Professional Documents
Culture Documents
1
هذه حقيقة اللّسان العربي في واقعه اليوم ،وهو ليس بمعزل عن
جملة من القضايا االجتماعيّة واالقتصاديّة والسياسية سواء تعلّقت
بالدّاخل أو بالخارج.
وضع اللّسان العربي اليوم ليس بمعزل عن وضع البالد العربيّة
عموما .وحالة البالد العربيّة قد تكون في غنى عن الوصف إذا ما نظرنا
إليها من زوايا عدّة ،ويكفي أن نشير في هذا الصّدد إلى ال ّتخلّف الذي
تعيشه هذه البالد .وهذا ال ّتخلّف يظهر في جوانب حياتيّة عديدة .هذا إلى
جانب حالة ال ّتبعيّة التي اليمكن إنكارها سواء منها االقتصاديّةأو
الثقافية والفكريّة أيضا ،وفضال عن هذا حالة ال ّنقل le السّياسية بل ّ
ّ
والثقافي transfertالتي نعيشها :ال ّنقل ال ّتكنلوجي والمعرفي والعلمي
وغيرها .وبإيجاز إنّ وضع اللّسان العربي في واقعنا اليوم هو وضع
وتطور التكنولوجيات ّ اإلنسان العربي في عصر أبرز سماته العولمة
الحديثة واال ّتصال واإلعالم.
وإذا كان اللّسان العربي هو المدخل إلى تخلّفنا وعدم قدرتنا على
مواكبة ال ّنمو والخروج من ال ّتخلّف ،فإنّ اللّسان عند ال ّشعوب المتقدّمة
الطريق إلى الهيمنة ،وهو البوّ ابة التي تدخل منها األطماع وبسط هو ّ
ال ّنفوذ على ال ّشعوب الفقيرة.والنفوذ والحال هذه ليس نفوذا اقتصاديا أو
سياسيا وحسب ،وإ ّنما ثقافيّا وفكريّا باألساس.فاللّسان األقوىهولسان
األقوى،وهذه القوّ ة هي التي تعمل على رواج هذا اللّسان أوذاك،وال ّتقليل
من شأن بقيّة األلسن.
وتبعا لك ّل هذا يمكننا أن نتبيّن القيمة التي يحتلّها اللّسان في حياة
اإلنسان عموما وفي حياة ال ّشعوب والصّراع القائم بينها ومسار ال ّنفوذ
االقتصادي والسّياسي ّ
والثقافي.
إنّ الوضع الذي تعانيه البالد الفقيرة التي كانت مستعمرة سابقا
إزاء الدّول الغنيّة يجعل وضعها اللّساني عموما يعاني من حالت تف ّكك
وتش ّتت ،كما يسم هذا الوضع بقطيعة موجودة بين اللّسان الرّ سمي
واللّسان الذي يتكلّم به مجموع ال ّناس ،وبال ّتعدّد اللّساني وتعدّد اللّهجات
ّ
والطائف ّية والدّينية ،وبتعدّد سجالّت االستعمال تبعا لتعدّد األقلّيات العرقيّة
ّ
والهوّ ة القائمة بين لغة المدرسة أوالثقافة أو العلم ولغة الحياة
االجتماعيّة .ومن هنا يبرز الصّراع بين األلسن القوميّة واأللسن
األجنبية ،ومن هنا يظهر تخلّف هذه األلسن الم َهي َمنُ عليها ومحاولة
جعلها غير قادرة على مواكبة العصر والم ّد الحضاري وال ّتكنلوجي
والعلمي إلخ ...كما يمكن لهذه األلسن أن تعاني الكثير من ال ّتخلّف في
طرق تعليمها أو تدريسها،وفي قدرتها على نقل المفاهيم والمصطلحات
ونقل المعارف الغربيّة المتقدّمة.
2
وتبعا لك ّل هذا قد نكون مبالغين إذا قلنا إنّ اللّسان يقع في قلب ك ّل
القضايا االجتماعيّة واالقتصاديّة وال ّسياسيّة والعلميّة والفنيّة،وهو صورة
تعكس حقيقة الواقع اإلجتماعي وال ّنفسي لألفراد أو لمجموعة لسانيّة ما،
كما تعكس البنى الفكريّة أو الذهنيّة لهؤالء األفراد ،بل تعكس الحاالت
العصبيّة والمرضيّة ودرجة الوعي والخلفيات األيديولوجيّة واألذواق
الفنيّة والمعتقدات الدّينية وغيرها.
إنّ اللّسان العربي واللّسان عموما هو أداة لل ّتعبير وأداة لل ّتفكير،
وهو أداة لمحاربة الجوع والفقر أو لتكريسهما ،وهو أداة لمواجهة
اآلخر ،لمواجهة الغرب والهيمنة أو العولمة ،ومواجهة مشاكل ال ّنقل
وتبعاته .واللّسان مثلما هو أداة نفوذ وتسلّط وهيمنة هو أداة تواصل
منفعي وربّما استعماري ،وهو أداة لنقل األفكار والفلسفات
واأليديولوجيات ّ
والثقافات.
وليس غريبا أن يكون اللّسان في عالمنا المعاصر اليوم نقطة
االستقطاب التي تتمحور حولها ج ّل المشاكل التي نحياها.وليس غريبا
أن يكون اللّسان اليوم من أبرز وأه ّم القضايا الم ّتصلة بال ّتقدّم وال ّتخلّف
وال ّتواصل بجميع أنواعه،وهو الورقة الرّ ابحة في سوق ال ّشغل
والمضاربة.
وال سبيل إلى ال ّنظر نظرة صائبة دقيقة إلى مشاكلنا العربيّة اليوم
باعتبارنا دوال متخلّفة أو نامية تسعى إلى ال ّتقدّم بمعزل عن ال ّنظر إلى
اللّسان وإلى ك ّل المشكليات التي تنشأ عنه.وإنّ هذه المشكليات في
مجملها هي ما يفرضه الواقع المعيش الذي نحياه ،وهي نبذة من مشاكلنا
اللّسان ّية،ذلك أنّ هذه المشاكل اللّسانيّة إذا ما ت ّم ربطها بمشاكلنا الحياتيّة
فلن تنتهي ولن نجد لها حالّ .وعليه إنّ وضعنا عموما ليس بمعزل عن
وضع اللّسان العربي ،بل إنّ هذا اللّسان لهو المرآة الصّادقة التي تعكس
حقيقة وجودنا.
نلخص مجمل هذه المشاكل المتولّدة عن وتبعا لك ّل هذا بإمكاننا أن ّ
وضع اللّسان العربي في مجموع ال ّنقاط ال ّتالية التي تبدو لنا األبرز
واألوكد للتطارح وال ّنقاش.
ثانيا:المعرفة بحقيقة اللّسان العربي
إنّ اللّسان العربي ليس ظاهرة غريبة أو جديدة على فكرنا
وحضارتنا .ويعتبر اللّسان العربي،من دون مهاترة وال مبالغة،من أه ّم
األلسن التي حظيت بالدّراسة وال ّتأليف.ولع ّل الكثير من المناهج المتداولة
قديما على غاية من األهمية إذا ما نظرنا إليها في ضوء علوم اللّسان
الحديثة .وقد يكون اللّسان العربي من األلسنة القليلة عبر تاريخها ممّا
3
حظا وافرا من ال ّتحليل.غيرأنّ ك ّل هذا اليشفع للّسان العربي أن نال ّ
يستفيد من علوم العصر ومن اللّسانيات الحديثة على وجه الدّقة.
إنّ اللّسانيات الحديثة يمكن اعتبارها من أه ّم وأوسع العلوم
اإلنسانيّة انتشاراعلى اإلطالق،وليس ثمّة علم آخر يضاهيها ف ي
استقطابها للكثير من المعارف األخرى اإلنسانيّة منها والصّحيحة ،وفي
استقطاب هذه المعارف لها .ال يخفى أنّ السانيات الحديثة شديدةاال ّتصال
بالرّ ياضيات واإلحصاء والمنطق وعلم ال ّنفس وعلم االجتماع
واألنثروبولوجيا واألتنولوجيا وال ّتاريخ واألدب والسّ ياسة ،بل هي شديدة
اال ّتصال بوسائل اال ّتصال الحديثة واإلعالميّة .والأحد يستطيع أن ينكر
ّ
والثورة في هذا المجال األهمية البالغة التي تحتلّها اللّسانيات
المعرفيّةالتي أنشأتها بال ّنظر إلى اللّسان في ح ّد ذاته أو في ما ي ّتصل به
من قريب أو من بعيد.
إنّ اللّسانيات الحديثة،وإن كانت مشارب ش ّتى ومدارس عدّة ،لها
من القوّ ة أن تعبّر عن الكثير من المفاهيم والحقائق التي هي أقرب إلى
ّ
الثبات منها إلى ال ّتحوّ ل كال ّنظر إلى بنية اللّسان في ح ّد ذاته،وال ّنظر إلى
وظيفته ال ّتواصليّة والمعرفيّة،وال ّنظر إليه باعتباره ظاهرة شفويّة أو
مكتوبة ،وبال ّنظر إليه باعتباره نظام عالمات أو إشارات ،وبال ّنظر إليه
باعتباره حقيقة أو مجازا.
إنّ اللّسان العربي بك ّل تح ّققاته وفي جميع تجلّياته هو بحاجة ماسّة
اليوم إلى أن يكون خاضعا لل ّتحليل اللّساني،وقد ي ّتفق هذا ال ّتحليل اللّساني
الحديث مع بعض ال ّتحاليل القديمة أو الي ّتفق.المه ّم إخضاع هذا اللّسان
للدّراسة والوصف وفق مناهج جديدة قد تختلف كثيرا أو قليال عن
المناهج ال ّنحوية القديمة ،وذلك بتطبيق أدوات جديدة والقيام بإجراءات
حديثة ،وتسليط جملة من المفاهيم التي لم تكن سائدة،واإلنطالق من
افتراضات أوفرضيات مبتكرة ابتكرها العلم الحديث،وهذا في الحقيقة
ليس عيبا يجب أن نحترز منه ،وإ ّنما هو ضرورة علمية ومعرفيّة تمليها
متطلّبات العلم والموضوعيّة ،بل إنّ هذه المناهج الحديثة لعلّها وحدها
القادرة على أن تم ّكننا من إعادة قراءة تراثنا اللّساني قراءة جديدة تعيد
له االعتبار وتقيّمه ال ّتقييم العلمي الصّحيح ،وتبرز ماهو خاف فيه وتعيد
له إشراقته ،من دون أن نبالغ في الفصل بين القديم والحديث ،ومن دون
الثنائية ،ذلك أنّ المنهجالمبالغة في الدّعوة إلى ال ّتوفيق بين طرفي هذه ّ
مه ّم في العلوم عموما وفي العلوم اإلنسانيّة خصوصا،وليس ثمّة منهج
الي ّتخذ من علوم عصره أداة لبلوغ الغايات العلميّة المفترضة.إنّ
اللّسانيات الحديثة يجب أن يستفاد منها في ك ّل المجاالت
المعرفيّة،وباألساس في فهم اللّسان وبنيته والعالقات القائمة بين مكوّ ناته
أوعناصره ،والب ّد للدّرس اللّساني أن يكون مفيدا في جميع المستويات
4
اللّسانية ،وأن اليهت ّم بجانب على حساب جانب آخر .فاالهتمام بالجانب
الصّوتي والصّوتي الوظيفي مه ّم ،كما أنّ الجانب الصّرفي والصّرفي
ال ّتركيبي مه ّم أيضا ،هذا فضال عن الجوانب ال ّتركيبيّة والمعجميّة
والدّاللية بل ال ّتداولية والبالغية.وك ّل هذا ممّا تنشأ عنه انعكاسات مهمّة
في الكثيرمن الجوانب التي قد تتعرّ ض لمسائل تطبيقية كال ّترجمة وإنشاء
القواميس والمعالجة اآلليّة.
ومن المسائل التي هي بحاجة إلى اللّسانيات لحلّها وضع اللّسان
العربي في البالد العربيّة في عالقته بألسن أخرى أو مستويات لسانيّة
مختلفة،ومن ضمن وضع اللّسان العربي اليوم عالقة الفصيح
بالعاميّ ،وعالقة الفصيح أو العامي باللّسان أو األلسن األجنبيّة.
5
الطفل في التعلّم وفي ال ّنجاح وفي اكتساب اللّغة الحاالت على قدرات ّ
االكتساب السّليم.إنّ البنيتين اللّسانيتين للفصيح والعاميّ -بالرّ غم من
القرابة األسرية اللّسانية التي تربط بينهما -هما على درجة عالية من
ال ّتشابه واالختالف في الوقت نفسه .وإلى اليوم لم تؤخذ هذه االختالفات
وال ّتشابهات في البالد العربيّة بكثير من الحزم والج ّد.فبقيت العاميّة
مهمّشة والاعتداد بها،وهي مبعدة رسميّا وثقافيّا ،ومازال الوهم ال ّشائع
عند الكثير من ال ّناس بل الكثير من المث ّقفين والك ّتاب أنّ الدّارجة ما هي
إالّ صورة محرّ فة للفصيحة وأن المجال لالعتداد بها ،والسبيل إلى
دراستها أو مقارنتها بالفصيحة.إالّ أ ّنها وبالرّ غم من هذا تظ ّل تعايش
وتنزل منزلة الدّون ،في الوقت الذي تخرق ّ الفصيحة وتركن إلى ظلّها
فيه ك ّل الفئات االجتماعيّة،وك ّل االستعماالت اللّسانية باعتبارها طاقة
تعبيريّة،عاجزين عن رفضها وعاجزين عن االعتراف بها.
يتمثل في القدرة على تضييق الثنائيّة في اعتقادنا ّ
إنّ المشكل في ّ
الهوّ ة القائمة بين الفصيح والعاميّ أو بين االستعمال الفصيح واالستعمال
العامي.وتضييق هذه الهوّ ة ال يمكن أن يكون إالّ عبر ال ّتمدرس ونشر
الثقافة والعلوم .وال ّتمدرس اليمكن أن يكون ناجحا إالّ باألخذ بعين ّ
االعتبار هذا ال ّتداخل الحاصل بين الفصيح والعامي ،ومحاولة اإلكثار
من المتشابهات وال ّتقليل من االختالفات .وال يمكن لهذا األمر أن يت ّم إالّ
باالعتراف بالعاميّ وال ّنظر إ ليه باعتباره استعماال جديرا باالهتمام
وبدون مر ّكبات او شعور بال ّنقص،وإيالئه المكانة التي يستحقّها باعتباره
يمثل أكبر ال ّشرائح االجتماعيّة في واقعنا العربي إن لم نقللسانا منطوقا ّ
ك ّل ال ّشرائح،وباعتباره اللّسان األ ّم في االكتساب اللّغوي عند ال ّناشئة
العربيّة عموما.
وما االعتراف بالعاميّ في هذا المجال إالّ باب للدّ خول إليه
ودراسته الدّراسة العلميّة،بالضّبط كما تدرس ثقافةاالنسان وتاريخيته
واجتماعيته .ودراسة العاميّة يجب أن يستفاد منها في هذا ال ّشأن في
الطبيعي للّسانتعليميّة األلسن والمواد.وك ّل ذلك بالتأكيد على االستعمال ّ
الفصيح،وجعل هذا اللّسان اللّ َ
سان السّائدَ في سنوات المدرسة ال ّتحضيريّة
المتأخرة من مرحلة رياض األطفال ،وجعل اللّسان ّ أو المستويات
ّ
الفصيح لسانا طبيعيّا عند الطفل وعند المربي في قاعات ال ّتدريس.
ك والسبيل إلى إنكار ذلك، إنّ اللّسان الدّارج لسان طبيعي وال ش ّ
إالّ أنّ تأثيراته سلبيّة على اللّسان الفصيح وتعلّم األطفال لهذا اللّسان.
وتبرز هذه ال ّتأثيرات السّلبية عادة في ال ّتحصيل اللّغوي وال ّتحصيل
المعرفي.وإنّ ح ّل معضلة ّ
الثنائيّة ال يكمن في اعتقادنا في ال ّتقليل من
شأنها وإ ّنما في محاولة السّيطرة عليها والعمل على نشر العربيّة
الفصيحة لتح ّل شيئا فشيئا في مواضع ظلّت العاميّة تحتلّها منذ قرون
6
ّ
الطفولة أي من الرّ وضة عديدة،وال يكون ذلك إالّ بداية من سنّ
والمدرسة.
Le bilinguisme رابعا:االزدواجيّة اللّسانيّة
الظاهرشبيها بأمر ّ
الثنائيّة يختلف إنّ أمر االزدواجيّة وإن بدا في ّ
عنه اختالفا شديدا،وإن كان ك ّل منهما "مضر" ،وإن اعتبرت
االزدواحيّة أكثر ضررا .إنّ االزدواحيّة في عرف اللّسانيين هي التقاء
لسانين مختلفين قد يكونا من أسرة لسانيّة واحدة أو من أسرتين
مختلفتين .وقد تكون االزدواجيّة أيضا ظاهرة فرديّة أو جماعيّة.
واالزدواجيّة السّائدة في بلداننا العربيّة هي ازدواجيّة جماعيّة مفروضة
علينا فرضا.ولع ّل تبعاتها األولى تعود إلى أسباب تاريخيّة أوإن شئنا
استعماريّة.هذه االزدواجيّة التحمل إلينا استعماال لسانيا فحسب ،وإ ّنما
تحمل إلينا فكرا مغايرا وثقافة مختلفة ورؤية للكون واألشياء الت ّتفق في
مجمل ظواهرها مع رؤيتنا نحن .إنّ اللّسان األجنبي بالرّ غم ممّا فيه من
إيجابيات التنكر مشبّع ومحمّل بالكثير من الهيمنة وحبّ السّيطرة
وال ّتسلّط.وهو ال يحمل في طيّاته الكثير من االنبهار بالغرب
وبأصحابه،وإ ّنما يحمل الكثير من األفكار المسبقة واألحكام القيم ّية على
لساننا العربي وعلى ثقافتنا وحضارتنا وتاريخنا وواقعنا بمختلف
تجلّياته.
الطويل ينتج عنه صراع قد إنّ االحتكاك بين األلسن في تاريخها ّ
يحت ّد أو يخفت حسب الوضع السّياسي واالقتصادي واالجتماعي،وحسب
طبيعة العالقة التي تربط بين هذه األلسن .وإنّ هذا االحتكاك قد يكون
مهادنا في حاالت كثيرة ،وقد يبلغ ح ّد ال ّتصادم في حاالت أخرى.وفي
حاالت ال ّتصادم يشت ّد الصّراع،وكك ّل صراع يشهد الصّراع اللّساني
غالبا ومغلوبا،وقد يطمس الغالب ك ّل مقوّ مات المغلوب،ممّا يجعل لسان
الغالب يح ّل مح ّل لسان المغلوب،وممّا يؤ ّدي في ال ّنهاية إلى اضمحالل
لسان المغلوب وربّما ال ّتالشي والموت.إنّ فرض إرادة المعتدي على
المعتدَ ى عليه ال يكون في مستوى السّلطة وحدها ،وإ ّنما يكون في
الطريق إلى المستوى اللّساني أيضا.وقد تكون الهيمنة الماديّة هي ّ
الثقافية والفكرية،وقد يحصل العكس فتكون الهيمنة اللّسانيّة ومن ثمّة ّ
الهيمنة اللّسانية هي البوّ ابة العظمى على باقي مقدّرات الشعوب.وفي ك ّل
الحاالت إنّ الصّراع اللّساني والهيمنة السّياسية خطران قد تتر ّتب عنهما
خرائط جغرافية وسياسية وبشرية لم تكن موجودة في السّابق أي قبل
الصّراع.
إزاء هذا الوضع اللّساني الم ّتسم باالزدواجية اللّسانية ،وبال ّنظر
إلى المخاطر أو المضار المحتملة التي يمكن أن تنشأ عن هذه
7
االزدواجية هل يجب أن نتن ّكر جملة وتفصيال لالزدواجية وبال ّتالي
للّسان األجنبي ح ّتى نكون في مأمن من هذه المخاطر؟
إنّ أمننا اللّساني الذي يجب أن نرعاه ال يمكن أن يت ّم بالرّ فض
القطعي للالزدواجية عامّة،والبالرّ فض القطعي لك ّل لسان أجنبي وإ ّنما
يجب أن يت ّم في اعتقادنا بإيالء اللّسان العربي المكانة التي يستحقّها،
وذلك بال ّتشجيع على دراسته ودراسة إمكانياته وبتطويره وترويجه
أونشره ال ّنشر السّليم،وجعله لسانا قادرا على ال ّتعبير عن ك ّل المتطلّبات
صة منها المعرفيّة والعلمية وال ّتكنولوجية،وأن يكون لسانا الحياتيّة،وخا ّ
ف ّعاال في نقل المعارف وترجمتها واستيعابها ،وأن يكون لسان العلم
والثقافة واألدب ،وأن يكون لسان المدرسة واإلعالم ومختلف الهيآت
السياسية والثقافية ،وأن يبلغ في كل هذا مستوى القدرة على الرواج
والتأثير والتأثر واالستفادة واإلفادة واألخذ والعطاء .وبكلمة أن يكون
اللسان العربي لسان العلم والتكنولوجيا واالتصاالت الحديثة ،وأن تكون
له مكانة أو موضع قدم من ضمن بقية األلسن المعترف بها في العالم،
أي أن يكون لسانا رائدا قادرا على استيعاب كل المفاهيم الحديثة وكل
التقنيات الحديثة ،وأن يحقق بشأن هذه األغراض إضافته النوعية .وهذا
ال يت ّم وال شك لمن كان فاقد القدرة خاوي القوى،كما ال يت ّم لمن كان
لسانه لسانا مهل َهالا ضعيفا يعبر عن النقص واالنبهار والتبعية.
إنّ اللّسان األجنبي في طلب المعرفة والعلوم مفيد وال شك ،وهو
صالح أن يكون أداة عمل ونافذة منها يعبر الطالب والعالم إلى ثقافات
وحضارات أخرى بشرط أن ال يكون ذلك على حساب اللسان القومي
والمق ّدرات القومية .وضعف اللسان وقوته مرهونان بقوة صاحب اللسان
أو ضعفه.
إنّ هذا الوضع اللّساني في البالد العربية المتسم بالثنائية من جهة
وباالزدواجية من جهة ثانية قد تكون له انعكاسات مه ّمة على حاالت
أخرى من حاالت لساننا العربي في وضعه الراهن .ومن أبرز وأه ّم هذه
الحاالت حالة التعريب ونقل العلوم والمعارف وإيجاد المصطلحات
الكفيلة بهذا.
خامسا:اللّسان العربي والتعريب
إن مسألة التعريب مسألة قديمة جديدة ،وهي مسالة شائكة قد
تزداد ح ّدة أوتخف تبعا للوضع اللّساني في بلد عربي ما.ومسألة
التعريب وإن كانت متفاوتة من بلد عربي إلى آخر مسألة تفرض نفسها
على جميع المجاالت المعرفية واالقتصادية والتكنولوجية .وبالقدر الذي
تهيمن فيه االزدواجية أو اللّسان األجنبي تطرح فيه قضية ال ّتعريب.
8
وتزداد هذه القضية تعقيدا بالقدر الذي يحل فيه اللّسان األجنبي مح ّل
اللّسان العربي أو يزاحمه فيه.
لقد بدأت المطالبة بالتعريب تاريخ ّي ا منذ أيام االستعمار المباشر
الذي شهدته الساحة العربية ،سواء في المشرق أو في المغرب.وظ ّل
التعريب منذ ذلك الوقت مطلبا وطنيا ُملحّ ا يمسّ شخصية البالد
ومقوّ ماتها.
وليس المقصود بالتعريب تعريب المعارف الواردة علينا من
الغرب وإ ّنما هو تعريب الهيآت والمؤسّسات الخاصة والعامة وتعريب
الحياة االجتماعيّةواالقتصادية والسياسية ّ
والثقافية والتربوية،أي تعريب
اإلدارة والمدرسة والكلية،وتعريب ّ
الثقافة والعلوم واإلعالم وتعريب
ال ّشارع.إنّ مسألة ال ّتعريب في البلدان العربية تبرز من خالل وضع
غير طبيعي يتمثل في حلول اللّسان األجنبي مزاحما للسان العربي،وذلك
في المطبوعات الرسمية وفي وسائل اإلعالم وفي الالفتات وأسماء
الشوارع والمدن والمؤسسات وفي التعليم والخطاب اليومي لدى المثقفين
والعامة.
إن مسالة التعريب تشير إلى أن الوضع اللساني في الكثير من
البلدان العربية وضع غير طبيعي يشبه وضع المعاق الذي يتحرك
بعكازين اثنين وال سبيل إلى أن يتخلىعن أيّ منهما .إن ال ّتعريب في هذه
البلدان التي تعاني منه يملي عليها اليوم وضع استراتيجيات لتطبيقه في
محاولة للتخلص من وضعية االزدواجية التي تعيشها .إال أن هذه
اال ستراتيجيات وإن نجحت في بعض البلدان العربية فهي لم تنجح في
الكثير من البلدان ألخرى .ولقد مرّ ت عقود على االستقالل ومازالت
بلدان عربية كثيرة ترزح تحت وطأة المطالبة بالتعريب والعجز عن
تحقيقه كامال ،بل إنّ بعضا من هذه البلدان شهدت تطوّ را ث ّم انتكاسة في
هذا التحقيق ،بل شهدت ردة في ذلك .وليس أدل على هذا من وضع
التعليم في هذه البلدان،إذ شهد التعليم ومازال يشهد الكثير من
االضطراب وعدم االستقرار في ما يتعلق بلغة التدريس وتعريب المواد
والبرامج التعليمية ،وكثيرا ما لوحظ تقلص هذه الظاهرة ورواجها تبعا
للرغبات الفردية أو الظروف السياسية المواتية.
ولع ّل مما تجدر اإلشارة إليه في هذا الصدد غياب اإلرادة
السياسية الحقيقية في إنجاز التعريب .وفي مقابل هذا يظل االستقالل
السياسي الحقيقي وإيجاد خطة واضحة للتعريب والتمسك بهذه الخطة،
والحرص على إنجاحها هي الرهانات الحقيقية لتعريب البالد
ومؤسساتها ،وما الوضع الذي تحياه هذه البلدان اليوم إال انعكاس
للوضع اللّساني وما حالة ال ّتعريب إالّ انعكاس بدورها لهذا الوضع
اللّساني المشار إليه .فلنعمل على تغيير هذا الوضع أي الوضع اللساني،
9
حتى نتمكن من تغيير بقية األوضاع التعليمية واالجتماعية واإلدارية
واإلعالمية.
إنّ عملية ال ّتعريب مرهونة بما سبق أن ذكرناه،وهي مرهونة
أيضا بوسائل تقنية ال بد من توفّرها هي حسن الترجمة أو القدرة عليها .
صعوبات التي تعترض ال ّت عريب والترجمة صعوبات عدة ومن أه ّم ال ّ
أه ّمها المصطلح.
سادسا:وضع المصطلح العربي
إن عمل ّي ة وضع المصطلحات للقدرة على الترجمة والتعريب
ونقل المعارف والعلوم وسيلة ال غنى عنها .والمصطلح هو لغة خاصة
أي لغة أهل االختصاص ،وهو فرع من فروع اللّسان المتداول بين
أفراد المجموعة اللّسانية الواحدة .والمصطلح هو أداة تعبير دقيقة لنقل
المفاهيم أو المتصوّ رات العلمية والثقافية والتكنولوجية .والمصطلح دليل
لساني un signe linguistiqueم ّتفق بشأنه بين أهل االختصاص
الواحد أو أهل الصناعة الواحدة.وهو بعبارة القدامى مفتاح العلوم .وذلك
م ّما يدلّل على أهميته وضرورته للدخول إلى العلم المخصوص.
وداللة االصطالح هي العالقة الرابطة بين داله ومدلوله ،وهو ال
يختلف في هذه الحالة عن الدليل اللساني بوجه عام .بيد أن داللة
المصطلح أوضح من ال ّد اللة العادية ،وهي أرسخ داخل مجال
االختصاص من دالالت الكلمات العادية التي يتح ّدد معناها تبعا لل ّسياق
الذي ترد فيه.
إن العالقة بين دال المصطلح ومدلوله هي عالقة تواشج وترابط
ما أن يحضرأحدها حتى يستحضر بالضرورة اآلخر،وبطبيعة الحال ال
يمكن ألحدهما أن يقوم مقام اآلخر .وألهمية المصطلح و القيمة الداللية
التي يكتسبها قد تغدو المعرفة االصطالحية هي المعرفة العلم ّية،إذ ال
علم بدون مصطلح وال استحضارلمصطلح بدون استحضار العلم
والمفاهيم المتعلقة به.
ّ
تتوزع وال يخفى أن المصطلحات كثيرة وعديدة ومتنوعة ،وهي
على مجاالت علمية ومعرفية ع ّدة ،ويمكن لكل مجال من هذه المجاالت
أن يكوّ ن معجما اصطالحيا خاصا به.والمعجم االصطالحي ماهو إال
معجم قطاعيّ ينهل من المعجم العام للّسان العربي ،وهو صورة للمعجم
الذهني le lexique mentalالموجود لدى األفراد الناطقين باللسان
العربي بوجه عام .و ُتع ّد المعاجم القطاع ّية اليوم ضرورة ملحة إلمكانية
نقل العلوم والتكنولوجي ات الحديثة ،وللمساعدة على إنجازعملية
التعليم،وللتطوير العلمي والمعرفي المطلوب في البالد العربية.
10
صعوبة في وضع المصطلح -مما يجعل المصطلح معضلة- إن ال ّ
هي حقيقة وضعه على ماهو عليه اليوم في مختلف البلدان العربية .
ولع ّل من أبرز ما يم ّيز وضع المصطلح العلمي ما يمكن إجماله في
النقاط التالية:
-1فوضى المصطلح واضطرابه وتع ّدده من بلد إلى آخر.بل بين
مختص وآخر،وقد ال نبالغ عندما نشير إلى أن هذا االضطراب قد نجده
عند الباحث الواحد.
-2تشتت المصطلح وعدم القدرة على توحيده والضعف في عقد
الندوات المتعلقة به.
-3المحاوالت الفردية الغالبة على وضع المصطلح ،وغياب المؤسسات
والهياكل القادرة على تقنين هذه العملية،ووضع استراتيجيات عامة
وإرساء ما يس ّمى ببنوك المعلومات.
-4عدم القدرة على التفاعل والتعاون بما فيه الكفاية بين المؤسسات
القليلة القائمة بهذا األمر كالمجامع اللغوية ،وعدم القدرة على الوصول
بالمصطلح إلى ما يس ّمى بعلم المصطلح باعتباره علما ناشئا ،وعدم
االهتمام بتدريس هذا العلم والتأليف فيه.
-5القصور في فهم داللة المصطلح في معينه الحقيقي وفي مفهومه
العلمي الدقيق كما جاء في اللّسان ال ّدخل أي في لسانه األصلي ،ثم
اختالف مصادر المصطلح الواحد أو مرجعياته.
إنّ إمكانية الخروج من هذا الوضع المتردّي للمصطلح العلمي في
بالدنا العربية اليوم رهين بمحاولة تجاوز العيوب التي أشرنا إليها،
الثغرات ّ
الثقافية أو العلم ّية .وس ّد ورهين بصورة عامة بما يسمى بس ّد ّ
الثغرات ال يتم إال باألخذ بزمام العلوم والتكنولوجيا والفنون ،ومحاولة ّ
بلوغ درجة َت َم ُّثل هذه العلوم واستيعابها واإلبداع فيها ،وعدم االكتفاء
بالنقل واللهاث وراء النتاج المعرفي الوارد علينا من الغرب .وال ّتمسك
بأسباب ال ّتقدم وحدها كفيل بتطوير الطاقة التعبيرية في اللسان العربي.
إن معضلة المصطلح على ما وصفناها أو ق ّدمنا لها ليست في
الحقيقة بمعزل عن األسباب التي ذكرناها ،كما أنها ليست بمعزل أيضا
عن قضايا أخرى نظرية وتطبيقية تتعلق بالمعجم ووضع القواميس.
سابعا:وضع المعجم العربي
من المعلوم أن ك ّل لسان طبيعي يتح ّدد بنحوه من جهة وبمعجمه
من جهة أخرى.والعالقة بينهما عالقة طبيعية ال يمكن الفصل بين
طرفيها.والمعجم باعتباره المخزون المفرداتي لألفراد يمثل قدرة المتكلم
11
المستمع في لسان ما.وهذه القدرة التعبيرية عند األفراد ال بد أن ينشأ
بينها وبين ال ّتصورات الذهنية المختلفة توازن.وقد يختل هذا التوازن
كلّما حدثت هوّ ة بين هذين الطرفين.
الهوة في حدوث مفاهيم جديدة ال نجد لها ما يقابلها وتتمثل هذه ّ
الهوة كثيرا ما تحدث من مصطلحات في لسان مع ّين.وال يخفى أنّ هذه ّ
في البالد العربية .وذلك بالنظر إلى كثرة المفاهيم الواردة علينا يوميا،
بسبب المعلومات العلمية والتكنولوجية والفنية التي ال تفتأ تتزايد يوما
بعد يوم،وال نجد لها المقابالت المالئمة نتيجة الزخ م المعرفي الذي
يغزونا من جهة ونقص في الطاقة التعبيريّة من جهة ثانية.
إن القدرة ال ّتعبيرية في البالد العربية ال ب ّد أن يعكسها اللّسان
ال ُمس َتعمل.وهذا اللّسان ال ُمس َتع َمل ال ب ّد له من مواكبة العصر وعالم
المعرفة والعلوم المعاصرة.والقاموس العربي باعتباره نموذجا تطبيقيا
للمعجم العربي ال بد أن يستجيب لمتطلبات اإلنسان العربي سواء كان
صغيرا أو كبيرا،متعلّما أو غير متعلم.وكل هذا بغاية تلبية حاجيات
المستهلك والقدرة على تغطية المادة المعجمية لكل المتطلبات الحياتية.
إن القاموس le dictionnaireباعتباره صورة للمعجم العربي ال
بد أن يمثل هذا المعجم أفضل تمثيل وال بد له أن يشمل كل ما يجول
وكل ما ينقل في المجاالت المعرفية والعلمية والتكنولوجية والفنية.وكل
هذا يملي علينا إعادة النظر في طبيعة القواميس الشائعة بيننا،وذلك في
ما يتعلق بالنقاط التالية:
-1طبيعة المادة اللغوية المعتمدة :إذ ال ب ّد للقاموس في هذه
الحال أن يحتوي كل ما يع ّبرعن المتطلبات الالزمة في حياتنا المعاصرة
وفي جميع المجاالت ،وبال ّتالي على هذه المادة أن تغطي ما يمكن أن
نطلق عليه العربية المعاصرة،ومن ث ّمة ال ب ّد من تحديد هذه العربية
باالعتماد على مدوّ نة أو مدونات قائمة على حقيقة اللّسان باعتباره لسانا
طبيعيا.كما ال ب ّد من إعادة وضع قواميس حديثة تتخلّص من الكثير من
الوحدات المعجمية التي لم تعد صالحة وق ّل استعمالها أوأن فائدتها غدت
هزيلة،كما ال ب ّد لهذا القاموس أن يعكس كل المتطلّبات الحيات ّية
الهوة التي سبق أن أشرنا ّ الجديدة،ح ّتى يس ّد هذا القاموس الحديث
إليهاالمتعلّقة بالقدرة ال ّتعبيرية من جهة وتغطية التصوّ رات والمفاهيم
المستحدثة من جهة ثانية.
-2ترتيب المادة القاموسية :من المعلوم أن ترتيب القواميس
ومنذ قرون بعيدة قائم على ال ّترتيب المتعلق بالحروف األصول ،حتى
وإن اختلفت هذه القواميس في الظاهر.وهذا -وال شك -يس ّبب عسرا في
العثور على الوحدة المعجمية المطلوبة داخل القاموس ،وخاصة بالنسبة
12
إلى الناشئة أو بالنسبة إلى ذوي المستوى التعليمي المحدود .إذ ال ب ّد من
معرفة مسبقة باالشتقاق ،أي اشتقاق الكلمات التي نريد البحث عنها ،كما
ال بد من معرفة الكثير من التصاريف التي تمسّ الكلمات المعتلّة
وأصولها االفتراضية والتغ ّيرات الطارئة عليها.إنّ ترتيب القواميس
عندنا مازال يعاني االضطراب،وهو بحاجة ما ّسة إلى المراجعة
والبحث.
-3طبيعة الشروح المقدمة :إن المادة المق ّدمة في القاموس هي
بحاجة إلى شرح أو تفسير.وقد تكون هذه الغاية األساسية للقاموس.
وال ّتفسير كما هو معلوم يأخذ أشكاال عدة مختلفة ،كأن نف ّسر بالمترادف
ض د ،كما يمكن أن نفسر بالصورة أو بالرسم ،أو أ ن أو بالمقابل أو بال ّ
نف ّسر بالشاهد.والتفسير قد يكون بكلمة،أو بعبارة أو جملة أو أكثر من
ذلك.هذه التفاسير المختلفة موجودة في قواميسنا ال محالة إال أن الكثير
منها مشابه لل ّتفاسير الموجودة في القواميس القديمة،ومازال الكثير من
القواميس المعاصرة في هذا الصدد تستشهد باألمثال القديمة والشعر
القديم واآليات القرآنية والحديث النبوي.وقد يكون هذا بعيدا عن الكثير
من التصوّ رات المعاصرة والمفاهيم الحديثة.وكل هذا من شأنه أن يزيد
الهوّ ة ا ّتساعا بين اللّسان باعتباره طاقة تعبيرية والتصوّ رات العلمية
والمعرفية التي نعمل على تقريبها أو نقلها.
إن معالجة وضع القاموس العربي اليوم هي بحاجة إلى إلمام
تطور الدرس اللساني الحديث،وهي نظري بالمسائل المعجمية وبواقع ّ
بحاجة إلى الفصل بين الصناعة القاموسية la lexicographie
والمعجمية . la lexicologieوك ّل هذا بغاية أن يستجيب القاموس
العربي المنشود لمتطلبات العصر والمستج ّدات الوافدة علينا،واإلفادة من
ش ّتى العلوم والمعارف والصناعات والفنون .إن وضع القاموس العربي
في ضوء الوضع اللساني ،كما ق ّدمنا له،ليس بمعزل عن قضايا نظرية
وتطبيقية ،كما ليس بمعزل عن مسائل وتقنيات حديثة لع ّل من أبرزها
تكنولوجيات اال ّت صال واإلعالمية والترجمة اآللية والقواميس
اإللكترونية.
ثامنا:اللّسان العربي واإلعالمية
إن تكنولوجيا اإلعالمية والتق ّدم المطرد للحواسيب قد فتح مجاال
واسعا في استغالل األلسن الطبيعية والتعامل معها،من ذلك المعالجة
اآللية والترجمة اآللية والقواميس اإللكترونية كما أسفلنا القول.وال يخفى
أن هذه التقنيات الحديثة تعاملت وبشكل أساسي مع األلسن الهندية
األوربية وعلى رأسها اللّسانان اإلنكليزي والفرنسي،وذلك بحكم الهيمنة
االقتصادية والمعرفية والسياسية للدول الكبيرة التي تتخذ من هذه األلسن
13
وسيلة تبليغ واتصال .كما أن اللّسان العربي مثله مثل بقية ألسن البلدان
المُتخلّفة هو عرضة لهيمنة اللّسان األجنبي الوافد علينا عبر هذه
التكنولوجيات الحديثة واإلعالميات ووسائل االتصال.وهوبحاجة والحالة
هذه إلى ّ
تمثل المجاالت المختلفة وتطوير أساليبها باالعتماد على قدراته
الذاتية.
إنّ اإلعالمية اليوم قادرة على استيعاب التحليل اللساني ومراعاة
االنتظام في األلسن الطبيعية.وهي قادرة على تفكيك البنية اللّسانية
والوقوف على أنظمتها وقوالبها.وكل هذا مفيد في تحليل الخطاب وتأليفه
أو إعادة تأليفه.وهذا من شأنه أن يجعل الحاسوب قادرا على ال ّتصحيح
الذاتي وعلى إعطاء التراكيب السليمة،وإعطاء المترادفات،والتعرّ ف
على الوحدات المعجمية أو الكلمات،واستخراج العبارات والتراكيب
وترجمة النصوص.كما أن اآللة قادرة على تخزين المعلومات وترتيبها
وتصنيفها .ومن هذه المعلومات الرصيد المعجمي أو المفردات المتمثلة
في بعض القواميس مهما كبر حجمها،والتصرّ ف في المادة القاموسية
تبعا لمتطلبات األفراد أو االستعمال .ويكون الحاسوب في هذه الحاالت
قادرا على انتقاء الوحدات المعجمية وتقديمها في لحظات وجيزة
ومقارنة بعضها ببعض ،وتقديم التفاسير الالزمة ،وتقديم جداول
واحتماالت كثيرة معروضة لالختيار.كما يمكن له أن يق ّدم ترتيبات عدة
للمادة ومداخل كثيرة بحيث يصبح أداة ط ّيعية لالستعمال ال تقارن بأي
حال من األحوال في سرعتها وجدواها بالطرق القديمة المعروفة
وبطبيعة الوثيقة الورقية .كما يمكن للحاسوب أن يقدم المساعدة وإن
ارتكب اإلنسان خطأ في تقديم كلمة أو معلومة إذ له من القدرة أن
يصحّ ح أو أن يعالج ذلك تبعا للبرمجيات أو القواعد التي يحتفظ بها.إنّ
الحاسوب اليوم ال يهتم بالقدرة الفائقة على ال ّتخزين وحفظ األرصدة
المعرفية والمفرداتية فقط،وإنما له من القدرة على إيجاد القواميس
اإللكترونية .وتع ّد هذه القواميس ثورة في عالم المعرفة والتكنولوجيات
الحديثة.
إن المعلوماتية اليوم التي تأسست باألساس في البلدان المتقدمة
صناع ّيا ،واهتمت بالتالي باأللسن الهندية األوروبية في المقام األول،
وأخضعت هذه األلسن ذاتها للتحليل والتأليف لتع ّد بحاجة إلى دراية من
قبل العرب لتحليل لسانهم واتخاذه أداة للتحليل.إنّ تحليل اللّسان العربي
والوقوف على طبيعته أو بنيته ليس أمرا هينا ،وذلك لالختالف القائم
بينه باعتباره لسانا سام ّيا وبين األلسن الهندية األوروبية المنحدرة من
أصول التينية ويونانية .هذا اللسان العربي قد يختلف قليال أو كثيرا عن
بقية األلسن الهندية األوربية في تراكيبه وصيغه ومعجمه واشتقاقاته بل
في أصواته أيضا .وعلينا نحن العرب إيجاد خصائص هذا اللسان ال من
منظور لساني فحسب.ولكن من منظور معلوماتي أيضا .ولع ّل أبرز
14
خصائص هذا اللسان المتعلقة بالجوانب اإلعالمية ما يمكن إجماله في ما
يلي:
-1النظام األبجدي :وهو نظام أقرب إلى الجانب الصوتي منه إلى
الجانب الكتابي .ذ لك أن الحرف العربي ما هو إال صوت أو
صوتم،Phonèmeوما الكتابة العادية إال صورة لألصوات المنطوقة.
غير أن ما يمكن اعتباره عسيرا في األبجدية العربية أو في نظامها
الصوتي أو الصوتمي هو الحركات أو الصوائت باعتبارها أصواتا وإن
كانت محدودة ،وهي ال تظهر في مستوى الخ ّط أو الكتابة،وهي تق ّدم
نظاما عسيرا في التعامل مع اآللة وذلك في ما يخصّ ضبط الكلمات
والجمل وال ّنصوص.
الظاهرة اإلعرابية وإن م ّيزت ثراء ّ -2الظاهرة اإلعرابية :إنّ
اللّسان العربي وتراكيبه بالنظر إلى مجال الحرية الواسع الذي تتمتع به
الكلمات داخل التركيب سواء بال ّتقديم أو بال ّتأخير أو الحذف أو
اإلضمار،فإنها ظاهرة تع ّد عسيرة وهي بحاجة إلى حلول في مستوى
المعالجة اآللية ،ذلك أن األلسن الطبيعية التي تأسست عليها اإلعالمية
هي في األساس ألسن غير إعرابية .وظاهرة اإلعراب ظاهرة تركيبية
وظيفية قائمة على المحالّت اإلعرابية ،وهي ظاهرة داللية بهذا المعنى
ألنها تتضمن المعاني األساسية في العربية أي الفاعلية والمفعولية
واإلضافة،أي حاالت الرفع والنصب والجرّ .بيد أنها وفي اآلن نفسه
ظاهرة صوتية ألن اإلعراب والتنوين يتحقق بأصوات سواء كانت
حروفا أو حركات ،وال بد للحاسوب أن يأخذ كل هذا بعين االعتبار.
-3الطبيعة االشتقاقية للسان العربي،باعتبار االشتقاق قوّ ة توليدية
هائلة ال نجدها في أغلب األلسن الهندية األوروبية .واالشتقاق قائم
باألساس على الحروف األصول .والحروف األصول تمسّ الجانب
الصوتي والداللي كما تمسّ الجانب ال ّتصريفي المتعلّق بتصريف
الكلمات أسماء كانت أو أفعاال،وهي تمسُّ أيضا الجانب المعجمي في ما
يتعلّق بترتيب المادة المعجمية في القاموس .كل هذه المسائل المتعلقة
بطبيعة اللسان العربي باعتبارها خصائص لسانية تتم ّيز في الكثير من
باالطراد واالنتظام،تجعل اللّسان العربي لسانا طبيعيا وإن ّ حاالتها
اختلف عن الكثير من األلسن األخرى ،لسانا قابال نظريا للمعالجة اآللية
والتحليل اآللي ،وذلك بالتأسيس لنظم خاصة للمساهمة في معالجة
المنظومة العا ّمة لهذا اللّسان،وإن بدت هذه المنظومة مختلفة عن
المنظومات السائدة المتعلقة باأللسن الهندية األوروبية.إنّ العيب في
التحليل المعلوماتي بشأن العربية لعلّه يتمثل في اعتماده نظما غربية في
محاولة لتطبيقها تطبيقا آليا على اللّسان العربي ،وهذا من شأنه أن
يفرض خصائص هذه األلسن على اللّسان العربي،وإهمال بعض
15
خصائص هذا اللّسان لصالح خصائص أخرى مختلفة،من ذلك تحديد
طبيعة بنية الجملة والتراكيب والحديث عن مراتب الكلمات ومحالتها،
ومن ذلك الصيغ الصرفية وحقيقة االشتقاق القائم على الحروف
األصول وتوليد الكلمات بعضها من بعض والزيادات الحاصلة في
الكلمات،ومن ذلك أيضا المعاني النحوية والمقوالت النحوية والشبكات
الداللية الرابطة بين الكلمات.
إنّ نجاح اللّسان العربي في عالقته باإلعالمية سواء باعتباره أداة
للتحليل أو أداة قابلة للتحليل رهين اليوم بمدى استيعاب التكنولوجيات
الحديثة وعلى رأسها اإلعالمية ،والقدرة على تمثل واستيعاب هذه
التكنولوجيات وعدم تطبيقها على اللسان العربي تطبيقا آل ّيا،وإ ّنما البدّ
من ال ّنظر إلى خصائص اللّسان العربي باعتباره لسانا طبيعيا له ما
يميزه من الكثير من األلسن و له الكثير مما يربطه بالسن أخرى.وكل
هذا البغاية فهم اللّسان العربي وطبيعته فقط ،وإ ّنما بغاية المساهمة في
تطوير التكنولوجيات المعلوماتية واألنظمة المعلوماتية والتحليل
المعلوماتي أيضا.وال يتحقق كل هذا في اعتقادنا إال بتوفر شرطين
أساسين :امتالك ناصية المعلوماتية وامتالك ناصية التحليل اللساني.
هذا في ال ّنهاية أبرز وأه ّم ما يمكن أن نذكره في ما يتعلق بحقيقة
اللّسان العربي في وضعه الراهن والتحديات التي يواجهها واآلفاق
المستقبلية التي يصبو إليها .وضع لساني أبرز ما يميزه تخلفه ،وتخلفه
مرهون بالتخلف االقتصادي والمعرفي والتعليمي والتكنولوجي
واالجتماعي أيضا.تخلّف يجعلنا نتوق إلى ماهو أفضل.وهذا التوق لن
يتحقّق إالّ بإرادة سياسية ووعي جماعي وفردي مرتفع ورغبة ملحّ ة في
اللحاق بركب ال ُّدول المتق ّدمة من دون تبع ّية وال تقليد،والمساهمة في
الثقافية واستقالل األمم الحضارات الكونية والحفاظ على الهو ّيات ّ
وال ّشعوب.
16
قائم ـة المراجع:
-1العربيـــة:
* البكوش (الطيب) " :إشكاالت الفصحى والدارجة"،ضمن قضايا
اللغة العربية المعاصرة .المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
تونس .1991
* د .حجازي (محمود فهمي) :األسس اللغوية لعلم المصطلح.
مكتبة غريب .القاهرة (بدون تاريخ)
* زكري (منير)" :من قضايا اال ّتصال اللغوي"،ضمن واقع
اللغات ومستقبلها في تونس .المعهد العالي للغات .مركز النشر
الجامعي .تونس .2111
* د .السويسي (محمد)" :اللّغة العربية في مواكبة الفكر العلمي"،
ضمن قضايا اللغة العربية المعاصرة .المنظمةالعربيّة للتربية والثقافة
والعلوم .تونس .1991.
* د .عبد الواحد (عبد الحميد):
"-أثر اللهجة الدارجة في تعلّم العربية الفصحى" ،ضمن منهجية
تدريس اللغة األم بالتعليم األساسي .المعهد القومي لعلوم التربية .تونس
.1995
الطفل .لغة ّ
الطفل" .الحياة الثقافية .وزارة الثقافة " -كتاب ّ
بالجمهورية التونسية .العدد 99تونس سبتمبر.1991
" -قاموس الطفل والمستحدثات المعاصرة" .مجلة القلم السلسلة
الرّ ابعة العدد 3صفاقس .2111
" -من إشكاالت نقل المصطلح اللّساني" ،ضمن الترجمة :التنوع
اللساني والممارسة الجارية .سلسلة اللّسانيات العدد .11مركز
الدراسات والبحوث االقتصادية واالجتماعية .تونس .2111
" -نحن واللّسانيات" .مجلة القلم .السلسلة 4العدد 5اللجنة
الثقافية الجهوية .صفاقس .2111
17
" -التواصل اللساني ووسائل االتصال الحديثة" .مجلة القلم
الثقافية الجهوية صفاقس 2114السلسلة 4العددان 11و .12اللجنة ّ
و .2115
* د .نبيل(علي) :العرب وعصر المعلومات .عالم المعرفة العدد
.114الكويت .1994
* د .فيصل( شكري)" :قضايا اللغة العربية المعاصرة" ،ضمن
من قضايا اللغة العربية المعاصرة .المنظمة العربية للتربية والثقافة
والعلوم .تونس .1991
* قاسم(رياض زكي)" :اللّغة واإلعالم:بحث في العالقات
التبادل ّية".المستقبل العربي.السّنة 21العدد 324بيروت.شباط/فبراير
. 2112
* مونان (جورج) :المسائل النظرية في الترجمة .ترجمة لطفي
زيتوني .دار المنتخب العربي .بيروت لبنان .1994
-2الفرنسية:
*Jakobson, R. : « Aspects linguistiques de la traduction », in
Essais de la linguistique générale. T1.Traduction
Ruwet.N.Ed.Minuit, Paris1963.
* Kouloughli, D.E. :
- « Pour une grammaire de transfert :
Dialectes/arabe standard », in Analyses. Théories, n°2-3,
Paris1979
- « Grammaire de transfert dans le domaine
arabe », in L’arabisant, n°14, Paris1980.
18