Professional Documents
Culture Documents
تأليف
أحمد التالوي
القاهرة
2020م
اإلهداء:
ٍ
باحث عن مسلم
ٍ إىل كل
الفهم واحلقيقة يف هذا العامل..
ﱫﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﱪ
ورة "هود"]
[قرآن كريم ُ -س َ
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مقدمة
[]1
يف ُسورة "الفرقان" ،يقول رب العزة سبحانه﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾ ،ولئن كان القرآن الكريم ،هو كتاب اهلل املتني،
الذي نزل به الروح األمني ،من لدن اهلل تبارك وتعاىل ،عىل قلب حممد ﷺ ،حام ً
ال
الدار ْين ،الدنيا واآلخرة؛
وس ُبل هدايتهم وسعادهتم يف َ تعاليم اهلل عز وجل للبرشُ ،
فإننا يمكن أن نفهم ِع َظ ِم َ
اخل ْطب الذي تشري إليه هذه اآلية.
السورة ،كام يقول اإلمام القرطبي ،يف اجلامع ألحكام القرآن،
ويف مقصود هذه ُّ
التأكيد عىل ِع َظم القرآن الكريم ،والرد عىل مطاعن الكفار يف نبوة رسول اهلل ﷺ،
والرد عىل مقاالهتم يف ذلك ،والتي كان من بينها القول بأن القرآن الكريم من افرتاء
حممد ﷺ ،وإنه ليس من عند اهلل عز وجل.
السورة ،إثبات ألوهية
ولذلك يقول أهل العلم ،إنه من بني أهم دعائم هذه ُّ
منزل من عند اهلل عز وجل ،والتأكيد عىل صدق
مصدر القرآن الكريم ،وأنه َّ
الرسول الكريم ﷺ ،فيام جاء به من عند اهلل ،من هذا القرآن العظيم.
9
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
10
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وه ْج ُر املسلمني للقرآن الكريم قضية كربى يف األزمة احلضارية التي تواجهها
َ
األمة يف الوقت الراهن ،فالقرآن الكريم هو منبع تعاليم اهلل عز وجل لعباده،
وحيمل رشعته ومنهاجه هلم ،وحيمل -كذلك -الرؤية الشاملة الرضورية لفهم
صريورات احلياة الدنيا ،واالستعداد لآلخرة ،ومصائر ومقادير البرش ،يف الدنيا
واآلخرة ،واألهم ،فهم حقيقة دور املسلم ،بل وكل إنسان من نسل آدم "عليه
السالم" ،يف احلياة الدنيا.
َّ
وهناك الكثري من الوثائق التي تتحدث عن خمطط شامل ألعداء األمة لفصل
املسلم عن القرآن الكريم ،ومن بني أمهها ،ما ترسب عن مؤمتر كلورادو التنصريي
الشهري ،املنعقد عام 1978م ،والذي تم فيه التأكيد عىل هذه املسألة ،باعتبار أن
القرآن الكريم هو بوصلة املسلم يف حياته ،وهو املعني األول لألمة يف مسريهتا
احلضارية ،وجيعل النظام اإلسالمي هو أكثر النظم الدينية واالجتامعية املتناسقة،
وسياسيا ،وعىل كل املستويات احلضارية.
ًّ اجتامعيا
ًّ
مهجورا من جانب املسلم؟! ..اإلجابة القريبة يف
ً ولكن ..كيف يكون القرآن
هذا ،هي أال يقرؤه ..ولكن هذه اإلجابة ليست شاملة لكل صور َه ْجر القرآن
الكريم ،ولكن الصورة األهم ،هي َه ْجر معاين القرآن الكريم ،وتطبيق التعاليم
الواردة فيه ،يف حياة كل مسلم ،ويف حياة املجتمع املسلم.
والقضية األساسية هنا ،هي أن القراءة وحفظ املتون ليس الوسيلة املثىل إلقامة
القرآن الكريم ،مع التأكيد – من جانب آخر – عىل أن القرآن الكريم هو ا ُمل َّ
تعبد
11
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بتالوته؛ وإنام األهم هو إقامة القرآن الكريم يف صدر كل مسلم ،ويف سلوكه ،ويف
جمتمعه.
األولني من السلف الصالح والصحابة ً
وقائم يف فكر َّ واضحا
ً وهذا األمر كان
مجيعا ،فليس كل الصحابة ،حتى ِمن بني َمن عارصوا دعوة
رضوان اهلل تعاىل عليهم ً
حممد ﷺ منذ بدايتها ،كانوا حيفظون القرآن ،ودليلنا يف ذلك ،املشكلة التي واجهت
مجاعة املسلمني ،بعد غزوة مؤتة ،والتي اس ُتش ِهد فيها الكثري من حفظة القرآن
جممعة ،خشية ضياعه من الصدور.
الكريم ،فتم تدوينه ألول مرة يف صحائف َّ
فلو كان احلفظ هو املهم؛ لكان كل الصحابة كانوا من ح َف َظته ،ولكنهم كانوا
عىل إدراك كامل بكيفية التعامل مع كتاب اهلل عز وجل ،وأن األهم من حفظ
طبعا -هو تطبيق هذه املتون عىل كل املستويات ،الفردية
املتون -عىل أمهية ذلك ً
واجلامعية ،السياسية واملجتمعية واالقتصادية ،وغري ذلك من جماالت.
ض ُ
اهلل عنه" ،كان يرى أن األصل ليس "ر ِ َ
بل إن أمري املؤمنني ،عمر بن اخلطاب َ
احلفظ؛ بل تطبيق القرآن الكريم ،وإقامة تعاليمه يف صدر املسلم ،ويف املجتمع ،فلم
وروي عنه – ً
أيضا – أنه مل يكن حيفظ اجلديد منه ،إال بعد يكن حيفظ كامل القرآنُ ،
تطبيق ما َح ِف َظ بالفعل من آيات.
**.*.
12
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
[]2
ظهرت فكرة هذا الكتاب من خالل متابعة التحوالت الكبرية احلاصلة عىل
مستوى اخلريطة السياسية واالجتامعية ،ليس عىل مستوى العامل العريب واإلسالمي
فحسب ،وإنام عىل مستوى عموم اإلنسانية.
ولعل أبرز هذه التحوالت ،قضية السيولة التي تكلم عنها زجيمونت باومان
وفالسفة ومفكرون آخرون ،سيولة يف الفكر ،وسيولة يف القيم ،وسيولة يف
العالقات االجتامعية ،ويف العالقات الدولية ،ويف خمتلف مستوى النشاط
اإلنساين.
قادت هذه السيولة ،إىل حالة غري مسبوقة من االنفتاح ،رافقها نمو يف مذهب
مل يلتفت إليه وال يف أثره يف حينه مفكرو احلركة اإلسالمية ،واملؤسسات العلامئية
والدعوية عرب العامل اإلسالمي ،وهو مذهب التفكيكية ،والذي طال كل يشء ،حتى
األفكار الدينية؛ حيث مل تعد هناك مقدسات ،وأن املعيار الوحيد هو التجريب مع
إعالء سلطان العقل.
وزاد من أثر وعمق هذه األمور ،التقدم الكبري يف جمال الوسائط املعرفية ،بام يف
ذلك وسائل احلفظ والتسجيل ،ووسائل اإلعالم ،يف ظل التطور الكبري يف جمال
التقنيات الرقمية ،فكانت فوىض كبرية يف الفضاء السيرباين ،يف ظل عدم القدرة
عىل ضبط حركة الكلامت واألفكار.
13
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبدا ذلك يف فرتة ما بعد ظهور منصات التواصل االجتامعي؛ حيث ُتعترب هذه
األخرية واحدة من أبرز املساحات التي يتم فيها تطبيق مذهب التفكيكية يف مرحلة
ما بعد احلداثة التي دخلتها اإلنسانية منذ نحو أربعة عقود.
ونال اإلسالم وكتابه ما ناله ،وفاقم من املحنة احلالية التي يتعرض هلا الدين،
حزمة من القضايا ذات الطابع السيايس ،من بينها الكثري من اخلطايا التي وقعت
فيها احلركات املنتسبة إىل اإلسالم ،وكذلك الرصاعات التي خاضتها مع أنظمة
عرف بالربيع
احلكم واملجتمعات يف كثري من البلدان العربية يف مرحلة ثورات ما ُي َ
العريب وما بعدها.
وكانت من بني أهم هذه اخلطايا ،خطيئة شيوع الفكر التكفريي ،والذي طال
تطورا من حالة اخلالف
ً املسلمني بعضهم ببعض ،وأدى إىل اقتتال داخيل بالسالح،
الفقهي التي كانت قائمة بني هذه احلركات واجلامعات عىل النحو الذي رأيناه يف
أفغانستان ،ونراه يف سوريا يف وقتنا الراهن.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك الكثري من األسباب األصولية الكامنة يف طبيعة
العقل اجلمعي املسلم ،وفهمه للدين وملفاهيم مفتاحية فيه ،قادت إىل هذه احلالة
التي يمكن أن نصفها باالرتكاس إىل مرحلة البداوة واجلاهلية التي جاء اإلسالم
لكي يبطلها.
ونتيجة لعوامل عديدة ،نجد أن العامل العريب واإلسالمي اآلن هو صاحب
النصيب األكرب من الدول املنضوية يف قائمة أو مؤرش الدول الفاشلة الذي تصدره
14
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
سنو ًّيا دورية الفورين بولييس ،والتي تتضمن فشل الدولة الوطنية القائمة منذ
مرحلة االستقالل عن االستعامر األورويب املبارش ،يف حتقيق دولة الرفاه واملساواة
واملواطنة.
واألهم من ذلك ،فشل هذه الدول ومؤسساهتا يف حتقيق حالة من االستقرار
والتضامن املجتمعي ،مما سمح لعوامل خارجية باهلبوب والتسبب يف رصاعات
بينية وأهلية عميقة ،تفكك أو ُت ِ
ضعف املركزيات املهمة يف املنطقة ،ومتنع التكامل
والتكاتف بني الدول العربية واملسلمة ،وحتول دون حتقيق تنمية داخلية حقيقية.
واملدهش أن ذلك يتم بينام متلك األمة اإلسالمية ما يمكنه أن ين ِهض حضارة،
أخوة الدين ،والقرآن الكريم ذاته ،الذي
ويوحد أمة ،مثل عقيدة التوحيد ،ومبدأ َِّّ
هو كالم اهللِ َّ
املتعبد بتالوته ،وبالتايل؛ فإنه يفرض عىل كل مسلم أن يتع َّلم اللغة
العربية لكي يتمكن من قراءة كتاب اهللِ تعاىل ،ومن الصالة وأداء الفرائض املرتبطة
باللغة العربية.
وكانت النتيجة حالة من الترشذم العميق ،والتخلف احلضاري الذي تم نسبه
لإلسالم ،ولكتاب اهللِ تعاىل ،بينام تناسى اجلميع أن العرب قد انطلقوا من قاع
الرتدي احلضاري واجلاهلية التي كانوا عليها ،إىل سيادة العامل القديم بالكامل يف
أقل من ثالثة عقود ،وبنى املسلمون يف القرون التالية عىل الفتوحات اإلسالمية
ومصدرا
ً مصدرا لعرص التنوير يف أوروبا،
ً الكربى ،حضارة استمرت لقرون ،كانت
إلهلام حضارات كاملة فيام بعد.
15
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
16
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بدأت أول ما بدأت بالبعوث العلمية والتعليمية يف القرن التاسع عرش) العرب
واملسلمني ،مثل مرص وبالد الرافدين.
وبالتايل؛ فإن مركز الثقل األسايس يف الرد عىل هذا كله ،وتوضيح الصورة ،هو
أن نستخلص من القرآن الكريم ذاته ما يفيد بأن اإلسالم ،إنام هو دين بناء وعمران
وحضارة ،ودين وحدة وتسامح وإخاء ديني وإنساين.
واستخالص ذلك من القرآن الكريم يكشف بدقة شديدة أن الترشذم والتخلف
احلال َي ْي يف األمة مصدرمها ،إما أثر خارجي ،من قوى االستعامر القديمة التي هيمها
أال تنهض أمة قوية موحدة تنافسها يف املجال احلضاري ،وهذا ال يتم مع األمة
العربية واألمة املسلمة فحسب ،وإنام يأيت يف سياق أوسع ،وهو الرصاع احلضاري،
وتنافس األمم ،ضمن قانون مهم تناوله القرآن الكريم ،وهو قانون التدافع.
ويمكن قراءة ذلك بسهولة يف سياسات التحالف األنجلو أمريكي بالذات مع كل
القوى واألمم الناهضة ،واملركزيات الكربى ،مثل االحتاد األورويب وروسيا والصني.
الصحيح ْي،
َ الديني ْي
َّ أو داخيلٌ ،
ممثل يف األثر العميق لغياب الثقافة والتعليم
وبالتايل ،عدم وجود مرجعية رشيدة لفهم القرآن الكريم وأحكام الرشيعة
اإلسالمية ومقوالهتا الكربى ،وبالتايل؛ ظهور تفسريات وتأويالت متعددة للنص
الواحد ،أو الوقوف عىل تفسريات ورؤى قديمة ،كانت فقط ابنة عرصها ،وال
تصلح لعرصنا احلايل.
**.*.
17
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
[]3
كنت يف هذا اإلطار ،قد بدأت يف السنوات املاضية ،يف مرشوع فكري مع
موقع "بصائر" املتخصص يف جمال الفكر اإلسالمي ،بجان َب ْيه؛ التأصييل واحلركي
التطبيقي ،حياول أن يتعمق يف هذه املساحات ،ويرد األمور إىل نصاهبا.
االجتاه األول ،يتعلق بقراءة جديدة يف القرآن الكريم إلبراز اجلوانب املتعلقة
بأسس احلضارة والعمران التي جاء هبا ،وكيف أهنا أكثر عدالة وثبا ًتا مما جاءت
به النظريات واأليديولوجيات األخرى التي وضعها اإلنسان ،وكيف أن القرآن
الكريم قد قدَّ م نظر ًة شاملة مل تقدمها فلسفة أخرى عرب التاريخ – ولن تقدمها ألن
القرآن من لدن حكيم عليم – عن حقيقة اإلنسان والكون ،وعالقة اإلنسان بذاته
وباآلخرين ،و – األهم – بخالقه ،وتصوراته عن احلياة وسعيه فيها.
ومن خالل املقاالت واألوراق العلمية التي تضمنها الفصل األول من
هذا الكتاب" ،معامل احلضارة واملدينية والعمران يف القرآن الكريم ..مفاهيم
وتطبيقات" ،والذي خصصناه هلذا املجال ،سوف نرى كيف أن القرآن الكريم
قد قدَّ م بنيا ًنا متكام ً
ال يف هذا اإلطار ،يشمل منظومة مفاهيمية ومعرفية وأخالقية
متكاملة ،ينهض عليها بنيان حضاري راسخ ،وعمرا ًنا شام ً
ال.
18
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
19
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
20
مقدمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
21
الفصل األول
معالم الحضارة والمدينية والعمران
في القرآن الكريم ..مفـاهيم وتطبيقـات
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
" ..املقصود بالنموذج املعريف ،هو ذلك اإلطار أو التصور املتكامل التي يفرس
به اإلنسان الظواهر من حوله ،ويتعامل معها ،ويعتمد أكثر ما يعتمد عىل العقل،
الذي يقدم لإلنسان ،وللجامعة يف ٍ
آن ،األدوات التي يمكنه من خالهلا القيام هبذه
األمور؛ الفهم والتحكم ،من أجل حتسني بيئة احلياة بشكل عام ،وحتقيق االستقرار
النفيس والوجداين للجامعة البرشية ،وبالتايل؛ احلفاظ عىل متاسكها وتعاوهنا.
25
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ملساعدته عىل القيام بمهمته األساسية ،وهي عبادة اهلل تعاىل وحده ال رشيك له،
وإفراده هبا ،وإعامر األرض ألجل ذلك الغرض املقدس.
ولو بحثنا يف القرآن الكريم ،فإننا سوف نقف أمام الكثري من اآليات التي تدعو
اإلنسان إىل ُّ
التفكر وإعامل العقل ،وأخذ املعرفة من كل مصادرها ،وعدم الوقوف
أمام النص املقدس فقط ،الذي نزل يف صياغة عامة شاءهتا حكمة اخلالق؛ ألجل
حتديد القوانني والقواعد احلاكمة ،وهدايته إىل الصواب"..
26
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اإلسالم وصناعة الحياة والعمران ..ر ً ّدا على ُدعاة التجهيل والبداوة!
من بني أهم القضايا التي تشغل ذهنية املشتغلني بدراسة اإلسالم والفكر
اإلسالمي ،وتطوره عرب التاريخ ،قضية الدنيا واآلخرة يف سعي اإلنسان؛ كيف
تكون وكيفية املوازنة بني اعتبار "كأنك تعيش أبدً ا" ،واعتبار "كأنك متوت غدً ا"،
كام جاء يف احلديث النبوي الرشيف.
ويرتبط بذلك قضية تتصارع فيها الكثري من الرؤى يف وقتنا الراهن ،بني التيارات
احلركية املختلفة ،عىل اختالف ألوان طيفها الفكري واحلركي ،وهي سعي املسلم
وأمهية البناء العمراين يف الدنيا من أجل البناء األخروي ،بني مدرسة العمران وبني
َ
متعارض ْي فيام يتعلق بقضيت َْي أساسيت َْي ،ومها :تطبيق كمسار ْين
َ دعاة اهلدم،
الرشيعة ،واستعادة دولة اخلالفة.
ولقد استغل خصوم األمة يف خمتلف األقنية ،اإلعالمية واالستخبارية
والسياسية ،وغريها ،هذه احلالة من اخلالف الفكري ،من أجل تعميق حالة
معينة يف أوساط املسلمني ،لتحقيق غاية كربى ،وهي إخراج املسلمني من السباق
احلضاري ،واملزيد من التفتيت لوحدة الصف اإلسالمي ،مع العمل الوصول هبذه
احلالة من التفتيت إىل مستوى الرصاعات البينية ،مما يعطل املسلمني كجامعة برشية
متاميزة ،عن الفعل والعمل.
و ُيعترب هذا األمر هو أحد مراحل خمطط متكامل ،ال يعود تارخيه ومبدؤه إىل
القر َن ْي التاسع عرش والعرشين ،كام يتصور البعض ،وإنام هو خمطط أقدم من ذلك
27
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بكثري ،ويكفي هنا أن نشري إىل الدور الذي لعبته اإلمرباطورية الرومانية يف تفتيت
الصف اإلسالمي خالل الفرتات التي سبقت وعارصت احلروب الصليبية؛ حيث
إن ذلك الدور كان أحد أهم أسباب سقوط القدس يف أيدي الصليبيني يف القرن
احلادي عرش امليالدي ،بل إهنم حاولوه خالل األزمة التي اندلعت بني أمري املؤمنني
يل بن أيب طالب "كرم اهلل وجهه" ،ومعاوية بن أيب سفيان "ريض اهلل عنه" ،ولكنع ٍّ
أبى معاوية يف حينه االستعانة بأعداء األمة عىل ع ٍّ
يل ،خالل أزمة الفتنة الكربى.
ويف صلب هذا املخطط يقبع أمر شديد األمهية ،وهو حماولة إبعاد املسلمني،
فرادى وأمة ،عن صريورات العرص ،وفصلهم بالكامل عن الدنيا ،من خالل
شغلهم بأمور تبدو هلا أكرب األمهية بالنسبة حلياة اإلنسان اآلخرة ،بينام اآلخرة ال
ُتصنع إال من خالل السعي والبناء واالجتهاد يف احلياة الدنيا.
ويتم ذلك بأكثر من وسيلة ،أمهها هو ما اصطلح عىل تسميته بـ"صناعة
املوت" ،التي صدرها لنا الغرب من خالل تنظيامت وأفكار مصطنعة ومنتسبة خطأ
لإلسالم ،وإنام هدفها هو أن تؤدي أفكار االنفصال عن الدنيا والدفع باملسلمني إىل
القتال واالقتتال يف حروب ال هناية هلا.
وهيدف هذا اجلانب من املخطط إىل دفن اجلانب احلضاري والعمراين يف
اإلسالم ،وإخفاء الصورة التقدمية له ،وبالتايل إظهار اإلسالم عىل أنه دين بال
حضارة ،وهو ما يقود طبعا إىل ختلف املسلمني.
بمعنى أنه عندما ينشغل املسلم يف احلياة الدنيا بالقتال فقط ،يف حروب ال حتمل
مصلحة األمة ،ويتقاعس عن البناء والعمران يف الدنيا بحجة أن اآلخرة هي احلياة
28
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
احلقيقية ،يف اجتزاء وسوء فهم للمعاين القرآنية حول اآلخرة باعتبارها احليوان؛
فلن يتحرك املسلم ألمر الدنيا باإلطالق ،وبالتايل لن خيرتع ولن يبني ولن يطور،
وهو ما خيالف ببساطة حديث النبي الكريمﷺ ،أن اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدً ا،
واعمل آلخرتك كأنك متوت غدً ا.
كام يقود ذلك إىل نتيجة أخطر ،وهي َن ْأي غري املسلمني عن الدخول يف اإلسالم،
وإخافة كل أصحاب الفطرة السليمة من الباحثني عن الدين احلق ،من اإلسالم،
أمر أكده القرآن الكريم فالفطرة السليمة تقود ً
دائم اإلنسان إىل العامرة والبناء ،وهو ٌ
[سورة "هود" – من
يف أكثر من موضع﴿ ..ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ ُ
اآلية ( ،])61وألجل ذلك منح اهلل تعاىل اإلنسان كل يشء ،ويرس له ُس ُبل احلياة
"احلج" – من اآلية [سورة َعىل األرض ﴿ ..ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ ُ
( ،])65وكذلك ميزه َّ
ورشفه بأرشف ما يمكن ملخلوق أن يناله ،وهو خالفة اهلل
عز وجل يف األرض ،فيقول تعاىل يف ختام ُسورة "األنعام" ﴿ :ﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ
ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾.
ٍ
معان حتمل العمران والبناء واحلياة يف طياهتا؛ ال القتل والفناء والتدمري، وكلها
فتيسري ُس ُبل العيش يف األرض ،يعني استغالهلا فيام يفيد وينفع ،ويقود إىل استمرار
احلياة الكريمة لإلنسان ،واالستعامر يف األرض؛ يعني عامرهتا ،وخالفة اهلل تعاىل ،تعني
العمل بقوانينه ورشيعته ،وذلك من أجل حتقيق ُس َّنة اخللق األساسية ،واهلدف الوحيد
واألسمى من خلق الكون ،وهو توحيد اخلالق عز وجل ،وإفراده سبحانه ،بالعبادة.
29
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وكل قوانني اخللق اإلهلي ،حتى ما يف احلياة الوحشية يف الرباري منها ،تقود إىل
استمرار احلياة ،مثل قوانني االنتخاب الطبيعي والبقاء لألفضل ،والطفرات يف جمال
البيولوجي؛ كلها قوانني وضعها اهلل تعاىل يف خلقه ،تضمن التوازن واالستمرار
هلذه احلياة ،إىل أن يشاء خالقها فينهيها عىل النحو الذي تريده املشيئة.
حرم عىل العرب املسلمني من أهل احلرض ،العودة إىل البادية بل إن اإلسالم َّ
للعيش هبا بصفة دائمة مع األعراب ،واعترب ذلك كبرية من الكبائر ُيعا َقب مرتكبها
كام ُيعامل املرتد عن اإلسالم ،أي أن العودة من التحرض إىل البداوةُ ،جرم أو كبرية
يف مستوى العودة عن اإلسالم واإليامن ،إىل الرشك والكفر ،فالعائد للبداوة ُيعترب
مرتدً ا ،وإن احتفظ بإسالمه.
فيقول ابن منظور يف لسان العرب( :يف احلديث (النبوي) :ثالث من
التعرب بعد اهلجرة :هو أن يعود إىل البادية ويقيم مع األعراب،
ُّ الكبائر ،منها
مهاجرا ،وكأن من رجع بعد اهلجرة إىل موضعه من غري عذر؛
ً بعد أن كان
يعدونه كاملرتد".
وينقل عن ابن خلدون يف "املقدمة" ،قوله يف هذه اجلزئية" :كان املهاجرون
التعرب ،وهو ُسكنى البادية؛ حيث ال جتب اهلجرة".
يستعيذون باهلل من ُّ
هذا هو اإلسالم ،ولكن لو رأى غري املسلمني ما قادت إليه أفكار التجهيل
والبداوة وصناعة املوت التي ُصنِعت من خارجنا ُ
وصدِّ رت إلينا حتت رايات
سوداء ،لن جيد يف اإلسالم ما يغري باعتناقه.
30
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
31
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
32
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبد ً
ال من الطابع املديني احلضاري لإلسالم – كام أكدت عليه حضارة أكثر
الس َّنة النبوية الرشيفة –
من 1400عام ،وكام سوف نرى يف مقوالت أساسية من ُّ
التوحش" ،وبد ً
ال من احلوارض ُّ بات اإلسالم ملتص ًقا بعبارات عىل غرار "صناعة
الكربى التي أقامتها دول املسلمني يف األندلس واملرشق العريب واإلسالمي ،وكانت
منارات للعلم واملدنية للعامل بأرسه؛ صارت صور اخلراب والدمار الواقع يف مناطق
"اإلمارات اإلسالمية" يف دول عربية عدة؛ هي صنو "الوجود اإلسالمي".
وهو ما ُيعترب أهم عائق أمام املرشوع احلضاري اإلسالمي لالنتشار ،وحتقيق
اخلالص لإلنسانية كافة من خالل قواعده العادلة والسمحة يف صورهتا النقية كام
أنزهلا اهلل تعاىل ح ًّقا.
ُتعترب املدنية واملدينية – املدنية صنو احلضارة بينام أقرب مصطلح يعرب عن
املدينية هو احلرض باملعنى احلديث كام تقدَّ م – إحدى أركان اإلسالم ،وال يستقيم
العمران البرشي من دوهنا ،ويعترب اإلسالم – من خالل أدلة رشعية سوف نسوقها
الرتاجع عن حالة العمران والتمدُّ ن ،بمثابة خروج عن اجلامعة ،وخروج عن
ُ – أن
الدين.
حرم عىل العرب املسلمني من أهل َ
احل َض ،العودة إىل البادية للعيش فاإلسالم َّ
هبا بصفة دائمة مع األعراب ،واعترب ذلك كبرية من الكبائر ُيعا َقب مرتكبها كام
ُيعامل املرتد عن اإلسالم ،أي أن العودة من التحرض إىل البداوةُ ،جرم أو كبرية
يف مستوى العودة عن اإلسالم واإليامن ،إىل الرشك والكفر ،فالعائد للبداوة ُيعترب
مرتدً ا ،وإن احتفظ بإسالمه.
33
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف دراسة له منشورة عىل موقع "صيد الفوائد" ،يقول إحسان العتيبي؛ إن
الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم ،كانوا يعدًّ ون الراجع للبادية مرتدً ا عن هجرته؛
أي :عن إسالمه ،واملقصود أنه يف حكم املرتد ال أنه كذلك حقيق ًةَّ ،
فعب بعضهم
وعب آخرون بالردة عن اإلسالم؛ ألن اهلجرة تعني اهلجرة
بالردة عن اهلجرة َّ
باإلسالم.
ويقول حممد جابر األنصاري يف كتابه "مراجعات يف الفكر القومي"" :هنا يكمن
املغزى االجتامعي املتميز والفريد هلذا املوقف اإلسالمي .يقول ابن منظور يف لسان
التعرب بعد اهلجرة :هو
العرب( :يف احلديث (النبوي) :ثالث من الكبائر ،منها ُّ
مهاجرا ،وكأن من رجع بعد
ً أن يعود إىل البادية ويقيم مع األعراب ،بعد أن كان
اهلجرة إىل موضعه من غري عذر؛ يعدونه كاملرتد".ﷺ
وينقل عن ابن خلدون يف "املقدمة" ،قوله يف هذه اجلزئية" :كان املهاجرون
التعرب ،وهو ُسكنى البادية؛ حيث ال جتب اهلجرة".
يستعيذون باهلل من ُّ
ض ُ
اهلل عنهام" ،والذي "ر ِ َ
ويقصد األنصاري حديث سهل بن أيب حثمة عن أبيه َ
بي ﷺ عىل املنرب يقول :اجتنبوا الكبائر السبع ،فسكت الناس
قال فيه" :سمعت ال َّن َّ
فلم يتكلم أحدٌ فقال ال َّن ُّ
بي ﷺ :أال تسألوين عنهن؟ الرشك باهلل ،وقتل النفس،
والتعرب بعد
ُّ والفرار من الزحف ،وأكل مال اليتيم ،وأكل الربا ،وقذف املحصنة،
وحسنه األلباين يف "السلسلة
َّ اهلجرة" [أخرجه الطرباين يف "الكبري" ( )103 /6
التعرب بعد اهلجرة من الكبائر ،ونحوه:
وبوب عليه :باب ُّ
الصحيحة" (َّ ،])2244
التغرب].
ُّ
34
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ً
"ثالث من الكبائر" ،وإنام هي سبعة بنص هذا احلديث. ولك َّنا مل نجد لفظة
وال نزال يف هذه النقطة مع األنصاري عىل أمهية الطرح الذي قدمه يف هذا اجلانب،
والذي يقارب أفكار حممد عبده يف كتابه الشهري "اإلسالم بني العلم واملدنية"؛
فيقول" :نحن لو أخذنا األمر من الناحية الفقهية النظرية البحتة ملا استدعى أن
أقر بالشهاد َت ْي واعتنق
نربط بني العودة إىل البادية واالرتداد عن اإلسالم ،فمن َّ
ً
مسلم أينام كان ،وحيثام انتقل من البادية إىل احلرض ،أو من املدينة إىل اإلسالمُ ،عدَّ
القرية ،أو من اجلبل إىل السهل ،فأرض اهلل واسعة ،وهي مفتوحة للمسلم ،يرضب
ً
حمتفظا بإسالمه وعقيدته ،ما دام مل يكفر أو يرشك أو يرتد ،هذا من فيها ،وينتقل
الناحية النظرية ،املبدئية العقيدية".
ويستدرك أنه نرى أن اإلسالم يضع استثنا ًء واحدً ا ًّ
مهم هلذه القاعدة املبدئية
املهاجر ،أي ساكن احلرض ،إىل وضع ِ الشمولية ،وهو – حتديدً ا – عودة العريب
البداوة مع األعراب ،فهذه كبرية من الكبائر ،وصاحبها كاملرتد ،وإن احتفظ بدينه.
ويؤكد أنه بالرغم من أنه يكون حتو ً
ال يف املستوى االجتامعي احلضاري ،وليس
ريا بالعقيدة.
مسا خط ً
يف الوضع العقائدي لإلنسان؛ فإنه مع ذلك يراه اإلسالم ًّ
ً
ارتباطا جوهر ًّيا وهذا يقودنا إىل االستنتاج أن اإلسالم ُيعترب عقيدة مرتبطة
بوضع حضاري اجتامعي متقدم ،هو وضع التحرض ،بحيث لو انتفى هذا الوضع،
وتم الرتاجع عنه إىل مستوى البداوة؛ تعرضت العقيدة ذاهتا للخطر ،واع ُت ِ َ
ب القائم
هبذا الفعل مرتدً ا عن عقيدته ،مع ارتداده إىل الصحراء عن حترضه ،حتى وإن مل
يعلن خروجه عن اإلسالم.
35
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واحلرض وقت أن قال الرسول الكريم ﷺ ،حديثه املتقدم ،كان دولة اإلسالم
األوىل يف املدينة املنورة ،وعندما هنضت دولة اخلالفة ،كان اخللفاء والوالة املسلمون
حريصون عىل تطبيق هذا اهلدي النبوي عىل الرعية ،ففي صحيح ال ُبخاري ،أن
مستنكرا:
ً احلجاج ملا بلغه أن َس َلمة بن األكوع قد خرج إىل ُسكنى البادية؛ قال له
َّ
تعربت؟ -أي رصت يف األعراب – فقال له :ال ،ولكن
"ارتددت عىل عقبيك؟ َّ
التعرب بعد اهلجرة من الكبائر].
رسول اهلل أذن يل يف البدو" [الصحيح باب ُّ
ومن املالحظ اقرتاب مصطلح "احلرض" املنحوت من أصل لغوي هو
"احلضارة" من مصطلح "املدينية" يف املقوالت التأسيسية التي نقلها األنصاري
عن دولة النبوة ودولة اخللفاء الراشدين املهديني يف هذا اإلطار.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذا الربط واضح يف تفكري علامء املسلمني املتقدمني
واملتأخرين ،ومن بينهم ابن خلدون ومالك بن نبي وسيد قطب ،عند حديثهم عن
مصطلحات "احلضارة" و"املدنية" و"املدينية".
وهناك يف هذا اإلطار ،نجد رضورة للتوقف عند مقوالت مالك بن نبي األساسية
يف هذا األمر؛ ألهنا متس عىل خصوصيتها وأمهيتها ،ذلك اجلانب الذي نحاول تأصيله
يف هذا املوضع ،وهو أن َ
احل َض واملدينية ،من االشرتاطات املهمة التي وضعها اإلسالم
لصريورات العمران البرشي ،وقواعد راسخات لتطور دولة اإلسالم.
فاملك بن نبي ذهب يف هذا إىل القول بأن احلضارة واملدينية يف اإلسالم ،بمثابة
ُّ
والتحض فريضة ،وحاول تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "فقه" التمدين
يف املجتمعات املسلمة ،وذلك من خالل جمموعة من الكتابات التي حاول التأسيس
36
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أو التأصيل لذلك فيها ،من خالل النصوص ،ومن خالل األدلة العقلية األخرى،
وخصوصا كتبه" :رشوط النهضة"" ،الظاهرة القرآنية"" ،مشكلة الثقافة"،ً
"مستقبل اإلسالم" ،و"مشكلة األفكار يف العامل اإلسالمي".
وعنارص احلضارة عند مالك بن نبي ،هي :اإلنسان زائد الرتاب زائد عنرص
الوقت ،ويصبغ ذلك بصبغة دينية ،عىل ذات النحو الذي نحاه من سبقه من
املفكرين اإلسالميني املعارصين ،مثل قطب واملودودي ،فيؤكد أن هناك ُم َّ
ركب
لتوحيد هذه العنارص الثالث ،وهو الدين أو الفكرة الدينية.
فكل الشعوب متتلك مقومات احلضارة ،ولكن ذلك يتطلب توافر ُم َّ
ركب
حيول هذه املكونات إىل حضارة تأخذ الشكل الرتاكمي املطلوب ،الذي تارخييِّ ،
متطو ًرا وقاب ً
ال لالستمرار والرتاكم ،ويستطيع استغالل مكوناته فيام جمتمعا ِّ
ً يؤسس
خيدم نفسه واإلنسانية ،وهو الدين عند مالك بن نبي.
ويقول يف كتابه "رشوط النهضة"" :فال تظهر يف أمة من األمم إال يف صورة
ومنهاجا؛ إذ هي -عىل األقل -تقوم
ً وحي هيبط من السامء يكون للناس رشع ًة
أسسها يف توجيه الناس نحو معبود غيبي ،فكأنام قدر لإلنسان أال ترشق عليه
شمس احلضارة إال حيث يمتد نظره إىل ما وراء حياته األرضية".
ولكنه يشدد يف اإلطار عىل أمهية عنرص اإلنسان يف تكوين هذه احلضارة ،ويؤكد
يف دراسته لعوامل انتهاء احلضارة اإلسالمية ،عىل أهنا انتهت عندما انتهت قيمة
اإلنسان فيها.
37
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويشري إىل أن التعايش السلمي – وهو من أهم سامت املدينية يف عاملنا املعارص ،يف
الفلسفات واألفكار الغربية – ِسمة مميزة للمجتمعات البرشية ذات الطابع املديني،
ً
مشرتكا ،ويتشاركون مهو ًما واحدة ،ويكون هلم ثقافة واحدة، ويطور أعضاؤه وع ًيا
أو ثقافات بينها قواسم مشرتكة ،تشكل هوية وشكل هذا املجتمع.
ويرى ،خاصة يف كتا َب ْيه "القضايا الكربى" ،و"رشوط النهضة" ،أن املجتمع
ً
متحرضا عندما تكون إنسانية اإلنسان هي القيمة العليا يف هذا املجتمع، يكون
موضع تكريم ،بينام يكون هذا املجتمع متخ ِّل ًفا إذا ما كان احلال
َ ويكون اإلنسان
العكس.
.........
هذه هي صورة شديدة الرتكيز ملفهوم املدنية املدينية يف اإلسالم ،وموضعهام
يف قلب حضارة هذا الدين ،ولعل – كام قلنا – فإن واجب الوقت هو السعي إىل
التوحش" وكل "صناعة
ُّ نرشها ونرش األدبيات التي تعرب عنها يف مواجهة "صناعة
توحش"!
ُّ
38
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
39
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف البداية؛ فإن املقصود بالنموذج املعريف ،هو ذلك اإلطار أو التصور املتكامل
التي يفرس به اإلنسان الظواهر من حوله ،ويتعامل معها ،ويعتمد أكثر ما يعتمد
عىل العقل ،الذي يقدم لإلنسان ،وللجامعة يف ٍ
آن ،األدوات التي يمكنه من خالهلا
القيام هبذه األمور؛ الفهم والتحكم ،من أجل حتسني بيئة احلياة بشكل عام ،وحتقيق
االستقرار النفيس والوجداين للجامعة البرشية ،وبالتايل؛ احلفاظ عىل متاسكها
وتعاوهنا.
40
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولو بحثنا يف القرآن الكريم ،فإننا سوف نقف أمام الكثري من اآليات التي
ُّ
التفكر وإعامل العقل ،وأخذ املعرفة من كل مصادرها ،وعدم تدعو اإلنسان إىل
الوقوف أمام النص املقدس فقط ،الذي نزل يف صياغة عامة شاءهتا حكمة اخلالق؛
ألجل حتديد القوانني والقواعد احلاكمة ،وهدايته إىل الصواب ،ثم ترك املجال
للتحرك يف إطارها ،أو يف إطار خياراته اخلاصة ،من أجل حتقيق مبدأ
ُّ حرا لإلنسان
ًّ
العدالة يف املحاسبة ،يف الدنيا واآلخرة.
ً
صاحلا لكل زمان ومكان. وهو ما جعل القرآن الكريم
فأول ما أقسم به اهلل تعاىل يف القرآن الكريم؛ هو﴿ :ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍَ﴾ ،يف
"الع َلق" ،التي تبدأ بأول ما ُأنزل
السورة نزلت بعد ُسورة َ
ُسورة "القلم" ،وهذه ُّ
من القرآن الكريم ،وهو األمر اإلهلي اخلالد﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾.
هذا القسم بـ"ن والقلم َو َما َي ْس ُط ُر َ
ون" ،جاء لكي يؤكد اهلل تعاىل هبا ،نبوة
الرسول الكريم ،حممد ﷺ ،بكل ما يعنيه ذلك من أمور عظمى ،أو بمعنى أدق،
هي أعظم وأخطر أمور الدنيا؛ عقيدة التوحيد ،اإلسالم ،الدين اخلاتم.
رسخ القرآن الكريم أمهية املعرفة واللغة يف هذه األولوية ،ويف هذا
بذلك َّ
الرتتيب ،وكأنام شاءت حكمة رب العزة سبحانه ،أن يقول للناس :أن أهم وأوىل
ما ينبغي عىل اإلنسان أن يفعله ،هو أن يقرأ ،وأن اهم ما خلق سبحانه ،هو القلم.
وارتباط القراءة واالطالع بشكل عام بتوسيع مدركات اإلنسان ،وتكوين
فهمه ملا حييط به من تطورات وحوادث كبار ،سواء عىل مستوى املجتمع الصغري
41
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الذي يعيش فيه ،أو يف اإلطار اإلنساين العام؛ هو ارتباط قديم ،بل إن البعض يعترب
القراءة هي أهم مصادر تكوين النموذج املعريف الذي حيرك اإلنسان ،ولذلك اختار
اهلل تعاىل القرآن الكريم الذي هو كلامت مقروءة مسطورة يف كتاب ،هو املصحف
الرشيف ،لكي يكون هو معجزته اخلالدة ،وفيه تعاليمه للبرش.
وبالتايل؛ فإن القرآن الكريم ،من خالل ما دعا إليه يف صدد التدبر يف اخللق
اإلهلي ،والقراءة واالطالع ،والسعي إىل الفهم؛ هو ذاته ،هو دعا اإلنسان
واجلامعة البرشية ،إىل تكوين النموذج املعريف اخلاص هبا ،وفق ما تقتضيه
مصلحتها ،ولكن يف سياق ما وضعه اهلل تعاىل من قوانني ،سواء قوانني اخللق
والعمران النافذة ،أو قوانني الرشيعة اإلسالمية ،التي سوف ُياسب اإلنسان
عىل مدى التزامه هبا.
42
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فنحن أمام جوهر احلضارة اإلنسانية يف كتاب اهلل تعاىل ،وبالتايل؛
فإن كل ما ُيقال يف خالف ذلك؛ إنام هو ضمن مساعي التشويش التي تواجهها
األمة ،وبالتايل؛ فإنه من الرضوري يف الوقت الراهن ،العمل عىل مواجهتها،
ترسخت يف
وأول وأهخم خطوة هو تفكيك بعض املكونات املعيقة لذلك ،والتي َّ
الذهنية املسلمة يف قرون التخلف احلضاري التي مرت هبا األمة ،ضمن قوانني اهلل
عز وجل يف صعود وهبوط األمم واحلضارات.
43
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يقول ُ
اهلل تعاىل يف كتابه العزيز﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
[سورة "الفرقان" -اآلية .]30
ﯠ﴾ ُ
وجييء اختيارنا هلذه اآلية الكريمة التي تتحدث عن أحد أهم أمراض األمة يف
عرصنا احلايل ،كمفتتح للحديث ،للتأكيد عىل الرسالة األساسية التي نسعى يف هذا
بمعنى أدق ،تغييب ،حمتوى القرآن
ً املوضع إىل التأكيد عليها ،وهي دور غياب أو
املسلم ْي ،هو
َ الكريم عن احلياة اليومية للفرد املسلم ،وبالتايل األرسة واملجتمع
أهم سبب ملشكالتنا األخالقية والسلوكية ،والتي ُتعترب بدورها املرتكز األسايس
حلالة التخلف احلضاري التي حتياها األمة.
فاملكون القيمي واألخالقي هو أساس أية
ِّ وهذا احلديث ليس من قبيل املبالغة؛
سع ْيها
حضارة إنسانية ،وهو الذي تنهض عليه أماين األمم ،وبالتايل ،فهو يشكل َ
بالكامل ،حتى عىل مستوى احلياة اليومية ،لتحقيق هذه األماين ،وفق تصوراهتا
املثالية عن احلياة والكون ،وصريورات األمة بالكامل.
ولسنا هنا يف معرض التأكيد عىل الرسالة األخالقية لإلسالم ،باعتبار أن هذا
أحد ثوابت اإلسالم؛ حيث أكدها النبي الكريم ﷺ ،عندما قال" :إنام ُبعثت ألمتم
صالح األخالق" [أخرجه أمحد يف ا ُملسند ،وأخرجه البزار عن أيب هريرة "ريض ُ
اهلل
عنه" ،بـ"مكارم األخالق"].
44
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن ،ويف خالل قرون االضمحالل األخرية التي عانت فيها األمة من حالة
من العزلة عن دينها ومرجعيته األساسية ،وهي القرآن الكريم ،وسيطرة األفكار
والس َّنية النبوية
العلامنية حتت دعوى املدنية واملدينية ،بينام ما يف القرآن الكريم ُّ
الرشيفة ما يزري بذلك ألف مرة.
ولعل ما سوف نذكره هنا من قواعد تربوية وسلوكية جاءت يف القرآن الكريم،
إنام هو للتأكيد عىل أنه إذا ما أردنا حتسني وضعنا احلضاري؛ فإن احلل موجود يف
القرآن الكريم.
إطار عام للمجال األكسيولوجي يف القرآن الكرمي
45
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف هذا اإلطار ،وبشكل عام؛ فإن القرآن الكريم تعامل مع املسألة القيمية بأكثر
من شكل ،وبأكثر من طريقة.
الطريقة األوىل ،هي اإلطار العام؛ حيث هناك آيات قرآنية كريمة ضمت
جمموعات أساسية من اخللق الكريم والسلوك القويم ،تناوهلا القرآن الكريم
باعتبار أهنا القاعدة األخالقية األساسية للمجتمعات.
ومن بني اآليات اجلامعة التي توضح ذلك ،ما ورد يف ُسورة "األنعام" ،حيث
يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾.
ويقف عىل رأس جوامع األخالق يف القرآن الكريم ،الوفاء بالعهد ،والصدق
وعدم الكذب ،واألمر بالعدل ،حتى مع الظاملني والكافرين ،والتعاون عىل الرب
والتقوى يف كل ما ينفع الناسُّ ،
وكف األذى عنهم يف املقابل.
والتكب ،وعن
ُّ علم ،وعن اخليالء
حرم القرآن الظلم ،وهنى عن القول بغري ٍ
كام َّ
اإلرساف والتبذير والبخل والتقتري يف املقابل،
وخصوصا يف
ً كذلك أعىل القرآن الكريم يف كثري من آياته من قيمة الصرب،
أوقات الشدة ،وعند وقوع املصائب ،وكذلك الرضا بالقضاء والقدر.
46
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف القرآن الكريم كذلك ،دعوات لعدم التنابز باأللقاب ،والنهي عن املعايرة،
وعن ذكر اإلنسان لكل ما ييسء ألخيه اإلنسان ،ودعا إىل حسن املعاملة ،والتواد
والتعاطف والرتاحم ،وكل ما من شأنه أن ِّ
يعضد من األوارص االجتامعية ،وحتسني
تلقائيا يف املساعدة عىل تقدم ورقي األمة.
ًّ العالقات بني الناس ،وهو ما يصب
ودعا القرآن الكريم ً
أيضا إىل عدم التنابز باأللقاب ،والنهي عن املعايرة ،وعن
ذكر اإلنسان لكل ما ييسء ألخيه اإلنسان ،ودعا إىل حسن املعاملة ،والتواد
والتعاطف والرتاحم ،وكل ما من شأنه أن ِّ
يعضد من األوارص االجتامعية ،وحتسني
تلقائيا يف املساعدة عىل تقدم ورقي األمة.
ًّ العالقات بني الناس ،وهو ما يصب
هذا جانب ،واآلن مع جانب آخر للمجال األكسيولوجي يف القرآن الكريم.
الكليات األخالقية وموضعها من القرآن الكرمي
اإلطار الثاين الذي تناول فيه القرآن الكريم األمور األخالقية ،هو اإلطار
خصص؛ حيث تناولت آيات عدة صفة أو أكثر ،بالنهي أو التحفيز ،بحسب ا ُمل َّ
وكل منها متثل جان ًبا ًّ
مهم من بنيان أي جمتمع ،وليس جمرد طبيعتها ،سل ًبا أو إجيا ًباٌّ ،
نافلة قول يف سلوك اإلنسان العام أو اخلاص.
ولو وقفنا اآلن أمام بعض أهم مشكالتنا األخالقية ،يف جمتمعاتنا العربية
واإلسالمية؛ وهي الزنا والعالقات غري الرشعية؛ فإننا سوف نجد أننا أمام قيم
أخالقية كربى يف القرآن الكريم تتعامل مع هذه املشكلة ،وتضع هلا احلدود القاطعة
التي حيافظ هبا عىل البنيان املجتمعي ،األخالقي واملادي.
47
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن اآليات التي تستلفت االنتباه يف القرآن الكريم يف هذا الصدد؛ قوله تعاىل
يف ُسورة "األعراف"﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾.
يف هذه اآلية؛ وضع اهلل تعاىل الفواحش ،ومنها الزنا ،أو لعله هو الزنا نفسه وفق
أمر جلل؛ حيث عقيدة التوحيد هي
مفسين ،حتى قبل الرشك باهلل تعاىل ،وهو ٌ
ِّ
أساس خلق الكون كله ،وهي مقصد خلق اإلنسان؛ يف صورة إفراده هلل عز وجل
باأللوهية والعبادة ،وعندما يقدم ُ
اهلل تعاىل جريمة عىل جريمة الرشك به؛ فإن هذا
يؤكد لنا ِع َظم وجسامة هذا الذنب.
وجتريم الزنا هلذه الدرجة ال يضمن حفظ األنساب فحسب ،وإنام كذلك
يضمن االستقرار املجتمعي بالكامل ،فالزنا هو أحد أهم أسباب الطالق والتفكك
األرسي ،وبالتايل؛ فإن حمارصة هذه الظاهرة تضمن سالمة األرسة ،التي هي ضامنة
بقاء أي جمتمع.
ولننتقل إىل جانب تربوي آخر يف القرآن الكريم ،ويرتبط بدوره بآفة هي من
ألعن ما نعاين منه اليوم ،وهي الكذب.
ونتخي يف هذا اإلطار آية واحدة تكفي لفهم موقف القرآن الكريم من
َّ
الكذب وكيف َذ َّم فيه ،فيقول تعاىل يف مستهل سورة "املنافقون" ﴿ :ﮟ ﮠ
ﮡ﴾ ،ومن املعلوم أن املنافقني هم أسوأ فئة من البرش ،وهم يف الدرك
األسفل من النار كام قال اهلل تعاىل يف قرآنه العظيم.
48
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف املقابل؛ يدعونا اهلل تعاىل إىل الصدق ،ونختار من القرآن كذلك آية هلا داللة
نوعية يف هذا الصدد ،وهي اآلية ( )41من ُسورة "مريم" ،وفيها يقول اهلل تعاىل:
﴿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾.
وهنا وضع اهلل تعاىل الصدق والوفاء بالوعد كخصلت َْي محيد َت ْي ،عىل رأس ُس َّلم
صفات النبوة.
السورة ،هناك ما يؤكد ذات املعنى ،ففي اآلية ( ،)54يقول اهلل تعاىل:
ويف ذات ُّ
﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﴾ ،ويف اآلية ( ،)56يقول
عز وجل﴿ :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﴾.
قاطعا عن الغيبة والنميمة ،والظن اليسء،يف إطار آخر ،هنى القرآن الكريم هن ًيا ً
وكل ما من شأنه حتقيق مرامي الشيطان الرجيم ،يف التفرقة بني بني آدم ،وغ َّلظ يف
ال ،بحيث ُ
يعظم اجلرم بام تأباه الفطرة السليمة. النهي عن ذلك بصورة مروعة فع ً
واإلطار األخالقي والقيمي يف القرآن الكريم أوسع من جمرد سلوك ،أو ِفعلٍ ،
حبذ ،ويكون حمط دعوة وتأكيد من رب العزة ،بل
خاطئ ف ُي ْن َهى عنه ،أو جيد ف ُي َّ
مكون من مكونات اإلسالم ،وهو اجلانب
إن األمر أكرب من ذلك ،ويشمل أهم ِّ
49
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
50
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بعد الثورة الفرنسية بفرتة وجيزة ،وقف رجل الدين الربوتوستانتي ،رابو سانت
اتيان ،أمام جلسة للجمعية التأسيسية الفرنسية ،كانت تناقش البنود اخلاصة بحرية
املعتقد وحرية التفكري والتعبري؛ لكي يطرح قضية كانت شديدة األمهية يف ذلك
احلني ،وهي دمج الفرنسيني غري الكاثوليك يف خمتلف مفاصل املجتمع والسلطة يف
فرنسا اجلديدة يف ذلك احلني ،من دون النظر إىل مذهبهم.
كان هذا املشهد التارخيي ،هو أحد املشاهد املتأخرة التي جاءت لكي تضع
هناية ألحد أسوأ ألوان الرصاع الديني يف التاريخ ،وهو ما يعرف باحلروب الدينية
األوروبية ،التي استمرت طيلة القرون الوسطى ،وبالذات يف القر َن ْي السادس
عرش والسابع عرش امليالد َّي ْي ،بعد ظهور حركة اإلصالح الديني الربوتوستانتية،
عىل يد الراهب األملاين مارتن لوثر.
ومن بني هذه احلروب الدينية املتعددة التي نشبت بني الكاثوليك والربوتوستانت،
حروب فرنسا الدينية التي استمرت خالل الفرتة من العام 1562م ،وحتى العام
1598م ،وراح ضحيتها قرابة أربعة ماليني نفس برشية ،بسبب رفض اآلخر
وعدم التسامح معه.
وبعد معاهدة ويستفاليا يف العام 1648م ،والتي أسست للدولة القومية احلديثة
يف أوروبا؛ خاضت الدول األوروبية رصاعات عدة فيام بينها ،كان الدين واملذهب
جز ًءا منها ،وإن كان الرداء األسايس هلا ،هو رصاعات النفوذ واملصالح والقوميات.
51
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وأبسط دليل عىل ذلك ،هو ما نجده يف التاريخ من حروب نشبت يف القارة
وخارجها بني القوى والدول التي استمرت عىل املذهب الكاثوليكي وبني القوى
والدول التي كانت عىل املذهب الربوتوستانتي ،وأن التحالفات بني هذه القوى
والدول كانت تضم أصحاب املذهب الواحد ،بينام كان كالمها من خصوم األمم
املسيحية التي تنتمي إىل الكنائس املرشقية.
جييء هذا املفتتح ألمهيته يف ظل جتدد احلديث يف الوقت الراهن عن قضية حوار
األديان واحلضارات ،وما تتصل به يف صدد قيمة التسامح واالختالف.
أثر
ولقد كان لتويل بابا الفاتيكان ،البابا فرانسيس ،ملنصبه هذا يف العام 2013مٌ ،
كبري يف إعادة قضية حوار احلضارات ،وإشكالية التسامح والتعاطي مع املخالِف، ٌ
إىل فضاء احلديث عىل املستوى الرسمي واألكاديمي يف األوساط الدينية والسياسية
وخصوصا يف أوساط كانت عىل قدر من االهتامم هبذه القضية ،مثل
ً اإلسالمية،
األزهر الرشيف يف مرص.
وكانت الزيارة األخرية التي قام هبا البابا إىل مرص ،ولقاءه مع اإلمام األكرب،
الدكتور أمحد الطيب ،شيخ األزهر ،وجوالت هذا األخري التي سبقت هذه الزيارة
مهم لتجدد هذا احلديث الذي هو مفتاحا ًّ
ً أو تلتها ،إىل عدد من البلدان الغربية؛
أقرب إىل اجلدل اخلاليف؛ حيث الكثري من االعتبارات السياسية و – األهم –
العقيدية ،التي تقول بأنه ال يمكن الوصول به – هذا احلوار – إىل املستوى الذي
يتصوره أصحاب النظرة املثالية.
52
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويعود ذلك إىل العديد من األمور التي تعايشها األمة العربية واإلسالمية
عىل وجه اخلصوص ،باعتبار أهنا الطرف األصيل األول يف هذه الدعوات إىل
احلوار.
فاملاصدق العميل أو الواقعي للجهود احلالية املبذولة من أجل إنجاح "حوار
األديان" أو "حوار احلضارات" ،إنام هو باألساس أوارص العالقة بني احلضارة
الغربية التي تستند إىل الديانة املسيحية يف منظومتها العقيدية والقيمية واالجتامعية،
واحلضارة العربية اإلسالمية ،التي يشكل اإلسالم مكوهنا األسايس.
ومن بني هذه األمور ،استمرار الغرب يف سياساته العدوانية التي بدأها منذ
ظهور الدولة اإلسالمية األوىل يف شبه اجلزيرة العربية ،عندما حتركت الدولة
الرومانية والدويالت واإلمارات املسيحية احلليفة هلا يف بالد الشام وعىل أطراف
مبكرا ،فكانت غزوتا "مؤتة" و"تبوك".
شبه اجلزيرة العربيةً ،
ينس لآلن احلمالت الصليبية التي هبت رحيها اخلبيثة
وإذا كان العامل اإلسالمي مل َ
عليه يف خارصته األهم ،فلسطني وبالد الشام وآسيا الصغرى ومرص ،لقسمه إىل
جناح ْي متباعدَ ْين ،بالرغم من أهنا قد َّ
مر عىل آخرها حوايل ثامنية قرون؛ فإنه من َ
باب أوىل التأكيد عىل أن إرث االستعامر الغريب يف بلدان األمة يف الوقت الراهن،
ومؤثرا ،يشكل أكرب عقبة يف طريق إصالح ذات ال َب ْي.
ً حيا
والذي ال يزال ًّ
فالرصاعات الراهنة بني الدول العربية واإلسالمية؛ نشأت بسبب ِف ْعل االستعامر
األورويب ثم السياسات األمريكية بني ظهرانينا.
53
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِ
املستعمرة السابقة هلا فالرصاعات احلدودية ،جاءت بسبب ترسيم الدول
بالشكل الذي يضمن حدوث هذه الرصاعات بني الدول املختلفة ،من أجل
إضعافها وشغلها.
كذلك الرصاعات الطائفية واملذهبية والعرقية التي نراها يف أماكن عدة من
العامل العريب يف الوقت الراهن ،جاءت بسبب السياسات االستعامرية – واملستمرة
بصورة أو بأخرى لآلن – إلثارة النعرات الشعبوية والطائفية واملذهبية الضيقة
بني شعوب األمة ،وبني املسلمني ومسيحيي املرشق ،املستهدفني بدورهم هبذا
املخطط.
والدور األورويب الغريب واضح متا ًما يف إسقاط الدولة العثامنية التي كانت متثل
اإلطار السيايس اجلامع لكل شعوب املنطقة ،وكان يضمن معاجلة اخلالفات فيام
بينها يف إطار كون هذه الشعوب إنام هم رعايا دولة واحدة.
تصور نجاح دعوات حوار احلضارات ،بينام
وحتى وقتنا الراهن ،كيف يمكن ُّ
جرائم الواليات املتحدة وبريطانيا وفرنسا ،موجودة يف كل مكان من بني ظهراين
مرورا بالعراق وفلسطني
ً األمة ،من أفغانستان رش ًقا ،وحتى نيجرييا ومايل غر ًبا،
والصومال.
أساسيا يف
ًّ ً
رشيكا عرف بالربيع العريب ،نجد الغرب
ويف مرحلة ما بعد ما ُي َ
اجلرائم احلالية التي ارتكبتها أنظمة وحكومات قمعية ضد شعوهبا ،بدعم هذه
األنظمة ،وعدم الضغط عليها بالشكل الكايف.
54
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف سوريا وليبيا عىل وجه اخلصوص؛ يبدو الغرب راض ًيا أتم الرضا عن
الس ُبل،
استمرار احلروب الداخلية يف هذه البلدان ،بل ويعمل عىل تغذيتها بشتى ُّ
باعتبار أهنا فرصة مهمة الستمرار األزمات الداخلية لألمة ،وبالتايل ،تعطيلها عن
أية مرشوعات للنهوض احلضاري والوحدة ،وجيدون يف ذلك ً
دعم من عدد ليس
بقليل من األنظمة واحلكومات العربية واإلسالمية.
عائق آخر يقف يف هذا الصعيد ،وهو الصورة الذهنية للعرب واملسلمني ،والتي
رسمها غري املنصفني من املسترشقني عن العرب واملسلمني ،كـ"أمم وحشية"
خاملة ،بينام اإلنتاج احلضاري العريب واإلسالمي ،كان وراء النهضة األوروبية
احلالية منذ بدء خروج القارة العجوز من عصورها املظلمة.
وبالتايل؛ فإنه ال يمكن للرأي العام الغريب الذي تربى عىل أساس أفكار أن
العرب واملسلمني "مهج" و"متوحشون" و"غري حضاريني" وغري ذلك من
حوارا مع هكذا أمم.
ً األفكار السلبية ،أن يقبل بدوره
بينام العكس هو الصحيح؛ فمهام حصل يف عاملنا العريب واإلسالمي من
رصاعات؛ ال يمكن أبدً ا قياسه ال عىل املستوى الزمني وال عىل مستوى عدد
الضحايا ،بام وقع يف أوروبا؛ حيث مئات املاليني من البرش سقطوا ضحايا عدم
التسامح وقبول اآلخر كام يف احلروب الدينية.
تصور احلمالت اإلعالمية التي تتناول سياسات وأنشطة
ولكننا اآلن نرى كيف ِّ
تنظيامت غامضة املنشأ واهلوية ،مثل تنظيم الدولة "داعش" ،وتصورها عىل أهنا
هي اإلسالم وال يشء سواها!
55
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
56
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اإلسالمية عىل العامل ،ودمج مجيع األطراف بام فيها احلركات اإلسالمية املختلفة
مرشوعا حضار ًّيا ،يف هذا احلوار.
ً التي حتمل
ومن دون ذلك؛ يمكن القول إن األمور سوف تظل تدور يف سياق اللقاءات
والترصحيات الربوتوكولية ،من دون كبري فاعلية ،يف السعي إىل حتقيق اهلدف
الرئييس من وراء ذلك اجلهد ،وهو تعزيز قيم السالم والتسامح واحلوار يف العامل.
57
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
58
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
59
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وأدلتنا يف ذلك عديدة ،فمن القرآن الكريم ،يقول اهلل تبارك وتعاىل ﴿ :ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
[سورة "البقرة" -اآلية .]126
ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﴾ ُ
هناك يتعهد اهلل عز وجل برزق املؤمن والكافر عىل حد سواء ،من رزق الدنيا
املادي ،أما فيام يتعلق بعظيم األمور ،من تكليفات ودعوة لدين اهلل ،وإمامة الناس
وهدْ ِيم؛ فإن اهلل تعاىل يصطفي من عباده هلا من يشاء ،ومن هو عىل قدر هذه َ
املسئولية.
60
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ففي ذات السياق الذي جاءت فيه اآلية السابقة ،يقول اهلل عز وجل﴿ :ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ﴾ ،هنا جعل اهلل تعاىل النبوة وفضل أستاذية وسيادة العامل ،ملن آمن فقط.
وتدل هذه اآلية عىل أن هناك اختالف كبري يف تصاريف اهلل عز وجل يف خلقه،
بني األمم املختلفة ،ما بني أمة مؤمنة ،وأخرى كافرة ظاملة لنفسها.
وقبل التفصيل يف هذه النقطة؛ فإنه َث َّمة مالحظة هنا ،جيب التأكيد عليها ،وهي
أمهية الدين يف حياة اإلنسان املسلم ،ويف حياة كل إنسان صحيح الفطرة ،بل إن
الدين جزء من الفطرة البرشية نفسها.
ففي املجتمعات اإلنسانية البدائية ،التي مل تصلها بعد رسالة احلضارة اإلنسانية؛
نجد أن أهل هذه املجتمعات ،خيلقون ألنفسهم دينهم اخلاص ،وجيعلون له
املرجعية األساسية يف حياهتم ،وتسري أمورهم وفق ما يتصورون أنه تعاليمه.
وهو أمر موجود يف كل املجتمعات اإلنسانية ،حتى الوحشية منها وفق ما توصل
إليه علامء األجناس أو األنثروبوجلي؛ حيث هناك ً
دائم -عىل األقل -فكرة "القوة
أو القوى الغيبية" التي حتكم حياهتم ،والعامل من حوهلم.
ِّ
املكون القيمي وأسس احلضارة يف اإلسالم:
وبالعودة إىل سياق احلديث الرئييس ،حول الدين كركيزة أساسية يف
ً
راسخا شديد الوضوح؛ لو تتبعنا حضارة اإلسالم؛ فإننا نجد ذلك قانو ًنا
تاريخ احلضارة اإلسالمية ،فهي كانت يف قمة أمم العامل ،وعلمت اآلخرين،
61
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وقادهتم من ظلامت اجلهل املادي والعقيدي ،إىل نور العلم واملعرفة بمختلف
ألواهنا وأشكاهلا ،مع األخذ بسنن الرتاكم احلضاري ،من خالل االرتكاز عىل
ا ُملنتج الفكري والعلمي لألمم السابقة ،بام يف ذلك األمم التي كانت عىل غري
الديانات الساموية ،مثل احلضارة اليونانية والفارسية ،من خالل أدوات الرتمجة
والنقل وغري ذلك.
املكون القيمي الذي حيتويه اإلسالم كدين شامل ،أنزله اهلل تعاىل
ويعود ذلك إىل ِّ
ً
صاحلا لكل زمان ومكان.
املكون القيمي ،يتضمن خمتلف عوامل هنوض احلضارات ،وعىل رأسها
ِّ فهذ
املرتكزات األخالقية األساسية التي تنهض هبا األمم واملجتمعات ،وعىل رأسها
العدل والعلم واإلعالء من شأن العقل وقيمة احلرية واملساواة ،وإفساح املجال
أمام رشاكة جمتمعية حقيقية يف البناء ،ثم جني الثمرة بعد ذلك ،أو ما يطلق عليه
علامء السياسة ،العدالة التوزيعية يف الثروة والسلطة ،ضمن باقي قواعد احلكم
الرشيد ،التي أكد عليها اإلسالم ،مثل الشفافية واملسئولية واملحاسبة ،واحرتام
حقوق اإلنسان ،واإلعالء من قيمة القانون والعدالة االجتامعية.
ويف تفصيل ابن خلدون لتاريخ الدولة اإلسالمية كنموذج لرشح املراحل
واألطوار التي حددها للدولة؛ سوف نجد ً
دائم أن مراحل الصعود كانت مرتبطة
بمدى متسك األمة بتعاليم الدين اخلالص ،وعندما تكون للدنيا الغلبة؛ يكون
الرتاجع والدوال ،وهو أمر ٌّ
جيل شديد الوضوح يف حمطات دولة النبوة واخلالفة ُ
الراشدة ،والدولة األموية من بعدها ،ثم دولة اخلالفة العباسية.
62
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فطور التأسيس للدولة واحلضارة اإلسالمية بشكل عام ،عند ابن خلدون ،هو
عهد الرسول الكريم ﷺ ،وعهد اخللفاء الراشدين األربعة املهديني من بعده.
ويف هذه املرحلة ،قىض اإلسالم عىل شكل العمران البرشي القائم يف مرحلة
اجلاهلية ،والذي كان ً
قائم عىل العصبية القبلية ،وأسس حملها قواعد األخوة اإلنسانية،
واألخوة يف الدين ،فيقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
[سورة "احلجرات" -اآلية .]13
ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ ُ
السورة ﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ويقول عز وجل يف موضع آخر من ُّ
ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾؛ حيث متت املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار،
وبني األوس واخلزرج.
وبعد وفاة الرسول ﷺ ،قامت اخلالفة ،وكان احلكم عىل منهاج النبوة ،ومل يكن
ُم ْل ًكا ،وكان القائمني عليه واملواطنني ،حمافظني عىل حياة البداوة من خشونة العيش
والبعد عن الرتف بالرغم من سعة املال الذي جاء من الفتوحات اإلسالمية ،لبالد
الشام والعراق وبالد فارس.
فكان عمر بن اخلطاب ير ِّق َع ثوبه ،وكان املسلمون األوائل بعيدون عن االنغامس
يف رغد العيش.
ثم جييء طور االنفراد باملجد ،وقال ابن خلدون إنه الطور املحصور بني قيام
الدولة األموية حتى سقوط الدولة العباسية ،وقال إن خلفاء بني أمية كانوا يسريون
عىل احلق حتى هناية عرص عمر بن عبد العزيز "ثم بعد ذلك استعمل خلفاؤهم
63
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
طبيعة ا ُمللك يف أغراضهم الدنيوية ،ونسوا ما كان عليه سلفهم من حتري القصد
فيها واعتامد احلق ،فانرصف الناس عنهم وأ َّيدوا الدعوة العباسية".
ويضيف يف مقدمته الشهرية يف هذا الصدد" :ثم رصف العباسيون ا ُمللك يف
وجوه احلق ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد ،فكان منهم الصالح ومنهم الطالح،
ثم أفىض األمر إىل بنيهم ،فأعطوا امللك والرتف حقه ،وانغمسوا يف الدنيا وباطلها،
ونبذوا الدين وراءهم فأذن اهلل بحرهبم ،وانتزاع األمر من أيدي العرب مجل ًة".
.....
ويف األخري ،يقود ذلك إىل أمر شديد األمهية ،جيب أن تكون له حاكميته يف حياة
اإلنسان املسلم ،وهو أن تكون حياته كلها هلل سبحانه وتعاىل ،خالقه ورازقه واملترصف
يف أمره ،وتكون حياة املسلم كلها ُم َّ
سخرة خلدمة دين اهلل ،ويف طاعته عز وجل.
آمرا نبيه ﷺ ،وهو قدوة املسلمني وإمامهم﴿ :ﯓ ﯔ
ويقول اهلل تعاىل يف ذلك ً
[سورة "األنعام".]162 -
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾ ُ
هذه اآلية تشري بشكل ال لبس فيه ،إىل أن اهلل عز وجل ،مل خيلق اإلنسان خلاصة
اإلنسان ،وإنام خلقه خلاصة رب العاملني ،وما احلضارة والعمران البرشي وكل
يشء؛ إال خلدمة هذه الرسالة؛ أن نعبد اهلل تعاىل عىل األرض.
واملقصد بذلك العبادة احلقيقية التي تشمل فهم حقيقة العبادة ،ودروسها
األخالقية ،فهذه هي أول مراتب احلضارة اإلسالمية ،ونربط هنا بني "احلضارة"
وسمتها "اإلسالمية"؛ ألن احلضارات األخرى املادية يكفيها األسباب لتنجح ،أما
نحن؛ أمة التكليف؛ فال حضارة لنا من دون الدين.
64
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ريا ما ُت َ
نسب املشكالت الراهنة التي متر هبا األمة املسلمة إىل الدين ،وذلك يف كث ً
إطار خمطط متكامل لفصل املسلمني عن دينهم وحضارهتم.
ومن نافلة القول يف هذا املوضع ،التأكيد عىل أن هذا املخطط ،والذي يتخذ
أشكا ً
ال إعالمية وجمتمعية عدة ،عىل حتقيق أكثر من هدف ،األول هو ضامن استمرار
األمة يف حالة التخلف والرتاجع احلضاري التي هي عليها يف الوقت الراهن.
اهلدف الثاين ،وهو مرتبط باألول ،استكامل خمطط "تغريب العامل" ،وسحب
احلضارات األخرى – واملسلمون ليسوا استثنا ًء – إىل بوتقة احلضارة الغربية
بمنظومتها املادية ،القائمة عىل قيم الليربالية والعلامنية ،واألسس القيمية للمسيحية
واليهودية كام تم حتريفهام.
ويتم يف إطار هذا املخطط ،التأسيس لصورة ذهنية سلبية حول ما يمكن أن يفعله
اإلسالم بالعامل إذا ما حكم وتم التمكني له ،وتشمل هذه الصورة الذهنية جمموعة من
"التوحش" و"التخلف" ،وكيف أن التمسك
ُّ مصطلح ْي
َ اجلوانب التي تدور كلها حول
بأهداب الدين؛ قاد األمة اإلسالمية إىل وضعية الرتاجع احلضاري التي هي عليه.
هنا تبدو أمهية الدراسات العمرانية اإلسالمية املذهب واهلوية ،والتي تركز
أساسي ْي ،األول هو إبراز أثر اإلسالم يف هنضة دولة اخلالفة
َّ أمر ْين أو جان َب ْي
عىل َ
65
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
66
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
67
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
68
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كام يؤكد عىل السبق احلضاري والعلمي للخالفة العباسية عىل كل ما عداها من
األمم واحلضارات األخرى.
وخصوصا يف كتابه "ختليص اإلبريز يف تلخيص
ً كام نقد رفاعة الطهطاوي،
باريز" ،عقائد الفرنسيني وقساوستهم ،وانتقد سلوكيات املجتمعات الغربية
بشكل عام ،بام فيها املجتمع الفرنيس.
كام حتدث رفاعة الطهطاوي ،بيشء من التفصيل يف "املرشد األمني" ،و"مناهج
األلباب" ،عن اجلهاد وفضيلة وفريضته عىل املسلمني ،وهو ما ال يظهره العلامنيون
باملرة من الطهطاوي.
َّ
خالصا
ً إسالميا
ًّ ومن بني ما يؤكده الطهطاوي يف عمرانياته ،ويقدم مكو ًنا
لعملية البناء احلضاري ،رضورة انضباط العقل بالوحي ،وهو أمر مرفوض متا ًما
من جانب العلامنيني الذين يعلون من قيمة العقل اإلنساين عىل أي مصدر آخر من
مصادر املعرفة.
الس َّنة النبوية الرشيفة، ُّ
التمكن من القرآن الكريم ،ومن ُّ ومن ذلك ً
أيضا ،أن
رشط لدراسة الفلسفة ،حتى ال خترج وال تشط عن املألوف والصحيح من األمور.
ويف هخذا يقول الشيخ عبد الرمحن بن حسن امليداين الدمشقي ،يف كتابه املهم
"احلضارة اإلسالمية ..أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات املسلمني هلا وملحات
من تأثريها يف سائر األمم" الصادر عن "دار القلم" بدمشق ،عن السبل الكفيلة
بتحقيق التقدم والرقي احلضار َّي ْي ،من خالل املنهج اإلسالمي ،ما ينزل به الوحي،
69
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي ،ثم ما يكتسبه اإلنسان عن طريق االختبار
والتجربة واملامرسة التطبيقية مع املالحظة الدقيقة جلوانب اخلطأ والنقص ،وما
يستدعيه الكامل ،وهو مرتبط باملامرسة العلمية كذلك.
ولو تركنا الطهطاوي وعمرانياته ،وامليداين وعقلياته ،وذهبنا إىل ما قاله البحاثة
محزة حسن سليامن صالح ،يف دراسته املهمة "أسس احلضارة اإلنسانية يف القرآن
الكريم"؛ سوف نجد الكثري من الدالالت القرآنية والتارخيية التي تؤكد عىل أن
اإلسالم بذاته ،هو الذي أقام حضارة املسلمني.
فيقول إن "الناظر إىل بداية نشوء احلضارة اإلسالمية ال جيد فيها أي تأثر أو أي
إجيابيا وال تأ ُّث ًرا ًّ
سلبيا ،ذلك ًّ ارتباط باحلضارات السابقة أو املعارصة هلا ،ال تأ ُّث ًرا
نمطا من العيش خمتل ًفا كل االختالف عن كل أنامط العيش ألن اإلسالم أوجد ً
السابقة له واملعارصة ،وأحدث انقال ًبا جذر ًّيا يف املجتمع بحيث مل يرتك ناحية من
نواحيه إال وطاهلا وأحدث فيها التغيري من أساسها".
وكام أسلفنا؛ فإن القرآن الكريم ،به الكثري من اآليات التي إذا ما تدبرناها؛
سوف نجدها تتناول عوامل هنوض وأسباب استمرار احلضارات.
ونأخذ فقط ما يتعلق بنظام احلكم يف اإلسالم ،ألهنا قضية مهمة تشغل بال
الكثريين ممن ال يعلمون حقيقة هذا الدين ،وما احلال لو تم التمكني له ،وهي
أسئلة ظهرت وتكاثرت مع صعود اإلسالميني إىل احلكم يف بعض بلدان الربيع
العريب.
70
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولننظر فقط إىل قضية احلق وأمهيتها يف احلكم والبناء العمراين ،واالجتامعي
والسيايس السليم ،والتي هي يف مقام عملية احلكم ،صنو قضية العدالة ،وكالمها،
احلق والعدل من األسامء احلسنى التي اختارها اهلل عز وجل لنفسه!
فنظام احلكم يف اإلسالم يقوم عىل احلق والعدل ،وهي األسس الركينة
الستمرار املجتمعات واحلضارات ،ومن دوهنا تسود الفوىض ،ويف القرآن الكريم،
أبرز رب العزة اإلسالم هذه القاعدة كأساس للعالقة بني احلاكم واملحكومني،
حمذرا القائمني عىل شئون احلكم من اتباع اهلوى؛ فتسقط الدولة يف مهاوي الظلم،
ً
وبالتايل تنهار وتذهب رحيها.
ومن بني ما ورد يف القرآن الكريم يف ذلك قوله تعاىل﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ
[سورة "ص" – من اآلية ،]26ويقول كذلك:
ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ﴾ ُ
﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
[سورة "املائدة" – من اآلية .]49
ﯩ ﯪ ﯫ﴾ ُ
.....
ويف األخري؛ فإن التاريخ خيربنا أن اإلسالم أقام -وحده – حضارة العرب
واملسلمني ،كام كان هو الركيزة األساسية لقيام حضارات أخرى ،عىل رأسها
احلضارة الغربية ،وهو ما اعرتف به حتى غالة الفالسفة الغربيني ،مثل جوستاف
لوبون ،واملنصفني منهم ،مثل جورج سارتون ،الذي قال يف كتابه "مقدمة يف تاريخ
العلم"" :إن اجلانب األكرب من مهام الفكر اإلنساين اضطلع به املسلمون؛ فالفارايب
أعظم الفالسفة ،واملسعودي أعظم اجلغرافيني ،والطربي أعظم املؤرخني".
71
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن مل يكن ذلك أن يتم لوال أن كانت البداية بالرتبية النبوية األخالقية ،وبناء
الفرد يف املرحلة املَ َّ
كية من البعثة ،ثم بناء الدولة واملجتمع يف املرحلة املدنية من بعثة
رسول اهلل ﷺ.
إ ًذا؛ فاإلسالم هو صنو العمران ،واملعادل اإلجيايب للتقدم البرشي ،ويف املقابل؛
فهو املعادل السلبي لكل ما هو يتعلق بالتخلف والرجعية واخلراب الذي ينادي به
اآلن خصوم األمة!
72
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
73
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن بني اآليات الالفتة يف القرآن الكريم عن هذا األمر ،قوله تعاىل﴿ :ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾
[سورة "األنعام" -اآلية .]161
ُ
"دينًا ِق َي ًم" الواردة يف اآلية ،بمعنى أنه ذلك
وفس علامء ثقاة ،ولغويون عبارة ِ
َّ
الدين الذي تقوم بقواعده أمور الناس وشؤوهنم ،كام يف القرطبي ،ويف القاموس
"املحيط" و"لسان العرب" ،وغري ذلك.
وهي آية بخالف أهنا تكشف التناول القرآين لقضية النهضة بمعناها الواسع،
وأمهية الدين يف هذا الصدد ،أي يف شأن ضبط أحوال الناس بالشكل الذي يعينهم
عىل حتسني أحواهلم والقيام بأمورهم؛ فإهنا كذلك تشري إىل أن القرآن ذاته هو املعني
األول لذلك؛ حيث إن املصدر األسايس هلذا الدين الق ِّيم ،هو القرآن الكريم.
ويرى البعض أن إبراز هذه السمة يف كتاب اهلل عز وجل ،ال يتعلق باملسلمني
فحسب ،وإنام هو عىل أكرب قدر من األمهية أمام غري املسلمني يف ظل احلرب الراهنة
التي يقوم هبا خصوم األمة من أجل تشويه الدين ومفاهيم العمل اإلسالمي
واملرشوع احلضاري لإلسالم بشكل عام ،فهي إذا قضية دعوة يف املقام األول.
ووجه إليها
ويف هذا؛ فإننا نقف أمام أمور أساسية تكلم عنها القرآن الكريمَّ ،
ِّ
تشكل فيام بينها منظومة متكاملة للنهضة والعمران ،يف خمتلف املجاالت ،السياسية
واالقتصادية واالجتامعية ،ويف األمور املادية ،التي تتضمن املعامالت وكذا،
واملعنوية ،التي تتضمن البنية األخالقية التي يقوم عليها كل ذلك.
74
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واملجال األول ،هو العقيدة ،وهو أمر مهم أن ندركه يف سياق خمتلف عن مفهوم
أمهية العقيدة التقليدي كام نفهمه كمسلمني.
فبالنظر إىل جتارب النهضة والتنمية والعمران لدى األمم األخرى؛ فإننا نجد أن
غالبية هذه التجارب الناجحة قامت عىل أساس إيامن راسخ بعقيدة أو أيديولوجية
معينة.
وهو أمر موجود يف حالة حضارة أمة اإلسالم؛ فإنه اإليامن الراسخ بالعقيدة كام
َّ
وضحها القرآن الكريم؛ كانت هي – وفق الكثري من املؤرخني والعلامء -أهم عامل
الرسيع ْي لدولة اإلسالم األوىل ،ونجاحها يف تسيد العامل
َ ساهم يف القيام والرسوخ
القديم بالكامل صانع ًة دولة العدل والرخاء التي قضت عىل إمرباطوريات الظلم
واالستعباد ،يف عقود قليلة من الزمن ،بشكل مل حتققه أية قوى أخرى عرب التاريخ.
ييل ذلك البنيان األخالقي الذي ينهض عىل أساس هذه العقيدة ،ويكون حلقة
الوصل بينها يف املجال اإليامين ،وبني تطبيقها عىل أرض الواقع يف صورة تعاليم
تقوم عىل أساس العدل واملساواة واحلرية يف إطار منظومة الرشيعة ،مما يتيح الفرصة
أمام املجتمع لالنطالق والبناء يف ظل وجود أسس سليمة لبنائه.
وهذا يتصل بدوره بمجال آخر ورد رصاحة يف القرآن الكريم ،وهو جمال
"التمكني" ،والذي أهم مقاصده إقامة الرشيعة ،وعبادة اهلل تعاىل يف األرض..
يقول عز وجل﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
[سورة َ
"احلج" – ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ ُ
اآلية .]41
75
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف املقابل؛ فإن عدم القيام بواجبات وتكاليف هذا التمكني ،يستوجب َه َل َكة
القوم وهدم اهلل عز وجل للعمران الذي أقاموه ،ألنه أقيم عىل الباطل ،فال يشء
باطل مثل عدم القيام بعقيدة التوحيد ،مهام كانت اإلنجازات يف املجاالت األخرى
الدنيوية.
وهي ُس َّنة واضحة يف القرآن الكريم عندما تكلم اهلل تعاىل فيه عن األمم السابقة،
وأسباب هالكهم ،ومن ذلك قوله تعاىل﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣﮤﮥﮦ ﮧﮨ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱ
[سورة "األنعام" -اآلية .]6
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ ُ
ثم بعد ذلك ،نجد األمور العملية املهمة يف جمال أية هنضة حضارية وفق ما أمجع
عليه علامء االجتامع والعمران عرب التاريخ ،وهي االستخالف يف األرض.
وبجانب إقامة الرشيعة وعبادة اهلل تعاىل ونرش عقيدة التوحيد؛ فإن آيات القرآن
الكريم التي تناولت قضية استخالف اهلل تعاىل لإلنسان ،ومهمته فيها؛ فإن القرآن
ً
مبارشا بالنهضة والبنيان ً
ارتباطا الكريم أشار إىل ثالثة نواميس أساسية ،ترتبط
احلضار َّي ْي ،وهي:
-اإلصالح﴿ ..ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
[سورة "هود" -من اآلية .]88
ﰁ ﰂ﴾ ُ
76
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
-التغيري ،والذي يكون إىل األصلح واألكمل وفق ما عرضه القرآن الكريم من
مظاهر الكامل.
الك ِلم يف هذا األمر ،وفيها يقول تعاىل:
ويف ُسورة "النور" هناك آية من جوامع َ
﴿ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀ ﮁﮂ
ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ﴾.
ويف دراسة له نرشهتا جملة "الرشيعة والدراسات اإلسالمية" الكويتية ،العدد
( ،)94سبتمرب 2013م ،حيدد الدكتور حامد بن يعقوب الفريح ،أستاذ الدراسات
القرآنية بكلية الرتبية يف جامعة الدمام السعودية ،دعائم عدة أتى هبا القرآن الكريم
أثبت التاريخ أهنا أهم دعائم هنضة أية أمة.
وبدأها بتكريم اإلنسان ،ثم احلرية ،والعدل ،واإلعالء من قيمت َْي العقل
والوقت ،والعمل املتقن ،والعمل اجلامعي ،واألخذ باألسباب املادية ،ثم فهم
قاعدة اجلزاء من جنس العمل ،واملشاركة بني الراعي والرعية ،وصو ً
ال إىل املجتمع
املوحد ،أو الوحدة اإلسالمية يف حالة أمة اإلسالم ،وكلها هلا آيات تدل عليها يف
َّ
القرآن الكريم.
وعىل أبسط تقدير؛ فإنه يف رشيعة اإلسالم؛ فإن العقل واحلرية مها مناطا التكليف
ال ،واستنبط العلامء ذلك من القرآن الكريم ،بينام كرامة اإلنسان ذكرها القرآنأص ً
77
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الكريم بوضوح؛ ﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
[سورة "اإلرساء" -
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ ُ
اآلية ،]70فيام العدل يف األساس هو أساس استقرار الكون واستمراره يف األصل،
وهكذا.
وكام تقدَّ م؛ فإن التاريخ اإلنساين العام ،والتاريخ اإلسالمي ،يثبت أن القواعد
التي وضعها القرآن الكريم ،ويف حالة التاريخ اإلسالمي؛ فإن دولة النبوة األوىل،
اهلل عنه) ،وسائر النامذج الناجحة التي سارت عىلودولة عمر بن اخلطاب (ريض ُ
قاعدة النهضة القرآنية ،والنموذج التفسريي الذي قدمه الرسول الكريم ﷺ هلا يف
حرفيا.
ًّ دولة املدينة؛ قد قامت عىل أسس القرآن الكريم
ويف األخري؛ فإن إعادة اكتشاف كتاب اهلل تعاىل من جانب املسلمني هبذا املعنى؛
يعني أهنم غريوا مضطرين للبحث عن حلول ملشكالهتم خارج دينهم ومرجعياهتم
األساسية ،وعىل رأسها القرآن الكريم ،وجييب بوضوح عىل سؤال كيف اإلسالم
هو – بالفعل – احلل ألزمات األمة واإلنسانية كافة.
78
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُتعترب العدالة هي أهم األركان التي يقوم عليها العمران البرشي السليم ،بل إن
العدالة بصورها املختلفة ،وخمتلف أركان معاين املصطلح وحمتواه ،مثل التوازن،
هي ضامنة استمرار احلياة ،والكون ،إىل أن يأذن اهلل تعاىل ،وينهي احلياة الدنيا
بالصورة التي خلقها عليها منذ القديم ،وكام نعرفها نحن.
وهو أمر واضح حتى من األساس اللغوي ،فالعدالة لغ ًة؛ هي االستواء أو
معا .والعدل كذلك هو املتوسط ىف األمور من غري إفراط يف
االستقامة أو كالمها ً
الصحاح" و"املحيط" وغريها].
َّ َْ
طرف الزيادة والنقصان ["خمتار
والتوسط والتوازن ،حتمل يف طياهتا
ُّ وبالتايل؛ فإن العدالة بمعنى املساواة
عوامل البقاء ،يف املقابل؛ فإن النقيض ،وهو الظلم واجلور؛ هو أهم أسباب اهنيار
املخلوقات ،سواء أكان األمر يتعلق بجامدات ،أو خملوقات حية؛ سواء يف سياقاهتا
الفردية ،أو يف سياقاهتا املجتمعية.
وهذا األمر بدهيي لدى علامء االجتامع والعمران؛ حيث من أهم العبارات املأثورة
عن ابن خلدون ،مؤسس علم االجتامع؛ أن "الظلم مؤ ِّذن بخراب العمران".
وهو أمر يعود إىل الفطرة البرشية السليمة ،ولذلك؛ فإنه من أقدم الرموز
احلضارية املعروفة منذ احلضارات البرشية القديمة ،هو ميزان العدالة الشهري،
الذي نجده يف كل احلضارات اإلنسانية تقري ًبا ،ومتاثيل العدالة سواء تلك التي
79
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
جتسد امرأة حتمل ميزان العدالة يف يد ،والسيف يف اليد األخرى ،أو حتمل امليزان
املتخاصم ْي.
َ بينام تعصب عينيها؛ دالل ًة عىل احليادية بني
ويف هذا اإلطار؛ فإنه من بني أهم املجاالت التي تتحقق فيها العدالة بني البرش،
هي ساحات القضاء؛ حيث حيكم القانون بني الناس كافة ،وفق ميزان العدالة،
وعىل أسس من النزاهة واملوضوعية واحليادية.
وهو أحد الضامنات املهمة الستقرار املجتمعات؛ حيث إن فقدان الناس لثقتهم
يف منصة القضاء ونزاهتها؛ سوف يدفعهم إىل احلصول عىل حقوقهم بأنفسهم ،وهو
ما يعني فوىض اجتامعية ،وهو بكل تأكيد من عوامل ضعف بل واهنيار املجتمعات.
وعىل أمهيتها؛ فإن العدالة؛ ُتعترب أحد أهم مباحث الفلسفات الوضعية ،وكذلك
– بطبيعة احلال – من أهم األمور التي تكلمت فيها الرشائع التي أنزهلا اهلل تعاىل،
وصو ً
ال إىل اإلسالم ،الدين اخلاتم ،ربام بعد عقيدة التوحيد.
وبطبيعة احلال؛ فإن قضية العدالة ،ومظهرها األهم ،وهو تطبيق القانون ،ختتلف
بشكل كبري بني الفلسفة اإلسالمية ،وبني الفلسفات الغربية واإلنسانية بشكل عام.
إال أن هذا ال ينفي أن هناك مشرتكات معينة بني ما وضعته الرشيعة اإلسالمية
يف هذا الصدد ،وبني الفلسفات البرشية املختلفة ،ألنه – كام قلنا – مصطلح مرتبط
يف كثري من جوانبه ،بقضية الفطرة ،واإلسالم هو دين الفطرة؛ حيث يرى الكثري
من املفكرين املسلمني ،أن الدين مل ينزل – يف املجال املجتمعي واإلنساين العام
واخلاص – باجلديد الشاذ غري املألوف ،وإنام نزل لتنظيم ما هو موجود بالفعل.
80
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إال أنه ،بطبيعة احلال؛ ال يمكن املقارنة بني ما وضعه اإلسالم يف هذا الصدد،
وبني ما يضعه البرش ،باعتبار أن حكمة اخلالق عز وجل بالغة ،وال يمكن مقارنة
فهم البرش لألمور هبا.
وبشكل عام؛ فإن مفهوم "العدالة" لدى الفالسفة واملفكرين الغربيني ،منذ
احلضارة اليونانية القديمة ،وحتى احلضار َت ْي اجلرمانية واألنجلوساكسونية
املعارص َت ْي ،مرتبط بقضية الفضيلة ،وله سياقان.
السياق األول ،هو السياق الفردي اخلاص ،واآلخر ،هو السياق املجتمعي
العام ،وهو سياق مرتبط بشدة ،بسلطة العدالة والقانون ،أو القضاء كام نعرفه اآلن.
وبينام كان أفالطون شديد املثالية -باعتبار أنه من أوائل الفالسفة الغربيني
الذين تناولوا هذه القضية -ورأى أن العدالة فطرية ألن اإلنسان غري قادر عىل
الظلم؛ فإن تلميذه أرسطو رأى العكس ،ورأى أنه من األمهية بمكان أن يكون
للعدالة سياق مؤسيس عام حيفظها.
تصورا أكثر شمو ً
ال من ً ومن بني أهم املفكرين الغربيني املعارصين الذين قدموا
غريه ملفهوم العدالة ،هو الفيلسوف األمريكي جون رولز.
عاش رولز يف الفرتة ما بني العام 1921م والعام 2002م ،وله مؤلفات عدة
يف جمال العمران االجتامعي والسيايس ،ومن ضمنها قضية العدالة بطبيعة احلال،
من أمهها "نظرية العدالة" أو " ،"A Theory of Justiceو"الليربالية السياسية"
" ،"Political Liberalismو"قانون اجلامعات البرشية" "،"The Law of Peoples
و"العدالة كإنصاف" "."Justice as Fairness
81
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولقد عاش رولز يف فرتة حتوالت كربى يف النظرية الليربالية بشقها االقتصادي
واالجتامعي القائم عىل مفاهيم الرأساملية واحلرية الفردية ،ولذلك طغت عىل
أفكاره يف هذا املجال قضية العدالة يف املجال االجتامعي والسيايس ،يف مواجهة
توحش الليربالية والرأساملية الغربية ،والتي أتت عىل الكثري من جوانب آدمية
ُّ
اإلنسان ،وحقوقه يف املجال االجتامعي ،وبالذات الفقراء واملهمشني والفئات
األكثر ضع ًفا يف املجتمع.
وانطلق رولز يف أفكاره يف هذا الصدد ،من أفكار جون هوبز وجان جاك
روسو ،عن العقد االجتامعي التي قال روسو إهنا األساس الذي تقوم عليه
املجتمعات املنظمة والدول القومية التي كانت وقت ظهوره ،ال تزال أوروبا
حديثة العهد هبا.
ولعل تركيزنا يف هذا الصدد عىل أفكار رولز يأيت من األصل الذي حاولت
التعامل معه ومعاجلته ،وهو مشكلة غياب العدالة االجتامعية يف الكيانات
السياسية املنظمة ،والتي ُتعترب الدول شكلها األرقى يف اإلطار املؤسيس والسيايس
واملجتمعي.
فهذه املشكالت التي انبثقت بسبب حياد اإلنسان عن صحيح الطريق الذي
رسمته له الرشائع التي أنزهلا اهلل تعاىل ،وكان آخرها وأكملها ،هو رشيعة اإلسالم.
فالعدالة يف اإلسالم مفهوم شامل ،ومل نجد يف أية فلسفة وضعية ذات العمق
الذي وضعه اإلسالم للعدالة.
82
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فاإلسالم أكد عىل قيمة العدالة وأمهيتها ،ولو عىل أنفسنا ،ففي ُسورة "النساء"،
يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾.
ويف جمال القضاء؛ حيث أقرب معاين العدالة للذهنية اإلنسانية؛ ُيعترب قول الزور
وشهادة من أكرب الكبائر ،مع ما فيها من ظلم وإضاعة حقوق الناس ،وهو ما يقود
– كام تقدم – إىل اهنيار العمران البرشي بالكامل.
ولذلك هي يف القرآن الكريم موضوعة عقب ِّ ْ
الشك ذاته مبارش ًة؛ حيث يقول اهلل تعاىل
"احلج" ﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾. يف ُسورة َ
ويف احلديث الرشيف املتفق عليه؛ قال رسول اهلل ﷺ" :أال أنبئكم بأكرب الكبائر
– ثال ًثا – قلنا :بىل يا رسول اهلل .قال " :اإلرشاك باهلل وعقوق الوالدين" وكان
متكئًا فجلس فقال" :أال وقول الزور ،أال وشهادة الزور" فام زال يكررها حتى
قلنا :ليته سكت".
الس َّنة النبوية؛
أما يف جمال العدالة االجتامعية؛ فإن القرآن الكريم ،وصحيح ُّ
الكثري من املظاهر التي تدعم مفهوم العدالة يف هذا االجتاه ،كنظام اقتصادي
واجتامعي هيدف إىل إزالة الفوارق بني الطبقات.
ويستند نظام العدالة االجتامعية يف اإلسالم يف هذا الصدد ،عىل أسس وأركان
من أمهها أن الناس سواسية كأسنان املشط ،كام قال الرسول الكريم ﷺ.
83
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف حقيقة األمر؛ فإن اإلسالم قد سبق خمتلف النظريات التي وضعت عن العدالة
يف خمتلف االجتاهات ،القانونية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية ،وقدم نظرية
متكاملة للعدالة ،ال يمكن بحال أن نجدها يف أية منظومة فكرية وفلسفية أخرى.
مفكرا أو فيلسو ًفا قد تناول هذا اجلانب أو ذاك ،من
ً فمن املمكن أن نجد
اجلوانب املتصلة بالعدالة ،كمفهوم هبذا الشمول ،ولكن ليس كل اجلوانب.
وبالتايل؛ فإن قضية العدالةُ ،تعترب من أهم املجاالت التي يمكن من خالهلا
ممارسة الدعوة إىل اهلل تعاىل يف أوساط غري املسلمني.
وتأيت هذه األمهية من زاويت َْي .األوىل ،هو شمولية وأسبقية وعمق نظرية
العدالة يف اإلسالم ،وبالتايل ،التأكيد عىل مصدرها غري البرشي ،وأهنا من لدن اهلل
عز وجل ،والثاين ،أن فيها معاجلات للكثري من املشكالت التي تعاين منها اإلنسانية
بسبب قصور النظريات الوضعية ،وما أدت إليه الفلسفات االقتصادية واالجتامعية
والسياسية البرشية من مشكالت مجة لإلنسان.
84
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
85
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويأيت ذلك لتحقيق املرونة الالزمة ،يف ظل علم اهلل تعاىل بنوازع البرش وضعفهم،
بمن َخ َلق وهو اللطيف اخلبري. وغري ذلك من سامت َخ ْل ِقه ،وهو أعلم َ
ويف عرصنا الراهن؛ فإننا نقف أمام الكثري من الظواهر عىل مستوى العالقات
اإلنسانية واملجتمعات البرشية ،من صور التعقيد ،وكذلك األزمات املختلفة،
والتي ترتبط يف كثري من األحيان بقضية احلقوق واملعامالت.
ومن ضمن األمور واملجاالت التي أسبغ اهلل تعاىل عليها هذا الطابع ،وهلا أبلغ
عرف
األثر يف حتسني مستوى العالقات اإلنسانية يف املجتمعات اإلسالمية ،هي ما ُي َ
باملروءة التي تتضمن العفو يف بعض األحيان عن بعض احلقوق؛ إعال ًء للرابطة
اإلنسانية.
يف هذا اإلطار؛ فإن هناك تصحيح مفاهيمي واجب؛ حيث يضع البعض
"املروءة" ضمن الرقائق ومكارم األخالق أو ما شابه ،بينام هي من صميم
أصلها اإلسالم ،ودعا إليها من خالل النص،
السلوكيات واملامرسة املجتمعية التي َّ
حريصا
ً أي أهنا من أصول الرشيعة اإلسالمية التي جيب عىل كل مسلم أن يكون
عليها.
الس َّنة النبوية
واألدلة الرشعية عىل ذلك عديدة يف القرآن الكريم ،ويف ُّ
الرشيفة.
ومن بني ذلك ،قول اهلل تعاىل﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
[سورة "البقرة" – من اآلية .]178
ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ ُ
86
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فهذه اآلية تتكلم عن أخطر أمر من أمور حقوق اإلنسان إزاء اإلنسان ،وهو حق
الدم؛ حيث تقول اآلية يف شطرها األول﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾.
ويف نقطة حق الدم كذلك؛ يقول تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
[سورة "النساء" – من اآلية .]92
ﭦ ﭧ﴾ ُ
يف كال اآليت َْي ،هناك دعوات واضحة ورصحية للتنازل يف بعض األحوال املتعلقة
واضحا.
ً بحقوق الدم ،بالعفو والتصدُّ ق ،وغري ذلك مما كان فيه النص القرآين
ويف آية أخرى من ُسورة "البقرة" ،اآلية ( ،)237يقول اهلل تعاىل﴿ :ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸﯹ﴾ ،ويزيد﴿ :ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ ،وهو بدوره جاء يف موضع
حديث حلقوق أخرى شديدة األمهية ،وهي حقوق الزواج والطالق ،وهي هلا أكرب
األمهية يف النظام االجتامعي لإلسالم كام نعلم.
ويف أم ٍر آخر عىل أكرب قدر من األمهية يف املنظومة االجتامعية يف اإلسالم ،وهو
أمر ًح ِظ َي
املواريث ،والتي ألمهيتها؛ يقول علامء الفقه والتفسري؛ إنه ال يوجد ٌ
صح التعبري – يف القرآن الكريم ،مثل املواريث،
بتغطية شاملة ،واضحة – لو َّ
والزواج واملحارم؛ يف هذا األمر؛ نجد القرآن الكريم يدعو إىل بعض األمور التي
تتجاوز التحديد الدقيق لألنصبة؛ حيث يقول اهلل تعاىل﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳ﴾
[سورة "النساء" – اآلية .]8
ُ
87
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إال أنه من جانب آخر؛ فإنه من األمهية بمكان هنا اإلشارة إىل بعض األمور التي
تؤكد كامل الترشيع اإلسالمي؛ حيث إن هذه األوامر ُو ِض َع هلا ،كام أي يشء يف
الرشيعة اإلسالمية ،ضوابط ِّ
تنظمها.
ففي اآلية ( )178من ُسورة "البقرة" التي أرشنا إليها فيام تقدَّ م؛ يقول اهلل تعاىل
يف متامها ،بعد أن دعا إىل العفو واالتباع باملعروف واألداء بإحسان كتخفيف من اهلل
عز وجل؛ نجده يقول﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾.
شع ُ
اهلل تعاىل الوصية ،كام جاء يف اآليت َْي كام أنه ،ويف آيات املواريث ،بعد أن َ َ
الس َّنة النبوية وضعت الضابط أو القيد
( )11و( )12من ُسورة "النساء"؛ فإن ُّ
الرشعي فيها لعدم اجلور عىل أصحاب احلقوق األصليني ،وهو "تقنني" الوصية
الصحيح ْي.
َ بال ُّث ُلث ،كام َث ُب َت يف
فقد ورد أن سعد بن أيب وقاص "ريض ُ
اهلل عنه" ،أراد أن يويص بامله كله ،فنهاه
مرة قال له فيها سعد إنه سوف يويص بجزء الرسول الكريم ﷺ ،وراجعه يف كل َّ
من ماله ،حتى وصل إىل ال ُّث ُلث ،فقال "عليه الصالة والسالم"" :ال ُّث ُلث وال ُّث ُلث
كثري (ويف رواية :كبري)".
ويف العالقات الزوجية .القرآن الكريم يقول ُح ْك ًم قد يبدو مطل ًقا؛ حيث يقول
تعاىل ﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ ُ
[سورة "البقرة" -من اآلية ،]223
ولكنه أتبع ذلك بقواعد ناظمة تراعي الطبيعة البرشية؛ حيث يقول ﴿ﯩ ﯪﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ﴾ ،بل وربط ذلك باإليامن؛ حيث تتمة اآلية،
يقول فيها اهلل عز وجل﴿ :ﯲ ﯳ﴾.
88
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الس َّنة النبوية؛ نجد هناك بعض األمور التي حددها الرسول الكريم ﷺ ،يف ويف ُّ
"و َقدِّ ُمو ْا َ
أل ُنف ِس ُك ْم"؛ حيث يدعو إىل التمهيد والرت ُّفق قبل إتيان الزوج لزوجته، نقطة َ
ودعا عليه الصالة والسالم إىل جت ُّنب اتباع الغرائز بشكل هبيمي يف هذا األمر.
يقعن أحدكم عىل
َّ فكام يف الصحيح؛ عن الرسول الكريم ﷺ ،أنه قال" :ال
امرأته كام تقع البهيمة وليكن بينهام رسول" .قيل :وما الرسول يا رسول اهلل؟ .قال:
"القبلة والكالم" ،وقال ﷺ ً
أيضا" :ثالث من العجز يف الرجل" ،وذكر منها أن
يقارب الرجل زوجته فيصيبها (أي جيامعها) قبل أن حيدثها ويؤانسها ويضاجعها
فيقيض حاجته منها ،قبل أن تقيض حاجتها منه".
الس َّنة النبوية الرشيفة ،وجيب
وعىل هذا النحو؛ يميض القرآن الكريم وصحيح ُّ
تعصباتنا
أن نفهم أن هذا يف اإلسالم ،وهذا هو اإلسالم ،وجيب علينا أن نقدمه عىل ُّ
يف أمورنا وسلوكياتنا كافة.
ويفتح ذلك املجال أمام حديث آخر أخطر ،وهي قضية قاعدة القيود والقواعد
الناظمة التي وضعها اهلل تعاىل لتنفيذ األحكام الرشعية كافة ،وهي من أهم القضايا
التي كان لغياب الفهم فيها ،أثر كبري يف التشويش احلاصل عىل املرشوع اإلسالمي ،ويف
ظهور آفات مثل التطرف والتكفري وغري ذلك ،ولكن هلذا موضع آخر من احلديث.
89
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أتى اإلسالم بقواعد عامة يف خمتلف االجتاهات ،ومل حي ِّبذ أو يزكي منظومة عىل
منظومة أخرى ،سواء يف السياسة أم يف االقتصاد ،أو يف اجلانب املجتمعي.
وشاءت حكمة اهلل تعاىل أن يكون اإلسالم يف منظومته الشاملة عبارة عن هذه
ً
صاحلا لكل زمان ومكان إىل أن يشاء اهلل تعاىل؛ القواعد العامة ،من أجل أن يكون
فريفع القرآن الكريم واإليامن من األرض؛ فال يبقى عليها إال رشارها ،فتقوم
عليهم القيامة كام أخرب النبي الكريم ﷺ.
ويف هذا اإلطار ،مل حيدد اإلسالم نظا ًما معينًا للحكم ،لكن الرشيعة قالت بأن
أية منظومة يتم احلكم هبا يف ديار اإلسالم جيب أن تلتزم بتحقيق مقاصد الرشيعة
اخلمس ،وعىل رأسها حياة اإلنسان ،ومناطا التكليف؛ العقل واحلرية ،عىل أن تقوم
عرف يف زمننا املعارص
عىل أساس قواعد العدالة والشفافية واملحاسبة ،وغريها مما ُي َ
بقواعد احلكم الرشيد.
ونرى اآلن الكثري من اجلدل يف أوساط احلركة اإلسالمية بشأن الصورة املثىل
التي ينبغي أن يكون عليها نظام احلكم يف الدولة اإلسالمية التي يتطلع اجلميع إىل
استعادهتا عىل أية صورة من الصور.
ويف حقيقة؛ األمر؛ فلقد قادت الظروف واملستجدات ايل متر هبا احلركة اإلسالمية
يف الوقت الراهن ،إىل انسياح الكثري من األفكار يف إطار بحث اجلميع بال استثناء
90
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
محل البعض املسؤولية فيه لألطرعن بدائل يف ظل الفشل الذي آلت إليه األمور ،و َّ
واآلليات واألفكار التي كان معمو ً
ال هبا يف املرحلة السابقة.
ونجد يف هذا السياق ،أن الكثريين قد قادهتم مرحلة التيه الفكري هذه ،يف
ظل غياب األطر التنظيمية التي كانت تعمل عىل وضع الربامج الرتبوية ومتابعة
أنشطة التنشئة والتلقني الفكري ،إىل تبني بعض األفكار التي ال تتفق مع الرشيعة
اإلسالمية ،وال حتى مع قواعد السياسة السليمة التي حتقق األثر املنشود.
ومالت نسبة ال بأس هبا من شباب احلركة اإلسالمية عىل وجه اخلصوص ،إىل
األفكار التي ِّ
تعظم يف قيم القوة والعنف سواء عىل املستوى الفردي ،أو املجتمعي،
وقيم االستبداد السيايس ،وما اتصل بذلك.
فكان هناك األخذ من أفكار فالسفة ملحدين مثل نيتشه ،نظرية "اإلنسان
السوبرمان" بالتحديد ،وأفكار كارل شميت ،الذي جمَّد يف نظرية القوة ،وكانت
أفكاره مع نيتشه هي منبع أساس ،ضمن مصادر أخرى هنضت عليها التجربة
النازية يف أملانيا ،بني العرشينيات واألربعينيات املاضية.
ولعل البعض منبهر بالفعل بعدد من األمور يف جتارب مثل النازية يف أملانيا،
والستالينية يف االحتاد السوفييتي السابق ،ويعمل عىل دراسة ما اتصل وشابه من
جتارب سياسية عرب التاريخ.
األمر األول؛ هو كيف تصدت هذه األنظمة خلصومها السياسيني ،وفق مبدأ
واحد ،وهو العنف السيايس ،سواء الفردي أو اجلامعي ،من خالل النفي والقتل
واالعتقال وغري ذلك من اآلليات.
91
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
األمر الثاين؛ هو كيف استطاعت هذه األنظمة أن حتقق التنمية الشاملة ،ويف
وقت قيايس وجيز ،حتولت معه هذه الدول والكيانات من جمتمعات زراعية ذات
ً
جيوشا قوية ،وذات اقتصاد ريعي ،وتعاين من الفقر والفاقة ،إىل أمم صناعية متلك
سطوة متتد عرب العامل.
األمر الثالث يف هذا املجال ،هو كيف استطاعت األحزاب والقوى السياسية
التي أسست هلذه األنظمة السيطرة عىل مؤسسات الدولة واملجتمعات ،يف ظل
كون أحد أهم العوامل التي قادت إىل فشل احلركة اإلسالمية بعد ما ُع ِر َف بالربيع
العريب ،كانت املامنعة التي أبدهتا املؤسسات القديمة املتوارثة من عهود األنظمة
االستبدادية التي قامت عليها الثورات الشعبية.
وبطبيعة احلال؛ فإن هناك الكثري من اخللط يف األمور ،ويمكن القول إنه عىل
العكس؛ ال يوجد خري يف األخذ من هذه األفكار والنظريات.
وبعيدً ا عن الشق اإليامين والقيمي يف أهنا ما دامت تتعارض مع الرشيعة
اإلسالمية؛ فهي باطلة؛ ألن اإلنسان مهام كان ال يمكنه أن يصل بعقله القارص –
حاشا هلل تعاىل – إىل حكمة بالغة عن حكمة اخلالق عز وجل؛ فإنه يمكن للباحث
ا ُملد ِّقق من خالل دراسة حمققة لوقائع التاريخ بعيدً ا عن ظاهر القول ،واملقوالت
ا ُمل َع َّلبة املتوارثة؛ الوصول إىل نتائج تفيد بتهافت مثل هذه النظريات ،وأننا ال جيب
ال حتى ،عن صحيح رشيعنا وما أمرتنا به. ريا وال قلي ً
أن نبتعد كث ً
فالديكتاتوريات واالستبداد وقوة القهر؛ ال تصل باإلنسان إىل حتقيق مبتغاه،
وال حتقق أي يشء َس ِو ٍّي.
92
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وعىل أبسط تقدير؛ هل نتصور أنه لو كان استبداد اإلمرباطورية يف اليابان ،أو
النازيني يف أملانيا ،أو الفاشيني يف إيطاليا ،قد حقق غرضه يف تأسيس أجيال تؤمن
حقيق ًة بشعارات هذه اإلمرباطوريات؛ كان يمكن للتغيري يف هذه املجتمعات أن
حيدث بالرسعة التي رأيناها بعد احلرب العاملية الثانية؟!
إطال ًقا؛ وحلارب هؤالء حتى آخر مواطن يف سبيل هذه الديكتاتوريات التي
متجد القوة غري الرشيدة وال تأبه بأي يشء
قامت عىل أساس هذه النظريات التي ِّ
من مقاصد الرشيعة التي نعرفها.
إن قرون من إكراه احلكم اإلمرباطوري يف اليابان؛ تغريت بعد احلرب العاملية
الثانية بسهولة نسبية ،وال عالقة لألمر بالقنابل النووية أو االحتالل األمريكي؛ فقد
تكون اآللة العسكرية األمريكية قد أجربهتم عىل االستسالم؛ لكن ما تىل ذلك من
تغيري مل حتدثه قوة الذرة.
ما تبقى من هذه األنظمة هو إحساس الياباين /األملاين القومي ،وهو أمر متوارث
ويف جينات هذه الشعوب ،لكن ما فعلته الديكتاتوريات؛ كان من السهل تغيريه.
ثم هناك مالحظات مهمة يؤكدها التاريخ ،وتقول بتهافت هذه املدارس ،منها
مث ً
ال أن أملانيا من قبل هتلر ،مل تكن أمة خاملة؛ بل عىل العكس؛ كانت أملانيا بلد
إمرباطوري ،ذو طابع صناعي ،بل واستعامري توسعي ،والسيام منذ توحيده عىل
يد بسامرك ،يف القرن التاسع عرش.
ثان ًيا؛ أنت تقف أمام جانب واحد من جتربة أدولف هتلر ،أو امليجي يف اليابان،
أو موسوليني يف إيطاليا ،وهي فرتة الصعود ،ولكن كمجمل عام؛ هذه التجارب
93
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
قادت هذه الدول العظمى إىل الدمار ،وكل ما فعله هؤالء بنظرياهتم ،هو أهنم
وضع بلداهنم حتت سيطرة استعامر أجنبي ،وتسببوا يف تقسيمها يف حالة أملانيا مث ً
ال،
وإىل اآلن ،قيود اهلزيمة يف احلرب العاملية الثانية؛ تطوي أي كربياء أملاين أو ياباين.
متجد من العنف ،وصنعت
ثم إنه قول متناقض كذلك ،أن نعترب بفلسفات ِّ
حكومات وأنظمة استبدادية قتلت شعوهبا – هتلر قتل قبل احلرب مئات اآلالف
من األملان من الشيوعيني واليهود واملعارضني له بشكل عام – وتسببت يف مقتل
وترشيد مئات املاليني عرب العامل ،بينام نحن نقول إننا نريد اإلصالح والديمقراطية
أخالقيا تبنيها وإال ال نكون ُنم ُّت لإلسالم
ًّ وغري ذلك من القيم ،التي ال جيوز
بصلة.
يف احلرب العاملية الثانية ،هناك موقف الفت للغاية تبناه دوايت آيزهناور عندما
كان يتوىل قيادة قوات احللفاء.
قبيل اقتحام برلني ،طلب منه رئيس الوزراء الربيطاين يف حينه ،وينستون
تشرتشل ،والرئيس األمريكي يف ذلك الوقت ،فرانكلني روزفيلت ،اإلرساع
باقتحام برلني قبل السوفييت الذين كانوا قد اقرتبوا منها من جهة الرشق ،للحؤول
دون حصول ستالني عىل مكاسب سياسية يف مرحلة ما بعد احلرب.
آيزهناور رفض ذلك ألنه كان سوف يكلفه مئات اآلالف من جنوده ،ون َّفذ
من دون الرجوع للقيادات السياسية للحلفاء ،ألنه كان القائد األعىل للقوات وله
احلق يف ذلك ،وقال :فليحصل ستالني عىل ما يريد؛ لكن سوف أحافظ عىل حياة
جنودي.
94
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا القرار بالرغم من أنه قد قرر شكل العامل ربام بالكامل بعد احلرب ،وحتى
تفكك االحتاد السوفييتي السابق يف مطلع التسعينيات املاضية؛ إال أنه خيربنا أن
الديمقراطيات أقرب يف نقطة احلفاظ عىل مقاصد الرشيعة ،يف صدد حياة وحرية
اإلنسان.
فقد تكون ،بل بالتأكيد؛ فإن الواليات املتحدة قوة غاشمة يف املجال الدويل،
وسببت ٍ
مآس كثرية يف العامل؛ لكن داخل الديمقراطيات؛ هناك اهتامم حقيقي بحياة
اإلنسان وحريته.
.....
إننا مؤمنون متا ًما بأن اإلسالم دين شامل يف أفكاره التأسيسية يف كيفية النظر
للكون ،والتعامل مع احلياة ،ويف نظرة اإلنسان لنفسه ودوره.
95
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ونحن ال نتكلم عن العربة التي يمكن أخذها من الغرب أو غريه؛ بل نتكلم عن
األفكار األصولية التي نحيا هبا.
وكل هذه األفكار؛ ما مل تتم مراجعتها ،فلن يمكن احلديث عن مرشوع إسالمي
سوي ومتسق مع مفاهيم اإلسالم بالكامل؛ كدين وكتصور شامل للحياة ،وهو
أمر مفصيل يف صدد قبوله أو عدم قبوله من مئات املاليني من املسلمني من خارج
احلركات اإلسالمية الطليعية.
96
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني األمور امللتبسة يف عرصنا احلديث ،سواء عىل مستوى العوام ،أو ُ
الك َّتاب
املخصصني ،تلك املتعلقة باملعايري التي يتم االعتامد عليها لتوصيف احلضارة اإلنسانية.
ففي ظل امتالك الغرب لوسائط "امليديا" واملعرفة املختلفة ،وما متنحه التقنية
الرقمية من سيادة شبه مطلقة عىل قلوب وعقول اجلامهري والشعوب؛ صارت
املامرسة الغربية ،والنموذج الغريب ،مها صنو مفهوم "احلضارة" عند كثري من
خصوصا الشعوب التي ال تزال يف بداية سلم التطور احلضاري ،أو
ً شعوب العامل،
ال تزال تبحث عن نقطة للبدء.
حتول مفهوم احلضارة يف عرصنا احلديث إىل مرادف للتقدم العلمي والتقني،
ومقدار ما متلكه الدولة أو األمة من معلومات أو أجهزة حاسب أو أقامر صناعية،
أو حجم ما تنتجه سنو ًّيا من براءات اخرتاع وبحوث علمية.
طبعا هذه املعايري هي جزء مهم من مصطلح أو مفهوم احلضارة ،ولكنها كل
ً
يشء؛ فأصل احلضارة هي حتسني واقع اإلنسان ،سواء أكان فر ًدا أم مجاعة ،وسواء
كانت هذه اجلامعة ،أمة أم اجلامعة اإلنسانية بشكل عام.
فبعيدً ا عن التعريف التقليدي للحضارة ،والذي مل يتفق علامء العمران والباحثني
موحد ،فكل فعل يساهم يف حتسني
يف حقل العلوم اإلنسانية ،عىل تعريف جامع َّ
حياة اإلنسان ،وزيادة رفاهية البرشية؛ إنام هو فعل حضاري.
97
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويربط البعض يف اإلطار السابق ،احلضارة باملدنية واملدينية ،وهو أمر جاء به
اإلسالم؛ حيث إنه يف الصحيح ،ويف الكثري من آثار الصحابة؛ فإن العودة إىل حالة
البداوة تساوي الردة عن الدين ،مع وضع الكثري من الفقهاء لفعل البداوة بعد
التمدين ،يف إطار "املفارق للجامعة" ،كام يف احلديث النبوي الصحيح.
ولكن احلضارة ليست التقدم العلمي والتطاول يف البنيان أو العمران فحسب؛
حيث هي منظومة متآلفة متكاملة فيام بينها من العنارص ،مثل املوارد االقتصادية،
والنظام السيايس الرشيد الذي يضمن عنارص املساءلة واملحاسبة للحاكم،
والشفافية ،واحرتام حقوق اإلنسان ،والتوزيع العادل للثروة والسلطة ،وسيادة
القانون.
ومن بني أهم هذه العنارص التي تشكل الفعل احلضاري ،ورآها الكثريون
يف ذات أمهية التنمية والنهضة السياسية واالقتصادية ،األخالق والقيم ،وتطور
وارتقاء العلوم واآلداب والفنون ،وهذه األخرية بالذات مهمة يف كوهنا ترتبط
بتهذيب خلق اإلنسان واالرتقاء بمشاعره إىل املزيد من الطابع اإلنساين.
بدعا من ذلك؛ فالدين نفسه ،نزل إلمتام مكارم األخالق ،كام
وليست احلضارة ً
قال املصطفى ﷺ.
فالقيم والضوابط األخالقية ،هي التي تضمن حسن وصواب توجيه املوارد
االقتصادية واإلنتاج العلمي الذي توصلت إليه أمة ما ،أو حضارة ما ،إىل الوجهة
السليمة ،بام خيدم اإلنسانية ،ويساعد يف االرتقاء بحياة اإلنسان ،فر ًدا ومجاعات،
مهم من حكمة خلقه ،وهو عمران اآلرض ،وبالتايل بالشكل الذي حيقق جان ًبا ًّ
98
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
حتقيق الغاية العظمى من خلق اإلنسان ،وهو عبادة اهلل تعاىل ،وإفراده هبا ،يف إطار
عقيدة التوحيد﴿ ..ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾
[سورة "هود"].
ُ
ومن دون الوازع الديني ،والوازع القيمي واألخالقي ،سيقع الرش ،ويتم توجيه
املنجز العلمي ،واملورد االقتصادي ،إىل وجهات غري سوية ،كاخلراب والدمار.
واضحا ،فاملعامل التي تقوم بتطوير األدوية والعقاقري
ً وهو أمر نجده يف الغرب
الطبية ،تعمل يف ذات الوقت عىل تطوير األسلحة البيولوجية ،واملصانع الضخمة
التي تنتج املحركات التي تسهل عىل اإلنسان احلركة والعمران؛ تنتج كذلك أسلحة
اخلراب والدمار ،ومن هنا؛ يضيع أي أثر للتقدم العلمي والتطور االقتصادي يف
حتسني حال اإلنسانية.
فلو قار َّنا ما بني مكاسب هذه املعامل واملصانع يف حتسني حياة جمموعة من
البرش؛ لوجدناها تتضاءل أمام ما نرشته من خراب يف أوساط جمموعات إنسانية
أخرى؛ فدواء اجلدري أو فريوس " "Cالذي أنتجته معامل " "CDCيف أطالنطا،
ويف معامل "باستري" يف فرنسا ،أنقذت بضعة ماليني ،بينام قتل السالح األمريكي
والغريب بضعة ماليني أخرى يف مناطق متفرقة من العامل.
وبالتايل؛ يتحقق عكس املأمول من الفعل احلضاري ،وهو العمران ،وإسناد
جهود اإلنسانية يف حتقيق بعض ما يف القوانني اإلهلية من حكمة يف خلق اإلنسان،
99
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وضوابط حياته يف األرض ،يف استعامرها باملعنى اإلجيايب؛ حيث الوجه اآلخر
"للحضارة" الغربية ،هو نرش املوت واخلراب.
أما لو كانت الضوابط الدينية واألخالقية والقانونية قائمة؛ لكانت الفائدة هي
الغالبة ،و َلتَح َّقق مفهوم احلضارة واملدنية بالشكل الصحيح.
املكون احلضاري إذا ما جتاوز أهدافه
ولكن وبام أن قوانني وسنن اهلل تعاىل ،فإن ِّ
الصحيحة يف حتقيق وصيانة العمران؛ سوف يقود إىل حتلل احلضارات اإلنسانية
القائمة.
وهو أمر يمكن قياسه يف احلضارات القديمة؛ فغياب الضابط القيمي
واألخالقي قاد إىل اهنيار الكثري من احلضارات التي كانت يف أوج تقدمها
وازدهارها االقتصادي والعلمي ،وهو أمر واجهته احلضارة اإلسالمية ذاهتا يف
حالة الدولة العباسية الثانية ،ودولة اإلسالم يف األندلس؛ فكلتامها مل يكن ينقصه
املوارد االقتصادية ،وكانت املراكز العلمية والتعليمية والثقافية ،هنا وهناك ،تقدم
االستنارة والعلم للعامل كله ،ولكن ألن الضابط القيمي واألخالقي ضعف؛ فقد
ضعفت كلتا احلضار َت ْي ،واهنارت أمام أعدائها يف الرشق والغرب.
ويف زماننا هذا؛ لو نظرنا إىل الغرب ،وإىل خريطة احلضارات اإلنسانية يف الوقت
الراهن ،فإننا سوف نجد أن املجتمعات األكثر أخالقية باملقاييس النسبية ،هناك،
استقرارا ،كام يف اهلند والصني ،ويف بعض بلدان أوروبا الشاملية ،بينام من حتلل
ً أكثر
منها من هذه الضوابط ،يواجه خطر التحلل رغم كل تقدمه املادي ،االقتصادي
والعلمي والسيايس ،عىل النحو الذي اعرتف به مفكرون من وزن برتراند راسل،
100
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وآرثر ميللر ،يف بريطانيا والواليات املتحدة ،وغريها من البلدان واألمم املتقدمة يف
الغرب.
باملثل؛ فإن األمة اإلسالمية لن تستطيع النهوض ،واستعادة موضعها الريادي
عىل رأس خريطة احلضارات اإلنسانية؛ إال إذا استعادت مكوهنا األخالقي
والقيمي الذي جاءت به رشيعة اإلسالم ،ومهام حاولت يف جمال التنمية وصناعة
التقنية؛ فإهنا لن تنجح من دون استعادة منهاجها الرباين الذي اختارها له رب العزة
سبحانه.
101
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُتعترب قضية مكافحة الفساد بمعناه املجتمعي والسيايس الواسع ،من بني أهم
قضايا العمران؛ حيث املعادل العكيس له ،هو اإلصالح ،الذي هو أهم مقاصد
والر ُسل الذين بعثهم اهلل تعاىل هلداية
الرشيعة اإلسالمية ،ورسالة كل األنبياء ُّ
العاملني عرب قرون البرشية الطويلة.
درس أو ٌّيل نستفيده من خالل قراءة رسيعة يف كتاب التاريخ؛
وإذا ما كان هناك ٌ
فإنه سوف يكون اإليامن بأن قضية اإلصالح ومكافحة الفساد ،بشتى صوره؛ إنام
فرد أو مجاعة ،وبالتايل؛ فإهنا بحاجة إىل الكثري
هي أشق مهمة يمكن أن يضطلع هبا ٌ
من الفهم قبل العمل؛ حتى يمكننا الوصول إىل معاجلة ناجحة هلا.
أوىل األخطاء املفاهيمية املتعلقة بقضية الفساد ،هو أن حماربته هو مهمة
احلكومات ،وملا ركنت الشعوب هلذه القناعة اخلاطئة؛ أضحى الفساد حقيقة واقعة
يف حياهتم؛ يتعاملون معها ،وال يدركون أهنم بذلك إنام يامرسون أسوأ ألوان اإليذاء
يف حق أنفسهم ويف حق املجتمعات التي يعيشون فيها.
ظلم أسوأ من التفريط يف احلقوق لصالح نخبة ُم ِّ
تحكمة منتفعة ،تزعم فال ُيوجد ٌ
أهنا هي احلارس األمني عىل مصالح األفراد واملجتمعات ،بينام هي متتص دماء
الغالبية الكادحة من هؤالء الناس.
ولعل هذا األمر ،هو الذي راكم عرب التاريخ يف جمتمعاتنا العربية واإلسالمية،
التي مل تعرف مؤسسية احلكم إال يف القليل النادر ،قضية فساد األنظمة واحلكومات؛
102
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
حيث غياب املحاسبة ،وعدم وجود إطار ملزم حيكم أداء املؤسسات الوظيفية
للدول واحلكومات؛ جعلها أكرب مصدر للفساد واإلفساد.
والثاين أخطر؛ حيث إن الفساد قارص عىل صاحبه؛ بينام اإلفساد يتخطاه إىل
اآلخرين ،ويف جماالته الكربى؛ فإنه يشمل املجتمعات بالكامل.
فاملحاسبة قانون مهم لضامن صريورة العمران البرشي يف اإلطار السليم الذي
يضمن حتقيق املصلحة.
ولنتصور عىل سبيل املثال ،أن اهلل تعاىل مل جيعل الثواب والعقاب؛ كيف كان
سوف يكون حال الدنيا؟! ..مل تكن لتستمر أص ً
ال؛ حيث إن املحاسبة واخلوف
من العقاب هو الذي يضمن استقامة السلوك البرشي يف الغالب ،إال يف حاالت
شديدة الندرة يكون فيها الوازع الداخيل لإلنسان باع ًثا له عىل الصالح.
بم ْن وبِ َم خلق؛ فإنه جعل ُس َّنة الثواب
ولذلك؛ فإنه عىل علمه سبحانه وتعاىل َ
للمحسن والعقاب للميسء؛ لضامن استقرار العمران البرشي يف األرض ،إىل أن
يأذن اهلل تعاىل.
من هنا تأيت مسؤولية املجتمعات يف قضية مكافحة الفساد بشتى صوره،
وخصوصا الفساد األخالقي الذي هو أساس أي فساد آخر؛ فلو تراجعت
ً
األخالق؛ س ُيفتح الباب أمام كل صور الظلم والرسقة واجلشع واالستبداد ،وغري
ذلك من صور االنحرافات املختلفة.
درك املهم؛ فالرسول الكريم ﷺ ،يقول" :إنام ُب ِع ُ
ثت واإلسالم ذاته فيه هذا ا ُمل َ
ألمتم مكارم األخالق" [أخرجه البزار وصححه األلباين من حديث أيب هريرة].
103
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تكف املجتمعات عن حماسبة نخبها احلاكمة ،والتأكيد عىل أن ولذلك؛ فإنه ملا ُ
الدولة واحلكومات واملؤسسات؛ كلها إنام هي مؤسسات وهيئات وظيفية جاءت
خلدمة الشعوب ،وليس حلكمها واالستبداد هبا ،وهنب ثرواهتا؛ فإن الدولة وأدواهتا
املختلفة ،تتحول يف ظل ما هو ممنوح هلا من صالحيات وسلطات لكي تؤدي
وظيفتها ،إىل وحش يلتهم كل خريات املجتمعات ،وهو ما يقود إىل هالك األمم.
ٍ
حممد ﷺ؛ فإن اهلل تعاىل جعل ُس َّنة إهالك األمم بفساد جمتمعاهتا، وقبل بعثة
وليس فقط فساد نخبتها أو سادهتا ،فعندما تفسد املجتمعات؛ ينهار العمران.
أمر واضح عند املقارنة بني قوم لوط وقوم ثمود وقوم عاد ،وبني قوموهو ٌ
فرعون وقت نبي اهلل موسى "عليه السالم" ،ومن قبله قوم سيدنا إبراهيم ﷺ.
عاما داخل املجتمعات؛ فأهلكها اهلل تعاىل،
ففي احلاالت األوىل؛ كان الفساد ًّ
بينام اكتفت املشيئة اإلهلية يف احلالت َْي األخر َي ْي؛ فإهالك النخب الفاسدة ،مثل
نمرود يف جمتمع نينوى ،وفرعون وم َلئه يف مرص ،بينام بقيت املجتمعات لعدم
شيوع الفساد فيها ،وعلم اهلل تعاىل أهنا كانت مغلوبة عىل أمرها أمام رموز الفساد
واالستبداد هذه.
إ ًذا؛ فإن قضية مواجهة الفساد ،هي قصة املجتمعات باألساس ،ألن الفاسد يف
الغالب يكون احلاكم – يف أي صورة؛ دولة أو ديكتاتور مستبد أو نخبة فاسدة –
ألنه صاحب املصلحة األوىل من الفساد.
ثمة نقطة شديدة األمهية ،وهو أن احلاكم عندما يستبد ويفسد؛ فإنه
ولكن هنا َّ
يكون من مصلحته أن ينتقل الفساد واالستبداد إىل كل مفاصل الدولة واملجتمع،
104
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ألن ذلك من شأنه أن "يرشعن" استبداده ،و" ُيط ِّبعه" ،وهنا تتحول أزمة الفساد –
واالستبداد السيايس باملناسبة أحد صوره ونتائجه؛ وليس بعيدً ا عنه – إىل معضلة
كربى؛ ألنه وقتها سوف ينساح يف كل أرجاء املجتمع ،ثم لن يلبث أن يتحول إىل
ثقافة عامة وأسلوب حياة.
ثم؛ فإن معاجلة الفساد املتأصل الذي يتحول إىل نمط عيش وسلوك؛ لن
ومن َّ
يكون إال من خالل ثورة ِ
تسقط منظمة الفساد القائمة ،عىل أن تفرض هذه الثورة
والقوى التي قامت هبا ،منظومة سياسية واجتامعية قاهرة يف سلطتها عىل املواطن
ٌ
فصل كامل بني ما يتم التأسيس له من أجيال واملجتمع ككل ،بحيث يكون هناك
وأطر مؤسسية نظيفة ،وبني القديم املتهالك الفاسد ،حتى حيكم الصاعد النظيف
اخل ِرب؛ رشيطة أن يتم إزاحة النخب القديمة السليم ،ويموت وينتهي الفاسد َ
الفاسدة بالكامل ،وتطهري املؤسسات منها قدر املستطاع ،بام ال يقود إىل رصاعات
جانبية تفت يف عضد اهلدف الرئييس هلذه الثورة.
وهي دورة حياة جمتمعية وسياسية ،تتطلب عقو ًدا طويلة حتى تتحقق ،وأصعب
مرحلة فيها هي بدايتها؛ حيث لن يكون هناك أي يشء أو عامل مساعد باستثناء
النظام اجلديد ،وبعض القوى املجتمعية التي تدعمه ،لكي يقوم ببذر بذرة اجلديد
الصالح ،وتعهدها بالرعاية ،والتي سوف تكون يف أضعف حاالهتا أمام الغول
القديم احلي ،يف بداياهتا.
هذه هي املهمة الشاقة التي واجهت األنظمة اجلديدة التي أفرزهتا ثورات الربيع
العريب يف بعض بلدانه ،ولعل تطورات ما بعد هذه الثورات؛ تربز كم أن املهمة
شاقة ،وبحاجة إىل زمن!
105
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم العلوم التي شكلت السياسة يف عاملنا املعارص ،هي علوم االجتامع
واالجتامع السيايس ،والتي تندرج حتتها الكثري من العلوم التي صارت من أهم
أعمدة الدراسات األكاديمية ،سواء يف اجلامعات أو مراكز التفكري يف دول العامل
املتقدمة ،والتي أصبحت تشكل أحد أهم أدوات صناعة واختاذ القرارات يف وقتنا
الراهن.
ومن بني العلوم التي تندرج حتت هذا التصنيف ،القانون واإلنسانيات
والعالقات الدولية عىل مستوى الفاعلني الدوليني الرسميني وغري الرسميني،
والدراسات املعنية باملجتمع املدين ،وحقوق اإلنسان.
وكام نتابع يف صريورات عاملنا املعارص ،ويف نرشات األخبار وتقارير احلكومات
واملنظامت الدولية؛ فإن هذه العلوم تكاد تكون هي صانعة احلدث اإلنساين العام،
وربام عىل املستوى الفردي اخلاص ،بجانب العلوم التطبيقية مثل الطب والصيدلة
والفيزياء والكيمياء التطبيقية ،وغري ذلك.
كل هذا نفخر كعرب ومسلمني ،أن أول من وضع قوانني هذه النوعية من
العلوم ،كان أحد علامئنا العظام ،وهو عبد الرمحن بن خلدون ،الذي أسس لعلم
االجتامع ،واالجتامع السيايس ،ووضع قوانينها التي شملت الكثري من املفاهيم
106
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
107
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
108
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
شديد األمهية سواء يف اإلنسانيات واالجتامع ،أو يف العلوم الرشعية؛ حيث كانت
العبارات القرآنية واألحاديث النبوية الرشيفة التي تدعو إىل إعامل العقل يف خمتلف
الظواهر ،واضحة أمامه ،وكان يدرك أن االجتهاد هو رشط فهم القرآن الكريم
ومعرفة أحكامه ،وأن ذلك لن يتم من خالل قراءة النص وحده.
علم ْي؛ العلم النقيل،
فنجده يؤكد – وهو الفقيه املالكي – أن العلم ينقسم إىل َ
ووضعه يف املرتبة األوىل ،والعلم العقيل ،ووضعه يف مرتبة تالية للعلم النقيل ،الذي
هو أساسه النص بطبيعة احلال ،وهي مرونة فكرية مل جتتمع إال لدى ندرة من العلامء
عرب التاريخ ،ومتيز هبا ابن خلدون.
التاريخ وقراءة ابن خلدون القرآنية للعمران:
أما الرافد الثالث الذي صنع فكر ابن خلدون؛ هو التاريخ ،وهو بدوره رافد
موجود يف القرآن الكريم ،فمن بني أهم األبواب التي ص ِّن َف ْت فيها آيات القرآن
موضوعيا ،هي القصص القرآين ،والذي يشمل قصص األولني
ًّ الكريم ،تصني ًفا
وقصص األنبياء ،وغري ذلك.
ومن بني ما قدر اهلل تعاىل له أن يكون من رسائل القرآن الكريم األساسية من وراء
ذلك ،هو أن تكون هذه القصص للعربة والدرس ،وتفادي ما وقع فيه اآلخرون
ممن سبقونا من أخطاء ،وعدم تكرار املخالفات ألوامر اهلل تعاىل ،ورضورة تد ُّبر
ُسنَنِه؛ من أجل االبتعاد عن املهلكات.
وبالتايل؛ فإن ابن خلدون قبل أن يكتب مقدمته الشهرية التي اعرتف العلامء
الغربيون أنفسهم أهنا أسست لعلم االجتامع ،الذي هو أبو العلوم السياسية وعلوم
109
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
النظم ،والتي هي من أهم العلوم يف وقتنا الراهن؛ قبل أن يكتبها ،ويكتب عمله
املوسوعي األشهر "ديوان املبتدأ واخلرب"؛ فإنه قرأ القرآن الكريم أوال بعناية؛
بحيث استخلص منه القوانني األولية يف جمال العمران ،وأدرك منه أمهية قراءة
التاريخ ،يف معرفة صريورات احلضارات اإلنسانية ،ومن َث َّم؛ عمد إىل تطبيقها عىل
أرض الواقع من خالل تدبر تاريخ احلضارات اإلنسانية السابقة ،واستخلص منها
القوانني العامة لصعود واهنيار احلضارات والدول.
ووصل يف جترده ومرونته الفكرية يف هذا الصدد ،أن وصفه مفكرون غربيون،
بأنه وهو العامل الفقيه الذي انطلق من القرآن الكريم والرشيعة يف فلسفاته وأفكاره
وتربوياته؛ بأنه أول من قدم قراءة ال دينية للناريخ ،وفق قوانني العمران املوضوعية.
وهنا ينبغي أن نشري إىل بعض معامل الفرتة التارخيية التي عاشها ابن خلدون يف
دور يف تكوينه الفكري.
املغرب العريب ،ملعرفة بعض اخللفيات التي كان هلا ٌ
ففي الفرتة التي عاشها ابن خلدون ،كانت منطقة شامل أفريقيا واملغرب العريب،
املوحدين ،وهي املرينيني الذين
ِّ متفرقة بني ثالثة دول أو أرس ،بعد سقوط دولة
سيطروا عىل املغرب يف الفرتة بني هناية القرن الثاين عرش امليالدي وحتى منتصف
القرن اخلامس عرش ،وآل عبد الودود ،وكانوا مسيطرين عىل منطقة غرب اجلزائر،
يف الفرتة من الثلث األول للقرن الثالث عرش امليالدي ،وحتى منتصف القرن
السادس عرش ،ثم احلفصيني يف تونس ورشق اجلزائر وبرقة التي هي رشق ليبيا
حال ًيا ،وهؤالء حكموا بني الثلث األول للقرن الثالث عرش امليالدي كذلك،
وحتى الربع الثالث من القرن السادس عرش.
110
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهنا تأثر ابن خلدون ،الذي عمل قاض ًيا لدى احلفصيني قبل انتقاله إىل مرص،
بحالة النهضة الثقافية التي ميزت دولتهم ،كام أنه استفاد من رؤيته رأي العني
للرصاع بني الدول واملاملك اإلسالمية يف تلك الفرتة ،بحيث استطاع تكوين
فكرة عامة عن القوانني التي حتكم العالقات السياسية بني املجتمعات اإلنسانية،
وعوامل قوة وضعف الدول ،وغري ذلك مما اتصل بعلم العمران.
........
دروس مستفادة من جتربة ابن خلدون
ٌ ويف األخري؛ فإنه إذا ما كانت هناك
الفكرية ،فإنه أمهها هو أنه أثبت أن النص الرشعي ليس ِّ
معط ً
ال وليس ضد العقل
اإلنساين ،كام يتقول البعض من خصوم األمة واحلضارة اإلسالمية ،وأن التد ُّبر
يف القرآن الكريم ،هو صنو التنوير والفهم الصحيح للظواهر البرشية املختلفة،
وللتاريخ.
كام أكدت جتربة ابن خلدون وأن الروافد األساسية للرشيعة اإلسالمية ،يمكنها
أن تؤسس حضارات رواسخ ،تغري من تاريخ اإلنسانية بالكامل ،وتنهض بالعقل
البرشي بأكثر مما تفعله املدارس الفكرية األخرى الوضعية.
111
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم القضايا التي شغلت املفكرين املسلمني يف العرص احلديث وزمننا
الردة احلضارية والتفكك – هي مسألة ماذا يعني أن يرى املسلم،
املعارص – أي فرتة َّ
فر ًدا ومجاعة وأمة ،العامل من خالل التصور اإلسالمي.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه القضية ليست رض ًبا من الرتف الفكري ،أو الرياضة
الذهنية يف مباحث الفلسفة اإلسالمية؛ حيث إهنا ترتبط بحزمة من القضايا واألمور
ذات الطابع التطبيقي والعميل ،التي تتصل بقضية العقيدة ذاهتا.
ً
مسلم ،وهو تساؤل فرتتبط هذه القضية يف صلبها بقضية :ماذا يعني أن أكون
حقيقيا من جانب املفكرين والرتبويني املسلمني الذين طرحوه يف
ًّ يعكس ً
فهم
ٍ
كدين شامل وخاتم للرساالت أدبياهتم ملفهوم الدِّ ين ،وبالذات الدِّ ين اإلسالمي،
اإلهلية التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل رسله هلداية البرش.
فالدِّ ين من املعروف أنه منظومة من العقائد والتعاليم التي تنظم فهم اإلنسان
لربه وحقيقته ،وكذلك عالقة اإلنسان بربه ،وعالقته بذاته وباآلخرين ،مسلمني
وغري مسلمني ،ومن خمتلف التصنيفات األخرى للمجموعات البرشية التي توجد
من حوله.
ومن بني ما يتضمنه ذلك ،مفهوم اإلنسان لوجوده واهلدف منه ،وبالتايل؛ فإن
احلياة وفق التصور اإلسالمي؛ تعني كيف يطبق اإلنسان تعاليم دينه ،وكيف يعمل
112
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عىل تقييم أية ظاهرة /شخص /مجاعة /فعل وسلوك ..إلخ ،من زاوية إجيايب أو
سلبي ،حالل أم حرام؛ من زاوية التفسري اإلسالمي أو التصنيف اإلسالمي هلا،
وأحكام الرشع بشأهنا.
ثم ينتقل بعد ذلك إىل خطوة أوسع ،وهي عامرة األرض ،ونرش رشيعة اهلل
تعاىل ،أي ما ارتضاه الشارع األعظم للبرشية من أحكام ،وبالتايل من تصورات
لشكل احلياة يف هذا العامل ،ويكون األمر أفضل وأكثر فاعلية بعد توفري الظروف
املناسبة ،مثل وجود حكومة إسالمية ،تعمل عىل نرش تعاليم اإلسالم يف كل أنحاء
توس ًعا يف أثره.
العامل ،بأسلوب أكثر مهنية ،وأكثر ُّ
وبالتايل؛ فإن األمر يف هذا اإلطار ،هو من صميم مهام املسلم ،ولن يدرك هذه
املهام إال من خالل فهم أمهية أن يرى العامل من خالل التصور اإلسالمي.
ومن بني أهم من اهتموا بذلك ،كان الشهيد سيد قطب ،ويف الغالب العام،
كانت كتاباته يف هذا املضامر ،فيام خيص العقيدة ،وسبقه عبد الرمحن الكواكبي،
الذي مال إىل تصنيف مفهوم التصور اإلسالمي يف املجاالت السياسية ،ثم تاله
اإلمام حممد الغزايل ،ولكنه نحا أكثر إىل املنحى الرتبوي والفكري العقيل ،مستندً ا
إىل القرآن الكريم باألساس.
ويف حقيقة األمر؛ فإن الفالسفة واملفكرين والرتبويني املسلمني الذين قدموا
تصوراهتم حول هذا األمر؛ استندوا يف أفكارهم إىل القرآن الكريم باعتباره املركزية
األوىل للمسلم يف هذا الصدد.
113
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الس َّنة النبوية الرشيفة ،يمكن اعتبارها أول إطار تطبيقي ملفهوم التصور
أما ُّ
اإلسالمي للعامل وفق ما جاء يف القرآن الكريم ،وبالتايل؛ فإن أمهية دراستها تكمن
تعب عن املامرسة النبوية هلذا التصور ،وبالتايل؛ يمكن القول إنه التصور
يف أهنا ِّ
األكثر نقا ًء ،واألكثر صحة للتصور اإلسالمي للعامل من حولنا ،وماهية واجبات
املسلم يف هذه احلياة.
ولعل أبرز النامذج أمامنا يف هذا األمر ،وتؤكد هذه األفكار ،كتاب "خصائص
التصور اإلسالمي ومقوماته" ،لألستاذ سيد قطب ،فالكتاب ُمص َّنف عند الكثري
من املفكرين عىل أنه من كتب التوحيد؛ حيث يقدم فيه التصور اإلسالمى هلل عز
وجل ،ثم الوجود والكون واحلياة واإلنسان ،وكذلك مكانته يف الكون ،ومهامه
فيه ،استنا ًدا إىل النصوص القرآنية.
ويف أمهية هذا األمر؛ يقول إن حتديد خصائص التصور اإلسالمي أمر رضوري
"ألنه البد للمسلم من تفسري شامل للوجود ،يتعامل عىل أساسه مع هذا الوجود..
البد من تفسري يقرب إلدراكه طبيعة احلقائق الكربى التى يتعامل معها ،وطبيعة
العالقات واالرتباطات بني هذه احلقائق :حقيقة األلوهية ،وحقيقة العبودية
(وهذه تشتمل عىل حقيقة الكون ..وحقيقة احلياة ،وحقيقة اإلنسان) ..وما بينها
مجيعا" من تعامل وارتباط".
ويتصل بذلك ،تصور اإلنسان للقيم الكربى يف حياته ،مثل احلرية والعدالة
واملساواة؛ فهذه القيم الثالث املركزية ،وكذلك قضية األخالقُ ،تعترب األكمل
114
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بني النظريات واألديان األخرى ،وكذلك خمتلفة متا ًما يف مكوهنا عن نظرة هذه
النظريات واألديان األخرى.
فاحلرية يف اإلسالم منضبطة بضوابط الرشع ،فيام يف الغرب هي مطلقة ،والقيد
الوحيد عليها ،هو حريات اآلخرين ،وهو ما يقود إىل مفاسد عدة ،من أسوأها
الشذوذ والزنا واألمراض اجلنسية والنفسية ،وغري ذلك.
كام يشمل ذلك تصور اإلنسان للكون من حوله ،بصورة تنبني عىل العقل
والنقل يف ٍ
آن.
ويف هذا؛ فإننا نجد أن منهج القرآن الكريم يف هذا الصدد ،ينسجم بشكل كامل
مع الفطرة التي خلقها اهلل تعاىل يف خماطبة العقل ،وهو ما جاء يف القرآن الكريم
يف أكثر من موضع ،خاطب فيها العقل اإلنساين ،للتدليل عىل وجوده وقدراته
سبحانه وتعاىل.
ففي ُسورة "الواقعة" ،نجد أن اهلل تعاىل يستخدم املنهج العقيل يف إقناع غري
املسلمني لكي يوقنوا بحقيقة اإلله الواحد ،خالق هذا الكون ومدبره ،وحده ال
رشيك له؛ فيقول تعاىل﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥ ﮦ
ﮧﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗ
ﯘ ﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢ ﯣﯤﯥ ﯦ
ﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﴾.
115
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تصورا شام ً
ال حول اهلل عز ً ٌ
حافل باآليات الكريمة التي تقدم والقرآن الكريم
وجل وصفاته وطالقة قدرته ،من خالل منهجية النظر العقيل يف اخللق ،سواء خلق
اإلنسان نفسه ،أو الكون من حوله.
و ُتعترب الرتبية هي األداة األوىل لغرس هذه األفكار يف نفس املسلم ،وهي األداة
التي جلأ إليها النبي الكريم ﷺ يف سنوات البعثة األوىل ،وهي املرحلة التي قادت
إىل تنشئة جيل فتح ُ
اهلل تعاىل عليه العامل القديم كله يف أقل من ثالثة عقود ،انطال ًقا
من ال يشء كانوه قبل اإلسالم ،وهو ما يعطينا ملحة عن األمهية الكربى هلذا كله.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املهمة – الرتبية عىل التصور اإلسالمي واملفاهيم
اإلسالمية – من الصعوبة بمكان يف الوقت الراهن؛ أي كيف يمكن تنشئة الفرد
املسلم واجليل املسلم ،عىل أساس أن ينظر إىل كل يشء وفق هذا التصور اإلسالمي.
ال ظروف سياسية تتعلق باألنظمة املستبدة احلاكمة ،والتي تتعامل مع فهناك أو ً
كل ما هو إسالمي عىل أنه مهدِّ د ِ
خطر هلا ،وبالتايل؛ يتم القضاء عليه.
وهذه التنشئة لن تتم من دون وسائل الرتبية ،وهي من أكثر األمور استهدا ًفا من
جانب األنظمة احلاكمة ذات اهلوية العلامنية ،واملدعومة من قوى غربية تنتمي إىل
تناقضا كام ً
ال مع التصور اإلسالمي، ً حضارة تتناقض يف تصوراهتا عن هذا العامل،
وبالتايل؛ فإهنا تتفق مع األنظمة احلاكمة يف معاداة التيارات واحلركات اإلسالمية.
عىل املستوى االجتامعي والثقايف؛ فإن الفرتة الطويلة التي قضتها األمة حتت
ِ
املستعمر ثم األنظمة احلالية؛ أفسدت الكثري من فطرة األجيال الناشئة، حكم
116
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
117
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم األمور التي جيب عىل العاملني يف الفكر اإلسالمي ،يف جانبه
التطبيقي ،والباحثني يف حقل العلوم السياسية واالجتامعية ،وفق الرؤية اإلسالمية،
يف هذه املرحلة الدقيقة التي يمر هبا املرشوع النهضوي اإلسالمي ،أن يعملوا عىل
توضيح اجلوانب العمرانية ،السياسية واالجتامعية ،بقوانينها التي أتى هبا اإلسالم،
وكيف هي ميزان العدل والضامنة األساسية الستقرار املجتمعات.
وهذه ليست صورة أو قناعات تنبع من حتيز عقيدي أو فكري ،العتبارات
إنتامئنا اإلسالمي ،وإنام هي حقائق أثبتها التاريخ ،ورسختها دولة اخلالفة عرب
قرون طويلة ،ساد فيها العدل والسالم ربوع املرشق العريب اإلسالمي ،والعامل
القديم؛ مل يعرف فيها العامل ،حرو ًبا طائفية أو ٍ
فتن مذهبية ،وكان االستقرار والسالم
نموذجا أمام العامل كله ،وما
ً املجتمع َي ْي يف ظل دولة العدل التي أرساها اإلسالم،
كانت الفوىض لتحدث؛ إال يف الفرتات التي كانت تضعف فيها دولة اخلالفة ،أو
ال يتم تطبيق رشيعة اإلسالم كام هي يف صورهتا السليمة النقية.
مست ُصلب القناعات
وتأيت أمهية التأكيد عىل مثل هذه املعاين يف ظل تطورات َّ
العقيدية لدى الكثري من املسلمني ،مع تشويه األساس السيايس واملجتمعي
للنموذج اإلسالمي يف احلكم باملعنى الواسع ،يف ظل دخول رصاع احلق والباطل
يف العامل العريب واإلسالمي ،إىل مرحلة جديدة بعد الربيع العريب.
118
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كان الربيع العريب فرصة مهمة لتقديم النموذج احلركي واحلقيقي لإلسالم عندما
حيكم ،وكيف أنه سوف يقيم دولة العدل ،ويكافح الفساد ،ويريس االستقرار،
َّ
وجل ،هو عز
وأن النموذج اإلسالمي يف احلكم ،كام أنزل اهلل تعاىل ،وبام أنزله َّ
األكثر قدرة عىل التعامل مع املستجدات ،وقيادة املجتمعات التي حيكمها إىل اخلري
والسعادة يف الدنيا واآلخرة.
هذه األمور بطبيعة احلال ،كافح خصوم الدين والدعوة طيلة قرون طويلة من أجل
ٍ
صورة سلبية التشويش عليها وإخفائها ،وإظهار النموذج اإلسالمي يف احلكم ،يف
مغايرة ،من أنه يعني حكم املستبد غري العادل ،وأن دولة الرشيعة دولة ظلم وظالم.
أتى املرشوع الصحوي اإلسالمي ،بعد الربيع العريب بواقع مغاير ،وكاد أن
هيدم الكثري من السياسات الرواسخ الروايس لقوى الفساد واالستبداد الداخلية،
بمنظوماهتا السياسية واالجتامعية ،وقوى االستكبار العاملي التي تتعاون معها
وحتميها ،وتتبادل معها املصلحة ،وهو ما كان ينبغي أن يتم التصدي إليه ،ولو
بلد عريب شهد ثورات أطاحت ال اآلن يف أكثر من ٍ
بالقوة املسلحة ،كام يتم فع ً
برؤوس أنظمة ،وإن مل تقتلع األنظمة نفسها.
ومن َث َّم؛ أتت احلملة املضادة للمرشوع اإلسالمي ،لتمس ثوابت الرشيعة
اإلسالمية ذاهتا ،ويف خمتلف املجاالت؛ ما هو أخالقي وقيمي ومعنوي بشكل عام،
وما هو تطبيقي وعميل ،كام يف جزئية احلكم واالستقرار املجتمعي ،وذلك كله من
أجل انتزاع قضية "النموذجية" من املرشوع الصحوي اإلسالمي ،ونزع اجلاذبية
اجلامهريية عنه.
119
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهنا تأيت أمهية التأكيد عىل املحتوى القيمي والتطبقي يف منظومة احلكم والسنن
االجتامعية يف اإلسالم.
حيتوي اإلسالم عىل جمموعة من املنظومات التي تضمن ضبط األمور بضوابطها
التي قننا رب العزة سبحانه يف خلقه ،بام يف ذلك ضبط عملية الترشيع وإنزال احلكم
الرشعي اإلهلي ذاته ،عىل أرض الواقع.
أي أن الضبط ورصامته يف اإلسالم شملت حتى كيفية تطبيق رشيعة اهلل
سبحانه ،ومنهاجه ،وهو ما خي ِرج نظام حكم ينشأ من هذه الطبيعة الضابطة
الصارمة يف ضبطها من أي احتامل للذاتية والظلم ،واإلسالم غري مسئول بطبيعة
احلال عن سوء التطبيق أو اخلروج عن قواعده ،والقول – من جانب البعض – بأن
هذا اخلروج إنام هو من صميم اإلسالم ،ولكن ذلك واجب املفكرين والساسة
والرتبويني أن يوضحوا ذلك.
فهناك العديد من القواعد الفقهية التي تضبط عمل الفقيه ،مثل "ال رضر وال
رضار" ،وفوقها وأعىل منها ،القواعد األصولية ،والتي تعني يف املفهوم الرشعي،
املنظومات والقواعد التي يضعها األصويل ،وتنظم عمل الفقيه ،مثل "األمر يفيد
الوجوب" ،و"النهي يفيد التحريم" ،وكلها أمور تضمن ضبط الفتوى وإصدار
عرض ويستَجدُّ من أمور عىل املجتمع واألمة؛ فال احلكم الرشعي السليم فيام ُي َ
ينحرف ،وال يغ ِّلب مصلحة أو أهواء
وما يضبط عمل الفقيه ،يضبط عمل القايض ،والقضاء – مثله مثل الرشطة وغريه
من مؤسسات إنفاذ القانون وحفظه – له وظيفة جمتمعية شديدة األمهية؛ فهو الذي
120
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يضمن االستقرار املجتمعي ،ما ساد العدل فيه ،أما لو انحرف القايض والرشطي
– والتي يف جانب من أدوارها كام القضاء ،ضامن االستقرار وإنفاذ القانون ،بجانب
حفظ األمن – فإن الناس سوف تفقد الثقة يف مؤسسات العدل وأحكامها ،ومن
َث َّم؛ تلجأ إىل وسائل أخرى للحصول عىل حقوقها ،وهو ما يعني الفوىض.
والعدالة التي هي صنو االستقرار ،هي القيمة العظمى يف اإلسالم ،وتنضبط يف
أعىل الس َّلم القيمي هلذا الدين احلنيف ،تليها املساواة ،ثم احلرية ،وكلها منضبطة
بضوابط الرشيعة اإلسالمية.
فنجد يف القرآن الكريم ﴿ال تذر وازر ُة وزر أخرى﴾ ،بنصها ومعناها يف مخسة
مواضع ،ويف ُسورة "املائدة" ،يقول رب العزة سبحانه﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﴾.
هنا ،يف سنن اإلسالم املجتمعية ،والتي تسبغ بطبيعة احلال عىل قواعد احلكم
والنظام السيايس يف دولة اإلسالم ،نجد قمة العدل ،وقمة الضبط املجتمعي ،وقمة
النظام ،فال جمال لطغيان الذاتية واملصلحية عىل وظيفة العدل ،وال عىل سياسات
املؤسسات ،وال عىل سلوك األفراد ،ولو حدث ذلك؛ تكون دولة الرشيعة مسئولة
عن تصويبه.
ونختم ٍ
بعود عىل بدء؛ فنؤكد عىل أن واجب الوقت ،هو التعرف إىل ُسنن اهلل عز وجل
وخصوصا ما يرتبط بواجبات املرحلة فيام يتعلق بإصالح وتوجيه املجتمعات.
ً يف خلقه،
121
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وذلك لن يتم إال من خالل املعرفة العقلية وقراءة التاريخ قراءة جيدة ،وهي
ُس َّنة قرآنية ال ُت َ
دحض ..يقول سبحانه ﴿ :ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
"الروم"].
ﯓ﴾[سورة ُّ
ُ ﮱ
حرفه
هذا هو اإلسالم كام أراده اهلل تعاىل ،وكام وضع رشيعته ،وليس كام َّ
والش َيع؛ ً
قديم وحدي ًثا! اآلخرون من أنصار الفرق ِّ
122
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
َ
اإلنسان من أجل القيام بمنظومة هي األهم واألقدس ،بل إهنا خلق ُ
اهلل تعاىل
هي أساس خلق اهلل تعاىل للدنيا والكون ،وهي منظومة إقامة عقيدة التوحيد،
وعبادة اهلل تعاىل يف األرض ،وتقديسه ،وإعامر األرض.
ميز اهلل تعاىل اإلنسان
ومن أجل إعانة اإلنسان عىل أداء هذه التكاليف العظيمة؛ َّ
بالعديد من األمور واملزايا التي مل َ
حيظ هبا خملوق آخر ،وأمهها العقل واحلرية ،ومها
مناطا التكليف؛ فال تكاليف عىل غري العاقل ،فيام ينتقص غياب األهلية ،من بعض
التكاليف التي فرضها اهلل تعاىل عىل اإلنسان.
قادرا عىل أداء التكاليف ،وهو من
فمن دون العقل واحلرية؛ ال يكون اإلنسان ً
مظاهر عدل ورمحة اهلل تعاىل ،كذلك ،وألجل أن يكون احلساب اإلهلي عاد ً
ال يف
سخر ُ
اهلل تعاىل لإلنسان كل ما يف هذا الدنيا واآلخرة؛ فإنه نظري هذا التكليف؛ َّ
الكون ،من أجل أن يعينه ذلك عىل احلياة واالستمرار فيها إىل أن يأذن اهلل تعاىل
بإهناء احلياة الدنيا.
واألمر قريب يف هذا ،وهلل املثل األعىل ،من املبدأ اإلداري املعروف ،الذي يقول
إنه ال تكليف من دون مسؤولية ،وال مسؤولية من دون صالحيات.
123
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لذلك أعطى اهلل تعاىل ،اإلنسان ا ُمل َكن الالزمة من أجل احلفاظ عىل استمرارية
حياته ،بقدر اهلل تعاىل ،الذي قدَّ ره له ،يف هذه احلياة الدنيا ،ووفق قوانني العمران
املعروفة.
وهلذه األمهية؛ فإن اهلل عز وجل ،وضع مقاصد الرشيعة أو املقاصد الرشعية،
والتي تعني يف علم أصول الفقه ،ما قصده الشارع األعظم (أو ا ُمل ِّ
رشع األعظم،
وهو اهلل سبحانه وتعاىل) من الرضوريات واحلاجيات والتحسينات.
وهذه املقاصد تنظم حياة اإلنسان وعالقاته ومصاحله ،يف إطار ثالث دوائر؛
األوىل ،هي دائرة اهلل عز وجل ،والثانية ،هي دائرة اإلنسان ذاته ،والثالثة ،هي
دائرة املخلوقات األخرى ،سواء البرش اآلخرين ،أو حتى سلوكه إزاء احليوانات
واجلامدات ،بل وحتى اجلان؛ حيث نظمت الرشيعة اإلسالمية هذا األمر كذلك.
مقصود
ٌ وهذه املقاصد ،مخس ،وهي هبذا الرتتيب الذي يرى مجهور العلامء أنه
يف نقطة األولويات :حفظ الدين ،وحفظ النفس ،وحفظ العقل ،وحفظ النسل،
وحفظ املال.
هذه اخلمس مقاصد؛ ُص ْل َبها اإلنسان .اهلل سبحانه وتعاىل ذاته .الذي هو ر ُّبنا
بند واحد ،وهو حفظ اليل خلقنا ،وخلقنا ألجل أن نعبده؛ وضع حقوقه املبارشة يف ٍ
الدين .واألربع الباقية ختص شؤون اإلنسان.
وحتى بند حفظ الدين؛ فصلبه اإلنسان .فاإلنسان هو الوعاء الذي سوف
نحفظ فيه دين اهلل عز وجل ،وهو الذي سوف يقيم هذا الدين من خالل العقيدة
124
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
125
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
126
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
َّ
فضلت اإلنسان ،وأعطته األولوية؛ فأوىل بحكوماتنا ،وبقادة احلركة اإلسالمية
الذين يقولون إهنم يعملون عىل إعادة متكني الدين بني ظهراين األمة؛ أن يتبعوا
أحسن ما أنزل اهلل عز وجل.
ولكننا نرى أن أول ما يتم تدمريه يف احلروب واألزمات ،هو بنيان اهلل تعاىل يف
أرضه ،وهو اإلنسان ،كام يف احلديث النبوي الرشيفَّ :
"إن هذا اإلنسان بنيان اهلل
ملعون من هدم بنيانه" ،وبالرغم من أن علامء احلديث ،مثل الزيلعي يف "ختريج
الكشاف" ،قالوا بأنه غريب ،أو مل يقفوا له عىل طريق ،مثلام قال املناوي يف "التيسري
برشح اجلامع الصغري"؛ إال أنه تبقى للكلامت دالالهتا ،التي تتوافق مع مقاصد
الرشيعة.
ولقد وضع العلامء ضمن معايري اعتامد األحاديث الغريبة أو املنفردة اإلسناد ،من
عدمه؛ معيار أن تتوافق أن تتنافر مع النص القرآين ،أو باقي قول وفعل النبيﷺ.
فعىل مستوى القضية الفلسطينية؛ نرى يف سوريا؛ خراب العمران قد حلق
بمخيامت اللجوء الفلسطينية التي كانت تؤوي ما يقرب من نصف مليون
شخصُ ،ج ُّلهم من املسلمني -ولو أن هذا األمر ال فارق فيه بني مسلم وغري
مسلم -تم ترشيدهم وقتل اآلالف منهم ،بام يف ذلك هدم املساجد التي كانوا
يقيمون فيها صالة اجلامعة ،ومل حترك القيادات الفلسطينية ساكنًا ،سواء يف
السلطة ومنظمة التحرير ،أو يف الفصائل ،حلساب سياسات ومصالح ضيقة،
بينام اجلميع يقول إن كل ما يقوم به ويفعله من "جهاد" و"نضاالت" هو لصالح
اإلنسان الفلسطيني.
127
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذا نفاق واضح؛ حيث ُيقتل اإلنسان الفلسطيني برصاص فلسطيني يف
خميامت اللجوء الفلسطيني ،لصالح الفصائلية وليس العكس ،وخميم عني احللوة
وأحداثه احلالية أبلغ شاهد عىل ذلك.
أليس األسريات الفلسطينيات بحاجة إىل هبة مثل هبة األقىص األخرية؟! ..عىل
أمهية املكان واحلرم؛ فإن أعراضنا التي ُت َ
نتهك يف سجون االحتالل ،ويف معتقالت
األنظمة الظاملة؛ يف ذات األمهية ،بل أكرب.
فالرسول الكريم ﷺ يقول" :لزوال الدنيا أهون عىل اهلل عز وجل من سفك دم
حجرا أهون من قتل مسلم"
ً حجرا
ً وروي بلفظ" :هلدم الكعبة
مسلم بغري حق"ُ ،
[ذكره البيهقي يف "شعب اإليامن" ،ومعناه عند الطرباين].
االجتاه ْي املتصارعني "هيمهم
َ يف احلرب يف اليمن؛ كل القيادات اليمنية يف كال
مصالح وأمن الشعب اليمني" ،بينام اإلنسان اليمني هو الضحية ،وحتى لو صدق
البعض يف شعاراته القيمية التي يرفعها؛ يبقى أن ذلك خطأ كبري؛ حيث اإلنسان
الذي يموت بالكولريا أو اجلوع أو املياه امللوثة؛ أوىل من أية شعارات عن "الوطن"!
فام الوطن غري اإلنسان واألرض؟! ..بينام يف سوريا واليمن وغريها من بلدان
عاملنا العريب واإلسالمي؛ ال يشء حيدث سوى قتل وترشيد اإلنسان ،وحرق
وتفتيت األرض ،وهدم العمران الذي يضمن لإلنسان كرامته التي جعلها اهلل
تعاىل مع العقل واحلرية ،صنو كلمة "اإلنسانية" ،ومن مكوناهتا األصيلة!
إننا بحاجة إىل إعادة ترتيب األولويات؛ بحيث يصبح اإلنسان هو اهلدف
واملستهدف األول ،اتسا ًقا مع الرشيعة التي نقول إننا مؤمنون هبا ،ونسعى إىل متكينها!
128
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اخلطاب "ريض ُ
اهلل عنه" ،واحدة من أهم النامذج ُتعترب دولة الفاروق عمر بن َّ
عرض عىل املعيارية التي يقيس عليها املسلمون الكثري من األمور والقضايا التي ُت َ
أمورا مستحدثة
األمة يف عرصنا احلايل ،بام يف ذلك قضايا اإلدارة والسياسة ،وحتى ً
مثل املوارد البرشية ،ومعايري االختيار السليمة ،يف خمتلف املجاالت ،والسيام
يف األمور ذات األمهية ،مثل املناصب اإلدارية والسياسية الكربى ،واملناصب
العسكرية ،وغري ذلك.
ولعل من بني أهم األمور والقضايا املعروضة يف الوقت الراهن عىل األمة ،سواء
عىل مستوى احلكومات – عىل قلة احلكومات الرشيدة يف عاملنا اإلسالمي املعارص
– أو عىل مستوى احلركات اإلسالمية الطليعية؛ هي قضية حسن توظيف العنارص
األفضل ،القادرة عىل القيام بأعباء األمانات املوكولة إليهم ،وأبعد ما يكونوا عن
ظواهر مثل نفاق احلاكم ،أو وضع االعتبارات الذاتية الضيقة فوق املصالح العامة،
وهي األمراض األخطر التي رضبت جمتمعاتنا املسلمة يف فرتة االنحطاط احلضاري
األخرية التي متر هبا األمة.
ويف دولة عمر – يف حقيقة األمر – كل ما يمكن أن جييب أو يعالج الكثري من
ثمة نقطة
املشكالت يف هذا الصدد ،ولكن قبل تناول ذلك بيشء من التفصيل؛ فإنه َّ
شديدة األمهية وجب التنويه إليها يف هذا األمر.
129
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه النقطة تتعلق باملصدر األسايس الذي صنع من خالله عمر "ريض اهلل
عنه" ،دولته ،وأقام عليها – بشكل عام – أركان معجزته ،سواء كصحايب لرسول
اهلل ﷺ ،أيد القرآن الكريم والوحي اإلهلي فيه ،الكثري من مواقف وآراء عمر ،حتى
وحاكم
ٍ عىل ما كان يزكيه النبي الكريم "عليه الصالة والسالم" ،أو كأمري للمؤمنني
هلذه األمة.
فاملصدر األساس هلذا كله؛ هو اإلسالم من مصادره األساسية ،القرآن الكريم
والس َّنة النبوية الرشيفة ،وعىل وجه اخلصوص الرتبية النبوية التي حرص الرسول
ُّ
الكريم ﷺ ،عىل أن تتأسس عليها دولة اإلسالم األوىل ،قبل إقامة أركاهنا السياسية.
أضف لذلك الكثري من السامت الشخصية التي كان يتمتع هبا عمر بن اخلطاب
الس َّنة النبوية ،من الواضح أهنا اصطناع إهلي رصف. "ريض ُ
اهلل عنه" ،والتي من خالل ُّ
يعز اإلسالم
فعندما دعا رسول اهلل "عليه الصالة والسالم" ،ر َّبه عز وجل ،بأن َّ
الع َم َر ْين؛ اختار اهلل تعاىل عمر بن اخلطاب ،وهو ما يعني أن هناك حكمة
بأحد ُ
إهلية ،واصطناع إهلي ،لشخص عمر؛ بقدراته العقلية والبدنية ،وكل ما اتصف به
من صفات يف مرحلة ما قبل إسالمه؛ دفعت النبي "عليه الصالة والسالم" ألن
يتمنى إسالمه لعزة الدين الوليد ،وما بعد البعثة ،مما كان له أبلغ األثر يف قيام
وتوسع دولة اإلسالم ،يف عهد النبي ﷺ ،أو ما بعد ذلك ،يف عهد أيب بكر "ريض
اهلل عنه" ،ويف عهد عمر ذاته.
لننظر اآلن إىل موقف الثنني من الصحابة الكرام ،رضوان اهلل تعاىل عليهم
مجيعا ،مع عمر بن اخلطاب بعد توليه منصبه مبارشة ،ومها أبو عبيدة بن اجلراح،
ً
130
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومعاذ بن جبل؛ حيث كتبا إليه رسالة بعد السالم عليه؛ "فإ َّنا عهدناك وأمر نفسك
إليك مهم ،وقد أصبحت قد ُوليت أمر هذه األمة ،أمحرها وأسودها ،جيلس بني
يديك الرشيف والوضيع ،والعدو والصديق ،ولكل حصة من العدل ،فانظر كيف
أنت عند ذلك يا عمر؛ فإنا نحذرك يو ًما تعنى فيه الوجوه إىل اهلل وجتف فيه القلوب
وتنقطع فيه من احلجج حلجة ملك قهرهم بجربوته فاخللق داخرون له ،يرجون
رمحته وخيافون عقابه ،وإن كنا نحدث أن أمر هذه األمة سريجع يف آخر زماهنا إىل
أن يكونوا إخوان العالنية أعداء الرسيرة ،وإنا نعوذ باهلل أن ينزل كتابنا إليك سوى
املنزل الذي نزل من قلوبنا؛ فإنام كتبنا به نصيحة لك ..والسالم عليك".
تلقى عمر "ريض اهلل عنه" ،الرسالة ،وكان عىل ما نعهد من عدل؛ وقرأ ما فيها
من قيم ،لعل من أمهها ما ال ينتبه إليه الكثريون فيها ،وهي أهنا من بني أهم األدبيات
السياسية يف تارخينا اإلسالمي ،وربام يف التاريخ اإلنساين ،يف عظة احلاكم ،ودعوته
طبقة يف
وم َّ
إىل أهم مبادئ احلكم الرشيد التي تتكلم عنها أدبيات األمم املتحدة ُ
األمم املتقدمة يف وقتنا الراهن ،مثل الشفافية والعدل والتزام القانون – الرشيعة يف
حالتنا هنا – واإلعالء من شأن املصلحة العامة.
كام أن الرسالة فيها إشعارات مهمة – كذلك – عن شعرية مهمة معطلة يف عرصنا
احلايل يف الغالب ،يف املامرسة السياسية واالجتامعية يف األوساط املسلمة ،وهي
شعرية األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،يف إطار املناصحة الواجبة من املسلم
للحاكم ،وهو هدي نبوي رشيف ،وتوجيه لكل مسلم حرص النبي "عليه الصالة
والسالم" ،عىل التأكيد عليه؛ فيام خيص النصيحة للحاكم ،ولعامة املسلمني.
131
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فام كان من عمر إال أن رد عليهام بالقول" :والبد لكام من الكتاب لدي؛ فإنه ال
غنى يب عنكام".
ويف حقيقة األمر؛ فإنه مما ندركه من السرية اجلهادية لكليهام ،سواء يف عهد
النبوة ،أو يف وقت أيب بكر الصديق ودولة عمر بن اخلطاب "ريض اهلل عنهام"؛
يقول بأن الرتبية وآثارها ،هي ٌّ
كل متكامل.
فالرتبية والتأسيس الرتبوي والفكري الذي تلقياه يف عهد النبوة؛ جعلتهام عىل
نسق القدوة يف كل املجاالت؛ األخالقية والفكرية واالجتامعية ،وكذلك السياسية
والقدرات اإلدارية ،وكانا يتعامالن – وغريمها من الصحابة الذين تأسسوا يف
مدرسة الرتبية اإلسالمية السليمة -مع كل موقف بام يتطلبه؛ متا ًما كام يف موقف
والية عمر بن اخلطاب خلالفة املسلمني.
وما جرى يف هذا املوقف فيه جانبان .اجلانب األول؛ أن عمر بن اخلطاب
"ريض ُ
اهلل عنه" استشعر كالمهام ،وأخذه عىل حممل اجلد ،ثم والمها من الواليات
العسكرية واإلدارية يف دولته ،فكانا عىل رأس جيوش املسلمني التي فتحت الشام،
ثم توىل أبو عبيدة والية الشام ،وملا ُقبِض يف طاعون عمواس الشهري؛ توىل معاذ بن
جبل حمله؛ حيث علم من خربته معهام وقت النبي ﷺ ،ومن رسالتهام هذه؛ أهنام
ريا وأنفع له ولألمة لو متت توليتهام.
خري له ،وسيكونا خ ً
ٌ
اجلانب الثاين؛ هو اجلانب املتعلق بمعاذ وأيب عبيدة؛ حيث إهنام أثبتا أهنام ٌ
أهل
لألمانة التي محالها ،وأهل لتنفيذ وصايا وتعاليم النبي ﷺ ،حتى أنفاسهام األخرية؛
فأبو عبيدة "ريض ُ
اهلل عنه" ن َّفذ تعاليم النبي "عليه الصالة والسالم" ،التي أثبت
132
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
العلم احلديث صحتها ،يف التعامل مع األوبئة؛ فلم خيرج من الشام وقت انتشار
الطاعون ،حتى مات ،وكذلك فعل معاذ "ريض ُ
اهلل عنه" ،فلم خيرج برغم أن
زوجتيه وولديه قد ماتا يف نفس الطاعون ،قبل أن يموت هو ذاته فيه.
يف املقابل؛ فإننا نرى اليوم قادة األنظمة واحلكومات يف بلداننا املسلمة ،يعلون
من شأن أهل الثقة واملنافقني الذين ألن تربيتهم الدينية واألخالقية ضعيفة فقادهتم
إىل خصلة املداهنة والنفاق؛ فكانوا ضعا ًفا يف كل يشء؛ فأضاعوا األمانة بعدم
الكفاءة والتفرغ للفساد واإلفادة من الوظيفة العامة ملصاحلهم اخلاصة.
ويف بعض حركاتنا اإلسالمية؛ نجد من يفضل "أهل الثقة" ألنه أطوع له،
بينام لو علم هؤالء ما يف منهج اإلسالم يف الرتبية واإلدارة من خري؛ ألقاموا ألهل
الكفاءة من املخلصني لدينهم ،العاملني عليه ،ولوجه اهلل تعاىل؛ كل املمكنات التي
تعينهم عىل خدمة دعوة اهلل عز وجل.
وال نبالغ لو قلنا إهنا اآلفة األوىل التي أضاعت األمة وطليعتها احلركية ،وبالتايل؛
فإن أوىل األمور هو معاجلة هذه اإلشكالية؛ ألنه لو وصل أهل العلم والكفاءة إىل
املراكز التنفيذية واالستشارية األهم؛ لعوجلت كل قضايا األمة بشكل كامل.
وبرغم أن هذه مشكلة قد تبدو سياسية؛ إال أهنا تبقى يف األخري؛ قضية تربية
بالدرجة األوىل كام رأينا!
133
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
134
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه اآليات ،وسابقتها ،وغريها الكثري من آيات القرآن الكريم ،تشري إىل عدد
من احلقائق عىل رأسها أن النرص من عند اهلل العزيز احلكيم ،وأنه حتى نبيه ورسوله
الكريم ﷺ ،ليس له من األمر من يشء؛ أي يشء ،وإنام كل األمور بمقادير اهلل عز
وجل وإرادته ،وأنه ال جيري يف قدر اهلل تعاىل إال ما قدر له هو وحده ال رشيك له.
هذا املدد اإلهلي ،وهذا العهد الرباين ،له اشرتاطات الستنزال نرصه عىل عباده،
وعىل رأسها الصرب والتقوى.
أما الصرب ،فهو -لغ ًة -احلبس واملنعَ ،
واجل َلد وحسن االحتامل ،كام يف املعجم
الوسيط ،ويف االصطالح الرشعي واألخالقي ،هو حبس النفس عن اجلزع،
واحتامل املكاره ،وحبس النفس عن الشهوات.
أما التقوى ،فهي فضيلة وسلوك اإلنسان ومدى التزامه جتاه اهلل عز وجل ،وجتاه
خملوقاته ،ولذلك يعدها الكثريون من علامء األصول والفكر اإلسالمي ،أهنا أهم
دعائم الدين واإليامن.
والتقوى لغ ًة من الوقاية ،ويف االصطالح الرشعي؛ أن جيعل املسلم بينه وبني
عذاب اهلل تعاىل وقاية أو حاجز ،وذلك من خالل فعل الواجبات والطاعات،
وترك املنكرات واملحرمات ،وما بينهام املكروهات ،وما يف تركها من ورع ،من
أجل نيل رضا اهلل عز وجل ،وتفادي غضبه وعذابه يف الدنيا واآلخرة.
ويقول بعض العلامء إن التقوى هي الغاية الرئيسية من ترشيع األحكام،
والس َّنة النبوية ،ومن بني
ويستندون إىل عدد من األدلة الرشعية من القرآن الكريم ُّ
135
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مل ُيعد الداعية يف وقتنا الراهن هو ذلك الشخص الذي يلقي خط ًبا منربي ًة
يتناول فيها فقط األمور املعتادة يف حياة املسلم؛ حيث سعت أنظمة الفساد وامللك
136
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
العضوض ،التي اب ُتل َي ْت هبا االمة اإلسالمية عرب التاريخ ،إىل قرص دور وصورة
الداعية عىل اجلوانب الفقهية لألمور املجتمعية والعبادات فقط ،عىل أمهيتها يف حياة
حفاظا من ذوي السلطان عىل سلطاهنم. ً املسلم ،مع جتنيب الدعاة للسياسة متا ًما؛
حتول الداعية يف زمننا هذا إىل جماهد سيايس ،بد ًءا بالكلمة ،وحتى املشاركة يف
ميادين التغيري واإلصالح.
ولعل يف نامذج من دعاتنا الذين استشهدوا يف فلسطني ،خالل النضال ضد
االحتالل الصهيوين العنرصي ،أو يف مرص سوريا وغريها من بلدان الربيع العريب؛
أبلغ دليل عىل أن الداعية يف اإلسالم ،هو رجل سياسة ونضال من الطراز األول،
وأن دوره ودور املنابر املسجدية ،عىل قيمتها وأمهيتها يف اإلسالم ،يتجاوزان
احلديث التقليدي املعتاد ،إىل آفاق أسمى وأهم.
هذه اآلفاق تتعلق بدور األمة احلضاري ،وكيفية استعادهتا ملجدها وعزها،
هدى ورمح ًة للناس أمجعني،
ولريادهتا احلضارية ،ونرش دين اهلل تعاىل يف األرضً ،
وحقيقة دور املسلم ،وتصحيح مدركاته لوجوده وحياته ،وما هو مطلوب منه
بدقة فيام يتعلق بتمكني رشيعة اهلل تعاىل يف أرضه ،وحتقيق أستاذية العامل باإلسالم،
وجممل األهداف والغايات التي ُخ ِلقَ ألجلها.
ويامرس الداعية واملسئول السيايس ،السياسة يف اإلسالم ،من خالل ما ُيعرف
بالسياسة الرشعية ،والتي ُت َّ
عرف عىل أهنا املامرسة السياسية واملجتمعية ،التي تنطلق
من حتكيم الرشيعة اإلسالمية ،بجوانبها األخالقية التي أتت للرتكيز عليها ،سواء
يف أدوات عملها أو فيام يتعلق بمقاصدها.
137
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أي أن السياسة يف اإلسالم -أي إدارة شئون الرعية والدولة يف الداخل واخلارج-
ال وهد ًفا ،واألخالق هي غاية الرشيعة اإلسالميةُتعنى باألساس بالرشعية ،عم ً
وهدفها األسمى ،كام قال رسول اهلل ﷺ ،ومن َث َّم؛ فإن املكون األخالقي رضورة
ال غنى عنها للسيايس والداعية يف دولة اإلسالم.
ومبدئيا؛ فإن الداعية ورجل السياسة ،ومها مرتبطان يف اإلسالم ،جيب عليهام
ًّ
أن يقوما بام ُيعرف يف مبحث األخالق يف الفلسفة وعلم النفس ،باالستدالل
األخالقي ،وهو يعني العملية التي حياول خالهلا اإلنسان حتديد الفرق بني ما هو
صحيح وما هو خطأ يف املوقف الشخيص باستخدام املنطق العقيل ،واملنطق احلاكم
هنا هو الرشيعة وتعاليمها.
ومن َث َّم؛ فإنه ال يمكن احلديث عن املرشوع احلضاري اإلسالمي وصريوراته،
بعيدً ا عن ِّ
املكون األخالقي الذي أتى به اإلسالم.
138
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
139
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الرئييس وراء انتشار اإلسالم وتراجع املسيحية يف فرتة ما قبل العصور الوسطى،
وحتى عرص التنوير الذي بدأ منذ القرن السابع عرش امليالدي.
وهو ذات ما ذهب إليه املسترشق ويلفريد سكاون بلنت ،الذي ذكر بأن أحد
أهم أسباب انتشار اإلسالم ،هو اجلانب األخالقي.
وذكر يف كتابه املهم "مستقبل اإلسالم" الذي وضعه عام 1882م ،ونرشه يف
العام التايل ،أن "اإليامن بالوحي الساموي الذي نزل عىل األنبياء خامتهم حممد"،
وأن هذا الوحي "ليس عقد ًّيا فقط ،بل وحي وممارسة وتطبيق وقاعدة كونية حياتية
لكل البرش يف السياسة والترشيع واملذاهب واألخالق".
ومن بني املسترشقني املعارصين الذين َأ ْو َلوا هذه القضية اهتام ًما ،الربوفيسور
سيباستيان جونرت ،أستاذ كريس العربية والدراسات اإلسالمية يف جامعة جوتنجن
مؤخرا دراسة مهمة بعنوان "آراء
ً األملانية (التي تعلم فيها) ،الذي صدرت له
العلامء املسلمني القدماء يف نظرية الرتبية" ،و ُنرشت بالعربية يف العدد ( )51من
"التفاهم" ا ُمل َح َّك َمة التي تصدرها وزارة األوقاف والشؤون الدينية ُ
العامنية. ُ فصلية
ويف هذه الدراسة ،يعيب جونرت عىل املسترشقني والعلامء الغربيني احلاليني،
إمهاهلم يف القرن األخري ،لدراسة الرتاث اإلسالمي يف جمال األخالق والرتبية.
وضم جونرت يف دراسته هذه ،منظومة التعليم يف الدولة اإلسالمية ،يف عصورها
أمرا أصي ً
ال يف املنظومة الرتبوية املختلفة ،وأكد عىل أن اهتامم املسلمني بالتعليم ،كان ً
واألخالقية يف املجتمعات اإلسالمية يف قرون هنضة األمة اإلسالمية.
140
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
141
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وكان من بني أهم ما لفت انتباه املسترشق جونرت يف تراث ابن َس ْحنُون ،هو
كيف أنه ،وهو الفقيه املالكي – أي يف األساس واألصل عامل رشيعة – قد وضع يف
كتابه هذه ،وكتب أخرى له ،منظومة متكاملة يف التعليم ،يمكن أن يتم تطبيقها يف
العرص احلديث.
وقدم املسترشق يف رؤيته هذه ،نظرة عىل نظام التعليم يف املدارس اإلسالمية يف
متطورا؛ حيث إهنا بجانب العلوم الرشعية،
ً تعليميا
ًّ إطارا
هذه الفرتة ،ورأى فيها ً
شملت اآلداب املختلفة ،واللغة ،باإلضافة إىل احلساب واألخالق ،وقال إهنا
السنِّية التي توازي املرحلة
من العلوم التي كان يتلقاها حتى التالميذ يف املرحلة ِّ
االبتدائية يف وقتنا الراهن.
كام تناول جتربة العالمة والفيلسوف املسلم األشهر ،أبو عثامن عمرو بن بحر
اجلاحظ ،الذي عاش يف ذات الفرتة التي عاش فيها ابن َس ْحنُون تقري ًبا.
وركز جونرت يف نظرته عىل أعامل اجلاحظ ،عىل ما طرحه من أساليب جديدة يف
الرتبية والتعليم واآلداب.
وقال إن اجلاحظ استبدال منهاج احلفظ والتلقني ،بمنهاج آخر متطور ،يقوم عىل
أساس االستنباط والتعليل ،وهو ما يوازي املدرسة العقلية يف الفلسفات اليونانية
واإلغريقية القديمة.
ركز ابن َس ْحنُون يف كتابه "آداب ا ُمل َع ِّلمني" ،عىل اخلصال املطلوب
وبينام َّ
ُ
والتواضع وحب العمل مع األطفال؛ توافرها يف رجل الرتبية والتعليم ،مثل الصرب
142
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فإننا نجد أن اجلاحظ يف كتابه "كتاب ا ُمل َع ِّلمني" ،يؤكد عىل رضورة مراعاة تطوير
املَ َل َكات العقلية لألطفال ،من خالل منظومة من املناهج تشمل حتى الرياضات
الذهنية والبدنية املختلفة ،مثل اجلدل والكالم ،والرمي ،وكذلك الفنون واآلداب
املختلفة.
والحظ أن هناك أوجه تشابه بني ما قدمه ابن َس ْحنُون واجلاحظ يف كتا َب ْيهام،
أساسي ْي ،األول ،هو تطوير القدرات الشاملة لإلنسان منذ
َّ فيام يتعلق بمرتكزَ ْين
مراحل التعليم األوىل ،والثاين هو املرتكز األخالقي.
النموذج ْي ،تناول املسترشق سيباستيان جونرت يف دراسته املهمة
َ بجاتب هذين
هذه ،ثالثة نامذج أخرى – كام تقدَّ م – من القرون من التاسع وحتى احلادي عرش
امليالدي؛ حيث درس أفكار ٍّ
كل من الفارايب وابن سينا وأيب حامد الغزايل.
فقدم قراءة يف "رسالة الربهان" للفارايب ،وكتاب "السياسة" البن سينا،
و"إحياء علوم الدين" للغزايل ،الذي وصفه بأنه "أحد أعظم ُبناة الفلسفة التعليمية
اإلسالمية وقيمها األخالقية".
وقال إن ذلك يعود إىل أن فهم الغزايل للرتبية وللتعليم كان عىل أساس أهنام
ذائعا يف مؤلفات "إرشاد للفتيان وليس تأديبا هلم" ،وقال إن ذلك "بات ً
مبدأ تربو ًّيا ً ٌ
ً
القرون الوسطى يف التعليم اإلسالمي".
وأشار الكاتب األملاين إىل أن الفالسفة والعلامء املسلمني ،بشكل عام ،ومن
خالل النامذج الثالث السابقة ،كان من الواضح عليهم التأ ُّثر بالفلسفات القديمة
143
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
144
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ورضب عىل ذلك نامذج من علامء الرتبية واألخالق الغربيني ،مثل املعلم
إيكهارت (عاش يف القرن الرابع عرش امليالدي) ،وفيليب ميالنكتون (القرن
اخلامس عرش امليالدي) ،وكانا أكثر تأ ُّث ًرا بالفارايب ،واملصلح التشيكي املعروف،
يوهان أموس كومينيوس (القرن السابع عرش) ،والذي ُيط َلق عليه اسم "أبو الرتبية
املعارصة".
وداللة النقاط الثالث؛ مها أهنا ترد عىل أباطيل عدة يف وقتنا الراهن ،تتشارك فيه
أصوات عربية ومسلمة – لألسف الشديد – تقول بأن الرشيعة اإلسالمية واللغة
العربية ،أحد أسباب وعوامل ختلف األمة ،وتدعو إىل القطيعة الكاملة مع الرتاث
اإلسالمي ،وهو ما أكدت الدراسة عىل خطئه.
145
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف منتصف القرن الثامن عرش ،خرج الفيلسوف واألديب األيرلندي ،أوليفر
جولد سميث ،بمجموعة من املقاالت التي انتظمت بعد ذلك يف كتاب ُع ِرف
بـ"املواطن العاملي" أو الـ"."The citizen of the world
طرح هذا الكتاب رؤية فلسفية حول العالقات اإلنسانية تنطلق من مشرتك
مهم بني مجيع البرش ،وهو األصل اإلنساين ،وبالتايل؛ فإن األصل يف البرش جيب أن
يكون قبول اآلخر والتعايش والتعاون معه.
وهو نفس املشكلة احلاصلة مع "وثيقة املدينة" التي سبق هبا النبي ﷺ ،وثيقة
"املاجنا كارتا" اإلنجليزية للحقوق واملواطنة بأكثر من مخسة قرون.
146
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
"هود" ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ومن بني ذلك قول اهلل تعاىل يف ُسورة ُ
ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ ،ويف ُسورة "احلجرات" ﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾.
ويف صحيح "مسلم" ،من خطبة َح َّجة الوداع ،أن الرسول الكريم ﷺ ،قال" :أهيا
الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم آلدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند اهلل
أتقاكم ،ليس لعريب فضل عىل أعجمي إال بالتقوى أال هل ب َّلغت؟ اللهم فاشهد".
ويعود جزء كبري من عدم التفات الكثري من املسترشقني واملفكرين حول العامل،
حتى العدول غري املنحازين منهم ضد اإلسالم واملسلمني ،إىل كل هذه اجلامليات
وكل هذا السبق يف اإلسالم ألمور مل يزال العامل يتحسس طريقه إليها حتى اآلن؛
هو سوء املامرسة من جانب البعض.
147
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
148
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واألفغان ،بينام كل هذا هراء وخطأ؛ حيث ال يوجد ال يف القرآن الكريم ،وال يف
الس َّنة النبوية املطهرة ما يفيد بذلك.
ُّ
وسرتة اإلنسان ،يمكن تنفيذها بصور عديدة ،وال
واألمور اخلاصة باللحية ُ
تثريب عىل املسلم فيها ،وال يشرتط يف ذلكم هيئة معينة.
ولدينا يف ممارسات الصحابة الكبار رضوان اهلل تعاىل عليهم ،ما يفيد ذلك.
ُساقة بن مالك (ريض ُ
اهلل عنه) ،ارتدى ثياب الفرس ملا حكم بالد فارس ،وأقره
عىل ذلك عمر بن اخلطاب (ريض ُ
اهلل عنه) نفسه.
الس َّنة ،بام يف ذلك "ال ُبخاري" و"مسلم" ،أن النبي ﷺ،
بل إن هناك يف كتب ُّ
جبة شامية ،وكانت أكاممها ضيقة خال ًفا ملا كان هو متعارف عليه يف شبه
كان يلبس َّ
تابعا للدولة الرومانية التي كانت حتارب
اجلزيرة العربية ،والشام يف ذلك احلني كان ً
الدولة اإلسالمية الناشئة يف ذلك احلني ،والروم كانوا أهل كفر.
وهو بكل تأكيد دليل رشعي – الدليل الرشعي معروف أنه القرآن الكريم
الس َّنة النبوية – بأنه ال منافاة بني التقاليد يف اللباس والعادات ،وبني
وصحيح ُّ
الدين ،طاملا أنه ال يوجد تصادم ،ويف ذلك بيان للتوسعة عىل املسلم ،وهني عن
التضييق يف هذا األمر واملبالغة فيه.
ويف حديث أخرجه "مسلم" ،أن النبي ﷺ قال" :هلك املتنطعون" (قاهلا ثال ًثا)،
"التنطع" هو التكلف والتشدد فيام ال ينبغي ،ويف غري موضعه ُّ وقال العلامء إن
الصحيح ،مثل الغلو يف العبادة واملعاملة ،بحيث يؤدي ذلك إىل املشقة الزائدة.
149
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واألمر يف حالتنا هذه ال تتعلق بمشقة زائدة من املسلم عىل نفسه ،وإنام بأثر
أعظم وأخطر ،وهو إفساد جهود الدعوة وعدم فاعليتها.
فام جيري أو ً
ال خيالف صحيح الفطرة يف التنوع بني البرش ،وبالتايل؛ مستحيل
أمم هلا خصوصيتها
إلزام مئات املاليني من أبناء الشعوب املختلفة التي من بينها ٌ
بالتزام زي ومظهر واحد.
ً
موائم لصحيح العمران وبالتايل؛ فهو خيالف صحيح الدين ،ألن اإلسالم نزل
والفطرة ،وكالمها من خلق اهلل عز وجل؛ الذي هو وضع هذا الدين وارتضاه لنا.
األمر اآلخر ،هو أن خصوم الدين واملرشوع اإلسالمي يف الغرب؛ استغلوا هذه
النقطة ،وصكوا املاليني من املواد اإلعالمية التي شوهت هذه الصورة النمطية
وعملت عىل "شيطنتها" ،استنا ًدا لألسف إىل ممارسات مسلمني؛ مجاعات وأفراد،
تستكمل جان ًبا آخر ،وهو اصطناع "الشيطان األخرض" يف إشارة إىل "اخلطر
اإلسالمي" – هنتنجتون وفوكوياما قالوها رصاحة – وبالتايل؛ تم تشويه الدين
ذاته ،واملرشوع الدعوي واألخالقي الذي حيمله بالكامل ،وعىل ذلك؛ فلو ظل
الدعاة ألف عام يدعون الناس يف كثري من بقاع العامل؛ ما استجابوا.
ً
اعتزازا فعىل سبيل املثال؛ كيف نتصور ياباين – وهم من أكثر شعوب األرض
برتاثهم وهويتهم – أنه عندما يسلم؛ جيب أن يتشبه بشعب آخر؟! – فكام قلنا
الصورة املتداولة حال ًيا ليست للمسلم ،وإنام هي ملسلمي شعوب مثل السعودية
طبعا.
وباكستان – سريفض ً
150
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهو أمر متحقق بالفعل حتى بني املسلمني اجلدد؛ حيث خطأ كبري يف تقييم
معدالت انتشار اإلسالم يف العامل الغريب عىل وجه اخلصوص ،فاألرقام املتداولة يف
إحصائيا ،ولكنها غري دقيقة يف داللتها املوضوعية؛
ًّ هذا املقام ،قد تكون صحيحة
حيث اإلحصاء السيايس واالجتامعي علم خمتلف متا ًما عن اإلحصاء الريايض ،ويضع
يف اعتباره العوامل البيئة املجتمعية والسياسية يف تقييم األرقام التي يتم التوصل إليها.
فالغرب معروف بانفتاحه ،وبأن مبدأ احلرية هناك يدفعهم إىل جتربة كل يشء،
فكثري من املسلمني من أبناء هذه البلدانِ ،
يسلم كمحطة من حياته ،أو كتجربة ال
أكثر ،قبل أن ينتقل إىل "جتربة دينية" أو "روحية" أخرى من فرتة ألخرى.
"جترب" الدخول يف اإلسالم ضمن مساعيها للحصول
ولذلك هناك نسبة كبرية ِّ
كردة فعل زاء احلضارة املادية املتوحشة هناك ،وملا ال
عىل السالم الروحي والنفيس َّ
طبعا يف اإلسالم ،ولكن يف "النسخة" التي ينقلها البعض هلم عن
جيدونه لن أقول ً
اإلسالم؛ فإهنم يتحولون عنه.
ودليل صحة ذلك ،أنه ،وفق دراسات مو َّثقة ،فإن نسبة كبرية من املسلمني اجلدد
يف الغرب إذا ما حتولوا عن اإلسالم؛ فإهنم يعتنقون الديانات الرشقية ذات الطابع
الروحي ،مثل اهلندوسية والبوذية ،وغري ذلك من الفلسفات الوضعية.
ِ
"يسلم" عىل سبيل وكذلك بسبب طبيعة املجتمعات الغربية؛ فغن البعض
"املوضة" .هذا مؤسف ،ولكنه حقيقي ،ولكننا ال نجري دراسات بالكفاية الالزمة
ملعرفة االجتاه العكيس لألمر؛ أي معدالت خروج املسلمني اجلدد من اإلسالم،
"ردة" ألهنم من األصل مل يدخلوا يف الدين باملعنى الصحيح الرشعي.
ولن أقول َّ
151
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهو جزء من مشكلة كربى تواجه الصورة الذهنية لإلسالم واملسلمني هناك،
ريا من
وهي أنه بسبب أن اعتناق اإلسالم تم من دون علم أو تأهيل كايف؛ فإن كث ً
املسلمني اجلدد يف أوروبا واألمريكت َْي من سكان البالد األصليني؛ انحرفوا فكر ًّيا
وانضموا إىل اجلامعات التكفريية املسلحة.
مشفوعا بتقارير
ً ولقد أصدر األزهر الرشيف دراسات موثقة باألرقام يف ذلك،
أجهزة خمابرات ووكاالت إعالمية كربى هلا موثوقيتها يف أملانيا وبريطانيا وفرنسا
ودول أوروبية أخرى.
ولذلك ال يمكن االستناد باطمئنان إىل ما ُيقال أن جهود الدعوة بخري ألن
املسلمني يزيدون .فهي زيادة كزبد البحر لألسف ،وترض أكثر مما تنفع.
املطلوب هو أن نعلم اإلسالم للناس كام وضعه اهلل تعاىل لنا؛ كدين عاملي ال
يتقيد ال بحدود وال بصورة وال هبيئة شعب بعينه.
نسمع اآلن هز ً
ال عن "اإلسالم املرصي" ،و"اإلسالم الرتكي" ،و"اإلسالم
السعودي" ،وهذا كله هراء ،وأثره خطر عىل جهود الدعوة ،بل وعىل صورة اإلسالم
ً
صاحلا لكل زمان ومكان. نفسه كدين عاملي الطابع ،أنزله اهلل تعاىل لكي يكون
كتبنا يف هذا املوضع قبل فرتة عن "اإلسالم وقضية الصورة الذهنية ..بني
احلرملك ومعامل ناسا!" ،ويف عدد "ذي القعدة" من جملة "األزهر" ،هناك مقال
ال ،للمفكر والفيلسوف املرصي والعريب الكبري ،الدكتور زكي رائع كان جمهو ً
نجيب حممود ،حيمل ذات الفكرة ،بعنوان" :عامل عابد يف سفينة فضاء".
152
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الدعوة اإلسالمية جيب أن تعمل عىل أال يأخذ اإلسالم صفة أنه دين "العرب"
فقط أو دين الشعوب املرشقية ،فقط .فليكن املسلم عاملًا يف "ناسا" ،أو رائد فضاء،
أو عامل بيولوجي؛ يرتدي أحدث الثياب ،وخيتلف يف هيئته عن املسلم اهلندي،
واملسلم املرصي ،واملسلم الياباين.
هذا هو اإلسالم كام أراده اهلل تعاىل؛ دين صالح للجميع ،يف كل زمان ،ويف كل
مكان!
153
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
نحن يف هذه األيام يف رحاب ذكرى طيبة ،وهي مولد الرسول الكريم ،حممد ﷺ،
ولئن كان ال يزال ذلك اجلدل األبدي حول مرشوعية أو عدم مرشوعية االحتفال
بمولده ﷺ؛ فال أقل من أن تكون املناسبة فرصة لنا كمسلمني الستحضار املزيد
من هديه "عليه الصالة والسالم".
ويف ظل املشكالت السياسية واالجتامعية ،التي ترضب األمة وجمتمعاهتا ودوهلا
بأطناهبا؛ فإننا من األمهية بمكان يف هذه املرحلة ،أن يكون اهتاممنا بام جاء يف السرية
النبوية العطرة من األمور التي حتسم املشكالت االسرتاتيجية التأثري ،وتعمل عىل
رأب صدع األمة ،واجتامع شتاهتا مرة أخرى.
ومن بني أهم األمراض اآلن التي اب ُت ِليت هبا معظم احلركة اإلسالمية عىل
اختالف ألوان طيفها الفكري والتنظيمي يف الوقت الراهن ،هو غياب املامرسة
الديمقراطية السليمة بداخلها ،وعدم قبول اآلخر ،حتى وإن كان ِمن ذات اإلطار،
وكان ما يطرحه يصب يف املصلحة العامة.
هذه املشكلة شديدة التأثري عىل الصورة الذهنية اخلارجية للحركة اإلسالمية،
فهي تفت يف عضد طرحها لنفسها كبديل سيايس وجمتمعي لألنظمة احلاكمة،
فغياب املامرسة الديمقراطية السليمة ،باملعنى الواسع ،الذي يتجاوز جمرد انتخاب
األطر التنفيذية واحلركية ،إىل آفاق أوسع تتعلق بكيفية تعامل احلركة اإلسالمية مع
154
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اآلخر ،ومع الرأي املخالف بداخلها ،وكيف تعمل عىل توظيف كل اآلراء متى
كان يف ذلك مصلحة عامة.
ولعل ما حيسم هذه املشكلة ،منطق بسيط للغاية من حياة الرسول الكريم ﷺ،
نبي ،وكان يأتيه الوحي من اهللِ تعاىل ،وما كان ﷺ ينطق عن اهلوى؛
فبالرغم من أنه ٌّ
إال أنه قدم أعظم النامذج يف املرونة السياسية ،سواء جلهة تقبل آراء معارضيه ،حتى
ممَّن مل يكونوا قد آمنوا به بعد ،أو جلهة التزامه بآراء أصحابه فيام ليس فيه نص.
ومن هنا تأيت عظمة شخصية الرسول الكريم "عليه الصالة والسالم" ،وتأكيد
عىل أنه بالفعل تربية ربانية ،وأن اهلل تعاىل أعده حلمل هذه املسؤولية الثقيلة؛ حيث
مل تعرتيه يف هذه األمور ،التي هي بالفعل الفيصل بني القائد والسيايس الناجح،
وبني القائد والسيايس الفاشل؛ عوارض النقص اإلنساين املتعارف عليها ،والتي
أدالت أممًا وإمرباطوريات كربى عرب التاريخ.
وكان النبي ﷺ ،ال يقف عىل آراء خمالفيه حتى يف قرارات احلرب والسلم،
بالرغم من أهنا هي األهم يف حياة األمم.
ويبدو أن ذلك كان إما بتكليف إهلي ال نعلمه ،أو أن حكمة اهلل تعاىل وإرادته
شاءت ذلك؛ أال يسأل النبي "عليه الصالة والسالم" ر َّبه اهلداية يف مثل هذه
املواقف.
قادرا عىل أن يسأل ربه ،يف الكثري
فالرسول الكريم ﷺ ،استشار صحابته وكان ً
من املواضع التارخيية التي مثَّلت حلظات تارخيية فارقة يف حياة األمة ،التي كانت
155
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف تلك الفرتة ال تزال يف طور التكوين ،وليس أدل عىل حساسية هذه املرحلة،
من قوله ﷺ ،عندما نظر إىل املرشكني ،وهم ألف ،وأصحابه ثالث مائة وتسعة
فج ِعل ال ،فاستقبل نبي اهلل "عليه الصالة والسالم" ِ
الق ْب َلة ،ثم مد يديه ُ عرش رج ً
هيتف بربه سبحانه وتعاىل" :اللهم أنجز يل ما وعدتني اللهم ِ
آت ما وعدتني اللهم
إن هتلك هذه العصابة من أهل اإلسالم ال ُتعبد يف األرض" [أخرجه مسلم يف
الصحيح وأخرون].
ويف بد ٍر كذلك ،استشار الرسول الكريم ﷺ ،صحابته يف موضع املكوث
ض ُ
اهلل عنه" ،ويف أزمة األحزاب ،يف "ر ِ َ
واملعسكر ،ونزل عىل رأي سلامن الفاريس َ
العام اخلامس للهجرة ،رجع إىل الصحابة ،فحفر اخلندق وحارب مرشكي القبائل
العربية واليهود ،من املدينة ،بالرغم من أنه ﷺ ،كان مع الرأي القائل بالقتال من
خارجها.
واملواقف من حياته "عليه الصالة والسالم" ،يف مثل هذه األمور ،كثرية ،فهناك
موقفه مع سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوضه ﷺ ،يف صلح احلديبية ،ورفض أن
يكتب "بسم اهلل الرمحن الرحيم" ،أو "هذا ما عاهد عليه حممد رسول اهلل" ،وقال لع ٍّ
يل
"ريض ُ
اهلل عنه" ،أن يكتب "بسم اللهم" و"هذا ما عاهد عليه حممد بن عبد اهلل".
يف هذا املوقف أبرز الرسول الكريم ﷺ ،القدرة عىل ضبط النفس ،وأعىل من
شأن املصلحة العامة للمسلمني عىل ما عداها من اعتبارات.
ويف احلديبية كذلك ،عندما عارضه بعض الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم؛
مل يفعل أكثر من أنه دخل إىل خيمته ،حزينًا ،وطلب مشورة أم املؤمنني ،أم َس َل َمة
156
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ض ُ
اهلل عنها" ،وفعل مثلام أشارت عليه ،وأنقذ رأهيا األمة ،بعد أن قال "عليه "ر ِ َ
َ
الصالة والسالم"" :هلك املسلمون أمرهتم فلم يمتثلوا".
يدع "عليه الصالة والسالم" ر َّبه عليهم ،ومل يعنفهم ،ومل يدعو
يف حينه مل ُ
صحابته الذين أيدوه منذ البداية إىل أن يقاتلوا َمن عارضوه؛ كام نرى اآلن ِمن
بِدَ ٍع ومستحدثات من جانب َمن يدعون أهنم من احلركة اإلسالمية .إطال ًقا .فقط
التفت ﷺ ،إىل ما جيب عليه أن يقوم به ،فتبعه القوم ،وانتهت األزمة ،و ُفتحت مكة
املكرمة بعد ذلك بعا ٍم واحد!
واملوقف األخري بالذات ،هو من أهم ما يمكن يف التدليل عىل كيفية تعامل
قيادات احلركة اإلسالمية مع معارضيهم يف الرأي ،سواء داخل احلركة ،أو من
خارجها؛ فهذا هو فعل "رسول اهلل" ﷺ ،مع أعداء الدين ،ومع َمن خالفوه يف
الرأي بل ومع من رفضوا قراره بالرغم من أنه ال ينطق عن اهلوى ،وهم مؤمنون
بأنه "رسول اهلل".
إ ًذا ،فأي حماوالت للقول بأن اإلسالم ليس كذلك ،وبأن السمع والطاعة
املطل َق ْي ،واجبان للحاكم أو لألمري ،إنام هو حمض افرتاء عىل اإلسالم ،بل وخروج
عن صحيح الدين؛ حيث األصل هو القرآن الكريم وفعل النبي الكريم ﷺ،
والس َّنة النبوية.
واالجتهاد يكون فيام ليس فيه نص أو أصل رشعي من القرآن الكريم ُّ
...
هكذا كان حممدٌ ﷺ ،وهكذا هو اإلسالم؛ فعلموه ألبنائكم كام أنزله اهلل تعاىل علينا!
157
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
158
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وإنام يأيت هذا االنشغال ،بسبب أولوية احلدث ،يف ظل استعار حدة هذه احلرب،
والتي طالت إىل اآلن عرشات اآلالف من األرواح ،وبدأت منذ انطالق الطلقة
األوىل لثورة الياسمني يف تونس ،يف ديسمرب من العام 2010م.
إال أن اخلطأ الكبري الذي قد يقع فيه أويل األمر داخل احلركة اإلسالمية ،هو
التوقف أمام تبعات هذه النقطة الزمنية ،فام هي إال مرحلة ومتر ،وتظهر مرحلة
أخرى ،سوف تعمد فيها قوى االستكبار العاملي ومن عاوهنا من ُ
احل َّكام ال َف َسدَ ة،
إىل شغل األمة بمحطة أخرى.
ومن َث َّم؛ فإنه من األمور املهمة املعروضة عىل القيادات احلركية للدعوة ،والتي
حتمل تبعات إعادة إحياء املرشوع اإلسالمي ،والنهوض باألمة حضار ًّيا ،العمل
عىل وضع إطار عام للحركة يشمل خمتلف استحقاقات هذه املرحلة.
ولعل من أهم واجبات الوقت حال ًيا هي قضية االنشغال باملعرفة واالشتغال هبا
يف آن ،بام يشتمل عليه املعنى الواسع للمصطلح ،وعىل رأس ذلك قضية الوعي،
التي هي املعركة الكربى املطروحة اآلن أمام احلركة اإلسالمية.
وليس من نافلة القول أبدً ا ،أو من ترفيات احلركة والنشاط يف إطار املرشوع
الصحوي العمل يف االجتاه الذي خيدم قضية املعرفة عىل هذا النحو.
بداي ًة ،املعرفة تعني اإلدراك ،وهي من الوعي ،وتعني ً
أيضاوفهم احلقائق أو
اكتساب املعلومة ،والتعرف عىل الظواهر املحيطة باإلنسان ،وباجلامعة البرشية،
بمختلف الوسائل ،سواء العلمية منها ،من خالل التجربة ،أو من خالل أساليب
159
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الفلسفة ،مثل التأمل يف طبيعة األشياء ،وتأمل النفس ،أو من خالل اإلطالع عىل
جتارب اآلخرين.
وترتبط املعرفة بعدد من القضايا ذات الطابع الفلسفي والعميل يف آن ،مثل
البحث يف اكتشاف اآلفاق ،وتطوير الذات ،وتطوير تقنيات وآليات التعامل مع
مفردات العامل من حول اإلنسان.
وتعترب فلسفة املعرفة ،أحد فروع ومباحث الفلسفة الثالثة ،وهي بجانب املعرفة
أو "اإلبستمولوجي" ،األخالق أو "األنطولوجي" ،والوجود "اإلكسيولوجي"،
وتبحث فلسفة املعرفة يف ماهية املعرفة ووسائلها وتعريفها ،وتسعى لإلجابة عىل
ثالثة أسئلة رئيسية يف كل ظاهرة تسعى إىل معرفتها ،وهي :كيف حتدث ،ومتى
حتدث ،وملاذا حتدث ،وكذلك ضوابط احلصول عىل املعرفة.
ومن َث َّم؛ فإن املعرفة ،يف جانب منها بكثري من مفردات احلضارة اإلنسانية ،مثل
العلم ،واملعلومات ،وهي أهم مفردات احلضارة احلديثة ،يف عرص الثورة الصناعية
الثالثة ،الذي نعيشه اآلن ،والقائمة عىل أساس االستخدام املكثف للمعلومة ،بعد
قرون من االستخدام املكثَّف لآللة ولسواعد البرش ،يف حتقيق الرتاكم يف عملية
اإلنتاج ،والرتاكم احلضاري بشكل عام.
واملعرفة ،بالتايل ،أحد أهم مراتب التطور احلضاري ،وهي الوجه اآلخر هلذا
السمة األساسية للفعل احلضاري اإلنساين ،وهي
التطور ،فهي -يف طبيعتها -حتمل ِّ
الرتاكم ،بل إن املعرفة هي أحد أهم أوجه السمة الرتاكمية للحضارة اإلنسانية.
160
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وجمتمع املعرفة ،صار من أهم مفردات تقييم مدى تقدم وتطور أي جمتمع
إنساين يف عرصنا الراهن ،منذ أن وضعته األمم املتحدة ضمن قائمتها ملعايري التنمية
الشاملة ،بجانب قضية التنمية املستدامة ،التي تراعي اعتبارات سالمة البيئة التي
يعيشها اإلنسان.
وجمتمع املعرفة ،كأحد معايري التقدم احلضاري ومفردات التنمية ،ظهر ضمن
ثورة مفاهيمية شاملة اجتاحت العامل يف الثامنينيات والتسعينيات ،حددت معايري
جديدة لتقييم مدى تقدم املجتمعات اإلنسانية ،مثل احلداثة وما بعدها ،ومثل
قواعد احلكم الرشيد َ
واحل ْو َكمة ،وجمتمع املعرفة ،وبات أخذ املجتمعات اإلنسانية
حمتوى سيايس واقتصادي ،وجمتمعي وثقايف ،هو أحد حمددات
ً بام يف هذه األمور من
تقدمها احلضاري يف عامل اليوم.
معركة الوعي:
لو أننا ربطنا هذا الذي سبق كله باملعركة احلالية التي خيوضها اإلسالم السيايس
وخصوصا
ً احلركي ،بمختلف تياراته وألوان طيفه؛ لوجدنا أن قضية املعرفة،
باملعنى املرتبط بسؤال الوعي واإلدراك ،هي إحدى أهم الواجبات املفروضة حال ًيا
عىل احلركة اإلسالمية.
فقضية الوعي هي األولوية األوىل لضامن حركة الشعوب يف ركاب املرشوع
اإلسالمي ،وما ارتكاس رشائح من الشعوب العربية عىل املرشوع الثوري،
واملرشوع اإلسالمي ،إال نتيجة لغياب الوعي واملعرفة األصيلة احلقيقية بام جيري.
161
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن بني أهم املحتوى املطلوب الوصول إليه يف هذا السياق ،هو وعي األمة
الذايت هبويتها ،وبخصوصيتها ،وكذلك برسالتها.
فثمة مشكلة عمرانية كربى تعترب مسار األمة احلضاري يف وقت األزمة احلايل،
َّ
وهي مشكلة استنساخ جتارب األمم األخرى يف حياتنا السياسية واالقثصادية
واالجتامعية ،من دون مراعاة لطبيعة املجتمعات العربية واإلسالمية.
فهذه التجارب إنام هي نابعة من سامت هذه األمم اخلاصة ،ابتكروها وطوروها
وتبعا لطبيعة هذه املجتمعات وخصائص
بناء عىل احتياجاهتم يف خمتلف املجاالتً ،
شخصيتها ،فرادى وعىل املستوى اجلمعي العام ،وال يمكن ال يمكن بحال من
األحوال ،أن تتطابق بـ"املقاس" مع املجتمعات العربية واملسلمة.
بينام نحن لدينا جتارب سياسية ومؤسسية شديدة اخلصوصية ،يف احلكم النبوي،
وخصوصا يف عهد عمر بن اخلطاب ،ويف عهد عمر بن عبد
ً ويف اخلالفة الراشدة،
العزيز ،ويف وقت هارون الرشيد.
واألمم الكربى الناهضة يف الرشق ويف العامل الثالث ،أدركت ذلك ،لوعيها
بذاهتا ،فالصني واهلند ،ودول أخرى ،طورت نموذجها السيايس اخلاص ،واجتهت
لنموذجها اخلاص ً
أيضا يف التنمية ،وهو ما قادها إىل حجز مكاهنا يف تراتبية األمم
املتقدمة ،أو تلك التي هلا وضعية بني حضارات العامل وأممه ،اليوم.
وكحكم قاطع ُمستنبط من قوانني العمران البرشي ،وما جاء به القرآن الكريم
الس َّنة النبوية؛ فإن األمة ما دامت قد تنازلت -طواعية أو مكره ًة -عن
وصحيح ُّ
162
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
163
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ال يمكن بحال النظر إىل املرحلة احلالية من الرتاجع احلضاري التي متر هبا يف
سياقها املجتزأ الذي ينظر به البعض إليها؛ حيث يرتبط األمر بأبعاد أخطر وأعمق
وموضوعيا مما هو عليه األمر.
ًّ زمنيا
ًّ
مجيعا ،والسيام الطليعة التي
يقر يف وجدان وعقول أبناء األمة ً
وأهم ما جيب أن َّ
تعمل عىل إعادة حشد وتنظيم الصفوف ،وتوجيه اجلهد يف مواجهة هذه األزمات،
والتصدي لألخطار الداخلية واخلارجية؛ هو أن ما جيري ،إنام يتم يف إطار خمطط
دقيق تتضافر فيه جهود أطراف عدة ،من بني ظهرانينا ،وعرب البحار والتخوم ،من
أجل تعطيل السياق احلضاري لألمة.
ويمكن القول بكل اطمئنان إىل أن ما جيري جتاه األمة يف الوقت الراهن من
حروب ومؤامرات تستهدف هويتها وثرواهتا ووجودها ذاته ،إنام بدأت جذوره
األوىل منذ هنايات بعثة الرسول الكريم ،حممد ﷺ ،عندما بدأت احلروب
احلدودية بني الدولة اإلسالمية الوليدة ،وبني اإلمرباطورية الرومانية عند مناطق
التامس بني شبه اجلزيرة العربية ،وبالد الشام التي كانت حتت سيطرة الرومان يف
ذلك الوقت.
ومثل أي كيان استعامري؛ فإنه ً
دائم وأبدً ا ،ويف كل زمان ومكان ،ما جتد هلذا
الكيان االستعامري أعوان داخليون ،يساعدونه يف مقابل بخس الثمن.
164
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فمن العرب الغساسنة يف بالد الشام ،وحتى األنظمة املستبدة الفاسدة التي حتكم
منذ عقود طويلة ،خيط متصل ومتني من االرتباط والتشابه يف األدوار والوظائف،
ويف األثر كذلك.
ولعل فيام يف الفقرة السابقة ،أبلغ دليل عىل أن األمر عبارة عن خمطط متصل،
ومستمر إىل اآلن؛ حيث التشابه يف السياسات واألدوات ،يؤكد أن حماوالت
التعطيل احلضاري لألمة ليست وليدة اليوم ،أو حتى القر َن ْي التاسع عرش والقرن
العرشينَ ،
اللذ ْين شهدا االحتالل الغريب املبارش للعامل العريب واإلسالمي.
ويف حقيقة األمر؛ فإن استهدافنا كأمة هبذه املخططات ال يعني أن نتجاهل
بعض األمور املهمة فيها ،وأمهها أن هذا الذي جيري ،بسياقه التارخيي؛ إنام هو أحد
والسنَن التي وضعها اهلل عز وجل يف العمران اإلنساين يف احلياة الدنيا،
القوانني ُّ
وجزء منه يدخل يف إطار ُسنن التدافع وصعود وهبوط احلضارات ،واحلضارة
ٌ
اإلسالمية ليست استثنا ًء منها.
و"ليست استثنا ًء" هذه ،هي عبارة شديدة األمهية؛ حيث إهنا تضع األمة أمام
واجبات عديدة للتصدي هلذه املخططات ،والدرس أو العربة األبرز يف هذا الصدد،
هو أن إسالمك أو حتى إيامنك ،ال حيول بينك وبني قوانني وسنن اخلالق عز وجل،
وأن العربة بالعمل ،وليس باالنتامء.
وبالرغم من تعدد اآلليات التي حتتوهيا اسرتاتيجيات التعطيل احلضاري التي
تبناها خصوم األمة يف اخلارج ،وأعواهنم يف الداخل من أنظمة وقوى مرتزقة
مجيعا يف ثالثة سياقات أساسية.
ومنتفعني؛ إال أهنا تلتقي ً
165
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
السياق األول ،هو فصل األمة عن القرآن الكريم ،وينبثق من ذلك تعطيلها
أخالقيا ،وفصلها عن قيمها األساسية بمختلف وسائل القوة الناعمة ،ويشمل
ًّ
ذلك ،تعديل اهتاممات وأولويات األجيال اجلديدة ،من معايل األمور إىل سفيهها!
السياق الثاين ،هو تفتيت األمة ،وهو ما ال يعني التفرقة بني أبنائها وبعضهم
البعض فحسب ،وإنام ً
أيضا إيقاع العداوة والبغضاء بينهم وبني بعضهم البعض،
وإغراقهم يف آتون رصاعات بينية دموية ،تريق الدماء وهتلك احلرث والنسل،
وتبعد بني املسلمني وبني الوحدة التي هي أساس ومصدر القوة الرئييس ألي ٍ
كيان.
ويدخل يف ذلك ،نرش األفكار اهلدامة واملذاهب الغريبة ،وإشاعة روح القومية
والشعوبية ،وإحياء املذهبية والطائفية ،وتغذية رصاعات تارخيية ،تعود جذور
بعضها إىل مرحلة ما قبل ظهور اإلسالم يف شبه اجلزيرة العربية ،كام هو احلال
يف نثائية ُسنِّي /شيعي ،أو عريب /فاريس ،وغري ذلك مما اتصل ،حتى وصلنا إىل
مرحلة الرصاع بني مدينة وأخرى ،وقبيلة وأخرى ،وكأنام عاد بنا التاريخ إىل عهد
اجلاهلية.
نبينا ﷺ ،من ذلك ،وتوقعه ،عندما قال يف خطبة الوداع" :ال تعودوا
وقد حذر ُّ
ٌ
[متفق عليه]. ارا يرضب بعضكم رقاب بعض" من بعدي ُك َّف ً
السياق الثالث ،هو إفراغ األمة من إحساسها بانتامئها اإلسالمي اجلامع ،أو
بمعنى أدق تدمري فكرة املركزية اإلسالمية التي ظلت مسيطرة عىل النظام العاملي
يف العامل القديم ،ألكثر من ألف عام عام.
166
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويشمل ذلك دجمها يف النظام العاملي القائم – أ ًّيا كانت املرحلة التارخيية التي
دائم بعيدة عن انتامئها اإلسالمي ،وأن يقر تتحرك فيها – بحيث تكون بوصلتها ً
يف قناعة األجيال اجلديدة من أبناء األمة ،أن األمة جزء من نظام أكرب وأقوى
منها ،وأهنا هي والبلدان التي خرجت من عباءة الدولة اإلسالمية اجلامعة بعد
بمعنى أدق ،وأهنا
ً تفككها ،إنام تابعة هلذا النظام ،أو للقوى الكربى املسيطرة عليه
ال متلك حيل ًة يف أن تؤسس نظامها اخلاص ،أو تتحرك وفق ما تفرضه عليها هويتها
اإلسالمية األصيلة.
مهم فيام يتم يف إطار السيا َق ْي الثاين
نموذجا ًّ
ً ولعل يف مؤمتر الشيشان األخري،
والثالث؛ حيث إن املؤمتر بالرغم من أنه يعرب عن قضية إسالمية شديدة األمهية
الس َّنة واجلامعة؛ إال أنه تم برعاية النظام العاملي غري
واملركزية ،وهي تعريف أهل ُّ
املسلم ،ممث ً
ال يف أحد أقطابه ،وهو روسيا.
وقوى إسالمية
ً كام أنه تم يف إطار تقسيمي بحت؛ حيث إن جتاوزه لذكر السلفيني
أخرى هلا جذورها الضاربة يف املجتمعات املسلمة ،قاد إىل فتنة جديدة تضاف إىل
سلسلة الفتن واألزمات الداخلية التي ترضب بنيان األمة ومكوناته املختلفة.
وينبثق عن ذلك ،خمتلف صور إضعاف األمة ،بام يف ذلك احتالهلا احتال ً
ال
ً
مبارشا مرة أخرى ،كام تم مع العراق وأفغانستان ،وهنب خرياهتا ،ودعم األنظمة
املستبدة الفاسدة التي هلا أخطر األثر يف تنفيذ خمتلف أركان هذه السياقات الثالث،
من خالل جتهيل املجتمعات وجتريفها حضار ًّيا ،وإضعافها بحيث تكون سهلة
القياد ،ويكون من السهل احلفاظ عىل حالة السبات والتفكك التي هي عليه.
167
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لعل أهم ما ينبغي التأكيد عليه يف هذا اإلطار ،هو أنه خمطئ من يضع الوضع
القائم ضمن استجابات األمة ،ويتهمها بالتفصري؛ حيث إن ذلك احلكم خيلط ما
بني األنظمة احلاكمة وأثر سياساهتا عىل املجتمعات املسلمة ،وبني استجابة هذه
املجتمعات ،والتي هي أصل األمة ،بينام ال متلك األنظمة احلاكمة صفة التمثيلية
أي من أركان هوية األمة.
لألمة؛ باعتبارها مغتصبة للسلطة ،وال تعرب عن ٍّ
وتنقسم األمة ممثلة يف اإلنسان املسلم ،بني غالبية مطحونةُ ،م َّهلة ،وبني طليعة
مستنرية.
القسم األول ،جزء من مشكلته ال يمكن إلقاء اللوم عليه فيها ،حتى وإن
استجاب للحكومات واألنظمة يف مواجهتها مع القسم الثاين ،وهو الطليعة
املستنرية التي َّ
نظمت نفسها ،وبدأت تسعى إىل استعادة خريية األمة ،والتي عىل
رأس متطلباهتا ،اإلطاحة باألنظمة القائمة ،التي تقف حجر عثرة حقيقي أمام
الصحوة اإلسالمية.
ألن هذا القسم ،وهم من ملح األرض ،قد تعرضوا طيلة عقود طويلة إىل يشء
غري يسري من مساعي التجريف الفكري واملعنوي ،باإلضافة إىل اإلفقار القرسي
الذي أدى إىل لفت أنظار الشعوب عن أي يشء عدا البحث عن لقمة العيش.
ولقد كان لذلك أبلغ األثر يف إشعار أبناء األمة بالضعف أمام األنظمة ،مع
إحساسها باملذلة ،وبالتايل ،فقد انغرست فيها قناعة بعدم قدرهتا عىل أي فعل
168
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إجيايب ،ومن َث َّم استسلمت لسجانيها ،مع غياب القدرة عىل التمييز ما بني اخلبيث
والطيب فيام يعرض عليها من مواقف وأمور.
وهنا تربز مهمة الطليعة املستنرية يف الصرب عىل هكذا وضع ،وعدم اليأس من
عملية تغيري هذا الوضع عىل مستوى الشعوب.
ولعلها القضية املركزية التي نريد التأكيد عليها يف هذا املوضع؛ فمفتاح التغيري
احلقيقي يكمن يف تغيري الشعوب ،وتصحيح مفاهيمها ،وإبدال أولوياهتا من لقمة
العيش ،إىل التطلع إىل حياة أفضل واستعادة األدوار احلضارية لألمة ،وإيصال
حقيقة مهمة هلم مفادها أن هذا الوضع هو يف مصلحتهم قبل أي طرف.
فلو حدث واستعادت األمة خرييتها ودورها احلضاري؛ فإن أول املستفيدين
سيكون هم البسطاء والضعفاء الذين ترسق األنظمة احلاكمة حقوقهم وأقواهتم،
وجتعلهم يف معيشة من الذل ما بعده ذل ومهانة ،وأن استعادة األمة لعزهتا ،سوف
ينعكس عز ًة عليهم.
وأمهية هذا اجلهد – وهو ما تدركه األنظمة احلاكمة والقوى اخلارجية التي
ٍ
مدرك شديد املركزية يف هذا األمر ،وهو تعمل تعطيل األمة حضار ًّيا – يكمن يف
أن اجلامهري هي مفتاح التغيري احلقيقي ،وأهنا هي الوحيدة القادرة عىل التصدي
لآللة األمنية والعسكرية لألنظمة احلاكمة.
وال يمكن القول بأن احلالة يف سوريا عىل سبيل املثال ،ويف دول الربيع العريب،
يقول بعكس ذلك ،وأن الثورات الشعبية قد فشلت أمام قبضة األنظمة القمعية؛
169
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إطال ًقا ،فام حدث هو أن هذه األنظمة عىل إدراكها أهنا غري قادرة عىل التصدي
لشعب بأكملها؛ فإهنا عملت عىل تفتيت جبهته ،وسحب جزء منه من خلف
مرحليا ،يعود إىل
ًّ الطليعة الثورية املوجودة ،وبالتايل؛ فإن فشل الثورات العربية
أن الظهري الشعبي هلا تراجع ،وهو ما يؤكد مفتاحية دور الشعب يف عملية التغيري.
وهو ما تم يف اجلزائر فيام ُيعرف بالعرشية السوداء يف التسعينيات املاضية؛ حيث
إنه – ووفق شهادات موثقة من داخل الدولة اجلزائرية ذاهتا – فإن النظام الذي
يسيطر عليه اجليش اجلزائري ،عمد أول ما عمد إىل تنفري الرأي العام من احلركة
اإلسالمية من خالل منظومة متكاملة من اإلجراءات اهلدامة ،التي تم ربطها
باحلركة اإلسالمية.
..................
إن ما جرى يف السنوات املاضية من انتكاسات للمرشوع احلضاري اإلسالمي
والقوى املعربة عنه ،ومسارات الثورات ،ال ينبغي أن يمنع عن الطليعة احلركية
اإلسالمية من أن تستمر يف دورها يف صحوة الشعوب؛ فهذا هو أهم متطلبات
التصدي السرتاتيجيات التعطيل احلضاري لألمة.
فمتى استفاقت اجلامهري؛ فإنه ال يمكن ألية قوى أن تقف بوجهها!..
170
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُتعترب دولة اإلسالم األوىل يف املدينة املنورة ،املرجع األهم ألية طليعة إسالمية
تبحث يف األسس واألصول التي تقف عليها الرشيعة يف مسألة احلكم وإقامة
أركان دولة مستقرة وقوية ،قادرة عىل حفظ العمران ورد االعتداء ،وصو ً
ال إىل
الغاية األهم ،وهي الدعوة وإقامة عقيدة التوحيد ومتكني الرشيعة اإلسالمية يف
األرض.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك نقطة عىل أكرب قدر من األمهية ،فيام ليست هي
باملطروقة بالشكل الذي تستحقه هذه األمهية ،يف أدبيات احلركة اإلسالمية
التي تتناول قضية التمكني السيايس ،وقضية الدولة وشكل منظومتها السياسية
واالجتامعية ومرجعيتها ،سواء يف التأسيس أو عىل مستوى املرجعية الدستورية،
وهي قضية االستقرار املجتمعي والسيايس ،وكيف عاجلها اإلسالم يف أصوله
النقية.
وترجع أمهية قضية االستقرار السيايس واملجتمعي هذه إىل أهنا هي صلب انتظام
أي دولة وجمتمع ،وبالتايل قدرة الكيان بالكامل عىل االستمرار ،وهو ،حتى بجانب
أنه أحد ا ُمل َس َّلامت األساسية لعلم ال ُّن ُظم؛ فإهنا من البدهييات اإلنسانية والعمرانية يف
األصل؛ حيث ال يقوم أي بنيان إال عىل أسس قوية وسليمة.
171
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اختبارا من خالقها؛
ً وبام أن النفس البرشية قد ُجبِ َل ْت عىل الطمع ابتال ًء أو
فإنه من قوانني العمران السارية عىل اإلنسان إىل هناية الدنيا ،هي الرصاع ،سواء
الرصاعات الفردية ،أو الرصاعات بني اجلامعات املختلفة ،وصو ً
ال إىل رصاعات
الدول واألمم.
وتزيد احتامالت حدوث رصاع ما بني فرد وآخر ،ومجاعة وأخرى ،قانون
اقتصادي أسايس ،وهو قانون حمدودية املوارد؛ حيث تكون املوارد املهمة ،نادرة،
وبالتايل فإهنا تكون حمل رصاع بني املجموعات البرشية املختلفة.
وبالتايل؛ فإنه من أهم وظائف السلطة احلاكمة ،هي التوزيع العادل للموارد،
وإدارة العالقات بني الرشائح والفئات االجتامعية والقوى السياسية املختلفة،
بالشكل السليم الذي يضمن حتقيق االستقرار ،وتفادي حدوث اضطرابات.
ولكن من باب اخلطأ الواجب التصويب يف هذا املوضع ،احلديث عن "املوارد"
" ،"Resourcesباعتبارها "املوارد االقتصادية" " "Economic resourcesفحسب ،كام
يف التصور الذهني الشائع؛ حيث هناك "موارد سياسية" " ،"Political resourcesلو صح
التعبري ،ممثلة يف السلطة " ،"authorityواحلكم " ،"authorityوالسيادة "."sovereignty
ويف هذه احلالة؛ فإن الرصاع يكون أشد ،ويصل إىل مستويات دموية ،ألن
السلطة واحلكم ،والسيام يف املجتمعات االستبدادية ،هي مورد شديد الندرة لو
نادرا فحسب.
صح التعبري ،وليست مور ًدا ً
172
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
173
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن بني الدراسات املفتئتة التي صدرت يف السنوات األخرية ،وراجت بشدة
عن هذا األمر ،دراسة بعنوان "التعبري الديني عن الرصاع االجتامعي يف اإلسالم"،
ال األزمات والرصاعاترد أص ً
للكاتب التونيس املاركيس ،مصطفى التوايت ،وفيه َّ
فرتت فجر وصدر اإلسالم ،إىل الدين نفسه ،وذهب إىل أنه قد تم
التي قامت يف َ ْ
"اخرتاع" الدين اإلسالمي كتعبري عن رغبة طرف يف السيطرة عىل باقي األطراف
املتصارعة يف شبه اجلزيرة العربية.
وباإلضافة إىل أنه طرح ماركيس واضح ،والذي يف الغالب ما يضع البحث عن
املنفعة املادية كأحد أهم التفسريات للحدث التارخيي ،والرصاعات اإلنسانية؛
فإن فيه جتاهل واضح لألحداث التي وقعت يف الفرتة الوحيدة يف األصل التي
ُتعترب سندً ا ِّ ً
معبا بشكل مبارش عن اإلسالم وتعاليمه ،يف املجاالت السياسية
واالجتامعية والثقافية ،وكل جماالت النشاط والتفاعالت البرشية األخرى ،وهي
فرتة البعثة النبوية ،والكيفية التي تعامل هبا الرسول الكريم ﷺ ،كرجل دولة ،يف
الفرتة املدنية من البعثة ،مع ما كان ً
قائم يف املدينة املنورة من رصاعات بني املكونات
السياسية واالجتامعية املختلفة.
ملحة تاريخية:
بالرجوع إىل التاريخ؛ فإننا نقف أمام هذه الظاهرة ،التي كانت من أهم الظواهر
التي نزل اإلسالم وهي قائمة يف جمتمع البعثة النبوية ،وهو شبه اجلزيرة العربية؛
ظاهرة الرصاع االجتامعي املنبني عىل أسباب سياسية واقتصادية ،وليس دينية.
174
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
جمتمعا ً
قائم عىل وحدة أساسية ،وهي ً فوقت البعثة ،كانت شبه اجلزيرة العربية
القبيلة ،وكانت العصبية القبلية هي األساس الذي تتحرك وفقه القوى املختلفة
التي كانت موجودة يف جمتمع شبه اجلزيرة العربية.
ولكن ،وبجانب نقطة العصبية؛ فإن العالقات بني القبائل حكمتها الكثري من
االعتبارات والبواعث السياسية واالقتصادية ،مثَّلت إما نقطة توازن للقوى ،أو
ً
حمركا حلالة من الرصاع االجتامعي والسيايس يف حينه.
وربام كان هذا أكثر ما يبدو يف احلوارض الكربى يف جزيرة العرب يف ذلك الوقت،
وخصوصا مكة واملدينة وهتامة وممالك الغساسنة واحلرية.
ً
ففي هذه املناطق ،كانت التنافسية عىل أشدها يف صدد امتالك عنارص القوة
الشاملة باملفهوم املعارص هلذه العبارة ،يف علوم النظام السياسية ،والتي من صميم
شأهنا دراسة ظاهرة الدولة.
فعىل سبيل املثال ،اكتسبت "قريش" يف مكة املكرمة؛ أمهيتها وسطوهتا بني قبائل
العرب كافة ،بسبب سيطرهتا عىل بيت اهلل احلرام ،وما اتصل به يف عرص اجلاهلية
من منافع اقتصادية ،مثل خدمة احلجيج ،ورعاية األصنام من حول الكعبة ،وجتارة
احلبوب ،وغري ذلك.
ويف بعض األحوال ،كانت هناك قبيلة واحدة ،تسيطر عىل مكان ذي أمهية ،كام
يف حالة قريش ،بينام يف حاالت أخرى ،كام يف "الياممة" و"يثرب" – قبل أن تتحول
رش َف ْت هبجرة الرسول الكريم ﷺ إليها – كانت هناك أكثر
إىل املدينة املنورة بعد أن ُ
175
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من قبيلة قوية ذات مال رجال ،ونفوذ ومنعة ،تسكن يف ذات املكان ،أمهها كانت
قبيلتي األوس واخلزرج.
والرصاع بني القبلت َْي كان ً
قديم ،وكان معقدً ا؛ حيث كانت فيه ثارات دم،
بجانب العصبية القبلية ،والرغبة يف السيادة عىل "يثرب".
بني الشرعي والسياسي ..املنظومة النبوية يف إدارة ومعاجلة املوقف:
176
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فهو قد َع ِمد إىل توحيد النفوس عىل األمر اجلامع الذي له قدسيته،
بمرجعيته الربانية التي ُجتب أي اعتبار دنيوي آخر؛ سيايس أو اجتامعي ،أو غري ذلك.
وهو ذات السند الذي استند إليه الرسول الكريم ﷺ ،عند هجرته؛ حيث إنه
كان يعلم بحكم النشأة واهلوية ،وكذلك بحكم الوحي اإلهلي ،أن طبائع البرش
إنام تغلب عليها األهواء والنوازع ،مع عدم ُّ
متكن اإليامن بالكامل بعد من نفوس
األنصار ،وبالتايل؛ فهو توقع أن حتدث غرية يف نفوس أهل املدينة من املهاجرين،
الذين هم كذلك من قبائل وعشائر كانت منافسة وربام معادية ،يقتتلون فيام بينهم
حتى وقت قريب.
فقام ﷺ باملؤآخاة بني املهاجرين واألنصار ،وهي مؤاخاة باملعنى الرشعي،
وليس باملعنى الودي املجازي؛ حيث تشارك اجلميع يف املرياث وغري ذلك من
أخوة العصب ،مثلام حكم ُ
اهلل تعاىل بأن زوجات الرسول ﷺُ ،ه َّن أمهات حقوق َّ
للمؤمنني؛ حيث أدى ذلك إىل حكم حتريم زواج املسلم بأي زوج من زوجات
النبي ﷺ بعد وفاته ،بمنطق حتريم زواج االبن بأمه.
ولقد ظل ذلك الوضع ً
قائم حتى نزلت آية "األحزاب" ،التي يقول فيها اهلل
تعاىل ﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤﯥ ﯦﯧﯨ ﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯ
ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؛ حيث عادت
األمور إىل نصاهبا األول ،بعد استتباب األوضاع السياسية واالجتامعية يف املدينة
لدولة اإلسالم األوىل بقيادة الرسول ﷺ.
177
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
178
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
179
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
متر احلركة اإلسالمية يف الوقت الراهن بموقف معقد ،فرضته عليها االرتكاسات
التي حصلت عىل ثورات الربيع العريب ،والكيفية التي حصلت هبا هذه االرتكاسات،
وخلفياهتا؛ حيث شمل ذلك عمليات قتل ومصادرات وجرائم أخرى ،قامت
هبا أطراف داخلية وإقليمية ودولية ،وامتدت وتشعبت هذه احلرب ،لكي تشمل
اإلساءة إىل اإلسالم نفسه.
قادت هذه األمور إىل عواقب وخيمة عىل املرشوع اإلسالمي احلضاري ،بال
شك ،وصورته أمام اآلخر ،ومع تصاعد العمل األمني والعسكري من جانب
األنظمة واحلكومات ضد اإلسالميني ،والتي وصلت إىل صورة احلرب الرصحية
املسلحة؛ فإن الكثري من القناعات تغريت لدى أجيال كاملة من شباب ورجال
احلركة اإلسالمية ،ونسائها ،بحيث مالت إىل فكرة التطرف ،وتأييد سلوك
العنف.
حتول ذلك إىل ممارسة حقيقية من جانب البعض يف الغرب ،ضمن تبعات
ملف اهلجرة الرشعية وغري الرشعية من العامل العريب واإلسالمي ،إىل أوروبا
واألمريكت َْي ،وهو ما زاد وفاقم من أزمة املرشوع؛ حيث ُتعترب الصورة الذهنية هي
املفتاح أو القفل ،الذي يوضع عىل باب أية دعوة أو مرشوع سيايس أو أيديولوجية
فكرية؛ حيث هي يف األساس – هذه الدعوة واحلراك اخلاص هبا – عبارة عن
حماوالت لتغيري قناعات ،ولن يوجد من يغري قناعاته إىل ما يتصوره أمر أسوأ مما هو
180
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يؤمن به من فلسفات أو عقائد أو أديان؛ حيث جيب أن يكون اجلديد هذا بالنسبة
له "أفضل".
و"أفضل" هذه ترتبط بمدى حتقيق الفكرة أو الدعوة اجلديدة ملجموعة من
االعتبارات واالشرتاطات ،من أمهها أن تتفق مفردات هذه الفكرة أو األيديولوجيا
اجلديدة أو الدين اجلديد ،مع فطرة اإلنسان ،وحتقيقها ملقاصد خلقه ،ومتطلبات
حياته ،وقواعد العمران والتطور احلضاري ،حتى عىل املستوى املجتمعي أو
الفردي الصغري.
وهذا جاء به اإلسالم ،فاإلسالم جاء لكي حيفظ للناس حياهتم وأعراضهم،
وضامن حقوقهم إزاء اآلخرين ،وإزاء بعضهم البعض ،كام أنه جاء بام يؤكد أن
احلياة واإلصالح وإعامر األرض ،هي ُسنن اخللق اإلهلي األصلية ،وليس كام يروج
البعض ،من رضورة اهلدم ،مع عدم طرح أي بديل لذلك اهلدم ،بحيث إن غري
املؤمن باإلسالم ،ومفرداته ،مثل اجلهاد ،وهذه األمور؛ لن ِ
يقدم عىل اإليامن به،
حتى لو افرتضنا – خطأ وحاشا هلل – أن الدين اإلسالمي يدعو إىل اخلراب واهلدم
ألجل العقيدة أو كذا.
شخصا
ً وتزداد وطأة ذلك يف املجتمعات العلامنية والليربالية؛ حيث لن تقنع أبدً ا
ينتمي ملذهب املنفعة الفردية ،ويقدم مصاحله عىل حساب انتامئه الديني ،بأن يقبل
أفكارا كاجلهاد ألجل العقيدة أو ما شابه ،قبل أن يدخل اإلسالم عن اقتناع ،وذلك
ً
من خالل مفاتيح العمران واإلصالح أو ً
ال.
181
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومبدأ "مل نؤ َمر بقتال بعد" واضح متا ًما يف فقه تعامل الرسول الكريم ﷺ ،مع
املواقف واألحداث يف سنوات البعثة األوىل ،وكل ما جاء به الرسول "عليه الصالة
والسالم" ،واجب األخذ به يف هذه احلاالت؛ باعتبار أنه حيمل ترشيعات وقواعد
اإلله وتعاليمه ،إىل البرش ،وال ينطق عن اهلوى.
بدعا من قوانني وسنن العمران ،فشاءت إرادة اهلل تعاىل وحكمته
واإلسالم ليس ً
بمعنى أدق ،عىل الدعوة والداعني إليه ،أفرا ًدا وحركات،
ً البالغة أن ترسي عليه أو
دعا ًة وساسة وعلامء ،القوانني العمرانية املختلفة؛ فليس ألنه اإلسالم ،الدين الذي
ارتضاع اهلل تعاىل لعباده ،أو ألنك مسلم؛ يوضع لك القبول؛ حيث البد من تفعيل
القوانني الالزمة لتفعيل هذا القبول ،والبد من معارك ،وما شابه لذلك.
وقبل االسرتسال؛ َث َّمة مالحظة مهمة ها هنا ،وهي ال يوجد معنى ألن
يقوم بعض املنتمني إىل احلركة اإلسالمية الصحوية ،التي حتمل رسالة اإلسالم
احلضاري ،بالتحول الفكري والسلوكي عند العوارض واألزمات؛ ألنه من
املفرتض أن الرتبية التي تلقوها يف املحاضن الرتبوية ،تؤكد عىل أن كل ذلك متوقع،
وتؤكد عىل رضورة الصرب واالحتساب ،وامليض ُقدُ ًما يف املرشوع.
وبالعودة إىل هذا الذي نقول؛ فإن اإلسالم ليس دينًا باملعنى القريب فحسب،
أي العقائد والعبادات وكذا؛ إنام هو طريقة تفكري شاملة ،وتصور للكون وقوانينه،
ألن واضع هذا الدين ،هو خالق هذا الكون ،وبالتايل؛ سيضع – بحكمته البالغة –
رشيعة تصلح للتواؤم مع القوانني والقواعد التي خلق هبا الكون ،متا ًما مثل اجلاذبية
ورسعة الضوء وكذا؛ جتاوزها مستحيل وإن تم ،يعني االحرتاق والفناء للمخلوق.
182
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لذلك ،ليس وجهة نظر أو مبالغة أن نقول إن االلتزام بقوانني احلركة وقواعد
علم ْي االجتامع واالجتامع
العمران البرشي ،والتي تأصلت يف عرصنا احلديث يف َ
السيايسُ ،تعترب من لن نقول أركان اإليامن ،ولكن عىل األقلٌ ،
وجه من أوجه الفهم
الصحيح حلقيقة هذا الدين ،وحقيقة رب العزة سبحانه.
فمن بني أهم أركان فهم اإلسالم ،هو فهم قوانني اخللق اإلهلي واتباعها يف
الفعل واحلركة ،واإليامن هبا مهم ،واألهم من ذلك إدراكها ألن يف ذلك مصلحة
اإلنسان ،ألن القوانني الربانية التي حتكم الكون واحلياة اإلنسانية ،مفروضة ً
فرضا
عىل اإلنسان وكافة املخلوقات ،وال يمكن جتاوزها بحال ،سواء آمنت هبا أم ال،
ٌ
شكل من أشكال القضاء والقدر اإلهل َي ْي الواجب علينا أي اهنا بصورة أو بأخرى،
التسليم هبا ،والتعامل معها وبموجبها.
إ ًذا ،املسلمون – واحلركة اإلسالمية َأ ْو َل بذلك ،باعتبار أهنا طليعة األمة –
مطالبون يف حراكهم باخلضوع لقوانني العمران ،والعمل هبا ،ألنه من دون ذلك؛
يكون املسلم واملرشوع برمته،عرضة خلطر الفناء.
واإلسالم هو أكرب صاحب أكرب حركة تغيري شهدها التاريخ ،ومثَّل انتشاره
ثورة يف العقيدة والفكر ،ويف السياسة كذلك؛ حيث قاد إىل ظهور دولة جديدة يف
شبه اجلزيرة العربية ،غريت وجه العامل القديم كله ،واإلسالم جاء ليحرر اإلنسان
من عبودية غري اهلل؛ فلامذا -إ ًذا -ال يقبل املسلمون اآلن هبذه الطبيعة احليوية هلذا
الدين؟! ،ويتعلمون من تضحيات جيل التأسيس األول ،الذي حتمل ما مل يتحمله
برش ،وأرصوا – يف املقابل – عىل الثبات عىل املبدأ ،مهام كان ِع َظم األمل!..
183
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومعان غائبة
ٍ السيرة النبوية في السياق المجتمعي ..معالم
تأيت السرية النبوية كأحد أهم روافد الرشيعة اإلسالمية ،باعتبارها جزء ال
الس َّنة النبوية التي هي املصدر الثاين الذي يأخذ عنه املسلمون رشعتهم
يتجزأ من ُّ
وأحكامها ،بعد القرآن الكريم.
ويف هذا اإلطار؛ نالت السرية النبوية من الدَّ ْرس والتناول يف كتابات العلامء
ِّ
واملفكرين املسلمني عرب القرون املاضية ،وحتى عرصنا الراهن ،ما يتفق مع وزهنا
وأمهيتها هذه.
إال أن هذا االهتامم رافقته بعض األمور التي مل تفسح كثري املجال لالستفادة من
السرية النبوية يف املجال االجتامعي عىل وجه اخلصوص.
ومن بني ذلك ،اهتامم علامء املسلمني املتقدمني واملتأخرين باحلديث النبوي
دس عمدً ا أو بغري ٍ
عمد ،والسيام الرشيف وتصحيحه وتنقيته مما حاوله البعض من ٍّ
ما حاوله بعض اليهود ،فيام يدخل يف بند "اإلرسائيليات" ،أو قامت به بعض
الفرق واملذاهب ،مثل الشيعة ،يف إدخال بعض النصوص عىل النبي ﷺ ،لتعضيد
سياسيا بد ًءا من القرن السادس عرش امليالدي.
ًّ بعد األمور املذهبية ،والتي اس ُت ِغ َّل ْت
انتشارا وشهرة ،وقيم ًة
ً وبمراجعة عناوين كتب الرتاث اإلسالمي األكثر
علمية؛ فإننا نجد أن الكتب التي كانت تتناول السرية النبوية؛ وقفت عن سرية ابن
هشام ،وسرية ابن إسحق ،و"الرحيق املختوم" للمباركفوي ،فيام مل تتم إنتاجات يف
184
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا املجال بنفس عمق وختصص كتب احلديث النبوي والفقه يف املذاهب األربعة
الس َّنة واجلامعة.
ألهل ُّ
أما يف عرصنا احلديث؛ فقد َّ
ركزت أدبيات الصحوة اإلسالمية احلديثة واملعارصة
عىل بعض األمور التي وجدهتا أولوية أكثر من غريها يف جمال دراسة السرية النبوية،
مثل الرتيبة احلركية ،أو ما يتعلق باجلهاد وبناء الدولة ،وهي نقاط حساسة؛ حيث
واضحا
ً إن أكثر ما ُينال منه اإلسالم من جانب خصومه ،هي نقطة أنه مل حيدد شك ً
ال
من أشكال احلكم ،أو َّ
نظم شؤون السياسة بشكل واضح.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك منط ًقا ًّ
مهم يفرض البحث يف السياق املجتمعي يف
والس َّنة النبوية الرشيفة بشكل عام ،بصورة أكرب من الرتكيز عليه يف
القرآن الكريم ُّ
اجلوانب السياسية واحلركية.
وهذا املنطق يتعلق بأن املعركة إلعادة إحياء وبعث اإلسالم يف نفوس أتباعه،
إنام تتأصل باملامرسة االجتامعية ،ولو تأصل اإلسالم يف املجال األخالقي ،النفيس
والوجداين ،ويف التطبيق العميل السلوكي عىل األرض ،والذي يشكل املجتمع
بوتقة اإلطار اجلمعي له؛ فإنك لن تكون بحاجة إىل أي إطار َّ
منظم لفرض اإلسالم
ً
حارضا يف كل يف املجال السيايس ،أو املجال االقتصادي؛ ألن الدين سوف يكون
أمر الناس ،فرادى وجمتمع.
ويف علوم االجتامع ،ومنها علم االجتامع السيايس والنظم واإلدارة؛ فإنه من
ومعب
ِّ املعروف أن منظومة السياسة واحلكم؛ إنام هي تكون من صميم املجتمع،
عن ثقافته وطبيعته.
185
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذا حتى واضح يف طبيعة النظم السياسية التي استقرت هنا وهناك يف العامل،
يف أكثر من مرحلة تارخيية؛ فاألنظمة االستبدادية تنترش يف املجتمعات األبوية ذات
الطابع التقليدي املحافظ ،كام يف املرشق ،أو يف املجتمعات التي كانت تسيطر عليها
الكنيسة وقت أن كانت أوروبا يف مرحلة احلكم البابوي.
أما األنظمة التي تتبنى الديمقراطية السليمة ،فإهنا تظهر يف املجتمعات التي
وتعل من مبدأ
ِ تكون عىل شكل معني من االنفتاح والتمكني لقيم احلرية الفردية،
حقوق املواطن ،وهو ما ينعكس يف املجال السيايس يف صورة ممارسة انتخابية،
وهكذا.
وبالتايل؛ فإننا نقف هنا عىل مفتاح شديد األمهية لكنه مهمل إىل حدٍّ ما يف عملية
البناء اإلسالمي ،للدولة واملجتمع ،وهو متكني السرية النبوية يف املجال املجتمعي.
ويف حقيقة األمر؛ فإنه حتى عىل مستوى الوزن النسبي يف املجال الزمني
واملوضوعي للسرية النبوية؛ فإنه ،ومن خالل مصادر السرية النبوية املوثوقة؛ لو
ِق ْسنَا بشكل تقريبي ،الزمن الذي قضاه الرسول الكريم ﷺ يف جمال الغزو والسياسة
وما اتصل بذلك؛ سوف نجد أن حياته عليه الصالة والسالم العادية كإنسان؛ زوج
الغ َل َبة.
وأب وصديق وكذا؛ هي األصل وهلا َ
والسرية النبوية فيها الكثري مما يضبط املشكالت األخطر التي متر هبا املجتمعات
املسلمة يف وقتنا الراهن يف املجال املجتمعي ،مثل العنوسة ،واخلالفات الزوجية،
والطالق ،والغش يف املعامالت بني الناس ،يف املجال التجاري واملجال املجتمعي
بشكل عام.
186
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وكثري من األمراض التي نقرأ عنها يف جمتمعاتنا العربية ذات الغالبية املسلمة، ٌ
هناك معاجلات كاملة هلا يف السرية النبوية ،وبشكل يمكن أن يؤسس حلالة اجتامعية
ِ
املعاص. خمتلفة متا ًما َّ
عم نراه اآلن يف واقعنا
فهو – عىل سبيل املثال باعتبار أن هذا األمر هو أكرب مشكالتنا املجتمعية – كان
يزوج الناس بمه ٍر بسيط أو حتى بآية من القرآن الكريم ،ومل تذكر السرية النبويةِّ
املرب واملع ِّلم بني
كحل للمشكالت الزوجية ،وكان يقوم بدور ِّ ٍّ أنه أيد الطالق
أصحابه ،وبني مجاعة املسلمني بشكل عام ،بحيث تنتفي املشكالت التي نجدها قد
تفشت بني ظهرانينا اآلن من خالفات ومشاحنات أوصلت جرائم الرسقة والقتل َّ
واالغتصاب إىل مستويات فلكية يف املجتمعات العربية واملسلمة.
أسست تربيته ﷺ للمسلمني البيئة الفكرية وغرست التصورات العقلية ولقد َّ
التي تؤهل املجتمع لقبول ذلك وغريه ،من خالل نز ٍع ألفكار الزخرف وإعالء
املادة الرخيصة عىل حساب القيم األخرى احلقيقية األهم ،واملتعلقة بمفاهيم
دور اإلنسان يف الدنيا واملطلوب منه فيها ،وواجبات املسلم وما إىل ذلك ،والتي
أمورا أخطر وأكرب من االنشغال بجمع املال ألجل الزواج أو التدليس يف
تتضمن ً
املعامالت ،وما شابه من أمور.
باإلضافة إىل التأكيد من األصل عىل ما قاله القرآن الكريم يف أكثر من موضع ،من
أن احلياة الدنيا متاع ،وزائلة ،واألهم هو اإلعداد لآلخرة ،وبالتايل؛ تكون العبادة
واألخالقيات السوية ،هي معايري تقييم اإلنسان ،وليس املادة ،مع التأكيد بطبيعة
احلال عىل رضورة العمل لكسب العيش واحلياة بالكرامة التي تليق باإلنسان كام
خلقه اهلل عز وجل.
187
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إن َهديِه ﷺ يف الكثري من األمور التي تستعىص علينا يف الوقت الراهن؛ هلو من أهم
ما يمكن إلقامة دولة إسالمية موحدة تسود العامل حضار ًّيا من جديد؛ حيث املجتمع
املسلم هو أعقد وأهم مراحل الوصول إىل حتقيق مستهدفات املرشوع اإلسالمي.
وهذه العقدة يفهمها خصوم األمة أكثر من األمة نفسها؛ فهم يلعبون عىل
إفشال القيم اإلسالمية – والسرية النبوية مصدرها التطبيقي األهم لكونه األشمل
واألوضح – يف املجتمعات املسلمة ،من مستوى الفرد واألرسة ،وحتى املجتمع
بشكل عام.
وبالتايل؛ فإننا بحاجة إىل أعامل أكثر عم ًقا وشمو ً
ال للسرية النبوية يف املجال
املجتمعي بمعناه الواسع الذي يشمل األخالق والسلوك ،والرتبية املفاهيمية
املتعلقة بالصواب واخلطأ ،أو الرتبية املعيارية ،وصو ً
ال إىل النواحي التطبيقية
املشكالت املجتمعية ودقائقها وكيف كان يعاجلها الرسول ﷺ ،مما يتضمن طائفة
واسعة من املشكالت املزمنة التي تعانيها جمتمعاتنا يف الوقت الراهن.
إن معاجلة األمور واملشكالت العادية اليومية ،هي ما يصنع األرضية الراسخة
التي تنهض عليها كل معايل األمور التالية؛ فال يمكن احلديث عن بناء من دون
أساسات متينة ،أو الوصول للعمل من دون ركوب وسيلة مواصالت ،وكلها من
البدهييات املنطقية التي بحاجة إىل جهد متخصص وشامل ألجل الوصول هبا إىل
عموم املسلمني.
188
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إن إطالة التد ُّبر يف كتاب اهلل تعاىل؛ مما يدرك معه اإلنسان أنه أمام معجزة حقيقية،
حمتوى مقروء فحسب؛ وإنام
ً وأنه من لدن حكيم عليم؛ حيث ال نجد أنفسنا أمام
أمام أداة عملية هلا الكثري من اخلصائص والتأثريات التي تتجاوز مفهوم الكتاب
نص مكتوب.
والصحائف الذي يتبادر إىل الذهن عند احلديث عن ٍّ
فالتعامل مع النص القرآين مفيد يف أكثر من اجتاه؛ حيث ال يتعلق األمر
فحسب بصحائف تضم تعاليم اهلل تعاىل ورشيعته اخلامتة ،وعربات وعظات من
قصص السابقني ،أو نظرة استرشافية مستقبلية عىل الدنيا وما تبقى منها ،واآلخرة
وأحداثها ،عىل أمهية ذلك بطبيعة األمر ،ولكنه ً
أيضا ُيعترب أداة عىل أكرب جانب من
األمهية يف تطوير اإلنسان.
فالقرآن الكريم إنام هو الكتاب الذي حيدد للمسلم بوصلته يف هذه احلياة ،وهو
أمر قد ننظر إليه عىل أنه أمر بدهيي ،ولكن لو اطلعنا عىل الفلسفات الوضعية،
يؤرق املعتقدين يف هذه
والديانات األخرى؛ لعلمنا أن هذا األمر من أكثر ما ِّ
الفلسفات والعقائد ،هو غياب بوصلة التوجيه هذه.
وهذا األمر قد يصل حتى ببعضهم ،برغم أهنم قد يكونون من أبناء جمتمعات
متقدمة يف املجال املادي واملجتمعي ،إىل االنتحار ،بسبب إحساسهم بعبثية وجودهم
يف هذه احلياة ،وعدم وجود ما يرشدهم فيها إىل حقيقتهم وحقيقة دورهم.
189
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذا األمر متصل بمهمة شديدة األمهية أرادهتا حكمة اخلالق عز وجل من
كتابه العزيز ،وهي تطوير تفكري اإلنسان.
وهذه املسألة ال ترتبط باملعنى القريب عند حديثنا عن "تطوير تفكري اإلنسان"،
بالشكل الذي يتبادر إىل الذهن عندما نقول هذه العبارة التي ترتبط بعامل التنمية
البرشية ،وإنام األمر أكرب وأعمق بكثري من ذلك.
فعندما نقول إن القرآن الكريم من بني أهم أدوات تطوير قدرات اإلنسان
عىل التفكري؛ فإن ذلك يمتد لكي يشمل – كام تقدم – مسألة فهم اإلنسان لذاته،
وحلقيقة دوره يف هذه احلياة ،وما عليه من واجبات فيها ،يف العبادة وإعامر األرض،
ضمن رسالة االستخالف والعمران التي ألجلها ُخ ِلقَ ونزل إىل األرض.
طبعا يتضمن أهم األمور عن معرفة خالقه عز وجل ،وطالقة قدرته، وهذا ً
ومعرفة اهلدف من خلق هذا الكون ،وهذه كلها قضايا معرفية َح ِفل هبا القرآن
الكريم.
وتنقلنا هذه النقطة إىل قضية شديدة األمهية ،وهي الطبيعة املعرفية للقرآن
الكريم ،أي النص القرآين كمصدر للمعرفة؛ حيث حفل بالكثري من احلقول
املعرفية؛ التارخيية ،والعلمية ،ويف جمال العمران واالجتامع ،وحتى يف اإلدارة
والسياسة باملفاهيم املعارضة.
كذلك يف القرآن الكريم ،نجد الكثري والكثري من النامذج املعرفية التي تتناول
أمورا
ً بالدليل العقيل – وهنا وجه كبري من أوجه معجزة اهلل تعاىل يف كتابه -
190
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
191
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولو وضعنا أمام أعيننا النموذج العلمي التجريبي يف التفكري ،والذي يقوم عىل
أساس خطوات حمددة ،تبدأ بتحديد املشكلة وتوصيفها ،ثم وضع احتامالت عنها،
وفرضيات خمتلفة ملعاجلتها ،وجتريب ٍّ
كل منها ،قبل الوصول إىل العالج النهائي؛
فإننا سوف نقف أمام القرآن الكريم لكي نجد أن ذلك كله موجود فيه.
ففي املسائل الفقهية املختلفة؛ فإن العلامء يقفون أمام النصوص الرشعية بنفس
هذه الصورة ،وكذلك أمام أي نص ليس قطعي الداللة يف كتاب اهلل تعاىل؛ فإن
هذه املنهجية هي املعتمدة من جانب العلامء يف دراسة مثل هذه النصوص.
والقرآن الكريم يف سياق املفاهيم املختلفة ملعنى "التفكري" الذي هو عملية عقلية
ترمي إىل الوصول إىل نتائج غري معلومة من معطيات معلومة وغري معلومة ،مثل
التفكري اإلبداعي ،والتفكري االبتكاري؛ فإننا نجد أهنا كلها أنامط قائمة يف النامذج
املعرفية التي جاء هبا القرآن الكريم ،أو يف األدوات الالزمة للتعامل مع نصوصه
ألجل تفسريها ،واستخالص األحكام الرشعية منها.
ولعل أهم أنامط التفكري التي يقول هبا العلامء ،مثل ديوي وويتيدج ،وهو نمط
التفكري التحلييل ،ونمط التفكري النقدي؛ فإننا نجدها متصلة بشكل كبري بالنص
القرآين.
فالتفكري النقدي ،باعتبار أنه صور من العمليات الذهنية التي متكن اإلنسان من
تقييم النتائج التي توصل إليها ،ووضعها يف ميدان املوازنة بني الصواب واخلطأ،
نص يف القرآن الكريم.
هو من أهم ما يكون يف تقييم نتيجة ما لقراءة حكم أو ٍّ
192
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أما التفكري التحلييل الذي يرد كل يشء إىل عوامله األصلية األساسية أو األولية؛
هو يف األصل منهج القرآن الكريم يف دعوة اإلنسان إىل معرفة حقيقة اخلالق وحقائق
اإليامن والكون ،وغري ذلك من األمور األهم يف حياتنا ،والتي هي يف األصل ع َّلة
خلق اإلنسان والكون والدنيا كلها.
...............
ويف النهاية؛ فإن كل ما سبق؛ إنام هو عناوين عامة فقط ألمور كثرية ،وتفصيالهتا
معمقة ،ولكن أهم ما يمكن اخللوص إليه يف هذا الصدد ،هو بحاجة إىل دراسات َّ
أننا بحاجة إىل إعادة اكشاف القرآن الكريم ،باعتبار أنه ٌ
كون أكرب بكثري مما ينظر إليه
البعض ،حتى من املسلمني الذين ال يعرفون أن بني أيدهيم مصباح اهلداية الوحيد
هلم يف هذه الدنيا بكل تعقيداهتا والتباساهتا.
193
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تتميز األنظمة التي جاءت هبا الرشيعة اإلسالمية ،يف خمتلف املجاالت؛ السياسية
واالجتامعية واالقتصادية ،وغريها ،بأكثر من سمة ،من أمهها الشمولية ،بجانب
التداخل وتنوع املحتوى لكل قيمة وممارسة جاء هبا اإلسالم.
وهذا التداخل والطبيعة املتعددة ،هو أحد ملحات حكمة اهلل تعاىل البالغة؛ حيث
نسبيا من القواعد الناظمة ،ولكنها شديدة العمومية،
ال ًّوضع يف الرشيعة ،عد ًدا قلي ً
ألجل حتقيق رشط صالحية الدين لكل زمان ومكان.
ونقف يف هذا املوضع أمام ممارسة ،دأبت األدبيات املرتبطة باحلركة اإلسالمية،
وبالفكر اإلسالمي بشكل عام ،عىل تصنيفها ضمن أركان النظام السيايس يف
املسلم ْي،
َ اإلسالم ،بينام هي من أهم أركان املنظومة االجتامعية يف األرسة واملجتمع
وهي الشورى.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك بعض اإلشكاليات يف تناول األدبيات الفكرية
اإلسالمية هلذه القضية.
فربام كانت معركة اإلسالم واحلكم ،هي أصعب معارك املرشوع احلضاري
اإلسالمي الوسطي ،باعتبار أن احلكم ليس مطلو ًبا يف حد ذاته ،وإنام هو األداة
األهم لتمكني قيم الرشيعة اإلسالمية ،وإقامة عقيدة التوحيد.
ولكن األهم ،كام يرى كثريون يف أوساط الفكر اإلسالمي واحلركة اإلسالمية؛
فإن إقامة احلكم الذي حيتكم إىل اإلسالم والرشيعة اإلسالمية؛ إنام أساسه هو
194
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ترسيخ القيم اإلسالمية عىل مستوى الفرد واملجتمع؛ حيث وقتها سوف تتشكل
حاضنة جمتمعية ينتج عنها – وفق قوانني العمران واالجتامع السيايس املعروفة
– أن تظهر نخبة حاكمة تتبنى القيم اإلسالمية ،وحتكم بالرشيعة ،سواء أجاءت
باالنتخابات ،أو بأية صورة أخرى من صور اختيار ُ
احل َّكام واحلكومات.
وبالتايل؛ فإن الشورى هي سلوك وممارسة اجتامعية باألساس ،يمكن تطويرها
ألكثر من جمال آخر ،مثل اإلدارة ،ومثل السياسة.
الشوري يف القرآن الكريم باألمر السيايس يف مجاعة املسلمني
ِّ ارتبط الفعل
األوىل ،الرسول الكريم ﷺ وصحابته رضوان اهلل تعاىل عليهم ،يف دولة املدينة،
املرة التي وردت يف ُسورة "آل
مرة واحدة خالف املشهور يف األذهان ،وهي َّ
عمران" ،يف قوله تعاىل﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾.
195
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكنه ورد يف موضع يشري إىل أن مشاورة الرعية من سامت املجتمعات والدول
القوية الناجحة.
ففي ُسورة "النمل" ،خاطبت ملكة سبأ قومها عارض ًة عليهم رسالة نبي اهلل
سليامن (عليه السالم) ،فقالت هلم كام ورد يف القرآن الكريم ﴿ :ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾.
ولكن فعل الشورى يف القرآن الكريم ،ورد بصيغته املبارشة هذه يف جوانب
أرسية واجتامعية ،ففي ُسورة "البقرة" ،يقول اهلل تعاىل﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ﴾ [من اآلية .]233
يف هذه اآلية ،نجد أن اهلل تعاىل قد دعا إىل الشورى حتى فيام هو يبدو من أبسط
األمور ،يف أبسط وحدة تكوينية ألي جمتمع ،وهي األرسة؛ حيث دعا إىل التشاور
حتى يف نقطة ِفطام األطفال ُّ
الر َّضع.
حتول الشورى إىل سلوك وممارسة اعتيادية لنا
وإننا هنا أمام كثري فائدة يف حال ُّ
كمسلمني يف املامرسة االجتامعية ،واليومية ،ربام يكون من نافل القول ،لكن من
املهم تأكيدها.
فالشورى أو ً
ال؛ تساعد عىل حرص خمتلف اآلراء املوجودة ،وبكل تأكيد فإن
تنوعا يف طبيعتها،
فاعلية آراء املجموع ،أكرب من آراء الفرد ،عىل األقل هي أكثر ً
ويف طرائق تعاملها مع خمتلف املواقف واملشكالت.
196
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
197
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
األمور عىل خمتلف وجوهها ،وغري ذلك مما هو يف حقيقة األمر من بدهييات أحوال
املجتمعات القوية املتامسكة التي تتقدم يو ًما بعد يوم باجتامع آراء أبنائها وتعاوهنم.
......
وتبعا لذلك؛ فإننا أمام واجب مهم لعلامئنا وقادة الرأي املسلمني؛ حيث إنه
ً
ينبغي االهتامم بوضع منظومة من األدبيات ذات الطابع الرتبوي والنفيس ،تعمل
عىل تعميق هذه الطبيعة احليوية لقيمة الشورى ،كسلوك وممارسة أرسية وجمتمعية،
وليست سياسية فحسب؛ يتم ذكرها فقط عند مقارنة النظام السيايس اإلسالمي،
بمنظومة الديمقراطية الغربية.
وتبدأ هذه العملية – تعضيد قيمة الشورى كسلوك وأداة إصالح جمتمعية – منذ
الص َغر؛ حيث األب واألم ُمطالبان بأكثر من أمر يف هذه الناحية ،بني األخذ بمبدأ
ِّ
الشورى يف تربية األبناء ،وبني تربيتهم لألبناء أنفسهم عىل إبداء رأهيم ،واالستجابة
الص َغر ملا يرونه ما دام مل خيالف ً
حكم أو ير ِّتب ً
رضرا أو ما شابه ،وتعويد األبناء منذ ِّ
عىل استشارة أهل احلل والعقد يف األرسة ،ويف مجاعة األقران ،واملدرسة ،بشأن أي
عرض عليهم. أم ٍر ُي َ
198
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اقرتب موعد بدء العام الدرايس اجلديد يف دول العامل العريب ،وبدأ التالميذ
كل بحسب طاقاته والطلبة ،وأولياء األمور يف االستعداد هلذا احلدث املهمٌّ ،
االقتصادية ،أو بحسب فهمه أو تقديره ألمهية التعليم ،وهو فهم وتقدير خيتلفان
من رشحية ألخرى من رشائح املجتمعات املختلفة.
وبشكل عام؛ فإن تقدير أمهية العملية التعليمية النظامية يف مدارسنا وجامعاتنا
الس َّلم احلضاري،
ختتلف باختالف درجة تنوير املجتمعات وارتقائها يف درجات ُّ
خاضعا للفقر أو الثراء.
ً وليس األمر
فبحسب تقارير عربية ودولية موثوقة؛ فإن أكرب نسبة تعليم يف العامل العريب ،هي
يف األرايض الفلسطينية املحتلة عام 1967م ،وقطاع غزة عىل وجه اخلصوص،
برغم احلالة االقتصادية التي حيياها القطاع بفعل احلصار؛ حيث تزيد نسبة الفقر
عىل ثامنني باملائة.
ولكي ال ُنستطرد فيام هو غري موضوع أصيل للحديث يف هذا املوضع؛ حيث ال
نناقش قضايا تعليمية أو تربوية ذات طابع تقني ،فإننا نقف أمام قضية ذات طابع
حضاري عام ،عىل أكرب قدر من األمهية ،يطرحها حدث اقرتاب موعد بدء العام
الدرايس اجلديد ،وهي قضية تدور حول سؤال" :ملاذا يتعلم أبناؤنا؟".
وهذه القضية ليست من نافل القول فيام خيص املرشوع اإلسالمي وحركياته
ومستهدفاته؛ حيث التعليم هو أحد أهم مسارات ووسائل التنشئة االجتامعية
199
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وحتى يف هذه اجلزئية؛ فإن مؤسساتنا التعليمية العربية ويف عاملنا اإلسالمي؛ ال
تقدم أي يشء؛ من علوم ومعارف ،أو قدرات ،تؤهل للعمل يف املجاالت املختلفة،
وهو أمر واضح للغاية من خالل النظر إىل إحصائيات العاملة املتخصصة واخلرباء
200
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
األجانب الذين يعلمون يف عاملنا العريب واإلسالمي ،مقابل نسبة بطالة هي األعىل
يف العامل.
وكذلك يتضح من املتاعب التي يالقيها خرجيو جامعاتنا العربية يف احلصول
عىل فرصة عمل يف البلدان الغربية واملتقدمة األخرى ،وحتى يف دول ما كان
عرف بالعامل الثاين ،يف رشق ووسط أوروبا؛ فإن هناك صعوبات بالغة يف معادلة
ُي َ
الشهادات العربية.
وبالتايل؛ فإن أول أركان إجابة سؤال" :ملاذا يتعلم أبناؤنا؟"؛ هي أهنم جيب أن
يتعلموا مع يطورون به ذواهتم وقدراهتم يف خمتلف االجتاهات؛ العقلية واملعرفية
والبدنية وغري ذلك.
وبالتايل – ً
أيضا – فإنه يف ظل الظروف الفنية املرتدية التي تعانيها غالبية املؤسسات
التعليمية يف العامل العريب واإلسالمي؛ فإن اإلنسان بحاجة ملا هو أشمل وأبعد مما
حيصل عليه يف الدراسة ،سواء ما قبل اجلامعية أو يف مرحلة التعليم اجلامعي.
وهنا يأيت دور األرسة بجانب ا ُملع ِّلم صاحب الضمري؛ حيث هؤالء منوط هبم
تشجيع التالميذ والطلبة عىل اكتساب العلوم واملعارف ،وتطوير قدراهتم الذاتية،
وذلك من خالل مسارات متعددة ،صحيح أو من بينها املدرسة ،ولكن األمر جيب
أن يتجاوز حدود املدرسة ،مثل القراءة وتكوين مكتبات خاصة ،أو الذهاب إىل
والتعرف
ُّ املكتبات العامة ،واالطالع عىل وسائل اإلعالم املختلفة املوثوق فيها،
عىل جتارب التعليم الذي يعني اكتساب املعارف والقدرات اخلاصة ،لدى البلدان
األخرى املتقدمة.
201
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أيضا ،العمل عىل احلصول عىل دورات خاصة يف املجاالت ويشمل ذلك ً
األهم يف عاملنا املعارص ،مثل احلاسب اآليل واللغات ،ووسائط ما ُيعرف
بالـ"إنفو ميديا" ،Info Mediaأي وسائل اإلعالم التي تقدم املعلوماتِّ ،
ومتكن
اإلنسان من االطالع عىل خربات اآلخرين واالستفادة منها.
وعىل رأس هذه الوسائط اإلنرتنت اآلن ،الذي بات يشمل إمكانيات واسعة
مجة للحصول حسن استخدامه؛ حيث حيتوي عىل فرص َّ للغاية يف هذا اإلطار ،متى ُأ ِ
عىل مؤهالت علمية أفضل ،سواء باملراسلة ،أو منح السفر واالبتعاث ،أو احلصول
عىل الدورات املتخصصة املشار إليها ،أو حتى احلصول عىل املكتبات الرقمية.
اجلانب اآلخر يف هذا األمر ،خيص نقطة شديدة األمهية تعني بشكل مبارش
مسألة اهلوية اإلسالمية.
فالتعليم املدين يف عاملنا العريب واإلسالمي ،ال يركز عىل هذه األمور مطل ًقا ،بينام
التعليم الديني ليس عىل القدر املطلوب يف هذه النقطة؛ نقطة اهلوية اإلسالمية.
وتشمل اهلوية اإلسالمية هنا؛ األخالقيات والسلوكيات ،وكذلك املحتوى
ً
مسلم" ،كام تكلم عنها مفكرون كبار مثل احلركي ملسألة "ماذا يعني أن أكون
الشيخ حممد الغزايل ،واألستاذ حممد قطب ،وآخرون من مفكري احلركة اإلسالمية
الصحوية ،الذين سعوا يف كتاباهتم إىل إعادة تعريف مفهوم "املسلم" لدى املسلمني،
وربط املسلمني بدينهم وفق منظور شامل ملفهوم الدين ،وملحتوى الرشيعة.
مسلم؛ فإنني
ٍ علم
ويتضمن ذلك حتى قضية مهمة للغاية ،وهي أنني كطالب ٍ
أسعى إىل كسب العلم ألن ذلك فريضة رشعية دعا إليها القرآن الكريم واحلديث
202
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
النبوي الرشيف ،وأنني أطلب العلم كذلك ،خلدمة ديني ،سواء بشكل مبارش ،من
خالل الدعوة مث ً
ال ،أو غري مبارش ،من خالل خدمة املجتمعات واألوطان؛ حيث
خري للناس أنفعهم للناس كام قال الرسول الكريم ﷺ.
ً
مسلم؛ حيث حيكم اإلسالم وهذا األمر ،هو يف ُصلب فكرة أن يكون املرء
ورشيعته خمتلف تصوراته عن نفسه وعن الكون من حوله ،وعن دوره يف هذه
احلياة ،وملاذا ُخ ِلقَ ،وغري ذلك من األمور املرتبطة.
وهنا؛ فإن هناك مسؤولية مطلقة عىل اآلباء واألمهات ،يف توجيه األبناء إىل أن
أي من األقنية األخرى
يكونوا مع طلب العلم ،سواء يف املدرسة أو اجلامعة ،أو ٍّ
أن الطالب يتعلم لكي يستكمل املشار إليها سل ًفا ،وغريها ،وفق هذا املنظور؛ َّ
خمتلف جوانب هويته كإنسان مسلم ،أي يسعى الكتساب األخالق والسلوكيات
الفاضلة ،وكذلك أن يفهم أنه يتعلم ألداء مهام مقدسة ،تتصل هبويته العقدية
ذاهتا.
...........
ويف األخري؛ فإننا أمام مهمة شديدة الصعوبة يف حقيقة األمر ،يف ظل تردي
أوضاع العملية التعليمية والرتبوية يف مراكزنا التعليمية يف كثري من دول العامل
العريب واإلسالمي ،إال أهنا – من اجلانب اآلخر – مهمة شديدة األمهية واخلطورة،
وبالتايل؛ شديدة الرضورة ،بحيث ينبغي أن تكون عىل قمة جدول أعامل احلركة
اإلسالمية الصحوية.
203
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وما الكوارث التي أحاقت باملرشوع اإلسالمي وصورته ،إال بسبب ضعف
الرؤية ،واآليت باألساس بسبب ضعف التعليم والتنشئة ،بحيث فاض طوفان غث
األرض من األجيال اجلديدة ،عىل احلركات اإلسالمية كافة ،وبجانب املنتفعني
واملض ِّلني الذين تسللوا بليل إىل الصفوف؛ قام هؤالء بكل ما من شأنه تشويه
صورة املرشوع بالكامل ،وباتت األمور بحاجة إىل عقود طويلة إلصالح ما تم
تدمريه هلذا السبب!
204
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من صميم العقيدة اإلسالمية ،اإليامن بأن اإلسالم هو دين اهلل اخلاتم التام،
بع َث للناس كافة ،وأن اإلسالم ورشيعته ،هو وأن الرسول الكريم حممد ﷺ ،قد ِ
الدين واملنهاج الذي ارتضاه اهلل عز وجل لعباده ،مهام كان لوهنم واختالف ألواهنم
وألسنتهم ،ومهام اختلفت األزمان واألماكن ،وأنه لن يدخل اجلنة من سمع
بمحمد ﷺ ،وباإلسالم ،ومل يؤمن به.
ومن َث َّم؛ فقد جاءت الرشيعة اإلسالمية َّ
مفصلة يف بعض األمور ،والتي هي
أساس الدين والعقيدة ،أو ختص عالقة اإلنسان بربه ،وغري قابلة للتغيري مهام
تغريت رصوف الزمان وتبدل املكان ،فيام جاءت شديدة العمومية يف أمور أخرى،
وخصوصا فيام يتعلق بشأن اإلنسان يف احلياة الدنيا؛ من أجل أن تتواكب مع
ً
املتغريات الزمانية واملكانية.
ففي االقتصاد؛ مل تفرض الرشيعة ً
نمطا اقتصاد ًّيا بعينه عىل الناس؛ مراعاة
لظروفهم وتبدالهتا؛ فقط حددت العموميات التي ال تسقيم األمور من دوهنا،
باعتبارها الفطرة السليمة ،مثل حتريم الربا واالحتكار واحلفاظ عىل امللكية اخلاصة؛
إال لو تطلب األمر نزعها ملصلحة عامة ،مع تعويض صاحبها ،واحلفاظ عىل البيئة
والثروات الطبيعية.
وكلها قواعد وقوانني عامة؛ تصلح ألي زمان ومكان ،ويمكن تطبيقها يف أي نظام
تلقائيا – إىل الفشل وحصول املشكالت ،فعندما خالفها
ًّ اجتامعي ،وخمالفتها ،تقود –
205
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الشيوعيني؛ سقطت الكتلة الشيوعية ،واضطرت أمم مثل الصني إىل تغيري قواعد
الشيوعية كام كتبها ماركس لتفادي مصري االحتاد السوفييتي ،بينام الربا قاد إىل أزمات
وكوارث اقتصادية يف الغرب ،كام يف أزمة مرصف ليامن براذرز ،يف العام 2008م.
ويف القرآن الكريم ،ما يؤيد ذلك ،فيقول احلق تبارك وتعاىل﴿ :ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ ُ
[سورة "األنبياء"] ،ويقول عز وجل ً
أيضا﴿ :ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
[سورة "األعراف"].
ﯡﯢﯣﯤ﴾ ُ
ويقول اهلل سبحانه﴿ :ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
[سورة "سبأ"].
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ ُ
الس َّنة النبوية الرشيفة ،يقول َمن ال ينطق عن اهلوى" :إِن ُّ
الرسل قبيل ُيبعثون ويف ُّ
إىل قومهم خاصة و ُب ِعث ُْت إىل الناس كافة" [متفق عليه].
ويقول اإلمام حممد بن عبد الوهاب "رمحه اهلل" ،يف رشح هذه اآليات واحلديث ،إن
ذلك يعني أن اهلل تعاىل قد بعث الرسول الكريم ﷺ إىل الناس كافة ،عرهبم وعجمهم،
ذكرهم وأنثاهم ،حرهم وعبدهم ،أمحرهم وأسودهم ،وال نزاع يف ذلك بني املسلمني.
وبالرغم من ذلك؛ تظهر أمامنا صورة ذهنية مغايرة متا ًما لتلك احلقيقة ،وهلا
الكثري من التأثري عىل جهود نرش الدعوة عىل مستوى العامل ،وال نقول مبالغني لو
قلنا إهنا من بني أهم معوقات نرش الدعوة يف العامل الغريب عىل وجه اخلصوص.
206
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه املشكلة تتعلق بقضية الطابع الرشقي لإلسالم ،واملنطبع عىل ذهنية غري
املسلمني يف بقاع العامل املختلفة.
فبسبب قرون طويلة من التضليل الذي مارسته القوى املعادية لإلسالم ،وكان
بعض هذا التضليل يتم اعتام ًدا بعض املامرسات التي كانت تتم من جانب ُح َّكام
دول اخلالفة املتعاقبة يف مراحل ضعفها واضمحالهلا؛ فإن هناك صورة منطبعة
لدى الغرب وغري الرشقيني عمو ًما ،عن اإلسالم ،عىل أنه دين العرب ودين
املجتمعات الرشقية.
وتم تكريس هذه الصورة يف عرص اإلعالم أو "امليديا" بوساطة املختلفة؛ حيث
باتت أدوات القوة الناعمة واحدة من أهم وأقوى أسلحة احلرب يف العصور
احلديثة.
فمن خالل األفالم السينامئية واملسلسالت التليفزيونية ،والروايات ،وغريها من
فنون الصوت والصورة والكلمة ،والتي يتم إفراد ميزانيات هائلة لكي تلقى الرواج
املطلوب ،وتسويقها يف كافة أطراف األرض ،بات البعض ال يتصور اإلسالم إال
يف أجواء القصور واملنمنامت وصوت العود والقانون وكذا ،دين القصور والقيان
والرياش كام يصوره اإلعالم الغريب وإعالم التشويش يف عاملنا العريب واإلسالمي.
يف املقابل تم إخفاء قرون طويلة سادت فيها الدولة اإلسالمية العامل بعلومها
ومفردات حضارهتا الفريدة من نوعها؛ لكي تكتمل أركان الصورة التي يريدها
أعداء الدين واألمة.
207
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومع عدم نفي أن العرب هم ُصلب وعز اإلسالم ،كام هو مأثور عن النبيﷺ،
وعن صحابته ِ
الكرام؛ فإن هذه الصورة الذهنية جيب أن تتغري ألهنا خاطئة؛ فال
اإلسالم هو دين العرب فحسب ،وال هو تلك الصورة املختلطة عن الرشق
بغموضه وآثاره ومؤامراته.
فاإلسالم ،كام تقدم ،هو دين كل زمان ومكان ،وما دام اهلل تعاىل قد شاء أن يسود
العامل؛ فإن هذا معناه أن اإلسالم ذو حمتوى يصلح للتطبيق يف الرشق والغرب ،ويف
كل أركان هذا العامل.
فكام نتصور اإلسالم يف املجتمعات الرشقية ،بقصورها وعامئمها؛ فإنه كذلك
دين املجتمعات الغربية ،بام فيها من معامل وأطباء ومراكز علمية وسياسية وثقافية،
وغري ذلك من صور التقدم احلضاري املختلفة.
وهذه هي طبيعة اإلسالم احلقة؛ حيث عبقرية التنزيل ،من أنه يصلح للتعامل
مع مفردات خصوصية املجتمعات اإلنسانية املختلفة.
فدولة اخلالفة اإلسالمية يف بالد فارس ،كانت ختتلف متا ًما عن صورة ومفردات
دولة اإلسالم يف األندلس ،أو يف املغرب ،أو يف رشق أوروبا ،ولعل يف املرياث
اهلائل من املصطلحات اللغوية والعامرة املتنوعة بتنوع هذه املجتمعات ،والتي
تركت وطبعت بآثارها ،ما ال ُيمحى يف هذه املجتمعات؛ ما يشهد عىل ذلك.
صفوة القول ،إنه جيب التأسيس لصورة ذهنية جديدة عن اإلسالم ،تعرب عن
طبيعته احلقة ،وكام نراه يف قصصهم وأفالمهم ورواياهتم ،ال ينمو وال ينتعش إال
208
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف القصور القديمة؛ جيب أن تعمل أفالمنا ومسلسالتنا ورواياتنا وبراجمنا ،عىل أن
يراه اآلخر ،وحتى املسلم الذي تربى عىل هذه الصورة الذهنية اخلاطئة لإلسالم،
يف أروقة املعامل واملختربات العلمية ،ويف املكتبات ،ويف املراكز الثقافية.
جيب أن ينقل اإلنتاج احلضاري ،الناعم واخلشن ،ملجتمعات املسلمني يف
الغرب عىل وجه اخلصوص ،اإلسالم واملسلمني ،وهم يتعايشون يف احلوارض
املدنية ،ويتعاملون بدينهم مع مفردات احلضارة احلديثة ،وأن املسلمني ليسوا جمرد
مستهلكني هلذه املفردات ،وإنام هم رشكاء أساسيني يف بناء هذه احلضارة.
وهناك من يسعى يف هذا االجتاه بالفعل يف اجلمعيات واملراكز الثقافية والدعوية
اإلسالمية يف أوروبا واألمريكيت َْي وأسرتاليا ،وهؤالء جيب دعم جهودهم،
وهذا الدعم يتطلب يف وقتنا الراهن ،جهدً ا مضاع ًفا ،ما بني إظهار الطبيعة املدنية
واحلضارية العامة لإلسالم ،وبني مواجهة عمليات التشويه التي يتعرض هلا الدين
وحضارته وأبناؤه ،سواء من جانب القوى املعادية له يف هذه البقاع ،أو من جانب
اسم ،ولكنهم يفوقون يف تأثريهم ألف عدو خارجي ،مثل بعض املنتمني إليه ً
األنظمة واحلكومات والتيارات العلامنية ،والتكفرييني.
209
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ص القرآني
علم النفس في القرآن الكريم وقضية شمول ال َّن ِّ
ومفكريه أنه من الرضوريِّ من بني أهم األمور التي جيد الكثري من علامء الإلسالم
وضعها عىل قائمة أولويات كتابات ِّ
املفكرين املسلمني ،قضية املفاهيم القرآنية.
صح التعبري ،ومنها
ويعود ذلك لعدد من األسباب شديدة "اإلسرتاتيجية" لو َّ
وجود عدد من اآليات القرآنية الكريمة واألحاديث النبوية الرشيفة التي تتناول
قضية شمولية ال َّنص القرآين.
وبالتايل؛ فإن إثبات هذه القضية ،هو من صميم الدفاع عن العقيدة ،يف ظل
مركزية القرآن الكريم يف العقيدة اإلسالمية ،ممَّا يعني معه أن الفشل يف إثبات أي
أم ٍر يتعلق بكتاب اهلل تعاىل ،يعني هد ًما للعقيدة عند الناس ،وجلهود الدعوة.
وتزداد أمهية هذه املسألة أن هناك مفهوم خاطئ ملسألة الشمول هذه ،ممَّا ِّ
يمكن
خصوم الدين من قنصه منها؛ حيث إن هذا املفهوم عن العثور عىل "كل يشء" يف
القرآن الكريم ،ال يعني تلك الرؤية الساذجة من أن القرآن الكريم فيه كل أرسار
الكون وحسابات الرياضيات والفيزياء ،واآلداب والفلسفة.
ص القرآين واحلديث النبوي الرشيف ذاته.
فهذه الرؤية القارصة يدحضها ال َّن ُّ
ص القرآين إنام يكون بالتد ُّبر ،وهو ما
فالقرآن الكريم نفسه يقول بأن فهم ال َّن ِّ
يعني أن النصوص القرآنية لن حتوي كل "املعلومات" التي يف الدنيا رصاح ًة ،وإنام
سوف تكون يف صياغة ربانية ُم َْكمة ،شديدة العموم ،ووفق طريقة النامذج ،والتي
210
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
211
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فموضوع علم النفس يف القرآن الكريم أوسع بكثري من الرؤية الشائعة يف هذا
الصدد ،من أن القرآن الكريم فيه شفاء ملا يف الصدور ،وبالتايل ،أنه أداة عالج نفيس
ال لإلنسان ،ممَّا عززه احلديث النبوي الرشيف.فع ً
فهذا فقط جزء من موضوع علم النفس وقضاياه يف القرآن الكريم ،والذي
فهم أفضل للنفس البرشية.
تناول الكثري من األمور التي تساعد عىل ٍ
ففي اآليات التي تتناول موقف الكافرين الذين قابلوا ُر ُس َل اهللِ تعاىل ودعواهتم
بالعتو والنفور ،واجلاحدين بآيات اهلل سبحانه؛ نجد الكثري من معامل
ِّ للتوحيد،
وسيامء النفس البرشية األ ْم َيل للعناد ،ونفهم ِ
الك ْب الذي يمأل نفوس البعض،
وكيف يقود هذا وذاك بصاحبه إىل التهلكة .متا ًما كام نقرأ يف كتب علم النفس
قديم. ِ
املعاصة ،وحتى لدى الفالسفة منذ ٍ
كذلك نجد دور اإليامن يف هتذيب النفس والسلوك البرشيني ،من خالل اآليات
التي تتناول سلوك أنبياء اهللِ عز وجل ،وكيفية تعاملهم مع أذى قومهم ،مثل األدب
واإلمجال يف الطلب ،والصرب عىل املكاره.
وهذا بدوره نجد أنه من أهم األمور التي استندت حتى إليها فلسفات وديانات
وضعية ظهرت عرب التاريخ؛ حيث إن املحتوى النفيس هو أهم مكوناهتا إلصالح
الذات البرشية ،وبالتايل إصالح املجتمعات واإلنسانية بالكامل.
ومن بني قصص القرآن الكريم التي فيها الكثري من النواحي املتعلقة بعلم
حترك سلوكه ،قصة ابن َْي آدم
النفس ،وكيفية فهم نفسية اإلنسان ،وبواعثه التي ِّ
212
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
213
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وحتى بعيدً ا عن القصص القرآين؛ نقف عىل أوصاف دقيقة لإلنسان والنفس
بالع َجل وحب َ
اجلدَ ل ،واهللع والضعف، اإلنسانية يف الكثري من اآليات ،مثل وصفه َ
وكيف أن هذه النفس اهللوعة الضعيفة قد تقود اإلنسان إىل اليأس ،وغري ذلك مما
نجده يف أوراق وكتب علامء النفس املعارصين؛ حيث تكلموا بكثري من االستفاضة
عن هذه الصور القرآنية التي اكتفى اهلل عز وجل بإشارات عامة لكنها وافية إليها.
......
يتحمله هذا
َّ كالم عام ،حياول فقط اإلشارة بام يمكن أن
وهذا بطبيعة احلالٌ ،
احل ِّيز من احلديث ،إىل بعض األمور التي هي بحاجة إىل دراسات أوسع وأكرب..
يقول تعاىل ﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
ورة "الكهف" – اآلية .]109
[س َ
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ ُ
214
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم املشكالت التي يعاين منها املسلمون يف العصور األخرية من
تاريخ األمة ،هو فقداهنم للكثري من املفاهيم املعرفية األساسية حول دينهم
ورشيعتهم.
وتشمل هذه النوعية من ُ
األ ِّم َّية اخلاصة جدًّ ا؛ عدم معرفة رشائح ضخمة للغاية
من املسلمني ،بدقائق رشيعتهم ،ومفاهيم أساسية يف الدين ،مثل اإليامن ،ومكوناته
أمورا أخرى عدة.
التي تتجاوز يف حقيقة األمر ،العقيدة لكي تشمل معها ً
واملدهش أن هذه الظاهرة ،أكرب منها يف أوساط أبناء املجتمعات املسلمة،
وليس يف أوساط املسلمني اجلدد ،يف املهاجر؛ حيث هؤالء يتلقون املعارف الدينية
بشكل سليم ومتطور ،مع كون املؤسسات واألشخاص القائمني عىل الدعوة يف
هذه البلدان ،يتحركون يف إطار أكثر حداثية يف آلياته ومفاهيمه ،وكذلك بعيدً ا
عن تأثريات احلكومات واألنظمة االستبدادية املوجودة يف جمتمعاهتم األصلية
وأوطاهنم األم.
ويعود قسم مهم من هذه املشكلة إىل العامل األخري؛ املتعلق باحلكومات
واألنظمة االستبدادية التي تسيطر عىل احلكم يف الغالبية العظمى من بلدان العامل
تعمد
اإلسالمي؛ حيث إن جز ًءا من سياساهتا ألجل السيطرة عىل احلكم ،يأيت من ُّ
جتهيل الشعوب واملجتعات ،من أجل تسهيل قيادها.
215
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
216
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عرف
يف هنايات القرن التاسع عرش ومطلع القرن العرشين ،من آلياهتا ،يف إطار ما ُي َ
بالرأساملية االجتامعية " ،"Social capitalismوتفادت – بالتايل – أن تنهار أمام
الشيوعية الصاعدة يف ذلك احلني بقوة ،استغال ً
ال للخطايا الكربى للرأساملية يف
صورهتا األولية اخلام ،يف املجال اإلنساين واالجتامعي.
ولكن كيف ذلك؟!..
مبدئيا ،نجد يف القرآن الكريم ،الكثري من اآليات التي تدعو إىل التكافل
ًّ
االجتامعي ،وإعطاء املساكني ،بل وجعل اهلل تعاىل ذلك يف عقيدة املسلم ،ذلك
جز ًءا ال يتجزأ منها ،عندما فرض الزكاة كأحد األركان اخلمس التي ُبني عليها
اإلسالم ،مع شهادة التوحيد ،والصالة والصوم واحلج.
ويف القرآن الكريم ،نجد أن اهلل تعاىل يقول﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
[سورة "الذاريات"] ،بينام يف ُسورة "املعارج" ،نجده يقول عز
ﮛﮜ﴾ ُ
وجل ﴿ :ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾.
املفسون أن املقصود باألوىل "الصدقة" ،وبالثانية" ،الزكاة" املفروضة وذكر ِّ
وم" ،بينام يف األوىل وقف عن كلمة َ
"ح ٌّق" فقط ،ويف كال "ح ٌّق َّم ْع ُل ٌ
عندما قالَ :
احلالت َْي؛ فإن اهلل تعاىل جعلها ح ًّقا عىل املسلم لآلخرين واملجتمع.
واملالحظ يف كال املسا َق ْي القرآن َي ْي ،أن العطاء للفقري واملحروم ،جاء يف سياقات
عقيدية؛ حيث وضع ضمن صفات املؤمنني ،وذات األولوية كذلك.
ففي سورة "املعارج" ،جاء ذلك بعد الصالة مبارشة ،والتي هي الفارق بني
اإليامن وا ُلكفر لدى املسلم.
217
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف املقابل ،جعل اهلل تعاىل ،من بني صفات الكافرين وسامهتم العامةْ ،ترك العمل
اخلريي ،وخدمة املجتمع.
ففي ُسورة "املاعون" يقول اهلل عز وجل ﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾.
أمر أكرب
كل هذا وغريه من اآليات القرآنية الكريمة ،تؤكد أن العمل املجتمعي ٌ
وحراك اإلنسان وسعيه يف هذه احلياة؛ حيث منمن أنه جانب تطوعي يف نشاط ِ
اجليل أن اهلل تعاىل وضع اإليامن – الذي هو يف األصل اهلدف والغاية من وراء
الرساالت التي أنزهلا – صنو العمل االجتامعي ومساعدة الناس.
ويف أسباب النزول ،يقول مقاتل والكلبي ،إن اآليات نزلت يف العاص بن وائل،
أنا ابن جريج ،فقال إهنا نزلت يف أيب سفيان بن حرب قبل إسالمه؛ حيث كان ينحر
يف كل أسبوع مج َل ْي ،وكان يبغي من وراء ذلك ،الوجاهة االجتامعية ،وخياطب
باألساس علية القوم يف مكة املكرمة.
صبي يتيم ،وسأله شيئًا ليأكله ،فرضبه بالعصا ،فأنزل اهلل تعاىل
وذات يوم أتاه ٌّ
اآليات األوىل من السورة.
السورة ،عىل
ويقول صاحب الظالل ،األستاذ سيد قطب (رمحه اهلل) ،يف هذه ُّ
"سورة املاعونُ ،سورة قصرية من آيات سبع ،تعالج حقيقة ضخمة هذا النحوُ :
ال كام ً
ال .فوق ما تطلع به عىل النفس تكاد تبدل املفهوم السائد لإليامن والكفر تبدي ً
من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ،واخلري العظيم املكنون فيها هلذه البرشية،
واملرمحة السابغة التي أرادها اهلل للبرش وهو يبعث إليهم الرسالة األخرية".
218
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويضيف أنه من بني دالالت هذه اآليات أن هذا الدين "ليس دين مظاهر
وطقوس ،وال تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ،ما مل تكن صادرة عن إخالص
هلل وجترد ،مؤدية بسبب هذا اإلخالص إىل آثار يف القلب تدفع إىل العمل الصالح،
وتتمثل يف سلوك تصلح به حياة الناس يف هذه األرض وترقي".
...........
ويف األخري؛ يبقى أن نشري إىل أنه من الرضوري التأكيد عىل أنه من املهم العمل
عىل غرس هذه األفكار يف نفوس اجليل اجلديد من شباب احلركة اإلسالمية،
والتأكيد عىل أن العمل املجتمعي ليس من نافلة القول؛ بل إنه رضورة عقيدية كام
تقدَّ م.
كام أنه – يف اجلانب احلركي – له دور شديد األمهية يف تأليف قلوب اجلامهري
عىل احلركة اإلسالمية ،وبالتايل ،احلصول عىل تأييدها ودعمها ،بنفس املنطق
القائم يف سهم املؤلفة قلوهبم ،كأحد مصارف الزكاة كام ذكر القرآن الكريم يف
ُسورة "ال َّت ْوبة" .يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ
ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾.
219
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ربام من أهم األمور التي يتم اهتام املرشوع اإلسالمي والقائمني عليه ،هو قضية
اإلقصاء؛ حيث استفاد خصوم املرشوع والدعوة اإلسالمية ،يف هذا الصدد ،من
كثري من املامرسات الداخلية التي قامت هبا بعض الرموز واجلامعات التي تصنِّف
نفسها عىل أهنا مجاعات إسالمية.
طرح ً
دائم عىل مائدة أي حوار، وقضية "اإلقصاء" هي من أبرز القضايا التي ُت َ
أو عمليات "االستطالع" التي تقوم هبا حكومات وأجهزة غربية ،عند استكشاف
اصطالحا باإلسالم السيايس ،إذا ما بدا أهنا مت ِّثل
ً عرف
مجاعة ما حمسوبة عىل تيار ما ُي َ
ال للحكم يف بلداهنا.بدي ً
ومن بني أبرز امللفات التي يكون هناك اهتامم هبا يف هذا اإلطار ،هي أوضاع
األقليات الدينية والطائفية يف البلدان واملجتمعات التي حيكمها إسالميون ،وكذلك
املكون اإلسالمي ،يف ظل املشكالت التي
صريورات العالقات ما بني ألوان طيف ِّ
طرأت يف بعض الدول واملناطق التي سيطرت فيها مجاعات مص َّنفة إسالمية ،وعىل
وجه اخلصوص تنتمي إىل تيار "السلفية اجلهادية".
كذلك من بني أهم مفردات هذا اهلاجس املهم الذي ينبغي أن تبحث احلركة
اإلسالمية بمختلف تالوينها عن معاجلة له ،ملف التكفري ،سواء تكفري اآلخر غري
220
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
رفضا كام ً
ال له ،أو تكفري املسلم املخالف يف املذهب، املسلم بالصورة التي تعكس ً
أو حتى املخالف يف التنظيم.
اإلسالمي ْي ،مل يستفيدوا من
َّ ويف حقيقة األمر؛ فإن خصوم الدعوة واملرشوع
"خدمات" جمانية يقدمها بعض املحسوبني عىل الدعوة واملرشوع ،يف خدمة أهدافهم
للتشويش والتشويه ،قدر استفادهتم مما يتم عىل املستوى الداخيل يف هذا املجال.
وامتدت هذه املشكلة لكي تشمل الصورة العامة للدين اإلسالمي ،باعتبار أنه
بالتنوع ،وال يوجد فيه قواعد ناظمة إلدارة اخلالف داخل املجتمع
ُّ دين ال يعرتف
الذي حيكمه سلطة تستند إىل اإلسالم.
واخلالف املقصود هنا ،متعدد املعاين ،فمنها اخلالف بمعنى االختالف يف الرأي
ووجهات النظر ،ويف سياقات السياسات واالجتاهات املطلوبة إلدارة الشأن العام،
وتوجيه املجتمع ،وإدارة موارده وأولوياته.
بالتنوع ،أي أن يكون املجتمع يضم أطيا ًفا دينية أو مذهبية
ُّ ومنها املعنى املتعلق
أو إثنية ،وبالتايل؛ ينبغي أن تكون سياسات إدارته وتوجيهه ،باملعنى الواسع ملفهوم
احلكم ،يراعي حقوق ومطالب خمتلف هذه األطياف.
يف هذا الصدد ،ومثل كل يشء إشكايل يف واقع األمر؛ تربز أمهية ورضورة العمل
عىل استحضار األصول والقواعد التي ال خالف عليها.
وهي فكرة أقرب إىل فكرة الدستور ،الذي هو عبارة عن وثيقة تضم جمموعة من
القواعد ايل استقر أو ات ُِّفقَ عىل أن تكون هي واسطة العقد االجتامعي بني احلاكم
221
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
222
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن ،وألنه َح َك ٌم عدل؛ فإن آيات عديدة يف القرآن الكريم ،أكدت عىل أن
غبن للمرأة كام يزعم البعض؛
الدار ْين يف الدنيا واآلخرة ،لن يكون فيه ٌ
َ حساب
ألن االختالف القائم ،وهو قائم يف بعض األحوال فقط ،بني الذكر واألنثى يف
األحكام ،إنام ليس تقلي ً
ال من شأن املرأة ،ولكنه مراعاة للفوارق الفسيولوجية
واالجتامعية وغري ذلك ،القائمة بني الرجل واملرأة.
ومن بني اآليات القرآنية التي تؤكد ذلك ،قوله تعاىل﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍ
﴾[سورة "النساء" – اآلية .]124
ﮎﮏ ُ
وهناك آيات عديدة أخرى ،تقرن الرجل واملرأة يف الطاعات ،ويف الثواب ،ويف
كل األمور.
كذلك هناك التنوع العرقي أو القومي كام نعرفه يف املصطلحات احلديثة،
فيقول تعاىل ﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ
[سورة "احلجرات" – اآلية .]13
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ ُ
أمر معروف
واآلية موجهة إىل الناس كافة ،وليس إىل املسلمني فحسب ،وهو ٌ
السور
فالسورة كلها مدنية ،واملفرسون يعرفون أن اخلطاب يف ُّ
يف القرآن الكريمُّ ،
املدنيةً ،
دائم ما يكون ﴿يا أهيا الذين آمنوا﴾ ،ولكنه يف هذه اآلية فقط ،جاء بـ﴿
ﭵ ﭶ﴾ ،واملفرسون قالوا بأنه يعني أن اخلطاب يف هذه اآلية الكريمة ،لعموم
الناس.
223
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
224
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
و َق َر َن تعاىل ذلك يف كتابه العزيز بعبارات واضحة ال لبس فيها ،من أن احلساب
يف ذلك عىل اهلل تعاىل ،وأن ما عىل املسلم يف هذا الصدد إال البالغ ،باعتبار أن
املسلمني هم خلفاء الرسول الكريم ﷺ ،يف دعوته إىل هذا الدين ،وكلنا ُمك َّل ٌف
بالتبليغ بحسب قدراته.
ففي آية "الكهف" املتقدِّ مة ،أتبع العبارة املأخوذة من اآلية بـ﴿ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ﴾ ،ومن املفهوم أنه سبحانه يقصد أن حساب َمن يكفر ،هو
عىل اهلل تعاىل وحده ،ومل يرشك يف حكمه أحدً ا.
كام يقول تعاىل ﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
[سورة َ
"احلج" -اآلية .]17 ﭲ﴾ ُ
الر ُسل إال البالغ ،يف ستة مواضع
ولقد وردت عبارة مفادها أنه ما عىل الرسولُّ /
من القرآن الكريم ،ومن بينها موضع داليل أكثر من غريه يف كيف دعا القرآن الكريم
إىل إدارة هذه املنطقة احلرجة ذات احلساسية ،يف ُسورة ُّ
"الشورى" ،قال اهلل تعاىل
فيها﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ....ﯗ﴾.
وبالنظر إىل التجربة النبوية يف احلكم؛ فإن أول ما أقامه النبي الكريم ﷺ ،بعد أن أقام
املسجد ،كان هو دولة املواطنة ،التي عددت الفئات والرشائح املجتمعية التي كانت
موجودة يف املدينة املنورة يف حينه ،بمن فيهم اليهود ،والعرب املرشكني ،والبادون يف
األعراب حول املدينة ،وذلك يف الوثيقة التي ُع ِر َف ْت باسم "وثيقة املدينة".
225
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف "عهدة نجران" التي كتبها الرسول الكريم ﷺ ،لنصارى نجران ،والعهدة
العمرية التي كتبها أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب "ريض ُ
اهلل عنه" ،لنصارى
القدس ،ما يؤكد أن اإلسالم يعرف ،حتى باملعنى الدستوري احلديث الذي نعرفه،
التنوع الديني ،وغريه.
مفاهيم املواطنة وإدارة ُّ
التنوع بشكل عام ،هو قانون اهلل تعاىل يف خلقه ،وهو
والقرآن الكريم يؤكد أن ُّ
قانون رباين ،أي أنه نافذ وال يمكن مراجعته أو اعرتاضه ،فيقول تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ
ﭜ﴾[سورة "هود" -اآلية .]118
ُ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ومن أهم دالئل أن هذا األمر قانون رباين ،أن اهلل تعاىل بعث األنبياء والرسل
إىل كل قوم من هؤالء األقوام الذين انقسم أبناء آدم "عليه السالم" إليها ،وهو ما
التنوع واالختالف
يعود بنا إىل صحيح الصورة التي أرساها القرآن الكريم يف إدارة ُّ
الديني؛ حيث األساس ،هو الدعوةِ ،
وف ْعل األنبياء.
ورت "يونس" و"البقرة" ،ما يفيد بتلك املعاين كافة؛ أن البرش كانوا أمة
ويف ُس َ ْ
ٍ
ألسن وعقائد ،ولذلك بعث اهلل تعاىل هلم واحدة ،ولكنهم اختلفوا بعد ذلك عىل
األنبياء واملرسلني لرتشيد هذا اخلالف ،وتوضيح ما اختلفوا فيه.
[سورة "يونس"
يقول تعاىل﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ ُ
-من اآلية ،]19ويقول سبحانه﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
[سورة
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ ُ
"البقرة" -من اآلية .]213
..........
226
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف األخري؛ فإن هذا احلديث؛ إنام يتضمن القشور فقط فيام خيص هذه القضية
شديدة األمهية واملركزية ،وربام تشكل التحدي األكرب أمام احلركة اإلسالمية،
وانسياح املرشوع اإلسالمي والدعوة بالشكل املطلوب؛ حيث القضية أكثر
عم ًقا ،وتأصيلها من القرآن الكريم ُّ
والس َّنة النبوية الرشيفة ،بحاجة إىل دراسات،
تؤسس للفهم الصحيح ،وبطريقة تقنع خمتلف طبائع وطرائق التفكري يف جمتمعاتنا
اإلسالمية.
227
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بدهييات العقيدة لدينا كمسلمني ،أن القرآن الكريم ،بجانب أنه ا ُمل َّ
تعبد
بتالوته ،والوعاء الذي اختاره اهلل عز وجل لكي حيفظ لنا رشيعته ،ونفقه ديننا من
سي حياة املسلم،
يسي ،أو ينبغي أن ُي ِّ
خالل نصوصه؛ أنه كذلك هو الدستور الذي ِّ
وحياة األمة بشكل عام.
ولقد اختار اهلل تعاىل أمة اإلسالم ،لكي تكون قائدة العامل نحو النور واهلداية،
تنظم خلقهوالسنَن التي وضعها اهلل تعاىل لكي ِّ
وهو ما لن يتحقق وفق القوانني ُّ
َك َر ٍّب هلذا الكون ،إال لو أصبحت األمة املسلمة ،أم ًة رائد ًة يف املجال احلضاري،
جترب مجيع األمم األخرى عىل أن تتبعها.
وهو قانون عمراين وضعه اخلالق عز وجل ،وال حميد عنه ،فنجده قد حصل مع
املسلمني يف فرتات هنضتهم احلضارية ،عندما كانت األمم األخرى تأيت وتأخذ
ييمم وجهه جتاه
عنهم ،وتتعلم منهم ،ونجده اآلن؛ حيث نجد العامل بالكاملِّ ،
األمم املتقدمة ،وبخاصة احلضارة األنجلوساكسونية؛ حيث اليابان ذاهتا ،بكل
االعتزاز القومي املعروف عن شعبها؛ تكتب العلم باللغة اإلنجليزية.
228
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ وعند احلديث عن رضورة تطوير املوقف احلضاري لألمة؛ فإننا ينبغي
أن ننظر إىل القرآن الكريم ،الذي هو – كام تقدَّ م – دستور املسلمني؛ فرادى وأمة.
اصطالحا.
ً ومفهوم احلضارة ،مفهوم مع َّقد ،وواسع املجال يف حتريره
فالبعض يعدها مظاهر التقدم والرقي ،أو التطور ،العلمي والفني واألديب
ِ
املعاكس ملصطلح البداوة. واالجتامعي ،يف َ
احل َض ،أي أهنا املعادل
وبالتايل؛ فهي ترتبط بنقطة االستقرار؛ حيث َ
احل َض ،واحلياة احلرضية ،هي ضد
البداوة ،واحلياة يف البادية.
ولكن للتدقيق؛ فإن األمر خيتلف األمر عن احلديث عن الريف َ
واحل َض باملعنى
املستقرة للتجمعات البرشية ،بل إن
َّ القريب؛ حيث الريف بدوره أحد األشكال
استقرت يف األصل
َّ أصل احلضارة البرشية؛ أهنا نشأت يف املجتمعات الريفية التي
حول األهنار ومصادر املياه العذبة ،وتع َّلمت الزراعة.
"ح َض" ،كمصطلح؛ فإنه كام يتضمن
ونجد ذلك يف اللغة العربية؛ حيث فعل َ
والتجمعات احلرضية ،أو املدينية؛ فإنه يعني كذلك تشييد القرى
ُّ تشييد املدن
واألرياف واملنازل املسكونة.
وبجانب ُبعد املراكمة يف هذا األمر؛ فإن هناك كذلك اجلانب املتعلق باهلوية؛
حيث هناك تعريفات تربط احلضارة باملميزات واخلصائص التي مت ِّيز شع ًبا بعينه ،يف
املجاالت االجتامعية والسياسية ،وكذلك يف جمال اإلبداع الفني ،بام يف ذلك العلوم
واآلداب؛ حيث الفن هو اإلبداع اإلنساين يف خمتلف املجاالت.
229
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن بني أهم أوجه ذلك ،هو اهلوية الدينية ،بام تتضمنه من قيم وأخالقيات
وتصورات عن العامل ،وعالئق الفرد بذاته ،وباآلخرين؛ أفرا ًدا وأممًا.
وبالتايل؛ فإن عملية حترير املفهوم؛ تقودنا إىل اهلوية الدينية ،ويف حالة املسلمني؛
فإن اهلوية الدينية باألساس ،مستقا ٌة من القرآن الكريم.
ومن خالل قراءة وفهم آيات القرآن الكريم؛ فإننا سوف نصل بسهولة شديدة
إىل أنه يقودنا إىل أفق الفعل احلضاري بشكل شامل.
فعىل أبسط تقدير؛ فإن أهم أوعية التطور احلضاري؛ القراءة والبحث العلمي؛
نجد يف القرآن الكريم الدعوة إىل كليهام.
فاهلل تعاىل يقول ﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
[سورة "العلق"] ،وهيﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ ُ
أول ما أنزل من القرآن الكريم كام نعلم ،وفيه َل ْفتَة شديدة األمهية ،وهي أن كل ما
نتكب عليه مهام ُ
عظم شأننا وتطورنا. نعلم هو من لدن اخلالق عز وجل؛ فال َّ
أيضا ﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ويقول عز وجل ً
"فص َل ْت"
[سورة ِّ
ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ ُ
– اآلية .]53
ويف األطر األشمل للفعل احلضاري؛ فإننا نقف عند آيات قرآنية واضحة ،لو
تم درسها وتلقينها لألجيال املختلفة من املسلمني؛ سوف نفهم الفعل احلضاري،
وأسس التطور اإلنساين كام خلق اهلل تعاىل قوانينها.
230
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
231
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
والالفت هنا أن اهلل تعاىل شاءت حكمته أن تكون املوارد عىل األرض؛ اقتصادية
الطابع ،أي أهنا نادرة ،وال تكفي حاجات اإلنسان التي تتزايد وتتطور – وهو
مضطرا
ً قانون شاءته حكمة اهلل تعاىل كذلك – وبالتايل؛ سوف جيد اإلنسان نفسه
إىل ديمومة العمل لتطوير وتنمية هذه املوارد لكي تكفي احتياجاته.
أي أن القرآن الكريم خيربنا بشكل شديد الوضوح ،أن احلضارة فريضة عىل
اإلنسان لو أراد العيش الكريم ،وأهنا متطورة ،وأن احلضارة فعل مستمر ودائم.
بل إن ذلك ُيعدُّ جز ًءا من إقامة الدين ذاته ،أي أن الفعل احلضاري يف اإلسالم،
جزء من قيام اإلنسان املسلم بعقيدته.
مرات ،ومصطلح "خليفة"، فال َّنص القرآين فيه مصطلح "خالئف" أربعة َّ
مرتان ،وكلها مرتبطة يف ِذ ْكرها بقضية االختبار واالبتالء ،وكذلك التكليف
واألمانة التي محلها اإلنسان بخ ْل ِقه ،وتسلمتها أمة أمة اإلسالم ،باعتبار أهنا أمة
الرسالة اخلامتة ،وكلها أمور من صميم أداء اإلنسان املسلم لعقيدته.
فعىل سبيل املثال ،يقول تعاىل يف قضية االختبار واالبتالء ﴿ :ﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ
[سورة "األنعام" – اآلية .]165
ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ﴾ ُ
محل األمانة﴿ :ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ويقول يف نقطة التكليف و ْ
[سورة "يونس" – اآلية .]14
ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﴾ ُ
......
232
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف حقيقة األمر؛ فإنه كام هي العادة عند تد ُّبر معاين آيِ ِّ
الذ ْكر احلكيم؛ فإننا
بحاجة إىل جملدات لكي نرشح هذا األمر فقط يف القرآن الكريم ،ولكن ،يف خالصة
موجزة ورسيعة؛ فإن الفعل احلضاري يف كتاب اهلل تعاىل ،عىل هذا النحو؛ إنام هو
فريضة ،وجزء من متام عقيدة األمة ،ومتام تكليف اإلنسان املسلم.
ريا من جانبنا كمسلمني يف عقيدتنا،
وبالتبعية ،فإن أي تقصري يف ذلكُ ،يعترب تقص ً
رشفنا ُ
اهلل تعاىل هبا. ويف القيام باألمانة التي َّ
233
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
﴿ﮅ ﮆ ﮇَ﴾..
234
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إهلي ٌ
نافذ ال حمالة، قدر ٌّ
وإثبات اهلل تعاىل لذلك الوعد يف أم الكتاب؛ يعني أنه ٌ
ويف ذلك ما يطمئِن القلوب ،وهيدئ اخلواطر.
ثغورا عديدة من املفرتض أن يقفوا
ً يف هذه األيام؛ ترك الكثري من الشباب،
عليها ،بعد األزمات األخرية التي رضبت بأطناهبا داخل وفيام حول احلركة
ودب فيهم اليأس بعد معامل اهلزيمة املرحلية التي ُمنِيت هبا
اإلسالمية الصحويةَّ ،
بعض احلركات واجلامعات اإلسالمية التي طرحت مرشوع اإلصالح السيايس
واالجتامعي الشامل ،يف جمتمعاهتا بعد ثورات الربيع العريب.
وأهم باعث هلذه احلالة ،هو اليأس ،وعدم التحيل بأهم فضيلة يف معركة الرصاع
بني احلق والباطل ،وهي فضيلة الصرب.
واليأس ليس من ِش َيم املسلم ،ألن فيه من عدم الثقة باهلل تعاىل – والعياذ
باهلل – ما ال يتناسب مع عقيدة املسلم ،والتي من صميمها ،الثقة يف اهلل تعاىل
ووعده.
واهلل تعاىل ،أكد عىل فضيلة الصرب يف القرآن الكريم؛ فهو أمرنا به ،وفرضه علينا،
ومل خيفي إطال ًقا أن املعركة صعبة وطويلة .يقول تعاىل﴿:ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ [سورة آل عمران – اآلية .]200
والتعبري القرآين املستخدَ م يف هذه اآلية ،يفيد بذلك﴿ ..ﯮ ﯯ﴾،
فهي صيغة مبالغة ،وتفيد بطول أمد الطريق الذي سوف يقطعه املؤمن يف سبيل
تنفيذ ما أمره اهلل تعاىل به.
235
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويقول اإلمام الشهيد سيد قطب يف الظالل عن الصرب" :يتكرر ذكر الصرب يف
ريا؛ ذلك أن اهلل سبحانه يعلم ضخامة اجلهد الذي تقتضيه االستقامة
القرآن كث ً
عىل الطريق بني شتى النوازع والدوافع ،والذي يقتضيه القيام عىل دعوة اهلل يف
األرض بني شتى الرصاعات والعقبات ،والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة
األعصاب ،جمندة القوىَ ،ي ِق َظة للمداخل واملخارج".
ويضيف أنه "البدَّ من الصرب يف هذا كله ،البدَّ من الصرب عىل الطاعات ،والصرب
عن املعايص ،والصرب عىل جهاد املشتاقني هلل ،والصرب عىل الكيد بشتى صنوفه،
والصرب عىل بطء النرص ،والصرب عىل بعد الشقة ،والصرب عىل انتفاش الباطل،
والصرب عىل قلة النارص ،والصرب عىل طول الطريق الشائك ،والصرب عىل التواء
النفوس ،وضالل القلوب ،وثقلة العناد ،ومضاضة اإلعراض".
وهنا نجد أنه أشار رصاح ًة إىل بطئ النرص ،وهي النقطة املهمة التي نشري إليها
يف هذا املوضع.
املالحظة األخرى املهمة يف اآلية الكريمة التي افتتحنا هبا احلديث يف هذا
املوضع؛ تتعلق بالصالح؛ حيث إن وعد اهلل تعاىل بالتمكني يف األرض ،هي لعباد
اهلل الصاحلني.
والصالح هو َمن صار حسنًا وزال عنه الفساد ،وكذلك الصالح هو َمن َع َّف،
و َف ُض َل ،والصالح يف اللغة كذلك ،هو االستقامة والسالمة من العيب ،كام يف
معجم املعاين اجلامع.
236
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أمور من الصعب حتقيقها من دون اشرتاطات ،عىل رأسها حتسني روابط وكلها ٌ
العالقة مع اهللِ تعاىل ،ولعل أهم أداة لذلك ،هي الصالة.
ففي الصالة ،يكون اإلنسان أقرب ما يكون إىل ربه سبحانه وتعاىل ،ويصل –
متى أداها يف إيامن وإخالص -إىل أعىل درجات النفس املطمئنة.
يأيت ذلك مع الرتبية اإليامنية ،التي ُيعترب الصوم من بني أهم أركاهنا العملية،
باإلضافة إىل رضورة أن تتضمن ِذ ً
كرا لتجارب األنبياء واملصلحني عرب التاريخ،
وع َب حول ما واجهوه من مشاق ،والنهاية التي وصلوا وما تتضمنه من دروس ِ
إليها ،من نرص ومتكني ،يف مقابل هزيمة وخزي ألعداء اهلل ،الكافرين الذين َّ
كذبوا
والرسل ،وطغوا يف األرض.
األنبياء ُّ
ويقول صاحب الظالل يف ذلك إن "الصرب اجلميل هو الصرب املطمئِن ،الذي
ال يصاحبه السخط وال القلق وال الشك يف صدق الوعد ،صرب الواثق من العاقبة،
الرايض بقدر اهلل ،الشاعر بحكمته من وراء االبتالء ،املوصول باهلل املحتسب كل
يشء عنده مما يقع به".
وسننه يف القرآن الكرمي:
التمكني ُ
237
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
238
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
239
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
240
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
السياسة ،واخلالفات الفقهية والفكرية بني احلركات اإلسالمية ،أو التي تنسب
نفسها إىل املنهج اإلسالمي؛ وهي قضية جتديد اخلطاب الديني.
فالتفاسري املوضوعة للقرآن الكريم ،إما أهنا تقف عند مفردات عرصها ،وبيئتها،
أو أهنا تقف عن األحكام الفقهية ،مع مرور غري ٍ
واف عىل النقاط التي تتصل هبذا
مرت هبا األمة ،من
ترسخت عرب قرون التأخر احلضاري التي َّ
الشأن ،يف ظل قناعة َّ
أنه ال أمهية وال هدف أمام اإلنسان ،إال معرفة دينه ،يف نظرة سطحية للغاية ملفهوم
الدين الشامل.
كام أهنا نظرة تتجاوز أمهية العلوم الدنيوية األهم ،مثل الطب واهلندسة
والرياضيات ،يف مساعدة اإلنسان يف أحد أهم األمور التي ُخ ِلقَ هلا ،وهي عامرة
األرض ،وحتقيق ُس َّنة تسخري املوجودات املتصلة هبا.
ونعيد التأكيد هنا عىل مركزية قضية خلق اإلنسان؛ حيث ترتبط هذه القضية
برصاع طويل صار له نحو قر َن ْي من الزمان ،استفاد فيه العلامنيون والالدينيون
241
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وامللحدون ،من أفكار تشارلز داروين ،والسيام نظريته يف التطور ،وكان القرآن
الكريم ونصوصه عىل رأس قائمة االستهداف بأفكار هذه النظرية.
ولكي نؤكد عىل أمهية هذه القضية؛ فإن العنوان العريض الذي تم تداوله عندما
ال ،كان" :اكتشاف حفريات جديدة يفتم اكتشاف احلفريات األخرية يف اجلزائر مث ً
اجلزائر قد تغري نظرية مهد البرشية".
كذلك قضية وجود نوعيات من القردة العليا ،تتشابه يف تركيبها اجليني مع
اإلنسان ،وجتيد استخدام األدوات البدائية ،مثل احلجارة يف حياهتا اليومية ،مثلام
كان عليه حال اإلنسان وقتام كانت اإلنسانية يف أول درجات ُس َّلم التطور احلضاري.
وبالتايل؛ فإننا أهم حتدٍّ يتهدد مصداقية القرآن الكريم ،ومصداقية اخلطاب
الدعوي املنبثق منه أمام غري املسلمني ممن نشأوا يف بيئات ال تضع للتد ُّين كبري
أمهية ،مثل جمتمعات أمريكا الالتينية ،أو نشأت يف جمتمعات وثنية من األصل ،مثل
املجتمعات التقليدية يف القارة األفريقية.
وبالتايل فإننا أمام جهد مطلوب يف جمال حتديث التفاسري املوضوعة للقرآن
الكريم لكي هتتم بإبراز هذه اجلوانب يف بعض النصوص ،وكيف أن القرآن الكريم
– كام نجده قد قدم رؤية تقدمية حول أمور نجدها حتدث اآلن قبل أكثر من 1400
تعارض معها.
عا ٍم – قد التفت إليها ،وأكد عليها؛ ال أن َ
وال يعني ذلك حتويل القرآن الكريم إىل ٍ
كتاب للعلوم كام قام البعض يف السنوات
أمورا
األخرية ،فآذوا النص القرآين بأكثر مما أفادوه بسبب عدم التدقيق ،فنسبوا له ً
قال هبا أ ُبقراط مث ً
ال قبل نزول القرآن الكريم بآالف السنني.
242
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لكن املطلوب تفسري حديث للقرآن الكريم ،جيد فيه املفرسون ما يدعم ويتوافق
مع االكتشافات العلمية احلديثة ،وخياطب العقل يف ظل سطوة العلم ،والذي جعل
العقل اإلنساين من جانب بعض الغالة ،بمثابة ٍ
إله.
وبالتايل؛ فإن هذا يتطلب تعاو ًنا بني العلامء املسلمني؛ علامء الفقه ،والعلامء
املتخصصني يف جمال العلوم الوضعية أو العلوم الدنيوية كام ُيط َلق عليها يف املجال
اإلسالمي العلمي ،للحديث يف هذه القضايا من أجل نفي التضاد الظاهري بني
هذه املكتشفات ،وبني ما هو يف عقائد املسلمني ،واستقيناه من النصوص القرآنية.
وعىل سبيل املثال؛ فإنه فيام يتعلق بقضية أصل اإلنسان ،يمكن للعلامء املسلمني
احلديث عن أنه ينبغي التمييز بني اإلنسان اآلدمي ،وبني اإلنسان غري اآلدمي ،وهو
مفهوم يشري إىل تلك املخلوقات التي عاشت يف األرض قبل نزول سيدنا آدم (عليه
السالم) ،تشبه اإلنسان اآلدمي يف تركيبها ،ولكنها ختتلف عنه يف املنشأ.
ويمكن هنا االستعانة بحقيقة علمية ،ذكرها القرآن الكريم ،وهي أن كل
املخلوقات ،بام يف اإلنسان ،إنام هي من أصل واحد ،فاإلنسان مذكور يف القرآن
الكريم ،خملوق من طني ،ونفخ اهلل تعاىل فيه من روحه ،فصار خملو ًقا ًّ
حيا ،والطني
تشكل منها الكون كله من األرض ،واألرض يف حد ذاهتا ،هي جزء من النواة التي َّ
بعد االنفجار العظيم ،وهي النظرية التي حازت عىل قبول غالبية العلامء عن أصل
الكون ،ونجد أن القرآن الكريم قد تك َّلم عنها ..يقول تعاىل﴿ :ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ
ﮦﮧ﴾ ُ
[سورة "األنبياء" -اآلية .]30
.....
243
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هكذا عىل هذا النحو ،وبصورة أكثر شمولية وعم ًقا ال يمكن بطبيعة احلال
احلديث عنها يف هذا احل ِّيز ،ويفهمها العلامء بصورة أفضل؛ ينبغي علينا أن نواجه
املوجة احلالية اآلخذة يف التنامي من املكتشفات العلمية يف أمور عىل قدر من
احلساسية كام تقدم ،إلمكان استمرار احلديث عن عمل دعوي بناء عىل ال َّنص
القرآين ،يلقى قبو ً
ال من الناس.
244
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لعل هذا العنوان قد يشري إىل قضية فكرية ،من ترف الرياضات الذهنية التي قد
يقوم هبا بعض ُ
الك َّتاب يف كثري من األحيان ،إال أهنا يف واقع األمر ليست كذلك.
ولتبيان أمهيتها ،يكفي أن نشري إىل أهنا تتصل يف جانب من جوانبها ،بمستقبل
ِ
احلراك احلايل يف خمتلف ميادين العمل اإلسالمي ،بمختلف أشكاله ،السياسية
والرتبوية واالجتامعية ،وغري ذلك.
فوفق ما تعلمناه يف جمال العلوم السياسية واالجتامعية؛ فإن التأصيل هو األساس
الذي تقف عليه األمور ،وبالتايل؛ فهو أصل النجاح أو الفشل ،ومفتاح للتحرك يف
حتر ًكا فاش ً
ال /ضعي ًفا /يف جمال غري مهم ..إلخ. أي اجتاه ،حتى ولو كان ُّ
نوعا ما لتحديث العقل
عدد من األمور التي دفعت إىل القول بأن هناك رضورة ً
وهناك ٌ
السيايس اإلسالمي ،ومن بينها ما ظهر يف أداء اإلسالميني ،فرادى ومجاعات ،عندما
اندلعت ما ُتعرف بثورات الربيع العريب قبل نحو ثامين سنوات ،وما تالها من تطورات.
فهذه املرحلة املاضية ،أثبتت أن اإلسالميني عىل املستوى الفكري ،والسيام
املستويات التي تتحكم يف ِ
احلراك ،وحتى يف رشحية الشباب ،لن نقول ليسوا
مؤهلني؛ حيث هذا حكم خاطئ ومتعسف ،وإنام نقول :إن كبار احلوادث التي
جرت ،إنام تثبت أنه كان هناك بعض األمور اخلاطئة يف هذا االجتاه ،مثل وجود
خلل يف طرائق فهم املواقف املختلفة ،وبالتايل؛ يف طرائق التعامل معها.
245
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويعود ذلك إىل أن هناك بني ظهراين احلركة اإلسالمية َمن ال يزال يعيش بعقلية
«نوستاجليا» املايض.
مثاليا ،يقف عند حدود القيمة،
ومنهجا ًّ
ً فمدارسنا الفكرية ،إما أهنا تصدِّ ر خطا ًبا
وما جيب أن نؤمن به ،بينام هذه بدهييات بالنسبة ألي مسلم صحيح الفهم لدينه ،ولكنها
مناهج ال تقول لنا :ماذا نفعل يف تفاصيل ودقائق املواقف ذات الطابع التطبيقي ،أو
أهنا تعتمد عىل مناهج وأفكار قديمة ،مل تعد تصلح بحال يف زمننا املعارص.
وهذا يف جانب من جوانبه حقيقة جيب أن نعرتف معها أن هناك رضورة
لتحديث اخلطاب اإلسالمي من هذه الزاوية .فحتى مفهوم "العلم" يف تفاسري
املايض؛ قارص يف ضوء مستجدات احلارض.
كذلك يف املجال السيايس واالجتامعي .فعىل أبسط تقدير؛ غالب التفاسري املوضوعة
لنصوص قرآنية ونبوية ،موضوعة يف وقت كانت هناك فيه دولة إسالمية جامعة.
وبالتايل؛ مل يكن هناك أي تفكري يف وضع فقه لدولة ُت َكم من جانب نظام ال
يستند إىل اإلسالم بشكل كامل ،ألنه يقود دولة مواطنة ،أو دولة قومية باملعنى
الذي ظهر بعد صلح ويستفاليا يف العام 1648م ،والذي أهنى احلروب الدينية
واملذهبية يف أوروبا.
ولقد اخرتنا هذا املثال ألمهيته يف احلالة التي نتناوهلا؛ حيث نخص احلديث عن
واقع احلالة اإلسالمية يف مرحلة كانت فيها عىل أبواب حكم دول بكاملها للمرة
األوىل منذ اهنيار آخر دولة إسالمية جامعة ،وهي الدولة العثامنية.
246
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف هذا اإلطار ،نجد أننا أمام ظاهرة "التس ُّلف" -لو صح التعبري -حتى عندما
قررنا كمسلمني ،أو عاملني يف احلقل اإلسالمي ،االنفتاح عىل األفكار األخرى،
وصيت.
ٌ باع
واألخذ من جتارب مفكرين هلم ٌ
فعندما قررنا أن نحكم ،وتبنى اإلسالميون مفاهيم احلكم املدين ،لدولة مواطنة
أفكارا من مدارس سياسية واجتامعية وفكرية ،قديمة للغاية ،ومل
ً مؤسسية؛ أخذنا
تعد تصلح للحارض مطل ًقا ،أو ال تتالءم مع واقعنا املجتمعي والسيايس والثقايف
يف عاملنا العريب.
فهي إما تقف بدورها ،عند حد القيمة واملثال ،مثل أفكار أرسطو أو أفالطون،
ض َعت بناء عىل تصور خمتلف للعمران السيايس واالجتامعي؛ حيث ظهر أو ُو ِ
بعضها يف فرتات الالدولة أص ً
ال ،أو يف بيئة سياسية واجتامعية وثقافية خمتلفة
متا ًما.
روسو،
فال يمكن بحال تطويع حتى أفكار جون ستيوارت ميل أو جان جاك ُّ
التي ُو ِض َعت بنا ًء عىل قيم غربية ،ولبيئة سياسية غربية ،وكذلك غربية ذات
خصوصية ،بعد انتصار الليربالية واألفكار الرأساملية ،وسياقات االستعامر حول
العامل ،واكتشاف األمريكيت َْي.
هنا ،مفكروهم كانوا أذكى من ِّ
مفكرينا؛ حيث بحثوا يف كل هذه املساقات ،وما
أفرزته من نتائج وأمور جمتمعية وسياسية ،وبنوا نموذج أو نامذج بناء عىل واقعهم
واحتياجاهتم ،ومتطلبات تطوير أنفسهم وجمتمعاهتم.
247
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولذلك؛ فإنه ال يكون من الصحيح بحال ،أن نلجأ إىل هذه املدارس ،ونحن
نحاول أن نتحرك يف جمتمعات ودول خمتلفة بالكلية عن املجتمعات والدول لتي
ُو ِضعت هلا هذه األمور.
يف هذا اإلطار ،فإنه من الواجب اآلن البحث يف كيفية توظيف طرائق التفكري
توسل النامذج احلديثة التي يمكن أن ختدم املرشوع
والعلم احلديثة ،وكذلك ُّ
اإلسالمي ،وفق اعتبارات موضوعية وواقعية.
ومن َث َّم؛ فإن هناك رضورة أو ً
ال ،لالنفتاح عىل الثقافات األخرى ،واألخذ من
اجليد منها.
وهنا فإن ملراكز البحوث يف خمتلف البلدان التي حققت تقد ًما يف جماالت
السياسة والنظم واإلدارة ،أمهية كبرية يف التعاطي مع خمرجاهتا ومنتجاهتا ،من كتب
ودوريات ودراسات.
وتتسيد العامل ،إال من خالل نامذج عمل وطرائق
َّ فهذه البلدان مل ُتقم هكذا،
تفكري ومنظومات اجتامعية وسياسية وصلوا إليها بعد الكثري من األزمات
واحلروب ،خرجت منها شعوهبا بقناعة برضورة جتاوز احلالة الرصاعية ،إىل حالة
التصالح مع الذات واآلخر ،وفق قانون تبادل املنفعة واملصالح.
وبالتايل؛ فإن هناك الكثري مما يمكن أخذه من جتارب هذه البلدان ،من خالل
مراكز التفكري " "Think Tanksالتي تضم خربات هذه املجتمعات بني جنباهتا،
وتعمل احلكومات جاهد ًة عىل اتباع ما تشري به يف دراساهتا.
248
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
249
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف عاملنا املعارص؛ نجد الكثري من املراكمة الفكرية واإلبداعية التي وضعها
مفكرون ينتمون إىل املذهب الذي يعيل من شأن االنتامء اإلنساين ،وإىل األيديولوجية
الليربالية ،وما يرتبط هبا من منظومة قيم ُتعيل من شأن ُس َّلم قيمي ،تقف احلرية عىل
رأس مكوناته.
ويف حقيقة األمر؛ فإنه ينبغي االعرتاف يف فضائنا اإلسالمي ،بالسبق يف هذا
الصدد للمفكرين والفالسفة الذين ينتمون إىل هذه املذاهب واملدارس الفكرية؛
شكل "خارطة طريق" واضحة قادت بنيان فكري متكامل َّ ٍ إذ استطاعوا خلق
الكثريين لإليامن بأن املدرسة الليربالية الغربية ،والفلسفات األوروبية ،هي أرقى
ما وصلت إليه البرشية يف املجال اإلنساين.
وزاد من مساحة انتشار هذه املدرسة ،فئتان ..األوىل ،هي فئة املسترشقني،
والثانية ،هي فئة الليرباليني العرب واملسلمني ،والتي ظهرت منذ بدايات القرن
التاسع عرش ،عندما نشطت حركة البعوث العلمية إىل أوروبا ،من مرص ،وحركة
اهلجرة من بالد الشام إىل أوروبا واألمريكيت َْي ،يف ظل املشكالت الطائفية
واالجتامعية التي طرأت يف مناطق ساحل سوريا الكربى يف ذلك احلني ،بعد
ضعف قبضة الدولة العثامنية املركزية عىل قلب وأطراف الدولة.
ساند انشار هذه املدرسة ،حالة التخلف احلضاري الشامل الذي رضب بأطنابه
بواقع ،بينام أصل املقارنات
ٍ واقعا
أمتنا ،وبدأت مقارنات ظاملة يف جذرها؛ إذ قارنت ً
250
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الناجحة ،هو أن تكون شاملة ،وأن توضع يف االعتبار مقارنة التاريخ بالتاريخ،
وكذلك أسباب حدوث هذا الواقع.
يف كل األحوال ،فإننا ً
دائم ما نقرأ عن الليربالية واملدرسة الغربية باعتبار أهنا
موئل احرتام التنوع الثقايف واإلنساين بشكل عام ،بام متلكه من منظومة قيم ،ينسى
خضم محاستهم أن هذه املنظومة قد أفرزت أسوأ األنظمة الشوفينية
ِّ الكثريون يف
األمر ْين ألكثر من ثالثة عقود من احلروب العاملية ،منذ
َّ املستبدة ،التي أذاقت العامل
منتصف العقد الثاين من القرن العرشين ،عندما اندلعت احلرب العاملية األوىل ،عام
1914م ،وحتى منتصف العقد اخلامس ،بنهاية احلرب العاملية الثانية عام 1945م.
يف املقابل؛ ال نجد ذات املنظومة املتكاملة من األدبيات واإلنتاجات الفكرية
تكرس موضع هذه األمور يف اإلسالم ،ويف املنظومة اإلسالمية.
التي ِّ
وهناك عوامل كثرية لذلك الوضع ،أمهها سيادة منظومة "ا ُمل ْلك العضود"
و"ا ُمل ْلك اجلربي" عىل الدولة اإلسالمية طيلة قرون ما بعد دولة اخلالفة الراشدة،
التطرق هلذه
ُّ واهتامم املفكرون والفقهاء املسلمني بالفقه واألحكام والتفسري عن
األمور ،تأ ُّث ًرا بواقع مهم ،وهو سيادة الدولة اإلسالمية عىل العامل القديم ،مع وجود
نظرة عقدية سلبية للفلسفة.
ونذكر املعارك الفكرية التي خاضها ابن رشد وابن عريب ،وغريمها ،وحتى
اإلمام الشافعي ملا أراد إنشاء مدرسة فقهية قائمة عىل فكرة التنوع االجتامعي،
وتبدُّ ل الظروف ،ووضع أثر ذلك عىل احلكم الفقهي أو إنزال احلكم الرشعي؛
ٍ
حرب حقيقية ،تعرض فيها للرضب من جانب أتابع املذهب املالكي تعرض إىل
251
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف مرص ،وقيل إنه مات بسبب رضبه باهلراوات من ِق َبل بعض ُغالة املالكية يف
مرص.
يف البدء جيب التأكيد عىل بعض النقاط ،أمهها مما له املركزية األكرب يف هذا
عمرانيا،
ًّ املقام ،هو أن اإلسالم دين يعرتف بالتنوع ،ويضع له أمهية باعتباره قانو ًنا
تكر ُسه يف خمتلف االجتاهات التطبيقية؛ السياسية واالجتامعية
وبالتايل؛ فالرشيعة ِّ
واالقتصادية والثقافية.
وكام نؤمن ونعلم؛ فإن اإلسالم نزل مواف ًقا للفطرة ،ألن اهلل تعاىل لن يرتيض
لعباده عقيدة ال يقبلها العقل ،أو رشيعة ال يمكن تطبيقها بسبب تعارضها مع
ممكنات الواقع ،وقدرات اإلنسان وطبيعته ..يقول تعاىل ﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ
[سورة "ا ُمل ْلك" – اآلية .]14
ﭡ ﭢ ﭣ﴾ ُ
والس َّنة النبوية الرشيفة ،يف أكثر من موضع
عب القرآن الكريم ُّ يف هذا اإلطارَّ ،
ٌ
حقيقة واقعة يف حياتنا. عن اعرتاف واضح بأمهية التنوع الثقايف ،وبأنه
وعندما نتكلم عن الثقافة؛ فإننا نتكلم عن اهلوية ،وبالتايل ،نعني منظومة من
األشياء واألمور ،مثل اللغة ،ومثل القومية ،التي تعني الشعوب ،واألعراق
املختلفة األلوان واللغات.
ومن القرآن الكريم ،نختار فقط آيت َْي؛ األوىل ،يف ُسورة "الروم"؛ إذ يقول
تعاىل﴿ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾ ،والثانية ،يف ُسورة ُ
"احل ُجرات" ،ويقول فيها سبحانه:
252
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾.
ويف اآلية الثانية؛ نجد أن التنوع الذي يعرتف به اإلسالم ،يبدأ من مستوى
النوع ،الذكر واألنثى ،وصو ً
ال إىل تنوع الشعوب ،بثقافتها وألسنتها وألواهنا ،كام
تقول اآلية األوىل ،يف تكامل رائع يقول بأحادية مصدر القرآن الكريم ،واتساقه.
الس َّنة؛ فنقف أمام "خطبة الوداع" ،التي تال فيها الرسول الكريم ﷺ ،قول
أما ُّ
اهلل تعاىل﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
[سورة "املائدة" – من اآلية ،]3ويف ذلك داللة عىل أن هذه اخلطبة ،فيها
ﮅ﴾ ُ
مجاع الدين ،ومركزيتها يف حتديد رؤية وبوصلة األمة إىل يوم ُيبعثون.
ففيها قال الرسول "عليه الصالة والسالم"" :كلكم آلدم وآدم من تراب"،
وفيها قال خماط ًبا الناس أمجعني؛ ألنه "عليه الصالة والسالم" ،كان يعلم أن
اهلل تعاىل شاء أن تبقى هذه الكلامت حية لتقيم ُ
احل َّجة عىل بني آدم كلهم
أمجعني" :يا أهيا الناس أال إن ربكم واحد وإن أباكم واحد أال ال فضل لعريب
عىل أعجمي وال لعجمي عىل عريب وال ألمحر عىل أسود وال أسود عىل أمحر
إال بالتقوى".
فلم يقل النبي ﷺ" :إن إهلكم واحد" ،بل قال "ربكم" ،ومن املعروف لعلامء
ور ُّب ِّ
كل إنسانَ ،من آمن و َمن كفر ،بينام التوحيد ،أن اهلل تعاىل هو َر ُّب كل يشءَ ،
اإلله هو ملن يؤمن به ،وهو نحن املسلمون يف هذه احلالة.
253
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
رد الرسول "عليه الصالة والسالم" يف هذه العبارات ،اإلنسانية إىل أصلها؛
كام َّ
آدم (عليه السالم) ،واعرتف بالتنوع العرقي فيها ،وقال إن هذا التنوع ال فضل
ٍ
ألحد فيه عىل أحد ،إال بالتقوى.
فهذه العبارات إ ًذا ،تقول بأن اإلسالم وضع نقطة التنوع الثقايف واالجتامعي،
قيد االعرتاف ،بل جعله ،كام يقول مفكرون عرب غربيون عن املفهوم الغريب
للتنوع الثقايف واالجتامعي ،قضي ًة إنساني ًة وأخالقية؛ حيث منع أي تفوق ألي
عنرص ملجرد أنه ينتمي إىل هذا الشعب /العرقية /اللون /اللسان؛ إىل آخر صور
التنوع البرشي ،ووضع معيار التقوى لفضل الناس عىل بعضها البعض.
والتقوى هي خشية اهلل تعاىل ،ومراقبة اإلنسان له يف كل عمله وحاله ،وال يوجد
أفضل من ذلك كمعيار أخالقي لألفضلية ،ويف ذلك فليتنافس املتنافسون كام قال
القرآن الكريم.
وكام نعلم عن الرشيعة اإلسالمية ،من شمول وتكامل؛ فقد صبغ ذلك املبدأ
كل يشء يف أحكامها ،مثل كل املبادئ التي أقرهتا الرشيعة؛ فنجدها يف االقتصاد
والسياسة والترشيع القانوين وكذا.
بالتنوع
ُّ بالتايل؛ نجد أن موقف الدولة ومنظومة احلكم يف اإلسالم ،تعرتف
الثقايف واالجتامعي هذا ،ونجد ذلك يف "وثيقة املدينة" ،ويف املامرسة النبوية يف
دولة املدينة ،وحتى يف الدول اإلسالمية التي ظهرت بعد عرص اخلالفة الراشدة؛
مل نجد أن احلاكم املركزي ،يف بغداد أو القاهرة أو األستانة ،أو أ ًّيا كان ،قد فرض
التعريب أو الثقافة العربية عىل الشعوب األخرى.
254
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وأبسط دليل عىل ذلك؛ أن لغات وكتب وثقافات الشعوب التي تضمنتها الدولة
اإلسالمية ً
قديم ،ال تزال حية؛ فاألكراد هلم لغتهم التي يتكلمون هبا ،وفنوهنم
وثقافتهم ،واألمازيغ هلم لغتهم احلية ،وفنوهنم وآداهبم ،واملسيحيون يف املرشق؛
كتبهم موجودة بلغاهتا ،وكذلك عاداهتم وتقاليدهم قائمة.
كل هذه األمور هي مفردات مفهوم "الثقافة" الذي يشمل كل مكونات اهلوية
واخلصوصية اإلنسانية ،وما انبثق عن هذه اخلصوصية من نتاجات مثل الفنون واآلداب.
ولو تأملنا يف مفردات نظرية التنوع الثقايف يف املفهوم الغريب ،وما تضمنته
من منظومة قيمية متكاملة ،مثل احلرية والتسامح ،وكذلك ،العدل واملساواة
جذرها بنصوص قرآنية ونبوية واضحة، واإلنصاف؛ سوف نجد أن اإلسالم قد َّ
وأكدهتا املامرسة النبوية كذلك يف دولة املدينة.
وعىل العكس ،فقد قدَّ م اإلسالم منظومة أخالقية مرتاتبة يف هذا الصدد ،أكثر
واقعية ومالئمة لطبيعة اخللق اإلنساين ،وأفضل إلدارة املجتمعات البرشية.
فحتى "فقهاء" ليرباليني غربيني ،انتقدوا مذهب ماديسون يف تعظيم الفردانية،
والتي وصلت إىل مستوى األنانية ،وعندما وضع جون ستيوارت ميل ،ومن قبله
جون لوك ،أساسيات الليربالية املعارصة ،كان البعد االجتامعي – الذي أكد عليه
واضحا يف أفكارهم.
ً اإلسالم –
ويف اإلسالم؛ نجد أن احلرية قيمة أساسية ،بل إهنا إحدى مناطا التكليف مع
العقل ،ويف تصنيف مسترشقني وليس حتى فقهاء أو فالسفة مسلمني؛ نجد أهنم
الس َّلم القيمي يف اإلسالم ،ومن العدالة ،تقف املساواة.
يعرتفون بأن العدالة هي قمة ُّ
255
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فعىل سبيل املثال؛ مل تعرف مجاعة املسلمني وقت الرسول الكريم ﷺ ،أية فروق
طبقية ،ومل يكن هناك "صحابة" و"صحابة" ،أي مل يكن بني صحابته رضوان اهلل
مجيعا ،أية متايزات ،ألي اعتبار بل إن املجموع املسلم وقتها كان عىل
تعاىل عليهم ً
قدم املساواة.
فحتى عثامن بن ع َّفان وعبد الرمحن بن عوف (ريض اهلل عنهام) ،وكانا من
الذين ينفقون عىل جيوش املسلمني ،وعىل ما نعرفه اآلن بالبنية التحتية ،مثل رشاء
اآلبار وحفرها ،وزراعة األرض ،وكذا؛ مل يكن هلم أي وضع متاميز يف الدولة
واملجتمع.
وبدا ذلك يف الكثري من األمور األخرى ،حتى يف أمور احلرب ،مثل تكليف
شباب مثل أسامة بن زيد ،لكي يقود ً
جيشا كان فيه عمر بن اخلطاب ،وعيل بن أيب
طالب ،ريض اهلل عن اجلميع ،وما كان الصحابة ليقبلوا بذلك؛ إال ألهنم يعلمون
كرسها
أن هذا ضمن منظومة نزهية ،وتستند إىل املوضوعية ،وتقوم عىل مبادئ َّ
الدين؛ ال عىل بواعث شخصية لدى النبي "عليه الصالة والسالم".
.....
صفوة القول ،ألن هذا احلديث يطول ،وداللة أنه يطول ،وبحاجة إىل دراسات
وكتب أكثر عم ًقا يف التناول؛ أنه بالفعل ،املطلوب يف املرحلة الراهنة ،هو أن يقوم
مفكرو وفالسفة وعلامء املسلمني ،بالكتابة يف هذا االجتاه ،كت ًبا ودراسات حمكمة
منضبطة باملنهج العلمي يف التوثيق والتأريخ واحلكم الرشعي.
256
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
257
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مدخل:
ُتعتَرب قضية االعتقاد أساس الدين اإلسالمي ،وأساس أية ديانة أخرى ،سواء
أكانت الديانات ا ُمل َّنزلة من َلدُ ن اهللِ تعاىل ،أو الديانات الوضعية التي ظهرت يف
بعض املجتمعات اإلنسانية ،عرب التاريخ ،استنا ًدا إىل أفكار وفلسفات برشية
مزجا بني بعض املحتوى املوجود يف الديانات ا ُمل َّنزلة واألفكار البرشية.
خالصة ،أو ً
فاالعتقاد هو الذي األساس الذي تستند إليه بالكامل ،منظومة األفكار
والسلوكيات التي يتحرك وفقها اإلنسان يف حياته ،وحتكم تصوراته عن الدنيا،
وعن دوره فيها ،وعالقاته مع اآلخرين ،أ ًّيا كان شكل وحمتوى هذا االعتقاد.
ويف القرآن الكريم؛ فإننا نجد اهتام ًما وثي ًقا هبذه املسألة ،يف إطار ُص ْلب حمتوى
االعتقاد وفق التصور اإلسالمي ،وهو توحيد الربوبية واأللوهية ،وتوحيد
العلية ،اإلله والرب الواحد األحد ،خالق
الصفات واألسامء احلسنى هلل ،الذات َّ
الساموات واألرض ،ومدبرمها ،وبالتايل؛ األحق وحده بالعبادة.
ويف هذا اإلطار ،ويف ظل َك ْون القرآن الكريم ،هو األداة أو الوعاء الذي اختاره
اهلل عز وجل حلفظ تعاليمه ورشيعته إىل أن يشاء ويرفعها من عىل األرض ،فإن اهللِ
إطارا ُك ِّل ًّيا متكام ً
ال ،ومنظومة شاملة ،عقلية ومعرفية ،يف سبحانه وضع يف كتابه ً
شأن مسألة االعتقاد.
258
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
259
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ما خيص حمتوى العقيدة ،وهو التوحيد ،ووجود اإلله والرب الواحد اخلالق واملد ِّبر
هلذا الكون ،أو ما يتعلق بجهود تبليغ هذه العقيدة.
وتنبني هذه املنظومة عىل أساس َي ْي.
األساس األول ،املحتوى الذي خيص العقيدة ،والثاين ،املحتوى الذي خيص
االعتقاد ،أو ما نقصد به اإليامن وااللتزام هبذه العقيدة.
ً
أوال :املنظومة العقلية واملعرفية للعقيدة:
يف األساس األول ،فإن القرآن الكريم تضمن مئات اآليات القرآنية التي تتكلم
عن أهم ركن من أركان العقيدة ،وهو وجود اهلل عز وجل ،ثم أدلة وحدانيته ،وأنه
ال خالق وال ُمد ِّبر هلذا الكون إال هو تبارك وتعاىل.
كذلك اهتم القرآن الكريم يف هذا املقام ،باحلديث عن صفات اهلل عز وجل،
وأسامئه ُ
احلسنى.
والقضية األخرية غري واضحة لعوام املسلمني؛ حيث البعض يتصور أن أسامء
أمر عىل أكرب قد ٍر اهلل ُ
احلسنى إنام يف إطار "الزينة" وفق املفهوم البرشي ،بينام هي ٌ
تفرد هبا
احلسنى تتضمن الصفات والسامت التي َّ من األمهية؛ حيث إن أسامء اهلل ُ
اخلالق عز وجل ،يف طالقة حمتواها ودالالهتا؛ حيث هو الكبري املطلق ،والعظيم
املطلق ،والعزيز املطلق ،والرمحن الرحيم املطلق ،وتؤكد بالتايل ،أنه هو املعبود
الوحيد األحق بالعبادة.
وهذا ينقلنا إىل النقطة الثانية يف هذه املنظومة ،وهي العبادة؛ حيث هي ال تنفصل يف
رب ٍ
وإله للكون ،وتوحيده. اإلطار العام هلا عن اآليات القرآنية التي تناولت قضية وجود ٍّ
260
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
261
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهي صالحية القرآن والرشيعة لكل زمان ومكان ...﴿ ..ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﴾.
ثانيا :املنظومة العقلية واملعرفية لالعتقاد وااللتزام بعقيدة التوحيد:
ً
األساس الثاين يف هذه املنظومة ،هو قضية االعتقاد ذاته من جانب اإلنسان ،ويف
هذا املجال؛ فإن القرآن الكريم قد أتى بنموذج شامل غري موجود يف باقي الديانات،
وهو نموذج يؤكد أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل الكريم ،الذي خلق العباد؛ حيث
إن النموذج الذي طرحه يف هذا الصدد ،يؤكد ما جاء يف اآلية الكريمة التي يقول
ورة "ا ُمل ْلك" – اآلية
[س َ
اهلل تعاىل فيها﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾ ُ
.]14
ففي إطار الدراية الر َّبانية باإلنسان ،الذي هو خلق من ِ
خلق اهلل سبحانه؛ فإن
اهلل تعاىل يف القرآن الكريم وضع نقطت َْي أساسيت َْي يف هذا األمر ،األوىل ،حرية
االعتقاد ،والثانية اإلتيان باألدلة العقلية عىل وجود اخلالق عز وجل الذي سوف
262
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يعبده اإلنسان ،ويط ِّبق رشيعته ،التي هي أوامره ونواهيه تبارك وتعاىل ،بموجب
هذا االعتقاد.
وكالمها ،احلرية والعقل ،مها مناطا التكليف بحسب علامء أصول الدين.
ال يف نقطة إثبات وجود اهللِ عز وجل؛ فإنه يف مقابل حقيقة قصور حواس
فمث ً
اإلنسان عن إدراك اهلل – ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ
ورة "األنعام" – اآلية – ]103؛ فإنه يأيت بالدليل الذي يقبله
[س َ
ﭮ ﭯ﴾ ُ
العقل عىل وجود اهلل تعاىل ،وعىل وحدانيته.
مرة فيام يتعلق بسياق
فهناك عبارة قرآنية مهمة وردت ما يقرب من ثالثني َّ
عقليا؛ وهي عبارة﴿ :ﮟ
موضوعي معني ،وهو إثبات وجود اخلالق عز وجل ًّ
ﮠ﴾ ،مثل﴿ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ورة "الروم" – اآلية ،]22ويف ذات
[س َ
ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﴾ ُ
املعنى﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ
ورة " ُف ِّص ْ
لت" -اآلية .]53 [س َ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ ُ
ويف مسألة الوحدانية؛ فإن القرآن الكريم أتى بأدلة عقلية ال يمكن دحضها
ٍ
منطق ،مثل قوله تعاىل﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ بأي
أيضا﴿ :ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ورة "اإلرساء" – اآلية ،]42وقوله ً
[س َ
ﮉﮊ ﴾ ُ
ورة "األنبياء" – اآلية ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ ُ
[س َ
،]22و﴿ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
263
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
264
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فحتى ُر ُسلِ اهلل تعاىل؛ جاء يف القرآن الكريم بوضوح ،أن ما عليهم حماسبة
الناس أو إجبارهم عىل اإليامن باهلل تعاىل ،وهذا األمر من ش َّق ْي؛ األول ،أن ما
الر ُسل ،وبالتايل الدعاة والعلامء الذين هم ورثة األنبياء؛ ﴿ﭰ ﭱ ﭲ﴾،
عىل ُّ
مرة يف القرآن الكريم.
وهي عبارة وردت َّ 11
ومنها قوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ
ورة "النحل" – اآلية ،]35وقوله عز
[س َ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ ُ
وجل ﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ورة "املائدة" – اآلية .]92
[س َ
ﮄﮅ﴾ ُ
الشق الثاين ،التأكيد عىل أن حساب الناس ،مؤمنيهم ُ
وك َّفارهم ،عىل اهلل تعاىل
فحسب ،والقرآن الكريم وردت فيه آيات عدة تؤكد هذا املعنى بشكل واضح،
ورة "الشعراء" – اآلية
[س َ
مثل قوله تعاىل﴿ :ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ُ
.]113
.....
ويف األخري؛ فإن هذا األمر ،هو مبحث كامل ،يتطلب دراسات أعمق يف القرآن
الكريم ،واستخراج املعاين املختلفة آلياته التي شكلت فيام بينها هذه املنظومة
املتكاملة لالعتقاد ،والتي ُتعترب ُص ْلب دين اإلسالم ،وتتصل هبا خمتلف األفرع
األساسية للدين ،بام يف ذلك الرشيعة واألحكام.
265
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
266
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تسمح بفهم عوامل التقدم والرتاجع احلضار َي ْي ،ومن خالل منظومة مقا ِرنة بني
ُّ
والتأخر احلضاري؛ العرب واملسلمون حال ًيا ،والغرب يف مرحلة َ
نمط ْي للتخلف
َ
ونمط ْي للتقدُّ م احلضاري واملديني؛ العرب واملسلمون يف ما قبل عصور التنوير،
املايض ،والغرب حال ًيا.
كام أن الدرس املهم للغاية من ذلك ،هو أن ندرك ُس َّنة التداول .يقول تعاىل:
ورة "آل عمران" – من اآلية .]140
[س َ
﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ ُ
والغرض منهاْ ،
أن نفهم أنه ليس ملجرد أن نقول بأ َّنا مسلمون؛ سوف نسود
العامل ،وإنام هناك قوانني حاكمة وضعها ر ُّبنا سبحانه وتعاىل يف خلقه ،جيب علينا
اتباعها وااللتزام هبا ،من أجل العودة إىل السؤدد والقيادة.
ثمة مالحظة مهمة هنا يف هذه اآلية ،وهي أن استيفاء رشط اإليامن؛
ولكن َّ
يقود مجاعة املسلمني إىل التقدم والتطور ..يقول تعاىل﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ﴾ ..فالرابط هنا قائم بني ُس َّنة التداول ،وبني استيفاء املسلمني
لرشوط اإليامن ،وبذل اجلهد﴿ ..ﯨ ﯩ ﯪ﴾﴾.
وأول ملمح من مالمح قضية الرتاجع احلضاري لدى املسلمني ،والعرب يف
الكرام رضوان
قلب األمة ،وهي حقيقة أكدها احلديث النبوي ،وأقوال الصحابة َ
وخصوصا
ً اهلل تعاىل عليهم ،هي إشكالية فهم ومن َث َّم تطبيق ،املفاهيم احلضارية،
بالس َّلم القيمي ،وهي ثالث مفاهيم أو قيم أساسية،
عرف ُّ
املفاهيم األساسية ،أو ما ُي َ
وهي :العدالة واملساواة واحلرية.
267
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهي قيم ختتلف يف ترتيبها وترتيب أولويتها عىل األخرى بني النظريات
األساسية التي حتكم العامل يف الوقت الراهن ،وفق ما اتفقت عليه كتب الفكر
ِ
املعاص ،وهي :اإلسالم ،والليربالية ،واالشرتاكية. السيايس
ففي اإلسالم تأيت العدالة ثم املساواة ثم احلرية ،بينام يف الليربالية ،تأيت احلرية ثم
العدالة فاملساواة ،بينام يف االشرتاكية تقف املساواة عىل رأس اهلرم ،ثم العدالة ،ثم
احلرية.
وبطبيعة احلال ،هناك قيمة عظمى ما فوق هذه القيم يف اإلسالم ،وهي قيمة
التوحيد ،وإقامتها من خالل إنفاذ أحكام الرشيعة اإلسالمية ،ولكن ما دون
التوحيد؛ تشرتك األيديولوجيات – ً
جمازا – الثالث السابقة يف هذه القيم ،وإن
اختلفت يف ترتيبات.
مكوننا القيمي واملفاهيمي ،ويف عقيدتنا ،عنهم؛ إال ان
يف الغرب ،ومع اختالف ِّ
هناك لدهيم ميزة أهلتهم لتصدُّ ر املشهد احلضاري العاملي ،وهي فهمهم ،ومن َث َّم؛
كفاءة تطبيقهم للقيم التي يؤمنون هبا ،ويعيشون هبا.
ففي قضية احلرية ،وهي من بني أهم األمور اجلدلية التي تشغل بال العاملني
يف حقل العمل اإلسالمي ،وساحاتنا الفكرية بشكل عام ،عندما نقف أمامها يف
بمعنى أدق ،هي بخالف تلقينا نحن كعرب
ً الغرب؛ نجد أهنا خالف ما نظنه ،أو
ومسلمني ،وفق منظومتنا القيمية واألخالقية ،وبام لنا من خلفيات وبيئات ِ
حمافظة
كذلك.
268
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فاحلرية الفردية ،وهي قيمة مقدسة تصل إىل مستوى االعتقاد يف الغرب ،هي
ممارسة منضبطة ،وليست منفتحة أو منفلتة كام يتصور البعض .فهي منضبطة
باإلطار القانوين ،وبضوابط املجتمع القوي القادر عىل الدفاع عنها.
يف الغرب ال يمكنك أن تسري بميكروفون يف الشارع ،أو تستخدم يف بيتك –
حتى بيتك ،مكانك اخلاص – مكنسة كهربائية يزيد صوهتا عىل مستوى معني
من الديسيبل "وحدة قياس شدة الصوت" ،وفق قواعد حددهتا قوانني االحتاد
األورويب رصاح ًة.
العرف هناك – بعد الساعة العارشة مساء ،ال يمكنك بحال ،أن
بل إنك – وفق ُ
شخصيا داخل بيتك بحيث تزعج اجلريان .يف حينه سوف ت َّتهم
ًّ ترفع صوتك أنت
بعدم االتزان النفيس!
يف الغرب من املستحيل أن تسري يف الشارع زاع ًقا بسيارتك أو دراجتك
البخارية ،أو تتجاوز خطوط املشاة ،أو حدود الرسعة والطريق .هناك يمكنك أن
تسب جارك.
تسب رئيسك ،ولكن ال يمكنك أن َّ َّ
لكن .كيف نظن نحن احلرية الفردية؟ ..كام نرى من فوىض يف بيوتنا وشوارعنا.
إ ًذا؛ نحن لسنا أكثر حرية منهم ،بل إننا يف الواقع ،فوضويون.
هم تقدموا ع َّنا ،ألهنم يفهمون احلرية ،بمكوناهتا كافة ،بينام نحن نعتقد أن احلرية
هي صنو الفوىض.
من بني معامل هذه اإلشكالية ً
أيضا ،قضية جتنيبنا العقل بالرغم من أن القرآن
الكريم ذاته ،دعا إىل إعامله يف أهم قضية من قضايا الدنيا ،وهي قضية معرفة
269
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وجود اخلالق عز وجل ،وتأكيد وحدة ربوبيته ،ووحدة ألوهيته ،وأحقيته باألسامء
العلية.
والصفات َّ
واخلطأ هنا هو أننا ج َّنبنا العقل لصالح الغيبيات ،واعتربنا أن ذلك من اإليامن،
وأدى ذلك إىل سيادة نوعيات من عقليات اخلرافة والدروشة ،وهي صنو التخلف
الذي هنى عنه اإلسالم؛ حيث اإلسالم هو أكرب ثورة عمران وبناء عرفها التاريخ،
حتيزات باعتبار أننا مسلمني ،ونفخر بذلك.
من دون مبالغات ،ومن دون ُّ
نحكم الدين بشكل صحيح؛ أقمنا أعظم والدليل عىل ذلك ،أننا عندما ُك َّنا ِّ
ال .لآلن ،شعراء وفالسفة الغرب، احلضارات التي عرفتها اإلنسانية ،وأكثرها عد ً
يتغ ُّنون بحضارة األندلس ،ويرسمون حدائقها الغ َّناء وعمراهنا الباذخ يف لوحاهتم،
ويدرسون علومها يف جامعاهتم ،وإىل اآلن.ِّ
وخصوصا يف جماالت
ً وهذا باملنطق؛ يعني أسبقية احلضارة اإلسالمية بدرجات،
أمر مل يكن ليحدث ،لوال أن طبقت العمران األهم ،وهي التعايش ،والبناء ،وهو ٌ
احلضارة اإلسالمية أول قيمة يف ُس َّلم القيم الذي أرشنا إليه ،وهي العدالة.
وبينام ختلينا نحن عن هذه العقلية؛ أقام الغرب حضارته عىل العقل واملنطق..
هناك جتد االتساق مع الذات .حتى اجلريمة واالنحرافات؛ هلا قواعدها املنطقية
الناظمة هلا.
فعندما َع ِمل الشاعر الفرنيس آرثور رانبو يف جتارة العبيد ،ترك الشعر .هكذا
ببساطة؛ ألن الشعر كمامرسة إنسانية ال يتفق أبدً ا يف جوهره األخالقي والقيمي
مع جتارة الرقيق.
270
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يزعم
بمعنى أدق – هناك الذي ُ
ً لكن لدينا يف جمتمعاتنا؛ هناك املتدِّ ين ،أو –
أنه ُمتَد ِّين ،ويامرس أبشع ألوان االنحرافات األخالقية .هذا ليس ألنه رشير أو
ريا يف مفاهيمه وتصوراته لألمور .هناك التد ُّين /أو كذا ،ولكن ألن هناك خل ً
ال كب ً
االنحراف /أو اإلحلاد حتى ،هو منظومة ،ال جيب أن تقوم بأمور تتناقض معها.
بل إنه حتى يف مذاهب شاذة مثل املذهب األبيقوري ،وهو مذهب فلسفي
وثني يف جوهره العقيديُ ،يعيل من شأن اللذة احلسية ،ويمنح أتباعه احلرية املطلقة
يف ممارسة ألعن ما يمكن أن نتصوره كمسلمني ،وتتصوره الفطرة السليمة ،من
حسية .يف حمافل هذا املذهب الذي ظهر يف اليونان القديمة؛ مل نجد لوحات
ملذات ِّ
تشري إىل وجود راهبة أو ناسك يف حمافل يامرس أصحاهبا شهواهتم بحرية كاملة،
وعندما فعل رهبان بيندكتبويرن األملان ذلك يف القرن الثالث عرش امليالدي؛
عرف يف الديانة املسيحية باحلرمان الكنيس.
طردهتم الكنيسة ،وقامت معهم بام ُي َ
ويف الواليات املتحدة اآلن؛ نجد آالف املذاهب والكنائس التي متزج بني
املسيحية وديانات وعقائد وثنية .هذه ال تعرتف هبا الكنائس الكربى املعتمدة،
الكاثوليكية أو الربوتستانتية أو اإلنجيلية.
......
ويف األخري؛ فإننا بحاجة إىل برامج تربوية وإعالمية ،ومنهجية تلقني وتنشئة،
تضع يف أذهان املسلمني ،أطفاهلم وعوامهم ،بل وحتى نخبتهم املهتزة ،جوهر
املفاهيم التي انبنت عليها حضارة اإلسالم ذات يوم .أن نفهم معنى العدالة ،ومعنى
271
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
املساواة ،ومعنى احلرية ،وأن نطبق تلك القيم بشكلها السليم؛ ال وفق هوانا ،ويف
ً
مسوخا. إطار منظومة متجانسة ومتكاملة ،وإال أصبحنا
كام أننا ال جيب أن ننبهر بالتقدم احلضاري احلايل يف الغرب .هم لدهيم انحرافات
عميقة عن املنهج احلضاري السليم ،وحيملون بذور فنائهم ،وال جيب أن نضع العلم
املادي كمظهر وحيد للتقدُّ م احلضاري .هذا كذلك خلل مفاهيمي لدينا كعرب
ومسلمني ينبغي لنا معاجلته ،ألنه ِ
حيدث أخطاء لو حاولنا اإلصالح .فالقصة
ليست قصة مراكز بحثية واكتشافات طبية وفضائية .األمر أعمق من ذلك؛ حيث
يرتبط بالترشيع والواقع املجتمعي ،واألمور التأسيسية أو األصولية.
كام أننا لو وقفنا أمام التقدُّ م العلمي فحسب؛ فسوف نخاف منهم .سوف ينشأ
ٌ
خوف مريض منهم ،ألن اجلانب القبيح من العلم ،منحهم سطوة يف السامء، لدينا
وسطوة يف السالح ،وسطوة يف عوامل قوة األمة بشكل عام.
فالبد – إ ًذا – ِمن تفكيك النموذج احلضاري الغريب ،لألخذ بجوانبه اإلجيابية،
وتفادي ما فيه من عوارض وعوامل نقص وضعف.
272
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الج ْم ِعي
قضايا وإشكاالت في العقل اإلسالمي َ
تأيت مسألة صناعة العقل اجلمعي عىل رأس األمور التي هي عىل أكرب قدر من
األمهية يف املجتمعات املتقدمة ،وحيرص عليها صانع القرار ،وأصحاب الكلمة
والرأي يف املجتمعات.
وتتضمن هذه العملية ،صياغة األسس الفكرية التي تنطلق منها تصورات
اإلنسان حول نفسه وحياته ،وحول كيفية تعامله مع املسارات املختلفة من حوله،
وصو ً
ال إىل املجتمع الكبري.
وتتم عملية بناء األسس واملنطلقات الفكرية ،من خالل منظومة متنوعة من
املسارات التي تقوم بصناعة املفاهيم وغرس القيم ،تشارك فيها مؤسسات املجتمع
املدين ،ووسائل التنشئة والتلقني املختلفة ،مثل وسائل اإلعالم والتعليم ،واآلداب
والفنون ،وما اتصل بذلك.
ترسخت عرب قرون طويلة ،املظلة َّ
وشكلت قيم األيديولوجية الليربالية التي َّ
اجلامعة بني خمتلف املجتمعات والبلدان الغربية ،والبلدان التي تسري يف فلك الغرب،
أو هلا ذات االنتامء ،مثل أسرتاليا ونيوزيلندا عىل سبيل املثال ،واللتان خترجان عن
وأفكارا ونمط حياة.
ً النطاق اجليوسيايس لـ"الغرب" ،ولكنهام غربيتان ً
قيم
شكلت هذه القيم عندما تم توجيهها يف خمتلف مسارات التنشئة وبالتايل؛ َّ
بمعنى أوضح ،توحيد
ً اجلمعي ْي ،أي
َّ واخلطاب العام ،حالة من العقل والوجدان
املجتمعات الغربية أو التي تسودها القيم الليربالية.
273
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
274
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن نافل القول يف هذا املوضع أن نشري إىل قضية الرصاعات واحلروب القائمة
بني الدول العربية واملسلمة؛ بعضها وبعض؛ حيث خلقت هذه الرصاعات الكثري
من احلزازات النفسية بني الشعوب ،بينام القصة تتعلق بمصالح أنظمة وحكومات.
املأساة األكرب ،هي أننا كمسلمني ،بِ ْتنا – أجيال كاملة م َّنا – ُم ِ
ستهلكني هلذه
"لتتبعن
َّ األفكار ،ومتتبعني هلا ،حمققني نبوءة الرسول الكريم ﷺ ،التي قال فيها:
ضب ٍّ ذراعا حتى لو دخلوا ُج ْحر
ً وذراعا
ً ربا
ربا ش ً
ُسنَن َمن كان قبلكم ش ً
التَّبعتموهم" [أخرجه ال ُبخاري] ،وكل ذلك بداعي االنفتاح والتنوير.
ومن أهم ما يغيب ع َّنا يف هذا اإلطار ،حقيقة مهمة ،وهي أن النبؤات والرساالت
ا ُمل َّنزلة من عند اهلل سبحانه ،أو ما ُي ِ
طلق عليه العوام مسمى "الديانات الساموية"،
هي أهم بؤر التنوير يف تاريخ اإلنسانية.
ألهنا – وآخرها وأ َّمتها وأكملها ديننا احلنيف – دعوات إصالحية من لدُ ْن
اخلالق ،وهو األدرى بخلقه ،ولكن دعاة اجلهل والتضليل ،وأرباب السياسة
واملنافع؛ منعوا النور الساموي من االنسياح بني البرش ،واستبدلوا الذي هو أدنى
بالذي هو خري.
ونحن كمسلمني ،آخر َمن جيب أن يتساءل ،أو أن ُن َصاب باحلرية ،فلدينا
الس َّنة النبوية الرشيفة ،والتي من وم َّ
وضح يف القرآن الكريم ،ويف ُّ كل يشءُ ،
أهم مصادرها ،سرية الرسول الكريم ﷺ ،بكيفية ترصفه يف املواقف املختلفة،
ويف األمور العامة للدعوة ،ولقضية اإلصالح والتغيري ،وخمتلف القضايا ُ
الك ِّل َّية
املطروحة عىل املسلمني ،وعىل اإلنسانية بشكل عام.
275
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وتطرح هذه اإلشكالية ،قضية مهمة ،وهي اإلصالح الداخيل ،وما يتصل هبا يف
شأن موضوع اإلعداد الذايت ،والذي ُيعترب – وفق املنطق العقيل البسيط – أسبق
ومقدَّ ًما عىل املعركة التي تضع هلا قوى اإلصالح التي تتبنى النهج اإلسالمي،
األولوية األوىل يف برناجمها ،وهي التدافع ضد الفساد واملفسدين ،واالستبداد
واملستبدين ،وضد عوامل الرتدي احلضاري بشكل عام.
داخليا؛ سيكون أي ٍ
جهد يف أي اجتاه من اجتاهات ًّ وذلك ألنه من دون بنية سليمة
وخارسا ،وإصالح اجلامعة املسلمة ،أوىل هبذا اآلن.
ً التدافع بشكل عام؛ فاش ً
ال
وحتى لو أردنا استفادة من جتارب املجتمعات األخرى – وهذا مقبول يف
حدود الرشادة ،وأهم هذه احلدود؛ أال يؤثر ذلك عىل هويتنا ،وعىل ثقتنا يف انتامئنا
اإلسالمي – فلامذا ال نأخذ منهم حقيقة مهمة ،وهي أن معركة الوعي والعقل
اجلمعي؛ هي أهم معارك احلضارة؟!
فمبدئيا؛ الوعي بشكل عام وحده هو الذي حيقق الفهم ،والفهم الصحيح هو
ًّ
معيار احلكم السليم عىل األمور ،وهو الذي حيدد طرائق التعامل الصحيح مع
املواقف واألزمات املختلفة ،وهو الذي جيعل الصواب صوا ًبا ،وجيعل اخلطأ خطأ،
وبالتايل؛ نعرف الفساد من الصالح ،واإلفساد من اإلصالح.
واألهم من ذلك ونفهم ما جيب علينا القيام به من أدوار ،وما نحن عليه من
قصور ،وبالتايل؛ فإن الوعي هو صميم وأساس النجاح يف معركة التدافع ضد
الفساد واخلراب احلضاري.
276
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن الوعي الفردي ال حيقق الكثري ،وإنام يتحقق اهلدف الذي َتفيد منه األمة
احلراك اجلامعي ،وهذا ِ
احلراك اجلامعي ،يف ظل القيود واحلدود املوضوعة من خالل ِ
عىل تواصل املسلمني بالشكل املطلوب ،مل يتحقق سوى من خالل العقل اجلمعي؛
حيث يتحرك كل مسلم حيث هو ،بنفس الفكر واألهداف واألولويات.
وعندما يتحقق ذلك؛ سوف يظهر عامل املراكمة وأثر الفعل اجلامعي بشكل
تلقائي ،وال يمكن نقضه أو هزيمته بسهولة.
وبطبيعة احلال والظرف؛ فإن ذلك ليس باألمر السهل؛ حيث من دونه الكثري
من عقبات السياسة واحلدود واالنتامءات العصبية والقومية الضيقة ،ولكن منذ
ب التاريخ؛ كانت املهام األصعب ،هي
فع ْ َ
متى كانت املهام العظيمة؛ سهلة؟!َ ..
كوهنا الفكري والعقدي.
مهام إيقاظ املجتمعات من غفلتها ،وإصالح ُم ِّ
وحتى عندما أراد ُ
اهلل تعاىل االختيار َمن عباده ملهام النبوات والرساالتَ ،ع ِم َل
خاصا فوق ما منحهم إياه من قدرات يف األصل.
سبحانه عىل إعدادهم إعدا ًدا ًّ
ورة "طه" ...﴿:ﭬ
ففي قصة نبي اهلل موسى "عليه السالم" ،قال تعاىل يف ُس َ
ورة﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ﴾ .ومن هذه
الس َ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ وقال ً
أيضا يف ذات ُّ
أمر ْين .صعوبة املهمة ،وأمهية اإلعداد.
العبارات القرآنية نفهم َ
277
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
سورة "القصص"
معالم سياسية في ُ
ُتعترب ُسورة القصص من أهم ُسور القرآن الكريم ،التي تناولت يف ثناياها وثنايا
آياهتا الكثري من معامل ُ
الك ِّل َّيات التي أتى هبا اإلسالم للتعامل يف األمور والقضايا
السياسية الكربى التي ُت َ
عرض عىل األمة ،بل وعىل اإلنسانية بأرسها.
السورة ،خالل عرضها لقصة
ولعل من بني أبرز القضايا السياسية التي تناولتها ُّ
الم" ،قضية رصاع احلق والباطل ،واالستبداد الذي نبي اهلل ،موسى "عليه َّ
الس ُ
خيرج من إطار املامرسة السياسية املعتادة لالستبداد واملستبدين ،يف َأ ْخ ِذ األرض
بمن عليها وما عليها ،إىل مستوى ادعاء األلوهية ،بل والربوبية كام فعل فرعون.
َ
تبدأ السورة ببضعة آيات قليلة العدد ،عظيمة القيمة واملعاين ،تلخص يف بالغة
لغوية ُم ِ
عجزَ ة ،رصاع احلق والباطل ،وممارسات الباطل يف إطار االستبداد السيايس
للحاكم يف حق رعيته املستضعفة.
يقول رب العزة سبحانه وتعاىل ،بعد التقديم الرائع للسورة ﴿ ،ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬ
ﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚ
ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾.
278
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وكام حتمل هذه اآليات توصي ًفا دقي ًقا حلال ممارسة االستبداد واملستبدين،
من استيالء عىل خريات البالد ،والتحكم يف العباد ،بالشكل الذي يصل إىل حد
اجلور عىل األعراض واألموال ،بل وعىل احلياة اإلنسانية نفسها؛ فإهنا حتمل ً
أيضا
البشارات للمؤمنني؛ من أن نرص اهلل تعاىل سيكون حليفهم ،مهام طال الزمن ،ومهام
ظن املستبدون والظاملون ،أهنم َع َلوا يف األرض.
وهناك عدد كبري من الرسائل التي حتملها هذه اآليات ،يف هذا السياق الفكري
والتارخيي ،أوهلا أن االستبداد صنو الفساد والظلم َ
والغيً ،
وأيضا هو صنو الكفر،
والتكب ،والكفر باملعنى العقيديً -
أيضا- ُّ بمفاهيمه املختلفة ..الكفر بمعنى العلو
يف حالة فرعون وهامان وجنودمها.
ثاين هذه الرسائل ،أن املستضعفني يف األرض عليهم الصرب وإعداد العدة يف
وخصوصا إذا ما اقرتن برسالة إصالحية،
ً مواجهة هذا العلو وهذا االستبداد،
حتمل يف آثارها الكثري من التبعات عىل العمران اإلنساين بأكلمه ،ومتتد عرب التاريخ.
هذه الرسالة السامية -إذن -تستوجب من جانب العاملني يف حقل اإلصالح
السيايس واملجتمعي والفكري؛ أن يتحملوا ما قد يالقونه عىل أيدي املتجربين ،من
ظلم وقهر ،ومهام القوا من صنوف العذاب واهلوان؛ ألن نرص اهلل تعاىل ،أكيد؛ ألهنم
جند اهلل عز وجل؛ ينرصونه ،وينرصون رسالته ..يقول تبارك وتعاىل﴿ :ﭺ
[سورة "احلج" -من اآلية .]40 ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ ُ
الرسالة الثالثة يف هذا اإلطار ،هو أن النرص من عند اهلل العزيز احلكيم ،وهو
م َّنة منه تبارك وتعاىل﴿ ..ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﴾.
279
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهي رسالة تواترت يف أكثر من موضع من القرآن الكريم؛ للتأكيد عىل هذه
الرسالة من اهلل عز وجل لعباده الصاحلني؛ أنه حتى مع اإلعداد والعدة ،ومع الصرب
واألخذ باألسباب؛ فإن النرص يظل منح ًة ِ
وه َب ًة إهلية ..يقول تعاىل﴿ :ﮔ ﮕ ﮖ
[سورة "آل عمران" -من اآلية .]126
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ ُ
ويف مقابل هذه البشارات؛ يأيت التحذير اإلهلي للمستبدين؛ بأن عاقبتهم
وخيمة ،بل هي أسوأ العواقب ،وهي اهلزيمة واالندحار يف الدنيا عىل أيدي من
األمر ْين منهم ،والعذاب املهني يف اآلخرة.
َّ عانوا
ويف حالة فرعون ،نموذج املستبدين والظاملني عرب العصور ،ونرباسهم األهم؛
فإن اهلل تبارك وتعاىل قد أخذه أخذ عزيز مقتدر ،وجعله عرب ًة خالدة يف هذه احلياة
الدنيا ،قبل أن ينال العذاب األليم املهني يف اآلخرة ،وهي عاقبة كل ظامل مستبد.
ولقد ُرويت هذه القصة أكثر من غريها يف القرآن الكريم عىل أمهيتها ،ومن بني
بتوسع أكربُ ،سورة "يونس".
السور القرآنية التي تناولت هذه التفاصيل ُّ
ُّ
يقول رب العزة يف هذا﴿ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅ ﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾.
280
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
281
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القرآن الكريـم ..مفاهيم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
"جنُو َد ُ َ
ها" هنا إال أن قراءة أخرى للكلامت وتراكيبها؛ تشري إىل أن كلمة ُ
مرتبطة بكلمة ِ
"م ْن ُهم" ،أي أن جنود فرعون وهامان من بني صفوف بني إرسائيل،
أو املوجودين يف أوساط بني إرسائيل ،الذين تشري إليهم اآليات بعبارة "ا َّل ِذ َ
ين
اس ُت ْض ِع ُفوا ِف َ
األ ْر ِ
ض".. ْ
واآلية يف هذا السياق تتناول يف دقة بالغة مفهوم أعوان وجنود االستكبار
جنودا
ً املوجودين يف أوساط املصلحني يف كل زمان ومكان ..وهم قد يكونوا
مبارشين لنقل األخبار وتثبيط اهلمم ورضب الصفوف ،وقد يكونوا من طراز
﴿ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾ كام ذكر
اهلل تعاىل يف ُسورة "األحزاب" ،يف اآلية ".."18
وهناك يف هذا السياق أمر شديد األمهية ،وهو أن القوانني التي وضعها اهلل تعاىل
يف خلقه ،قد جعلت أعوان الطغاة والطغيان ،جز ًءا منهم؛ ال ينفصل عنهم ،بل
وجعلتهم خد ًما هلم.
فالتعبري القرآين ،يستخدم عبارة ﴿ﭘ﴾ لوصف حالة أعوان فرعون
وهامان ،وهو وصف ٌّ
مذل يعرب عن حالة من التبعية ،والتي ال يملك املرء -إذ
ارتىض عىل نفسه ذلكً -
فكاكا منها.
تابعا
وهي من أسوأ احلاالت التي يمكن أن يكون عليها اإلنسان؛ عندما يكون ً
غيب ذلي ً
ال لقوى الرش والظالم؛ تستخدمه كام تريد ،وتفعل به ما تشاء ،بينام هو ُم َّ
اإلرادة ،ال يملك من أمر نفسه شيئًا ،خاد ًما للشيطان وحزبه ،ويف النهاية؛ فإهنم
يالقون نفس املصري الذي يالقيه أسيادهم.
282
معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران
الفصل األول
فـي القـرآن الكريـم ..مفاهيـم وتطبيقات
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ففي ُسورة "األعراف" ،يقول اهلل تبارك وتعاىل يف وصف حاهلم ولساهنم يوم
القيامة﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾.
ثم ،ويف ُسورة "األحزاب" ،يأيت احلديث بشكل أكثر مبارش ًة ،فيقول اهلل تعاىل
عىل لساهنم ﴿ :ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾.
فلنحذر أن نتبع سادتنا وكرباءنا الظاملني ،ولنحذر أن يكون هؤالء الظاملون من
األصل ،هم سادتنا وكرباءنا.
283
الفصل الثاني
مفـاهيم حاكمة في فضائنا اإلسالمي..
تصحيح وتوضيح!
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
" ..املتأمل يف أدبيات اجلامعات التي تتبنى تكفري اآلخر املسلم؛ سوف جيد قضية
مهمة للغاية ،يستند إليها اجلميع تقري ًبا يف هذا الصدد ،وهي أن اآلخر املسلم ال
يستند إىل الرشيعة اإلسالمية -وفق فهمه هلا -يف كل ما يقوم ويفعل ،ويستند إىل
قوانني وضعية ،أو قواعد فقهية جديدة أقرها فقهاء األمة وعلامؤها الثقات للتعامل
مع مستجدات الواقع؛ جيد التكفرييون أهنا خترج عن أحكام الرشيعة اإلسالمية،
وال تتطابق معها ،وبالتايل فهم يك ِّفرون ِّ
ويفسقون كل من ال يلتزم برؤيتهم للرشعة
واملنهاج الذي وضعه اهلل عز وجل يف كتابه ،وكام طبقه النبي ﷺ تعود هذه األزمة
إىل جذور عميقة ضاربة يف التاريخ ،وبالذات يف عصور التخلف واالنحطاط التي
اب ُتي َل ْت هبا األمة ،وكذلك فرتات االستعامر الطويلة ،والتي أدى -كالمها -إىل
حالة من التخلف الفكري واجلهل ،التي فعلت فعلها يف أجيال كاملة من شباب
األمة ،فباتوا عىل هذه الدرجة من سوء الفهم ،وعدم القدرة عىل إعامل العقل،
وفهم صحيح الدين ومقاصده.
إال أننا نقف أمام مشكلة خاصة ترتبط هبذه القضية ،وهي وقوف هذه النظرة
التقليدية للدين ولنصوصه قطعية الثبوت ،وقفة مجود وتقليد ،وعدم األخذ
287
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بأسباب االجتهاد والتجديد ،بحيث يمكن القول إهنا واحد ٌة من أعظم األمراض
التي ابتليت هبا األمة؛ حيث إن هذه احلالة ِمن َو ْقف العقل عند حدود النصِ ،من
دون إعامل العقل فيه ،وغلق باب االجتهاد والتجديد ،أدت إىل حالة من الرجعية
والتخلف ،أوصلتها إىل ما هي عليه اآلن من رصاعات داخلية واستعامر وترشذم،
وسط طوفان ال ينتهي من دماء أبناء األمة ،بيد إخواهنم املسلمني ،وبيد أعدائهم
عىل حد سواء"..
288
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
المعاصرة
ِ أثر التطرف وفوضى المدارس الفكرية
على التراث اإلسالمي ومستقبله
ثمة قضية شديدة األمهية يف الوقت الراهن ،ربام ال يتلفت إليها الكثريون،
َّ
ولكنها نوقشت يف مؤمتر "التطرف وأثره السلبي عىل مستقبل الرتاث الثقايف
العريب" ،الذي عقدته مشيخة األزهر يف العاصمة املرصية القاهرة ،يف منتصف
شهر ديسمرب 2017م ،املايض.
تتصل هذه القضية التي هي أوسع بشكل كبري من تلك التي ناقشها املؤمتر؛
بموقف األجيال اجلديدة الصاعدة ،والرأي العام غري اإلسالمي ،من الرتاث الذي
يستند إليه املسلمون يف كثري من أمورهم.
وهذه القضية ليست من نافلة القول؛ إذ إهنا ترتبط يف قسم كبري منها بعلوم
القرآن الكريم واحلديث النبوي ،ومها الرافدان األساسيان ألحكام اإلسالم
والرشيعة.
وبالتايل ترتبط هذه القضية ،بام تراكم عرب قرون طويلة من الزمن ،من كتب
وخصوصا العقيدة والتوحي
ً ومدونات يف جماالت العلوم الرشعية املختلفة،
َّ
والفقه اإلسالمي واألحكام وتفسري القرآن الكريم ،وغري ذلك.
ويف هذا الصدد؛ تتصل هذه القضية بحزمة من األمور اإلشكالية يف حقيقة
األمر يف هذه املرحلة ،وعىل رأسها قضيتان؛ األوىل هي التطرف الفكري والتطرف
289
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف الدين (ال نقول التطرف الديني؛ ألن التطرف ال يمكن أن يكون من صفاته أنه
ديني ،بل هو تطرف البعض يف فهم وتفسري وتطبيق الدين).
والقضية الثانية ،هي قضية فوىض املدارس الفكرية املحسوبة عىل التيار
عرف باإلسالم
اإلسالمي ،أو عىل الدين ،والتي ترتبط يف الغالب بجامعات ما ُي َ
السيايس ،وأثرها عىل الرتاث اإلسالمي.
ويف حقيقة األمر؛ فإن القضية التي نشري إليها ال ترتبط بمسألة حرب األنظمة
واحلكومات املعادية لقوى اإلسالم السيايس ،والتي طالت الرتاث بدعوات إعادة
النظر فيه ،بدعوى أنه أحد األسباب املؤدية إىل أزمة اإلرهاب والعنف.
إنام نعني يف هذا املوضع؛ قضية ترتبط بجامعات اإلسالم السيايس ،وممارساهتا
تكرس الكثري من االهتامات التي تسوقها األنظمة واحلكومات
الفكرية ،والتي ِّ
املعادية للمرشوع اإلسالمي ،ومجاعات اإلسالم السيايس.
تنوع التفسريات للنصوص املقدسة.
وأول مفردات هذه الظاهرة ،هي قضية ُّ
والتنوع املقصود هنا؛ ليس هو التنوع املحمود واملطلوب يف مثل هذه احلاالت،
وفق مبدأ "اختالفهم رمحة" ،وإنام هو التنوع املذموم املرتبط بتأويالت فاسدة أو
وتسقط هذه النصوص عىل الواقع بشكل داليل متعسف ،من أجل ِ ُتوايل اهلوى،
حتقيق مصالح سياسية ضيقة.
ريا ما نجد يف هذا األمر ،استغالل كتب الرتاث وتفسريات السلفيني املتقدمني
وكث ً
واملتأخرين يف إثبات أن النص الفالين أو احلكم العالين؛ ينطبق عىل هذه احلالة أو
290
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تلك ،وفق منطق سيايس بحت ،قد يكون فيه كذلك أنظمة بعينها ،أو حكومات
ينبغي تأييدها أو عدم تأييدها ،ألسباب سياسية بحتة ال عالقة هلا باملرشوع
اإلسالمي ،وبمصالح عموم األمة ،وإنام ضيقة ألنظمة وحكومات ومجاعات.
والغريب أن هذا املنطق يعيبه البعض من املنضوين يف هذه اجلامعات عىل
مؤسسات دينية ،رسمية ،مثل األزهر الرشيف ،ومثل هيئة اإلفتاء يف اململكة
العربية السعودية ،ومع اتفاقنا عىل مواالة الكثري من علامء هذه املؤسسات لسلطان
احلاكم؛ فإن املنطق يقتيض خمالفتهم يف ذلك ،والعدل يف التناول ووضع النصوص
موضع التطبيق.
فت يف مصداقية اهلياكل التنظيمية التي تعرب
ثم هناك ما أدى إليه هذا األمر الذي َّ
عن املرشوع اإلسالمي ،وتقول بأهنا طليعته ،سواء بني مجاعات اإلسالم السيايس،
أو اجلامعات ا ُملص َّنفة جهادية ،من صدامات ،وصلت إىل التكفريِ ،
ومن َث َّم الدخول
يف رصاعات بينية – كام جرى يف سوريا ،ويف ليبيا ،عىل سبيل املثال – انطال ًقا من
فكرة األفضلية .بمنطق أن هذه اجلامعة أو تلك هي اإلسالم ،وما دونه هو الكفر
الذي تستوجب حماربته.
ويف كل ذلك ،كانت نصوص الرتاث اإلسالمي حارضة ،مع عدم قدرهتم عىل
نظرا إلحكام النص الرشعي
والس َّنة النبوية الرشيفة مبارشةً ،
تطويع القرآن الكريم ُّ
صحيح الثبوت ،فكان اللجوء إىل التأويالت املوجودة يف كتب الرتاث.
وهذه األزمة ليست وليدة بنات أفكار الكاتب أو هواجسه اخلاصة؛ وإنام هي
أمر شديد الوضوح ،بحاالته املتخصصة كذلك؛ حيث يمكن حتديد كتب وأفكار
ٌ
291
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واجتهادات اإلمام أمحد بن حنبل ،وشيخ اإلسالم أمحد بن تيمية ،واإلمام ابن
القيم ،بشكل خاص.
فأفكار هؤالء مع جمموعة حمددة باالسم من علامء السلف ،تم استغالل أفكارهم
وفتاوهيم ،التي كان هلا ظروفها السياسية واالجتامعية اخلاصة – ابن تيمية عىل سبيل
املثال ظهر يف وقت الغزوات الصليبية وموجات زحف املغول عىل أرجاء الدولة
اإلسالمية – التي ح َّتمت البحث عن فقه جديد ،فكان جزاء هؤالء وجتديدهم –
كان جتديدً ا يف ذلك احلني بسبب الظرف ا ُملستحدَ ث – أن تم اهتامهم بعد قرون من
ظهورهم بأهنم مسؤولون عن أكرب ِفتَن األمة ،وهي فتنة التكفري.
بينام األمر شديد البساطة ،فأقوال ابن حنبل وابن تيمية يف جمال اجلهاد ودفع
الظامل وغري ذلك؛ جاءت حمكمة سديدة يف ظروف استثنائية ،ومن املعروف أن
االستثناء ال جيوز أن يتحول إىل قاعدة رشعية دائمة.
إن أكرب جريمة أدت إليها أفكار التطرف وفوىض املدارس الفكرية اإلسالمية
املعارصة ،هو أهنا هددت مصداقية الرتاث اإلسالمي أمام األجيال اجلديدة
الصاعدة ،وبعد عقدَ ْين أو ثالثة؛ إن استمرت هذه احلالة من الفوىض ،من دون
ظهور َم َْمع فقهي موحد جيمع بني ِّ
منظري خمتلف هذه اجلامعات ،للخروج بفقه
وأفكار موحدة االجتاه؛ تراعي الدين وال تراعي السياسة أو التنظيم؛ فإننا سوف
نعرف حالة فريدة من نوعها يف التاريخ اإلسالمي ،وهي استبعاد تراث السلف
الصالح يف جماالت عدة ،حتى من املناهج يف املؤسسات التعليمية الدينية ،وهذا
بدأ يف األزهر فع ً
ال.
292
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
293
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مشوها أيام
ً جامع ،يرد عىل األقل عىل كل هذه األراجيف؛ صار مفهوم الرتاث
تشويه ،وهو ال نقول بأنه هيدد املستقبل فحسب؛ بلن إنه فع ً
ال هدد واقع الرتاث
اإلسالمي وقبوله.
.......
أمر ْين؛
ويبقى العالج هو تضافر جهود احلركات واملؤسسات اإلسالمية ألجل َ
أو ً
ال تنقية الرتاث بالشكل العلمي الصحيح ،مما حلق به من خرافات أثرت عىل
صورته العامة ،وبمنطق بيدي ال بيد األنظمة واحلكومات واملؤسسات الدينية
ويقوي خصومها ،عىل أن
الرسمية التي تريد حذف كل ما هيدد عرشها ونفوذهاِّ ،
يتم ذلك بشكل يقود إىل حتديد فعيل لكل ما هو داخل حتت مصطلح "الرتاث".
وثان ًيا؛ الرد عىل املوجات العارمة التي جتتاح فضاءاتنا السياسية واإلعالمية
واالجتامعية والفكرية ،والتي وصل معها إىل أن صار الرئيس األمريكي ،دونالد
ال ،بحسب بعض ترامب – عىل سبيل املثال – منقذ األمة من الضالل الشيعي مث ً
"علامء" السلطان عىل "تويرت".
كل هذا بحاجة ملراجعته وحسمه بشكل واضح ال لبس فيه ،من جانب هيئة
جامعة؛ ألن أساس اخلراب هو أنه ال توجد هيئة "جامعة" ،فكان التفتت الذي
قاد – كام تقدم – إىل أن يتصارع الرتاث مع بعضه البعض يف العقول ،ثم يف الكتب
واألوراق ،ثم بالسالح عىل األرض .وإهنا ملسؤولية عظيمة ،سوف حياسب اهلل
تعاىل عليه كل قادر فاهم متقاعس!
294
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
295
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبنفس املنطق أيسء فهم أحاديثه ﷺ ،التي قدَّ م فيها بعض التصورات املستقبلية،
ومن بينها أحاديث فتح مرص وبالد فارس وبالد الشام؛ حيث إن هذه األحاديث –
كام عبارة "أسلم تس َلم" – مل تعني إطال ًقا أن الرسول "عليه الصالة والسالم" قد
دعا إىل نرش اإلسالم باحلرب ،وإنام أتت يف إطار ما أطلعه اهلل سبحانه وتعاىل عليه
من أمور تتعلق بأن املسلمني سوف يفتحون هذه البالد كتطور حلروب املسلمني
دفاعا عن أطراف الدولة اإلسالمية ضد هجامت الفرس والروم ،وعواهنم من
ً
ساسانيني وغساسنة ،يف العراق وبالد الشام.
ولذلك؛ فإنه وقت أمري املؤمنني ،عمر بن َّ
اخلطاب "ريض اهلل عنه" ،كان هناك
إدراك أن هذه األحاديث سوف ِ
حتدث الكثري من اللبس ،فمنع عمر تداوهلا ،وكان
أبو هريرة "ريض اهلل عنه" من أول من استجاب لذلك.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك بواعث عديدة للتساؤل عن سبب وضع األقدمني
هلذا التفسري لعبارة الرسول الكريم ﷺ ،والذي ترتب عليه – هذا التفسري ،أو هذه
الرؤية – يف ظل مدرسة أو منهج السلف ،أن تكون بمثابة "عقيدة" راسخة ،وإن
كانت خاطئة ،لدى األجيال التالية من املسلمني.
"أس ِلم تسلم ُي ْؤتِ َك ُ
اهلل أجرك فالرسالة النبوية هلرقل ،فيها اجلملة كاملة كالتايلْ :
مر َت ْي فإن تو َّل ْيت فإن عليك إثم األريس ِّيني" ،ثم تال قول اهلل تعاىل ﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﴾
[سورة ِ
"آل عمران" -اآلية .]64 ُ
296
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فالرسالة ال ُيوجد هبا أي هتديد بفرض اإلسالم بالقوة عىل الروم .إطال ًقا،
فهي تكلمت عن أن أجر اإلسالم سيكون هلل تعاىل ،والعقاب من اهلل تعاىل ،وهذا
موجود يف كل آيات القرآن الكريم التي دعت إىل دخول اإلسالم ،فهي تعني بذلك
سالمة اإلنسان يف الدنيا واآلخرة.
والدليل التارخيي العلمي املادي موجود .بعد هذه الرسالة ورفض الرومان هلا؛
مل ُيقم النبي ﷺ بغزوهم ،وما جرى من حروب بني دولة النبوة والدولة الرومانية؛
وقع يف شامل شبه اجلزيرة العربية بعد غارات للدولة الرومانية وحلفائها العرب
املسيحيني ،الغساسنة ،عىل حدود الدولة اإلسالمية الوليدة .مل حتدث يف داخل
حدود الدولة الرومانية.
وهذا السلوك النبوي تكرر يف مواقف عديدة؛ حيث نجده يف وصاياه "عليه
الصالة والسالم" ،إىل سفرائه الذين بعث هبم إىل أطراف شبه اجلزيرة العربية،
كام يف اليمن ،عندما بعث معاذ بن جبل "ريض ُ
اهلل عنه" ،لدعوة الناس هناك إىل
اإلسالم؛ حيث قال له" :تأيت قو ًما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه:
يوحدوا اهلل" ،ويف رواية "إىل أن
أن ِّ شهادة أن ال إله إال اهلل" ،ويف ويف رواية "إىل ْ
فأع ِل ْم ُهم أن اهلل افرتض عليهم مخس
يعبدوا اهلل" ،ثم" :فإن هم أطاعوك لذلك ْ
صلوات يف اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك ،فأعلمهم أن اهلل افرتض عليهم
صدقة" [صحيح /أخرجه البخاري ومسلم وغريمها].
ونجد أن الرسول ﷺ قد هناه متا ًما عن األخذ من ماهلم بغري وجه حق ،وغري
ذلك من الوصايا التي تربز أن منهج اإلسالم يف الدعوة ،ال خيرج عن نطاق احلكمة
297
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واملوعظة احلسنة واللني واألقناع؛ ال اجلرب أو احلرب ،وإال كان الرسول "عليه
قادرا عىل ذلك.
الصالة والسالم" قد غزاهم ،وكان يف حينه ً
ويف حالة رسالته "عليه الصالة والسالم" إىل هرقل؛ نجد أنه مل ِ
يقدم عىل غزو
بالد الروم برغم رفض هرقل لإلسالم.
وحتى يف داخل دولة النبوة؛ هناك ممارسات عظيمة الوضوح للرسول
ِ
"أسلم تس َلم"؛ ما كان مقصو ًدا هبا أنه إما اإلسالم أو الكريمﷺ تقول بأن عبارة
احلرب والقتال.
ً
حاكم لدولة املدينة؛ وأول ما قام به فالرسول "عليه الصالة والسالم" ،كان
هبذه الصفة؛ كانت وضع أول دستور مواطنة يف التاريخ ،ومل يفرض الدين أبدً ا عىل
مرشكي العرب أو اليهود ممَّن ساكنوا املسلمني يف املدينة.
وكذلك هناك وثيقة األمان الشهرية التي أعطاها لنصارى نجران يف العام التاسع
للهجرة ،وأورد فيها ابن سعد يف طبقاته ،والبيهقي يف "دالئل النبوة" ،الكثري الذي
يقول بأنه ال يمكن بحال أن اإلسالم يتم فرضه.
ثمة مشكلة يمكن أن نصفها باطمئنان ،بأهنا مشكلة أصولية ويف هذا اإلطارَّ ،
يف التعامل مع الكثري من األمور ،وهي األخذ من النص ،وبالذات احلديث النبوي
أو النصوص التي صح نسبها للرسول الكريم ﷺ ،من دون مطابقتها مع السرية
النبوية ،واملامرسة النبوية يف املجال الذي يتعلق به النص؛ حيث هناك انفصال كامل
لدى نسبة ُمعت ََبة بني الدارسني والعاملني يف حقل العمل اإلسالمي ،بني النص
النبوي وبني السرية النبوية.
298
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
299
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
300
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وتزداد أمهية السرية النبوية يف األمور ذات الطابع اإلشكايل التي يقع فيها
اخلالف ،مع غياب النص الواضح يف القرآن الكريم يف صددها ِ
حل َك ٍم عدَّ ة شاءها
اهلل عز وجل.
سكت
َ أساسي ْي ،أحدمها
َّ بأمر ْين
وتصل هذه األمهية إىل قمتها يف شأن ما يتعلق َ
عنه القرآن الكريم بشكل كبري ،والثاين ،حيدث فيه الكثري من اخللط لدى القائمني
عىل العمل اإلسالمي.
األمر األول ،هو نظام احلكم والسياسة يف اإلسالم؛ حيث املرجع الوحيد
التفصييل للمسلمني يف اجلانب التطبيقي يف هذا املجال ،هو السرية النبوية،
ً
حاكم لدولة املدينة، وبالتحديد تلكم الفرتة التي قضاها الرسول الكريم ﷺ،
وحتى وفاته عليه الصالة والسالم.
األمر الثاين ،هو ذلك املتعلق بالدعوة ،ولعل أهم ما يتعلق بأمر الدعوة،
وطرائقها ،وهو التدرج واختالف التعامل مع املوقف الواحد باختالف الظروف،
والتدقيق يف خلفيات نزول أحكام اجلهاد والقتال وغري ذلك ،يف القرآن الكريم؛
حيث السرية النبوية متثل التطبيق الصحيح ،والصحيح الوحيد بنسبة تامة كاملة،
للنص يف هذه األمور.
301
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
خالل السنوات التي تلت ثورات الربيع العريب ،وحتى تلك التي سبقتها،
تصاعد جدل كبري حول اآلليات والوسائل املالئمة للتغيري وحتقيق اإلصالح
املطلوب عىل خمتلف املستويات السياسية واالجتامعية.
وتنامى هذا اجلدل يف ظل ما حققته االرتكاسات املضادة التي تصدت هبا
األنظمة احلاكمة والقوى اإلقليمية والدولية الداعمة ،وتم يف السياق إراقة الدماء،
واستحالل مصالح اإلسالميني وكل من تبنى الفكرة اإلصالحية ودافع عن الثورة
ودعم فكرهتا.
فظهرت خالفات وصلت إىل مستوى األزمات واالفرتاقات بني أبناء الصف
الواحد ،وقادت إىل تشتت اجلمع الثوري الذي التأم يف امليادين ،وكان املستفيد
الوحيد من هذا األمر ،األنظمة احلاكمة التي عادت ،بل وصارت – أمام شعوهبا
– امللجأ الوحيد هلا من الفوىض و"الفوضويني" ،يف إشارة بطبيعة احلال إىل القوى
التي تتبنى اخلطاب اإلصالحي ،وال تزال تتحرك يف اإلطار الثوري.
ولقد ك ُثر احلديث يف الفرتة األخرية عن قضية الوسائل واآلليات ،وكذلك
األولويات يف املرحلة الراهنة ،فبينام يرى البعض أن العمل املسلح صار واج ًبا ،وأن
التصعيد "الصفري" هو املسار الوحيد مع األنظمة احلاكمة؛ يرى البعض اآلخر،
أن خيار السلمية هو األصل ،وهو املتفق مع القواعد الرشعية وقوانني التعامل
العمراين السليمة ،وال بديل عنه.
302
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهو جدل قديم كان له أثره يف بدايات الثورة العربية ،يف العام 2011/2010م،
مرحليا
ًّ جعل هناك افرتاقات عدة يف مسارات العمل ،ويف النتائج النهائية – هنائية
– لكل ثورة من الثورات التي اندلعت ،ما بني النموذج املرصي والتونيس ،وبني
النموذج الليبي والسوري واليمني.
وتعود أمهية هذا املوضوع ،إىل التطورات التي تشهدها املرحلة الراهنة يف عاملنا
العريب واإلسالمي ،فيام يتعلق بسلوك القوى السياسية والتنظيامت واجلامعات
املختلفة ،سواء الوطنية أو اإلسالمية ،التي تضطلع بمهام تتعلق بمواجهة
االحتالل ،كام يف فلسطني ،أو مواجهة الظلم والفساد واالستبداد ،كام يف أكثر من
بلد عريب.
أساسي ْي ،األمر األول هو دخول الصف داخل هذه
َّ بأمر ْين
املشكلة تتعلق َ
املجموعات ،التي هي من املفرتض أهنا طليعة األمة ،وحتمل تطلعات الشعوب،
يف حالة من الشقاق الذي وصل إىل االقتتال الداخيل بني هذه املجموعات ،أو
داخل بعضها ،يف كثري من األحيان.
األمر الثاين ،يتعلق بمامرسات بعض هذه القوى ،التي خرجت يف سلوكها
عن اعتبارات السياسة الرشيدة ،بام أدى إىل وصول األذى إىل الشعوب ،التي من
املفرتض أن مصلحتها هي اهلدف والغاية من ظهور هذه املجموعات الطليعية.
والسياسة تعني القيام عىل اليشء بام يصلحه ،ولكن ما يتم يف وقتنا الراهن يف
غالبية أروقة مجاعات املقاومة ،واجلامعات التي تسعى إىل التغيري واإلصالح يف
جمتمعاتنا؛ ال يقود إىل ذلك باملطلق.
303
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولننظر إىل ممارسات بعض الفصائل املسلحة يف سوريا ،والتي قادت مع إجرام
النظام ،إىل فرار املاليني من املوت إىل املوت ..كيف ،وهي تأسست من األصل؛
حلامية أبناء الشعب السوري من بطش النظام ،وحترير األرض السورية من جمرمي
العنرصية والشوفينية والطائفية؟!..
النظام السوري نفسه يفعل ذلك؛ فام الفارق بينكم وبينه؟! ..أين الفارق القيمي
واملصلحي الذي تأسستم ألجله ،وأقمتم وجودكم ذاته عليه؟!..
نفس القصة ،يف احلدث القريب ،تكررت يف خميم عني احللوة؛ صارت حركة
"فتح" أسمى من اإلنسان الفلسطيني ،فليحرتق املخيم؛ املهم هو هيبة وسطوة
"فتح" ،فتدخل صدا ًما مع مجاعة "جند الشام" ،بينام إرسائيل عىل مرمى حجر من
كلتا اجلامعتني؛ لكن الفصيل والتنظيم صارا فوق املصلحة ..فوق حياة الناس..
ؤسسوا هذا الفصيل أو ذاك؛ ألجل الشعب الفلسطيني ،ولكن ألجل
أثبتوا أهنم مل ُي ِّ
مصالح وزعامات فارغة.
هاجر بضعة آالف من خميم عني احللوة ،ومات عرشات اآلالف يف عرض البحر
املتوسط ،ويف بالد ُ
الغربة ،يف أوروبا ،أوروبا "املسيحية اليهودية" ،التي كانت ربام
حنوا عىل هؤالء من أبناء جلدهتم من املتوحشني والعنرصيني الذين حكموا
أكثر ًّ
أو حتكموا فيهم!
باملثل ،مل يقف أبو مازن وسلطته وقواته األمنية وهم يدعمون أمن الكيان
الصهيوين ،من حرية ودماء أبناء املقاومة وطليعتها ،التي هي طليعة الشعب
الفلسطيني؛ مل يقفوا أمام أنفسهم لكي يسألوا بضعة أسئلة مهمة ،بعيدً ا عن الرشع؛
304
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الذي تضايق سريته ،ويضايق حكمه ،الكثريين يف هذه األيام ،لكن ليسألوا
أنفسهم :هل هذا ما يريده الفلسطينيون؟! ..هل كان الفلسطينيون قبل ذلك أكثر
حرية أم اآلن؟! ..هل يضيف ما نفعل املزيد من الرفاهية ألبناء الشعب الفلسطيني
أم للعدو الصهيوين؟!..
......
هذا الواقع ،يقول بأن هناك الكثري من االنحرافات واخلروج عىل القواعد
واألصول السليمة املرعية للعمل السيايس يف مثل هذه األحوال ،واملؤسف أن
البعض يقتبس من جتارب اآلخرين التارخيية ،من دون إعامل العقل والرشع فيها،
ملجرد ادعاء البطولة ،وهو أمر باطل.
رشعا ،ويرتك ما
البعض يتكلم عن نموذج فيتنام ،ويتحمس له ،بينام مل يدرسه ً
جاء به دينه ،وعىل رأس ذلك ،قضية االجتهاد املصلحي ،وتغري الظروف وأثره
عىل العمل ،سواء السيايس أو العسكري أو املجتمعي ،أو أ ًّيا كان ،وال يسأل نفسه:
ماذا كان سوف يفعل الرسول الكريم ﷺ ،يف هذا املوقف؟! ،أو ملاذا ترصف
الرسولﷺ ،يف املوقف الواحد بطريقت َْي مع اختالف الظرف والزمان؟!..
يقول الدكتور أمحد الريسوين يف دراسته "االجتهاد املصلحي ..مرشوعيته
ومنهجه" ،إن االجتهاد املصلحي "هو االجتهاد الذي ُتراعى فيه املصلحى و ُيبنى
مؤثرا ضمن
ً عنرصا
ً عليها ،سواء كانت املصلحة هي سنده الوحيد ،أو كانت
عنارص وأدلة أخرى ،فمتى ما دخل يف استنباط احلكم وتقريره ،اعتبار املصلحة،
وكانت إحدى مقدماته االستداللية؛ فهو يدخل يف باب االجتهاد املصلحي".
305
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويعرف املصلحة عىل أهنا "كل فائدة مقبولة معتربة بأدلة الرشع وموازينه ومقاصده،
ِّ
بمعنى أن تكون مصلح ًة مرشوعة عىل سبيل الوجوب أو الندب أو اإلباحة".
بعبارة أخرى ،أن تكون املصلحة رضورية أو ِ
حاج َّية أو حتسينية سواء دل عليها
نص معني أو دلت عليها مجلة نصوص ،أو اندرجت فيها ُعلم من مقاصد الرشيعة،
أو كانت مما علم بالتجارب والرضورات واخلربات واحلاجات البرشية.
أهم ما قاله الريسوين وعلامء األصول والفقه يف هذا الصدد ،أن مما يدخل يف
ذلك؛ درء املفسدة ،باعتبار أن درء املفسدة؛ مصلحة يف حد ذاته.
أي أن أي فصيل أو مجاعة سياسية ،تنهض وتعلن أهنا تسعى لتحقيق أهدا ًفا
حتررية أو إصالحية؛ جيب عليها وعىل قياداهتا اإليامن بأن هناك مبدأ جيب االستقرار
رشعا ،هي األصل ،وأصل التسخري يف خلق
عليه ،وهو أن مصالح اإلنسان املرسلة ً
الكون ،هو مصالح اإلنسان ،حتى لو كانت فيها معصية؛ ألن ذلك يرتبط بقضية
االختيار ومن َث َّم املحاسبة.
هذا ال حيدث؛ فنضحي بالناس والعمران ،ألجل أهداف سياسية فصائلية
وفقها وعق ً
ال يف ديننا ً رشعا
ً ضيقة ،بالرغم من أن هذا األمرِ ،من ا ُملستَقر عليه
احلنيف ،ولذلك أي يشء -حتى لو هدم الكعبة كام يف احلديث النبوي الرشيف -
خيالف ذلك؛ فهو بجانب أنه حرام؛ فهو خمالف لقوانني العمران.
فال معنى للحديث عن مصلحة سياسية حلزب أو فصيل أو مجاعة أو كذا؛ عىل
حساب دماء الناس ومصاحلهم.
306
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
307
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
308
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إن مفهوم األمانة والتكليف هبا ،من األمور الشديدة األمهية كام جاء يف القرآن
الكريم؛ حيث كالمها – األمانة والتكليف هبا – هي يف األصل ُصلب غاية خلق
اإلنسان ،واستخالف اهلل تعاىل له يف األرض ،واستعامره فيها كام أنبأ القرآن الكريم.
كام أن كليهام من املسائل شديدة االتساع ،ويف القرآن الكريم ،ال حتمل الطابع
العام الذي يميز يف الغالب اخلطاب القرآين يف الكثري من األمور ،وهو األمر الذي
ً
صاحلا حتى ً
وتعاليم، اقتضته حكمة اهلل تعاىل ،لكي يكون القرآن الكريم ،خطا ًبا
يشاء اهلل تعاىل أن يرفعه من الدنيا يف آخر الزمان.
يفصل فيها القرآن الكريم بدقة
ويف هذا الصدد ،يقول العلامء ،إن األمور التي َّ
وشمول لكافة ما يتعلق هبذا األمر أو ذلك؛ يعني أمهيته القصوى ،وقيمته ِ
وع َظ ُمه
لدى اهلل تعاىل ،مثلام جرى يف الشؤون اخلاصة بتنظيم األمور واحلقوق والواجبات،
يف الزواج واملواريث.
وبالتايل؛ فإن مفهو َم ْي األمانة والتكليف يف القرآن الكريم ،أكرب وأوسع بكثري مما
يتصوره البعض ،وخيتزله يف العناوين الكربى السابقة؛ نرش عقيدة التوحيد ،وإقامة
تعاليم اهلل تعاىل يف األرض ،والتي أنزهلا ترتى عىل أنبيائه ورسله ،حتى وصلت
اإلنسانية إىل الرشيعة اإلسالميةْ ِّ ،
الش َعة التامة التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل رسوله
الكريم ،حممد ﷺ.
309
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذه الصورة ُ
الك ِّل َّية التي رسمها القرآن الكريم يف هذا الصدد؛ من املهم للغاية
وحسبان املشتغلني يف حقل العمل اإلسالمي ،بالذات يف هذه
أن تكون يف ذهنية ُ
املرحلة التي تشهد الكثري من االرتباكات يف خمتلف اجتاهات العمل ضمن املنظومة
اإلسالمية.
ولسنا هنا يف معرض تناول هذا األمر من اجلانب التفسريي القريب؛ اللغوي
واالصطالحي الرشعي؛ حيث إن الكثري من العلامء تناولوا ما يتعلق بالتكاليف
وص َور أوامر اهلل تعاىل يف هذا الصدد ،مثل ُص َور األمر والنهي،
يف القرآن الكريمُ ،
سواء بالتعبري املبارش ،مثل "افعلوا" و"ال تفعلوا" ،أو التعبري غري املبارش؛ مثل
إقران الفعل اجليد /اليسء بالثواب والعقاب ،وأساليب الرتغيب والرتهيب
املختلفة التي استعملها اهلل تعاىل يف كتابه العزيز.
كذلك لسنا بصدد تناول اجلوانب الفقهية للتكليف ورشوطه ،مثل رضورة
توافر العقل واحلرية ،وما إىل ذلك؛ حيث هي كذلك موجودة يف كتب التفاسري
والفقه منذ أن بدأ املسلمون يف هذا العمل قبل 14قر ًنا من الزمان.
وإنام مقصود احلديث ،هو اجلانب الذي يتعلق بتحقيق فهم املسلم للغرض من
خلقه ،واملهام التي ُخ ِلقَ ألجلها.
أمر شديد األمهية ،وهو ما نجده من ضالالت يف تفكري كثري من دوائر
رد ذلك ٌ
و َم ُّ
وجمتمعات املسلمني ،والسيام الشباب بشأن تقييم واقع أنفسهم يف الدنيا ،وبوصلة
سعيهم يف الدنيا ،وتعريفهم ملفهو َم ْي "النجاح" و"الفشل" يف هذا اإلطار ،واملعاناة
وثامرها املتأخرة ،التي ربام تشاء حكمة اهلل تعاىل أن تؤخر هذه الثامر إىل اآلخرة.
310
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
311
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
التي أثبتها القرآن الكريم هلذه املسألة؛ فإننا نشري إىل املَ ْع َلم الثاين املهم يف هذا
الصدد ،وهو الصعوبة واملشقة التي تتصل بالقيام بأعباء األمانة.
فعىل سبيل املثال؛ يقول تعاىل﴿ :ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
[سورة "البقرة" – اآلية .]45وهذا برغم من أن أداء الصالة قد
ﯙ ﯚ﴾ ُ
يبدو للبعض عىل أنه يف املجال البدين؛ من أسهل األمور؛ إال أننا نجد الكثري من
التقاعس عن أدائها من جانب بعض املسلمني.
ولو تأملنا اجلهد البدين الذي يبذله بعض املقرصين أو تاركي الصالة ،يف اللعب
والرياضة؛ حيث قد يساوي اجلهد املبذول يف ساعة رياضة واحدة ،جهد الصالة
أيا ًما عديدة ،ووقتها سوف نجد هنا َكم كان القرآن الكريم دقي ًقا يف كيفية تعبريه
عن هذه املسألة.
وعىل ذلك؛ نجد املش َّقات العظيمة املادية واملعنوية املحيطة بأمور التكاليف
املختلفة األخرى ،يف العبادات؛ فصيام رمضان َ
واحلج ،اجلزء األسايس من منطلق
التكليف فيها هو املشقة ،بينام الزكاة تتعلق بمشقة من نو ٍع آخر ،وهي مشقة نفسية
اختبارا وابتال ًء من اهلل تعاىل
ً تتصل بام ُجبِ َل ْت عليه النفس اإلنسانية من ُح ِّب املال؛
لعباده.
وكذلك نفس املنطق أو الفلسفة ،نجدها يف تكاليف أخرى ،والسيام تلك املتعلقة
بالتعامل مع اآلخرين ،والتدافع إزاءهم لتنفيذ تكاليف األمانة ،مثل اجلهاد ،واألمر
باملعروف والنهي عن املنكر.
312
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
313
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من املعامل املهمة كذلك للتكليف ،واملهم إدراكها يف هذه املرحلة بالذات من
تاريخ املسلمني ،هي اجلامعية؛ حيث إن خمتلف التكاليف واألوامر التي أقامها اهلل
سبحانه يف كتابه ،وأكدت عليها املامرسة النبوية التي ُتعترب هي رشوح وتفصيل
للنص القرآين يف كثري من األحيان؛ كلها نلحظ فيها اجلانب اجلامعي؛ فالصالة
مجاعة يصل التأكيد عليها ملستوى الفريضة عند بعض العلامء.
وشاءت حكمة اهلل تعاىل يف تأكيد نبيه ﷺ عىل ذلك ،أن وقت كل صالة يتيح
لكل مسلم أن يؤدهيا وحده ،يف نقطة زمنية منفردة ،بينام صيام رمضان َ
واحلج؛
عبادات مجاعية؛ إذ أنه بطبيعتها تفرض أن يقوم هبا املسلمون يف ذات الوقت.
وحتى الزكاة ،بأنواعها ،والتي قد تبدو أنه يمكن أن يقوم هبا كل مسلم وحده؛
فإن هدفها هو خدمة مجاعة املسلمني ،وبعض أنواعها ،مثل زكاة الزروع والثامر؛
الز َّراع وأصحاب األرض.
ختص مجاعات من املسلمني من ُّ
ويف األوامر والنواهي القرآنية؛ نالحظ أهنا قد جاءت مجيعها بصيغة اجلمع،
الص َيغ ،وما كان منها بصيغة املفرد؛ فإنام كان
و"آتوا" و"افعلوا" ،وغري ذلك من ِّ
موجها للرسول الكريم ﷺ ،وهو أمر بطبيعة احلال ،يعني عموم املسلمني. َّ
إ ًذا؛ العمل اجلامعي من أهم جوانب فلسفة التكليف يف القرآن الكريم ،وبالتايل؛
ببساطة أن ندرك ملاذا يرتاجع املسلمون اآلن .ألن األمة منقسمة .هكذا ببساطة!
املعلم املهم اآلخر الذي نتناوله يف هذا املوضع ،هو االستطاعة ،ويأيت تناوله ألنه
– كذلك – من أهم أسباب عوامل وقوع اخللل احلايل؛ حيث إن احلامسة للعقيدة،
والتطلع إىل معايل األمور ،مع اجلهل املوضوعي بتعاليم اإلسالم يف هذه النقطة،
314
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تدفع الكثريين إىل القيام بام يفوق طاقاهتم ،وبالتايل؛ حيصل الفشل ،مما – يف حال
عدم فهم هذه النقطة – يثري تساؤالت كثرية عن أسباب فشل جهد ،هو خالص هلل
تعاىل ،ويف أمور األمانة العظيمة األمهية.
والقرآن الكريم واضح يف هذا الصدد؛ يقول تعاىل ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
[سورة "البقرة" -من اآلية ،]286ويقول ً
أيضا ﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯜ﴾ ُ
[سورة "األنفال" -من اآلية ،]60وهو
ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ ُ
ور ُسل اهلل تعاىل من قبل ،فيقول عز وجل عىل لسان هود
أمر كان يف مدركات أنبياء ُ
ٌ
[سورة "هود" -من اآلية .]88
(عليه السالم)﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ﴾ ُ
ومن املعامل القرآنية ً
أيضا املهم إدراكها يف هذا الصدد ،أن التوفيق والنتيجة عىل
اهلل تعاىل؛ فال شأن لإلنسان بام قدَّ م اهلل تعاىل َّ
وأخر يف هذه األمور .ففي آية "هود"
ال؛ قال هود (عليه السالم) لقومه بعد أن تكلم عن أن رسالته هي املتقدِّ مة مث ً
اإلصالح﴿ :ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾.
ولكننا اآلن – و ُيعذر الناس بعدم علمهم – َمن جيادل َ
اهلل تعاىل يف ثامر العمل
وتوقيتها ،والسيام فيام يتعلق بأمور التمكني ،أو استمرار الظاملني ظاهرين – ظاهر ًّيا
ذرة من – عىل أهل اإليامن ،بناء عىل رؤية عقل إنساين قارص ،ال يصل إىل مثال ٍ
حكمة اهلل عز وجل ،فيقدرون أن ما يرونه هو انتصار للظاملني ،وأن ظهور الظاملني
عىل املؤمنني قد طال؛ بينام هي أمور يف حساب اهلل عز وجل ،ال ُتعترب ال انتصار
للظاملني ،وال طول أجل هلم يف انتصارهم ،حتى باملعيار الزمني البسيط.
.....
315
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مطو ً
ال ويف النهاية؛ فإن هذا األمر نقدِّ ر أنه من أهم األمور الواجب البحث فيها َّ
يف هذه الفرتة التي تشهد الكثري من الفتن لدى املسلمني ،بشكل مل يسلم حتى منه
املخلصون من أبناء الدين ،والعاملني يف جمال الدعوة؛ حيث إن تصويب املفاهيم
يف جذور منهج ما يقوم به الناس ،وفهمهم ملا يقومون به ،وأدواته ومآالته؛ إنام هو
أساس أي نجاح ،يف أي جمال ،وال يوجد أهم من القيام بام رضينا كبني آدم القيام
به من أعباء األمانة العظمى.
وهذا األمر كذلك افرتضته حكمة اهلل تعاىل كأحد صور ابتالء عقيدة التوحيد.
ان َظ ُلو ًما َج ُهوال" ،وهي
ان إِ َّن ُه َك َ
نس ُ ح َل َها ا ِ
إل َ "و َ َ
ففي آية "األحزاب" ،يقول تعاىل َ
– بالتايل – من خالل املنهج العقيل؛ يعني إشارة إهلية بأم ٍر مهم ،وهو أنه إذا أراد
ال ما هي األمانة ،وكيف اإلنسان النجاح يف محل األمانة؛ فإن عليه أن يعلم أو ً
حيملها.
316
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِمن بني أكثر األمور املطروقة يف أدبيات احلركة اإلسالمية عىل اختالف مشارهبا
وألوان طيفها الفكري والتنظيمي؛ قضية التمكني.
وفيام خيص املستوى املتعلق باحلركة اإلسالمية وأدبياهتا؛ فإن "التمكني" يف
االصطالح يعني بدوره أكثر من أمر.
فهناك التمكني للدين ،وهناك التمكني جلامعة من املسلمني ،أو للحكم اإلسالمي
بشكل عام ،ومن املفرتض أن يكون ذلك من أجل التمكني للدين ،وبالتايل؛ تنفيذ
رشيعة اهلل عز وجل ،وأحكامها يف األرض.
وهذه العبارة هي من أهم ما يكون يف صدد القضية التي نحن بصددها يف هذا
املوضع ..التمكني للحكم اإلسالمي – أو َمن يمثله من مجاعات أو شخوص أو
تنظيامت ..إلخ – من أجل التمكني للدين ،وإقامة الرشيعة.
317
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فإن سوء الفهم والتطبيق الذي أحاط هبذا األمر عىل وجه اخلصوص؛ ُيعترب
من بني أبرز املشكالت التي قادت إىل صور شتى من األزمات ،ليس عىل مستوى
احلركة اإلسالمية فحسب؛ وإنام كذلك عىل مستوى األمة بالكامل ،من أسوأها،
التكفري واالقتتال الداخيل.
ويف حقيقة االمر؛ فإن قضية التمكني قضية ُك ِّلية شديدة األمهية يف اإلسالم ،من
الع َقدية.
الناحية َ
فهي أو ً
ال ،ترتبط بقضية نرش الدعوة وحتكيم رشيعة اهلل تعاىل يف األرض ،وهي
من أولويات أي مسلم ،كام أهنا ،ثان ًيا ،تضم وفق املفهوم القرآين ،الكثري من األمور
املتعلقة بالتسخري؛ حيث التمكني هو أعىل وأجىل صور التسخري.
معنى له باملنظور السيايس ،احلق والقدرة يف السيطرة
ً فالتمكني يعني يف أقرب
وتوظيف املوارد ،وتوزيعها ،وبالتايل؛ فهو يتصل بنقطة عمران األرض واستخالف
اهلل عز وجل لإلنسان فيها.
والنقطة الثانية؛ هبا ما يتعلق باملحاسبة؛ حيث إن عدل اهلل تعاىل اقتىض أنه ال
يكون هناك حساب ،إال بمسؤولية ،واملسؤولية ال تكون إال بقدرة اإلنسان عىل
استغالل املوارد والتحكم فيها ،واحلرية ،وغري ذلك.
التمكني ..مشكالت يف الرؤية والتطبيق:
318
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
خيص هذه القضية؛ فإننا سوف نجد أنفسنا أمام الكثري من األخطاء املفاهيمية التي
قادت إىل نتائج سلبية يف التطبيق.
وربام ال نكون مبالغني لو قلنا إن ذلك كان أحد أهم أسباب نفور الكثري من
رشائح اجلمهور اإلسالمي العريض يف العامل اإلسالمي ،أو حتى من غري املسلمني
من جمتمعات الدعوة املحتملة ،من احلركة اإلسالمية ومن الدين ذاته ،ودفعت إىل
تفضيل جمتمعات وجتمعات مسلمة بالكامل ،خليار العلامنية ،عن خيار "التمكني
اإلسالمي" بالصورة اخلاطئة التي طرحتها بعض اجلامعات.
وجاءت ظروف الفوىض التي رضبت الكثري من الدول املركزية يف املنطقة
العربية يف السنوات األخرية ،وأدت إىل تراجع قبضة الدولة وسلطتها عىل
مساحات واسعة من أراضيها ،مثل العراق وسوريا وليبيا ،لكي تفسح املجال أمام
تلبست رداء السلفية اجلهادية ،ونفذت
ظهور نوعية من املجموعات املسلحة التي َّ
صورا أقل ما ُتوصف به بأهنا مرعبة ،للتمكني اإلسالمي ،مما دفع رشائح واسعة من
ً
العرب واملسلمني ،وغري العرب واملسلمني ،إىل االعتقاد بأن النموذج اإلسالمي يف
احلكم ال يعني سوى العودة إىل العصور الوسطى!
وحتى عىل مستوى احلركة اإلسالمية الصحوية؛ وجدنا بعض املجموعات
انفتاحا وتقدمية يف أفكاره ورؤاه عن احلكم
ً املحسوبة عىل تيار املفرتض أنه األكثر
يف اإلسالم ،وصورة الدولة ،وهو تيار اإلخوان املسلمني ،قد حاد عن الصورة
املثىل َّ
اجلذابة املفرتض تأليف القلوب هبا حول املرشوع اإلسالمي ،من خالل
بعض األمور واملامرسات التي جرت خالل احلرب السورية.
319
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن نبقى مع أدبيات وأفكار احلركة اإلسالمية الصحوية التي تظل حقيقة مهمة؛
أهنا هي التي قدمت النمط األفضل ،أو عىل األقل ،األكثر قابلية للمناقشة يف هذا األمر،
من بني األوساط واجلامعات األخرى التي تضع نفسها ضمن تصنيف "إسالمي".
من بني األخطاء املهمة التي نجدها يف هذا الصدد؛ خطآن من نوعية األخطاء
التي ُيطلق عليها توصيف "األمور التأسيسية" ،ومها؛ أو ً
ال ،اخلطأ التقليدي،
والذي يستبدل الدين باجلامعة ،أو يطابقهام ،وهذا أمر أو مرض تم تناوله يف أكثر
من موضع من احلديث ،ومفهوم وواضح ،وقاد ملآيس عدة نراها يف عاملنا اليوم.
اخلطأ الثاين؛ هو الوقوف عند مرحلة التمكني كهدف ،بل كغاية ،وعدم وجود
تصور ملا بعد التمكني ،وفق املفهوم الرشعي للتمكني.
أي ُّ
وهي مشكلة واجهتها أحزاب إسالمية عديدة ،حمسوبة عىل تيار اإلخوان
جزئيا يف تصدُّ ر املشهد االنتخايب يف
ًّ املسلمني ،أو غري تيار آخر ،عندما نجحت
الكثري من الدول بعد ما ُيعرف بثورات "الربيع العريب"؛ حيث مل جيد الرأي العام
– مع حتييد عامل املؤامرة التي تعرضت هلا بعض هذه األحزاب من قوى ممانعة
– صورة واضحة لسؤال مركزي ،ومرشوع ،مفاده؛ ما هي معامل نموذج التمكني
للمرشوع اإلسالمي.
قصورا ،بل خل ً
ال يف فهم مصطلح "التمكني"؛ حيث التمكني للدين ً وهنا نجد
أو للمرشوع اإلسالمي ،ال يعني فقط إقامة الرشيعة ،وإنام استيفاء كافة أركان
النظام السيايس واالجتامعي واالقتصادي للدولة أو املجتمع الذي تتحرك فيه
احلركة اإلسالمية ،وتسلمت فيه فع ً
ال زمام السلطة والقرار.
320
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
التمكني يف َّ
النص القرآني:
قد ال يعلم الكثريون أن مبدأ القرآن الكريم يف نقطة التمكني وغريها؛ هو أن كل
يشء يتم؛ إنام يتم بمراد اهلل تعاىل ،وبمشيئته.
وسف"
والقرآن الكريم ،عندما تكلم عن التمكني يف ُسور عديدة ،مثل " ُي ُ
َ
و"احلج" و"األنعام"؛ فإن اهلل تعاىل يقول يف كل موضع من املواضع و"الكهف"،
التي ورد فيها مصطلح ﴿ﭒ﴾ أو ﴿ﮆ﴾ ،أو غري ذلك من االشتقاقات؛ فإن
مردها إىل اهلل عز وجل ،حتى متكني الظاملني ،وليس األنبياء والصاحلني فحسب.
يقول تعاىل﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ
[سورة "األنعام" -اآلية ،]6فهذه اآلية تشري إىل أن
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ ُ
التمكني من لدن اهلل عز وجل ،وسواء للكافرين أو للمؤمنني ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾.
ٌ
تكليف ،وليس هد ًفا أو غاي ًة؛ حيث ينبغي عىل اإلنسان أو ثم إن التمكني،
اجلامعة املسلمة ،أن تقوم بأعباء ومهام متى َّ
مكن اهلل تعاىل هلا ،وال تقف عند جزئية
الوصول إىل السلطة أو القرار.
والدليل من القرآن الكريم كذلك؛ حيث يقول اهلل عز وجل﴿ :ﮄ ﮅ
ﮆﮇﮈﮉﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ
[سورة َ
"احلج" .]41 - ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ ُ
321
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فاآلية تشري إىل منظومة كاملة من املهام واألعباء التي يفرضها متكني اهلل تعاىل
للمسلمني ،يف العبادات (الصالة) ،واالقتصاد (الزكاة ،وهي كذلك عبادة)،
والرعاية االجتامعية (األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وهي كذلك عبادة).
وهذا األمر يطرح حقيقة مهمة للتمكني ،وهي أنه ليس باملفهوم السيايس
فحسب ،وإنام قد يكون يف شأن اجتامعي ،بل ويف أبسط األمور واملوارد ،حتى
يقوم عمله ،وحياسبه إما ثوا ًبا أو
رعاية األرسة؛ هذا متكني لرب األرسة ،واهلل تعاىل ِّ
عقا ًبا ،بحسب ما اقرتف وجاء به من أداء.
ويف هذا ،وبشكل عام؛ ينظر اهلل تعاىل فيام َّ
مكن اإلنسان فيه ،وهذه العبارة
تتضمن بعض األمور املهمة بجانب ما سلف.
ومن بني أهم ما فيها ،هو أن هذا الذي آتى اهلل عز وجل إياه املسلم أو اجلامعة أو
القيادة املسلمة؛ إنام هو الختبار اجلميع فيه ،مع احتفاظ اهلل عز وجل بحق أصيل مل
يرشك فيه أحدً ا ،وهو النتيجة واملحاسبة ،بينام نجد بني ظهرانينا مسلمني حياسبون
يستجب هلم ،أو مل ِّ
يمكن هلم ،أو يتساءلون عن ِ اهلل عز وجل – حاشا هلل – ألنه مل
التوقيت ،وكذا!
وبالتايل؛ فإن واجب الوقت؛ هو تصويب هذه املفاهيم ،والتأكيد عىل أجيال
املسلمني الناشئة عىل أنه ينبغي عىل الناس أن تنظر ملا حتت أيدهيم من موارد ،ومن
أمانات ،ومن كل يشء َّ
مكن اهلل تعاىل هلم فيه ،ولو كان مسؤولية أرسة صغرية؛
كيف يتحركون فيها؛ فإهنم عنها مسؤولون.
322
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُتعترب قضية احلاكمية أحد أهم القضايا التي تواجه العاملني يف حقل الفكر
اإلسالمي ،والناشطني يف جمال احلركة اإلسالمية ،باعتبار أهنا أحد أهم األمور
الرشعية التي ترتبط بقضية السياسة واحلكم يف اإلسالم ،وبالتايل؛ فهي من ضمن
الركائز األساسية التي توجه احلركة اإلسالمية ،عىل اختالف تنويعاهتا الفكرية
واجتاهاهتا احلركية.
تضع احلركات اإلسالمية تصوراهتا للصريورات االجتامعية والسياسية
والفكرية للمجتمعات التي تسعى إىل إصالحها ،وإقامة نظام احلكم اإلسالمي
فيها ،وفق قواعد الرشيعة اإلسالمية الصحيحة ،وهو ما ُيعرف باحلاكمية ،وذلك
استنا ًدا إىل عدد من األدلة واالصول ،أمهها آيات ُسورة "املائدة" الثالث التي تؤكد
عة وأحكام ،باعتباره أن ذلك من صميم اكتامل ش ٍعىل أمهية احلكم بام أنزل اهلل من ِ ْ
إيامن اإلنسان واصطباغ اجلامعة بصبغة اإلسالم الصحيحة.
واألمر القرآين يتجاوز اآليات الثالث املعروفة والتي فيها عبارة ﴿ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ،﴾...وهي اآليات ( )44و( )45و()47؛ حيث
يف األوىل﴿ :ﮫ ﮬ﴾ ،ويف الثانية﴿ :ﯮ ﯯ﴾ ،ويف الثالثة﴿ :ﭼ
ﭽ﴾.
323
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فهذه اآليات جزء من سياق قرآين من ذلك ،ويبدأ من اآلية الثانية واألربعني،
من قوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ ،وحتى اآلية اخلمسني ،يف قوله
تعاىل﴿ :ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ﴾.
قسم ْي ،األول يتعلق بعالقة الرسول الكريم،
وينقسم هذا السياق القرآين إىل َ
حممد ﷺ ،مع اليهود والنصارى ،بعد أن تم له إقامة دولة اإلسالم األوىل يف املدينة
املنورة ،والقواعد احلاكمة بينه ﷺ ،وبينهم ،والثاين ،وهو منبعث من األول ،ويتعلق
بموقف املؤمنني ومجاعة املسلمني ،من رشيعة اهلل عز وجل ،وكيفية التعامل معها.
القسم األول من السياق ،مرتبط بالقسم الثاين منه ،وهو احلكم بام أنزل اهلل تعاىل
ذم أشدَّ َّ
الذ ِّم واضحا يف ْ
أن َّ ً عىل عباده ،ويف حالة أهل الكتاب ،كان السياق القرآين
وخصوصا اليهود من بني
ً فيام فعلوه من حتريف وخروج عن رشعة اهلل تعاىل هلم،
إرسائيل ،والثاين يتعلق باألمر املوجه للمسلمني ،وعىل رأسهم نبيهم حممد ﷺ،
بعدم فعل ذلك ،والتحذير أشدِّ التحذير من تكرار ما قام به اليهود والنصارى يف
القرون السالفة.
إ ًذا ،ال خالف عىل احلاكمية ،حاكمية الرشيعة التي ارتضاها لنا اهلل عز وجل يف
كل يشء ،يف أمور اجلامعة والفرد.
ولكن ثمة مشكلة مفاهيمية شديدة األمهية يف هذا األمر ،قادت إىل أكرب ٍ
حمنة
واجهتها األمة عرب تارخيها ،وهي حمنة فتنة التكفري ،بعد تعطيل فريضة االجتهاد يف
324
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تأويل النص الرشعي قطعي الثبوت ،ظني الداللة ،التي قادت إىل أسوأ حالة من
االقتتال بني املسلمني ،يسقط فيها كل يوم عرشات من أبناء الدين الواحد الذين
يشهدون بأنه ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له ،وأن حممدً ا ﷺ عبده ورسوله.
واملتأمل يف أدبيات اجلامعات التي تتبنى تكفري اآلخر املسلم؛ سوف جيد قضية
مهمة للغاية ،يستند إليها اجلميع تقري ًبا يف هذا الصدد ،وهي أن اآلخر املسلم ال
يستند إىل الرشيعة اإلسالمية – وفق فهمه هلا – يف كل ما يقوم ويفعل ،ويستند إىل
قوانني وضعية ،أو قواعد فقهية جديدة أقرها فقهاء األمة وعلامؤها الثقات للتعامل
مع مستجدات الواقع؛ جيد التكفرييون أهنا خترج عن أحكام الرشيعة اإلسالمية،
وال تتطابق معها ،وبالتايل فهم يك ِّفرون ِّ
ويفسقون كل من ال يلتزم برؤيتهم للرشعة
واملنهاج الذي وضعه اهلل عز وجل يف كتابه ،وكام طبقه النبي ﷺ.
تعود هذه األزمة إىل جذور عميقة ضاربة يف التاريخ ،وبالذات يف عصور
التخلف واالنحطاط التي اب ُتي َل ْت هبا األمة ،وكذلك فرتات االستعامر الطويلة،
والتي أدى – كالمها – إىل حالة من التخلف الفكري واجلهل ،التي فعلت فعلها
يف أجيال كاملة من شباب األمة ،فباتوا عىل هذه الدرجة من سوء الفهم ،وعدم
القدرة عىل إعامل العقل ،وفهم صحيح الدين ومقاصده.
إال أننا نقف أمام مشكلة خاصة ترتبط هبذه القضية ،وهي وقوف هذه النظرة
التقليدية للدين ولنصوصه قطعية الثبوت ،وقفة مجود وتقليد ،وعدم األخذ
بأسباب االجتهاد والتجديد ،بحيث يمكن القول إهنا واحد ٌة من أعظم األمراض
التي ابتليت هبا األمة؛ حيث إن هذه احلالة ِمن َو ْقف العقل عند حدود النصِ ،من
325
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
دون إعامل العقل فيه ،وغلق باب االجتهاد والتجديد ،أدت إىل حالة من الرجعية
والتخلف ،أوصلتها إىل ما هي عليه اآلن من رصاعات داخلية واستعامر وترشذم،
وسط طوفان ال ينتهي من دماء أبناء األمة ،بيد إخواهنم املسلمني ،وبيد أعدائهم
عىل حد سواء.
وقاد ذلك بالتايل ،إىل عدم قدرة األمة عىل التقدُّ م خطوة واحدة إىل األمام عىل
طريق استعادة خرييتها ،وجمدها احلضاري ،والتواجد يف إطار األمم املتقدمة
حضار ًّيا ،ويف ظل رصاع ال يرحم بني القيمة واملادة ،وطبيعة وحشية للقوى التي
تتصدر السباق احلضاري يف هذه املرحلة من تاريخ اإلنسانية؛ فكان ذلك يعني –
يف ظل غياب غطاء اخلالفة السيايس واالجتامعي واحلضاري اجلامع للمسلمني
– انسحا ًقا كام ً
ال لألمة.
يستند هؤالء إىل فهم قارص لبعض النصوص الصحيحة ،والسيام يف جمال فهم
أحاديث الرسول الكريم ﷺ ،عن قضية البدعة ،ويضعون كل ما ال يتفق مع
السنن
تفكريهم يف إطار البدعة ،متناسني أن الرسول ﷺ ،قد حتدث كذلك عن ُّ
احلسنة.
فبينام يقول الرسول الكريم ﷺَ " :من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه
رد" [صحيح /أخرجه ال ُبخاري ومسلم] ،ويقول عنه احلافظ ابن حجر
فهو ٌّ
العسقالين يف "فتح الباري"" :هذا احلديث معدود من أصول اإلسالم ،وقاعدة
من قواعده ،فإن معناهَ :من اخرتع من الدين ما ال يشهد له ٌ
أصل من أصوله؛ فال
ُيلتفت إليه".
326
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبينام يقول يف احلديث الصحيح كذلك ،أنه ﷺ ،يف خطبة مجعة" :خري احلديث
ٍ
بدعة ضاللة" [أخرجه كتاب اهلل وخري اهلدي هدي ٍ
حممد ورش األمور حمدثاهتا وكل
ٍ
ضاللة يف النار"]؛ ٍ
بإسناد حسن" :وكل مسلم يف الصحيح ،وزاد النسائي عليه
إال أن هناك حديث صحيح له ﷺ ،يقول فيهَ " :من َس َّن يف ا ِ
إلسالم ُس َّنة َح َسنَة
ص من أجورهم يشء ومن وأجر من عمل هبا من بعده من غري أن َي ْن ُق َ
ُ أجرها
فله ُ
إلسالم ُس َّنة س ِّيئة كان عليه ِوزْ ُرها َو ِوزْ ُر َم ْن عمل هبا من بعده من غري أن
َس َّن يف ا ِ
ص من أوزارهم يشء" [أخرجه مسلم والنسائي]. ينق َُ
إ ًذا؛ ليس كل ما يتم إدخاله عىل اإلسالم من اجلديد؛ هو بدعة أو ُس َّنة سيئة؛
حيث العربة يف ذلك بعدد من املعايري التي حددهتا هذه األحاديث النبوية الرشيفة،
األوالن؛ يذمنا يف َمن اخرتع من الدين
وكلها صحيح ،وال تناقض بينها ،فاحلديثان َّ
ما ال يشهد له ٌ
أصل من أصوله ،كام قال ابن حجر.
الس َّنة أو هذا اجلديد ،مع الرشيعة
املعيار الثاين ،هو – بالتايل – مدى اتفاق هذه ُّ
اإلسالمية ومقاصدها ،وبالتايل؛ هل هي تفيد مجاعة املسلمني أم ال.
واألمر بسيط؛ فحديث الر ِّد ،فيه قولة للرسول الكريم ﷺ ،حتسم األمر ،وهي:
ٌ
أصل يف أصول الدين وأدلته رد األمر؛ يكون ملا ليس له "ما ليس منه" ،أي أن َّ
الس َّنة ،كام يف احلديث الثاين" :خري احلديث كتاب اهلل وخري
الرشعية ،وهي القرآن ُّ
ٍ
حممد". اهلدي هدي
كام أن هناك حدي ًثا آخر للرسول الكريم ﷺ يقول فيه" :إن اهلل يبعث هلذه األمة
عىل رأس كل مائة سنة من جيدد هلا دينها" [صحيح /أخرجه أبو داود واحلاكم
327
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وصححه األلباين] ،واملعنى هنا واضح متا ًما فيام يتعلق بأن التجديد ُس َّنة
َّ والبيهقي،
صاحلا لكل زمان ومكان. ً حتمية لصريورات الدين عرب الزمن ،وذلك حتى يكون
والتجديد بطبيعة احلال ،عامده إعامل العقل يف النص ألجل استخالص األحكام
بمعنى آخر االجتهاد يف العمل عىل إسقاط أحكام
ً التي يتطلبها الواقع املستجد ،أي
سمى يف العلوم الرشعية بالفقه.
الرشيعة عىل الواقع ،وهو ما ُي َّ
إ ًذا؛ ف ُتعرب هذه األزمة ،عن حالة من اجلمود الفكري لدى أصحاهبا؛ حيث
هذه القضية مفصلية لدى أصحاب الفكر التكفريي ،فهم ،بدعوى أهنم ال
يريدون إحداث بِدَ ٍع يف الدين ،وبالتايل ال يزيدون عن احلكم الرشعي املوجود
بنصه؛ يوقفون النص متا ًما عىل ظاهره ،وذلك بالرغم من حقيقة أقرها العلامء،
ِّ
أن القرآن الكريم الذي يضم 6236آي ًة؛ ال يتجاوز عدد اآليات قطعية الداللة
فيه عىل 219آية فقط ،أي أن االجتهاد والتأويل هو أساس فهم القرآن الكريم
ومعرفة أحكامه.
وهذه املهمة ،هي مهمة العلامء والراسخون يف العلم ،ومرتبة املجتهد يف العلم
الرشعي ،عظيمة ،وجيب عىل من يصل إليها املرور بمراحل ش َّتى من العلم والتأهيل
الفكري وحتى البدين؛ ملشاق ذلك.
تفس القرآن الكريم ،وأن القرآن
الس َّنة النبوية ِّ
كام يتجاوز هؤالء عن قضية أن ُّ
قاطعا كام
ً الكريم يفرس بعضه ،بمعنى أن احلكم الرشعي يف آية بعينها ال يكون
ورد يف ظاهر النص؛ حيث إن هناك بعض النصوص القرآنية فرسهتا آيات أخرى،
328
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الس َّنة النبوية ،كام أن – األهم – أن هناك سياقات زمنية آليِ القرآن
أو فرسهتا ُّ
الكريم املختلفة ،وهذا السياق الزمني مهم لفهم احلكم الذي ورد يف اآلية ،وكيفية
وحاالت تطبيقه.
ومن أمثلة ذلك ،ما جاء يف ُسورة "الفرقان"؛ حيث يقول اهلل عز وجل﴿ :ﯓ
"و َج ِ
اهدْ ُهم ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ ،واملقصود بعبارة َ
بِ ِه" ،هو القرآن الكريم.
هذه اآلية َم ِّك َّية ،ويف وقت أن نزلت ،حدث أن تصادف أن جادل بعض
الصحابة األوائل ،الرسول الكريم ﷺ ،يف مسألة قتال املرشكني ،بعدما بدأوا يف
التنكيل باملسلمني األوائل؛ فأكد النبي ﷺ ،أنه مل يؤمر بقتال ،وقال هلم" :مل نؤمر
بذلك – يعني :القتال – ولكن ارجعوا إىل رحالكم" [صحيح /أخرجه البيهقي
والنووي وآخرون].
وهذا أثبت أن اجلهاد املذكور يف آية الفرقان هو جهاد البيان وليس جهاد السنان،
سمى بالسلفية اجلهادية،
بينام يؤكد منظرو اجلامعات التكفريية ومن ينتمون إىل ما ُي َّ
أن القتال هو صورة اجلهاد الوحيدة يف اإلسالم.
إ ًذا قضية احلاكمية مثلها مثل نصوص القرآن الكريم؛ هلا أوجه وأحكام وقواعد
لتطبيقها ،وال يتعارض معها وضع قوانني وأحكام جديدة يف جمال سياسة الرعية وحكمها.
ويف سرية الرسول الكريم ﷺ – كذلك – ما يؤكد هذا ،ففي سرية ابن إسحاق
"ريض ُ
اهلل عنه"، َ وابن هشام ،ثبات عنه ﷺ ،خطابه لسيدنا معاذ بن جبـل
329
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهو ﷺ ،يلقنه ما سوف يفعله مع أهل اليمن ،وإيالم سوف يستند معهم
يف تعليمهم دين اهلل؛ وصل معه ﷺ ،إىل منطقة" :وإن مل جتد" يف كتاب اهلل
وس َّنة رسوله" ،إىل موافقة رصحية منه ﷺ ،عىل ما قاله سيدنا معاذ فيام يتعلق
ُ
والس َّنة النبوية.
باالجتهاد واإلتيان باجلديد ،وفق ما فهمه من القرآن الكريم ُّ
"ريض ُ
اهلل عنه" :أجتهد رأي َ بل إن ذلك مطلوب يف اإلسالم؛ فلام قال معاذ
وال آلو .قال الرسول ﷺ" :احلمد هلل الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يريض رسول
اهلل".
.....
ويف األخري؛ فإن هذه القضية هي من أهم ما يمكن للعاملني يف حقل الدعوة
واحلركة اإلسالمية ،بحيث يتم الوصول إىل نقطة اتفاق حول دقائق وقواعد تطبيقها،
فال خالف عىل حاكمية الرشيعة يف كل أمر اإلنسان املسلم ،واملجتع املسلم؛ إال أهنا
يف إطارها العام تستوجب املزيد من الفهم ،حتى ال يتحول كل حكم جديد بشأن
مستجدات أوضاع املسلمني ،يف جمال للتكفري وتعطيل االجتهاد ،يف وقت أحوج
ما تكون فيه األمة إىل خطوة واحدة إىل األمام يف ظل سباق بني األمم ،ال يرحم من
يتخلف عنه!
330
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أتى القرآن الكريم؛ ليكون أهم عالمات أمام اإلنسان لكي هيتدي يف احلياة الدنيا
إىل سبيل الرشد والرجاء ،وليكون املرجعية األساسية للمسلم يف فهم الكون من
حوله ،وكيفية التعامل معه ومع األمور التي ُتعرض عليه يف كل حلظة من حلظاته
يف حياته الدنيا ،وحتى بعد مماته؛ مما ينتظره من سؤال وحساب ،ومن قبل ذلك يف
الدنيا ،ما يمر به من قضاء وقدر.
والقرآن الكريم يف هذا اإلطار ،حيتوي عىل العديد من صور املحتوى املختلفة؛
فهناك الرسديات التارخيية وقصص األولني ،وهناك اإليامنيات ،وهناك العمرانيات،
املوجه ،ما بني أهل اإليامن وأهل
إال أنه لعل أهم ما يف القرآن الكريم ،هو اخلطاب َّ
الكفر؛ سواء أهل الكفر من املارقني وصناديد ِّ
الشك والصد عن سبيل اهلل ،أو أهل
املجتمعات التي نزل القرآن الكريم هلدايتها بخطابه ،أي املجتمعات التي تتم فيها
الدعوة إىل اهلل عز وجل ودينه اخلاتم.
ُ
إدراكها ،مثل فهذا اخلطاب يتضمن أهم األمور التي جيب عىل البرشية برمتها،
دالئل وجود اهلل عز وجل ،ودالئل التوحيد ،والرسالة التي ُخلق اإلنسان ألجلها،
وألجلها ُأن ِزل إىل األرض ،وغري ذلك من عظيم األمور مما تاه يف زحام املادية
والعلامنية التي غزت كل أركان جمتمعاتنا املسلمة يف الوقت احلارض.
331
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وخيتلف اخلطاب القرآين املوجه إىل كل فئة من هذه الفئات الثالث؛ املؤمنني،
وصناديد الكفر ِّ
والشك وأهل اجلحود ،ثم َمن ُهم من غري أهل اإليامن ،يف
املجتمعات املستهدفة بالدعوة إىل الدين احلنيف.
ولذلك داللة مهمة إذا ما قارناه بخطاب أهل اإليامن يف القرآن الكريم؛ حيث
– كام سوف نرى – ينطلق اخلطاب القرآين ألهل اإليامن ،من معايل األمور ،وعىل
رأسها نرش دعوة اإلسالم ،واجلهاد يف سبيل اهلل تعاىل ،بكل صور وألوان ومعاين
اجلهاد.
هذا الفارق الذي يتضح يف اآليات القرآنية التالية؛ يؤرش حلقيقة مهمة ،وهي
أن إنسانية اإلنسان ال تكتمل إال بالوصول إىل مرتبة اإليامن ،فهو عندما ال يكون
مؤمنًا؛ فإن اهلل عز وجل خياطبه بام يتساوى فيه مع املخلوقات األدنى ،مثل هبيمة
األنعام ،الطعام واألمن وما اتصل بذلك.
332
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويتضح ذلك يف احلوار الشهري بني اهلل عز وجل ،وبني اخلليل إبراهيم "ﷺ ،يف
ُسورة "البقرة" ،فيقول تبارك وتعاىل يف ُم َكم التنزيل﴿ :ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ ﯴﯵﯶﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﴾.
هنا معايل األمور ،وهي إمامة الناس ،واإلمامة هنا عند أهل التفسري؛ هي الدعوة
والنبوة ،وهي أعظم مهمة محلها اإلنسان ،وناءت بحملها الساموات واألرض
وفصلت اآلية ( ،)125يف بعض تفاصيلها ،مثل خدمة أهل بيت اهلل
واجلبالَّ ،
احلرام ،وحجيجه ،أما احلاجات األساسية ،ممثلة يف ﴿ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾؛ كان
العهد اإلهلي ،بأن يكون للمؤمن والكافر عىل ٍ
حد سواء.
يف األوىل ،اإلمامة والنبوة؛ قال اهلل تعاىل﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾ ،أما يف
ردا عىل خطاب إبراهيم ﷺَ " ،م ْن آ َم َن الثانية؛ يف الرزق والثمرات؛ قال عز وجل ًّ
اللِ َوا ْل َي ْو ِم ِ
اآلخ ِر" ،ظ ًّنا منه أن ذات احلكم يف األوىل ،اإلمامة والنبوة ،ينطبق ِم ْن ُهم بِ َّ
ال﴿ :ﰉ ﰊ﴾؛ وانصياعا هلل عز وجل وتأد ًبا معه؛ َق َ
ً عىل الرزق املادي ،استجابة
خص اهلل عز
فشمل الكافرين بالرزق املادي الذي هو أدنى من عظيم األمور التي َّ
وجل هبا املسلمني واملؤمنني من عباده.
333
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف القرآن الكريم الكثري من اآليات التي خاطب هبا اهلل تعاىل أهل الكفر
واملجتمعات التي نزلت فيها رسالته ونبواته ،مثل﴿ :ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾
[سورة "ال َق َصص"] ،هنا العقاب جاء ألن هؤالء القوم "بطروا معيشتهم" أو جحدوا
ُ
وكفروا بأنعم اهلل تعاىل عليهم ،ممثلة يف الرزق املادي القريب ،ويف اآلية ،كام يقول ابن
كثري ،إنه كان فيها تعريض بأهل مكة.
وذات الرسالة يف ُسورة "قريش"؛ حيث يقول اهلل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ ،ويف ُسورة "األنفال" ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ ،ويف ُسورة "العنكبوت" ﴿ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾.
يف هذه اآليات؛ أتت عنارص امل َّنة اإلهلية عىل الناس غري املؤمنني ،يف األمن من اخلوف،
وتوفري الرزق املادي ،حلثهم عىل اإليامن ،مع الوعيد ملن يمد يف كفره وطغيانه منهم.
يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
[سورة "سبأ"].
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾ ُ
334
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هنا اجلزاء والعقاب الصارم ملن يكفر هبذه النعم ،وأن اإليامن هو رشط نجاة
اإلنسان من هذا العقاب ﴿ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾.
لنقارن ذلك باخلطاب القرآين املوجه للمؤمنني ،ففي سبعني آية من آيات القرآن
الكريم ،هي آيات اجلهاد والنفري والقتال يف القرآن احلكيم؛ سوف نجد صور ًة
خمتلفة متام االختالف ،يف املحتوى واألسلوب وكل يشء ،فهناك األمر الرصيح
باجلهاد والقتال وبذل األنفس واألموال يف سبيل اهلل ،والنفري ألجل نرصة دينه
ودعوته ،وصد عدوان أهل الكفر والضالل.
ويكفي هناك قول اهلل تعاىل﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
[سورة
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ ُ
"األنفال" – من اآلية .]72
ويقول كذلك﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
[سورة "ال َّتوبة] ،ويقول:
ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ ُ
﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ
ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ
[سورة َ
"احلج"]. ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ ُ
يف هذه اآليات الكريامت ،وغريها من اآليات التي ختاطب املؤمنني ،فيها معايل
األمور ،وفيها الدعوة إىل البذل ،حتى بأغىل ما يملك اإلنسان ،نفسه وماله ،وال
335
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يبايل رب العزة سبحانه بذلك؛ ألنه يعلم َمن خلق ،ويعلم أن اإليامن يتم عىل
اإلنسان إنسانيته ،وفهمه؛ فيعلم املسلم أنه قد ُخلق ملعايل األمور ،وألداء رسائل
مقدسة ،اصطفاه به خالقه ،باعتباره من أمة التكليف.
هذا االرتقاء يف التكليف ،بد ً
ال من احلديث عن األمن من اخلوف واإلغناء
من اجلوع ،إىل اجلهاد والبذل ،وهو يعلم – سبحانه – أهنم سوف يستجيبون وهم
راضون مستبرشون؛ هو الفارق األسايس بني أهل األيامن ،وأهل الكفر ،بل هو
الفارق بني اإلنسان الكامل ،واإلنسان غري املكتمل يف إنسانيته ،الذي يعيش حياة
األنعام؛ يأكل ويرشب وكفاه ذلك.
وهذا الرضا ،وهذا االستبشار ،يأيت من صفة إنسانية مهمة بدورها ،وهي
الفهم؛ فاملؤمن َف ِه َم دنياه ،و َف ِه َم دوره ،و َف ِه َم أركان هذا اإليامن ،بام فيها من إيامن
باحلياة اآلخرة ،وبأهنا هي احلياة احلقيقية ،وهي دار املستقر ،وأن حاله فيها سوف
يكون بنا ًء عىل ما أباله يف حياته؛ فيكون البذل واجلهاد عن رضا ،ألنه يف النهاية يف
مصلحة اإلنسان.
هم
كل هذا من متام برشية اإلنسان وإنسانيته ،أما اآلخر غري املؤمن ،والذي ال َّ
له إال اتباع اهلوى والشهوات؛ فالقرآن الكريم واضح متا ًما يف هذه النقطة؛ فيقول
اهلل تعاىل يف ُسورة "الفرقان"﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ﴾.
336
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
337
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مكوهنا ،باعتبار
يمكن النظر إىل احلركة اإلسالمية يف وقتنا الراهن ،يف بعض ِّ
أهنا تعاين من العديد من املشكالت املفاهيمية التي َّ
ركبت عليها أخطاء يف السعي
واحلركة ،مما قاد إىل الكثري من الرتاجعات ،عىل بعض اجلبهات التي ختوض فيها
معركة اإلصالح والتغيري ،من أجل التمكني للمرشوع احلضاري اإلسالمي.
ولئن كانت احلركة اإلسالمية تواجه حر ًبا بمعنى الكلمة ،يف مواجهة خصوم
استخدموا كل ما يف جعبتهم من أسلحة ،بد ًءا بمعركة الصورة والكلمة ،وحتى
استخدام اجلرينوف والرباميل املتفجرة ،وحتى السالح الكياموي ،واليورانيوم
ا ُملن ََّضب ،يف حماربتها؛ فإن أثر هذه احلرب ،هيون ويبدو أقل شأ ًنا أمام املشكالت
املفاهيمية؛ ألن األخرية ترتب أخطاء أكثر فداحة من التعرض لرصاص اخلصوم.
ومن بني ذلك ،الطريقة التي تعاملت هبا رشحية من شباب احلركة اإلسالمية،
وخصوصا من حديثي العهد باحلركة اإلسالمية واإلخوان املسلمني ،يف مرص
ً
– عىل سبيل املثال – يف مرحلة ما بعد انقالب يوليو 2013م ،ثم جريمة فض
اعتصا َم ْي رابعة والنهضة؛ حيث قادت األحداث التي جرت يف مرص ،وكذلك يف
ليبيا وتونس ،وغريها من بلدان الربيع العريب ،من ارتكاسات وتراجعات للحركة
اإلسالمية؛ قادت إىل حالة من األزمة يف توصيف الواقع ،بام أدى إىل شلل كامل يف
مفاتيح احلركة يف كثري من األحيان.
338
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
نظرت رشائح عريضة من أبناء وشباب احلركة اإلسالمية إىل ما جرى يف
إطار أنه رش مطلق ،وأنه ال يمكن التعامل معه يف إطار إصالحي ،وأن البديل
هو اخلروج عن املنهج احلركي والرتبوي الذي تأسست عليه حركات اإلسالم
السيايس الصحوية ،ويف القلب منها "اإلخوان املسلمون" ،مع الدخول يف حرب
كل الغرض منها هو االنتقام ،وليس أي يشء آخر.
وتبعا لذلك ،خيضت مواجهات غري متكافئة ،خترج عن نطاق االستطاعة
ً
بسبب مشكلة مفاهيمية باألساس ،قادت إىل عواقب أسوأ من الثمن املادي الذي
يدفعه املتصدُّ ون لقضية اإلصالح والتغيري ،والذي هو يف األصل – بالرغم من أنه
وأذى – أحد أهم عوامل تزكية احلركة اإلسالمية ،أمام الصف وأمام
ً يبدو ًّ
رشا
اجلمهور.
وعىل رأس هذه العواقب اخلروج عن السنن اإلهلية يف الفعل والعمل ،مما يرتب
اخللل الذي يقود – ً
حتم -إىل الفشل ،والذي من بني مظاهره فقدان عنارص القوة،
املادية ،والبرشية ،واملعنوية.
واألخرية ،املعنوية ،ترتبط بقضية مهمة بدورها ،وهي املصداقية عند اجلمهور،
وهي األساس األصيل الذي تقوم عليه أية دعوة ناجحة ،وكانت هي إحدى
مرتكزات العمل النبوي يف السنوات األوىل للبعثة املحمدية؛ حيث أيد اهلل عز وجل
نبيه ﷺ ،بالكثري من اآليات واملعجزات ،التي وقرت يف نفوس املسلمني األوائل؛
فأيدوا النبي ﷺ ،بكل ما يملكون من مال ،وبأنفسهم ،وكانوا أحد مظاهر نرصة
اهلل عز وجل ،لرسوله ﷺ.
339
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كان من األجدى التعامل مع املوقف بالشكل الذي حيقق املصالح املرسلة؛ ففي
رش ٌ
مطلق وال خ ٌري مطلق ،يف أي األصل أنه ليس هناك يشء /شخص /حدث ،بمثابة ٌّ
حدث يمر عىل اإلنسان يف حياته ،وإنام األساس يف تقييم العمل هو ما حتقق من مقاصد.
ففي ُعرف املؤمن؛ حتى أذى األعداء ،وتدافعهم ضد املرشوع اإلسالمي
احلضاري؛ فيه خري ،ومن بينه ،أنه ينبه املسلمني إىل أخطائهم ،وإىل أوجه القصور،
يمنعهم من الطغيان؛ ألنه لوال قوى التدافع ،ما وقفنا عىل قيمنا وحرصنا عليها.
ويقول العالمة النابليس؛ إن الرش املطلق ال وجود له يف الكون ،الرش املطلق
يعني الرش للرش ،وهذا يتناقض مع وجود اهلل ،لكن الذي يليق بكامل اهلل أن اهلل
يوظف الرش النسبي للخري املطلق.
ويف القرآن الكريم هناك آية يف ُسورة "األنبياء" ،شديدة األمهية والوضوح يف
هذا األمر؛ حيث يقول فيها احلق تبارك وتعاىل﴿ :ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾.
رش يصيب اإلنسان ،هو إنام عبارة عن إرادة ومشيئة إهلية، أي أن أي خري أو ٍّ
الغرض منها االبتالء واالختبار ،حتقي ًقا ُّ
لس َّنة احلساب عىل العمل ،سواء يف الدنيا
يوف الناس ما كانوا يعملون ،إما جنة نعيم ،أو نار اجلحيم.أو اآلخرة؛ حيث َّ
ويف معاجلتهم هلذه املسألة ،يقول علامء املقاصد ،عىل رأسهم الشاطبي ،إنه ال
رش ٌ
حمض ،وإنام ُيقاس األمر ،وفق معيار غلبة املصالح أو حمض ،وال ٌّخري ٌيوجد ٌ
املفاسد املرتتبة عىل وقوع األمر هذا األمر أو ذاك.
340
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف تلخيصه لكتاب "املقاصد" للشاطبي ينقل العالمة الريسوين ،تعري ًفا وضعه
عالل الفايس ،مجع فيه مقاصد الرشيعة العامة واخلاصة ،فيقول إن املراد بمقاصد
الرشيعة ،هعو "الغاية منها ،واألرسار التي وضعها الشارع عند كل حكم من
أحكامها".
واملقاصد إما عامة ،وهي التي تراعيها الرشيعة يف كل أبواهبا الترشيعية أو يف
كثري منها ،أو خاصة ،وهي التي هتدف الرشيعة لتحقيقها يف باب معني ،أو يف
أبواب قليلة متجانسة ،أو جزئية ،وتعني ما قصده الشارع احلكيم من كل حكم
رشعي من إجياب أو كراهة.
ونأيت للمهم من كالم الشاطبي فيام يتعلق بام نقوله يف هذا املوضوع ،وهو أن
املقاصد تأيت بمعنيني ،األول هو أن احلكمة هي املعنى املقصود من رشع احلكم،
املقتض لترشيعه،
ِ وهي املصلحة ،أما الثاين ُفياد به املعنى املناسب لترشيع احلكم أي
وذلك كاملش َّقة.
ومن هنا نفهم أن أي أذى أو متاعب أو "ما يبدو لنا" أنه خسائر ،خالل رحلة
التمكني؛ إنام جيب تقييمه يف إطار معنى املقاصد؛ البحث عن احلكمة اإلهلية من
وراء هذا الذي حدث ،ووضعه يف سياق سعي اإلنسان ،ولعل اختيار الشاطبي
والريسوين من يف رشوحه ملصطلح "املشقة" كان شديد التوفيق ،يف التعبري عن
احلالة التي نتكلم عنها يف هذا املوضع.
وبعيدً ا عن الشاطبي بمقاصده ،والريسوين ورشوحه ،فإنه حتى بمنطق الرشادة
والعقل الذي ميز اهلل تعاىل به اإلنسان عىل سائر املخلوقات ،ووضع له أمهية
341
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
342
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
343
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املجتمعات – يف الغرب بالذات – تكون بحاجة
إىل منهج يتناسب مع طبيعتها التي تقوم عىل متجيد العلم والعقل والتجريب،
ملموسا أو يمكن إدراكه باحلواس؛ هو
ً ونشأت نشأة تعتقد يف أنه كل ما هو ليس
غري موجود يف األصل.
وال يوجد يف هذا الصدد أنسب من املنهج العقيل الذي أتى به القرآن الكريم،
الذي خاطب به رب العزة سبحانه ،أول ما خاطب ،عقليات أبناء جمتمعات كانت
تقوم يف األصل عىل عقلية اخلرافة ،ورغم ذلك أسس اهلل تعاىل يف كتابه العزيز
للمنهج العقيل يف خماطبتها.
ولو تد َّبرنا آيات الذكر احلكيم ،سوف نجد أن اهلل عز وجل قد وضع الدليل
العقيل يف مقدمة األدوات التي اختارهتا حكمته إلقناع الناس بربوبيته وألوهيته،
وحقه بإفراد املخلوقات له بالعبادة.
مل يلجأ – وهو قادر عىل ذلك – ألي أسلوب قاهر يتجاوز العقل اإلنساين
ورضورات قبوله -العقل -ألي أمر ،واقتناعه به ،ألنه سبحانه وتعاىل ،هو
الذي خلق العقل ،ويعلم َمن خلق وما خلق ،وهو اللطيف اخلبري ،وبالتايل؛ يعلم
مفاتيحه ،ومفاتيح إقناعه.
ويف القرآن الكريم؛ نجد أن اهلل تعاىل ،قد استخدم أساليب عديدة إلقناع اإلنسان
بحقائق التوحيد ووجود خالق للكون ،من خالل النامذج العقلية واملنطقية ،مثلام نجد
يف ُسورة "يس" :ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ ،وكذلك﴿ :ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾.
344
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
345
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف القرآن الكريم ،هو أحد مسالك وصول اإلنسان إىل اإليامن والتوحيد وحقائقه،
وبالتايل فمن باب أوىل ،أن يكون ذلك هو منهج الدعاة األسايس ،والسيام يف
املجتمعات التي وصلت إىل مرحلة متقدمة من احلضارة املادية.
وهناك يف العلوم الرشعية ما ُيعرف باملنهج العقيل يف بيان العقيدة ،وهو منهج
يعتمد العقل يف تفسري وتد ُّبر القرآن الكريم من أجل الوصول إىل حقائق اإليامن،
بوات ،والبعث ،وغري ذلك من مفردات العقيدة.
مثل الربوبية ،واأللوهية ،وال ُّن َّ
ولشيخ اإلسالم ابن تيمية مقوالت حسنة يف ذلك ،فهو يقول يف "جامع
الفتاوى"" :إن املنهج العقيل الذي يسلكه القرآن الكريم يف بيان العقيدة وغرسها يف
النفوس يأيت متس ًقا مع املنهج الفطري ومتكام ً
ال معه؛ ولذلك فإن القرآن الكريم مل
مقصورا عىل جمرد اخلرب عن وجود اهلل تعاىل ووحدانيته وسائر أركان العقيدة،
ً يكن
وإنام أقام الرباهني العقلية التي هبا ُت ْع َلم العلوم اإلهلية؛ فكان منهجه ومنهج مجيع
األنبياء عليهم السالم اجلمع بني األدلة العقلية والسمعية (الرشعية)".
ويف "النبوات" ،يقول" :فاالستدالل عىل اخلالق بخلق اإلنسان يف غاية ُ
احل ْسن
واالستقامة ،وهي طريقة عقلية صحيحة ،وهي رشعيةَّ ،
دل عليها القرآن وهدى
الناس إليها؛ فإن نفس كون اإلنسان حاد ًثا بعد أن مل يكن ،وخملو ًقا من نطفة ثم
من علقة ،فإن هذا يعلمه الناس كلهم بعقوهلم ،فهو إ ْذن عقيل؛ ألنه بالعقل ُتع َلم
صحته ،وهو رشعي ً
أيضا".
............
346
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إن هذا املنهج الذي أخذ به السلف الصالح ،حتى بعض املتأخرين منهم ممَّن
" ُيعاب" عليهم من جانب البعض ،أهنم كانوا إىل اجلمود أقرب يف التعامل مع
النص؛ نقول إن هذا املنهج غائب عن الكثري من دعاتنا املحدثني ،الذين يكتفون
ِ
بذكر ما يف املتون التي يعود منهجها الفكري والعقيل إىل قرون مضت ،بينام هم
يتحركون يف جمتمعات تفكر بعقلية القرن الثاين والعرشين بالفعل!
347
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يمر بنا هذه األيام ذكرى ما ُيعرف بـ"يوم الال عنف العاملي" ،أو "اليوم الدويل
لال عنف" ،فيام أمتنا حتفل بالرصاعات الدموية التي استخدمت فيها كل أنواع
األسلحة ،الناعمة والصلبة.
ونرى اآلن الكثري من الظواهر التي تتعارض مع هذه املناسبة ،حتدث كل دقيقة
بني ظهراين أمتنا التي اب ُتليت بالكثري من الرصاعات املسلحة واحلروب وأعامل
العنف املختلفة األشكال واألنواع ،والتي تركت حدود بلدان العامل العريب
واإلسالمي ،وطالت جمتمعات املسلمني يف بلدان املهاجر واالغرتاب.
ويدعم ذلك منظومة إعالمية و"فقهية" تستميت حماول ًة "تأصيل" العنف
واستخدام القوة املسلحة ،باعتبارها وسيلة املسلم الوحيدة يف الوصول ألغراضه،
وتكفري اآلخر املسلم ،ما دام أنه يرفض هذه األفكار.
مهام املسلم وكيف يؤديها:
ُتعترب مهمة املسلم األوىل ،هي عبادة اهلل تعاىل عىل عقيدة التوحيد ،وفق تعاليم
الرشيعة التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل عبده ونبيه ،حممد ﷺ .يقول تعاىل يف ُسورة
"الذاريات" ﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾.
348
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
349
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أما لو قصد قوله تعاىل نمط األذى الذي تعرض له املسلمون األوائل من تعذيب
وكذا ،حلملهم عىل الرجوع عن دينهم؛ فإن اآليات وضعت الصرب كأحد مراتب
اإليامن ،وأكدت عىل أولوية التقوى واإلحسان يف سلوك املسلم.
وهذا األمر له شواهده التي تؤكده من صحيح السرية النبوية؛ فمن الثابت عن
يغز أو يستخدم العنف؛ إال لرد اعتداء أو معاقبة أحد املجرمني ،كام
النبي ﷺ ،أنه مل ُ
العرنْيني ،الذين قتلوا الرعاة ،ورسقوا اإلبل بعد أن
فعل مع الثامنية من أبناء عكلُ ،
كانوا مؤمتنني عليها ،ويأكلون من خرياهتا.
ويف مرحلة اخللفاء الراشدين من بعده ﷺ ،كانت حاالت العنف املفرط شديدة
الندرة ،ولذلك يذكرها التاريخ الستثنائيتها ،مثلام فعل أبو بكر الصديق "ريض ُ
اهلل
الس ْلمي ،عندما أخذ السالح ليقاتل به املرتدين ،ولكنه حرق ُ
الفجاءة ِّ عنه" ،عندما َّ
قتل به املسلمني واملرتدين معه ،ثم إن املؤرخني يقولون إن الصديق قد ندم عىل
إحراقه له بعد ذلك.
وعمر ابن اخلطاب الذي دانت له عروش كرسى والرومان؛ ندم أشد الندم عىل
رضبه لرجل من عوام املسلمني ،بدُ َّرته املشهورة ،وبكى ،وعاد إليه وطلب منه أن
يقتص منه ،وحتى أن عثامن بن ع َّفان "ريض ُ
اهلل عنه" فضل أن ُيقتل ،عىل أن يأخذ َّ
قاتله واملتآمرين عىل حياته ،بالعنف.
حيتج بعض خصوم األمة هبا عىل أن اإلسالم ولو أتينا ملرحلة الفتنة الكربى ،التي َّ
والس َّنة النبوية قد تنبآ
دين عنف وربى أصحابه عليه؛ فسوف نجد أن القرآن الكريم ُّ
هبا ،وحذرت نصوص قرآنية ونبوية منها ،وصلت ملستوى الزجر املشدد ،وتشبيه
هذا السلوك بالعودة للجاهلية.
350
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إ ًذا ،اإلسالم كمنهج تربوي ،ال يؤسس ألي شكل من أشكال العنف يف نفوس
وسلوك أبنائه.
مهمة من ُسنَن العمران التي
ولكن ينبغي هنا التمييز بني هذه القضية وبني ُس َّنة َّ
وضعها اهلل تعاىل يف خلقه ،وهي ُس َّنة التدافع ،التي وردت يف أكثر من موضع من
القرآن الكريم.
351
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
والتدافع صنو الرصاع يف أبسط معانيه ،وال يوجد رصاع من دون عنف ،وهنا
تتدخل الرشيعة اإلسالمية لوضع ضوابط ِّ
منظمة له ،كام هو طبيعة الرشيعة؛ أهنا
تتصدى للظواهر اإلنسانية وتظمها يف اإلطار الذي ارتضاه اهلل عز وجل.
ويف هذا نجد أن اإلسالم قد قدَّ م مبدأ الال عنف يف التدافع ،عىل مبدأ احلرب،
فمن بني أسباب امتالك القوة ،الردع السلبي ،من خالل امتالك املقدرات املختلفة
التي متنع العدو من االعتداء عىل اجلامعة املسلمة.
ملمح ْي َّ
مهم ْي جاءا يف القرآن الكريم يف هذا الصدد. َ وهنا نقف أمام
352
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
353
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
354
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف حقيقة األمر؛ فإنه كان من املدهش حقيقة أن تتمتع اجلامعة املسلمة األوىل،
بكل هذه الدرجة من املرونة التي خيربنا هبا التاريخ؛ حيث إهنا يف النهاية من جذور
ذات طبيعة بدوية ،تتسم باخلشونة يف التعامل مع الظواهر ،والتحفظ الشديد
بطبيعتها ،وعدم إمكانية القبول السهل ،باحلياة يف جمتمعات أخرى ،ختتلف عن
املجتمع األم الذي نشأت وعاشت فيه ،حتى ولو كانت هذه املجتمعات األخرى،
عربية رصفة مثلها.
إال أن املسلمني األوائل عاشوا حتى يف جمتمعات خمتلفة عنهم يف اللغة واالنتامء
القومي والديانة ،كام يف حالة اهلجرة األوىل ،إىل احلبشة ،ووصل هبم مرونة احلال،
إىل درجة أن سيدنا جعفر بن عبد املطلب (ريض اهلل عنه) ،وهو الذي كان أحد
سادات قومه ،قد استطاع أن يعيش عرش سنوات يف احلبشة ،كان خالهلا أول سفري
لإلسالم يف هذه األرض.
بل إن هذه املرونة من سامت القرآن الكريم نفسه ،الذي هو كالم اهلل تعاىل
هدى ورمحة للعاملني.
القديم ،أنزله عىل صدر نبيه ﷺ ،ليكون ً
فهناك يف العلوم القرآنية ،باب الناسخ واملنسوخ؛ حيث هناك آيات نزلت يف
فرتة من الفرتات َن َس َخ ْت آيات أخرى أقدم ،مراعاة لتبدل الظروف ،وهناك من
املنسوخ ما أنساه اهلل تعاىل لنبيه ﷺ ،حلكمة بالغة منه عز وجل ،وهناك ما أبقاه
التدرج
سبحانه ،يف القرآن الكريم حلكمة أخرى بالغة ،من بينها تعليمنا كمسلمني ُّ
واملرونة وفق مقتىض احلال ،وأن هذا األمر حتى اهلل تعاىل ألزم نفسه به ،بالرغم من
سابقة علمه بالظروف القائمة ،وطالقة قدرته بتكييفها بالشكل الذي ال يتطلب
تغيري األحكام يف القرآن الكريم.
355
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالنظر إىل حال اجلامعة املسلمة األوىل منذ البعثة وحتى وفاة النبي الكريم ﷺ؛
فإننا سوف نجد أن التدرج واملرونة كانا سم ًة أساسية ،وليست فرعية ،يف االجتامع
السيايس هلا.
فلو تأملنا املرحلة املَ ِّكية؛ فإننا سوف نقف عىل جمموعة من السامت املختلفة متام
االختالف عنها يف مرحلة اهلجرة األوىل إىل احلبشة ،عنها يف مرحلة دولة املدينة،
وحتى هذه املرحلة ،خمتلفة عن مرحلة الدولة بعد فتح مكة املكرمة ،سواء فيام يتعلق
بالعبادة والعالقة مع اآلخر ،وكذلك طريقة إدارة شؤون الكيان املسلم الذي انتقل
مستضع َفة" إىل مستوى "الدولة" ثم "الدولة ذات السيادة يف
َ من مستوى "مجاعة
إقليمها.
ويف كل مرحلة من هذه املراحل؛ فإن املسلمني قدموا من االستجابة اجليدة،
دروسا مستفادة للحركة اإلسالمية يف الوقت الراهن.
ً الكثري مما حيوي
وكثري
ٌ ومن بني هذه الدروس؛ كيف قبلوا عىل أنفسهم ،وهم أصحاب العزة،
منهم كان من سادات قومه ،أن ُّ
يتخفوا بعباداهتم ،وكيف قبلوا احلياة يف جمتمعات
غريبة عنهم؛ قدموا فيها من النموذج اإلنساين ،ما جعل النجايش نفسه يقبل
اإلسالم دينًا ،كام يقول بعض املؤرخني.
ثم كيف أصبح هؤالء قادة دولة وجيوش فاحتة بعد إقامة الدولة ،وكيف أداروا
خالفاهتم مع النبي ﷺ ،كقائد للدولة ،وكيف متتعوا بروح منفتحة ،مكنتهم من
جتاوز حمنة مكة األوىل ،وقبول التعايش مع من آذوهم واضطهدوهم يف البداية،
وطردوهم من ديارهم ،وآمنوا بأن اإلسالم َ ُي ُّب ما قبله ،وكيف تعايشوا مع اليهود
356
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واملرشكني يف املدينة ،برغم ما جيدونه مكتو ًبا عندهم يف القرآن الكريم من أهنم –
أي املرشكني واليهود – هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
ولعل يف موقف النبي ﷺ ،من املنافقني يف املدينة والبادين يف األعراب من
حوهلا ،الكثري من الدروس يف املرونة والواقعية السياسية ،من دون تفريط يف ثوابت
الدين والعقيدة بطبيعة احلال.
ولو درسنا جتربة دولة املدينة من منظور علم االجتامع السيايس ،ولو وقفنا عند
املحطات التي سبقت تأسيسها؛ فإننا سوف نقف عىل أنموذج طيب للغاية يف
نفرا من تأسيس دولة
بضعا وسبعني ًمكن ً املرونة والتخطيط السيايس الذكي الذي َّ
كاملة ،كانت هي أول شكل من أشكال العمران السيايس املتطور يف شبه اجلزيرة
العربية يف بضعة سنوات قليلة.
فكيف أدار املسلمون عملية اهلجرة ،وبناء التحالفات مع القوى النافذة ،وكيف
تعاملوا مع املنافقني من أصحاب السطوة والسلطان ،وكيف كان التعامل مع
املعاهدين من أهل الكتاب ،وكيف كان التعامل مع َمن َن َقض العهد منهم ،وكيف
كانت الدعوة ُتدار بشكل سيايس بحت ،من مركز الدولة يف املدينة ،وصو ً
ال إىل
أطراف شبه اجلزيرة العربية وخارجها ،يف األمصار املجاورة ،عندما خاطب قائد
الدولة يف ذلك الوقت؛ الرسول الكريم "عليه الصالة والسالم" ،رموز األمم
املحيطني به ،داع ًيا إياهم للدخول يف دين اهلل؛ اإلسالم.
سياسيا؛ حيث
ًّ ويف صلح احلديبية؛ سوف نجد الرسول ﷺ مفا ِو ًضا وحماد ًثا
فاوض أهل مكة من املرشكني ،وفاوض قومه ومجاعة املسلمني عىل االتفاق الذي
توصل إليه مع أهل مكة املكرمة.
357
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن نافلة القول ،التأكيد عىل أن الرسول ﷺ يف ذلك الوقت ،ويف كل تلك
املواقف ،مل يكن ينطق عن اهلوى ،بينام يف كل موقف منها ،كان األمر يتعلق بصلب
العقيدة ،ومستقبل الدعوة.
هذه اخللفية التي تؤكد عىل أن الوحي األهلي والتوجيه اإلهلي كانا خلف
قرارات الرسول الكريم ﷺ يف حينها؛ جيعلنا نقيس األمور بمقياس ثابت؛ أن
هذه القرارات وطريقة أخذها وكذا؛ هي األساس الذي ُيقاس عليه ،وبالتايل؛ فقد
وجب – باملعنى الرشعي للوجوب الذي حيمل اإللزام – أن نلتزم هبا ،ونعمل عىل
أن نختار منها ،ما يتفق مع احلالة الراهنة ،وكل موقف تواجهه احلركة اإلسالمية.
358
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بالرغم من أن القرآن الكريم ،باعتباره الوثيقة التي منهاج اهلل تعاىل ورشيعته
التي ارتضاها لعباده عىل األرض؛ قد حرص الشارع األعظم فيه عىل التأكيد عىل
ال ملبدأ العدل يف احلساب؛ حيث إن كلاملسؤولية الفردية ألفعال اإلنسان ،إعام ً
إنسان أوىل بام قدَّ مت يداه ،وال يكون مسؤو ً
ال عن أفعال اآلخرين؛ لضعفه وعجزه
عن تصويبها.
والقرآن الكريم ،وبالذات ُسورة "اإلرساء" ،حافل باآليات التي توضح
املسؤولية الفردية لإلنسان َّ
عم ُياسب عليه﴿ ..ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ
[سورة "اإلرساء" – اآلية .]13
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ ُ
وهو مبدأ أقره اهلل تعاىل حتى عىل ُر ُس ِله املك َّلفني من ِق َب ِله بتبليغ دعوة احلق
والتوحيد للناس ،بمن فيهم النبي حممد ﷺ ،الذي ُبعث بالدِّ ين اخلاتم للعاملني،
ألنه – كام تقدم عن ِع ْلم اهلل تعاىل بخلقه وضعفهم – ليس عليهم بمسيطر﴿ ..ﯤ
[سورة "الغاشية" – اآلية .]22
ﯥ ﯦ ﯧ﴾ ُ
ويف ُسورة "األنعام" ،يقول تعاىل خماط ًبا نب ِّيه ﷺ﴿ :ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌَ﴾ [من اآلية ،]52وكذلك يف ُسورة "آل
ِعمران" ،يقول اهلل تعاىل لنب ِّيه ﷺ كذلك﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾ [من اآلية .]128
359
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
إال أنه يف بعض املواقف؛ سوف نقف عىل بعض األمور التي جعل اهلل تعاىل،
بحكمته البالغة ،املسؤولية فيها مجاعية ،كام يف قوله عز وجل﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ
[سورة
ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾ ُ
"األنفال" -اآلية .]25
360
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بموجب ُس َّنة إهالك األمم ،أو يف اآلخرة ،عندما ترتى األمم إىل النار ،العنني
بعضهم البعض!
وهنا جتب اإلشارة إىل ما ذكره الطربي والقرطبي وآخرون يف تفسري آية
املفسين ،عىل أهنا
"األنفال" املتقدمة؛ حيث هناك حالة من اإلمجاع بني عموم ِّ
نزلت يف صحابة رسول اهلل ﷺ ،استرشا ًفا ملا سوف يكون عليه حاهلم من بعده
ٍ
اقتتال وفتنة. "عليه الصالة والسالم" ،من
فأشار املفرسون إىل مقوالت وردت عىل ألسنة كبار الصحابة "رضوان اهلل تعاىل
عليهم" ،ومنهم الزبري بن العوام ،وابن عباس ،وقت الفتنة الكربى ،من أن اآلية
تنطبق أكثر ما تنطبق ،عىل حاهلم يف ذلك احلني.
ويف اإلطار العام للحديث القرآين؛ فإن واقع املسؤولية اجلامعية حيدث
عندما تشيع أشكال اخللل املختلفة ،وتقاعس املجتمع املسلم عن التصدي
وخصوصا تلك التي متس العقيدة ،ومصري األمة
ً ملثل هذه األلوان من اخللل،
بالكامل.
ردا عىل أم املؤمنني ،زينب بنت
ويؤكد ذلك املعنى ،قول الرسول الكريم ﷺًّ ،
جحش "ريض اهلل عنها"،
وقد تضافرت مجلة من األحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد هذا املعنى ،من
ذلك رده ﷺ ،عىل زينب بنت جحش "ريض ُ
اهلل عنها" ،عندما قالت" :يا رسول
ٌ
[متفق عليه]. اهلل أهنلك وفينا الصاحلون؟" .قال" :نعم ،إذا كثر اخلبث"
361
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وألن القرآن الكريم ،هو كالم اهلل املتني ،والذي يصح ويصلح لكل زمان
ومكان؛ فإنه عندما نعمل عىل إسقاط هذا احلديث عىل الواقع احلايل لألمة؛ فإننا
سوف نقف أمام جمموعة من األمور اجلدُّ خطرية ،والتي ينبغي عىل كل مسلم أن
يدركها ،لكي يعلم ما عليه من واجبات يف هذه اللحظة بالذات ،حتى نتقي العقاب
خزي يف الدنيا وعذاب مهني يف اآلخرة.
اإلهلي الذي هو ٌ
فيدخل حتت بند هذه اآليات واألحاديث النبوية الرشيفة ،قضية حماربة الفساد
واالستبداد ،ويدخل فيها قضية التصدي خلصوم املرشوع احلضاري اإلسالمي،
والذين يف سبيل وقفه ،ارتكبوا كل ما يمكن من جرائم ،بام يف ذلك قتل الناس يف
الشوارع وهدم املنازل عىل رؤوسهم ،وانتهاك أعراضهم ،واالستيالء عىل أمواهلم،
وغري ذلك صور اجلرائم واملوبقات.
إن هذه اآليات واألحاديث لتؤكد أن العقاب اإلهلي لن يطال املؤيدين لقوى
الفساد واالستبداد فحسب ،ومن عاوهنم عىل جرائمهم ،ويف فسادهم ،وإنام يطال
أيضا حتى من شاركوا بالصمت ،وتقاعسوا عن أداء فريضة األمر باملعروف ً
والنهي عن املنكر التي هي مع اإليامن باهلل تعاىل ،ما جعل األمة هي خري ُأ َّم ٍة
أخرجت للناس﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
[سورة "آل ِعمران" – من اآلية .]110 ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ﴾ ُ
ولعل هذه الرسالة التي حيملها هذا احلديث ،هي أحوج ما تكون األمة اآلن
إىل أن تسمعها من قادة الرأي والعلامء والساسة الذين ال يزالون يتمسكون برسالة
التغيري واإلصالح ،وال يزالون يؤمنون باملرشوع اإلسالمي احلضاري ،وبأنه احلل
الوحيد لكل مشكالت األمة ،بل املفتاح الوحيد لسعادة البرشية.
362
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تالق أم صراع؟!
"المشروع اإلسالمي" والقديمٍ ..
ال نزال نميض مع املشكالت التي تواجه احلركة اإلسالمية ،واملرشوع اإلسالمي
يف زمننا املعارص ،وعىل وجه اخلصوص تلكم املشكالت التي تتصل بمسألة قدرة
الفكرة اإلسالمية وأطرها احلركية عىل االنسياح داخل املجتمعات ،واالنتشار يف
خمتلف األوساط.
دورا
وربام هناك مشكلة ال ينتبه إليها الكثريون يف األوساط احلركية؛ إال أن هلا ً
ريا يف حقيقة األمر يف تعطيل انتشار الفكرة اإلسالمية داخل املجتمعات ،وبالتايل؛
كب ً
فهي ُتعترب من بني أهم اآلفات التي أصيبت هبا احلركات السياسية واالجتامعية
التي متثَّلت املرشوع اإلسالمي عنوا ًنا هلا.
ونعني هنا قضية نفي كل قديم .وهي آفة أخرى تضاف إىل قضية نفي "صالح"
اآلخر و"أحقيته يف متثيل املرشوع اإلسالمي" ،والتي قادت يف مراتب متطرفة
هلا ،إىل التكفري ،وإىل دخول احلركة اإلسالمية يف رصاعات بينية أرضَّ ت أ َّيام رضر
باملرشوع األصيل برمته.
وقبل تناول الفكرة؛ فإنه من األمهية بمكان القول إن هذه األزمة ،وخمتلف
األزمات واملشكالت تتعلق بقضية أي اجلامعات مت ِّثل املرشوع اإلسالمي ،وفق
تصورها له ،وليس اإلسالم؛ ألن الدين ال يوجد َمن يمثله ،وحيتكره كمفهوم
شامل عام؛ فهذه عقيدة ثابتة يف األصول الرشعية؛ حيث ال بابوية يف اإلسالم،
363
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ووقت البعثة النبوية؛ مل يكن هناك أية تصنيفات بني املسلمني تضع هذا ضمن
الصحابة وهذا ال.
يف هذا اإلطار ،نأيت إىل نقطة "اجلامعاتية" التي اب ُت ِل َي ْت هبا األمة ،بعد أن َّ
حول
البعض يف العقود املاضية جهود اآلباء األوائل حلركة اإلصالح يف العامل اإلسالمي
ً
تنظيم لصفوفها ،إىل هدف يف حد ذاته. الستحداث طليعة أكثر
ويف ظل هذا االنحراف عن رسالة الطليعة احلركية يف جذرها ،كواجهة قائدة
وشعارا
ً هنجا
فقط؛ حتول البعض باحلركات واجلامعات التي انتهجت اإلسالم ً
هلا ،إىل هدف يف حد ذاته ،ثم حتول األمر إىل تنافس عىل تثبيت األقدام يف املجال
االجتامعي والسيايس.
وبالتايل نقف عند املشكلة التي نحن بصددها ،وهي أنه من أجل هذا التثبيت؛
ظن البعض عىل وجه خاطئ أنه لن "يسود" – بينام املطلوب ليس السيادة يف حد
ذاهتا – إال لو نفى اآلخر ،وأسقط عن القديم كل صالح ،وكل فائدة فيه.
فتم نفي صالحية األفكار القومية ،ونفي جتارب السابقني اإلصالحية ،لدرجة
املعاداة الرصحية لتجارب سياسية وتنموية اعرتف العامل كله – الذي حارهبا يف حينه
-هبا ،مثل جتربة حممد عيل باشا الكبري يف مرص.
وامتد ذلك إىل احلديث عن "ماسونية" حممد عبده ومجال الدين األفغاين –
الذي عاش ومات مطار ًدا بسبب أفكاره اإلصالحية!! – وعن سطحية عباس
العقاد ،وعن هتافت املرشوع الفكري لإلمام حممد الغزايل ،ملجرد خالفات تنظيمية
أو فكرية ربام كان إدارهتا يف اإلطار الداخيل أفضل وعالمة صحية.
364
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وشمل ذلك نقطة خطر مهمة ،وهي األفكار اليسارية التي من املفرتض أن يتم
تناوهلا بيشء غري يسري من الرشادة الرتباطها يف جذرها بعقدة مهمة ،وهي املطالب
االجتامعية.
فلو أنك هامجت اليسار وما اتصل به من أفكار اشرتاكية ،من دون تدقيق؛ فسوف
"يبدو" وكأنك تتبنى أفكار ما ُيعرف باليمني الرجعي ،وهتاجم الدعوات التي
تتضمنها املدارس اليسارية املختلفة عن رضورة تقدم الشعوب ،وأن تنال حقوقها
وحريتها ،وأن يكون العيش واحلرية والكرامة اإلنسانية عىل رأس أجندة احلكومات.
وهو بالفعل اهتام ُو ِّجه من األنظمة اليسارية والقومية العربية يف اخلمسينيات
والستينيات عىل وجه اخلصوص ،يف أوج صعود االشرتاكية واألفكار القومية يف
عاملنا العريب ،وكان لإلخوان املسلمني النصيب األكرب من هذه االهتامات بحكم
احلجم واالنتشار ،وبحكم العالقات السياسية التي مجعت بني اجلامعة وبني أنظمة
عربية كانت مص َّنفة ضمن هذا التصنيف.
ويف الواقع؛ فإهنا نجد أن هذه األفكار ،بعد جتريدها من املنظومة القيمية التي
حتكمها ،وتتناقض يف بعض جوانبها مع صحيح اإلسالم؛ هي – هذه األفكار عن
احلرية والكرامة اإلنسانية والعيش الكريم – هي من صميم اإلسالم ،لدرجة أن
بعض النخبة املثقفة يف عاملنا العريب ،مثل أمحد شوقي؛ قالوا بأن اإلسالم يف صورته
النبوية النقية ،إنام ِّ
يزكي األفكار االشرتاكية يف املجال االجتامعي قل ًبا وقال ًبا.
هذا النفي للقديم ،والتصادم معه ،بد ً
ال من االستفادة منه يف حتقيق التثبيت
املجتمعي ْي ،أدى إىل عواقب سلبية للغاية.
َّ واالنتشار
365
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني هذه العواقب ،دخول احلركات اإلسالمية إىل ساحات رصاع داخلية مل
يكن ينبغي هلا أن تدخلها ،وشغلتها عن مهامها اإلصالحية التي هي من املفرتض
أهنا هنضت ألجلها ،وأضعفتها أمام خصوم األمة اخلارجيني ،والذين هم من
املفرتض أن احلركة اإلسالمية خرجت حلامية األمة منهم يف األصل.
كذلك أدى هذا إىل انفصال كامل مع رشائح جمتمعية وسياسية ،كان أوىل
التداخل معها ،والسعي إىل ضمها كام تفعل أية قوة سياسية واجتامعية أخرى ،وهو
ما أضعف هذه احلركات كذلك.
كام أنه ثبت اهتامات ال أصل هلا من جانب بعض خصوم الدعوة ،بأهنا – أي
احلركات اإلسالمية – إنام هي أداة من أدوات القوى االستعامرية من أجل هدم
املجتمعات والنيل من "ثوابتها" ،باعتبار أن القديم يم ِّثل هذه الثوابت.
متوقعا؛ ألنه خيالف
ً النقطة املهمة هنا ،أن املشاكل التي نجمت عن ذلك كانت
رصيح قوانني العمران البرشي واالجتامع السيايس ،وهو أمر – ألنه يتناىف مع
قوانني العمران – فقد جاء اإلسالم بعكسه.
فـ"وثيقة املدينة"؛ أول وثيقة مواطنة وحقوق مدنية يف التاريخ وفق مسترشقني
من وزن املسترشق الربيطاين ،ويليام مونتجمري وات؛ اعرتفت بالقديم القائم،
حتى ما كان منه خيالف عقيدة التوحيد ذاهتا ،حلني إصالحه عىل املنهج اإلسالمي
وخصوصا الرتبية.
ً املتدرج من خالل خمتلف األدوات،
ِّ القائم عىل التغيري
وبالفعل؛ فإنه بعد "وثيقة املدينة" ،بل وبعد "صلح احلديبية" الذي أقر ملرشكي
مكة حقو ًقا سياسية واجتامعية حتى عىل املسلمني اجلدد من بني ظهرانيهم؛ بعده
366
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بعام واحد ،كان فتح مكة املكرمة ،وظهور اإلسالم عىل كامل شبه اجلزيرة العربية،
وه ِد َمت األصنام ورموز الرشك أص ً
ال يالكامل. ُ
وهو ما يقول بأن منهج اإلسالم هو الصواب وال يشء خالفه ،وأنه – حقيق ًة -
من لدن حكيم عليم.
فلو أن األمر مرتبط برؤى برشية ،ووفق جتارب سابقة والحقة يف التاريخ
اإلنساين ،مماثلة أو قريبة من حالة دولة اإلسالم األوىل؛ فإن هذه املراحل التي
استغرقت سنوات معدودة من البعثة النبوية؛ أخذت عقو ًدا وربام قرو ًنا طويلة يف
حاالت أخرى.
كذلك نجد أن غالبية الصحابة الكرام رضوان اهلل تعاىل عليهم ،كانوا من كبار
ال ،وكان بعضهم يف فرتة اجلاهلية من األسوأ يف يربم النبي ﷺ أطفا ًالسن ،ومل ِّ
اجلانب األخالقي ،وبعضهم قتل املسلمني وعذهبم واضطهدهم ،ولكن ذلك مل
يمنع أن الرسول الكريم ﷺ اجتهد لضمهم إىل صفوف الدين ،وجعلهم حر ًبا عىل
أعداء الدين ،وليس عىل الدين.
وهو "عليه الصالة والسالم" ،يقول يف حديث صحيح" :خريكم يف اجلاهلية
خريكم يف اإلسالم".
............
ويف األخري؛ فإن نفي القديم بالكامل ،وبصورة غري رشيدة؛ خلق أزمة حقيقية
أمام احلركات اإلسالمية للتحرك يف املجتمعات واألوساط التي ال تؤمن بالفكرة
اإلسالمية؛ فوصلنا إىل مرحلة التكفري واهلجرة؛ سواء الرصيح منها أو املسترت!
367
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
368
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولتحرير املفهوم ،فإن مقاصد الرشيعة أو املقاصد الرشعية ،أو مقاصد الشارع
تعرف يف علم أصول الفقه ،عىل أهنا ،كام يف
األعظم من األحكام الرشعيةَّ ،
"املوافقات" لإلمام الشاطبي ،هي ما قصده الشارع األعظم ،رب العزة سبحانه،
بمعنى آخرِ ،
احل َكم التي من أجل ً من الرضوريات واحلاجيات والتحسينات ،أي،
حتقيقها ،بعث اهلل تعاىل الرسل ،وأنزل الرشائع ،وتتضمن مصالح املك َّلفني وفق
مناطات التكليف املعروفة ،وهي العقل واحلرية.
ِ
وقطعه" ،وحفظ ِ
ورفعه وبشكل عام؛ فإن املقاصد هتدف إىل "نفي الرضر
الكليات الرشعية اخلمس املعروفة ،وهي حفظ الدين ،وحفظ النفس ،وحفظ
العقل ،وحفظ النسل ،وحفظ املال ،مع مراعاة مطلق املصلحة ،سواء أكانت هذه
املصلحة جالب ًة ملنفعة ،أم دارء ًة ملفسدة.
ويف القرآن الكريم الكثري من الشواهد والنصوص التي توضح أن املقاصد هبذا
املعنى ،من الواجب والرضوري وضعها عند إصدار أي حكم رشعي؛ فكثري من
األحكام تبعتها يف القرآن الكريم ،عبارات تدعو إىل العفو ،وحتى يف احلدود القاطعة
يف أمور شديدة األمهية ،مثل القصاص الذي ال تستقيم حالة السلم األهيل واالجتامعي
إال به؛ فإن القصاص مرشوط ومرهون بأن يكون حلفظ النفس يف األصل ،ومرشوط
كذلك برشط الرشادة والعقالنية يف تنفيذه ..يقول تعاىل﴿ :ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
[سورة "البقرة" -اآلية .]179
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ ُ
أي أن املصلحة هي التي حتكم احلكم الرشعي كام هو واضح يف هذه اآلية
الكريمة ،ويف آيات أخرى.
369
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبشكل عام ،من بني اآليات القرآنية الكريمة التي يستند إليها العلامء املقاصديني
يف التأكيد عىل أن مراعاة املقاصد من ُصلب الرشيعة؛ قوله تعاىل﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥ
ﯨ﴾[سورة "البقرة" -من اآلية .]185
ُ ﯦﯧ
ولقد وعى املسلمون األوائل وعلامء السلف املتقدمون ذلك.
ض ُ
اهلل عنهام" ،عندما سأله أحد "ر ِ َ
فهناك املوقف الشهري لعبد اهلل بن عباس َ
اخلوارج عن توبة القاتل فقال" :ال توبة له" ،بينام وسأله آخر فقال" :له توبة" ،ثم
قال" :أما األول فرأيت يف عينه إرادة القتل فمنعته ،وأما الثاين فجاء مستكينًا قد
قتل فلم أقنطه" [مقدمة املجموع لإلمام النووي ،ورواه القرطبي بطريق آخر يف
تفسريه].
ويف املذاهب األربعة ،نجد أن املالكية واحلنفية ،كانوا يضعون املقاصد واملصالح
املرسلة ،نصب أعينهم ،وهم يفتون ،أما اإلمام الشافعي فقد بدَّ ل من األصل ،الكثري
من أحكامه عندما هاجر من العراق إىل مرص؛ مراعا ًة لظروف الزمان واملكان.
وكان لإلمام الشاطبي الذي ُيعترب من أهم ما كتب يف املقاصد ،مقولة مهمة
وتلخص هذا كله؛ حيث يقول:توضح أمهية اجلانب العقيل يف فهم النصِّ ،
" ..وذلك أين وهلل احلمد مل أزل منذ فتق للفهم عقيل ،ووجه شطر العلم طلبي،
أنظر يف عقلياته ورشعياته ،وأصوله وفروعه ،مل أقترص منه عىل علم دون علم ،وال
نوعا دون أخر ،حسبام اقتضاه الزمان واإلمكان وأعطته املنة
أفردت من أنواعه ً
370
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
املخلوقة يف أصل فطريت ،بل خضت يف جلاجه خوض املحسن للسباحة ،وأقدمت
يف ميدانه إقدام اجلريء ،إىل أن َم َّن ع ًّ
ىل الرب الكريم ،الرؤوف الرحيم ،فرشح يل
من معان الرشيعة ما مل يكن يف حسايب".
ومن بني أهم الكتب التي وضعت يف جمال املقاصد من جانب علامء السلف،
كتاب "املقاصد الشافية يف رشح خالصة الكافية" ،لإلمام الشاطبي ،وفيه رشح
ألفية ،اإلمام مالك ،وكتاب "املوافقات" لإلمام الشاطبي ً
أيضا ،وكتاب "مقاصد
الرشيعة" لإلمام ابن عاشور ،و"الفائق يف املقاصد الرشعية" ،و"اإلمام يف مقاصد
مالحظ -
َ رب األنام" ،وكالمها لإلمام أبو عبد الرمحن األخرضي ،وهو -كام هو
مالكي املذهب ،مثل الشاطبي وحممد الطاهر بن عاشور.
هذه األمور كلها ،نحن يف هذه املرحلة من تاريخ األمة؛ أحوج ما نكون إىل
أن تكون يف قمة اهتاممات ليس الدعاة فحسب؛ بل واملر ِّبني كذلك؛ حيث ينبغي
غرس قيم العقل وأمهية إعامله يف النص الرشعي ،ورضورة االنطالق يف فضاءات
الص َغر.
املعرفة من دون مجود أو قيود ،ومن دون تفريط كذلك ،ومنذ ِّ
ولعل هذه املهمة ليست باليسرية يف ظل الظروف الراهنة التي متر هبا األمة؛ بني
شيع الفتن والتكفري والضالالت ،وبني أعداء مرتبصني هبا ،يبذلون كل مرختص
ٍ
وغال من أجل تعطيل األمة ،واستمرار هذه احلالة من التفتت والفتن واالقتتال.
ومن َث َّم؛ فإن الرجوع إىل األصول األوىل لوسائل التعليم والدَّ ْرس ،التي تتجاوز
هذه احلالة من احلصار واهلجوم الرشس؛ مثل حلقات املساجد ،والكتاتيب بعد
حتديث األدوات التي يتم استخدامها فيها ،بام يتناسب مع روح العرص.
371
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فهذه املرحلة التي ختاطبها دروس وحلقات املساجد ،هي مرحلة الغرس
األول؛ الذي لو َص ُلح؛ لصلح شأن اإلنسان بعد ذلك ،ولو فشل وفسد؛ لفسد
شأن اإلنسان كله بعد ذلك.
إهنا مهمة طليعية ثقيلة ،ولكن رضورية يف عرص الفتن والتكفري هذا الذي
نحياه!..
372
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم املفاهيم واملصطلحات القرآنية ،مصطلح "امليثاق"؛ حيث استعمله
رب العزة سبحانه وتعاىل يف التعبري واإلشارة إىل أهم األمور وأعظمها ،مما
حيكم تصورات وحركة اإلنسان يف احلياة الدنيا ،إزاء ربه عز وجل ،وإزاء نفسه
واآلخرين ،والقضايا الكربى املطروحة عليه.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذا املصطلح املهم ،وفق املعاين واالجتاهات املختلفة
لالستعامل القرآين له ،يتضمن الكثري من املجاالت التي تكشف كيف أن اإلسالم
دين شاملِّ ،
ينظم خمتلف أركان احلياة ،الفكرية والنفسية ،والسياسية واالجتامعية، ٌ
وغري ذلك من دوائر حييا فيها اإلنسان يف احلياة الدنيا ،ويستعد هبا لآلخرة.
ومما ُذ ِك َر يف معاجم اللغة العربية املختلفة ،فإن "امليثاق" لغ ًة يعني "العهد"،
وبالتايل؛ فإنه يف االصطالح ،يعني ما يتعاهد عليه طرفان أو أكثر ،من أجل القيام
عىل أمر ما.
وبالتايل؛ فإن امليثاق يتضمن ثالثة جوانب ،األول ،هو العهد واالتفاق ،والثاين
األمر الذي تم االتفاق عىل القيام به ،وجماله ،والثالث ،ترتيبات القيام هبذا األمر
وإجراءات ذلك.
373
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مرة ،يف
ولقد وردت كلمة "امليثاق" باشتقاقاهتا املختلفة فيام يتصل هبذاَّ 34 ،
جمر ًدا غري متصل بأمر آخر ،كام يتضح
كمعنى َّ
ً 29آية قرآنية كريمة ،ولكن "امليثاق"
من مراجعة هذه اآليات ،هو العهد مع اهلل تعاىل ،والقائم عىل اإليامن والتسليم
بعقيدة التوحيد.
وبالتايل؛ فإن أول مالحظة عىل هذا املفهوم يف القرآن الكريم ،أنه حتى مع
الطريقة التي َّنوع هبا اخلالق عز وجل يف كتابه العزيز يف استخدام كلمة "امليثاق"
مرات استخدام املفهوم ومشتقاته املختلفة؛ تشرتك كلها يف
ومعانيها املختلفة؛ فإن َّ
معنى واحد ،وهو املتانة والقوة ،وعىل معنى قداسة الرابطة التي يضعها امليثاق بني
ً
أطراف األمر التي تعاهدت عليه.
عينة استخدمها القرآن الكريم
ويبدو ذلك يف أكثر من مظهر ،مثل اشتقاقات ُم َّ
املرات الـ 34التي ذكر فيها القرآن الكريم الكلمة ومشتقاهتا املختلفة ،أو يف
ضمن َّ
املعاين التي دارت حوهلا الكلامت التي تضمنتها الفقرات والعبارات التي احتوت
مفهوم "امليثاق" ،والتعبريات والصياغات املستخدمة يف هذا اإلطار.
فالقداسة واملتانة تبدو مث ً
ال يف اشتقاق "الوثقى" من كلمة "ميثاق" ،فيقول تعاىل:
﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ
ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ﴾ ُ
[سورة "البقرة" –
اآلية ،]256ويقول سبحانه ً
أيضا ﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
[سورة "لقامن" – اآلية .]22
ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ ُ
374
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الحظ هنا أن كال اآليت َْي يضع ال َّنص القرآين "امليثاق" يف معناه األسايس
و ُي َ
الذي ذكرناه ،صنو اإلسالم ،وصنو اإليامن ،ويؤكد اخلالق بام استعمله من عبارات
وألفاظ يف كال اآليت َْي عىل أن امليثاق األوثق واألقدس يف حياة اإلنسان ،هو اإليامن
باهلل عز وجل وحده ال رشيك ،وما يرتبه ذلك عليه من أمور عقدية.
ويف ذات السياق ،ولكن بعكس املعنى ،وهو أسلوب بالغي نجده يف القرآن الكريم؛
يفس لنا غضبه عىل بني إرسائيل،
التأكيد عىل األمر باملعنى وعكسه؛ فإن اهلل تعاىل لكي ِّ
وعقابه الشديد هلم عىل كفرهم بعد إيامهنم ،بأهنم قد نقضوا ميثاقهم مع اهلل تعاىل.
التمسك
ُّ ففي آيت َْي "البقرة" و"لقامن"؛ كان التأكيد عىل أن النجاة ،يف
بـ"امليثاق" بني العبد وخالقه ،والقائم باألساس عىل عقيدة التوحيد ،ولذلك
استحق بنو إرسائيل شديد العقاب لنقضهم هذا امليثاق ..يقول تعاىل ﴿ :ﯗ ﯘ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤ
ﯥﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖ
ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣ
ﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩ ﭪﭫﭬﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ﴾
[سورة "البقرة"].
ُ
375
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يؤكد هذه املعاين مجيعهاَ ،ق ْول اهلل عز وجل يف ُسورة "األحزاب"﴿ :ﭑ
ومما ِّ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ ،وقوله سبحانه يف ُسورة "احلديد" ﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾.
هنا تبدو القداسة واملتانة التي ِّ
يؤش عليها مصطلح "امليثاق" ،وأنه يف املعنى
القرآين يقف عىل أهم ما ُخ ِل ْقنَا ألجله ،وهو توحيد اخلالق عز وجل وإفراده
بالعبادة ،والدعوة إليه وإىل رشيعته.
"امليثاق" يف حياتنا ..اإلسالم وشريعته كعقد اجتماعي:
ويف األمور األخرى التي تربز تنظيم اإلسالم ملختلف األمور ،نجد أن اهلل عز
وجل قد استخدم كلمة "امليثاق" عىل أمهيتها يف التأكيد عىل أهنا العهد بيننا وبينه
سبحانه ،يف التأكيد عىل قداسة الروابط التي تنشأ بني الناس طاملا أهنا نشأت عىل
أسس رشيعته ،وعىل كلمة اهلل عز وجل.
376
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ففي ُسورة "النساء" ،نجد اهلل تعاىل قد قدَّ س عالقة الزواج بأن جعلها ميثا ًقا ً
غليظا
بني الرجل واملرأة ،فيقول عز وجل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾.
معنى هتتز له مشاعر
ً ورت "النساء" و"األنفال" نجد أنفسنا أمام ويف ُس َ ْ
اإلنسان ،مما يربز قوة اهلل تعاىل وعزته وجالله يف ذاته؛ حيث بدا ذلك يف استغنائه
عن العاملني ،عندما َّ
فضل وشدَّ د عىل رضورة وفاء البرش وبمواثيقهم وعهودهم
بني بعضهم البعض عىل الوفاء بالتزامات رابطة اإليامن والدين املشرتك ،ألن حفظ
أوىل؛ حيث إننا آم َّنا أو مل نؤمن ،شكرنا أو مل نشكر؛ فإننا لن
حقوق البرش الضعفاء ْ
نرضَّ َ
اهلل تعاىل أو ننقصه شيئًا ،أي يشء.
فيقول تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ
[سورة "النساء" – اآلية .]92
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ ُ
ويقول سبحانه ً
أيضا﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
[سورة "األنفال" – اآلية .]72
ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ ُ
377
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وقري ًبا من ذلك املعنى يف القرآن الكريم ،كانت بداية ُسورة "املائدة" ﴿ :ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾.
فهذه اآليات أسست ألعظم قاعدة تستقر هبا املجتمعات وحتافظ عىل عالقات
السلم بينها وبني بعضها البعض ،وهي احرتام املواثيق والعقود التي يتعاهد هبا
الناس بني بعضهم البعض ،وجعل ذلك أو ً
ال ،مبدَّ ًى عىل رابطة الدين نفسه،
رشعيا ً
نافذا ،وباق ًيا ما دام القرآن الكريم فينا. ًّ وثان ًيا ،أنه جعل ذلك ً
حكم
وينطبق هذا املبدأ عىل كل املجاالت ،السياسية واالجتامعية واالقتصادية،
الس َّنة النبوية؛ حيث ورد عن الرسول الكريم ﷺ يف الصحيح ،أنه قال" :ال
وأكدته ُّ
يبيع الرجل عىل بيع أخيه وال خيطب عىل خطبة أخيه إال أن يأذن له".
وامليثاق هنا هو االتفاق أو العهد الذي تم بني البائع وبني الشاري األول ،أو
اخلاطب األول؛ حيث نصِ بني ويل أمر الفتاة أو املرأة التي طلبت ِ
للخ ْط َبة وبني
احلديث واضح ورصيح ،يف قداسته ،ما مل يأذن صاحب الشأن يف كال احلالت َْي؛
الشاري األول ،أو اخلاطب األول.
......
ويف األخري؛ فإن هذا هو ديننا ،دين النظام واالستقرار من خالل حتديد األمور،
والوفاء بالعهود وااللتزام هبا ،ونجد أن قواعد العقد االجتامعي التي وردت يف
أص َل ْيه؛ الكتاب ُّ
والس َّنة ،قد سبقت بمئات األعوام ،كل العهود والرشائع التي
378
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تناولت هذه األمور يف العامل ،مثل "املاجنا كارتا" يف إنجلرتا ،وأفكار جان بول
سارتر يف فرنسا.
ولئن كانت هناك دروس أخرى مستفادة من هذا املوضع من النقاش؛ فهو أن
والتعمق يف علوم اللغة العربية ،سواء فيام خيص النحو والرصف ،أو معاين
ُّ الفهم
وسوي للقرآن الكريم؛
ٍّ حقيقي
ٍّ فهم
الكالم ،وحتى البالغة ،هو أساس الوصول إىل ٍ
حيث إنه من دون هذه املعرفة الوطيدة باللغة العربية ،لن يمكننا بحال الوصول إىل
الفهم الرضوري للقرآن الكريم؛ حيث فهم القرآن يعني تطبيق اإلنسان للرشيعة
اإلسالمية كام يف أصلها ووعائها األول واألهم ،وهو كتاب اهلل عز وجل.
379
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِمن أهم القواعد األولية التي يتم تدريسها لطالبي العلم الرشعي يف العلوم
محال أوجه.
القرآنية ،هو قاعدة أن القرآن الكريم َّ
ٍ
معان وتعني هذه القاعدة أن آيات القرآن الكريم الـ ،6236ليست كلها حتمل
ذات مدلول ُمدَّ د ،ويقول بعض علامء السلف إن اآليات قطعية الداللة يف القرآن
الكريم؛ فقط بضع ومائت َْي آية ،ومنها آيات الزواج واملواريث.
وشاءت حكمة اهلل تعاىل ذلك ألسباب عديدة ،منها إكساب نصوص القرآن
الكريم ،وبالتايل ،أحكام الرشيعة التي تضمنها ،وهو املصدر األول واألساس هلا،
لصفات العموم أو التعميم ،وبالتايل الديمومة ،ومن َث َّم؛ الصالحية لكل زمان ومكان.
كذلك استخدم ُ
اهلل عز وجل ،قواعد اإلقناع العقيل يف القرآن الكريم ،وكان
يستطيع أن يأمرنا فنتمثل ،بل وأكد ذلك حتى يف العقيدة نفسها .التوحيد؛ حيث
ساق سبحانه الكثري من األدلة العقلية يف نصوص القرآن الكريم ،التي تقود إىل
حقيقة اإليامن بوجود اخلالق الواحد األحد الذي ال رشيك له.
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املقدمة مهمة يف صدد احلديث الذي نود اخلوض
فيه يف هذا املوضع ،وهو مشكلة حاصلة يف طريقة تعاطي املسلمني بشكل عام،
ورشحية من العلامء ،مع النص القرآين ،ومع احلكم الرشعي فيه.
380
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
381
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
382
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
383
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
[سورة "النساء"
وأوضح أدلة ذلك ،قوله تعاىل﴿ :ﯢ ﯣﯤ﴾ ُ
– من اآلية ،]19وقال عز وجل ً
أيضا﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ ُ
[سورة
"البقرة" – من اآلية .]228
ذات اخللط جاء يف قضايا أخرى ،كان التعامل معها من جامدي الفكر ،من
أسوأ ما يمكن؛ ممَّا َّ
شكل حتى قطيعة بني اإلسالم والعلم سواء يف الصورة الذهنية
أمام غري املسلمني ،أو حتى فيام خيص نظرة بعض املسلمني لدينهم ذاته ،فكانت
تيارات العلامنية ،بل واإلحلاد.
384
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ثم ربط البعض ذلك بشكل خاطئ متا ًما ومتعسف ،بأحاديث نبوية تكلم فيها
الرسول الكريم ﷺ عن الظواهر الطبيعية ،مثل األمطار والرياح ،التي أرجع فيها
األمر كله هلل عز وجل ،بينام كان ﷺ ،غرضه مما قاله فيها ،هو إيصال فكرة اخلالق
الواحد املد ِّبر هلذا الكون ،إىل عقول املسلمني ،ضمن متطلبات الدعوة يف سنواهتا
األوىل ،ويف ظل ظالمية وجهل كانا ُمطب َق ْي عىل بيئة البعثة.
لكنه ﷺ ،أبدً ا ما كان يقصد أن ينفي قاعدة األسباب املادية العلمية التي حتكم
هذه الظواهر.
فحتى بأبسط معايري الفهم؛ فإن اهلل تعاىل هو الذي منح األشياء طبيعتها؛ فهو
الذي خلق بخار املاء ومنحه صفة التكثُّف يف صورة سحب يف ارتفاعات معينة ،ثم
وضع طبيعة معينة يف طبقات اجلو لكي ُت ِّول هذه السحب إىل أمطار متساقطة يف
ظروف معينة خلقها اهلل تعاىل كذلك .فهو يف النهاية؛ كله مردود هلل تعاىل.
.......
هذه املشكلة عىل هذه الصورة؛ ليست تر ًفا؛ حيث إنه – يف جانب فقط من
جوانبها – ترتبط باملرض األكرب الذي تعاين منه األمة اآلن ،وهو التكفري واالقتتال؛
عندما تم إطالق األحكام الرشعية يف بعض األمور ،من دون النظر إىل الظروف
واملالبسات ،ومبدأ املوازنة بني املصالح واألرضار.
ناهينا عام سبق قوله يف صدد ما تسبب به البعض هبذا اجلمود واالجتزاء ،يف
ال ،بني الدين والعلم املادي الذي تصدقه حواسإحداث تعارض غري قائم أص ً
385
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِ
املباشة وأدوات القياس احلديثة؛ فيكون اإلحلاد ،أو عىل أبسط تقدير، اإلنسان
انرصاف الناس عن الدين.
وعىل هذا النحو ،ويف ظل الرتاكم الزمني اهلائل الذي تم هلكذا طرائق تفكري؛
فإننا بحاجة إىل جهد قد يتطلب عقو ًدا طويلة لفهم حقيقة هذا الدين ،وفهم كتاب
اهلل عز وجل وكيفية التعاطي مع نصوصه ،وتلقني األجيال اجلديدة الصاعدة
حقائق كثرية مطموسة يف هذا الصدد ،ربام تشكل بالفعل اجلانب األكرب من أزمات
ومشكالت املسلمني يف الوقت الراهن.
386
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ال نزال يف هذه املرحلة احلساسة من تاريخ األمة نشتبك مع الكثري من القضايا
األهم التي أدت إىل زعزعت الكثري من القواعد التي كانت تستند إليها احلركة
اإلسالمية ،سواء عىل املستوى املجتمعي واجلامهريي أو املستوى السيايس.
ومن بني هذه األمور قضية التكفري التي تصدينا هلا أكثر من مرة من خالل هذا
الفضاء.
وقضية التكفري متشعبة ومتنوعة االجتاهات ،فهناك بعض التأويالت والكتابات
التي تتصل بعدد من األمور الفقهية ،مثل ما يتصل بتوصيف غري املسلمني ،وكيف
يتم حتويلها إىل مادة إعالمية للتشويش عىل مفهوم مصطلح أن هذا الشخص أو
هذه احلركة ُتص َّنف حتت بند "إسالمي".
أما الشق األهم من قضية "التكفري" هو شيوع بعض األدبيات التي تنرشها
بعض احلركات التي يصنفها البعض عىل أهنا ضمن "احلركة اإلسالمية" ،والتي
تربر العمليات التي تتم بحق بعض الفئات التي منع اإلسالم استهدافها ،مثل
املستأمنني واألطفال وغري املسلمني من غري املحاربني.
ولعل َ
هذ ْين الش َّق ْي مها من أهم ما يتم االستناد عليه حال ًيا من جانب خصوم
احلركة اإلسالمية يف الدعاية السلبية ضد احلركة ،وتسعى إىل خلق صورة ذهنية
سلبية عنها لدى املجموع العام.
387
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولعل هذه املشكلة تعود يف جانب كبري منها إىل بعض األمور املتعلقة بضعف
اجلانب الرشعي يف تناول بعض األحكام التي وردت يف القرآن الكريم وآياته ،أو
الس َّنة النبوية الرشيفة.
ما ورد يف ُّ
الس َّنة النبوية الرشيفة؛ أبرز األخطاء ،هو تعميم بعض املواقف التي
ففي حالة ُّ
تدخل يف باب االستثناء ،باعتبارها قاعدة رشعية راسخة باملعنى العلمي ،بينام
االستثناء ال يتم اعتباره قاعدة.
أما يف حالة القرآن الكريم؛ فإن هناك الكثري من األحكام التي يتم إسقاطها عىل
الواقع من دون كامل تدقيق يف االعتبارات التي جيب أن تتم مراعاهتا عند إسقاط
حكم قرآين عىل واقعة بعينها.
و ُيعترب ذلك من بني أهم العوامل التي قادت إىل شيوع الفكر التكفريي الذي
صبغ بناء عىل رؤية غري متكاملة لتفسري آيات القرآن الكريم.
يفس
ومن بني أهم القواعد األساسية يف هذا الصدد ،هو أن القرآن الكريم ِّ
ستكمل من آيات أخرى،
َ نفسه؛ حيث إن هناك تفسري لبعض اآليات جيب أن ُي
باإلضافة إىل تتبع زمن نزول بعض اآليات؛ حيث ُن ِس َخت بعض األحكام يف آيات
وس َو ٍر تالية ،ولكن شاءت حكمة اهلل تعاىل اإلبقاء عليها يف متن القرآن الكريم.
ُ
وينتظم ما سبق ،مع أمور أخرى يف إطار ما ُيعرف بعلم أسباب النزول ،الذي
ُيعترب من بني أهم العلوم التي ينبغي أن يكون الفقيه أو املفكر اإلسالمي عىل
وعي وإدراك هبا يف هذا املجال ،بينام هو لألسف من العلوم ا ُمل ْه َملة لدى الكثري
388
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من احلركيني الذين مل يتلقوا العلم الرشعي الكايف ،وبرغم ذلك خياطبون الشباب
واألجيال اجلديدة بخطاب يستند إىل النصوص املقدسة ،سواء يف القرآن الكريم أو
الس َّنة النبوية الرشيفة.
صحيح ُّ
ويعرف علم أسباب النزول أو تفسريها؛ أو ما ُيعرف بشأن النزول ،عىل أنه
َّ
أحد العلوم الرشعية التي هتتم بمعرفة أسباب نزول آيات القرآن الكريم املختلفة،
وكذلك القضايا واحلوادث واألمور املتعلقة هبا ،ووقت ومكان نزول آية قرآنية
بعينها.
غنى عنها لفهم
املتشعب كام رأينا – من أنه أداة ال ً
ِّ وتأيت أمهية هذا العلم –
تسهل من عملية حفظه وال َّت ُّثبت من معناه؛
صحيحا ،وبالتايل؛ ِّ
ً القرآن الكريم ً
فهم
حيث جيري ربط األحكام بالوقائع والشخوض ،وكذلك األزمنة واألمكنة ذات
الصلة باحلدث القرآين -لو صح التعبري -وهو ما يقود – بشكل دقيق – إىل
وخصوصا يف آيات األحكام
ً معرفة حكمة اخلالق عز وجل من آية بعينها،
والترشيع.
وأمهية ذلك تعود إىل أن القرآن الكريم وأحكامه ال تقترص عىل الواقعة التي نزل
فيها ،وال عىل زمنها ،وإنام متتد هذه األحكام إىل خمتلف الفرتات الزمنية التالية ،إىل
أن يشاء اهلل تعاىل أن يرفعه من صدور الناس يف هناية الزمان.
وبالتايل؛ فإن تدقيق األحكام وأسباب نزوهلا أمر شديد األمهية؛ بل هو أساس
عملية إسقاط حكم رشعي ورد يف القرآن الكريم عىل حالة بعينها.
389
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واضحا عن الكثري من ُ
الك َّتاب واملفكرين، ً يف املقابل؛ فإننا ال نجد هذا األمر
وزاد من مستوى الفوىض يف هذا املجال ،هو قيام بعض الشباب املنتمي إىل احلركة
اإلسالمية عن قناعة فكرية ،باستخدام آيات القرآن الكريم يف األدبيات اخلاصة به،
سواء عىل وسائط التواصل االجتامعي ،أو عىل القنوات الفضائية.
ويف ظل احلامسة التي أفرزهتا احلروب الراهنة التي تواجه احلركة اإلسالمية؛
ٍ
نصوص قرآنية يف حاالت ال عالقة هلا هبا ،وفق علم أسباب صار من السهل وضع
النزول بطبيعته الشاملة ا ُملشار إليها.
فصارت آيات القتال واجلهاد واالبتالء ،يتم استخدامها بغري حساب دقيق،
بالرغم من خطورة األحكام التي تتضمنها.
ويف ظل وجود التباسات عديدة يف األمور أمام اجلمهور العام؛ فإن الكثري من
الذين أيدوا هذا الفعل أو ذاك من جانب حكومة أو نظام من حكومات وأنظمة
عاملنا العريب التي متارس القمع بحق شعبها؛ تم وضع الكثري من رشائح هذه
املجتمعات ضمن سياقات جماهدة الظاملني ،من دون أي متييز أو دراسة للحاالت
املعروضة.
مرشوعا
ً بل إن بعض احلركات اإلسالمية ،بالذات الوسطية املعتدلة ،التي حتمل
متكام ً
ال لإلصالح ورؤية متكاملة للتغيري االجتامعي والسيايس بالطريقة املتدرجة
التي جاءت عليها سنوات البعثة النبوية؛ وضعت يف خانة التكفري من جانب بعض
اجلامعات األخرى األكثر تطر ًفا أو تشد ًدا بحسب التوصيفات اإلعالميةَّ ،
ملجرد
أن هذه احلركة أو تلك؛ ال تؤيد العنف أو العمل املسلح كوسيلة للتغري ،وتعترب
390
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
391
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ربام تكون هذه القضية ليست جديدة يف طرحها ،وإنام تأيت أمهية احلديث عنها
يف ظل بعض األمور اآلخذة يف التصاعد يف هذه اآلونة ،والتي استغلت بعض
النشاطات ذات الطابع العنيف يف أوروبا ودول العامل العريب واإلسالمي ،يف
توطيد دعائم صورة ذهنية خاطئة عن اإلسالم والرشيعة اإلسالمية ،مع ارتباط
هذه النشاطات يف الغالب بجامعات تعلن نفسها مجاعات إسالمية.
يف هذا السياق ،وقع خلط رهيب – يبدو مقصو ًدا يف بعض األحيان – بني
الرشيعة اإلسالمية وتعاليمها ،وبني ما يقول البعض إنه تطبيق هلا.
ومن بني أبرز أوجه هذا اخللط ،الدعوات غري الرشيدة لتجديد اخلطاب الديني
بصورة تضع ما يتم من جتاوزات وانتهاكات ،أو أية أعامل إرهاب وعنف باسم
الدين ،يف صورة أهنا أمور من تعاليم الرشيعة ،أو قصور يف نقاط فنية تتصل بالدين
أساسي ْي؛ األول هو خمططات حكومات ودول
َّ ذاته ،بينام األمر ينحرص يف شيئ َْي
وأجهزة استخبارات لتشويه صورة اإلسالم واملسلمني ،وزعزعة االستقرار يف
مناطق خمتلفة من أنحاء العامل ،مثل أوروبا والرشق األوسط ،لتحقيق مصالح قوى
عظمى.
392
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
393
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه القضية هي ماهية خصائص الرشيعة اإلسالمية ،وقضية الثابت واملتغري يف
عرض عىل اإلنسان واملجتمع.احلكم الرشعي عىل أي موقف ،أو أي أم ٍر ُي َ
فهناك تصور شائع لدى عموم املسلمني ،بأن احلكم الرشعي واجب النفاذ،
وأنه جيب تطبيقه يف خمتلف األحوال بشكل مطلق ،من دون فهم أن أول عامل
يرتبط به احلكم الرشعي ،ويؤثر فيه ،هو هذه األحوال ذاهتا ،وأنه حتى الرشيعة
رشعي واحد مطلق التطبيق يف كل الظروف واألحوال.
ٌّ حكم
اإلسالمية مل يرد فيها ٌ
وحتى الصالة والصيام والعبادات اخلالصة هلل تعاىل؛ هناك قيود عليها يف بعض
حكم رشعي،
ٌ ال ،وذلك بدوره األحيان ،فهناك أوقات ُمنِعت الصالة فيها أص ً
أيام ُمنِع فيها الصيام ،وهذا بدوره كذلك حكم رشعي.
وهناك ٌ
أحكام رشعية يمكن ،بل ومن الواجب تعطيلها ،إذا ما توافرت أو
ٌ وهناك
غابت – بحسب احلالة – رشوط معينة ،أو تعارضت مع مصلحة أكرب ،وهناك
أحكام رشعية ال جيب تطبيقها بسبب عدم انطباقها عىل احلالة املعروضة.
وتزداد أمهية هذا احلقل من الدراسات الرشعية ،يف ظل عوامل عدة ،أوهلا اجلدل
حول فوىض الفتوى وقضية اإلرهاب والتطرف وكذا مما يتفاعل يف الوقت الراهن
عىل مستوى العامل العريب واإلسالمي ،ويف الغرب ،وفاقم من أزمة املسلمني هناك،
يف ظل تصاعد مشاعر العداء ضدهم أو ما ُيعرف باإلسالموفوبيا.
العامل الثاين ،طرح قضية جتديد اخلطاب الديني ،هو بدوره متفاعل يف مرص
وبعض دول اخلليج العريب ،ومتفاعل يف أوروبا كذلك بسبب العمليات اإلرهابية
394
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
غري الواضحة املعامل ،التي حتدث لدهيم ،وترتبط بالفكر اإلسالمي والعقيدة ،يف
النقل اإلعالمي هلا.
أمر ْين اثن َْي البد منهام للمسلم
ويقول الدكتور عيل بادحدح يف ذلك؛ إن هناك َ
ً
دائم وأبدً ا عند تعامله مع أي حدث ،أو النظر إىل أية قضية ،أن يراعيهام.
األمر األول ،وفق بادحدح ،احلكم القائم يف النصوص الرشعية من كتاب اهلل
وس َّنة رسوله ﷺ ،فام ورد فيه هني؛ حيث ال ينبغي فعله بالتأويالت الباطلة،
تعاىل ُ
وال باملفاهيم اخلاطئة وال باملامرسات املجرتئة ،ألن ذلك عدوان عىل رشع اهلل عز
وجل ،ونقض له ،وخمالفة ملا فيه من األوامر والنواهي.
واألمر الثاين ،هو تنزيل احلكم عىل الواقع بمراعاة املصلحة الرشعية؛ حيث قد
ثمة أمر مطلوب ومندوب إليه ،لكن فعله يف هذا الزمان واملكان قد ترتتب
يكون َّ
عليه مفسدة ،ف ُيرتك ألجل ذلك.
395
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كيفية فهم احلكم الرشعي ،ومالبسات تطبيقه؛ حيث األمر أعقد بكثري من العبارات
ذات الطابع املطلق.
وهو حتى موجود يف قواعد فقهية مهمة ،هناك إمجاع عليها من العلامء ،وهي أن
فس
يفس نفسه" ،و" ُي َّ
محال أوجه" ،وكذلك أن "القرآن الكريم ِّ "القرآن الكريم َّ
بالس َّنة النبوية" ،والسيام ِف ْعل النبي ﷺ.
كذلك ُّ
ونختم بتساؤل يرشح ذلك كله :هل كان عمر بن اخلطاب "ريض ُ
اهلل عنه"،
والذي وافق القرآن الكريم رؤاه يف بعض األحيان بعد نزوله ،عن اجتهادات
املصطفى ﷺ؛ هل كان عمر خمطئًا ،عندما َّ
عطل سهم املؤلفة قلوهبم يف الصدقات،
باعتبار أن الوقت قد جتاوزه؟! ،وهل كان خمطئًا عندما َّ
عطل حدَّ الرسقة يف عام
خصوصا وقد وافقه يف ذلك الصحابة الكرام رضوان
ً الرمادة؟! ..حاشاه ذلك،
اهلل تعاىل عليهم أمجعني.
وتبقى دالالت ذلك املهمة يف أنه إنام يعكس حقيقة فهم عمر – الذي تلقى دينه
عن النبي "عليه الصالة والسالم" مبارش ًة – حلقيقة خصائص الرشيعة اإلسالمية،
وأنه من دون هذه املرونة ،ما حتقق هدف الشارع األعظم سبحانه وتعاىل ،من أن
تكون الرشيعة اإلسالمية صاحلة لكل زمنان ومكان!
396
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تتعدد جوانب وأركان احلرب الراهنة التي يواجهها اإلسالم دينًا وحضارة ،بام
يشمل قيمه األساسية ،وأركانه ،بام يف ذلك مصادر الترشيع األساسية فيه ،وهي
السنة النبوية الرشيفة.
القرآن الكريم وصحيح ُّ
فال يظ َّنن أحدٌ أن احلرب احلالية عىل ُّ
الس َّنة وكتب األصحاح؛ هي هناية
املطاف ،ومنفصلة عن احلرب التي سبقت عىل عالقة املسلم بالقرآن الكريم،
والتي استمرت مائة عام تقري ًبا؛ حيث إن املرحلة القادمة من املعركة ،تشمل
القرآن الكريم ذاته.
خصوصا فيام خيص
ً ومن بني أركان هذه احلرب َق ْص أحكام عديدة جاءت فيه،
القضايا األهم ،وهي اجلهاد والدعوة وإقامة دولة الرشيعة ،عىل زمن نزوهلا يف
عهد الرسول الكريم ﷺ ،وأن اخلطاب القرآين يف صددها – كام يف ُس َور "األنعام"
و"التوبة" و"حممد" – كان خيص النبي ﷺ ،وخيص احلالة التي كانت قائمة يف
حينه ،يف شبه جزيرة العرب ،يف سنوات الدعوة األوىل.
ويتم ذلك وفق خطة طويلة األمد ،تعمد إىل "تسييس" اخلطاب القرآين يف هذا
الصدد ،وإظهار أنه كان يتعلق برصاع سيايس ورصاع نفوذ ظهر يف شبه جزيرة
العرب بني دولة املسلمني يف املدينة ،وبني مكة املكرمة وباقي حوارض شبه اجلزيرة
العربية يف تلك املرحلة ،وليس بالدين الساموي اخلاتم.
397
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وترتكز هذه املعركة عىل أسس عديدة ،من بينها الفوىض الضاربة بأطناهبا يف
رئيسيا
ًّ املفاهيم لدى املسلمني أنفسهم ،بحيث مثلت تلك الفوىض املفاهيمية ،ركنًا
يف أدوات اآلخر الذي يستهدف اإلسالم يف أرضه ،ويف كل أنحاء العامل.
ومن بني أهم مظاهر هذه الفوىض هو اجتزاء النص القرآين قطعي الثبوت ،من
موضوعيا؛ بالشكل الذي يقود
ًّ زمنيا ،أم
قرآنيا ،أم ًّ
سياقه ،سواء أكان هذا السياق ًّ
إىل التفريط أو اإلفراط ،وذلك يف إطار اتباع اهلوى من جانب الناس ،سواء عىل
مستوى الفرد املسلم ،أو بعض اجلامعات السياسية التي تنتمي إىل تيار اإلسالم
السيايس ،وحتى مستوى املجتمع املسلم العادي ،غري َّ
املؤطر فكر ًّيا بشكل سليم.
ولقد تكلم القرآن الكريم عن ذلك بكل وضوح ،وحذر منه ،وذم فيمن يقومون
ذما شديدً ا ،فيقول اهلل تعاىل ﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
بذلك ًّ
ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ
[سورة "الفرقان"].
ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ ُ
واخلطاب القرآين يف هذا الصدد ،عىل خطورة ِ
وع َظ ِم األمر؛ مل يستثني الرسول
الكريم ﷺ ،فهناك آيات عدة ينهاه فيها ربه تبارك وتعاىل عن اتباع اهلوى يف رشيعته
ودينه والتزامات كونه إنسا ًنا مستخل ًفا أو اجتزاء القرآن الكريم.
ومن بني اآليات الكريامت التي وردت يف هذا الشأن ،قوله تعاىل﴿ :ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ
[سورة "املائدة"].
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ ُ
398
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه اآلية فيها العديد من الرسائل التي تصل إىل مرتبة الفرائض؛ حيث هي
أوامر قرآنية من لدن عزيز حكيم ،ويف أمور شديد األمهية بالنسبة للدين ،وبالتايل
بالنسبة لإلنسانية.
ومن بني هذه الرسائل ،أنه ال اجتزاء للنص القرآين ،وأن القرآن نزل من عند اهلل
تعاىل ،لكي ُي َكم به ،وأنه ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ،كالم اهلل تعاىل
ا ُمل ْح َكم ،وأنه هو رشعة املسلمني ومنهاجهم الرشيد.
ولذلك ،فإن من بني أهم أمراض املسلمني الفكرية واحلركية واالجتامعية يف
الوقت الراهن ،قضية التفريط واإلفراط يف األخذ بالنص القرآين وتعاليمه؛ فتاهت
حقيقة اإلسالم ،دين الفطرة والعقل واملنطق.
تاه اإليامن بني الناس ،بني "ال منطق" -لن أقول منطق ألنه ليس منط ًقا بحال
-تاهت بني أصحاب "ال منطق" َ
﴿ل َت ْق َر ُبوا الص َ
َّل َة﴾ -هكذا فقط جمتزأة،
ون َع َل الن َِّساء" ً -
أيضا هكذا جمتزأة. "الر َج ُ
ال َق َّو ُام َ وأصحاب "ال منطق" ِّ
فكالمها جتاوز حكمة صاحب النص ،واجتزءوه ،إما للتفريط يف حالة َ
﴿ل
ار ٰى﴾ ،أو للحصول عىل حقوق ليست ﴿و َأ ْن ُت ْم ُس َك َ َت ْق َر ُبوا الص َ
َّل َة﴾ ،فأسقطوا َ
ون َع َل الن َِّساء﴾ ،فأسقطوا رشط ذلك ،وهو ﴿بِ َم ﴿الر َج ُ
ال َق َّو ُام َ ِّ هلم ،يف حالة
ض َوبِ َم َأن َف ُقو ْا ِم ْن َأ ْم َو ِالِ ْم﴾. َف َّض َل َّ ُ
الل َب ْع َض ُه ْم َع َل َب ْع ٍ
تبعا للهوى -يسقطون النص املقدس عىل حاالت
والكثريون يف عرصنا – ً
تبعا لعادات وتقاليد بالية ،ما أنزل
ليست له ،فيفرطون ،ألجل مصالح معينة ،أو ً
399
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اهلل تعاىل هبا من سلطان ،بل إن رشيعة اإلسالم نزلت ،والقرآن الكريم نزل ،من
أجل إبطاهلا أو جيتزأون احلالة ،فيتطرفون ،وهو أخطر ما يواجهه اإلسالم يف وقتنا
الراهن.
فهناك من يسقط آيات التكفري يف القرآن الكريم عىل بعض املسلمني ،باعتبار أنه
سياسيا ،وجيتزئ النص
ًّ يراهم "كافرين" ،وهم عىل اإليامن ،ولكنهم خيتلفون معه
من إطاره ،ويقتل عىل اهلوية السياسية أو احلركية ،ويفعل ذلك إما ً
ظلم منه ،أو
لسوء فهم وتدبري منه ،للنص القرآين.
إن واجب الدعاة واحلركيني يف هذه املرحلة العمل عىل التأكيد عىل عدد من
احلقائق التي تصل إىل مستوى مراتب اإليامن ،وإىل أن تكون جز ًءا من العقيدة ،فيام
يتعلق بالتعامل مع النص الرشعي.
أول هذه احلقائق ،هو أن القرآن الكريم ٌّ
كل متكامل ،وال يقبل التجزئة واألخذ
وفق اهلوى ،أو املصالح غري الرشعية ،فال نفعل مثل أهل الكتاب عندما آمنوا
ببعضه وكفروا ببعضهم ،وع َّنفهم اهلل عز وجل عىل ذلك يف القرآن الكريم ..يقول
تعاىل﴿ :ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵ
ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ
ﮒﮓ ﮔﮕﮖ﴾ ُ
[سورة "البقرة"].
400
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
األمر الثاين ،أن التعاليم اإلهلية يف القرآن الكريم؛ إنام هي فرائض ،ألهنا أوامر
ربانية ،فعندما يقول اهلل عز وجل يف آية ،افعلوا ،أو ال تفعلوا ،أو كونوا ،أو ال
تكونوا؛ إنام هي أوامر واجبة النفاذ ،وليست جمرد عبارات جمازية ،أو أساطري
األولني ،كام قال مرشكي مكة املكرمة ،يف سنوات الدعوة األوىل.
األمر الثالث املهم ،هو التأكيد عىل أن إسقاط احلكم الرشعي الوارد يف القرآن
حكم
ٍ الكريم ،من أخطر ما يكون ،فهو قد يقود إىل تكفري مجاعة مسلمة ،أو فرض
رشعي يف أمور شديدة العمومية واالسرتاتيجية ،من دون وجه صحة ،برغم أهنا
قد تقود إىل تغيريات واسعة يف حياة املسلمني.
إن القرآن الكريم ،كتاب اهلل املتني ،واألخذ منه جيب أن يكون بحقه ،وهو
السنة النبوية ،ثم يأيت
األصل ملصادر الترشيع واالستدالل الرشعي ،مع صحيح ُّ
بعد ذلك اإلمجاع والقياس ،اللذان يبنغي ً
أيضا أن ينبنيا عىل ما جاء يف القرآن
والس َّنة النبوية الرشيفة.
الكريم ُّ
401
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
402
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يؤجل لآلخرة ،لكن الثابت ،إطالق حكم وقف احلساب عىل اهلل
يف الدنيا ،أو َّ
تعاىل فحسب.
املهم أو املراد إيصاله يف هذا املوضع ،هو أنه ال جيوز لإلنسان األخذ ببعض
الرشيعة وترك بعضها ،أو إدخال ما ليس فيها عليها ،وهو يتحرك يف إطار كونه
ً
"مسلم" ،ويقول إنه يمثل هذا الدين ،ومرشوعه احلضاري.
فمع أحقية اإلنسان يف االختيار ،وهذا بدوره بمشيئة اهلل فقط ،ال اإلنسان ،فإنه
ال جيوز لإلنسان القول بأن هذا األمر أو السلوك أو الفعل من اإلسالم ،وهو ليس
من اإلسالم ،أو ترك بعض الرشيعة واألخذ بالبعض اآلخر وفق اهلوى.
فام هو من اإلسالم هو من اإلسالم ،فقط أنت ال تعمل به ،وتكون عاصي ًا ،لكن
ذم ُ
اهلل تعاىل فيها بشدة يف القرآن الكريم ،وهي اإليامن ببعض ال تؤسس قاعدة َّ
الكتاب وترك البعض اآلخر.
يقول تعاىل يف ُسورة "البقرة" ﴿ :ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨﭩ ﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ ،ويف ُسورة "النساء"،
يقول رب العزة سبحانه﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾.
403
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وعندما يتحرك اإلنسان املسلم يف هذه احلياة ،ويعلن أنه يمثل اإلسالم متثي ً
ال
صحيحا ،فإنه ُي َظر عليه متا ًما فكرة االنتقائية ،وخيرج عن منهج اإلسالم متا ًما أن
ً
تتحرك بوسائل معينة ختالف الرشيعة ،وال تتفق معها ،يف سبيل حتقيق هدف نبيل
يتفق مع مفردات املرشوع اإلسالمي كام حتددها الرشيعة ،هنا يرفع اهلل تعاىل ُسنَن
نرصه ،أو إسناده.
فهذه املخالفة اجلسيمة ،حتمل انتهاكات عدة للرشيعة ،والتي منها ما يصل
ملستوى الكبائر ،بل نوع من ُ
الك ْفر باملعنى املوضوعي.
ففي هذا – أو ً
ال – إدخال ما ليس من الدين يف الدين ،وما ليس من الرشيعة
يف الرشيعة ،وبالتايل نقل صورة خاطئة شديدة التشويش لآلخر غري املسلم يف كل
مكان ،وبالتايل ً
أيضا فهي تعرقل جهود الدعوة.
والدعوة إىل اهلل تعاىل ودينه ،هي أهم غاية أمام املسلم ،وكل ما دون ذلك ،هو
أدوات خلدمة هذا اهلدف ،بام يف ذلك اجلامعات واجلمعيات ،بل الدولة اإلسالمية
ذاهتا لو كانت قائمة ،كل ذلك جمرد أدوات؛ خلدمة هدف نرش دين اهلل تعاىل.
مجة ملنجزات قرون
املؤسف أن البعض زاد عىل ذلك ،وهو ما أدى خلسائر َّ
طويلة من املراكمة احلضارية والدعوة يف أنحاء األرض ،خطيئة كربى؛ زاد ِّ
التأل
عىل اهلل تعاىل ،ومعاتبته ،بل جتاوز األدب يف اخلطاب معه فيام يتعلق ُّ
بتأخر النرص،
السنَن الربانية ال ُت َّنزل إال ب َقدَ ر ،وبرشوط معينة ،أمهها االلتزام بقواعد
بينام هذه ُّ
الرشيعة بالكامل ،ال أن تقوم بمخالفات ،وتنسبها إىل الرشيعة ،ثم تطلب من اهلل
تعاىل أن ينرصك.
404
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فهذا ُّ
تدخل يف حكمته – والعياذ باهلل – ولو نرصك اهلل تعاىل عىل ما ختالفه
وختالف رشيعته فيه؛ فهذا يعني أن اهلل تعاىل – حاشاه – يناقض ذاته وأحكامه.
عىل سبيل املثال ،هنى اهلل عن الكذب؛ فكيف ينرص من يكذب ،وباسم الدين!
املس بحقوق اخللق إال بحق ،وهنى عن كذا وكذا، هنى عن الضالل ..هنى عن ِّ
ٍ
مناف ألحكام اهلل تعاىل ،ويقوم به ،بل يربره لنفسه بينام جتد َمن يعلم بأن ذلك
هوى لديه ،أو أهنم من نفس اجلامعة أو التنظيم أو كذا ،وهذا
ً وآلخرين ملجرد
أكرب خطر عىل املرشوع اإلسالمي ،وأكرب فتنة عرفتها األمة ،ثم يطلب من اهلل
السداد (!!).
كام أن لدينا يف ديننا مبدأ مه ًام جدًّ ا ،وهو "عرفت فالزم" ،فاملسلم ُم َ
اسب أكثر
من غريه بام علمه من احلق ،هذا معروف وبدهيي.
بل إننا ُمطا َلبون بالعدل حتى مع خصومنا وأعدائنا ،بل مع أعداء اهلل والدين..
يقول تعاىل يف ُسورة "املائدة" ﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾.
وذلك السلوك من البعض – وصاروا ُك ًثرا لألسف ،ويف رشحية الشباب عىل
وجه اخلصوص ،والتي هي من املفرتض أن تقود وتكون يف الطليعة – اعرتاض
عىل قضاء اهلل تعاىل وقدره ،بينام رب العزة قد يرى تأخري هذا األمر ،وتأخري عقاب
الظامل إىل اآلخرة؛ ألسباب وحكمة ال نعلمها.
405
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
406
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كثرية وردت يف القرآن الكريم ،ويف املامرسة النبوية ،مثل ُسنَن التمحيص واالبتالء
واالختبار ،وغري ذلك ،وتنحو إىل بيوريتانية وافرتاض األفضلية يف أنفسهم ،وهو
منهي عنها متا ًما يف رشيعتنا اإلسالمية.
كله أمور ٌّ
وعليه ،فإن املفرتض أن يكون أول خطوة لدراسة األزمات احلالية التي يمر هبا
املسلمون بشكل عام ،واحلركة اإلسالمية بشكل خاص -هو البحث يف نقطة مدى
التزامنا باملنهج؛ لكي يويف اهلل تعاىل وعده بتطبيق ُسنَن النرص.
ومع ذلك فإن الرشيعة فيها – كام تقدَّ م – الكثري للغاية فيام خيص مسألة تأخري
النرص حتى عىل َمن هم التزموا املنهج؛ حلكمة إهلية بالغة ،أبان بعضها يف القرآن
الكريم ،كالتمحيص وتنقية الصفوف والنفوس ..يقول تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ
[سورة "آل عمران" – من اآلية .]141
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ ُ
ويف حقيقة األمر فإن قضية أخطاء املنهج واسعة ،وتتطلب دراسات وبحوث
رشعية متعددة االجتاهات ،فقهية وتربوية ،مثل البحث يف أحكام االستثناءات
وتبيان خطأ اعتامدها كقواعد يف األوقات العادية ،وتدقيق اشرتاطات تطبيقها.
ولكن ،ولعل أول اخلطوات املطلوب اختاذها هو حقيقة مفاهيمية وأساسية
عقيدية غائبة عن الكثريين داخل احلركة اإلسالمية ،وهي أن املصدر الرشعي
الوحيد لإلسالم ،سواء األحكام اخلاصة باألوقات العادية ،أو االستثنائية ،هو
والس َّنة النبوية ،وخالف ذلك فإنام هو اجتهادات ال تؤسس إلزا ًما
القرآن الكريم ُّ
عقيد ًّيا عىل املسلمني.
407
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِش َي ًعا!! ..عندما يكون شتات الجماعة المسلمة عقا ًبا من اهلل!
من بني أهم التوصيفات التي يمكن إطالقها عىل كالم اهلل تعاىل يف كتابه العزيز،
عمران بالدرجة األوىل؛ حيث حيوي القواعد العامة التي تضمن ٍ هو أنه كتاب
اهلل عز وجل ،لإلنسانية،صريورة الوجود اإلنساين عىل الوجه األكمل الذي يريده ُ
ووفق املنهاج والرشيعة التي ارتضاها ألمة التكليف؛ أمة حممد ﷺ.
واملتأمل آليات القرآن الكريم التي تتكلم عن أسس العمران السليم ،والتي
تضمن نجاح اجلامعة البرشية ،واجلامعة املسلمة عىل وجه اخلصوص ،هو التقاء
الكلمة ،واجتامع املواقف ،عىل عضد رجل واحد ،وفق ما أمر به اهلل تعاىل وأقره
من قواعد وتعاليم يف رشيعته.
وكام أكد القرآن الكريم عىل أمهية الوحدة يف تدعيم قواعد العمران البرشي؛
صف ُ
األ َّمة ،بل فإنه ذم أشد الذم يف الفرقة التي حتقق االختالف واالفرتاق بني ِّ
وجعله – أي هذا االفرتاق – كذلك ،أحد أوجه العقاب للحامعة املسلمة ،متى
خرجت عن قاعدة اإلمجاع ،وفق منهج اهلل تعاىل هلا.
جلن" ،وهي ُسورة ِّ
مك َّية ،نزلت يف يف البداية ،وبشكل عام ،جاء يف ُسورة "ا ِ
السنوات األوىل للبعثة ،قول اهلل عز وجل ﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ﴾ ،واملقصودين يف اآلية ،هم املرشكون ،ففي اآليت َْي السابقت َْي ،يقول اهلل
تعاىل﴿ :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ ،ثم جاءت آية الطريقة هذه.
408
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واملقصد فيها ترغيب املسلمني يف التوحد عىل الطريق املستقيم ،والتأكيد عىل أن أول
درجات االجتامع ،وأساسه ،هو االلتقاء عىل الطريقة ،أي املنهاج ،واالستقامة عليها.
وبطبيعة احلال؛ فإن اجلامعة البرشية لو التقت عىل أساس منهجي معني ،وحتلقت
حوله؛ فإهنا تضمن اجتامع الكلمة ،ووحدة املوقف ،وهذا األساس املنهجي يف حالة
أمة اإلسالم ،هو الرشيعة التي ارتضاها اهلل عز وجل لنا كمسلمني ..بقواعدها
اجلامعة الشاملة ،والتي ال خالف عليها﴿ ..ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾
[سورة "املائدة" – من اآلية .]48
ُ
والتوحد يف الكلمة واملواقف ،إنام هو نعمة من اهلل تعاىل ،وهو رضورة
ُّ واالجتامع
عمرانية شديدة األمهية لتحقيق النجاح ..يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
[سورة "آل عمران"].
ﮓﮔ ﮕ﴾ ُ
أي أنه ،وببساطة ووضوح؛ فإن االعتصام بحبل اهلل تعاىل ،أي طريقته ،أي
رشيعته ،إنام هو نعمة من اهلل تعاىل ،وفوق ذلك؛ فإنه – االعتصام – أهم أسباب
النجاة ،يف الدنيا "إِ ْذ ُكن ُت ْم َأ ْعدَ اء" ،أي تقتتلون ،وترمون بأنفسكم إىل اهلل تعاىل
وأنتم عىل غري دين اإلسالم ،ويف اآلخرة ﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾.
نأيت هنا إىل اجلانب اآلخر ،وهو اخلاص بعواقب تشتت مواقف أمة املسلمني،
أمر – لو تعلمون – عند اهلل عظيم ،وهو أسوأ عاقب ًة من أي
وتفرق كلمتها ،وهو ٌ
409
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يشء آخر تقوم به اجلامعة املسلمة ،أو فئة منها ،ويكفي هنا أن نشري إىل أنه من بني
األسباب التي حتل دم املرء املسلم ،كام يف احلديث النبوي الصحيح" ،التارك لدينه
املفارق للجامعة" [أخرجه البخاري ومسلم].
عند تد ُّبر القرآن الكريم ،سوف نجد فيه قضية ،هي من بني أهم القضايا التي
بمثابة ُصلب وجود هذه األمة ،وهي قضية عرب عنها القرآن الكريم بمصطلح
أمر خمتلف قلي ً
ال وأكثر خطورة ،عن حالة الفرقة أو االختالف. ِّ
"الش َيع" ،وهو ٌ
ففي النهي عن التنازْ ع ،والذي يأيت بسبب عدم طاعة ما أمر اهلل تعاىل به ،وجاء
به رسوله ﷺ ..يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
[سورة "األنفال"] ..هنا املعنى قريب ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ُ
وواضح؛ فنتيجة عدم الطاعة ،والتنازع ،هو الفشل والفناء.
مستوى أعىل من الفرقة
ً شيعا؛ والذي يعني
ثم نأيت إىل مصطلح التفرق ً
واالختالف ،فقد يصل إىل مستوى األزمة أو الرصاع ،وقد يصل إىل مستوى
االقتتال ،كام أنه من بني مصدر خطورته أنه يشمل يف شق منه ،االختالف يف الدين.
ولقد ورد ذلك يف القرآن الكريم ،يف أكثر من موضع ،سواء يف املحاذير املرتبطة
وخصوصا فيام يتعلق بالدين؛ الفرقة يف الدين ،وكيف جاءت يف صيغة هتديدً به،
بعقاب للمؤمنني إذا ما خرجوا عن منهج اهلل تعاىل.
410
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
واخلالف ،فهو – كام تقدَّ م – يعني اخلالف ،ويعني االقتتال بني أبناء اجلامعة الواحدة ،وأنه
عقاب من اهلل تعاىل ملن خرج عن تعاليمه من أبناء أمته.
السورة ،يأيت األمر اإلهلي برباءة رسوله
وعىل خطورة هذا األمر؛ فإنه ،ويف نفس ُّ
الكريم ﷺ من هؤالء ..يقول اهلل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾.
ولذلك؛ يمكن فهم موقف الرسول الكريم ﷺ ،يوم أن عصاه صحابته ،يف
موقف احلديبية ،عندما أمرهم باحللق والنحر؛ حيث قال بالنص ،وبكل وضوح:
"ه َلك القوم" ،ومل يكن ﷺ ،يقصد أن هالكهم سيكون بسبب عصياهنم أوامر َ
نبيهم ﷺ فحسب؛ بل كان يقصد كذلك ،أن اهلالك سوف يأيت – كذلك – بسبب
افرتاق كلمة األمة.
ولقد خاطب القرآن الكريم النبي ﷺ ،أكثر من مرة ،وهناه فيها عن اتباع هوى
القوم ،وأن يقف عند حدود ما أنزل اهلل عز وجل ،وأال يكرتث ملواقف اآلخرين،
كام يأمر أمته بذاته األوامر؛ األخذ بام أنزل اهلل ،وعدم الركون إىل ذات ما أتى به
خصوم األمة ،من املرشكني ،بالتفرق يف الدين ،واللهو عن حقيقة التوحيد،
والركون إىل احلياة الدنيا والفرح هبا.
"الروم" آيات واضحات يف ذلك ..يقول اهلل﴿ :ﯔ ﯕ
ويف ُسورة ُّ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ
ﯧﯨﯩﯪ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾ ،ثم يقول تبارك وتعاىل ،يف توصيف
411
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
412
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لعله بعد ما يقرب من مائة عام من ظهور ما ُيطلق عليه يف أدبيات العلوم
السياسية واالجتامعية ،ظاهرة اإلسالم احلركي ومجاعاته ،منذ أن بدأ بديع الزمان
النوريس يف تأسيس مدرسته الفكرية والدعوية ذات الطابع االجتامعي والسيايس
والرتبوي ،يف عرشينيات القرن املايض؛ فإنه من بني أكثر املشكالت التي اعرتضت
طريق احلركات اإلسالمية ،كطليعة لألمة ،هي أزمة التكفري ،بعد أن حتولت
اجلامعة أو احلركة إىل هدف وموئل يف حد ذاته ،بينام هي يف األصل أداة ظهرت
خلدمة الدين والدعوة.
وتستند فتنة التكفري هذه باألساس إىل تفسريات معينة لعقيدة الوالء والرباء يف
مستوى من مستوياهتا،
ً اإلسالم ،وضعت أية عالقة بني املسلم وغري املسلم ،يف أي
السياسية واالجتامعية والثقافية ،ويف أي حجم من أحجامها ،سواء عىل مستوى
الفرد املسلم ،أو عىل مستوى اجلامعة املسلمة ،واحلاكم؛ يف إطار تكفري املسلم
واجلامعة املسلمة.
ويف حقيقة األمر؛ فإن أصل املشكلة يف استناد اجلامعات التكفريية يف تفسريها
أمر ْين ،األول هو االستناد إىل تفسريات آيات قرآنية
لعقيدة الوالء والرباء ،يعود إىل َ
وأحاديث نبوية رشيفة ،من دون النظر يف السياقات األخرى املرتبطة هبا يف كالم
الرسول الكريم ﷺ ،ويف القرآن الكريم نفسه ،بالرغم من أنه من املبادئ الثابتة
413
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
املتعارف عليها يف علوم القرآن الكريم واحلديث النبوي ،هو أن كالمها يفرس
اآلخر ،وأن القرآن يفرس نفسه يف مواضع أخرى.
األمر الثاين ،هو استناد التفسريات التي وضعت لعقيدة الوالء والرباء ،إىل
فرتات استثنائية من تاريخ األمة ،مثل التفسريات التي وضعها اإلمام أمحد بن تيمية
خالل فرتات الغزو املغويل والصليبي لربوع اإلمة اإلسالمية ،عندما واىل بعض
َّ
حكام املسلمني هؤالء الغزاة ،إما خيان ًة أو ظ ًّنا منهم أهنم هبذه املواالة قد يستنقذون
بالدهم التي حيكموهنا من خطر غزو هذا الطرف أو ذاك.
ومن املعروف يف العلوم الرشعية ،أن احلكم االستثنائي ال جيوز إطالقه ،متا ًما
العرفية
– لتقريب الصورة إىل األذهان ،وهلل تعاىل املثل األعىل – مثلام أن األحكام ُ
التي يتم تطبيقها يف أوقات احلروب واألزمات والكوارث الطبيعية ،ال يمكن قبول
تطبيقها يف األوقات العادية.
ورت "النساء"
ولكننا ،ومن خالل بعض آيات القرآن الكريم ،وبالتحديد يف ُس َ ْ
و"األنفال"؛ يمكن أن نجد الكثري من األمور اخلاطئة يف التفسري الذي تستند إليه
اجلامعات التكفريية ،وبعض ما وضعه األستاذ سيد قطب يف صدد عقيدة الوالء
والرباء؛ حيث ال تدخل كل عالقة بني مؤمن وكافر ،أو بني مجاعة مسلمة وأخرى
غري مسلمة يف إطار عقيدة الوالء والرباء.
وخيرج من ذلك اعتبارات الرضورة والقهر ،مثل مسلمني خيفون إيامهنم،
ويقيمون يف ديار غري مسلمة ،ويف بيئة تناصبهم العداء ،وال يستطيعون اخلروج
منها؛ حيث ذلك ليس بحاجة إىل نقاش.
414
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهناك آية قرآنية كريمة توضح وضع هؤالء عىل عهد النبي الكريم "ﷺ،
وتقول﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
[سورة "الفتح" – اآلية ،]25وهنا حتذير للمسلمني األوائل بعدم
ﮐ ﮑ﴾ ُ
فتح مكة بقوة السالح ،لئال يتسهدفوا بسالحهم هؤالء املسلمني الذين منعهم
ضعفهم من االستجابة ألمر اهلجرة مع الرسول حممد ﷺ.
نقول ،إنه يف ُسورة "النساء" هناك ثالثة آيات ،تقول آيتان منها ﴿ :ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠﮡﮢ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮩﮪﮫﮬﮭ
ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾.
واآليات واضحة يف صدد طبيعة التعامل مع أهل اإليامن والكفر ،واالختالف
احلاصل يف شأن التعاطي مع مجاعات غري مسلمة بني املسلمني وبينها ميثاق ،وبني
اجلامعات غري املسلمة التي تعادي املسلمني ،وعبارتا ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾،
و﴿ﯝ ﯞ ﯟ﴾ ِّ
تبي إمكانية التحالف مع أقوام غري مسلمني ،ما داموا قد
ساملوا املسلمني ،حتى ولو كانت هذه املجموعات أو الشعوب – أو الدول بمفهوم
العرص احلديث – تؤوي خصو ًما جلامعة املسلمني.
415
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ً
ارتباطا هبذا الصدد ،وهي يف سورة "النساء" كذلك، أما اآلية األهم أو األكثر
فيقول فيها اهلل تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾.
ً
مسلم بقوم غري مسلمني ،أو أن وهنا يتحدث رب العزة عن إمكانية أن يلوذ
عبارت﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
َْ يكون بني ظهراين قو ٍم غري مؤمنني ،ففي
ﭯ ﭰ﴾ ،و﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ ،قد يصح
أن يكون هناك مؤمنني مقيمني يف وسط أقوام غري مسلمة ،حتى لو كانوا يف حالة
عداء مع اجلامعة أو الدولة اإلسالمية ،مع نفي صياغة العبارة األوىل لفرضية أن
يكون "القوم العدو" فيها مسلمني كذلك؛ حيث سياق الصياغة يقول بأن املؤمن
عدو جلامعة املسلمني ،من غري املسلمني. ٍ
مجاعة ٍّ القتيل قد يكون ً
مقيم بني ظهراين
ويف ُسورة "األنفال" ،يقول اهلل تعاىل﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾.
واآلية هنا شديدة الوضوح يف التعبري عن حاالت إقامة ﴿ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ﴾ أنه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘْ﴾ ،وكلمة الوالية واضحة
416
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولعل أهم تطبيقات هذه القضية يف هذه املرحلة ،بجانب العالقات امللتهبة يف
الوقت الراهن بني مجاعات اإلسالم السيايس ،هو واقع األقليات املسلمة يف الغرب
يف الوقت الراهن.
ففي ظل التوترات الراهنة بني بعض اجلامعات اجلهادية املسلحة التي تتبنى
منهجا هلا ،مثل تنظيم الدولة "داعش" وبعض احلكومات الغربية ،وتعدي
التكفري ً
417
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
418
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِ
ومن َث َّم؛ فإن هناك مراجعات رضورية مطلوبة يف هذا األمر من جانب علامء
الس َّنة واجلامعة للتصدي إىل فتنة التكفري التي هي أسوأ ما عرفه املسلمون
أهل ُّ
عرب تارخيهم ،وصارت سب ًبا يف تعطيل صريورات الدعوة ،واملرشوع اإلسالمي
متم نوره ولو كره الكافرون.
احلضاري برمته ،ولكن اهلل تعاىل ٌّ
419
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
420
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
((( عن الرسول ﷺ ،أنه قال" :تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم
تكون خالفة عىل منهاج النبوة فتكون ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ُم ً
لكا
لكا جربية فتكون ما شاء اهللعاضا فيكون ما شاء اهلل أن يكون ثم يرفعها إذا شاء اهلل أن يرفعها ثم تكون ُم ً
ًّ
أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خالفة عىل منهاج النبوة" ثم سكت [أخرجه أمحد،
وحسنه األرناؤوط]
َّ وصححه األلباين
421
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
علامنيا ،يقوم عىل أساس القواعد التي تسري عليها الدول األخرى ،بام يف
ًّ العثامنية،
ذلك منظوماهتا القانونية والدستورية الوضعية.
ومن َث َّم ،غاب دور الداعية والعامل عن السياسة واحلكم يف بلداننا العربية
واإلسالمية ،بعد غياب حتكيم الرشيعة واحلكم بام أنزل اهلل تعاىل يف شئون املسلمني.
422
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويعتمد فقه املوازنات عىل أساس إصدار احلكم الرشعي يف املسألة وفق
اعتبارات املوازنة بني املصلحة واملفسدة املتحققت َْي يف اإلقدام أو االمتناع عن إتيان
أمر بعينه ،أو سياسة بعينها.
رشعا ،كام جاء يف "املستصفى يف أصول الفقه" ،حلجة اإلسالم أبو
واملصلحة ً
حامد الغزايل ،هي "املنفعة التي قصدها الشارع احلكيم لعباده من حفظ دينهم،
بمعنى
ً ونفوسهم ،وعقوهلم ،ونسلهم ،وأمواهلم ،وفق ترتيب معني فيام بينها" ،أي
آخر مقاصد الرشيعة.
ويشري الدكتور حسني حامد حسان إىل املصلحة الرشعية بأهنا "املصلحة املالئمة جلنس
اعتربه الشارع يف اجلملة بغري دليل معني ،أي أهنا تدخل حتت القياس بمعناها الواسع".
رشعا ،كام جاء يف خمترص ابن احلاجب ،فهي "ما يعود عىل اإلنسان
أما املفسدة ً
رشعا".
بالرضر واألمل ،ومل يكن مقصو ًدا ً
وهناك العديد من األدلة الرشعية عىل مرشوعية فقه املوازنة بني املصالح
واملفاسد ،ومن بينها من القرآن الكريم ،قوله تعاىل ﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ
[سورة
ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ ُ
"البقرة" – من اآلية .]219
ووجه الداللة يف هذه اآلية الكريمة ،أن علة التحريم هي زيادة املفسدة عىل
املصلحة املتحققة من رشب اخلمر ،ولعب امليرس ،فاإلثم الكبري واملفسدة يف ذهاب
العقل -من رشب اخلمر -وما يرتتب عىل ذلك من ترصفات غري سوية ،أعظم
423
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
424
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
425
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
426
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِ
املعاص. وعندما نقول "املجتمعات"؛ فإن األمر صنو الدول باملعنى السيايس
وسورتا "النساء" و"األنفال" هبا ثالث آيات تربز ذلك ،ويف آية "األنفال"
عىل وجه اخلصوص؛ القرآن الكريم يشري إىل جواز "تعدد" املجتمعات املسلمة؛
حيث ال فريضة بشأن "دولة إسالم واحدة" ،وكذلك حفظت اآلية للمجتمعات
ِ
املعاص -غري املسلمة ،حقوقها عىل دولة اإلسالم ،حتى عىل -الدول باملعنى
حساب جمتمع -دولة -مسلم آخر.
السورة ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
يقول تعاىل يف اآلية ( )72من هذه ُّ
ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾.
ولكن ،وبالصورة التي يتداوهلا البعض يف الوقت الراهن؛ فإن ذلك يعني خروج
وح َّكام دوهلم عرب التاريخ عن اإلسالم.
غالبية املسلمني ُ
بدعا مما سبقه من الرساالت
األمر اآلخر املهم هنا ،هو أن اإلسالم مل ينزل ً
الساموية .يقول اهلل تعاىل﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ
[سورة "األحقاف" – اآلية ،]9ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡٌ﴾ ُ
متم ًم ملا قبله من رساالت؛ فالرسول الكريم ﷺ يقول" :إنام مثيل
ونزل اإلسالم ِّ
ومثل األنبياء ْقبيل كمثل رجل بنى بناء فأحسنه وأكمله وأمجله إال موضع لبنة
فجعل الناس يطيفون به فيقولون :ما رأينا بناء أحسن من هذا إال موضع هذه
الصحيح ْي،
َ اللبنة أال وكنت أنا تلك اللبنة" [أخرجه "ال ُبخاري" و"مسلم" يف
وآخرون].
427
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذه الرساالت ،أسست بدورها جمتمعات وكيانات هلا وزهنا التارخيي ،وكانت
مسلمة بنص القرآن الكريم ،قبل حتريف بعض أتباعها لدين اهلل تعاىل الذي نزل
عليها ،مثل مملكة إرسائيل املوحدة التي قادها نبي اهلل داوود وابنه نبي اهلل سليامن
"عليهام السالم" ،ودامت حوايل سبعة عقود.
وكانت هذه الدول تقيم بدورها هذه الصورة السوية من املجتمعات؛ سوية يف
شكلها ،العمران كام نعرفه ،ويف عالقاهتا مع املجتمعات األخرى غري املسلمة.
ريا ،وأبد ًّيا؛ حيث اإلسالم
معسكرا كب ً
ً فإ ًذا؛ اإلسالم مل ينزل لكي يقيم ألتباعه
دين عمران وحضارة ،واستطاع بناء أنظمة اجتامعية واقتصادية وسياسية صمدت
مئات السنني ،ولفرتات تفوق الكثري من احلضارات الغربية.
كام أن اإلسالم يدعو إىل احلفاظ عىل احلياة ،وعىل العمران ،وعىل إقامة
العالقات مع اآلخر غري املسلم .يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊﮋ﴾[سورة ُ
"احل ُجرات" -اآلية .]13 ُ
وما ُ ِ
شع اجلهاد يف اإلسالم إال لردع األعداء ،وأخذ احلقوق .وهذا ثابت يف
الس َّنة النبوية ،والتي
السرية النبوية ،والتي هي دليل رشعي أكيد ،ألهنا تدخل يف ُّ
هي املصدر الوحيد املل ِزم للمسلم مع القرآن الكريم.
فليس هناك غزوة واحدة للنبي ﷺ ،ألي سبب غري إما رد عىل عدوان أو رد
حقوق.
428
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ً
رشوطا ال ينبغي جتاوزها وملا دعا النبي ﷺ للغزو والدعوة إىل اهلل تعاىل؛ وضع
حتفظ العمران واحلياة ،وحتفظ عىل اآلخر كرامته ودينه وماله وعرضه وكل مقاصد
الرشيعة ،ومتى مل تتوافر هذه الرشوط ،وفق ُك ِّل َّية فقهية معروفة وبمثابة البدهيية؛
فال جمال ألي غزو أو فتح.
كذلك وال جمال يف اإلسالم لقتل أو معاداة اآلخر ألي سبب خيص أنه "آخر"،
مسلم أو غري مسلم؛ ال خيتلف األمر يف وجوب رد العدوان عليه.
ٌ فلو هامجني
واملسلم غري مأمور بمهامجة غري املسلمني ملجرد أهنم "غري مسلمني".
األمر اآلخر املهم هنا ،أن البعض نيس أو ربام تناسى أنه ال توجد اآلن رشعية
جامعة للمسلمني ،وبالتايل؛ فال يملك أي أحد أن يتحدث باسم املسلمني ،أو
باسم "اجلامعة املسلمة" ،لكننا نجد اآلن أن هناك الكثريين يقتلون املسلمني ألهنم
"مرتدون ،وخارجون عن اجلامعة"؛ بينام يف احلقيقة هم يقتلوهنم ألهنم خارجون
"عنهم"؛ ال عن الدين ،وهم هؤالء ما يفعلون ما يفعلونه إال ملرشوعات سياسية
خارجية تم توظيفهم هلا من جانب أعداء األمة ،أو أمور ختصهم؛ ال ختص اجلامعة
املسلمة وعموم املسلمني.
نقطة أخرى مهمة هنا ،وهي أن اإلسالم نزل شديدة العمومية يف أحكامه لكي
ً
صاحلا لكل زمان ومكان ،وبالتايل؛ فهو مل يفرض حيقق ُمراد اهلل تعاىل يف أن يكون
أي شكل من أشكال العمران وصياغة املجتمعات عىل النحو الذي نراه من البعض
حال ًيا.
429
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
430
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني أهم املفاهيم التي يتم تداوهلا من دون احلذر الواجب يف بعض أوساط
احلركة اإلسالمية ،وعىل نطاق واسع يف األوساط األكاديمية والسياسية يف عاملنا
هذا ،عبارة أن "القوة ختلق احلق وحتميه".
طرحا
ً وهي يف حقيقة األمر مقولة خاطئة عىل طول اخلط ،وحتمل يف طياهتا
غربيا بحكم عامل مراكز القوى يف عامل اليوم؛ حيث فرضت احلضارة الغربية
ًّ
بمحتواها املسيحي – اليهودي قيمها الفكرية واملادية عىل العامل؛ فطغى طابعها
الربامجايت املادي عىل مقوالهتا األساسية ،والتي من بينها سيادة القوة بمعناها
املادي ،حتى وإن فقدت ُبعدها األخالقي ،أو َخ َل ْت من املحتوى القيمي سواء يف
كيفية استخدامها ،أو فيام حتميه من "حقوق".
يف املقابل ،ختتلف قضية "احلق" يف اإلسالم ،متام االختالف عن املفهوم الذي
حتمله هذه العبارة يف املفاهيم والفلسفات الغربية ،والذي مل ُيقد العامل إال إىل
اخلراب والدمار.
واضحا متا ًما؛ حيث قاد متجيد القوة عىل
ً ويف السياق التارخيي يبدو الفارق
حساب "احلق" والقيمة من جانب القوى املنتمية إىل احلضارة الغربية إىل حروب
طويلة ،زاد بعضها عىل ثالثامئة عام ،كام يف احلروب الدينية التي سادت أوروبا منذ
القرن الرابع عرش وحتى القرن السادس عرش ،فيام أدت احلربان العامليتان األوىل
والثانية ،إىل مقتل ما يقرب من مائة مليون إنسان!
431
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
432
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
حترير املفهوم:
ولفهم نظرة اإلسالم إىل قضية "احلق"؛ فإننا أو ً
ال جيب أن نحرر املفهوم يف
خمتلف االجتاهات ،اللغة واالصطالح والرشع.
ال "احلق" يف اللغة ،يعني اليشء الثابت الذي ال يمكن وال يكون مقبو ً
ال أو ً
إنكاره ،ويف االصطالح ،فإن "احلق" هو احلكم املطابق للواقع.
مطلق يف طريقة تناوله للمفهوم؛ حيث احلق "ثابت" و"ال جيوز ٌ وكال التعري َف ْي
إنكاره" و"مطابق للواقع" ،ومن َث َّم؛ ال جمال للتأويل أو التحريف فيه ،أو إسباغ
أمور ال تتعلق بالواقع أو الثابت به ،مثل أن تدخل "القوة" أو "السيطرة" أو أي
شكل من أشكال التأثري ،بالتغيري عليه.
ويزيد عىل ذلك تعريف آخر للحق يف بعض املدارس الفلسفية والفكرية،
وهو أن "احلق" هو "الواجب الثابت واملؤكد" ،وهذا بدوره إطالق ال جيوز معه
التدخل بأية وسيلة لتغيريه ،وإال أصبح األمر يدخل يف إطار الباطل ،وهو املعادل
العكيس للحق.
وإحقاق "احلق" هو أحد أهم صور "العدل" ،وبالعدل تستقيم الدنيا ،ويستقيم
الكون ،ومن دون العدل تنهار األمم واحلضارات.
ولذلك ،كان "احلق" هو أهم جماالت الفلسفات اإلنسانية ،منذ أن ظهرت
مدارس الفكر اإلنساين املختلفة ،فهو أحد أهم مداخل مبحث "القيم" ،أو
433
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
434
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف هذه احلالة؛ فإن إعداد القوة بمختلف صورها ،املادية واملعنوية؛ هو واجب،
وليس اختيار ،يف إطار ُس َّنة التدافع ،فالقوة هنا لدفع الرضر ،ومحاية حقوق وبالتايل
ال إىل مصالح األمة بالكامل ،وإتاحة املسلم ْي ،وصو ً
َ مصالح الفرد واملجتمع
املجال أمام املسلمني لتأدية حقوق اهلل عز وجل عليهم ،من صالة وصيام وحج
وغري ذلك من فروض.
ومن دون قوة حتمي هذه احلقوق؛ لن يتمكن املسلم من أداء رسالة خلق اإلنسان
األساسية ،وهي عبادة اهلل الواحد ال رشيك له ،وإقامة عقيدة التوحيد يف األرض.
وبالتايل؛ فإن القوة يف اإلسالم ،بـ"حقها" ،إنام هي وسيلة سالم ،ومن دوهنا
سوف تسود مفاهيم اآلخرين الفوضوية التي تعتمد رشيعة الغاب ،وغلبة األقوى
حتى ولو كان األظلم ،عىل مقدرات الضعفاء!
..........
ويف األخري؛ فإن ملخص ما سبق ،فإن "احلق" يف اإلسالم مفهوم مطلق ،غري
نسبي ،وحتدد معامله الفطرة السليمة ،وما قررته الرشيعة اإلسالمية ،والقوة جيب
أن حتميه؛ ال أن تكون القوة هي معيار حتديد "احلق" ،وإال حتولت الدنيا إىل سيادة
دائم ،حتى ولو كان معتد ًيا أو ظاملًا.
الغالب ً
435
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
خلق ُ
اهلل تعاىل اإلنسان ،ضمن منظومة متكاملة من َ
اخل ْلق اإلهلي ،تتناغم يف
قوانينها ،وتتسق يف حركتها مع بعضها البعض ،يف ميزان دقيق ،يضمن انتظام
الكون ،وبقاءه إىل أن يأذن اهلل تعاىل ،وتنفذ إرادته ومشيئته ،وتنتهي احلياة الدنيا.
وجانب مهم من هذه القوانني وضعه اهلل عز وجل حلركة اإلنسان؛ ألن اإلنسان
كمخلوق ،ذو طبيعة خاصة؛ حيث إنه خملوق ،عاقل ،ويتمتع باحلرية واإلرادة
الذاتية ،وهذه السامت التي متيزه عن بقية خلق اهلل تعاىل ،جتعل من حتمية نفاذ
قوانني اخللق يف أمره ،أقل درجة من باقي املخلوقات األخرى ،احلية وغري احلية.
وعىل ِع ْلم رب العزة سبحانه بطبيعة اإلنسان ،وهو يعلم من خلق وهو اللطيف
منعا لطغيانه وجوره
اخلبري؛ فإنه قيد حركته يف احلياة الدنيا بمنظومة من القوانني؛ ً
وخروجه عن قواعد احلركة السليمة املقننة التي تضمن أال يؤذي باقي مكونات
العمران ،املادية أو املعنوية ،سواء يف نفسه ،كإنسان ،أو يف باقي منظومة اخللق
املحيطة به ،والتي يتفاعل معها.
ومن ضمن أهم القوانني التي تضمن هذه املسألة؛ قانون االستطاعة ،وهو
قانون عمراين تأسس يف القرآن الكريم ،بام يقول بأمهيته؛ حيث إن تأسيسه يف
القرآن الكريم ،يعني أن اهلل تعاىل أراد له ديمومة التذكري يف نفس اإلنسان املسلم،
436
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وكذلك ضامن خلوده إىل حني رفع القرآن الكريم من األرض يف آخر الزمان ،كام
أخرب رسول اهلل ﷺ.
يقول اهلل تعاىل يف اآلية ( )286من ُسورة "البقرة" ،وهي آخر آيات السورة:
﴿ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ...اآلية﴾.
هذه اآلية تؤسس لقواعد عمرانية وحركية عديدة غائبة متا ًما عن سعي غالبية
من املسلمني ،وتزداد خطورة هذا الغياب يف حالة اجلامعات احلركية التي تتصدى
لعظيم ومعايل األمور يف حياة األمة ،وتقوم بكل فرائض العني املقررة عىل املسلمني.
قانون االستطاعة ،بالصورة التي وردت يف آية "البقرة" ،تعني أن اهلل عز وجل،
نفسا إال قدر استطاعة هذه النفس ،وهو أعلم بخلقه حتى من أنفسهم، ال يكلف ً
وهو ما يضمن انتظام حركة اخللق ،ألن اإلنسان العاقل الرشيد؛ من املفرتض له أال
يتجاوز حواجز االستطاعة التي وضعها اهلل عز وجل له ،يف أموره ،حتى ما يتعلق
منها باألمور اليومية املعتادة وإنفاقه االقتصادي.
وتبعا لذلك يرتتب عىل هذا املبدأ أن هذه النفس هلا ما كسبت وعليها ما اكتسبت،
ً
أي أن اإلنسان يتحمل مسئولية أية أفعال يقوم هبا خترج عن حدود االستطاعة التي
منحها اهلل تعاىل له.
وزرا -هنا نعني
إرصا أو ً
ويعني هذا القانون ،أن اهلل تعاىل ال يضع عىل اإلنسان ً
حيمله اإلنسان لنفسه بال دا ٍع. هبا عبئًا وثق ً
ال -إال ما ِّ
وقتها ،ما دام اإلنسان قد خالف قوانني اهلل عز وجل؛ فلن حيصل عىل دعمه
وكإله ورعايته سبحانه.
437
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
باملثل بعض املسلمني وبعض احلركة اإلسالمية يفعل؛ جتده يضع نفسه يف
ظروف مستحيلة؛ ثم يشكو البالء واالبتالء ،ويتساءل عن أسباب غياب الدعم
الذي وعد اهلل تعاىل به عباده املؤمنني.
تنز َل النرص اإلهلي ،له اشرتاطاته ،وهي إرادة إهلية ال راد هلا ،ومن أمهها
إن ُّ
أن يلتزم اإلنسان باألطر والقواعد والقوانني التي وضعها اهلل عز وجل لسعيه يف
خمتلف املواقف ،السياسة ،اجلهاد ،احلياة العامة ،احلياة اخلاصة األرسية ،وحتى
شئونه الفردية.
خيالف املسلم ثم يشكو ،ويظن بربه الظنون (!!) ،وينسى يف السياق أنه حمكوم
أكثر من غريه هبذه القوانني والقواعد؛ ألنه األكثر معرفة ودراية هبا ،باعتبار
إسالمه ،وبالتايل ،باعتبار علمه املنبني عىل إسالمه ،ألنه بعد إسالمه ،من املفرتض
له أن يعرف ربه ودينه ويتدبر قرآنه ويفهم رشيعته ،وقوانينه ،وهكذا.
ما هكذا قوانني ربنا ،وهو أمر جيل أنه يعود إىل قضية الفهم ،فغياب فهم
اإلنسان بحقيقة دينه والقواعد القرآنية؛ هو الذي يقود إىل جتاوز اإلنسان إىل قانون
االستطاعة ،كمثل من يذهب لكي يبني مسجدً ا يف بلد ال يؤمن حتى بوجود اهلل
تعاىل ،ثم يبكي ويزعق بأعىل صوته ،عندما هيدمون له املسجد ،وقد يظن باهلل
الظنون ،بينام اخلطأ منه.
لقد وضع اهلل تعاىل يف رشيعته قواعد التعامل للمسلمني يف هكذا جمتمعات،
وبالتايل خمالفتها؛ يقع عبئها وإرصها عىل املسلم ،فال جتأر بالشكوى ،وأنت السبب
يف بواعثها
438
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا الذي نقول ،ال يعني القعود ،وال يتناىف مع قاعدة "بذل ال ِو ْسع" ،وإنام يعني
إعامل ضوابط الفعل الرشيد يف العمل وفق العبارة القرآنية التي يقول فيها رب
[سورة "األنفال" - العزة سبحانه وتعاىل ﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ ُ
من اآلية ،]60هنا الطلب اإلهلي فقط قدر االستطاعة ،وبذل ال ِو ْسع يكون قدر
استطاعة اإلنسان ،ومل يطلب اهلل تعاىل – أبدً ا – من اإلنسان ما يفوق طاقته.
فهنا شعار ﴿ﯘ﴾ حمكوم برشط االستطاعة؛ أن نطلق عىل هذا الفعل ،أنه
يدخل أو ال يدخل ضمن طاقة "بذل ال ِو ْسع".
هذا األمر له ماصدقات عديدة عىل أوضاع اإلخوان املسلمني ،وسائر احلركات
اإلسالمية اإلصالحية التي ترفع شعار التغيري واإلصالح يف بلداهنا ،وعىل مستوى
األمة؛ حيث جتاوزت القوى الثورية اإلسالمية ،يف مرحلة ما بعد نجاح ثوراهتا
رسيعا مل يستمر طويل؛ جتاوزت قانون
ً ربيعا
يف بلدان العامل العريب التي شهدت ً
االستطاعة؛ فكانت النتيجة الرتاجع إىل حني ،ولكن هلذا موضع آخر من احلديث.
439
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
440
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
التحالف املسيحي اليهودي ،يف الغرب ،وعىل رأسه الواليات املتحدة والكيان
الصهيوين ،أال وهو مبدأ احلاكمية هلل ،وتوحيدها.
وتوحيد احلاكمية ،يعني إفراد اهلل تعاىل وحده يف احلكم والترشيع؛ حيث اهلل
تبارك وتعاىل ،هو َ
احلكم العدل ،له احلكم واألمر ،ال رشيك له يف حكمه وترشيعه،
والرب
ُّ وهو أمر طبيعي؛ مادام اهلل تعاىل هو امللك احلق ،واإلله الواحد األحد،
اخلالق املد ِّبر هلذا الكون؛ ال رشيك له يف ا ُمل ْلك ،ويف تدبري شئون اخللق ،وبالتايل،
فهو ً
أيضا -عز وجل -ال رشيك له يف احلكم والترشيع.
ولقد حدد القرآن الكريم ُحكم من مل حيكم بام أنزل اهلل تعاىل من ترشيع ،ففي ُسورة
"املائدة" ،هؤالء ،إما كافرون ،أو فاسقون ،أو ظاملون ،فيقول تعاىل ﴿ :ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ
ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ﴾.
441
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
442
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُخ ِل َقت ألجلهم ،وأن سعيهم فيها ،يكون هلم ولصالح متاعهم وإرضا ًء لرغباهتم
وشهواهتم الزائلة!
والقرآن الكريم واضح للغاية يف هذا األمر ،فيقول اهلل عز وجل﴿ :ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾.
443
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويشمل ذلك العمل ،والعلم املدين ،وغري ذلك من سعي اإلنسان يف احلياة
حرا يأكل من كسبه ،وبالتايل
الدنيا ،فالعمل -عىل سبيل املثال -جيعل اإلنسان ًّ
يتفرغ للعبادة ،وخيدم دينه وجمتمعه املسلم ،فال يمكن لإلنسان اجلائع غري اآلمن،
أن يعبد اهلل تعاىل بحق ،وخيلص له العبادة ،وهو ما أكده القرآن الكريم ،ففي ُسورة
"قريش" ،يقول ﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾ ،فربط عبادته عز وجل ،باألمن املادي واملعنوي.
والعلم املدين ،يساعد اإلنسان عىل تيسري حياته يف الدنيا ،وبالتايل التفرغ لعبادة اهلل
عز وجلً ،
وأيضا حتسني ُسبل نرش دعوته من خالل وسائل االتصال واإلعالم احلديثة،
والدفاع عن ديار اإلسالم ضد الغزاة واملعتدين ،الذين يملكون العلم والسالح..
وهو ً
أيضا حتقيق لقانون مهم ،وهو تسخري الكون لإلنسان ،واستغالل مفرداته..
﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ
ﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝ
ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﴾
[سورة "ال َّن ْحل"]..
ُ
وهو ً
أيضا قانون إهلي ،من أجل تيسري سبل حياة اإلنسان عىل األرض ،يف الدنيا،
من أجل قيامه بمهمته األسمى ،وهي عبادة اهلل تعاىل ،وإقامة رشيعته..
444
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
445
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ال نزال مع بعض املشكالت املفاهيمية التي بدأت تتفاقم يف الصف احلركي
اإلسالمي ،عىل خلفية التطورات الكربى التي طرأت عىل احلالة اإلسالمية ،يف
مرحلة ما بعد الربيع العريب ،وما أدت إليه االرتكاسات التي حصلت ،واجلرائم
التي وقعت ،من ارتباك يف ضمري ومفاهيم شباب الصف اإلسالمي.
وملزيد من الدقة؛ فإن املشكلة تقبع يف عقول وضامئر األجيال األحدث س ًّنا التي
تتشبع بعد بكامل الربنامج الرتبوي ،الدعوي واملفاهيمي واألخالقي ،مما أدى
مل َّ
إىل بعض االرتباكات املفاهيمية ،والتي طالت حتى بعض املكونات العقيدية التي
من املفرتض أهنا متثل أساس العمل احلركي.
ومن بني هذه األمور ،بعض التساؤالت التي ظهرت يف أوساط الصف احلركي
يف اآلونة األخرية ،بفعل اجلرائم التي ارتكبتها األنظمة احلاكمة يف أكثر من بلد
عريب ،يف مقابل سلوك املجتمع الدويل ،الذي ال يزال يعرتف هبذه األنظمة ،ويتعاون
مسمى ،مثل "مكافحة اإلرهاب".
معها حتت أكثر من َّ
وتنصب هذه التساؤالت عىل قضايا ُك ِّل َّية ،مثل "أين العدل اإلهلي مما جيري؟!"،
وأين اهلل تعاىل من الظاملني؟!" ،و"ملاذا ال ينرصنا اهلل؟!" ،وغري ذلك من التساؤالت
التي تكشف عن قصور مفاهيمي كبري لدى أصحاهبا.
446
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يمن
ولقد ناقشنا من قبل قضية النرص اإلهلي والعوامل التي جتعل اهلل تعاىل َّ
بنرصه عىل َمن يشاء من عباده ،والقوانني العمرانية واألخالقية احلاكمة لذلك.
وقلنا إن النرص اإلهلي ال يتعلق بنقطة زمنية حيددها اإلنسان ،وإنام بتنفيذ
اشرتاطات وضعها اهلل عز وجل ،جيب أن تعمل اجلامعة املسلمة عىل أن تستوفيها،
والنية واإلخالص يف العمل ،كام أن الرصاع بني احلق والباطل؛
التجرد َّ
ُّ ومن بينها
ليس معركة ساعة ،وإنام إىل قيام الساعة.
وكل ذلك ،شاءته حكمة اهلل تعاىل البالغة ،والتي ينبغي عىل اإلنسان أن يدرك
املجرد هذا ،وأن ما عليه سوى طاعة ما
َّ أنه لن يمكن أن يصل إليها بعقله القارص
أمره اهلل تعاىل به.
ويف هذا املوضع ،نقف أمام مشكلة أخرى ،تتعلق بغياب الفهم احلقيقي لقضية
الثواب والعقاب ،وما يرتبط بذلك يف صدد طبيعة العدل اإلهلي ،كام هي يف
اإلسالم حقيق ًة ،لدى رشائح من الشباب الذي كان ال يزال يف مستهل مشواره يف
احلركة اإلسالمية.
ولسنا مفتئتني لو قلنا إن هذه املشكلة أوضح ما تكون يف مجاعة "اإلخوان
انتشارا ،وأهنا التي كانت أكثر من غريها من
ً املسلمون" ،باعتبارها األكرب واألوسع
وخصوصا يف بعض الدول
ً احلركات اإلسالمية تصد ًيا للواقع وساعي ًة إىل تغيريه،
التي استتبت فيها األمور ظاهر ًّيا لألنظمة التي انقلبت عىل الرشعية أو ارتكبت
جرائم يف حق شعوهبا ،بينام تقول صريورات األمور وظواهرها ،بأهنا باقية إىل حني.
447
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هنا ظهر تساؤل ينم لن نقول عن خلل يف العقيدة ،بقدر ما ينم عن خلل
مفاهيمي يف مثل هذه املواقف ،قاد إىل شكل من أشكال ما عرب عنه القرآن الكريم
واضحا يف موقف مماثل تعرض له املسلمون األوائل يف غزة اخلندق؛ حيث
ً ريا
تعب ً
قال رب العزة سبحانه يف وصف حاهلم﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
[سورة
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ ُ
"األحزاب" -اآلية .]10
وينصب هذا التساؤل حول قضية كربى تناوهلا القرآن الكريم يف مواضع
عديدة ،وهي عقاب الظاملني ،والقصاص اإلهلي منهم.
ويرتبط هذا التساؤل بذات النقطة التي نوقشت يف أكثر من موضع سابق
للحديث ،وهي خطأ التصور الزمني لدى البعض حول رصاع احلق والباطل،
وانتصار احلق فيها.
وهنا نشري إىل بعض املفاتيح املهمة التي جيب عىل تربويينا وقادتنا أن يعملوا
ال يف أوراق يتم تعميمها بمختلف وسائل االتصال عىل صياغتها بشكل أكثر تفصي ً
والتواصل ،سواء يف براجمهم الدينية والسياسية ،أو من خالل وسائط السوشيال
ميديا ،وغري ذلك من الوسائل.
املفتاح األول ،هو أن اإلنسان املسلم ينبغي عليه أن ُيدرك أن ما عليه سوى العمل،
بينام النتيجة هي عىل اهلل تعاىل ،وفق ما تشاء حكمته البالغة ،وأنه ال ينبغي عىل املسلم
صحيح اإلسالم ،أن يعرتض عىل أحكام اهلل تعاىل ،التي هي بشكل أو بآخر ،صورة
من صور القضاء والقدر ،واإليامن هبام ،هو جزء ال يتجزأ من عقيدة املسلم.
448
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كام أن عىل املسلم أن يدرك أن عمله ،إنام هو له ،بينام دين اهلل تعاىلٍ ،
ماض يف
طريقه ،ولن يرض املجرمون َ
اهلل وال دينه شيئًا ،وهو أمر ثابت يف القرآن الكريم ،يف
أكثر من موضع بشكل ال لبس فيه.
أما املهم فيام خيص موضع هذا احلديث ،هو أن يدرك اإلنسان املسلم أن قضية
العدل اإلهلي ،ال ترتبط بالدنيا ،وال ترتبط بنقطة زمنية حيددها اإلنسان وفق هواه
وتصوراته ،وإنام األمر خاضع إلرادة اهلل تعاىل ،وحكمته.
ولقد شاءت حكمة اهلل تعاىل أن تكتمل إجراءات عدله يف الدنيا؛ بحساب
اآلخرة.
أي أنه لو مل تكن هناك آخرة؛ لكان العدل اإلهلي – حاشا هلل وتنزه سبحانه
ناقصا.
وتىعاىل عن كل نقص – ً
ولذلك؛ فإنه من الوارد جدًّ ا وفق املشيئة اإلهلية أن يموت الظامل من دون عقاب
يف الدنيا.
والنامذج أمامنا يف ذلك كثرية ،فهناك املجرم الصهيوين اهلالك برييز؛ قد مات
ميتة طبيعية وفق التعبري الدارج ،من دون عقاب عىل جرائمه ،وهناك رابني،
وهناك الكثري من ُطغاة العرص يف زمننا هذا ،واألزمان السابقة عليه؛ فهل نال
هتلر ،وسلوبودان ميلوسوفيتش ،وستالني ،وشارون ،وكل املجرمني عرب العصور
العقاب الذي يستحقونه ح ًّقا عىل جرائمهم؟!..
قارصا،
ً ِ
وأعدم وعوقب يف الدنيا؛ فإنه ذلك يبقى عقا ًبا إطال ًقا ،وحتى َمن ُشنِق
وال يمكن لإلنسان أن يوفيهم جزاءهم ،وإنام اهلل تعاىل وحده هو القادر عىل ذلك.
449
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فهل جرائم راتكو ميالديتش ،جزار البلقان ،ضد أهل البوسنة املساملني ،تفي هبا
أربعون سنة يف أحد سجون أوروبا ،كام ُح ِكم عليه؟!..
وكثري ِمن أكابر جمرميها ماتوا من دون العقاب الكايف الذي قرره عدل اهلل تعاىل
ٌ
هلم كام وصفه يف القرآن الكريم ،بعبارات مثل" :عذاب عظيم" ،و"عذاب مهني"،
وغري ذلك.
فهل يعني هذا أهنم أفلتوا؟! ..إطال ًقا .إنام عقاهبم يف اآلخرة؛ هو استكامل
للعدل اإلهلي معهم.
كذلك املظلوم؛ لو مات ظامله أو مات هو من دون احلصول عىل حقوقه؛ ال يعني
معا من
ذلك نقص يف امليزان حاشا هلل؛ حيث امليزان يستند إىل ما يف الدنيا واآلخرة ً
صريورات ونتائج.
هذا ما جيب أن نفهمه ،وعدم فهمه معناه نقص يف معرفتنا بديننا وبخالقنا ،أي –
ببساطة -نقص يف علمنا الرشعي ،باعتبار أن معرفة اخلالق ،هو ُصلب علم التوحيد،
والذي هو بدوره أحد أركان العلوم الرشعية التي تشكل معرفتنا بديننا احلنيف.
ويف القرآن الكريم ،كالم اهلل تعاىل واضح للغاية يف هذا األمر؛ حيث يقول عز
وجل ﴿ :ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
[سورة "إبراهيم" -اآلية .]42
ﰁ ﰂ ﰃ﴾ ُ
يعني ذلك ،أنه وفق اآلية القرآنية الكريمة؛ فإن عقاب الظاملني يف األصل؛
يكون يف اآلخرة ،وليس يف الدنيا ،وما نراه من عقاب لبعض الظاملني ،إنام هو
450
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عقاب العدالة اإلنسانية الضعيفة القارصة ،بينام العدل اإلهلي أقوى وأقدر عىل
إيقاع اجلزاء املالئم بالظاملني.
وبكل تأكيد فإن هذه احلالة ،هي مسؤولية الرتبويني وقادة الفكر والرأي يف
احلركة اإلسالمية ،والذين يتحملون يف الوقت الراهن املسؤولية الكربى يف ظل
االلتباسات الكبرية التي نجمت عن احلرب التي يشنها خصوم احلركة عىل املرشوع
احلضاري اإلسالمي بأكلمه.
451
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
جييء حتدي االفرتاق والترشذم الذي وصل حدَّ االحرتاب واالقتتال الداخيل،
كأهم التحديات التي تواجه األمة ،وأحد أكرب العقبات التي تواجه اندياح الدعوة
اإلسالمية بني ظهرانيي اإلنسانية بالكامل ،مع ما تعكسه هذه الرصاعات ،أو ما
أطلقنا عليه يف ذات موضع مسمى "حروب املسلمني"؛ من صورة ال يمكن معها
تصور أن هذا الدين يمكنه إقامة حضارة مدينية متكاملة األركان ،وإقامة أسس
ودعائم التكامل اإلنساين الذي أقره القرآن الكريم.
ذلك احلكم الظامل يأيت بالرغم من أن التاريخ – حتى يف كتاباته املحايدة لغري
املدون ،كانت دولة
املسلمني – خيربنا بأنه ،ولفرتة ال بأس هبا من تاريخ اإلنسانية َّ
اإلسالم قائمة بحضارة بزغت بنورها عىل العامل كله ،وأسهم الدين يف ُّ
حتض
شعوب كان اسمها عالمة عىل عدم التحرض ،مثل بدو شبه اجلزيرة العربية ،وبربر
شامل أفريقيا وغريهم.
وهناك بطبيعة احلال أسباب عدة ملثل هذه املشكلة ،ولكنها ،وبالرغم من
تعددها ،إال أهنا تندرج حتت عنوان كبري ،وهو عدم الفهم الصحيح للدين.
وهذا أمر توقعه الرسول الكريم ﷺ؛ عندما قال" :إن هذا الدين شديد فأوغل
فيه برفق" [أخرجه أمحد يف ا ُملسنَد] ،وبالرغم من أن احلديث ِّ
بنصه الكامل قد ورد
يف السلسلة الضعيفة؛ إال أنه يف النهاية؛ نجد أن الواقع يصدِّ ق عىل هذا الشطر منه
الذي أخرجه اإلمام أمحد يف مسنده.
452
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
453
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
بمعنى شديد األمهية ،وهو أن متام الدين يعني املزيد من التشديد عىل قضية
ً َر َب َطها
حرمة أموال ودماء املسلمني ،وليس العكس.
ففي خطبة الوداع ،كام يف صحيح ال ُبخاري ومسلم؛ قال الرسول الكريم ﷺ:
" ..فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا يف شهركم هذا يف
بلدكم هذا إىل يوم تلقون ربكم ،أال هل بلغت؟ .قالوا :نعم" قال :اللهم اشهد،
كفارا
ً فليبلغ الشاهد الغائب ،فرب مبلغ أوعى من سامع ،فال ترجعوا بعدي
يرضب بعضكم رقاب بعض".
وأفكار هؤالء ختالف – كام هو واضح بالدليل التارخيي – حتى األساس
الذي ظلت عليه الدول اإلسالمية املتعاقبة طيلة الفرتة التي تلت دولة اخللفاء
الراشدين؛ حيث كان أساس احلكم هو معاملة املسلم كمسلم ،ومعاملة غري
املسلم املسامل وفق أحكام الرشيعة ،ومعاملة ديار الكفر املساملة وفق قواعد
اجلرية والتكامل اإلنساين ،وحماربة َمن يعادون الدولة اإلسالمية ،أو يعتدون عىل
املسلمني يف بلداهنم.
َّ
وحكامهم والقول بعكس ذلك؛ يعني أننا نك ِّفر – والعياذ باهلل – كل املسلمني
عرب التاريخ الطويل للدول املختلفة التي ظهرت ،وكانت اإلطار اجليوسيايس
اجلامع للمسلمني كافة ،مثل الدولة العباسية والدولة العثامنية ،وغريها.
وضعيا ،والرشيعة ليست بنو ًدا دستورية أو قانونية؛ عدم
ًّ إن الدين ليس قانو ًنا
العلم هبا ،يوجب املحاسبة.
454
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اهلل تعاىل أنزل دينه ورشائعه بأنساق معينة ،وبصورة تدرجيية ،وعىل فرتات من
الر ُسل ،ولكي ُتطبق بطرائق معينة ،ومدة التطبيق هذه؛ هي منذ أن بعث اهلل تعاىل
ُّ
الر ُسل واألنبياء ،إىل يوم القيامة.
ُّ
ولذلك؛ ع َّلق اهلل تعاىل ُس َّنة إهالك األمم التي نجدها يف القرآن الكريم ،يف
َق َصص األولني ،وذلك ألن الدين اخلاتم قد نزل ،واإلنسانية كافة ،هي جمال
الس َّنة يف آخر الزمان ،بعد رفع القرآن الكريم واإليامن
دعوته ،وسوف تعود هذه ُّ
من األرض ،كام أخرب النبي ﷺ ،يف أكثر من حديث صحيح.
لذلك أي جمتمع غري مسلم؛ هو جمتمع دعوة وهداية ،بل إنه يف ظل حالة اجلهالة
الراهنة يف أوساط غالبية املسلمني بصحيح دينهم نتيجة قرون من االستعامر
واإلمهال والتغريب والعلمنة؛ فإن أي جمتمع مسلم ،هو جمتمع دعوة وهداية.
فالقول بجاهلية املجتمعات – وهي حقيقة ،وورد يف أكثر من حديث نبوي
صحيح؛ التحذير من عودة املسلمني إىل سلوك اجلاهلية –؛ ذلك القول ،وذلك
الوضع ،ال يستوجب قتال املسلمني املقرصين ،أو الذين ال يفهمون حقيقة دينهم،
وتدمري جمتمعاهتم؛ إنام يستوجب التوضيح واهلداية.
وبالتايل؛ ويف ظل الظروف التي متر هبا اإلنسانية يف الوقت الراهن ،من هيمنة
احلضارة الغربية العلامنية ،وقيمها ،وطغيان قيم املادية وفوىض التفكيكية وما
بعدها؛ فإن أي جمتمع؛ مسلم أو غري مسلم ،حديث العهد بالدين ،أو غري حديث
العهد بالدين؛ إنام هو كأنه يف اللحظة األوىل لنزول اإلسالم عىل حممد ﷺ.
455
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
456
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف األخري؛ ينبغي أن ندرك ،إن اإلسالم والدعوة إليه ،إنام هي هداية ونور .ال
قتل وإرغام ،وما جرى بعد رحيل جمموعات تنظيم الدولة "داعش" من املناطق
التي كانوا يسيطرون عليها ،أبلغ دليل عىل فشل هذه األساليب ،ألهنا ببساطة
ختالف صحيح القوانني التي وضعها اهلل تعاىل للدعوة؛ حيث قام الرجال بحلق
اللحى أمام كامريات التليفزيون ،والنساء احتفلن بحرق النقاب.
واآلن جيري ذلك يف إيران؛ ألن ما تم؛ مل يتم عن قناعة مع أصحابه ،وإنام بسبب
اإلرغام.
457
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ال ُتعترب قضية واقع النظرة والتوظيف للرتاث اإلسالمي من نافلة القول؛ حيث
الرتاث اإلسالمي هو الرشوح الوافية للرشيعة اإلسالمية ،أي أنه َص َّمم األمان للعقيدة
واألمان النفيس والعقدي لكل مسلم ،مع تضمنه – يف أبسط وأهم تقدير يف ٍ
آن –
والس َّنة النبوية الرشيفة.
األساسي ْي للرشيعة ،ومها القرآن الكريم ُّ
َّ لتفسري الرافدَ ْين
ولئن كانت هناك قضية عىل أكرب قدر من األمهية يف تاريخ األمة يف الوقت
الراهن ،فهي قضية إنقاذ الرتاث اإلسالمي ،الذي حيتوي بني جنباته خالصة
جتارب عقول األمة ،و ُيعترب ضمريها احلي الباقي ،ومرياثها الذي حقق مفهوم
النموذج التفسريي الذي هو التطبيق األكيد حلقيقية عقيدية أكيدة ،وضعها اهلل
ً
صاحلا تعاىل يف قرآنه الكريم ورشيعته التي ارتضاها للناس ،وهي أن يكون الدين
لكل زمان ومكان.
ويف مواضع سابقة تناولنا العديد من املشكالت التي تواجه مسألة انسياح
واملستقبلي ْي ،وكان
َّ اآلني ْي
الرتاث بني ظهرانينا ،وسريوراته يف الزمان واملكان َّ
وخصوصا بعض
ً من بني أمهها ،ما يعود إىل أصحاب الشأن ذاته ،وهم املسلمون،
احلركات املحسوبة أمام العامل ،عىل اإلسالم.
ويبقى السؤال أو جمال العمل املهم اآلن ،هو البحث يف قضية كيف يمكن
تأسيس مدرسة حداثية لقراءة الرتاث اإلسالمي ،وتطبيقه ،واألخذ بام فيه من
458
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وخصوصا فيام يتعلق بالفرع األهم من الرتاث ،وهو – وفق الكثري من
ً رؤى،
ً
العلامء – علم أصول الفقه.
وهذه األمهية ليست يف واقع األمر من فراغ ،وإنام ألن علم أصول الفقه هو
الذي يتعلق بإنزال احلكم الرشعي عىل الواقع ،وفق أسس ومقتضيات موضوعية.
ولعل أهم ما حيمل "إشكاليات" يف الوقت الراهن لدى خصوم الرتاث
اإلسالمي ،هو علم أصول الفقه ذاته ،ألنه بسبب االستخدام اخلاطئ للبعض
ألمور من الرتاث الفقهي ،مثل استخدام األحكام االستثنائية كأحكام عامة ،أو
هوى معني؛ نتيج ًة
بسبب جلوء البعض لرسم هذه األحكام عىل واقع معني وفق ً
إعالميا لرفض األحكام الفقهية املوجودة يف الرتاث
ًّ لذلك؛ فإن هناك من حشد
بالكامل.
ويبدأ حل األزمة وفق تصوري اخلاص بنقطة إدراكية شديدة األمهية ،وهي
رضورة حتديد املقدَّ س وغري املقدَّ س يف الرتاث.
َفتَحت بند ارتباط الرتاث يف األساس املعريف له ،بالنص القرآين والنص ِ
والف ْعل
النبو َّي ْي؛ أصبح النص الرتاثي ذات مقدَّ ًسا ،وهذا خطأ إدراكي.
مقدسا يف حالة
ً لكن قبل تناول ذلك؛ َث َّمة إيضاح مهم .وهي أن الرتاث يصبح
صحيحا.
ً نصا نبو ًّيا واحدة؛ وهي إذا كان قرآ ًنا ً
كريم أو ًّ
والس َّنة النبوية) ،إما أن
وهنا من املعروف أن النصوص الرشعية (القرآن الكريم ُّ
تكون قطعية الداللة ال تقبل االجتهاد والتفسري ،وال يوجد خالف حوهلا ،وهذه
459
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ال ُيقبل فيها االجتهاد أو "التجديد" فيها؛ فهي متجددة بطبيعتها ،كام وضعها اهلل
ريا
تعاىل ،سواء أوحاها لنبيه ﷺ ،أو نطق هبا النبي "عليه الصالة والسالم" ،تفس ً
وتوضيحا للقرآن الكريم.
ً
وإما أن تكون ظنية الداللة ،وهو ما يمكن معه أن تقبل التفسري عىل وجوه عدة،
وهنا تأيت نقطة مراجعة أو جتديد فهم األئمة األوائل املتقدمني أو املتأخرين هلا.
460
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
األصل متغري ،فال جيوز يف الغالب األعم ،الوقوف عند أحكام فقهية تقادمت بينام
النص املقدَّ س متجدد ،وهو ما شاءته حكمة اهلل عز وجل.
والدليل عىل ذلك ،أن األئمة األربعة وعلامء ثقات كثريون أعادوا النظر يف كثري
من األحكام ،وبدلوا فتاوى – للتوضيح :مل يبدلوا القاعدة أو احلكم الرشعي وإنام
الفتوى ذاهتا – بناء عىل تغري الظروف أو تغري املجتمع ،وتطور الزمن.
واملذاهب اإلسالمية هبا نامذج تربز حالة من االنفتاح الكبري يف هذا الصدد ،ففي
مذهب اإلمام أيب حنيفة؛ هناك من أتباعه من يقدم رأي بعض تالميذه عىل رأي أيب
حنيفة ذاته ،بسبب تغري الظروف ،ما جيعل رأهيم أكثر صوا ًبا.
وهو ما نجده عند املتأخرين عىل آراء املتقدمني ،وهكذا.
يتصل بذلك رضورة االتفاق عىل منهج أو نموذج معريف متفق عليه يف قراءة
النص املقدَّ س ،ويف التعامل مع الرتاث ذاته.
ويشبه األمر يف ذلك الوسيلة التي جلأ إليها اإلمام أمحد بن حنبل يف تعامله مع
األحاديث النبوية الرشيفة ،عندما َع ِمد إىل وضع "ا ُمل ْسنَد".
معرفيا يف التعامل مع احلديث النبوي ،قام عىل أسس من بينها:
ًّ نموذجا
ً فهو تبنى
-عدم اشرتاط الصحة يف احلديث ،وإنام املشهور منه ،ولكنه كان يتعامل وفق
منطق حمدد مع األحاديث الضعيفة؛ حيث كان َيقبلها إذا كانت يف ميدان فضائل
األعامل ،وال َيقبلها يف األحكام ،وكذلك كان يقبله إذا مل يكن خيالف القواعد
صحيحا يف نفس الباب.
ً العامة ،ومل يعارض حدي ًثا
461
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
462
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يتجرد
َّ ويضيف أن "املنهج من مقدماته ومقتضياته ولوازمه ومكوناته ،أن
التحيزات القبلية ،ويبتعد مستعمله عن األفكار املسبقة ،كام جيب أن
ُّ مستخدمه من
يعمد إىل تغييب وإبعاد أحكام القيمة ،ألن وسائل وأدوات املنهج وطرائقه ،هي يف
موصلة إىل هدف معني ونتيجة خاصة مهمتها ووظيفتها تأمني
النهاية جمرد وسائل ِّ
االنتقال للباحث والدارس يف مجيع املراحل واألطوار التي يقطعها هذا الباحث يف
بحثه أو يف حتصيله للمعرفة".
ولعل األهم مما جاء يف هذا الكالم ،هو اسم الدراسة ذاهتا؛ حيث إن بنعمر
تفهم النص" يف إطار علم أصول الفقه ،وهو مصطلح شديد
حتدث عن "منهج ُّ
تفهمه ،وليس النقل
األمهية يف التعامل مع النص املقدَّ س؛ حيث إن املطلوب ُّ
احلريف عن فهم األقدمني.
نقاط أساسية للعمل:
يقوم املنهج املعريف املقرتح يف هذا الصدد ،عىل أساس وضع الرتاث كإطار
كنص مقدَّ س يف حد ذاته ،وجتديده ومجع املوثوق منه يف صورة
اسرتشادي ،وليس ٍّ
مسند جديد قريب الشبه من جتربة ُم ْسنَد ابن حنبل ،وفق جتربة منهجية متفق عليها
بني علامء املسلمني واهليئات اإلسالمية الكربى ،مع التأكيد عىل رضورة جتديدخ
وفق مقتضيات األمر الواقع واملستجدات احلالية.
كام ينبغي التأكيد عىل أن التجديد ال يكون يف الشكل فقط ،بل حيتاج لتفهم
احلكم نفسه ،وحتليله ،ومعرفة علته ،والظروف املرتبطة به ،وأن حيدد إن كانت
تقبل االجتهاد أم ال ،وهذا حيتاج إىل إتقان العلوم األساسية كام تقدَّ م.
463
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
سياسيا؛ ألن
ًّ واألهم من ذلك ،االبتعاد عن توظيف الرتاث اإلسالمي ومتونه
ذلك من شأنه هدم البنيان من أساسه.
وبطبيعة احلال؛ يطرح ذلك كله قضية مهمة للغاية ،وسبق اإلشارة إليها يف املتن،
وهي رضورة أن يتصدى هلذه املسائل كافةَ ،من هم :عدول ،ثقات ،أصحاب علم،
ال وأو ً
ال، وليس أ ًّيا كان ،وهو ما يؤكد أمهية رضورة إنشاء هيئة جامعة تضع أص ً
معايري االنضامم إليها ،قبل العمل عىل وضع املسند الرتاثي املطلوب لو صح التعبري.
وال نكون مبالغني لو قلنا إن األمر جيب أن يتضمن بح ًثا يف السرية الذاتية
هلؤالء .بحيث يتم التأكد أن أ ًّيا منهم مل يتبع اهلوى السيايس ولو مرة واحدة،
منهجا قري ًبا من ذلك يف مجع األحاديث من أصحاهبا،
ً واإلمام ال ُبخاري كان له
وتصحيحها.
ويف األخري؛ فإن األمر ينبغي أن يوضع يف إطار كونه سياسة إصالحية أو
جتديدية لو صح التعبري ،ولكن ال يعني ذلك قبول مساعي البعض للدخول من
هذا الباب هلدم ثوابت الدين وأركانه ،وإلغاء كل تراث األئمة؛ حيث ذلك أمر
مرفوض بطبيعة احلال.
464
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
قبل بضعة عقود ظهرت يف الفكر الغريب مدرسة شديدة األمهية من مدارس
العقل يف التفكري ،وهي املدرسة التفكيكية ،والتي ظهرت يف إطار تفاعالت مرحلة
ما بعد احلداثة يف احلضارة الغربية ،والتي انطلقت إىل العامل كله ،ضمن ما ُع ِر َف
بالثورة الثقافية يف هناية الستينيات ويف السبعينيات املاضية.
تنطلق هذه املدرسة ،والتي تبلورت وأخذت جماهلا يف عقد الثامنينيات املايض،
من فكرة أساسية ،وهي أن العقل اإلنساين هو حمور كل يشء ،ومعيار فهم كل
األمور ،كجزء من مدرسة التحليل اللغوي الفلسفي ،وهي مدرسة فلسفية
إنجليزية باألساس ،وأسسها الفيلسوف الربيطاين ،برتراند راسل.
ومن َث َّم؛ فقد انبنت عىل ذلك جمموعة من املبادئ والقيم ،عىل رأسها تفكيك
النص ،وبالرغم من الشطط الذي ذهب إليه "متطرفو" هذه املدرسة ،من املفكرين
والفالسفة؛ حيث وصلوا إىل مستوى التعامل مع النص املقدس ،كام يتعاملون مع
النص الفلسفي واألديب والفكري ،مع التأسيس إىل حالة من الفوضوية يف التفكري،
ٍ
شخص يف ظل عدم ثبات معيار حكم العقل اإلنساين عىل األمور ،وتفاوته من
آلخر ،بحسب عوامل عديدة مثل البيئة والديانة وكذا؛ إال أن هذه املدرسة يف جزء
مهم منها أسست ملبدأ شديد األمهية ُتعترب األمة املسلمة بحاجة إليه أكثر من غريها
ريا ،مع صريورة قوانني
تراجعا حضار ًّيا كب ً
ً يف هذه الفرتة من تارخيها ،والتي تشهد
العمران البرشي الربانية الصارمة عليها.
465
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا املبدأ هو رضورة مراجعة خمتلف القواعد واملبادئ التي وضعها املفكرون
والفالسفة واملصلحون املسلمون يف القرون املتأخرة ،والتي جاءت بنا ًء إما عىل
اعتبارات رؤى خاصة هبؤالء املصلحون واملفكرون ،أو تم وضعها يف سياق
ظروف ومالبسات تارخيية استثنائية يف حمتواها السيايس واملجتمعي والفكري،
وتم إسقاطها يف مراحل تارخيية تالية ال تتفق يف طبيعتها مع طبيعة املرحلة التي تم
فيها وضع هذه املقوالت أو الدعوة إىل حمتواها.
وقد يكون يف بعض هذه املقوالت تفاوت يف فهم حقيقة النص الثابت ،القرآن
مر هبا الرسول
الس َّنة النبوية الرشيفة ،أو تأويل غري سليم ملواقف َّ
الكريم وصحيح ُّ
الكريم ﷺ ،أو جيل الصحابة واخللفاء الراشدون ،وتعاملوا فيها بشكل ما ،تم
توظيفه يف حقبة تارخيية ،بناء عىل فهم املفكرين املسلمني هلا ،والذي قد يكون –
هذا الفهم – ال يتفق مع مقاصد جيل النبوة األول.
وينطلق هذا املبدأ من حقيقة مهمة أرساها مجهور علامء املسلمني ،وهي أن ٌّ
كل
يؤخذ و ُيرد عليه إال الرسول الكريم ﷺ.
ح َلة املرشوع اإلصالحي
ومن بني أهم هذه املقوالت املتداولة من جانب َ َ
والنهضوي يف وقتنا الراهن ،يف العامل العريب واإلسالمي ،هي مقولة أن األمة
والشعوب العربية واملسلمة بحاجة إىل "مستبد عادل" ،يسوس أمورها ،ويعمل
عىل إصالح شأهنا.
وتنسب هذه املقولة لإلمام حممد عبده ،أحد أهم مفكري العامل اإلسالمي يف
هناية القرن التاسع عرش ومطلع القرن العرشين ،وظهرت يف فرتة كانت فيها األمة
466
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تتجه إىل واحدة من أسوأ حقبات الرتاجع احلضاري التي مرت هبا ،والذي وصل
إىل ذروته باهنيار دولة اخلالفة اجلامعة ،يف عرشينيات القرن املايض.
كان مبعث ظهور هذه العبارة لدى حممد عبده أمران أساسيان ،األمر األول
هو حالة الرخاوة والفشل التي وصل إليها حكام األمة يف ذلك احلني ،مع فساد
بعضهم ،وضعف البعض اآلخر ،ممكن َّ
مكن أعداء األمة من احتالل تسعني باملائة
من أرجاء دولة اخلالفة قبل تفككها ،بتعاون البعض من هؤالء َّ
احلكام ،كام يف حالة
اخلديوي توفيق يف مرص ،والذي س َّلم البالد إىل االستعامري اإلنجليزي.
األمر الثاين هو سوء تأويل وقع فيه حممد عبده لنمط الدولة واحلكم يف اإلسالم؛
حيث رأى يف مراحل امللك العضوض وامللك اجلربي ،والتي سادت غالبية تاريخ
دولة اخلالفة ،وحتدث عنها حديث الرسول الكريم ﷺ ،والذي أخرجه اإلمام
أمحد عن النعامن بن البشري ،وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة.
فمع طول عهد دولة امللك العضوض واجلرب يف تاريخ دولة اخلالفة،
واإلنجازات التي حققها بعض ُح َّكام املسلمني يف هذه املراحل ،يف خمتلف
املستويات احلضارية؛ حيث وصلت فتوحات املسلمني إىل أطراف األرض،
وصارت اللغة العربية هي لغة العلم ،وصار العرب واملسلمون أكرب قوة يف العامل
القديم؛ يف ظل ذلك ،ومع نامذج مثل معاوية بن أيب سفيان وهارون الرشيد،
أمر ْين؛ األول
وغريمها من اخللفاء الذين حكموا الدولة؛ فقد تم اخللط ما بني َ
هو شكل احلاكم كام أقرته رشيعة اإلسالم ،والثاين هو الشكل القائم للامرسة
السياسية واحلكم بالفعل.
467
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فتم اصطكاك مصطلح "املستبد العادل" ،من جانب حممد عبده ،وتداوله من
جانب مفكري املسلمني يف املراحل التالية ،حنينًا إىل فرتة ازدهار دولة املسلمني،
وإىل نوعية هؤالء ُ
احل َّكام الذين سادوا العامل ،وكانت كرامة املسلم فوق أي اعتبار
للعالقات الدولية واملوائامت السياسية.
ال النقاذ امرأة مسلمةجيشا كام ً
جرد ً فلم يزالوا يذكرون هذا اخلليفة التي َّ
انتهكت كرامتها يف بالد الروم ،أو ذلك احلاكم الذي فتح أوروبا الرشقية املسيحية
بأكملها ،وكان أباطرة أوروبا يسعون لكسب وده ورضاه.
ٌ
متناقض يف مكوناته مع بعضها البعض ،فاالستبداد ولكن هذا املصطلح أص ً
ال
أساسا ،فهو -االستبداد -يعني االنفراد غري السوي ،وبالتايل غريً ضد العدل
الس َّلم
العادل ،بالرأي واملواقف ،أما العدل فهو امليزان السليم لألمور ،وهو أساس ُّ
القيمي لإلسالم.
وللتوضيح؛ فإن غالبية النظريات واأليديولوجيات الكربى التي سادت عرب
التاريخ ،تنطلق من ُس َّلم قيمي َّ
مكون من ثالث قيم أساسية ،وهي احلرية والعدالة
واملساوة ،وختتلف كل نظرية وكل أيديولوجية عن األخرى يف ترتيبها هلذه القيم.
فالليربالية تنطلق من س َّلم قيمي يرتب هذه القيم كالتايل :احلريةُ ،ث َّم املساواة ،ثم
ريا احلرية،
العدالة ،أما االشرتاكية والشيوعية ،فتنطلق من املساواة ،ثم العدالة ،وأخ ً
الس َّلم القيمي ،ثم املساواة واحلرية،
أما اإلسالم فيعزز موقع قيمة العدالة يف مقدمة ُّ
وهو الرتتيب األصوب وفق قوانني العمران البرشي التي خلقها اهلل تعاىل ،باعتبار
أن اإلسالم هو رشيعته عز وجل ،وجاءت منسجمة يف تعاليمها وقوانينها.
468
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فاحلرية املطلقة كام تنادي الليربالية ،تقود إىل مهاوي أخالقية واهنيارات اجتامعية،
اعرتف هبا الغرب ذاته ،أما املساواة املطلقة ،كام تقول االشرتاكية والشيوعية،
وحاول البعض تطبيقها يف االحتاد السوفييتي السابق والكتلة الرشقية؛ فإهنا ال
تتفق مع اعتبارات العدالة التي ال تستقيم من دوهنا الدنيا وال العمران املجتمعي،
وأدت بالفعل إىل رفض الشعوب هلا ،ألنه ال يتفق مع الفطرة السليمة ،أن حيصل
من يعمل عىل ذات من حيصل عليه من ال يعمل ،وفق مبدأ "من كل حسب طاقته،
إىل كل حسب حاجته" ،أو – كام حاول بعض كبار املفكرين االشرتاكيني ختفيفه
– "من كل حسب طاقته إىل كل حسب إنتاجه" ،فاهنار االحتاد السوفييتي والكتلة
الرشقية بأكملها.
أما العدالة؛ فهي القيمة األقرب للفطرة السليمة ،وهي التي تتفق مع معايري
العمران البرشي السوية ،بل هي أساس استقرار َ
الك ْون؛ ألهنا تعني ببساطة تساوي
املوازين ،بحسب الواقع القائم ،فلو مل تكن هناك عدالة يف توزيع قوى اجلذب
والطرد بني األجرام الساموية؛ الهنار الكون ،فلو تساوت هذه القوى من دون
مراعاة األوزان النسبية لألجرام الساموية والكواكب ،أو املسافات ،أو لو ُت ِر َك كل
حرا حلاله؛ لتبدد الكون ،وحاشا اهلل ذلك ،الذي أبدع كل يشء َصن ََع ُه.
ُجرم منها ًّ
ومن َث َّم؛ فإن عبارة "املستبد العادل" تتناقض متا ًما مع السلم القيمي لإلسالم،
والذي هو أساس استقرار الكون والعمران.
ومن يطلق عىل عمر بن اخلطاب "ريض ُ
اهلل عنه" -عىل سبيل املثال -هذه الصفة؛
فهو مل يقرأ تاريخ دولة اإلسالم وال دولة عمر؛ الذي كان أحرص الناس عىل الشورى.
469
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فعمر مل يستخدم سلطة اجلرب التي كفلتها له الرشيعة اإلسالمية ،كام جاءت يف
الس َّنة النبوية -دستور دولة املسلمني -إال يف مواضعها
القرآن الكريم وصحيح ُّ
وفق كل قواعد السياسة والنظم احلديثة ،إلقامة العدل وتطبيق القانون وإزالة
املظامل ،ولكنه مل يكن مستبدً ا باملعنى السيايس الذي نعرفه.
إن األمة بحاجة إىل احلاكم العادل ،فقط ،والعدالة تكفي ،األمة بحاجة إىل احلاكم
الذي يطبق رشيعة اإلسالم كام أنزهلا اهلل تعاىل فينا ،وكام وردت يف القرآن الكريم
الس َّنة النبوية؛ فيقيم القانون ،وال يرسق ،ويرضب عىل أيدي الفاسدين
وصحيح ُّ
واملجرمني ،ويقيم دولة العدالة واملحاسبة والشفافية ،وأهم مبادئها ،مبدأ املواطنة
الذي إال يم ِّيز بني املواطنني بناء عىل أي معيار ،حتى معيار الدين.
ض ُ
اهلل َع ْنه" ،أنصف اليهودي عىل عيل بن أيب طالب "ر ِ َ
فعمر بن اخلطاب َ
عليا هو ٌّ
عيل ،ابن عم ض ُ
اهلل َع ْنه" يف القضية الشهرية املتعلقة بالدرع ،برغم أن ًّ "ر ِ َ
َ
ض ُ
اهلل َع ْنها" ،وهو من هو يف "ر ِ َ
الرسول الكريم ﷺ ،وزوج ابنته ،فاطمة الزهراء َ
تاريخ اإلسالم.
ض ُ
اهلل َع ْنه" ،يثبت أنه مل يكن مستبدً ا ،وهو ما كان له "ر ِ َ
هذا املوقف من عمر َ
ض ُ
اهلل َع ْنه" ،أدت إىل إسالم اليهودي. "ر ِ َ
أبلغ األثر يف نرش اإلسالم؛ فعدالة عمر َ
ض ُ
اهلل َع ْنه" ،وغريمها "ر ِ َ ض ُ
اهلل َع ْنه" ،وعمر بن عبد العزيز َ "ر ِ َ
وما فعله عمر َ
من خلفاء املسلمني الراشدين ،هو أن طبقوا ما ُيعرف يف وقتنا احلايل ،بقواعد احلكم
الرشيد ،والتي تقوم عىل العدالة وحدها ،من دون استبداد بالرأي أو خالفه.
470
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
471
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
﴿ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾..
ما "الطريقة" وكيف نستقيم عليها
وعندما ُتطرح عليهم هذه اآلية؛ جيد اإلنسان منهم الكثري من األسئلة األخرى،
مثل :ما "الطريقة" ،وكيف نستقيم عليها.
ويتصل بذلك منظومة من األمور األهم واألخطر يف حياة اإلنسان ،مثل ملاذا
وفيم نحيا ،وكيف نسعى ،وبالتايل؛ دور اإلنسان يف هذه احلياة وكيف
َ ُخ ِل ْقنا،
يقوم به ،وما هي عالقتنا بربنا ،وباإلنسان اآلخر ،وبالكون املحيط بنا ،سواء
بيئتنا وجمتمعنا األقرب ،وصو ً
ال إىل الكون األكرب الفسيح الذي نعيش فيه ،وحتى
مواردنا ،وكيف نستعملها.
472
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
473
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
[سورة "املائدة"
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﴾ ُ
-من اآلية .]48
ونحن كمسلمني ،ينبغي أن نؤمن بأن "طريقتنا" هنا ،هي الرشيعة اإلسالمية،
وهي الرشيعة الكاملة.
س فيه ،وهو أن "الطريقة" هي وبالتايل؛ فإننا نقف أمام حديث إهلي ال ْلب َ
الرشيعة ،وأن هدايتنا يف هذه احلياة؛ إنام هي يف اتباع قواعد عز وجل التي أرسل هبا
أنبيا َءه ورس َله ،وآخرهم كان رسولنا الكريم ،حممد ﷺ.
ومصادرنا هلذه "الطريقة"؛ هي اثنان ال ثالث هلام ،القرآن الكريم ،وصحيح
الس َّنة النبوية الرشيفة ،والتي أما جاءت باملزيد من قواعد "الربنامج التنفيذي"،
ُّ
مثل مكارم األخالق ،أو رشح ما جاء يف القرآن الكريم من بعض العموميات،
مثل الصالة وكيفية أدائها.
وأول سؤال؛ هو ملاذا خلقنا اهلل تعاىل ،وما هو دورنا يف هذه الدنيا .يف حقيقة
األمر؛ فإن األمور بسيطة وواضحة للغاية يف القرآن الكريم ،الذي هو مصدر
"الطريقة" األسايس ،فيقول تعاىل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾
[سورة "الذاريات" -اآلية ،]56ويقول عز َمن قائل ً
أيضا ﴿ :ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ُ
[سورة "هود" -من اآلية ﴿ ،]61ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﯿﰀ﴾ ُ
[سورة "البقرة" -من اآلية .]30
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﴾ ُ
إ ًذا؛ ببساطة شديدة؛ خلقنا اهلل تعاىل لعبادته ،ودورنا يف هذه احلياة ،هو أن ِّ
نعمر
األرض ،لنعمل بموجب قانون االستخالف ،ومن بني أهم مهامنا فيها ،نرش
474
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
رشيعة اهلل تعاىل وقواعده عىل هذه األرض ،والدعوة إليه ،وعىل رأس ذلك ،عقيدة
التوحيد.
يف هذا األمر؛ أمامنا حديث نبوي رشيف مهم ومفيد للغاية؛ يقول فيه الرسول
الكريم ﷺ" :إنام ُبعث ُْت ألمتم مكارم األخالق" ،ويف رواية "صالح األخالق"،
واحلديث أخرجه ال ُبخاري وأمحد عن أيب هريرة ،ويف حديث آخر أخرجه ابن ماجة
عن عبد اهلل بن عمرو (ريض ُ
اهلل عنهام) ،يقول النبي "عليه الصالة والسالم"" :إنام
ُب ْعثْت مع ِّل ًم".
إ ًذا ،بعد التوحيد؛ جاءت األخالق ،وأدواتنا يف ذلك أن نكون للناس مع ِّلمني.
يف هذا اإلطار؛ حدد لنا اهلل تعاىل منظومة من القواعد العمرانية املهمة التي
تضمن لإلنسان النجاح يف أداء رسالته يف هذه احلياة ،مثل قانون االستطاعة،
وقانون التدافع ،وتسخري األشياء لإلنسان ملساعدته عىل أداء رسالته ،وغري ذلك
مما ورد يف القرآن الكريم من آيات ب ِّينات.
ومن بني نصوص القرآن الكريم الواضحة يف ذلك ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
[سورة "البقرة" -من اآلية ،]286و﴿
ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾ ُ
ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ﴾ ُ
[سورة "البقرة" -من اآلية ،]251و﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
[سورة "لقامن" -اآلية .]20
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ ُ
475
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولوال هذا التسخري؛ ما كان عدل اهلل تعاىل أن حياسبنا؛ ألننا وقتها؛ كنا سوف
نقول؛ كيف نفعل ما أمرتنا يا اهلل ،لكن؛ ألنه ﴿ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾
[سورة "ال َّن ْجم" -اآلية ،]39فإن اهلل تعاىل َّ
سخر لنا كل املمكنات التي يمكن أن ُ
تساعدنا عىل تنفيذ اختياراتنا يف هذه احلياة ،طاع ًة أو حتى معصي ًة؛ لكي يكون رب
العزة سبحانه كام هو؛ العدل عند حسابن.
وهناك بطبيعة احلال ،من رمحات اهلل تعاىل الكثري ،مثل رصف اإلنسان عن
املعايص ورصف بعض االبتالءات ،ولكن هنا موضع احلديث ،هو حتديد أساس
األمور بدقة ،ووضعها يف نصاهبا.
ونفرد أمهية خاصة لقانون االستطاعة؛ حيث إن خمالفته هي من أكثر أسباب
شيوعا يف حياة الناس ،من دون أن يدرون؛ حيث إن حتميل اإلنسان لنفسه
ً الفشل
فوق طاقتها؛ يرفع عنه معينات اهلل عز وجل ،إال يف حال أن شاءت اهلل تعاىل أن
يرحم عبده ،ولكن األصل؛ أن العمل وفق قانون االستطاعة فقط ،هو ما يضمن
لإلنسان النجاح.
وال يعني ذلك القعود والكسل؛ ألن اإلنسان من جانب آخرُ ،مطا َلب بأن جيتهد
لتطوير قدراته ،وهو ال تعلم مقدار استطاعته بالضبط ،وال ما كتبه اهلل تعاىل لك
من الرزق يف كل املجاالت ،ولذلك؛ فواجب عىل اإلنسان السعي الدائم ،يف إطار
القوانني التي وضعها اهلل تعاىل له.
ويتصل بذلك ،قانون آخر ،وهو قانون املالئمة ،وهو أن يقوم اإلنسان بام هيأه اهلل
تعاىل للقيام به ،ويف حال جتاوزه لذلك؛ فإنه يكون يتجاوز بالفعل نطاق استطاعته.
476
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فإن عند حدوث خلل ،أو فشل؛ فهذا عائد إىل اإلنسان ،ألنه َمن يقوم
بمخالفة االستطاعة واملالئمة ،وبالتايل؛ خيالف قوانني اهلل تعاىل الربانية ،وهي ال
يمكن خمالفتها ،ألهنا أساس الكون ،ووضعها اهلل عز وجل ثابتة ال تبديل فيها،
لضامن توازنه ،وبالتايل ،استمراريته وعدم اهنياره إىل أن يشاء اهلل تعاىل ،ومل يرتكها
للبرش وال ألي خملوق آخر؛ ألنه يعلم نقصهم وعوارضه.
أمر واضح يف حالة املرأة التي ترص عىل جتاوز سامهتا ،حتت مربر أو
وهو ٌ
قناعة خاطئة أن اإلسالم قد أتى بترشيعات تضعها يف مرتبة تالية للرجل ،وهذا
أمر خاطئ بالكلية ،فكل ما يف األمر ،أن املرأة ختتلف عن الرجل ،وبالتايل؛ فهي
ٌ
يعب ذلك إطال ًقا عن ضعفها؛ حيث إنبحاجة ألحكام تتالءم مع طبيعتها ،وال ِّ
ٍ
ضعف والوضع ال يستطيع رجل واحد أن يتحملها ،وال يعرب ذلك عنْ آالم احلمل
ً
مؤهل لذلك. يف الرجل .فقط هو غري خملوق
وبشكل عام؛ فإن هذه اآليات تلخص املوقف بالكامل ﴿ :ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﰕ
[سورة "ال َّن ْجم"].
ﰖ ﰗ﴾ ُ
......
إ ًذا؛ نحن نخ ُلص من ذلك ،إىل أن اهلل تعاىل خلقنا لكي نعبده وننرش عقيدته
ونعمر األرض التي استخلفنا فيها ،مع منح اإلنسان اإلمكانيات الالزمة
ومنهاجهِّ ،
لذلك من أجل القيام بمهامه اجلسيمة هذه.
477
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وأدواتنا يف هذا كله ،كام قال النبي "عليه الصالة والسالم" ،أن نكون للناس
مع ِّلمني ،وننرش بينهم األخالق ،وهو ما يتفق مع قوله تعاىل يف القرآن الكريم:
﴿ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ
[سورة "النحل" -اآلية
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ ُ
.]125
478
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
479
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف هذا اإلطار ،نفهم أمهية النصوص الرشعية املقدسة ،من قرآن وصحيح
الس َّنة النبوية بشكل عام ،وفق ما ث ُبت يف كتب السرية
صح من ُّ
احلديث النبوي ،وما َّ
النبوية املوثوقة.
فهذه النصوص ،يف حالة املسلمني ،هي مصدر ما حتدث عنه دوركايم ،وغريه
املكون العقدي ،واملكون األخالقي املشرتك
من علامء االجتامع والنفس يف صدد ِّ
الذي حيافظ عىل متاسك ووحدة املجتمعات اإلنسانية.
أمر ربام غري واضح عند الكثري من األجيال املتأخرة
ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك ٌ
من املسلمني؛ ممَّن تأثروا بالتيارات التغريبية التي محلها معه االستعامر ،ثم احلكومات
العلامنية التي تلت خروج االستعامر من بني ظهراين بالد األمة العربية واإلسالمية.
تتعلق هذه القضية بنقطة العالقة العضوية بني املسلم واملسلم عىل املستوى
الفردي ،وبني مجاعة املسلمني بشكل عام.
الس َّنة النبوية الرشيفة؛ فإن أقوى رابطة بني
فام هو ثابت يف القرآن الكريم ،ويف ُّ
املسلم واملسلم ،هي رابطة الدين ،وهي الرابطة التي جتمع ما بني املسلمني مهام
كانت انتامءاهتم القومية ،أو أي انتامء آخر هلم.
يقول اهلل تعاىل يف ُسورة ُ
"احلجرات" ﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﴾ [من اآلية ،]10
وهو املعنى الذي تكرر يف أكثر من موضع من القرآن الكريم.
الس َّنة النبوية ،يقول ﷺ" :املسلم أخو املسلم" ،وتكرر كذلك هذا املعنى يف
ويف ُّ
أكثر من حديث نبوي صحيح.
480
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف السرية النبوية؛ ُيعترب موقف املؤآخاة بني املهاجرين واألنصار ،من أكثر
املواقف داللة عىل ذلك.
والس َّنة؛
فهذا املوقف بالذات ،يقول بأن كلمة "إخوة" التي وردت يف القرآن ُّ
إنام مل تكن عىل سبيل املجاز؛ حيث هناك الكثري من العبارات البالغية يف القرآن
الكريم واحلديث النبوي ،كانت تتضمن املجاز ،وفق ما هو معروف يف لغة العرب
وآداهبم.
فاملؤآخاة التي متت؛ متت باملعنى الفعيل؛ حيث رتبت أحكا ًما رشعية عديدة
الر ِحم ُّ
والص ْلب. نتيجة هذا التآخي ،شملت سائر احلقوق املرتتبة عىل ُأ َّ
خوة َّ
ويمكن يف هذا اإلطار ،وضع مسألة "الوالء والرباء" ،كإحدى أهم جتليات
ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه القضية من القضايا التي تم البحث فيها بشكل كبري
عرب التاريخ اإلسالمي ،وفيها ما فيها من دراسات وكتب.
ولكن ما يعنينا هنا ،هو أن العقيدة ،والرشيعة اإلسالمية ،هي األساس الذي
يصنع هذه الرابطة بني املسلمني يف كل مكان ،وبالتايل؛ فإن مصادر العقيدة
والرشيعة؛ ُتعترب هي البوتقة اجلامعة التي تربز مفردات وتفاصيل املشرتكات
اجلامعية بني املسلمني.
ويف حقيقة األمر؛ فإن تف ُّلت املسلمني من قرآهنم وس َّنتهم يأخذ أكثر من صورة.
الصورة األوىل ،هي هجران األصول الرشعية التي نستمد منها عباداتنا وقيمنا
أمر تنبأ به القرآن الكريم ،عندما حتدث عن بعض مواقف الناس
الروحية ،وهو ٌ
481
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
482
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومشكلة غياب املركزية هذه ،بدأت مع ظهور عوامل الضعف عىل آخر دولة
جامعة للمسلمني ،وهي الدولة العثامنية ،ظهور املدارس احلركية التي انتسب ٌّ
كل
منها إىل تصور معني إلعادة إحياء املرشوع اإلسالمي.
وجزء من هذه املشكلة ،يعود إىل حالة االستبداد والفساد التي ميزت احلكم
يف مقابل ضعف القبضة املركزية للدولة اإلسالمية؛ مما أدى إىل ظهور أصوات
وحركات إصالحية حتدت السلطة املركزية يف ذلك احلني.
وهذا التحدي بالرغم من أنه مل يستهدف املركزية السياسية للمسلمني ،ممثلة
يف بالط احلكم العثامين ومؤسسات الدولة العثامنية يف ذلك احلني؛ بل استهدفت
تقويتها ،من خالل إصالح أوجه اخللل التي كانت قد بدأت يف الظهور ،وأدت
إىل نجاح القوى الغربية يف احتالل غالبية العامل العريب واإلسالمي ،حتى املناطق
التي كانت خترج عن سيطرة الدولة العثامنية يف غرب ووسط أفريقيا ،ومناطق آسيا
الوسطى؛ إال أنه قد تم توظيف هذه احلركات واألصوات اإلصالحية يف بعض
األحيان إلضعاف املركزيات السياسية والدينية يف الدولة اإلسالمية.
ويف مرحلة ما بعد ظهور الدولة القومية يف العامل اإلسالمي؛ فإن ظهور النعرات
القومية ،واإلعالء من قيمة الوطنية – التي ال يرفضها اإلسالم ولكنه ينظمها مثل
أية ظاهرة إنسانية أخرى – عىل حساب االنتامء الديني األوسع ،وذلك ملصلحة
األنظمة التي حكمت بعد ذلك؛ قاد إىل إضعاف الكثري من املؤسسات الدينية
والسياسية التي كان هلا طابع مركزي يف تنظيم شؤون األمة ،وعىل رأسها األزهر
الرشيف.
483
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومع إمهال التعليم الديني ،وحتول اإلعالم إىل أداة تغريب وإفساد يف كثري من
دول العامل اإلسالمي؛ فإن الرابطة بناء عىل الدين ،ذابت لدى الغالبية العظمى من
أبناء املجتمعات املسلمة ،بل إن البعض يعترب حتمل املسلمني يف دولة ما ملشكالت
مسلمني يف دول وجمتمعات أخرى ،بمثابة عبئ.
كل ذلك ،بسبب عدم إدراك املسلمني للقرآن الكريم وما يدعو إليه يف هذا
الس َّنة والسرية النبويت َْي بالشكل الكايف ،بل ربام إن هناك
الصدد ،وعدم دراسة ُّ
مسلمني ،صاروا يأتون الدنيا وخيرجون منها من دون قراءة القرآن الكريم ولو مرة
واحدة.
وهي مشكلة جتد الكثري من الصعوبات ملعاجلتها يف ظل األحوال السياسية التي
تعيشها معظم الدول العربية واإلسالمية يف الوقت الراهن ،إال أنه يبقى األمل يف
برامج الرتبية الفردية ،والدور املسجدي كبداية سع ًيا ملعاجلة هذا اخللل الذي هدم
أوارص األمة أو كاد!
484
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
تسود عاملنا املعارص منذ الستينيات امليالدية املاضية؛ عرص الثورة الثقافية
واالنفتاح الفكري ،العديد من التيارات الفكرية التي متحورت حول اإلعالء من
قيمت َْي أساسيت َْي ،العقل واحلرية.
وطالت رياح هذه التيارات املقدسات واملس َّلامت كافة ،بام يف ذلك العقائد
الدينية ،واألخالق ،فيام أطلق عليه زجيمونت باومان وغريه من مفكري
عرص احلداثة " "Modernismوما بعد احلداثة " ،"Postmodernismبالسيولة
""fluidity؛ السيولة األخالقية ،والسيولة السياسية ،والسيولة االجتامعية ،وغري
ذلك من مفردات حياة اإلنسان وجماالهتا.
وجوهر هذه التيارات ،مبدأ التفكيك ،والذي انتقده بعض املفكرون العرب،
مثل الدكتور عبد العزيز محودة ،الذي كتب كتابان ًّ
مهمن يف هذا الصدد بعنوان:
املقعرة..
"املرايا املحدّ بة ..من البنيوية إىل التفكيك" ،ونرشه عام 1998م ،و"املرايا َّ
نحو نظرية نقدية عربية" ،ونرشه عام 2001م ،واهتمه البعض من املفكرين
العلامنيني العرب ،عىل إثرها بالعداء للحداثة!
ويرتبط التفكيك يف جوهره بدوره بمذهب الشك " ،"suspicionالذي ال يقبل
أية مدخوالت ال متر عىل مرشحات العقل اإلنساين ،بام يف ذلك العقائد والتعاليم
الدينية ،ويستند يف تفسريه وحكمه عىل األمور إىل التفسريات املادية التي تتعلق
485
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فقط بام يمكن أن تدركه احلواس البرشية ،سواء بشكل مبارش ،أو من خالل
وسائط تقنية.
وخصوصا يف عاملنا العريب ،تركز
ً املالحظ أن التيارات اإلحلادية والعلامنية،
َ ومن
املنزلة ،أو ما ُيط َلق
يف تطبيق مبدأ التفكيكية " "Decompositionهذا عىل الديانات َّ
عليه مسمى "الديانات الساموية" ،ونقصد هبا اإلسالم ،واملسيحية واليهودية.
ثمة توضيح مهم ،وهو أنه من الواجب ملعرفة حجم هذه الظاهرة ،أن يتم
وهنا َّ
االطالع عىل واقعها عىل مستوى العامل الغريب؛ حيث إننا سوف نجد نفس احلجم
من اهلجمة والتشكيك التي نعرفها عىل اإلسالم يف عاملنا العريب واإلسالمي ،تتم
هناك جتاه املسيحية ،وعىل وجه اخلصوص ،املذاهب التقليدية القديمة ،الكاثوليكية
واألرثوذكسية.
وحتى عندما حاول البعض املوائمة بني "ضغوط" عواصف هذه التيارات،
وبني إيامهنم الداخيل؛ تو َّلدت ظواهر عجيبة ،مثل "كنائس" عبدة الشيطان يف
الواليات املتحدة ،والتي تكشف – كنموذج – عن طبيعة اخللل احلاصل يف طرائق
تفكري الكثري من أتباع هذه النظريات والتيارات ،نتيجة اخللل احلاصل يف املنطق
الذي تستند إليه هذه األفكار نفسها.
رد فعلٍ متناسب معها؛ فكان
يف املقابل؛ فإنه ،وكمثل أية ظاهرة؛ فإنه يكون هلا ُّ
أبرز الظواهر التي جاءت كر ِّد فعلٍ إزائها ،التطرف والتشدد يف املواقف من جانب
املؤمنني واملتدينني من أتباع كل ديانة.
486
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذه ليست مقدمة مستفيضة تبتعد عن القضية أو املحور املهم الذي نحن
وخصوصا نقطة اخللل
ً بصدده يف هذا املوضع من احلديث؛ حيث يرتبط ذلك،
والفوىض يف هذه التيارات ،سواء يف املنطق أو يف املحتوى واألثر ،بمشكالت
كربى حاصلة يف فضائنا اإلسالمي.
وأول ما جتب اإلشارة إليه يف هذا الصدد ،هو أنه كان من املفرتض أن يكون
تأثرا بالكثري من اخلرافات التي احتوهتا هذه املدارس ،التي
املسلمون هم أقل األمم ً
ال تقف أفكارها حتى عىل أرضية منطقية عقلية سليمة ،بخالف ما يدعيه أصحاهبا
عن متجيدهم للعقل ومساراته ومتطلباته.
وهو أمر بدهيي يف ظل الكثري من األمور التي اختص هبا اهلل عز وجل دينه،
اإلسالم ،وعىل رأسها كتابه العزيز ،القرآن الكريم ،الذي يتميز عن غريه من
كل الكتب التي أنزهلا اهلل تعاىل ،أو حتى وضعها أصحاب الديانات والفلسفات
الوضعية ،بالكثري من السامت التي تؤهله ألن يكون أكرب مصدر لالطمئنان
للعقيدة لدى كل مسلم ،بحيث ال يكون يف األصل بحاجة إىل األخذ من أية كتب/
فلسفات /ثقافات ..إلخ ،أخرى.
أي من
فالقرآن الكريم ،حمفوظ بحفظ اهلل تعاىل له ،ومتسق مع ذاته ،ومل جيد ٍّ
العلامء امللحدين أو العلامنيني ،وعرب التاريخ ،أي تناقض.
التنوع الكبري يف حمتواها املوضوعي؛ إال أهنا كلها تأيت
كام أن نصوصه كلها مع ُّ
يف سياق واحد رئييس ،وهو إثبات عقيدة التوحيد ،وبأسلوب ال يمكن بحال معه
487
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
رش ،برغم تطور حمتواه املوضوعي ،وتنوعه بني املرحلة املَ ِّكية
أن يكون من وضع ب ٍ
واملرحلة املدنية من البعثة النبوية.
وذلك يف حد ذاته يطمئن املسلم إىل أنه كتاب اهلل تعاىل ،ومعجزته الباقية،
وبالتايل؛ يطمئن إىل عقيدته.
املنزلة ،أو موضوعة
كام أن القرآن الكريم من دون باقي الكتب األخرى َّ
لديانات وفلسفات أخرى برشية؛ كتاب شامل ،ويتضمن مناقشة ملئات القضايا
والظواهر التي يمكن أن يقف أمامها اإلنسان ،وجييب ،بوضوح تام ،عىل األسئلة
ُ
الك ِّل َّية الكربى التي حتكم حياة اإلنسان ،وسعيه فيها ،وتصوراته عنها ،وعن حياته
بعدها ،وعن الكون ،وعن ر ِّبه.
ومن بني أهم هذه األسئلة :ملاذا خلقنا ُ
اهلل تعاىل ،وماذا عىل اإلنسان ِف ْعله يف
الدنيا ،وملاذا خلق ُ
اهلل تعاىل ،الرش والشيطان واملعاناة ،وغري ذلك من األمور التي
َّ
شكل غياهبا يف الديانات والعقائد والفلسفات األخرى ،مشكالت ضخمة لدى
أتباعها ،قادهتم إىل اإلحلاد.
لكننا ،ولعوامل عديدة ،وجدنا تأثريات كبرية هلذه التيارات عىل املسلمني،
وخصوصا جيل الشباب.
ً
ومن بني أهم هذه العوامل ،اخللل احلاصل يف مناهج التعليم العام ،وتراجع
التعليم الديني حلساب التعليم املدين ،باإلضافة إىل الكثري من املشكالت التي
وقعت فيها احلركات اإلسالمية ،وأبرزها وأخطرها ،اخلالفات السياسية والفقهية،
488
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكي ال ُنست َ
َغرق يف هذه القضية التي نوقشت يف مواضع ش َّتى سابقة ،فإننا نقف
هنا عند مشكلة التنشئة ،واخلالفات ،وما قادت إليه ،وهي ُصلب موضع هذا احلديث؛
حيث تم حتويل الدين إىل أيديولوجية " ،"Ideologyبينام الفارق بينهام كبري للغاية.
فقد يبدو أن ظاهرة الدين ،هي أحد أوجه "األيديولوجية"؛ حيث تعني هذه
معنى قري ًبا بشكل ظاهري من تعريف الدين ،فهي تشري يف االصطالح إىل
األخرية ً
منظومة من األفكار التي تستقر يف وجدان املؤمنني هبا والذين يتبنوهنا ،وبالتايل؛
فهي حتكم تصوراهتم وسلوكهم يف احلياة.
ولكن هذا تفكري قارص؛ حيث الدين أمر أشمل وأوسع من ذلك بكثري؛ حيث
هو يتضمن منظومة كاملة من اإليامنيات التي ال تتعلق باجلوانب التطبيقية يف حياة
اإلنسان واملجتمعات.
ٍ
تصورات قيمية عن احلياة ،وقواعد فاأليديولوجية تقف عند حدود وضع
للتعامل وإدارة املجتمعات ،وفق منظومة تراتبية من القيم ،مثل "الليربالية" التي
489
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُتعيل من قيمة احلرية ،واالشرتاكية التي ُتعيل من قيمة املساواة ،عىل ما عاداها من
قيم ،بينام الدين بجانب هذه األمور ،وتنظيمه هلا ،فهو يتضمن عقيدة تتعلق باإلله
الذي يعبد ،وبفكرة اخلالق وطبيعته.
وهو اجلانب األهم يف الدين ،ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد َّ
ركز عليها،
باعتبار أن اإلسالم هم الدين اخلاتم ،وبالتايل؛ فإنه كان من الرضوري إزالة خمتلف
الشوائب التي طالت فكرة اإلله واخلالق ورب الكون يف الديانات ا ُمل َّنزلة السابقة
بسبب حتريفها ،أو بسبب قصور الرؤية يف الديانات الوضعية بطبيعة أن واضعيها
هم برش بكل ما فيهم من نقائص وعوارض.
وخصوصا انحراف احلركة اإلسالمية
ً إال أن ما أرشنا إليه من مشكالت،
– كظاهرة وال نقصد حركة بعينها أو ما شابه – عن دورها ورسالتها ،وحتوهلا
حول القاعدة
إىل انتامء سيايس ،بل وعقدي لدى أتباعها يف كثري من األحوالَّ ،
األساسية التي تنهض عليها احلركة اإلسالمية ،وهي الدين ،إىل أيديولوجية ،يف
ظل متسك كل حركة من هذه احلركات ،بتصورات وتفاسري خاصة هبا عن تعاليم
اإلسالم ،صنعت قوالب خمتلفة للدين بني هذه احلركة أو تلك.
وفاقم من هذه احلالة ،الصدامات التي وقعت بني الكثري من احلركات اإلسالمية
وحتول االنتامء إىل احلركة ،وبالتايل ،اإليامن بتصورها اخلاص عن الدين ِ
املعاصةَّ ،
وتعاليمه وأحكامه ،إىل وسيلة نجاة ،باعتبار أهنا انتامء ملجموع أكرب حيمي الفرد
املسلم ،ويقيه من عواقب انفراد خصومه "اإلسالميني" به!
490
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويتصل بذلك نقطة مهمة ،وهي أنه ،وحتت وطأة التغييب الذي حصل لفريضة
اجلهاد ،وعدم كفاية الرتاث اإلسالمي يف املجال السيايس ،ألسباب تتعلق بامللك
اجلربي الذي ساد الدولة اإلسالمية عرب تارخيها الطويل بعد مرحلة اخللفاء
الراشدين ،وكرسته القوى االستعامرية ،ثم األنظمة العلامنية التي حكمت ما بعد
االستعامر؛ نقول إنه حتت وطأة ذلك؛ كان اهتامم احلركة اإلسالمية هبا َت ْي القضيت َْي
عىل حساب أمور أخرى.
وهو أمر خيالف جوهر الدين ذاته؛ الذي هو جمموعة شاملة ومتوازنة من
املصدر ْين
َ املجاالت التي شملتها التعاليم واألوامر والنواهي التي جاءت يف
والس َّنة النبوية الرشيفة.
األساسي ْي للترشيع ،القرآن الكريم ُّ
َّ
مرورا غري ٍ
كاف حول قضايا العقيدة ً فعىل سبيل املثال؛ نجد يف املناهج الرتبوية
والوحدة املوضوعية للقرآن الكريم التي ضمنت وحدة هذا الدين ،والذي يضمن
بدوره وحدة األمة ،والذي هو من أهم ما دعا إليه القرآن الكريم من أمور ،وشدد
عىل ِعظيم خمالفته .يقول تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
[سورة "األنعام" -من اآلية ،]159وحيفظ للمسلمني وجودهم وبقائهم
ﮂ﴾ ُ
وكرامتهم بني احلضارات واألمم األخرى .يقول عز وجل﴿ :ﭔ ﭕ ﭖ
[سورة "األنفال" -من اآلية .]46
ﭗ ﭘﭙ ﴾ ُ
مطلوب يف واقع األمر ،ولكن مع رضورة
ٌ تركيزا عمي ًقا –
ً يف مقابل ذلك ،نجد
موازنته بمناهج أخرى بالشكل الذي حيفظه من االنحراف وطمس غريه من
األمور املهمة كام تقدَّ م – عىل السياسة واألدوار السياسية واالجتامعية التي تقوم
491
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
492
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
املجموع املسلم ،أو الصف احلركي ،أو فيام خيص املناهج وآليات العمل والتنشئة
داخل املحاضن الرتبوية احلركية.
وهذه القضية ليست من نافل القول ،أو الرتف؛ حيث ربام فيها مصري الدعوة
والصحوة اإلسالمية بالكامل.
493
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مرت بالرسول
كلنا تقري ًبا نعلم عن املوقف الذي ورد يف صحيح البخاري عندما َّ
ليهودي ،فقال عليه الصالة والسالم:
ٍّ الكريم ﷺ ،جناز ٌة ،فقام هلا ،فقيل له ،إهنا
َ
"أ َل ْي َس ْت ً
نفسا؟!".
إال أنه ما ال يعرفه الكثريون ،أن هذه العبارة ،وهذا املوقف ،واللذان قد يبدوا
أسسا
عىل قدر من البساطة ،عىل األقل عىل أكرب قدر من اإلجياز الزمني؛ إنام قد َّ
ملدرسة دعوية وإنسانية مكتملة األركان ،تفتقدها الكثري من أوساط املسلمني،
والسيام يف املجال احلركي.
ولعل أول الدروس العظيمة التي يمكن اخلروج هبا من هذا املوقف النبوي
العظيم ،وهذه العبارة النبوية الوجيزة ،هو أن اهلدف األسايس من نزول اإلسالم،
دين اهلل سبحانه وتعاىل ،إنام هو إنقاذ البرشية من أدراهنا.
وسواء أكانت هذه األدران ،من لدن البرش ،وسلوكهم ،أو يف عقائدهم الفاسدة،
أو غري ذلك؛ املهم ،أن هذا املوقف ،واحلزن الذي أصاب الرسول الكريم ﷺ
خالله ،يقول بأن اإلسالم إنام نزل إلنقاذ البرش من الضالل ،ومن سوء عاقبة عدم
اإليامن باهلل عز وجل بالصورة التي أرادها اخلالق من عباده.
وهذا يف رشيعتنا؛ حيث إن أول املقاصد التي نزلت الرشيعة اإلسالمية حلفظها،
هي حفظ النفس ،وأسبق يف الرتتيب من حفظ الدين؛ ألنه – باملنطق البسيط – من
دين وال إيامن ،وال أي يشء آخر.
حرة؛ لن يكون هناك ٌ
دون نفس حيةَّ ،
494
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فيربز هذا املوقف كيف أن النفس اإلنسانية ثمينة ،وال جيوز إطال ًقا
إحلاق الرضر هبا ،بالقتل ،أو بغري ذلك ،بغري وجه حق حمدَّ د ٍ
بدقة شديدة يف رشيعتنا؛
ألن كل ٍ
نفس إنسانية ،هي جمتمع دعوة ،ولو كان فر ًدا واحدً ا.
ٍ
إنسان إىل حقيقة ٍ
إنسانية ،أي أن يتم هداية وهذا يف جوهره ،يساوي إسالم ٍ
نفس
التوحيد ،وقيامه – بالتايل – بإفراد اهلل سبحانه بالعبادة ،وحده ال رشيك له ،وإقامة
عقيدة التوحيد ورشيعة اإلسالم يف األرض ،وهذا أمر عظيم ،بل هو أساس خلق
الثق َل ْي والكون يف األصل ،وكل ذلك بدهيي ،وليس بحاجة إىل إثبات.
أمر عىل أكرب جانب من األمهية ذاب
يف هذا املوقف العظيم كذلك ،يبدو لنا ٌ
لألسف الشديد يف ظالل سوداء نتيجة املامرسات التي يقوم هبا بعض ُ
اجل َّهال
باسم الدين ،وباسم الدعوة ،وباسم اجلهاد ،ونتيجة ملرشوع ضخم صار له مئات
األعوام ،يثابر عليه خصوم الدين واألمة ،من أجل تشوهيه ،وإخفاء اجلوانب
اإلنسانية واحلضارية فيه ،هذا األمر يتلخص يف آية قرآنية ،يقول فيها اهلل عز وجل:
﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ ُ
[سورة "األنبياء" -اآلية .]107
ً
رحيم كام وصفه فهذا املوقف يظ ِه ُر لنا كيف كان النبي ﷺ كان فع ً
ال رؤو ًفا
نبي الرمحة حقيق ًة ال قو ً
ال أو ادعا ًء. القرآن الكريم ،وكيف أنه كان َّ
فهو "عليه الصالة والسالم" ،بالرغم من كل ما فعله اليهود فيه ،وإيذائهم له
وللمسلمني ،وتآمرهم مع املرشكني وأعداء الدين – بالرغم من أهنم أتباع ٍ
دين
ساموي – مل يتشمت يف اليهودي ألنه مات عىل ُ
الك ْفر ،وسوف َّ
يعذب بذنوبه التي
كان من بينها – أي هذه الذنوب – إيذاء النبي "عليه الصالة والسالم" نفسه ،وإنام
495
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وأبسط منطق يرد عىل هؤالء وممارساهتم؛ أن نقارن بني موقف الرسول
الكريمﷺ من ٍ
نفس أفلتت من دعوته إىل دين اهلل ،ومن قيام هؤالء بقتل غري
املسلمني بحجة حتقيق "النقاء الديني" يف املناطق التي سيطروا عليها ،أو "ختويف
496
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أعداء اهلل تعاىل" ،أو "معاقبة هؤالء عىل كفرهم" ،وكل ذلك أبطل الرسول "عليه
الصالة والسالم" أية مزاعم عن أنه من اإلسالم ،بموقف بسيط ومجلة وجيزة!
كام أن القرآن الكريم فيه من اآليات الكثري التي تقول بأن حساب :الظاملني/
الكافرين /الفاسقني ،وغري ذلك من الفئات ،إنام هو عىل اهلل تعاىل؛ ال عىل اإلنسان،
[سورة
مهام كان ،ومن ذلك قوله تعاىل ﴿ :ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ُ
"الشعراء" -اآلية ،]113ويقول عز وجل ً
أيضا ﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ
[سورة "الغاشية"].
ﯹﯺ ﴾ ُ
نحو إعادة النظر يف كيفية تناول السيرة النبوية
يف حقيقة األمر؛ فإن واجب الوقت يف هذه املرحلة ،هو إبراز اجلانب اإلنساين
العظيم يف اإلسالم ،وكيف أن هدف نزول الرسالة اخلامتة ،إنام هو إنقاذ أرواح
الناس ،كل الناس ،من العقاب الدنيوي واألخروي ،وليس ترسيع إرساهلم إىل
خالقهم من قبل أن يبلوا أخبارهم ،وأخبار عقيدهتم ،إذا ما علموا من الكتاب
شيئًا ،أو وصلهم عن اإلسالم أية كلمة أو عبارة.
األمر اآلخر؛ هو رضورة العمل عىل إعادة تأهيل املناهج الرتبوية باملزيد من
التوسع يف دراسة السرية النبوية يف غري أمور الغزوات واجلهاد التي تركز عليها
ُّ
الكتابات الرتبوية والفكرية التي تتناول السرية النبوية.
فحياة الرسول الكريم ﷺ ،بلغت 63عا ًما أو نحو ذلك ،كلها ،وليس السنوات
الثالث والعرشين التي هي سنون البعثة فحسب؛ كلها دروس مستفادة ،حتى ما
497
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كان منها قبل البعثة ،من دراسة السلوك القويم ،وكيفية التعامل مع رضبات الدنيا
ريا ،وحتى كيفية الوصول إىل اهلل عز وجل بواسطة
املتمثلة يف اليتم والعمل صغ ً
والتأمل يف خلقه سبحانه ،وهو ما جاء القرآن الكريم بعد ذلك مصدِّ قا عليه.
ُّ العقل
عام ونصف العام ،هي إمجايل
فال يمكن اختزال السرية النبوية فيام جمموعه ٌ
فرتات الغزوات والرسايا واجلهاد بالسالح.
األساسي ْي يف ديننا؛ حيث حياته
َّ مصدر ْي الترشيع
َ فحياته ﷺ هي واحدة من
هي جزء من ُس َّنته "عليه الصالة والسالم" ،وبالتايل؛ فإن االجتزاء فيها خطأ مثلام
ص النبوي؛ حيث إن االجتزاء يقود إىل أحكا ٍم
ص القرآين أو ال َّن ِّ
هو خطأ يف ال َّن ِّ
رشعية خاطئة ٍ
وفقه باطل.
حممدً ا "عليه الصالة
نعرف املسلمني وغري املسلمني ،أن َّ إننا بحاجة إىل أن ِّ
والسالم" مل حيارب اليهود – مث ً
ال -إال ملا خانوا العهد وتآمروا عليه وعىل دولة
اإلسالم الوليدة يف املدينة املنورة ،ولكنه يف األصل؛ ُب ِع َث باحلق هلداية هؤالء
وإنقاذهم .هذا قائم ومطلوب وهذا قائم ومطلوب ،وليس جان ًبا منه فحسب،
وإال ُك َّنا مثل أهل الكتاب؛ نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ حيث الكفر ال
يعني اجلحود فحسب ،وإنام االنرصاف والنكران كذلك!
498
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
499
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فلسفات أفالطون وسقراط ،أو – كام يف العرص احلديث – ثقافات الرشق القديمة،
وفلسفات "اليوجا" ،وغريها.
الص َعة – ح ِّيزَ ها لدى جيل كامل
ولألسف أخذت هذه "املوضة" – أو َّ ْ
من شباب احلركة اإلسالمية ،والشباب املتد ِّين بشكل عام ،يف ظل حزمة من
اإلسالمي ْي ،تفرض
َّ املشكالت التي جيب أن نعرتف هبا ،يف اخلطاب والفكر
البحث عن معاجلات هلا.
ومن بني هذه املشكالت ،التوقف عند الرتاث كمصدر إهلام ،مع وقوف الرتاث
يف مفاهيمه عند مراحل متقادمة من احلضارة اإلنسانية .فعىل أبسط تقدير – وهو
مثال مهم – فإن مفهوم العلم يف كتب الرتاث والفكر اإلسالمي القديمة ،خمتلف
متا ًما عن مفهوم العلم يف عرصنا احلديث.
"ح َّراس
ومع التعنت العجيب وغري املفهوم يف هذه املنطقة من جانب بعض ُ
مضطرا
ًّ العقيدة" ،والذين آذوها بحامستهم أو بجهالتهم ،أ ًّيا كان؛ فإن املسلم كان
واقعا من حوله من
للبحث عن البديل الذي يروى ظمأه ،ويتفق مع ما يراه ً
مفردات.
ونفس اليشء ينطبق عىل مفاهيم مهمة وحاكمة يف عرصنا احلايل ،مثل املدينية،
وما حتمله من مفردات تفرض موازنات دقيقة للغاية ،بني ما تفرضه علينا أحكام
رشيعتنا ،وبني ما تفرضه علينا قواعد العمران ،والسيام قاعدة التطور ،وهي قواعد
وسنَن من لدن اهللِ تعاىل ،وهو خالقها ،واضعها فينا ،متا ًما كام وضع أحكام الرشيعة
ُ
منهاجا.
ً لنا
500
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وباعث تناول هذا املوضوع ،هو الكثري من الشطط الذي نراه يف بعض
املدارس احلديثة يف مسألة كيفية التعامل مع أحكام الرشيعة ،ومسألة قيمة العقل
اإلنساين.
وبداي ًة؛ فإنه ال خالف عىل مركزية وقيمة العقل ،فهو – عىل أبسط تقدير – أحد
يتعمق – كام
مناطا التكليف مع احلرية ،وبالتايل؛ فإنه ليس من نافل القول ،واإليامن َّ
ورد يف القرآن الكريم ،بإعامل العقل فيام خلق ُ
اهلل تعاىل من حولنا ،ويف أدلة وجود
اهللِ تعاىل ذاته سبحانه.
وكذلك العقل هو االداة التي من خالهلا نتلقى العلم ،ونقوم بإعامل أحكام
الرشيعة اإلسالمية يف حياتنا ،وندير حياتنا ذاهتا وفق التصور الذي لدينا يف
اإلسالم.
ولكن هناك حديث أخذ يتزايد يف اآلونة األخرية لتمرير منهج ُيعيل من العقل
عىل الرشيعة ذاهتا ،وهو منهج قريب من منهج املعتزلة يف التعامل مع الرشيعة
وأحكامها ،وإعالؤهم العقل عليها ،ويربر نفسه بشعارات َّبراقة ،أو أهداف هلا
رضورة فع ً
ال ،مثل جتديد اخلطاب الديني.
ال إىل جتديد اخلطاب الديني ،ولكنه التجديد املوضوعي الذيفنحن بحاجة فع ً
يستجيب ملتطلبات العرص ،وجييب عىل األسئلة واإلشكاالت ا ُملستَجدَّ ة ،ويعمل
عىل حتديث املفاهيم واألفكار؛ ال أن يكون أداة هدم للفكر اإلسالمي نفسه وبعض
مدارسه ،استجابة لضغوط غربية ،أو لرصاعات سياسية!
501
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أمر ْين .بني ما يقول أن نشري إىل أن هناك فار ًقا كب ً
ريا للغاية بني َ وهنا البد من ْ
به املعتزلة وفرق إسالمية أخرى يف هذه النقطة؛ حيث هذا مرفوض متا ًما ،فالعقل
البرشي قارص ،والرشيعة وأحكامها من لدن حكيم عليم ،وحكمته بالغة.
األمر اآلخر ،وهو مقبول ،فهو يتعلق بكيفية إسقاط احلكم الرشعي عىل الواقع
جلهت َْي .األوىل ،هي هل هذا املوقف أو احلالة مطابق ملا جيب تطبيق احلكم الرشعي
عليه أم ال ،والثانية ،هو كيفية تطبيق احلكم الرشعي عىل هذه احلالة؛ حيث هناك
أمور كثرية يف الرشيعة نفسها ،وضوابط أخرى اجتهد فيها الرعيل األول من
ٌ
املسلمني ،وأمههم عمر بن اخلطاب "ريض ُ
اهلل عنه" ،يف هذا الصدد ،وهو ما نعرفه
باسم "الفقه".
ومن بني أهم هذه الضوابط ،العلم باحلكم من عدمه ،وتوافر اإلرادة من عدمها،
واالضطرار ،ومثل الظرفية واملصلحة واملوازنة بني املنافع واملضار ،ومستوى
الرضر يف حالة املوازنة بني حاالت فيها كلها رضر ،وغري ذلك.
هذا مقبول ،وموجود ،وفيه أكمل صور إعامل العقل وأكثرها رشادة؛ ففيه
توظيف قدراته ،ولكن مع االعرتاف بقصوره ،وأنه يف النهاية جمرد أداة فهم
وتطبيق ،وتال ًيا للرشيعة وليس يسبقها ،أو أداة تقييم أو تقويم هلا.
اإلسالمي ْي؛ نجده يف أرقى مدارسنا الفكرية
َّ وعرب تاريخ الفكر والفقه
والفقهية ،كام عند اإلمام الشافعي ،واألئمة العز بن عبد السالم الشوكاين وابن
كتب عظيمة وق ِّيمة يف هذا املجال.
العريب والشاطبي ،وهلم ٌ
502
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
......
إن هذه القضايا كلها ،تطرح العديد من الواجبات عىل الرتبويني والعلامء
العاملني يف حقول الدعوة والعمل اإلسالمي املختلفة ،أمهها السعي إىل حتديث
طرائق تناول القضايا ا ُملست ََجدّ ة ،ومواجهة حتدي العلم ،كام واجهه األقدمون يف
مدرسة حداثية لألسف نعجز عنها اآلن؛ حيث كان غالب علامء املسلمني ،مثل
503
مفاهيم حاكمة في فضائنا
الفصل الثاني
اإلسالمي ..تصحيح وتوضيح!
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ابن سينا والبريوين واإلدرييس ،يف األصل ،هم قضاة رشعيني وفقهاء!
إسالميا ألفكار وأطروحات
ًّ وهنا؛ فإننا ينبغي أن نجد للجيل اجلديد بدي ً
ال
نيتشه وباومان وبورديو.
وبالفعل؛ هناك حماوالت مهمة للغاية يف هذا املجال ،لكنها توقفت ألسباب
غري معلومة ،مثلام حاولت الدكتور هبة رؤوف عزت والدكتور جاسم سلطان،
يف سلسلة مهمة كانت تصدر عن الشبكة العربية لألبحاث والنرش ،بعنوان "نحو
وحمتوى وخطا ًبا ،ما هو مطلوب بالضبط
ً عمران جديد"؛ حيث كانت تتضمن لغ ًة
اآلن ،بام يف ذلك حتى أحكا ًما فقهية يف أمو ٍر واقعية قائمة ،وليس َّ
جمرد حتدي ًثا يف
املجال الفكري.
القائم ْي لدى البعض بشأن
َ األهم من ذلك ،هو فك االشتباك والتشويش
العالقة بني العقل والرشيعة اإلسالمية ،وفق املنظور السابق؛ حيث العقل هو أداة
ً
صاحلا من األحكام الرشعية؛ فهم وتطبيق ،وليس أداة تقويم وتقييم؛ تنبذ ما ال تراه
وتنزه عن النقص.
حاشا هلل تعاىل ،وتقدست حكمتهَّ ،
فنعمل عىل حتديد الرتاتبية بينهام ،وحدود تعامل العقل مع النص الرشعي ،وما
هو مسموح وما هو غري مسموح يف هذا اإلطار.
املهم ،أن هناك جهدً ا ينبغي أن يتم بذله ،وإال فإننا سوف نرتك جي ً
ال حال ًيا،
ال مقب ً
ال هنب ًة هلذه املدارس الدخيلة علينا ،وتتناقض يف قواعدها وأسسها مع وجي ً
رشيعتنا احلنيفة.
504
الفصل الثالث
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
" ..يعرف العامل يف وقتنا الراهن تنامي موجة كبرية من امليل إىل التخيل عن فكرة
الدين ،وتراجع الناس عن التد ُّين.
وال تقف هذه الظاهرة ،كام تناولنا يف مواضع سابقة من احلديث ،عند جمتمعات
بعينها؛ حيث باتت تتشارك فيها املجتمعات العربية واملسلمة ،مع املجتمعات
الغربية.
وهناك أكثر من عامل النتشار هذه الظاهرة ،يمكن تقسيمها إىل عوامل خاضة
املنزلة ،اإلسالم واملسيحية عىل وجه
للمؤسسات واألطراف التي متثل الديانات َّ
اخلصوص ،وعوامل عامة من واقع اإلنسانية الراهن.
ويف العوامل اخلاصة باملؤسسات الدينية ،اإلسالمية واملسيحية ،سوف نجد أن
أمهها ،االنحرافات املنهجية التي وقعت فيها بعض اجلامعات اإلسالمية الصحوية،
وممارسات تنظيامت العنف املسلح التي منحت نفسها صفة "إسالمية" ،والفساد
األخالقي داخل الكنيسة الكاثوليكية ،التي تسيطر عىل أكرب نسبة أتباع يف العامل.
َّأما يف جمال العوامل املوضوعية التي تتعلق بواقع اإلنسانية العام؛ فإن هناك
التوحش الكبري يف عامل تسوده الرأساملية؛ حيث
ُّ احلروب والنزاعات ،وكذلك
املجاعات ترضب الكثري من مناطق العامل؛ بينام يرمي آخرون يف الغرب الرأساميل،
ماليني األطنان من احلبوب واأللبان واألغذية الصاحلة ،ألجل احلفاظ عىل ثبات
أسعارها.
507
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولقد نشأت يف هذا اإلطار العديد من األفكار التي قادت أصحاهبا إىل التخيل
عن فكرة االتزام بالدين ،حتى مع اإليامن بحقيقة وجود ٍ
إله هلذا الكون؛ خلقه
ً
اعرتاضا عىل ما جيدونه من أوضاع معاناة ،يف ظل ثقافة علامنية سائدة، ويد ِّبر أمره،
أو قصور يف الفهم العقيل حلكمة اخلالق عز وجل مما حيدث عىل األرض"..
508
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف سياق االرتكاسات التي رافقت الثورات املضادة يف مرحلة ما بعد الربيع
عرف بتيارات اإلسالم السيايس ،والتي – أي
العريب ،وما رافقها من محالت عىل ما ُي َ
هذه احلمالت – طالت األصل الفكري والقيمي الذي تنطلق منه هذه احلركات،
وهو املرشوع احلضاري اإلسالمي ،والدين ذاته؛ وقعت العديد من املشكالت
املفاهيمية والبنوية يف نفوس األجيال اجلديدة الناشئة ،والتي ُتعترب – بالفعل –
جريمة عرصها ،بسبب حالة التجهيل ُ
واأل ِّمية الفكرية والثقافية التي وصلت إليها.
وساهم يف هذه احلالة ،جمموعة من املشكالت التي طرأت داخل احلركة
اإلسالمية ذاهتا ،ونزوع تيارات ورشائح عريضة منها إىل العنف ،وممارسة القتل
وأعامل اإلرهاب التي ال يقبلها اإلسالم ،باسم الدين ،وسواء أكانوا مدفوعني
بباعث تأثريات ما جرى من جرائم يف حق احلركات اإلسالمية يف بلداهنا ،أو
تم تأسيسهم من األصل من جانب خصوم املرشوع اإلسالمي من األنظمة
واحلكومات االستعامرية؛ فإن ذلك أدى إىل تكريس هذه املشكالت املفاهيمية
والبنوية.
ومن بني أبرز هذه املشكالت قضية اإلحلاد ،بدرجاهتا املختلفة ،والتي تبدأ برفض
فكرة التدين ومظاهره ،بد ًءا بخلع احلجاب من جانب فئات من فتيات األجيال
اجلديدة ،والتدرج حتى الوصول إىل ترك العبادات قناع ًة بـ"عدم جدواها".
509
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وتتدرج تلك الظواهر لتصل إىل مرحلة الشك لدى البعض ،وتعزز ذلك من
خالل جمموعة من النقاشات غري الرشيدة عىل مواقع التواصل االجتامعي ،وصو ً
ال
إىل تبني فكرة عدم وجود إله من األصل ،واإليامن بالنظريات املادية املختلفة التي
وضعت خللق الكون وصريورته ،بالرغم من أن أبسط األدلة العقلية تقول بأنه ال
يمكن للكون أن ُي َلق ويسري عىل هذا النسق الدقيق من دون خالق واحد أعظم
هييمن عليه ويقوم عىل أموره.
ويف حقيقة األمر ،وبعيدً ا عن أي شقٍّ سيايس يف هذه املشكلة؛ فإنه من املستغرب
من وجهة نظر علم االجتامع ،ومنه علم األنثروبولوجي الثقايف ،أن يصل اإلنسان
إىل هذه الدرجة من فقدان فكرة اإليامن وجود خالق أعظم مد ِّب ٌر هلذا الكون،
بالرغم من كل ما وصل إليه اإلنسان من علم وتقدم يف املجاالت املعرفية املختلفة،
والرتاكم احلضاري.
ومن املعروف – وهي حقيقة قرآنية – أنه كلام زاد تدبر اإلنسان يف الكون
والوجود؛ كلام قاده ذلك إىل إدراك احلقائق اإليامنية اخلاصة هبذا الكون والوجود.
فيقول ُ
اهلل تعاىل ،يف ُسورة َ
"احلج" ﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﴾ ،ويف ُسورة "العنكبوت" ،يقول عز وجل﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﴾ ،ويف ُسورة " ُف ِّص َل ْت"﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾.
510
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهي بدهيية عقلية أكدها القرآن الكريم كذلك ،وهي أنه لو أن هذا الكون من
ورب ٍ
وإله واحد فقط ،ال رشيك له يف ملكوته؛ لكان الكون قد زال رب وإلهٍّ ،دون ٍّ
واهنار ،مع استقالل كل من األرباب واآلهلة بام خلقوا ،سبحانه وتعاىل َّ
عم يصفون.
ففي ُسورة "املؤمنون" ،يقول اهلل تعاىل ﴿ :ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ﴾.
ُّ
والتحض عن وحتى يف عصور التوحش والبدائية األوىل ،ومع ضياع اإليامن
بعض املجموعات البرشية ،بعد انسياح نسل آدم (عليه السالم) يف األرض؛ كانت
فكرة اإلله الواحد هلذا الكون مرافقة ً
دائم هلم.
وحتى يف احلاالت التي تم تصوير فيها هذا اإلله يف صورة مادية ،مثل "الطوطم"
أو األصنام لدى الشعوب البدائية ،أو يف صورة الشمس وغريها من املوجودات
الكونية من حولنا ،كام يف احلضارات املرصية واليونانية القديمة قبل ظهور اليهودية
واملسيحية؛ فإهنا يف النهاية تعرب عن أن فكرة اإلله الواحد املد ِّبر هلذا الكون؛ راسخة
يف وجدان اإلنسان ،وفق منهج عقيل بسيط يقوم عىل أساس فكرة أن هذا النظام
الدقيق للكون ال يمكنه أبدً ا أن يتسق مع نفسه هبذه الصورة ،إال بوجود قوة مهيمنة
عليه.
الشطر الثاين من القضية التي نحن بصددها يف هذا املوضع ،هي أمهية وقيمة
الدين يف حياة اإلنسان ،سواء عىل املستوى الفردي أو اجلامعات.
511
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فإن الدين هو سياق ناظم حلياة اإلنسان ،وبالتايل؛ فإن غيابه يعني
الفوىض ،ولذلك نجد فكرة الدين هبذا املعنى؛ حارضة عند خمتلف الشعوب ،مهام
كان طبيعة هذا الدين التي تدين به هذه الشعوب ،سواء أكانت ديانات ساموية إهلية
املصدر ،أو ديانات وضعية.
وهذا حيقق لإلنسان حالة من األمان النفيس ،كام أنه حيقق حالة من األمن
واالستقرار لدى اجلامعات ،فلو غابت فكرة وجود اإلله اخلالق القادر ،وما يتصل
به مما اختص به ذات من أمور ،مثل الثواب والعقاب ،يف الدنيا واآلخرة؛ لسادت
الفوىض يف األرض ،فساد سفك الدماء والرسقة ،وتتحول األمور من االنتظام
إىل "رشيعة الغاب"؛ حيث الغلبة لألقوى ،وتسود فكرة استعباد الضعيف؛ حيث
يكون احلفاظ عىل حياته ملجرد فقط احتياج القوي إىل األدوار التي يامرسها الضعفاء
يف خدمة األقوياء.
وأوروبا العصور الظالمية؛ كانت أبلغ تعبري عن ذلك؛ حيث سادت منظومة
السادة والعبيد هذه ،بسبب عدم متسك املجتمعات بالدين ،وبمفاهيمه األساسية
خوة اإلنسانية ،والتكامل بني البرش ،وما إىل ذلك. يف صدد مبدأ ُ
األ َّ
512
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
كام أن الدين حيقق لإلنسان الكثري من األمور من أمهها حتريره من عبودية كل
يشء غري اهلل تعاىل ،أو اإلله الذي يعبد ،وبالتايل فهو حيقق لديه عزة النفس والتقدير
أمام الذات وأمام اآلخرين ،وهي من أهم وأرقى االحتياجات اإلنسانية ،وفق كل
علامء االجتامع والنفس.
وبالتايل؛ فإن فكرة اإلحلاد ،سواء فيام خيص قضية وجود اخلالق ،أو رضورة
الدين يف حياة اإلنسان ،تتناىف مع الفطرة اإلنسانية السليمة ،ومع عقل اإلنسان،
ودليلنا يف ذلك – كام تقدَّ م – أن بعض الشعوب التي ال تعرف الرساالت التي
أنزهلا اهلل تعاىل" ،اخرتعت" لنفسها أديان وبعضها وصل حلقيقة التوحيد.
513
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ما وضع اهلل تعاىل قوانني العمران ،بأشكال العمران املختلفة ،سواء أكان الكون
الفسيح ،أو املجتمعات اإلنسانية ،أو أي شكل آخر ،يف يد البرش ،أو يف يد أي
خملوق آخر ،ألنه أراد انتظام الكون ،واستمرار التوازن الدقيق الذي وضع سبحانه
عليه خلقه وملكوته ،بأية صورة للخلق ،إىل أن تشاء حكمته ،وينهي الدنيا.
حتكم املخلوق بنقائصه وعوارضه املختلفة. فكانت قوانينه الربانية خارج نطاق ُّ
ويستوى يف ذلك قوانني الفيزياء والكيمياء والفلك ،وما اتصل من قوانني املادة،
وكذلك القوانني التي حتكم البرش وصريورات حياهتم ،وتفاعالهتم املختلفة فيام
بينهم ،بمختلف مستوى هذه التفاعالت ومستوياهتا ،بد ًءا باإلنسان ونفسه ،وحتى
مستوى تفاعل وتدافع املجتمعات واألمم.
لذلك فإن هلل تعاىل قوانني فرض حتميتها تعمل عىل ضبط أي ميل يظهر يمس
القائم ْي.
َ باالستقرار والتوازن
يف هذا اإلطار ،فإن هناك الكثري من املالحظات ذات الطابع املوضوعي التي يمكن
أخذها عىل بعض املواقف التي تنقلها لنا وسائل اإلعالم والتواصل االجتامعي ،ويف
جمال الندوات واللقاءات املبارشة التي يعقدها الكثري من الشخصيات املحسوبة
عىل التيارات الليربالية والعلامنية يف عاملنا العريب واإلسالمي ،يف شأن قضايا متكني
الدين عىل املستوى السلوكي واألخالقي يف جمتمعاتنا العربية واملسلمة.
514
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
515
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
516
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهناك جانب آخر من الشطط الذي حيدث يف أفكار وتناوالت هؤالء للدين
ومرتكزاته ،والسيام فيام يتعلق بالنواحي األخالقية والقيود التي يفرضها الدين
ً
حفظا ألمور عدة تنتمي إىل القوانني واحلتميات التي عىل السلوكيات البرشية
وضعها اهلل تعاىل يف العمران البرشي لضامن صريوراته واستمراره إىل أن يشاء
اخلالق سبحانه.
ويتعلق ذلك الشطط بنقطة االندفاع إىل النقيض املؤذي كام نقول ،فبعض الذين
يقفون ضد تقييد الدين حلرية اجلسد مث ً
ال؛ يدعون إىل اإلباحية الرصفة ،وهي حالة
– ككل ما شاءته حكمة اهلل تعاىل من قوانني يف واقع األمر – تقود إىل كوارث.
فام منع اهلل تعاىل شيئًا فيه منفعة ،وما دعا ليشء ،إال وفيه اخلري .هذه حقائق
أثبتتها القوانني العمرانية املختلفة ،قبل أن تكون عقيدة بالنسبة لنا كمسلمني.
فحرية اجلسد ،تقود إىل انحالل خلقي يؤدي بدوره إىل أمراض مستعصية ،وهو
أمر واضح حتى يف املجتمعات الغربية املتقدمة يف املجال الطبي.
ٌ
كام أن أول املترضرين من دعوات حترير املرأة بشكل عام ،بام يف ذلك حرية
ح َلة شعارات" :املرأة القوية"،
امللبس واحلياة؛ ُهن السيدات "الفيمينيست" من َ َ
واملرأة املستقلة" ،و"املرأة العارية"؛ حيث إن هذه الفئة – واملرأة من املعروف
بشكل موضوعي أهنا من الفئات األضعف يف املجتمعات اإلنسانية ،وهو اعرتاف
يتعرض ٍ
ملآس حقيقية لو معتمد يف تقارير املنظامت الدولية – سوف تكون أول من َّ
اختفى الوازع األخالقي املبني عىل الدين من املجتمعات.
517
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
518
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
شغلت ،ومل تزل ،الكثري من الدوائر السياسية واإلعالمية املعنية بشئون احلركة
اإلسالمية ،سواء يف العامل العريب واإلسالمي ،أو عىل مستوى العامل الغريب ،الذي
ما فتيء يثري الكثري من الغبار والتشويش حول قيمنا اإلسالمية ،وقيم املرشوع
احلضاري النهضوي الذي حتمله احلركات اإلسالمية الصحوية؛ شغلت هذه
األوساط بالرتويج لقضية "التطرف عند املسلمني" ،باعتباره أحد "األعداء
األلداء" للحضارة اإلنسانية وصريوراهتا.
وبالرغم من أن هناك الكثري من املغالطات العمرانية والتارخيية يف هذا االهتام
الذي مل يتم تروجيه إال للتشويش عىل املرشوع ،وعرقلته؛ إال أن فيه الكثري من
اجلوانب التي تدخل عىل الكثريين يف عاملنا العريب واإلسالمي ،يف ظل انتشار
حالة من التجهيل واألمية والتضليل املتعمدة من جانب أنظمة الفساد واالستبداد
احلاكمة ،من أجل ضامن استمرارها يف حكم شعوهبا.
وهو اهلدف الذي يف سبيله يمكن هلا أن تتحالف مع الشيطان ألجله ،وبالفعل،
فقد حتالفت مع املرشوع الغريب الصهيوين ،منذ سقوط دولة اخلالفة يف العرشينيات
بخطى حثيثة
ً املاضية ،يف حماولة فاشلة إلجهاض املرشوع اإلسالمي وهو يتقدم
لتحقيق أستاذية العامل ،ونرش نور اإلسالم ومتكينه يف ربوع األرض ،كام شاءت
إرادة اهلل عز وجل ،وكام استخلف بني آدم يف هذه األرض ،ألجل ذلك.
519
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
520
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هو أهنم هم أنفسهم بمواقفهم هذه من التيار اإلسالمي – أ ًّيا كان طيفه الفكري أو
السيايس أو املجتمعي – إنام يامرسون ذات خطيئة التطرف التي يتهمون هبا الغري.
أما األمر األول؛ فإن لكل يشء طر َف ْي ،وبالتايل فإن التطرف بمعنى التشدد،
يقابله تطر ًفا آخر ،وهو التفريط ،فالتطرف ال يقرتن بالتشدد فحسب؛ وإنام
بمصطلح آخر ،وهو املغاالة ،أي أخذ األمر بأكرب من قدره ،بام ال يستقيم معه
األمر ،ويتجاوز مستوى الوسطية املقبول يف أي أمر من األمور.
إذن ،التطرف مغاالة ،وقد يكون مغاالة يف التشدد ،وقد يكون مغاالة يف
التفريط ،وهو اجلانب الذي يتجاوز عنه العلامنيون والليرباليون ودعاة التحرر من
ضوابط وقواعد الدين التي هي ضوابط وقواعد الفطرة اإلنسانية السليمة.
وهذا املوقف مفهوم من جانب دعاة التغريب والليرباليون والعلامنيون يف
جمتمعاتنا العربية واإلسالمية ،فهم ال يرفضون التطرف بمعنى التشدد واملغاالة فيه
بشكل ما بقدر ما هم يرفضون التد ُّين.
وهو ما يقودنا إىل احلديث عن األمر الثاين ،وهو أن دعاة احلرية والليرباليني،
سواء من املوجودين يف املجتمعات العربية واملسلمة ،أو مفكري وساسة الغرب
وإعالمييه ،يامرسون ذات اخلطيئة التي حياولون وصم غريهم هبا.
فهم عندما يغالون يف دعاوى التحلل من الدين ،ورفض حتكيمه يف املجتمعات
التي يعيشون هبا ،إنام يامرسون خطيئت َْي وليست خطيئة واحدة؛ فهم أو ً
ال يتطرفون
ال من معاجلة اإلفراطيف مواقفهم من الدين واملتدينني ،ويدعون إىل التفريط بد ً
القائم من وجهة نظرهم ،أو حتى بحكم األمر الواقع.
521
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
522
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وقتها صارت الديمقراطية ُمنكرة ،ومل يتم االعرتاف بام جاءت به الصناديق
وعربت به عن إرادة اجلامهري ،فهي فقط – هذه الديمقراطية – مقبولة عندما تأيت
بمن يرغبون ،ولكنها تكون مرفوضة عندما تأيت بمن ال يرغبون!
ويف األخري؛ فإن خصوم املرشوع اإلسالمي يامرسون أبشع ألوان التطرف ضده،
بدعوهتم إىل التفريط والتحلل من قواعد التدين ،وبمحاوالهتم فرض رؤاهم هذه
عىل املجتمعات.
واملدهش أهنم يقومون بذلك ،بالرغم من أهنم أقلية فيها؛ فلم تزل غالبية
املجتمعات العربية واإلسالمية حتتفظ هبويتها الدينية واملحافظة عىل عاداهتا
وتقاليدها ،وهو ما أثبتته يف أكثر من موضع ،صناديق االقرتاع ،عندما قالت
اجلامهري كلمتها وصدَّ رت اإلسالميني يف املشهد السيايس واالجتامعي.
ولكن هؤالء يستندون إىل قوة قوى أكرب يف اخلارج ،وهي القوى الداعمة
حمتوى يدعو للتحلل من القيم ..كل
ً للمرشوع الغريب الصهيوين ،بكل ما فيه من
القيم!
523
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يعرف العامل يف وقتنا الراهن تنامي موجة كبرية من امليل إىل التخيل عن فكرة
الدين ،وتراجع الناس عن التد ُّين.
وال تقف هذه الظاهرة ،كام تناولنا يف مواضع سابقة من احلديث ،عند جمتمعات
بعينها؛ حيث باتت تتشارك فيها املجتمعات العربية واملسلمة ،مع املجتمعات
الغربية.
وهناك أكثر من عامل النتشار هذه الظاهرة ،يمكن تقسيمها إىل عوامل خاضة
املنزلة ،اإلسالم واملسيحية عىل وجه
للمؤسسات واألطراف التي متثل الديانات َّ
اخلصوص ،وعوامل عامة من واقع اإلنسانية الراهن.
ويف العوامل اخلاصة باملؤسسات الدينية ،اإلسالمية واملسيحية ،سوف نجد أن
أمهها ،االنحرافات املنهجية التي وقعت فيها بعض اجلامعات اإلسالمية الصحوية،
وممارسات تنظيامت العنف املسلح التي منحت نفسها صفة "إسالمية" ،والفساد
األخالقي داخل الكنيسة الكاثوليكية ،التي تسيطر عىل أكرب نسبة أتباع يف العامل.
أ َّما يف جمال العوامل املوضوعية التي تتعلق بواقع اإلنسانية العام؛ فإن هناك احلروب
التوحش الكبري يف عامل تسوده الرأساملية؛ حيث املجاعات ترضب
والنزاعات ،وكذلك ُّ
الكثري من مناطق العامل؛ بينام يرمي آخرون يف الغرب الرأساميل ،ماليني األطنان من
احلبوب واأللبان واألغذية الصاحلة ،ألجل احلفاظ عىل ثبات أسعارها.
524
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولقد نشأت يف هذا اإلطار العديد من األفكار التي قادت أصحاهبا إىل التخيل
عن فكرة االتزام بالدين ،حتى مع اإليامن بحقيقة وجود ٍ
إله هلذا الكون؛ خلقه
ً
اعرتاضا عىل ما جيدونه من أوضاع معاناة ،يف ظل ثقافة علامنية سائدة، ويد ِّبر أمره،
أو قصور يف الفهم العقيل حلكمة اخلالق عز وجل مما حيدث عىل األرض.
وتقرتب هذه الفئة من فئة أخرى ختتص هبا احلركة اإلسالمية ،وهي الشباب
يرتب تربي ًة إيامنية صحيحة ،وبالتايل ،أحدثت االنتكاسات التي حصلت،
الذي مل َّ
واجلرائم التي وقعت من بعض األنظمة العربية ضد شعوهبا خالل مرحلة ما يعرف
بثورات الربيع العريب ،وما بعدها من ثورات مضادة ،مما جعل تصوراهتم عن
السعي والنرص واهلزيمة واملدد اإلهلي؛ خاطئة متا ًما ،بام قادهم إىل التخيل عن فكرة
التد ُّين ذاهتا ،وليس حتى االرتكاس عىل اإليامن باملرشوع اإلسالمي احلضاري
والسعي ألجله.
وبطبيعة احلال؛ فإن األفكار ذات اجلاذبية تكون ذات قبول ،وهو حتى املنطق
الذي يتعامل به الشيطان الرجيم وجنوده يف غواية البرش عرب تاريخ الرصاع الطويل
بني الشيطان الرجيم وآلِه ،وبني آدم (عليه السالم) وبنيه.
وجاذبية التحلل من فكرة الدين ،أو التد ُّين تكمن يف نقطة مهمة ،وهي "حترير"
اإلنسان من أثقال معينة متنعه عن أخذ املزيد من الدنيا ومتاعها؛ حيث إن الدين
يضع قيو ًدا أخالقية وضوابط عىل سلوك اإلنسان ،واإلنسان جمبول عىل الطمع
واختبارا من اهلل عز وجل.
ً وحب الدنيا ،ابتال ًء
525
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وال يفهم اإلنسان – كام رشحنا يف مواضع سابقة من احلديث – أن هذه القيود
والضوابط التي يضعها له الدين ،إنام هي يف مصلحته ،ألنه لوال ضوابط الدين؛
لتحول العامل إىل غابة ،وضاع فيها الضعيف وفنى ،وغابت عنه صور احلضارة
تتأسس إال باالستقرار الذي حتققه القواعد األخالقية
والتمد ُين املختلفة ،والتي ال َّ
املتعددة.
أي أن التحلل من قيود وضوابط الدين ،يف املجال السلوكي واألخالقي
بالذات ،سوف حيرم اإلنسان يف النهاية من متاع الدنيا الذي يريد ويسعى إليه.
هذه اجلزئية ترتبط باملنطق العام هلذا املوضع من احلديث؛ حيث مسألة مهمة
غائبة عن أدبيات وأعامل قادة الفكر داخل الصحوة اإلسالمية ،بالرغم من أمهيتها
القصوى يف دعم جهود الدعوة ،وهي مسألة أنثروبولوجي الدين ،وما يرتبط هبا
بعلم االجتامع الديني.
و"األنثروبوجلي" ،باختصار غري ٍّ
خمل ،هو "علم اإلنسان" ،أي ذلك العلم الذي
يدرس تاريخ اإلنسان من الزوايا البيولوجية ،أي أصول الشعوب ،،وكذلك تطور
املجتمعات اإلنسانية ،بام يف ذلك الثقافات واللغات ،والسياق العام للحضارات
التي أقامها اإلنسان ،وتأثرياهتا.
واألنثروبوجلي الديني ،هو ذلك الفرع الذي هيتم بدراسة ظاهرة الدين يف
الوجدان اإلنساين ،جلهة أمهيته ،وكيف ِّ
تشكل فكر اإلنسان ،وسلوكه ،سواء عىل
املستوى الفردي أو املجتمعي العام.
526
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
أمر خمتلف عن علم اجتامع األديان ،والديانات املقارنة ،وهو جمال وبالتايل فهو ٌ
علمي ُيعنى بدراسة خرائط توزيع األديان سواء الوضعية أو ا ُملن ََّزلة من عند اهلل
تعاىل ،وكذلك الفلسفات التي يؤمن هبا البعض بدي ً
ال للعقيدة الدينية باملفهوم
القريب ،مثل "اليوجا" يف اهلند ومناطق من جنوب رشق آشيا ،وفلسفة "الزِّ ن"
يف اليابان وبعض جمتمعات الرشق األقىص ،وذلك سواء عرب التاريخ ،وتطوراهتا
وحتركاهتا عىل اخلريطة اجليوسياسية واجلغرافيا البرشية ،أو يف الوقت الراهن.
ومن خالل ما كتبه روجيه باستيد ،وهو من أهم الفالسفة واملفكرين الذين
تكلموا يف هذا املجال يف عرصنا احلايل؛ فإن علم االجتامع الديني ،ودراسة
األنثروبولوجيا الدينية؛ ُيعنيان برصد جمموعة من األمور ،من أمهها اإلسهام
الذي يقدمه الدين ومنظومته القيمية يف جمال السلوك ،وكيف يساهم الدين يف
رسم صورة اإلنسان الداخلية ،وإحساسه بذاته ،وكذلك تصوراته حول العامل
اخلارجي ،وعالئقه فيها.
تبعا لذلك ،وباختالط
ويشري باستيد يف دراسات مهمة له يف هذا األمر ،إىل أنه ً
هذه املفاهيم مع اإلطار املجتمعي العام؛ فإن ذلك يقود إىل أن يتم حتديد القواعد
التي تضبط احلراك االجتامعي ،بام يف ذلك القوانني والبنية الترشيعية ،عىل أساس ما
يقوله الدين ،أي دين سائد ،ويدعو إليه ،ضمن ما وصفه بعملية متجددة ومستمرة
إلعادة التوازن بني الديني وبني خمتلف أوجه احلياة االجتامعية.
ولو تم دمج هذه األغراض مع املخرجات التي يتم احلصول عليها من دراسات
علم اجتامع األديان والديانات املقارنة؛ فإننا سوف نصل إىل منظومة مفيدة من
527
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
النتائج يف جمال الدعوة؛ حيث سوف نرى أننا أمام حقيقة يؤكدها التاريخ؛ أن
اإلنسان ً
دائم ما كان بحاجة إىل دين أو فلسفة أو فكرة كبرية تقوده وترشده يف حياته.
النقطة املهمة فيها قاله باستيد ،وغريه من علامء االجتامع الذين اهتموا هبذه
املسألة ،ويعنينا يف هذا املوضوع ،هي أنه كلام كان الفارق بينه املجال الديني ،يف
األثر والتطبيق ،وبني املجال املجتمعي؛ كلام كان من األسهل حتول أفراد هذا
املجتمع من دين أو فكرة أو فلسفة إىل أخرى.
ومن َث َّم؛ من هذه العبارة األخرية ،نفهم أن مشكلة اإلحلاد يف األساس ،أو
التم ُّلص من االرتباط بالدين كتصور شامل لإلنسان يف حياته ،حيدد عالقاته
بذاته ،وباآلخرين ،وبخالقه هي مشكلة نخبة دينية وسياسية واجتامعية وتربوية
باألساس؛ حيث إن هذه النخب هي املسؤولة عن عملية "األيض" أو "التمثيل
صح التعبري -بني الدين وبني املجتمع ،أي حتويل الدين إىل قاطرة
الغذائي" – لو َّ
للمجتمع ،يف سلوكه وقوانينه ،وغري ذلك.
..........
ويف األخري؛ فإن هذا األمر يرتبط بنقطة شديدة األمهية يف أية عملية ُتعنى بنرش
فكرة أو معاجلة مشكالت مفاهيمية ،ذات طابع قيمي ونفيس ،وهي عملية صناعة
الوعي؛ حيث إنك يف األخري ،سوف تصل مع هذه املجموعات – وغالبيتها من
الشباب – إىل حقائق مهمة ،أبرزها أنه يف النهاية؛ البد لك من دين ،وأنه من دون
فكرة الدين؛ ال يمكن من األصل احلديث عن جمتمعات إنسانية مستقرة سوية،
حيقق فيها اإلنسان حريته وكرامته ،ويسعى فيها للعيش بالصورة الالئقة التي يريد.
528
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يلحد الملحدون!!
عن اهلل الذي ال نعرف ولماذا ِ
تتفاعل يف وقتنا الراهن الكثري من النقاشات عىل الساحة اإلسالمية حول العديد
من القضايا املركزية ،يف ظل قناعة مهمة مفادها أن العمل اإلسالمي ،واألمة
بالكامل ،قد جتاوزت مرحلة انتقالية فيام بعد اهنيار الدولة اإلسالمية اجلامعة قبل
ال ،إىل الدخول يف نفق مظلم. حوايل مائة عام إال قلي ً
ويمثل دخول املسلمني إىل هذا النفق مرحل ًة تالية من مراحل مرشوع َّ
منظم
طويل املدى تقوده قوى استعامرية ،وتتعاون فيه قوى حملية عديدة بني ظهراين عاملنا
صح التعبري – لألمة
العريب واإلسالمي ،من أجل خفض التصنيف احلضاري – لو َّ
اإلسالمي.
ويستند هذا املرشوع االستعامري عىل ٍ
عدد من األسس ،أمهها إشاعة روح الفرقة
والفوىض بني املسلمني عىل خمتلف املستويات؛ املذهبية واالجتامعية والسياسية،
وفصل املسلمني عن القرآن الكريم ،وعلومه ،والعلوم الرشعية بشكل عام.
ومن بني أهم العلوم التي انفصل عنها الناس يف زمننا املعارص ،وقاد إىل ظاهرة
هي من أسوأ الظواهر" ،علم التوحيد" ،ويف القلب منه ،ما يتعلق باهلل عز وجل،
علم ً
وفهم ،ومعرف ًة. ً
وبطبيعة احلال؛ فإن اهلل تعاىل ال حيدُّ ه العلم وال اإلدراك بأية وسيلة من وسائل
اخل ْلق القارصة ،وال يمكن للعقل البرشي فهم طبيعته وخواصه ،إال أن "علم َ
529
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
530
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وهذه اجلزئية أرادت حكمة اهلل تعاىل أن تكون قريبة يف الفهم اإلنساين ،ألهنا
تصو ٍر حمسوس أو غريمفتاح ُم ِه ٌّم لإليامن باهلل تعاىل الذي ال حيده أي حدٍّ أو ُّ
حمسوس بعقولنا ،أو بأية أداة أخرى يف الكون الذي هو جزء يسري ،جمرد جزء ال
ذكر من ملكوت اهللِ تعاىل الذي ال نعرف عنه أي يشء.
ُي َ
وأبدي ،أي أنه ٌ
أول بال غاية أو بداية ،ومن دون ع َّلة أو سبب، ٌّ فإن اهلل تعاىل أز ٌّيل
وآخر بال هناية.
ويف األصل؛ فإن مفاهيم مثل "بداية" و"هناية" ،وما تتصل هبا من مسافات ومساحات
ٍ
كمعان مادية ،أو مساقات زمنية؛ هي يف النهاية ،خملوقات من خملوقات الرمحن سبحانه،
(فيزيائيا؛ الزمن هو رابطة بني رسعة الضوء وحركة األفالك).
ًّ وكامديات
الكون وامللكوت لكي يكون قيو ًما أو تتحقق بالتايل لو قلنا إن َ
اهلل تعاىل قد َخ َلق َ
له صفة القيومية ،أو خلق اإلنسان وسائر املخلوقات ا ُملك َّلفة األخرى لكي يكون
ورحيم ،أو شديد العقاب ،وكذا من سائر الصفات واألسامء املرتبطة ً غفورا
ً
بأمور تتعلق بتعامل رب العزة سبحانه مع خلقه كا َّفةُ ،مك َّلفني أو غري ُم َك َّلفني ،أو
تتحقق له هذه الصفات واألسامء احلسنى وتستقر؛ فهذا يعني أن َ
اهلل تعاىل من دون
امللكوت واملخلوقات ال تتحقق له هذه الصفات ،وأنه من قبل َ
اخل ْلق كان ال يتمتع
وأبدي – وهذا يعني خل ً
ال ٌّ هبا – بمنطق أنه موجود من قبل اخللق كام قلنا إنه أز ٌّيل
ناقصا سبحانه.
يف العقيدة؛ ألن اهلل تعاىل كامل ،وليس ً
فإيامننا به وباإلسالم ،يتضمن أن نؤمن أن َ
اهلل تعاىل كامل ،مطلق الكامل ،وقدرته
طليقة؛ ال حيدها وجود آخر ،وال ُيقيِ ُمها أو ُيق ِّيدها أي يشء.
531
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فوجودك من عدمه ،ال يمس كامل اهلل عز وجل ،وبالتايل؛ فال يمس كونه شديد
العقاب ،أو غفور رحيم أو ما شابه؛ حيث هذه صفات أصيلة فيه.
فهم َخ ْلق اهللِ تعاىل
فلدى البعض – عىل سبيل املثال – منطق خاطئ يف تفسري أو ْ
وخ ْلق اخلطيئة معه؛ حيث يقولون إن ذلك لإلنسان ،بنوازعه ونقصه ،وضعفهَ ،
ً
رحيم ،أو تتحقق له هذه الصفات أو تستقر ،وهذا غفورا
ً تم لكي يكون اهلل تعاىل
خطأ ،ألن العكس هو الصحيح؛ فنحن نخطئ ونعود ألن اهلل سبحانه يف األصل،
الع ِل َّية ،هو الغفور الرحيم.
يف ذاته َ
ولتوضيح ذلك؛ نقول أو ً
ال إن قضية السببية حاكمة يف تفكري اإلنسان ،بل إهنا
جزء مما َج َبل ُ
اهلل تعاىل عليه عقل اإلنسان؛ حيث هي حتقق ُسنَن عديدة من ُسنَن
خلق اهلل تعاىل لإلنسان ،مثل ُس َّنة إعامر األرض وتسخري املخلوقات.
فهذه القضية كانت وراء تطورات علمية كثرية؛ حيث إن اإلنسان يف بحثه الدائم
دائم بمحاولة فهم العالئق واألسباب التي تقف خلفيف املجال العلمي؛ كان هيتم ً
هذه الظاهرة أو تلك.
فمث ً
ال اإلنسان ال يتصور أن األشياء تستقر عىل األرض إال لسبب ،وعندما سعى
لفهمه؛ اكتشف اجلاذبية األرضية ،وقوى اجلذب التي حتكم َ
الكون كله ،وكذلك
تتسبب" يف تبخري املياه املوجودة يف اجلسم املحرتق
النار؛ حيث هي حترق "الهنا َّ
بالكامل ،وهكذا؛ فظهر العلم والتجريب ،والذي هو أساس مهم يف مسألة تسخري
املوجودات لإلنسان لتسهيل إعامر األرض ،التي استخلفه اهلل تعاىل فيها.
532
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ولكن هذا املنطق يقف عند حماولة " َف ْهم" اهلل تعاىل أو "تفسريه" لو َّ
صح التعبري؛
أيضا -ألن اهلل سبحانه ،من املستحيل يف األصل أن وذلك كله – باملنطق البسيط ً
أساسا.
ً يدخل يف نطاق أسباب ومنطق وطرائق تفكري ،هو الذي خلقها
أساسا يف اخللق ،لكي ِّ
يبي ً ولقد شاءت حكمة اهللِ تعاىل أن تكون السببية ِ
والع َّلة
لإلنسان عظمته هو سبحانه؛ حيث هو اهلل عز وجل ،الذي هو بال سبب أو ِع َّلة،
وال يتصل وجوده أو ذاته ،هبذه القضية ،كأن يكون أز ٌّيل ،أي أول بال بداية ،بينام كل
ما دونه – أي كل املخلوقات التي أبدعها اهلل تعاىل – ناقص والبد له من أسباب
ِ
وع َلل؛ ألنه هو الرب واإلله ،وله الصفات واألسامء احلسنى كلها.
ِ
ومن هنا نفهم ،كيف أن اهلل تعاىل غفور ورحيم ،وقيوم من دون حتى أن توجد
خملوقات يغفر هلا ويرمحها ،ويقوم عىل أمرها.
وكام قلنا؛ فإن صفة القيومية له سبحانه ،ال تنتظر أن يكون له ملكوت يقوم
عىل أمره؛ كال؛ هو خلق ملكوته ،بام فيه كوننا الصغري هذا ،والساموات واألرض؛
ألنه قيوم يف ذاته ،وبالتايل؛ هو قادر عىل تنظيم امللكوت وحفظه وضامن استقراره؛
فخلقه عىل هذه الشاكلة.
طبعا – لو مل يكن كذلك -باملنطق العقيل البسيط ً
أيضا وبالتايل؛ فهو -سبحانه ً
قادرا أو كام ً
ال ،بعكس طالقة كامله وقدرته سبحانه وتعاىل. – ما خلقنا ،وما كان ً
وكذلك اهلل تبارك وتعاىل ،حتى معبود يف ذاته ،فصفة العبودية من املفرتض أهنا
معبود ،ولكن اهلل
ٌ ِ
القاص – وجود عباد لكي يكون هناك تتضمن – باملنطق ِ
املباش
معبود يف ذاته ،من دون وجود خلق أو عباد أو أي يشء آخر.
ٌ تعاىل
533
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف مقابل هذه الطالقة ،وبذات املنطق الذي نشري إليه يف قضية السببية ِ
والع َّلة؛
حيث إهنا موجودة يف املخلوق يف مقابل انتفائها عن اخلالق؛ نشري إىل قضية النسبية
التي متأل املوجودات من حولنا ،وتنتفي عن اخلالق.
فلقد جعل اهلل تعاىل النسبية هي أساس املخلوقات؛ فهناك – مث ً
ال – مواد هي
بمثابة سموم قاتلة بالنسبة للبرش؛ ُتعتَرب غذا ًء بالنسبة لكائنات حية أخرى.
بل إن بعض قواعد الفيزياء التي نعرفها عىل كوكب األرض كثوابت؛ تتغري
بالكامل لو اقرتبنا من الشمس ،أو هبطنا إىل قاع املحيط؛ فالفوتون الضوئي عديم
الوزن ،لو دنا اإلنسان من الشمس؛ تصبح هلا طاقة دفع ،كام اكتشف علامء "ناسا"
يف هناية العام 2018م ،عندما أرسلوا املسبار "باركر" إىل الشمس.
وفهم مجلة "له األسامء احلسنى
مهم للغاية من مضامني معاين ْ
جزء ٌّ
وهذا كلهٌ ،
الع ِل َّية" ،والتي تعود بنا جلذر هذا املوضع من احلديث ،وهي العلوم
والصفات َ
الرشعية؛ حيث هذه اجلزئية من أهم مفردات "علم التوحيد".
وبالتايل؛ فإن التسليم والطاعة وفق هذه املفاهيم؛ أمر بدهيي ،حتى بعقل اإلنسان
القارص ،مثل السيارة التي ال تفهم حكمة صاحبها من قيادهتا لألمام أو للخلف؛
فقط هي تطيعه ،ألهنا ُصنِ َع ْت ألجل أن تطيعه.
وصعوبة استيعاب العقل اإلنساين هلذا الكالم؛ منطقي؛ ألن العقل اإلنساين
قارص ،وهذا جيب أن يكون باع ًثا عىل زيادة إيامننا؛ أن ندرك أن عقولنا مهام كانت؛
فهي قارصة ،وإال حتى عىل األقل كنا قادرين عىل تصوره ووصفه ،حاشا هلل.
534
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فإذا كان عقل اإلنسان غري قادر عىل إدراك أي يشء تنتفي عنه السببية أو جيد
النسبية فيام حوله؛ فهل هو بقادر عىل فهم حكمة َمن َخ َلق املادة واألسباب ،أو
طبيعته؟! ..فهذا من ا ُمل َ
فتض أنه يدفع اإلنسان إىل التسليم املطلق للخالق.
وبالتايل؛ نس ِّلم هلل تعاىل كل أمورنا ،ألنه أكرب وأعىل وأعظم من كل املوصوفات
من حولنا ،والتي هي من خملوقاته يف األصل ،ونؤمن – كذلك – أنه ال حميل بيننا
ميل؛ هو بدوره خملوق من خملوقات وبينه ،وال بيننا وبني قضائه وقدره ،ألن أي َ ِ
منطقيا ،ملخلوق أن يفوق خالقه فيحيل عنه خملو ًقا آخر.
ًّ اهلل ،وال جيوز
أمور ينبغي
وكل ذلك مما هو من أهم األمور يف علوم التوحيد والعقيدة ،وهي ٌ
وتعمق إيامننا هبا قبل أن نتحدث عن الرشيعة أو تطبيقها ،وإال صار هناك
إدراكهاُّ ،
كبري يف تطبيقنا للرشيعة ،التي هي تعاليم اهلل عز وجل ،واملنهج الذي اختاره
خلل ٌٌ
لنا ..ويف األخري؛ فإن كل ما خطر ببالك؛ فاهلل غري ذلك ،ال حتده أوصاف.
كام أن ذلك يدفعنا إىل تل ِّقي امللحدين بأساليب أكثر مروءة من فكرة الرفض
والنبذ؛ ألننا لن نستفيد – كمسلمني – من ضياع بعضنا يف هذا الطريق!
535
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
536
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وثمة نقطت َْي يف هذا الصدد ينبغي اإلشارة إليهام ،أوهلا ،أن قضية اإلحلاد ترتبط
َّ
بسياقات ومظاهر عدة ،فال يكون اإلحلاد بمعناه املبارش الذي يتبادر للذهن عن
قول كلمة "إحلاد" ،وإنام يرتبط األمر بسلسلة من املامرسات التي متثل شك ً
ال من
أشكال االرتداد عن التد ُّين ،مثل خلع احلجاب وحلق اللحى يف بعض املجتمعات
املسلمة ،وصو ً
ال إىل االرتداد عن الدين نفسه ،مثل الكفر بالقضاء والقدر حتت
وطأة مشكالت حاصلة ،أو كفران النعمة ،أو اخلروج عن فكرة اإليامن بوجود
اخلالق عز وجل ،مثلام يقول امللحدون ،أو يؤمنون بفكرة وجود اخلالق ،ولكنهم
ال يتبعون دينًا معينًا ،ويرفضون فكرة األديان يف حد ذاهتا ،مثلام يقول الال دينيون.
النقطة الثانية املهمة يف هذا اإلطار ،تتعلق بأسباب تصاعد مثل هذه الظاهرة،
وأمهها األزمات السياسية واالجتامعية واألمنية التي جتتاح مناطق خمتلفة من العامل،
وقادت إىل بحث الكثريين – بمئات املاليني – عن نقطة السالم النفيس؛ فيجدونه
يف العقائد والديانات املرشقية ،مثل البوذية والكونفوشية؛ حيث النواحي الروحية
تطغى عىل ما سواها يف هذه الديانات والعقائد.
ولعل هذه النقطة تثري يف حد ذاهتا العديد من القضايا ،أمهها أن هذه الديانات ال
يوجد فيها أي ج ٍ
رب أو سطوة لكهنوت كام يف املسيحية ،أو لرموز وشخصيات ويف
بعض املامرسات اخلاطئة التي يتجاوز هبا علامء الدين دورهم الدعوي ،إىل مستوى
الوصاية عىل السلوك.
ويف حالة الساحة اإلسالمية؛ فإن هذه املشكلة ظهرت ووضحت أكثر ما
ظهرت ،يف حالة اجلامعات التي تصف نفسها بـ"اجلهادية" ،عندما سيطرت عىل
537
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عرف
مناطق يف بعض دول األزمات واحلروب األهلية يف الرشق األوسط ،بعد ما ُي َ
بثورات الربيع العريب؛ حيث تم التعامل مع املجتمعات املحلية وفق مفاهيم ختتلف
ُ
بالك ِّل َّية عن اآلليات السليمة للدعوة وللحكم باملفهوم اإلسالمي كام يف املامرسة
النبوية ،ويف ممارسة اخللفاء الراشدين.
وكانت النتيجة مروعة عىل صورة الدين ومعتنقيه ،وعىل الصورة الذهنية لعملية
نرش الدعوة كام رأينا يف مناطق سيطرة تنظيم الدولة "داعش" السابقة يف العراق
وسوريا ،والسيام بعد اتضاح كون بعض هذه املجموعات يف األصل صنيعة أقبية
حكومات وأجهزة خمابرات دول غري مسلمة ،وهذا يعني أن ذلك األسلوب
مقصود ،وأنه – بالتايل – وفق املنطق البسيط؛ ال يمت لإلسالم بأية ِص َلة.
املروع
وشق آخر يف هذه املشكلة ،صار لألسف من حقائق األمور؛ هو السقوط ِّ
ٌّ
لرموز و"علامء" كانوا قدوات جليل كامل من الشباب ،يف وحل السياسة ،ووضوح
أهنم ُت َّبع ألنظمة ،أو جلامعات هدَّ امة ،أو حتى يتخذون من الدعوة وسيلة لكسب
التكسب
ُّ طلق عليه العوام مصطلح "التجارة بالدين" من زاوية العيش ،وما ُي ِ
بشكل خي ِرج الداعية عن الصورة الذهنية املطلوبة.
وهذا يثري نقطة القيود مرة أخرى؛ حيث إن اإلسالم ال يعرف الكهنوت ،وال
يعرف قضية وجود وساطة بني العبد ور ِّبه سبحانه وتعاىل ،ولكن إرصار بعض
املدارس أو املذاهب عىل تصدير العلامء ،وربط الناس يف دينهم "بالرضورة" هبم؛
خلق مشكلة كربى ملا انحرف بعض هؤالء.
538
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لو أننا تأملنا عنوان هذا احلديث؛ "ملاذا اإلحلاد أم ملاذا األديان؟!"؛ فإننا سوف
نقف أمام العديد من املغازي التي تقرتتب من هذه املشكلة اقرتا ًبا خمال ًفا ،وبالتايل؛
يفرض البحث عن أدوات جديدة للتعامل مع املوقف.
بداي ًة؛ جيب التأكيد عىل أن مكمن اخلطر احلقيقي؛ ليس متعل ًقا بانحرافات
سلوكية أو حتى عقدية؛ ولكنه متعلق اإليامن بجوهر فكرة "الدين" ذاهتا.
وهذا أمر جيب فهم نقطة خطورته ،ولفهم هذه اخلطورة نرضب عىل ذلك مثا ً
ال.
عندما انترشت البعثات التنصريية يف مناطق أفريقيا السوداء ،أي وسط وجنوب
القارة؛ حيث تسود الديانات والعقائد الوثنية؛ كان لبعض الدعاة املسلمني موق ًفا
والتوجس التي يتبناه البعض من العلامء واجلامعات
ُّ مغايرا من موقف الرفض
ً
اإلسالمية بشكل مبدأي من أنشطة التنصري.
دورا ها ًما يف متهيد
فاملخالفون يف هذا املوقف؛ يرون أن البعثات التنصريية تلعب ً
البيئات املحلية الوثنية هذه لقبول فكرة "الدين" من منظور الديانات الساموية،
والتي تتضمن فكرة وجود إله خالق ورب مدِّ بر هلذا الكون ،وفق مفهومنا لـ"اهلل"
539
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عز وجل ،وبالتايل؛ فإنه سيكون من السهل نرش اإلسالم بعد هذا التمهيد أو رسوخ
هذه األرضية املفاهيمية
إ ًذا؛ نحن أمام مشكلة كربى؛ حيث إن اإليامن بجدوى الدين ،تراجع ،فيام
صارت فكرة "الال دين" أو "اإلحلاد" أو اإليامن بـ"فلسفات السالم والسمو
الروحي" املنترشة يف الرشق عىل وجه اخلصوص ،هي األقرب.
ونقطة "اجلدوى" هذه عىل أكرب قدر من األمهية واملركزية يف هذا الصدد؛ حيث
إن ردود هؤالء – ملحدون أو ال دينيون أو غري ذلك -عىل العلامء واملحاورين
الذين حياولون إقناعهم بمركزية فكرة الدين – أ ًّيا كان – وبفكرة اخلالق ،وبأمهية
االلتزام بالرشيعة؛ صارت الردود موجزة يف عبارة" :ملاذا الدين؟!".
ففي حقيقة األمر؛ فإن هناك قصور بالغ تناولناه يف مواضع أخرى من احلديث،
يف توضيح كيفية معاجلة الدين ملشكالتنا الواقعية ،وكيف يقدِّ م آليات اإلصالح
الفردي واملجتمعي ،وكيف أن الدين يقدم البوصلة التي تتضمن اإلجابة عىل
أسئلة عىل أكرب قدر من اخلطورة واألمهية ،مثل ملاذا ُخ ِلقَ اإلنسان ،ودوره يف الدنيا،
وكيف يتوجه سعيه ،وكيف يتعامل مع مشكالته.
فلألسف؛ فإن اخلطاب الدعوي يف وقتنا الراهن ،وقف عند حدود العبادات وما
عرف باهلدي الظاهر ،مثل إطالق اللحية ،وجدل الزي الرشعي ،بينام مشكالت
ُي َ
الواقع طاحنة ،ومتس كرامة ومروءة اإلنسان ،واألوىل أن يتم البحث يف دقائقها
وطرائق معاجلتها.
540
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وحتى احلركة اإلسالمية الصحوية؛ نجد يف أدبياهتا التي تتناول قضية البوصلة
والتوجيه هذه ،إعال ًء من قيم اجلهاد ومعايل األمور ،بشكل ال يمكن لكل املسلمني
أن يكونوا عليه يف ظل اختالف الظروف ،والفروق الفردية ،وأن اإلنسان بطبعه
ضعيف أمام احتياجاته املعيشية.
مجيعا أن نكون مقاتلني ،وال يمكن ألصحاب العقول البسيطة
فال يمكن لنا ً
تصور أنفسهم أدوات يف الرصاع والتدافع احلضار َّي ْي ،فهذه الفئات ،وهي األكرب
بال أدنى شك؛ كان ينبغي البحث يف مشكالهتا البسيطة والعظيمة يف ٍ
آن ،بالذات يف
املروع وغري َّ
املرشد الذي سمح باالطالع عىل أنامط حياة ظل االنفتاح اإلعالمي ِّ
وعيش ال يمكن معها إقناع أجيال نصف متعلمة ،ومل َّ
يتمكن منها الدين بالشكل
الكامل يف اجلوانب الروحية واألخالقية ،بفضيلة الزهد مث ً
ال!
ٌ
ملحظ أو مأخذ عىل عملية التدافع ضد هذه التيارات وبشكل عام؛ فإن هناك
قصورا
ً بني ظهراين املسلمني ،وهي أن هناك حالة من عدم االعرتاف بأن هناك
ومشكالت داخلية يف عملية التعريف بالدين ونرش ،وما يتم إبرازه من جوانب
خمتلفة فيه.
فالدعاة والعلامء ً
دائم يتصدرون بمنطق خاطئ به بعض االستعالء الذي يدافع
عن الدين وكامله ،وينظر هلذه الفئات نظرة دونية ،بينام هذه الفئات مل يروا من الدين
ما يعالج مشكالهتم ،وما يثبت كامله.
كذلك؛ غالبية اخلطاب الذي يقوم به حتى علامء مسلمني من املتخصصني يف
جماالت العلم الدنيوي ،أو العلم املادي ،ولكنهم يعملون يف جمال الدعوة الرشعية؛
541
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ينصب عىل الدفاع عن الدين ،مثل إثبات أنه ال يتعارض مع العلوم املادية ،أو أنه
ال يتعارض مع املفاهيم احلضارية ،بينام هذه بدهييات يعرفها العامل كله من قرون
طويلة ساد فيها اإلسالم ودولته ،وقدم علامء املسلمني علو ًما ومكتشفات ،بعضها
كان األساس الذي هنضت عليه العلوم احلديثة ،ومفتاح خروج أوروبا من عصور
الظالمية أص ً
ال ،وهم ال ينكرون ذلك ،وبدهيي بحيث ال نجد أنفسنا بحاجة إىل
التدليل عليه بأمثلة
.....
ويف األخري؛ فإن هناك رضورة أمام علامئنا ودعاتنا ،وأمام اجلامعات التي تتصدر
مساحات العمل اإلسالمي؛ التصدي إىل تقديم إجابات تفصيلية عىل سؤال" :ملاذا
الدين" ،وخماطبة الرشائح التي فقدت الثقة يف فكرة التد ُّين واالرتباط بالدين يف
حياهتم يف مشكالهتم الواقعية ،وتقديم نامذج ملعاجلتها.
ويتضمن ذلك التأكيد عىل حقيقة مهمة ،وهي أنه لوال الدين ،بام يتضمنه من
ضوابط يف املجاالت األخالقية والسلوكية ،وبام يتضمنه من أفكار وعقائد يف جمال
لتحول العامل إىل غابة أكثر مما هو عليه اآلن!
َّ اخلوف من عقاب اهلل تعاىل ،وخشيته؛
542
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مل ُ
خيل أي عرص من العصور املتقدمة أو املتأخرة من التاريخ اإلسالمي ،وحتى
عرصنا احلديث ،من املذاهب واأليديولوجيات واألفكار اهلدامة ،وعىل رأسها
اإلحلاد.
وقضية اإلحلاد ليست قضية َع َقدية فحسب ،بمعنى أهنا ال تتصل بنقطة اإليامن
أو عدم اإليامن باخلالق ووجوده ،وإنام هي ظاهرة أوسع ،هلا أبعاد اجتامعية وسياسية
عميقة.
وكاملعتاد؛ فإنه عند تناول أية ظاهرة أو قضية؛ يكون من املفيد واملهم حترير
املفاهيم األساسية للحديث ،حتى يمكننا فهمه.
أساسي ْي .الدعوة واإلحلاد.
َّ أمر ْين
نحن نتكلم يف هذا املوضع عن َ
والدعوة ،أمرها سهل ومفهوم؛ حيث تعني لغ ًة التبليغ والنداء ،ويف االصطالح
الذي خيتص به هذا املوضع من احلديث ،هو تبليغ دين اهلل تعاىل إىل الناس ،وإدخال
الناس فيه ،والسعي إىل نرش الرشيعة السمحاء.
أما اإلحلاد "(الالربوبية) أو ( ،")Atheismفهو عىل مستوى االصطالح مشكلة
كربى يف تعريفه ورشحه ،ومن هنا تأيت أمهية احلديث عن قضية حتصني الداعية من
اإلحلاد؛ حيث إن املصطلح أوسع قلي ً
ال من املفهوم الشائع عنه ،وهو إنكار وجود
اهلل عز وجل.
543
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
544
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
545
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ومن َث َّم؛ فإن الداعية ينبغي أو ما ينبغي؛ أن يتم حتصينه يف هذه النقطة ،بحيث
يكون عندما ينطلق إىل ميدان الدعوة الواسع ،ال حيمل بني جنباته أي انتامء إال
لإلسالم ،وال يوجد أي تأثري عليه ،سوى إيامنه وتعاليم رشيعته ،وأال ينحاز إال
لسواها ،وال يعيل أية اعتبارات أخرى فوقها.
وبطبيعة احلال؛ فإن قضية اإلحلاد ،حتمل الكثري من التحديات األخرى.
وهي مهمة أشق وأصعب يف املجتمعات التي ال توجد فيها غالبية مسلمة،
وبالذات املجتمعات الغربية التي صار فيها العلم والعقل آهلة ُتع َبد من دون اهلل
سبحانه وتعاىل.
وهذا أمر عليه أدلة إحصائية؛ حيث نجد أن نسبة امللحدين يف فرنسا وبريطانيا،
تصل إىل أربعني باملائة من أبناء هذه املجتمعات.
فنتصور الواقع الصعب الذي يواجه الدعوة والدعاة يف جمتمعات تعبد املادة،
وتقدس العقل ،يف ظل ما وصلت إليه منجزات العلم احلديث – برغم أن وظيفة
العلم ،هي اكتشاف القوانني التي خلقها اهلل تعاىل يف الطبيعة واإلنسان والكون –
ويف ذات الوقت ،هي ال تؤمن بوجد إله أو خالق هلذا الكون.
وهذا األمر ،تعرتف به املفكرة واملسترشقة األمريكية ،كارين أرمسرتونج ،يف
كتاب هلا بعنوان" :تاريخ اخلالق األعظم"؛ حيث تقول بأن ظاهرة اإلحلاد أخذت
مكاهنا يف املجتمعات األوروبية والغربية بشكل عام ،منذ هنايات القرن السابع
عرش ،وبدايات القرن التاسع عرش ،وهو عرص الطفرة العلمية ،وسيادة نظرية
سطوة العقل.
546
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فتقول إنه "مع التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب ،بدأت بوادر
تيارات أعلنت استقالهلا عن فكرة وجود اخلالق األعظم".
ويزيد من وطأة األمر ،وبالتايل رضورة التأهيل للدعاة ،ارتباط ظاهرة اإلحلاد
يف هذه املجتمعات ،بظاهرة أخرى ،وهي "الالدينية" " ،"Non-religiousوالتي
تعني "عدم اإليامن بأي دين" ،ورفض مجيع األديان باعتبار أهنا "صنع ونتاج
فكري برشي".
وهذا التيار ،لو أضيف إىل امللحدين وما اتصل من نظريات وأفكار؛ فإننا سوف
نجد أن ما يقرب من سبعني باملائة من سكان الواليات املتحدة هم بني ملحدين
( 12باملائة) ،وال أدريني ( 17باملائة) ،فيام 37باملائة منهم يؤمنون بوجود روح ما،
ولكنهم "الدينيني".
وحتى يف جمتمعاتنا العربية واملسلمة؛ هناك ذات التحدي؛ حيث تنترش وبقوة
التيارات العلامنية ،والليربالية ،والنيو ليربالية ،يف خمتلف االجتاهات الفكرية
والتطبيقية ،بني الدين واملجتمع واالقتصاد والسياسة.
وساهم يف ذلك عوامل عديدة ،من بينها ضعف التأهيل التعليمي والثقايف،
وتفكك الدولة اإلسالمية اجلامعة ،إىل دول قومية ال يمثل اإلسالم فيها اهلوية
األوىل ،حتى لو ُذ ِك َر يف دساتريها أنه ديانة الدولة ،أو أنه مصدر الترشيع.
ولقد قادت عوامل الرتدي احلضاري التي تعاين منها األمة ،والسيام يف اجلانب
العلمي ،إىل سيادة فكرة مدمرة عىل عقول شبابنا وجمتمعاتنا ،وهي أن النموذج
املكون الفكري والعقيدي اهلويايت – هو ِّ الغريب – بكل مشتمالته ،بام يف ذلك
547
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
548
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
549
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا األثر رواه ابن عبد الرب يف "جامع بيان العلم وفضله" ،وبالرغم من أن يف
السنة واجلامعة ،كام
إسناده ضعف؛ إال أنه أثر مشهور ومتداول يف ُمص َّنفات أهل ُّ
أنه يتناسب مع قواعد املنطق والعمران السليمة ،وبالتايل؛ فهو يؤخذ به ،ولذلك
واستقر عند علامء املسلمني.
َّ معناه صحيح،
ولو أن هذا األمر بمنطقه البسيط يتم غرسه بالشكل السليم يف املناهج الرتبوية
يف أول درجاهتا؛ ما رأينا حاالت التف ُّلت الكبري التي حتدث بني كل ٍ
أزمة وأخرى.
550
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
متا ًما مثلام حدث بعد سلسلة اهلزائم السياسية التي تلقتها احلركة اإلسالمية يف
عرف بثورات الربيع العريب ،والتي شهدت بعضها جمازر يف حق الناس – بلدان ما ُي َ
وليس أبناء احلركة اإلسالمية فحسب – بل ومالت فيها الك َّفة لصالح أنظمة ظاملة
مستبدة ،ارتكبت هذه اجلرائم.
رئيسيا ،وهو" :أين ذهب اهلل؟!" أو "أين
ًّ وقتها ظهرت فتنة كبرية محلت عنوا ًنا
نرصه الذي وعد؟!" ،سبحانه وتعاىل عام يصفون ،بالرغم من أن هذه األمور
واضح ًة وضوح الشمس يف القرآن الكريم ،وتثبتها أحداث التاريخ .فرانكو
فرانشيسكو ،ديكتاتور إسبانيا الذي مات عىل يديه مئات اآلالف من مواطنيه،
بدعم من
ٍ فاشيا ،مات عىل فراشه .فهل يعني ذلك أنه كان عىل حق ،وحظي وكان ًّ
اهلل تعاىل؟! ..إطال ًقا ،وحاشا هلل تعاىل ذلك ،ولكنها قواعد وضعها اهلل تعاىل علينا
أن نتحرك وفقها.
بجانب قضية ضعف الغرس هذه؛ فإن هناك مشكلة كبرية أخرى يف العملية
الرتبوية داخل احلركات اإلسالمية ،تتعلق بعملية التأطري التنظيمي.
وتتعلق هذه النقطة بأنه جرى تداخل خاطئ متا ًما بني متطلبات عملية تثبيت
الصف عىل املنهج واملبدأ ،والصرب عىل املكاره واملتاعب التي سوف تالقيه ً
حتم
خالل عمله الدعوي ،باعتبار أن ما يقوم به ،إنام هو جهاد بصورة من الصور
يف سبيل اهلل ،وأنه يعمل ملصلحة الدين وإقامة الرشيعة ،وبني الطبيعة الوظيفية
للحركة اإلسالمية ،أي أهنا ليست الدين يف حد ذاته ،وإنام هي أداة من أدوات
خدمة الدين.
551
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذا التداخل وضع اجلامعة – أ ًّيا كانت – موضع الدين ،وصار اخلروج عليها،
"ردة"،
رشعيا عىل أنه َّ
ًّ خروجا عن الدين ،ويف بعض احلاالت ،يص َّنفً ربا
ُمعت ً
ويتم قتل أصحاب املواقف املخالفة ،والذين تركوا اجلامعة ،بمنطق "اخلروج عىل
اجلامعة" الوارد يف احلديث النبوي الرشيف الذي حدد فيه حاالت ِحل دم املسلم،
بينام اجلامعة املذكورة يف احلديث النبوي الرشيف ،هي مجاعة املسلمني ،وليست
اجلامعة باملنطق التنظيمي املعروف اآلن ،أي هذه احلركة أو تلك.
بل إن هناك شباب مسلم ال يتصور أنه يمكنه أن خيدم دينه بمبادرات فردية،
بعيدً ا عن أية مجاعة .إن خدمة الدين هلا مظاهر تفوق احلرص .لو التزم املسلم ا ُملتَد ِّين
باإلخالق احلميدة أمام الناس فحسب؛ هذا يف حد ذاته خدمة للدين ،من خالل
تقديم النموذج السليم والقدوة احلسنة للناس.
ويعيدنا ذلك إىل جذر مهم ألسباب تأثري الفتن التي تطرأ عىل شباب احلركة
اإلسالمية ،وهي ربط املرشوع اإلسالمي بشخوص ومجاعات ،فلو أخطأت هذه
الشخوص أو اجلامعات – واخلطأ ،بل واخلطيئة طبيعة برشية ُجبِل عليها بنو آدم –
يتم ربط هذه األخطاء واخلطايا باملرشوع ،بل وبالدين برمته ،يف ظل ضعف الفكر
والفهم القائم لدى رشائح من صغار السن.
وهي مسؤولية تتحملها احلكومات واألنظمة كذلك ،وسعيدة هبا ،يف ظل
تداعي املنظومة التعليمية والتنويرية ،مما أدى إىل نشوء أجيال كاملة ضعيفة الفهم،
وغري قادرة عىل استيعاب األمور هبذا العمق والقدرة عىل التمييز.
سهل مهمة الفساد واالستبداد والسيطرة عىل اجلموع من جانب هذه
وهو ما َّ
احلكومات واألنظمة!
552
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فإن اجلهد املطلوب بدوره تربو ًّيا ،ولكن باملفهوم الواسع الشامل
للرتبية وأدواهتا؛ حيث يدخل يف ذلك اإلعالم ،وخمتلف املحاضن الرتبوية
واملسؤولة عن التكوين الفكري واملعريف.
واألمر أبسط حتى من ذلك .القرآن الكريم شديد الوضوح يف هذه األمور،
السنَن كافة يف هذه االجتاهات؛ حيث نجد احلديث عن النرص واشرتاطاته،
ويقدم ُّ
وعن قواعد الثواب للمحسن والعقاب للميسء بني الدنيا واآلخرة ،وفيه أحاديث
الفتن.
ولو أضفنا له قراءات يف السرية النبوية واحلديث الرشيف؛ سوف لن نكون
والس َّنة بالشكل السليم.
بحاجة إىل أي يشء آخر .فقط نتد َّبر القرآن ُّ
553
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
554
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عدة ،مثل املصادفات كام يف موضوع شكل الكون ونمط العالقات والتفاعالت
بني مكوناته املختلفة ،ونظرية التطور الطبيعي والطفرات يف حالة احلديث عن
"ظاهرة" احلياة واملخلوقات احلية.
يعبون عنأما الالأدريون؛ فهم مل يزالوا عند حمطة سابقة عىل ذلك؛ حيث إهنم ِّ
موقفهم من مسألة اخللق ووجود اخلالق ،بأهنم غري قادرين عىل حسم رأهيم يف هذه
عقليا مع موقف امللحدين.
املسألة ،بسبب وجود ما يتعارض حتى ًّ
ولذلك ليس دقي ًقا القول بأن الالأدريون هم ملحدون ،وأن كلمة "الالأدري"
هذه تعني أنه ال يدري شيئًا عن وجود اخلالق .الذي يقول بذلك هو ملحد ،أما
"الالأدري" يف االصطالح ،فهو غري القادر عىل تكوين موقف بعينه يف هذه املسألة،
وليس بقادر عىل حسم موقفه من هذه املسألة.
وأقل فئة من بني هذه الفئات ،هي فئة الالدينيني؛ حيث هؤالء يؤمنون بوجود
ورب مد ِّبر هلذا الكون ،ولكنهم ال يعتقدون يف أي ٍ
دين من الديانات إله واحدٍّ ،
عرف يف أوساط الناس بالديانات الساموية ،وهؤالء يمكن الوصول ا ُمل َّنزلة ،أو ما ُي َ
معهم إىل حقيقة االعتقاد الصحيح من خالل جهد أقل تعقيدً ا مما هو مطلوب مع
الفئت َْي السابقت َْي.
وأهم مرتكزات أفكار امللحدين يف مسألة وجود اخلالق عز وجل ،هي قضية
أزلية الكون ،وأسئلة عىل غرارَ " :من خلق اهلل؟" سبحانه وتعاىل ًّ
عم يصفون.
ويف نقطة أزلية الكون ،أي أنه من دون بداية ،شاءت حكمة اهللِ عز وجل،
أن ُتن َقض أفكار امللحدين يف هذا اجلانب من خالل العلم ذاته؛ حيث إن نظرية
555
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
556
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف هذه اجلزئية بالذات؛ فإن موقف امللحدين غري عقالين ،وال يتفق مع قواعد
املنطق البسيط ،حتى بعيدً ا عن انتامئنا كمسلمني.
فوفق قواعد العلم ذاته ،واملنطق الذي حيكمه؛ فإنه ال جتوز مساواة ما ليس
بمستوى الطر َف ْي ،وهذه قاعدة رياضية بحتة .بمعنى أنه ليس من املنطق تطبيق
قاعدة َ
"اخل ْلق" عىل اخلالق واملخلوق ً
معا.
فمسألة أو قضية َ
اخل ْلق؛ تتصل بنقطة اإلجياد من العدم ،أو الصناعة والتكوين
من أمور ومواد أولية كام يف املعاين املختلفة لكلمة َ
"اخل ْلق" يف القرآن الكريم.
فعندما يصنع اإلنسان سيارة عىل سبيل املثال ،وهذا يف حد ذاته ُيعترب عملية
َخ ْلق كيان جديد من مواد ومكونات َّ
أولية ،ختتلف يف طبيعتها عن طبيعة كل جزء
منها عىل ِحدَ ة؛ هل علم أحدٌ أن هناك سيارة قد صنعت إنسا ًنا؟! ..أو قادته عرب
الطريق؟! ..هذا كالم ٍ
جماف متا ًما للعقل واملنطق.
فاإلنسان هنا هو الصانع ،والسيارة أداة ركوب ،فلذلك؛ عندما "خلقها"
اإلنسان بمفهوم التكوين والرتكيب ألداء مهمة أو وظيفة معينة؛ ال يمكن أن
نتصور أن ينطبق عىل صانعها ذات املنطق.
بنفس املنطق؛ ال يمكن بحال أن نتساءل عن كيفية َخ ْلق اخلالق؛ ألهنا "مسألة"
غري منطقية يف األصل ،وفق املعنى العلمي ملصطلح "مسألة" يف جمال املنطق .أي
أهنا عبارة عن أمر ال جتوز منطقته أو طرحه للتساؤل يف سياق معادلة منطقية نبحث
حل من األصل.هلا عن إجابة أو ٍّ
557
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
558
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
عوارض له ،أو أن يطرأ عليه تغيري ،أو أي يشء من السفاهات التي نجدها يف
تصور الديانات الوثنية لإلله اخلالق.
فبعيدً ا عن اعتقادنا كمسلمني؛ فإنه من املنطقي والبدهيي أن يكون اإلله والرب
ال ،ال يعرتيه ضعف ،وال ترسي عليه قواعد الزمن الذي هو اخلالق ،واحدً ا ،كام ً
خملوق يف حد ذاته؛ فال يمكن لألدنى أن ينطبق عىل األعىل ،وهذه بدورها معادلة
عقلية منطقية وسليمة.
......
ويف األخري؛ فإن املنهج العقيل الذي يستند إليه امللحدون واملنكرون لفكرة
صانع هلذا الكون ،هو أهم ِم ْع َول يمكن أن يتم االستناد إليه هلدم أفكارهم،
ٍ وجود
ولكن ذلك لن يكون – مثل منهج فهم القرآن الكريم – من دون تد ُّبر وفهم من
جانب العاملني يف هذا احلقل.
559
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
خال ًفا لشائع الظن لدى الكثري من دعاتنا والعاملني يف حقل الفكر اإلسالمي،
فإن مسألة الرد عىل امللحدين ليست باألمر السهل.
فهؤالء يستندون إىل نقطة غاية يف األمهية ،بعيدة عن قضية الدليل العقيل
والنقاش املنطقي ،والتي قد يسهل الدخول منها من خالل بعض الرياضة الذهنية،
ولكنه يستند إىل الكثري من األمور التي توصل إليها العلم املادي يف جوانب متعددة
من خلق اإلنسان والكون.
وهذه القضية هي من أهم ما يمكن ،وعندما ناقشناها يف موضع سابق من
احلديث؛ قلنا إهنا من املفرتض أن تكون عىل رأس قائمة أولويات الدعوة والدعاة؛
حيث جيب أن تتم دراسة ُمدَّ ثة بشكل دائم ،ملختلف صور االكتشافات العلمية يف
الكون ،ويف األرض ،والسيام يف جمال األنثروبولوجي وعلوم األحياء ،ورصد أي
تضاد ظاهري يمكن أن يكون بني النصوص القرآنية وبني هذه املكتشفات.
والرسالة القرآنية هنا واضحة ،وهي أنه من صميم يقني اإليامن ،بل من صميم وصول
اإلنسان إىل حقيقة وجود خالق ومد ِّبر واحد هلذا الكون ،هو التأمل يف اآليات والسري
يف اآلفاق ..يقول تعاىل﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
"فص َل ْت" – اآلية .]53وهذا
ورة ِّ
[س َ
ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﴾ ُ
560
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اإلمجال ،فيه الكثري من التفصيل يف القرآن الكريم ،عن آيات اهلل تعاىل يف خلق الساموات
فيهن.
واألرض وما و َمن َّ
ومن بني تلك اآليات ،الكيفية التي جاء عليها خلق اإلنسان عىل مستوى البدن
أمر ْين
ووظائف األعضاء الظاهرية ،ثم االتساق القائم بني هذا اخللق وسامته ،مع َ
آخر ْين .األول ،هو ُس َّنة التسخري ،والثاين ،محل اإلنسان لألمانة التي ك َّلفه
مهمني َ َّ
يكن ليكون ممكنًا عز وجل؛ حيث من دون طبيعة خلق اإلنسان الظاهرية ،مل ُ هبا ُ
اهلل َّ
األمر ْين.
َ ُّ
حتقق كال
فعىل سبيل املثال؛ فإنه ِمن بعد العقل؛ فإن أهم عالئم تسوية اهللِ تعاىل خللق
اإلنسان ،وأنه خلقه يف أحسن تقويم؛ اليدان ،بصورة اخللق والتكوين والقدرة
التي عليها ،وما يرتبط بانتصاب قامة اإلنسان.
هاتان السمتان مها أساس كل إنجاز عمراين وحضاري حققه اإلنسان ،فهو
مل يكن ليستطيع الكتابة أو البناء أو الزراعة أو إبداع الفنون (الفن هو كل إبداع
إنساين ،ولذلك املصطلح يف أصله يشمل اآلداب كذلك) ،أو أي يشء آخر ،من
ِ
وخلقه. دون هذا التقويم اإلهلي لسمتِه
بل إنه لوال هذه السامت؛ مل يكن عقل اإلنسان ليستطيع أن يفعل أي يشء
مما أنجزته احلضارات اإلنسانية ،فهناك نظرية يف علوم األحياء تقول بأن بعض
احليوانات الدابة ،أي التي تدب عىل قوائم ،والتي متلك نسبة ذكاء عالية؛ ليست
املستقرة،
َّ غري قادرة عىل البناء أو إقامة صورة ولو بدائية من املجتمعات اإلنسانية
فقط مشكلتها هي أهنا ال متلك يف بدهنا أدوات ذلك.
561
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
جعية؛
وتراكمية الذاكرة هنا هلا مستويان ،رأيس وأفقي .رأيس ،أي أهنا تراكمية َ ْ
أي أن اإلنسان يملك ذاكرة قادرة عىل حفظ تراث وتاريخ غريه من نفس الكائن،
562
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وتراث وتاريخ باقي املخلوقات احلية وغري احلية ،وأفقي ،بمعنى أهنا تراكمية
زمنية ،أي أنه قادر عىل حفظ تراثه وتارخيه هو وغريه عرب الزمن.
وحتى القرآن الكريم فيه ما يؤيد ذلك عن قضية قدرة احليوان عىل نقصها،
مقابل كامل ومتام خلق وقدرة اإلنسان .يقول تعاىل ﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
[سورة "األنعام" – من اآلية .]38لكن تبقى نقطة
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﴾ ُ
استواء اخللق ،هي الفيصل املهم بيننا وبينهم.
وأثبتت الدراسات األنثروبولوجية بالفعل ،أن تطور اإلنسان احلضاري ،قد
ارتبط بتطور قدرته عىل استخدام وتوظيف أطرافه ،من الصور البسيطة ،وحتى
املعقدة منها .حتى اللسان ،ألن تسهيل التخاطب بني البرش ،من خالل اللسان ،ثم
الكتابة التي هي من أرقى صور استخدام اليدَ ْين ،وأكثرها تعقيدً ا ،ساهم كث ً
ريا يف
حتقيق ُس َّنة أخرى مهمة وضعها ُ
اهلل تعاىل يف العمران اإلنساين ،وهي ُس َّنة التعاون
بني الناس ،والتي هي جذر مهم لطابع املراكمة يف التطور احلضاري.
وهذا اخللق هو أحد ضامنات سمة أخرى وضعها اهلل تعاىل لإلنسان ،وهي
الكرامة والتكريمَ .ف َيدَ ا اإلنسان صنعتا مالبسه التي تسرت عورته ،ومع استقامة
بدنه؛ بنى البيوت التي تؤويه ،واستطاع الزراعة ،واستطاع توفري األمن واألمان
جتمعاهتا.
لنفسه ولغريه ،وكل ما نراه حولنا من سامت للحياة اإلنسانية يف كل صور ُّ
ولذلك؛ فإن اجلريمة األكرب التي يرتكبها إنسان يف حق ذاته ،هو أن ينتهك
ميزه ُ
اهلل تعاىل هبا عىل سائر خملوقاته. كرامتها التي َّ
563
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
وبالتايل؛ فإن ِخ ْل َقة اإلنسان العبقرية ،هي أصل تطوره وحتكمه يف مفردات
الكون من حوله ،وبالتايل ،حتقيق ُسنَن التسخري التي شاءهتا حكمة اهلل تعاىل.
وكل ذلك يقودنا إىل حقيقة ال مراء فيها عق ً
ال ،وهي أن اخلالق موجود ،وواحد.
فهو الذي ك َّلف ووضع ُس َّنة التسخري ،وخلق األداة لدى املخلوق املقصود بكل
هذه األمور ،وهو اإلنسان.
وهذا االتساق والتكامل ،يؤكد حقيقة وجود اخلالق ووحدانيته ،وإال استطاعت
التكيف مع مفردات حياهتا املحلية ،وتطوير نفسها ،لو أن األمر
كل هذه املخلوقات ُّ
"التطور" التي وضعها داروين.
ُّ خاضع فقط لنظرية
ورة "التني" وسبحان اهللِ تعاىل إذ يقول ﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ُ
[س َ
– اآلية ."]4
ويعود بنا ذلك إىل ما قلناه يف مفتتح هذا احلديث ،وهو رضورة انشغال العاملني
يف حقول العمل الدعوي املختلفة باملكتشفات احلديثة للعلم يف النقاط واألمور
التي تتامس عىل وجه اخلصوص مع النص القرآين؛ حيث ذلك هو املدخل األسايس
واألخطر ملَن أراد الطعن يف أساس الدين.
املفسين واملفكرين، ربز مشكلة كبرية لدى بعض ِّ وهنا نموذج شديد األمهية ،وي ِ
سواء املتقدمني أو املتأخرين ،ويستند إليهم العديدون يف عرصنا احلايل ،وهي
والس َّنة النبوية،
وجود الكثري من اإلرسائيليات التي ال اصل هلا يف القرآن الكريم ُّ
وتم "تصحيحها" أو اعتامدها من جانب هؤالء ،وتصادمت هذه املقوالت مع
مكتشفات علمية ال يمكن نفيها بحال.
564
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ِ
املعاصة؛ فإهنم اجلريمة األكرب هنا ،أنه يف إطار مجود بعض املدارس اإلسالمية
اعتربوا النص السلفي الرتاثي – عىل تقديرنا له وجلهد أصحابه الوافر يف ٍ
زمن كانت
أدوات التوثيق والكتابة من أشق ما يكون – مثل النص القرآين أو النبوي .مقدس
ال جيوز املساس به ،بينام ذلك قد يقود إىل هدم بنيان الدين ذاته لصالح أصحاب
األفكار اإلحلادية.
الس َّنة النبوية ما يفيد
عىل سبيل املثال؛ ال يوجد يف القرآن الكريم أو صحيح ُّ
بتحديد دقيق للفارق الزمني بني نزول آدم "عليه السالم" وبني عرصنا احلايل،
أو بيننا وبني زمن سيدنا نوح "عليه السالم" والطوفان ،بينام نجد هناك أرقا ًما
ملجرد أن ابن كثري أو غريه قد دوهنا وتقديرات قال هبا البعض من دون أي ُّ
تعقل َّ
يف كتابه.
اآلن؛ أثبت العلم احلديث أن أقرب حدث يمكن أن يكون له أثر مركزي مثل
وطبوغرافيا،
ًّ جيولوجيا
ًّ طوفان نوح "عليه السالم" ،عىل كامل كوكب األرض
كان منذ أربعني ألف عام ،بينام يقسم بعض العلامء املسلمني ً
قديم وحدي ًثا ،من دون
املفسين ا ُملعتَربين ،أن ً
نوحا تفصلنا أي دليل ملجرد أن هناك استناد يف كتاب أحد ِّ
عنه ما بني 10آالف إىل 12ألف عام.
ونجد أنه عندما حاول الطربي وآخرون تفادي ذلك بمنطق عقيل متقدم؛ عانوا
أشد املعاناة من َع َبدة الرتاث غري املتع ِّقلني ،متا ًما كام عانى اإلمام الشافعي واإلمام
الشاطبي وغريمها ،عندما وضعوا النص الرشعي واألحكام يف إطار الظرفية
والعلل واألسباب.
565
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فعندما خرج بعض العلامء بالقول بأن الطوفان كان حد ًثا حم ِّل ًّيا ،وليس
كوزموبوليتانيا ،أي مل يشمل األرض كلها ،وأن الفارق الزمني بيننا وبينه غري حمدد؛
ًّ
كانت النتيجة أهنم قد تعرضوا ملا تعرضوا من ٍ
عنت.
هذا يف قضية واحدة ،بينام هناك قضايا أخرى أكثر خطورة وأمهية ،مثل قضية
خلق اإلنسان اآلدمي ،وعالقته باملخلوق اآلخر البدائي الذي كان يأخذ سمت
اإلنسان ،وكان يعيش عىل هذه األرض ،ولكن هلذا موضع آخر من احلديث.
....
وصفوة القول؛ فإنه يف مقابل تلك املكتشفات العلمية احلديثة؛ نجد أن اخلطاب
الدعوي التفسريي ملا ورد يف القرآن الكريم ،حول هذه األمور ،من أضعف ما
يكون ،وفيه مجود كبري يدخل منه خصوم الدين.
وبالتايل؛ فإن هناك أمهية قصوى لوضع هذه األمور كلها يف التفكري والتخطيط
لألنشطة الدعوية ،وحتديثها بام يتواءم مع خطاب وواقع العرص ،وبخالف ذلك؛
مهدرا وبال طائل ،وبأن املساحات التي يتمدد فيها اإلسالم
ً فإن هذا يعني جهدً ا
يف الوقت الراهن ،سوف تكون مهددة أمام خطاب يقدس العقل ،ويتسلح بالعلم
املادي!
566
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
من بني احلقائق املهمة التي ينبغي االعرتاف هبا ،أن حالة السيولة التي بات العامل
يعرفها يف جمال اإلعالم واملعلومات ،منذ ظهور الوسيط الرقمي ،قد أدت إىل واقع
من حرية تداول املعلومة والرأي والصورة واخلرب ،بشكل بات من املستحيل منعه.
فحتى يف أعتى البلدان التي حتكمها أنظمة شمولية مستبدة؛ باتت الرسالة
االحتجاجية نفسها تصل ،وما مظاهرات روسيا األخرية ،واستجابة احلكومة
الصينية اجلزئية يف ملف معسكرات مسلمي األوجيور – حتى ولو كانت استجابة
صورية – إال أبلغ دليل عىل ذلك.
ومن بني أهم املجاالت التي طالتها هذه احلالة من السيولة التي رافقتها حالة
ونص ،الدين ،سواء الفكرة الدينية بشكل عام ،أو
من التفكيكية طالت كل فكرة ٍّ
النصوص املقدسة ،والثوابت الدينية ،عىل مستوى كل األديان ،مثلام طالت كافة
النظريات واأليديولوجيات.
إال أنه كان لإلسالم النصيب األكرب من هذا اجلدل ،وزاد من مساحة تلك
النقاشات بشأن اإلسالم ،األزمات التي تعصف باملنطقة منذ عقود طويلة،
وبالتحديد منذ االحتالل السوفييتي ألفغانستان ،واندالع الثورة اإليرانية التي
أعلنت عن دولتها عىل أساس ديني بشكل رسمي ودستوري ،ثم حرب اخلليح
األوىل.
567
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ثم جاءت موجة األزمات التي تعصف بالعامل العريب منذ العام 2011م ،لكي
عرف باإلسالم السيايس
توسع من نطاق النقاش ،األوىل ،صعود مجاعات ما ُي َ ِّ
إىل منصات احلكم والتأثري يف بلداهنا ،يف جتربة فريدة من نوعها لتمكني أحزاب
ومجاعات تتبنى املرشوع اإلسالمي أجندة عمل هلا؛ فكان االهتامم الكبري بام سوف
منصات احلكم ،وبالذات يف القضايا الكربى التي تشغل بال
يفعلونه وهم يف َّ
الغرب ،املسيطر حضار ًّيا يف هذه املرحلة من تاريخ اإلنسانية ،مثل أوضاع املرأة
واحلريات.
ومن ذلك ،ظهور مجاعات ما ُيعرف بالسلفية اجلهادية ،أو مجاعات العنف
وخصوصا التي أسست لنفسها
ً شعارا هلا،
ً املسلح التي ترفع اهلوية اإلسالمية
كيانات أقرب إىل الدولة أو اإلمارات ،وكان هلا فيها فسحة لتطبيق مرشوعها
ورؤاها ،والتي ُح ِس َبت عىل اإلسالم واملرشوع اإلسالمي.
الظاهرة الثانية هنا ،هي موجات اللجوء واهلجرة القانونية وغري القانونية ،والتي
أدت إىل اختالط ماليني من العرب واملسلمني ،من خمتلف املستويات التعليمية
واالقتصادية والثقافية ،ومن خمتلف ألوان االنتامءات الفكرية والسياسية ،كعينة
متثيلية ممتازة للمجتمعات العربية واإلسالمية ،مع املجتمعات الغربية التي صارت
أكثر قر ًبا بشكل لصيق للغاية ،مع الثقافة اإلسالمية وما هو حمسوب عليها من
عادات وتقاليد.
ومن بني أبرز جماالت السجال الذي اندلع بني املسلمني بشكل عام ،ونخبتهم
املثقفة وا ُمل ِّ
فكرة ،وبني تيارات شتى ،أبرزها العلامنيني والليرباليني العرب ،بجانب
568
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
569
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
570
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
مثل أسرتاليا قبل اكتشاف العامل اجلديد وظهور أمريكا الشاملية كمركز حضاري
توسعت فيه أوروبا يف القرن السادس عرش وما تاله.
َّ
ونرى بالطبع اآلن حماوالت ألمم حتاول أن تنهض وتفرض ذاهتا احلضارية،
كون الثقايف واللغة وا ُمل ْنجز العلمي والعملة،
بكل مفردات ذلك ،بام يف ذلك ا ُمل ِّ
وغري ذلك عىل املنظومة السائدة ،كام حتاول الصني واهلند وروسيا والربازيل،
بدرجات نجاح متفاوتة.
ويعكس ذلك ُس َّنة مهمة تكلم عنها القرآن الكريم ،وهي ُس َّنة التدا ُفع ،والتي
هي من أهم ضامنات حتقيق التوازن ،ومن ثم استمرار احلياة عىل األرض وفق ما
أرادته احلكمة واملشيئة.
ولكن يف النهاية؛ فإن سطوة الغرب يف املجال العلمي واالقتصادي والعسكري،
مكنته من فرض نموذجه الفكري والثقايف ومنظومته القيمية واألخالقية
عرف يف االجتامع اإلنساين بـ"نمط احلياة" أو ""Lifestyle
والسلوكية .أو ما ُي َ
باملعنى الواسع للكلمة.
وبالرغم من أن هذه حقيقة عمرانية ينبغي لنا االعرتاف هبا ولكن بمنطق
التعامل عىل أساسها واالنطالق منها لتصحيح األخطاء القائمة؛ إال أن اخلطأ هو
التحض أو التخ ُّلف .ما اتفق معها،
ُّ أننا ننساق إىل أن نجعل هذه املنظومة هي معيار
متحض ،وما اختلف عنها ،فهو متخ ِّلف.
ِّ فهو
األصوب ،وهو دور اإلعالم واملراكز الثقافية والبحثية اإلسالمية ،ودور الدعاة
والرتبويني والعاملني يف حقول العمل اإلسالمي امليداين ،هو العمل عىل نقل
571
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ُّ
والتحض والسلوك املديني ،وإبراز النامذج التي املكون اإلسالمي ملفاهيم التنوير
ِّ
تقول بأن اإلسالم قادر عىل إنشاء مراكز مدنية وحضارية متكاملة ،وقادرة عىل
فرض كلمتها وسيادة األمة.
والس َّنة النبوية الرشيفة،
ُّ املكون الفكري؛ لدينا يف القرآن الكريم
ِّ ويف جمال
الس َّنة تشمل ِف ْعل النبياآلالف من اآليات والعبارات واملامرسات – باعتبار أن ُّ
للمكون احلضاري والتنويري الذي ينهض
ِّ ﷺ – التي ِّ
تشكل صورة متكاملة
باملجتمعات التي تطبقه.
عىل مستوى التطبيق ذاته؛ فإن التاريخ اإلسالمي حيفل بنامذج ِّ
مرشفة ملراكز
مدينية هنضت عىل أساسها حضارات سادت لقرون طويلة ،ومل تكن لتسود لوال
كون الفكريكفاءة ما هنضت عليه من أسس ،وأمهها الرشيعة التي منحتها ا ُمل ِّ
والقيمي الذي تنهض عليه اجلوانب املادية للحضارات.
والغرب نفسه يعرتف بذلك؛ فهناك تصنيف موضوع للحوارض التي سادت
العامل وأ َّثرت فيه طيلة األلفيات األربع املاضية ،فكانت اإلسكندرية ثم روما هي
احلوارض األهم يف العامل خالل األلفية األوىل قبل امليالد ،ثم أصبحت بغداد يف
األلفية امليالدية األوىل وقت الدولة العباسية األوىل ،ثم لندن ونيويورك يف عصورنا
احلديثة.
إ ًذا؛ فاحلضارة اإلسالمية هلا ممثل قوي يف هذا السباق ،وتقدم لنا نامذج مثل
ماليزيا اآلن ،كيف يمكن املوائمة بني قيم اإلسالم وبني اعتبارات التقدم العلمي
والسلوك املديني ،وأهنام ال يتعارضان؛ حيث نجد يف مساجد ماليزيا الصنابري
572
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
املو ِّفرة للمياه ،ونجد هناك ضوابط لذبح األضاحي تتوافق مع أرقى أنامط الضوابط
الصحية واملدنية املعمول هبا يف مدن الغرب.
يزكي إطال ًقا مث ً
ال ما نراه من أمور ال تقبلها إننا جيب أن نقول إن اإلسالم ال ِّ
الفطرة اإلنسانية السليمة يف مواسم عيد األضحى يف بعض املجتمعات العربية
واملسلمة .جيب أن نقول إن اإلسالم احلقيقي يبني حضارة تقوم عىل أساس النظافة
املادية واملعنوية .اإلسالم يمكنه أن يبني لندن ونيويورك مسلمت َْي .متا ًما مثلام بنى
بغداد والقاهرة والقريوان يف املايض.
واألهم أننا جيب أن نصل إىل هذه املجموعات من الناس بقناعة شديدة األمهية،
وهي أن الرشيعة اإلسالمية جامعة ولكنها غري مانعة .أي أهنا تقبل أي ُم َ
بتكر مادي
أو معنوي لإلنسانية فيه صالح وفائدة.
إن الصورة السائدة عن الرشيعة من أهنا تتضمن أحكا ًما لكل يشء ،وبالتايل؛
فهي رشيعة جامدة ال تقبل أي يشء من خارجها – حاشا هلل تعاىل – هذه صورة
خاطئة .فالتحريم حمدد يف الرشيعة اإلسالمية ،وهناك قاعدة ُك ِّل َّية مهمة للغاية هنا،
َص" ،وبالتايل؛ فالرشيعة اإلسالمية هي ثوب فضفاض تقول بأنه "ال حتريم إال بن ٍّ
كبري ،يمكنه استيعاب كل مجاليات ا ُمل َ
نجر البرشي املفيد ،وال يمنعه.
ٍ
بشعرة، ويف األخري؛ فإن الرشيعة اإلسالمية إنام أتت لتأكيد الفطرة ،ومل ختالِف
يف السامح ِ
واحل ِّل ،أو التحريم واملنع ،قواعد الفطرة السليمة إطال ًقا ،ألن اخلالق
ِّ
املرشع الذي أنزل إليها الرشيعة ،واحد ،هو اهلل صاحب الفطرة ،والشارع أو
573
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
574
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
طالعتنا قبل أيام نتائج دراسة علمية ُأج ِر َي ْت يف بريطانيا وأوروبا عن الشذوذ
جنسيا إىل نفس النوع.
ًّ اجلنيس أو امليول اجلنسية املثلية .أي ميل اإلنسان
الدراسة التي جرت يف بريطانيا ،يف إطار مرشوع " ،"UK Biobankبالتعاون
متطوع
مع رشكة أمريكية تعمل يف جمال االختبارات الوراثية ،وشمل نصف مليون ِّ
بريطاين ،متت مقارنة النتائج التي تم التوصل إليها مع بيانات ومعلومات عرشات
اآلالف من األفراد ذوي األصول األوروبية ،انتهت إىل أن هناك جينات – قليل
العدد – ترتبط بشكل واضح بالسلوك اجلنيس املثيل لإلنسان.
وأشارت الدراسة إىل أن هذه اجلينات ،مع عوامل بيئية أخرى ،هي التي ترسم
السلوك اجلنيس لألفراد.
صحيح أهنا مل تتوصل إىل رابط دقيق بني هذه احلالة وبني ج ٍ
ني بعينه ،إال أن
جممل النتيجة يمس قضية ذات أمهية يف املجال العلمي /الطبي والنفيس ،واملجال
احلقوقي ،وهي قضية طبيعة امليول اجلنسية املثلية؛ هل هي مرض؛ عضوي أو
معا ،أم فطرة ولكن أصحاهبا أقلية ،مثل أصحاب العيون الزرقاء
نفيس ،أو كالمها ً
أو اخلرضاء أو الرمادية؛ حيث الشائع يف ألوان العيون ،األسود والبني ،أم هي
انحراف سلوكي.
ويف حقيقة األمر؛ فإن توصيف هذه احلالة هذا يف غاية األمهية بالنسبة لنا
كمسلمني؛ حيث إن أي توصيف علمي حمايد أو موضوعي هلا؛ يمس يف الصميم
575
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
توصيف الرشيعة اإلسالمية وأحكامها فيام خيص اللواط (العالقة اجلنسية بني اثنني
من الذكور) أو السحاق (العالقة اجلنسية بني اثنتني من اإلناث) ،وبالتايل؛ جيب
الوقوف عندها.
وعمو ًما؛ فإنه حتى اآلن؛ فإن منظمة الصحة العاملية ،ال تعترب الشذوذ أو املثلية،
ً
مرضا.
وقب ً
ال؛ فإنه من األمهية بمكان اإلشارة هنا إىل أن مصطلح "الشذوذ اجلنيس"؛
الس َّنة النبويةرشعيا؛ حيث مل يرد ال يف القرآن الكريم وال يف ُّ
ًّ مصطلحا
ً ليس
رشعيا.
ًّ نصا الرشيفة ،وحتى "اللواط" و"السحاق"؛ مل يرد فيهام أص ً
ال أو ًّ
وقد تفرض بعض قواعد اخلطاب السليم ،أنه إذا ما أردنا وصول الرسالة إىل
الطرف اآلخر ،فإنه ينبغي ضبط املصطلح بام يضمن جذب اجلمهور اآلخر أ ًّيا
كان ،لسامعك.
عدد من األمور ،أوهلا ،التطورات العميقة احلاصلة يف املجال
ويفرض ذلك ٌ
االجتامعي واإلعالمي يف زمننا املعارص ،ويف قواعد االتصال اإلنساين ،ويف تقنياته،
ويف طبائع اإلنسان بشكل عام يف ظل السيولة واالنفتاح يف عرص ما بعد احلداثة.
وأبسط أدلة ذلك ،هو ما نراه من تبدالت يف سياقات العالقة بني األب واألم
وبني األبناء ،حتى يف األرس التي تتبنى أنساق الرتبية اإلسالمية.
وثانيها ،أن اجلمهور العام ،سواء املسلم أو غري املسلم ،ينظر للعاملني يف حقول
العمل اإلسالمي املختلفة ،وبالذات الدعوة ،عىل أهنم – أي هؤالء العاملون
576
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
577
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
578
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
اإلقناع ،بينام ال نجد وص ًفا ملا نجده من البعض بني ظهرانينا ،سوى أن فينا ضعيفي
الفهم الصحيح للدين ،وكأهنم حتى مل يقرأوا القرآن الكريم.
فال يمكن بحال وأنت تناقش القرآن الكريم والرشيعة ،أن تتجاوز ِ
الع ْلم
وفق هذه النظرة الفلسفية اإلسالمية له .فمكتشفات ِ
الع ْلم ليست من صنع
اإلنسان.
ِّ
ونوضح هنا بأمثلة .فاإلنسان ليس هو الذي وضع صفات اليورانيوم التي جتعله
يف ِرز كل هذا َ
الكم من الطاقة احلرارية لو تم قذف ذرته بنيوترون ُحر .هذا ببساطة،
العنرص ْين .قدرة النيوترون عىل اخرتاق ذرة اليورانيوم،
َ هو خلق اهللِ تعاىل َ
هلذ ْين
وتوليد الذرة التي تم قذفها هلذه الطاقة احلرارية.
والعلامء الذين اكتشفوا اجلاذبية األرضية؛ مل يصنعوها ،وحتى ما اكتشفوه من
أدوات لتجاوز تأثريها؛ إنام هي كذلك عبارة عن مكتشفات خلواص وصفات
وضعها ُ
اهلل تعاىل يف املواد التي استخدمها العلامء ،متى تم استخدامها برتتيب
معين َْي هلذا الغرض.
وتركيب َّ
وكل ما فعلناه نحن ،هو أننا قد اكتشفنا ذلك ،بل وأزيد هنا أن التواتر والرتاكمية
يف هذه النقطة؛ إنام هي بإرادة اهلل تعاىل ،وفق ما شاءته حكمته يف صريورات التطور
البرشي واحلضارة والعمران عىل األرض ،وكل ذلك يتم وفق معادلة تتم بني
قانون مهم ،هو قانون التسخري ،وبني عملية حتقيق ُسنن ثابتة ،وهي االستخالف
وعامرة األرض ،إىل أن يأذن ُ
اهلل تبارك وتعاىل وتنتهي الدنيا.
579
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
فالعلم هبذا املعنى ،ليس من ممتلكات أديسون ،فهو مل خيلق اإللكرتون ،ومل
يمنحه صفاته هذه .فقط هو اكتشف خصائصه ،وطوعه بالصورة التي استفدنا
منها يف املصباح الكهربائي وكذا.
حسب للعلامء املاديني
هذا ال ينفي أسبقية العلامء ،وال ينفي نسب املجد هلم ،ف ُي َ
طبعا ،وللعلامء
أهنم توصلوا إىل هذه القوانني والصفات من خالل اجتهادهم ً
باع طويل عرب التاريخ يف جمال العلم التجريبي.
املسلمني ٌ
إنام هنا فقط ُنر ُّد األمور إىل أصلها ،ففي النهاية هم مل خيلقوا شيئًا لكي أخرج أنا
كمسلم لكي أقول" :الرشيعة أسمى من أن يثبتها العلم أو أن تكون رشيط ًة له".
كال .ما ثبت من خواص للامدة واملخلوق؛ هي من لدن اهللِ تعاىل ،وجيب إن حدث
األمر ْين ،وأن
َ تضاد ظاهري بينها وبني حكم رشعي أن أبحث يف كيفية املوائمة بني
تكون موائمة يقبلها غري املسلم قبل املسلم.
وثمة نقطة مهمة جتب اإلشارة إليها هنا لكي نستكمل أركان الصورة كافة،
وهي أن بعض ما يتم اإلعالن عنه من مكتشفات علمية؛ يثبت خطأه فيام بعد،
هذا سليم ،وال يتناقض مع ما سبق ،ففي النهاية؛ فإن البحث العلمي يف معناه
القريب؛ إنام هو أداة قياس وجتريب ،وبالتايل؛ فإن هناك عوامل كثرية للخطأ ،مثل
العدِّ أو يف ضبط رشوط وظروف التجربة ،أو أن يكون حتى
العال يف َ
ِ أن خيطئ
والتحيز يف البحث العلمي مصطلح منضبط وواسع ،ومن أخطر األمور
ُّ متح ِّي ًزا،
التي يمكن أن تد ِّمر التجربة.
580
الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
لكن ليس هذا ما نقصده يف هذا السياق؛ عندما حتدثنا عن أمهية أن نضع ِ
الع ْلم
ومكتشفاته نصب أعيننا ،وبالذات يف جمال العلوم التي ذكرنا أهنا تتامس مع أمور
كثرية يف القرآن الكريم ويف أحكام الرشيعة.
قطعا حول طبيعة َ
اخل ْلق من حولنا؛ ال جيب أن نتلقاها فام نقصده هو أن ما يثبت ً
عقليا باملعنى القارص؛ أهنا عبارة عن منجز أو ٍ
جهد برشي. ًّ
من دون ذلك؛ سوف ينهار بنيان الدين بالكامل لدى كثري من معتنقيه ولدى
جمتمعات الدعوة؛ حيث سوف تنفصل ُعرى املعادلة األساسية للتوحيد ،بل
واإليامن بوجود اهلل تعاىل نفسه ،وهي أن ِّ
املرشع واخلالق واحد.
.....
ويف األخري؛ فإنه وفق نتائج الدراسة اجلديدة؛ فإن مسألة أن الشذوذ أو املثلية
أمرا ثاب ًتا ،ولكن جذر املشكلة ،هي طرائق
اجلنسية ،هو فطرة أو طبيعة إنسانية؛ ليس ً
التعاطي مع مثل هذه األمور من جانب مجهور واسع من املسلمني ،ومنهم علامء؛
ال يضعون يف حسباهنم نقطة أن إقناعك لغري املسلم باعتناق اإلسالم هبذه الطريقة،
وبالذات يف املجتمعات املتقدمة يف املجال العلمي ،و ُت ْعيل من سطوة العقل؛ سوف
تقود إىل فشل مبني.
واألخطر من ذلك؛ أن يف ظل أنه لدينا أجيال من املسلمني ممَّن يمكن أن نطلق
عليهم "مسلمني بالوراثة" ،وال يعلمون عن دينهم الكثري ،ويف ظل الفوىض
والسيولة التي حتكم كل يشء يف عاملنا املعارص؛ فإننا سوف نقف أمام ظواهر سيئة
ال إىل اإلحلاد الرصيح. مثل التف ُّلت من الدين ،وصو ً
581
في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد الفصل الثالث
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف حقيقة األمر؛ فإن ذلك بحاجة إىل جهد مزدوج ،يف االجتاه الدعوي
والرتبوي ،لرتسيخ املفاهيم السابقة ،وآخر يف اجتاه أكثر صعوبة ،وهي مزج العمل
الدعوي بطابع علمي ،يعمل عىل كرس الصورة الذهنية اخلاطئة بوجود تعارض
ظاهر بني الرشيعة وأحكامها ،وبني مكتشفات العلم احلديث ،مع الوضع يف
االعتبار أمهية االهتامم بام هو ثابت يقينًا من قواعد ومكتشفات علمية ،وليس بام
هو ال يزال يف طور البحث وعدم اليقني.
582
الخاتمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الخاتمة
وبعد؛؛ فإننا من خالل هذا التطواف الواسع الذي حاولنا فيه بعض الشمول،
ألنه ال يمكننا أن نشمل كتاب اهللِ تعاىل بالفهم الكامل؛ رأينا كيف أن القرآن
الكريم قد نزل لتحقيق ما ال يمكن حرصه أو إدراكه من أمور ،ال تعني املسلمني
فحسب؛ بل هي ترسم اخلطوط العامة لصريورات اإلنسانية بأكملها ،وتلقنها
املعارف الالزمة لكي تدرك الرسائل واملغازي من خلق اإلنسان ،وتسخري الكون
له ،وأدوات التعامل معه.
ورأينا أن رشط ذلك ،هو التدبر واالجتهاد يف فهم ما جاء فيه من عبارات وصور
تارخيية وإسقاطات فكرية وعملية ،وما تناوله ودعا إليه يف صدد األخالق والقيم،
وأوضحه من قواعد للعمران البرشي ،منذ اخللق وإىل يوم يبعثون.
ومن بني أهم الرسائل التي متيز املحتوى القرآين – لو صح التعبري – كام رأينا،
أثرا عرب التاريخ ،هو ما مجعه من تنوع ما
وجتعله أكمل الكتب وأمهها وأعظمها ً
بني التأسيس األخالقي والفكري والرتبوي ،وبني اجلوانب املتعلقة بحركة وسعي
اإلنسان يف هذه احلياة الدنيا.
ولقد وردت كلامت "سعي" و"عمل" ،وغريها من أشكال الفعل واحلركة،
بمشتقاهتا املختلفة ،يف القرآن الكريم ،مئات املرات ،وكلها كانت ذات اجتاه إجيايب
583
الخاتمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
يف مضموهنا ،بخالف العبارات والكلامت التي تتناول القعود عن الفعل الواجب
عىل اإلنسان؛ حيث كانت ً
دائم ما تكون حمل ذم أو ذات مضمون سلبي يف التناول
القرآين.
ووجدنا أن قضية العالقة بني املسلم والقرآن الكريم هي من أهم القضايا التي
جيب بحثها ،ولئن كان هناك دليل عىل أمهية تلك العالقة ،بام تتضمنه من فهم
من جانب املسلمني لتعاليم القرآن الكريم ،ومتطلبات التعامل القيمي واحلركي
معها ،أنه من بني أهم املفردات املوضوعة يف خمططات قوى االستعامر العاملي
التي تستهدف أمتنا ،هي فصل املسلم عن القرآن الكريم ،بكل ما يعنيه ذلك من
ٍ
معان.
وعندما َّ
نط َّل ُع عىل حال املسلمني يف وقتنا الراهن؛ فإننا سوف نجد أن هناك الكثري
من الضبابية املحيطة بفهم اإلنسان املسلم ،واجلامعة املسلمة ،للقرآن الكريم؛ حيث
يقفون عند النص تالو ًة ،انطال ًقا ِمن أن ِمن بني مفردات تعريف القرآن الكريم أنه
تعبد بتالوته"؛ حيث يكتفي الكثريون بمجرد قراءة النص ،من دون التطرق "ا ُمل َّ
لفهمه ،أو النظر إىل ما يدعو إليه النص.
ٌ
فريضة عىل واضح يف هذه النقطة؛ حيث إنه
ٌ يف املقابل؛ فإن القرآن الكريم
ٍ
معان .يقول اهلل عز وجل يف كتابه العزيز، املسلمني بكل ما يف كلمة "فريضة" من
عن القرآن الكريم ،يف هذا املعنى ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ
[سورة "ال َق َصص" – اآلية
ﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭢﭣﭤ﴾ ُ
(.])85
584
الخاتمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
هذه اآلية تدُ ل عىل حقيقة عقيدية مهمة ،وهي أن ما ورد يف القرآن الكريم من
ٍ
ونواه ،وكذلك رؤى حول حقيقة اإلنسان ودوره ورسالته يف هذه الدنيا؛ إنام أوامر
كنص ُيقرأ وكفى.
هو فريضة عىل املسلمني ،وليس األمر كام يأخذه البعض ٍّ
والقرآن الكريم كتاب شامل للقيم املعنوية واجلوانب احلركية يف ٍ
آن ،وكل ما فيه
من تعاليم ،هي فرائض عىل اإلنسان ،وأحكام عامة ،وليست عىل سبيل املجاز ،أو
التخصيص الزمني أو الشخيص.
فهناك من يتعلل يف بعض األحكام ،كالتي ختص اجلهاد والقتال ،أو ختص املرأة
املسلمة وعفتها ،بأن ذلك خيص الرسول الكريم ﷺ ،وأصحابه ،رضوان اهلل تعاىل
عليهم أمجعني ،أو زوجاته ،أو أهنا أحكام تتعلق ببيئة زمنية أو اجتامعية معينة.
أمورا عقائدية مهمة جيب أن تكون يف صميم إيامن
وذلك فهم خاطئ ،وخيالف ً
كل مسلم؛ من أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل تعاىل املتني ،الصالح لكل زمان
ومكان ،وحيوي حكمة الكون ،ورشعة اهلل عز وجل لعباده إىل يوم يبعثون ،وفيه
تعاليمه عز وجل ،وما ينبغي أن يقوم به البرش.
وهي أمور أن تكون أمة التكليف هبا أجدر ،أمة املسلمني ،من أتباع حممد ﷺ،
الذين عليهم مهمة هداية البرش وإخراجهم من الظلامت إىل النور ،ومن ذل العبودية
لغري اهلل تعاىل ،إىل احلرية املطلقة ،التي تعني العبودية هلل وحده عز وجل ،والتحرر
من أغالل العبودية لغريه ،بام يف ذلك عبودية احلاكم ،وعبودية املادة ،وغري ذلك
من صور العبودية ِ
املذ َّلة.
585
الخاتمة
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
ويف هذا اإلطار ،فإنه من بني أهم التفاسري التي وضعت للقرآن الكريم انطال ًقا
قديم ،تفسري "اجلامع ألحكام القرآن" لإلمام القرطبي ،الذيمن هذه احلقائق؛ ً
فس القرآن الكريم انطال ًقا مما يتضمنه من أحكام ورشائع.
َّ
ولعل أهم ما جيب أن يوجه اإلنسان الصحيح الفطرة ،سعيه يف هذه احلياة
الدنيا ،هو العمل عىل متكني رشيعة اهلل تعاىل يف األرض ،وحماربة كافة أشكال
اجلهل والعبودية ،والسعي إىل طلب العمل والتدبر يف آيات اهلل تعاىل.
مستوى أعىل من اإليامن ،واالستفادة مما سخره
ً وكل ذلك من أجل حتقيق الوصول إىل
اهلل تعاىل لإلنسان من خملوقات وممكنات للعيش عىل األرض ،وكله يصب يف اجتاه اهلدف
األسمى خللق اإلنسان ،وهو عبادة اهلل تعاىل وحده ،وإفراده هبا سبحانه وتعاىل.
.....
ويف األخري ،فإن احلديث يطول ،ومهام طال؛ فإنه لن يويف ولن يكشف كل
أركان العظمة واحلكمة اإلهلية يف كتابه العزيز ،فنختم بقول اهللِ تعاىل من خواتيم
ورة "الكهف" ،مما ِّ
يلخص الكثري من أحوالنا يف هذه الدنيا ﴿" :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ُس َ
ﯵﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽ ﯾﯿ ﰀﰁ ﰂﰃﰄ ﰅ ﰆ
ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ
ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﴾.
586
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
الفهرس
الصفحة املوضوع
9 المقدمة .................................................................................
23 الفصل األول :معامل احلضارة واملدينية والعمران يف القرآن الكريم .....
27 ردا عىل ُدعاة التجهيل والبداوة! .......
.1اإلسالم وصناعة احلياة والعمرانًّ ..
32 .2املدنية واملدينية يف اإلسالم ..قراءة يف أفكار األنصاري وابن نبي ...............
39 .3القرآن الكريم وكيفية بناء نموذج معريف إسالمي ...............................
44 .4قراءة أكسيولوجية يف القرآن الكريم وكامل البنيان األخالقي يف آياته ........
51 .5حوار احلضارات ..بني اإلرث االستعامري وذنوب املسترشقني ..............
ُ .6سنَن العمران والتطور بني املسلمني وغريهم ..الدين كركيزة أساسية يف
58 حضارة اإلسالم ..........................................................................
65 .7روح احلضارة والعمران فيام جاء به اإلسالم ..رسائل قرآنية واجبة القراءة!
73 .8قضية هنضة األمة ورشوط النهوض يف القرآن الكريم..............................
79 .9قضية العدالة بني الفلسفة اإلسالمية والفلسفات الغربية .........................
85 .10معامل غائبة من النظام األخالقي واالجتامعي يف اإلسالم .......................
90 .11مقاصد الرشيعة بني الديمقراطيات واالستبداديات ............................
.12أمهية الضوابط الدينية واألخالقية يف صيانة العمران ..مفردات حضارية
97 غائبة! .......................................................................................
102 .13أمهية دور املجتمعات يف القضاء عىل الفساد ..نظرات عمرانية ............
587
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
.14جتربة ابن خلدون وكيف أسس القرآن ملدرسة التنوير العقيل يف فهم
106 العمران ....................................................................................
112 .15ماذا يعني أن ترى العامل من خالل التصور اإلسالمي .............................
118 السنن االجتامعية يف اإلسالم ..ميزان العدل وضامنة الستقرار املجتمعات
ُّ .16
.17اإلنسان ومكانته يف مقاصد الرشيعة اإلسالمية ..أولوية مؤجلة يف
123 قضايانا! ....................................................................................
129 .18الكفاءات واحلكم الرشيد يف الرتبية النبوية ودولة عمر ..أصول نفتقدها!
134 املكون األخالقي كأساس للمرشوع احلضاري اإلسالمي ..................
ِّ .19
139 .20املسترشقون ونظرية الرتبية واألخالق يف اإلسالم ...........................
146 .21قراءة إسالمية يف مفهوم املواطن العاملي ..أسبقية الدين وأخطاء التنميط!!
154 تقبل الرسول ﷺ معارضيه؟! ............................................
.22كيف َّ
158 .23املعرفة كأحد مراتب التطور احلضاري ومعركة إعادة صناعة وعي األمة
164 .24اسرتاتيجيات التعطيل احلضاري بني استجابة األمة ومتطلبات التصدي
.25اإلسالم وقضية الرصاع السيايس واالجتامعي ..دروس يف املعاجلات من
171 دولة املدينة .................................................................................
180 بدء يف دروس حركية ................. .26اإلسالم وقوانني العمران ..عود عىل ٍ
184 ٍ
ومعان غائبة ....................... .27السرية النبوية يف السياق املجتمعي ..معامل
189 .28التفكري واملنهج العقيل يف القرآن الكريم ........................................
194 .29الشورى كسلوك وممارسة اجتامعية يف املنظومة اإلسالمية ...................
199 .30ملاذا يتعلم أبناؤنا؟ ..رؤية إسالمية منسية ......................................
205 .31اإلسالم وقضية الصورة الذهنية ..بني احلرملك ومعامل ناسا! ............
588
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
285 الفصل الثاين :يف تصحيح مفاهيم خاطئة يف فضائنا اإلسالمي ..........
املعاصة عىل الرتاث اإلسالمي ِ .1أثر التطرف وفوىض املدارس الفكرية
289 ومستقبله ...................................................................................
295 أسلم تس َلم ..نحو فهم جديد يف إطار املامرسة النبوية ........................... ِ .2
302 .3االجتهاد املصلحي وأمهية انضباط العمل السيايس باملقاصد ...................
308 .4األمانة وفلسفة التكليف يف القرآن الكريم .......................................
317 .5التمكني يف القرآن الكريم ..مسؤولية وبداية وليس غاية وهناية! ..............
589
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
590
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
431 .25قضية احلق يف اإلسالم والقوة التي حتميه وال ختلقه! ............................
436 .26قوانني االستطاعة وحاكميتها يف سعي اإلنسان ..أسس فكرية وحركية
440 .27مبدأ احلاكمية هلل ..جزء من عقيدة كل مسلم! .................................
446 .28مفهوم العدل اإلهلي وعقاب الظاملني يف الدنيا واآلخرة! .......................
452 .29مفهوم متام الدين بني األصل الرشعي وقضية التكفري! .........................
458 .30نحو مدرسة حداثية لقراءة الرتاث ..............................................
465 .31هل األمة بحاجة إىل مستبدٍّ عادل؟! .............................................
472 الط ِري َق ِة ..ما الطريقة وكيف نستقيم عليها ................. َ .32و َأ َّل ِو ْ
اس َت َق ُاموا َع َل َّ
479 .33وحدة األمة واألصول الرشعية ..ارتباط عضوي غائب! .....................
485 حولنا الدين إىل أيديولوجية! .............................................
.34عندما َّ
494 أسست ملنهج دعوي وإنساين شامل .................. َ .35أ َل ْي َس ْت ن ْف ًسا؟! ..كيف َّ
.36منهج املعتزلة وجدل جتديد اخلطاب الديني ..عن حدود تعامل العقل مع
499 الرشيعة ...................................................................................
505 الفصل الثالث :يف الرد عىل العلامنيني ودعاة اإلحلاد .......................
509 ردا عىل دعاة اإلحلاد .....................................
.1الدين كفطرة إنسانيةًّ ..
514 .2الدين ومحاية املجتمعات اإلنسانية ..رسالة إىل أصحاب الشطط العلامين!
519 .3خطيئة التطرف عند العلامنيني والليرباليني .......................................
524 .4علم االجتامع الديني وأمهية دراسة أنثروبولوجيا الدين ..........................
529 .5عن اهلل الذي ال نعرف وملاذا ِ
يلحد امللحدون!! ..................................
536 .6ملاذا اإلحلاد أم ملاذا الدين؟! .........................................................
591
الفهرس
أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم
592