Professional Documents
Culture Documents
تحليل و تأسيس
العدد ()37
فالقرآن الخالد بهذا يصوب التاريخ ،ويصوب الحاضر ،ويصوب التوجه نحو المستقبل.
والرسول صلى اهلل عليه وسلم بسنته ،وسيرته ،وبيانه للقرآن ،وتجسيده له في الواقع ،معياُر أيضًا،
يقول تعالى( :يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا وُم بِّش ًر ا ونذيًر ا )(األحزاب ،)45:ويقول( :ليكون
الرسول عليكم شهيًد ا )(الحج ،)78والشهادة تعني :بيان الحق ،وإ دانة الباطل ،وكشف الزيف.
واألمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب والسنة ،هي أمة معيارية أيضًا ،يقول
تعالى( :وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا ُش هداء على الناس… )(البقرة.)143:
فالشهادة على الناس ،والقيادة لهم ،وفق منهج اهلل في الكتاب والسنة ،هي من أخص خصائص
المعيارية .ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة يستحيل عليها عقًال وواقعًا ،أن تتواطأ على الخطأ ،ألنها
تمتلك القيم المعيارية المعصومة ،ويمثلها ويجسدها باستمرار ظهور الطائفة القائمة على الحق ،التي
ال يضرها من خالفها ،حتى يأتي أمر اهلل ،وهي على ذلك ،األمر الذي يقتضي عصمة عموم األمة،
التي يشير إليها قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم ( :ال تجتمع أمتي على خط أ) ،وفي رواية( :ما
كان اهلل ليجمع هذه األمة على ضاللة أبًد ا )(رواه الحاكم).
ألن من لوازم الرسالة الخاتمة ،أو من لوازم الخاتمية ،وتوقف النبوات ،والتصويب :استمرار القيم
في الكتاب والسنة ،صحيحة سليمة من كل تحريف ،أو تبديل ،أو تأويل ،ليصبح التكليف صحيحًا
عقًال وشرعًا ،ويترتب الثواب والعقاب ..ومن لوازمها أيضًا ،الخلود ،الذي يعني :استمرار تجسد
هذه القيم في الواقع ،وقدرتها على إنتاج نماذج تثير االقتداء ،وتظهر بالحق في كل زمان ومكان،
وتمتلك اإلمكانية لمعالجة المشكالت الطارئة ،والتعامل مع المتغيرات ،حتى يرث اهلل األرض ومن
عليها.
ولعل من مقتضيات الخاتمية أيضًا ،تكفل اهلل سبحانه وتعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة ،من أي
تحريف أو تبديل ،سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه ،أو تحريفه بالتأويل ،وهو الخروج
بالمعنى عما وضع له اللفظ ،قال تعالى( :إنا نحن نزلنا الذكر وإ نا له لحافظون )(الحجر ،)9:وقال:
(إَّن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع ُقرآنه * ثم إن علينا بيانه )(القيامة ، )19-17:فالتكفل
بالحفظ للنص اإللهي ،والحفظ والحراسة لبيانه عن طريق النبوة ،يعتبر من أبرز سمات الرسالة
الخاتمة ،وأخص خصائصها.
والصالة والسالم على معِّلم الناس الخير ،المبين للناس ما نزل إليهم ،يقول تعالى في بيان مهمته:
(وأنزلنا عليك الذكر لُتبِّين للناس ما ُنِّز ل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل ،)44:فجاء حفظ السنة
والبيان النبوي ،والعناية بهما ،ثمرة الزمة لحفظ القرآن .وامتازت األمة المسلمة عن غيرها من
األمم السابقة والالحقة ،بالرواية واإلسناد ،تلك الوسيلة التي ال بد منها لحفظ القيم ،والقيام بمهمة
البالغ المبين ،والتوصيل ،والنقل الثقافي ،على الوجه الصحيح ،التي اعتبرها اهلل سبحانه وتعالى
سبيل النجاة ،بقوله( :قل لن يجيرني من اهلل أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا * إال بالغًا من اهلل
ورساالته )(الجن ،)22،23:وأمر بها الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع بقوله( :ليبلغ
الشاهد الغائب ،فإن الشاهد عسى أن يبِّلغ من هو أوعى له منه )(رواه البخاري) ،وقال( :فُر َّب مبَّلغ
أوعى من سامع )(رواه الترمذي وأحمد) ،وبذلك لم يقتصر الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أهمية
النقل (الرواية) ،وإ نما نبه أيضًا إلى فقه الرواية ووعيها (الدراية) ،وبهذا استحق المسلمون وراثة
القيادة الدينية ،بعد نقض بني إسرائيل للميثاق ،وتحريفهم للقيم السماوية.
وبعد:
فهذا كتاب األمة السابع والثالثون( :أسباب ورود الحديث ،تحليل وتأسيس)،للدكتور محمد رأفت
سعيد ،في سلسلة "كتاب األمة" ،التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة األوقاف والشؤون
اإلسالمية في دولة قطر ،مساهمة في بناء شخصية المسلم المعاصر ،وتقويم سلوكه ،وضبط حركته
بالقيم اإلسالمية ،األمر الذي ال يتأتى إال بإعادة بناء المرجعية ،وتشكيل مركز الرؤية ،التي تحققها
معرفة الوحي في الكتاب والسنة ،وتنطلق منها ،وتمتد بها معارف العقل ،ليستأنف المسلم دوره،
ويستعيد فاعليته لحمل األمانة ،التي كلفه اهلل بها ،وتحقيق العبودية هلل ،وإ لحاق الرحمة بالناس
أجمعين ،وإ بصار طريق العمران البشري ،الذي ينسجم مع نسقه الحضاري ،ومعادلته االجتماعية،
في ضوء قيمه ،واستصحاب تطبيقها في الواقع ،من خالل تحديد موقعه بدقة في المسيرة التاريخية
لألمة المسلمة ،بعيًد ا عن األنماط ،والقيم االستعمارية لحضارة الغالب ،المفروضة عليه.
وقد تكون المعادلة الصعبة المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم ،والتي ُيْطلُب إليه اإلحاطة بعلمها،
ليكتشف الخلل ،ويبصر سبيل الخروج :هي في انتمائه لماٍض متألق ،على األصعدة المتعددة،
ومعايشته لواقع متخلف ،يعاني منه على مختلف األصعدة أيضًا ،على الرغم من أن أمته المسلمة،
صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة ،وأنها تمتلك الخطاب اإللهي السليم ،الذي يصوب طريقها ،ويمنحها
الطاقات الفاعلة ،والقيم الروحية ،والتجربة الحضارية التاريخية ،كما تمتلك اإلمكانات ،والطاقات
المادية الهائلة ،المركوزة في بالدها ،والتي يمكن -لو ُأحسن توظيفها -أن تقود حركة العالم،
وتعّين وجهته ،وتسترد إنسانية إنسانه ،وفقًا لمنهج اهلل.
وإ ذ حق لنا أن نقول :بأن الحاضر هو مستقبل الماضي ،أدركنا أن واقعنا وحاضرنا ،جاء ثمرة
ألصول حضارية ،ومذهبيات وفلسفات عقائدية ،بعيدة عن قيمنا،وتاريخنا ،ونسقنا الحضاري؛ وأن
فجوة التخلف التي نعاني منها ،أو المعادلة الصعبة التي نعيشها ،إنما هي بسبب انسالخنا عن قيمنا
في الكتاب والسنة ،وليس بسبب التزامنا بها ،وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا ،ونحاول قياسه،
وتصويبه ،بقيم غريبة عنه ،مع أن األمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض،
وإ بصار سبل الخروج ،أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها ،بأصولها وقيمها الحضارية ،ال بأصول
وقيم حضارية غريبة عنها ،لنكتشف الخلل ،ونصّو ب المعادلة.
وإ ذا صح لنا ،من استقراء التاريخ ،ودراسة سنن التداول الحضاري ،القول :بأن نهوض أي مجتمع،
مرهون إلى حد كبير ،بتوفير ظروف وشروط ميالده األول ،أدركنا في ضوء ذلك ،قولة اإلمام مالك
رحمه اهلل تعالى :ال يصلح آخر هذه األمة إال بما صلح به أولها ،وأدركنا األبعاد الكاملة ،لحديث
الرسول صلى اهلل عليه وسلم الذي يرويه اإلمام أبو داود في المالحم" :يبعث اهلل لهذه األمة على
رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ..هذا التجديد ،الذي يعني فيما يعني :العودة إلى األصول،
والينابيع األولى ،ومحاولة إزالة الغبش ،واستئصال نابتة السوء واالبتداع ،وتحكم بعض التقاليد
االجتماعية ،واختالطها بالتعاليم الشرعية ،واستلهام التطبيق في المجتمع األول القدوة ،واستدعاء
المناخ التربوي والنفسي والثقافي ،لظروف وشروط الميالد األول ،الذي يمكن من التجديد،
واالنبعاث ،وإ عادة النهوض.
ومن هنا يتأكد لنا أيضًا ،وفي كل الظروف واألحوال ،أهمية العودة باستمرار إلى دراسة الكتاب
والسنة ،كقيم معيارية؛ ودراسة السيرة النبوية ،كأنموذج بياني تطبيقي ،لتنزيل هذه القيم على الواقع،
واألخذ بيده لالرتقاء ،وتقويم سلوكه بها؛ والتبصر بأسباب النزول للقرآن ،والورود للحديث ،كوسائل
إيضاح معينة على فهم آليات التطبيق والتنزيل للقيم على الواقع ،وكيفيات التعامل معها ،من خالل
االستطاعات المتاحة ،والظروف المحيطة.
ولعل من األمور األساسية ،التي ال بد من مداومة التأكيد عليها ،وتكرار القول فيها :أن من لوازم
الخاتمية وتوقف النبوة :سالمة خطاب التكليف ،من التحريف ،والتبديل واالنتحال ،والغلو ،والتأويل،
حتى يكون التكليف صحيحًا ،ويترتب عليه الثواب والعقاب -كما أسلفنا -ويتحقق العدل اإللهي..
وأن من لوازم الخاتمية أيضًا :الخلود ،وتجرد النص اإللهي في الكتاب والسنة ،عن حدود الزمان
والمكان ،وأسباب النزول والورود ،ألن العبرة بعموم اللفظ ،ال بخصوص السبب ،كما هو مقرر عند
علماء األصول ،فالخلود يعني :القدرة على العطاء ،واالمتداد ،وتوليد األحكام ،والبرامج ،واالستجابة
لمعالجة المشكالت ،ومواجهة المتغيرات ،في كل زمان ومكان ،والقدرة على إنتاج النماذج التي
تظهر بالحق ،وتثير االقتداء في كل زمان ومكان أيضًا.
وقد يكون من أخطر اإلشكاالت واإلصابات ،التي لحقت بالنص السماوي السابق ،هي في عملية
تحريف الكلم عن مواضعه ..والتحريف كما هو معلوم ،قد يكون بتبديل األلفاظ ،ليتغير المعنى
والتكليف المطلوب ،تبعًا لذلك ،أو تغييب وإ خفاء بعض ما أنزل اهلل ،وإ براز اآلخر ،لكي يتوافق مع
الرغبات واألهواء ،ويحقق المصالح الموهومة في الدنيا ..هذا التقطيع للرؤية الشاملة ،التي يمنحها
النص اإللهي ،أو هذا اإليمان ،ببعض الكتاب والكفر ببعض ،هو سبب الخزي الذي لحق بأهل
الكتاب ،والذي اعُتبر من علل التدين ،وأسباب االنقراض ،التي ُح ِّذ ر المسلمون من الوقوع فيها ،يقول
تعالى( :فبما نقضهم ّم يثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ُيحّر فون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما
ذِّك روا به وال تزال تّطلع على خائنة منهم إال قليًال منهم فاعف عنهم واصفح إن اهلل يحب المحسنين )
(المائدة ..)13:وذاك اللون من التحريف الذي وقع به أهل الكتاب ،يتناسب مع شيوع العامية،
وانعدام وسائل الكتابة ،والقراءة ،جاء ليمثل مرحلة من مراحل التحريف ..ويكاد هذا أن يكون
مستحيًال بالنسبة للمسلمين ،ألن اهلل تكفل بحفظ النص السماوي ،وتكفل بحفظ بيانه أيضًا ،كما هو
معلوم ،ولشيوع الكتابة والقراءة والحفظ ،التي بدأت منها الخطوات األولى للرسالة اإلسالمية.
وقد تكون المشكلة بالنسبة للمسلمين ،أو احتماالت التحريف ،هي :الخروج بالمعنى عما وضع له
اللفظ ،لذلك كان من األهمية بمكان -إلى جانب حفظ النص اإللهي ،الذي تعهد اهلل بحفظه ،وقراءته
-حفظ السنة ،والتعهد بحفظ البيان النبوي أيضًاُ( :ثّم إّن علينا بيانه )(القيامة )19:الذي يحول دون
التحريف ،أو التأويل ،الذي يعني عدم مس ألفاظ وحروف النص ،بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى
تأويًال عما وضع له اللفظ.
فالسنة والسيرة هما البيان العملي ،الذي يحول دون التأويل المنحرف ،والذي يمنح ملكة فقه التنزيل
للنص على الواقع ،لذلك فاالجتهاد يعني :تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة (سبب
النزول وسبب الورود) ،واالمتداد به ،وتعدية الرؤية ،وامتالك القدرة في التنزيل على الواقع،
بواسطة العقل القائس ..نقول :بأن العقل الذي أطلقه اإلسالم لتحقيق خلود النص ،باالجتهاد ،وفسح
أمامه آفاقًا رحبة لالمتداد به ،له أن يمتد ،ويمتد ،ويلمح آفاقًا بعيدة ،ويولد أحكامًا وروًئ ،ويضع من
البرامج ،في ضوء قيم ،ومقاصد النص اإللهي ،ما شاء اهلل له االمتداد ،ليحقق االستجابة لكل جديد،
ومتغير ..لكن ال يجوز للعقل ،أو االجتهاد ،والتفسير بالرأي ،بحال من األحوال ،أن يخرج ،أو يغير،
أو يلغي ،اإلطار العام للتفسير بالمأثور ،أو البيان النبوي ،وإ ال كان الخروج ،والتأويل الفاسد،
وتحريف الكلم عن مواضعه.
لذلك يمكن أن نقول :إن البيان النبوي ،أو التفسير بالمأثور( ،الذي يشكل سبب النزول والورود
وسيلته المعينة) ،يشكل اإلطار المرجعي ،والضابط المنهجي ،والنسق المعرفي ،ألي بيان أو
استنباط ،أو تفسير بالرأي للنص ،كما يعتبر من عواصم العقل من التجاوز ،واالنحراف ،واإللغاء،
والقطيعة ،أو التقطيع للنص ..فللمجتهد أن يكتشف آفاقًا وأبعادًا لمقاصد النص ،ومراميه ،في ضوء
الظروف المستجدة ،لكن ليس له أن يتجاوز البيان النبوي ،أو يخرج عليه ،باسم التفسير ،أو التأويل،
الذي يقود إذا ما تجاوز المأثور ،إلى التحريف في المقاصد ،واالنحراف في السلوك.
وقد يكون -وألمر يريده اهلل -انقطاع استمرار الرشد الكامل ،بعد جيل القدوة ،الذي أوصى الرسول
صلى اهلل عليه وسلم باتباع سنته ،بقوله…( :فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،
وتمسكوا بها ،وعضوا عليها بالنواجذ… )(رواه أحمد)؛ ليبقى هذا الجيل وحده ،هو محل االقتداء
والتأسي ،وال تحسب الممارسات التاريخية لألفراد والحكام ،على اإلسالم ،وذلك حتى ال يصبح
التاريخ ،أو األشخاص ،هم المعيار.
لذلك كان التفسير بالمأثور ،أو فقه التنزيل على الواقع ،في السنة والسيرة ،وفهم خير القرون ،هو
المأمن ،والعاصم ،من التأويل الباطني ،أو اإلشاري ،أو العرفاني ،الذي يخرج عن كل الضوابط
المنهجية ،ويعتمد التذوق الذاتي ،وبذلك يصير لكل إنسان كتاب وسنة.
ولعل مفرق الطريق ،أو نقطة االنطالق للتفسير العرفاني الصوفي والباطني غير المنضبط ،تبدأ من
توهين إسناد السنة ،أو البيان النبوي.
ونحن بسبيل الكالم عن التفسير بالمأثور ،وأهمية اعتماده كإطار مرجعي ،في النظر العقلي،
والتفسير بالرأي ،ال بد أن نذكر أن الكثير من أصحاب التفسير الباطني ،والصوفي ،واإلشاري ،أو
بكلمة مختصرة :التفسير العرفاني ،حاولوا توهين إسناد ومتون بعض األحاديث المبينة للقرآن،
ليكون ذلك مندوحة لهم ،للخروج ،والرفض ،والتجاوز ،وإ ذا لم يجدوا في إسنادها ومتونها وهنًا،
ردوها على أنها من خبر اآلحاد ،الذي يفيد الظن ،وال يحقق علم اليقين .مع أن المعتمد عند جميع
العلماء ،أن أحاديث اآلحاد ،وأخبار اآلحاد ،يؤخذ بها في أحكام الفروع ،وفي بيان آيات القرآن ،أي
في التفسير بالمأثور ،حتى في مجال بيان آيات العقائد ،عند من لم يعتمدها في إثبات العقائد ..وقد
يكون األمر المستغرب حًقا ،أن ُتلغى أحاديث اآلحاد ،ألنها تفيد الظن -وقد توفر لها صحة النقل،
بشروطه المعروفة عن المعصوم -باجتهاد ال يخرج عن نطاق الظن ،من شخص ال عصمة له ،أي
يرد الوارد عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم -ألن سند نقله ،ال يفيد اليقين -باجتهاد ونظر عقلي،
ممن يجري عليه الخطأ والصواب -بأصل الخلق -حيث األصل في اجتهاده الظن ،وعدم اليقين.
وأسباب النزول والورود -وهي من البيان النبوي -هي أشبه ما تكون بوسائل إيضاح ،لتنزيل النص
على الواقع ،ولتكون أداة معينة على التنزيل في كل زمان ومكان .لكن هذه الوسائل من أسباب
النزول والورود ،ال تعتبر قيودًا للنص ،تجمده في نطاق المناسبة ،بمقدار ما تمنح من فقه للتنزيل
على الواقع ،ألن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب -كما أسلفنا -ذلك أن أسباب النزول
والورود ،أو البيان النبوي ،هو أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية ،التي تعتبر األساس
لالنطالق منها ،والتصنيع في ضوئها ،واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة ،داخل المجتمع،
التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبرية ،وال تخرج عليها.
وقد يكون من المفيد ،أن نتوقف قليًال ،عند قضية فقه التنزيل ،التي يمكن أن نعبر عنها :باالجتهاد في
مورد النص..واالجتهاد في مورد النص الذي نعنيه ،أمر آخر غير االجتهاد المرفوض ،حيث ال
اجتهاد مع النص ،على خالف ما هو شائع من أنه ال اجتهاد في مورد النص ،خاصة إذا اعتبرنا أن
مورد النص ،هو محله ،وأن هذا المحل ،ال بد أن تتوفر فيه استطاعات معينة ،ليصبح أهًال ومحًال
لتنزيل الحكم -النص -عليه ،ذلك أن فقه المحل ،يعتبر من األهمية بمكان ،إلى جانب فقه النص،
أو حفظ النص ..فحفظ النص ،أو حمله ،أو فقه حكمه ،يمثل نصف المطلوب ،أو نصف الحقيقة،
ويبقى النصف اآلخر ،وهو فقه المحل ،أو االجتهاد في معرفة استطاعة المحل ،ومدى إمكانية
حصول التكليف ،وتنزيل النص عليه ،وهي قضية على غاية األهمية ،لو تأملنا في الفقه النبوي ،و
فقه خير القرون ،لوجدنا أنها مدار ومدى التكليف كله ،وقد تنبه ألهميتها بعض علمائنا بشكل
خاص ..وقد يكون من المفيد استدعاء بعض ما قدموه إلى ساحة االهتمام المعاصر :يقول اإلمام
الشاطبي رحمه اهلل (المتوفى عام 790هـ)" :ليس كل ما ُيعلم مما هو حقُ ،يطلب نشُر ه ،وإ ن كان من
علم الشريعة ،ومما يفيد علمًا باألحكام ،بل ذلك ينقسم :منه ما هو مطلوب النشر ،وهو غالب على
الشريعة ،ومنه ما ال يطلب نشره بإطالق ،أو ال يطلب نشره بالنسبة إلى حال ،أو وقت ،أو شخص ".
ويضيف موضحًا ،ومفصًال ،ومنبهًا إلى المنهج العلمي ،في التعامل مع أحكام الشرع ،وتوجيهاته،
وقضايا األفراد والمجتمع ،فيقول" :ليس كُّل علٍم ُيبث وينشر ،وإ ن كان حقًا ،وقد أخبر مالك عن
نفسه ،أنه عنده أحاديث ،وعلمًا ،ما تكلم فيها ،وال حَّد ث بها ،وكان يكره الكالم ،فيما ليس تحته عمل،
فتنبه لهذا… وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة ،فإن صحت في ميزانها ،فانظر مآلها،
بالنسبة إلى حال الزمان وأهله ،فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ،فاعرضها في ذهنك على العقول ،فإن
قبلتها ،فلك أن تتكلم فيها ،إما على العموم ،إن كانت مما تقبلها العقول ،وإ ما على الخصوص ،إن
كانت غير الئقة بالعموم ..وإ ن لم يكن لمسألتك هذا المساغ ،فالسكوت عنها هو الجاري ،وفق
المصلحة الشرعية والعقلية" (الموافقات .)190-4/189
فاألمر ال يتعلق فقط بمعرفة الحكم ،وما يطلبه الشرع منا ،والتأكد منه ،واالنطالق إلنجازه ،بل يتعلق
أيضًا ،باستكمال أبعاد أخرى تخص المحل ومساحة التنفيذ ،والتنزيل على الواقع وكيفياته ،ومنهجية
ومرحلية اإلنجاز ،خصوصًا في مراحل انتقاص آثار النبوة في الخلق ،وضعف صلة الناس باإلسالم
فهًم ا وممارسة ،حيث يحتاج االجتهاد إلى بصيرة نافذة ،وعقل راشد ،وفقه نضيج ،يمتلك مفاتيح
المعادالت المركبة ،التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل ،والصواب والخطأ ،والمصلحة والمفسدة،
وهو ما عناه الفقهاء بقولهم" :ليس الفقيه هو من يعرف :بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة ،بل الفقيه هو
الذي يعرف :خير الخيرين ،وشر الشرين".
فالَع اِلُم كما يقول اإلمام ابن تيمية رحمه اهلل ( 728-661هـ)" :تارة يأمر ،وتارة ينهى ،وتارة يبيح،
وتارة يسكت ،عن األمر والنهي ،أو اإلحاطة ..كما قيل :إن من المسائل مسائل جوابها السكوت ،كما
سكت الشارع في أول األمر ،عن األمر بأشياء ،حتى عال اإلسالم وظهر.
فالَع اِلُم ،في البالغ والبيان كذلك ،قد يؤخر البيان والبالغ ألشياء ،إلى وقت التمكن ،كما أخر اهلل
سبحانه إنزال آيات ،وبيان أحكام ،إلى وقت تمكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى بيانها.
فالمحيي للدين ،والمجدد للسنة ،ال يبِّلغ إال ما أمكن علمه ،والعمل به ،كما أن الداخل في االسالم ،ال
يمكن حين دخوله ،أن ُي َلّقَن جميع شرائعه ،ويؤمر بها كلها ،وكذلك التائب من الذنوب ،والمتعلم،
والمسترشد ،ال يمكن أول األمر ،أن يؤمر بجميع الدين ،ويذكر له جميع العلم ،فإنه ال يطيق ذلك،
وإ ن لم يطقه ،لم يكن واجًبا عليه في هذه الحال ،وإ ذا لم يكن واجبًا ،لم يكن للعالم واألمير أن يوجبه
عليه ابتداًء ،بل يعفو عن األمر والنهي ،بما ال يمكن علمه وعمله ،إلى وقت اإلمكان ،كما عفا رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم عما عفا عنه ،إلى وقت بيانه ،وال يكون ذلك من باب إقرار المحرمات،
وترك األمر بالواجبات ،ألن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل ..ومن هنا يتبين سقوط
كثير من هذه األشياء ،وإ ن كانت واجبة ،أو محرمة في ا ألصل ،لعدم إمكان البالغ ،الذي تقوم به
حجة اهلل ،في الوجوب أو التحريم ،فإن العجز مسقط لألمر والنهي ،وإ ن كان في األصل" (مجموعة
الفتاوى .)60-20/58
وقد تكون الحكمة من أن القرآن ،جاء ترتيب آياته وسوره توقيفًيا من اهلل ،ولم يرتب بحسب تاريخ
وأسباب النزول -واهلل أعلم -إنما هي لتحقيق الخلود ،وتحرير النص اإللهي الخاتم ،من قيد الزمان
والمكان والمناسبة ،وتقديم الرؤية الشاملة ،التي تصلح لكل األحوال ،واألزمان ،واألماكن،
والمتغيرات ،وبذلك يمكن تنزيل أحكامه على الواقع ،في ضوء استطاعاته وظروفه ،دون التجمد
على حال واحدة ،بحيث يصبح االجتهاد المطلوب :أين يكون موقع الحاضر -من خالل ظروفه،
واستطاعاته -من الرؤية الشاملة؟ وما هي األحكام التي تناسبه في هذه المرحلة ،في إطار هذه
الرؤية؟
لذلك فقد يكون فقه المحل ،وما يتنزل عليه من األحكام ،بحسب استطاعته ،من أهم األمور المطلوبة
للفقيه المسلم اليوم ،ذلك أن الكثير من النصوص في الكتاب والسنة ،أحاطت بها ظروف ،وشروط،
ومناسبات ،ال بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع .ولعلي أعتبر سبب النزول،
وسبب الورود ،نوًع ا من فقه المحل ،وإ عانة للمجتهد على إدراك وأهمية توفر الشروط والظروف
نفسها ،للتنزيل.
فعندما نهى الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن ادخار لحوم األضاحي -إذا لم نعلم السبب -قد نقع
في مشكلة تأبيد التحريم ،في األحوال كلها ،بينما لو علمنا سبب الورود ،ندرك أن التحريم كان بسبب
طروء الفقر" :للدافة" ،ثم لما انتهت الحال التي عليها الناس ،عاد الحل ،وُس مح باألكل واالدخار بقوله
صلى اهلل عليه وسلم" :إنما نهيتكم -أي عن أكل لحوم األضاحي بعد ثالث -من أجل الدافة التي
دفت ،فكلوا ،واّد خرو ،وتصدقوا" (رواه مسلم) وقوله( :كلوا وأطعموا واّد خروا ،فإن ذلك العام -أي
العام الذي نهى فيه عن االدخار -كان بالناس جهد ،فأردت أن تعينوا فيها )(رواه البخاري).
إن هذا الفهم للمحل واستطاعته ،وظروفه ،الذي يمنحه لنا فقه سبب النزول والورود ،يدفعنا قبل
تنزيل األحكام على الواقع ،إلى فهم ظروف وشروط الواقع ،وهذا هو االجتهاد المطلوب في مورد
النص ،ومعرفة مدى استطاعته ،وحدود تكليفه.
والقضية التي ال بد أن نعرض لها أيًض ا ،هي :أننا أثناء التنزيل للنص على الواقع ،الذي قد يقتضينا:
االستثناء ،أو التأجيل ،أو التدرج في الحكم ،فإن ذلك ال يعني أن هذه الحال التي عليها المحل ،هي
الصورة النهائية ،أو المرحلة النهائية للحكم الشرعي ،وإ نما يعني مرحلة في طريق الترقي،
وتحضير المحل ،ليكون أهًال للحكم النهائي ..والمشكلة كل المشكلة -في نظري -قد تكون في هذا
الفقه الغائب ،الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه (سبب النزول والورود) ،ذلك أن األحكام الشرعية في
الكتاب والسنة ،شاملة لجميع األحوال والظروف ،التي يكون عليها الناس ،حتى يرث اهلل األرض،
ومن عليها ،لكن تبقى المشكلة المطروحة هي :الفقه بكل حالة ،وما يناسبها من األحكام ،في هذه
المرحلة ،وتحضيرها لما بعدها من المراحل ،في طريق التدرج والترقي للوصول إلى الكمال.
فاألحكام الشرعية ،أشبه ما تكون باألدوية المتوفرة ،لكل األدواء الممكنة الوقوع ،والحاالت التي قد
يكون عليها المريض ،لكن تبقى المشكلة ،أو الفقه المطلوب والغائب ،هو :أي دواء من األدوية
يحتاج إليها الحال ،والمرض الذي نعاني منه؟
إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود ،أصاب عملية االجتهاد والتجديد ،أو فقه التنزيل،
في مقاتل ،وجعل الكثير من االجتهادات ،هي أقرب للتجريدات النظرية ،منها إلى البصارة والفقه
العملي الميداني ،وجعلنا ننزل النص ،أو الحكم الشرعي ،على غير محله ،وتوهمنا أن كل حكم،
يصلح لكل األحوال ،أو أنه ينزل بإطالق ،دون مراعاة الشروط والظروف ومالبسات الحال ،حتى
أصبحنا نوقع الّنسخ في غير موقعه ،وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم،
والدعوة ،والبالغ ،ونعطل الكثير من األحكام ،على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع
اإلسالمي األول ،في مراحل تحويله إلى اإلسالم ،ثم تجاوزها إلى ما فوقها ،فأصبحت منسوخة أو
معطلة ،دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة ،يعني خلود المشكالت التي عرضا لها ،والحلول التي
قدماها ،وأن األمة في تاريخها الطويل ،سوف تتعرض لحاالت كثيرة من السقوط والنهوض،
والهزيمة والنصر ،والضعف والقوة ،وأن لكل حالة حكمها ،وفقهها ،وأنه ال يكفي حفظ النصوص،
وفهمها ،بعيًد ا عن أسباب نزولها ،وورودها ،التي تعين على فهم الحال التي تتنزل عليه.
وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان ،وامتالك القدرة على تعدية الرؤية إلى
األشباه والنظائر ،وقياس المستجد ،الذي ال نص فيه ،على المشابه الذي فيه نص وحكم ،في ضوء
مقاصد الدين وكلياته العامة ،بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته ،وقدرته ،وما يالئمه من
النصوص واألحكام ..فالقضية االجتهادية ،ذات أبعاد متعددة ،وحاالت مختلفة.
وقد تكون المشكلة ،أو اإلشكالية ،التي يعاني منها العقل المسلم ،بشكل عام ،أو المعادلة الصعبة ،التي
ال بد من حلها وتصويبها ،حتى يستقيم الحال ،أن الكثير من الذين يفقهون النص ،يجهلون العصر،
وأن جل الذين يفهمون العصر ،يجهلون فقه النص ،وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في
الكتاب والسنة ،إنما يتنزل من خالق اإلنسان ،العالم بأحواله وحاجاته األصلية ،التي فطر عليها ،فإن
فهم العصر ،محل تنزيل الحكم ،هو من فقه الحكم أيًض ا ..ولعلنا نقول :إن فهم أسباب النزول
والورود ،يشكل مدخًال أو منهجا للفقيه والباحث ،إلدراك أهمية فهم العصر ،والظروف والمالبسات
التي تحيط بالحكم الشرعي ،وليس فقط فهم أبعاد النص.
إن فهم العصر ،ال يتأتى إال بإدراك السنن والقوانين االجتماعية ،والتمكن من آليات الفهم االجتماعي،
التي لها علومها ومعارفها ،والتي لم يمتد بها المسلمون باألقدار المطلوبة ،بحيث أصبح خطابهم في
توصيل اإلسالم ،وبيان أحكامه إلى الناس ،يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون ،دون معرفة ما
هو كائن ،وما يناسبه من األحكام في هذه المرحلة ،ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس،
حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون.
وما لم تحل هذه المعادلة في العقل المسلم ،فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط األحكام ،وبعدها عن
مواقع التنزيل.
وهنا أمر آخر ،قد يكون من المفيد التوقف عنده :فلقد بذل علماؤنا وما يزالون ،جهودا فائقة ومتميزة،
في مجال استنباط الحكم الشرعي ،أو الفقه التشريعي ،وكان ميدان اجتهادهم ونظرهم هو آيات
األحكام ،التي ال تزيد عند أكثرهم على خمسمائة آية ،وعلى أحاديث األحكام أيضًا ،وكان نظرهم في
هذه اآليات واألحاديث ،ال يتجاوز بعض مقاصدها وأغراضها في بيان أحكام الحالل والحرام.
ومع تقديرنا لهذا العمل العظيم ،وتأكيدنا ألولويته في النظر العقلي ،والفقهي ،حتى يكون المؤمن على
بينة من أمره ،فيما يفعل وما يدع ،ذلك أن خالصة الشريعة عند علماء األصول ،تكاد تتلخص في
كلمتين :افعل ،أو ال تفعل ،ليطابق سلوك المسلم ،منهج اهلل وهديه؛ نقول :مع تقديرنا لهذا العمل
العظيم ،وما اقتضاه من مناهج في أصول الفقه ،والحديث ،والتفسير ،واللغة ،فإنه يبقى يشكل بعض
مقاصد القرآن والسنة ،ويمثل بعض جوانب الرؤية القرآنية والبيان النبوي.
ولعل السبب في ذلك ،لعل السبب هو أن الجيل األول ،أو المجتمع اإلسالمي األول ،كان يتمثل عملـَّيا
الرؤية القرآنية الشاملة ،في تصوره ،وسلوكه ،ولم يكن بحاجة إلى االجتهاد ،وتوليد القواعد والمناهج
والعلوم في شعب المعرفة المختلفة ،أو في الميادين المعرفية األخرى ،االجتماعية ،والسياسية،
واألخالقية ،والتربوية ،وما إلى ذلك ،كحاجته إلى فقه الحالل والحرام.
وكم كان اإلنسان يتمنى أن يتوجه االجتهاد ،وتؤصل مناهجه أيضًا ،في ميادين الحياة المختلفة ،وال
يقتصر على ميدان الفقه التشريعي ..كم كان اإلنسان يتمنى أن تتوجه االجتهادات إلى إنتاج فقه
تربوي ،وفقه اجتماعي ،وفقه سياسي ،وفقه اقتصادي ،وفقه أخالقي .أو بكلمة مختصرة( :فقه
حضاري) بشكل عام ،وأن تكون آيات القرآن واألحاديث كلها محًال لالستنباط واالجتهاد ،وأال
يقتصر على بعض المقاصد ،أو بعض اآليات واألحاديث ..فبمقدار ما نعتقد أن الفقه التشريعي،
يشكل ضرورة وحاجة ودليال لسلوك اإلنسان ،بمقدار ما نعتقد أن بناء اإلنسان ،وتشكيله طبقًا للرؤية
القرآنية ،في التربية ،واالجتماع ،والسياسة ،وتحضيره ليصبح محًال للحكم التشريعي ،ضروري
أيضًا ،ذلك أن االعتناء بتوليد األحكام التشريعية فقط ،بعيًد ا عن بناء اإلنسان ،محل الحكم ،واالمتداد
بشعب المعارف المختلفة ،قد يفتقد قيمته العملية إذا اقتصرنا عليه ..فال قيمة للحكم إذا افتقدنا محله،
الذي هو اإلنسان.
إن االهتمام بالحكم التشريعي ،المعرفة التشريعية ،أو اعتبار أن القرآن والسنة مصدر للفقه التشريعي
فقط ،يشكل خلًال ال بد من استدراكه ،ببذل الجهود العتبار القرآن وبيانه الخالد ،مصدرا للمعرفة
بشكل عام ،أو مصدًر ا لشعب المعرفة جميعا ،ذلك أن آيات وأحاديث األحكام التشريعية ،هي بعض
آيات القرآن وبيانه ،وأن األحكام التشريعية هي بعض مقاصد آيات وأحاديث األحكام.
إن هذا التبعيض في التعامل مع آيات القرآن عمليا ،وترك بقية آياته ومقاصدها للتبرك ،أقول :إن
هذا التبعيض في التعامل ،وال أقول في اإليمان بآيات القرآن كلها ،أورثنا الكثير من الخزي،
والتخاذل ،والتخلف عمليًا.
إن مجتمعات األنبياء ،وما كانت تعانيه من أمراض وعلل اجتماعية ،وما كان يشيع فيها من مسالك
وأخالق ،ومواقف الكبراء وأتباعهم ،من دعوة األنبياء ،يعتبر منجمًا ال ينضب للفقه االجتماعي ،أو
لعلم االجتماع ..كما أن السنن التي أشار إليها القرآن الكريم ،والحديث الشريف ،واستشهد لها من
تاريخ البشرية على األرض ،وطلب من اإلنسان التوغل في التاريخ اإلنساني ،للتأكد من حتميتها،
ونفاذها ،وتحدى بترتب عواقبها نفسها ،إذا توفرت مقدماتها؛ يعتبر من القوانين االجتماعية
الصارمة ،الخالدة في الرؤية القرآنية ،وبيانها النبوي ،والتي ما تزال معطلة في حياة المسلمين..
ولعل الكثير من اإلصابات التي تلحق بنا ،إنما هي بسبب الغفلة عن هذه السنن االجتماعية ،والنفسية،
والمادية ،التي ما تزال تعمل عملها فينا ،دون أن نلتفت إليها ،ونظن أن غاية االجتهاد ،والتأصيل،
والمنهجية ،هي في الوصول إلى الفقه التشريعي ،أو االقتصار على المطالبة بتطبيق الشريعة فقط.
إن الكثير من المخاطر واإلصابات الفكرية ،أو الغزو الثقافي ألمتنا ،إنما جاء بسبب منا ،ألننا توقفنا
عن االمتداد بالكثير من شعب المعرفة ،التي تمنحها الرؤية القرآنية والحديثية ،في المجاالت
االجتماعية ،والسياسية ،والنفسية ،والتربوية ،واألخالقية ،ولم نؤصل لها المناهج واألصول،
ونستنبط قوانينها أو نظرياتها من مصدرها في الكتاب والسنة.
إن توقفنا في ذلك ،أحدث فراًغ ا مخيًفا ،سمح بامتداد المناهج واآلليات والنظم المعرفية الغربية،
وطغيانها على رؤيتنا القرآنية ،ومرجعيتنا اإلسالمية ،ولسوف تستمر هذه اإلصابات ،وتمتد،
وتتأصل ،وتتجذر في مجتمعنا ،ما لم نمتلك القدرة على جعل الكتاب والسنة مصدرًا للمعرفة بشكل
عام ،مصدًر ا للفقه التربوي ،والفقه السياسي ،والفقه االجتماعي ،واألخالقي ..إلخ ،ونحسن التوجه
صوب اإلنسان ،محل الحكم ،بالقدر نفسه ،أو يزيد ،عن توجهنا إلى تأصيل الحكم واستنباطه.
وقد يكون من البدهيات التي ال بد من إثباتها :أن مدرسة الحديث ،أو أهل األثر واالجتهاد الذي يعتمد
البيان النبوي كإطار مرجعي ،كانوا وما يزالون ،هم السد العظيم ،الذي حال دون تسلل الخرافة
بشكل أعم ،وتفشي البدع ،وتجاوزات الرأي ،وكانوا دائًم ا وراء حركات التصويب ،وإ عادة األمة إلى
الينابيع األولى ،والوقوف بالمرصاد لكل دارس ،أو باحث ،أو عابد ،تضل به الطريق ،إلى درجة لم
يعد أحد معها أن يجرؤ على القول في الدين بدون تحقيق وتثبت.
والحقيقة أن الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء ،وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ ،في حفظ شريعتهم
من الكتاب والسنة ،بما لم تعن به أمة من قبلهم ،حيث حفظوا القرآن ،وكتبوه ،ورووه عن الرسول
صلى اهلل عليه وسلم ،متواتًر ا آية آية ،وكلمة كلمة ،وحرًفا حرًفا ،حتى رووا أوجه نطقه بلهجات
القبائل ،كما حفظوا كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وهو المبلغ عن ربه،
والمبين لشرعه؛ تعتبر مفخرة من مفاخر الحفظ ،.والنقل الثقافي.
لكن على الرغم من القيمة العظيمة ،التي قدمها علماء مصطلح الحديث لتنقية السنة من الدخيل،وما
قام به الباحثون في تحقيقهم للنصوص ونشرهم للمخطوطات ،إال أن هذه الجهود إذا توقفنا عندها،
تبقى تمثل نصف الطريق إلى المطلوب ،أو تشكل الوسيلة والمقدمة ،التي ال بد من توفيرها ،لتبدأ
المرحلة األهم ،والتي تشكل المقصد والنتيجة ،وهي فقه هذه النصوص ،واإلفادة منها ،في اإلجابة
عن أسئلة الحاضر ،واستشراف وتشكيل المستقبل ،واكتشاف أسباب السقوط والنهوض ،وإ عادة
البناء.
إن حامل الفقه ،وناقل الفقه ،ليس بالضرورة أن يكون فقيًها ،فالرسول صلى اهلل عليه وسلم يقول:
"نّض ر اهلل عبًد ا سمع مقالتي فوعاها ثم بّلغها عني ،فُر ّب حامل فقٍه غير فقيه ،وُر ّب حامل فقه إلى
من هو أفقه منه " (رواه ابن ماجة -وهو صحيح) ..فالحمل ،والتوصيل ،والنقل الثقافي ،ال بد منه،
ألنه يشكل المقدمة واألساس ،لكن ال قيمة كاملة لهذا الحمل ،إذا لم يحقق الفقه ،والحل المطلوب
لمشكالت الحاضر.
وبعـ ــد:
فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة ،قد يتميز بطبيعته التخصصية الدقيقة ،التي لم يألفها قارئ
السلسلة ،حيث كان خطابنا له ،أو الموقع الذي اخترناه للسلسلة ،مخاطبة المثقف المسلم بشكل عام،
وترك شأن الكتب المتخصصة إلى مجاالتها ،لكن هذا -في نظرنا -ال يمنع ،بين الفترة واألخرى،
من تقديم بعض الكتب التخصصية ،التي تشكل لنا نقاط ارتكاز ،وتسهم ببناء المرجعية ،وتعيد إلى
بيان كيفية التلقي عن الينابيع األولى في الكتاب والسنة ،وتفتح نوافذ على العلوم األصلية ،وتمنح
الضوابط الضرورية ،للحيلولة دون المجازفات ،والجنوح الفكري ،وتكسب االطمئنان إلى مواريثنا
الفكرية ،التي تضمها القيم في الكتاب والسنة ،وتحقق لنا التقوى من الزلل واالنحراف.
المـــقــدمـــة
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك ،ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد ،وبعد:
فقد شغلت بموضوع أسباب ورود الحديث منذ وقت طويل؛ يعود إلى مرحلة الدراسة للماجستير؛ فقد
كانت تتطلب مني تتبع مرويات "معمر بن راشد الصنعاني" في كتب السنة ،باعتباره من أوائل من
جمع العلم؛ ألتعرف على مصادره ،ومنهجه ،وأثره في رواية الحديث من خالل هذه المرويات.
وأتاحت لي هذه الدراسة تأمل مرويات كثيرة ،وجدت بعضها يرتبط ببعضها اآلخر ارتباًطا ال سبيل
إلى حسن الفهم لها جميًع ا ،إال بتجميع هذه الروايات في موضع واحد ،وفي مصنف واحد.
فهو ارتباط السبب بالمسبب أحياًنا ،وارتباط العام بمخصصه أحياًنا ،والمطلق بمقيده ،والسؤال
بجوابه ،والوصف بمالبساته وظروفه ،والحكم بمقاصده.
واستمر البحث والجمع في هذا ،وتأخر إخراج نتائج هذا البحث وصياغته إلى هذا الوقت رغبة في
العثور على ما فقد من جهود مذكورة في هذا الموضوع.
ولما استقر األمر على الجزم (النسبي) بعدم وجود المؤلفات المذكورة اسًم ا وعنواًنا ،لم أجد مبررًا
في تأخير إخراج هذا البحث ،محلًال ما وجدت من مؤلفات في موضوعه ،ومؤسسًا للمنهج الذي أراه
في تقديم مصنفات جديدة ،تأخذ بإيجابيات األعمال السابقة ،وتتجاوز ما يمكن االستغناء عنه من
األمور التي وجدت في بدايات التصنيف في هذا الموضوع.
ورأيت ضرورة التقديم لهذا بفصل تمهيدي ،أعرض فيه أهم األسس في حسن الفهم لألحاديث
النبوية ،والتي تقي من الزلل في التعامل معها .وأتناول منها األساس اللغوي ،والتوثيق ،والجمع بين
األحاديث ،وإ عمال قاعدة النسخ ،والترجيح ووجوهه ،مع تقديم بعض النماذج التي توضح هذا،
لنتناول بعد ذلك بالتفصيل البحث في أسباب ورود الحديث لنتعرف على بداية التأليف في أسباب
الورود ،وارتباط سبب الورود بسبب النزول ،واعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي،
ومعرفة السببين تعين على إدراك حقيقة السبب وأبعاده ،وتزيل اإلشكال في الفهم.
وإ همال أساس من هذه األسس يحدث اضطراًبا في الفهم واختالًفا بين النصوص؛ ليس اختالًفا ذاتيًا
في النصوص ،وإ نما اختالف نشأ من هذا التقصير في التحصيل لدى الناظرين في السنة.
فال يتوقع االختالف والتضاد بين النصوص ،عندما يكون المصدر واحًد ا ،فإذا أضفنا إلى وحدة
المصدر عصمته ألنه من وحي اهلل ،فمحال أن يوجد بينها اختالف (ولو كان من عند غير اهلل لوجدوا
فيه اختالًفا كثيًر ا )(النساء .)82:فاالختالف في نصوص الوحي ،ليس ذاتًيا فيها ،وإ نما هو من
طرف واحد -إن حدث -وهو طرف الناظرين فيها بغير كفاءة ،وسنة النبي صلى اهلل عليه وسلم
من وحي اهلل وتعليمه لنبيه صلى اهلل عليه وسلم ،وبيانه له ،وتشهد بذلك آيات القرآن الكريم (وأنزلنا
إليك الذكر لُتبّين للناس ما ُنِّز ل إليهم )(النحل .)44:وقال تعالىُ( :ثّم إّن علينا بيانه )(القيامة.)19:
فالبيان للقرآن الكريم في سنة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وهذا البيان تكفل به تعليًم ا لرسوله (وعّلمك
ما لم تكن تعلم )(النساء .)113:وحفًظا له (إنا نحن نزلنا الذكر وإ نا له لحافظون )(الحجر.)9:
ولذلك فإن وجود االختالف والتضاد ،ال يتجاوز عقول الناظرين في السنة .والتخلص منه ،يكون
بالوقوف على هذه األسس التي نذكرها في هذا المبحث على سبيل اإلجمال ،مصحوبة بنماذج من
تصحيح الفهم تشهد لسلف هذه األمة ،بالعناية بهذه المسألة لنفرد بعد ذلك بشيء يسير من التفصيل
أساًس ا يحتاج إلى تحليل ما كتب فيه -وهو يسير -وتأسيس منهج نسير عليه ،طلًبا للمزيد من هذه
النماذج ،التي ُع ني فيها بأسباب ورود الحديث .فمن هذه األسس:
األساس اللغـــــوي
وهو األساس األول في فهم النص ،وهو أساس عام لكل نص في كل لغة ،فال يتوقع فهم لمن ال
يعرف لغة "ما" لنص مكتوب بها.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتميز به اللغة العربية -التي نزل بها القرآن الكريم (نزل به الروح األمين
على قلبك لتكون من المنذرين ،بلساٍن عربٍّي ُم بين )(الشعراء .)193:وتكلم بها النبي صلى اهلل عليه
وسلم في بيانه ،وهو أفصح العرب -من أساليب متعددة منها الحقيقة والمجاز ،وما طرأ على
المفردات اللغوية على سعتها من تغير في الدالالت ،وما تتسع له اللغة العربية من االشتقاق ،وغير
ذلك مما تحفل به مراجع اللغة بنحوها وصرفها وفقهها وأساليبها وبالغتها وآدابها -عرفنا كيف
يخطئ في الفهم ،ويقع في التناقض ،من يجهل هذه الجوانب اللغوية في التعامل مع النصوص الواردة
بها ،وأهمها وأشرفها بعد كتاب اهلل تعالى سنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم.
وإ همال هذا األساس يجعلنا كذلك المستشرق الذي فسر كلمة "الطائر" في قوله تعالى( :وكل إنساٍن
ألزمناه طائره في ُعُنقه )(اإلسراء .)13:بأنه العصفور وغيره من الطيور التي عنى بها في حياته.
توثيق النــص
وذلك ألن النصوص الواردة ليست سواء في درجة ثبوتها ونسبتها إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم .
وقد كفانا علماؤنا منذ عصر الصحابة رضوان اهلل عليهم هذا الجانب المعين على التوثيق في جانبي
الرواية؛ أي في جهة السند ،وفي جهة المتن.
وقدمت الدراسات التي تشهد لعلماء الحديث بالسبق والريادة والدقة العلمية في توثيق الروايات،
وتمييز بعضها من بعض ،بالفوارق اليسيرة التي ال يتنبه إليها إال من ُع ني بتحقيق اليقين ،فيما
ينسب إلى الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم ؛ ألنه الدين.
فُنِظ ر إلى اإلسناد على أنه دين ،فلينظر المرء عمن يأخذ دينه ،وقدمت المصنفات في أسماء الرواة
وكناهم وصفاتهم ،بل نظر في تطور أحوالهم خالل سنوات أعمارهم ،وفي شيوخهم وتالميذهم،
ووضع لكل راو لقبه المناسب ،وإ ن اختلفت األنظار إليهم عرف ذلك ،وكيف يكون التعامل مع
الموِّثقين والمجِّر حين ،بل اشتهر من عرف بالتشدد في الحرج والتعديل ،ومن عرف باالعتدال ،أو
التساهل.
ودّو ن كل هذا ،ويسر تصنيفه ،للرجوع إليه عند الحكم على الحديث.
كما فّص ل القول في متن الحديث ،وعالمات قبوله ،وعالمات رّد ه ،وكل ما يتعلق به؛ ألنه الغاية من
السند.
وعرف لكل حديث بسنده ومتنه درجته المطابقة لحاله ،بل عرف للدرجة الواحدة مستويات متفاوتة،
فالحديث الصحيح درجات ،وكذلك الحسن ،بل الضعيف له مستويات.
فإذا لم يحصل الناظر في الحديث هذه المعارف ،كان نظره قاصًر ا ،ووقوعه في الخطأ محققا،
وظهور االختالف والتناقض بين النصوص التي ينظر فيها مؤكًد ا.
وهذا ما جعل بعض المغرضين الذين حرموا المعرفة بهذه المقاييس في التصحيح والتضعيف،
يستشهدون على أفكار سقيمة بروايات ضعيفة أو موضوعة ،وفي مصادر ليست معتبرة عند علماء
الحديث ،ليضربوا بها نصوًص ا صحيحة -أو على األقل -أرجح منها.
ولذلك فإن بداية التعامل مع الروايات تكون بتوثيقها ،وإ عمال المعايير النقدية ألهل الحديث فيها،
ومعرفة كل رواية وما قيل في الحكم عليها.
فطبيعة البيان النبوي ،تقتضي هذا التعدد حسب المبين لهم ،وعلى مقتضى الحال ،الذي يقدم فيه
البيان ،وبجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد ،يتبين للعلماء كيف أحاطت السنة بجوانب
الموضوع ،مما يؤكد جانب الوحي فيها.
فضًال عن أن هذا الجمع بهذا التتبع ،يتيح الفهم الدقيق لكل رواية على حدة ،الرتباطها بموقفها
وظروفها ومالبساتها ،قبل أن تنسجم في بناء الموضوع الواحد .وأقدم لبيان ذلك تطبيقًا لبيان كيفية
الجمع بين األحاديث الواردة في الغنى والفقر ،وما يتصل بذلك من المعاني.
فعندما نقرأ كتاب "الرقاق" من صحيح اإلمام البخاري نجد أنه رحمه اهلل ،جعل منه باًبا بعنوان "فضل
الفقر".
فهل يفهم من هذه الترجمة ،الفضل المطلق للفقر فيرد به ما جاء في مدح الغنى؟ سواء كان هذا المدح
في أحاديث مفردة تحت عناوين أخرى ،أو كانت تحت عناوين تمدح الغنى؟
إن المتأمل في األحاديث التي أوردها اإلمام البخاري تحت هذا العنوان تجيبنا عن هذا التساؤل.
فأول حديث في الباب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال :مَّر رجل على رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،فقال لرجل عنده ،جالس :ما رأيك في هذا؟
فقال :رجل من أشراف الناس ،هذا -واهلل -حرُّي إن خطب أن ينكح ،وإ ن شفع أن ُيشّفع.
قال :فسكت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ثم مر رجل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ما
رأيك في هذا ؟ فقال :يا رسول اهلل هذا رجل من فقراء المسلمين ،هذا حرّي إن خطب أن ال ينكح،
وإ ن شفع أن ال ُيشّفع ،وإ ن قال أن ال يسمع لقوله ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :هذا خير
من ملء األرض مثل هذا".
إن الحديث ال يذكر هذا ،وإ نما يصحح مفاهيم الناس في موازين الرجال ،وأن الفضل قد يكون للرجل
الفقير إذا كان صالًح ا ،وقد يكون للغني إذا كان صالًح ا ،أما اتخاذ الغنى وحده مقياًس ا للتفاضل بين
الناس ،فهذا ما صححه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في هذا الحديث.
والحديث الذي يليه يؤكد هذا المعنى ،قال فيه األعمش :سمعت أبا وائل قالُ :ع دنا خباًبا فقال:
هاجرنا مع النبي صلى اهلل عليه وسلم نريد وجه اهلل ،فوقع أجرنا على اهلل ،فمنا من مضى لم يأخذ من
أجره ،منهم مصعب بن عمير قتل يوم ُأحد ،وترك نمرة ،فإذا عّطينا رأسه بدت رجاله ،وإ ذا غطينا
رجليه بدا رأسه ،فأمرنا النبي صلى اهلل عليه وسلم أن نغطي رأسه ،ونجعل على رجليه من االذخر،
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يْهُد ُبها".
فكالم خباب رضي اهلل عنه في بيان حال المهاجرين وكان منهم أغنياء وفقراء ،والكل يريد وجه اهلل.
وكان منهم مصعب بن عمير رضي اهلل عنه ،وكان مترًفا في الجاهلية يرفل في النعيم ،فلما مَّن اهلل
عليه باإلسالم ،بذل نفسه معلًم ا ومجاهًد ا واستشهد في ُأحد ،وما زال المسلمون في بداية الدعوة ،لم
تفتح لهم الدنيا ،حتى كان حاله أن ُتغطى رجاله باإلذخر .فهذا الذي نّو ر اهلل قلبه باإليمان قد دعاه
حب اهلل ورسوله إلى هذه الحالة ،وأجره على اهلل.
ومن المهاجرين كذلك من َم َّد اهلل في عمره وجمع بين أجر الهجرة والجهاد وما فتح اهلل من الطيبات
فهو "يهدبها" أي يجتني الثمرة التي نضجت وحان قطافها.
ففضيلة مصعب رضي اهلل عنه وسائر المهاجرين رضوان اهلل عليهم بجهادهم وبذلهم مع إيمانهم
وحبهم هلل ولرسوله.
ويدعم هذا التوجيه ما رواه أحمد والبزار ورواتهما ثقات ،وابن حبان في صحيحه عن عبد اهلل بن
عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال" :هل تدرون أول
من يدخل الجنة من خلق اهلل عز وجل؟ قالوا :اهلل ورسوله أعلم ،قال :الفقراء المهاجرون الذين ُتسد
بهم الثغور ،وتتقى بهم المكاره ،ويموت أحدهم وحاجته في صدره ال يستطيع لها قضاء ،فيقول اهلل
عز وجل لمن يشاء من مالئكته :ائتوهم فحيوهم؛ فتقول المالئكة :ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك
من خلقك ،أفتأمرنا أن نأتي هؤالء فنسلم عليهم؟ قال :إنهم كانوا عباًد ا يعبدونني ،وال يشركون بي
شيًئا ،وتسد بهم الثغور ،وتتقى بهم المكاره ،ويموت أحدهم وحاجته في صدره ،ال يستطيع لها قضاء،
قال :فتأتيهم المالئكة عند ذلك ،فيدخلون عليهم من كل باب (سالُم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
)(الرعد.)24:
فأعمال هؤالء وجهادهم وبذلهم وإ يمانهم من ناحية ،وصبرهم ورضاهم على قلة المال ،حتى أن
أحدهم يموت وحاجته في صدره ،ال يستطيع لها قضاء .فالفقر -إذن -ال يكون بإطالقه سبًبا
للفضل ،بل الفقر إن كان المبتلى به صابًر ا راضيًا له درجة صبره ورضاه ،وقد وعد اهلل سبحانه
الصابرين بقوله تعالى( :إنما ُيوّفى الصابرون أجرهم بغير حساب )(الزمر .)10:كما أن الغنى -
كذلك -ال يكون سبًبا للمذمة أو المدح ،إال بما يقترن به من أعمال وأحوال ،فمن ابتلي بالغنى فشكر
وصبر نفسه مع الغنى على ما أمر كان الغنى محموًد ا.
ويتفاضل الناس بما جعله اهلل ميزاًنا للتفاضل (إّن أكرمكم عند اهلل أتقاك م)(الحجرات.)13:
يتضح ذلك -أيًض ا -في رواية أبي ذر رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :يا
أبا ذر ،أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت :نعم يا رسول اهلل ،قال" :فترى قلة المال هو الفقر؟ "قلت:
نعم يا رسول اهلل ،قال" :إنما الغنى غنى القلب ،والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش،
قال" :هل تعرف فالًنا؟ " قلت نعم يا رسول اهلل ،قال" :فكيف تراه ،أو ُتراه؟" قلت :إذا سأل ُأعطي،
وإ ذا حضر ُأدخل ،قال :ثم سألني عن رجل من أهل الصفة ،فقال" :هل تعرف فالًنا؟" قلت :ال واهلل يا
رسول اهلل ،فما زال ُيجّليه وينعته حتى عرفته ،فقلت :قد عرفته يا رسول اهلل ،قال" :فكيف تراه ،أو
ُتراه؟" قلت :هو رجل مسكين من أهل الصفة ،فقال" :هو خير من طالع األرض من اآلخر" .قلت:
يا رسول اهلل ،أفال يعطى من بعض ما ُيعطى اآلخر؟ قال" :إذا ُأعطي خيًر ا فهو أهله ،وإ ذا ُص رف
عنه فقد ٌأعطي حسنة "..
فغنى القلب ،وفقر القلب ،وما يتبعهما من سلوك ،هو أساس الفضل والخيرية ،وعلى ذلك إذا ذكر
الفقراء بالمدح فالتقييد لهذا اإلطالق بما جاء في األحاديث األخرى من مواصفات التفضيل والتقديم،
وكذلك إذا ذكر األغنياء بالذم فإنما بما يصحب الغني من كفران النعمة ،أو استعمالها في الفخر
والكبر ،أو منع ما في المال من حقوق ،أو ما يتبع الكثرة من الحساب؛ من أين اكتسبه ،وفيم أنفقه؟
وعلى هذا يفهم الحديث الثالث ،الذي أورده اإلمام البخاري رحمه اهلل في فضل الفقر ،والذي رواه
عمران بن حصين رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال" :اطلعت على أهل الجنة
فرأيت أكثر أهلها الفقراء ،واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ".
فهو تقرير لما يكون ،وليس لبيان علة دخول الجنة أو النار ،وهو كذلك تحذير من طغيان المال،
وتصبير لمن ابتلوا بالفقر ،حتى يجّد وا في الصالحات ،وتنبيه للنساء حتى ال يكفرن العشير.
وأما الحديثان األخيران في الباب فيتعلقان بحياة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،والتي كان فيها قدوة
للناس أجمعين ،والذي يعنينا -هنا -أنه صلى اهلل عليه وسلم قدوة لألغنياء حيث كان يجتمع أمامه
المال الكثير ،فال يمضي وقت يسير إال وقد وجد المال طريقه إلى الناس.
وهو قدوة للفقراء ،كيف يصبرون ،وكيف يرضون ،فلم يختر لنفسه حياة المترفين ،وفي الوقت نفسه
بّين للناس كيف أحل اهلل الطيبات من الرزق.
فتذكر رواية أنس -في الباب نفسه -رضي اهلل عنه قال" :لم يأكل النبي صلى اهلل عليه وسلم على
"خوان" حتى مات ،وما أكل خبًز ا ُم رقًقا حتى مات ".
والرواية األخيرة في الباب ألم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت" :لقد توفي النبي صلى اهلل
عليه وسلم وما في َر ّفي من شيء يأكله ذو كبد ،إال َش ْطُر شعير في رّف لي ،فأكلت منه حتى طال
َع لّي فكلُته َفَفِنَي ".
فهذا ما اختاره النبي صلى اهلل عليه وسلم من حياة العبودية هلل سبحانه ،وعدم الترف فيجوع يوًم ا
ويشبع يوًم ا؛ ليكون قدوة للجائع كيف يتوجه ويدعو ،وللشبعان كيف يحمد ويشكر.
فأحاديث الباب -إذن -توجه إلى ما يصحب حالة الفقر من الصبر والرضى ،والخفة التي تدفع
إلى الهمة والنشاط في الطاعة والمسارعة في الخيرات.
وقبل أن ندعم هذا التوجيه في أحاديث الباب بما ذكره اإلمام البخاري رحمه اهلل من أحاديث أخرى
في كتب وأبواب سابقة .نذكر ما أحس به الكرماني نحو أحاديث الباب ،فقد ذكر تعليًقا عليها يقول:
واعلم أن األمة طائفتان :القائلون بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ،والقائلون بالعكس.
فالطائفة األولى قالوا :ليس في األحاديث ما يوجب أفضلية الفقراء؛ إذ حديث سهل يحتمل أن يكون
خيًر ا منه لفضيلة أخرى كاإلسالم ،وحديث خباب ليس فيه ما يدل على فضله فضًال عن أفضليته؛ إذ
المقصود منه أن يبقى منهم إلى حين فتح البالد ،ونالوا من الطيبات ،خشوا أن يكون قد عجل لهم أجر
طاعتهم بما نالوا منها ،إذ كانوا على نعيم اآلخرة أحرص.
وحديث عمران يحتمل أن يكون إخباًر ا عن الواقع ،كما يقول أكثر أهل الدنيا الفقراء ،وأما تركه
صلى اهلل عليه وسلم األكل على الخوان؛ فألنه لم يرض أن يستعمل من الطيبات ،وكذلك حديث
عائشة رضي اهلل عنها.
ثم إنه معارض باستعاذته صلى اهلل عليه وسلم من الفقر ،وبقوله تعالى" :ترك خيًر ا" :أي ماًال ،
وبقوله تعالى( :ووجدك عائًال فأغنى )(الضحى ،)8:وبأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توفي في
أكمل حاالته وهو موسر بما أفاء اهلل عليه ،وبأن الغنى وصف للحق ،والفقر وصف للخلق.
فأجابت الطائفة األخرى بأن السياق يدل على الترجيح للفقراء؛ إذ الترجيح باإلسالم ونحوه ال حاجة
له إلى البيان ،وبأن من لم ينقص من أجره شيء في الدنيا يكون أفضل وأكثر ثواًبا عند اهلل يوم
القيامة ،وبأن اإليماء إلى أن علة دخول الجنة الفقر يشعر بأفضليته ،وأما حكاية ترك النبي صلى اهلل
عليه وسلم فهي دليل لنا ال علينا؛ إذ معناه أنه اختار الفقر ،ليكون يوم القيامة ثوابه أكثر ،وحديث
االستعاذة من الفقر معارض بحديث االستعاذة من الغنى ،وأما اآليتان فنحن ال ننكر أن المال خير،
إنما النزاع في األفضلية ،ال في الفضل ،أو المراد باألغنياء في اآلية الثانية غنى النفس ،وأما قصة
وفاته فال نسلم اإليسار إذ كان ما أفاء اهلل صدقة ،وكان درعه رهنا عند يهودي بقليل من الشعير،
وأما غنى اهلل سبحانه وتعالى ،فليس بمعنى الذي نحن فيه فليس من البحث" ،والكرماني رحمه اهلل
عرض قول الطائفتين دون أن يذكر ترجيًح ا لقول طائفة على أخرى.
إال أن قول الطائفة الثانية فيه نظر يجعل الطائفة األولى أرجح في قولها لموافقة النصوص المجموعة
في الموضوع.
فالسياق ليس فيه داللة على ترجيح الفقراء بسبب الفقر ،وكما سنرى في سائر النصوص ،أن علة
الفقر ليست هي المعتبرة وحدها ،وإ ال فما قيمة فقر بغير رضى ،أو صبر أو طاعة؟
ثم إن فضل اهلل على عباده في الدنيا بالرزق الحالل والطيبات ليس معناه قلة في ذلك باآلخرة فدعاء
المؤمنين( :ربنا آتنا في الدنيا حسنًة وفي اآلخرة حسنًة وقنا عذاب النار )(البقرة .)201:ويقول اهلل
تعالى( :قل من حرم زينة اهلل التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة
الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك ُنفصل اآليات لقوم يعلمون )(األعراف .)32:وعلة دخول الجنة
وجعلها في الفقر مجرًد ا ال دليل عليه ،بل النصوص متضافرة بخالف ذلك.
وأما اختيار النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فقد سبق اإلشارة إلى ارتباط ذلك بالقدوة لجميع األمة فقيرها
وغنيها ،كيف يكون حاله مع الغنى ،وكيف يكون حاله مع الفقر ،واالستعاذة في الحالتين إنما هي
استعاذة من الغنى المطغي ،فالغنى مع الطغيان مذموم ،كما أن الفقر غير مرغوب ،وإ ذا كان الدافع -
كما يرى أصحاب هذا القول -طلب المزيد من الحسنات ،فإن الغني الشاكر ،يستطيع أن يفعل بالمال
الصالح ما ال يستطيعه الفقير ،ولذلك جاء في الحديث (ذهب أهل الدثور باألجور ) ،وسيأتي هذا
الحديث بعد قليل.
فاألفضلية في نهاية األمر ،تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن ،وليس األمر على إطالق
أفضلية الفقر.
والذي يدعم هذا التوجيه ،تصنيف اإلمام البخاري رحمه اهلل واختياره لألحاديث قبل هذا الباب،
ويكفي أن نعرض بعض هذه االختيارات.
ففي كتاب الدعوات :باب "الدعاء بعد الصالة" عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قالوا :يا رسول اهلل
ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم ،قال :كيف ذاك ،قال :صلوا كما صلينا ،وجاهدوا كما
جاهدنا ،وأنفقوا من فضول أموالهم ،وليست لنا أموال ،قال :أفال أخبركم بأمر تدركون من كان
قبلكم ،وتسبقون من جاء بعدكم ،وال يأتي أحد بمثل ما جئتم إال من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل
صالة عشًر ا ،وتحمدون عشًر ا ،وتكبرون عشًر ا ".
ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال عندما يكون في أيد صالحة ،فليس الغنى وحده سبًبا للسبق ،كما أن
الفقر ليس سبًبا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتالئه بالفقر أن يتدارك األمر ،وأن يدرك األجر
بالتسبيح والتحميد والتكبير ُد بر كل صالة -كما جاء في الحديث.-
وفي هذا جْب ر لقلوب الفقراء ،وأنه ال يفوتهم األجر بسبب الفقر .فالدثور :هي األموال الكثيرة.
وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم مقترن باألعمال ،وذكر منها ،الصالة ،والجهاد،
والزيادة التي تناسب حالهم ،أنهم ينفقون من فضول أموالهم .وُع وض الفقراء -فضًال من اهلل-
بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه -كذلك -في هذا الذكر.
فالغنى والفقر -إًذ ا -ليسا مادة تفضيل بإطالق ،بل بما يصحبهما من قرائن ،وال شك أن من يملك
أكثر يستطيع أن يعمل أكثر.
ولذلك فإن أهل الدثور يستطيعون -أيًض ا -مشاركة الفقراء في األذكار بعد الصالة ،ويكون ذلك من
فضل اهلل الذي يؤتيه من يشاء.
وفي الكتاب نفسه في باب "دعوة النبي صلى اهلل عليه وسلم لخادمه بطول العمر ،وبكثرة ماله" نجد
حديث أنس رضي اهلل عنه قال :قالت أمي :يا رسول اهلل خادمك أنس ادع اهلل له ،قال" :اللهم أكثر
ماله وولده ،وبارك له فيما أعطيته ".
فأم أنس وهي الرميصاء األنصارية المشهورة بأم سليم رضي اهلل عنها ،تطلب من الرسول صلى
اهلل عليه وسلم أن يدعوا ألنس ،فيدعو له النبي صلى اهلل عليه وسلم بما هو محبوب للناس من تكثير
المال ،والولد ،والبركة فيما يعطي اهلل سبحانه ،يقول الكرماني :وقد استجاب اهلل دعاءه ،فيه بحيث
صار أكثر أصحابه ماًال فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين ،وأكثر ولًد ا ،فكان يطوف بالبيت،
ومعه أكثر من سبعين نفًس ا من نسله.
ودعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم دليل على محبة هذا المدعو به عند اهلل وعند رسوله؛ عندما يكون
لمثل أنس رضي اهلل عنه.
ومما يدعم كذلك وجهتنا في النظر إلى الغنى والفقر ،وأن المدح والذم يرتبط بالقرائن ،ما أورده
اإلمام البخاري في كتاب الدعوات -كذلك -وفي باب التعوذ من المأثم والمغرم.
فقد أخرج عن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها ،أن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يقول" :اللهم
إني أعوذ بك من الكسل ،والهرم ،والمأثم ،والمغرم؛ ومن فتنة القبر ،وعذاب القبر ،ومن فتنة النار
وعذاب النار ،ومن شر فتنة الغنى ،وأعوذ بك من فتنة الفقر ،وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال،
اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد ،ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب األبيض من
الدنس ،وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ".
فاالستعاذة في هذا من شر فتنة الغنى ،ومن فتنة الفقر ،فإذا كانت الفتنة في الغنى أو الفقر فهي مما
يستعاذ باهلل منها ،وهذا تأكيد لهذه القرينة فيذم الغنى بها ،وكذلك الفقر.
كما جعل اإلمام البخاري رحمه اهلل بابًا ترجم له بقوله" :االستعاذة من فتنة الغنى" وأتبعه بباب آخر
في "التعوذ من فتنة الفقر" أورد في األول عن هشام عن أبيه عن خاله أن النبي صلى اهلل عليه وسلم
كان يتعوذ" :اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ،ومن عذاب النار ،وأعوذ بك من فتنة القبر ،وأعوذ بك
من عذاب القبر ،وأعوذ بك من فتنة الغنى ،وأعوذ بك من فتنة الفقر ،وأعوذ بك من فتنة المسيح
الدجال ".
كما يورد في الباب الثاني حديث السيدة عائشة رضي اهلل عنها ،وقد سبق ذكره وفيه" :وشر فتنة
الغنى ،وشر فتنة الفقر".
كما يكرر اإلمام البخاري رحمه اهلل باًبا ذكره من قبل ،ولكن برز في ترجمته -هنا -المعنى المراد
فيقول "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة" .ويورد فيه حديث أم سليم رضي اهلل عنها ودعاء الرسول
صلى اهلل عليه وسلم ألنس رضي اهلل عنه بكثرة المال والولد والبركة".
وأما في كتاب الرقاق فقد ترجم اإلمام البخاري رحمه اهلل ألبواب كثيرة تؤدي إلى المعنى نفسه ،وهو
التحذير من االغترار بكثرة المال ،وليس الذم المجرد له ،وقد ذكرنا بعضها في المباحث السابقة،
ونذكر ما لم يرد من قبل،فمن ذلك:
باب (مثل الدنيا في اآلخرة) وقوله تعالى( :اعلموا أّنما الحياة الدنيا لعب ولهُو وزينة وتفاخر بينكم
وتكاثر في األموال واألوالد كمثل غيٍث أعجب الُك فاَر نباُته ثم يهيج فتراه مصفًّر ا ثم يكون حطاًم ا،
وفي اآلخرة عذاٌب شديد ومغفرٌة من اهلل ورضواٌن ،وما الحياة الدنيا إال متاُع الغرو ر)(الحديد.)20:
وفي باب "ما ُيحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" يورد أحاديث منها :عن أبي سعيد قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ( :إن أكثر ما أخاف عليكم ما ُيخرج اهلل لكم من بركات األرض ،قيل :وما
بركات األرض؟ قال :زهرة الدنيا ).
فقال له رجل :هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى ظننا أنه ُيْن زل عليه ،ثم
جعل يمسح عن جبينه فقال :أين السائل ،قال :أنا .قال أبو سعيد :لقد حمدناه حين طلع ذلك ،قال :ال
يأتي الخير إال بالخير ،إن هذا المال خضرٌة حلوة ،وإ ن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا ،أو ُي لم إال آكلة
الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت ،ثم عادت فأكلت،
وإ ن هذا المال حلوة من أخذه بحقه ،ووضعه في حقه ،فنعم المعونُة هو ،ومن أخذه بغير حقه ،كان
كالذي يأكل وال يشبع".
فالتحذير -هنا -من التنافس في التكاثر مع عدم الحذر ،وكان هذا المعنى في بيان الخوف مما يخرج
من بركات األرض ،ووصف هذا بأنه خير ،وكان سؤال الصحابي :وهل يأتي الخير بالشر؛ أي هل
تصير النعمة عقوبة ،وكان سؤال السائل سبًبا في هذه اإلفادة ،فكان السائل في موضع الحمد ،بعد أن
خشي الصحابة أن يكون صمت النبي صلى اهلل عليه وسلم دليال على مذمة السؤال.
وإ جابة النبي صلى اهلل عليه وسلم :أن الخير ال يأتي إال بالخير ،وما قضى اهلل أن يكون خيًر ا ،ال بد
أن يكون ،والذي يخاف عليه هو التصرف فيه زائًد ا على الكفاية ،وال يتعلق ذلك بالنعمة نفسها،
وضرب لذلك المثل" :إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا" .والمعنى :أن نبات الربيع وخضره يقتل
حبطا بالتخمة وانتفاخ البطن لكثرة األكل ،أو يقارب القتل ،إال إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو
إليه الحاجة ،وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه ال يضره.
وهكذا "المال" هو كنبات الربيع ،مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه ،فمنهم :من يستكثر منه،
ويستغرق فيه ،غير صارف له في وجوهه ،فهذا يهلكه ،أو يقارب إهالكه.
ومنهم :من يقتصد فيه فال يأخذ إال يسيًر ا ،وإ ن أخذ كثيًر ا فرقه في وجوهه ،كما تثلط الدابة فهذا ال
يضره.
فمن يأخذ ماًال بحقه يبارك له فيه ،ومن يأخذ ماًال بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل وال يشبع.
أحدهما :للمكثر من الجمع ،المانع من الحق ،وإ ليه اإلشارة بقوله صلى اهلل عليه وسلم " :إن كل ما
أنبت الربيع يقتل حبطا "؛ ألن الربيع ينبت أجرار البقول ،فتستكثر منه الدابة حتى تهلك.
والثاني :للمقتصد ،وإ ليه اإلشارة بقوله صلى اهلل عليه وسلم " :إال آكلة الخضر " ألن الخضر ليس
من أجرار البقول.
وقال عياض :ضرب صلى اهلل عليه وسلم مثًال بحالتي المقتصد والمكثر ،فكأنه قال صلى اهلل عليه
وسلم :أنتم تقولون :إن نبات الربيع خير ،وبه قوام الحيوان ،وليس هو كذلك مطلًقا ،بل منه ما يقتل،
أو يقارب القتل ،فحالة المبطون المتخوم ،كحالة من يجمع المال ،وال يصرفه في وجوهه ،فأشار
صلى اهلل عليه وسلم إلى أن االعتدال ،والتوسط في الجمع أحسن.
ثم ضرب مثًال لمن ينفعه إكثاره ،وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه
الشرعية .ووجه الشبه :أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط .وهكذا من
يجمعه ثم يصرفه واهلل أعلم.
وفي باب (ما يتقى من فتنة المال) وقوله تعالى( :واعلموا أنما أموالكم وأوالدكم فتنة )( األنفال:
)28يورد اإلمام البخاري رحمه اهلل ما يؤكد أن الذم ال يكون إال بالخروج عن الحق مع المال ،فإذا
كان األصل في عالقة اإلنسان بالمال أن يستخدمه ،وأن ينتفع به ،فإن المذمة عند انقالب الحال،
فيستعبد المال صاحبه ،وعندئذ تكون تعاسته بالمال.
فيروى عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :تعس عبد الدينار
والدرهم والقطيفة والخميصة ،إن ُأعطي رضي ،وإ ن لم ُيعط لم يرض ".
والتعاسة بمعنى الهالك والسقوط ،وعبد الدينار :أي خادمه وطالبه؛ كأنه عبد له ،والقطيفة هي الدثار
المخمل ،والخميصة هي الكساء األسود المربع ،ومعنى ذلك أن الفتنة بالمال أخذت عليه حواسه،
وصار خادًم ا للمال في صورته النقدية ،أو في مظاهره األخرى ومنها الملبوسات.
وفي ظل هذه العبودية للمال يهلك اإلنسان نفسه ،حيث ال يرضى إن لم يعط كما في هذا الحديث،وإ ن
أعطي كذلك لم يرض ،ولم يشبع ،كما سيأتي في الحديث اآلتي من الباب نفسه.
والذي رواه البخاري رحمه اهلل عن ابن عباس رضي اهلل عنهما :يقول :سمعت النبي صلى اهلل عليه
وسلم يقول" :لو كان البن آدم واديان من مال البتغى ثالًثا ،وال يمأل جوف ابن آدم إال التراب،
ويتوب اهلل على من تاب ".
كما يبين البخاري رحمه اهلل موقف صحابي جليل كعمر رضي اهلل عنه من المال وزينته .وأن
اإلنسان ال يستطيع إال أن يفرح بما زينه اهلل لنا ،والمحمود من يجعل الفرحة صحيحة بالتعامل
الصحيح مع المال ،ويدعو اهلل أن يحقق له ذلك.
فيروى في باب "قول النبي صلى اهلل عليه وسلم :هذا المال خضرة حلوة " ،وقال اهلل تعالىُ( :ز ين
للناس حُّب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الَّذ هب والفضة والخيل المسومة
واألنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) قال عمر" :اللهم إنا ال نستطيع إال أن نفرح بما زينته لنا،
اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه".
وفي ارتباط ما يشعر بذم اإلكثار بالقرائن من األعمال نجد -كذلك -في كتاب "الرقاق" باب
" المكثرون هم المقلون" وقوله تعالى( :من كان ُيريد الحياة الدنيا وزينتها ُنوّف إليهم أعمالهم فيها،
وهم فيها ال ُيبخسون ،أولئك الذين ليس لهم في اآلخرة إال النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا
يعملون )(هود .)15،16:يروي اإلمام البخاري رحمه اهلل حديث أبي ذر رضي اهلل عنه قال:
خرجت ليلة من الليالي ،فإذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يمشي وحده ،وليس معه إنسان .قال:
فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد ،قال :فجعلت أمشي في ظل القمر ،فالتفت فرآني فقال :من هذا؟.
قلت :أبو ذر جعلني اهلل فداءك ،قال :يا أبا ذر َتَع اَله ،قال :فمشيت معه ساعة فقال :إن المكثرين هم
المقلون يوم القيامة إال من أعطاه اهلل خيًر ا فنفح فيه يمينه وشماله ،وبين يديه ،ووراءه ،وعمل فيه
خيًر ا… ".
بل نجد من روايات البخاري في كتاب الرقاق باب "قول النبي صلى اهلل عليه وسلم :ما أحب أن لي
مثل أحد ذهًبا" ما يؤكد أنه ال مذمة في الغنى وحده ،بدليل أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم لم يكره،
أو ُيشعر بمذمة من يكون له مثل أحد ذهًبا ،وهذا مال كثير ،ما دام سيفعل مثلما جاء في الحديث الذي
يرويه أبو ذر -أيًض ا -رضي اهلل عنه قال" :كنت أمشي مع النبي صلى اهلل عليه وسلم في حرة
المدينة فاستقبلنا ُأُح ـٌد ،فقال يا أبا ذر قلت :لبيك يا رسول اهلل ،قال" :ما يسرني أن عندي مثل أحد
هذا ذهًبا ،تمضي علي ثالثة وعندي منه ديناُر ،إال شيًئا أرصده لدين ،إال أن أقول به في عباد اهلل
هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ،ثم مشى ،فقال :إن األكثرين هم األقلون يوم القيامة ،إال
من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ،ومن خلفه ،وقليل ما هم… ".
وال يخفى حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على التزام ما يأمر اهلل به نحو هذا المال ،ومداومة
التذكير والتحذير من الفتنة بالمال عند كثرته وتضييع ما يرتبط به من حقوق اهلل في الزكاة
والصدقات ،وفي حقوق العباد من ديون ،فالغنى -إذن -ما دام بحقه في كل مجاالته ،وما دام مقترًنا
بما ال يخرجه عن حقه ،فهو في موضع المحمدة وليس المذمة.
ولذلك يجمع الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم لألمة بين الغنى الحسي المادي ،والغنى النفسي،
الذي يعين على صيانة الحق مع الغنى ،ويجعل اإلمام البخاري رحمه اهلل باًبا لذلك في كتاب الرقاق
بعنوان" :الغنى غنى النفس" وقول اهلل تعالى( :أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين ) إلى قوله
تعالى( :من دون ذلك ُهم لها عاملون )(المؤمنون )63-55:قال ابن عيينة :لم يعملوها ،ال بد من
أن يعملوها":
يقول الكرماني :غرض البخاري من ذكر اآلية أن المال مطلًقا ليس خيًر ا ،وأما كالم سفيان بن
عيينة ،فهو تفسير لقوله تعالى" :ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون " .يروي البخاري رحمه
اهلل في هذا الباب عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال" :ليس الغنى عن
كثرة العرض ،ولكن الغنى غنى النفس ".
والعرض -بفتح الراء -حطام الدنيا ،وبالسكون :المتاع ،يعني :ليس الغنى الحقيقي المعتبر هو من
كثرة المال ،بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا ،ولهذا ترى كثيًر ا من المتمّو لين
فقير النفس مجتهًد ا في الزيادة ،فهو لشدة شرهه ،وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير ،وأما غنى
النفس فهو من باب الرضا بقضاء اهلل تعالى لعلمه أن ما عند اهلل ال ينفد وهو خير له؛ ألن ما قضى به
ألوليائه فهو الخيار.
وبعد تتبعنا ألبواب اإلمام البخاري ،فيما يتصل بالغنى والفقرة ،نرى من حسن صنيع البخاري رحمه
اهلل ،أن يورد األحاديث في أبواب متعددة مقترنة بالترجمة التي تعين على فهم المراد منها ،إال أنه
ينبغي أن تجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد حتى يتسق الفهم لها.
ظهر لنا ذلك من إمساكنا في بداية األمر بباب "فضل الفقر" وتبين لنا -بعد الجمع -المراد من هذا،
وأنه ليس من قبيل المدح المطلق للفقر ،وإ نما يقترن بالفقر أحوال ،تجعل المبتلى به في موضع
الفضل ،والحال نفسه مع الغنى ،فيمكن أن نقول" :فضل الغنى" ولكن ليس بإطالق -أيًض ا -أي إذا
اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد.
وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين األحاديث عند جمعها ،والنظر فيها مجتمعة.
وأما ما جاء في كتب السنة األخرى فكثير ،وفيه ما يشعر بمدح الفقراء ،وذم األغنياء والبعد عنهم.
وهذا يحتاج إلى تدبر النصوص الواردة في ذلك؛ ألن كل رواية فيها ما ينسجم مع النتيجة التي
توصلنا إليها من تتبع أبواب البخاري رحمه اهلل ،فإذا ما جمعت زاد األمر وضوًح ا.
فمثًال توجيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم ألم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها بالكفاف ،وعدم
مجالسة األغنياء ،من باب استمرار القدوة في بيت النبوة ،والذي يشهد المال الكثير ،ويتحقق فيه
معنى الغنى ،ولكن ال يبقي شيًئا من المال ،ألنه يجد طريقه إلى الناس ،ويبقى البيت قدوة للفقراء في
الصبر والرضى ،وقد وجه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى( :يا أيها النبي قل ألزواجك
إن ُك نتن ُتردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسِّر حكن سراًح ا جميًال * وإ ن ُك نتن ُتِر دن اَهلل
ورسولَه والداَر اآلخرة فإن اهلل أعد للمحسنات منكن أجًر ا عظيًم ا )(األحزاب .)29-28:واخترن اهلل
ورسوله والدار اآلخرة ،وكن على هذه الحالة التي ترضي اهلل ورسوله.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إن سرك
اللحوق بي ،فليكفك من الدنيا كزاد الراكب .وإ ياك ومجالسة األغنياء ،وال تستخلقي ثوًبا حتى
ُترِّقعيه " أخرجه الترمذي ،وزاد رزين :قال عروة :فما كانت عائشة تستجّد ثوًبا حتى ترقع ثوبها
وتنكسه ،ولقد جاءها يوًم ا من عند معاوية ثمانون ألًفا فما أمسى عندها درهم ،فقالت جاريتها :فهًال
اشتريت لنا منه بدرهم لحما؟ فقالت :لو ذكرتيني لفعلت".
فهذا صنيع بيت النبوة الذي يملك ،وال يبقي لنفسه شيًئا مما يملك ،بل يخرجه للمحتاجين.
وهذا ما اختاره الرسول الكريم لنفسه ،فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم يقول :اللهم اجعل رزق آل محمد قوًتا ،وفي أخرى "كفاًفا" أخرجه الشيخان والترمذي .و
"الكفاف" الذي ال يفضل عن الحاجة.
وهذا يفسر لنا معنى دعوة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،والتي رواها أنس رضي اهلل عنه قال :كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول" :اللهم أحييني مسكيًنا ،وأمتني مسكيًنا ،واحشرني في زمرة
المساكين يوم القيامة .قالت عائشة :لم يا رسول اهلل؟ قال :إنهم يدخلون الجنة قبل األغنياء أربعين
خريًفا .يا عائشة! ال تردي المسكين ولو بشق تمرة ،يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم ،فإن اهلل
يقربك يوم القيامة " .والمراد بالخريف السنة ،وفي حديث آخر خمسمائة عام .والجمع بينهما :أن
المراد باألربعين تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص ،وبالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على
الغني الراغب ،فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد،
وهذا نسبة األربعين إلى خمسمائة.
يقول ابن األثير :وهذا التقدير وأمثاله ال يجري على لسان الرسول صلى اهلل عليه وسلم ُج زاًفا وال
اتفاًقا ،بل لسر أدركه ،ونسبة أحاط بها علمه ،فإنه ال ينطق عن الهوى .فهذه الدعوة -إذن -من باب
القدوة ،ومن باب جبر القلوب ،وإ عانة أهل البالء بالفقر على الصبر والرضى والسعي الجميل
والتعفف .وأما اإلخبار بالسبق فاالستواء في القرائن الصالحة ،والتي نبه إليها ابن األثير في الجمع
بين األربعين والخمسمائة ،فيكون الزائد من الفقير صبره ،والمناسب للغنى كثرة حسابه على كثرة
ماله.
وإ ن كان أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي قد وجه المسكنة توجيًها آخر نفى فيه أن يكون المراد
بالمسكنة الفقر فقال في ذلك" :قرأ بعضهم الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري
والطبراني عن عبادة بن الصامت" :اللهم أحيني مسكيًنا ،وأمتني مسكيًنا ،واحشرني في زمرة
المساكين ".
ففهم من المسكنة الفقر من المال ،والحاجة إلى الناس ،وهذا ينافي استعاذة النبي صلى اهلل عليه وسلم
من فتنة الفقر ،وسؤاله من اهلل تعالى العفاف والغنى ،وقوله لسعد" :إن اهلل يحب العبد الغني التقي
الحفي " وقوله لعمرو بن العاص" :نعم المال الصالح للمرء الصالح ".
ومن أجل ذلك رد الحديث المذكور ،والحق أن المسكنة -هنا -ال يراد بها الفقر ،كيف وقد استعاذ
باهلل منه وقرنه بالكفر" :اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر " ،وقد امتن ربه عليه بالغنى فقال:
"ووجدك عائًال فأغنى ".
إنما المراد بها التواضع وخفض الجناح ،قال العالمة ابن األثير :أراد به التواضع واإلخبات ،وأال
يكون من الجبارين المتكبرين .وهكذا عاش صلى اهلل عليه وسلم بعيًد ا عن حياة المستكبرين".
وإ ذا كان ظاهر الرواية التي ذكرتها تعني الفقراء ،فيبقى التوجيه الذي استخلصناه من دراسة
األحاديث مجتمعة في ارتباط األمر بالقرائن من ناحية ،وفي استمرار تهذيب النفس ،حتى ال تطغى
بالمال من ناحية أخرى ،وفي تسلية الفقراء من ناحية ثالثة.
قال الحافظ المنذري" :وقد ورد من غير ما وجه ،ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي صلى
اهلل عليه وسلم " :أن عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل عنه يدخل الجنة حبًو ا لكثرة ماله" وال يسلم
أجودها من مقال ،وال يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن ،ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :نعم المال الصالح للرجل الصالح " .فأَّنى تنقص درجاته في اآلخرة ،أو
يقصر به دون غيره من أغنياء هذه األمة؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره ،إنما صح سبق فقراء هذه
األمة أغنياءهم على اإلطالق ،واهلل أعلم".
والسبق الذي ذكره الحافظ المنذري لمن تساووا في النسبة إلى هذه األمة ،ويبقى المعنى الذي ذكرناه
في السبق مع االستواء في كثرة الحساب الناشئ عن كثرة المال.
فعن أسامة بن زيد رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :قمت على باب الجنة
فكان عامة من دخلها المساكين ،وأصحاب الجد محبوسون ،غير أن أصحاب النار قد ُأمر بهم إلى
النار .وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" أخرجه الشيخان.
ومما يدعم ما ذهبنا إليه كذلك من اعتبار القرائن ،ما جاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه
قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول" :اللهم أحيني مسكيًنا ،وتوفني مسكيًنا،واحشرني
في زمرة المساكين ،وإ ن أشقى األشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب اآلخرة" رواه ابن ماجة
إلى قوله :المساكين ،والحاكم بتمامه،وقال :صحيح اإلسناد.
فقد نبه النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى أن الفقر وحده ليس محمدة فأشقى األشقياء من اجتمع عليه فقر
الدنيا وعذاب اآلخرة؛ ألنه لم يكن على ما يرضي اهلل من أحوال.
ولتسلية الفقراء وتشجيعهم على الصبر والرضا بقضاء اهلل ،تأتي كثير من األحاديث التي قد يفهم
منها الثناء على الفقر.
ففي حديث عائذ بن عمرو رضي اهلل عنه ،أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبالل في نفر،
فقالوا :ما أخذت سيوف اهلل من عنق عدو اهلل مأخذها ،فقال أبو بكر رضي اهلل عنه :أتقولون هذا
لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فأجاره ،فقال" :يا أبا بكر ،لعلك أغضبتهم،
لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت رّبك" فأتاهم أبو بكر ،فقال" :يا أخوتاه أغضبتكم؟" قالوا :ال ،يغفر اهلل
لك يا أخي " رواه مسلم ،وغيره.
وفي هذا المعنى -أيًض ا -رواية أبي ذر رضي اهلل عنه قال :أوصاني رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بخصال من الخير :أوصاني أن ال أنظر إلى من هو فوقي ،وأنظر إلى من هو دوني،
وأوصاني بحب المساكين ،والدنّو منهم ،وأوصاني أن أصل رحمي ،وإ ن أدبرت" الحديث رواه
الطبراني في األوسط وابن حبان في صحيحه.
وفي حديث مصعب بن سعد قال :رأى سعد رضي اهلل عنه أن له فضًال على من دونه ،فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :هل تنصرون وترزقون إال بضعفائكم " رواه البخاري ،والنسائي وغيره
فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم " :إنما تنصر هذه األمة بضعفائها :بدعوتهم وصالتهم وإ خالصهم ".
وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول" :ابغوني
ضعفاءكم ،فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " رواه أبو داود ،والترمذي والنسائي.
وعن علي رضي اهلل عنه قال :بينما نحن جلوس مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،إذ طلع علينا
مصعب بن عمير رضي اهلل عنه ،ما عليه إال ُبْر دة ُم رّقعة بفرو ،فلما رآه صلى اهلل عليه وسلم ،
بكى للذي كان فيه من النعمة ،ثم قال :كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى ووضعت بين
يديه َص ْح َفة ورفعت أخرى ،وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا :يا رسول اهلل نحن يومئذ خير منا
اليوم ،نكفي المؤنة ونتفرغ للعبادة .فقال :بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ .أخرجه الترمذي.
وهكذا -رأينا -أن األحاديث الواردة في الفقر والغنى تبين أن اإلنسان مبتلى بهما ،والذي يكون في
موضع المحمدة منهما ،هو من يفلح في االختبار ،وعلى ذلك فإن الفقر والغنى يرتبطان بأسباب
المدح والذم.
وأن ما يرد من الثناء على الفقر والفقراء فهو لبيان منزلة الصبر على الفقر ،وعدم الطغيان بالغنى،
والحب واالحترام المتبادل بين األغنياء والفقراء ،وتحقيق التكافل في األمة.
وما يكون من التحذير من الغنى فلحماية اإلنسان من الطغيان بالمال والتنبيه إلى شدة الحساب
وكثرته.
ونختم هذا المبحث بما يدل على ذلك فيما رواه محمود بن لبيد رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه
وسلم قال" :اثنتان يكرههما ابن آدم :الموت ،والموت خير من الفتنة ،ويكره قلة المال ،وقلة المال
أقل للحساب".
الجمع بين أحاديث "ترك التزين" و "التزين"
ويرتبط بهذا الموضوع ما ورد في "ترك التزين" وفي "التزين" مما يشعر باالختالف ،ولكن يزول
بجمع األحاديث وتأملها وتوجيه المعاني فيها .ففي تيسير الوصول نجد عنوانين في كتاب اللباس:
أحدهما "ترك الزينة" واآلخر يليه "التزين" .ووضع العنوان "ترك الزينة" يتعارض مع اآلية الكريمة
"قل من حرم زينة اهلل التي أخرج لعباده" فكيف ال يكون متعارًض ا مع أحاديث النبي صلى اهلل عليه
وسلم في الزينة .إال أن المتأمل في أحاديث ترك الزينة يرى أن الترك إنما يعود إلى أسباب أخرجت
الزينة وصاحبها من منزلة الحالل إلى الحرام.
فمثًال نجد رواية معاذ بن أنس رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :من ترك
اللباس متواضًع ا ،وهو يقدر عليه ،دعاه اهلل يوم القيامة على رؤوس الخالئق حتى يخّيره من أي حلل
اإليمان شاء يلبسها ) .فهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن .إال أن في إسناده عبد الرحيم بن
ميمون ،وقد ضعفه ابن معين ،وفيه أيًض ا سهل بن معاذ ،وضعفه كذلك ابن معين .ولكن مع افتراض
حسنه ،فإن المعنى فيه :أن من كان لديه دواعي الكبر في الملبس وتغلب على نفسه وهواها ،وترك
اللباس إخضاًع ا لنفسه وكسًر ا لمظاهر الكبر فيها ،فإن جزاء هذه المجاهدة أن ُيدعى من قبل اهلل
سبحانه على رءوس الخالئق ،وفي هذا داللة على أنه تغلب على شهوة الكبر على الخالئق ورغبة
الظهور عليهم في الدنيا ،فأبدله اهلل عًّز ا وكرامة أمامهم في اآلخرة .وإ ذا كان قد ترك ثوب شهرة
وخيالء تواضًع ا هلل ،فإن اهلل سبحانه يخيره من أي الحلل شاء.
ويتضح هذا المعنى ،ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هذا العنوان فعن ابن عمر رضي
اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من لبس ثوب شهرة ألبسه اهلل ثوب مذلة ".
وفي رواية( :ألبسه اهلل إياه يوم القيامة ،ثم ألهب فيه النار ) .أخرج الرواية األولى أبو داود ،والثانية
رزين ،وهي -أيًض ا -في أبي داود.
وثوب الشهرة :هو الذي إذا لبسه اإلنسان افتضح به واشتهر بين الناس ،والمراد به ما ال يجوز
للرجال لبسه شرًع ا وال عرًفا .فترك الزينة -إًذ ا -مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها ،وإ ال فإن
التزين هو األصل ،وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر األماكن "خذوا زينتكم عند كل مسجد
" (األعراف.)31:
وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومنها :عن أبي األحوص
عن أبيه قال :أتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وعلّي ثوب دوٍن فقال :ألك مال؟ قلت :نعم.
قال :من أي المال؟ قلت :من كل المال قد أعطاني اهلل تعالى.
قال :فإذا آتاك اهلل تعالى ماًال فلُير أثر نعمة اهلل عليك وكرامته".
فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هذا التوجيه الذي يأخذ أمًر ا عاًم ا في
نعم اهلل كلها ،وأن اهلل سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده .وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة
اهلل خشية الحسد ،فالمؤمن يرى كالشامة وإ ن خشي شيًئا فليستعذ باهلل من شره.
وعن محمد بن يحيى بن حيان قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :ما على أحدكم إن وجد
سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته " .وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة،
وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة ،فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله
ونظافته.
وعن جابر رضي اهلل عنه قال :نظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهًر ا لنا
وعليه ُبردان قد أخلقا .فقال :أما له غير هذين؟ قلت :بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما ،فقال:
ادعه ،فليلبسهما ،فلبسهما .فلما وّلى ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ما له ،ضرب اهلل عنقه.
أليس هذا خيًر ا؟ فسمعه الرجل ،فقال :في سبيل اهلل يا رسول اهلل .فقال :في سبيل اهلل .فقتل الرجل
في سبيل اهلل.
فالرسول الكريم لم يكتف في هذا الحديث بالتوجيه فحسب ،وإ نما دعا إلى التنفيذ ،وأن يلبس الثوبين،
ولبسهما ،وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسًنا التزين.
ويختم هذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بال إسراف ،وبال تقتير.
فعن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال :نهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن هاتين اللبستين:
المرتفعة والّد ون.
ومن هذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم ليس فيها اختالف ،وإ نما يحتاج األمر إلى
جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها ،دون أن نضرب بعض األحاديث ببعض.
وعلى ذلك فإن اإلنسان في جملة النصوص يقبل على رزق اهلل ،وهو واثق فيما عند اهلل ،يطلبه بما
أحل اهلل ،فإذا وصله لم يفتن به ،بل تعامل فيه بمنطق إيمانه ،ال يفرح بما أوتي ،وال يحزن على ما
فات ،وال بأس أن يصل في الجالل إلى ما شاء اهلل ،وإ ن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء اهلل ،وعليه
أن يصبر ،وأن يسعى سعًيا حميًد ا للخروج من الفقر ،كما أن أثر النعمة ُيرى عليه.
عن أبي ذر رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :ليست الزهادة في الدنيا
بتحريم الحالل ،وال إضاعة المال ،ولكن الزهادة أن تكون بما في يد اهلل تعالى أوثق منك بما في
يدك ،وأن تكون في ثواب المصيبة إذا ُأصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ".
وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى اهلل عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيًد ا في غناه،
وفي فقره ،ال يطغيه غناه ،وال يجزع في فقره ،بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى،
يجد حالوة القليل ،كما يعم غيره بسرور غناه.
وتتابع مثل هذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم لترسخ هذا المعنى:
فعن عبيد اهلل بن ُم حّص ن الخطمي رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من
أصبح منكم آمًنا في سربه ،معافى في بدنه ،عنده قوت يومه ،فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيره ا".
فاألمن النفسي مع المعافاة في البدن ،ولو كان يحوز قوت اليوم فحسب يحقق للمؤمن الشعور بأنه
يملك الدنيا بأسرها.
وعن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال :سأل ناس من األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فأعطاهم ما سألوه ،ثم سألوه ،فأعطاهم ما سألوه ،ثم سألوه ،فأعطاهم ما سألوه ،حتى إذا نفد ما عنده.
قال" :ما يكون عندي من خير فلن أّد خره عنكم .ومن يستعفف يعفه اهلل ،ومن يستغن يغنه اهلل .ومن
يتصبر يصبره اهلل ،وما أعطي أحد عطاء هو خير له أوسع من الصبر ".
فتعليق النبي صلى اهلل عليه وسلم على موقف هؤالء الناس مع عطائه لهم ثالث مرات حتى نفد ما
عنده يوجه نحو القناعة والرضى ،وأن الذي يطلب ذلك من اهلل يحققه له.
وقد مر بنا كيف سمي المال بالخير ،وقد سماه النبي صلى اهلل عليه وسلم بالخير كذلك" :ما يكون
عندي من خير" أي من مال.
وفي تحقيق هذا الرضا يروى أبو هريرة رضي اهلل عنه قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إذا
نظر أحدكم إلى من ُفّض ل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ،فذلك أجدر أن ال
تزدروا نعمة اهلل عليكم" أخرجه الشيخان والترمذي .وزاد رزين في رواية :قال عون بن عبد اهلل
بن عتبة رحمه اهلل :كنت أصحب األغنياء ،فما كان أحد أكثر هًم ا مني .كنت أرى دابة خيًر ا من
دابتي ،وثوًبا خيًر ا من ثوبي .فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت ".
وقد مر بنا كيف حقق الرسول الكريم في حياته المباركة ما يجعل منها مواساة للفقراء ورضا
بالقضاء ،وإ شعاًر ا لألغنياء باحترام الفقراء وعدم الكبر عليهم ،كما ينبه إلى عدم التعلق بزخارف
الحياة ،والتفكير في المصير تفكيًر ا يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز باآلخرة.
فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال :دخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقد نام على رمال
حصير ،وقد أثر في جنبه ،فقلت :يا رسول اهلل ! لو اتخذنا لك وطاًء نجعله بينك وبين الحصير يقيك
منه؟ فقال" :ما لي وللدنيا ،ما أنا والدنيا إال كراكب استظل تحت شجرة ،ثم راح وتركه ا".
وعن سهل بن سعد رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :لو كانت الدنيا تعدل
عند اهلل جناح بعوضة ما سقى كافًر ا منها شربة ماء ".
وعن علي رضي اهلل عنه قال" :ارتحلت الدنيا مدبرة ،وارتحلت اآلخرة مقبلة ! وإ ن لكل واحدة منهما
بنين فكونوا من أبناء اآلخرة ،وال تكونوا من أبناء الدنيا .فإن اليوم عمل وال حساب ،وغًد ا حساب
وال عمل.
فالبنوة لآلخرة تعني الجمع بين الدنيا واآلخرة؛ أي بين العمل الصالح الذي تعمر به الحياة ،والحساب
الذي يجازى فيه على الصالحات في اآلخرة.
النســـخ
فإذا تعذر الجمع بين الروايات ،أو كان متكلًفا صرنا إلى النسخ ،أي إلى تحديد السابق والالحق من
الروايات ،فإذا علم التاريخ فإن المتأخر منها ينسخ المتقدم.
وقد تكون ألفاظ الروايات مصرحة بتحديد المتقدم والمتأخر كما جاء في قول النبي صلى اهلل عليه
وسلم" :كنت نهيتكم عن زيارة القبور أال فزوروها ".
فالنهي عن الزيارة كان أوًال ،ثم األمر بالزيارة كان آخًر ا ،وعلى ذلك يكون العمل المتبع الزيارة لما
لها من المنافع المذكورة في الروايات من رقة القلب وتذكر اآلخرة والدعاء للموتى وغير ذلك.
وقد يكون لفظ الصحابي ناطًقا بهذا التحديد للسابق والالحق كما جاء في حديث علي بن أبي طالب
رضي اهلل عنه "كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا
بالجلوس.
وعن عبادة بن الصامت :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا اَّتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في
اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له :إنا هكذا نصنع يا محمد .فقال لنا النبي صلى اهلل عليه
وسلم " :خالفوهم واجلسوا ".
وقد يكون التاريخ معلوًم ا من حكاية الصحابة رضوان اهلل عليهم -كذلك -نحو ما رواه ُأبي بن
كعب رضي اهلل عنه قال :قلت :يا رسول اهلل إذا جامع أحدنا فأكسل فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم" :يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل " .فهذا حديث يدل على أنه ال غسل مع اإلكسال،
وأن موجب الغسل اإلنزال.
يقول أبو بكر الحازمي :ثم لما استقرينا طرق الحديث أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في
مبدأ اإلسالم ،واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان ،ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك فأجابه
عروة أن عائشة رضي اهلل عنها حدثته أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يفعل ذلك وال
يغتسل ،وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل".
وفي رواية الترمذي عن أبي بن كعب" :إنما كان الماء من الماء رخصة في أول اإلسالم ثم نهي
عنها".
مثال ذلك ما ورد في أحاديث النهي عن الكتابة واألمر بها ،فلدينا حديث أبي سعيد الخدري رضي اهلل
عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :ال تكتبوا عني ،ومن كتب عني غير القرآن فليمحه،
وحدثوا عني وال حرج ،ومن كذب علّي فليتبوأ مقعده من النا ر".
فهذا هو الحديث الوحيد الذي يتضمن النهي عن الكتابة ،أما ما ورد وفيه أمر بالكتابة فكثير منه:
-ما ورد عن عبد اهلل بن عمرو قال :كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أريد حفظه فنهتني قريش ،فقالوا :إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا ،فأمسكت عن الكتابة،
فذكرت ذلك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال" :اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إال الحق ".
ويشهد الصحابي أبو هريرة رضي اهلل عنه لعبد اهلل بن عمرو بأنه استمر في الكتابة ،فيقول" :ما من
أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم أحد أكثر حديًثا عنه مني إال ما كان من عبد اهلل بن عمرو ،فإنه
كان يكتب وال أكتب".
-رورى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة خطب فجاء
رجل من أهل اليمن فقال :اكتب لي يا رسول اهلل ،فقال صلى اهلل عليه وسلم :اكتبوا ألبي فالن" قال
ابن حجر هو أبو شاه ،وقيل لألوزاعي :ما قوله :اكتبوا لي ،قال :هذه الخطبة التي سمعها من
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
-وروى البخاري بسنده أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لما اشتد وجعه قال" :ائتوني بكتاب،
اكتب لكم كتاًبا ال تضلوا بعده…".
فهذه أحاديث األمر بالكتابة ،وبالنظر إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه وهو الوحيد في
النهي -كما أشرنا -قد ذكر فيه ما يعين على تحديد السابق منها والالحق ،فقد ذكر النهي مقترًنا
بذكر القرآن الكريم.
فالنهي -في الحديث -عن الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة ،أو مطلًقا خشية وقوع الخلط
واللبس بين القرآن الكريم والحديث الشريف.
وخشية الخلط بين األسلوبين ال تكون إال في بداية األمر ،فإذا ألف الناس أسلوب القرآن الكريم،
وأسلوب النبي صلى اهلل عليه وسلم أمنوا من الوقوع في الخلط ،وعلى ذلك فإن مضمون الحديث حدد
لنا السابق والالحق في أحاديث األمر بالكتابة والنهي عنها ،فالنهي أوًال ،واألمر بالكتابة آخًر ا.
التـــرجيــــح
فإذا تعذر الجمع بين الروايات ،أو كان متكلًفا ،وإ ذا لم نستطع إعمال قاعدة النسخ لتعذر تحديد السابق
منها والالحق صرنا إلى الترجيح ،وللترجيح وجوه كثيرة تتسع باتساع علم المرّج ح ،وحسن النظر
إلى المرجحات وتطبيقها على الروايات ،ولذلك ليس للمرجحات حصر دقيق فقد عّد الحازمي منها
في كتابه "االعتبار" خمسين وجًها ثم قال :فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات ،وثم وجوه كثيرة
أضربنا عن ذكرها كيال يطول به هذا المختصر .وفي تدريب الراوي (وهو يتكلم عن ترجيحات
الحازمي) :ووصلها غيره إلى أكثر من مائة ،كما استوفى ذلك العراقي في نكته ،وقد رأيتها منقسمة
إلى سبعة أقسام:
األول :الترجيح بحال الراوي:
وذلك بوجوه :أحدها كثرة الرواة؛ ألن احتمال الكذب والوهم على األكثر أبعد من احتماله على األقل.
ثانيها :قلة الوسائط ،أي علو اإلسناد حيث الرجال الثقات؛ ألن احتمال الكذب والوهم فيه أقل.
ثالثها :فقه الراوي؛ سواء كان الحديث مروًيا بالمعنى أو اللفظ؛ ألن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حْم ُله
على ظاهره بحث عنه حتى يّطلع على ما يزول به اإلشكال ،بخالف العامي.
رابعها :علمه بالنحو؛ ألن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما ال يتمكن منه غيره.
سابعها :أفضليته في أحد الثالثة ،بأن يكونا فقيهين ،أو نحويين ،أو حافظين ،وأحدهما في ذلك أفضل
من اآلخر.
تاسعها :شهرته ،ألن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى.
كونه ورًع ا ،أو حسن االعتقاد ،أي غير مبتدع ،أو جليًس ا ألهل الحديث ،أو غيرهم من العلماء ،أو
أكثر مجالسة لهم ،أو ذكًر ا ،أو مشهور النسب ،أو ال لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف،
وصعب التمييز بينهما ،أو له اسم واحد ،ولذلك أكثر ولم يختلط ،أو له كتاب يرجع إليه.
حادي عشريها :أن تثبت عدالته باإلخبار بخالف من تثبت بالتزكية أو العمل بروايته ،أو الرواية عنه
إن قلنا بهما.
أن يعمل بخبره من زكاه ،ومعارضه لم يعمل به من زكاه ،أو يتفق على عدالته ،أو يذكر سبب
تعديله ،أو يكثر مزكوه؛ أو يكونوا علماء ،أو كثيري الفحص عن أحوال الناس.
ثامن عشريها:
أن يكون صاحب القصة ،كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم في الصوم لمن أصبح
جنًبا على خبر الفضل بن العباس في منعه؛ ألنها أعلم منه.
أورد اإلمام الطحاوي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن يقول :كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم،
وهو أمير المدينة ،فذكر أن أبا هريرة رضي اهلل عنه كان يقول" :من أصبح جنًبا أفطر ذلك اليوم".
فقال مروان :أقسمت عليك لتذهبن إلى أّم ي المؤمنين ،عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما ،فتسألهما
عن ذلك.
قال :فذهب عبد الرحمن ،وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة رضي اهلل عنها ،فسلم عليها عبد
الرحمن ثم قال " :يا أم المؤمنين ،إنا كنا عند مروان ،فُذ كر له أن أبا هريرة رضي اهلل عنه كان
يقول" :من أصبح جنًبا أفطر ذلك اليوم" .فقالت عائشة رضي اهلل عنها" :بئس ما قال أبو هريرة ،يا
عبد الرحمن ،أترغب عما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يفعل؟".
قالت" :فأشهد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه كان يصبح جنًبا من جماع غير احتالم ،ثم
يصوم ذلك اليوم".
قال :ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة رضي اهلل عنها فسألها عن ذلك فقالت كما قالت عائشة
رضي اهلل عنها فخرجنا حتى جئنا إلى مروان ،فذكر له عبد الرحمن ما قالتا..
فقال مروان :أقسمت عليك يا أبا محمد ،لتركبّن دابتي ،فإنها بالباب ،فلتذهبن إلى أبي هريرة رضي
اهلل عنه ،فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ،ثم ذكر ذلك له.
فقال أبو هريرة رضي اهلل عنه " :ال علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر".
وفي رواية أخرى عن يعلى بن عقبة قال :أصبحت جنًبا وأنا أريد الصوم ،فأتيت أبا هريرة رضي
اهلل عنه فسألته فقال لي "أفطر".
فأتيت مروان فسألته وأخبرته بقول أبي هريرة رضي اهلل عنه فبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى
عائشة رضي اهلل عنها فسألها فقالت" :كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يخرج لصالة الفجر ،ورأسه
يقطر من جماع ،ثم يصوم ذلك اليوم".
فرجع إلى مروان فأخبره فقال :إيت أبا هريرة رضي اهلل عنه فأخبره ،فأتاه فأخبره فقال" :أما إني لم
أسمعه من النبي صلى اهلل عليه وسلم إنما حدثنيه الفضل ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ".
فموقف أبي هريرة رضي اهلل عنه موقف المرجح لقول أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها وأم ا
لمؤمنين أم سلمة رضي اهلل عنهما فهما أعلم.
ونسب السماع إلى الفضل عن النبي صلى اهلل عليه وسلم .وهذا ما جعل البزار يعلق على رجوع
أبي هريرة عما كان يقول من ذلك بقوله في مسنده" :وال نعلم روى أبو هريرة عن الفضل بن العباس
إال هذا الحديث الواحد".
وقال البيهقي :ورواه البخاري مدرًج ا في روايته عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي
بكر بن عبد الرحمن ،إال أنه قال في حديثه" :فقال :كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم".
وروى أنه قال" :أخبرني بذلك أسامة بن زيد" .وقد صّح رجوعه عن ذلك صريًح ا.
وأخرج البيهقي في سننه عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب" :أن أبا هريرة رجع عن
قوله قبل موته" وروى مثله عن عطاء ثم قال :قال ابن المنذر :أحسن ما سمعت في هذا أن يكون
ذلك محموًال على النسخ ،وذلك أن الجماع كان في أول اإلسالم محرًم ا على الصائم في الليل بعد
النوم كالطعام والشراب ،فلما أباح اهلل الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل،
أن يصوم ذلك اليوم الرتفاع الحظر ،وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على األمر األول،
ولم يعلم بالنسخ ،فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه".
فهذا كان منهج الصحابة في الرواية والفتوى؛ الدقة في نسبة القول إلى سامعه ،والرجوع إلى
الصواب في الفتوى دون االستبداد في الرأي ألّن الوصول إلى الحق غايتهم.
وأجيب بجواب ثان على رواية أبي هريرة وفتواه ،وهو حمله على من طلع الفجر عليه وهو يجامع
فاستدام.
وجواب ثالث :أنه إرشاد إلى األفضل وهو االغتسال قبل الفجر ،وتركه عليه الصالة والسالم لذلك
في حديث السيدة عائشة والسيدة أم سلمة لبيان الجواز.
يقول اإلمام الزركشي" :واعلم أنه وقع خالف في ذلك للسلف -أيضا -ثم استقر اإلجماع على
صحة صومه كما نقله ابن المنذر ،وكذلك الماوردي في االحتالم.
ونظر اإلمام الطحاوي إلى رواية أبي هريرة والروايات األخرى ومنها عن أم المؤمنين عائشة
رضي اهلل عنهما والسيدة أم سلمة رضي اهلل عنها وقال" :فذهب ذاهبون إلى ما روى أبو هريرة
رضي اهلل عنه من ذلك عن الفضل ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم فقالوا به وقلدوه.
وذهبوا في ذلك إلى ما رويناه عن عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما عن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم.
ومنه :رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يحدث عن أبيه قال :دخلت على عائشة
رضي اهلل عنها زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم فأخبرتني أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان
يصبح جنًبا ،ثم يغتسل ،ثم يغدو إلى المسجد ورأسه يقطر ،ثم يصوم ذلك اليوم.
فأخبرته مروان ،فقال :إيت أبا هريرة رضي اهلل عنه فأخبره بذلك.
فانطلقت أنا وأبي إلى أبي هريرة رضي اهلل عنه فأخبرت بذلك.
فقال أبو هريرة رضي اهلل عنه :عائشة رضي اهلل عنها أعلم مني.
وقال شعبة :وفي الصحيفة" :أعلم برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مني".
وبعد أن يستقصي اإلمام الطحاوي الروايات بطرقها المتعددة عن أّم ي المؤمنين السيدة عائشة
والسيدة أم سلمة يقول:
"قالوا :فلما تواترت اآلثار بما ذكرنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لم يجز لنا خالف ذلك إلى
غيره.
فكان من حجة أهل المقالة األولى عليهم في ذلك أن قالوا :هذا الذي روته أم سلمة وعائشة رضي اهلل
عنهما إنما أخبرتا به عن فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأخبر الفضل في حديث أبي هريرة
عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ما قد خالف ذلك.
فقد يجوز أن يكون حكم النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك على ما ذكرت عائشة وأم سلمة رضي
اهلل عنهما في حديثهما ،ويكون حكم سائر الناس على ما ذكره الفضل ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم
فيكون الخبران غير متضادين على ما يخرج عليه معاني اآلثار.
فكان من الحجة لآلخرين عليهم أن أبا هريرة رضي اهلل عنه هو الذي روى حديث الفضل ،وقد رجع
فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة رضي اهلل عنهما ،وُع ّد ذلك أولى مما حدثه الفضل ،عن النبي صلى
اهلل عليه وسلم فهذا حجة في هذا الباب.
وحجة أخرى :أنا قد وجدنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يدل على حكم الناس في ذلك -
أيًض ا -كحكمه.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها أن رجًال قال لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو واقف
على الباب وأنا أسمع " يا رسول اهلل ،إني أصبح جنًبا وأنا أريد الصوم".
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :وأنا أصبح جنًبا ،وأنا أريد الصوم ،فأغتسل وأصوم".
فقال :يا رسول اهلل ،إنك لست مثلنا قد غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .فغضب رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم فقال" :واهلل إني ألرجو أن أكون أخشاكم هلل ،وأعلمكم بما أتقي" .
فلما كان جواب النبي صلى اهلل عليه وسلم لذلك السائل هو إخباره عن فعل نفسه في ذلك ثبت بذلك
أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء.
وأما وجهه من طريق النظر في ذلك ،فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن صائًم ا لو نام نهاًر ا فأجنب أن ذلك
ال يخرجه عن صومه.
فأردنا أن ننظر أنه هل يكون داخًال في الصوم وهو كذلك؟ أو يكون حكم الجنابة إذا طرأت على
الصوم خالف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟.
فرأينا األشياء التي تمنع من الدخول في الصوم ،من الحيض والنفاس ،إذا طرأ ذلك على الصوم ،أو
طرأ عليه الصوم ،فهو سواء.
أال ترى أنه ليس لحائض أن تدخل في الصوم وهي حائض ،وأنها لو دخلت في الصوم طاهًر ا ،ثم
طرأ عليها الحيض في ذلك اليوم ،أنها بذلك خارجة من الصوم.
فكانت األشياء التي تمنع من الدخول في الصوم ،هي األشياء التي إذا طرأت على الصوم أبطلته.
وكانت الجنابة إذا طرأت على الصوم باتفاقهم جميًع ا ،لم تبطله.
فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه ،فثبت بذلك ما قد
وافق ما روته أم سلمة وعائشة رضي اهلل عنهما ،وهذا قول أبي حنيفة ،وأبي يوسف ومحمد رحمهم
اهلل تعالى.
وقيل :إن تأخر موته إلى إسالم المتأخر لم يرجح بالتأخير؛ الحتمال تأخر روايته عنه ،وإ ن تقدم أو
علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح.
كونه أحسن سياًقا واستقصاًء لحديثه .أو أقرب مكاًنا .أو أكثر مالزمة لشيخه ،أو سمع من مشايخ
بلده ،أو مشافها مشاهًد ا لشيخه حال األخذ .أو ال يجيز الرواية بالمعنى .أو الصحابي من أكابرهم،
أو على رضي اهلل تعالى عنه وهو في األقضية ،أو معاذ وهو في الحالل والحرام ،أو زيد وهو في
الفرائض ،أو اإلسناد حجازي ،أو من بلد ال يرضون التدليس.
أحدها :الوقت .فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إال بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله ،أو
بعضه بعده؛ الحتمال أن يكون هذا مما قبله .والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط.
ثانيها وثالثها :أن يتحمل بحدثنا واآلخر عرًض ا ،أو عرًض ا واآلخر كتابة ،أو مناولة أو وجادة.
أحدها :تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه؛ والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى.
ثانيها :ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه؛ لداللته على اهتمام الراوي به حيث عرف
سببه ،وهذا سيتضح تفصيًال في هذه الدراسة.
ثالثها :أن ال ينكره راويه وال يتردد فيه.
رابعها إلى عاشرها :أن تكون ألفاظه دالة على االتصال؛ كحدثنا وسمعت ،أو اتفق على رفعه أو
وصله ،أو لم يختلف في إسناده ،أو لم يضطرب لفظه ،أو روي باإلسناد وعزى ذلك لكتاب معروف،
أو عزيز واآلخر مشهود.
أحدها وثانيها :بتقديم المدني على المكي ،والدال على علو شأن المصطفى عليه الصالة والسالم على
الدال على الضعف كبدأ اإلسالم غريًبا ،ثم شهرته ،فيكون الدال على العلو متأخًر ا.
ثالثها :ترجيح المتضمن للخفيف لداللته على التأخر؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم كان يغلظ في أول
أمره زجًر ا عن عادات الجاهلية ،ثم مال للتخفيف ،كذلك قال صاحب المنهاج ،ورجح اآلمدي وابن
الحاجب وغيرهما عكسه وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم جاء أوًال
باإلسالم فقط ،ثم شرعت العبادات شيًئا فشيًئا.
رابعها :ترجيح ما تحمل بعد اإلسالم على ما تحمل قبله ،أو شك؛ ألنه أظهر تأخًر ا.
خامسها وسادسها :ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم ،وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته
صلى اهلل عليه وسلم على غير المؤرخ ،قال الرازي :والترجيح بهذه السنة ،أي إفادتها للرجحان
غير قوية.
أحدها إلى الخامس والثالثين :ترجيح الخاص على العام ،والعام الذي لم يخصص على المخصص
لضعف داللته بعد التخصيص على باقي أفراده ،والمطلق على ما ورد على سبب ،والحقيقة على
المجاز ،والمجاز المشبه للحقيقة على غيره ،والشرعية على غيرها ،والعرفية على اللغوية،
والمستغنى على اإلضمار ،وما يقل فيه اللبس ،وما اتفق على وضعه لمسماه ،والمومي للعلة،
والمنطوق ،ومفهوم الموافقة على المخالفة ،والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر،
والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء ،على النكرة المنفية .أو من الجمع المعرف على "من" و "ما"،
أو من الكل وذلك من الجنس المعرف ،وما خطابه تكليفي على الوضعي ،وما حكمه معقول المعنى،
وما قدم فيه ذكر العلة ،أو دل االشتقاق على حكمه ،والمقارن للتهديد ،وما تهديده أشد ،والمؤكد
بالتكرار ،والفصيح وما بلغة قريش ،وما دل على المعنى المراد ،بوجهين فأكثر وبغير واسطة ،وما
ذكر من معارضه كـ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" .والنص والقول ،وقول قارنه العمل،
أو تفسير الراوي ،وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم ،وما فيه زيادة.
أحدها :تقديم الناقل على البراءة األصلية على المقرر لها ،وقيل عكسه.
ثانيها :تقديم الدال على التحريم على الدال على اإلباحة .والوجوب.
كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن ،أو سنة أخرى ،أو ما قبل الشرع ،أو القياس ،أو عمل األمة ،أو
الخلفاء الراشدين ،أو معه مرسل آخر ،أو منقطع ،أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة ،أو له نظير
متفق على حكمه ،أو اتفق على إخراجه الشيخان.
فهذه أكثر من مائة مرجح ،وثم مرجحات أخر ال تنحصر ومثارها غلبة الظن.
ولذلك فإن حسن الفهم للنصوص واألمن من الزلل في التعامل معها يقتضي هذه السعة العلمية التي
تضرب في كل اتجاه؛ولذلك قال اإلمام النووي في النوع السادس والثالثين من أنواع علوم الحديث
وهو معرفة مختلف الحديث وحكمه :هذا من أهم األنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من
الطوائف ،وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهًر ا فيوفق بينهما ،أو يرجح أحدهما ،وإ نما
يكمل له األئمة الجامعون بين الحديث والفقه ،واألصوليون الغواصون على المعاني ،وصنف فيه
اإلمام الشافعي ،ولم يقصد رحمه اهلل استيفاءه ،بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه ،ثم صنف فيه ابن
قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة ،لكون غيرها أقوى وأولى ،وترك معظم المختلف ،ومن
جمع ما ذكرنا ال يشكل عليه إال النادر في األحيان.
التــوقـف
فإذا تساوت الروايات في الصحة وعجز الباحث عن الجمع بينها ،وعجز عن الترجيح بالمرجحات
على كثرتها -وهذه الحالة نادرة إذا حّص ل الباحث األسس السابقة -فاألوفق له التوقف ،ومعناه
عدم الرفض له -لثبوته -بسبب العجز عن الجمع أو الترجيح حتى يفتح اهلل سبحانه على الباحث
بفهم جديد ،مع مداومة النظر ،أو يفتح على غيره.
فهذه جملة األسس التي رأيت ضرورة الوقوف عليها بصورة مجملة مع توضيح يسير بنماذج
تطبيقية ،وإ ال فكل أساس منها في حاجة إلى تفصيل ،نكتفي منه في هذه الدراسة باألساس الذي ندرت
الكتابة فيه ،مع أهميته في فهم أحاديث النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وهو فهم األحاديث في ضوء
أسباب ورودها ،لبيان أهمية هذا األساس ،والجهود السابقة التي بذلت في ذلك ،ومتابعة هذه الجهود
بتأسيس منهج تسير عليه الدراسة القادمة ،ونتناول ذلك في الفصل اآلتي.
الفصل الثاني
تحليل وتأسيس أسباب ورود الحديث
بداية التأليف في أسباب الورود
لقد كانت البدايُة ،في محاكاة ما ُك تب في أسباب النزول للكتاب العزيز؛ لما وَقَف عليه العلماُء من
أهمية المعرفة بأسباب نزول آيات القرآن الكريم في فهِم معاني اآليات الكريمة المرتبطة بأسباب
لنزولها ،فشرع بعض العلماء من أهل الحديث في تصنيف أسباب ورود الحديث بمنهِج أسباِب نزوِل
آيات القرآن الكريم ،يقول اإلمام السيوطي…" :من أنواع علوم الحديث معرفة أسبابه ،كأسباب نزول
القرآن ،وقد صّنف فيه األئمة كتًبا في أسباب نزول القرآن ،واشُتهر منها كتاُب الواحدي ،ولي فيه
تأليف جامع ُيسمى "لباب النقول في أسباب النزول".
وأما أسباُب الحديث :فألف فيه بعُض المتقدمين ،ولم نقف عليه ،وإ نما ذكروه في ترجمته ،وذكره
الحافُظ أبو الفضل ابُن حجر في شرح النخبة.
وقد أحببُت أن أجمع فيه كتاًبا ،فتتبعت جوامع الحديث ،والتقطت منها ُنبًذ ا ،وجمعتها في هذا الكتاب.
واهلل الموفق والهادي للصواب" ويقصد السيوطي بذلك كتابه " اللمع في أسباب الحديث".
ويذكر جهد من سبقه في ذلك بقول شيخ اإلسالم سراج الدين البلقيني في كتابه" :محاسن
االصطالح"" :النوع التاسُع والستون :معرفُة أسباب الحديث ،قال الشيُخ أبو الفتح الُقشيرُّي المشهور
بابن دقيق العيد رحمه اهلل في شرح العمدة في الكالم على حديث "إنما األعمال بالنيات" في البحث
التاسع" :شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف أسباب الحديث ،كما ُص ِّنف في أسباب
النزول للكتاب العزيز ،فوقفت من ذلك على شيء يسير له ،وحديُث "إنما األعمال بالنيات" يدخل في
هذا القبيل ،وَيْن ضُّم إلى ذلك نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه.
وإ ذا كان اإلمام السيوطي قد ذكر ما وقف عليه من نماذج سابقة "في أسباب الورود" -كما رأينا -
فإنه أشار في الوقت نفسه إلى مصنفات مفقودة في هذا الموضوع منها:
وذكر السيوطي قول الذهبي -بعد هذا التصنيف " : -ولم يسبق إلى ذلك".
كما أشار صاحب مفتاح السعادة إلى وجود مصنفات في هذا الفن لكنه لم يرها.
وعلى ذلك فالمصنفات التي بين أيدينا في هذا النوع من أنواع علوم الحديث ،والتي يمكن أن نتعامل
معها تحليًال ودراسة ،هي على هذا الترتيب:
-1ما كتبه الحافظ البلقيني في كتابه محاسن االصطالح ،وتضمين كتاب ابن الصالح ،والذي تتبع
فيه مقدمة ابن الصالح فقرًة فقرة ،فأعاد صياغتها تضميًنا ،ثم عَّقب عليها بفوائد وزيادات ُتفِّص ل ما
أجمل ابن الصالح ،وتستدرك ما فاته ،وتناقُش ما يرد على كالمه ،حيثما بدا وجه اعتراض ،ثم لما
وصل في محاسنه إلى نهاية المقدمة ،تابع تقديم أنواٍع خمسٍة من علوم الحديث لم يتكلم عنها "ابن
الصالح" في مقدمته ،ومنها النوع التاسع والستون" :معرفة أسباب الحديث".
والذي يجعلني أعُّد هذا الصنيع ،من المصنفات ،أن اإلمام البلقيني لم يتعامل مع هذا النوع تعامله مع
األنواع األخرى في ذكر قوانين الرواية ،وما ُع رف من منهج مصطلح الحديث ،ولكنه زاد على
ذلك .تصنيًفا لمجموعة من األحاديث بأسبابها ،مبيًنا كيف يكون التصنيف في هذا النوع؛ فلم
يكتف بمثاٍل أو مثالين ،وإ نما قّد م مجموعًة من الرواياتُ ،تعُّد مثاًال ُيحتذى في هذا الموضوع.
" -2الُّلمع في أسباب الحديث" ،أو "أسباب ورود الحديث" للحافظ جالل الدين السيوطي ،وقد قام
بتحقيقه الدكتور يحيى إسماعيل ،في عمله للماجستير.
" -3البياُن والتعريُف في أسباب ورود الحديث الشريف" تأليف السيد الشريف إبراهيم بن محمد بن
كمال الدين الشهير بابن حمزة الُح سيني الدمشقي،وقد حققه وعلق عليه فضيلة الدكتور الحسيني عبد
المجيد هاشم رحمه اهلل.
واتفق اإلمام السيوطي مع اإلمام الزركشي في وصف كتاب أسباب النزول ألبي الحسن "علي بن
أحمد الواحدي النيسابوري" بأنه أحسنها.
كما يقول السيوطي :ثم شيخ اإلسالم حافظ العصر ،أبو الفضل "ابن حجر".
غير أن اإلمام السيوطي -وقد ألف في هذا كتابه لباب النقول في أسباب النزول -يذكر في كتابه
"اإلتقان" ،ما يشعر بسبب تأليفه لهذا الكتاب ،على الرغم من شهادته بالحسن لكتاب الواحدي ،فيقول:
"ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز ،وقد اختصره "الجعبري" فحذف أسانيده ،ولم
يزد عليه شيًئا ،وألف فيه شيخ اإلسالم أبو الفضل ابن حجر كتاًبا مات عنه مسودة ،فلم نقف عليه
كامًال ،وقد ألف فيه كتاًبا حافًال موجًز ا محررًا ،لم يؤلف مثله في هذا النوع.
وعلى كل حال ،فكل من كتب -بعد ذلك -في أسباب النزول ،فإن مصادره األساسية ما ذكر في
البرهان ،واإلتقان ،وما جمع من أسباب النزول في الكتب السابقة ،ومن أجمع ما كتب من دراسة
حديثة في هذا ،ما سطره الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم
القرآن".
وقال الحاكم في علوم الحديث :إذا أخبر الصحابي ،الذي شهد الوحي والتنزيل ،عن آية من القرآن
الكريم أنها نزلت في كذا ،فإنه حديث مسند ،ومشى على هذا ابن الصالح وغيره.
ويقول السيوطي" :وما كان منه عن صحابي ،فهو مسند مرفوع ،إذ قول الصحابي فيهما ال مدخل فيه
لالجتهاد ،مرفوع.
أو تابعي فمرسل .وشرط قبولهما صحة السند ،ويزيد الثاني (وهو المرسل) أن يكون راويه
معروًفا بأنه ال يروي إال عن الصحابة ،أو ورد له شاهد مرسل أو متصل،ولو ضعيًفا.
وإ ذا تعارض فيه حديثان؛ فإن إمكن الجمع بينهما فذاك؛ كآية اللعان ،ففي الصحيح عن سهل بن سعد
الساعدي أنها نزلت في قصة ُع وْي مر العجالني ،وفيه أيضًا -أنها نزلت في قصة هالل بن أمية،
فيمكن أنها نزلت في حقهما ،أي بعد سؤال كل منهما ،فُيجمع بهذا.
وإ ن لم يكن ُقّد م ما كان سنده صحيًح ا ،أو له ُم رّج ح ،ككون راويه صاحب الواقعة التي نزلت فيها
اآلية ،ونحو ذلك،
فإن استويا ،فهل ُيحمل على النزول مرتين ،أو يكون مضطرًبا يقتضي طرح كل منهما.
وربما كان في إحدى القصتين "فتال" فوهم الراوي فقال" :فنزلت" .مثال ذلك ما أخرجه الترمذي
وصححه عن ابن عباس ،قال :مر يهودي بالنبي صلى اهلل عليه وسلم فقال :كيف تقول يا أبا القاسم
إذا وضع اهلل السماوات على ذه ،واألرضين على ذه ،والماء على ذه ،والجبال على ذه ،وسائر الخلق
على ذه؟ فأنزل اهللَ( :و ما قدروا اهلل حق قْد ِر ه… )(األنعام .)91:والحديث في الصحيح بلفظ "فتال"
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وهو الصواب ،فإن اآلية مكية".
ومثال ذلك -أيًض ا -ما أخرجه البخاري رحمه اهلل ،عن أنس رضي اهلل عنه ،قال :سمع عبد اهلل
بن سالم بمقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فأتاه ،فقال :إني سائلك عن ثالث ال يعلمهن إال نبي:
ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد ،إلى أبيه أو أمه؟
قال :نعم .قال :ذاك عدو اليهود من المالئكة ..فقرأ هذه اآليةَ( :م ن كان عُد ًّو ا لجبريل فإنه نزله
على قْلِبك )(البقرة.)97:
قال ابن حجر في شرح البخاري :ظاهر السياق أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قرأ اآلية رًد ا على
اليهود ،وال يستلزم ذلك نزولها حينئذ ،قال :وهذا هو المعتمد ،فقد صح في سبب نزول اآلية قصة
غير قصة ابن سالم.
وعلى ذلك فإن سبب النزول ،يجري عليه من األحكام ما يجري على األحاديث ،من جهة التوثيق
للروايات ،والتأليف -بالطرق العلمية المعروفة لدى علماء الحديث -بين مختلفها ،غير أن سبب
النزول يتميز بارتباطه بآيات الذكر الحكيم وقت نزولها.
ولذلك ينبغي أن نعمق النظر للتفريق بين السبب في النزول ،وما يجري في األحاديث من بيان
المعاني فيما تضمنته آيات القرآن الكريم ،فمجئ عبد اهلل بن سالم إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم
مقدمه المدينة ،وسؤاله للنبي صلى اهلل عليه وسلم عن األمور الثالثة ،سبب لورود الحديث ،ومن
إجابة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،جاء ذكر جبريل عليه السالم ،وجاء قول عبد اهلل بن سالم في
جبريل من خالل تصور اليهود له ،فجاء ذكر اآلية الكريمة ،بسبب ورود الحديث السابق ،وذكرها -
هنا -ال يعد سبًبا لنزولها ،حيث نزلت بسبب آخر ،أخرجه أحمد والترمذي والنسائي ،من طريق
بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ،قال :أقبلت يهود إلى رسول اهلل فقالوا :يا أبا
القاسم ! إنا نسألك عن خمسة أشياء ،فإن أنبأتنا بهّن عرفنا أنك نبّي ،فذكر الحديث ..وفيه أنهم سألوه
عما حّر م إسرائيل على نفسه ،وعن عالمة النبي ،وعن الرعد وصوته ،وكيف تذكر المرأة وتؤنث،
وعّم ن يأتيه بخبر السماء ،إلى أن قالوا :فأخبرنا من صاحبك؟
قال جبريل؟ قالوا :جبريل ! ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدّو نا ،لو قلت :ميكائيل الذي ينزل
بالرحمة والنبات والقطر لكان خيًر ا ،فنزلت.
وعلى ذلك فإن الدقة في التفريق بين سبب النزول ،وسبب الورود ،ضرورية ،حتى يكون االجتهاد
في فهم النصوص ،واستنباط األحكام منها ،صحيًح ا.
ثانًيا :معرفة سبب النزول ،وكذلك سبب الورود ،تجعل اإلنسان مدرًك ا
لحقيقة المعنى وأبعاده
ويعايش جزئيات األسباب ،ووجه االرتباط بين النص والحكم ،والحكمة التي تكون في هذا
االرتباط ،وهذا يعين المجتهدين في كل عصر ،لمعرفة الصفات المشتركة بين الفرع واألصل عند
القياس ،كما ييسر على المجتهدين الوقوف على تحقق الحكمة عند استنباط األحكام للمشكالت
المعاصرة ،يقول الزركشي " :وأخطأ َم ْن زعم أنه ال طائل تحته ،لجريانه مجرى التاريخ ،وليس
كذلك ،بل له فوائد منها :وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
ويقول ابن دقيق العيد" :بيان سبب النزول ،طريق قوي في فهم معاني القرآن".
ويقول ابن تيمية" :معرفة سبب النزول يعين على فهم اآلية ،فإن العلم بالسبب يورث العلم
بالمسبب".
أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى( :ال تْح سبّن الذين يفرحون بما أتوا ّو ُيحّبون أن ُيحمدوا
بما لم يفعلوا فال تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاُب أليم )(آل عمران ..)188:فقد أخرج
البخاري في صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص :أن مروان قال لبوابه :اذهب يا رافع إلى ابن
عباس فقل :لئن كان كل امرئ فرح بما أتى ،وأحب أن يحمد بما لم يفعل ،معذًبا ،لنعّذ بن أجمعون!
فقال ابن عباس :وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى اهلل عليه وسلم يهود ،فسألهم عن شيء فكتموه
إياه ،وأخبروه بغيره ،فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ،وفرحوا بما أتوا من
كتمانهم ،ثم قرأ ابن عباس( :وإ ذ أخذ اهلل ميثاق الذين أوتوا الكتاب لُتبيننه للناس وال تكُتمونه فنَبُذ وه
وراء ظهورهم واشتروا به ثمًنا قليًال فبئس ما يشترون * ال تحسبّن الذين يفرحون بما أتوا وُيحبون
أن يحمدوا بما لم يفعلوا فال تحسبنهم بمفازٍة من العذاب ولهم عذاب أليم )(آل عمران.)188-187:
وأما األمثلة التي تتعلق بأسباب الورود ،فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي ،مجموعة منها
في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية ،معالم وضوابط" ،قدم لها بقوله " :ال بد لفهم الحديث فهًم ا
سليًم ا دقيًقا ،من معرفة المالبسات التي سيق فيها النص ،وجاء بياًنا لها ،وعالًج ا لظروفها ،حتى
يتحدد المراُد من الحديث بدقة ،وال يتعرض لشطحات الظنون ،أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.
ومما ال يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما ُيعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله ،حتى ال
يقع فيما وقع فيه بعُض الغالة من الخوارج وغيرهم ،ممن أخذوا اآليات التي نزلت في المشركين،
وطّبقوها على المسلمين ،ولهذا كان ابُن عمر يراهم شرار الخلق ،بما حرفوا كتاب اهلل عما أنزل فيه.
فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره ،كانت أسباُب ورود الحديث أشّد طلًبا.
ذلك أن القرآن بطبيعته عاّم وخالُد ،وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات ،والتفصيالت ،واآلنيات،
إال لُتؤخذ منها المبادئ والعبر.
أما السنة فهي تعالج كثيًر ا من المشكالت الموضعية والجزئية واآلنية ،وفيها من الخصوص
والتفاصيل ما ليس في القرآن.
فال بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام ،وما هو مؤقت وما هو خالد ،وما هو جزئُّي ،وما
هو كلُّي ،فلكّل منها حكُم ه ،والنظُر إلى السياق والمالبسات واألسباب ،تساعد على سداد الفهم،
واستقامته لمن وفقه اهلل".
واألمثلة التي ُقدمت لبيان أهمية أسباب الورود ،وأثرها في الفهم الصحيح ،تجمع بين ذكر الحديث،
والفهم الخطأ له ،والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هذا الحديث.
فمثًال يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم ،في كتاب المناقب ،من صحيحه ،عن عائشة رضي اهلل عنهما
،وكذلك عن أنس رضي اهلل عنه " :أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأًة للفصل بين الدنيا والدين ،وأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وَكَل إلى
الناس أمر دنياهم ،فهم أعلم بها .وهذا خطأ في الفهمُ ،يرّد ه هذا الموقف التعليمي التربوي ،الذي
ُيفهم من قصة هذا الحديث ،وسبب وروده ،وهي قصة تأبير النخل.
ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير ،تخاطب
المسلمين في األمور المتغيرة ،والتي تخضع للخبرة ،والتجربة ،والتحسين المستمر ،بما يفتح اهلل
سبحانه به على عباده في كل زمان ،مع االسترشاد بما جعل اهلل سبحانه لعباده من األصول العامة،
التي ترشد هذه المتغيرات ،فشأن المسلم في هذا ،أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة ،والتجربة،
والنتيجة العلمية ،وال يقول :كان الشأن في ذلك على عهد الرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كذا ،أو
قال فيها بكذا ،ما لم يكن هذا القول وحًيا ُم لزًم ا ،وهذا -عادة -يكون في الجوانب الثابتة من أمور
العقيدة ،والعبادة ،واألخالق ،واألخبار ،وأصول المعامالت ،التي ترّش د ما يكون فيها من متغيرات.
والمثال اآلخر ،يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد ،ورواه الترمذي في السير" :أنا برئ
من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين -ال تتراءى ناُر هما" ،والفهم الخطأ لهذا الحديث ،تحريم
اإلقامة في بالد غير المسلمين بصفة عامة ،مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا ،للتعلم ،وللتداوي،
وللعمل ،وللتجارة ،وللسفارة ،ولغير ذلك.
ويصحح هذا الفهم ،بمعرفة سبب ورود الحديث ،والذي جاء فيه" :بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم سرية إلى خثعم ،فاعتصم ناس منهم بالسجود ،فأسرع فيهم القتل ،فبلغ ذلك النبي صلى اهلل
عليه وسلم ،فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال" :أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر
المشركين ،قالوا :يا رسول اهلل ،لم؟ قال :ال تتراءى ناُر هم ا".
فجعل لهم نصف الّد ية وهم مسلمون؛ ألنهم أعانوا على أنفسهم ،وأسقطوا نصف حقهم ،بإقامتهم بين
المشركين المحاربين هلل ولرسوله.
وعلل اإلمام الخطابي إسقاط نصف الدية ،بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار،
فكانوا كمن هلك بجناية نفسه ،وجناية غيره ،فسقطت حصة جنايته من الدية.
فقوله عليه الصالة والسالم" :أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" ،أي برئ من دمه إذا
ُقتل؛ ألنه عّر ض نفسه لذلك بإقامته بين هؤالء المحاربين لدولة اإلسالم .
ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث" ،معرفة أسباب الحديث" ،بعبارة ابن
دقيق العيد ،في شرح العمدة ،في الكالم على حديث "إنما األعمال بالنيات".
ويفيد كالم ابن دقيق العيد ،أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخًر ا ،وهذا قد يعود إلى قرب
عهد الرواة بمعرفة األسباب والمالبسات ،التي قيلت فيها األحاديث ،واعتبار أن هذه المعرفة قد تجد
طريقها في مباحث التاريخ والسير ،إال أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث ،وأسباب
النزول للكتاب العزيز ،وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض اآليات،
فكذلك الحال في كثير من األحاديث النبوية ،التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة،
بمعرفة أسباب ورودها ،وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث ،كما ُص ِّنف في
أسباب النزول للقرآن الكريم ،ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هذا المجال ،فقد وجد أن ما
ورد في ذلك من الكتابات شيٌء يسيٌر ،وأن األمر يحتاج إلى تتبٍع ،وإ لى نظر في األحاديث؛ فقد
يكون السبب موجوًد ا في الحديث نفسه ،وهذا أمُر يسيُر ،يحدده راوي الحديث أو القارئ له ،ولكن
األصعب في ذلك أن يكون الحديث مجرًد ا من سببه ،ويحتاج إلى تتبع هذا السبب في روايات أخرى،
وفي كتب أخرى ،وعند رواة آخرين.
والحديث الذي يذكر كمثاًل لوجود السبب في الحديث نفسه ،هو حديث" :إنما األعمال بالنيات" ،فقد
ذكر أنهم نقلوا أن رجًال هاجر من مكة إلى المدينة ،ال يريد بذلك فضيلة الهجرة ،وإ نما هاجر ليتزوج
امرأة تسمى "أم قيس" ،فسّم ي "مهاجر أم قيس" ،ولهذا ُذ كر في الحديث شأن هذه المرأة ،دون سائر ما
ُينوى به الهجرة ،من أفراد األغراض الدنيوية.
ويورد البلقيني حديًثا آخر ليدلل به على وجود السبب في الحديث نفسه ،مثل حديث (سؤال جبريل
عن اإليمان ،واإلسالم ،واإلحسان ،وغيرها) ،وكذلك حديث (القلتين) "إذا بلغ الماُء قلتين لم يحمل
نجًس اُ :س ِئل عن الماء يكون بالفالة وما ينوبه من السباع والدواب"… وكذلك حديث (الشفاعة) ،سببه
قوله صلى اهلل عليه وسلم " :أنا سيُد ولد آدم وال فخر" ..وكذلك حديث (سؤال النجدي) ..وحديث
(صِّل فإنك لم تصّل ) ..وحديث (خذي فرصة ُم مّس كًة فتطهري بها" والفرصة بكسر الفاء ..وحديث
(السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب) ..وحديث (السائل :أُّي األعمال أفضل) ..وحديث (سؤال:
أُّي الذنب أكبر) ،وذلك كثير.
ونالحظ أن البلقيني قد جعل السبب في هذه األحاديث يعود إلى "السؤال" ،ولكن هل السؤال المجرد
يمكن أن يكون سبًبا؟
إذا قلنا :إن السبب يعني المالبسات ،والظروف والمواقف التي صاحبت ورود الحديث ،ومعرفتها
تبرز لنا المعنى في الحديث؛ فإن السؤال وحده ،دون النظر إلى طبيعة السائل ،وحاله ،وصفاته ،وما
كان فيه عند السؤال من موقف ،ال يحقق هذا المراد ،ولذلك؛ فال بد مع السؤال المجرد ،من تتبع هذه
األحوال ،وهذه الظروف والمالبسات في مواضع أخرى ،وعلى ذلك فإن هذا القسم الذي أشار إليه
البلقيني ،يتداخل مع القسم الثاني الذي ذكره في هذا الشأن بقوله" :وقد ال ينقل السبب في الحديث ،أو
ينقل في بعض طرقه ،فهو الذي ينبغي االعتناء به"… (ومن ذلك حديث" :أفضل صالة المرء في
بيته ،إال المكتوبة ") .رواه البخاري ومسلم ،وغيرهما ،من حديث زيد بن ثابت رضي اهلل عنه.
وقد ورد في بعض األحاديث ،أنه رُّد على سؤال سائل ،وهذا أسنده ابن ماجه في سننه ،والترمذي في
الشمائل ،من حديث عبد اهلل بن سعد ،قال" :سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،أُّيما أفضل:
الصالة في بيتي ،أو الصالة في المسجد؟ قال" :أال ترى إلى بيتي ،ما أقربه من المسجد ،فألن أصلي
في بيتي أحُّب إلّي من أن أصلي في المسجد ،إال أن تكون صالة مكتوبة" ،أخرجه ابن ماجه ،وهذا
لفظه من حديث شيخه أبي بكر بن خلف ،وأخرجه الترمذي في الشمائل ،عن عباس العنبري ،عن
عبد الرحمن بن مهدي بسنده ..إال أنه قال :عن "حرام بن حكيم" ،وعندما ننظر في هذا الحديث ،نجد
أن السؤال قد ُص ِح ب ببيان حالة أخرى ،نبه إليها النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وفيها تدعيم لهذا الحكم
في الحديث ،من أفضلية صالة التطوع في البيت ،وهي التي جاءت في صيغة هذا االستفهام ،الذي
وضعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ليقرر قرب بيته من المسجد ،ومحبته لصالة التطوع في بيته،
مع قرب المسجد منه إال في الصالة المكتوبة.
ومن ذلك حديث" :من صلى قاًع دا فله نصف أجر القائم " ،رواه عمران بن حصين وغيره عن النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،وحديث عمران في صحيح البخاري ،وأما سببه فرواه عبد الرزاق الصنعاني
في مصنفه ،عن معمر عن الزهري ،أن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما قال :قدمنا المدينة ،فباء
لنا وباء من وعك المدينة شديد ،وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم ،جلوًس ا ،فقال" :صالة
الجالس نصف صالة القائم" ،قال :فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام ،قال عبد الرزاق عقيب هذا:
أخبرنا ابن جريج قال :قال ابن شهاب :أخبرني أنس بن مالك قال :قدم النبي صلى اهلل عليه وسلم
المدينة وهي ُم ِح ّم ة َفُح َّم الناس ،فدخل النبي صلى اهلل عليه وسلم والناس يصلون قعوًد ا فقال" :صالة
القاعد نصف صالة القائم " ،فتجشم الناس الصالة قياًم ا.
والطريق الثاني أجود ،فإن الزهري لم يسمع عبد اهلل بن عمرو ،وأيًض ا فقد صح عن عبد اهلل بن
عمرو رضي اهلل عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك ،وهو ما رواه مسلم وغيره من حديث هالل بن
يساف عن أبي يحيى عن عبد اهلل بن عمرو قالُ :ح دثت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
"صالة الرجل قاعًد ا نصف الصالة " ،قال :فأتيت فوجدته يصلي جالًس ا ،فوضعت يدي على رأسي،
فقال :مالك يا عبد اهلل بن عمرو؟ قلت :حدثت يا رسول اهلل أنك قلت :صالة الرجل قاعًد ا نصف
الصالة ،وأنت تصلي قاعًد ا ،قال" :أجل ولكن لست كأحدكم" ،فظهر من هذا الحديث أن عبد اهلل بن
عمرو ،لم يسمع ذلك من النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل هذا ،بخالف ما يشعر به ظاهر حديث عبد
الرزاق ،ولعله سمعه من بعض الصحابة أوًال ،فال تنافي.
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج :أخبرني عمرو بن دينار ،عن عبد اهلل بن عمرو بن
العاص رضي اهلل عنهما ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال :إن للقاعد في الصالة نصف أجر
القائم ،ولم يتعرض في هذا الحديث لذكر السبب .وما سبق من السبب ،يستفاد منه أن هذا النصف
لمن صلى وبه بعض مرض ال يلحقه حرج بالقيام ،ويظهر من هذا السبب أن الصالة كانت في
المسجد وذلك ألحد أمرين:
( )1إما ألن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك ،أنهم ال بيوت لهم بالمدينة ،وهذا إنما يستفاد بذكر
السبب المذكور.
( )2أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز ،وحديث عبد اهلل بن سعد السابق نص في تفضيل صالة
النافلة في بيوت المدينة ،على صالة النفل بمسجد المدينة.
وقد اتضح لنا أن تتبع أسباب الورود ،يظهر لنا ما قد يكون من أسباب ترجيح رواية على أخرى،
وإ دراك ما بين الرواة من وصف دقيق لطرق التحمل واألداء وما ينشأ عن ذلك من ترجيح رواية
على أخرى ،كما أن هذا التتبع بعين المتأمل في معاني النصوص لكي يحسن توجيهها ،فإذا وجد هذا
التقرير الذي يفيد أن صالة الجالس نصف صالة القائم ،وجه ذلك إلى النافلة ،وأن المرء إذا تجشم
القيام فهو أفضل له ،وأن الصالة من جلوس في النافلة جائزة ،ولكن هل تستوى الفريضة مع النافلة
في هذا التصنيف المذكور؟.
الظاهر من النصوص أن هذا ال يكون مع الفريضة إذا لم تكن هناك استطاعة ،فالمرء يصلي قائًم ا،
فإن لم يستطع فجالًس ا ،وهكذا ،ويكون أداؤه في هذه الحالة جرًيا على القاعدة القرآنية الكريمة (ال
ُيكلف اهلل نفًس ا إال ُو سعها )(البقرة .)286:كما يتضح لنا من تتبع هذه األسباب ما يكون من
خصوصيات النبي صلى اهلل عليه وسلم .
ولذلك كان توجيه سفيان الثوري :هذا للصحيح ولمن ليس له عذر ،فأما من كان له عذر من مرض
أو غيره ،فصلى جالًس ا ،فله مثل أجر القائم.
وحديث" :ال تصوم المرأة وبْع ُلها شاهد إال بإذنه" ،جاء في رواية (غير رمضان) ،ورواه أبو هريرة،
وهذا الحديث في الصحيحين والسنن.
وأما سببه :فرواه أبو سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال :جاءت امرأة إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم
،ونحن عنده ،فقالت :يا رسول اهلل إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت،
ويفطرني إذا صمت ،وال يصلي صالة الفجر حتى تطلع الشمس ،قال :وصفوان عنده فسأله عما
قالت ،قال :يا رسول اهلل أما قولها( :يضربني إذا صليت) فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها ،قال :فقال:
"لو كانت سورة واحدة لكفت الناس " ،وأما قولها( :يفطرني) فإنها تنطلق فتصوم ،وأنا رجل شاب
فال أصبر ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يومئذ" :ال تصوم امرأة إال بإذن زوجها " وأما
قولها( :إني ال أصلي حتى تطلع الشمس) ،فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك ،ال نكاد نستيقظ حتى تطلع
الشمس .قال" :فإذا استيقظت فصل ّ" .أخرجه أبو داود في سننه ،والحاكم في مستدركه ،وقال :هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه.
وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما :فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
"يومئذ" ،وفيه داللة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم ،وسماعهم له ،كان ذلك اليوم على هذا السبب ،ومعنى
ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة ،ولجأ إليها الصحابة رضوان اهلل عليهم ،لكي
يتوجه النص الوجهة الصحيحة ،فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج ،فليس ذلك عاًم ا ،وإ نما يخص النافلة
التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج ،وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام
التطوع ،والذي قد تبالغ فيه.
وقد ظهر من تتبع هذا السبب ،كيف صارت المرأة في الناحية العملية ،إلى حفظ الكثير من القرآن
الكريم ،وإ لى كثرة القراءة منه في صالتها ،وكيف أقبلت على عبادتها برغبة ،جعلت الزوج يطلب
أن تحد منها ،كما وجدنا شجاعة المرأة في عرض حالتها بين يدي النبي صلى اهلل عليه وسلم ،
وزوجها شاهد ،ألنها ال تريد االنتقاص من استمتاعها بهذه العبادات ،إال أن النبي صلى اهلل عليه
وسلم قد حقق بسنته التوازن في العالقات ،فلها أن تقرأ ،ولكن بما تيسر ،حفاًظا على حق الزوج،
ولها أن تصوم التطوع ،ولكن بالتنسيق مع زوجها ،حتى ال تضّيع حقه ،كما أنها ال تسكت على
منكر ،فقد أخذت عليه أنه يصلي الفجر بعد طلوع الشمس ،وفي إجابة النبي صلى اهلل عليه وسلم ما
يفيد أن هذه حالة تخص هذا الرجل ،ألعذار لم تذكر في الحديث ،إال في قوله :إنا أهل بيت عرف لنا
ذلك .فهل هذا يعود إلى عمل لهم في الليل ،أو إلى حاالت قد تكون مرضية ال تمكنهم من االستيقاظ
حتى تطلع الشمس ،قد يكون ذلك ،ألن األحاديث األخرى أخذت على من ينام حتى يصبح ،أن
الشيطان بال في أذنيه.
فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال :ذكر عند النبي صلى اهلل عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح!
قال" :ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه -أو قالُ -اُذ نه " متفق عليه.
ولقد كان لتتبعي ما يتصل بهذا السبب المذكور ،من مالبسات وأسباب ،من النتائج ما يؤكد أن ما نعده
سبًبا لحديث ،قد يكون هو -أيًض ا -في حاجة إلى بيان ما يرتبط به من أسباب.
فاإلذن من النبي صلى اهلل عليه وسلم لصفوان بن المعطل ،والمذكور في الحديث السابق" :فإذا
استيقظت فصّل " ،جعلني أتساءل أوًال عن موقف العلماء من هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في
سننه ،والحاكم في مستدركه ،وقال :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .فوجدت أن
اإلمام الذهبي قد ذكر الحديث في ترجمة صفوان بن المعطل ،ولكن علق عليه بقوله" :فهذا بعيد من
حال صفوان أن يكون كذلك ،وقد جعله النبي صلى اهلل عليه وسلم على ساقة الجيش :فلعله آخر
باسمه ،فهذا االستبعاد من الذهبي والذي بلغ التشكيك في كونه المراد بذلك على الرغم من أن محقق
الكتاب ومخرج أحاديثه ذكر في تخريجه للحديث أن أبا داود أخرجه ،وكذلك أحمد ،ورجاله ثقات،
وقال الحافظ في اإلصابة :وإ سناده صحيح.
وأما اإلمام ابن القيم رحمه اهلل فقال" :وقال غير المنذري :ويدل على أن الحديث وهم ،ال أصل له:
أن في حديث اإلفك المتفق على صحته قالت عائشة" :وإ ن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول :سبحان
اهلل! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط ،قال :ثم قتل بعد ذلك في سبيل اهلل شهيًد ا".
وفي هذا نظر ،فلعله تزوج بعد ذلك ،واهلل أعلم.
ويذكر صاحب عون المعبود من المالبسات والظروف ،ما يوضح هذا اإلذن فيقول" :فإنا أهل بيت"،
أي إنا أهل صنعة ال ننام الليل" ،قد عرف لنا ذلك" أي عادتنا ذلك ،وهي أنهم كانوا يسقون الماء في
طول الليالي" ،ال نكاد نستيقظ" أي إذا رقدنا آخر الليل" .قال :فإذا استيقظت فصِّل " ذلك أمر عجيب
من لطف اهلل سبحانه بعباده ،ومن لطف نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،ورفقه بأمته ،ويشبه أن يكون ذلك
منه على معنى ملكة الطبع ،واستيالء العادة ،فصار كالشيء المعجوز عنه ،وكان صاحبه في ذلك
بمنزلة من ُيغمى عليه ،فعذر فيه ،ولم يثرب عليه.
ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض األوقات دون بعض ،وذلك إذا لم يكن بحضرته من
يوقظه ،ويبعثه من المنام ،فيتمادى به النوم ،حتى تطلع الشمس ،دون أن يكون ذلك منه في عامة
األحوال ،فإنه يبعد أن يبقى اإلنسان على هذا في دائم األوقات ،وليس بحضرته أحد ال يصلح هذا
القدر من شأنه ،وال يراعي مثل هذا من حاله ،وال يجوز أن يظن به االمتناع من الصالة في وقتها
ذلك ،مع زوال العذر بوقوع التنبيه واإليقاظ ممن يحضره ويشاهده ،واهلل أعلم.
والذي جعل صاحب عون المعبود ،يسلك مسلك التأويل المذكور ،هو ما قاله أبو داود في تخريج هذا
الحديث بعد روايته له" :قال أبو داود :رواه حماد -يعني ابن سلمة -عن ُح ميد أو ثابت ،عن أبي
المتوكل".
وطريق أبي داود في هذه الرواية" :حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،أخبرنا جرير عن األعمش ،عن أبي
صالح ،عن أبي سعيد قال.":
وأبو المتوكل هو الناجي البصري" ،والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد،
بل تابعه أبو المتوكل عنه ،ثم األعمش ليس بمتفرد أيًض ا -بل تابعه حميد أو ثابت ،وكذا جرير ليس
بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة".
يقول صاحب عون المعبود" :وفي هذا كله رد على اإلمام أبي بكر البزار ،وسيجيء كالمه ،قال
المنذري :قال أبو بكر البزار :هذا الحديث كالمه منكر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وقال :ولو
ثبت احتمل :إنما يكون أمرها بذلك استحباًبا ،وكان صفوان من خيار أصحاب رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،وإ نما أتى نكرة هذا الحديث أن األعمش لم يقل :حدثنا أبو صالح ،فأحسب أنه أخذه عن
غير ثقة ،وأمسك عن ذكر الرجل ،فصار الحديث ظاهر إسناده حسن ،وكالمه منكر لما فيه ،و
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يمدح هذا الرجل ،ويذكره بخير ،وليس للحديث عندي أصل".
ومن التتبع الذي أرى ضرورته ،لتجلية العالقات بين الروايات ورواتها ،وجدت في تاريخ دمشق
البن عساكر روايتين ،لهما عالقة بصحو صفوان رضي اهلل عنه ونومه ،وبهما يرجح تأويل قول
صفوان" :إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك" وأن هذا لم يكن عادة دائمة فيه ،بل يدخل هذا األمر في
دائرة الضرورة التي تقدر بقدرها ،فإذا كان مجهًد ا متعًبا من أثر العمل الليلي ،وغلبه النوم فليس في
النوم ،تفريط.
أما الرواية األولى ،يقول فيها صفوان رضي اهلل عنه " :كنت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
في سفر ،فرمقُت صالته ،فصلى العشاء اآلخرة ثم نام ،فلما كان نصف الليل استنبه ،فتال العشر آيات
آخر سورة آل عمران ،ثم قام ،ثم تسوك ،ثم قام فتوضأ ،وصلى ركعتين ،فال أدري أقيامه ،أم
ركوعه ،أم سجوده ،أطول ،ثم انصرف فنام ،ثم استيقظ ففعل مثل ذلك ،فلم يزل يفعل كما فعل أول
مرة ،حتى صّلى إحدى عشرة ركعة".
فالذي يصف حال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في صالته بالليل وفي السفر؛ في أقواله وأفعاله،
ال نستطيع أن نقول :إن عادته النوم ليًال حتى تطلع الشمس.
ووجدت هذا الحديث في سير أعالم النبالء ،مع تخريج محقق الكتاب ،ويذكر أن إسناده ضعيف
لضعف عبد اهلل بن جعفر المديني والد علي ،والحديث في المسند ،والطبراني.
والرواية الثانية يقول فيها أبو هريرة رضي اهلل عنه :
جاء صفوان بن المعطل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال :يا نبي اهلل ،إني سائلك عن أمر
أنت به عالم ،وأنا به جاهل .قال :وما هو؟
قال :هل من ساعات من الليل والنهار ساعة تكره فيها الصالة؟
قال" :نعم .إذا صليت الصبح فدع الصالة حتى تطلع الشمس ،فإنها تطلع بين قرني الشيطان ،ثم
الصالة محضورة متقّب لة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح ،فإذا كانت على رأسك فدع
الصالة ،فإن تلك الساعة التي ُتسجر فيها جهنم ،وتفتح فيها أبوابها ،حتى ترتفع الشمس عن حاجبك
األيمن ،فإذا زالت فصّل ،فإن الصالت محضورة متقبلة ،حتى تصلي العصر ،ثم ذكر الصالة حتى
تغرب الشمس ".
فهذا البيان ألوقات الصالة ،فيه ما يتعلق بالوقت ا لمذكور في حديث امرأة صفوان .وجاء في بيان
األوقات" :إذا صليت الصبح فدع الصالة حتى تطلع الشمس" ،فهو خطاب مباشر دون ذكر للحالة
التي يمكن أن تطرأ من غلبة النوم.
وعلى كل حال ،فإن تتبع الروايات ،يمنح المزيد من تجلية المعاني والمواقف ،ويصحح الفهم
للروايات جميعها.
وحديث" :إذا أتيتم الصالة فال تأتوها وأنتم تسعون ،ولكن ائتوها وعليكم السكينة ،فما أدركتم فصلوا،
وما فاتكم فأتموا " ،وفي رواية( :فاقضوا).
وقد فسر ابن األثير السعي بالعدو ،أي المشي السريع ،ويدل ذلك على أن المسبوق يدخل مع اإلمام
على أي حالة وجده ،ثم إذا سّلم اإلمام أتى المسبوق بما بقي.
وسبب هذا الحديث :ما رواه أبو نعيم قال :حدثنا سليم بن أحمد قال :أنا أبو ُز رعه ،أنا يحيى بن
صالح الوحاظي ،أنا ُفليح بن سليمان ،عن زيد بن أبي أنيسة ،عن عمرو بن ُم رة ،عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى ،عن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال :كنا نأتي الصالة ،فإذا جاء رجل وقد سبق بشيء
من الصالة أشار إليه الذي يليه ،قد سبقت بكذا ،فيقضي ،قال :وكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد،
فجئت يوًم ا وقد سبقت ببعض الصالة ،وأشير إلّي بالذي سبقت به ،فقلت :ال أجده على حال إال كنت
عليها ،فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها ،فلما فرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قمت ،فصليت
واستقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس وقال :من القائل كذا وكذا؟ قالوا :معاذ بن جبل،
فقال :قد سن لكم معاذ فاقتدوا به ،إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصالة فليصل مع اإلمام
بصالته ،فإذا فرغ اإلمام فْليقض ما سبقه به .
وروى أبو نعيم عن سليمان بن أحمد قال :أنا محمد بن محمد بن التمار البصري ،ثنا حرمي بن
حفص العتكي ،أنا عبد العزيز بن مسلم ،عن حصين ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن معاذ بن
جبل قال :كان الناس على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا سبق أحدهم بشيء من الصالة،
سألهم ،فأشاروا إليه بالذي سبق به ،فيصلي ما سبق به ثم يدخل معهم في صالتهم ،فجاء معاذ والقوم
قعود في صالتهم فقعد معهم ،فلما سلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قام فقضى ما سبق ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :اصنعوا ما صنع معاذ).
فذكر السبب ..بّين القصة التي شرحت األمر السابق ،وما صار إليه بعد فعل معاذ ،الذي وافق سنة
النبي صلى اهلل عليه وسلم التقريرية لفعل معاذ ،فبّين السبب أن المسبوق كان يبتدئ بعد أن يكون
منفرًد ا ،وقد أجاز ذلك جْم ع من أهل العلم ،ومنهم الشافعي في أرجح قولية ،وقال في موضع آخر:
وال يجوز أن يبتدئ الصالة لنفسه ثم يأتّم بغيره ،وهذا منسوخ.
وقد كان المسلمون يصنعون ذلك ،حتى جاء معاذ بن جبل ،أو عبد اهلل بن مسعود ،وقد سبقه النبي
صلى اهلل عليه وسلم بشيء من الصالة ،فدخل معه ،ثم قام يقضي ،فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم
":إن ابن مسعود -أو معاًذ ا -قد سن لكم سنة فاتبعوها" ،قال المزني :قوله عليه الصالة والسالم" :إن
معاًذ ا قد سن لكم" ،يحتمل أن يكون النبي صلى اهلل عليه وسلم أمر أن يستن بهذه السنة ،فوافق ذلك
فعل معاذ.
ويرى البلقيني :أن ما قاله المزني يشير به إلى أن معاًذ ا أقدم على ذلك بأمٍر ظهر له من شريعة
النبي صلى اهلل عليه وسلم.
وبقي للمجتهدين أن يفسروا ماذا ُيراد بالقضاء أو اإلتمام .فهل القضاء يعني أن ما فاتهم يؤدى على
ما أداه اإلمام؟ أم أن اإلتمام سيجعل المسبوق يحسب لنفسه ما صاله مع اإلمام ثم يتم ما بقي من
صالته؟
وحديــث" :ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم ".
وفي هذا الحديث الذي يقول" :ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم ،وقولوا آمنا باهلل
وكتبه ورسله" ،وهذا الحديث له سبب ،وهو ما رواه اإلمام أحمد في مسنده ،وأبو داود في سننه ،من
حديث أبي نملة األنصاري ،وهو عمار بن معاذ بن زرارة بن عمر بن ُغْن م الخزرجي األنصاري،
أنه قال :بينما هو جالس عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعنده رجل من اليهودُ ،م َّر بجنازة
فقال :يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم :اهلل أعلم .فقال اليهودي:
إنها تتكلم .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :ما حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال
تكذبوهم ،وقولوا آمنا باهلل ورسله ،فإن كان باطًال لم تصدقوه ،وإ ن كان حًقا لم تكذبوه " أخرجه أبو
داود في كتاب العلم ،في الباب الثاني منه.
ففي هذا السبب ،بيان واضح للحديث ،وتفسير النهي المذكور فيه ،والذي قد يلتبس على من لم يعلم
سبب ورود الحديث ..كما أن معرفة السبب ،بّينت جوانب أخرى ،هي من فوائد معرفة أسباب ورود
الحديث ،ومنها :موقف النبي صلى اهلل عليه وسلم من الشيء الغيبي ،الذي ال يعلمه ،فإنه يقول فيه:
ال أعلم ،حتى يخبره اهلل سبحانه بما شاء من علمه ،وفي هذا تعليم ألمته ،إذا استفتي أحدهم فال
يستحي من قول :ال أعلم ،أو ال أدري ،فإن من ترك هذه العبارة في مواضعها فقد أصيبت مقاتله
كما ذكر العلماء.
كما أفاد هذا الموقف بيان طبيعة اليهود ،ومظاهر التعنت التي سلكوها ،ومنها :توجيه األسئلة
لإلحراج ،والمصحوبة باّد عاء العلم والكذب على اهلل.
وموقف النبي صلى اهلل عليه وسلم ،والذي فسره سبب الورود ،يصيب الحقيقة دون االنفعال
الغاضب من فعل اليهود ،فال تصديق لهم فيما يحدثون به ،ألنهم يكذبون ،وال تكذيب لهم كذلك فيما
يحدثون ،ألنهم قد يخلطون بين حق وباطل ،وإ نما يكون التصديق بأصل ما نزل على موسى عليه
السالم من التوراة ،وأما ما في أيديهم فقد حرفوه ،وهذا معنى قول النبي صلى اهلل عليه وسلم :
"وقولوا آمنا باهلل ورسله ".
ومن ذلك ،حديـث" :الخراج بالضمان " ،فقد رواه اإلمامان الشافعي وأحمد رحمهما اهلل ،وأصحاب
السنن ،من حديث أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها ؛ وحسنه "الترمذي" من طريق مخلد بن
ُخ فاف ،عن عروة عن عائشة ،وصححه "ابن حبان" من هذا الطريق.
ورواه "الترمذي" من حديث عمرو بن علي المقدمي ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة،
وقال" :هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام ،واستغربه "البخاري" من حديث عمرو بن
علي ،وللحديث طرق أخرى.
فذكر اإلمام "الشافعي" رحمه اهلل ،من رواية مسلم بن خالد الزنجي ،فقال :وال أحسب ،بل ال أشك -
إن شاء اهلل -أن مسلًم ا نّص الحديث( ،ومعنى "نّص الحديث":رفعه ،ومسلم -هنا -هو ابن خالد
الزنجي).
فذكر أن رجًال ابتاع عبًد ا فاستعمله ،ثم ظهر منه على عيب ،فقضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
بالعيب ،فقال المقضّي عليه؛ قد استعمله ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :الخراج
بالضمان".
(وفسر ابن األثير الخراج :ما يحصل من غلة العين المبتاعة ،وتقديره :الخراج مستحق بالضمان،
أي سببه).
والذي ذكره اإلمام الشافعي ،قد أسنده "أبو داود" ،من حديث مسلم بن خالد على الجزم ،فقال :ثنا
إبراهيم بن مروان ،قال :ثنا أبي ،ثنا مسلم بن خالد الزنجي ،ثنا هشام بن عروة ،عن أبيه عن عائشة
رضي اهلل عنهما ،أن رجًال ابتاع عبًد ا ،فأقام عنده ما شاء اهلل أن يقيم ،ثم وجد به عيًبا فخاصمه إلى
النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فرده عليه ،فقال الرجل :يا رسول اهلل قد استغل غالمي ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم" :الخراج بالضمان" ..ورواه ابن ماجه من حديث شيخه هشام بن عمار ،قال:
"ثنا مسلم بن خالد ،ثنا هشام" فذكره.
قال "أبو داود" عقب روايته الحديث :هذا إسناد ليس بذاك .وإ نما قال "أبو داود" هذا من أجل مسلم
بن خالد الزنجي ،ومسلم بن خالد قد وثقه يحيى بن معين في رواية عباس الدوري والدارمي ،ولم
ينفرد برواية الحديث عن هشام ،فقد رواه عمر بن علي المقدمي عن هشام -كما سبق -وتابعه
على ذلك جرير ،وإ ن كان جرير قد ُنسب فيه إلى التدليس.
ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب ،فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد ،قال
الشافعي رحمه اهلل " :أخبرني من ال أتهم من أهل المدينة ،عن ابن أبي ذئب ،عن مخلد بن خفاف
قال :ابتعت غالًم ا ،فاستغللُته ،ثم ظهرت فيه علي عيب ،فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز،
فقضى له برّد ه ،وقضى علّي برّد غّلته ،فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته ،فقال :أروح إليه العشية
فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج
بالضمان ،فعجلت إلى عمر رحمه اهلل ،فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي اهلل عنهما عن
النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فقال عمر بن عبد العزيز :فما أيسر علّي من قضاء قضيته -واهلل يعلم
أني لم أرد فيه إال الحق ،فبلغني سنة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فأرد قضاء عمر ،وأنفذ سنة رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فراح إليه عروة ،فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له".
وقد رواه "أبو داود الطيالسي" ،عن ابن أبي ذئب بمعنى رواية "الشافعي" ،ورواية الشافعي أتم ،وذكر
السبب يتبين به الفقه في المسألة.
وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر ،يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب.
قال "أبو داود" :ثنا محمد بن خالد ،ثنا الفريابي ،عن سفيان ،عن محمد بن عبد الرحمن ،عن مخلد
الغفاري ،قال :كان بيني وبين أناس شركة في عبد ،فاكتريته ،وبعضنا غائب ،فأغّل علّي غّلة
خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة ،فأمرني أن أرد الغلة ،فأتيت عروة بن الزبير فحدثته ،فأتاه
عروة فحدثه عن عائشة رضي اهلل عنها ،عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :الخراج
بالضمان".
وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين ،واألخذ بالسبب المرفوع أقوى،
ألمور ليس هذا موضع بسطها.
هكذا يحكي اإلمام البلقيني وهو يورد حديث "الخراج بالضمان" ،ويتتبع أسباب وروده بالطرق
المتعددة ،وقد بّين لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق وال يكون في غيره.
ولهذا فإن التتبع ،هو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود.
وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض ،وقد يكون بعضها واهيًا ال يعتد به.
ومعنى ذلك أن األسباب تعامل في الحكم عليها ،معاملة الحديث ذاته ،من جهة سندها ومتنها ،وال
فرق ،وذلك ألن اعتماد سبب الورود سيؤثر في فهمنا للحديث نفسه.
وقد رأينا كيف أن سنن أبي داود قد جاء فيها ما يفيد أمًر ا آخر ،وهو تعدي ذلك إلى الغاصب.
ولذلك وجدنا عبارة البلقيني ،والتي جعلها نتيجًة لتتبعه طرق الحديث" :واألخذ بالسبب المرفوع
أقوى".
فهذه العبارة وإ ن كان أرجأ البسط فيها إال أنها تفيد خضوع طرق األسباب إلى المرجحات المعروفة
لدى علماء الحديث ،كما أنها تفيد في الوقت نفسه ،أن ترجيح السبب المرفوع ،يعود إلى الوقوف
المباشر على الظروف ،والمالبسات ،والقرائن ،التي صاحبت الحديث.
وهذا يعين على فهم الحديث ،كما يعين على حسن فقه المسألة ،واالنتفاع المعاصر بها بالقياس عليها،
وقد صرح بذلك "البلقيني" في قوله" :وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة".
فيقول :ومن ذلك اإلرخاص في العرايا ،رواه "البخاري ،ومسلم" من حديث ابن عمر عن زيد بن
ثابت رضي اهلل عنهم ،ومن حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ،تقييد الرخصة بما دون خمسة أْو ُس ق ،أو خمسة أوُس ق -شّك
داود بن الحصين ،أحد رواة الحديث.
أما سبب ورود هذا الحديث ،فقد ذكره "الشافعي" وغيره ،قال الشافعي رحمه اهلل في "كتاب البيوع":
"وقال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم ،إما زيد بن ثابت ،وإ ما غيره -
ما عراياكم هذه؟ قال :فالن وفالن -وسمى رجاًال محتاجين من األنصار -شكوا إلى النبي صلى اهلل
عليه وسلم أن الرطب يأتي وال نقد بأيديهم يبتاعون به رطًبا يأكلونه مع الناس ،وعندهم فضول من
قوتهم من التمر؛ فرّخ ص لهم أن يبتاعوا العرايا ِبًخ ْر صها ،من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطًبا".
وقال الشافعي رحمه اهلل في "كتاب اختالف الحديث" " :والعرايا التي أرخص رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم فيها ،ما ذكره محمود بن لبيد قال :سألت زيد بن ثابت فقلت :ما عراياكم هذه التي
تحلونها؟ فذكر معنى ما ذكره في البيوع ،قال الشافعي رحمه اهلل " :وحديث سفيان يدل على مثل هذا
الحديث" .وهو ما رواه الشافعي رحمه اهلل ،عن سفيان ،عن يحيى بن سعيد ،عن ُبشير بن يسار،
قال :سمعت سهل بن أبي حْثمة يقول :نهى النبي صلى اهلل عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر ،إال أنه
رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمًر ا ،يأكلها أهلها رطًبا.
وأراد الشافعي بذلك قوله" :يأكلها أهلها رطًبا" ،وليس يدل على تتمة السبب.
فتتبع سبب الورود ،فسر العرايا من جهة ،وأزال االختالف والتعارض من جهة ،وأزال االختالف
والتعارض من جهة أخرى.
وأكد البلقيني هذه الفائدة من فوائد تتبع أسباب الورود ،وهو إزالة التعارض في هذا المثال اآلخر،
وهو حديث النهي عن كراء األرض -وفي لفظ :كراء المزارع ،وهو المراد باألول.
رواه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،جماعة من الصحابة ،منهم "رافع بن خديج" ،ولحديث طرق،
منها ما رواه نافع :أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وفي
إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدًر ا من خالفة معاوية ،حتى بلغه في آخر خالفته أن رافع بن
خديج يحدث فيها بنهي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فدخل عليه وأنا معه وسأله فقال" :كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع" ،فتركها ابن عمر بعد ذلك ،فكان إذا ُس ئل
عنها بعد ،قال" :زعم ابن خديج أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نهى عنها" ،رواه "مسلم" بهذا
اللفظ.
وفي "البخاري" نحوه إلى قوله :ثم إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نهى عن كراء المزارع ،فقال ابن
عمر" :قد علمُت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بما على األربعاء
بشيء من التبن".
والحديث في كتاب البيوع ،من صحيح البخاري ،قال "القسطالني" على هامشه" :قوله :األربعاء،
بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة ممدوًد ا :جمع ربيع ،وهو النهر الصغير.
وقوله :من التبن ،بالموحدة الساكنة .وحاصل حديث ابن عمر هذا ،أنه ينكر على رافع إطالقه في
النهي عن كراء األرض ،ويقول" :الذي نهى عنه صلى اهلل عليه وسلم ،هو الذي كانوا يدخلون فيه
الشرط الفاسد ،وهو أنهم يشترطون ما على األربعاء ،وطائفة من التبن ،وهو مجهول".
وفي رواية لنافع ،أن ابن عمر كان يؤجر األرض ،قال :فنبئ حديًثا عن رافع ،قال :فانطلق بي معه
إليه .قال :فذكر عن بعض عمومته ،ذكر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه نهى عن كراء األرض،
قال :فتركه ابن عمر فلم يأُج ْر ه" ،رواه "مسلم" بهذا اللفظ.
ومنها رواية سالم بن عبد اهلل" :أن عبد اهلل بن عمر كان يكري أرضه ،حتى بلغه أن رافع بن خديج
األنصاري كان ينهى عن كراء األرض ،فلقيه عبد اهلل فقال :يا ابن خديج ،ماذا تحدث عن النبي
صلى اهلل عليه وسلم في كراء األرض؟
قال رافع بن خديج لعبد اهلل" :سمعت عّم ي -وكانا قد شهدا بدًر ا -يحدثان أهل الدار أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم نهى عن كراء األرض .قال عبد اهلل :لقد كنت أعلم في عهد رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم أن األرض ُتكرى ،ثم خشي عبد اهلل أن يكون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحدث
في ذلك شيًئا لم يكن يعلمه ،فترك كراء األرض" رواه مسلم .وأخرج البخاري قول عبد اهلل بن
عمر الذي في آخره.
وفيها رواية أبي النجاشي ،مولى رافع بن خديج ،عن رافع أن ظهير بن رافع -وهو عمه -قال
ظهير :لقد نهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن أمر كان بنا رافًقا ،فقلت :وما ذاك؟ ما قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فهو حق.
قال :سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت :نؤاجرها يا رسول اهلل على الربع ،واألوسق من التمر
والشعير ،قال" :فال تفعلوا ،ازرعوها ،أو ُأزِر عوها ،أو امسكوها""رواه "البخاري" ،وفي روايته" :قال
رافع :قلت :سمًع ا وطاعة" ،ورواه مسلم وهذا لفظه.
ومنها رواية سليمان بن يسار ،عن رافع بن خديج ،قال" :كنا نحاقل األرض على عهد رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،فنكريها بالثلث ،والربع ،والطعام المسّم ى ،فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي
فقال :نهانا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن أمر كان لنا نافًع ا ،وطواعية اهلل ورسوله أنفع لنا:
نهانا أن نحاقل األرض ،فنكريها على الثلث ،والربع ،والطعام المسّم ى ،وأمر رب األرض أن
يزرعها ،وكره ِك راها ،وما سوى ذلك" .رواه "مسلم" بهذا اللفظ ،وله طرق.
وممن رواه من الصحابة" :جابر بن عبد اهلل" وله ألفاظ كلها في "الصحيح" ،منها عن جابر قال" :نهى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن كراء األرض".
ومنها ،عنه ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من كانت له أرض فليزرعها ،فإن لم
يزرعها فلُيْز ِر عها أخاه ".
ومنها ،قال "جابر" :كان لرجال فضوُل أرضين من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ":من كانت له فضل أرض فليزرْع ها أو ليْم نحها أخاه ،فإن أبى
فليمسك أرضه" .ومنها ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من كانت له أرض فليزرْع ها،
أو لُيْز ِر عها أخاه ،وال َيْك ِر ها".
ومنها رواية "سعيد بن ميناء" عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :من كانت له فضل أرض
فليزرْع ها أو لُيزِر عها أخاه ،وقال وال تبيعوها" قال الراوي عن ابن ميناء :ما "وال تبيعوها"؟ ،يعني
الكراء؟ قال :نعم.
وممن روى ذلك من الصحابة "أبو هريرة" رضي اهلل عنه ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،أنه
قال" :من كانت له أرض فليزرْع ها أو ليْم نحها أخاه ،فإن أبى فلُيمسك أرضه" .رواه "مسلم" مسنًد ا
عن حسن بن علي الحلواني ،عن أبي توبة ،عن معاوية ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن ،عن أبي هريرة .وذكره البخاري تعليًقا.
يقول البلقيني :ولذلك سبب ،وهو ما جاء عن رافع بن خديج "قال :كنا أكثر أهل المدينة مزرًع ا ،كنا
نكري األرض بالناحية منها على مسمى ،فمما يصاب ذلك وتسلم األرض ،ومما تصاب األرض
ويسلم ذلك ،فنهينا .فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري .وعن رافع بن خديج قال:
كنا أكثر األنصار حقًال ،كنا نكري األرض على أن لنا هذه ولهم هذه ،قال :فربما أخرجت هذه ،ولم
"فأما الورق فلم ينهنا" ،رواه مسلم ،وهذا لفظه. تخرج هذه ،فنهانا عن ذلك.
وروى البخاري عنه قال" :كنا أكثر أهل المدينة حقًال ،وكان أحدنا يكري أرضه فيقول :هذه القطعة
لي ،وهذه لك ،فربما أخرجت ذه ،ولم تخرج ذه ،فنهاهم النبي صلى اهلل عليه وسلم -وفي لفظ له
أيًض ا -فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ،فنهينا عن ذلك ،ولم ُنْن ه عن الورق".
ولمسلم عن حنظلة بن قيس األنصاري ،أنه سأل رافع بن خديج عن كراء األرض ،فقال" :نهى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن كراء األرض ،قال :فقلت :أفي الذهب والورق؟ قال :أما الذهب
والورق فال بأس به".
وفي رواية لمسلم عن حنظلة ،قال" :سألت رافع بن خديج عن كراء األرض بالذهب والورق ،فقال:
ال بأس به ،إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم على الماذيانات ،وأقبال
الجداول ،وأشياء من الزرع ،فيهلك هذا ويسلم هذا ،ويسلم هذا ويهلك هذا ،فلم يكن للناس كراء إال
هذا ،فلذلك زجر الناس عنه ،فأما شيء معلوم مضمون فال بأس به".
فهكذا يتتبع اإلمام البلقيني الروايات التي تتضمن سبب الورود ،وما تتضمنه هذه الروايات من
مواقف للصحابة رضوان اهلل عليهم ،كموقف عبد اهلل عمر رضي اهلل عنه من تسليمه وإ ذعانه ألمر
لم يكن يعلمه من قبل ،وإ ذعان رافع لما أمر به ،وإ ذعان الرجل من بني عمومته،ولو كان في تصوره
ال يطابق منفعة كما قال…" :عن أمر كان لنا نافًع ا ،وطواعية اهلل ورسوله أنفع لنا".
وما يصحب هذه المواقف من بيان ما كان عليه الناس في معامالتهم ،وتوافق الفتوى على ما كانوا
عليه ،وبيان أسباب النهي ومالبساته ،وغير ذلك من الفوائد العلمية ،التي يقف عليها المتتبع ألسباب
الورود.
فقد صّر حت هذه الروايات بالسبب المقتضى للنهي :وأما ما سبق من رواية سليمان بن يسار ،عن
رافع ،عن رجل من عمومته ،التي فيها النهي عن كراء األرض بالطعام المسمى -وقد رواها مسلم
من طريق أبي الطاهر عن رافع ،من غير ذكر :بعض عمومته 0فهو محمول على الطعام المسمى
من تلك األرض ،ال على المضمون في الذمة ،ولهذا السبب طرق أخرى من رواية رافع .وأما
رواية جابر -يرفعه -قال :كنا نخاير على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فنصيب من
القصرى ومن كذا ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من كانت له أرض فليزرعها ،أو
فلُيْح رثها أخاه ،وإ ال فليدْع ها" رواه مسلم.
وله عنه قال :كنا في زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،نأخذ األرض بالثلث أو الربع،
بالماذيانات؛ فقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال" :من كانت له أرض فليزرْع ها ،فإن لم يزرْع ها
فليْم نحها أخاه ،فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها ".
ويخلص البلقيني إلى تحرير القول في هذه الروايات ،فيقول :فظهر بذلك أن النهي عن كراء األرض
في حديث "جابر" ،إنما كان لهذا السبب ،ال أنه نهى عن اإلجارة مطلًقا.
ويكون نهي عن كراء األرض بما كان يعتاد من األمور التي فيها الغرر والجهل ،ويؤدي إلى النزاع.
ويشهد له ما جاء عن "سعد بن أبي وقاص" :أن أصحاب المزارع في زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،كانوا ُيكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع ،وما ُس قي بالماء مما حول البئر،
فجاءوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن
ُيكروا بذلك ،وقال" :اكروا بالذهب والفضة " .رواه اإلمام أحمد -وهذا لفظه -وأبو داود،
والنسائي .وللعلماء في هذه األحاديث مقاالت ليس هذا موضع بسطها.
وينبه "البلقيني" في دراسة أسباب ورود الحديث ،إلى أن السبب قد يكون من لفظ النبي صلى اهلل عليه
وسلم ،وقد يكون في طريق من طرق الرواية ،وقد ال يكون في آخر .وهذا يقتضي التتبع والجمع
لألسباب ،يقول البلقيني :وما ذكر في هذا النوع من األسباب :قد يكون ما ذكر عقد ذلك السبب من
لفظ النبي صلى اهلل عليه وسلم ،أول ما تكلم به النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الوقت .وقد
يكون تكلم به قبل ذلك لنحو ذلك السبب ،أو ال لسبب .وقد يتعين أن يكون أول ما تكلم به في ذلك
الوقت ألمور تظهر للعارف بهذا الشأن.
ويشير إلى موارد هذه األسباب بقوله :وفي أبواب الشريعة والقصص وغيرها ،أحاديث لها أسباب
يطول شرحها .وما ذكرناه أنموذُج لمن يريد َتعّر ف ذلك ،ومدخل لمن يريد أن يضيف مبسوًطا في
ذلك .والمرجو من اهلل سبحانه وتعالى ،اإلعانة على مبسوط فيه ،بفضله وكرمه .فهذا األنموذج الذي
قدمه اإلمام البلقيني في أسباب ورود الحديث ،هل يعد مدخًال لمن يريد أن يضيف مبسوًطا في ذلك؟
لقد قدم البلقيني هذه الدراسة الموجزة لتكون مدخًال لمن يريد اإلضافة ،ولكنها مع إيجازها قد وفت
بما يرجوه القارئ والدارس من األعمال األولى الممهدة للطريق ،فقد بين في دراسته ما يلي-:
ثانيًا :نظر إلى ما كتب قبل ذلك ،فوجد نفسه أول من سيكتب في هذا الموضوع ،فله فضل السبق،
ومعاناة المؤسس ،وما سبق في ذلك إال بشيء يسير.
ثالًثا :استطاع أن ييسر لنا تقسيم األسباب -وفق ما ورد في األحاديث -إلى :أسباب تذكر في
الحديث نفسه ،وهذه ال تحتاج أكثر من حسن التدبر والتأمل ،للربط بين الحديث وسببه ،في الفهم
واالستنباط.
وأسباب ال تذكر في الحديث نفسه ،وإ نما تأتي عن طرق أخرى ،وخرجت في مصنفات أخرى.
وهذا القسم هو الذي يتطلب جهًد ا علمًيا في تتبع هذه الطرق ،ويقتضي هذا التتبع القراءة الواسعة
الواعية في كتب السنة ،وحسن الربط بين المعاني في الرواية.
رابًع ا :من خالل نماذجه ،استطعنا أن نتعامل مع هذه األسباب ،باعتبارها روايات ،مستقلة يجري
عليها ما يجري على الروايات من قواعد النقد الحديثي ،في السند والمتن.
خامًس ا :قدم -لنا -نماذج ألسباب ال تتجاوز معنى سؤال السائل واإلجابة من النبي صلى اهلل عليه
وسلم.
وهذا ما دعاني إلى القول :بأن مثل هذه األسباب في حاجة إلى مزيد من التتبع ،لمعرفة أحوال السائل
عند سؤاله ،وطبيعة السؤال والبيئة التي قيل فيها ،وغير ذلك من المالبسات والقرائن ،التي تجعل
للسؤال قيمة في معنى سبب الورود.
سادسًا :قدم لنا أسباًبا في صورة قصة للحديث ،أو تفسير حالة كان من أجلها الحكم الوارد في
الحديث ،أو بيان موقف كان له أثر في هذا الحكم ،أو مالبسات اقترنت بهذا الحكم ،أو خصوصية
اقتضت هذا الحكم ،أو تفصيالت ال بد من معرفتها إلمضاء هذا الحكم في الحديث.
سابًع ا :نّبهنا إلى قيمة هذا التتبع في مقارنة الطرق ،وظهور العلل الخفية -أحياًنا -عند هذه
المقارنة بين األسانيد.
ثامًنا :وجه الباحثين إلى موارد هذه األسباب في أبواب الشريعة ،حيث األحكام ،وفي القصص حيث
المواقف والمالبسات والظروف ،وغيرها من األبواب ،التي ُتطرق في تتبع هذه األسباب.
تاسًع ا :قدم لنا بهذا التتبع المصحوب الدراسة ،كيف نجمع بين الروايات في الموضوع الواحد ،وكيف
نزيل ما يكون من تعارض أو اختالف بينها.
عاشًر ا :قدم في نماذجه ،كيف تعين األسباب على معرفة الحكمة من التشريع ،والناسخ والمنسوخ،
وحسن الفهم للمعاني ،ومواجهة التعنت من المخالفين في الدين ،وتعدد وجهات النظر في فهم
الروايات ،وطبيعة الصحابة في السماحة وحسن السمع والطاعة ،والرجوع إلى السنة وما قضى به
النبي صلى اهلل عليه وسلم ،على الفور ،عند العلم بها.
ونستطيع بعد هذا التقديم لعمل البلقيني ،أن نقول :إنه وفق في فتح الطريق أمام البسط والتتبع ألسباب
ورود الحديث ،فمن قدم لنا مبسوًطا بعده؟؛ وما المنهج الذي سار عليه؟.
وقد مر بنا قوله في ذلك عند الحديث عن بداية الكالم في أسباب الورود ،وارتباط ذلك بأسباب
النزول ،والمؤلفات المفقودة في هذا الموضوع ،وُأحب أن يجمع كتاًبا في ذلك ،فسلك مسلك التتبع
للجوامع الحديثية ،وااللتقاط منها.
وسار على المنهج الذي استخلصه من طريقة اإلمام البلقيني في األمثلة التي ذكرها ،أي تتبع في المع
وااللتقاط األسباب على النحو اآلتي-:
-قد ال ُينقل السبب في الحديث ،ولكن ُينقل في بعض طرقه ،وهذا سبله التتبع
وهو ما ينبغي االعتناء به ،وبذل الجهد فيه.
-وقد يكون ما ذكر عقب السبب من لفظ النبي صلى اهلل عليه وسلم ،أول ما تكلم
به النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذلك الوقت.
فهذه األسباب التي حكاها عن منهج السابقين فيها ،واختارها لتطبيق جمعه وتصنيفه عليها ،فارتضى
السؤال في الحديث نفسه ،أو السبب المنفصل عن الحديث ،وجاء بطرق أخرى ،والظروف
والمالبسات التي ترتبط بأقوال الرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتعرف بالخبرة والتتبع الواسع.
ولكن تطبيق اإلمام السيوطي لهذا المنهج السابق ،والذي وافق عليه ،جعله يأخذ معه األمثلة التي
ذكرها اإلمام البلقيني ،تصريًح ا بها في مقدمته مع اإليجاز ،ونسبتها إلى البلقيني ،وأغفل نسبتها عند
التفصيل.
ففي خطبة كتابه ،أشار إلى حديث "إنما األعمال بالنيات" ،وتناُو ِل ابن دقيق العيد له ،وكذلك البلقيني
في أسباب الورود.
وما ذكره البلقيني كذلك ،في حديث سؤال جبريل عن اإلسالم ،وحديث القلتين ،وحديث الشفاعة،
وحديث سؤال النجدي ،وحديث "صّل فإنك لم تصِّل " ،وحديث "خذي ِف ْر صًة من مسك" ،وحديث
"السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب" ،وحديث "السائل"" :أُّي األعمال أفضل" ،وحديث سؤال" :أُّي
الذنب أكبر" ،وحديث "أفضل صالة المرء في بيته إال المكتوبة" ..فهذه نسبها عند اإلجمال ،ولكنه
فّص لها في جملة اختياراته ،وزاد عليها األمثلة األخرى التي ذكرها البلقيني.
إننا ال نستطيع الحكم في ذلك ،إال بعرض مقارنة سريعة بين ما ذكره البلقيني ،وما ذكره السيوطي.
فأما الجانب المختصر عند البلقيني ،فقد بسطه السيوطي بذكر الرواية وأسبابها ،على النحو اآلتي-:
حديث :أخرج األئمة الستة عن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم يقول" :إنما األعمال بالنيات ،وإ نما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى اهلل
ورسوله ،فهجرته إلى اهلل ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ،أو امرأة يتزوجها ،فهجرته
إلى ما هاجر إليه ".
سببه :قال الزبير بن بكار في أخبار المدينة :حدثني محمد بن الحسن ،عن محمد بن طلحة بن عبد
الرحمن ،عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث ،عن أبيه ،قال :لما قدم رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم المدينةُ ،و ِع ك فيها أصحابه ،وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة ،فجلس رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم على المنبر فقال :يا أيها الناس ،إنما األعمال بالنية (ثالًثا) ،فمن كانت هجرته
إلى اهلل ورسوله ،فهجرته إلى اهلل ورسوله ،ومن كانت هجرته في دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما
هجرته إلى ما هاجر إليه ،ثم رفع يديه ،فقال :اللهم انقل عنا الوباء (ثالًثا) .فلما أصبح قال :أتيُت
هذه الليلة بالُح ّم ى ،فإذا بعجوز سوداء ملّببة في َيَد ي الذي جاء بها ،فقال :هذه الحمى فما ترى؟ فقلت
اجعلوها بُخ ٍم .
وقد جعل السيوطي هذا الحديث في بداية كتابه على الرغم من تبويبه للكتاب على الطريقة الفقهية،
حيث بدأ بباب الطهارة ،وسلك في ذلك مسلك اإلمام البخاري رحمه اهلل في الجامع الصحيح ،باعتبار
أن النية أساس األقوال واألعمال ،وعلقها بالطهارة -كذلك -بِّيٌن في تنقية القلب وتطهيره.
وأما حديث سؤال جبريل عن اإلسالم واإلحسان ،فلم يورده السيوطي في التفصيل ،وهذا يدل على
أنه اختار من النماذج السابقة ،والسبب الذي ذكر فيه هو ما يتصل بمجيء جبريل عليه السالم في
صورة رجٍل شديد بياض الثياب ،شديد سواد الشعر ،وكيف جلس بين يدي النبي صلى اهلل عليه وسلم
،وقول الرسول الكريم" :فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".
وأما حديث القلتين ،فإن السيوطي رحمه اهلل ،قد ذكره في باب الطهارة ،ولكنه قدم من اختياراته في
باب الطهارة ثمانية أحاديث ،وتسعة عشر سبًبا للورود ،ومعنى ذلك أنه ليس بجامع لجهد غيره،
وإ نما أفاد من النماذج ،والمنهج ،وأحسن التطبيق في اختيارات أفادت من بعده.
وقال في حديث القلتين :حديث :أخرجه أبو أحمد الحاكم ،والبيهقي عن يحيى بن يعمر ،أن النبي
صلى اهلل عليه وسلم قال":إذا كان الماء قلتين ،لم يحمل نجًس ا ،وال بأًس ا ،أو قال خبًثا ".
سبب :أخرج أحمد عن ابن عمر قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وهو يسأل عن الماء،
يكون بأرض الفالة ،وما ينوبه من الدواب والسباع ،فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم " :إذا كان الماء
قلتين لم ينجسه شيء ".
وقد ُو فق محقق "أسباب ورود الحديث" الدكتور يحيى اسماعيل ،في إضافة ما يراه من أسباب مناسبة
في الهامش فيقول :وللحديث سبب ثان :أخرجه أحمد في ، 2/107من حديث عاصم بن المنذر،
قال :كنا في بستان لنا ،أو لعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عمر ،نرمي فحضرت الصالة ،فقام عبيد اهلل إلى
مْقرى البستان ،فيه جلد بعير ،فأخذ يتوضأ فيه ،فقلت :أتتوضأ فيه ،وفيه هذا الجدل؟ فقال :حدثن
أبي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :إذا كان الماء ُقلتين أو ثالًثا ،فإنه ال َيْن جس" ..والَم قرى
والَم ْقراء :الحوض الذي يجمع فيه الماء.
وترك السيوطي حديث الشفاعة ،وسببه قوله صلى اهلل عليه وسلم " :أنا سيد ولد آدم وال فخر".
والحديث أخرجه أحمد في المسند ،1/281والترمذي في أبواب التفسير ،تفسير سورة اإلسراء
،4/370عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه.
وترك حديث سؤال النجدي ،والذي أخرجه البخاري في كتاب الحيل ،باب الزكاة ،229وكتاب
اإليمان باب الزكاة من اإلسالم ،1/18ومسلم في كتاب اإليمان ،1/141وأبو داود في كتاب الصالة
1/92عن طلحة بن عبيد اهلل قال" :جاء رجل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل نجٍد ثائر
الرأسُ ،يسمع دوّي صوته وال نفقه ما يقول ،حتى دنا ،فإذا هو يسأل عن اإلسالم ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :خمس صلوات في اليوم والليلة ،فقال :هل علّي غيرها؟ قال :ال إال أن
تطّو ٍع ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :وصيام رمضان .قال :هل علّي غيره؟ قال :ال إال أن
تطّو ع ،قال :وذكر له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الزكاة ،قال :هل علّي غيرها؟ قال :ال إال أن
تطّو ع ،قال :فأدبر الرجل ،وهو يقول :واهلل ال أزيد على هذا وال أنقص .قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :أفلح إن صدق ".
وكذلك لم يذكر حديث" :صّل فإنك لم تصّل " ،وقد أخرجه البخاري في كتاب األذان باب االلتفات في
الصالة ،عن أبي هريرة .1/192
ولم يذكر حديث" :خذي ِف ْر صة من مسك" ،ولم يذكر حديث" :السؤال عن دم الحيض يصيب
الثوب" ،وحديث السائل" :أُّي األعمال أفضل" ،وحديث سؤال" :أُّي الذنب أكبر" .وعلى ذلك ،فإن
اختيار اإلمام السيوطي من هذه األسباب السابقة ،كان يسيًر ا ،والذي اختاره منها هو من النوع الذي
ُيذكُر فيه السبب بطريق آخر ،أو في رواية أخرى .ومعنى ذلك أنه اختار في تصنيفه ،الطريق الذي
يحتاج إلى جهد وتتبع ،وليس سؤاًال في حديث ،أو موقًفا ،أو طرًفا في الرواية نفسها.
ولذلك سنجده قد توسع في االختيار من األمثلة األخرى ،التي ذكرها البلقيني بأسباب منفصلة عن
الروايات.
فمثًال ذكر حديًثا أخرجه أحمد ،عن السائب بن أبي السائب ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،قال:
صالة القاعد على النصف من صالة القائم .وأخرج البخاري عن عمران بن حصين ،أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم قال" :من صلى قاعًد ا فله نصف أجر القائم ".
سبب :أخرج عبد الرزاق في المصنف ،وأحمد عن أنس قال :لما قدم النبي صلى اهلل عليه وسلم
المدينة وهي ُم حّم ةَ ،فُح ّم الناس ،فدخل النبي صلى اهلل عليه وسلم المسجد ،والناس قعود يصلون،
فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم " :صالة القاعد نصف صالة القائ م" ،فتجشم الناس الصالة قياًم ا.
وأخرج عبد الرزاق ،عن عبد اهلل بن عمرو ،قال :قدمنا المدينة ،فنالنا وباُء من وعك المدينة شديد،
وكان الناس يكثرون أن يصلوا في ُس ُبحتهم جلوًس ا ،فخرج النبي صلى اهلل عليه وسلم عند الهاجرة
وهم يصلون في سبحتهم جلو ا ،فقال" :صالة الجالس نصف صالة القائم" قال :فطفق الناس حينئٍذ
ًس
يتجشمون القيام.
وذكر كذلك حديث" :ال تصوم امرأُة وبعُلها شاهُد إال بإذنه ،غير رمضان" ،وذكر سببه في حديث
امرأة صفوان بن المعطل.
وذكر كذلك -مع إضافٍة منه لما وقع عليه -الحديث الذي أخرجه األئمة الستة عن أبي هريرة قال:
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إذا أقيمت الصالة فال تأتوها وأنتم تسعون ،ولكن ائتوها وأنتم
تمشون ،وعليكم السكينُة ،فما أدركتم فصّلوا ،وما فاتكم فأتمو ا".
والسبب :أخرجه أحمد ،والبخاري ،ومسلم عن أبي قتادة ،عن أبيه ،قال :بينما نحن نصلي مع النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،إذ سمع َج َلَبَة رجاٍل ،فلما صلى دعاهم ،فقال :ما شأنكم؟ قالوا :يا رسول اهلل
استعجلنا إلى الصالة ،قال" :فال تفعلوا .إذا إتيتم الصالة فعليكم السكينة ،فما أدركتم فصلوا ،وما
سبقكم فأتموا".
ولكن إذا كان البلقيني قد جعل حديث معاذ سبًبا لورود الحديث" :إذا أتيتم الصالة فال تأتوها وأنتم
تسعون ،ولكن ائتوها وعليكم السكينُة ،فما أدركتم فصلوا ،وما فاتكم فأتموا" ،فإن السيوطي قد جعله
سبًبا لحديث آخر أخرجه الترمذي ،عن علّي وعن عمرو بن مرة ،عن أبيه ،عن ابن أبي ليلى ،عن
معاذ ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إذا أتى أحدكم الصالة واإلماُم على حال ،فليصنع
كما يصنع اإلمام" .
وهذا يدل على أن تحديد السبب ،أمُر اجتهادي ،وأن السبب قد يصلح ألكثر من رواية ،وأن السبب قد
يتعدد.
وذكر حديث" :أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان" ،وأورد ما ذكره البلقيني،
وزاد من اختياره أسباًبا أخرى ،منها :ما أخرجه أحمد ،عن عروة بن الزبير ،قال :قال زيد بن ثابت:
"يغفر اهلل لرافع بن خديج ،أنا واهلل أعلم بالحديث منه ،وإ نما أتى رجالن قد اقتتال ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :إن كان هذا شأنكم ،فال تكروا المزارع ،فسمع رافع قوله :ال ُتكروا
المزارع".
وذكر السيوطي كذلك ،حديث زيد بن ثابت ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،رّخ ص في العرايا.
ومع هذا االختيار ،الذي اتبعه السيوطي مع من سبقه ،إضافة عظيمة ألحاديث أخرى بأسباب مستقلة
بلغت جميعها ثمانية وتسعين حديًثا ( ،)98وأربعة وسبعين ومائتي سبب .صنفها على أبواب
الطهارة ،والصالة ،والجنائز ،والصيام ،والحج ،والبيع ،النكاح ،والجنايات ،واألضحية ،واألطعمة،
واألدب.
ونستطيع أن نقول :إن صنيع اإلمام السيوطي ،قد أرسى دعائم هذا النوع العظيم من أنواع علوم
الحديث ،في كثرة العدد ،وتنوع الموضوعات ،وتتبع األسباب خارج الحديث.
وفتح الطريق أمام السالكين لهذا النوع الجدير ببذل المزيد من الجهود فيه.
لقد انطلق ابن حمزة في عمله ،من القاعدة السابقة ،التي أرساها البلقيني والسيوطي ،حتى نجد
التطابق في استعماله لعبارات السابقة في هذا الموضوع .فمعرفة األسباب عنده ،من أجّل أنواع
علوم الحديث.
والذين ألفوا فيه ،قد ذكرهم -كما سبق -فقال" :وقد ألف فيها أبو حفص العكبري كتاًبا ،وذكر
الحافظ ابن حجر أنه وقف منه على انتخاب ،ولما لم أظفر في عصرنا بمؤلف مفرد في هذا الباب،
غير أوائل تأليٍف َش رع فيه الحافظ السيوطي ،ورتبه على األبواب ،فذكر فيه نحو مائة حديث..
واخترمته المنيُة قبل إتمام الكتاب ،سنح لي أن أجمع في ذلك كتاًبا ،تقربه عيون الطالب ،فرتبته
على الحروف والّس نن المعروف ،وأضفت له تتمات تمس الحاجة إليها ،وتحقيقات يعّو ل عليها،
وسميته" :البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف ."..وأسباب الورود عنده كأسباب نزول
القرآن الكريم .والحديث الشريف عنده -في الورود 0على قسمين :ما له سبب قيل ألجله ،وما ال
سبب له .والسبب عنده -كذلك -قد يذكر في الحديث ،وقد ال يذكر السبب في الحديث ،أو يذكر في
بعض طرقه ،فهو الذي ينبغي االعتناُء به ،ويورد األمثلة ذاتها.
ويضيف ما أفاده الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي ،من أن سبب الحديث ،يأتي تارة في عصر
النبوة ،وتارة بعدها ،وتارة يأتي باألمرين ..ويقصد بما يكون بعد عصر النبوة ،ما ورد عن الصحابة
رضي اهلل عنهم ،فقد حفظوا األقوال واألفعال ،وحافظوا على األطوار واألحوال ،فيكون السبب في
الورود عنهم ،مبيًنا لما لم يعلم سببه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم .كما ُع ني في منهجه بتخريج
أحاديثه من المعاجم والمسانيد ،والكتب الستة ،وابتدأ بحديث "إنما األعمال بالنيات".
وقدم لنا بهذا المنهج من األحاديث ،تسعة وثالثين وثمانمائة وألف ،بأسباب كثيرة .وقد حقق هذا
الكتاب في ثالثة أجزاء ،فضيلة األستاذ الدكتور الحسيني هاشم رحمه اهلل.
وهذا مثال ،اشترك فيه مع السابقين ،وقّد مه على النحو اآلتي" :إذا أتى أحدكم الصالة ،واإلماُم على
حال ،فليصنع كما يصنع اإلمام " .أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير ،عن معاذ بن جبل رضي
اهلل عنه ،قال الترمذي :هذا حديث غريب.
سببه :ما أخرج الطبراني عن معاذ ،قال :كان الناس على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،إذا
سبق أحدهم شيء من الصالة سألهم ،فأشاروا إليه بالذي ُس بق به ،فيصلي ما ُس بق ،ثم يدخل معهم في
صالتهم ،فجاء معاذ والقوم قعود في صالتهم ،فقعد معهم ،فلما سلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال ،فقضى ما ُس بق به ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :اصنعوا ما صنع معاذ".
وفي رواية له عن معاذ :فقلت :ال أجده إال لبث عليها ،فكنت بحالهم التي وجدتهم عليه ،فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :قد سّن لكم معاذ ،فاقتدوا به ..إذا جاء أحدكم وقد ُس بق بشيء من
الصالة ،فليصِّل مع اإلمام بصالته ،فإذا فرغ اإلمام ،فليتم ما سبقه به ،والعمل على هذا عند أهل
العلم.
الخــــاتمــــــة
وبعد هذه الدراسة التحليلية ،لتأسيس منهٍج في تتبع أسباب الورود ،لتقديم مصنفاًت جديدة فيهاُ ،نبرُز
أهم النتائج التي توصلنا إليها:
-إن إدراك أهمية المعرفة ألسباب الورود في فهم الحديث ،بدأ بالصحابة رضوان اهلل عليهم ،حيث
كانت مدارستهم لما قاله النبي صلى اهلل عليه وسلم ُ ،تصحب بذكر المواقف التي قيل فيها الحديث -
كما جاء في كراء األرض -والزمن الذي قيل فيه ،كإشارتهم بقولهم" :يومئذ" ،والحوار الذي يدور
بين النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رضوان اهلل عليهم.
-ربط العلماء بين أسباب ورود الحديث وأسباب نزول القرآن في أهمية المعرفة لتوجيه المعاني
في النصوص.
ووجدت أن هذا الربط بينهما -كذلك -في اعتماد السببين على الرواية ،وجريان قوانين الرواية في
مصطلح الحديث على روايات السببين.
والرواية في السببين قد تكون من أقوال النبي صلى اهلل عليه وسلم ،أو من أقوال الصحابة رضوان
اهلل عليهم ،وهي في مثل هذه الحالة ،في حكم المرفوع ،أو من أقوال التابعين ،ويشترط في ذلك أن
يكون التابعي معروًفا بالتحديث عن الصحابة وحدهم.
والتفريق بين السببين في استعمال صيغة" :فنزلت" ،مع آيات القرآن الكريم ،و "ورد" مع الحديث
الشريف.
كما وجدنا أن التشابه بين السببين في أن آيات القرآن الكريم ،منها ما يرتبط بأسباب نزول ،ومنها ما
نزل ابتداء ،وكذلك األحاديث منها ما يرتبط بأسباب ورود ،ومنها ما قيل ابتداء.
-وإ ذا كان الجمع والتصنيف قد استوعب أسباب النزول ،فإن الجمع والتصنيف في أسباب الورود،
ما زال في حاجة إلى إضافات جديدة ،لكثرة المصنفات في الحديث النبوي ،وقلة ما صنف في أسباب
الورود.
-بدأ التصنيف في أسباب ورود الحديث ،بأبي حفٍص العكبري (المتوفى 399هـ) ،ولكن مصنفه في
ذلك مفقود ،وكذلك فقد مصنف أبي حامد عبد الجليل الجوباري.
-أول عمل يجمع بين التقنين والنماذج في أسباب الورود ،هو النوع التاسع والستون في محاسن
االصطالح للبلقيني (المتوفى 805هـ).
-سار على منهجه ،واختار بعض نماذجه ،وأضاف إليها عدًد ا كبيًر ا اقترب من المائة ،اإلمام
السيوطي (المتوفى 911هـ) في مصنف بعنوان" :الُّلمع في أسباب الحديث".
-وعلى المنهج نفسه ،توسع في النماذج واالختيارات ابن حمزة الحسيني الحنفي الدمشقي (المتوفى
1110هـ) ،في كتابه" :البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف".
-بقي من األحاديث التي تحتاج إلى تتبع ،لربطها بأسبابها ،الكثير ،وهذا ما يدعوني إلى تقديم هذا
المقترح ،المقترن بالمنهج ،واألساس الذي يسير عليه الجهد المعاصر في هذا السبيل ،وهو التتبع
الشامل لكتب الحديث ،وكتب التاريخ ،التي تسير على منهج المحدثين في ذكر الروايات بأسانيدها،
وكذلك كتب التراجم.
-وهذا التتبع يسترشد بالنتائج ،التي وقفنا عليها من دراسة طبيعة األسباب ،والتي وجدناها على
النحو التالي:
-أسباب تذكر في الحديث نفسه (كوجود موقف فيه ،أو ظروف ومالبسات تذكر في الحديث ،أو
سؤال يوجه) وأكثر هذا النوع يكون سؤاًال ،أو حواًر ا ،وقد يحتاج مجرد وجود سؤال أن يتتبع
صاحب السؤال ،لمعرفة ما يتعلق به من صفات وأحوال.
ولذلك استنتجنا أن ما ورد من أسباب ،قد يكون في السبب ما يحتاج إلى سبب آخر ،يأتي باستمرار
التتبع والنظر.
واستنتجنا -كذلك -أن النظر في األسباب ،وربطها بأحاديثها ،يتضمن االجتهاد ،وبذل أقصى الجهد
الفعلي في إدراك العالقات بين األحاديث وأسبابها؛ فإذا كان االعتماد في السبب على الرواية ،فإن
االجتهاد يدخل في الربط بين األسباب وأحاديثها .كما يدخل هذا الجهد في توثيق الروايات
واالطمئنان إلى صحتها ،قبل الجمع ،أو الترجيح بينها.
وهذه األسباب المتضمنة في األحاديث ،يكون تتبعها بالمنهج السابق ،من األعمال التي ينهض بها
الباحث على انفراد ،ولكن نظًر ا لكثرة الروايات في المصنفات الحديثية ،فإن النهوض بهذا الجهد،
يحتاج إلى عمل فريق من المتخصصين ،في األقسام العلمية ،والمراكز البحثية ،لحصر كتب السنة،
والتاريخ ،والسير ،والتراجم ،وتوزيعها توزيًع ا يتيح للفرد الواحد ،قدًر ا مناسًبا يتيح النظر ،والتدبر،
لتحديد األسباب ،ووجه العالقة بين الحديث والسبب.
كما يضاف إلى هذا الجهد الفردي ،جهد جماعي في عرض عمل الفرد على مجموعة من الباحثين،
لتبادل وجهات النظر فيما وصل إليه كل باحث على حجه ،وبذلك نجمع بين جهد الباحث والفرد،
واالطمئنان عليه ،برأي الجماعة.
-أسباب ال تذكر في الحديث نفسه ،وإ نما تذكر في روايات أخرى ،أو في طرق أخرى للحديث،
وهذا يقوم به -أيًض ا -الباحث ،الذي يوسع قراءاته في المصادر الحديثية المذكورة ،ليتتبع هذه
األسباب المتناثرة ،وبعد أن يجمع في ذلك قدًر ا مناسًبا ،يطمئن على صنيعه ،بالعرض على الفريق
المتخصص ،لالطمئنان على سالمة هذا الربط والتصنيف.
-هذا ما يتعلق بخطة العمل لما يكون من األسباب الجديدة في التصنيف ..وأما ما يتعلق بما صنف
سابًقا ،فإن العمل الذي يناسبه ،أن توثق فيه روايات األسباب ،لتمييز الصحيح منها ،من الحسن ،من
الضعيف ،وخاصة في البيان والتعريف البن حمزة الدمشقي.
* نشر له العديد من المؤلفات في التفسير ،والحديث ،والفقه .وأصوله ،والسيرة ،وقضايا الفكر
اإلسالمي.
* معني بتيسير كتب التراث للدارسين المعاصرين ،وقدم في ذلك كتاب "الجامع ألخالق الراوي
وآلداب السامع ،للخطيب البغدادي :دراسة وتحقيق وتعليق" ،مع بيان قيمته التربوية والتعليمية.
* عمل بجامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،ويعمل اآلن أستاًذ ا بكلية الشريعة والدراسات
اإلسالمية بجامعة قطر.