You are on page 1of 592

‫أسس الحضارة والعمران‬

‫في القرآن الكريم‬


‫الطبعة األولى‬
‫‪1441‬هـ‬
‫‪2020‬م‬
‫أسس احلضارة والعمران يف القرآن الكريم‬ ‫اسم الكتاب‪:‬‬
‫أمحد التالوي‬ ‫التأليف‪:‬‬
‫عدد الصفحات‪ 592 :‬صفحة‬
‫‪17X24‬‬ ‫مقاس الكتاب‪:‬‬
‫الطبعة األوىل‬ ‫عدد الطبعات‪:‬‬
‫تصميم الغالف‪ :‬حممد دربالة‬
‫‪2019/ 22105‬‬ ‫رقم اإليداع‪:‬‬
‫التنسيق الداخيل‪ :‬أمحد البسيوين‬
‫‪978-977-855-567-7‬‬ ‫الرتقيم الدويل‪:‬‬

‫دار مسار للنرش والتوزيع‬


‫‪01020439639‬‬
‫‪massar.pub1@gmail.com‬‬
‫ش‪ -‬حسن خطاب ‪ -‬قسم يوسف بيك ‪-‬‬
‫الزقازيق ‪ -‬الرشقية‬
‫أسس الحضارة والعمران‬
‫في القرآن الكريم‬
‫مع تصحيح ملفاهيم خاطئة يف فضائنا اإلسالمي‬

‫تأليف‬

‫أحمد التالوي‬

‫القاهرة‬
‫‪2020‬م‬
‫اإلهداء‪:‬‬
‫ٍ‬
‫باحث عن‬ ‫مسلم‬
‫ٍ‬ ‫إىل كل‬
‫الفهم واحلقيقة يف هذا العامل‪..‬‬
‫ﱫﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﱪ‬
‫ورة "هود"]‬
‫[قرآن كريم ‪ُ -‬س َ‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مقدمة‬

‫[‪]1‬‬
‫يف ُسورة "الفرقان"‪ ،‬يقول رب العزة سبحانه‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾‪ ،‬ولئن كان القرآن الكريم‪ ،‬هو كتاب اهلل املتني‪،‬‬
‫الذي نزل به الروح األمني‪ ،‬من لدن اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬عىل قلب حممد ﷺ‪ ،‬حام ً‬
‫ال‬
‫الدار ْين‪ ،‬الدنيا واآلخرة؛‬
‫وس ُبل هدايتهم وسعادهتم يف َ‬ ‫تعاليم اهلل عز وجل للبرش‪ُ ،‬‬
‫فإننا يمكن أن نفهم ِع َظ ِم َ‬
‫اخل ْطب الذي تشري إليه هذه اآلية‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬كام يقول اإلمام القرطبي‪ ،‬يف اجلامع ألحكام القرآن‪،‬‬
‫ويف مقصود هذه ُّ‬
‫التأكيد عىل ِع َظم القرآن الكريم‪ ،‬والرد عىل مطاعن الكفار يف نبوة رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫والرد عىل مقاالهتم يف ذلك‪ ،‬والتي كان من بينها القول بأن القرآن الكريم من افرتاء‬
‫حممد ﷺ‪ ،‬وإنه ليس من عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬إثبات ألوهية‬
‫ولذلك يقول أهل العلم‪ ،‬إنه من بني أهم دعائم هذه ُّ‬
‫منزل من عند اهلل عز وجل‪ ،‬والتأكيد عىل صدق‬
‫مصدر القرآن الكريم‪ ،‬وأنه َّ‬
‫الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬فيام جاء به من عند اهلل‪ ،‬من هذا القرآن العظيم‪.‬‬

‫وهي قضية ُك ِّل َّية مهمة مل تركز عليها هذه ُّ‬


‫السورة فحسب؛ فالرسول الكريمﷺ‪،‬‬
‫ُب ِع َث للناس كافة‪ ،‬بتعاليم اإلله الواحد األحد ورشيعته وقوانينه‪ ،‬وهذه الرشائع‬

‫‪9‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬التي ما نطق‬


‫والقوانني احتواها القرآن الكريم باألساس‪ ،‬مع ُّ‬
‫هبا حممد ﷺ‪ ،‬عن اهلوى‪ ،‬وإنام هي بدورها من لدن رب العزة سبحانه‪.‬‬
‫ولقد ركز أئمة الكفر‪ ،‬سواء يف عهد النبوة‪ ،‬وعرب القرون التالية‪ ،‬عىل التشكيك‬
‫يف مصدر القرآن الكريم‪ ،‬وزعم أباطيل كثرية حوله‪ ،‬من أجل ِّ‬
‫فض الناس عنه‪ ،‬ويف‬
‫"فص َل ْت"‪ ،‬يقول اهلل تبارك وتعاىل يف هذا‪ ﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫ُسورة ِّ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﴾‪.‬‬
‫والرد اإلهلي عىل ذلك يف الكتاب واضح‪ ،‬ويف ُسورة "الفرقان" نفسها‪ ،‬يقول‬
‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ‬
‫ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ‬
‫ﯿﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬استكمل رب العزة سبحانه‪ ،‬أركان الصورة‪ ،‬فهو يذكر موقف‬
‫ففي ُّ‬
‫الكافرين من القرآن الكريم‪ ،‬ومن حقيقة نزوله عىل حممد ﷺ‪ ،‬ثم يرد عىل هذه‬
‫املزاعم واألباطيل‪ِّ ،‬‬
‫ويبي أن اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬قد أنزل القرآن الكريم عىل‬
‫الرسولﷺ عىل مراحل‪ ،‬وعىل فرتات؛ فرقا ًنا مبينًا‪ ،‬وذلك لتثبيت القلوب‪،‬‬
‫وحفظه‪.‬‬
‫وعىل الرغم من خطورة وأمهية هذه املسألة التي عرجنا عليها بيشء من التفصيل؛‬
‫ثمة مسألة أخرى أهم وأخطر تتعلق بقضية هجران القرآن الكريم‪ ،‬وهو أن‬
‫إال أنه َّ‬
‫يتم ذلك من جانب املسلمني أنفسهم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وه ْج ُر املسلمني للقرآن الكريم قضية كربى يف األزمة احلضارية التي تواجهها‬
‫َ‬
‫األمة يف الوقت الراهن‪ ،‬فالقرآن الكريم هو منبع تعاليم اهلل عز وجل لعباده‪،‬‬
‫وحيمل رشعته ومنهاجه هلم‪ ،‬وحيمل‪ -‬كذلك‪ -‬الرؤية الشاملة الرضورية لفهم‬
‫صريورات احلياة الدنيا‪ ،‬واالستعداد لآلخرة‪ ،‬ومصائر ومقادير البرش‪ ،‬يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬واألهم‪ ،‬فهم حقيقة دور املسلم‪ ،‬بل وكل إنسان من نسل آدم "عليه‬
‫السالم"‪ ،‬يف احلياة الدنيا‪.‬‬
‫َّ‬
‫وهناك الكثري من الوثائق التي تتحدث عن خمطط شامل ألعداء األمة لفصل‬
‫املسلم عن القرآن الكريم‪ ،‬ومن بني أمهها‪ ،‬ما ترسب عن مؤمتر كلورادو التنصريي‬
‫الشهري‪ ،‬املنعقد عام ‪1978‬م‪ ،‬والذي تم فيه التأكيد عىل هذه املسألة‪ ،‬باعتبار أن‬
‫القرآن الكريم هو بوصلة املسلم يف حياته‪ ،‬وهو املعني األول لألمة يف مسريهتا‬
‫احلضارية‪ ،‬وجيعل النظام اإلسالمي هو أكثر النظم الدينية واالجتامعية املتناسقة‪،‬‬
‫وسياسيا‪ ،‬وعىل كل املستويات احلضارية‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫اجتامعيا‬
‫ًّ‬
‫مهجورا من جانب املسلم؟!‪ ..‬اإلجابة القريبة يف‬
‫ً‬ ‫ولكن‪ ..‬كيف يكون القرآن‬
‫هذا‪ ،‬هي أال يقرؤه‪ ..‬ولكن هذه اإلجابة ليست شاملة لكل صور َه ْجر القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ولكن الصورة األهم‪ ،‬هي َه ْجر معاين القرآن الكريم‪ ،‬وتطبيق التعاليم‬
‫الواردة فيه‪ ،‬يف حياة كل مسلم‪ ،‬ويف حياة املجتمع املسلم‪.‬‬
‫والقضية األساسية هنا‪ ،‬هي أن القراءة وحفظ املتون ليس الوسيلة املثىل إلقامة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬مع التأكيد – من جانب آخر – عىل أن القرآن الكريم هو ا ُمل َّ‬
‫تعبد‬

‫‪11‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بتالوته؛ وإنام األهم هو إقامة القرآن الكريم يف صدر كل مسلم‪ ،‬ويف سلوكه‪ ،‬ويف‬
‫جمتمعه‪.‬‬
‫األولني من السلف الصالح والصحابة‬ ‫ً‬
‫وقائم يف فكر َّ‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫وهذا األمر كان‬
‫مجيعا‪ ،‬فليس كل الصحابة‪ ،‬حتى ِمن بني َمن عارصوا دعوة‬
‫رضوان اهلل تعاىل عليهم ً‬
‫حممد ﷺ منذ بدايتها‪ ،‬كانوا حيفظون القرآن‪ ،‬ودليلنا يف ذلك‪ ،‬املشكلة التي واجهت‬
‫مجاعة املسلمني‪ ،‬بعد غزوة مؤتة‪ ،‬والتي اس ُتش ِهد فيها الكثري من حفظة القرآن‬
‫جممعة‪ ،‬خشية ضياعه من الصدور‪.‬‬
‫الكريم‪ ،‬فتم تدوينه ألول مرة يف صحائف َّ‬
‫فلو كان احلفظ هو املهم؛ لكان كل الصحابة كانوا من ح َف َظته‪ ،‬ولكنهم كانوا‬
‫عىل إدراك كامل بكيفية التعامل مع كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬وأن األهم من حفظ‬
‫طبعا‪ -‬هو تطبيق هذه املتون عىل كل املستويات‪ ،‬الفردية‬
‫املتون‪ -‬عىل أمهية ذلك ً‬
‫واجلامعية‪ ،‬السياسية واملجتمعية واالقتصادية‪ ،‬وغري ذلك من جماالت‪.‬‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬كان يرى أن األصل ليس‬ ‫"ر ِ َ‬
‫بل إن أمري املؤمنني‪ ،‬عمر بن اخلطاب َ‬
‫احلفظ؛ بل تطبيق القرآن الكريم‪ ،‬وإقامة تعاليمه يف صدر املسلم‪ ،‬ويف املجتمع‪ ،‬فلم‬
‫وروي عنه – ً‬
‫أيضا – أنه مل يكن حيفظ اجلديد منه‪ ،‬إال بعد‬ ‫يكن حيفظ كامل القرآن‪ُ ،‬‬
‫تطبيق ما َح ِف َظ بالفعل من آيات‪.‬‬
‫*‪*.*.‬‬

‫‪12‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫[‪]2‬‬
‫ظهرت فكرة هذا الكتاب من خالل متابعة التحوالت الكبرية احلاصلة عىل‬
‫مستوى اخلريطة السياسية واالجتامعية‪ ،‬ليس عىل مستوى العامل العريب واإلسالمي‬
‫فحسب‪ ،‬وإنام عىل مستوى عموم اإلنسانية‪.‬‬
‫ولعل أبرز هذه التحوالت‪ ،‬قضية السيولة التي تكلم عنها زجيمونت باومان‬
‫وفالسفة ومفكرون آخرون‪ ،‬سيولة يف الفكر‪ ،‬وسيولة يف القيم‪ ،‬وسيولة يف‬
‫العالقات االجتامعية‪ ،‬ويف العالقات الدولية‪ ،‬ويف خمتلف مستوى النشاط‬
‫اإلنساين‪.‬‬
‫قادت هذه السيولة‪ ،‬إىل حالة غري مسبوقة من االنفتاح‪ ،‬رافقها نمو يف مذهب‬
‫مل يلتفت إليه وال يف أثره يف حينه مفكرو احلركة اإلسالمية‪ ،‬واملؤسسات العلامئية‬
‫والدعوية عرب العامل اإلسالمي‪ ،‬وهو مذهب التفكيكية‪ ،‬والذي طال كل يشء‪ ،‬حتى‬
‫األفكار الدينية؛ حيث مل تعد هناك مقدسات‪ ،‬وأن املعيار الوحيد هو التجريب مع‬
‫إعالء سلطان العقل‪.‬‬
‫وزاد من أثر وعمق هذه األمور‪ ،‬التقدم الكبري يف جمال الوسائط املعرفية‪ ،‬بام يف‬
‫ذلك وسائل احلفظ والتسجيل‪ ،‬ووسائل اإلعالم‪ ،‬يف ظل التطور الكبري يف جمال‬
‫التقنيات الرقمية‪ ،‬فكانت فوىض كبرية يف الفضاء السيرباين‪ ،‬يف ظل عدم القدرة‬
‫عىل ضبط حركة الكلامت واألفكار‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبدا ذلك يف فرتة ما بعد ظهور منصات التواصل االجتامعي؛ حيث ُتعترب هذه‬
‫األخرية واحدة من أبرز املساحات التي يتم فيها تطبيق مذهب التفكيكية يف مرحلة‬
‫ما بعد احلداثة التي دخلتها اإلنسانية منذ نحو أربعة عقود‪.‬‬
‫ونال اإلسالم وكتابه ما ناله‪ ،‬وفاقم من املحنة احلالية التي يتعرض هلا الدين‪،‬‬
‫حزمة من القضايا ذات الطابع السيايس‪ ،‬من بينها الكثري من اخلطايا التي وقعت‬
‫فيها احلركات املنتسبة إىل اإلسالم‪ ،‬وكذلك الرصاعات التي خاضتها مع أنظمة‬
‫عرف بالربيع‬
‫احلكم واملجتمعات يف كثري من البلدان العربية يف مرحلة ثورات ما ُي َ‬
‫العريب وما بعدها‪.‬‬
‫وكانت من بني أهم هذه اخلطايا‪ ،‬خطيئة شيوع الفكر التكفريي‪ ،‬والذي طال‬
‫تطورا من حالة اخلالف‬
‫ً‬ ‫املسلمني بعضهم ببعض‪ ،‬وأدى إىل اقتتال داخيل بالسالح‪،‬‬
‫الفقهي التي كانت قائمة بني هذه احلركات واجلامعات عىل النحو الذي رأيناه يف‬
‫أفغانستان‪ ،‬ونراه يف سوريا يف وقتنا الراهن‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك الكثري من األسباب األصولية الكامنة يف طبيعة‬
‫العقل اجلمعي املسلم‪ ،‬وفهمه للدين وملفاهيم مفتاحية فيه‪ ،‬قادت إىل هذه احلالة‬
‫التي يمكن أن نصفها باالرتكاس إىل مرحلة البداوة واجلاهلية التي جاء اإلسالم‬
‫لكي يبطلها‪.‬‬
‫ونتيجة لعوامل عديدة‪ ،‬نجد أن العامل العريب واإلسالمي اآلن هو صاحب‬
‫النصيب األكرب من الدول املنضوية يف قائمة أو مؤرش الدول الفاشلة الذي تصدره‬

‫‪14‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫سنو ًّيا دورية الفورين بولييس‪ ،‬والتي تتضمن فشل الدولة الوطنية القائمة منذ‬
‫مرحلة االستقالل عن االستعامر األورويب املبارش‪ ،‬يف حتقيق دولة الرفاه واملساواة‬
‫واملواطنة‪.‬‬
‫واألهم من ذلك‪ ،‬فشل هذه الدول ومؤسساهتا يف حتقيق حالة من االستقرار‬
‫والتضامن املجتمعي‪ ،‬مما سمح لعوامل خارجية باهلبوب والتسبب يف رصاعات‬
‫بينية وأهلية عميقة‪ ،‬تفكك أو ُت ِ‬
‫ضعف املركزيات املهمة يف املنطقة‪ ،‬ومتنع التكامل‬
‫والتكاتف بني الدول العربية واملسلمة‪ ،‬وحتول دون حتقيق تنمية داخلية حقيقية‪.‬‬
‫واملدهش أن ذلك يتم بينام متلك األمة اإلسالمية ما يمكنه أن ين ِهض حضارة‪،‬‬
‫أخوة الدين‪ ،‬والقرآن الكريم ذاته‪ ،‬الذي‬
‫ويوحد أمة‪ ،‬مثل عقيدة التوحيد‪ ،‬ومبدأ َّ‬‫ِّ‬
‫هو كالم اهللِ َّ‬
‫املتعبد بتالوته‪ ،‬وبالتايل؛ فإنه يفرض عىل كل مسلم أن يتع َّلم اللغة‬
‫العربية لكي يتمكن من قراءة كتاب اهللِ تعاىل‪ ،‬ومن الصالة وأداء الفرائض املرتبطة‬
‫باللغة العربية‪.‬‬
‫وكانت النتيجة حالة من الترشذم العميق‪ ،‬والتخلف احلضاري الذي تم نسبه‬
‫لإلسالم‪ ،‬ولكتاب اهللِ تعاىل‪ ،‬بينام تناسى اجلميع أن العرب قد انطلقوا من قاع‬
‫الرتدي احلضاري واجلاهلية التي كانوا عليها‪ ،‬إىل سيادة العامل القديم بالكامل يف‬
‫أقل من ثالثة عقود‪ ،‬وبنى املسلمون يف القرون التالية عىل الفتوحات اإلسالمية‬
‫ومصدرا‬
‫ً‬ ‫مصدرا لعرص التنوير يف أوروبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الكربى‪ ،‬حضارة استمرت لقرون‪ ،‬كانت‬
‫إلهلام حضارات كاملة فيام بعد‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فجزء منها ثقايف‬


‫ٌ‬ ‫وبالتايل؛ فإننا اآلن نقف أمام مشكلة معقدة‪ ،‬متعددة األبعاد‪،‬‬
‫آت من الداخل‪ ،‬وبعضها‬ ‫وجزء منها سيايس واقتصادي‪ ،‬وبعضها ٍ‬‫ٌ‬ ‫ومفاهيمي‪،‬‬
‫وافد من اخلارج‪ ،‬ومن َث َّم؛ فإن املعاجلة جيب أن تكون بدورها متعددة األبعاد‪،‬‬
‫وخصوصا وأهنا متس مستقبل اإلسالم‪ ،‬والسيام يف جمتمعات الدعوة غري املسلمة‪،‬‬
‫ً‬
‫ومصري رشائح واسعة من مسلمي املهاجر‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬من بني أهم هذه املشكالت‪ ،‬هي القضايا املتعلقة بسوء فهم وعدم‬
‫االستيعاب الصحيح للمفاهيم املركزية يف القرآن الكريم‪ ،‬الذي هو املصدر األسايس‬
‫الذي نأخذ منه الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وبالتايل؛ سوء تطبيقها من جانب املسلمني‪ ،‬مما‬
‫قاد إىل أكرب أزمت َْي تعيشهام األمة يف الوقت الراهن؛ الترشذم والرصاعات البينية‪،‬‬
‫والتخلف احلضاري‪.‬‬
‫كام أن عدم الفهم الصحيح هذا‪ ،‬مع نتواجته هذه التي أرشنا إليها‪ ،‬قادت إىل‬
‫حالة من التشويش يف فهم اإلسالم من جانب اآلخر غري املسلم‪ ،‬أفراد وجمتمعات‬
‫وأمم‪ ،‬فالصورة الذهنية احلالية عن اإلسالم والرشيعة‪ ،‬هو أنه دين ال يمكنه أن‬
‫يقيم حضارة‪ ،‬بينام يف هذا عسف كبري تبطله التجربة التارخيية كام أرشنا‪.‬‬
‫واألهم من ذلك‪ ،‬أنه تبطله نصوص القرآن الكريم نفسه‪ ،‬ألن التجربة التارخيية‬
‫يمكن أن يتم التالعب يف تفسريها‪ ،‬مثل أن اإلسالم قد أقام حضارته استفادة من‬
‫احلضارات القديمة يف البالد التي فتحها (أو غزاها وفق التعبري السلبي املس َتخدَ م‬
‫من جانب املسترشقني وحتى بعض العرب واملسلمني من التيارات العلامنية والتي‬

‫‪16‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بدأت أول ما بدأت بالبعوث العلمية والتعليمية يف القرن التاسع عرش) العرب‬
‫واملسلمني‪ ،‬مثل مرص وبالد الرافدين‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن مركز الثقل األسايس يف الرد عىل هذا كله‪ ،‬وتوضيح الصورة‪ ،‬هو‬
‫أن نستخلص من القرآن الكريم ذاته ما يفيد بأن اإلسالم‪ ،‬إنام هو دين بناء وعمران‬
‫وحضارة‪ ،‬ودين وحدة وتسامح وإخاء ديني وإنساين‪.‬‬
‫واستخالص ذلك من القرآن الكريم يكشف بدقة شديدة أن الترشذم والتخلف‬
‫احلال َي ْي يف األمة مصدرمها‪ ،‬إما أثر خارجي‪ ،‬من قوى االستعامر القديمة التي هيمها‬
‫أال تنهض أمة قوية موحدة تنافسها يف املجال احلضاري‪ ،‬وهذا ال يتم مع األمة‬
‫العربية واألمة املسلمة فحسب‪ ،‬وإنام يأيت يف سياق أوسع‪ ،‬وهو الرصاع احلضاري‪،‬‬
‫وتنافس األمم‪ ،‬ضمن قانون مهم تناوله القرآن الكريم‪ ،‬وهو قانون التدافع‪.‬‬
‫ويمكن قراءة ذلك بسهولة يف سياسات التحالف األنجلو أمريكي بالذات مع كل‬
‫القوى واألمم الناهضة‪ ،‬واملركزيات الكربى‪ ،‬مثل االحتاد األورويب وروسيا والصني‪.‬‬
‫الصحيح ْي‪،‬‬
‫َ‬ ‫الديني ْي‬
‫َّ‬ ‫أو داخيل‪ٌ ،‬‬
‫ممثل يف األثر العميق لغياب الثقافة والتعليم‬
‫وبالتايل‪ ،‬عدم وجود مرجعية رشيدة لفهم القرآن الكريم وأحكام الرشيعة‬
‫اإلسالمية ومقوالهتا الكربى‪ ،‬وبالتايل؛ ظهور تفسريات وتأويالت متعددة للنص‬
‫الواحد‪ ،‬أو الوقوف عىل تفسريات ورؤى قديمة‪ ،‬كانت فقط ابنة عرصها‪ ،‬وال‬
‫تصلح لعرصنا احلايل‪.‬‬
‫*‪*.*.‬‬

‫‪17‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫[‪]3‬‬
‫كنت يف هذا اإلطار‪ ،‬قد بدأت يف السنوات املاضية‪ ،‬يف مرشوع فكري مع‬
‫موقع "بصائر" املتخصص يف جمال الفكر اإلسالمي‪ ،‬بجان َب ْيه؛ التأصييل واحلركي‬
‫التطبيقي‪ ،‬حياول أن يتعمق يف هذه املساحات‪ ،‬ويرد األمور إىل نصاهبا‪.‬‬

‫واعتمد هذا املرشوع عىل أساس الكتابة يف ثالثة اجتاهات رئيسية‪.‬‬

‫االجتاه األول‪ ،‬يتعلق بقراءة جديدة يف القرآن الكريم إلبراز اجلوانب املتعلقة‬
‫بأسس احلضارة والعمران التي جاء هبا‪ ،‬وكيف أهنا أكثر عدالة وثبا ًتا مما جاءت‬
‫به النظريات واأليديولوجيات األخرى التي وضعها اإلنسان‪ ،‬وكيف أن القرآن‬
‫الكريم قد قدَّ م نظر ًة شاملة مل تقدمها فلسفة أخرى عرب التاريخ – ولن تقدمها ألن‬
‫القرآن من لدن حكيم عليم – عن حقيقة اإلنسان والكون‪ ،‬وعالقة اإلنسان بذاته‬
‫وباآلخرين‪ ،‬و – األهم – بخالقه‪ ،‬وتصوراته عن احلياة وسعيه فيها‪.‬‬

‫ومن خالل املقاالت واألوراق العلمية التي تضمنها الفصل األول من‬
‫هذا الكتاب‪" ،‬معامل احلضارة واملدينية والعمران يف القرآن الكريم‪ ..‬مفاهيم‬
‫وتطبيقات"‪ ،‬والذي خصصناه هلذا املجال‪ ،‬سوف نرى كيف أن القرآن الكريم‬
‫قد قدَّ م بنيا ًنا متكام ً‬
‫ال يف هذا اإلطار‪ ،‬يشمل منظومة مفاهيمية ومعرفية وأخالقية‬
‫متكاملة‪ ،‬ينهض عليها بنيان حضاري راسخ‪ ،‬وعمرا ًنا شام ً‬
‫ال‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويشمل ذلك‪ ،‬قضية القوانني العامة احلاكمة التي وضعها ُ‬


‫اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫يف خلقه‪ ،‬وال يستقيم ميزان الكون من دوهنا‪ ،‬مثل "االستطاعة" و"املالئمة"‬
‫و"التدا ُفع"‪ ،‬والسلم القيمي لإلسالم‪ ،‬برتاتبيته؛ العدالة‪ ،‬واملساواة‪ ،‬واحلرية‪.‬‬
‫املوجهة إىل الدين‬
‫َّ‬ ‫يرد هذا الفصل يف مادته‪ ،‬عىل االهتامات التقليدية‬ ‫كام ُّ‬
‫احلنيف‪ ،‬والقرآن الكريم عىل مركزيته يف حتديد قواعد وأركان الرشيعة‪ ،‬ومفاهيمها‬
‫املركزية‪ ،‬فيام يتعلق بقدرة رشيعة اإلسالم عىل تنظيم احلياة العامة والفردية‪ ،‬من‬
‫خالل منظومة سياسية واجتامعية واقتصادية شاملة‪.‬‬
‫االجتاه الثاين‪ ،‬كان يف مساحة االختالفات بني املسلمني‪ ،‬وذروهتا آفة أو جريمة‬
‫التكفري‪.‬‬
‫ويف هذه املساحة‪ ،‬تضمن الفصل الثاين‪" ،‬يف تصحيح مفاهيم خاطئة يف فضائنا‬
‫اإلسالمي"‪ ،‬جمموعة من األوراق واملقاالت التحليلية التي قدمت رؤية خمتلفة عن‬
‫منظومة املفاهيم األساسية التي احتواها القرآن الكريم‪ ،‬والتي كان من نصيبها‪ ،‬إما‬
‫التجاهل‪ ،‬أو أخطاء التأويل التي وقعت فيها احلركات اإلسالمية‪ ،‬وقادت إىل كثري‬
‫من املشكالت التي نراها بني ظهرانينا‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه املفاهيم‪" ،‬احلاكمية"‪ ،‬و"امليثاق"‪ ،‬وفقه األمر الواقع الذي‬
‫يتضمن املقاصد وقواعد املوازنات التي ختلينا عنها يف عرصنا احلايل‪ ،‬مما أنتج‬
‫رسخها القرآن‬
‫العدَّ ة واالستطاعة التي َّ‬
‫سياسات صدامية خاطئة تتجاوز قوانني ُ‬
‫الكريم‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫االجتاه الثالث‪ ،‬تناول جما ً‬


‫ال شديد األمهية كنتيجة لالخرتاقات واملخالفات التي‬
‫حصلت لفضائنا اإلسالمي‪ ،‬وهي سيادة أفكار اإلحلاد‪ ،‬أو عىل أقل تقدير‪ ،‬مشكلة‬
‫ال َّتف ُّلت من التد ُّين‪.‬‬
‫ويف املقاالت واألوراق التي تضمنها الفصل الثالث الذي اهتم هبذه املساحة‪،‬‬
‫"يف الرد عىل العلامنيني ودعاة اإلحلاد"‪ ،‬سوف نجد أن لدينا مؤرشات خطرية تقول‬
‫بأنه من الرضوري للغاية عىل كل عامل يف حقول العمل الدعوي املختلفة‪ ،‬أن‬
‫يضع نصب عين َْيه هذه املشكلة‪.‬‬
‫ومن بني املؤرشات التي سوف نجدها‪ ،‬نتائج االستطالع الكبري الذي أجرته‬
‫مؤسسة "الباروميرت" العريب حلساب هيئة اإلذاعة الربيطانية‪ ،‬وظهرت نتائجه يف‬
‫يونيو ‪2019‬م؛ حيث نجد أن أكثر من مخسني باملائة من رشحية الشباب ا ُمل ْست َْط َلعة‬
‫آراءهم يف هذا االستطالع‪ ،‬قد ختلوا عن فكرة ال َّتدَ ُّين‪.‬‬
‫ومن خالل هذه املجموعة من األوراق واملقاالت؛ سوف نقف عىل قضية مهمة‬
‫يف شأن قضية اإلحلاد‪ ،‬وهي حدود العالقة بني العقل والدين‪ ،‬وموقف اإلسالم‬
‫احلقيقي من العلم ومنجزاته‪ ،‬والسيام يف املجاالت التي تتامس مع قضايا قرآنية‪،‬‬
‫مثل خلق اإلنسان‪ ،‬واملكتشفات يف جماالت العلوم البيولوجية‪.‬‬
‫كذلك اهتمت املقاالت واألوراق التي تم إنجازها يف هذا االجتاه‪ ،‬بتفنيد‬
‫مركزيات مهمة للتيارات العلامنية‪ ،‬التي متارس أسوأ درجات اإلقصاء الذي تعيبه‬
‫عىل اإلسالميني‪ ،‬مع األفكار الدينية والتيارات التي تتبنى شعار اإلسالمية‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫مقدمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف األخري؛ نسأل َ‬


‫اهلل تعاىل أن هييئ لنا ولألمة من أمرنا رشدً ا‪ ،‬وأن يضع يف‬
‫مصدرا للهداية والتنوير‪ ،‬آملني أن يضع‬
‫ً‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬برك ًة منه وفائد ًة‪ ،‬نكون هبا‬
‫له القبول لدى القارئ‪.‬‬
‫أمحد حممود التالوي‬
‫القاهرة يف‪:‬‬
‫األربعاء ‪ 2‬أكتوبر ‪2019‬م‬

‫‪21‬‬
‫الفصل األول‬
‫معالم الحضارة والمدينية والعمران‬
‫في القرآن الكريم‪ ..‬مفـاهيم وتطبيقـات‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"‪ ..‬املقصود بالنموذج املعريف‪ ،‬هو ذلك اإلطار أو التصور املتكامل التي يفرس‬
‫به اإلنسان الظواهر من حوله‪ ،‬ويتعامل معها‪ ،‬ويعتمد أكثر ما يعتمد عىل العقل‪،‬‬
‫الذي يقدم لإلنسان‪ ،‬وللجامعة يف ٍ‬
‫آن‪ ،‬األدوات التي يمكنه من خالهلا القيام هبذه‬
‫األمور؛ الفهم والتحكم‪ ،‬من أجل حتسني بيئة احلياة بشكل عام‪ ،‬وحتقيق االستقرار‬
‫النفيس والوجداين للجامعة البرشية‪ ،‬وبالتايل؛ احلفاظ عىل متاسكها وتعاوهنا‪.‬‬

‫والقرآن الكريم‪ ،‬بالرغم من أنه فريضة من اهلل تعاىل عىل اإلنسان ﴿ ﭑ ﭒ‬


‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫[سورة "القصص" – اآلية ‪]85‬؛ إال أنه مل يمنع اإلنسان من تكوين تصوراته‬
‫ﭤ﴾ ُ‬
‫اخلاصة عن اإلطار املحيط به‪ ،‬يف ظل حقيقة بدهيية‪ ،‬تدركها احلكمة اإلهلية البالغة؛‬
‫حيث يعلم َمن خلق وهو اللطيف اخلبري؛ بأن اإلنسانية ُخ ِل َق ْت شعو ًبا وقبائل‪،‬‬
‫سورت "احلجرات" و"هود"‪ ،‬وغريها من ُسور القرآن‬
‫َْ‬ ‫وخ ِ‬
‫لق ْت خمتلفة‪ ،‬كام يف‬ ‫ُ‬
‫الكريم‪..‬‬
‫وبالتايل؛ فإن الظروف املحيطة باجلامعة البرشية تتغري‪ ،‬بام يتطلب خصوصية‬
‫يف فهم هذه األمور‪ ،‬والتعامل معها‪ ،‬وتتعلق باألساس بإدراك الظروف املحيطة‪،‬‬
‫من أجل حتقيق ُس َّنة التسخري؛ تسخري املوجودات خلدمة اإلنسان‪ ،‬من أجل حتقيق‬
‫حاجاته األساسية واملتطورة التي متيزه عن سائر خملوقات اهلل عز وجل األخرى‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ملساعدته عىل القيام بمهمته األساسية‪ ،‬وهي عبادة اهلل تعاىل وحده ال رشيك له‪،‬‬
‫وإفراده هبا‪ ،‬وإعامر األرض ألجل ذلك الغرض املقدس‪.‬‬
‫ولو بحثنا يف القرآن الكريم‪ ،‬فإننا سوف نقف أمام الكثري من اآليات التي تدعو‬
‫اإلنسان إىل ُّ‬
‫التفكر وإعامل العقل‪ ،‬وأخذ املعرفة من كل مصادرها‪ ،‬وعدم الوقوف‬
‫أمام النص املقدس فقط‪ ،‬الذي نزل يف صياغة عامة شاءهتا حكمة اخلالق؛ ألجل‬
‫حتديد القوانني والقواعد احلاكمة‪ ،‬وهدايته إىل الصواب"‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلسالم وصناعة الحياة والعمران‪ ..‬ر ً ّدا على ُدعاة التجهيل والبداوة!‬

‫من بني أهم القضايا التي تشغل ذهنية املشتغلني بدراسة اإلسالم والفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وتطوره عرب التاريخ‪ ،‬قضية الدنيا واآلخرة يف سعي اإلنسان؛ كيف‬
‫تكون وكيفية املوازنة بني اعتبار "كأنك تعيش أبدً ا"‪ ،‬واعتبار "كأنك متوت غدً ا"‪،‬‬
‫كام جاء يف احلديث النبوي الرشيف‪.‬‬
‫ويرتبط بذلك قضية تتصارع فيها الكثري من الرؤى يف وقتنا الراهن‪ ،‬بني التيارات‬
‫احلركية املختلفة‪ ،‬عىل اختالف ألوان طيفها الفكري واحلركي‪ ،‬وهي سعي املسلم‬
‫وأمهية البناء العمراين يف الدنيا من أجل البناء األخروي‪ ،‬بني مدرسة العمران وبني‬
‫َ‬
‫متعارض ْي فيام يتعلق بقضيت َْي أساسيت َْي‪ ،‬ومها‪ :‬تطبيق‬ ‫كمسار ْين‬
‫َ‬ ‫دعاة اهلدم‪،‬‬
‫الرشيعة‪ ،‬واستعادة دولة اخلالفة‪.‬‬
‫ولقد استغل خصوم األمة يف خمتلف األقنية‪ ،‬اإلعالمية واالستخبارية‬
‫والسياسية‪ ،‬وغريها‪ ،‬هذه احلالة من اخلالف الفكري‪ ،‬من أجل تعميق حالة‬
‫معينة يف أوساط املسلمني‪ ،‬لتحقيق غاية كربى‪ ،‬وهي إخراج املسلمني من السباق‬
‫احلضاري‪ ،‬واملزيد من التفتيت لوحدة الصف اإلسالمي‪ ،‬مع العمل الوصول هبذه‬
‫احلالة من التفتيت إىل مستوى الرصاعات البينية‪ ،‬مما يعطل املسلمني كجامعة برشية‬
‫متاميزة‪ ،‬عن الفعل والعمل‪.‬‬
‫و ُيعترب هذا األمر هو أحد مراحل خمطط متكامل‪ ،‬ال يعود تارخيه ومبدؤه إىل‬
‫القر َن ْي التاسع عرش والعرشين‪ ،‬كام يتصور البعض‪ ،‬وإنام هو خمطط أقدم من ذلك‬

‫‪27‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بكثري‪ ،‬ويكفي هنا أن نشري إىل الدور الذي لعبته اإلمرباطورية الرومانية يف تفتيت‬
‫الصف اإلسالمي خالل الفرتات التي سبقت وعارصت احلروب الصليبية؛ حيث‬
‫إن ذلك الدور كان أحد أهم أسباب سقوط القدس يف أيدي الصليبيني يف القرن‬
‫احلادي عرش امليالدي‪ ،‬بل إهنم حاولوه خالل األزمة التي اندلعت بني أمري املؤمنني‬
‫يل بن أيب طالب "كرم اهلل وجهه"‪ ،‬ومعاوية بن أيب سفيان "ريض اهلل عنه"‪ ،‬ولكن‬‫ع ٍّ‬
‫أبى معاوية يف حينه االستعانة بأعداء األمة عىل ع ٍّ‬
‫يل‪ ،‬خالل أزمة الفتنة الكربى‪.‬‬
‫ويف صلب هذا املخطط يقبع أمر شديد األمهية‪ ،‬وهو حماولة إبعاد املسلمني‪،‬‬
‫فرادى وأمة‪ ،‬عن صريورات العرص‪ ،‬وفصلهم بالكامل عن الدنيا‪ ،‬من خالل‬
‫شغلهم بأمور تبدو هلا أكرب األمهية بالنسبة حلياة اإلنسان اآلخرة‪ ،‬بينام اآلخرة ال‬
‫ُتصنع إال من خالل السعي والبناء واالجتهاد يف احلياة الدنيا‪.‬‬
‫ويتم ذلك بأكثر من وسيلة‪ ،‬أمهها هو ما اصطلح عىل تسميته بـ"صناعة‬
‫املوت"‪ ،‬التي صدرها لنا الغرب من خالل تنظيامت وأفكار مصطنعة ومنتسبة خطأ‬
‫لإلسالم‪ ،‬وإنام هدفها هو أن تؤدي أفكار االنفصال عن الدنيا والدفع باملسلمني إىل‬
‫القتال واالقتتال يف حروب ال هناية هلا‪.‬‬
‫وهيدف هذا اجلانب من املخطط إىل دفن اجلانب احلضاري والعمراين يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬وإخفاء الصورة التقدمية له‪ ،‬وبالتايل إظهار اإلسالم عىل أنه دين بال‬
‫حضارة‪ ،‬وهو ما يقود طبعا إىل ختلف املسلمني‪.‬‬
‫بمعنى أنه عندما ينشغل املسلم يف احلياة الدنيا بالقتال فقط‪ ،‬يف حروب ال حتمل‬
‫مصلحة األمة‪ ،‬ويتقاعس عن البناء والعمران يف الدنيا بحجة أن اآلخرة هي احلياة‬

‫‪28‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫احلقيقية‪ ،‬يف اجتزاء وسوء فهم للمعاين القرآنية حول اآلخرة باعتبارها احليوان؛‬
‫فلن يتحرك املسلم ألمر الدنيا باإلطالق‪ ،‬وبالتايل لن خيرتع ولن يبني ولن يطور‪،‬‬
‫وهو ما خيالف ببساطة حديث النبي الكريمﷺ‪ ،‬أن اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدً ا‪،‬‬
‫واعمل آلخرتك كأنك متوت غدً ا‪.‬‬
‫كام يقود ذلك إىل نتيجة أخطر‪ ،‬وهي َن ْأي غري املسلمني عن الدخول يف اإلسالم‪،‬‬
‫وإخافة كل أصحاب الفطرة السليمة من الباحثني عن الدين احلق‪ ،‬من اإلسالم‪،‬‬
‫أمر أكده القرآن الكريم‬ ‫فالفطرة السليمة تقود ً‬
‫دائم اإلنسان إىل العامرة والبناء‪ ،‬وهو ٌ‬
‫[سورة "هود" – من‬
‫يف أكثر من موضع‪﴿ ..‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ ُ‬
‫اآلية (‪ ،])61‬وألجل ذلك منح اهلل تعاىل اإلنسان كل يشء‪ ،‬ويرس له ُس ُبل احلياة‬
‫"احلج" – من اآلية‬ ‫[سورة َ‬‫عىل األرض‪ ﴿ ..‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ ُ‬
‫(‪ ،])65‬وكذلك ميزه َّ‬
‫ورشفه بأرشف ما يمكن ملخلوق أن يناله‪ ،‬وهو خالفة اهلل‬
‫عز وجل يف األرض‪ ،‬فيقول تعاىل يف ختام ُسورة "األنعام"‪ ﴿ :‬ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ‬
‫ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معان حتمل العمران والبناء واحلياة يف طياهتا؛ ال القتل والفناء والتدمري‪،‬‬ ‫وكلها‬
‫فتيسري ُس ُبل العيش يف األرض‪ ،‬يعني استغالهلا فيام يفيد وينفع‪ ،‬ويقود إىل استمرار‬
‫احلياة الكريمة لإلنسان‪ ،‬واالستعامر يف األرض؛ يعني عامرهتا‪ ،‬وخالفة اهلل تعاىل‪ ،‬تعني‬
‫العمل بقوانينه ورشيعته‪ ،‬وذلك من أجل حتقيق ُس َّنة اخللق األساسية‪ ،‬واهلدف الوحيد‬
‫واألسمى من خلق الكون‪ ،‬وهو توحيد اخلالق عز وجل‪ ،‬وإفراده سبحانه‪ ،‬بالعبادة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وكل قوانني اخللق اإلهلي‪ ،‬حتى ما يف احلياة الوحشية يف الرباري منها‪ ،‬تقود إىل‬
‫استمرار احلياة‪ ،‬مثل قوانني االنتخاب الطبيعي والبقاء لألفضل‪ ،‬والطفرات يف جمال‬
‫البيولوجي؛ كلها قوانني وضعها اهلل تعاىل يف خلقه‪ ،‬تضمن التوازن واالستمرار‬
‫هلذه احلياة‪ ،‬إىل أن يشاء خالقها فينهيها عىل النحو الذي تريده املشيئة‪.‬‬
‫حرم عىل العرب املسلمني من أهل احلرض‪ ،‬العودة إىل البادية‬ ‫بل إن اإلسالم َّ‬
‫للعيش هبا بصفة دائمة مع األعراب‪ ،‬واعترب ذلك كبرية من الكبائر ُيعا َقب مرتكبها‬
‫كام ُيعامل املرتد عن اإلسالم‪ ،‬أي أن العودة من التحرض إىل البداوة‪ُ ،‬جرم أو كبرية‬
‫يف مستوى العودة عن اإلسالم واإليامن‪ ،‬إىل الرشك والكفر‪ ،‬فالعائد للبداوة ُيعترب‬
‫مرتدً ا‪ ،‬وإن احتفظ بإسالمه‪.‬‬
‫فيقول ابن منظور يف لسان العرب‪( :‬يف احلديث (النبوي)‪ :‬ثالث من‬
‫التعرب بعد اهلجرة‪ :‬هو أن يعود إىل البادية ويقيم مع األعراب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الكبائر‪ ،‬منها‬
‫مهاجرا‪ ،‬وكأن من رجع بعد اهلجرة إىل موضعه من غري عذر؛‬
‫ً‬ ‫بعد أن كان‬
‫يعدونه كاملرتد"‪.‬‬
‫وينقل عن ابن خلدون يف "املقدمة"‪ ،‬قوله يف هذه اجلزئية‪" :‬كان املهاجرون‬
‫التعرب‪ ،‬وهو ُسكنى البادية؛ حيث ال جتب اهلجرة"‪.‬‬
‫يستعيذون باهلل من ُّ‬
‫هذا هو اإلسالم‪ ،‬ولكن لو رأى غري املسلمني ما قادت إليه أفكار التجهيل‬
‫والبداوة وصناعة املوت التي ُصنِعت من خارجنا ُ‬
‫وصدِّ رت إلينا حتت رايات‬
‫سوداء‪ ،‬لن جيد يف اإلسالم ما يغري باعتناقه‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولنطالع يف هذا اإلطار – عىل سبيل املثال – ترصحيات الرئيس التشيكي‪،‬‬


‫ميلوس زيامن‪ ،‬األخرية‪ ،‬عىل هامش أزمة تدفق الالجئني السوريني إىل بالده‪ ،‬والتي‬
‫عرب فيها عن نظرته إىل اإلسالم‪ ،‬واملسلمني‪.‬‬
‫زيامن خالل لقاءه ملواطنني يف منطقة لوشنيك‪ ،‬اهتم الالجئني املسلمني "بعدم‬
‫ربا عن خماوفه من أن تؤدي موجات الالجئني احلالية إىل أسلمة‬
‫االلتزام بالقوانني"‪ ،‬مع ً‬
‫بالده‪ ،‬وقال يف هذا‪" :‬سنخضع للرشيعة اإلسالمية التي ترجم الزوجات وتقطع‬
‫أيدي املجرمني"‪ ،‬وقال كذلك‪" :‬ال أختيل أن أري مسلمة ترتدي الربقع (النقاب)"‪.‬‬
‫هذا املسؤول األورويب كاره لإلسالم وللمسلمني‪ ،‬ولكن وفق نظرة معينة خاطئة‬
‫للدين‪ ،‬بمعنى‪ ،‬أنه ليس عنرص ًّيا بقدر أنه كاره للمسلمني ألنه يظن أن اإلسالم دين غري‬
‫حضاري؛ يدعو إىل كذا وكذا‪ ،‬يف خصوص املرأة ويف تطبيق احلدود من دون ضوابطها‬
‫رشعا‪ ،‬بينام حاشا هلل أن يكون اإلسالم كذلك؛ حيث هو الدين الذي ارتضاه‬
‫املرعية ً‬
‫احلكيم العليم لعباده إلصالح حاهلم يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وليس يف اآلخرة فحسب‪.‬‬
‫‪.............‬‬
‫حمورا وأولوية من حماور وأولويات‬
‫هذا املوضوع نراه شديد األمهية لكي يكون ً‬
‫خصوصا من هلم إمكانية‬
‫ً‬ ‫كتابات وتدوينات مفكرينا يف العامل العريب واإلسالمي‪،‬‬
‫التواصل مع الدوائر اإلعالمية والثقافية والفكرية يف الغرب‪ ،‬وذلك من أجل‬
‫إزالة شوائب عن مفاهيم عديدة يف حياتنا كحركة إسالمية‪ ،‬بجانب البعد العمراين‬
‫القائم يف اإلسالم‪ ،‬والذي ال يمكن لدعاة التجهيل إلغاؤه بفتاوى التكفري وصناعة‬
‫املوت الباطلة!‬

‫‪31‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المدنية والمدينية في اإلسالم‪ ..‬قراءة في أفكار األنصاري وابن نبي‬


‫ُيعترب عبد الرمحن بن خلدون‪ ،‬أول من تناول قضيت َْي العمران واحلضارة‪،‬‬
‫كظاهر َت ْي برشيت َْي بشكل متكامل‪ ،‬وتأثر يف تقديم قراءاته حوهلا بالبيئة التي كانت‬
‫حميطة به‪ ،‬سواء يف العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬أو عىل مستوى العامل القديم ككل‪ ،‬يف‬
‫القرن الرابع عرش امليالدي‪.‬‬
‫ومن بني أهم مباحث علم العمران واالجتامع السيايس واإلنساين كام قدمها ابن‬
‫خلدون‪ ،‬قضية املدنية واملدينية‪ ،‬وكان أهم َمن تناوهلا يف عرصنا احلايل‪ ،‬والسيام يف‬
‫صدد الطابع املديني لإلسالم‪ ،‬هو املفكر اجلزائري األصل‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬واملفكر‬
‫البحريني‪ ،‬حممد جابر األنصاري‪.‬‬
‫ولعل أمهية مقارنة أفكار بن نبي واألنصاري تكمن يف أن كليهام يمثل مدرسة‬
‫فكرية خمتلفة؛ حيث بن نبي من مدرسة العقل احلديث‪ ،‬والذي ينطلق من منطلقات‬
‫إسالمية‪ ،‬بينام األنصاري أقرب إىل األفكار ذات الطابع املدين القريبة من العلامنية‪،‬‬
‫التحض َ‬
‫واحل َض‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وبالرغم من ذلك التباين؛ فقد اتفقا عىل أن املدنية واملدينية بمعنى‬
‫هي من السامت األصيلة يف اإلسالم‪.‬‬
‫ولعل أمهية إبراز ذلك الطابع يف اإلسالم‪ ،‬من بني أهم واجبات الوقت أمام كل‬
‫اإلسالمي ْي؛ حيث تم تشويه اإلسالم وحضارته‬
‫َّ‬ ‫العاملني يف حقل البحث والفكر‬
‫بالكامل‪ ،‬من خالل مقوالت وممارسات سامهت فيها بعض اجلامعات التي يتم‬
‫تصنيفها بشكل خاطئ‪ ،‬كجامعات جهادية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبد ً‬
‫ال من الطابع املديني احلضاري لإلسالم – كام أكدت عليه حضارة أكثر‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة –‬
‫من ‪ 1400‬عام‪ ،‬وكام سوف نرى يف مقوالت أساسية من ُّ‬
‫التوحش"‪ ،‬وبد ً‬
‫ال من احلوارض‬ ‫ُّ‬ ‫بات اإلسالم ملتص ًقا بعبارات عىل غرار "صناعة‬
‫الكربى التي أقامتها دول املسلمني يف األندلس واملرشق العريب واإلسالمي‪ ،‬وكانت‬
‫منارات للعلم واملدنية للعامل بأرسه؛ صارت صور اخلراب والدمار الواقع يف مناطق‬
‫"اإلمارات اإلسالمية" يف دول عربية عدة؛ هي صنو "الوجود اإلسالمي"‪.‬‬
‫وهو ما ُيعترب أهم عائق أمام املرشوع احلضاري اإلسالمي لالنتشار‪ ،‬وحتقيق‬
‫اخلالص لإلنسانية كافة من خالل قواعده العادلة والسمحة يف صورهتا النقية كام‬
‫أنزهلا اهلل تعاىل ح ًّقا‪.‬‬
‫ُتعترب املدنية واملدينية – املدنية صنو احلضارة بينام أقرب مصطلح يعرب عن‬
‫املدينية هو احلرض باملعنى احلديث كام تقدَّ م – إحدى أركان اإلسالم‪ ،‬وال يستقيم‬
‫العمران البرشي من دوهنا‪ ،‬ويعترب اإلسالم – من خالل أدلة رشعية سوف نسوقها‬
‫الرتاجع عن حالة العمران والتمدُّ ن‪ ،‬بمثابة خروج عن اجلامعة‪ ،‬وخروج عن‬
‫ُ‬ ‫– أن‬
‫الدين‪.‬‬
‫حرم عىل العرب املسلمني من أهل َ‬
‫احل َض‪ ،‬العودة إىل البادية للعيش‬ ‫فاإلسالم َّ‬
‫هبا بصفة دائمة مع األعراب‪ ،‬واعترب ذلك كبرية من الكبائر ُيعا َقب مرتكبها كام‬
‫ُيعامل املرتد عن اإلسالم‪ ،‬أي أن العودة من التحرض إىل البداوة‪ُ ،‬جرم أو كبرية‬
‫يف مستوى العودة عن اإلسالم واإليامن‪ ،‬إىل الرشك والكفر‪ ،‬فالعائد للبداوة ُيعترب‬
‫مرتدً ا‪ ،‬وإن احتفظ بإسالمه‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف دراسة له منشورة عىل موقع "صيد الفوائد"‪ ،‬يقول إحسان العتيبي؛ إن‬
‫الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬كانوا يعدًّ ون الراجع للبادية مرتدً ا عن هجرته؛‬
‫أي‪ :‬عن إسالمه‪ ،‬واملقصود أنه يف حكم املرتد ال أنه كذلك حقيق ًة‪َّ ،‬‬
‫فعب بعضهم‬
‫وعب آخرون بالردة عن اإلسالم؛ ألن اهلجرة تعني اهلجرة‬
‫بالردة عن اهلجرة َّ‬
‫باإلسالم‪.‬‬
‫ويقول حممد جابر األنصاري يف كتابه "مراجعات يف الفكر القومي"‪" :‬هنا يكمن‬
‫املغزى االجتامعي املتميز والفريد هلذا املوقف اإلسالمي‪ .‬يقول ابن منظور يف لسان‬
‫التعرب بعد اهلجرة‪ :‬هو‬
‫العرب‪( :‬يف احلديث (النبوي)‪ :‬ثالث من الكبائر‪ ،‬منها ُّ‬
‫مهاجرا‪ ،‬وكأن من رجع بعد‬
‫ً‬ ‫أن يعود إىل البادية ويقيم مع األعراب‪ ،‬بعد أن كان‬
‫اهلجرة إىل موضعه من غري عذر؛ يعدونه كاملرتد"‪.‬ﷺ‬
‫وينقل عن ابن خلدون يف "املقدمة"‪ ،‬قوله يف هذه اجلزئية‪" :‬كان املهاجرون‬
‫التعرب‪ ،‬وهو ُسكنى البادية؛ حيث ال جتب اهلجرة"‪.‬‬
‫يستعيذون باهلل من ُّ‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنهام"‪ ،‬والذي‬ ‫"ر ِ َ‬
‫ويقصد األنصاري حديث سهل بن أيب حثمة عن أبيه َ‬
‫بي ﷺ عىل املنرب يقول‪ :‬اجتنبوا الكبائر السبع‪ ،‬فسكت الناس‬
‫قال فيه‪" :‬سمعت ال َّن َّ‬
‫فلم يتكلم أحدٌ فقال ال َّن ُّ‬
‫بي ﷺ‪ :‬أال تسألوين عنهن؟ الرشك باهلل‪ ،‬وقتل النفس‪،‬‬
‫والتعرب بعد‬
‫ُّ‬ ‫والفرار من الزحف‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وقذف املحصنة‪،‬‬
‫وحسنه األلباين يف "السلسلة‬
‫َّ‬ ‫اهلجرة" [أخرجه الطرباين يف "الكبري" ( ‪)103 /6‬‬
‫التعرب بعد اهلجرة من الكبائر‪ ،‬ونحوه‪:‬‬
‫وبوب عليه‪ :‬باب ُّ‬
‫الصحيحة" (‪َّ ،])2244‬‬
‫التغرب]‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪34‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ً‬
‫"ثالث من الكبائر"‪ ،‬وإنام هي سبعة بنص هذا احلديث‪.‬‬ ‫ولك َّنا مل نجد لفظة‬
‫وال نزال يف هذه النقطة مع األنصاري عىل أمهية الطرح الذي قدمه يف هذا اجلانب‪،‬‬
‫والذي يقارب أفكار حممد عبده يف كتابه الشهري "اإلسالم بني العلم واملدنية"؛‬
‫فيقول‪" :‬نحن لو أخذنا األمر من الناحية الفقهية النظرية البحتة ملا استدعى أن‬
‫أقر بالشهاد َت ْي واعتنق‬
‫نربط بني العودة إىل البادية واالرتداد عن اإلسالم‪ ،‬فمن َّ‬
‫ً‬
‫مسلم أينام كان‪ ،‬وحيثام انتقل من البادية إىل احلرض‪ ،‬أو من املدينة إىل‬ ‫اإلسالم‪ُ ،‬عدَّ‬
‫القرية‪ ،‬أو من اجلبل إىل السهل‪ ،‬فأرض اهلل واسعة‪ ،‬وهي مفتوحة للمسلم‪ ،‬يرضب‬
‫ً‬
‫حمتفظا بإسالمه وعقيدته‪ ،‬ما دام مل يكفر أو يرشك أو يرتد‪ ،‬هذا من‬ ‫فيها‪ ،‬وينتقل‬
‫الناحية النظرية‪ ،‬املبدئية العقيدية"‪.‬‬
‫ويستدرك أنه نرى أن اإلسالم يضع استثنا ًء واحدً ا ًّ‬
‫مهم هلذه القاعدة املبدئية‬
‫املهاجر‪ ،‬أي ساكن احلرض‪ ،‬إىل وضع‬ ‫ِ‬ ‫الشمولية‪ ،‬وهو – حتديدً ا – عودة العريب‬
‫البداوة مع األعراب‪ ،‬فهذه كبرية من الكبائر‪ ،‬وصاحبها كاملرتد‪ ،‬وإن احتفظ بدينه‪.‬‬
‫ويؤكد أنه بالرغم من أنه يكون حتو ً‬
‫ال يف املستوى االجتامعي احلضاري‪ ،‬وليس‬
‫ريا بالعقيدة‪.‬‬
‫مسا خط ً‬
‫يف الوضع العقائدي لإلنسان؛ فإنه مع ذلك يراه اإلسالم ًّ‬
‫ً‬
‫ارتباطا جوهر ًّيا‬ ‫وهذا يقودنا إىل االستنتاج أن اإلسالم ُيعترب عقيدة مرتبطة‬
‫بوضع حضاري اجتامعي متقدم‪ ،‬هو وضع التحرض‪ ،‬بحيث لو انتفى هذا الوضع‪،‬‬
‫وتم الرتاجع عنه إىل مستوى البداوة؛ تعرضت العقيدة ذاهتا للخطر‪ ،‬واع ُت ِ َ‬
‫ب القائم‬
‫هبذا الفعل مرتدً ا عن عقيدته‪ ،‬مع ارتداده إىل الصحراء عن حترضه‪ ،‬حتى وإن مل‬
‫يعلن خروجه عن اإلسالم‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واحلرض وقت أن قال الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬حديثه املتقدم‪ ،‬كان دولة اإلسالم‬
‫األوىل يف املدينة املنورة‪ ،‬وعندما هنضت دولة اخلالفة‪ ،‬كان اخللفاء والوالة املسلمون‬
‫حريصون عىل تطبيق هذا اهلدي النبوي عىل الرعية‪ ،‬ففي صحيح ال ُبخاري‪ ،‬أن‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫احلجاج ملا بلغه أن َس َلمة بن األكوع قد خرج إىل ُسكنى البادية؛ قال له‬
‫َّ‬
‫تعربت؟ ‪ -‬أي رصت يف األعراب – فقال له‪ :‬ال‪ ،‬ولكن‬
‫"ارتددت عىل عقبيك؟ َّ‬
‫التعرب بعد اهلجرة من الكبائر]‪.‬‬
‫رسول اهلل أذن يل يف البدو" [الصحيح باب ُّ‬
‫ومن املالحظ اقرتاب مصطلح "احلرض" املنحوت من أصل لغوي هو‬
‫"احلضارة" من مصطلح "املدينية" يف املقوالت التأسيسية التي نقلها األنصاري‬
‫عن دولة النبوة ودولة اخللفاء الراشدين املهديني يف هذا اإلطار‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذا الربط واضح يف تفكري علامء املسلمني املتقدمني‬
‫واملتأخرين‪ ،‬ومن بينهم ابن خلدون ومالك بن نبي وسيد قطب‪ ،‬عند حديثهم عن‬
‫مصطلحات "احلضارة" و"املدنية" و"املدينية"‪.‬‬
‫وهناك يف هذا اإلطار‪ ،‬نجد رضورة للتوقف عند مقوالت مالك بن نبي األساسية‬
‫يف هذا األمر؛ ألهنا متس عىل خصوصيتها وأمهيتها‪ ،‬ذلك اجلانب الذي نحاول تأصيله‬
‫يف هذا املوضع‪ ،‬وهو أن َ‬
‫احل َض واملدينية‪ ،‬من االشرتاطات املهمة التي وضعها اإلسالم‬
‫لصريورات العمران البرشي‪ ،‬وقواعد راسخات لتطور دولة اإلسالم‪.‬‬
‫فاملك بن نبي ذهب يف هذا إىل القول بأن احلضارة واملدينية يف اإلسالم‪ ،‬بمثابة‬
‫ُّ‬
‫والتحض‬ ‫فريضة‪ ،‬وحاول تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "فقه" التمدين‬
‫يف املجتمعات املسلمة‪ ،‬وذلك من خالل جمموعة من الكتابات التي حاول التأسيس‬

‫‪36‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أو التأصيل لذلك فيها‪ ،‬من خالل النصوص‪ ،‬ومن خالل األدلة العقلية األخرى‪،‬‬
‫وخصوصا كتبه‪" :‬رشوط النهضة"‪" ،‬الظاهرة القرآنية"‪" ،‬مشكلة الثقافة"‪،‬‬‫ً‬
‫"مستقبل اإلسالم"‪ ،‬و"مشكلة األفكار يف العامل اإلسالمي"‪.‬‬
‫وعنارص احلضارة عند مالك بن نبي‪ ،‬هي‪ :‬اإلنسان زائد الرتاب زائد عنرص‬
‫الوقت‪ ،‬ويصبغ ذلك بصبغة دينية‪ ،‬عىل ذات النحو الذي نحاه من سبقه من‬
‫املفكرين اإلسالميني املعارصين‪ ،‬مثل قطب واملودودي‪ ،‬فيؤكد أن هناك ُم َّ‬
‫ركب‬
‫لتوحيد هذه العنارص الثالث‪ ،‬وهو الدين أو الفكرة الدينية‪.‬‬
‫فكل الشعوب متتلك مقومات احلضارة‪ ،‬ولكن ذلك يتطلب توافر ُم َّ‬
‫ركب‬
‫حيول هذه املكونات إىل حضارة تأخذ الشكل الرتاكمي املطلوب‪ ،‬الذي‬ ‫تارخيي‪ِّ ،‬‬
‫متطو ًرا وقاب ً‬
‫ال لالستمرار والرتاكم‪ ،‬ويستطيع استغالل مكوناته فيام‬ ‫جمتمعا ِّ‬
‫ً‬ ‫يؤسس‬
‫خيدم نفسه واإلنسانية‪ ،‬وهو الدين عند مالك بن نبي‪.‬‬
‫ويقول يف كتابه "رشوط النهضة"‪" :‬فال تظهر يف أمة من األمم إال يف صورة‬
‫ومنهاجا؛ إذ هي‪ -‬عىل األقل‪ -‬تقوم‬
‫ً‬ ‫وحي هيبط من السامء يكون للناس رشع ًة‬
‫أسسها يف توجيه الناس نحو معبود غيبي‪ ،‬فكأنام قدر لإلنسان أال ترشق عليه‬
‫شمس احلضارة إال حيث يمتد نظره إىل ما وراء حياته األرضية"‪.‬‬
‫ولكنه يشدد يف اإلطار عىل أمهية عنرص اإلنسان يف تكوين هذه احلضارة‪ ،‬ويؤكد‬
‫يف دراسته لعوامل انتهاء احلضارة اإلسالمية‪ ،‬عىل أهنا انتهت عندما انتهت قيمة‬
‫اإلنسان فيها‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويشري إىل أن التعايش السلمي – وهو من أهم سامت املدينية يف عاملنا املعارص‪ ،‬يف‬
‫الفلسفات واألفكار الغربية – ِسمة مميزة للمجتمعات البرشية ذات الطابع املديني‪،‬‬
‫ً‬
‫مشرتكا‪ ،‬ويتشاركون مهو ًما واحدة‪ ،‬ويكون هلم ثقافة واحدة‪،‬‬ ‫ويطور أعضاؤه وع ًيا‬
‫أو ثقافات بينها قواسم مشرتكة‪ ،‬تشكل هوية وشكل هذا املجتمع‪.‬‬
‫ويرى‪ ،‬خاصة يف كتا َب ْيه "القضايا الكربى"‪ ،‬و"رشوط النهضة"‪ ،‬أن املجتمع‬
‫ً‬
‫متحرضا عندما تكون إنسانية اإلنسان هي القيمة العليا يف هذا املجتمع‪،‬‬ ‫يكون‬
‫موضع تكريم‪ ،‬بينام يكون هذا املجتمع متخ ِّل ًفا إذا ما كان احلال‬
‫َ‬ ‫ويكون اإلنسان‬
‫العكس‪.‬‬
‫‪.........‬‬
‫هذه هي صورة شديدة الرتكيز ملفهوم املدنية املدينية يف اإلسالم‪ ،‬وموضعهام‬
‫يف قلب حضارة هذا الدين‪ ،‬ولعل – كام قلنا – فإن واجب الوقت هو السعي إىل‬
‫التوحش" وكل "صناعة‬
‫ُّ‬ ‫نرشها ونرش األدبيات التي تعرب عنها يف مواجهة "صناعة‬
‫توحش"!‬
‫ُّ‬

‫‪38‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫القرآن الكريم وكيفية بناء نموذج معرفي إسالمي‬


‫ال نزال مع بعض القضايا اإلشكالية التي تضخها بعض األوساط املعادية‬
‫للمرشوع اإلسالمي‪ ،‬وتعمل ضمن منظومة إعالمية وسياسية وجمتمعية‪ ،‬من أجل‬
‫التشكيك يف قدرة اإلسالم ونصوصه املقدسة عىل إقامة مرشوع حضاري متكامل‬
‫األركان‪.‬‬
‫ويف سياقات سابقة‪ ،‬تناولنا منظومة األخالق والقيم التي استند إليها اإلسالم‪،‬‬
‫وكيف أهنا تساهم يف إقامة جمتمعات راسخة مستقرة‪ ،‬وحية‪ ،‬أي قابلة للتطور‬
‫احلضاري واإلسهام يف املجال اإلنساين العام‪ ،‬وكيف أن اإلسالم يتضمن سواء‬
‫يف نصوصه ومتونه‪ ،‬أو يف جمال التطبيقي خالل القرون التي تلت تأسيس الدولة‬
‫األوىل يف املدينة املنورة‪ ،‬القواعد الصحيحة إلقامة العمران‪.‬‬
‫ونقف يف هذا اإلطار‪ ،‬عىل مشكلة أخرى مطروحة يف وقتنا الراهن‪ ،‬وهي أن‬
‫معرفيا يقوم‬
‫ًّ‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬باعتباره أساس العقيدة‪ ،‬ال يمكنه أن يقدم‬
‫نصوصا "جامدة" عىل املسلم‪ ،‬يتلقاها وينفذها من دون‬
‫ً‬ ‫عىل العقل‪ ،‬وإنام يفرض‬
‫كثري تفكري‪.‬‬
‫ويعود ٌ‬
‫بعض من جوانب هذه املشكلة إىل جذور داخلية‪ ،‬ليس يف النص بطبيعة‬
‫احلال‪ ،‬وإنام يف ممارسات خاطئة رسخها البعض يف عصور ُّ‬
‫التأخر احلضاري لألمة‪،‬‬
‫كرست هذه الصورة الذهنية عن اإلسالم‪ ،‬وعن القرآن الكريم‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪39‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف البداية؛ فإن املقصود بالنموذج املعريف‪ ،‬هو ذلك اإلطار أو التصور املتكامل‬
‫التي يفرس به اإلنسان الظواهر من حوله‪ ،‬ويتعامل معها‪ ،‬ويعتمد أكثر ما يعتمد‬
‫عىل العقل‪ ،‬الذي يقدم لإلنسان‪ ،‬وللجامعة يف ٍ‬
‫آن‪ ،‬األدوات التي يمكنه من خالهلا‬
‫القيام هبذه األمور؛ الفهم والتحكم‪ ،‬من أجل حتسني بيئة احلياة بشكل عام‪ ،‬وحتقيق‬
‫االستقرار النفيس والوجداين للجامعة البرشية‪ ،‬وبالتايل؛ احلفاظ عىل متاسكها‬
‫وتعاوهنا‪.‬‬

‫والقرآن الكريم‪ ،‬بالرغم من أنه فريضة من اهلل تعاىل عىل اإلنسان ﴿ ﭑ ﭒ‬


‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫[سورة "القصص" – اآلية ‪]85‬؛ إال أنه مل يمنع اإلنسان من تكوين تصوراته‬
‫ﭤ﴾ ُ‬
‫اخلاصة عن اإلطار املحيط به‪ ،‬يف ظل حقيقة بدهيية‪ ،‬تدركها احلكمة اإلهلية البالغة؛‬
‫حيث يعلم َمن خلق وهو اللطيف اخلبري؛ بأن اإلنسانية ُخ ِل َق ْت شعو ًبا وقبائل‪،‬‬
‫سورت "احلجرات" و"هود"‪ ،‬وغريها من ُسور القرآن‬
‫َْ‬ ‫وخ ِ‬
‫لق ْت خمتلفة‪ ،‬كام يف‬ ‫ُ‬
‫الكريم‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن الظروف املحيطة باجلامعة البرشية تتغري‪ ،‬بام يتطلب خصوصية‬
‫يف فهم هذه األمور‪ ،‬والتعامل معها‪ ،‬وتتعلق باألساس بإدراك الظروف املحيطة‪،‬‬
‫من أجل حتقيق ُس َّنة التسخري؛ تسخري املوجودات خلدمة اإلنسان‪ ،‬من أجل حتقيق‬
‫حاجاته األساسية واملتطورة التي متيزه عن سائر خملوقات اهلل عز وجل األخرى‪،‬‬
‫ملساعدته عىل القيام بمهمته األساسية‪ ،‬وهي عبادة اهلل تعاىل وحده ال رشيك له‪،‬‬
‫وإفراده هبا‪ ،‬وإعامر األرض ألجل ذلك الغرض املقدس‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولو بحثنا يف القرآن الكريم‪ ،‬فإننا سوف نقف أمام الكثري من اآليات التي‬
‫ُّ‬
‫التفكر وإعامل العقل‪ ،‬وأخذ املعرفة من كل مصادرها‪ ،‬وعدم‬ ‫تدعو اإلنسان إىل‬
‫الوقوف أمام النص املقدس فقط‪ ،‬الذي نزل يف صياغة عامة شاءهتا حكمة اخلالق؛‬
‫ألجل حتديد القوانني والقواعد احلاكمة‪ ،‬وهدايته إىل الصواب‪ ،‬ثم ترك املجال‬
‫للتحرك يف إطارها‪ ،‬أو يف إطار خياراته اخلاصة‪ ،‬من أجل حتقيق مبدأ‬
‫ُّ‬ ‫حرا لإلنسان‬
‫ًّ‬
‫العدالة يف املحاسبة‪ ،‬يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ً‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان‪.‬‬ ‫وهو ما جعل القرآن الكريم‬
‫فأول ما أقسم به اهلل تعاىل يف القرآن الكريم؛ هو‪﴿ :‬ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍَ﴾‪ ،‬يف‬
‫"الع َلق"‪ ،‬التي تبدأ بأول ما ُأنزل‬
‫السورة نزلت بعد ُسورة َ‬
‫ُسورة "القلم"‪ ،‬وهذه ُّ‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬وهو األمر اإلهلي اخلالد‪﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾‪.‬‬
‫هذا القسم بـ"ن والقلم َو َما َي ْس ُط ُر َ‬
‫ون"‪ ،‬جاء لكي يؤكد اهلل تعاىل هبا‪ ،‬نبوة‬
‫الرسول الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪ ،‬بكل ما يعنيه ذلك من أمور عظمى‪ ،‬أو بمعنى أدق‪،‬‬
‫هي أعظم وأخطر أمور الدنيا؛ عقيدة التوحيد‪ ،‬اإلسالم‪ ،‬الدين اخلاتم‪.‬‬
‫رسخ القرآن الكريم أمهية املعرفة واللغة يف هذه األولوية‪ ،‬ويف هذا‬
‫بذلك َّ‬
‫الرتتيب‪ ،‬وكأنام شاءت حكمة رب العزة سبحانه‪ ،‬أن يقول للناس‪ :‬أن أهم وأوىل‬
‫ما ينبغي عىل اإلنسان أن يفعله‪ ،‬هو أن يقرأ‪ ،‬وأن اهم ما خلق سبحانه‪ ،‬هو القلم‪.‬‬
‫وارتباط القراءة واالطالع بشكل عام بتوسيع مدركات اإلنسان‪ ،‬وتكوين‬
‫فهمه ملا حييط به من تطورات وحوادث كبار‪ ،‬سواء عىل مستوى املجتمع الصغري‬

‫‪41‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الذي يعيش فيه‪ ،‬أو يف اإلطار اإلنساين العام؛ هو ارتباط قديم‪ ،‬بل إن البعض يعترب‬
‫القراءة هي أهم مصادر تكوين النموذج املعريف الذي حيرك اإلنسان‪ ،‬ولذلك اختار‬
‫اهلل تعاىل القرآن الكريم الذي هو كلامت مقروءة مسطورة يف كتاب‪ ،‬هو املصحف‬
‫الرشيف‪ ،‬لكي يكون هو معجزته اخلالدة‪ ،‬وفيه تعاليمه للبرش‪.‬‬

‫بل إن مسألة تطوير اإلنسان لنموذج معريف من خالل املوجودات املحيطة‬


‫به‪ ،‬هي أحد أهم املسارات التي يمكن أن يصل اإلنسان هبا إىل اإليامن باهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬

‫يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬


‫"فص َل ْت" ‪ -‬اآلية ‪.]53‬‬
‫[سورة ِّ‬
‫ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﴾ ُ‬
‫فهذه اآلية تقول بأن إرادة اهلل تعاىل النافذة‪ ،‬هي التي فرضت عىل اإلنسان ذلك‬
‫يف األصل‪.‬‬

‫وبالتايل؛ فإن القرآن الكريم‪ ،‬من خالل ما دعا إليه يف صدد التدبر يف اخللق‬
‫اإلهلي‪ ،‬والقراءة واالطالع‪ ،‬والسعي إىل الفهم؛ هو ذاته‪ ،‬هو دعا اإلنسان‬
‫واجلامعة البرشية‪ ،‬إىل تكوين النموذج املعريف اخلاص هبا‪ ،‬وفق ما تقتضيه‬
‫مصلحتها‪ ،‬ولكن يف سياق ما وضعه اهلل تعاىل من قوانني‪ ،‬سواء قوانني اخللق‬
‫والعمران النافذة‪ ،‬أو قوانني الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬التي سوف ُياسب اإلنسان‬
‫عىل مدى التزامه هبا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فنحن أمام جوهر احلضارة اإلنسانية يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫فإن كل ما ُيقال يف خالف ذلك؛ إنام هو ضمن مساعي التشويش التي تواجهها‬
‫األمة‪ ،‬وبالتايل؛ فإنه من الرضوري يف الوقت الراهن‪ ،‬العمل عىل مواجهتها‪،‬‬
‫ترسخت يف‬
‫وأول وأهخم خطوة هو تفكيك بعض املكونات املعيقة لذلك‪ ،‬والتي َّ‬
‫الذهنية املسلمة يف قرون التخلف احلضاري التي مرت هبا األمة‪ ،‬ضمن قوانني اهلل‬
‫عز وجل يف صعود وهبوط األمم واحلضارات‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قراءة "أكسيولوجية" في القرآن الكريم‬


‫وكمال البنيان األخالقي في آياته‬

‫يقول ُ‬
‫اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫[سورة "الفرقان" ‪ -‬اآلية ‪.]30‬‬
‫ﯠ﴾ ُ‬
‫وجييء اختيارنا هلذه اآلية الكريمة التي تتحدث عن أحد أهم أمراض األمة يف‬
‫عرصنا احلايل‪ ،‬كمفتتح للحديث‪ ،‬للتأكيد عىل الرسالة األساسية التي نسعى يف هذا‬
‫بمعنى أدق‪ ،‬تغييب‪ ،‬حمتوى القرآن‬
‫ً‬ ‫املوضع إىل التأكيد عليها‪ ،‬وهي دور غياب أو‬
‫املسلم ْي‪ ،‬هو‬
‫َ‬ ‫الكريم عن احلياة اليومية للفرد املسلم‪ ،‬وبالتايل األرسة واملجتمع‬
‫أهم سبب ملشكالتنا األخالقية والسلوكية‪ ،‬والتي ُتعترب بدورها املرتكز األسايس‬
‫حلالة التخلف احلضاري التي حتياها األمة‪.‬‬
‫فاملكون القيمي واألخالقي هو أساس أية‬
‫ِّ‬ ‫وهذا احلديث ليس من قبيل املبالغة؛‬
‫سع ْيها‬
‫حضارة إنسانية‪ ،‬وهو الذي تنهض عليه أماين األمم‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فهو يشكل َ‬
‫بالكامل‪ ،‬حتى عىل مستوى احلياة اليومية‪ ،‬لتحقيق هذه األماين‪ ،‬وفق تصوراهتا‬
‫املثالية عن احلياة والكون‪ ،‬وصريورات األمة بالكامل‪.‬‬
‫ولسنا هنا يف معرض التأكيد عىل الرسالة األخالقية لإلسالم‪ ،‬باعتبار أن هذا‬
‫أحد ثوابت اإلسالم؛ حيث أكدها النبي الكريم ﷺ‪ ،‬عندما قال‪" :‬إنام ُبعثت ألمتم‬
‫صالح األخالق" [أخرجه أمحد يف ا ُملسند‪ ،‬وأخرجه البزار عن أيب هريرة "ريض ُ‬
‫اهلل‬
‫عنه"‪ ،‬بـ"مكارم األخالق"]‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن‪ ،‬ويف خالل قرون االضمحالل األخرية التي عانت فيها األمة من حالة‬
‫من العزلة عن دينها ومرجعيته األساسية‪ ،‬وهي القرآن الكريم‪ ،‬وسيطرة األفكار‬
‫والس َّنية النبوية‬
‫العلامنية حتت دعوى املدنية واملدينية‪ ،‬بينام ما يف القرآن الكريم ُّ‬
‫الرشيفة ما يزري بذلك ألف مرة‪.‬‬
‫ولعل ما سوف نذكره هنا من قواعد تربوية وسلوكية جاءت يف القرآن الكريم‪،‬‬
‫إنام هو للتأكيد عىل أنه إذا ما أردنا حتسني وضعنا احلضاري؛ فإن احلل موجود يف‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫إطار عام للمجال األكسيولوجي يف القرآن الكرمي‬

‫اخرتنا مصطلح األكسيولوجي أو الـ"‪ "Axiology‬ألمهيته يف التأكيد عىل أن‬


‫القرآن الكريم قد استوىف كل أركان الفلسفات الوضعية التي يلجأ إليها الناس‬
‫من أجل فهم الكون من حوهلم والتعامل معه يف صورته املثالية‪ ،‬وبالتايل؛ فإن‬
‫املسلمني ليسوا بحاجة إىل فلسفات قارصة‪ ،‬فيام لدهيم الكامل ذاته يف القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫كام أن هذا املصطلح لدى طالب الفلسفة ودارسيها يرتبط بأمر آخر شديد‬
‫األمهية يف اإلطار احلضاري‪ ،‬فهو املجال أو املبحث الفلسفي الذي هيتم بدراسة‬
‫ا ُمل ُثل العليا والقيم املطلقة‪ ،‬ومدى إرتباطها بالعلم وخصائص التفكري العلمي‪،‬‬
‫وهي بدوره أهم وأرقى األنشطة اإلنسانية‪ ،‬بل هو حمور تقدم احلضارات يف وقتنا‬
‫الراهن‪ ،‬ويف كل العصور‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬وبشكل عام؛ فإن القرآن الكريم تعامل مع املسألة القيمية بأكثر‬
‫من شكل‪ ،‬وبأكثر من طريقة‪.‬‬
‫الطريقة األوىل‪ ،‬هي اإلطار العام؛ حيث هناك آيات قرآنية كريمة ضمت‬
‫جمموعات أساسية من اخللق الكريم والسلوك القويم‪ ،‬تناوهلا القرآن الكريم‬
‫باعتبار أهنا القاعدة األخالقية األساسية للمجتمعات‪.‬‬
‫ومن بني اآليات اجلامعة التي توضح ذلك‪ ،‬ما ورد يف ُسورة "األنعام"‪ ،‬حيث‬
‫يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ‬
‫ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‪.‬‬
‫ويقف عىل رأس جوامع األخالق يف القرآن الكريم‪ ،‬الوفاء بالعهد‪ ،‬والصدق‬
‫وعدم الكذب‪ ،‬واألمر بالعدل‪ ،‬حتى مع الظاملني والكافرين‪ ،‬والتعاون عىل الرب‬
‫والتقوى يف كل ما ينفع الناس‪ُّ ،‬‬
‫وكف األذى عنهم يف املقابل‪.‬‬
‫والتكب‪ ،‬وعن‬
‫ُّ‬ ‫علم‪ ،‬وعن اخليالء‬
‫حرم القرآن الظلم‪ ،‬وهنى عن القول بغري ٍ‬
‫كام َّ‬
‫اإلرساف والتبذير والبخل والتقتري يف املقابل‪،‬‬
‫وخصوصا يف‬
‫ً‬ ‫كذلك أعىل القرآن الكريم يف كثري من آياته من قيمة الصرب‪،‬‬
‫أوقات الشدة‪ ،‬وعند وقوع املصائب‪ ،‬وكذلك الرضا بالقضاء والقدر‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف القرآن الكريم كذلك‪ ،‬دعوات لعدم التنابز باأللقاب‪ ،‬والنهي عن املعايرة‪،‬‬
‫وعن ذكر اإلنسان لكل ما ييسء ألخيه اإلنسان‪ ،‬ودعا إىل حسن املعاملة‪ ،‬والتواد‬
‫والتعاطف والرتاحم‪ ،‬وكل ما من شأنه أن ِّ‬
‫يعضد من األوارص االجتامعية‪ ،‬وحتسني‬
‫تلقائيا يف املساعدة عىل تقدم ورقي األمة‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫العالقات بني الناس‪ ،‬وهو ما يصب‬
‫ودعا القرآن الكريم ً‬
‫أيضا إىل عدم التنابز باأللقاب‪ ،‬والنهي عن املعايرة‪ ،‬وعن‬
‫ذكر اإلنسان لكل ما ييسء ألخيه اإلنسان‪ ،‬ودعا إىل حسن املعاملة‪ ،‬والتواد‬
‫والتعاطف والرتاحم‪ ،‬وكل ما من شأنه أن ِّ‬
‫يعضد من األوارص االجتامعية‪ ،‬وحتسني‬
‫تلقائيا يف املساعدة عىل تقدم ورقي األمة‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫العالقات بني الناس‪ ،‬وهو ما يصب‬
‫هذا جانب‪ ،‬واآلن مع جانب آخر للمجال األكسيولوجي يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫الكليات األخالقية وموضعها من القرآن الكرمي‬

‫اإلطار الثاين الذي تناول فيه القرآن الكريم األمور األخالقية‪ ،‬هو اإلطار‬
‫خصص؛ حيث تناولت آيات عدة صفة أو أكثر‪ ،‬بالنهي أو التحفيز‪ ،‬بحسب‬ ‫ا ُمل َّ‬
‫وكل منها متثل جان ًبا ًّ‬
‫مهم من بنيان أي جمتمع‪ ،‬وليس جمرد‬ ‫طبيعتها‪ ،‬سل ًبا أو إجيا ًبا‪ٌّ ،‬‬
‫نافلة قول يف سلوك اإلنسان العام أو اخلاص‪.‬‬
‫ولو وقفنا اآلن أمام بعض أهم مشكالتنا األخالقية‪ ،‬يف جمتمعاتنا العربية‬
‫واإلسالمية؛ وهي الزنا والعالقات غري الرشعية؛ فإننا سوف نجد أننا أمام قيم‬
‫أخالقية كربى يف القرآن الكريم تتعامل مع هذه املشكلة‪ ،‬وتضع هلا احلدود القاطعة‬
‫التي حيافظ هبا عىل البنيان املجتمعي‪ ،‬األخالقي واملادي‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن اآليات التي تستلفت االنتباه يف القرآن الكريم يف هذا الصدد؛ قوله تعاىل‬
‫يف ُسورة "األعراف"‪﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾‪.‬‬
‫يف هذه اآلية؛ وضع اهلل تعاىل الفواحش‪ ،‬ومنها الزنا‪ ،‬أو لعله هو الزنا نفسه وفق‬
‫أمر جلل؛ حيث عقيدة التوحيد هي‬
‫مفسين‪ ،‬حتى قبل الرشك باهلل تعاىل‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ِّ‬
‫أساس خلق الكون كله‪ ،‬وهي مقصد خلق اإلنسان؛ يف صورة إفراده هلل عز وجل‬
‫باأللوهية والعبادة‪ ،‬وعندما يقدم ُ‬
‫اهلل تعاىل جريمة عىل جريمة الرشك به؛ فإن هذا‬
‫يؤكد لنا ِع َظم وجسامة هذا الذنب‪.‬‬
‫وجتريم الزنا هلذه الدرجة ال يضمن حفظ األنساب فحسب‪ ،‬وإنام كذلك‬
‫يضمن االستقرار املجتمعي بالكامل‪ ،‬فالزنا هو أحد أهم أسباب الطالق والتفكك‬
‫األرسي‪ ،‬وبالتايل؛ فإن حمارصة هذه الظاهرة تضمن سالمة األرسة‪ ،‬التي هي ضامنة‬
‫بقاء أي جمتمع‪.‬‬
‫ولننتقل إىل جانب تربوي آخر يف القرآن الكريم‪ ،‬ويرتبط بدوره بآفة هي من‬
‫ألعن ما نعاين منه اليوم‪ ،‬وهي الكذب‪.‬‬
‫ونتخي يف هذا اإلطار آية واحدة تكفي لفهم موقف القرآن الكريم من‬
‫َّ‬
‫الكذب وكيف َذ َّم فيه‪ ،‬فيقول تعاىل يف مستهل سورة "املنافقون"‪ ﴿ :‬ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ﴾‪ ،‬ومن املعلوم أن املنافقني هم أسوأ فئة من البرش‪ ،‬وهم يف الدرك‬
‫األسفل من النار كام قال اهلل تعاىل يف قرآنه العظيم‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف املقابل؛ يدعونا اهلل تعاىل إىل الصدق‪ ،‬ونختار من القرآن كذلك آية هلا داللة‬
‫نوعية يف هذا الصدد‪ ،‬وهي اآلية (‪ )41‬من ُسورة "مريم"‪ ،‬وفيها يقول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪.‬‬
‫وهنا وضع اهلل تعاىل الصدق والوفاء بالوعد كخصلت َْي محيد َت ْي‪ ،‬عىل رأس ُس َّلم‬
‫صفات النبوة‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬هناك ما يؤكد ذات املعنى‪ ،‬ففي اآلية (‪ ،)54‬يقول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ويف ذات ُّ‬
‫﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﴾‪ ،‬ويف اآلية (‪ ،)56‬يقول‬
‫عز وجل‪﴿ :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﴾‪.‬‬
‫قاطعا عن الغيبة والنميمة‪ ،‬والظن اليسء‪،‬‬‫يف إطار آخر‪ ،‬هنى القرآن الكريم هن ًيا ً‬
‫وكل ما من شأنه حتقيق مرامي الشيطان الرجيم‪ ،‬يف التفرقة بني بني آدم‪ ،‬وغ َّلظ يف‬
‫ال‪ ،‬بحيث ُ‬
‫يعظم اجلرم بام تأباه الفطرة السليمة‪.‬‬ ‫النهي عن ذلك بصورة مروعة فع ً‬

‫فيقول تعاىل‪﴿ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ‬


‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ‬
‫[سورة "احلجرات"‪ - ،‬اآلية ‪.]12‬‬
‫ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ ُ‬
‫العبادات‪ ..‬من مكارم األخالق‬

‫واإلطار األخالقي والقيمي يف القرآن الكريم أوسع من جمرد سلوك‪ ،‬أو ِفعلٍ ‪،‬‬
‫حبذ‪ ،‬ويكون حمط دعوة وتأكيد من رب العزة‪ ،‬بل‬
‫خاطئ ف ُي ْن َهى عنه‪ ،‬أو جيد ف ُي َّ‬
‫مكون من مكونات اإلسالم‪ ،‬وهو اجلانب‬
‫إن األمر أكرب من ذلك‪ ،‬ويشمل أهم ِّ‬

‫‪49‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اخلاص بالعبادات‪ ،‬والتي هي أساس اعرتاف اإلنسان بألوهية اهلل عز وجل‪،‬‬


‫وإفراده هبا وبالعبادة‪.‬‬

‫فيقول اهلل تعاىل يف ُسورة "املؤمنون"‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬


‫ﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝﭞ ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤ‬
‫ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲ‬
‫ﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀ‬
‫ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل ً‬
‫أيضا‪﴿ :‬ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧ‬
‫ﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬اآلية ‪.]177‬‬
‫ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ ُ‬
‫ٍ‬
‫جنب مع العبادة‪ ،‬ما يؤكد‬ ‫ولعل هذه اجلزئية‪ ،‬التي نجد فيها األخالق جن ًبا إىل‬
‫عىل أمهيتها يف القرآن الكريم‪ ،‬واملكانة العظيمة التي وضعها اهلل تعاىل هلا‪.‬‬
‫‪.......‬‬
‫ويف األخري؛ فإننا إذا ما أردنا أن نستعيد خريية األمة؛ فام علينا إال أن نع ِّلم أبناءنا‬
‫القرآن الكريم‪ .‬ليكن شعار دعاتنا وساستنا ومربينا‪" :‬علموا أبنا َءكم القرآن"!‬

‫‪50‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"حوار الحضارات"‪ ..‬بين اإلرث االستعماري وخطايا المستشرقين‬

‫بعد الثورة الفرنسية بفرتة وجيزة‪ ،‬وقف رجل الدين الربوتوستانتي‪ ،‬رابو سانت‬
‫اتيان‪ ،‬أمام جلسة للجمعية التأسيسية الفرنسية‪ ،‬كانت تناقش البنود اخلاصة بحرية‬
‫املعتقد وحرية التفكري والتعبري؛ لكي يطرح قضية كانت شديدة األمهية يف ذلك‬
‫احلني‪ ،‬وهي دمج الفرنسيني غري الكاثوليك يف خمتلف مفاصل املجتمع والسلطة يف‬
‫فرنسا اجلديدة يف ذلك احلني‪ ،‬من دون النظر إىل مذهبهم‪.‬‬
‫كان هذا املشهد التارخيي‪ ،‬هو أحد املشاهد املتأخرة التي جاءت لكي تضع‬
‫هناية ألحد أسوأ ألوان الرصاع الديني يف التاريخ‪ ،‬وهو ما يعرف باحلروب الدينية‬
‫األوروبية‪ ،‬التي استمرت طيلة القرون الوسطى‪ ،‬وبالذات يف القر َن ْي السادس‬
‫عرش والسابع عرش امليالد َّي ْي‪ ،‬بعد ظهور حركة اإلصالح الديني الربوتوستانتية‪،‬‬
‫عىل يد الراهب األملاين مارتن لوثر‪.‬‬
‫ومن بني هذه احلروب الدينية املتعددة التي نشبت بني الكاثوليك والربوتوستانت‪،‬‬
‫حروب فرنسا الدينية التي استمرت خالل الفرتة من العام ‪1562‬م‪ ،‬وحتى العام‬
‫‪1598‬م‪ ،‬وراح ضحيتها قرابة أربعة ماليني نفس برشية‪ ،‬بسبب رفض اآلخر‬
‫وعدم التسامح معه‪.‬‬
‫وبعد معاهدة ويستفاليا يف العام ‪1648‬م‪ ،‬والتي أسست للدولة القومية احلديثة‬
‫يف أوروبا؛ خاضت الدول األوروبية رصاعات عدة فيام بينها‪ ،‬كان الدين واملذهب‬
‫جز ًءا منها‪ ،‬وإن كان الرداء األسايس هلا‪ ،‬هو رصاعات النفوذ واملصالح والقوميات‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وأبسط دليل عىل ذلك‪ ،‬هو ما نجده يف التاريخ من حروب نشبت يف القارة‬
‫وخارجها بني القوى والدول التي استمرت عىل املذهب الكاثوليكي وبني القوى‬
‫والدول التي كانت عىل املذهب الربوتوستانتي‪ ،‬وأن التحالفات بني هذه القوى‬
‫والدول كانت تضم أصحاب املذهب الواحد‪ ،‬بينام كان كالمها من خصوم األمم‬
‫املسيحية التي تنتمي إىل الكنائس املرشقية‪.‬‬
‫جييء هذا املفتتح ألمهيته يف ظل جتدد احلديث يف الوقت الراهن عن قضية حوار‬
‫األديان واحلضارات‪ ،‬وما تتصل به يف صدد قيمة التسامح واالختالف‪.‬‬
‫أثر‬
‫ولقد كان لتويل بابا الفاتيكان‪ ،‬البابا فرانسيس‪ ،‬ملنصبه هذا يف العام ‪2013‬م‪ٌ ،‬‬
‫كبري يف إعادة قضية حوار احلضارات‪ ،‬وإشكالية التسامح والتعاطي مع املخالِف‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫إىل فضاء احلديث عىل املستوى الرسمي واألكاديمي يف األوساط الدينية والسياسية‬
‫وخصوصا يف أوساط كانت عىل قدر من االهتامم هبذه القضية‪ ،‬مثل‬
‫ً‬ ‫اإلسالمية‪،‬‬
‫األزهر الرشيف يف مرص‪.‬‬
‫وكانت الزيارة األخرية التي قام هبا البابا إىل مرص‪ ،‬ولقاءه مع اإلمام األكرب‪،‬‬
‫الدكتور أمحد الطيب‪ ،‬شيخ األزهر‪ ،‬وجوالت هذا األخري التي سبقت هذه الزيارة‬
‫مهم لتجدد هذا احلديث الذي هو‬ ‫مفتاحا ًّ‬
‫ً‬ ‫أو تلتها‪ ،‬إىل عدد من البلدان الغربية؛‬
‫أقرب إىل اجلدل اخلاليف؛ حيث الكثري من االعتبارات السياسية و – األهم –‬
‫العقيدية‪ ،‬التي تقول بأنه ال يمكن الوصول به – هذا احلوار – إىل املستوى الذي‬
‫يتصوره أصحاب النظرة املثالية‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويعود ذلك إىل العديد من األمور التي تعايشها األمة العربية واإلسالمية‬
‫عىل وجه اخلصوص‪ ،‬باعتبار أهنا الطرف األصيل األول يف هذه الدعوات إىل‬
‫احلوار‪.‬‬
‫فاملاصدق العميل أو الواقعي للجهود احلالية املبذولة من أجل إنجاح "حوار‬
‫األديان" أو "حوار احلضارات"‪ ،‬إنام هو باألساس أوارص العالقة بني احلضارة‬
‫الغربية التي تستند إىل الديانة املسيحية يف منظومتها العقيدية والقيمية واالجتامعية‪،‬‬
‫واحلضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬التي يشكل اإلسالم مكوهنا األسايس‪.‬‬
‫ومن بني هذه األمور‪ ،‬استمرار الغرب يف سياساته العدوانية التي بدأها منذ‬
‫ظهور الدولة اإلسالمية األوىل يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬عندما حتركت الدولة‬
‫الرومانية والدويالت واإلمارات املسيحية احلليفة هلا يف بالد الشام وعىل أطراف‬
‫مبكرا‪ ،‬فكانت غزوتا "مؤتة" و"تبوك"‪.‬‬
‫شبه اجلزيرة العربية‪ً ،‬‬
‫ينس لآلن احلمالت الصليبية التي هبت رحيها اخلبيثة‬
‫وإذا كان العامل اإلسالمي مل َ‬
‫عليه يف خارصته األهم‪ ،‬فلسطني وبالد الشام وآسيا الصغرى ومرص‪ ،‬لقسمه إىل‬
‫جناح ْي متباعدَ ْين‪ ،‬بالرغم من أهنا قد َّ‬
‫مر عىل آخرها حوايل ثامنية قرون؛ فإنه من‬ ‫َ‬
‫باب أوىل التأكيد عىل أن إرث االستعامر الغريب يف بلدان األمة يف الوقت الراهن‪،‬‬
‫ومؤثرا‪ ،‬يشكل أكرب عقبة يف طريق إصالح ذات ال َب ْي‪.‬‬
‫ً‬ ‫حيا‬
‫والذي ال يزال ًّ‬
‫فالرصاعات الراهنة بني الدول العربية واإلسالمية؛ نشأت بسبب ِف ْعل االستعامر‬
‫األورويب ثم السياسات األمريكية بني ظهرانينا‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِ‬
‫املستعمرة السابقة هلا‬ ‫فالرصاعات احلدودية‪ ،‬جاءت بسبب ترسيم الدول‬
‫بالشكل الذي يضمن حدوث هذه الرصاعات بني الدول املختلفة‪ ،‬من أجل‬
‫إضعافها وشغلها‪.‬‬
‫كذلك الرصاعات الطائفية واملذهبية والعرقية التي نراها يف أماكن عدة من‬
‫العامل العريب يف الوقت الراهن‪ ،‬جاءت بسبب السياسات االستعامرية – واملستمرة‬
‫بصورة أو بأخرى لآلن – إلثارة النعرات الشعبوية والطائفية واملذهبية الضيقة‬
‫بني شعوب األمة‪ ،‬وبني املسلمني ومسيحيي املرشق‪ ،‬املستهدفني بدورهم هبذا‬
‫املخطط‪.‬‬
‫والدور األورويب الغريب واضح متا ًما يف إسقاط الدولة العثامنية التي كانت متثل‬
‫اإلطار السيايس اجلامع لكل شعوب املنطقة‪ ،‬وكان يضمن معاجلة اخلالفات فيام‬
‫بينها يف إطار كون هذه الشعوب إنام هم رعايا دولة واحدة‪.‬‬
‫تصور نجاح دعوات حوار احلضارات‪ ،‬بينام‬
‫وحتى وقتنا الراهن‪ ،‬كيف يمكن ُّ‬
‫جرائم الواليات املتحدة وبريطانيا وفرنسا‪ ،‬موجودة يف كل مكان من بني ظهراين‬
‫مرورا بالعراق وفلسطني‬
‫ً‬ ‫األمة‪ ،‬من أفغانستان رش ًقا‪ ،‬وحتى نيجرييا ومايل غر ًبا‪،‬‬
‫والصومال‪.‬‬
‫أساسيا يف‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫رشيكا‬ ‫عرف بالربيع العريب‪ ،‬نجد الغرب‬
‫ويف مرحلة ما بعد ما ُي َ‬
‫اجلرائم احلالية التي ارتكبتها أنظمة وحكومات قمعية ضد شعوهبا‪ ،‬بدعم هذه‬
‫األنظمة‪ ،‬وعدم الضغط عليها بالشكل الكايف‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف سوريا وليبيا عىل وجه اخلصوص؛ يبدو الغرب راض ًيا أتم الرضا عن‬
‫الس ُبل‪،‬‬
‫استمرار احلروب الداخلية يف هذه البلدان‪ ،‬بل ويعمل عىل تغذيتها بشتى ُّ‬
‫باعتبار أهنا فرصة مهمة الستمرار األزمات الداخلية لألمة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬تعطيلها عن‬
‫أية مرشوعات للنهوض احلضاري والوحدة‪ ،‬وجيدون يف ذلك ً‬
‫دعم من عدد ليس‬
‫بقليل من األنظمة واحلكومات العربية واإلسالمية‪.‬‬
‫عائق آخر يقف يف هذا الصعيد‪ ،‬وهو الصورة الذهنية للعرب واملسلمني‪ ،‬والتي‬
‫رسمها غري املنصفني من املسترشقني عن العرب واملسلمني‪ ،‬كـ"أمم وحشية"‬
‫خاملة‪ ،‬بينام اإلنتاج احلضاري العريب واإلسالمي‪ ،‬كان وراء النهضة األوروبية‬
‫احلالية منذ بدء خروج القارة العجوز من عصورها املظلمة‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإنه ال يمكن للرأي العام الغريب الذي تربى عىل أساس أفكار أن‬
‫العرب واملسلمني "مهج" و"متوحشون" و"غري حضاريني" وغري ذلك من‬
‫حوارا مع هكذا أمم‪.‬‬
‫ً‬ ‫األفكار السلبية‪ ،‬أن يقبل بدوره‬
‫بينام العكس هو الصحيح؛ فمهام حصل يف عاملنا العريب واإلسالمي من‬
‫رصاعات؛ ال يمكن أبدً ا قياسه ال عىل املستوى الزمني وال عىل مستوى عدد‬
‫الضحايا‪ ،‬بام وقع يف أوروبا؛ حيث مئات املاليني من البرش سقطوا ضحايا عدم‬
‫التسامح وقبول اآلخر كام يف احلروب الدينية‪.‬‬
‫تصور احلمالت اإلعالمية التي تتناول سياسات وأنشطة‬
‫ولكننا اآلن نرى كيف ِّ‬
‫تنظيامت غامضة املنشأ واهلوية‪ ،‬مثل تنظيم الدولة "داعش"‪ ،‬وتصورها عىل أهنا‬
‫هي اإلسالم وال يشء سواها!‬

‫‪55‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نجاحا حلوار حضاري يتجاوز احلركة‬


‫ً‬ ‫كذلك‪ ،‬ال يمكن بحال أن نتصور‬
‫اإلسالمية الوسطية بمرجعياهتا املختلفة‪ ،‬والتي هي متهمة اآلن بـ"اإلرهاب" من‬
‫جانب حكوماهتا وحكومات الدول الغربية‪.‬‬
‫فاحلركة اإلسالمية‪ ،‬بمختلف تالوينها‪ ،‬تسيطر عىل بل ومت ِّثل رشحية عريضة من‬
‫الشارع العريب واملسلم‪ ،‬سواء يف العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬أو يف أوروبا والواليات‬
‫املتحدة ودول العامل األخرى‪.‬‬
‫وهنا يبدو من الواضح أن ديناميات عملية "حوار احلضارات واألديان" تكاد‬
‫تقترص عىل األزهر الرشيف وبعض املؤسسات اإلسالمية األخرى‪ ،‬من دون باقي‬
‫األطر املؤسسية التي تعرب عن املسلمني يف العامل كله‪ ،‬وهو يف أبسط معانيه؛ يؤكد‬
‫عىل أنه ليس حوار حضارات‪ ،‬وإنام حوار حكومات وقوى سياسية ذات طابع‬
‫رسمي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن نجاح هذه املسألة يقتيض جهدً ا طويل املدى‪ ،‬يبدأ بنبذ‬
‫الغرب ملاضيه االستعامري‪ ،‬والعمل عىل إصالح ما أتلفه من خالل دعم خطط‬
‫االنتقال السيايس حلكومات ديمقراطية‪ ،‬ودعم التنمية وقيم حقوق اإلنسان‬
‫َ‬
‫واحل َ‬
‫وك َمة‪.‬‬
‫باإلضافة إىل حتسني طريقة التناول اإلعالمي لقضايا العامل العريب واإلسالمي‪،‬‬
‫ورسم صورة ذهنية خمالفة – حقيقية – للعرب واملسلمني‪ ،‬وتنقية كتب املسترشقني‬
‫من الشبهات واملزاعم املوجودة فيها‪ ،‬واالعرتاف بالفضل احلضاري للحضارة‬

‫‪56‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلسالمية عىل العامل‪ ،‬ودمج مجيع األطراف بام فيها احلركات اإلسالمية املختلفة‬
‫مرشوعا حضار ًّيا‪ ،‬يف هذا احلوار‪.‬‬
‫ً‬ ‫التي حتمل‬
‫ومن دون ذلك؛ يمكن القول إن األمور سوف تظل تدور يف سياق اللقاءات‬
‫والترصحيات الربوتوكولية‪ ،‬من دون كبري فاعلية‪ ،‬يف السعي إىل حتقيق اهلدف‬
‫الرئييس من وراء ذلك اجلهد‪ ،‬وهو تعزيز قيم السالم والتسامح واحلوار يف العامل‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫س َنن العمران والتطور بين المسلمين وغيرهم‪..‬‬


‫ُ‬
‫الدين كركيزة أساسية في حضارة اإلسالم‬
‫هناك جمموعة من القوانني الربانية الثابتة التي حتكم صريورات العمران البرشي‬
‫والتطور احلضاري‪ ،‬هذه القوانني فيها عدد من احلتميات التي قدرها اهلل عز وجل‪،‬‬
‫عىل اإلنسان يف حياته‪ ،‬عىل املستوى اخلاص‪ ،‬وعىل املستوى َ‬
‫اجل ْمعي العام؛ ال‬
‫يمكن جتاوزها‪.‬‬
‫تلكم هي حقيقة بدهيية ال يمكن إنكارها‪ ،‬يف ظل ما أبرزته القرون املتطاولة‬
‫َ‬
‫املاضية من أدلة عليها‪ ،‬متثلت يف ُسنن صعود واهنيار احلضارات واألمم اإلنسانية‬
‫املختلفة‪ ،‬استخلصها املؤرخون وعلامء االجتامع واالجتامع السيايس‪.‬‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫فصلها وتكلم عنها‪،‬‬
‫هذه القوانني التي كان املسلمون هم أول من َّ‬
‫ابن خلدون وأساتذته ِ‬
‫العظام‪ ،‬مثل ابن أيب الربيع‪ ،‬وغريمها‪ ،‬اعتمدت عىل مصدر‬
‫مهم من مصادر املعرفة التارخيية‪ ،‬وهو القرآن الكريم‪ ،‬باإلضافة إىل حتليل ما نقلته‬
‫كتب األولني واملؤرخني اليونان واملرصيني ومن حضارة بالد الرافدين؛ حول‬
‫األمم السابقة‪ ،‬وكيف ظهرت‪ ،‬وكيف سادت‪ ،‬وكيف اندثرت‪.‬‬
‫ً‬
‫ناسخا ملا قبله من ترشيعات ومناهج‪ ،‬باعتباره دين‬ ‫ولكن‪ ،‬ومثلام كان اإلسالم‬
‫اهلل‪ ،‬اخلاتم‪ ،‬الذي بعث به حممدً ا ﷺ‪ ،‬لعباده كافة‪ ،‬وكان جمد ًدا لعقائد اإلنسان‬
‫التي بدهلا املبدلون‪ ،‬طيلة القرون التي سبقت بعثة الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وللجوانب‬

‫‪58‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الروحية واألخالقية لدى البرش؛ فإنه ً‬


‫أيضا رافق نزوله‪ ،‬الكثري من املتغريات التي‬
‫قدَّ رها اهلل عز وجل عىل عدد من سننه وقوانينه يف خلقه‪.‬‬
‫فنزول اإلسالم‪ ،‬بدَّ ل من قانون إهالك األمم الكافرة واملنحرفة عن منهج اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬وذلك ألن دين اهلل عز وجل قد ُو ِض َع دينه الشامل الكامل يف األرض‪،‬‬
‫إىل آخر الزمان‪ ،‬حتى عندما يأذن رب العزة سبحانه وتعاىل برفع اإليامن من بني‬
‫ظهرانييي البرش‪ ،‬ورفع القرآن الكريم من األرض‪.‬‬
‫والسنن العمرانية املتعلقة بأمة‬
‫كام فرض اهلل تعاىل بعض التغيري يف القوانني ُّ‬
‫اإلسالم‪ ،‬فيام خيص عوامل صعودها وضعفها ودواهلا‪ ،‬ولن نقول زواهلا؛ ألن أمة‬
‫حممد ﷺ‪ ،‬باقية إىل أن يأذن اهلل تعاىل برفع اإليامن من األرض‪.‬‬
‫ويعود ذلك إىل أن أمة اإلسالم هي أمة التكليف‪ ،‬وبالتايل؛ فإن عليها الكثري من‬
‫الواجبات ومعايل األمور التي جيب أن تقوم هبا‪ ،‬من أجل حتقيق الرسائل األهم‬
‫من خلق اإلنسان ونزوله إىل األرض‪ ،‬وعىل رأسها عبادة اهلل عز وجل‪ ،‬وحده ال‬
‫حتريرا لإلنسانية من‬
‫ً‬ ‫رشيك له‪ ،‬وإقامة رشيعته يف أرضه‪ ،‬وإنفاذها بني عباده‪ ،‬وذلك‬
‫ربقة العبودية لغري اهلل تعاىل‪ ،‬وإخراجها من ظلامت جهالة الروح والعقل‪ ،‬واملادية‬
‫الوحشية‪ ،‬إىل ساحات النور ِّ‬
‫البي‪ ،‬والرمحة واألخالق‪.‬‬
‫ولقد فرض ذلك الكثري من االختالف يف قوانني صريورات وحركة احلضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬عن تلك التي حتكم باقي احلضارات اإلنسانية‪ ،‬سواء التي سبقت‬
‫ظهور احلضارة اإلسالمية‪ ،‬أو تزامنت معها‪ ،‬ومل تدخل يف دين اهلل عز وجل‬
‫بعد‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أهم هذه القوانني هو ذلك املتعلق بعوامل االرتقاء والصعود‪ ،‬والرتاجع‬


‫والدوال‪ ،‬التي حتكم احلضارات اإلنسانية ما بني أمة حممد ﷺ‪ ،‬واألمم‬
‫األخرى‪.‬‬
‫بنوع ْيها‪ ،‬املادية واملعنوية‪،‬‬
‫فاألمم األخرى‪ ،‬حتكم حضاراهتا قوانني األسباب‪َ ،‬‬
‫ويعود ذلك إىل عدد من األمور التي قدرها اهلل عز وجل‪ ،‬باعتباره العدل‪ ،‬ويعني‬
‫ذلك أن اهلل عز وجل ال يبخس الناس أشياءها‪ ،‬وما دام قد عملوا‪ ،‬حتى ولو كفروا؛‬
‫فإنه لن سبحانه‪ ،‬يرتهم أعامهلم‪.‬‬
‫أما أمة اإلسالم‪ ،‬فإن القانون األسايس لسيادهتا أو تبعيتها‪ ،‬صعودها وهبوطها‪،‬‬
‫والسنة الرئيسية للقيام‬
‫هو مدى التزامها باألساس بتعاليم دين اهلل عز وجل‪ُّ ،‬‬
‫واالستمرار؛ هي التعلق بالدين بمعناه الشامل والعميق‪ ،‬والذي يقدِّ م مناطات‬
‫التكليف عىل ما عداها‪ ،‬وهي العقل واحلرية‪.‬‬

‫وأدلتنا يف ذلك عديدة‪ ،‬فمن القرآن الكريم‪ ،‬يقول اهلل تبارك وتعاىل‪ ﴿ :‬ﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫[سورة "البقرة"‪ -‬اآلية ‪.]126‬‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﴾ ُ‬
‫هناك يتعهد اهلل عز وجل برزق املؤمن والكافر عىل حد سواء‪ ،‬من رزق الدنيا‬
‫املادي‪ ،‬أما فيام يتعلق بعظيم األمور‪ ،‬من تكليفات ودعوة لدين اهلل‪ ،‬وإمامة الناس‬
‫وهدْ ِيم؛ فإن اهلل تعاىل يصطفي من عباده هلا من يشاء‪ ،‬ومن هو عىل قدر هذه‬ ‫َ‬
‫املسئولية‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ففي ذات السياق الذي جاءت فيه اآلية السابقة‪ ،‬يقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ﴾‪ ،‬هنا جعل اهلل تعاىل النبوة وفضل أستاذية وسيادة العامل‪ ،‬ملن آمن فقط‪.‬‬
‫وتدل هذه اآلية عىل أن هناك اختالف كبري يف تصاريف اهلل عز وجل يف خلقه‪،‬‬
‫بني األمم املختلفة‪ ،‬ما بني أمة مؤمنة‪ ،‬وأخرى كافرة ظاملة لنفسها‪.‬‬
‫وقبل التفصيل يف هذه النقطة؛ فإنه َث َّمة مالحظة هنا‪ ،‬جيب التأكيد عليها‪ ،‬وهي‬
‫أمهية الدين يف حياة اإلنسان املسلم‪ ،‬ويف حياة كل إنسان صحيح الفطرة‪ ،‬بل إن‬
‫الدين جزء من الفطرة البرشية نفسها‪.‬‬
‫ففي املجتمعات اإلنسانية البدائية‪ ،‬التي مل تصلها بعد رسالة احلضارة اإلنسانية؛‬
‫نجد أن أهل هذه املجتمعات‪ ،‬خيلقون ألنفسهم دينهم اخلاص‪ ،‬وجيعلون له‬
‫املرجعية األساسية يف حياهتم‪ ،‬وتسري أمورهم وفق ما يتصورون أنه تعاليمه‪.‬‬
‫وهو أمر موجود يف كل املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬حتى الوحشية منها وفق ما توصل‬
‫إليه علامء األجناس أو األنثروبوجلي؛ حيث هناك ً‬
‫دائم‪ -‬عىل األقل‪ -‬فكرة "القوة‬
‫أو القوى الغيبية" التي حتكم حياهتم‪ ،‬والعامل من حوهلم‪.‬‬
‫ِّ‬
‫املكون القيمي وأسس احلضارة يف اإلسالم‪:‬‬

‫وبالعودة إىل سياق احلديث الرئييس‪ ،‬حول الدين كركيزة أساسية يف‬
‫ً‬
‫راسخا شديد الوضوح؛ لو تتبعنا‬ ‫حضارة اإلسالم؛ فإننا نجد ذلك قانو ًنا‬
‫تاريخ احلضارة اإلسالمية‪ ،‬فهي كانت يف قمة أمم العامل‪ ،‬وعلمت اآلخرين‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وقادهتم من ظلامت اجلهل املادي والعقيدي‪ ،‬إىل نور العلم واملعرفة بمختلف‬
‫ألواهنا وأشكاهلا‪ ،‬مع األخذ بسنن الرتاكم احلضاري‪ ،‬من خالل االرتكاز عىل‬
‫ا ُملنتج الفكري والعلمي لألمم السابقة‪ ،‬بام يف ذلك األمم التي كانت عىل غري‬
‫الديانات الساموية‪ ،‬مثل احلضارة اليونانية والفارسية‪ ،‬من خالل أدوات الرتمجة‬
‫والنقل وغري ذلك‪.‬‬
‫املكون القيمي الذي حيتويه اإلسالم كدين شامل‪ ،‬أنزله اهلل تعاىل‬
‫ويعود ذلك إىل ِّ‬
‫ً‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫املكون القيمي‪ ،‬يتضمن خمتلف عوامل هنوض احلضارات‪ ،‬وعىل رأسها‬
‫ِّ‬ ‫فهذ‬
‫املرتكزات األخالقية األساسية التي تنهض هبا األمم واملجتمعات‪ ،‬وعىل رأسها‬
‫العدل والعلم واإلعالء من شأن العقل وقيمة احلرية واملساواة‪ ،‬وإفساح املجال‬
‫أمام رشاكة جمتمعية حقيقية يف البناء‪ ،‬ثم جني الثمرة بعد ذلك‪ ،‬أو ما يطلق عليه‬
‫علامء السياسة‪ ،‬العدالة التوزيعية يف الثروة والسلطة‪ ،‬ضمن باقي قواعد احلكم‬
‫الرشيد‪ ،‬التي أكد عليها اإلسالم‪ ،‬مثل الشفافية واملسئولية واملحاسبة‪ ،‬واحرتام‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬واإلعالء من قيمة القانون والعدالة االجتامعية‪.‬‬
‫ويف تفصيل ابن خلدون لتاريخ الدولة اإلسالمية كنموذج لرشح املراحل‬
‫واألطوار التي حددها للدولة؛ سوف نجد ً‬
‫دائم أن مراحل الصعود كانت مرتبطة‬
‫بمدى متسك األمة بتعاليم الدين اخلالص‪ ،‬وعندما تكون للدنيا الغلبة؛ يكون‬
‫الرتاجع والدوال‪ ،‬وهو أمر ٌّ‬
‫جيل شديد الوضوح يف حمطات دولة النبوة واخلالفة‬ ‫ُ‬
‫الراشدة‪ ،‬والدولة األموية من بعدها‪ ،‬ثم دولة اخلالفة العباسية‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فطور التأسيس للدولة واحلضارة اإلسالمية بشكل عام‪ ،‬عند ابن خلدون‪ ،‬هو‬
‫عهد الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وعهد اخللفاء الراشدين األربعة املهديني من بعده‪.‬‬
‫ويف هذه املرحلة‪ ،‬قىض اإلسالم عىل شكل العمران البرشي القائم يف مرحلة‬
‫اجلاهلية‪ ،‬والذي كان ً‬
‫قائم عىل العصبية القبلية‪ ،‬وأسس حملها قواعد األخوة اإلنسانية‪،‬‬
‫واألخوة يف الدين‪ ،‬فيقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫[سورة "احلجرات"‪ -‬اآلية ‪.]13‬‬
‫ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ ُ‬
‫السورة‪ ﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ‬
‫ويقول عز وجل يف موضع آخر من ُّ‬
‫ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾؛ حيث متت املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار‪،‬‬
‫وبني األوس واخلزرج‪.‬‬
‫وبعد وفاة الرسول ﷺ‪ ،‬قامت اخلالفة‪ ،‬وكان احلكم عىل منهاج النبوة‪ ،‬ومل يكن‬
‫ُم ْل ًكا‪ ،‬وكان القائمني عليه واملواطنني‪ ،‬حمافظني عىل حياة البداوة من خشونة العيش‬
‫والبعد عن الرتف بالرغم من سعة املال الذي جاء من الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬لبالد‬
‫الشام والعراق وبالد فارس‪.‬‬
‫فكان عمر بن اخلطاب ير ِّق َع ثوبه‪ ،‬وكان املسلمون األوائل بعيدون عن االنغامس‬
‫يف رغد العيش‪.‬‬
‫ثم جييء طور االنفراد باملجد‪ ،‬وقال ابن خلدون إنه الطور املحصور بني قيام‬
‫الدولة األموية حتى سقوط الدولة العباسية‪ ،‬وقال إن خلفاء بني أمية كانوا يسريون‬
‫عىل احلق حتى هناية عرص عمر بن عبد العزيز "ثم بعد ذلك استعمل خلفاؤهم‬

‫‪63‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫طبيعة ا ُمللك يف أغراضهم الدنيوية‪ ،‬ونسوا ما كان عليه سلفهم من حتري القصد‬
‫فيها واعتامد احلق‪ ،‬فانرصف الناس عنهم وأ َّيدوا الدعوة العباسية"‪.‬‬
‫ويضيف يف مقدمته الشهرية يف هذا الصدد‪" :‬ثم رصف العباسيون ا ُمللك يف‬
‫وجوه احلق ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد‪ ،‬فكان منهم الصالح ومنهم الطالح‪،‬‬
‫ثم أفىض األمر إىل بنيهم‪ ،‬فأعطوا امللك والرتف حقه‪ ،‬وانغمسوا يف الدنيا وباطلها‪،‬‬
‫ونبذوا الدين وراءهم فأذن اهلل بحرهبم‪ ،‬وانتزاع األمر من أيدي العرب مجل ًة"‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري‪ ،‬يقود ذلك إىل أمر شديد األمهية‪ ،‬جيب أن تكون له حاكميته يف حياة‬
‫اإلنسان املسلم‪ ،‬وهو أن تكون حياته كلها هلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬خالقه ورازقه واملترصف‬
‫يف أمره‪ ،‬وتكون حياة املسلم كلها ُم َّ‬
‫سخرة خلدمة دين اهلل‪ ،‬ويف طاعته عز وجل‪.‬‬
‫آمرا نبيه ﷺ‪ ،‬وهو قدوة املسلمني وإمامهم‪﴿ :‬ﯓ ﯔ‬
‫ويقول اهلل تعاىل يف ذلك ً‬
‫[سورة "األنعام"‪.]162 -‬‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾ ُ‬
‫هذه اآلية تشري بشكل ال لبس فيه‪ ،‬إىل أن اهلل عز وجل‪ ،‬مل خيلق اإلنسان خلاصة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وإنام خلقه خلاصة رب العاملني‪ ،‬وما احلضارة والعمران البرشي وكل‬
‫يشء؛ إال خلدمة هذه الرسالة؛ أن نعبد اهلل تعاىل عىل األرض‪.‬‬
‫واملقصد بذلك العبادة احلقيقية التي تشمل فهم حقيقة العبادة‪ ،‬ودروسها‬
‫األخالقية‪ ،‬فهذه هي أول مراتب احلضارة اإلسالمية‪ ،‬ونربط هنا بني "احلضارة"‬
‫وسمتها "اإلسالمية"؛ ألن احلضارات األخرى املادية يكفيها األسباب لتنجح‪ ،‬أما‬
‫نحن؛ أمة التكليف؛ فال حضارة لنا من دون الدين‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫روح الحضارة والعمران فيما جاء به اإلسالم‪..‬‬


‫رسائل قرآنية واجبة القراءة!‬

‫ريا ما ُت َ‬
‫نسب املشكالت الراهنة التي متر هبا األمة املسلمة إىل الدين‪ ،‬وذلك يف‬ ‫كث ً‬
‫إطار خمطط متكامل لفصل املسلمني عن دينهم وحضارهتم‪.‬‬
‫ومن نافلة القول يف هذا املوضع‪ ،‬التأكيد عىل أن هذا املخطط‪ ،‬والذي يتخذ‬
‫أشكا ً‬
‫ال إعالمية وجمتمعية عدة‪ ،‬عىل حتقيق أكثر من هدف‪ ،‬األول هو ضامن استمرار‬
‫األمة يف حالة التخلف والرتاجع احلضاري التي هي عليها يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫اهلدف الثاين‪ ،‬وهو مرتبط باألول‪ ،‬استكامل خمطط "تغريب العامل"‪ ،‬وسحب‬
‫احلضارات األخرى – واملسلمون ليسوا استثنا ًء – إىل بوتقة احلضارة الغربية‬
‫بمنظومتها املادية‪ ،‬القائمة عىل قيم الليربالية والعلامنية‪ ،‬واألسس القيمية للمسيحية‬
‫واليهودية كام تم حتريفهام‪.‬‬
‫ويتم يف إطار هذا املخطط‪ ،‬التأسيس لصورة ذهنية سلبية حول ما يمكن أن يفعله‬
‫اإلسالم بالعامل إذا ما حكم وتم التمكني له‪ ،‬وتشمل هذه الصورة الذهنية جمموعة من‬
‫"التوحش" و"التخلف"‪ ،‬وكيف أن التمسك‬
‫ُّ‬ ‫مصطلح ْي‬
‫َ‬ ‫اجلوانب التي تدور كلها حول‬
‫بأهداب الدين؛ قاد األمة اإلسالمية إىل وضعية الرتاجع احلضاري التي هي عليه‪.‬‬
‫هنا تبدو أمهية الدراسات العمرانية اإلسالمية املذهب واهلوية‪ ،‬والتي تركز‬
‫أساسي ْي‪ ،‬األول هو إبراز أثر اإلسالم يف هنضة دولة اخلالفة‬
‫َّ‬ ‫أمر ْين أو جان َب ْي‬
‫عىل َ‬

‫‪65‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وسياسيا‪ ،‬وكانت أكرب قوة اقتصادية‬


‫ًّ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬التي سادت العامل حضار ًّيا‬
‫وعسكرية – وهو عنارص قوة الدولة األساسية وفق العلوم السياسية احلديثة – يف‬
‫العامل‪ ،‬وملدة ألف عام‪.‬‬
‫وأمهية ذلك تكمن يف أهنا تربز أن اإلسالم قوة بناء‪ ،‬وأداة حضارة‪ ،‬وأن اإلسالم‬
‫– متى تم تطبيقه عىل النحو الصحيح – يملك كل النقاط اإلجيابية والعملية الالزمة‬
‫لبناء حضارة متكاملة األركان‪ ،‬ومستمرة‪ ،‬وأن التخيل عن قواعده العمرانية‪ ،‬هو‬
‫أول العوامل التي تقود إىل تطبيق قوانني دوال األمم واحلضارات التي وضعها اهلل‬
‫عز وجل يف خلقه‪.‬‬
‫اجلانب اآلخر‪ ،‬وهو مرتبط بام سبقه‪ ،‬يتعلق برضورة إبراز الطابع املدين والعقيل‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬ويف خمتلف ما سبقه من رساالت أنزهلا اهلل تعاىل عىل من اصطفى من‬
‫عباده ؛ ألن هذه األمور‪ ،‬هي التي ُتعترب أساس أي بناء حضاري‪.‬‬
‫ويقول وول ديورانت يف موسوعته الشهرية عن احلضارة‪ ،‬إهنا "أي نظام‬
‫اجتامعي يعني اإلنسان عىل الزيادة من إنتاجه الثقايف"‪ ،‬وتتكون احلضارة من‬
‫أربعة أركان‪ ،‬وهي املوارد االقتصادية‪ ،‬والنظام السياسية‪ ،‬والتقاليد واألخالقيات‬
‫احلاكمة‪ ،‬والعلوم والفنون‪ ،‬وتتميز بالرتاكم مثلها مثل الفعل الثقايف‪.‬‬
‫واحلضارة‪ ،‬وفق ديورانت‪ ،‬تبدأ من حيث ينتهي االضطراب والقلق‪ ،‬ألنه إذا ما‬
‫ِ‬
‫أم َن اإلنسان من اخلوف‪ ،‬حتررت يف نفسه دوافع الطموح‪ ،‬وحتركت لديه عوامل‬
‫اإلبداع والعمران‪ ،‬مما يقود إىل املزيد من الفهم للحياة وازدهارها‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واختيارنا لتعريفات ديورانت هذه له قصد‪ ،‬وهو أن نورد املفاهيم الغربية‬


‫األساسية عن احلضارة وأركاهنا‪ ،‬ألن عثورنا عليها يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف سنن‬
‫األمم األوىل‪ ،‬والتي شهدت نزول كتب ورساالت فيها؛ يثبت بام ال يدع جما ً‬
‫ال‬
‫للشك‪ ،‬يف أن اإلسالم أتى بقواعد العمران البرشي التي تضمن قيام حضارة‬
‫راسخة‪ ،‬تسود العامل بقيم العدل واملساواة واحلرية‪.‬‬
‫كام يثبت سبق اإلسالم لذلك؛ حيث الدراسات احلضارية وعلوم االجتامع‬
‫السيايس واإلنساين‪ ،‬إنام نشأت يف الغرب بعد بدء عرص النهضة‪ ،‬يف القرون‬
‫الوسطى‪ ،‬أي بد ًءا من القر َن ْي الرابع عرش واخلامس امليالد َي ْي‪ ،‬بينام اإلسالم نزل‬
‫عىل الرسول الكريم حممد ﷺ‪ ،‬يف القرن السابع امليالدي‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم‪ ،‬ويف سري األنبياء واملرسلني الذين سبقوا النبي اخلاتم‪ ،‬ﷺ‪،‬‬
‫يقدم خمتلف أركان عملية البناء احلضاري‪.‬‬
‫فوول ديورانت يتكلم عن أن احلضارة تبدأ عندما ينتهي اخلوف والقلق‪ ،‬ويبدأ‬
‫األمن‪ ،‬ويف القرآن الكريم‪ ،‬يقول رب العزة سبحانه يف ذلك‪ ،‬خماط ًبا ً‬
‫قريشا‪ ﴿ :‬ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬
‫[سورة "العنكبوت"]‪ ،‬ويف ُسورة "قريش"‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﮋ ﮌ﴾ ُ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾‪.‬‬
‫هنا القرآن الكريم يؤكد عىل أن األساس احلضاري الذي هنضت منه قريش‪،‬‬
‫وسادت به العرب‪ ،‬إنام هو احلرم واألمن ورغد العيش‪ ،‬وهي األسس األولية املتينة‬

‫‪67‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التي تناوهلا ديورانت ودوركايم وروسو‪ ،‬وغريهم من علامء االجتامع وفالسفة‬


‫العمران يف الغرب‪ ،‬وإن مال روسو إىل خمالفتهم يف أمهية عامل األمن؛ حيث قال‬
‫بأن احلرية والديمقراطية مقدمتان عىل عامل األمن‪ ،‬ولكنه مل خيتلف عىل مكانته‬
‫لدى األمم والشعوب‪ ،‬وإنام كان يدعو إىل تقديم احلرية عىل اإلحساس باألمن‪.‬‬
‫والعمران صنو احلضارة‪ ،‬وكالمها ضد الفساد واإلفساد‪ ،‬ويف القرآن الكريم‬
‫[سورة‬
‫األمر واضح‪﴿ :‬ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾ ُ‬
‫"القصص" – من اآلية ‪.]77‬‬
‫ويف العامل العريب واإلسالمي‪َ ،‬ث َّمة جتربة تكاد تقرتب من أمهية جتربة ابن خلدون‪،‬‬
‫ولكنها مل تلقَ االهتامم الكايف من جانب علامء االجتامع والعمران املحدثني‪ ،‬لدراسة‬
‫ما يف أدبياهتا من مفردات حول قضية الدين واحلضارة‪ ،‬وهي جتربة العالمة املرصي‬
‫رفاعة رافع الطهطاوي‪.‬‬
‫وغياب جتربة الطهطاوي عن علامء االجتامع والعمران املسلمني املحدثني‪ ،‬يعود‬
‫تارخييا أدبيات رموز العلامنية والليربالية يف‬
‫ًّ‬ ‫إىل فكرة خاطئة مأخوذة عنه‪ ،‬رسختها‬
‫مرص والعامل العريب؛ عندما وضعوه يف زمرة مؤسيس العلامنية العربية‪ ،‬وهو زعم‬
‫باطل‪.‬‬
‫وخصوصا "ختليص اإلبريز يف تلخيص باريز"‪،‬‬
‫ً‬ ‫فلو طالعنا كتب الطهطاوي‪،‬‬
‫إسالميا بامتياز‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫و"املرشد األمني"‪ ،‬و"مناهج األلباب"‪ ،‬سوف نجد طهطاوي‬
‫فهو يدعو إىل تطبيق الرشيعة‪ ،‬ويؤكد عىل أن القرآن الكريم أساس الدين‪ ،‬وجيب‬
‫تطبيق أحكامه‪ ،‬وتقنني الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كام يؤكد عىل السبق احلضاري والعلمي للخالفة العباسية عىل كل ما عداها من‬
‫األمم واحلضارات األخرى‪.‬‬
‫وخصوصا يف كتابه "ختليص اإلبريز يف تلخيص‬
‫ً‬ ‫كام نقد رفاعة الطهطاوي‪،‬‬
‫باريز"‪ ،‬عقائد الفرنسيني وقساوستهم‪ ،‬وانتقد سلوكيات املجتمعات الغربية‬
‫بشكل عام‪ ،‬بام فيها املجتمع الفرنيس‪.‬‬
‫كام حتدث رفاعة الطهطاوي‪ ،‬بيشء من التفصيل يف "املرشد األمني"‪ ،‬و"مناهج‬
‫األلباب"‪ ،‬عن اجلهاد وفضيلة وفريضته عىل املسلمني‪ ،‬وهو ما ال يظهره العلامنيون‬
‫باملرة من الطهطاوي‪.‬‬
‫َّ‬
‫خالصا‬
‫ً‬ ‫إسالميا‬
‫ًّ‬ ‫ومن بني ما يؤكده الطهطاوي يف عمرانياته‪ ،‬ويقدم مكو ًنا‬
‫لعملية البناء احلضاري‪ ،‬رضورة انضباط العقل بالوحي‪ ،‬وهو أمر مرفوض متا ًما‬
‫من جانب العلامنيني الذين يعلون من قيمة العقل اإلنساين عىل أي مصدر آخر من‬
‫مصادر املعرفة‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫التمكن من القرآن الكريم‪ ،‬ومن ُّ‬ ‫ومن ذلك ً‬
‫أيضا‪ ،‬أن‬
‫رشط لدراسة الفلسفة‪ ،‬حتى ال خترج وال تشط عن املألوف والصحيح من األمور‪.‬‬
‫ويف هخذا يقول الشيخ عبد الرمحن بن حسن امليداين الدمشقي‪ ،‬يف كتابه املهم‬
‫"احلضارة اإلسالمية‪ ..‬أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات املسلمني هلا وملحات‬
‫من تأثريها يف سائر األمم" الصادر عن "دار القلم" بدمشق‪ ،‬عن السبل الكفيلة‬
‫بتحقيق التقدم والرقي احلضار َّي ْي‪ ،‬من خالل املنهج اإلسالمي‪ ،‬ما ينزل به الوحي‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي‪ ،‬ثم ما يكتسبه اإلنسان عن طريق االختبار‬
‫والتجربة واملامرسة التطبيقية مع املالحظة الدقيقة جلوانب اخلطأ والنقص‪ ،‬وما‬
‫يستدعيه الكامل‪ ،‬وهو مرتبط باملامرسة العلمية كذلك‪.‬‬
‫ولو تركنا الطهطاوي وعمرانياته‪ ،‬وامليداين وعقلياته‪ ،‬وذهبنا إىل ما قاله البحاثة‬
‫محزة حسن سليامن صالح‪ ،‬يف دراسته املهمة "أسس احلضارة اإلنسانية يف القرآن‬
‫الكريم"؛ سوف نجد الكثري من الدالالت القرآنية والتارخيية التي تؤكد عىل أن‬
‫اإلسالم بذاته‪ ،‬هو الذي أقام حضارة املسلمني‪.‬‬
‫فيقول إن "الناظر إىل بداية نشوء احلضارة اإلسالمية ال جيد فيها أي تأثر أو أي‬
‫إجيابيا وال تأ ُّث ًرا ًّ‬
‫سلبيا‪ ،‬ذلك‬ ‫ًّ‬ ‫ارتباط باحلضارات السابقة أو املعارصة هلا‪ ،‬ال تأ ُّث ًرا‬
‫نمطا من العيش خمتل ًفا كل االختالف عن كل أنامط العيش‬ ‫ألن اإلسالم أوجد ً‬
‫السابقة له واملعارصة‪ ،‬وأحدث انقال ًبا جذر ًّيا يف املجتمع بحيث مل يرتك ناحية من‬
‫نواحيه إال وطاهلا وأحدث فيها التغيري من أساسها"‪.‬‬
‫وكام أسلفنا؛ فإن القرآن الكريم‪ ،‬به الكثري من اآليات التي إذا ما تدبرناها؛‬
‫سوف نجدها تتناول عوامل هنوض وأسباب استمرار احلضارات‪.‬‬
‫ونأخذ فقط ما يتعلق بنظام احلكم يف اإلسالم‪ ،‬ألهنا قضية مهمة تشغل بال‬
‫الكثريين ممن ال يعلمون حقيقة هذا الدين‪ ،‬وما احلال لو تم التمكني له‪ ،‬وهي‬
‫أسئلة ظهرت وتكاثرت مع صعود اإلسالميني إىل احلكم يف بعض بلدان الربيع‬
‫العريب‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولننظر فقط إىل قضية احلق وأمهيتها يف احلكم والبناء العمراين‪ ،‬واالجتامعي‬
‫والسيايس السليم‪ ،‬والتي هي يف مقام عملية احلكم‪ ،‬صنو قضية العدالة‪ ،‬وكالمها‪،‬‬
‫احلق والعدل من األسامء احلسنى التي اختارها اهلل عز وجل لنفسه!‬
‫فنظام احلكم يف اإلسالم يقوم عىل احلق والعدل‪ ،‬وهي األسس الركينة‬
‫الستمرار املجتمعات واحلضارات‪ ،‬ومن دوهنا تسود الفوىض‪ ،‬ويف القرآن الكريم‪،‬‬
‫أبرز رب العزة اإلسالم هذه القاعدة كأساس للعالقة بني احلاكم واملحكومني‪،‬‬
‫حمذرا القائمني عىل شئون احلكم من اتباع اهلوى؛ فتسقط الدولة يف مهاوي الظلم‪،‬‬
‫ً‬
‫وبالتايل تنهار وتذهب رحيها‪.‬‬
‫ومن بني ما ورد يف القرآن الكريم يف ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫[سورة "ص" – من اآلية ‪ ،]26‬ويقول كذلك‪:‬‬
‫ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ﴾ ُ‬
‫﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫[سورة "املائدة" – من اآلية ‪.]49‬‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ﴾ ُ‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري؛ فإن التاريخ خيربنا أن اإلسالم أقام ‪ -‬وحده – حضارة العرب‬
‫واملسلمني‪ ،‬كام كان هو الركيزة األساسية لقيام حضارات أخرى‪ ،‬عىل رأسها‬
‫احلضارة الغربية‪ ،‬وهو ما اعرتف به حتى غالة الفالسفة الغربيني‪ ،‬مثل جوستاف‬
‫لوبون‪ ،‬واملنصفني منهم‪ ،‬مثل جورج سارتون‪ ،‬الذي قال يف كتابه "مقدمة يف تاريخ‬
‫العلم"‪" :‬إن اجلانب األكرب من مهام الفكر اإلنساين اضطلع به املسلمون؛ فالفارايب‬
‫أعظم الفالسفة‪ ،‬واملسعودي أعظم اجلغرافيني‪ ،‬والطربي أعظم املؤرخني"‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن مل يكن ذلك أن يتم لوال أن كانت البداية بالرتبية النبوية األخالقية‪ ،‬وبناء‬
‫الفرد يف املرحلة املَ َّ‬
‫كية من البعثة‪ ،‬ثم بناء الدولة واملجتمع يف املرحلة املدنية من بعثة‬
‫رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫إ ًذا؛ فاإلسالم هو صنو العمران‪ ،‬واملعادل اإلجيايب للتقدم البرشي‪ ،‬ويف املقابل؛‬
‫فهو املعادل السلبي لكل ما هو يتعلق بالتخلف والرجعية واخلراب الذي ينادي به‬
‫اآلن خصوم األمة!‬

‫‪72‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قضية نهضة األمة وشروط النهوض في القرآن الكريم‬

‫ظهرت الصحوة اإلسالمية‪ ،‬سواء يف نسختها املعارصة‪ ،‬أو يف جتارهبا املختلفة‬


‫عرب التاريخ اإلسالمي من أجل أهداف حمددة تشرتك فيها خمتلف التجارب‬
‫الصحوية اإلسالمية عرب التاريخ‪ ،‬وعىل رأسها‪ ،‬إعادة ربط املسلمني بدينهم‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬يف‬
‫وفهمهم له بشكل صحيح‪ ،‬وكيفية استعادة األمة خلرييتها وهنوضها َّ‬
‫كل فرتة من فرتات االنحطاط احلضاري التي كانت متر هبا‪.‬‬
‫وبالرغم من تعدد مدارس النظر إىل هذه القضية‪ ،‬سواء يف توصيف الواقع وأسبابه‪،‬‬
‫أو طرائق التعامل معه‪ ،‬إال أهنا اتفقت عىل أن مبدئ األمر ومنتهاه‪ ،‬هو أن التعامل مع‬
‫املأزق احلضاري الذي متر به األمة‪ ،‬لن يكون إال من خالل القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم‪ ،‬بجانب تعاليم الرشيعة التي ارتضاها اهلل عز وجل لعباده‪،‬‬
‫نجد الكثري من قواعد العمران باملفهوم العلمي الواسع للعمران‪ ،‬والتي يمكن أن‬
‫ينهض عىل أساسها بنيان متني من النهضة واحلضارة‪.‬‬
‫وتشمل هذه اجلوانب الكثري من التبويبات املوضوعية املتنوعة التي قام علامء‬
‫كثريون بتصنيف آيات القرآن الكريم إليها‪ ،‬فهناك آيات األحكام‪ ،‬والتي هي من‬
‫أهم ما يكون يف إهناض العمران االجتامعي‪ ،‬يف جمال األخالق واألرسة واملعامالت‪،‬‬
‫وهناك القصص القرآين الذي يعطي صورة وافية عن عوامل قيام وهنوض األمم‪،‬‬
‫وكذلك هالكها‪ ،‬وغري ذلك من التبويبات‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن بني اآليات الالفتة يف القرآن الكريم عن هذا األمر‪ ،‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬اآلية ‪.]161‬‬
‫ُ‬
‫"دينًا ِق َي ًم" الواردة يف اآلية‪ ،‬بمعنى أنه ذلك‬
‫وفس علامء ثقاة‪ ،‬ولغويون عبارة ِ‬
‫َّ‬
‫الدين الذي تقوم بقواعده أمور الناس وشؤوهنم‪ ،‬كام يف القرطبي‪ ،‬ويف القاموس‬
‫"املحيط" و"لسان العرب"‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫وهي آية بخالف أهنا تكشف التناول القرآين لقضية النهضة بمعناها الواسع‪،‬‬
‫وأمهية الدين يف هذا الصدد‪ ،‬أي يف شأن ضبط أحوال الناس بالشكل الذي يعينهم‬
‫عىل حتسني أحواهلم والقيام بأمورهم؛ فإهنا كذلك تشري إىل أن القرآن ذاته هو املعني‬
‫األول لذلك؛ حيث إن املصدر األسايس هلذا الدين الق ِّيم‪ ،‬هو القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويرى البعض أن إبراز هذه السمة يف كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬ال يتعلق باملسلمني‬
‫فحسب‪ ،‬وإنام هو عىل أكرب قدر من األمهية أمام غري املسلمني يف ظل احلرب الراهنة‬
‫التي يقوم هبا خصوم األمة من أجل تشويه الدين ومفاهيم العمل اإلسالمي‬
‫واملرشوع احلضاري لإلسالم بشكل عام‪ ،‬فهي إذا قضية دعوة يف املقام األول‪.‬‬
‫ووجه إليها‬
‫ويف هذا؛ فإننا نقف أمام أمور أساسية تكلم عنها القرآن الكريم‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫تشكل فيام بينها منظومة متكاملة للنهضة والعمران‪ ،‬يف خمتلف املجاالت‪ ،‬السياسية‬
‫واالقتصادية واالجتامعية‪ ،‬ويف األمور املادية‪ ،‬التي تتضمن املعامالت وكذا‪،‬‬
‫واملعنوية‪ ،‬التي تتضمن البنية األخالقية التي يقوم عليها كل ذلك‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملجال األول‪ ،‬هو العقيدة‪ ،‬وهو أمر مهم أن ندركه يف سياق خمتلف عن مفهوم‬
‫أمهية العقيدة التقليدي كام نفهمه كمسلمني‪.‬‬
‫فبالنظر إىل جتارب النهضة والتنمية والعمران لدى األمم األخرى؛ فإننا نجد أن‬
‫غالبية هذه التجارب الناجحة قامت عىل أساس إيامن راسخ بعقيدة أو أيديولوجية‬
‫معينة‪.‬‬
‫وهو أمر موجود يف حالة حضارة أمة اإلسالم؛ فإنه اإليامن الراسخ بالعقيدة كام‬
‫َّ‬
‫وضحها القرآن الكريم؛ كانت هي – وفق الكثري من املؤرخني والعلامء ‪ -‬أهم عامل‬
‫الرسيع ْي لدولة اإلسالم األوىل‪ ،‬ونجاحها يف تسيد العامل‬
‫َ‬ ‫ساهم يف القيام والرسوخ‬
‫القديم بالكامل صانع ًة دولة العدل والرخاء التي قضت عىل إمرباطوريات الظلم‬
‫واالستعباد‪ ،‬يف عقود قليلة من الزمن‪ ،‬بشكل مل حتققه أية قوى أخرى عرب التاريخ‪.‬‬
‫ييل ذلك البنيان األخالقي الذي ينهض عىل أساس هذه العقيدة‪ ،‬ويكون حلقة‬
‫الوصل بينها يف املجال اإليامين‪ ،‬وبني تطبيقها عىل أرض الواقع يف صورة تعاليم‬
‫تقوم عىل أساس العدل واملساواة واحلرية يف إطار منظومة الرشيعة‪ ،‬مما يتيح الفرصة‬
‫أمام املجتمع لالنطالق والبناء يف ظل وجود أسس سليمة لبنائه‪.‬‬
‫وهذا يتصل بدوره بمجال آخر ورد رصاحة يف القرآن الكريم‪ ،‬وهو جمال‬
‫"التمكني"‪ ،‬والذي أهم مقاصده إقامة الرشيعة‪ ،‬وعبادة اهلل تعاىل يف األرض‪..‬‬
‫يقول عز وجل‪﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫[سورة َ‬
‫"احلج" –‬ ‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ ُ‬
‫اآلية ‪.]41‬‬

‫‪75‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف املقابل؛ فإن عدم القيام بواجبات وتكاليف هذا التمكني‪ ،‬يستوجب َه َل َكة‬
‫القوم وهدم اهلل عز وجل للعمران الذي أقاموه‪ ،‬ألنه أقيم عىل الباطل‪ ،‬فال يشء‬
‫باطل مثل عدم القيام بعقيدة التوحيد‪ ،‬مهام كانت اإلنجازات يف املجاالت األخرى‬
‫الدنيوية‪.‬‬
‫وهي ُس َّنة واضحة يف القرآن الكريم عندما تكلم اهلل تعاىل فيه عن األمم السابقة‪،‬‬
‫وأسباب هالكهم‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣﮤﮥﮦ ﮧﮨ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱ‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬اآلية ‪.]6‬‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ ُ‬
‫ثم بعد ذلك‪ ،‬نجد األمور العملية املهمة يف جمال أية هنضة حضارية وفق ما أمجع‬
‫عليه علامء االجتامع والعمران عرب التاريخ‪ ،‬وهي االستخالف يف األرض‪.‬‬
‫وبجانب إقامة الرشيعة وعبادة اهلل تعاىل ونرش عقيدة التوحيد؛ فإن آيات القرآن‬
‫الكريم التي تناولت قضية استخالف اهلل تعاىل لإلنسان‪ ،‬ومهمته فيها؛ فإن القرآن‬
‫ً‬
‫مبارشا بالنهضة والبنيان‬ ‫ً‬
‫ارتباطا‬ ‫الكريم أشار إىل ثالثة نواميس أساسية‪ ،‬ترتبط‬
‫احلضار َّي ْي‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫[سورة "هود" ‪ -‬من‬


‫‪ -‬عامرة األرض‪ ﴿ ..‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ ُ‬
‫اآلية ‪.]61‬‬

‫‪ -‬اإلصالح‪﴿ ..‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‬
‫[سورة "هود" ‪ -‬من اآلية ‪.]88‬‬
‫ﰁ ﰂ﴾ ُ‬

‫‪76‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪ -‬التغيري‪ ،‬والذي يكون إىل األصلح واألكمل وفق ما عرضه القرآن الكريم من‬
‫مظاهر الكامل‪.‬‬
‫الك ِلم يف هذا األمر‪ ،‬وفيها يقول تعاىل‪:‬‬
‫ويف ُسورة "النور" هناك آية من جوامع َ‬
‫﴿ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀ ﮁﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ﴾‪.‬‬
‫ويف دراسة له نرشهتا جملة "الرشيعة والدراسات اإلسالمية" الكويتية‪ ،‬العدد‬
‫(‪ ،)94‬سبتمرب ‪2013‬م‪ ،‬حيدد الدكتور حامد بن يعقوب الفريح‪ ،‬أستاذ الدراسات‬
‫القرآنية بكلية الرتبية يف جامعة الدمام السعودية‪ ،‬دعائم عدة أتى هبا القرآن الكريم‬
‫أثبت التاريخ أهنا أهم دعائم هنضة أية أمة‪.‬‬
‫وبدأها بتكريم اإلنسان‪ ،‬ثم احلرية‪ ،‬والعدل‪ ،‬واإلعالء من قيمت َْي العقل‬
‫والوقت‪ ،‬والعمل املتقن‪ ،‬والعمل اجلامعي‪ ،‬واألخذ باألسباب املادية‪ ،‬ثم فهم‬
‫قاعدة اجلزاء من جنس العمل‪ ،‬واملشاركة بني الراعي والرعية‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل املجتمع‬
‫املوحد‪ ،‬أو الوحدة اإلسالمية يف حالة أمة اإلسالم‪ ،‬وكلها هلا آيات تدل عليها يف‬
‫َّ‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫وعىل أبسط تقدير؛ فإنه يف رشيعة اإلسالم؛ فإن العقل واحلرية مها مناطا التكليف‬
‫ال‪ ،‬واستنبط العلامء ذلك من القرآن الكريم‪ ،‬بينام كرامة اإلنسان ذكرها القرآن‬‫أص ً‬

‫‪77‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الكريم بوضوح؛ ﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫[سورة "اإلرساء" ‪-‬‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ ُ‬
‫اآلية ‪ ،]70‬فيام العدل يف األساس هو أساس استقرار الكون واستمراره يف األصل‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫وكام تقدَّ م؛ فإن التاريخ اإلنساين العام‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي‪ ،‬يثبت أن القواعد‬
‫التي وضعها القرآن الكريم‪ ،‬ويف حالة التاريخ اإلسالمي؛ فإن دولة النبوة األوىل‪،‬‬
‫اهلل عنه)‪ ،‬وسائر النامذج الناجحة التي سارت عىل‬‫ودولة عمر بن اخلطاب (ريض ُ‬
‫قاعدة النهضة القرآنية‪ ،‬والنموذج التفسريي الذي قدمه الرسول الكريم ﷺ هلا يف‬
‫حرفيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫دولة املدينة؛ قد قامت عىل أسس القرآن الكريم‬
‫ويف األخري؛ فإن إعادة اكتشاف كتاب اهلل تعاىل من جانب املسلمني هبذا املعنى؛‬
‫يعني أهنم غريوا مضطرين للبحث عن حلول ملشكالهتم خارج دينهم ومرجعياهتم‬
‫األساسية‪ ،‬وعىل رأسها القرآن الكريم‪ ،‬وجييب بوضوح عىل سؤال كيف اإلسالم‬
‫هو – بالفعل – احلل ألزمات األمة واإلنسانية كافة‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قضية العدالة بين الفلسفة اإلسالمية والفلسفات الغربية‬

‫ُتعترب العدالة هي أهم األركان التي يقوم عليها العمران البرشي السليم‪ ،‬بل إن‬
‫العدالة بصورها املختلفة‪ ،‬وخمتلف أركان معاين املصطلح وحمتواه‪ ،‬مثل التوازن‪،‬‬
‫هي ضامنة استمرار احلياة‪ ،‬والكون‪ ،‬إىل أن يأذن اهلل تعاىل‪ ،‬وينهي احلياة الدنيا‬
‫بالصورة التي خلقها عليها منذ القديم‪ ،‬وكام نعرفها نحن‪.‬‬
‫وهو أمر واضح حتى من األساس اللغوي‪ ،‬فالعدالة لغ ًة؛ هي االستواء أو‬
‫معا‪ .‬والعدل كذلك هو املتوسط ىف األمور من غري إفراط يف‬
‫االستقامة أو كالمها ً‬
‫الصحاح" و"املحيط" وغريها]‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َْ‬
‫طرف الزيادة والنقصان ["خمتار‬
‫والتوسط والتوازن‪ ،‬حتمل يف طياهتا‬
‫ُّ‬ ‫وبالتايل؛ فإن العدالة بمعنى املساواة‬
‫عوامل البقاء‪ ،‬يف املقابل؛ فإن النقيض‪ ،‬وهو الظلم واجلور؛ هو أهم أسباب اهنيار‬
‫املخلوقات‪ ،‬سواء أكان األمر يتعلق بجامدات‪ ،‬أو خملوقات حية؛ سواء يف سياقاهتا‬
‫الفردية‪ ،‬أو يف سياقاهتا املجتمعية‪.‬‬
‫وهذا األمر بدهيي لدى علامء االجتامع والعمران؛ حيث من أهم العبارات املأثورة‬
‫عن ابن خلدون‪ ،‬مؤسس علم االجتامع؛ أن "الظلم مؤ ِّذن بخراب العمران"‪.‬‬
‫وهو أمر يعود إىل الفطرة البرشية السليمة‪ ،‬ولذلك؛ فإنه من أقدم الرموز‬
‫احلضارية املعروفة منذ احلضارات البرشية القديمة‪ ،‬هو ميزان العدالة الشهري‪،‬‬
‫الذي نجده يف كل احلضارات اإلنسانية تقري ًبا‪ ،‬ومتاثيل العدالة سواء تلك التي‬

‫‪79‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫جتسد امرأة حتمل ميزان العدالة يف يد‪ ،‬والسيف يف اليد األخرى‪ ،‬أو حتمل امليزان‬
‫املتخاصم ْي‪.‬‬
‫َ‬ ‫بينام تعصب عينيها؛ دالل ًة عىل احليادية بني‬
‫ويف هذا اإلطار؛ فإنه من بني أهم املجاالت التي تتحقق فيها العدالة بني البرش‪،‬‬
‫هي ساحات القضاء؛ حيث حيكم القانون بني الناس كافة‪ ،‬وفق ميزان العدالة‪،‬‬
‫وعىل أسس من النزاهة واملوضوعية واحليادية‪.‬‬
‫وهو أحد الضامنات املهمة الستقرار املجتمعات؛ حيث إن فقدان الناس لثقتهم‬
‫يف منصة القضاء ونزاهتها؛ سوف يدفعهم إىل احلصول عىل حقوقهم بأنفسهم‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني فوىض اجتامعية‪ ،‬وهو بكل تأكيد من عوامل ضعف بل واهنيار املجتمعات‪.‬‬
‫وعىل أمهيتها؛ فإن العدالة؛ ُتعترب أحد أهم مباحث الفلسفات الوضعية‪ ،‬وكذلك‬
‫– بطبيعة احلال – من أهم األمور التي تكلمت فيها الرشائع التي أنزهلا اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وصو ً‬
‫ال إىل اإلسالم‪ ،‬الدين اخلاتم‪ ،‬ربام بعد عقيدة التوحيد‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فإن قضية العدالة‪ ،‬ومظهرها األهم‪ ،‬وهو تطبيق القانون‪ ،‬ختتلف‬
‫بشكل كبري بني الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬وبني الفلسفات الغربية واإلنسانية بشكل عام‪.‬‬
‫إال أن هذا ال ينفي أن هناك مشرتكات معينة بني ما وضعته الرشيعة اإلسالمية‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬وبني الفلسفات البرشية املختلفة‪ ،‬ألنه – كام قلنا – مصطلح مرتبط‬
‫يف كثري من جوانبه‪ ،‬بقضية الفطرة‪ ،‬واإلسالم هو دين الفطرة؛ حيث يرى الكثري‬
‫من املفكرين املسلمني‪ ،‬أن الدين مل ينزل – يف املجال املجتمعي واإلنساين العام‬
‫واخلاص – باجلديد الشاذ غري املألوف‪ ،‬وإنام نزل لتنظيم ما هو موجود بالفعل‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إال أنه‪ ،‬بطبيعة احلال؛ ال يمكن املقارنة بني ما وضعه اإلسالم يف هذا الصدد‪،‬‬
‫وبني ما يضعه البرش‪ ،‬باعتبار أن حكمة اخلالق عز وجل بالغة‪ ،‬وال يمكن مقارنة‬
‫فهم البرش لألمور هبا‪.‬‬
‫وبشكل عام؛ فإن مفهوم "العدالة" لدى الفالسفة واملفكرين الغربيني‪ ،‬منذ‬
‫احلضارة اليونانية القديمة‪ ،‬وحتى احلضار َت ْي اجلرمانية واألنجلوساكسونية‬
‫املعارص َت ْي‪ ،‬مرتبط بقضية الفضيلة‪ ،‬وله سياقان‪.‬‬
‫السياق األول‪ ،‬هو السياق الفردي اخلاص‪ ،‬واآلخر‪ ،‬هو السياق املجتمعي‬
‫العام‪ ،‬وهو سياق مرتبط بشدة‪ ،‬بسلطة العدالة والقانون‪ ،‬أو القضاء كام نعرفه اآلن‪.‬‬
‫وبينام كان أفالطون شديد املثالية ‪ -‬باعتبار أنه من أوائل الفالسفة الغربيني‬
‫الذين تناولوا هذه القضية ‪ -‬ورأى أن العدالة فطرية ألن اإلنسان غري قادر عىل‬
‫الظلم؛ فإن تلميذه أرسطو رأى العكس‪ ،‬ورأى أنه من األمهية بمكان أن يكون‬
‫للعدالة سياق مؤسيس عام حيفظها‪.‬‬
‫تصورا أكثر شمو ً‬
‫ال من‬ ‫ً‬ ‫ومن بني أهم املفكرين الغربيني املعارصين الذين قدموا‬
‫غريه ملفهوم العدالة‪ ،‬هو الفيلسوف األمريكي جون رولز‪.‬‬
‫عاش رولز يف الفرتة ما بني العام ‪1921‬م والعام ‪2002‬م‪ ،‬وله مؤلفات عدة‬
‫يف جمال العمران االجتامعي والسيايس‪ ،‬ومن ضمنها قضية العدالة بطبيعة احلال‪،‬‬
‫من أمهها "نظرية العدالة" أو "‪ ،"A Theory of Justice‬و"الليربالية السياسية"‬
‫"‪ ،"Political Liberalism‬و"قانون اجلامعات البرشية" "‪،"The Law of Peoples‬‬
‫و"العدالة كإنصاف" "‪."Justice as Fairness‬‬

‫‪81‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولقد عاش رولز يف فرتة حتوالت كربى يف النظرية الليربالية بشقها االقتصادي‬
‫واالجتامعي القائم عىل مفاهيم الرأساملية واحلرية الفردية‪ ،‬ولذلك طغت عىل‬
‫أفكاره يف هذا املجال قضية العدالة يف املجال االجتامعي والسيايس‪ ،‬يف مواجهة‬
‫توحش الليربالية والرأساملية الغربية‪ ،‬والتي أتت عىل الكثري من جوانب آدمية‬
‫ُّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وحقوقه يف املجال االجتامعي‪ ،‬وبالذات الفقراء واملهمشني والفئات‬
‫األكثر ضع ًفا يف املجتمع‪.‬‬
‫وانطلق رولز يف أفكاره يف هذا الصدد‪ ،‬من أفكار جون هوبز وجان جاك‬
‫روسو‪ ،‬عن العقد االجتامعي التي قال روسو إهنا األساس الذي تقوم عليه‬
‫املجتمعات املنظمة والدول القومية التي كانت وقت ظهوره‪ ،‬ال تزال أوروبا‬
‫حديثة العهد هبا‪.‬‬
‫ولعل تركيزنا يف هذا الصدد عىل أفكار رولز يأيت من األصل الذي حاولت‬
‫التعامل معه ومعاجلته‪ ،‬وهو مشكلة غياب العدالة االجتامعية يف الكيانات‬
‫السياسية املنظمة‪ ،‬والتي ُتعترب الدول شكلها األرقى يف اإلطار املؤسيس والسيايس‬
‫واملجتمعي‪.‬‬
‫فهذه املشكالت التي انبثقت بسبب حياد اإلنسان عن صحيح الطريق الذي‬
‫رسمته له الرشائع التي أنزهلا اهلل تعاىل‪ ،‬وكان آخرها وأكملها‪ ،‬هو رشيعة اإلسالم‪.‬‬
‫فالعدالة يف اإلسالم مفهوم شامل‪ ،‬ومل نجد يف أية فلسفة وضعية ذات العمق‬
‫الذي وضعه اإلسالم للعدالة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فاإلسالم أكد عىل قيمة العدالة وأمهيتها‪ ،‬ولو عىل أنفسنا‪ ،‬ففي ُسورة "النساء"‪،‬‬
‫يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾‪.‬‬
‫ويف جمال القضاء؛ حيث أقرب معاين العدالة للذهنية اإلنسانية؛ ُيعترب قول الزور‬
‫وشهادة من أكرب الكبائر‪ ،‬مع ما فيها من ظلم وإضاعة حقوق الناس‪ ،‬وهو ما يقود‬
‫– كام تقدم – إىل اهنيار العمران البرشي بالكامل‪.‬‬
‫ولذلك هي يف القرآن الكريم موضوعة عقب ِّ ْ‬
‫الشك ذاته مبارش ًة؛ حيث يقول اهلل تعاىل‬
‫"احلج"‪ ﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾‪.‬‬ ‫يف ُسورة َ‬

‫ويف احلديث الرشيف املتفق عليه؛ قال رسول اهلل ﷺ‪" :‬أال أنبئكم بأكرب الكبائر‬
‫– ثال ًثا – قلنا‪ :‬بىل يا رسول اهلل‪ .‬قال ‪" :‬اإلرشاك باهلل وعقوق الوالدين" وكان‬
‫متكئًا فجلس فقال‪" :‬أال وقول الزور‪ ،‬أال وشهادة الزور" فام زال يكررها حتى‬
‫قلنا‪ :‬ليته سكت"‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية؛‬
‫أما يف جمال العدالة االجتامعية؛ فإن القرآن الكريم‪ ،‬وصحيح ُّ‬
‫الكثري من املظاهر التي تدعم مفهوم العدالة يف هذا االجتاه‪ ،‬كنظام اقتصادي‬
‫واجتامعي هيدف إىل إزالة الفوارق بني الطبقات‪.‬‬
‫ويستند نظام العدالة االجتامعية يف اإلسالم يف هذا الصدد‪ ،‬عىل أسس وأركان‬
‫من أمهها أن الناس سواسية كأسنان املشط‪ ،‬كام قال الرسول الكريم ﷺ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األهمية الدعوية لنظرية العدالة يف اإلسالم‪:‬‬

‫يف حقيقة األمر؛ فإن اإلسالم قد سبق خمتلف النظريات التي وضعت عن العدالة‬
‫يف خمتلف االجتاهات‪ ،‬القانونية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية‪ ،‬وقدم نظرية‬
‫متكاملة للعدالة‪ ،‬ال يمكن بحال أن نجدها يف أية منظومة فكرية وفلسفية أخرى‪.‬‬
‫مفكرا أو فيلسو ًفا قد تناول هذا اجلانب أو ذاك‪ ،‬من‬
‫ً‬ ‫فمن املمكن أن نجد‬
‫اجلوانب املتصلة بالعدالة‪ ،‬كمفهوم هبذا الشمول‪ ،‬ولكن ليس كل اجلوانب‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن قضية العدالة‪ُ ،‬تعترب من أهم املجاالت التي يمكن من خالهلا‬
‫ممارسة الدعوة إىل اهلل تعاىل يف أوساط غري املسلمني‪.‬‬
‫وتأيت هذه األمهية من زاويت َْي‪ .‬األوىل‪ ،‬هو شمولية وأسبقية وعمق نظرية‬
‫العدالة يف اإلسالم‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬التأكيد عىل مصدرها غري البرشي‪ ،‬وأهنا من لدن اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬والثاين‪ ،‬أن فيها معاجلات للكثري من املشكالت التي تعاين منها اإلنسانية‬
‫بسبب قصور النظريات الوضعية‪ ،‬وما أدت إليه الفلسفات االقتصادية واالجتامعية‬
‫والسياسية البرشية من مشكالت مجة لإلنسان‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫معالم غائبة من النظام األخالقي واالجتماعي في اإلسالم‬

‫تتعدد يف الرشيعة اإلسالمية أحكام األمور من عبادات ومعامالت‪ ،‬ما بني‬


‫فرائض ونوافل‪ ،‬وبني ما هو واجب ومستحب ومكروه ُ‬
‫وم َّرم‪ ،‬إىل غري ذلك من‬
‫األحكام‪.‬‬
‫وأنزل اهلل تعاىل رشيعته واضحة وحمددة فيام خيص األحكام‪ ،‬من أجل‬
‫ضامن حتقق التوازن والعدالة يف صريورات احلياة اإلنسانية‪ ،‬وبالتايل استقامة‬
‫املجتمعات‪.‬‬
‫إال أن اهلل عز وجل قد شاءت حكمته أن تتحقق هذه األهداف الغاية يف األمهية‬
‫لديمومة العمران بالصورة التي حتقق االستخالف وعامرة األرض‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل‬
‫غاية خلق اإلنسان‪ ،‬وهو عبادة اهلل تعاىل؛ أن تتحقق بشكل متعدد الصور واألبعاد‪.‬‬
‫الر َخص‪ ،‬ويف مقابل التأكيد عىل‬ ‫ففي مقابل تأكيد الوجوب؛ وضع سبحانه‪ُّ ،‬‬
‫التحريم املشدد؛ رشع أحكام االضطرار‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ويف هناية املطاف‪َ َ ،‬‬
‫شع ال َّت ْوبة‬
‫وتعهد باملغفرة والعفو‪.‬‬
‫واالستغفار‪َّ ،‬‬
‫وجاء ذلك حتى فيام يتعلق بأمور العبادات‪ ،‬التي ُتعتَرب عىل أكرب قدر من األمهية‪،‬‬
‫الص َلة التي جتمع بني العبد وربه‪ِّ ،‬‬
‫وتعب عن أداء واجبات العبد إزاء اهلل‬ ‫باعتبار أهنا ِّ‬
‫أساسا‪ِ ،‬ع َّلة خلق اإلنسان‪ ..‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ً‬ ‫تعاىل‪ ،‬وهي‬
‫[سورة "الذاريات" ‪ -‬اآلية ‪.]56‬‬
‫ﭷﭸ ﭹ﴾ ُ‬

‫‪85‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويأيت ذلك لتحقيق املرونة الالزمة‪ ،‬يف ظل علم اهلل تعاىل بنوازع البرش وضعفهم‪،‬‬
‫بمن َخ َلق وهو اللطيف اخلبري‪.‬‬ ‫وغري ذلك من سامت َخ ْل ِقه‪ ،‬وهو أعلم َ‬
‫ويف عرصنا الراهن؛ فإننا نقف أمام الكثري من الظواهر عىل مستوى العالقات‬
‫اإلنسانية واملجتمعات البرشية‪ ،‬من صور التعقيد‪ ،‬وكذلك األزمات املختلفة‪،‬‬
‫والتي ترتبط يف كثري من األحيان بقضية احلقوق واملعامالت‪.‬‬
‫ومن ضمن األمور واملجاالت التي أسبغ اهلل تعاىل عليها هذا الطابع‪ ،‬وهلا أبلغ‬
‫عرف‬
‫األثر يف حتسني مستوى العالقات اإلنسانية يف املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬هي ما ُي َ‬
‫باملروءة التي تتضمن العفو يف بعض األحيان عن بعض احلقوق؛ إعال ًء للرابطة‬
‫اإلنسانية‪.‬‬
‫يف هذا اإلطار؛ فإن هناك تصحيح مفاهيمي واجب؛ حيث يضع البعض‬
‫"املروءة" ضمن الرقائق ومكارم األخالق أو ما شابه‪ ،‬بينام هي من صميم‬
‫أصلها اإلسالم‪ ،‬ودعا إليها من خالل النص‪،‬‬
‫السلوكيات واملامرسة املجتمعية التي َّ‬
‫حريصا‬
‫ً‬ ‫أي أهنا من أصول الرشيعة اإلسالمية التي جيب عىل كل مسلم أن يكون‬
‫عليها‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية‬
‫واألدلة الرشعية عىل ذلك عديدة يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف ُّ‬
‫الرشيفة‪.‬‬
‫ومن بني ذلك‪ ،‬قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫[سورة "البقرة" – من اآلية ‪.]178‬‬
‫ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ ُ‬

‫‪86‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهذه اآلية تتكلم عن أخطر أمر من أمور حقوق اإلنسان إزاء اإلنسان‪ ،‬وهو حق‬
‫الدم؛ حيث تقول اآلية يف شطرها األول‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾‪.‬‬
‫ويف نقطة حق الدم كذلك؛ يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫[سورة "النساء" – من اآلية ‪.]92‬‬
‫ﭦ ﭧ﴾ ُ‬
‫يف كال اآليت َْي‪ ،‬هناك دعوات واضحة ورصحية للتنازل يف بعض األحوال املتعلقة‬
‫واضحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بحقوق الدم‪ ،‬بالعفو والتصدُّ ق‪ ،‬وغري ذلك مما كان فيه النص القرآين‬
‫ويف آية أخرى من ُسورة "البقرة"‪ ،‬اآلية (‪ ،)237‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸﯹ﴾‪ ،‬ويزيد‪﴿ :‬ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾‪ ،‬وهو بدوره جاء يف موضع‬
‫حديث حلقوق أخرى شديدة األمهية‪ ،‬وهي حقوق الزواج والطالق‪ ،‬وهي هلا أكرب‬
‫األمهية يف النظام االجتامعي لإلسالم كام نعلم‪.‬‬
‫ويف أم ٍر آخر عىل أكرب قدر من األمهية يف املنظومة االجتامعية يف اإلسالم‪ ،‬وهو‬
‫أمر ًح ِظ َي‬
‫املواريث‪ ،‬والتي ألمهيتها؛ يقول علامء الفقه والتفسري؛ إنه ال يوجد ٌ‬
‫صح التعبري – يف القرآن الكريم‪ ،‬مثل املواريث‪،‬‬
‫بتغطية شاملة‪ ،‬واضحة – لو َّ‬
‫والزواج واملحارم؛ يف هذا األمر؛ نجد القرآن الكريم يدعو إىل بعض األمور التي‬
‫تتجاوز التحديد الدقيق لألنصبة؛ حيث يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳ﴾‬
‫[سورة "النساء" – اآلية ‪.]8‬‬
‫ُ‬

‫‪87‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إال أنه من جانب آخر؛ فإنه من األمهية بمكان هنا اإلشارة إىل بعض األمور التي‬
‫تؤكد كامل الترشيع اإلسالمي؛ حيث إن هذه األوامر ُو ِض َع هلا‪ ،‬كام أي يشء يف‬
‫الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬ضوابط ِّ‬
‫تنظمها‪.‬‬
‫ففي اآلية (‪ )178‬من ُسورة "البقرة" التي أرشنا إليها فيام تقدَّ م؛ يقول اهلل تعاىل‬
‫يف متامها‪ ،‬بعد أن دعا إىل العفو واالتباع باملعروف واألداء بإحسان كتخفيف من اهلل‬
‫عز وجل؛ نجده يقول‪﴿ :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾‪.‬‬
‫شع ُ‬
‫اهلل تعاىل الوصية‪ ،‬كام جاء يف اآليت َْي‬ ‫كام أنه‪ ،‬ويف آيات املواريث‪ ،‬بعد أن َ َ‬
‫الس َّنة النبوية وضعت الضابط أو القيد‬
‫(‪ )11‬و(‪ )12‬من ُسورة "النساء"؛ فإن ُّ‬
‫الرشعي فيها لعدم اجلور عىل أصحاب احلقوق األصليني‪ ،‬وهو "تقنني" الوصية‬
‫الصحيح ْي‪.‬‬
‫َ‬ ‫بال ُّث ُلث‪ ،‬كام َث ُب َت يف‬
‫فقد ورد أن سعد بن أيب وقاص "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬أراد أن يويص بامله كله‪ ،‬فنهاه‬
‫مرة قال له فيها سعد إنه سوف يويص بجزء‬ ‫الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وراجعه يف كل َّ‬
‫من ماله‪ ،‬حتى وصل إىل ال ُّث ُلث‪ ،‬فقال "عليه الصالة والسالم"‪" :‬ال ُّث ُلث وال ُّث ُلث‬
‫كثري (ويف رواية‪ :‬كبري)"‪.‬‬
‫ويف العالقات الزوجية‪ .‬القرآن الكريم يقول ُح ْك ًم قد يبدو مطل ًقا؛ حيث يقول‬
‫تعاىل‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪،]223‬‬
‫ولكنه أتبع ذلك بقواعد ناظمة تراعي الطبيعة البرشية؛ حيث يقول ﴿ﯩ ﯪﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ﴾‪ ،‬بل وربط ذلك باإليامن؛ حيث تتمة اآلية‪،‬‬
‫يقول فيها اهلل عز وجل‪﴿ :‬ﯲ ﯳ﴾‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة النبوية؛ نجد هناك بعض األمور التي حددها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يف‬ ‫ويف ُّ‬
‫"و َقدِّ ُمو ْا َ‬
‫أل ُنف ِس ُك ْم"؛ حيث يدعو إىل التمهيد والرت ُّفق قبل إتيان الزوج لزوجته‪،‬‬ ‫نقطة َ‬
‫ودعا عليه الصالة والسالم إىل جت ُّنب اتباع الغرائز بشكل هبيمي يف هذا األمر‪.‬‬
‫يقعن أحدكم عىل‬
‫َّ‬ ‫فكام يف الصحيح؛ عن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬أنه قال‪" :‬ال‬
‫امرأته كام تقع البهيمة وليكن بينهام رسول"‪ .‬قيل‪ :‬وما الرسول يا رسول اهلل؟‪ .‬قال‪:‬‬
‫"القبلة والكالم"‪ ،‬وقال ﷺ ً‬
‫أيضا‪" :‬ثالث من العجز يف الرجل"‪ ،‬وذكر منها أن‬
‫يقارب الرجل زوجته فيصيبها (أي جيامعها) قبل أن حيدثها ويؤانسها ويضاجعها‬
‫فيقيض حاجته منها‪ ،‬قبل أن تقيض حاجتها منه"‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬وجيب‬
‫وعىل هذا النحو؛ يميض القرآن الكريم وصحيح ُّ‬
‫تعصباتنا‬
‫أن نفهم أن هذا يف اإلسالم‪ ،‬وهذا هو اإلسالم‪ ،‬وجيب علينا أن نقدمه عىل ُّ‬
‫يف أمورنا وسلوكياتنا كافة‪.‬‬
‫ويفتح ذلك املجال أمام حديث آخر أخطر‪ ،‬وهي قضية قاعدة القيود والقواعد‬
‫الناظمة التي وضعها اهلل تعاىل لتنفيذ األحكام الرشعية كافة‪ ،‬وهي من أهم القضايا‬
‫التي كان لغياب الفهم فيها‪ ،‬أثر كبري يف التشويش احلاصل عىل املرشوع اإلسالمي‪ ،‬ويف‬
‫ظهور آفات مثل التطرف والتكفري وغري ذلك‪ ،‬ولكن هلذا موضع آخر من احلديث‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مقاصد الشريعة بين الديمقراطيات واالستبداديات‬

‫أتى اإلسالم بقواعد عامة يف خمتلف االجتاهات‪ ،‬ومل حي ِّبذ أو يزكي منظومة عىل‬
‫منظومة أخرى‪ ،‬سواء يف السياسة أم يف االقتصاد‪ ،‬أو يف اجلانب املجتمعي‪.‬‬
‫وشاءت حكمة اهلل تعاىل أن يكون اإلسالم يف منظومته الشاملة عبارة عن هذه‬
‫ً‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان إىل أن يشاء اهلل تعاىل؛‬ ‫القواعد العامة‪ ،‬من أجل أن يكون‬
‫فريفع القرآن الكريم واإليامن من األرض؛ فال يبقى عليها إال رشارها‪ ،‬فتقوم‬
‫عليهم القيامة كام أخرب النبي الكريم ﷺ‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬مل حيدد اإلسالم نظا ًما معينًا للحكم‪ ،‬لكن الرشيعة قالت بأن‬
‫أية منظومة يتم احلكم هبا يف ديار اإلسالم جيب أن تلتزم بتحقيق مقاصد الرشيعة‬
‫اخلمس‪ ،‬وعىل رأسها حياة اإلنسان‪ ،‬ومناطا التكليف؛ العقل واحلرية‪ ،‬عىل أن تقوم‬
‫عرف يف زمننا املعارص‬
‫عىل أساس قواعد العدالة والشفافية واملحاسبة‪ ،‬وغريها مما ُي َ‬
‫بقواعد احلكم الرشيد‪.‬‬
‫ونرى اآلن الكثري من اجلدل يف أوساط احلركة اإلسالمية بشأن الصورة املثىل‬
‫التي ينبغي أن يكون عليها نظام احلكم يف الدولة اإلسالمية التي يتطلع اجلميع إىل‬
‫استعادهتا عىل أية صورة من الصور‪.‬‬
‫ويف حقيقة؛ األمر؛ فلقد قادت الظروف واملستجدات ايل متر هبا احلركة اإلسالمية‬
‫يف الوقت الراهن‪ ،‬إىل انسياح الكثري من األفكار يف إطار بحث اجلميع بال استثناء‬

‫‪90‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫محل البعض املسؤولية فيه لألطر‬‫عن بدائل يف ظل الفشل الذي آلت إليه األمور‪ ،‬و َّ‬
‫واآلليات واألفكار التي كان معمو ً‬
‫ال هبا يف املرحلة السابقة‪.‬‬
‫ونجد يف هذا السياق‪ ،‬أن الكثريين قد قادهتم مرحلة التيه الفكري هذه‪ ،‬يف‬
‫ظل غياب األطر التنظيمية التي كانت تعمل عىل وضع الربامج الرتبوية ومتابعة‬
‫أنشطة التنشئة والتلقني الفكري‪ ،‬إىل تبني بعض األفكار التي ال تتفق مع الرشيعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وال حتى مع قواعد السياسة السليمة التي حتقق األثر املنشود‪.‬‬
‫ومالت نسبة ال بأس هبا من شباب احلركة اإلسالمية عىل وجه اخلصوص‪ ،‬إىل‬
‫األفكار التي ِّ‬
‫تعظم يف قيم القوة والعنف سواء عىل املستوى الفردي‪ ،‬أو املجتمعي‪،‬‬
‫وقيم االستبداد السيايس‪ ،‬وما اتصل بذلك‪.‬‬
‫فكان هناك األخذ من أفكار فالسفة ملحدين مثل نيتشه‪ ،‬نظرية "اإلنسان‬
‫السوبرمان" بالتحديد‪ ،‬وأفكار كارل شميت‪ ،‬الذي جمَّد يف نظرية القوة‪ ،‬وكانت‬
‫أفكاره مع نيتشه هي منبع أساس‪ ،‬ضمن مصادر أخرى هنضت عليها التجربة‬
‫النازية يف أملانيا‪ ،‬بني العرشينيات واألربعينيات املاضية‪.‬‬
‫ولعل البعض منبهر بالفعل بعدد من األمور يف جتارب مثل النازية يف أملانيا‪،‬‬
‫والستالينية يف االحتاد السوفييتي السابق‪ ،‬ويعمل عىل دراسة ما اتصل وشابه من‬
‫جتارب سياسية عرب التاريخ‪.‬‬
‫األمر األول؛ هو كيف تصدت هذه األنظمة خلصومها السياسيني‪ ،‬وفق مبدأ‬
‫واحد‪ ،‬وهو العنف السيايس‪ ،‬سواء الفردي أو اجلامعي‪ ،‬من خالل النفي والقتل‬
‫واالعتقال وغري ذلك من اآلليات‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األمر الثاين؛ هو كيف استطاعت هذه األنظمة أن حتقق التنمية الشاملة‪ ،‬ويف‬
‫وقت قيايس وجيز‪ ،‬حتولت معه هذه الدول والكيانات من جمتمعات زراعية ذات‬
‫ً‬
‫جيوشا قوية‪ ،‬وذات‬ ‫اقتصاد ريعي‪ ،‬وتعاين من الفقر والفاقة‪ ،‬إىل أمم صناعية متلك‬
‫سطوة متتد عرب العامل‪.‬‬
‫األمر الثالث يف هذا املجال‪ ،‬هو كيف استطاعت األحزاب والقوى السياسية‬
‫التي أسست هلذه األنظمة السيطرة عىل مؤسسات الدولة واملجتمعات‪ ،‬يف ظل‬
‫كون أحد أهم العوامل التي قادت إىل فشل احلركة اإلسالمية بعد ما ُع ِر َف بالربيع‬
‫العريب‪ ،‬كانت املامنعة التي أبدهتا املؤسسات القديمة املتوارثة من عهود األنظمة‬
‫االستبدادية التي قامت عليها الثورات الشعبية‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فإن هناك الكثري من اخللط يف األمور‪ ،‬ويمكن القول إنه عىل‬
‫العكس؛ ال يوجد خري يف األخذ من هذه األفكار والنظريات‪.‬‬
‫وبعيدً ا عن الشق اإليامين والقيمي يف أهنا ما دامت تتعارض مع الرشيعة‬
‫اإلسالمية؛ فهي باطلة؛ ألن اإلنسان مهام كان ال يمكنه أن يصل بعقله القارص –‬
‫حاشا هلل تعاىل – إىل حكمة بالغة عن حكمة اخلالق عز وجل؛ فإنه يمكن للباحث‬
‫ا ُملد ِّقق من خالل دراسة حمققة لوقائع التاريخ بعيدً ا عن ظاهر القول‪ ،‬واملقوالت‬
‫ا ُمل َع َّلبة املتوارثة؛ الوصول إىل نتائج تفيد بتهافت مثل هذه النظريات‪ ،‬وأننا ال جيب‬
‫ال حتى‪ ،‬عن صحيح رشيعنا وما أمرتنا به‪.‬‬ ‫ريا وال قلي ً‬
‫أن نبتعد كث ً‬
‫فالديكتاتوريات واالستبداد وقوة القهر؛ ال تصل باإلنسان إىل حتقيق مبتغاه‪،‬‬
‫وال حتقق أي يشء َس ِو ٍّي‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وعىل أبسط تقدير؛ هل نتصور أنه لو كان استبداد اإلمرباطورية يف اليابان‪ ،‬أو‬
‫النازيني يف أملانيا‪ ،‬أو الفاشيني يف إيطاليا‪ ،‬قد حقق غرضه يف تأسيس أجيال تؤمن‬
‫حقيق ًة بشعارات هذه اإلمرباطوريات؛ كان يمكن للتغيري يف هذه املجتمعات أن‬
‫حيدث بالرسعة التي رأيناها بعد احلرب العاملية الثانية؟!‬
‫إطال ًقا؛ وحلارب هؤالء حتى آخر مواطن يف سبيل هذه الديكتاتوريات التي‬
‫متجد القوة غري الرشيدة وال تأبه بأي يشء‬
‫قامت عىل أساس هذه النظريات التي ِّ‬
‫من مقاصد الرشيعة التي نعرفها‪.‬‬
‫إن قرون من إكراه احلكم اإلمرباطوري يف اليابان؛ تغريت بعد احلرب العاملية‬
‫الثانية بسهولة نسبية‪ ،‬وال عالقة لألمر بالقنابل النووية أو االحتالل األمريكي؛ فقد‬
‫تكون اآللة العسكرية األمريكية قد أجربهتم عىل االستسالم؛ لكن ما تىل ذلك من‬
‫تغيري مل حتدثه قوة الذرة‪.‬‬
‫ما تبقى من هذه األنظمة هو إحساس الياباين‪ /‬األملاين القومي‪ ،‬وهو أمر متوارث‬
‫ويف جينات هذه الشعوب‪ ،‬لكن ما فعلته الديكتاتوريات؛ كان من السهل تغيريه‪.‬‬
‫ثم هناك مالحظات مهمة يؤكدها التاريخ‪ ،‬وتقول بتهافت هذه املدارس‪ ،‬منها‬
‫مث ً‬
‫ال أن أملانيا من قبل هتلر‪ ،‬مل تكن أمة خاملة؛ بل عىل العكس؛ كانت أملانيا بلد‬
‫إمرباطوري‪ ،‬ذو طابع صناعي‪ ،‬بل واستعامري توسعي‪ ،‬والسيام منذ توحيده عىل‬
‫يد بسامرك‪ ،‬يف القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫ثان ًيا؛ أنت تقف أمام جانب واحد من جتربة أدولف هتلر‪ ،‬أو امليجي يف اليابان‪،‬‬
‫أو موسوليني يف إيطاليا‪ ،‬وهي فرتة الصعود‪ ،‬ولكن كمجمل عام؛ هذه التجارب‬

‫‪93‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قادت هذه الدول العظمى إىل الدمار‪ ،‬وكل ما فعله هؤالء بنظرياهتم‪ ،‬هو أهنم‬
‫وضع بلداهنم حتت سيطرة استعامر أجنبي‪ ،‬وتسببوا يف تقسيمها يف حالة أملانيا مث ً‬
‫ال‪،‬‬
‫وإىل اآلن‪ ،‬قيود اهلزيمة يف احلرب العاملية الثانية؛ تطوي أي كربياء أملاين أو ياباين‪.‬‬
‫متجد من العنف‪ ،‬وصنعت‬
‫ثم إنه قول متناقض كذلك‪ ،‬أن نعترب بفلسفات ِّ‬
‫حكومات وأنظمة استبدادية قتلت شعوهبا – هتلر قتل قبل احلرب مئات اآلالف‬
‫من األملان من الشيوعيني واليهود واملعارضني له بشكل عام – وتسببت يف مقتل‬
‫وترشيد مئات املاليني عرب العامل‪ ،‬بينام نحن نقول إننا نريد اإلصالح والديمقراطية‬
‫أخالقيا تبنيها وإال ال نكون ُنم ُّت لإلسالم‬
‫ًّ‬ ‫وغري ذلك من القيم‪ ،‬التي ال جيوز‬
‫بصلة‪.‬‬
‫يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬هناك موقف الفت للغاية تبناه دوايت آيزهناور عندما‬
‫كان يتوىل قيادة قوات احللفاء‪.‬‬
‫قبيل اقتحام برلني‪ ،‬طلب منه رئيس الوزراء الربيطاين يف حينه‪ ،‬وينستون‬
‫تشرتشل‪ ،‬والرئيس األمريكي يف ذلك الوقت‪ ،‬فرانكلني روزفيلت‪ ،‬اإلرساع‬
‫باقتحام برلني قبل السوفييت الذين كانوا قد اقرتبوا منها من جهة الرشق‪ ،‬للحؤول‬
‫دون حصول ستالني عىل مكاسب سياسية يف مرحلة ما بعد احلرب‪.‬‬
‫آيزهناور رفض ذلك ألنه كان سوف يكلفه مئات اآلالف من جنوده‪ ،‬ون َّفذ‬
‫من دون الرجوع للقيادات السياسية للحلفاء‪ ،‬ألنه كان القائد األعىل للقوات وله‬
‫احلق يف ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬فليحصل ستالني عىل ما يريد؛ لكن سوف أحافظ عىل حياة‬
‫جنودي‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذا القرار بالرغم من أنه قد قرر شكل العامل ربام بالكامل بعد احلرب‪ ،‬وحتى‬
‫تفكك االحتاد السوفييتي السابق يف مطلع التسعينيات املاضية؛ إال أنه خيربنا أن‬
‫الديمقراطيات أقرب يف نقطة احلفاظ عىل مقاصد الرشيعة‪ ،‬يف صدد حياة وحرية‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫فقد تكون‪ ،‬بل بالتأكيد؛ فإن الواليات املتحدة قوة غاشمة يف املجال الدويل‪،‬‬
‫وسببت ٍ‬
‫مآس كثرية يف العامل؛ لكن داخل الديمقراطيات؛ هناك اهتامم حقيقي بحياة‬
‫اإلنسان وحريته‪.‬‬

‫وربام هذا الغرس هو أهم ما جيعل األمريكيون يعتزون بدولتهم ويدعمون‬


‫سياساهتا‪ ،‬وهذا يعود بنا إىل السياق األصيل للحديث؛ وهو أن الديكتاتوريات‬
‫والفلسفات التي أفرزت جتارب حكم قمعية؛ ال تقود إىل نتائج إجيابية‪ ،‬أو إىل‬
‫شعوب ُ ِ‬
‫م َّبة ألوطاهنا‪.‬‬

‫فاالستبداد والديكتاتوريات ال تصنع قناعات‪ ،‬وإنام مواقف ظاهرة بناء عىل‬


‫إكراهات‪ ،‬والديمقراطيات يف النهاية مهمة يف احلفاظ عىل أهم مقصدَ ْين يف‬
‫رشيعتنا؛ حياة اإلنسان وحريته‪.‬‬

‫‪.....‬‬

‫إننا مؤمنون متا ًما بأن اإلسالم دين شامل يف أفكاره التأسيسية يف كيفية النظر‬
‫للكون‪ ،‬والتعامل مع احلياة‪ ،‬ويف نظرة اإلنسان لنفسه ودوره‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ونحن ال نتكلم عن العربة التي يمكن أخذها من الغرب أو غريه؛ بل نتكلم عن‬
‫األفكار األصولية التي نحيا هبا‪.‬‬
‫وكل هذه األفكار؛ ما مل تتم مراجعتها‪ ،‬فلن يمكن احلديث عن مرشوع إسالمي‬
‫سوي ومتسق مع مفاهيم اإلسالم بالكامل؛ كدين وكتصور شامل للحياة‪ ،‬وهو‬
‫أمر مفصيل يف صدد قبوله أو عدم قبوله من مئات املاليني من املسلمني من خارج‬
‫احلركات اإلسالمية الطليعية‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أهمية الضوابط الدينية واألخالقية‬


‫في صيانة العمران‪ ..‬مفردات حضارية غائبة!‬

‫من بني األمور امللتبسة يف عرصنا احلديث‪ ،‬سواء عىل مستوى العوام‪ ،‬أو ُ‬
‫الك َّتاب‬
‫املخصصني‪ ،‬تلك املتعلقة باملعايري التي يتم االعتامد عليها لتوصيف احلضارة اإلنسانية‪.‬‬
‫ففي ظل امتالك الغرب لوسائط "امليديا" واملعرفة املختلفة‪ ،‬وما متنحه التقنية‬
‫الرقمية من سيادة شبه مطلقة عىل قلوب وعقول اجلامهري والشعوب؛ صارت‬
‫املامرسة الغربية‪ ،‬والنموذج الغريب‪ ،‬مها صنو مفهوم "احلضارة" عند كثري من‬
‫خصوصا الشعوب التي ال تزال يف بداية سلم التطور احلضاري‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫شعوب العامل‪،‬‬
‫ال تزال تبحث عن نقطة للبدء‪.‬‬
‫حتول مفهوم احلضارة يف عرصنا احلديث إىل مرادف للتقدم العلمي والتقني‪،‬‬
‫ومقدار ما متلكه الدولة أو األمة من معلومات أو أجهزة حاسب أو أقامر صناعية‪،‬‬
‫أو حجم ما تنتجه سنو ًّيا من براءات اخرتاع وبحوث علمية‪.‬‬
‫طبعا هذه املعايري هي جزء مهم من مصطلح أو مفهوم احلضارة‪ ،‬ولكنها كل‬
‫ً‬
‫يشء؛ فأصل احلضارة هي حتسني واقع اإلنسان‪ ،‬سواء أكان فر ًدا أم مجاعة‪ ،‬وسواء‬
‫كانت هذه اجلامعة‪ ،‬أمة أم اجلامعة اإلنسانية بشكل عام‪.‬‬
‫فبعيدً ا عن التعريف التقليدي للحضارة‪ ،‬والذي مل يتفق علامء العمران والباحثني‬
‫موحد‪ ،‬فكل فعل يساهم يف حتسني‬
‫يف حقل العلوم اإلنسانية‪ ،‬عىل تعريف جامع َّ‬
‫حياة اإلنسان‪ ،‬وزيادة رفاهية البرشية؛ إنام هو فعل حضاري‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويربط البعض يف اإلطار السابق‪ ،‬احلضارة باملدنية واملدينية‪ ،‬وهو أمر جاء به‬
‫اإلسالم؛ حيث إنه يف الصحيح‪ ،‬ويف الكثري من آثار الصحابة؛ فإن العودة إىل حالة‬
‫البداوة تساوي الردة عن الدين‪ ،‬مع وضع الكثري من الفقهاء لفعل البداوة بعد‬
‫التمدين‪ ،‬يف إطار "املفارق للجامعة"‪ ،‬كام يف احلديث النبوي الصحيح‪.‬‬
‫ولكن احلضارة ليست التقدم العلمي والتطاول يف البنيان أو العمران فحسب؛‬
‫حيث هي منظومة متآلفة متكاملة فيام بينها من العنارص‪ ،‬مثل املوارد االقتصادية‪،‬‬
‫والنظام السيايس الرشيد الذي يضمن عنارص املساءلة واملحاسبة للحاكم‪،‬‬
‫والشفافية‪ ،‬واحرتام حقوق اإلنسان‪ ،‬والتوزيع العادل للثروة والسلطة‪ ،‬وسيادة‬
‫القانون‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه العنارص التي تشكل الفعل احلضاري‪ ،‬ورآها الكثريون‬
‫يف ذات أمهية التنمية والنهضة السياسية واالقتصادية‪ ،‬األخالق والقيم‪ ،‬وتطور‬
‫وارتقاء العلوم واآلداب والفنون‪ ،‬وهذه األخرية بالذات مهمة يف كوهنا ترتبط‬
‫بتهذيب خلق اإلنسان واالرتقاء بمشاعره إىل املزيد من الطابع اإلنساين‪.‬‬
‫بدعا من ذلك؛ فالدين نفسه‪ ،‬نزل إلمتام مكارم األخالق‪ ،‬كام‬
‫وليست احلضارة ً‬
‫قال املصطفى ﷺ‪.‬‬
‫فالقيم والضوابط األخالقية‪ ،‬هي التي تضمن حسن وصواب توجيه املوارد‬
‫االقتصادية واإلنتاج العلمي الذي توصلت إليه أمة ما‪ ،‬أو حضارة ما‪ ،‬إىل الوجهة‬
‫السليمة‪ ،‬بام خيدم اإلنسانية‪ ،‬ويساعد يف االرتقاء بحياة اإلنسان‪ ،‬فر ًدا ومجاعات‪،‬‬
‫مهم من حكمة خلقه‪ ،‬وهو عمران اآلرض‪ ،‬وبالتايل‬ ‫بالشكل الذي حيقق جان ًبا ًّ‬

‫‪98‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حتقيق الغاية العظمى من خلق اإلنسان‪ ،‬وهو عبادة اهلل تعاىل‪ ،‬وإفراده هبا‪ ،‬يف إطار‬
‫عقيدة التوحيد‪﴿ ..‬ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾‬
‫[سورة "هود"]‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومن دون الوازع الديني‪ ،‬والوازع القيمي واألخالقي‪ ،‬سيقع الرش‪ ،‬ويتم توجيه‬
‫املنجز العلمي‪ ،‬واملورد االقتصادي‪ ،‬إىل وجهات غري سوية‪ ،‬كاخلراب والدمار‪.‬‬
‫واضحا‪ ،‬فاملعامل التي تقوم بتطوير األدوية والعقاقري‬
‫ً‬ ‫وهو أمر نجده يف الغرب‬
‫الطبية‪ ،‬تعمل يف ذات الوقت عىل تطوير األسلحة البيولوجية‪ ،‬واملصانع الضخمة‬
‫التي تنتج املحركات التي تسهل عىل اإلنسان احلركة والعمران؛ تنتج كذلك أسلحة‬
‫اخلراب والدمار‪ ،‬ومن هنا؛ يضيع أي أثر للتقدم العلمي والتطور االقتصادي يف‬
‫حتسني حال اإلنسانية‪.‬‬
‫فلو قار َّنا ما بني مكاسب هذه املعامل واملصانع يف حتسني حياة جمموعة من‬
‫البرش؛ لوجدناها تتضاءل أمام ما نرشته من خراب يف أوساط جمموعات إنسانية‬
‫أخرى؛ فدواء اجلدري أو فريوس "‪ "C‬الذي أنتجته معامل "‪ "CDC‬يف أطالنطا‪،‬‬
‫ويف معامل "باستري" يف فرنسا‪ ،‬أنقذت بضعة ماليني‪ ،‬بينام قتل السالح األمريكي‬
‫والغريب بضعة ماليني أخرى يف مناطق متفرقة من العامل‪.‬‬
‫وبالتايل؛ يتحقق عكس املأمول من الفعل احلضاري‪ ،‬وهو العمران‪ ،‬وإسناد‬
‫جهود اإلنسانية يف حتقيق بعض ما يف القوانني اإلهلية من حكمة يف خلق اإلنسان‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وضوابط حياته يف األرض‪ ،‬يف استعامرها باملعنى اإلجيايب؛ حيث الوجه اآلخر‬
‫"للحضارة" الغربية‪ ،‬هو نرش املوت واخلراب‪.‬‬
‫أما لو كانت الضوابط الدينية واألخالقية والقانونية قائمة؛ لكانت الفائدة هي‬
‫الغالبة‪ ،‬و َلتَح َّقق مفهوم احلضارة واملدنية بالشكل الصحيح‪.‬‬
‫املكون احلضاري إذا ما جتاوز أهدافه‬
‫ولكن وبام أن قوانني وسنن اهلل تعاىل‪ ،‬فإن ِّ‬
‫الصحيحة يف حتقيق وصيانة العمران؛ سوف يقود إىل حتلل احلضارات اإلنسانية‬
‫القائمة‪.‬‬
‫وهو أمر يمكن قياسه يف احلضارات القديمة؛ فغياب الضابط القيمي‬
‫واألخالقي قاد إىل اهنيار الكثري من احلضارات التي كانت يف أوج تقدمها‬
‫وازدهارها االقتصادي والعلمي‪ ،‬وهو أمر واجهته احلضارة اإلسالمية ذاهتا يف‬
‫حالة الدولة العباسية الثانية‪ ،‬ودولة اإلسالم يف األندلس؛ فكلتامها مل يكن ينقصه‬
‫املوارد االقتصادية‪ ،‬وكانت املراكز العلمية والتعليمية والثقافية‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬تقدم‬
‫االستنارة والعلم للعامل كله‪ ،‬ولكن ألن الضابط القيمي واألخالقي ضعف؛ فقد‬
‫ضعفت كلتا احلضار َت ْي‪ ،‬واهنارت أمام أعدائها يف الرشق والغرب‪.‬‬
‫ويف زماننا هذا؛ لو نظرنا إىل الغرب‪ ،‬وإىل خريطة احلضارات اإلنسانية يف الوقت‬
‫الراهن‪ ،‬فإننا سوف نجد أن املجتمعات األكثر أخالقية باملقاييس النسبية‪ ،‬هناك‪،‬‬
‫استقرارا‪ ،‬كام يف اهلند والصني‪ ،‬ويف بعض بلدان أوروبا الشاملية‪ ،‬بينام من حتلل‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫منها من هذه الضوابط‪ ،‬يواجه خطر التحلل رغم كل تقدمه املادي‪ ،‬االقتصادي‬
‫والعلمي والسيايس‪ ،‬عىل النحو الذي اعرتف به مفكرون من وزن برتراند راسل‪،‬‬

‫‪100‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وآرثر ميللر‪ ،‬يف بريطانيا والواليات املتحدة‪ ،‬وغريها من البلدان واألمم املتقدمة يف‬
‫الغرب‪.‬‬
‫باملثل؛ فإن األمة اإلسالمية لن تستطيع النهوض‪ ،‬واستعادة موضعها الريادي‬
‫عىل رأس خريطة احلضارات اإلنسانية؛ إال إذا استعادت مكوهنا األخالقي‬
‫والقيمي الذي جاءت به رشيعة اإلسالم‪ ،‬ومهام حاولت يف جمال التنمية وصناعة‬
‫التقنية؛ فإهنا لن تنجح من دون استعادة منهاجها الرباين الذي اختارها له رب العزة‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أهمية دور المجتمعات في القضاء على الفساد‪ ..‬نظرات عمرانية‬

‫ُتعترب قضية مكافحة الفساد بمعناه املجتمعي والسيايس الواسع‪ ،‬من بني أهم‬
‫قضايا العمران؛ حيث املعادل العكيس له‪ ،‬هو اإلصالح‪ ،‬الذي هو أهم مقاصد‬
‫والر ُسل الذين بعثهم اهلل تعاىل هلداية‬
‫الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬ورسالة كل األنبياء ُّ‬
‫العاملني عرب قرون البرشية الطويلة‪.‬‬
‫درس أو ٌّيل نستفيده من خالل قراءة رسيعة يف كتاب التاريخ؛‬
‫وإذا ما كان هناك ٌ‬
‫فإنه سوف يكون اإليامن بأن قضية اإلصالح ومكافحة الفساد‪ ،‬بشتى صوره؛ إنام‬
‫فرد أو مجاعة‪ ،‬وبالتايل؛ فإهنا بحاجة إىل الكثري‬
‫هي أشق مهمة يمكن أن يضطلع هبا ٌ‬
‫من الفهم قبل العمل؛ حتى يمكننا الوصول إىل معاجلة ناجحة هلا‪.‬‬
‫أوىل األخطاء املفاهيمية املتعلقة بقضية الفساد‪ ،‬هو أن حماربته هو مهمة‬
‫احلكومات‪ ،‬وملا ركنت الشعوب هلذه القناعة اخلاطئة؛ أضحى الفساد حقيقة واقعة‬
‫يف حياهتم؛ يتعاملون معها‪ ،‬وال يدركون أهنم بذلك إنام يامرسون أسوأ ألوان اإليذاء‬
‫يف حق أنفسهم ويف حق املجتمعات التي يعيشون فيها‪.‬‬
‫ظلم أسوأ من التفريط يف احلقوق لصالح نخبة ُم ِّ‬
‫تحكمة منتفعة‪ ،‬تزعم‬ ‫فال ُيوجد ٌ‬
‫أهنا هي احلارس األمني عىل مصالح األفراد واملجتمعات‪ ،‬بينام هي متتص دماء‬
‫الغالبية الكادحة من هؤالء الناس‪.‬‬
‫ولعل هذا األمر‪ ،‬هو الذي راكم عرب التاريخ يف جمتمعاتنا العربية واإلسالمية‪،‬‬
‫التي مل تعرف مؤسسية احلكم إال يف القليل النادر‪ ،‬قضية فساد األنظمة واحلكومات؛‬

‫‪102‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حيث غياب املحاسبة‪ ،‬وعدم وجود إطار ملزم حيكم أداء املؤسسات الوظيفية‬
‫للدول واحلكومات؛ جعلها أكرب مصدر للفساد واإلفساد‪.‬‬
‫والثاين أخطر؛ حيث إن الفساد قارص عىل صاحبه؛ بينام اإلفساد يتخطاه إىل‬
‫اآلخرين‪ ،‬ويف جماالته الكربى؛ فإنه يشمل املجتمعات بالكامل‪.‬‬
‫فاملحاسبة قانون مهم لضامن صريورة العمران البرشي يف اإلطار السليم الذي‬
‫يضمن حتقيق املصلحة‪.‬‬
‫ولنتصور عىل سبيل املثال‪ ،‬أن اهلل تعاىل مل جيعل الثواب والعقاب؛ كيف كان‬
‫سوف يكون حال الدنيا؟!‪ ..‬مل تكن لتستمر أص ً‬
‫ال؛ حيث إن املحاسبة واخلوف‬
‫من العقاب هو الذي يضمن استقامة السلوك البرشي يف الغالب‪ ،‬إال يف حاالت‬
‫شديدة الندرة يكون فيها الوازع الداخيل لإلنسان باع ًثا له عىل الصالح‪.‬‬
‫بم ْن وبِ َم خلق؛ فإنه جعل ُس َّنة الثواب‬
‫ولذلك؛ فإنه عىل علمه سبحانه وتعاىل َ‬
‫للمحسن والعقاب للميسء؛ لضامن استقرار العمران البرشي يف األرض‪ ،‬إىل أن‬
‫يأذن اهلل تعاىل‪.‬‬
‫من هنا تأيت مسؤولية املجتمعات يف قضية مكافحة الفساد بشتى صوره‪،‬‬
‫وخصوصا الفساد األخالقي الذي هو أساس أي فساد آخر؛ فلو تراجعت‬
‫ً‬
‫األخالق؛ س ُيفتح الباب أمام كل صور الظلم والرسقة واجلشع واالستبداد‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من صور االنحرافات املختلفة‪.‬‬
‫درك املهم؛ فالرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يقول‪" :‬إنام ُب ِع ُ‬
‫ثت‬ ‫واإلسالم ذاته فيه هذا ا ُمل َ‬
‫ألمتم مكارم األخالق" [أخرجه البزار وصححه األلباين من حديث أيب هريرة]‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تكف املجتمعات عن حماسبة نخبها احلاكمة‪ ،‬والتأكيد عىل أن‬ ‫ولذلك؛ فإنه ملا ُ‬
‫الدولة واحلكومات واملؤسسات؛ كلها إنام هي مؤسسات وهيئات وظيفية جاءت‬
‫خلدمة الشعوب‪ ،‬وليس حلكمها واالستبداد هبا‪ ،‬وهنب ثرواهتا؛ فإن الدولة وأدواهتا‬
‫املختلفة‪ ،‬تتحول يف ظل ما هو ممنوح هلا من صالحيات وسلطات لكي تؤدي‬
‫وظيفتها‪ ،‬إىل وحش يلتهم كل خريات املجتمعات‪ ،‬وهو ما يقود إىل هالك األمم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حممد ﷺ؛ فإن اهلل تعاىل جعل ُس َّنة إهالك األمم بفساد جمتمعاهتا‪،‬‬ ‫وقبل بعثة‬
‫وليس فقط فساد نخبتها أو سادهتا‪ ،‬فعندما تفسد املجتمعات؛ ينهار العمران‪.‬‬
‫أمر واضح عند املقارنة بني قوم لوط وقوم ثمود وقوم عاد‪ ،‬وبني قوم‬‫وهو ٌ‬
‫فرعون وقت نبي اهلل موسى "عليه السالم"‪ ،‬ومن قبله قوم سيدنا إبراهيم ﷺ‪.‬‬
‫عاما داخل املجتمعات؛ فأهلكها اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ففي احلاالت األوىل؛ كان الفساد ًّ‬
‫بينام اكتفت املشيئة اإلهلية يف احلالت َْي األخر َي ْي؛ فإهالك النخب الفاسدة‪ ،‬مثل‬
‫نمرود يف جمتمع نينوى‪ ،‬وفرعون وم َلئه يف مرص‪ ،‬بينام بقيت املجتمعات لعدم‬
‫شيوع الفساد فيها‪ ،‬وعلم اهلل تعاىل أهنا كانت مغلوبة عىل أمرها أمام رموز الفساد‬
‫واالستبداد هذه‪.‬‬
‫إ ًذا؛ فإن قضية مواجهة الفساد‪ ،‬هي قصة املجتمعات باألساس‪ ،‬ألن الفاسد يف‬
‫الغالب يكون احلاكم – يف أي صورة؛ دولة أو ديكتاتور مستبد أو نخبة فاسدة –‬
‫ألنه صاحب املصلحة األوىل من الفساد‪.‬‬
‫ثمة نقطة شديدة األمهية‪ ،‬وهو أن احلاكم عندما يستبد ويفسد؛ فإنه‬
‫ولكن هنا َّ‬
‫يكون من مصلحته أن ينتقل الفساد واالستبداد إىل كل مفاصل الدولة واملجتمع‪،‬‬

‫‪104‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ألن ذلك من شأنه أن "يرشعن" استبداده‪ ،‬و" ُيط ِّبعه"‪ ،‬وهنا تتحول أزمة الفساد –‬
‫واالستبداد السيايس باملناسبة أحد صوره ونتائجه؛ وليس بعيدً ا عنه – إىل معضلة‬
‫كربى؛ ألنه وقتها سوف ينساح يف كل أرجاء املجتمع‪ ،‬ثم لن يلبث أن يتحول إىل‬
‫ثقافة عامة وأسلوب حياة‪.‬‬
‫ثم؛ فإن معاجلة الفساد املتأصل الذي يتحول إىل نمط عيش وسلوك؛ لن‬
‫ومن َّ‬
‫يكون إال من خالل ثورة ِ‬
‫تسقط منظمة الفساد القائمة‪ ،‬عىل أن تفرض هذه الثورة‬
‫والقوى التي قامت هبا‪ ،‬منظومة سياسية واجتامعية قاهرة يف سلطتها عىل املواطن‬
‫ٌ‬
‫فصل كامل بني ما يتم التأسيس له من أجيال‬ ‫واملجتمع ككل‪ ،‬بحيث يكون هناك‬
‫وأطر مؤسسية نظيفة‪ ،‬وبني القديم املتهالك الفاسد‪ ،‬حتى حيكم الصاعد النظيف‬
‫اخل ِرب؛ رشيطة أن يتم إزاحة النخب القديمة‬ ‫السليم‪ ،‬ويموت وينتهي الفاسد َ‬
‫الفاسدة بالكامل‪ ،‬وتطهري املؤسسات منها قدر املستطاع‪ ،‬بام ال يقود إىل رصاعات‬
‫جانبية تفت يف عضد اهلدف الرئييس هلذه الثورة‪.‬‬
‫وهي دورة حياة جمتمعية وسياسية‪ ،‬تتطلب عقو ًدا طويلة حتى تتحقق‪ ،‬وأصعب‬
‫مرحلة فيها هي بدايتها؛ حيث لن يكون هناك أي يشء أو عامل مساعد باستثناء‬
‫النظام اجلديد‪ ،‬وبعض القوى املجتمعية التي تدعمه‪ ،‬لكي يقوم ببذر بذرة اجلديد‬
‫الصالح‪ ،‬وتعهدها بالرعاية‪ ،‬والتي سوف تكون يف أضعف حاالهتا أمام الغول‬
‫القديم احلي‪ ،‬يف بداياهتا‪.‬‬
‫هذه هي املهمة الشاقة التي واجهت األنظمة اجلديدة التي أفرزهتا ثورات الربيع‬
‫العريب يف بعض بلدانه‪ ،‬ولعل تطورات ما بعد هذه الثورات؛ تربز كم أن املهمة‬
‫شاقة‪ ،‬وبحاجة إىل زمن!‬

‫‪105‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تجربة ابن خلدون وكيف أسس القرآن‬


‫لمدرسة التنوير العقلي في فهم العمران‬

‫من بني أهم العلوم التي شكلت السياسة يف عاملنا املعارص‪ ،‬هي علوم االجتامع‬
‫واالجتامع السيايس‪ ،‬والتي تندرج حتتها الكثري من العلوم التي صارت من أهم‬
‫أعمدة الدراسات األكاديمية‪ ،‬سواء يف اجلامعات أو مراكز التفكري يف دول العامل‬
‫املتقدمة‪ ،‬والتي أصبحت تشكل أحد أهم أدوات صناعة واختاذ القرارات يف وقتنا‬
‫الراهن‪.‬‬
‫ومن بني العلوم التي تندرج حتت هذا التصنيف‪ ،‬القانون واإلنسانيات‬
‫والعالقات الدولية عىل مستوى الفاعلني الدوليني الرسميني وغري الرسميني‪،‬‬
‫والدراسات املعنية باملجتمع املدين‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫وكام نتابع يف صريورات عاملنا املعارص‪ ،‬ويف نرشات األخبار وتقارير احلكومات‬
‫واملنظامت الدولية؛ فإن هذه العلوم تكاد تكون هي صانعة احلدث اإلنساين العام‪،‬‬
‫وربام عىل املستوى الفردي اخلاص‪ ،‬بجانب العلوم التطبيقية مثل الطب والصيدلة‬
‫والفيزياء والكيمياء التطبيقية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫كل هذا نفخر كعرب ومسلمني‪ ،‬أن أول من وضع قوانني هذه النوعية من‬
‫العلوم‪ ،‬كان أحد علامئنا العظام‪ ،‬وهو عبد الرمحن بن خلدون‪ ،‬الذي أسس لعلم‬
‫االجتامع‪ ،‬واالجتامع السيايس‪ ،‬ووضع قوانينها التي شملت الكثري من املفاهيم‬

‫‪106‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التي تندرج يف الوقت الراهن حتت بند َ‬


‫احل ْو َكمة واحلكم الرشيد‪ ،‬والتي عىل رأسها‬
‫إقامة دولة العدالة‪ ،‬التي هلا الدور األسايس يف صعود وهبوط األمم واحلضارات‪.‬‬
‫نقرأ يف الوقت الراهن الكثري من األمور حول عوامل قوة الدولة ومناعتها‬
‫الذاتية‪ ،‬وعن كيفية توظيف عنارص القوة الذاتية‪ ،‬املادية واملعنوية والبرشية‪ ،‬من‬
‫أجل صناعة أمة قوية‪ ،‬وحضارة تسود‪.‬‬
‫وعندما نقرأ كل ذلك يف حمارضات الكوليج دو فرانس عن الدولة‪ ،‬أو يف كتابات‬
‫جوستاف لوبون‪ ،‬أو يف كتب كلية القانون يف جامعة هارفارد؛ فإننا جيب أن ندرك‬
‫أن كل ذلك‪ ،‬وضع ابن خلدون – الذي حتل علينا يف هذه األيام‪ ،‬ذكرى وفاته‪،‬‬
‫يف السادس عرش من مارس من العام ‪ 1406‬ميالدية –؛ وضع أسسه وتفاصيله‪،‬‬
‫وكتبه بلسان عريب مبني‪.‬‬
‫القرآن الكرمي وحاكمية الشريعة يف أفكار ابن خلدون‪:‬‬

‫بطبيعة احلال؛ فقد ُدبِ َج ْت الكثري من الدراسات عن أفكار ابن خلدون‬


‫وخصوصا يف‬
‫ً‬ ‫واألسس الروايس التي وضعها لعلم االجتامع واالجتامع السيايس‪،‬‬
‫جمال الدولة والقانون وال ُّن ُظم‪ ،‬وحاكمية جهاز العدالة يف سالمة الدولة واملجتمع‪،‬‬
‫وعوامل صعود وهبوط احلضارات‪ ،‬ومراحلها املختلفة‪.‬‬
‫إال أن هناك الكثري من اجلوانب املخفية الكثري من غري املطروق يف سريته الذاتية‬
‫ومرياثه الكبري الذي تركه‪ ،‬والذي شمل الكثري من العلوم وجماالت املعرفة والفكر‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وعىل رأسها الرتبية‪ ،‬باإلضافة إىل إسهاماته يف جمال الفلسفة‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وربام كان أجدر يشء بأن ُيذكر يف هذا املوضع أو ً‬


‫ال‪ ،‬هو التأثريات اإلسالمية‬
‫التي راعى ابن خلدون أن تكون املرتكز األسايس يف كل إنتاجه وحراكه‪.‬‬
‫ودعم من ذلك‪ ،‬أنه كان عىل املذهب املالكي‪ ،‬الذي كان من أكثر املذاهب‬
‫اإلسالمية التزا ًما باألصول ُ‬
‫والك ِّل َّيات وفق النصوص الرشعية‪.‬‬
‫وبالتايل؛ جاءت فلسفات وأفكار ابن خلدون يف كل االجتاهات منبنية عىل‬
‫أسس رشعية متينة‪ ،‬مع إعامل العقل يف األمور التي تستوجب ذلك‪ ،‬واستجابة‬
‫ً‬
‫أيضا ألوامر قرآنية رصحية يف هذا الصدد‪.‬‬
‫فعندما نقرأ له يف الفلسفة؛ نجد أنه أكد عىل رضورة التزام الفيلسوف املسلم‬
‫باألسس الرشعية عنده تفسريه للظواهر املختلقة‪.‬‬
‫واتفق ابن خلدون يف ذلك مع فيلسوف ومفكر مسلم آخر‪ ،‬هو ابن رشد‪ ،‬يف‬
‫صدد رضورة أن يكون املفكر والفيلسوف املسلم‪ًّ ،‬‬
‫ملم بالعلوم الرشعية‪ ،‬وذلك‬
‫تفاد ًيا حلدوث اختالالت عقيدية يف النتاج الفلسفي والفكري‪ ،‬باعتبار أن العقل‬
‫اإلنساين قارص‪ ،‬وال يمكن له أن يصل إىل الكثري من احلقائق بالعلم التجريبي‬
‫فحسب‪ ،‬أو من خالل التفكري املجرد فقط‪ ،‬وإنام جيب أن تنضبط لديه بعض األمور‬
‫بضوابطها الرشعية‪.‬‬
‫ويف كتاباته وأفكاره عن الرتبية؛ نجد نفس اليشء؛ حيث أكد عىل أن أول درجة‬
‫من درجات ُس َّلم الرتبية الصحيحة الشاملة؛ تبدأ عند القرآن الكريم‪.‬‬
‫كون صناعة ابن خلدون الفكرية‪ ،‬هو العقل‪ ،‬فبالرغم من‬
‫الرافد الثاين الذي َّ‬
‫إدراكه لقصور العقل اإلنساين عن إدراك بعض األمور‪ ،‬إال أنه آمن بأن العقل‬

‫‪108‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫شديد األمهية سواء يف اإلنسانيات واالجتامع‪ ،‬أو يف العلوم الرشعية؛ حيث كانت‬
‫العبارات القرآنية واألحاديث النبوية الرشيفة التي تدعو إىل إعامل العقل يف خمتلف‬
‫الظواهر‪ ،‬واضحة أمامه‪ ،‬وكان يدرك أن االجتهاد هو رشط فهم القرآن الكريم‬
‫ومعرفة أحكامه‪ ،‬وأن ذلك لن يتم من خالل قراءة النص وحده‪.‬‬
‫علم ْي؛ العلم النقيل‪،‬‬
‫فنجده يؤكد – وهو الفقيه املالكي – أن العلم ينقسم إىل َ‬
‫ووضعه يف املرتبة األوىل‪ ،‬والعلم العقيل‪ ،‬ووضعه يف مرتبة تالية للعلم النقيل‪ ،‬الذي‬
‫هو أساسه النص بطبيعة احلال‪ ،‬وهي مرونة فكرية مل جتتمع إال لدى ندرة من العلامء‬
‫عرب التاريخ‪ ،‬ومتيز هبا ابن خلدون‪.‬‬
‫التاريخ وقراءة ابن خلدون القرآنية للعمران‪:‬‬

‫أما الرافد الثالث الذي صنع فكر ابن خلدون؛ هو التاريخ‪ ،‬وهو بدوره رافد‬
‫موجود يف القرآن الكريم‪ ،‬فمن بني أهم األبواب التي ص ِّن َف ْت فيها آيات القرآن‬
‫موضوعيا‪ ،‬هي القصص القرآين‪ ،‬والذي يشمل قصص األولني‬
‫ًّ‬ ‫الكريم‪ ،‬تصني ًفا‬
‫وقصص األنبياء‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ومن بني ما قدر اهلل تعاىل له أن يكون من رسائل القرآن الكريم األساسية من وراء‬
‫ذلك‪ ،‬هو أن تكون هذه القصص للعربة والدرس‪ ،‬وتفادي ما وقع فيه اآلخرون‬
‫ممن سبقونا من أخطاء‪ ،‬وعدم تكرار املخالفات ألوامر اهلل تعاىل‪ ،‬ورضورة تد ُّبر‬
‫ُسنَنِه؛ من أجل االبتعاد عن املهلكات‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن ابن خلدون قبل أن يكتب مقدمته الشهرية التي اعرتف العلامء‬
‫الغربيون أنفسهم أهنا أسست لعلم االجتامع‪ ،‬الذي هو أبو العلوم السياسية وعلوم‬

‫‪109‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النظم‪ ،‬والتي هي من أهم العلوم يف وقتنا الراهن؛ قبل أن يكتبها‪ ،‬ويكتب عمله‬
‫املوسوعي األشهر "ديوان املبتدأ واخلرب"؛ فإنه قرأ القرآن الكريم أوال بعناية؛‬
‫بحيث استخلص منه القوانني األولية يف جمال العمران‪ ،‬وأدرك منه أمهية قراءة‬
‫التاريخ‪ ،‬يف معرفة صريورات احلضارات اإلنسانية‪ ،‬ومن َث َّم؛ عمد إىل تطبيقها عىل‬
‫أرض الواقع من خالل تدبر تاريخ احلضارات اإلنسانية السابقة‪ ،‬واستخلص منها‬
‫القوانني العامة لصعود واهنيار احلضارات والدول‪.‬‬
‫ووصل يف جترده ومرونته الفكرية يف هذا الصدد‪ ،‬أن وصفه مفكرون غربيون‪،‬‬
‫بأنه وهو العامل الفقيه الذي انطلق من القرآن الكريم والرشيعة يف فلسفاته وأفكاره‬
‫وتربوياته؛ بأنه أول من قدم قراءة ال دينية للناريخ‪ ،‬وفق قوانني العمران املوضوعية‪.‬‬
‫وهنا ينبغي أن نشري إىل بعض معامل الفرتة التارخيية التي عاشها ابن خلدون يف‬
‫دور يف تكوينه الفكري‪.‬‬
‫املغرب العريب‪ ،‬ملعرفة بعض اخللفيات التي كان هلا ٌ‬
‫ففي الفرتة التي عاشها ابن خلدون‪ ،‬كانت منطقة شامل أفريقيا واملغرب العريب‪،‬‬
‫املوحدين‪ ،‬وهي املرينيني الذين‬
‫ِّ‬ ‫متفرقة بني ثالثة دول أو أرس‪ ،‬بعد سقوط دولة‬
‫سيطروا عىل املغرب يف الفرتة بني هناية القرن الثاين عرش امليالدي وحتى منتصف‬
‫القرن اخلامس عرش‪ ،‬وآل عبد الودود‪ ،‬وكانوا مسيطرين عىل منطقة غرب اجلزائر‪،‬‬
‫يف الفرتة من الثلث األول للقرن الثالث عرش امليالدي‪ ،‬وحتى منتصف القرن‬
‫السادس عرش‪ ،‬ثم احلفصيني يف تونس ورشق اجلزائر وبرقة التي هي رشق ليبيا‬
‫حال ًيا‪ ،‬وهؤالء حكموا بني الثلث األول للقرن الثالث عرش امليالدي كذلك‪،‬‬
‫وحتى الربع الثالث من القرن السادس عرش‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهنا تأثر ابن خلدون‪ ،‬الذي عمل قاض ًيا لدى احلفصيني قبل انتقاله إىل مرص‪،‬‬
‫بحالة النهضة الثقافية التي ميزت دولتهم‪ ،‬كام أنه استفاد من رؤيته رأي العني‬
‫للرصاع بني الدول واملاملك اإلسالمية يف تلك الفرتة‪ ،‬بحيث استطاع تكوين‬
‫فكرة عامة عن القوانني التي حتكم العالقات السياسية بني املجتمعات اإلنسانية‪،‬‬
‫وعوامل قوة وضعف الدول‪ ،‬وغري ذلك مما اتصل بعلم العمران‪.‬‬
‫‪........‬‬
‫دروس مستفادة من جتربة ابن خلدون‬
‫ٌ‬ ‫ويف األخري؛ فإنه إذا ما كانت هناك‬
‫الفكرية‪ ،‬فإنه أمهها هو أنه أثبت أن النص الرشعي ليس ِّ‬
‫معط ً‬
‫ال وليس ضد العقل‬
‫اإلنساين‪ ،‬كام يتقول البعض من خصوم األمة واحلضارة اإلسالمية‪ ،‬وأن التد ُّبر‬
‫يف القرآن الكريم‪ ،‬هو صنو التنوير والفهم الصحيح للظواهر البرشية املختلفة‪،‬‬
‫وللتاريخ‪.‬‬
‫كام أكدت جتربة ابن خلدون وأن الروافد األساسية للرشيعة اإلسالمية‪ ،‬يمكنها‬
‫أن تؤسس حضارات رواسخ‪ ،‬تغري من تاريخ اإلنسانية بالكامل‪ ،‬وتنهض بالعقل‬
‫البرشي بأكثر مما تفعله املدارس الفكرية األخرى الوضعية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ماذا يعني أن ترى العالم من خالل التصور اإلسالمي‬

‫من بني أهم القضايا التي شغلت املفكرين املسلمني يف العرص احلديث وزمننا‬
‫الردة احلضارية والتفكك – هي مسألة ماذا يعني أن يرى املسلم‪،‬‬
‫املعارص – أي فرتة َّ‬
‫فر ًدا ومجاعة وأمة‪ ،‬العامل من خالل التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه القضية ليست رض ًبا من الرتف الفكري‪ ،‬أو الرياضة‬
‫الذهنية يف مباحث الفلسفة اإلسالمية؛ حيث إهنا ترتبط بحزمة من القضايا واألمور‬
‫ذات الطابع التطبيقي والعميل‪ ،‬التي تتصل بقضية العقيدة ذاهتا‪.‬‬
‫ً‬
‫مسلم‪ ،‬وهو تساؤل‬ ‫فرتتبط هذه القضية يف صلبها بقضية‪ :‬ماذا يعني أن أكون‬
‫حقيقيا من جانب املفكرين والرتبويني املسلمني الذين طرحوه يف‬
‫ًّ‬ ‫يعكس ً‬
‫فهم‬
‫ٍ‬
‫كدين شامل وخاتم للرساالت‬ ‫أدبياهتم ملفهوم الدِّ ين‪ ،‬وبالذات الدِّ ين اإلسالمي‪،‬‬
‫اإلهلية التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل رسله هلداية البرش‪.‬‬
‫فالدِّ ين من املعروف أنه منظومة من العقائد والتعاليم التي تنظم فهم اإلنسان‬
‫لربه وحقيقته‪ ،‬وكذلك عالقة اإلنسان بربه‪ ،‬وعالقته بذاته وباآلخرين‪ ،‬مسلمني‬
‫وغري مسلمني‪ ،‬ومن خمتلف التصنيفات األخرى للمجموعات البرشية التي توجد‬
‫من حوله‪.‬‬
‫ومن بني ما يتضمنه ذلك‪ ،‬مفهوم اإلنسان لوجوده واهلدف منه‪ ،‬وبالتايل؛ فإن‬
‫احلياة وفق التصور اإلسالمي؛ تعني كيف يطبق اإلنسان تعاليم دينه‪ ،‬وكيف يعمل‬

‫‪112‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عىل تقييم أية ظاهرة‪ /‬شخص‪ /‬مجاعة‪ /‬فعل وسلوك‪ ..‬إلخ‪ ،‬من زاوية إجيايب أو‬
‫سلبي‪ ،‬حالل أم حرام؛ من زاوية التفسري اإلسالمي أو التصنيف اإلسالمي هلا‪،‬‬
‫وأحكام الرشع بشأهنا‪.‬‬
‫ثم ينتقل بعد ذلك إىل خطوة أوسع‪ ،‬وهي عامرة األرض‪ ،‬ونرش رشيعة اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬أي ما ارتضاه الشارع األعظم للبرشية من أحكام‪ ،‬وبالتايل من تصورات‬
‫لشكل احلياة يف هذا العامل‪ ،‬ويكون األمر أفضل وأكثر فاعلية بعد توفري الظروف‬
‫املناسبة‪ ،‬مثل وجود حكومة إسالمية‪ ،‬تعمل عىل نرش تعاليم اإلسالم يف كل أنحاء‬
‫توس ًعا يف أثره‪.‬‬
‫العامل‪ ،‬بأسلوب أكثر مهنية‪ ،‬وأكثر ُّ‬
‫وبالتايل؛ فإن األمر يف هذا اإلطار‪ ،‬هو من صميم مهام املسلم‪ ،‬ولن يدرك هذه‬
‫املهام إال من خالل فهم أمهية أن يرى العامل من خالل التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫ومن بني أهم من اهتموا بذلك‪ ،‬كان الشهيد سيد قطب‪ ،‬ويف الغالب العام‪،‬‬
‫كانت كتاباته يف هذا املضامر‪ ،‬فيام خيص العقيدة‪ ،‬وسبقه عبد الرمحن الكواكبي‪،‬‬
‫الذي مال إىل تصنيف مفهوم التصور اإلسالمي يف املجاالت السياسية‪ ،‬ثم تاله‬
‫اإلمام حممد الغزايل‪ ،‬ولكنه نحا أكثر إىل املنحى الرتبوي والفكري العقيل‪ ،‬مستندً ا‬
‫إىل القرآن الكريم باألساس‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن الفالسفة واملفكرين والرتبويني املسلمني الذين قدموا‬
‫تصوراهتم حول هذا األمر؛ استندوا يف أفكارهم إىل القرآن الكريم باعتباره املركزية‬
‫األوىل للمسلم يف هذا الصدد‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬يمكن اعتبارها أول إطار تطبيقي ملفهوم التصور‬
‫أما ُّ‬
‫اإلسالمي للعامل وفق ما جاء يف القرآن الكريم‪ ،‬وبالتايل؛ فإن أمهية دراستها تكمن‬
‫تعب عن املامرسة النبوية هلذا التصور‪ ،‬وبالتايل؛ يمكن القول إنه التصور‬
‫يف أهنا ِّ‬
‫األكثر نقا ًء‪ ،‬واألكثر صحة للتصور اإلسالمي للعامل من حولنا‪ ،‬وماهية واجبات‬
‫املسلم يف هذه احلياة‪.‬‬
‫ولعل أبرز النامذج أمامنا يف هذا األمر‪ ،‬وتؤكد هذه األفكار‪ ،‬كتاب "خصائص‬
‫التصور اإلسالمي ومقوماته"‪ ،‬لألستاذ سيد قطب‪ ،‬فالكتاب ُمص َّنف عند الكثري‬
‫من املفكرين عىل أنه من كتب التوحيد؛ حيث يقدم فيه التصور اإلسالمى هلل عز‬
‫وجل‪ ،‬ثم الوجود والكون واحلياة واإلنسان‪ ،‬وكذلك مكانته يف الكون‪ ،‬ومهامه‬
‫فيه‪ ،‬استنا ًدا إىل النصوص القرآنية‪.‬‬
‫ويف أمهية هذا األمر؛ يقول إن حتديد خصائص التصور اإلسالمي أمر رضوري‬
‫"ألنه البد للمسلم من تفسري شامل للوجود‪ ،‬يتعامل عىل أساسه مع هذا الوجود‪..‬‬
‫البد من تفسري يقرب إلدراكه طبيعة احلقائق الكربى التى يتعامل معها‪ ،‬وطبيعة‬
‫العالقات واالرتباطات بني هذه احلقائق‪ :‬حقيقة األلوهية‪ ،‬وحقيقة العبودية‬
‫(وهذه تشتمل عىل حقيقة الكون‪ ..‬وحقيقة احلياة‪ ،‬وحقيقة اإلنسان)‪ ..‬وما بينها‬
‫مجيعا" من تعامل وارتباط"‪.‬‬
‫ويتصل بذلك‪ ،‬تصور اإلنسان للقيم الكربى يف حياته‪ ،‬مثل احلرية والعدالة‬
‫واملساواة؛ فهذه القيم الثالث املركزية‪ ،‬وكذلك قضية األخالق‪ُ ،‬تعترب األكمل‬

‫‪114‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بني النظريات واألديان األخرى‪ ،‬وكذلك خمتلفة متا ًما يف مكوهنا عن نظرة هذه‬
‫النظريات واألديان األخرى‪.‬‬
‫فاحلرية يف اإلسالم منضبطة بضوابط الرشع‪ ،‬فيام يف الغرب هي مطلقة‪ ،‬والقيد‬
‫الوحيد عليها‪ ،‬هو حريات اآلخرين‪ ،‬وهو ما يقود إىل مفاسد عدة‪ ،‬من أسوأها‬
‫الشذوذ والزنا واألمراض اجلنسية والنفسية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫كام يشمل ذلك تصور اإلنسان للكون من حوله‪ ،‬بصورة تنبني عىل العقل‬
‫والنقل يف ٍ‬
‫آن‪.‬‬
‫ويف هذا؛ فإننا نجد أن منهج القرآن الكريم يف هذا الصدد‪ ،‬ينسجم بشكل كامل‬
‫مع الفطرة التي خلقها اهلل تعاىل يف خماطبة العقل‪ ،‬وهو ما جاء يف القرآن الكريم‬
‫يف أكثر من موضع‪ ،‬خاطب فيها العقل اإلنساين‪ ،‬للتدليل عىل وجوده وقدراته‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ففي ُسورة "الواقعة"‪ ،‬نجد أن اهلل تعاىل يستخدم املنهج العقيل يف إقناع غري‬
‫املسلمني لكي يوقنوا بحقيقة اإلله الواحد‪ ،‬خالق هذا الكون ومدبره‪ ،‬وحده ال‬
‫رشيك له؛ فيقول تعاىل‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥ ﮦ‬
‫ﮧﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢ ﯣﯤﯥ ﯦ‬
‫ﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﴾‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تصورا شام ً‬
‫ال حول اهلل عز‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫حافل باآليات الكريمة التي تقدم‬ ‫والقرآن الكريم‬
‫وجل وصفاته وطالقة قدرته‪ ،‬من خالل منهجية النظر العقيل يف اخللق‪ ،‬سواء خلق‬
‫اإلنسان نفسه‪ ،‬أو الكون من حوله‪.‬‬
‫و ُتعترب الرتبية هي األداة األوىل لغرس هذه األفكار يف نفس املسلم‪ ،‬وهي األداة‬
‫التي جلأ إليها النبي الكريم ﷺ يف سنوات البعثة األوىل‪ ،‬وهي املرحلة التي قادت‬
‫إىل تنشئة جيل فتح ُ‬
‫اهلل تعاىل عليه العامل القديم كله يف أقل من ثالثة عقود‪ ،‬انطال ًقا‬
‫من ال يشء كانوه قبل اإلسالم‪ ،‬وهو ما يعطينا ملحة عن األمهية الكربى هلذا كله‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املهمة – الرتبية عىل التصور اإلسالمي واملفاهيم‬
‫اإلسالمية – من الصعوبة بمكان يف الوقت الراهن؛ أي كيف يمكن تنشئة الفرد‬
‫املسلم واجليل املسلم‪ ،‬عىل أساس أن ينظر إىل كل يشء وفق هذا التصور اإلسالمي‪.‬‬
‫ال ظروف سياسية تتعلق باألنظمة املستبدة احلاكمة‪ ،‬والتي تتعامل مع‬ ‫فهناك أو ً‬
‫كل ما هو إسالمي عىل أنه مهدِّ د ِ‬
‫خطر هلا‪ ،‬وبالتايل؛ يتم القضاء عليه‪.‬‬
‫وهذه التنشئة لن تتم من دون وسائل الرتبية‪ ،‬وهي من أكثر األمور استهدا ًفا من‬
‫جانب األنظمة احلاكمة ذات اهلوية العلامنية‪ ،‬واملدعومة من قوى غربية تنتمي إىل‬
‫تناقضا كام ً‬
‫ال مع التصور اإلسالمي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حضارة تتناقض يف تصوراهتا عن هذا العامل‪،‬‬
‫وبالتايل؛ فإهنا تتفق مع األنظمة احلاكمة يف معاداة التيارات واحلركات اإلسالمية‪.‬‬
‫عىل املستوى االجتامعي والثقايف؛ فإن الفرتة الطويلة التي قضتها األمة حتت‬
‫ِ‬
‫املستعمر ثم األنظمة احلالية؛ أفسدت الكثري من فطرة األجيال الناشئة‪،‬‬ ‫حكم‬

‫‪116‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وأبعدهتا – يف ظل طبيعة املناهج التعليمية وما تقدمه الوسائط اإلعالمية والثقافية‬


‫اإلسالمي ْي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫من حوهلم – عن هويتهم وانتامئهم‬
‫وبالتايل؛ فإن هذا األمر ُيعترب من أبرز وأثقل املهام امللقاة عىل الطليعة املسلمة‬
‫املثقفة‪ ،‬سواء أكانوا دعاة أو تربويني أو غري ذلك‪ ،‬عىل أن يبدأ األمر من مناطه‬
‫األسايس‪ .‬العقل والروح‪ ،‬ومن دوهنام ال يكون اإلنسان صحيح اإلنسانية!‬

‫‪117‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫السنن االجتماعية في اإلسالم‪..‬‬


‫ُّ‬
‫ميزان العدل وضمانة الستقرار المجتمعات‬

‫من بني أهم األمور التي جيب عىل العاملني يف الفكر اإلسالمي‪ ،‬يف جانبه‬
‫التطبيقي‪ ،‬والباحثني يف حقل العلوم السياسية واالجتامعية‪ ،‬وفق الرؤية اإلسالمية‪،‬‬
‫يف هذه املرحلة الدقيقة التي يمر هبا املرشوع النهضوي اإلسالمي‪ ،‬أن يعملوا عىل‬
‫توضيح اجلوانب العمرانية‪ ،‬السياسية واالجتامعية‪ ،‬بقوانينها التي أتى هبا اإلسالم‪،‬‬
‫وكيف هي ميزان العدل والضامنة األساسية الستقرار املجتمعات‪.‬‬
‫وهذه ليست صورة أو قناعات تنبع من حتيز عقيدي أو فكري‪ ،‬العتبارات‬
‫إنتامئنا اإلسالمي‪ ،‬وإنام هي حقائق أثبتها التاريخ‪ ،‬ورسختها دولة اخلالفة عرب‬
‫قرون طويلة‪ ،‬ساد فيها العدل والسالم ربوع املرشق العريب اإلسالمي‪ ،‬والعامل‬
‫القديم؛ مل يعرف فيها العامل‪ ،‬حرو ًبا طائفية أو ٍ‬
‫فتن مذهبية‪ ،‬وكان االستقرار والسالم‬
‫نموذجا أمام العامل كله‪ ،‬وما‬
‫ً‬ ‫املجتمع َي ْي يف ظل دولة العدل التي أرساها اإلسالم‪،‬‬
‫كانت الفوىض لتحدث؛ إال يف الفرتات التي كانت تضعف فيها دولة اخلالفة‪ ،‬أو‬
‫ال يتم تطبيق رشيعة اإلسالم كام هي يف صورهتا السليمة النقية‪.‬‬
‫مست ُصلب القناعات‬
‫وتأيت أمهية التأكيد عىل مثل هذه املعاين يف ظل تطورات َّ‬
‫العقيدية لدى الكثري من املسلمني‪ ،‬مع تشويه األساس السيايس واملجتمعي‬
‫للنموذج اإلسالمي يف احلكم باملعنى الواسع‪ ،‬يف ظل دخول رصاع احلق والباطل‬
‫يف العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬إىل مرحلة جديدة بعد الربيع العريب‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كان الربيع العريب فرصة مهمة لتقديم النموذج احلركي واحلقيقي لإلسالم عندما‬
‫حيكم‪ ،‬وكيف أنه سوف يقيم دولة العدل‪ ،‬ويكافح الفساد‪ ،‬ويريس االستقرار‪،‬‬
‫َّ‬
‫وجل‪ ،‬هو‬ ‫عز‬
‫وأن النموذج اإلسالمي يف احلكم‪ ،‬كام أنزل اهلل تعاىل‪ ،‬وبام أنزله َّ‬
‫األكثر قدرة عىل التعامل مع املستجدات‪ ،‬وقيادة املجتمعات التي حيكمها إىل اخلري‬
‫والسعادة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫هذه األمور بطبيعة احلال‪ ،‬كافح خصوم الدين والدعوة طيلة قرون طويلة من أجل‬
‫ٍ‬
‫صورة سلبية‬ ‫التشويش عليها وإخفائها‪ ،‬وإظهار النموذج اإلسالمي يف احلكم‪ ،‬يف‬
‫مغايرة‪ ،‬من أنه يعني حكم املستبد غري العادل‪ ،‬وأن دولة الرشيعة دولة ظلم وظالم‪.‬‬
‫أتى املرشوع الصحوي اإلسالمي‪ ،‬بعد الربيع العريب بواقع مغاير‪ ،‬وكاد أن‬
‫هيدم الكثري من السياسات الرواسخ الروايس لقوى الفساد واالستبداد الداخلية‪،‬‬
‫بمنظوماهتا السياسية واالجتامعية‪ ،‬وقوى االستكبار العاملي التي تتعاون معها‬
‫وحتميها‪ ،‬وتتبادل معها املصلحة‪ ،‬وهو ما كان ينبغي أن يتم التصدي إليه‪ ،‬ولو‬
‫بلد عريب شهد ثورات أطاحت‬ ‫ال اآلن يف أكثر من ٍ‬
‫بالقوة املسلحة‪ ،‬كام يتم فع ً‬
‫برؤوس أنظمة‪ ،‬وإن مل تقتلع األنظمة نفسها‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ أتت احلملة املضادة للمرشوع اإلسالمي‪ ،‬لتمس ثوابت الرشيعة‬
‫اإلسالمية ذاهتا‪ ،‬ويف خمتلف املجاالت؛ ما هو أخالقي وقيمي ومعنوي بشكل عام‪،‬‬
‫وما هو تطبيقي وعميل‪ ،‬كام يف جزئية احلكم واالستقرار املجتمعي‪ ،‬وذلك كله من‬
‫أجل انتزاع قضية "النموذجية" من املرشوع الصحوي اإلسالمي‪ ،‬ونزع اجلاذبية‬
‫اجلامهريية عنه‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهنا تأيت أمهية التأكيد عىل املحتوى القيمي والتطبقي يف منظومة احلكم والسنن‬
‫االجتامعية يف اإلسالم‪.‬‬
‫حيتوي اإلسالم عىل جمموعة من املنظومات التي تضمن ضبط األمور بضوابطها‬
‫التي قننا رب العزة سبحانه يف خلقه‪ ،‬بام يف ذلك ضبط عملية الترشيع وإنزال احلكم‬
‫الرشعي اإلهلي ذاته‪ ،‬عىل أرض الواقع‪.‬‬
‫أي أن الضبط ورصامته يف اإلسالم شملت حتى كيفية تطبيق رشيعة اهلل‬
‫سبحانه‪ ،‬ومنهاجه‪ ،‬وهو ما خي ِرج نظام حكم ينشأ من هذه الطبيعة الضابطة‬
‫الصارمة يف ضبطها من أي احتامل للذاتية والظلم‪ ،‬واإلسالم غري مسئول بطبيعة‬
‫احلال عن سوء التطبيق أو اخلروج عن قواعده‪ ،‬والقول – من جانب البعض – بأن‬
‫هذا اخلروج إنام هو من صميم اإلسالم‪ ،‬ولكن ذلك واجب املفكرين والساسة‬
‫والرتبويني أن يوضحوا ذلك‪.‬‬
‫فهناك العديد من القواعد الفقهية التي تضبط عمل الفقيه‪ ،‬مثل "ال رضر وال‬
‫رضار"‪ ،‬وفوقها وأعىل منها‪ ،‬القواعد األصولية‪ ،‬والتي تعني يف املفهوم الرشعي‪،‬‬
‫املنظومات والقواعد التي يضعها األصويل‪ ،‬وتنظم عمل الفقيه‪ ،‬مثل "األمر يفيد‬
‫الوجوب"‪ ،‬و"النهي يفيد التحريم"‪ ،‬وكلها أمور تضمن ضبط الفتوى وإصدار‬
‫عرض ويستَجدُّ من أمور عىل املجتمع واألمة؛ فال‬ ‫احلكم الرشعي السليم فيام ُي َ‬
‫ينحرف‪ ،‬وال يغ ِّلب مصلحة أو أهواء‬
‫وما يضبط عمل الفقيه‪ ،‬يضبط عمل القايض‪ ،‬والقضاء – مثله مثل الرشطة وغريه‬
‫من مؤسسات إنفاذ القانون وحفظه – له وظيفة جمتمعية شديدة األمهية؛ فهو الذي‬

‫‪120‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يضمن االستقرار املجتمعي‪ ،‬ما ساد العدل فيه‪ ،‬أما لو انحرف القايض والرشطي‬
‫– والتي يف جانب من أدوارها كام القضاء‪ ،‬ضامن االستقرار وإنفاذ القانون‪ ،‬بجانب‬
‫حفظ األمن – فإن الناس سوف تفقد الثقة يف مؤسسات العدل وأحكامها‪ ،‬ومن‬
‫َث َّم؛ تلجأ إىل وسائل أخرى للحصول عىل حقوقها‪ ،‬وهو ما يعني الفوىض‪.‬‬
‫والعدالة التي هي صنو االستقرار‪ ،‬هي القيمة العظمى يف اإلسالم‪ ،‬وتنضبط يف‬
‫أعىل الس َّلم القيمي هلذا الدين احلنيف‪ ،‬تليها املساواة‪ ،‬ثم احلرية‪ ،‬وكلها منضبطة‬
‫بضوابط الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬
‫فنجد يف القرآن الكريم ﴿ال تذر وازر ُة وزر أخرى﴾‪ ،‬بنصها ومعناها يف مخسة‬
‫مواضع‪ ،‬ويف ُسورة "املائدة"‪ ،‬يقول رب العزة سبحانه‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﴾‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬يف سنن اإلسالم املجتمعية‪ ،‬والتي تسبغ بطبيعة احلال عىل قواعد احلكم‬
‫والنظام السيايس يف دولة اإلسالم‪ ،‬نجد قمة العدل‪ ،‬وقمة الضبط املجتمعي‪ ،‬وقمة‬
‫النظام‪ ،‬فال جمال لطغيان الذاتية واملصلحية عىل وظيفة العدل‪ ،‬وال عىل سياسات‬
‫املؤسسات‪ ،‬وال عىل سلوك األفراد‪ ،‬ولو حدث ذلك؛ تكون دولة الرشيعة مسئولة‬
‫عن تصويبه‪.‬‬
‫ونختم ٍ‬
‫بعود عىل بدء؛ فنؤكد عىل أن واجب الوقت‪ ،‬هو التعرف إىل ُسنن اهلل عز وجل‬
‫وخصوصا ما يرتبط بواجبات املرحلة فيام يتعلق بإصالح وتوجيه املجتمعات‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف خلقه‪،‬‬

‫‪121‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وذلك لن يتم إال من خالل املعرفة العقلية وقراءة التاريخ قراءة جيدة‪ ،‬وهي‬
‫ُس َّنة قرآنية ال ُت َ‬
‫دحض‪ ..‬يقول سبحانه‪ ﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫"الروم"]‪.‬‬
‫ﯓ﴾[سورة ُّ‬
‫ُ‬ ‫ﮱ‬
‫حرفه‬
‫هذا هو اإلسالم كام أراده اهلل تعاىل‪ ،‬وكام وضع رشيعته‪ ،‬وليس كام َّ‬
‫والش َيع؛ ً‬
‫قديم وحدي ًثا!‬ ‫اآلخرون من أنصار الفرق ِّ‬

‫‪122‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلنسان ومكانته في مقاصد الشريعة اإلسالمية‪..‬‬


‫أولوية مؤجلة في قضايانا!‬

‫َ‬
‫اإلنسان من أجل القيام بمنظومة هي األهم واألقدس‪ ،‬بل إهنا‬ ‫خلق ُ‬
‫اهلل تعاىل‬
‫هي أساس خلق اهلل تعاىل للدنيا والكون‪ ،‬وهي منظومة إقامة عقيدة التوحيد‪،‬‬
‫وعبادة اهلل تعاىل يف األرض‪ ،‬وتقديسه‪ ،‬وإعامر األرض‪.‬‬
‫ميز اهلل تعاىل اإلنسان‬
‫ومن أجل إعانة اإلنسان عىل أداء هذه التكاليف العظيمة؛ َّ‬
‫بالعديد من األمور واملزايا التي مل َ‬
‫حيظ هبا خملوق آخر‪ ،‬وأمهها العقل واحلرية‪ ،‬ومها‬
‫مناطا التكليف؛ فال تكاليف عىل غري العاقل‪ ،‬فيام ينتقص غياب األهلية‪ ،‬من بعض‬
‫التكاليف التي فرضها اهلل تعاىل عىل اإلنسان‪.‬‬
‫قادرا عىل أداء التكاليف‪ ،‬وهو من‬
‫فمن دون العقل واحلرية؛ ال يكون اإلنسان ً‬
‫مظاهر عدل ورمحة اهلل تعاىل‪ ،‬كذلك‪ ،‬وألجل أن يكون احلساب اإلهلي عاد ً‬
‫ال يف‬
‫سخر ُ‬
‫اهلل تعاىل لإلنسان كل ما يف هذا‬ ‫الدنيا واآلخرة؛ فإنه نظري هذا التكليف؛ َّ‬
‫الكون‪ ،‬من أجل أن يعينه ذلك عىل احلياة واالستمرار فيها إىل أن يأذن اهلل تعاىل‬
‫بإهناء احلياة الدنيا‪.‬‬
‫واألمر قريب يف هذا‪ ،‬وهلل املثل األعىل‪ ،‬من املبدأ اإلداري املعروف‪ ،‬الذي يقول‬
‫إنه ال تكليف من دون مسؤولية‪ ،‬وال مسؤولية من دون صالحيات‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫لذلك أعطى اهلل تعاىل‪ ،‬اإلنسان ا ُمل َكن الالزمة من أجل احلفاظ عىل استمرارية‬
‫حياته‪ ،‬بقدر اهلل تعاىل‪ ،‬الذي قدَّ ره له‪ ،‬يف هذه احلياة الدنيا‪ ،‬ووفق قوانني العمران‬
‫املعروفة‪.‬‬
‫وهلذه األمهية؛ فإن اهلل عز وجل‪ ،‬وضع مقاصد الرشيعة أو املقاصد الرشعية‪،‬‬
‫والتي تعني يف علم أصول الفقه‪ ،‬ما قصده الشارع األعظم (أو ا ُمل ِّ‬
‫رشع األعظم‪،‬‬
‫وهو اهلل سبحانه وتعاىل) من الرضوريات واحلاجيات والتحسينات‪.‬‬
‫وهذه املقاصد تنظم حياة اإلنسان وعالقاته ومصاحله‪ ،‬يف إطار ثالث دوائر؛‬
‫األوىل‪ ،‬هي دائرة اهلل عز وجل‪ ،‬والثانية‪ ،‬هي دائرة اإلنسان ذاته‪ ،‬والثالثة‪ ،‬هي‬
‫دائرة املخلوقات األخرى‪ ،‬سواء البرش اآلخرين‪ ،‬أو حتى سلوكه إزاء احليوانات‬
‫واجلامدات‪ ،‬بل وحتى اجلان؛ حيث نظمت الرشيعة اإلسالمية هذا األمر كذلك‪.‬‬
‫مقصود‬
‫ٌ‬ ‫وهذه املقاصد‪ ،‬مخس‪ ،‬وهي هبذا الرتتيب الذي يرى مجهور العلامء أنه‬
‫يف نقطة األولويات‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬وحفظ النفس‪ ،‬وحفظ العقل‪ ،‬وحفظ النسل‪،‬‬
‫وحفظ املال‪.‬‬
‫هذه اخلمس مقاصد؛ ُص ْل َبها اإلنسان‪ .‬اهلل سبحانه وتعاىل ذاته‪ .‬الذي هو ر ُّبنا‬
‫بند واحد‪ ،‬وهو حفظ‬ ‫اليل خلقنا‪ ،‬وخلقنا ألجل أن نعبده؛ وضع حقوقه املبارشة يف ٍ‬
‫الدين‪ .‬واألربع الباقية ختص شؤون اإلنسان‪.‬‬
‫وحتى بند حفظ الدين؛ فصلبه اإلنسان‪ .‬فاإلنسان هو الوعاء الذي سوف‬
‫نحفظ فيه دين اهلل عز وجل‪ ،‬وهو الذي سوف يقيم هذا الدين من خالل العقيدة‬

‫‪124‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والشعائر واملعامالت‪ ،‬وهي الدوائر الثالث األساسية التي تضمنتها أحكام‬


‫الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬
‫بل إنه‪ ،‬ويف نقطة حفظ الدين؛ قدَّ م اهلل تعاىل ‪ -‬بالنص القرآين وصحيح احلديث‬
‫النبوي‪ ،‬حفظ النفس وحرمتها‪ ،‬عىل حفظ الدين ظاهر ًّيا؛ حيث أباح اإلسالم ‪-‬‬
‫الذي هو دين اهلل تعاىل‪ ،‬وأحكامه هي رشيعته عز وجل ‪ -‬لإلنسان املسلم أن يظ ِهر‬
‫الكفر‪ ،‬لو أن ذلك سوف يقيه األذى أو القتل‪.‬‬
‫ونموذج الصحايب اجلليل‪َّ ،‬‬
‫عمر بن يارس (ريض اهلل عنهام) معروف‪ ،‬عندما قال‬
‫كلمة الكفر حتت وطأة التعذيب‪ ،‬وطمأنه الرسول الكريم ﷺ عىل إسالمه‪ ،‬ويف‬
‫[سورة "ال َّنحل" ‪-‬‬
‫القرآن الكريم‪﴿ :‬ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ ُ‬
‫من اآلية ‪.]106‬‬
‫ويف العبادات‪ ،‬التي هي املظهر الرئييس لعبودية اإلنسان هلل عز وجل وتوحيده‬
‫له؛ أسقط اهلل تعاىل جز ًءا من الصالة يف السفر ويف حاالت اخلوف‪ ،‬ويف احلرب‪ ،‬ويف‬
‫املرض‪ ،‬وكذلك يف الصوم‪ً ،‬‬
‫حفظا حلياة اإلنسان‪ ،‬ومحاي ًة لصحة بدنه ونفسه وعقله‪.‬‬
‫ومنطق الدين القويم يف ذلك األمر‪ ،‬بسيط جدًّ ا‪ .‬فلو قدمنا حفظ الدين بشكل‬
‫فيه مجود‪ ،‬عىل حياة اإلنسان‪ ،‬ومات هذا اإلنسان؛ سوف يفنى الوعاء الذي حيفظ‬
‫هذا الدين‪.‬‬
‫وحتى غري املسلم؛ فإن قتله بغري حق؛ فيه إفساد للدين؛ ألن أي إنسان‪ ،‬هو‬
‫ساحة حمتملة للدعوة‪ ،‬وأي غري مسلم؛ هو مسلم حمتمل؛ فأوىل من قتله ملجرد أنه‬

‫‪125‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وفقهيا اآلن؛ أن تسعى إىل‬


‫ًّ‬ ‫غري مسلم‪ ،‬كام تفعل بعض اجلامعات املنحرفة فكر ًّيا‬
‫دعوته إىل اإلسالم‪ ،‬فلربام كسب اإلسالم فر ًدا جديدً ا يعزز أمة حممد ﷺ‪.‬‬
‫هذا يف مقصد حفظ الدين‪ ،‬ويف غري ذلك؛ فإن مقاصد الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وكثري من أحكامها؛ كانت ألجل اإلنسان؛ حفظ حياة اإلنسان‪ِ ،‬‬
‫وع ْرض اإلنسان‪،‬‬
‫ومال اإلنسان‪ ،‬ونسل اإلنسان‪.‬‬
‫ً‬
‫وحفظا حلياة آخرين قد يقتلهم هذا القاتل‪،‬‬ ‫فقتل القاتل؛ يكون ً‬
‫أخذا بدم امليت‪،‬‬
‫وقطع يد السارق؛ حلفظ مال اإلنسان وحقوقه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن اإلنسان يشء ٍ‬
‫غال وثمني جدًّ ا عند اهلل تعاىل‪ ،‬وحقن دمائه وحفظ‬
‫حياته‪ ،‬هو املقصود الثاين من مقاصد الرشيعة مبارش ًة‪ ،‬هذا الكالم ال يوجد فيه أي‬
‫جمال للتأويل‪ ،‬أو وضع استثناءات له من أي ُمدَّ ٍع‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬يمكن ببساطة اجلزم بأن هناك بالفعل انحرافات لدى مجاعة‬
‫املسلمني‪ ،‬وبالذات الطليعة منها يف احلركة اإلسالمية‪ ،‬واحلكومات‪ ،‬وهي كذلك‬
‫املفرتض أهنا طليعة بشكل أو بآخر‪ ،‬لو أخذت البلدان اإلسالمية بالشورى التي‬
‫وضعها اإلسالم ألخذ القرارات اخلاصة بجامعة املسلمني‪ ،‬يف خاصة وعموم‬
‫أمرهم‪ ،‬ومن أهم جماالت ذلك‪ ،‬اختيار احلاكم‪ ،‬كام فعل اخللفاء الراشدين‪.‬‬
‫وطبعا يف احلروب احلالية‪ ،‬يف األمة؛ سوف جيد أن‬
‫ً‬ ‫فاملتأمل يف قضايا وأزمات‪،‬‬
‫اإلنسان هو آخر ما يفكر فيه اجلميع‪ ،‬وهو خطأ أولويات بالتأكيد‪ ،‬فإذا ما كانت‬
‫الرشيعة التي جتسد حكمة اخلالق عز وجل‪ ،‬وإرادته فينا‪ ،‬ويف الكون كله؛ قد‬

‫‪126‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫َّ‬
‫فضلت اإلنسان‪ ،‬وأعطته األولوية؛ فأوىل بحكوماتنا‪ ،‬وبقادة احلركة اإلسالمية‬
‫الذين يقولون إهنم يعملون عىل إعادة متكني الدين بني ظهراين األمة؛ أن يتبعوا‬
‫أحسن ما أنزل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ولكننا نرى أن أول ما يتم تدمريه يف احلروب واألزمات‪ ،‬هو بنيان اهلل تعاىل يف‬
‫أرضه‪ ،‬وهو اإلنسان‪ ،‬كام يف احلديث النبوي الرشيف‪َّ :‬‬
‫"إن هذا اإلنسان بنيان اهلل‬
‫ملعون من هدم بنيانه"‪ ،‬وبالرغم من أن علامء احلديث‪ ،‬مثل الزيلعي يف "ختريج‬
‫الكشاف"‪ ،‬قالوا بأنه غريب‪ ،‬أو مل يقفوا له عىل طريق‪ ،‬مثلام قال املناوي يف "التيسري‬
‫برشح اجلامع الصغري"؛ إال أنه تبقى للكلامت دالالهتا‪ ،‬التي تتوافق مع مقاصد‬
‫الرشيعة‪.‬‬
‫ولقد وضع العلامء ضمن معايري اعتامد األحاديث الغريبة أو املنفردة اإلسناد‪ ،‬من‬
‫عدمه؛ معيار أن تتوافق أن تتنافر مع النص القرآين‪ ،‬أو باقي قول وفعل النبيﷺ‪.‬‬
‫فعىل مستوى القضية الفلسطينية؛ نرى يف سوريا؛ خراب العمران قد حلق‬
‫بمخيامت اللجوء الفلسطينية التي كانت تؤوي ما يقرب من نصف مليون‬
‫شخص‪ُ ،‬ج ُّلهم من املسلمني ‪ -‬ولو أن هذا األمر ال فارق فيه بني مسلم وغري‬
‫مسلم ‪ -‬تم ترشيدهم وقتل اآلالف منهم‪ ،‬بام يف ذلك هدم املساجد التي كانوا‬
‫يقيمون فيها صالة اجلامعة‪ ،‬ومل حترك القيادات الفلسطينية ساكنًا‪ ،‬سواء يف‬
‫السلطة ومنظمة التحرير‪ ،‬أو يف الفصائل‪ ،‬حلساب سياسات ومصالح ضيقة‪،‬‬
‫بينام اجلميع يقول إن كل ما يقوم به ويفعله من "جهاد" و"نضاالت" هو لصالح‬
‫اإلنسان الفلسطيني‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذا نفاق واضح؛ حيث ُيقتل اإلنسان الفلسطيني برصاص فلسطيني يف‬
‫خميامت اللجوء الفلسطيني‪ ،‬لصالح الفصائلية وليس العكس‪ ،‬وخميم عني احللوة‬
‫وأحداثه احلالية أبلغ شاهد عىل ذلك‪.‬‬
‫أليس األسريات الفلسطينيات بحاجة إىل هبة مثل هبة األقىص األخرية؟!‪ ..‬عىل‬
‫أمهية املكان واحلرم؛ فإن أعراضنا التي ُت َ‬
‫نتهك يف سجون االحتالل‪ ،‬ويف معتقالت‬
‫األنظمة الظاملة؛ يف ذات األمهية‪ ،‬بل أكرب‪.‬‬
‫فالرسول الكريم ﷺ يقول‪" :‬لزوال الدنيا أهون عىل اهلل عز وجل من سفك دم‬
‫حجرا أهون من قتل مسلم"‬
‫ً‬ ‫حجرا‬
‫ً‬ ‫وروي بلفظ‪" :‬هلدم الكعبة‬
‫مسلم بغري حق"‪ُ ،‬‬
‫[ذكره البيهقي يف "شعب اإليامن"‪ ،‬ومعناه عند الطرباين]‪.‬‬
‫االجتاه ْي املتصارعني "هيمهم‬
‫َ‬ ‫يف احلرب يف اليمن؛ كل القيادات اليمنية يف كال‬
‫مصالح وأمن الشعب اليمني"‪ ،‬بينام اإلنسان اليمني هو الضحية‪ ،‬وحتى لو صدق‬
‫البعض يف شعاراته القيمية التي يرفعها؛ يبقى أن ذلك خطأ كبري؛ حيث اإلنسان‬
‫الذي يموت بالكولريا أو اجلوع أو املياه امللوثة؛ أوىل من أية شعارات عن "الوطن"!‬
‫فام الوطن غري اإلنسان واألرض؟!‪ ..‬بينام يف سوريا واليمن وغريها من بلدان‬
‫عاملنا العريب واإلسالمي؛ ال يشء حيدث سوى قتل وترشيد اإلنسان‪ ،‬وحرق‬
‫وتفتيت األرض‪ ،‬وهدم العمران الذي يضمن لإلنسان كرامته التي جعلها اهلل‬
‫تعاىل مع العقل واحلرية‪ ،‬صنو كلمة "اإلنسانية"‪ ،‬ومن مكوناهتا األصيلة!‬
‫إننا بحاجة إىل إعادة ترتيب األولويات؛ بحيث يصبح اإلنسان هو اهلدف‬
‫واملستهدف األول‪ ،‬اتسا ًقا مع الرشيعة التي نقول إننا مؤمنون هبا‪ ،‬ونسعى إىل متكينها!‬

‫‪128‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الكفاءات والحكم الرشيد في التربية النبوية‬


‫ودولة عمر‪ ..‬أصول نفتقدها!‬

‫اخلطاب "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬واحدة من أهم النامذج‬ ‫ُتعترب دولة الفاروق عمر بن َّ‬
‫عرض عىل‬ ‫املعيارية التي يقيس عليها املسلمون الكثري من األمور والقضايا التي ُت َ‬
‫أمورا مستحدثة‬
‫األمة يف عرصنا احلايل‪ ،‬بام يف ذلك قضايا اإلدارة والسياسة‪ ،‬وحتى ً‬
‫مثل املوارد البرشية‪ ،‬ومعايري االختيار السليمة‪ ،‬يف خمتلف املجاالت‪ ،‬والسيام‬
‫يف األمور ذات األمهية‪ ،‬مثل املناصب اإلدارية والسياسية الكربى‪ ،‬واملناصب‬
‫العسكرية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ولعل من بني أهم األمور والقضايا املعروضة يف الوقت الراهن عىل األمة‪ ،‬سواء‬
‫عىل مستوى احلكومات – عىل قلة احلكومات الرشيدة يف عاملنا اإلسالمي املعارص‬
‫– أو عىل مستوى احلركات اإلسالمية الطليعية؛ هي قضية حسن توظيف العنارص‬
‫األفضل‪ ،‬القادرة عىل القيام بأعباء األمانات املوكولة إليهم‪ ،‬وأبعد ما يكونوا عن‬
‫ظواهر مثل نفاق احلاكم‪ ،‬أو وضع االعتبارات الذاتية الضيقة فوق املصالح العامة‪،‬‬
‫وهي األمراض األخطر التي رضبت جمتمعاتنا املسلمة يف فرتة االنحطاط احلضاري‬
‫األخرية التي متر هبا األمة‪.‬‬
‫ويف دولة عمر – يف حقيقة األمر – كل ما يمكن أن جييب أو يعالج الكثري من‬
‫ثمة نقطة‬
‫املشكالت يف هذا الصدد‪ ،‬ولكن قبل تناول ذلك بيشء من التفصيل؛ فإنه َّ‬
‫شديدة األمهية وجب التنويه إليها يف هذا األمر‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه النقطة تتعلق باملصدر األسايس الذي صنع من خالله عمر "ريض اهلل‬
‫عنه"‪ ،‬دولته‪ ،‬وأقام عليها – بشكل عام – أركان معجزته‪ ،‬سواء كصحايب لرسول‬
‫اهلل ﷺ‪ ،‬أيد القرآن الكريم والوحي اإلهلي فيه‪ ،‬الكثري من مواقف وآراء عمر‪ ،‬حتى‬
‫وحاكم‬
‫ٍ‬ ‫عىل ما كان يزكيه النبي الكريم "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬أو كأمري للمؤمنني‬
‫هلذه األمة‪.‬‬
‫فاملصدر األساس هلذا كله؛ هو اإلسالم من مصادره األساسية‪ ،‬القرآن الكريم‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬وعىل وجه اخلصوص الرتبية النبوية التي حرص الرسول‬
‫ُّ‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬عىل أن تتأسس عليها دولة اإلسالم األوىل‪ ،‬قبل إقامة أركاهنا السياسية‪.‬‬
‫أضف لذلك الكثري من السامت الشخصية التي كان يتمتع هبا عمر بن اخلطاب‬
‫الس َّنة النبوية‪ ،‬من الواضح أهنا اصطناع إهلي رصف‪.‬‬ ‫"ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬والتي من خالل ُّ‬
‫يعز اإلسالم‬
‫فعندما دعا رسول اهلل "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬ر َّبه عز وجل‪ ،‬بأن َّ‬
‫الع َم َر ْين؛ اختار اهلل تعاىل عمر بن اخلطاب‪ ،‬وهو ما يعني أن هناك حكمة‬
‫بأحد ُ‬
‫إهلية‪ ،‬واصطناع إهلي‪ ،‬لشخص عمر؛ بقدراته العقلية والبدنية‪ ،‬وكل ما اتصف به‬
‫من صفات يف مرحلة ما قبل إسالمه؛ دفعت النبي "عليه الصالة والسالم" ألن‬
‫يتمنى إسالمه لعزة الدين الوليد‪ ،‬وما بعد البعثة‪ ،‬مما كان له أبلغ األثر يف قيام‬
‫وتوسع دولة اإلسالم‪ ،‬يف عهد النبي ﷺ‪ ،‬أو ما بعد ذلك‪ ،‬يف عهد أيب بكر "ريض‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬ويف عهد عمر ذاته‪.‬‬
‫لننظر اآلن إىل موقف الثنني من الصحابة الكرام‪ ،‬رضوان اهلل تعاىل عليهم‬
‫مجيعا‪ ،‬مع عمر بن اخلطاب بعد توليه منصبه مبارشة‪ ،‬ومها أبو عبيدة بن اجلراح‪،‬‬
‫ً‬

‫‪130‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومعاذ بن جبل؛ حيث كتبا إليه رسالة بعد السالم عليه؛ "فإ َّنا عهدناك وأمر نفسك‬
‫إليك مهم‪ ،‬وقد أصبحت قد ُوليت أمر هذه األمة‪ ،‬أمحرها وأسودها‪ ،‬جيلس بني‬
‫يديك الرشيف والوضيع‪ ،‬والعدو والصديق‪ ،‬ولكل حصة من العدل‪ ،‬فانظر كيف‬
‫أنت عند ذلك يا عمر؛ فإنا نحذرك يو ًما تعنى فيه الوجوه إىل اهلل وجتف فيه القلوب‬
‫وتنقطع فيه من احلجج حلجة ملك قهرهم بجربوته فاخللق داخرون له‪ ،‬يرجون‬
‫رمحته وخيافون عقابه‪ ،‬وإن كنا نحدث أن أمر هذه األمة سريجع يف آخر زماهنا إىل‬
‫أن يكونوا إخوان العالنية أعداء الرسيرة‪ ،‬وإنا نعوذ باهلل أن ينزل كتابنا إليك سوى‬
‫املنزل الذي نزل من قلوبنا؛ فإنام كتبنا به نصيحة لك‪ ..‬والسالم عليك"‪.‬‬
‫تلقى عمر "ريض اهلل عنه"‪ ،‬الرسالة‪ ،‬وكان عىل ما نعهد من عدل؛ وقرأ ما فيها‬
‫من قيم‪ ،‬لعل من أمهها ما ال ينتبه إليه الكثريون فيها‪ ،‬وهي أهنا من بني أهم األدبيات‬
‫السياسية يف تارخينا اإلسالمي‪ ،‬وربام يف التاريخ اإلنساين‪ ،‬يف عظة احلاكم‪ ،‬ودعوته‬
‫طبقة يف‬
‫وم َّ‬
‫إىل أهم مبادئ احلكم الرشيد التي تتكلم عنها أدبيات األمم املتحدة ُ‬
‫األمم املتقدمة يف وقتنا الراهن‪ ،‬مثل الشفافية والعدل والتزام القانون – الرشيعة يف‬
‫حالتنا هنا – واإلعالء من شأن املصلحة العامة‪.‬‬
‫كام أن الرسالة فيها إشعارات مهمة – كذلك – عن شعرية مهمة معطلة يف عرصنا‬
‫احلايل يف الغالب‪ ،‬يف املامرسة السياسية واالجتامعية يف األوساط املسلمة‪ ،‬وهي‬
‫شعرية األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬يف إطار املناصحة الواجبة من املسلم‬
‫للحاكم‪ ،‬وهو هدي نبوي رشيف‪ ،‬وتوجيه لكل مسلم حرص النبي "عليه الصالة‬
‫والسالم"‪ ،‬عىل التأكيد عليه؛ فيام خيص النصيحة للحاكم‪ ،‬ولعامة املسلمني‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فام كان من عمر إال أن رد عليهام بالقول‪" :‬والبد لكام من الكتاب لدي؛ فإنه ال‬
‫غنى يب عنكام"‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه مما ندركه من السرية اجلهادية لكليهام‪ ،‬سواء يف عهد‬
‫النبوة‪ ،‬أو يف وقت أيب بكر الصديق ودولة عمر بن اخلطاب "ريض اهلل عنهام"؛‬
‫يقول بأن الرتبية وآثارها‪ ،‬هي ٌّ‬
‫كل متكامل‪.‬‬
‫فالرتبية والتأسيس الرتبوي والفكري الذي تلقياه يف عهد النبوة؛ جعلتهام عىل‬
‫نسق القدوة يف كل املجاالت؛ األخالقية والفكرية واالجتامعية‪ ،‬وكذلك السياسية‬
‫والقدرات اإلدارية‪ ،‬وكانا يتعامالن – وغريمها من الصحابة الذين تأسسوا يف‬
‫مدرسة الرتبية اإلسالمية السليمة ‪ -‬مع كل موقف بام يتطلبه؛ متا ًما كام يف موقف‬
‫والية عمر بن اخلطاب خلالفة املسلمني‪.‬‬
‫وما جرى يف هذا املوقف فيه جانبان‪ .‬اجلانب األول؛ أن عمر بن اخلطاب‬
‫"ريض ُ‬
‫اهلل عنه" استشعر كالمهام‪ ،‬وأخذه عىل حممل اجلد‪ ،‬ثم والمها من الواليات‬
‫العسكرية واإلدارية يف دولته‪ ،‬فكانا عىل رأس جيوش املسلمني التي فتحت الشام‪،‬‬
‫ثم توىل أبو عبيدة والية الشام‪ ،‬وملا ُقبِض يف طاعون عمواس الشهري؛ توىل معاذ بن‬
‫جبل حمله؛ حيث علم من خربته معهام وقت النبي ﷺ‪ ،‬ومن رسالتهام هذه؛ أهنام‬
‫ريا وأنفع له ولألمة لو متت توليتهام‪.‬‬
‫خري له‪ ،‬وسيكونا خ ً‬
‫ٌ‬
‫اجلانب الثاين؛ هو اجلانب املتعلق بمعاذ وأيب عبيدة؛ حيث إهنام أثبتا أهنام ٌ‬
‫أهل‬
‫لألمانة التي محالها‪ ،‬وأهل لتنفيذ وصايا وتعاليم النبي ﷺ‪ ،‬حتى أنفاسهام األخرية؛‬
‫فأبو عبيدة "ريض ُ‬
‫اهلل عنه" ن َّفذ تعاليم النبي "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬التي أثبت‬

‫‪132‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫العلم احلديث صحتها‪ ،‬يف التعامل مع األوبئة؛ فلم خيرج من الشام وقت انتشار‬
‫الطاعون‪ ،‬حتى مات‪ ،‬وكذلك فعل معاذ "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬فلم خيرج برغم أن‬
‫زوجتيه وولديه قد ماتا يف نفس الطاعون‪ ،‬قبل أن يموت هو ذاته فيه‪.‬‬
‫يف املقابل؛ فإننا نرى اليوم قادة األنظمة واحلكومات يف بلداننا املسلمة‪ ،‬يعلون‬
‫من شأن أهل الثقة واملنافقني الذين ألن تربيتهم الدينية واألخالقية ضعيفة فقادهتم‬
‫إىل خصلة املداهنة والنفاق؛ فكانوا ضعا ًفا يف كل يشء؛ فأضاعوا األمانة بعدم‬
‫الكفاءة والتفرغ للفساد واإلفادة من الوظيفة العامة ملصاحلهم اخلاصة‪.‬‬
‫ويف بعض حركاتنا اإلسالمية؛ نجد من يفضل "أهل الثقة" ألنه أطوع له‪،‬‬
‫بينام لو علم هؤالء ما يف منهج اإلسالم يف الرتبية واإلدارة من خري؛ ألقاموا ألهل‬
‫الكفاءة من املخلصني لدينهم‪ ،‬العاملني عليه‪ ،‬ولوجه اهلل تعاىل؛ كل املمكنات التي‬
‫تعينهم عىل خدمة دعوة اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وال نبالغ لو قلنا إهنا اآلفة األوىل التي أضاعت األمة وطليعتها احلركية‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫فإن أوىل األمور هو معاجلة هذه اإلشكالية؛ ألنه لو وصل أهل العلم والكفاءة إىل‬
‫املراكز التنفيذية واالستشارية األهم؛ لعوجلت كل قضايا األمة بشكل كامل‪.‬‬
‫وبرغم أن هذه مشكلة قد تبدو سياسية؛ إال أهنا تبقى يف األخري؛ قضية تربية‬
‫بالدرجة األوىل كام رأينا!‬

‫‪133‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المكون األخالقي كأساس الزم‬


‫ِّ‬
‫سنن إلهية‬
‫للمشروع اإلسالمي‪ ..‬قراءة في ُ‬

‫ُيقول اهلل عز وجل يف ُسورة "األنفال"‪ ﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬


‫ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒﮓﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮞﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾‪.‬‬
‫تلخص هذه اآليات رسالة إهلية شديدة األمهية‪ ،‬تتعلق بسعي مجاعة املسلمني‪،‬‬
‫عىل خمتلف املستويات‪ ،‬يف احلياة الدنيا‪ ،‬وكيفية قيامها باألدوار التي خلقها اهلل عز‬
‫وجل ألجلها‪ ..‬إهنا رسالة النرص اإلهلي ورشوطه‪ ،‬وعىل رأسها الصرب‪ ،‬وكيف أن اهلل‬
‫تبارك وتعاىل‪ ،‬قطع عىل نفسه عهدً ا بأن يدعم املؤمنني من عباده يف سعيهم لنرصة دين‬
‫اهلل عز وجل ونرشه‪ ،‬وأن جيرب عز وجل النقص املوجود لدهيم‪ ،‬يف معركتهم املقدسة‪.‬‬
‫نفس الرسالة والعهد جاءا يف ُسورة "آل عمران"‪ ،‬ولكن بشكل أكثر تفصي ً‬
‫ال‪:‬‬
‫﴿ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟﮠﮡ ﮢﮣﮤﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه اآليات‪ ،‬وسابقتها‪ ،‬وغريها الكثري من آيات القرآن الكريم‪ ،‬تشري إىل عدد‬
‫من احلقائق عىل رأسها أن النرص من عند اهلل العزيز احلكيم‪ ،‬وأنه حتى نبيه ورسوله‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬ليس له من األمر من يشء؛ أي يشء‪ ،‬وإنام كل األمور بمقادير اهلل عز‬
‫وجل وإرادته‪ ،‬وأنه ال جيري يف قدر اهلل تعاىل إال ما قدر له هو وحده ال رشيك له‪.‬‬
‫هذا املدد اإلهلي‪ ،‬وهذا العهد الرباين‪ ،‬له اشرتاطات الستنزال نرصه عىل عباده‪،‬‬
‫وعىل رأسها الصرب والتقوى‪.‬‬
‫أما الصرب‪ ،‬فهو‪ -‬لغ ًة‪ -‬احلبس واملنع‪َ ،‬‬
‫واجل َلد وحسن االحتامل‪ ،‬كام يف املعجم‬
‫الوسيط‪ ،‬ويف االصطالح الرشعي واألخالقي‪ ،‬هو حبس النفس عن اجلزع‪،‬‬
‫واحتامل املكاره‪ ،‬وحبس النفس عن الشهوات‪.‬‬
‫أما التقوى‪ ،‬فهي فضيلة وسلوك اإلنسان ومدى التزامه جتاه اهلل عز وجل‪ ،‬وجتاه‬
‫خملوقاته‪ ،‬ولذلك يعدها الكثريون من علامء األصول والفكر اإلسالمي‪ ،‬أهنا أهم‬
‫دعائم الدين واإليامن‪.‬‬
‫والتقوى لغ ًة من الوقاية‪ ،‬ويف االصطالح الرشعي؛ أن جيعل املسلم بينه وبني‬
‫عذاب اهلل تعاىل وقاية أو حاجز‪ ،‬وذلك من خالل فعل الواجبات والطاعات‪،‬‬
‫وترك املنكرات واملحرمات‪ ،‬وما بينهام املكروهات‪ ،‬وما يف تركها من ورع‪ ،‬من‬
‫أجل نيل رضا اهلل عز وجل‪ ،‬وتفادي غضبه وعذابه يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ويقول بعض العلامء إن التقوى هي الغاية الرئيسية من ترشيع األحكام‪،‬‬
‫والس َّنة النبوية‪ ،‬ومن بني‬
‫ويستندون إىل عدد من األدلة الرشعية من القرآن الكريم ُّ‬

‫‪135‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ذلك قوله تعاىل‪ ،‬يف ُسورة "البقرة"‪ ﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬


‫الس َّنة النبوية؛ فيقول ﷺ‪ ،‬يف حديث أيب‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾‪ ،‬أما يف ُّ‬
‫هريرة‪" :‬إنام ُبعثت ألمتم صالح األخالق" [صحيح‪ /‬أخرجه أمحد]‪.‬‬
‫شك فيهام‪ ،‬األوىل أن كل حال اإلنسان هو من‬ ‫ومن َث َّم؛ فنحن أمام حقيقتان ال َّ‬
‫عند اهلل تعاىل‪ ،‬وأن النرص واهلزيمة ُسنن خلقها عز وجل حلكمة بالغة‪ ،‬والثانية أن‬
‫هناك رشوط بعينها للحصول عىل املدد اإلهلي يف معركة اخلري والرش‪ ،‬واحلق ضد‬
‫ريا واحلق ح ًّقا‪.‬‬
‫الباطل‪ ،‬وعىل رأسها أن يكون اخلري خ ً‬
‫ولن يكون ذلك من دون مكارم األخالق وعىل رأسها الصرب والتقوى‪ ،‬ومن‬
‫املكون األخالقي له أمهيته يف املرشوع اإلسالمي‪ ،‬ولن ينترص املرشوع‬
‫ِّ‬ ‫َث َّم فإن‬
‫اإلسالمي من دونه‪.‬‬
‫كون األخالقي‪ ،‬وإذا ما تساوى طرفا الرصاع احلضاري يف‬ ‫فمن دون ا ُمل ِّ‬
‫األخالقيات؛ فإن نتيجة هذا الرصاع سوف حتتكم إىل األسباب‪ ،‬وإىل العدد‬
‫الغ َلبة لألقوى واألكثر ً‬
‫أخذا باألسباب‪.‬‬ ‫والعدة‪ ،‬ومن َث َّم؛ ستكون َ‬
‫ومن هنا؛ فإن ختيل املرشوع الصحوي أو دعاة املرشوع احلضاري اإلسالمي عن‬
‫املكون األخالقي‪ ،‬وما دعا اهلل تعاىل يف هذا اإلطار‪ ،‬يعني رفع الغطاء اإلهلي عن‬
‫ِّ‬
‫أصحاب املرشوع‪ ،‬وعدم استحقاقهم لنرص اهلل عز وجل‪.‬‬
‫السياسة واملكون األخالقي اإلسالمي‪:‬‬

‫مل ُيعد الداعية يف وقتنا الراهن هو ذلك الشخص الذي يلقي خط ًبا منربي ًة‬
‫يتناول فيها فقط األمور املعتادة يف حياة املسلم؛ حيث سعت أنظمة الفساد وامللك‬

‫‪136‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫العضوض‪ ،‬التي اب ُتل َي ْت هبا االمة اإلسالمية عرب التاريخ‪ ،‬إىل قرص دور وصورة‬
‫الداعية عىل اجلوانب الفقهية لألمور املجتمعية والعبادات فقط‪ ،‬عىل أمهيتها يف حياة‬
‫حفاظا من ذوي السلطان عىل سلطاهنم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املسلم‪ ،‬مع جتنيب الدعاة للسياسة متا ًما؛‬
‫حتول الداعية يف زمننا هذا إىل جماهد سيايس‪ ،‬بد ًءا بالكلمة‪ ،‬وحتى املشاركة يف‬
‫ميادين التغيري واإلصالح‪.‬‬
‫ولعل يف نامذج من دعاتنا الذين استشهدوا يف فلسطني‪ ،‬خالل النضال ضد‬
‫االحتالل الصهيوين العنرصي‪ ،‬أو يف مرص سوريا وغريها من بلدان الربيع العريب؛‬
‫أبلغ دليل عىل أن الداعية يف اإلسالم‪ ،‬هو رجل سياسة ونضال من الطراز األول‪،‬‬
‫وأن دوره ودور املنابر املسجدية‪ ،‬عىل قيمتها وأمهيتها يف اإلسالم‪ ،‬يتجاوزان‬
‫احلديث التقليدي املعتاد‪ ،‬إىل آفاق أسمى وأهم‪.‬‬
‫هذه اآلفاق تتعلق بدور األمة احلضاري‪ ،‬وكيفية استعادهتا ملجدها وعزها‪،‬‬
‫هدى ورمح ًة للناس أمجعني‪،‬‬
‫ولريادهتا احلضارية‪ ،‬ونرش دين اهلل تعاىل يف األرض‪ً ،‬‬
‫وحقيقة دور املسلم‪ ،‬وتصحيح مدركاته لوجوده وحياته‪ ،‬وما هو مطلوب منه‬
‫بدقة فيام يتعلق بتمكني رشيعة اهلل تعاىل يف أرضه‪ ،‬وحتقيق أستاذية العامل باإلسالم‪،‬‬
‫وجممل األهداف والغايات التي ُخ ِلقَ ألجلها‪.‬‬
‫ويامرس الداعية واملسئول السيايس‪ ،‬السياسة يف اإلسالم‪ ،‬من خالل ما ُيعرف‬
‫بالسياسة الرشعية‪ ،‬والتي ُت َّ‬
‫عرف عىل أهنا املامرسة السياسية واملجتمعية‪ ،‬التي تنطلق‬
‫من حتكيم الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬بجوانبها األخالقية التي أتت للرتكيز عليها‪ ،‬سواء‬
‫يف أدوات عملها أو فيام يتعلق بمقاصدها‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أي أن السياسة يف اإلسالم‪ -‬أي إدارة شئون الرعية والدولة يف الداخل واخلارج‪-‬‬
‫ال وهد ًفا‪ ،‬واألخالق هي غاية الرشيعة اإلسالمية‬‫ُتعنى باألساس بالرشعية‪ ،‬عم ً‬
‫وهدفها األسمى‪ ،‬كام قال رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ومن َث َّم؛ فإن املكون األخالقي رضورة‬
‫ال غنى عنها للسيايس والداعية يف دولة اإلسالم‪.‬‬
‫ومبدئيا؛ فإن الداعية ورجل السياسة‪ ،‬ومها مرتبطان يف اإلسالم‪ ،‬جيب عليهام‬
‫ًّ‬
‫أن يقوما بام ُيعرف يف مبحث األخالق يف الفلسفة وعلم النفس‪ ،‬باالستدالل‬
‫األخالقي‪ ،‬وهو يعني العملية التي حياول خالهلا اإلنسان حتديد الفرق بني ما هو‬
‫صحيح وما هو خطأ يف املوقف الشخيص باستخدام املنطق العقيل‪ ،‬واملنطق احلاكم‬
‫هنا هو الرشيعة وتعاليمها‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإنه ال يمكن احلديث عن املرشوع احلضاري اإلسالمي وصريوراته‪،‬‬
‫بعيدً ا عن ِّ‬
‫املكون األخالقي الذي أتى به اإلسالم‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المستشرقون ونظرية التربية واألخالق في اإلسالم‬

‫ال يزال الرتاث اإلسالمي‪ ،‬واملكون األخالقي والفكري للحضارة اإلسالمية‪،‬‬


‫جليا يف الكثري من‬
‫يثري اهتامم الغرب‪ ،‬يف ظل إدراكهم واعرتافهم – الذي يظهر ًّ‬
‫كتابات املنصفني منهم – بالدور الذي لعبته املدارس الفكرية والعلوم التطبيقية‬
‫ال‪ ،‬مثل علم‬‫التي أسس هلا العلامء العرب واملسلمني‪ ،‬وانفردوا ببعضها انفرا ًدا كام ً‬
‫العمران واالجتامع‪ ،‬وعلوم البرصيات‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ود ِّو َن باللغة العربية‪،‬‬
‫ولعل أهم مرياث قدمته احلضارة اإلسالمية إىل العامل‪ُ ،‬‬
‫هو ما تركته احلضارة اإلسالمية يف جمال األخالق والرتبية‪ ،‬وهو املجال األهم‬
‫الذي تنهض عىل أسسه احلضارات كافة‪ ،‬مهام كانت انتامءاهتا الدينية أو‬
‫األيديولوجية‪.‬‬
‫ً‬
‫وإدراكا لذلك‪ ،‬ويف القرون التي تلت بداية ما ُيعرف بعرص التنوير يف أوروبا؛‬
‫زاد االهتامم يف الغرب بفحص النظرية األخالقية التي وضعت الدولة اإلسالمية‬
‫– عىل اختالف مسمياهتا – فوق قمة هرم القوة والسيادة يف العامل‪ ،‬لقرون طويلة‪.‬‬
‫َت عليها املدارس واملذاهب األخالقية‬ ‫وكان من بني أهم األركان التي َبن ْ‬
‫الغربية أسسها‪ ،‬واستقتها من احلضارة اإلسالمية‪ ،‬قيمة التسامح الديني واملساواة‪،‬‬
‫والتي اعتربها السري توماس ووكر آرنولد؛ أحد أهم مؤسيس مدرسة الدراسات‬
‫االسترشاقية‪ ،‬يف كتابه "الدعوة إىل اإلسالم" الذي نرشه عام ‪ ،1896‬العامل‬

‫‪139‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الرئييس وراء انتشار اإلسالم وتراجع املسيحية يف فرتة ما قبل العصور الوسطى‪،‬‬
‫وحتى عرص التنوير الذي بدأ منذ القرن السابع عرش امليالدي‪.‬‬
‫وهو ذات ما ذهب إليه املسترشق ويلفريد سكاون بلنت‪ ،‬الذي ذكر بأن أحد‬
‫أهم أسباب انتشار اإلسالم‪ ،‬هو اجلانب األخالقي‪.‬‬
‫وذكر يف كتابه املهم "مستقبل اإلسالم" الذي وضعه عام ‪1882‬م‪ ،‬ونرشه يف‬
‫العام التايل‪ ،‬أن "اإليامن بالوحي الساموي الذي نزل عىل األنبياء خامتهم حممد"‪،‬‬
‫وأن هذا الوحي "ليس عقد ًّيا فقط‪ ،‬بل وحي وممارسة وتطبيق وقاعدة كونية حياتية‬
‫لكل البرش يف السياسة والترشيع واملذاهب واألخالق"‪.‬‬
‫ومن بني املسترشقني املعارصين الذين َأ ْو َلوا هذه القضية اهتام ًما‪ ،‬الربوفيسور‬
‫سيباستيان جونرت‪ ،‬أستاذ كريس العربية والدراسات اإلسالمية يف جامعة جوتنجن‬
‫مؤخرا دراسة مهمة بعنوان "آراء‬
‫ً‬ ‫األملانية (التي تعلم فيها)‪ ،‬الذي صدرت له‬
‫العلامء املسلمني القدماء يف نظرية الرتبية"‪ ،‬و ُنرشت بالعربية يف العدد (‪ )51‬من‬
‫"التفاهم" ا ُمل َح َّك َمة التي تصدرها وزارة األوقاف والشؤون الدينية ُ‬
‫العامنية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فصلية‬
‫ويف هذه الدراسة‪ ،‬يعيب جونرت عىل املسترشقني والعلامء الغربيني احلاليني‪،‬‬
‫إمهاهلم يف القرن األخري‪ ،‬لدراسة الرتاث اإلسالمي يف جمال األخالق والرتبية‪.‬‬
‫وضم جونرت يف دراسته هذه‪ ،‬منظومة التعليم يف الدولة اإلسالمية‪ ،‬يف عصورها‬
‫أمرا أصي ً‬
‫ال يف املنظومة الرتبوية‬ ‫املختلفة‪ ،‬وأكد عىل أن اهتامم املسلمني بالتعليم‪ ،‬كان ً‬
‫واألخالقية يف املجتمعات اإلسالمية يف قرون هنضة األمة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كام دمج يف هذه املنظومة كذلك‪ ،‬الفنون يف الدولة اإلسالمية واملجتمعات‬


‫وخصوصا اآلداب املختلفة املكتوبة باللغة العربية [الفن يف تعريفه‬
‫ً‬ ‫التي ضمتها‪،‬‬
‫االصطالحي‪ ،‬هو كل إبداع إنساين‪ ،‬ويشمل ذلك اآلداب املختلفة‪ ،‬بجانب "الفن"‬
‫بمفهومه الشائع لدى العامة‪ ،‬من رسم وموسيقى وفنون األداء املختلفة‪ ،‬مثل املرسح]‪.‬‬
‫"ثمة آثار وأمثال ِ‬
‫وح َكم عدة تظ ِهر علو شأن‬ ‫وقال الكاتب يف هذا الصدد إنه َّ‬
‫املعرفة والرتبية يف اإلسالم‪ ،‬عالوة عىل الشعر والنثر واآلداب يف الرشق األوسط‪،‬‬
‫وهو حمتوى شديد الوضوح يف املؤلفات العربية يف القرون الوسطى"‪.‬‬
‫ويف إطار دراسته التي توسع فيها يف رصد املكون األخالقي واملنظومة الرتبوية‬
‫يف األدبيات اإلسالمية‪ ،‬ولدى علامء املسلمني‪ ،‬وشمل فيها التعليم واآلداب‪،‬‬
‫تناول بالنقد والتحليل جمموعة من أهم الكتب التي وضعها علامء املسلمني يف‬
‫عصور الدولة اإلسالمية املختلفة‪.‬‬
‫واختار يف هذا الصدد‪ ،‬كتابات مخسة من أهم علامء ومفكري األمة‪ ،‬ممن عاشوا‬
‫يف الفرتة ما بني القرن الثامن وحتى القرن احلادي عرش امليالدي‪ ،‬وهي الفرتة التي‬
‫توازي العصور املظلمة يف أوروبا‪ ،‬وفرتة سيادة الدولة العباسية‪.‬‬
‫وراعى فيهم أن يمثلوا خمتلف أقاليم الدولة اإلسالمية‪ ،‬من املغرب العريب‪،‬‬
‫وحتى بالد ما بني النهرين وآسيا الوسطى‪.‬‬
‫فركز يف البداية‪ ،‬عىل التعليم وتطور املناهج يف عصور اإلسالم املتقدمة‪ ،‬من‬ ‫َّ‬
‫خالل كتاب العالمة‪ ،‬حممد بن َس ْحنُون القريواين الذي عاش بني القر َن ْي الثامن‬
‫والتاسع امليالد َّي ْي‪ ،‬واملعروف باسم‪" :‬آداب ا ُملع ِّلمني"‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وكان من بني أهم ما لفت انتباه املسترشق جونرت يف تراث ابن َس ْحنُون‪ ،‬هو‬
‫كيف أنه‪ ،‬وهو الفقيه املالكي – أي يف األساس واألصل عامل رشيعة – قد وضع يف‬
‫كتابه هذه‪ ،‬وكتب أخرى له‪ ،‬منظومة متكاملة يف التعليم‪ ،‬يمكن أن يتم تطبيقها يف‬
‫العرص احلديث‪.‬‬
‫وقدم املسترشق يف رؤيته هذه‪ ،‬نظرة عىل نظام التعليم يف املدارس اإلسالمية يف‬
‫متطورا؛ حيث إهنا بجانب العلوم الرشعية‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعليميا‬
‫ًّ‬ ‫إطارا‬
‫هذه الفرتة‪ ،‬ورأى فيها ً‬
‫شملت اآلداب املختلفة‪ ،‬واللغة‪ ،‬باإلضافة إىل احلساب واألخالق‪ ،‬وقال إهنا‬
‫السنِّية التي توازي املرحلة‬
‫من العلوم التي كان يتلقاها حتى التالميذ يف املرحلة ِّ‬
‫االبتدائية يف وقتنا الراهن‪.‬‬
‫كام تناول جتربة العالمة والفيلسوف املسلم األشهر‪ ،‬أبو عثامن عمرو بن بحر‬
‫اجلاحظ‪ ،‬الذي عاش يف ذات الفرتة التي عاش فيها ابن َس ْحنُون تقري ًبا‪.‬‬
‫وركز جونرت يف نظرته عىل أعامل اجلاحظ‪ ،‬عىل ما طرحه من أساليب جديدة يف‬
‫الرتبية والتعليم واآلداب‪.‬‬
‫وقال إن اجلاحظ استبدال منهاج احلفظ والتلقني‪ ،‬بمنهاج آخر متطور‪ ،‬يقوم عىل‬
‫أساس االستنباط والتعليل‪ ،‬وهو ما يوازي املدرسة العقلية يف الفلسفات اليونانية‬
‫واإلغريقية القديمة‪.‬‬
‫ركز ابن َس ْحنُون يف كتابه "آداب ا ُمل َع ِّلمني"‪ ،‬عىل اخلصال املطلوب‬
‫وبينام َّ‬
‫ُ‬
‫والتواضع وحب العمل مع األطفال؛‬ ‫توافرها يف رجل الرتبية والتعليم‪ ،‬مثل الصرب‬

‫‪142‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فإننا نجد أن اجلاحظ يف كتابه "كتاب ا ُمل َع ِّلمني"‪ ،‬يؤكد عىل رضورة مراعاة تطوير‬
‫املَ َل َكات العقلية لألطفال‪ ،‬من خالل منظومة من املناهج تشمل حتى الرياضات‬
‫الذهنية والبدنية املختلفة‪ ،‬مثل اجلدل والكالم‪ ،‬والرمي‪ ،‬وكذلك الفنون واآلداب‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫والحظ أن هناك أوجه تشابه بني ما قدمه ابن َس ْحنُون واجلاحظ يف كتا َب ْيهام‪،‬‬
‫أساسي ْي‪ ،‬األول‪ ،‬هو تطوير القدرات الشاملة لإلنسان منذ‬
‫َّ‬ ‫فيام يتعلق بمرتكزَ ْين‬
‫مراحل التعليم األوىل‪ ،‬والثاين هو املرتكز األخالقي‪.‬‬
‫النموذج ْي‪ ،‬تناول املسترشق سيباستيان جونرت يف دراسته املهمة‬
‫َ‬ ‫بجاتب هذين‬
‫هذه‪ ،‬ثالثة نامذج أخرى – كام تقدَّ م – من القرون من التاسع وحتى احلادي عرش‬
‫امليالدي؛ حيث درس أفكار ٍّ‬
‫كل من الفارايب وابن سينا وأيب حامد الغزايل‪.‬‬
‫فقدم قراءة يف "رسالة الربهان" للفارايب‪ ،‬وكتاب "السياسة" البن سينا‪،‬‬
‫و"إحياء علوم الدين" للغزايل‪ ،‬الذي وصفه بأنه "أحد أعظم ُبناة الفلسفة التعليمية‬
‫اإلسالمية وقيمها األخالقية"‪.‬‬
‫وقال إن ذلك يعود إىل أن فهم الغزايل للرتبية وللتعليم كان عىل أساس أهنام‬
‫ذائعا يف مؤلفات‬ ‫"إرشاد للفتيان وليس تأديبا هلم"‪ ،‬وقال إن ذلك "بات ً‬
‫مبدأ تربو ًّيا ً‬ ‫ٌ‬
‫ً‬
‫القرون الوسطى يف التعليم اإلسالمي"‪.‬‬
‫وأشار الكاتب األملاين إىل أن الفالسفة والعلامء املسلمني‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬ومن‬
‫خالل النامذج الثالث السابقة‪ ،‬كان من الواضح عليهم التأ ُّثر بالفلسفات القديمة‬

‫‪143‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وخصوصا اليونانية‪ ،‬ولكن مع صبغها بالصبغة اإلسالمية الالزمة‬


‫ً‬ ‫الوضعية‪،‬‬
‫مراعاة العتبارات الرشيعة يف تقييم أفكار هذه الفلسفات‪ ،‬والتعامل معها‪.‬‬
‫ال منهم بالرغم من أنه قدم تفاسري عدة لنظرية الرتبية‪ ،‬وللعملية‬ ‫وقال إن ك ًّ‬
‫وخصوصا مع األطفال؛ حيث اعتربوا املرحلة التي نطلق عليها يف الوقت‬‫ً‬ ‫التعليمية‪،‬‬
‫الراهن‪ ،‬املرحلة االبتدائية‪ ،‬هي أهم مرحلة تعليمية؛ ٌّ‬
‫كل من زاويته (الفارايب كان‬
‫وفقيها)؛‬
‫ً‬ ‫مفكرا‬
‫ً‬ ‫مفكرا وفيلسو ًفا‪ ،‬وابن سينا كان طبي ًبا‪ ،‬والغزايل كان‬
‫ً‬ ‫يف األساس‬
‫فإهنم اتفقوا عىل حاكمية مسألة الرتبية األخالقية وهتذيب األخالق لدى النشء يف‬
‫إنجاح العملية التعليمية وإصالح حال املجتمع‪.‬‬
‫وهنا نقف وقفة مهمة مع ثالثة أمور كان هلا الكثري من األمهية لدى جونرت‪.‬‬
‫األمر األول‪ ،‬هو أنه أكد أن الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬سواء القرآن الكريم‪ ،‬أو‬
‫احلديث النبوي الرشيف؛ كانت الرافد األهم واألصيل الذي استقى منه العلامء‬
‫اخلمسة الذين اختارهم كنامذج لدراسته‪ ،‬نظرياهتم وتطبيقاهتم يف جمال التعليم‪،‬‬
‫والرتبية واألخالق بشكل عام‪ ،‬وأهنا مل متنع عنهم األخذ من الفلسفات القديمة‪،‬‬
‫وخصوصا اليونانية‪.‬‬
‫ً‬
‫النقطة الثانية‪ ،‬هو تركيز جونرت عىل أن التدوين تم باللغة العربية‪ ،‬حتى لدى ابن‬
‫دون أفكاره يف هذه املجاالت‬
‫سينا الذي كانت لغته األصلية هي الفارسية؛ إال أنه َّ‬
‫باللغة العربية‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ ،‬كان أنه أكد عىل أن أفكار هؤالء العلامء وغريهم من علامء‬
‫املسلمني‪ ،‬كان هلا أبلغ األثر يف تطوير أنظمة التعليم والرتبية يف الغرب نفسه‪ ،‬ونقل‬
‫الغرب من العصور املظلمة‪ ،‬إىل عرص التنوير‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ورضب عىل ذلك نامذج من علامء الرتبية واألخالق الغربيني‪ ،‬مثل املعلم‬
‫إيكهارت (عاش يف القرن الرابع عرش امليالدي)‪ ،‬وفيليب ميالنكتون (القرن‬
‫اخلامس عرش امليالدي)‪ ،‬وكانا أكثر تأ ُّث ًرا بالفارايب‪ ،‬واملصلح التشيكي املعروف‪،‬‬
‫يوهان أموس كومينيوس (القرن السابع عرش)‪ ،‬والذي ُيط َلق عليه اسم "أبو الرتبية‬
‫املعارصة"‪.‬‬
‫وداللة النقاط الثالث؛ مها أهنا ترد عىل أباطيل عدة يف وقتنا الراهن‪ ،‬تتشارك فيه‬
‫أصوات عربية ومسلمة – لألسف الشديد – تقول بأن الرشيعة اإلسالمية واللغة‬
‫العربية‪ ،‬أحد أسباب وعوامل ختلف األمة‪ ،‬وتدعو إىل القطيعة الكاملة مع الرتاث‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهو ما أكدت الدراسة عىل خطئه‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قراءة إسالمية في مفهوم "المواطن العالمي"‪..‬‬


‫أسبقية الدين وأخطاء التنميط!‬

‫يف منتصف القرن الثامن عرش‪ ،‬خرج الفيلسوف واألديب األيرلندي‪ ،‬أوليفر‬
‫جولد سميث‪ ،‬بمجموعة من املقاالت التي انتظمت بعد ذلك يف كتاب ُع ِرف‬
‫بـ"املواطن العاملي" أو الـ"‪."The citizen of the world‬‬

‫طرح هذا الكتاب رؤية فلسفية حول العالقات اإلنسانية تنطلق من مشرتك‬
‫مهم بني مجيع البرش‪ ،‬وهو األصل اإلنساين‪ ،‬وبالتايل؛ فإن األصل يف البرش جيب أن‬
‫يكون قبول اآلخر والتعايش والتعاون معه‪.‬‬

‫منبهرا بحالة التسامح والقبول باآلخر التي وصلت إىل حدها‬


‫ً‬ ‫وبينام العامل‬
‫األقىص من جانب جولد سميث يف مقاالته‪ ،‬وتصويرها عىل أهنا الوجه احلقيقي‬
‫البشوش لـ"احلضارة الغربية" التي ال تزال إىل اآلن تقتل يف الشعوب القديمة‬
‫التي استعمرهتا؛ فإنه ال يوجد انتباه حلقيقة مهمة‪ ،‬وهي أن اإلسالم بأدبياته – أي‬
‫نصوصه املقدسة قطعية الثبوت يف القرآن الكريم ويف املامرسة النبوية – قد سبق‬
‫اجلميع بتقديم مثل هذه الرؤية‪.‬‬

‫وهو نفس املشكلة احلاصلة مع "وثيقة املدينة" التي سبق هبا النبي ﷺ‪ ،‬وثيقة‬
‫"املاجنا كارتا" اإلنجليزية للحقوق واملواطنة بأكثر من مخسة قرون‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فالقرآن الكريم وخطبة الوداع‪ ،‬قدما يف الكثري من اآليات واألحاديث والنصوص‬


‫النبوية الرشيفة الصحيحة‪ ،‬الكثري يف جمال حقوق اإلنسان وواحدية األصل‬
‫اإلنساين‪ ،‬ورضورة التعايش‪ ،‬مع احلفاظ يف ذات الوقت عىل قيمة اخلصوصية‬
‫الثقافية واالجتامعية‪ .‬فأبسط منطق لعقل األمور؛ تشري إىل أنه بمجرد اعرتاف‬
‫ورت "هود" و"احلجرات" عىل سبيل‬
‫القرآن الكريم بتنوع اجلنس البرشي‪ ،‬كام يف ُس َ ْ‬
‫املثال؛ فإن هذا يعني بشكل تلقائي‪ ،‬ضامن واحرتام اخلصوصية الفكرية والثقافية‬
‫واحلضارية للمجتمعات اإلنسانية؛ ألن كالمها؛ َ‬
‫اخللق املتنوع هذا‪ ،‬والقرآن الكريم؛‬
‫من مصدر واحد‪ ،‬وهو اهلل عز وجل‪ ،‬اخلالق احلكيم الذي أحكم كل يشء صنعه‪.‬‬

‫"هود"‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫ومن بني ذلك قول اهلل تعاىل يف ُسورة ُ‬
‫ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾‪ ،‬ويف ُسورة "احلجرات"‪ ﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾‪.‬‬
‫ويف صحيح "مسلم"‪ ،‬من خطبة َح َّجة الوداع‪ ،‬أن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬قال‪" :‬أهيا‬
‫الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم آلدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند اهلل‬
‫أتقاكم‪ ،‬ليس لعريب فضل عىل أعجمي إال بالتقوى أال هل ب َّلغت؟ اللهم فاشهد"‪.‬‬
‫ويعود جزء كبري من عدم التفات الكثري من املسترشقني واملفكرين حول العامل‪،‬‬
‫حتى العدول غري املنحازين منهم ضد اإلسالم واملسلمني‪ ،‬إىل كل هذه اجلامليات‬
‫وكل هذا السبق يف اإلسالم ألمور مل يزال العامل يتحسس طريقه إليها حتى اآلن؛‬
‫هو سوء املامرسة من جانب البعض‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولسنا هنا يف معرض تناول كل أوجه اإلشكاليات املتعلقة بمامرسة املسلمني‬


‫لدينهم بشكل خاطئ‪ ،‬ولكننا سوف نقف أمام بعض املفاهيم واألساليب اخلاطئة‬
‫ا ُمل َّ‬
‫طبقة يف الدعوة‪ ،‬والتي أدت إىل تعويقها يف الكثري من املجتمعات‪ ،‬مع تصادم هذه‬
‫املفاهيم واألساليب مع اخلصوصية الثقافية والشخصية القومية هلذه املجتمعات‪،‬‬
‫والسيام يف األمم الكربى الناهضة التي متلك كربياء التاريخ واحلضارة‪.‬‬
‫ونقف هنا عند مشكلة مفتاحية‪ ،‬وهي الباعث الذي يدفع بعض دعاتنا إىل تنميط‬
‫الصورة الذهنية للمسلم حتى عىل مستوى الشكل بحيث تكون كام يراها أصحاب‬
‫االجتاه السلفي عىل وجه اخلصوص‪ ،‬بام يف ذلك املبلس‪ ،‬بينام باستثناء الطلب النبوي‬
‫بإعفاء اللحية وحف الشوارب؛ ال يوجد أي نص رشعي يقول بملبس معني أو‬
‫هيئة معينة جيب أن تكون لكل املسلمني يف كل أنحاء العامل‪ ،‬وعرب التاريخ‪.‬‬
‫ولألسف فإن هذا يأيت احلكم يأيت وفق اهلوى‪ ،‬وليس وفق أحكام رشعية‬
‫صحيحة‪ ،‬والتأثر يف ذلك كبري بآراء وسمت علامء وأهل شبه اجلزيرة العربية؛‬
‫حيث احلر َم ْي الرشي َف ْي مع التأثريات الكربى التي لعبتها مسألة حتول املذهب‬
‫الوهايب إىل دولة ذات نظام سيايس ينفق املليارات وفق تقارير دولية موثوقة‪ ،‬لنرش‬
‫مظهرا‬
‫ً‬ ‫هذا املذهب بكل ما حيتويه من مفردات لتصوره حول اإلسالم واملسلم‪،‬‬
‫ربا‪ ،‬بينام حيتوي – كأي اجتهاد برشي يف واقع األمر – عىل أخطاء عديدة كان‬
‫وخم ً‬
‫يتوجب مراجعتها؛ ال نرشها‪.‬‬
‫وباملثل؛ نجد أن فال ًنا قد عاش يف السعودية؛ فيقول بام يلبسونه سلفيو السعودية‪،‬‬
‫وفال ًنا عاش يف باكستان؛ فيقول بأنه ال هيئة للمسلم سوى هيئة أهل بالد الباكستان‬

‫‪148‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واألفغان‪ ،‬بينام كل هذا هراء وخطأ؛ حيث ال يوجد ال يف القرآن الكريم‪ ،‬وال يف‬
‫الس َّنة النبوية املطهرة ما يفيد بذلك‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وسرتة اإلنسان‪ ،‬يمكن تنفيذها بصور عديدة‪ ،‬وال‬
‫واألمور اخلاصة باللحية ُ‬
‫تثريب عىل املسلم فيها‪ ،‬وال يشرتط يف ذلكم هيئة معينة‪.‬‬
‫ولدينا يف ممارسات الصحابة الكبار رضوان اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬ما يفيد ذلك‪.‬‬
‫ُساقة بن مالك (ريض ُ‬
‫اهلل عنه)‪ ،‬ارتدى ثياب الفرس ملا حكم بالد فارس‪ ،‬وأقره‬
‫عىل ذلك عمر بن اخلطاب (ريض ُ‬
‫اهلل عنه) نفسه‪.‬‬
‫الس َّنة‪ ،‬بام يف ذلك "ال ُبخاري" و"مسلم"‪ ،‬أن النبي ﷺ‪،‬‬
‫بل إن هناك يف كتب ُّ‬
‫جبة شامية‪ ،‬وكانت أكاممها ضيقة خال ًفا ملا كان هو متعارف عليه يف شبه‬
‫كان يلبس َّ‬
‫تابعا للدولة الرومانية التي كانت حتارب‬
‫اجلزيرة العربية‪ ،‬والشام يف ذلك احلني كان ً‬
‫الدولة اإلسالمية الناشئة يف ذلك احلني‪ ،‬والروم كانوا أهل كفر‪.‬‬
‫وهو بكل تأكيد دليل رشعي – الدليل الرشعي معروف أنه القرآن الكريم‬
‫الس َّنة النبوية – بأنه ال منافاة بني التقاليد يف اللباس والعادات‪ ،‬وبني‬
‫وصحيح ُّ‬
‫الدين‪ ،‬طاملا أنه ال يوجد تصادم‪ ،‬ويف ذلك بيان للتوسعة عىل املسلم‪ ،‬وهني عن‬
‫التضييق يف هذا األمر واملبالغة فيه‪.‬‬
‫ويف حديث أخرجه "مسلم"‪ ،‬أن النبي ﷺ قال‪" :‬هلك املتنطعون" (قاهلا ثال ًثا)‪،‬‬
‫"التنطع" هو التكلف والتشدد فيام ال ينبغي‪ ،‬ويف غري موضعه‬ ‫ُّ‬ ‫وقال العلامء إن‬
‫الصحيح‪ ،‬مثل الغلو يف العبادة واملعاملة‪ ،‬بحيث يؤدي ذلك إىل املشقة الزائدة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واألمر يف حالتنا هذه ال تتعلق بمشقة زائدة من املسلم عىل نفسه‪ ،‬وإنام بأثر‬
‫أعظم وأخطر‪ ،‬وهو إفساد جهود الدعوة وعدم فاعليتها‪.‬‬
‫فام جيري أو ً‬
‫ال خيالف صحيح الفطرة يف التنوع بني البرش‪ ،‬وبالتايل؛ مستحيل‬
‫أمم هلا خصوصيتها‬
‫إلزام مئات املاليني من أبناء الشعوب املختلفة التي من بينها ٌ‬
‫بالتزام زي ومظهر واحد‪.‬‬
‫ً‬
‫موائم لصحيح العمران‬ ‫وبالتايل؛ فهو خيالف صحيح الدين‪ ،‬ألن اإلسالم نزل‬
‫والفطرة‪ ،‬وكالمها من خلق اهلل عز وجل؛ الذي هو وضع هذا الدين وارتضاه لنا‪.‬‬
‫األمر اآلخر‪ ،‬هو أن خصوم الدين واملرشوع اإلسالمي يف الغرب؛ استغلوا هذه‬
‫النقطة‪ ،‬وصكوا املاليني من املواد اإلعالمية التي شوهت هذه الصورة النمطية‬
‫وعملت عىل "شيطنتها"‪ ،‬استنا ًدا لألسف إىل ممارسات مسلمني؛ مجاعات وأفراد‪،‬‬
‫تستكمل جان ًبا آخر‪ ،‬وهو اصطناع "الشيطان األخرض" يف إشارة إىل "اخلطر‬
‫اإلسالمي" – هنتنجتون وفوكوياما قالوها رصاحة – وبالتايل؛ تم تشويه الدين‬
‫ذاته‪ ،‬واملرشوع الدعوي واألخالقي الذي حيمله بالكامل‪ ،‬وعىل ذلك؛ فلو ظل‬
‫الدعاة ألف عام يدعون الناس يف كثري من بقاع العامل؛ ما استجابوا‪.‬‬
‫ً‬
‫اعتزازا‬ ‫فعىل سبيل املثال؛ كيف نتصور ياباين – وهم من أكثر شعوب األرض‬
‫برتاثهم وهويتهم – أنه عندما يسلم؛ جيب أن يتشبه بشعب آخر؟! – فكام قلنا‬
‫الصورة املتداولة حال ًيا ليست للمسلم‪ ،‬وإنام هي ملسلمي شعوب مثل السعودية‬
‫طبعا‪.‬‬
‫وباكستان – سريفض ً‬

‫‪150‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو أمر متحقق بالفعل حتى بني املسلمني اجلدد؛ حيث خطأ كبري يف تقييم‬
‫معدالت انتشار اإلسالم يف العامل الغريب عىل وجه اخلصوص‪ ،‬فاألرقام املتداولة يف‬
‫إحصائيا‪ ،‬ولكنها غري دقيقة يف داللتها املوضوعية؛‬
‫ًّ‬ ‫هذا املقام‪ ،‬قد تكون صحيحة‬
‫حيث اإلحصاء السيايس واالجتامعي علم خمتلف متا ًما عن اإلحصاء الريايض‪ ،‬ويضع‬
‫يف اعتباره العوامل البيئة املجتمعية والسياسية يف تقييم األرقام التي يتم التوصل إليها‪.‬‬
‫فالغرب معروف بانفتاحه‪ ،‬وبأن مبدأ احلرية هناك يدفعهم إىل جتربة كل يشء‪،‬‬
‫فكثري من املسلمني من أبناء هذه البلدان‪ِ ،‬‬
‫يسلم كمحطة من حياته‪ ،‬أو كتجربة ال‬
‫أكثر‪ ،‬قبل أن ينتقل إىل "جتربة دينية" أو "روحية" أخرى من فرتة ألخرى‪.‬‬
‫"جترب" الدخول يف اإلسالم ضمن مساعيها للحصول‬
‫ولذلك هناك نسبة كبرية ِّ‬
‫كردة فعل زاء احلضارة املادية املتوحشة هناك‪ ،‬وملا ال‬
‫عىل السالم الروحي والنفيس َّ‬
‫طبعا يف اإلسالم‪ ،‬ولكن يف "النسخة" التي ينقلها البعض هلم عن‬
‫جيدونه لن أقول ً‬
‫اإلسالم؛ فإهنم يتحولون عنه‪.‬‬
‫ودليل صحة ذلك‪ ،‬أنه‪ ،‬وفق دراسات مو َّثقة‪ ،‬فإن نسبة كبرية من املسلمني اجلدد‬
‫يف الغرب إذا ما حتولوا عن اإلسالم؛ فإهنم يعتنقون الديانات الرشقية ذات الطابع‬
‫الروحي‪ ،‬مثل اهلندوسية والبوذية‪ ،‬وغري ذلك من الفلسفات الوضعية‪.‬‬
‫ِ‬
‫"يسلم" عىل سبيل‬ ‫وكذلك بسبب طبيعة املجتمعات الغربية؛ فغن البعض‬
‫"املوضة"‪ .‬هذا مؤسف‪ ،‬ولكنه حقيقي‪ ،‬ولكننا ال نجري دراسات بالكفاية الالزمة‬
‫ملعرفة االجتاه العكيس لألمر؛ أي معدالت خروج املسلمني اجلدد من اإلسالم‪،‬‬
‫"ردة" ألهنم من األصل مل يدخلوا يف الدين باملعنى الصحيح الرشعي‪.‬‬
‫ولن أقول َّ‬

‫‪151‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو جزء من مشكلة كربى تواجه الصورة الذهنية لإلسالم واملسلمني هناك‪،‬‬
‫ريا من‬
‫وهي أنه بسبب أن اعتناق اإلسالم تم من دون علم أو تأهيل كايف؛ فإن كث ً‬
‫املسلمني اجلدد يف أوروبا واألمريكت َْي من سكان البالد األصليني؛ انحرفوا فكر ًّيا‬
‫وانضموا إىل اجلامعات التكفريية املسلحة‪.‬‬
‫مشفوعا بتقارير‬
‫ً‬ ‫ولقد أصدر األزهر الرشيف دراسات موثقة باألرقام يف ذلك‪،‬‬
‫أجهزة خمابرات ووكاالت إعالمية كربى هلا موثوقيتها يف أملانيا وبريطانيا وفرنسا‬
‫ودول أوروبية أخرى‪.‬‬
‫ولذلك ال يمكن االستناد باطمئنان إىل ما ُيقال أن جهود الدعوة بخري ألن‬
‫املسلمني يزيدون‪ .‬فهي زيادة كزبد البحر لألسف‪ ،‬وترض أكثر مما تنفع‪.‬‬
‫املطلوب هو أن نعلم اإلسالم للناس كام وضعه اهلل تعاىل لنا؛ كدين عاملي ال‬
‫يتقيد ال بحدود وال بصورة وال هبيئة شعب بعينه‪.‬‬
‫نسمع اآلن هز ً‬
‫ال عن "اإلسالم املرصي"‪ ،‬و"اإلسالم الرتكي"‪ ،‬و"اإلسالم‬
‫السعودي"‪ ،‬وهذا كله هراء‪ ،‬وأثره خطر عىل جهود الدعوة‪ ،‬بل وعىل صورة اإلسالم‬
‫ً‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان‪.‬‬ ‫نفسه كدين عاملي الطابع‪ ،‬أنزله اهلل تعاىل لكي يكون‬
‫كتبنا يف هذا املوضع قبل فرتة عن "اإلسالم وقضية الصورة الذهنية‪ ..‬بني‬
‫احلرملك ومعامل ناسا!"‪ ،‬ويف عدد "ذي القعدة" من جملة "األزهر"‪ ،‬هناك مقال‬
‫ال‪ ،‬للمفكر والفيلسوف املرصي والعريب الكبري‪ ،‬الدكتور زكي‬ ‫رائع كان جمهو ً‬
‫نجيب حممود‪ ،‬حيمل ذات الفكرة‪ ،‬بعنوان‪" :‬عامل عابد يف سفينة فضاء"‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الدعوة اإلسالمية جيب أن تعمل عىل أال يأخذ اإلسالم صفة أنه دين "العرب"‬
‫فقط أو دين الشعوب املرشقية‪ ،‬فقط‪ .‬فليكن املسلم عاملًا يف "ناسا"‪ ،‬أو رائد فضاء‪،‬‬
‫أو عامل بيولوجي؛ يرتدي أحدث الثياب‪ ،‬وخيتلف يف هيئته عن املسلم اهلندي‪،‬‬
‫واملسلم املرصي‪ ،‬واملسلم الياباين‪.‬‬
‫هذا هو اإلسالم كام أراده اهلل تعاىل؛ دين صالح للجميع‪ ،‬يف كل زمان‪ ،‬ويف كل‬
‫مكان!‬

‫‪153‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تقبل الرسول ﷺ معارضيه؟!‬


‫كيف َّ‬

‫نحن يف هذه األيام يف رحاب ذكرى طيبة‪ ،‬وهي مولد الرسول الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪،‬‬
‫ولئن كان ال يزال ذلك اجلدل األبدي حول مرشوعية أو عدم مرشوعية االحتفال‬
‫بمولده ﷺ؛ فال أقل من أن تكون املناسبة فرصة لنا كمسلمني الستحضار املزيد‬
‫من هديه "عليه الصالة والسالم"‪.‬‬
‫ويف ظل املشكالت السياسية واالجتامعية‪ ،‬التي ترضب األمة وجمتمعاهتا ودوهلا‬
‫بأطناهبا؛ فإننا من األمهية بمكان يف هذه املرحلة‪ ،‬أن يكون اهتاممنا بام جاء يف السرية‬
‫النبوية العطرة من األمور التي حتسم املشكالت االسرتاتيجية التأثري‪ ،‬وتعمل عىل‬
‫رأب صدع األمة‪ ،‬واجتامع شتاهتا مرة أخرى‪.‬‬
‫ومن بني أهم األمراض اآلن التي اب ُت ِليت هبا معظم احلركة اإلسالمية عىل‬
‫اختالف ألوان طيفها الفكري والتنظيمي يف الوقت الراهن‪ ،‬هو غياب املامرسة‬
‫الديمقراطية السليمة بداخلها‪ ،‬وعدم قبول اآلخر‪ ،‬حتى وإن كان ِمن ذات اإلطار‪،‬‬
‫وكان ما يطرحه يصب يف املصلحة العامة‪.‬‬
‫هذه املشكلة شديدة التأثري عىل الصورة الذهنية اخلارجية للحركة اإلسالمية‪،‬‬
‫فهي تفت يف عضد طرحها لنفسها كبديل سيايس وجمتمعي لألنظمة احلاكمة‪،‬‬
‫فغياب املامرسة الديمقراطية السليمة‪ ،‬باملعنى الواسع‪ ،‬الذي يتجاوز جمرد انتخاب‬
‫األطر التنفيذية واحلركية‪ ،‬إىل آفاق أوسع تتعلق بكيفية تعامل احلركة اإلسالمية مع‬

‫‪154‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اآلخر‪ ،‬ومع الرأي املخالف بداخلها‪ ،‬وكيف تعمل عىل توظيف كل اآلراء متى‬
‫كان يف ذلك مصلحة عامة‪.‬‬
‫ولعل ما حيسم هذه املشكلة‪ ،‬منطق بسيط للغاية من حياة الرسول الكريم ﷺ‪،‬‬
‫نبي‪ ،‬وكان يأتيه الوحي من اهللِ تعاىل‪ ،‬وما كان ﷺ ينطق عن اهلوى؛‬
‫فبالرغم من أنه ٌّ‬
‫إال أنه قدم أعظم النامذج يف املرونة السياسية‪ ،‬سواء جلهة تقبل آراء معارضيه‪ ،‬حتى‬
‫ممَّن مل يكونوا قد آمنوا به بعد‪ ،‬أو جلهة التزامه بآراء أصحابه فيام ليس فيه نص‪.‬‬
‫ومن هنا تأيت عظمة شخصية الرسول الكريم "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬وتأكيد‬
‫عىل أنه بالفعل تربية ربانية‪ ،‬وأن اهلل تعاىل أعده حلمل هذه املسؤولية الثقيلة؛ حيث‬
‫مل تعرتيه يف هذه األمور‪ ،‬التي هي بالفعل الفيصل بني القائد والسيايس الناجح‪،‬‬
‫وبني القائد والسيايس الفاشل؛ عوارض النقص اإلنساين املتعارف عليها‪ ،‬والتي‬
‫أدالت أممًا وإمرباطوريات كربى عرب التاريخ‪.‬‬
‫وكان النبي ﷺ‪ ،‬ال يقف عىل آراء خمالفيه حتى يف قرارات احلرب والسلم‪،‬‬
‫بالرغم من أهنا هي األهم يف حياة األمم‪.‬‬
‫ويبدو أن ذلك كان إما بتكليف إهلي ال نعلمه‪ ،‬أو أن حكمة اهلل تعاىل وإرادته‬
‫شاءت ذلك؛ أال يسأل النبي "عليه الصالة والسالم" ر َّبه اهلداية يف مثل هذه‬
‫املواقف‪.‬‬
‫قادرا عىل أن يسأل ربه‪ ،‬يف الكثري‬
‫فالرسول الكريم ﷺ‪ ،‬استشار صحابته وكان ً‬
‫من املواضع التارخيية التي مثَّلت حلظات تارخيية فارقة يف حياة األمة‪ ،‬التي كانت‬

‫‪155‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف تلك الفرتة ال تزال يف طور التكوين‪ ،‬وليس أدل عىل حساسية هذه املرحلة‪،‬‬
‫من قوله ﷺ‪ ،‬عندما نظر إىل املرشكني‪ ،‬وهم ألف‪ ،‬وأصحابه ثالث مائة وتسعة‬
‫فج ِعل‬ ‫ال‪ ،‬فاستقبل نبي اهلل "عليه الصالة والسالم" ِ‬
‫الق ْب َلة‪ ،‬ثم مد يديه ُ‬ ‫عرش رج ً‬
‫هيتف بربه سبحانه وتعاىل‪" :‬اللهم أنجز يل ما وعدتني اللهم ِ‬
‫آت ما وعدتني اللهم‬
‫إن هتلك هذه العصابة من أهل اإلسالم ال ُتعبد يف األرض" [أخرجه مسلم يف‬
‫الصحيح وأخرون]‪.‬‬
‫ويف بد ٍر كذلك‪ ،‬استشار الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬صحابته يف موضع املكوث‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬ويف أزمة األحزاب‪ ،‬يف‬ ‫"ر ِ َ‬
‫واملعسكر‪ ،‬ونزل عىل رأي سلامن الفاريس َ‬
‫العام اخلامس للهجرة‪ ،‬رجع إىل الصحابة‪ ،‬فحفر اخلندق وحارب مرشكي القبائل‬
‫العربية واليهود‪ ،‬من املدينة‪ ،‬بالرغم من أنه ﷺ‪ ،‬كان مع الرأي القائل بالقتال من‬
‫خارجها‪.‬‬
‫واملواقف من حياته "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬يف مثل هذه األمور‪ ،‬كثرية‪ ،‬فهناك‬
‫موقفه مع سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوضه ﷺ‪ ،‬يف صلح احلديبية‪ ،‬ورفض أن‬
‫يكتب "بسم اهلل الرمحن الرحيم"‪ ،‬أو "هذا ما عاهد عليه حممد رسول اهلل"‪ ،‬وقال لع ٍّ‬
‫يل‬
‫"ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬أن يكتب "بسم اللهم" و"هذا ما عاهد عليه حممد بن عبد اهلل"‪.‬‬
‫يف هذا املوقف أبرز الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬القدرة عىل ضبط النفس‪ ،‬وأعىل من‬
‫شأن املصلحة العامة للمسلمني عىل ما عداها من اعتبارات‪.‬‬
‫ويف احلديبية كذلك‪ ،‬عندما عارضه بعض الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم؛‬
‫مل يفعل أكثر من أنه دخل إىل خيمته‪ ،‬حزينًا‪ ،‬وطلب مشورة أم املؤمنني‪ ،‬أم َس َل َمة‬

‫‪156‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ض ُ‬
‫اهلل عنها"‪ ،‬وفعل مثلام أشارت عليه‪ ،‬وأنقذ رأهيا األمة‪ ،‬بعد أن قال "عليه‬ ‫"ر ِ َ‬
‫َ‬
‫الصالة والسالم"‪" :‬هلك املسلمون أمرهتم فلم يمتثلوا"‪.‬‬
‫يدع "عليه الصالة والسالم" ر َّبه عليهم‪ ،‬ومل يعنفهم‪ ،‬ومل يدعو‬
‫يف حينه مل ُ‬
‫صحابته الذين أيدوه منذ البداية إىل أن يقاتلوا َمن عارضوه؛ كام نرى اآلن ِمن‬
‫بِدَ ٍع ومستحدثات من جانب َمن يدعون أهنم من احلركة اإلسالمية‪ .‬إطال ًقا‪ .‬فقط‬
‫التفت ﷺ‪ ،‬إىل ما جيب عليه أن يقوم به‪ ،‬فتبعه القوم‪ ،‬وانتهت األزمة‪ ،‬و ُفتحت مكة‬
‫املكرمة بعد ذلك بعا ٍم واحد!‬
‫واملوقف األخري بالذات‪ ،‬هو من أهم ما يمكن يف التدليل عىل كيفية تعامل‬
‫قيادات احلركة اإلسالمية مع معارضيهم يف الرأي‪ ،‬سواء داخل احلركة‪ ،‬أو من‬
‫خارجها؛ فهذا هو فعل "رسول اهلل" ﷺ‪ ،‬مع أعداء الدين‪ ،‬ومع َمن خالفوه يف‬
‫الرأي بل ومع من رفضوا قراره بالرغم من أنه ال ينطق عن اهلوى‪ ،‬وهم مؤمنون‬
‫بأنه "رسول اهلل"‪.‬‬
‫إ ًذا‪ ،‬فأي حماوالت للقول بأن اإلسالم ليس كذلك‪ ،‬وبأن السمع والطاعة‬
‫املطل َق ْي‪ ،‬واجبان للحاكم أو لألمري‪ ،‬إنام هو حمض افرتاء عىل اإلسالم‪ ،‬بل وخروج‬
‫عن صحيح الدين؛ حيث األصل هو القرآن الكريم وفعل النبي الكريم ﷺ‪،‬‬
‫والس َّنة النبوية‪.‬‬
‫واالجتهاد يكون فيام ليس فيه نص أو أصل رشعي من القرآن الكريم ُّ‬
‫‪...‬‬
‫هكذا كان حممدٌ ﷺ‪ ،‬وهكذا هو اإلسالم؛ فعلموه ألبنائكم كام أنزله اهلل تعاىل علينا!‬

‫‪157‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المعرفة كأحد مراتب التطور الحضاري‬


‫ومعركة إعادة صناعة وعي األمة‬

‫انشغلت الكثري من الدوائر السياسية واإلعالمية‪ ،‬وحتى املجتمعية‪ ،‬املرتبطة‬


‫ال‪ ،‬يف الوقت‬‫باحلركة اإلسالمية بالتحديات القريبة التي تواجهها األمة شعو ًبا ودو ً‬
‫الراهن‪ ،‬مع اتساع نطاق احلرب بمعناها احلقيقي والكامل‪ ،‬والتي شملت حتى‬
‫استخدام القوة املسلحة‪ ،‬التي تشنها قوى عدة عىل املرشوع اإلسالمي‪ ،‬والقوى‬
‫التي حتمله‪.‬‬
‫ولعل البعض خمطئ يف هذا السياق‪ ،‬عندما يضع هذه احلرب يف سياق تبعات‬
‫ثورات الربيع العريب فحسب‪ ،‬فهذا الذي جيري‪ ،‬إنام هو حمطة زمنية من ضمن‬
‫حمطات رصاع حضاري مستمر بدأ منذ ظهور دولة اإلسالم يف شبه جزيرة العرب‪.‬‬
‫كانت أول حلقات هذا الصدام يف عهد الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬عندما اصطدمت‬
‫جيوش الدولة اإلسالمية الوليدة‪ ،‬مع قوات جيش الروم ومن واالهم من عرب‬
‫غزوت تبوك ومؤتة‪ ،‬عا َم ْي الثامن والتاسع للهجرة‪.‬‬
‫َْ‬ ‫الشام املسيحيني الغساسنة‪ ،‬يف‬
‫وحتى هذا الرصاع‪ ،‬الذي ُيعترب أحد أطول الرصاعات اإلنسانية‪ ،‬ذات الطابع‬
‫احلضاري‪ ،‬واسع النطاق‪ُ ،‬يعترب بدوره‪ ،‬حلقة زمنية ضمن سلسلة حلقات احلرب‬
‫األبدية الدائمة ما بني احلق والباطل‪ ،‬والتي بدأت مع خلق اإلنسان ونزوله إىل‬
‫األرض‪ ،‬وتستمر حتى يوم يبعثون‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وإنام يأيت هذا االنشغال‪ ،‬بسبب أولوية احلدث‪ ،‬يف ظل استعار حدة هذه احلرب‪،‬‬
‫والتي طالت إىل اآلن عرشات اآلالف من األرواح‪ ،‬وبدأت منذ انطالق الطلقة‬
‫األوىل لثورة الياسمني يف تونس‪ ،‬يف ديسمرب من العام ‪2010‬م‪.‬‬
‫إال أن اخلطأ الكبري الذي قد يقع فيه أويل األمر داخل احلركة اإلسالمية‪ ،‬هو‬
‫التوقف أمام تبعات هذه النقطة الزمنية‪ ،‬فام هي إال مرحلة ومتر‪ ،‬وتظهر مرحلة‬
‫أخرى‪ ،‬سوف تعمد فيها قوى االستكبار العاملي ومن عاوهنا من ُ‬
‫احل َّكام ال َف َسدَ ة‪،‬‬
‫إىل شغل األمة بمحطة أخرى‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإنه من األمور املهمة املعروضة عىل القيادات احلركية للدعوة‪ ،‬والتي‬
‫حتمل تبعات إعادة إحياء املرشوع اإلسالمي‪ ،‬والنهوض باألمة حضار ًّيا‪ ،‬العمل‬
‫عىل وضع إطار عام للحركة يشمل خمتلف استحقاقات هذه املرحلة‪.‬‬
‫ولعل من أهم واجبات الوقت حال ًيا هي قضية االنشغال باملعرفة واالشتغال هبا‬
‫يف آن‪ ،‬بام يشتمل عليه املعنى الواسع للمصطلح‪ ،‬وعىل رأس ذلك قضية الوعي‪،‬‬
‫التي هي املعركة الكربى املطروحة اآلن أمام احلركة اإلسالمية‪.‬‬
‫وليس من نافلة القول أبدً ا‪ ،‬أو من ترفيات احلركة والنشاط يف إطار املرشوع‬
‫الصحوي العمل يف االجتاه الذي خيدم قضية املعرفة عىل هذا النحو‪.‬‬
‫بداي ًة‪ ،‬املعرفة تعني اإلدراك‪ ،‬وهي من الوعي‪ ،‬وتعني ً‬
‫أيضاوفهم احلقائق أو‬
‫اكتساب املعلومة‪ ،‬والتعرف عىل الظواهر املحيطة باإلنسان‪ ،‬وباجلامعة البرشية‪،‬‬
‫بمختلف الوسائل‪ ،‬سواء العلمية منها‪ ،‬من خالل التجربة‪ ،‬أو من خالل أساليب‬

‫‪159‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الفلسفة‪ ،‬مثل التأمل يف طبيعة األشياء‪ ،‬وتأمل النفس‪ ،‬أو من خالل اإلطالع عىل‬
‫جتارب اآلخرين‪.‬‬
‫وترتبط املعرفة بعدد من القضايا ذات الطابع الفلسفي والعميل يف آن‪ ،‬مثل‬
‫البحث يف اكتشاف اآلفاق‪ ،‬وتطوير الذات‪ ،‬وتطوير تقنيات وآليات التعامل مع‬
‫مفردات العامل من حول اإلنسان‪.‬‬
‫وتعترب فلسفة املعرفة‪ ،‬أحد فروع ومباحث الفلسفة الثالثة‪ ،‬وهي بجانب املعرفة‬
‫أو "اإلبستمولوجي"‪ ،‬األخالق أو "األنطولوجي"‪ ،‬والوجود "اإلكسيولوجي"‪،‬‬
‫وتبحث فلسفة املعرفة يف ماهية املعرفة ووسائلها وتعريفها‪ ،‬وتسعى لإلجابة عىل‬
‫ثالثة أسئلة رئيسية يف كل ظاهرة تسعى إىل معرفتها‪ ،‬وهي‪ :‬كيف حتدث‪ ،‬ومتى‬
‫حتدث‪ ،‬وملاذا حتدث‪ ،‬وكذلك ضوابط احلصول عىل املعرفة‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإن املعرفة‪ ،‬يف جانب منها بكثري من مفردات احلضارة اإلنسانية‪ ،‬مثل‬
‫العلم‪ ،‬واملعلومات‪ ،‬وهي أهم مفردات احلضارة احلديثة‪ ،‬يف عرص الثورة الصناعية‬
‫الثالثة‪ ،‬الذي نعيشه اآلن‪ ،‬والقائمة عىل أساس االستخدام املكثف للمعلومة‪ ،‬بعد‬
‫قرون من االستخدام املكثَّف لآللة ولسواعد البرش‪ ،‬يف حتقيق الرتاكم يف عملية‬
‫اإلنتاج‪ ،‬والرتاكم احلضاري بشكل عام‪.‬‬
‫واملعرفة‪ ،‬بالتايل‪ ،‬أحد أهم مراتب التطور احلضاري‪ ،‬وهي الوجه اآلخر هلذا‬
‫السمة األساسية للفعل احلضاري اإلنساين‪ ،‬وهي‬
‫التطور‪ ،‬فهي‪ -‬يف طبيعتها‪ -‬حتمل ِّ‬
‫الرتاكم‪ ،‬بل إن املعرفة هي أحد أهم أوجه السمة الرتاكمية للحضارة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وجمتمع املعرفة‪ ،‬صار من أهم مفردات تقييم مدى تقدم وتطور أي جمتمع‬
‫إنساين يف عرصنا الراهن‪ ،‬منذ أن وضعته األمم املتحدة ضمن قائمتها ملعايري التنمية‬
‫الشاملة‪ ،‬بجانب قضية التنمية املستدامة‪ ،‬التي تراعي اعتبارات سالمة البيئة التي‬
‫يعيشها اإلنسان‪.‬‬
‫وجمتمع املعرفة‪ ،‬كأحد معايري التقدم احلضاري ومفردات التنمية‪ ،‬ظهر ضمن‬
‫ثورة مفاهيمية شاملة اجتاحت العامل يف الثامنينيات والتسعينيات‪ ،‬حددت معايري‬
‫جديدة لتقييم مدى تقدم املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬مثل احلداثة وما بعدها‪ ،‬ومثل‬
‫قواعد احلكم الرشيد َ‬
‫واحل ْو َكمة‪ ،‬وجمتمع املعرفة‪ ،‬وبات أخذ املجتمعات اإلنسانية‬
‫حمتوى سيايس واقتصادي‪ ،‬وجمتمعي وثقايف‪ ،‬هو أحد حمددات‬
‫ً‬ ‫بام يف هذه األمور من‬
‫تقدمها احلضاري يف عامل اليوم‪.‬‬
‫معركة الوعي‪:‬‬

‫لو أننا ربطنا هذا الذي سبق كله باملعركة احلالية التي خيوضها اإلسالم السيايس‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫احلركي‪ ،‬بمختلف تياراته وألوان طيفه؛ لوجدنا أن قضية املعرفة‪،‬‬
‫باملعنى املرتبط بسؤال الوعي واإلدراك‪ ،‬هي إحدى أهم الواجبات املفروضة حال ًيا‬
‫عىل احلركة اإلسالمية‪.‬‬
‫فقضية الوعي هي األولوية األوىل لضامن حركة الشعوب يف ركاب املرشوع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وما ارتكاس رشائح من الشعوب العربية عىل املرشوع الثوري‪،‬‬
‫واملرشوع اإلسالمي‪ ،‬إال نتيجة لغياب الوعي واملعرفة األصيلة احلقيقية بام جيري‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن بني أهم املحتوى املطلوب الوصول إليه يف هذا السياق‪ ،‬هو وعي األمة‬
‫الذايت هبويتها‪ ،‬وبخصوصيتها‪ ،‬وكذلك برسالتها‪.‬‬
‫فثمة مشكلة عمرانية كربى تعترب مسار األمة احلضاري يف وقت األزمة احلايل‪،‬‬
‫َّ‬
‫وهي مشكلة استنساخ جتارب األمم األخرى يف حياتنا السياسية واالقثصادية‬
‫واالجتامعية‪ ،‬من دون مراعاة لطبيعة املجتمعات العربية واإلسالمية‪.‬‬
‫فهذه التجارب إنام هي نابعة من سامت هذه األمم اخلاصة‪ ،‬ابتكروها وطوروها‬
‫وتبعا لطبيعة هذه املجتمعات وخصائص‬
‫بناء عىل احتياجاهتم يف خمتلف املجاالت‪ً ،‬‬
‫شخصيتها‪ ،‬فرادى وعىل املستوى اجلمعي العام‪ ،‬وال يمكن ال يمكن بحال من‬
‫األحوال‪ ،‬أن تتطابق بـ"املقاس" مع املجتمعات العربية واملسلمة‪.‬‬
‫بينام نحن لدينا جتارب سياسية ومؤسسية شديدة اخلصوصية‪ ،‬يف احلكم النبوي‪،‬‬
‫وخصوصا يف عهد عمر بن اخلطاب‪ ،‬ويف عهد عمر بن عبد‬
‫ً‬ ‫ويف اخلالفة الراشدة‪،‬‬
‫العزيز‪ ،‬ويف وقت هارون الرشيد‪.‬‬
‫واألمم الكربى الناهضة يف الرشق ويف العامل الثالث‪ ،‬أدركت ذلك‪ ،‬لوعيها‬
‫بذاهتا‪ ،‬فالصني واهلند‪ ،‬ودول أخرى‪ ،‬طورت نموذجها السيايس اخلاص‪ ،‬واجتهت‬
‫لنموذجها اخلاص ً‬
‫أيضا يف التنمية‪ ،‬وهو ما قادها إىل حجز مكاهنا يف تراتبية األمم‬
‫املتقدمة‪ ،‬أو تلك التي هلا وضعية بني حضارات العامل وأممه‪ ،‬اليوم‪.‬‬
‫وكحكم قاطع ُمستنبط من قوانني العمران البرشي‪ ،‬وما جاء به القرآن الكريم‬
‫الس َّنة النبوية؛ فإن األمة ما دامت قد تنازلت‪ -‬طواعية أو مكره ًة‪ -‬عن‬
‫وصحيح ُّ‬

‫‪162‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املؤسسة للدولة اإلسالمية األوىل‪،‬‬


‫وعيها‪ ،‬وما دمنا تنازلنا عن األصول والقواعد ِّ‬
‫النقية‪ ،‬والتي محلت مشعل احلضارة للعامل كله‪ ،‬ملا يزيد عىل ألف عام‪.‬‬
‫‪.........‬‬
‫سياسيا وحضار ًّيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ويف األخري؛ فإننا من دون ذلك؛ فإننا سوف ُننسى وننتهي‬
‫ما دمنا مرصين عىل جتاوز وعينا الذايت‪ ،‬واألخذ من اآلخرين مما ال يتناسب مع‬
‫طبيعة جمتمعاتنا‪ ،‬ما دمنا جتاوزنا النموذج املثايل الذي صنعه حممد "صىل ُ‬
‫اهلل عليه‬
‫والع َم َران‪ ،‬ابن اخلطاب وابن عبد العزيز "ريض ُ‬
‫اهلل تعاىل عنهام"‪ ،‬وغريمها‬ ‫وسلم" ُ‬
‫من قيادات األمة التارخيية؛ فإننا سوف نفشل‪.‬‬
‫وإنه يف ظل حرب العقول والقلوب الدائرة حال ًيا بمختلف وسائل القوة‬
‫الناعمة‪ ،‬وعىل رأسها اإلعالم اجلامهريي وإعالم املعرفة اجلديد‪ ،‬وعىل ساحات‬
‫التواصل االجتامعي؛ فإن قضية توعية اجلمهور العام بحقيقة ما جيري من‬
‫رصاعات‪ ،‬وأسباهبا وجذورها‪ ،‬واألهم‪ ،‬توضيح َ ْ‬
‫طرف احلق والباطل فيها‪ ،‬هو‬
‫أول خطوات النجاح يف مواجهة هذه احلرب الكونية‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫استراتيجيات التعطيل الحضاري بين استجابة األمة ومتطلبات التصدي‬

‫ال يمكن بحال النظر إىل املرحلة احلالية من الرتاجع احلضاري التي متر هبا يف‬
‫سياقها املجتزأ الذي ينظر به البعض إليها؛ حيث يرتبط األمر بأبعاد أخطر وأعمق‬
‫وموضوعيا مما هو عليه األمر‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫زمنيا‬
‫ًّ‬
‫مجيعا‪ ،‬والسيام الطليعة التي‬
‫يقر يف وجدان وعقول أبناء األمة ً‬
‫وأهم ما جيب أن َّ‬
‫تعمل عىل إعادة حشد وتنظيم الصفوف‪ ،‬وتوجيه اجلهد يف مواجهة هذه األزمات‪،‬‬
‫والتصدي لألخطار الداخلية واخلارجية؛ هو أن ما جيري‪ ،‬إنام يتم يف إطار خمطط‬
‫دقيق تتضافر فيه جهود أطراف عدة‪ ،‬من بني ظهرانينا‪ ،‬وعرب البحار والتخوم‪ ،‬من‬
‫أجل تعطيل السياق احلضاري لألمة‪.‬‬
‫ويمكن القول بكل اطمئنان إىل أن ما جيري جتاه األمة يف الوقت الراهن من‬
‫حروب ومؤامرات تستهدف هويتها وثرواهتا ووجودها ذاته‪ ،‬إنام بدأت جذوره‬
‫األوىل منذ هنايات بعثة الرسول الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪ ،‬عندما بدأت احلروب‬
‫احلدودية بني الدولة اإلسالمية الوليدة‪ ،‬وبني اإلمرباطورية الرومانية عند مناطق‬
‫التامس بني شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وبالد الشام التي كانت حتت سيطرة الرومان يف‬
‫ذلك الوقت‪.‬‬
‫ومثل أي كيان استعامري؛ فإنه ً‬
‫دائم وأبدً ا‪ ،‬ويف كل زمان ومكان‪ ،‬ما جتد هلذا‬
‫الكيان االستعامري أعوان داخليون‪ ،‬يساعدونه يف مقابل بخس الثمن‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فمن العرب الغساسنة يف بالد الشام‪ ،‬وحتى األنظمة املستبدة الفاسدة التي حتكم‬
‫منذ عقود طويلة‪ ،‬خيط متصل ومتني من االرتباط والتشابه يف األدوار والوظائف‪،‬‬
‫ويف األثر كذلك‪.‬‬
‫ولعل فيام يف الفقرة السابقة‪ ،‬أبلغ دليل عىل أن األمر عبارة عن خمطط متصل‪،‬‬
‫ومستمر إىل اآلن؛ حيث التشابه يف السياسات واألدوات‪ ،‬يؤكد أن حماوالت‬
‫التعطيل احلضاري لألمة ليست وليدة اليوم‪ ،‬أو حتى القر َن ْي التاسع عرش والقرن‬
‫العرشين‪َ ،‬‬
‫اللذ ْين شهدا االحتالل الغريب املبارش للعامل العريب واإلسالمي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن استهدافنا كأمة هبذه املخططات ال يعني أن نتجاهل‬
‫بعض األمور املهمة فيها‪ ،‬وأمهها أن هذا الذي جيري‪ ،‬بسياقه التارخيي؛ إنام هو أحد‬
‫والسنَن التي وضعها اهلل عز وجل يف العمران اإلنساين يف احلياة الدنيا‪،‬‬
‫القوانني ُّ‬
‫وجزء منه يدخل يف إطار ُسنن التدافع وصعود وهبوط احلضارات‪ ،‬واحلضارة‬
‫ٌ‬
‫اإلسالمية ليست استثنا ًء منها‪.‬‬
‫و"ليست استثنا ًء" هذه‪ ،‬هي عبارة شديدة األمهية؛ حيث إهنا تضع األمة أمام‬
‫واجبات عديدة للتصدي هلذه املخططات‪ ،‬والدرس أو العربة األبرز يف هذا الصدد‪،‬‬
‫هو أن إسالمك أو حتى إيامنك‪ ،‬ال حيول بينك وبني قوانني وسنن اخلالق عز وجل‪،‬‬
‫وأن العربة بالعمل‪ ،‬وليس باالنتامء‪.‬‬
‫وبالرغم من تعدد اآلليات التي حتتوهيا اسرتاتيجيات التعطيل احلضاري التي‬
‫تبناها خصوم األمة يف اخلارج‪ ،‬وأعواهنم يف الداخل من أنظمة وقوى مرتزقة‬
‫مجيعا يف ثالثة سياقات أساسية‪.‬‬
‫ومنتفعني؛ إال أهنا تلتقي ً‬

‫‪165‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫السياق األول‪ ،‬هو فصل األمة عن القرآن الكريم‪ ،‬وينبثق من ذلك تعطيلها‬
‫أخالقيا‪ ،‬وفصلها عن قيمها األساسية بمختلف وسائل القوة الناعمة‪ ،‬ويشمل‬
‫ًّ‬
‫ذلك‪ ،‬تعديل اهتاممات وأولويات األجيال اجلديدة‪ ،‬من معايل األمور إىل سفيهها!‬
‫السياق الثاين‪ ،‬هو تفتيت األمة‪ ،‬وهو ما ال يعني التفرقة بني أبنائها وبعضهم‬
‫البعض فحسب‪ ،‬وإنام ً‬
‫أيضا إيقاع العداوة والبغضاء بينهم وبني بعضهم البعض‪،‬‬
‫وإغراقهم يف آتون رصاعات بينية دموية‪ ،‬تريق الدماء وهتلك احلرث والنسل‪،‬‬
‫وتبعد بني املسلمني وبني الوحدة التي هي أساس ومصدر القوة الرئييس ألي ٍ‬
‫كيان‪.‬‬
‫ويدخل يف ذلك‪ ،‬نرش األفكار اهلدامة واملذاهب الغريبة‪ ،‬وإشاعة روح القومية‬
‫والشعوبية‪ ،‬وإحياء املذهبية والطائفية‪ ،‬وتغذية رصاعات تارخيية‪ ،‬تعود جذور‬
‫بعضها إىل مرحلة ما قبل ظهور اإلسالم يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬كام هو احلال‬
‫يف نثائية ُسنِّي‪ /‬شيعي‪ ،‬أو عريب‪ /‬فاريس‪ ،‬وغري ذلك مما اتصل‪ ،‬حتى وصلنا إىل‬
‫مرحلة الرصاع بني مدينة وأخرى‪ ،‬وقبيلة وأخرى‪ ،‬وكأنام عاد بنا التاريخ إىل عهد‬
‫اجلاهلية‪.‬‬
‫نبينا ﷺ‪ ،‬من ذلك‪ ،‬وتوقعه‪ ،‬عندما قال يف خطبة الوداع‪" :‬ال تعودوا‬
‫وقد حذر ُّ‬
‫ٌ‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬ ‫ارا يرضب بعضكم رقاب بعض"‬ ‫من بعدي ُك َّف ً‬
‫السياق الثالث‪ ،‬هو إفراغ األمة من إحساسها بانتامئها اإلسالمي اجلامع‪ ،‬أو‬
‫بمعنى أدق تدمري فكرة املركزية اإلسالمية التي ظلت مسيطرة عىل النظام العاملي‬
‫يف العامل القديم‪ ،‬ألكثر من ألف عام عام‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويشمل ذلك دجمها يف النظام العاملي القائم – أ ًّيا كانت املرحلة التارخيية التي‬
‫دائم بعيدة عن انتامئها اإلسالمي‪ ،‬وأن يقر‬ ‫تتحرك فيها – بحيث تكون بوصلتها ً‬
‫يف قناعة األجيال اجلديدة من أبناء األمة‪ ،‬أن األمة جزء من نظام أكرب وأقوى‬
‫منها‪ ،‬وأهنا هي والبلدان التي خرجت من عباءة الدولة اإلسالمية اجلامعة بعد‬
‫بمعنى أدق‪ ،‬وأهنا‬
‫ً‬ ‫تفككها‪ ،‬إنام تابعة هلذا النظام‪ ،‬أو للقوى الكربى املسيطرة عليه‬
‫ال متلك حيل ًة يف أن تؤسس نظامها اخلاص‪ ،‬أو تتحرك وفق ما تفرضه عليها هويتها‬
‫اإلسالمية األصيلة‪.‬‬
‫مهم فيام يتم يف إطار السيا َق ْي الثاين‬
‫نموذجا ًّ‬
‫ً‬ ‫ولعل يف مؤمتر الشيشان األخري‪،‬‬
‫والثالث؛ حيث إن املؤمتر بالرغم من أنه يعرب عن قضية إسالمية شديدة األمهية‬
‫الس َّنة واجلامعة؛ إال أنه تم برعاية النظام العاملي غري‬
‫واملركزية‪ ،‬وهي تعريف أهل ُّ‬
‫املسلم‪ ،‬ممث ً‬
‫ال يف أحد أقطابه‪ ،‬وهو روسيا‪.‬‬
‫وقوى إسالمية‬
‫ً‬ ‫كام أنه تم يف إطار تقسيمي بحت؛ حيث إن جتاوزه لذكر السلفيني‬
‫أخرى هلا جذورها الضاربة يف املجتمعات املسلمة‪ ،‬قاد إىل فتنة جديدة تضاف إىل‬
‫سلسلة الفتن واألزمات الداخلية التي ترضب بنيان األمة ومكوناته املختلفة‪.‬‬
‫وينبثق عن ذلك‪ ،‬خمتلف صور إضعاف األمة‪ ،‬بام يف ذلك احتالهلا احتال ً‬
‫ال‬
‫ً‬
‫مبارشا مرة أخرى‪ ،‬كام تم مع العراق وأفغانستان‪ ،‬وهنب خرياهتا‪ ،‬ودعم األنظمة‬
‫املستبدة الفاسدة التي هلا أخطر األثر يف تنفيذ خمتلف أركان هذه السياقات الثالث‪،‬‬
‫من خالل جتهيل املجتمعات وجتريفها حضار ًّيا‪ ،‬وإضعافها بحيث تكون سهلة‬
‫القياد‪ ،‬ويكون من السهل احلفاظ عىل حالة السبات والتفكك التي هي عليه‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫استجابة األمة ونقاط الضعف‪:‬‬

‫لعل أهم ما ينبغي التأكيد عليه يف هذا اإلطار‪ ،‬هو أنه خمطئ من يضع الوضع‬
‫القائم ضمن استجابات األمة‪ ،‬ويتهمها بالتفصري؛ حيث إن ذلك احلكم خيلط ما‬
‫بني األنظمة احلاكمة وأثر سياساهتا عىل املجتمعات املسلمة‪ ،‬وبني استجابة هذه‬
‫املجتمعات‪ ،‬والتي هي أصل األمة‪ ،‬بينام ال متلك األنظمة احلاكمة صفة التمثيلية‬
‫أي من أركان هوية األمة‪.‬‬
‫لألمة؛ باعتبارها مغتصبة للسلطة‪ ،‬وال تعرب عن ٍّ‬
‫وتنقسم األمة ممثلة يف اإلنسان املسلم‪ ،‬بني غالبية مطحونة‪ُ ،‬م َّهلة‪ ،‬وبني طليعة‬
‫مستنرية‪.‬‬
‫القسم األول‪ ،‬جزء من مشكلته ال يمكن إلقاء اللوم عليه فيها‪ ،‬حتى وإن‬
‫استجاب للحكومات واألنظمة يف مواجهتها مع القسم الثاين‪ ،‬وهو الطليعة‬
‫املستنرية التي َّ‬
‫نظمت نفسها‪ ،‬وبدأت تسعى إىل استعادة خريية األمة‪ ،‬والتي عىل‬
‫رأس متطلباهتا‪ ،‬اإلطاحة باألنظمة القائمة‪ ،‬التي تقف حجر عثرة حقيقي أمام‬
‫الصحوة اإلسالمية‪.‬‬
‫ألن هذا القسم‪ ،‬وهم من ملح األرض‪ ،‬قد تعرضوا طيلة عقود طويلة إىل يشء‬
‫غري يسري من مساعي التجريف الفكري واملعنوي‪ ،‬باإلضافة إىل اإلفقار القرسي‬
‫الذي أدى إىل لفت أنظار الشعوب عن أي يشء عدا البحث عن لقمة العيش‪.‬‬
‫ولقد كان لذلك أبلغ األثر يف إشعار أبناء األمة بالضعف أمام األنظمة‪ ،‬مع‬
‫إحساسها باملذلة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فقد انغرست فيها قناعة بعدم قدرهتا عىل أي فعل‬

‫‪168‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إجيايب‪ ،‬ومن َث َّم استسلمت لسجانيها‪ ،‬مع غياب القدرة عىل التمييز ما بني اخلبيث‬
‫والطيب فيام يعرض عليها من مواقف وأمور‪.‬‬
‫وهنا تربز مهمة الطليعة املستنرية يف الصرب عىل هكذا وضع‪ ،‬وعدم اليأس من‬
‫عملية تغيري هذا الوضع عىل مستوى الشعوب‪.‬‬
‫ولعلها القضية املركزية التي نريد التأكيد عليها يف هذا املوضع؛ فمفتاح التغيري‬
‫احلقيقي يكمن يف تغيري الشعوب‪ ،‬وتصحيح مفاهيمها‪ ،‬وإبدال أولوياهتا من لقمة‬
‫العيش‪ ،‬إىل التطلع إىل حياة أفضل واستعادة األدوار احلضارية لألمة‪ ،‬وإيصال‬
‫حقيقة مهمة هلم مفادها أن هذا الوضع هو يف مصلحتهم قبل أي طرف‪.‬‬
‫فلو حدث واستعادت األمة خرييتها ودورها احلضاري؛ فإن أول املستفيدين‬
‫سيكون هم البسطاء والضعفاء الذين ترسق األنظمة احلاكمة حقوقهم وأقواهتم‪،‬‬
‫وجتعلهم يف معيشة من الذل ما بعده ذل ومهانة‪ ،‬وأن استعادة األمة لعزهتا‪ ،‬سوف‬
‫ينعكس عز ًة عليهم‪.‬‬
‫وأمهية هذا اجلهد – وهو ما تدركه األنظمة احلاكمة والقوى اخلارجية التي‬
‫ٍ‬
‫مدرك شديد املركزية يف هذا األمر‪ ،‬وهو‬ ‫تعمل تعطيل األمة حضار ًّيا – يكمن يف‬
‫أن اجلامهري هي مفتاح التغيري احلقيقي‪ ،‬وأهنا هي الوحيدة القادرة عىل التصدي‬
‫لآللة األمنية والعسكرية لألنظمة احلاكمة‪.‬‬
‫وال يمكن القول بأن احلالة يف سوريا عىل سبيل املثال‪ ،‬ويف دول الربيع العريب‪،‬‬
‫يقول بعكس ذلك‪ ،‬وأن الثورات الشعبية قد فشلت أمام قبضة األنظمة القمعية؛‬

‫‪169‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إطال ًقا‪ ،‬فام حدث هو أن هذه األنظمة عىل إدراكها أهنا غري قادرة عىل التصدي‬
‫لشعب بأكملها؛ فإهنا عملت عىل تفتيت جبهته‪ ،‬وسحب جزء منه من خلف‬
‫مرحليا‪ ،‬يعود إىل‬
‫ًّ‬ ‫الطليعة الثورية املوجودة‪ ،‬وبالتايل؛ فإن فشل الثورات العربية‬
‫أن الظهري الشعبي هلا تراجع‪ ،‬وهو ما يؤكد مفتاحية دور الشعب يف عملية التغيري‪.‬‬
‫وهو ما تم يف اجلزائر فيام ُيعرف بالعرشية السوداء يف التسعينيات املاضية؛ حيث‬
‫إنه – ووفق شهادات موثقة من داخل الدولة اجلزائرية ذاهتا – فإن النظام الذي‬
‫يسيطر عليه اجليش اجلزائري‪ ،‬عمد أول ما عمد إىل تنفري الرأي العام من احلركة‬
‫اإلسالمية من خالل منظومة متكاملة من اإلجراءات اهلدامة‪ ،‬التي تم ربطها‬
‫باحلركة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪..................‬‬
‫إن ما جرى يف السنوات املاضية من انتكاسات للمرشوع احلضاري اإلسالمي‬
‫والقوى املعربة عنه‪ ،‬ومسارات الثورات‪ ،‬ال ينبغي أن يمنع عن الطليعة احلركية‬
‫اإلسالمية من أن تستمر يف دورها يف صحوة الشعوب؛ فهذا هو أهم متطلبات‬
‫التصدي السرتاتيجيات التعطيل احلضاري لألمة‪.‬‬
‫فمتى استفاقت اجلامهري؛ فإنه ال يمكن ألية قوى أن تقف بوجهها!‪..‬‬

‫‪170‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلسالم وقضية الصراع السياسي واالجتماعي‪..‬‬


‫دروس في المعالجات من دولة المدينة‬
‫مدخل‪:‬‬

‫ُتعترب دولة اإلسالم األوىل يف املدينة املنورة‪ ،‬املرجع األهم ألية طليعة إسالمية‬
‫تبحث يف األسس واألصول التي تقف عليها الرشيعة يف مسألة احلكم وإقامة‬
‫أركان دولة مستقرة وقوية‪ ،‬قادرة عىل حفظ العمران ورد االعتداء‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل‬
‫الغاية األهم‪ ،‬وهي الدعوة وإقامة عقيدة التوحيد ومتكني الرشيعة اإلسالمية يف‬
‫األرض‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك نقطة عىل أكرب قدر من األمهية‪ ،‬فيام ليست هي‬
‫باملطروقة بالشكل الذي تستحقه هذه األمهية‪ ،‬يف أدبيات احلركة اإلسالمية‬
‫التي تتناول قضية التمكني السيايس‪ ،‬وقضية الدولة وشكل منظومتها السياسية‬
‫واالجتامعية ومرجعيتها‪ ،‬سواء يف التأسيس أو عىل مستوى املرجعية الدستورية‪،‬‬
‫وهي قضية االستقرار املجتمعي والسيايس‪ ،‬وكيف عاجلها اإلسالم يف أصوله‬
‫النقية‪.‬‬
‫وترجع أمهية قضية االستقرار السيايس واملجتمعي هذه إىل أهنا هي صلب انتظام‬
‫أي دولة وجمتمع‪ ،‬وبالتايل قدرة الكيان بالكامل عىل االستمرار‪ ،‬وهو‪ ،‬حتى بجانب‬
‫أنه أحد ا ُمل َس َّلامت األساسية لعلم ال ُّن ُظم؛ فإهنا من البدهييات اإلنسانية والعمرانية يف‬
‫األصل؛ حيث ال يقوم أي بنيان إال عىل أسس قوية وسليمة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اختبارا من خالقها؛‬
‫ً‬ ‫وبام أن النفس البرشية قد ُجبِ َل ْت عىل الطمع ابتال ًء أو‬
‫فإنه من قوانني العمران السارية عىل اإلنسان إىل هناية الدنيا‪ ،‬هي الرصاع‪ ،‬سواء‬
‫الرصاعات الفردية‪ ،‬أو الرصاعات بني اجلامعات املختلفة‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل رصاعات‬
‫الدول واألمم‪.‬‬
‫وتزيد احتامالت حدوث رصاع ما بني فرد وآخر‪ ،‬ومجاعة وأخرى‪ ،‬قانون‬
‫اقتصادي أسايس‪ ،‬وهو قانون حمدودية املوارد؛ حيث تكون املوارد املهمة‪ ،‬نادرة‪،‬‬
‫وبالتايل فإهنا تكون حمل رصاع بني املجموعات البرشية املختلفة‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإنه من أهم وظائف السلطة احلاكمة‪ ،‬هي التوزيع العادل للموارد‪،‬‬
‫وإدارة العالقات بني الرشائح والفئات االجتامعية والقوى السياسية املختلفة‪،‬‬
‫بالشكل السليم الذي يضمن حتقيق االستقرار‪ ،‬وتفادي حدوث اضطرابات‪.‬‬
‫ولكن من باب اخلطأ الواجب التصويب يف هذا املوضع‪ ،‬احلديث عن "املوارد"‬
‫"‪ ،"Resources‬باعتبارها "املوارد االقتصادية" "‪ "Economic resources‬فحسب‪ ،‬كام‬
‫يف التصور الذهني الشائع؛ حيث هناك "موارد سياسية" "‪ ،"Political resources‬لو صح‬
‫التعبري‪ ،‬ممثلة يف السلطة "‪ ،"authority‬واحلكم "‪ ،"authority‬والسيادة "‪."sovereignty‬‬
‫ويف هذه احلالة؛ فإن الرصاع يكون أشد‪ ،‬ويصل إىل مستويات دموية‪ ،‬ألن‬
‫السلطة واحلكم‪ ،‬والسيام يف املجتمعات االستبدادية‪ ،‬هي مورد شديد الندرة لو‬
‫نادرا فحسب‪.‬‬
‫صح التعبري‪ ،‬وليست مور ًدا ً‬

‫‪172‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلسالم ودولة ما بعد النبوة واخلالفة الراشدة‪ ..‬فض اشتباك مفاهيمي‪:‬‬


‫من بني أهم األمور التي حدث هبا الكثري من َ‬
‫اجل َل َبة والتشويش عىل منظومة‬
‫اإلسالم يف احلكم‪ ،‬هي قضية إدارة الرصاعات‪ ،‬والعالقات بشكل عام‪ ،‬حتى غري‬
‫الرصاعية منها‪ ،‬بني ا ُمل ِّ‬
‫كون السيايس واالجتامعي داخل املجتمع‪.‬‬
‫وتأثرت األدبيات العربية التي تناولت هذه املسألة‪ ،‬إما بأفكار ماركسية وعلامنية‪،‬‬
‫تدعو إىل إقصاء الدين‪ ،‬وحتميله مسؤوليات مشكالت املجتمعات وفشلها‪ ،‬أو‬
‫بكتابات املسترشقني غري املنصفني التارخيية عن الدولة اإلسالمية‪ ،‬هبوياهتا املختلفة‬
‫وسياقاهتا املتنوعة التي ظهرت هبا عرب التاريخ‪.‬‬
‫ولعله من اإلنصاف يف هذا املوضع القول‪ ،‬إن املامرسة ذاهتا التي قام هبا بعض‬
‫ُح َّكام الدول اإلسالمية اجلامعة‪ ،‬عرب تارخيها قبل اهنيار آخر هذه الدول ممثلة يف‬
‫الدولة العثامنية يف الربع األول من القرن العرشين‪ ،‬ثم األنظمة التي حكمت بلداننا‬
‫العربية واإلسالمية بعد ذلك‪ ،‬وبعضها تبنى اإلسالم كهوية للحكم‪.‬‬
‫ولكن هذا ال يعني اإلسالم يف يشء؛ ألن حديث النعامن بن اليامن املشهور‪،‬‬
‫والذي أخرجه الرتمذي؛ يقول فيه الرسول الكريم ﷺ إن أمر حكم املسلمني‬
‫"م ْلك عضوض"‪،‬‬ ‫"م ْلك جربي"‪ ،‬ثم ُ‬
‫سوف يؤول بعد اخلالفة الراشدة إىل ُ‬
‫قبل أن تعود األمور إىل خالفة عىل منهاج النبوة‪ .‬فهذه املامرسات ليست من‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن بني الدراسات املفتئتة التي صدرت يف السنوات األخرية‪ ،‬وراجت بشدة‬
‫عن هذا األمر‪ ،‬دراسة بعنوان "التعبري الديني عن الرصاع االجتامعي يف اإلسالم"‪،‬‬
‫ال األزمات والرصاعات‬‫رد أص ً‬
‫للكاتب التونيس املاركيس‪ ،‬مصطفى التوايت‪ ،‬وفيه َّ‬
‫فرتت فجر وصدر اإلسالم‪ ،‬إىل الدين نفسه‪ ،‬وذهب إىل أنه قد تم‬
‫التي قامت يف َ ْ‬
‫"اخرتاع" الدين اإلسالمي كتعبري عن رغبة طرف يف السيطرة عىل باقي األطراف‬
‫املتصارعة يف شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫وباإلضافة إىل أنه طرح ماركيس واضح‪ ،‬والذي يف الغالب ما يضع البحث عن‬
‫املنفعة املادية كأحد أهم التفسريات للحدث التارخيي‪ ،‬والرصاعات اإلنسانية؛‬
‫فإن فيه جتاهل واضح لألحداث التي وقعت يف الفرتة الوحيدة يف األصل التي‬
‫ُتعترب سندً ا ِّ ً‬
‫معبا بشكل مبارش عن اإلسالم وتعاليمه‪ ،‬يف املجاالت السياسية‬
‫واالجتامعية والثقافية‪ ،‬وكل جماالت النشاط والتفاعالت البرشية األخرى‪ ،‬وهي‬
‫فرتة البعثة النبوية‪ ،‬والكيفية التي تعامل هبا الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬كرجل دولة‪ ،‬يف‬
‫الفرتة املدنية من البعثة‪ ،‬مع ما كان ً‬
‫قائم يف املدينة املنورة من رصاعات بني املكونات‬
‫السياسية واالجتامعية املختلفة‪.‬‬
‫ملحة تاريخية‪:‬‬

‫بالرجوع إىل التاريخ؛ فإننا نقف أمام هذه الظاهرة‪ ،‬التي كانت من أهم الظواهر‬
‫التي نزل اإلسالم وهي قائمة يف جمتمع البعثة النبوية‪ ،‬وهو شبه اجلزيرة العربية؛‬
‫ظاهرة الرصاع االجتامعي املنبني عىل أسباب سياسية واقتصادية‪ ،‬وليس دينية‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫جمتمعا ً‬
‫قائم عىل وحدة أساسية‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬ ‫فوقت البعثة‪ ،‬كانت شبه اجلزيرة العربية‬
‫القبيلة‪ ،‬وكانت العصبية القبلية هي األساس الذي تتحرك وفقه القوى املختلفة‬
‫التي كانت موجودة يف جمتمع شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬وبجانب نقطة العصبية؛ فإن العالقات بني القبائل حكمتها الكثري من‬
‫االعتبارات والبواعث السياسية واالقتصادية‪ ،‬مثَّلت إما نقطة توازن للقوى‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫حمركا حلالة من الرصاع االجتامعي والسيايس يف حينه‪.‬‬
‫وربام كان هذا أكثر ما يبدو يف احلوارض الكربى يف جزيرة العرب يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫وخصوصا مكة واملدينة وهتامة وممالك الغساسنة واحلرية‪.‬‬
‫ً‬
‫ففي هذه املناطق‪ ،‬كانت التنافسية عىل أشدها يف صدد امتالك عنارص القوة‬
‫الشاملة باملفهوم املعارص هلذه العبارة‪ ،‬يف علوم النظام السياسية‪ ،‬والتي من صميم‬
‫شأهنا دراسة ظاهرة الدولة‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬اكتسبت "قريش" يف مكة املكرمة؛ أمهيتها وسطوهتا بني قبائل‬
‫العرب كافة‪ ،‬بسبب سيطرهتا عىل بيت اهلل احلرام‪ ،‬وما اتصل به يف عرص اجلاهلية‬
‫من منافع اقتصادية‪ ،‬مثل خدمة احلجيج‪ ،‬ورعاية األصنام من حول الكعبة‪ ،‬وجتارة‬
‫احلبوب‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ويف بعض األحوال‪ ،‬كانت هناك قبيلة واحدة‪ ،‬تسيطر عىل مكان ذي أمهية‪ ،‬كام‬
‫يف حالة قريش‪ ،‬بينام يف حاالت أخرى‪ ،‬كام يف "الياممة" و"يثرب" – قبل أن تتحول‬
‫رش َف ْت هبجرة الرسول الكريم ﷺ إليها – كانت هناك أكثر‬
‫إىل املدينة املنورة بعد أن ُ‬

‫‪175‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫من قبيلة قوية ذات مال رجال‪ ،‬ونفوذ ومنعة‪ ،‬تسكن يف ذات املكان‪ ،‬أمهها كانت‬
‫قبيلتي األوس واخلزرج‪.‬‬
‫والرصاع بني القبلت َْي كان ً‬
‫قديم‪ ،‬وكان معقدً ا؛ حيث كانت فيه ثارات دم‪،‬‬
‫بجانب العصبية القبلية‪ ،‬والرغبة يف السيادة عىل "يثرب"‪.‬‬
‫بني الشرعي والسياسي‪ ..‬املنظومة النبوية يف إدارة ومعاجلة املوقف‪:‬‬

‫تبنى الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬أكثر من وسيلة للتعامل مع هذا املوقف؛ حيث‬


‫إن احلصافة كانت تقتيض القضاء عىل أسباب النزاع الظاهرة يف املدينة يف ذلك‬
‫احلني‪ ،‬للتفرغ ألعباء الدعوة وبناء الدولة‪ ،‬والتصدي للتحديات التي كانت يقينًا‬
‫معلومة لديه ﷺ‪ ،‬عند هجرته‪ ،‬ومن أبرزها – هذه التحديات – ممانعة مرشكي‬
‫مكة املكرمة‪ ،‬وتأليبهم املتوقع للقبائل يف املدينة‪ ،‬ويف شبه اجلزيرة العربية عليه وعىل‬
‫مجاعة املسلمني األوىل‪ ،‬وكذلك ممانعة األعراب حول املدينة ممَّن مل يؤمنوا معه ﷺ‪،‬‬
‫واليهود واملنافقني داخل املدينة نفسها‪.‬‬
‫وكانت أول وسيلة تبناها النبي ﷺ‪ ،‬وذلك قبل اهلجرة ذاهتا‪ ،‬هي التأكيد عىل‬
‫اجتامع كلمة قبائل املدينة التي أسلمت‪ ،‬ولذلك؛ فهو مل هياجر إال بعد أن بايعوه‬
‫موسم ْي حج عا َم ْي الثاين عرش والثالث عرش للبعثة‪.‬‬
‫َ‬ ‫مر َت ْي يف‬
‫فهو‪ ،‬ﷺ‪ ،‬قد جعل اإلسالم – بحكم الرشيعة نفسها – املرجعية األساسية هلم‪،‬‬
‫وال مرجعية أخرى مقبولة‪ ،‬وإال يكون هناك خلل يف عقيدهتم‪ ،‬وهذا يعني أهنم مل‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يسلموا إسال ًما‬

‫‪176‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فهو قد َع ِمد إىل توحيد النفوس عىل األمر اجلامع الذي له قدسيته‪،‬‬
‫بمرجعيته الربانية التي ُجتب أي اعتبار دنيوي آخر؛ سيايس أو اجتامعي‪ ،‬أو غري ذلك‪.‬‬
‫وهو ذات السند الذي استند إليه الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬عند هجرته؛ حيث إنه‬
‫كان يعلم بحكم النشأة واهلوية‪ ،‬وكذلك بحكم الوحي اإلهلي‪ ،‬أن طبائع البرش‬
‫إنام تغلب عليها األهواء والنوازع‪ ،‬مع عدم ُّ‬
‫متكن اإليامن بالكامل بعد من نفوس‬
‫األنصار‪ ،‬وبالتايل؛ فهو توقع أن حتدث غرية يف نفوس أهل املدينة من املهاجرين‪،‬‬
‫الذين هم كذلك من قبائل وعشائر كانت منافسة وربام معادية‪ ،‬يقتتلون فيام بينهم‬
‫حتى وقت قريب‪.‬‬
‫فقام ﷺ باملؤآخاة بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬وهي مؤاخاة باملعنى الرشعي‪،‬‬
‫وليس باملعنى الودي املجازي؛ حيث تشارك اجلميع يف املرياث وغري ذلك من‬
‫أخوة العصب‪ ،‬مثلام حكم ُ‬
‫اهلل تعاىل بأن زوجات الرسول ﷺ‪ُ ،‬ه َّن أمهات‬ ‫حقوق َّ‬
‫للمؤمنني؛ حيث أدى ذلك إىل حكم حتريم زواج املسلم بأي زوج من زوجات‬
‫النبي ﷺ بعد وفاته‪ ،‬بمنطق حتريم زواج االبن بأمه‪.‬‬
‫ولقد ظل ذلك الوضع ً‬
‫قائم حتى نزلت آية "األحزاب"‪ ،‬التي يقول فيها اهلل‬
‫تعاىل‪ ﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤﯥ ﯦﯧﯨ ﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯ‬
‫ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؛ حيث عادت‬
‫األمور إىل نصاهبا األول‪ ،‬بعد استتباب األوضاع السياسية واالجتامعية يف املدينة‬
‫لدولة اإلسالم األوىل بقيادة الرسول ﷺ‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن مل يكن احلكم الرشعي املبارش هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها‬


‫الرسول ﷺ يف ذلك؛ حيث جلأ ألدوات سياسية عديدة‪ ،‬جعلت من مسترشقني‬
‫بارزين منصفني‪ ،‬مثل مونتجمري وات‪ ،‬يقولون عنه إنه الرسول ﷺ‪ ،‬كان رجل‬
‫دولة من الطراز األول‪.‬‬
‫فكام يعرف دارسو العلوم السياسية واالجتامع السيايس يف عاملنا املعارص‪ ،‬أن‬
‫الضامنة األوىل لالستقرار السيايس واملجتمعي‪ ،‬هو الوصول إىل عقد اجتامعي‬
‫مقبول من مجيع األطراف‪ ،‬بني احلاكم واملحكوم‪ ،‬ويتم تأطريه يف صيغة وثيقة‬
‫تسمى بالدستور؛ تتضمن حقوق وواجبات الطر َف ْي إزاء بعضهام البعض‪ ،‬وكذلك‬
‫حقوق أفراد اجلامعة إزاء بعضهم البعض‪ ،‬وهو ما ُيعرف يف زمننا املعارص بـ"دولة‬
‫املواطنة" "‪."State of citizenship‬‬
‫وهذا بالضبط ما فعله الرسول ﷺ من قبل ظهور أية ديمقراطية غربية أخرى‪،‬‬
‫بل إن الغرب ذاته وقتها مل يكن يعرف معنى الدولة أص ً‬
‫ال‪ ،‬عندما وضع "وثيقة‬
‫املدينة" التي أقامت أول دولة مواطنة متعددة يف التاريخ‪ ،‬تقيم أركان العدالة‬
‫االجتامعية واحلقوق املدنية؛ حيث اعرتف فيها بكل مكونات جمتمع املدينة‪ ،‬وأقر‬
‫هلم حقوقهم‪ ،‬بمن فيهم اليهود‪.‬‬
‫ومل يكن ذلك بطبيعة احلال‪ ،‬اإلجراء الوحيد الذي جلأ إليه النبي ﷺ‪ ،‬يف عملية إدارة‬
‫الدولة‪ ،‬وبالذات يف قرارات السلم واحلرب؛ حيث حرص أشد احلرص عىل عدد‬
‫من األمور التي هي من صميم َ‬
‫"احل ْو َكمة" واحلكم الرشيد "‪ "Good rule‬بمفاهيمنا‬
‫ِ‬
‫املعاصة‪ ،‬مثل مراعاة الزعامات التي كانت للقبائل‪ ،‬وال يتدخل يف اختياراهتم هلا‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وإرشاك خمتلف مكونات الطيف املجتمعي يف القرارات اإلسرتاتيجية وفق مبدأ‬


‫قرآنيا‪ ،‬ومراعاة احلساسيات القبلية‪ ،‬والنزاعات القديمة‪.‬‬
‫الشورى‪ ،‬واملنصوص عليه ًّ‬
‫‪......‬‬
‫كل ذلك‪ ،‬وغريه مما هو بحاجة إىل دراسات مستفيضة لكشفه أمام املسلمني‬
‫لتعريفهم بدينهم‪ ،‬وأمام اآلخر إلزالة االلتباسات احلاصلة حول نموذج احلكم يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬فعله الرسول الكريم ﷺ إلدارة الرصاعات التي كانت قائمة يف املدينة‬
‫من قبل اإلسالم‪ ،‬ومعاجلتها‪ ،‬من أجل حتقيق االستقرار االجتامعي الرضوري‬
‫الستقرار أية دولة‪.‬‬
‫ومن أدلة نجاح هذه السياسة‪ ،‬هو أن الدولة الوليدة استطاعت الثبات يف وجه‬
‫الكثري من املؤامرات الداخلية التي تورط فيها املنافقون وبعض قبائل اليهود‪،‬‬
‫وكذلك املؤامرات اخلارجية التي تضمنت محالت عسكرية مبارشة تعاون فيها‬
‫كل خصوم اإلسالم يف حينه‪ ،‬من مكة وغريها‪ ،‬من أجل القضاء عىل هذا الكيان‬
‫اجلديد‪ ،‬والدين البازغ‪.‬‬
‫و َمن يعرفون علم ال ُّنظم؛ فإهنم يدركون أنه مل يكن للرسول ﷺ أن ينجح يف بناء‬
‫جيش خيرج به ملالقاة أعدائه‪ ،‬وأن تستتب له األمور يف املدينة‪ ،‬بحيث استطاع فتح‬
‫مكة بعد ذلك‪ ،‬ثم ظهور دولة اإلسالم عىل سائر شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬ما مل يكن قد‬
‫وسياسيا‪ ،‬يف بقعة كانت من أكثر بقاع جزيرة‬
‫ًّ‬ ‫اجتامعيا‬
‫ًّ‬ ‫استطاع تأسيس دولة مستقرة‬
‫ٍ‬
‫رصاعات قبل جميئه إليها ﷺ‪.‬‬ ‫العرب‬

‫‪179‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بدء في دروس حركية‬


‫اإلسالم وقوانين العمران‪ ..‬عود على ٍ‬

‫متر احلركة اإلسالمية يف الوقت الراهن بموقف معقد‪ ،‬فرضته عليها االرتكاسات‬
‫التي حصلت عىل ثورات الربيع العريب‪ ،‬والكيفية التي حصلت هبا هذه االرتكاسات‪،‬‬
‫وخلفياهتا؛ حيث شمل ذلك عمليات قتل ومصادرات وجرائم أخرى‪ ،‬قامت‬
‫هبا أطراف داخلية وإقليمية ودولية‪ ،‬وامتدت وتشعبت هذه احلرب‪ ،‬لكي تشمل‬
‫اإلساءة إىل اإلسالم نفسه‪.‬‬
‫قادت هذه األمور إىل عواقب وخيمة عىل املرشوع اإلسالمي احلضاري‪ ،‬بال‬
‫شك‪ ،‬وصورته أمام اآلخر‪ ،‬ومع تصاعد العمل األمني والعسكري من جانب‬
‫األنظمة واحلكومات ضد اإلسالميني‪ ،‬والتي وصلت إىل صورة احلرب الرصحية‬
‫املسلحة؛ فإن الكثري من القناعات تغريت لدى أجيال كاملة من شباب ورجال‬
‫احلركة اإلسالمية‪ ،‬ونسائها‪ ،‬بحيث مالت إىل فكرة التطرف‪ ،‬وتأييد سلوك‬
‫العنف‪.‬‬
‫حتول ذلك إىل ممارسة حقيقية من جانب البعض يف الغرب‪ ،‬ضمن تبعات‬
‫ملف اهلجرة الرشعية وغري الرشعية من العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬إىل أوروبا‬
‫واألمريكت َْي‪ ،‬وهو ما زاد وفاقم من أزمة املرشوع؛ حيث ُتعترب الصورة الذهنية هي‬
‫املفتاح أو القفل‪ ،‬الذي يوضع عىل باب أية دعوة أو مرشوع سيايس أو أيديولوجية‬
‫فكرية؛ حيث هي يف األساس – هذه الدعوة واحلراك اخلاص هبا – عبارة عن‬
‫حماوالت لتغيري قناعات‪ ،‬ولن يوجد من يغري قناعاته إىل ما يتصوره أمر أسوأ مما هو‬

‫‪180‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يؤمن به من فلسفات أو عقائد أو أديان؛ حيث جيب أن يكون اجلديد هذا بالنسبة‬
‫له "أفضل"‪.‬‬
‫و"أفضل" هذه ترتبط بمدى حتقيق الفكرة أو الدعوة اجلديدة ملجموعة من‬
‫االعتبارات واالشرتاطات‪ ،‬من أمهها أن تتفق مفردات هذه الفكرة أو األيديولوجيا‬
‫اجلديدة أو الدين اجلديد‪ ،‬مع فطرة اإلنسان‪ ،‬وحتقيقها ملقاصد خلقه‪ ،‬ومتطلبات‬
‫حياته‪ ،‬وقواعد العمران والتطور احلضاري‪ ،‬حتى عىل املستوى املجتمعي أو‬
‫الفردي الصغري‪.‬‬
‫وهذا جاء به اإلسالم‪ ،‬فاإلسالم جاء لكي حيفظ للناس حياهتم وأعراضهم‪،‬‬
‫وضامن حقوقهم إزاء اآلخرين‪ ،‬وإزاء بعضهم البعض‪ ،‬كام أنه جاء بام يؤكد أن‬
‫احلياة واإلصالح وإعامر األرض‪ ،‬هي ُسنن اخللق اإلهلي األصلية‪ ،‬وليس كام يروج‬
‫البعض‪ ،‬من رضورة اهلدم‪ ،‬مع عدم طرح أي بديل لذلك اهلدم‪ ،‬بحيث إن غري‬
‫املؤمن باإلسالم‪ ،‬ومفرداته‪ ،‬مثل اجلهاد‪ ،‬وهذه األمور؛ لن ِ‬
‫يقدم عىل اإليامن به‪،‬‬
‫حتى لو افرتضنا – خطأ وحاشا هلل – أن الدين اإلسالمي يدعو إىل اخلراب واهلدم‬
‫ألجل العقيدة أو كذا‪.‬‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫وتزداد وطأة ذلك يف املجتمعات العلامنية والليربالية؛ حيث لن تقنع أبدً ا‬
‫ينتمي ملذهب املنفعة الفردية‪ ،‬ويقدم مصاحله عىل حساب انتامئه الديني‪ ،‬بأن يقبل‬
‫أفكارا كاجلهاد ألجل العقيدة أو ما شابه‪ ،‬قبل أن يدخل اإلسالم عن اقتناع‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬
‫من خالل مفاتيح العمران واإلصالح أو ً‬
‫ال‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومبدأ "مل نؤ َمر بقتال بعد" واضح متا ًما يف فقه تعامل الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬مع‬
‫املواقف واألحداث يف سنوات البعثة األوىل‪ ،‬وكل ما جاء به الرسول "عليه الصالة‬
‫والسالم"‪ ،‬واجب األخذ به يف هذه احلاالت؛ باعتبار أنه حيمل ترشيعات وقواعد‬
‫اإلله وتعاليمه‪ ،‬إىل البرش‪ ،‬وال ينطق عن اهلوى‪.‬‬
‫بدعا من قوانني وسنن العمران‪ ،‬فشاءت إرادة اهلل تعاىل وحكمته‬
‫واإلسالم ليس ً‬
‫بمعنى أدق‪ ،‬عىل الدعوة والداعني إليه‪ ،‬أفرا ًدا وحركات‪،‬‬
‫ً‬ ‫البالغة أن ترسي عليه أو‬
‫دعا ًة وساسة وعلامء‪ ،‬القوانني العمرانية املختلفة؛ فليس ألنه اإلسالم‪ ،‬الدين الذي‬
‫ارتضاع اهلل تعاىل لعباده‪ ،‬أو ألنك مسلم؛ يوضع لك القبول؛ حيث البد من تفعيل‬
‫القوانني الالزمة لتفعيل هذا القبول‪ ،‬والبد من معارك‪ ،‬وما شابه لذلك‪.‬‬
‫وقبل االسرتسال؛ َث َّمة مالحظة مهمة ها هنا‪ ،‬وهي ال يوجد معنى ألن‬
‫يقوم بعض املنتمني إىل احلركة اإلسالمية الصحوية‪ ،‬التي حتمل رسالة اإلسالم‬
‫احلضاري‪ ،‬بالتحول الفكري والسلوكي عند العوارض واألزمات؛ ألنه من‬
‫املفرتض أن الرتبية التي تلقوها يف املحاضن الرتبوية‪ ،‬تؤكد عىل أن كل ذلك متوقع‪،‬‬
‫وتؤكد عىل رضورة الصرب واالحتساب‪ ،‬وامليض ُقدُ ًما يف املرشوع‪.‬‬
‫وبالعودة إىل هذا الذي نقول؛ فإن اإلسالم ليس دينًا باملعنى القريب فحسب‪،‬‬
‫أي العقائد والعبادات وكذا؛ إنام هو طريقة تفكري شاملة‪ ،‬وتصور للكون وقوانينه‪،‬‬
‫ألن واضع هذا الدين‪ ،‬هو خالق هذا الكون‪ ،‬وبالتايل؛ سيضع – بحكمته البالغة –‬
‫رشيعة تصلح للتواؤم مع القوانني والقواعد التي خلق هبا الكون‪ ،‬متا ًما مثل اجلاذبية‬
‫ورسعة الضوء وكذا؛ جتاوزها مستحيل وإن تم‪ ،‬يعني االحرتاق والفناء للمخلوق‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫لذلك‪ ،‬ليس وجهة نظر أو مبالغة أن نقول إن االلتزام بقوانني احلركة وقواعد‬
‫علم ْي االجتامع واالجتامع‬
‫العمران البرشي‪ ،‬والتي تأصلت يف عرصنا احلديث يف َ‬
‫السيايس‪ُ ،‬تعترب من لن نقول أركان اإليامن‪ ،‬ولكن عىل األقل‪ٌ ،‬‬
‫وجه من أوجه الفهم‬
‫الصحيح حلقيقة هذا الدين‪ ،‬وحقيقة رب العزة سبحانه‪.‬‬
‫فمن بني أهم أركان فهم اإلسالم‪ ،‬هو فهم قوانني اخللق اإلهلي واتباعها يف‬
‫الفعل واحلركة‪ ،‬واإليامن هبا مهم‪ ،‬واألهم من ذلك إدراكها ألن يف ذلك مصلحة‬
‫اإلنسان‪ ،‬ألن القوانني الربانية التي حتكم الكون واحلياة اإلنسانية‪ ،‬مفروضة ً‬
‫فرضا‬
‫عىل اإلنسان وكافة املخلوقات‪ ،‬وال يمكن جتاوزها بحال‪ ،‬سواء آمنت هبا أم ال‪،‬‬
‫ٌ‬
‫شكل من أشكال القضاء والقدر اإلهل َي ْي الواجب علينا‬ ‫أي اهنا بصورة أو بأخرى‪،‬‬
‫التسليم هبا‪ ،‬والتعامل معها وبموجبها‪.‬‬
‫إ ًذا‪ ،‬املسلمون – واحلركة اإلسالمية َأ ْو َل بذلك‪ ،‬باعتبار أهنا طليعة األمة –‬
‫مطالبون يف حراكهم باخلضوع لقوانني العمران‪ ،‬والعمل هبا‪ ،‬ألنه من دون ذلك؛‬
‫يكون املسلم واملرشوع برمته‪،‬عرضة خلطر الفناء‪.‬‬
‫واإلسالم هو أكرب صاحب أكرب حركة تغيري شهدها التاريخ‪ ،‬ومثَّل انتشاره‬
‫ثورة يف العقيدة والفكر‪ ،‬ويف السياسة كذلك؛ حيث قاد إىل ظهور دولة جديدة يف‬
‫شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬غريت وجه العامل القديم كله‪ ،‬واإلسالم جاء ليحرر اإلنسان‬
‫من عبودية غري اهلل؛ فلامذا ‪ -‬إ ًذا ‪ -‬ال يقبل املسلمون اآلن هبذه الطبيعة احليوية هلذا‬
‫الدين؟!‪ ،‬ويتعلمون من تضحيات جيل التأسيس األول‪ ،‬الذي حتمل ما مل يتحمله‬
‫برش‪ ،‬وأرصوا – يف املقابل – عىل الثبات عىل املبدأ‪ ،‬مهام كان ِع َظم األمل!‪..‬‬

‫‪183‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومعان غائبة‬
‫ٍ‬ ‫السيرة النبوية في السياق المجتمعي‪ ..‬معالم‬

‫تأيت السرية النبوية كأحد أهم روافد الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬باعتبارها جزء ال‬
‫الس َّنة النبوية التي هي املصدر الثاين الذي يأخذ عنه املسلمون رشعتهم‬
‫يتجزأ من ُّ‬
‫وأحكامها‪ ،‬بعد القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار؛ نالت السرية النبوية من الدَّ ْرس والتناول يف كتابات العلامء‬
‫ِّ‬
‫واملفكرين املسلمني عرب القرون املاضية‪ ،‬وحتى عرصنا الراهن‪ ،‬ما يتفق مع وزهنا‬
‫وأمهيتها هذه‪.‬‬
‫إال أن هذا االهتامم رافقته بعض األمور التي مل تفسح كثري املجال لالستفادة من‬
‫السرية النبوية يف املجال االجتامعي عىل وجه اخلصوص‪.‬‬
‫ومن بني ذلك‪ ،‬اهتامم علامء املسلمني املتقدمني واملتأخرين باحلديث النبوي‬
‫دس عمدً ا أو بغري ٍ‬
‫عمد‪ ،‬والسيام‬ ‫الرشيف وتصحيحه وتنقيته مما حاوله البعض من ٍّ‬
‫ما حاوله بعض اليهود‪ ،‬فيام يدخل يف بند "اإلرسائيليات"‪ ،‬أو قامت به بعض‬
‫الفرق واملذاهب‪ ،‬مثل الشيعة‪ ،‬يف إدخال بعض النصوص عىل النبي ﷺ‪ ،‬لتعضيد‬
‫سياسيا بد ًءا من القرن السادس عرش امليالدي‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫بعد األمور املذهبية‪ ،‬والتي اس ُت ِغ َّل ْت‬
‫انتشارا وشهرة‪ ،‬وقيم ًة‬
‫ً‬ ‫وبمراجعة عناوين كتب الرتاث اإلسالمي األكثر‬
‫علمية؛ فإننا نجد أن الكتب التي كانت تتناول السرية النبوية؛ وقفت عن سرية ابن‬
‫هشام‪ ،‬وسرية ابن إسحق‪ ،‬و"الرحيق املختوم" للمباركفوي‪ ،‬فيام مل تتم إنتاجات يف‬

‫‪184‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذا املجال بنفس عمق وختصص كتب احلديث النبوي والفقه يف املذاهب األربعة‬
‫الس َّنة واجلامعة‪.‬‬
‫ألهل ُّ‬
‫أما يف عرصنا احلديث؛ فقد َّ‬
‫ركزت أدبيات الصحوة اإلسالمية احلديثة واملعارصة‬
‫عىل بعض األمور التي وجدهتا أولوية أكثر من غريها يف جمال دراسة السرية النبوية‪،‬‬
‫مثل الرتيبة احلركية‪ ،‬أو ما يتعلق باجلهاد وبناء الدولة‪ ،‬وهي نقاط حساسة؛ حيث‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫إن أكثر ما ُينال منه اإلسالم من جانب خصومه‪ ،‬هي نقطة أنه مل حيدد شك ً‬
‫ال‬
‫من أشكال احلكم‪ ،‬أو َّ‬
‫نظم شؤون السياسة بشكل واضح‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك منط ًقا ًّ‬
‫مهم يفرض البحث يف السياق املجتمعي يف‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة بشكل عام‪ ،‬بصورة أكرب من الرتكيز عليه يف‬
‫القرآن الكريم ُّ‬
‫اجلوانب السياسية واحلركية‪.‬‬
‫وهذا املنطق يتعلق بأن املعركة إلعادة إحياء وبعث اإلسالم يف نفوس أتباعه‪،‬‬
‫إنام تتأصل باملامرسة االجتامعية‪ ،‬ولو تأصل اإلسالم يف املجال األخالقي‪ ،‬النفيس‬
‫والوجداين‪ ،‬ويف التطبيق العميل السلوكي عىل األرض‪ ،‬والذي يشكل املجتمع‬
‫بوتقة اإلطار اجلمعي له؛ فإنك لن تكون بحاجة إىل أي إطار َّ‬
‫منظم لفرض اإلسالم‬
‫ً‬
‫حارضا يف كل‬ ‫يف املجال السيايس‪ ،‬أو املجال االقتصادي؛ ألن الدين سوف يكون‬
‫أمر الناس‪ ،‬فرادى وجمتمع‪.‬‬
‫ويف علوم االجتامع‪ ،‬ومنها علم االجتامع السيايس والنظم واإلدارة؛ فإنه من‬
‫ومعب‬
‫ِّ‬ ‫املعروف أن منظومة السياسة واحلكم؛ إنام هي تكون من صميم املجتمع‪،‬‬
‫عن ثقافته وطبيعته‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذا حتى واضح يف طبيعة النظم السياسية التي استقرت هنا وهناك يف العامل‪،‬‬
‫يف أكثر من مرحلة تارخيية؛ فاألنظمة االستبدادية تنترش يف املجتمعات األبوية ذات‬
‫الطابع التقليدي املحافظ‪ ،‬كام يف املرشق‪ ،‬أو يف املجتمعات التي كانت تسيطر عليها‬
‫الكنيسة وقت أن كانت أوروبا يف مرحلة احلكم البابوي‪.‬‬
‫أما األنظمة التي تتبنى الديمقراطية السليمة‪ ،‬فإهنا تظهر يف املجتمعات التي‬
‫وتعل من مبدأ‬
‫ِ‬ ‫تكون عىل شكل معني من االنفتاح والتمكني لقيم احلرية الفردية‪،‬‬
‫حقوق املواطن‪ ،‬وهو ما ينعكس يف املجال السيايس يف صورة ممارسة انتخابية‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإننا نقف هنا عىل مفتاح شديد األمهية لكنه مهمل إىل حدٍّ ما يف عملية‬
‫البناء اإلسالمي‪ ،‬للدولة واملجتمع‪ ،‬وهو متكني السرية النبوية يف املجال املجتمعي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه حتى عىل مستوى الوزن النسبي يف املجال الزمني‬
‫واملوضوعي للسرية النبوية؛ فإنه‪ ،‬ومن خالل مصادر السرية النبوية املوثوقة؛ لو‬
‫ِق ْسنَا بشكل تقريبي‪ ،‬الزمن الذي قضاه الرسول الكريم ﷺ يف جمال الغزو والسياسة‬
‫وما اتصل بذلك؛ سوف نجد أن حياته عليه الصالة والسالم العادية كإنسان؛ زوج‬
‫الغ َل َبة‪.‬‬
‫وأب وصديق وكذا؛ هي األصل وهلا َ‬
‫والسرية النبوية فيها الكثري مما يضبط املشكالت األخطر التي متر هبا املجتمعات‬
‫املسلمة يف وقتنا الراهن يف املجال املجتمعي‪ ،‬مثل العنوسة‪ ،‬واخلالفات الزوجية‪،‬‬
‫والطالق‪ ،‬والغش يف املعامالت بني الناس‪ ،‬يف املجال التجاري واملجال املجتمعي‬
‫بشكل عام‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وكثري من األمراض التي نقرأ عنها يف جمتمعاتنا العربية ذات الغالبية املسلمة‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫هناك معاجلات كاملة هلا يف السرية النبوية‪ ،‬وبشكل يمكن أن يؤسس حلالة اجتامعية‬
‫ِ‬
‫املعاص‪.‬‬ ‫خمتلفة متا ًما َّ‬
‫عم نراه اآلن يف واقعنا‬
‫فهو – عىل سبيل املثال باعتبار أن هذا األمر هو أكرب مشكالتنا املجتمعية – كان‬
‫يزوج الناس بمه ٍر بسيط أو حتى بآية من القرآن الكريم‪ ،‬ومل تذكر السرية النبوية‬‫ِّ‬
‫املرب واملع ِّلم بني‬
‫كحل للمشكالت الزوجية‪ ،‬وكان يقوم بدور ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫أنه أيد الطالق‬
‫أصحابه‪ ،‬وبني مجاعة املسلمني بشكل عام‪ ،‬بحيث تنتفي املشكالت التي نجدها قد‬
‫تفشت بني ظهرانينا اآلن من خالفات ومشاحنات أوصلت جرائم الرسقة والقتل‬ ‫َّ‬
‫واالغتصاب إىل مستويات فلكية يف املجتمعات العربية واملسلمة‪.‬‬
‫أسست تربيته ﷺ للمسلمني البيئة الفكرية وغرست التصورات العقلية‬ ‫ولقد َّ‬
‫التي تؤهل املجتمع لقبول ذلك وغريه‪ ،‬من خالل نز ٍع ألفكار الزخرف وإعالء‬
‫املادة الرخيصة عىل حساب القيم األخرى احلقيقية األهم‪ ،‬واملتعلقة بمفاهيم‬
‫دور اإلنسان يف الدنيا واملطلوب منه فيها‪ ،‬وواجبات املسلم وما إىل ذلك‪ ،‬والتي‬
‫أمورا أخطر وأكرب من االنشغال بجمع املال ألجل الزواج أو التدليس يف‬
‫تتضمن ً‬
‫املعامالت‪ ،‬وما شابه من أمور‪.‬‬
‫باإلضافة إىل التأكيد من األصل عىل ما قاله القرآن الكريم يف أكثر من موضع‪ ،‬من‬
‫أن احلياة الدنيا متاع‪ ،‬وزائلة‪ ،‬واألهم هو اإلعداد لآلخرة‪ ،‬وبالتايل؛ تكون العبادة‬
‫واألخالقيات السوية‪ ،‬هي معايري تقييم اإلنسان‪ ،‬وليس املادة‪ ،‬مع التأكيد بطبيعة‬
‫احلال عىل رضورة العمل لكسب العيش واحلياة بالكرامة التي تليق باإلنسان كام‬
‫خلقه اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إن َهديِه ﷺ يف الكثري من األمور التي تستعىص علينا يف الوقت الراهن؛ هلو من أهم‬
‫ما يمكن إلقامة دولة إسالمية موحدة تسود العامل حضار ًّيا من جديد؛ حيث املجتمع‬
‫املسلم هو أعقد وأهم مراحل الوصول إىل حتقيق مستهدفات املرشوع اإلسالمي‪.‬‬
‫وهذه العقدة يفهمها خصوم األمة أكثر من األمة نفسها؛ فهم يلعبون عىل‬
‫إفشال القيم اإلسالمية – والسرية النبوية مصدرها التطبيقي األهم لكونه األشمل‬
‫واألوضح – يف املجتمعات املسلمة‪ ،‬من مستوى الفرد واألرسة‪ ،‬وحتى املجتمع‬
‫بشكل عام‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإننا بحاجة إىل أعامل أكثر عم ًقا وشمو ً‬
‫ال للسرية النبوية يف املجال‬
‫املجتمعي بمعناه الواسع الذي يشمل األخالق والسلوك‪ ،‬والرتبية املفاهيمية‬
‫املتعلقة بالصواب واخلطأ‪ ،‬أو الرتبية املعيارية‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل النواحي التطبيقية‬
‫املشكالت املجتمعية ودقائقها وكيف كان يعاجلها الرسول ﷺ‪ ،‬مما يتضمن طائفة‬
‫واسعة من املشكالت املزمنة التي تعانيها جمتمعاتنا يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫إن معاجلة األمور واملشكالت العادية اليومية‪ ،‬هي ما يصنع األرضية الراسخة‬
‫التي تنهض عليها كل معايل األمور التالية؛ فال يمكن احلديث عن بناء من دون‬
‫أساسات متينة‪ ،‬أو الوصول للعمل من دون ركوب وسيلة مواصالت‪ ،‬وكلها من‬
‫البدهييات املنطقية التي بحاجة إىل جهد متخصص وشامل ألجل الوصول هبا إىل‬
‫عموم املسلمني‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التفكير والمنهج العقلي في القرآن الكريم‬

‫إن إطالة التد ُّبر يف كتاب اهلل تعاىل؛ مما يدرك معه اإلنسان أنه أمام معجزة حقيقية‪،‬‬
‫حمتوى مقروء فحسب؛ وإنام‬
‫ً‬ ‫وأنه من لدن حكيم عليم؛ حيث ال نجد أنفسنا أمام‬
‫أمام أداة عملية هلا الكثري من اخلصائص والتأثريات التي تتجاوز مفهوم الكتاب‬
‫نص مكتوب‪.‬‬
‫والصحائف الذي يتبادر إىل الذهن عند احلديث عن ٍّ‬
‫فالتعامل مع النص القرآين مفيد يف أكثر من اجتاه؛ حيث ال يتعلق األمر‬
‫فحسب بصحائف تضم تعاليم اهلل تعاىل ورشيعته اخلامتة‪ ،‬وعربات وعظات من‬
‫قصص السابقني‪ ،‬أو نظرة استرشافية مستقبلية عىل الدنيا وما تبقى منها‪ ،‬واآلخرة‬
‫وأحداثها‪ ،‬عىل أمهية ذلك بطبيعة األمر‪ ،‬ولكنه ً‬
‫أيضا ُيعترب أداة عىل أكرب جانب من‬
‫األمهية يف تطوير اإلنسان‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم إنام هو الكتاب الذي حيدد للمسلم بوصلته يف هذه احلياة‪ ،‬وهو‬
‫أمر قد ننظر إليه عىل أنه أمر بدهيي‪ ،‬ولكن لو اطلعنا عىل الفلسفات الوضعية‪،‬‬
‫يؤرق املعتقدين يف هذه‬
‫والديانات األخرى؛ لعلمنا أن هذا األمر من أكثر ما ِّ‬
‫الفلسفات والعقائد‪ ،‬هو غياب بوصلة التوجيه هذه‪.‬‬
‫وهذا األمر قد يصل حتى ببعضهم‪ ،‬برغم أهنم قد يكونون من أبناء جمتمعات‬
‫متقدمة يف املجال املادي واملجتمعي‪ ،‬إىل االنتحار‪ ،‬بسبب إحساسهم بعبثية وجودهم‬
‫يف هذه احلياة‪ ،‬وعدم وجود ما يرشدهم فيها إىل حقيقتهم وحقيقة دورهم‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذا األمر متصل بمهمة شديدة األمهية أرادهتا حكمة اخلالق عز وجل من‬
‫كتابه العزيز‪ ،‬وهي تطوير تفكري اإلنسان‪.‬‬
‫وهذه املسألة ال ترتبط باملعنى القريب عند حديثنا عن "تطوير تفكري اإلنسان"‪،‬‬
‫بالشكل الذي يتبادر إىل الذهن عندما نقول هذه العبارة التي ترتبط بعامل التنمية‬
‫البرشية‪ ،‬وإنام األمر أكرب وأعمق بكثري من ذلك‪.‬‬
‫فعندما نقول إن القرآن الكريم من بني أهم أدوات تطوير قدرات اإلنسان‬
‫عىل التفكري؛ فإن ذلك يمتد لكي يشمل – كام تقدم – مسألة فهم اإلنسان لذاته‪،‬‬
‫وحلقيقة دوره يف هذه احلياة‪ ،‬وما عليه من واجبات فيها‪ ،‬يف العبادة وإعامر األرض‪،‬‬
‫ضمن رسالة االستخالف والعمران التي ألجلها ُخ ِلقَ ونزل إىل األرض‪.‬‬
‫طبعا يتضمن أهم األمور عن معرفة خالقه عز وجل‪ ،‬وطالقة قدرته‪،‬‬ ‫وهذا ً‬
‫ومعرفة اهلدف من خلق هذا الكون‪ ،‬وهذه كلها قضايا معرفية َح ِفل هبا القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫وتنقلنا هذه النقطة إىل قضية شديدة األمهية‪ ،‬وهي الطبيعة املعرفية للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬أي النص القرآين كمصدر للمعرفة؛ حيث حفل بالكثري من احلقول‬
‫املعرفية؛ التارخيية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬ويف جمال العمران واالجتامع‪ ،‬وحتى يف اإلدارة‬
‫والسياسة باملفاهيم املعارضة‪.‬‬
‫كذلك يف القرآن الكريم‪ ،‬نجد الكثري والكثري من النامذج املعرفية التي تتناول‬
‫أمورا‬
‫ً‬ ‫بالدليل العقيل – وهنا وجه كبري من أوجه معجزة اهلل تعاىل يف كتابه ‪-‬‬

‫‪190‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املجرد الذي يتم التعامل فيه مع الظواهر باحلواس‬


‫َّ‬ ‫خترج عن نطاق العلم املادي‬
‫ومعضداهتا‪ ،‬مثل أدوات الرصد احلديثة‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم لكي حيدد دقائق عميقة وتفصيلية للغاية يف أكثر األشياء أمهية‬
‫بالنسبة لإلنسان يف هذه الدنيا‪ ،‬ويثبتها بالدليل العقيل الذي هو من املفرتض أنه ال‬
‫يتعامل وفق علامء العلم املادي‪ ،‬سوى مع كل ما هو ملموس وحمسوس‪.‬‬

‫وهذا األمر ليس محاس ًة من مسلم لكتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وإنام ٌ‬


‫أمر يصدِّ قه الواقع‬
‫صح التعبري يف نمط‬‫عندما نسمع عن إشهار علامء ُك ُثر يف أكثر الدولة مادي ًة – لو َّ‬
‫حياهتا وتنشئة الناس فيها‪ ،‬بناء عىل ما فهموه بعقوهلم من القرآن الكريم‪.‬‬
‫أمر ال يستطيع أن ينكره أي أحد‪ ،‬ألنه ثابت بالنصوص‬
‫فخطاب القرآن للعقل‪ٌ ،‬‬
‫التي ختاطب العقل اإلنساين‪ ،‬مثل‪﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ‬
‫[سورة "العنكبوت"‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ ُ‬
‫‪ -‬اآلية ‪ ،]20‬وثابت بامصدق الواقع‪ ،‬كام يف حاالت إسالم الكثري من العلامء‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬ووفق منطق األمور؛ فإن القرآن الكريم يأمر مبارشة اإلنسان بإعامل‬
‫عقله‪ ،‬وإعامل العقل هو صنو التفكري‪ ،‬وهو أمر حتى نجده يف املسائل التي تتصل‬
‫باستنباط األحكام من آيِ ِّ‬
‫الذ ْكر احلكيم‪.‬‬
‫فهناك اتفاق بني علامء التفسري والفكر اإلسالمي‪ ،‬سواء املتقدمني أو املتأخرين‪،‬‬
‫أو املعارصين منهم‪ ،‬عىل أنه ال يمكن معرفة أحكام القرآن الكريم‪ ،‬وال االنطالق‬
‫بمعانيه إىل آفاق التطبيق‪ ،‬من دون اجتهاد فيه؛ حيث اآليات قطعية الداللة قليلة‬
‫العدد مقارنة مع إمجايل آيات القرآن العظيم‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولو وضعنا أمام أعيننا النموذج العلمي التجريبي يف التفكري‪ ،‬والذي يقوم عىل‬
‫أساس خطوات حمددة‪ ،‬تبدأ بتحديد املشكلة وتوصيفها‪ ،‬ثم وضع احتامالت عنها‪،‬‬
‫وفرضيات خمتلفة ملعاجلتها‪ ،‬وجتريب ٍّ‬
‫كل منها‪ ،‬قبل الوصول إىل العالج النهائي؛‬
‫فإننا سوف نقف أمام القرآن الكريم لكي نجد أن ذلك كله موجود فيه‪.‬‬
‫ففي املسائل الفقهية املختلفة؛ فإن العلامء يقفون أمام النصوص الرشعية بنفس‬
‫هذه الصورة‪ ،‬وكذلك أمام أي نص ليس قطعي الداللة يف كتاب اهلل تعاىل؛ فإن‬
‫هذه املنهجية هي املعتمدة من جانب العلامء يف دراسة مثل هذه النصوص‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يف سياق املفاهيم املختلفة ملعنى "التفكري" الذي هو عملية عقلية‬
‫ترمي إىل الوصول إىل نتائج غري معلومة من معطيات معلومة وغري معلومة‪ ،‬مثل‬
‫التفكري اإلبداعي‪ ،‬والتفكري االبتكاري؛ فإننا نجد أهنا كلها أنامط قائمة يف النامذج‬
‫املعرفية التي جاء هبا القرآن الكريم‪ ،‬أو يف األدوات الالزمة للتعامل مع نصوصه‬
‫ألجل تفسريها‪ ،‬واستخالص األحكام الرشعية منها‪.‬‬
‫ولعل أهم أنامط التفكري التي يقول هبا العلامء‪ ،‬مثل ديوي وويتيدج‪ ،‬وهو نمط‬
‫التفكري التحلييل‪ ،‬ونمط التفكري النقدي؛ فإننا نجدها متصلة بشكل كبري بالنص‬
‫القرآين‪.‬‬
‫فالتفكري النقدي‪ ،‬باعتبار أنه صور من العمليات الذهنية التي متكن اإلنسان من‬
‫تقييم النتائج التي توصل إليها‪ ،‬ووضعها يف ميدان املوازنة بني الصواب واخلطأ‪،‬‬
‫نص يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫هو من أهم ما يكون يف تقييم نتيجة ما لقراءة حكم أو ٍّ‬

‫‪192‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أما التفكري التحلييل الذي يرد كل يشء إىل عوامله األصلية األساسية أو األولية؛‬
‫هو يف األصل منهج القرآن الكريم يف دعوة اإلنسان إىل معرفة حقيقة اخلالق وحقائق‬
‫اإليامن والكون‪ ،‬وغري ذلك من األمور األهم يف حياتنا‪ ،‬والتي هي يف األصل ع َّلة‬
‫خلق اإلنسان والكون والدنيا كلها‪.‬‬
‫‪...............‬‬
‫ويف النهاية؛ فإن كل ما سبق؛ إنام هو عناوين عامة فقط ألمور كثرية‪ ،‬وتفصيالهتا‬
‫معمقة‪ ،‬ولكن أهم ما يمكن اخللوص إليه يف هذا الصدد‪ ،‬هو‬ ‫بحاجة إىل دراسات َّ‬
‫أننا بحاجة إىل إعادة اكشاف القرآن الكريم‪ ،‬باعتبار أنه ٌ‬
‫كون أكرب بكثري مما ينظر إليه‬
‫البعض‪ ،‬حتى من املسلمني الذين ال يعرفون أن بني أيدهيم مصباح اهلداية الوحيد‬
‫هلم يف هذه الدنيا بكل تعقيداهتا والتباساهتا‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"الشورى" كسلوك وممارسة اجتماعية في المنظومة اإلسالمية‬

‫تتميز األنظمة التي جاءت هبا الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬يف خمتلف املجاالت؛ السياسية‬
‫واالجتامعية واالقتصادية‪ ،‬وغريها‪ ،‬بأكثر من سمة‪ ،‬من أمهها الشمولية‪ ،‬بجانب‬
‫التداخل وتنوع املحتوى لكل قيمة وممارسة جاء هبا اإلسالم‪.‬‬
‫وهذا التداخل والطبيعة املتعددة‪ ،‬هو أحد ملحات حكمة اهلل تعاىل البالغة؛ حيث‬
‫نسبيا من القواعد الناظمة‪ ،‬ولكنها شديدة العمومية‪،‬‬
‫ال ًّ‬‫وضع يف الرشيعة‪ ،‬عد ًدا قلي ً‬
‫ألجل حتقيق رشط صالحية الدين لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫ونقف يف هذا املوضع أمام ممارسة‪ ،‬دأبت األدبيات املرتبطة باحلركة اإلسالمية‪،‬‬
‫وبالفكر اإلسالمي بشكل عام‪ ،‬عىل تصنيفها ضمن أركان النظام السيايس يف‬
‫املسلم ْي‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬بينام هي من أهم أركان املنظومة االجتامعية يف األرسة واملجتمع‬
‫وهي الشورى‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك بعض اإلشكاليات يف تناول األدبيات الفكرية‬
‫اإلسالمية هلذه القضية‪.‬‬
‫فربام كانت معركة اإلسالم واحلكم‪ ،‬هي أصعب معارك املرشوع احلضاري‬
‫اإلسالمي الوسطي‪ ،‬باعتبار أن احلكم ليس مطلو ًبا يف حد ذاته‪ ،‬وإنام هو األداة‬
‫األهم لتمكني قيم الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وإقامة عقيدة التوحيد‪.‬‬
‫ولكن األهم‪ ،‬كام يرى كثريون يف أوساط الفكر اإلسالمي واحلركة اإلسالمية؛‬
‫فإن إقامة احلكم الذي حيتكم إىل اإلسالم والرشيعة اإلسالمية؛ إنام أساسه هو‬

‫‪194‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ترسيخ القيم اإلسالمية عىل مستوى الفرد واملجتمع؛ حيث وقتها سوف تتشكل‬
‫حاضنة جمتمعية ينتج عنها – وفق قوانني العمران واالجتامع السيايس املعروفة‬
‫– أن تظهر نخبة حاكمة تتبنى القيم اإلسالمية‪ ،‬وحتكم بالرشيعة‪ ،‬سواء أجاءت‬
‫باالنتخابات‪ ،‬أو بأية صورة أخرى من صور اختيار ُ‬
‫احل َّكام واحلكومات‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن الشورى هي سلوك وممارسة اجتامعية باألساس‪ ،‬يمكن تطويرها‬
‫ألكثر من جمال آخر‪ ،‬مثل اإلدارة‪ ،‬ومثل السياسة‪.‬‬
‫الشوري يف القرآن الكريم باألمر السيايس يف مجاعة املسلمني‬
‫ِّ‬ ‫ارتبط الفعل‬
‫األوىل‪ ،‬الرسول الكريم ﷺ وصحابته رضوان اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬يف دولة املدينة‪،‬‬
‫املرة التي وردت يف ُسورة "آل‬
‫مرة واحدة خالف املشهور يف األذهان‪ ،‬وهي َّ‬
‫عمران"‪ ،‬يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾‪.‬‬

‫أما ما جاء يف سورة "الشورى"‪ ،‬يف قوله عز وجل‪﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬


‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾؛ فهو ال يتعلق بقيمة سياسية‪ ،‬وإنام‬
‫هو ضمن سياق قرآين عام حول املؤمنني وتعداد سامهتم‪ ،‬مثل ذلك الوارد يف مطلع‬
‫ُسورة "املؤمنون"‪.‬‬
‫الشوري يف القرآن الكريم يف املجال السيايس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مرة ثانية ورد فيها الفعل‬
‫وثمة َّ‬
‫َّ‬
‫أي من مشتقاته‪ ،‬وبعيدً ا عن الشأن اإلسالمي‪،‬‬
‫ولكن من دون املصطلح املبارش أو ٍّ‬

‫‪195‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكنه ورد يف موضع يشري إىل أن مشاورة الرعية من سامت املجتمعات والدول‬
‫القوية الناجحة‪.‬‬
‫ففي ُسورة "النمل"‪ ،‬خاطبت ملكة سبأ قومها عارض ًة عليهم رسالة نبي اهلل‬
‫سليامن (عليه السالم)‪ ،‬فقالت هلم كام ورد يف القرآن الكريم‪ ﴿ :‬ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾‪.‬‬
‫ولكن فعل الشورى يف القرآن الكريم‪ ،‬ورد بصيغته املبارشة هذه يف جوانب‬
‫أرسية واجتامعية‪ ،‬ففي ُسورة "البقرة"‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ﴾ [من اآلية ‪.]233‬‬
‫يف هذه اآلية‪ ،‬نجد أن اهلل تعاىل قد دعا إىل الشورى حتى فيام هو يبدو من أبسط‬
‫األمور‪ ،‬يف أبسط وحدة تكوينية ألي جمتمع‪ ،‬وهي األرسة؛ حيث دعا إىل التشاور‬
‫حتى يف نقطة ِفطام األطفال ُّ‬
‫الر َّضع‪.‬‬
‫حتول الشورى إىل سلوك وممارسة اعتيادية لنا‬
‫وإننا هنا أمام كثري فائدة يف حال ُّ‬
‫كمسلمني يف املامرسة االجتامعية‪ ،‬واليومية‪ ،‬ربام يكون من نافل القول‪ ،‬لكن من‬
‫املهم تأكيدها‪.‬‬
‫فالشورى أو ً‬
‫ال؛ تساعد عىل حرص خمتلف اآلراء املوجودة‪ ،‬وبكل تأكيد فإن‬
‫تنوعا يف طبيعتها‪،‬‬
‫فاعلية آراء املجموع‪ ،‬أكرب من آراء الفرد‪ ،‬عىل األقل هي أكثر ً‬
‫ويف طرائق تعاملها مع خمتلف املواقف واملشكالت‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نوعا من أنواع التوازن يف إدارة املوقف داخل األرسة‪،‬‬


‫كام أن الشورى حتقق ً‬
‫ٍ‬
‫كسمة أو كخصيصة من خصائص املجتمع املسلم؛ فإهنا حتقق‬ ‫وبالتايل‪ ،‬مع شيوعها‬
‫مستوى ممكن‪ ،‬احتامل نشوب‬
‫ً‬ ‫شك ً‬
‫ال من أشكال االستقرار‪ ،‬عندما ختفف ألقل‬
‫نزاع صالحية أو رصاع آراء‪.‬‬
‫كام أهنا ً‬
‫أيضا تساعد عىل توزيع نطاق املسؤولية‪ ،‬بحيث عند وقوع أزمة أو خطأ؛‬
‫يتحمل اجلميع مسؤولية القرار‪ ،‬وال يقع عىل عاتق فرد أو جمموعة صغرية؛ فتنشأ‬
‫نزاعات بسب خالف وجهات النظر حول أسباب املشكلة‪ ،‬ورغبة كل طرف يف‬
‫التنصل منها‪ ،‬أو إلقاء العبئ عىل األطرف األخرى‪.‬‬
‫ريا ما كان يستشري زوجاته‪ ،‬حتى يف‬
‫ومن الثابت عن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬أنه كث ً‬
‫الرعية والدين؛ فكان يستشري السيدة عائشة (ريض اهلل عنها) يف شؤون النساء‬‫َّ‬ ‫أمور‬
‫عند نزول حكم رشعي يف القرآن الكريم‪ ،‬و َقبِ َل بمشورة زوجته‪ ،‬السيدة أم َس َل َمة‬
‫"التمرد" اللحظي لبعض الصحابة عىل رشوط صلح‬
‫ُّ‬ ‫(ريض ُ‬
‫اهلل عنها)‪ ،‬يف أزمة‬
‫احلديبية‪.‬‬
‫وليس هناك أعظم وال أهم من أحكام الرشيعة‪ ،‬وال أمر مجاعة املسلمني‪ ،‬ويف‬
‫كليهام؛ أخذ الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬بمشورة زوجاته‪ ،‬أمهات املؤمنني‪.‬‬
‫ويتصل هبذا األمر سلسلة من القيم األخرى املهمة لصالح واستقرار أي‬
‫جمتمع‪ ،‬مثل حرية إبداء الرأي وفق قواعد األخالق واألدب املرعية‪ ،‬مثل احرتام‬
‫الكبري‪ ،‬وآداب النقاش اخلاص والعام‪ ،‬وكذلك تعويد الناس عىل التفكري وتقليب‬

‫‪197‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األمور عىل خمتلف وجوهها‪ ،‬وغري ذلك مما هو يف حقيقة األمر من بدهييات أحوال‬
‫املجتمعات القوية املتامسكة التي تتقدم يو ًما بعد يوم باجتامع آراء أبنائها وتعاوهنم‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫وتبعا لذلك؛ فإننا أمام واجب مهم لعلامئنا وقادة الرأي املسلمني؛ حيث إنه‬
‫ً‬
‫ينبغي االهتامم بوضع منظومة من األدبيات ذات الطابع الرتبوي والنفيس‪ ،‬تعمل‬
‫عىل تعميق هذه الطبيعة احليوية لقيمة الشورى‪ ،‬كسلوك وممارسة أرسية وجمتمعية‪،‬‬
‫وليست سياسية فحسب؛ يتم ذكرها فقط عند مقارنة النظام السيايس اإلسالمي‪،‬‬
‫بمنظومة الديمقراطية الغربية‪.‬‬
‫وتبدأ هذه العملية – تعضيد قيمة الشورى كسلوك وأداة إصالح جمتمعية – منذ‬
‫الص َغر؛ حيث األب واألم ُمطالبان بأكثر من أمر يف هذه الناحية‪ ،‬بني األخذ بمبدأ‬
‫ِّ‬
‫الشورى يف تربية األبناء‪ ،‬وبني تربيتهم لألبناء أنفسهم عىل إبداء رأهيم‪ ،‬واالستجابة‬
‫الص َغر‬ ‫ملا يرونه ما دام مل خيالف ً‬
‫حكم أو ير ِّتب ً‬
‫رضرا أو ما شابه‪ ،‬وتعويد األبناء منذ ِّ‬
‫عىل استشارة أهل احلل والعقد يف األرسة‪ ،‬ويف مجاعة األقران‪ ،‬واملدرسة‪ ،‬بشأن أي‬
‫عرض عليهم‪.‬‬ ‫أم ٍر ُي َ‬

‫‪198‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"لماذا يتعلم أبناؤنا؟"‪ ..‬رؤية إسالمية منسية‬

‫اقرتب موعد بدء العام الدرايس اجلديد يف دول العامل العريب‪ ،‬وبدأ التالميذ‬
‫كل بحسب طاقاته‬ ‫والطلبة‪ ،‬وأولياء األمور يف االستعداد هلذا احلدث املهم‪ٌّ ،‬‬
‫االقتصادية‪ ،‬أو بحسب فهمه أو تقديره ألمهية التعليم‪ ،‬وهو فهم وتقدير خيتلفان‬
‫من رشحية ألخرى من رشائح املجتمعات املختلفة‪.‬‬
‫وبشكل عام؛ فإن تقدير أمهية العملية التعليمية النظامية يف مدارسنا وجامعاتنا‬
‫الس َّلم احلضاري‪،‬‬
‫ختتلف باختالف درجة تنوير املجتمعات وارتقائها يف درجات ُّ‬
‫خاضعا للفقر أو الثراء‪.‬‬
‫ً‬ ‫وليس األمر‬
‫فبحسب تقارير عربية ودولية موثوقة؛ فإن أكرب نسبة تعليم يف العامل العريب‪ ،‬هي‬
‫يف األرايض الفلسطينية املحتلة عام ‪1967‬م‪ ،‬وقطاع غزة عىل وجه اخلصوص‪،‬‬
‫برغم احلالة االقتصادية التي حيياها القطاع بفعل احلصار؛ حيث تزيد نسبة الفقر‬
‫عىل ثامنني باملائة‪.‬‬
‫ولكي ال ُنستطرد فيام هو غري موضوع أصيل للحديث يف هذا املوضع؛ حيث ال‬
‫نناقش قضايا تعليمية أو تربوية ذات طابع تقني‪ ،‬فإننا نقف أمام قضية ذات طابع‬
‫حضاري عام‪ ،‬عىل أكرب قدر من األمهية‪ ،‬يطرحها حدث اقرتاب موعد بدء العام‬
‫الدرايس اجلديد‪ ،‬وهي قضية تدور حول سؤال‪" :‬ملاذا يتعلم أبناؤنا؟"‪.‬‬
‫وهذه القضية ليست من نافل القول فيام خيص املرشوع اإلسالمي وحركياته‬
‫ومستهدفاته؛ حيث التعليم هو أحد أهم مسارات ووسائل التنشئة االجتامعية‬

‫‪199‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والفكرية‪ ،‬والتنمية البرشية‪ ،‬بحيث يمكن القول إن تكوين اإلنسان الفكري‬


‫والعقيل‪ ،‬وتكوين ميوله واهتاممته‪ ،‬بل وشخصيته بالكامل مستقب ً‬
‫ال‪ ،‬فيام بناء‬
‫اإلنسان‪ ،‬هو حجر األساس يف مرشوعات أية أمة تسعى إىل أن جتد لنفسها مكا ًنا‬
‫حتت شمس احلضارة اإلنسانية‪.‬‬
‫ووفق هذا املنطق؛ فإن أبرز أوجه القصور التي نقابلها عند احلديث عن قضية‬
‫"ملاذا يتعلم أبناؤنا"؛ هو تقليدية أو نمطية املستهدفات التي يضعها اآلباء أو الطلبة‬
‫ألنفسهم من وراء العملية التعليمية‪.‬‬
‫شطر ْي العملية‬ ‫فأو ً‬
‫ال؛ باتت نقطة الرتبية األخالقية والسلوكية كشطر أصيل من َ‬
‫التعليمية يف مؤسساتنا املدرسية واجلامعية يف عاملنا العريب واإلسالمي؛ غائبة إىل‬
‫حد كبري‪ ،‬وذلك حلساب أفكار قارصة ال حتقق أي يشء‪ ،‬عىل رأسها هدف خا ٍو من‬ ‫ٍ‬
‫أي مضمون‪ ،‬وهو جمرد احلصول عىل ورقة تثبت أن فال ًنا هذا قد حصل عىل تقدير‬
‫يؤهله لالنتقال إىل املرحلة التالية من التعليم‪ ،‬أو شهادة إهناء الدراسة اجلامعية‪ ،‬أو‬
‫التعليم املتوسط‪ ،‬الستيفاء األوراق التي تؤهله إىل االنخراط يف سوق العمل‪.‬‬
‫فتحول الذهاب إىل املدرسة أو اجلامعة إىل روتني يومي ملجرد حتصيل قدر من‬
‫املعلومات لتأهيلهم لدخول االختبارات النهائية‪ ،‬من أجل النجاح واحلصول عىل‬
‫صف‪ ،‬أو من مرحلة إىل أخرى‪.‬‬ ‫صف إىل ِّ‬
‫اإلجازة من ٍّ‬

‫وحتى يف هذه اجلزئية؛ فإن مؤسساتنا التعليمية العربية ويف عاملنا اإلسالمي؛ ال‬
‫تقدم أي يشء؛ من علوم ومعارف‪ ،‬أو قدرات‪ ،‬تؤهل للعمل يف املجاالت املختلفة‪،‬‬
‫وهو أمر واضح للغاية من خالل النظر إىل إحصائيات العاملة املتخصصة واخلرباء‬

‫‪200‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األجانب الذين يعلمون يف عاملنا العريب واإلسالمي‪ ،‬مقابل نسبة بطالة هي األعىل‬
‫يف العامل‪.‬‬
‫وكذلك يتضح من املتاعب التي يالقيها خرجيو جامعاتنا العربية يف احلصول‬
‫عىل فرصة عمل يف البلدان الغربية واملتقدمة األخرى‪ ،‬وحتى يف دول ما كان‬
‫عرف بالعامل الثاين‪ ،‬يف رشق ووسط أوروبا؛ فإن هناك صعوبات بالغة يف معادلة‬
‫ُي َ‬
‫الشهادات العربية‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن أول أركان إجابة سؤال‪" :‬ملاذا يتعلم أبناؤنا؟"؛ هي أهنم جيب أن‬
‫يتعلموا مع يطورون به ذواهتم وقدراهتم يف خمتلف االجتاهات؛ العقلية واملعرفية‬
‫والبدنية وغري ذلك‪.‬‬
‫وبالتايل – ً‬
‫أيضا – فإنه يف ظل الظروف الفنية املرتدية التي تعانيها غالبية املؤسسات‬
‫التعليمية يف العامل العريب واإلسالمي؛ فإن اإلنسان بحاجة ملا هو أشمل وأبعد مما‬
‫حيصل عليه يف الدراسة‪ ،‬سواء ما قبل اجلامعية أو يف مرحلة التعليم اجلامعي‪.‬‬
‫وهنا يأيت دور األرسة بجانب ا ُملع ِّلم صاحب الضمري؛ حيث هؤالء منوط هبم‬
‫تشجيع التالميذ والطلبة عىل اكتساب العلوم واملعارف‪ ،‬وتطوير قدراهتم الذاتية‪،‬‬
‫وذلك من خالل مسارات متعددة‪ ،‬صحيح أو من بينها املدرسة‪ ،‬ولكن األمر جيب‬
‫أن يتجاوز حدود املدرسة‪ ،‬مثل القراءة وتكوين مكتبات خاصة‪ ،‬أو الذهاب إىل‬
‫والتعرف‬
‫ُّ‬ ‫املكتبات العامة‪ ،‬واالطالع عىل وسائل اإلعالم املختلفة املوثوق فيها‪،‬‬
‫عىل جتارب التعليم الذي يعني اكتساب املعارف والقدرات اخلاصة‪ ،‬لدى البلدان‬
‫األخرى املتقدمة‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أيضا‪ ،‬العمل عىل احلصول عىل دورات خاصة يف املجاالت‬ ‫ويشمل ذلك ً‬
‫األهم يف عاملنا املعارص‪ ،‬مثل احلاسب اآليل واللغات‪ ،‬ووسائط ما ُيعرف‬
‫بالـ"إنفو ميديا"‪ ،Info Media‬أي وسائل اإلعالم التي تقدم املعلومات‪ِّ ،‬‬
‫ومتكن‬
‫اإلنسان من االطالع عىل خربات اآلخرين واالستفادة منها‪.‬‬
‫وعىل رأس هذه الوسائط اإلنرتنت اآلن‪ ،‬الذي بات يشمل إمكانيات واسعة‬
‫مجة للحصول‬ ‫حسن استخدامه؛ حيث حيتوي عىل فرص َّ‬ ‫للغاية يف هذا اإلطار‪ ،‬متى ُأ ِ‬
‫عىل مؤهالت علمية أفضل‪ ،‬سواء باملراسلة‪ ،‬أو منح السفر واالبتعاث‪ ،‬أو احلصول‬
‫عىل الدورات املتخصصة املشار إليها‪ ،‬أو حتى احلصول عىل املكتبات الرقمية‪.‬‬
‫اجلانب اآلخر يف هذا األمر‪ ،‬خيص نقطة شديدة األمهية تعني بشكل مبارش‬
‫مسألة اهلوية اإلسالمية‪.‬‬
‫فالتعليم املدين يف عاملنا العريب واإلسالمي‪ ،‬ال يركز عىل هذه األمور مطل ًقا‪ ،‬بينام‬
‫التعليم الديني ليس عىل القدر املطلوب يف هذه النقطة؛ نقطة اهلوية اإلسالمية‪.‬‬
‫وتشمل اهلوية اإلسالمية هنا؛ األخالقيات والسلوكيات‪ ،‬وكذلك املحتوى‬
‫ً‬
‫مسلم"‪ ،‬كام تكلم عنها مفكرون كبار مثل‬ ‫احلركي ملسألة "ماذا يعني أن أكون‬
‫الشيخ حممد الغزايل‪ ،‬واألستاذ حممد قطب‪ ،‬وآخرون من مفكري احلركة اإلسالمية‬
‫الصحوية‪ ،‬الذين سعوا يف كتاباهتم إىل إعادة تعريف مفهوم "املسلم" لدى املسلمني‪،‬‬
‫وربط املسلمني بدينهم وفق منظور شامل ملفهوم الدين‪ ،‬وملحتوى الرشيعة‪.‬‬
‫مسلم؛ فإنني‬
‫ٍ‬ ‫علم‬
‫ويتضمن ذلك حتى قضية مهمة للغاية‪ ،‬وهي أنني كطالب ٍ‬
‫أسعى إىل كسب العلم ألن ذلك فريضة رشعية دعا إليها القرآن الكريم واحلديث‬

‫‪202‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النبوي الرشيف‪ ،‬وأنني أطلب العلم كذلك‪ ،‬خلدمة ديني‪ ،‬سواء بشكل مبارش‪ ،‬من‬
‫خالل الدعوة مث ً‬
‫ال‪ ،‬أو غري مبارش‪ ،‬من خالل خدمة املجتمعات واألوطان؛ حيث‬
‫خري للناس أنفعهم للناس كام قال الرسول الكريم ﷺ‪.‬‬
‫ً‬
‫مسلم؛ حيث حيكم اإلسالم‬ ‫وهذا األمر‪ ،‬هو يف ُصلب فكرة أن يكون املرء‬
‫ورشيعته خمتلف تصوراته عن نفسه وعن الكون من حوله‪ ،‬وعن دوره يف هذه‬
‫احلياة‪ ،‬وملاذا ُخ ِلقَ ‪ ،‬وغري ذلك من األمور املرتبطة‪.‬‬
‫وهنا؛ فإن هناك مسؤولية مطلقة عىل اآلباء واألمهات‪ ،‬يف توجيه األبناء إىل أن‬
‫أي من األقنية األخرى‬
‫يكونوا مع طلب العلم‪ ،‬سواء يف املدرسة أو اجلامعة‪ ،‬أو ٍّ‬
‫أن الطالب يتعلم لكي يستكمل‬ ‫املشار إليها سل ًفا‪ ،‬وغريها‪ ،‬وفق هذا املنظور؛ َّ‬
‫خمتلف جوانب هويته كإنسان مسلم‪ ،‬أي يسعى الكتساب األخالق والسلوكيات‬
‫الفاضلة‪ ،‬وكذلك أن يفهم أنه يتعلم ألداء مهام مقدسة‪ ،‬تتصل هبويته العقدية‬
‫ذاهتا‪.‬‬
‫‪...........‬‬
‫ويف األخري؛ فإننا أمام مهمة شديدة الصعوبة يف حقيقة األمر‪ ،‬يف ظل تردي‬
‫أوضاع العملية التعليمية والرتبوية يف مراكزنا التعليمية يف كثري من دول العامل‬
‫العريب واإلسالمي‪ ،‬إال أهنا – من اجلانب اآلخر – مهمة شديدة األمهية واخلطورة‪،‬‬
‫وبالتايل؛ شديدة الرضورة‪ ،‬بحيث ينبغي أن تكون عىل قمة جدول أعامل احلركة‬
‫اإلسالمية الصحوية‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وما الكوارث التي أحاقت باملرشوع اإلسالمي وصورته‪ ،‬إال بسبب ضعف‬
‫الرؤية‪ ،‬واآليت باألساس بسبب ضعف التعليم والتنشئة‪ ،‬بحيث فاض طوفان غث‬
‫األرض من األجيال اجلديدة‪ ،‬عىل احلركات اإلسالمية كافة‪ ،‬وبجانب املنتفعني‬
‫واملض ِّلني الذين تسللوا بليل إىل الصفوف؛ قام هؤالء بكل ما من شأنه تشويه‬
‫صورة املرشوع بالكامل‪ ،‬وباتت األمور بحاجة إىل عقود طويلة إلصالح ما تم‬
‫تدمريه هلذا السبب!‬

‫‪204‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلسالم وقضية الصورة الذهنية‪ ..‬بين الحرملك ومعامل ناسا!‬

‫من صميم العقيدة اإلسالمية‪ ،‬اإليامن بأن اإلسالم هو دين اهلل اخلاتم التام‪،‬‬
‫بع َث للناس كافة‪ ،‬وأن اإلسالم ورشيعته‪ ،‬هو‬ ‫وأن الرسول الكريم حممد ﷺ‪ ،‬قد ِ‬
‫الدين واملنهاج الذي ارتضاه اهلل عز وجل لعباده‪ ،‬مهام كان لوهنم واختالف ألواهنم‬
‫وألسنتهم‪ ،‬ومهام اختلفت األزمان واألماكن‪ ،‬وأنه لن يدخل اجلنة من سمع‬
‫بمحمد ﷺ‪ ،‬وباإلسالم‪ ،‬ومل يؤمن به‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فقد جاءت الرشيعة اإلسالمية َّ‬
‫مفصلة يف بعض األمور‪ ،‬والتي هي‬
‫أساس الدين والعقيدة‪ ،‬أو ختص عالقة اإلنسان بربه‪ ،‬وغري قابلة للتغيري مهام‬
‫تغريت رصوف الزمان وتبدل املكان‪ ،‬فيام جاءت شديدة العمومية يف أمور أخرى‪،‬‬
‫وخصوصا فيام يتعلق بشأن اإلنسان يف احلياة الدنيا؛ من أجل أن تتواكب مع‬
‫ً‬
‫املتغريات الزمانية واملكانية‪.‬‬
‫ففي االقتصاد؛ مل تفرض الرشيعة ً‬
‫نمطا اقتصاد ًّيا بعينه عىل الناس؛ مراعاة‬
‫لظروفهم وتبدالهتا؛ فقط حددت العموميات التي ال تسقيم األمور من دوهنا‪،‬‬
‫باعتبارها الفطرة السليمة‪ ،‬مثل حتريم الربا واالحتكار واحلفاظ عىل امللكية اخلاصة؛‬
‫إال لو تطلب األمر نزعها ملصلحة عامة‪ ،‬مع تعويض صاحبها‪ ،‬واحلفاظ عىل البيئة‬
‫والثروات الطبيعية‪.‬‬
‫وكلها قواعد وقوانني عامة؛ تصلح ألي زمان ومكان‪ ،‬ويمكن تطبيقها يف أي نظام‬
‫تلقائيا – إىل الفشل وحصول املشكالت‪ ،‬فعندما خالفها‬
‫ًّ‬ ‫اجتامعي‪ ،‬وخمالفتها‪ ،‬تقود –‬

‫‪205‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الشيوعيني؛ سقطت الكتلة الشيوعية‪ ،‬واضطرت أمم مثل الصني إىل تغيري قواعد‬
‫الشيوعية كام كتبها ماركس لتفادي مصري االحتاد السوفييتي‪ ،‬بينام الربا قاد إىل أزمات‬
‫وكوارث اقتصادية يف الغرب‪ ،‬كام يف أزمة مرصف ليامن براذرز‪ ،‬يف العام ‪2008‬م‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم‪ ،‬ما يؤيد ذلك‪ ،‬فيقول احلق تبارك وتعاىل‪﴿ :‬ﮐ ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ ُ‬
‫[سورة "األنبياء"]‪ ،‬ويقول عز وجل ً‬
‫أيضا‪﴿ :‬ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ‬
‫[سورة "األعراف"]‪.‬‬
‫ﯡﯢﯣﯤ﴾ ُ‬
‫ويقول اهلل سبحانه‪﴿ :‬ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ‬
‫[سورة "سبأ"]‪.‬‬
‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ ُ‬

‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬يقول َمن ال ينطق عن اهلوى‪" :‬إِن ُّ‬
‫الرسل قبيل ُيبعثون‬ ‫ويف ُّ‬
‫إىل قومهم خاصة و ُب ِعث ُْت إىل الناس كافة" [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول اإلمام حممد بن عبد الوهاب "رمحه اهلل"‪ ،‬يف رشح هذه اآليات واحلديث‪ ،‬إن‬
‫ذلك يعني أن اهلل تعاىل قد بعث الرسول الكريم ﷺ إىل الناس كافة‪ ،‬عرهبم وعجمهم‪،‬‬
‫ذكرهم وأنثاهم‪ ،‬حرهم وعبدهم‪ ،‬أمحرهم وأسودهم‪ ،‬وال نزاع يف ذلك بني املسلمني‪.‬‬
‫وبالرغم من ذلك؛ تظهر أمامنا صورة ذهنية مغايرة متا ًما لتلك احلقيقة‪ ،‬وهلا‬
‫الكثري من التأثري عىل جهود نرش الدعوة عىل مستوى العامل‪ ،‬وال نقول مبالغني لو‬
‫قلنا إهنا من بني أهم معوقات نرش الدعوة يف العامل الغريب عىل وجه اخلصوص‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه املشكلة تتعلق بقضية الطابع الرشقي لإلسالم‪ ،‬واملنطبع عىل ذهنية غري‬
‫املسلمني يف بقاع العامل املختلفة‪.‬‬
‫فبسبب قرون طويلة من التضليل الذي مارسته القوى املعادية لإلسالم‪ ،‬وكان‬
‫بعض هذا التضليل يتم اعتام ًدا بعض املامرسات التي كانت تتم من جانب ُح َّكام‬
‫دول اخلالفة املتعاقبة يف مراحل ضعفها واضمحالهلا؛ فإن هناك صورة منطبعة‬
‫لدى الغرب وغري الرشقيني عمو ًما‪ ،‬عن اإلسالم‪ ،‬عىل أنه دين العرب ودين‬
‫املجتمعات الرشقية‪.‬‬
‫وتم تكريس هذه الصورة يف عرص اإلعالم أو "امليديا" بوساطة املختلفة؛ حيث‬
‫باتت أدوات القوة الناعمة واحدة من أهم وأقوى أسلحة احلرب يف العصور‬
‫احلديثة‪.‬‬
‫فمن خالل األفالم السينامئية واملسلسالت التليفزيونية‪ ،‬والروايات‪ ،‬وغريها من‬
‫فنون الصوت والصورة والكلمة‪ ،‬والتي يتم إفراد ميزانيات هائلة لكي تلقى الرواج‬
‫املطلوب‪ ،‬وتسويقها يف كافة أطراف األرض‪ ،‬بات البعض ال يتصور اإلسالم إال‬
‫يف أجواء القصور واملنمنامت وصوت العود والقانون وكذا‪ ،‬دين القصور والقيان‬
‫والرياش كام يصوره اإلعالم الغريب وإعالم التشويش يف عاملنا العريب واإلسالمي‪.‬‬
‫يف املقابل تم إخفاء قرون طويلة سادت فيها الدولة اإلسالمية العامل بعلومها‬
‫ومفردات حضارهتا الفريدة من نوعها؛ لكي تكتمل أركان الصورة التي يريدها‬
‫أعداء الدين واألمة‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومع عدم نفي أن العرب هم ُصلب وعز اإلسالم‪ ،‬كام هو مأثور عن النبيﷺ‪،‬‬
‫وعن صحابته ِ‬
‫الكرام؛ فإن هذه الصورة الذهنية جيب أن تتغري ألهنا خاطئة؛ فال‬
‫اإلسالم هو دين العرب فحسب‪ ،‬وال هو تلك الصورة املختلطة عن الرشق‬
‫بغموضه وآثاره ومؤامراته‪.‬‬
‫فاإلسالم‪ ،‬كام تقدم‪ ،‬هو دين كل زمان ومكان‪ ،‬وما دام اهلل تعاىل قد شاء أن يسود‬
‫العامل؛ فإن هذا معناه أن اإلسالم ذو حمتوى يصلح للتطبيق يف الرشق والغرب‪ ،‬ويف‬
‫كل أركان هذا العامل‪.‬‬
‫فكام نتصور اإلسالم يف املجتمعات الرشقية‪ ،‬بقصورها وعامئمها؛ فإنه كذلك‬
‫دين املجتمعات الغربية‪ ،‬بام فيها من معامل وأطباء ومراكز علمية وسياسية وثقافية‪،‬‬
‫وغري ذلك من صور التقدم احلضاري املختلفة‪.‬‬
‫وهذه هي طبيعة اإلسالم احلقة؛ حيث عبقرية التنزيل‪ ،‬من أنه يصلح للتعامل‬
‫مع مفردات خصوصية املجتمعات اإلنسانية املختلفة‪.‬‬
‫فدولة اخلالفة اإلسالمية يف بالد فارس‪ ،‬كانت ختتلف متا ًما عن صورة ومفردات‬
‫دولة اإلسالم يف األندلس‪ ،‬أو يف املغرب‪ ،‬أو يف رشق أوروبا‪ ،‬ولعل يف املرياث‬
‫اهلائل من املصطلحات اللغوية والعامرة املتنوعة بتنوع هذه املجتمعات‪ ،‬والتي‬
‫تركت وطبعت بآثارها‪ ،‬ما ال ُيمحى يف هذه املجتمعات؛ ما يشهد عىل ذلك‪.‬‬
‫صفوة القول‪ ،‬إنه جيب التأسيس لصورة ذهنية جديدة عن اإلسالم‪ ،‬تعرب عن‬
‫طبيعته احلقة‪ ،‬وكام نراه يف قصصهم وأفالمهم ورواياهتم‪ ،‬ال ينمو وال ينتعش إال‬

‫‪208‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف القصور القديمة؛ جيب أن تعمل أفالمنا ومسلسالتنا ورواياتنا وبراجمنا‪ ،‬عىل أن‬
‫يراه اآلخر‪ ،‬وحتى املسلم الذي تربى عىل هذه الصورة الذهنية اخلاطئة لإلسالم‪،‬‬
‫يف أروقة املعامل واملختربات العلمية‪ ،‬ويف املكتبات‪ ،‬ويف املراكز الثقافية‪.‬‬
‫جيب أن ينقل اإلنتاج احلضاري‪ ،‬الناعم واخلشن‪ ،‬ملجتمعات املسلمني يف‬
‫الغرب عىل وجه اخلصوص‪ ،‬اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وهم يتعايشون يف احلوارض‬
‫املدنية‪ ،‬ويتعاملون بدينهم مع مفردات احلضارة احلديثة‪ ،‬وأن املسلمني ليسوا جمرد‬
‫مستهلكني هلذه املفردات‪ ،‬وإنام هم رشكاء أساسيني يف بناء هذه احلضارة‪.‬‬
‫وهناك من يسعى يف هذا االجتاه بالفعل يف اجلمعيات واملراكز الثقافية والدعوية‬
‫اإلسالمية يف أوروبا واألمريكيت َْي وأسرتاليا‪ ،‬وهؤالء جيب دعم جهودهم‪،‬‬
‫وهذا الدعم يتطلب يف وقتنا الراهن‪ ،‬جهدً ا مضاع ًفا‪ ،‬ما بني إظهار الطبيعة املدنية‬
‫واحلضارية العامة لإلسالم‪ ،‬وبني مواجهة عمليات التشويه التي يتعرض هلا الدين‬
‫وحضارته وأبناؤه‪ ،‬سواء من جانب القوى املعادية له يف هذه البقاع‪ ،‬أو من جانب‬
‫اسم‪ ،‬ولكنهم يفوقون يف تأثريهم ألف عدو خارجي‪ ،‬مثل‬ ‫بعض املنتمني إليه ً‬
‫األنظمة واحلكومات والتيارات العلامنية‪ ،‬والتكفرييني‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ص القرآني‬
‫علم النفس في القرآن الكريم وقضية شمول ال َّن ِّ‬

‫ومفكريه أنه من الرضوري‬‫ِّ‬ ‫من بني أهم األمور التي جيد الكثري من علامء الإلسالم‬
‫وضعها عىل قائمة أولويات كتابات ِّ‬
‫املفكرين املسلمني‪ ،‬قضية املفاهيم القرآنية‪.‬‬
‫صح التعبري‪ ،‬ومنها‬
‫ويعود ذلك لعدد من األسباب شديدة "اإلسرتاتيجية" لو َّ‬
‫وجود عدد من اآليات القرآنية الكريمة واألحاديث النبوية الرشيفة التي تتناول‬
‫قضية شمولية ال َّنص القرآين‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن إثبات هذه القضية‪ ،‬هو من صميم الدفاع عن العقيدة‪ ،‬يف ظل‬
‫مركزية القرآن الكريم يف العقيدة اإلسالمية‪ ،‬ممَّا يعني معه أن الفشل يف إثبات أي‬
‫أم ٍر يتعلق بكتاب اهلل تعاىل‪ ،‬يعني هد ًما للعقيدة عند الناس‪ ،‬وجلهود الدعوة‪.‬‬
‫وتزداد أمهية هذه املسألة أن هناك مفهوم خاطئ ملسألة الشمول هذه‪ ،‬ممَّا ِّ‬
‫يمكن‬
‫خصوم الدين من قنصه منها؛ حيث إن هذا املفهوم عن العثور عىل "كل يشء" يف‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ال يعني تلك الرؤية الساذجة من أن القرآن الكريم فيه كل أرسار‬
‫الكون وحسابات الرياضيات والفيزياء‪ ،‬واآلداب والفلسفة‪.‬‬
‫ص القرآين واحلديث النبوي الرشيف ذاته‪.‬‬
‫فهذه الرؤية القارصة يدحضها ال َّن ُّ‬
‫ص القرآين إنام يكون بالتد ُّبر‪ ،‬وهو ما‬
‫فالقرآن الكريم نفسه يقول بأن فهم ال َّن ِّ‬
‫يعني أن النصوص القرآنية لن حتوي كل "املعلومات" التي يف الدنيا رصاح ًة‪ ،‬وإنام‬
‫سوف تكون يف صياغة ربانية ُم َْكمة‪ ،‬شديدة العموم‪ ،‬ووفق طريقة النامذج‪ ،‬والتي‬

‫‪210‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يشمل معها القرآن الكريم خمتلف القضايا ُ‬


‫الك ِّل َّية التي هتم اإلنسانية‪ ،‬وليست قصة‬
‫معلومات ِ‬
‫مباشة يف احلساب وجغرافيا وفيزياء‪.‬‬
‫سورت‬
‫َْ‬ ‫فعبارة﴿ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ التي وردت مر َت ْي يف كتاب اهللِ تعاىل‪ ،‬يف‬
‫"النساء" و"حممد"‪ ،‬شديدة املركزية واألمهية يف تناول هذه النقطة‪ .‬قضية شمولية‬
‫النص القرآين‪ ،‬بجانب نقطة العمومية‪.‬‬
‫ويف احلديث الرشيف ما يقول بذلك‪ ،‬فعندما كان الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يل ِّقن‬
‫معاذ بن جبل (ريض ُ‬
‫اهلل عنه) قبل إرساله لدعوة أهل اليمن؛ قال له النبي "عليه‬
‫الصالة والسالم"‪" :‬كيف تقيض إذا ُع ِرض لك قضاء؟‪ .‬قال‪ :‬أقىض بكتاب اهلل‪،‬‬
‫قال‪ :‬فإن مل جتد يف كتاب اهلل؟‪ .‬قال‪ :‬فبِ ُس َّنة رسول اهلل ﷺ‪ .‬قال‪ :‬فإن مل جتد يف ُس َّنة‬
‫رسول اهلل ﷺ وال يف كتاب اهلل؟‪ .‬قال‪ :‬أجتهد رأيي وال آلو‪ .‬فرضب رسول اهلل ﷺ‬
‫صدره‪ ،‬وقال‪ :‬احلمد هلل الذي و َّفق رسول رسول اهلل ملا ُيريض رسول اهلل" [أخرجه‬
‫اإلمام أمحد يف ا ُمل ْسنَد]‪.‬‬
‫وهذا يقول ببساطة إن قضية شمول القرآن الكريم ليست كام يفهم الناس‪،‬‬
‫ومما انساق إليه – لألسف – علامء مسلمني بحامسة زائدة‪ ،‬ساعدت خصوم الدين‬
‫وأعداءه الذين يعرفون مركزية القرآن الكريم وأمهيته يف اإلسالم‪ ،‬عىل الدخول من‬
‫هذه الناحية‪.‬‬
‫نموذجا مفيدً ا للتأكيد عىل هذه املنهجية‬
‫ً‬ ‫ونختار يف هذا املوضع من احلديث‬
‫الواجبة االتباع لفهم موضوع الشمولية املوضوعية‪ ،‬وبالتايل الصالحية واملرجعية‬
‫الزمانية واملكانية للقرآن الكريم‪ ،‬وهو علم النفس‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فموضوع علم النفس يف القرآن الكريم أوسع بكثري من الرؤية الشائعة يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬من أن القرآن الكريم فيه شفاء ملا يف الصدور‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬أنه أداة عالج نفيس‬
‫ال لإلنسان‪ ،‬ممَّا عززه احلديث النبوي الرشيف‪.‬‬‫فع ً‬

‫فهذا فقط جزء من موضوع علم النفس وقضاياه يف القرآن الكريم‪ ،‬والذي‬
‫فهم أفضل للنفس البرشية‪.‬‬
‫تناول الكثري من األمور التي تساعد عىل ٍ‬
‫ففي اآليات التي تتناول موقف الكافرين الذين قابلوا ُر ُس َل اهللِ تعاىل ودعواهتم‬
‫بالعتو والنفور‪ ،‬واجلاحدين بآيات اهلل سبحانه؛ نجد الكثري من معامل‬
‫ِّ‬ ‫للتوحيد‪،‬‬
‫وسيامء النفس البرشية األ ْم َيل للعناد‪ ،‬ونفهم ِ‬
‫الك ْب الذي يمأل نفوس البعض‪،‬‬
‫وكيف يقود هذا وذاك بصاحبه إىل التهلكة‪ .‬متا ًما كام نقرأ يف كتب علم النفس‬
‫قديم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املعاصة‪ ،‬وحتى لدى الفالسفة منذ ٍ‬
‫كذلك نجد دور اإليامن يف هتذيب النفس والسلوك البرشيني‪ ،‬من خالل اآليات‬
‫التي تتناول سلوك أنبياء اهللِ عز وجل‪ ،‬وكيفية تعاملهم مع أذى قومهم‪ ،‬مثل األدب‬
‫واإلمجال يف الطلب‪ ،‬والصرب عىل املكاره‪.‬‬
‫وهذا بدوره نجد أنه من أهم األمور التي استندت حتى إليها فلسفات وديانات‬
‫وضعية ظهرت عرب التاريخ؛ حيث إن املحتوى النفيس هو أهم مكوناهتا إلصالح‬
‫الذات البرشية‪ ،‬وبالتايل إصالح املجتمعات واإلنسانية بالكامل‪.‬‬
‫ومن بني قصص القرآن الكريم التي فيها الكثري من النواحي املتعلقة بعلم‬
‫حترك سلوكه‪ ،‬قصة ابن َْي آدم‬
‫النفس‪ ،‬وكيفية فهم نفسية اإلنسان‪ ،‬وبواعثه التي ِّ‬

‫‪212‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة اسام قابيل وهابيل‬


‫"عليه السالم" – مل يرد يف القرآن الكريم أو يف أصحاح ُّ‬
‫وسف "عليه السالم"‪.‬‬ ‫َ‬
‫املنترش ْين هلام – وقصة نبي اهلل ُي ُ‬
‫ففي قصة ابني آدم "عليه السالم"؛ نقف أمام صورة شاملة لكيف تقود الغرية‬
‫اإلنسان إىل قتل أخيه؛ حيث قادت غرية أحدمها من اآلخر يف مسألة القبول اإلهلي‬
‫لقربان أخيه من دون قبول اهللِ عز وجل لقربانه هو‪ ،‬بسبب ما كان يف نفس القاتل‬
‫من أدران وسوءات‪ ،‬وما كان عليه من عصيان‪ ،‬وأنه مل يكن من املتقني‪.‬‬
‫والقصة ال تقف عند هذه اجلزئية‪ ،‬فهي كذلك تصف حالة الندم الكبري التي‬
‫عرفها القاتل بعد أن ارتكب جريمته الشنعاء‪ ،‬وكيف أصبح من اخلارسين‪.‬‬
‫وسف "عليه السالم"؛ نجد أن القرآن الكريم قد أجاد وصف مشاعر‬ ‫ويف قصة ُي ُ‬
‫الغرية لدى إخوته منه‪ ،‬وكيف قادهتم هذه املشاعر إىل ارتكاب جريمة إلقائه يف ُ‬
‫اجلب‪.‬‬
‫التعمق يف نفس املرأة‪ ،‬وكيف قرأ‬
‫كذلك يف ذات القصة‪ ،‬نجد صورة قرآنية شديدة ُّ‬
‫القرآن الكريم ما لدى النساء من مشاعر قد تتناقض مع بعضها البعض‪ ،‬مثل احلب‬
‫املبالغ فيه والذي يقود إىل كراهية عميقة لو مل جتد املرأة له مقاب ً‬
‫ال من الرجل الذي حتب‪.‬‬
‫وسف "عليه السالم" إىل العقاب‪ ،‬باالدعاء عليه‪ ،‬مما‬
‫فها هي امرأة العزيز تقود ُي ُ‬
‫أدى إىل سجنه بضع سنني‪ ،‬ألنه رفض االستجابة هلا ولرغباهتا املشؤومة‪.‬‬
‫كذلك نرى يف اآلية جوانب أخرى من نفسية املرأة جتاه املرأة‪ ،‬يف ذلك املوقف‬
‫الذي قدمه القرآن الكريم بصورة قصصية بديعة‪ ،‬بني امرأة العزيز ورفيقاهتا‪،‬‬
‫بينهن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وكيف كانت مشاعر الغرية واحلسد‬

‫‪213‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وحتى بعيدً ا عن القصص القرآين؛ نقف عىل أوصاف دقيقة لإلنسان والنفس‬
‫بالع َجل وحب َ‬
‫اجلدَ ل‪ ،‬واهللع والضعف‪،‬‬ ‫اإلنسانية يف الكثري من اآليات‪ ،‬مثل وصفه َ‬
‫وكيف أن هذه النفس اهللوعة الضعيفة قد تقود اإلنسان إىل اليأس‪ ،‬وغري ذلك مما‬
‫نجده يف أوراق وكتب علامء النفس املعارصين؛ حيث تكلموا بكثري من االستفاضة‬
‫عن هذه الصور القرآنية التي اكتفى اهلل عز وجل بإشارات عامة لكنها وافية إليها‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫يتحمله هذا‬
‫َّ‬ ‫كالم عام‪ ،‬حياول فقط اإلشارة بام يمكن أن‬
‫وهذا بطبيعة احلال‪ٌ ،‬‬
‫احل ِّيز من احلديث‪ ،‬إىل بعض األمور التي هي بحاجة إىل دراسات أوسع وأكرب‪..‬‬
‫يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ورة "الكهف" – اآلية ‪.]109‬‬
‫[س َ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ ُ‬

‫‪214‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عندما يكون العمل المجتمعي شطر اإليمان!‬

‫من بني أهم املشكالت التي يعاين منها املسلمون يف العصور األخرية من‬
‫تاريخ األمة‪ ،‬هو فقداهنم للكثري من املفاهيم املعرفية األساسية حول دينهم‬
‫ورشيعتهم‪.‬‬
‫وتشمل هذه النوعية من ُ‬
‫األ ِّم َّية اخلاصة جدًّ ا؛ عدم معرفة رشائح ضخمة للغاية‬
‫من املسلمني‪ ،‬بدقائق رشيعتهم‪ ،‬ومفاهيم أساسية يف الدين‪ ،‬مثل اإليامن‪ ،‬ومكوناته‬
‫أمورا أخرى عدة‪.‬‬
‫التي تتجاوز يف حقيقة األمر‪ ،‬العقيدة لكي تشمل معها ً‬
‫واملدهش أن هذه الظاهرة‪ ،‬أكرب منها يف أوساط أبناء املجتمعات املسلمة‪،‬‬
‫وليس يف أوساط املسلمني اجلدد‪ ،‬يف املهاجر؛ حيث هؤالء يتلقون املعارف الدينية‬
‫بشكل سليم ومتطور‪ ،‬مع كون املؤسسات واألشخاص القائمني عىل الدعوة يف‬
‫هذه البلدان‪ ،‬يتحركون يف إطار أكثر حداثية يف آلياته ومفاهيمه‪ ،‬وكذلك بعيدً ا‬
‫عن تأثريات احلكومات واألنظمة االستبدادية املوجودة يف جمتمعاهتم األصلية‬
‫وأوطاهنم األم‪.‬‬
‫ويعود قسم مهم من هذه املشكلة إىل العامل األخري؛ املتعلق باحلكومات‬
‫واألنظمة االستبدادية التي تسيطر عىل احلكم يف الغالبية العظمى من بلدان العامل‬
‫تعمد‬
‫اإلسالمي؛ حيث إن جز ًءا من سياساهتا ألجل السيطرة عىل احلكم‪ ،‬يأيت من ُّ‬
‫جتهيل الشعوب واملجتعات‪ ،‬من أجل تسهيل قيادها‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وأهم جماالت "االهتامم" يف هذا اجلانب من طرف األنظمة واحلكومات التي‬


‫أرشنا إليها‪ ،‬تغييب الشعوب عن حقوقها واملطالبة هبا‪ ،‬وتغييبها عن دينها ورشيعته‪،‬‬
‫التي ُتعترب من أهم حمركات النفس اإلنسانية لفهم أخطاء الواقع‪ ،‬من خالل مقارنته‬
‫مع النموذج املثايل‪ ،‬وفهم كيفية تغيريه‪ ،‬وكيفية إصالحه‪.‬‬
‫ويف حال حدوث ذلك؛ ستكون األنظمة واحلكومات املستبدة خارج السلطة‬
‫بطبيعة احلال‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإنه من بني الضحايا احلقيقيني هلذه السياسات من جانب هذه األنظمة‬
‫واحلكومات‪ ،‬الرتبية والتنشئة الدينيت َْي يف املدارس وخمتلف املسارات التعليمية‪،‬‬
‫وعىل املنابر‪.‬‬
‫و ُتعترب عملية التدُّ بر يف القرآن الكريم‪ ،‬من أهم منافذ معرفة اإلنسان برشيعة اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬ومقاصده منها‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم‪ ،‬الكثري من اخلريات التي لو ُط ِّبقت؛ لكان للمجتمعات‬
‫املسلمة شأ ًنا آخر مع النهضة االقتصادية والتقدم املجتمعي‪.‬‬
‫وسيكون من املستغرب أن نشري إىل أن القرآن الكريم خيربنا أنه من صميم اإليامن باهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬هو العمل املجتمعي وخدمة الناس‪ ،‬وعىل رأس ذلك‪ ،‬التكافل االجتامعي‪،‬‬
‫الذي ُيعترب أحد أهم أركان وأعمدة النظام االقتصادي واالجتامعي يف اإلسالم‪.‬‬
‫وأبلغ دليل عىل أمهية هذا الركن أو العمود‪ ،‬أنه ُيعترب أساس نجاح النظام‬
‫الرأساميل الغريب يف تطوير ذاته‪ ،‬وتأسيس جمتمعات ودول قوية‪ ،‬بعد أن عدَّ لت‪،‬‬

‫‪216‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عرف‬
‫يف هنايات القرن التاسع عرش ومطلع القرن العرشين‪ ،‬من آلياهتا‪ ،‬يف إطار ما ُي َ‬
‫بالرأساملية االجتامعية "‪ ،"Social capitalism‬وتفادت – بالتايل – أن تنهار أمام‬
‫الشيوعية الصاعدة يف ذلك احلني بقوة‪ ،‬استغال ً‬
‫ال للخطايا الكربى للرأساملية يف‬
‫صورهتا األولية اخلام‪ ،‬يف املجال اإلنساين واالجتامعي‪.‬‬
‫ولكن كيف ذلك؟!‪..‬‬
‫مبدئيا‪ ،‬نجد يف القرآن الكريم‪ ،‬الكثري من اآليات التي تدعو إىل التكافل‬
‫ًّ‬
‫االجتامعي‪ ،‬وإعطاء املساكني‪ ،‬بل وجعل اهلل تعاىل ذلك يف عقيدة املسلم‪ ،‬ذلك‬
‫جز ًءا ال يتجزأ منها‪ ،‬عندما فرض الزكاة كأحد األركان اخلمس التي ُبني عليها‬
‫اإلسالم‪ ،‬مع شهادة التوحيد‪ ،‬والصالة والصوم واحلج‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم‪ ،‬نجد أن اهلل تعاىل يقول‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫[سورة "الذاريات"]‪ ،‬بينام يف ُسورة "املعارج"‪ ،‬نجده يقول عز‬
‫ﮛﮜ﴾ ُ‬
‫وجل‪ ﴿ :‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬
‫املفسون أن املقصود باألوىل "الصدقة"‪ ،‬وبالثانية‪" ،‬الزكاة" املفروضة‬ ‫وذكر ِّ‬
‫وم"‪ ،‬بينام يف األوىل وقف عن كلمة َ‬
‫"ح ٌّق" فقط‪ ،‬ويف كال‬ ‫"ح ٌّق َّم ْع ُل ٌ‬
‫عندما قال‪َ :‬‬
‫احلالت َْي؛ فإن اهلل تعاىل جعلها ح ًّقا عىل املسلم لآلخرين واملجتمع‪.‬‬
‫واملالحظ يف كال املسا َق ْي القرآن َي ْي‪ ،‬أن العطاء للفقري واملحروم‪ ،‬جاء يف سياقات‬
‫عقيدية؛ حيث وضع ضمن صفات املؤمنني‪ ،‬وذات األولوية كذلك‪.‬‬
‫ففي سورة "املعارج"‪ ،‬جاء ذلك بعد الصالة مبارشة‪ ،‬والتي هي الفارق بني‬
‫اإليامن وا ُلكفر لدى املسلم‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف املقابل‪ ،‬جعل اهلل تعاىل‪ ،‬من بني صفات الكافرين وسامهتم العامة‪ْ ،‬ترك العمل‬
‫اخلريي‪ ،‬وخدمة املجتمع‪.‬‬
‫ففي ُسورة "املاعون" يقول اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾‪.‬‬
‫أمر أكرب‬
‫كل هذا وغريه من اآليات القرآنية الكريمة‪ ،‬تؤكد أن العمل املجتمعي ٌ‬
‫وحراك اإلنسان وسعيه يف هذه احلياة؛ حيث من‬‫من أنه جانب تطوعي يف نشاط ِ‬
‫اجليل أن اهلل تعاىل وضع اإليامن – الذي هو يف األصل اهلدف والغاية من وراء‬
‫الرساالت التي أنزهلا – صنو العمل االجتامعي ومساعدة الناس‪.‬‬
‫ويف أسباب النزول‪ ،‬يقول مقاتل والكلبي‪ ،‬إن اآليات نزلت يف العاص بن وائل‪،‬‬
‫أنا ابن جريج‪ ،‬فقال إهنا نزلت يف أيب سفيان بن حرب قبل إسالمه؛ حيث كان ينحر‬
‫يف كل أسبوع مج َل ْي‪ ،‬وكان يبغي من وراء ذلك‪ ،‬الوجاهة االجتامعية‪ ،‬وخياطب‬
‫باألساس علية القوم يف مكة املكرمة‪.‬‬
‫صبي يتيم‪ ،‬وسأله شيئًا ليأكله‪ ،‬فرضبه بالعصا‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‬
‫وذات يوم أتاه ٌّ‬
‫اآليات األوىل من السورة‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬عىل‬
‫ويقول صاحب الظالل‪ ،‬األستاذ سيد قطب (رمحه اهلل)‪ ،‬يف هذه ُّ‬
‫"سورة املاعون‪ُ ،‬سورة قصرية من آيات سبع‪ ،‬تعالج حقيقة ضخمة‬ ‫هذا النحو‪ُ :‬‬
‫ال كام ً‬
‫ال‪ .‬فوق ما تطلع به عىل النفس‬ ‫تكاد تبدل املفهوم السائد لإليامن والكفر تبدي ً‬
‫من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة‪ ،‬واخلري العظيم املكنون فيها هلذه البرشية‪،‬‬
‫واملرمحة السابغة التي أرادها اهلل للبرش وهو يبعث إليهم الرسالة األخرية"‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويضيف أنه من بني دالالت هذه اآليات أن هذا الدين "ليس دين مظاهر‬
‫وطقوس‪ ،‬وال تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر‪ ،‬ما مل تكن صادرة عن إخالص‬
‫هلل وجترد‪ ،‬مؤدية بسبب هذا اإلخالص إىل آثار يف القلب تدفع إىل العمل الصالح‪،‬‬
‫وتتمثل يف سلوك تصلح به حياة الناس يف هذه األرض وترقي"‪.‬‬
‫‪...........‬‬
‫ويف األخري؛ يبقى أن نشري إىل أنه من الرضوري التأكيد عىل أنه من املهم العمل‬
‫عىل غرس هذه األفكار يف نفوس اجليل اجلديد من شباب احلركة اإلسالمية‪،‬‬
‫والتأكيد عىل أن العمل املجتمعي ليس من نافلة القول؛ بل إنه رضورة عقيدية كام‬
‫تقدَّ م‪.‬‬
‫كام أنه – يف اجلانب احلركي – له دور شديد األمهية يف تأليف قلوب اجلامهري‬
‫عىل احلركة اإلسالمية‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬احلصول عىل تأييدها ودعمها‪ ،‬بنفس املنطق‬
‫القائم يف سهم املؤلفة قلوهبم‪ ،‬كأحد مصارف الزكاة كام ذكر القرآن الكريم يف‬
‫ُسورة "ال َّت ْوبة"‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التنوع واالختالف في القرآن الكريم‬


‫ُّ‬ ‫إدارة‬
‫والسلوك النبوي‪ ..‬تأصيل شرعي ومفاهيمي‬

‫ربام من أهم األمور التي يتم اهتام املرشوع اإلسالمي والقائمني عليه‪ ،‬هو قضية‬
‫اإلقصاء؛ حيث استفاد خصوم املرشوع والدعوة اإلسالمية‪ ،‬يف هذا الصدد‪ ،‬من‬
‫كثري من املامرسات الداخلية التي قامت هبا بعض الرموز واجلامعات التي تصنِّف‬
‫نفسها عىل أهنا مجاعات إسالمية‪.‬‬
‫طرح ً‬
‫دائم عىل مائدة أي حوار‪،‬‬ ‫وقضية "اإلقصاء" هي من أبرز القضايا التي ُت َ‬
‫أو عمليات "االستطالع" التي تقوم هبا حكومات وأجهزة غربية‪ ،‬عند استكشاف‬
‫اصطالحا باإلسالم السيايس‪ ،‬إذا ما بدا أهنا مت ِّثل‬
‫ً‬ ‫عرف‬
‫مجاعة ما حمسوبة عىل تيار ما ُي َ‬
‫ال للحكم يف بلداهنا‪.‬‬‫بدي ً‬

‫ومن بني أبرز امللفات التي يكون هناك اهتامم هبا يف هذا اإلطار‪ ،‬هي أوضاع‬
‫األقليات الدينية والطائفية يف البلدان واملجتمعات التي حيكمها إسالميون‪ ،‬وكذلك‬
‫املكون اإلسالمي‪ ،‬يف ظل املشكالت التي‬
‫صريورات العالقات ما بني ألوان طيف ِّ‬
‫طرأت يف بعض الدول واملناطق التي سيطرت فيها مجاعات مص َّنفة إسالمية‪ ،‬وعىل‬
‫وجه اخلصوص تنتمي إىل تيار "السلفية اجلهادية"‪.‬‬
‫كذلك من بني أهم مفردات هذا اهلاجس املهم الذي ينبغي أن تبحث احلركة‬
‫اإلسالمية بمختلف تالوينها عن معاجلة له‪ ،‬ملف التكفري‪ ،‬سواء تكفري اآلخر غري‬

‫‪220‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫رفضا كام ً‬
‫ال له‪ ،‬أو تكفري املسلم املخالف يف املذهب‪،‬‬ ‫املسلم بالصورة التي تعكس ً‬
‫أو حتى املخالف يف التنظيم‪.‬‬
‫اإلسالمي ْي‪ ،‬مل يستفيدوا من‬
‫َّ‬ ‫ويف حقيقة األمر؛ فإن خصوم الدعوة واملرشوع‬
‫"خدمات" جمانية يقدمها بعض املحسوبني عىل الدعوة واملرشوع‪ ،‬يف خدمة أهدافهم‬
‫للتشويش والتشويه‪ ،‬قدر استفادهتم مما يتم عىل املستوى الداخيل يف هذا املجال‪.‬‬
‫وامتدت هذه املشكلة لكي تشمل الصورة العامة للدين اإلسالمي‪ ،‬باعتبار أنه‬
‫بالتنوع‪ ،‬وال يوجد فيه قواعد ناظمة إلدارة اخلالف داخل املجتمع‬
‫ُّ‬ ‫دين ال يعرتف‬
‫الذي حيكمه سلطة تستند إىل اإلسالم‪.‬‬
‫واخلالف املقصود هنا‪ ،‬متعدد املعاين‪ ،‬فمنها اخلالف بمعنى االختالف يف الرأي‬
‫ووجهات النظر‪ ،‬ويف سياقات السياسات واالجتاهات املطلوبة إلدارة الشأن العام‪،‬‬
‫وتوجيه املجتمع‪ ،‬وإدارة موارده وأولوياته‪.‬‬
‫بالتنوع‪ ،‬أي أن يكون املجتمع يضم أطيا ًفا دينية أو مذهبية‬
‫ُّ‬ ‫ومنها املعنى املتعلق‬
‫أو إثنية‪ ،‬وبالتايل؛ ينبغي أن تكون سياسات إدارته وتوجيهه‪ ،‬باملعنى الواسع ملفهوم‬
‫احلكم‪ ،‬يراعي حقوق ومطالب خمتلف هذه األطياف‪.‬‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬ومثل كل يشء إشكايل يف واقع األمر؛ تربز أمهية ورضورة العمل‬
‫عىل استحضار األصول والقواعد التي ال خالف عليها‪.‬‬
‫وهي فكرة أقرب إىل فكرة الدستور‪ ،‬الذي هو عبارة عن وثيقة تضم جمموعة من‬
‫القواعد ايل استقر أو ات ُِّفقَ عىل أن تكون هي واسطة العقد االجتامعي بني احلاكم‬

‫‪221‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملحكومني‪ ،‬وبني املحكومني وبعضهم البعض‪ ،‬وهي – أي الوثيقة الدستورية‬


‫وقواعدها – تكون َ‬
‫احل َكم يف أي خالف حيصل بني مكونات الدولة واملجتمع‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫والس َّنة النبوية‬
‫أساسي ْي؛ القرآن الكريم‪ُّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫واألصول يف اإلسالم ترتبط برافدَ ْين‬
‫الرشيفة‪.‬‬
‫وكمنطق عام‪ ،‬يتصل بعقيدتنا وإيامننا ذاته؛ فإهنا ينبغي أن نعتقد ونؤمن بأن‬
‫األصول الرشعية‪ ،‬ونصوصها‪ ،‬قد تضمنت معاجلة ملختلف األمور التي ُع ِر َض ْت‪،‬‬
‫وس ُت ْع َرض عىل املسلمني‪ ،‬فرادى وأمة‪ ،‬ما دامت الساموات واألرض‪ ،‬وحتى يأذن اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬و ُيرفع القرآن الكريم من األرض‪ ،‬وأنه ال بديل حلكم اهلل تعاىل يف هذا الصدد‪.‬‬
‫ويف هذا األمر الذي نناقشه؛ فإننا يف القرآن الكريم‪ ،‬نقف عىل الكثري من اآليات‬
‫الكريامت‪ ،‬وعىل‬
‫ويف القرآن الكريم؛ فإن هناك الكثري من اآليات التي تتناول خمتلف أشكال‬
‫التنوع‪ ،‬بام يف ذلك التنوع الطبقي‪ ،‬وحدد طرق التعامل مع كل هذه الصور من‬
‫التنوع‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ففي تعدد النوع؛ أكد القرآن الكريم عىل الفوارق بني الذكر واألنثى‪ ،‬يف املقابل‪،‬‬
‫وبام يؤكد إهلية املصدر؛ يضع اهلل تعاىل عدالة املحاسبة‪ ،‬برغم هذا االختالف‪.‬‬
‫[سورة "آل عمران" ‪ -‬من اآلية ‪،]36‬‬
‫فهو تعاىل يقول‪﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾ ُ‬
‫ويف آية املواريث‪ ،‬ويف أحكام الشهادة‪ ،‬نجد أن للمرأة قدر‪ ،‬وللرجل قدر خمتلف‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن‪ ،‬وألنه َح َك ٌم عدل؛ فإن آيات عديدة يف القرآن الكريم‪ ،‬أكدت عىل أن‬
‫غبن للمرأة كام يزعم البعض؛‬
‫الدار ْين يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬لن يكون فيه ٌ‬
‫َ‬ ‫حساب‬
‫ألن االختالف القائم‪ ،‬وهو قائم يف بعض األحوال فقط‪ ،‬بني الذكر واألنثى يف‬
‫األحكام‪ ،‬إنام ليس تقلي ً‬
‫ال من شأن املرأة‪ ،‬ولكنه مراعاة للفوارق الفسيولوجية‬
‫واالجتامعية وغري ذلك‪ ،‬القائمة بني الرجل واملرأة‪.‬‬
‫ومن بني اآليات القرآنية التي تؤكد ذلك‪ ،‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍ‬
‫﴾[سورة "النساء" – اآلية ‪.]124‬‬
‫ﮎﮏ ُ‬
‫وهناك آيات عديدة أخرى‪ ،‬تقرن الرجل واملرأة يف الطاعات‪ ،‬ويف الثواب‪ ،‬ويف‬
‫كل األمور‪.‬‬
‫كذلك هناك التنوع العرقي أو القومي كام نعرفه يف املصطلحات احلديثة‪،‬‬
‫فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ‬
‫[سورة "احلجرات" – اآلية ‪.]13‬‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ ُ‬
‫أمر معروف‬
‫واآلية موجهة إىل الناس كافة‪ ،‬وليس إىل املسلمني فحسب‪ ،‬وهو ٌ‬
‫السور‬
‫فالسورة كلها مدنية‪ ،‬واملفرسون يعرفون أن اخلطاب يف ُّ‬
‫يف القرآن الكريم‪ُّ ،‬‬
‫املدنية‪ً ،‬‬
‫دائم ما يكون ﴿يا أهيا الذين آمنوا﴾‪ ،‬ولكنه يف هذه اآلية فقط‪ ،‬جاء بـ﴿‬
‫ﭵ ﭶ﴾‪ ،‬واملفرسون قالوا بأنه يعني أن اخلطاب يف هذه اآلية الكريمة‪ ،‬لعموم‬
‫الناس‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التنوع يف التعارف‪ ،‬والذي يشمل‬


‫وهنا حدد القرآن الكريم طريقة إدارة هذا ُّ‬
‫التكامل والتعاون‪ ،‬وخمتلف صور التفاعل اإلجيايب‪.‬‬
‫التنوع العرقي‬
‫وهناك تنوع األلسن‪ ،‬والذي يرتبط يف القرآن الكريم بنقطة ُّ‬
‫والقومي كذلك‪ ،‬فاهلل تعاىل يقول‪ ﴿ :‬ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫[سورة "الروم" ‪ -‬اآلية ‪.]22‬‬
‫ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﴾ ُ‬
‫وللرسول الكريم ﷺ‪ ،‬ما يؤكد هذه املعاين كافة‪ ،‬فهو يقول يف "خطبة الوداع"‪:‬‬
‫"أهيا الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم آلدم وآدم من تراب إن أكرمكم‬
‫عند اهلل أتقاكم ليس لعريب فضل عىل أعجمي إال بالتقوى أال هل ب َّلغت؟ اللهم‬
‫فاشهد" [أخرجه مسلم يف الصحيح]‪.‬‬
‫وكل هذا يؤكد وحدة األصل اإلنساين‪ ،‬واملمتد إىل آدم "عليه السالم"‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫املكون ذي األصل الواحد‪ ،‬هو التعارف‪ ،‬بينام يكون‬
‫فإن أصل العالقة بني كل هذا ِّ‬
‫الرصاع والتدافع فقط لرد العدوان‪ ،‬وللدفاع عن احلقوق واألرواح ومقاصد‬
‫وك ِّل َّياته‪.‬‬
‫الرشيعة املعروفة واملحددة بدقة يف أصول الدين ُ‬
‫أما ما يتصل مبارشة بالقضية األساسية التي تناوهلا مدخل هذا املوضع من‬
‫التنوع الديني‪ ،‬وتؤكد أن اإلسالم أبدً ا ما نفى هذا‪ ،‬وما أقىص‬
‫احلديث؛ وهي نقطة ُّ‬
‫أي دين آخر أو أتباعه من العيش والتم ُّتع بحقوقهم يف دولة اإلسالم؛ أن اهلل تعاىل‬
‫أكد يف كتابه العزيز يف أكثر من موضع عىل حرية االعتقاد‪ ،‬وليس أبلغ وال أوضح يف‬
‫ذلك من قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة"‬
‫– من اآلية ‪ ،]256‬وقوله عز وجل‪﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫[سورة "الكهف" – من اآلية ‪.]29‬‬
‫ﭻ ﭼ﴾ ُ‬

‫‪224‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫و َق َر َن تعاىل ذلك يف كتابه العزيز بعبارات واضحة ال لبس فيها‪ ،‬من أن احلساب‬
‫يف ذلك عىل اهلل تعاىل‪ ،‬وأن ما عىل املسلم يف هذا الصدد إال البالغ‪ ،‬باعتبار أن‬
‫املسلمني هم خلفاء الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يف دعوته إىل هذا الدين‪ ،‬وكلنا ُمك َّل ٌف‬
‫بالتبليغ بحسب قدراته‪.‬‬
‫ففي آية "الكهف" املتقدِّ مة‪ ،‬أتبع العبارة املأخوذة من اآلية بـ﴿ﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ﴾‪ ،‬ومن املفهوم أنه سبحانه يقصد أن حساب َمن يكفر‪ ،‬هو‬
‫عىل اهلل تعاىل وحده‪ ،‬ومل يرشك يف حكمه أحدً ا‪.‬‬
‫كام يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫[سورة َ‬
‫"احلج" ‪ -‬اآلية ‪.]17‬‬ ‫ﭲ﴾ ُ‬
‫الر ُسل إال البالغ‪ ،‬يف ستة مواضع‬
‫ولقد وردت عبارة مفادها أنه ما عىل الرسول‪ُّ /‬‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬ومن بينها موضع داليل أكثر من غريه يف كيف دعا القرآن الكريم‬
‫إىل إدارة هذه املنطقة احلرجة ذات احلساسية‪ ،‬يف ُسورة ُّ‬
‫"الشورى"‪ ،‬قال اهلل تعاىل‬
‫فيها‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‪ ....‬ﯗ﴾‪.‬‬
‫وبالنظر إىل التجربة النبوية يف احلكم؛ فإن أول ما أقامه النبي الكريم ﷺ‪ ،‬بعد أن أقام‬
‫املسجد‪ ،‬كان هو دولة املواطنة‪ ،‬التي عددت الفئات والرشائح املجتمعية التي كانت‬
‫موجودة يف املدينة املنورة يف حينه‪ ،‬بمن فيهم اليهود‪ ،‬والعرب املرشكني‪ ،‬والبادون يف‬
‫األعراب حول املدينة‪ ،‬وذلك يف الوثيقة التي ُع ِر َف ْت باسم "وثيقة املدينة"‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف "عهدة نجران" التي كتبها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬لنصارى نجران‪ ،‬والعهدة‬
‫العمرية التي كتبها أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬لنصارى‬
‫القدس‪ ،‬ما يؤكد أن اإلسالم يعرف‪ ،‬حتى باملعنى الدستوري احلديث الذي نعرفه‪،‬‬
‫التنوع الديني‪ ،‬وغريه‪.‬‬
‫مفاهيم املواطنة وإدارة ُّ‬
‫التنوع بشكل عام‪ ،‬هو قانون اهلل تعاىل يف خلقه‪ ،‬وهو‬
‫والقرآن الكريم يؤكد أن ُّ‬
‫قانون رباين‪ ،‬أي أنه نافذ وال يمكن مراجعته أو اعرتاضه‪ ،‬فيقول تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ‬
‫ﭜ﴾[سورة "هود" ‪ -‬اآلية ‪.]118‬‬
‫ُ‬ ‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ومن أهم دالئل أن هذا األمر قانون رباين‪ ،‬أن اهلل تعاىل بعث األنبياء والرسل‬
‫إىل كل قوم من هؤالء األقوام الذين انقسم أبناء آدم "عليه السالم" إليها‪ ،‬وهو ما‬
‫التنوع واالختالف‬
‫يعود بنا إىل صحيح الصورة التي أرساها القرآن الكريم يف إدارة ُّ‬
‫الديني؛ حيث األساس‪ ،‬هو الدعوة‪ِ ،‬‬
‫وف ْعل األنبياء‪.‬‬
‫ورت "يونس" و"البقرة"‪ ،‬ما يفيد بتلك املعاين كافة؛ أن البرش كانوا أمة‬
‫ويف ُس َ ْ‬
‫ٍ‬
‫ألسن وعقائد‪ ،‬ولذلك بعث اهلل تعاىل هلم‬ ‫واحدة‪ ،‬ولكنهم اختلفوا بعد ذلك عىل‬
‫األنبياء واملرسلني لرتشيد هذا اخلالف‪ ،‬وتوضيح ما اختلفوا فيه‪.‬‬
‫[سورة "يونس"‬
‫يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ ُ‬
‫‪ -‬من اآلية ‪ ،]19‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫[سورة‬
‫ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ ُ‬
‫"البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪.]213‬‬
‫‪..........‬‬

‫‪226‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف األخري؛ فإن هذا احلديث؛ إنام يتضمن القشور فقط فيام خيص هذه القضية‬
‫شديدة األمهية واملركزية‪ ،‬وربام تشكل التحدي األكرب أمام احلركة اإلسالمية‪،‬‬
‫وانسياح املرشوع اإلسالمي والدعوة بالشكل املطلوب؛ حيث القضية أكثر‬
‫عم ًقا‪ ،‬وتأصيلها من القرآن الكريم ُّ‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬بحاجة إىل دراسات‪،‬‬
‫تؤسس للفهم الصحيح‪ ،‬وبطريقة تقنع خمتلف طبائع وطرائق التفكري يف جمتمعاتنا‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أسس للفكر والفعل الحضاريَّ ْين عند المسلمين‬


‫القرآن الكريم وكيف َّ‬

‫من بدهييات العقيدة لدينا كمسلمني‪ ،‬أن القرآن الكريم‪ ،‬بجانب أنه ا ُمل َّ‬
‫تعبد‬
‫بتالوته‪ ،‬والوعاء الذي اختاره اهلل عز وجل لكي حيفظ لنا رشيعته‪ ،‬ونفقه ديننا من‬
‫سي حياة املسلم‪،‬‬
‫يسي‪ ،‬أو ينبغي أن ُي ِّ‬
‫خالل نصوصه؛ أنه كذلك هو الدستور الذي ِّ‬
‫وحياة األمة بشكل عام‪.‬‬
‫ولقد اختار اهلل تعاىل أمة اإلسالم‪ ،‬لكي تكون قائدة العامل نحو النور واهلداية‪،‬‬
‫تنظم خلقه‬‫والسنَن التي وضعها اهلل تعاىل لكي ِّ‬
‫وهو ما لن يتحقق وفق القوانني ُّ‬
‫َك َر ٍّب هلذا الكون‪ ،‬إال لو أصبحت األمة املسلمة‪ ،‬أم ًة رائد ًة يف املجال احلضاري‪،‬‬
‫جترب مجيع األمم األخرى عىل أن تتبعها‪.‬‬
‫وهو قانون عمراين وضعه اخلالق عز وجل‪ ،‬وال حميد عنه‪ ،‬فنجده قد حصل مع‬
‫املسلمني يف فرتات هنضتهم احلضارية‪ ،‬عندما كانت األمم األخرى تأيت وتأخذ‬
‫ييمم وجهه جتاه‬
‫عنهم‪ ،‬وتتعلم منهم‪ ،‬ونجده اآلن؛ حيث نجد العامل بالكامل‪ِّ ،‬‬
‫األمم املتقدمة‪ ،‬وبخاصة احلضارة األنجلوساكسونية؛ حيث اليابان ذاهتا‪ ،‬بكل‬
‫االعتزاز القومي املعروف عن شعبها؛ تكتب العلم باللغة اإلنجليزية‪.‬‬

‫إ ًذا؛ فكل احلديث عن خريية ذاتية لألمة؛ َّ‬


‫ملجرد أهنا مسلمة عقيد ًة‪ ،‬ال يكفي‬
‫لكي تكون هي قاطرة احلضارة اإلنسانية‪ ،‬والدليل عىل ذلك موضعها يف خريطة‬
‫احلضارة اإلنسانية‪ ،‬وتوزيع القوى عىل هذه اخلريطة‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ وعند احلديث عن رضورة تطوير املوقف احلضاري لألمة؛ فإننا ينبغي‬
‫أن ننظر إىل القرآن الكريم‪ ،‬الذي هو – كام تقدَّ م – دستور املسلمني؛ فرادى وأمة‪.‬‬
‫اصطالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومفهوم احلضارة‪ ،‬مفهوم مع َّقد‪ ،‬وواسع املجال يف حتريره‬
‫فالبعض يعدها مظاهر التقدم والرقي‪ ،‬أو التطور‪ ،‬العلمي والفني واألديب‬
‫ِ‬
‫املعاكس ملصطلح البداوة‪.‬‬ ‫واالجتامعي‪ ،‬يف َ‬
‫احل َض‪ ،‬أي أهنا املعادل‬
‫وبالتايل؛ فهي ترتبط بنقطة االستقرار؛ حيث َ‬
‫احل َض‪ ،‬واحلياة احلرضية‪ ،‬هي ضد‬
‫البداوة‪ ،‬واحلياة يف البادية‪.‬‬
‫ولكن للتدقيق؛ فإن األمر خيتلف األمر عن احلديث عن الريف َ‬
‫واحل َض باملعنى‬
‫املستقرة للتجمعات البرشية‪ ،‬بل إن‬
‫َّ‬ ‫القريب؛ حيث الريف بدوره أحد األشكال‬
‫استقرت يف األصل‬
‫َّ‬ ‫أصل احلضارة البرشية؛ أهنا نشأت يف املجتمعات الريفية التي‬
‫حول األهنار ومصادر املياه العذبة‪ ،‬وتع َّلمت الزراعة‪.‬‬
‫"ح َض"‪ ،‬كمصطلح؛ فإنه كام يتضمن‬
‫ونجد ذلك يف اللغة العربية؛ حيث فعل َ‬
‫والتجمعات احلرضية‪ ،‬أو املدينية؛ فإنه يعني كذلك تشييد القرى‬
‫ُّ‬ ‫تشييد املدن‬
‫واألرياف واملنازل املسكونة‪.‬‬
‫وبجانب ُبعد املراكمة يف هذا األمر؛ فإن هناك كذلك اجلانب املتعلق باهلوية؛‬
‫حيث هناك تعريفات تربط احلضارة باملميزات واخلصائص التي مت ِّيز شع ًبا بعينه‪ ،‬يف‬
‫املجاالت االجتامعية والسياسية‪ ،‬وكذلك يف جمال اإلبداع الفني‪ ،‬بام يف ذلك العلوم‬
‫واآلداب؛ حيث الفن هو اإلبداع اإلنساين يف خمتلف املجاالت‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن بني أهم أوجه ذلك‪ ،‬هو اهلوية الدينية‪ ،‬بام تتضمنه من قيم وأخالقيات‬
‫وتصورات عن العامل‪ ،‬وعالئق الفرد بذاته‪ ،‬وباآلخرين؛ أفرا ًدا وأممًا‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن عملية حترير املفهوم؛ تقودنا إىل اهلوية الدينية‪ ،‬ويف حالة املسلمني؛‬
‫فإن اهلوية الدينية باألساس‪ ،‬مستقا ٌة من القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن خالل قراءة وفهم آيات القرآن الكريم؛ فإننا سوف نصل بسهولة شديدة‬
‫إىل أنه يقودنا إىل أفق الفعل احلضاري بشكل شامل‪.‬‬
‫فعىل أبسط تقدير؛ فإن أهم أوعية التطور احلضاري؛ القراءة والبحث العلمي؛‬
‫نجد يف القرآن الكريم الدعوة إىل كليهام‪.‬‬
‫فاهلل تعاىل يقول‪ ﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫[سورة "العلق"]‪ ،‬وهي‬‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ ُ‬
‫أول ما أنزل من القرآن الكريم كام نعلم‪ ،‬وفيه َل ْفتَة شديدة األمهية‪ ،‬وهي أن كل ما‬
‫نتكب عليه مهام ُ‬
‫عظم شأننا وتطورنا‪.‬‬ ‫نعلم هو من لدن اخلالق عز وجل؛ فال َّ‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬ ‫ويقول عز وجل ً‬
‫"فص َل ْت"‬
‫[سورة ِّ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ ُ‬
‫– اآلية ‪.]53‬‬
‫ويف األطر األشمل للفعل احلضاري؛ فإننا نقف عند آيات قرآنية واضحة‪ ،‬لو‬
‫تم درسها وتلقينها لألجيال املختلفة من املسلمني؛ سوف نفهم الفعل احلضاري‪،‬‬
‫وأسس التطور اإلنساين كام خلق اهلل تعاىل قوانينها‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويدخل يف ذلك جمموعات أساسية من التصنيفات املوضوعية آليات القرآن‬


‫الكريم‪ ،‬مثل آيات االستخالف‪ ،‬واآليات التي تتعلق باستعامر اإلنسان يف األرض‪،‬‬
‫وآيات تسخري ما يف الساموات واألرض لإلنسان‪.‬‬
‫فآيات استعامر اهلل عز وجل لنا فيها؛ ال جمال للرشح عنها؛ حيث هي بدهيية يف‬
‫فهم أن وجودنا كبرش يف األرض؛ إنام هو إلقامة العمران‪ ،‬ولن تتم عبادة من دون‬
‫عمران‪.‬‬
‫بل إن اجلذر اللغوي لكلمة "عمران" التي هي صنو الفعل احلضاري بالصورة‬
‫املتقدِّ مة‪ ،‬هو ذات جذر مصطلح "استعامر" باملعنى القرآين‪ ،‬وليس املعنى السلبي‬
‫الذي ُع ِّبئ به املصطلح‪ ،‬عندما ارتبط بالغزو وما استتبعه من ظلم ورسقة خلريات‬
‫األمم من جانب قوى االستعامر باملعنى القريب‪.‬‬
‫أما آيات التسخري؛ فهي بدورها تكشف أن اإلنسان مك َّلف بأهم عنارص التطور‬
‫احلضاري‪ ،‬وهو البحث ألجل فهم قوانني اخلالق يف خلقه املادي‪ ،‬أي– باملفاهيم‬
‫املعارصة – البحث العلمي‪ ،‬ورفع واقع املوارد املتاحة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬بحث كيفية‬
‫توظيف هذه املوارد‪ ،‬واحلفاظ عليها وتنميتها‪ ،‬من أجل االستفادة منها بالشكل‬
‫األمثل‪ ،‬أو ما حيقق الكفاية والفاعلية يف استغالل املوارد‪.‬‬
‫يقول تعاىل‪ ﴿:‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫[سورة " ُلقامن" – اآلية ‪.]20‬‬
‫ﭯﭰ ﴾ ُ‬

‫‪231‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والالفت هنا أن اهلل تعاىل شاءت حكمته أن تكون املوارد عىل األرض؛ اقتصادية‬
‫الطابع‪ ،‬أي أهنا نادرة‪ ،‬وال تكفي حاجات اإلنسان التي تتزايد وتتطور – وهو‬
‫مضطرا‬
‫ً‬ ‫قانون شاءته حكمة اهلل تعاىل كذلك – وبالتايل؛ سوف جيد اإلنسان نفسه‬
‫إىل ديمومة العمل لتطوير وتنمية هذه املوارد لكي تكفي احتياجاته‪.‬‬
‫أي أن القرآن الكريم خيربنا بشكل شديد الوضوح‪ ،‬أن احلضارة فريضة عىل‬
‫اإلنسان لو أراد العيش الكريم‪ ،‬وأهنا متطورة‪ ،‬وأن احلضارة فعل مستمر ودائم‪.‬‬
‫بل إن ذلك ُيعدُّ جز ًءا من إقامة الدين ذاته‪ ،‬أي أن الفعل احلضاري يف اإلسالم‪،‬‬
‫جزء من قيام اإلنسان املسلم بعقيدته‪.‬‬
‫مرات‪ ،‬ومصطلح "خليفة"‪،‬‬ ‫فال َّنص القرآين فيه مصطلح "خالئف" أربعة َّ‬
‫مرتان‪ ،‬وكلها مرتبطة يف ِذ ْكرها بقضية االختبار واالبتالء‪ ،‬وكذلك التكليف‬
‫واألمانة التي محلها اإلنسان بخ ْل ِقه‪ ،‬وتسلمتها أمة أمة اإلسالم‪ ،‬باعتبار أهنا أمة‬
‫الرسالة اخلامتة‪ ،‬وكلها أمور من صميم أداء اإلنسان املسلم لعقيدته‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬يقول تعاىل يف قضية االختبار واالبتالء‪ ﴿ :‬ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ‬
‫[سورة "األنعام" – اآلية ‪.]165‬‬
‫ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ﴾ ُ‬
‫محل األمانة‪﴿ :‬ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ويقول يف نقطة التكليف و ْ‬
‫[سورة "يونس" – اآلية ‪.]14‬‬
‫ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﴾ ُ‬
‫‪......‬‬

‫‪232‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه كام هي العادة عند تد ُّبر معاين آيِ ِّ‬
‫الذ ْكر احلكيم؛ فإننا‬
‫بحاجة إىل جملدات لكي نرشح هذا األمر فقط يف القرآن الكريم‪ ،‬ولكن‪ ،‬يف خالصة‬
‫موجزة ورسيعة؛ فإن الفعل احلضاري يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬عىل هذا النحو؛ إنام هو‬
‫فريضة‪ ،‬وجزء من متام عقيدة األمة‪ ،‬ومتام تكليف اإلنسان املسلم‪.‬‬
‫ريا من جانبنا كمسلمني يف عقيدتنا‪،‬‬
‫وبالتبعية‪ ،‬فإن أي تقصري يف ذلك‪ُ ،‬يعترب تقص ً‬
‫رشفنا ُ‬
‫اهلل تعاىل هبا‪.‬‬ ‫ويف القيام باألمانة التي َّ‬

‫‪233‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫﴿ﮅ ﮆ ﮇَ﴾‪..‬‬

‫سنن القرآن الكريم في التمكين في األرض‬


‫ُ‬

‫ض‬ ‫الذ ْك ِر َأ َّن ْ َ‬


‫ال ْر َ‬ ‫الز ُبو ِر ِمن َب ْع ِد ِّ‬
‫"و َل َقدْ َكت َْبنَا ِف َّ‬
‫يف كتاب اهلل العزيز؛ يقول تعاىل‪َ :‬‬
‫[سورة "األنبياء" – اآلية ‪ ،]105‬ولعل هذه اآلية فيها‬ ‫ون" ُ‬ ‫الص ِ ُ‬
‫ال َ‬ ‫َي ِر ُث َها ِع َب ِ‬
‫اد َي َّ‬
‫ال جملدات‪ ،‬وتكون مصدا ًقا‬ ‫والع َب املستفادة‪ ،‬ما يمكن أن يم ً‬ ‫ما فيها من الدروس ِ‬
‫لقوله تعاىل‪ ،‬يف ُسورة "الكهف"‪ ﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾‪.‬‬
‫ويف هذا احل ِّيز؛ فإننا سوف نحاول اإلملام بأكرب قدر ممكن من العناوين املرتبطة‬
‫باملعاين العظيمة ومعايل األمور التي متأل هذه اآلية‪ ،‬وأهم ما سوف نركز عليه‪،‬‬
‫هو بعض الدروس املستفادة منها يف جمال ُسنن التمكني التي جاءت يف القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬هي غائبة عن البعض يف احلركة اإلسالمية‪ ،‬والسيام يف‬
‫األجيال اجلديدة من أبناء احلركة‪ ،‬ورتَّب عدم فهمها‪ ،‬مشكالت عدة يف االستجابة‬
‫لتطورات املرحلة‪ ،‬وكيفية التعامل مع األزمات املستجدة‪.‬‬
‫أول داللة يف اآلية الكريمة يف هذا الصدد‪ ،‬هو أن اآلية حتمل وعدً ا أكيدً ا‬
‫بالتمكني‪ ،‬ولو بعد حني‪ ،‬فالوعد اإلهلي ورد يف ِّ‬
‫"الذ ْك ِر"‪ ،‬كامل تقول اآلية الكريمة‪،‬‬
‫املفسين‪ ،‬تعود عىل ُأ ِّم الكتاب عند اهلل تعاىل‪ ،‬الذي كتب فيه‬
‫وهذه الكلمة وفق ِّ‬
‫رب العزة سبحانه‪ ،‬كل ما هو كائن‪ ،‬من قبل خلق الساموات واألرض‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إهلي ٌ‬
‫نافذ ال حمالة‪،‬‬ ‫قدر ٌّ‬
‫وإثبات اهلل تعاىل لذلك الوعد يف أم الكتاب؛ يعني أنه ٌ‬
‫ويف ذلك ما يطمئِن القلوب‪ ،‬وهيدئ اخلواطر‪.‬‬
‫ثغورا عديدة من املفرتض أن يقفوا‬
‫ً‬ ‫يف هذه األيام؛ ترك الكثري من الشباب‪،‬‬
‫عليها‪ ،‬بعد األزمات األخرية التي رضبت بأطناهبا داخل وفيام حول احلركة‬
‫ودب فيهم اليأس بعد معامل اهلزيمة املرحلية التي ُمنِيت هبا‬
‫اإلسالمية الصحوية‪َّ ،‬‬
‫بعض احلركات واجلامعات اإلسالمية التي طرحت مرشوع اإلصالح السيايس‬
‫واالجتامعي الشامل‪ ،‬يف جمتمعاهتا بعد ثورات الربيع العريب‪.‬‬
‫وأهم باعث هلذه احلالة‪ ،‬هو اليأس‪ ،‬وعدم التحيل بأهم فضيلة يف معركة الرصاع‬
‫بني احلق والباطل‪ ،‬وهي فضيلة الصرب‪.‬‬
‫واليأس ليس من ِش َيم املسلم‪ ،‬ألن فيه من عدم الثقة باهلل تعاىل – والعياذ‬
‫باهلل – ما ال يتناسب مع عقيدة املسلم‪ ،‬والتي من صميمها‪ ،‬الثقة يف اهلل تعاىل‬
‫ووعده‪.‬‬
‫واهلل تعاىل‪ ،‬أكد عىل فضيلة الصرب يف القرآن الكريم؛ فهو أمرنا به‪ ،‬وفرضه علينا‪،‬‬
‫ومل خيفي إطال ًقا أن املعركة صعبة وطويلة‪ .‬يقول تعاىل‪﴿:‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ [سورة آل عمران – اآلية ‪.]200‬‬
‫والتعبري القرآين املستخدَ م يف هذه اآلية‪ ،‬يفيد بذلك‪﴿ ..‬ﯮ ﯯ﴾‪،‬‬
‫فهي صيغة مبالغة‪ ،‬وتفيد بطول أمد الطريق الذي سوف يقطعه املؤمن يف سبيل‬
‫تنفيذ ما أمره اهلل تعاىل به‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويقول اإلمام الشهيد سيد قطب يف الظالل عن الصرب‪" :‬يتكرر ذكر الصرب يف‬
‫ريا؛ ذلك أن اهلل سبحانه يعلم ضخامة اجلهد الذي تقتضيه االستقامة‬
‫القرآن كث ً‬
‫عىل الطريق بني شتى النوازع والدوافع‪ ،‬والذي يقتضيه القيام عىل دعوة اهلل يف‬
‫األرض بني شتى الرصاعات والعقبات‪ ،‬والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة‬
‫األعصاب‪ ،‬جمندة القوى‪َ ،‬ي ِق َظة للمداخل واملخارج"‪.‬‬
‫ويضيف أنه "البدَّ من الصرب يف هذا كله‪ ،‬البدَّ من الصرب عىل الطاعات‪ ،‬والصرب‬
‫عن املعايص‪ ،‬والصرب عىل جهاد املشتاقني هلل‪ ،‬والصرب عىل الكيد بشتى صنوفه‪،‬‬
‫والصرب عىل بطء النرص‪ ،‬والصرب عىل بعد الشقة‪ ،‬والصرب عىل انتفاش الباطل‪،‬‬
‫والصرب عىل قلة النارص‪ ،‬والصرب عىل طول الطريق الشائك‪ ،‬والصرب عىل التواء‬
‫النفوس‪ ،‬وضالل القلوب‪ ،‬وثقلة العناد‪ ،‬ومضاضة اإلعراض"‪.‬‬
‫وهنا نجد أنه أشار رصاح ًة إىل بطئ النرص‪ ،‬وهي النقطة املهمة التي نشري إليها‬
‫يف هذا املوضع‪.‬‬
‫املالحظة األخرى املهمة يف اآلية الكريمة التي افتتحنا هبا احلديث يف هذا‬
‫املوضع؛ تتعلق بالصالح؛ حيث إن وعد اهلل تعاىل بالتمكني يف األرض‪ ،‬هي لعباد‬
‫اهلل الصاحلني‪.‬‬
‫والصالح هو َمن صار حسنًا وزال عنه الفساد‪ ،‬وكذلك الصالح هو َمن َع َّف‪،‬‬
‫و َف ُض َل‪ ،‬والصالح يف اللغة كذلك‪ ،‬هو االستقامة والسالمة من العيب‪ ،‬كام يف‬
‫معجم املعاين اجلامع‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمور من الصعب حتقيقها من دون اشرتاطات‪ ،‬عىل رأسها حتسني روابط‬ ‫وكلها ٌ‬
‫العالقة مع اهللِ تعاىل‪ ،‬ولعل أهم أداة لذلك‪ ،‬هي الصالة‪.‬‬
‫ففي الصالة‪ ،‬يكون اإلنسان أقرب ما يكون إىل ربه سبحانه وتعاىل‪ ،‬ويصل –‬
‫متى أداها يف إيامن وإخالص ‪ -‬إىل أعىل درجات النفس املطمئنة‪.‬‬
‫يأيت ذلك مع الرتبية اإليامنية‪ ،‬التي ُيعترب الصوم من بني أهم أركاهنا العملية‪،‬‬
‫باإلضافة إىل رضورة أن تتضمن ِذ ً‬
‫كرا لتجارب األنبياء واملصلحني عرب التاريخ‪،‬‬
‫وع َب حول ما واجهوه من مشاق‪ ،‬والنهاية التي وصلوا‬ ‫وما تتضمنه من دروس ِ‬
‫إليها‪ ،‬من نرص ومتكني‪ ،‬يف مقابل هزيمة وخزي ألعداء اهلل‪ ،‬الكافرين الذين َّ‬
‫كذبوا‬
‫والرسل‪ ،‬وطغوا يف األرض‪.‬‬
‫األنبياء ُّ‬
‫ويقول صاحب الظالل يف ذلك إن "الصرب اجلميل هو الصرب املطمئِن‪ ،‬الذي‬
‫ال يصاحبه السخط وال القلق وال الشك يف صدق الوعد‪ ،‬صرب الواثق من العاقبة‪،‬‬
‫الرايض بقدر اهلل‪ ،‬الشاعر بحكمته من وراء االبتالء‪ ،‬املوصول باهلل املحتسب كل‬
‫يشء عنده مما يقع به"‪.‬‬
‫وسننه يف القرآن الكرمي‪:‬‬
‫التمكني ُ‬

‫معنى‪ ،‬من بينها امللك‬


‫ً‬ ‫يف القرآن الكريم‪ ،‬اس ُت ِع َمل لفظ التمكني بأكثر من‬
‫والسيادة والسلطان‪ ،‬ومن بني اآليات القرآنية التي تدل عىل هذا املعنى للتمكني‪،‬‬
‫يف قوله تعاىل يف سورة "الكهف"‪ ،‬اآلية (‪ ،)84‬عن ذي القرنني‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ممكنًا فيه ِمن‬
‫عظيم َّ‬
‫ً‬ ‫ﭕ﴾‪ ،‬ويف ذلك قال ابن كثري يف تفسريه‪" :‬أي أعطيناه ً‬
‫ملكا‬
‫مجيع ما ُيعطى امللوك من التمكني واجلنود"‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"احلج"‪ ،‬اآلية (‪﴿ :)41‬ﮄ ﮅ ﮆ‬ ‫ويف تفسري قوله تعاىل يف ُسورة َ‬


‫ﮇ ﮈ﴾‪ ،‬قال الشيخ عبد الرمحن السعدي يف تفسريه‪" :‬أي م َّلكناهم إياها‬
‫وجعلناهم املتسلطني عليها‪ ،‬من غري منازع ينازعهم‪ ،‬وال معارض"‪.‬‬
‫وهلذا عدته‪ ،‬املعنوية واملادية؛ فيقول تعاىل يف ُسورة َ‬
‫"احلج"‪ ،‬يف اآلية (‪﴿ :)40‬ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾‪ ،‬هذا يف اإليامنيات‪ ،‬وهي األساس‪.‬‬
‫أما يف عوامل التمكني املادية‪ ،‬فمن بني اآليات التي وردت يف ذلك‪ ﴿ :‬ﯘ‬
‫ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢ ﯣﯤﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﴾ [سورة "األنفال" ‪ -‬اآلية ‪.]60‬‬
‫ويقول الشيخ عاطف عبد املعز الفيومي يف مقال له عن سنن االستخالف‬
‫متلون مع كل موقف‪ ،‬أو بخفض‬ ‫والتمكني‪" :‬إن استعجال بوارق النرص بطريق ِّ‬
‫ألمر فيه ُمازفة وال ريب‪ ،‬قد ال‬
‫للمرام ‪ٌ -‬‬‫اجلناح للمنافقني وأذناهبم للوصول َ‬
‫ِ‬
‫توصل لسبيل الكامل‪ ،‬ونشوة االنتصار عىل حقيقته"‪.‬‬
‫وال يوجد يف اخلتام أفضل من حديث الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬الذي رواه اخلباب‬
‫بن َ‬
‫األ َرت عندما لقي املسلمون ما القوه من ِ‬
‫عنت من املرشكني‪ ،‬وقال له الصحابة‬
‫حممر وجهه‪ ،‬وقال‪" :‬كان‬
‫رضوان اهلل تعاىل عليهم‪" :‬أال تدعو اهلل"‪ ،‬فقعد وهو ٌّ‬
‫َ‬
‫فيوضع‬ ‫الرجل فيمن كان قبلكم ُي َفر له يف األرض‪ ،‬فيجعل فيه‪ ،‬فيجاء بمنشار‬
‫تم َّن ُ‬
‫اهلل هذا األمر حتى يسري‬ ‫يصده ذلك عن دينه‪ ،‬ول ُي َّ‬
‫فوق رأسه ف ُيشق باثنني فام ُ‬
‫الراكب من صنعاء إىل حرضموت ال خياف إال اهلل‪ ،‬أو الذئب عىل غنمه‪ ،‬ولكنكم‬
‫ِ‬
‫تستعجلون" [أخرجه البخاري]‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المكتشفات العلمية وما تفرضه‬


‫في مجال الدعوة والتفسير‪ ..‬قضية عاجلة‬

‫بخطى واسعة‪ ،‬ومتسارعة‪ ،‬حمق ًقا الكثري من املنجزات واملكتشفات‬


‫ً‬ ‫يميض العلم‬
‫احلديثة‪ ،‬يف خمتلف االجتاهات‪ ،‬الكيمياء والفيزياء والبيولوجي‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬يف‬
‫الر ْقميات‪،‬‬
‫إطار سطوة غري مسبوقة عرب التاريخ إلطار أو سياق بعينه‪ ،‬وهي سطوة َّ‬
‫وما قادت إليه من متغريات شملت كل يشء‪ ،‬حتى البنية النفسية والسلوكية‬
‫واالجتامعية لإلنسان‪.‬‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬نقف أمام نقطة شديدة األمهية تتعلق باملكتشفات واملبتكرات‬
‫احلديثة التي ختص جما ً‬
‫ال بعينه فيه مناطق متاس شاسعة مع أمور العقيدة‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬
‫مع اخلطاب الدعوي‪ ،‬وتفسري القرآن الكريم‪ ،‬وهي املجاالت املتعلقة بعلوم‬
‫البيولوجي والفيزياء‪.‬‬
‫وتعود أمهية هذا املوضع من احلديث‪ ،‬إىل اتصاله بقضية عىل أكرب قدر من‬
‫األمهية‪ ،‬ناقشناها يف أكثر من موضع سابق‪ ،‬وهي قضية اإلحلاد‪ ،‬أو عىل أقل تقدير‪،‬‬
‫طغيان األفكار العلامنية‪ ،‬واالبتعاد عن جوهر فكرة التد ُّين ومركزيتها يف حياة‬
‫املجتمعات اإلنسانية‪.‬‬
‫بداي ًة؛ فإن السياق العام لقضية املتبكرات احلديثة يتفق مع أمر قرأين مهم‪ ،‬وهو‬
‫والتأمل يف آيات اهلل تعاىل يف خلقه‪ ،‬كجزء من متتني إيامننا به سبحانه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫املتعلق بالتد ُّبر‬
‫وبأنه اخلالق الواحد األحد هلذا الكون‪ ،‬ومد ِّبر أمره‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يقول عز وجل‪﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬


‫[سورة "العنكبوت" – اآلية‬‫ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ ُ‬
‫‪ ،]20‬ويقول تعاىل كذلك‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫[سورة " ُف ِّص َل ْت"‬
‫ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ ُ‬
‫– اآلية ‪.]53‬‬
‫إال أن ثمة إشكالية يف جمموعة من املتكشفات األخرية يف جمال األحياء التي تبدو‬
‫وكأهنا تتصادم مع نصوص القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن أهم املجاالت التي تعنينا يف هذا الصدد‪ ،‬هي ما تم اكتشافه يف جمال‬
‫البحوث املتعلقة بأصل اإلنسان‪ ،‬عىل النحو الذي تم يف اجلزائر وجنوب أفريقيا‬
‫مؤخرا‪ ،‬وتتناقض مروياته وتفاصيله مع قصة خلق أبو البرش‪ ،‬آدم (عليه السالم)‪،‬‬
‫ً‬
‫وقصة نزوله إىل األرض‪ ،‬التي جاءت يف القرآن الكريم‪ ،‬واتفقت عليها الكتب‬
‫ا ُملن ََّزلة من لدن اهلل تعاىل‪ ،‬من قبل تنزيل القرآن الكريم‪.‬‬
‫وبدرجة أقل؛ فإن هناك مكتشفات يف جمال الفيزياء الفلكية‪ ،‬وعلوم الفضاء‬
‫بشكل عام‪ ،‬منها ما يتعلق بتعاقب الليل والنهار‪ ،‬وقضايا أخرى ذات صلة‪ ،‬تك َّلم‬
‫عنه القرآن الكريم بيشء من التفصيل‪.‬‬
‫وهو تصادم ظاهري بطبيعة احلال‪ ،‬ولكن املشكلة تبدو عندما نقف أمام نقطة‬
‫بعينها ختلق هذا التناقض غري احلقيقي يف جوهره‪ ،‬وهي تلك املتعلقة بقضية صارت‬
‫مزمنة‪ ،‬وتالعبت هبا أخطر ظاهر َت ْي أثرتا عىل املرشوع اإلسالمي‪ ،‬ومها‪ :‬تالعبات‬

‫‪240‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫السياسة‪ ،‬واخلالفات الفقهية والفكرية بني احلركات اإلسالمية‪ ،‬أو التي تنسب‬
‫نفسها إىل املنهج اإلسالمي؛ وهي قضية جتديد اخلطاب الديني‪.‬‬

‫فبعيدً ا عن اخلالفات الفقهية‪ ،‬وبعيدً ا عن سعي بعض األنظمة واحلكومات‬


‫املستبدة يف عاملنا العريب إىل توظيف هذه القضية‪ ،‬جتديد اخلطاب الديني؛ فإننا‪،‬‬
‫وحتت وطأة تطورات وقضايا مثل هذه التي نناقش يف هذا املوضع من احلديث؛‬
‫بحاجة فع ً‬
‫ال إىل إعادة النظر يف كثري من األمور‪ ،‬ومن بينها تأسيس تفسري جديد‬
‫آليات القرآن الكريم بشكل يوائم ما بني حقائق العلم التي تؤكدها احلواس‬
‫الظاهرة بام ال جيعل هناك جما ً‬
‫ال للشك فيها‪ ،‬وبني النصوص القرآنية‪.‬‬

‫فالتفاسري املوضوعة للقرآن الكريم‪ ،‬إما أهنا تقف عند مفردات عرصها‪ ،‬وبيئتها‪،‬‬
‫أو أهنا تقف عن األحكام الفقهية‪ ،‬مع مرور غري ٍ‬
‫واف عىل النقاط التي تتصل هبذا‬
‫مرت هبا األمة‪ ،‬من‬
‫ترسخت عرب قرون التأخر احلضاري التي َّ‬
‫الشأن‪ ،‬يف ظل قناعة َّ‬
‫أنه ال أمهية وال هدف أمام اإلنسان‪ ،‬إال معرفة دينه‪ ،‬يف نظرة سطحية للغاية ملفهوم‬
‫الدين الشامل‪.‬‬

‫كام أهنا نظرة تتجاوز أمهية العلوم الدنيوية األهم‪ ،‬مثل الطب واهلندسة‬
‫والرياضيات‪ ،‬يف مساعدة اإلنسان يف أحد أهم األمور التي ُخ ِلقَ هلا‪ ،‬وهي عامرة‬
‫األرض‪ ،‬وحتقيق ُس َّنة تسخري املوجودات املتصلة هبا‪.‬‬

‫ونعيد التأكيد هنا عىل مركزية قضية خلق اإلنسان؛ حيث ترتبط هذه القضية‬
‫برصاع طويل صار له نحو قر َن ْي من الزمان‪ ،‬استفاد فيه العلامنيون والالدينيون‬

‫‪241‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وامللحدون‪ ،‬من أفكار تشارلز داروين‪ ،‬والسيام نظريته يف التطور‪ ،‬وكان القرآن‬
‫الكريم ونصوصه عىل رأس قائمة االستهداف بأفكار هذه النظرية‪.‬‬
‫ولكي نؤكد عىل أمهية هذه القضية؛ فإن العنوان العريض الذي تم تداوله عندما‬
‫ال‪ ،‬كان‪" :‬اكتشاف حفريات جديدة يف‬‫تم اكتشاف احلفريات األخرية يف اجلزائر مث ً‬
‫اجلزائر قد تغري نظرية مهد البرشية"‪.‬‬
‫كذلك قضية وجود نوعيات من القردة العليا‪ ،‬تتشابه يف تركيبها اجليني مع‬
‫اإلنسان‪ ،‬وجتيد استخدام األدوات البدائية‪ ،‬مثل احلجارة يف حياهتا اليومية‪ ،‬مثلام‬
‫كان عليه حال اإلنسان وقتام كانت اإلنسانية يف أول درجات ُس َّلم التطور احلضاري‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإننا أهم حتدٍّ يتهدد مصداقية القرآن الكريم‪ ،‬ومصداقية اخلطاب‬
‫الدعوي املنبثق منه أمام غري املسلمني ممن نشأوا يف بيئات ال تضع للتد ُّين كبري‬
‫أمهية‪ ،‬مثل جمتمعات أمريكا الالتينية‪ ،‬أو نشأت يف جمتمعات وثنية من األصل‪ ،‬مثل‬
‫املجتمعات التقليدية يف القارة األفريقية‪.‬‬
‫وبالتايل فإننا أمام جهد مطلوب يف جمال حتديث التفاسري املوضوعة للقرآن‬
‫الكريم لكي هتتم بإبراز هذه اجلوانب يف بعض النصوص‪ ،‬وكيف أن القرآن الكريم‬
‫– كام نجده قد قدم رؤية تقدمية حول أمور نجدها حتدث اآلن قبل أكثر من ‪1400‬‬
‫تعارض معها‪.‬‬
‫عا ٍم – قد التفت إليها‪ ،‬وأكد عليها؛ ال أن َ‬
‫وال يعني ذلك حتويل القرآن الكريم إىل ٍ‬
‫كتاب للعلوم كام قام البعض يف السنوات‬
‫أمورا‬
‫األخرية‪ ،‬فآذوا النص القرآين بأكثر مما أفادوه بسبب عدم التدقيق‪ ،‬فنسبوا له ً‬
‫قال هبا أ ُبقراط مث ً‬
‫ال قبل نزول القرآن الكريم بآالف السنني‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫لكن املطلوب تفسري حديث للقرآن الكريم‪ ،‬جيد فيه املفرسون ما يدعم ويتوافق‬
‫مع االكتشافات العلمية احلديثة‪ ،‬وخياطب العقل يف ظل سطوة العلم‪ ،‬والذي جعل‬
‫العقل اإلنساين من جانب بعض الغالة‪ ،‬بمثابة ٍ‬
‫إله‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن هذا يتطلب تعاو ًنا بني العلامء املسلمني؛ علامء الفقه‪ ،‬والعلامء‬
‫املتخصصني يف جمال العلوم الوضعية أو العلوم الدنيوية كام ُيط َلق عليها يف املجال‬
‫اإلسالمي العلمي‪ ،‬للحديث يف هذه القضايا من أجل نفي التضاد الظاهري بني‬
‫هذه املكتشفات‪ ،‬وبني ما هو يف عقائد املسلمني‪ ،‬واستقيناه من النصوص القرآنية‪.‬‬
‫وعىل سبيل املثال؛ فإنه فيام يتعلق بقضية أصل اإلنسان‪ ،‬يمكن للعلامء املسلمني‬
‫احلديث عن أنه ينبغي التمييز بني اإلنسان اآلدمي‪ ،‬وبني اإلنسان غري اآلدمي‪ ،‬وهو‬
‫مفهوم يشري إىل تلك املخلوقات التي عاشت يف األرض قبل نزول سيدنا آدم (عليه‬
‫السالم)‪ ،‬تشبه اإلنسان اآلدمي يف تركيبها‪ ،‬ولكنها ختتلف عنه يف املنشأ‪.‬‬
‫ويمكن هنا االستعانة بحقيقة علمية‪ ،‬ذكرها القرآن الكريم‪ ،‬وهي أن كل‬
‫املخلوقات‪ ،‬بام يف اإلنسان‪ ،‬إنام هي من أصل واحد‪ ،‬فاإلنسان مذكور يف القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬خملوق من طني‪ ،‬ونفخ اهلل تعاىل فيه من روحه‪ ،‬فصار خملو ًقا ًّ‬
‫حيا‪ ،‬والطني‬
‫تشكل منها الكون كله‬ ‫من األرض‪ ،‬واألرض يف حد ذاهتا‪ ،‬هي جزء من النواة التي َّ‬
‫بعد االنفجار العظيم‪ ،‬وهي النظرية التي حازت عىل قبول غالبية العلامء عن أصل‬
‫الكون‪ ،‬ونجد أن القرآن الكريم قد تك َّلم عنها‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ‬
‫ﮦﮧ﴾ ُ‬
‫[سورة "األنبياء" ‪ -‬اآلية ‪.]30‬‬
‫‪.....‬‬

‫‪243‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هكذا عىل هذا النحو‪ ،‬وبصورة أكثر شمولية وعم ًقا ال يمكن بطبيعة احلال‬
‫احلديث عنها يف هذا احل ِّيز‪ ،‬ويفهمها العلامء بصورة أفضل؛ ينبغي علينا أن نواجه‬
‫املوجة احلالية اآلخذة يف التنامي من املكتشفات العلمية يف أمور عىل قدر من‬
‫احلساسية كام تقدم‪ ،‬إلمكان استمرار احلديث عن عمل دعوي بناء عىل ال َّنص‬
‫القرآين‪ ،‬يلقى قبو ً‬
‫ال من الناس‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫العقل السياسي اإلسالمي وضرورات التحديث‬

‫لعل هذا العنوان قد يشري إىل قضية فكرية‪ ،‬من ترف الرياضات الذهنية التي قد‬
‫يقوم هبا بعض ُ‬
‫الك َّتاب يف كثري من األحيان‪ ،‬إال أهنا يف واقع األمر ليست كذلك‪.‬‬
‫ولتبيان أمهيتها‪ ،‬يكفي أن نشري إىل أهنا تتصل يف جانب من جوانبها‪ ،‬بمستقبل‬
‫ِ‬
‫احلراك احلايل يف خمتلف ميادين العمل اإلسالمي‪ ،‬بمختلف أشكاله‪ ،‬السياسية‬
‫والرتبوية واالجتامعية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫فوفق ما تعلمناه يف جمال العلوم السياسية واالجتامعية؛ فإن التأصيل هو األساس‬
‫الذي تقف عليه األمور‪ ،‬وبالتايل؛ فهو أصل النجاح أو الفشل‪ ،‬ومفتاح للتحرك يف‬
‫حتر ًكا فاش ً‬
‫ال‪ /‬ضعي ًفا‪ /‬يف جمال غري مهم‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫أي اجتاه‪ ،‬حتى ولو كان ُّ‬
‫نوعا ما لتحديث العقل‬
‫عدد من األمور التي دفعت إىل القول بأن هناك رضورة ً‬
‫وهناك ٌ‬
‫السيايس اإلسالمي‪ ،‬ومن بينها ما ظهر يف أداء اإلسالميني‪ ،‬فرادى ومجاعات‪ ،‬عندما‬
‫اندلعت ما ُتعرف بثورات الربيع العريب قبل نحو ثامين سنوات‪ ،‬وما تالها من تطورات‪.‬‬
‫فهذه املرحلة املاضية‪ ،‬أثبتت أن اإلسالميني عىل املستوى الفكري‪ ،‬والسيام‬
‫املستويات التي تتحكم يف ِ‬
‫احلراك‪ ،‬وحتى يف رشحية الشباب‪ ،‬لن نقول ليسوا‬
‫مؤهلني؛ حيث هذا حكم خاطئ ومتعسف‪ ،‬وإنام نقول‪ :‬إن كبار احلوادث التي‬
‫جرت‪ ،‬إنام تثبت أنه كان هناك بعض األمور اخلاطئة يف هذا االجتاه‪ ،‬مثل وجود‬
‫خلل يف طرائق فهم املواقف املختلفة‪ ،‬وبالتايل؛ يف طرائق التعامل معها‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويعود ذلك إىل أن هناك بني ظهراين احلركة اإلسالمية َمن ال يزال يعيش بعقلية‬
‫«نوستاجليا» املايض‪.‬‬
‫مثاليا‪ ،‬يقف عند حدود القيمة‪،‬‬
‫ومنهجا ًّ‬
‫ً‬ ‫فمدارسنا الفكرية‪ ،‬إما أهنا تصدِّ ر خطا ًبا‬
‫وما جيب أن نؤمن به‪ ،‬بينام هذه بدهييات بالنسبة ألي مسلم صحيح الفهم لدينه‪ ،‬ولكنها‬
‫مناهج ال تقول لنا‪ :‬ماذا نفعل يف تفاصيل ودقائق املواقف ذات الطابع التطبيقي‪ ،‬أو‬
‫أهنا تعتمد عىل مناهج وأفكار قديمة‪ ،‬مل تعد تصلح بحال يف زمننا املعارص‪.‬‬
‫وهذا يف جانب من جوانبه حقيقة جيب أن نعرتف معها أن هناك رضورة‬
‫لتحديث اخلطاب اإلسالمي من هذه الزاوية‪ .‬فحتى مفهوم "العلم" يف تفاسري‬
‫املايض؛ قارص يف ضوء مستجدات احلارض‪.‬‬
‫كذلك يف املجال السيايس واالجتامعي‪ .‬فعىل أبسط تقدير؛ غالب التفاسري املوضوعة‬
‫لنصوص قرآنية ونبوية‪ ،‬موضوعة يف وقت كانت هناك فيه دولة إسالمية جامعة‪.‬‬
‫وبالتايل؛ مل يكن هناك أي تفكري يف وضع فقه لدولة ُت َكم من جانب نظام ال‬
‫يستند إىل اإلسالم بشكل كامل‪ ،‬ألنه يقود دولة مواطنة‪ ،‬أو دولة قومية باملعنى‬
‫الذي ظهر بعد صلح ويستفاليا يف العام ‪1648‬م‪ ،‬والذي أهنى احلروب الدينية‬
‫واملذهبية يف أوروبا‪.‬‬
‫ولقد اخرتنا هذا املثال ألمهيته يف احلالة التي نتناوهلا؛ حيث نخص احلديث عن‬
‫واقع احلالة اإلسالمية يف مرحلة كانت فيها عىل أبواب حكم دول بكاملها للمرة‬
‫األوىل منذ اهنيار آخر دولة إسالمية جامعة‪ ،‬وهي الدولة العثامنية‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬نجد أننا أمام ظاهرة "التس ُّلف" ‪ -‬لو صح التعبري ‪ -‬حتى عندما‬
‫قررنا كمسلمني‪ ،‬أو عاملني يف احلقل اإلسالمي‪ ،‬االنفتاح عىل األفكار األخرى‪،‬‬
‫وصيت‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫باع‬
‫واألخذ من جتارب مفكرين هلم ٌ‬
‫فعندما قررنا أن نحكم‪ ،‬وتبنى اإلسالميون مفاهيم احلكم املدين‪ ،‬لدولة مواطنة‬
‫أفكارا من مدارس سياسية واجتامعية وفكرية‪ ،‬قديمة للغاية‪ ،‬ومل‬
‫ً‬ ‫مؤسسية؛ أخذنا‬
‫تعد تصلح للحارض مطل ًقا‪ ،‬أو ال تتالءم مع واقعنا املجتمعي والسيايس والثقايف‬
‫يف عاملنا العريب‪.‬‬
‫فهي إما تقف بدورها‪ ،‬عند حد القيمة واملثال‪ ،‬مثل أفكار أرسطو أو أفالطون‪،‬‬
‫ض َعت بناء عىل تصور خمتلف للعمران السيايس واالجتامعي؛ حيث ظهر‬ ‫أو ُو ِ‬
‫بعضها يف فرتات الالدولة أص ً‬
‫ال‪ ،‬أو يف بيئة سياسية واجتامعية وثقافية خمتلفة‬
‫متا ًما‪.‬‬
‫روسو‪،‬‬
‫فال يمكن بحال تطويع حتى أفكار جون ستيوارت ميل أو جان جاك ُّ‬
‫التي ُو ِض َعت بنا ًء عىل قيم غربية‪ ،‬ولبيئة سياسية غربية‪ ،‬وكذلك غربية ذات‬
‫خصوصية‪ ،‬بعد انتصار الليربالية واألفكار الرأساملية‪ ،‬وسياقات االستعامر حول‬
‫العامل‪ ،‬واكتشاف األمريكيت َْي‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬مفكروهم كانوا أذكى من ِّ‬
‫مفكرينا؛ حيث بحثوا يف كل هذه املساقات‪ ،‬وما‬
‫أفرزته من نتائج وأمور جمتمعية وسياسية‪ ،‬وبنوا نموذج أو نامذج بناء عىل واقعهم‬
‫واحتياجاهتم‪ ،‬ومتطلبات تطوير أنفسهم وجمتمعاهتم‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولذلك؛ فإنه ال يكون من الصحيح بحال‪ ،‬أن نلجأ إىل هذه املدارس‪ ،‬ونحن‬
‫نحاول أن نتحرك يف جمتمعات ودول خمتلفة بالكلية عن املجتمعات والدول لتي‬
‫ُو ِضعت هلا هذه األمور‪.‬‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬فإنه من الواجب اآلن البحث يف كيفية توظيف طرائق التفكري‬
‫توسل النامذج احلديثة التي يمكن أن ختدم املرشوع‬
‫والعلم احلديثة‪ ،‬وكذلك ُّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وفق اعتبارات موضوعية وواقعية‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإن هناك رضورة أو ً‬
‫ال‪ ،‬لالنفتاح عىل الثقافات األخرى‪ ،‬واألخذ من‬
‫اجليد منها‪.‬‬
‫وهنا فإن ملراكز البحوث يف خمتلف البلدان التي حققت تقد ًما يف جماالت‬
‫السياسة والنظم واإلدارة‪ ،‬أمهية كبرية يف التعاطي مع خمرجاهتا ومنتجاهتا‪ ،‬من كتب‬
‫ودوريات ودراسات‪.‬‬
‫وتتسيد العامل‪ ،‬إال من خالل نامذج عمل وطرائق‬
‫َّ‬ ‫فهذه البلدان مل ُتقم هكذا‪،‬‬
‫تفكري ومنظومات اجتامعية وسياسية وصلوا إليها بعد الكثري من األزمات‬
‫واحلروب‪ ،‬خرجت منها شعوهبا بقناعة برضورة جتاوز احلالة الرصاعية‪ ،‬إىل حالة‬
‫التصالح مع الذات واآلخر‪ ،‬وفق قانون تبادل املنفعة واملصالح‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن هناك الكثري مما يمكن أخذه من جتارب هذه البلدان‪ ،‬من خالل‬
‫مراكز التفكري "‪ "Think Tanks‬التي تضم خربات هذه املجتمعات بني جنباهتا‪،‬‬
‫وتعمل احلكومات جاهد ًة عىل اتباع ما تشري به يف دراساهتا‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمر ال ينفصل عام سبق – بحاجة إىل‬


‫األمر اآلخر‪ ،‬أننا يف عاملنا اإلسالمي – وهو ٌ‬
‫حركة ترمجة واسعة أشبه بام تم يف بدايات النهضة اإلسالمية يف عهد الدولة األموية‬
‫والعرص العبايس األول؛ حيث حتول بعدها املسلمون إىل مصدِّ رين للمعرفة‬
‫والعلوم‪.‬‬
‫ثم إننا بحاجة إىل مناهج تربوية تقوم عىل التفكري وإعامل العقل‪ ،‬وليس جمرد‬
‫التلقني أو االستناد إىل نظريات مثالية‪ .‬هذه األخرية مطلوبة لغرس القيم‪ ،‬ولكن‬
‫من األمهية بمكان أن يكون االجتاه العام يف طريق كيفية تنمية التفكري اإلبداعي‬
‫واالبتكاري‪ ،‬والتحرر من تابوهات االنحيازات واالنتامءات‪ ،‬إىل آفاق أكثر‬
‫موضوعية‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مفهوم اإلسالم للتنوع الثقافي‪ ..‬منظومة من القيم والتطبيقات‬

‫يف عاملنا املعارص؛ نجد الكثري من املراكمة الفكرية واإلبداعية التي وضعها‬
‫مفكرون ينتمون إىل املذهب الذي يعيل من شأن االنتامء اإلنساين‪ ،‬وإىل األيديولوجية‬
‫الليربالية‪ ،‬وما يرتبط هبا من منظومة قيم ُتعيل من شأن ُس َّلم قيمي‪ ،‬تقف احلرية عىل‬
‫رأس مكوناته‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه ينبغي االعرتاف يف فضائنا اإلسالمي‪ ،‬بالسبق يف هذا‬
‫الصدد للمفكرين والفالسفة الذين ينتمون إىل هذه املذاهب واملدارس الفكرية؛‬
‫شكل "خارطة طريق" واضحة قادت‬ ‫بنيان فكري متكامل َّ‬ ‫ٍ‬ ‫إذ استطاعوا خلق‬
‫الكثريين لإليامن بأن املدرسة الليربالية الغربية‪ ،‬والفلسفات األوروبية‪ ،‬هي أرقى‬
‫ما وصلت إليه البرشية يف املجال اإلنساين‪.‬‬
‫وزاد من مساحة انتشار هذه املدرسة‪ ،‬فئتان‪ ..‬األوىل‪ ،‬هي فئة املسترشقني‪،‬‬
‫والثانية‪ ،‬هي فئة الليرباليني العرب واملسلمني‪ ،‬والتي ظهرت منذ بدايات القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬عندما نشطت حركة البعوث العلمية إىل أوروبا‪ ،‬من مرص‪ ،‬وحركة‬
‫اهلجرة من بالد الشام إىل أوروبا واألمريكيت َْي‪ ،‬يف ظل املشكالت الطائفية‬
‫واالجتامعية التي طرأت يف مناطق ساحل سوريا الكربى يف ذلك احلني‪ ،‬بعد‬
‫ضعف قبضة الدولة العثامنية املركزية عىل قلب وأطراف الدولة‪.‬‬
‫ساند انشار هذه املدرسة‪ ،‬حالة التخلف احلضاري الشامل الذي رضب بأطنابه‬
‫بواقع‪ ،‬بينام أصل املقارنات‬
‫ٍ‬ ‫واقعا‬
‫أمتنا‪ ،‬وبدأت مقارنات ظاملة يف جذرها؛ إذ قارنت ً‬

‫‪250‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الناجحة‪ ،‬هو أن تكون شاملة‪ ،‬وأن توضع يف االعتبار مقارنة التاريخ بالتاريخ‪،‬‬
‫وكذلك أسباب حدوث هذا الواقع‪.‬‬
‫يف كل األحوال‪ ،‬فإننا ً‬
‫دائم ما نقرأ عن الليربالية واملدرسة الغربية باعتبار أهنا‬
‫موئل احرتام التنوع الثقايف واإلنساين بشكل عام‪ ،‬بام متلكه من منظومة قيم‪ ،‬ينسى‬
‫خضم محاستهم أن هذه املنظومة قد أفرزت أسوأ األنظمة الشوفينية‬
‫ِّ‬ ‫الكثريون يف‬
‫األمر ْين ألكثر من ثالثة عقود من احلروب العاملية‪ ،‬منذ‬
‫َّ‬ ‫املستبدة‪ ،‬التي أذاقت العامل‬
‫منتصف العقد الثاين من القرن العرشين‪ ،‬عندما اندلعت احلرب العاملية األوىل‪ ،‬عام‬
‫‪1914‬م‪ ،‬وحتى منتصف العقد اخلامس‪ ،‬بنهاية احلرب العاملية الثانية عام ‪1945‬م‪.‬‬
‫يف املقابل؛ ال نجد ذات املنظومة املتكاملة من األدبيات واإلنتاجات الفكرية‬
‫تكرس موضع هذه األمور يف اإلسالم‪ ،‬ويف املنظومة اإلسالمية‪.‬‬
‫التي ِّ‬
‫وهناك عوامل كثرية لذلك الوضع‪ ،‬أمهها سيادة منظومة "ا ُمل ْلك العضود"‬
‫و"ا ُمل ْلك اجلربي" عىل الدولة اإلسالمية طيلة قرون ما بعد دولة اخلالفة الراشدة‪،‬‬
‫التطرق هلذه‬
‫ُّ‬ ‫واهتامم املفكرون والفقهاء املسلمني بالفقه واألحكام والتفسري عن‬
‫األمور‪ ،‬تأ ُّث ًرا بواقع مهم‪ ،‬وهو سيادة الدولة اإلسالمية عىل العامل القديم‪ ،‬مع وجود‬
‫نظرة عقدية سلبية للفلسفة‪.‬‬
‫ونذكر املعارك الفكرية التي خاضها ابن رشد وابن عريب‪ ،‬وغريمها‪ ،‬وحتى‬
‫اإلمام الشافعي ملا أراد إنشاء مدرسة فقهية قائمة عىل فكرة التنوع االجتامعي‪،‬‬
‫وتبدُّ ل الظروف‪ ،‬ووضع أثر ذلك عىل احلكم الفقهي أو إنزال احلكم الرشعي؛‬
‫ٍ‬
‫حرب حقيقية‪ ،‬تعرض فيها للرضب من جانب أتابع املذهب املالكي‬ ‫تعرض إىل‬

‫‪251‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف مرص‪ ،‬وقيل إنه مات بسبب رضبه باهلراوات من ِق َبل بعض ُغالة املالكية يف‬
‫مرص‪.‬‬
‫يف البدء جيب التأكيد عىل بعض النقاط‪ ،‬أمهها مما له املركزية األكرب يف هذا‬
‫عمرانيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫املقام‪ ،‬هو أن اإلسالم دين يعرتف بالتنوع‪ ،‬ويضع له أمهية باعتباره قانو ًنا‬
‫تكر ُسه يف خمتلف االجتاهات التطبيقية؛ السياسية واالجتامعية‬
‫وبالتايل؛ فالرشيعة ِّ‬
‫واالقتصادية والثقافية‪.‬‬
‫وكام نؤمن ونعلم؛ فإن اإلسالم نزل مواف ًقا للفطرة‪ ،‬ألن اهلل تعاىل لن يرتيض‬
‫لعباده عقيدة ال يقبلها العقل‪ ،‬أو رشيعة ال يمكن تطبيقها بسبب تعارضها مع‬
‫ممكنات الواقع‪ ،‬وقدرات اإلنسان وطبيعته‪ ..‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫[سورة "ا ُمل ْلك" – اآلية ‪.]14‬‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ﴾ ُ‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬يف أكثر من موضع‬
‫عب القرآن الكريم ُّ‬ ‫يف هذا اإلطار‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫حقيقة واقعة يف حياتنا‪.‬‬ ‫عن اعرتاف واضح بأمهية التنوع الثقايف‪ ،‬وبأنه‬
‫وعندما نتكلم عن الثقافة؛ فإننا نتكلم عن اهلوية‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬نعني منظومة من‬
‫األشياء واألمور‪ ،‬مثل اللغة‪ ،‬ومثل القومية‪ ،‬التي تعني الشعوب‪ ،‬واألعراق‬
‫املختلفة األلوان واللغات‪.‬‬
‫ومن القرآن الكريم‪ ،‬نختار فقط آيت َْي؛ األوىل‪ ،‬يف ُسورة "الروم"؛ إذ يقول‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾‪ ،‬والثانية‪ ،‬يف ُسورة ُ‬
‫"احل ُجرات"‪ ،‬ويقول فيها سبحانه‪:‬‬

‫‪252‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾‪.‬‬
‫ويف اآلية الثانية؛ نجد أن التنوع الذي يعرتف به اإلسالم‪ ،‬يبدأ من مستوى‬
‫النوع‪ ،‬الذكر واألنثى‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل تنوع الشعوب‪ ،‬بثقافتها وألسنتها وألواهنا‪ ،‬كام‬
‫تقول اآلية األوىل‪ ،‬يف تكامل رائع يقول بأحادية مصدر القرآن الكريم‪ ،‬واتساقه‪.‬‬
‫الس َّنة؛ فنقف أمام "خطبة الوداع"‪ ،‬التي تال فيها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬قول‬
‫أما ُّ‬
‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫[سورة "املائدة" – من اآلية ‪ ،]3‬ويف ذلك داللة عىل أن هذه اخلطبة‪ ،‬فيها‬
‫ﮅ﴾ ُ‬
‫مجاع الدين‪ ،‬ومركزيتها يف حتديد رؤية وبوصلة األمة إىل يوم ُيبعثون‪.‬‬
‫ففيها قال الرسول "عليه الصالة والسالم"‪" :‬كلكم آلدم وآدم من تراب"‪،‬‬
‫وفيها قال خماط ًبا الناس أمجعني؛ ألنه "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬كان يعلم أن‬
‫اهلل تعاىل شاء أن تبقى هذه الكلامت حية لتقيم ُ‬
‫احل َّجة عىل بني آدم كلهم‬
‫أمجعني‪" :‬يا أهيا الناس أال إن ربكم واحد وإن أباكم واحد أال ال فضل لعريب‬
‫عىل أعجمي وال لعجمي عىل عريب وال ألمحر عىل أسود وال أسود عىل أمحر‬
‫إال بالتقوى"‪.‬‬
‫فلم يقل النبي ﷺ‪" :‬إن إهلكم واحد"‪ ،‬بل قال "ربكم"‪ ،‬ومن املعروف لعلامء‬
‫ور ُّب ِّ‬
‫كل إنسان‪َ ،‬من آمن و َمن كفر‪ ،‬بينام‬ ‫التوحيد‪ ،‬أن اهلل تعاىل هو َر ُّب كل يشء‪َ ،‬‬
‫اإلله هو ملن يؤمن به‪ ،‬وهو نحن املسلمون يف هذه احلالة‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫رد الرسول "عليه الصالة والسالم" يف هذه العبارات‪ ،‬اإلنسانية إىل أصلها؛‬
‫كام َّ‬
‫آدم (عليه السالم)‪ ،‬واعرتف بالتنوع العرقي فيها‪ ،‬وقال إن هذا التنوع ال فضل‬
‫ٍ‬
‫ألحد فيه عىل أحد‪ ،‬إال بالتقوى‪.‬‬
‫فهذه العبارات إ ًذا‪ ،‬تقول بأن اإلسالم وضع نقطة التنوع الثقايف واالجتامعي‪،‬‬
‫قيد االعرتاف‪ ،‬بل جعله‪ ،‬كام يقول مفكرون عرب غربيون عن املفهوم الغريب‬
‫للتنوع الثقايف واالجتامعي‪ ،‬قضي ًة إنساني ًة وأخالقية؛ حيث منع أي تفوق ألي‬
‫عنرص ملجرد أنه ينتمي إىل هذا الشعب‪ /‬العرقية‪ /‬اللون‪ /‬اللسان؛ إىل آخر صور‬
‫التنوع البرشي‪ ،‬ووضع معيار التقوى لفضل الناس عىل بعضها البعض‪.‬‬
‫والتقوى هي خشية اهلل تعاىل‪ ،‬ومراقبة اإلنسان له يف كل عمله وحاله‪ ،‬وال يوجد‬
‫أفضل من ذلك كمعيار أخالقي لألفضلية‪ ،‬ويف ذلك فليتنافس املتنافسون كام قال‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫وكام نعلم عن الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬من شمول وتكامل؛ فقد صبغ ذلك املبدأ‬
‫كل يشء يف أحكامها‪ ،‬مثل كل املبادئ التي أقرهتا الرشيعة؛ فنجدها يف االقتصاد‬
‫والسياسة والترشيع القانوين وكذا‪.‬‬
‫بالتنوع‬
‫ُّ‬ ‫بالتايل؛ نجد أن موقف الدولة ومنظومة احلكم يف اإلسالم‪ ،‬تعرتف‬
‫الثقايف واالجتامعي هذا‪ ،‬ونجد ذلك يف "وثيقة املدينة"‪ ،‬ويف املامرسة النبوية يف‬
‫دولة املدينة‪ ،‬وحتى يف الدول اإلسالمية التي ظهرت بعد عرص اخلالفة الراشدة؛‬
‫مل نجد أن احلاكم املركزي‪ ،‬يف بغداد أو القاهرة أو األستانة‪ ،‬أو أ ًّيا كان‪ ،‬قد فرض‬
‫التعريب أو الثقافة العربية عىل الشعوب األخرى‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وأبسط دليل عىل ذلك؛ أن لغات وكتب وثقافات الشعوب التي تضمنتها الدولة‬
‫اإلسالمية ً‬
‫قديم‪ ،‬ال تزال حية؛ فاألكراد هلم لغتهم التي يتكلمون هبا‪ ،‬وفنوهنم‬
‫وثقافتهم‪ ،‬واألمازيغ هلم لغتهم احلية‪ ،‬وفنوهنم وآداهبم‪ ،‬واملسيحيون يف املرشق؛‬
‫كتبهم موجودة بلغاهتا‪ ،‬وكذلك عاداهتم وتقاليدهم قائمة‪.‬‬
‫كل هذه األمور هي مفردات مفهوم "الثقافة" الذي يشمل كل مكونات اهلوية‬
‫واخلصوصية اإلنسانية‪ ،‬وما انبثق عن هذه اخلصوصية من نتاجات مثل الفنون واآلداب‪.‬‬
‫ولو تأملنا يف مفردات نظرية التنوع الثقايف يف املفهوم الغريب‪ ،‬وما تضمنته‬
‫من منظومة قيمية متكاملة‪ ،‬مثل احلرية والتسامح‪ ،‬وكذلك‪ ،‬العدل واملساواة‬
‫جذرها بنصوص قرآنية ونبوية واضحة‪،‬‬ ‫واإلنصاف؛ سوف نجد أن اإلسالم قد َّ‬
‫وأكدهتا املامرسة النبوية كذلك يف دولة املدينة‪.‬‬
‫وعىل العكس‪ ،‬فقد قدَّ م اإلسالم منظومة أخالقية مرتاتبة يف هذا الصدد‪ ،‬أكثر‬
‫واقعية ومالئمة لطبيعة اخللق اإلنساين‪ ،‬وأفضل إلدارة املجتمعات البرشية‪.‬‬
‫فحتى "فقهاء" ليرباليني غربيني‪ ،‬انتقدوا مذهب ماديسون يف تعظيم الفردانية‪،‬‬
‫والتي وصلت إىل مستوى األنانية‪ ،‬وعندما وضع جون ستيوارت ميل‪ ،‬ومن قبله‬
‫جون لوك‪ ،‬أساسيات الليربالية املعارصة‪ ،‬كان البعد االجتامعي – الذي أكد عليه‬
‫واضحا يف أفكارهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫اإلسالم –‬
‫ويف اإلسالم؛ نجد أن احلرية قيمة أساسية‪ ،‬بل إهنا إحدى مناطا التكليف مع‬
‫العقل‪ ،‬ويف تصنيف مسترشقني وليس حتى فقهاء أو فالسفة مسلمني؛ نجد أهنم‬
‫الس َّلم القيمي يف اإلسالم‪ ،‬ومن العدالة‪ ،‬تقف املساواة‪.‬‬
‫يعرتفون بأن العدالة هي قمة ُّ‬

‫‪255‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فعىل سبيل املثال؛ مل تعرف مجاعة املسلمني وقت الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬أية فروق‬
‫طبقية‪ ،‬ومل يكن هناك "صحابة" و"صحابة"‪ ،‬أي مل يكن بني صحابته رضوان اهلل‬
‫مجيعا‪ ،‬أية متايزات‪ ،‬ألي اعتبار بل إن املجموع املسلم وقتها كان عىل‬
‫تعاىل عليهم ً‬
‫قدم املساواة‪.‬‬
‫فحتى عثامن بن ع َّفان وعبد الرمحن بن عوف (ريض اهلل عنهام)‪ ،‬وكانا من‬
‫الذين ينفقون عىل جيوش املسلمني‪ ،‬وعىل ما نعرفه اآلن بالبنية التحتية‪ ،‬مثل رشاء‬
‫اآلبار وحفرها‪ ،‬وزراعة األرض‪ ،‬وكذا؛ مل يكن هلم أي وضع متاميز يف الدولة‬
‫واملجتمع‪.‬‬
‫وبدا ذلك يف الكثري من األمور األخرى‪ ،‬حتى يف أمور احلرب‪ ،‬مثل تكليف‬
‫شباب مثل أسامة بن زيد‪ ،‬لكي يقود ً‬
‫جيشا كان فيه عمر بن اخلطاب‪ ،‬وعيل بن أيب‬
‫طالب‪ ،‬ريض اهلل عن اجلميع‪ ،‬وما كان الصحابة ليقبلوا بذلك؛ إال ألهنم يعلمون‬
‫كرسها‬
‫أن هذا ضمن منظومة نزهية‪ ،‬وتستند إىل املوضوعية‪ ،‬وتقوم عىل مبادئ َّ‬
‫الدين؛ ال عىل بواعث شخصية لدى النبي "عليه الصالة والسالم"‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫صفوة القول‪ ،‬ألن هذا احلديث يطول‪ ،‬وداللة أنه يطول‪ ،‬وبحاجة إىل دراسات‬
‫وكتب أكثر عم ًقا يف التناول؛ أنه بالفعل‪ ،‬املطلوب يف املرحلة الراهنة‪ ،‬هو أن يقوم‬
‫مفكرو وفالسفة وعلامء املسلمني‪ ،‬بالكتابة يف هذا االجتاه‪ ،‬كت ًبا ودراسات حمكمة‬
‫منضبطة باملنهج العلمي يف التوثيق والتأريخ واحلكم الرشعي‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وذلك من أجل تكريس منظومة من األدبيات املتكاملة التي تقدِّ م‪ ،‬وبشكل‬


‫واضح‪ ،‬مكونات وقواعد نظرية اإلسالم يف جمال احرتام‪ ،‬بل وتكريس التنوع‬
‫الثقايف واالجتامعي‪ُ ،‬ت َ‬
‫عرض أمام اآلخر‪ ،‬كام يقدمون هم منظومتهم املتكاملة‪.‬‬
‫نكتب كام يكتبون‪ ،‬وننزع اخلرافات التي التصقت بعملية البحث يف املجاالت‬
‫الفكرية والفلسفية‪ ،‬وإنتاجاهتا طيلة القرون املاضية‪ ،‬من أهنا "حرام" وليست‬
‫أولوية‪.‬‬
‫وتعرض كذلك أمام عموم املسلمني الذين بدأوا – لألسف – يتف َّلتون من‬
‫دينهم‪ ،‬ومن ثقتهم يف كامله‪ ،‬ويف معاجلته ملشكالهتم‪ ،‬ولقضايا اإلنسانية األهم‬
‫بشكل عام‪ ،‬لعوامل عديدة ال جمال لرشحها يف هذا احل ِّيز‪.‬‬
‫فيكون هذا اجلهد وسيل ًة للتأكيد عىل كامل هذا الدين‪ ،‬ومجاله‪ ،‬والتأكيد عىل أن‬
‫كل ما ُينسب لإلسالم من عكس ذلك‪ ،‬إنام هو حمض افرتاءات‪ ،‬ومغالطة كربى‬
‫يقع فيها الكثريون‪ ،‬وهو إسقاط أخطاء املامرسة عىل األصل النظري‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫منظومة االعتقاد والجوانب العقلية والمعرفية لها في القرآن الكريم‬

‫مدخل‪:‬‬

‫ُتعتَرب قضية االعتقاد أساس الدين اإلسالمي‪ ،‬وأساس أية ديانة أخرى‪ ،‬سواء‬
‫أكانت الديانات ا ُمل َّنزلة من َلدُ ن اهللِ تعاىل‪ ،‬أو الديانات الوضعية التي ظهرت يف‬
‫بعض املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬عرب التاريخ‪ ،‬استنا ًدا إىل أفكار وفلسفات برشية‬
‫مزجا بني بعض املحتوى املوجود يف الديانات ا ُمل َّنزلة واألفكار البرشية‪.‬‬
‫خالصة‪ ،‬أو ً‬
‫فاالعتقاد هو الذي األساس الذي تستند إليه بالكامل‪ ،‬منظومة األفكار‬
‫والسلوكيات التي يتحرك وفقها اإلنسان يف حياته‪ ،‬وحتكم تصوراته عن الدنيا‪،‬‬
‫وعن دوره فيها‪ ،‬وعالقاته مع اآلخرين‪ ،‬أ ًّيا كان شكل وحمتوى هذا االعتقاد‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم؛ فإننا نجد اهتام ًما وثي ًقا هبذه املسألة‪ ،‬يف إطار ُص ْلب حمتوى‬
‫االعتقاد وفق التصور اإلسالمي‪ ،‬وهو توحيد الربوبية واأللوهية‪ ،‬وتوحيد‬
‫العلية‪ ،‬اإلله والرب الواحد األحد‪ ،‬خالق‬
‫الصفات واألسامء احلسنى هلل‪ ،‬الذات َّ‬
‫الساموات واألرض‪ ،‬ومدبرمها‪ ،‬وبالتايل؛ األحق وحده بالعبادة‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬ويف ظل َك ْون القرآن الكريم‪ ،‬هو األداة أو الوعاء الذي اختاره‬
‫اهلل عز وجل حلفظ تعاليمه ورشيعته إىل أن يشاء ويرفعها من عىل األرض‪ ،‬فإن اهللِ‬
‫إطارا ُك ِّل ًّيا متكام ً‬
‫ال‪ ،‬ومنظومة شاملة‪ ،‬عقلية ومعرفية‪ ،‬يف‬ ‫سبحانه وضع يف كتابه ً‬
‫شأن مسألة االعتقاد‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فمن خالل قراءة يف التصنيفات املوضوعية آليِ ِّ‬


‫الذ ْكر احلكيم؛ فإننا سوف‬
‫األساس ْيني بمشتمالت ك َل ْيهام تضمن آالف اآليات القرآنية‪ ،‬ومئات‬
‫َ‬ ‫نجد أن َ‬
‫هذ ْين‬
‫السياقات التي تعرب عن مسألة االعتقاد بكل جوانبها‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬وحتى من خالل مؤرشات إحصائية موضوعية رصفة؛ فإنه يمكن‬
‫القول – وهي نقطة تأسيسية شديدة األمهية يف موضوع الرد عىل املشككني يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬ودعاة اإلحلاد بدرجاته املختلفة التي تعرفنا عليها يف مواضع سابقة من‬
‫األحاديث – إن اإلسالم هو الديانة التي قدمت يف إطار مدوناهتا‪ ،‬سواء القرآن‬
‫الس َّنة النبوية؛ أوضح وأشمل تصور عن العقيدة بكل‬
‫الكريم أو حتى صحيح ُّ‬
‫املشتمالت التي يتضمنها هذا املوضوع‪.‬‬
‫ويكفي يف هذا اإلشارة إىل أن هذه القضية ُمت ََض َّمنة حمتوى عقيدة التوحيد‪ ،‬كانت‬
‫املك َّية بالكامل من القرآن الكريم‪ ،‬والذي استمر‬ ‫هي املحتوى األسايس للمرحلة ِّ‬
‫كيا بعد فتح مكة كذلك‬
‫الوحي يف النزول به ألكثر من ‪ 13‬عا ًما؛ حيث نزل وح ًيا َم ًّ‬
‫يف العام الثامن للهجرة‪ ،‬كان حمتواه ًّ‬
‫مهم للغاية يف صدد مسألة العقيدة بعد سنوات‬
‫من اهتامم الوحي بعملية تأسيس املجتمع والدولة يف املدينة املنورة‪.‬‬
‫وحتى ما يتصل ببعض األمور التي قد تبدو يف تصنيفها املوضوعي املبارش غري‬
‫خمتصة بناحية العقيدة؛ فإهنا تضمنت الكثري من األمور يف التفاصيل‪ ،‬ختص قضية‬
‫َّ‬
‫عقيدة التوحيد‪ ،‬بام يف ذلك َق َصص األنبياء والقصص القرآين بشكل عام؛ حيث‬
‫املتنوع‪ ،‬قضايا مهمة عن العقيدة‪ ،‬سواء‬
‫أبرز القصص القرآين بمحتواه املوضوعي ِّ‬

‫‪259‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ما خيص حمتوى العقيدة‪ ،‬وهو التوحيد‪ ،‬ووجود اإلله والرب الواحد اخلالق واملد ِّبر‬
‫هلذا الكون‪ ،‬أو ما يتعلق بجهود تبليغ هذه العقيدة‪.‬‬
‫وتنبني هذه املنظومة عىل أساس َي ْي‪.‬‬
‫األساس األول‪ ،‬املحتوى الذي خيص العقيدة‪ ،‬والثاين‪ ،‬املحتوى الذي خيص‬
‫االعتقاد‪ ،‬أو ما نقصد به اإليامن وااللتزام هبذه العقيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬املنظومة العقلية واملعرفية للعقيدة‪:‬‬
‫يف األساس األول‪ ،‬فإن القرآن الكريم تضمن مئات اآليات القرآنية التي تتكلم‬
‫عن أهم ركن من أركان العقيدة‪ ،‬وهو وجود اهلل عز وجل‪ ،‬ثم أدلة وحدانيته‪ ،‬وأنه‬
‫ال خالق وال ُمد ِّبر هلذا الكون إال هو تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫كذلك اهتم القرآن الكريم يف هذا املقام‪ ،‬باحلديث عن صفات اهلل عز وجل‪،‬‬
‫وأسامئه ُ‬
‫احلسنى‪.‬‬
‫والقضية األخرية غري واضحة لعوام املسلمني؛ حيث البعض يتصور أن أسامء‬
‫أمر عىل أكرب قد ٍر‬ ‫اهلل ُ‬
‫احلسنى إنام يف إطار "الزينة" وفق املفهوم البرشي‪ ،‬بينام هي ٌ‬
‫تفرد هبا‬
‫احلسنى تتضمن الصفات والسامت التي َّ‬ ‫من األمهية؛ حيث إن أسامء اهلل ُ‬
‫اخلالق عز وجل‪ ،‬يف طالقة حمتواها ودالالهتا؛ حيث هو الكبري املطلق‪ ،‬والعظيم‬
‫املطلق‪ ،‬والعزيز املطلق‪ ،‬والرمحن الرحيم املطلق‪ ،‬وتؤكد بالتايل‪ ،‬أنه هو املعبود‬
‫الوحيد األحق بالعبادة‪.‬‬
‫وهذا ينقلنا إىل النقطة الثانية يف هذه املنظومة‪ ،‬وهي العبادة؛ حيث هي ال تنفصل يف‬
‫رب ٍ‬
‫وإله للكون‪ ،‬وتوحيده‪.‬‬ ‫اإلطار العام هلا عن اآليات القرآنية التي تناولت قضية وجود ٍّ‬

‫‪260‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فصلب إدراكنا لوجوده سبحانه‪ ،‬هو أن نعبده‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ‬


‫ُ‬
‫ورة "الذاريات" – اآلية ‪]65‬؛ حيث اجلانب العميل‬
‫[س َ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ ُ‬
‫أو التطبيقي لالعتقاد بالوحدانية‪ ،‬والتعبري عنه بشكل سليم‪ ،‬هو العبادة وفق‬
‫شطر ْي‬
‫َ‬ ‫املنظومة التي أوضحها القرآن الكريم واملامرسة النبوية‪ ،‬وهي التي تكمل‬
‫اإليامن؛ حيث اإليامن يف جذره‪ ،‬اعتقاد وعمل باألساس‪.‬‬
‫يتصل بذلك نقطة الدعوة؛ حيث إن كل مسلم منوط به الدعوة إىل دين اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬بأية صورة من الصور‪ ،‬حتى ولو كان بتقديم النموذج الصالح لإلنسان أمام‬
‫اخلي‪ ،‬قد متت صناعته من خالل منظومة‬
‫اآلخرين‪ ،‬والتأكيد عىل أن هذا النموذج ِّ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وهذا كله يتصل بقضية الرشيعة وأحكامها‪ ،‬وهي نقطة واسعة يف القرآن الكريم‪،‬‬
‫ركزت عليها‪ ،‬مثل "فتح‬ ‫لدرجة أن بعض التفاسري قد ُو ِضعت لكتاب اهلل تعاىل‪ ،‬قد َّ‬
‫القدير" لإلمام الشوكاين‪ ،‬و"اجلامع ألحكام القرآن" لإلمام القرطبي‪ ،‬وكالمها من‬
‫شيوعا لدى املسلمني منذ وضعهام‪.........‬‬
‫ً‬ ‫أهم وأكثر التفاسري‬
‫ال يف هذه املسألة؛ حيث تضمن أحكام‬ ‫واضحا وشام ً‬
‫ً‬ ‫والقرآن الكريم كان‬
‫احلالل واحلرام‪ ،‬واألوامر والنواهي يف خمتلف األمور‪ ،‬ثم جاءت املامرسة النبوية‬
‫رشوحا ملا جاء يف القرآن الكريم يف هذا الصدد‪.‬‬
‫ً‬ ‫لكي تقدم‬
‫واضح وعام وشامل‪ ..‬فيقول اهلل تعاىل مث ً‬
‫ال‪﴿ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫واخلطاب القرآين يف هذا ا ُملقام‬
‫ورة "األنعام" – من اآلية‬
‫[س َ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‪ُ ﴾........‬‬
‫‪ ،]151‬ثم تسري بعد ذلك اآليات شديدة الوضوح والعموم لتحقيق غاية ربانية‪،‬‬

‫‪261‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهي صالحية القرآن والرشيعة لكل زمان ومكان‪ ...﴿ ..‬ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ‬
‫ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﴾‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬املنظومة العقلية واملعرفية لالعتقاد وااللتزام بعقيدة التوحيد‪:‬‬
‫ً‬

‫األساس الثاين يف هذه املنظومة‪ ،‬هو قضية االعتقاد ذاته من جانب اإلنسان‪ ،‬ويف‬
‫هذا املجال؛ فإن القرآن الكريم قد أتى بنموذج شامل غري موجود يف باقي الديانات‪،‬‬
‫وهو نموذج يؤكد أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل الكريم‪ ،‬الذي خلق العباد؛ حيث‬
‫إن النموذج الذي طرحه يف هذا الصدد‪ ،‬يؤكد ما جاء يف اآلية الكريمة التي يقول‬
‫ورة "ا ُمل ْلك" – اآلية‬
‫[س َ‬
‫اهلل تعاىل فيها‪﴿ :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾ ُ‬
‫‪.]14‬‬
‫ففي إطار الدراية الر َّبانية باإلنسان‪ ،‬الذي هو خلق من ِ‬
‫خلق اهلل سبحانه؛ فإن‬
‫اهلل تعاىل يف القرآن الكريم وضع نقطت َْي أساسيت َْي يف هذا األمر‪ ،‬األوىل‪ ،‬حرية‬
‫االعتقاد‪ ،‬والثانية اإلتيان باألدلة العقلية عىل وجود اخلالق عز وجل الذي سوف‬

‫‪262‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يعبده اإلنسان‪ ،‬ويط ِّبق رشيعته‪ ،‬التي هي أوامره ونواهيه تبارك وتعاىل‪ ،‬بموجب‬
‫هذا االعتقاد‪.‬‬
‫وكالمها‪ ،‬احلرية والعقل‪ ،‬مها مناطا التكليف بحسب علامء أصول الدين‪.‬‬
‫ال يف نقطة إثبات وجود اهللِ عز وجل؛ فإنه يف مقابل حقيقة قصور حواس‬
‫فمث ً‬
‫اإلنسان عن إدراك اهلل – ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ورة "األنعام" – اآلية ‪– ]103‬؛ فإنه يأيت بالدليل الذي يقبله‬
‫[س َ‬
‫ﭮ ﭯ﴾ ُ‬
‫العقل عىل وجود اهلل تعاىل‪ ،‬وعىل وحدانيته‪.‬‬
‫مرة فيام يتعلق بسياق‬
‫فهناك عبارة قرآنية مهمة وردت ما يقرب من ثالثني َّ‬
‫عقليا؛ وهي عبارة‪﴿ :‬ﮟ‬
‫موضوعي معني‪ ،‬وهو إثبات وجود اخلالق عز وجل ًّ‬
‫ﮠ﴾‪ ،‬مثل‪﴿ :‬ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ورة "الروم" – اآلية ‪ ،]22‬ويف ذات‬
‫[س َ‬
‫ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﴾ ُ‬
‫املعنى‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ‬
‫ورة " ُف ِّص ْ‬
‫لت" ‪ -‬اآلية ‪.]53‬‬ ‫[س َ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ ُ‬
‫ويف مسألة الوحدانية؛ فإن القرآن الكريم أتى بأدلة عقلية ال يمكن دحضها‬
‫ٍ‬
‫منطق‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬ ‫بأي‬
‫أيضا‪﴿ :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ورة "اإلرساء" – اآلية ‪ ،]42‬وقوله ً‬
‫[س َ‬
‫ﮉﮊ ﴾ ُ‬
‫ورة "األنبياء" – اآلية‬ ‫ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ ُ‬
‫[س َ‬
‫‪ ،]22‬و﴿ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬

‫‪263‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ورة "املؤمنون" – اآلية‬ ‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾ ُ‬


‫[س َ‬
‫‪.]91‬‬
‫بل إن اهلل تعاىل حرص عىل أن يثبت واحدية مصدر القرآن ذاته؛ حيث إن هذا‬
‫هو أساس منظومة االعتقاد‪ ،‬يف ظل مركزية الكتاب‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﭻ ﭼ‬
‫ورة "النِّساء"‬
‫[س َ‬
‫ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ ُ‬
‫– اآلية ‪.]82‬‬
‫وحتى يف قضايا اإليامن وأركانه‪ ،‬مثل البعث واآلخرة؛ نجد املنهج العقيل‬
‫واضحا‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ً‬
‫[سورة‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾ ُ‬
‫"يس"]‪.‬‬
‫اجلانب اآلخر من هذا األساس املهم‪ ،‬هو حرية االعتقاد؛ حيث ال تكليف‬
‫وبالتايل؛ ال حماسبة من دون حرية‪ ،‬وهنا نجد يف القرآن الكريم ما يؤيد ذلك‪..‬‬
‫فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ‬
‫ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﴾‬
‫ورة "البقرة" – اآلية ‪.]256‬‬
‫[س َ‬
‫ُ‬
‫وال ينفصل عن ذلك قضية املحاسبة؛ حيث إن القرآن الكريم أكد بكل وضوح‬
‫مسلم كان أو غري مسلم‪ ،‬وعىل أي يشء؛ عقيد ًة أو عم ً‬
‫ال‬ ‫ً‬ ‫عىل أن حماسبة اإلنسان –‬
‫– هي اختصاص أصيل هلل عز وجل؛ ال ينازعه فيه أحدٌ من خلقه‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فحتى ُر ُسلِ اهلل تعاىل؛ جاء يف القرآن الكريم بوضوح‪ ،‬أن ما عليهم حماسبة‬
‫الناس أو إجبارهم عىل اإليامن باهلل تعاىل‪ ،‬وهذا األمر من ش َّق ْي؛ األول‪ ،‬أن ما‬
‫الر ُسل‪ ،‬وبالتايل الدعاة والعلامء الذين هم ورثة األنبياء؛ ﴿ﭰ ﭱ ﭲ﴾‪،‬‬
‫عىل ُّ‬
‫مرة يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫وهي عبارة وردت ‪َّ 11‬‬
‫ومنها قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ‬
‫ورة "النحل" – اآلية ‪ ،]35‬وقوله عز‬
‫[س َ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ ُ‬
‫وجل‪ ﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ورة "املائدة" – اآلية ‪.]92‬‬
‫[س َ‬
‫ﮄﮅ﴾ ُ‬
‫الشق الثاين‪ ،‬التأكيد عىل أن حساب الناس‪ ،‬مؤمنيهم ُ‬
‫وك َّفارهم‪ ،‬عىل اهلل تعاىل‬
‫فحسب‪ ،‬والقرآن الكريم وردت فيه آيات عدة تؤكد هذا املعنى بشكل واضح‪،‬‬
‫ورة "الشعراء" – اآلية‬
‫[س َ‬
‫مثل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ُ‬
‫‪.]113‬‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري؛ فإن هذا األمر‪ ،‬هو مبحث كامل‪ ،‬يتطلب دراسات أعمق يف القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬واستخراج املعاين املختلفة آلياته التي شكلت فيام بينها هذه املنظومة‬
‫املتكاملة لالعتقاد‪ ،‬والتي ُتعترب ُص ْلب دين اإلسالم‪ ،‬وتتصل هبا خمتلف األفرع‬
‫األساسية للدين‪ ،‬بام يف ذلك الرشيعة واألحكام‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تشوه المفاهيم الحضارية لدينا!‬


‫ُّ‬ ‫عن الغرب وع َّنا‪ ..‬قراءة في إشكالية‬
‫ليس من الصحيح االستكانة إىل التصورات السلبية ً‬
‫دائم‪ .‬وهي حقيقة موجودة‬
‫يف الدراسات العمرانية‪ ،‬وحتى يف دروس التنمية البرشية؛ حيث إن األهم من جلد‬
‫الذات‪ ،‬هو توصيف الوضع بشكل سليم‪ ،‬ووضع البدائل املالئمة‪ ،‬ثم البدء يف املعاجلة‪.‬‬
‫وهو منهج مطلوب بشدة عند دراسة حالة الرتاجع احلضاري التي تعاين منها‬
‫رشفها ُ‬
‫اهلل تعاىل‬ ‫األمة املسلمة يف عرصنا احلايل‪ ،‬ويف القلب منها أمة العرب التي َّ‬
‫باستقبال واحتضان آخر وأعظم وأكمل رساالته‪ ،‬وهي رسالة اإلسالم‪.‬‬
‫فدراسة هذه احلالة من دون النظر إىل تاريخ العرب واملسلمني احلضاري‪ ،‬وما‬
‫مجيعا‪ ،‬واعرتف‬
‫قامت به الدول اإلسالمية املتعاقبة من إنجازات حضارية نفخر هبا ً‬
‫وسجلها يف مدوناته‪ ،‬يف الوقت الذي كانت أوروبا – مهد احلضارة‬
‫هبا العامل بأرسه‪َّ ،‬‬
‫الغربية احلالية –تعيش عصور ختلف وانحطاط وظالم؛ سوف يقود إىل حالة من‬
‫اليأس‪ ،‬والسيام عند مقارنة حارضنا بحارض الغرب املزدهر حال ًيا‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن الوقوف عىل املايض يف هذه احلالة؛ سوف جيعلنا يف وضعية أكثر‬
‫ً‬
‫فهم لواقعنا‪ ،‬وهي قاعدة شديدة األمهية يف العلوم االسترشافية؛ حيث إن أهم‬
‫أدوات استرشاف املستقبل‪ ،‬هي دراسة املايض‪.‬‬
‫ويف احلالة التي نناقشها يف هذا املوضع من احلديث؛ فإن هذه الدراسة التي تدخل‬
‫يف إطار تصنيف الدراسات الدراسات "‪ "Retinal studies‬أو الـ"‪"Retro studies‬‬

‫‪266‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تسمح بفهم عوامل التقدم والرتاجع احلضار َي ْي‪ ،‬ومن خالل منظومة مقا ِرنة بني‬
‫ُّ‬
‫والتأخر احلضاري؛ العرب واملسلمون حال ًيا‪ ،‬والغرب يف مرحلة‬ ‫َ‬
‫نمط ْي للتخلف‬
‫َ‬
‫ونمط ْي للتقدُّ م احلضاري واملديني؛ العرب واملسلمون يف‬ ‫ما قبل عصور التنوير‪،‬‬
‫املايض‪ ،‬والغرب حال ًيا‪.‬‬
‫كام أن الدرس املهم للغاية من ذلك‪ ،‬هو أن ندرك ُس َّنة التداول‪ .‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫ورة "آل عمران" – من اآلية ‪.]140‬‬
‫[س َ‬
‫﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ ُ‬
‫والغرض منها‪ْ ،‬‬
‫أن نفهم أنه ليس ملجرد أن نقول بأ َّنا مسلمون؛ سوف نسود‬
‫العامل‪ ،‬وإنام هناك قوانني حاكمة وضعها ر ُّبنا سبحانه وتعاىل يف خلقه‪ ،‬جيب علينا‬
‫اتباعها وااللتزام هبا‪ ،‬من أجل العودة إىل السؤدد والقيادة‪.‬‬
‫ثمة مالحظة مهمة هنا يف هذه اآلية‪ ،‬وهي أن استيفاء رشط اإليامن؛‬
‫ولكن َّ‬
‫يقود مجاعة املسلمني إىل التقدم والتطور‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ﴾‪ ..‬فالرابط هنا قائم بني ُس َّنة التداول‪ ،‬وبني استيفاء املسلمني‬
‫لرشوط اإليامن‪ ،‬وبذل اجلهد‪﴿ ..‬ﯨ ﯩ ﯪ﴾﴾‪.‬‬
‫وأول ملمح من مالمح قضية الرتاجع احلضاري لدى املسلمني‪ ،‬والعرب يف‬
‫الكرام رضوان‬
‫قلب األمة‪ ،‬وهي حقيقة أكدها احلديث النبوي‪ ،‬وأقوال الصحابة َ‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬هي إشكالية فهم ومن َث َّم تطبيق‪ ،‬املفاهيم احلضارية‪،‬‬
‫بالس َّلم القيمي‪ ،‬وهي ثالث مفاهيم أو قيم أساسية‪،‬‬
‫عرف ُّ‬
‫املفاهيم األساسية‪ ،‬أو ما ُي َ‬
‫وهي‪ :‬العدالة واملساواة واحلرية‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهي قيم ختتلف يف ترتيبها وترتيب أولويتها عىل األخرى بني النظريات‬
‫األساسية التي حتكم العامل يف الوقت الراهن‪ ،‬وفق ما اتفقت عليه كتب الفكر‬
‫ِ‬
‫املعاص‪ ،‬وهي‪ :‬اإلسالم‪ ،‬والليربالية‪ ،‬واالشرتاكية‪.‬‬ ‫السيايس‬
‫ففي اإلسالم تأيت العدالة ثم املساواة ثم احلرية‪ ،‬بينام يف الليربالية‪ ،‬تأيت احلرية ثم‬
‫العدالة فاملساواة‪ ،‬بينام يف االشرتاكية تقف املساواة عىل رأس اهلرم‪ ،‬ثم العدالة‪ ،‬ثم‬
‫احلرية‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال‪ ،‬هناك قيمة عظمى ما فوق هذه القيم يف اإلسالم‪ ،‬وهي قيمة‬
‫التوحيد‪ ،‬وإقامتها من خالل إنفاذ أحكام الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬ولكن ما دون‬
‫التوحيد؛ تشرتك األيديولوجيات – ً‬
‫جمازا – الثالث السابقة يف هذه القيم‪ ،‬وإن‬
‫اختلفت يف ترتيبات‪.‬‬
‫مكوننا القيمي واملفاهيمي‪ ،‬ويف عقيدتنا‪ ،‬عنهم؛ إال ان‬
‫يف الغرب‪ ،‬ومع اختالف ِّ‬
‫هناك لدهيم ميزة أهلتهم لتصدُّ ر املشهد احلضاري العاملي‪ ،‬وهي فهمهم‪ ،‬ومن َث َّم؛‬
‫كفاءة تطبيقهم للقيم التي يؤمنون هبا‪ ،‬ويعيشون هبا‪.‬‬
‫ففي قضية احلرية‪ ،‬وهي من بني أهم األمور اجلدلية التي تشغل بال العاملني‬
‫يف حقل العمل اإلسالمي‪ ،‬وساحاتنا الفكرية بشكل عام‪ ،‬عندما نقف أمامها يف‬
‫بمعنى أدق‪ ،‬هي بخالف تلقينا نحن كعرب‬
‫ً‬ ‫الغرب؛ نجد أهنا خالف ما نظنه‪ ،‬أو‬
‫ومسلمني‪ ،‬وفق منظومتنا القيمية واألخالقية‪ ،‬وبام لنا من خلفيات وبيئات ِ‬
‫حمافظة‬
‫كذلك‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فاحلرية الفردية‪ ،‬وهي قيمة مقدسة تصل إىل مستوى االعتقاد يف الغرب‪ ،‬هي‬
‫ممارسة منضبطة‪ ،‬وليست منفتحة أو منفلتة كام يتصور البعض‪ .‬فهي منضبطة‬
‫باإلطار القانوين‪ ،‬وبضوابط املجتمع القوي القادر عىل الدفاع عنها‪.‬‬
‫يف الغرب ال يمكنك أن تسري بميكروفون يف الشارع‪ ،‬أو تستخدم يف بيتك –‬
‫حتى بيتك‪ ،‬مكانك اخلاص – مكنسة كهربائية يزيد صوهتا عىل مستوى معني‬
‫من الديسيبل "وحدة قياس شدة الصوت"‪ ،‬وفق قواعد حددهتا قوانني االحتاد‬
‫األورويب رصاح ًة‪.‬‬
‫العرف هناك – بعد الساعة العارشة مساء‪ ،‬ال يمكنك بحال‪ ،‬أن‬
‫بل إنك – وفق ُ‬
‫شخصيا داخل بيتك بحيث تزعج اجلريان‪ .‬يف حينه سوف ت َّتهم‬
‫ًّ‬ ‫ترفع صوتك أنت‬
‫بعدم االتزان النفيس!‬
‫يف الغرب من املستحيل أن تسري يف الشارع زاع ًقا بسيارتك أو دراجتك‬
‫البخارية‪ ،‬أو تتجاوز خطوط املشاة‪ ،‬أو حدود الرسعة والطريق‪ .‬هناك يمكنك أن‬
‫تسب جارك‪.‬‬
‫تسب رئيسك‪ ،‬ولكن ال يمكنك أن َّ‬ ‫َّ‬
‫لكن‪ .‬كيف نظن نحن احلرية الفردية؟‪ ..‬كام نرى من فوىض يف بيوتنا وشوارعنا‪.‬‬
‫إ ًذا؛ نحن لسنا أكثر حرية منهم‪ ،‬بل إننا يف الواقع‪ ،‬فوضويون‪.‬‬
‫هم تقدموا ع َّنا‪ ،‬ألهنم يفهمون احلرية‪ ،‬بمكوناهتا كافة‪ ،‬بينام نحن نعتقد أن احلرية‬
‫هي صنو الفوىض‪.‬‬
‫من بني معامل هذه اإلشكالية ً‬
‫أيضا‪ ،‬قضية جتنيبنا العقل بالرغم من أن القرآن‬
‫الكريم ذاته‪ ،‬دعا إىل إعامله يف أهم قضية من قضايا الدنيا‪ ،‬وهي قضية معرفة‬

‫‪269‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وجود اخلالق عز وجل‪ ،‬وتأكيد وحدة ربوبيته‪ ،‬ووحدة ألوهيته‪ ،‬وأحقيته باألسامء‬
‫العلية‪.‬‬
‫والصفات َّ‬
‫واخلطأ هنا هو أننا ج َّنبنا العقل لصالح الغيبيات‪ ،‬واعتربنا أن ذلك من اإليامن‪،‬‬
‫وأدى ذلك إىل سيادة نوعيات من عقليات اخلرافة والدروشة‪ ،‬وهي صنو التخلف‬
‫الذي هنى عنه اإلسالم؛ حيث اإلسالم هو أكرب ثورة عمران وبناء عرفها التاريخ‪،‬‬
‫حتيزات باعتبار أننا مسلمني‪ ،‬ونفخر بذلك‪.‬‬
‫من دون مبالغات‪ ،‬ومن دون ُّ‬
‫نحكم الدين بشكل صحيح؛ أقمنا أعظم‬ ‫والدليل عىل ذلك‪ ،‬أننا عندما ُك َّنا ِّ‬
‫ال‪ .‬لآلن‪ ،‬شعراء وفالسفة الغرب‪،‬‬ ‫احلضارات التي عرفتها اإلنسانية‪ ،‬وأكثرها عد ً‬
‫يتغ ُّنون بحضارة األندلس‪ ،‬ويرسمون حدائقها الغ َّناء وعمراهنا الباذخ يف لوحاهتم‪،‬‬
‫ويدرسون علومها يف جامعاهتم‪ ،‬وإىل اآلن‪.‬‬‫ِّ‬
‫وخصوصا يف جماالت‬
‫ً‬ ‫وهذا باملنطق؛ يعني أسبقية احلضارة اإلسالمية بدرجات‪،‬‬
‫أمر مل يكن ليحدث‪ ،‬لوال أن طبقت‬ ‫العمران األهم‪ ،‬وهي التعايش‪ ،‬والبناء‪ ،‬وهو ٌ‬
‫احلضارة اإلسالمية أول قيمة يف ُس َّلم القيم الذي أرشنا إليه‪ ،‬وهي العدالة‪.‬‬
‫وبينام ختلينا نحن عن هذه العقلية؛ أقام الغرب حضارته عىل العقل واملنطق‪..‬‬
‫هناك جتد االتساق مع الذات‪ .‬حتى اجلريمة واالنحرافات؛ هلا قواعدها املنطقية‬
‫الناظمة هلا‪.‬‬
‫فعندما َع ِمل الشاعر الفرنيس آرثور رانبو يف جتارة العبيد‪ ،‬ترك الشعر‪ .‬هكذا‬
‫ببساطة؛ ألن الشعر كمامرسة إنسانية ال يتفق أبدً ا يف جوهره األخالقي والقيمي‬
‫مع جتارة الرقيق‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يزعم‬
‫بمعنى أدق – هناك الذي ُ‬
‫ً‬ ‫لكن لدينا يف جمتمعاتنا؛ هناك املتدِّ ين‪ ،‬أو –‬
‫أنه ُمتَد ِّين‪ ،‬ويامرس أبشع ألوان االنحرافات األخالقية‪ .‬هذا ليس ألنه رشير أو‬
‫ريا يف مفاهيمه وتصوراته لألمور‪ .‬هناك التد ُّين‪ /‬أو‬ ‫كذا‪ ،‬ولكن ألن هناك خل ً‬
‫ال كب ً‬
‫االنحراف‪ /‬أو اإلحلاد حتى‪ ،‬هو منظومة‪ ،‬ال جيب أن تقوم بأمور تتناقض معها‪.‬‬
‫بل إنه حتى يف مذاهب شاذة مثل املذهب األبيقوري‪ ،‬وهو مذهب فلسفي‬
‫وثني يف جوهره العقيدي‪ُ ،‬يعيل من شأن اللذة احلسية‪ ،‬ويمنح أتباعه احلرية املطلقة‬
‫يف ممارسة ألعن ما يمكن أن نتصوره كمسلمني‪ ،‬وتتصوره الفطرة السليمة‪ ،‬من‬
‫حسية‪ .‬يف حمافل هذا املذهب الذي ظهر يف اليونان القديمة؛ مل نجد لوحات‬
‫ملذات ِّ‬
‫تشري إىل وجود راهبة أو ناسك يف حمافل يامرس أصحاهبا شهواهتم بحرية كاملة‪،‬‬
‫وعندما فعل رهبان بيندكتبويرن األملان ذلك يف القرن الثالث عرش امليالدي؛‬
‫عرف يف الديانة املسيحية باحلرمان الكنيس‪.‬‬
‫طردهتم الكنيسة‪ ،‬وقامت معهم بام ُي َ‬
‫ويف الواليات املتحدة اآلن؛ نجد آالف املذاهب والكنائس التي متزج بني‬
‫املسيحية وديانات وعقائد وثنية‪ .‬هذه ال تعرتف هبا الكنائس الكربى املعتمدة‪،‬‬
‫الكاثوليكية أو الربوتستانتية أو اإلنجيلية‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫ويف األخري؛ فإننا بحاجة إىل برامج تربوية وإعالمية‪ ،‬ومنهجية تلقني وتنشئة‪،‬‬
‫تضع يف أذهان املسلمني‪ ،‬أطفاهلم وعوامهم‪ ،‬بل وحتى نخبتهم املهتزة‪ ،‬جوهر‬
‫املفاهيم التي انبنت عليها حضارة اإلسالم ذات يوم‪ .‬أن نفهم معنى العدالة‪ ،‬ومعنى‬

‫‪271‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املساواة‪ ،‬ومعنى احلرية‪ ،‬وأن نطبق تلك القيم بشكلها السليم؛ ال وفق هوانا‪ ،‬ويف‬
‫ً‬
‫مسوخا‪.‬‬ ‫إطار منظومة متجانسة ومتكاملة‪ ،‬وإال أصبحنا‬
‫كام أننا ال جيب أن ننبهر بالتقدم احلضاري احلايل يف الغرب‪ .‬هم لدهيم انحرافات‬
‫عميقة عن املنهج احلضاري السليم‪ ،‬وحيملون بذور فنائهم‪ ،‬وال جيب أن نضع العلم‬
‫املادي كمظهر وحيد للتقدُّ م احلضاري‪ .‬هذا كذلك خلل مفاهيمي لدينا كعرب‬
‫ومسلمني ينبغي لنا معاجلته‪ ،‬ألنه ِ‬
‫حيدث أخطاء لو حاولنا اإلصالح‪ .‬فالقصة‬
‫ليست قصة مراكز بحثية واكتشافات طبية وفضائية‪ .‬األمر أعمق من ذلك؛ حيث‬
‫يرتبط بالترشيع والواقع املجتمعي‪ ،‬واألمور التأسيسية أو األصولية‪.‬‬
‫كام أننا لو وقفنا أمام التقدُّ م العلمي فحسب؛ فسوف نخاف منهم‪ .‬سوف ينشأ‬
‫ٌ‬
‫خوف مريض منهم‪ ،‬ألن اجلانب القبيح من العلم‪ ،‬منحهم سطوة يف السامء‪،‬‬ ‫لدينا‬
‫وسطوة يف السالح‪ ،‬وسطوة يف عوامل قوة األمة بشكل عام‪.‬‬
‫فالبد – إ ًذا – ِمن تفكيك النموذج احلضاري الغريب‪ ،‬لألخذ بجوانبه اإلجيابية‪،‬‬
‫وتفادي ما فيه من عوارض وعوامل نقص وضعف‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الج ْم ِعي‬
‫قضايا وإشكاالت في العقل اإلسالمي َ‬

‫تأيت مسألة صناعة العقل اجلمعي عىل رأس األمور التي هي عىل أكرب قدر من‬
‫األمهية يف املجتمعات املتقدمة‪ ،‬وحيرص عليها صانع القرار‪ ،‬وأصحاب الكلمة‬
‫والرأي يف املجتمعات‪.‬‬
‫وتتضمن هذه العملية‪ ،‬صياغة األسس الفكرية التي تنطلق منها تصورات‬
‫اإلنسان حول نفسه وحياته‪ ،‬وحول كيفية تعامله مع املسارات املختلفة من حوله‪،‬‬
‫وصو ً‬
‫ال إىل املجتمع الكبري‪.‬‬
‫وتتم عملية بناء األسس واملنطلقات الفكرية‪ ،‬من خالل منظومة متنوعة من‬
‫املسارات التي تقوم بصناعة املفاهيم وغرس القيم‪ ،‬تشارك فيها مؤسسات املجتمع‬
‫املدين‪ ،‬ووسائل التنشئة والتلقني املختلفة‪ ،‬مثل وسائل اإلعالم والتعليم‪ ،‬واآلداب‬
‫والفنون‪ ،‬وما اتصل بذلك‪.‬‬
‫ترسخت عرب قرون طويلة‪ ،‬املظلة‬ ‫َّ‬
‫وشكلت قيم األيديولوجية الليربالية التي َّ‬
‫اجلامعة بني خمتلف املجتمعات والبلدان الغربية‪ ،‬والبلدان التي تسري يف فلك الغرب‪،‬‬
‫أو هلا ذات االنتامء‪ ،‬مثل أسرتاليا ونيوزيلندا عىل سبيل املثال‪ ،‬واللتان خترجان عن‬
‫وأفكارا ونمط حياة‪.‬‬
‫ً‬ ‫النطاق اجليوسيايس لـ"الغرب"‪ ،‬ولكنهام غربيتان ً‬
‫قيم‬
‫شكلت هذه القيم عندما تم توجيهها يف خمتلف مسارات التنشئة‬ ‫وبالتايل؛ َّ‬
‫بمعنى أوضح‪ ،‬توحيد‬
‫ً‬ ‫اجلمعي ْي‪ ،‬أي‬
‫َّ‬ ‫واخلطاب العام‪ ،‬حالة من العقل والوجدان‬
‫املجتمعات الغربية أو التي تسودها القيم الليربالية‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وقبل أن يقول أحدٌ إن هذه املجتمعات ليست ُم َّ‬


‫وحدة يف تفكريها وقيمها؛ حيث‬
‫يوجد فيها رشائح ال بأس هبا من اليمني الشعبوي وأصحاب األفكار اليسارية‬
‫واإلحلادية‪ ..‬إلخ؛ فإن ذلك مردود عليه؛ حيث إن هذه التعددية هي يف حد ذاهتا‬
‫نتاج لطبيعة أو جوهر األيديولوجية الليربالية‪ ،‬والتي تنهض عىل أساس ُس َّلم قيمي‬
‫يبدأ باحلرية يف خمتلف صورها‪ ،‬ثم العدالة فاملساواة‪.‬‬
‫وسعة للغة اخلطاب السيايس واملجتمعي لليمني‬ ‫وبالتدقيق والدراسة ا ُمل َّ‬
‫ال؛ سوف نجد أنه ال توجد خالفات عىل جوهر النظرية الليربالية‪،‬‬ ‫الشعبوي مث ً‬
‫وإنام اخلالفات تكمن يف قضايا سياسية‪ ،‬وملصالح أحزاب وقوى بعينها‪ ،‬ولكن‬
‫ليس عىل أسس منظومة األيديولوجية الليربالية‪.‬‬
‫وهذا وضع ال نعرفه يف بلداننا املسلمة‪ ،‬بالرغم من امتالكنا رشيعة واحدة‪،‬‬
‫ولدينا قبلة واحدة‪ ،‬وكتاب واحد‪ ،‬ويفرض علينا تع ُّلمه وتالوته‪ ،‬مع الصالة‪ ،‬أن‬
‫مجيعا اللغة العربية‪ ،‬ونتقنها‪ ،‬مهام كانت انتامءاتنا القومية‪ ،‬فيام الغرب الذي‬
‫نعرف ً‬
‫يتشكل من أمم وأعراق لدهيا عرشات اللغات واملذاهب الدينية‪ ،‬يقوم عىل عقل‬
‫مجعي شبه ُم َو َّحد ملجرد أيديولوجية‪ ،‬وبعد قرون قضوها يف الرصاعات الدينية‬
‫واملذهبية!‬
‫وأهم أسباب ذلك يف عاملنا اإلسالمي‪ ،‬قضية التفكك إىل دول وطنية ذات‬
‫حدود‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منها له نظام خمتلف يف طبيعته‪ ،‬ويف أولوياته‪ ،‬وبالتايل؛ يتبنى سياسات‬
‫فتض أن يكون للمسلمني موق ًفا‬
‫خمتلفة إزاء القضايا املعروضة عىل األمة‪ ،‬و ُي َ َ‬
‫موحدً ا منها‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪274‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن نافل القول يف هذا املوضع أن نشري إىل قضية الرصاعات واحلروب القائمة‬
‫بني الدول العربية واملسلمة؛ بعضها وبعض؛ حيث خلقت هذه الرصاعات الكثري‬
‫من احلزازات النفسية بني الشعوب‪ ،‬بينام القصة تتعلق بمصالح أنظمة وحكومات‪.‬‬
‫املأساة األكرب‪ ،‬هي أننا كمسلمني‪ ،‬بِ ْتنا – أجيال كاملة م َّنا – ُم ِ‬
‫ستهلكني هلذه‬
‫"لتتبعن‬
‫َّ‬ ‫األفكار‪ ،‬ومتتبعني هلا‪ ،‬حمققني نبوءة الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬التي قال فيها‪:‬‬
‫ضب‬ ‫ٍّ‬ ‫ذراعا حتى لو دخلوا ُج ْحر‬
‫ً‬ ‫وذراعا‬
‫ً‬ ‫ربا‬
‫ربا ش ً‬
‫ُسنَن َمن كان قبلكم ش ً‬
‫التَّبعتموهم" [أخرجه ال ُبخاري]‪ ،‬وكل ذلك بداعي االنفتاح والتنوير‪.‬‬
‫ومن أهم ما يغيب ع َّنا يف هذا اإلطار‪ ،‬حقيقة مهمة‪ ،‬وهي أن النبؤات والرساالت‬
‫ا ُمل َّنزلة من عند اهلل سبحانه‪ ،‬أو ما ُي ِ‬
‫طلق عليه العوام مسمى "الديانات الساموية"‪،‬‬
‫هي أهم بؤر التنوير يف تاريخ اإلنسانية‪.‬‬
‫ألهنا – وآخرها وأ َّمتها وأكملها ديننا احلنيف – دعوات إصالحية من لدُ ْن‬
‫اخلالق‪ ،‬وهو األدرى بخلقه‪ ،‬ولكن دعاة اجلهل والتضليل‪ ،‬وأرباب السياسة‬
‫واملنافع؛ منعوا النور الساموي من االنسياح بني البرش‪ ،‬واستبدلوا الذي هو أدنى‬
‫بالذي هو خري‪.‬‬
‫ونحن كمسلمني‪ ،‬آخر َمن جيب أن يتساءل‪ ،‬أو أن ُن َصاب باحلرية‪ ،‬فلدينا‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬والتي من‬ ‫وم َّ‬
‫وضح يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف ُّ‬ ‫كل يشء‪ُ ،‬‬
‫أهم مصادرها‪ ،‬سرية الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬بكيفية ترصفه يف املواقف املختلفة‪،‬‬
‫ويف األمور العامة للدعوة‪ ،‬ولقضية اإلصالح والتغيري‪ ،‬وخمتلف القضايا ُ‬
‫الك ِّل َّية‬
‫املطروحة عىل املسلمني‪ ،‬وعىل اإلنسانية بشكل عام‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتطرح هذه اإلشكالية‪ ،‬قضية مهمة‪ ،‬وهي اإلصالح الداخيل‪ ،‬وما يتصل هبا يف‬
‫شأن موضوع اإلعداد الذايت‪ ،‬والذي ُيعترب – وفق املنطق العقيل البسيط – أسبق‬
‫ومقدَّ ًما عىل املعركة التي تضع هلا قوى اإلصالح التي تتبنى النهج اإلسالمي‪،‬‬
‫األولوية األوىل يف برناجمها‪ ،‬وهي التدافع ضد الفساد واملفسدين‪ ،‬واالستبداد‬
‫واملستبدين‪ ،‬وضد عوامل الرتدي احلضاري بشكل عام‪.‬‬
‫داخليا؛ سيكون أي ٍ‬
‫جهد يف أي اجتاه من اجتاهات‬ ‫ًّ‬ ‫وذلك ألنه من دون بنية سليمة‬
‫وخارسا‪ ،‬وإصالح اجلامعة املسلمة‪ ،‬أوىل هبذا اآلن‪.‬‬
‫ً‬ ‫التدافع بشكل عام؛ فاش ً‬
‫ال‬
‫وحتى لو أردنا استفادة من جتارب املجتمعات األخرى – وهذا مقبول يف‬
‫حدود الرشادة‪ ،‬وأهم هذه احلدود؛ أال يؤثر ذلك عىل هويتنا‪ ،‬وعىل ثقتنا يف انتامئنا‬
‫اإلسالمي – فلامذا ال نأخذ منهم حقيقة مهمة‪ ،‬وهي أن معركة الوعي والعقل‬
‫اجلمعي؛ هي أهم معارك احلضارة؟!‬
‫فمبدئيا؛ الوعي بشكل عام وحده هو الذي حيقق الفهم‪ ،‬والفهم الصحيح هو‬
‫ًّ‬
‫معيار احلكم السليم عىل األمور‪ ،‬وهو الذي حيدد طرائق التعامل الصحيح مع‬
‫املواقف واألزمات املختلفة‪ ،‬وهو الذي جيعل الصواب صوا ًبا‪ ،‬وجيعل اخلطأ خطأ‪،‬‬
‫وبالتايل؛ نعرف الفساد من الصالح‪ ،‬واإلفساد من اإلصالح‪.‬‬
‫واألهم من ذلك ونفهم ما جيب علينا القيام به من أدوار‪ ،‬وما نحن عليه من‬
‫قصور‪ ،‬وبالتايل؛ فإن الوعي هو صميم وأساس النجاح يف معركة التدافع ضد‬
‫الفساد واخلراب احلضاري‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن الوعي الفردي ال حيقق الكثري‪ ،‬وإنام يتحقق اهلدف الذي َتفيد منه األمة‬
‫احلراك اجلامعي‪ ،‬وهذا ِ‬
‫احلراك اجلامعي‪ ،‬يف ظل القيود واحلدود املوضوعة‬ ‫من خالل ِ‬
‫عىل تواصل املسلمني بالشكل املطلوب‪ ،‬مل يتحقق سوى من خالل العقل اجلمعي؛‬
‫حيث يتحرك كل مسلم حيث هو‪ ،‬بنفس الفكر واألهداف واألولويات‪.‬‬
‫وعندما يتحقق ذلك؛ سوف يظهر عامل املراكمة وأثر الفعل اجلامعي بشكل‬
‫تلقائي‪ ،‬وال يمكن نقضه أو هزيمته بسهولة‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال والظرف؛ فإن ذلك ليس باألمر السهل؛ حيث من دونه الكثري‬
‫من عقبات السياسة واحلدود واالنتامءات العصبية والقومية الضيقة‪ ،‬ولكن منذ‬
‫ب التاريخ؛ كانت املهام األصعب‪ ،‬هي‬
‫فع ْ َ‬
‫متى كانت املهام العظيمة؛ سهلة؟!‪َ ..‬‬
‫كوهنا الفكري والعقدي‪.‬‬
‫مهام إيقاظ املجتمعات من غفلتها‪ ،‬وإصالح ُم ِّ‬
‫وحتى عندما أراد ُ‬
‫اهلل تعاىل االختيار َمن عباده ملهام النبوات والرساالت‪َ ،‬ع ِم َل‬
‫خاصا فوق ما منحهم إياه من قدرات يف األصل‪.‬‬
‫سبحانه عىل إعدادهم إعدا ًدا ًّ‬
‫ورة "طه"‪ ...﴿:‬ﭬ‬
‫ففي قصة نبي اهلل موسى "عليه السالم"‪ ،‬قال تعاىل يف ُس َ‬
‫ورة‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ﴾‪ .‬ومن هذه‬
‫الس َ‬ ‫ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ وقال ً‬
‫أيضا يف ذات ُّ‬
‫أمر ْين‪ .‬صعوبة املهمة‪ ،‬وأمهية اإلعداد‪.‬‬
‫العبارات القرآنية نفهم َ‬

‫‪277‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫سورة "القصص"‬
‫معالم سياسية في ُ‬

‫ُتعترب ُسورة القصص من أهم ُسور القرآن الكريم‪ ،‬التي تناولت يف ثناياها وثنايا‬
‫آياهتا الكثري من معامل ُ‬
‫الك ِّل َّيات التي أتى هبا اإلسالم للتعامل يف األمور والقضايا‬
‫السياسية الكربى التي ُت َ‬
‫عرض عىل األمة‪ ،‬بل وعىل اإلنسانية بأرسها‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬خالل عرضها لقصة‬
‫ولعل من بني أبرز القضايا السياسية التي تناولتها ُّ‬
‫الم"‪ ،‬قضية رصاع احلق والباطل‪ ،‬واالستبداد الذي‬ ‫نبي اهلل‪ ،‬موسى "عليه َّ‬
‫الس ُ‬
‫خيرج من إطار املامرسة السياسية املعتادة لالستبداد واملستبدين‪ ،‬يف َأ ْخ ِذ األرض‬
‫بمن عليها وما عليها‪ ،‬إىل مستوى ادعاء األلوهية‪ ،‬بل والربوبية كام فعل فرعون‪.‬‬
‫َ‬
‫تبدأ السورة ببضعة آيات قليلة العدد‪ ،‬عظيمة القيمة واملعاين‪ ،‬تلخص يف بالغة‬
‫لغوية ُم ِ‬
‫عجزَ ة‪ ،‬رصاع احلق والباطل‪ ،‬وممارسات الباطل يف إطار االستبداد السيايس‬
‫للحاكم يف حق رعيته املستضعفة‪.‬‬
‫يقول رب العزة سبحانه وتعاىل‪ ،‬بعد التقديم الرائع للسورة‪ ﴿ ،‬ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬ‬
‫ﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وكام حتمل هذه اآليات توصي ًفا دقي ًقا حلال ممارسة االستبداد واملستبدين‪،‬‬
‫من استيالء عىل خريات البالد‪ ،‬والتحكم يف العباد‪ ،‬بالشكل الذي يصل إىل حد‬
‫اجلور عىل األعراض واألموال‪ ،‬بل وعىل احلياة اإلنسانية نفسها؛ فإهنا حتمل ً‬
‫أيضا‬
‫البشارات للمؤمنني؛ من أن نرص اهلل تعاىل سيكون حليفهم‪ ،‬مهام طال الزمن‪ ،‬ومهام‬
‫ظن املستبدون والظاملون‪ ،‬أهنم َع َلوا يف األرض‪.‬‬
‫وهناك عدد كبري من الرسائل التي حتملها هذه اآليات‪ ،‬يف هذا السياق الفكري‬
‫والتارخيي‪ ،‬أوهلا أن االستبداد صنو الفساد والظلم َ‬
‫والغي‪ً ،‬‬
‫وأيضا هو صنو الكفر‪،‬‬
‫والتكب‪ ،‬والكفر باملعنى العقيدي‪ً -‬‬
‫أيضا‪-‬‬ ‫ُّ‬ ‫بمفاهيمه املختلفة‪ ..‬الكفر بمعنى العلو‬
‫يف حالة فرعون وهامان وجنودمها‪.‬‬
‫ثاين هذه الرسائل‪ ،‬أن املستضعفني يف األرض عليهم الصرب وإعداد العدة يف‬
‫وخصوصا إذا ما اقرتن برسالة إصالحية‪،‬‬
‫ً‬ ‫مواجهة هذا العلو وهذا االستبداد‪،‬‬
‫حتمل يف آثارها الكثري من التبعات عىل العمران اإلنساين بأكلمه‪ ،‬ومتتد عرب التاريخ‪.‬‬
‫هذه الرسالة السامية ‪ -‬إذن ‪ -‬تستوجب من جانب العاملني يف حقل اإلصالح‬
‫السيايس واملجتمعي والفكري؛ أن يتحملوا ما قد يالقونه عىل أيدي املتجربين‪ ،‬من‬
‫ظلم وقهر‪ ،‬ومهام القوا من صنوف العذاب واهلوان؛ ألن نرص اهلل تعاىل‪ ،‬أكيد؛ ألهنم‬
‫جند اهلل عز وجل؛ ينرصونه‪ ،‬وينرصون رسالته‪ ..‬يقول تبارك وتعاىل‪﴿ :‬ﭺ‬
‫[سورة "احلج"‪ -‬من اآلية ‪.]40‬‬ ‫ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ ُ‬
‫الرسالة الثالثة يف هذا اإلطار‪ ،‬هو أن النرص من عند اهلل العزيز احلكيم‪ ،‬وهو‬
‫م َّنة منه تبارك وتعاىل‪﴿ ..‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﴾‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهي رسالة تواترت يف أكثر من موضع من القرآن الكريم؛ للتأكيد عىل هذه‬
‫الرسالة من اهلل عز وجل لعباده الصاحلني؛ أنه حتى مع اإلعداد والعدة‪ ،‬ومع الصرب‬
‫واألخذ باألسباب؛ فإن النرص يظل منح ًة ِ‬
‫وه َب ًة إهلية‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫[سورة "آل عمران"‪ -‬من اآلية ‪.]126‬‬
‫ﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ ُ‬
‫ويف مقابل هذه البشارات؛ يأيت التحذير اإلهلي للمستبدين؛ بأن عاقبتهم‬
‫وخيمة‪ ،‬بل هي أسوأ العواقب‪ ،‬وهي اهلزيمة واالندحار يف الدنيا عىل أيدي من‬
‫األمر ْين منهم‪ ،‬والعذاب املهني يف اآلخرة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عانوا‬
‫ويف حالة فرعون‪ ،‬نموذج املستبدين والظاملني عرب العصور‪ ،‬ونرباسهم األهم؛‬
‫فإن اهلل تبارك وتعاىل قد أخذه أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬وجعله عرب ًة خالدة يف هذه احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬قبل أن ينال العذاب األليم املهني يف اآلخرة‪ ،‬وهي عاقبة كل ظامل مستبد‪.‬‬
‫ولقد ُرويت هذه القصة أكثر من غريها يف القرآن الكريم عىل أمهيتها‪ ،‬ومن بني‬
‫بتوسع أكرب‪ُ ،‬سورة "يونس"‪.‬‬
‫السور القرآنية التي تناولت هذه التفاصيل ُّ‬
‫ُّ‬
‫يقول رب العزة يف هذا‪﴿ :‬ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ‬
‫ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅ ﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ‬
‫ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتؤكد هذه اآليات ً‬


‫أيضا عىل فكرة أن النرص من عند اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يقع لإلنسان‪ ،‬ولألمة؛ إال لو أراد اهلل تعاىل ذلك‪.‬‬
‫ففي هذه األيات‪ ،‬أعجزت األسباب بني إرسائيل؛ فأتى النرص مبارشة من اهلل‪،‬‬
‫الم"‪ ،‬وأغرق من خلفه آل فرعون‪.‬‬ ‫عندما شق البحر ملوسى "عليه َّ‬
‫الس ُ‬
‫حول الطابور اخلامس واملعوقني َّ‬
‫منا‪:‬‬

‫"و ُن َم ِّك َن‬


‫يف اآلية رقم "‪ "6‬من ُسورة "ال َقصص"‪ ،‬يقول رب العزة سبحانه‪َ :‬‬
‫ون"‪ ..‬من بني‬ ‫ها ِم ْن ُهم َّما َكا ُنوا َي َْذ ُر َ‬ ‫ض َو ُن ِري ِف ْر َع ْو َن َو َها َم َ‬
‫ان َو ُجنُو َد ُ َ‬ ‫َ ُلم ِف َ‬
‫األ ْر ِ‬ ‫ْ‬
‫القراءات التي يمكن تأويل كالم اهلل تعاىل يف إطارها يف هذه الكلامت املعجزات؛‬
‫أن عبارة ﴿ﭘ ﭙ﴾ هنا يمكن أن ُتفهم يف السياق التايل‪ ..‬سياق حتذير‬
‫القرآن الكريم من الطابور اخلامس املوجود بني ظهرانيي أهل الدعوة‪..‬‬
‫إن اهلل تعاىل يف هذه اآلية‪ ،‬واآلية السابقة عليها يتكلم عن ﴿ﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫ﴾‪ ..‬يف هذه اآلية‪ ،‬السادسة‪ ،‬الفهم املبارش يقود إىل أن اهلل تعاىل سوف‬
‫"م ْن ُهم"‪ ،‬أي من الذين استضعفوا يف اآلرض‪،‬‬ ‫ُيري فرعون وهامان وجنودمها‪ِ ،‬‬
‫اآليات و﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾‪..‬‬
‫أي زوال ُملك وطغيان فرعون ومإله عىل أيدي هؤالء املستضعفني‪ ،‬بالرغم‬
‫من كل التدابري التي اختذها فرعون وهامان وجنودمها ملنع وقوع ذلك؛ ألهنا‬
‫تبقى يف النهاية تدابري برشية قارصة‪ ،‬وقدر اهلل تعاىل هو الغالب‪ ،‬وما يريده هو‬
‫النافذ‪..‬‬

‫‪281‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"جنُو َد ُ َ‬
‫ها" هنا‬ ‫إال أن قراءة أخرى للكلامت وتراكيبها؛ تشري إىل أن كلمة ُ‬
‫مرتبطة بكلمة ِ‬
‫"م ْن ُهم"‪ ،‬أي أن جنود فرعون وهامان من بني صفوف بني إرسائيل‪،‬‬
‫أو املوجودين يف أوساط بني إرسائيل‪ ،‬الذين تشري إليهم اآليات بعبارة "ا َّل ِذ َ‬
‫ين‬
‫اس ُت ْض ِع ُفوا ِف َ‬
‫األ ْر ِ‬
‫ض"‪..‬‬ ‫ْ‬
‫واآلية يف هذا السياق تتناول يف دقة بالغة مفهوم أعوان وجنود االستكبار‬
‫جنودا‬
‫ً‬ ‫املوجودين يف أوساط املصلحني يف كل زمان ومكان‪ ..‬وهم قد يكونوا‬
‫مبارشين لنقل األخبار وتثبيط اهلمم ورضب الصفوف‪ ،‬وقد يكونوا من طراز‬
‫﴿ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾ كام ذكر‬
‫اهلل تعاىل يف ُسورة "األحزاب"‪ ،‬يف اآلية "‪.."18‬‬
‫وهناك يف هذا السياق أمر شديد األمهية‪ ،‬وهو أن القوانني التي وضعها اهلل تعاىل‬
‫يف خلقه‪ ،‬قد جعلت أعوان الطغاة والطغيان‪ ،‬جز ًءا منهم؛ ال ينفصل عنهم‪ ،‬بل‬
‫وجعلتهم خد ًما هلم‪.‬‬
‫فالتعبري القرآين‪ ،‬يستخدم عبارة ﴿ﭘ﴾ لوصف حالة أعوان فرعون‬
‫وهامان‪ ،‬وهو وصف ٌّ‬
‫مذل يعرب عن حالة من التبعية‪ ،‬والتي ال يملك املرء‪ -‬إذ‬
‫ارتىض عىل نفسه ذلك‪ً -‬‬
‫فكاكا منها‪.‬‬
‫تابعا‬
‫وهي من أسوأ احلاالت التي يمكن أن يكون عليها اإلنسان؛ عندما يكون ً‬
‫غيب‬ ‫ذلي ً‬
‫ال لقوى الرش والظالم؛ تستخدمه كام تريد‪ ،‬وتفعل به ما تشاء‪ ،‬بينام هو ُم َّ‬
‫اإلرادة‪ ،‬ال يملك من أمر نفسه شيئًا‪ ،‬خاد ًما للشيطان وحزبه‪ ،‬ويف النهاية؛ فإهنم‬
‫يالقون نفس املصري الذي يالقيه أسيادهم‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫معالـم الحضـارة والمدينيـة والعمـران‬
‫الفصل األول‬
‫فـي القـرآن الكريـم‪ ..‬مفاهيـم وتطبيقات‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والوصف القرآين هلم‪ ،‬هلذه الفئة يأيت يف العديد من اآليات يف ُس َو ٍر أخرى‪،‬‬


‫تصور حالة اخلزي والندامة التي يصلون إليها يف الدنيا ويف اآلخرة‪.‬‬

‫ففي ُسورة "األعراف"‪ ،‬يقول اهلل تبارك وتعاىل يف وصف حاهلم ولساهنم يوم‬
‫القيامة‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾‪.‬‬

‫ثم‪ ،‬ويف ُسورة "األحزاب"‪ ،‬يأيت احلديث بشكل أكثر مبارش ًة‪ ،‬فيقول اهلل تعاىل‬
‫عىل لساهنم‪ ﴿ :‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾‪.‬‬

‫فلنحذر أن نتبع سادتنا وكرباءنا الظاملني‪ ،‬ولنحذر أن يكون هؤالء الظاملون من‬
‫األصل‪ ،‬هم سادتنا وكرباءنا‪.‬‬

‫وصدق اهلل تعاىل إذ يقول‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬


‫[سورة "آل عمران"‪ -‬من‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ ُ‬
‫اآلية ‪ ..]7‬ونحن نقول آم َّنا به ٌّ‬
‫كل من عند ربنا‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مفـاهيم حاكمة في فضائنا اإلسالمي‪..‬‬
‫تصحيح وتوضيح!‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"‪ ..‬املتأمل يف أدبيات اجلامعات التي تتبنى تكفري اآلخر املسلم؛ سوف جيد قضية‬
‫مهمة للغاية‪ ،‬يستند إليها اجلميع تقري ًبا يف هذا الصدد‪ ،‬وهي أن اآلخر املسلم ال‬
‫يستند إىل الرشيعة اإلسالمية ‪ -‬وفق فهمه هلا ‪ -‬يف كل ما يقوم ويفعل‪ ،‬ويستند إىل‬
‫قوانني وضعية‪ ،‬أو قواعد فقهية جديدة أقرها فقهاء األمة وعلامؤها الثقات للتعامل‬
‫مع مستجدات الواقع؛ جيد التكفرييون أهنا خترج عن أحكام الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وال تتطابق معها‪ ،‬وبالتايل فهم يك ِّفرون ِّ‬
‫ويفسقون كل من ال يلتزم برؤيتهم للرشعة‬
‫واملنهاج الذي وضعه اهلل عز وجل يف كتابه‪ ،‬وكام طبقه النبي ﷺ تعود هذه األزمة‬
‫إىل جذور عميقة ضاربة يف التاريخ‪ ،‬وبالذات يف عصور التخلف واالنحطاط التي‬
‫اب ُتي َل ْت هبا األمة‪ ،‬وكذلك فرتات االستعامر الطويلة‪ ،‬والتي أدى ‪ -‬كالمها ‪ -‬إىل‬
‫حالة من التخلف الفكري واجلهل‪ ،‬التي فعلت فعلها يف أجيال كاملة من شباب‬
‫األمة‪ ،‬فباتوا عىل هذه الدرجة من سوء الفهم‪ ،‬وعدم القدرة عىل إعامل العقل‪،‬‬
‫وفهم صحيح الدين ومقاصده‪.‬‬

‫إال أننا نقف أمام مشكلة خاصة ترتبط هبذه القضية‪ ،‬وهي وقوف هذه النظرة‬
‫التقليدية للدين ولنصوصه قطعية الثبوت‪ ،‬وقفة مجود وتقليد‪ ،‬وعدم األخذ‬

‫‪287‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بأسباب االجتهاد والتجديد‪ ،‬بحيث يمكن القول إهنا واحد ٌة من أعظم األمراض‬
‫التي ابتليت هبا األمة؛ حيث إن هذه احلالة ِمن َو ْقف العقل عند حدود النص‪ِ ،‬من‬
‫دون إعامل العقل فيه‪ ،‬وغلق باب االجتهاد والتجديد‪ ،‬أدت إىل حالة من الرجعية‬
‫والتخلف‪ ،‬أوصلتها إىل ما هي عليه اآلن من رصاعات داخلية واستعامر وترشذم‪،‬‬
‫وسط طوفان ال ينتهي من دماء أبناء األمة‪ ،‬بيد إخواهنم املسلمني‪ ،‬وبيد أعدائهم‬
‫عىل حد سواء"‪..‬‬

‫‪288‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المعاصرة‬
‫ِ‬ ‫أثر التطرف وفوضى المدارس الفكرية‬
‫على التراث اإلسالمي ومستقبله‬

‫ثمة قضية شديدة األمهية يف الوقت الراهن‪ ،‬ربام ال يتلفت إليها الكثريون‪،‬‬
‫َّ‬
‫ولكنها نوقشت يف مؤمتر "التطرف وأثره السلبي عىل مستقبل الرتاث الثقايف‬
‫العريب"‪ ،‬الذي عقدته مشيخة األزهر يف العاصمة املرصية القاهرة‪ ،‬يف منتصف‬
‫شهر ديسمرب ‪2017‬م‪ ،‬املايض‪.‬‬
‫تتصل هذه القضية التي هي أوسع بشكل كبري من تلك التي ناقشها املؤمتر؛‬
‫بموقف األجيال اجلديدة الصاعدة‪ ،‬والرأي العام غري اإلسالمي‪ ،‬من الرتاث الذي‬
‫يستند إليه املسلمون يف كثري من أمورهم‪.‬‬
‫وهذه القضية ليست من نافلة القول؛ إذ إهنا ترتبط يف قسم كبري منها بعلوم‬
‫القرآن الكريم واحلديث النبوي‪ ،‬ومها الرافدان األساسيان ألحكام اإلسالم‬
‫والرشيعة‪.‬‬
‫وبالتايل ترتبط هذه القضية‪ ،‬بام تراكم عرب قرون طويلة من الزمن‪ ،‬من كتب‬
‫وخصوصا العقيدة والتوحي‬
‫ً‬ ‫ومدونات يف جماالت العلوم الرشعية املختلفة‪،‬‬
‫َّ‬
‫والفقه اإلسالمي واألحكام وتفسري القرآن الكريم‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ويف هذا الصدد؛ تتصل هذه القضية بحزمة من األمور اإلشكالية يف حقيقة‬
‫األمر يف هذه املرحلة‪ ،‬وعىل رأسها قضيتان؛ األوىل هي التطرف الفكري والتطرف‬

‫‪289‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف الدين (ال نقول التطرف الديني؛ ألن التطرف ال يمكن أن يكون من صفاته أنه‬
‫ديني‪ ،‬بل هو تطرف البعض يف فهم وتفسري وتطبيق الدين)‪.‬‬
‫والقضية الثانية‪ ،‬هي قضية فوىض املدارس الفكرية املحسوبة عىل التيار‬
‫عرف باإلسالم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬أو عىل الدين‪ ،‬والتي ترتبط يف الغالب بجامعات ما ُي َ‬
‫السيايس‪ ،‬وأثرها عىل الرتاث اإلسالمي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن القضية التي نشري إليها ال ترتبط بمسألة حرب األنظمة‬
‫واحلكومات املعادية لقوى اإلسالم السيايس‪ ،‬والتي طالت الرتاث بدعوات إعادة‬
‫النظر فيه‪ ،‬بدعوى أنه أحد األسباب املؤدية إىل أزمة اإلرهاب والعنف‪.‬‬
‫إنام نعني يف هذا املوضع؛ قضية ترتبط بجامعات اإلسالم السيايس‪ ،‬وممارساهتا‬
‫تكرس الكثري من االهتامات التي تسوقها األنظمة واحلكومات‬
‫الفكرية‪ ،‬والتي ِّ‬
‫املعادية للمرشوع اإلسالمي‪ ،‬ومجاعات اإلسالم السيايس‪.‬‬
‫تنوع التفسريات للنصوص املقدسة‪.‬‬
‫وأول مفردات هذه الظاهرة‪ ،‬هي قضية ُّ‬
‫والتنوع املقصود هنا؛ ليس هو التنوع املحمود واملطلوب يف مثل هذه احلاالت‪،‬‬
‫وفق مبدأ "اختالفهم رمحة"‪ ،‬وإنام هو التنوع املذموم املرتبط بتأويالت فاسدة أو‬
‫وتسقط هذه النصوص عىل الواقع بشكل داليل متعسف‪ ،‬من أجل‬ ‫ِ‬ ‫ُتوايل اهلوى‪،‬‬
‫حتقيق مصالح سياسية ضيقة‪.‬‬
‫ريا ما نجد يف هذا األمر‪ ،‬استغالل كتب الرتاث وتفسريات السلفيني املتقدمني‬
‫وكث ً‬
‫واملتأخرين يف إثبات أن النص الفالين أو احلكم العالين؛ ينطبق عىل هذه احلالة أو‬

‫‪290‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تلك‪ ،‬وفق منطق سيايس بحت‪ ،‬قد يكون فيه كذلك أنظمة بعينها‪ ،‬أو حكومات‬
‫ينبغي تأييدها أو عدم تأييدها‪ ،‬ألسباب سياسية بحتة ال عالقة هلا باملرشوع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وبمصالح عموم األمة‪ ،‬وإنام ضيقة ألنظمة وحكومات ومجاعات‪.‬‬
‫والغريب أن هذا املنطق يعيبه البعض من املنضوين يف هذه اجلامعات عىل‬
‫مؤسسات دينية‪ ،‬رسمية‪ ،‬مثل األزهر الرشيف‪ ،‬ومثل هيئة اإلفتاء يف اململكة‬
‫العربية السعودية‪ ،‬ومع اتفاقنا عىل مواالة الكثري من علامء هذه املؤسسات لسلطان‬
‫احلاكم؛ فإن املنطق يقتيض خمالفتهم يف ذلك‪ ،‬والعدل يف التناول ووضع النصوص‬
‫موضع التطبيق‪.‬‬
‫فت يف مصداقية اهلياكل التنظيمية التي تعرب‬
‫ثم هناك ما أدى إليه هذا األمر الذي َّ‬
‫عن املرشوع اإلسالمي‪ ،‬وتقول بأهنا طليعته‪ ،‬سواء بني مجاعات اإلسالم السيايس‪،‬‬
‫أو اجلامعات ا ُملص َّنفة جهادية‪ ،‬من صدامات‪ ،‬وصلت إىل التكفري‪ِ ،‬‬
‫ومن َث َّم الدخول‬
‫يف رصاعات بينية – كام جرى يف سوريا‪ ،‬ويف ليبيا‪ ،‬عىل سبيل املثال – انطال ًقا من‬
‫فكرة األفضلية‪ .‬بمنطق أن هذه اجلامعة أو تلك هي اإلسالم‪ ،‬وما دونه هو الكفر‬
‫الذي تستوجب حماربته‪.‬‬
‫ويف كل ذلك‪ ،‬كانت نصوص الرتاث اإلسالمي حارضة‪ ،‬مع عدم قدرهتم عىل‬
‫نظرا إلحكام النص الرشعي‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة مبارشة‪ً ،‬‬
‫تطويع القرآن الكريم ُّ‬
‫صحيح الثبوت‪ ،‬فكان اللجوء إىل التأويالت املوجودة يف كتب الرتاث‪.‬‬
‫وهذه األزمة ليست وليدة بنات أفكار الكاتب أو هواجسه اخلاصة؛ وإنام هي‬
‫أمر شديد الوضوح‪ ،‬بحاالته املتخصصة كذلك؛ حيث يمكن حتديد كتب وأفكار‬
‫ٌ‬

‫‪291‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واجتهادات اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬وشيخ اإلسالم أمحد بن تيمية‪ ،‬واإلمام ابن‬
‫القيم‪ ،‬بشكل خاص‪.‬‬
‫فأفكار هؤالء مع جمموعة حمددة باالسم من علامء السلف‪ ،‬تم استغالل أفكارهم‬
‫وفتاوهيم‪ ،‬التي كان هلا ظروفها السياسية واالجتامعية اخلاصة – ابن تيمية عىل سبيل‬
‫املثال ظهر يف وقت الغزوات الصليبية وموجات زحف املغول عىل أرجاء الدولة‬
‫اإلسالمية – التي ح َّتمت البحث عن فقه جديد‪ ،‬فكان جزاء هؤالء وجتديدهم –‬
‫كان جتديدً ا يف ذلك احلني بسبب الظرف ا ُملستحدَ ث – أن تم اهتامهم بعد قرون من‬
‫ظهورهم بأهنم مسؤولون عن أكرب ِفتَن األمة‪ ،‬وهي فتنة التكفري‪.‬‬
‫بينام األمر شديد البساطة‪ ،‬فأقوال ابن حنبل وابن تيمية يف جمال اجلهاد ودفع‬
‫الظامل وغري ذلك؛ جاءت حمكمة سديدة يف ظروف استثنائية‪ ،‬ومن املعروف أن‬
‫االستثناء ال جيوز أن يتحول إىل قاعدة رشعية دائمة‪.‬‬
‫إن أكرب جريمة أدت إليها أفكار التطرف وفوىض املدارس الفكرية اإلسالمية‬
‫املعارصة‪ ،‬هو أهنا هددت مصداقية الرتاث اإلسالمي أمام األجيال اجلديدة‬
‫الصاعدة‪ ،‬وبعد عقدَ ْين أو ثالثة؛ إن استمرت هذه احلالة من الفوىض‪ ،‬من دون‬
‫ظهور َم َْمع فقهي موحد جيمع بني ِّ‬
‫منظري خمتلف هذه اجلامعات‪ ،‬للخروج بفقه‬
‫وأفكار موحدة االجتاه؛ تراعي الدين وال تراعي السياسة أو التنظيم؛ فإننا سوف‬
‫نعرف حالة فريدة من نوعها يف التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وهي استبعاد تراث السلف‬
‫الصالح يف جماالت عدة‪ ،‬حتى من املناهج يف املؤسسات التعليمية الدينية‪ ،‬وهذا‬
‫بدأ يف األزهر فع ً‬
‫ال‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نص مقدس‪ ،‬وبالتايل؛‬


‫اآلفة الثانية يف هذا الصدد‪ ،‬هو حتويل البعض للرتاث إىل ٍّ‬
‫تم حتويله إىل ملجأ هنائي‪ ،‬بل بالغ البعض يف ذلك‪ ،‬بحيث تاه النص املقدس الذي‬
‫بنى السلف الصالح عليه اجتهاداهتم وفتاوهيم‪ ،‬يف نصوص األفكار واالجتهادات‬
‫والفلسفات‪.‬‬
‫واضحا؛ جتد البعض جياهد فيه بأقوال‬
‫ً‬ ‫فبينام نجد النص القرآين أو النص النبوي‪،‬‬
‫عرف عنهم السداد أو وضوح الرؤية أو‬
‫بعض السلف‪ ،‬وحتى بعض العلامء ممَّن مل ُي َ‬
‫متام العلم‪ ،‬وظهروا يف أوقات انحطاط‪ ،‬أو غياب للرموز العقلية الكبرية التي ال‬
‫تزال أفكارها حية وصاحلة إىل اآلن‪.‬‬
‫وهذا أمر شديد اخلطورة؛ حيث إنه أو ً‬
‫ال يسمح ألعداء الرتاث اإلسالمي‬
‫بالطعن فيه بالكامل؛ ألن من يتبنوه يضعونه فوق النص الرشعي األصيل‪ ،‬كام أن‬
‫استناد البعض إىل جمهول الرتاث‪ ،‬واملبالغة يف إبرازه‪ ،‬قاد أن يتم إسقاط سوءاته‬
‫تلك عىل الرتاث احلقيقي وأعمدته الروايس‪.‬‬
‫فقادت األفكار املتطرفة مع الفوىض احلالية – حتى عىل املستوى التنظيمي؛‬
‫حيث ال يوجد إطار علامئي موحد جيمع بني كل أطياف احلركة اإلسالمية – إىل‬
‫أن يتم ْ‬
‫"حش" أية أفكار حتت عنوان "الرتاث"‪ .‬هذا نجده يف الرتاث‪ ،‬بام أدى إىل‬
‫تشويه ُ‬
‫الكل‪.‬‬
‫وزاد من حجم هذه الفوىض انتشار وسائط النرش وسهولتها‪ ،‬من املدونات‬
‫اخلاصة إىل املواقع اإللكرتونية إىل وسائل التواصل االجتامعي‪ ،‬والتي تشمل‬
‫انتشارا من فضائيات بعض الدول‪ ،‬ومع غياب إطار حاكم‬
‫ً‬ ‫قنوات بعضها أكثر‬

‫‪293‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مشوها أيام‬
‫ً‬ ‫جامع‪ ،‬يرد عىل األقل عىل كل هذه األراجيف؛ صار مفهوم الرتاث‬
‫تشويه‪ ،‬وهو ال نقول بأنه هيدد املستقبل فحسب؛ بلن إنه فع ً‬
‫ال هدد واقع الرتاث‬
‫اإلسالمي وقبوله‪.‬‬
‫‪.......‬‬
‫أمر ْين؛‬
‫ويبقى العالج هو تضافر جهود احلركات واملؤسسات اإلسالمية ألجل َ‬
‫أو ً‬
‫ال تنقية الرتاث بالشكل العلمي الصحيح‪ ،‬مما حلق به من خرافات أثرت عىل‬
‫صورته العامة‪ ،‬وبمنطق بيدي ال بيد األنظمة واحلكومات واملؤسسات الدينية‬
‫ويقوي خصومها‪ ،‬عىل أن‬
‫الرسمية التي تريد حذف كل ما هيدد عرشها ونفوذها‪ِّ ،‬‬
‫يتم ذلك بشكل يقود إىل حتديد فعيل لكل ما هو داخل حتت مصطلح "الرتاث"‪.‬‬
‫وثان ًيا؛ الرد عىل املوجات العارمة التي جتتاح فضاءاتنا السياسية واإلعالمية‬
‫واالجتامعية والفكرية‪ ،‬والتي وصل معها إىل أن صار الرئيس األمريكي‪ ،‬دونالد‬
‫ال‪ ،‬بحسب بعض‬ ‫ترامب – عىل سبيل املثال – منقذ األمة من الضالل الشيعي مث ً‬
‫"علامء" السلطان عىل "تويرت"‪.‬‬
‫كل هذا بحاجة ملراجعته وحسمه بشكل واضح ال لبس فيه‪ ،‬من جانب هيئة‬
‫جامعة؛ ألن أساس اخلراب هو أنه ال توجد هيئة "جامعة"‪ ،‬فكان التفتت الذي‬
‫قاد – كام تقدم – إىل أن يتصارع الرتاث مع بعضه البعض يف العقول‪ ،‬ثم يف الكتب‬
‫واألوراق‪ ،‬ثم بالسالح عىل األرض‪ .‬وإهنا ملسؤولية عظيمة‪ ،‬سوف حياسب اهلل‬
‫تعاىل عليه كل قادر فاهم متقاعس!‬

‫‪294‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"أس ِلم تس َلم"‪ ..‬نحو فهم جديد في إطار الممارسة النبوية‬

‫"أسلم تس َلم"‪ ..‬عبارة قد تبدو بسيطة يف مبناها‪ ،‬ولكنها من أكثر ُ‬


‫اجل َمل التي‬
‫حفظها التاريخ اإلنساين‪ ،‬وليس اإلسالمي فحسب؛ حيث إهنا كانت حمور الكثري‬
‫بمعنى أدق – حتولت إىل إشكالية بسبب التفسري الذي‬
‫ً‬ ‫من األمور اإلشكالية‪ ،‬أو –‬
‫ُو ِض َع هلا‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه الفقرة بحاجة إىل الكثري من التناول والرشح؛ حيث‬
‫إن هذه العبارة التي وردت يف الرسالة التي بعث هبا الرسول الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪ ،‬إىل‬
‫هرقل عظيم الروم‪ ،‬يدعوه فيها إىل اإلسالم‪ ،‬قد ُأيسء تفسريها من جانب عدد كبري‬
‫من املفكرين واملفرسين عرب التاريخ اإلسالمي؛ بحيث خدمت أسوأ رسالة سعى‬
‫خصوم الدين واألمة‪ ،‬وأعداء املرشوع احلضاري اإلسالمي‪ ،‬إىل غرسها كصورة‬
‫ذهنية عن الدعوة‪ ،‬وهي أن اإلسالم قد انترش بالتهديد وبحد السيف‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك أسباب كثرية للغاية قادت إىل هذه القراءة اخلاطئة‬
‫لعبارة الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬من بينها طبيعة البيئة العربية التي ظهر فيها اإلسالم‪،‬‬
‫والتي تستند إىل مشاعر الفخر والعزة واحلامسة‪ ،‬والفتوحات اإلسالمية وقت‬
‫اخللفاء الراشدين‪ ،‬والتي مل يتم النظر إىل جذور أسباهبا‪ ،‬والتي كانت بالفعل ُتعتَرب‬
‫امتدا ًدا حلروب دفاعية الطابع قام هبا النبي "عليه الصالة والسالم" يف أواخر‬
‫سنوات البعثة لرد االعتداءات عن أطراف دولة اإلسالم األوىل‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبنفس املنطق أيسء فهم أحاديثه ﷺ‪ ،‬التي قدَّ م فيها بعض التصورات املستقبلية‪،‬‬
‫ومن بينها أحاديث فتح مرص وبالد فارس وبالد الشام؛ حيث إن هذه األحاديث –‬
‫كام عبارة "أسلم تس َلم" – مل تعني إطال ًقا أن الرسول "عليه الصالة والسالم" قد‬
‫دعا إىل نرش اإلسالم باحلرب‪ ،‬وإنام أتت يف إطار ما أطلعه اهلل سبحانه وتعاىل عليه‬
‫من أمور تتعلق بأن املسلمني سوف يفتحون هذه البالد كتطور حلروب املسلمني‬
‫دفاعا عن أطراف الدولة اإلسالمية ضد هجامت الفرس والروم‪ ،‬وعواهنم من‬
‫ً‬
‫ساسانيني وغساسنة‪ ،‬يف العراق وبالد الشام‪.‬‬
‫ولذلك؛ فإنه وقت أمري املؤمنني‪ ،‬عمر بن َّ‬
‫اخلطاب "ريض اهلل عنه"‪ ،‬كان هناك‬
‫إدراك أن هذه األحاديث سوف ِ‬
‫حتدث الكثري من اللبس‪ ،‬فمنع عمر تداوهلا‪ ،‬وكان‬
‫أبو هريرة "ريض اهلل عنه" من أول من استجاب لذلك‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك بواعث عديدة للتساؤل عن سبب وضع األقدمني‬
‫هلذا التفسري لعبارة الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬والذي ترتب عليه – هذا التفسري‪ ،‬أو هذه‬
‫الرؤية – يف ظل مدرسة أو منهج السلف‪ ،‬أن تكون بمثابة "عقيدة" راسخة‪ ،‬وإن‬
‫كانت خاطئة‪ ،‬لدى األجيال التالية من املسلمني‪.‬‬
‫"أس ِلم تسلم ُي ْؤتِ َك ُ‬
‫اهلل أجرك‬ ‫فالرسالة النبوية هلرقل‪ ،‬فيها اجلملة كاملة كالتايل‪ْ :‬‬
‫مر َت ْي فإن تو َّل ْيت فإن عليك إثم األريس ِّيني"‪ ،‬ثم تال قول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﴾‬
‫[سورة ِ‬
‫"آل عمران" ‪ -‬اآلية ‪.]64‬‬ ‫ُ‬

‫‪296‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فالرسالة ال ُيوجد هبا أي هتديد بفرض اإلسالم بالقوة عىل الروم‪ .‬إطال ًقا‪،‬‬
‫فهي تكلمت عن أن أجر اإلسالم سيكون هلل تعاىل‪ ،‬والعقاب من اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا‬
‫موجود يف كل آيات القرآن الكريم التي دعت إىل دخول اإلسالم‪ ،‬فهي تعني بذلك‬
‫سالمة اإلنسان يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫والدليل التارخيي العلمي املادي موجود‪ .‬بعد هذه الرسالة ورفض الرومان هلا؛‬
‫مل ُيقم النبي ﷺ بغزوهم‪ ،‬وما جرى من حروب بني دولة النبوة والدولة الرومانية؛‬
‫وقع يف شامل شبه اجلزيرة العربية بعد غارات للدولة الرومانية وحلفائها العرب‬
‫املسيحيني‪ ،‬الغساسنة‪ ،‬عىل حدود الدولة اإلسالمية الوليدة‪ .‬مل حتدث يف داخل‬
‫حدود الدولة الرومانية‪.‬‬
‫وهذا السلوك النبوي تكرر يف مواقف عديدة؛ حيث نجده يف وصاياه "عليه‬
‫الصالة والسالم"‪ ،‬إىل سفرائه الذين بعث هبم إىل أطراف شبه اجلزيرة العربية‪،‬‬
‫كام يف اليمن‪ ،‬عندما بعث معاذ بن جبل "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬لدعوة الناس هناك إىل‬
‫اإلسالم؛ حيث قال له‪" :‬تأيت قو ًما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه‪:‬‬
‫يوحدوا اهلل"‪ ،‬ويف رواية "إىل أن‬
‫أن ِّ‬ ‫شهادة أن ال إله إال اهلل"‪ ،‬ويف ويف رواية "إىل ْ‬
‫فأع ِل ْم ُهم أن اهلل افرتض عليهم مخس‬
‫يعبدوا اهلل"‪ ،‬ثم‪" :‬فإن هم أطاعوك لذلك ْ‬
‫صلوات يف اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك‪ ،‬فأعلمهم أن اهلل افرتض عليهم‬
‫صدقة" [صحيح‪ /‬أخرجه البخاري ومسلم وغريمها]‪.‬‬
‫ونجد أن الرسول ﷺ قد هناه متا ًما عن األخذ من ماهلم بغري وجه حق‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من الوصايا التي تربز أن منهج اإلسالم يف الدعوة‪ ،‬ال خيرج عن نطاق احلكمة‬

‫‪297‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملوعظة احلسنة واللني واألقناع؛ ال اجلرب أو احلرب‪ ،‬وإال كان الرسول "عليه‬
‫قادرا عىل ذلك‪.‬‬
‫الصالة والسالم" قد غزاهم‪ ،‬وكان يف حينه ً‬
‫ويف حالة رسالته "عليه الصالة والسالم" إىل هرقل؛ نجد أنه مل ِ‬
‫يقدم عىل غزو‬
‫بالد الروم برغم رفض هرقل لإلسالم‪.‬‬
‫وحتى يف داخل دولة النبوة؛ هناك ممارسات عظيمة الوضوح للرسول‬
‫ِ‬
‫"أسلم تس َلم"؛ ما كان مقصو ًدا هبا أنه إما اإلسالم أو‬ ‫الكريمﷺ تقول بأن عبارة‬
‫احلرب والقتال‪.‬‬
‫ً‬
‫حاكم لدولة املدينة؛ وأول ما قام به‬ ‫فالرسول "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬كان‬
‫هبذه الصفة؛ كانت وضع أول دستور مواطنة يف التاريخ‪ ،‬ومل يفرض الدين أبدً ا عىل‬
‫مرشكي العرب أو اليهود ممَّن ساكنوا املسلمني يف املدينة‪.‬‬
‫وكذلك هناك وثيقة األمان الشهرية التي أعطاها لنصارى نجران يف العام التاسع‬
‫للهجرة‪ ،‬وأورد فيها ابن سعد يف طبقاته‪ ،‬والبيهقي يف "دالئل النبوة"‪ ،‬الكثري الذي‬
‫يقول بأنه ال يمكن بحال أن اإلسالم يتم فرضه‪.‬‬
‫ثمة مشكلة يمكن أن نصفها باطمئنان‪ ،‬بأهنا مشكلة أصولية‬ ‫ويف هذا اإلطار‪َّ ،‬‬
‫يف التعامل مع الكثري من األمور‪ ،‬وهي األخذ من النص‪ ،‬وبالذات احلديث النبوي‬
‫أو النصوص التي صح نسبها للرسول الكريم ﷺ‪ ،‬من دون مطابقتها مع السرية‬
‫النبوية‪ ،‬واملامرسة النبوية يف املجال الذي يتعلق به النص؛ حيث هناك انفصال كامل‬
‫لدى نسبة ُمعت ََبة بني الدارسني والعاملني يف حقل العمل اإلسالمي‪ ،‬بني النص‬
‫النبوي وبني السرية النبوية‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهنا ال جتوز املراجعة بأحاديث نبوية أو منسوبة للرسول الكريم ﷺ؛ تكلم‬


‫فيها عن أنه ُأ ِم َر بقتال الناس حتى كذا‪ ،‬أو حتى يدخلوا يف دين اهلل تعاىل؛ فهذا كله‬
‫مردود عليه من املامرسة النبوية نفسها؛ حيث مل يفعل الرسول ﷺ ذلك‪.‬‬
‫وهناك كثري من العلامء الثقاة الذين قالوا بأنه بالتايل؛ فإن النبي "عليه الصالة‬
‫والسالم" مل يقصد املعنى الظاهري من هذا الكالم‪.‬‬
‫والنموذج الشديد الوضوح هنا‪ ،‬حديث "لقد جئتكم بالذبح"‪ ،‬الذي أخرجه‬
‫وضعفه البعض‪ ،‬فبينام يعتربه بعض الذين يصنِّفون أنفسهم‬
‫َّ‬ ‫اإلمام أمحد يف "املسند"‪،‬‬
‫باجلهاديني؛ يعتربونه "عالم ًة" عىل النبي "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬يعرفونه هبا‪،‬‬
‫وأساسا للدعوة وسياقات نرش اإلسالم؛ فإن "ما فعله" الرسول الكريم ﷺ بعد‬‫ً‬
‫فتح َّ‬
‫مكة؛ ينفي املعنى الظاهري باإلطالق هلذا احلديث؛ حيث عفا بعد الفتح حتى‬
‫عن شخصيات من قريش كانت حارض ًة للموقف الذي قيل إنه قد قال فيه هذه‬
‫اجلملة‪ ،‬وقصدهم هبا‪.‬‬
‫وباملنطق البسيط؛ فإن السلوك النبوي مقدَّ م عىل أي نص منسوب للنبي "عليه‬
‫ٌ‬
‫تعارض ظاهري بني النص واملامرسة‪ ،‬وأنه أوىل نفي‬ ‫الصالة والسالم"‪ ،‬لو حدث‬
‫النص أو بحث جذوره أو ما شابه؛ ُّ‬
‫للتأكد منه‪ ،‬ألن الفعل العمدي ال جدال فيه‪،‬‬
‫ومو َّثق بشكل أكرب‪ ،‬وهذا حكمة من اهلل تعاىل أن تكون السرية النبوية كأوضح ما‬
‫ُ‬
‫يكون ألهنا املرجعية األساسية لإلسالم يف املجال التطبيقي‪.‬‬
‫ناهينا يف ذلك عن أن القرآن الكريم ميلء بمئات اآليات التي تؤكد أن حساب‬
‫الناس عىل اهلل تعاىل وحده‪ ،‬وأن الدين ال إكراه فيه‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمور كذلك ُجتب ما يقوله البعض بشأن نقطة "متام الدين"‬


‫ويف السرية النبوية ٌ‬
‫عمق هلا‪ ،‬بسبب عدم االهتامم بدراسة السرية النبوية؛‬
‫التي يطبقوهنا من دون فهم ُم َّ‬
‫حيث إن املواقف التي أخذ فيها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬بعض القرارات التي‬
‫استجابت ملتطلبات املواقف باملهادنة‪ ،‬ويقولون بأن ذلك ُ‬
‫بطل بعد متام الدين‬
‫بانتهاء الوحي ووفاته ﷺ‪ ،‬والتمكني للمسلمني؛ فإننا بمراجعة السرية النبوية؛‬
‫سوف نجد مواقف أخرى سابقة عىل مواقف املهادنة؛ كان القرار النبوي فيها‬
‫واضحا‪ ،‬وهو قرار احلرب واملواجهة مهام كانت صعوبتها وعواقبها‪.‬‬
‫ً‬
‫وذلك مثل احلال بني غزوة "اخلندق" أو "األحزاب" وصلح احلديبية مث ً‬
‫ال؛‬
‫فال يوجد ترتيب مقصود بني املهادنة‪ /‬السلم‪ ،‬وبني قرارات احلرب والغزو‪ ،‬وبني‬
‫قضية التمكني‪.‬‬
‫واآلن؛ ما هي نتيجة هذا الفهم اخلاطئ؟!‪ ..‬مجاعات مارقة عن الدين‪ ،‬فرضته‬
‫بكل وسائل القهر عىل الناس؛ فكانت النتيجة واضحة‪ ،‬وهي حلق اللحية وحرق‬
‫النقاب أمام وسائل اإلعالم بعد إخراج هذه املجموعات من املناطق التي سيطرت‬
‫عليها‪ ،‬كام تم يف مناطق سيطرة تنظيم الدولة "داعش" قب ً‬
‫ال‪ ،‬يف سوريا والعراق‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫َ‬
‫عامل فصلٍ‬ ‫ويف األخري؛ فإنه من األمهية بمكان التأكيد عىل أن السرية النبوية‬
‫شديد األمهية يف معرفة كيفية إسقاط احلكم الرشعي عىل واقع احلال‪ ،‬وتطبيق‬
‫التعاليم الرشعية التي وردت يف القرآن الكريم‪ ،‬وأمر ُ‬
‫اهلل تعاىل هبا املسلمني‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتزداد أمهية السرية النبوية يف األمور ذات الطابع اإلشكايل التي يقع فيها‬
‫اخلالف‪ ،‬مع غياب النص الواضح يف القرآن الكريم يف صددها ِ‬
‫حل َك ٍم عدَّ ة شاءها‬
‫اهلل عز وجل‪.‬‬
‫سكت‬
‫َ‬ ‫أساسي ْي‪ ،‬أحدمها‬
‫َّ‬ ‫بأمر ْين‬
‫وتصل هذه األمهية إىل قمتها يف شأن ما يتعلق َ‬
‫عنه القرآن الكريم بشكل كبري‪ ،‬والثاين‪ ،‬حيدث فيه الكثري من اخللط لدى القائمني‬
‫عىل العمل اإلسالمي‪.‬‬
‫األمر األول‪ ،‬هو نظام احلكم والسياسة يف اإلسالم؛ حيث املرجع الوحيد‬
‫التفصييل للمسلمني يف اجلانب التطبيقي يف هذا املجال‪ ،‬هو السرية النبوية‪،‬‬
‫ً‬
‫حاكم لدولة املدينة‪،‬‬ ‫وبالتحديد تلكم الفرتة التي قضاها الرسول الكريم ﷺ‪،‬‬
‫وحتى وفاته عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ ،‬هو ذلك املتعلق بالدعوة‪ ،‬ولعل أهم ما يتعلق بأمر الدعوة‪،‬‬
‫وطرائقها‪ ،‬وهو التدرج واختالف التعامل مع املوقف الواحد باختالف الظروف‪،‬‬
‫والتدقيق يف خلفيات نزول أحكام اجلهاد والقتال وغري ذلك‪ ،‬يف القرآن الكريم؛‬
‫حيث السرية النبوية متثل التطبيق الصحيح‪ ،‬والصحيح الوحيد بنسبة تامة كاملة‪،‬‬
‫للنص يف هذه األمور‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫االجتهاد المصلحي وأهمية انضباط العمل السياسي بالمقاصد‬

‫خالل السنوات التي تلت ثورات الربيع العريب‪ ،‬وحتى تلك التي سبقتها‪،‬‬
‫تصاعد جدل كبري حول اآلليات والوسائل املالئمة للتغيري وحتقيق اإلصالح‬
‫املطلوب عىل خمتلف املستويات السياسية واالجتامعية‪.‬‬
‫وتنامى هذا اجلدل يف ظل ما حققته االرتكاسات املضادة التي تصدت هبا‬
‫األنظمة احلاكمة والقوى اإلقليمية والدولية الداعمة‪ ،‬وتم يف السياق إراقة الدماء‪،‬‬
‫واستحالل مصالح اإلسالميني وكل من تبنى الفكرة اإلصالحية ودافع عن الثورة‬
‫ودعم فكرهتا‪.‬‬
‫فظهرت خالفات وصلت إىل مستوى األزمات واالفرتاقات بني أبناء الصف‬
‫الواحد‪ ،‬وقادت إىل تشتت اجلمع الثوري الذي التأم يف امليادين‪ ،‬وكان املستفيد‬
‫الوحيد من هذا األمر‪ ،‬األنظمة احلاكمة التي عادت‪ ،‬بل وصارت – أمام شعوهبا‬
‫– امللجأ الوحيد هلا من الفوىض و"الفوضويني"‪ ،‬يف إشارة بطبيعة احلال إىل القوى‬
‫التي تتبنى اخلطاب اإلصالحي‪ ،‬وال تزال تتحرك يف اإلطار الثوري‪.‬‬
‫ولقد ك ُثر احلديث يف الفرتة األخرية عن قضية الوسائل واآلليات‪ ،‬وكذلك‬
‫األولويات يف املرحلة الراهنة‪ ،‬فبينام يرى البعض أن العمل املسلح صار واج ًبا‪ ،‬وأن‬
‫التصعيد "الصفري" هو املسار الوحيد مع األنظمة احلاكمة؛ يرى البعض اآلخر‪،‬‬
‫أن خيار السلمية هو األصل‪ ،‬وهو املتفق مع القواعد الرشعية وقوانني التعامل‬
‫العمراين السليمة‪ ،‬وال بديل عنه‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو جدل قديم كان له أثره يف بدايات الثورة العربية‪ ،‬يف العام ‪2011/2010‬م‪،‬‬
‫مرحليا‬
‫ًّ‬ ‫جعل هناك افرتاقات عدة يف مسارات العمل‪ ،‬ويف النتائج النهائية – هنائية‬
‫– لكل ثورة من الثورات التي اندلعت‪ ،‬ما بني النموذج املرصي والتونيس‪ ،‬وبني‬
‫النموذج الليبي والسوري واليمني‪.‬‬
‫وتعود أمهية هذا املوضوع‪ ،‬إىل التطورات التي تشهدها املرحلة الراهنة يف عاملنا‬
‫العريب واإلسالمي‪ ،‬فيام يتعلق بسلوك القوى السياسية والتنظيامت واجلامعات‬
‫املختلفة‪ ،‬سواء الوطنية أو اإلسالمية‪ ،‬التي تضطلع بمهام تتعلق بمواجهة‬
‫االحتالل‪ ،‬كام يف فلسطني‪ ،‬أو مواجهة الظلم والفساد واالستبداد‪ ،‬كام يف أكثر من‬
‫بلد عريب‪.‬‬
‫أساسي ْي‪ ،‬األمر األول هو دخول الصف داخل هذه‬
‫َّ‬ ‫بأمر ْين‬
‫املشكلة تتعلق َ‬
‫املجموعات‪ ،‬التي هي من املفرتض أهنا طليعة األمة‪ ،‬وحتمل تطلعات الشعوب‪،‬‬
‫يف حالة من الشقاق الذي وصل إىل االقتتال الداخيل بني هذه املجموعات‪ ،‬أو‬
‫داخل بعضها‪ ،‬يف كثري من األحيان‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ ،‬يتعلق بمامرسات بعض هذه القوى‪ ،‬التي خرجت يف سلوكها‬
‫عن اعتبارات السياسة الرشيدة‪ ،‬بام أدى إىل وصول األذى إىل الشعوب‪ ،‬التي من‬
‫املفرتض أن مصلحتها هي اهلدف والغاية من ظهور هذه املجموعات الطليعية‪.‬‬
‫والسياسة تعني القيام عىل اليشء بام يصلحه‪ ،‬ولكن ما يتم يف وقتنا الراهن يف‬
‫غالبية أروقة مجاعات املقاومة‪ ،‬واجلامعات التي تسعى إىل التغيري واإلصالح يف‬
‫جمتمعاتنا؛ ال يقود إىل ذلك باملطلق‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولننظر إىل ممارسات بعض الفصائل املسلحة يف سوريا‪ ،‬والتي قادت مع إجرام‬
‫النظام‪ ،‬إىل فرار املاليني من املوت إىل املوت‪ ..‬كيف‪ ،‬وهي تأسست من األصل؛‬
‫حلامية أبناء الشعب السوري من بطش النظام‪ ،‬وحترير األرض السورية من جمرمي‬
‫العنرصية والشوفينية والطائفية؟!‪..‬‬
‫النظام السوري نفسه يفعل ذلك؛ فام الفارق بينكم وبينه؟!‪ ..‬أين الفارق القيمي‬
‫واملصلحي الذي تأسستم ألجله‪ ،‬وأقمتم وجودكم ذاته عليه؟!‪..‬‬
‫نفس القصة‪ ،‬يف احلدث القريب‪ ،‬تكررت يف خميم عني احللوة؛ صارت حركة‬
‫"فتح" أسمى من اإلنسان الفلسطيني‪ ،‬فليحرتق املخيم؛ املهم هو هيبة وسطوة‬
‫"فتح"‪ ،‬فتدخل صدا ًما مع مجاعة "جند الشام"‪ ،‬بينام إرسائيل عىل مرمى حجر من‬
‫كلتا اجلامعتني؛ لكن الفصيل والتنظيم صارا فوق املصلحة‪ ..‬فوق حياة الناس‪..‬‬
‫ؤسسوا هذا الفصيل أو ذاك؛ ألجل الشعب الفلسطيني‪ ،‬ولكن ألجل‬
‫أثبتوا أهنم مل ُي ِّ‬
‫مصالح وزعامات فارغة‪.‬‬
‫هاجر بضعة آالف من خميم عني احللوة‪ ،‬ومات عرشات اآلالف يف عرض البحر‬
‫املتوسط‪ ،‬ويف بالد ُ‬
‫الغربة‪ ،‬يف أوروبا‪ ،‬أوروبا "املسيحية اليهودية"‪ ،‬التي كانت ربام‬
‫حنوا عىل هؤالء من أبناء جلدهتم من املتوحشني والعنرصيني الذين حكموا‬
‫أكثر ًّ‬
‫أو حتكموا فيهم!‬
‫باملثل‪ ،‬مل يقف أبو مازن وسلطته وقواته األمنية وهم يدعمون أمن الكيان‬
‫الصهيوين‪ ،‬من حرية ودماء أبناء املقاومة وطليعتها‪ ،‬التي هي طليعة الشعب‬
‫الفلسطيني؛ مل يقفوا أمام أنفسهم لكي يسألوا بضعة أسئلة مهمة‪ ،‬بعيدً ا عن الرشع؛‬

‫‪304‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الذي تضايق سريته‪ ،‬ويضايق حكمه‪ ،‬الكثريين يف هذه األيام‪ ،‬لكن ليسألوا‬
‫أنفسهم‪ :‬هل هذا ما يريده الفلسطينيون؟!‪ ..‬هل كان الفلسطينيون قبل ذلك أكثر‬
‫حرية أم اآلن؟!‪ ..‬هل يضيف ما نفعل املزيد من الرفاهية ألبناء الشعب الفلسطيني‬
‫أم للعدو الصهيوين؟!‪..‬‬
‫‪......‬‬
‫هذا الواقع‪ ،‬يقول بأن هناك الكثري من االنحرافات واخلروج عىل القواعد‬
‫واألصول السليمة املرعية للعمل السيايس يف مثل هذه األحوال‪ ،‬واملؤسف أن‬
‫البعض يقتبس من جتارب اآلخرين التارخيية‪ ،‬من دون إعامل العقل والرشع فيها‪،‬‬
‫ملجرد ادعاء البطولة‪ ،‬وهو أمر باطل‪.‬‬
‫رشعا‪ ،‬ويرتك ما‬
‫البعض يتكلم عن نموذج فيتنام‪ ،‬ويتحمس له‪ ،‬بينام مل يدرسه ً‬
‫جاء به دينه‪ ،‬وعىل رأس ذلك‪ ،‬قضية االجتهاد املصلحي‪ ،‬وتغري الظروف وأثره‬
‫عىل العمل‪ ،‬سواء السيايس أو العسكري أو املجتمعي‪ ،‬أو أ ًّيا كان‪ ،‬وال يسأل نفسه‪:‬‬
‫ماذا كان سوف يفعل الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يف هذا املوقف؟!‪ ،‬أو ملاذا ترصف‬
‫الرسولﷺ‪ ،‬يف املوقف الواحد بطريقت َْي مع اختالف الظرف والزمان؟!‪..‬‬
‫يقول الدكتور أمحد الريسوين يف دراسته "االجتهاد املصلحي‪ ..‬مرشوعيته‬
‫ومنهجه"‪ ،‬إن االجتهاد املصلحي "هو االجتهاد الذي ُتراعى فيه املصلحى و ُيبنى‬
‫مؤثرا ضمن‬
‫ً‬ ‫عنرصا‬
‫ً‬ ‫عليها‪ ،‬سواء كانت املصلحة هي سنده الوحيد‪ ،‬أو كانت‬
‫عنارص وأدلة أخرى‪ ،‬فمتى ما دخل يف استنباط احلكم وتقريره‪ ،‬اعتبار املصلحة‪،‬‬
‫وكانت إحدى مقدماته االستداللية؛ فهو يدخل يف باب االجتهاد املصلحي"‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويعرف املصلحة عىل أهنا "كل فائدة مقبولة معتربة بأدلة الرشع وموازينه ومقاصده‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بمعنى أن تكون مصلح ًة مرشوعة عىل سبيل الوجوب أو الندب أو اإلباحة"‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬أن تكون املصلحة رضورية أو ِ‬
‫حاج َّية أو حتسينية سواء دل عليها‬
‫نص معني أو دلت عليها مجلة نصوص‪ ،‬أو اندرجت فيها ُعلم من مقاصد الرشيعة‪،‬‬
‫أو كانت مما علم بالتجارب والرضورات واخلربات واحلاجات البرشية‪.‬‬
‫أهم ما قاله الريسوين وعلامء األصول والفقه يف هذا الصدد‪ ،‬أن مما يدخل يف‬
‫ذلك؛ درء املفسدة‪ ،‬باعتبار أن درء املفسدة؛ مصلحة يف حد ذاته‪.‬‬
‫أي أن أي فصيل أو مجاعة سياسية‪ ،‬تنهض وتعلن أهنا تسعى لتحقيق أهدا ًفا‬
‫حتررية أو إصالحية؛ جيب عليها وعىل قياداهتا اإليامن بأن هناك مبدأ جيب االستقرار‬
‫رشعا‪ ،‬هي األصل‪ ،‬وأصل التسخري يف خلق‬
‫عليه‪ ،‬وهو أن مصالح اإلنسان املرسلة ً‬
‫الكون‪ ،‬هو مصالح اإلنسان‪ ،‬حتى لو كانت فيها معصية؛ ألن ذلك يرتبط بقضية‬
‫االختيار ومن َث َّم املحاسبة‪.‬‬
‫هذا ال حيدث؛ فنضحي بالناس والعمران‪ ،‬ألجل أهداف سياسية فصائلية‬
‫وفقها وعق ً‬
‫ال يف ديننا‬ ‫ً‬ ‫رشعا‬
‫ً‬ ‫ضيقة‪ ،‬بالرغم من أن هذا األمر‪ِ ،‬من ا ُملستَقر عليه‬
‫احلنيف‪ ،‬ولذلك أي يشء ‪ -‬حتى لو هدم الكعبة كام يف احلديث النبوي الرشيف ‪-‬‬
‫خيالف ذلك؛ فهو بجانب أنه حرام؛ فهو خمالف لقوانني العمران‪.‬‬
‫فال معنى للحديث عن مصلحة سياسية حلزب أو فصيل أو مجاعة أو كذا؛ عىل‬
‫حساب دماء الناس ومصاحلهم‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األصل يف األمور هو احلفاظ عىل مصالح الناس‪ ،‬ومقاصد الرشيعة‪ ،‬وعىل‬


‫رأسها حفظ النفس‪ ،‬وضامن استقرار العمران البرشي؛ إلتاحة األمور أمام الدعوة‬
‫إىل دين اهلل تعاىل‪ ،‬وإقامة الغاية العظمى من اخللق‪ ،‬وهو عبادة اهلل تعاىل الواحد‬
‫األحد‪ ،‬ال رشيك له‪ ،‬وإفراده هبا‪ ،‬ومن يقول خالف ذلك؛ فهذا تدليس عىل اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األمانة وفلسفة التكليف في القرآن الكريم‬

‫يقول اهلل تعاىل يف حمكم التنزيل‪﴿ :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬


‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﴾‬
‫[سورة "األحزاب" – اآلية ‪.]72‬‬
‫ُ‬
‫ومن مجاع التفاسري املختلفة يف تفسري هذه اآلية‪ ،‬فإن األمانة التي ك َّلف اهلل تعاىل‬
‫هبا بني آدم‪ ،‬تتضمن إبالغ عقيدة التوحيد‪ ،‬وإقامة العبادات والفرائض‪ ،‬وإتيان‬
‫الطاعات‪.‬‬
‫ويف التفسري؛ فإن اهلل تعاىل عندما عرض األمانة عىل آدم (عليه السالم)‪ ،‬قال له‬
‫قص؛ سوف ُيعا َقب‪.‬‬ ‫سبحانه‪ ،‬إنه إذا أحسن‪ ،‬أي آدم؛ فإنه سوف ُيثاب‪ ،‬وإذا َّ‬
‫ويف القرآن الكريم ً‬
‫أيضا‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ﴾‬
‫[سورة "الذاريات" – اآلية ‪ ،]56‬ويف هذه اآلية يبدو أن أهم صور األمانة التي محلها‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‪ ،‬هي العبادة وما افرتضه اهلل تعاىل فيها عىل اإلنسان‪.‬‬
‫والتكليف بأداء األمانة‪ ،‬يعني أن يقوم اإلنسان بأداء األمور والواجبات التي‬
‫جتعله حيقق مقاصد هذه األمانة ويقيمها‪ ،‬وهو – بالتايل – ما يشبه ما ُيط َلق عليه‬
‫يف العلوم اإلدارية واإلسرتاتيجية‪ ،‬باألمر التنفيذي من أجل القيام بأعباء األمانة‪.‬‬
‫ولقد محل آدم (عليه السالم) هذا التكليف بمجرد قبوله بالقيام باألمانة عىل‬
‫النحو املذكور يف آية األحزاب‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ما الذي نحن بصدده وأهميته‪:‬‬

‫إن مفهوم األمانة والتكليف هبا‪ ،‬من األمور الشديدة األمهية كام جاء يف القرآن‬
‫الكريم؛ حيث كالمها – األمانة والتكليف هبا – هي يف األصل ُصلب غاية خلق‬
‫اإلنسان‪ ،‬واستخالف اهلل تعاىل له يف األرض‪ ،‬واستعامره فيها كام أنبأ القرآن الكريم‪.‬‬
‫كام أن كليهام من املسائل شديدة االتساع‪ ،‬ويف القرآن الكريم‪ ،‬ال حتمل الطابع‬
‫العام الذي يميز يف الغالب اخلطاب القرآين يف الكثري من األمور‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫ً‬
‫صاحلا حتى‬ ‫ً‬
‫وتعاليم‪،‬‬ ‫اقتضته حكمة اهلل تعاىل‪ ،‬لكي يكون القرآن الكريم‪ ،‬خطا ًبا‬
‫يشاء اهلل تعاىل أن يرفعه من الدنيا يف آخر الزمان‪.‬‬
‫يفصل فيها القرآن الكريم بدقة‬
‫ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول العلامء‪ ،‬إن األمور التي َّ‬
‫وشمول لكافة ما يتعلق هبذا األمر أو ذلك؛ يعني أمهيته القصوى‪ ،‬وقيمته ِ‬
‫وع َظ ُمه‬
‫لدى اهلل تعاىل‪ ،‬مثلام جرى يف الشؤون اخلاصة بتنظيم األمور واحلقوق والواجبات‪،‬‬
‫يف الزواج واملواريث‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن مفهو َم ْي األمانة والتكليف يف القرآن الكريم‪ ،‬أكرب وأوسع بكثري مما‬
‫يتصوره البعض‪ ،‬وخيتزله يف العناوين الكربى السابقة؛ نرش عقيدة التوحيد‪ ،‬وإقامة‬
‫تعاليم اهلل تعاىل يف األرض‪ ،‬والتي أنزهلا ترتى عىل أنبيائه ورسله‪ ،‬حتى وصلت‬
‫اإلنسانية إىل الرشيعة اإلسالمية‪ْ ِّ ،‬‬
‫الش َعة التامة التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل رسوله‬
‫الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذه الصورة ُ‬
‫الك ِّل َّية التي رسمها القرآن الكريم يف هذا الصدد؛ من املهم للغاية‬
‫وحسبان املشتغلني يف حقل العمل اإلسالمي‪ ،‬بالذات يف هذه‬
‫أن تكون يف ذهنية ُ‬
‫املرحلة التي تشهد الكثري من االرتباكات يف خمتلف اجتاهات العمل ضمن املنظومة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫ولسنا هنا يف معرض تناول هذا األمر من اجلانب التفسريي القريب؛ اللغوي‬
‫واالصطالحي الرشعي؛ حيث إن الكثري من العلامء تناولوا ما يتعلق بالتكاليف‬
‫وص َور أوامر اهلل تعاىل يف هذا الصدد‪ ،‬مثل ُص َور األمر والنهي‪،‬‬
‫يف القرآن الكريم‪ُ ،‬‬
‫سواء بالتعبري املبارش‪ ،‬مثل "افعلوا" و"ال تفعلوا"‪ ،‬أو التعبري غري املبارش؛ مثل‬
‫إقران الفعل اجليد‪ /‬اليسء بالثواب والعقاب‪ ،‬وأساليب الرتغيب والرتهيب‬
‫املختلفة التي استعملها اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪.‬‬
‫كذلك لسنا بصدد تناول اجلوانب الفقهية للتكليف ورشوطه‪ ،‬مثل رضورة‬
‫توافر العقل واحلرية‪ ،‬وما إىل ذلك؛ حيث هي كذلك موجودة يف كتب التفاسري‬
‫والفقه منذ أن بدأ املسلمون يف هذا العمل قبل ‪ 14‬قر ًنا من الزمان‪.‬‬
‫وإنام مقصود احلديث‪ ،‬هو اجلانب الذي يتعلق بتحقيق فهم املسلم للغرض من‬
‫خلقه‪ ،‬واملهام التي ُخ ِلقَ ألجلها‪.‬‬
‫أمر شديد األمهية‪ ،‬وهو ما نجده من ضالالت يف تفكري كثري من دوائر‬
‫رد ذلك ٌ‬
‫و َم ُّ‬
‫وجمتمعات املسلمني‪ ،‬والسيام الشباب بشأن تقييم واقع أنفسهم يف الدنيا‪ ،‬وبوصلة‬
‫سعيهم يف الدنيا‪ ،‬وتعريفهم ملفهو َم ْي "النجاح" و"الفشل" يف هذا اإلطار‪ ،‬واملعاناة‬
‫وثامرها املتأخرة‪ ،‬التي ربام تشاء حكمة اهلل تعاىل أن تؤخر هذه الثامر إىل اآلخرة‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فبغياب الفهم الصحيح لفلسفة التكليف والعمل يف القرآن الكريم – مصدر‬


‫رشيعتنا األسايس كمسلمني – ال يصح السعي‪ ،‬ويتم تغليب اعتبارات مرتبطة‬
‫بمكاسب الدنيا املادية باملفهوم الواسع للامدية‪ ،‬مثل املال‪ ،‬والعمل‪ ،‬وباقي ما تكلم‬
‫وز ُخرف احلياة الدنيا‪ ،‬عىل االعتبارات التي تتصل‬‫عنه القرآن الكريم من زينة ُ‬
‫بمقصود اهلل تعاىل من خلق اإلنسان واستخالفه يف األرض‪ ،‬مما أدى إىل إعالء‬
‫األدنى عىل األسمى‪ ،‬وبالتايل؛ حصول اخللل‪.‬‬
‫معالم من فلسفة التكليف يف القرآن الكرمي‪:‬‬
‫من خالل مراجعة آلي ِّ‬
‫الذ ْكر احلكيم يف هذا املجال املوضوعي؛ فإننا سوف‬
‫نقف أمام معامل عديدة لفلسفة التكليف يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫وأول هذه املعامل؛ التأكيد عىل عظيم هذه املهمة؛ املتعلقة بقيام اإلنسان بأعباء‬
‫األمانة العظمى‪ ،‬بصورة ترتاجع أمامها خمتلف املهام األخرى التي يقوم هبا اإلنسان‬
‫عىل األرض‪ ،‬بسبب ارتباطها بعقيدة التوحيد وإقامة رشيعتها‪.‬‬
‫وهذا يرد يف جانب من جوانبه عىل بعض االعرتاضات التي تتصل بمسألة‬
‫وحد‪ ،‬صحيح العقيدة والعبادة‪ ،‬ويقوم بأركان دينه يف‬ ‫األفضلية بني ٍ‬
‫عابد مسلم ُم ِّ‬
‫جماالته الثالث‪ ،‬العقيدة والعبادات واملعامالت‪ ،‬وبني عامل غري مسلم‪ ،‬أو ملحد‪،‬‬
‫يقدم للبرشية الكثري‪ ،‬وكيف يدخل هذا اجلنة‪ ،‬وال يدخل ذاك‪ ،‬برغم ما قدمه من‬
‫خدمات لإلنسانية‪.‬‬
‫مؤخرا بعد‬
‫ً‬ ‫ولكي ال ُنستطرد يف تناول هذه القضية التي أثارت الكثري من اجلدل‬
‫وفاة العامل األمريكي الشهري‪ ،‬جون هوبكينز؛ فإنه بعد القيمة واألمهية القصوى‬

‫‪311‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التي أثبتها القرآن الكريم هلذه املسألة؛ فإننا نشري إىل املَ ْع َلم الثاين املهم يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬وهو الصعوبة واملشقة التي تتصل بالقيام بأعباء األمانة‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال؛ يقول تعاىل‪﴿ :‬ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫[سورة "البقرة" – اآلية ‪ .]45‬وهذا برغم من أن أداء الصالة قد‬
‫ﯙ ﯚ﴾ ُ‬
‫يبدو للبعض عىل أنه يف املجال البدين؛ من أسهل األمور؛ إال أننا نجد الكثري من‬
‫التقاعس عن أدائها من جانب بعض املسلمني‪.‬‬
‫ولو تأملنا اجلهد البدين الذي يبذله بعض املقرصين أو تاركي الصالة‪ ،‬يف اللعب‬
‫والرياضة؛ حيث قد يساوي اجلهد املبذول يف ساعة رياضة واحدة‪ ،‬جهد الصالة‬
‫أيا ًما عديدة‪ ،‬ووقتها سوف نجد هنا َكم كان القرآن الكريم دقي ًقا يف كيفية تعبريه‬
‫عن هذه املسألة‪.‬‬
‫وعىل ذلك؛ نجد املش َّقات العظيمة املادية واملعنوية املحيطة بأمور التكاليف‬
‫املختلفة األخرى‪ ،‬يف العبادات؛ فصيام رمضان َ‬
‫واحلج‪ ،‬اجلزء األسايس من منطلق‬
‫التكليف فيها هو املشقة‪ ،‬بينام الزكاة تتعلق بمشقة من نو ٍع آخر‪ ،‬وهي مشقة نفسية‬
‫اختبارا وابتال ًء من اهلل تعاىل‬
‫ً‬ ‫تتصل بام ُجبِ َل ْت عليه النفس اإلنسانية من ُح ِّب املال؛‬
‫لعباده‪.‬‬
‫وكذلك نفس املنطق أو الفلسفة‪ ،‬نجدها يف تكاليف أخرى‪ ،‬والسيام تلك املتعلقة‬
‫بالتعامل مع اآلخرين‪ ،‬والتدافع إزاءهم لتنفيذ تكاليف األمانة‪ ،‬مثل اجلهاد‪ ،‬واألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتأيت النبوات والرساالت كأعىل مرتبة من مراتب التكليف‪ ،‬وبالتايل؛ فهي‬


‫مستوى للقيام باألمانة‪.‬‬
‫ً‬ ‫أش َّقها ألهنا أعظم وأخطر‬
‫ريا ًّ‬
‫مهم للغاية يف هذا املجال‪ ،‬وهو تعبري‬ ‫ويف ذلك‪ ،‬نجد يف القرآن الكريم تعب ً‬
‫"ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ِ"‪ ،‬والذي ربطه اهلل عز وجل بالقيمة العظمى يف اإليامن بعد‬
‫اإلخالص‪ ،‬وهي الصرب كام يف حال الصالة‪ ..‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫[سورة "األحقاف" – من اآلية ‪.]35‬‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ِ﴾ ُ‬
‫وذلك بالرغم من أن مهمة اإلصالح والتغيري الذي تؤكد القوانني العمرانية‬
‫املستقاة من َق َصص القرآن الكريم عن األقوام السابقني‪ ،‬ودعوات أنبياء ُ‬
‫ور ُسل‬
‫اهلل تعاىل فيهم‪ ،‬أهنا ال تتم إال بالتدريج‪ ،‬وبوسائل اإلقناع املختلفة‪ ،‬وبأهنا لصالح‬
‫املجتمعات؛ ال العكس؛ ختربنا آيات القرآن الكريم يف هذا الصدد‪ ،‬بأنه َكم َّ‬
‫تعرض‬
‫والر ُسل إىل الكثري من العنت خالل أدائهم ملهامهم هذه‪.‬‬
‫هؤالء األنبياء ُّ‬
‫ووصل هذا االمر إىل حد التآمر عىل قتلهم‪ ،‬بل و ُقتِ َل بعضهم فع ً‬
‫ال‪ ،‬مثل نبي‬
‫اهلل‪ ،‬حييى (عليه السالم)‪ ،‬و َمن قتلهم بنو إرسائيل منهم‪ ،‬و َذ َكر القرآن الكريم‬
‫أمرهم من دون أسامئهم‪ ،‬مثل ما يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫﴾[سورة "املائدة" – اآلية ‪.]70‬‬
‫ﰀﰁ ُ‬
‫بل إن موسى (عليه السالم)‪ ،‬ملجرد أنه حاول اخلروج ببني إرسائيل من مرص‪ ،‬فقط‬
‫اخلروج هبم وقتام كان اإليامن ال يزال فيهم؛ تعرض ملطاردة من فرعون وجنوده لقتلهم‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫من املعامل املهمة كذلك للتكليف‪ ،‬واملهم إدراكها يف هذه املرحلة بالذات من‬
‫تاريخ املسلمني‪ ،‬هي اجلامعية؛ حيث إن خمتلف التكاليف واألوامر التي أقامها اهلل‬
‫سبحانه يف كتابه‪ ،‬وأكدت عليها املامرسة النبوية التي ُتعترب هي رشوح وتفصيل‬
‫للنص القرآين يف كثري من األحيان؛ كلها نلحظ فيها اجلانب اجلامعي؛ فالصالة‬
‫مجاعة يصل التأكيد عليها ملستوى الفريضة عند بعض العلامء‪.‬‬
‫وشاءت حكمة اهلل تعاىل يف تأكيد نبيه ﷺ عىل ذلك‪ ،‬أن وقت كل صالة يتيح‬
‫لكل مسلم أن يؤدهيا وحده‪ ،‬يف نقطة زمنية منفردة‪ ،‬بينام صيام رمضان َ‬
‫واحلج؛‬
‫عبادات مجاعية؛ إذ أنه بطبيعتها تفرض أن يقوم هبا املسلمون يف ذات الوقت‪.‬‬
‫وحتى الزكاة‪ ،‬بأنواعها‪ ،‬والتي قد تبدو أنه يمكن أن يقوم هبا كل مسلم وحده؛‬
‫فإن هدفها هو خدمة مجاعة املسلمني‪ ،‬وبعض أنواعها‪ ،‬مثل زكاة الزروع والثامر؛‬
‫الز َّراع وأصحاب األرض‪.‬‬
‫ختص مجاعات من املسلمني من ُّ‬
‫ويف األوامر والنواهي القرآنية؛ نالحظ أهنا قد جاءت مجيعها بصيغة اجلمع‪،‬‬
‫الص َيغ‪ ،‬وما كان منها بصيغة املفرد؛ فإنام كان‬
‫و"آتوا" و"افعلوا"‪ ،‬وغري ذلك من ِّ‬
‫موجها للرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وهو أمر بطبيعة احلال‪ ،‬يعني عموم املسلمني‪.‬‬ ‫َّ‬
‫إ ًذا؛ العمل اجلامعي من أهم جوانب فلسفة التكليف يف القرآن الكريم‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫ببساطة أن ندرك ملاذا يرتاجع املسلمون اآلن‪ .‬ألن األمة منقسمة‪ .‬هكذا ببساطة!‬
‫املعلم املهم اآلخر الذي نتناوله يف هذا املوضع‪ ،‬هو االستطاعة‪ ،‬ويأيت تناوله ألنه‬
‫– كذلك – من أهم أسباب عوامل وقوع اخللل احلايل؛ حيث إن احلامسة للعقيدة‪،‬‬
‫والتطلع إىل معايل األمور‪ ،‬مع اجلهل املوضوعي بتعاليم اإلسالم يف هذه النقطة‪،‬‬

‫‪314‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تدفع الكثريين إىل القيام بام يفوق طاقاهتم‪ ،‬وبالتايل؛ حيصل الفشل‪ ،‬مما – يف حال‬
‫عدم فهم هذه النقطة – يثري تساؤالت كثرية عن أسباب فشل جهد‪ ،‬هو خالص هلل‬
‫تعاىل‪ ،‬ويف أمور األمانة العظيمة األمهية‪.‬‬
‫والقرآن الكريم واضح يف هذا الصدد؛ يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪ ،]286‬ويقول ً‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ‬ ‫ﯜ﴾ ُ‬
‫[سورة "األنفال" ‪ -‬من اآلية ‪ ،]60‬وهو‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ ُ‬
‫ور ُسل اهلل تعاىل من قبل‪ ،‬فيقول عز وجل عىل لسان هود‬
‫أمر كان يف مدركات أنبياء ُ‬
‫ٌ‬
‫[سورة "هود" ‪ -‬من اآلية ‪.]88‬‬
‫(عليه السالم)‪﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ﴾ ُ‬
‫ومن املعامل القرآنية ً‬
‫أيضا املهم إدراكها يف هذا الصدد‪ ،‬أن التوفيق والنتيجة عىل‬
‫اهلل تعاىل؛ فال شأن لإلنسان بام قدَّ م اهلل تعاىل َّ‬
‫وأخر يف هذه األمور‪ .‬ففي آية "هود"‬
‫ال؛ قال هود (عليه السالم) لقومه بعد أن تكلم عن أن رسالته هي‬ ‫املتقدِّ مة مث ً‬
‫اإلصالح‪﴿ :‬ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾‪.‬‬
‫ولكننا اآلن – و ُيعذر الناس بعدم علمهم – َمن جيادل َ‬
‫اهلل تعاىل يف ثامر العمل‬
‫وتوقيتها‪ ،‬والسيام فيام يتعلق بأمور التمكني‪ ،‬أو استمرار الظاملني ظاهرين – ظاهر ًّيا‬
‫ذرة من‬ ‫– عىل أهل اإليامن‪ ،‬بناء عىل رؤية عقل إنساين قارص‪ ،‬ال يصل إىل مثال ٍ‬
‫حكمة اهلل عز وجل‪ ،‬فيقدرون أن ما يرونه هو انتصار للظاملني‪ ،‬وأن ظهور الظاملني‬
‫عىل املؤمنني قد طال؛ بينام هي أمور يف حساب اهلل عز وجل‪ ،‬ال ُتعترب ال انتصار‬
‫للظاملني‪ ،‬وال طول أجل هلم يف انتصارهم‪ ،‬حتى باملعيار الزمني البسيط‪.‬‬
‫‪.....‬‬

‫‪315‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مطو ً‬
‫ال‬ ‫ويف النهاية؛ فإن هذا األمر نقدِّ ر أنه من أهم األمور الواجب البحث فيها َّ‬
‫يف هذه الفرتة التي تشهد الكثري من الفتن لدى املسلمني‪ ،‬بشكل مل يسلم حتى منه‬
‫املخلصون من أبناء الدين‪ ،‬والعاملني يف جمال الدعوة؛ حيث إن تصويب املفاهيم‬
‫يف جذور منهج ما يقوم به الناس‪ ،‬وفهمهم ملا يقومون به‪ ،‬وأدواته ومآالته؛ إنام هو‬
‫أساس أي نجاح‪ ،‬يف أي جمال‪ ،‬وال يوجد أهم من القيام بام رضينا كبني آدم القيام‬
‫به من أعباء األمانة العظمى‪.‬‬
‫وهذا األمر كذلك افرتضته حكمة اهلل تعاىل كأحد صور ابتالء عقيدة التوحيد‪.‬‬
‫ان َظ ُلو ًما َج ُهوال"‪ ،‬وهي‬
‫ان إِ َّن ُه َك َ‬
‫نس ُ‬ ‫ح َل َها ا ِ‬
‫إل َ‬ ‫"و َ َ‬
‫ففي آية "األحزاب"‪ ،‬يقول تعاىل َ‬
‫– بالتايل – من خالل املنهج العقيل؛ يعني إشارة إهلية بأم ٍر مهم‪ ،‬وهو أنه إذا أراد‬
‫ال ما هي األمانة‪ ،‬وكيف‬ ‫اإلنسان النجاح يف محل األمانة؛ فإن عليه أن يعلم أو ً‬
‫حيملها‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"التمكين" في القرآن الكريم‪ ..‬مسؤولية وبداية وليس غاية ونهاية!‬

‫ِمن بني أكثر األمور املطروقة يف أدبيات احلركة اإلسالمية عىل اختالف مشارهبا‬
‫وألوان طيفها الفكري والتنظيمي؛ قضية التمكني‪.‬‬

‫والتمكني أو الـ"‪ "Stabilization‬أو الـ"‪ ،"Authorize‬هو مصطلح يأخذ أكثر‬


‫مستوى‪ ،‬فهناك املستوى السيايس للمفهوم‪ ،‬واملتعلق بنظام سيايس أو فكرة‬
‫ً‬ ‫من‬
‫أو أيديولوجية‪ ،‬يصل إىل احلكم لتنفيذ برناجمه أو فرض أفكاره‪ ،‬وهناك التمكني‬
‫املجتمعي‪ ،‬ويعني منح فئات معينة من أبناء املجتمعات‪ ،‬مثل الشباب واملرأة‪،‬‬
‫حقوقهم‪ ،‬والقدرة عىل ممارسة أدوارهم يف خمتلف االجتاهات‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وفيام خيص املستوى املتعلق باحلركة اإلسالمية وأدبياهتا؛ فإن "التمكني" يف‬
‫االصطالح يعني بدوره أكثر من أمر‪.‬‬

‫فهناك التمكني للدين‪ ،‬وهناك التمكني جلامعة من املسلمني‪ ،‬أو للحكم اإلسالمي‬
‫بشكل عام‪ ،‬ومن املفرتض أن يكون ذلك من أجل التمكني للدين‪ ،‬وبالتايل؛ تنفيذ‬
‫رشيعة اهلل عز وجل‪ ،‬وأحكامها يف األرض‪.‬‬

‫وهذه العبارة هي من أهم ما يكون يف صدد القضية التي نحن بصددها يف هذا‬
‫املوضع‪ ..‬التمكني للحكم اإلسالمي – أو َمن يمثله من مجاعات أو شخوص أو‬
‫تنظيامت‪ ..‬إلخ – من أجل التمكني للدين‪ ،‬وإقامة الرشيعة‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فإن سوء الفهم والتطبيق الذي أحاط هبذا األمر عىل وجه اخلصوص؛ ُيعترب‬
‫من بني أبرز املشكالت التي قادت إىل صور شتى من األزمات‪ ،‬ليس عىل مستوى‬
‫احلركة اإلسالمية فحسب؛ وإنام كذلك عىل مستوى األمة بالكامل‪ ،‬من أسوأها‪،‬‬
‫التكفري واالقتتال الداخيل‪.‬‬
‫ويف حقيقة االمر؛ فإن قضية التمكني قضية ُك ِّلية شديدة األمهية يف اإلسالم‪ ،‬من‬
‫الع َقدية‪.‬‬
‫الناحية َ‬
‫فهي أو ً‬
‫ال‪ ،‬ترتبط بقضية نرش الدعوة وحتكيم رشيعة اهلل تعاىل يف األرض‪ ،‬وهي‬
‫من أولويات أي مسلم‪ ،‬كام أهنا‪ ،‬ثان ًيا‪ ،‬تضم وفق املفهوم القرآين‪ ،‬الكثري من األمور‬
‫املتعلقة بالتسخري؛ حيث التمكني هو أعىل وأجىل صور التسخري‪.‬‬
‫معنى له باملنظور السيايس‪ ،‬احلق والقدرة يف السيطرة‬
‫ً‬ ‫فالتمكني يعني يف أقرب‬
‫وتوظيف املوارد‪ ،‬وتوزيعها‪ ،‬وبالتايل؛ فهو يتصل بنقطة عمران األرض واستخالف‬
‫اهلل عز وجل لإلنسان فيها‪.‬‬
‫والنقطة الثانية؛ هبا ما يتعلق باملحاسبة؛ حيث إن عدل اهلل تعاىل اقتىض أنه ال‬
‫يكون هناك حساب‪ ،‬إال بمسؤولية‪ ،‬واملسؤولية ال تكون إال بقدرة اإلنسان عىل‬
‫استغالل املوارد والتحكم فيها‪ ،‬واحلرية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫التمكني‪ ..‬مشكالت يف الرؤية والتطبيق‪:‬‬

‫بفحص األدبيات‪ ،‬واإلجراءات التي متت عىل األرض‪ ،‬واإلسرتاتيجيات التي‬


‫تم تبنيها يف هذا الصدد خالل العقود املاضية من تاريخ احلركة اإلسالمية‪ ،‬فيام‬

‫‪318‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫خيص هذه القضية؛ فإننا سوف نجد أنفسنا أمام الكثري من األخطاء املفاهيمية التي‬
‫قادت إىل نتائج سلبية يف التطبيق‪.‬‬
‫وربام ال نكون مبالغني لو قلنا إن ذلك كان أحد أهم أسباب نفور الكثري من‬
‫رشائح اجلمهور اإلسالمي العريض يف العامل اإلسالمي‪ ،‬أو حتى من غري املسلمني‬
‫من جمتمعات الدعوة املحتملة‪ ،‬من احلركة اإلسالمية ومن الدين ذاته‪ ،‬ودفعت إىل‬
‫تفضيل جمتمعات وجتمعات مسلمة بالكامل‪ ،‬خليار العلامنية‪ ،‬عن خيار "التمكني‬
‫اإلسالمي" بالصورة اخلاطئة التي طرحتها بعض اجلامعات‪.‬‬
‫وجاءت ظروف الفوىض التي رضبت الكثري من الدول املركزية يف املنطقة‬
‫العربية يف السنوات األخرية‪ ،‬وأدت إىل تراجع قبضة الدولة وسلطتها عىل‬
‫مساحات واسعة من أراضيها‪ ،‬مثل العراق وسوريا وليبيا‪ ،‬لكي تفسح املجال أمام‬
‫تلبست رداء السلفية اجلهادية‪ ،‬ونفذت‬
‫ظهور نوعية من املجموعات املسلحة التي َّ‬
‫صورا أقل ما ُتوصف به بأهنا مرعبة‪ ،‬للتمكني اإلسالمي‪ ،‬مما دفع رشائح واسعة من‬
‫ً‬
‫العرب واملسلمني‪ ،‬وغري العرب واملسلمني‪ ،‬إىل االعتقاد بأن النموذج اإلسالمي يف‬
‫احلكم ال يعني سوى العودة إىل العصور الوسطى!‬
‫وحتى عىل مستوى احلركة اإلسالمية الصحوية؛ وجدنا بعض املجموعات‬
‫انفتاحا وتقدمية يف أفكاره ورؤاه عن احلكم‬
‫ً‬ ‫املحسوبة عىل تيار املفرتض أنه األكثر‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬وصورة الدولة‪ ،‬وهو تيار اإلخوان املسلمني‪ ،‬قد حاد عن الصورة‬
‫املثىل َّ‬
‫اجلذابة املفرتض تأليف القلوب هبا حول املرشوع اإلسالمي‪ ،‬من خالل‬
‫بعض األمور واملامرسات التي جرت خالل احلرب السورية‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن نبقى مع أدبيات وأفكار احلركة اإلسالمية الصحوية التي تظل حقيقة مهمة؛‬
‫أهنا هي التي قدمت النمط األفضل‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬األكثر قابلية للمناقشة يف هذا األمر‪،‬‬
‫من بني األوساط واجلامعات األخرى التي تضع نفسها ضمن تصنيف "إسالمي"‪.‬‬
‫من بني األخطاء املهمة التي نجدها يف هذا الصدد؛ خطآن من نوعية األخطاء‬
‫التي ُيطلق عليها توصيف "األمور التأسيسية"‪ ،‬ومها؛ أو ً‬
‫ال‪ ،‬اخلطأ التقليدي‪،‬‬
‫والذي يستبدل الدين باجلامعة‪ ،‬أو يطابقهام‪ ،‬وهذا أمر أو مرض تم تناوله يف أكثر‬
‫من موضع من احلديث‪ ،‬ومفهوم وواضح‪ ،‬وقاد ملآيس عدة نراها يف عاملنا اليوم‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين؛ هو الوقوف عند مرحلة التمكني كهدف‪ ،‬بل كغاية‪ ،‬وعدم وجود‬
‫تصور ملا بعد التمكني‪ ،‬وفق املفهوم الرشعي للتمكني‪.‬‬
‫أي ُّ‬
‫وهي مشكلة واجهتها أحزاب إسالمية عديدة‪ ،‬حمسوبة عىل تيار اإلخوان‬
‫جزئيا يف تصدُّ ر املشهد االنتخايب يف‬
‫ًّ‬ ‫املسلمني‪ ،‬أو غري تيار آخر‪ ،‬عندما نجحت‬
‫الكثري من الدول بعد ما ُيعرف بثورات "الربيع العريب"؛ حيث مل جيد الرأي العام‬
‫– مع حتييد عامل املؤامرة التي تعرضت هلا بعض هذه األحزاب من قوى ممانعة‬
‫– صورة واضحة لسؤال مركزي‪ ،‬ومرشوع‪ ،‬مفاده؛ ما هي معامل نموذج التمكني‬
‫للمرشوع اإلسالمي‪.‬‬
‫قصورا‪ ،‬بل خل ً‬
‫ال يف فهم مصطلح "التمكني"؛ حيث التمكني للدين‬ ‫ً‬ ‫وهنا نجد‬
‫أو للمرشوع اإلسالمي‪ ،‬ال يعني فقط إقامة الرشيعة‪ ،‬وإنام استيفاء كافة أركان‬
‫النظام السيايس واالجتامعي واالقتصادي للدولة أو املجتمع الذي تتحرك فيه‬
‫احلركة اإلسالمية‪ ،‬وتسلمت فيه فع ً‬
‫ال زمام السلطة والقرار‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التمكني يف َّ‬
‫النص القرآني‪:‬‬

‫قد ال يعلم الكثريون أن مبدأ القرآن الكريم يف نقطة التمكني وغريها؛ هو أن كل‬
‫يشء يتم؛ إنام يتم بمراد اهلل تعاىل‪ ،‬وبمشيئته‪.‬‬
‫وسف"‬
‫والقرآن الكريم‪ ،‬عندما تكلم عن التمكني يف ُسور عديدة‪ ،‬مثل " ُي ُ‬
‫َ‬
‫و"احلج" و"األنعام"؛ فإن اهلل تعاىل يقول يف كل موضع من املواضع‬ ‫و"الكهف"‪،‬‬
‫التي ورد فيها مصطلح ﴿ﭒ﴾ أو ﴿ﮆ﴾‪ ،‬أو غري ذلك من االشتقاقات؛ فإن‬
‫مردها إىل اهلل عز وجل‪ ،‬حتى متكني الظاملني‪ ،‬وليس األنبياء والصاحلني فحسب‪.‬‬
‫يقول تعاىل‪﴿ :‬ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬اآلية ‪ ،]6‬فهذه اآلية تشري إىل أن‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ ُ‬
‫التمكني من لدن اهلل عز وجل‪ ،‬وسواء للكافرين أو للمؤمنني ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾‪.‬‬
‫ٌ‬
‫تكليف‪ ،‬وليس هد ًفا أو غاي ًة؛ حيث ينبغي عىل اإلنسان أو‬ ‫ثم إن التمكني‪،‬‬
‫اجلامعة املسلمة‪ ،‬أن تقوم بأعباء ومهام متى َّ‬
‫مكن اهلل تعاىل هلا‪ ،‬وال تقف عند جزئية‬
‫الوصول إىل السلطة أو القرار‪.‬‬
‫والدليل من القرآن الكريم كذلك؛ حيث يقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ﮄ ﮅ‬
‫ﮆﮇﮈﮉﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ‬
‫[سورة َ‬
‫"احلج" ‪.]41 -‬‬ ‫ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ ُ‬

‫‪321‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فاآلية تشري إىل منظومة كاملة من املهام واألعباء التي يفرضها متكني اهلل تعاىل‬
‫للمسلمني‪ ،‬يف العبادات (الصالة)‪ ،‬واالقتصاد (الزكاة‪ ،‬وهي كذلك عبادة)‪،‬‬
‫والرعاية االجتامعية (األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وهي كذلك عبادة)‪.‬‬
‫وهذا األمر يطرح حقيقة مهمة للتمكني‪ ،‬وهي أنه ليس باملفهوم السيايس‬
‫فحسب‪ ،‬وإنام قد يكون يف شأن اجتامعي‪ ،‬بل ويف أبسط األمور واملوارد‪ ،‬حتى‬
‫يقوم عمله‪ ،‬وحياسبه إما ثوا ًبا أو‬
‫رعاية األرسة؛ هذا متكني لرب األرسة‪ ،‬واهلل تعاىل ِّ‬
‫عقا ًبا‪ ،‬بحسب ما اقرتف وجاء به من أداء‪.‬‬
‫ويف هذا‪ ،‬وبشكل عام؛ ينظر اهلل تعاىل فيام َّ‬
‫مكن اإلنسان فيه‪ ،‬وهذه العبارة‬
‫تتضمن بعض األمور املهمة بجانب ما سلف‪.‬‬
‫ومن بني أهم ما فيها‪ ،‬هو أن هذا الذي آتى اهلل عز وجل إياه املسلم أو اجلامعة أو‬
‫القيادة املسلمة؛ إنام هو الختبار اجلميع فيه‪ ،‬مع احتفاظ اهلل عز وجل بحق أصيل مل‬
‫يرشك فيه أحدً ا‪ ،‬وهو النتيجة واملحاسبة‪ ،‬بينام نجد بني ظهرانينا مسلمني حياسبون‬
‫يستجب هلم‪ ،‬أو مل ِّ‬
‫يمكن هلم‪ ،‬أو يتساءلون عن‬ ‫ِ‬ ‫اهلل عز وجل – حاشا هلل – ألنه مل‬
‫التوقيت‪ ،‬وكذا!‬
‫وبالتايل؛ فإن واجب الوقت؛ هو تصويب هذه املفاهيم‪ ،‬والتأكيد عىل أجيال‬
‫املسلمني الناشئة عىل أنه ينبغي عىل الناس أن تنظر ملا حتت أيدهيم من موارد‪ ،‬ومن‬
‫أمانات‪ ،‬ومن كل يشء َّ‬
‫مكن اهلل تعاىل هلم فيه‪ ،‬ولو كان مسؤولية أرسة صغرية؛‬
‫كيف يتحركون فيها؛ فإهنم عنها مسؤولون‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"الحاكمية" وقضية االجتهاد المقاصدي والتجديد‪..‬‬


‫ر ً ّدا على دعاة الجمود والتكفير!‬

‫ُتعترب قضية احلاكمية أحد أهم القضايا التي تواجه العاملني يف حقل الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والناشطني يف جمال احلركة اإلسالمية‪ ،‬باعتبار أهنا أحد أهم األمور‬
‫الرشعية التي ترتبط بقضية السياسة واحلكم يف اإلسالم‪ ،‬وبالتايل؛ فهي من ضمن‬
‫الركائز األساسية التي توجه احلركة اإلسالمية‪ ،‬عىل اختالف تنويعاهتا الفكرية‬
‫واجتاهاهتا احلركية‪.‬‬
‫تضع احلركات اإلسالمية تصوراهتا للصريورات االجتامعية والسياسية‬
‫والفكرية للمجتمعات التي تسعى إىل إصالحها‪ ،‬وإقامة نظام احلكم اإلسالمي‬
‫فيها‪ ،‬وفق قواعد الرشيعة اإلسالمية الصحيحة‪ ،‬وهو ما ُيعرف باحلاكمية‪ ،‬وذلك‬
‫استنا ًدا إىل عدد من األدلة واالصول‪ ،‬أمهها آيات ُسورة "املائدة" الثالث التي تؤكد‬
‫عة وأحكام‪ ،‬باعتباره أن ذلك من صميم اكتامل‬ ‫ش ٍ‬‫عىل أمهية احلكم بام أنزل اهلل من ِ ْ‬
‫إيامن اإلنسان واصطباغ اجلامعة بصبغة اإلسالم الصحيحة‪.‬‬
‫واألمر القرآين يتجاوز اآليات الثالث املعروفة والتي فيها عبارة ﴿ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‪ ،﴾...‬وهي اآليات (‪ )44‬و(‪ )45‬و(‪)47‬؛ حيث‬
‫يف األوىل‪﴿ :‬ﮫ ﮬ﴾‪ ،‬ويف الثانية‪﴿ :‬ﯮ ﯯ﴾‪ ،‬ويف الثالثة‪﴿ :‬ﭼ‬
‫ﭽ﴾‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهذه اآليات جزء من سياق قرآين من ذلك‪ ،‬ويبدأ من اآلية الثانية واألربعني‪،‬‬
‫من قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪ ،‬وحتى اآلية اخلمسني‪ ،‬يف قوله‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ﴾‪.‬‬
‫قسم ْي‪ ،‬األول يتعلق بعالقة الرسول الكريم‪،‬‬
‫وينقسم هذا السياق القرآين إىل َ‬
‫حممد ﷺ‪ ،‬مع اليهود والنصارى‪ ،‬بعد أن تم له إقامة دولة اإلسالم األوىل يف املدينة‬
‫املنورة‪ ،‬والقواعد احلاكمة بينه ﷺ‪ ،‬وبينهم‪ ،‬والثاين‪ ،‬وهو منبعث من األول‪ ،‬ويتعلق‬
‫بموقف املؤمنني ومجاعة املسلمني‪ ،‬من رشيعة اهلل عز وجل‪ ،‬وكيفية التعامل معها‪.‬‬
‫القسم األول من السياق‪ ،‬مرتبط بالقسم الثاين منه‪ ،‬وهو احلكم بام أنزل اهلل تعاىل‬
‫ذم أشدَّ َّ‬
‫الذ ِّم‬ ‫واضحا يف ْ‬
‫أن َّ‬ ‫ً‬ ‫عىل عباده‪ ،‬ويف حالة أهل الكتاب‪ ،‬كان السياق القرآين‬
‫وخصوصا اليهود من بني‬
‫ً‬ ‫فيام فعلوه من حتريف وخروج عن رشعة اهلل تعاىل هلم‪،‬‬
‫إرسائيل‪ ،‬والثاين يتعلق باألمر املوجه للمسلمني‪ ،‬وعىل رأسهم نبيهم حممد ﷺ‪،‬‬
‫بعدم فعل ذلك‪ ،‬والتحذير أشدِّ التحذير من تكرار ما قام به اليهود والنصارى يف‬
‫القرون السالفة‪.‬‬
‫إ ًذا‪ ،‬ال خالف عىل احلاكمية‪ ،‬حاكمية الرشيعة التي ارتضاها لنا اهلل عز وجل يف‬
‫كل يشء‪ ،‬يف أمور اجلامعة والفرد‪.‬‬
‫ولكن ثمة مشكلة مفاهيمية شديدة األمهية يف هذا األمر‪ ،‬قادت إىل أكرب ٍ‬
‫حمنة‬
‫واجهتها األمة عرب تارخيها‪ ،‬وهي حمنة فتنة التكفري‪ ،‬بعد تعطيل فريضة االجتهاد يف‬

‫‪324‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تأويل النص الرشعي قطعي الثبوت‪ ،‬ظني الداللة‪ ،‬التي قادت إىل أسوأ حالة من‬
‫االقتتال بني املسلمني‪ ،‬يسقط فيها كل يوم عرشات من أبناء الدين الواحد الذين‬
‫يشهدون بأنه ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬وأن حممدً ا ﷺ عبده ورسوله‪.‬‬
‫واملتأمل يف أدبيات اجلامعات التي تتبنى تكفري اآلخر املسلم؛ سوف جيد قضية‬
‫مهمة للغاية‪ ،‬يستند إليها اجلميع تقري ًبا يف هذا الصدد‪ ،‬وهي أن اآلخر املسلم ال‬
‫يستند إىل الرشيعة اإلسالمية – وفق فهمه هلا – يف كل ما يقوم ويفعل‪ ،‬ويستند إىل‬
‫قوانني وضعية‪ ،‬أو قواعد فقهية جديدة أقرها فقهاء األمة وعلامؤها الثقات للتعامل‬
‫مع مستجدات الواقع؛ جيد التكفرييون أهنا خترج عن أحكام الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وال تتطابق معها‪ ،‬وبالتايل فهم يك ِّفرون ِّ‬
‫ويفسقون كل من ال يلتزم برؤيتهم للرشعة‬
‫واملنهاج الذي وضعه اهلل عز وجل يف كتابه‪ ،‬وكام طبقه النبي ﷺ‪.‬‬
‫تعود هذه األزمة إىل جذور عميقة ضاربة يف التاريخ‪ ،‬وبالذات يف عصور‬
‫التخلف واالنحطاط التي اب ُتي َل ْت هبا األمة‪ ،‬وكذلك فرتات االستعامر الطويلة‪،‬‬
‫والتي أدى – كالمها – إىل حالة من التخلف الفكري واجلهل‪ ،‬التي فعلت فعلها‬
‫يف أجيال كاملة من شباب األمة‪ ،‬فباتوا عىل هذه الدرجة من سوء الفهم‪ ،‬وعدم‬
‫القدرة عىل إعامل العقل‪ ،‬وفهم صحيح الدين ومقاصده‪.‬‬
‫إال أننا نقف أمام مشكلة خاصة ترتبط هبذه القضية‪ ،‬وهي وقوف هذه النظرة‬
‫التقليدية للدين ولنصوصه قطعية الثبوت‪ ،‬وقفة مجود وتقليد‪ ،‬وعدم األخذ‬
‫بأسباب االجتهاد والتجديد‪ ،‬بحيث يمكن القول إهنا واحد ٌة من أعظم األمراض‬
‫التي ابتليت هبا األمة؛ حيث إن هذه احلالة ِمن َو ْقف العقل عند حدود النص‪ِ ،‬من‬

‫‪325‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫دون إعامل العقل فيه‪ ،‬وغلق باب االجتهاد والتجديد‪ ،‬أدت إىل حالة من الرجعية‬
‫والتخلف‪ ،‬أوصلتها إىل ما هي عليه اآلن من رصاعات داخلية واستعامر وترشذم‪،‬‬
‫وسط طوفان ال ينتهي من دماء أبناء األمة‪ ،‬بيد إخواهنم املسلمني‪ ،‬وبيد أعدائهم‬
‫عىل حد سواء‪.‬‬
‫وقاد ذلك بالتايل‪ ،‬إىل عدم قدرة األمة عىل التقدُّ م خطوة واحدة إىل األمام عىل‬
‫طريق استعادة خرييتها‪ ،‬وجمدها احلضاري‪ ،‬والتواجد يف إطار األمم املتقدمة‬
‫حضار ًّيا‪ ،‬ويف ظل رصاع ال يرحم بني القيمة واملادة‪ ،‬وطبيعة وحشية للقوى التي‬
‫تتصدر السباق احلضاري يف هذه املرحلة من تاريخ اإلنسانية؛ فكان ذلك يعني –‬
‫يف ظل غياب غطاء اخلالفة السيايس واالجتامعي واحلضاري اجلامع للمسلمني‬
‫– انسحا ًقا كام ً‬
‫ال لألمة‪.‬‬
‫يستند هؤالء إىل فهم قارص لبعض النصوص الصحيحة‪ ،‬والسيام يف جمال فهم‬
‫أحاديث الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬عن قضية البدعة‪ ،‬ويضعون كل ما ال يتفق مع‬
‫السنن‬
‫تفكريهم يف إطار البدعة‪ ،‬متناسني أن الرسول ﷺ‪ ،‬قد حتدث كذلك عن ُّ‬
‫احلسنة‪.‬‬
‫فبينام يقول الرسول الكريم ﷺ‪َ " :‬من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه‬
‫رد" [صحيح‪ /‬أخرجه ال ُبخاري ومسلم]‪ ،‬ويقول عنه احلافظ ابن حجر‬
‫فهو ٌّ‬
‫العسقالين يف "فتح الباري"‪" :‬هذا احلديث معدود من أصول اإلسالم‪ ،‬وقاعدة‬
‫من قواعده‪ ،‬فإن معناه‪َ :‬من اخرتع من الدين ما ال يشهد له ٌ‬
‫أصل من أصوله؛ فال‬
‫ُيلتفت إليه"‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبينام يقول يف احلديث الصحيح كذلك‪ ،‬أنه ﷺ‪ ،‬يف خطبة مجعة‪" :‬خري احلديث‬
‫ٍ‬
‫بدعة ضاللة" [أخرجه‬ ‫كتاب اهلل وخري اهلدي هدي ٍ‬
‫حممد ورش األمور حمدثاهتا وكل‬
‫ٍ‬
‫ضاللة يف النار"]؛‬ ‫ٍ‬
‫بإسناد حسن‪" :‬وكل‬ ‫مسلم يف الصحيح‪ ،‬وزاد النسائي عليه‬
‫إال أن هناك حديث صحيح له ﷺ‪ ،‬يقول فيه‪َ " :‬من َس َّن يف ا ِ‬
‫إلسالم ُس َّنة َح َسنَة‬
‫ص من أجورهم يشء ومن‬ ‫وأجر من عمل هبا من بعده من غري أن َي ْن ُق َ‬
‫ُ‬ ‫أجرها‬
‫فله ُ‬
‫إلسالم ُس َّنة س ِّيئة كان عليه ِوزْ ُرها َو ِوزْ ُر َم ْن عمل هبا من بعده من غري أن‬
‫َس َّن يف ا ِ‬
‫ص من أوزارهم يشء" [أخرجه مسلم والنسائي]‪.‬‬ ‫ينق َ‬‫ُ‬
‫إ ًذا؛ ليس كل ما يتم إدخاله عىل اإلسالم من اجلديد؛ هو بدعة أو ُس َّنة سيئة؛‬
‫حيث العربة يف ذلك بعدد من املعايري التي حددهتا هذه األحاديث النبوية الرشيفة‪،‬‬
‫األوالن؛ يذمنا يف َمن اخرتع من الدين‬
‫وكلها صحيح‪ ،‬وال تناقض بينها‪ ،‬فاحلديثان َّ‬
‫ما ال يشهد له ٌ‬
‫أصل من أصوله‪ ،‬كام قال ابن حجر‪.‬‬
‫الس َّنة أو هذا اجلديد‪ ،‬مع الرشيعة‬
‫املعيار الثاين‪ ،‬هو – بالتايل – مدى اتفاق هذه ُّ‬
‫اإلسالمية ومقاصدها‪ ،‬وبالتايل؛ هل هي تفيد مجاعة املسلمني أم ال‪.‬‬
‫واألمر بسيط؛ فحديث الر ِّد‪ ،‬فيه قولة للرسول الكريم ﷺ‪ ،‬حتسم األمر‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ٌ‬
‫أصل يف أصول الدين وأدلته‬ ‫رد األمر؛ يكون ملا ليس له‬ ‫"ما ليس منه"‪ ،‬أي أن َّ‬
‫الس َّنة‪ ،‬كام يف احلديث الثاين‪" :‬خري احلديث كتاب اهلل وخري‬
‫الرشعية‪ ،‬وهي القرآن ُّ‬
‫ٍ‬
‫حممد"‪.‬‬ ‫اهلدي هدي‬
‫كام أن هناك حدي ًثا آخر للرسول الكريم ﷺ يقول فيه‪" :‬إن اهلل يبعث هلذه األمة‬
‫عىل رأس كل مائة سنة من جيدد هلا دينها" [صحيح‪ /‬أخرجه أبو داود واحلاكم‬

‫‪327‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وصححه األلباين]‪ ،‬واملعنى هنا واضح متا ًما فيام يتعلق بأن التجديد ُس َّنة‬
‫َّ‬ ‫والبيهقي‪،‬‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتمية لصريورات الدين عرب الزمن‪ ،‬وذلك حتى يكون‬
‫والتجديد بطبيعة احلال‪ ،‬عامده إعامل العقل يف النص ألجل استخالص األحكام‬
‫بمعنى آخر االجتهاد يف العمل عىل إسقاط أحكام‬
‫ً‬ ‫التي يتطلبها الواقع املستجد‪ ،‬أي‬
‫سمى يف العلوم الرشعية بالفقه‪.‬‬
‫الرشيعة عىل الواقع‪ ،‬وهو ما ُي َّ‬
‫إ ًذا؛ ف ُتعرب هذه األزمة‪ ،‬عن حالة من اجلمود الفكري لدى أصحاهبا؛ حيث‬
‫هذه القضية مفصلية لدى أصحاب الفكر التكفريي‪ ،‬فهم‪ ،‬بدعوى أهنم ال‬
‫يريدون إحداث بِدَ ٍع يف الدين‪ ،‬وبالتايل ال يزيدون عن احلكم الرشعي املوجود‬
‫بنصه؛ يوقفون النص متا ًما عىل ظاهره‪ ،‬وذلك بالرغم من حقيقة أقرها العلامء‪،‬‬
‫ِّ‬
‫أن القرآن الكريم الذي يضم ‪ 6236‬آي ًة؛ ال يتجاوز عدد اآليات قطعية الداللة‬
‫فيه عىل ‪ 219‬آية فقط‪ ،‬أي أن االجتهاد والتأويل هو أساس فهم القرآن الكريم‬
‫ومعرفة أحكامه‪.‬‬
‫وهذه املهمة‪ ،‬هي مهمة العلامء والراسخون يف العلم‪ ،‬ومرتبة املجتهد يف العلم‬
‫الرشعي‪ ،‬عظيمة‪ ،‬وجيب عىل من يصل إليها املرور بمراحل ش َّتى من العلم والتأهيل‬
‫الفكري وحتى البدين؛ ملشاق ذلك‪.‬‬
‫تفس القرآن الكريم‪ ،‬وأن القرآن‬
‫الس َّنة النبوية ِّ‬
‫كام يتجاوز هؤالء عن قضية أن ُّ‬
‫قاطعا كام‬
‫ً‬ ‫الكريم يفرس بعضه‪ ،‬بمعنى أن احلكم الرشعي يف آية بعينها ال يكون‬
‫ورد يف ظاهر النص؛ حيث إن هناك بعض النصوص القرآنية فرسهتا آيات أخرى‪،‬‬

‫‪328‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة النبوية‪ ،‬كام أن – األهم – أن هناك سياقات زمنية آليِ القرآن‬
‫أو فرسهتا ُّ‬
‫الكريم املختلفة‪ ،‬وهذا السياق الزمني مهم لفهم احلكم الذي ورد يف اآلية‪ ،‬وكيفية‬
‫وحاالت تطبيقه‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ ،‬ما جاء يف ُسورة "الفرقان"؛ حيث يقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ﯓ‬
‫"و َج ِ‬
‫اهدْ ُهم‬ ‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾‪ ،‬واملقصود بعبارة َ‬
‫بِ ِه"‪ ،‬هو القرآن الكريم‪.‬‬
‫هذه اآلية َم ِّك َّية‪ ،‬ويف وقت أن نزلت‪ ،‬حدث أن تصادف أن جادل بعض‬
‫الصحابة األوائل‪ ،‬الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يف مسألة قتال املرشكني‪ ،‬بعدما بدأوا يف‬
‫التنكيل باملسلمني األوائل؛ فأكد النبي ﷺ‪ ،‬أنه مل يؤمر بقتال‪ ،‬وقال هلم‪" :‬مل نؤمر‬
‫بذلك – يعني‪ :‬القتال – ولكن ارجعوا إىل رحالكم" [صحيح‪ /‬أخرجه البيهقي‬
‫والنووي وآخرون]‪.‬‬
‫وهذا أثبت أن اجلهاد املذكور يف آية الفرقان هو جهاد البيان وليس جهاد السنان‪،‬‬
‫سمى بالسلفية اجلهادية‪،‬‬
‫بينام يؤكد منظرو اجلامعات التكفريية ومن ينتمون إىل ما ُي َّ‬
‫أن القتال هو صورة اجلهاد الوحيدة يف اإلسالم‪.‬‬
‫إ ًذا قضية احلاكمية مثلها مثل نصوص القرآن الكريم؛ هلا أوجه وأحكام وقواعد‬
‫لتطبيقها‪ ،‬وال يتعارض معها وضع قوانني وأحكام جديدة يف جمال سياسة الرعية وحكمها‪.‬‬
‫ويف سرية الرسول الكريم ﷺ – كذلك – ما يؤكد هذا‪ ،‬ففي سرية ابن إسحاق‬
‫"ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وابن هشام‪ ،‬ثبات عنه ﷺ‪ ،‬خطابه لسيدنا معاذ بن جبـل‬

‫‪329‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو ﷺ‪ ،‬يلقنه ما سوف يفعله مع أهل اليمن‪ ،‬وإيالم سوف يستند معهم‬
‫يف تعليمهم دين اهلل؛ وصل معه ﷺ‪ ،‬إىل منطقة‪" :‬وإن مل جتد" يف كتاب اهلل‬
‫وس َّنة رسوله"‪ ،‬إىل موافقة رصحية منه ﷺ‪ ،‬عىل ما قاله سيدنا معاذ فيام يتعلق‬
‫ُ‬
‫والس َّنة النبوية‪.‬‬
‫باالجتهاد واإلتيان باجلديد‪ ،‬وفق ما فهمه من القرآن الكريم ُّ‬
‫"ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ :‬أجتهد رأي‬ ‫َ‬ ‫بل إن ذلك مطلوب يف اإلسالم؛ فلام قال معاذ‬
‫وال آلو‪ .‬قال الرسول ﷺ‪" :‬احلمد هلل الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يريض رسول‬
‫اهلل"‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري؛ فإن هذه القضية هي من أهم ما يمكن للعاملني يف حقل الدعوة‬
‫واحلركة اإلسالمية‪ ،‬بحيث يتم الوصول إىل نقطة اتفاق حول دقائق وقواعد تطبيقها‪،‬‬
‫فال خالف عىل حاكمية الرشيعة يف كل أمر اإلنسان املسلم‪ ،‬واملجتع املسلم؛ إال أهنا‬
‫يف إطارها العام تستوجب املزيد من الفهم‪ ،‬حتى ال يتحول كل حكم جديد بشأن‬
‫مستجدات أوضاع املسلمني‪ ،‬يف جمال للتكفري وتعطيل االجتهاد‪ ،‬يف وقت أحوج‬
‫ما تكون فيه األمة إىل خطوة واحدة إىل األمام يف ظل سباق بني األمم‪ ،‬ال يرحم من‬
‫يتخلف عنه!‬

‫‪330‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الكفر واإليمان‪ ..‬بين البهيمية ومعالي األمور!‬


‫الخطاب القرآني بين أهل ُ‬

‫أتى القرآن الكريم؛ ليكون أهم عالمات أمام اإلنسان لكي هيتدي يف احلياة الدنيا‬
‫إىل سبيل الرشد والرجاء‪ ،‬وليكون املرجعية األساسية للمسلم يف فهم الكون من‬
‫حوله‪ ،‬وكيفية التعامل معه ومع األمور التي ُتعرض عليه يف كل حلظة من حلظاته‬
‫يف حياته الدنيا‪ ،‬وحتى بعد مماته؛ مما ينتظره من سؤال وحساب‪ ،‬ومن قبل ذلك يف‬
‫الدنيا‪ ،‬ما يمر به من قضاء وقدر‪.‬‬

‫والقرآن الكريم يف هذا اإلطار‪ ،‬حيتوي عىل العديد من صور املحتوى املختلفة؛‬
‫فهناك الرسديات التارخيية وقصص األولني‪ ،‬وهناك اإليامنيات‪ ،‬وهناك العمرانيات‪،‬‬
‫املوجه‪ ،‬ما بني أهل اإليامن وأهل‬
‫إال أنه لعل أهم ما يف القرآن الكريم‪ ،‬هو اخلطاب َّ‬
‫الكفر؛ سواء أهل الكفر من املارقني وصناديد ِّ‬
‫الشك والصد عن سبيل اهلل‪ ،‬أو أهل‬
‫املجتمعات التي نزل القرآن الكريم هلدايتها بخطابه‪ ،‬أي املجتمعات التي تتم فيها‬
‫الدعوة إىل اهلل عز وجل ودينه اخلاتم‪.‬‬
‫ُ‬
‫إدراكها‪ ،‬مثل‬ ‫فهذا اخلطاب يتضمن أهم األمور التي جيب عىل البرشية برمتها‪،‬‬
‫دالئل وجود اهلل عز وجل‪ ،‬ودالئل التوحيد‪ ،‬والرسالة التي ُخلق اإلنسان ألجلها‪،‬‬
‫وألجلها ُأن ِزل إىل األرض‪ ،‬وغري ذلك من عظيم األمور مما تاه يف زحام املادية‬
‫والعلامنية التي غزت كل أركان جمتمعاتنا املسلمة يف الوقت احلارض‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وخيتلف اخلطاب القرآين املوجه إىل كل فئة من هذه الفئات الثالث؛ املؤمنني‪،‬‬
‫وصناديد الكفر ِّ‬
‫والشك وأهل اجلحود‪ ،‬ثم َمن ُهم من غري أهل اإليامن‪ ،‬يف‬
‫املجتمعات املستهدفة بالدعوة إىل الدين احلنيف‪.‬‬

‫موج ًها إىل الفئت َْي‬


‫َّ‬ ‫والتأمل يف اآليات القرآنية‪ ،‬والتي تتضمن خطا ًبا‬
‫األخري َت ْي‪ ،‬سواء خالل سنوات البعثة اخلامتة‪ ،‬أو قوم أنبياء اهلل تعاىل ورسله‬
‫السابقني عىل حممدﷺ؛ سوف نجد أن رب العزة سبحانه خياطبهم‪ ،‬يف خطاب‬
‫الرتغيب عىل وجه اخلصوص‪ ،‬ينحرص يف األمور التي تتعلق بحاجات اإلنسان‬
‫القريبة‪ ،‬وهي احلاجة إىل األمن‪ ،‬وما حيقق احلاجات الفسيولوجية القريبة‪ ،‬مثل‬
‫الرزق املادي‪.‬‬

‫ولذلك داللة مهمة إذا ما قارناه بخطاب أهل اإليامن يف القرآن الكريم؛ حيث‬
‫– كام سوف نرى – ينطلق اخلطاب القرآين ألهل اإليامن‪ ،‬من معايل األمور‪ ،‬وعىل‬
‫رأسها نرش دعوة اإلسالم‪ ،‬واجلهاد يف سبيل اهلل تعاىل‪ ،‬بكل صور وألوان ومعاين‬
‫اجلهاد‪.‬‬

‫هذا الفارق الذي يتضح يف اآليات القرآنية التالية؛ يؤرش حلقيقة مهمة‪ ،‬وهي‬
‫أن إنسانية اإلنسان ال تكتمل إال بالوصول إىل مرتبة اإليامن‪ ،‬فهو عندما ال يكون‬
‫مؤمنًا؛ فإن اهلل عز وجل خياطبه بام يتساوى فيه مع املخلوقات األدنى‪ ،‬مثل هبيمة‬
‫األنعام‪ ،‬الطعام واألمن وما اتصل بذلك‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويتضح ذلك يف احلوار الشهري بني اهلل عز وجل‪ ،‬وبني اخلليل إبراهيم "ﷺ‪ ،‬يف‬
‫ُسورة "البقرة"‪ ،‬فيقول تبارك وتعاىل يف ُم َكم التنزيل‪﴿ :‬ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬
‫ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ ﯴﯵﯶﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﴾‪.‬‬

‫هنا معايل األمور‪ ،‬وهي إمامة الناس‪ ،‬واإلمامة هنا عند أهل التفسري؛ هي الدعوة‬
‫والنبوة‪ ،‬وهي أعظم مهمة محلها اإلنسان‪ ،‬وناءت بحملها الساموات واألرض‬
‫وفصلت اآلية (‪ ،)125‬يف بعض تفاصيلها‪ ،‬مثل خدمة أهل بيت اهلل‬
‫واجلبال‪َّ ،‬‬
‫احلرام‪ ،‬وحجيجه‪ ،‬أما احلاجات األساسية‪ ،‬ممثلة يف ﴿ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾؛ كان‬
‫العهد اإلهلي‪ ،‬بأن يكون للمؤمن والكافر عىل ٍ‬
‫حد سواء‪.‬‬
‫يف األوىل‪ ،‬اإلمامة والنبوة؛ قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾‪ ،‬أما يف‬
‫ردا عىل خطاب إبراهيم ﷺ‪َ " ،‬م ْن آ َم َن‬ ‫الثانية؛ يف الرزق والثمرات؛ قال عز وجل ًّ‬
‫اللِ َوا ْل َي ْو ِم ِ‬
‫اآلخ ِر"‪ ،‬ظ ًّنا منه أن ذات احلكم يف األوىل‪ ،‬اإلمامة والنبوة‪ ،‬ينطبق‬ ‫ِم ْن ُهم بِ َّ‬
‫ال‪﴿ :‬ﰉ ﰊ﴾؛‬ ‫وانصياعا هلل عز وجل وتأد ًبا معه؛ َق َ‬
‫ً‬ ‫عىل الرزق املادي‪ ،‬استجابة‬
‫خص اهلل عز‬
‫فشمل الكافرين بالرزق املادي الذي هو أدنى من عظيم األمور التي َّ‬
‫وجل هبا املسلمني واملؤمنني من عباده‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف القرآن الكريم الكثري من اآليات التي خاطب هبا اهلل تعاىل أهل الكفر‬
‫واملجتمعات التي نزلت فيها رسالته ونبواته‪ ،‬مثل‪﴿ :‬ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾‬
‫[سورة "ال َق َصص"]‪ ،‬هنا العقاب جاء ألن هؤالء القوم "بطروا معيشتهم" أو جحدوا‬
‫ُ‬
‫وكفروا بأنعم اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬ممثلة يف الرزق املادي القريب‪ ،‬ويف اآلية‪ ،‬كام يقول ابن‬
‫كثري‪ ،‬إنه كان فيها تعريض بأهل مكة‪.‬‬
‫وذات الرسالة يف ُسورة "قريش"؛ حيث يقول اهلل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾‪ ،‬ويف ُسورة "األنفال"‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾‪ ،‬ويف ُسورة "العنكبوت"‪ ﴿ :‬ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾‪.‬‬
‫يف هذه اآليات؛ أتت عنارص امل َّنة اإلهلية عىل الناس غري املؤمنني‪ ،‬يف األمن من اخلوف‪،‬‬
‫وتوفري الرزق املادي‪ ،‬حلثهم عىل اإليامن‪ ،‬مع الوعيد ملن يمد يف كفره وطغيانه منهم‪.‬‬
‫يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫[سورة "سبأ"]‪.‬‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾ ُ‬

‫‪334‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هنا اجلزاء والعقاب الصارم ملن يكفر هبذه النعم‪ ،‬وأن اإليامن هو رشط نجاة‬
‫اإلنسان من هذا العقاب ﴿ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾‪.‬‬
‫لنقارن ذلك باخلطاب القرآين املوجه للمؤمنني‪ ،‬ففي سبعني آية من آيات القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬هي آيات اجلهاد والنفري والقتال يف القرآن احلكيم؛ سوف نجد صور ًة‬
‫خمتلفة متام االختالف‪ ،‬يف املحتوى واألسلوب وكل يشء‪ ،‬فهناك األمر الرصيح‬
‫باجلهاد والقتال وبذل األنفس واألموال يف سبيل اهلل‪ ،‬والنفري ألجل نرصة دينه‬
‫ودعوته‪ ،‬وصد عدوان أهل الكفر والضالل‪.‬‬
‫ويكفي هناك قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫[سورة‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ ُ‬
‫"األنفال" – من اآلية ‪.]72‬‬
‫ويقول كذلك‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫[سورة "ال َّتوبة]‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ ُ‬
‫﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ‬
‫[سورة َ‬
‫"احلج"]‪.‬‬ ‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ ُ‬
‫يف هذه اآليات الكريامت‪ ،‬وغريها من اآليات التي ختاطب املؤمنني‪ ،‬فيها معايل‬
‫األمور‪ ،‬وفيها الدعوة إىل البذل‪ ،‬حتى بأغىل ما يملك اإلنسان‪ ،‬نفسه وماله‪ ،‬وال‬

‫‪335‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يبايل رب العزة سبحانه بذلك؛ ألنه يعلم َمن خلق‪ ،‬ويعلم أن اإليامن يتم عىل‬
‫اإلنسان إنسانيته‪ ،‬وفهمه؛ فيعلم املسلم أنه قد ُخلق ملعايل األمور‪ ،‬وألداء رسائل‬
‫مقدسة‪ ،‬اصطفاه به خالقه‪ ،‬باعتباره من أمة التكليف‪.‬‬
‫هذا االرتقاء يف التكليف‪ ،‬بد ً‬
‫ال من احلديث عن األمن من اخلوف واإلغناء‬
‫من اجلوع‪ ،‬إىل اجلهاد والبذل‪ ،‬وهو يعلم – سبحانه – أهنم سوف يستجيبون وهم‬
‫راضون مستبرشون؛ هو الفارق األسايس بني أهل األيامن‪ ،‬وأهل الكفر‪ ،‬بل هو‬
‫الفارق بني اإلنسان الكامل‪ ،‬واإلنسان غري املكتمل يف إنسانيته‪ ،‬الذي يعيش حياة‬
‫األنعام؛ يأكل ويرشب وكفاه ذلك‪.‬‬

‫وهذا الرضا‪ ،‬وهذا االستبشار‪ ،‬يأيت من صفة إنسانية مهمة بدورها‪ ،‬وهي‬
‫الفهم؛ فاملؤمن َف ِه َم دنياه‪ ،‬و َف ِه َم دوره‪ ،‬و َف ِه َم أركان هذا اإليامن‪ ،‬بام فيها من إيامن‬
‫باحلياة اآلخرة‪ ،‬وبأهنا هي احلياة احلقيقية‪ ،‬وهي دار املستقر‪ ،‬وأن حاله فيها سوف‬
‫يكون بنا ًء عىل ما أباله يف حياته؛ فيكون البذل واجلهاد عن رضا‪ ،‬ألنه يف النهاية يف‬
‫مصلحة اإلنسان‪.‬‬

‫هم‬
‫كل هذا من متام برشية اإلنسان وإنسانيته‪ ،‬أما اآلخر غري املؤمن‪ ،‬والذي ال َّ‬
‫له إال اتباع اهلوى والشهوات؛ فالقرآن الكريم واضح متا ًما يف هذه النقطة؛ فيقول‬
‫اهلل تعاىل يف ُسورة "الفرقان"‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ﴾‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أي يا حممد – ﷺ – ال حتسبن هؤالء من البرش؛ هلم ما للبرش األسوياء من‬


‫صفات الفهم – ﴿ﭕ ﭖ ﭗﭘ﴾ – وإنام هم أقرب لألنعام يف َع ْيشتهم!‬
‫ولعل ما يف ها َت ْي اآليت َْي وآيات السورة األخرى‪ ،‬من فرقان بني املؤمنني وحاهلم‬
‫سبب آخر لتسميتها هبذا االسم‪ ،‬بجانب أن مفتتحها‬ ‫وبني غري املؤمنني وحاهلم‪ٌ ،‬‬
‫كان يف احلديث عن القرآن الكريم‪ ،‬باعتبار نزوله متفر ًقا عىل الرسول الكريم ﷺ‪،‬‬
‫﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﴾‪.‬‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬من أنت يف هذه الفئات؟!‪ ،‬وهل تقبل بالدَّ نية يف دينك وإنسانيتك‬
‫وكرامتك التي ميزك اهلل تعاىل هبا عن سائر خملوقته؟!‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الخير والشر‪ ..‬بين خطأ اإلطالقات وحاكمية المقاصد‬

‫مكوهنا‪ ،‬باعتبار‬
‫يمكن النظر إىل احلركة اإلسالمية يف وقتنا الراهن‪ ،‬يف بعض ِّ‬
‫أهنا تعاين من العديد من املشكالت املفاهيمية التي َّ‬
‫ركبت عليها أخطاء يف السعي‬
‫واحلركة‪ ،‬مما قاد إىل الكثري من الرتاجعات‪ ،‬عىل بعض اجلبهات التي ختوض فيها‬
‫معركة اإلصالح والتغيري‪ ،‬من أجل التمكني للمرشوع احلضاري اإلسالمي‪.‬‬
‫ولئن كانت احلركة اإلسالمية تواجه حر ًبا بمعنى الكلمة‪ ،‬يف مواجهة خصوم‬
‫استخدموا كل ما يف جعبتهم من أسلحة‪ ،‬بد ًءا بمعركة الصورة والكلمة‪ ،‬وحتى‬
‫استخدام اجلرينوف والرباميل املتفجرة‪ ،‬وحتى السالح الكياموي‪ ،‬واليورانيوم‬
‫ا ُملن ََّضب‪ ،‬يف حماربتها؛ فإن أثر هذه احلرب‪ ،‬هيون ويبدو أقل شأ ًنا أمام املشكالت‬
‫املفاهيمية؛ ألن األخرية ترتب أخطاء أكثر فداحة من التعرض لرصاص اخلصوم‪.‬‬
‫ومن بني ذلك‪ ،‬الطريقة التي تعاملت هبا رشحية من شباب احلركة اإلسالمية‪،‬‬
‫وخصوصا من حديثي العهد باحلركة اإلسالمية واإلخوان املسلمني‪ ،‬يف مرص‬
‫ً‬
‫– عىل سبيل املثال – يف مرحلة ما بعد انقالب يوليو ‪2013‬م‪ ،‬ثم جريمة فض‬
‫اعتصا َم ْي رابعة والنهضة؛ حيث قادت األحداث التي جرت يف مرص‪ ،‬وكذلك يف‬
‫ليبيا وتونس‪ ،‬وغريها من بلدان الربيع العريب‪ ،‬من ارتكاسات وتراجعات للحركة‬
‫اإلسالمية؛ قادت إىل حالة من األزمة يف توصيف الواقع‪ ،‬بام أدى إىل شلل كامل يف‬
‫مفاتيح احلركة يف كثري من األحيان‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نظرت رشائح عريضة من أبناء وشباب احلركة اإلسالمية إىل ما جرى يف‬
‫إطار أنه رش مطلق‪ ،‬وأنه ال يمكن التعامل معه يف إطار إصالحي‪ ،‬وأن البديل‬
‫هو اخلروج عن املنهج احلركي والرتبوي الذي تأسست عليه حركات اإلسالم‬
‫السيايس الصحوية‪ ،‬ويف القلب منها "اإلخوان املسلمون"‪ ،‬مع الدخول يف حرب‬
‫كل الغرض منها هو االنتقام‪ ،‬وليس أي يشء آخر‪.‬‬
‫وتبعا لذلك‪ ،‬خيضت مواجهات غري متكافئة‪ ،‬خترج عن نطاق االستطاعة‬
‫ً‬
‫بسبب مشكلة مفاهيمية باألساس‪ ،‬قادت إىل عواقب أسوأ من الثمن املادي الذي‬
‫يدفعه املتصدُّ ون لقضية اإلصالح والتغيري‪ ،‬والذي هو يف األصل – بالرغم من أنه‬
‫وأذى – أحد أهم عوامل تزكية احلركة اإلسالمية‪ ،‬أمام الصف وأمام‬
‫ً‬ ‫يبدو ًّ‬
‫رشا‬
‫اجلمهور‪.‬‬
‫وعىل رأس هذه العواقب اخلروج عن السنن اإلهلية يف الفعل والعمل‪ ،‬مما يرتب‬
‫اخللل الذي يقود – ً‬
‫حتم ‪ -‬إىل الفشل‪ ،‬والذي من بني مظاهره فقدان عنارص القوة‪،‬‬
‫املادية‪ ،‬والبرشية‪ ،‬واملعنوية‪.‬‬
‫واألخرية‪ ،‬املعنوية‪ ،‬ترتبط بقضية مهمة بدورها‪ ،‬وهي املصداقية عند اجلمهور‪،‬‬
‫وهي األساس األصيل الذي تقوم عليه أية دعوة ناجحة‪ ،‬وكانت هي إحدى‬
‫مرتكزات العمل النبوي يف السنوات األوىل للبعثة املحمدية؛ حيث أيد اهلل عز وجل‬
‫نبيه ﷺ‪ ،‬بالكثري من اآليات واملعجزات‪ ،‬التي وقرت يف نفوس املسلمني األوائل؛‬
‫فأيدوا النبي ﷺ‪ ،‬بكل ما يملكون من مال‪ ،‬وبأنفسهم‪ ،‬وكانوا أحد مظاهر نرصة‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬لرسوله ﷺ‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كان من األجدى التعامل مع املوقف بالشكل الذي حيقق املصالح املرسلة؛ ففي‬
‫رش ٌ‬
‫مطلق وال خ ٌري مطلق‪ ،‬يف أي‬ ‫األصل أنه ليس هناك يشء ‪ /‬شخص ‪ /‬حدث‪ ،‬بمثابة ٌّ‬
‫حدث يمر عىل اإلنسان يف حياته‪ ،‬وإنام األساس يف تقييم العمل هو ما حتقق من مقاصد‪.‬‬
‫ففي ُعرف املؤمن؛ حتى أذى األعداء‪ ،‬وتدافعهم ضد املرشوع اإلسالمي‬
‫احلضاري؛ فيه خري‪ ،‬ومن بينه‪ ،‬أنه ينبه املسلمني إىل أخطائهم‪ ،‬وإىل أوجه القصور‪،‬‬
‫يمنعهم من الطغيان؛ ألنه لوال قوى التدافع‪ ،‬ما وقفنا عىل قيمنا وحرصنا عليها‪.‬‬
‫ويقول العالمة النابليس؛ إن الرش املطلق ال وجود له يف الكون‪ ،‬الرش املطلق‬
‫يعني الرش للرش‪ ،‬وهذا يتناقض مع وجود اهلل‪ ،‬لكن الذي يليق بكامل اهلل أن اهلل‬
‫يوظف الرش النسبي للخري املطلق‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم هناك آية يف ُسورة "األنبياء"‪ ،‬شديدة األمهية والوضوح يف‬
‫هذا األمر؛ حيث يقول فيها احلق تبارك وتعاىل‪﴿ :‬ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾‪.‬‬
‫رش يصيب اإلنسان‪ ،‬هو إنام عبارة عن إرادة ومشيئة إهلية‪،‬‬ ‫أي أن أي خري أو ٍّ‬
‫الغرض منها االبتالء واالختبار‪ ،‬حتقي ًقا ُّ‬
‫لس َّنة احلساب عىل العمل‪ ،‬سواء يف الدنيا‬
‫يوف الناس ما كانوا يعملون‪ ،‬إما جنة نعيم‪ ،‬أو نار اجلحيم‪.‬‬‫أو اآلخرة؛ حيث َّ‬

‫ويف معاجلتهم هلذه املسألة‪ ،‬يقول علامء املقاصد‪ ،‬عىل رأسهم الشاطبي‪ ،‬إنه ال‬
‫رش ٌ‬
‫حمض‪ ،‬وإنام ُيقاس األمر‪ ،‬وفق معيار غلبة املصالح أو‬ ‫حمض‪ ،‬وال ٌّ‬‫خري ٌ‬‫يوجد ٌ‬
‫املفاسد املرتتبة عىل وقوع األمر هذا األمر أو ذاك‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف تلخيصه لكتاب "املقاصد" للشاطبي ينقل العالمة الريسوين‪ ،‬تعري ًفا وضعه‬
‫عالل الفايس‪ ،‬مجع فيه مقاصد الرشيعة العامة واخلاصة‪ ،‬فيقول إن املراد بمقاصد‬
‫الرشيعة‪ ،‬هعو "الغاية منها‪ ،‬واألرسار التي وضعها الشارع عند كل حكم من‬
‫أحكامها"‪.‬‬
‫واملقاصد إما عامة‪ ،‬وهي التي تراعيها الرشيعة يف كل أبواهبا الترشيعية أو يف‬
‫كثري منها‪ ،‬أو خاصة‪ ،‬وهي التي هتدف الرشيعة لتحقيقها يف باب معني‪ ،‬أو يف‬
‫أبواب قليلة متجانسة‪ ،‬أو جزئية‪ ،‬وتعني ما قصده الشارع احلكيم من كل حكم‬
‫رشعي من إجياب أو كراهة‪.‬‬
‫ونأيت للمهم من كالم الشاطبي فيام يتعلق بام نقوله يف هذا املوضوع‪ ،‬وهو أن‬
‫املقاصد تأيت بمعنيني‪ ،‬األول هو أن احلكمة هي املعنى املقصود من رشع احلكم‪،‬‬
‫املقتض لترشيعه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وهي املصلحة‪ ،‬أما الثاين ُفياد به املعنى املناسب لترشيع احلكم أي‬
‫وذلك كاملش َّقة‪.‬‬
‫ومن هنا نفهم أن أي أذى أو متاعب أو "ما يبدو لنا" أنه خسائر‪ ،‬خالل رحلة‬
‫التمكني؛ إنام جيب تقييمه يف إطار معنى املقاصد؛ البحث عن احلكمة اإلهلية من‬
‫وراء هذا الذي حدث‪ ،‬ووضعه يف سياق سعي اإلنسان‪ ،‬ولعل اختيار الشاطبي‬
‫والريسوين من يف رشوحه ملصطلح "املشقة" كان شديد التوفيق‪ ،‬يف التعبري عن‬
‫احلالة التي نتكلم عنها يف هذا املوضع‪.‬‬
‫وبعيدً ا عن الشاطبي بمقاصده‪ ،‬والريسوين ورشوحه‪ ،‬فإنه حتى بمنطق الرشادة‬
‫والعقل الذي ميز اهلل تعاىل به اإلنسان عىل سائر املخلوقات‪ ،‬ووضع له أمهية‬

‫‪341‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مطالب أكثر من غريه بالتدبر‬


‫ٌ‬ ‫أكرب لدى املسلم؛ باعتبار أنه من ُأ َّمة التكليف‪ ،‬وأنه‬
‫والتفكر يف آيات اهلل تعاىل‪ ،‬ويف قرآنه ألجل استخالص تعاليمه؛ فإن األجدى من‬
‫اخلروج عن املنهج‪ ،‬والتصادم مع قوى الرش والظالم‪ ،‬ملجرد نوازع شخصية‪ ،‬أو‬
‫مليا يف حكمة اهلل عز‬ ‫ما شابه‪ ،‬هو العمل عىل استخالص ِ‬
‫الع َب من األمر‪ ،‬والتأمل ًّ‬
‫وجل منه‪ ،‬وما قصده احلكيم العليم من وقوع األذى بأمته‪.‬‬
‫فقد يكون األمر للتنبيه‪ ،‬وقد يكون األمر ابتالء للتمحيص وغربلة املجموع‪،‬‬
‫وقد يكون ألجل أخطاء حاصلة‪ ،‬وخروجات عن املنهج الرباين القويم؛ فيكون‬
‫التأمل وإعامل العقل يف املوقف املعروض عىل املسلم‪ ،‬فيه اكتشاف‪ ،‬وفيه هداية‪،‬‬
‫وفيه العودة إىل الطريق احلنيف؛ الذي ال حيف فيه وال حيدة يف مقصده‪.‬‬
‫والبعض جيد يف خمالفة ذلك؛ شك ً‬
‫ال من أشكال اخلروج عىل ٍ‬
‫ركن من أركان‬
‫اإليامن‪ ،‬وهو اإليامن بالقضاء والقدر‪ ،‬خريه ورشه‪ ،‬واإليامن هنا يشمل التسليم‪،‬‬
‫وعدم االعرتاض؛ وإنام التعامل مع الواقع الذي فرضه قضاء اهلل تعاىل وقدره‪.‬‬
‫صفوة القول؛ هو أنه من الرضوري االستفادة من الرش الذي نواجهه يف‬
‫التصويب والتعديل‪ ،‬والتعامل معه بإجيابية‪ ،‬بالشكل الذي حيقق حكمة اهلل تعاىل‬
‫من وقوعه‪ ،‬ويعمل عىل حتقيق املصلحة‪ ،‬بد ً‬
‫ال من مواجهة األذى باملفسدة‪ ،‬وهنا‬
‫تسقط عن مرشوعنا صفته كإسالمي؛ ألن ذلك ليس يف اإلسالم من يشء!‬

‫‪342‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الدليل العقلي في الخطاب القرآني ومشكلة غيابه عند دعاتنا‬

‫تشهد ساحات وميادين الدعوة اإلسالمية الكثري من العنت واملشكالت يف‬


‫الوقت الراهن‪.‬‬
‫وهذه املشكالت ليست هي املهمة يف حد ذاهتا‪ ،‬وإنام األهم منها‪ ،‬هو الكيفية أو‬
‫التصور الذي يستقبل به القائمون عىل الدعوة يف مشارق األرض ومغارهبا‪ ،‬هذه‬
‫املشكالت‪ ،‬بجذورها وطبيعتها وأسباهبا‪.‬‬
‫فغالب احلال‪ ،‬ما تكون النقاشات والتل ِّقي حول املشكالت اآلتية من اخلارج‪،‬‬
‫مثل محالت التشويش‪ ،‬وجرائم اليمني املتطرف اآلخذ يف التنامي يف أوروبا عىل‬
‫وجه اخلصوص‪ ،‬من دون النظر إىل املشكالت اآلتية من داخل األوساط الدعوية‬
‫ذاهتا‪ ،‬عىل األقل بالعناية الكافية‪.‬‬
‫ولعل من بني أبرز املشكالت‪ ،‬املناهج املستخدمة من جانب العديد من‬
‫األوساط الدعوية يف بعض املجتمعات التي يمثل املسلمون فيها أقلية صغرى‪،‬‬
‫وال يكون هناك اهتامم كبري هبا من جانب اجلامعات الصحوية التي متلك يف حقيقة‬
‫منهجا أكثر تقدمية يف الدعوة‪.‬‬
‫ً‬ ‫األمر‪،‬‬
‫فهذه املناهج يف الغالب ما تستند إىل نصوص وتفاسري وأقوال‪ ،‬بصورة ال حتمل‬
‫معها أية مراعاة لطبيعة عقلية املسلمني اجلدد من أبناء هذه املجتمعات‪ ،‬والتي غال ًبا‬
‫تشبعت بق يم العلامنية والفردانية‪ ،‬وتعيل من قيمة‬
‫ما تكون من املجتمعات التي َّ‬
‫العقل واحلرية فوق ما عداها‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املجتمعات – يف الغرب بالذات – تكون بحاجة‬
‫إىل منهج يتناسب مع طبيعتها التي تقوم عىل متجيد العلم والعقل والتجريب‪،‬‬
‫ملموسا أو يمكن إدراكه باحلواس؛ هو‬
‫ً‬ ‫ونشأت نشأة تعتقد يف أنه كل ما هو ليس‬
‫غري موجود يف األصل‪.‬‬
‫وال يوجد يف هذا الصدد أنسب من املنهج العقيل الذي أتى به القرآن الكريم‪،‬‬
‫الذي خاطب به رب العزة سبحانه‪ ،‬أول ما خاطب‪ ،‬عقليات أبناء جمتمعات كانت‬
‫تقوم يف األصل عىل عقلية اخلرافة‪ ،‬ورغم ذلك أسس اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‬
‫للمنهج العقيل يف خماطبتها‪.‬‬
‫ولو تد َّبرنا آيات الذكر احلكيم‪ ،‬سوف نجد أن اهلل عز وجل قد وضع الدليل‬
‫العقيل يف مقدمة األدوات التي اختارهتا حكمته إلقناع الناس بربوبيته وألوهيته‪،‬‬
‫وحقه بإفراد املخلوقات له بالعبادة‪.‬‬
‫مل يلجأ – وهو قادر عىل ذلك – ألي أسلوب قاهر يتجاوز العقل اإلنساين‬
‫ورضورات قبوله ‪ -‬العقل ‪ -‬ألي أمر‪ ،‬واقتناعه به‪ ،‬ألنه سبحانه وتعاىل‪ ،‬هو‬
‫الذي خلق العقل‪ ،‬ويعلم َمن خلق وما خلق‪ ،‬وهو اللطيف اخلبري‪ ،‬وبالتايل؛ يعلم‬
‫مفاتيحه‪ ،‬ومفاتيح إقناعه‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم؛ نجد أن اهلل تعاىل‪ ،‬قد استخدم أساليب عديدة إلقناع اإلنسان‬
‫بحقائق التوحيد ووجود خالق للكون‪ ،‬من خالل النامذج العقلية واملنطقية‪ ،‬مثلام نجد‬
‫يف ُسورة "يس"‪ :‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾‪ ،‬وكذلك‪﴿ :‬ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف ُسورة "القيامة"؛ يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬


‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾‪.‬‬
‫والنامذج عىل ذلك يف القرآن الكريم كثرية‪ ،‬ومن نافل القول أن اهلل عز وجل قد‬
‫جعل أكثر من آية تتكلم عن التد ُّبر يف اخللق هو أحد أهم العوامل التي يمكن أن‬
‫تقود اإلنسان إىل اإليامن‪.‬‬
‫ولكن املهم هنا الوقوف عنده‪ ،‬هو أن اهلل تعاىل قد جعل التد ُّبر وإعامل العقل هو‬
‫األساسي ْي لفهم القرآن الكريم ذاته بكل ما له من جالل ومركزية‬
‫َّ‬ ‫الوسيلة واملفتاح‬
‫فكر هو وسيلة استخالص‬ ‫يف عقيدة كل مسلم‪ ،‬وجعل سبحانه هذا التد ُّبر وال َّت ُّ‬
‫أحكام العقيدة والرشيعة اإلسالمية من آيِ الذكر احلكم‪ ،‬وجعل وسيلة االجتهاد‬
‫األساسية؛ هي العقل‪.‬‬
‫ويف ُسورة "النساء"‪ ،‬هناك آية حتمل مجاع ذلك األمر كله‪ ،‬يقول فيها تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫﴿ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ﴾‪.‬‬
‫فهذه اآلية مجعت بني فكرة تد ُّبر القرآن الكريم‪ ،‬والتأكيد عىل رضورة إعامل العقل‬
‫أيضا – هو وسيلة لتأكيد وحدانية اهلل عز وجل‪ ،‬وأن من ِزل‬ ‫وجعل ذلك – ً‬ ‫ْ‬ ‫فيه‪،‬‬
‫القرآن الكريم هو واحد ال رشيك له‪.‬‬
‫ويف ُسورة ُ‬
‫"م ََّمد"‪ ،‬يقول رب العزة سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾‪ ،‬واملعنى مفاده أن التد ُّبر – أي التفكري وإعامل العقل –‬

‫‪345‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف القرآن الكريم‪ ،‬هو أحد مسالك وصول اإلنسان إىل اإليامن والتوحيد وحقائقه‪،‬‬
‫وبالتايل فمن باب أوىل‪ ،‬أن يكون ذلك هو منهج الدعاة األسايس‪ ،‬والسيام يف‬
‫املجتمعات التي وصلت إىل مرحلة متقدمة من احلضارة املادية‪.‬‬
‫وهناك يف العلوم الرشعية ما ُيعرف باملنهج العقيل يف بيان العقيدة‪ ،‬وهو منهج‬
‫يعتمد العقل يف تفسري وتد ُّبر القرآن الكريم من أجل الوصول إىل حقائق اإليامن‪،‬‬
‫بوات‪ ،‬والبعث‪ ،‬وغري ذلك من مفردات العقيدة‪.‬‬
‫مثل الربوبية‪ ،‬واأللوهية‪ ،‬وال ُّن َّ‬
‫ولشيخ اإلسالم ابن تيمية مقوالت حسنة يف ذلك‪ ،‬فهو يقول يف "جامع‬
‫الفتاوى"‪" :‬إن املنهج العقيل الذي يسلكه القرآن الكريم يف بيان العقيدة وغرسها يف‬
‫النفوس يأيت متس ًقا مع املنهج الفطري ومتكام ً‬
‫ال معه؛ ولذلك فإن القرآن الكريم مل‬
‫مقصورا عىل جمرد اخلرب عن وجود اهلل تعاىل ووحدانيته وسائر أركان العقيدة‪،‬‬
‫ً‬ ‫يكن‬
‫وإنام أقام الرباهني العقلية التي هبا ُت ْع َلم العلوم اإلهلية؛ فكان منهجه ومنهج مجيع‬
‫األنبياء عليهم السالم اجلمع بني األدلة العقلية والسمعية (الرشعية)"‪.‬‬
‫ويف "النبوات"‪ ،‬يقول‪" :‬فاالستدالل عىل اخلالق بخلق اإلنسان يف غاية ُ‬
‫احل ْسن‬
‫واالستقامة‪ ،‬وهي طريقة عقلية صحيحة‪ ،‬وهي رشعية‪َّ ،‬‬
‫دل عليها القرآن وهدى‬
‫الناس إليها؛ فإن نفس كون اإلنسان حاد ًثا بعد أن مل يكن‪ ،‬وخملو ًقا من نطفة ثم‬
‫من علقة‪ ،‬فإن هذا يعلمه الناس كلهم بعقوهلم‪ ،‬فهو إ ْذن عقيل؛ ألنه بالعقل ُتع َلم‬
‫صحته‪ ،‬وهو رشعي ً‬
‫أيضا"‪.‬‬
‫‪............‬‬

‫‪346‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إن هذا املنهج الذي أخذ به السلف الصالح‪ ،‬حتى بعض املتأخرين منهم ممَّن‬
‫" ُيعاب" عليهم من جانب البعض‪ ،‬أهنم كانوا إىل اجلمود أقرب يف التعامل مع‬
‫النص؛ نقول إن هذا املنهج غائب عن الكثري من دعاتنا املحدثني‪ ،‬الذين يكتفون‬
‫ِ‬
‫بذكر ما يف املتون التي يعود منهجها الفكري والعقيل إىل قرون مضت‪ ،‬بينام هم‬
‫يتحركون يف جمتمعات تفكر بعقلية القرن الثاين والعرشين بالفعل!‬

‫‪347‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫العنف والشريعة اإلسالمية‪ :‬أصل أم طارئ؟!‪..‬‬


‫قراءة في النصوص الدينية‬

‫يمر بنا هذه األيام ذكرى ما ُيعرف بـ"يوم الال عنف العاملي"‪ ،‬أو "اليوم الدويل‬
‫لال عنف"‪ ،‬فيام أمتنا حتفل بالرصاعات الدموية التي استخدمت فيها كل أنواع‬
‫األسلحة‪ ،‬الناعمة والصلبة‪.‬‬
‫ونرى اآلن الكثري من الظواهر التي تتعارض مع هذه املناسبة‪ ،‬حتدث كل دقيقة‬
‫بني ظهراين أمتنا التي اب ُتليت بالكثري من الرصاعات املسلحة واحلروب وأعامل‬
‫العنف املختلفة األشكال واألنواع‪ ،‬والتي تركت حدود بلدان العامل العريب‬
‫واإلسالمي‪ ،‬وطالت جمتمعات املسلمني يف بلدان املهاجر واالغرتاب‪.‬‬
‫ويدعم ذلك منظومة إعالمية و"فقهية" تستميت حماول ًة "تأصيل" العنف‬
‫واستخدام القوة املسلحة‪ ،‬باعتبارها وسيلة املسلم الوحيدة يف الوصول ألغراضه‪،‬‬
‫وتكفري اآلخر املسلم‪ ،‬ما دام أنه يرفض هذه األفكار‪.‬‬
‫مهام املسلم وكيف يؤديها‪:‬‬

‫ُتعترب مهمة املسلم األوىل‪ ،‬هي عبادة اهلل تعاىل عىل عقيدة التوحيد‪ ،‬وفق تعاليم‬
‫الرشيعة التي أنزهلا اهلل تعاىل عىل عبده ونبيه‪ ،‬حممد ﷺ‪ .‬يقول تعاىل يف ُسورة‬
‫"الذاريات"‪ ﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وخصوصا يف الصالة والصيام والقيام؛ فإنام يدخل‬


‫ً‬ ‫يتعبد‪،‬‬
‫واإلنسان عندما َّ‬
‫يف حالة من السكينة واهلدوء النفيس‪ ،‬و ُتعترب هذه احلالة‪ ،‬ومقدار ما وصل إليه‬
‫مقياسا ًّ‬
‫مهم من مقاييس إخالصه فيها‪ ،‬وبالتايل نصيبه‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان منها خالل عبادته؛‬
‫من األجر‪ ،‬كام يرى بعض الفقهاء‪ ،‬عىل األقل باملنطق النبوي القائل‪" :‬ليس للمرء‬
‫من صالته إال ما َع ِق َل منها" [أخرجه أمحد بإسناد صحيح]‪.‬‬
‫ولدينا كذلك من بني املهام اجلسام امللقاة عىل عاتق املسلم‪ ،‬نرش دعوة اهلل تعاىل يف ربوع‬
‫األرض‪ ،‬والقرآن الكريم يف هذا األمر‪ ،‬حمدد يف قوله تعاىل‪ ،‬يف خواتيم ُسورة "النحل"؛‬
‫حيث يقول اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾‪.‬‬
‫وتردف اآليات بالقول مما يؤكد املعنى عىل علم اهلل تعاىل بمشاق مهمة الدعوة‪،‬‬
‫وأن القائمني عليها‪ ،‬والساعني يف سبيلها سوف يتعرضون إىل ظلم عظيم‪ ،‬وأعباء َّمجة‬
‫من خصوم الدعوة وأعداء اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾‪.‬‬
‫هذه اآليات هبا إشارة إىل قضية استخدام العنف يف بعض املواضع خالل قيام‬
‫املسلم بمهام الدعوة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬يف قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧ﴾‪ ،‬ولكنه يف هذه احلالة؛ تشري اآليات إىل أنه يكون يف جمال رد الفعل‬
‫فقط‪ ،‬أي يف حالة التعرض لعدوان أو ما شابه‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أما لو قصد قوله تعاىل نمط األذى الذي تعرض له املسلمون األوائل من تعذيب‬
‫وكذا‪ ،‬حلملهم عىل الرجوع عن دينهم؛ فإن اآليات وضعت الصرب كأحد مراتب‬
‫اإليامن‪ ،‬وأكدت عىل أولوية التقوى واإلحسان يف سلوك املسلم‪.‬‬
‫وهذا األمر له شواهده التي تؤكده من صحيح السرية النبوية؛ فمن الثابت عن‬
‫يغز أو يستخدم العنف؛ إال لرد اعتداء أو معاقبة أحد املجرمني‪ ،‬كام‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬أنه مل ُ‬
‫العرنْيني‪ ،‬الذين قتلوا الرعاة‪ ،‬ورسقوا اإلبل بعد أن‬
‫فعل مع الثامنية من أبناء عكل‪ُ ،‬‬
‫كانوا مؤمتنني عليها‪ ،‬ويأكلون من خرياهتا‪.‬‬
‫ويف مرحلة اخللفاء الراشدين من بعده ﷺ‪ ،‬كانت حاالت العنف املفرط شديدة‬
‫الندرة‪ ،‬ولذلك يذكرها التاريخ الستثنائيتها‪ ،‬مثلام فعل أبو بكر الصديق "ريض ُ‬
‫اهلل‬
‫الس ْلمي‪ ،‬عندما أخذ السالح ليقاتل به املرتدين‪ ،‬ولكنه‬ ‫حرق ُ‬
‫الفجاءة ِّ‬ ‫عنه"‪ ،‬عندما َّ‬
‫قتل به املسلمني واملرتدين معه‪ ،‬ثم إن املؤرخني يقولون إن الصديق قد ندم عىل‬
‫إحراقه له بعد ذلك‪.‬‬
‫وعمر ابن اخلطاب الذي دانت له عروش كرسى والرومان؛ ندم أشد الندم عىل‬
‫رضبه لرجل من عوام املسلمني‪ ،‬بدُ َّرته املشهورة‪ ،‬وبكى‪ ،‬وعاد إليه وطلب منه أن‬
‫يقتص منه‪ ،‬وحتى أن عثامن بن ع َّفان "ريض ُ‬
‫اهلل عنه" فضل أن ُيقتل‪ ،‬عىل أن يأخذ‬ ‫َّ‬
‫قاتله واملتآمرين عىل حياته‪ ،‬بالعنف‪.‬‬
‫حيتج بعض خصوم األمة هبا عىل أن اإلسالم‬ ‫ولو أتينا ملرحلة الفتنة الكربى‪ ،‬التي َّ‬
‫والس َّنة النبوية قد تنبآ‬
‫دين عنف وربى أصحابه عليه؛ فسوف نجد أن القرآن الكريم ُّ‬
‫هبا‪ ،‬وحذرت نصوص قرآنية ونبوية منها‪ ،‬وصلت ملستوى الزجر املشدد‪ ،‬وتشبيه‬
‫هذا السلوك بالعودة للجاهلية‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فقوله عز وجل‪﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ‬


‫[سورة "األنفال" ‪ -‬اآلية ‪]25‬؛ يشري الفقهاء إىل‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ ُ‬
‫الكرام خالل موقف الفتنة الكربى‪،‬‬‫أن رب العزة سبحانه‪ ،‬كان يعني به الصحابة ِ‬
‫وقال بذلك القرطبي وابن كثري‪ ،‬وغريه‪.‬‬
‫كام أن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬قال يف خطبة الوداع‪ ،‬مقولة مجع هلا املسلمني‬
‫بعض" [متفق‬ ‫كفارا يرضب ُ‬
‫بعضكم رقاب ٍ‬ ‫خصيصا‪ ،‬بالنص‪" :‬ال ترجعوا بعدي ً‬
‫ً‬
‫عليه]‪.‬‬
‫التدافع بالقوة وموقف الشريعة منه‪:‬‬

‫إ ًذا‪ ،‬اإلسالم كمنهج تربوي‪ ،‬ال يؤسس ألي شكل من أشكال العنف يف نفوس‬
‫وسلوك أبنائه‪.‬‬
‫مهمة من ُسنَن العمران التي‬
‫ولكن ينبغي هنا التمييز بني هذه القضية وبني ُس َّنة َّ‬
‫وضعها اهلل تعاىل يف خلقه‪ ،‬وهي ُس َّنة التدافع‪ ،‬التي وردت يف أكثر من موضع من‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬

‫ففي ُسورة "البقرة"‪ ،‬يقول تعاىل‪ ..﴿ :‬ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬


‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾‪ ،‬ويف‬
‫ُسورة َ‬
‫"احلج"‪ ،‬يقول اهلل‪ ..﴿:‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﴾‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والتدافع صنو الرصاع يف أبسط معانيه‪ ،‬وال يوجد رصاع من دون عنف‪ ،‬وهنا‬
‫تتدخل الرشيعة اإلسالمية لوضع ضوابط ِّ‬
‫منظمة له‪ ،‬كام هو طبيعة الرشيعة؛ أهنا‬
‫تتصدى للظواهر اإلنسانية وتظمها يف اإلطار الذي ارتضاه اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ويف هذا نجد أن اإلسالم قد قدَّ م مبدأ الال عنف يف التدافع‪ ،‬عىل مبدأ احلرب‪،‬‬
‫فمن بني أسباب امتالك القوة‪ ،‬الردع السلبي‪ ،‬من خالل امتالك املقدرات املختلفة‬
‫التي متنع العدو من االعتداء عىل اجلامعة املسلمة‪.‬‬

‫ويف القرآن الكريم هذا واضح يف قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬


‫ﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯩ‬
‫[سورة "األنفال" ‪ -‬من اآلية ‪.]60‬‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ﴾ ُ‬
‫وبالرغم من أن القتال قد ورد رصاح ًة يف القرآن الكريم‪ ،‬إال أنه كذلك هناك‬
‫أكثر من ضابط له‪ ،‬يف القرآن الكريم‪ ،‬ووضعها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬ولقنها‬
‫ألصحابه يف الغزوات املختلفة‪ ،‬مثل عدم قتل الشيوخ أو قطع الزرع‪ ،‬وغري ذلك‬
‫من التوجيهات النبوية التي ترشد العنف يف حاالت احلرب والغزو والقتال‪.‬‬

‫ملمح ْي َّ‬
‫مهم ْي جاءا يف القرآن الكريم يف هذا الصدد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وهنا نقف أمام‬

‫األول يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ‬


‫[سورة "األحزاب" ‪ -‬اآلية ‪،]25‬‬
‫ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ ُ‬
‫هنا نجد أن اهلل تعاىل ال يتحدث عن القتال كأمر مرغوب فيه‪ ،‬بل هو أمر سلبي‪،‬‬
‫ِم ْن ِمن َِن اهلل تعاىل عىل املؤمنني أن كفاهم إياه‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتؤكد ذلك آية "البقرة"‪ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‪ ..‬ﭭ﴾‪.‬‬


‫سور اجلهاد‬
‫امللمح الثاين‪ ،‬يف قوله تعاىل‪ ،‬يف ُسورة "األنفال"‪ ،‬وهي من َ‬
‫العظيمة يف القرآن الكريم‪﴿ :‬ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇ ﰈﰉ﴾‪ ،‬فهنا القتال ليس مطلو ًبا لذاته‪ ،‬وال جيوز العدوان به عىل‬
‫غري املسلمني‪ ،‬فحتى لو جنح أعداء اجلامعة املسلمة إىل السلم‪ُّ ،‬‬
‫وكفوا أيدهم عن‬
‫املسلمني؛ فالواجب عىل املسلمني قبول السالم والصلح‪.‬‬
‫واآليات التي تؤكد عىل املعنى السابق يف القرآن الكريم كثرية‪.‬‬
‫يف املقابل؛ فإننا نرى أن خصوم األمة قد تكالبوا عليها‪ ،‬باالحتالل املبارش ورسقة‬
‫الثروات وهتديد األعراض‪ ،‬وهو ما يوجب استخدام العنف ضدهم‪ ،‬حتى يستتب‬
‫السالم‪ ،‬ولكن عندما يعمد املسلمون إىل الدفاع عن أنفسهم؛ فإهنم يتحولون إىل‬
‫"إرهابيني"!‬
‫ولقلب احلقائق وتكريس هذه الصورة الذهنية السلبية عن املسلم‪ ،‬وعن الرشيعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬من خالل أدوات القوة الناعمة املختلفة‪ ،‬فقد عمد أعداء األمة عىل‬
‫خلق كيانات شيطانية خرجت من بني ظهراين املسلمني‪ ،‬وترتدي رداء اإلسالم‪،‬‬
‫وخترب‪ ،‬باسم الدين‪ ،‬والدين منها براء!‬
‫تقتل ِّ‬

‫‪353‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المسلمون وفرائض األمر الواقع‪ ..‬دروس من العهد النبوي‬

‫تقف احلركة اإلسالمية يف الوقت الراهن‪ ،‬أمام الكثري من املتغريات التي‬


‫فرضت التغيري يف أكثر من اجتاه‪ ،‬بام يف ذلك املحتوى الرتبوي واألطر احلركية‪،‬‬
‫وغري ذلك من األقنية التي تشكل فيام بينها املجموع الذي ُيطلق عليه مصطلح‬
‫"احلركة اإلسالمية"‪ ،‬بمختلف اجتاهاهتا الفكرية والسياسية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫وتعرتض عمليات التغيري املطلوب الكثري من املصاعب والعوائق‪ ،‬من بينها ما‬
‫هو ٍ‬
‫آت من اخلارج‪ ،‬أي من خارج احلركة نفسها‪ ،‬من البيئة املحلية‪ ،‬واإلقليمية‬
‫والدولية‪ ،‬التي تتحرك يف سياقها‪ ،‬أو من داخلها‪ ،‬وهو هذا هو األهم؛ فلو تعطلت‬
‫السيارة؛ لن ُيدي أي يشء أن يكون الطريق ممهدً ا‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه املعوقات الداخلية‪ ،‬عدم قابلية الكثري من األطر احلركية‬
‫ملبدأ التغيري الداخيل‪ ،‬وعدم متتعها باملرونة الالزمة لقبول املتغريات الراهنة‪ ،‬عىل‬
‫ال‪ ،‬إلمكان قبوهلا عىل املستوى الواقعي التطبيقي‪ ،‬من خالل‬ ‫املستوى النفيس أو ً‬
‫ِ‬
‫احلراك عىل األرض‪.‬‬
‫ويعود ذلك باألساس إىل خطأ أو قصور يف برامج التنشئة والتلقني الرتبوي؛ حيث‬
‫يتناقض ذلك يف أبسط معانيه‪ ،‬مع طبيعة املجتمع املسلم األول‪ ،‬والكيفية التي تعامل‬
‫هبا مع املستجدات التي طرأت عليه بعد البعثة‪ ،‬منذ مرحلة االستضعاف يف مكة‬
‫املكرمة‪ ،‬وصو ًال إىل التمكني والدولة يف املدينة‪ ،‬ثم السيطرة والسيادة‪ ،‬بفتح مكة‪.‬‬

‫‪354‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه كان من املدهش حقيقة أن تتمتع اجلامعة املسلمة األوىل‪،‬‬
‫بكل هذه الدرجة من املرونة التي خيربنا هبا التاريخ؛ حيث إهنا يف النهاية من جذور‬
‫ذات طبيعة بدوية‪ ،‬تتسم باخلشونة يف التعامل مع الظواهر‪ ،‬والتحفظ الشديد‬
‫بطبيعتها‪ ،‬وعدم إمكانية القبول السهل‪ ،‬باحلياة يف جمتمعات أخرى‪ ،‬ختتلف عن‬
‫املجتمع األم الذي نشأت وعاشت فيه‪ ،‬حتى ولو كانت هذه املجتمعات األخرى‪،‬‬
‫عربية رصفة مثلها‪.‬‬
‫إال أن املسلمني األوائل عاشوا حتى يف جمتمعات خمتلفة عنهم يف اللغة واالنتامء‬
‫القومي والديانة‪ ،‬كام يف حالة اهلجرة األوىل‪ ،‬إىل احلبشة‪ ،‬ووصل هبم مرونة احلال‪،‬‬
‫إىل درجة أن سيدنا جعفر بن عبد املطلب (ريض اهلل عنه)‪ ،‬وهو الذي كان أحد‬
‫سادات قومه‪ ،‬قد استطاع أن يعيش عرش سنوات يف احلبشة‪ ،‬كان خالهلا أول سفري‬
‫لإلسالم يف هذه األرض‪.‬‬
‫بل إن هذه املرونة من سامت القرآن الكريم نفسه‪ ،‬الذي هو كالم اهلل تعاىل‬
‫هدى ورمحة للعاملني‪.‬‬
‫القديم‪ ،‬أنزله عىل صدر نبيه ﷺ‪ ،‬ليكون ً‬
‫فهناك يف العلوم القرآنية‪ ،‬باب الناسخ واملنسوخ؛ حيث هناك آيات نزلت يف‬
‫فرتة من الفرتات َن َس َخ ْت آيات أخرى أقدم‪ ،‬مراعاة لتبدل الظروف‪ ،‬وهناك من‬
‫املنسوخ ما أنساه اهلل تعاىل لنبيه ﷺ‪ ،‬حلكمة بالغة منه عز وجل‪ ،‬وهناك ما أبقاه‬
‫التدرج‬
‫سبحانه‪ ،‬يف القرآن الكريم حلكمة أخرى بالغة‪ ،‬من بينها تعليمنا كمسلمني ُّ‬
‫واملرونة وفق مقتىض احلال‪ ،‬وأن هذا األمر حتى اهلل تعاىل ألزم نفسه به‪ ،‬بالرغم من‬
‫سابقة علمه بالظروف القائمة‪ ،‬وطالقة قدرته بتكييفها بالشكل الذي ال يتطلب‬
‫تغيري األحكام يف القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالنظر إىل حال اجلامعة املسلمة األوىل منذ البعثة وحتى وفاة النبي الكريم ﷺ؛‬
‫فإننا سوف نجد أن التدرج واملرونة كانا سم ًة أساسية‪ ،‬وليست فرعية‪ ،‬يف االجتامع‬
‫السيايس هلا‪.‬‬
‫فلو تأملنا املرحلة املَ ِّكية؛ فإننا سوف نقف عىل جمموعة من السامت املختلفة متام‬
‫االختالف عنها يف مرحلة اهلجرة األوىل إىل احلبشة‪ ،‬عنها يف مرحلة دولة املدينة‪،‬‬
‫وحتى هذه املرحلة‪ ،‬خمتلفة عن مرحلة الدولة بعد فتح مكة املكرمة‪ ،‬سواء فيام يتعلق‬
‫بالعبادة والعالقة مع اآلخر‪ ،‬وكذلك طريقة إدارة شؤون الكيان املسلم الذي انتقل‬
‫مستضع َفة" إىل مستوى "الدولة" ثم "الدولة ذات السيادة يف‬
‫َ‬ ‫من مستوى "مجاعة‬
‫إقليمها‪.‬‬
‫ويف كل مرحلة من هذه املراحل؛ فإن املسلمني قدموا من االستجابة اجليدة‪،‬‬
‫دروسا مستفادة للحركة اإلسالمية يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫ً‬ ‫الكثري مما حيوي‬
‫وكثري‬
‫ٌ‬ ‫ومن بني هذه الدروس؛ كيف قبلوا عىل أنفسهم‪ ،‬وهم أصحاب العزة‪،‬‬
‫منهم كان من سادات قومه‪ ،‬أن ُّ‬
‫يتخفوا بعباداهتم‪ ،‬وكيف قبلوا احلياة يف جمتمعات‬
‫غريبة عنهم؛ قدموا فيها من النموذج اإلنساين‪ ،‬ما جعل النجايش نفسه يقبل‬
‫اإلسالم دينًا‪ ،‬كام يقول بعض املؤرخني‪.‬‬
‫ثم كيف أصبح هؤالء قادة دولة وجيوش فاحتة بعد إقامة الدولة‪ ،‬وكيف أداروا‬
‫خالفاهتم مع النبي ﷺ‪ ،‬كقائد للدولة‪ ،‬وكيف متتعوا بروح منفتحة‪ ،‬مكنتهم من‬
‫جتاوز حمنة مكة األوىل‪ ،‬وقبول التعايش مع من آذوهم واضطهدوهم يف البداية‪،‬‬
‫وطردوهم من ديارهم‪ ،‬وآمنوا بأن اإلسالم َ ُي ُّب ما قبله‪ ،‬وكيف تعايشوا مع اليهود‬

‫‪356‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملرشكني يف املدينة‪ ،‬برغم ما جيدونه مكتو ًبا عندهم يف القرآن الكريم من أهنم –‬
‫أي املرشكني واليهود – هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا‪.‬‬
‫ولعل يف موقف النبي ﷺ‪ ،‬من املنافقني يف املدينة والبادين يف األعراب من‬
‫حوهلا‪ ،‬الكثري من الدروس يف املرونة والواقعية السياسية‪ ،‬من دون تفريط يف ثوابت‬
‫الدين والعقيدة بطبيعة احلال‪.‬‬
‫ولو درسنا جتربة دولة املدينة من منظور علم االجتامع السيايس‪ ،‬ولو وقفنا عند‬
‫املحطات التي سبقت تأسيسها؛ فإننا سوف نقف عىل أنموذج طيب للغاية يف‬
‫نفرا من تأسيس دولة‬
‫بضعا وسبعني ً‬‫مكن ً‬ ‫املرونة والتخطيط السيايس الذكي الذي َّ‬
‫كاملة‪ ،‬كانت هي أول شكل من أشكال العمران السيايس املتطور يف شبه اجلزيرة‬
‫العربية يف بضعة سنوات قليلة‪.‬‬
‫فكيف أدار املسلمون عملية اهلجرة‪ ،‬وبناء التحالفات مع القوى النافذة‪ ،‬وكيف‬
‫تعاملوا مع املنافقني من أصحاب السطوة والسلطان‪ ،‬وكيف كان التعامل مع‬
‫املعاهدين من أهل الكتاب‪ ،‬وكيف كان التعامل مع َمن َن َقض العهد منهم‪ ،‬وكيف‬
‫كانت الدعوة ُتدار بشكل سيايس بحت‪ ،‬من مركز الدولة يف املدينة‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل‬
‫أطراف شبه اجلزيرة العربية وخارجها‪ ،‬يف األمصار املجاورة‪ ،‬عندما خاطب قائد‬
‫الدولة يف ذلك الوقت؛ الرسول الكريم "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬رموز األمم‬
‫املحيطني به‪ ،‬داع ًيا إياهم للدخول يف دين اهلل؛ اإلسالم‪.‬‬
‫سياسيا؛ حيث‬
‫ًّ‬ ‫ويف صلح احلديبية؛ سوف نجد الرسول ﷺ مفا ِو ًضا وحماد ًثا‬
‫فاوض أهل مكة من املرشكني‪ ،‬وفاوض قومه ومجاعة املسلمني عىل االتفاق الذي‬
‫توصل إليه مع أهل مكة املكرمة‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن نافلة القول‪ ،‬التأكيد عىل أن الرسول ﷺ يف ذلك الوقت‪ ،‬ويف كل تلك‬
‫املواقف‪ ،‬مل يكن ينطق عن اهلوى‪ ،‬بينام يف كل موقف منها‪ ،‬كان األمر يتعلق بصلب‬
‫العقيدة‪ ،‬ومستقبل الدعوة‪.‬‬
‫هذه اخللفية التي تؤكد عىل أن الوحي األهلي والتوجيه اإلهلي كانا خلف‬
‫قرارات الرسول الكريم ﷺ يف حينها؛ جيعلنا نقيس األمور بمقياس ثابت؛ أن‬
‫هذه القرارات وطريقة أخذها وكذا؛ هي األساس الذي ُيقاس عليه‪ ،‬وبالتايل؛ فقد‬
‫وجب – باملعنى الرشعي للوجوب الذي حيمل اإللزام – أن نلتزم هبا‪ ،‬ونعمل عىل‬
‫أن نختار منها‪ ،‬ما يتفق مع احلالة الراهنة‪ ،‬وكل موقف تواجهه احلركة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المسؤولية الجماعية لألمة في القرآن الكريم ومحاذير المرحلة!‬

‫بالرغم من أن القرآن الكريم‪ ،‬باعتباره الوثيقة التي منهاج اهلل تعاىل ورشيعته‬
‫التي ارتضاها لعباده عىل األرض؛ قد حرص الشارع األعظم فيه عىل التأكيد عىل‬
‫ال ملبدأ العدل يف احلساب؛ حيث إن كل‬‫املسؤولية الفردية ألفعال اإلنسان‪ ،‬إعام ً‬
‫إنسان أوىل بام قدَّ مت يداه‪ ،‬وال يكون مسؤو ً‬
‫ال عن أفعال اآلخرين؛ لضعفه وعجزه‬
‫عن تصويبها‪.‬‬
‫والقرآن الكريم‪ ،‬وبالذات ُسورة "اإلرساء"‪ ،‬حافل باآليات التي توضح‬
‫املسؤولية الفردية لإلنسان َّ‬
‫عم ُياسب عليه‪﴿ ..‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ‬
‫[سورة "اإلرساء" – اآلية ‪.]13‬‬
‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ ُ‬
‫وهو مبدأ أقره اهلل تعاىل حتى عىل ُر ُس ِله املك َّلفني من ِق َب ِله بتبليغ دعوة احلق‬
‫والتوحيد للناس‪ ،‬بمن فيهم النبي حممد ﷺ‪ ،‬الذي ُبعث بالدِّ ين اخلاتم للعاملني‪،‬‬
‫ألنه – كام تقدم عن ِع ْلم اهلل تعاىل بخلقه وضعفهم – ليس عليهم بمسيطر‪﴿ ..‬ﯤ‬
‫[سورة "الغاشية" – اآلية ‪.]22‬‬
‫ﯥ ﯦ ﯧ﴾ ُ‬
‫ويف ُسورة "األنعام"‪ ،‬يقول تعاىل خماط ًبا نب ِّيه ﷺ‪﴿ :‬ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌَ﴾ [من اآلية ‪ ،]52‬وكذلك يف ُسورة "آل‬
‫ِعمران"‪ ،‬يقول اهلل تعاىل لنب ِّيه ﷺ كذلك‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾ [من اآلية ‪.]128‬‬

‫‪359‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫إال أنه يف بعض املواقف؛ سوف نقف عىل بعض األمور التي جعل اهلل تعاىل‪،‬‬
‫بحكمته البالغة‪ ،‬املسؤولية فيها مجاعية‪ ،‬كام يف قوله عز وجل‪﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ‬
‫[سورة‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾ ُ‬
‫"األنفال" ‪ -‬اآلية ‪.]25‬‬

‫قال اهلل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ‬


‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫[سورة‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾ ُ‬
‫"األعراف" ‪ -‬اآلية ‪.]38‬‬
‫ٌ‬
‫معرتف به يف القرآن‬ ‫والسلوك اجلامعي الذي هو أكرب من جمموع أجزاء أفراده‪،‬‬
‫الكريم‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬من اآلية ‪.]38‬‬
‫ﭾ﴾ ُ‬
‫نذيرا شديد األمهية فيام يتعلق باملسؤولية اجلامعية‬
‫هذه اآليات السابقة حتمل ً‬
‫لألمم عن بعض األمور العامة التي جعلها اهلل تعاىل مفصلية‪ ،‬وهلا تأثري عىل كل‬
‫عضو من أعضاء هذه األمة‪ ،‬مهام َص ُغر أو عال شأنه‪.‬‬
‫ومن خالل تطواف رسيع يف القرآن الكريم؛ فإننا سوف نرى أن هذا املبدأ‬
‫– املسؤولية اجلامعية يف احلساب لألمم – إنام يأيت يف حاالت معينة‪ ،‬مثل شيوع‬
‫ً‬
‫برىض عام من‬ ‫الكفر والظلم‪ ،‬أو إقرار املنكرات‪ ،‬وشيوعها‪ ،‬وأن يكون ذلك‬
‫املجتمع‪ ،‬فعندها يأيت احلساب اإلهلي ال يذر منهم أحدً ا‪ ،‬سواء يف اآلخرة‬

‫‪360‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بموجب ُس َّنة إهالك األمم‪ ،‬أو يف اآلخرة‪ ،‬عندما ترتى األمم إىل النار‪ ،‬العنني‬
‫بعضهم البعض!‬
‫وهنا جتب اإلشارة إىل ما ذكره الطربي والقرطبي وآخرون يف تفسري آية‬
‫املفسين‪ ،‬عىل أهنا‬
‫"األنفال" املتقدمة؛ حيث هناك حالة من اإلمجاع بني عموم ِّ‬
‫نزلت يف صحابة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬استرشا ًفا ملا سوف يكون عليه حاهلم من بعده‬
‫ٍ‬
‫اقتتال وفتنة‪.‬‬ ‫"عليه الصالة والسالم"‪ ،‬من‬
‫فأشار املفرسون إىل مقوالت وردت عىل ألسنة كبار الصحابة "رضوان اهلل تعاىل‬
‫عليهم"‪ ،‬ومنهم الزبري بن العوام‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وقت الفتنة الكربى‪ ،‬من أن اآلية‬
‫تنطبق أكثر ما تنطبق‪ ،‬عىل حاهلم يف ذلك احلني‪.‬‬
‫ويف اإلطار العام للحديث القرآين؛ فإن واقع املسؤولية اجلامعية حيدث‬
‫عندما تشيع أشكال اخللل املختلفة‪ ،‬وتقاعس املجتمع املسلم عن التصدي‬
‫وخصوصا تلك التي متس العقيدة‪ ،‬ومصري األمة‬
‫ً‬ ‫ملثل هذه األلوان من اخللل‪،‬‬
‫بالكامل‪.‬‬
‫ردا عىل أم املؤمنني‪ ،‬زينب بنت‬
‫ويؤكد ذلك املعنى‪ ،‬قول الرسول الكريم ﷺ‪ًّ ،‬‬
‫جحش "ريض اهلل عنها"‪،‬‬
‫وقد تضافرت مجلة من األحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد هذا املعنى‪ ،‬من‬
‫ذلك رده ﷺ‪ ،‬عىل زينب بنت جحش "ريض ُ‬
‫اهلل عنها"‪ ،‬عندما قالت‪" :‬يا رسول‬
‫ٌ‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬ ‫اهلل أهنلك وفينا الصاحلون؟"‪ .‬قال‪" :‬نعم‪ ،‬إذا كثر اخلبث"‬

‫‪361‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وألن القرآن الكريم‪ ،‬هو كالم اهلل املتني‪ ،‬والذي يصح ويصلح لكل زمان‬
‫ومكان؛ فإنه عندما نعمل عىل إسقاط هذا احلديث عىل الواقع احلايل لألمة؛ فإننا‬
‫سوف نقف أمام جمموعة من األمور اجلدُّ خطرية‪ ،‬والتي ينبغي عىل كل مسلم أن‬
‫يدركها‪ ،‬لكي يعلم ما عليه من واجبات يف هذه اللحظة بالذات‪ ،‬حتى نتقي العقاب‬
‫خزي يف الدنيا وعذاب مهني يف اآلخرة‪.‬‬
‫اإلهلي الذي هو ٌ‬
‫فيدخل حتت بند هذه اآليات واألحاديث النبوية الرشيفة‪ ،‬قضية حماربة الفساد‬
‫واالستبداد‪ ،‬ويدخل فيها قضية التصدي خلصوم املرشوع احلضاري اإلسالمي‪،‬‬
‫والذين يف سبيل وقفه‪ ،‬ارتكبوا كل ما يمكن من جرائم‪ ،‬بام يف ذلك قتل الناس يف‬
‫الشوارع وهدم املنازل عىل رؤوسهم‪ ،‬وانتهاك أعراضهم‪ ،‬واالستيالء عىل أمواهلم‪،‬‬
‫وغري ذلك صور اجلرائم واملوبقات‪.‬‬
‫إن هذه اآليات واألحاديث لتؤكد أن العقاب اإلهلي لن يطال املؤيدين لقوى‬
‫الفساد واالستبداد فحسب‪ ،‬ومن عاوهنم عىل جرائمهم‪ ،‬ويف فسادهم‪ ،‬وإنام يطال‬
‫أيضا حتى من شاركوا بالصمت‪ ،‬وتقاعسوا عن أداء فريضة األمر باملعروف‬ ‫ً‬
‫والنهي عن املنكر التي هي مع اإليامن باهلل تعاىل‪ ،‬ما جعل األمة هي خري ُأ َّم ٍة‬
‫أخرجت للناس‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫[سورة "آل ِعمران" – من اآلية ‪.]110‬‬ ‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ﴾ ُ‬
‫ولعل هذه الرسالة التي حيملها هذا احلديث‪ ،‬هي أحوج ما تكون األمة اآلن‬
‫إىل أن تسمعها من قادة الرأي والعلامء والساسة الذين ال يزالون يتمسكون برسالة‬
‫التغيري واإلصالح‪ ،‬وال يزالون يؤمنون باملرشوع اإلسالمي احلضاري‪ ،‬وبأنه احلل‬
‫الوحيد لكل مشكالت األمة‪ ،‬بل املفتاح الوحيد لسعادة البرشية‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تالق أم صراع؟!‬
‫"المشروع اإلسالمي" والقديم‪ٍ ..‬‬

‫ال نزال نميض مع املشكالت التي تواجه احلركة اإلسالمية‪ ،‬واملرشوع اإلسالمي‬
‫يف زمننا املعارص‪ ،‬وعىل وجه اخلصوص تلكم املشكالت التي تتصل بمسألة قدرة‬
‫الفكرة اإلسالمية وأطرها احلركية عىل االنسياح داخل املجتمعات‪ ،‬واالنتشار يف‬
‫خمتلف األوساط‪.‬‬
‫دورا‬
‫وربام هناك مشكلة ال ينتبه إليها الكثريون يف األوساط احلركية؛ إال أن هلا ً‬
‫ريا يف حقيقة األمر يف تعطيل انتشار الفكرة اإلسالمية داخل املجتمعات‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫كب ً‬
‫فهي ُتعترب من بني أهم اآلفات التي أصيبت هبا احلركات السياسية واالجتامعية‬
‫التي متثَّلت املرشوع اإلسالمي عنوا ًنا هلا‪.‬‬
‫ونعني هنا قضية نفي كل قديم‪ .‬وهي آفة أخرى تضاف إىل قضية نفي "صالح"‬
‫اآلخر و"أحقيته يف متثيل املرشوع اإلسالمي"‪ ،‬والتي قادت يف مراتب متطرفة‬
‫هلا‪ ،‬إىل التكفري‪ ،‬وإىل دخول احلركة اإلسالمية يف رصاعات بينية أرضَّ ت أ َّيام رضر‬
‫باملرشوع األصيل برمته‪.‬‬
‫وقبل تناول الفكرة؛ فإنه من األمهية بمكان القول إن هذه األزمة‪ ،‬وخمتلف‬
‫األزمات واملشكالت تتعلق بقضية أي اجلامعات مت ِّثل املرشوع اإلسالمي‪ ،‬وفق‬
‫تصورها له‪ ،‬وليس اإلسالم؛ ألن الدين ال يوجد َمن يمثله‪ ،‬وحيتكره كمفهوم‬
‫شامل عام؛ فهذه عقيدة ثابتة يف األصول الرشعية؛ حيث ال بابوية يف اإلسالم‪،‬‬

‫‪363‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ووقت البعثة النبوية؛ مل يكن هناك أية تصنيفات بني املسلمني تضع هذا ضمن‬
‫الصحابة وهذا ال‪.‬‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬نأيت إىل نقطة "اجلامعاتية" التي اب ُت ِل َي ْت هبا األمة‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫حول‬
‫البعض يف العقود املاضية جهود اآلباء األوائل حلركة اإلصالح يف العامل اإلسالمي‬
‫ً‬
‫تنظيم لصفوفها‪ ،‬إىل هدف يف حد ذاته‪.‬‬ ‫الستحداث طليعة أكثر‬
‫ويف ظل هذا االنحراف عن رسالة الطليعة احلركية يف جذرها‪ ،‬كواجهة قائدة‬
‫وشعارا‬
‫ً‬ ‫هنجا‬
‫فقط؛ حتول البعض باحلركات واجلامعات التي انتهجت اإلسالم ً‬
‫هلا‪ ،‬إىل هدف يف حد ذاته‪ ،‬ثم حتول األمر إىل تنافس عىل تثبيت األقدام يف املجال‬
‫االجتامعي والسيايس‪.‬‬
‫وبالتايل نقف عند املشكلة التي نحن بصددها‪ ،‬وهي أنه من أجل هذا التثبيت؛‬
‫ظن البعض عىل وجه خاطئ أنه لن "يسود" – بينام املطلوب ليس السيادة يف حد‬
‫ذاهتا – إال لو نفى اآلخر‪ ،‬وأسقط عن القديم كل صالح‪ ،‬وكل فائدة فيه‪.‬‬
‫فتم نفي صالحية األفكار القومية‪ ،‬ونفي جتارب السابقني اإلصالحية‪ ،‬لدرجة‬
‫املعاداة الرصحية لتجارب سياسية وتنموية اعرتف العامل كله – الذي حارهبا يف حينه‬
‫‪ -‬هبا‪ ،‬مثل جتربة حممد عيل باشا الكبري يف مرص‪.‬‬
‫وامتد ذلك إىل احلديث عن "ماسونية" حممد عبده ومجال الدين األفغاين –‬
‫الذي عاش ومات مطار ًدا بسبب أفكاره اإلصالحية!! – وعن سطحية عباس‬
‫العقاد‪ ،‬وعن هتافت املرشوع الفكري لإلمام حممد الغزايل‪ ،‬ملجرد خالفات تنظيمية‬
‫أو فكرية ربام كان إدارهتا يف اإلطار الداخيل أفضل وعالمة صحية‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وشمل ذلك نقطة خطر مهمة‪ ،‬وهي األفكار اليسارية التي من املفرتض أن يتم‬
‫تناوهلا بيشء غري يسري من الرشادة الرتباطها يف جذرها بعقدة مهمة‪ ،‬وهي املطالب‬
‫االجتامعية‪.‬‬
‫فلو أنك هامجت اليسار وما اتصل به من أفكار اشرتاكية‪ ،‬من دون تدقيق؛ فسوف‬
‫"يبدو" وكأنك تتبنى أفكار ما ُيعرف باليمني الرجعي‪ ،‬وهتاجم الدعوات التي‬
‫تتضمنها املدارس اليسارية املختلفة عن رضورة تقدم الشعوب‪ ،‬وأن تنال حقوقها‬
‫وحريتها‪ ،‬وأن يكون العيش واحلرية والكرامة اإلنسانية عىل رأس أجندة احلكومات‪.‬‬
‫وهو بالفعل اهتام ُو ِّجه من األنظمة اليسارية والقومية العربية يف اخلمسينيات‬
‫والستينيات عىل وجه اخلصوص‪ ،‬يف أوج صعود االشرتاكية واألفكار القومية يف‬
‫عاملنا العريب‪ ،‬وكان لإلخوان املسلمني النصيب األكرب من هذه االهتامات بحكم‬
‫احلجم واالنتشار‪ ،‬وبحكم العالقات السياسية التي مجعت بني اجلامعة وبني أنظمة‬
‫عربية كانت مص َّنفة ضمن هذا التصنيف‪.‬‬
‫ويف الواقع؛ فإهنا نجد أن هذه األفكار‪ ،‬بعد جتريدها من املنظومة القيمية التي‬
‫حتكمها‪ ،‬وتتناقض يف بعض جوانبها مع صحيح اإلسالم؛ هي – هذه األفكار عن‬
‫احلرية والكرامة اإلنسانية والعيش الكريم – هي من صميم اإلسالم‪ ،‬لدرجة أن‬
‫بعض النخبة املثقفة يف عاملنا العريب‪ ،‬مثل أمحد شوقي؛ قالوا بأن اإلسالم يف صورته‬
‫النبوية النقية‪ ،‬إنام ِّ‬
‫يزكي األفكار االشرتاكية يف املجال االجتامعي قل ًبا وقال ًبا‪.‬‬
‫هذا النفي للقديم‪ ،‬والتصادم معه‪ ،‬بد ً‬
‫ال من االستفادة منه يف حتقيق التثبيت‬
‫املجتمعي ْي‪ ،‬أدى إىل عواقب سلبية للغاية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫واالنتشار‬

‫‪365‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫من بني هذه العواقب‪ ،‬دخول احلركات اإلسالمية إىل ساحات رصاع داخلية مل‬
‫يكن ينبغي هلا أن تدخلها‪ ،‬وشغلتها عن مهامها اإلصالحية التي هي من املفرتض‬
‫أهنا هنضت ألجلها‪ ،‬وأضعفتها أمام خصوم األمة اخلارجيني‪ ،‬والذين هم من‬
‫املفرتض أن احلركة اإلسالمية خرجت حلامية األمة منهم يف األصل‪.‬‬
‫كذلك أدى هذا إىل انفصال كامل مع رشائح جمتمعية وسياسية‪ ،‬كان أوىل‬
‫التداخل معها‪ ،‬والسعي إىل ضمها كام تفعل أية قوة سياسية واجتامعية أخرى‪ ،‬وهو‬
‫ما أضعف هذه احلركات كذلك‪.‬‬
‫كام أنه ثبت اهتامات ال أصل هلا من جانب بعض خصوم الدعوة‪ ،‬بأهنا – أي‬
‫احلركات اإلسالمية – إنام هي أداة من أدوات القوى االستعامرية من أجل هدم‬
‫املجتمعات والنيل من "ثوابتها"‪ ،‬باعتبار أن القديم يم ِّثل هذه الثوابت‪.‬‬
‫متوقعا؛ ألنه خيالف‬
‫ً‬ ‫النقطة املهمة هنا‪ ،‬أن املشاكل التي نجمت عن ذلك كانت‬
‫رصيح قوانني العمران البرشي واالجتامع السيايس‪ ،‬وهو أمر – ألنه يتناىف مع‬
‫قوانني العمران – فقد جاء اإلسالم بعكسه‪.‬‬
‫فـ"وثيقة املدينة"؛ أول وثيقة مواطنة وحقوق مدنية يف التاريخ وفق مسترشقني‬
‫من وزن املسترشق الربيطاين‪ ،‬ويليام مونتجمري وات؛ اعرتفت بالقديم القائم‪،‬‬
‫حتى ما كان منه خيالف عقيدة التوحيد ذاهتا‪ ،‬حلني إصالحه عىل املنهج اإلسالمي‬
‫وخصوصا الرتبية‪.‬‬
‫ً‬ ‫املتدرج من خالل خمتلف األدوات‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫القائم عىل التغيري‬
‫وبالفعل؛ فإنه بعد "وثيقة املدينة"‪ ،‬بل وبعد "صلح احلديبية" الذي أقر ملرشكي‬
‫مكة حقو ًقا سياسية واجتامعية حتى عىل املسلمني اجلدد من بني ظهرانيهم؛ بعده‬

‫‪366‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بعام واحد‪ ،‬كان فتح مكة املكرمة‪ ،‬وظهور اإلسالم عىل كامل شبه اجلزيرة العربية‪،‬‬
‫وه ِد َمت األصنام ورموز الرشك أص ً‬
‫ال يالكامل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وهو ما يقول بأن منهج اإلسالم هو الصواب وال يشء خالفه‪ ،‬وأنه – حقيق ًة ‪-‬‬
‫من لدن حكيم عليم‪.‬‬
‫فلو أن األمر مرتبط برؤى برشية‪ ،‬ووفق جتارب سابقة والحقة يف التاريخ‬
‫اإلنساين‪ ،‬مماثلة أو قريبة من حالة دولة اإلسالم األوىل؛ فإن هذه املراحل التي‬
‫استغرقت سنوات معدودة من البعثة النبوية؛ أخذت عقو ًدا وربام قرو ًنا طويلة يف‬
‫حاالت أخرى‪.‬‬
‫كذلك نجد أن غالبية الصحابة الكرام رضوان اهلل تعاىل عليهم‪ ،‬كانوا من كبار‬
‫ال‪ ،‬وكان بعضهم يف فرتة اجلاهلية من األسوأ يف‬ ‫يربم النبي ﷺ أطفا ً‬‫السن‪ ،‬ومل ِّ‬
‫اجلانب األخالقي‪ ،‬وبعضهم قتل املسلمني وعذهبم واضطهدهم‪ ،‬ولكن ذلك مل‬
‫يمنع أن الرسول الكريم ﷺ اجتهد لضمهم إىل صفوف الدين‪ ،‬وجعلهم حر ًبا عىل‬
‫أعداء الدين‪ ،‬وليس عىل الدين‪.‬‬
‫وهو "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬يقول يف حديث صحيح‪" :‬خريكم يف اجلاهلية‬
‫خريكم يف اإلسالم"‪.‬‬
‫‪............‬‬
‫ويف األخري؛ فإن نفي القديم بالكامل‪ ،‬وبصورة غري رشيدة؛ خلق أزمة حقيقية‬
‫أمام احلركات اإلسالمية للتحرك يف املجتمعات واألوساط التي ال تؤمن بالفكرة‬
‫اإلسالمية؛ فوصلنا إىل مرحلة التكفري واهلجرة؛ سواء الرصيح منها أو املسترت!‬

‫‪367‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫المقاصدية وتبدل الظرف وبديهيات فقهية واجبة في عصر التكفير!‬

‫أعم َل ْت‬‫وأعم َل ْت فيها ما َ‬


‫َ‬ ‫ال نزال مع قضية هي من أهم ما يرتبط بأزمات األمة‪،‬‬
‫من سيوف الفتنة واالنقسام‪ ،‬وهي قضية التكفري‪ ،‬التي جعلت أمة التوحيد ِش َي ًعا‬
‫متنافرة‪ ،‬بل ومتناحرة‪ ،‬وضاعت بني أطيافها احلركية املتحاربة‪ ،‬مصالح شعوب‬
‫األمة يف كل أطراف األرض؛ من الروهينيجا واألوجيور يف أقىص رشق آسيا‪،‬‬
‫وحتى مسلمي الواليات املتحدة الذين يتهددهم دونالد ترامب بالطرد والتهجري‪،‬‬
‫ال ليشء؛ إال لعنرصيته إزاءهم‪.‬‬
‫وكأية ظاهرة إنسانية؛ هناك الكثري من األسباب التي تقف خلف هذه األزمات‬
‫املتالحقة التي ترضب بأطناهبا يف مساقات األمة‪ ،‬االجتامعية والسياسية؛ إال أننا‬
‫نقف يف هذا املوضع عىل هذا اجلذر الشديد األمهية‪ ،‬والذي يعود إىل أصلٍ مهم‪،‬‬
‫مستوى من‬
‫ً‬ ‫والعال‪ ،‬بحيث وصلنا إىل‬
‫ِ‬ ‫وهو غياب الرؤية املقاصدية عن الفقيه‬
‫اجلمود والتشبث غري املحمود بالنص‪ ،‬بصورة يرفضها النص نفسه‪ ،‬أدى إىل تكفري‬
‫جمتمعات مسلمة بالكامل‪ ،‬تشهد بالتوحيد‪ ،‬وتقيم الصالة وتؤيت الزكاة‪.‬‬
‫بداي ًة‪ ،‬فإن هناك مشكلة متعلقة بنقطة الرؤية املقاصدية للرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫بنصوصها وأحكامها؛ حيث يعتربها الكثريون من نافلة القول‪ ،‬أو عبارة عن‬
‫رياضة ذهنية‪ ،‬أو جمال لدَ ْرس الصفوة‪ ،‬بالرغم من أن املقاصد من أهم األمور التي‬
‫والعال أن ينظر إليها وهو يصدر حكمه الرشعي يف أية مسألة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جيب عىل الفقيه‬

‫‪368‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولتحرير املفهوم‪ ،‬فإن مقاصد الرشيعة أو املقاصد الرشعية‪ ،‬أو مقاصد الشارع‬
‫تعرف يف علم أصول الفقه‪ ،‬عىل أهنا‪ ،‬كام يف‬
‫األعظم من األحكام الرشعية‪َّ ،‬‬
‫"املوافقات" لإلمام الشاطبي‪ ،‬هي ما قصده الشارع األعظم‪ ،‬رب العزة سبحانه‪،‬‬
‫بمعنى آخر‪ِ ،‬‬
‫احل َكم التي من أجل‬ ‫ً‬ ‫من الرضوريات واحلاجيات والتحسينات‪ ،‬أي‪،‬‬
‫حتقيقها‪ ،‬بعث اهلل تعاىل الرسل‪ ،‬وأنزل الرشائع‪ ،‬وتتضمن مصالح املك َّلفني وفق‬
‫مناطات التكليف املعروفة‪ ،‬وهي العقل واحلرية‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقطعه"‪ ،‬وحفظ‬ ‫ِ‬
‫ورفعه‬ ‫وبشكل عام؛ فإن املقاصد هتدف إىل "نفي الرضر‬
‫الكليات الرشعية اخلمس املعروفة‪ ،‬وهي حفظ الدين‪ ،‬وحفظ النفس‪ ،‬وحفظ‬
‫العقل‪ ،‬وحفظ النسل‪ ،‬وحفظ املال‪ ،‬مع مراعاة مطلق املصلحة‪ ،‬سواء أكانت هذه‬
‫املصلحة جالب ًة ملنفعة‪ ،‬أم دارء ًة ملفسدة‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم الكثري من الشواهد والنصوص التي توضح أن املقاصد هبذا‬
‫املعنى‪ ،‬من الواجب والرضوري وضعها عند إصدار أي حكم رشعي؛ فكثري من‬
‫األحكام تبعتها يف القرآن الكريم‪ ،‬عبارات تدعو إىل العفو‪ ،‬وحتى يف احلدود القاطعة‬
‫يف أمور شديدة األمهية‪ ،‬مثل القصاص الذي ال تستقيم حالة السلم األهيل واالجتامعي‬
‫إال به؛ فإن القصاص مرشوط ومرهون بأن يكون حلفظ النفس يف األصل‪ ،‬ومرشوط‬
‫كذلك برشط الرشادة والعقالنية يف تنفيذه‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬اآلية ‪.]179‬‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ ُ‬
‫أي أن املصلحة هي التي حتكم احلكم الرشعي كام هو واضح يف هذه اآلية‬
‫الكريمة‪ ،‬ويف آيات أخرى‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبشكل عام‪ ،‬من بني اآليات القرآنية الكريمة التي يستند إليها العلامء املقاصديني‬
‫يف التأكيد عىل أن مراعاة املقاصد من ُصلب الرشيعة؛ قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥ‬
‫ﯨ﴾[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪.]185‬‬
‫ُ‬ ‫ﯦﯧ‬
‫ولقد وعى املسلمون األوائل وعلامء السلف املتقدمون ذلك‪.‬‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنهام"‪ ،‬عندما سأله أحد‬ ‫"ر ِ َ‬
‫فهناك املوقف الشهري لعبد اهلل بن عباس َ‬
‫اخلوارج عن توبة القاتل فقال‪" :‬ال توبة له"‪ ،‬بينام وسأله آخر فقال‪" :‬له توبة"‪ ،‬ثم‬
‫قال‪" :‬أما األول فرأيت يف عينه إرادة القتل فمنعته‪ ،‬وأما الثاين فجاء مستكينًا قد‬
‫قتل فلم أقنطه" [مقدمة املجموع لإلمام النووي‪ ،‬ورواه القرطبي بطريق آخر يف‬
‫تفسريه]‪.‬‬
‫ويف املذاهب األربعة‪ ،‬نجد أن املالكية واحلنفية‪ ،‬كانوا يضعون املقاصد واملصالح‬
‫املرسلة‪ ،‬نصب أعينهم‪ ،‬وهم يفتون‪ ،‬أما اإلمام الشافعي فقد بدَّ ل من األصل‪ ،‬الكثري‬
‫من أحكامه عندما هاجر من العراق إىل مرص؛ مراعا ًة لظروف الزمان واملكان‪.‬‬
‫وكان لإلمام الشاطبي الذي ُيعترب من أهم ما كتب يف املقاصد‪ ،‬مقولة مهمة‬
‫وتلخص هذا كله؛ حيث يقول‪:‬‬‫توضح أمهية اجلانب العقيل يف فهم النص‪ِّ ،‬‬
‫"‪ ..‬وذلك أين وهلل احلمد مل أزل منذ فتق للفهم عقيل‪ ،‬ووجه شطر العلم طلبي‪،‬‬
‫أنظر يف عقلياته ورشعياته‪ ،‬وأصوله وفروعه‪ ،‬مل أقترص منه عىل علم دون علم‪ ،‬وال‬
‫نوعا دون أخر‪ ،‬حسبام اقتضاه الزمان واإلمكان وأعطته املنة‬
‫أفردت من أنواعه ً‬

‫‪370‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املخلوقة يف أصل فطريت‪ ،‬بل خضت يف جلاجه خوض املحسن للسباحة‪ ،‬وأقدمت‬
‫يف ميدانه إقدام اجلريء‪ ،‬إىل أن َم َّن ع ًّ‬
‫ىل الرب الكريم‪ ،‬الرؤوف الرحيم‪ ،‬فرشح يل‬
‫من معان الرشيعة ما مل يكن يف حسايب"‪.‬‬
‫ومن بني أهم الكتب التي وضعت يف جمال املقاصد من جانب علامء السلف‪،‬‬
‫كتاب "املقاصد الشافية يف رشح خالصة الكافية"‪ ،‬لإلمام الشاطبي‪ ،‬وفيه رشح‬
‫ألفية‪ ،‬اإلمام مالك‪ ،‬وكتاب "املوافقات" لإلمام الشاطبي ً‬
‫أيضا‪ ،‬وكتاب "مقاصد‬
‫الرشيعة" لإلمام ابن عاشور‪ ،‬و"الفائق يف املقاصد الرشعية"‪ ،‬و"اإلمام يف مقاصد‬
‫مالحظ ‪-‬‬
‫َ‬ ‫رب األنام"‪ ،‬وكالمها لإلمام أبو عبد الرمحن األخرضي‪ ،‬وهو ‪ -‬كام هو‬
‫مالكي املذهب‪ ،‬مثل الشاطبي وحممد الطاهر بن عاشور‪.‬‬
‫هذه األمور كلها‪ ،‬نحن يف هذه املرحلة من تاريخ األمة؛ أحوج ما نكون إىل‬
‫أن تكون يف قمة اهتاممات ليس الدعاة فحسب؛ بل واملر ِّبني كذلك؛ حيث ينبغي‬
‫غرس قيم العقل وأمهية إعامله يف النص الرشعي‪ ،‬ورضورة االنطالق يف فضاءات‬
‫الص َغر‪.‬‬
‫املعرفة من دون مجود أو قيود‪ ،‬ومن دون تفريط كذلك‪ ،‬ومنذ ِّ‬
‫ولعل هذه املهمة ليست باليسرية يف ظل الظروف الراهنة التي متر هبا األمة؛ بني‬
‫شيع الفتن والتكفري والضالالت‪ ،‬وبني أعداء مرتبصني هبا‪ ،‬يبذلون كل مرختص‬
‫ٍ‬
‫وغال من أجل تعطيل األمة‪ ،‬واستمرار هذه احلالة من التفتت والفتن واالقتتال‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإن الرجوع إىل األصول األوىل لوسائل التعليم والدَّ ْرس‪ ،‬التي تتجاوز‬
‫هذه احلالة من احلصار واهلجوم الرشس؛ مثل حلقات املساجد‪ ،‬والكتاتيب بعد‬
‫حتديث األدوات التي يتم استخدامها فيها‪ ،‬بام يتناسب مع روح العرص‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهذه املرحلة التي ختاطبها دروس وحلقات املساجد‪ ،‬هي مرحلة الغرس‬
‫األول؛ الذي لو َص ُلح؛ لصلح شأن اإلنسان بعد ذلك‪ ،‬ولو فشل وفسد؛ لفسد‬
‫شأن اإلنسان كله بعد ذلك‪.‬‬
‫إهنا مهمة طليعية ثقيلة‪ ،‬ولكن رضورية يف عرص الفتن والتكفري هذا الذي‬
‫نحياه!‪..‬‬

‫‪372‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"الميثاق" في القرآن الكريم‪..‬‬


‫عهد العقيدة وأساس للبناء االجتماعي والسياسي السليم‬

‫من بني أهم املفاهيم واملصطلحات القرآنية‪ ،‬مصطلح "امليثاق"؛ حيث استعمله‬
‫رب العزة سبحانه وتعاىل يف التعبري واإلشارة إىل أهم األمور وأعظمها‪ ،‬مما‬
‫حيكم تصورات وحركة اإلنسان يف احلياة الدنيا‪ ،‬إزاء ربه عز وجل‪ ،‬وإزاء نفسه‬
‫واآلخرين‪ ،‬والقضايا الكربى املطروحة عليه‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذا املصطلح املهم‪ ،‬وفق املعاين واالجتاهات املختلفة‬
‫لالستعامل القرآين له‪ ،‬يتضمن الكثري من املجاالت التي تكشف كيف أن اإلسالم‬
‫دين شامل‪ِّ ،‬‬
‫ينظم خمتلف أركان احلياة‪ ،‬الفكرية والنفسية‪ ،‬والسياسية واالجتامعية‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وغري ذلك من دوائر حييا فيها اإلنسان يف احلياة الدنيا‪ ،‬ويستعد هبا لآلخرة‪.‬‬
‫ومما ُذ ِك َر يف معاجم اللغة العربية املختلفة‪ ،‬فإن "امليثاق" لغ ًة يعني "العهد"‪،‬‬
‫وبالتايل؛ فإنه يف االصطالح‪ ،‬يعني ما يتعاهد عليه طرفان أو أكثر‪ ،‬من أجل القيام‬
‫عىل أمر ما‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن امليثاق يتضمن ثالثة جوانب‪ ،‬األول‪ ،‬هو العهد واالتفاق‪ ،‬والثاين‬
‫األمر الذي تم االتفاق عىل القيام به‪ ،‬وجماله‪ ،‬والثالث‪ ،‬ترتيبات القيام هبذا األمر‬
‫وإجراءات ذلك‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مرة‪ ،‬يف‬
‫ولقد وردت كلمة "امليثاق" باشتقاقاهتا املختلفة فيام يتصل هبذا‪َّ 34 ،‬‬
‫جمر ًدا غري متصل بأمر آخر‪ ،‬كام يتضح‬
‫كمعنى َّ‬
‫ً‬ ‫‪ 29‬آية قرآنية كريمة‪ ،‬ولكن "امليثاق"‬
‫من مراجعة هذه اآليات‪ ،‬هو العهد مع اهلل تعاىل‪ ،‬والقائم عىل اإليامن والتسليم‬
‫بعقيدة التوحيد‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن أول مالحظة عىل هذا املفهوم يف القرآن الكريم‪ ،‬أنه حتى مع‬
‫الطريقة التي َّنوع هبا اخلالق عز وجل يف كتابه العزيز يف استخدام كلمة "امليثاق"‬
‫مرات استخدام املفهوم ومشتقاته املختلفة؛ تشرتك كلها يف‬
‫ومعانيها املختلفة؛ فإن َّ‬
‫معنى واحد‪ ،‬وهو املتانة والقوة‪ ،‬وعىل معنى قداسة الرابطة التي يضعها امليثاق بني‬
‫ً‬
‫أطراف األمر التي تعاهدت عليه‪.‬‬
‫عينة استخدمها القرآن الكريم‬
‫ويبدو ذلك يف أكثر من مظهر‪ ،‬مثل اشتقاقات ُم َّ‬
‫املرات الـ‪ 34‬التي ذكر فيها القرآن الكريم الكلمة ومشتقاهتا املختلفة‪ ،‬أو يف‬
‫ضمن َّ‬
‫املعاين التي دارت حوهلا الكلامت التي تضمنتها الفقرات والعبارات التي احتوت‬
‫مفهوم "امليثاق"‪ ،‬والتعبريات والصياغات املستخدمة يف هذا اإلطار‪.‬‬
‫فالقداسة واملتانة تبدو مث ً‬
‫ال يف اشتقاق "الوثقى" من كلمة "ميثاق"‪ ،‬فيقول تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ‬
‫ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة" –‬
‫اآلية ‪ ،]256‬ويقول سبحانه ً‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫[سورة "لقامن" – اآلية ‪.]22‬‬
‫ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ ُ‬

‫‪374‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الحظ هنا أن كال اآليت َْي يضع ال َّنص القرآين "امليثاق" يف معناه األسايس‬
‫و ُي َ‬
‫الذي ذكرناه‪ ،‬صنو اإلسالم‪ ،‬وصنو اإليامن‪ ،‬ويؤكد اخلالق بام استعمله من عبارات‬
‫وألفاظ يف كال اآليت َْي عىل أن امليثاق األوثق واألقدس يف حياة اإلنسان‪ ،‬هو اإليامن‬
‫باهلل عز وجل وحده ال رشيك‪ ،‬وما يرتبه ذلك عليه من أمور عقدية‪.‬‬
‫ويف ذات السياق‪ ،‬ولكن بعكس املعنى‪ ،‬وهو أسلوب بالغي نجده يف القرآن الكريم؛‬
‫يفس لنا غضبه عىل بني إرسائيل‪،‬‬
‫التأكيد عىل األمر باملعنى وعكسه؛ فإن اهلل تعاىل لكي ِّ‬
‫وعقابه الشديد هلم عىل كفرهم بعد إيامهنم‪ ،‬بأهنم قد نقضوا ميثاقهم مع اهلل تعاىل‪.‬‬
‫التمسك‬
‫ُّ‬ ‫ففي آيت َْي "البقرة" و"لقامن"؛ كان التأكيد عىل أن النجاة‪ ،‬يف‬
‫بـ"امليثاق" بني العبد وخالقه‪ ،‬والقائم باألساس عىل عقيدة التوحيد‪ ،‬ولذلك‬
‫استحق بنو إرسائيل شديد العقاب لنقضهم هذا امليثاق‪ ..‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯗ ﯘ‬
‫ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤ‬
‫ﯥﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮ‬
‫ﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖ‬
‫ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣ‬
‫ﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩ ﭪﭫﭬﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ﴾‬
‫[سورة "البقرة"]‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪375‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويقول عز َمن قائل‪ ﴿:‬ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ‬


‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﴾‬
‫[سورة "املائدة" – اآلية ‪.]13‬‬
‫ُ‬
‫ويف ُس َور "البقرة" و"آل عمران" و"النساء" و"األعراف" و"املائدة"‪ ،‬الكثري من‬
‫اآليات التي تربز سوء عاقبة بني إرسائيل‪ ،‬والنصارى‪ ،‬ممَّن نقضوا امليثاق مع اهلل تعاىل‪.‬‬

‫يؤكد هذه املعاين مجيعها‪َ ،‬ق ْول اهلل عز وجل يف ُسورة "األحزاب"‪﴿ :‬ﭑ‬
‫ومما ِّ‬
‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾‪ ،‬وقوله سبحانه يف ُسورة "احلديد"‪ ﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾‪.‬‬
‫هنا تبدو القداسة واملتانة التي ِّ‬
‫يؤش عليها مصطلح "امليثاق"‪ ،‬وأنه يف املعنى‬
‫القرآين يقف عىل أهم ما ُخ ِل ْقنَا ألجله‪ ،‬وهو توحيد اخلالق عز وجل وإفراده‬
‫بالعبادة‪ ،‬والدعوة إليه وإىل رشيعته‪.‬‬
‫"امليثاق" يف حياتنا‪ ..‬اإلسالم وشريعته كعقد اجتماعي‪:‬‬

‫ويف األمور األخرى التي تربز تنظيم اإلسالم ملختلف األمور‪ ،‬نجد أن اهلل عز‬
‫وجل قد استخدم كلمة "امليثاق" عىل أمهيتها يف التأكيد عىل أهنا العهد بيننا وبينه‬
‫سبحانه‪ ،‬يف التأكيد عىل قداسة الروابط التي تنشأ بني الناس طاملا أهنا نشأت عىل‬
‫أسس رشيعته‪ ،‬وعىل كلمة اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ففي ُسورة "النساء"‪ ،‬نجد اهلل تعاىل قد قدَّ س عالقة الزواج بأن جعلها ميثا ًقا ً‬
‫غليظا‬
‫بني الرجل واملرأة‪ ،‬فيقول عز وجل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪.‬‬
‫معنى هتتز له مشاعر‬
‫ً‬ ‫ورت "النساء" و"األنفال" نجد أنفسنا أمام‬ ‫ويف ُس َ ْ‬
‫اإلنسان‪ ،‬مما يربز قوة اهلل تعاىل وعزته وجالله يف ذاته؛ حيث بدا ذلك يف استغنائه‬
‫عن العاملني‪ ،‬عندما َّ‬
‫فضل وشدَّ د عىل رضورة وفاء البرش وبمواثيقهم وعهودهم‬
‫بني بعضهم البعض عىل الوفاء بالتزامات رابطة اإليامن والدين املشرتك‪ ،‬ألن حفظ‬
‫أوىل؛ حيث إننا آم َّنا أو مل نؤمن‪ ،‬شكرنا أو مل نشكر؛ فإننا لن‬
‫حقوق البرش الضعفاء ْ‬
‫نرضَّ َ‬
‫اهلل تعاىل أو ننقصه شيئًا‪ ،‬أي يشء‪.‬‬
‫فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ‬
‫[سورة "النساء" – اآلية ‪.]92‬‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ ُ‬
‫ويقول سبحانه ً‬
‫أيضا‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫[سورة "األنفال" – اآلية ‪.]72‬‬
‫ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ ُ‬

‫‪377‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وقري ًبا من ذلك املعنى يف القرآن الكريم‪ ،‬كانت بداية ُسورة "املائدة"‪ ﴿ :‬ﮊ‬
‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬
‫ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾‪.‬‬
‫فهذه اآليات أسست ألعظم قاعدة تستقر هبا املجتمعات وحتافظ عىل عالقات‬
‫السلم بينها وبني بعضها البعض‪ ،‬وهي احرتام املواثيق والعقود التي يتعاهد هبا‬
‫الناس بني بعضهم البعض‪ ،‬وجعل ذلك أو ً‬
‫ال‪ ،‬مبدَّ ًى عىل رابطة الدين نفسه‪،‬‬
‫رشعيا ً‬
‫نافذا‪ ،‬وباق ًيا ما دام القرآن الكريم فينا‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫وثان ًيا‪ ،‬أنه جعل ذلك ً‬
‫حكم‬
‫وينطبق هذا املبدأ عىل كل املجاالت‪ ،‬السياسية واالجتامعية واالقتصادية‪،‬‬
‫الس َّنة النبوية؛ حيث ورد عن الرسول الكريم ﷺ يف الصحيح‪ ،‬أنه قال‪" :‬ال‬
‫وأكدته ُّ‬
‫يبيع الرجل عىل بيع أخيه وال خيطب عىل خطبة أخيه إال أن يأذن له"‪.‬‬
‫وامليثاق هنا هو االتفاق أو العهد الذي تم بني البائع وبني الشاري األول‪ ،‬أو‬
‫اخلاطب األول؛ حيث نص‬‫ِ‬ ‫بني ويل أمر الفتاة أو املرأة التي طلبت ِ‬
‫للخ ْط َبة وبني‬
‫احلديث واضح ورصيح‪ ،‬يف قداسته‪ ،‬ما مل يأذن صاحب الشأن يف كال احلالت َْي؛‬
‫الشاري األول‪ ،‬أو اخلاطب األول‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫ويف األخري؛ فإن هذا هو ديننا‪ ،‬دين النظام واالستقرار من خالل حتديد األمور‪،‬‬
‫والوفاء بالعهود وااللتزام هبا‪ ،‬ونجد أن قواعد العقد االجتامعي التي وردت يف‬
‫أص َل ْيه؛ الكتاب ُّ‬
‫والس َّنة‪ ،‬قد سبقت بمئات األعوام‪ ،‬كل العهود والرشائع التي‬

‫‪378‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تناولت هذه األمور يف العامل‪ ،‬مثل "املاجنا كارتا" يف إنجلرتا‪ ،‬وأفكار جان بول‬
‫سارتر يف فرنسا‪.‬‬
‫ولئن كانت هناك دروس أخرى مستفادة من هذا املوضع من النقاش؛ فهو أن‬
‫والتعمق يف علوم اللغة العربية‪ ،‬سواء فيام خيص النحو والرصف‪ ،‬أو معاين‬
‫ُّ‬ ‫الفهم‬
‫وسوي للقرآن الكريم؛‬
‫ٍّ‬ ‫حقيقي‬
‫ٍّ‬ ‫فهم‬
‫الكالم‪ ،‬وحتى البالغة‪ ،‬هو أساس الوصول إىل ٍ‬
‫حيث إنه من دون هذه املعرفة الوطيدة باللغة العربية‪ ،‬لن يمكننا بحال الوصول إىل‬
‫الفهم الرضوري للقرآن الكريم؛ حيث فهم القرآن يعني تطبيق اإلنسان للرشيعة‬
‫اإلسالمية كام يف أصلها ووعائها األول واألهم‪ ،‬وهو كتاب اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪379‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النص القرآني واألحكام الشرعية‪..‬‬


‫نظرة جديدة وطرائق تطبيق "تصحيحية"‬

‫ِمن أهم القواعد األولية التي يتم تدريسها لطالبي العلم الرشعي يف العلوم‬
‫محال أوجه‪.‬‬
‫القرآنية‪ ،‬هو قاعدة أن القرآن الكريم َّ‬
‫ٍ‬
‫معان‬ ‫وتعني هذه القاعدة أن آيات القرآن الكريم الـ‪ ،6236‬ليست كلها حتمل‬
‫ذات مدلول ُمدَّ د‪ ،‬ويقول بعض علامء السلف إن اآليات قطعية الداللة يف القرآن‬
‫الكريم؛ فقط بضع ومائت َْي آية‪ ،‬ومنها آيات الزواج واملواريث‪.‬‬
‫وشاءت حكمة اهلل تعاىل ذلك ألسباب عديدة‪ ،‬منها إكساب نصوص القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬أحكام الرشيعة التي تضمنها‪ ،‬وهو املصدر األول واألساس هلا‪،‬‬
‫لصفات العموم أو التعميم‪ ،‬وبالتايل الديمومة‪ ،‬ومن َث َّم؛ الصالحية لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫كذلك استخدم ُ‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬قواعد اإلقناع العقيل يف القرآن الكريم‪ ،‬وكان‬
‫يستطيع أن يأمرنا فنتمثل‪ ،‬بل وأكد ذلك حتى يف العقيدة نفسها‪ .‬التوحيد؛ حيث‬
‫ساق سبحانه الكثري من األدلة العقلية يف نصوص القرآن الكريم‪ ،‬التي تقود إىل‬
‫حقيقة اإليامن بوجود اخلالق الواحد األحد الذي ال رشيك له‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه املقدمة مهمة يف صدد احلديث الذي نود اخلوض‬
‫فيه يف هذا املوضع‪ ،‬وهو مشكلة حاصلة يف طريقة تعاطي املسلمني بشكل عام‪،‬‬
‫ورشحية من العلامء‪ ،‬مع النص القرآين‪ ،‬ومع احلكم الرشعي فيه‪.‬‬

‫‪380‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملشكلة التي نقصدها يف هذا املوضع هي اجلمود واالجتزاء يف التعامل مع‬


‫النص القرآين‪ ،‬ومع القواعد الرشعية‪.‬‬
‫ويف البداية‪ ،‬وبالدليل الرشعي كام يف القرآن الكريم ذاته؛ جيب أن نفهم أن أي‬
‫أمر رشعي؛ مل يرد بإطالقه؛ حيث كل األوامر الرشعية؛ هلا قواعد ناظمة‪ ،‬تبدأ‬
‫بوضع ضوابط‪ ،‬بل وقيود يف بعض األحيان‪ ،‬عند التنفيذ‪.‬‬
‫ويف بعض احلاالت‪ ،‬كام أقر علامء السلف املتقدمون واملتأخرون‪ ،‬يتم تعطيل‬
‫احلكم الرشعي – وليس إسقاطه أو إلغاءه – إذا ما تعارض تنفيذ قاعدة مع قاعدة‬
‫أخرى‪ ،‬فيتم إعالء اجلانب املتعلق بإيقاع املصلحة األهم‪ ،‬أو جت ُّنب الرضر األكرب‬
‫وفق األربع حاالت التي ذكرها ابن القيم وابن تيمية وخالفهام من علامء املسلمني‬
‫يف هذا الصدد‪.‬‬
‫وهذا األمر سا ٍر حتى عىل العبادات‪ ،‬التي هي ِص َلة العبد بر ِّبه‪ ،‬وواجب العبد‬
‫إزاء ربه عز وجل؛ حيث هناك مبدأ ُّ‬
‫الرتخص‪ ،‬بل وحتريم بعض العبادات يف أوقات‬
‫معينة مراعا ًة ملشاعر الناس‪ ،‬مثل حتريم الصوم يف أيام العيدَ ْين‪ ،‬وحتريم الصالة يف‬
‫أوقات معينة من اليوم‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ويامثل ذلك يف رضورة الفهم؛ قاعدة األسباب؛ حيث جعل ُ‬
‫اهلل تعاىل ِّ‬
‫لكل يشء‬
‫سب ًبا‪ ،‬وال يفلت من هذا اإلدراك‪ ،‬أي يشء‪ ،‬وحتى العبادات التي نقوم هبا من دون‬
‫أن نعرف هليئتها أو طبيعتها‪ ،‬أسبا ًبا‪ ،‬هناك علامء يقولون بأن اهلل تعاىل سوف يطلع‬
‫عباده عليها يوم القيامة‪ ،‬وهي مثل الكثري من األمور التي احتفظ اهلل عز وجل هبا‬
‫يف الغيبيات‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نطلع عىل أسباب ِ‬


‫وع َللِ كل يشء يف الدنيا‪ ،‬ألسباب مثل‬ ‫شاءت حكمة اهلل أال َّ‬
‫اختبار إيامن اإلنسان ودرجة تسليمه بأحكام اهلل تعاىل‪ ،‬مع علمه سبحانه بحاكمية‬
‫العقل وسطوته عىل اإلنسان‪.‬‬
‫فال يمكن باإلطالق القول إنه يتم فتح املجال لإلنجاب بمنطق قوله تعاىل يف‬
‫[سورة "اإلرساء" – من اآلية ‪ ،]31‬وقوله‬
‫القرآن الكريم‪﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂﮃ﴾ ُ‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬من اآلية ‪،]151‬‬ ‫عز وجل‪﴿ :‬ﯨ ﯩ ﯪﯫ﴾ ُ‬
‫واحلديث الصحيح للرسول الكريم ﷺ‪" :‬تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإين ُم ٍ‬
‫باه بكم‬
‫األمم يوم القيامة" [أخرجه ال َّن َسائي وأمحد وآخرون]‪.‬‬
‫وم َق َّرة ً‬
‫رشعا؛ حيث جيب أن يكون هلذا األمر نظامه‬ ‫والقيود عىل ذلك كثرية‪ُ ،‬‬
‫وفق قواعد ُك ِّل َّية عديدة‪ ،‬منها أنه "ال رضر وال ِضار"‪ ،‬وقانون االستطاعة الذي‬
‫نسي أمورنا به‪ ،‬ومن بني ذلك بلغة االقتصاد احلديث‪ ،‬املوارد‬
‫أمرنا اهلل تعاىل أن ِّ َ‬
‫املتاحة‪ ،‬واعتبارات أخرى عديدة تكلم فيها علامء كبار‪.‬‬
‫والدليل عىل ذلك قائم يف كالم آخر للرسول الكريم ﷺ نفسه؛ حيث يقول‬
‫عدوا وال تنفع صدي ًقا"‪.‬‬
‫عن الكثرة من جانب آخر‪" :‬كثرة كغثاء السيل ال ترض ًّ‬
‫فهي – إ ًذا – َكث َْرة ضعف ووهن يف هذا املوضع‪.‬‬
‫ولقد تم اختيار هذا املثال ألمهيته ومركزيته يف صدد هذا املوضوع؛ حيث‬
‫إن هذه املسألة بالصورة التي يتداوهلا البعض‪ ،‬وعكست صورة غري سوية عن‬
‫املجتمعات املسلمة‪ ،‬واهتامماهتا وأولوياهتا‪ ،‬وعن نظرهتا للمرأة‪ ،‬وغري ذلك مما هو‬
‫شائع ونقرؤه ونسمع عنه يرتدد بشأن املسلمني يف كثري من بلدان العامل األخرى‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمر يمكن فهمه من مسائل أخرى‪ .‬منها العالقات الزوجية‪ .‬فالقرآن‬


‫وهو كذلك ٌ‬
‫الكريم يقول ً‬
‫حكم قد يبدو مطل ًقا‪ .‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪ .]223‬لكن هذا ال يعني ما يقوله البعض؛ من‬
‫ﯧ﴾ ُ‬
‫أنه يف أي زمان ومكان يمكن لإلنسان أن يأيت زوجته‪.‬‬
‫حيرم فيها أص ً‬
‫ال االتصال بني الزوج‬ ‫فعىل أبسط تقدير؛ هناك أوقات معينة ُ‬
‫وزوجته وقت الدورة الشهرية هلا‪ .‬هذا قيد فسيولوجي وضع اهلل تعاىل له قاعدة‬
‫رشعية حتكم االتصال الزوجي وقته‪ ،‬فهل اهلل تعاىل – حاشاه أي عارض وسبحانه‬
‫من أي نقص – قد أنزل اآليات التي تقول بمنع ذلك بعد علم‪ ،‬بعد أن أنزل آية‬
‫"البقرة" التي حتمل ظاهر ًّيا إطالق حكم االتصال؟!‪ ..‬إطال ًقا؛ فعلم اهلل تعاىل‬
‫مطلق‪ ،‬وسابق لكل يشء‪ ،‬وهو يعلم َمن َخ َلقَ ‪ ،‬وهو اللطيف اخلبري‪ ،‬ناهينا أص ً‬
‫ال‬
‫الس َّنة النبوية رضورة احرتامها‪.‬‬
‫عن القيود النفسية وكذا التي ورد يف ُّ‬
‫الصحيح ْي‪،‬‬
‫َ‬ ‫نفس املشكلة حتدث يف قراءة البعض للحديث النبوي الذي ورد يف‬
‫وفيه قوله ﷺ‪" :‬إذا دعا الرجل امرأته إىل فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها‬
‫املالئكة حتى تصبح"؛ حيث الرفض املذكور يف هذا احلديث؛ يعني رفض الزوجة‬
‫ملجرد العناد أو إذالل الزوج أو كذا‪ ..‬لكن أبدً ا "ليس كل" امرأة‬
‫من دون عذر‪ ،‬أو َّ‬
‫ترفض طاعة زوجها يف الفراش؛ تبيت تلعنها املالئكة‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فال َّنص من ُسورة "البقرة"؛ عليه قيود يف آيات وأحاديث أخرى‪،‬‬
‫يفس نفسه‬
‫واألمثلة عىل هذا كثرية‪ ،‬ويعرف املفرسون أن القرآن الكريم ِّ‬
‫أص ً‬
‫ال‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫[سورة "النساء"‬
‫وأوضح أدلة ذلك‪ ،‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯢ ﯣﯤ﴾ ُ‬
‫– من اآلية ‪ ،]19‬وقال عز وجل ً‬
‫أيضا‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ ُ‬
‫[سورة‬
‫"البقرة" – من اآلية ‪.]228‬‬
‫ذات اخللط جاء يف قضايا أخرى‪ ،‬كان التعامل معها من جامدي الفكر‪ ،‬من‬
‫أسوأ ما يمكن؛ ممَّا َّ‬
‫شكل حتى قطيعة بني اإلسالم والعلم سواء يف الصورة الذهنية‬
‫أمام غري املسلمني‪ ،‬أو حتى فيام خيص نظرة بعض املسلمني لدينهم ذاته‪ ،‬فكانت‬
‫تيارات العلامنية‪ ،‬بل واإلحلاد‪.‬‬

‫ومن ذلك عندما تم اجتزاء – بصورة ترقى ملستوى اجلريمة – آية ﴿ ﯰ ﯱ‬


‫حرج‬ ‫[سورة ُّ‬
‫"الشعراء" ‪ -‬اآلية ‪ ،]80‬من سياق كبري‪ ،‬بصورة َّ‬ ‫ﯲ ﯳ ﯴِ﴾ ُ‬
‫هبا البعض عىل املسلمني طلب العلم املادي العادي‪ ،‬أو ما ُيطلق عليه العلم املدين‪،‬‬
‫مثل الطب‪.‬‬
‫وهؤالء يتناسون قاعدة األسباب‪ ،‬والتي عدم اإليامن هبا يرقى ملستوى الكفر؛‬
‫حيث اإليامن باألسباب‪ ،‬من اإليامن برب األسباب‪.‬‬
‫بل وتناسوا دليل مهم يؤكد ذلك‪ ،‬يف اآلية السابقة عىل هذه اآلية مبارشة‪،‬‬
‫والتي قال فيها رب العزة سبحانه عىل لسان نبيه إبراهيم ﷺ‪ ﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ﴾‪ ،‬فأين اإلطعام والسقاية من دون أسباب؟!‪ ،‬وملاذا الربط املبارش‬
‫بني اهلل تعاىل والشفاء من دون سبب‪ ،‬وعدم الربط بينه وبني الطعام والسقاية من‬
‫دون سبب؟!‬

‫‪384‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ثم ربط البعض ذلك بشكل خاطئ متا ًما ومتعسف‪ ،‬بأحاديث نبوية تكلم فيها‬
‫الرسول الكريم ﷺ عن الظواهر الطبيعية‪ ،‬مثل األمطار والرياح‪ ،‬التي أرجع فيها‬
‫األمر كله هلل عز وجل‪ ،‬بينام كان ﷺ‪ ،‬غرضه مما قاله فيها‪ ،‬هو إيصال فكرة اخلالق‬
‫الواحد املد ِّبر هلذا الكون‪ ،‬إىل عقول املسلمني‪ ،‬ضمن متطلبات الدعوة يف سنواهتا‬
‫األوىل‪ ،‬ويف ظل ظالمية وجهل كانا ُمطب َق ْي عىل بيئة البعثة‪.‬‬
‫لكنه ﷺ‪ ،‬أبدً ا ما كان يقصد أن ينفي قاعدة األسباب املادية العلمية التي حتكم‬
‫هذه الظواهر‪.‬‬
‫فحتى بأبسط معايري الفهم؛ فإن اهلل تعاىل هو الذي منح األشياء طبيعتها؛ فهو‬
‫الذي خلق بخار املاء ومنحه صفة التكثُّف يف صورة سحب يف ارتفاعات معينة‪ ،‬ثم‬
‫وضع طبيعة معينة يف طبقات اجلو لكي ُت ِّول هذه السحب إىل أمطار متساقطة يف‬
‫ظروف معينة خلقها اهلل تعاىل كذلك‪ .‬فهو يف النهاية؛ كله مردود هلل تعاىل‪.‬‬
‫‪.......‬‬
‫هذه املشكلة عىل هذه الصورة؛ ليست تر ًفا؛ حيث إنه – يف جانب فقط من‬
‫جوانبها – ترتبط باملرض األكرب الذي تعاين منه األمة اآلن‪ ،‬وهو التكفري واالقتتال؛‬
‫عندما تم إطالق األحكام الرشعية يف بعض األمور‪ ،‬من دون النظر إىل الظروف‬
‫واملالبسات‪ ،‬ومبدأ املوازنة بني املصالح واألرضار‪.‬‬
‫ناهينا عام سبق قوله يف صدد ما تسبب به البعض هبذا اجلمود واالجتزاء‪ ،‬يف‬
‫ال‪ ،‬بني الدين والعلم املادي الذي تصدقه حواس‬‫إحداث تعارض غري قائم أص ً‬

‫‪385‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِ‬
‫املباشة وأدوات القياس احلديثة؛ فيكون اإلحلاد‪ ،‬أو عىل أبسط تقدير‪،‬‬ ‫اإلنسان‬
‫انرصاف الناس عن الدين‪.‬‬
‫وعىل هذا النحو‪ ،‬ويف ظل الرتاكم الزمني اهلائل الذي تم هلكذا طرائق تفكري؛‬
‫فإننا بحاجة إىل جهد قد يتطلب عقو ًدا طويلة لفهم حقيقة هذا الدين‪ ،‬وفهم كتاب‬
‫اهلل عز وجل وكيفية التعاطي مع نصوصه‪ ،‬وتلقني األجيال اجلديدة الصاعدة‬
‫حقائق كثرية مطموسة يف هذا الصدد‪ ،‬ربام تشكل بالفعل اجلانب األكرب من أزمات‬
‫ومشكالت املسلمني يف الوقت الراهن‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تأويل النص القرآني وأهمية علم أسباب علم النزول‬

‫ال نزال يف هذه املرحلة احلساسة من تاريخ األمة نشتبك مع الكثري من القضايا‬
‫األهم التي أدت إىل زعزعت الكثري من القواعد التي كانت تستند إليها احلركة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬سواء عىل املستوى املجتمعي واجلامهريي أو املستوى السيايس‪.‬‬
‫ومن بني هذه األمور قضية التكفري التي تصدينا هلا أكثر من مرة من خالل هذا‬
‫الفضاء‪.‬‬
‫وقضية التكفري متشعبة ومتنوعة االجتاهات‪ ،‬فهناك بعض التأويالت والكتابات‬
‫التي تتصل بعدد من األمور الفقهية‪ ،‬مثل ما يتصل بتوصيف غري املسلمني‪ ،‬وكيف‬
‫يتم حتويلها إىل مادة إعالمية للتشويش عىل مفهوم مصطلح أن هذا الشخص أو‬
‫هذه احلركة ُتص َّنف حتت بند "إسالمي"‪.‬‬
‫أما الشق األهم من قضية "التكفري" هو شيوع بعض األدبيات التي تنرشها‬
‫بعض احلركات التي يصنفها البعض عىل أهنا ضمن "احلركة اإلسالمية"‪ ،‬والتي‬
‫تربر العمليات التي تتم بحق بعض الفئات التي منع اإلسالم استهدافها‪ ،‬مثل‬
‫املستأمنني واألطفال وغري املسلمني من غري املحاربني‪.‬‬
‫ولعل َ‬
‫هذ ْين الش َّق ْي مها من أهم ما يتم االستناد عليه حال ًيا من جانب خصوم‬
‫احلركة اإلسالمية يف الدعاية السلبية ضد احلركة‪ ،‬وتسعى إىل خلق صورة ذهنية‬
‫سلبية عنها لدى املجموع العام‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولعل هذه املشكلة تعود يف جانب كبري منها إىل بعض األمور املتعلقة بضعف‬
‫اجلانب الرشعي يف تناول بعض األحكام التي وردت يف القرآن الكريم وآياته‪ ،‬أو‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫ما ورد يف ُّ‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة؛ أبرز األخطاء‪ ،‬هو تعميم بعض املواقف التي‬
‫ففي حالة ُّ‬
‫تدخل يف باب االستثناء‪ ،‬باعتبارها قاعدة رشعية راسخة باملعنى العلمي‪ ،‬بينام‬
‫االستثناء ال يتم اعتباره قاعدة‪.‬‬
‫أما يف حالة القرآن الكريم؛ فإن هناك الكثري من األحكام التي يتم إسقاطها عىل‬
‫الواقع من دون كامل تدقيق يف االعتبارات التي جيب أن تتم مراعاهتا عند إسقاط‬
‫حكم قرآين عىل واقعة بعينها‪.‬‬
‫و ُيعترب ذلك من بني أهم العوامل التي قادت إىل شيوع الفكر التكفريي الذي‬
‫صبغ بناء عىل رؤية غري متكاملة لتفسري آيات القرآن الكريم‪.‬‬
‫يفس‬
‫ومن بني أهم القواعد األساسية يف هذا الصدد‪ ،‬هو أن القرآن الكريم ِّ‬
‫ستكمل من آيات أخرى‪،‬‬
‫َ‬ ‫نفسه؛ حيث إن هناك تفسري لبعض اآليات جيب أن ُي‬
‫باإلضافة إىل تتبع زمن نزول بعض اآليات؛ حيث ُن ِس َخت بعض األحكام يف آيات‬
‫وس َو ٍر تالية‪ ،‬ولكن شاءت حكمة اهلل تعاىل اإلبقاء عليها يف متن القرآن الكريم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وينتظم ما سبق‪ ،‬مع أمور أخرى يف إطار ما ُيعرف بعلم أسباب النزول‪ ،‬الذي‬
‫ُيعترب من بني أهم العلوم التي ينبغي أن يكون الفقيه أو املفكر اإلسالمي عىل‬
‫وعي وإدراك هبا يف هذا املجال‪ ،‬بينام هو لألسف من العلوم ا ُمل ْه َملة لدى الكثري‬

‫‪388‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫من احلركيني الذين مل يتلقوا العلم الرشعي الكايف‪ ،‬وبرغم ذلك خياطبون الشباب‬
‫واألجيال اجلديدة بخطاب يستند إىل النصوص املقدسة‪ ،‬سواء يف القرآن الكريم أو‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫صحيح ُّ‬
‫ويعرف علم أسباب النزول أو تفسريها؛ أو ما ُيعرف بشأن النزول‪ ،‬عىل أنه‬
‫َّ‬
‫أحد العلوم الرشعية التي هتتم بمعرفة أسباب نزول آيات القرآن الكريم املختلفة‪،‬‬
‫وكذلك القضايا واحلوادث واألمور املتعلقة هبا‪ ،‬ووقت ومكان نزول آية قرآنية‬
‫بعينها‪.‬‬
‫غنى عنها لفهم‬
‫املتشعب كام رأينا – من أنه أداة ال ً‬
‫ِّ‬ ‫وتأيت أمهية هذا العلم –‬
‫تسهل من عملية حفظه وال َّت ُّثبت من معناه؛‬
‫صحيحا‪ ،‬وبالتايل؛ ِّ‬
‫ً‬ ‫القرآن الكريم ً‬
‫فهم‬
‫حيث جيري ربط األحكام بالوقائع والشخوض‪ ،‬وكذلك األزمنة واألمكنة ذات‬
‫الصلة باحلدث القرآين ‪ -‬لو صح التعبري ‪ -‬وهو ما يقود – بشكل دقيق – إىل‬
‫وخصوصا يف آيات األحكام‬
‫ً‬ ‫معرفة حكمة اخلالق عز وجل من آية بعينها‪،‬‬
‫والترشيع‪.‬‬
‫وأمهية ذلك تعود إىل أن القرآن الكريم وأحكامه ال تقترص عىل الواقعة التي نزل‬
‫فيها‪ ،‬وال عىل زمنها‪ ،‬وإنام متتد هذه األحكام إىل خمتلف الفرتات الزمنية التالية‪ ،‬إىل‬
‫أن يشاء اهلل تعاىل أن يرفعه من صدور الناس يف هناية الزمان‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن تدقيق األحكام وأسباب نزوهلا أمر شديد األمهية؛ بل هو أساس‬
‫عملية إسقاط حكم رشعي ورد يف القرآن الكريم عىل حالة بعينها‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واضحا عن الكثري من ُ‬
‫الك َّتاب واملفكرين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يف املقابل؛ فإننا ال نجد هذا األمر‬
‫وزاد من مستوى الفوىض يف هذا املجال‪ ،‬هو قيام بعض الشباب املنتمي إىل احلركة‬
‫اإلسالمية عن قناعة فكرية‪ ،‬باستخدام آيات القرآن الكريم يف األدبيات اخلاصة به‪،‬‬
‫سواء عىل وسائط التواصل االجتامعي‪ ،‬أو عىل القنوات الفضائية‪.‬‬
‫ويف ظل احلامسة التي أفرزهتا احلروب الراهنة التي تواجه احلركة اإلسالمية؛‬
‫ٍ‬
‫نصوص قرآنية يف حاالت ال عالقة هلا هبا‪ ،‬وفق علم أسباب‬ ‫صار من السهل وضع‬
‫النزول بطبيعته الشاملة ا ُملشار إليها‪.‬‬
‫فصارت آيات القتال واجلهاد واالبتالء‪ ،‬يتم استخدامها بغري حساب دقيق‪،‬‬
‫بالرغم من خطورة األحكام التي تتضمنها‪.‬‬
‫ويف ظل وجود التباسات عديدة يف األمور أمام اجلمهور العام؛ فإن الكثري من‬
‫الذين أيدوا هذا الفعل أو ذاك من جانب حكومة أو نظام من حكومات وأنظمة‬
‫عاملنا العريب التي متارس القمع بحق شعبها؛ تم وضع الكثري من رشائح هذه‬
‫املجتمعات ضمن سياقات جماهدة الظاملني‪ ،‬من دون أي متييز أو دراسة للحاالت‬
‫املعروضة‪.‬‬
‫مرشوعا‬
‫ً‬ ‫بل إن بعض احلركات اإلسالمية‪ ،‬بالذات الوسطية املعتدلة‪ ،‬التي حتمل‬
‫متكام ً‬
‫ال لإلصالح ورؤية متكاملة للتغيري االجتامعي والسيايس بالطريقة املتدرجة‬
‫التي جاءت عليها سنوات البعثة النبوية؛ وضعت يف خانة التكفري من جانب بعض‬
‫اجلامعات األخرى األكثر تطر ًفا أو تشد ًدا بحسب التوصيفات اإلعالمية‪َّ ،‬‬
‫ملجرد‬
‫أن هذه احلركة أو تلك؛ ال تؤيد العنف أو العمل املسلح كوسيلة للتغري‪ ،‬وتعترب‬

‫‪390‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه احلركات املتطرفة‪ ،‬ذلك املوقف من جانب احلركات اإلسالمية الوسطية‪،‬‬


‫وحتر ًفا عن فريضة اجلهاد‪ ،‬بينام اجلهاد أبوابه واسعة بن ِّ‬
‫َص القرآن‬ ‫مي ً‬
‫ال "للكافرين"‪ُّ ،‬‬
‫الكريم نفسه‪.‬‬
‫ولعل من بني أهم القضايا اخلالفية يف هذا الصدد‪ ،‬املسارات العملية املطلوبة‬
‫للوصول إىل حلم "اخلالفة اإلسالمية"‪.‬‬
‫ً‬
‫مشرتكا بني خمتلف‬ ‫تشكل ً‬
‫قاسم‬ ‫فمرشوع استعادة اخلالفة‪ ،‬هو أحد األمور التي ِّ‬
‫احلركات اإلسالمية‪ ،‬بينام هناك اختالف فيام بينها عىل ُسبل الوصول إىل هذا ُ‬
‫احللم‪،‬‬
‫وهنا نجد أن األحكام الرشعية غري املنبنية عىل أصول سليمة يف معرفة أسباب نزول‬
‫هذه اآليات وظروفها وكذا؛ يتم إسقاطها حتى عىل رشكاء العمل اإلسالمي‪.‬‬
‫‪...........‬‬
‫إن هذا األمر يتطلب الكثري من الضوابط يف املجال اإلعالمي والكتابة السياسية‬
‫والفقهية من جانب القائمني عىل احلركة اإلسالمية؛ حيث حتول األمر بأن النص‬
‫جامعا لنا كمسلمني؛ حتول إىل وسيلة لالفرتاق واالحرتاب‬
‫ً‬ ‫القرآين بد ً‬
‫ال من أن يكون‬
‫الداخيل‪ ،‬وهو ما ال ُيريض اهلل تعاىل ورسوله ﷺ‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫خصائص الشريعة اإلسالمية‬


‫وقضية الثابت والمتغير في الحكم الشرعي‬

‫ربام تكون هذه القضية ليست جديدة يف طرحها‪ ،‬وإنام تأيت أمهية احلديث عنها‬
‫يف ظل بعض األمور اآلخذة يف التصاعد يف هذه اآلونة‪ ،‬والتي استغلت بعض‬
‫النشاطات ذات الطابع العنيف يف أوروبا ودول العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬يف‬
‫توطيد دعائم صورة ذهنية خاطئة عن اإلسالم والرشيعة اإلسالمية‪ ،‬مع ارتباط‬
‫هذه النشاطات يف الغالب بجامعات تعلن نفسها مجاعات إسالمية‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬وقع خلط رهيب – يبدو مقصو ًدا يف بعض األحيان – بني‬
‫الرشيعة اإلسالمية وتعاليمها‪ ،‬وبني ما يقول البعض إنه تطبيق هلا‪.‬‬
‫ومن بني أبرز أوجه هذا اخللط‪ ،‬الدعوات غري الرشيدة لتجديد اخلطاب الديني‬
‫بصورة تضع ما يتم من جتاوزات وانتهاكات‪ ،‬أو أية أعامل إرهاب وعنف باسم‬
‫الدين‪ ،‬يف صورة أهنا أمور من تعاليم الرشيعة‪ ،‬أو قصور يف نقاط فنية تتصل بالدين‬
‫أساسي ْي؛ األول هو خمططات حكومات ودول‬
‫َّ‬ ‫ذاته‪ ،‬بينام األمر ينحرص يف شيئ َْي‬
‫وأجهزة استخبارات لتشويه صورة اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وزعزعة االستقرار يف‬
‫مناطق خمتلفة من أنحاء العامل‪ ،‬مثل أوروبا والرشق األوسط‪ ،‬لتحقيق مصالح قوى‬
‫عظمى‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اليشء الثاين‪ ،‬هو أن النظرية ال ُت َ‬


‫اسب بأخطاء الفهم والتطبيق‪.‬‬
‫وحتى الشباب الذي قد ينخرط يف هذه اجلامعة أو تلك مما تتبنى أفكار السلفية‬
‫اجلهادية‪ ،‬ومتارس العنف أو اإلرهاب باسم الدين؛ هو ال يتحمل وحده مسؤولية‬
‫أخطاء الفهم والتطبيق هذه؛ حيث إنه مفرخة لعقود طويلة من إمهال التعليم الديني‪،‬‬
‫وعلمنة املجتمعات‪ ،‬وضعف دور الدولة يف جمال التنوير والتعليم والثقافة‪ ،‬وغري‬
‫ذلك مما يقي املجتمعات من األفكار اهلدامة‪.‬‬
‫ولذلك؛ فإن َّأول األطراف التي تتحمل مسؤولية هبذه األزمات مجيعها‪ ،‬هي‬
‫احلكومات التي تتنصل اآلن من املسؤولية‪ ،‬وتظ ِهر نفسها كضحية بالرغم من أهنا‬
‫من ُ‬
‫اجلناة‪.‬‬
‫يف املقابل؛ فإنه الستكامل الصورة؛ فإن هناك العديد من الواجبات التي هي من‬
‫املفرتض أهنا من صميم جهد قادة العمل الدعوي والرتبوي يف احلركة اإلسالمية‬
‫أو يف الطليعة املسلمة يف أي مكان‪.‬‬
‫هذا اجلهد يتعلق بأمر أسايس ال ُي َ‬
‫عطى االهتامم الكايف يف مناهج التعليم الديني‪،‬‬
‫أو يف مسارات التلقني والتنشئة الثقافية اإلسالمية ذات الطابع اجلامهريي لو صح‬
‫التعبري؛ حيث ال نجده إال يف املناهج التعليمية يف املؤسسات التي تعطي مناهج‬
‫التعليم الدينية فحسب‪ ،‬وربام كذلك يف مراحل معينة منها‪ ،‬ال تتصل باملرحلة‬
‫السنِّية األدنى‪ ،‬والتي تتكون فيها مدارك ومعارف اإلنسان األساسية‪ ،‬وهي املرحلة‬
‫ِّ‬
‫األهم التي خترج منها نوعية الشباب التي تقوم بأعامل ختدم خصوم األمة‪ ،‬وترض‬
‫باألمة وال تنفعها‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه القضية هي ماهية خصائص الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وقضية الثابت واملتغري يف‬
‫عرض عىل اإلنسان واملجتمع‪.‬‬‫احلكم الرشعي عىل أي موقف‪ ،‬أو أي أم ٍر ُي َ‬
‫فهناك تصور شائع لدى عموم املسلمني‪ ،‬بأن احلكم الرشعي واجب النفاذ‪،‬‬
‫وأنه جيب تطبيقه يف خمتلف األحوال بشكل مطلق‪ ،‬من دون فهم أن أول عامل‬
‫يرتبط به احلكم الرشعي‪ ،‬ويؤثر فيه‪ ،‬هو هذه األحوال ذاهتا‪ ،‬وأنه حتى الرشيعة‬
‫رشعي واحد مطلق التطبيق يف كل الظروف واألحوال‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫حكم‬
‫اإلسالمية مل يرد فيها ٌ‬
‫وحتى الصالة والصيام والعبادات اخلالصة هلل تعاىل؛ هناك قيود عليها يف بعض‬
‫حكم رشعي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ال‪ ،‬وذلك بدوره‬ ‫األحيان‪ ،‬فهناك أوقات ُمنِعت الصالة فيها أص ً‬
‫أيام ُمنِع فيها الصيام‪ ،‬وهذا بدوره كذلك حكم رشعي‪.‬‬
‫وهناك ٌ‬
‫أحكام رشعية يمكن‪ ،‬بل ومن الواجب تعطيلها‪ ،‬إذا ما توافرت أو‬
‫ٌ‬ ‫وهناك‬
‫غابت – بحسب احلالة – رشوط معينة‪ ،‬أو تعارضت مع مصلحة أكرب‪ ،‬وهناك‬
‫أحكام رشعية ال جيب تطبيقها بسبب عدم انطباقها عىل احلالة املعروضة‪.‬‬
‫وتزداد أمهية هذا احلقل من الدراسات الرشعية‪ ،‬يف ظل عوامل عدة‪ ،‬أوهلا اجلدل‬
‫حول فوىض الفتوى وقضية اإلرهاب والتطرف وكذا مما يتفاعل يف الوقت الراهن‬
‫عىل مستوى العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬ويف الغرب‪ ،‬وفاقم من أزمة املسلمني هناك‪،‬‬
‫يف ظل تصاعد مشاعر العداء ضدهم أو ما ُيعرف باإلسالموفوبيا‪.‬‬
‫العامل الثاين‪ ،‬طرح قضية جتديد اخلطاب الديني‪ ،‬هو بدوره متفاعل يف مرص‬
‫وبعض دول اخلليج العريب‪ ،‬ومتفاعل يف أوروبا كذلك بسبب العمليات اإلرهابية‬

‫‪394‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫غري الواضحة املعامل‪ ،‬التي حتدث لدهيم‪ ،‬وترتبط بالفكر اإلسالمي والعقيدة‪ ،‬يف‬
‫النقل اإلعالمي هلا‪.‬‬
‫أمر ْين اثن َْي البد منهام للمسلم‬
‫ويقول الدكتور عيل بادحدح يف ذلك؛ إن هناك َ‬
‫ً‬
‫دائم وأبدً ا عند تعامله مع أي حدث‪ ،‬أو النظر إىل أية قضية‪ ،‬أن يراعيهام‪.‬‬
‫األمر األول‪ ،‬وفق بادحدح‪ ،‬احلكم القائم يف النصوص الرشعية من كتاب اهلل‬
‫وس َّنة رسوله ﷺ‪ ،‬فام ورد فيه هني؛ حيث ال ينبغي فعله بالتأويالت الباطلة‪،‬‬
‫تعاىل ُ‬
‫وال باملفاهيم اخلاطئة وال باملامرسات املجرتئة‪ ،‬ألن ذلك عدوان عىل رشع اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬ونقض له‪ ،‬وخمالفة ملا فيه من األوامر والنواهي‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ ،‬هو تنزيل احلكم عىل الواقع بمراعاة املصلحة الرشعية؛ حيث قد‬
‫ثمة أمر مطلوب ومندوب إليه‪ ،‬لكن فعله يف هذا الزمان واملكان قد ترتتب‬
‫يكون َّ‬
‫عليه مفسدة‪ ،‬ف ُيرتك ألجل ذلك‪.‬‬

‫و ُيس َتدَ ل عىل ذلك بالعديد من األدلة الرشعية من الكتاب ُّ‬


‫والس َّنة‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قول رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ألم املؤمنني عائشة "ريض ُ‬
‫اهلل عنها"‪" :‬لوال أن قومك حديثوا‬
‫عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها عىل قواعد إبراهيم وجعلت هلا بابني"‪.‬‬
‫هنا النبي الكريم ﷺ ترك خالف َ‬
‫األ ْوىل ملا قد يرتتب عليه من مفسدة‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫وبالتايل؛ فإن هناك مهمة داخلية – لو صح التعبري – ختص العلامء والرتبويني يف‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫أوساط الصف اإلسالمي‪ ،‬وهي تبيان خصائص الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬

‫‪395‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كيفية فهم احلكم الرشعي‪ ،‬ومالبسات تطبيقه؛ حيث األمر أعقد بكثري من العبارات‬
‫ذات الطابع املطلق‪.‬‬
‫وهو حتى موجود يف قواعد فقهية مهمة‪ ،‬هناك إمجاع عليها من العلامء‪ ،‬وهي أن‬
‫فس‬
‫يفس نفسه"‪ ،‬و" ُي َّ‬
‫محال أوجه"‪ ،‬وكذلك أن "القرآن الكريم ِّ‬ ‫"القرآن الكريم َّ‬
‫بالس َّنة النبوية"‪ ،‬والسيام ِف ْعل النبي ﷺ‪.‬‬
‫كذلك ُّ‬
‫ونختم بتساؤل يرشح ذلك كله‪ :‬هل كان عمر بن اخلطاب "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪،‬‬
‫والذي وافق القرآن الكريم رؤاه يف بعض األحيان بعد نزوله‪ ،‬عن اجتهادات‬
‫املصطفى ﷺ؛ هل كان عمر خمطئًا‪ ،‬عندما َّ‬
‫عطل سهم املؤلفة قلوهبم يف الصدقات‪،‬‬
‫باعتبار أن الوقت قد جتاوزه؟!‪ ،‬وهل كان خمطئًا عندما َّ‬
‫عطل حدَّ الرسقة يف عام‬
‫خصوصا وقد وافقه يف ذلك الصحابة الكرام رضوان‬
‫ً‬ ‫الرمادة؟!‪ ..‬حاشاه ذلك‪،‬‬
‫اهلل تعاىل عليهم أمجعني‪.‬‬
‫وتبقى دالالت ذلك املهمة يف أنه إنام يعكس حقيقة فهم عمر – الذي تلقى دينه‬
‫عن النبي "عليه الصالة والسالم" مبارش ًة – حلقيقة خصائص الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وأنه من دون هذه املرونة‪ ،‬ما حتقق هدف الشارع األعظم سبحانه وتعاىل‪ ،‬من أن‬
‫تكون الرشيعة اإلسالمية صاحلة لكل زمنان ومكان!‬

‫‪396‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫دين الفطرة والعقل ومعركة المنفلتين وأصحاب الهوى!‬

‫تتعدد جوانب وأركان احلرب الراهنة التي يواجهها اإلسالم دينًا وحضارة‪ ،‬بام‬
‫يشمل قيمه األساسية‪ ،‬وأركانه‪ ،‬بام يف ذلك مصادر الترشيع األساسية فيه‪ ،‬وهي‬
‫السنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫القرآن الكريم وصحيح ُّ‬
‫فال يظ َّنن أحدٌ أن احلرب احلالية عىل ُّ‬
‫الس َّنة وكتب األصحاح؛ هي هناية‬
‫املطاف‪ ،‬ومنفصلة عن احلرب التي سبقت عىل عالقة املسلم بالقرآن الكريم‪،‬‬
‫والتي استمرت مائة عام تقري ًبا؛ حيث إن املرحلة القادمة من املعركة‪ ،‬تشمل‬
‫القرآن الكريم ذاته‪.‬‬
‫خصوصا فيام خيص‬
‫ً‬ ‫ومن بني أركان هذه احلرب َق ْص أحكام عديدة جاءت فيه‪،‬‬
‫القضايا األهم‪ ،‬وهي اجلهاد والدعوة وإقامة دولة الرشيعة‪ ،‬عىل زمن نزوهلا يف‬
‫عهد الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وأن اخلطاب القرآين يف صددها – كام يف ُس َور "األنعام"‬
‫و"التوبة" و"حممد" – كان خيص النبي ﷺ‪ ،‬وخيص احلالة التي كانت قائمة يف‬
‫حينه‪ ،‬يف شبه جزيرة العرب‪ ،‬يف سنوات الدعوة األوىل‪.‬‬
‫ويتم ذلك وفق خطة طويلة األمد‪ ،‬تعمد إىل "تسييس" اخلطاب القرآين يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬وإظهار أنه كان يتعلق برصاع سيايس ورصاع نفوذ ظهر يف شبه جزيرة‬
‫العرب بني دولة املسلمني يف املدينة‪ ،‬وبني مكة املكرمة وباقي حوارض شبه اجلزيرة‬
‫العربية يف تلك املرحلة‪ ،‬وليس بالدين الساموي اخلاتم‪.‬‬

‫‪397‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وترتكز هذه املعركة عىل أسس عديدة‪ ،‬من بينها الفوىض الضاربة بأطناهبا يف‬
‫رئيسيا‬
‫ًّ‬ ‫املفاهيم لدى املسلمني أنفسهم‪ ،‬بحيث مثلت تلك الفوىض املفاهيمية‪ ،‬ركنًا‬
‫يف أدوات اآلخر الذي يستهدف اإلسالم يف أرضه‪ ،‬ويف كل أنحاء العامل‪.‬‬
‫ومن بني أهم مظاهر هذه الفوىض هو اجتزاء النص القرآين قطعي الثبوت‪ ،‬من‬
‫موضوعيا؛ بالشكل الذي يقود‬
‫ًّ‬ ‫زمنيا‪ ،‬أم‬
‫قرآنيا‪ ،‬أم ًّ‬
‫سياقه‪ ،‬سواء أكان هذا السياق ًّ‬
‫إىل التفريط أو اإلفراط‪ ،‬وذلك يف إطار اتباع اهلوى من جانب الناس‪ ،‬سواء عىل‬
‫مستوى الفرد املسلم‪ ،‬أو بعض اجلامعات السياسية التي تنتمي إىل تيار اإلسالم‬
‫السيايس‪ ،‬وحتى مستوى املجتمع املسلم العادي‪ ،‬غري َّ‬
‫املؤطر فكر ًّيا بشكل سليم‪.‬‬
‫ولقد تكلم القرآن الكريم عن ذلك بكل وضوح‪ ،‬وحذر منه‪ ،‬وذم فيمن يقومون‬
‫ذما شديدً ا‪ ،‬فيقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫بذلك ًّ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ‬
‫[سورة "الفرقان"]‪.‬‬
‫ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ ُ‬
‫واخلطاب القرآين يف هذا الصدد‪ ،‬عىل خطورة ِ‬
‫وع َظ ِم األمر؛ مل يستثني الرسول‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬فهناك آيات عدة ينهاه فيها ربه تبارك وتعاىل عن اتباع اهلوى يف رشيعته‬
‫ودينه والتزامات كونه إنسا ًنا مستخل ًفا أو اجتزاء القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن بني اآليات الكريامت التي وردت يف هذا الشأن‪ ،‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ‬
‫[سورة "املائدة"]‪.‬‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ ُ‬

‫‪398‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه اآلية فيها العديد من الرسائل التي تصل إىل مرتبة الفرائض؛ حيث هي‬
‫أوامر قرآنية من لدن عزيز حكيم‪ ،‬ويف أمور شديد األمهية بالنسبة للدين‪ ،‬وبالتايل‬
‫بالنسبة لإلنسانية‪.‬‬
‫ومن بني هذه الرسائل‪ ،‬أنه ال اجتزاء للنص القرآين‪ ،‬وأن القرآن نزل من عند اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬لكي ُي َكم به‪ ،‬وأنه ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ ،‬كالم اهلل تعاىل‬
‫ا ُمل ْح َكم‪ ،‬وأنه هو رشعة املسلمني ومنهاجهم الرشيد‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن من بني أهم أمراض املسلمني الفكرية واحلركية واالجتامعية يف‬
‫الوقت الراهن‪ ،‬قضية التفريط واإلفراط يف األخذ بالنص القرآين وتعاليمه؛ فتاهت‬
‫حقيقة اإلسالم‪ ،‬دين الفطرة والعقل واملنطق‪.‬‬
‫تاه اإليامن بني الناس‪ ،‬بني "ال منطق" ‪ -‬لن أقول منطق ألنه ليس منط ًقا بحال‬
‫‪ -‬تاهت بني أصحاب "ال منطق" َ‬
‫﴿ل َت ْق َر ُبوا الص َ‬
‫َّل َة﴾ ‪ -‬هكذا فقط جمتزأة‪،‬‬
‫ون َع َل الن َِّساء" ‪ً -‬‬
‫أيضا هكذا جمتزأة‪.‬‬ ‫"الر َج ُ‬
‫ال َق َّو ُام َ‬ ‫وأصحاب "ال منطق" ِّ‬
‫فكالمها جتاوز حكمة صاحب النص‪ ،‬واجتزءوه‪ ،‬إما للتفريط يف حالة َ‬
‫﴿ل‬
‫ار ٰى﴾‪ ،‬أو للحصول عىل حقوق ليست‬ ‫﴿و َأ ْن ُت ْم ُس َك َ‬ ‫َت ْق َر ُبوا الص َ‬
‫َّل َة﴾‪ ،‬فأسقطوا َ‬
‫ون َع َل الن َِّساء﴾‪ ،‬فأسقطوا رشط ذلك‪ ،‬وهو ﴿بِ َم‬ ‫﴿الر َج ُ‬
‫ال َق َّو ُام َ‬ ‫ِّ‬ ‫هلم‪ ،‬يف حالة‬
‫ض َوبِ َم َأن َف ُقو ْا ِم ْن َأ ْم َو ِالِ ْم﴾‪.‬‬ ‫َف َّض َل َّ ُ‬
‫الل َب ْع َض ُه ْم َع َل َب ْع ٍ‬
‫تبعا للهوى ‪ -‬يسقطون النص املقدس عىل حاالت‬
‫والكثريون يف عرصنا – ً‬
‫تبعا لعادات وتقاليد بالية‪ ،‬ما أنزل‬
‫ليست له‪ ،‬فيفرطون‪ ،‬ألجل مصالح معينة‪ ،‬أو ً‬

‫‪399‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اهلل تعاىل هبا من سلطان‪ ،‬بل إن رشيعة اإلسالم نزلت‪ ،‬والقرآن الكريم نزل‪ ،‬من‬
‫أجل إبطاهلا أو جيتزأون احلالة‪ ،‬فيتطرفون‪ ،‬وهو أخطر ما يواجهه اإلسالم يف وقتنا‬
‫الراهن‪.‬‬
‫فهناك من يسقط آيات التكفري يف القرآن الكريم عىل بعض املسلمني‪ ،‬باعتبار أنه‬
‫سياسيا‪ ،‬وجيتزئ النص‬
‫ًّ‬ ‫يراهم "كافرين"‪ ،‬وهم عىل اإليامن‪ ،‬ولكنهم خيتلفون معه‬
‫من إطاره‪ ،‬ويقتل عىل اهلوية السياسية أو احلركية‪ ،‬ويفعل ذلك إما ً‬
‫ظلم منه‪ ،‬أو‬
‫لسوء فهم وتدبري منه‪ ،‬للنص القرآين‪.‬‬
‫إن واجب الدعاة واحلركيني يف هذه املرحلة العمل عىل التأكيد عىل عدد من‬
‫احلقائق التي تصل إىل مستوى مراتب اإليامن‪ ،‬وإىل أن تكون جز ًءا من العقيدة‪ ،‬فيام‬
‫يتعلق بالتعامل مع النص الرشعي‪.‬‬
‫أول هذه احلقائق‪ ،‬هو أن القرآن الكريم ٌّ‬
‫كل متكامل‪ ،‬وال يقبل التجزئة واألخذ‬
‫وفق اهلوى‪ ،‬أو املصالح غري الرشعية‪ ،‬فال نفعل مثل أهل الكتاب عندما آمنوا‬
‫ببعضه وكفروا ببعضهم‪ ،‬وع َّنفهم اهلل عز وجل عىل ذلك يف القرآن الكريم‪ ..‬يقول‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵ‬
‫ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ‬
‫ﮒﮓ ﮔﮕﮖ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة"]‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األمر الثاين‪ ،‬أن التعاليم اإلهلية يف القرآن الكريم؛ إنام هي فرائض‪ ،‬ألهنا أوامر‬
‫ربانية‪ ،‬فعندما يقول اهلل عز وجل يف آية‪ ،‬افعلوا‪ ،‬أو ال تفعلوا‪ ،‬أو كونوا‪ ،‬أو ال‬
‫تكونوا؛ إنام هي أوامر واجبة النفاذ‪ ،‬وليست جمرد عبارات جمازية‪ ،‬أو أساطري‬
‫األولني‪ ،‬كام قال مرشكي مكة املكرمة‪ ،‬يف سنوات الدعوة األوىل‪.‬‬
‫األمر الثالث املهم‪ ،‬هو التأكيد عىل أن إسقاط احلكم الرشعي الوارد يف القرآن‬
‫حكم‬
‫ٍ‬ ‫الكريم‪ ،‬من أخطر ما يكون‪ ،‬فهو قد يقود إىل تكفري مجاعة مسلمة‪ ،‬أو فرض‬
‫رشعي يف أمور شديدة العمومية واالسرتاتيجية‪ ،‬من دون وجه صحة‪ ،‬برغم أهنا‬
‫قد تقود إىل تغيريات واسعة يف حياة املسلمني‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم‪ ،‬كتاب اهلل املتني‪ ،‬واألخذ منه جيب أن يكون بحقه‪ ،‬وهو‬
‫السنة النبوية‪ ،‬ثم يأيت‬
‫األصل ملصادر الترشيع واالستدالل الرشعي‪ ،‬مع صحيح ُّ‬
‫بعد ذلك اإلمجاع والقياس‪ ،‬اللذان يبنغي ً‬
‫أيضا أن ينبنيا عىل ما جاء يف القرآن‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫الكريم ُّ‬

‫‪401‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫سنن اهلل وقضية المنهج‪ ..‬قراءة مختلفة ألزمة حائرة!‬


‫ُ‬

‫كل متكامل‪ .‬وبالتايل فإن الرشيعة اإلسالمية ٌّ‬


‫كل متكامل‪ ،‬وهذه عقيدة‬ ‫اإلسالم ٌّ‬
‫ينبغي أن نؤمن هبا‪ ،‬وتتضمن اليقني بأن الرشيعة هلا الشمول والعموم والصالحية‬
‫لكل زمان ومكان‪ ،‬وهي جزء من إيامننا باهلل عز وجل عىل م َّلة اإلسالم‪.‬‬
‫والرشيعة هي املنهاج الذي اختاره اهلل تعاىل للمسلم؛ لكي حييا به حياته‪ ،‬وفيها‬
‫تصوراته عن نفسه‪ ،‬ودوره يف هذه احلياة وما بعد الدنيا‪ .‬وهي التي ِّ‬
‫تنظم عالقته‬
‫بذاته‪ ،‬وباآلخرين‪ ،‬واألهم عالقته بربه ‪.‬‬
‫ويمكن لإلنسان خمالفة الرشيعة؛ ألهنا قوانني إهلية‪ ،‬منح اهلل تعاىل إمكانية‬
‫االختيار فيها للبرش‪ ،‬بعكس القوانني الربانية التي حتكم اخللق و ُتوا ِزنه‪ ،‬لضامن‬
‫استمراريته إىل أن يشاء اهلل تعاىل وفق ما أرادت حكمته وإرادته‪ ،‬وهي ال حكم لنا‬
‫وال ألي خملوق فيها‪﴿ ..‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫[سورة " ُف ِّص َل ْت" – اآلية ‪.]11‬‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ ُ‬
‫ويف الرشيعة ال جيوز إطال ًقا مشاركة رب العزة سبحانه يف حقه الذي أفرده‬
‫لنفسه كام يف القرآن الكريم‪ ،‬بمعاقبة عباده عىل خمالفتها‪﴿ ..‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾‬
‫[سورة "الغاشية" ‪ -‬اآلية ‪ ،]26‬وغري ذلك الكثري مما حوى ذلك املعنى يف‬
‫ُ‬
‫القرآن الكريم‪ .‬وهنا نقف وقفة مهمة هلا ما سيتلوها يف هذا املوضع‪ ،‬وهو أن‬
‫زمنيا قضية حساب الظاملني أو نرصة املؤمنني‪ ،‬فقد يكون ذلك‬
‫اهلل تعاىل مل ُيق ِّيد ًّ‬

‫‪402‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يؤجل لآلخرة‪ ،‬لكن الثابت‪ ،‬إطالق حكم وقف احلساب عىل اهلل‬
‫يف الدنيا‪ ،‬أو َّ‬
‫تعاىل فحسب‪.‬‬
‫املهم أو املراد إيصاله يف هذا املوضع‪ ،‬هو أنه ال جيوز لإلنسان األخذ ببعض‬
‫الرشيعة وترك بعضها‪ ،‬أو إدخال ما ليس فيها عليها‪ ،‬وهو يتحرك يف إطار كونه‬
‫ً‬
‫"مسلم"‪ ،‬ويقول إنه يمثل هذا الدين‪ ،‬ومرشوعه احلضاري‪.‬‬
‫فمع أحقية اإلنسان يف االختيار‪ ،‬وهذا بدوره بمشيئة اهلل فقط‪ ،‬ال اإلنسان‪ ،‬فإنه‬
‫ال جيوز لإلنسان القول بأن هذا األمر أو السلوك أو الفعل من اإلسالم‪ ،‬وهو ليس‬
‫من اإلسالم‪ ،‬أو ترك بعض الرشيعة واألخذ بالبعض اآلخر وفق اهلوى‪.‬‬
‫فام هو من اإلسالم هو من اإلسالم‪ ،‬فقط أنت ال تعمل به‪ ،‬وتكون عاصي ًا‪ ،‬لكن‬
‫ذم ُ‬
‫اهلل تعاىل فيها بشدة يف القرآن الكريم‪ ،‬وهي اإليامن ببعض‬ ‫ال تؤسس قاعدة َّ‬
‫الكتاب وترك البعض اآلخر‪.‬‬
‫يقول تعاىل يف ُسورة "البقرة"‪ ﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ ﭨﭩ ﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾‪ ،‬ويف ُسورة "النساء"‪،‬‬
‫يقول رب العزة سبحانه‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وعندما يتحرك اإلنسان املسلم يف هذه احلياة‪ ،‬ويعلن أنه يمثل اإلسالم متثي ً‬
‫ال‬
‫صحيحا‪ ،‬فإنه ُي َظر عليه متا ًما فكرة االنتقائية‪ ،‬وخيرج عن منهج اإلسالم متا ًما أن‬
‫ً‬
‫تتحرك بوسائل معينة ختالف الرشيعة‪ ،‬وال تتفق معها‪ ،‬يف سبيل حتقيق هدف نبيل‬
‫يتفق مع مفردات املرشوع اإلسالمي كام حتددها الرشيعة‪ ،‬هنا يرفع اهلل تعاىل ُسنَن‬
‫نرصه‪ ،‬أو إسناده‪.‬‬
‫فهذه املخالفة اجلسيمة‪ ،‬حتمل انتهاكات عدة للرشيعة‪ ،‬والتي منها ما يصل‬
‫ملستوى الكبائر‪ ،‬بل نوع من ُ‬
‫الك ْفر باملعنى املوضوعي‪.‬‬
‫ففي هذا – أو ً‬
‫ال – إدخال ما ليس من الدين يف الدين‪ ،‬وما ليس من الرشيعة‬
‫يف الرشيعة‪ ،‬وبالتايل نقل صورة خاطئة شديدة التشويش لآلخر غري املسلم يف كل‬
‫مكان‪ ،‬وبالتايل ً‬
‫أيضا فهي تعرقل جهود الدعوة‪.‬‬
‫والدعوة إىل اهلل تعاىل ودينه‪ ،‬هي أهم غاية أمام املسلم‪ ،‬وكل ما دون ذلك‪ ،‬هو‬
‫أدوات خلدمة هذا اهلدف‪ ،‬بام يف ذلك اجلامعات واجلمعيات‪ ،‬بل الدولة اإلسالمية‬
‫ذاهتا لو كانت قائمة ‪ ،‬كل ذلك جمرد أدوات؛ خلدمة هدف نرش دين اهلل تعاىل‪.‬‬
‫مجة ملنجزات قرون‬
‫املؤسف أن البعض زاد عىل ذلك‪ ،‬وهو ما أدى خلسائر َّ‬
‫طويلة من املراكمة احلضارية والدعوة يف أنحاء األرض‪ ،‬خطيئة كربى؛ زاد ِّ‬
‫التأل‬
‫عىل اهلل تعاىل‪ ،‬ومعاتبته‪ ،‬بل جتاوز األدب يف اخلطاب معه فيام يتعلق ُّ‬
‫بتأخر النرص‪،‬‬
‫السنَن الربانية ال ُت َّنزل إال ب َقدَ ر‪ ،‬وبرشوط معينة‪ ،‬أمهها االلتزام بقواعد‬
‫بينام هذه ُّ‬
‫الرشيعة بالكامل‪ ،‬ال أن تقوم بمخالفات‪ ،‬وتنسبها إىل الرشيعة‪ ،‬ثم تطلب من اهلل‬
‫تعاىل أن ينرصك‪.‬‬

‫‪404‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهذا ُّ‬
‫تدخل يف حكمته – والعياذ باهلل – ولو نرصك اهلل تعاىل عىل ما ختالفه‬
‫وختالف رشيعته فيه؛ فهذا يعني أن اهلل تعاىل – حاشاه – يناقض ذاته وأحكامه‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬هنى اهلل عن الكذب؛ فكيف ينرص من يكذب‪ ،‬وباسم الدين!‬
‫املس بحقوق اخللق إال بحق‪ ،‬وهنى عن كذا وكذا‪،‬‬ ‫هنى عن الضالل‪ ..‬هنى عن ِّ‬
‫ٍ‬
‫مناف ألحكام اهلل تعاىل‪ ،‬ويقوم به‪ ،‬بل يربره لنفسه‬ ‫بينام جتد َمن يعلم بأن ذلك‬
‫هوى لديه‪ ،‬أو أهنم من نفس اجلامعة أو التنظيم أو كذا‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫وآلخرين ملجرد‬
‫أكرب خطر عىل املرشوع اإلسالمي‪ ،‬وأكرب فتنة عرفتها األمة‪ ،‬ثم يطلب من اهلل‬
‫السداد (!!)‪.‬‬

‫كام أن لدينا يف ديننا مبدأ مه ًام جدًّ ا‪ ،‬وهو "عرفت فالزم"‪ ،‬فاملسلم ُم َ‬
‫اسب أكثر‬
‫من غريه بام علمه من احلق‪ ،‬هذا معروف وبدهيي‪.‬‬
‫بل إننا ُمطا َلبون بالعدل حتى مع خصومنا وأعدائنا‪ ،‬بل مع أعداء اهلل والدين‪..‬‬
‫يقول تعاىل يف ُسورة "املائدة"‪ ﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ‬
‫ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾‪.‬‬
‫وذلك السلوك من البعض – وصاروا ُك ًثرا لألسف‪ ،‬ويف رشحية الشباب عىل‬
‫وجه اخلصوص‪ ،‬والتي هي من املفرتض أن تقود وتكون يف الطليعة – اعرتاض‬
‫عىل قضاء اهلل تعاىل وقدره‪ ،‬بينام رب العزة قد يرى تأخري هذا األمر‪ ،‬وتأخري عقاب‬
‫الظامل إىل اآلخرة؛ ألسباب وحكمة ال نعلمها‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أجل اهلل تعاىل هلم‪ ،‬ومنهم َمن مات عىل‬


‫والتاريخ اإلنساين ميلء بنامذج لظاملني َّ‬
‫فراشه‪ ،‬مثل فرانشيسكو يف إسبانيا‪ ،‬وستالني يف االحتاد السوفييتي من قبل‪.‬‬

‫وعبارة ﴿ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰٌ﴾‪ ،‬وردت يف القرآن الكريم مر َت ْي‪ ،‬يف ُسورة‬


‫"األعراف"‪ ،‬اآلية (‪ ،)133‬ويف ُسورة "القلم"‪ ،‬اآلية (‪ ،)45‬ويف ُسورة "إبراهيم"‪،‬‬
‫يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾‪.‬‬
‫كذلك يف هذا تصور طفويل ساذج‪ ،‬يفرتض أن اهلل تعاىل طوع أمرنا‪ ،‬وأن أمورنا‬
‫اجلزئية هي ُك ِّل َّيات الكون‪ ،‬وأنه "جيب" عىل اهلل تعاىل االستجابة لنا "بالصورة‬
‫الفالنية" يف "الوقت الفالين"‪ ،‬بينام ما نحن إال ِمن خملوقات الرمحن الضعيفة‪،‬‬
‫ووجودنا يف الدنيا طارئ‪ ،‬وأمورنا هذه صغرية للغاية أمام عظيم وجسيم مهام‬
‫مجيعا‪ ،‬فلن يرضوا اهلل تعاىل وال دينه‬
‫تدبري الكون‪ ،‬ويف األصل؛ فلو كفر الناس ً‬
‫شيئًا‪ ،‬فكوكب األرض ذرة ال ُترى وال ُتقاس أمام الكون العظيم بام فيه الساموات‬
‫واألرض واملالئكة‪ ،‬وكلها تعبد اهلل تعاىل وتسبح بحمده‪ ،‬ال تفرت حلظة‪.‬‬
‫كام أن حكمة اهلل تعاىل وعظمته‪ ،‬أوسع وأكرب من ذلك بام ال حيده قياس؛ لكي‬
‫ننظر لألمور بقدْ ر تقديرنا ونظرتنا نحن هلا‪ ،‬فاهلل يق ِّيم وينظر ويفعل بمنظور خمتلف‪،‬‬
‫وحكمته يف ذلك بالغة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن مساعي بعض ِّ‬
‫منظري احلركة اإلسالمية لتفسري أسباب ُّ‬
‫تأخر ُسنَن‬
‫النرص‪ ،‬خاطئة يف مرتكزها أو منطلقها الفكري؛ حيث إهنا تتجاوز عن مفاهيم‬

‫‪406‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كثرية وردت يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف املامرسة النبوية‪ ،‬مثل ُسنَن التمحيص واالبتالء‬
‫واالختبار‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وتنحو إىل بيوريتانية وافرتاض األفضلية يف أنفسهم‪ ،‬وهو‬
‫منهي عنها متا ًما يف رشيعتنا اإلسالمية‪.‬‬
‫كله أمور ٌّ‬
‫وعليه‪ ،‬فإن املفرتض أن يكون أول خطوة لدراسة األزمات احلالية التي يمر هبا‬
‫املسلمون بشكل عام‪ ،‬واحلركة اإلسالمية بشكل خاص ‪-‬هو البحث يف نقطة مدى‬
‫التزامنا باملنهج؛ لكي يويف اهلل تعاىل وعده بتطبيق ُسنَن النرص‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن الرشيعة فيها – كام تقدَّ م – الكثري للغاية فيام خيص مسألة تأخري‬
‫النرص حتى عىل َمن هم التزموا املنهج؛ حلكمة إهلية بالغة‪ ،‬أبان بعضها يف القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬كالتمحيص وتنقية الصفوف والنفوس‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ‬
‫[سورة "آل عمران" – من اآلية ‪.]141‬‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ ُ‬
‫ويف حقيقة األمر فإن قضية أخطاء املنهج واسعة‪ ،‬وتتطلب دراسات وبحوث‬
‫رشعية متعددة االجتاهات‪ ،‬فقهية وتربوية‪ ،‬مثل البحث يف أحكام االستثناءات‬
‫وتبيان خطأ اعتامدها كقواعد يف األوقات العادية‪ ،‬وتدقيق اشرتاطات تطبيقها‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ولعل أول اخلطوات املطلوب اختاذها هو حقيقة مفاهيمية وأساسية‬
‫عقيدية غائبة عن الكثريين داخل احلركة اإلسالمية‪ ،‬وهي أن املصدر الرشعي‬
‫الوحيد لإلسالم‪ ،‬سواء األحكام اخلاصة باألوقات العادية‪ ،‬أو االستثنائية‪ ،‬هو‬
‫والس َّنة النبوية‪ ،‬وخالف ذلك فإنام هو اجتهادات ال تؤسس إلزا ًما‬
‫القرآن الكريم ُّ‬
‫عقيد ًّيا عىل املسلمني‪.‬‬

‫‪407‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِش َي ًعا!!‪ ..‬عندما يكون شتات الجماعة المسلمة عقا ًبا من اهلل!‬

‫من بني أهم التوصيفات التي يمكن إطالقها عىل كالم اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪،‬‬
‫عمران بالدرجة األوىل؛ حيث حيوي القواعد العامة التي تضمن‬ ‫ٍ‬ ‫هو أنه كتاب‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬لإلنسانية‪،‬‬‫صريورة الوجود اإلنساين عىل الوجه األكمل الذي يريده ُ‬
‫ووفق املنهاج والرشيعة التي ارتضاها ألمة التكليف؛ أمة حممد ﷺ‪.‬‬
‫واملتأمل آليات القرآن الكريم التي تتكلم عن أسس العمران السليم‪ ،‬والتي‬
‫تضمن نجاح اجلامعة البرشية‪ ،‬واجلامعة املسلمة عىل وجه اخلصوص‪ ،‬هو التقاء‬
‫الكلمة‪ ،‬واجتامع املواقف‪ ،‬عىل عضد رجل واحد‪ ،‬وفق ما أمر به اهلل تعاىل وأقره‬
‫من قواعد وتعاليم يف رشيعته‪.‬‬
‫وكام أكد القرآن الكريم عىل أمهية الوحدة يف تدعيم قواعد العمران البرشي؛‬
‫صف ُ‬
‫األ َّمة‪ ،‬بل‬ ‫فإنه ذم أشد الذم يف الفرقة التي حتقق االختالف واالفرتاق بني ِّ‬
‫وجعله – أي هذا االفرتاق – كذلك‪ ،‬أحد أوجه العقاب للحامعة املسلمة‪ ،‬متى‬
‫خرجت عن قاعدة اإلمجاع‪ ،‬وفق منهج اهلل تعاىل هلا‪.‬‬
‫جلن"‪ ،‬وهي ُسورة ِّ‬
‫مك َّية‪ ،‬نزلت يف‬ ‫يف البداية‪ ،‬وبشكل عام‪ ،‬جاء يف ُسورة "ا ِ‬
‫السنوات األوىل للبعثة‪ ،‬قول اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪ﴾‪ ،‬واملقصودين يف اآلية‪ ،‬هم املرشكون‪ ،‬ففي اآليت َْي السابقت َْي‪ ،‬يقول اهلل‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‪ ،‬ثم جاءت آية الطريقة هذه‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واملقصد فيها ترغيب املسلمني يف التوحد عىل الطريق املستقيم‪ ،‬والتأكيد عىل أن أول‬
‫درجات االجتامع‪ ،‬وأساسه‪ ،‬هو االلتقاء عىل الطريقة‪ ،‬أي املنهاج‪ ،‬واالستقامة عليها‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فإن اجلامعة البرشية لو التقت عىل أساس منهجي معني‪ ،‬وحتلقت‬
‫حوله؛ فإهنا تضمن اجتامع الكلمة‪ ،‬ووحدة املوقف‪ ،‬وهذا األساس املنهجي يف حالة‬
‫أمة اإلسالم‪ ،‬هو الرشيعة التي ارتضاها اهلل عز وجل لنا كمسلمني‪ ..‬بقواعدها‬
‫اجلامعة الشاملة‪ ،‬والتي ال خالف عليها‪﴿ ..‬ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾‬
‫[سورة "املائدة" – من اآلية ‪.]48‬‬
‫ُ‬
‫والتوحد يف الكلمة واملواقف‪ ،‬إنام هو نعمة من اهلل تعاىل‪ ،‬وهو رضورة‬
‫ُّ‬ ‫واالجتامع‬
‫عمرانية شديدة األمهية لتحقيق النجاح‪ ..‬يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫[سورة "آل عمران"]‪.‬‬
‫ﮓﮔ ﮕ﴾ ُ‬
‫أي أنه‪ ،‬وببساطة ووضوح؛ فإن االعتصام بحبل اهلل تعاىل‪ ،‬أي طريقته‪ ،‬أي‬
‫رشيعته‪ ،‬إنام هو نعمة من اهلل تعاىل‪ ،‬وفوق ذلك؛ فإنه – االعتصام – أهم أسباب‬
‫النجاة‪ ،‬يف الدنيا "إِ ْذ ُكن ُت ْم َأ ْعدَ اء"‪ ،‬أي تقتتلون‪ ،‬وترمون بأنفسكم إىل اهلل تعاىل‬
‫وأنتم عىل غري دين اإلسالم‪ ،‬ويف اآلخرة ﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾‪.‬‬
‫نأيت هنا إىل اجلانب اآلخر‪ ،‬وهو اخلاص بعواقب تشتت مواقف أمة املسلمني‪،‬‬
‫أمر – لو تعلمون – عند اهلل عظيم‪ ،‬وهو أسوأ عاقب ًة من أي‬
‫وتفرق كلمتها‪ ،‬وهو ٌ‬

‫‪409‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يشء آخر تقوم به اجلامعة املسلمة‪ ،‬أو فئة منها‪ ،‬ويكفي هنا أن نشري إىل أنه من بني‬
‫األسباب التي حتل دم املرء املسلم‪ ،‬كام يف احلديث النبوي الصحيح‪" ،‬التارك لدينه‬
‫املفارق للجامعة" [أخرجه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫عند تد ُّبر القرآن الكريم‪ ،‬سوف نجد فيه قضية‪ ،‬هي من بني أهم القضايا التي‬
‫بمثابة ُصلب وجود هذه األمة‪ ،‬وهي قضية عرب عنها القرآن الكريم بمصطلح‬
‫أمر خمتلف قلي ً‬
‫ال وأكثر خطورة‪ ،‬عن حالة الفرقة أو االختالف‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫"الش َيع"‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ففي النهي عن التنازْ ع‪ ،‬والذي يأيت بسبب عدم طاعة ما أمر اهلل تعاىل به‪ ،‬وجاء‬
‫به رسوله ﷺ‪ ..‬يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫[سورة "األنفال"]‪ ..‬هنا املعنى قريب‬ ‫ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ُ‬
‫وواضح؛ فنتيجة عدم الطاعة‪ ،‬والتنازع‪ ،‬هو الفشل والفناء‪.‬‬
‫مستوى أعىل من الفرقة‬
‫ً‬ ‫شيعا؛ والذي يعني‬
‫ثم نأيت إىل مصطلح التفرق ً‬
‫واالختالف‪ ،‬فقد يصل إىل مستوى األزمة أو الرصاع‪ ،‬وقد يصل إىل مستوى‬
‫االقتتال‪ ،‬كام أنه من بني مصدر خطورته أنه يشمل يف شق منه‪ ،‬االختالف يف الدين‪.‬‬
‫ولقد ورد ذلك يف القرآن الكريم‪ ،‬يف أكثر من موضع‪ ،‬سواء يف املحاذير املرتبطة‬
‫وخصوصا فيام يتعلق بالدين؛ الفرقة يف الدين‪ ،‬وكيف جاءت يف صيغة هتديد‬‫ً‬ ‫به‪،‬‬
‫بعقاب للمؤمنني إذا ما خرجوا عن منهج اهلل تعاىل‪.‬‬

‫فيقول اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬


‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾‬
‫شيع يف املواقف‪ ،‬إنام أكرب من جمرد التفرق‬
‫[سورة "األنعام]‪ ،‬ويف هذه اآلية‪ ،‬إشارة إىل أن ال َّت ُّ‬
‫ُ‬

‫‪410‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واخلالف‪ ،‬فهو – كام تقدَّ م – يعني اخلالف‪ ،‬ويعني االقتتال بني أبناء اجلامعة الواحدة‪ ،‬وأنه‬
‫عقاب من اهلل تعاىل ملن خرج عن تعاليمه من أبناء أمته‪.‬‬
‫السورة‪ ،‬يأيت األمر اإلهلي برباءة رسوله‬
‫وعىل خطورة هذا األمر؛ فإنه‪ ،‬ويف نفس ُّ‬
‫الكريم ﷺ من هؤالء‪ ..‬يقول اهلل‪ ﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾‪.‬‬
‫ولذلك؛ يمكن فهم موقف الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬يوم أن عصاه صحابته‪ ،‬يف‬
‫موقف احلديبية‪ ،‬عندما أمرهم باحللق والنحر؛ حيث قال بالنص‪ ،‬وبكل وضوح‪:‬‬
‫"ه َلك القوم"‪ ،‬ومل يكن ﷺ‪ ،‬يقصد أن هالكهم سيكون بسبب عصياهنم أوامر‬ ‫َ‬
‫نبيهم ﷺ فحسب؛ بل كان يقصد كذلك‪ ،‬أن اهلالك سوف يأيت – كذلك – بسبب‬
‫افرتاق كلمة األمة‪.‬‬
‫ولقد خاطب القرآن الكريم النبي ﷺ‪ ،‬أكثر من مرة‪ ،‬وهناه فيها عن اتباع هوى‬
‫القوم‪ ،‬وأن يقف عند حدود ما أنزل اهلل عز وجل‪ ،‬وأال يكرتث ملواقف اآلخرين‪،‬‬
‫كام يأمر أمته بذاته األوامر؛ األخذ بام أنزل اهلل‪ ،‬وعدم الركون إىل ذات ما أتى به‬
‫خصوم األمة‪ ،‬من املرشكني‪ ،‬بالتفرق يف الدين‪ ،‬واللهو عن حقيقة التوحيد‪،‬‬
‫والركون إىل احلياة الدنيا والفرح هبا‪.‬‬
‫"الروم" آيات واضحات يف ذلك‪ ..‬يقول اهلل‪﴿ :‬ﯔ ﯕ‬
‫ويف ُسورة ُّ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧﯨﯩﯪ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾‪ ،‬ثم يقول تبارك وتعاىل‪ ،‬يف توصيف‬

‫‪411‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫موقف املرشكني الظاملني ألنفسهم‪ ،‬من أنه من بني صفاهتم‪﴿ :‬ﯹ ﯺ ﯻ‬


‫ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾‪.‬‬
‫يستتبع ذلك احلديث عن قضية وحدة الصف اإلسالمي‪ ،‬خارج إطار التنظيامت‪،‬‬
‫وهو أمر شديد األمهية‪ ،‬ولكنه‪ ،‬وفق الصورة السابقة‪ ،‬من املفرتض أن يتحول إىل‬
‫أمر من نافلة القول؛ باعتباره فريضة مثل الصالة والصيام؛ جيب عىل املسلمني‬
‫فرادى ومجاعة‪ ،‬أن حيرصوا عليها‪.‬‬
‫فام ورد يف هذا الصدد يف القرآن الكريم‪ ،‬أتى يف إطار األوامر والنواهي والتحذير‬
‫املشدد‪ ،‬ويف مواضع حديث سابقة‪ ،‬أرشنا إىل أن ما ُيقال هبذه الصيغ‪ ،‬صيغ األمر‬
‫والنهي والتشديد؛ إنام هو بمثابة فرائض من اهلل تعاىل‪ ،‬وجب عىل املسلمني القيام‬
‫هبا‪ ،‬وليس امامهم إزاءها إال السمع والطاعة ألوامر رب العاملني‪ ..‬فيا أصحاب‬
‫ِّ‬
‫الش َيع ودعاة االختالف‪ ،‬هل أنتم منتهون؟!‪..‬‬

‫‪412‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫في ظل اقتتال أبناء الدين الواحد وأزمات األقليات اإلسالمية‪..‬‬

‫عقيدة "الوالء والبراء" في اإلسالم وضرورات إعادة الفهم‬

‫لعله بعد ما يقرب من مائة عام من ظهور ما ُيطلق عليه يف أدبيات العلوم‬
‫السياسية واالجتامعية‪ ،‬ظاهرة اإلسالم احلركي ومجاعاته‪ ،‬منذ أن بدأ بديع الزمان‬
‫النوريس يف تأسيس مدرسته الفكرية والدعوية ذات الطابع االجتامعي والسيايس‬
‫والرتبوي‪ ،‬يف عرشينيات القرن املايض؛ فإنه من بني أكثر املشكالت التي اعرتضت‬
‫طريق احلركات اإلسالمية‪ ،‬كطليعة لألمة‪ ،‬هي أزمة التكفري‪ ،‬بعد أن حتولت‬
‫اجلامعة أو احلركة إىل هدف وموئل يف حد ذاته‪ ،‬بينام هي يف األصل أداة ظهرت‬
‫خلدمة الدين والدعوة‪.‬‬
‫وتستند فتنة التكفري هذه باألساس إىل تفسريات معينة لعقيدة الوالء والرباء يف‬
‫مستوى من مستوياهتا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وضعت أية عالقة بني املسلم وغري املسلم‪ ،‬يف أي‬
‫السياسية واالجتامعية والثقافية‪ ،‬ويف أي حجم من أحجامها‪ ،‬سواء عىل مستوى‬
‫الفرد املسلم‪ ،‬أو عىل مستوى اجلامعة املسلمة‪ ،‬واحلاكم؛ يف إطار تكفري املسلم‬
‫واجلامعة املسلمة‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن أصل املشكلة يف استناد اجلامعات التكفريية يف تفسريها‬
‫أمر ْين‪ ،‬األول هو االستناد إىل تفسريات آيات قرآنية‬
‫لعقيدة الوالء والرباء‪ ،‬يعود إىل َ‬
‫وأحاديث نبوية رشيفة‪ ،‬من دون النظر يف السياقات األخرى املرتبطة هبا يف كالم‬
‫الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬ويف القرآن الكريم نفسه‪ ،‬بالرغم من أنه من املبادئ الثابتة‬

‫‪413‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املتعارف عليها يف علوم القرآن الكريم واحلديث النبوي‪ ،‬هو أن كالمها يفرس‬
‫اآلخر‪ ،‬وأن القرآن يفرس نفسه يف مواضع أخرى‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ ،‬هو استناد التفسريات التي وضعت لعقيدة الوالء والرباء‪ ،‬إىل‬
‫فرتات استثنائية من تاريخ األمة‪ ،‬مثل التفسريات التي وضعها اإلمام أمحد بن تيمية‬
‫خالل فرتات الغزو املغويل والصليبي لربوع اإلمة اإلسالمية‪ ،‬عندما واىل بعض‬
‫َّ‬
‫حكام املسلمني هؤالء الغزاة‪ ،‬إما خيان ًة أو ظ ًّنا منهم أهنم هبذه املواالة قد يستنقذون‬
‫بالدهم التي حيكموهنا من خطر غزو هذا الطرف أو ذاك‪.‬‬
‫ومن املعروف يف العلوم الرشعية‪ ،‬أن احلكم االستثنائي ال جيوز إطالقه‪ ،‬متا ًما‬
‫العرفية‬
‫– لتقريب الصورة إىل األذهان‪ ،‬وهلل تعاىل املثل األعىل – مثلام أن األحكام ُ‬
‫التي يتم تطبيقها يف أوقات احلروب واألزمات والكوارث الطبيعية‪ ،‬ال يمكن قبول‬
‫تطبيقها يف األوقات العادية‪.‬‬
‫ورت "النساء"‬
‫ولكننا‪ ،‬ومن خالل بعض آيات القرآن الكريم‪ ،‬وبالتحديد يف ُس َ ْ‬
‫و"األنفال"؛ يمكن أن نجد الكثري من األمور اخلاطئة يف التفسري الذي تستند إليه‬
‫اجلامعات التكفريية‪ ،‬وبعض ما وضعه األستاذ سيد قطب يف صدد عقيدة الوالء‬
‫والرباء؛ حيث ال تدخل كل عالقة بني مؤمن وكافر‪ ،‬أو بني مجاعة مسلمة وأخرى‬
‫غري مسلمة يف إطار عقيدة الوالء والرباء‪.‬‬
‫وخيرج من ذلك اعتبارات الرضورة والقهر‪ ،‬مثل مسلمني خيفون إيامهنم‪،‬‬
‫ويقيمون يف ديار غري مسلمة‪ ،‬ويف بيئة تناصبهم العداء‪ ،‬وال يستطيعون اخلروج‬
‫منها؛ حيث ذلك ليس بحاجة إىل نقاش‪.‬‬

‫‪414‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهناك آية قرآنية كريمة توضح وضع هؤالء عىل عهد النبي الكريم "ﷺ‪،‬‬
‫وتقول‪﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫[سورة "الفتح" – اآلية ‪ ،]25‬وهنا حتذير للمسلمني األوائل بعدم‬
‫ﮐ ﮑ﴾ ُ‬
‫فتح مكة بقوة السالح‪ ،‬لئال يتسهدفوا بسالحهم هؤالء املسلمني الذين منعهم‬
‫ضعفهم من االستجابة ألمر اهلجرة مع الرسول حممد ﷺ‪.‬‬
‫نقول‪ ،‬إنه يف ُسورة "النساء" هناك ثالثة آيات‪ ،‬تقول آيتان منها‪ ﴿ :‬ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠﮡﮢ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮩﮪﮫﮬﮭ‬
‫ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾‪.‬‬
‫واآليات واضحة يف صدد طبيعة التعامل مع أهل اإليامن والكفر‪ ،‬واالختالف‬
‫احلاصل يف شأن التعاطي مع مجاعات غري مسلمة بني املسلمني وبينها ميثاق‪ ،‬وبني‬
‫اجلامعات غري املسلمة التي تعادي املسلمني‪ ،‬وعبارتا ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾‪،‬‬
‫و﴿ﯝ ﯞ ﯟ﴾ ِّ‬
‫تبي إمكانية التحالف مع أقوام غري مسلمني‪ ،‬ما داموا قد‬
‫ساملوا املسلمني‪ ،‬حتى ولو كانت هذه املجموعات أو الشعوب – أو الدول بمفهوم‬
‫العرص احلديث – تؤوي خصو ًما جلامعة املسلمني‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ً‬
‫ارتباطا هبذا الصدد‪ ،‬وهي يف سورة "النساء" كذلك‪،‬‬ ‫أما اآلية األهم أو األكثر‬
‫فيقول فيها اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾‪.‬‬
‫ً‬
‫مسلم بقوم غري مسلمني‪ ،‬أو أن‬ ‫وهنا يتحدث رب العزة عن إمكانية أن يلوذ‬
‫عبارت‪﴿ :‬ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫َْ‬ ‫يكون بني ظهراين قو ٍم غري مؤمنني‪ ،‬ففي‬
‫ﭯ ﭰ﴾‪ ،‬و﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾‪ ،‬قد يصح‬
‫أن يكون هناك مؤمنني مقيمني يف وسط أقوام غري مسلمة‪ ،‬حتى لو كانوا يف حالة‬
‫عداء مع اجلامعة أو الدولة اإلسالمية‪ ،‬مع نفي صياغة العبارة األوىل لفرضية أن‬
‫يكون "القوم العدو" فيها مسلمني كذلك؛ حيث سياق الصياغة يقول بأن املؤمن‬
‫عدو جلامعة املسلمني‪ ،‬من غري املسلمني‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مجاعة ٍّ‬ ‫القتيل قد يكون ً‬
‫مقيم بني ظهراين‬
‫ويف ُسورة "األنفال"‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾‪.‬‬
‫واآلية هنا شديدة الوضوح يف التعبري عن حاالت إقامة ﴿ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ﴾ أنه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘْ﴾‪ ،‬وكلمة الوالية واضحة‬

‫‪416‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املعبة عن الدين وتدافع عنه‪ ،‬وعن حياضه‪ ،‬وعن‬


‫متا ًما؛ أنه ليس للدولة اإلسالمية ِّ‬
‫مجاعة املسلمني‪ ،‬أية والية عىل مؤمنني مقيمني يف ديار أخرى‪ ،‬وأن هذه اإلقامة يف‬
‫ديار غري مسلمة‪ ،‬ال تنزع صفة اإليامن عن املسلم‪ ،‬وال تك ِّفره‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬ويف عبارة‪﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤﮥ﴾؛ احلديث واضح متا ًما؛ أنه حتى يف حالة النرصة يف الدين – وهي‬
‫أمر خطري وشديد األمهية يف عقيدة املسلم – ال جيوز يف حالة التعامل مع مسلمني‬
‫ٌ‬
‫مقيمني يف ديار غري مسلمة‪ ،‬بينها وبني ديار اإليامن ميثاق‪ ،‬حتى لو انتهكت سلطات‬
‫هذا البلد‪ ،‬حقوق املسلم الدينية نفسها‪.‬‬
‫والقرآن الكريم‪ ،‬كام تعلمنا‪ ،‬يفرس نفسه‪ ،‬وهناك ارتباط وثيق للغاية بني آياته‪،‬‬
‫عىل األقل يف اآليات التي تتناول القضية الواحدة‪ ،‬فيام اعتمدت غالبية األدبيات‬
‫التي تناولت هذه القضية‪ ،‬قضية "عقيدة الوالء والرباء"‪ ،‬عىل نصوص جمتزأة من‬
‫سياقها القرآين العام كام تقدَّ م‪.‬‬
‫األقليات اإلسالمية وضرورات احلالة‬

‫ولعل أهم تطبيقات هذه القضية يف هذه املرحلة‪ ،‬بجانب العالقات امللتهبة يف‬
‫الوقت الراهن بني مجاعات اإلسالم السيايس‪ ،‬هو واقع األقليات املسلمة يف الغرب‬
‫يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫ففي ظل التوترات الراهنة بني بعض اجلامعات اجلهادية املسلحة التي تتبنى‬
‫منهجا هلا‪ ،‬مثل تنظيم الدولة "داعش" وبعض احلكومات الغربية‪ ،‬وتعدي‬
‫التكفري ً‬

‫‪417‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بعض احلكومات الغربية‪ ،‬والسيام احلكومة الفرنسية‪ ،‬عىل حقوق املسلمني‪،‬‬


‫وتعرض املسلمني يف دول غربية عديدة إىل محالت عنرصية؛ سعت بعض األوساط‬
‫اإلسالمية إىل حماولة حتسني أوضاع املسلمني‪ ،‬والتصدي إىل الصورة السلبية التي‬
‫اتصلت هبم لدى رشائح من الرأي العام األورويب واألمريكي‪.‬‬
‫وكان من بني نتائج ذلك‪ ،‬أن أعلنت القيادات اإلسالمية عن إدانتها ألحداث‬
‫العنف التي وقعت يف أكثر من دولة أوروبية‪ ،‬مثلام وقع يف فرنسا وبلجيكا وأملانيا‪،‬‬
‫وبدأت هذه القيادات يف توظيف املنابر اإلعالمية والدعوية التابعة هلا‪ ،‬يف حماولة‬
‫التصدي للفكر املتطرف والتكفريي‪ ،‬والتيارات التي تسعى إىل غرسه يف صفوف‬
‫املهاجرين املسلمني يف الغرب‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فقد قادت هذه اجلهود إىل حمارصة التيارات التكفريية‪ ،‬وضبط‬
‫وترحيل عدد من العنارص التي مل تكن مؤمتنة عىل املنابر املسجدية والدعوية التي‬
‫كانت حتت يدها‪.‬‬
‫تم تأويل ذلك من جانب أنصار تنظيم الدولة‪ ،‬ومن نحا نحوهم من معتنقي‬
‫الفكر التكفريي عىل أنه يدخل يف إطار عقيدة الوالء والرباء‪.‬‬
‫وبالتايل؛ صارت القيادات اإلسالمية يف البلدان الغربية بني مطرقة اإلسالموفوبيا‬
‫وسندان التكفرييني‪ ،‬والضحية بطبيعة احلال‪ ،‬هم املسلمون والدعوة اإلسالمية‬
‫تأذت جهودهم يف جمال العمل الدعوي واإلعالمي لتصحيح الصورة‪ ،‬ونرش‬ ‫التي َّ‬
‫نموا يف‬
‫صحيح الدين‪ ،‬يف الوقت الذي أصبح فيه اإلسالم هو أرسع الديانات ًّ‬
‫أوروبا والعامل‪.‬‬

‫‪418‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِ‬
‫ومن َث َّم؛ فإن هناك مراجعات رضورية مطلوبة يف هذا األمر من جانب علامء‬
‫الس َّنة واجلامعة للتصدي إىل فتنة التكفري التي هي أسوأ ما عرفه املسلمون‬
‫أهل ُّ‬
‫عرب تارخيهم‪ ،‬وصارت سب ًبا يف تعطيل صريورات الدعوة‪ ،‬واملرشوع اإلسالمي‬
‫متم نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫احلضاري برمته‪ ،‬ولكن اهلل تعاىل ٌّ‬

‫‪419‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فقه الموازنات وأهمية الدعوي‬


‫في دعم السياسي في دولة الشريعة‬

‫متر أوساط احلركة اإلسالمية يف املرحلة الراهنة‪ ،‬بالعديد من التطورات املتعاقبة‬


‫واملتسارعة‪ ،‬والتي ترتبط بالكثري من املستجدات التي هي بحاجة إىل العديد من‬
‫التأويالت الفقهية‪.‬‬
‫أمر ْين‪،‬‬
‫فالسياسة يف اإلسالم؛ إنام هي سياسة رشعية‪ ،‬والسياسة الرشعية تعني َ‬
‫األول أهنا تنطلق من القواعد التي أقرهتا الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وما رشعه اهلل تعاىل‬
‫للعباد يف السياسة واحلكم من قيم ومنطلقات وأحكام‪ ،‬والثاين أهنا‪ -‬أي السياسة‬
‫يف اإلسالم‪ -‬جيب أن تسعى إىل حتقيق املقاصد الرشعية‪.‬‬
‫فالرشيعة إذن‪ -‬وفق النظرة اإلسالمية للسياسة واحلكم‪ -‬إنام هي غاية ووسيلة‬
‫يف ذات الوقت‪.‬‬
‫ولذلك تربز أمهية اجلانب الرشعي العلمي لدى احلاكم يف اإلسالم؛ بل إن ذلك‬
‫هو األصل؛ أن يكون احلاكم يف دولة اإلسالم‪ ،‬عاملًا‪ ،‬فهكذا كان احلال أيام دولة‬
‫النبوة؛ حيث كان الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬هو احلاكم‪ ،‬وهو مصدر الوحي والترشيع؛‬
‫ينقله من لدن اهلل عز وجل‪.‬‬
‫واستمر احلال عىل هذا النحو يف دولة اخلالفة الراشدة‪ ،‬وكان اختيار "اخلليفة"‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬باعتبار أنه سوف‬ ‫"ر ِ َ‬
‫لق ًبا حلاكم ديار املسلمني منذ أيب بكر الصديق َ‬
‫يكون خليف ًة لرسول اهلل ﷺ‪ ،‬يف حكم الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو ما كان توصي ًفا ًّ‬


‫قيميا شديد األمهية والرضورة‪ ،‬باعتبار أنه طمأنة للجميع‬
‫يف الدولة الوليدة‪ ،‬أن احلكم الوليد ما بعد الرسول الكريم "صىل اهلل عليه وسلم"‪،‬‬
‫ومتييزا حلاكم املسلمني عن سائر الدول‬
‫ً‬ ‫سوف يكون عىل ذات منهاج النبوة‪،‬‬
‫األخرى التي كانت حميطة بشبه جزيرة العرب يف ذلك احلني‪.‬‬
‫واخلليفة يف اإلسالم‪ ،‬كام يف موسوعة السياسة اإلسالمية‪ ،‬هو "منصب سيايس‬
‫جيمع صاحبه بني السلطت َْي الزمنية والروحية‪ ،‬ولكن وظيفته الدينية ال تتعدى‬
‫املحافظة عىل رشع اهلل‪ ،‬ومن حقه قيادة الدولة اإلسالمية ورسم سياستها وتنفيذها‬
‫عىل املستو َي ْي‪ :‬الداخيل واخلارجي‪ ،‬ومن واجبه تبليغ الدعوة اإلسالمية ونرشها‬
‫والتصدي بالقتال‪ -‬إذا لزم األمر‪ -‬ضد من يقف عقبة يف سبيل أدائه ملهمته‪ ،‬وله أن‬
‫يعاقب اخلارجني عىل أوامر الرشع‪ ،‬ويؤم الناس يف الصلوات ويساعدهم عىل أداء‬
‫الفرائض األساسية"‪.‬‬
‫ومع تطور احلال بدولة اخلالفة‪ ،‬وحتوهلا وفق املراحل التي تكلم عنها الرسول‬
‫ض ُ‬
‫اهلل عنه"(((‪ ،‬من السري عىل منهاج‬ ‫"ر ِ َ‬
‫الكريم ﷺ يف حديث النعامن بن البشري َ‬
‫النبوة‪ ،‬إىل مراحل ا ُمللك العضوض ثم ا ُمللك اجلربي‪ ،‬ثم اهنيار دولة اخلالفة؛ صار‬
‫احلاكم يف الدول القومية العربية واملسلمة التي نشأت عن تفكك دولة اخلالفة‬

‫((( عن الرسول ﷺ‪ ،‬أنه قال‪" :‬تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم‬
‫تكون خالفة عىل منهاج النبوة فتكون ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ُم ً‬
‫لكا‬
‫لكا جربية فتكون ما شاء اهلل‬‫عاضا فيكون ما شاء اهلل أن يكون ثم يرفعها إذا شاء اهلل أن يرفعها ثم تكون ُم ً‬
‫ًّ‬
‫أن تكون ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خالفة عىل منهاج النبوة" ثم سكت [أخرجه أمحد‪،‬‬
‫وحسنه األرناؤوط]‬
‫َّ‬ ‫وصححه األلباين‬

‫‪421‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫علامنيا‪ ،‬يقوم عىل أساس القواعد التي تسري عليها الدول األخرى‪ ،‬بام يف‬
‫ًّ‬ ‫العثامنية‪،‬‬
‫ذلك منظوماهتا القانونية والدستورية الوضعية‪.‬‬

‫ومن َث َّم‪ ،‬غاب دور الداعية والعامل عن السياسة واحلكم يف بلداننا العربية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬بعد غياب حتكيم الرشيعة واحلكم بام أنزل اهلل تعاىل يف شئون املسلمني‪.‬‬

‫وعندما ظهرت احلركات اإلسالمية‪ ،‬عىل اختالف ألوان طيفها السيايس‬


‫والفكري‪ ،‬وبدؤها يف السعي إىل إحياء املرشوع احلضاري اإلسالمي‪ ،‬والبدء يف‬
‫احلديث عن مرشوع شامل الستعادة دولة اخلالفة اإلسالمية؛ واجهت احلركة‬
‫اإلسالمية الكثري من قوى املامنعة والتدافع التي فرضت عليها اخلوض يف الكثري‬
‫من املناطق الشائكة يف العمل السيايس‪ ،‬والتي متتاز بكوهنا ذات طبيعة رمادية‬
‫متشاهبة بني ما هو مرشوع وما هو غري مرشوع‪.‬‬

‫ويف إطار ما يعرض عىل احلركة اإلسالمية وأصحاب املرشوع الصحوي‬


‫اإلسالمي من مسائل يف الوقت الراهن‪ ،‬قد ال يكون السيايس عىل كامل إدراك‬
‫بجوانبها‪ ،‬ويف ظل التعقيد والتشابك الكبري احلاصل يف مسارات العمل السيايس‬
‫بمختلف مستوياته‪ ،‬الداخلية واخلارجية؛ فإنه يكون يف أشد احلاجة إىل الداعية‬
‫وخصوصا يف هذه األمور املتداخلة الرمادية‪.‬‬
‫ً‬ ‫دورا ورؤية‪ ،‬يف توجيه البوصلة‪،‬‬
‫ً‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬اكتسب فقه املوازنات عىل وجه اخلصوص أمهية خاصة‪ ،‬مع‬
‫ظهور الكثري من املسائل املتشابكة يف طبيعتها‪.‬‬

‫‪422‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويعتمد فقه املوازنات عىل أساس إصدار احلكم الرشعي يف املسألة وفق‬
‫اعتبارات املوازنة بني املصلحة واملفسدة املتحققت َْي يف اإلقدام أو االمتناع عن إتيان‬
‫أمر بعينه‪ ،‬أو سياسة بعينها‪.‬‬
‫رشعا‪ ،‬كام جاء يف "املستصفى يف أصول الفقه"‪ ،‬حلجة اإلسالم أبو‬
‫واملصلحة ً‬
‫حامد الغزايل‪ ،‬هي "املنفعة التي قصدها الشارع احلكيم لعباده من حفظ دينهم‪،‬‬
‫بمعنى‬
‫ً‬ ‫ونفوسهم‪ ،‬وعقوهلم‪ ،‬ونسلهم‪ ،‬وأمواهلم‪ ،‬وفق ترتيب معني فيام بينها"‪ ،‬أي‬
‫آخر مقاصد الرشيعة‪.‬‬
‫ويشري الدكتور حسني حامد حسان إىل املصلحة الرشعية بأهنا "املصلحة املالئمة جلنس‬
‫اعتربه الشارع يف اجلملة بغري دليل معني‪ ،‬أي أهنا تدخل حتت القياس بمعناها الواسع"‪.‬‬
‫رشعا‪ ،‬كام جاء يف خمترص ابن احلاجب‪ ،‬فهي "ما يعود عىل اإلنسان‬
‫أما املفسدة ً‬
‫رشعا"‪.‬‬
‫بالرضر واألمل‪ ،‬ومل يكن مقصو ًدا ً‬
‫وهناك العديد من األدلة الرشعية عىل مرشوعية فقه املوازنة بني املصالح‬
‫واملفاسد‪ ،‬ومن بينها من القرآن الكريم‪ ،‬قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫[سورة‬
‫ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ ُ‬
‫"البقرة" – من اآلية ‪.]219‬‬
‫ووجه الداللة يف هذه اآلية الكريمة‪ ،‬أن علة التحريم هي زيادة املفسدة عىل‬
‫املصلحة املتحققة من رشب اخلمر‪ ،‬ولعب امليرس‪ ،‬فاإلثم الكبري واملفسدة يف ذهاب‬
‫العقل‪ -‬من رشب اخلمر‪ -‬وما يرتتب عىل ذلك من ترصفات غري سوية‪ ،‬أعظم‬

‫‪423‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ريا من مصلحة واملتعة والنشوة املتحققة من رشهبا‪ ،‬وكذلك يف لعب امليرس‪،‬‬


‫كث ً‬
‫ولذلك كان احلكم النهائي بتحريمهام بالتدريج الذي تم‪.‬‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬عندما قام‬ ‫"ر ِ َ‬
‫السنة النبوية‪ ،‬فهناك حديث أيب هريرة َ‬
‫أما يف صحيح ُّ‬
‫أعرايب فبال يف املسجد فتناوله الناس‪ ،‬فقال هلم النبي ﷺ‪" :‬دعوه وأريقوا عىل بوله‬
‫معسين" [صحيح‪/‬‬ ‫ميسين ومل ُتبعثوا ِ‬ ‫سج ً‬
‫ال من ماء‪ ،‬أو ذنو ًبا من ماء‪ ،‬فإنام ُبعثتم ِّ‬
‫أخرجه البخاري]‪.‬‬
‫ووجه الداللة من احلديث‪ ،‬أن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬منع الصحابة من إيذاء‬
‫األعرايب‪ ،‬ملا يف ذلك من رضر عليه‪ ،‬وهو يف الرواية األخرى للحديث‪ ،‬والتي فيها‪:‬‬
‫"ال تزرموه"‪ ،‬بالرغم من الرضر الذي حصل من تنجيس للمسجد‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫ويف األخري؛ ننقل عن الدكتور حسني أمحد أبو عجوة‪ ،‬األستاذ جلامعة األقىص‬
‫بغزة‪ِّ ،‬‬
‫ملخ ًصا هذه القضية وأمهيتها‪ ،‬إن إحياء فقه املوازنة بني املصالح واملفاسد‪،‬‬
‫وص َّناع‬
‫ال يف هذا الزمان‪ ،‬رضوري للدعوة وللدعاة‪ ،‬وللقادة ُ‬ ‫علم وعم ً‬
‫وجتديده‪ً ،‬‬
‫القرار؛ حيث ختتلط احلسنات بالسيئات‪ ،‬وتزدحم املصالح واملفاسد‪ ،‬مما يوقع‬
‫العاملني يف حقل الدعوة يف اشتباه واختالف‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قضايا وإشكاالت في فهم اإلسالم عند الحركيين المعاصرين‬

‫ضمن استحقاقات قضية يراها الكثري من العلامء واملفكرين يف هذه املرحلة‪،‬‬


‫هي من أهم األولويات أمام احلركة اإلسالمية‪ ،‬واملرشوع اإلسالمي برمته‪ ،‬وهي‬
‫قضية تصويب املفاهيم والتصورات العامة حول الدين‪ ،‬وحول دور املسلم يف هذه‬
‫احلياة‪ ،‬وكيف يقوم به؛ حيث أكرب اجلبهات التي ينال منها خصوم الدين واحلضارة‬
‫اإلسالمية؛ ضمن ذلك‪ ،‬تربز جمموعة من اإلشكاليات املتعلقة بفهم اإلسالم‬
‫وقواعده ومتطلباته وما يرسيه من أمور يف املجاالت السياسية واالجتامعية‪ ،‬عند‬
‫الكثري من احلركيني املعارصين‪.‬‬
‫وتتصل هذه القضية بوضع أصحاب هذه النظرة اخلاطئة‪ ،‬اإلسالم‪ ،‬يف إطار‬
‫خاطئ خمالف لطبيعته‪ ،‬أو عىل أقل تقدير؛ هو فهم جمتزأ للدين؛ حيث يضعونه‬
‫يف سياق رصاعي‪ /‬تعبوي‪ ،‬يقوم عىل أساس نظرة ثنائية قارصة لإلنسانية‪ ،‬يفندها‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬من أهنا إما دار إيامن وسلم أو دار كفر وحرب‪.‬‬
‫َأ ْو َج َب ْت هذه النظرة عىل أصحاهبا‪ ،‬خوض رصاع دائم ضد العامل كله تقري ًبا‪ ،‬مع‬
‫املقصد املجتمعات التي‬ ‫جمازا؛ حيث ِ‬ ‫إظهار َس ْم ٍ‬
‫ت معني لـ"املجتمع اإلسالمي" – ً‬
‫تؤسسها حركات وتنظيامت تنسب نفسها للدين وللمرشوع اإلسالمي‪ ،‬وتقول‬
‫بأن هذه هي الصورة البيوريتانية للمجتمع املسلم – قاد إىل إسناد غري مسبوق‬
‫حلمالت التشوية والصورة الذهنية امللوثة التي تصدرها احلكومات واألنظمة‬

‫‪425‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫واجلامعات املعارضة واملعادية للمرشوع اإلسالمي احلقيقي‪ ،‬سواء يف عاملنا العريب‬


‫واإلسالمي‪ ،‬أو عىل مستوى العامل‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإنه من البساطة بمكان‪ ،‬إثبات أن هذه الرؤية يف جمملها العام؛‬
‫ختالف أبسط قواعد الدين احلنيف‪.‬‬
‫وأول األدلة العقلية عىل ذلك؛ هو النمط الذي أسسته الدول اإلسالمية املتعاقبة‬
‫لصورة احلياة يف جمتمع مسلم‪ ،‬ويف صورة العالقات مع اآلخر؛ سواء يف املجتمع‬
‫املسلم ذاته‪ ،‬أو يف املجتمعات األخرى خارج نطاق الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫ويف هذا املجال هناك يشء خطري يتم يف موضوع تصنيف املجتمعات؛ حيث‬
‫يف اإلسالم األمر ال يقف إطال ًقا‪ ،‬ووفق النص القرآين الكريم‪ ،‬عند حد التصنيف‬
‫الثنائي؛ ديار إسالم وسلم‪ ،‬وديار كفر وحرب‪ .‬فقد تكون هناك ديار إسالم‬
‫ولكن هناك حالة من الال سلم‪ ،‬كام يف ُسورة ُ‬
‫"احل ُجرات"؛ يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮙ‬
‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚﯛ﴾‪.‬‬
‫يف املقابل؛ فإن ديار الكفر ال تعني ديار احلرب؛ حيث مل ينهنا ُ‬
‫اهلل تعاىل عن‬
‫الرب والقسط مع غري املسلمني‪ ،‬من املساملني واملعاهدين وغريهم من الفئات غري‬
‫احلربية‪ ،‬وسمح لنا اهلل تعاىل بإقامة املعاهدات مع املجتمعات غري املسلمة‪ ،‬ومنحها‬
‫حقو ًقا تفوق حقوق بعض املجتمعات املسلمة األخرى‪.‬‬

‫‪426‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِ‬
‫املعاص‪.‬‬ ‫وعندما نقول "املجتمعات"؛ فإن األمر صنو الدول باملعنى السيايس‬
‫وسورتا "النساء" و"األنفال" هبا ثالث آيات تربز ذلك‪ ،‬ويف آية "األنفال"‬
‫عىل وجه اخلصوص؛ القرآن الكريم يشري إىل جواز "تعدد" املجتمعات املسلمة؛‬
‫حيث ال فريضة بشأن "دولة إسالم واحدة"‪ ،‬وكذلك حفظت اآلية للمجتمعات‬
‫ِ‬
‫املعاص ‪ -‬غري املسلمة‪ ،‬حقوقها عىل دولة اإلسالم‪ ،‬حتى عىل‬ ‫‪ -‬الدول باملعنى‬
‫حساب جمتمع ‪ -‬دولة ‪ -‬مسلم آخر‪.‬‬

‫السورة‪ ﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫يقول تعاىل يف اآلية (‪ )72‬من هذه ُّ‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬وبالصورة التي يتداوهلا البعض يف الوقت الراهن؛ فإن ذلك يعني خروج‬
‫وح َّكام دوهلم عرب التاريخ عن اإلسالم‪.‬‬
‫غالبية املسلمني ُ‬
‫بدعا مما سبقه من الرساالت‬
‫األمر اآلخر املهم هنا‪ ،‬هو أن اإلسالم مل ينزل ً‬
‫الساموية‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ‬
‫[سورة "األحقاف" – اآلية ‪،]9‬‬‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡٌ﴾ ُ‬
‫متم ًم ملا قبله من رساالت؛ فالرسول الكريم ﷺ يقول‪" :‬إنام مثيل‬
‫ونزل اإلسالم ِّ‬
‫ومثل األنبياء ْقبيل كمثل رجل بنى بناء فأحسنه وأكمله وأمجله إال موضع لبنة‬
‫فجعل الناس يطيفون به فيقولون‪ :‬ما رأينا بناء أحسن من هذا إال موضع هذه‬
‫الصحيح ْي‪،‬‬
‫َ‬ ‫اللبنة أال وكنت أنا تلك اللبنة" [أخرجه "ال ُبخاري" و"مسلم" يف‬
‫وآخرون]‪.‬‬

‫‪427‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذه الرساالت‪ ،‬أسست بدورها جمتمعات وكيانات هلا وزهنا التارخيي‪ ،‬وكانت‬
‫مسلمة بنص القرآن الكريم‪ ،‬قبل حتريف بعض أتباعها لدين اهلل تعاىل الذي نزل‬
‫عليها‪ ،‬مثل مملكة إرسائيل املوحدة التي قادها نبي اهلل داوود وابنه نبي اهلل سليامن‬
‫"عليهام السالم"‪ ،‬ودامت حوايل سبعة عقود‪.‬‬
‫وكانت هذه الدول تقيم بدورها هذه الصورة السوية من املجتمعات؛ سوية يف‬
‫شكلها‪ ،‬العمران كام نعرفه‪ ،‬ويف عالقاهتا مع املجتمعات األخرى غري املسلمة‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬وأبد ًّيا؛ حيث اإلسالم‬
‫معسكرا كب ً‬
‫ً‬ ‫فإ ًذا؛ اإلسالم مل ينزل لكي يقيم ألتباعه‬
‫دين عمران وحضارة‪ ،‬واستطاع بناء أنظمة اجتامعية واقتصادية وسياسية صمدت‬
‫مئات السنني‪ ،‬ولفرتات تفوق الكثري من احلضارات الغربية‪.‬‬
‫كام أن اإلسالم يدعو إىل احلفاظ عىل احلياة‪ ،‬وعىل العمران‪ ،‬وعىل إقامة‬
‫العالقات مع اآلخر غري املسلم‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬
‫ﮊﮋ﴾[سورة ُ‬
‫"احل ُجرات" ‪ -‬اآلية ‪.]13‬‬ ‫ُ‬
‫وما ُ ِ‬
‫شع اجلهاد يف اإلسالم إال لردع األعداء‪ ،‬وأخذ احلقوق‪ .‬وهذا ثابت يف‬
‫الس َّنة النبوية‪ ،‬والتي‬
‫السرية النبوية‪ ،‬والتي هي دليل رشعي أكيد‪ ،‬ألهنا تدخل يف ُّ‬
‫هي املصدر الوحيد املل ِزم للمسلم مع القرآن الكريم‪.‬‬
‫فليس هناك غزوة واحدة للنبي ﷺ‪ ،‬ألي سبب غري إما رد عىل عدوان أو رد‬
‫حقوق‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ً‬
‫رشوطا ال ينبغي جتاوزها‬ ‫وملا دعا النبي ﷺ للغزو والدعوة إىل اهلل تعاىل؛ وضع‬
‫حتفظ العمران واحلياة‪ ،‬وحتفظ عىل اآلخر كرامته ودينه وماله وعرضه وكل مقاصد‬
‫الرشيعة‪ ،‬ومتى مل تتوافر هذه الرشوط‪ ،‬وفق ُك ِّل َّية فقهية معروفة وبمثابة البدهيية؛‬
‫فال جمال ألي غزو أو فتح‪.‬‬
‫كذلك وال جمال يف اإلسالم لقتل أو معاداة اآلخر ألي سبب خيص أنه "آخر"‪،‬‬
‫مسلم أو غري مسلم؛ ال خيتلف األمر يف وجوب رد العدوان عليه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فلو هامجني‬
‫واملسلم غري مأمور بمهامجة غري املسلمني ملجرد أهنم "غري مسلمني"‪.‬‬
‫األمر اآلخر املهم هنا‪ ،‬أن البعض نيس أو ربام تناسى أنه ال توجد اآلن رشعية‬
‫جامعة للمسلمني‪ ،‬وبالتايل؛ فال يملك أي أحد أن يتحدث باسم املسلمني‪ ،‬أو‬
‫باسم "اجلامعة املسلمة"‪ ،‬لكننا نجد اآلن أن هناك الكثريين يقتلون املسلمني ألهنم‬
‫"مرتدون‪ ،‬وخارجون عن اجلامعة"؛ بينام يف احلقيقة هم يقتلوهنم ألهنم خارجون‬
‫"عنهم"؛ ال عن الدين‪ ،‬وهم هؤالء ما يفعلون ما يفعلونه إال ملرشوعات سياسية‬
‫خارجية تم توظيفهم هلا من جانب أعداء األمة‪ ،‬أو أمور ختصهم؛ ال ختص اجلامعة‬
‫املسلمة وعموم املسلمني‪.‬‬
‫نقطة أخرى مهمة هنا‪ ،‬وهي أن اإلسالم نزل شديدة العمومية يف أحكامه لكي‬
‫ً‬
‫صاحلا لكل زمان ومكان‪ ،‬وبالتايل؛ فهو مل يفرض‬ ‫حيقق ُمراد اهلل تعاىل يف أن يكون‬
‫أي شكل من أشكال العمران وصياغة املجتمعات عىل النحو الذي نراه من البعض‬
‫حال ًيا‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وحرم الدولة القومية‬


‫فهذا البعض فرض نمط "اإلمارة اإلسالمية" وفق ما يراه‪َّ ،‬‬
‫باملطلق‪ ،‬بينام هذا أمر غري سليم‪ ،‬وغري رشعي؛ فعىل أبسط تقدير هو خيالف قاعدة‬
‫ُك ِّل َّية مهمة‪ ،‬وهي أنه "ال رضر وال رضار"‪ ،‬بينام يف تثبيتهم هلذه الرؤية كبري رضر‬
‫عىل مئات املاليني من املسلمني‪ ،‬وعىل مصاحلهم التي نزلت الرشيعة حلفظها‪ ،‬بينام‬
‫املنورة؛ احرتم‬
‫النبي الكريم ﷺ – مرجعيتنا كمسلمني – عندما هاجر إىل املدينة َّ‬
‫البنيان األسايس للمجتمع وشكله‪ ،‬وهو القبيلة‪ ،‬والتي تطورت وصارت هي‬
‫الدولة اآلن‪.‬‬
‫‪............‬‬
‫وس َّنة النبي ﷺ‪ ،‬وخالف ذلك ليس من اإلسالم يف‬
‫هذا نجده يف القرآن الكريم ُ‬
‫أي يشء‪ ،‬وباطل‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن احلديث يطول يف جمال إبراز خطر ما يقوم به هؤالء‪،‬‬
‫ومدى هتافته‪ ،‬وتتبعه هو واجب الوقت يف ظل حرب شاملة عىل الدين ذاته‪.‬‬

‫‪430‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قضية "الحق" في اإلسالم والقوة التي تحميه وال تخلقه!‬

‫من بني أهم املفاهيم التي يتم تداوهلا من دون احلذر الواجب يف بعض أوساط‬
‫احلركة اإلسالمية‪ ،‬وعىل نطاق واسع يف األوساط األكاديمية والسياسية يف عاملنا‬
‫هذا‪ ،‬عبارة أن "القوة ختلق احلق وحتميه"‪.‬‬
‫طرحا‬
‫ً‬ ‫وهي يف حقيقة األمر مقولة خاطئة عىل طول اخلط‪ ،‬وحتمل يف طياهتا‬
‫غربيا بحكم عامل مراكز القوى يف عامل اليوم؛ حيث فرضت احلضارة الغربية‬
‫ًّ‬
‫بمحتواها املسيحي – اليهودي قيمها الفكرية واملادية عىل العامل؛ فطغى طابعها‬
‫الربامجايت املادي عىل مقوالهتا األساسية‪ ،‬والتي من بينها سيادة القوة بمعناها‬
‫املادي‪ ،‬حتى وإن فقدت ُبعدها األخالقي‪ ،‬أو َخ َل ْت من املحتوى القيمي سواء يف‬
‫كيفية استخدامها‪ ،‬أو فيام حتميه من "حقوق"‪.‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬ختتلف قضية "احلق" يف اإلسالم‪ ،‬متام االختالف عن املفهوم الذي‬
‫حتمله هذه العبارة يف املفاهيم والفلسفات الغربية‪ ،‬والذي مل ُيقد العامل إال إىل‬
‫اخلراب والدمار‪.‬‬
‫واضحا متا ًما؛ حيث قاد متجيد القوة عىل‬
‫ً‬ ‫ويف السياق التارخيي يبدو الفارق‬
‫حساب "احلق" والقيمة من جانب القوى املنتمية إىل احلضارة الغربية إىل حروب‬
‫طويلة‪ ،‬زاد بعضها عىل ثالثامئة عام‪ ،‬كام يف احلروب الدينية التي سادت أوروبا منذ‬
‫القرن الرابع عرش وحتى القرن السادس عرش‪ ،‬فيام أدت احلربان العامليتان األوىل‬
‫والثانية‪ ،‬إىل مقتل ما يقرب من مائة مليون إنسان!‬

‫‪431‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ظن أحد أطرافها يف‬


‫احلربان العامليتان عىل وجه اخلصوص‪ ،‬اندلعتا ملجرد أن َّ‬
‫البداية‪ ،‬اختالل موازين القوى لصاحله عىل حساب خصومه‪ ،‬فبدأ يف غزو جريانه‪،‬‬
‫كام يف حالة أملانيا واليابان‪ ،‬ألن اختالل موازين القوى لصاحله‪ ،‬منحه "احلق" يف‬
‫أن يفعل ذلك‪.‬‬
‫كرست هذه العبارة هبذا املعنى‪ ،‬العديد من الظواهر السلبية يف‬
‫يف اإلطار‪َّ ،‬‬
‫السياسة العاملية‪ ،‬دفع الضعفاء وحدهم – وهم يف الغالب من العرب واملسلمني –‬
‫ثمنها من حياهتم وأعراضهم وثرواهتم‪ ،‬وأمن شعوهبم وبلداهنم وأقواهتم‪.‬‬
‫فهذا املبدأ منح صاحب القوة "احلق" يف استغالل اآلخرين واستعبادهم‬
‫واالستيالء عىل خرياهتم‪ ،‬ملجرد أنه هو األقوى باملعيار املادي‪.‬‬
‫استقرارا‪ ،‬وساد السالم العامل القديم‪ ،‬وقت‬
‫ً‬ ‫يف املقابل عرف العامل أكثر فرتاته‬
‫سيادة الدولة العباسية‪ ،‬األوىل والثانية‪ ،‬عىل مدار ما يقرب من ثامنية قرون‪ ،‬منذ‬
‫ظهورها يف القرن الثامن امليالدي‪ ،‬وحتى بوادر اضمحالهلا يف القرن الثالث عرش‬
‫امليالدي‪ ،‬عىل يد التتار الغزاة‪ ،‬وبعد أن صارت عليها عوامل الصعود واألفول‬
‫احلضاري لألمم كام حددها ابن خلدون‪ ،‬وابن أيب الربيع من قبله‪ ،‬عندما وضعا‬
‫اللبنات األوىل لعلم االجتامع والعمران‪.‬‬
‫فالدولة العباسية‪ ،‬كقوة عظمى يف ذلك احلني‪َّ ،‬‬
‫وظفت قوهتا باحلق‪ ،‬وفق املفهوم‬
‫الرشعي لـ"احلق" كام سوف نراه‪ ،‬وبالتايل؛ فإن مقدراهتا وعوامل قوهتا‪ ،‬كانت يف‬
‫اإلطار السليم الذي حفظ مصالح دولة املسلمني‪ ،‬وصان السالم العاملي لقرون‬
‫طويلة‪.‬‬

‫‪432‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حترير املفهوم‪:‬‬
‫ولفهم نظرة اإلسالم إىل قضية "احلق"؛ فإننا أو ً‬
‫ال جيب أن نحرر املفهوم يف‬
‫خمتلف االجتاهات‪ ،‬اللغة واالصطالح والرشع‪.‬‬
‫ال "احلق" يف اللغة‪ ،‬يعني اليشء الثابت الذي ال يمكن وال يكون مقبو ً‬
‫ال‬ ‫أو ً‬
‫إنكاره‪ ،‬ويف االصطالح‪ ،‬فإن "احلق" هو احلكم املطابق للواقع‪.‬‬
‫مطلق يف طريقة تناوله للمفهوم؛ حيث احلق "ثابت" و"ال جيوز‬ ‫ٌ‬ ‫وكال التعري َف ْي‬
‫إنكاره" و"مطابق للواقع"‪ ،‬ومن َث َّم؛ ال جمال للتأويل أو التحريف فيه‪ ،‬أو إسباغ‬
‫أمور ال تتعلق بالواقع أو الثابت به‪ ،‬مثل أن تدخل "القوة" أو "السيطرة" أو أي‬
‫شكل من أشكال التأثري‪ ،‬بالتغيري عليه‪.‬‬
‫ويزيد عىل ذلك تعريف آخر للحق يف بعض املدارس الفلسفية والفكرية‪،‬‬
‫وهو أن "احلق" هو "الواجب الثابت واملؤكد"‪ ،‬وهذا بدوره إطالق ال جيوز معه‬
‫التدخل بأية وسيلة لتغيريه‪ ،‬وإال أصبح األمر يدخل يف إطار الباطل‪ ،‬وهو املعادل‬
‫العكيس للحق‪.‬‬
‫وإحقاق "احلق" هو أحد أهم صور "العدل"‪ ،‬وبالعدل تستقيم الدنيا‪ ،‬ويستقيم‬
‫الكون‪ ،‬ومن دون العدل تنهار األمم واحلضارات‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬كان "احلق" هو أهم جماالت الفلسفات اإلنسانية‪ ،‬منذ أن ظهرت‬
‫مدارس الفكر اإلنساين املختلفة‪ ،‬فهو أحد أهم مداخل مبحث "القيم"‪ ،‬أو‬

‫‪433‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األكسيولوجي (‪ ،)Axiology‬الذي هو أحد مباحث الفلسفة الثالث‪ ،‬باعتبار أن‬


‫‪:‬احلق" أحد القيم املطلقة التي ال جيوز تبديلها أو إدخال أي تغيري ذايت النزعة‪،‬‬
‫لشخص او ألمة أو ملجتمع‪ ،‬عليها‪.‬‬
‫بمن خلق‪ ،‬وهو اللطيف اخلبري‪،‬‬
‫وبام أن اإلسالم قد نزل من لدن حكيم عليم َ‬
‫فهو قد نزل مواك ًبا للفطرة‪ ،‬ولذلك فقد محل تعريف "احلق" لدى الفقهاء وعلامء‬
‫الرشيعة‪ ،‬ذات اإلطالق الذي محله يف اللغة واالصطالح والفلسفة‪.‬‬
‫ففي الرشيعة؛ فإن "احلق" هو ما منحه الشارع احلكيم للناس كافة عىل السواء‪،‬‬
‫وألزم ك ًّ‬
‫ال منهم باحرتامه وعدم االعتداء عىل ما هو لغريه‪ ،‬وبالتايل؛ فهو اليشء‬
‫الثابت هلل سبحانه وتعاىل عىل عباده‪ ،‬أو لإلنسان عىل الغري‪ ،‬بمقتىض الرشع‪.‬‬
‫وللحق مصادر يف اإلسالم‪ ،‬وهي مصادر ثابتة ال تتبدل بدورها‪ ،‬وال يوجد فيه‬
‫الس َّنة النبوية الثابتة‪.‬‬
‫أي جمال للذاتية؛ حيث تتمحور يف القرآن الكريم وصحيح ُّ‬
‫ولقد جعل رب العزة سبحانه املصلحة هي حمل "احلق"‪ ،‬واملصلحة ثابتة بدورها؛‬
‫حيث ال خالف عىل مفهو َم ْي املصالح واملفاسد يف الرشيعة اإلسالمية؛ فهام حمددان‬
‫الس َّنة‪ ،‬سواء املصالح الثابتة هلل تعاىل‪ ،‬مثل الفروض‪ ،‬أو لإلنسان‪،‬‬
‫بدقة‪ ،‬يف القرآن ويف ُّ‬
‫مثل حفظ ماله وعرضه ونفسه‪ ،‬إال باحلق الذي أقرته الرشيعة اإلسالمية كذلك‪.‬‬
‫وتأيت القوة يف "احلق" يف اإلسالم‪ ،‬يف جمال محايته‪ ،‬وبالتايل؛ فإن القوة املادية‬
‫يف اإلسالم ال جمال الستخدامها يف االعتداء عىل حقوق اآلخرين‪ ،‬ملجرد اختالل‬
‫موازين القوى املادية بني طر َف ْي أو أكثر‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف هذه احلالة؛ فإن إعداد القوة بمختلف صورها‪ ،‬املادية واملعنوية؛ هو واجب‪،‬‬
‫وليس اختيار‪ ،‬يف إطار ُس َّنة التدافع‪ ،‬فالقوة هنا لدفع الرضر‪ ،‬ومحاية حقوق وبالتايل‬
‫ال إىل مصالح األمة بالكامل‪ ،‬وإتاحة‬ ‫املسلم ْي‪ ،‬وصو ً‬
‫َ‬ ‫مصالح الفرد واملجتمع‬
‫املجال أمام املسلمني لتأدية حقوق اهلل عز وجل عليهم‪ ،‬من صالة وصيام وحج‬
‫وغري ذلك من فروض‪.‬‬
‫ومن دون قوة حتمي هذه احلقوق؛ لن يتمكن املسلم من أداء رسالة خلق اإلنسان‬
‫األساسية‪ ،‬وهي عبادة اهلل الواحد ال رشيك له‪ ،‬وإقامة عقيدة التوحيد يف األرض‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن القوة يف اإلسالم‪ ،‬بـ"حقها"‪ ،‬إنام هي وسيلة سالم‪ ،‬ومن دوهنا‬
‫سوف تسود مفاهيم اآلخرين الفوضوية التي تعتمد رشيعة الغاب‪ ،‬وغلبة األقوى‬
‫حتى ولو كان األظلم‪ ،‬عىل مقدرات الضعفاء!‬
‫‪..........‬‬
‫ويف األخري؛ فإن ملخص ما سبق‪ ،‬فإن "احلق" يف اإلسالم مفهوم مطلق‪ ،‬غري‬
‫نسبي‪ ،‬وحتدد معامله الفطرة السليمة‪ ،‬وما قررته الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬والقوة جيب‬
‫أن حتميه؛ ال أن تكون القوة هي معيار حتديد "احلق"‪ ،‬وإال حتولت الدنيا إىل سيادة‬
‫دائم‪ ،‬حتى ولو كان معتد ًيا أو ظاملًا‪.‬‬
‫الغالب ً‬

‫‪435‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قوانين االستطاعة وحاكميتها‬


‫في سعي اإلنسان‪ ..‬أسس فكرية وحركية‬

‫خلق ُ‬
‫اهلل تعاىل اإلنسان‪ ،‬ضمن منظومة متكاملة من َ‬
‫اخل ْلق اإلهلي‪ ،‬تتناغم يف‬
‫قوانينها‪ ،‬وتتسق يف حركتها مع بعضها البعض‪ ،‬يف ميزان دقيق‪ ،‬يضمن انتظام‬
‫الكون‪ ،‬وبقاءه إىل أن يأذن اهلل تعاىل‪ ،‬وتنفذ إرادته ومشيئته‪ ،‬وتنتهي احلياة الدنيا‪.‬‬
‫وجانب مهم من هذه القوانني وضعه اهلل عز وجل حلركة اإلنسان؛ ألن اإلنسان‬
‫كمخلوق‪ ،‬ذو طبيعة خاصة؛ حيث إنه خملوق‪ ،‬عاقل‪ ،‬ويتمتع باحلرية واإلرادة‬
‫الذاتية‪ ،‬وهذه السامت التي متيزه عن بقية خلق اهلل تعاىل‪ ،‬جتعل من حتمية نفاذ‬
‫قوانني اخللق يف أمره‪ ،‬أقل درجة من باقي املخلوقات األخرى‪ ،‬احلية وغري احلية‪.‬‬
‫وعىل ِع ْلم رب العزة سبحانه بطبيعة اإلنسان‪ ،‬وهو يعلم من خلق وهو اللطيف‬
‫منعا لطغيانه وجوره‬
‫اخلبري؛ فإنه قيد حركته يف احلياة الدنيا بمنظومة من القوانني؛ ً‬
‫وخروجه عن قواعد احلركة السليمة املقننة التي تضمن أال يؤذي باقي مكونات‬
‫العمران‪ ،‬املادية أو املعنوية‪ ،‬سواء يف نفسه‪ ،‬كإنسان‪ ،‬أو يف باقي منظومة اخللق‬
‫املحيطة به‪ ،‬والتي يتفاعل معها‪.‬‬
‫ومن ضمن أهم القوانني التي تضمن هذه املسألة؛ قانون االستطاعة‪ ،‬وهو‬
‫قانون عمراين تأسس يف القرآن الكريم‪ ،‬بام يقول بأمهيته؛ حيث إن تأسيسه يف‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬يعني أن اهلل تعاىل أراد له ديمومة التذكري يف نفس اإلنسان املسلم‪،‬‬

‫‪436‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وكذلك ضامن خلوده إىل حني رفع القرآن الكريم من األرض يف آخر الزمان‪ ،‬كام‬
‫أخرب رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫يقول اهلل تعاىل يف اآلية (‪ )286‬من ُسورة "البقرة"‪ ،‬وهي آخر آيات السورة‪:‬‬
‫﴿ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‪ ...‬اآلية﴾‪.‬‬
‫هذه اآلية تؤسس لقواعد عمرانية وحركية عديدة غائبة متا ًما عن سعي غالبية‬
‫من املسلمني‪ ،‬وتزداد خطورة هذا الغياب يف حالة اجلامعات احلركية التي تتصدى‬
‫لعظيم ومعايل األمور يف حياة األمة‪ ،‬وتقوم بكل فرائض العني املقررة عىل املسلمني‪.‬‬
‫قانون االستطاعة‪ ،‬بالصورة التي وردت يف آية "البقرة"‪ ،‬تعني أن اهلل عز وجل‪،‬‬
‫نفسا إال قدر استطاعة هذه النفس‪ ،‬وهو أعلم بخلقه حتى من أنفسهم‪،‬‬ ‫ال يكلف ً‬
‫وهو ما يضمن انتظام حركة اخللق‪ ،‬ألن اإلنسان العاقل الرشيد؛ من املفرتض له أال‬
‫يتجاوز حواجز االستطاعة التي وضعها اهلل عز وجل له‪ ،‬يف أموره‪ ،‬حتى ما يتعلق‬
‫منها باألمور اليومية املعتادة وإنفاقه االقتصادي‪.‬‬
‫وتبعا لذلك يرتتب عىل هذا املبدأ أن هذه النفس هلا ما كسبت وعليها ما اكتسبت‪،‬‬
‫ً‬
‫أي أن اإلنسان يتحمل مسئولية أية أفعال يقوم هبا خترج عن حدود االستطاعة التي‬
‫منحها اهلل تعاىل له‪.‬‬
‫وزرا ‪ -‬هنا نعني‬
‫إرصا أو ً‬
‫ويعني هذا القانون‪ ،‬أن اهلل تعاىل ال يضع عىل اإلنسان ً‬
‫حيمله اإلنسان لنفسه بال دا ٍع‪.‬‬ ‫هبا عبئًا وثق ً‬
‫ال ‪ -‬إال ما ِّ‬
‫وقتها‪ ،‬ما دام اإلنسان قد خالف قوانني اهلل عز وجل؛ فلن حيصل عىل دعمه‬
‫وكإله ورعايته سبحانه‪.‬‬

‫‪437‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫باملثل بعض املسلمني وبعض احلركة اإلسالمية يفعل؛ جتده يضع نفسه يف‬
‫ظروف مستحيلة؛ ثم يشكو البالء واالبتالء‪ ،‬ويتساءل عن أسباب غياب الدعم‬
‫الذي وعد اهلل تعاىل به عباده املؤمنني‪.‬‬
‫تنز َل النرص اإلهلي‪ ،‬له اشرتاطاته‪ ،‬وهي إرادة إهلية ال راد هلا‪ ،‬ومن أمهها‬
‫إن ُّ‬
‫أن يلتزم اإلنسان باألطر والقواعد والقوانني التي وضعها اهلل عز وجل لسعيه يف‬
‫خمتلف املواقف‪ ،‬السياسة‪ ،‬اجلهاد‪ ،‬احلياة العامة‪ ،‬احلياة اخلاصة األرسية‪ ،‬وحتى‬
‫شئونه الفردية‪.‬‬
‫خيالف املسلم ثم يشكو‪ ،‬ويظن بربه الظنون (!!)‪ ،‬وينسى يف السياق أنه حمكوم‬
‫أكثر من غريه هبذه القوانني والقواعد؛ ألنه األكثر معرفة ودراية هبا‪ ،‬باعتبار‬
‫إسالمه‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬باعتبار علمه املنبني عىل إسالمه‪ ،‬ألنه بعد إسالمه‪ ،‬من املفرتض‬
‫له أن يعرف ربه ودينه ويتدبر قرآنه ويفهم رشيعته‪ ،‬وقوانينه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ما هكذا قوانني ربنا‪ ،‬وهو أمر جيل أنه يعود إىل قضية الفهم‪ ،‬فغياب فهم‬
‫اإلنسان بحقيقة دينه والقواعد القرآنية؛ هو الذي يقود إىل جتاوز اإلنسان إىل قانون‬
‫االستطاعة‪ ،‬كمثل من يذهب لكي يبني مسجدً ا يف بلد ال يؤمن حتى بوجود اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬ثم يبكي ويزعق بأعىل صوته‪ ،‬عندما هيدمون له املسجد‪ ،‬وقد يظن باهلل‬
‫الظنون‪ ،‬بينام اخلطأ منه‪.‬‬
‫لقد وضع اهلل تعاىل يف رشيعته قواعد التعامل للمسلمني يف هكذا جمتمعات‪،‬‬
‫وبالتايل خمالفتها؛ يقع عبئها وإرصها عىل املسلم‪ ،‬فال جتأر بالشكوى‪ ،‬وأنت السبب‬
‫يف بواعثها‬

‫‪438‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذا الذي نقول‪ ،‬ال يعني القعود‪ ،‬وال يتناىف مع قاعدة "بذل ال ِو ْسع"‪ ،‬وإنام يعني‬
‫إعامل ضوابط الفعل الرشيد يف العمل وفق العبارة القرآنية التي يقول فيها رب‬
‫[سورة "األنفال" ‪-‬‬ ‫العزة سبحانه وتعاىل‪ ﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ ُ‬
‫من اآلية ‪ ،]60‬هنا الطلب اإلهلي فقط قدر االستطاعة‪ ،‬وبذل ال ِو ْسع يكون قدر‬
‫استطاعة اإلنسان‪ ،‬ومل يطلب اهلل تعاىل – أبدً ا – من اإلنسان ما يفوق طاقته‪.‬‬

‫فهنا شعار ﴿ﯘ﴾ حمكوم برشط االستطاعة؛ أن نطلق عىل هذا الفعل‪ ،‬أنه‬
‫يدخل أو ال يدخل ضمن طاقة "بذل ال ِو ْسع"‪.‬‬
‫هذا األمر له ماصدقات عديدة عىل أوضاع اإلخوان املسلمني‪ ،‬وسائر احلركات‬
‫اإلسالمية اإلصالحية التي ترفع شعار التغيري واإلصالح يف بلداهنا‪ ،‬وعىل مستوى‬
‫األمة؛ حيث جتاوزت القوى الثورية اإلسالمية‪ ،‬يف مرحلة ما بعد نجاح ثوراهتا‬
‫رسيعا مل يستمر طويل؛ جتاوزت قانون‬
‫ً‬ ‫ربيعا‬
‫يف بلدان العامل العريب التي شهدت ً‬
‫االستطاعة؛ فكانت النتيجة الرتاجع إىل حني‪ ،‬ولكن هلذا موضع آخر من احلديث‪.‬‬

‫‪439‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مبدأ الحاكمية هلل‪ ..‬جزء من عقيدة كل مسلم!‬

‫يقول اهلل عز وجل يف ُمكم التنزيل‪﴿ :‬ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ‬


‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾‬
‫[سورة "األنعام"]‪.‬‬
‫ُ‬
‫وسف"‪ ،‬يقول تبارك وتعاىل‪﴿ :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ويف ُسورة " ُي ُ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾‪ ،‬ويقول‬
‫السورة‪ ﴿ :‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬ ‫ً‬
‫أيضا يف آية أخرى من نفس ُّ‬
‫ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ ﴾‪..‬‬
‫احل َكم وإليه ُ‬
‫احل ْكم"‬ ‫وصح عن الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬أنه قال‪" :‬إن َ‬
‫اهلل هو َ‬
‫الس َّنة؛ فإن َ‬
‫"احل َكم" هو "احلاكم" الذي‬ ‫[أخرجه أبو داوود والنسائي]‪ ،‬ويف رشح ُّ‬
‫رد حكمه‪ ،‬وهذه الصفة ال تليق بغري اهلل تعاىل‪ِ ،‬‬
‫ومن أسامئه احلسنى‬ ‫إذا َح َكم ال ُي ُّ‬
‫التي يتفرد هبا عز وجل‪َ ،‬‬
‫"احل َكم"‪.‬‬
‫هذه اآليات مجيعها‪ ،‬وهذا احلديث النبوي الرشيف‪ ،‬تؤكد عىل مبدأ شديد‬
‫خضم التجهيل‬
‫ِّ‬ ‫األمهية يف عقيدة كل مسلم‪ ،‬نسيته غالبية معتربة من املسلمني‪ ،‬يف‬
‫املتعمد من جانب أنظمة علامنية فاسدة ومستبدة‪ ،‬وقوى استكبار عاملي‪ ،‬يقودها‬

‫‪440‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫التحالف املسيحي اليهودي‪ ،‬يف الغرب‪ ،‬وعىل رأسه الواليات املتحدة والكيان‬
‫الصهيوين‪ ،‬أال وهو مبدأ احلاكمية هلل‪ ،‬وتوحيدها‪.‬‬
‫وتوحيد احلاكمية‪ ،‬يعني إفراد اهلل تعاىل وحده يف احلكم والترشيع؛ حيث اهلل‬
‫تبارك وتعاىل‪ ،‬هو َ‬
‫احلكم العدل‪ ،‬له احلكم واألمر‪ ،‬ال رشيك له يف حكمه وترشيعه‪،‬‬
‫والرب‬
‫ُّ‬ ‫وهو أمر طبيعي؛ مادام اهلل تعاىل هو امللك احلق‪ ،‬واإلله الواحد األحد‪،‬‬
‫اخلالق املد ِّبر هلذا الكون؛ ال رشيك له يف ا ُمل ْلك‪ ،‬ويف تدبري شئون اخللق‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬
‫فهو ً‬
‫أيضا‪ -‬عز وجل‪ -‬ال رشيك له يف احلكم والترشيع‪.‬‬
‫ولقد حدد القرآن الكريم ُحكم من مل حيكم بام أنزل اهلل تعاىل من ترشيع‪ ،‬ففي ُسورة‬
‫"املائدة"‪ ،‬هؤالء‪ ،‬إما كافرون‪ ،‬أو فاسقون‪ ،‬أو ظاملون‪ ،‬فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ‬
‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ﴾‪.‬‬

‫‪441‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومبدأ توحيد احلاكمية داخل يف توحيد األلوهية‪ ،‬ومنه ما يدخل يف توحيد‬


‫الربوبية‪ ،‬ومنه ما يدخل يف توحيد اهلل تعاىل يف أسامئه وصفاته‪ ،‬عىل النحو الذي‬
‫تقدَّ م‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فأن نتكلم عن مبدأ "احلاكمية هلل"‪ ،‬أمر خمتلف عن أن نتناول بالنقد‬
‫أفكار سيد قطب‪ ،‬الذي كان من أهم مفكري املسلمني املعارصين‪ ،‬الذين أعادوا‬
‫إحياء هذا املفهوم العقيدي املهم‪ ،‬يف عقول وفهم املسلمني‪.‬‬
‫فاحلاكمية هلل‪ ،‬هذا جزء من عقيدة اإلنسان‪ ،‬ومن ال يؤمن به؛ إما أن يكون علمه‬
‫ناقص‪ ،‬أو عقيدته هبا فساد جيب عليه عالجه‪.‬‬
‫واملبدأ ورد يف القرآن الكريم بشكل رصيح ال لبس فيه‪ ،‬كام تقدم‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫ولشديد األسف‪ ،‬وحتت وطأة خصومة معينة بني البعض وبني اإلخوان املسلمني‪،‬‬
‫أو سيد قطب حتديدً ا؛ يطعنون يف املبدأ نفسه‪ ،‬وهذا أمر خطري للغاية‪.‬‬
‫حيم ُله البعض لفكرة احلاكمية ‪ -‬باعتبار أهنا لتمكني‬
‫فاملحتوى السيايس الذي ِّ‬
‫اإلخوان املسلمني ‪ -‬خاطئ متا ًما‪ ،‬يف اجتاهه احلايل؛ أي اإلشكالية املتعلقة باملوقف‬
‫من اإلخوان املسلمني‪ ،‬من جانب بعض القوى السياسية واملجتمعية‪ ،‬يف بعض‬
‫املجتمعات العربية واإلسالمية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مبني‬ ‫ٌ‬
‫خصيم‬

‫سلبيا‬ ‫تنايس البعض من املسلمني‪ ،‬هلذا املبدأ العقيدي يعكس ً‬


‫أيضا جان ًبا آخر ًّ‬
‫استرشى بني ظهرانيي املسلمني‪ ،‬وهو الغرور ِ‬
‫والك ْب‪ ،‬بحيث يظن هؤالء أن الدنيا‬

‫‪442‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ُخ ِل َقت ألجلهم‪ ،‬وأن سعيهم فيها‪ ،‬يكون هلم ولصالح متاعهم وإرضا ًء لرغباهتم‬
‫وشهواهتم الزائلة!‬

‫وتبعا ملا يراه‬


‫يظن هؤالء أن اهلل تعاىل‪ ،‬خلق اإلنسان‪ ،‬ألغراض تتعلق باإلنسان‪ً ،‬‬
‫اإلنسان!!‪ ..‬وهي نظرة خاطئة جيب عليهم مراجعتها‪.‬‬

‫وصدق اهلل تعاىل إذ يقول‪ ﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬


‫﴾[سورة "ال َّنحل"]‪ ،‬وقال وقوله احلق ً‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬ ‫ﯗﯘ ُ‬
‫[سورة "يس"]‪..‬‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ ُ‬
‫احلقيقة اإليامنية التي ال تدحض‪ ،‬هي أن اهلل سبحانه تعاىل خلق اإلنسان ألمور‬
‫وخلاص ِة اهلل تعاىل وغاياته هو‪ ،‬ولعبادته عز وجل حتديدً ا‪ ،‬وأوجب عىل‬
‫َّ‬ ‫حمددة‪،‬‬
‫اإلنسان العمل عىل كل ما ُي َي ِّس ُس ُبل العبادة‪ ،‬ومتكني رشيعة اهلل يف األرض‪ ،‬وهو‬
‫ما يصب فيه كل قواعد العمران البرشي واحلضارة اإلنسانية‪ ،‬التي تؤدي إىل تيسري‬
‫سبل حياة اإلنسان يف األرض‪ ،‬للتفرغ للعبادة‪.‬‬

‫فاهلل تبارك وتعاىل استعمر اإلنسان يف األرض‪ ،‬واستخلفه فيها‪ ﴿ ..‬ﭑ ﭒ‬


‫[سورة "البقرة"‪ِ -‬من اآلية ‪،]30‬‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ ُ‬
‫من أجل إقامة رشيعة اهلل تعاىل يف األرض‪ ،‬وعبادته‪.‬‬

‫والقرآن الكريم واضح للغاية يف هذا األمر‪ ،‬فيقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويشمل ذلك العمل‪ ،‬والعلم املدين‪ ،‬وغري ذلك من سعي اإلنسان يف احلياة‬
‫حرا يأكل من كسبه‪ ،‬وبالتايل‬
‫الدنيا‪ ،‬فالعمل‪ -‬عىل سبيل املثال‪ -‬جيعل اإلنسان ًّ‬
‫يتفرغ للعبادة‪ ،‬وخيدم دينه وجمتمعه املسلم‪ ،‬فال يمكن لإلنسان اجلائع غري اآلمن‪،‬‬
‫أن يعبد اهلل تعاىل بحق‪ ،‬وخيلص له العبادة‪ ،‬وهو ما أكده القرآن الكريم‪ ،‬ففي ُسورة‬
‫"قريش"‪ ،‬يقول‪ ﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾‪ ،‬فربط عبادته عز وجل‪ ،‬باألمن املادي واملعنوي‪.‬‬
‫والعلم املدين‪ ،‬يساعد اإلنسان عىل تيسري حياته يف الدنيا‪ ،‬وبالتايل التفرغ لعبادة اهلل‬
‫عز وجل‪ً ،‬‬
‫وأيضا حتسني ُسبل نرش دعوته من خالل وسائل االتصال واإلعالم احلديثة‪،‬‬
‫والدفاع عن ديار اإلسالم ضد الغزاة واملعتدين‪ ،‬الذين يملكون العلم والسالح‪..‬‬
‫وهو ً‬
‫أيضا حتقيق لقانون مهم‪ ،‬وهو تسخري الكون لإلنسان‪ ،‬واستغالل مفرداته‪..‬‬
‫﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ‬
‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝ‬
‫ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ‬
‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﴾‬
‫[سورة "ال َّن ْحل"]‪..‬‬
‫ُ‬
‫وهو ً‬
‫أيضا قانون إهلي‪ ،‬من أجل تيسري سبل حياة اإلنسان عىل األرض‪ ،‬يف الدنيا‪،‬‬
‫من أجل قيامه بمهمته األسمى‪ ،‬وهي عبادة اهلل تعاىل‪ ،‬وإقامة رشيعته‪..‬‬

‫‪444‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ودليلنا يف ذلك من القرآن الكريم ً‬


‫أيضا‪ ،‬فيقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ‬
‫[سورة َ‬
‫"احلج"]‪..‬‬ ‫ﮔ ﮕ ﮖ﴾ ُ‬
‫إذن فكل سعي اإلنسان‪ ،‬حتى ما يبدو منه أنه من صميم متاع الدنيا؛ جيب أن‬
‫يكون هلل تعاىل‪ ،‬الذي له احلكم‪ ،‬وإليه يرجعون‪.‬‬
‫فاألوىل هو توجيه فكرة احلاكمية إىل مساقها العقيدي السليم‪ ،‬الذي يتعلق‬
‫وأسسها‪ ،‬بعيدً ا عن أي توظيف سيايس "جهوي" أو "تنظيمي" أو‬ ‫بدولة الرشيعة ُ‬
‫"مجاعايت" لو صح التعبري!‪..‬‬

‫‪445‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مفهوم العدل اإللهي وعقاب الظالمين في الدنيا واآلخرة!‬

‫ال نزال مع بعض املشكالت املفاهيمية التي بدأت تتفاقم يف الصف احلركي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬عىل خلفية التطورات الكربى التي طرأت عىل احلالة اإلسالمية‪ ،‬يف‬
‫مرحلة ما بعد الربيع العريب‪ ،‬وما أدت إليه االرتكاسات التي حصلت‪ ،‬واجلرائم‬
‫التي وقعت‪ ،‬من ارتباك يف ضمري ومفاهيم شباب الصف اإلسالمي‪.‬‬
‫وملزيد من الدقة؛ فإن املشكلة تقبع يف عقول وضامئر األجيال األحدث س ًّنا التي‬
‫تتشبع بعد بكامل الربنامج الرتبوي‪ ،‬الدعوي واملفاهيمي واألخالقي‪ ،‬مما أدى‬
‫مل َّ‬
‫إىل بعض االرتباكات املفاهيمية‪ ،‬والتي طالت حتى بعض املكونات العقيدية التي‬
‫من املفرتض أهنا متثل أساس العمل احلركي‪.‬‬
‫ومن بني هذه األمور‪ ،‬بعض التساؤالت التي ظهرت يف أوساط الصف احلركي‬
‫يف اآلونة األخرية‪ ،‬بفعل اجلرائم التي ارتكبتها األنظمة احلاكمة يف أكثر من بلد‬
‫عريب‪ ،‬يف مقابل سلوك املجتمع الدويل‪ ،‬الذي ال يزال يعرتف هبذه األنظمة‪ ،‬ويتعاون‬
‫مسمى‪ ،‬مثل "مكافحة اإلرهاب"‪.‬‬
‫معها حتت أكثر من َّ‬
‫وتنصب هذه التساؤالت عىل قضايا ُك ِّل َّية‪ ،‬مثل "أين العدل اإلهلي مما جيري؟!"‪،‬‬
‫وأين اهلل تعاىل من الظاملني؟!"‪ ،‬و"ملاذا ال ينرصنا اهلل؟!"‪ ،‬وغري ذلك من التساؤالت‬
‫التي تكشف عن قصور مفاهيمي كبري لدى أصحاهبا‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يمن‬
‫ولقد ناقشنا من قبل قضية النرص اإلهلي والعوامل التي جتعل اهلل تعاىل َّ‬
‫بنرصه عىل َمن يشاء من عباده‪ ،‬والقوانني العمرانية واألخالقية احلاكمة لذلك‪.‬‬
‫وقلنا إن النرص اإلهلي ال يتعلق بنقطة زمنية حيددها اإلنسان‪ ،‬وإنام بتنفيذ‬
‫اشرتاطات وضعها اهلل عز وجل‪ ،‬جيب أن تعمل اجلامعة املسلمة عىل أن تستوفيها‪،‬‬
‫والنية واإلخالص يف العمل‪ ،‬كام أن الرصاع بني احلق والباطل؛‬
‫التجرد َّ‬
‫ُّ‬ ‫ومن بينها‬
‫ليس معركة ساعة‪ ،‬وإنام إىل قيام الساعة‪.‬‬
‫وكل ذلك‪ ،‬شاءته حكمة اهلل تعاىل البالغة‪ ،‬والتي ينبغي عىل اإلنسان أن يدرك‬
‫املجرد هذا‪ ،‬وأن ما عليه سوى طاعة ما‬
‫َّ‬ ‫أنه لن يمكن أن يصل إليها بعقله القارص‬
‫أمره اهلل تعاىل به‪.‬‬
‫ويف هذا املوضع‪ ،‬نقف أمام مشكلة أخرى‪ ،‬تتعلق بغياب الفهم احلقيقي لقضية‬
‫الثواب والعقاب‪ ،‬وما يرتبط بذلك يف صدد طبيعة العدل اإلهلي‪ ،‬كام هي يف‬
‫اإلسالم حقيق ًة‪ ،‬لدى رشائح من الشباب الذي كان ال يزال يف مستهل مشواره يف‬
‫احلركة اإلسالمية‪.‬‬
‫ولسنا مفتئتني لو قلنا إن هذه املشكلة أوضح ما تكون يف مجاعة "اإلخوان‬
‫انتشارا‪ ،‬وأهنا التي كانت أكثر من غريها من‬
‫ً‬ ‫املسلمون"‪ ،‬باعتبارها األكرب واألوسع‬
‫وخصوصا يف بعض الدول‬
‫ً‬ ‫احلركات اإلسالمية تصد ًيا للواقع وساعي ًة إىل تغيريه‪،‬‬
‫التي استتبت فيها األمور ظاهر ًّيا لألنظمة التي انقلبت عىل الرشعية أو ارتكبت‬
‫جرائم يف حق شعوهبا‪ ،‬بينام تقول صريورات األمور وظواهرها‪ ،‬بأهنا باقية إىل حني‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هنا ظهر تساؤل ينم لن نقول عن خلل يف العقيدة‪ ،‬بقدر ما ينم عن خلل‬
‫مفاهيمي يف مثل هذه املواقف‪ ،‬قاد إىل شكل من أشكال ما عرب عنه القرآن الكريم‬
‫واضحا يف موقف مماثل تعرض له املسلمون األوائل يف غزة اخلندق؛ حيث‬
‫ً‬ ‫ريا‬
‫تعب ً‬
‫قال رب العزة سبحانه يف وصف حاهلم‪﴿ :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫[سورة‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ ُ‬
‫"األحزاب" ‪ -‬اآلية ‪.]10‬‬
‫وينصب هذا التساؤل حول قضية كربى تناوهلا القرآن الكريم يف مواضع‬
‫عديدة‪ ،‬وهي عقاب الظاملني‪ ،‬والقصاص اإلهلي منهم‪.‬‬
‫ويرتبط هذا التساؤل بذات النقطة التي نوقشت يف أكثر من موضع سابق‬
‫للحديث‪ ،‬وهي خطأ التصور الزمني لدى البعض حول رصاع احلق والباطل‪،‬‬
‫وانتصار احلق فيها‪.‬‬
‫وهنا نشري إىل بعض املفاتيح املهمة التي جيب عىل تربويينا وقادتنا أن يعملوا‬
‫ال يف أوراق يتم تعميمها بمختلف وسائل االتصال‬ ‫عىل صياغتها بشكل أكثر تفصي ً‬
‫والتواصل‪ ،‬سواء يف براجمهم الدينية والسياسية‪ ،‬أو من خالل وسائط السوشيال‬
‫ميديا‪ ،‬وغري ذلك من الوسائل‪.‬‬
‫املفتاح األول‪ ،‬هو أن اإلنسان املسلم ينبغي عليه أن ُيدرك أن ما عليه سوى العمل‪،‬‬
‫بينام النتيجة هي عىل اهلل تعاىل‪ ،‬وفق ما تشاء حكمته البالغة‪ ،‬وأنه ال ينبغي عىل املسلم‬
‫صحيح اإلسالم‪ ،‬أن يعرتض عىل أحكام اهلل تعاىل‪ ،‬التي هي بشكل أو بآخر‪ ،‬صورة‬
‫من صور القضاء والقدر‪ ،‬واإليامن هبام‪ ،‬هو جزء ال يتجزأ من عقيدة املسلم‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كام أن عىل املسلم أن يدرك أن عمله‪ ،‬إنام هو له‪ ،‬بينام دين اهلل تعاىل‪ٍ ،‬‬
‫ماض يف‬
‫طريقه‪ ،‬ولن يرض املجرمون َ‬
‫اهلل وال دينه شيئًا‪ ،‬وهو أمر ثابت يف القرآن الكريم‪ ،‬يف‬
‫أكثر من موضع بشكل ال لبس فيه‪.‬‬
‫أما املهم فيام خيص موضع هذا احلديث‪ ،‬هو أن يدرك اإلنسان املسلم أن قضية‬
‫العدل اإلهلي‪ ،‬ال ترتبط بالدنيا‪ ،‬وال ترتبط بنقطة زمنية حيددها اإلنسان وفق هواه‬
‫وتصوراته‪ ،‬وإنام األمر خاضع إلرادة اهلل تعاىل‪ ،‬وحكمته‪.‬‬
‫ولقد شاءت حكمة اهلل تعاىل أن تكتمل إجراءات عدله يف الدنيا؛ بحساب‬
‫اآلخرة‪.‬‬
‫أي أنه لو مل تكن هناك آخرة؛ لكان العدل اإلهلي – حاشا هلل وتنزه سبحانه‬
‫ناقصا‪.‬‬
‫وتىعاىل عن كل نقص – ً‬
‫ولذلك؛ فإنه من الوارد جدًّ ا وفق املشيئة اإلهلية أن يموت الظامل من دون عقاب‬
‫يف الدنيا‪.‬‬
‫والنامذج أمامنا يف ذلك كثرية‪ ،‬فهناك املجرم الصهيوين اهلالك برييز؛ قد مات‬
‫ميتة طبيعية وفق التعبري الدارج‪ ،‬من دون عقاب عىل جرائمه‪ ،‬وهناك رابني‪،‬‬
‫وهناك الكثري من ُطغاة العرص يف زمننا هذا‪ ،‬واألزمان السابقة عليه؛ فهل نال‬
‫هتلر‪ ،‬وسلوبودان ميلوسوفيتش‪ ،‬وستالني‪ ،‬وشارون‪ ،‬وكل املجرمني عرب العصور‬
‫العقاب الذي يستحقونه ح ًّقا عىل جرائمهم؟!‪..‬‬
‫قارصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫وأعدم وعوقب يف الدنيا؛ فإنه ذلك يبقى عقا ًبا‬ ‫إطال ًقا‪ ،‬وحتى َمن ُشنِق‬
‫وال يمكن لإلنسان أن يوفيهم جزاءهم‪ ،‬وإنام اهلل تعاىل وحده هو القادر عىل ذلك‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهل جرائم راتكو ميالديتش‪ ،‬جزار البلقان‪ ،‬ضد أهل البوسنة املساملني‪ ،‬تفي هبا‬
‫أربعون سنة يف أحد سجون أوروبا‪ ،‬كام ُح ِكم عليه؟!‪..‬‬
‫وكثري ِمن أكابر جمرميها ماتوا من دون العقاب الكايف الذي قرره عدل اهلل تعاىل‬
‫ٌ‬
‫هلم كام وصفه يف القرآن الكريم‪ ،‬بعبارات مثل‪" :‬عذاب عظيم"‪ ،‬و"عذاب مهني"‪،‬‬
‫وغري ذلك‪.‬‬
‫فهل يعني هذا أهنم أفلتوا؟!‪ ..‬إطال ًقا‪ .‬إنام عقاهبم يف اآلخرة؛ هو استكامل‬
‫للعدل اإلهلي معهم‪.‬‬
‫كذلك املظلوم؛ لو مات ظامله أو مات هو من دون احلصول عىل حقوقه؛ ال يعني‬
‫معا من‬
‫ذلك نقص يف امليزان حاشا هلل؛ حيث امليزان يستند إىل ما يف الدنيا واآلخرة ً‬
‫صريورات ونتائج‪.‬‬
‫هذا ما جيب أن نفهمه‪ ،‬وعدم فهمه معناه نقص يف معرفتنا بديننا وبخالقنا‪ ،‬أي –‬
‫ببساطة ‪ -‬نقص يف علمنا الرشعي‪ ،‬باعتبار أن معرفة اخلالق‪ ،‬هو ُصلب علم التوحيد‪،‬‬
‫والذي هو بدوره أحد أركان العلوم الرشعية التي تشكل معرفتنا بديننا احلنيف‪.‬‬
‫ويف القرآن الكريم‪ ،‬كالم اهلل تعاىل واضح للغاية يف هذا األمر؛ حيث يقول عز‬
‫وجل‪ ﴿ :‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‬
‫[سورة "إبراهيم" ‪ -‬اآلية ‪.]42‬‬
‫ﰁ ﰂ ﰃ﴾ ُ‬
‫يعني ذلك‪ ،‬أنه وفق اآلية القرآنية الكريمة؛ فإن عقاب الظاملني يف األصل؛‬
‫يكون يف اآلخرة‪ ،‬وليس يف الدنيا‪ ،‬وما نراه من عقاب لبعض الظاملني‪ ،‬إنام هو‬

‫‪450‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عقاب العدالة اإلنسانية الضعيفة القارصة‪ ،‬بينام العدل اإلهلي أقوى وأقدر عىل‬
‫إيقاع اجلزاء املالئم بالظاملني‪.‬‬
‫وبكل تأكيد فإن هذه احلالة‪ ،‬هي مسؤولية الرتبويني وقادة الفكر والرأي يف‬
‫احلركة اإلسالمية‪ ،‬والذين يتحملون يف الوقت الراهن املسؤولية الكربى يف ظل‬
‫االلتباسات الكبرية التي نجمت عن احلرب التي يشنها خصوم احلركة عىل املرشوع‬
‫احلضاري اإلسالمي بأكلمه‪.‬‬

‫‪451‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مفهوم تمام الدين بين األصل الشرعي وقضية التكفير!‬

‫جييء حتدي االفرتاق والترشذم الذي وصل حدَّ االحرتاب واالقتتال الداخيل‪،‬‬
‫كأهم التحديات التي تواجه األمة‪ ،‬وأحد أكرب العقبات التي تواجه اندياح الدعوة‬
‫اإلسالمية بني ظهرانيي اإلنسانية بالكامل‪ ،‬مع ما تعكسه هذه الرصاعات‪ ،‬أو ما‬
‫أطلقنا عليه يف ذات موضع مسمى "حروب املسلمني"؛ من صورة ال يمكن معها‬
‫تصور أن هذا الدين يمكنه إقامة حضارة مدينية متكاملة األركان‪ ،‬وإقامة أسس‬
‫ودعائم التكامل اإلنساين الذي أقره القرآن الكريم‪.‬‬
‫ذلك احلكم الظامل يأيت بالرغم من أن التاريخ – حتى يف كتاباته املحايدة لغري‬
‫املدون‪ ،‬كانت دولة‬
‫املسلمني – خيربنا بأنه‪ ،‬ولفرتة ال بأس هبا من تاريخ اإلنسانية َّ‬
‫اإلسالم قائمة بحضارة بزغت بنورها عىل العامل كله‪ ،‬وأسهم الدين يف ُّ‬
‫حتض‬
‫شعوب كان اسمها عالمة عىل عدم التحرض‪ ،‬مثل بدو شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وبربر‬
‫شامل أفريقيا وغريهم‪.‬‬
‫وهناك بطبيعة احلال أسباب عدة ملثل هذه املشكلة‪ ،‬ولكنها‪ ،‬وبالرغم من‬
‫تعددها‪ ،‬إال أهنا تندرج حتت عنوان كبري‪ ،‬وهو عدم الفهم الصحيح للدين‪.‬‬
‫وهذا أمر توقعه الرسول الكريم ﷺ؛ عندما قال‪" :‬إن هذا الدين شديد فأوغل‬
‫فيه برفق" [أخرجه أمحد يف ا ُملسنَد]‪ ،‬وبالرغم من أن احلديث ِّ‬
‫بنصه الكامل قد ورد‬
‫يف السلسلة الضعيفة؛ إال أنه يف النهاية؛ نجد أن الواقع يصدِّ ق عىل هذا الشطر منه‬
‫الذي أخرجه اإلمام أمحد يف مسنده‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪،‬‬


‫وكام تم توظيف بعض األمور الواردة يف القرآن الكريم ُّ‬
‫يف غري سياقها‪ ،‬وبشكل أخرج علينا فتنة التكفري‪ ،‬مثل "الطائفة املنصورة"‪،‬‬
‫و"الفرقة الناجية"؛ فإننا نقف هذه املرة أمام قضية شديدة األمهية‪ ،‬أدت إىل مشكلة‬
‫حقيقية من جانب بعض احلركيني واجلامعات املنتسبة إىل اإلسالم واملرشوع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬عند تطبيقها آليات قرآنية وأحاديث نبوية رشيفة كثرية‪ ،‬وغالبيتها من‬
‫ضمن أحاديث القتال واجلهاد‪.‬‬
‫وهذه املشكلة تتعلق بسوء تأويل قضية "متام الدين"‪.‬‬
‫بداي ًة‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾ ["املائدة" – من اآلية ‪ ،]3‬وهو ذات املعنى الذي أكده النبي‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬يف خطبة حجة الوداع‪ ،‬والتي ُتعترب من أهم النصوص الرشعية التي‬
‫تتضمن مجاع الدين بالنسبة للمسلمني‪.‬‬
‫هذا األمر اختذه البعض بصورة قارصة‪ ،‬أخرجته عن سياقه أو معناه الشامل‬
‫السنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫املقصود الذي أراده اهلل تعاىل‪ ،‬وعكسته ُّ‬
‫املقصين‪ ،‬وعدم إعذارهم بجهلهم‪،‬‬ ‫البعض اختذه كإطار ملحاسبة املسلمني ِّ‬
‫وكذلك استهداف غري املسلمني‪ ،‬استنا ًدا إىل فقه غري صحيح‪ ،‬بأنه بتامم الدين؛ فإن‬
‫اإلنسانية إما ديار إسالم‪ ،‬أو ديار كفر‪ ،‬وأن ديار الكفر وجب عىل املسلمني قتاهلا‪.‬‬
‫بل إن قضية متام الدين؛ عكس ما يفهمه هؤالء؛ والدليل عىل ذلك‪ ،‬أن‬
‫الرسولﷺ‪ ،‬قد ربط قضية متام الدين‪ ،‬بانتهاء الوحي وانتهاء البعثة – تك َّلم النبي‬
‫"عليه الصالة والسالم"‪ ،‬يف ذات املوضع عن قرب انتقاله إىل الرفيق األعىل –؛‬

‫‪453‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بمعنى شديد األمهية‪ ،‬وهو أن متام الدين يعني املزيد من التشديد عىل قضية‬
‫ً‬ ‫َر َب َطها‬
‫حرمة أموال ودماء املسلمني‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬
‫ففي خطبة الوداع‪ ،‬كام يف صحيح ال ُبخاري ومسلم؛ قال الرسول الكريم ﷺ‪:‬‬
‫"‪ ..‬فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا يف شهركم هذا يف‬
‫بلدكم هذا إىل يوم تلقون ربكم‪ ،‬أال هل بلغت؟‪ .‬قالوا‪ :‬نعم" قال‪ :‬اللهم اشهد‪،‬‬
‫كفارا‬
‫ً‬ ‫فليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬فرب مبلغ أوعى من سامع‪ ،‬فال ترجعوا بعدي‬
‫يرضب بعضكم رقاب بعض"‪.‬‬
‫وأفكار هؤالء ختالف – كام هو واضح بالدليل التارخيي – حتى األساس‬
‫الذي ظلت عليه الدول اإلسالمية املتعاقبة طيلة الفرتة التي تلت دولة اخللفاء‬
‫الراشدين؛ حيث كان أساس احلكم هو معاملة املسلم كمسلم‪ ،‬ومعاملة غري‬
‫املسلم املسامل وفق أحكام الرشيعة‪ ،‬ومعاملة ديار الكفر املساملة وفق قواعد‬
‫اجلرية والتكامل اإلنساين‪ ،‬وحماربة َمن يعادون الدولة اإلسالمية‪ ،‬أو يعتدون عىل‬
‫املسلمني يف بلداهنم‪.‬‬
‫َّ‬
‫وحكامهم‬ ‫والقول بعكس ذلك؛ يعني أننا نك ِّفر – والعياذ باهلل – كل املسلمني‬
‫عرب التاريخ الطويل للدول املختلفة التي ظهرت‪ ،‬وكانت اإلطار اجليوسيايس‬
‫اجلامع للمسلمني كافة‪ ،‬مثل الدولة العباسية والدولة العثامنية‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫وضعيا‪ ،‬والرشيعة ليست بنو ًدا دستورية أو قانونية؛ عدم‬
‫ًّ‬ ‫إن الدين ليس قانو ًنا‬
‫العلم هبا‪ ،‬يوجب املحاسبة‪.‬‬

‫‪454‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اهلل تعاىل أنزل دينه ورشائعه بأنساق معينة‪ ،‬وبصورة تدرجيية‪ ،‬وعىل فرتات من‬
‫الر ُسل‪ ،‬ولكي ُتطبق بطرائق معينة‪ ،‬ومدة التطبيق هذه؛ هي منذ أن بعث اهلل تعاىل‬
‫ُّ‬
‫الر ُسل واألنبياء‪ ،‬إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ولذلك؛ ع َّلق اهلل تعاىل ُس َّنة إهالك األمم التي نجدها يف القرآن الكريم‪ ،‬يف‬
‫َق َصص األولني‪ ،‬وذلك ألن الدين اخلاتم قد نزل‪ ،‬واإلنسانية كافة‪ ،‬هي جمال‬
‫الس َّنة يف آخر الزمان‪ ،‬بعد رفع القرآن الكريم واإليامن‬
‫دعوته‪ ،‬وسوف تعود هذه ُّ‬
‫من األرض‪ ،‬كام أخرب النبي ﷺ‪ ،‬يف أكثر من حديث صحيح‪.‬‬
‫لذلك أي جمتمع غري مسلم؛ هو جمتمع دعوة وهداية‪ ،‬بل إنه يف ظل حالة اجلهالة‬
‫الراهنة يف أوساط غالبية املسلمني بصحيح دينهم نتيجة قرون من االستعامر‬
‫واإلمهال والتغريب والعلمنة؛ فإن أي جمتمع مسلم‪ ،‬هو جمتمع دعوة وهداية‪.‬‬
‫فالقول بجاهلية املجتمعات – وهي حقيقة‪ ،‬وورد يف أكثر من حديث نبوي‬
‫صحيح؛ التحذير من عودة املسلمني إىل سلوك اجلاهلية –؛ ذلك القول‪ ،‬وذلك‬
‫الوضع‪ ،‬ال يستوجب قتال املسلمني املقرصين‪ ،‬أو الذين ال يفهمون حقيقة دينهم‪،‬‬
‫وتدمري جمتمعاهتم؛ إنام يستوجب التوضيح واهلداية‪.‬‬
‫وبالتايل؛ ويف ظل الظروف التي متر هبا اإلنسانية يف الوقت الراهن‪ ،‬من هيمنة‬
‫احلضارة الغربية العلامنية‪ ،‬وقيمها‪ ،‬وطغيان قيم املادية وفوىض التفكيكية وما‬
‫بعدها؛ فإن أي جمتمع؛ مسلم أو غري مسلم‪ ،‬حديث العهد بالدين‪ ،‬أو غري حديث‬
‫العهد بالدين؛ إنام هو كأنه يف اللحظة األوىل لنزول اإلسالم عىل حممد ﷺ‪.‬‬

‫‪455‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الس َّنة النبوية لعدم إعذار‬


‫البعض حيتج بمسألة متام الدين يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف ُّ‬
‫والس َّنة‪ ،‬فيها العذر بعدم املعرفة‪،‬‬
‫الناس‪ .‬هذا خمالف؛ فاقتله‪ .‬كيف ذلك؛ والقرآن ُّ‬
‫وفيها التدرج يف دعوة الناس‪ ،‬والصياغات التي جاءت هبا هذه األمور‪ ،‬كلها‬
‫زمنيا‪ ،‬كام أنه ال يوجد دليل عىل أهنا نصوص منسوخة أو ما‬
‫مطلقة؛ غري مقيدة ًّ‬
‫شابه‪.‬‬
‫معنى آخر خمتلف متا ًما عام ذهب إليه البعض‪ ،‬فهو يف أبسط‬
‫ً‬ ‫إن "متام الدين" له‬
‫تقدير‪ ،‬يعني أنه ال رشائع أخرى جديدة سوف تنزل‪ ،‬وأنه يا مسلمون ويا عباد‬
‫اهلل تعاىل؛ قد اكتملت لكم رشائع اهلل تعاىل؛ فاكتملت عليكم ُ‬
‫احلجة‪ ،‬فاعملوا هبا‬
‫إىل يوم الدين‪ ،‬وال تبحثوا خارج رشيعتكم ومصادرها األساسية؛ القرآن الكريم‬
‫والس َّنة النبوية‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ُ‬
‫واحلجة هنا جيب أن نفهم أهنا متنح حق املحاسبة هلل تعاىل فقط‪ ،‬وال ينبغي‬
‫بحال أن تكون لبرش؛ ألنه حق أصيل هلل عز وجل وحده ال رشيك له فيه‪ ،‬واهلل‬
‫تعاىل منع الرسول الكريم ﷺ واملسلمني األوائل عن فتح مكة حر ًبا؛ خشية أن‬
‫يصيبوا مسلمني يكتمون إسالمهم‪ ،‬كانوا يف أوساط مرشكي مكة املكرمة ممَّن كانوا‬
‫حياربون املسلمني‪.‬‬

‫يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬


‫ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫[سورة "الفتح" ‪ -‬اآلية ‪.]25‬‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ﴾ ُ‬

‫‪456‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف األخري؛ ينبغي أن ندرك‪ ،‬إن اإلسالم والدعوة إليه‪ ،‬إنام هي هداية ونور‪ .‬ال‬
‫قتل وإرغام‪ ،‬وما جرى بعد رحيل جمموعات تنظيم الدولة "داعش" من املناطق‬
‫التي كانوا يسيطرون عليها‪ ،‬أبلغ دليل عىل فشل هذه األساليب‪ ،‬ألهنا ببساطة‬
‫ختالف صحيح القوانني التي وضعها اهلل تعاىل للدعوة؛ حيث قام الرجال بحلق‬
‫اللحى أمام كامريات التليفزيون‪ ،‬والنساء احتفلن بحرق النقاب‪.‬‬
‫واآلن جيري ذلك يف إيران؛ ألن ما تم؛ مل يتم عن قناعة مع أصحابه‪ ،‬وإنام بسبب‬
‫اإلرغام‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نحو مدرسة حداثية لقراءة التراث‬

‫ال ُتعترب قضية واقع النظرة والتوظيف للرتاث اإلسالمي من نافلة القول؛ حيث‬
‫الرتاث اإلسالمي هو الرشوح الوافية للرشيعة اإلسالمية‪ ،‬أي أنه َص َّمم األمان للعقيدة‬
‫واألمان النفيس والعقدي لكل مسلم‪ ،‬مع تضمنه – يف أبسط وأهم تقدير يف ٍ‬
‫آن –‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫األساسي ْي للرشيعة‪ ،‬ومها القرآن الكريم ُّ‬
‫َّ‬ ‫لتفسري الرافدَ ْين‬
‫ولئن كانت هناك قضية عىل أكرب قدر من األمهية يف تاريخ األمة يف الوقت‬
‫الراهن‪ ،‬فهي قضية إنقاذ الرتاث اإلسالمي‪ ،‬الذي حيتوي بني جنباته خالصة‬
‫جتارب عقول األمة‪ ،‬و ُيعترب ضمريها احلي الباقي‪ ،‬ومرياثها الذي حقق مفهوم‬
‫النموذج التفسريي الذي هو التطبيق األكيد حلقيقية عقيدية أكيدة‪ ،‬وضعها اهلل‬
‫ً‬
‫صاحلا‬ ‫تعاىل يف قرآنه الكريم ورشيعته التي ارتضاها للناس‪ ،‬وهي أن يكون الدين‬
‫لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫ويف مواضع سابقة تناولنا العديد من املشكالت التي تواجه مسألة انسياح‬
‫واملستقبلي ْي‪ ،‬وكان‬
‫َّ‬ ‫اآلني ْي‬
‫الرتاث بني ظهرانينا‪ ،‬وسريوراته يف الزمان واملكان َّ‬
‫وخصوصا بعض‬
‫ً‬ ‫من بني أمهها‪ ،‬ما يعود إىل أصحاب الشأن ذاته‪ ،‬وهم املسلمون‪،‬‬
‫احلركات املحسوبة أمام العامل‪ ،‬عىل اإلسالم‪.‬‬
‫ويبقى السؤال أو جمال العمل املهم اآلن‪ ،‬هو البحث يف قضية كيف يمكن‬
‫تأسيس مدرسة حداثية لقراءة الرتاث اإلسالمي‪ ،‬وتطبيقه‪ ،‬واألخذ بام فيه من‬

‫‪458‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وخصوصا فيام يتعلق بالفرع األهم من الرتاث‪ ،‬وهو – وفق الكثري من‬
‫ً‬ ‫رؤى‪،‬‬
‫ً‬
‫العلامء – علم أصول الفقه‪.‬‬
‫وهذه األمهية ليست يف واقع األمر من فراغ‪ ،‬وإنام ألن علم أصول الفقه هو‬
‫الذي يتعلق بإنزال احلكم الرشعي عىل الواقع‪ ،‬وفق أسس ومقتضيات موضوعية‪.‬‬
‫ولعل أهم ما حيمل "إشكاليات" يف الوقت الراهن لدى خصوم الرتاث‬
‫اإلسالمي‪ ،‬هو علم أصول الفقه ذاته‪ ،‬ألنه بسبب االستخدام اخلاطئ للبعض‬
‫ألمور من الرتاث الفقهي‪ ،‬مثل استخدام األحكام االستثنائية كأحكام عامة‪ ،‬أو‬
‫هوى معني؛ نتيج ًة‬
‫بسبب جلوء البعض لرسم هذه األحكام عىل واقع معني وفق ً‬
‫إعالميا لرفض األحكام الفقهية املوجودة يف الرتاث‬
‫ًّ‬ ‫لذلك؛ فإن هناك من حشد‬
‫بالكامل‪.‬‬
‫ويبدأ حل األزمة وفق تصوري اخلاص بنقطة إدراكية شديدة األمهية‪ ،‬وهي‬
‫رضورة حتديد املقدَّ س وغري املقدَّ س يف الرتاث‪.‬‬
‫َفتَحت بند ارتباط الرتاث يف األساس املعريف له‪ ،‬بالنص القرآين والنص ِ‬
‫والف ْعل‬
‫النبو َّي ْي؛ أصبح النص الرتاثي ذات مقدَّ ًسا‪ ،‬وهذا خطأ إدراكي‪.‬‬
‫مقدسا يف حالة‬
‫ً‬ ‫لكن قبل تناول ذلك؛ َث َّمة إيضاح مهم‪ .‬وهي أن الرتاث يصبح‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نصا نبو ًّيا‬ ‫واحدة؛ وهي إذا كان قرآ ًنا ً‬
‫كريم أو ًّ‬
‫والس َّنة النبوية)‪ ،‬إما أن‬
‫وهنا من املعروف أن النصوص الرشعية (القرآن الكريم ُّ‬
‫تكون قطعية الداللة ال تقبل االجتهاد والتفسري‪ ،‬وال يوجد خالف حوهلا‪ ،‬وهذه‬

‫‪459‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ال ُيقبل فيها االجتهاد أو "التجديد" فيها؛ فهي متجددة بطبيعتها‪ ،‬كام وضعها اهلل‬
‫ريا‬
‫تعاىل‪ ،‬سواء أوحاها لنبيه ﷺ‪ ،‬أو نطق هبا النبي "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬تفس ً‬
‫وتوضيحا للقرآن الكريم‪.‬‬
‫ً‬
‫وإما أن تكون ظنية الداللة‪ ،‬وهو ما يمكن معه أن تقبل التفسري عىل وجوه عدة‪،‬‬
‫وهنا تأيت نقطة مراجعة أو جتديد فهم األئمة األوائل املتقدمني أو املتأخرين هلا‪.‬‬

‫فالنص الرتاثي هو قراءة صاحبه للنص املقدَّ س قرآ ًنا ُ‬


‫وس َّنة‪ ،‬أو الفعل النبوي‪،‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإنه عرضة للنقض والتبديل‪ ،‬سواء‬ ‫وبالتايل؛ فهو يف النهاية اجتهاد عقيل‪ِ ،‬‬
‫جلهة احتاملية وجود خطأ لدى صاحبه – كل األئمة األربعة اعرتفوا بأهنم أخطأوا‬
‫يف كثري من أحكامهم – أو جلهة تبدُّ ل الظروف‪.‬‬
‫ردا عىل البعض‪،‬‬
‫مع الوضع يف االعتبار يشء شديد األمهية‪ ،‬جيب التأكيد عليه ًّ‬
‫وأكدته ِس َي هؤالء األئمة ومعاناهتم مع ُ‬
‫احل َّكام املستبدين يف حينه؛ حيث غالبيتهم‬
‫هلوى‬
‫ممن نستند إىل تفاسريهم ورؤاهم‪ ،‬ونطمئن إليهم حال ًيا؛ مل يضعوا هذه الرؤى ً‬
‫يف نفوسهم‪ ،‬ومعاناة اإلمام أمحد بن حنبل وغريه تشهد عىل ذلك‪.‬‬
‫كام أهنم كانوا من املستوفني للمعايري احلداثية حال ًيا إلجازة عامل ما يف جمال‬
‫التفسري أو احلديث‪ ،‬مثل العدل والثقة‪ ،‬ومثل أن يكون قد أ َّمل بعدد معني من العلوم‬
‫الرشعية‪ ،‬ويصل عددها يف األزهر الرشيف إىل ‪ ،19‬واملعارف األخرى‪.‬‬
‫بل إنه من اخلطأ الكبري األخذ بالفقه بشكل جامد؛ ألن معنى كلمة "فقه" يف‬
‫االصطالح ببساطة‪ ،‬هي إسقاط احلكم الرشعي عىل الواقع‪ِ ،‬‬
‫ومن َث َّم؛ فإن الفقه يف‬

‫‪460‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫األصل متغري‪ ،‬فال جيوز يف الغالب األعم‪ ،‬الوقوف عند أحكام فقهية تقادمت بينام‬
‫النص املقدَّ س متجدد‪ ،‬وهو ما شاءته حكمة اهلل عز وجل‪.‬‬
‫والدليل عىل ذلك‪ ،‬أن األئمة األربعة وعلامء ثقات كثريون أعادوا النظر يف كثري‬
‫من األحكام‪ ،‬وبدلوا فتاوى – للتوضيح‪ :‬مل يبدلوا القاعدة أو احلكم الرشعي وإنام‬
‫الفتوى ذاهتا – بناء عىل تغري الظروف أو تغري املجتمع‪ ،‬وتطور الزمن‪.‬‬
‫واملذاهب اإلسالمية هبا نامذج تربز حالة من االنفتاح الكبري يف هذا الصدد‪ ،‬ففي‬
‫مذهب اإلمام أيب حنيفة؛ هناك من أتباعه من يقدم رأي بعض تالميذه عىل رأي أيب‬
‫حنيفة ذاته‪ ،‬بسبب تغري الظروف‪ ،‬ما جيعل رأهيم أكثر صوا ًبا‪.‬‬
‫وهو ما نجده عند املتأخرين عىل آراء املتقدمني‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫يتصل بذلك رضورة االتفاق عىل منهج أو نموذج معريف متفق عليه يف قراءة‬
‫النص املقدَّ س‪ ،‬ويف التعامل مع الرتاث ذاته‪.‬‬
‫ويشبه األمر يف ذلك الوسيلة التي جلأ إليها اإلمام أمحد بن حنبل يف تعامله مع‬
‫األحاديث النبوية الرشيفة‪ ،‬عندما َع ِمد إىل وضع "ا ُمل ْسنَد"‪.‬‬
‫معرفيا يف التعامل مع احلديث النبوي‪ ،‬قام عىل أسس من بينها‪:‬‬
‫ًّ‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫فهو تبنى‬
‫‪ -‬عدم اشرتاط الصحة يف احلديث‪ ،‬وإنام املشهور منه‪ ،‬ولكنه كان يتعامل وفق‬
‫منطق حمدد مع األحاديث الضعيفة؛ حيث كان َيقبلها إذا كانت يف ميدان فضائل‬
‫األعامل‪ ،‬وال َيقبلها يف األحكام‪ ،‬وكذلك كان يقبله إذا مل يكن خيالف القواعد‬
‫صحيحا يف نفس الباب‪.‬‬
‫ً‬ ‫العامة‪ ،‬ومل يعارض حدي ًثا‬

‫‪461‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪ -‬إدراج أحاديث بعض الصحابة يف مسانيد غريهم‪ ،‬وتكرار بعض األحاديث‬


‫سندً ا ومتنًا‪ ،‬وتفريق أحاديث الصحايب الواحد يف أكثر من موضع‪ ،‬مع ُ‬
‫تباعد‬
‫روايات احلديث الواحد عن بعضها‪ ،‬بحيث كان يفصل بينها أكثر من ألف حديث‬
‫أحيا ًنا‪.‬‬
‫وسار عىل هذا النهج‪ ،‬وحتى عندما توفاه اهلل تعاىل قبل مجع صحائف "ا ُمل ْسنَد"‬
‫معا‪ ،‬سار أوالده وتالميذه عىل ذات املنهج‪ ،‬بحيث قاد ذلك إىل أن تضمن ‪ 26‬ألف‬
‫ً‬
‫حديث نبوي‪ ،‬من بينها أحاديث صحيحة مل ترد يف "ال ُبخاري" و"مسلم"‪.‬‬
‫علميا ً‬
‫سليم‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫منهجا‬
‫ً‬ ‫وهناك أمثلة أخرى مهمة تكشف أن ابن حنبل كان يتبع‬
‫والذي من خصائصه أن يكون معتمدً ا بشكل موضوعي من آخرين‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه األمثلة كتاب "الرسالة"‪ ،‬لإلمام الشافعي‪ ،‬والذي هو‬
‫ُمص َّنف عىل أنه أول كتاب يف جمال أصول الفقه‪ ،‬وكان من بني أهم أهدافه‪ ،‬تأسيس‬
‫نموذج معريف واضح لفهم النص الرشعي‪ ،‬وبالتايل التأكيد عىل أمهية هذه القواعد‬
‫وإلزاميتها ‪ -‬كام يف أي علم يف حقيقة األمر ‪ -‬لكل من يريد أن يفهم النصوص أو‬
‫يصدر األحكام الفقهية اجتها ًدا‪.‬‬
‫ويف ذلك يقول حممد بنعمر يف دراسة له بعنوان‪" :‬املسالك املنهجية يف الرتاث‬
‫أنموذجا" (جملة "املنهاج" العدد ‪ /80‬ربيع وصيف‬
‫ً‬ ‫تفهم النص‬
‫اإلسالمي‪ :‬منهج ُّ‬
‫‪2016‬م)‪" :‬لقد أدركت املامرسة الرتاثية يف وقت مبكر القيمة املعرفية للمنهج‪،‬‬
‫وعبت عن هذه القيمة واإلدراك املعريف بصيغ وأشكال عدة‪ ،‬وعبارات ومقدمات‬
‫َّ‬
‫وتقول شواهد عدة"‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يتجرد‬
‫َّ‬ ‫ويضيف أن "املنهج من مقدماته ومقتضياته ولوازمه ومكوناته‪ ،‬أن‬
‫التحيزات القبلية‪ ،‬ويبتعد مستعمله عن األفكار املسبقة‪ ،‬كام جيب أن‬
‫ُّ‬ ‫مستخدمه من‬
‫يعمد إىل تغييب وإبعاد أحكام القيمة‪ ،‬ألن وسائل وأدوات املنهج وطرائقه‪ ،‬هي يف‬
‫موصلة إىل هدف معني ونتيجة خاصة مهمتها ووظيفتها تأمني‬
‫النهاية جمرد وسائل ِّ‬
‫االنتقال للباحث والدارس يف مجيع املراحل واألطوار التي يقطعها هذا الباحث يف‬
‫بحثه أو يف حتصيله للمعرفة"‪.‬‬
‫ولعل األهم مما جاء يف هذا الكالم‪ ،‬هو اسم الدراسة ذاهتا؛ حيث إن بنعمر‬
‫تفهم النص" يف إطار علم أصول الفقه‪ ،‬وهو مصطلح شديد‬
‫حتدث عن "منهج ُّ‬
‫تفهمه‪ ،‬وليس النقل‬
‫األمهية يف التعامل مع النص املقدَّ س؛ حيث إن املطلوب ُّ‬
‫احلريف عن فهم األقدمني‪.‬‬
‫نقاط أساسية للعمل‪:‬‬

‫يقوم املنهج املعريف املقرتح يف هذا الصدد‪ ،‬عىل أساس وضع الرتاث كإطار‬
‫كنص مقدَّ س يف حد ذاته‪ ،‬وجتديده ومجع املوثوق منه يف صورة‬
‫اسرتشادي‪ ،‬وليس ٍّ‬
‫مسند جديد قريب الشبه من جتربة ُم ْسنَد ابن حنبل‪ ،‬وفق جتربة منهجية متفق عليها‬
‫بني علامء املسلمني واهليئات اإلسالمية الكربى‪ ،‬مع التأكيد عىل رضورة جتديدخ‬
‫وفق مقتضيات األمر الواقع واملستجدات احلالية‪.‬‬
‫كام ينبغي التأكيد عىل أن التجديد ال يكون يف الشكل فقط‪ ،‬بل حيتاج لتفهم‬
‫احلكم نفسه‪ ،‬وحتليله‪ ،‬ومعرفة علته‪ ،‬والظروف املرتبطة به‪ ،‬وأن حيدد إن كانت‬
‫تقبل االجتهاد أم ال‪ ،‬وهذا حيتاج إىل إتقان العلوم األساسية كام تقدَّ م‪.‬‬

‫‪463‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫سياسيا؛ ألن‬
‫ًّ‬ ‫واألهم من ذلك‪ ،‬االبتعاد عن توظيف الرتاث اإلسالمي ومتونه‬
‫ذلك من شأنه هدم البنيان من أساسه‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ يطرح ذلك كله قضية مهمة للغاية‪ ،‬وسبق اإلشارة إليها يف املتن‪،‬‬
‫وهي رضورة أن يتصدى هلذه املسائل كافة‪َ ،‬من هم‪ :‬عدول‪ ،‬ثقات‪ ،‬أصحاب علم‪،‬‬
‫ال وأو ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫وليس أ ًّيا كان‪ ،‬وهو ما يؤكد أمهية رضورة إنشاء هيئة جامعة تضع أص ً‬
‫معايري االنضامم إليها‪ ،‬قبل العمل عىل وضع املسند الرتاثي املطلوب لو صح التعبري‪.‬‬
‫وال نكون مبالغني لو قلنا إن األمر جيب أن يتضمن بح ًثا يف السرية الذاتية‬
‫هلؤالء‪ .‬بحيث يتم التأكد أن أ ًّيا منهم مل يتبع اهلوى السيايس ولو مرة واحدة‪،‬‬
‫منهجا قري ًبا من ذلك يف مجع األحاديث من أصحاهبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫واإلمام ال ُبخاري كان له‬
‫وتصحيحها‪.‬‬
‫ويف األخري؛ فإن األمر ينبغي أن يوضع يف إطار كونه سياسة إصالحية أو‬
‫جتديدية لو صح التعبري‪ ،‬ولكن ال يعني ذلك قبول مساعي البعض للدخول من‬
‫هذا الباب هلدم ثوابت الدين وأركانه‪ ،‬وإلغاء كل تراث األئمة؛ حيث ذلك أمر‬
‫مرفوض بطبيعة احلال‪.‬‬

‫‪464‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هل األمة بحاجة إلى "مستب ٍّد" عادل؟!‬

‫قبل بضعة عقود ظهرت يف الفكر الغريب مدرسة شديدة األمهية من مدارس‬
‫العقل يف التفكري‪ ،‬وهي املدرسة التفكيكية‪ ،‬والتي ظهرت يف إطار تفاعالت مرحلة‬
‫ما بعد احلداثة يف احلضارة الغربية‪ ،‬والتي انطلقت إىل العامل كله‪ ،‬ضمن ما ُع ِر َف‬
‫بالثورة الثقافية يف هناية الستينيات ويف السبعينيات املاضية‪.‬‬
‫تنطلق هذه املدرسة‪ ،‬والتي تبلورت وأخذت جماهلا يف عقد الثامنينيات املايض‪،‬‬
‫من فكرة أساسية‪ ،‬وهي أن العقل اإلنساين هو حمور كل يشء‪ ،‬ومعيار فهم كل‬
‫األمور‪ ،‬كجزء من مدرسة التحليل اللغوي الفلسفي‪ ،‬وهي مدرسة فلسفية‬
‫إنجليزية باألساس‪ ،‬وأسسها الفيلسوف الربيطاين‪ ،‬برتراند راسل‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فقد انبنت عىل ذلك جمموعة من املبادئ والقيم‪ ،‬عىل رأسها تفكيك‬
‫النص‪ ،‬وبالرغم من الشطط الذي ذهب إليه "متطرفو" هذه املدرسة‪ ،‬من املفكرين‬
‫والفالسفة؛ حيث وصلوا إىل مستوى التعامل مع النص املقدس‪ ،‬كام يتعاملون مع‬
‫النص الفلسفي واألديب والفكري‪ ،‬مع التأسيس إىل حالة من الفوضوية يف التفكري‪،‬‬
‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫يف ظل عدم ثبات معيار حكم العقل اإلنساين عىل األمور‪ ،‬وتفاوته من‬
‫آلخر‪ ،‬بحسب عوامل عديدة مثل البيئة والديانة وكذا؛ إال أن هذه املدرسة يف جزء‬
‫مهم منها أسست ملبدأ شديد األمهية ُتعترب األمة املسلمة بحاجة إليه أكثر من غريها‬
‫ريا‪ ،‬مع صريورة قوانني‬
‫تراجعا حضار ًّيا كب ً‬
‫ً‬ ‫يف هذه الفرتة من تارخيها‪ ،‬والتي تشهد‬
‫العمران البرشي الربانية الصارمة عليها‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذا املبدأ هو رضورة مراجعة خمتلف القواعد واملبادئ التي وضعها املفكرون‬
‫والفالسفة واملصلحون املسلمون يف القرون املتأخرة‪ ،‬والتي جاءت بنا ًء إما عىل‬
‫اعتبارات رؤى خاصة هبؤالء املصلحون واملفكرون‪ ،‬أو تم وضعها يف سياق‬
‫ظروف ومالبسات تارخيية استثنائية يف حمتواها السيايس واملجتمعي والفكري‪،‬‬
‫وتم إسقاطها يف مراحل تارخيية تالية ال تتفق يف طبيعتها مع طبيعة املرحلة التي تم‬
‫فيها وضع هذه املقوالت أو الدعوة إىل حمتواها‪.‬‬
‫وقد يكون يف بعض هذه املقوالت تفاوت يف فهم حقيقة النص الثابت‪ ،‬القرآن‬
‫مر هبا الرسول‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬أو تأويل غري سليم ملواقف َّ‬
‫الكريم وصحيح ُّ‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬أو جيل الصحابة واخللفاء الراشدون‪ ،‬وتعاملوا فيها بشكل ما‪ ،‬تم‬
‫توظيفه يف حقبة تارخيية‪ ،‬بناء عىل فهم املفكرين املسلمني هلا‪ ،‬والذي قد يكون –‬
‫هذا الفهم – ال يتفق مع مقاصد جيل النبوة األول‪.‬‬
‫وينطلق هذا املبدأ من حقيقة مهمة أرساها مجهور علامء املسلمني‪ ،‬وهي أن ٌّ‬
‫كل‬
‫يؤخذ و ُيرد عليه إال الرسول الكريم ﷺ‪.‬‬
‫ح َلة املرشوع اإلصالحي‬
‫ومن بني أهم هذه املقوالت املتداولة من جانب َ َ‬
‫والنهضوي يف وقتنا الراهن‪ ،‬يف العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬هي مقولة أن األمة‬
‫والشعوب العربية واملسلمة بحاجة إىل "مستبد عادل"‪ ،‬يسوس أمورها‪ ،‬ويعمل‬
‫عىل إصالح شأهنا‪.‬‬
‫وتنسب هذه املقولة لإلمام حممد عبده‪ ،‬أحد أهم مفكري العامل اإلسالمي يف‬
‫هناية القرن التاسع عرش ومطلع القرن العرشين‪ ،‬وظهرت يف فرتة كانت فيها األمة‬

‫‪466‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫تتجه إىل واحدة من أسوأ حقبات الرتاجع احلضاري التي مرت هبا‪ ،‬والذي وصل‬
‫إىل ذروته باهنيار دولة اخلالفة اجلامعة‪ ،‬يف عرشينيات القرن املايض‪.‬‬
‫كان مبعث ظهور هذه العبارة لدى حممد عبده أمران أساسيان‪ ،‬األمر األول‬
‫هو حالة الرخاوة والفشل التي وصل إليها حكام األمة يف ذلك احلني‪ ،‬مع فساد‬
‫بعضهم‪ ،‬وضعف البعض اآلخر‪ ،‬ممكن َّ‬
‫مكن أعداء األمة من احتالل تسعني باملائة‬
‫من أرجاء دولة اخلالفة قبل تفككها‪ ،‬بتعاون البعض من هؤالء َّ‬
‫احلكام‪ ،‬كام يف حالة‬
‫اخلديوي توفيق يف مرص‪ ،‬والذي س َّلم البالد إىل االستعامري اإلنجليزي‪.‬‬
‫األمر الثاين هو سوء تأويل وقع فيه حممد عبده لنمط الدولة واحلكم يف اإلسالم؛‬
‫حيث رأى يف مراحل امللك العضوض وامللك اجلربي‪ ،‬والتي سادت غالبية تاريخ‬
‫دولة اخلالفة‪ ،‬وحتدث عنها حديث الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬والذي أخرجه اإلمام‬
‫أمحد عن النعامن بن البشري‪ ،‬وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة‪.‬‬
‫فمع طول عهد دولة امللك العضوض واجلرب يف تاريخ دولة اخلالفة‪،‬‬
‫واإلنجازات التي حققها بعض ُح َّكام املسلمني يف هذه املراحل‪ ،‬يف خمتلف‬
‫املستويات احلضارية؛ حيث وصلت فتوحات املسلمني إىل أطراف األرض‪،‬‬
‫وصارت اللغة العربية هي لغة العلم‪ ،‬وصار العرب واملسلمون أكرب قوة يف العامل‬
‫القديم؛ يف ظل ذلك‪ ،‬ومع نامذج مثل معاوية بن أيب سفيان وهارون الرشيد‪،‬‬
‫أمر ْين؛ األول‬
‫وغريمها من اخللفاء الذين حكموا الدولة؛ فقد تم اخللط ما بني َ‬
‫هو شكل احلاكم كام أقرته رشيعة اإلسالم‪ ،‬والثاين هو الشكل القائم للامرسة‬
‫السياسية واحلكم بالفعل‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فتم اصطكاك مصطلح "املستبد العادل"‪ ،‬من جانب حممد عبده‪ ،‬وتداوله من‬
‫جانب مفكري املسلمني يف املراحل التالية‪ ،‬حنينًا إىل فرتة ازدهار دولة املسلمني‪،‬‬
‫وإىل نوعية هؤالء ُ‬
‫احل َّكام الذين سادوا العامل‪ ،‬وكانت كرامة املسلم فوق أي اعتبار‬
‫للعالقات الدولية واملوائامت السياسية‪.‬‬
‫ال النقاذ امرأة مسلمة‬‫جيشا كام ً‬
‫جرد ً‬ ‫فلم يزالوا يذكرون هذا اخلليفة التي َّ‬
‫انتهكت كرامتها يف بالد الروم‪ ،‬أو ذلك احلاكم الذي فتح أوروبا الرشقية املسيحية‬
‫بأكملها‪ ،‬وكان أباطرة أوروبا يسعون لكسب وده ورضاه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫متناقض يف مكوناته مع بعضها البعض‪ ،‬فاالستبداد‬ ‫ولكن هذا املصطلح أص ً‬
‫ال‬
‫أساسا‪ ،‬فهو ‪ -‬االستبداد ‪ -‬يعني االنفراد غري السوي‪ ،‬وبالتايل غري‬‫ً‬ ‫ضد العدل‬
‫الس َّلم‬
‫العادل‪ ،‬بالرأي واملواقف‪ ،‬أما العدل فهو امليزان السليم لألمور‪ ،‬وهو أساس ُّ‬
‫القيمي لإلسالم‪.‬‬
‫وللتوضيح؛ فإن غالبية النظريات واأليديولوجيات الكربى التي سادت عرب‬
‫التاريخ‪ ،‬تنطلق من ُس َّلم قيمي َّ‬
‫مكون من ثالث قيم أساسية‪ ،‬وهي احلرية والعدالة‬
‫واملساوة‪ ،‬وختتلف كل نظرية وكل أيديولوجية عن األخرى يف ترتيبها هلذه القيم‪.‬‬
‫فالليربالية تنطلق من س َّلم قيمي يرتب هذه القيم كالتايل‪ :‬احلرية‪ُ ،‬ث َّم املساواة‪ ،‬ثم‬
‫ريا احلرية‪،‬‬
‫العدالة‪ ،‬أما االشرتاكية والشيوعية‪ ،‬فتنطلق من املساواة‪ ،‬ثم العدالة‪ ،‬وأخ ً‬
‫الس َّلم القيمي‪ ،‬ثم املساواة واحلرية‪،‬‬
‫أما اإلسالم فيعزز موقع قيمة العدالة يف مقدمة ُّ‬
‫وهو الرتتيب األصوب وفق قوانني العمران البرشي التي خلقها اهلل تعاىل‪ ،‬باعتبار‬
‫أن اإلسالم هو رشيعته عز وجل‪ ،‬وجاءت منسجمة يف تعاليمها وقوانينها‪.‬‬

‫‪468‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فاحلرية املطلقة كام تنادي الليربالية‪ ،‬تقود إىل مهاوي أخالقية واهنيارات اجتامعية‪،‬‬
‫اعرتف هبا الغرب ذاته‪ ،‬أما املساواة املطلقة‪ ،‬كام تقول االشرتاكية والشيوعية‪،‬‬
‫وحاول البعض تطبيقها يف االحتاد السوفييتي السابق والكتلة الرشقية؛ فإهنا ال‬
‫تتفق مع اعتبارات العدالة التي ال تستقيم من دوهنا الدنيا وال العمران املجتمعي‪،‬‬
‫وأدت بالفعل إىل رفض الشعوب هلا‪ ،‬ألنه ال يتفق مع الفطرة السليمة‪ ،‬أن حيصل‬
‫من يعمل عىل ذات من حيصل عليه من ال يعمل‪ ،‬وفق مبدأ "من كل حسب طاقته‪،‬‬
‫إىل كل حسب حاجته"‪ ،‬أو – كام حاول بعض كبار املفكرين االشرتاكيني ختفيفه‬
‫– "من كل حسب طاقته إىل كل حسب إنتاجه"‪ ،‬فاهنار االحتاد السوفييتي والكتلة‬
‫الرشقية بأكملها‪.‬‬
‫أما العدالة؛ فهي القيمة األقرب للفطرة السليمة‪ ،‬وهي التي تتفق مع معايري‬
‫العمران البرشي السوية‪ ،‬بل هي أساس استقرار َ‬
‫الك ْون؛ ألهنا تعني ببساطة تساوي‬
‫املوازين‪ ،‬بحسب الواقع القائم‪ ،‬فلو مل تكن هناك عدالة يف توزيع قوى اجلذب‬
‫والطرد بني األجرام الساموية؛ الهنار الكون‪ ،‬فلو تساوت هذه القوى من دون‬
‫مراعاة األوزان النسبية لألجرام الساموية والكواكب‪ ،‬أو املسافات‪ ،‬أو لو ُت ِر َك كل‬
‫حرا حلاله؛ لتبدد الكون‪ ،‬وحاشا اهلل ذلك‪ ،‬الذي أبدع كل يشء َصن ََع ُه‪.‬‬
‫ُجرم منها ًّ‬
‫ومن َث َّم؛ فإن عبارة "املستبد العادل" تتناقض متا ًما مع السلم القيمي لإلسالم‪،‬‬
‫والذي هو أساس استقرار الكون والعمران‪.‬‬
‫ومن يطلق عىل عمر بن اخلطاب "ريض ُ‬
‫اهلل عنه" ‪ -‬عىل سبيل املثال ‪ -‬هذه الصفة؛‬
‫فهو مل يقرأ تاريخ دولة اإلسالم وال دولة عمر؛ الذي كان أحرص الناس عىل الشورى‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فعمر مل يستخدم سلطة اجلرب التي كفلتها له الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬كام جاءت يف‬
‫الس َّنة النبوية ‪ -‬دستور دولة املسلمني ‪ -‬إال يف مواضعها‬
‫القرآن الكريم وصحيح ُّ‬
‫وفق كل قواعد السياسة والنظم احلديثة‪ ،‬إلقامة العدل وتطبيق القانون وإزالة‬
‫املظامل‪ ،‬ولكنه مل يكن مستبدً ا باملعنى السيايس الذي نعرفه‪.‬‬
‫إن األمة بحاجة إىل احلاكم العادل‪ ،‬فقط‪ ،‬والعدالة تكفي‪ ،‬األمة بحاجة إىل احلاكم‬
‫الذي يطبق رشيعة اإلسالم كام أنزهلا اهلل تعاىل فينا‪ ،‬وكام وردت يف القرآن الكريم‬
‫الس َّنة النبوية؛ فيقيم القانون‪ ،‬وال يرسق‪ ،‬ويرضب عىل أيدي الفاسدين‬
‫وصحيح ُّ‬
‫واملجرمني‪ ،‬ويقيم دولة العدالة واملحاسبة والشفافية‪ ،‬وأهم مبادئها‪ ،‬مبدأ املواطنة‬
‫الذي إال يم ِّيز بني املواطنني بناء عىل أي معيار‪ ،‬حتى معيار الدين‪.‬‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬أنصف اليهودي عىل عيل بن أيب طالب‬ ‫"ر ِ َ‬
‫فعمر بن اخلطاب َ‬
‫عليا هو ٌّ‬
‫عيل‪ ،‬ابن عم‬ ‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه" يف القضية الشهرية املتعلقة بالدرع‪ ،‬برغم أن ًّ‬ ‫"ر ِ َ‬
‫َ‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنها"‪ ،‬وهو من هو يف‬ ‫"ر ِ َ‬
‫الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وزوج ابنته‪ ،‬فاطمة الزهراء َ‬
‫تاريخ اإلسالم‪.‬‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬يثبت أنه مل يكن مستبدً ا‪ ،‬وهو ما كان له‬ ‫"ر ِ َ‬
‫هذا املوقف من عمر َ‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬أدت إىل إسالم اليهودي‪.‬‬ ‫"ر ِ َ‬
‫أبلغ األثر يف نرش اإلسالم؛ فعدالة عمر َ‬
‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬وغريمها‬ ‫"ر ِ َ‬ ‫ض ُ‬
‫اهلل َع ْنه"‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز َ‬ ‫"ر ِ َ‬
‫وما فعله عمر َ‬
‫من خلفاء املسلمني الراشدين‪ ،‬هو أن طبقوا ما ُيعرف يف وقتنا احلايل‪ ،‬بقواعد احلكم‬
‫الرشيد‪ ،‬والتي تقوم عىل العدالة وحدها‪ ،‬من دون استبداد بالرأي أو خالفه‪.‬‬

‫‪470‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو ما خيتلف عن سلطة اجلرب‪ ،‬والتي تعرف يف األدبيات احلديثة باالستخدام‬


‫املرشوع للعنف من جانب الدولة إلنفاذ القانون وحفظ األمن واالستقرار وفق‬
‫القواعد املرعية بني البرش؛ ال إلخضاع الشعوب للحاكم املستبد الظامل‪.‬‬
‫وحتى يف االصطالح اللغوي والسيايس؛ نجد أن كلمة املستبد ً‬
‫دائم ما تقرن‬
‫ً‬
‫ودائم يف االستخدام االصطالحي لكلمة "االستبداد"‪،‬‬ ‫بالظامل يف تراكيب ُ‬
‫اجل َمل‪،‬‬
‫نجدها مرتبطة بقضية الظلم السيايس واملجتمعي‪ ،‬والذي يقود إىل ثورة الشعوب‬
‫وخروجها عىل حاكمها‪.‬‬

‫‪471‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫﴿ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾‪..‬‬
‫ما "الطريقة" وكيف نستقيم عليها‬

‫يقول اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪ ﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾‬


‫[سورة "اجلن" – اآلية ‪.]16‬‬
‫ُ‬
‫طغت املادة‪ ،‬وطال عىل الناس العهد بوعد اهلل عز‬
‫ْ‬ ‫ويف عرصنا الراهن؛ حيث‬
‫وجل وآياته‪ ،‬ووعيده‪ ،‬وفق ما شاءت حكمته؛ فإننا نجد الكثريين – حتى لألسف‬
‫بني أوساط املسلمني‪ ،‬بل وحركيني – يتساءلون عن السعادة‪ ،‬وعن كيفية نجاح‬
‫اإلنسان يف حياته‪ ،‬ويف مساعيه‪.‬‬

‫وعندما ُتطرح عليهم هذه اآلية؛ جيد اإلنسان منهم الكثري من األسئلة األخرى‪،‬‬
‫مثل‪ :‬ما "الطريقة"‪ ،‬وكيف نستقيم عليها‪.‬‬

‫ويتصل بذلك منظومة من األمور األهم واألخطر يف حياة اإلنسان‪ ،‬مثل ملاذا‬
‫وفيم نحيا‪ ،‬وكيف نسعى‪ ،‬وبالتايل؛ دور اإلنسان يف هذه احلياة وكيف‬
‫َ‬ ‫ُخ ِل ْقنا‪،‬‬
‫يقوم به‪ ،‬وما هي عالقتنا بربنا‪ ،‬وباإلنسان اآلخر‪ ،‬وبالكون املحيط بنا‪ ،‬سواء‬
‫بيئتنا وجمتمعنا األقرب‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل الكون األكرب الفسيح الذي نعيش فيه‪ ،‬وحتى‬
‫مواردنا‪ ،‬وكيف نستعملها‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وسنن اهلل عز وجل التي سبق احلديث‬


‫أمور غري منفصلة عن قضية املنهج ُ‬
‫وكلها ٌ‬
‫عنها يف مواضع أخرى َخ َل ْت‪.‬‬
‫ويلق معه العقل‪ُ ،‬‬
‫وت َل ُق معه النوازع‪ ،‬وألن اهلل‬ ‫يف البداية‪ ،‬نؤكد؛ ُي َلق اإلنسان‪ُ ،‬‬
‫تعاىل يعلم َمن خلق وهو اللطيف اخلبري؛ فإن سابق علمه أحاط باحلرية التي سوف‬
‫األول آلدم (عليه السالم)‪،‬‬
‫تنشأ مع اإلنسان‪ ،‬وبالذات كلام ابتعد عن فرتة اخللق َّ‬
‫وفقدان البرشية للبوصلة‪ ،‬وللطريقة‪ ،‬يف صدد الكثري من األمور اجلوهرية‪.‬‬

‫يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬


‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫﴾[سورة "احلديد" ‪ -‬اآلية ‪ ،]16‬وهي آية تلخص الكثري من املعاين السابقة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبالتايل؛ فقد خلق اهلل تعاىل مع خ ْلقنا‪ ،‬قواعد لكي نحيا هبا‪ ،‬وهذه القواعد إذا‬
‫كونت "الطريقة" املثىل التي نميض هبا بشكل مستقيم ال َح ْيف‬
‫معا‪َّ ،‬‬
‫ما اجتمعت ً‬
‫فيه يف هذه احلياة‪ ،‬حتى نصل إىل احلياة اآلخرة‪ ،‬وقد فاز اإلنسان يف االمتحان الذي‬
‫الدار ْين‪ ،‬الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وضعه اهلل تعاىل فيه‪ ،‬وحيصل هبا عىل السعادة يف َ‬
‫وهنا البد أن نشري إىل أنه عندما قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪ ﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾؛ فإنه كان يقصد الدين‪ ،‬واملنهج والرشيعة بالتحديد‪،‬‬
‫اللذان مها "الربنامج التنفيذي" للدين لو صح التعبري‪.‬‬
‫ويقول تعاىل ً‬
‫أيضا‪ ،‬مما اتصل هبذا االمر‪ ﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ‬

‫‪473‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫[سورة "املائدة"‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﴾ ُ‬
‫‪ -‬من اآلية ‪.]48‬‬
‫ونحن كمسلمني‪ ،‬ينبغي أن نؤمن بأن "طريقتنا" هنا‪ ،‬هي الرشيعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وهي الرشيعة الكاملة‪.‬‬
‫س فيه‪ ،‬وهو أن "الطريقة" هي‬ ‫وبالتايل؛ فإننا نقف أمام حديث إهلي ال ْلب َ‬
‫الرشيعة‪ ،‬وأن هدايتنا يف هذه احلياة؛ إنام هي يف اتباع قواعد عز وجل التي أرسل هبا‬
‫أنبيا َءه ورس َله‪ ،‬وآخرهم كان رسولنا الكريم‪ ،‬حممد ﷺ‪.‬‬
‫ومصادرنا هلذه "الطريقة"؛ هي اثنان ال ثالث هلام‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬وصحيح‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪ ،‬والتي أما جاءت باملزيد من قواعد "الربنامج التنفيذي"‪،‬‬
‫ُّ‬
‫مثل مكارم األخالق‪ ،‬أو رشح ما جاء يف القرآن الكريم من بعض العموميات‪،‬‬
‫مثل الصالة وكيفية أدائها‪.‬‬
‫وأول سؤال؛ هو ملاذا خلقنا اهلل تعاىل‪ ،‬وما هو دورنا يف هذه الدنيا‪ .‬يف حقيقة‬
‫األمر؛ فإن األمور بسيطة وواضحة للغاية يف القرآن الكريم‪ ،‬الذي هو مصدر‬
‫"الطريقة" األسايس‪ ،‬فيقول تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‬
‫[سورة "الذاريات" ‪ -‬اآلية ‪ ،]56‬ويقول عز َمن قائل ً‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ‬ ‫ُ‬
‫[سورة "هود" ‪ -‬من اآلية ‪ ﴿ ،]61‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫ﯿﰀ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪.]30‬‬
‫ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﴾ ُ‬
‫إ ًذا؛ ببساطة شديدة؛ خلقنا اهلل تعاىل لعبادته‪ ،‬ودورنا يف هذه احلياة‪ ،‬هو أن ِّ‬
‫نعمر‬
‫األرض‪ ،‬لنعمل بموجب قانون االستخالف‪ ،‬ومن بني أهم مهامنا فيها‪ ،‬نرش‬

‫‪474‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫رشيعة اهلل تعاىل وقواعده عىل هذه األرض‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬وعىل رأس ذلك‪ ،‬عقيدة‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫يف هذا األمر؛ أمامنا حديث نبوي رشيف مهم ومفيد للغاية؛ يقول فيه الرسول‬
‫الكريم ﷺ‪" :‬إنام ُبعث ُْت ألمتم مكارم األخالق"‪ ،‬ويف رواية "صالح األخالق"‪،‬‬
‫واحلديث أخرجه ال ُبخاري وأمحد عن أيب هريرة‪ ،‬ويف حديث آخر أخرجه ابن ماجة‬
‫عن عبد اهلل بن عمرو (ريض ُ‬
‫اهلل عنهام)‪ ،‬يقول النبي "عليه الصالة والسالم"‪" :‬إنام‬
‫ُب ْعثْت مع ِّل ًم"‪.‬‬
‫إ ًذا‪ ،‬بعد التوحيد؛ جاءت األخالق‪ ،‬وأدواتنا يف ذلك أن نكون للناس مع ِّلمني‪.‬‬
‫يف هذا اإلطار؛ حدد لنا اهلل تعاىل منظومة من القواعد العمرانية املهمة التي‬
‫تضمن لإلنسان النجاح يف أداء رسالته يف هذه احلياة‪ ،‬مثل قانون االستطاعة‪،‬‬
‫وقانون التدافع‪ ،‬وتسخري األشياء لإلنسان ملساعدته عىل أداء رسالته‪ ،‬وغري ذلك‬
‫مما ورد يف القرآن الكريم من آيات ب ِّينات‪.‬‬
‫ومن بني نصوص القرآن الكريم الواضحة يف ذلك‪ ﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪ ،]286‬و﴿‬
‫ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾ ُ‬
‫ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ﴾ ُ‬
‫[سورة "البقرة" ‪ -‬من اآلية ‪ ،]251‬و﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫[سورة "لقامن" ‪ -‬اآلية ‪.]20‬‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ ُ‬

‫‪475‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولوال هذا التسخري؛ ما كان عدل اهلل تعاىل أن حياسبنا؛ ألننا وقتها؛ كنا سوف‬
‫نقول؛ كيف نفعل ما أمرتنا يا اهلل‪ ،‬لكن؛ ألنه ﴿ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾‬
‫[سورة "ال َّن ْجم" ‪ -‬اآلية ‪ ،]39‬فإن اهلل تعاىل َّ‬
‫سخر لنا كل املمكنات التي يمكن أن‬ ‫ُ‬
‫تساعدنا عىل تنفيذ اختياراتنا يف هذه احلياة‪ ،‬طاع ًة أو حتى معصي ًة؛ لكي يكون رب‬
‫العزة سبحانه كام هو؛ العدل عند حسابن‪.‬‬
‫وهناك بطبيعة احلال‪ ،‬من رمحات اهلل تعاىل الكثري‪ ،‬مثل رصف اإلنسان عن‬
‫املعايص ورصف بعض االبتالءات‪ ،‬ولكن هنا موضع احلديث‪ ،‬هو حتديد أساس‬
‫األمور بدقة‪ ،‬ووضعها يف نصاهبا‪.‬‬
‫ونفرد أمهية خاصة لقانون االستطاعة؛ حيث إن خمالفته هي من أكثر أسباب‬
‫شيوعا يف حياة الناس‪ ،‬من دون أن يدرون؛ حيث إن حتميل اإلنسان لنفسه‬
‫ً‬ ‫الفشل‬
‫فوق طاقتها؛ يرفع عنه معينات اهلل عز وجل‪ ،‬إال يف حال أن شاءت اهلل تعاىل أن‬
‫يرحم عبده‪ ،‬ولكن األصل؛ أن العمل وفق قانون االستطاعة فقط‪ ،‬هو ما يضمن‬
‫لإلنسان النجاح‪.‬‬
‫وال يعني ذلك القعود والكسل؛ ألن اإلنسان من جانب آخر‪ُ ،‬مطا َلب بأن جيتهد‬
‫لتطوير قدراته‪ ،‬وهو ال تعلم مقدار استطاعته بالضبط‪ ،‬وال ما كتبه اهلل تعاىل لك‬
‫من الرزق يف كل املجاالت‪ ،‬ولذلك؛ فواجب عىل اإلنسان السعي الدائم‪ ،‬يف إطار‬
‫القوانني التي وضعها اهلل تعاىل له‪.‬‬
‫ويتصل بذلك‪ ،‬قانون آخر‪ ،‬وهو قانون املالئمة‪ ،‬وهو أن يقوم اإلنسان بام هيأه اهلل‬
‫تعاىل للقيام به‪ ،‬ويف حال جتاوزه لذلك؛ فإنه يكون يتجاوز بالفعل نطاق استطاعته‪.‬‬

‫‪476‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فإن عند حدوث خلل‪ ،‬أو فشل؛ فهذا عائد إىل اإلنسان‪ ،‬ألنه َمن يقوم‬
‫بمخالفة االستطاعة واملالئمة‪ ،‬وبالتايل؛ خيالف قوانني اهلل تعاىل الربانية‪ ،‬وهي ال‬
‫يمكن خمالفتها‪ ،‬ألهنا أساس الكون‪ ،‬ووضعها اهلل عز وجل ثابتة ال تبديل فيها‪،‬‬
‫لضامن توازنه‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬استمراريته وعدم اهنياره إىل أن يشاء اهلل تعاىل‪ ،‬ومل يرتكها‬
‫للبرش وال ألي خملوق آخر؛ ألنه يعلم نقصهم وعوارضه‪.‬‬
‫أمر واضح يف حالة املرأة التي ترص عىل جتاوز سامهتا‪ ،‬حتت مربر أو‬
‫وهو ٌ‬
‫قناعة خاطئة أن اإلسالم قد أتى بترشيعات تضعها يف مرتبة تالية للرجل‪ ،‬وهذا‬
‫أمر خاطئ بالكلية‪ ،‬فكل ما يف األمر‪ ،‬أن املرأة ختتلف عن الرجل‪ ،‬وبالتايل؛ فهي‬
‫ٌ‬
‫يعب ذلك إطال ًقا عن ضعفها؛ حيث إن‬‫بحاجة ألحكام تتالءم مع طبيعتها‪ ،‬وال ِّ‬
‫ٍ‬
‫ضعف‬ ‫والوضع ال يستطيع رجل واحد أن يتحملها‪ ،‬وال يعرب ذلك عن‬‫ْ‬ ‫آالم احلمل‬
‫ً‬
‫مؤهل لذلك‪.‬‬ ‫يف الرجل‪ .‬فقط هو غري خملوق‬
‫وبشكل عام؛ فإن هذه اآليات تلخص املوقف بالكامل‪ ﴿ :‬ﰂ ﰃ ﰄ‬
‫ﰅ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﰕ‬
‫[سورة "ال َّن ْجم"]‪.‬‬
‫ﰖ ﰗ﴾ ُ‬
‫‪......‬‬
‫إ ًذا؛ نحن نخ ُلص من ذلك‪ ،‬إىل أن اهلل تعاىل خلقنا لكي نعبده وننرش عقيدته‬
‫ونعمر األرض التي استخلفنا فيها‪ ،‬مع منح اإلنسان اإلمكانيات الالزمة‬
‫ومنهاجه‪ِّ ،‬‬
‫لذلك من أجل القيام بمهامه اجلسيمة هذه‪.‬‬

‫‪477‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وأدواتنا يف هذا كله‪ ،‬كام قال النبي "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬أن نكون للناس‬
‫مع ِّلمني‪ ،‬وننرش بينهم األخالق‪ ،‬وهو ما يتفق مع قوله تعاىل يف القرآن الكريم‪:‬‬
‫﴿ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ‬
‫[سورة "النحل" ‪ -‬اآلية‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ ُ‬
‫‪.]125‬‬

‫وملَّا قلنا إن ُّ‬


‫الس َّنة النبوية من مصادر الرشيعة األساسية التي نعلم هبا "الطريقة"؛‬
‫الس َّنة‪ ،‬وفيها‬
‫املعبات عن هذه ُّ‬ ‫فإن املامرسة النبوية والسرية النبوية‪ ،‬هي من أهم ِّ‬
‫الكثري عن الرتبية النبوية‪ ،‬وكيف خلقت جي ً‬
‫ال قاد العامل إىل النور يف عقود قليلة جدًّ ا‬
‫تال ًيا‪ ،‬وأسقطوا أصنام ِّ ْ‬
‫الشك والظلم واالستبداد‪.‬‬
‫والرسول الكريم ﷺ‪ ،‬مارس الرتبية ‪ 13‬عا ًما‪ ،‬قبل أن ينطلق إىل ممارسة السياسة‬
‫وتكوين الدولة‪ ،‬وهو ما مل يستغرق من سنوات البعثة‪ ،‬سوى ‪ 10‬سنوات‪ ،‬مما يدل‬
‫عىل أمهية الرتبية األخالقية والفكرية يف حياتنا‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وحدة األمة واألصول الشرعية‪ ..‬ارتباط عضوي غائب!‬

‫بالرغم من العوامل اخلارجية العديدة‪ ،‬واملتنوعة يف اجتاهاهتا وطبيعتها‪ ،‬والتي‬


‫قادت إىل حالة الفرقة والترشذم احلالية بني ظهراين األمة؛ إال أن هناك سب ًبا شديد‬
‫األمهية و ُيعترب مركز ًّيا يف هذا الصدد‪ ،‬وهو قضية عالقة املسلم‪ ،‬عىل املستوى‬
‫الفردي‪ ،‬وعالقة املسلمني عىل املستوى العام‪ ،‬باألصول الرشعية لإلسالم‪ ،‬متمثلة‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫يف القرآن الكريم وصحيح ُّ‬
‫فهذه األصول‪ ،‬بام تتضمنه من أحكام رشعية واحدة‪ ،‬وسياقات تتعلق بكافة‬
‫أمور حياة املسلم‪ ،‬من العبادات‪ ،‬وحتى األعياد واملناسبات‪ ،‬واملكون الفكري‬
‫عرف يف‬
‫والثقايف؛ فإهنا من املفرتض – كام يف سنوات األمة األوىل – أن تصنع ما ُي َ‬
‫علم النفس واالجتامع‪ ،‬بالوجدان اجلمعي‪.‬‬
‫والوجدان اجلمعي‪ ،‬أو الضمري اجلمعي‪ ،‬أو الوعي اجلامعي‪ ،‬هي حالة من‬
‫واملوحدة الطابع التي يشرتك فيها جمموعة من األفراد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الشعور واملدركات املتشاهبة‬
‫ً‬
‫ومتامسكا‪.‬‬ ‫موحدً ا‬
‫جمتمعا َّ‬
‫ً‬ ‫وتقود إىل أن ِّ‬
‫يشكل هؤالء فيام بينهم‬
‫ولقد َّ‬
‫ركز عامل االجتامع الفرنيس إميل دوركايم (‪1858‬م – ‪1917‬م)‪ ،‬يف‬
‫تعريفه هلذا املصطلح‪ ،‬عىل "املعتقدات واملواقف األخالقية املشرتكة"‪ ،‬وقال إهنا‬
‫"تعمل كقوة للتوحيد داخل املجتمع" [قاموس "كولينز" لعلم االجتامع‪ ،‬ص‬
‫‪.]93‬‬

‫‪479‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬نفهم أمهية النصوص الرشعية املقدسة‪ ،‬من قرآن وصحيح‬
‫الس َّنة النبوية بشكل عام‪ ،‬وفق ما ث ُبت يف كتب السرية‬
‫صح من ُّ‬
‫احلديث النبوي‪ ،‬وما َّ‬
‫النبوية املوثوقة‪.‬‬
‫فهذه النصوص‪ ،‬يف حالة املسلمني‪ ،‬هي مصدر ما حتدث عنه دوركايم‪ ،‬وغريه‬
‫املكون العقدي‪ ،‬واملكون األخالقي املشرتك‬
‫من علامء االجتامع والنفس يف صدد ِّ‬
‫الذي حيافظ عىل متاسك ووحدة املجتمعات اإلنسانية‪.‬‬
‫أمر ربام غري واضح عند الكثري من األجيال املتأخرة‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هناك ٌ‬
‫من املسلمني؛ ممَّن تأثروا بالتيارات التغريبية التي محلها معه االستعامر‪ ،‬ثم احلكومات‬
‫العلامنية التي تلت خروج االستعامر من بني ظهراين بالد األمة العربية واإلسالمية‪.‬‬
‫تتعلق هذه القضية بنقطة العالقة العضوية بني املسلم واملسلم عىل املستوى‬
‫الفردي‪ ،‬وبني مجاعة املسلمني بشكل عام‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية الرشيفة؛ فإن أقوى رابطة بني‬
‫فام هو ثابت يف القرآن الكريم‪ ،‬ويف ُّ‬
‫املسلم واملسلم‪ ،‬هي رابطة الدين‪ ،‬وهي الرابطة التي جتمع ما بني املسلمني مهام‬
‫كانت انتامءاهتم القومية‪ ،‬أو أي انتامء آخر هلم‪.‬‬
‫يقول اهلل تعاىل يف ُسورة ُ‬
‫"احلجرات"‪ ﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﴾ [من اآلية ‪،]10‬‬
‫وهو املعنى الذي تكرر يف أكثر من موضع من القرآن الكريم‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية‪ ،‬يقول ﷺ‪" :‬املسلم أخو املسلم"‪ ،‬وتكرر كذلك هذا املعنى يف‬
‫ويف ُّ‬
‫أكثر من حديث نبوي صحيح‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف السرية النبوية؛ ُيعترب موقف املؤآخاة بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬من أكثر‬
‫املواقف داللة عىل ذلك‪.‬‬
‫والس َّنة؛‬
‫فهذا املوقف بالذات‪ ،‬يقول بأن كلمة "إخوة" التي وردت يف القرآن ُّ‬
‫إنام مل تكن عىل سبيل املجاز؛ حيث هناك الكثري من العبارات البالغية يف القرآن‬
‫الكريم واحلديث النبوي‪ ،‬كانت تتضمن املجاز‪ ،‬وفق ما هو معروف يف لغة العرب‬
‫وآداهبم‪.‬‬
‫فاملؤآخاة التي متت؛ متت باملعنى الفعيل؛ حيث رتبت أحكا ًما رشعية عديدة‬
‫الر ِحم ُّ‬
‫والص ْلب‪.‬‬ ‫نتيجة هذا التآخي‪ ،‬شملت سائر احلقوق املرتتبة عىل ُأ َّ‬
‫خوة َّ‬
‫ويمكن يف هذا اإلطار‪ ،‬وضع مسألة "الوالء والرباء"‪ ،‬كإحدى أهم جتليات‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن هذه القضية من القضايا التي تم البحث فيها بشكل كبري‬
‫عرب التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وفيها ما فيها من دراسات وكتب‪.‬‬
‫ولكن ما يعنينا هنا‪ ،‬هو أن العقيدة‪ ،‬والرشيعة اإلسالمية‪ ،‬هي األساس الذي‬
‫يصنع هذه الرابطة بني املسلمني يف كل مكان‪ ،‬وبالتايل؛ فإن مصادر العقيدة‬
‫والرشيعة؛ ُتعترب هي البوتقة اجلامعة التي تربز مفردات وتفاصيل املشرتكات‬
‫اجلامعية بني املسلمني‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن تف ُّلت املسلمني من قرآهنم وس َّنتهم يأخذ أكثر من صورة‪.‬‬
‫الصورة األوىل‪ ،‬هي هجران األصول الرشعية التي نستمد منها عباداتنا وقيمنا‬
‫أمر تنبأ به القرآن الكريم‪ ،‬عندما حتدث عن بعض مواقف الناس‬
‫الروحية‪ ،‬وهو ٌ‬

‫‪481‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يوم القيامة‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾‬


‫["الفرقان" – اآلية ‪.]30‬‬
‫كام أشار إليه الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬عندما قال إنه سوف تأيت عىل أمته أيام‪ ،‬يتم‬
‫فيها زخرفة املساجد واملصاحف‪ ،‬يف مقابل عدم إتياهنا عىل الوجه الصحيح‪.‬‬
‫أما الصورة األخرى من صور تف ُّلت املسلمني من األصول الرشعية؛ فهي‬
‫أغالط الفهم‪ ،‬واختالف التفسري‪ ،‬وهي الصورة التي من ضمن الظواهر السلبية‬
‫التي تو َّلدت عنها‪ ،‬فتنة التكفري؛ حيث إن اخلالف يف تفسري نص ما‪ ،‬أو يف النظر‬
‫إىل بعض النصوص حتى غري ذات الصلة بالعقيدة؛ قاد إىل تكفري بعض املسلمني‬
‫للبعض اآلخر‪.‬‬
‫بل إن الكثري من اجلامعات واحلركات التي تصنِّف نفسها إسالمية‪ ،‬قد قامت‬
‫عىل أساس تفسري أو رؤية معينة لنص أو نصوص تتعلق بباب أو قضية بعينها يف‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وتقيص كل التفاسري والرؤى األخرى لذات القضية‪ ،‬وتعترب من‬
‫يطرحوهنا‪ ،‬خارجني عن الدين‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن أحد أهم أسباب هذه املشكلة هو غياب مركزية جامعة‬
‫للمسلمني‪ ،‬وبالذات عىل املستوى الفقهي؛ تعمل عىل مواجهة األفكار اهلدامة‬
‫والتفاسري اخلاطئة‪ ،‬واستدراك املستجدات‪ ،‬والتصحيح املستمر للمتون‪ ،‬واستبعاد‬
‫الغث منها‪ ،‬والذي ظهر يف مراحل االنحطاط أو الغزو اخلارجي‪ ،‬وغياب الرموز‬
‫الفقهية احلقيقية‪ ،‬مع اإلبقاء عىل الصحيح من القراءات والتفاسري للنصوص‬
‫الرشعية‪.‬‬

‫‪482‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومشكلة غياب املركزية هذه‪ ،‬بدأت مع ظهور عوامل الضعف عىل آخر دولة‬
‫جامعة للمسلمني‪ ،‬وهي الدولة العثامنية‪ ،‬ظهور املدارس احلركية التي انتسب ٌّ‬
‫كل‬
‫منها إىل تصور معني إلعادة إحياء املرشوع اإلسالمي‪.‬‬
‫وجزء من هذه املشكلة‪ ،‬يعود إىل حالة االستبداد والفساد التي ميزت احلكم‬
‫يف مقابل ضعف القبضة املركزية للدولة اإلسالمية؛ مما أدى إىل ظهور أصوات‬
‫وحركات إصالحية حتدت السلطة املركزية يف ذلك احلني‪.‬‬
‫وهذا التحدي بالرغم من أنه مل يستهدف املركزية السياسية للمسلمني‪ ،‬ممثلة‬
‫يف بالط احلكم العثامين ومؤسسات الدولة العثامنية يف ذلك احلني؛ بل استهدفت‬
‫تقويتها‪ ،‬من خالل إصالح أوجه اخللل التي كانت قد بدأت يف الظهور‪ ،‬وأدت‬
‫إىل نجاح القوى الغربية يف احتالل غالبية العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬حتى املناطق‬
‫التي كانت خترج عن سيطرة الدولة العثامنية يف غرب ووسط أفريقيا‪ ،‬ومناطق آسيا‬
‫الوسطى؛ إال أنه قد تم توظيف هذه احلركات واألصوات اإلصالحية يف بعض‬
‫األحيان إلضعاف املركزيات السياسية والدينية يف الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫ويف مرحلة ما بعد ظهور الدولة القومية يف العامل اإلسالمي؛ فإن ظهور النعرات‬
‫القومية‪ ،‬واإلعالء من قيمة الوطنية – التي ال يرفضها اإلسالم ولكنه ينظمها مثل‬
‫أية ظاهرة إنسانية أخرى – عىل حساب االنتامء الديني األوسع‪ ،‬وذلك ملصلحة‬
‫األنظمة التي حكمت بعد ذلك؛ قاد إىل إضعاف الكثري من املؤسسات الدينية‬
‫والسياسية التي كان هلا طابع مركزي يف تنظيم شؤون األمة‪ ،‬وعىل رأسها األزهر‬
‫الرشيف‪.‬‬

‫‪483‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومع إمهال التعليم الديني‪ ،‬وحتول اإلعالم إىل أداة تغريب وإفساد يف كثري من‬
‫دول العامل اإلسالمي؛ فإن الرابطة بناء عىل الدين‪ ،‬ذابت لدى الغالبية العظمى من‬
‫أبناء املجتمعات املسلمة‪ ،‬بل إن البعض يعترب حتمل املسلمني يف دولة ما ملشكالت‬
‫مسلمني يف دول وجمتمعات أخرى‪ ،‬بمثابة عبئ‪.‬‬
‫كل ذلك‪ ،‬بسبب عدم إدراك املسلمني للقرآن الكريم وما يدعو إليه يف هذا‬
‫الس َّنة والسرية النبويت َْي بالشكل الكايف‪ ،‬بل ربام إن هناك‬
‫الصدد‪ ،‬وعدم دراسة ُّ‬
‫مسلمني‪ ،‬صاروا يأتون الدنيا وخيرجون منها من دون قراءة القرآن الكريم ولو مرة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫وهي مشكلة جتد الكثري من الصعوبات ملعاجلتها يف ظل األحوال السياسية التي‬
‫تعيشها معظم الدول العربية واإلسالمية يف الوقت الراهن‪ ،‬إال أنه يبقى األمل يف‬
‫برامج الرتبية الفردية‪ ،‬والدور املسجدي كبداية سع ًيا ملعاجلة هذا اخللل الذي هدم‬
‫أوارص األمة أو كاد!‬

‫‪484‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حولنا الدين إلى أيديولوجية!‬


‫عندما َّ‬

‫تسود عاملنا املعارص منذ الستينيات امليالدية املاضية؛ عرص الثورة الثقافية‬
‫واالنفتاح الفكري‪ ،‬العديد من التيارات الفكرية التي متحورت حول اإلعالء من‬
‫قيمت َْي أساسيت َْي‪ ،‬العقل واحلرية‪.‬‬
‫وطالت رياح هذه التيارات املقدسات واملس َّلامت كافة‪ ،‬بام يف ذلك العقائد‬
‫الدينية‪ ،‬واألخالق‪ ،‬فيام أطلق عليه زجيمونت باومان وغريه من مفكري‬
‫عرص احلداثة "‪ "Modernism‬وما بعد احلداثة "‪ ،"Postmodernism‬بالسيولة‬
‫"‪"fluidity‬؛ السيولة األخالقية‪ ،‬والسيولة السياسية‪ ،‬والسيولة االجتامعية‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من مفردات حياة اإلنسان وجماالهتا‪.‬‬
‫وجوهر هذه التيارات‪ ،‬مبدأ التفكيك‪ ،‬والذي انتقده بعض املفكرون العرب‪،‬‬
‫مثل الدكتور عبد العزيز محودة‪ ،‬الذي كتب كتابان ًّ‬
‫مهمن يف هذا الصدد بعنوان‪:‬‬
‫املقعرة‪..‬‬
‫"املرايا املحدّ بة‪ ..‬من البنيوية إىل التفكيك"‪ ،‬ونرشه عام ‪1998‬م‪ ،‬و"املرايا َّ‬
‫نحو نظرية نقدية عربية"‪ ،‬ونرشه عام ‪2001‬م‪ ،‬واهتمه البعض من املفكرين‬
‫العلامنيني العرب‪ ،‬عىل إثرها بالعداء للحداثة!‬
‫ويرتبط التفكيك يف جوهره بدوره بمذهب الشك "‪ ،"suspicion‬الذي ال يقبل‬
‫أية مدخوالت ال متر عىل مرشحات العقل اإلنساين‪ ،‬بام يف ذلك العقائد والتعاليم‬
‫الدينية‪ ،‬ويستند يف تفسريه وحكمه عىل األمور إىل التفسريات املادية التي تتعلق‬

‫‪485‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فقط بام يمكن أن تدركه احلواس البرشية‪ ،‬سواء بشكل مبارش‪ ،‬أو من خالل‬
‫وسائط تقنية‪.‬‬
‫وخصوصا يف عاملنا العريب‪ ،‬تركز‬
‫ً‬ ‫املالحظ أن التيارات اإلحلادية والعلامنية‪،‬‬
‫َ‬ ‫ومن‬
‫املنزلة‪ ،‬أو ما ُيط َلق‬
‫يف تطبيق مبدأ التفكيكية "‪ "Decomposition‬هذا عىل الديانات َّ‬
‫عليه مسمى "الديانات الساموية"‪ ،‬ونقصد هبا اإلسالم‪ ،‬واملسيحية واليهودية‪.‬‬
‫ثمة توضيح مهم‪ ،‬وهو أنه من الواجب ملعرفة حجم هذه الظاهرة‪ ،‬أن يتم‬
‫وهنا َّ‬
‫االطالع عىل واقعها عىل مستوى العامل الغريب؛ حيث إننا سوف نجد نفس احلجم‬
‫من اهلجمة والتشكيك التي نعرفها عىل اإلسالم يف عاملنا العريب واإلسالمي‪ ،‬تتم‬
‫هناك جتاه املسيحية‪ ،‬وعىل وجه اخلصوص‪ ،‬املذاهب التقليدية القديمة‪ ،‬الكاثوليكية‬
‫واألرثوذكسية‪.‬‬
‫وحتى عندما حاول البعض املوائمة بني "ضغوط" عواصف هذه التيارات‪،‬‬
‫وبني إيامهنم الداخيل؛ تو َّلدت ظواهر عجيبة‪ ،‬مثل "كنائس" عبدة الشيطان يف‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬والتي تكشف – كنموذج – عن طبيعة اخللل احلاصل يف طرائق‬
‫تفكري الكثري من أتباع هذه النظريات والتيارات‪ ،‬نتيجة اخللل احلاصل يف املنطق‬
‫الذي تستند إليه هذه األفكار نفسها‪.‬‬
‫رد فعلٍ متناسب معها؛ فكان‬
‫يف املقابل؛ فإنه‪ ،‬وكمثل أية ظاهرة؛ فإنه يكون هلا ُّ‬
‫أبرز الظواهر التي جاءت كر ِّد فعلٍ إزائها‪ ،‬التطرف والتشدد يف املواقف من جانب‬
‫املؤمنني واملتدينني من أتباع كل ديانة‪.‬‬

‫‪486‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذه ليست مقدمة مستفيضة تبتعد عن القضية أو املحور املهم الذي نحن‬
‫وخصوصا نقطة اخللل‬
‫ً‬ ‫بصدده يف هذا املوضع من احلديث؛ حيث يرتبط ذلك‪،‬‬
‫والفوىض يف هذه التيارات‪ ،‬سواء يف املنطق أو يف املحتوى واألثر‪ ،‬بمشكالت‬
‫كربى حاصلة يف فضائنا اإلسالمي‪.‬‬
‫وأول ما جتب اإلشارة إليه يف هذا الصدد‪ ،‬هو أنه كان من املفرتض أن يكون‬
‫تأثرا بالكثري من اخلرافات التي احتوهتا هذه املدارس‪ ،‬التي‬
‫املسلمون هم أقل األمم ً‬
‫ال تقف أفكارها حتى عىل أرضية منطقية عقلية سليمة‪ ،‬بخالف ما يدعيه أصحاهبا‬
‫عن متجيدهم للعقل ومساراته ومتطلباته‪.‬‬
‫وهو أمر بدهيي يف ظل الكثري من األمور التي اختص هبا اهلل عز وجل دينه‪،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬وعىل رأسها كتابه العزيز‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬الذي يتميز عن غريه من‬
‫كل الكتب التي أنزهلا اهلل تعاىل‪ ،‬أو حتى وضعها أصحاب الديانات والفلسفات‬
‫الوضعية‪ ،‬بالكثري من السامت التي تؤهله ألن يكون أكرب مصدر لالطمئنان‬
‫للعقيدة لدى كل مسلم‪ ،‬بحيث ال يكون يف األصل بحاجة إىل األخذ من أية كتب‪/‬‬
‫فلسفات‪ /‬ثقافات‪ ..‬إلخ‪ ،‬أخرى‪.‬‬
‫أي من‬
‫فالقرآن الكريم‪ ،‬حمفوظ بحفظ اهلل تعاىل له‪ ،‬ومتسق مع ذاته‪ ،‬ومل جيد ٍّ‬
‫العلامء امللحدين أو العلامنيني‪ ،‬وعرب التاريخ‪ ،‬أي تناقض‪.‬‬
‫التنوع الكبري يف حمتواها املوضوعي؛ إال أهنا كلها تأيت‬
‫كام أن نصوصه كلها مع ُّ‬
‫يف سياق واحد رئييس‪ ،‬وهو إثبات عقيدة التوحيد‪ ،‬وبأسلوب ال يمكن بحال معه‬

‫‪487‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫رش‪ ،‬برغم تطور حمتواه املوضوعي‪ ،‬وتنوعه بني املرحلة املَ ِّكية‬
‫أن يكون من وضع ب ٍ‬
‫واملرحلة املدنية من البعثة النبوية‪.‬‬
‫وذلك يف حد ذاته يطمئن املسلم إىل أنه كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬ومعجزته الباقية‪،‬‬
‫وبالتايل؛ يطمئن إىل عقيدته‪.‬‬
‫املنزلة‪ ،‬أو موضوعة‬
‫كام أن القرآن الكريم من دون باقي الكتب األخرى َّ‬
‫لديانات وفلسفات أخرى برشية؛ كتاب شامل‪ ،‬ويتضمن مناقشة ملئات القضايا‬
‫والظواهر التي يمكن أن يقف أمامها اإلنسان‪ ،‬وجييب‪ ،‬بوضوح تام‪ ،‬عىل األسئلة‬
‫ُ‬
‫الك ِّل َّية الكربى التي حتكم حياة اإلنسان‪ ،‬وسعيه فيها‪ ،‬وتصوراته عنها‪ ،‬وعن حياته‬
‫بعدها‪ ،‬وعن الكون‪ ،‬وعن ر ِّبه‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه األسئلة‪ :‬ملاذا خلقنا ُ‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وماذا عىل اإلنسان ِف ْعله يف‬
‫الدنيا‪ ،‬وملاذا خلق ُ‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬الرش والشيطان واملعاناة‪ ،‬وغري ذلك من األمور التي‬
‫َّ‬
‫شكل غياهبا يف الديانات والعقائد والفلسفات األخرى‪ ،‬مشكالت ضخمة لدى‬
‫أتباعها‪ ،‬قادهتم إىل اإلحلاد‪.‬‬
‫لكننا‪ ،‬ولعوامل عديدة‪ ،‬وجدنا تأثريات كبرية هلذه التيارات عىل املسلمني‪،‬‬
‫وخصوصا جيل الشباب‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن بني أهم هذه العوامل‪ ،‬اخللل احلاصل يف مناهج التعليم العام‪ ،‬وتراجع‬
‫التعليم الديني حلساب التعليم املدين‪ ،‬باإلضافة إىل الكثري من املشكالت التي‬
‫وقعت فيها احلركات اإلسالمية‪ ،‬وأبرزها وأخطرها‪ ،‬اخلالفات السياسية والفقهية‪،‬‬

‫‪488‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وصلت إىل مستوى التكفري‪ ،‬والدخول يف رصاعات مسلحة واقتتال‪ ،‬بني‬


‫ْ‬ ‫والتي‬
‫هذه احلركات‪.‬‬
‫ساهم ذلك مع خلل مفاهيمي لدى الكثري من املوجودين يف احلركة اإلسالمية‬
‫املعارصة‪ ،‬حتى عىل مستوى القمة‪ ،‬خيلط بني الدين وبني احلركة أو اجلامعة‪ ،‬بينام‬
‫وفقها‪ ،‬بحيث يكون‬
‫ً‬ ‫األخرية هي أداة خلدمة األول‪ ،‬ومناهجها ليست عقائد‬
‫خمالفتها بمثابة خروج عن الدين‪ ،‬وإنام هي أداة تنشئة وتلقني باألساس‪.‬‬

‫ولكي ال ُنست َ‬
‫َغرق يف هذه القضية التي نوقشت يف مواضع ش َّتى سابقة‪ ،‬فإننا نقف‬
‫هنا عند مشكلة التنشئة‪ ،‬واخلالفات‪ ،‬وما قادت إليه‪ ،‬وهي ُصلب موضع هذا احلديث؛‬
‫حيث تم حتويل الدين إىل أيديولوجية "‪ ،"Ideology‬بينام الفارق بينهام كبري للغاية‪.‬‬
‫فقد يبدو أن ظاهرة الدين‪ ،‬هي أحد أوجه "األيديولوجية"؛ حيث تعني هذه‬
‫معنى قري ًبا بشكل ظاهري من تعريف الدين‪ ،‬فهي تشري يف االصطالح إىل‬
‫األخرية ً‬
‫منظومة من األفكار التي تستقر يف وجدان املؤمنني هبا والذين يتبنوهنا‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫فهي حتكم تصوراهتم وسلوكهم يف احلياة‪.‬‬
‫ولكن هذا تفكري قارص؛ حيث الدين أمر أشمل وأوسع من ذلك بكثري؛ حيث‬
‫هو يتضمن منظومة كاملة من اإليامنيات التي ال تتعلق باجلوانب التطبيقية يف حياة‬
‫اإلنسان واملجتمعات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تصورات قيمية عن احلياة‪ ،‬وقواعد‬ ‫فاأليديولوجية تقف عند حدود وضع‬
‫للتعامل وإدارة املجتمعات‪ ،‬وفق منظومة تراتبية من القيم‪ ،‬مثل "الليربالية" التي‬

‫‪489‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ُتعيل من قيمة احلرية‪ ،‬واالشرتاكية التي ُتعيل من قيمة املساواة‪ ،‬عىل ما عاداها من‬
‫قيم‪ ،‬بينام الدين بجانب هذه األمور‪ ،‬وتنظيمه هلا‪ ،‬فهو يتضمن عقيدة تتعلق باإلله‬
‫الذي يعبد‪ ،‬وبفكرة اخلالق وطبيعته‪.‬‬
‫وهو اجلانب األهم يف الدين‪ ،‬ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد َّ‬
‫ركز عليها‪،‬‬
‫باعتبار أن اإلسالم هم الدين اخلاتم‪ ،‬وبالتايل؛ فإنه كان من الرضوري إزالة خمتلف‬
‫الشوائب التي طالت فكرة اإلله واخلالق ورب الكون يف الديانات ا ُمل َّنزلة السابقة‬
‫بسبب حتريفها‪ ،‬أو بسبب قصور الرؤية يف الديانات الوضعية بطبيعة أن واضعيها‬
‫هم برش بكل ما فيهم من نقائص وعوارض‪.‬‬
‫وخصوصا انحراف احلركة اإلسالمية‬
‫ً‬ ‫إال أن ما أرشنا إليه من مشكالت‪،‬‬
‫– كظاهرة وال نقصد حركة بعينها أو ما شابه – عن دورها ورسالتها‪ ،‬وحتوهلا‬
‫حول القاعدة‬
‫إىل انتامء سيايس‪ ،‬بل وعقدي لدى أتباعها يف كثري من األحوال‪َّ ،‬‬
‫األساسية التي تنهض عليها احلركة اإلسالمية‪ ،‬وهي الدين‪ ،‬إىل أيديولوجية‪ ،‬يف‬
‫ظل متسك كل حركة من هذه احلركات‪ ،‬بتصورات وتفاسري خاصة هبا عن تعاليم‬
‫اإلسالم‪ ،‬صنعت قوالب خمتلفة للدين بني هذه احلركة أو تلك‪.‬‬
‫وفاقم من هذه احلالة‪ ،‬الصدامات التي وقعت بني الكثري من احلركات اإلسالمية‬
‫وحتول االنتامء إىل احلركة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬اإليامن بتصورها اخلاص عن الدين‬ ‫ِ‬
‫املعاصة‪َّ ،‬‬
‫وتعاليمه وأحكامه‪ ،‬إىل وسيلة نجاة‪ ،‬باعتبار أهنا انتامء ملجموع أكرب حيمي الفرد‬
‫املسلم‪ ،‬ويقيه من عواقب انفراد خصومه "اإلسالميني" به!‬

‫‪490‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويتصل بذلك نقطة مهمة‪ ،‬وهي أنه‪ ،‬وحتت وطأة التغييب الذي حصل لفريضة‬
‫اجلهاد‪ ،‬وعدم كفاية الرتاث اإلسالمي يف املجال السيايس‪ ،‬ألسباب تتعلق بامللك‬
‫اجلربي الذي ساد الدولة اإلسالمية عرب تارخيها الطويل بعد مرحلة اخللفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬وكرسته القوى االستعامرية‪ ،‬ثم األنظمة العلامنية التي حكمت ما بعد‬
‫االستعامر؛ نقول إنه حتت وطأة ذلك؛ كان اهتامم احلركة اإلسالمية هبا َت ْي القضيت َْي‬
‫عىل حساب أمور أخرى‪.‬‬
‫وهو أمر خيالف جوهر الدين ذاته؛ الذي هو جمموعة شاملة ومتوازنة من‬
‫املصدر ْين‬
‫َ‬ ‫املجاالت التي شملتها التعاليم واألوامر والنواهي التي جاءت يف‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪.‬‬
‫األساسي ْي للترشيع‪ ،‬القرآن الكريم ُّ‬
‫َّ‬
‫مرورا غري ٍ‬
‫كاف حول قضايا العقيدة‬ ‫ً‬ ‫فعىل سبيل املثال؛ نجد يف املناهج الرتبوية‬
‫والوحدة املوضوعية للقرآن الكريم التي ضمنت وحدة هذا الدين‪ ،‬والذي يضمن‬
‫بدوره وحدة األمة‪ ،‬والذي هو من أهم ما دعا إليه القرآن الكريم من أمور‪ ،‬وشدد‬
‫عىل ِعظيم خمالفته‪ .‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫[سورة "األنعام" ‪ -‬من اآلية ‪ ،]159‬وحيفظ للمسلمني وجودهم وبقائهم‬
‫ﮂ﴾ ُ‬
‫وكرامتهم بني احلضارات واألمم األخرى‪ .‬يقول عز وجل‪﴿ :‬ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫[سورة "األنفال" ‪ -‬من اآلية ‪.]46‬‬
‫ﭗ ﭘﭙ ﴾ ُ‬
‫مطلوب يف واقع األمر‪ ،‬ولكن مع رضورة‬
‫ٌ‬ ‫تركيزا عمي ًقا –‬
‫ً‬ ‫يف مقابل ذلك‪ ،‬نجد‬
‫موازنته بمناهج أخرى بالشكل الذي حيفظه من االنحراف وطمس غريه من‬
‫األمور املهمة كام تقدَّ م – عىل السياسة واألدوار السياسية واالجتامعية التي تقوم‬

‫‪491‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حوهلا إىل نقطة ُ‬


‫متركز حول حول احلركة‪ ،‬وليس حول‬ ‫هبا احلركة اإلسالمية‪ ،‬بام َّ‬
‫الدين واألمة ومصالح الدعوة‪.‬‬
‫القضية األخرى‪ ،‬وهي تتصل باخللل اخلاصل يف مناهج التعليم‪ ،‬ومن ضمن‬
‫ذلك‪ ،‬قضية املحاضن الرتبوية واملناهج داخل احلركات اإلسالمية‪ ،‬وبالذات‬
‫الصحوية منها‪ ،‬أنه‪ ،‬وباسم االنفتاح عىل الثقافات واألفكار األخرى؛ وجدنا ً‬
‫أخذا‬
‫املكون الفكري‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬
‫من هذه األفكار بشأن تأصييل‪ ،‬أي بشكل جعله جز ًءا من ِّ‬
‫وخصوصا الشباب‪.‬‬
‫ً‬ ‫السلوكي للكثري من املسلمني‪ ،‬وعنارص الصف احلركي‪،‬‬
‫وترتكز هذه املشكلة يف فئة بعينها من شباب احلركة اإلسالمية‪ ،‬وهي الفئة التي‬
‫رأت فشل األفكار والسياسات التي تبنتها القيادات احلركية‪ ،‬وربطت الفشل‬
‫بأصل الفكرة‪ ،‬وبالتايل؛ بدأت يف البحث عن بديل يف املدارس والتيارات الفكرية‬
‫والسياسية األخرى‪.‬‬
‫بل هناك مفكرون مسلمون معارصون‪ ،‬يرون أن جذر تأسيس مجاعات العنف‬
‫واإلرهاب باسم الدين‪ ،‬إنام هو نتيجة النمط الفكري والثقايف الذي أفرزته احلداثة‬
‫وغيب أي ضابط‬
‫الغربية‪ ،‬والذي أشاع الفوىض بني ظهراين اإلنسانية بالكامل‪َّ ،‬‬
‫فكري أو أخالقي‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬من خالل "تقديس" العقلية النقدية‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫شعب يف ٍ‬
‫آن‪ ،‬بحيث‬ ‫واألخري؛ فإن هذه القضية عىل أكرب قدر من األمهية‪ ،‬وال َّت ُّ‬
‫موسعة‪ ،‬سواء عىل‬
‫أن بحثها ورصدها فقط لتقييم حجمها‪ ،‬بحاجة إىل دراسات َّ‬

‫‪492‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املجموع املسلم‪ ،‬أو الصف احلركي‪ ،‬أو فيام خيص املناهج وآليات العمل والتنشئة‬
‫داخل املحاضن الرتبوية احلركية‪.‬‬
‫وهذه القضية ليست من نافل القول‪ ،‬أو الرتف؛ حيث ربام فيها مصري الدعوة‬
‫والصحوة اإلسالمية بالكامل‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أسست لمنهج دعوي وإنساني شامل‬


‫سا؟!"‪ ..‬كيف َّ‬
‫نف ً‬ ‫"أَلَ ْي َ‬
‫س ْت ْ‬

‫مرت بالرسول‬
‫كلنا تقري ًبا نعلم عن املوقف الذي ورد يف صحيح البخاري عندما َّ‬
‫ليهودي‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫الكريم ﷺ‪ ،‬جناز ٌة‪ ،‬فقام هلا‪ ،‬فقيل له‪ ،‬إهنا‬
‫َ‬
‫"أ َل ْي َس ْت ً‬
‫نفسا؟!"‪.‬‬
‫إال أنه ما ال يعرفه الكثريون‪ ،‬أن هذه العبارة‪ ،‬وهذا املوقف‪ ،‬واللذان قد يبدوا‬
‫أسسا‬
‫عىل قدر من البساطة‪ ،‬عىل األقل عىل أكرب قدر من اإلجياز الزمني؛ إنام قد َّ‬
‫ملدرسة دعوية وإنسانية مكتملة األركان‪ ،‬تفتقدها الكثري من أوساط املسلمني‪،‬‬
‫والسيام يف املجال احلركي‪.‬‬
‫ولعل أول الدروس العظيمة التي يمكن اخلروج هبا من هذا املوقف النبوي‬
‫العظيم‪ ،‬وهذه العبارة النبوية الوجيزة‪ ،‬هو أن اهلدف األسايس من نزول اإلسالم‪،‬‬
‫دين اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬إنام هو إنقاذ البرشية من أدراهنا‪.‬‬
‫وسواء أكانت هذه األدران‪ ،‬من لدن البرش‪ ،‬وسلوكهم‪ ،‬أو يف عقائدهم الفاسدة‪،‬‬
‫أو غري ذلك؛ املهم‪ ،‬أن هذا املوقف‪ ،‬واحلزن الذي أصاب الرسول الكريم ﷺ‬
‫خالله‪ ،‬يقول بأن اإلسالم إنام نزل إلنقاذ البرش من الضالل‪ ،‬ومن سوء عاقبة عدم‬
‫اإليامن باهلل عز وجل بالصورة التي أرادها اخلالق من عباده‪.‬‬
‫وهذا يف رشيعتنا؛ حيث إن أول املقاصد التي نزلت الرشيعة اإلسالمية حلفظها‪،‬‬
‫هي حفظ النفس‪ ،‬وأسبق يف الرتتيب من حفظ الدين؛ ألنه – باملنطق البسيط – من‬
‫دين وال إيامن‪ ،‬وال أي يشء آخر‪.‬‬
‫حرة؛ لن يكون هناك ٌ‬
‫دون نفس حية‪َّ ،‬‬
‫‪494‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فيربز هذا املوقف كيف أن النفس اإلنسانية ثمينة‪ ،‬وال جيوز إطال ًقا‬
‫إحلاق الرضر هبا‪ ،‬بالقتل‪ ،‬أو بغري ذلك‪ ،‬بغري وجه حق حمدَّ د ٍ‬
‫بدقة شديدة يف رشيعتنا؛‬
‫ألن كل ٍ‬
‫نفس إنسانية‪ ،‬هي جمتمع دعوة‪ ،‬ولو كان فر ًدا واحدً ا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إنسان إىل حقيقة‬ ‫ٍ‬
‫إنسانية‪ ،‬أي أن يتم هداية‬ ‫وهذا يف جوهره‪ ،‬يساوي إسالم ٍ‬
‫نفس‬
‫التوحيد‪ ،‬وقيامه – بالتايل – بإفراد اهلل سبحانه بالعبادة‪ ،‬وحده ال رشيك له‪ ،‬وإقامة‬
‫عقيدة التوحيد ورشيعة اإلسالم يف األرض‪ ،‬وهذا أمر عظيم‪ ،‬بل هو أساس خلق‬
‫الثق َل ْي والكون يف األصل‪ ،‬وكل ذلك بدهيي‪ ،‬وليس بحاجة إىل إثبات‪.‬‬
‫أمر عىل أكرب جانب من األمهية ذاب‬
‫يف هذا املوقف العظيم كذلك‪ ،‬يبدو لنا ٌ‬
‫لألسف الشديد يف ظالل سوداء نتيجة املامرسات التي يقوم هبا بعض ُ‬
‫اجل َّهال‬
‫باسم الدين‪ ،‬وباسم الدعوة‪ ،‬وباسم اجلهاد‪ ،‬ونتيجة ملرشوع ضخم صار له مئات‬
‫األعوام‪ ،‬يثابر عليه خصوم الدين واألمة‪ ،‬من أجل تشوهيه‪ ،‬وإخفاء اجلوانب‬
‫اإلنسانية واحلضارية فيه‪ ،‬هذا األمر يتلخص يف آية قرآنية‪ ،‬يقول فيها اهلل عز وجل‪:‬‬
‫﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ ُ‬
‫[سورة "األنبياء" ‪ -‬اآلية ‪.]107‬‬
‫ً‬
‫رحيم كام وصفه‬ ‫فهذا املوقف يظ ِه ُر لنا كيف كان النبي ﷺ كان فع ً‬
‫ال رؤو ًفا‬
‫نبي الرمحة حقيق ًة ال قو ً‬
‫ال أو ادعا ًء‪.‬‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬وكيف أنه كان َّ‬
‫فهو "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬بالرغم من كل ما فعله اليهود فيه‪ ،‬وإيذائهم له‬
‫وللمسلمني‪ ،‬وتآمرهم مع املرشكني وأعداء الدين – بالرغم من أهنم أتباع ٍ‬
‫دين‬
‫ساموي – مل يتشمت يف اليهودي ألنه مات عىل ُ‬
‫الك ْفر‪ ،‬وسوف َّ‬
‫يعذب بذنوبه التي‬
‫كان من بينها – أي هذه الذنوب – إيذاء النبي "عليه الصالة والسالم" نفسه‪ ،‬وإنام‬

‫‪495‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نفسا إنسانية قد‬


‫نفسا كان يمكن أن تقيمها‪ ،‬وأن ً‬
‫حزن ألن عقيدة التوحيد خرست ً‬
‫أفلتت من هدي اإلسالم‪ ،‬وسوف َّ‬
‫تعذب بكفرها وذنوهبا‪.‬‬
‫فهو هنا ﷺ‪ ،‬قد أعىل من اعتبارات الدعوة واملصلحة العامة‪ ،‬وأعىل من‬
‫اعتبارات اإلنسانية‪ ،‬عىل حساب كل الصغائر والذاتيات الضيقة‪.‬‬
‫حمصلة ذلك كله؛ سوف نجد أنفسنا أمام منهج دعوي غائب بحق عن‬
‫ويف ِّ‬
‫غالبية اجلامعات اإلسالمية‪ ،‬أو التي تزعم أهنا إسالمية‪ ،‬وتقول بأهنا تتبنى اجلهاد‬
‫املسلح كوسيلة لنرش الدعوة‪.‬‬
‫ففي خالل حتركات هؤالء هنا وهناك؛ سوف نقف أمام منظومة من املامرسات‬
‫التي ترقى إىل مستوى اجلريمة يف حق الدين‪ ،‬ويف حق الدعوة‪ ،‬ونتائجها واضحة‬
‫سواء يف الصورة الذهنية املشوهة التي يتم تناقلها عن الدين احلنيف‪ ،‬أو يف املوقف‬
‫من املسلمني يف بلدان املهاجر‪ ،‬أو يف تنامي التيارات العلامنية واإلحلادية بسبب‬
‫حتويل هؤالء الدين إىل أداة مقتلة عظيمة‪.‬‬
‫ولكن لعل أخطر نتيجة يف ذلك كله‪ ،‬هو تعطيل جهود عقود طويلة قامت‬
‫خالهلا الصحوة اإلسالمية بالكثري يف جمال الدعوة اإلسالمية يف الغرب واألماكن‬
‫ال عن اإلسالم ونبيه ﷺ‪ ،‬أو كتابه‪ ،‬القرآن العظيم‪.‬‬‫التي مل تكن تسمع أص ً‬

‫وأبسط منطق يرد عىل هؤالء وممارساهتم؛ أن نقارن بني موقف الرسول‬
‫الكريمﷺ من ٍ‬
‫نفس أفلتت من دعوته إىل دين اهلل‪ ،‬ومن قيام هؤالء بقتل غري‬
‫املسلمني بحجة حتقيق "النقاء الديني" يف املناطق التي سيطروا عليها‪ ،‬أو "ختويف‬

‫‪496‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أعداء اهلل تعاىل"‪ ،‬أو "معاقبة هؤالء عىل كفرهم"‪ ،‬وكل ذلك أبطل الرسول "عليه‬
‫الصالة والسالم" أية مزاعم عن أنه من اإلسالم‪ ،‬بموقف بسيط ومجلة وجيزة!‬
‫كام أن القرآن الكريم فيه من اآليات الكثري التي تقول بأن حساب‪ :‬الظاملني‪/‬‬
‫الكافرين‪ /‬الفاسقني‪ ،‬وغري ذلك من الفئات‪ ،‬إنام هو عىل اهلل تعاىل؛ ال عىل اإلنسان‪،‬‬
‫[سورة‬
‫مهام كان‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ُ‬
‫"الشعراء" ‪ -‬اآلية ‪ ،]113‬ويقول عز وجل ً‬
‫أيضا‪ ﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫[سورة "الغاشية"]‪.‬‬
‫ﯹﯺ ﴾ ُ‬
‫نحو إعادة النظر يف كيفية تناول السيرة النبوية‬

‫يف حقيقة األمر؛ فإن واجب الوقت يف هذه املرحلة‪ ،‬هو إبراز اجلانب اإلنساين‬
‫العظيم يف اإلسالم‪ ،‬وكيف أن هدف نزول الرسالة اخلامتة‪ ،‬إنام هو إنقاذ أرواح‬
‫الناس‪ ،‬كل الناس‪ ،‬من العقاب الدنيوي واألخروي‪ ،‬وليس ترسيع إرساهلم إىل‬
‫خالقهم من قبل أن يبلوا أخبارهم‪ ،‬وأخبار عقيدهتم‪ ،‬إذا ما علموا من الكتاب‬
‫شيئًا‪ ،‬أو وصلهم عن اإلسالم أية كلمة أو عبارة‪.‬‬
‫األمر اآلخر؛ هو رضورة العمل عىل إعادة تأهيل املناهج الرتبوية باملزيد من‬
‫التوسع يف دراسة السرية النبوية يف غري أمور الغزوات واجلهاد التي تركز عليها‬
‫ُّ‬
‫الكتابات الرتبوية والفكرية التي تتناول السرية النبوية‪.‬‬
‫فحياة الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬بلغت ‪ 63‬عا ًما أو نحو ذلك‪ ،‬كلها‪ ،‬وليس السنوات‬
‫الثالث والعرشين التي هي سنون البعثة فحسب؛ كلها دروس مستفادة‪ ،‬حتى ما‬

‫‪497‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كان منها قبل البعثة‪ ،‬من دراسة السلوك القويم‪ ،‬وكيفية التعامل مع رضبات الدنيا‬
‫ريا‪ ،‬وحتى كيفية الوصول إىل اهلل عز وجل بواسطة‬
‫املتمثلة يف اليتم والعمل صغ ً‬
‫والتأمل يف خلقه سبحانه‪ ،‬وهو ما جاء القرآن الكريم بعد ذلك مصدِّ قا عليه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫العقل‬
‫عام ونصف العام‪ ،‬هي إمجايل‬
‫فال يمكن اختزال السرية النبوية فيام جمموعه ٌ‬
‫فرتات الغزوات والرسايا واجلهاد بالسالح‪.‬‬
‫األساسي ْي يف ديننا؛ حيث حياته‬
‫َّ‬ ‫مصدر ْي الترشيع‬
‫َ‬ ‫فحياته ﷺ هي واحدة من‬
‫هي جزء من ُس َّنته "عليه الصالة والسالم"‪ ،‬وبالتايل؛ فإن االجتزاء فيها خطأ مثلام‬
‫ص النبوي؛ حيث إن االجتزاء يقود إىل أحكا ٍم‬
‫ص القرآين أو ال َّن ِّ‬
‫هو خطأ يف ال َّن ِّ‬
‫رشعية خاطئة ٍ‬
‫وفقه باطل‪.‬‬
‫حممدً ا "عليه الصالة‬
‫نعرف املسلمني وغري املسلمني‪ ،‬أن َّ‬ ‫إننا بحاجة إىل أن ِّ‬
‫والسالم" مل حيارب اليهود – مث ً‬
‫ال ‪ -‬إال ملا خانوا العهد وتآمروا عليه وعىل دولة‬
‫اإلسالم الوليدة يف املدينة املنورة‪ ،‬ولكنه يف األصل؛ ُب ِع َث باحلق هلداية هؤالء‬
‫وإنقاذهم‪ .‬هذا قائم ومطلوب وهذا قائم ومطلوب‪ ،‬وليس جان ًبا منه فحسب‪،‬‬
‫وإال ُك َّنا مثل أهل الكتاب؛ نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ حيث الكفر ال‬
‫يعني اجلحود فحسب‪ ،‬وإنام االنرصاف والنكران كذلك!‬

‫‪498‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫منهج المعتزلة وجدل تجديد الخطاب الديني‪..‬‬


‫عن حدود تعامل العقل مع الشريعة‬

‫اإلسالمي ْي‪ ،‬من بني أكثر األمور املطروقة‬


‫َّ‬ ‫باتت مسألة ترشيح اخلطاب والفكر‬
‫عىل املنصات املعرفية املختلفة‪ ،‬بام يف ذلك حتى منصات أكاديمية رصينة‪ ،‬ال تتناول‬
‫األمور من ظاهر القول‪ ،‬وإنام تتعمق يف مناقشتها بموجب قواعد البحث العلمي‬
‫املرعية‪.‬‬
‫َّ‬
‫ويستوي يف هذا االهتامم‪ ،‬املنصات العربية والغربية عىل ٍ‬
‫حد سواء‪ ،‬ويأخذ أكثر‬
‫من جانب‪ ،‬مثل مناقشة جوهر املرتكزات واملقوالت األساسية التي يستند إليها‬
‫اإلسالمي ْي‪ ،‬وكذلك أحكام الرشيعة‪ ،‬وكيفية التعامل معها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الفكر واخلطاب‬
‫ثم نجد طر ًفا آخر للنقاش‪ ،‬وهو الطرف الذي حياول أن يقلل من قيمة الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬و"يثبت" عدم صالحيته لزمن النهضة العلمية وعرص العقل؛ جتده‬
‫يطرح بعض البدائل الغربية للحلول حمل املنطلق اإلسالمي يف تناول احلياة‬
‫وشكلها وتصورها‪.‬‬
‫ومن أهم املذاهب واألسامء التي نجدها متداولة يف هذا اإلطار‪ ،‬فريدريك‬
‫نيتشه‪ ،‬الذي ُيعتَرب أبو الفكر النازي‪ ،‬وفالسفة املذاهب النفعية والواقعية احلديثة‬
‫بشكل عام‪ ،‬مثل زجيمونت باومان‪ ،‬وبيار بورديو‪ ،‬بخالف املايض؛ حيث كان‬
‫التوجه إليه‪ ،‬هو البديل املثايل القديم من املدارس اليونانية‪ ،‬مثل‬
‫ُّ‬ ‫البديل الذي يتم‬

‫‪499‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فلسفات أفالطون وسقراط‪ ،‬أو – كام يف العرص احلديث – ثقافات الرشق القديمة‪،‬‬
‫وفلسفات "اليوجا"‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫الص َعة – ح ِّيزَ ها لدى جيل كامل‬
‫ولألسف أخذت هذه "املوضة" – أو َّ ْ‬
‫من شباب احلركة اإلسالمية‪ ،‬والشباب املتد ِّين بشكل عام‪ ،‬يف ظل حزمة من‬
‫اإلسالمي ْي‪ ،‬تفرض‬
‫َّ‬ ‫املشكالت التي جيب أن نعرتف هبا‪ ،‬يف اخلطاب والفكر‬
‫البحث عن معاجلات هلا‪.‬‬
‫ومن بني هذه املشكالت‪ ،‬التوقف عند الرتاث كمصدر إهلام‪ ،‬مع وقوف الرتاث‬
‫يف مفاهيمه عند مراحل متقادمة من احلضارة اإلنسانية‪ .‬فعىل أبسط تقدير – وهو‬
‫مثال مهم – فإن مفهوم العلم يف كتب الرتاث والفكر اإلسالمي القديمة‪ ،‬خمتلف‬
‫متا ًما عن مفهوم العلم يف عرصنا احلديث‪.‬‬
‫"ح َّراس‬
‫ومع التعنت العجيب وغري املفهوم يف هذه املنطقة من جانب بعض ُ‬
‫مضطرا‬
‫ًّ‬ ‫العقيدة"‪ ،‬والذين آذوها بحامستهم أو بجهالتهم‪ ،‬أ ًّيا كان؛ فإن املسلم كان‬
‫واقعا من حوله من‬
‫للبحث عن البديل الذي يروى ظمأه‪ ،‬ويتفق مع ما يراه ً‬
‫مفردات‪.‬‬
‫ونفس اليشء ينطبق عىل مفاهيم مهمة وحاكمة يف عرصنا احلايل‪ ،‬مثل املدينية‪،‬‬
‫وما حتمله من مفردات تفرض موازنات دقيقة للغاية‪ ،‬بني ما تفرضه علينا أحكام‬
‫رشيعتنا‪ ،‬وبني ما تفرضه علينا قواعد العمران‪ ،‬والسيام قاعدة التطور‪ ،‬وهي قواعد‬
‫وسنَن من لدن اهللِ تعاىل‪ ،‬وهو خالقها‪ ،‬واضعها فينا‪ ،‬متا ًما كام وضع أحكام الرشيعة‬
‫ُ‬
‫منهاجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لنا‬

‫‪500‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وباعث تناول هذا املوضوع‪ ،‬هو الكثري من الشطط الذي نراه يف بعض‬
‫املدارس احلديثة يف مسألة كيفية التعامل مع أحكام الرشيعة‪ ،‬ومسألة قيمة العقل‬
‫اإلنساين‪.‬‬
‫وبداي ًة؛ فإنه ال خالف عىل مركزية وقيمة العقل‪ ،‬فهو – عىل أبسط تقدير – أحد‬
‫يتعمق – كام‬
‫مناطا التكليف مع احلرية‪ ،‬وبالتايل؛ فإنه ليس من نافل القول‪ ،‬واإليامن َّ‬
‫ورد يف القرآن الكريم‪ ،‬بإعامل العقل فيام خلق ُ‬
‫اهلل تعاىل من حولنا‪ ،‬ويف أدلة وجود‬
‫اهللِ تعاىل ذاته سبحانه‪.‬‬
‫وكذلك العقل هو االداة التي من خالهلا نتلقى العلم‪ ،‬ونقوم بإعامل أحكام‬
‫الرشيعة اإلسالمية يف حياتنا‪ ،‬وندير حياتنا ذاهتا وفق التصور الذي لدينا يف‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ولكن هناك حديث أخذ يتزايد يف اآلونة األخرية لتمرير منهج ُيعيل من العقل‬
‫عىل الرشيعة ذاهتا‪ ،‬وهو منهج قريب من منهج املعتزلة يف التعامل مع الرشيعة‬
‫وأحكامها‪ ،‬وإعالؤهم العقل عليها‪ ،‬ويربر نفسه بشعارات َّبراقة‪ ،‬أو أهداف هلا‬
‫رضورة فع ً‬
‫ال‪ ،‬مثل جتديد اخلطاب الديني‪.‬‬
‫ال إىل جتديد اخلطاب الديني‪ ،‬ولكنه التجديد املوضوعي الذي‬‫فنحن بحاجة فع ً‬
‫يستجيب ملتطلبات العرص‪ ،‬وجييب عىل األسئلة واإلشكاالت ا ُملستَجدَّ ة‪ ،‬ويعمل‬
‫عىل حتديث املفاهيم واألفكار؛ ال أن يكون أداة هدم للفكر اإلسالمي نفسه وبعض‬
‫مدارسه‪ ،‬استجابة لضغوط غربية‪ ،‬أو لرصاعات سياسية!‬

‫‪501‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمر ْين‪ .‬بني ما يقول‬ ‫أن نشري إىل أن هناك فار ًقا كب ً‬
‫ريا للغاية بني َ‬ ‫وهنا البد من ْ‬
‫به املعتزلة وفرق إسالمية أخرى يف هذه النقطة؛ حيث هذا مرفوض متا ًما‪ ،‬فالعقل‬
‫البرشي قارص‪ ،‬والرشيعة وأحكامها من لدن حكيم عليم‪ ،‬وحكمته بالغة‪.‬‬
‫األمر اآلخر‪ ،‬وهو مقبول‪ ،‬فهو يتعلق بكيفية إسقاط احلكم الرشعي عىل الواقع‬
‫جلهت َْي‪ .‬األوىل‪ ،‬هي هل هذا املوقف أو احلالة مطابق ملا جيب تطبيق احلكم الرشعي‬
‫عليه أم ال‪ ،‬والثانية‪ ،‬هو كيفية تطبيق احلكم الرشعي عىل هذه احلالة؛ حيث هناك‬
‫أمور كثرية يف الرشيعة نفسها‪ ،‬وضوابط أخرى اجتهد فيها الرعيل األول من‬
‫ٌ‬
‫املسلمني‪ ،‬وأمههم عمر بن اخلطاب "ريض ُ‬
‫اهلل عنه"‪ ،‬يف هذا الصدد‪ ،‬وهو ما نعرفه‬
‫باسم "الفقه"‪.‬‬
‫ومن بني أهم هذه الضوابط‪ ،‬العلم باحلكم من عدمه‪ ،‬وتوافر اإلرادة من عدمها‪،‬‬
‫واالضطرار‪ ،‬ومثل الظرفية واملصلحة واملوازنة بني املنافع واملضار‪ ،‬ومستوى‬
‫الرضر يف حالة املوازنة بني حاالت فيها كلها رضر‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫هذا مقبول‪ ،‬وموجود‪ ،‬وفيه أكمل صور إعامل العقل وأكثرها رشادة؛ ففيه‬
‫توظيف قدراته‪ ،‬ولكن مع االعرتاف بقصوره‪ ،‬وأنه يف النهاية جمرد أداة فهم‬
‫وتطبيق‪ ،‬وتال ًيا للرشيعة وليس يسبقها‪ ،‬أو أداة تقييم أو تقويم هلا‪.‬‬
‫اإلسالمي ْي؛ نجده يف أرقى مدارسنا الفكرية‬
‫َّ‬ ‫وعرب تاريخ الفكر والفقه‬
‫والفقهية‪ ،‬كام عند اإلمام الشافعي‪ ،‬واألئمة العز بن عبد السالم الشوكاين وابن‬
‫كتب عظيمة وق ِّيمة يف هذا املجال‪.‬‬
‫العريب والشاطبي‪ ،‬وهلم ٌ‬

‫‪502‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فال داعي للحديث عن رضورة ما لذلك؛ حيث هو موجود فع ً‬


‫ال‬
‫لدينا‪ ،‬وال حاجة – بالتايل – للقول بأن اإلسالم أو الرشيعة "بحاجة إليه" حاشا هلل‬
‫تعاىل؛ حيث اإلسالم هو دين اهللِ الكامل‪ ،‬ورشيعته هي الرشيعة الكاملة التامة التي‬
‫منهاجا للناس‪ُ ،‬‬
‫واهلل يعلم َمن خلق‪ ،‬وهو اللطيف اخلبري كام قال القرآن‬ ‫ً‬ ‫ارتضاها‬
‫الكريم‪ُ ،‬‬
‫واهلل يعلم وأنتم ال تعلمون‪.‬‬
‫ولكن هنا ينبغي لنا الواقعية‪ ،‬واالعرتاف بأن لدينا نحن كمسلمني مؤمنني‬
‫باملرشوع اإلسالمي‪ ،‬ونسعى فيها‪ ،‬مشكلة تدفع بعض الليرباليني والعلامنيني‪،‬‬
‫وحتى بعض املتدينني إىل إثارة هذه القضية‪ ،‬وهي مشكالت التطبيق واالنحرافات‬
‫وقعت بسبب عوامل كثرية للغاية‪ ،‬مثل استبداد احلكم يف تاريخ الدول اإلسالمية‬
‫وح َّكام ُكثر للرشيعة بتأويالت باطلة‬
‫املختلفة التي ظهرت‪ ،‬وتوظيف سالطني ُ‬
‫ألجل استمرار ا ُمللك هلم ولذرارهيم من بعدهم‪.‬‬
‫ومنها كذلك ظهور ما أطلق عليه مدارس البداوة يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬التي‬
‫ارتكست باملسلمني قرو ًنا طويل ًة للوراء‪ ،‬وغرست طابع البداوة التي نزل اإلسالم‬
‫ال لنقضها‪ ،‬يف تطبيقات الدين املختلفة‪.‬‬ ‫أص ً‬

‫‪......‬‬
‫إن هذه القضايا كلها‪ ،‬تطرح العديد من الواجبات عىل الرتبويني والعلامء‬
‫العاملني يف حقول الدعوة والعمل اإلسالمي املختلفة‪ ،‬أمهها السعي إىل حتديث‬
‫طرائق تناول القضايا ا ُملست ََجدّ ة‪ ،‬ومواجهة حتدي العلم‪ ،‬كام واجهه األقدمون يف‬
‫مدرسة حداثية لألسف نعجز عنها اآلن؛ حيث كان غالب علامء املسلمني‪ ،‬مثل‬

‫‪503‬‬
‫مفاهيم حاكمة في فضائنا‬
‫الفصل الثاني‬
‫اإلسالمي‪ ..‬تصحيح وتوضيح!‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ابن سينا والبريوين واإلدرييس‪ ،‬يف األصل‪ ،‬هم قضاة رشعيني وفقهاء!‬
‫إسالميا ألفكار وأطروحات‬
‫ًّ‬ ‫وهنا؛ فإننا ينبغي أن نجد للجيل اجلديد بدي ً‬
‫ال‬
‫نيتشه وباومان وبورديو‪.‬‬
‫وبالفعل؛ هناك حماوالت مهمة للغاية يف هذا املجال‪ ،‬لكنها توقفت ألسباب‬
‫غري معلومة‪ ،‬مثلام حاولت الدكتور هبة رؤوف عزت والدكتور جاسم سلطان‪،‬‬
‫يف سلسلة مهمة كانت تصدر عن الشبكة العربية لألبحاث والنرش‪ ،‬بعنوان "نحو‬
‫وحمتوى وخطا ًبا‪ ،‬ما هو مطلوب بالضبط‬
‫ً‬ ‫عمران جديد"؛ حيث كانت تتضمن لغ ًة‬
‫اآلن‪ ،‬بام يف ذلك حتى أحكا ًما فقهية يف أمو ٍر واقعية قائمة‪ ،‬وليس َّ‬
‫جمرد حتدي ًثا يف‬
‫املجال الفكري‪.‬‬
‫القائم ْي لدى البعض بشأن‬
‫َ‬ ‫األهم من ذلك‪ ،‬هو فك االشتباك والتشويش‬
‫العالقة بني العقل والرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وفق املنظور السابق؛ حيث العقل هو أداة‬
‫ً‬
‫صاحلا من األحكام الرشعية؛‬ ‫فهم وتطبيق‪ ،‬وليس أداة تقويم وتقييم؛ تنبذ ما ال تراه‬
‫وتنزه عن النقص‪.‬‬
‫حاشا هلل تعاىل‪ ،‬وتقدست حكمته‪َّ ،‬‬
‫فنعمل عىل حتديد الرتاتبية بينهام‪ ،‬وحدود تعامل العقل مع النص الرشعي‪ ،‬وما‬
‫هو مسموح وما هو غري مسموح يف هذا اإلطار‪.‬‬
‫املهم‪ ،‬أن هناك جهدً ا ينبغي أن يتم بذله‪ ،‬وإال فإننا سوف نرتك جي ً‬
‫ال حال ًيا‪،‬‬
‫ال مقب ً‬
‫ال هنب ًة هلذه املدارس الدخيلة علينا‪ ،‬وتتناقض يف قواعدها وأسسها مع‬ ‫وجي ً‬
‫رشيعتنا احلنيفة‪.‬‬

‫‪504‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"‪ ..‬يعرف العامل يف وقتنا الراهن تنامي موجة كبرية من امليل إىل التخيل عن فكرة‬
‫الدين‪ ،‬وتراجع الناس عن التد ُّين‪.‬‬
‫وال تقف هذه الظاهرة‪ ،‬كام تناولنا يف مواضع سابقة من احلديث‪ ،‬عند جمتمعات‬
‫بعينها؛ حيث باتت تتشارك فيها املجتمعات العربية واملسلمة‪ ،‬مع املجتمعات‬
‫الغربية‪.‬‬
‫وهناك أكثر من عامل النتشار هذه الظاهرة‪ ،‬يمكن تقسيمها إىل عوامل خاضة‬
‫املنزلة‪ ،‬اإلسالم واملسيحية عىل وجه‬
‫للمؤسسات واألطراف التي متثل الديانات َّ‬
‫اخلصوص‪ ،‬وعوامل عامة من واقع اإلنسانية الراهن‪.‬‬
‫ويف العوامل اخلاصة باملؤسسات الدينية‪ ،‬اإلسالمية واملسيحية‪ ،‬سوف نجد أن‬
‫أمهها‪ ،‬االنحرافات املنهجية التي وقعت فيها بعض اجلامعات اإلسالمية الصحوية‪،‬‬
‫وممارسات تنظيامت العنف املسلح التي منحت نفسها صفة "إسالمية"‪ ،‬والفساد‬
‫األخالقي داخل الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬التي تسيطر عىل أكرب نسبة أتباع يف العامل‪.‬‬
‫َّأما يف جمال العوامل املوضوعية التي تتعلق بواقع اإلنسانية العام؛ فإن هناك‬
‫التوحش الكبري يف عامل تسوده الرأساملية؛ حيث‬
‫ُّ‬ ‫احلروب والنزاعات‪ ،‬وكذلك‬
‫املجاعات ترضب الكثري من مناطق العامل؛ بينام يرمي آخرون يف الغرب الرأساميل‪،‬‬
‫ماليني األطنان من احلبوب واأللبان واألغذية الصاحلة‪ ،‬ألجل احلفاظ عىل ثبات‬
‫أسعارها‪.‬‬

‫‪507‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولقد نشأت يف هذا اإلطار العديد من األفكار التي قادت أصحاهبا إىل التخيل‬
‫عن فكرة االتزام بالدين‪ ،‬حتى مع اإليامن بحقيقة وجود ٍ‬
‫إله هلذا الكون؛ خلقه‬
‫ً‬
‫اعرتاضا عىل ما جيدونه من أوضاع معاناة‪ ،‬يف ظل ثقافة علامنية سائدة‪،‬‬ ‫ويد ِّبر أمره‪،‬‬
‫أو قصور يف الفهم العقيل حلكمة اخلالق عز وجل مما حيدث عىل األرض"‪..‬‬

‫‪508‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الدين كفطرة إنسانية‪ ..‬ر ً ّدا على دعاة اإللحاد‬

‫يف سياق االرتكاسات التي رافقت الثورات املضادة يف مرحلة ما بعد الربيع‬
‫عرف بتيارات اإلسالم السيايس‪ ،‬والتي – أي‬
‫العريب‪ ،‬وما رافقها من محالت عىل ما ُي َ‬
‫هذه احلمالت – طالت األصل الفكري والقيمي الذي تنطلق منه هذه احلركات‪،‬‬
‫وهو املرشوع احلضاري اإلسالمي‪ ،‬والدين ذاته؛ وقعت العديد من املشكالت‬
‫املفاهيمية والبنوية يف نفوس األجيال اجلديدة الناشئة‪ ،‬والتي ُتعترب – بالفعل –‬
‫جريمة عرصها‪ ،‬بسبب حالة التجهيل ُ‬
‫واأل ِّمية الفكرية والثقافية التي وصلت إليها‪.‬‬
‫وساهم يف هذه احلالة‪ ،‬جمموعة من املشكالت التي طرأت داخل احلركة‬
‫اإلسالمية ذاهتا‪ ،‬ونزوع تيارات ورشائح عريضة منها إىل العنف‪ ،‬وممارسة القتل‬
‫وأعامل اإلرهاب التي ال يقبلها اإلسالم‪ ،‬باسم الدين‪ ،‬وسواء أكانوا مدفوعني‬
‫بباعث تأثريات ما جرى من جرائم يف حق احلركات اإلسالمية يف بلداهنا‪ ،‬أو‬
‫تم تأسيسهم من األصل من جانب خصوم املرشوع اإلسالمي من األنظمة‬
‫واحلكومات االستعامرية؛ فإن ذلك أدى إىل تكريس هذه املشكالت املفاهيمية‬
‫والبنوية‪.‬‬
‫ومن بني أبرز هذه املشكالت قضية اإلحلاد‪ ،‬بدرجاهتا املختلفة‪ ،‬والتي تبدأ برفض‬
‫فكرة التدين ومظاهره‪ ،‬بد ًءا بخلع احلجاب من جانب فئات من فتيات األجيال‬
‫اجلديدة‪ ،‬والتدرج حتى الوصول إىل ترك العبادات قناع ًة بـ"عدم جدواها"‪.‬‬

‫‪509‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتتدرج تلك الظواهر لتصل إىل مرحلة الشك لدى البعض‪ ،‬وتعزز ذلك من‬
‫خالل جمموعة من النقاشات غري الرشيدة عىل مواقع التواصل االجتامعي‪ ،‬وصو ً‬
‫ال‬
‫إىل تبني فكرة عدم وجود إله من األصل‪ ،‬واإليامن بالنظريات املادية املختلفة التي‬
‫وضعت خللق الكون وصريورته‪ ،‬بالرغم من أن أبسط األدلة العقلية تقول بأنه ال‬
‫يمكن للكون أن ُي َلق ويسري عىل هذا النسق الدقيق من دون خالق واحد أعظم‬
‫هييمن عليه ويقوم عىل أموره‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر‪ ،‬وبعيدً ا عن أي شقٍّ سيايس يف هذه املشكلة؛ فإنه من املستغرب‬
‫من وجهة نظر علم االجتامع‪ ،‬ومنه علم األنثروبولوجي الثقايف‪ ،‬أن يصل اإلنسان‬
‫إىل هذه الدرجة من فقدان فكرة اإليامن وجود خالق أعظم مد ِّب ٌر هلذا الكون‪،‬‬
‫بالرغم من كل ما وصل إليه اإلنسان من علم وتقدم يف املجاالت املعرفية املختلفة‪،‬‬
‫والرتاكم احلضاري‪.‬‬
‫ومن املعروف – وهي حقيقة قرآنية – أنه كلام زاد تدبر اإلنسان يف الكون‬
‫والوجود؛ كلام قاده ذلك إىل إدراك احلقائق اإليامنية اخلاصة هبذا الكون والوجود‪.‬‬
‫فيقول ُ‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬يف ُسورة َ‬
‫"احلج"‪ ﴿ :‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﴾‪ ،‬ويف ُسورة "العنكبوت"‪ ،‬يقول عز وجل‪﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﴾‪ ،‬ويف ُسورة " ُف ِّص َل ْت"‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾‪.‬‬

‫‪510‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهي بدهيية عقلية أكدها القرآن الكريم كذلك‪ ،‬وهي أنه لو أن هذا الكون من‬
‫ورب ٍ‬
‫وإله واحد فقط‪ ،‬ال رشيك له يف ملكوته؛ لكان الكون قد زال‬ ‫رب وإله‪ٍّ ،‬‬‫دون ٍّ‬
‫واهنار‪ ،‬مع استقالل كل من األرباب واآلهلة بام خلقوا‪ ،‬سبحانه وتعاىل َّ‬
‫عم يصفون‪.‬‬
‫ففي ُسورة "املؤمنون"‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ﴾‪.‬‬
‫ُّ‬
‫والتحض عن‬ ‫وحتى يف عصور التوحش والبدائية األوىل‪ ،‬ومع ضياع اإليامن‬
‫بعض املجموعات البرشية‪ ،‬بعد انسياح نسل آدم (عليه السالم) يف األرض؛ كانت‬
‫فكرة اإلله الواحد هلذا الكون مرافقة ً‬
‫دائم هلم‪.‬‬
‫وحتى يف احلاالت التي تم تصوير فيها هذا اإلله يف صورة مادية‪ ،‬مثل "الطوطم"‬
‫أو األصنام لدى الشعوب البدائية‪ ،‬أو يف صورة الشمس وغريها من املوجودات‬
‫الكونية من حولنا‪ ،‬كام يف احلضارات املرصية واليونانية القديمة قبل ظهور اليهودية‬
‫واملسيحية؛ فإهنا يف النهاية تعرب عن أن فكرة اإلله الواحد املد ِّبر هلذا الكون؛ راسخة‬
‫يف وجدان اإلنسان‪ ،‬وفق منهج عقيل بسيط يقوم عىل أساس فكرة أن هذا النظام‬
‫الدقيق للكون ال يمكنه أبدً ا أن يتسق مع نفسه هبذه الصورة‪ ،‬إال بوجود قوة مهيمنة‬
‫عليه‪.‬‬
‫الشطر الثاين من القضية التي نحن بصددها يف هذا املوضع‪ ،‬هي أمهية وقيمة‬
‫الدين يف حياة اإلنسان‪ ،‬سواء عىل املستوى الفردي أو اجلامعات‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فالدين يف أبسط تعريفاته‪ ،‬هو منظومة من العقائد واألفكار والسلوكيات‪،‬‬


‫تتضمن جوانب إيامنية‪ ،‬وأخرى أخالقية‪ ،‬حتكم تصور اإلنسان للكون‪ ،‬وعالقاته‪،‬‬
‫يف إطار دوائر ثالث‪ ،‬األوىل مع خالقه‪ ،‬وهي األهم بطبيعة احلال‪ ،‬والدائرة الثانية‬
‫هي ذاته‪ ،‬والثالثة‪ ،‬هي دائرة اآلخرين‪.‬‬

‫وبالتايل؛ فإن الدين هو سياق ناظم حلياة اإلنسان‪ ،‬وبالتايل؛ فإن غيابه يعني‬
‫الفوىض‪ ،‬ولذلك نجد فكرة الدين هبذا املعنى؛ حارضة عند خمتلف الشعوب‪ ،‬مهام‬
‫كان طبيعة هذا الدين التي تدين به هذه الشعوب‪ ،‬سواء أكانت ديانات ساموية إهلية‬
‫املصدر‪ ،‬أو ديانات وضعية‪.‬‬

‫وهذا حيقق لإلنسان حالة من األمان النفيس‪ ،‬كام أنه حيقق حالة من األمن‬
‫واالستقرار لدى اجلامعات‪ ،‬فلو غابت فكرة وجود اإلله اخلالق القادر‪ ،‬وما يتصل‬
‫به مما اختص به ذات من أمور‪ ،‬مثل الثواب والعقاب‪ ،‬يف الدنيا واآلخرة؛ لسادت‬
‫الفوىض يف األرض‪ ،‬فساد سفك الدماء والرسقة‪ ،‬وتتحول األمور من االنتظام‬
‫إىل "رشيعة الغاب"؛ حيث الغلبة لألقوى‪ ،‬وتسود فكرة استعباد الضعيف؛ حيث‬
‫يكون احلفاظ عىل حياته ملجرد فقط احتياج القوي إىل األدوار التي يامرسها الضعفاء‬
‫يف خدمة األقوياء‪.‬‬

‫وأوروبا العصور الظالمية؛ كانت أبلغ تعبري عن ذلك؛ حيث سادت منظومة‬
‫السادة والعبيد هذه‪ ،‬بسبب عدم متسك املجتمعات بالدين‪ ،‬وبمفاهيمه األساسية‬
‫خوة اإلنسانية‪ ،‬والتكامل بني البرش‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬ ‫يف صدد مبدأ ُ‬
‫األ َّ‬

‫‪512‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫كام أن الدين حيقق لإلنسان الكثري من األمور من أمهها حتريره من عبودية كل‬
‫يشء غري اهلل تعاىل‪ ،‬أو اإلله الذي يعبد‪ ،‬وبالتايل فهو حيقق لديه عزة النفس والتقدير‬
‫أمام الذات وأمام اآلخرين‪ ،‬وهي من أهم وأرقى االحتياجات اإلنسانية‪ ،‬وفق كل‬
‫علامء االجتامع والنفس‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن فكرة اإلحلاد‪ ،‬سواء فيام خيص قضية وجود اخلالق‪ ،‬أو رضورة‬
‫الدين يف حياة اإلنسان‪ ،‬تتناىف مع الفطرة اإلنسانية السليمة‪ ،‬ومع عقل اإلنسان‪،‬‬
‫ودليلنا يف ذلك – كام تقدَّ م – أن بعض الشعوب التي ال تعرف الرساالت التي‬
‫أنزهلا اهلل تعاىل‪" ،‬اخرتعت" لنفسها أديان وبعضها وصل حلقيقة التوحيد‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الدين وحماية المجتمعات اإلنسانية‪..‬‬


‫رسالة إلى أصحاب الشطط العلماني!‬

‫ما وضع اهلل تعاىل قوانني العمران‪ ،‬بأشكال العمران املختلفة‪ ،‬سواء أكان الكون‬
‫الفسيح‪ ،‬أو املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬أو أي شكل آخر‪ ،‬يف يد البرش‪ ،‬أو يف يد أي‬
‫خملوق آخر‪ ،‬ألنه أراد انتظام الكون‪ ،‬واستمرار التوازن الدقيق الذي وضع سبحانه‬
‫عليه خلقه وملكوته‪ ،‬بأية صورة للخلق‪ ،‬إىل أن تشاء حكمته‪ ،‬وينهي الدنيا‪.‬‬
‫حتكم املخلوق بنقائصه وعوارضه املختلفة‪.‬‬ ‫فكانت قوانينه الربانية خارج نطاق ُّ‬
‫ويستوى يف ذلك قوانني الفيزياء والكيمياء والفلك‪ ،‬وما اتصل من قوانني املادة‪،‬‬
‫وكذلك القوانني التي حتكم البرش وصريورات حياهتم‪ ،‬وتفاعالهتم املختلفة فيام‬
‫بينهم‪ ،‬بمختلف مستوى هذه التفاعالت ومستوياهتا‪ ،‬بد ًءا باإلنسان ونفسه‪ ،‬وحتى‬
‫مستوى تفاعل وتدافع املجتمعات واألمم‪.‬‬
‫لذلك فإن هلل تعاىل قوانني فرض حتميتها تعمل عىل ضبط أي ميل يظهر يمس‬
‫القائم ْي‪.‬‬
‫َ‬ ‫باالستقرار والتوازن‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬فإن هناك الكثري من املالحظات ذات الطابع املوضوعي التي يمكن‬
‫أخذها عىل بعض املواقف التي تنقلها لنا وسائل اإلعالم والتواصل االجتامعي‪ ،‬ويف‬
‫جمال الندوات واللقاءات املبارشة التي يعقدها الكثري من الشخصيات املحسوبة‬
‫عىل التيارات الليربالية والعلامنية يف عاملنا العريب واإلسالمي‪ ،‬يف شأن قضايا متكني‬
‫الدين عىل املستوى السلوكي واألخالقي يف جمتمعاتنا العربية واملسلمة‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫نموذجا يوضح ذلك‪ ،‬وإن كنا ال نناقش القضية التي يتناوهلا‬


‫ً‬ ‫ولنأخذ عىل ذلك‬
‫هذا النموذج‪ ،‬وهي النقاب‪ ،‬ولكن النقاشات املتعلقة بجدل النقاب‪ ،‬كام جيري يف‬
‫مرص واجلزائر أو يف بعض البلدان األوروبية يف هذه اآلونة‪ ،‬حول األمر تثري الكثري‬
‫من األمور حول حدود فهم بعض التيارات لقضية التدين وأمهيتها يف محايتهم هم‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫مبدئيا؛ نشري إىل حقيقة مؤسفة تقول بأن سياقات وشعارات مثل "احلرب‬
‫ًّ‬
‫عىل اإلرهاب"‪ ،‬و"مكافحة الفكر املتطرف"‪ ،‬و"جتديد اخلطاب الديني" قد أتت‬
‫بآثار سلبية عىل التدين ذاته‪ ،‬وعىل املوقف من الدين‪ ،‬يف ظل اختالط هذه املفاهيم‬
‫برصاعات سياسية بني األنظمة واحلركات اإلسالمية التي تستند إىل اخلطاب‬
‫الديني يف سياقات سياساهتا وخطاهبا العام للجمهور‪ ،‬ويف ظل عشوائية احلمالت‬
‫اإلعالمية التي تتم يف هذا االجتاه‪ ،‬ووجود شخصيات ورموز من أشد غالة‬
‫املتطرفني الضد‪ ،‬ضمن هذه احلمالت‪.‬‬
‫كام أنه قد فتح املجال أمام الكثري من األصوات التي اكتسبت "محاستها" يف‬
‫اهلجوم عىل الدين وثوابته‪ ،‬من حالة من االنفتاح اإلعالمي‪ ،‬ومحالت جتد ً‬
‫دعم من‬
‫حكومات دوهلا‪ ،‬ضمن سياقات سياسية؛ ال فكرية وقيمية!‬
‫ثم إهنم وقعوا يف فخ اخللط بني السلوك الطبيعي للناس‪ ،‬وبني سياسات ومواقف‬
‫بعض اجلامعات والشخصيات التي تقول بأهنا إسالمية؛ حيث النظرية ال تتحمل‬
‫ذنوب أخطاء التطبيق‪ ،‬ناهينا عن أن بعض هذه اجلامعات والشخصيات يقف خلفها‬
‫خصوم الدين واملرشوع احلضاري اإلسالمي من حكومات وعواصم غربية‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وظاهرة التطرف يف األوساط العلامنية والليربالية يف عاملنا العريب‪ ،‬معروفة‪،‬‬


‫ومثرية لالنتباه؛ ألنه من املفرتض أهنا أوساط هتاجم التطرف الديني وغري الديني‪،‬‬
‫ووقعوا يف ذات السياق‪ ،‬يف مغالطات منطقية تتناىف متا ًما مع مقتضيات خطاب‬
‫العقل الذي يقولون إهنم يتبنونه؛ حيث خطاهبم يناقض األساس أو املرتكز التي‬
‫تقول هذه الفئة إهنا تنطلق منها‪ ،‬مثل احلريات؛ حرية الرأي والتعبري‪ ،‬وحرية‬
‫االعتقاد‪ ،‬وحرية امللبس‪ ،‬وكافة أشكال احلريات الفردية األخرى‪.‬‬
‫ولقد كشف ذلك عن خصومة أصيلة لدى هؤالء إزاء الدين‪ ،‬وإزاء فكرة التد ُّين‬
‫بشكل عام‪ ،‬أ ًّيا كان الدين؛ وليس اإلسالم فحسب؛ حيث هم يف مرص عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬هيامجون الكنيسة وهيمنتها عىل رعاياها‪.‬‬
‫وبعضهم ال خيفي هذه العداوة‪ ،‬ألصل الفكرة‪ ،‬ويقول بذلك رصاح ًة‪ ،‬وهو‬
‫أمرا غري ِ‬
‫جمد؛ حيث إن املناقشات معهم حمسومة بمواقفهم‬ ‫جيعل من النقاش معهم ً‬
‫هذه‪ .‬هي مواقف خصومة‪ ،‬أي أهنا مواقف مبدأية‪ ،‬وليست نامجة عن أخطاء يف‬
‫الفهم والقياس؛ يمكن تغيريها من خالل النقاش املنطقي الصحيح‪.‬‬
‫ولكن يف املقابل؛ أوقعهم ذلك يف مشكلة كبرية ف َّت ْت يف عضدهم‪ ،‬وهي أهنم‬
‫يفتقدون إىل املنهجية السليمة يف "دحض" أفكار الدين و"تفنيدها" – بمنطقهم –‬
‫ودخلوا معه يف خصومة ال تستند إىل ٍ‬
‫سند عقيل‪ ،‬وإنام قيمي باألساس‪.‬‬
‫وبدا ذلك يف اجلدل األخري الذي ظهر حول النقاب يف مرص كذلك؛ حيث‬
‫خاضت واألديبة والكاتبة فاطمة ناعوت‪ ،‬مناظرات عديدة ُه ِز َم ْت فيها بسبب أن‬
‫فسهل تفنيد ادعاءاهتا‪.‬‬
‫مبنيا عىل أساس منطقي كام تقدَّ م؛ ُ‬
‫موقفها مبدأي‪ ،‬وليس ًّ‬

‫‪516‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهناك جانب آخر من الشطط الذي حيدث يف أفكار وتناوالت هؤالء للدين‬
‫ومرتكزاته‪ ،‬والسيام فيام يتعلق بالنواحي األخالقية والقيود التي يفرضها الدين‬
‫ً‬
‫حفظا ألمور عدة تنتمي إىل القوانني واحلتميات التي‬ ‫عىل السلوكيات البرشية‬
‫وضعها اهلل تعاىل يف العمران البرشي لضامن صريوراته واستمراره إىل أن يشاء‬
‫اخلالق سبحانه‪.‬‬
‫ويتعلق ذلك الشطط بنقطة االندفاع إىل النقيض املؤذي كام نقول‪ ،‬فبعض الذين‬
‫يقفون ضد تقييد الدين حلرية اجلسد مث ً‬
‫ال؛ يدعون إىل اإلباحية الرصفة‪ ،‬وهي حالة‬
‫– ككل ما شاءته حكمة اهلل تعاىل من قوانني يف واقع األمر – تقود إىل كوارث‪.‬‬
‫فام منع اهلل تعاىل شيئًا فيه منفعة‪ ،‬وما دعا ليشء‪ ،‬إال وفيه اخلري‪ .‬هذه حقائق‬
‫أثبتتها القوانني العمرانية املختلفة‪ ،‬قبل أن تكون عقيدة بالنسبة لنا كمسلمني‪.‬‬
‫فحرية اجلسد‪ ،‬تقود إىل انحالل خلقي يؤدي بدوره إىل أمراض مستعصية‪ ،‬وهو‬
‫أمر واضح حتى يف املجتمعات الغربية املتقدمة يف املجال الطبي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كام أن أول املترضرين من دعوات حترير املرأة بشكل عام‪ ،‬بام يف ذلك حرية‬
‫ح َلة شعارات‪" :‬املرأة القوية"‪،‬‬
‫امللبس واحلياة؛ ُهن السيدات "الفيمينيست" من َ َ‬
‫واملرأة املستقلة"‪ ،‬و"املرأة العارية"؛ حيث إن هذه الفئة – واملرأة من املعروف‬
‫بشكل موضوعي أهنا من الفئات األضعف يف املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬وهو اعرتاف‬
‫يتعرض ٍ‬
‫ملآس حقيقية لو‬ ‫معتمد يف تقارير املنظامت الدولية – سوف تكون أول من َّ‬
‫اختفى الوازع األخالقي املبني عىل الدين من املجتمعات‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهو أمر واضح يف املجتمعات "الراقية" "الغنية "املتقدمة" التي يتبنوهنا‬


‫كنموذج ملا يدعون إليه؛ ففي هذه املجتمعات املتقدمة يف املجال املعييش والقانوين‬
‫ٍ‬
‫والسيايس وكذا؛ جرائم االغتصاب واالعتداء عىل املرأة هي األعىل يف العامل‪ ،‬وأكثر‬
‫بكثري مما حيصل ضد املراة يف املجتمعات العربية واملسلمة من انتهاكات‪ .‬عىل أقل‬
‫تقدير‪ ،‬مل تعالج هذه األفكار مآيس املرأة هناك‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫إن هناك حاجة إىل جهد إعالمي واسع ملناقشة أمهية الدين ومنظومته األخالقية‬
‫والسلوكية يف محاية املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬وإقناع الناس بذلك‪ ،‬وأن األمر يف‬
‫مصلحتهم‪ ،‬وال يتعلق بستار تتخفى وراءه مجاعات تستخدم اخلطاب الديني‬
‫ألغراض سياسية لدهيا‪ ،‬كام بات اإلعالم يكرر يف وقتنا الراهن‪.‬‬
‫فإنه بكل يقني‪ ،‬لو سقط جدار احلامية األخالقي الذي فرضه الدين باألساس‬
‫للمرأة بشكل خاص‪ ،‬وللحقوق الفردية املطلقة‪ ،‬مثل حرمة النفس واملال؛ وقتها‬
‫فإن "الفيمينيست"‪ ،‬والصحفيون واحلقوقيون والساسة الذين ينحون النحو‬
‫السابق؛ لن جيدوا مكا ًنا آمنًا ألفكارهم هذه‪ ،‬بل ووجودهم ذاته‪ ،‬يف العامل كله‪.‬‬

‫‪518‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫خطيئة التطرف عند العلمانيين والليبراليين‬

‫شغلت‪ ،‬ومل تزل‪ ،‬الكثري من الدوائر السياسية واإلعالمية املعنية بشئون احلركة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬سواء يف العامل العريب واإلسالمي‪ ،‬أو عىل مستوى العامل الغريب‪ ،‬الذي‬
‫ما فتيء يثري الكثري من الغبار والتشويش حول قيمنا اإلسالمية‪ ،‬وقيم املرشوع‬
‫احلضاري النهضوي الذي حتمله احلركات اإلسالمية الصحوية؛ شغلت هذه‬
‫األوساط بالرتويج لقضية "التطرف عند املسلمني"‪ ،‬باعتباره أحد "األعداء‬
‫األلداء" للحضارة اإلنسانية وصريوراهتا‪.‬‬
‫وبالرغم من أن هناك الكثري من املغالطات العمرانية والتارخيية يف هذا االهتام‬
‫الذي مل يتم تروجيه إال للتشويش عىل املرشوع‪ ،‬وعرقلته؛ إال أن فيه الكثري من‬
‫اجلوانب التي تدخل عىل الكثريين يف عاملنا العريب واإلسالمي‪ ،‬يف ظل انتشار‬
‫حالة من التجهيل واألمية والتضليل املتعمدة من جانب أنظمة الفساد واالستبداد‬
‫احلاكمة‪ ،‬من أجل ضامن استمرارها يف حكم شعوهبا‪.‬‬
‫وهو اهلدف الذي يف سبيله يمكن هلا أن تتحالف مع الشيطان ألجله‪ ،‬وبالفعل‪،‬‬
‫فقد حتالفت مع املرشوع الغريب الصهيوين‪ ،‬منذ سقوط دولة اخلالفة يف العرشينيات‬
‫بخطى حثيثة‬
‫ً‬ ‫املاضية‪ ،‬يف حماولة فاشلة إلجهاض املرشوع اإلسالمي وهو يتقدم‬
‫لتحقيق أستاذية العامل‪ ،‬ونرش نور اإلسالم ومتكينه يف ربوع األرض‪ ،‬كام شاءت‬
‫إرادة اهلل عز وجل‪ ،‬وكام استخلف بني آدم يف هذه األرض‪ ،‬ألجل ذلك‪.‬‬

‫‪519‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وقبل التطرق إىل هذه اجلوانب‬


‫والتطرف‪ ،‬مصطلح أحادي االجتاه‪ ،‬فال يستخدمه سوى طرف لوصف طرف‬
‫آخر كام أنه نسبي؛ حيث إنه يرتبط باملكون الفكري واأليديولوجي للمجتمع الذي‬
‫يتم فيه وصف طرف فيه بأنه متطرف‪ ،‬فهذا متطرف أو غري متطرف‪ ،‬خاضعة لطبيعة‬
‫فهم املجتمع لألسس والقواعد التي حتكم املجال الذي حيكم املجتمع فيه عىل هذا‬
‫سياسيا كان‬
‫ًّ‬ ‫أو ذاك‪ ،‬فر ًدا أو مجاعة‪ ،‬بأنه "يتطرف" يف فكره وفعله يف هذا املجال؛‬
‫اجتامعيا‪ ،‬أو أ ًّيا كان‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫أو‬
‫ويستخدم املصطلح باألساس يف جمال وصف أفكار أو أعامل عىل حد سواء‪،‬‬
‫ولكنه يرتبط بالفكر بشكل رئييس‪ ،‬ويشري إىل اجتاه "عمدي" من جانب أصحابه‬
‫لألخذ بأقىص املواقف‪.‬‬
‫وبشكل عام فإن وصف التطرف يكون لوصم أيديولوجية سياسية أو فكرية‪،‬‬
‫ويف الغالب تكون – أو هكذا حياول أصحاب هذا اإلطالق أن يصفوها‪ ،‬بأهنا‬
‫خمالفة ملا هو سائد يف املجتمع من أفكار أو أيديولوجيات سياسية‪ ،‬وعمو ًما‪ ،‬يكون‬
‫ً‬
‫مرتبطا بفكرة "التشدد" يف املواقف‪.‬‬ ‫هذا اإلطالق‪ ،‬أو الوصف بالتطرف‪،‬‬
‫وقد يكون التطرف مقرو ًنا بمامرسة شكل من أشكال العنف املرتبط بالتخريب‪،‬‬
‫ولبواعث سياسية‪.‬‬
‫ولكن أصحاب هذا املفهوم الذي يروجونه ضد املرشوع اإلسالمي‪ ،‬يتجاوزون‬
‫مهم ْي؛ األول هو التجاهل الكامل للجانب اآلخر من املفهوم‪ ،‬والثاين‪،‬‬
‫عن أمرين َّ‬

‫‪520‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هو أهنم هم أنفسهم بمواقفهم هذه من التيار اإلسالمي – أ ًّيا كان طيفه الفكري أو‬
‫السيايس أو املجتمعي – إنام يامرسون ذات خطيئة التطرف التي يتهمون هبا الغري‪.‬‬
‫أما األمر األول؛ فإن لكل يشء طر َف ْي‪ ،‬وبالتايل فإن التطرف بمعنى التشدد‪،‬‬
‫يقابله تطر ًفا آخر‪ ،‬وهو التفريط‪ ،‬فالتطرف ال يقرتن بالتشدد فحسب؛ وإنام‬
‫بمصطلح آخر‪ ،‬وهو املغاالة‪ ،‬أي أخذ األمر بأكرب من قدره‪ ،‬بام ال يستقيم معه‬
‫األمر‪ ،‬ويتجاوز مستوى الوسطية املقبول يف أي أمر من األمور‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬التطرف مغاالة‪ ،‬وقد يكون مغاالة يف التشدد‪ ،‬وقد يكون مغاالة يف‬
‫التفريط‪ ،‬وهو اجلانب الذي يتجاوز عنه العلامنيون والليرباليون ودعاة التحرر من‬
‫ضوابط وقواعد الدين التي هي ضوابط وقواعد الفطرة اإلنسانية السليمة‪.‬‬
‫وهذا املوقف مفهوم من جانب دعاة التغريب والليرباليون والعلامنيون يف‬
‫جمتمعاتنا العربية واإلسالمية‪ ،‬فهم ال يرفضون التطرف بمعنى التشدد واملغاالة فيه‬
‫بشكل ما بقدر ما هم يرفضون التد ُّين‪.‬‬
‫وهو ما يقودنا إىل احلديث عن األمر الثاين‪ ،‬وهو أن دعاة احلرية والليرباليني‪،‬‬
‫سواء من املوجودين يف املجتمعات العربية واملسلمة‪ ،‬أو مفكري وساسة الغرب‬
‫وإعالمييه‪ ،‬يامرسون ذات اخلطيئة التي حياولون وصم غريهم هبا‪.‬‬
‫فهم عندما يغالون يف دعاوى التحلل من الدين‪ ،‬ورفض حتكيمه يف املجتمعات‬
‫التي يعيشون هبا‪ ،‬إنام يامرسون خطيئت َْي وليست خطيئة واحدة؛ فهم أو ً‬
‫ال يتطرفون‬
‫ال من معاجلة اإلفراط‬‫يف مواقفهم من الدين واملتدينني‪ ،‬ويدعون إىل التفريط بد ً‬
‫القائم من وجهة نظرهم‪ ،‬أو حتى بحكم األمر الواقع‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهناك الكثري من املسلمني متطرفون‪ ،‬كام الكثري من املسيحيني واليهود والبوذيني‬


‫واهلندوس‪ ،‬وغريهم من أتباع الديانات الساموية الوضعية والفلسفات البرشية عىل‬
‫حد سواء‪ ،‬ولكن عالج هذا التطرف بمعنى التشدد واإلفراط‪ ،‬ال يكون بالدعوة‬
‫إىل االنحالل والتفريط‪ ،‬وإنام باملعاجلة الفكرية التي تقود إىل الوسطية‪.‬‬
‫اخلطيئة الثانية التي يفعلوهنا‪ ،‬هو أهنم يفتئتون عىل حرية الفكر لدى غريهم‪،‬‬
‫فكل إنسان من حقه تبني الفكر أو الدين أو الفلسفة أو األيديولوجية التي تروق‬
‫له‪ ،‬طاملا أنه مل يتجاوز يف حريته هذه حقوق املجتمع وحريات وحقوق اآلخرين‪،‬‬
‫أو خيالف فيها ما استقر عليه املجتمع من أخالقيات وقواعد قيمية عامة‪.‬‬
‫ولذلك؛ فإنه حتى الفكر التكفريي‪ ،‬واألفكار اإلباحية‪ ،‬عىل حد سواء‪ ،‬من حق‬
‫كل إنسان أن يعتقد فيها‪ ،‬ما دام ال يفسد وال يقوم بفرض أفكاره املنحرفة عىل‬
‫املجتمع‪ ،‬أو يظهرها بالشكل الذي يأباه هذا املجتمع؛ فال إكراه يف الدين‪ ،‬وكل‬
‫إنسان ألزمناه طائره يف عنقه‪ ،‬بنص القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ فمن حق املتدينني أن يكونوا كذلك‪ ،‬وال جيوز ألي أحد – وفق كل‬
‫دعاوى الديمقراطية واحلرية التي ينادي هبا الغرب ومريدوه – أن ينكر عليهم‬
‫تدينهم‪.‬‬
‫ولكن الذي حيدث هو العكس‪ ،‬وهو متا ًما ذات ما جرى عندما وصل‬
‫اإلسالميون يف مرص واجلزائر والسودان وفلسطني‪ ،‬ويف غريها من بقاع العامل‬
‫العريب واإلسالمي‪ ،‬إىل احلكم من خالل صناديق االقرتاع‪ ،‬بانتخابات حرة ونزهية‬
‫شهد هلا العامل كله‪.‬‬

‫‪522‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وقتها صارت الديمقراطية ُمنكرة‪ ،‬ومل يتم االعرتاف بام جاءت به الصناديق‬
‫وعربت به عن إرادة اجلامهري‪ ،‬فهي فقط – هذه الديمقراطية – مقبولة عندما تأيت‬
‫بمن يرغبون‪ ،‬ولكنها تكون مرفوضة عندما تأيت بمن ال يرغبون!‬
‫ويف األخري؛ فإن خصوم املرشوع اإلسالمي يامرسون أبشع ألوان التطرف ضده‪،‬‬
‫بدعوهتم إىل التفريط والتحلل من قواعد التدين‪ ،‬وبمحاوالهتم فرض رؤاهم هذه‬
‫عىل املجتمعات‪.‬‬
‫واملدهش أهنم يقومون بذلك‪ ،‬بالرغم من أهنم أقلية فيها؛ فلم تزل غالبية‬
‫املجتمعات العربية واإلسالمية حتتفظ هبويتها الدينية واملحافظة عىل عاداهتا‬
‫وتقاليدها‪ ،‬وهو ما أثبتته يف أكثر من موضع‪ ،‬صناديق االقرتاع‪ ،‬عندما قالت‬
‫اجلامهري كلمتها وصدَّ رت اإلسالميني يف املشهد السيايس واالجتامعي‪.‬‬
‫ولكن هؤالء يستندون إىل قوة قوى أكرب يف اخلارج‪ ،‬وهي القوى الداعمة‬
‫حمتوى يدعو للتحلل من القيم‪ ..‬كل‬
‫ً‬ ‫للمرشوع الغريب الصهيوين‪ ،‬بكل ما فيه من‬
‫القيم!‬

‫‪523‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫علم االجتماع الديني وأهمية دراسة أنثروبولوجيا الدين‬

‫يعرف العامل يف وقتنا الراهن تنامي موجة كبرية من امليل إىل التخيل عن فكرة‬
‫الدين‪ ،‬وتراجع الناس عن التد ُّين‪.‬‬
‫وال تقف هذه الظاهرة‪ ،‬كام تناولنا يف مواضع سابقة من احلديث‪ ،‬عند جمتمعات‬
‫بعينها؛ حيث باتت تتشارك فيها املجتمعات العربية واملسلمة‪ ،‬مع املجتمعات‬
‫الغربية‪.‬‬
‫وهناك أكثر من عامل النتشار هذه الظاهرة‪ ،‬يمكن تقسيمها إىل عوامل خاضة‬
‫املنزلة‪ ،‬اإلسالم واملسيحية عىل وجه‬
‫للمؤسسات واألطراف التي متثل الديانات َّ‬
‫اخلصوص‪ ،‬وعوامل عامة من واقع اإلنسانية الراهن‪.‬‬
‫ويف العوامل اخلاصة باملؤسسات الدينية‪ ،‬اإلسالمية واملسيحية‪ ،‬سوف نجد أن‬
‫أمهها‪ ،‬االنحرافات املنهجية التي وقعت فيها بعض اجلامعات اإلسالمية الصحوية‪،‬‬
‫وممارسات تنظيامت العنف املسلح التي منحت نفسها صفة "إسالمية"‪ ،‬والفساد‬
‫األخالقي داخل الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬التي تسيطر عىل أكرب نسبة أتباع يف العامل‪.‬‬
‫أ َّما يف جمال العوامل املوضوعية التي تتعلق بواقع اإلنسانية العام؛ فإن هناك احلروب‬
‫التوحش الكبري يف عامل تسوده الرأساملية؛ حيث املجاعات ترضب‬
‫والنزاعات‪ ،‬وكذلك ُّ‬
‫الكثري من مناطق العامل؛ بينام يرمي آخرون يف الغرب الرأساميل‪ ،‬ماليني األطنان من‬
‫احلبوب واأللبان واألغذية الصاحلة‪ ،‬ألجل احلفاظ عىل ثبات أسعارها‪.‬‬

‫‪524‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولقد نشأت يف هذا اإلطار العديد من األفكار التي قادت أصحاهبا إىل التخيل‬
‫عن فكرة االتزام بالدين‪ ،‬حتى مع اإليامن بحقيقة وجود ٍ‬
‫إله هلذا الكون؛ خلقه‬
‫ً‬
‫اعرتاضا عىل ما جيدونه من أوضاع معاناة‪ ،‬يف ظل ثقافة علامنية سائدة‪،‬‬ ‫ويد ِّبر أمره‪،‬‬
‫أو قصور يف الفهم العقيل حلكمة اخلالق عز وجل مما حيدث عىل األرض‪.‬‬
‫وتقرتب هذه الفئة من فئة أخرى ختتص هبا احلركة اإلسالمية‪ ،‬وهي الشباب‬
‫يرتب تربي ًة إيامنية صحيحة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬أحدثت االنتكاسات التي حصلت‪،‬‬
‫الذي مل َّ‬
‫واجلرائم التي وقعت من بعض األنظمة العربية ضد شعوهبا خالل مرحلة ما يعرف‬
‫بثورات الربيع العريب‪ ،‬وما بعدها من ثورات مضادة‪ ،‬مما جعل تصوراهتم عن‬
‫السعي والنرص واهلزيمة واملدد اإلهلي؛ خاطئة متا ًما‪ ،‬بام قادهم إىل التخيل عن فكرة‬
‫التد ُّين ذاهتا‪ ،‬وليس حتى االرتكاس عىل اإليامن باملرشوع اإلسالمي احلضاري‬
‫والسعي ألجله‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فإن األفكار ذات اجلاذبية تكون ذات قبول‪ ،‬وهو حتى املنطق‬
‫الذي يتعامل به الشيطان الرجيم وجنوده يف غواية البرش عرب تاريخ الرصاع الطويل‬
‫بني الشيطان الرجيم وآلِه‪ ،‬وبني آدم (عليه السالم) وبنيه‪.‬‬
‫وجاذبية التحلل من فكرة الدين‪ ،‬أو التد ُّين تكمن يف نقطة مهمة‪ ،‬وهي "حترير"‬
‫اإلنسان من أثقال معينة متنعه عن أخذ املزيد من الدنيا ومتاعها؛ حيث إن الدين‬
‫يضع قيو ًدا أخالقية وضوابط عىل سلوك اإلنسان‪ ،‬واإلنسان جمبول عىل الطمع‬
‫واختبارا من اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ً‬ ‫وحب الدنيا‪ ،‬ابتال ًء‬

‫‪525‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وال يفهم اإلنسان – كام رشحنا يف مواضع سابقة من احلديث – أن هذه القيود‬
‫والضوابط التي يضعها له الدين‪ ،‬إنام هي يف مصلحته‪ ،‬ألنه لوال ضوابط الدين؛‬
‫لتحول العامل إىل غابة‪ ،‬وضاع فيها الضعيف وفنى‪ ،‬وغابت عنه صور احلضارة‬
‫تتأسس إال باالستقرار الذي حتققه القواعد األخالقية‬
‫والتمد ُين املختلفة‪ ،‬والتي ال َّ‬
‫املتعددة‪.‬‬
‫أي أن التحلل من قيود وضوابط الدين‪ ،‬يف املجال السلوكي واألخالقي‬
‫بالذات‪ ،‬سوف حيرم اإلنسان يف النهاية من متاع الدنيا الذي يريد ويسعى إليه‪.‬‬
‫هذه اجلزئية ترتبط باملنطق العام هلذا املوضع من احلديث؛ حيث مسألة مهمة‬
‫غائبة عن أدبيات وأعامل قادة الفكر داخل الصحوة اإلسالمية‪ ،‬بالرغم من أمهيتها‬
‫القصوى يف دعم جهود الدعوة‪ ،‬وهي مسألة أنثروبولوجي الدين‪ ،‬وما يرتبط هبا‬
‫بعلم االجتامع الديني‪.‬‬
‫و"األنثروبوجلي"‪ ،‬باختصار غري ٍّ‬
‫خمل‪ ،‬هو "علم اإلنسان"‪ ،‬أي ذلك العلم الذي‬
‫يدرس تاريخ اإلنسان من الزوايا البيولوجية‪ ،‬أي أصول الشعوب‪ ،،‬وكذلك تطور‬
‫املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬بام يف ذلك الثقافات واللغات‪ ،‬والسياق العام للحضارات‬
‫التي أقامها اإلنسان‪ ،‬وتأثرياهتا‪.‬‬
‫واألنثروبوجلي الديني‪ ،‬هو ذلك الفرع الذي هيتم بدراسة ظاهرة الدين يف‬
‫الوجدان اإلنساين‪ ،‬جلهة أمهيته‪ ،‬وكيف ِّ‬
‫تشكل فكر اإلنسان‪ ،‬وسلوكه‪ ،‬سواء عىل‬
‫املستوى الفردي أو املجتمعي العام‪.‬‬

‫‪526‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمر خمتلف عن علم اجتامع األديان‪ ،‬والديانات املقارنة‪ ،‬وهو جمال‬ ‫وبالتايل فهو ٌ‬
‫علمي ُيعنى بدراسة خرائط توزيع األديان سواء الوضعية أو ا ُملن ََّزلة من عند اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬وكذلك الفلسفات التي يؤمن هبا البعض بدي ً‬
‫ال للعقيدة الدينية باملفهوم‬
‫القريب‪ ،‬مثل "اليوجا" يف اهلند ومناطق من جنوب رشق آشيا‪ ،‬وفلسفة "الزِّ ن"‬
‫يف اليابان وبعض جمتمعات الرشق األقىص‪ ،‬وذلك سواء عرب التاريخ‪ ،‬وتطوراهتا‬
‫وحتركاهتا عىل اخلريطة اجليوسياسية واجلغرافيا البرشية‪ ،‬أو يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫ومن خالل ما كتبه روجيه باستيد‪ ،‬وهو من أهم الفالسفة واملفكرين الذين‬
‫تكلموا يف هذا املجال يف عرصنا احلايل؛ فإن علم االجتامع الديني‪ ،‬ودراسة‬
‫األنثروبولوجيا الدينية؛ ُيعنيان برصد جمموعة من األمور‪ ،‬من أمهها اإلسهام‬
‫الذي يقدمه الدين ومنظومته القيمية يف جمال السلوك‪ ،‬وكيف يساهم الدين يف‬
‫رسم صورة اإلنسان الداخلية‪ ،‬وإحساسه بذاته‪ ،‬وكذلك تصوراته حول العامل‬
‫اخلارجي‪ ،‬وعالئقه فيها‪.‬‬
‫تبعا لذلك‪ ،‬وباختالط‬
‫ويشري باستيد يف دراسات مهمة له يف هذا األمر‪ ،‬إىل أنه ً‬
‫هذه املفاهيم مع اإلطار املجتمعي العام؛ فإن ذلك يقود إىل أن يتم حتديد القواعد‬
‫التي تضبط احلراك االجتامعي‪ ،‬بام يف ذلك القوانني والبنية الترشيعية‪ ،‬عىل أساس ما‬
‫يقوله الدين‪ ،‬أي دين سائد‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬ضمن ما وصفه بعملية متجددة ومستمرة‬
‫إلعادة التوازن بني الديني وبني خمتلف أوجه احلياة االجتامعية‪.‬‬
‫ولو تم دمج هذه األغراض مع املخرجات التي يتم احلصول عليها من دراسات‬
‫علم اجتامع األديان والديانات املقارنة؛ فإننا سوف نصل إىل منظومة مفيدة من‬

‫‪527‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النتائج يف جمال الدعوة؛ حيث سوف نرى أننا أمام حقيقة يؤكدها التاريخ؛ أن‬
‫اإلنسان ً‬
‫دائم ما كان بحاجة إىل دين أو فلسفة أو فكرة كبرية تقوده وترشده يف حياته‪.‬‬
‫النقطة املهمة فيها قاله باستيد‪ ،‬وغريه من علامء االجتامع الذين اهتموا هبذه‬
‫املسألة‪ ،‬ويعنينا يف هذا املوضوع‪ ،‬هي أنه كلام كان الفارق بينه املجال الديني‪ ،‬يف‬
‫األثر والتطبيق‪ ،‬وبني املجال املجتمعي؛ كلام كان من األسهل حتول أفراد هذا‬
‫املجتمع من دين أو فكرة أو فلسفة إىل أخرى‪.‬‬
‫ومن َث َّم؛ من هذه العبارة األخرية‪ ،‬نفهم أن مشكلة اإلحلاد يف األساس‪ ،‬أو‬
‫التم ُّلص من االرتباط بالدين كتصور شامل لإلنسان يف حياته‪ ،‬حيدد عالقاته‬
‫بذاته‪ ،‬وباآلخرين‪ ،‬وبخالقه هي مشكلة نخبة دينية وسياسية واجتامعية وتربوية‬
‫باألساس؛ حيث إن هذه النخب هي املسؤولة عن عملية "األيض" أو "التمثيل‬
‫صح التعبري ‪ -‬بني الدين وبني املجتمع‪ ،‬أي حتويل الدين إىل قاطرة‬
‫الغذائي" – لو َّ‬
‫للمجتمع‪ ،‬يف سلوكه وقوانينه‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫‪..........‬‬
‫ويف األخري؛ فإن هذا األمر يرتبط بنقطة شديدة األمهية يف أية عملية ُتعنى بنرش‬
‫فكرة أو معاجلة مشكالت مفاهيمية‪ ،‬ذات طابع قيمي ونفيس‪ ،‬وهي عملية صناعة‬
‫الوعي؛ حيث إنك يف األخري‪ ،‬سوف تصل مع هذه املجموعات – وغالبيتها من‬
‫الشباب – إىل حقائق مهمة‪ ،‬أبرزها أنه يف النهاية؛ البد لك من دين‪ ،‬وأنه من دون‬
‫فكرة الدين؛ ال يمكن من األصل احلديث عن جمتمعات إنسانية مستقرة سوية‪،‬‬
‫حيقق فيها اإلنسان حريته وكرامته‪ ،‬ويسعى فيها للعيش بالصورة الالئقة التي يريد‪.‬‬

‫‪528‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يلحد الملحدون!!‬
‫عن اهلل الذي ال نعرف ولماذا ِ‬

‫تتفاعل يف وقتنا الراهن الكثري من النقاشات عىل الساحة اإلسالمية حول العديد‬
‫من القضايا املركزية‪ ،‬يف ظل قناعة مهمة مفادها أن العمل اإلسالمي‪ ،‬واألمة‬
‫بالكامل‪ ،‬قد جتاوزت مرحلة انتقالية فيام بعد اهنيار الدولة اإلسالمية اجلامعة قبل‬
‫ال‪ ،‬إىل الدخول يف نفق مظلم‪.‬‬ ‫حوايل مائة عام إال قلي ً‬
‫ويمثل دخول املسلمني إىل هذا النفق مرحل ًة تالية من مراحل مرشوع َّ‬
‫منظم‬
‫طويل املدى تقوده قوى استعامرية‪ ،‬وتتعاون فيه قوى حملية عديدة بني ظهراين عاملنا‬
‫صح التعبري – لألمة‬
‫العريب واإلسالمي‪ ،‬من أجل خفض التصنيف احلضاري – لو َّ‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ويستند هذا املرشوع االستعامري عىل ٍ‬
‫عدد من األسس‪ ،‬أمهها إشاعة روح الفرقة‬
‫والفوىض بني املسلمني عىل خمتلف املستويات؛ املذهبية واالجتامعية والسياسية‪،‬‬
‫وفصل املسلمني عن القرآن الكريم‪ ،‬وعلومه‪ ،‬والعلوم الرشعية بشكل عام‪.‬‬
‫ومن بني أهم العلوم التي انفصل عنها الناس يف زمننا املعارص‪ ،‬وقاد إىل ظاهرة‬
‫هي من أسوأ الظواهر‪" ،‬علم التوحيد"‪ ،‬ويف القلب منه‪ ،‬ما يتعلق باهلل عز وجل‪،‬‬
‫علم ً‬
‫وفهم‪ ،‬ومعرف ًة‪.‬‬ ‫ً‬

‫وبطبيعة احلال؛ فإن اهلل تعاىل ال حيدُّ ه العلم وال اإلدراك بأية وسيلة من وسائل‬
‫اخل ْلق القارصة‪ ،‬وال يمكن للعقل البرشي فهم طبيعته وخواصه‪ ،‬إال أن "علم‬ ‫َ‬

‫‪529‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫والس َّنة النبوية‪ ،‬كان يو ِّفر‬


‫ُّ‬ ‫التوحيد" الذي يستند عىل نصوص القرآن الكريم‬
‫ٍ‬
‫عنرص شديد‬ ‫احلد املطلوب من أجل معرفة اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬وبالتايل حتقيق‬
‫األمهية لدى اإلنسان‪ ،‬وهو إدراك هذه احلقيقة؛ حقيقة أن َ‬
‫اهلل تعاىل خمتلف عن كل‬
‫التصورات واحلدود التي يمكن للعقل اإلنساين الوصول إليها‪.‬‬
‫ويتصل بذلك منظومة من القضايا التي تدخل يف مسميات الفلسفة‪ ،‬حتت بند‬
‫القضايا اجلدلية‪ ،‬التي تشمل أسئل ًة ُك ِّل َّي ًة‪ ،‬من بينها "ملاذا أنا"‪ ،‬و"ملاذا خلق ُ‬
‫اهلل تعاىل‬
‫الرش واملعاناة"‪ ،‬و"ملاذا الظلم"‪ ،‬وغري ذلك من األمور التي ُيعترب غياب فهمها‪ ،‬من‬
‫أهم عنارص اإلحلاد‪ ،‬ألهنا خارج نطاق تصور العقل اإلنساين واملنطق القريب‪ ،‬أو‬
‫عىل أقل تقدير‪ ،‬جتعل اإلنسان يتف َّلت من فكرة الدين والتد ُّين‪.‬‬
‫فاإلحلاد يأيت من خالل عدم قدرة اإلنسان امللحد عىل فهم هذه األمور بعقله‪،‬‬
‫فيام ال يوجد أي رافد فكري لديه يؤسس لديه قضية معرفة اهلل تعاىل باعتبار أنه ال‬
‫حيده احلدود التي نتصورها وفق عقولنا‪.‬‬
‫وحيصل ذلك بالرغم من هذا األمر عىل قدر كبري من البساطة‪ ،‬ويمكن متثيله‬
‫بآالف األشياء التي صنعها اإلنسان‪ ،‬ويستخدمها يف حياته اليومية‪ ،‬وال يتصور أن‬
‫تتمرد عليه‪ ،‬حتى لو أراد االنتحار هبا!‬
‫َّ‬
‫ومن ضمن األمور التي يمكن أن تقف هبا العقول البرشية القارصة عىل حقيقة‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وخواصه وطبيعته عز وجل‪ ،‬قضية الع َّلة والسببية؛ حيث تغيب الع َّلة‬
‫والسببية عن اخلالق سبحانه‪ ،‬وبالتايل؛ فهو خيرج من نطاق أي تقييم عقيل‪.‬‬

‫‪530‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وهذه اجلزئية أرادت حكمة اهلل تعاىل أن تكون قريبة يف الفهم اإلنساين‪ ،‬ألهنا‬
‫تصو ٍر حمسوس أو غري‬‫مفتاح ُم ِه ٌّم لإليامن باهلل تعاىل الذي ال حيده أي حدٍّ أو ُّ‬
‫حمسوس بعقولنا‪ ،‬أو بأية أداة أخرى يف الكون الذي هو جزء يسري‪ ،‬جمرد جزء ال‬
‫ذكر من ملكوت اهللِ تعاىل الذي ال نعرف عنه أي يشء‪.‬‬
‫ُي َ‬
‫وأبدي‪ ،‬أي أنه ٌ‬
‫أول بال غاية أو بداية‪ ،‬ومن دون ع َّلة أو سبب‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫فإن اهلل تعاىل أز ٌّيل‬
‫وآخر بال هناية‪.‬‬
‫ويف األصل؛ فإن مفاهيم مثل "بداية" و"هناية"‪ ،‬وما تتصل هبا من مسافات ومساحات‬
‫ٍ‬
‫كمعان‬ ‫مادية‪ ،‬أو مساقات زمنية؛ هي يف النهاية‪ ،‬خملوقات من خملوقات الرمحن سبحانه‪،‬‬
‫(فيزيائيا؛ الزمن هو رابطة بني رسعة الضوء وحركة األفالك)‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫وكامديات‬
‫الكون وامللكوت لكي يكون قيو ًما أو تتحقق‬ ‫بالتايل لو قلنا إن َ‬
‫اهلل تعاىل قد َخ َلق َ‬
‫له صفة القيومية‪ ،‬أو خلق اإلنسان وسائر املخلوقات ا ُملك َّلفة األخرى لكي يكون‬
‫ورحيم‪ ،‬أو شديد العقاب‪ ،‬وكذا من سائر الصفات واألسامء املرتبطة‬ ‫ً‬ ‫غفورا‬
‫ً‬
‫بأمور تتعلق بتعامل رب العزة سبحانه مع خلقه كا َّفة‪ُ ،‬مك َّلفني أو غري ُم َك َّلفني‪ ،‬أو‬
‫تتحقق له هذه الصفات واألسامء احلسنى وتستقر؛ فهذا يعني أن َ‬
‫اهلل تعاىل من دون‬
‫امللكوت واملخلوقات ال تتحقق له هذه الصفات‪ ،‬وأنه من قبل َ‬
‫اخل ْلق كان ال يتمتع‬
‫وأبدي – وهذا يعني خل ً‬
‫ال‬ ‫ٌّ‬ ‫هبا – بمنطق أنه موجود من قبل اخللق كام قلنا إنه أز ٌّيل‬
‫ناقصا سبحانه‪.‬‬
‫يف العقيدة؛ ألن اهلل تعاىل كامل‪ ،‬وليس ً‬
‫فإيامننا به وباإلسالم‪ ،‬يتضمن أن نؤمن أن َ‬
‫اهلل تعاىل كامل‪ ،‬مطلق الكامل‪ ،‬وقدرته‬
‫طليقة؛ ال حيدها وجود آخر‪ ،‬وال ُيقيِ ُمها أو ُيق ِّيدها أي يشء‪.‬‬

‫‪531‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فوجودك من عدمه‪ ،‬ال يمس كامل اهلل عز وجل‪ ،‬وبالتايل؛ فال يمس كونه شديد‬
‫العقاب‪ ،‬أو غفور رحيم أو ما شابه؛ حيث هذه صفات أصيلة فيه‪.‬‬
‫فهم َخ ْلق اهللِ تعاىل‬
‫فلدى البعض – عىل سبيل املثال – منطق خاطئ يف تفسري أو ْ‬
‫وخ ْلق اخلطيئة معه؛ حيث يقولون إن ذلك‬ ‫لإلنسان‪ ،‬بنوازعه ونقصه‪ ،‬وضعفه‪َ ،‬‬
‫ً‬
‫رحيم‪ ،‬أو تتحقق له هذه الصفات أو تستقر‪ ،‬وهذا‬ ‫غفورا‬
‫ً‬ ‫تم لكي يكون اهلل تعاىل‬
‫خطأ‪ ،‬ألن العكس هو الصحيح؛ فنحن نخطئ ونعود ألن اهلل سبحانه يف األصل‪،‬‬
‫الع ِل َّية‪ ،‬هو الغفور الرحيم‪.‬‬
‫يف ذاته َ‬
‫ولتوضيح ذلك؛ نقول أو ً‬
‫ال إن قضية السببية حاكمة يف تفكري اإلنسان‪ ،‬بل إهنا‬
‫جزء مما َج َبل ُ‬
‫اهلل تعاىل عليه عقل اإلنسان؛ حيث هي حتقق ُسنَن عديدة من ُسنَن‬
‫خلق اهلل تعاىل لإلنسان‪ ،‬مثل ُس َّنة إعامر األرض وتسخري املخلوقات‪.‬‬
‫فهذه القضية كانت وراء تطورات علمية كثرية؛ حيث إن اإلنسان يف بحثه الدائم‬
‫دائم بمحاولة فهم العالئق واألسباب التي تقف خلف‬‫يف املجال العلمي؛ كان هيتم ً‬
‫هذه الظاهرة أو تلك‪.‬‬
‫فمث ً‬
‫ال اإلنسان ال يتصور أن األشياء تستقر عىل األرض إال لسبب‪ ،‬وعندما سعى‬
‫لفهمه؛ اكتشف اجلاذبية األرضية‪ ،‬وقوى اجلذب التي حتكم َ‬
‫الكون كله‪ ،‬وكذلك‬
‫تتسبب" يف تبخري املياه املوجودة يف اجلسم املحرتق‬
‫النار؛ حيث هي حترق "الهنا َّ‬
‫بالكامل‪ ،‬وهكذا؛ فظهر العلم والتجريب‪ ،‬والذي هو أساس مهم يف مسألة تسخري‬
‫املوجودات لإلنسان لتسهيل إعامر األرض‪ ،‬التي استخلفه اهلل تعاىل فيها‪.‬‬

‫‪532‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ولكن هذا املنطق يقف عند حماولة " َف ْهم" اهلل تعاىل أو "تفسريه" لو َّ‬
‫صح التعبري؛‬
‫أيضا ‪ -‬ألن اهلل سبحانه‪ ،‬من املستحيل يف األصل أن‬ ‫وذلك كله – باملنطق البسيط ً‬
‫أساسا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يدخل يف نطاق أسباب ومنطق وطرائق تفكري‪ ،‬هو الذي خلقها‬
‫أساسا يف اخللق‪ ،‬لكي ِّ‬
‫يبي‬ ‫ً‬ ‫ولقد شاءت حكمة اهللِ تعاىل أن تكون السببية ِ‬
‫والع َّلة‬
‫لإلنسان عظمته هو سبحانه؛ حيث هو اهلل عز وجل‪ ،‬الذي هو بال سبب أو ِع َّلة‪،‬‬
‫وال يتصل وجوده أو ذاته‪ ،‬هبذه القضية‪ ،‬كأن يكون أز ٌّيل‪ ،‬أي أول بال بداية‪ ،‬بينام كل‬
‫ما دونه – أي كل املخلوقات التي أبدعها اهلل تعاىل – ناقص والبد له من أسباب‬
‫ِ‬
‫وع َلل؛ ألنه هو الرب واإلله‪ ،‬وله الصفات واألسامء احلسنى كلها‪.‬‬
‫ِ‬
‫ومن هنا نفهم‪ ،‬كيف أن اهلل تعاىل غفور ورحيم‪ ،‬وقيوم من دون حتى أن توجد‬
‫خملوقات يغفر هلا ويرمحها‪ ،‬ويقوم عىل أمرها‪.‬‬
‫وكام قلنا؛ فإن صفة القيومية له سبحانه‪ ،‬ال تنتظر أن يكون له ملكوت يقوم‬
‫عىل أمره؛ كال؛ هو خلق ملكوته‪ ،‬بام فيه كوننا الصغري هذا‪ ،‬والساموات واألرض؛‬
‫ألنه قيوم يف ذاته‪ ،‬وبالتايل؛ هو قادر عىل تنظيم امللكوت وحفظه وضامن استقراره؛‬
‫فخلقه عىل هذه الشاكلة‪.‬‬
‫طبعا – لو مل يكن كذلك ‪ -‬باملنطق العقيل البسيط ً‬
‫أيضا‬ ‫وبالتايل؛ فهو ‪ -‬سبحانه ً‬
‫قادرا أو كام ً‬
‫ال‪ ،‬بعكس طالقة كامله وقدرته سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫– ما خلقنا‪ ،‬وما كان ً‬
‫وكذلك اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬حتى معبود يف ذاته‪ ،‬فصفة العبودية من املفرتض أهنا‬
‫معبود‪ ،‬ولكن اهلل‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫القاص – وجود عباد لكي يكون هناك‬ ‫تتضمن – باملنطق ِ‬
‫املباش‬
‫معبود يف ذاته‪ ،‬من دون وجود خلق أو عباد أو أي يشء آخر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تعاىل‬

‫‪533‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف مقابل هذه الطالقة‪ ،‬وبذات املنطق الذي نشري إليه يف قضية السببية ِ‬
‫والع َّلة؛‬
‫حيث إهنا موجودة يف املخلوق يف مقابل انتفائها عن اخلالق؛ نشري إىل قضية النسبية‬
‫التي متأل املوجودات من حولنا‪ ،‬وتنتفي عن اخلالق‪.‬‬
‫فلقد جعل اهلل تعاىل النسبية هي أساس املخلوقات؛ فهناك – مث ً‬
‫ال – مواد هي‬
‫بمثابة سموم قاتلة بالنسبة للبرش؛ ُتعتَرب غذا ًء بالنسبة لكائنات حية أخرى‪.‬‬
‫بل إن بعض قواعد الفيزياء التي نعرفها عىل كوكب األرض كثوابت؛ تتغري‬
‫بالكامل لو اقرتبنا من الشمس‪ ،‬أو هبطنا إىل قاع املحيط؛ فالفوتون الضوئي عديم‬
‫الوزن‪ ،‬لو دنا اإلنسان من الشمس؛ تصبح هلا طاقة دفع‪ ،‬كام اكتشف علامء "ناسا"‬
‫يف هناية العام ‪2018‬م‪ ،‬عندما أرسلوا املسبار "باركر" إىل الشمس‪.‬‬
‫وفهم مجلة "له األسامء احلسنى‬
‫مهم للغاية من مضامني معاين ْ‬
‫جزء ٌّ‬
‫وهذا كله‪ٌ ،‬‬
‫الع ِل َّية"‪ ،‬والتي تعود بنا جلذر هذا املوضع من احلديث‪ ،‬وهي العلوم‬
‫والصفات َ‬
‫الرشعية؛ حيث هذه اجلزئية من أهم مفردات "علم التوحيد"‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن التسليم والطاعة وفق هذه املفاهيم؛ أمر بدهيي‪ ،‬حتى بعقل اإلنسان‬
‫القارص‪ ،‬مثل السيارة التي ال تفهم حكمة صاحبها من قيادهتا لألمام أو للخلف؛‬
‫فقط هي تطيعه‪ ،‬ألهنا ُصنِ َع ْت ألجل أن تطيعه‪.‬‬
‫وصعوبة استيعاب العقل اإلنساين هلذا الكالم؛ منطقي؛ ألن العقل اإلنساين‬
‫قارص‪ ،‬وهذا جيب أن يكون باع ًثا عىل زيادة إيامننا؛ أن ندرك أن عقولنا مهام كانت؛‬
‫فهي قارصة‪ ،‬وإال حتى عىل األقل كنا قادرين عىل تصوره ووصفه‪ ،‬حاشا هلل‪.‬‬

‫‪534‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فإذا كان عقل اإلنسان غري قادر عىل إدراك أي يشء تنتفي عنه السببية أو جيد‬
‫النسبية فيام حوله؛ فهل هو بقادر عىل فهم حكمة َمن َخ َلق املادة واألسباب‪ ،‬أو‬
‫طبيعته؟!‪ ..‬فهذا من ا ُمل َ‬
‫فتض أنه يدفع اإلنسان إىل التسليم املطلق للخالق‪.‬‬
‫وبالتايل؛ نس ِّلم هلل تعاىل كل أمورنا‪ ،‬ألنه أكرب وأعىل وأعظم من كل املوصوفات‬
‫من حولنا‪ ،‬والتي هي من خملوقاته يف األصل‪ ،‬ونؤمن – كذلك – أنه ال حميل بيننا‬
‫ميل؛ هو بدوره خملوق من خملوقات‬ ‫وبينه‪ ،‬وال بيننا وبني قضائه وقدره‪ ،‬ألن أي َ ِ‬
‫منطقيا‪ ،‬ملخلوق أن يفوق خالقه فيحيل عنه خملو ًقا آخر‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫اهلل‪ ،‬وال جيوز‬
‫أمور ينبغي‬
‫وكل ذلك مما هو من أهم األمور يف علوم التوحيد والعقيدة‪ ،‬وهي ٌ‬
‫وتعمق إيامننا هبا قبل أن نتحدث عن الرشيعة أو تطبيقها‪ ،‬وإال صار هناك‬
‫إدراكها‪ُّ ،‬‬
‫كبري يف تطبيقنا للرشيعة‪ ،‬التي هي تعاليم اهلل عز وجل‪ ،‬واملنهج الذي اختاره‬
‫خلل ٌ‬‫ٌ‬
‫لنا‪ ..‬ويف األخري؛ فإن كل ما خطر ببالك؛ فاهلل غري ذلك‪ ،‬ال حتده أوصاف‪.‬‬
‫كام أن ذلك يدفعنا إىل تل ِّقي امللحدين بأساليب أكثر مروءة من فكرة الرفض‬
‫والنبذ؛ ألننا لن نستفيد – كمسلمني – من ضياع بعضنا يف هذا الطريق!‬

‫‪535‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫لماذا اإللحاد أم لماذا الدين؟!‬

‫تزايدت يف اآلونة األخرية أحاديث الشك واإلحلاد يف أوساط رشحية ضخمة‬


‫من الشباب؛ فتية وفتيات‪ ،‬يف جمتمعاتنا العربية واملسلمة‪ ،‬ضمن تيار أكرب يتنامى‬
‫عىل مستوى العامل‪.‬‬
‫وال ختص هذه املسألة ما سبق وأن جرت مناقشته من مشكالت مماثلة ظهرت‬
‫أمورا أكثر‬
‫يف أوساط الصف احلركي اإلسالمي‪ ،‬وإنام نعني هنا السياق الذي يمس ً‬
‫اتساعا يف نطاقاهتا‪ ،‬وهي قضية الدين يف املجال املجتمعي واإلنساين‪ ،‬ويف القلب من‬
‫ً‬
‫ذلك‪ ،‬تراجع موضع الدين‪ ،‬بمختلف أركان الكلمة؛ عقيدة وعبادة ومعامالت‪،‬‬
‫وسلوك وأخالق‪ ،‬يف ضمري ونفوس املسلمني‪.‬‬
‫مستوى أثار القلق ليس‬
‫ً‬ ‫ويف حقيقة األمر؛ فإن انتشار التيارات اإلحلادية‪ ،‬بلغ‬
‫حتى يف صفوف القائمني عىل شؤون العمل اإلسالمي‪ ،‬وإنام إىل كل املعنيني بشؤون‬
‫األديان يف خمتلف املجتمعات اإلنسانية‪ ،‬والسيام األديان الساموية؛ حيث ال تعرف‬
‫املجتمعات التي تدين باألديان الوضعية‪ ،‬مثل البوذية والكونفوشية واهلنوسية‪،‬‬
‫مثل هذه املشكلة‪.‬‬
‫ومن خالل أدبيات وأنشطة عديدة نراها من الفاتيكان‪ ،‬وعىل مستوى كنائس‬
‫مرشقية وغربية أخرى؛ فإنه يمكن القول إن التيارات اإلحلادية باتت هتدد مساحات‬
‫التدين بشكل عام يف عاملنا املعارص‪.‬‬

‫‪536‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وثمة نقطت َْي يف هذا الصدد ينبغي اإلشارة إليهام‪ ،‬أوهلا‪ ،‬أن قضية اإلحلاد ترتبط‬
‫َّ‬
‫بسياقات ومظاهر عدة‪ ،‬فال يكون اإلحلاد بمعناه املبارش الذي يتبادر للذهن عن‬
‫قول كلمة "إحلاد"‪ ،‬وإنام يرتبط األمر بسلسلة من املامرسات التي متثل شك ً‬
‫ال من‬
‫أشكال االرتداد عن التد ُّين‪ ،‬مثل خلع احلجاب وحلق اللحى يف بعض املجتمعات‬
‫املسلمة‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إىل االرتداد عن الدين نفسه‪ ،‬مثل الكفر بالقضاء والقدر حتت‬
‫وطأة مشكالت حاصلة‪ ،‬أو كفران النعمة‪ ،‬أو اخلروج عن فكرة اإليامن بوجود‬
‫اخلالق عز وجل‪ ،‬مثلام يقول امللحدون‪ ،‬أو يؤمنون بفكرة وجود اخلالق‪ ،‬ولكنهم‬
‫ال يتبعون دينًا معينًا‪ ،‬ويرفضون فكرة األديان يف حد ذاهتا‪ ،‬مثلام يقول الال دينيون‪.‬‬
‫النقطة الثانية املهمة يف هذا اإلطار‪ ،‬تتعلق بأسباب تصاعد مثل هذه الظاهرة‪،‬‬
‫وأمهها األزمات السياسية واالجتامعية واألمنية التي جتتاح مناطق خمتلفة من العامل‪،‬‬
‫وقادت إىل بحث الكثريين – بمئات املاليني – عن نقطة السالم النفيس؛ فيجدونه‬
‫يف العقائد والديانات املرشقية‪ ،‬مثل البوذية والكونفوشية؛ حيث النواحي الروحية‬
‫تطغى عىل ما سواها يف هذه الديانات والعقائد‪.‬‬
‫ولعل هذه النقطة تثري يف حد ذاهتا العديد من القضايا‪ ،‬أمهها أن هذه الديانات ال‬
‫يوجد فيها أي ج ٍ‬
‫رب أو سطوة لكهنوت كام يف املسيحية‪ ،‬أو لرموز وشخصيات ويف‬
‫بعض املامرسات اخلاطئة التي يتجاوز هبا علامء الدين دورهم الدعوي‪ ،‬إىل مستوى‬
‫الوصاية عىل السلوك‪.‬‬
‫ويف حالة الساحة اإلسالمية؛ فإن هذه املشكلة ظهرت ووضحت أكثر ما‬
‫ظهرت‪ ،‬يف حالة اجلامعات التي تصف نفسها بـ"اجلهادية"‪ ،‬عندما سيطرت عىل‬

‫‪537‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عرف‬
‫مناطق يف بعض دول األزمات واحلروب األهلية يف الرشق األوسط‪ ،‬بعد ما ُي َ‬
‫بثورات الربيع العريب؛ حيث تم التعامل مع املجتمعات املحلية وفق مفاهيم ختتلف‬
‫ُ‬
‫بالك ِّل َّية عن اآلليات السليمة للدعوة وللحكم باملفهوم اإلسالمي كام يف املامرسة‬
‫النبوية‪ ،‬ويف ممارسة اخللفاء الراشدين‪.‬‬
‫وكانت النتيجة مروعة عىل صورة الدين ومعتنقيه‪ ،‬وعىل الصورة الذهنية لعملية‬
‫نرش الدعوة كام رأينا يف مناطق سيطرة تنظيم الدولة "داعش" السابقة يف العراق‬
‫وسوريا‪ ،‬والسيام بعد اتضاح كون بعض هذه املجموعات يف األصل صنيعة أقبية‬
‫حكومات وأجهزة خمابرات دول غري مسلمة‪ ،‬وهذا يعني أن ذلك األسلوب‬
‫مقصود‪ ،‬وأنه – بالتايل – وفق املنطق البسيط؛ ال يمت لإلسالم بأية ِص َلة‪.‬‬
‫املروع‬
‫وشق آخر يف هذه املشكلة‪ ،‬صار لألسف من حقائق األمور؛ هو السقوط ِّ‬
‫ٌّ‬
‫لرموز و"علامء" كانوا قدوات جليل كامل من الشباب‪ ،‬يف وحل السياسة‪ ،‬ووضوح‬
‫أهنم ُت َّبع ألنظمة‪ ،‬أو جلامعات هدَّ امة‪ ،‬أو حتى يتخذون من الدعوة وسيلة لكسب‬
‫التكسب‬
‫ُّ‬ ‫طلق عليه العوام مصطلح "التجارة بالدين" من زاوية‬ ‫العيش‪ ،‬وما ُي ِ‬
‫بشكل خي ِرج الداعية عن الصورة الذهنية املطلوبة‪.‬‬
‫وهذا يثري نقطة القيود مرة أخرى؛ حيث إن اإلسالم ال يعرف الكهنوت‪ ،‬وال‬
‫يعرف قضية وجود وساطة بني العبد ور ِّبه سبحانه وتعاىل‪ ،‬ولكن إرصار بعض‬
‫املدارس أو املذاهب عىل تصدير العلامء‪ ،‬وربط الناس يف دينهم "بالرضورة" هبم؛‬
‫خلق مشكلة كربى ملا انحرف بعض هؤالء‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فهم عىل أنه دعوة لتحييد دور العلامء والدعاة يف‬


‫ولكن هذا ال ينبغي له أن ُي َ‬
‫املفسون والذين يقومون بنرش دين اهلل تعاىل والتعريف برشيعته‪،‬‬
‫حياتنا؛ حيث هم ِّ‬
‫ولكن مقصود احلديث هو أنه ال جيب أن تكون هلم صفة متثيلية الدين أو متثيلية‬
‫املسلمني‪ ،‬وأال ُت َ‬
‫فهم اجتهاداهتم عىل أهنا الرشيعة ذاهتا‪.‬‬
‫واقع وأسباب املشكلة‪ ..‬نظرة مغايرة‬

‫لو أننا تأملنا عنوان هذا احلديث؛ "ملاذا اإلحلاد أم ملاذا األديان؟!"؛ فإننا سوف‬
‫نقف أمام العديد من املغازي التي تقرتتب من هذه املشكلة اقرتا ًبا خمال ًفا‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫يفرض البحث عن أدوات جديدة للتعامل مع املوقف‪.‬‬
‫بداي ًة؛ جيب التأكيد عىل أن مكمن اخلطر احلقيقي؛ ليس متعل ًقا بانحرافات‬
‫سلوكية أو حتى عقدية؛ ولكنه متعلق اإليامن بجوهر فكرة "الدين" ذاهتا‪.‬‬
‫وهذا أمر جيب فهم نقطة خطورته‪ ،‬ولفهم هذه اخلطورة نرضب عىل ذلك مثا ً‬
‫ال‪.‬‬
‫عندما انترشت البعثات التنصريية يف مناطق أفريقيا السوداء‪ ،‬أي وسط وجنوب‬
‫القارة؛ حيث تسود الديانات والعقائد الوثنية؛ كان لبعض الدعاة املسلمني موق ًفا‬
‫والتوجس التي يتبناه البعض من العلامء واجلامعات‬
‫ُّ‬ ‫مغايرا من موقف الرفض‬
‫ً‬
‫اإلسالمية بشكل مبدأي من أنشطة التنصري‪.‬‬
‫دورا ها ًما يف متهيد‬
‫فاملخالفون يف هذا املوقف؛ يرون أن البعثات التنصريية تلعب ً‬
‫البيئات املحلية الوثنية هذه لقبول فكرة "الدين" من منظور الديانات الساموية‪،‬‬
‫والتي تتضمن فكرة وجود إله خالق ورب مدِّ بر هلذا الكون‪ ،‬وفق مفهومنا لـ"اهلل"‬

‫‪539‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عز وجل‪ ،‬وبالتايل؛ فإنه سيكون من السهل نرش اإلسالم بعد هذا التمهيد أو رسوخ‬
‫هذه األرضية املفاهيمية‬
‫إ ًذا؛ نحن أمام مشكلة كربى؛ حيث إن اإليامن بجدوى الدين‪ ،‬تراجع‪ ،‬فيام‬
‫صارت فكرة "الال دين" أو "اإلحلاد" أو اإليامن بـ"فلسفات السالم والسمو‬
‫الروحي" املنترشة يف الرشق عىل وجه اخلصوص‪ ،‬هي األقرب‪.‬‬
‫ونقطة "اجلدوى" هذه عىل أكرب قدر من األمهية واملركزية يف هذا الصدد؛ حيث‬
‫إن ردود هؤالء – ملحدون أو ال دينيون أو غري ذلك ‪ -‬عىل العلامء واملحاورين‬
‫الذين حياولون إقناعهم بمركزية فكرة الدين – أ ًّيا كان – وبفكرة اخلالق‪ ،‬وبأمهية‬
‫االلتزام بالرشيعة؛ صارت الردود موجزة يف عبارة‪" :‬ملاذا الدين؟!"‪.‬‬
‫ففي حقيقة األمر؛ فإن هناك قصور بالغ تناولناه يف مواضع أخرى من احلديث‪،‬‬
‫يف توضيح كيفية معاجلة الدين ملشكالتنا الواقعية‪ ،‬وكيف يقدِّ م آليات اإلصالح‬
‫الفردي واملجتمعي‪ ،‬وكيف أن الدين يقدم البوصلة التي تتضمن اإلجابة عىل‬
‫أسئلة عىل أكرب قدر من اخلطورة واألمهية‪ ،‬مثل ملاذا ُخ ِلقَ اإلنسان‪ ،‬ودوره يف الدنيا‪،‬‬
‫وكيف يتوجه سعيه‪ ،‬وكيف يتعامل مع مشكالته‪.‬‬
‫فلألسف؛ فإن اخلطاب الدعوي يف وقتنا الراهن‪ ،‬وقف عند حدود العبادات وما‬
‫عرف باهلدي الظاهر‪ ،‬مثل إطالق اللحية‪ ،‬وجدل الزي الرشعي‪ ،‬بينام مشكالت‬
‫ُي َ‬
‫الواقع طاحنة‪ ،‬ومتس كرامة ومروءة اإلنسان‪ ،‬واألوىل أن يتم البحث يف دقائقها‬
‫وطرائق معاجلتها‪.‬‬

‫‪540‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وحتى احلركة اإلسالمية الصحوية؛ نجد يف أدبياهتا التي تتناول قضية البوصلة‬
‫والتوجيه هذه‪ ،‬إعال ًء من قيم اجلهاد ومعايل األمور‪ ،‬بشكل ال يمكن لكل املسلمني‬
‫أن يكونوا عليه يف ظل اختالف الظروف‪ ،‬والفروق الفردية‪ ،‬وأن اإلنسان بطبعه‬
‫ضعيف أمام احتياجاته املعيشية‪.‬‬
‫مجيعا أن نكون مقاتلني‪ ،‬وال يمكن ألصحاب العقول البسيطة‬
‫فال يمكن لنا ً‬
‫تصور أنفسهم أدوات يف الرصاع والتدافع احلضار َّي ْي‪ ،‬فهذه الفئات‪ ،‬وهي األكرب‬
‫بال أدنى شك؛ كان ينبغي البحث يف مشكالهتا البسيطة والعظيمة يف ٍ‬
‫آن‪ ،‬بالذات يف‬
‫املروع وغري َّ‬
‫املرشد الذي سمح باالطالع عىل أنامط حياة‬ ‫ظل االنفتاح اإلعالمي ِّ‬
‫وعيش ال يمكن معها إقناع أجيال نصف متعلمة‪ ،‬ومل َّ‬
‫يتمكن منها الدين بالشكل‬
‫الكامل يف اجلوانب الروحية واألخالقية‪ ،‬بفضيلة الزهد مث ً‬
‫ال!‬
‫ٌ‬
‫ملحظ أو مأخذ عىل عملية التدافع ضد هذه التيارات‬ ‫وبشكل عام؛ فإن هناك‬
‫قصورا‬
‫ً‬ ‫بني ظهراين املسلمني‪ ،‬وهي أن هناك حالة من عدم االعرتاف بأن هناك‬
‫ومشكالت داخلية يف عملية التعريف بالدين ونرش‪ ،‬وما يتم إبرازه من جوانب‬
‫خمتلفة فيه‪.‬‬
‫فالدعاة والعلامء ً‬
‫دائم يتصدرون بمنطق خاطئ به بعض االستعالء الذي يدافع‬
‫عن الدين وكامله‪ ،‬وينظر هلذه الفئات نظرة دونية‪ ،‬بينام هذه الفئات مل يروا من الدين‬
‫ما يعالج مشكالهتم‪ ،‬وما يثبت كامله‪.‬‬
‫كذلك؛ غالبية اخلطاب الذي يقوم به حتى علامء مسلمني من املتخصصني يف‬
‫جماالت العلم الدنيوي‪ ،‬أو العلم املادي‪ ،‬ولكنهم يعملون يف جمال الدعوة الرشعية؛‬

‫‪541‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ينصب عىل الدفاع عن الدين‪ ،‬مثل إثبات أنه ال يتعارض مع العلوم املادية‪ ،‬أو أنه‬
‫ال يتعارض مع املفاهيم احلضارية‪ ،‬بينام هذه بدهييات يعرفها العامل كله من قرون‬
‫طويلة ساد فيها اإلسالم ودولته‪ ،‬وقدم علامء املسلمني علو ًما ومكتشفات‪ ،‬بعضها‬
‫كان األساس الذي هنضت عليه العلوم احلديثة‪ ،‬ومفتاح خروج أوروبا من عصور‬
‫الظالمية أص ً‬
‫ال‪ ،‬وهم ال ينكرون ذلك‪ ،‬وبدهيي بحيث ال نجد أنفسنا بحاجة إىل‬
‫التدليل عليه بأمثلة‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري؛ فإن هناك رضورة أمام علامئنا ودعاتنا‪ ،‬وأمام اجلامعات التي تتصدر‬
‫مساحات العمل اإلسالمي؛ التصدي إىل تقديم إجابات تفصيلية عىل سؤال‪" :‬ملاذا‬
‫الدين"‪ ،‬وخماطبة الرشائح التي فقدت الثقة يف فكرة التد ُّين واالرتباط بالدين يف‬
‫حياهتم يف مشكالهتم الواقعية‪ ،‬وتقديم نامذج ملعاجلتها‪.‬‬
‫ويتضمن ذلك التأكيد عىل حقيقة مهمة‪ ،‬وهي أنه لوال الدين‪ ،‬بام يتضمنه من‬
‫ضوابط يف املجاالت األخالقية والسلوكية‪ ،‬وبام يتضمنه من أفكار وعقائد يف جمال‬
‫لتحول العامل إىل غابة أكثر مما هو عليه اآلن!‬
‫َّ‬ ‫اخلوف من عقاب اهلل تعاىل‪ ،‬وخشيته؛‬

‫‪542‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يتحصن الداعية من ظاهرة اإللحاد؟‬


‫َّ‬ ‫كيف‬

‫مل ُ‬
‫خيل أي عرص من العصور املتقدمة أو املتأخرة من التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وحتى‬
‫عرصنا احلديث‪ ،‬من املذاهب واأليديولوجيات واألفكار اهلدامة‪ ،‬وعىل رأسها‬
‫اإلحلاد‪.‬‬
‫وقضية اإلحلاد ليست قضية َع َقدية فحسب‪ ،‬بمعنى أهنا ال تتصل بنقطة اإليامن‬
‫أو عدم اإليامن باخلالق ووجوده‪ ،‬وإنام هي ظاهرة أوسع‪ ،‬هلا أبعاد اجتامعية وسياسية‬
‫عميقة‪.‬‬
‫وكاملعتاد؛ فإنه عند تناول أية ظاهرة أو قضية؛ يكون من املفيد واملهم حترير‬
‫املفاهيم األساسية للحديث‪ ،‬حتى يمكننا فهمه‪.‬‬
‫أساسي ْي‪ .‬الدعوة واإلحلاد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمر ْين‬
‫نحن نتكلم يف هذا املوضع عن َ‬
‫والدعوة‪ ،‬أمرها سهل ومفهوم؛ حيث تعني لغ ًة التبليغ والنداء‪ ،‬ويف االصطالح‬
‫الذي خيتص به هذا املوضع من احلديث‪ ،‬هو تبليغ دين اهلل تعاىل إىل الناس‪ ،‬وإدخال‬
‫الناس فيه‪ ،‬والسعي إىل نرش الرشيعة السمحاء‪.‬‬
‫أما اإلحلاد "(الالربوبية) أو (‪ ،")Atheism‬فهو عىل مستوى االصطالح مشكلة‬
‫كربى يف تعريفه ورشحه‪ ،‬ومن هنا تأيت أمهية احلديث عن قضية حتصني الداعية من‬
‫اإلحلاد؛ حيث إن املصطلح أوسع قلي ً‬
‫ال من املفهوم الشائع عنه‪ ،‬وهو إنكار وجود‬
‫اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪543‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فاإلحلاد باب واسع يف اللغة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فهو باب واسع يف االصطالح‬


‫واملاصدقات‪ ،‬وبعضها قريب بالفعل من الداعية‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإننا عندما نتحدث عن حتصني الداعية من ظاهرة اإلحلاد؛ فإننا ال‬
‫علميا‬
‫نتكلم فحسب عن كيفية توثيق ُعرى اإليامن يف نفسه‪ ،‬وكيفية تدريبه وتأهيله ًّ‬
‫وعقليا للرد عىل الشبهات‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫– بمعنى العلم الرشعي والعلم املادي أو الدنيوي –‬
‫ذرى مل يكن‬
‫تتلبس رداء العلم املادي الذي وصل إىل ً‬
‫وخصوصا الشبهات التي َّ‬
‫ً‬
‫يتصورها أحدٌ من قبل‪.‬‬
‫فهناك أنواع من اإلحلاد وردت يف القرآن الكريم‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭪ ﭫ‬
‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ‬
‫ورة " ُف ِّص َل ْت" – اآلية ‪.]40‬‬
‫[س َ‬
‫ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ ُ‬
‫واإلحلاد يف هذه اآلية‪ ،‬يف كلمة ﴿ﭬ﴾‪ ،‬كام يقول الطربي يف تفسريه يعني‬
‫"الذين يميلون عن احلق يف حججنا وأدلتنا‪ ،‬ويعدلون عنها تكذي ًبا هبا وجحو ًدا‬
‫هلا"‪ ،‬وكذلك يعني املعاندة‪ ،‬والكفر والرشك‪.‬‬
‫ويقول َع َّز َمن قائل‪ ﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ورة "األعراف" ‪ -‬اآلية ‪.]180‬‬
‫[س َ‬
‫ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ ُ‬
‫و﴿ﭬ﴾ هنا كام يف الطربي‪ ،‬تعني املرشكني‪ ،‬ويعني إحلادهم يف أسامء اهلل‬
‫عم هي عليه؛ حيث أسموا هبا‬ ‫وحرفوا ‪َّ -‬‬
‫احلسنى‪ ،‬أهنم قد َعدَ لوا هبا ‪ -‬أي حادوا َّ‬
‫آهلتهم وأوثاهنم‪ ،‬مع تعديل يف بعض األحرف‪ ،‬وصياغتها يف اشتقاقات أخرى‪،‬‬

‫‪544‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫و"الع َّزى"‪ ،‬التي هي‬


‫ُ‬ ‫مثل "الالت" التي هي اشتقاق من لفظ اجلاللة "اهلل"‪،‬‬
‫عم يصفون‪.‬‬ ‫اشتقاق من اسم اهلل "العزيز"‪ ،‬سبحانه وتعاىل َّ‬

‫ثم هناك قوله تبارك وتعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ‬


‫ورة‬
‫[س َ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ ُ‬
‫"النحل" ‪ -‬اآلية ‪.]103‬‬
‫و﴿ﭬ﴾ يف هذه اآلية‪ُ ،‬يقصدُ هبا املرشكون كذلك‪ ،‬الذين زعموا أن‬
‫الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬كان يتلقى الوحي من أحد نصارى مكة قبل اهلجرة‪ ،‬وكان‬
‫ُيدعى " َب ْلعام"‪ ،‬وقيل إن اسمه كان "يعيش"‪ ،‬وكان هذا أو ذاك أعجمي اللسان‪،‬‬
‫عربيا‪.‬‬
‫وليس ًّ‬
‫ومن خالل هذا املعنى‪ ،‬واملعاين السابقة؛ فإن اإلحلاد – إ ًذا – ال يعني فقط فكرة‬
‫إنكار الربوبية أو األلوهية‪ ،‬وإنام هو حيوي بني جنباته طائفة واسعة من االنحرافات‬
‫الع َقدية‪ ،‬مثل التكذيب ِّ ْ‬
‫والشك‪ ،‬واألهم‪ ،‬وهو ما يمكن أن يكون األقرب إىل أن‬ ‫َ‬
‫يقع فيه الدعاة‪ ،‬بل ووقع فيه بعض َمن يعملون يف حقل العمل اإلسالمي‪ ،‬اهلوى‬
‫وهدْ يه‪ ،‬إىل آفاق غري سوية‪.‬‬
‫وامليل‪ ،‬وحتريف تعاليم اإلسالم َ‬
‫وقضية امليل والتحريف هذه يف وقتنا الراهن‪ ،‬متثل أزمة وفتنة حقيقيت َْي أمام‬
‫العاملني يف حقول العمل اإلسالمي املختلفة‪ ،‬ما بني فتنة التكفري‪ ،‬وفتنة احلركات‪،‬‬
‫عرف بالثورة املضادة التي تلت ثورات الشعوب‬
‫وكذلك فتنة السياسة يف ظل ما ُي َ‬
‫سمى بـ"الربيع العريب"‪ ،‬منذ هنايات العام ‪2010‬م‪ ،‬وجتددت‬
‫خالل مرحلة ما ُي َّ‬
‫بفعل تطور األحداث يف اجلزائر والسودان‪.‬‬

‫‪545‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ومن َث َّم؛ فإن الداعية ينبغي أو ما ينبغي؛ أن يتم حتصينه يف هذه النقطة‪ ،‬بحيث‬
‫يكون عندما ينطلق إىل ميدان الدعوة الواسع‪ ،‬ال حيمل بني جنباته أي انتامء إال‬
‫لإلسالم‪ ،‬وال يوجد أي تأثري عليه‪ ،‬سوى إيامنه وتعاليم رشيعته‪ ،‬وأال ينحاز إال‬
‫لسواها‪ ،‬وال يعيل أية اعتبارات أخرى فوقها‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال؛ فإن قضية اإلحلاد‪ ،‬حتمل الكثري من التحديات األخرى‪.‬‬
‫وهي مهمة أشق وأصعب يف املجتمعات التي ال توجد فيها غالبية مسلمة‪،‬‬
‫وبالذات املجتمعات الغربية التي صار فيها العلم والعقل آهلة ُتع َبد من دون اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وهذا أمر عليه أدلة إحصائية؛ حيث نجد أن نسبة امللحدين يف فرنسا وبريطانيا‪،‬‬
‫تصل إىل أربعني باملائة من أبناء هذه املجتمعات‪.‬‬
‫فنتصور الواقع الصعب الذي يواجه الدعوة والدعاة يف جمتمعات تعبد املادة‪،‬‬
‫وتقدس العقل‪ ،‬يف ظل ما وصلت إليه منجزات العلم احلديث – برغم أن وظيفة‬
‫العلم‪ ،‬هي اكتشاف القوانني التي خلقها اهلل تعاىل يف الطبيعة واإلنسان والكون –‬
‫ويف ذات الوقت‪ ،‬هي ال تؤمن بوجد إله أو خالق هلذا الكون‪.‬‬
‫وهذا األمر‪ ،‬تعرتف به املفكرة واملسترشقة األمريكية‪ ،‬كارين أرمسرتونج‪ ،‬يف‬
‫كتاب هلا بعنوان‪" :‬تاريخ اخلالق األعظم"؛ حيث تقول بأن ظاهرة اإلحلاد أخذت‬
‫مكاهنا يف املجتمعات األوروبية والغربية بشكل عام‪ ،‬منذ هنايات القرن السابع‬
‫عرش‪ ،‬وبدايات القرن التاسع عرش‪ ،‬وهو عرص الطفرة العلمية‪ ،‬وسيادة نظرية‬
‫سطوة العقل‪.‬‬

‫‪546‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فتقول إنه "مع التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب‪ ،‬بدأت بوادر‬
‫تيارات أعلنت استقالهلا عن فكرة وجود اخلالق األعظم"‪.‬‬
‫ويزيد من وطأة األمر‪ ،‬وبالتايل رضورة التأهيل للدعاة‪ ،‬ارتباط ظاهرة اإلحلاد‬
‫يف هذه املجتمعات‪ ،‬بظاهرة أخرى‪ ،‬وهي "الالدينية" "‪ ،"Non-religious‬والتي‬
‫تعني "عدم اإليامن بأي دين"‪ ،‬ورفض مجيع األديان باعتبار أهنا "صنع ونتاج‬
‫فكري برشي"‪.‬‬
‫وهذا التيار‪ ،‬لو أضيف إىل امللحدين وما اتصل من نظريات وأفكار؛ فإننا سوف‬
‫نجد أن ما يقرب من سبعني باملائة من سكان الواليات املتحدة هم بني ملحدين‬
‫(‪ 12‬باملائة)‪ ،‬وال أدريني (‪ 17‬باملائة)‪ ،‬فيام ‪ 37‬باملائة منهم يؤمنون بوجود روح ما‪،‬‬
‫ولكنهم "الدينيني"‪.‬‬
‫وحتى يف جمتمعاتنا العربية واملسلمة؛ هناك ذات التحدي؛ حيث تنترش وبقوة‬
‫التيارات العلامنية‪ ،‬والليربالية‪ ،‬والنيو ليربالية‪ ،‬يف خمتلف االجتاهات الفكرية‬
‫والتطبيقية‪ ،‬بني الدين واملجتمع واالقتصاد والسياسة‪.‬‬
‫وساهم يف ذلك عوامل عديدة‪ ،‬من بينها ضعف التأهيل التعليمي والثقايف‪،‬‬
‫وتفكك الدولة اإلسالمية اجلامعة‪ ،‬إىل دول قومية ال يمثل اإلسالم فيها اهلوية‬
‫األوىل‪ ،‬حتى لو ُذ ِك َر يف دساتريها أنه ديانة الدولة‪ ،‬أو أنه مصدر الترشيع‪.‬‬
‫ولقد قادت عوامل الرتدي احلضاري التي تعاين منها األمة‪ ،‬والسيام يف اجلانب‬
‫العلمي‪ ،‬إىل سيادة فكرة مدمرة عىل عقول شبابنا وجمتمعاتنا‪ ،‬وهي أن النموذج‬
‫املكون الفكري والعقيدي اهلويايت – هو‬ ‫ِّ‬ ‫الغريب – بكل مشتمالته‪ ،‬بام يف ذلك‬

‫‪547‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النموذج األمثل‪ ،‬يف ظل الطفرات املتحققة يف الغرب يف خمتلف املجاالت‪ ،‬والسيام‬


‫اجلانب العلمي‪ ،‬واجلانب املعييش واالقتصادي‪ ،‬واألهم‪ ،‬يف جمال احلقوق السياسية‬
‫حرفيا!‬
‫ًّ‬ ‫واالجتامعية‪ ،‬التي تعني كرامة اإلنسان‬
‫ولذلك سادت وانترشت – يف ظل حالة من االهنزام النفيس الذايت التي نعاين‬
‫منها يف عاملنا العريب واإلسالمي – تيارات هدامة‪ ،‬من أمهها التيارات اإلحلادية‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بالتخل عن مظاهر التدين‪.‬‬ ‫والتي تبدأ يف جذرها‬
‫ولعل يف نقطة التخيل عن احلجاب لدى فتيات األجيال األحدث س ًّنا يف‬
‫جمتمعات عربية ومسلمة عديدة‪ ،‬بعد التشويش الذي حدث يف إطار الصدامات‬
‫التي وقعت بني األنظمة املستبدة واحلركات اإلسالمية يف مرحلة ما بعد ثورات‬
‫الربيع العريب‪ ،‬ما ييش بحجم املشكلة احلاصلة‪.‬‬
‫وحتى أوساط الدعاة مل تسلم من هذه الفتن كام رأينا من بعض األسامء؛ حيث‬
‫جاءت السياسة واملنفعة عىل حساب املبدأ لدهيم‪ ،‬فليس من املستبعد أن تكون آلفة‬
‫اإلحلاد أثرها بدورها بنفس النسق واملنطق‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار؛ فإن حتصني الدعاة يف مواجهة اإلحلاد وأية ظواهر أخرى‬
‫سلبية‪ ،‬لن يتأتَّى إال من خالل التأهيل القوي الذي يبدأ بالتأسيس العقدي والعلمي‬
‫الشامل‪ ،‬ويستمر طيلة مشوار أو رحلة الداعية‪.‬‬
‫وهذا لن يتحقق إال من خالل إطار َّ‬
‫منظم‪ ،‬يضم كبار علامء األمة‪ ،‬ويعمل‬
‫عىل تقديم الدعم العلمي والنفيس والفكري‪ ،‬وحتى اإلسناد السيايس من خالل‬
‫منظومة من العالقات الب َّناءة مع احلكومات يف الدول التي يعملون هبا‪.‬‬

‫‪548‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫قناعات المسلم بين الدين وبين ممارسيه‬

‫شهدت ساحات ومنصات النقاش اخلاصة باحلركة اإلسالمية الصحوية يف‬


‫اآلونة األخرية‪ ،‬نقاشات وجداالت كبرية وعظيمة عىل إثر ما أعلن عنه الداعية‬
‫السعودي‪ ،‬عائض القرين عام وصفه بـ"املراجعات" يف منهجه‪.‬‬
‫وبقطع النظر عن حمتوى حديث القرين‪ ،‬وبواعثه ملواقفه اجلديدة‪ ،‬أو الطريقة‬
‫التي خرج هبا هبذه "املراجعات" إىل اإلعالم؛ فإن هناك مشكالت ترتب عليها هذا‬
‫املوقف‪ ،‬وتكررت فيها ذات عنارص اجلدل‪.‬‬
‫كام أن املشكلة األهم التي تنبغي مناقشتها عىل نطاق أوسع‪ ،‬هو حدوث حاالت‬
‫كثرية من التخارج من جانب بعض الشباب عن مسارات العمل اإلسالمي‬
‫املختلفة‪ ،‬باعتبار أن هذه "املراجعات" الصادمة يف حمتواها‪ ،‬وفيام تعكسه عن‬
‫شخصيات كان هلا مقامها الكبري‪ ،‬تفسد القناعات األساسية التي انبنى عليه قرار‬
‫االنخراط يف العمل اإلسالمي بأي مسا ٍر من مساراهتا‪.‬‬
‫ولعل النقطة األبرز أو األخطر يف مراجعات القرين – ال نذم أو نقدح يف الرجل‬
‫بقدر ما نتناول األمور من زوايا التقييم املوضوعي البحت – أهنا قد تناقضت‬
‫مع أمور كان يقيني احلامسة فيها‪ ،‬وأثبتها باألدلة الرشعية‪ ،‬مع ربطه "مراجعاته"‬
‫هذه بوجوه سياسية‪ٌ ،‬‬
‫متفق عىل أهنا ضمن املحور الذي تواجهه احلركة اإلسالمية‬
‫اإلصالحية بدعواهتا للتغيري‪ ،‬وكفاحها ضد الفساد واالستبداد‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫صح التعبري – مع كونه كان‬


‫وكان ذلك من أهم أسباب تأثري "فتنة القرين" – لو َّ‬
‫قام ًة كبري ًة موثوقة‪ ،‬يف مسألة "الكفران" املبني من جانب بعض الصف املسلم‪،‬‬
‫والسيام الشباب‪ ،‬بمبادئ املرشوع اإلسالمي‪ ،‬وتعضيد جهود كبرية تتم من جانب‬
‫حكومات وأنظمة لرصف الناس عن إسناد جهود حتكيم الرشيعة‪ ،‬واستعادة‬
‫سياقات األمة احلضارية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حالة من‬ ‫وربام تبدو هذه القضية قديمة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ومع اجلهود التي ُت َ‬
‫بذل يف ِّ‬
‫كل‬
‫فتض أهنا حمسومة باعتبار أهنا ترتبط ببدهييات عقلية‬ ‫هذه احلاالت؛ فإنه من ا ُمل َ‬
‫آن آلخر مع حدوث حالة من حاالت االرتكاسات مع‬ ‫وإيامنية‪ ،‬إال أهنا تتجدد من ٍ‬
‫أحد رموز الدعوة والعمل اإلسالمي كام تم‪.‬‬
‫هذه املشكلة تعكس أوجه خلل عديدة يف عملية الرتبية والتنشئة داخل الصف‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فهناك قول يف األثر عن عبد اهلل بن مسعود (ريض اهلل عنه)‪ ،‬قال فيه‪:‬‬
‫احلي ال ُتؤ َم ُن عليه ِ‬
‫الف ْتن َُة"‪.‬‬ ‫كان ُم ْس َت ًّنا؛ َف ْل َي ْست ََّن بمن قد َ‬
‫مات‪ ،‬فإن َّ‬ ‫" َمن َ‬

‫هذا األثر رواه ابن عبد الرب يف "جامع بيان العلم وفضله"‪ ،‬وبالرغم من أن يف‬
‫السنة واجلامعة‪ ،‬كام‬
‫إسناده ضعف؛ إال أنه أثر مشهور ومتداول يف ُمص َّنفات أهل ُّ‬
‫أنه يتناسب مع قواعد املنطق والعمران السليمة‪ ،‬وبالتايل؛ فهو يؤخذ به‪ ،‬ولذلك‬
‫واستقر عند علامء املسلمني‪.‬‬
‫َّ‬ ‫معناه صحيح‪،‬‬
‫ولو أن هذا األمر بمنطقه البسيط يتم غرسه بالشكل السليم يف املناهج الرتبوية‬
‫يف أول درجاهتا؛ ما رأينا حاالت التف ُّلت الكبري التي حتدث بني كل ٍ‬
‫أزمة وأخرى‪.‬‬

‫‪550‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫متا ًما مثلام حدث بعد سلسلة اهلزائم السياسية التي تلقتها احلركة اإلسالمية يف‬
‫عرف بثورات الربيع العريب‪ ،‬والتي شهدت بعضها جمازر يف حق الناس –‬ ‫بلدان ما ُي َ‬
‫وليس أبناء احلركة اإلسالمية فحسب – بل ومالت فيها الك َّفة لصالح أنظمة ظاملة‬
‫مستبدة‪ ،‬ارتكبت هذه اجلرائم‪.‬‬
‫رئيسيا‪ ،‬وهو‪" :‬أين ذهب اهلل؟!" أو "أين‬
‫ًّ‬ ‫وقتها ظهرت فتنة كبرية محلت عنوا ًنا‬
‫نرصه الذي وعد؟!"‪ ،‬سبحانه وتعاىل عام يصفون‪ ،‬بالرغم من أن هذه األمور‬
‫واضح ًة وضوح الشمس يف القرآن الكريم‪ ،‬وتثبتها أحداث التاريخ‪ .‬فرانكو‬
‫فرانشيسكو‪ ،‬ديكتاتور إسبانيا الذي مات عىل يديه مئات اآلالف من مواطنيه‪،‬‬
‫بدعم من‬
‫ٍ‬ ‫فاشيا‪ ،‬مات عىل فراشه‪ .‬فهل يعني ذلك أنه كان عىل حق‪ ،‬وحظي‬ ‫وكان ًّ‬
‫اهلل تعاىل؟!‪ ..‬إطال ًقا‪ ،‬وحاشا هلل تعاىل ذلك‪ ،‬ولكنها قواعد وضعها اهلل تعاىل علينا‬
‫أن نتحرك وفقها‪.‬‬
‫بجانب قضية ضعف الغرس هذه؛ فإن هناك مشكلة كبرية أخرى يف العملية‬
‫الرتبوية داخل احلركات اإلسالمية‪ ،‬تتعلق بعملية التأطري التنظيمي‪.‬‬
‫وتتعلق هذه النقطة بأنه جرى تداخل خاطئ متا ًما بني متطلبات عملية تثبيت‬
‫الصف عىل املنهج واملبدأ‪ ،‬والصرب عىل املكاره واملتاعب التي سوف تالقيه ً‬
‫حتم‬
‫خالل عمله الدعوي‪ ،‬باعتبار أن ما يقوم به‪ ،‬إنام هو جهاد بصورة من الصور‬
‫يف سبيل اهلل‪ ،‬وأنه يعمل ملصلحة الدين وإقامة الرشيعة‪ ،‬وبني الطبيعة الوظيفية‬
‫للحركة اإلسالمية‪ ،‬أي أهنا ليست الدين يف حد ذاته‪ ،‬وإنام هي أداة من أدوات‬
‫خدمة الدين‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذا التداخل وضع اجلامعة – أ ًّيا كانت – موضع الدين‪ ،‬وصار اخلروج عليها‪،‬‬
‫"ردة"‪،‬‬
‫رشعيا عىل أنه َّ‬
‫ًّ‬ ‫خروجا عن الدين‪ ،‬ويف بعض احلاالت‪ ،‬يص َّنف‬‫ً‬ ‫ربا‬
‫ُمعت ً‬
‫ويتم قتل أصحاب املواقف املخالفة‪ ،‬والذين تركوا اجلامعة‪ ،‬بمنطق "اخلروج عىل‬
‫اجلامعة" الوارد يف احلديث النبوي الرشيف الذي حدد فيه حاالت ِحل دم املسلم‪،‬‬
‫بينام اجلامعة املذكورة يف احلديث النبوي الرشيف‪ ،‬هي مجاعة املسلمني‪ ،‬وليست‬
‫اجلامعة باملنطق التنظيمي املعروف اآلن‪ ،‬أي هذه احلركة أو تلك‪.‬‬
‫بل إن هناك شباب مسلم ال يتصور أنه يمكنه أن خيدم دينه بمبادرات فردية‪،‬‬
‫بعيدً ا عن أية مجاعة‪ .‬إن خدمة الدين هلا مظاهر تفوق احلرص‪ .‬لو التزم املسلم ا ُملتَد ِّين‬
‫باإلخالق احلميدة أمام الناس فحسب؛ هذا يف حد ذاته خدمة للدين‪ ،‬من خالل‬
‫تقديم النموذج السليم والقدوة احلسنة للناس‪.‬‬
‫ويعيدنا ذلك إىل جذر مهم ألسباب تأثري الفتن التي تطرأ عىل شباب احلركة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهي ربط املرشوع اإلسالمي بشخوص ومجاعات‪ ،‬فلو أخطأت هذه‬
‫الشخوص أو اجلامعات – واخلطأ‪ ،‬بل واخلطيئة طبيعة برشية ُجبِل عليها بنو آدم –‬
‫يتم ربط هذه األخطاء واخلطايا باملرشوع‪ ،‬بل وبالدين برمته‪ ،‬يف ظل ضعف الفكر‬
‫والفهم القائم لدى رشائح من صغار السن‪.‬‬
‫وهي مسؤولية تتحملها احلكومات واألنظمة كذلك‪ ،‬وسعيدة هبا‪ ،‬يف ظل‬
‫تداعي املنظومة التعليمية والتنويرية‪ ،‬مما أدى إىل نشوء أجيال كاملة ضعيفة الفهم‪،‬‬
‫وغري قادرة عىل استيعاب األمور هبذا العمق والقدرة عىل التمييز‪.‬‬
‫سهل مهمة الفساد واالستبداد والسيطرة عىل اجلموع من جانب هذه‬
‫وهو ما َّ‬
‫احلكومات واألنظمة!‬

‫‪552‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فإن اجلهد املطلوب بدوره تربو ًّيا‪ ،‬ولكن باملفهوم الواسع الشامل‬
‫للرتبية وأدواهتا؛ حيث يدخل يف ذلك اإلعالم‪ ،‬وخمتلف املحاضن الرتبوية‬
‫واملسؤولة عن التكوين الفكري واملعريف‪.‬‬
‫واألمر أبسط حتى من ذلك‪ .‬القرآن الكريم شديد الوضوح يف هذه األمور‪،‬‬
‫السنَن كافة يف هذه االجتاهات؛ حيث نجد احلديث عن النرص واشرتاطاته‪،‬‬
‫ويقدم ُّ‬
‫وعن قواعد الثواب للمحسن والعقاب للميسء بني الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفيه أحاديث‬
‫الفتن‪.‬‬
‫ولو أضفنا له قراءات يف السرية النبوية واحلديث الرشيف؛ سوف لن نكون‬
‫والس َّنة بالشكل السليم‪.‬‬
‫بحاجة إىل أي يشء آخر‪ .‬فقط نتد َّبر القرآن ُّ‬

‫‪553‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫حقيقة وجود اهلل وأهمية المنهج العقلي في الرد على الملحدين‬

‫تطرح الكثري من الدوائر التي تؤمن باألفكار اإلحلادية‪ ،‬والالأدرية – وكالمها‬


‫ومفسا ملا يزعمونه من أفكار‬
‫ِّ ً‬ ‫رب ًرا‬
‫أمر خمتلف كام سوف نرى – النهج العقيل م ِّ‬
‫ٌ‬
‫وتصورات حول الكون واخللق‪.‬‬

‫وقد يبدو أن التصدِّ ي إىل هؤالء ٌ‬


‫أمر عسري‪ ،‬يف ظل عرص سطوة العقل‪ ،‬الذي‬
‫حتياه البرشية‪ ،‬وتأليهه من جانب البعض‪ ،‬مع جتليات العلم الكربى‪ ،‬وما حققه‬
‫اإلنسان يف خمتلف املجاالت‪ ،‬بام يف ذلك األمور العلمية ذات الطبيعة الرمزية يف‬
‫هذا املجال‪ ،‬مثل اجلينوم واهلندسة الوراثية‪ ،‬وغزو الفضاء وبدء عمليات استيطانه‬
‫باملعنى احلريف للكلمة‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ويف حقيقة األمر؛ فإن أهم ما يدحض أفكار هؤالء هو املنهج العقيل ذاته‪.‬‬
‫وقبل أن نفهم ذلك؛ فإن هناك قضية جيب أن ندركها‪ ،‬ويدركها العاملون يف‬
‫جمال التصدي إىل األفكار اإلحلادية‪ ،‬وهي أن هناك فار ًقا وبو ًنا كب َ‬
‫ري ْين بني امللحدين‬
‫وبني الالأدريني‪.‬‬
‫وهذا الفارق ليس من نافل القول أن يدركه الدعاة واملفكرون العاملون يف حقل‬
‫العمل اإلسالمي‪ ،‬ألنه يفرض اختال ًفا كب ً‬
‫ريا يف آليات النقاش مع كال الفئت َْي‪.‬‬
‫فامللحدون‪ ،‬هم فئة حسمت أمرها من قضية وجود اخلالق عز وجل‪ ،‬باإلنكار‪،‬‬
‫يفسون وجود الكون وحتوالته وتطوراته‪ ،‬من منظور نظريات‬
‫وبالتايل؛ فإهنم ِّ‬

‫‪554‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عدة‪ ،‬مثل املصادفات كام يف موضوع شكل الكون ونمط العالقات والتفاعالت‬
‫بني مكوناته املختلفة‪ ،‬ونظرية التطور الطبيعي والطفرات يف حالة احلديث عن‬
‫"ظاهرة" احلياة واملخلوقات احلية‪.‬‬
‫يعبون عن‬‫أما الالأدريون؛ فهم مل يزالوا عند حمطة سابقة عىل ذلك؛ حيث إهنم ِّ‬
‫موقفهم من مسألة اخللق ووجود اخلالق‪ ،‬بأهنم غري قادرين عىل حسم رأهيم يف هذه‬
‫عقليا مع موقف امللحدين‪.‬‬
‫املسألة‪ ،‬بسبب وجود ما يتعارض حتى ًّ‬
‫ولذلك ليس دقي ًقا القول بأن الالأدريون هم ملحدون‪ ،‬وأن كلمة "الالأدري"‬
‫هذه تعني أنه ال يدري شيئًا عن وجود اخلالق‪ .‬الذي يقول بذلك هو ملحد‪ ،‬أما‬
‫"الالأدري" يف االصطالح‪ ،‬فهو غري القادر عىل تكوين موقف بعينه يف هذه املسألة‪،‬‬
‫وليس بقادر عىل حسم موقفه من هذه املسألة‪.‬‬
‫وأقل فئة من بني هذه الفئات‪ ،‬هي فئة الالدينيني؛ حيث هؤالء يؤمنون بوجود‬
‫ورب مد ِّبر هلذا الكون‪ ،‬ولكنهم ال يعتقدون يف أي ٍ‬
‫دين من الديانات‬ ‫إله واحد‪ٍّ ،‬‬
‫عرف يف أوساط الناس بالديانات الساموية‪ ،‬وهؤالء يمكن الوصول‬ ‫ا ُمل َّنزلة‪ ،‬أو ما ُي َ‬
‫معهم إىل حقيقة االعتقاد الصحيح من خالل جهد أقل تعقيدً ا مما هو مطلوب مع‬
‫الفئت َْي السابقت َْي‪.‬‬
‫وأهم مرتكزات أفكار امللحدين يف مسألة وجود اخلالق عز وجل‪ ،‬هي قضية‬
‫أزلية الكون‪ ،‬وأسئلة عىل غرار‪َ " :‬من خلق اهلل؟" سبحانه وتعاىل ًّ‬
‫عم يصفون‪.‬‬
‫ويف نقطة أزلية الكون‪ ،‬أي أنه من دون بداية‪ ،‬شاءت حكمة اهللِ عز وجل‪،‬‬
‫أن ُتن َقض أفكار امللحدين يف هذا اجلانب من خالل العلم ذاته؛ حيث إن نظرية‬

‫‪555‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"االنفجار العظيم" أو الـ"‪ "Big Bang‬التي توصل إليها العلامء يف الستينيات‬


‫املاضية‪ ،‬كأساس خللق الكون عىل الصورة التي نعرفها يف وقتنا الراهن؛ توضح أن‬
‫له نقطة بداية‪ ،‬وتنفي عنه صفة األزلية‪.‬‬
‫ثم اتفقت هذه النظرية مع ما جاء يف القرآن الكريم بصورة رصحية‪ .‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ورة "األنبياء" – اآلية ‪.]30‬‬ ‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﴾ ُ‬
‫[س َ‬
‫وعندما توصل العلامء إىل حقيقة أن الكون ال يزال يف مرحلة االتساع‪ ،‬وجدناها‬
‫ورة‬
‫[س َ‬
‫يف القرآن الكريم‪ .‬يقول عز وجل‪﴿ :‬ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾ ُ‬
‫"الذاريات" – اآلية ‪.]47‬‬
‫بحال إال أن يكون له صانع‪.‬‬‫ٍ‬ ‫األمر اآلخر هنا‪ ،‬هو أن تعقيد الكون؛ ال يمكن معه‬
‫رده‪.‬‬
‫عندما جادل اإلمام أبو حنيفة النعامن بعض امللحدين يف عرصه؛ كان هذا َّ‬
‫أخربهم بأنه قد تأخر عىل موعدهم حتى صنعت املصادفات له قار ًبا محله‪ ،‬فاهتموه‬
‫باجلنون‪ ،‬فقال هلم ما معناه؛ كيف تصدقون – إ ًذا – أن الكون األكثر تعقيدً ا بام ال‬
‫ُيقاس من قارب صغري؛ يمكن أن ُي َلق ويسري هبذا النسق الدقيق‪ ،‬من دون صانع‪.‬‬
‫وكل ذلك يرد بمنطق امللحدين عىل امللحدين أنفسهم‪ ،‬الذين ِّ‬
‫يعظمون من قيمة‬
‫العقل ويعلون من مكانة العلم املادي يف صياغة أفكارهم وتصوراهتم عن العامل‪.‬‬
‫ثم نأيت ألهم ما يطرحه امللحدون‪ ،‬و َمن نحو نحوهم ِمن تساؤالت حول طبيعة‬
‫"خ ْلق اهللِ" – سبحانه وتعاىل َّ‬
‫عم يقولون‬ ‫اهللِ عز وجل‪ ،‬لو َّ‬
‫صح التعبري‪ ،‬وهي قضية َ‬
‫عمن َخ َلقَ َ‬
‫اخل ْلق؛ فنجيب بأنه اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫– عندما يأيت احلديث َّ‬

‫‪556‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف هذه اجلزئية بالذات؛ فإن موقف امللحدين غري عقالين‪ ،‬وال يتفق مع قواعد‬
‫املنطق البسيط‪ ،‬حتى بعيدً ا عن انتامئنا كمسلمني‪.‬‬
‫فوفق قواعد العلم ذاته‪ ،‬واملنطق الذي حيكمه؛ فإنه ال جتوز مساواة ما ليس‬
‫بمستوى الطر َف ْي‪ ،‬وهذه قاعدة رياضية بحتة‪ .‬بمعنى أنه ليس من املنطق تطبيق‬
‫قاعدة َ‬
‫"اخل ْلق" عىل اخلالق واملخلوق ً‬
‫معا‪.‬‬
‫فمسألة أو قضية َ‬
‫اخل ْلق؛ تتصل بنقطة اإلجياد من العدم‪ ،‬أو الصناعة والتكوين‬
‫من أمور ومواد أولية كام يف املعاين املختلفة لكلمة َ‬
‫"اخل ْلق" يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫فعندما يصنع اإلنسان سيارة عىل سبيل املثال‪ ،‬وهذا يف حد ذاته ُيعترب عملية‬
‫َخ ْلق كيان جديد من مواد ومكونات َّ‬
‫أولية‪ ،‬ختتلف يف طبيعتها عن طبيعة كل جزء‬
‫منها عىل ِحدَ ة؛ هل علم أحدٌ أن هناك سيارة قد صنعت إنسا ًنا؟!‪ ..‬أو قادته عرب‬
‫الطريق؟!‪ ..‬هذا كالم ٍ‬
‫جماف متا ًما للعقل واملنطق‪.‬‬
‫فاإلنسان هنا هو الصانع‪ ،‬والسيارة أداة ركوب‪ ،‬فلذلك؛ عندما "خلقها"‬
‫اإلنسان بمفهوم التكوين والرتكيب ألداء مهمة أو وظيفة معينة؛ ال يمكن أن‬
‫نتصور أن ينطبق عىل صانعها ذات املنطق‪.‬‬
‫بنفس املنطق؛ ال يمكن بحال أن نتساءل عن كيفية َخ ْلق اخلالق؛ ألهنا "مسألة"‬
‫غري منطقية يف األصل‪ ،‬وفق املعنى العلمي ملصطلح "مسألة" يف جمال املنطق‪ .‬أي‬
‫أهنا عبارة عن أمر ال جتوز منطقته أو طرحه للتساؤل يف سياق معادلة منطقية نبحث‬
‫حل من األصل‪.‬‬‫هلا عن إجابة أو ٍّ‬

‫‪557‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫"عقليا" منذ عرص ما قبل الرساالت‪ .‬فهناك الكثري‬


‫ًّ‬ ‫وهذا األمر حتى ٌ‬
‫متفق عليه‬
‫من القبائل البدائية يف أدغال أفريقيا‪ ،‬وحضارات قديمة يف أمريكا اجلنوبية؛ ُعثِ َر‬
‫ٍ‬
‫خالق ومد ِّب ٍر‬ ‫رب‬
‫عىل مدونات ومرويات تؤكد توصلهم إىل حقيقة وجود إله أو ٍّ‬
‫الر ِّب الذي تصوره‪.‬‬
‫هلذا الكون‪ .‬أ ًّيا كان طبيعة اإلله الذي عبدوه أو َّ‬
‫أنثروبولوجيا من جانب الدعاة وعلامء‬
‫ًّ‬ ‫وهنا تكمن أمهية دراسة هذه املسألة‬
‫املسلمني‪ .‬فأ ًّيا كانت صورة اإلله أو الرب الذي تصورته هذه القبائل‪ ،‬وعبدته هذه‬
‫احلضارات‪ ،‬ولكن املهم أهنم قد توصلوا بصورة عقلية بحتة – من دون رساالت‬
‫من لدن اهللِ عز وجل – إىل أن هناك خال ًقا مد ِّب ًرا هلذا الكون‪ ،‬وأنه واحد‪.‬‬
‫وهذا يتوافق مع منطق قرآين عقيل وواضح حمكم‪ ،‬وهي قاعدة "إ ًذا لذهب كل‬
‫ٍ‬
‫إله بام خلق"‪ ،‬و"لعال بعضهم عىل بعض"‪ .‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ورة "املؤمنون" – اآلية ‪.]91‬‬ ‫ﭯ ﭰ﴾ ُ‬
‫[س َ‬
‫والرب الواحد الذي تصورته هذه احلضارات‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أما قضية إثبات أن هذا اإلله‬
‫وتلك القبائل‪ ،‬هو رب العزة سبحانه‪ ،‬اهلل الواحد األحد الذي نعبده كمسلمني‪،‬‬
‫أمر يف غاية السهولة يف ظل الصورة املحكمة‬
‫املنزلة؛ فهو ٌ‬
‫ونجده يف الرساالت َّ‬
‫القويمة التي قدمها القرآن الكريم عن اهللِ تعاىل‪ ،‬وعن أسامئه وصفاته؛ حيث هي‬
‫أكمل صورة‪ ،‬وأكثر صورة منطقية يمكن أن يكون عليها رب وخالق هذا الكون‪.‬‬
‫فاإلسالم والقرآن الكريم‪ ،‬وصحيح الكتب السابقة عىل القرآن الكريم قبل‬
‫والرب اخلالق القيوم‪ ،‬فال نجد أي اعوجاج أو‬
‫ِّ‬ ‫حتريفها‪ ،‬تقدم صورة سليمة لإلله‬

‫‪558‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫عوارض له‪ ،‬أو أن يطرأ عليه تغيري‪ ،‬أو أي يشء من السفاهات التي نجدها يف‬
‫تصور الديانات الوثنية لإلله اخلالق‪.‬‬
‫فبعيدً ا عن اعتقادنا كمسلمني؛ فإنه من املنطقي والبدهيي أن يكون اإلله والرب‬
‫ال‪ ،‬ال يعرتيه ضعف‪ ،‬وال ترسي عليه قواعد الزمن الذي هو‬ ‫اخلالق‪ ،‬واحدً ا‪ ،‬كام ً‬
‫خملوق يف حد ذاته؛ فال يمكن لألدنى أن ينطبق عىل األعىل‪ ،‬وهذه بدورها معادلة‬
‫عقلية منطقية وسليمة‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫ويف األخري؛ فإن املنهج العقيل الذي يستند إليه امللحدون واملنكرون لفكرة‬
‫صانع هلذا الكون‪ ،‬هو أهم ِم ْع َول يمكن أن يتم االستناد إليه هلدم أفكارهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وجود‬
‫ولكن ذلك لن يكون – مثل منهج فهم القرآن الكريم – من دون تد ُّبر وفهم من‬
‫جانب العاملني يف هذا احلقل‪.‬‬

‫‪559‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وجود اهلل واالتساق بين ِخ ْل َقة اإلنسان الظاهرية‬


‫وس َنن التكليف والتسخير‬ ‫ُ‬

‫خال ًفا لشائع الظن لدى الكثري من دعاتنا والعاملني يف حقل الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫فإن مسألة الرد عىل امللحدين ليست باألمر السهل‪.‬‬
‫فهؤالء يستندون إىل نقطة غاية يف األمهية‪ ،‬بعيدة عن قضية الدليل العقيل‬
‫والنقاش املنطقي‪ ،‬والتي قد يسهل الدخول منها من خالل بعض الرياضة الذهنية‪،‬‬
‫ولكنه يستند إىل الكثري من األمور التي توصل إليها العلم املادي يف جوانب متعددة‬
‫من خلق اإلنسان والكون‪.‬‬
‫وهذه القضية هي من أهم ما يمكن‪ ،‬وعندما ناقشناها يف موضع سابق من‬
‫احلديث؛ قلنا إهنا من املفرتض أن تكون عىل رأس قائمة أولويات الدعوة والدعاة؛‬
‫حيث جيب أن تتم دراسة ُمدَّ ثة بشكل دائم‪ ،‬ملختلف صور االكتشافات العلمية يف‬
‫الكون‪ ،‬ويف األرض‪ ،‬والسيام يف جمال األنثروبولوجي وعلوم األحياء‪ ،‬ورصد أي‬
‫تضاد ظاهري يمكن أن يكون بني النصوص القرآنية وبني هذه املكتشفات‪.‬‬
‫والرسالة القرآنية هنا واضحة‪ ،‬وهي أنه من صميم يقني اإليامن‪ ،‬بل من صميم وصول‬
‫اإلنسان إىل حقيقة وجود خالق ومد ِّبر واحد هلذا الكون‪ ،‬هو التأمل يف اآليات والسري‬
‫يف اآلفاق‪ ..‬يقول تعاىل‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫"فص َل ْت" – اآلية ‪ .]53‬وهذا‬
‫ورة ِّ‬
‫[س َ‬
‫ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﴾ ُ‬

‫‪560‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلمجال‪ ،‬فيه الكثري من التفصيل يف القرآن الكريم‪ ،‬عن آيات اهلل تعاىل يف خلق الساموات‬
‫فيهن‪.‬‬
‫واألرض وما و َمن َّ‬
‫ومن بني تلك اآليات‪ ،‬الكيفية التي جاء عليها خلق اإلنسان عىل مستوى البدن‬
‫أمر ْين‬
‫ووظائف األعضاء الظاهرية‪ ،‬ثم االتساق القائم بني هذا اخللق وسامته‪ ،‬مع َ‬
‫آخر ْين‪ .‬األول‪ ،‬هو ُس َّنة التسخري‪ ،‬والثاين‪ ،‬محل اإلنسان لألمانة التي ك َّلفه‬
‫مهمني َ‬ ‫َّ‬
‫يكن ليكون ممكنًا‬ ‫عز وجل؛ حيث من دون طبيعة خلق اإلنسان الظاهرية‪ ،‬مل ُ‬ ‫هبا ُ‬
‫اهلل َّ‬
‫األمر ْين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫حتقق كال‬
‫فعىل سبيل املثال؛ فإنه ِمن بعد العقل؛ فإن أهم عالئم تسوية اهللِ تعاىل خللق‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأنه خلقه يف أحسن تقويم؛ اليدان‪ ،‬بصورة اخللق والتكوين والقدرة‬
‫التي عليها‪ ،‬وما يرتبط بانتصاب قامة اإلنسان‪.‬‬
‫هاتان السمتان مها أساس كل إنجاز عمراين وحضاري حققه اإلنسان‪ ،‬فهو‬
‫مل يكن ليستطيع الكتابة أو البناء أو الزراعة أو إبداع الفنون (الفن هو كل إبداع‬
‫إنساين‪ ،‬ولذلك املصطلح يف أصله يشمل اآلداب كذلك)‪ ،‬أو أي يشء آخر‪ ،‬من‬
‫ِ‬
‫وخلقه‪.‬‬ ‫دون هذا التقويم اإلهلي لسمتِه‬
‫بل إنه لوال هذه السامت؛ مل يكن عقل اإلنسان ليستطيع أن يفعل أي يشء‬
‫مما أنجزته احلضارات اإلنسانية‪ ،‬فهناك نظرية يف علوم األحياء تقول بأن بعض‬
‫احليوانات الدابة‪ ،‬أي التي تدب عىل قوائم‪ ،‬والتي متلك نسبة ذكاء عالية؛ ليست‬
‫املستقرة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫غري قادرة عىل البناء أو إقامة صورة ولو بدائية من املجتمعات اإلنسانية‬
‫فقط مشكلتها هي أهنا ال متلك يف بدهنا أدوات ذلك‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اجتامعيا‪ ،‬وذكا ًء عال ًيا‪،‬‬


‫ًّ‬ ‫إطارا‬
‫وبالفعل؛ فإن هناك الكثري من احليوانات التي متلك ً‬
‫وبعضها بالفعل يستطيع صناعة واستخدام أدوات بسيطة يف حياته اليومية‪ ،‬مثل‬
‫بعض أنواع قرود "بورنيو"‪ ،‬ولكنها ال تستطيع الوصول إىل مسافة أبعد من ذلك‬
‫ألهنا أو ً‬
‫ال ال متلك الذاكرة الرتاكمية بنفس درجة قدرة اإلنسان يف هذه الناحية‪،‬‬
‫وكذلك ال يمكنها تطوير ُس ُبلِ عيشها‪.‬‬
‫فقطعان ُ‬
‫احل ُمر الوحشية أو اجلاموس أو الغزالن؛ هتاجر بح ًثا عن املاء‪ ،‬ألهنا ال‬
‫متلك يف بدهنا أدوات متكنها من بناء سدود حلفظه وقت موسم املطر الستغالله يف‬
‫فرتات اجلفاف‪ ،‬أما احليوانات التي منحها ُ‬
‫اهلل تعاىل القدرة عىل ذلك‪ ،‬مثل القنادس‪،‬‬
‫وتستطيع بناء السدود حلفظ املاء والوقاية منه‪ ،‬وبناء بيوت متواضعة الشكل‪ ،‬تفتقر‬
‫إىل القدرة اجلسدية – ال العقلية ألهنا تقوم بذلك فع ً‬
‫ال – عىل القيام بيشء آخر‬
‫أعقد‪ ،‬مثل بناء البيوت الطينية‪.‬‬
‫ولكن ِخ ْل َقة اإلنسان متنحه القدرة عىل كل ذلك‪ ،‬ومع وجود العقل الواعي‬
‫– أي القادر عىل االنتباه واإلدراك بصورة أكثر تعقيدً ا من احليوان – والذاكرة‬
‫الرتاكمية‪ ،‬جعلته يف أحسن تقويم‪ ،‬وبات هو املخلوق الوحيد من خملوقات اهللِ‬
‫عز وجل القادر عىل بناء احلضارة والعمران‪ ،‬وحتقيق االستقرار‪ ،‬وكلها اشرتاطات‬
‫ف هبا‪ ،‬وهي إقامة عقيدة التوحيد‪ ،‬وحتقيق‬ ‫الزمة ألداء رسالته وأمانته التي ُك ِّل َ‬
‫ال إىل اإلسالم‪ ،‬الدين اخلاتم‪ ،‬والرشيعة اخلامتة‪ ،‬والدعوة إىل ذلك‪.‬‬ ‫رشيعتها وصو ً‬

‫جعية؛‬
‫وتراكمية الذاكرة هنا هلا مستويان‪ ،‬رأيس وأفقي‪ .‬رأيس‪ ،‬أي أهنا تراكمية َ ْ‬
‫أي أن اإلنسان يملك ذاكرة قادرة عىل حفظ تراث وتاريخ غريه من نفس الكائن‪،‬‬

‫‪562‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وتراث وتاريخ باقي املخلوقات احلية وغري احلية‪ ،‬وأفقي‪ ،‬بمعنى أهنا تراكمية‬
‫زمنية‪ ،‬أي أنه قادر عىل حفظ تراثه وتارخيه هو وغريه عرب الزمن‪.‬‬
‫وحتى القرآن الكريم فيه ما يؤيد ذلك عن قضية قدرة احليوان عىل نقصها‪،‬‬
‫مقابل كامل ومتام خلق وقدرة اإلنسان‪ .‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫[سورة "األنعام" – من اآلية ‪ .]38‬لكن تبقى نقطة‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﴾ ُ‬
‫استواء اخللق‪ ،‬هي الفيصل املهم بيننا وبينهم‪.‬‬
‫وأثبتت الدراسات األنثروبولوجية بالفعل‪ ،‬أن تطور اإلنسان احلضاري‪ ،‬قد‬
‫ارتبط بتطور قدرته عىل استخدام وتوظيف أطرافه‪ ،‬من الصور البسيطة‪ ،‬وحتى‬
‫املعقدة منها‪ .‬حتى اللسان‪ ،‬ألن تسهيل التخاطب بني البرش‪ ،‬من خالل اللسان‪ ،‬ثم‬
‫الكتابة التي هي من أرقى صور استخدام اليدَ ْين‪ ،‬وأكثرها تعقيدً ا‪ ،‬ساهم كث ً‬
‫ريا يف‬
‫حتقيق ُس َّنة أخرى مهمة وضعها ُ‬
‫اهلل تعاىل يف العمران اإلنساين‪ ،‬وهي ُس َّنة التعاون‬
‫بني الناس‪ ،‬والتي هي جذر مهم لطابع املراكمة يف التطور احلضاري‪.‬‬
‫وهذا اخللق هو أحد ضامنات سمة أخرى وضعها اهلل تعاىل لإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫الكرامة والتكريم‪َ .‬ف َيدَ ا اإلنسان صنعتا مالبسه التي تسرت عورته‪ ،‬ومع استقامة‬
‫بدنه؛ بنى البيوت التي تؤويه‪ ،‬واستطاع الزراعة‪ ،‬واستطاع توفري األمن واألمان‬
‫جتمعاهتا‪.‬‬
‫لنفسه ولغريه‪ ،‬وكل ما نراه حولنا من سامت للحياة اإلنسانية يف كل صور ُّ‬
‫ولذلك؛ فإن اجلريمة األكرب التي يرتكبها إنسان يف حق ذاته‪ ،‬هو أن ينتهك‬
‫ميزه ُ‬
‫اهلل تعاىل هبا عىل سائر خملوقاته‪.‬‬ ‫كرامتها التي َّ‬

‫‪563‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫وبالتايل؛ فإن ِخ ْل َقة اإلنسان العبقرية‪ ،‬هي أصل تطوره وحتكمه يف مفردات‬
‫الكون من حوله‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬حتقيق ُسنَن التسخري التي شاءهتا حكمة اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وكل ذلك يقودنا إىل حقيقة ال مراء فيها عق ً‬
‫ال‪ ،‬وهي أن اخلالق موجود‪ ،‬وواحد‪.‬‬
‫فهو الذي ك َّلف ووضع ُس َّنة التسخري‪ ،‬وخلق األداة لدى املخلوق املقصود بكل‬
‫هذه األمور‪ ،‬وهو اإلنسان‪.‬‬
‫وهذا االتساق والتكامل‪ ،‬يؤكد حقيقة وجود اخلالق ووحدانيته‪ ،‬وإال استطاعت‬
‫التكيف مع مفردات حياهتا املحلية‪ ،‬وتطوير نفسها‪ ،‬لو أن األمر‬
‫كل هذه املخلوقات ُّ‬
‫"التطور" التي وضعها داروين‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫خاضع فقط لنظرية‬
‫ورة "التني"‬ ‫وسبحان اهللِ تعاىل إذ يقول‪ ﴿ :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ُ‬
‫[س َ‬
‫– اآلية ‪."]4‬‬
‫ويعود بنا ذلك إىل ما قلناه يف مفتتح هذا احلديث‪ ،‬وهو رضورة انشغال العاملني‬
‫يف حقول العمل الدعوي املختلفة باملكتشفات احلديثة للعلم يف النقاط واألمور‬
‫التي تتامس عىل وجه اخلصوص مع النص القرآين؛ حيث ذلك هو املدخل األسايس‬
‫واألخطر ملَن أراد الطعن يف أساس الدين‪.‬‬
‫املفسين واملفكرين‪،‬‬ ‫ربز مشكلة كبرية لدى بعض ِّ‬ ‫وهنا نموذج شديد األمهية‪ ،‬وي ِ‬
‫سواء املتقدمني أو املتأخرين‪ ،‬ويستند إليهم العديدون يف عرصنا احلايل‪ ،‬وهي‬
‫والس َّنة النبوية‪،‬‬
‫وجود الكثري من اإلرسائيليات التي ال اصل هلا يف القرآن الكريم ُّ‬
‫وتم "تصحيحها" أو اعتامدها من جانب هؤالء‪ ،‬وتصادمت هذه املقوالت مع‬
‫مكتشفات علمية ال يمكن نفيها بحال‪.‬‬

‫‪564‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ِ‬
‫املعاصة؛ فإهنم‬ ‫اجلريمة األكرب هنا‪ ،‬أنه يف إطار مجود بعض املدارس اإلسالمية‬
‫اعتربوا النص السلفي الرتاثي – عىل تقديرنا له وجلهد أصحابه الوافر يف ٍ‬
‫زمن كانت‬
‫أدوات التوثيق والكتابة من أشق ما يكون – مثل النص القرآين أو النبوي‪ .‬مقدس‬
‫ال جيوز املساس به‪ ،‬بينام ذلك قد يقود إىل هدم بنيان الدين ذاته لصالح أصحاب‬
‫األفكار اإلحلادية‪.‬‬
‫الس َّنة النبوية ما يفيد‬
‫عىل سبيل املثال؛ ال يوجد يف القرآن الكريم أو صحيح ُّ‬
‫بتحديد دقيق للفارق الزمني بني نزول آدم "عليه السالم" وبني عرصنا احلايل‪،‬‬
‫أو بيننا وبني زمن سيدنا نوح "عليه السالم" والطوفان‪ ،‬بينام نجد هناك أرقا ًما‬
‫ملجرد أن ابن كثري أو غريه قد دوهنا‬ ‫وتقديرات قال هبا البعض من دون أي ُّ‬
‫تعقل َّ‬
‫يف كتابه‪.‬‬
‫اآلن؛ أثبت العلم احلديث أن أقرب حدث يمكن أن يكون له أثر مركزي مثل‬
‫وطبوغرافيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫جيولوجيا‬
‫ًّ‬ ‫طوفان نوح "عليه السالم"‪ ،‬عىل كامل كوكب األرض‬
‫كان منذ أربعني ألف عام‪ ،‬بينام يقسم بعض العلامء املسلمني ً‬
‫قديم وحدي ًثا‪ ،‬من دون‬
‫املفسين ا ُملعتَربين‪ ،‬أن ً‬
‫نوحا تفصلنا‬ ‫أي دليل ملجرد أن هناك استناد يف كتاب أحد ِّ‬
‫عنه ما بني ‪ 10‬آالف إىل ‪ 12‬ألف عام‪.‬‬
‫ونجد أنه عندما حاول الطربي وآخرون تفادي ذلك بمنطق عقيل متقدم؛ عانوا‬
‫أشد املعاناة من َع َبدة الرتاث غري املتع ِّقلني‪ ،‬متا ًما كام عانى اإلمام الشافعي واإلمام‬
‫الشاطبي وغريمها‪ ،‬عندما وضعوا النص الرشعي واألحكام يف إطار الظرفية‬
‫والعلل واألسباب‪.‬‬

‫‪565‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فعندما خرج بعض العلامء بالقول بأن الطوفان كان حد ًثا حم ِّل ًّيا‪ ،‬وليس‬
‫كوزموبوليتانيا‪ ،‬أي مل يشمل األرض كلها‪ ،‬وأن الفارق الزمني بيننا وبينه غري حمدد؛‬
‫ًّ‬
‫كانت النتيجة أهنم قد تعرضوا ملا تعرضوا من ٍ‬
‫عنت‪.‬‬
‫هذا يف قضية واحدة‪ ،‬بينام هناك قضايا أخرى أكثر خطورة وأمهية‪ ،‬مثل قضية‬
‫خلق اإلنسان اآلدمي‪ ،‬وعالقته باملخلوق اآلخر البدائي الذي كان يأخذ سمت‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكان يعيش عىل هذه األرض‪ ،‬ولكن هلذا موضع آخر من احلديث‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫وصفوة القول؛ فإنه يف مقابل تلك املكتشفات العلمية احلديثة؛ نجد أن اخلطاب‬
‫الدعوي التفسريي ملا ورد يف القرآن الكريم‪ ،‬حول هذه األمور‪ ،‬من أضعف ما‬
‫يكون‪ ،‬وفيه مجود كبري يدخل منه خصوم الدين‪.‬‬
‫وبالتايل؛ فإن هناك أمهية قصوى لوضع هذه األمور كلها يف التفكري والتخطيط‬
‫لألنشطة الدعوية‪ ،‬وحتديثها بام يتواءم مع خطاب وواقع العرص‪ ،‬وبخالف ذلك؛‬
‫مهدرا وبال طائل‪ ،‬وبأن املساحات التي يتمدد فيها اإلسالم‬
‫ً‬ ‫فإن هذا يعني جهدً ا‬
‫يف الوقت الراهن‪ ،‬سوف تكون مهددة أمام خطاب يقدس العقل‪ ،‬ويتسلح بالعلم‬
‫املادي!‬

‫‪566‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هل الدين والتديُّن ضد التنوير؟!‬

‫من بني احلقائق املهمة التي ينبغي االعرتاف هبا‪ ،‬أن حالة السيولة التي بات العامل‬
‫يعرفها يف جمال اإلعالم واملعلومات‪ ،‬منذ ظهور الوسيط الرقمي‪ ،‬قد أدت إىل واقع‬
‫من حرية تداول املعلومة والرأي والصورة واخلرب‪ ،‬بشكل بات من املستحيل منعه‪.‬‬
‫فحتى يف أعتى البلدان التي حتكمها أنظمة شمولية مستبدة؛ باتت الرسالة‬
‫االحتجاجية نفسها تصل‪ ،‬وما مظاهرات روسيا األخرية‪ ،‬واستجابة احلكومة‬
‫الصينية اجلزئية يف ملف معسكرات مسلمي األوجيور – حتى ولو كانت استجابة‬
‫صورية – إال أبلغ دليل عىل ذلك‪.‬‬
‫ومن بني أهم املجاالت التي طالتها هذه احلالة من السيولة التي رافقتها حالة‬
‫ونص‪ ،‬الدين‪ ،‬سواء الفكرة الدينية بشكل عام‪ ،‬أو‬
‫من التفكيكية طالت كل فكرة ٍّ‬
‫النصوص املقدسة‪ ،‬والثوابت الدينية‪ ،‬عىل مستوى كل األديان‪ ،‬مثلام طالت كافة‬
‫النظريات واأليديولوجيات‪.‬‬
‫إال أنه كان لإلسالم النصيب األكرب من هذا اجلدل‪ ،‬وزاد من مساحة تلك‬
‫النقاشات بشأن اإلسالم‪ ،‬األزمات التي تعصف باملنطقة منذ عقود طويلة‪،‬‬
‫وبالتحديد منذ االحتالل السوفييتي ألفغانستان‪ ،‬واندالع الثورة اإليرانية التي‬
‫أعلنت عن دولتها عىل أساس ديني بشكل رسمي ودستوري‪ ،‬ثم حرب اخلليح‬
‫األوىل‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ثم جاءت موجة األزمات التي تعصف بالعامل العريب منذ العام ‪2011‬م‪ ،‬لكي‬
‫عرف باإلسالم السيايس‬
‫توسع من نطاق النقاش‪ ،‬األوىل‪ ،‬صعود مجاعات ما ُي َ‬ ‫ِّ‬
‫إىل منصات احلكم والتأثري يف بلداهنا‪ ،‬يف جتربة فريدة من نوعها لتمكني أحزاب‬
‫ومجاعات تتبنى املرشوع اإلسالمي أجندة عمل هلا؛ فكان االهتامم الكبري بام سوف‬
‫منصات احلكم‪ ،‬وبالذات يف القضايا الكربى التي تشغل بال‬
‫يفعلونه وهم يف َّ‬
‫الغرب‪ ،‬املسيطر حضار ًّيا يف هذه املرحلة من تاريخ اإلنسانية‪ ،‬مثل أوضاع املرأة‬
‫واحلريات‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ ،‬ظهور مجاعات ما ُيعرف بالسلفية اجلهادية‪ ،‬أو مجاعات العنف‬
‫وخصوصا التي أسست لنفسها‬
‫ً‬ ‫شعارا هلا‪،‬‬
‫ً‬ ‫املسلح التي ترفع اهلوية اإلسالمية‬
‫كيانات أقرب إىل الدولة أو اإلمارات‪ ،‬وكان هلا فيها فسحة لتطبيق مرشوعها‬
‫ورؤاها‪ ،‬والتي ُح ِس َبت عىل اإلسالم واملرشوع اإلسالمي‪.‬‬
‫الظاهرة الثانية هنا‪ ،‬هي موجات اللجوء واهلجرة القانونية وغري القانونية‪ ،‬والتي‬
‫أدت إىل اختالط ماليني من العرب واملسلمني‪ ،‬من خمتلف املستويات التعليمية‬
‫واالقتصادية والثقافية‪ ،‬ومن خمتلف ألوان االنتامءات الفكرية والسياسية‪ ،‬كعينة‬
‫متثيلية ممتازة للمجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬مع املجتمعات الغربية التي صارت‬
‫أكثر قر ًبا بشكل لصيق للغاية‪ ،‬مع الثقافة اإلسالمية وما هو حمسوب عليها من‬
‫عادات وتقاليد‪.‬‬
‫ومن بني أبرز جماالت السجال الذي اندلع بني املسلمني بشكل عام‪ ،‬ونخبتهم‬
‫املثقفة وا ُمل ِّ‬
‫فكرة‪ ،‬وبني تيارات شتى‪ ،‬أبرزها العلامنيني والليرباليني العرب‪ ،‬بجانب‬

‫‪568‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫النخب اإلعالمية واألكاديمية والسياسية يف بلدان اللجوء واملهاجر‪ ،‬قضية عالقة‬


‫اإلسالم وتعاليم الرشيعة بالتنوير وما تدرجه هذه املدارس ضمن قائمة مفاهيم‬
‫ُّ‬
‫والتحض‪.‬‬ ‫املدينية‬
‫ويشمل ذلك منظومة من القضايا والسلوكيات‪ ،‬منها – كام أرشنا من قبل –‬
‫حقوق اإلنسان وقضايا املرأة‪ ،‬باإلضافة إىل منظومة السلوكيات املتعلقة بحياة‬
‫املدينة‪ ،‬أو املدينية‪ ،‬والتي ُتعتَرب أرقى صور العمران واالجتامع اإلنساين‪.‬‬
‫وكموقف مبدأي نعلم أنه أحد أركان ا ُمل َك ِّون الفكري واالعتقادي لدى‬
‫املجتمعات الغربية‪ ،‬ولدى التيارات الليربالية والعلامنية يف عاملنا العريب؛ فإن الدين‬
‫موجه‪ ،‬وإن استفاد يف ذلك‬
‫هو ضد التنوير‪ ،‬مستندين يف ذلك إىل موروث فكري َّ‬
‫من خطايا تارخيية وقعت تم فيها مزج ممارسات سياسية واجتامعية ال متت لإلسالم‬
‫بِ َصلة‪ ،‬بالدين والرشيعة‪ ،‬بام يف ذلك منظومة من العادات والتقاليد التي ينكرها‬
‫حتى اإلسالم‪ ،‬وممارسات ُح َّكام ا ُمل ْلك اجلربي وا ُمل ْلك العضود‪.‬‬
‫طبيعيا بنا ًء عىل أنه نابع من موقف مبدأي لدى هذه‬
‫ًّ‬ ‫أمرا‬
‫وربام يكون ذلك ً‬
‫ريا من املسلمني‪،‬‬
‫املجموعات من الناس‪ ،‬ولكن الغريب واملدهش يف املوضوع‪ ،‬أن كث ً‬
‫بح َج ٍج ش َّتى – إىل الصورة الذهنية التي تعلن‬
‫ومنهم خملصون لدينهم‪ ،‬انساقوا – ُ‬
‫ُّ‬
‫التحض واملدينية‪.‬‬ ‫تعارض الدين وقيم التد ُّين مع التنوير وقيم وسلوكيات‬
‫ُ‬
‫ومربر هؤالء أهنم حتت وطأة احلامسة‪ ،‬والرغبة يف نقل صورة أكثر ُّ ً‬
‫حتضا‬
‫عن جمتمعاهتم األم‪ ،‬بالذات وأن صورة هذه املجتمعات قد ُد ِّمرت متا ًما بفعل ما‬
‫يسودها من رصاعات وحروب أهلية‪ ،‬ومظاهر ختلف موضوعي واضحة؛ نقول‬

‫‪569‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املكون الغريب الليربايل‬


‫إنه حتت وطأة ذلك؛ تربأ بعض هؤالء من قيم دينهم‪ ،‬وتبنوا ِّ‬
‫ملفاهيم التمد ُين والتنوير‪.‬‬
‫وهنا وقع اجلميع يف أخطاء تنميط قاتلة‪ .‬أوهلا الربط اخلاطئ املعتاد بني الدين‬
‫والرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وبني ممارسات املسلمني‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال؛ فإن البحوث األكاديمية الرصينة‪ ،‬أثبتت أن العادات والتقاليد‬
‫كون واملؤ ِّثر األسايس عىل أفكار ومعتقدات‪ ،‬وعىل سلوكيات‬ ‫وليس الدين‪ ،‬هي ا ُمل ِّ‬
‫املواطنني يف منطقة اخلليج العريب‪ ،‬ومنها اململكة العربية السعودية‪ ،‬أرض احلر َم ْي‪،‬‬
‫وهي التي ترسم صورة وهوية هذه املجتمعات‪ ،‬وبالتايل؛ فإننا ال ينبغي أن نقرن‬
‫سلوكيات هذه املجتمعات وطرائق تعاملها مع قضايا التنوير احلقيقية‪ ،‬بالدين‬
‫والرشيعة اإلسالمية‪.‬‬

‫جل ْذر أو ا ُمل ِّ‬


‫كون الغريب هلذه املفاهيم‪.‬‬ ‫مجيعا عىل ا ِ‬
‫ثانيها؛ اعتامدية هذه الفئات ً‬
‫ُّ‬
‫التحض‪ /‬املدينية‪ ،‬وما اتصل هبا‪.‬‬ ‫التنوير‪/‬‬
‫ومبدأ ًّيا هنا البد لنا من أن نشري إىل عامل تأثري موضوعي جيب وضعه يف االعتبار‬
‫عن تقييم موقف املسلمني الذين َن َحو َن ْحو هؤالء‪ ،‬وهو أن املرحلة احلالية من التاريخ‬
‫اإلنساين‪ ،‬يشهد أن الغرب هو صاحب السطوة والتقدُّ م يف املجال احلضاري‪،‬‬
‫وملكونه الفكري واأليديولوجي‪ ،‬السيادة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وبالتايل؛ فإنه‪ ،‬ووفق قواعد العمران‪ ،‬له‬
‫ريا اآلن يف العامل‪.‬‬
‫ولذلك؛ نجد أن الليربالية هي األيديولوجية األهم واألثر تأث ً‬
‫وحتى املراكز احلضارية الكربى األخرى يف العامل‪ ،‬إما أهنا تدور يف الفلك‬
‫الغريب‪ ،‬مثل اليابان وكوريا اجلنوبية‪ ،‬أو أهنا صنيعة احلضارة األوروبية من األصل‪،‬‬

‫‪570‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫مثل أسرتاليا قبل اكتشاف العامل اجلديد وظهور أمريكا الشاملية كمركز حضاري‬
‫توسعت فيه أوروبا يف القرن السادس عرش وما تاله‪.‬‬
‫َّ‬
‫ونرى بالطبع اآلن حماوالت ألمم حتاول أن تنهض وتفرض ذاهتا احلضارية‪،‬‬
‫كون الثقايف واللغة وا ُمل ْنجز العلمي والعملة‪،‬‬
‫بكل مفردات ذلك‪ ،‬بام يف ذلك ا ُمل ِّ‬
‫وغري ذلك عىل املنظومة السائدة‪ ،‬كام حتاول الصني واهلند وروسيا والربازيل‪،‬‬
‫بدرجات نجاح متفاوتة‪.‬‬
‫ويعكس ذلك ُس َّنة مهمة تكلم عنها القرآن الكريم‪ ،‬وهي ُس َّنة التدا ُفع‪ ،‬والتي‬
‫هي من أهم ضامنات حتقيق التوازن‪ ،‬ومن ثم استمرار احلياة عىل األرض وفق ما‬
‫أرادته احلكمة واملشيئة‪.‬‬
‫ولكن يف النهاية؛ فإن سطوة الغرب يف املجال العلمي واالقتصادي والعسكري‪،‬‬
‫مكنته من فرض نموذجه الفكري والثقايف ومنظومته القيمية واألخالقية‬
‫عرف يف االجتامع اإلنساين بـ"نمط احلياة" أو "‪"Lifestyle‬‬
‫والسلوكية‪ .‬أو ما ُي َ‬
‫باملعنى الواسع للكلمة‪.‬‬
‫وبالرغم من أن هذه حقيقة عمرانية ينبغي لنا االعرتاف هبا ولكن بمنطق‬
‫التعامل عىل أساسها واالنطالق منها لتصحيح األخطاء القائمة؛ إال أن اخلطأ هو‬
‫التحض أو التخ ُّلف‪ .‬ما اتفق معها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أننا ننساق إىل أن نجعل هذه املنظومة هي معيار‬
‫متحض‪ ،‬وما اختلف عنها‪ ،‬فهو متخ ِّلف‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فهو‬
‫األصوب‪ ،‬وهو دور اإلعالم واملراكز الثقافية والبحثية اإلسالمية‪ ،‬ودور الدعاة‬
‫والرتبويني والعاملني يف حقول العمل اإلسالمي امليداين‪ ،‬هو العمل عىل نقل‬

‫‪571‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ُّ‬
‫والتحض والسلوك املديني‪ ،‬وإبراز النامذج التي‬ ‫املكون اإلسالمي ملفاهيم التنوير‬
‫ِّ‬
‫تقول بأن اإلسالم قادر عىل إنشاء مراكز مدنية وحضارية متكاملة‪ ،‬وقادرة عىل‬
‫فرض كلمتها وسيادة األمة‪.‬‬
‫والس َّنة النبوية الرشيفة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫املكون الفكري؛ لدينا يف القرآن الكريم‬
‫ِّ‬ ‫ويف جمال‬
‫الس َّنة تشمل ِف ْعل النبي‬‫اآلالف من اآليات والعبارات واملامرسات – باعتبار أن ُّ‬
‫للمكون احلضاري والتنويري الذي ينهض‬
‫ِّ‬ ‫ﷺ – التي ِّ‬
‫تشكل صورة متكاملة‬
‫باملجتمعات التي تطبقه‪.‬‬
‫عىل مستوى التطبيق ذاته؛ فإن التاريخ اإلسالمي حيفل بنامذج ِّ‬
‫مرشفة ملراكز‬
‫مدينية هنضت عىل أساسها حضارات سادت لقرون طويلة‪ ،‬ومل تكن لتسود لوال‬
‫كون الفكري‬‫كفاءة ما هنضت عليه من أسس‪ ،‬وأمهها الرشيعة التي منحتها ا ُمل ِّ‬
‫والقيمي الذي تنهض عليه اجلوانب املادية للحضارات‪.‬‬
‫والغرب نفسه يعرتف بذلك؛ فهناك تصنيف موضوع للحوارض التي سادت‬
‫العامل وأ َّثرت فيه طيلة األلفيات األربع املاضية‪ ،‬فكانت اإلسكندرية ثم روما هي‬
‫احلوارض األهم يف العامل خالل األلفية األوىل قبل امليالد‪ ،‬ثم أصبحت بغداد يف‬
‫األلفية امليالدية األوىل وقت الدولة العباسية األوىل‪ ،‬ثم لندن ونيويورك يف عصورنا‬
‫احلديثة‪.‬‬
‫إ ًذا؛ فاحلضارة اإلسالمية هلا ممثل قوي يف هذا السباق‪ ،‬وتقدم لنا نامذج مثل‬
‫ماليزيا اآلن‪ ،‬كيف يمكن املوائمة بني قيم اإلسالم وبني اعتبارات التقدم العلمي‬
‫والسلوك املديني‪ ،‬وأهنام ال يتعارضان؛ حيث نجد يف مساجد ماليزيا الصنابري‬

‫‪572‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫املو ِّفرة للمياه‪ ،‬ونجد هناك ضوابط لذبح األضاحي تتوافق مع أرقى أنامط الضوابط‬
‫الصحية واملدنية املعمول هبا يف مدن الغرب‪.‬‬
‫يزكي إطال ًقا مث ً‬
‫ال ما نراه من أمور ال تقبلها‬ ‫إننا جيب أن نقول إن اإلسالم ال ِّ‬
‫الفطرة اإلنسانية السليمة يف مواسم عيد األضحى يف بعض املجتمعات العربية‬
‫واملسلمة‪ .‬جيب أن نقول إن اإلسالم احلقيقي يبني حضارة تقوم عىل أساس النظافة‬
‫املادية واملعنوية‪ .‬اإلسالم يمكنه أن يبني لندن ونيويورك مسلمت َْي‪ .‬متا ًما مثلام بنى‬
‫بغداد والقاهرة والقريوان يف املايض‪.‬‬
‫واألهم أننا جيب أن نصل إىل هذه املجموعات من الناس بقناعة شديدة األمهية‪،‬‬
‫وهي أن الرشيعة اإلسالمية جامعة ولكنها غري مانعة‪ .‬أي أهنا تقبل أي ُم َ‬
‫بتكر مادي‬
‫أو معنوي لإلنسانية فيه صالح وفائدة‪.‬‬
‫إن الصورة السائدة عن الرشيعة من أهنا تتضمن أحكا ًما لكل يشء‪ ،‬وبالتايل؛‬
‫فهي رشيعة جامدة ال تقبل أي يشء من خارجها – حاشا هلل تعاىل – هذه صورة‬
‫خاطئة‪ .‬فالتحريم حمدد يف الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وهناك قاعدة ُك ِّل َّية مهمة للغاية هنا‪،‬‬
‫َص"‪ ،‬وبالتايل؛ فالرشيعة اإلسالمية هي ثوب فضفاض‬ ‫تقول بأنه "ال حتريم إال بن ٍّ‬
‫كبري‪ ،‬يمكنه استيعاب كل مجاليات ا ُمل َ‬
‫نجر البرشي املفيد‪ ،‬وال يمنعه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشعرة‪،‬‬ ‫ويف األخري؛ فإن الرشيعة اإلسالمية إنام أتت لتأكيد الفطرة‪ ،‬ومل ختالِف‬
‫يف السامح ِ‬
‫واحل ِّل‪ ،‬أو التحريم واملنع‪ ،‬قواعد الفطرة السليمة إطال ًقا‪ ،‬ألن اخلالق‬
‫ِّ‬
‫املرشع الذي أنزل إليها الرشيعة‪ ،‬واحد‪ ،‬هو اهلل‬ ‫صاحب الفطرة‪ ،‬والشارع أو‬

‫‪573‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بمن خلق وهو اللطيف اخلبري؛ أراد بحكمته‬


‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬الذي ألنه أعلم َ‬
‫البالغة‪ ،‬وضع القبول لقواعد الرشيعة بني الناس‪ ،‬فطابقها عىل الفطرة‪.‬‬
‫دين يقبل التنوير اآليت من خارجه‪ ،‬ويقبل قيم‬
‫وبالتايل؛ فإن اإلسالم هبذا املنطق‪ٌ ،‬‬
‫ُّ‬
‫التحض واملدينية والتقدُّ م القادمة من املجتمعات األخرى‪ ،‬رشيطة أال تتعارض مع‬
‫ُم َّرم واضح ٍّ‬
‫بنص‪ ،‬أو تأيت بمفسدة‪.‬‬

‫‪574‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫بحوث "المثلية" وتحديات الخطاب اإلسالمي والعمل الدعوي‬

‫طالعتنا قبل أيام نتائج دراسة علمية ُأج ِر َي ْت يف بريطانيا وأوروبا عن الشذوذ‬
‫جنسيا إىل نفس النوع‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫اجلنيس أو امليول اجلنسية املثلية‪ .‬أي ميل اإلنسان‬
‫الدراسة التي جرت يف بريطانيا‪ ،‬يف إطار مرشوع "‪ ،"UK Biobank‬بالتعاون‬
‫متطوع‬
‫مع رشكة أمريكية تعمل يف جمال االختبارات الوراثية‪ ،‬وشمل نصف مليون ِّ‬
‫بريطاين‪ ،‬متت مقارنة النتائج التي تم التوصل إليها مع بيانات ومعلومات عرشات‬
‫اآلالف من األفراد ذوي األصول األوروبية‪ ،‬انتهت إىل أن هناك جينات – قليل‬
‫العدد – ترتبط بشكل واضح بالسلوك اجلنيس املثيل لإلنسان‪.‬‬
‫وأشارت الدراسة إىل أن هذه اجلينات‪ ،‬مع عوامل بيئية أخرى‪ ،‬هي التي ترسم‬
‫السلوك اجلنيس لألفراد‪.‬‬
‫صحيح أهنا مل تتوصل إىل رابط دقيق بني هذه احلالة وبني ج ٍ‬
‫ني بعينه‪ ،‬إال أن‬
‫جممل النتيجة يمس قضية ذات أمهية يف املجال العلمي‪ /‬الطبي والنفيس‪ ،‬واملجال‬
‫احلقوقي‪ ،‬وهي قضية طبيعة امليول اجلنسية املثلية؛ هل هي مرض؛ عضوي أو‬
‫معا‪ ،‬أم فطرة ولكن أصحاهبا أقلية‪ ،‬مثل أصحاب العيون الزرقاء‬
‫نفيس‪ ،‬أو كالمها ً‬
‫أو اخلرضاء أو الرمادية؛ حيث الشائع يف ألوان العيون‪ ،‬األسود والبني‪ ،‬أم هي‬
‫انحراف سلوكي‪.‬‬
‫ويف حقيقة األمر؛ فإن توصيف هذه احلالة هذا يف غاية األمهية بالنسبة لنا‬
‫كمسلمني؛ حيث إن أي توصيف علمي حمايد أو موضوعي هلا؛ يمس يف الصميم‬

‫‪575‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫توصيف الرشيعة اإلسالمية وأحكامها فيام خيص اللواط (العالقة اجلنسية بني اثنني‬
‫من الذكور) أو السحاق (العالقة اجلنسية بني اثنتني من اإلناث)‪ ،‬وبالتايل؛ جيب‬
‫الوقوف عندها‪.‬‬
‫وعمو ًما؛ فإنه حتى اآلن؛ فإن منظمة الصحة العاملية‪ ،‬ال تعترب الشذوذ أو املثلية‪،‬‬
‫ً‬
‫مرضا‪.‬‬
‫وقب ً‬
‫ال؛ فإنه من األمهية بمكان اإلشارة هنا إىل أن مصطلح "الشذوذ اجلنيس"؛‬
‫الس َّنة النبوية‬‫رشعيا؛ حيث مل يرد ال يف القرآن الكريم وال يف ُّ‬
‫ًّ‬ ‫مصطلحا‬
‫ً‬ ‫ليس‬
‫رشعيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫نصا‬ ‫الرشيفة‪ ،‬وحتى "اللواط" و"السحاق"؛ مل يرد فيهام أص ً‬
‫ال أو ًّ‬
‫وقد تفرض بعض قواعد اخلطاب السليم‪ ،‬أنه إذا ما أردنا وصول الرسالة إىل‬
‫الطرف اآلخر‪ ،‬فإنه ينبغي ضبط املصطلح بام يضمن جذب اجلمهور اآلخر أ ًّيا‬
‫كان‪ ،‬لسامعك‪.‬‬
‫عدد من األمور‪ ،‬أوهلا‪ ،‬التطورات العميقة احلاصلة يف املجال‬
‫ويفرض ذلك ٌ‬
‫االجتامعي واإلعالمي يف زمننا املعارص‪ ،‬ويف قواعد االتصال اإلنساين‪ ،‬ويف تقنياته‪،‬‬
‫ويف طبائع اإلنسان بشكل عام يف ظل السيولة واالنفتاح يف عرص ما بعد احلداثة‪.‬‬
‫وأبسط أدلة ذلك‪ ،‬هو ما نراه من تبدالت يف سياقات العالقة بني األب واألم‬
‫وبني األبناء‪ ،‬حتى يف األرس التي تتبنى أنساق الرتبية اإلسالمية‪.‬‬
‫وثانيها‪ ،‬أن اجلمهور العام‪ ،‬سواء املسلم أو غري املسلم‪ ،‬ينظر للعاملني يف حقول‬
‫العمل اإلسالمي املختلفة‪ ،‬وبالذات الدعوة‪ ،‬عىل أهنم – أي هؤالء العاملون‬

‫‪576‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫أمر خمتلف عن الرسول الكريم ﷺ وقت البعثة‪ ،‬فام هو مقبول من النبي‬


‫والدعاة – ٌ‬
‫"عليه الصالة والسالم" وطرائق خماطبته لنا كمسلمني‪ ،‬غري مقبول من غريه‪.‬‬
‫خروجا عن‬
‫ً‬ ‫وكال النقطت َْي ليس من نافل القول‪ ،‬واالستطراد فيهام ليس‬
‫القضية األساسية هلذا املوضع من احلديث؛ بل مها مرتبطتان بصلب احلديث يف‬
‫هذا املوقف‪ ،‬وهو يف إطاره أو عنوانه العام‪ ،‬رضورة مالءمة اخلطاب والعمل‬
‫الدعو َّي ْي‪ ،‬واألساس الفكري والعقيل الذي ينطلقان منه‪ ،‬ملستجدات واقع احلال‪،‬‬
‫أ ًّيا كان جمال هذه املستجدات؛ ِع ْلم‪ ،‬جمتمع وسلوك‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وكنا قب ً‬
‫ال قد كتبنا عىل موقع "بصائر" أكثر من مقال وورقة عن التحدي الكبري‬
‫خصوصا املكتشفات‬
‫ً‬ ‫الذي متثله املكتشفات العلمية احلديثة للدعوة‪ .‬وذكرنا فيها‬
‫املتعلقة بالعلوم احليوية‪ ،‬وعلوم األنثروبولوجي‪ ،‬ألهنا التي تتامس مع حقائق كثرية‬
‫ونصت عليها آياته‪ ،‬ووردت يف شأهنا أحكام رشعية‪.‬‬‫ُذ ِك َرت يف القرآن الكريم‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫وتدِّ د الدراسة األخرية التي ُن ِ َ‬
‫شت نتائجها قبل أيام‪ ،‬طبيعة النقاشات واملواقف التي‬
‫قدمتها أصوات بعض الناشطني يف حقول العمل اإلسالمي املختلفة‪ ،‬وشباب كثريون‪.‬‬
‫فهناك من أصحاب العقليات الغبية – "‪ "Weak-minded‬أو "‪ "Dull‬وليس‬
‫"‪ ،"Stupid‬ونقصد هبا عكس "ذكي" بمعنى "‪ "Smart‬وليس "‪– "Intelligent‬‬
‫من غري املتخصصني‪ ،‬ولكن تغلب عليهم احلامسة الدينية‪ ،‬تصدُّ وا لألمر بمنطق‪:‬‬
‫"الدين عىل حق ولو خالف مكتشفات العلم" (!!)‪ .‬هذا خطأ؛ حيث البد يف مثل‬
‫بحث وتفسري واضح‪ ،‬بل شديد الوضوح إىل درجة االنسجام‬‫ٍ‬ ‫هذه احلاالت من‬
‫والتطابق الكام َل ْي‪.‬‬

‫‪577‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه الطريقة يف تناول مثل هذه األمور‪ ،‬تعكس ً‬


‫فهم ضعي ًفا بدوره يف استيعاب‬
‫إنسانيا‪ ،‬وال هو‬
‫ًّ‬ ‫خمرتعا‬
‫ً‬ ‫الع ْلم؛ حيث ِ‬
‫الع ْلم ومنجزاته ومكتشفاته‪ ،‬ليس‬ ‫مفهوم ِ‬
‫باألمر املادي البعيد عن الدين والعقيدة‪ ،‬فهو يف جذره وصميمه‪ ،‬عبارة عن‬
‫اخل ْلق التي وضعها ُ‬
‫اهلل عز وجل يف خلقه‪ .‬يف اإلنسان‪،‬‬ ‫اكتشاف اإلنسان لقوانني َ‬
‫ويف الكون‪ ،‬ويف كل يشء‪.‬‬
‫ونحن عندما نقول إن الرشيعة اإلسالمية صاحلة لكل زمان ومكان؛ فإننا نقول‬
‫ذلك ألسباب وبواعث كثرية‪ ،‬منها أن الرشيعة ُت َوائِم وتواكب الفطرة‪ ،‬ألن الشا ِرع‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ووفق املبدأ القرآين‪ ﴿ :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬ ‫واخلالق واحد‪ ،‬وهو ُ‬
‫ورة "ا ُمل ْلك" – اآلية ‪]14‬؛ فإنه ين ِزل أحكا ًما تتوافق مع‬
‫[س َ‬
‫ﭠ ﭡﭢ ﴾ ُ‬
‫طبيعة َ‬
‫اخل ْلق؛ فهو – حاشاه – لن يأمر اإلنسان بام ال يطيق‪ ،‬والقرآن الكريم أكد‬
‫ورة "البقرة" –‬
‫[س َ‬
‫عىل ذلك يف قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﴾ ُ‬
‫اآلية ‪.]286‬‬
‫ويف موضوع املثلية أو الشذوذ اجلنيس هذا األمر يمس نقطة خطرية؛ حيث إن‬
‫أمرا "أثبت" العلم أنه من‬
‫وجترم الرشيعة ً‬
‫حترم ِّ‬
‫اجلدل خيص قضية الفطرة‪ .‬كيف ِّ‬
‫فطرة التكوين لدى اإلنسان؟!‬
‫بمجرد‬
‫َّ‬ ‫هذا السؤال بحاجة إىل جهد علمي ورشعي واسع‪ ،‬ولن ننترص فيه‬
‫احلامسة الدينية‪.‬‬
‫بدعا من املنهج الدعوي السليم‪ ،‬فالقرآن الكريم ذاته؛ احتوى عىل‬
‫وهذا ليس ً‬
‫مئات اآليات التي خاطب فيه ُ‬
‫اهلل جل وعال ذاته‪ ،‬العقل اإلنساين‪ ،‬وتبنى صيغة‬

‫‪578‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫اإلقناع‪ ،‬بينام ال نجد وص ًفا ملا نجده من البعض بني ظهرانينا‪ ،‬سوى أن فينا ضعيفي‬
‫الفهم الصحيح للدين‪ ،‬وكأهنم حتى مل يقرأوا القرآن الكريم‪.‬‬
‫فال يمكن بحال وأنت تناقش القرآن الكريم والرشيعة‪ ،‬أن تتجاوز ِ‬
‫الع ْلم‬
‫وفق هذه النظرة الفلسفية اإلسالمية له‪ .‬فمكتشفات ِ‬
‫الع ْلم ليست من صنع‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ونوضح هنا بأمثلة‪ .‬فاإلنسان ليس هو الذي وضع صفات اليورانيوم التي جتعله‬
‫يف ِرز كل هذا َ‬
‫الكم من الطاقة احلرارية لو تم قذف ذرته بنيوترون ُحر‪ .‬هذا ببساطة‪،‬‬
‫العنرص ْين‪ .‬قدرة النيوترون عىل اخرتاق ذرة اليورانيوم‪،‬‬
‫َ‬ ‫هو خلق اهللِ تعاىل َ‬
‫هلذ ْين‬
‫وتوليد الذرة التي تم قذفها هلذه الطاقة احلرارية‪.‬‬
‫والعلامء الذين اكتشفوا اجلاذبية األرضية؛ مل يصنعوها‪ ،‬وحتى ما اكتشفوه من‬
‫أدوات لتجاوز تأثريها؛ إنام هي كذلك عبارة عن مكتشفات خلواص وصفات‬
‫وضعها ُ‬
‫اهلل تعاىل يف املواد التي استخدمها العلامء‪ ،‬متى تم استخدامها برتتيب‬
‫معين َْي هلذا الغرض‪.‬‬
‫وتركيب َّ‬
‫وكل ما فعلناه نحن‪ ،‬هو أننا قد اكتشفنا ذلك‪ ،‬بل وأزيد هنا أن التواتر والرتاكمية‬
‫يف هذه النقطة؛ إنام هي بإرادة اهلل تعاىل‪ ،‬وفق ما شاءته حكمته يف صريورات التطور‬
‫البرشي واحلضارة والعمران عىل األرض‪ ،‬وكل ذلك يتم وفق معادلة تتم بني‬
‫قانون مهم‪ ،‬هو قانون التسخري‪ ،‬وبني عملية حتقيق ُسنن ثابتة‪ ،‬وهي االستخالف‬
‫وعامرة األرض‪ ،‬إىل أن يأذن ُ‬
‫اهلل تبارك وتعاىل وتنتهي الدنيا‪.‬‬

‫‪579‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫فالعلم هبذا املعنى‪ ،‬ليس من ممتلكات أديسون‪ ،‬فهو مل خيلق اإللكرتون‪ ،‬ومل‬
‫يمنحه صفاته هذه‪ .‬فقط هو اكتشف خصائصه‪ ،‬وطوعه بالصورة التي استفدنا‬
‫منها يف املصباح الكهربائي وكذا‪.‬‬
‫حسب للعلامء املاديني‬
‫هذا ال ينفي أسبقية العلامء‪ ،‬وال ينفي نسب املجد هلم‪ ،‬ف ُي َ‬
‫طبعا‪ ،‬وللعلامء‬
‫أهنم توصلوا إىل هذه القوانني والصفات من خالل اجتهادهم ً‬
‫باع طويل عرب التاريخ يف جمال العلم التجريبي‪.‬‬
‫املسلمني ٌ‬
‫إنام هنا فقط ُنر ُّد األمور إىل أصلها‪ ،‬ففي النهاية هم مل خيلقوا شيئًا لكي أخرج أنا‬
‫كمسلم لكي أقول‪" :‬الرشيعة أسمى من أن يثبتها العلم أو أن تكون رشيط ًة له"‪.‬‬
‫كال‪ .‬ما ثبت من خواص للامدة واملخلوق؛ هي من لدن اهللِ تعاىل‪ ،‬وجيب إن حدث‬
‫األمر ْين‪ ،‬وأن‬
‫َ‬ ‫تضاد ظاهري بينها وبني حكم رشعي أن أبحث يف كيفية املوائمة بني‬
‫تكون موائمة يقبلها غري املسلم قبل املسلم‪.‬‬
‫وثمة نقطة مهمة جتب اإلشارة إليها هنا لكي نستكمل أركان الصورة كافة‪،‬‬
‫وهي أن بعض ما يتم اإلعالن عنه من مكتشفات علمية؛ يثبت خطأه فيام بعد‪،‬‬
‫هذا سليم‪ ،‬وال يتناقض مع ما سبق‪ ،‬ففي النهاية؛ فإن البحث العلمي يف معناه‬
‫القريب؛ إنام هو أداة قياس وجتريب‪ ،‬وبالتايل؛ فإن هناك عوامل كثرية للخطأ‪ ،‬مثل‬
‫العدِّ أو يف ضبط رشوط وظروف التجربة‪ ،‬أو أن يكون حتى‬
‫العال يف َ‬
‫ِ‬ ‫أن خيطئ‬
‫والتحيز يف البحث العلمي مصطلح منضبط وواسع‪ ،‬ومن أخطر األمور‬
‫ُّ‬ ‫متح ِّي ًزا‪،‬‬
‫التي يمكن أن تد ِّمر التجربة‪.‬‬

‫‪580‬‬
‫الفصل الثالث في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫لكن ليس هذا ما نقصده يف هذا السياق؛ عندما حتدثنا عن أمهية أن نضع ِ‬
‫الع ْلم‬
‫ومكتشفاته نصب أعيننا‪ ،‬وبالذات يف جمال العلوم التي ذكرنا أهنا تتامس مع أمور‬
‫كثرية يف القرآن الكريم ويف أحكام الرشيعة‪.‬‬
‫قطعا حول طبيعة َ‬
‫اخل ْلق من حولنا؛ ال جيب أن نتلقاها‬ ‫فام نقصده هو أن ما يثبت ً‬
‫عقليا باملعنى القارص؛ أهنا عبارة عن منجز أو ٍ‬
‫جهد برشي‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫من دون ذلك؛ سوف ينهار بنيان الدين بالكامل لدى كثري من معتنقيه ولدى‬
‫جمتمعات الدعوة؛ حيث سوف تنفصل ُعرى املعادلة األساسية للتوحيد‪ ،‬بل‬
‫واإليامن بوجود اهلل تعاىل نفسه‪ ،‬وهي أن ِّ‬
‫املرشع واخلالق واحد‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري؛ فإنه وفق نتائج الدراسة اجلديدة؛ فإن مسألة أن الشذوذ أو املثلية‬
‫أمرا ثاب ًتا‪ ،‬ولكن جذر املشكلة‪ ،‬هي طرائق‬
‫اجلنسية‪ ،‬هو فطرة أو طبيعة إنسانية؛ ليس ً‬
‫التعاطي مع مثل هذه األمور من جانب مجهور واسع من املسلمني‪ ،‬ومنهم علامء؛‬
‫ال يضعون يف حسباهنم نقطة أن إقناعك لغري املسلم باعتناق اإلسالم هبذه الطريقة‪،‬‬
‫وبالذات يف املجتمعات املتقدمة يف املجال العلمي‪ ،‬و ُت ْعيل من سطوة العقل؛ سوف‬
‫تقود إىل فشل مبني‪.‬‬
‫واألخطر من ذلك؛ أن يف ظل أنه لدينا أجيال من املسلمني ممَّن يمكن أن نطلق‬
‫عليهم "مسلمني بالوراثة"‪ ،‬وال يعلمون عن دينهم الكثري‪ ،‬ويف ظل الفوىض‬
‫والسيولة التي حتكم كل يشء يف عاملنا املعارص؛ فإننا سوف نقف أمام ظواهر سيئة‬
‫ال إىل اإلحلاد الرصيح‪.‬‬ ‫مثل التف ُّلت من الدين‪ ،‬وصو ً‬

‫‪581‬‬
‫في الرد على العلمانيين ودعاة اإللحاد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف حقيقة األمر؛ فإن ذلك بحاجة إىل جهد مزدوج‪ ،‬يف االجتاه الدعوي‬
‫والرتبوي‪ ،‬لرتسيخ املفاهيم السابقة‪ ،‬وآخر يف اجتاه أكثر صعوبة‪ ،‬وهي مزج العمل‬
‫الدعوي بطابع علمي‪ ،‬يعمل عىل كرس الصورة الذهنية اخلاطئة بوجود تعارض‬
‫ظاهر بني الرشيعة وأحكامها‪ ،‬وبني مكتشفات العلم احلديث‪ ،‬مع الوضع يف‬
‫االعتبار أمهية االهتامم بام هو ثابت يقينًا من قواعد ومكتشفات علمية‪ ،‬وليس بام‬
‫هو ال يزال يف طور البحث وعدم اليقني‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫الخاتمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الخاتمة‬

‫وبعد؛؛ فإننا من خالل هذا التطواف الواسع الذي حاولنا فيه بعض الشمول‪،‬‬
‫ألنه ال يمكننا أن نشمل كتاب اهللِ تعاىل بالفهم الكامل؛ رأينا كيف أن القرآن‬
‫الكريم قد نزل لتحقيق ما ال يمكن حرصه أو إدراكه من أمور‪ ،‬ال تعني املسلمني‬
‫فحسب؛ بل هي ترسم اخلطوط العامة لصريورات اإلنسانية بأكملها‪ ،‬وتلقنها‬
‫املعارف الالزمة لكي تدرك الرسائل واملغازي من خلق اإلنسان‪ ،‬وتسخري الكون‬
‫له‪ ،‬وأدوات التعامل معه‪.‬‬
‫ورأينا أن رشط ذلك‪ ،‬هو التدبر واالجتهاد يف فهم ما جاء فيه من عبارات وصور‬
‫تارخيية وإسقاطات فكرية وعملية‪ ،‬وما تناوله ودعا إليه يف صدد األخالق والقيم‪،‬‬
‫وأوضحه من قواعد للعمران البرشي‪ ،‬منذ اخللق وإىل يوم يبعثون‪.‬‬
‫ومن بني أهم الرسائل التي متيز املحتوى القرآين – لو صح التعبري – كام رأينا‪،‬‬
‫أثرا عرب التاريخ‪ ،‬هو ما مجعه من تنوع ما‬
‫وجتعله أكمل الكتب وأمهها وأعظمها ً‬
‫بني التأسيس األخالقي والفكري والرتبوي‪ ،‬وبني اجلوانب املتعلقة بحركة وسعي‬
‫اإلنسان يف هذه احلياة الدنيا‪.‬‬
‫ولقد وردت كلامت "سعي" و"عمل"‪ ،‬وغريها من أشكال الفعل واحلركة‪،‬‬
‫بمشتقاهتا املختلفة‪ ،‬يف القرآن الكريم‪ ،‬مئات املرات‪ ،‬وكلها كانت ذات اجتاه إجيايب‬

‫‪583‬‬
‫الخاتمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫يف مضموهنا‪ ،‬بخالف العبارات والكلامت التي تتناول القعود عن الفعل الواجب‬
‫عىل اإلنسان؛ حيث كانت ً‬
‫دائم ما تكون حمل ذم أو ذات مضمون سلبي يف التناول‬
‫القرآين‪.‬‬
‫ووجدنا أن قضية العالقة بني املسلم والقرآن الكريم هي من أهم القضايا التي‬
‫جيب بحثها‪ ،‬ولئن كان هناك دليل عىل أمهية تلك العالقة‪ ،‬بام تتضمنه من فهم‬
‫من جانب املسلمني لتعاليم القرآن الكريم‪ ،‬ومتطلبات التعامل القيمي واحلركي‬
‫معها‪ ،‬أنه من بني أهم املفردات املوضوعة يف خمططات قوى االستعامر العاملي‬
‫التي تستهدف أمتنا‪ ،‬هي فصل املسلم عن القرآن الكريم‪ ،‬بكل ما يعنيه ذلك من‬
‫ٍ‬
‫معان‪.‬‬
‫وعندما َّ‬
‫نط َّل ُع عىل حال املسلمني يف وقتنا الراهن؛ فإننا سوف نجد أن هناك الكثري‬
‫من الضبابية املحيطة بفهم اإلنسان املسلم‪ ،‬واجلامعة املسلمة‪ ،‬للقرآن الكريم؛ حيث‬
‫يقفون عند النص تالو ًة‪ ،‬انطال ًقا ِمن أن ِمن بني مفردات تعريف القرآن الكريم أنه‬
‫تعبد بتالوته"؛ حيث يكتفي الكثريون بمجرد قراءة النص‪ ،‬من دون التطرق‬ ‫"ا ُمل َّ‬
‫لفهمه‪ ،‬أو النظر إىل ما يدعو إليه النص‪.‬‬
‫ٌ‬
‫فريضة عىل‬ ‫واضح يف هذه النقطة؛ حيث إنه‬
‫ٌ‬ ‫يف املقابل؛ فإن القرآن الكريم‬
‫ٍ‬
‫معان‪ .‬يقول اهلل عز وجل يف كتابه العزيز‪،‬‬ ‫املسلمني بكل ما يف كلمة "فريضة" من‬
‫عن القرآن الكريم‪ ،‬يف هذا املعنى‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ‬
‫[سورة "ال َق َصص" – اآلية‬
‫ﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭢﭣﭤ﴾ ُ‬
‫(‪.])85‬‬

‫‪584‬‬
‫الخاتمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫هذه اآلية تدُ ل عىل حقيقة عقيدية مهمة‪ ،‬وهي أن ما ورد يف القرآن الكريم من‬
‫ٍ‬
‫ونواه‪ ،‬وكذلك رؤى حول حقيقة اإلنسان ودوره ورسالته يف هذه الدنيا؛ إنام‬ ‫أوامر‬
‫كنص ُيقرأ وكفى‪.‬‬
‫هو فريضة عىل املسلمني‪ ،‬وليس األمر كام يأخذه البعض ٍّ‬
‫والقرآن الكريم كتاب شامل للقيم املعنوية واجلوانب احلركية يف ٍ‬
‫آن‪ ،‬وكل ما فيه‬
‫من تعاليم‪ ،‬هي فرائض عىل اإلنسان‪ ،‬وأحكام عامة‪ ،‬وليست عىل سبيل املجاز‪ ،‬أو‬
‫التخصيص الزمني أو الشخيص‪.‬‬
‫فهناك من يتعلل يف بعض األحكام‪ ،‬كالتي ختص اجلهاد والقتال‪ ،‬أو ختص املرأة‬
‫املسلمة وعفتها‪ ،‬بأن ذلك خيص الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬رضوان اهلل تعاىل‬
‫عليهم أمجعني‪ ،‬أو زوجاته‪ ،‬أو أهنا أحكام تتعلق ببيئة زمنية أو اجتامعية معينة‪.‬‬
‫أمورا عقائدية مهمة جيب أن تكون يف صميم إيامن‬
‫وذلك فهم خاطئ‪ ،‬وخيالف ً‬
‫كل مسلم؛ من أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل تعاىل املتني‪ ،‬الصالح لكل زمان‬
‫ومكان‪ ،‬وحيوي حكمة الكون‪ ،‬ورشعة اهلل عز وجل لعباده إىل يوم يبعثون‪ ،‬وفيه‬
‫تعاليمه عز وجل‪ ،‬وما ينبغي أن يقوم به البرش‪.‬‬
‫وهي أمور أن تكون أمة التكليف هبا أجدر‪ ،‬أمة املسلمني‪ ،‬من أتباع حممد ﷺ‪،‬‬
‫الذين عليهم مهمة هداية البرش وإخراجهم من الظلامت إىل النور‪ ،‬ومن ذل العبودية‬
‫لغري اهلل تعاىل‪ ،‬إىل احلرية املطلقة‪ ،‬التي تعني العبودية هلل وحده عز وجل‪ ،‬والتحرر‬
‫من أغالل العبودية لغريه‪ ،‬بام يف ذلك عبودية احلاكم‪ ،‬وعبودية املادة‪ ،‬وغري ذلك‬
‫من صور العبودية ِ‬
‫املذ َّلة‪.‬‬

‫‪585‬‬
‫الخاتمة‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬فإنه من بني أهم التفاسري التي وضعت للقرآن الكريم انطال ًقا‬
‫قديم‪ ،‬تفسري "اجلامع ألحكام القرآن" لإلمام القرطبي‪ ،‬الذي‬‫من هذه احلقائق؛ ً‬
‫فس القرآن الكريم انطال ًقا مما يتضمنه من أحكام ورشائع‪.‬‬
‫َّ‬
‫ولعل أهم ما جيب أن يوجه اإلنسان الصحيح الفطرة‪ ،‬سعيه يف هذه احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬هو العمل عىل متكني رشيعة اهلل تعاىل يف األرض‪ ،‬وحماربة كافة أشكال‬
‫اجلهل والعبودية‪ ،‬والسعي إىل طلب العمل والتدبر يف آيات اهلل تعاىل‪.‬‬
‫مستوى أعىل من اإليامن‪ ،‬واالستفادة مما سخره‬
‫ً‬ ‫وكل ذلك من أجل حتقيق الوصول إىل‬
‫اهلل تعاىل لإلنسان من خملوقات وممكنات للعيش عىل األرض‪ ،‬وكله يصب يف اجتاه اهلدف‬
‫األسمى خللق اإلنسان‪ ،‬وهو عبادة اهلل تعاىل وحده‪ ،‬وإفراده هبا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫‪.....‬‬
‫ويف األخري‪ ،‬فإن احلديث يطول‪ ،‬ومهام طال؛ فإنه لن يويف ولن يكشف كل‬
‫أركان العظمة واحلكمة اإلهلية يف كتابه العزيز‪ ،‬فنختم بقول اهللِ تعاىل من خواتيم‬
‫ورة "الكهف"‪ ،‬مما ِّ‬
‫يلخص الكثري من أحوالنا يف هذه الدنيا‪ ﴿" :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬ ‫ُس َ‬
‫ﯵﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽ ﯾﯿ ﰀﰁ ﰂﰃﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ‬
‫ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﴾‪.‬‬

‫‪586‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫الفهرس‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫‪9‬‬ ‫المقدمة ‪.................................................................................‬‬
‫‪23‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬معامل احلضارة واملدينية والعمران يف القرآن الكريم ‪.....‬‬
‫‪27‬‬ ‫ردا عىل ُدعاة التجهيل والبداوة! ‪.......‬‬
‫‪ .1‬اإلسالم وصناعة احلياة والعمران‪ًّ ..‬‬
‫‪32‬‬ ‫‪ .2‬املدنية واملدينية يف اإلسالم‪ ..‬قراءة يف أفكار األنصاري وابن نبي ‪...............‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪ .3‬القرآن الكريم وكيفية بناء نموذج معريف إسالمي ‪...............................‬‬
‫‪44‬‬ ‫‪ .4‬قراءة أكسيولوجية يف القرآن الكريم وكامل البنيان األخالقي يف آياته ‪........‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪ .5‬حوار احلضارات‪ ..‬بني اإلرث االستعامري وذنوب املسترشقني ‪..............‬‬
‫‪ُ .6‬سنَن العمران والتطور بني املسلمني وغريهم‪ ..‬الدين كركيزة أساسية يف‬
‫‪58‬‬ ‫حضارة اإلسالم ‪..........................................................................‬‬
‫‪65‬‬ ‫‪ .7‬روح احلضارة والعمران فيام جاء به اإلسالم‪ ..‬رسائل قرآنية واجبة القراءة!‬
‫‪73‬‬ ‫‪ .8‬قضية هنضة األمة ورشوط النهوض يف القرآن الكريم‪..............................‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪ .9‬قضية العدالة بني الفلسفة اإلسالمية والفلسفات الغربية ‪.........................‬‬
‫‪85‬‬ ‫‪ .10‬معامل غائبة من النظام األخالقي واالجتامعي يف اإلسالم ‪.......................‬‬
‫‪90‬‬ ‫‪ .11‬مقاصد الرشيعة بني الديمقراطيات واالستبداديات ‪............................‬‬
‫‪ .12‬أمهية الضوابط الدينية واألخالقية يف صيانة العمران‪ ..‬مفردات حضارية‬
‫‪97‬‬ ‫غائبة! ‪.......................................................................................‬‬
‫‪102‬‬ ‫‪ .13‬أمهية دور املجتمعات يف القضاء عىل الفساد‪ ..‬نظرات عمرانية ‪............‬‬

‫‪587‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪ .14‬جتربة ابن خلدون وكيف أسس القرآن ملدرسة التنوير العقيل يف فهم‬
‫‪106‬‬ ‫العمران ‪....................................................................................‬‬
‫‪112‬‬ ‫‪ .15‬ماذا يعني أن ترى العامل من خالل التصور اإلسالمي ‪.............................‬‬
‫‪118‬‬ ‫السنن االجتامعية يف اإلسالم‪ ..‬ميزان العدل وضامنة الستقرار املجتمعات‬
‫‪ُّ .16‬‬
‫‪ .17‬اإلنسان ومكانته يف مقاصد الرشيعة اإلسالمية‪ ..‬أولوية مؤجلة يف‬
‫‪123‬‬ ‫قضايانا! ‪....................................................................................‬‬
‫‪129‬‬ ‫‪ .18‬الكفاءات واحلكم الرشيد يف الرتبية النبوية ودولة عمر‪ ..‬أصول نفتقدها!‬
‫‪134‬‬ ‫املكون األخالقي كأساس للمرشوع احلضاري اإلسالمي ‪..................‬‬
‫‪ِّ .19‬‬
‫‪139‬‬ ‫‪ .20‬املسترشقون ونظرية الرتبية واألخالق يف اإلسالم ‪...........................‬‬
‫‪146‬‬ ‫‪ .21‬قراءة إسالمية يف مفهوم املواطن العاملي‪ ..‬أسبقية الدين وأخطاء التنميط!!‬
‫‪154‬‬ ‫تقبل الرسول ﷺ معارضيه؟! ‪............................................‬‬
‫‪ .22‬كيف َّ‬
‫‪158‬‬ ‫‪ .23‬املعرفة كأحد مراتب التطور احلضاري ومعركة إعادة صناعة وعي األمة‬
‫‪164‬‬ ‫‪ .24‬اسرتاتيجيات التعطيل احلضاري بني استجابة األمة ومتطلبات التصدي‬
‫‪ .25‬اإلسالم وقضية الرصاع السيايس واالجتامعي‪ ..‬دروس يف املعاجلات من‬
‫‪171‬‬ ‫دولة املدينة ‪.................................................................................‬‬
‫‪180‬‬ ‫بدء يف دروس حركية ‪.................‬‬ ‫‪ .26‬اإلسالم وقوانني العمران‪ ..‬عود عىل ٍ‬
‫‪184‬‬ ‫ٍ‬
‫ومعان غائبة ‪.......................‬‬ ‫‪ .27‬السرية النبوية يف السياق املجتمعي‪ ..‬معامل‬
‫‪189‬‬ ‫‪ .28‬التفكري واملنهج العقيل يف القرآن الكريم ‪........................................‬‬
‫‪194‬‬ ‫‪ .29‬الشورى كسلوك وممارسة اجتامعية يف املنظومة اإلسالمية ‪...................‬‬
‫‪199‬‬ ‫‪ .30‬ملاذا يتعلم أبناؤنا؟‪ ..‬رؤية إسالمية منسية ‪......................................‬‬
‫‪205‬‬ ‫‪ .31‬اإلسالم وقضية الصورة الذهنية‪ ..‬بني احلرملك ومعامل ناسا! ‪............‬‬

‫‪588‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪210‬‬ ‫ص القرآين ‪.....................‬‬


‫‪ .32‬علم النفس يف القرآن الكريم وقضية شمول ال َّن ِّ‬
‫‪215‬‬ ‫‪ .33‬عندما يكون العمل املجتمعي شطر اإليامن! ‪...................................‬‬
‫التنوع واالختالف يف القرآن الكريم والسلوك النبوي‪ ..‬تأصيل‬ ‫‪ .34‬إدارة ُّ‬
‫‪220‬‬ ‫رشعي ومفاهيمي ‪........................................................................‬‬
‫‪228‬‬ ‫أسس للفكر والفعل احلضار َّي ْي عند املسلمني ‪......‬‬ ‫‪ .35‬القرآن الكريم وكيف َّ‬
‫‪234‬‬ ‫ون‪ُ ..‬سنن القرآن الكريم يف التمكني يف األرض ‪......‬‬ ‫الص ِ ُ‬
‫ال َ‬ ‫‪َ .36‬ي ِر ُث َها ِع َب ِ‬
‫اد َي َّ‬
‫‪239‬‬ ‫‪ .37‬املكتشفات العلمية وما تفرضه يف جمال الدعوة والتفسري‪ ..‬قضية عاجلة‬
‫‪245‬‬ ‫‪ .38‬العقل السيايس اإلسالمي ورضورات التحديث ‪...............................‬‬
‫‪250‬‬ ‫‪ .39‬مفهوم اإلسالم للتنوع الثقايف‪ ..‬منظومة من القيم والتطبيقات ‪...............‬‬
‫‪258‬‬ ‫‪ .40‬منظومة االعتقاد واجلوانب العقلية واملعرفية هلا يف القرآن الكريم ‪...........‬‬
‫‪266‬‬ ‫تشوه املفاهيم احلضارية لدينا! ‪........‬‬ ‫‪ .41‬عن الغرب وع َّنا‪ ..‬قراءة يف إشكالية ُّ‬
‫‪273‬‬ ‫اجل ْم ِعي ‪...............................‬‬
‫‪ .42‬قضايا وإشكاالت يف العقل اإلسالمي َ‬
‫‪278‬‬ ‫‪ .43‬معامل سياسية يف ُسورة القصص ‪..................................................‬‬

‫‪285‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف تصحيح مفاهيم خاطئة يف فضائنا اإلسالمي ‪..........‬‬
‫املعاصة عىل الرتاث اإلسالمي‬ ‫ِ‬ ‫‪ .1‬أثر التطرف وفوىض املدارس الفكرية‬
‫‪289‬‬ ‫ومستقبله ‪...................................................................................‬‬
‫‪295‬‬ ‫أسلم تس َلم‪ ..‬نحو فهم جديد يف إطار املامرسة النبوية ‪...........................‬‬ ‫‪ِ .2‬‬
‫‪302‬‬ ‫‪ .3‬االجتهاد املصلحي وأمهية انضباط العمل السيايس باملقاصد ‪...................‬‬
‫‪308‬‬ ‫‪ .4‬األمانة وفلسفة التكليف يف القرآن الكريم ‪.......................................‬‬
‫‪317‬‬ ‫‪ .5‬التمكني يف القرآن الكريم‪ ..‬مسؤولية وبداية وليس غاية وهناية! ‪..............‬‬

‫‪589‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫ردا عىل دعاة اجلمود‬


‫‪ .6‬احلاكمية وقضية االجتهاد املقاصدي والتجديد‪ًّ ..‬‬
‫‪323‬‬ ‫والتكفري! ‪..................................................................................‬‬
‫‪331‬‬ ‫الكفر واإليامن‪ ..‬بني البهيمية ومعايل األمور! ‪.....‬‬ ‫‪ .7‬اخلطاب القرآين بني أهل ُ‬
‫‪338‬‬ ‫‪ .8‬اخلري والرش‪ ..‬بني خطأ اإلطالقات وحاكمية املقاصد ‪...........................‬‬
‫‪343‬‬ ‫‪ .9‬الدليل العقيل يف اخلطاب القرآين ومشكلة غيابه عند دعاتنا! ‪.....................‬‬
‫‪348‬‬ ‫‪ .10‬العنف والرشيعة اإلسالمية‪ ..‬أصل أم طارئ؟ ‪...............................‬‬
‫‪354‬‬ ‫‪ .11‬املسلمون وفرائض األمر الواقع‪ ..‬دروس من العهد النبوي ‪..................‬‬
‫‪359‬‬ ‫‪ .12‬املسؤولية اجلامعية لألمة يف القرآن الكريم وحماذير املرحلة! ‪....................‬‬
‫‪363‬‬ ‫‪ .13‬املرشوع اإلسالمي والقديم‪ٍ ..‬‬
‫تالق أم رصاع؟! ‪...............................‬‬
‫‪368‬‬ ‫‪ .14‬املقاصدية وتبدل الظرف وبدهييات فقهية واجبة يف عرص التكفري! ‪.........‬‬
‫‪ .15‬امليثاق يف القرآن الكريم‪ ..‬عهد العقيدة وأساس للبناء االجتامعي‬
‫‪373‬‬
‫والسيايس السليم ‪.........................................................................‬‬
‫‪380‬‬ ‫‪ .16‬النص القرآين واألحكام الرشعية‪ ..‬نظرة جديدة وطرائق تطبيق تصحيحية‬
‫‪387‬‬ ‫‪ .17‬تأويل النص القرآين وأمهية علم أسباب علم النزول ‪...........................‬‬
‫‪392‬‬ ‫‪ .18‬خصائص الرشيعة اإلسالمية وقضية الثابت واملتغري يف احلكم الرشعي‬
‫‪397‬‬ ‫‪ .19‬دين الفطرة والعقل ومعركة املنفلتني وأصحاب اهلوى! ‪........................‬‬
‫‪402‬‬ ‫‪ُ .20‬سنن اهلل وقضية املنهج‪ ..‬قراءة خمتلفة ألزمة حائرة! ‪..............................‬‬
‫‪408‬‬ ‫شيعا!!‪ ..‬عندما يكون شتات اجلامعة املسلمة عقا ًبا من اهلل!‪...‬؛؛؛ ‪..........‬‬
‫‪ً .21‬‬
‫‪413‬‬ ‫‪ .22‬عقيدة الوالء والرباء يف اإلسالم ورضورات إعادة الفهم ‪.....................‬‬
‫‪420‬‬ ‫‪ .23‬فقه املوازنات وأمهية الدعوي يف دعم السيايس يف دولة الرشيعة ‪............‬‬
‫‪425‬‬ ‫‪ .24‬قضايا وإشكاالت يف فهم اإلسالم عند احلركيني املعارصين ‪..................‬‬

‫‪590‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪431‬‬ ‫‪ .25‬قضية احلق يف اإلسالم والقوة التي حتميه وال ختلقه! ‪............................‬‬
‫‪436‬‬ ‫‪ .26‬قوانني االستطاعة وحاكميتها يف سعي اإلنسان‪ ..‬أسس فكرية وحركية‬
‫‪440‬‬ ‫‪ .27‬مبدأ احلاكمية هلل‪ ..‬جزء من عقيدة كل مسلم! ‪.................................‬‬
‫‪446‬‬ ‫‪ .28‬مفهوم العدل اإلهلي وعقاب الظاملني يف الدنيا واآلخرة! ‪.......................‬‬
‫‪452‬‬ ‫‪ .29‬مفهوم متام الدين بني األصل الرشعي وقضية التكفري! ‪.........................‬‬
‫‪458‬‬ ‫‪ .30‬نحو مدرسة حداثية لقراءة الرتاث ‪..............................................‬‬
‫‪465‬‬ ‫‪ .31‬هل األمة بحاجة إىل مستبدٍّ عادل؟! ‪.............................................‬‬
‫‪472‬‬ ‫الط ِري َق ِة‪ ..‬ما الطريقة وكيف نستقيم عليها ‪.................‬‬ ‫‪َ .32‬و َأ َّل ِو ْ‬
‫اس َت َق ُاموا َع َل َّ‬
‫‪479‬‬ ‫‪ .33‬وحدة األمة واألصول الرشعية‪ ..‬ارتباط عضوي غائب! ‪.....................‬‬
‫‪485‬‬ ‫حولنا الدين إىل أيديولوجية! ‪.............................................‬‬
‫‪ .34‬عندما َّ‬
‫‪494‬‬ ‫أسست ملنهج دعوي وإنساين شامل ‪..................‬‬ ‫‪َ .35‬أ َل ْي َس ْت ن ْف ًسا؟!‪ ..‬كيف َّ‬
‫‪ .36‬منهج املعتزلة وجدل جتديد اخلطاب الديني‪ ..‬عن حدود تعامل العقل مع‬
‫‪499‬‬ ‫الرشيعة ‪...................................................................................‬‬

‫‪505‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف الرد عىل العلامنيني ودعاة اإلحلاد ‪.......................‬‬
‫‪509‬‬ ‫ردا عىل دعاة اإلحلاد ‪.....................................‬‬
‫‪ .1‬الدين كفطرة إنسانية‪ًّ ..‬‬
‫‪514‬‬ ‫‪ .2‬الدين ومحاية املجتمعات اإلنسانية‪ ..‬رسالة إىل أصحاب الشطط العلامين!‬
‫‪519‬‬ ‫‪ .3‬خطيئة التطرف عند العلامنيني والليرباليني ‪.......................................‬‬
‫‪524‬‬ ‫‪ .4‬علم االجتامع الديني وأمهية دراسة أنثروبولوجيا الدين ‪..........................‬‬
‫‪529‬‬ ‫‪ .5‬عن اهلل الذي ال نعرف وملاذا ِ‬
‫يلحد امللحدون!! ‪..................................‬‬
‫‪536‬‬ ‫‪ .6‬ملاذا اإلحلاد أم ملاذا الدين؟! ‪.........................................................‬‬

‫‪591‬‬
‫الفهرس‬
‫أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم‬

‫‪543‬‬ ‫‪ .7‬كيف يتحصن الداعية من ظاهرة اإلحلاد؟ ‪.......................................‬‬


‫‪549‬‬ ‫‪ .8‬قناعات املسلم بني الدين وبني ممارسيه ‪...........................................‬‬
‫‪554‬‬ ‫‪ .9‬حقيقة وجود اهلل وأمهية املنهج العقيل يف الرد عىل امللحدين ‪.....................‬‬
‫وسنَن التكليف‬ ‫‪ .10‬وجود اهلل واالتساق بني ِخ ْل َقة اإلنسان الظاهرية ُ‬
‫‪560‬‬ ‫والتسخري ‪..................................................................................‬‬
‫‪567‬‬ ‫‪ .11‬هل الدين والتد ُّين ضد التنوير؟! ‪...............................................‬‬
‫‪575‬‬ ‫‪ .12‬بحوث املثلية وحتديات اخلطاب اإلسالمي الدعوي ‪...........................‬‬
‫‪583‬‬ ‫الخاتمة ‪..................................................................................‬‬

‫تم بحمد اهللِ تعاىل وتوفيقه‪..‬؛؛‬

‫‪592‬‬

You might also like