
‫حصير‪ ،‬وقد أثر في جنبه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل ! لو اتخذنا لك وطاًء نجعله بينك وبين الحصير يقيك‬
‫منه؟ فقال‪" :‬ما لي وللدنيا‪ ،‬ما أنا والدنيا إال كراكب استظل تحت شجرة‪ ،‬ثم راح وتركه ا"‪.‬‬

‫وعن سهل بن سعد رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬لو كانت الدنيا تعدل‬
‫عند اهلل جناح بعوضة ما سقى كافًر ا منها شربة ماء "‪.‬‬

‫وعن علي رضي اهلل عنه قال‪" :‬ارتحلت الدنيا مدبرة‪ ،‬وارتحلت اآلخرة مقبلة ! وإ ن لكل واحدة منهما‬
‫بنين فكونوا من أبناء اآلخرة‪ ،‬وال تكونوا من أبناء الدنيا‪ .‬فإن اليوم عمل وال حساب‪ ،‬وغًد ا حساب‬
‫وال عمل‪.‬‬

‫فالبنوة لآلخرة تعني الجمع بين الدنيا واآلخرة؛ أي بين العمل الصالح الذي تعمر به الحياة‪ ،‬والحساب‬
‫الذي يجازى فيه على الصالحات في اآلخرة‪.‬‬

‫النســـخ‬
‫فإذا تعذر الجمع بين الروايات‪ ،‬أو كان متكلًفا صرنا إلى النسخ‪ ،‬أي إلى تحديد السابق والالحق من‬
‫الروايات‪ ،‬فإذا علم التاريخ فإن المتأخر منها ينسخ المتقدم‪.‬‬

‫وقد تكون ألفاظ الروايات مصرحة بتحديد المتقدم والمتأخر كما جاء في قول النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪" :‬كنت نهيتكم عن زيارة القبور أال فزوروها "‪.‬‬

‫فالنهي عن الزيارة كان أوًال‪ ،‬ثم األمر بالزيارة كان آخًر ا‪ ،‬وعلى ذلك يكون العمل المتبع الزيارة لما‬
‫لها من المنافع المذكورة في الروايات من رقة القلب وتذكر اآلخرة والدعاء للموتى وغير ذلك‪.‬‬

‫وقد يكون لفظ الصحابي ناطًقا بهذا التحديد للسابق والالحق كما جاء في حديث علي بن أبي طالب‬
‫رضي اهلل عنه "كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا‬
‫بالجلوس‪.‬‬
‫وعن عبادة بن الصامت‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا اَّتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في‬
‫اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له‪ :‬إنا هكذا نصنع يا محمد‪ .‬فقال لنا النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪" :‬خالفوهم واجلسوا "‪.‬‬

‫وقد يكون التاريخ معلوًم ا من حكاية الصحابة رضوان اهلل عليهم ‪ -‬كذلك ‪ -‬نحو ما رواه ُأبي بن‬
‫كعب رضي اهلل عنه قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل إذا جامع أحدنا فأكسل فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪" :‬يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل "‪ .‬فهذا حديث يدل على أنه ال غسل مع اإلكسال‪،‬‬
‫وأن موجب الغسل اإلنزال‪.‬‬

‫يقول أبو بكر الحازمي‪ :‬ثم لما استقرينا طرق الحديث أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في‬
‫مبدأ اإلسالم‪ ،‬واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان‪ ،‬ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك فأجابه‬
‫عروة أن عائشة رضي اهلل عنها حدثته أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يفعل ذلك وال‬
‫يغتسل‪ ،‬وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل"‪.‬‬

‫وفي رواية الترمذي عن أبي بن كعب‪" :‬إنما كان الماء من الماء رخصة في أول اإلسالم ثم نهي‬
‫عنها"‪.‬‬

‫وقد يكون تحديد السابق والالحق استنباًطا من فهم الروايات‪.‬‬

‫مثال ذلك ما ورد في أحاديث النهي عن الكتابة واألمر بها‪ ،‬فلدينا حديث أبي سعيد الخدري رضي اهلل‬
‫عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ال تكتبوا عني‪ ،‬ومن كتب عني غير القرآن فليمحه‪،‬‬
‫وحدثوا عني وال حرج‪ ،‬ومن كذب علّي فليتبوأ مقعده من النا ر"‪.‬‬

‫فهذا هو الحديث الوحيد الذي يتضمن النهي عن الكتابة‪ ،‬أما ما ورد وفيه أمر بالكتابة فكثير منه‪:‬‬

‫‪ -‬ما ورد عن عبد اهلل بن عمرو قال‪ :‬كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أريد حفظه فنهتني قريش‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا‪ ،‬فأمسكت عن الكتابة‪،‬‬
‫فذكرت ذلك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪" :‬اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إال الحق "‪.‬‬

‫ويشهد الصحابي أبو هريرة رضي اهلل عنه لعبد اهلل بن عمرو بأنه استمر في الكتابة‪ ،‬فيقول‪" :‬ما من‬
‫أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم أحد أكثر حديًثا عنه مني إال ما كان من عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬فإنه‬
‫كان يكتب وال أكتب"‪.‬‬
‫‪ -‬رورى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة خطب فجاء‬
‫رجل من أهل اليمن فقال‪ :‬اكتب لي يا رسول اهلل‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اكتبوا ألبي فالن" قال‬
‫ابن حجر هو أبو شاه‪ ،‬وقيل لألوزاعي‪ :‬ما قوله‪ :‬اكتبوا لي ‪ ،‬قال‪ :‬هذه الخطبة التي سمعها من‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪ -‬وروى البخاري بسنده أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لما اشتد وجعه قال‪" :‬ائتوني بكتاب‪،‬‬
‫اكتب لكم كتاًبا ال تضلوا بعده…"‪.‬‬

‫فهذه أحاديث األمر بالكتابة‪ ،‬وبالنظر إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه وهو الوحيد في‬
‫النهي ‪ -‬كما أشرنا ‪ -‬قد ذكر فيه ما يعين على تحديد السابق منها والالحق‪ ،‬فقد ذكر النهي مقترًنا‬
‫بذكر القرآن الكريم‪.‬‬

‫فالنهي ‪ -‬في الحديث ‪ -‬عن الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة‪ ،‬أو مطلًقا خشية وقوع الخلط‬
‫واللبس بين القرآن الكريم والحديث الشريف‪.‬‬

‫وخشية الخلط بين األسلوبين ال تكون إال في بداية األمر‪ ،‬فإذا ألف الناس أسلوب القرآن الكريم‪،‬‬
‫وأسلوب النبي صلى اهلل عليه وسلم أمنوا من الوقوع في الخلط‪ ،‬وعلى ذلك فإن مضمون الحديث حدد‬
‫لنا السابق والالحق في أحاديث األمر بالكتابة والنهي عنها‪ ،‬فالنهي أوًال‪ ،‬واألمر بالكتابة آخًر ا‪.‬‬

‫وتكون أحاديث األمر بالكتابة قد نسخت حديث النهي عنها‪.‬‬

‫التـــرجيــــح‬
‫فإذا تعذر الجمع بين الروايات‪ ،‬أو كان متكلًفا‪ ،‬وإ ذا لم نستطع إعمال قاعدة النسخ لتعذر تحديد السابق‬
‫منها والالحق صرنا إلى الترجيح‪ ،‬وللترجيح وجوه كثيرة تتسع باتساع علم المرّج ح‪ ،‬وحسن النظر‬
‫إلى المرجحات وتطبيقها على الروايات‪ ،‬ولذلك ليس للمرجحات حصر دقيق فقد عّد الحازمي منها‬
‫في كتابه "االعتبار" خمسين وجًها ثم قال‪ :‬فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات‪ ،‬وثم وجوه كثيرة‬
‫أضربنا عن ذكرها كيال يطول به هذا المختصر‪ .‬وفي تدريب الراوي (وهو يتكلم عن ترجيحات‬
‫الحازمي)‪ :‬ووصلها غيره إلى أكثر من مائة‪ ،‬كما استوفى ذلك العراقي في نكته‪ ،‬وقد رأيتها منقسمة‬
‫إلى سبعة أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬الترجيح بحال الراوي‪:‬‬

‫وذلك بوجوه‪ :‬أحدها كثرة الرواة؛ ألن احتمال الكذب والوهم على األكثر أبعد من احتماله على األقل‪.‬‬

‫ثانيها‪ :‬قلة الوسائط‪ ،‬أي علو اإلسناد حيث الرجال الثقات؛ ألن احتمال الكذب والوهم فيه أقل‪.‬‬

‫ثالثها‪ :‬فقه الراوي؛ سواء كان الحديث مروًيا بالمعنى أو اللفظ؛ ألن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حْم ُله‬
‫على ظاهره بحث عنه حتى يّطلع على ما يزول به اإلشكال‪ ،‬بخالف العامي‪.‬‬

‫رابعها‪ :‬علمه بالنحو؛ ألن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما ال يتمكن منه غيره‪.‬‬

‫خامسها‪ :‬علمه باللغة‪.‬‬

‫سادسها‪ :‬حفظه‪ ،‬بخالف من يعتمد على كتابه‪.‬‬

‫سابعها‪ :‬أفضليته في أحد الثالثة‪ ،‬بأن يكونا فقيهين‪ ،‬أو نحويين‪ ،‬أو حافظين‪ ،‬وأحدهما في ذلك أفضل‬
‫من اآلخر‪.‬‬

‫ثامنها‪ :‬زيادة ضبطه‪ ،‬أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به‪.‬‬

‫تاسعها‪ :‬شهرته‪ ،‬ألن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى‪.‬‬

‫عاشرها إلى العشرين‪:‬‬

‫كونه ورًع ا‪ ،‬أو حسن االعتقاد‪ ،‬أي غير مبتدع‪ ،‬أو جليًس ا ألهل الحديث‪ ،‬أو غيرهم من العلماء‪ ،‬أو‬
‫أكثر مجالسة لهم‪ ،‬أو ذكًر ا‪ ،‬أو مشهور النسب‪ ،‬أو ال لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف‪،‬‬
‫وصعب التمييز بينهما‪ ،‬أو له اسم واحد‪ ،‬ولذلك أكثر ولم يختلط‪ ،‬أو له كتاب يرجع إليه‪.‬‬

‫حادي عشريها‪ :‬أن تثبت عدالته باإلخبار بخالف من تثبت بالتزكية أو العمل بروايته‪ ،‬أو الرواية عنه‬
‫إن قلنا بهما‪.‬‬

‫ثاني عشريها إلى سابع عشريها‪:‬‬

‫أن يعمل بخبره من زكاه‪ ،‬ومعارضه لم يعمل به من زكاه‪ ،‬أو يتفق على عدالته‪ ،‬أو يذكر سبب‬
‫تعديله‪ ،‬أو يكثر مزكوه؛ أو يكونوا علماء‪ ،‬أو كثيري الفحص عن أحوال الناس‪.‬‬
‫ثامن عشريها‪:‬‬

‫أن يكون صاحب القصة‪ ،‬كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم في الصوم لمن أصبح‬
‫جنًبا على خبر الفضل بن العباس في منعه؛ ألنها أعلم منه‪.‬‬

‫أورد اإلمام الطحاوي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن يقول‪ :‬كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم‪،‬‬
‫وهو أمير المدينة‪ ،‬فذكر أن أبا هريرة رضي اهلل عنه كان يقول‪" :‬من أصبح جنًبا أفطر ذلك اليوم"‪.‬‬

‫فقال مروان‪ :‬أقسمت عليك لتذهبن إلى أّم ي المؤمنين‪ ،‬عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما‪ ،‬فتسألهما‬
‫عن ذلك‪.‬‬

‫قال ‪ :‬فذهب عبد الرحمن‪ ،‬وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة رضي اهلل عنها ‪ ،‬فسلم عليها عبد‬
‫الرحمن ثم قال‪ " :‬يا أم المؤمنين‪ ،‬إنا كنا عند مروان‪ ،‬فُذ كر له أن أبا هريرة رضي اهلل عنه كان‬
‫يقول‪" :‬من أصبح جنًبا أفطر ذلك اليوم"‪ .‬فقالت عائشة رضي اهلل عنها‪" :‬بئس ما قال أبو هريرة‪ ،‬يا‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬أترغب عما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يفعل؟"‪.‬‬

‫فقال‪ :‬ال واهلل‪.‬‬

‫قالت‪" :‬فأشهد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه كان يصبح جنًبا من جماع غير احتالم‪ ،‬ثم‬
‫يصوم ذلك اليوم"‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة رضي اهلل عنها فسألها عن ذلك فقالت كما قالت عائشة‬
‫رضي اهلل عنها فخرجنا حتى جئنا إلى مروان‪ ،‬فذكر له عبد الرحمن ما قالتا‪..‬‬

‫فقال مروان‪ :‬أقسمت عليك يا أبا محمد‪ ،‬لتركبّن دابتي‪ ،‬فإنها بالباب‪ ،‬فلتذهبن إلى أبي هريرة رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬فتحدث معه عبد الرحمن ساعة‪ ،‬ثم ذكر ذلك له‪.‬‬

‫فقال أبو هريرة رضي اهلل عنه ‪" :‬ال علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر"‪.‬‬

‫وفي رواية أخرى عن يعلى بن عقبة قال‪ :‬أصبحت جنًبا وأنا أريد الصوم‪ ،‬فأتيت أبا هريرة رضي‬
‫اهلل عنه فسألته فقال لي "أفطر"‪.‬‬

‫فأتيت مروان فسألته وأخبرته بقول أبي هريرة رضي اهلل عنه فبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى‬
‫عائشة رضي اهلل عنها فسألها فقالت‪" :‬كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يخرج لصالة الفجر‪ ،‬ورأسه‬
‫يقطر من جماع‪ ،‬ثم يصوم ذلك اليوم"‪.‬‬
‫فرجع إلى مروان فأخبره فقال‪ :‬إيت أبا هريرة رضي اهلل عنه فأخبره‪ ،‬فأتاه فأخبره فقال‪" :‬أما إني لم‬
‫أسمعه من النبي صلى اهلل عليه وسلم إنما حدثنيه الفضل‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم "‪.‬‬

‫فموقف أبي هريرة رضي اهلل عنه موقف المرجح لقول أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها وأم ا‬
‫لمؤمنين أم سلمة رضي اهلل عنهما فهما أعلم‪.‬‬

‫ونسب السماع إلى الفضل عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬وهذا ما جعل البزار يعلق على رجوع‬
‫أبي هريرة عما كان يقول من ذلك بقوله في مسنده‪" :‬وال نعلم روى أبو هريرة عن الفضل بن العباس‬
‫إال هذا الحديث الواحد"‪.‬‬

‫وقال البيهقي‪ :‬ورواه البخاري مدرًج ا في روايته عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي‬
‫بكر بن عبد الرحمن‪ ،‬إال أنه قال في حديثه‪" :‬فقال‪ :‬كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم"‪.‬‬
‫وروى أنه قال‪" :‬أخبرني بذلك أسامة بن زيد"‪ .‬وقد صّح رجوعه عن ذلك صريًح ا‪.‬‬

‫وأخرج البيهقي في سننه عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب‪" :‬أن أبا هريرة رجع عن‬
‫قوله قبل موته" وروى مثله عن عطاء ثم قال‪ :‬قال ابن المنذر‪ :‬أحسن ما سمعت في هذا أن يكون‬
‫ذلك محموًال على النسخ‪ ،‬وذلك أن الجماع كان في أول اإلسالم محرًم ا على الصائم في الليل بعد‬
‫النوم كالطعام والشراب‪ ،‬فلما أباح اهلل الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل‪،‬‬
‫أن يصوم ذلك اليوم الرتفاع الحظر‪ ،‬وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على األمر األول‪،‬‬
‫ولم يعلم بالنسخ‪ ،‬فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه"‪.‬‬

‫فهذا كان منهج الصحابة في الرواية والفتوى؛ الدقة في نسبة القول إلى سامعه‪ ،‬والرجوع إلى‬
‫الصواب في الفتوى دون االستبداد في الرأي ألّن الوصول إلى الحق غايتهم‪.‬‬

‫وأجيب بجواب ثان على رواية أبي هريرة وفتواه‪ ،‬وهو حمله على من طلع الفجر عليه وهو يجامع‬
‫فاستدام‪.‬‬

‫وجواب ثالث‪ :‬أنه إرشاد إلى األفضل وهو االغتسال قبل الفجر‪ ،‬وتركه عليه الصالة والسالم لذلك‬
‫في حديث السيدة عائشة والسيدة أم سلمة لبيان الجواز‪.‬‬

‫يقول اإلمام الزركشي‪" :‬واعلم أنه وقع خالف في ذلك للسلف ‪ -‬أيضا ‪ -‬ثم استقر اإلجماع على‬
‫صحة صومه كما نقله ابن المنذر‪ ،‬وكذلك الماوردي في االحتالم‪.‬‬
‫ونظر اإلمام الطحاوي إلى رواية أبي هريرة والروايات األخرى ومنها عن أم المؤمنين عائشة‬
‫رضي اهلل عنهما والسيدة أم سلمة رضي اهلل عنها وقال‪" :‬فذهب ذاهبون إلى ما روى أبو هريرة‬
‫رضي اهلل عنه من ذلك عن الفضل‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم فقالوا به وقلدوه‪.‬‬

‫وخالفهم في ذلك آخرون‪ ،‬فقالوا‪ :‬يغتسل ويصوم يومه ذلك‪.‬‬

‫وذهبوا في ذلك إلى ما رويناه عن عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫ومنه‪ :‬رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يحدث عن أبيه قال‪ :‬دخلت على عائشة‬
‫رضي اهلل عنها زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم فأخبرتني أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان‬
‫يصبح جنًبا‪ ،‬ثم يغتسل‪ ،‬ثم يغدو إلى المسجد ورأسه يقطر‪ ،‬ثم يصوم ذلك اليوم‪.‬‬

‫فأخبرته مروان‪ ،‬فقال‪ :‬إيت أبا هريرة رضي اهلل عنه فأخبره بذلك‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬إنه لي صديق‪ ،‬فاعفني‪ ،‬فقال‪ :‬عزمت عليك لتأتينه‪.‬‬

‫فانطلقت أنا وأبي إلى أبي هريرة رضي اهلل عنه فأخبرت بذلك‪.‬‬

‫فقال أبو هريرة رضي اهلل عنه ‪ :‬عائشة رضي اهلل عنها أعلم مني‪.‬‬

‫وقال شعبة‪ :‬وفي الصحيفة‪" :‬أعلم برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مني"‪.‬‬

‫وبعد أن يستقصي اإلمام الطحاوي الروايات بطرقها المتعددة عن أّم ي المؤمنين السيدة عائشة‬
‫والسيدة أم سلمة يقول‪:‬‬

‫"قالوا‪ :‬فلما تواترت اآلثار بما ذكرنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لم يجز لنا خالف ذلك إلى‬
‫غيره‪.‬‬

‫فكان من حجة أهل المقالة األولى عليهم في ذلك أن قالوا‪ :‬هذا الذي روته أم سلمة وعائشة رضي اهلل‬
‫عنهما إنما أخبرتا به عن فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأخبر الفضل في حديث أبي هريرة‬
‫عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ما قد خالف ذلك‪.‬‬
‫فقد يجوز أن يكون حكم النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك على ما ذكرت عائشة وأم سلمة رضي‬
‫اهلل عنهما في حديثهما‪ ،‬ويكون حكم سائر الناس على ما ذكره الفضل‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فيكون الخبران غير متضادين على ما يخرج عليه معاني اآلثار‪.‬‬

‫فكان من الحجة لآلخرين عليهم أن أبا هريرة رضي اهلل عنه هو الذي روى حديث الفضل‪ ،‬وقد رجع‬
‫فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما‪ ،‬وُع ّد ذلك أولى مما حدثه الفضل‪ ،‬عن النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فهذا حجة في هذا الباب‪.‬‬

‫وحجة أخرى‪ :‬أنا قد وجدنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يدل على حكم الناس في ذلك ‪-‬‬
‫أيًض ا‪ -‬كحكمه‪.‬‬

‫فعن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها أن رجًال قال لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو واقف‬
‫على الباب وأنا أسمع " يا رسول اهلل‪ ،‬إني أصبح جنًبا وأنا أريد الصوم"‪.‬‬

‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬وأنا أصبح جنًبا‪ ،‬وأنا أريد الصوم‪ ،‬فأغتسل وأصوم"‪.‬‬

‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنك لست مثلنا قد غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ .‬فغضب رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪" :‬واهلل إني ألرجو أن أكون أخشاكم هلل‪ ،‬وأعلمكم بما أتقي" ‪.‬‬

‫فلما كان جواب النبي صلى اهلل عليه وسلم لذلك السائل هو إخباره عن فعل نفسه في ذلك ثبت بذلك‬
‫أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء‪.‬‬

‫فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني اآلثار‪.‬‬

‫وأما وجهه من طريق النظر في ذلك‪ ،‬فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن صائًم ا لو نام نهاًر ا فأجنب أن ذلك‬
‫ال يخرجه عن صومه‪.‬‬

‫فأردنا أن ننظر أنه هل يكون داخًال في الصوم وهو كذلك؟ أو يكون حكم الجنابة إذا طرأت على‬
‫الصوم خالف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟‪.‬‬

‫فرأينا األشياء التي تمنع من الدخول في الصوم‪ ،‬من الحيض والنفاس‪ ،‬إذا طرأ ذلك على الصوم‪ ،‬أو‬
‫طرأ عليه الصوم‪ ،‬فهو سواء‪.‬‬

‫أال ترى أنه ليس لحائض أن تدخل في الصوم وهي حائض‪ ،‬وأنها لو دخلت في الصوم طاهًر ا‪ ،‬ثم‬
‫طرأ عليها الحيض في ذلك اليوم‪ ،‬أنها بذلك خارجة من الصوم‪.‬‬
‫فكانت األشياء التي تمنع من الدخول في الصوم‪ ،‬هي األشياء التي إذا طرأت على الصوم أبطلته‪.‬‬

‫وكانت الجنابة إذا طرأت على الصوم باتفاقهم جميًع ا‪ ،‬لم تبطله‪.‬‬

‫فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه‪ ،‬فثبت بذلك ما قد‬
‫وافق ما روته أم سلمة وعائشة رضي اهلل عنهما‪ ،‬وهذا قول أبي حنيفة‪ ،‬وأبي يوسف ومحمد رحمهم‬
‫اهلل تعالى‪.‬‬

‫تاسع عشريها‪ :‬أن يباشر ما رواه‪.‬‬

‫الثالثون‪ :‬تأخر إسالمه‪ ،‬وقيل عكسه؛ لقوة أصالة المتقدم ومعرفته‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن تأخر موته إلى إسالم المتأخر لم يرجح بالتأخير؛ الحتمال تأخر روايته عنه‪ ،‬وإ ن تقدم أو‬
‫علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح‪.‬‬

‫الحادي والثالثون إلى األربعين‪:‬‬

‫كونه أحسن سياًقا واستقصاًء لحديثه‪ .‬أو أقرب مكاًنا‪ .‬أو أكثر مالزمة لشيخه‪ ،‬أو سمع من مشايخ‬
‫بلده‪ ،‬أو مشافها مشاهًد ا لشيخه حال األخذ‪ .‬أو ال يجيز الرواية بالمعنى‪ .‬أو الصحابي من أكابرهم‪،‬‬
‫أو على رضي اهلل تعالى عنه وهو في األقضية‪ ،‬أو معاذ وهو في الحالل والحرام‪ ،‬أو زيد وهو في‬
‫الفرائض‪ ،‬أو اإلسناد حجازي‪ ،‬أو من بلد ال يرضون التدليس‪.‬‬

‫‪ -‬القسم الثاني ‪ :‬الترجيح بالتحمل‪ ،‬وذلك بوجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬الوقت‪ .‬فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إال بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله‪ ،‬أو‬
‫بعضه بعده؛ الحتمال أن يكون هذا مما قبله‪ .‬والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط‪.‬‬

‫ثانيها وثالثها‪ :‬أن يتحمل بحدثنا واآلخر عرًض ا‪ ،‬أو عرًض ا واآلخر كتابة‪ ،‬أو مناولة أو وجادة‪.‬‬

‫‪ -‬القسم الثالث ‪ :‬الترجيح بكيفية الرواية‪ ،‬وذلك بوجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه؛ والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى‪.‬‬

‫ثانيها‪ :‬ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه؛ لداللته على اهتمام الراوي به حيث عرف‬
‫سببه‪ ،‬وهذا سيتضح تفصيًال في هذه الدراسة‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬أن ال ينكره راويه وال يتردد فيه‪.‬‬

‫رابعها إلى عاشرها‪ :‬أن تكون ألفاظه دالة على االتصال؛ كحدثنا وسمعت‪ ،‬أو اتفق على رفعه أو‬
‫وصله‪ ،‬أو لم يختلف في إسناده‪ ،‬أو لم يضطرب لفظه‪ ،‬أو روي باإلسناد وعزى ذلك لكتاب معروف‪،‬‬
‫أو عزيز واآلخر مشهود‪.‬‬

‫‪ -‬القسم الرابع ‪ :‬الترجيح بوقت الورود وذلك بوجوه‪:‬‬

‫أحدها وثانيها‪ :‬بتقديم المدني على المكي‪ ،‬والدال على علو شأن المصطفى عليه الصالة والسالم على‬
‫الدال على الضعف كبدأ اإلسالم غريًبا‪ ،‬ثم شهرته‪ ،‬فيكون الدال على العلو متأخًر ا‪.‬‬

‫ثالثها‪ :‬ترجيح المتضمن للخفيف لداللته على التأخر؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم كان يغلظ في أول‬
‫أمره زجًر ا عن عادات الجاهلية‪ ،‬ثم مال للتخفيف‪ ،‬كذلك قال صاحب المنهاج‪ ،‬ورجح اآلمدي وابن‬
‫الحاجب وغيرهما عكسه وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم جاء أوًال‬
‫باإلسالم فقط‪ ،‬ثم شرعت العبادات شيًئا فشيًئا‪.‬‬

‫رابعها‪ :‬ترجيح ما تحمل بعد اإلسالم على ما تحمل قبله‪ ،‬أو شك؛ ألنه أظهر تأخًر ا‪.‬‬

‫خامسها وسادسها‪ :‬ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم‪ ،‬وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته‬
‫صلى اهلل عليه وسلم على غير المؤرخ‪ ،‬قال الرازي ‪ :‬والترجيح بهذه السنة‪ ،‬أي إفادتها للرجحان‬
‫غير قوية‪.‬‬

‫‪ -‬القسم الخامس ‪ :‬الترجيح بلفظ الخبر‪ ،‬وذلك بوجوه‪:‬‬

‫أحدها إلى الخامس والثالثين‪ :‬ترجيح الخاص على العام‪ ،‬والعام الذي لم يخصص على المخصص‬
‫لضعف داللته بعد التخصيص على باقي أفراده‪ ،‬والمطلق على ما ورد على سبب‪ ،‬والحقيقة على‬
‫المجاز‪ ،‬والمجاز المشبه للحقيقة على غيره‪ ،‬والشرعية على غيرها‪ ،‬والعرفية على اللغوية‪،‬‬
‫والمستغنى على اإلضمار‪ ،‬وما يقل فيه اللبس‪ ،‬وما اتفق على وضعه لمسماه‪ ،‬والمومي للعلة‪،‬‬
‫والمنطوق‪ ،‬ومفهوم الموافقة على المخالفة‪ ،‬والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر‪،‬‬
‫والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء‪ ،‬على النكرة المنفية‪ .‬أو من الجمع المعرف على "من" و "ما"‪،‬‬
‫أو من الكل وذلك من الجنس المعرف‪ ،‬وما خطابه تكليفي على الوضعي‪ ،‬وما حكمه معقول المعنى‪،‬‬
‫وما قدم فيه ذكر العلة‪ ،‬أو دل االشتقاق على حكمه‪ ،‬والمقارن للتهديد‪ ،‬وما تهديده أشد‪ ،‬والمؤكد‬
‫بالتكرار‪ ،‬والفصيح وما بلغة قريش‪ ،‬وما دل على المعنى المراد‪ ،‬بوجهين فأكثر وبغير واسطة‪ ،‬وما‬
‫ذكر من معارضه كـ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"‪ .‬والنص والقول‪ ،‬وقول قارنه العمل‪،‬‬
‫أو تفسير الراوي‪ ،‬وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم‪ ،‬وما فيه زيادة‪.‬‬

‫القسم السادس ‪ :‬الترجيح بالحكم‪ ،‬وذلك بوجوه‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬تقديم الناقل على البراءة األصلية على المقرر لها‪ ،‬وقيل عكسه‪.‬‬

‫ثانيها‪ :‬تقديم الدال على التحريم على الدال على اإلباحة‪ .‬والوجوب‪.‬‬

‫ثالثها ‪ :‬تقديم األحوط‪.‬‬

‫رابعها‪ :‬تقديم الدال على نفي الحد‪.‬‬

‫‪ -‬القسم السابع ‪ :‬الترجيح بأمر خارجي‪:‬‬

‫كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن‪ ،‬أو سنة أخرى‪ ،‬أو ما قبل الشرع‪ ،‬أو القياس‪ ،‬أو عمل األمة‪ ،‬أو‬
‫الخلفاء الراشدين‪ ،‬أو معه مرسل آخر‪ ،‬أو منقطع‪ ،‬أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة‪ ،‬أو له نظير‬
‫متفق على حكمه‪ ،‬أو اتفق على إخراجه الشيخان‪.‬‬

‫فهذه أكثر من مائة مرجح‪ ،‬وثم مرجحات أخر ال تنحصر ومثارها غلبة الظن‪.‬‬

‫ولذلك فإن حسن الفهم للنصوص واألمن من الزلل في التعامل معها يقتضي هذه السعة العلمية التي‬
‫تضرب في كل اتجاه؛ولذلك قال اإلمام النووي في النوع السادس والثالثين من أنواع علوم الحديث‬
‫وهو معرفة مختلف الحديث وحكمه‪ :‬هذا من أهم األنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من‬
‫الطوائف‪ ،‬وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهًر ا فيوفق بينهما‪ ،‬أو يرجح أحدهما‪ ،‬وإ نما‬
‫يكمل له األئمة الجامعون بين الحديث والفقه‪ ،‬واألصوليون الغواصون على المعاني‪ ،‬وصنف فيه‬
‫اإلمام الشافعي‪ ،‬ولم يقصد رحمه اهلل استيفاءه‪ ،‬بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه‪ ،‬ثم صنف فيه ابن‬
‫قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة‪ ،‬لكون غيرها أقوى وأولى‪ ،‬وترك معظم المختلف‪ ،‬ومن‬
‫جمع ما ذكرنا ال يشكل عليه إال النادر في األحيان‪.‬‬

‫التــوقـف‬
‫فإذا تساوت الروايات في الصحة وعجز الباحث عن الجمع بينها‪ ،‬وعجز عن الترجيح بالمرجحات‬
‫على كثرتها ‪ -‬وهذه الحالة نادرة إذا حّص ل الباحث األسس السابقة ‪ -‬فاألوفق له التوقف‪ ،‬ومعناه‬
‫عدم الرفض له ‪ -‬لثبوته ‪ -‬بسبب العجز عن الجمع أو الترجيح حتى يفتح اهلل سبحانه على الباحث‬
‫بفهم جديد‪ ،‬مع مداومة النظر‪ ،‬أو يفتح على غيره‪.‬‬

‫والتوقف أسلم من الرفض وإ همال النص مع ثبوته‪.‬‬

‫فهذه جملة األسس التي رأيت ضرورة الوقوف عليها بصورة مجملة مع توضيح يسير بنماذج‬
‫تطبيقية‪ ،‬وإ ال فكل أساس منها في حاجة إلى تفصيل‪ ،‬نكتفي منه في هذه الدراسة باألساس الذي ندرت‬
‫الكتابة فيه‪ ،‬مع أهميته في فهم أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو فهم األحاديث في ضوء‬
‫أسباب ورودها‪ ،‬لبيان أهمية هذا األساس‪ ،‬والجهود السابقة التي بذلت في ذلك‪ ،‬ومتابعة هذه الجهود‬
‫بتأسيس منهج تسير عليه الدراسة القادمة‪ ،‬ونتناول ذلك في الفصل اآلتي‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫تحليل وتأسيس أسباب ورود الحديث‬
‫بداية التأليف في أسباب الورود‬
‫لقد كانت البدايُة‪ ،‬في محاكاة ما ُك تب في أسباب النزول للكتاب العزيز؛ لما وَقَف عليه العلماُء من‬
‫أهمية المعرفة بأسباب نزول آيات القرآن الكريم في فهِم معاني اآليات الكريمة المرتبطة بأسباب‬
‫لنزولها‪ ،‬فشرع بعض العلماء من أهل الحديث في تصنيف أسباب ورود الحديث بمنهِج أسباِب نزوِل‬
‫آيات القرآن الكريم‪ ،‬يقول اإلمام السيوطي‪…" :‬من أنواع علوم الحديث معرفة أسبابه‪ ،‬كأسباب نزول‬
‫القرآن‪ ،‬وقد صّنف فيه األئمة كتًبا في أسباب نزول القرآن‪ ،‬واشُتهر منها كتاُب الواحدي‪ ،‬ولي فيه‬
‫تأليف جامع ُيسمى "لباب النقول في أسباب النزول"‪.‬‬

‫وأما أسباُب الحديث ‪ :‬فألف فيه بعُض المتقدمين‪ ،‬ولم نقف عليه‪ ،‬وإ نما ذكروه في ترجمته‪ ،‬وذكره‬
‫الحافُظ أبو الفضل ابُن حجر في شرح النخبة‪.‬‬

‫وقد أحببُت أن أجمع فيه كتاًبا‪ ،‬فتتبعت جوامع الحديث‪ ،‬والتقطت منها ُنبًذ ا‪ ،‬وجمعتها في هذا الكتاب‪.‬‬
‫واهلل الموفق والهادي للصواب" ويقصد السيوطي بذلك كتابه " اللمع في أسباب الحديث"‪.‬‬

‫ويذكر جهد من سبقه في ذلك بقول شيخ اإلسالم سراج الدين البلقيني في كتابه‪" :‬محاسن‬
‫االصطالح"‪" :‬النوع التاسُع والستون‪ :‬معرفُة أسباب الحديث‪ ،‬قال الشيُخ أبو الفتح الُقشيرُّي المشهور‬
‫بابن دقيق العيد رحمه اهلل في شرح العمدة في الكالم على حديث "إنما األعمال بالنيات" في البحث‬
‫التاسع‪" :‬شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف أسباب الحديث‪ ،‬كما ُص ِّنف في أسباب‬
‫النزول للكتاب العزيز‪ ،‬فوقفت من ذلك على شيء يسير له‪ ،‬وحديُث "إنما األعمال بالنيات" يدخل في‬
‫هذا القبيل‪ ،‬وَيْن ضُّم إلى ذلك نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه‪.‬‬

‫وإ ذا كان اإلمام السيوطي قد ذكر ما وقف عليه من نماذج سابقة "في أسباب الورود" ‪ -‬كما رأينا ‪-‬‬
‫فإنه أشار في الوقت نفسه إلى مصنفات مفقودة في هذا الموضوع منها‪:‬‬

‫‪ -‬تصنيف أبي حفص الُعْك بري‪.‬‬

‫‪ -‬وتصنيف أبي حامد بن قتاده الجوباري‪.‬‬

‫وذكر السيوطي قول الذهبي ‪ -‬بعد هذا التصنيف ‪" : -‬ولم يسبق إلى ذلك"‪.‬‬

‫كما أشار صاحب مفتاح السعادة إلى وجود مصنفات في هذا الفن لكنه لم يرها‪.‬‬

‫وعلى ذلك فالمصنفات التي بين أيدينا في هذا النوع من أنواع علوم الحديث‪ ،‬والتي يمكن أن نتعامل‬
‫معها تحليًال ودراسة‪ ،‬هي على هذا الترتيب‪:‬‬

‫‪ -1‬ما كتبه الحافظ البلقيني في كتابه محاسن االصطالح‪ ،‬وتضمين كتاب ابن الصالح‪ ،‬والذي تتبع‬
‫فيه مقدمة ابن الصالح فقرًة فقرة‪ ،‬فأعاد صياغتها تضميًنا‪ ،‬ثم عَّقب عليها بفوائد وزيادات ُتفِّص ل ما‬
‫أجمل ابن الصالح‪ ،‬وتستدرك ما فاته‪ ،‬وتناقُش ما يرد على كالمه‪ ،‬حيثما بدا وجه اعتراض‪ ،‬ثم لما‬
‫وصل في محاسنه إلى نهاية المقدمة‪ ،‬تابع تقديم أنواٍع خمسٍة من علوم الحديث لم يتكلم عنها "ابن‬
‫الصالح" في مقدمته‪ ،‬ومنها النوع التاسع والستون‪" :‬معرفة أسباب الحديث"‪.‬‬

‫والذي يجعلني أعُّد هذا الصنيع‪ ،‬من المصنفات‪ ،‬أن اإلمام البلقيني لم يتعامل مع هذا النوع تعامله مع‬
‫األنواع األخرى في ذكر قوانين الرواية‪ ،‬وما ُع رف من منهج مصطلح الحديث‪ ،‬ولكنه زاد على‬
‫ذلك‪ .‬تصنيًفا لمجموعة من األحاديث بأسبابها‪ ،‬مبيًنا كيف يكون التصنيف في هذا النوع؛ فلم‬
‫يكتف بمثاٍل أو مثالين‪ ،‬وإ نما قّد م مجموعًة من الروايات‪ُ ،‬تعُّد مثاًال ُيحتذى في هذا الموضوع‪.‬‬

‫‪" -2‬الُّلمع في أسباب الحديث"‪ ،‬أو "أسباب ورود الحديث" للحافظ جالل الدين السيوطي‪ ،‬وقد قام‬
‫بتحقيقه الدكتور يحيى إسماعيل‪ ،‬في عمله للماجستير‪.‬‬
‫‪" -3‬البياُن والتعريُف في أسباب ورود الحديث الشريف" تأليف السيد الشريف إبراهيم بن محمد بن‬
‫كمال الدين الشهير بابن حمزة الُح سيني الدمشقي‪،‬وقد حققه وعلق عليه فضيلة الدكتور الحسيني عبد‬
‫المجيد هاشم رحمه اهلل‪.‬‬

‫ارتباط سبب الورود بسبب النزول‬


‫وإ ذا كان ابن دقيق العيد والسيوطي قد نّبها ‪ -‬كما مر ‪ -‬إلى هذه العالقة‪ ،‬بين أسباب الورود وما‬
‫كتب فيها‪ ،‬وأسباب النزول وما كتب فيها‪ ،‬فإن المتأمل في هذه الكتابات‪ ،‬يجد أن المصنفين في أسباب‬
‫النزول‪ ،‬هم المشتغلون بالروايات وما يتصل بعلوم الحديث؛ فقد ذكر اإلمام الزركشي في كتابه‬
‫"البرهان في علوم القرآن"‪ ،‬عناية المفسرين في كتبهم بمعرفة أسباب النزول‪ ،‬وأنهم أفردوا فيه‬
‫تصانيف‪ ،‬منهم "علي بن المديني" شيخ البخاري‪ ،‬ومن أشهرها تصنيف الواحدي‪.‬‬

‫واتفق اإلمام السيوطي مع اإلمام الزركشي في وصف كتاب أسباب النزول ألبي الحسن "علي بن‬
‫أحمد الواحدي النيسابوري" بأنه أحسنها‪.‬‬

‫كما يقول السيوطي‪ :‬ثم شيخ اإلسالم حافظ العصر‪ ،‬أبو الفضل "ابن حجر"‪.‬‬

‫غير أن اإلمام السيوطي ‪ -‬وقد ألف في هذا كتابه لباب النقول في أسباب النزول ‪ -‬يذكر في كتابه‬
‫"اإلتقان"‪ ،‬ما يشعر بسبب تأليفه لهذا الكتاب‪ ،‬على الرغم من شهادته بالحسن لكتاب الواحدي‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز‪ ،‬وقد اختصره "الجعبري" فحذف أسانيده‪ ،‬ولم‬
‫يزد عليه شيًئا‪ ،‬وألف فيه شيخ اإلسالم أبو الفضل ابن حجر كتاًبا مات عنه مسودة‪ ،‬فلم نقف عليه‬
‫كامًال‪ ،‬وقد ألف فيه كتاًبا حافًال موجًز ا محررًا‪ ،‬لم يؤلف مثله في هذا النوع‪.‬‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬فكل من كتب ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬في أسباب النزول‪ ،‬فإن مصادره األساسية ما ذكر في‬
‫البرهان‪ ،‬واإلتقان‪ ،‬وما جمع من أسباب النزول في الكتب السابقة‪ ،‬ومن أجمع ما كتب من دراسة‬
‫حديثة في هذا‪ ،‬ما سطره الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم‬
‫القرآن"‪.‬‬

‫وتعود الصلة بين أسباب النزول وأسباب الورود‪ ،‬إلى ما يلي‪:‬‬


‫أوًال ‪ :‬اعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي‬
‫فيذكر السيوطي في اإلتقان قول الواحدي‪" :‬ال يحل القول في أسباب نزول الكتاب‪ ،‬إال بالرواية‬
‫والسماع ممن شاهدوا التنزيل‪ ،‬ووقفوا على األسباب‪ ،‬وبحثوا عن علمها‪ ،‬وقد قال محمد بن سيرين‪:‬‬
‫سألت عبيدة عن آية من القرآن‪ ،‬فقال‪ :‬اتق اهلل وقل سداًد ا‪ ،‬ذهب الذين يعلمون فيما أنزل اهلل من‬
‫القرآن‪.‬‬

‫وقال الحاكم في علوم الحديث‪ :‬إذا أخبر الصحابي‪ ،‬الذي شهد الوحي والتنزيل‪ ،‬عن آية من القرآن‬
‫الكريم أنها نزلت في كذا‪ ،‬فإنه حديث مسند‪ ،‬ومشى على هذا ابن الصالح وغيره‪.‬‬

‫ويقول السيوطي‪" :‬وما كان منه عن صحابي‪ ،‬فهو مسند مرفوع‪ ،‬إذ قول الصحابي فيهما ال مدخل فيه‬
‫لالجتهاد‪ ،‬مرفوع‪.‬‬

‫أو تابعي فمرسل‪ .‬وشرط قبولهما صحة السند‪ ،‬ويزيد الثاني (وهو المرسل) أن يكون راويه‬
‫معروًفا بأنه ال يروي إال عن الصحابة‪ ،‬أو ورد له شاهد مرسل أو متصل‪،‬ولو ضعيًفا‪.‬‬

‫وإ ذا تعارض فيه حديثان؛ فإن إمكن الجمع بينهما فذاك؛ كآية اللعان‪ ،‬ففي الصحيح عن سهل بن سعد‬
‫الساعدي أنها نزلت في قصة ُع وْي مر العجالني‪ ،‬وفيه أيضًا ‪ -‬أنها نزلت في قصة هالل بن أمية‪،‬‬
‫فيمكن أنها نزلت في حقهما‪ ،‬أي بعد سؤال كل منهما‪ ،‬فُيجمع بهذا‪.‬‬

‫وإ ن لم يكن ُقّد م ما كان سنده صحيًح ا‪ ،‬أو له ُم رّج ح‪ ،‬ككون راويه صاحب الواقعة التي نزلت فيها‬
‫اآلية‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬

‫فإن استويا‪ ،‬فهل ُيحمل على النزول مرتين‪ ،‬أو يكون مضطرًبا يقتضي طرح كل منهما‪.‬‬

‫عندي فيه احتماالن‪.‬‬

‫وفي الحديث ما يشبهه‪.‬‬

‫وربما كان في إحدى القصتين "فتال" فوهم الراوي فقال‪" :‬فنزلت"‪ .‬مثال ذلك ما أخرجه الترمذي‬
‫وصححه عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬مر يهودي بالنبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬كيف تقول يا أبا القاسم‬
‫إذا وضع اهلل السماوات على ذه‪ ،‬واألرضين على ذه‪ ،‬والماء على ذه‪ ،‬والجبال على ذه‪ ،‬وسائر الخلق‬
‫على ذه؟ فأنزل اهلل‪َ( :‬و ما قدروا اهلل حق قْد ِر ه… )(األنعام‪ .)91:‬والحديث في الصحيح بلفظ "فتال"‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو الصواب‪ ،‬فإن اآلية مكية"‪.‬‬

‫ومثال ذلك ‪ -‬أيًض ا ‪ -‬ما أخرجه البخاري رحمه اهلل‪ ،‬عن أنس رضي اهلل عنه ‪ ،‬قال‪ :‬سمع عبد اهلل‬
‫بن سالم بمقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فقال‪ :‬إني سائلك عن ثالث ال يعلمهن إال نبي‪:‬‬

‫ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد‪ ،‬إلى أبيه أو أمه؟‬

‫قال‪ :‬أخبرني بهن جبريل آنًفا‪ ،‬قال‪ :‬جبريل؟‬

‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ذاك عدو اليهود من المالئكة‪ ..‬فقرأ هذه اآلية‪َ( :‬م ن كان عُد ًّو ا لجبريل فإنه نزله‬
‫على قْلِبك )(البقرة‪.)97:‬‬

‫قال ابن حجر في شرح البخاري‪ :‬ظاهر السياق أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قرأ اآلية رًد ا على‬
‫اليهود‪ ،‬وال يستلزم ذلك نزولها حينئذ‪ ،‬قال‪ :‬وهذا هو المعتمد‪ ،‬فقد صح في سبب نزول اآلية قصة‬
‫غير قصة ابن سالم‪.‬‬

‫وعلى ذلك فإن سبب النزول‪ ،‬يجري عليه من األحكام ما يجري على األحاديث‪ ،‬من جهة التوثيق‬
‫للروايات‪ ،‬والتأليف ‪ -‬بالطرق العلمية المعروفة لدى علماء الحديث ‪ -‬بين مختلفها‪ ،‬غير أن سبب‬
‫النزول يتميز بارتباطه بآيات الذكر الحكيم وقت نزولها‪.‬‬

‫ولذلك ينبغي أن نعمق النظر للتفريق بين السبب في النزول‪ ،‬وما يجري في األحاديث من بيان‬
‫المعاني فيما تضمنته آيات القرآن الكريم‪ ،‬فمجئ عبد اهلل بن سالم إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مقدمه المدينة‪ ،‬وسؤاله للنبي صلى اهلل عليه وسلم عن األمور الثالثة‪ ،‬سبب لورود الحديث‪ ،‬ومن‬
‫إجابة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬جاء ذكر جبريل عليه السالم‪ ،‬وجاء قول عبد اهلل بن سالم في‬
‫جبريل من خالل تصور اليهود له‪ ،‬فجاء ذكر اآلية الكريمة‪ ،‬بسبب ورود الحديث السابق‪ ،‬وذكرها ‪-‬‬
‫هنا ‪ -‬ال يعد سبًبا لنزولها‪ ،‬حيث نزلت بسبب آخر‪ ،‬أخرجه أحمد والترمذي والنسائي‪ ،‬من طريق‬
‫بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬أقبلت يهود إلى رسول اهلل فقالوا‪ :‬يا أبا‬
‫القاسم ! إنا نسألك عن خمسة أشياء‪ ،‬فإن أنبأتنا بهّن عرفنا أنك نبّي ‪ ،‬فذكر الحديث‪ ..‬وفيه أنهم سألوه‬
‫عما حّر م إسرائيل على نفسه‪ ،‬وعن عالمة النبي ‪،‬وعن الرعد وصوته‪ ،‬وكيف تذكر المرأة وتؤنث‪،‬‬
‫وعّم ن يأتيه بخبر السماء‪ ،‬إلى أن قالوا‪ :‬فأخبرنا من صاحبك؟‬

‫قال جبريل؟ قالوا‪ :‬جبريل ! ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدّو نا‪ ،‬لو قلت‪ :‬ميكائيل الذي ينزل‬
‫بالرحمة والنبات والقطر لكان خيًر ا‪ ،‬فنزلت‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإن الدقة في التفريق بين سبب النزول‪ ،‬وسبب الورود‪ ،‬ضرورية‪ ،‬حتى يكون االجتهاد‬
‫في فهم النصوص‪ ،‬واستنباط األحكام منها‪ ،‬صحيًح ا‪.‬‬

‫ثانًيا‪ :‬معرفة سبب النزول‪ ،‬وكذلك سبب الورود‪ ،‬تجعل اإلنسان مدرًك ا‬
‫لحقيقة المعنى وأبعاده‬
‫ويعايش جزئيات األسباب‪ ،‬ووجه االرتباط بين النص والحكم‪ ،‬والحكمة التي تكون في هذا‬
‫االرتباط‪ ،‬وهذا يعين المجتهدين في كل عصر‪ ،‬لمعرفة الصفات المشتركة بين الفرع واألصل عند‬
‫القياس‪ ،‬كما ييسر على المجتهدين الوقوف على تحقق الحكمة عند استنباط األحكام للمشكالت‬
‫المعاصرة‪ ،‬يقول الزركشي ‪" :‬وأخطأ َم ْن زعم أنه ال طائل تحته‪ ،‬لجريانه مجرى التاريخ‪ ،‬وليس‬
‫كذلك‪ ،‬بل له فوائد منها‪ :‬وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم‪.‬‬

‫ثالًثا ‪ :‬معرفة سبب النزول‪ ،‬وكذلك سبب الورود‪ ،‬يزيل اإلشكال‬


‫عند الوقوف أمام المعاني في بعض اآليات‪ ،‬وفي بعض األحاديث‪ ،‬يقول الواحدي‪" :‬ال يمكن معرفة‬
‫تفسير اآلية دون الوقوف على قصتها‪ ،‬وبيان نزولها"‪.‬‬

‫ويقول ابن دقيق العيد‪" :‬بيان سبب النزول‪ ،‬طريق قوي في فهم معاني القرآن"‪.‬‬

‫ويقول ابن تيمية‪" :‬معرفة سبب النزول يعين على فهم اآلية‪ ،‬فإن العلم بالسبب يورث العلم‬
‫بالمسبب"‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى‪( :‬ال تْح سبّن الذين يفرحون بما أتوا ّو ُيحّبون أن ُيحمدوا‬
‫بما لم يفعلوا فال تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاُب أليم )(آل عمران‪ ..)188:‬فقد أخرج‬
‫البخاري في صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص‪ :‬أن مروان قال لبوابه‪ :‬اذهب يا رافع إلى ابن‬
‫عباس فقل‪ :‬لئن كان كل امرئ فرح بما أتى‪ ،‬وأحب أن يحمد بما لم يفعل‪ ،‬معذًبا‪ ،‬لنعّذ بن أجمعون!‬
‫فقال ابن عباس‪ :‬وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى اهلل عليه وسلم يهود‪ ،‬فسألهم عن شيء فكتموه‬
‫إياه‪ ،‬وأخبروه بغيره‪ ،‬فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم‪ ،‬وفرحوا بما أتوا من‬
‫كتمانهم‪ ،‬ثم قرأ ابن عباس‪( :‬وإ ذ أخذ اهلل ميثاق الذين أوتوا الكتاب لُتبيننه للناس وال تكُتمونه فنَبُذ وه‬
‫وراء ظهورهم واشتروا به ثمًنا قليًال فبئس ما يشترون * ال تحسبّن الذين يفرحون بما أتوا وُيحبون‬
‫أن يحمدوا بما لم يفعلوا فال تحسبنهم بمفازٍة من العذاب ولهم عذاب أليم )(آل عمران‪.)188-187:‬‬
‫وأما األمثلة التي تتعلق بأسباب الورود‪ ،‬فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي‪ ،‬مجموعة منها‬
‫في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية‪ ،‬معالم وضوابط"‪ ،‬قدم لها بقوله‪ " :‬ال بد لفهم الحديث فهًم ا‬
‫سليًم ا دقيًقا‪ ،‬من معرفة المالبسات التي سيق فيها النص‪ ،‬وجاء بياًنا لها‪ ،‬وعالًج ا لظروفها‪ ،‬حتى‬
‫يتحدد المراُد من الحديث بدقة‪ ،‬وال يتعرض لشطحات الظنون‪ ،‬أو الجري وراء ظاهر غير مقصود‪.‬‬

‫ومما ال يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما ُيعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله‪ ،‬حتى ال‬
‫يقع فيما وقع فيه بعُض الغالة من الخوارج وغيرهم‪ ،‬ممن أخذوا اآليات التي نزلت في المشركين‪،‬‬
‫وطّبقوها على المسلمين‪ ،‬ولهذا كان ابُن عمر يراهم شرار الخلق‪ ،‬بما حرفوا كتاب اهلل عما أنزل فيه‪.‬‬

‫فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره‪ ،‬كانت أسباُب ورود الحديث أشّد طلًبا‪.‬‬

‫ذلك أن القرآن بطبيعته عاّم وخالُد ‪ ،‬وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات‪ ،‬والتفصيالت‪ ،‬واآلنيات‪،‬‬
‫إال لُتؤخذ منها المبادئ والعبر‪.‬‬

‫أما السنة فهي تعالج كثيًر ا من المشكالت الموضعية والجزئية واآلنية‪ ،‬وفيها من الخصوص‬
‫والتفاصيل ما ليس في القرآن‪.‬‬

‫فال بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام‪ ،‬وما هو مؤقت وما هو خالد‪ ،‬وما هو جزئُّي ‪ ،‬وما‬
‫هو كلُّي ‪ ،‬فلكّل منها حكُم ه‪ ،‬والنظُر إلى السياق والمالبسات واألسباب‪ ،‬تساعد على سداد الفهم‪،‬‬
‫واستقامته لمن وفقه اهلل"‪.‬‬

‫واألمثلة التي ُقدمت لبيان أهمية أسباب الورود‪ ،‬وأثرها في الفهم الصحيح‪ ،‬تجمع بين ذكر الحديث‪،‬‬
‫والفهم الخطأ له‪ ،‬والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هذا الحديث‪.‬‬

‫فمثًال يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم‪ ،‬في كتاب المناقب‪ ،‬من صحيحه‪ ،‬عن عائشة رضي اهلل عنهما‬
‫‪ ،‬وكذلك عن أنس رضي اهلل عنه ‪" :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم"‪.‬‬

‫وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأًة للفصل بين الدنيا والدين‪ ،‬وأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وَكَل إلى‬
‫الناس أمر دنياهم‪ ،‬فهم أعلم بها‪ .‬وهذا خطأ في الفهم‪ُ ،‬يرّد ه هذا الموقف التعليمي التربوي‪ ،‬الذي‬
‫ُيفهم من قصة هذا الحديث‪ ،‬وسبب وروده‪ ،‬وهي قصة تأبير النخل‪.‬‬

‫ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير‪ ،‬تخاطب‬
‫المسلمين في األمور المتغيرة‪ ،‬والتي تخضع للخبرة‪ ،‬والتجربة‪ ،‬والتحسين المستمر‪ ،‬بما يفتح اهلل‬
‫سبحانه به على عباده في كل زمان‪ ،‬مع االسترشاد بما جعل اهلل سبحانه لعباده من األصول العامة‪،‬‬
‫التي ترشد هذه المتغيرات‪ ،‬فشأن المسلم في هذا‪ ،‬أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة‪ ،‬والتجربة‪،‬‬
‫والنتيجة العلمية‪ ،‬وال يقول‪ :‬كان الشأن في ذلك على عهد الرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كذا‪ ،‬أو‬
‫قال فيها بكذا‪ ،‬ما لم يكن هذا القول وحًيا ُم لزًم ا‪ ،‬وهذا ‪ -‬عادة ‪ -‬يكون في الجوانب الثابتة من أمور‬
‫العقيدة‪ ،‬والعبادة‪ ،‬واألخالق‪ ،‬واألخبار‪ ،‬وأصول المعامالت‪ ،‬التي ترّش د ما يكون فيها من متغيرات‪.‬‬

‫والمثال اآلخر‪ ،‬يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد‪ ،‬ورواه الترمذي في السير‪" :‬أنا برئ‬
‫من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ‪ -‬ال تتراءى ناُر هما"‪ ،‬والفهم الخطأ لهذا الحديث‪ ،‬تحريم‬
‫اإلقامة في بالد غير المسلمين بصفة عامة‪ ،‬مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا‪ ،‬للتعلم‪ ،‬وللتداوي‪،‬‬
‫وللعمل‪ ،‬وللتجارة‪ ،‬وللسفارة‪ ،‬ولغير ذلك‪.‬‬

‫ويصحح هذا الفهم‪ ،‬بمعرفة سبب ورود الحديث‪ ،‬والذي جاء فيه‪" :‬بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم سرية إلى خثعم‪ ،‬فاعتصم ناس منهم بالسجود‪ ،‬فأسرع فيهم القتل‪ ،‬فبلغ ذلك النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال‪" :‬أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر‬
‫المشركين‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬لم؟ قال‪ :‬ال تتراءى ناُر هم ا"‪.‬‬

‫فجعل لهم نصف الّد ية وهم مسلمون؛ ألنهم أعانوا على أنفسهم‪ ،‬وأسقطوا نصف حقهم‪ ،‬بإقامتهم بين‬
‫المشركين المحاربين هلل ولرسوله‪.‬‬

‫وعلل اإلمام الخطابي إسقاط نصف الدية‪ ،‬بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار‪،‬‬
‫فكانوا كمن هلك بجناية نفسه‪ ،‬وجناية غيره‪ ،‬فسقطت حصة جنايته من الدية‪.‬‬

‫فقوله عليه الصالة والسالم‪" :‬أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"‪ ،‬أي برئ من دمه إذا‬
‫ُقتل؛ ألنه عّر ض نفسه لذلك بإقامته بين هؤالء المحاربين لدولة اإلسالم ‪.‬‬

‫أسباب الورود عند اإلمام البلقيني‬


‫وتتبع النماذج التي قدمها اإلمام البلقيني‪ ،‬وتحليلها‪ ،‬يؤكد لنا ضرورة العناية باالستقراء الشامل لكل‬
‫روايات السنة المطهرة‪ ،‬للوقوف على عالقة النصوص بأسبابها‪.‬‬

‫ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث‪" ،‬معرفة أسباب الحديث"‪ ،‬بعبارة ابن‬
‫دقيق العيد‪ ،‬في شرح العمدة‪ ،‬في الكالم على حديث "إنما األعمال بالنيات"‪.‬‬
‫ويفيد كالم ابن دقيق العيد‪ ،‬أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخًر ا‪ ،‬وهذا قد يعود إلى قرب‬
‫عهد الرواة بمعرفة األسباب والمالبسات‪ ،‬التي قيلت فيها األحاديث‪ ،‬واعتبار أن هذه المعرفة قد تجد‬
‫طريقها في مباحث التاريخ والسير‪ ،‬إال أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث‪ ،‬وأسباب‬
‫النزول للكتاب العزيز‪ ،‬وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض اآليات‪،‬‬
‫فكذلك الحال في كثير من األحاديث النبوية‪ ،‬التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة‪،‬‬
‫بمعرفة أسباب ورودها‪ ،‬وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث‪ ،‬كما ُص ِّنف في‬
‫أسباب النزول للقرآن الكريم‪ ،‬ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هذا المجال‪ ،‬فقد وجد أن ما‬
‫ورد في ذلك من الكتابات شيٌء يسيٌر ‪ ،‬وأن األمر يحتاج إلى تتبٍع ‪ ،‬وإ لى نظر في األحاديث؛ فقد‬
‫يكون السبب موجوًد ا في الحديث نفسه‪ ،‬وهذا أمُر يسيُر ‪ ،‬يحدده راوي الحديث أو القارئ له‪ ،‬ولكن‬
‫األصعب في ذلك أن يكون الحديث مجرًد ا من سببه‪ ،‬ويحتاج إلى تتبع هذا السبب في روايات أخرى‪،‬‬
‫وفي كتب أخرى‪ ،‬وعند رواة آخرين‪.‬‬

‫والحديث الذي يذكر كمثاًل لوجود السبب في الحديث نفسه‪ ،‬هو حديث‪" :‬إنما األعمال بالنيات"‪ ،‬فقد‬
‫ذكر أنهم نقلوا أن رجًال هاجر من مكة إلى المدينة‪ ،‬ال يريد بذلك فضيلة الهجرة‪ ،‬وإ نما هاجر ليتزوج‬
‫امرأة تسمى "أم قيس"‪ ،‬فسّم ي "مهاجر أم قيس"‪ ،‬ولهذا ُذ كر في الحديث شأن هذه المرأة‪ ،‬دون سائر ما‬
‫ُينوى به الهجرة‪ ،‬من أفراد األغراض الدنيوية‪.‬‬

‫ويورد البلقيني حديًثا آخر ليدلل به على وجود السبب في الحديث نفسه‪ ،‬مثل حديث (سؤال جبريل‬
‫عن اإليمان‪ ،‬واإلسالم ‪ ،‬واإلحسان‪ ،‬وغيرها)‪ ،‬وكذلك حديث (القلتين) "إذا بلغ الماُء قلتين لم يحمل‬
‫نجًس ا‪ُ :‬س ِئل عن الماء يكون بالفالة وما ينوبه من السباع والدواب"… وكذلك حديث (الشفاعة)‪ ،‬سببه‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬أنا سيُد ولد آدم وال فخر"‪ ..‬وكذلك حديث (سؤال النجدي)‪ ..‬وحديث‬
‫(صِّل فإنك لم تصّل )‪ ..‬وحديث (خذي فرصة ُم مّس كًة فتطهري بها" والفرصة بكسر الفاء‪ ..‬وحديث‬
‫(السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب)‪ ..‬وحديث (السائل‪ :‬أُّي األعمال أفضل)‪ ..‬وحديث (سؤال‪:‬‬
‫أُّي الذنب أكبر)‪ ،‬وذلك كثير‪.‬‬

‫ونالحظ أن البلقيني قد جعل السبب في هذه األحاديث يعود إلى "السؤال"‪ ،‬ولكن هل السؤال المجرد‬
‫يمكن أن يكون سبًبا؟‬

‫إذا قلنا‪ :‬إن السبب يعني المالبسات‪ ،‬والظروف والمواقف التي صاحبت ورود الحديث‪ ،‬ومعرفتها‬
‫تبرز لنا المعنى في الحديث؛ فإن السؤال وحده‪ ،‬دون النظر إلى طبيعة السائل‪ ،‬وحاله‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وما‬
‫كان فيه عند السؤال من موقف‪ ،‬ال يحقق هذا المراد‪ ،‬ولذلك؛ فال بد مع السؤال المجرد‪ ،‬من تتبع هذه‬
‫األحوال‪ ،‬وهذه الظروف والمالبسات في مواضع أخرى‪ ،‬وعلى ذلك فإن هذا القسم الذي أشار إليه‬
‫البلقيني‪ ،‬يتداخل مع القسم الثاني الذي ذكره في هذا الشأن بقوله‪" :‬وقد ال ينقل السبب في الحديث‪ ،‬أو‬
‫ينقل في بعض طرقه‪ ،‬فهو الذي ينبغي االعتناء به"… (ومن ذلك حديث‪" :‬أفضل صالة المرء في‬
‫بيته‪ ،‬إال المكتوبة ")‪ .‬رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬من حديث زيد بن ثابت رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫وقد ورد في بعض األحاديث‪ ،‬أنه رُّد على سؤال سائل‪ ،‬وهذا أسنده ابن ماجه في سننه‪ ،‬والترمذي في‬
‫الشمائل‪ ،‬من حديث عبد اهلل بن سعد‪ ،‬قال‪" :‬سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أُّيما أفضل‪:‬‬
‫الصالة في بيتي‪ ،‬أو الصالة في المسجد؟ قال‪" :‬أال ترى إلى بيتي‪ ،‬ما أقربه من المسجد‪ ،‬فألن أصلي‬
‫في بيتي أحُّب إلّي من أن أصلي في المسجد‪ ،‬إال أن تكون صالة مكتوبة" ‪ ،‬أخرجه ابن ماجه‪ ،‬وهذا‬
‫لفظه من حديث شيخه أبي بكر بن خلف‪ ،‬وأخرجه الترمذي في الشمائل‪ ،‬عن عباس العنبري‪ ،‬عن‬
‫عبد الرحمن بن مهدي بسنده‪ ..‬إال أنه قال‪ :‬عن "حرام بن حكيم"‪ ،‬وعندما ننظر في هذا الحديث‪ ،‬نجد‬
‫أن السؤال قد ُص ِح ب ببيان حالة أخرى‪ ،‬نبه إليها النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وفيها تدعيم لهذا الحكم‬
‫في الحديث‪ ،‬من أفضلية صالة التطوع في البيت‪ ،‬وهي التي جاءت في صيغة هذا االستفهام‪ ،‬الذي‬
‫وضعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ليقرر قرب بيته من المسجد‪ ،‬ومحبته لصالة التطوع في بيته‪،‬‬
‫مع قرب المسجد منه إال في الصالة المكتوبة‪.‬‬

‫ومن ذلك حديث‪" :‬من صلى قاًع دا فله نصف أجر القائم "‪ ،‬رواه عمران بن حصين وغيره عن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وحديث عمران في صحيح البخاري‪ ،‬وأما سببه فرواه عبد الرزاق الصنعاني‬
‫في مصنفه‪ ،‬عن معمر عن الزهري‪ ،‬أن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قدمنا المدينة‪ ،‬فباء‬
‫لنا وباء من وعك المدينة شديد‪ ،‬وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم‪ ،‬جلوًس ا‪ ،‬فقال‪" :‬صالة‬
‫الجالس نصف صالة القائم"‪ ،‬قال‪ :‬فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام‪ ،‬قال عبد الرزاق عقيب هذا‪:‬‬
‫أخبرنا ابن جريج قال‪ :‬قال ابن شهاب‪ :‬أخبرني أنس بن مالك قال‪ :‬قدم النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫المدينة وهي ُم ِح ّم ة َفُح َّم الناس‪ ،‬فدخل النبي صلى اهلل عليه وسلم والناس يصلون قعوًد ا فقال‪" :‬صالة‬
‫القاعد نصف صالة القائم "‪ ،‬فتجشم الناس الصالة قياًم ا‪.‬‬

‫والطريق الثاني أجود‪ ،‬فإن الزهري لم يسمع عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬وأيًض ا فقد صح عن عبد اهلل بن‬
‫عمرو رضي اهلل عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك‪ ،‬وهو ما رواه مسلم وغيره من حديث هالل بن‬
‫يساف عن أبي يحيى عن عبد اهلل بن عمرو قال‪ُ :‬ح دثت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"صالة الرجل قاعًد ا نصف الصالة "‪ ،‬قال‪ :‬فأتيت فوجدته يصلي جالًس ا‪ ،‬فوضعت يدي على رأسي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬مالك يا عبد اهلل بن عمرو؟ قلت‪ :‬حدثت يا رسول اهلل أنك قلت‪ :‬صالة الرجل قاعًد ا نصف‬
‫الصالة‪ ،‬وأنت تصلي قاعًد ا‪ ،‬قال‪" :‬أجل ولكن لست كأحدكم"‪ ،‬فظهر من هذا الحديث أن عبد اهلل بن‬
‫عمرو‪ ،‬لم يسمع ذلك من النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل هذا‪ ،‬بخالف ما يشعر به ظاهر حديث عبد‬
‫الرزاق‪ ،‬ولعله سمعه من بعض الصحابة أوًال‪ ،‬فال تنافي‪.‬‬
‫وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج‪ :‬أخبرني عمرو بن دينار‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمرو بن‬
‫العاص رضي اهلل عنهما‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬إن للقاعد في الصالة نصف أجر‬
‫القائم‪ ،‬ولم يتعرض في هذا الحديث لذكر السبب‪ .‬وما سبق من السبب‪ ،‬يستفاد منه أن هذا النصف‬
‫لمن صلى وبه بعض مرض ال يلحقه حرج بالقيام‪ ،‬ويظهر من هذا السبب أن الصالة كانت في‬
‫المسجد وذلك ألحد أمرين‪:‬‬

‫(‪ )1‬إما ألن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك‪ ،‬أنهم ال بيوت لهم بالمدينة‪ ،‬وهذا إنما يستفاد بذكر‬
‫السبب المذكور‪.‬‬

‫(‪ )2‬أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز‪ ،‬وحديث عبد اهلل بن سعد السابق نص في تفضيل صالة‬
‫النافلة في بيوت المدينة‪ ،‬على صالة النفل بمسجد المدينة‪.‬‬

‫وقد اتضح لنا أن تتبع أسباب الورود‪ ،‬يظهر لنا ما قد يكون من أسباب ترجيح رواية على أخرى‪،‬‬
‫وإ دراك ما بين الرواة من وصف دقيق لطرق التحمل واألداء وما ينشأ عن ذلك من ترجيح رواية‬
‫على أخرى‪ ،‬كما أن هذا التتبع بعين المتأمل في معاني النصوص لكي يحسن توجيهها‪ ،‬فإذا وجد هذا‬
‫التقرير الذي يفيد أن صالة الجالس نصف صالة القائم‪ ،‬وجه ذلك إلى النافلة‪ ،‬وأن المرء إذا تجشم‬
‫القيام فهو أفضل له‪ ،‬وأن الصالة من جلوس في النافلة جائزة‪ ،‬ولكن هل تستوى الفريضة مع النافلة‬
‫في هذا التصنيف المذكور؟‪.‬‬

‫الظاهر من النصوص أن هذا ال يكون مع الفريضة إذا لم تكن هناك استطاعة‪ ،‬فالمرء يصلي قائًم ا‪،‬‬
‫فإن لم يستطع فجالًس ا‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ويكون أداؤه في هذه الحالة جرًيا على القاعدة القرآنية الكريمة (ال‬
‫ُيكلف اهلل نفًس ا إال ُو سعها )(البقرة‪ .)286:‬كما يتضح لنا من تتبع هذه األسباب ما يكون من‬
‫خصوصيات النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫ولذلك كان توجيه سفيان الثوري‪ :‬هذا للصحيح ولمن ليس له عذر‪ ،‬فأما من كان له عذر من مرض‬
‫أو غيره‪ ،‬فصلى جالًس ا‪ ،‬فله مثل أجر القائم‪.‬‬

‫وحديث‪" :‬ال تصوم المرأة وبْع ُلها شاهد إال بإذنه" ‪ ،‬جاء في رواية (غير رمضان)‪ ،‬ورواه أبو هريرة‪،‬‬
‫وهذا الحديث في الصحيحين والسنن‪.‬‬

‫وأما سببه‪ :‬فرواه أبو سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال‪ :‬جاءت امرأة إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬ونحن عنده‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول اهلل إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت‪،‬‬
‫ويفطرني إذا صمت‪ ،‬وال يصلي صالة الفجر حتى تطلع الشمس‪ ،‬قال‪ :‬وصفوان عنده فسأله عما‬
‫قالت‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول اهلل أما قولها‪( :‬يضربني إذا صليت) فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪:‬‬
‫"لو كانت سورة واحدة لكفت الناس "‪ ،‬وأما قولها‪( :‬يفطرني) فإنها تنطلق فتصوم‪ ،‬وأنا رجل شاب‬
‫فال أصبر‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يومئذ‪" :‬ال تصوم امرأة إال بإذن زوجها " وأما‬
‫قولها‪( :‬إني ال أصلي حتى تطلع الشمس)‪ ،‬فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك‪ ،‬ال نكاد نستيقظ حتى تطلع‬
‫الشمس‪ .‬قال‪" :‬فإذا استيقظت فصل ّ"‪ .‬أخرجه أبو داود في سننه‪ ،‬والحاكم في مستدركه‪ ،‬وقال‪ :‬هذا‬
‫حديث صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬

‫وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما‪ :‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫"يومئذ"‪ ،‬وفيه داللة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم‪ ،‬وسماعهم له‪ ،‬كان ذلك اليوم على هذا السبب‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة‪ ،‬ولجأ إليها الصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬لكي‬
‫يتوجه النص الوجهة الصحيحة‪ ،‬فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج‪ ،‬فليس ذلك عاًم ا‪ ،‬وإ نما يخص النافلة‬
‫التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج‪ ،‬وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام‬
‫التطوع‪ ،‬والذي قد تبالغ فيه‪.‬‬

‫وقد ظهر من تتبع هذا السبب‪ ،‬كيف صارت المرأة في الناحية العملية‪ ،‬إلى حفظ الكثير من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وإ لى كثرة القراءة منه في صالتها‪ ،‬وكيف أقبلت على عبادتها برغبة‪ ،‬جعلت الزوج يطلب‬
‫أن تحد منها‪ ،‬كما وجدنا شجاعة المرأة في عرض حالتها بين يدي النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫وزوجها شاهد‪ ،‬ألنها ال تريد االنتقاص من استمتاعها بهذه العبادات‪ ،‬إال أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قد حقق بسنته التوازن في العالقات‪ ،‬فلها أن تقرأ‪ ،‬ولكن بما تيسر‪ ،‬حفاًظا على حق الزوج‪،‬‬
‫ولها أن تصوم التطوع‪ ،‬ولكن بالتنسيق مع زوجها‪ ،‬حتى ال تضّيع حقه‪ ،‬كما أنها ال تسكت على‬
‫منكر‪ ،‬فقد أخذت عليه أنه يصلي الفجر بعد طلوع الشمس‪ ،‬وفي إجابة النبي صلى اهلل عليه وسلم ما‬
‫يفيد أن هذه حالة تخص هذا الرجل‪ ،‬ألعذار لم تذكر في الحديث‪ ،‬إال في قوله‪ :‬إنا أهل بيت عرف لنا‬
‫ذلك‪ .‬فهل هذا يعود إلى عمل لهم في الليل‪ ،‬أو إلى حاالت قد تكون مرضية ال تمكنهم من االستيقاظ‬
‫حتى تطلع الشمس‪ ،‬قد يكون ذلك‪ ،‬ألن األحاديث األخرى أخذت على من ينام حتى يصبح‪ ،‬أن‬
‫الشيطان بال في أذنيه‪.‬‬

‫فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬ذكر عند النبي صلى اهلل عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح!‬
‫قال‪" :‬ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ‪-‬أو قال‪ُ -‬اُذ نه " متفق عليه‪.‬‬

‫ولقد كان لتتبعي ما يتصل بهذا السبب المذكور‪ ،‬من مالبسات وأسباب‪ ،‬من النتائج ما يؤكد أن ما نعده‬
‫سبًبا لحديث‪ ،‬قد يكون هو ‪ -‬أيًض ا ‪ -‬في حاجة إلى بيان ما يرتبط به من أسباب‪.‬‬
‫فاإلذن من النبي صلى اهلل عليه وسلم لصفوان بن المعطل‪ ،‬والمذكور في الحديث السابق‪" :‬فإذا‬
‫استيقظت فصّل "‪ ،‬جعلني أتساءل أوًال عن موقف العلماء من هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في‬
‫سننه‪ ،‬والحاكم في مستدركه‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪ .‬فوجدت أن‬
‫اإلمام الذهبي قد ذكر الحديث في ترجمة صفوان بن المعطل‪ ،‬ولكن علق عليه بقوله‪" :‬فهذا بعيد من‬
‫حال صفوان أن يكون كذلك‪ ،‬وقد جعله النبي صلى اهلل عليه وسلم على ساقة الجيش‪ :‬فلعله آخر‬
‫باسمه‪ ،‬فهذا االستبعاد من الذهبي والذي بلغ التشكيك في كونه المراد بذلك على الرغم من أن محقق‬
‫الكتاب ومخرج أحاديثه ذكر في تخريجه للحديث أن أبا داود أخرجه‪ ،‬وكذلك أحمد‪ ،‬ورجاله ثقات‪،‬‬
‫وقال الحافظ في اإلصابة‪ :‬وإ سناده صحيح‪.‬‬

‫وأما اإلمام ابن القيم رحمه اهلل فقال‪" :‬وقال غير المنذري‪ :‬ويدل على أن الحديث وهم‪ ،‬ال أصل له‪:‬‬
‫أن في حديث اإلفك المتفق على صحته قالت عائشة‪" :‬وإ ن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول‪ :‬سبحان‬
‫اهلل! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط‪ ،‬قال‪ :‬ثم قتل بعد ذلك في سبيل اهلل شهيًد ا"‪.‬‬
‫وفي هذا نظر‪ ،‬فلعله تزوج بعد ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫ويذكر صاحب عون المعبود من المالبسات والظروف‪ ،‬ما يوضح هذا اإلذن فيقول‪" :‬فإنا أهل بيت"‪،‬‬
‫أي إنا أهل صنعة ال ننام الليل‪" ،‬قد عرف لنا ذلك" أي عادتنا ذلك‪ ،‬وهي أنهم كانوا يسقون الماء في‬
‫طول الليالي‪" ،‬ال نكاد نستيقظ" أي إذا رقدنا آخر الليل‪" .‬قال‪ :‬فإذا استيقظت فصِّل " ذلك أمر عجيب‬
‫من لطف اهلل سبحانه بعباده‪ ،‬ومن لطف نبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ورفقه بأمته‪ ،‬ويشبه أن يكون ذلك‬
‫منه على معنى ملكة الطبع‪ ،‬واستيالء العادة‪ ،‬فصار كالشيء المعجوز عنه‪ ،‬وكان صاحبه في ذلك‬
‫بمنزلة من ُيغمى عليه‪ ،‬فعذر فيه‪ ،‬ولم يثرب عليه‪.‬‬

‫ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض األوقات دون بعض‪ ،‬وذلك إذا لم يكن بحضرته من‬
‫يوقظه‪ ،‬ويبعثه من المنام‪ ،‬فيتمادى به النوم‪ ،‬حتى تطلع الشمس‪ ،‬دون أن يكون ذلك منه في عامة‬
‫األحوال‪ ،‬فإنه يبعد أن يبقى اإلنسان على هذا في دائم األوقات‪ ،‬وليس بحضرته أحد ال يصلح هذا‬
‫القدر من شأنه‪ ،‬وال يراعي مثل هذا من حاله‪ ،‬وال يجوز أن يظن به االمتناع من الصالة في وقتها‬
‫ذلك‪ ،‬مع زوال العذر بوقوع التنبيه واإليقاظ ممن يحضره ويشاهده‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫والذي جعل صاحب عون المعبود‪ ،‬يسلك مسلك التأويل المذكور‪ ،‬هو ما قاله أبو داود في تخريج هذا‬
‫الحديث بعد روايته له‪" :‬قال أبو داود‪ :‬رواه حماد ‪ -‬يعني ابن سلمة ‪ -‬عن ُح ميد أو ثابت‪ ،‬عن أبي‬
‫المتوكل"‪.‬‬

‫وطريق أبي داود في هذه الرواية‪" :‬حدثنا عثمان بن أبي شيبة‪ ،‬أخبرنا جرير عن األعمش‪ ،‬عن أبي‬
‫صالح‪ ،‬عن أبي سعيد قال‪.":‬‬
‫وأبو المتوكل هو الناجي البصري‪" ،‬والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد‪،‬‬
‫بل تابعه أبو المتوكل عنه‪ ،‬ثم األعمش ليس بمتفرد أيًض ا ‪ -‬بل تابعه حميد أو ثابت‪ ،‬وكذا جرير ليس‬
‫بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة"‪.‬‬

‫يقول صاحب عون المعبود‪" :‬وفي هذا كله رد على اإلمام أبي بكر البزار‪ ،‬وسيجيء كالمه‪ ،‬قال‬
‫المنذري‪ :‬قال أبو بكر البزار‪ :‬هذا الحديث كالمه منكر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وقال‪ :‬ولو‬
‫ثبت احتمل‪ :‬إنما يكون أمرها بذلك استحباًبا‪ ،‬وكان صفوان من خيار أصحاب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وإ نما أتى نكرة هذا الحديث أن األعمش لم يقل‪ :‬حدثنا أبو صالح‪ ،‬فأحسب أنه أخذه عن‬
‫غير ثقة‪ ،‬وأمسك عن ذكر الرجل‪ ،‬فصار الحديث ظاهر إسناده حسن‪ ،‬وكالمه منكر لما فيه‪ ،‬و‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يمدح هذا الرجل‪ ،‬ويذكره بخير‪ ،‬وليس للحديث عندي أصل"‪.‬‬

‫ومن التتبع الذي أرى ضرورته‪ ،‬لتجلية العالقات بين الروايات ورواتها‪ ،‬وجدت في تاريخ دمشق‬
‫البن عساكر روايتين‪ ،‬لهما عالقة بصحو صفوان رضي اهلل عنه ونومه‪ ،‬وبهما يرجح تأويل قول‬
‫صفوان‪" :‬إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك" وأن هذا لم يكن عادة دائمة فيه‪ ،‬بل يدخل هذا األمر في‬
‫دائرة الضرورة التي تقدر بقدرها‪ ،‬فإذا كان مجهًد ا متعًبا من أثر العمل الليلي‪ ،‬وغلبه النوم فليس في‬
‫النوم‪ ،‬تفريط‪.‬‬

‫أما الرواية األولى‪ ،‬يقول فيها صفوان رضي اهلل عنه ‪" :‬كنت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫في سفر‪ ،‬فرمقُت صالته‪ ،‬فصلى العشاء اآلخرة ثم نام‪ ،‬فلما كان نصف الليل استنبه‪ ،‬فتال العشر آيات‬
‫آخر سورة آل عمران‪ ،‬ثم قام‪ ،‬ثم تسوك‪ ،‬ثم قام فتوضأ‪ ،‬وصلى ركعتين‪ ،‬فال أدري أقيامه‪ ،‬أم‬
‫ركوعه‪ ،‬أم سجوده‪ ،‬أطول‪ ،‬ثم انصرف فنام‪ ،‬ثم استيقظ ففعل مثل ذلك‪ ،‬فلم يزل يفعل كما فعل أول‬
‫مرة‪ ،‬حتى صّلى إحدى عشرة ركعة"‪.‬‬

‫فالذي يصف حال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في صالته بالليل وفي السفر؛ في أقواله وأفعاله‪،‬‬
‫ال نستطيع أن نقول‪ :‬إن عادته النوم ليًال حتى تطلع الشمس‪.‬‬

‫ووجدت هذا الحديث في سير أعالم النبالء‪ ،‬مع تخريج محقق الكتاب‪ ،‬ويذكر أن إسناده ضعيف‬
‫لضعف عبد اهلل بن جعفر المديني والد علي‪ ،‬والحديث في المسند‪ ،‬والطبراني‪.‬‬

‫والرواية الثانية يقول فيها أبو هريرة رضي اهلل عنه ‪:‬‬

‫جاء صفوان بن المعطل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا نبي اهلل‪ ،‬إني سائلك عن أمر‬
‫أنت به عالم‪ ،‬وأنا به جاهل‪ .‬قال‪ :‬وما هو؟‬
‫قال‪ :‬هل من ساعات من الليل والنهار ساعة تكره فيها الصالة؟‬

‫قال‪" :‬نعم‪ .‬إذا صليت الصبح فدع الصالة حتى تطلع الشمس‪ ،‬فإنها تطلع بين قرني الشيطان‪ ،‬ثم‬
‫الصالة محضورة متقّب لة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح‪ ،‬فإذا كانت على رأسك فدع‬
‫الصالة‪ ،‬فإن تلك الساعة التي ُتسجر فيها جهنم‪ ،‬وتفتح فيها أبوابها‪ ،‬حتى ترتفع الشمس عن حاجبك‬
‫األيمن‪ ،‬فإذا زالت فصّل ‪ ،‬فإن الصالت محضورة متقبلة‪ ،‬حتى تصلي العصر‪ ،‬ثم ذكر الصالة حتى‬
‫تغرب الشمس "‪.‬‬

‫فهذا البيان ألوقات الصالة‪ ،‬فيه ما يتعلق بالوقت ا لمذكور في حديث امرأة صفوان‪ .‬وجاء في بيان‬
‫األوقات‪" :‬إذا صليت الصبح فدع الصالة حتى تطلع الشمس"‪ ،‬فهو خطاب مباشر دون ذكر للحالة‬
‫التي يمكن أن تطرأ من غلبة النوم‪.‬‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬فإن تتبع الروايات‪ ،‬يمنح المزيد من تجلية المعاني والمواقف‪ ،‬ويصحح الفهم‬
‫للروايات جميعها‪.‬‬

‫وحديث‪" :‬إذا أتيتم الصالة فال تأتوها وأنتم تسعون‪ ،‬ولكن ائتوها وعليكم السكينة‪ ،‬فما أدركتم فصلوا‪،‬‬
‫وما فاتكم فأتموا "‪ ،‬وفي رواية‪( :‬فاقضوا)‪.‬‬

‫وقد فسر ابن األثير السعي بالعدو‪ ،‬أي المشي السريع‪ ،‬ويدل ذلك على أن المسبوق يدخل مع اإلمام‬
‫على أي حالة وجده‪ ،‬ثم إذا سّلم اإلمام أتى المسبوق بما بقي‪.‬‬

‫وسبب هذا الحديث‪ :‬ما رواه أبو نعيم قال‪ :‬حدثنا سليم بن أحمد قال‪ :‬أنا أبو ُز رعه‪ ،‬أنا يحيى بن‬
‫صالح الوحاظي‪ ،‬أنا ُفليح بن سليمان‪ ،‬عن زيد بن أبي أنيسة‪ ،‬عن عمرو بن ُم رة‪ ،‬عن عبد الرحمن‬
‫بن أبي ليلى‪ ،‬عن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال‪ :‬كنا نأتي الصالة‪ ،‬فإذا جاء رجل وقد سبق بشيء‬
‫من الصالة أشار إليه الذي يليه‪ ،‬قد سبقت بكذا‪ ،‬فيقضي‪ ،‬قال‪ :‬وكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد‪،‬‬
‫فجئت يوًم ا وقد سبقت ببعض الصالة‪ ،‬وأشير إلّي بالذي سبقت به‪ ،‬فقلت‪ :‬ال أجده على حال إال كنت‬
‫عليها‪ ،‬فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها‪ ،‬فلما فرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قمت‪ ،‬فصليت‬
‫واستقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس وقال‪ :‬من القائل كذا وكذا؟ قالوا ‪ :‬معاذ بن جبل‪،‬‬
‫فقال‪ :‬قد سن لكم معاذ فاقتدوا به‪ ،‬إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصالة فليصل مع اإلمام‬
‫بصالته‪ ،‬فإذا فرغ اإلمام فْليقض ما سبقه به ‪.‬‬

‫وروى أبو نعيم عن سليمان بن أحمد قال‪ :‬أنا محمد بن محمد بن التمار البصري‪ ،‬ثنا حرمي بن‬
‫حفص العتكي‪ ،‬أنا عبد العزيز بن مسلم‪ ،‬عن حصين‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى‪ ،‬عن معاذ بن‬
‫جبل قال‪ :‬كان الناس على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا سبق أحدهم بشيء من الصالة‪،‬‬
‫سألهم‪ ،‬فأشاروا إليه بالذي سبق به‪ ،‬فيصلي ما سبق به ثم يدخل معهم في صالتهم‪ ،‬فجاء معاذ والقوم‬
‫قعود في صالتهم فقعد معهم‪ ،‬فلما سلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قام فقضى ما سبق‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬اصنعوا ما صنع معاذ)‪.‬‬

‫فذكر السبب‪ ..‬بّين القصة التي شرحت األمر السابق‪ ،‬وما صار إليه بعد فعل معاذ‪ ،‬الذي وافق سنة‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم التقريرية لفعل معاذ‪ ،‬فبّين السبب أن المسبوق كان يبتدئ بعد أن يكون‬
‫منفرًد ا‪ ،‬وقد أجاز ذلك جْم ع من أهل العلم‪ ،‬ومنهم الشافعي في أرجح قولية‪ ،‬وقال في موضع آخر‪:‬‬
‫وال يجوز أن يبتدئ الصالة لنفسه ثم يأتّم بغيره‪ ،‬وهذا منسوخ‪.‬‬

‫وقد كان المسلمون يصنعون ذلك‪ ،‬حتى جاء معاذ بن جبل‪ ،‬أو عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وقد سبقه النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بشيء من الصالة‪ ،‬فدخل معه‪ ،‬ثم قام يقضي‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪":‬إن ابن مسعود ‪-‬أو معاًذ ا‪ -‬قد سن لكم سنة فاتبعوها"‪ ،‬قال المزني‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬إن‬
‫معاًذ ا قد سن لكم"‪ ،‬يحتمل أن يكون النبي صلى اهلل عليه وسلم أمر أن يستن بهذه السنة‪ ،‬فوافق ذلك‬
‫فعل معاذ‪.‬‬

‫ويرى البلقيني‪ :‬أن ما قاله المزني يشير به إلى أن معاًذ ا أقدم على ذلك بأمٍر ظهر له من شريعة‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وبقي للمجتهدين أن يفسروا ماذا ُيراد بالقضاء أو اإلتمام‪ .‬فهل القضاء يعني أن ما فاتهم يؤدى على‬
‫ما أداه اإلمام؟ أم أن اإلتمام سيجعل المسبوق يحسب لنفسه ما صاله مع اإلمام ثم يتم ما بقي من‬
‫صالته؟‬

‫ويكفينا من هذا التساؤل‪ ،‬اإلشارة إلى بحث هذا في موضعه‪.‬‬

‫وحديــث‪" :‬ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم "‪.‬‬

‫وفي هذا الحديث الذي يقول‪" :‬ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم‪ ،‬وقولوا آمنا باهلل‬
‫وكتبه ورسله"‪ ،‬وهذا الحديث له سبب‪ ،‬وهو ما رواه اإلمام أحمد في مسنده‪ ،‬وأبو داود في سننه‪ ،‬من‬
‫حديث أبي نملة األنصاري‪ ،‬وهو عمار بن معاذ بن زرارة بن عمر بن ُغْن م الخزرجي األنصاري‪،‬‬
‫أنه قال‪ :‬بينما هو جالس عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعنده رجل من اليهود‪ُ ،‬م َّر بجنازة‬
‫فقال‪ :‬يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اهلل أعلم‪ .‬فقال اليهودي‪:‬‬
‫إنها تتكلم‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال‬
‫تكذبوهم‪ ،‬وقولوا آمنا باهلل ورسله‪ ،‬فإن كان باطًال لم تصدقوه‪ ،‬وإ ن كان حًقا لم تكذبوه " أخرجه أبو‬
‫داود في كتاب العلم‪ ،‬في الباب الثاني منه‪.‬‬

‫ففي هذا السبب‪ ،‬بيان واضح للحديث‪ ،‬وتفسير النهي المذكور فيه‪ ،‬والذي قد يلتبس على من لم يعلم‬
‫سبب ورود الحديث‪ ..‬كما أن معرفة السبب‪ ،‬بّينت جوانب أخرى‪ ،‬هي من فوائد معرفة أسباب ورود‬
‫الحديث‪ ،‬ومنها‪ :‬موقف النبي صلى اهلل عليه وسلم من الشيء الغيبي‪ ،‬الذي ال يعلمه‪ ،‬فإنه يقول فيه‪:‬‬
‫ال أعلم‪ ،‬حتى يخبره اهلل سبحانه بما شاء من علمه‪ ،‬وفي هذا تعليم ألمته‪ ،‬إذا استفتي أحدهم فال‬
‫يستحي من قول‪ :‬ال أعلم‪ ،‬أو ال أدري‪ ،‬فإن من ترك هذه العبارة في مواضعها فقد أصيبت مقاتله‬
‫كما ذكر العلماء‪.‬‬

‫كما أفاد هذا الموقف بيان طبيعة اليهود‪ ،‬ومظاهر التعنت التي سلكوها‪ ،‬ومنها ‪ :‬توجيه األسئلة‬
‫لإلحراج‪ ،‬والمصحوبة باّد عاء العلم والكذب على اهلل‪.‬‬

‫وموقف النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬والذي فسره سبب الورود‪ ،‬يصيب الحقيقة دون االنفعال‬
‫الغاضب من فعل اليهود‪ ،‬فال تصديق لهم فيما يحدثون به‪ ،‬ألنهم يكذبون ‪ ،‬وال تكذيب لهم كذلك فيما‬
‫يحدثون‪ ،‬ألنهم قد يخلطون بين حق وباطل‪ ،‬وإ نما يكون التصديق بأصل ما نزل على موسى عليه‬
‫السالم من التوراة‪ ،‬وأما ما في أيديهم فقد حرفوه‪ ،‬وهذا معنى قول النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫"وقولوا آمنا باهلل ورسله "‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ ،‬حديـث‪" :‬الخراج بالضمان "‪ ،‬فقد رواه اإلمامان الشافعي وأحمد رحمهما اهلل‪ ،‬وأصحاب‬
‫السنن‪ ،‬من حديث أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها ؛ وحسنه "الترمذي" من طريق مخلد بن‬
‫ُخ فاف‪ ،‬عن عروة عن عائشة‪ ،‬وصححه "ابن حبان" من هذا الطريق‪.‬‬

‫ورواه "الترمذي" من حديث عمرو بن علي المقدمي‪ ،‬عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشة‪،‬‬
‫وقال‪" :‬هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام‪ ،‬واستغربه "البخاري" من حديث عمرو بن‬
‫علي‪ ،‬وللحديث طرق أخرى‪.‬‬

‫وقد ذكر سبب هذا الحديث في بعض طرقه‪.‬‬

‫فذكر اإلمام "الشافعي" رحمه اهلل‪ ،‬من رواية مسلم بن خالد الزنجي‪ ،‬فقال‪ :‬وال أحسب‪ ،‬بل ال أشك ‪-‬‬
‫إن شاء اهلل‪ -‬أن مسلًم ا نّص الحديث‪( ،‬ومعنى "نّص الحديث"‪:‬رفعه‪ ،‬ومسلم ‪-‬هنا‪ -‬هو ابن خالد‬
‫الزنجي)‪.‬‬
‫فذكر أن رجًال ابتاع عبًد ا فاستعمله‪ ،‬ثم ظهر منه على عيب‪ ،‬فقضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالعيب‪ ،‬فقال المقضّي عليه؛ قد استعمله‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬الخراج‬
‫بالضمان"‪.‬‬

‫(وفسر ابن األثير الخراج‪ :‬ما يحصل من غلة العين المبتاعة‪ ،‬وتقديره‪ :‬الخراج مستحق بالضمان‪،‬‬
‫أي سببه)‪.‬‬

‫والذي ذكره اإلمام الشافعي‪ ،‬قد أسنده "أبو داود"‪ ،‬من حديث مسلم بن خالد على الجزم‪ ،‬فقال‪ :‬ثنا‬
‫إبراهيم بن مروان‪ ،‬قال‪ :‬ثنا أبي‪ ،‬ثنا مسلم بن خالد الزنجي‪ ،‬ثنا هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه عن عائشة‬
‫رضي اهلل عنهما‪ ،‬أن رجًال ابتاع عبًد ا‪ ،‬فأقام عنده ما شاء اهلل أن يقيم‪ ،‬ثم وجد به عيًبا فخاصمه إلى‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فرده عليه‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬يا رسول اهلل قد استغل غالمي‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬الخراج بالضمان"‪ ..‬ورواه ابن ماجه من حديث شيخه هشام بن عمار‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"ثنا مسلم بن خالد‪ ،‬ثنا هشام" فذكره‪.‬‬

‫قال "أبو داود" عقب روايته الحديث‪ :‬هذا إسناد ليس بذاك‪ .‬وإ نما قال "أبو داود" هذا من أجل مسلم‬
‫بن خالد الزنجي‪ ،‬ومسلم بن خالد قد وثقه يحيى بن معين في رواية عباس الدوري والدارمي‪ ،‬ولم‬
‫ينفرد برواية الحديث عن هشام‪ ،‬فقد رواه عمر بن علي المقدمي عن هشام ‪ -‬كما سبق ‪ -‬وتابعه‬
‫على ذلك جرير‪ ،‬وإ ن كان جرير قد ُنسب فيه إلى التدليس‪.‬‬

‫ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب‪ ،‬فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد‪ ،‬قال‬
‫الشافعي رحمه اهلل ‪" :‬أخبرني من ال أتهم من أهل المدينة‪ ،‬عن ابن أبي ذئب‪ ،‬عن مخلد بن خفاف‬
‫قال‪ :‬ابتعت غالًم ا‪ ،‬فاستغللُته‪ ،‬ثم ظهرت فيه علي عيب‪ ،‬فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز‪،‬‬
‫فقضى له برّد ه‪ ،‬وقضى علّي برّد غّلته‪ ،‬فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته‪ ،‬فقال‪ :‬أروح إليه العشية‬
‫فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج‬
‫بالضمان‪ ،‬فعجلت إلى عمر رحمه اهلل‪ ،‬فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي اهلل عنهما عن‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬فما أيسر علّي من قضاء قضيته ‪ -‬واهلل يعلم‬
‫أني لم أرد فيه إال الحق‪ ،‬فبلغني سنة النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأرد قضاء عمر‪ ،‬وأنفذ سنة رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فراح إليه عروة‪ ،‬فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له"‪.‬‬

‫وقد رواه "أبو داود الطيالسي"‪ ،‬عن ابن أبي ذئب بمعنى رواية "الشافعي"‪ ،‬ورواية الشافعي أتم‪ ،‬وذكر‬
‫السبب يتبين به الفقه في المسألة‪.‬‬

‫وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر‪ ،‬يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب‪.‬‬
‫قال "أبو داود"‪ :‬ثنا محمد بن خالد‪ ،‬ثنا الفريابي‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن محمد بن عبد الرحمن‪ ،‬عن مخلد‬
‫الغفاري‪ ،‬قال‪ :‬كان بيني وبين أناس شركة في عبد‪ ،‬فاكتريته‪ ،‬وبعضنا غائب‪ ،‬فأغّل علّي غّلة‬
‫خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة‪ ،‬فأمرني أن أرد الغلة‪ ،‬فأتيت عروة بن الزبير فحدثته‪ ،‬فأتاه‬
‫عروة فحدثه عن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬الخراج‬
‫بالضمان"‪.‬‬

‫وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين‪ ،‬واألخذ بالسبب المرفوع أقوى‪،‬‬
‫ألمور ليس هذا موضع بسطها‪.‬‬

‫هكذا يحكي اإلمام البلقيني وهو يورد حديث "الخراج بالضمان"‪ ،‬ويتتبع أسباب وروده بالطرق‬
‫المتعددة‪ ،‬وقد بّين لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق وال يكون في غيره‪.‬‬

‫ولهذا فإن التتبع‪ ،‬هو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود‪.‬‬

‫وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض‪ ،‬وقد يكون بعضها واهيًا ال يعتد به‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن األسباب تعامل في الحكم عليها‪ ،‬معاملة الحديث ذاته‪ ،‬من جهة سندها ومتنها‪ ،‬وال‬
‫فرق‪ ،‬وذلك ألن اعتماد سبب الورود سيؤثر في فهمنا للحديث نفسه‪.‬‬

‫وقد رأينا كيف أن سنن أبي داود قد جاء فيها ما يفيد أمًر ا آخر‪ ،‬وهو تعدي ذلك إلى الغاصب‪.‬‬

‫ولذلك وجدنا عبارة البلقيني‪ ،‬والتي جعلها نتيجًة لتتبعه طرق الحديث‪" :‬واألخذ بالسبب المرفوع‬
‫أقوى"‪.‬‬

‫فهذه العبارة وإ ن كان أرجأ البسط فيها إال أنها تفيد خضوع طرق األسباب إلى المرجحات المعروفة‬
‫لدى علماء الحديث‪ ،‬كما أنها تفيد في الوقت نفسه‪ ،‬أن ترجيح السبب المرفوع‪ ،‬يعود إلى الوقوف‬
‫المباشر على الظروف‪ ،‬والمالبسات‪ ،‬والقرائن‪ ،‬التي صاحبت الحديث‪.‬‬

‫وهذا يعين على فهم الحديث‪ ،‬كما يعين على حسن فقه المسألة‪ ،‬واالنتفاع المعاصر بها بالقياس عليها‪،‬‬
‫وقد صرح بذلك "البلقيني" في قوله‪" :‬وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة"‪.‬‬

‫ويذكر البلقيني مثاًال آخر‪ ،‬وهو اإلرخاص في "الَع رايا"‪.‬‬

‫فيقول‪ :‬ومن ذلك اإلرخاص في العرايا‪ ،‬رواه "البخاري‪ ،‬ومسلم" من حديث ابن عمر عن زيد بن‬
‫ثابت رضي اهلل عنهم‪ ،‬ومن حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة‪ ،‬تقييد الرخصة بما دون خمسة أْو ُس ق‪ ،‬أو خمسة أوُس ق ‪ -‬شّك‬
‫داود بن الحصين‪ ،‬أحد رواة الحديث‪.‬‬

‫أما سبب ورود هذا الحديث‪ ،‬فقد ذكره "الشافعي" وغيره‪ ،‬قال الشافعي رحمه اهلل في "كتاب البيوع"‪:‬‬
‫"وقال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬إما زيد بن ثابت‪ ،‬وإ ما غيره ‪-‬‬
‫ما عراياكم هذه؟ قال‪ :‬فالن وفالن ‪-‬وسمى رجاًال محتاجين من األنصار‪ -‬شكوا إلى النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن الرطب يأتي وال نقد بأيديهم يبتاعون به رطًبا يأكلونه مع الناس‪ ،‬وعندهم فضول من‬
‫قوتهم من التمر؛ فرّخ ص لهم أن يبتاعوا العرايا ِبًخ ْر صها‪ ،‬من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطًبا"‪.‬‬

‫وقال الشافعي رحمه اهلل في "كتاب اختالف الحديث" ‪" :‬والعرايا التي أرخص رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فيها‪ ،‬ما ذكره محمود بن لبيد قال‪ :‬سألت زيد بن ثابت فقلت‪ :‬ما عراياكم هذه التي‬
‫تحلونها؟ فذكر معنى ما ذكره في البيوع‪ ،‬قال الشافعي رحمه اهلل ‪" :‬وحديث سفيان يدل على مثل هذا‬
‫الحديث"‪ .‬وهو ما رواه الشافعي رحمه اهلل ‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن ُبشير بن يسار‪،‬‬
‫قال‪ :‬سمعت سهل بن أبي حْثمة يقول‪ :‬نهى النبي صلى اهلل عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر‪ ،‬إال أنه‬
‫رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمًر ا‪ ،‬يأكلها أهلها رطًبا‪.‬‬

‫وأراد الشافعي بذلك قوله‪" :‬يأكلها أهلها رطًبا" ‪ ،‬وليس يدل على تتمة السبب‪.‬‬

‫فتتبع سبب الورود‪ ،‬فسر العرايا من جهة‪ ،‬وأزال االختالف والتعارض من جهة‪ ،‬وأزال االختالف‬
‫والتعارض من جهة أخرى‪.‬‬

‫واختيار البلقيني لهذا المثال‪ ،‬يدل على ذلك‪.‬‬

‫وأكد البلقيني هذه الفائدة من فوائد تتبع أسباب الورود‪ ،‬وهو إزالة التعارض في هذا المثال اآلخر‪،‬‬
‫وهو حديث النهي عن كراء األرض ‪ -‬وفي لفظ‪ :‬كراء المزارع‪ ،‬وهو المراد باألول‪.‬‬

‫رواه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬جماعة من الصحابة‪ ،‬منهم "رافع بن خديج"‪ ،‬ولحديث طرق‪،‬‬
‫منها ما رواه نافع‪ :‬أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وفي‬
‫إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدًر ا من خالفة معاوية‪ ،‬حتى بلغه في آخر خالفته أن رافع بن‬
‫خديج يحدث فيها بنهي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فدخل عليه وأنا معه وسأله فقال‪" :‬كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع"‪ ،‬فتركها ابن عمر بعد ذلك‪ ،‬فكان إذا ُس ئل‬
‫عنها بعد‪ ،‬قال‪" :‬زعم ابن خديج أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نهى عنها" ‪ ،‬رواه "مسلم" بهذا‬
‫اللفظ‪.‬‬
‫وفي "البخاري" نحوه إلى قوله‪ :‬ثم إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نهى عن كراء المزارع‪ ،‬فقال ابن‬
‫عمر‪" :‬قد علمُت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بما على األربعاء‬
‫بشيء من التبن"‪.‬‬

‫والحديث في كتاب البيوع‪ ،‬من صحيح البخاري‪ ،‬قال "القسطالني" على هامشه‪" :‬قوله‪ :‬األربعاء‪،‬‬
‫بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة ممدوًد ا‪ :‬جمع ربيع‪ ،‬وهو النهر الصغير‪.‬‬

‫وقوله‪ :‬من التبن‪ ،‬بالموحدة الساكنة‪ .‬وحاصل حديث ابن عمر هذا‪ ،‬أنه ينكر على رافع إطالقه في‬
‫النهي عن كراء األرض‪ ،‬ويقول‪" :‬الذي نهى عنه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬هو الذي كانوا يدخلون فيه‬
‫الشرط الفاسد‪ ،‬وهو أنهم يشترطون ما على األربعاء‪ ،‬وطائفة من التبن‪ ،‬وهو مجهول"‪.‬‬

‫وفي رواية لنافع‪ ،‬أن ابن عمر كان يؤجر األرض‪ ،‬قال‪ :‬فنبئ حديًثا عن رافع‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق بي معه‬
‫إليه‪ .‬قال‪ :‬فذكر عن بعض عمومته‪ ،‬ذكر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه نهى عن كراء األرض‪،‬‬
‫قال‪ :‬فتركه ابن عمر فلم يأُج ْر ه"‪ ،‬رواه "مسلم" بهذا اللفظ‪.‬‬

‫ومنها رواية سالم بن عبد اهلل‪" :‬أن عبد اهلل بن عمر كان يكري أرضه‪ ،‬حتى بلغه أن رافع بن خديج‬
‫األنصاري كان ينهى عن كراء األرض‪ ،‬فلقيه عبد اهلل فقال‪ :‬يا ابن خديج‪ ،‬ماذا تحدث عن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في كراء األرض؟‬

‫قال رافع بن خديج لعبد اهلل‪" :‬سمعت عّم ي ‪ -‬وكانا قد شهدا بدًر ا ‪ -‬يحدثان أهل الدار أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم نهى عن كراء األرض‪ .‬قال عبد اهلل‪ :‬لقد كنت أعلم في عهد رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أن األرض ُتكرى‪ ،‬ثم خشي عبد اهلل أن يكون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحدث‬
‫في ذلك شيًئا لم يكن يعلمه‪ ،‬فترك كراء األرض" رواه مسلم‪ .‬وأخرج البخاري قول عبد اهلل بن‬
‫عمر الذي في آخره‪.‬‬

‫وفيها رواية أبي النجاشي‪ ،‬مولى رافع بن خديج‪ ،‬عن رافع أن ظهير بن رافع ‪ -‬وهو عمه ‪ -‬قال‬
‫ظهير‪ :‬لقد نهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن أمر كان بنا رافًقا‪ ،‬فقلت‪ :‬وما ذاك؟ ما قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فهو حق‪.‬‬

‫قال‪ :‬سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت‪ :‬نؤاجرها يا رسول اهلل على الربع‪ ،‬واألوسق من التمر‬
‫والشعير‪ ،‬قال‪" :‬فال تفعلوا‪ ،‬ازرعوها‪ ،‬أو ُأزِر عوها‪ ،‬أو امسكوها""رواه "البخاري"‪ ،‬وفي روايته‪" :‬قال‬
‫رافع‪ :‬قلت‪ :‬سمًع ا وطاعة" ‪ ،‬ورواه مسلم وهذا لفظه‪.‬‬
‫ومنها رواية سليمان بن يسار‪ ،‬عن رافع بن خديج‪ ،‬قال‪" :‬كنا نحاقل األرض على عهد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فنكريها بالثلث‪ ،‬والربع‪ ،‬والطعام المسّم ى‪ ،‬فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي‬
‫فقال‪ :‬نهانا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن أمر كان لنا نافًع ا‪ ،‬وطواعية اهلل ورسوله أنفع لنا‪:‬‬
‫نهانا أن نحاقل األرض‪ ،‬فنكريها على الثلث‪ ،‬والربع‪ ،‬والطعام المسّم ى‪ ،‬وأمر رب األرض أن‬
‫يزرعها‪ ،‬وكره ِك راها‪ ،‬وما سوى ذلك"‪ .‬رواه "مسلم" بهذا اللفظ‪ ،‬وله طرق‪.‬‬

‫وممن رواه من الصحابة‪" :‬جابر بن عبد اهلل" وله ألفاظ كلها في "الصحيح"‪ ،‬منها عن جابر قال‪" :‬نهى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن كراء األرض"‪.‬‬

‫ومنها‪ ،‬عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬من كانت له أرض فليزرعها‪ ،‬فإن لم‬
‫يزرعها فلُيْز ِر عها أخاه "‪.‬‬

‫ومنها‪ ،‬قال "جابر"‪ :‬كان لرجال فضوُل أرضين من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪":‬من كانت له فضل أرض فليزرْع ها أو ليْم نحها أخاه‪ ،‬فإن أبى‬
‫فليمسك أرضه"‪ .‬ومنها‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬من كانت له أرض فليزرْع ها‪،‬‬
‫أو لُيْز ِر عها أخاه‪ ،‬وال َيْك ِر ها"‪.‬‬

‫والكُّل من رواية "عطاء" عنه‪.‬‬

‫ومنها رواية "سعيد بن ميناء" عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من كانت له فضل أرض‬
‫فليزرْع ها أو لُيزِر عها أخاه‪ ،‬وقال وال تبيعوها" قال الراوي عن ابن ميناء‪ :‬ما "وال تبيعوها"؟‪ ،‬يعني‬
‫الكراء؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫وممن روى ذلك من الصحابة "أبو هريرة" رضي اهلل عنه ‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أنه‬
‫قال‪" :‬من كانت له أرض فليزرْع ها أو ليْم نحها أخاه‪ ،‬فإن أبى فلُيمسك أرضه"‪ .‬رواه "مسلم" مسنًد ا‬
‫عن حسن بن علي الحلواني‪ ،‬عن أبي توبة‪ ،‬عن معاوية‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير‪ ،‬عن أبي سلمة بن‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي هريرة‪ .‬وذكره البخاري تعليًقا‪.‬‬

‫يقول البلقيني‪ :‬ولذلك سبب‪ ،‬وهو ما جاء عن رافع بن خديج "قال‪ :‬كنا أكثر أهل المدينة مزرًع ا‪ ،‬كنا‬
‫نكري األرض بالناحية منها على مسمى‪ ،‬فمما يصاب ذلك وتسلم األرض‪ ،‬ومما تصاب األرض‬
‫ويسلم ذلك‪ ،‬فنهينا‪ .‬فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري‪ .‬وعن رافع بن خديج قال‪:‬‬
‫كنا أكثر األنصار حقًال‪ ،‬كنا نكري األرض على أن لنا هذه ولهم هذه‪ ،‬قال‪ :‬فربما أخرجت هذه‪ ،‬ولم‬
‫"فأما الورق فلم ينهنا"‪ ،‬رواه مسلم‪ ،‬وهذا لفظه‪.‬‬ ‫تخرج هذه‪ ،‬فنهانا عن ذلك‪.‬‬
‫وروى البخاري عنه قال‪" :‬كنا أكثر أهل المدينة حقًال‪ ،‬وكان أحدنا يكري أرضه فيقول‪ :‬هذه القطعة‬
‫لي‪ ،‬وهذه لك‪ ،‬فربما أخرجت ذه‪ ،‬ولم تخرج ذه‪ ،‬فنهاهم النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬وفي لفظ له‬
‫أيًض ا‪ -‬فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه‪ ،‬فنهينا عن ذلك‪ ،‬ولم ُنْن ه عن الورق"‪.‬‬

‫ولمسلم عن حنظلة بن قيس األنصاري‪ ،‬أنه سأل رافع بن خديج عن كراء األرض‪ ،‬فقال‪" :‬نهى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن كراء األرض‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬أفي الذهب والورق؟ قال‪ :‬أما الذهب‬
‫والورق فال بأس به"‪.‬‬

‫وفي رواية لمسلم عن حنظلة‪ ،‬قال‪" :‬سألت رافع بن خديج عن كراء األرض بالذهب والورق‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ال بأس به‪ ،‬إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم على الماذيانات‪ ،‬وأقبال‬
‫الجداول‪ ،‬وأشياء من الزرع‪ ،‬فيهلك هذا ويسلم هذا‪ ،‬ويسلم هذا ويهلك هذا‪ ،‬فلم يكن للناس كراء إال‬
‫هذا‪ ،‬فلذلك زجر الناس عنه‪ ،‬فأما شيء معلوم مضمون فال بأس به"‪.‬‬

‫فهكذا يتتبع اإلمام البلقيني الروايات التي تتضمن سبب الورود‪ ،‬وما تتضمنه هذه الروايات من‬
‫مواقف للصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬كموقف عبد اهلل عمر رضي اهلل عنه من تسليمه وإ ذعانه ألمر‬
‫لم يكن يعلمه من قبل‪ ،‬وإ ذعان رافع لما أمر به‪ ،‬وإ ذعان الرجل من بني عمومته‪،‬ولو كان في تصوره‬
‫ال يطابق منفعة كما قال‪…" :‬عن أمر كان لنا نافًع ا‪ ،‬وطواعية اهلل ورسوله أنفع لنا"‪.‬‬

‫وما يصحب هذه المواقف من بيان ما كان عليه الناس في معامالتهم‪ ،‬وتوافق الفتوى على ما كانوا‬
‫عليه‪ ،‬وبيان أسباب النهي ومالبساته‪ ،‬وغير ذلك من الفوائد العلمية‪ ،‬التي يقف عليها المتتبع ألسباب‬
‫الورود‪.‬‬

‫يقول البلقيني ‪ -‬بعد إيراد هذه الروايات ‪:-‬‬

‫فقد صّر حت هذه الروايات بالسبب المقتضى للنهي‪ :‬وأما ما سبق من رواية سليمان بن يسار‪ ،‬عن‬
‫رافع‪ ،‬عن رجل من عمومته‪ ،‬التي فيها النهي عن كراء األرض بالطعام المسمى ‪ -‬وقد رواها مسلم‬
‫من طريق أبي الطاهر عن رافع‪ ،‬من غير ذكر‪ :‬بعض عمومته ‪ 0‬فهو محمول على الطعام المسمى‬
‫من تلك األرض‪ ،‬ال على المضمون في الذمة‪ ،‬ولهذا السبب طرق أخرى من رواية رافع‪ .‬وأما‬
‫رواية جابر ‪-‬يرفعه‪ -‬قال‪ :‬كنا نخاير على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فنصيب من‬
‫القصرى ومن كذا‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬من كانت له أرض فليزرعها‪ ،‬أو‬
‫فلُيْح رثها أخاه‪ ،‬وإ ال فليدْع ها" رواه مسلم‪.‬‬
‫وله عنه قال‪ :‬كنا في زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬نأخذ األرض بالثلث أو الربع‪،‬‬
‫بالماذيانات؛ فقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪" :‬من كانت له أرض فليزرْع ها‪ ،‬فإن لم يزرْع ها‬
‫فليْم نحها أخاه‪ ،‬فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها "‪.‬‬

‫ويخلص البلقيني إلى تحرير القول في هذه الروايات‪ ،‬فيقول‪ :‬فظهر بذلك أن النهي عن كراء األرض‬
‫في حديث "جابر"‪ ،‬إنما كان لهذا السبب‪ ،‬ال أنه نهى عن اإلجارة مطلًقا‪.‬‬

‫ويكون نهي عن كراء األرض بما كان يعتاد من األمور التي فيها الغرر والجهل‪ ،‬ويؤدي إلى النزاع‪.‬‬

‫ويشهد له ما جاء عن "سعد بن أبي وقاص"‪ :‬أن أصحاب المزارع في زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪،‬كانوا ُيكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع‪ ،‬وما ُس قي بالماء مما حول البئر‪،‬‬
‫فجاءوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫ُيكروا بذلك‪ ،‬وقال‪" :‬اكروا بالذهب والفضة "‪ .‬رواه اإلمام أحمد ‪ -‬وهذا لفظه ‪ -‬وأبو داود‪،‬‬
‫والنسائي‪ .‬وللعلماء في هذه األحاديث مقاالت ليس هذا موضع بسطها‪.‬‬

‫وينبه "البلقيني" في دراسة أسباب ورود الحديث‪ ،‬إلى أن السبب قد يكون من لفظ النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وقد يكون في طريق من طرق الرواية‪ ،‬وقد ال يكون في آخر‪ .‬وهذا يقتضي التتبع والجمع‬
‫لألسباب‪ ،‬يقول البلقيني‪ :‬وما ذكر في هذا النوع من األسباب‪ :‬قد يكون ما ذكر عقد ذلك السبب من‬
‫لفظ النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أول ما تكلم به النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الوقت‪ .‬وقد‬
‫يكون تكلم به قبل ذلك لنحو ذلك السبب‪ ،‬أو ال لسبب‪ .‬وقد يتعين أن يكون أول ما تكلم به في ذلك‬
‫الوقت ألمور تظهر للعارف بهذا الشأن‪.‬‬

‫ويشير إلى موارد هذه األسباب بقوله‪ :‬وفي أبواب الشريعة والقصص وغيرها‪ ،‬أحاديث لها أسباب‬
‫يطول شرحها‪ .‬وما ذكرناه أنموذُج لمن يريد َتعّر ف ذلك‪ ،‬ومدخل لمن يريد أن يضيف مبسوًطا في‬
‫ذلك‪ .‬والمرجو من اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬اإلعانة على مبسوط فيه‪ ،‬بفضله وكرمه‪ .‬فهذا األنموذج الذي‬
‫قدمه اإلمام البلقيني في أسباب ورود الحديث‪ ،‬هل يعد مدخًال لمن يريد أن يضيف مبسوًطا في ذلك؟‬

‫لقد قدم البلقيني هذه الدراسة الموجزة لتكون مدخًال لمن يريد اإلضافة‪ ،‬ولكنها مع إيجازها قد وفت‬
‫بما يرجوه القارئ والدارس من األعمال األولى الممهدة للطريق‪ ،‬فقد بين في دراسته ما يلي‪-:‬‬

‫نتائج التحليل لنماذج البلقيني‬


‫أوًال‪ :‬بين أهمية معرفة أسباب ورود الحديث‪ ،‬وأنها تتساوى في تحقيق األغراض العلمية مع معرفة‬
‫أسباب نزول اآليات القرآنية الكريمة‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬نظر إلى ما كتب قبل ذلك‪ ،‬فوجد نفسه أول من سيكتب في هذا الموضوع‪ ،‬فله فضل السبق‪،‬‬
‫ومعاناة المؤسس‪ ،‬وما سبق في ذلك إال بشيء يسير‪.‬‬

‫ثالًثا‪ :‬استطاع أن ييسر لنا تقسيم األسباب ‪ -‬وفق ما ورد في األحاديث ‪ -‬إلى ‪ :‬أسباب تذكر في‬
‫الحديث نفسه‪ ،‬وهذه ال تحتاج أكثر من حسن التدبر والتأمل‪ ،‬للربط بين الحديث وسببه‪ ،‬في الفهم‬
‫واالستنباط‪.‬‬

‫وأسباب ال تذكر في الحديث نفسه‪ ،‬وإ نما تأتي عن طرق أخرى‪ ،‬وخرجت في مصنفات أخرى‪.‬‬

‫وهذا القسم هو الذي يتطلب جهًد ا علمًيا في تتبع هذه الطرق‪ ،‬ويقتضي هذا التتبع القراءة الواسعة‬
‫الواعية في كتب السنة‪ ،‬وحسن الربط بين المعاني في الرواية‪.‬‬

‫رابًع ا‪ :‬من خالل نماذجه‪ ،‬استطعنا أن نتعامل مع هذه األسباب‪ ،‬باعتبارها روايات‪ ،‬مستقلة يجري‬
‫عليها ما يجري على الروايات من قواعد النقد الحديثي‪ ،‬في السند والمتن‪.‬‬

‫خامًس ا‪ :‬قدم ‪ -‬لنا ‪ -‬نماذج ألسباب ال تتجاوز معنى سؤال السائل واإلجابة من النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫وهذا ما دعاني إلى القول‪ :‬بأن مثل هذه األسباب في حاجة إلى مزيد من التتبع‪ ،‬لمعرفة أحوال السائل‬
‫عند سؤاله‪ ،‬وطبيعة السؤال والبيئة التي قيل فيها‪ ،‬وغير ذلك من المالبسات والقرائن‪ ،‬التي تجعل‬
‫للسؤال قيمة في معنى سبب الورود‪.‬‬

‫سادسًا‪ :‬قدم لنا أسباًبا في صورة قصة للحديث‪ ،‬أو تفسير حالة كان من أجلها الحكم الوارد في‬
‫الحديث‪ ،‬أو بيان موقف كان له أثر في هذا الحكم‪ ،‬أو مالبسات اقترنت بهذا الحكم‪ ،‬أو خصوصية‬
‫اقتضت هذا الحكم‪ ،‬أو تفصيالت ال بد من معرفتها إلمضاء هذا الحكم في الحديث‪.‬‬

‫سابًع ا‪ :‬نّبهنا إلى قيمة هذا التتبع في مقارنة الطرق‪ ،‬وظهور العلل الخفية ‪ -‬أحياًنا ‪ -‬عند هذه‬
‫المقارنة بين األسانيد‪.‬‬

‫ثامًنا ‪ :‬وجه الباحثين إلى موارد هذه األسباب في أبواب الشريعة‪ ،‬حيث األحكام‪ ،‬وفي القصص حيث‬
‫المواقف والمالبسات والظروف‪ ،‬وغيرها من األبواب‪ ،‬التي ُتطرق في تتبع هذه األسباب‪.‬‬
‫تاسًع ا‪ :‬قدم لنا بهذا التتبع المصحوب الدراسة‪ ،‬كيف نجمع بين الروايات في الموضوع الواحد‪ ،‬وكيف‬
‫نزيل ما يكون من تعارض أو اختالف بينها‪.‬‬

‫عاشًر ا‪ :‬قدم في نماذجه‪ ،‬كيف تعين األسباب على معرفة الحكمة من التشريع‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‪،‬‬
‫وحسن الفهم للمعاني‪ ،‬ومواجهة التعنت من المخالفين في الدين‪ ،‬وتعدد وجهات النظر في فهم‬
‫الروايات‪ ،‬وطبيعة الصحابة في السماحة وحسن السمع والطاعة‪ ،‬والرجوع إلى السنة وما قضى به‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬على الفور‪ ،‬عند العلم بها‪.‬‬

‫ونستطيع بعد هذا التقديم لعمل البلقيني‪ ،‬أن نقول‪ :‬إنه وفق في فتح الطريق أمام البسط والتتبع ألسباب‬
‫ورود الحديث‪ ،‬فمن قدم لنا مبسوًطا بعده؟؛ وما المنهج الذي سار عليه؟‪.‬‬

‫اإلمام السيوطي وأسباب الورود‬


‫لقد كان لإلمام السيوطي‪ ،‬األثر الكبير في إبراز الجهود السابقة‪ ،‬في أسباب الحديث‪ ،‬واإلفادة؛ في‬
‫بيان منهجها‪ ،‬والتأسيس لنفسه في تقديم مبسوط في ذلك‪.‬‬

‫وقد مر بنا قوله في ذلك عند الحديث عن بداية الكالم في أسباب الورود‪ ،‬وارتباط ذلك بأسباب‬
‫النزول‪ ،‬والمؤلفات المفقودة في هذا الموضوع‪ ،‬وُأحب أن يجمع كتاًبا في ذلك‪ ،‬فسلك مسلك التتبع‬
‫للجوامع الحديثية‪ ،‬وااللتقاط منها‪.‬‬

‫وسار على المنهج الذي استخلصه من طريقة اإلمام البلقيني في األمثلة التي ذكرها‪ ،‬أي تتبع في المع‬
‫وااللتقاط األسباب على النحو اآلتي‪-:‬‬

‫‪ -‬قد ال ُينقل السبب في الحديث‪ ،‬ولكن ُينقل في بعض طرقه‪ ،‬وهذا سبله التتبع‬
‫وهو ما ينبغي االعتناء به‪ ،‬وبذل الجهد فيه‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يكون ما ذكر عقب السبب من لفظ النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أول ما تكلم‬
‫به النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الوقت‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يكون تكلم به قبل ذلك‪ ،‬لنحو ذلك السبب‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يكون تكلم به‪ ،‬ال لسبب‪.‬‬


‫‪ -‬وقد يكون تكلم به ألمور تظهر للعارف بهذا الشأن‪.‬‬

‫فهذه األسباب التي حكاها عن منهج السابقين فيها‪ ،‬واختارها لتطبيق جمعه وتصنيفه عليها‪ ،‬فارتضى‬
‫السؤال في الحديث نفسه‪ ،‬أو السبب المنفصل عن الحديث‪ ،‬وجاء بطرق أخرى‪ ،‬والظروف‬
‫والمالبسات التي ترتبط بأقوال الرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتعرف بالخبرة والتتبع الواسع‪.‬‬

‫ولكن تطبيق اإلمام السيوطي لهذا المنهج السابق‪ ،‬والذي وافق عليه‪ ،‬جعله يأخذ معه األمثلة التي‬
‫ذكرها اإلمام البلقيني‪ ،‬تصريًح ا بها في مقدمته مع اإليجاز‪ ،‬ونسبتها إلى البلقيني‪ ،‬وأغفل نسبتها عند‬
‫التفصيل‪.‬‬

‫ففي خطبة كتابه‪ ،‬أشار إلى حديث "إنما األعمال بالنيات"‪ ،‬وتناُو ِل ابن دقيق العيد له‪ ،‬وكذلك البلقيني‬
‫في أسباب الورود‪.‬‬

‫وما ذكره البلقيني كذلك‪ ،‬في حديث سؤال جبريل عن اإلسالم ‪ ،‬وحديث القلتين‪ ،‬وحديث الشفاعة‪،‬‬
‫وحديث سؤال النجدي‪ ،‬وحديث "صّل فإنك لم تصِّل "‪ ،‬وحديث "خذي ِف ْر صًة من مسك"‪ ،‬وحديث‬
‫"السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب"‪ ،‬وحديث "السائل"‪" :‬أُّي األعمال أفضل"‪ ،‬وحديث سؤال‪" :‬أُّي‬
‫الذنب أكبر"‪ ،‬وحديث "أفضل صالة المرء في بيته إال المكتوبة"‪ ..‬فهذه نسبها عند اإلجمال‪ ،‬ولكنه‬
‫فّص لها في جملة اختياراته‪ ،‬وزاد عليها األمثلة األخرى التي ذكرها البلقيني‪.‬‬

‫ولكن هل اإلمام السيوطي يعد في ذلك ناقًال دون إضافة؟‬

‫إننا ال نستطيع الحكم في ذلك‪ ،‬إال بعرض مقارنة سريعة بين ما ذكره البلقيني‪ ،‬وما ذكره السيوطي‪.‬‬

‫فأما الجانب المختصر عند البلقيني‪ ،‬فقد بسطه السيوطي بذكر الرواية وأسبابها‪ ،‬على النحو اآلتي‪-:‬‬

‫حديث ‪ :‬أخرج األئمة الستة عن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يقول‪" :‬إنما األعمال بالنيات‪ ،‬وإ نما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى اهلل ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأة يتزوجها‪ ،‬فهجرته‬
‫إلى ما هاجر إليه "‪.‬‬

‫سببه‪ :‬قال الزبير بن بكار في أخبار المدينة‪ :‬حدثني محمد بن الحسن‪ ،‬عن محمد بن طلحة بن عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬لما قدم رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم المدينة‪ُ ،‬و ِع ك فيها أصحابه‪ ،‬وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة‪ ،‬فجلس رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم على المنبر فقال‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬إنما األعمال بالنية (ثالًثا)‪ ،‬فمن كانت هجرته‬
‫إلى اهلل ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى اهلل ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته في دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما‬
‫هجرته إلى ما هاجر إليه‪ ،‬ثم رفع يديه‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم انقل عنا الوباء (ثالًثا)‪ .‬فلما أصبح قال‪ :‬أتيُت‬
‫هذه الليلة بالُح ّم ى‪ ،‬فإذا بعجوز سوداء ملّببة في َيَد ي الذي جاء بها‪ ،‬فقال‪ :‬هذه الحمى فما ترى؟ فقلت‬
‫اجعلوها بُخ ٍم ‪.‬‬

‫وقد جعل السيوطي هذا الحديث في بداية كتابه على الرغم من تبويبه للكتاب على الطريقة الفقهية‪،‬‬
‫حيث بدأ بباب الطهارة‪ ،‬وسلك في ذلك مسلك اإلمام البخاري رحمه اهلل في الجامع الصحيح‪ ،‬باعتبار‬
‫أن النية أساس األقوال واألعمال‪ ،‬وعلقها بالطهارة ‪ -‬كذلك ‪ -‬بِّيٌن في تنقية القلب وتطهيره‪.‬‬

‫وأما حديث سؤال جبريل عن اإلسالم واإلحسان‪ ،‬فلم يورده السيوطي في التفصيل‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫أنه اختار من النماذج السابقة‪ ،‬والسبب الذي ذكر فيه هو ما يتصل بمجيء جبريل عليه السالم في‬
‫صورة رجٍل شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد الشعر‪ ،‬وكيف جلس بين يدي النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬وقول الرسول الكريم‪" :‬فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "‪.‬‬

‫وأما حديث القلتين‪ ،‬فإن السيوطي رحمه اهلل‪ ،‬قد ذكره في باب الطهارة‪ ،‬ولكنه قدم من اختياراته في‬
‫باب الطهارة ثمانية أحاديث‪ ،‬وتسعة عشر سبًبا للورود‪ ،‬ومعنى ذلك أنه ليس بجامع لجهد غيره‪،‬‬
‫وإ نما أفاد من النماذج‪ ،‬والمنهج‪ ،‬وأحسن التطبيق في اختيارات أفادت من بعده‪.‬‬

‫وقال في حديث القلتين‪ :‬حديث‪ :‬أخرجه أبو أحمد الحاكم‪ ،‬والبيهقي عن يحيى بن يعمر‪ ،‬أن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪":‬إذا كان الماء قلتين‪ ،‬لم يحمل نجًس ا‪ ،‬وال بأًس ا‪ ،‬أو قال خبًثا "‪.‬‬

‫سبب‪ :‬أخرج أحمد عن ابن عمر قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو يسأل عن الماء‪،‬‬
‫يكون بأرض الفالة‪ ،‬وما ينوبه من الدواب والسباع‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إذا كان الماء‬
‫قلتين لم ينجسه شيء "‪.‬‬

‫وقد ُو فق محقق "أسباب ورود الحديث" الدكتور يحيى اسماعيل‪ ،‬في إضافة ما يراه من أسباب مناسبة‬
‫في الهامش فيقول‪ :‬وللحديث سبب ثان‪ :‬أخرجه أحمد في ‪ ، 2/107‬من حديث عاصم بن المنذر‪،‬‬
‫قال‪ :‬كنا في بستان لنا‪ ،‬أو لعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عمر‪ ،‬نرمي فحضرت الصالة‪ ،‬فقام عبيد اهلل إلى‬
‫مْقرى البستان‪ ،‬فيه جلد بعير‪ ،‬فأخذ يتوضأ فيه‪ ،‬فقلت‪ :‬أتتوضأ فيه‪ ،‬وفيه هذا الجدل؟ فقال‪ :‬حدثن‬
‫أبي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا كان الماء ُقلتين أو ثالًثا‪ ،‬فإنه ال َيْن جس"‪ ..‬والَم قرى‬
‫والَم ْقراء‪ :‬الحوض الذي يجمع فيه الماء‪.‬‬
‫وترك السيوطي حديث الشفاعة‪ ،‬وسببه قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬أنا سيد ولد آدم وال فخر"‪.‬‬
‫والحديث أخرجه أحمد في المسند ‪ ،1/281‬والترمذي في أبواب التفسير‪ ،‬تفسير سورة اإلسراء‬
‫‪ ،4/370‬عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫وترك حديث سؤال النجدي‪ ،‬والذي أخرجه البخاري في كتاب الحيل‪ ،‬باب الزكاة ‪ ،229‬وكتاب‬
‫اإليمان باب الزكاة من اإلسالم ‪ ،1/18‬ومسلم في كتاب اإليمان ‪ ،1/141‬وأبو داود في كتاب الصالة‬
‫‪ 1/92‬عن طلحة بن عبيد اهلل قال‪" :‬جاء رجل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل نجٍد ثائر‬
‫الرأس‪ُ ،‬يسمع دوّي صوته وال نفقه ما يقول‪ ،‬حتى دنا‪ ،‬فإذا هو يسأل عن اإلسالم‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬خمس صلوات في اليوم والليلة‪ ،‬فقال‪ :‬هل علّي غيرها؟ قال‪ :‬ال إال أن‬
‫تطّو ٍع ‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬وصيام رمضان‪ .‬قال‪ :‬هل علّي غيره؟ قال‪ :‬ال إال أن‬
‫تطّو ع‪ ،‬قال‪ :‬وذكر له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الزكاة‪ ،‬قال‪ :‬هل علّي غيرها؟ قال‪ :‬ال إال أن‬
‫تطّو ع‪ ،‬قال‪ :‬فأدبر الرجل‪ ،‬وهو يقول‪ :‬واهلل ال أزيد على هذا وال أنقص‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬أفلح إن صدق "‪.‬‬

‫وكذلك لم يذكر حديث‪" :‬صّل فإنك لم تصّل "‪ ،‬وقد أخرجه البخاري في كتاب األذان باب االلتفات في‬
‫الصالة‪ ،‬عن أبي هريرة ‪.1/192‬‬

‫ولم يذكر حديث‪" :‬خذي ِف ْر صة من مسك" ‪ ،‬ولم يذكر حديث‪" :‬السؤال عن دم الحيض يصيب‬
‫الثوب"‪ ،‬وحديث السائل‪" :‬أُّي األعمال أفضل"‪ ،‬وحديث سؤال‪" :‬أُّي الذنب أكبر"‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬فإن‬
‫اختيار اإلمام السيوطي من هذه األسباب السابقة‪ ،‬كان يسيًر ا‪ ،‬والذي اختاره منها هو من النوع الذي‬
‫ُيذكُر فيه السبب بطريق آخر‪ ،‬أو في رواية أخرى‪ .‬ومعنى ذلك أنه اختار في تصنيفه‪ ،‬الطريق الذي‬
‫يحتاج إلى جهد وتتبع‪ ،‬وليس سؤاًال في حديث‪ ،‬أو موقًفا‪ ،‬أو طرًفا في الرواية نفسها‪.‬‬

‫ولذلك سنجده قد توسع في االختيار من األمثلة األخرى‪ ،‬التي ذكرها البلقيني بأسباب منفصلة عن‬
‫الروايات‪.‬‬

‫فمثًال ذكر حديًثا أخرجه أحمد‪ ،‬عن السائب بن أبي السائب‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫صالة القاعد على النصف من صالة القائم‪ .‬وأخرج البخاري عن عمران بن حصين‪ ،‬أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من صلى قاعًد ا فله نصف أجر القائم "‪.‬‬

‫سبب‪ :‬أخرج عبد الرزاق في المصنف‪ ،‬وأحمد عن أنس قال‪ :‬لما قدم النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫المدينة وهي ُم حّم ة‪َ ،‬فُح ّم الناس‪ ،‬فدخل النبي صلى اهلل عليه وسلم المسجد‪ ،‬والناس قعود يصلون‪،‬‬
‫فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬صالة القاعد نصف صالة القائ م"‪ ،‬فتجشم الناس الصالة قياًم ا‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬قدمنا المدينة‪ ،‬فنالنا وباُء من وعك المدينة شديد‪،‬‬
‫وكان الناس يكثرون أن يصلوا في ُس ُبحتهم جلوًس ا‪ ،‬فخرج النبي صلى اهلل عليه وسلم عند الهاجرة‬
‫وهم يصلون في سبحتهم جلو ا‪ ،‬فقال‪" :‬صالة الجالس نصف صالة القائم" قال‪ :‬فطفق الناس حينئٍذ‬
‫ًس‬
‫يتجشمون القيام‪.‬‬

‫وذكر كذلك حديث‪" :‬ال تصوم امرأُة وبعُلها شاهُد إال بإذنه‪ ،‬غير رمضان"‪ ،‬وذكر سببه في حديث‬
‫امرأة صفوان بن المعطل‪.‬‬

‫وذكر كذلك ‪ -‬مع إضافٍة منه لما وقع عليه ‪ -‬الحديث الذي أخرجه األئمة الستة عن أبي هريرة قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إذا أقيمت الصالة فال تأتوها وأنتم تسعون‪ ،‬ولكن ائتوها وأنتم‬
‫تمشون‪ ،‬وعليكم السكينُة‪ ،‬فما أدركتم فصّلوا‪ ،‬وما فاتكم فأتمو ا"‪.‬‬

‫والسبب‪ :‬أخرجه أحمد‪ ،‬والبخاري‪ ،‬ومسلم عن أبي قتادة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬بينما نحن نصلي مع النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬إذ سمع َج َلَبَة رجاٍل ‪ ،‬فلما صلى دعاهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما شأنكم؟ قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫استعجلنا إلى الصالة‪ ،‬قال‪" :‬فال تفعلوا‪ .‬إذا إتيتم الصالة فعليكم السكينة‪ ،‬فما أدركتم فصلوا‪ ،‬وما‬
‫سبقكم فأتموا"‪.‬‬

‫ولكن إذا كان البلقيني قد جعل حديث معاذ سبًبا لورود الحديث‪" :‬إذا أتيتم الصالة فال تأتوها وأنتم‬
‫تسعون‪ ،‬ولكن ائتوها وعليكم السكينُة‪ ،‬فما أدركتم فصلوا‪ ،‬وما فاتكم فأتموا"‪ ،‬فإن السيوطي قد جعله‬
‫سبًبا لحديث آخر أخرجه الترمذي‪ ،‬عن علّي وعن عمرو بن مرة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن أبي ليلى‪ ،‬عن‬
‫معاذ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬إذا أتى أحدكم الصالة واإلماُم على حال‪ ،‬فليصنع‬
‫كما يصنع اإلمام" ‪.‬‬

‫وهذا يدل على أن تحديد السبب‪ ،‬أمُر اجتهادي‪ ،‬وأن السبب قد يصلح ألكثر من رواية‪ ،‬وأن السبب قد‬
‫يتعدد‪.‬‬

‫وترك حديث‪" :‬ما حدثكم أهل الكتاب…"‪.‬‬

‫وذكر حديث‪" :‬أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان"‪ ،‬وأورد ما ذكره البلقيني‪،‬‬
‫وزاد من اختياره أسباًبا أخرى‪ ،‬منها‪ :‬ما أخرجه أحمد‪ ،‬عن عروة بن الزبير‪ ،‬قال‪ :‬قال زيد بن ثابت‪:‬‬
‫"يغفر اهلل لرافع بن خديج‪ ،‬أنا واهلل أعلم بالحديث منه‪ ،‬وإ نما أتى رجالن قد اقتتال‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن كان هذا شأنكم‪ ،‬فال تكروا المزارع‪ ،‬فسمع رافع قوله‪ :‬ال ُتكروا‬
‫المزارع"‪.‬‬
‫وذكر السيوطي كذلك‪ ،‬حديث زيد بن ثابت‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬رّخ ص في العرايا‪.‬‬

‫ومع هذا االختيار‪ ،‬الذي اتبعه السيوطي مع من سبقه‪ ،‬إضافة عظيمة ألحاديث أخرى بأسباب مستقلة‬
‫بلغت جميعها ثمانية وتسعين حديًثا (‪ ،)98‬وأربعة وسبعين ومائتي سبب‪ .‬صنفها على أبواب‬
‫الطهارة‪ ،‬والصالة‪ ،‬والجنائز‪ ،‬والصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬والبيع‪ ،‬النكاح‪ ،‬والجنايات‪ ،‬واألضحية‪ ،‬واألطعمة‪،‬‬
‫واألدب‪.‬‬

‫ونستطيع أن نقول‪ :‬إن صنيع اإلمام السيوطي‪ ،‬قد أرسى دعائم هذا النوع العظيم من أنواع علوم‬
‫الحديث‪ ،‬في كثرة العدد‪ ،‬وتنوع الموضوعات‪ ،‬وتتبع األسباب خارج الحديث‪.‬‬

‫وفتح الطريق أمام السالكين لهذا النوع الجدير ببذل المزيد من الجهود فيه‪.‬‬

‫ابن حمــزة وأســباب الــورود‬


‫نجد ابن حمزة الحسيني‪ ،‬الحنفي‪ ،‬الدمشقي‪ ،‬بعد ذلك قد استوعب المنهج‪ ،‬واألمثلة التي قدمها‬
‫البلقيني‪ ،‬وقدمها السيوطي‪ ،‬ويضيف إضافات تغرس اليقين في إمكانية استيعاب كتب السنة جميعها‪،‬‬
‫في اختيار األسباب‪ ،‬التي ُتربط بأحاديثها‪.‬‬

‫لقد انطلق ابن حمزة في عمله‪ ،‬من القاعدة السابقة‪ ،‬التي أرساها البلقيني والسيوطي‪ ،‬حتى نجد‬
‫التطابق في استعماله لعبارات السابقة في هذا الموضوع‪ .‬فمعرفة األسباب عنده‪ ،‬من أجّل أنواع‬
‫علوم الحديث‪.‬‬

‫والذين ألفوا فيه‪ ،‬قد ذكرهم ‪ -‬كما سبق ‪ -‬فقال‪" :‬وقد ألف فيها أبو حفص العكبري كتاًبا‪ ،‬وذكر‬
‫الحافظ ابن حجر أنه وقف منه على انتخاب‪ ،‬ولما لم أظفر في عصرنا بمؤلف مفرد في هذا الباب‪،‬‬
‫غير أوائل تأليٍف َش رع فيه الحافظ السيوطي‪ ،‬ورتبه على األبواب‪ ،‬فذكر فيه نحو مائة حديث‪..‬‬
‫واخترمته المنيُة قبل إتمام الكتاب‪ ،‬سنح لي أن أجمع في ذلك كتاًبا‪ ،‬تقربه عيون الطالب‪ ،‬فرتبته‬
‫على الحروف والّس نن المعروف‪ ،‬وأضفت له تتمات تمس الحاجة إليها‪ ،‬وتحقيقات يعّو ل عليها‪،‬‬
‫وسميته‪" :‬البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف‪ ."..‬وأسباب الورود عنده كأسباب نزول‬
‫القرآن الكريم‪ .‬والحديث الشريف عنده ‪ -‬في الورود ‪ 0‬على قسمين‪ :‬ما له سبب قيل ألجله‪ ،‬وما ال‬
‫سبب له‪ .‬والسبب عنده ‪ -‬كذلك ‪ -‬قد يذكر في الحديث‪ ،‬وقد ال يذكر السبب في الحديث‪ ،‬أو يذكر في‬
‫بعض طرقه‪ ،‬فهو الذي ينبغي االعتناُء به‪ ،‬ويورد األمثلة ذاتها‪.‬‬

‫ويضيف ما أفاده الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي‪ ،‬من أن سبب الحديث‪ ،‬يأتي تارة في عصر‬
‫النبوة‪ ،‬وتارة بعدها‪ ،‬وتارة يأتي باألمرين‪ ..‬ويقصد بما يكون بعد عصر النبوة‪ ،‬ما ورد عن الصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم‪ ،‬فقد حفظوا األقوال واألفعال‪ ،‬وحافظوا على األطوار واألحوال‪ ،‬فيكون السبب في‬
‫الورود عنهم‪ ،‬مبيًنا لما لم يعلم سببه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬كما ُع ني في منهجه بتخريج‬
‫أحاديثه من المعاجم والمسانيد‪ ،‬والكتب الستة‪ ،‬وابتدأ بحديث "إنما األعمال بالنيات"‪.‬‬

‫وقدم لنا بهذا المنهج من األحاديث‪ ،‬تسعة وثالثين وثمانمائة وألف‪ ،‬بأسباب كثيرة‪ .‬وقد حقق هذا‬
‫الكتاب في ثالثة أجزاء‪ ،‬فضيلة األستاذ الدكتور الحسيني هاشم رحمه اهلل‪.‬‬

‫وهذا مثال‪ ،‬اشترك فيه مع السابقين‪ ،‬وقّد مه على النحو اآلتي‪" :‬إذا أتى أحدكم الصالة‪ ،‬واإلماُم على‬
‫حال‪ ،‬فليصنع كما يصنع اإلمام "‪ .‬أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير‪ ،‬عن معاذ بن جبل رضي‬
‫اهلل عنه ‪ ،‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث غريب‪.‬‬

‫سببه‪ :‬ما أخرج الطبراني عن معاذ‪ ،‬قال‪ :‬كان الناس على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬إذا‬
‫سبق أحدهم شيء من الصالة سألهم‪ ،‬فأشاروا إليه بالذي ُس بق به‪ ،‬فيصلي ما ُس بق‪ ،‬ثم يدخل معهم في‬
‫صالتهم‪ ،‬فجاء معاذ والقوم قعود في صالتهم‪ ،‬فقعد معهم‪ ،‬فلما سلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪ ،‬فقضى ما ُس بق به‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬اصنعوا ما صنع معاذ"‪.‬‬

‫وفي رواية له عن معاذ‪ :‬فقلت‪ :‬ال أجده إال لبث عليها‪ ،‬فكنت بحالهم التي وجدتهم عليه‪ ،‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬قد سّن لكم معاذ‪ ،‬فاقتدوا به‪ ..‬إذا جاء أحدكم وقد ُس بق بشيء من‬
‫الصالة‪ ،‬فليصِّل مع اإلمام بصالته‪ ،‬فإذا فرغ اإلمام‪ ،‬فليتم ما سبقه به‪ ،‬والعمل على هذا عند أهل‬
‫العلم‪.‬‬

‫وقد يذكر للحديث الواحد أكثر من سبب‪.‬‬

‫الخــــاتمــــــة‬

‫وبعد هذه الدراسة التحليلية‪ ،‬لتأسيس منهٍج في تتبع أسباب الورود‪ ،‬لتقديم مصنفاًت جديدة فيها‪ُ ،‬نبرُز‬
‫أهم النتائج التي توصلنا إليها‪:‬‬

‫‪ -‬إن إدراك أهمية المعرفة ألسباب الورود في فهم الحديث‪ ،‬بدأ بالصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬حيث‬
‫كانت مدارستهم لما قاله النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ُ ،‬تصحب بذكر المواقف التي قيل فيها الحديث ‪-‬‬
‫كما جاء في كراء األرض‪ -‬والزمن الذي قيل فيه‪ ،‬كإشارتهم بقولهم‪" :‬يومئذ"‪ ،‬والحوار الذي يدور‬
‫بين النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رضوان اهلل عليهم‪.‬‬
‫‪ -‬ربط العلماء بين أسباب ورود الحديث وأسباب نزول القرآن في أهمية المعرفة لتوجيه المعاني‬
‫في النصوص‪.‬‬

‫ووجدت أن هذا الربط بينهما ‪-‬كذلك‪ -‬في اعتماد السببين على الرواية‪ ،‬وجريان قوانين الرواية في‬
‫مصطلح الحديث على روايات السببين‪.‬‬

‫والرواية في السببين قد تكون من أقوال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أو من أقوال الصحابة رضوان‬
‫اهلل عليهم‪ ،‬وهي في مثل هذه الحالة‪ ،‬في حكم المرفوع‪ ،‬أو من أقوال التابعين‪ ،‬ويشترط في ذلك أن‬
‫يكون التابعي معروًفا بالتحديث عن الصحابة وحدهم‪.‬‬

‫والتفريق بين السببين في استعمال صيغة‪" :‬فنزلت"‪ ،‬مع آيات القرآن الكريم‪ ،‬و "ورد" مع الحديث‬
‫الشريف‪.‬‬

‫كما وجدنا أن التشابه بين السببين في أن آيات القرآن الكريم‪ ،‬منها ما يرتبط بأسباب نزول‪ ،‬ومنها ما‬
‫نزل ابتداء‪ ،‬وكذلك األحاديث منها ما يرتبط بأسباب ورود‪ ،‬ومنها ما قيل ابتداء‪.‬‬

‫‪ -‬وإ ذا كان الجمع والتصنيف قد استوعب أسباب النزول‪ ،‬فإن الجمع والتصنيف في أسباب الورود‪،‬‬
‫ما زال في حاجة إلى إضافات جديدة‪ ،‬لكثرة المصنفات في الحديث النبوي‪ ،‬وقلة ما صنف في أسباب‬
‫الورود‪.‬‬

‫‪ -‬بدأ التصنيف في أسباب ورود الحديث‪ ،‬بأبي حفٍص العكبري (المتوفى ‪399‬هـ)‪ ،‬ولكن مصنفه في‬
‫ذلك مفقود‪ ،‬وكذلك فقد مصنف أبي حامد عبد الجليل الجوباري‪.‬‬

‫‪ -‬أول عمل يجمع بين التقنين والنماذج في أسباب الورود‪ ،‬هو النوع التاسع والستون في محاسن‬
‫االصطالح للبلقيني (المتوفى ‪ 805‬هـ)‪.‬‬

‫‪ -‬سار على منهجه‪ ،‬واختار بعض نماذجه‪ ،‬وأضاف إليها عدًد ا كبيًر ا اقترب من المائة‪ ،‬اإلمام‬
‫السيوطي (المتوفى ‪911‬هـ) في مصنف بعنوان‪" :‬الُّلمع في أسباب الحديث"‪.‬‬

‫‪ -‬وعلى المنهج نفسه‪ ،‬توسع في النماذج واالختيارات ابن حمزة الحسيني الحنفي الدمشقي (المتوفى‬
‫‪1110‬هـ)‪ ،‬في كتابه‪" :‬البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"‪.‬‬

‫‪ -‬بقي من األحاديث التي تحتاج إلى تتبع‪ ،‬لربطها بأسبابها‪ ،‬الكثير‪ ،‬وهذا ما يدعوني إلى تقديم هذا‬
‫المقترح‪ ،‬المقترن بالمنهج‪ ،‬واألساس الذي يسير عليه الجهد المعاصر في هذا السبيل‪ ،‬وهو التتبع‬
‫الشامل لكتب الحديث‪ ،‬وكتب التاريخ‪ ،‬التي تسير على منهج المحدثين في ذكر الروايات بأسانيدها‪،‬‬
‫وكذلك كتب التراجم‪.‬‬

‫‪ -‬وهذا التتبع يسترشد بالنتائج‪ ،‬التي وقفنا عليها من دراسة طبيعة األسباب‪ ،‬والتي وجدناها على‬
‫النحو التالي‪:‬‬

‫‪ -‬أسباب تذكر في الحديث نفسه (كوجود موقف فيه‪ ،‬أو ظروف ومالبسات تذكر في الحديث‪ ،‬أو‬
‫سؤال يوجه) وأكثر هذا النوع يكون سؤاًال‪ ،‬أو حواًر ا‪ ،‬وقد يحتاج مجرد وجود سؤال أن يتتبع‬
‫صاحب السؤال‪ ،‬لمعرفة ما يتعلق به من صفات وأحوال‪.‬‬

‫ولذلك استنتجنا أن ما ورد من أسباب‪ ،‬قد يكون في السبب ما يحتاج إلى سبب آخر‪ ،‬يأتي باستمرار‬
‫التتبع والنظر‪.‬‬

‫واستنتجنا ‪-‬كذلك‪ -‬أن النظر في األسباب‪ ،‬وربطها بأحاديثها‪ ،‬يتضمن االجتهاد‪ ،‬وبذل أقصى الجهد‬
‫الفعلي في إدراك العالقات بين األحاديث وأسبابها؛ فإذا كان االعتماد في السبب على الرواية‪ ،‬فإن‬
‫االجتهاد يدخل في الربط بين األسباب وأحاديثها‪ .‬كما يدخل هذا الجهد في توثيق الروايات‬
‫واالطمئنان إلى صحتها‪ ،‬قبل الجمع‪ ،‬أو الترجيح بينها‪.‬‬

‫وهذه األسباب المتضمنة في األحاديث‪ ،‬يكون تتبعها بالمنهج السابق‪ ،‬من األعمال التي ينهض بها‬
‫الباحث على انفراد‪ ،‬ولكن نظًر ا لكثرة الروايات في المصنفات الحديثية‪ ،‬فإن النهوض بهذا الجهد‪،‬‬
‫يحتاج إلى عمل فريق من المتخصصين‪ ،‬في األقسام العلمية‪ ،‬والمراكز البحثية‪ ،‬لحصر كتب السنة‪،‬‬
‫والتاريخ‪ ،‬والسير‪ ،‬والتراجم‪ ،‬وتوزيعها توزيًع ا يتيح للفرد الواحد‪ ،‬قدًر ا مناسًبا يتيح النظر‪ ،‬والتدبر‪،‬‬
‫لتحديد األسباب‪ ،‬ووجه العالقة بين الحديث والسبب‪.‬‬

‫كما يضاف إلى هذا الجهد الفردي‪ ،‬جهد جماعي في عرض عمل الفرد على مجموعة من الباحثين‪،‬‬
‫لتبادل وجهات النظر فيما وصل إليه كل باحث على حجه‪ ،‬وبذلك نجمع بين جهد الباحث والفرد‪،‬‬
‫واالطمئنان عليه‪ ،‬برأي الجماعة‪.‬‬

‫‪ -‬أسباب ال تذكر في الحديث نفسه‪ ،‬وإ نما تذكر في روايات أخرى‪ ،‬أو في طرق أخرى للحديث‪،‬‬
‫وهذا يقوم به ‪-‬أيًض ا‪ -‬الباحث‪ ،‬الذي يوسع قراءاته في المصادر الحديثية المذكورة‪ ،‬ليتتبع هذه‬
‫األسباب المتناثرة‪ ،‬وبعد أن يجمع في ذلك قدًر ا مناسًبا‪ ،‬يطمئن على صنيعه‪ ،‬بالعرض على الفريق‬
‫المتخصص‪ ،‬لالطمئنان على سالمة هذا الربط والتصنيف‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما يتعلق بخطة العمل لما يكون من األسباب الجديدة في التصنيف‪ ..‬وأما ما يتعلق بما صنف‬
‫سابًقا‪ ،‬فإن العمل الذي يناسبه‪ ،‬أن توثق فيه روايات األسباب‪ ،‬لتمييز الصحيح منها‪ ،‬من الحسن‪ ،‬من‬
‫الضعيف‪ ،‬وخاصة في البيان والتعريف البن حمزة الدمشقي‪.‬‬

‫الدكتور محمد رأفت سعيد‬


‫* من مواليد أميوط قطور غربية ‪1948‬م إحدى قرى مصر‪.‬‬

‫* دكتوراه في العلوم اإلسالمية ‪ ،‬كلية دار العلوم‪ ،‬جامعة القاهرة‪.‬‬

‫* نشر له العديد من المؤلفات في التفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬والفقه‪ .‬وأصوله‪ ،‬والسيرة‪ ،‬وقضايا الفكر‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫* معني بتيسير كتب التراث للدارسين المعاصرين‪ ،‬وقدم في ذلك كتاب "الجامع ألخالق الراوي‬
‫وآلداب السامع‪ ،‬للخطيب البغدادي‪ :‬دراسة وتحقيق وتعليق"‪ ،‬مع بيان قيمته التربوية والتعليمية‪.‬‬

‫* عمل بجامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬ويعمل اآلن أستاًذ ا بكلية الشريعة والدراسات‬
‫اإلسالمية بجامعة قطر‪.‬‬

You might also like