Professional Documents
Culture Documents
مشكلة الشر 2
مشكلة الشر 2
مدير التحرير
محمد حسين الرفاعي
دَّ .
سكرتيرة التحرير
إنتزال الجبوري
كلمة التحرير
4 فريتيوف شوان الشر في العا َلم
مسألة ال ّثيوديس َّيات وضرورة ّ
حوارات
ُ
وطرق ال َت ِ ِ
19 مصطفى ملكيان عامل معها ُمشكل ُة ّ
الشر
دراسات
39 أوزجور كوجا والرومي
الشر بين ابن عربي ّ
مشكلة ّ
75 د .منذر جلوب الشر في العالم بين الضمير والمصمم الذكي
115 د .زيد الكبيسي ميتافيزيقا الشر عند سبينوزا وشوبنهاور
142 د .لؤي خزعل جبر الشر األخالقي وإنتاج الشر البشري
د .صالح الدين العامري 167 جدل ّية الثواب والعقاب مقاربة سوسيوثقافيّة
190 التطرف واإلرهاب في ضوء نظرية التنافر المعرفي زادان المرزوقي
مايكل بيترسون وزمالؤه 211 مشكلة الشر والدليل على وجود ال ّٰله؟
251 إيزابيل كابريرا هل ال ّٰله شرير؟
264 د .آرش نراقي مدخل إلى مسألة الشر ()2
307 دانيال هاوارد سنايدر والمعاناة
اإلله والشر ُ
351 اليود ستريكالند مشكلة الشر الديني؟
د .أمير عباس علي زماني 373 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
محمد حسين الرفاعي 399دَّ . الن ُّظم المعرفيَّة في إشكاليَّة إسالمية المعرفة
كلمة التحرير
يوديسيات
َّ مسألة ال ّث
الشر في العالَم
وضرورة ّ
فريتيوف شوان
1 _________________________________________________
(صدَ ى الحكمة الخالدة Echoes ُ ( ،)Heartلعبة األقنعة َ ،)The Play of Masks
(الوحدة( ،)of Perennial Wisdomمقامات الحكمة َ ،)Stations of wisdom
َج ِّلي اإلنسانالمتعالية لألديان ( ،)The transcendent unity of religionsت َ
( ،)The Transfiguration of Manكنوز البوذ ّية ،)Treasures of Buddhism
ِ
الميتافيزيقية العرفان ّية عرض في كتاباتِه
(فهم اإلسالم َ .2)Understanding Islam
(الحق) لما وراء الوجود، ِ
والوجود المطلق كالوحدة االرتقائ َّية لألديان،
ّ أفكارا َ
ً
والدِّ ين الخالد وحكمته الخالدة ،والطريق الروحي القائم على التمييز بين الحق
ت بالمريم َّية Tarīqa
والوهم ...وغير ذلك ،كما قام على تأسيس طريقة صوف ّية ُس ِّم َي ْ
Maryamiyyaلها نشاط كبير في الواليات المتحدة األمريكية حتى هذا اليوم .وافتْه
3
المن َّي ُة وهو في الواليات المتحدة عام 1998من الميالد.
[و َي ْف َع ُل ال َّل ُه َما َي َشا ُء] ( !)27 :14يتساهل كثيرون في استحضار هذا َ
الج ْزم َ
ِ
القول باستبداد اإلرادة اإلله ّية إلى حدٍّ كبير؛ في حين أنه ال يعني َّإل القرآني لتأكيد
ّ
ِ ِ
جهل اإلنسان العا ّم بدوافع تلك المشيئة ،وال س ّيما ما يتع ّلق منها بتناقضات العا َلم َ
ِ
إظهارها .يرى الالهوت ّيون ال ّل َه ال يريد الخطيئة باعتبارها المتعدِّ دة التي يقوم على
أمرا ممكنًا في العالم ،وال شيء أمرا ُي َح ِّر ُمه ،وفي نفس الوقت ،يشاؤها باعتبارها ً ً
الضطررنا إلى االعتراف ــ كما يبدو ــ يحدث ّإل وهو مراد له ومخلوق؛ وإال ُ
منع ما لم ُي ِر ْده ...حاشاه .تكمن أصل المشكلة هنا في هذا الخلط بعد ِم استطاعته َ
(اإليجادي) ،والجوهر
ّ بين الوجود وما وراء الوجود ،أو بين المبدأ األنطولوجي
ٍ
ناحية في تصور الالهوت ال ّل َه من ِ ُ
الخلط عن حقيقة ُّ فوق األنطولوجيَ .4ينتج هذا
2تَرجم هذا الكتاب إلى العرب ّية :عفيف دمشق ّية ،وصدرت عن درا اآلداب ــ بيروت ،عام 1978
ميالد َّية تحت عنوان( :كيف نفهم اإلسالم؟).
3لمزيد مطالعة عن حياة فريتيوف شوان Frithjof Schuonوفلسفته؛ ُينْ َظ ُر :فريتيوف شوان :حياته
وتعاليمه Baptiste Aymard and Patrickــ Frithjof Schuon: Life and Teachings, Jean
xii.ــ Laude, STATE UNIVERSITY OF NEW YORK PRESS 2004, ix
4إن الوجود عبارة عن ُه َّوة ال قاع لها ( The Ungrundأرض ال أرض َّية لها) كما ُي َع ّبر بوهمه
الم َج َّرد عن الصفات) ِ
،Böhmeأو هو براهمان نرجونا ( Brahma nirgunaبراهمان األعلى؛ ُ
َخدَ م في أصله مردا ًفا لجزء من الذي يقول به أصحاب فِيدانتا ( Vedantaمصطلح كان ُي ْست ْ
نصوص فيدا ( Vedasالكتاب المقدس لدى الهندوس)؛ الجزء األخير من هذه الكتابات
ناوش فويتيرف 6
منحه طبيعتَه اإلله َّية ٍ
صورة جسم َّية كما لوكان ذاتًا إنسان َّية ،ومن ناحية أخرى يبتغي َ
الذكر. الم ْست ََح َّق َة كامل ًة حتى وإن لم تتوافق ووجهة النظر سالفة ِّ ُ
ينزع في أصله إلى أن الخ ِّي َر ِ اعتما ًدا على صياغة أوغسطينوس للمشكلة؛ ِمن َّ
فإن إراد َة الجوهر باعتبار النهائ َّية طالقته؛ تعني إشعا َعه االتِّصال بذاته مع ذاتهَّ ،
أن يكون تكشف العا َلم إذن ْ الخاص الذي ينتج عنه العا َلم في ُك ِّل َيتِه بالضرورة .يعني ُّ ّ
إظهار اإلرادة ْ
أن يشا َء اإلل ُه ٍ
بطريقة يعني فيها البعد عن مصدره؛ ِ ُمت ََض َّمنًا في مسألة
ُ
ِ َوج ٍه مباشر؛ خو ًفا من ِ
المخاطرة جزا ًء ت ََرتُّبِ ًّيا؛ وهو ما ِّ
يسميه أحدُ نا َش ًّرا ضمنًا ودون ت ُّ
وبالرغم من ذلك، الجزاءات بنفسها في العالمّ .ُ بعدم إرادة اإلشعاع ،أو أن تستعلن
ُحرم الخطايا ــ األخالقي ــ ومن أجل ذلك ت ِّّ ّ
فإن اإلرادة اإلله ّية التي تشا ُء الخير
نفسها تلك اإلرادة التي تشاء العا َلم ،إذ إرادة ما وراء الوجود ،أو الجوهر ليست َ
كانت ُم ِمدَّ ًة لما
ْ تشاء العا َلم في نفسه ،في حين ّ
أن إرادة الوجود ــ أكثر نسب ًّي ًة ْ
وإن
وراءها من وجود ــ تستلزم العا َل َم و ُت ْع ِل ُن عن نفسها في إطاره فحسب .وبتعبير آخر؛
الخير في صورة إشعاع ،أو ظهور ،أو َعا َل ٍم ما ،في حين ّ
أن َ يشتهي ما وراء الوجود
اإللهي ،فمن
ّ الخير مشاركًا األشيا َء في الخير
ُ نفسه ال يرغب ّإل أن يكون الوجو َد َ
أن متابعةظاهرا به ،في حين ّ
ً الخير األسمى
ُ الناحية األولى؛ يظهر العا َل ُم ً
خيرا ما دا َم
خيرا في ذاتها إال إذاطبيعي ــ ال تكون ًّ أي ناموس ،أو صواب الشرائع اإلله ّية ــ أو ّ
ِ
الحالة أتاحت لنا المشارك َة الفعل ّية في هذا الخير األسمى .تتأكَّد اإلرادة اإلله َّية في
ْ
ٍ المايا ( Mâyâلها عدّ ة
معان في الفلسفة األولى عن طريق اإلشعاع األنطولوجي أو َ
السحر) ،أ ّما في الحالة الثانية ،فإنها تتأكّد عن طريق الناموس،
الهند ّية؛ منها الوهم أو ِّ
أنفسنا قائلين بحضور شخص َّيتَين إله َّيتَين؛ تتع َّلق
أو الشريعة ،أو الوحي؛ وبذلك نجد َ
األولى منهما بالطالقة ،وتتحدَّ د األخرى بالنسب ّية ،وعلى الرغم من تطابقهما باطن ًّيا
ظهورا
ً متمايز ْي ِن ،ولهذا يظهر الممكن بهما
َ أنهما َّ
يتكشفان بذاتهما في طريقين إال َّ
ب من السببّعج ِ َ
مجال مطل ًقا للت ُّ متضا ًّدا .إنه وبظهور المسألة على هذا النحو ،فال
ِ
للتساؤل الذي من ورائه يريد ال ّل ُه هذا الخير أو ذاك ،وبصورة أحرى؛ ال مجال ً
أيضا
عن إرادته الخطيئ َة في هذا العا َلم مع تحريمه إ َّياها.
وصف العالم بالخير َّية إذا ما اعتُبِ َر ك ًُّل واحدً ا ،وبقدر ما ُي ْظ ِه ُر ال ّل َه فيه! إن العا َلم ُي َ
يتضمن جز ًء ُم َعانِدً ا له في بعض جوانبه! َّ مظاهر اإلله إال أنهِ وإن كان َم ْظ َه ًرا من
ْ
يأخذ هذا الجز ُء وجو َده في االعتبار ،وما دام كونُه ليس منعد ًما ،فهو يحاول منازع َة
نفسه ،أو النّزوع إلى التَّساوي به! والستحالة هذا األمرّ ،
فإن الظواهر الوجود اإللهي ِ
ِ
ّ
ف باألفول وانعدام البقاء ،فهي باطل يتهادى جميعها ــ من ضمنها العا َلم نفسه ــ تت َِّص ُ
يتقارب سهم ُمنْ َط ِلق نحو
ُ ٍ
بحال إال كما دائما ،وال يمكنها ُم َق َار َبة األلوه ّية ويتهاوى ً
الشمس يريد النَّ ْي َل منها.
َّ
***
ٍ
بحال من أي نظرية للعدالة اإلله َّية
يرى إبيقور وأتباعه عد َم إمكان القول بصواب ّية ّ
ٍ
ألسباب َأ ْو َر ُدوها ،إذ يقولون إن ال ّله: األحوال
قادرا على َم ْح ِو الشر ،لكنه ال يستطيع ،وفي هذه الحالة ال يكون
1ـ 1إ َّما أن يكون ً
قادرا.
ً
وإن قادرا على ِ
محوه ،لكنّه ال يريد ذلك ،وبهذا ال يكون خ ِّي ًرا ْ 2ـ 2وإما أن يكون ً
قادرا.
كان ً
محوه أو ال يقدر عليه ،وفي هذه الحالة ال يمكن اتِّصافه بالقدرة
3ـ 3وإما أنه ال يريد َ
المطلقة أو الخير ّية.
قادرا ومريدً ا لمحوه ،لكن في هذه الحالة ينبغي للشر ّأل يوجد،
4ـ 4وإما أن يكون ً
لكنه ال يزال موجو ًدا في العالم!
ٍ
أفكار كـ«الشر» ،و«اإلرادة» ،و«القدرة» اإلبيقوري في حديثه عن
ُّ ُ
العقل يعتمد
على الغموض! بادئ ذي بدء علينا القول َّ
بأن صفتي اإلرادة والقدرة ــ باعتبارهما
أن ال ّله ال يمكنه
تأصلتان باط َن الطبيعة اإلله َّية؛ ما يعني َّ
ُمطلقتَين غير متناهيتَين ــ ُم ِّ
أي شيء
بحال ــ تحت وطأة قانون التناقض ــ أن يفعل ما ُيناقض طبيعتَه ،أو أن يريد َّ
ناوش فويتيرف 8
ٍ
بمكان ف يناقضها ،وإال كان األمر عب ًثا برمتِه .يستحيل األمر ،ألنه سيكون من الس ْخ ِ
ُّ ُ ُ َّ ُ
إلها ،أو أن يكون مطل ًقا متناه ًيا ،أو ّأل
أن تكون ل ّله قدر ٌة أن يكون شي ًئا آخر غير كونه ً
يكون على اإلطالق! إن قدرة ال ّله ال تتع َّلق بما يقع خارج نطاق قانون العا َلم ،فهو
ُلي القدرة إذا ما تع َّلق األمر بالعا َلم ،وما فيه من مخلوقات أو تمظهرات لوجودهك ُّ
اإللهي نفسه ،فهو
ّ اإللهي .تصير القدر ُة المطلقة عاجز ًة إذا ما ُس ِّل َط ْت على الوجود
ّ
ِ
صاحبها و ُم ْصد ُرها وليس العكس.
إن الطالق َة التي هي جانب من جوانب الطبيعة اإلله َّية تنطوي على إمكان غير َّ
الحديث عن العا َلم
َ والتكشف ،وعلى العا َلم تب ًعا لذلكّ .
إن ُّ محدود ،وعلى النسبية،
الشر
حديث عن االنفصال عن المبدأ ،والحديث عن االنفصال حديث عن إمكان ّ ٌ
شرا؛ يظهر ــ من هذه الزاوية ــ كنتيجة غير مباشرةإن ما نسميه ًّ ووجوبه في العا َلمّ .
شك .ال يمكن ل ّله ــ بخصوص هذا األمر ــ أن يكون ِ
والطبيعة اإللهية بال ّ للطالقة،
شرا فيما يتع ّلق بهذا األمر ــ بهذا األمر
الشر عن كونه ًّ
راغ ًبا في قمعها ،وإال ينتهي ُّ
صورة غير مباشرة لجانب يكتنفه ٍ ظهورا ينأى بنفسه في فحسب ــ ؛ كونه ليس ّإل
ً
الغموض من الطبيعة اإلله ّية ،وبالتحديد ما يتع َّلق بطالقته وإمكاناته جميعها.
ُ
إن الالنهائ َّية ينتج عنها اإلمكان ،كما ينتج عن اإلمكان نسب ّي ٌةأيضا ّ ٍ
لقائل ْ
أن يقول ً
تحتاج الصف ُة أنطولوج ًّيا إلى أن
ُ تتضمن داخلها معنى ما يمكن تسميتُه مبد َأ التَّبا ُين.
َّ
تتباي َن بالقدر الذي تظهر فيه نسب َّي ًة ،وال يكون تبا ُينُها جوهر ًّيا ،لكن بصورة َع َر ِّض َّية؛
أن صف ًة شك َّ الخاص ،وال سيما حدوثها في هذا العا َلم .وال َّ ّ ً
أخذا في االعتبار نمطها
أن تتط َّلب أو تؤ َّدي إلى مقابلة حصر ّية لل ّظهور بجميع درجاتهنسب َّية أو حادثة ال ُبدّ ْ
وشره ،وخطيئتُه.
الخاص في درجتهُّ ،ّ الوجود ّية الممكنة؛ ما ينتج عن ذلك َخ َل ُل ُه
ِّسبي ليس َّإل مقارب ًة واحدة
انتقال بالمستحيل إلى ح ِّيز اإلمكان ،فالخير الن ّ ً ُي َم ِّث ُل ُّ
الشر
من المقاربات الممكنة للمستحيل ،ف َيت ََأتَّى عن طريق هذا اإلمكان واالستحالة في
َح ُّق َق لالستحالة في الخارج إال عن طريق اإلمكان فحسب ِ
مزيجهما ال َّتنَا ُقض ّي ــ ال ت َ
الحدوث أو النسب َّية .لقد كان في إمكاني اختزال ما هو ُم َع َّقد وجريء ،لكن يصعب ُ ــ
ذلك ما دمنا وصلنا إلى هذه المرحلة من البحث.
َخ ُلص من عدم قدرة ال ّله على إزالة ّ
الشر وهو في طور اإلمكان إلى القول إنّنا ن ْ
9 ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم
د مَلاعلا يف ّرشلا
أن تأتلف اإلراد ُة اإللهية والقدر ُة المطلقة م ًعا؛ ما يستتبع انعدا َم قدرتها علىثان ًياْ :
ِ
مصدر َم َلكَاتها ووظائفها في العالم. معارضة الطبيعة اإللهية؛
ٍ شرا إال بالقدر الذي ُين ِ
بصورة مباشرة، َاوئ فيه الطبيع َة اإلله َّية ثال ًثا :ألَّ ُي َعد ُّ
الشر ًّ
ُ
االنفصال أو وليس بالقدر الذي يصدر فيه عنها بصورة غير مباشرة كوسيلة يتأتَّى بها
بالضرورة. اإللهي الكامل ،ومن َث َّم عن الالنهائ َّية ذاتها ّ ّ الصادران عن اإلمكان التنو ُع ّ
ّ
حسبوا مصلحتَهم تكمن في عدم اإليمان ٍ
بإله بحماس من ِ ٍ َ
استدالل إبيقور لم يتب َّن
اإليحائي لحالة من التنويمٍ أيضا أولئك الذين أس َل ُموا قيا َد أنفسهم تحمس له ً
ّ فقط ،لكن َّ
الميتاقيزيقي ــ
ّ ُ
العقل بـ«الواقعي» ،و«الملموس» .يرى ّ ِ
باعتبارهم ما ُي َس َّمى في العا َلم
مما يمكن ٍ
ودالالت ّ ٍ من وجهة نظره ــ العا َل َم المنظور محتو ًيا على
أقل بكثير ّ إفصاحات
استدالل إبيقور ً
مثال تُراث ًّيا لما ُ إدراكُه اعتما ًدا على العا َلم المحجوب المتعاليُ .ي َعدُّ
اعتبار للمعلومات ٍ يمكن تسميتُه عمل َّية منطق َّية تعمل بصورة ال تشوبها شائبة ،لكن دون
الشر ،لكنهم يعجزون عن إدراك أنّه ــ بحكم التي يتط َّلبها محتواها! إنهم يتحدثون عن ِّ
ٍ ٍ
جهة أخرى ،إذ جهة واحدة فحسب ،وليس كذلك من شرا منتعريفه ــ ليس َّإل ًّ
وقتوأن الشر لم يكن جوهرا في ٍ وجود الشر المطلقَّ ، ِ ّضحت لنا بداي ًة حقيق ُة انعدامْ ات
ً
أن ال ّل َه لكونه مطل ًقا، عجز عن فه ِم َّ ٍ من األوقات .إنّهم يتحدثون عن ال ّله ،لكنهم في
ناوش فويتيرف 10
ِ
باعتبار بالضرورة عناصر ُتن ِ
َاقضه َ تتضمن َّّ ٍ
ظهور فإنه ُي ْض ِم ُر في طبيعته اإلله َّية إراد َة
الغامر .إنهم يتحدَّ ثون عن القدرة اإللهية ،واإلرادة اإللهية ،لكنهم يعجزونِ التناهيه
أن الطبيع َة اإلله َّية هي الفاعلة ،فال يمكن بحال أن تكون منفعل ًة بشيء؛ ما ِ
إدراك َّ عن
الص َفتين (القدرة ،واإلرادة) .وعلى الرغم من كونهما ُم ْط َل َق َت ْي ِن يمكن معه اعتبار هاتين ِّ
باعتبار الحدوث في العا َلم وال يتعدَّ ِ
يان ِ باعتبار الالمحدودي ِة اإللهية ،إال أنَّهما م َقيدت ِ
َان ِ
ُ َّ َّ َّ
ذروتَهما ،إذ تحدُّ هما الطالق ُة اإلله ّية ،فال إرادة وال قوة تعلو فوقها أبدً ا.
بأن كان ل ّله مطلق الحرية في خلق العا َلم ،لكن ال يقول الهوتي ال محال َة ْ
ّ ُي َس ِّلم ُّ
كل
إلها ،أو َّأل يكون على اإلطالق! حر في َّأل يتَّصف بالحر ّية ،أو َّأل يكون ً أحدٌ بأنّه ّ
أساسا
ً وتهور تتع َّلق ُبر َّمتِها
ومن َث َّم ،فإن مشكلة الثيوديسيا التي عالجها إبيقور بصرامة ُّ
بمسألة الطبيعة اإلله ّية التي يمكن وص ُفها بلغة جوهر َّية خصائص َّية بال َّطالقة والالتناهي.
***
الشر ُمالز ًما ضرور ًّيا للخير ،وعلى مثل هذا النّحو ينحو اليبنتز
َّ ترى الرواق ّي ُة
كامل في صورته الكل ّية ْ
وإن كانت عناصره تعاني من النّقص. ،Leibnizفيرى العا َلم ً
5
األخالقي في العا َلم ألنه ال يمكن أن تكون للعا َلم فضيل ٌة دونه.ّ أجاز ال ّل ُه َّ
الشر لقد َ
الشر ُمن َْح ِص ًرا
الدور الذي يؤ ّديه ُّ
َ يشيع هذا الرأي في حقيقته بين الالهوت ّيين ،إذ يرون
ِ
وجها غيرً تعاونه مع الخير المخلوق ،ومن َث َّم ال يكون ُّ
الشر شي ًئا أكثر من كونه في ُ
الحجة على مبدأ التّبا ُين الذي أشرنا إليه سال ًفا؛
ّ مباشر من وجوه الخير .تعتمد هذه
ٍ
درجة ب وجو ُد الخير وجو َد عنصر آخر ُيغايره في وال يتح َّقق هذا المبدأ ّإل إذا تط َّل َ
داخلي
ّ يصير التّح ُق ُق بها نسب ًّيا؛ ما يجعل المسألة هنا في أصلها تتع ّلق بالكالم عن قانون
للنسب ّية.
الكون بأسره ،إذ يقوم ُّ
كل ما هو ُ يرى أفالطون «الما َّدة» مبد ًأ ينهار عند قدميه
َّخ ُّثر العا ّمُ .ت َع ِّبر المسيحي ُة عن ما َّدة أفالطون
مركزي تؤ ِّدي إلى الت َ قوة ٍ
طرد ِحسي بدور ِ
ٍّ ِّ ّ
تصور
5بالنّسبة إلى «أفضل العوالم الممكنة» الذي يقول به اليبنتز ،Leibnizفإنّه ال يمكن في الحقيقة ّ
ِ
باعتبار ُك ّل َيته، إن العا َلم ُ
الم َعاش هو األفضل مبدأ األفضل ّية هذا ما دام يتالشى في طالقة الالنهائ ّيةّ .
ّ
وحقيقة وجوده ذاته ،وبهذا االعتبار ليس إال؛ ما يعني أن مثل هذا التقدير منعد ًما عن المعنى ،ألنه
يقفز على المسألة ً
قول بخير ّية الوجود كنتيجة بده ّية.
11 ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم
د مَلاعلا يف ّرشلا
الش ِ
الشر ك َّله في ِّ
رك، بـ«الجسد» مصحو ًبا بال ّلذة ،في حين يرى اإلسال ُم واليهودية كذلك َّ
6
وعبادة األصنام ،والعصيان ،انتها ًء بأي ثنائ َّي ٍة مع ال ّله؛ ال نرى في أصولها األنطولوج ّية
األمر ذاتُه على «ما َّدة» أفالطون ،و«جسد»
ُ نسميه خطيئ ًة .ينطبق ٍ
تقدير ــ ما ِّ ــ على ِّ
أقل
الخاص؛ الجسم ّية وال ّت ْطويب
ّ أصل ْي ِه َما
آثارهما النتهينا إلى ْ
المسيح ِّيين ،إذ لو تابعنا َ
(نسبة إلى كلمة «طوبى» التي كان المسيح يبدأ بها عباراته في «عظة الجبل»).
أخيرا؛ ً الشر
ِّ مصدرا لما نطلق عليه ُم َس َّمى
ً المطلق
َ يرى أفلوطين الموجو َد
اد َر عن المطلق والذي يتخ َّلق عنه العا َلم عبارة عن خليط أن الموجود الص ِ
بمعنى َّ
َ َّ
ِ
العارم ،أو هذا الصدور؛ وبالتَّالي يصير ُمه َّي ًأ من اإلمكان يتس َّبب في هذا الفيض
الهابط للعا َلم .يصدر عن هذا الموجود
َ ّنوع
السقوط التي ُتك َِّون الت َ
لكل أشكال ّ ّ
ُ
الحرمان بصورة غير مباشرة ،ليس المبدع ــ
اإللهي األدنى ،أو ُ
ّ الصادر ــ المبدأ
َّ
األول ،لكن على العكس من ذلك ،إذ يتق َّيد بنفسه ويتحدَّ د
بمقدار صدور الموجود ّ
ثم يشغل جان ًبا ه ِّينًا من
بمقدار ما يصدر عن الموجود المطلق أو ما وراءه ،ومن َّ
الواقعي.
ّ العالم
األمراض الطبيع َّي ُة ِّ
بكل ُ شرا أخالق ًّيا فوق ِّ
كل شيء؛ تترتب عنه يتصور أوريجانوس ًّ
َّ
عوالم الطبيعة جمي ُعها مع هبوط اإلنسان وسقوطه. ُ تهاوت
ْ مستوياتها على الحقيقة ،إذ
الحرة التي ُمنِ َحها
الشر على أنه سوء استخدام اإلنسان إلرادته ّ مصدر ّ َ أوريجانوس
ُ يفهم
إن ال ّله يتمت َُّع بحر َّية اإلرادة ٍ
لمعترض أن يقول ّ قصد ّأل يشابه اإلله في ال َّث َبات والصمد َّية.
فإن أساء قطْ ، من قبل اإلنسان وهو في طبيعته أفضل منه ،لكنَّه لم ُي ِسئ استخدا َمها ّ
وألن ِع َّل َة الشر
ّ ألن طبيعته ال تتناسب وما ُأ ْعطِ َي إليه،ب ،فذلك ّ ِ ُ
اإلنسان استخدا َم ما ُوه َ
الحر َّية في ذاتها لكنّها قابل َّية الفساد بال َّطبعِ .على ٍّ
كل ،تتمتّع ُح َّج ُة أوريجانوس ليست ِّ
ِ
الخلق على الشر عن طريق القول بانطواء بنوع من الجدارة؛ كونها تتحاشى معضلة ّ
فإن المذهب األخالقي لدى أرسطوطاليس القائل بالوسط االعتباري الواقع 6خال ًفا للرأي السائد هناّ ،
ً
مسؤول تما ًما عن النّزعة العلمان ّية البرجوازية بين رذيل َت ْي ِن ،لم يكن دعو ًة إلى االعتدال ،بل ولم يكن
كل ،يجب التمييز بين هذا المذهب األخالقي والمذهب الذي يقول التي ربما كانت سب ًبا فيها .على ٍّ
ِ
باعتبار إيمانها بالتَّضحية ــ في حين أنّ به المسيح ّيون ،إذ ترى المسيح ّية في األخالق وسيلة روح َّية ــ
روحي ال وسيلة َع َر ِض َّية.
ٌّ ٌ
أصل األخالقي لدى اليونان ِّيين والشرق ِّيين على حدّ سواء
ّ ّوازن
الت ُ
ناوش فويتيرف 12
الممكنات بين القديم والحادث ،أو بين
ُ ٍ
نقص تس َّب َب ْت فيه الضرور ُة الميتافيزيق َّية .تتر َّد ُد
نحو تسلسله وانحداره. َ االختيار عن طريق قوة م ِ ِ
الكون َ حف َز ًة تدفع ّ ُ الحق والوهم عند ِّ
تنوع المخلوقات واختالفها درج ًة ناجما عن ّ
ً الشر
األكويني َّ
ّ يرى القدِّ يس توما
ِ
العالمي في ك ِّل َّيته ً
دورا تعويض ًيا؛ من خالله ّ فيما بينها من صفات حيث يؤ ِّدي النِّظا ُم
ّسامح مع وجود الشر ممكنًا .تعني األمراض الجسد ّية ــ على سبيل المثال ــ ُ يصير الت
نقصا متع ِّل ًقا
األخالقي كذلك ً
ُّ نقصا وجود ًّيا ُم َت َع ِّل ًقا بجوهر المخلوقات ،ويعني ُ
الشر ً
ِ
الم ْفسدة لفكرة بممارسات اإلنسان في العا َلم .وحتى يتحاشى
األكويني ثنو َّي َة ماني ُ
ُّ
للشر في العا َلم ،إذ ليس
ّ اإليجادي
ّ الخير األعلى ،فإنه ُي َض ِّمن نظر َّيته انعدا َم السبب
من ِع َّلة مباشرة له في حقيقة أمره؛ ما يعني عدم إمكان ّية فهمه دون الخير إذ يتل َّبسه
الشر معدو ًما في ذاته وإن كان له وجود،
حار ًما إ َّياه من صفة جزئ َّية بعينها؛ وبهذا يكون ُّ
ِ
باعتبار النظر إلى ك ِّل َّية العا َلم وبسببها .بالعودة إلى صياغة خيرا
وبلغة أخرى؛ يكون ً
شرا ــ للشر سب ًبا ــ ليس بقدر كونه ًّ بأن ّ أوغسطينوس المذكورة في البداية؛ يمكن القول ّ
ِ
ب العالم ،إذ يتط َّل ُ
ُ َّعرف يصدر يتعرف بذاته ،وبهذا الت ُّ وهو حاجة الخير ال َباطنَة إلى أن َّ
ِّجاه ْي ِن ُم ْخت َِل َف ْي ِن أفق ًّيا و َع ْر ِض ًّيا؛ ما
األول نو ًعا من التَّبا ُين في ات َ
فيضه عن ّ صدوره ،أو ُ
ُ
شرا في عالمنا.
نسميه ًّ
الوجودي؛ وهو ما ِّ
ّ يستلزم عنه أنما ًطا من النَّقص
***
سواء تحدَّ ثنا عن «الما َّدة» ،أو «الجسد» ،أو إساءة استخدام «حر َّية اإلرادة»َّ ،
فإن
الع َّل ِة المطلقة؛ أعني َشك ِ
ْت Shakti بمسألة اإلمكان من وجهة نظر ِ
ِ المسألة بر َّمتِها تتع َّلق
ُ
قوة َأت َْمان ( Ātmanالنّفس ،أو َّ
الذات الدَّ اخل َّية) المتطابقة مع (القدرة أو الطاقة) ،أو ّ
يبشركانت أو كون َّية .وهو ما ِّْ ثم جميع الممارسات في العالم فرد َّي ًة النِّسب َّية ،ومن َّ
ِ
بعض الهندوس المثال ِّيين ب َق ْولة «الخطيئة هي األَنَا »ego؛ ما يرفع عنهم الحرج به ُ
ريحا .بهذا ٍ
أي خيار ال يكون ُم ً الموضوعي ،أو ّ
ّ محاولة للتّمييز بأي
بالمناسبة من القول ِّ
اخلة المعنى ،تصير األَنَا مش َّت َّق ًة عن الذات اإللهية ليس فقط مباشر ًة وإِ ْن بصورة مدَ ِ
ُ ّ ُ
ِ
حيث ُيط َّل علينا ً
وارتحال عنها ُ ً
انفصال و ُم َماثِلة كذلك ،لكن بطريقة غير مباشرة ً
أيضا؛
وظهورا ،وحيث ُت ْف ِص ُح عن نفسها ما يمكن تسميتُه لوسيفر ّية ً تكش ًفا
الشر/الخطيئة ُّ ُّ
أن األنا ،والما ّدة، ِ
أردت .وعلى الرغم من اعتبارنا هذا الجانب ّإل ّ َ إنْ Luciferianism
13 ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم
د مَلاعلا يف ّرشلا
يتضمن
ّ الرأي في صورته التَّشبيه َّية غير مقبول الدّ عوى ،إال أنّه اإلله َّية .ورغم كون هذا ّ
باعتبار الحدّ الذي تشير فيه إلى َأ ُبوكَات َْست َِاسيس Apocatastasis
ِ داخله جدار ًة ميتافيزيق َّية
الشر مرة
ب ُّ (االستعادة الكل َّية ،أو الرجوع إلى الحالة األصل ّية أو األول ّية) ُ
حيث ُي ْست َْو َع ُ
خالصا.
ً نورا
األصلي والمحايد؛ وتستحيل النار والظلمة ً
ّ أخرى في جوهره
حرا في عدم خلق عا َلم بعينه، تلخيصا لما سبق؛ تعني الحر ّي ُة اإلله ّي ُة أن يكون ال ّل ُه ًّ
ً
الحر َّي َة اإلله َّية المتع ِّلقة بالوجود
أن ِّ الخلق بإطالق؛ ما يعني ّ ِ حرا في عدم
ال أن يكون ًّ
العالم
َ بالص َفات} )Saguna brahmanتسلك في ساجنا {براهمان ُم َق َّيدً ا ِّ
(براهمان ُ
على طريقة األنماط والصور في تَم ْظهر ٍ
ات عالم َّية ،فال تتأ َّثر بذلك مبادئُه السرمد َّية. َ َُ
الشر ،إذ الشر في ذاته جزاء ول ّله إرادة وقدرة على محو ٍّ
7
ذات ِّ يمحو َ
َ شر بعينه ،ال أن
تمظهرات العا َلم النّاتجة
ُ ضروري مترتِّب على عمل َّية الفيض الكامل الذي تتط َّل ُبهّ
األمر بالجوهرّ ،
فإن سؤال ُ اإللهي .وإذا ما تع َّلق
ّ أيضا عن طالقة الجوهر بالضرورة ً
نفسها من
الشر على وجه الخصوص ،ال تفرض َ اإللهي وما يتع َّلق منها بمسألة ّ ّ الت ُّ
َّكشف
لباطن المطلق ،إذ لم يكن الحلم العالمي 8في ٍ
حال من األحوال ِ اله َّو ِة ال َي ِق َظة ِ
وجهة ِ
نظر ُ
ٍ
جديد إلى الجوهر على اإلطالق. متع ِّل ًقا بالحادث مهما ْ
كانت صفته ،فال يمكنه إضافة
ٍ
لمجادل أن ينافح عن كون الحادث ال شيء دون الجوهر ،أو أنه وعلى الرغم من ذلك؛
ٍ
بصورة من الصور ،أو لع ّله في أهون الحاالت يفرض سلطانه على يتداخل في حقيقته
الواقع؛ ويناظر فيه طبائ َعه وإمكاناتِه.
***
حجة ميتافيزيق ّية ممكنه ،فإنها لن
غني عن البيان أنّه حتى وإن أتينا بأفضل ّ
وما هو ّ
تكون قادر ًة على إقناعنا أبدً ا ما دمنا ال نلمس آثارها في دواخلنا ،وال نُصغي بآذاننا إلى
َ
وإشعال الجذوة الكامنة في ما ترمي إليه ،إذ تبتغي إيقا َظنا من ُّ
الس َبات الذي نحياه،
أصل أرواحنا! نرى هذا اليقين يستعلن وحده بصورة فعل ّية لدى البعض ،لكنه ُّ
يظل ِ
9فالحديث عن «الوجود» حديث عن «الروح» و«التّطويب» في حقيقة األمر ،بل ُي ْستَد َعى معنى
«التّطويب» تزامنًا مع ٍ
معان أخرى كـ«الخير» ،و«الجمال» ،و«الرحمة».
17 ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم
د مَلاعلا يف ّرشلا
المت َِّنورين
المقدّ س ،فيشمل بذلك مستوى الغنوسيس ( Gnosisالمعرفة الروح ّية لدى ُ
قبول اإليمان بال َّطبع ُم َج َّر َد اإلقرار شعور ًّيا وطواعي ًة ،لكنّه ً
أيضا روح ًّيا) ،إذ ال يعني ُ
مآالت أن نعرف معرف َة َم ْن رأى ،وإدراك أنَّه تعا َلى ِ ِ
طالقة اليقين عقل ًّيا ،ودراية ت َْو ِش َي ُة
مجرد فهم ،فهو أكثر من ّ
اإليمان بهذا المعنى َ ُ يرانا من حيث ال نراه وال ندركه .10يكون
أردت القول ــ ُب ْعدٌ آخر ُمت َِّصف بوفرة الفهم وانبساطِه .إنّه ال ُبعد ا ّلذي ُيتيح للوعي َ ــ إن
المفهومي ــ أن يصبح
ّ ال َبدَ ِه ّي التأ ُم ِّل ّي ــ وإن كان كاف ًيا بالتَّأكيد بالنِّسبة إلى المعيار
أن نالحظ فقدان العديد من جنب وما يصاحب ذلك من َمنْع َو َمنْح .لنا ْ ٍ فاعل جن ًبا إلى ً
أهميتها فعل َّيا وذات ًّيا فيما يتع ّلق
كثيرا من ّ
التّأويالت العقائد ّية ــ في باب الثيوديس َّيات ــ ً
بحدْ س الجوهر ،إذ نحوز بهذا الحدس قدر ًة على فتح قوسين نضع بينهما عديدً ا من
األسئلة التي ال نجيب عنها إال بالتَّخ ُّيل واالفتراض ،وبتعبير آخر؛ نضع بينهما أسئل ًة ال
األمر لدى من َت َع ّرفوا إن ٍ
بإجابات تفصيل َّية لها ،فنقوم على إجمالها في المبدأّ . نظفر
َ
ِ
معرفة انتهاؤهم إلى
ُ على ال ّله َط ْل َق الخير ّية ــ على ّ
الرغم من وعيهم بالشر كما يظهر ــ
للش ِّر أن يقول الكلم َة األخير َة في العا َلم ،وإلى ضرورة أن تظهر له ِع َّلة تتماشى
أن ليس ّ ْ
والخير ّية اإلله ّية المطلقة؛ 11ينتهون إلى هذا اليقين حتى وإن كانوا ال يعرفون شي ًئا عن
الع َّلة! إذ مهما كانت الدَّ رجة التي يمكن أن يكون عليها اعتقادنا من جهة العلم أوهذه ِ
ٍ
للسقوط في األرض .من وأخالقي ما كان إال نتيج ًة ّ ّ إرادي
ّ كمال الذكاء الذي ُش ِّو َه من 10ما َح ُر َم على ّ
ناحية موضوع ّية ،نرى ال َّت َع ُّق َل وحده كاف ًيا بذاته ،لكن ألنّنا ذوات ُم َش َّخ َصة ،أو عوالم ُم َص َّغرة ،فال ُبدّ ٍ
ُخ َر ُب،الموضوعي عن الفناء والهالك ،إذ «ك ُُّل َم ْم َلك ٍَة ُمنْ َق ِس َم ٍة َع َلى َذاتِ َها ت ْ
ّ أن نتأقلم تما ًما مع علمنا
ت ُمنْ َق ِس ٍم َع َلى َذاته الَ َي ْث ُب ُت» (متى .)25 :12
ِ ِ وك ُُّل م ِدين ٍَة َأو بي ٍ
ْ َْ َ َ
مماّطويبات (تسع عبارات قالها المسيح في «عظة الجبل»؛ كل منها تبدأ بكلمة طوبى) َّ ُ 11تتأ َّلف الت
(السعادة لدى البوذ ّية ،وهي في أصلها اسم واحد من لق عليه باللغة السنسكريت ّية أناندا ّ Ânanda ُي ْط ُ
اإلنسان على تسميته ُ تالمذة بوذا األساس ِّيين) .وللتّطويب سلطته فوق المخلوقات فهو ما اصطلح
أن العا َلم كل ح َّب ٍة غذائ َّي ٍة صغيرة ،فإنهم يعنون ّ أن بوذا كامن في ِّ بالخير ّية .عندما يقول البوذ ُّيون ّ
حالة سامسارا ( Samsâraدورة الميالد ،واالنحالل والموت؛ تشارك فيها يتد َّفق باستمرار ،وأنّه في ِ
ٍ
بوجه من الوجوه ــ مع التّطويب، هرب منها إال من خالل االستنارة) التي تتآلف ــ اإلنسانية ك ّلها ،وال َ
المتكرر)؛ ماِّ ّحرر اإلنساني من سامسارا ،Samsâraوالتّخ ُّلص من الميالد أو نيرفانا ( Nirvanaالت ُّ
أخيرا ّأن سامسارا Samsâraفي حقيقتها ليست شي ًئا غير نيرفانا Nirvana يجعلنا ننتهي إلى القول ً
هندوسي يعني
ّ تم ُاز ِج القديم مع َد َراما ( Dharmaمصلح أيضا على َ على وجه التّأكيد ،وهو ما يد ّلنا ً
ِ
اخلي في الطبيعة ،وترتيب الحياة اإلنسانية وف ًقا لهذا النّظام) الحوادث في العا َلم. الخفي والدّ النّظام
ّ ّ
ناوش فويتيرف 18
قهره في دواخلنا؛ وال
فإن أجدى وسيلة لفهم الحدود الميتافيزيق ّية للشر هي ُ الجهلّ ،
اإللهي
ّ ِ
حدس الجوهر نتمكَّن من هذا األمر ــ على وجه التّحديد ــ ّإل اعتما ًدا على
المتناغم مع الخير الالمتناهي.
***
الشر ديالكتيك ًّيا
ّ إن القادر على حدس المطلق ــ ذلك ا ّلذي ال يعالج مشكلة ّ
ّخ ُّلص من سمومها ــ َي ِعي ــ بطبيعة (جدل ًّيا) ،بل يضعها بين قوسين على طريقة الت َ
بصورة ال يمكنه فيها أن يرى الحوادث ٍ الحال ــ طبيع َة العالقة بين القديم والحادث
خارج ًة عن القديم .يتّصف الحادث بالخير ّية ــ سواء كان ظاهرةً ،أو كان شي ًئا آخر من
ٍ
وبتعبير آخر؛ بالقدر أي نوع ــ بال َقدْ ِر الذي يكون فيه ُم ْظ ِه ًرا للقديم ،أو ما ُيعادله مكان ًة،
ّ
اخ ًل للقديم .وعلى العكس من ذلك؛ تتّصف الظاهر ُة الحادث مدَ ِ
بالشر
ّ ُ ُ ظهر فيه
الذي َي ُ
انفصال الحادث عن القديم ،أو ــ بتعبيرَ ــ في ٍ
وجه من وجوهها ــ بال َقدْ ِر الذي ُت ْظ ِهر فيه
كانت ال تقوى على ذلك في ْ غياب القديم ،وإن َ آخر صحيح ــ بالقدر الذي ُت ْظ ِهر فيه
دال على وجوده. حقيقة األمر ،إذ ما من شيء في الوجود َإل وهو ّ
يدور األمر ك ّله إذن بين ال ّله والعا َلم ،والقديم والحادث ،والجوهر وال َع َرض،
واألعراض القد َم والجوهر ّي َة ،وت َْر َف ُع لهما راي َة الجالل! ليس ُّ
الشر 12
ُ ُ
الحوادث ف ُت ْظ ِه ُر
ويتفرد،
َّ الحدوث فيها ،إذ هو المقدار الذي ينفصل فيه ُ بإذن إال ضريب ًة مفروضة تس َّب َ
انتصار على
ٌ ال المقدار الذي يتداخل فيه وينغمس ،لذا فمعرفة القديم الذي يتل ّب ُسنا
االنفصالي الذي أنتجه التّناظر بين العا َلم ِ
حوادث النّفس ــ وبالتّالي على الحدوث
ّ
الصغير والعا َلم الكبير ــ ولهذا السبب وحده ،فهي أجود نظر ّية في العدالة اإلله ّية.
ّ
12إنّه لمن الممكن َت َل ُّمس نوع من االستمرارية في العالقة بين القديم والحادث ،كما ُتت ََص َّو ُر العالقة
انفصالي .تُشير العالقة األولى {بين القديم والحادث} ِّصالي ال بين الجواهر واألعراض على ٍ
وجه ات
ّ ّ
ــ بصورة جزئ ّية ال ُك ِّل َّية ــ إلى الالنهائ ّية والتّأنيث ،بينما تشير الثاني ُة {بين الجواهر واألعراض}
وتداخل ،وطب ًقا للثانية يحصل خمود ُ إلى ال ّطالقة والتّذكير .وف ًقا للعالقة األولى يحصل امتزاج
عبورها إليه دون شهوةٍ ِ الحق من خالل
الجوهر َّ الروح واندثار ...وبتعبير آخر؛ وف ًقا لألولى تلتقي
َ ُ
مز الحادث ،بينما تُس ِّلم الروح الراي َة وف ًقا للثانية ،وتنخلع عن وه ِم الحدوثِ الر ِ ِ
َ ُ ُّ ُ ُمل َّحة من خالل ّ
ِ ٍ
بإطالق عن الحدوث وال َع َرض َّية ،إذ ِ
كل هذا فكر َة عدم انفصال القدَ م والجوهر ّية توجع .يؤكِّد ُّ
دون ُّ
بعضا.
ً هبعض
ُ لُ ِ
اخ دَ يو الجمع يتقاطع
ُ ُ
حوارات
َعامل معها
وطرق الت ِ
ُ الشر
لة ّ شك ُ
ُم ِ
()2
حوار مع:
1
مصطفى ملكيان _________________________________________________
ِ
ُش اجلزء
وحرر احلوار بالعربية :عبد العاطي طلبة .ن َ
1ترمجها عن الفارسية :حسن اهلاشمي ،أعد ّ
األول من هذه املحاورة يف العدد املايض ،وهذا هو اجلزء الثاين منها.
نايكلم ىفطصم 20
الكامل على الناقص ،كتقديم أرواح الناس على أرواح الخراف والدجاج من أجل ِ
بقاء النوع اإلنساني ،كذلك تكون التضحي ُة بأهل النار من أجل أهل الجنة هي عين
ُ
الكامل ،و ُم ْقتَضى الجود والحكمة أن يخلق العدل ،وإذا لم ُيعرف الناقص ما ُع ِرف
الناقص .يب ّين عبد الجبار
َ َ
الكامل بإدراكنا َ
الكامل والناقص جمي ًعا حتى ندرك ال ّل ُه
اقتضت حكم ُة
ْ الهمذاني في كتابه (إلهام التمهيدات) هذا التقرير السابق بقوله« :لقد
ال ّله أن يخلق الشيء وضدَّ ه ،فالبياض ال يكون من دون السواد ،والسماء ال تكون إال
وخ ْل ُق محمد يقابله ُ
خلق إبليس ،والطاعة مع األرض ،وهكذا الجوهر مع العرضَ ،
َ
اإليمان ،وهكذا األمر بالنسبة لجميع األضداد ،إذ بضدها والكفر
ُ تقابلها المعصية،
الشق النص ّ
أن الهمذاني قد مال إلى ّ تتب ّين األشياء» .إنه يمكن لنا أن نفهم من هذا ّ
القائل من كون الخير ال يتحقق إال بوجود الشر.
لعله يمكن ر ُّد أصل هذا القول إلى ما قبل اإلسالم ،إذ يرى خروسيبوس ــ من
الشر
الخير دون الشر ،فكون ِّ
ُ الحمق أن ُيت ََص َّو َر
أعظم فالسفة الرواقية ــ أنه من ُ
ُم َضا ًّدا للخير يستلزم حتمية وجودهما م ًعا ،إذ ال يسعى أحدهما إلى إضعاف اآلخر،
ُ
أفالطون يرى أن إبطال كل منهما أخاه .ولقد كان عضد ٌّ
بل على العكس من ذلك؛ ُي ِّ
إن لم يكن لألدنى وجود ما كان لألعلى َ
إبطال اآلخر ،بل ْ أحدهما يعني بالضرورة
أيضا ،بل وذكره
وجود ،كما قال كل من هيراقليطس وتوما األكويني بهذا التقرير ً
أرسطوطاليس في كتبه ْ
وإن ر َّده.
القول من إشكاالت ت َِر ُد عليه؟
هل يخلو هذا ُ
وكلي العلم؟ إذن ما
ّ بالطبع ال يخلو من إشكاالت؛ أليس ال ّل ُه َّ
كلي القدرة
الذي أعجزه عن إيجاد الخير الكثير دون وقوع الشر القليل ،أو أن ُي ِ
وجدَ الخير من
الشر؟ أما بالنسبة لموضوع أن الخير الكثير ال ُيدْ َرك إال بالشر القليل؛ الخير ال من ّ
المستشكل هنا :ألم يجد ال ّل ُه طري ًقا آخر إلفهامنا معنى الخير دون أن يصيبنا
ُ يتساءل
بهذا الشر؟ هذا إشكال ،أما اإلشكال الثاني فيمكن ضرب مثال له؛ فلنقل أن أ ًبا أراد
إفهام ابنه األكبر معنى نعمة عدم العقوبه ،فأمسك ابنه األصغر وقام بضربه ضربا
فهمت المعنى ،وال حاجة لكل هذاُ مبرحا ،فجاءه االبن األكبر ً
قائل :أبي ،لقد ً
ٍ إن ما هو ّ
أقل من الشر القليل كاف إلدراك الضرب المبرح ألخي األصغر حتى أفهم! ّ
21 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
نعمة وجود الخير ،وليس ال ّل ُه بمضطر إلى االستمرار في ذلك على طول الخط ،إذ
العالمي من خالل ما شاهدوه وعاينوه من أحداث شريرة في ّ فهمت البشرية الخير
أن إدراك الخير وفهمه أمر حسن ،لكنه باهظ أيضا؛ وهو ّ التاريخ .يرد إشكال ثالث ً
الثمن ولعله ال يستحق الكلفة التي ُب ِذ َل ْت من أجله .إنه من األفضل لي ً
مثل أن أعيش
سبعين سنة دون أن أشعر بمعنى السعادة على أن أعيش ُم َع َّذ ًبا تس ًعا وستين سنة حتى
حينئذ :نعم يا رب ،لقد منحتني ٍ ُي ْف ِه َمني ال ّل ُه معنى أن أكون سعيدً ا .لإلنسان أن يقول
خيرا ،لكنه خير بمقابل مرتفع جدًّ ا؛ كلفني معظم حياتي! أما اإلشكال الرابع فيقولً
تقديم الكامل على الناقص لعلها تعاني من خلل ما ،إذ ما
ُ إن القول ّ
بأن عين العدل ّ
ِ
الجيران معنى أن أتن َّعم عن طريق العناء الذي يكابده غيري؟ ما معنى أن ُيصاب اب ُن
بإعاقة ما حتى أقدر نعمة الصحة لدى ابني؟ هذا األمر ليس مفهوما لدى أصحاب
هذا اإلشكال ،فتقديم البشر على الحيوان قد يكون مفهو ًما بوجه ما ،أما أن يكون
طرفا المعادلة من البشر ،فهذا ما ال يمكن فهمه هنا؛ لماذا يكون ابن جاري المعاق
أنقص من ابني الصحيح؟ وكما ال يمكن التسليم بأن أحدنا أنقص من اآلخر ،كذلك
ال يمكن التسليم بأن أحدنا أكمل من اآلخر.
البعض تدعيم القول بضرور ّية الشر من أجل وجود الخير عن طريق
ُ يحاول
القول بأن التجربة هي التي تثبت بأن الوصول إلى الخير غير ممكن إال من خالل
الدخول في نفق الشر ،فاإلنسان الذي لم ي ِ
عان من الفقر وشظف العيش ،ال يمكنه أن ُ
تيسر حاله ،وال يمكن إلنسان عاش حياته كلها
يعرف معنى التدبير واالقتصاد إذا ما ّ
في ٍ
رغد أن يكون ُمدَ ِّب ًرا و ُم ْقت َِصدً ا .إن التجربة تثبت لدى هؤالء أن الخير ال يمكن
دائما وأبدً ا .ال يقبل جون ستيورات ميل
الوصول إليه إال من خالل سلوك أنفاق الشر ً
هذا اال ِّدعاء التجريبي ،بل يرى أنه إذا دققنا النظر في األمور بشكل تجريبي ،سيتضح
لنا أن الشر ال ُينتج غير الشر ،وأن الخير ال ُينتج غير الخير في غالب األمر .فلنقل
أني أعاني من إعاقة جسدية أقعدتني عن العمل ،ما الذي سيستتبع ذلك؟ انقطاع
عاجزا عن الحصول على فرصة عمل جديدة ،وبالتالي
ً الرزق عني ،وبالطبع سأصير
الضروري لي؛ مما سيؤ ّدي إلى سوء التغذية ،وضرر كبير
ّ لن أستطيع توفير الطعام
يقع على أعضاء جسدي التي كانت سليمة من قبل ...إن الشر في حقيقة أمره ال
نايكلم ىفطصم 22
يستتبعه إال شر آخر .واآلالم بنوعيها الجسدي والروحي تزيد من احتمال تتابع
ضروب أخرى من المعاناة ،فالفقر مثال ما هو إال أصل لكثير من الشرور الجسدية
ومتعمد
َّ ب أن إنسانًا ما يتعرض إلذالل متكرر
والروحية ،وكذلك الظلم المتكرر؛ َه ْ
يمر عليه وقت كثير حتى يصير فيه فاقدً ا معنى الكرامة؛
شخصا كهذا لن َّ
ً باستمرار ،إن
ً
مسخا يرى اإلهانة فيه طبيعة وسج ّية. إنه سيصير
كان لديفيد هيوم موقف معارض للقول بأن الطريق الوحيد للوصول إلى
الخير قد ال يكون إال عبر وجود الشر ،إذ كان يرى أنّه يمكن قبول هذا القول في إطار
الحديث عن محدودي القدرة كالبشر الذين قد يرتكبون بعض الشرور أو األخطاء
عرض مريض السرطان آلالم شديدة الموصلة إلى الخير في النهاية كالطبيب الذي ُي ِّ
ً
مقبول في خضم عن طريق عملية جراحية من أجل عالجه نهاية .إن كان هذا األمر
كلي ً
مقبول عند الحديث عن ال ّله ّ الحديث عن البشر محدودي القدرة ،فإنه ال يكون
القدرة والعلم والخير ّية.
مبنى تم بناؤه،
مهندس قام باإلشراف على ًٍ يضرب هيوم ً
مثال آخر عن
لك ّن بعض جدرانه تعاني من انحراف وم ْي ٍل ما .إذا ما ُو ِ
وجه هذا المهندس بهذا َ
مضطرا إليه من أجل
ً الخطأ البائن لعله يقول بأنه قد ارتكبه عن عمد ألنه وجد نفسه
تفادي أخطاء أخرى قد تكون أعظم وأكبر .يرى هيوم أن مثل هذه األعذار قد تكون
سبب خارج عن
مقبولة من هذا المهندس محدود القدرة ،إذ قد أ ّداه إلى هذا الخطأ ٌ
قدرته المحدودة كأن تكون األرض نفسها مائلة ،أو أن تكون المواد اإلنشائية رديئة
الجودة ،أو غير ذلك .وبالعودة إلى مثال مريض السرطان الذي ضربتَه ،يسأل هيوم
مريض السرطان ً
أصل إلى إجراء عملية جراحية؟ فإن قال: َ أحوجت
َ ال ّل َه :لماذا
مفر منها إذا أردنا عالجه؛ قلنا
أعرف أن العلمية الجراحية قد تكون مؤلمة ،لكنه ال ّ
لست محدو َد القدرة كالطبيب المعالج الذي
له :إننا ال نقبل هذا األمر منك ،ألنك َ
مريض
قد يضطر إلى إيالم المريض؛ لماذا لم تخلق العالم منذ البداية بحيث ُيشفى ُ
السرطان تلقائ ًّيا دون الحاجة إلى إيالمه بعالج أو عملية جراحية؟ إننا نقبل منك
عاجزا ،لكنك تدّ عي المحدود ّية اإلرادة والقدرة وتع ُّلقهما
ً كنت خال ًقا
ذلك فقط إن َ
التذرع بمثل هذه األعذار .قد يقول قائل لهيوم :إنك تريد
ُّ ّ
بكل شيء ،فال يحق لك
23 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
غيرهم ،وما هو شر إنما يجري مخال ًفا لمصلحة الطالحين دون غيرهم ،وال يخفى ما
بأن ال ّله يتح ّيز للصالحين من الناس ،وأن إرادته للخير يترتب على هذا الكالم من القول ّ
َاك إِالَّ
[و َما َأ ْر َس ْلن َ
ال تتعلق إال بهم ،وال تعم الخلق جميعهم ،وهذا ما يناقض قولهَ :
وأخيرا ،يترتب على قولهم إن اإلنسان إذا انقطعت صلته بالعالم، ً َر ْح َم ًة لِ ْل َعا َل ِمي َن].
أصل ،إذ ال تتعلق اإلرادة اإلله ّية في هذه الحالة ال بالخير فلن يكون للخير والشر معنى ً
ِ
شر ًيرا. وال بالشر ،ويصير ال ّل ُه خ ْل ًوا منهما م ًعا ،فال يمكن وصفه بكونه خ ِّي ًرا أو ِّ
البعض أنَّ ال ّله عندما
ُ دعني أنتقل بكم إلى ما ُي َس ّمى دفاع حر ّية اإلرادة ،إذ يرى
توج َه ْت إرادتُه إلى خلق العا َلم كان أمام خيارين؛ أن يخلق العالم خال ًيا من ّ
الشر ولكن َّ
ً
مشتمل على دائما ،أو أن يخلقه ِ
اإلنسان فيه ُمك َْر ًها على أفعاله بحيث يلتزم الخير ً
ُ يكون
حرا يملك اإلنسان ًّ
ُ الخير والشر حفا ًظا على فضيلة حرية اإلرادة لإلنسان ،وحتى يكون
القدرة على االختيار .هل يمكن زيادة بيان لهذه الطريقة في معالجة مشكلة الشر؟
لت به دفاع في حقيقته عن االختيار من طريق
تفض َ
إن دفاع حرية اإلرادة الذي َّ
االختيار ،إذ هو دفاع عن ذات االختيار عن طريق القول بحرية االختيار لإلنسان .على
مجبورا معدو ًما عن حرية االختيار ،فيكون كل
ً العالم
َ كل ،كان يمكن أن يخلق ال ّل ُه
ٍّ
شيء كالماء ال يملك إال أن يجري ويروي ،أو كالنار ال تملك إال أن تشعل وتُحرق،
دائما وأبدً ا .ينطلق
عنصرا من عناصره المجبورة على فعل الخير ً
ً ُ
اإلنسان فيه ويكون
أصل من أجل اإلنسان ،فكان ال بدّ أن هذا الدفاع عن فكرة أن العالم بأسره مخلوق ً
فضله ال ّل ُه وآثره على خلقه .فلنفترض يكون ّ
كل شيء مواف ًقا لمصلحة هذا الكائن الذي َّ
أن ال ّله كان قد اختار خلق العالم على هذه الصورة الخالية عن الشر؛ ألن يكون ً
عالما
يدعو إلى الضجر والملل الشديد ،فما فائدة أن يكون مخلو ًقا على هذه الصورة في
حين أن قاطنه (اإلنسان) يعيش حالة من السأم الشديدّ .
إن خلق عالم كهذا سيكون أكثر
شرا وسوء من هذا العالم الذي نحياه ويمتزج الخير والشر فيهّ .
إن خلق عالم يقوم على ًّ
االختيار ،وبالتالي يظهر فيه الخير والشر أفضل عالم ممكن من أجل تكامل اإلنسان
الخاص.
ّ
ّ
لعل أول من هاجم هذه الطريقة في عالج مشكلة الشر هو الفيلسوف اإلنجليزي
أيضا بالهجوم عليه هجو ًما حا ًّدا .واآلن،
الملحد جاي .إل .ماكي ،كما قام أنطوني فلو ً
نايكلم ىفطصم 28
ِ
فلنلق نظر ًة على اإلشكاالت التي قام ماكي بطرحها .يرى ماكي َّ
أن أصحاب دفاع حرية
يتوسلون ما ُي َس َّمى بالبرهان األقرن ،أو البرهان ذي الحدّ ين ،وهو من البراهين
اإلرادة َّ
التي ينحصر فيها الخصم في ِش ِّقين ال ثالث لهما ،عليه أن يختار من بينهما ،وإن اختار
الش َّقين اللذين يحصر فيهما ُ
دفاع حرية إن ِّأ ًّيا منهما فإنه سيترتّب عليه نتيجة فاسدةّ .
ُ
اإلنسان الشر ،لكن ال يكون المخالف هنا هما أن يخلق ال ّل ُه ً
عالما ُمن ََّز ًها عن ّ َ اإلرادة
مختارا.
ً ُ
اإلنسان فيه والشر م ًعا ويكون
ُّ الخير
ُ عالما يمتزج فيه
مختارا ،أو أن يخلق ً
ً فيه
وهناك طريقان للتخ ّلص من مثل تلك البراهين؛ أال وهما :أن نثبت ّ
أن أحد ال َّط َر َفين
المنحصر فيهما ال يترتب عليه تلك النتيجة الفاسدة ،أو أن نثبت وجود طرف ثالث
َ
ُ
البرهان .يرى ماكي أنّه باستطاعتنا أن نثبت وجود طرف ثالث لم يذكره ً
أصل لم يذكره
ُ
اإلنسان الشر ،ويكون
العالم ُمن ََّز ًها عن ّ
ُ أصحاب دفاع حرية اإلرادة؛ أال وهو أن يكون
ُ
مختارا في نفس الوقت .إنه ال يستحيل وجو ُد مثل هذا العا َلم ،وما دام في إطار
ً حرا
فيه ًّ
يفترض
ُ اإلمكان ،فإن لقدرة ال ّله َت َع ُّلق به ،وبهذا نكون أمام ثالثة طرق ال طريقين كما
أيضا أن نظرية دفاع حرية اإلرادة تقوم على افتراضات خاطئة، المؤمنون .يرى ماكي ً
أو لم يقم على صحتها الحدُّ األدنى من الدليل ،إذ تفترض النظرية أن جميع الشرور
كثيرا من
العالمية يأتي منشؤها من الشرور األخالقية ،وهذا ما يخالف الواقع ،إذ نرى ً
الشرور الطبيعية في العالم ال دخل لإلنسان فيها كالزالزل والبراكين وبعض األمراض
أيضا أن ال ّله قد خلق العالم لخدمة اإلنسان،
واألوبئة وغير ذلك ،كما تفترض النظرية ً
توسلنا بعض النصوص الدينية
أيضا ،إال إن َّ
وهذا ما لم يقم عليه دليل عقلي متماسك ً
في التوراة والقرآن التي قد تثبت ذلك ،وتفترض النظرية كذلك أن الكمال اإلنساني
مجبورا ما تسنى له أن
ً ال يمكن له أن يكون إال من طريق حرية االختيار ،وأنه لو ُخ ِل َق
كثيرا من الموجودات األخرى التي تسلك طريق كمالها يتكامل! يرى ماكي ّ
أن هناك ً
توفرت
ْ قسرا كالنباتات واألشجار ً
مثل؛ تبدأ بذر ًة صغيرة ال حول لها ،ثم إذا في العا َلم ً
كاف وضوء مناسب وغير ذلك = سلكت طريقها لها شروط معينة من تربة صالحة وماء ٍ
َّ
نحو التكامل الجبري حتى تصير شجر ًة أو نباتًا ً
كامل.
عود على بدأ ،كنا قد تكلمنا منذ قليل على فكرة أنّنا كبشر إذا غيرنا وجهة نظرنا
خيرا .ويبدو أنّ هذه الفكرة لم ت َُر ْق
عن العالم ،فإنه يمكن من خالل ذلك أن نرى العالم ً
29 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
يتوسل هذه الفكرة ،وإن كان أعمق منها بكثير؛ أال لكم ،لكن دعني أطرح عليكم ً
سؤال َّ
خيرا ح ًّقا ،لكن إذا نظرنا إليه نظرة شموليَّة؛ بمعنى أن ال
وهو :أال يمكن أن نرى العالم ً
الشر فيه ،بل نضع في اعتبارنا المجاالت األخرى وموقع الشر منها، نُركِّز على مجال ِّ
والذي عند المقارنة قد يبدو ً
ضئيل بجانبها جدًّ ا؟
تُنسب هذه الطريقة إلى سبينوزا ،إذ كان يرى أن ّ
كل شيء بالقياس إلى ما هو
أدنى من الكل ،فهو شر .إننا إذا حاولنا أن ننظر إلى األمور بالقياس إلى مصالحنا ال
إلى رغباتنا وأهوائنا ،فلربما نرى الخير وراء ما هو شر في الظاهر ،خاصة إذا اعتبرنا
المصالح طويلة األجل ،ال المصالح القريبة .إن النظر إلى العا َلم ــ طب ًقا لوجهة النظر
تلك ــ من زاوية ض ّيقة ،تجعله كتل ًة من ّ
الشر ،أما إذا نظرنا إليه نظرة أكثر شمول ّية ــ ما
خيرا .وفي هذا يدَّ ِعي ٍ
يسميه البعض نظر ًة من «زاوية إله ّية» ــ فإنه يمكن عندئذ أن نراه ً
سبينوزا أن تحصيل اإلنسان لهذه الزاوية اإللهية ممكن بالتدريج ،إذ يمنحه التأ ُّمل
إن التأمل الفلسفي القدر َة على رؤية األمور برؤية فلسفية مجردة ال مجال فيها للعاطفة؛ ّ
ُّ
الفلسفي وحده هو القادر على أن يقود اإلنسان تدريج ًّيا إلى هذه القدة اإللهية في النظر
ٍ
دائرة كانت (أ) واحد ًة من أجزائه الشمولي للعا َلم .فلنفترض أن العالم ك ّله واقع في
الصغيرة جدًّ ا ،وهي تم ّثل مجموع الشر في العالم .إن النظرة الض ِّيقة لهذه الدائرة باعتبار
محضا ،لكنَّنا إذا نظرنا إلى (أ) باعتبارها ً شرا قد يكون (أ) وحدها ،تجعلنا نرى العا َلم ًّ
ٍ
الشر فيه إال
خيرا؛ ال يمثل ُّ صغيرا من مجموع الدائرة ،فلربما نرى العا َلم حينئذ ً ً جز ًء
البيت تفوح منها رائحة كريهة ،وتمتلئ ِ إن النظر إلى بالوعة تافها ال يكا ُد ُي ْذكَرّ .
جز ًء ً
عاش فيه ،لك ّن الناظر إلى قاذورات؛ ينفر من البيت ك ِّله وقد يراه بيتًا دنِ ًسا ال يكاد ُي ُ ٍ
البيت ك ُّله إلى بالوعة كبيرة،
ُ لتحول
البالوعة بالنسبة إلى موقعها من البيت ،وأنه لوالها ّ
ِ
كثيرا.
منظر البالوعة الصغيرة فيه ً البيت نظي ًفا ولن يؤ ِّث َر ُ
َ سيرى
فلنأت اآلن إلى بعض اإلشكاالت الواردة على هذه الطريقة ،ولنبدأ بما انتهينا إليه ِ
محبوسا في
ً شخصا كان نصيبه من هذا البيت كله أن يظل
ً من مثال البالوعة .فلنقل ّ
أن
أي وجه
خيرا من ِّ
هذه البالوعة طول عمره ،هل يمكن لشخص كهذا أن يرى البالوعة ً
من الناحية العمل ّية الواقعية؟ اإلجابة :ال ،إذ ال يمكن لشخص كهذا إال أن يرى العالم
محضا ،وله أن يتساءل :لماذا ال يعيش داخل هذا البيت
ً شرا ــ عا َلمه هو على ّ
األقل ــ ًّ
نايكلم ىفطصم 30
الجميل ،ولماذا كان نصيبه منه هذه الحفرة القذرة اآلسنة؟! هل يمكن أن تقنع أ ًبا فقد
موت أبنائه ينطوي على خير لكل العا َلم،
أن َ ٍ
مرض ما كالشلل أو السرطان ّ أبناءه بسبب
شرا؟! ّ
إن إجراء علمه في موت أبنائه فحسب فيرى العالم ًّ
وأنه ال ينبغي عليه أن ينحصر ُ
ِ
كل هذا ،وأن الشر ُمط ّل على
أدنى عمل ّية حسابية تجعله يدرك أنه الخاسر الوحيد وراء ّ
العا َلم .تدعونا هذه الطريقة إلى أن ننظر إلى العالم نظر ًة شمول َّية ،ال يستطيعها إال إله،
أن يكون على علم مطلق بكل هذا العالم إنها تطلب من اإلنسان محدود العلم والقدرة ْ
بحال أن يحيط بجميع أجزاء العا َلم، ٍ المترامي األطراف؛ إن إنسانًا محدو ًدا ،ال يمكنه
اللهم إال إذا وهبه ال ّله قدر ًة على ذلك .ثم َهب أن إنسانًا قد امتلك هذه القدرة اإللهية،
خيرا؟ قد يجيب أحدهم عنما الذي يضمن لنا أن الجزء إذا ما قيس إلى الكل كان ً
خيرا ذلك بأن الكل مخلوق إلله مريد للخير ،وهو خير مطلق ،لذا ال بد أن يكون ُّ
الكل ً
ال محالة! جواب كهذا يلزم عنه الدَّ ْو ُر ،إذ المسألة بر ّمتها تتع َّلق بإثبات وجود ال ّله من
عدمه ،وال يمكن الجواب عن هذا اإلشكال بافتراض وجود ال ّله بداي ًة ،وعلى صحة
خيرا عند النظر إلى
عالما ال نراه ً خير مطلق ،فلماذا خلق ً افتراض وجوده ،فما دام إل َه ٍ
ذرة في العالم حسنة باعتبار مجموع أجزاء العالم يؤدي كل ٍ أصل؟! إن اعتبار ِّ
أجزائه ً
بنا إلى مشكلة تسويغ أفعال اإلنسان الشريرة في العالم من كذب وقتل وسرقة وغير
شرا في
خيرا ال ًّ ذلك بأنَّها خير باعتبار المجموع ،فلماذا َ
يؤاخذ عليها اإلنسان ما دامت ً
حقيقتها!
يتمس ُك المؤمنون
مزعجا لبعض المؤمنين؛ لماذا َّ ً دعني أسألك ً
سؤال قد يكون
باتِّصاف ال ّله المطلق بالعلم ،والقدرة ،والخير م ًعا ،أال يمكن التخ ِّلي عن صفة العلم
المطلق أو القدرة في مقابل اإلبقاء على صفة الخير ّية ل ّله؟
لعله يمكن إرجاع أصل هذه الطريقة في التفكير إلى فلسفة وايتهيد في الصيرورة،
والذي واحدً ا من أكبر الفالسفة الذين عاشوا في القرن التاسع عشر والنصف األول
فلسفي ُع ِرف بـ»فلسفة
ّ من القرن العشرين للميالد ،ولقد قام هذا الفيلسوف ببناء نظام
ري من
التطو ّ
ُّ الصيرورة» .ترى هذه الفلسفة أن عالم الوجود يعيش حالة من السيالن
أجل كماله ،فهو يسيل في تغ ُّير دائم ومستمر في حالة من التكامل الوجوديّ .
لعل هذه
بأن عا َلم
الفلسفة تشبه إلى حد كبير فلسف َة مال صدرا في «الحركة الجوهرية» القائلة َّ
31 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
َّ
ولعل الفارق بينهما َّ
أن مال صدرا التكاملي الدائم،
ّ الطبيعة يعيش حالة من السيالن
خص هذا السيالن بهذا العالم الطبيعي فحسب ،لكن وايتهيد جعلها تشمل عالم ما ّ
ِ
وراء الطبيعة كذلك حتى اإلله نفسه! لم يكن وايتهيد ُي ْقح ُم َ
نفسه في أمور كالم ّية ،لكنه
كان مهمو ًما ببيان فلسفته العا َّمة ليس إال ،حتى جاء من تبنّى مذه َبه من بعده ــ كهارت
شورن ،وديفيد جريفن ــ بمحاولة استخدام فلسفته في مباحث كالمية كمشكلة الشر
فإلها أن يت ِّص َ ّ
محل حديثنا هنا .ترى فلسفة الصيرورة أنّه ال ُي ْشت ََرط في اإلله حتى يكون ً
التطوري، ّ ككل شيء في العا َلم حال ًة من السيالن بالعلم والقدرة بإطالق ،ألنه يعيش ِّ
لكنه ال بدّ أن يكون ُمتّص ًفا بالخيرية المطلقة حتى يكون مستح ًّقا لأللوه ّية و َم َح ًّل
إن المشكلة ّ
كل المشكلة في موضوع معضلة الشر هو محاولة للتبجيل والعبادةّ .
المؤمنين الجمع بين القدرة والعلم والخيرية عند الحديث عن الصفات اإللهية ،لكن
حل هذه المشكالت فقط بالتّخ ِّلي عن بعض هذه
يمكن ــ طب ًقا لفلسفة الصيرورة ــ ّ
الصفات! يحاول فالسفة الصيرورة تدعيم كالمهم حول نفي العلم والقدرة اإللهية
بأن الكتاب المقدس لم ُي ِشر إليهما أبدً ا كما أشار إلى الخيرية اإللهية
عن طريق القول ّ
السبب في اعتبارهما ما ورثناه عن أرسطوطاليس وأفالطون من
ُ المطلقة ،ولربما كان
وجوب اتصافه تعالى بهما .ثم إنهم يتساءلون :ما المانع من عبادة إله يتصف بالخيرية
إلها يكون ً
أهل للعبادة عليه أن يكون خ ِّي ًرا وعالما؟ إن ً
ً قادرا
المطلقة وإن لم يكن ً
أهل لإليمان به وعبادته؛ إنهم فحسب ،وعلينا أن نتأكد من خير َّيته تلك حتى يكون ً
بأي صفة ما دام متِّص ًفا بالخير ّية
مهما لإلله أن يتصف ّ يقولون بكل وضوح :ليس ًّ
المطلقة.
وجة إلى هذه الطريقة من إشكاالت أنهم ال ينفون عن ال ّله العلم
لعل ما يمكن أن ُي ّ
مفتقرا إلى العلم الناقص
ً المطلق والقدرة المطلقة فحسب ،ولكنهم يجعلونه حتى
والقدرة الناقصة! إن إله الصيرورة هذا عاجز عن مساعدتنا بأي صورة ،وال يستطيع
أي من مشاكلنا ،وال فرق بينه وبين آحادنا في واجهة الشرور في العا َلم،
القضاء على ٍّ
إلها
إن ًنفسه عليها! َّ
شر بصورة ال يقدر إله الصيرورة ُ
بل قد يقوم آحا ُد الناس بمنافحة ٍّ
يتَّصف بالخيريه المطلقة ،ال بد أن تظهر محاوالته في العالم إلزالته ،لك ّن الظاهر أنه
ال يحاول وال يسعى إلى إزالة أي شر .وإذا نظرنا إلى النصوص القرآنية ،فليس صع ًبا
نايكلم ىفطصم 32
آيات تناقض هذه الرؤية؛ وتصف ال ّله بالقدرة المطلقة والعلم المطلق كقوله: أن تجد ٍ
ٍ ِ [إن ال ّل َه َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء َق ِد ٌير]،
و[و ُه َو بِك ُِّل َش ْيء َعل ٌ
يم] ،فال تتناسب هذه الفلسفة َ ّ
بحال والفلسفة الدينية في القرآن.
للشر .أال
تؤمن بعض األديان بوجود إلهين في العالم؛ أحدهما للخير ،واآلخر ّ
ريحا لمشكلة الشر؟ حل ُم ً ترى أن مثل هذا اإليمان ُي َعدّ ًّ
لع ّلك تشير إلى الديان َت ْي ِن الزرادشت ّية والمانوية ،إذ تقول الزرادشتية بوجود
إله للخير وإله للشر ،كما تقول المانوية بوجود إله للنور ،وآخر لل ُّظلمة .لعله بداية
علينا أن نشير إلى الفرق بين معنى األلوهية لدى األديان التوحيدية ومعناها لدى
ِ
والموجد ،لذا الزرادشتية والمانوية .إن اإلله لدى الزرادشتية والمانوية يعني الخالق
لم يكن من ضير وجو ُد خال َقين للعالم؛ أحدهما للشر/الظلمة ،واآلخر للخير/النور،
ٍ
وبمعان أخرى ال يمكن فص ُلها أما اإلله في الديانات التوحيدية ،فيأتي بمعنى الخالق
ٍ
بحال عن اتِّصافه بالخيرية التي ال تؤ ِّدي إال إلى الوحدان ّية ،ومحاولة تسويغ وجود
الزرادشتي ّ
أن ُّ الشر في العالم .يؤمن
الشر بعيدً ا عن القول بوجود إله آخر يصدر عنه ُّ
إله الشر هو خالق الفقر والمرض والحرب والظلم وما إلى ذلكّ ،
وأن إله الخير هو
والسلم والعدل وما إلى ذلك ،أما ماني فإنه كان يرى جميع
خالق الغنى والصحة ِّ
مصدرها ،فال وجو َد للشر إال
َ ُ
اإلنسان الشرور منبثق ًة عن الشر األخالقي التي يكون
في حالة اجتراح اإلنسان له.
التوسل لهذا الحل دون التعبير بوجود ُّ لعلنا نجد في السياق اإلسالمي شي ًئا من
البعض أن للخير مصدر واحد وهو ال ّله ،وأن الشر في العا َلم
ُ إلهين في العا َلم ،إذ يرى
إبليس الذي كان وجو ُده ضرور ًّيا حتى
َ بعض العرفاء عن
مصدره الشيطان ،بل يدافع ُ
شأن العا َلم ،كما يمكن اعتبار القديس أوغسطين واحدً ا من القائلين بهذا الرأي
يستقيم ُ
تأ ُّث ًرا بالديانة المانو ّية ،إذ بدأ حياته وثن ًّيا ،ثم مانو ًّيا ،منته ًيا إلى المسيحية في نهاية األمر.
القول بإلهين ،وال ترى في هذا حلًّ لمشكلة َ األديان التوحيدي ُة
ُ بشكل عام ،ترفض
أن هذا الحل يطرح صورة مغايرة للمسألة التي نحن بصددها؛ بحال ،ولكن ترى ّ ٍ الشر
صورة تقترح القول بوجود إلهين من البداية ،فال معنى لنسبة الشر إلى إله الخير من
الموحدون الذين يرون استحالة القول بالثنو ّية ً
أصل ،إذ ِّ األساس ،وهذا ما ال يقبله
33 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
ال يخلو أن يكون أحدُ هذين اإللهين أقوى من اآلخر ،أو مساو ًيا له ،فإن كان أحدُ هما
ِ
متساويين ،فهذا ما أقوى من اآلخر ،فلماذا ال يقضي عليه ويخ ِّلصنا منه ،وأما إن كانا
السلمي م ًعا؛ ما يعني أن أصل ،إذ لو كانا كذلك ،الضطرا إلى التعا ُيش ٍ
بحال ً ال يمكن
ّ
يكونا معلولين لع ّلة أخرى أسمى منهما لع ّلها اإلله الواحد الحق .على ٍّ
كل ،إن التفكير
البشري الراهن يتجه بشكل عام إلى القول بدوران األمر ك ِّله بين اإللحاد والتوحيد ال
مجرد اإليمان ،وكأن العقل البشري قد انتهى إلى أحد أمرين :إما اإليمان بإله واحد ،أو
إنكاره وعدم اإليمان به/اإللحاد.
ٍ
بموجد إن السؤال الذي يدور بخلدي اآلن :ما لنا نهرع ً
أصل إلى ضرورة القول
ٍ
موجد له ُيديره للخير والشر في هذا العا َلم ،أال يمكن أن يكون العا َل ُم دون البحث عن
لغاية داخلية أو خارجية؟
تجد هذه الرؤية اإللحاد ّية للعالم صداها لدى ديفيد هيوم؛ وهي رؤية ترى
الخاص دون أن يكون لها هدف
ّ العا َلم عبارة عن منظومة عالم ّية تسير نحو تكاملها
خاصة تنحو خاللها في العالم، من داخلها أو من خارجها ،ودون أن تكون لها إرادة ّ
ودون أن يكون له م ِ
وجد عالم ُمريد قادر خ ِّير! إن العا َلم بأسره ــ طب ًقا لهذه الرؤية ــ كائن ُ
القسري؛ وكل شيء في هذا العا َلم من أقصاه إلى أدناه ليس إال
ّ حي ينحو نحو كماله
ّ
جزء من هذه المنظومة الكل ّية التي تتشارك أجزاؤها في إدامة إبقائها على قيد الحياة.
تضرب بجذورها في أعماق األرض حتى تتكامل أغصانًا َ ّ
إن الشجرة التي تحاول أن
وثمارا ال تمتلك في ذلك إرادة داخل ّية في تكاملها الخاص ،وال إرادة من ً وأورا ًقا
خارجها يمنحها التوفيق من عدمه ،فال يمكن أن نقول ً
مثل إن هذه الشجرة المثمرة قد
اختارت الحياة ،وأن تُطِ ّل علينا بظاللها الوارفة ،كما ال يمكن أن نقول في حالة مواتها
وذبولها أنها اختارت الموت ومغادرة الحياة؛ إن الشجرة في كلتا الحالتين ال وعي لها
مسلوب اإلرادة؛ ك ًُّل
َ تما ًما .إن نظرية المنظومة الكاملة ترى العا َلم على مثل هذا النحو
تتكامل أجزاؤه أو تتهافت دون ُم َو ِّج ٍه من داخلها أو من خارجها ،فهو يسير في مساره
الخاص أو ال يسير.
ّ
تصور أنه إذا حذف الموجود المريد العالِم القادر الخ ِّير من ّ
لعل القائل بهذا القول قد ّ
حل المشكلة ،ولكنه في الحقيقة يقوم على تعقيدها هذا الوجود (ال ّله) ،فإنه يكون قد ّ
نايكلم ىفطصم 34
إلهي،
من حيث يريد اإلصالح .إن األمر ببساطة سيزداد سوء ،فإن لم يكن للعالم مرجع ّ
فمن ذا الذي يمكن أن نعود إليه محاسبين إياه عن حدوث الشر في العالم؟! إننا سنفقد
البوصلة ،وسنعيش حالة من التيه والبؤس العا َل ّ
مي .إن غاية ما يمكن أن تعتمله نظرية
المنطومة الكاملة هو حذف المسؤول ،وإبقاء الشر على حاله ،وتقييد دعوى الشر في
دفاترنا ضد مجهول ال نعرفه! إن تبرير وجود الشر ضمن منظومة كل ّية عالمية لع ّله
يكون مفهو ًما فحسب في دائرة عالم الطبيعة التي يمكن الحديث بصدده عن مقتضياته
وموانعه ،فإذا ن ََم ْت شجرة وألقت بظاللها علينا من طولها وصالبتها وتف ُّعمها بالحياة،
نموها وحياتها كمنظومة طبيعية ،والعكس بالعكس ،لك ّن فإنه يمكن أن نسرد أسباب ِّ
الطبيعي ككل،
ّ األمر يكون أقرب إلى المستحيل عندما يكون الحديث عن العالم
األمر تعقيدً ا وسوء إذا ما تجاوزنا العا َلم الطبيعي إلى ما وراءه.
ويزداد ُ
الشر عند القائلين بوجوده طب ًعا ،وال أعني هنا الع ّلة
ما هي العلة وراء وجود ّ
الفاعلية ،ولكنّي أتساءل عن العلة الغائيّة؟
إن السؤال الذي َّأرق المتكلمين في مسألة الشر هو انسجام وجود الشر من
اإللهي ،فالقائلون بانسجامهما م ًعا حاولوا الحديث عن العلة من ّ عدمه مع الوجود
وراء وجود الشر في العا َلم ،وكان حدي ُثهم عن العلة الغائية بالطبع كما تفضلتُم ،إذ الع َّلة
الطبيعي ،فللعلم أن ُي َحدَّ ثنا عن
ّ كثيرا بقدر ما تهم العلم
ته ّم البحث الفلسفي ًالفاعل ّية ال ُ
ِ
األسباب/الع َلل الطبيعية وراء حدوث البراكين والزالزل في العالم ،ولطبيب األسنان
تسو َس أو غير
السبب ُّ
ُ ً
مثل أن ُي َحدِّ ثنا عن أسباب شعوري بوجع في أسناني سواء كان
ذلك ،لكن ليس للعلم أن يحدثنا عن العلل الغائية ألنها ال تتماشى وسياقاته التي يبحث
تنحصر ُ
أقوال المتكلمين في علة الشر ُ فيها عن الفواعل/األسباب و ُم َس ِّب َباتها فحسب.
الغائ ّية في أقوال ثالثة؛ أن تكون الشرور بمثابة اختبار وامتحان لإلنسان في الدنيا ،أو أن
تكون رود أفعال طبيعية على ممارسات اإلنسان في العالم (عقوبة) ،أو أن تكون ردود
ِ
إشكاالن؛ أفعال ما بعد طبيعية على ممارساته (عقوبة أخروية)َ .ي ِر ُد على هذه األقوال
أحدهما أن ُي َق َال إنّها ال تشتمل جميع الشرور في العا َلم ،فال يمكن القول بأن جمي َعها
حادث لهذه الغايات ليس إال ،فهي أقوال موضع ّية مقطع َّية؛ تعالج البعض ال ّ
الكل،
تتوسل
وثانيهما كون هذه األقوال تتوسل النَّقل في حين أننا نبحث عن إجابات عقل ّية ّ
35 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
ِ
َرط أن نعرف ع َل َل ّ
الشر إن القائلين بوجود ال ّله يرون طب ًعا أنه ال ُي ْشت ُ
العقل قدر اإلمكانّ .
الغائية في العالم من أجل اإليمان بوجود ال ّله ،إذ هو موجود سواء عرفنا أم لم نعرف!
من بين تقسيمات الشرور في العالم ــ تحدثنا عنها من قبل ــ التقسيم الرباعي؛
الشرور الطبيعية ،والشرور األخالقية (الذنوب والمعاصي) ،والشرور العاطفية
المعني لدى كثيرين
ّ (اآلالم واألوجاع) ،والشرور ما بعد الطبيعية ،لكن يبدو أن الشر
هو الشر الذي ينتج عنه األلم والوجع في النهايةّ ،
فإن اإلنسان الذي يشعر بألم شديد
بالذات ،وإن كان ِ
ضربة عصا أصابتْه ،يرى أن أصل الوجع/األلم هو الشر َّ في رأسه إثر
يرى أن الضربة التي أصابتْه شر لكن بال َع َرض ،فألم الرأس شر الحقيقي ،أما الضرب
صح القول .يختلف الناس في ماه ّية الشر اختال ًفا متفاوتًا ،كما
مجازي إن ّ
ّ بالعصا فشر
البعض أن الشر لم يكن له وجود قبل الوجود اإلنساني ،وهذا ما تُكذبه الدراسات
ُ يرى
العلمية التي تقول بوجود الحوادث والكوارث الطبيعية قبل وجود اإلنسان ،لكن
يمكن القول إن هذه الكوارث ال معنى لها دون وجود اإلنسان ،فاإلنسان هو الذي
األلم هو
ُ األلم ً
بديل عن الشر هنا ،إذ َ يعطيها معنى الخير والشر ،لذا فإنني سأستخدم
ني من وجود الشر من عدمه ،فما دام اإلنسان ال يتألم فال شر ،وما دام يتألم فثمة
الم ْع ُّ
َ
شر ،وهكذا.
وبعد هذا التقديم ،فلنحاول اإلجابة عن الغاية من وراء وجود األلم في العالم من
وجهة نظر بعض المؤمنين .ما الذي يعنيه إراد ُة الخير؟ إننا عندما نقول إن (أ) تريد
الخير لـ(ب) ،فمعنى هذا ينحصر في أمرين؛ أال وهما :أن تقوم (أ) بجلب السعادة
دائما حتى وإن تضمن ذلك
دائما ،أو أن تقوم (أ) بفعل ما يضمن مصلحة (ب) ً
لـ(ب) ً
بعض األلم .يحاول المؤمنون ت ََو ُّسل المعنى الثاني دون األول الذي يشتمل على كثير
ُ
من المشكالت الداخل ّية ،فإذا قال المؤمنون بالقول األول ،فسيواجهون مشكلة حيال
دائما ،بل فيها أحيانًا من الكلفة
مثل التي ال تضمن سعادة اإلنسان ًالتكاليف اإللهية ً
الخير لدى كثيرين معناها أن يريد المصلحة لإلنسان
َ والمشقة ما فيها .لذا ،فإرادة ال ّله
أن ً
طفل يبكي؛ يريد أن يلعب ب َّ
بعض اآلالمَ .ه ْ
حتى وإن تضمنت هذه المصلحة َ
بالسكين ،وهو يرى اللعب بها ضامنًا لسعادته اآلنية ،لك ّن األم ترفض إعطاءه السكين
ضمانة لمصلحته .نعم سيتأذى الطفل من منع أمه إ ّياه ،لك ّن مصلحتَه وهي انعدام
نايكلم ىفطصم 36
الم ْف ِسدَ ة .يرى المؤمن إذن
األذى بالسكين قد تحققت بحرمان األم إياه هذه السعادة ُ
أن ال ّله مريد للخير رغم أي شيء ما دام يقوم على تحقيق مصالحنا وإمضائها بحكمته.
ال يمكن إنكار الشر/األلم الموجود في العالم ،لكن يمكن القول بأنها موجودة ضمن
إرادة الخير العالمي بما يضمن مصالح اإلنسان ،وعلى منكري وجود ال ّله إذن اعتما ًدا
مصالح ومنافع أكثر من
َ أن مجموعها ال ينطوي على على وجود هذه اآلالم أن يثبتوا َّ
خسائرها وأضرارها بكثير في هذه الدنيا وفي اآلخرة! َّ
لعل الناظر الملحد هنا ال يسعه
إال أن ينتهي إلى السكوت أو أن ينتهج فلسفة الأدرية حيال هذا األمر ،ولعله يورد
نحب ال ّل َه ونعبده ،ألنه رحيم
بعض االعتراضات؛ من أهمها أن ُيقال إنكم أردتم منا أن ّ
ولطيف بعباده ويتصف بالعلم والقدرة والخير المطلق ،وها نحن ذا قد عبدناه ،ثم
أخذتم تقولون لنا بعد ذلك إن من رحمة ال ّله وحكمته أن يرزق فالنًا بأطفال معاقين،
وأن يصيب فالنًا بالعمى! إنكم لو وضحتم لنا هذه األمور منذ البداية ما أحبه أحد ،كما
يمكن أن ُيقال إننا نحن البشر أكثر عط ًفا ورحم ًة من هذا اإلله الذي ال تنطوي رحمته
وعطفه إال على جميع أنواع الشرور المخيفة .وليس ألحد أن يحدِّ ثنا عن مصالح
ال نعرفها ،وال يمكن إدراك سرها ،ألنه إذا كان األمر كذلك ،فلن يكون هناك مجال
الحسن والقبيح سيصيران بهذا القول إله َّيان.
الحسن والقبح عقل ًّيا ،ألن َللحديث عن ُ
عالما ال يمكن فيه تلبية مصالح اإلنسان إال ً
سؤال يطرح نفسه هنا :لماذا يخلق ال ّل ُه ً ّ
إن
عن طريق إيالمه والتخ ِّلي عن سعادته ،ألم يكن ال ّله ً
قادرا على خلق العالم على هذا
األساس؟!
دعنا نقسم اآلال َم إلى قسمين؛ قسم ال يمكننا التخ ُّلص منه بأنفسنا ،لكننا يمكن
مثل ،وقسم آخر ال يمكن لواحد أن نتخلص منه عن طريق اآلخرين كآالم األسنان ً
منا أن يتخ َّلص منها ،إذ نواجهها في هذه الحالة ً
وجها لوجه وهي كثيرة؛ منها الشعور
الوحدة الموحشة حتى خاصة حال ًة من ِ
بالوحدة والعزلة ،إذ يعيش اإلنسان المعاصر ِّ
وإن كان وسط مجموع من البشر؛ وهذه هي الوحدة الحقيقية ،التي يشعر فيها اإلنسان
باالنفراد وإن كان وسط الحشد ،فمعظم الناس يعيشون في مجتمعات وتكتُّالت ولك َّن
إن األوجاع النفسية المصاحبة لهذا الشعور ال تكاد تُطاق ،وال يجد قلوبهم شتّى! ّ
أيضا ت َْو ُق اإلنسان الدائم إلى الخلود رغم قطعه
مفرا .ومن هذه اآلالم ً
اإلنسان منها ًّ
37 و
ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم اهعم ِلماعَتلا
الضروري! ّ
إن الروح اإلنسانية تنزع إلى البقاء وحب الحياة ،لك ّن اليقين ّ بقدوم الموت
دائما ،إذ
يؤرق مضاجع اإلنسان ،ويجعله يشعر بالخوف والضيق ً الموجع بالرحيل ّ
مفر من الموت والفناء وإن كانت نفسه تنازعه إلى الحياة والبقاء .ومن تلك اآلال ِم
ال ّ
اآلال ُم المصاحبة للوصول إلى الحقيقة وطلبها ،فكما ينزع اإلنسان إلى البقاء الدائم،
نظرا
فإنه ينزع كذلك إلى طلب الحقيقة والمعرفة التا ّمة التي ال يمكنه تحصيلها أبدً ا؛ ً
حص ُل معرف ًة ما ،ويؤمن بها حقيق ًة
لمحدود ّية قدراته في التحصيل والفهم ،بل إنه قد ُي ِّ
الحق على
وأن ّ ال مراء فيها ثم يكتشف متأ ِّل ًما بعد مرور وقت ّ
أن ما آمن به ليس صاد ًقا ّ
خالفه .ومن تلك اآلالم كذلك ،اآلالم المصاحبه ِ
لتوق اإلنسان إلى الكمال والسعي ُ
الخاص الذي
ّ مستمرة نحو كماله
ّ عمره ك َّله في صيرورة ُ
اإلنسان َ نحو الخير ،إذ يعيش
الصور .وبالنسبة إلى توق البعض
َ ال يمكنه التح ُّقق به أبدً ا وإن اقترب إليه بصورة من
لفعل الخير ،فإنهم يعيشون حال ًة من األلم المستمر عند ارتكابهم شي ًئا من الشرور ،أو
شر فيه! كما أن هناك آال ًما
الشك أن ما هم بصدده ينطوي على خير خالص ال ّ ّ حال ًة من
أن اإلنسان في تكوينه الروحي َ
الجمال؛ ومكمن األلم في ذلك ّ ِ
اإلنسان حبتصاحب ّ
يتوق إلى تحصيل الجماالت بأنواعها المختلفة ،وعندما يصطدم بالواقع يجد نفسه
ال يستطيع التحقق إال بطرف من هذا الجمال ،وفي سبيل تحصيله يتخ ّلى عن أنواعه
األخرى التي كان يرجوها.
ذكرت من أنواع األلم وما لم أذكر؛ يمكنني القول إن اإلنسان يعيش ُ بالنظر إلى ما
ٍ
إجابات فاصلة ُ
الوصول إلى مستمرة من األلم القابع في نفسه؛ ولع َّله ال يمكننا أبدً ا حالة
ّ
ِ ِ
بعض آثارها وحكَمها.
عن العلل وراء وجود اآلالم العالم ّية ،ولكنه يمكننا أن ندرك َ
يقول ال ّلهَ [ :فإِ َذا َر ِك ُبوا فِي ا ْل ُف ْل ِك َد َع ْوا ال َّل َه ُم ْخ ِل ِصي َن َل ُه الدِّ ي َن]؛ ما الذي حدث هنا؟
إن هذا اإلنسان الراكب عرض البحر يعيش حالة من التيه والخوف واأللم الشديد الذي ّ
يجعله يشعر بتبع َّيته إلى غيره ،إن هذا الشعور ال يمكن إلنسان أن يعيشه ما دام يعيش
الروحيً ،
فضل عن ّ حياة رخاء و َد َعة؛ إن األلم هنا يجعل اإلنسان ينحو تُجاه تكامله
أنه بهذه اآلالم يستطيع أن يعيش حال ًة من اللين والرفق ور َّقة القلب! حال ًة حدثنا عنها
َّأوه،
«إن اإلنسان عندما يشعر بالوجع ويبدأ في الت ُّالفيلسوف اإلسباني أونامونو بقوله ّ
فإنه ال يريد من اآلخرين أن يفزعوا إلى نجدته ،وإنما يريد التنفيس عن نفسه والتعبير
نايكلم ىفطصم 38
عن ضعفه وعجزه ...فعندما يشعر اإلنسان باللين والرفق تجاه نفسه ،فإنه سيكون رقي ًقا
مرنًا تجاه غيره ،وهذا ما ال يمكن حصوله في حالة الفرح والسعادة ،ألن السعادة ال
تدعو اإلنسان إلى الخضوع وخفض جناح الذل لآلخرين ،بخالف الحزن واأللم».
إن اآلالم هي التي تجعل اإلنسانية تتكاتف وتتعاضد ،وليس هناك ما يقربنا من بعضنا
البعض كالموت على سبيل المثال ،والمصائب التي تجترحنا!
دراسات
1
والرومي
الشر بين ابن عربي ّ
مشكلة ّ
أوزجور كوجا
2 _____________________________________________________
ُم َل َّخص
ُت َقارن هذه الورقة بين ما قدّ مه محيي الدين بن عربي من تقرير حول مشكلة
الشر قد
ّ قر َره جالل الدين الرومي .يرى اب ُن عربي وجود الشر في مقابل ما َّ
فالشر عنده يعني
ّ الميتافيزيقي والفعل االختياري ل ّله،
ّ كل من الجبرجاء نتيج َة ٍّ
ُوجدُ
وبالرحمة اإلله ّية ت َ
ّ اإللهي.
ّ ظلًّ ضرور ًّيا للوجود المنطوي في الالتناهي
الم ْض َم َرة في المطلق ،وبها يمكن لهذه الضرورة الميتافيزيق ّية أن
الممكنات ُ
ُ
تتع ّين .وفي مقابل تلك النّظر ّية الجبرية االختيارية في العدالة اإلله ّية لدى
الرومي نظر ّي ًة للعدالة اإلله ّية ُمنحصر ًة في االختيار إلى حدٍّ ابن عربي؛ ُيقدِّ م ّ
الشر في اإلرادة اإلله ّية .ومن أجل الحفاظ على الكمال فيتلمس جذور ّ ّ بعيد،
كثيرا ما يشير إلى النتائج اإليجاب ّية ا ّلتي ال ُيت ََأ َّدى
األخالقي ل ّله دون مساس ،فإنّه ً
الشر .تساعد نظري ُة ابن عربي في العدالة اإللهية في
إليها إال عن طريق وجود ّ
الشر من أجل الحفاظ على فعل االختيار؛ وبالتّالي يتح ّققالتّأكيد على ضرور ّية ّ
الرومي،الشرور ،أما ّ مباشرا بتج ِّلي هذه ّ
ً اإللهي ،وال يرتبط ارتبا ًطا
ّ الكمال
1 Ozgur Koca, Ibn Arabī (1165–1240) and Rūmī (1207–1273) on the Question of
Evil: Discontinuities in Sufi Metaphysics, ISLAM AND CHRISTIAN-MUSLIM
RELATIONS, 2017, VOL. 28, NO. 3, 293-311,
ترجمة :عبد العاطي طلبة.
2أوزجور كوجا Ozgur Kocaأستاذ الدراسات اإلسالمية والفلسفة في مدرسة بيان كليرمونت
اإلسالمية للدراسات العليا بكاليفورنيا.
اجوك روجزوأ 40
مباشرا
ً جاعل إراد َة ال ّله متع ّلق ًة َت َع ُّل ًقا
ً فإنّه يأتي في نظريته عن العدالة اإللهية؛
اإللهي عن طريق إبراز النتائج
ّ ّ
بالش ّر؛ وبالتّالي يحاول الحفاظ على خير ّية القصد
الش ّر في العا َلم.
اإليحاب ّية لحصول ّ
كلمات مفتاح ّية :ابن عربي ،ال ّرومي ،ثيوديسيا ،العدالة اإلله ّية،
ّ
الش ّر ،ال ّت َص ّوف ،اإلسالم.
الشر؟ أال يقدر على ذلك ،أم أنّه ال يريد؟ ُت َعدّ مشكل ُة ّ
الشر لماذا ال يمنع ال ّل ُه َّ
ال، واحد ًة من أكثر المشكالت تحدِّ يا ألي رؤية كوني ٍة تتأسس على اإليمان ٍ
بإله م َت َع ٍ
ُ ّ ّ ً ّ
قائما بين القول بخير ّية ال ّله
إشكال ًً ُك ِّل ّي القدرة ،صاحب وجود مطلق .ال ّ
شك َّ
أن
الشر ،والمعاناة ا ّلتي ال ُم َس ِّو َغ لها
المحضة مضاف ًة إلى قدرته المطلقة وبين استفحال ّ
قوبل علما ُء الكالم المسلمون ،والفالسف ُة ،والعرفا ُء بهذا التّحدّ ي في هذا العالمَ .
تأويالت للمشكلة تختلف في ٍ الم َؤ َّسس على مثل هذه التّناقضات ال ّظاهرة ،فقدّ موا ُ
3
نجوعها ق ّل ًة وكثرةً.
المقال بين َت ْق ِر َير ِي ابن عربي ّ
والرومي حول مشكلة َّ
الشر ،ويقابل ُ يقارن هذا
نظرا
الشيء؛ ً أن قراء ًة مقارن ًة هنا قد تت ُ
ّسم بالخداع بعض ّ بينهما .أعرف تما ًما ّ
أيضا ،فابن عربي الم َت َل ِّقي ً
الختالف َش ْخ َص َّي َت ْي َها في المسلك ،ور ّبما في الجمهور ُ
َش إلى حدٍّ بعيد؛ وصوفي ُمنْت ٍ
ّ ومي شاعر
الر ُّ
صوفي متفلسف ،بينما ّ
ّ األول
في المقام ّ
الولِ ِه في العشق ،أ ّما جمهور ابن عربي فيبدو أكثر تع ّل ًقايبدو جمهوره متع ّل ًقا بشعره َ
مقارنة في حسبانها هذه ٍ أي
أي محاولة إلجراء ّ بفتوحاته العرفان ّية .يجب أن تأخذ ُّ
والرومي من كتاباتِهما .وعلى الفروق ا ّلتي قد تؤ ّثر على ما كان يرمي إليه اب ُن عربي ّ
الش ّر ِجدًّ ا ،لذا نذكر منها ما وجدناه مفيدً ا فحسب ،إذ يمكن
3تكثر األدب ّيات ا ّلتي تتناول مشكلة ّ
مثل على نظرة عا ّمة حول الموضوع عند هيك ،)1972( Hickوبيريبوم Pereboom العثور ً
( .)2005ولمقاربة مقارنة ،يمكن اال ِّطالع على بوكر ،)1975( Bowkerوجولدتسهير
،)51-99 ،1981( Goldziherوفان إينواجين .)1995( van Inwagenوألجل معالجات
إلحاد ّية وإيمان ّية للموضوع ،يمكن اال ِّطالع على هيوم ،)1990( Humeومارتن Martin
( ،)1978وماكي ،)1955( Mackieوالكروا ،)1974( La Croixوبالنتينجا Plantinga
(.)1974
41 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
أن الرومي كان يؤ ّدي صالته 4يذكر سيد حسين نصر ّ )138 ،1987( Seyyed Hossein Nasr
رجح ــ ّ
مرجعي البن عربي في قون ّية .ولعل هذا ُي ّ ّ فسراليوم ّية مأمو ًما خلف القونوي؛ وهو أشهر ُم ِّ
تأثيرا غير مباشر مارسه ابن عربي على الرومي من خالل تلميذه .ويجادل كما يرى Nasrنصر ــ ً
ويليام تشيتيك )2012( William Chittickعلى الجانب اآلخر عن فكرة ّ
أن التّراث الروحي
بالشخص ،أو أن الرومي كان يعرف ابن عربي ّ قد ألهم كال الرجلين ،فال يوجد دليل قاطع على ّ
أن يكون قد عالج فكره عن كثب .ويعتقد فرانكلين لويس Franklin Lewisوآناماري شيمل
الرومي لم يتأ ّثر فكر ًّيا بابن عربي أبدً ا. أيضا ّ
بأن ّ ً Annemarie Schimmel
اجوك روجزوأ 42
ليست في حقيقتها إال
ْ أسماء ال ّله وصفاته وتج ّل َياتِها المتعدِّ َدة على الدّ وام ،فال ّظواهر
اإلنساني هنا ّإل كونَه مرآ ًة ُمحيط ًة تنعكس
ّ ُ
الكمال مجموع عالقاتها بال ّله ،وال يعني
َ
عوالم ُم َص َّغ َّرة؛ تعكس
َ عليها أسماء ال ّله وصفاته؛ وبذلك يصبح الناس في آحادهم
ِ
إمكانات هذا العا َلم الكبير. ٍ
بتساو
ٍ
اختالفات ها ّمة المفكرين إال ّ
أن هناك الص َلة الفكر ّية بين
َ الرغم من هذا ِّ إنّه على ّ
الشر .يفهم ابن عربي وجود الشر على أنه الزم عن الضرورة في معالجاتهما لمشكلة ّ
روري للوجود المنطوي في الالتناهي ّ الض
الظل ّ فالشر يعني ذلك ّ الميتافيزيق ّيةّ ،
الرحمة
اختياري؛ أال وهو ّ
ّ اإللهي ،كما تحتوي نظريته في العدالة اإلله ّية على عنصر ّ
المضمر ُة في المطلق ،وبها يمكن لهذه الضرورةَ الممكنات
ُ اإلله ّية ا ّلتي بها ت َ
ُوجد
ٍ
إرادة مباشرة ،أو خلق مباشر من جهة ال ّله .وفي مقابل تتكشف دون أن َّ الميتافيزيق ّية ْ
الرومي
تلك النّظر ّية الضرور ّية اإلراد ّية في العدالة اإلله ّية لدى ابن عربيُ ،يقدِّ م ّ
جذورا
ً للشر
ِّ نظر ّي ًة للعدالة اإلله ّية تنحصر في االختيار إلى حدٍّ بعيد ،إذ ّ
يتلمس
في اإلرادة اإلله ّية .ومن أجل الحفاظ على الكمال األخالقي ل ّله دون مساس ،فإنّه
كثيرا ما يشير إلى النتائج اإليجاب ّية ا ّلتي ال ُيت ََأ َّدى إليها إال عن طريق وجود ّ
الشر في ً
فالشر عنده ليس مخلو ًقا لذاته عندما يريده ال ّله ،أو يخلقه ،أو ُيبرزه إلى
هذا العا َلمّ ،
الشر في
دمج ِّ
الوجود ،لكنّه يظهر من أجل خير أسمى ،وفي نهاية المطاف يمكن ُ
الرحمة الك ِّل ّية.
ّ
السائدة حول مشكلة ّ
الش ّر باختصار إلى بعض االتّجاهات ٍّ بادئ ذي بدءُ ،أشير
ُ
اإلسالمي ما بين القرن التاسع والثاني عشر كمقدِّ مة في ظاللها ّ في تاريخ الفكر
بتناو ِل نظر ّي َت ْي ِه َما في العدالة
يمكن مناقشة الرومي وابن عربي ،وبعد ذلك ،سأقوم ُ
تقرير ْي ِهما.
َ وأخيرا أقارن وأقابل بين
ً اإلله ّية،
ُ
المعالجات اإلسالمية لمشكلة الشر
بعض المجال واس ًعا لتفسيرات متعدِّ دة حول مشكلة الشر ،إذ تأتي ُ َ ُ
القرآن يفتح
اآليات القرآن ّية مؤ ِّكدَ ة على سيادة ال ّله وقدرته المطلقة؛ مثل قوله[ :إِ َّن ال َّل َه َع َلى ك ُِّل
ون](األنبياء: َش ْي ٍء َق ِد ٌير] (البقرة ،)20 :وقولهَ :
[ل ُي ْس َأ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْس َأ ُل َ
43 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
ون إِلَّ َأن َي َشا َء ال َّل ُه] (اإلنسان ،)30 :وقولهَ :
[وال َّل ُه [و َما ت ََشا ُء َ
،)23وقولهَ :
اآليات إلى حدٍّ بعيد على السيادة ُ ون] (الصافات .)96 :تشدِّ د هذه َخ َل َقك ُْم َو َما َت ْع َم ُل َ
َ
األفعال اإلنسان ّي َة .وال خلق ال ّل ِه
اإلله َّية ،كما تؤكِّد على قدرته وإرادته؛ إشار ًة إلى ِ
بحدٍّ ،درجة أنها تحيط بمقاصد اإلنسان الكامنة خلف اختياراتِه ُحدُّ هذه القدر ُة َ ت َ
ألي ِع َّلة ثانو ّية أخرى قد تكون في هذا العا َلم .لك ّن هذا
حقيقي ّّ الخاصة ،فال وجو َد ّ
الرواية القرآن ّية ،إذ هنالك آيات أخرى كثيرة تشير إلى
ليس سوى جانب واحد من ّ
محاس ًبا
َ اإلرادة اإلنسان ّية على أنّها حقيقة ،وإلى مسئولية اإلنسان عن أفعاله وكونه
عليها ،كما تشير كذلك إلى ضرورة تح ُّقق العدل المطلق؛ ومن ذلك قوله[ :إِ َّن ال َّل َه
[و َلت ُْس َأ ُل َّن َع َّما كُنت ُْم َت ْع َم ُل َ ٍ ِ ِ
ون] (النَّحل: َل َي ْظل ُم م ْث َق َال َذ َّرة] (النِّساء ،)40 :وقولهَ :
،)93وقولهَ [ :ما َأ َصا َب َك ِم ْن َح َسن ٍَة َف ِم َن ال َّل ِه َو َما َأ َصا َب َك ِم ْن َس ِّي َئ ٍة َف ِم ْن َن ْف ِس َك]
(النّساء ،)79 :وقولهَ [ :أ َو َل َّما َأ َصا َب ْتكُم ُّم ِصي َب ٌة َقدْ َأ َص ْبتُم ِّم ْث َل ْي َها ُق ْلت ُْم َأن َّٰى َٰه َذا ُق ْل
ٍ ِ ِ ِ ِ ِ
[و َما ُه َو م ْن عند َأن ُفسك ُْم إِ َّن ال َّل َه َع َل ٰى ك ُِّل َش ْيء َقد ٌير] (آل عمران ،)165 :وقولهَ :
ون ِم ْن َع َم ٍل إِ َّل ُكنَّا َع َل ْيك ُْم ُش ُهو ًدا إِ ْذ ُون فِي َش ْأ ٍن وما َت ْت ُلو ِمنْه ِمن ُقر ٍ
آن َو َل َت ْع َم ُل َ ْ ُ َ َ َتك ُ
ِ ِ يض َ ِ ِ ت ُِف ُ
[و َق َال ا َّلذي َن َك َف ُروا َل ت َْأتينَا َّ
السا َع ُة ُق ْل َب َل ٰى ون فيه] (يونس ،)61 :وقولهَ :
ض ات َو َل فِي ْالَ ْر ِ ب َل يع ُزب َعنْه ِم ْث َق ُال َذر ٍة فِي السماو ِ
َّ َ َ َّ
ِ ِ
َو َر ِّبي َلت َْأت َينَّك ُْم َعال ِم ا ْل َغ ْي ِ َ ْ ُ ُ
5
ين] (سبأ.)3 : َو َل َأ ْص َغ ُر ِمن َٰذلِ َك َو َل َأ ْك َب ُر إِ َّل فِي ِكت ٍ
َاب ُّمبِ ٍ
الصريح؟! إذا كان ال ّل ُه َ
خالق أفعالنا، كيف يمكن للمرء هنا معالجة هذا التّناقض ّ
شرا
وإن ًفخيراْ ،
ً خيرا
إن ً ً
مسئول عن أفعالهُ ،معا َق ًبا عليها؛ ْ فلماذا يكون الواحد منّا
الرسول لم يتناول هذا الموضوع في أن الجيل األول من صحابة ّ فشرا؟ يظهر لنا ّ
ًّ
ِ
منهجي إلى حدٍّ بعيد ،ولذلك ت ُِركت المسأل ُة عص َّي ًة على َ
الح ّل .ال ّله خالق ٍّ نقاش
ألهي ،ومع ذلك ّ
يظل أفعالنا ،وأ ًّيا ما كان يحدث في هذا العا َلم ،فهو حاصل بأمر ّ
ً
مسؤول عن أفعاله ،ويبقى ال ّل ُه هو العدل المطلق! اإلنسان
لقد كان لزا ًما على المجتمع المسلم النّاشئ النّزوع نحو تحليل أكثر منهج ّية
السابقة عليه ،واألنظمة الفلسف ّية
خضم اشتباكه مع التّقاليد الدّ ين ّية ّ
ّ الشر في
لمشكلة ّ
5في الحقيقة ،يمكن إدراج جميع اآليات التشريعية والوعظية هنا ،ألنها تعتمد على افتراض كون
حرا.
اإلنسان ًّ
اجوك روجزوأ 44
ِ
وجهات ٍ
نظر مختلفة، مدارس كالم ّية متعدّ دة بمعالجة الموضوع من قامت
ْ القديمة.
ُ
ٍ
جانب واحد من جوانبها فحسب ،على حساب فأحيانًا تُعا َلج ّ
الرواي ُة القرآن ّية من جهة
تناو َل الموضوع عن طريق الجمع بين ّ
الحرية البعض ُ
ُ الجوانب األخرى ،بينما يحاول
نسقي واحد.
ّ اإللهي في نظام
ّ اإلنسانية والجبر
نشأت
ْ تقدّ م مدرس ُة المعتزلة الكالم ّية َّأو َل معالجة منهج ّية لمشكلة ّ
الشر؛ ولقد
الميالدي ،وكان على رأسها
ّ الهجري/ال ّثامن
ّ هذه المدرسة في البصرة في القرن ال ّثاني
متك ّلمون مثل واصل بن عطاء (تُو ّفي ،)748/131وعمرو بن عبيد (تو ّفي ،)761/144
موقف المعتزلة ر َّد فعل تُجاه المدرسة
ُ العلف (تو ّفي .)849/235كان
وأبي الهذيل ّ
السيادة ،واإلرادة ،والقدرة اإلله ّية على حساب أفكار أخرى ا ّلتي تشدِّ د على فكرة ِّ
كالعدالة اإللهية ،والحر ّية اإلنسان ّية؛ َحدّ أن تصير لديهم منعدم َة المعنى .لم تكن تلك
أن المبالغة في ِ
فكرة َّ النّزعة غريب ًة في اإلسالم المبكِّر ،لذا قام المعتزل ُة بالجدال عن
يحط من العدالة اإللهية ،وخير ّية ال ّله المطلقة.
السيادة اإلله ّية من شأنه أن ّ
التّاكيد على ّ
أي أساس يكون اعتما ُده عليها إذا كان ال ّل ُه َ
خالق أفعالنا جمي ًعا ،وحتى بمقاصدها ،فعلى ّ
ّوفيق بها بين خلق ال ّله لألفعال مع فكرة الجزاء
إذ يحاسبنا؟ ما الطريقة ا ّلتي بها يمكن الت ُ
الحط من شأن العدالة والخير ّية المطلقة ل ّله؟
ّ األخروي سواء كان عقا ًبا أم إنعا ًما دون
ّ
فكرا عقالن ًيا للغاية؛ يجمع بين العدالةمن أجل الخروج من هذا المأزق؛ قدّ م المعتزل ُة ً
اإللهية والحر ّية اإلنسان ّية ،إذ قالوا بنفي فعل الخلق عن ال ّله هنا ،فال ّله ال يخلق ال الخير
اإلنسان ا ّلذي يملك إراد ًة َّ
حرةً؛ وبالتّالي يمكن محاسبتُه على ُ الشر ،بل يخلقهما
وال ّ
شر .على سبيل المثال ،يقول واصل بن عطاءّ :
«إن الباري ما قدّ َم ْت يداه من خير أو ّ
ُ
الفاعل للخير شر وال ظلم { ،}...فالعبد هو
اف إليه ّ
تعالى حكيم عادل ،ال يجوز أن ُي َض َ
والرب تعالى
ُّ الم َج َازى على فعله، ّ
والش ّر ،واإليمان والكفر ،والطاعة والمعص ّية ،وهو ُ
َأ ْقدَ َر ُه على ذلك ك ّله».6
والشر،
ّ خالق الخير ُ
اإلنسان َ لعل هذا ال ّطرح يحل مشكلة العدالة اإلله ّية ،فإذا كان َّ
مت يداه ،وبذلك يتح ّقق العدل .لكن ،تنشأ عن هذا فإنّه يمكن ل ّله محاسبته طب ًقا لما قدّ ْ
ّ
الشهرستاني ،الملل والنِّحل( ،السعودية :مكتبة نزار مصطفى البان ،الطبعة الثانية ،)2007ص .29 6
45 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
إجبارا
ً عادل؟ أليس هذا َحدًّ ا ُم ِ
لز ًما ،بل تساؤالت :هل يجب على ال ّله أن يكون ً
ٌ ّ
الحل
والشر ً ِ
أصل؟ ُّ الخير
ُ ُمخ ًّل ّ
بالسيادة اإلله ّية المطلقة؟ واألهم من ذلك؛ ما الذي يعنيه
مدى يمكن لعقل اإلنسان المحدود تمييز أحدهما عن أي ً أهما مفهومان عقل ّيان؟ وإلى ّ
اآلخر؟ وما دمنا ال نمتلك رؤي ًة واضح ًة للشر والخير ،فعلى ّ
أي أساس يمكن اعتبار
األفعال اإلله ّية عادل ًة أو ظالم ًة؟
10المصدر السابق.
11القشيري ،الرسالة القشيرية ،تحقيق :عبد الحليم محمود (القاهرة :مطابع مؤسسة دار الشعب،
1409هـ ــ 1959م) ،ص .295
47 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
17أبو حامد الغزالي ،إحياء علوم الدين (بيروت ،دار ابن حزم ،الطبعة األولى ،)2005ص .1618
أتم وال أكمل». ونص العبارة الواردة« :وليس في اإلمكان ً
أصل أحسن منه وال ّ
18أبو حامد الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،تحقيق :إبراهيم آكاه جوبوقجي ،حسين آتاي (تركيا ،كلية
اإللهيات بجامعة أنقرة ،)1962 ،ص .81-82
49 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
الذات المتست َِّرة السرمدي حتى وهي ُمتّصفة باإلمكان الخالص في ّ ّ تظل األشياء في حالة من الثبوت ّ 19
(كوربان ،186 ،1969 Corbinإيزوتسو .)90 ،1983 Izutsu
الذات اإللهية نفسها بـ«الفيض والم ْض َمرة في ّ ُيع ِّبر ابن عربي عن هذه العالقة ما قبل السرمدية ُ 20
األقدس» ،كما ُيع ِّبر عن الفيض الثاني بـ«الفيض المقدس» حيث تتع َّين األعيان الثابتة في الوجود
الخارجي.
عرف، فأحببت أن ُأ َ
ُ كنزا لم ُأ ْع َرف،
{كنت ً
ُ قدسي يقول:
ّ المخفي» من حديث
ّ اس ُت ْل ِه َم مفهو ُم «الكنز 21
فت إليهم فعرفوني} .ورغم ضعف هذا الحديث من جهة السند ،إال أنه وتعر ُ
الخلقَّ ، َ فخلقت
ُ
ً ِ
ُي ْست َْش َهدُ به من ق َبل ابن عربي وغيره من الصوف ّية .يقول ابن عربي« :ورد في الحديث الصحيح ك َْشفا،ِ
كنزا لم ُأ ْع َرف،{كنت ً
ُ ثابت َن ْق ًل عن رسول ال ّله ــ صلى ال ّله عليه وسلم ــ عن ر ِّبه ما هذا معناه: الغير ٍ
فت إليهم فعرفوني}» (ابن عربي ،الفتوحات المكية، وتعر ُ
الخلقَّ ،
َ فخلقت
ُ عرف، فأحببت أن ُأ َ
ُ
السطر.28 : الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص َّ ،399
الكالمي بأجمعه ،إذ يرى ّ يقدّ م ابن عربي طر ًقا متعدِّ دة لفهم األسماء اإلله ّية تختلف ُك ِّل ًّيا مع التقليد 22
ب أو حقائق الن َِّسب بين ال ّله والعا َلمُ .ت َع ِّبر األسماء اإللهية عن مشاهد األسماء اإللهية تدل على نِ َس ٍ
اجوك روجزوأ 50
ّ
وألن عملية تظهر الممكنات إلى الوجود ،تنعكس األسماء اإللهية على َم َحا ِّل َها.
أيضا؛
الخلق/الظهور مستمرة ،والالتناهي متنوع ،فإن عدد تلك العالقات ال يتناهى ً
يقول ابن عربي« :والممكنات غير متناهية ،فاألسماء غير متناهية» .23وهكذا ،يمكن
القول ــ طب ًقا لكون ّيات {كوزمولوجيا} ابن عربي الميتافيزيق ّية ــ إن الطالقة اإللهية
كل ِمن التناهي جميع الممكنات ،والصفات اإللهية ،وضرورة ظهورها في تتضمن ً
ّ
الخارج؛ وما دام ال ّل ُه ال يتناهى ،فال بد من وجود العالم.
السبب الذي من أجله يخلق ال ّله العالم خل ًقا جديدً ا
َ يطرح مفهوم الالتناهي أمامنا
ُ
يكرر آن .إنه من أجل تح ُّقق الممكنات الالنهائيةّ ، في كل ٍ
فإن فعل الخلق ينبغي أال ِّ
نفسه ،إذ «ال تَكرار في التج ِّلي» ،24وال بد من تغ ُّير فيه على الدوام .يشغل هذا العا َلم
محل لتح ُّقق الممكنات غير الم َّط ِرد ــ مكانًا يكون فيه ًّ
ــ الذي يحيا حالة من التغ ُّير ُ
المتناهية .وعن طريق خلق حالة من التغير غير المنقطع في عالمنا المتناهي ،فإن
الممكنات غير المتناهية.
ُ مجلوة؛ ّ
تتكشف عليها ّ الالمتناهي يجعل من المتناهي مرآ ًة
ً
طويل ،ال تخلو من حتى الكائنات التي تبدو من الخارج عص ّية على الفناء ،وتبقى
ِ
حالة التغير المستمر هذه .ال يعيد ال ّله ظهور تج ِّلياته في نفس الصورة كل مرة ،بل
متعدِّ دة من خاللها يمكن مقارب ُة أسرار هذه العالئق ّية .يقول إيزوتسو ُ « :)99 ،1983( Izutsuيع ِّبر
خاص من إعالن الذات اإللهية عن نفسها { .}...إنها حقائق الن َِّسب؛ العالقة ّ كل اسم عن جانب
العالم إلى َم ْظ َهر ُم َت َعدِّ د حيث
َ ةُ الغاطس ةُ ي
ّ العالئق هذه تحول م». َ
ل العا في الواحد الحق
التي يظهر بها ّ
دائما دون انقطاع .يمكن أن ُيعتَبر الموجود من هذا الجانب ك ًُّل منتس ًبا إلى تتج ّلى األسماء اإللهية ً
ومزجا لهذه األسماء اإللهية.
ً ال ّله،
23ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الرابع (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .288
أساسا في فكر ابن عربي ،فاألشياء ال تتخ ّلق في حالة واحدة، 24تعد فكرة «ال تكرار في التجلي» مبدأ ً
كل آن. كل حين بهذا المعنى ،بل يتخ َّلق العالم خل ًقا جديدً ا في ِّ دائما ،وكل شيء يتجدَّ ُد ّ
ولكنها تتغ ّير ً
ِ
كانت فكرة الخلق المستمر حاضر ًة في النقاشات المبكرة حول الع ِّل َّية بين الالهوت ّيين المسلمين.
وأن االرتباط النّاشئ بينهما لم ينشأ والم َس َّبب إلى ال ّلهّ ، اشتهر األشاعرة بأنهم ينسبون خلق السبب ُ
يؤس ُس للسيادة ِّ ما وهذا ة؛يّ الكالم ة ّ
ل األد من عدد على إال على سبيل العادة ،ويقيمون رأيهم هذا
اإللهية المطلقة وقيام العا َلم المطلق على ظهوره تعالى والمدد اإللهي الدائمَ .ت َبنَّى هذه الفكرة ــ
كتضمنها معنى الحضور ُّ المكي (توفي )996لتطبيقاتها العرفانية ّ كما يبدو ــ علماء مثل أبي طالب
َ ِّ ِ
آن .لمراجعة العقيدة األشعرية في العل َّية ُينْظر :األشعري (،)9-10 ،1967 اإللهي المحيط في كل ٍ
ّ
وابن فورك ( ،)131 ،1987وكوجا .)2016( Koca
51 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
دائما ،ولهذا السبب ،ال بد من وجود تغ ّير مستمر ،وحتى ُيدَ ِّعم يتج ّلى تج ِّل ًيا فريدً ا ً
ابن عربي ما انتهى إليه ،فإنه يعتمد في ذلك على ما جاء في القرآن من قوله[ :ك َُّل َي ْو ٍم
ُه َو فِي َش ْأ ٍن] (الرحمنّ .)29 :
إن اليوم اإللهي ــ كما يرى ابن عربي ــ قد يكون َز َمنًا
الزمن الفرد» ،25وهو ما جاء
فر ًدا «آن» ،فـ«األيام كثيرة ،ومنها كبير وصغير ،فأصغرها ّ
ٍ 26 ِ
في قوله تعالى[:ك َُّل َي ْو ٍم ُه َو في َش ْأن] (الرحمن ،)29 :ولذلك يلزم عن «الت ُّ
ّوسع
اإللهي» أن يتخلق العالم خل ًقا جديدً ا كل حين.27
ّ
صادرا عن ضرورة فيما يرى اب ُن عربي ،ومن هنا
ً ُ
الكون إلى هذا الحد ،يبدو
الرحمة ،فال ّله لم يخلق العالم لمجرد ضرورة ميتافيزيقية ،بل
يعرض لمفهومه عن ّ
عنصرا إراد ًّيا إلى كون ّيات ابن عربي.
ً إنعامي صادر عن الرحمة ،وهذا ما يضيف ّ كفعل
وإليضاح ما سبق بلغة أكثر تجسيدً ا لمذهبه ،فإنه يستخدم تعبير « َن َفس الرحمن» الذي
يشير في لغته الفنّية إلى عملية الخلق المستمرة ل ّله في هذا العا َلم28؛ فعن طريق تن ُّف ِسه
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء األول (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .292 25
يقول ابن عربي« :ونحن كثيرون عن َع ْي ٍن واحدة َج َّل ْت َو َت َعا َل ْت؛ انتُس َب ْت إلينا إيجا ًدا ،وانتَسبنا إليها 26
نظرت إلى أحد ّية العالم، وجدً ا ،فإذا الحق خال ًقا وم ِ نفسه َخ ْل ًقا وموجو ًدا ،عرف َّ
َ ُ وجو ًدا ،فمن عرف َ
ِ
ضربت الواحدَ في الكثير ،والعا َلم َأ َث ُر أسمائه» َ العالم إلى نظرت
َ وإذا الواحد، ضر ْب َت الواحدَ في
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص ،500
شأن مع كل جزء من العالم بأن يخلق فيه ما يبقيه سوى ما يحدثه أيضا« :فهو في ٍ السطر .16 :ويقول ً
الم َحال لوجودها فيهم، ُّ ُ
مما هو قائم بنفسه في كل زمان فرد ،وتلك الشئون أحوال المخلوقين ،وهم َ
الحق في ال زمانين ،ألنه لو بقي زمانين لم يكن ُّ الح ِ فإنه فيهم يخلق تلك الشئون دائما ،فال يصح بقا ُء َ
خلقا وال فقيرا إليه ،وكان يتصف بالغنى عن ال ّٰله ،وهذا ُم َحال وما يؤدي الحال َُّ حق َم ْن بقي عليه ِّ
الم َحال ُم َحال» ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى، إلى ُ
1911م) ،ص ،384السطر.31 :
وردت كلم ُة «الخلق الجديد» في قوله تعالىَ [ :أ َف َع ِيينَا بِا ْل َخ ْل ِق َْال َّو ِل َب ْل ُه ْم فِي َل ْب ٍ
س ِّم ْن َخ ْل ٍق ْ 27
يد] (ق.)15 : ج ِد ٍ
َ
يفرق ابن عربي بين «رحمة االمتنان» ،و«رحمة الوجوب» ،إذ األولى ِع َّلة الوجود ،لذا فهي رحمة ِّ 28
يخص ّ عالم ّية وتحيط جميع الموجودات ،أما الثانية فإنها تنطوي على ظهور أكثر تحديدً ا للرحمة؛
هؤالء الذين استجابوا لرحمة اإليجاد العالم ّية من خالل متابعة الوحي اإللهي .يقول ابن عربي« :فال
[و َر ْح َمتِي َو ِس َع ْت ك َُّلالعرش َمن ال تصيبه الرحم ُة اإلله ّي ُة؛ وهو قوله تعالىَ : ُ يبقى فيمن حوى عليه
ِ
سريان الرحمة في العا َلم» ُ والم ْستَوي الرحم ُن ،فبحقيقته يكون ِ كل شيءُ ، َش ْي ٍء] ،والعرش وسع َّ
(ابن عربي ،فصوص الحكم ،علق عليه :أبو العال عفيفي (إيران ،انتشارات الزهرا1946 ،م) ،ص
.220-221
اجوك روجزوأ 52
اض الجود». ِ
الممكنات إلى «الكون» ،وهو يتن ّفس ألنه «ف َي ُ خرجتعالى بكلمة « ُك ْن»ُ ،ي ِ
تظهر الممكنات في الخارج بزفير األنفاس اإللهية تلك ،وبها تتج ّلى األسماء اإللهية
س الرحمن الذي َن َّف َس به عن األسماء في َم َحا ِّل َها؛ يقول ابن عربي« :العا َلم ظهر في َن َف ِ
كل من الممكنات واألسماء اإللهية إذن اإللهية ما تجده من عدم ظهور آثارها» .29على ٍّ
أن يتج َّل َيا ،وبذلك يستجيب ال ّله المتصف بالعلم والرحمة لطلب التّج ِّلي ،و ُينَ ِّفس عن
ك ُْر َب ِة الممكنات .يقول ابن عربي« :والحقيقة ُت ْعطِي أن يكون لكل اسم يظهر ــ إلى ما ال
يتناهى ــ حقيقة يتميز بها عن اسم آخر».30
ب عن أسرارالح ُج َ
اإللهي والرحمة يرفعان ُ
ّ ّوسع
يرى ابن عربي إذن فكرتَي الت ُّ
ِ
سؤال لماذا كان وجود الشر ِ
الخلق ،لكن ال تزال هذه األفكار عاجز ًة عن اإلجابة عن
المبدئي الثاني :ما هي طبيعة وجود
ّ َ
السؤال واج ًبا في العالم .يتساءل ابن عربي هنا
أن العا َلم إمكان أو ممكن من الممكنات ،وهو ممكن ٍ
بإيجاز ّ العالم؟ والجواب عنه
واقع بين ُم ْط َل َق ِ
ين؛ أال وهما :ال ّله والعدم .لكن ،ما معنى الممكن؟ لإلجابة عن هذا
أن أص َله يعود بنا إلى ّ
السجاالت التي كانت دائر ًة حول هذه المسألة بين السؤال ،يظهر ّ
السابقينً ،
فمثل ،يقوم مفهوم «اإلمكان» عند الغزالي المتكلمين المسلمين ،والفالسفة ّ
على التساوي بين الوجود والعدم ونفي لزوم أحدهما .31وتشير التعريفات ــ كان اب ُن
كل،عالما بها على األرجح ــ إلى أن الممكن ليس واج ًبا وليس ممتن ًعا بذاته .على ٍّ
عربي ً
أكثر منهج ّية وعم ًقا ،إذ يرى الوجود ال يخلو منتأتي معالج ُة ابن سينا لمفهوم اإلمكان َ
ِ
وجوده ،أو ما كونه إ ّما واج ًبا ،أو ممكنًا ،أو ممتن ًعا .وواجب الوجود هو ما يمتنع عد ُم
يتضمن وجو ُده استحال ًة فيّ تضمن عد ُمه استحال ًة ،وأما الممكن الوجود ،فهو ما ال
قد ّ
القول بوجوب وجود ُ والواجب ما كان وجو ُده واج ًبا بذاته؛ وبهذا المعنى يصح
ُ نفسه،
أصل ،وأ ّما الممتنع الوجود ،فهو ما استحال ً بغيره ،وإال ما ُو ِجدَ
أيضا ،لكن ِالممكن ً
منطقي.
ّ ٍ
تناقض في نفسه ،وانطوى وجو ُده على
29ابن عربي ،فصوص الحكم ،علق عليه :أبو العال عفيفي (إيران ،انتشارات الزهرا1946 ،م) ،ص
.145
30ابن عربي ،فصوص الحكم ،علق عليه :أبو العال عفيفي (إيران ،انتشارات الزهرا1946 ،م) ،ص .65
ُ 31ينْ َظر :أبو حامد الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،تحقيق :إبراهيم آكاه جوبوقجي ،حسين آتاي
(تركيا ،كلية اإللهيات بجامعة أنقرة ،)1962 ،ص .84-85
53 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
ووصف واجب الوجود ينطبق على ال ّله ،أما ممتنع الوجود فهو ما نَا َظ َر العدم ،وأ ّما
وقوع العا َلم في منطقة ّ
الظل من اإلمكان. َ ممكن الوجود فهو ما اتَّصف به العا َلم؛ ما يعني
مصطلحا كـ«البرزخ» لإلشارة إلى هذا النّطاق األنطولوجي
ً كثيرا ما يستخدم ابن عربي
ً
البرزخ بقوله« :اعلم ّ
أن البرزخ عبارة عن أمر فاصل َ الوسيط للعا َلم؛ يصف ابن عربي
الظل والشمس» .32إنّه من الصواب كالخط الفاصل بين ّ ّ متطر ًفا أبدً ا،
بين أمرين؛ ال يكون ّ
يتلون في الوقت نفسه بالشيء كل ما َي ْف ِرق ويجمع ،وما ّ إن البرزخ عبارة عن ّ أن ُيقال ّ
برزخا في ُك ِّل َّيتِهّ ،
فكل ٍ
منطقة بين ال ّله والعدم؛ ويكون ً الذي َي ْف ِر ُق ُه 33.وبذلك يقع العا َلم في
ما في العا َلم ما هو إال برزخ واقع بين درجتَين متتاليتَين من الوجود ،فـ«ما في الوجود
غير البرازخ» ،34وكل شيء له مكان ما من ال َبين ،وكل شيء هو وال هو ،وعالم الوجود
والصيرورة ليس ّإل ً
برزخا بين ال ّله والعدم ،إذ ليس موجو ًدا في ذاته.
تساعد هذه التفرق ُة بين واجب الوجود وممكنه وممتنعه اب َن عربي على تقديم
الشر
الخير والوجود ،كما يتساوى ّ
ُ أنطولوجي لسؤال الخير والشر ُ
حيث يتساوى ّ ُب ْع ٍد
األخالقي تحت ُم َس َّميات الخير
ّ والعدم؛ وتظهر هذه التفرقة األنطولوجية في السياق
والشر.
وسعت ّ
كل شيء ،حتى إذا رحم َم ْن وقع ْ الحق هذا ك َّله إال ّ
للرحمة التي «وما َّقرر ُّ
َ
الحق في الدار الدنيا الخلق ّ
أن هذه الرحمة اإلله ّية تقدّ َم اإلعال ُم بها من ِّ ُ ُ
األخذ به ،عرف
ِ
دار التكليف ،فال ينكرها العالمون؛ فما أخرج ال ّل ُه العا َل َم من العدم الذي هو الشر إال
للخير الذي أراده له ليس إال الوجود».35
أن ال ّل َه ما َأ ْظ َه َر الممكنات في أعيانها موجود ًة إال ليخرجها من ّ
شر العدم، «واعلم ّ
بح ْك ِم ال َع َرض».36
شر فيه إال ُ إذ علم ّ
أن الوجود هو الخير المحض الذي ال ّ
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء األول (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .304 32
ٍ
مطالعة حول مفهوم البرازخ وكيف استخدمها ابن عربي للتعبير عن العالقة بين ال ّله والعالم ِ
لمزيد 33
والتطبيقات المتعارضة لهذه العالقة ،يمكن النظر فيما كتبه بشير .)2004( Basheir
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .156 34
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .377 35
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .207 36
اجوك روجزوأ 54
وال ّله خير محض ،ألنه وجود محض ،ال قيدَ لوجوده ،فهو واجب الوجود بذاته؛
يقول اب ُن عربي:
«الحق تعالى له إطالق الوجود من غير تقييد ،وهو الخير المحض الذي ال شر فيه،
ف ُيقابله إطالق العدم الذي هو الشر المحض الذي ال خير فيه».37
ومن َث ّم ،يعود الشر أنطولوج ًّيا في أصله إلى العدم ،أ ّما الخير فإنه يعود إلى الوجود
شر محض ال خير فيه أبدً ا كما
الواجب ،إذ ُيقابل العد ُم «الوجود من غير تقييد»؛ وهو ّ
أسلفنا.
«واعلم ّ
أن ُم َس ّمى الشر على الحقيقة و ُم َس َّمى الخير إنما هو راجع إ ّما لوض ٍع ّ
إلهي
خيرا في ح ّقه ،أو منافرة مزاج
مزاج فيكون ً ٍ جاءت به ألس ُن الشرائع ،وإ ّما لمالءمة
ْ
ٍ مقر ٍر اقتضاه الدّ ُ ٍ
نقص عن تلك خيرا ،أو
ليل فيكون ً شرا في ح ّقه ،وإ ّما لكمال َّ
فيكون ًّ
خيرا في نظره ،أو عدم حصوله فيكون
شرا ،وإما لحصول غرض فيكون ً
الدرجة فيكون ً
38
شرا في نظره»
ًّ
ّ
فالظل ظل فإنه يكون أشب َه ما يكون بمصدره، للحق ،وألنّه ّ
ّ ليس العالم إذن إال ّ
ظل
كمال من النور المحض ،لذا فهو في ُب ْع ٍد عن ال ّلهّ ،
ألن أقل ً ال عين له بعدم النّور ،وهو ّ
ال ّله هو النور المحض 39.وليس معنى الظل أن يكون ظلم ًة ،أو ضع ًفا في النور ،بل كل
ظل .واللون بهذا المعنى ظل مفص َلة به أو محدودة ،تكون ًّ
صورة ُمعطاة عن الحق ،أو َّ
الم َت َل ِّون ّ
ظل، جاج الذي ال لون له في نفس األمر .هذا الزجاج ُ
الز َ
كذلك ،إذ يتل َّب ُس ّ
ظهورا ُم َق َّيدً ا
ً ففيه يظهر النور ويتق ّيد في الوقت نفسه .وهكذا كل موجود غيره؛ ليس إال
الم َق َّيد ،وظلًّ له .ومعنى الظهور هو ال َّت َع ُّين ،وهكذا يظهر العا َلم الذي هو
للمطلق غير ُ
ظل ال ّله «النّور» في حقيقة األمر 40.وبذلك يعترينا نور ناقص ،ألنّنا لسنا ال ّله الذي هو
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء األول (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .47 37
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .576 38
ُينْ َظر :ابن عربي ،فصوص الحكم ،علق عليه :أبو العال عفيفي (إيران ،انتشارات الزهرا1946 ،م)، 39
ص .103
ُينْ َظ ُر :ابن عربي ،فصوص الحكم ،علق عليه :أبو العال عفيفي (إيران ،انتشارات الزهرا1946 ،م)، 40
ص .100-104
55 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
نور محض ،ووجود محض ،وخير محض .إننا نقع في منطقة بين النور والظلمة ،أو
ّ
والظل حيث تلتقي األضدا ُد؛ الوجود والعدم ،ونحن ذلك الخط الفاصل بين النور
ولوقوعنا في هذا العا َلم الوسيط ،فإنّنا نكون قد تلونّا ٍّ
بكل من النور والظلمة؛ تلك
الطبيعة المختلطة هي التي تُمكِّننا من معرفة ال ّله ،وعن طريق شهود ّ
الظل الخاص في
ُ
إدراك النور المحض .وبذلك ،يكون مفهوم اإلمكان هو المفتاح الذي آحادنا ،يمكن
41
مغاليق واجب الوجود.
ُ به تتفتّح
التعرف على طبيعة العا َلم كموجود ممكن ،وبعد المساواة بين الخير والوجود من
وبعد ُّ
جهة ،والشر والعدم من جهة أخرى؛ يأتي ابن عربي للحديث عن الشر كضرورة ظ ِّل َّية لفعل
الخلق/الظهور ،فما دامت األشيا ُء ممكن ًة ،فإنها ال يمكن أن تماثل واجب الوجود الذي
تتضمن عملي ُة تع ُّي ِن
ّ آثارا منهما م ًعا.اإلمكان واق ًعا بين ال ّله والعدم ،فإن فيه ً
ُ هو ال ّله ،وما دام
تمييزا ال بدّ من حدوثه. ِ
الوجود نسب َة اإلمكان، ٍ
وتمييزا بين الخالق والمخلوق؛ ً ً شيء في
أن الممكن َل َّما كان «والعا َلم في قبضة الخير المحض ،وهو الوجود التّا ّم ،غير َّ
ب إليه ،فإنه ليس له من ذاته الشر ما ُين َْس ُ
ب إليه من ِّنظر إليه ،كان بذلك ال َقدْ ِر ُين َْس ُ
للعدم ٌ
يستقر عليه ،وال َي ْث ُب ُت، ِ
الشر َفم ْن هناك ،وال ِ ِ
ّ وجوب الوجود لذاته ،فإذا عرض له ُّ حكم
ُ
42
فإنه في قبضة الخير المحض والوجود» .
يظل الموجود الممك ُن مرتب ًطا بالعدم لمرتبته الوسيطة بين الوجود والعدم .تتضمن
ٍ
كمال ،فليس كمثل ال ّله شيء، عملي ُة الخلق/الظهور غير ّية تنطوي بدورها على عدم
والكمال ال يكون إال ل ّله ،لذا ،يأتي الشر من «جهة» الممكن ،ال من جانب ال ّله.
ُ
الشر في العا َلم ،فما
«إمكان {الشيء} ال يحول بينه وبين العدم ،فبهذا القدر ظهر ُّ
ظهر إال من جهة الممكن ،ال من جانب الحق».43
القول بضرورة انعدام الخلق ،فالخلق يعني َ ِ
النقص يشبه َ
القول بضرورة انعدام ّ
إن
يتضمن نو ًعا من ال َغ ْي ِر َّية ،فعملية الخلق ،والظهور،
َّ تما ُي ًزا عن ّ
الذات اإلله َّية؛ وهو ما
النقص هنا حتم ًّيا؛ وهو ما يفسر
ُ والتع ُّين في الوجود هي عملية غير َّية ،ومن ثم يكون
41ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .303
42ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .315
43ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .389
اجوك روجزوأ 56
أخيرا ،هناك سؤال آخر ال
الشر ضرور ًة أنطولوج ّيةً .
بدوره السبب وراء كون وجود ّ
الشر إذن؟
نسب ُّ
مطروحا؛ على ابن عربي اإلجابة عليه :لمن ينبغي أن ُي َ
ً يزال
فإن ما ُي ِ
وجدُ ه أمرا واحدً اَّ ، واآلن ،ما دام الوجو ُد المطلق ل ّله ،وما دام الوجو ُد
والخير ً
ُ
والخيالي
ّ والحسي
ّ المعنوي
ّ خيرا مطل ًقا كذلك« ،فما في الوجود ال ّل ُه ينبغي أن يكون ً
يقول ابن عربي« :ولهذا، الحق»ُ .44
الحق إال َّ
ُّ حق ،فإنّه موجود عن حق ،وال ُي ِ
وجدُ إال ّ
النبي قال في دعائه ر َّبه{ :والخير كله في يديك ،والشر ليس
أن َّو َر َد في الخبر الصحيح ّ
ألن الخير مخلوق ل ّله ،أ ّما الشر
الشر إلى ال ّلهّ ،
إليك}» .يرفض ابن عربي إذن نسب َة ّ
45
44ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .373
45ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .528
46ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .528
57 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
47ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .389
48ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .449
49ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثاني (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص .244
اجوك روجزوأ 58
العالم موجو ًدا ،فال بد من وجود الخير
ُ إن ص َّي ْرنا ُه مع ال ّله شي ًئا واحدً ا .وما دام
ْ
أيضا ،وليس هذا إال النفصالنا عن ال ّله؛ وهو ما ّ
يفسر فيه ،كما يجب وجود الشر ً
الشر مخلو ًقا ،وليس ً
أمرا من األمور الوجود ّية، َ
القول بضرور ّية الشر )4( .ليس ُّ
ضروري للوجود ،فال وجو َد
ّ وإنما يعود أصله إلى العدم ،كما يظهر على أنه ظل
له بنفسه ،وال يمكن له ذلك )5( .ينطوي تأكيدُ ابن عربي على مبدأ الرحمة في
الخلق على أنّه ما كان عن ضرورة فحسب ،بل عن إرادة ال ّله ً
أيضا ،وال يرى هنا
نوعا من التناقض ،إذ يرى انسجام الضرورة وحرية اإلرادة في الذات اإللهية)6( . ً
دائما ساب ًقا على الشر في هذا العا َلم،
الخير ً
ُ تسبق رحم ُة ال ّله غض َبه ،ولهذا كان
الشر ُمنْ َط ِمس ال محالة في الخير
وفي العا َلم اآلخر كذلك .وما ُينْت ََهى إليه هنا أن ّ
ِّ 50
ال ُكل ّي.
األشرار إذن؟ يجيب ابن عربي ُ بمنطمسا نهاي ًة في الخير الكلي ،فكيف س ُي َعا َق ًُ 50واآلن ،ما دام الشر
عن هذا السؤال في إطار فهمه الخاص لنار جهنم التي تفنى في النهاية من جانب ،ومن جانب آخر
لمن كان من أهلها .يقول ابن عربي« :وأما أهل النار الذين هم من أهلها ،ولم يقل تكون َم َح ًّل للنعيم َ
ِ
العذاب .وال يلزم َمن كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا ُم َع َّذبين بهاّ ،
فإن أهلها و ُع َّم َارها
مالِ ٌك وخزنتُها؛ وهم المالئكة َو َما فيها من الحشرات والح َّيات وغير ذلك من الحيوانات التي ُت ْب َع ُث
النار عليه عذا ًبا .كذلك َم ْن يبقى فيها؛ ال يموتون فيها وال يحيون، يوم القيامة ،وال واحد منهم تكون ُ
ّ ُ
النار أهلها لتعذبوا ُ
مسرورا ،وأشدّ العذاب مفارقة الوطن ،فلو فارق َ ً ف موطنَه كان به وكل َم ْن َألِ َ
ُّ
فعمرت الداران ،وسبقتِ ِ ٍ
وإن ال ّله خلقهم على نشأة تألف ذلك الموط َن، باغترابهم َع َّما ُأ ِّه ُلوا لهّ .
جهنم ومن فيها ،وال ّله أرحم الراحمين كما قال عن نفسه» َ كل شيء؛ ووسعت َّ
ْ الغضب،َ الرحم ُة
ابن عربي ،الفتوحات المكية ،الجزء الثالث (مصر ،دار الكتب العربية الكبرى1911 ،م) ،ص ،25
ليبرالي
ّ «إجمالي
ّ السطر .14 :يرى محمد حسن خليل Mohammad Hassan Khalilأن ابن عربي
»liberal inclusivistفيما يتعلق بعلم الخالص في اآلخرة ،إذ يقبل فكرة الخلود في النار ،لك ّن
«الرحمة اإللهية»؛ أكثر الصفات اإلله ّية ذات َّي ًة على اإلطالق ستتغ َّلب نهاية حتى في الجحيم .وهكذا،
تظل الجنة مختلفة عن الجحيم الذي يطلق عليه اب ُن عربي اسم «الجحيم الفردوسي» .لمزيد مطالعة ّ
حول هذا الموضوع لدى ابن عربيُ ،ينظر Mohammad Hassan Khalil :محمد حسن خليل
( ،)54-74 ،2012وسميث ،Smithوحداد .)2002( Haddad
59 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
خير ُيكافؤه .يعمل الرومي على تقديم مجموعة من األدوار اإليجاب ّية التي يؤ ِّديها وجود
51
الكلي.
ّ الشر في الخير
الشر ،كما يرمي إلى بيان غلبة الرحمة اإللهية نهاية األمر ،وانمحاق ّ
ّ
سر الخلق معتمدً ا في ذلك على الحديث ِ
على غرار ابن عربي ،يشرح الرومي ّ
بأن حكمة الخلق/الظهور كانت من أجل المنسوب إلى النبي محمد؛ القائل ّ
الذات اإللهية، أن تتعرف الموجودات العاقلة على كنوز ال ّله المخف ّية في ثنايا ّ
إذ ليس العا َلم إال مرايا متكاثرة تظهر عليها الكنوز المخفية ،والصفات اإللهية.
يتعرف على ال ّلهوبمشاهدة هذه االنعكاسات ،يمكن للمرء ــ إلى حدٍّ ما ــ أن َّ
العالم من أجل إظهارَ نتاجا عن معرفته« .لقد خلق ال ّل ُه هذا
الذي تحصل محبتُه ً
كنوزها مدفون ًة مخف َّي ًة».52
ُ {هذه الحكمة} ،وذلك حتى ال تبقى
ات اإلله ّية ،فتبقى تظهر على مرايا الخلق إذن أسما ُء ال ّله الحسنى وصفاته ،أما َّ
الذ ُ
بوجهك ناحي َة صفاته»53؛ ما
َ مت ال تملك الصمو َد عند ماه ّيته ،فأشح مخف َّية ،فـ«ما ُد َ
أن األسماء اإللهية تملك قدر َة شرح وتفسير الظواهر الوجود ّية .تلتقي األضداد يعني ّ
إذن في هذا العالم حيث يظهر الخير والشر ،والجمال وال ُقبح ،والجبر واالختيار،
واللطف والقهر .كيف يمكن للمرء استيعاب هذه الثنائ ّية في األسماء والصفات
اإلله ّية؟ لإلجابة عن هذا السؤالُ ،ي َف ِّرق الرومي بين أسماء اللطف والقهر اإلله ّية ،إذ
بالشر.
ّ تتع ّلق األولى منها بالخير ،والثانية
خلقت العا َلم
ُ ف} ،أي فأحببت أن ُأ ْع َر َ
ُ كنزا مخف ًّيا،
{كنت ً ُ «الحق تعالى يقول:
ّ
ِ ِ
إظهار ذاتي تار ًة بال ُّلطف وتار ًة بالقهر».54 الغرض من ذلك ك ِّله
ُ ك َّله ،وكان
ُ
يخص
51لزيالن موريس Zailan Morisمقالة جيدة جدا؛ تشرح فيها جوانب بعينها في غاية األهمية فيما ّ
نظرية العدالة اإللهية لدى جالل الدين الرومي ،ويبدو أنها تنسب الرومي إلى المذهب الجبري في
بعض مواقفه وهو يعالج موضوع الشر .وما أجادل عنه هنا أن الرومي يقدم تفسيريا اختيار ًّيا لوجود
الشر في العالم ،لذا فإنه يختلف في هذا الصدد عن معالجة ابن عربي الجبر ّية االختيار ّية .لمطالعة
تمهيد جيد لالهوت الرومي ،ونظريته في العدالة اإللهية ،ومفهومه عن حرية اإلرادة في مواجهة
زرينكوب .)2009( Abdolhossein Zarrinkoub الجبر ،يمكن مطالعة :عبد الحسين ِّ
52جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الرابع ،ترجمة :إبراهيم دسوقي شتا (مصر ،المركز القومي
للترجمة ،الطبعة الرابعة ،)2015ص .299
53 Rumi 1957-67, 4106; trans. Chittick 1983, 44.
54جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص .253
اجوك روجزوأ 60
للحق هو
ِّ دائما ،وذلك الشخص النّافي للحق ُي ْظ ِه ُر َّ
الحق ً ِّ الم ْثبِ ُت
«ذلك الشخص ُ
أيضا ُم ْظ ِه ٌر {له}».55
ً
والعالقة بين هذين النوعين من األسماء ليست عالقة بين متكاف َئ ْي ِن على الرغم
األمر نهاي ًة على
ُ ليستقر
ّ من ذلك ،إذ الغلب ُة ألسماء اللطف على أسماء القهر،
اإللهي ،ويحدث هذا
ّ انكسار القهر والجبروت لصالح اللطف والرحمة والجمال
اإللهي؛ إنها
ّ حتى في هذا العا َلم؛ يقول« :ماذا تكون هذه ُ
النار إلى جوار الغضب
الرحمة قد
أن ّوأنت ال تزال تُر ِّد ُد ّ
َ مجرد سوط في يده ُيهدّ د به ال ّلئا َم في الدنيا،
ّ
ِ
سبقت الغضب» .
56
الشر إذن من هذا العا َلم مرآ ًة أكثر شمول ّية من أجل أن تنعكس عليها
يجعل وجو ُد ّ
شر فيه ،ال يمكن أن تظهر فيه أسماء كـ «الغفور»،
فعالم ال َّ
ٌ األسما ُء اإلله َّية بنو َع ْي َها،
كانت لط ًفا أو ً
قهرا ــ إلى ْ تتعرف .تحتاج األسما ُء اإلله َّية ــ سواء
أو «المنتقم» ،فال َّ
الظهور ،فتعمل اإلرادة اإلله ّية على تلب َية حاجتها تلك؛ ما يعني إمكان الرجوع بأصل
وألن الشر منسوب إلى ال ّله عند الرومي
ّ واالختياري.
ّ اإلبداعي
ّ الشر إلى فعل ال ّله
كما ُينا َقش ذلك بعد قليل ،فإنه يمكن الوقوف هنا على جزء ها ٍّم جدًّ ا من نظر َّيته في
الرؤية التي طرحها اب ُن عربي حول الموضوع العدالة اإللهية؛ ُي َعدّ ِ
فار ًقا بينه وبين ّ
نفسه.
أمر بالخير { ،}...ف ُع ِل َم أنه {تعالى} مريد للشر
بالشر ،وإال لما َ
ّ {الحق}
ُّ «ال يرضى
وجه ،وغير مريد له من ٍ
وجه { ،}...فلو لم ُي ِر ْد هذه الشرور ،لم يرد النفس{ ،وإذا من ٍ
55جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص .253-254
56جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الرابع ،ترجمة :إبراهيم دسوقي شتا (مصر ،المركز القومي
للترجمة ،الطبعة الرابعة ،)2015ص .624
57جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ( 252هذا الفصل بالعربية في األصل الفارسي).
61 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
58جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب األول ،ترجمة :محمد عبد السالم كفافي (بيروت ،المكتبة
العصرية ،الطبعة األولى ،)1966ص .180
59جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الخامس ،ترجمة :إبراهيم دسوقي شتا (مصر ،المركز
القومي للترجمة ،الطبعة الرابعة ،)2015ص .100
60 Rumi, Jalal al-Din. 1957-67. Diwan Shams-i Tabrizi, Edited by B Furuzanfar. 10
vols. Tehran: University of Tehran Press, 26832; trans. Chittick 1983, 50.
اجوك روجزوأ 62
قائما؟»« ،61ولو لم يعرف كيف يصنع ال ُق ْب َح لكان ِ ِ
الطبيعي عدي ِم القيمة ً
ِّ مزاج َك
ناقصا».62
ً
الحسن وال ُقبح في األشياء ال يتع ّلقان بال ّله ،ولكنهما أن ُ ثال ًثا ،يرى الرومي ّ
غير مباشر، ٍ يتع ّلقان بنا نحن
خيرا َ الكوني حينئذ ً ّ الشر في سياقه
ّ البشر ،فيظهر
َ
كانت ُمت ََح ِّي َز ًة في مكانها .وهكذا،
ْ ويصبح وجو ُده نسب ًّيا وعرض ًيا ،وتبقى حقيقتُه كما
يرى ال ّل ُه األشيا َء في عليائه موضوع ًة في َم َحا ِّل َها المناسبة ،كما تظهر األشياء من
منظوره مختلف ًة.
الشرك«الزنا والطهارة ،ت َْرك الصالة وأداء الصالة ،الكفر واإلسالمّ ،
الحق ،أ ّما بالنسبة إلينا ّ
فإن الزنا ّ والتوحيد؛ هذه األشياء جميعها خير بالنسبة إلى
والسرقة والكفر والشرك شر ،أما التوحيد والصالة والخيرات فهي لدينا خير،
الم ِلك الذي يكون لديه سجن ومشنقة مثل َ أما عند الحق فكلها خير .وذلك ُ
ِ
وح َشم ومآدب ومالذ وطبول وأعالم .أ ّما بالنسبة إلى وخ ْلع وأموال وأمالك َ
لكه ،وهي جمي ًعا بالنسبة كمال م ِ
ِ ك فهي جمي ًعا ِمن َم َجالِي {جمع َم ْج ًلى}
الم ِل ِ
ُ َ
ُ
والمشنقة شي ًئا ِ
لم ْلكه ،أما بالنسبة إلى الخلق ،فكيف تكون الخ ْل َع ُة ِ ٌ
كمال ُ إليه
واحدً ا؟».63
إضافة إلى ذلك ،ال وجود للتفرقة بين اللطف والقهر إال بالنسبة إلينا نحن فحسب،
ذات ال ّل ِه التي ليس كمثلها شيء ،فإنهما يتساويان وال فرق بينهما ،والأما بالنسبة إلى ِ
ّ
ِ
يظهر بينهما اختالف إال عند تع ُّلق ِه َما بالخلق أو في الخلق.
يتوجهون بنظرهم إلى
ّ الذات ،فكيف «وحينما يكون الواصلون غارقين في َّ
َج ٍّل منه تج ِّل ًيا آخر .أنت ً
أيضا في الصفات؟» « ،ولو تج ّلى مائة ألف مرة َل َما أشبه ت َ
64
ّ
61 Rumi, Jalal al-Din. 1925-40. The Mathnawi of Jalaluddin Rumi. Edited and trans-
lated by R. A, Nicholson. 8 vols. Lindon: Luzac. 6: 1745.
62جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الثاني ،ترجمة :محمد عبد السالم كفافي (بيروت ،المكتبة
العصرية ،الطبعة األولى ،)1966ص ،256البيت.2542 :
63جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص .61
64جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الثاني ،ترجمة :محمد عبد السالم كفافي (بيروت ،المكتبة
العصرية ،الطبعة األولى ،)1966ص .282
63 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
هذه اللحظة ترى ال ّله؛ كل لحظة تراه في آثاره وأفعاله متعدّ َد األلوان ،ال يشبه ٌ
فعل من
اآلخر».65
َ َ
الفعل أفعاله
راب ًعا ،ال وجو َد للشر المطلق أبدً ا ،وال يمكن التمييز بين الشر والخير بالقطع في
والشر .يقول الرومي« :أرني في هذه الدنيا
ّ دائما بالخير
هذا العالم ،وتتمازج األشيا ُء ً
سيء»« ،66ومن هنا ،فليس
شي ًئا س ِّي ًئا ليس فيه شيء حسن ،وشي ًئا حسنًا ليس فيه شيء ّ
الشر نسبي.
أن ّ هناك شر مطلق في هذه الدنيا ،اعلم إذن َّ
السكَّر.
وآلخر كأنّه ُّ
َ وال يكون أبدً ا ُس ّم وسكر في وقت واحد ال يكونان قو ًة ألحد
وس ُّم الح ّية يكون حيا ًة لتلك الح ّية ،لكنة بالنسبة إلى اإلنسان موت.
ُ
والبحر بالنسبة ألحياء البحر كالحديقة ،لكنه لمخلوقات األرض موت ومصيبة».67
القرآني في
ّ كثيرا ما ُي َذك ُِّر الرومي بفكرة أن االبتالء اختبار؛ عائدً ا إلى ّ
النص خامساً :
ً
حقيقة ِ
ِ
نفسه ذلك ،ويرى وراء هذا االختبار قصدً ا وغاية ،ومن ذلك إيقا ُفه ُ
الم ْبتَلى على
أوامر ثقيلة ،وجمال وقبح ،وصخور و َمرجان ،وإذا لم ُ َ
هناك كما هي« .وإذا لم تكن
يكن هناك شيطان ،ونفس ،وإراد ُة ذات ،وإذا لم يكن هناك ِصدام ،أو معركة وحرب،
الم ِل ُك عبا َده :بـ»الملعون» ،وكيف يمكن له أن يقول« :أيها الصبور»« ،ويا
فكيف ينادي َ
68
وصف أحدهم بالشجاعة والحكمة؟!»
ُ الو ِرع» ،أو كيف يمكنه أيها َ
إن الرومي رأى العا َلم مخلو ًقا ل ّله من أجل إظهار كنوزه
تلخيصا لما سبق ،نقول ّ
ً
قسم األسماء اإلله ّية إلى قسمين :أسماء اللطف ،وأسماء القهر.
المخف ّية ،كما أنّه ُي ِّ
النبوي .69ووجود الشر
ّ تسبق أسما ُء اللطف أسما َء القهر وتغلبها كما ور َد في األثر
65جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص .173
66جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ِ ،304
الفقرة.214 :
67جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الرابع ،ترجمة :إبراهيم دسوقي شتا (مصر ،المركز القومي
للترجمة ،الطبعة الرابعة ،)2015ص ،48األبيات.65-69 :
68 Rumi, Jalal al-Din. 1925-40. The Mathnawi of Jalaluddin Rumi. Edited and trans-
lated by R. A, Nicholson. 8 vols. Lindon: Luzac. 4:1747-1749.
الخ ْل َقَّ :
إن َر ْح َمتي َب ِكتا ًبا َق ْب َل ْ
أن َي ْخ ُل َق َ «إن ال َّل َه َكت َ
69يشير إلى حديث أبي هريرة عن النبي أنّه قالَّ :
ش» (البخاري.)7554 : ُوب ِعنْدَ ُه َف ْو َق ال َع ْر ِ
َس َب َق ْت َغ َضبِيَ ،فهو َم ْكت ٌ
اجوك روجزوأ 64
شمول؛ تظهر عليها األسماء اإلله ّية تلك؛ ما يعني َّ
أن ً يجعل من العالم مرآة أكثر
الشر ،كما
يوجد فيه ّ ً
معقول فقط في عا َلم َ ظهور اس ٍم كـ«الغفور» أو «المنتقم» يكون
نقيضه ،فال يمكن للخير المط َلق
الخير به على أنّه ُ
ُ دورا عكس ًّيا ،إذ يظهر أيضا ً َّ
أن للشر ً
نقيضه ا ّلذي يظهر على أنه نقطة مرجع ّية ِ
بدون ِ ف في هذا العا َلم غير المحدود أن ُي ْع َر َ
إن الشر حقيقة عارضة متموضعة من جهة كونه موجو ًدا مقارن ًة بالخير الذي يعارضهّ .
َ
ِ ِ
مي ،سيظهر فقط من وجهة نظر إدرك َّية محدودة ،في حين أنّه لو ُوض َع في سياقه العا َل ّ
على أنه خير غير مباشر .وال وجود لشر مطلق أبدً ا ،إذ يمتزج الخير والشر في هذا
إن الشر اختبار ُي ْع ِلن عن ماه َّياتِنا الحقيق ّية .وبعد
وأخيراّ ،
ً امتزاجا في ّ
كل شيء. ً العا َلم
طر ِح هذه الوظائف التعويض ّية اإليجاب ّية التي يشغلها الشر ،تنسب نظرية العدالة اإلله ّية ْ
الشر ل ّله.
االختيار ّية لدى الرومي ّ
أبو جهل ،وهكذا إلى ما ال نهاية{ ،فباألولياء} يظهر ضد ال ّله ،برغم أنه في المعنى
ال ضدّ له».70
وهما في حقيقته، الخاص ،وليس ً ّ الوجودي
ّ الشر لكليهما حقيقة في مستواه ثان ًيا ،إن ّ
إن زنزان َة َم ِل ٍك ما
خيرا أعظم كما يمكن أن ُي َل َحظّ . يتضمن من وجهة ٍ
نظر إله َّية ً ّ لكنّه
وقهره ،لكنَّها من وجهة نظر رعاياه تظهر على أنّها نوع من العقاب والقهر َ تم ِّثل عد َله
نظر أحاد ّية ،لكنها عالج من وجهة ِ
وجهة ٍ أن ُس َّم األفعى تم ِّثل تهديدً ا من الشديد ،كما ّ
نظر أخرى ،وهكذا تظهر األشياء في حسنها وقبحها بالنسبة إلينا نحن ،ال بالنسبة إلى
اإللهي في شيء.
ّ ال ّله ،71وال يؤ ِّثر هذا النّقص في العا َلم على الكمال
الشر يشغل وأن ّ ثال ًثا ،يرى كالهما أن النّقص في هذا العالم هو كما ُله في الحقيقةَّ ،
مقارنة يلعب فالشر كنقطة مرجع َّية َ ّ وظائف إيجاب ّية في هذه اللعبة الكون ّية العظيمة، َ
دورا معرف ًّيا في عمل ّية ظهور الخير؛ «وبضدِّ ها تتب َّي ُن األشيا ُء» 72كما على سبيل المثال ً
َج ِّلي
َحدٍّ غايته ت َ ٍ
كاختبار على ت َ المفكر ْي ِن .باإلضافة إلى ذلك ،ينطوي ُّ
الشر َ يرى كال
المت ََستِّرة في الطبيعة اإلنسان َّية ،إذ ر ُّد فعل اإلنسان تُجاه الشيطان ،والنفس، ِ
اإلمكانات ُ
الطريق أمام اإلنسان ليسلك نحو الت َّح ُّقق بذاته. َ والصدَ مات ،والحروب ُي َع ِّبد
ّ
نقاط أخرى مع ّينة؛ ٍ وعلى الرغم من هذه القواسم المشتركة ،إال أنهما يفترقان في
أيضا،اختياري ً
ّ الشر على أنه ضرورة ميتافيزيقية وفعل فهم ابن عربي َّ أهمها في رأيي ُّ
عنصر الضرورة المنطوي ُ حصرا ،وال يبدو
ً اختياري
ّ الشر على أنه فعل بينما يرى الرومي ّ
73
في الطالقة اإلله َّية موجو ًدا عند الرومي.
جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ 70
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ،80الفقرة .80
اإللهي ،بسبب األدوار التعويضية التي يقوم بها ،وألنه ّ شرا من وجهة نظر بمعنى ّ
أن الشر لم يعد ًّ 71
ِ
شرا من وجهة نظر اإلنسان بسبب المع ِّم األكبر نهاي ًة .ورغم ذلك ،يظل ُّ
الشر ًّ سينطوي في الخير ُ
تع ّلقه بالجزئ ّيات ،وبذلك يبقى الشر في اإلدراك حقيق ًّيا ضمن هذا المستوى.
جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ 72
الف َقر.77 : دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ِ ،125
كل شيء ،من أجل أن يكون للخير والشر يشير الرومي في بعض نصوصه إلى ضرورة أن ُي ْمت َْح َن ُّ 73
ٍ
تتحمل من عناء ،لكي نستخلص معنى؛ ُينْ َظر على سبيل المثال قوله« :وكم يجب على عقولنا أن
ّ
أهل الصفاء من بين الكَدَ ر» (جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الثاني ،ترجمة :محمد عبد َ
اجوك روجزوأ 66
االختياري للكون ّصور الضروري وكما ن ِ
ُوق َش من قبل ّ
ّ أن التطبيقات الالزمة عن الت ُّ
اإللهي حيث ينطوي مفهوم الخلق/ ّ لدى ابن عربي تنعكس على نظريته في العدالة
الظهور في باطنه على معنى «الغير َّية» ،فالعا َلم يغاير ال ّله وال يمكنه أن يكون كال ّله،
النقصان .يعتمد ابن عربي في تِبيان فكرته تلك على المدرسة ُ ومن أجل ذلك يعتريه
األشعر ّية وتقسيم ابن سينا للوجود ،فالعا َلم عنده وجود ُم ْم ِكن ،بينما يأتي الوجود
منطقة ُو ْس َطى بين الوجود الضروري ٍ اإللهي ضرور ًّيا .يقع هذا الوجود الممكن في
ّ
آثارهما في المحض «ال ّله» والعدم كالهما َ
ُ والعدم .يلزم عن ذلك أن َيترك الوجو ُد
الم ْط َل َق ْي ِن؛
النقص إذن على إمكانه ،على موقعه الوسيط بين ُ
ُ الوجود الممكن .ينطوي
االختياري بطريقة تقترب
ّ ال ّله والعدم .ينحو الرومي ً
نحوا مختل ًفا ويؤكّد على الجانب
أن خلق/ظهور العا َلم قد
الشر عنده ُم َرا ًدا ،لكن لخير أعظم ،كما ّ
من الحصر ،إذ يأتي ّ
كان من أجل الكشف عن كنوزه المخف َّية .وليس العا َلم إال مرآ ًة تنعكس عليها أسماء
شمول عن طريق إفساح المجالً العالم مرآة أكثر
َ ال ّله وصفاته .ولهذا يجعل وجو ُد ّ
الشر
َخ َّلق له. ِ
ونظامه الذي ت َ ٍ
عالقات أكثر َغنَا ًء مع ال ّله أمام
تختلف وجه ُة نظر الرومي عن ابن عربي َت َب ًعا لذلك ،فالشر عند ابن عربي ليس
مخلو ًقا ،وليس من األمور الوجود ّية ،ولكنه يعني نقصانًا في األمور الوجود ّية
الموجودة في العا َلم ً
أصل ،ورغم أنّه يشارك في العمل ّية الوجود ّية إال أنه ليس موجو ًدا
معقول ،وال يمكن تع ُّقله إال حينما يتع َّلق بالوجود فحسب .يعثرً في حدِّ ذاته ،وليس
ابن عربي إذن على أصل الشر في العدم ذاته ،إذ ليس موجو ًدا في نفسه ،ولهذا فإنه يرى
فألن العا َلم
الشر ميتافيزيق ًّيا دون أن ينسبه إلى ال ّله .أ ّما إذا انتقلنا إلى الروميّ ،
ضرور ّية ّ
لكل من الجمال والعظمة ،فإنّه من أجل فهم هذه الثنائ ّية ،يمكن تقسيم الصفات َم ْظ َهر ٍّ
ِ
القسمان هما :أسماء سم ْي ِن ُك ِّل َّي ْي ِن تندرج تحتهما الصفات األخرى؛ هذان ِ
اإلله ّية إلى ق َ
صفات الجمال ،والرحمة ،والخير ،وعن
ُ اللطف ،وأسماء القهر ،فعن اللطف تظهر
السالم كفافي (بيروت ،المكتبة العصر ّية ،الطبعة األولى ،)1967ص ،296البيت ،)2950 :وقوله:
ِ
اللذين امتزجا به» (جالل الدين «لقد أطلق {ال ّل ٌه} هذا الوعدَ وذاك الوعيدَ ،من أجل الخير والشر
الرومي ،المثنوي ،الكتاب الثاني ،ترجمة :محمد عبد السالم كفافي (بيروت ،المكتبة العصر ّية،
الطبعة األولى ،)1967ص ،297البيت .2965 :تشرح مثل هذه النصوص وظيف ّية الشر هنا ،ولكنها ال
تب ّين أصل الشر في شيء وال تشبه المعالجة الميتافيزيقية التي قدمها اب ُن عربي حول هذا الموضوع.
67 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
74جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ِ ،256
الف َقر.179 ::
75جالل الدين الرومي ،فيه ما فيه ،ترجمة :عيسى علي العاكوب (بيروت ،دار الفكر المعاصر ــ
دمشق ،دار الفكر ،بدون تاريخ) ،ص ِ ،257
الف َقر.180 ::
اجوك روجزوأ 68
بضرورية الشر من أجل الحفاظ ِ َ
القول برز
االختيارية في العدالة اإلله ّية اب َن عربي أن ُي َ
ارتباط ما بحدوث ٍ نوع
على فعل اإلرادة والكمال اإللهي بالتّالي دون أن يكون لهما ُ
الشر .وفي المقابل ،يرى الرومي في نظريته االختيار ّية عن العدالة اإللهية نسبة الشر
اإللهي بعيدً ا عن ال َقدْ ِح فيه من خالل إبراز ّ إلى ال ّله مباشرةً ،ولهذا يحاول إبقاء القصد
إيجاب ّية األدوار التعويض ّية التي يؤ ِّديها الشر في العا َلم .إضافة إلى ذلك ،يستطيع اب ُن
ِ
نوع الصلة التي تحدِّ ُد العالقة عربي عن طريق التفريق بين إرادة ال ّله وعلمه أن ُيقارب َ
اإللهي ،لكنّها تقوم على ّ أقدارنا ال تقوم على الجبر َ والشر ،فيرى
ّ بين مصائر اإلنسان
مفروضا ،فال
ً علما مسب ًقا ،ال ً
جبرا الخاصة .وال يكون ال َقدَ ُر لهذا إال ً ّ أعياننا ال ّثابتة
اإللهي متع ِّلق باألعيان
ّ أن العلم يتعارض وجو ُده والحرية اإلنسان ّية .كما تب ّين من قبل ّ ُ
اإللهي ا ّلتي يعمل على ّ الثابتة ،أو بكلمات أخرى؛ باإلمكانات الكامنة في الالتناهي
الرحمة؛ ما يعني أنّه تعالى ال يصنع العا َلم على ما هو عليه ،بل يكون ِ
إيجادها بفعل ّ
فقط على علم به كما هو ،بل و ُينعم بالتالي على الموجودات بالوجود 76.ولهذا يكون
الشر تب ًعا لذلك ،فيشاء ال ّل ُه َ
إبراز هذه لفعل اإليجاد نتيجة ضرورية من الغير ّية ووجود ّ
األعيان الثابتة من األنماط البدائ ّية إلى الوجود طب ًقا لِ ُم ْمكناتها كفعل من أفعال الرحمة
اإللهية ،ومع ذلك يسمح بالنتائج الضرور ّية الالزمة عن فعل اإليجاد هذا ،وإن كان ال
يفسر مفهو َما الالتناهي والرحمة ضرور َة ظهور جيمع الممكنات نكررّ ، يريدها .ولهذا ِّ
شريرا ،أو ُم ْجبِ ًرا بال َقدَ ر.
ً يظهر ال ّل ُهوحر ّيتها بالنسبة إلى ال ّله ،دون أن َ
أيضا،بالج ْب ِر ً
ال ينتهي الرومي في نظر ّيته االختيارية عن العدالة اإلله ّية إلى القول َ
عالما ُم َص َّغ ًرا؛ مرآ ًة تنعكس عليها أسماء ال ّله اإلنسان ً َ أن تعاليمه ترى فكما ُذ ِكر قبل ّ
ِ
فكرة وصفاته ،وهذه القدرة على االنعكاس فيها شمول يشبه العا َلم أجمع؛ ما يشير إلى
األعيان الثابت َة ثابت ًة بالشكل الذي تظهر عليه؟ أعتقد أن معالجة ابن عربي لحرية
َ 76ما الذي يجعل هذه
اإلنسان ع َّلها تكون مهمة لإلجابة عن هذا السؤال ،وفي رأيي أن ابن عربي يدافع عن رؤية ُ
تشارك ّية
مثل هذا الفصل القاطع بين ال ّله والعالم كما يعتقد ابن عربي فيما يبدو ،فال للحرية ،فما دام ال يوجد ُ
أيضا بين حرية اإلرادة اإلنسانية وحرية اإلرادة ينبغي أن يكون هناك هذا الفصل الحقيقي القاطع ً
اإللهية.إذا لم يوجد مثل هذا الفصل حقيق ًة ،فإنه يمكن القول ّ
إن اإلنسان يشارك في الحرية اإلله ّية،
التعرف على األمر ،فمن الممكن ّ
ُ حر بالقدر الذي يشارك فيه الحرية اإللهية! وإذا صح هذا وهو ّ
درجة ما من الحرية حتى في هذه األعيان الثابتة.
69 يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم
77جالل الدين الرومي ،المثنوي ،الكتاب الخامس ،ترجمة :إبراهيم دسوقي شتا (مصر ،المركز
القومي للترجمة ،الطبعة الرابعة ،)2015ص ،48انظر :األبيات.3085-3089 :
اجوك روجزوأ 70
المراجع
-- Arberry, A.J. (trans.). 1961. Discourses of Rūmī. London: John Murray.
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1929–1933. Maqālāt al-Islamiyyīn wa-
ikhtilāf al-muṣallīn, edited by H. Ritter. 2 vols & index, Istanbul: Devlet
Matbaasi
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1967. The Elucidation from Islam’s
Foundation(Kitāb al-ibāna ʿan uṣūl al-diyāna). Translated by Walter
C. Klein {American Oriental Series 19}. New York: Kraus Reprint
Corporation.
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1977. Al-ibāna ʿan uṣūl al-diyāna, edited by F.
H. Maḥmūd. Cairo: Dār al-Anṣār.
-- al-Bāqillānī, Abū Bakr Muḥammad. 1957. Al-tamhīd, edited by Richard
J. McCarthy. Beirut: al-Maktabah al-Sharqī yah
-- Bashier, Salman H. 2004. Ibn al-ʿArabī’s Barzakh: The Concept of the
Limit and the Relationship between God and the World. Albany: State
University of New York Press.
-- Bowker, John. 1975. Problems of Suffering in Religions of the World.
Cambridge: Cambridge University Press.
-- Khalil, Mohammad Hassan. 2012. Islam and the Fate of Others. Oxford:
Oxford University Press.
الشر في العالم
بين الضمير والمصمم الذكي
1
د .منذر جلوب _____________________________________________________
كانت مشكلة الشر ،وما تزال ،موضو ًعا للخالف بين المؤمنين والملحدين .أقر
المؤمنون والملحدون كالهما بوجود الشر في العالم .لكن وجود الشر كان حجة
للملحدين إلنكار وجود إله خير قادر عادل .في المقابل حاول المؤمنون إيجاد
تبريرات وحلول للتوفيق بين وجود إله بتلك الصفات وبين وجود الشر ،في حين لم
يجد الملحدون سوى التسليم بوجود الشر والتسليم بالعجز عن مواجهته .المؤمنون
وجدوا ــ بطريقة أو بأخرى ــ أن مواجهة الشر تكون بالرجوع إلى ال ّله .بينما تركنا
الملحدون أمامه بال سالح.
حاول المؤمنون تقديم دفاع عن طروحاتهم يصمد بوجه التناقض الحاصل بين
قولهم بوجود إله كامل الخير تام القدرة وبين تسليمهم بوجود الشر الذي يستحيل
إنكار وجوده .منهم من حاول اإلنكار ،على استحياء ،فقالوا إن وجود الشر ليس
حقيقيا ،وأنه انعدام للخير وحسب .وتلك مراوغة لم تجد نفعا وال وجدت لهم منفذا
بداللة استمرارهم بتبرير انعدام الخير .لكنهم ،مع ذلك ،قدموا حلوال لتخفيف وطأة
الشر وتغذية الحلم اإلنساني بالعدالة والخير التامين .أما الملحدون فلم يتمكنوا من
تبرير الشر ،فبقي واقعا شاخصا قاسيا ،ال سبيل إلى دفعه.
خارج أطروحات الطرفين ،نرى أن الوجود ككل ليس خيرا وال شرا .إذ الخير
والشر ثنائية من ثنائيات اللغة ،وهي إحدى نواتجها حين يتم التعامل مع حدودها
2نعني بالضمير األنا التي هي أول ما يمكن التأكد منه بيقين يتجاوز كل شك ،بل أن الشك نفسه
يكون دليال على وجود األنا ،ومن خالل هذه األنا وحدها يتم إدراك كل ما عداها .لها عالقة
باألخالق مثلما أن لها عالقة بالوجود ،وكل ذلك متداخل مع اللغة ،فتكون هي المرجع األهم
لألخالق .وقد فصلنا الحديث عن األنا ومكانتها من الوجود في بحوث أخرى منشورة ضمن
أعداد سابقة من هذه المجلة وغيرها.
77 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
يصح أن يقبل ذلك اإلله بعالم ليس هو األفضل ،ألن قبوله أو إيجاده لعالم أقل من
األفضل يتعارض مع كونه كامال أو كلي القدرة أو مطلق العلم أو تام الخير .فلماذا
وجد الشر في عالم من نتاج أفضل إمكانيات اإلله؟ وهذا هو التناقض بين مسلمات
األديان السماوية وبين وجود الشر .وكان هذا المأزق سببا في ظهور مجال بحث هو
الثيوديسيا ( Theodicyهذا المصطلح وضعه الفيلسوف األلماني غوتفريد فلهلم
اليبنتز 1646ــ ،)1716وهو فرع من الفلسفة والالهوت يهتم بحل مشكلة الشر
3
والدفاع عن العدالة اإللهية.
3حول تفاصيل موقفنا من مشكلة الشر وحلها ،راجع بحثنا :منبعا الخير والشر ،مجلة قضايا
إسالمية معاصرة ،عدد 73و ،74مركز دراسات فلسفة الدين ،بغداد ،2020 ،ص 113ــ .138
4ابن سينا ،الحسين بن علي؛ النجاة في الحكمة الطبيعية والمنطقية واإللهية ،مطبعة السعادة،
مصر ،ط ،1938 ،2ص.286
5انظر :ابن سينا؛ النجاة ،ص.286
وهذا مختلف عن الموقف الذي نعرضه والذي يرى أن ثنائية الخير والشر ال يمكن أن تنطبق
بولج رذنم .د 78
النظام له داللتان مترابطتان هما وجود المنظم وكذلك خيرية هذا المنظم« .العناية،
هي كون األول عالما بما عليه الوجود من نظام الخير ،وع ّلة لذاته للخير والكمال
حسب اإلمكان ،وراضيا به على النحو المذكور» .6وألن العناية تعني النظام والبد
أن يكون ذلك خيرا ،صار لزاما على من يقول بها أن يجد منفذا وحال لكي يفسر
الشرور التي تقع في هذا العالم .فمع وجود كائن كلي القدرة كامل الخير يعتني
بالوجود وينظمه صار وجود الشر أمرا محرجا وتناقضا يستلزم الحل .إذ كيف
تسمح العناية بوجود الشر وقبل ذلك من أوجد الشر وما سبب وجوده ،وهل يتمكن
كلي القدرة من إزالته؟ إن كان قادرا على إزالته ،فلم ال يفعل؟ وإن لم
هذا الكائن ّ
يكن قادرا ،فقدرته محدودة وليست كلية .يقدم ابن سينا حله بالقول إن الشر موجود
بحكم طبيعة الموجودات ومخالطة المادة ،وأن «الكل إنما رتبت فيه القوة الفعالة
والمنفعلة السماوية واألرضية الطبيعية والنفسانية ،بحيث تؤدي إلى النظام الكلي
مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه وال تؤدي إلى شرور» .7االستحالة هنا
استحالة طبيعية ،فطبائع األشياء من المستحيل تغييرها .وهذه االستحالة ناتجة عن
طبائع األشياء ،فالنار من طبيعتها أنها تحرق ونفعها كبير مع إمكانية وجود الضرر
وهو أن يتأذى منها رجل صالح مثال ،ومن المستحيل إزالة هذه االمكانية .هذا المثال
يورده ابن سينا ،مع أن النصوص الدينية تورد أمثل ًة على ُ
تجاوز هذه االستحالة« ،قلنا
يا نار كوني بردا وسالما على إبراهيم» ،8فيجب على ابن سينا بموجب المقوالت
الدينية أال يقر بوجود استحالة طبيعية على ال ّله .سنأتي على تحليل المواقف التي
تقول بوجود أمور مستحيلة على ال ّله ،لدى عرض موقف بالنتنغا بعد قليل.
إن ال ّله يريد
لكن ابن سينا يحاول تسويغ الشر بطرق الحجاج التقليدية ،قائال ّ
الشر أيضا ليس ألجل الشر وإنما ألجل الخير ،إذا كان الشر مالزما وجوده لوجود
على الوجود برمته ،ألنها ثنائية لغوية مثلها مثل ثنائية الكامل والناقص أو ثنائية الطويل والقصير،
وما الى ذلك.
6ابن سينا؛ النجاة ،ص.286
7ابن سينا؛ الشفاء ،اإللهيات ،تحقيق :األب قنواتي وسعيد زايد ،مراجعة :إبراهيم مدكور ،ج1و،2
ص .174
8القران الكريم ،األنبياء.69 ،
79 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
خير أكبر .فبدال من ترك الخير الكثير بسبب شر قليل ،سمح ال ّله بوجود الشر القليل
من أجل اإلبقاء على الخير الكثير« ،إن ال ّله تعالى يريد األشياء ،ويريد الشر أيضا
على الوجه الذي بالعرض ،إذ علم أنه يكون ضرورة فلم يعبأ به ،فالخير مقتضى
بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر» ،9فالشر ،على رأي الشيخ الرئيس،
موجود بإرادة ال ّله وليس خارجها ،وأنه جاء بالعرض ،نتيجة أن ال ّله أراد خيرا كثيرا
فلم يعبأ إن خالطه شر قليل« ،فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض
بالضرورة».10
وبعد أن يؤكد ابن سينا على أن الشر يوجد فقط في عالم ما تحت فلك القمر،
الذي هو أصغر بكثير من عالم ما فوق فلك القمر ،يقرر أن الشر قليل جدا بالقياس
الى الخير الكثير الذي يعم نظام الوجود .وكأنه يطلب منا أن نتجاهله وال نعبأ به،
بعد أن قرر أن ال ّله نفسه ال يعبأ به ،مشيحا ببصره أنه بسبب وجود الشر إنما خلق
ال ّله الجنة والنار والثواب والعقاب .وهذا ال يتوافق مع القول بوجود العناية اإللهية
التي معناها أنها عناية باإلنسان ورعاية له ،لكن ابن سينا يرى أنها عناية بالوجود
ونظامه الكلي .وبموجب هذه الرؤية يصبح موقف األديان والرساالت السماوية
عرضة للشك إذ تنتفي الغاية منها ،فالمبرر األساسي لتلك الرساالت هي عناية ال ّله
باإلنسان .فبينما يحاول ابن سينا إثبات وجود ال ّله من خالل وجود النظام في الكون
وعنايته بهذا النظام ،يجازف بأن يتخذ موقفا يتعارض مع الموقف الديني العام ،بل
يصبح على النقيض من الموقف الديني ،مما يبرز صعوبة التوافق بين القول بالنظام
من جهة والتمسك بمقوالت الدين من الجهة األخرى .كل ذلك مرده صعوبة تفسير
وقوع الشرور ،التي يسلم ابن سينا بوقوعها لكنه يحاول التقليل من أهميتها بأكثر من
طريقة كما رأينا ،بدءا من القول بأن «الشر بالذات هو العدم» ،11ثم القول بأن الشر
وجوده الزم ألنه من مقتضيات الخير ،ثم في دفاعه األخير يرى أن الشر قليل نسبة
إلى وجود الخير الكثير ،فيقول« :فإن قال قائل :ليس الشر شيئا نادرا أو أقليا ،بل
13
وذلك مما قد فاض عن المدبر األول ،ووجد في األمور العقلية والنفسية والسماوية»
وهنا يترك ابن سينا مجاال لنوع آخر من الوجود المبرأ عن الشر وهو الوجود في األمور
العقلية والنفسية ،ليجد منفذا إلمكانية أنواع اخرى من الوجود من بينها الوجود في
الجنة ،14مشيرا إلى قدرة ال ّله أن يخلق أنوا ًعا مختلفة من العوالم ،بمعنى أن هناك أكثر
من إمكانية لخلق العالم وأن عالمنا هذا هو إحدى اإلمكانيات ،لكنها ليست اإلمكانية
األفضل .ويبقى السؤال :لماذا اختار ال ّله أن يكون الوجو ُد في الدنيا على هذا الحال
إن كان الوجود في الجنة أفضل ،وكيف يستقيم ذلك مع القول بأن ال ّله اختار أن يكون
العالم على ما هو عليه ألنه األفضل؟ وإن لم يكن الوجود في الجنة أفضل ،فلماذا خلق
ُ
الجنة؟
مجمل كالم ابن سينا يؤكد كونه يرى أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة ،فهل
ليس بمقدور ال ّله أن يخلق عالما أفضل منه؟ واذا كان هذا هو أفضل العوالم الممكنة،
فهل الجنة بوصفها عالما ممكنا ليست أفضل منه؟ هذه األسئلة تستند إلى المسلمات
الفيضية ،15التي بنى عليها ابن سينا نظامه وموقفه .فمعنى كالمه أن ال ّله اختار األفضل
مختلف الفالسفة الفيضيين .وهكذا بوجود اثنين في الوجود صار يمكن تفسير الكثرة في العالم
من خالل استمرار الصدور نتيجة المفاعلة بينهما وبين ما يصدر عنهما .وما زال بعض الالهوتيين
المعاصرين يتحدثون بشيء من التقبل لهذه النظرية (محمد عبده ومحمد باقر الصدر ،على سبيل
المثال) على الرغم من وضوح الصعوبات التي تعانيها ،بل تهافتها (بحسب تعبير الغزالي) ،إال أنها
أفضل ما أمكن لالهوتيين تقديمه حين أرادوا بيان كيفية إيجاد ال ّله للعالم بصورة تفصيلية ومن دون
رفض السؤال أو االلتفاف حوله .حول المزيد من التفاصيل انظر :الكوثر ،منذر؛ فلسفة الفارابي ،دار
الحكمة ،لندن.2002 ،
83 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
حياتي ودراستي ،أو حتى التقاء أمي وأبي قبل عقود في مكان وزمان معين ،مما يمنع
والدتي من األساس .كل هذه احتماالت كثيرة ألغيت لتتحقق سلسلة احتماالت ذات
مسار واحد منها كان يمكن أن يتغير في أية لحظة من اللحظات التي مر بها منذ األزل،
مما أدى إلى تحقق احتمال واحد فقط هو وجودي هنا واآلن .واقع العالم هو أنني
اآلن موجود مع هذه الظروف المحيطة بي ،أما اإلمكانيات واالحتماالت األخرى فهي
تصورات تتيحها مقدرتي الذهنية.
وعلى الرغم من أن مفهوم «العالم المحتمل» كان جز ًء من المعجم الفلسفي
على األقل منذ اليبنتز ،فقد أصبحت الفكرة راسخة في الفلسفة المعاصرة مع تطوير
دالالت محتملة للغات المنطق االفتراضي والمنطق الجهوي modal logicالذي هو
منطق صوري يهتم بجهات الحمل من قبيل االحتمال والضرورة واإللزام والسماح.16
واألكوان المتعددة « Multiverseعبارة عن مجموعة افتراضية متكونة من عدة
أكوان ــ بما فيها الكون الخاص بنا ــ وتشكل معا الوجود بأكمله ،وفكرة الوجود متعدد
األكوان هو نتيجة لبعض النظريات العلمية التي تستنتج في الختام وجوب وجود
أكثر من كون واحد ،وهو غالبا يكون نتيجة لمحاوالت تفسير الرياضيات األساسية
في نظرية الكم» 17.وقد دخلت فكرة العوالم االفتراضية ومن ثم العوالم الموازية َ
حقل
الفيزياء المعاصرة منذ النصف األول من القرن العشرين مع تطور فيزياء الكم وفيزياء
أجزاء الذرة .واستمرت الفكرة باكتساب مقبولية متزايدة مع ظهور نظريات تؤيدها،
وتقبل عدد ال بأس به من علماء الفيزياء لها سعيا لتفسير سلوك المكونات األصغر
للذرات .وهي أمور تعتمد على افتراضات مستندة الى الحسابات الرياضية واتساق
المعادالت وليس على أي نوع من االفتراضات الدينية او الغيبية .18ومع ذلك يوجد
حول فكرة تعدد األكوان جدل كثير بين الفيزيائيين ،ألن كثيرا منهم يرون فيها فكرة
فلسفية أكثر من كونها فرضية علمية حقيقية لعدم خضوعها لمعايير الفرضيات العلمية
19ال توجد عوالم أخرى غير عالمنا هذا بحسب اليبنز ،وإنما مفاد فكرته أن هناك احتماالت ال نهائية
أمام ال ّله لخلق عوالم ،وأن ال ّله اختار أفضلها فخلق عالمنا الذي نحن فيه .في حين أنه ،وبموجب
منطق الجهات المعاصر ال توجد استحالة أو تناقض في افتراض عوالم أخرى غير عالمنا هذا.
وكذلك تفترض بعض النظريات في الفيزياء الكونية المعاصرة وجود عوالم أخرى.
20 Sedacca, Matthew; The Multiverse Is an Ancient Idea. Nautilus, 2017.
21وفكرة اليبنتز هذه عبارة عن استفاضة في شرح فكرة ابن سينا .وليس مما يعنينا هنا إثبات اقتباس
فيلسوف عن آخر (ابن سينا أسبق زمنيا من اليبنتز) بقدر ما يعنينا مالحقة تطور الفكرة وأهميتها في
مواجهة المعضلة التي هي موضع اهتمام الفيلسوفين ،على الرغم من وجود عبارات وأمثلة تبدو
وكأنها ترجمة حرفية لعبارات ابن سينا.
22 Leibniz, Gottfried (1991). Discourse on Metaphysics and Other Essays. Indianapo-
lis: Daniel Garber and Roger Ariew. p. 53–55.
85 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
لم ينكر اليبنتز وجود الشر في العالم ،بل قال إن ال ّله قد خلق عالما فيه الشر ،وكان
بإمكانه خلق عالم خال ًيا منه .لكنه رأى أن هذا العالم ال يزال أفضل عالم يمكن أن
يصنعه ال ّله ،فوجود الشر ال يعني بالضرورة ً
عالما أسوأ ،إنما على العكس من ذلك،
خيرا أكبر» 23وقد
الشر ً
عالما أفضل ،إذ «قد يحدث أن يصاحب ُّ
فإن وجود الشر يخلق ً
تابع اليبنتز الفكرة التي استخدمها ابن سينا ،وقبلهما أوغسطين ( 354ــ 430م) ،حول
معنى الشر .وتفيد أن «الشر ،على الرغم من كونه واقعا حقيق ًيا ،فهو ليس شي ًئا ،ولكنه
اتجاه االنسان بعيدا عن الصالح .فالشر هو غياب الخير» .24واعتمادا على هذا النوع
من الفهم لمعنى الشر أنه عدم أو أنه انعدام الخير ،وعلى الموقف الالهوتي المسبق
المبني على تصور مفهوم ال ّله وصفاته رأى اليبنتز ،تماما كما فعل ابن سينا من قبل؛ أن
العالم الذي فيه شر تكون نتيجته المزيد من الخير ،وبالتالي فهو أفضل من عالم يخلو
من الشر .أو كما قال ابن سينا« :واعلم أن الشر الذي هو بمعنى العدم ،إما أن يكون شرا
بحسب أمر واجب أو نافع قريب من الواجب ،وإما أال يكون شرا بحسب ذلك ،بل شرا
بحسب األمر الذي هو ممكن في األقل» ،25كذلك «فإن وجود الشر في األشياء ضرورة
تابعة للحاجة إلى الخير» ،26بل إن إزالة الشر من العالم قد تؤدي إلى شر أكبر« ،فإفاضة
الخير ال توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر ،فيكون تركه شرا من ذلك الشر ،ألن
عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده إذا كان عدمان شرا من عدم واحد».27
هذه الرؤية القائلة إن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة هي رؤية متسقة مع
المس َّلمات الدينية ،فطالما أن ال ّله كامل وكلي الخير والقدرة فالبد أن يخلق العالم
على أفضل وجه ويختار من بين اإلمكانيات أفضلها .فال يمكن تخيل أن يفعل ال ّله شيئا
يقصر عن قدرته وخيريته .مع ذلك فإن هذه الرؤية ،في مؤداها النهائي ،تظهر ال ّله غير
28وتلك هي النتيجة التي اضطر إلى القول بها ألفن بالنتنغا ،مع أنه لم يقل بأن عالمنا هذا هو أفضل
العوالم الممكنة ،كما سنبين.
29 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil, Stanford En-
cyclopedia of Philosophy Archive, Winter 2016 Edition, First published Jan 4, 1998.
87 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
قميصا أبيض أو قميصا أزرق وكالهما خير .هذا فضال عن كون وجود حرية اإلرادة
لدى االنسان موضع أخذ ورد في ضوء األسس الالهوتية التي يستند عليها اليبنتز،30
فال يمكن البناء عليه .فإذا كان ال ّله نفسه يقبل بوجود الشر في العالم بحكم ضرورات
شتى ،مما يعني أن إرادته الخيرة محكومة بتلك الضرورات ،فما المقدار الذي يمكن
توقعه من حرية إرادة البشر؟ ثم إذا كانت الخطيئ ُة ضروري ًة ،فهل يمكن عدُّ ها شرا؟ بعد
ذلك كيف يمكن النظر بجدية إلى هذا السيناريو الذي يضعه اليبنتز ،وهو أن ال ّله يتيح
مجال للشر ،ثم يترك حرية لإلنسان أن يرتكب الخطيئة والشر ،وأنه من الضروري أن ً
يرتكبها االنسان ،ألجل أن يسامح ال ّله الناس ويرحمهم أو يعاقبهم ،وأن هذا أفضل
العوالم الممكنة وهو أقصى ما يقدر عليه ال ّله ،وأن وجود الشر والقدرة على فعله إنما
هي ألجل «حفظ الفرق بين ال ّله وبين اإلنسان وإفساح المجال للرحمة اإللهية»31؟
والحقيقة أن هذا الوصف ال يليق أن يطلقه عاقل على ال ّله .بل هو ال يليق أن يوصف
به من هو أدنى من ال ّله .فلو تخيلنا أن حاكما أطلق يد المجرمين في مدينته وأتاح لهم
وسائل وإمكانيات ارتكاب جرائمهم التي يرى ضرورة ارتكابهم لها ،وهو يرى أن
ارتكابهم للجرائم خير من عدمه ،وغايته من ذلك أن يسامحهم ويرحمهم أو يعاقبهم،
ويبين الفرق بينه وبينه ،فهل يمكن أن يوصف ذلك الحاكم بالعدل أو الحكمة؟
30نقصد باألسس الالهوتية صفات ال ّله من علم مطلق وعدل تام وعالقة ذلك بإمكان قيام االنسان
بفعل حر ،ومقدار حرية االختيار التي تبقى لإلنسان طالما أن ال ّله يعلم مسبقا اختيار اإلنسان وليس
في مستطاع اإلنسان أن يفعل فعال لم يكن في علم ال ّله أنه سيفعله.
31 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil.
بولج رذنم .د 88
سيؤدي الى إزالة الخير الكثير ،وهذا هو الوجه األول .والوجه اآلخر لدفاعه ،أن عدم
معرفتنا بأسباب إبقاء ال ّله للشر في العالم ال يعني ضرورة عدم وجود ال ّله أو نقصا في
إحدى صفاته المذكورة.32
الردود على الوجه األول من هذا الدفاع هي عين الردود التي ترد على ابن سينا
واليبنتز للتشابه بين مواقف هؤالء الفالسفة في هذه النقطة .أما الرد على الوجه الثاني
فهو؛ إن الحديث ليس عن أسباب وجود الشر بقدر ما هو حديث عن التعارض بين
وجود الشر وخيرية ال ّله وقدرته على إزالة الشر .وهذا يستتبع الحديث عن صفات
كلي القدرة ،كلي الخير ،كلي العلم ،وبغض النظر عن أسباب وجود ال ّله ،الذي هو ّ
الشر وسواء أعرفناها أم لم نعرفها ،فخيريه ال ّله إما تامة وإما فيها نقص ،وكذلك علمه
وقدرته .فإن كانت هذه الصفات تا َّمة لم يعد من سبب يكفي لوجود الشر ،وإن كان فيها
جديرا باأللوهية التي هي الحد
ً نقص لم يعد ال ّله كما تصفه األديان السماوية ،بل لم يعد
األقصى لكل كمال .هذا من ناحية ،ومن الناحية األخرى فإن قولك إن عدم معرفتنا
باألسباب ال يعني عدم الوجود أو نقصا في الصفات هو محاولة إللجام من يحاجك.
إن هذا القول ينهي النقاش من أساسه وهو عبثي ،فإذا أنهينا النقاش بذريعة أننا ال نعرف
وال يمكن أن نعرف االسباب وراء إبقاء ال ّله على الشر في العالم ،ينتهي القول من
أساسه ،ألن كل البحث هو عبارة عن بحث أسباب وجود الشر .وإن أنت اتبعت هذا
المنطق في الحوار فيمكنك وضع ما شئت من االفتراضات ،منطقية وغير منطقية،
والدفاع عنها بأنك وخصمك ال تعرفان األسباب وال يمكنكما معرفة األسباب ،لذلك
عليه قبول افتراضاتك .وهذا هو أيضا ،ردنا على القول بأن الحكمة اإللهية المفارقة،
التي تقصر عقولنا عن معرفتها أو فهمها ،هي السبب في حدوث كل شيء ،كما سنبين.
ينتهي بالنتنغا في دفاعه عن حرية اإلرادة إلى أنه ليس في مستطاع ال ّله أن يخلق عالما
يحتوي الخير األخالقي من دون شر أخالقي ،مع عدم الشك في قدرة ال ّله وخيريته
التامتين .وهو يحاول تبرير ذلك منطقيا عن طريق وضع قضايا منطقية افتراضية وأمثلة
لعوالم محتملة ليستنتج ّ
أن الشر األخالقي مالزم للخير األخالقي في أي عالم ممكن.
32بالنتنجا ،ألفين؛ مشكلة الشر ودفاع حرية اإلرادة ،ترجمة :عبد العاطي طلبة ،مجلة قضايا إسالمية
معاصرة ،عدد 73و ،74مركز دراسات فلسفة الدين ،بغداد ،2020 ،ص 209ــ .228
89 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
وهو يحاول أن يثبت عدم قدرة ال ّله ،مع كونه كامال ومطلق القدرة ،على خلق عالم ال
يحتوي الشر ،من خالل إثبات اتساق أو عدم وجود تناقض بين القضيتين:
«ال ّله قادر على كل شيء ،وهو خير كامل».
«ليس في مقدور ال ّله أن يخلق عالما يحتوي على الخير األخالقي من دون خلق
33
عالم يحتوي على شر أخالقي».
وهو بهذا االستنتاج يريد فك التناقض والحيرة الناتجة عن كيفية وجود الشر
األخالقي على الرغم من كون ال ّله خيرا مطلقا ،فيقرر ّأل تناقض في ذلك من الناحية
المنطقية .وهو يماثل هذه االستحالة مع استحالة أن يخلق ال ّله دوائر مربعة او عزاب
متزوجين.
وهنا نجد بالنتنغا ،كما فعل ابن سينا من قبل ،يؤكد وجود أمور مستحيلة على ال ّله،
فنأتي على مفصل مهم نطل من خالله على عدد من المفارقات والنقائض التي يؤدي
إليها هذا السياق ،من قبيل :أن ال ّله الواحد كلي القدرة ،هل يقدر على خلق إله ثان شبيه
به؟ إن قلنا «نعم» نكون قد أشركنا وأنكرنا وحدانيته ،وإن قلنا «ال» ،نكون قد شككنا
بقدرته .أو أبسط من ذلك ،كالسؤال :هل بإمكان ال ّله أن يخلق مربعا دائريا؟ الجواب
أن ذلك مستحيل ألنه يخرق تعريف المربع والدائرة .وكال السؤالين يقومان على
طريقة تفكير عبثية ،فهما يتعلقان باستحالة منطقية ،بحيث يمكن القول إن تلك األمور
مستحيلة على ال ّله ألن العبث مستحيل على ال ّله .ولكن من الواضح أن جعل النار باردة
(مثال ابن سينا) هو أمر من أمور الطبيعة ،وهو مختلف عن خلق مربع دائري .وهنا
يمكن أن تكون المقارنة مع مسألة الشر عموما ،فهل إزالة الشر أكثر شبها في نوعها
بإبراد النار أم خلق المربع المستدير؟ من البين أن النوعين مختلفان ،فاستحالة المربع
المستدير أمر واضح لوجود تناقض ذاتي في معنى العبارة .أما الشر والنار فاألقوال
المتعلقة فيهما تختلف في نوعها .إذ هما قابلتان للزيادة والنقصان واالنتفاء .فهناك
نار أشد أو أقل استعارا وهناك تفاوت في مقادير الشر وإمكانية النتفائه .في حين ّ
أن
33 Plantinga, Alvin; God, Freedom and Evil, Reprinted by; Harper & Row, New York,
2002. P.54.
بولج رذنم .د 90
قضية المربع المستدير ليس فيها شيء من هذا( .لم يشر ابن سينا إلى مثال المربع أو ما
ً
مستحيل عنده) .وفي كل يشبهه ،لكنه ذكر استحالة إبراد النار لذا نحسب كال األمرين
األحوال ،يصعب أن تستقيم فكرة االستحالة على كائن كلي ومطلق القدرة .مع ذلك
من الواضح أن هناك عب ًثا في مفاصل هذه األقوال ،فأين هو؟ العبث حقا هو في كون
مفهوم ال ّله هو مفهوم يعبر عن الالنهاية .ومفهوم الالنهاية ال يمكن أن يدخل ويفاعل
مع مفاهيم أخرى ألن ذلك يؤدي إلى نتائج فاسدة .تماما مثل مفهوم الالنهاية في
الرياضيات ،إذا أدخلته في معادلة رياضية تصل إلى نتائج فاسدة .مثل المعادلة أدناه:
∞=∞+1
∞∞=2+
فإذا كانت ∞ = ∞
إذن2 = 1 :
وهذه نتيجة بينة الخطأ.
،عندها يكون مفهوم الالنهاية خارجا عن أول مبادئ أما إذا كانت ∞ ال تساوي ∞
الفكر األساسية التي ال يستقيم أي تفكير بدونها أال وهو مبدأ الهوية أو الذاتية ،فيصبح
مفهوم الالنهاية مفهوما متناقضا ال يصح التعامل به في المعادالت.
فتلك نتائج خاطئة بشكل واضح .سببها إدخال الالنهاية في المعادلة وكأنها عدد
يشبه األعداد األخرى ،بينما هي حد أقصى يستحيل التعامل بها واقعيا .كذلك مفهوم
ال ّله الالنهائي يجب ّأل يدخل في عبارات اللغة التي تصف الوقائع بوصفه جزءا منها
وواقعة من الوقائع ،وإنما هو حد أقصى للوجود.
فضال عن ذلك يصر بالنتنغا أنه ألجل أن تكون حر االختيار البد من وجود شر
أخالقي مقابل للخير األخالقي .وبهذا يقع أسير المفارقة نفسها التي وقع فيها اليبنتز،
وهي جعل اإلرادة الحرة سببا في وجود الشر ،كما عرضناها .ويغفل بالنتنغا نتيجة
تركيزه على الجانب المنطقي عن كون المسألة تتعلق باللغة وثنائياتها .عالوة على
كون تصوره للعوالم الممكنة كان متغاضيا عن كونها افتراضات لعوالم مازال يحكمها
المنطق ومبادئ الفكر األساسية؛ الذاتية وعدم التناقض والثالث المرفوع .وهذه
91 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
القوانين متعلقة بالفهم البشري ،ومن ثم لم تعد هناك إمكانية الفتراض أكوان أو عوالم
أخرى طالما صارت تلك العوالم المفترضة مشابهة لعالمنا ،حيث يجب قطعها بنصل
أوكام .34فإن وجدت عوالم أخرى فهي تبقى ضمن هذا الوجود الذي توحده األنا.
فمهما كانت تخيالتنا عن عوالم افتراضية أخرى ،ال يمكننا أن نتخيل عالما فيه دوائر
مربعة أو عزاب متزوجون ،لعدم إمكانيتنا الحديث عن عوالم ال تخضع لقوانين فكرنا،
ألن تخيالتنا وافتراضاتنا مهما اشتطت ،البد لها من أن تكون منطلقة من ناصية «األنا
أفكر» التي ال سبيل الى إنكارها أو الخروج منها .وقد استحكم في تصورات بالنتنغا،
كما هو حال الكثيرين غيره ،نسيان األنا .فال يمكن تصور أي عالم ممكن من دون وجود
ذات تقوم بتصوره أو افتراضه .وهذه األنا التي تتخيل ذلك العالم أو تفترضه البد لها
من لغة لكي تخاطب ذاتها وتحدث نفسها أنه يوجد عالم ممكن أو أكثر ،ومن أجل
ذلك البد من وجود منطق كي يحكم تنظيم اللغة واستنتاجاتها .وبحكم تلك اللغة ،ال
بحكم اختالف العوالم ،ال يمكن أن توجد دوائر مربعة وال عزاب متزوجون .وبحكم
تلك اللغة أيضا ،ال بحكم اإلرادة الحرة أو النعمة اإللهية ،ال يمكن أن يوجد خير من
دون شر .فألن الخير موجود كان لزاما وجود الشر معه ،مثلما أن وجود القصير متالزم
مع وجود الطويل ،ووجود األعلى مع األسفل؛ بمعنى أن كل مفهوم يستلزم نقيضه.
وموقف بالنتنغا كله يمكن مواجهته بنقطتين؛ األولى :إذا كان إيجاد الشر األخالقي
من أجل حرية اإلرادة اإلنسانية ،فماذا عن الشرور الطبيعية مثل الكوارث البيئية
34مبدأ منهجي واسع االستخدام في الفلسفة وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية يعزى للفيلسوف
اإلنكليزي وليم أوكام م1288 – 1348 William of Ockhamمفاده أنه «ال يجوز مضاعفة الكيانات
بدون ضرورة» وال ينبغي اإلكثار من شيء إذا لم تقتض الضرورة ذلك .وهو مبدأ ما يزال مقبوال من
قبل الفالسفة إذ ال أحد يريد أنطولوجيا منتفخة بشكل غير مبرر.
انظر:
Barry, C.M.; Who sharpened Occam’s Razor, 2014, https://www.irishphilosophy.
razor/.ــ occamsــ sharpenedــ com/2014/05/27/who
And:
Spade, Paul Vincent; William of Ockham, Stanford Encyclopaedia of Philosophy,
https://plato.stanford.edu/entries/ockham/#4.1, 2019.
وويكيبيديا الموسوعة الحرة،
https://ar.wikipedia.org/نصل اوكام.
بولج رذنم .د 92
واألمراض؟ والثانية :تتعلق بعالم ممكن موعود يفترض بهذا الفيلسوف أن يكون مؤمنا
به بوصفه مسيحيا مخلصا ،وهو الجنة ،هل ينطبق عليها وجود الشر ألن فيها خيرا وأن
ال ّله ال يقدر على إزالته؟ يالبؤس الوجود إن كان يستحيل ،حتى على ال ّله ،إيجاد عالم
يخلو من الشر ،ويالضياع الوعود بالعدالة ،ويالعبثية إيمان بالنتنغا.
35 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil.
36 Leibniz, Gottfried Wilhelm. Discourse on Metaphysics. Trans. Jonathan F. Bennett,
2004, p.3.
37 Look, Brandon C; Gottfried Wilhelm Leibniz, Stanford Encyclopaedia of Philoso-
phy, 22 Dec. 2007.
93 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
الغاية من الرساالت السماوية والقوانين البشرية ولماذا يسعى الناس الى االستزادة من
العلوم واالختراعات وتطوير الطب وعالج االمراض؟ أال يكون العالم أفضل لو أن
عدد األطفال الذين يموتون جوعا صار أقل ،أو عدد الذين يشفون من أمراض السرطان
صار أكبر؟ كم من المواقف في حياتنا كانت ستكون أفضل لو أن أحد الظروف كان
مختلفا؟ كم من المناسبات كانت ستكون أفضل لو أنها حدثت في وقت آخر أو مكان
آخر؟ كم من المشاكل واألزمات كانت لتنتهي لو حضرها شخص معين أو اختفى
منها شخص آخر؟ هذا ما أدعوه نقيضة الخير؛ فالعالم يكون أفضل لو أن ال ّله أضاف
إلى الخير فيه شيئا يسيرا خيرا ،ويكون أفضل لو أنه أنقص من الشر فيه شيئا يسيرا.
ويمكن دائما إضافة خير آخر وإنقاص شر آخر حتى يعم الخير ويتالشى الشر .وال
توجد استحالة منطقية أو واقعية في ذلك .ومن الصعب إنكار تلك اإلمكانية على قدرة
ال ّله المطلقة.
والنقيضة نضعها بهذا الشكل:
البرهان األول :فيما يخص الخير:
القياس األول:
المقدمتان:
ال ّله تام القدرة.
تام القدرة يتمكن من تكرار أفعاله.
النتيجة :ال ّله يتمكن من تكرار أفعاله.
القياس الثاني:
المقدمتان:
ال ّله تام القدرة.
تام القدرة يتمكن من إضافة بعض الخير.
النتيجة :ال ّله قادر على إضافة بعض الخير.
القياس الثالث:
بولج رذنم .د 94
المقدمتان:
ال ّله قادر على إضافة بعض الخير.
ال ّله قادر على تكرار أفعاله.
النتيجة :ال ّله قادر على إضافة كل الخير.
لكن الخير ما يزال ناقصا.
والبرهان اآلخر :فيما يخص الشر:
القياس األول:
المقدمتان:
ال ّله تام القدرة.
تام القدرة يتمكن من تكرار أفعاله.
النتيجة :ال ّله يتمكن من تكرار أفعاله.
القياس الثاني:
المقدمتان:
ال ّله تام القدرة.
تام القدرة يستطيع إزالة بعض الشر.
النتيجة :ال ّله قادر على إزالة بعض الشر.
القياس الثالث:
المقدمتان:
ال ّله قادر على إزالة بعض الشر.
ال ّله قادر على تكرار أفعاله.
النتيجة :ال ّله قادر على إزالة كل الشر.
لكن الشر ما زال موجودا.
إن عدم وجود استحالة منطقية (أو واقعية) في زيادة الخير وتقليل الشر يدحض
95 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
حجة بالنتنغا المنطقية التي يؤكد فيها أنه من المستحيل على ال ّله أن يخلق عالما خاليا
من الشر ،كما أن عدم وجود استحالة تمنع زيادة الخير ونقصان الشر تدحض قول
اليبنتز أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة.
دع عنك من يجادل أن الحالة ربما كانت تصبح أكثر سوءا لو أن كل ما ذكرته أعاله قد
تغير ،وأن حكمة ال ّله الخيرة التي ال نعرفها هي التي اقتضت أن تكون األوضاع على ماهي
عليه من وجود الشرور .وهو رأي يقارب رأي بالنتنغا في سياق حجته ،التي أسماها «الدفاع
عن اإلرادة الحرة» ،وهي في حقيقتها دفاع عن وجود الشر وتبرير له ،أننا ال نعرف الحقيقة
النهائية .وهذا الدفاع يقع على الطرف المقابل ألحد أهم األسس التي بنى عليها ابن سينا
دفاعه ،وهو القول بأن العناية مهتمة بالنظام الكلي وليست ألجلنا؛ وأن «العلل العالية ال
يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية ألجلنا» ،38أي أن حكمة ال ّله ليس لها شأن فيما يحدث
من شرور للبشر .أوجد ابن سينا منفذا مختلفا للمروق من المأزق ،فلم يقل بوجود حكمة
إلهية ال نعلمها ،وإنما قال إن تلك الحكمة ال تتعلق بعالمنا .فهو ال ينكر وجود الحكمة
اإللهية التي ال نعلمها ،لكنه ال يعلق عليها أسباب ما يحدث في عالمنا .في حين أن بالنتنغا
يقول بوجود حكمة متدخلة في عالمنا ونحن نجهلها .واالحتجاج بحكمة ال ّله التي ال نعرفها
وال نفهمها هو احتجاج ال يمكن إثباته ،وما ال يمكن إثباته قد يمكن رده .فهو يوقعنا في
حتمية قاسية وينسف أية إمكانية للتغيير ،وال يستقيم مع أي قول بإرادة حرة ،إذ إن االحتجاج
بالحكمة اإللهية على أنها السبب في عدم إمكانية التغيير معناه التسليم بحتمية األحداث
وأن وقوعها إنما هو بسبب إرادة إلهية ،األمر الذي يعني انتفاء قدرة اإلنسان على التغيير،
وتلك حتمية تامة ال تترك مجاال للقول بحرية اإلرادة اإلنسانية .وبحسب هذا يكون مصدر
الشر ميتافيزيقيا ،طالما أن كل ما يحدث إنما يحدث بموجب حكمة وإرادة الهية .وكما عبر
عن هذا برتراند رسل ،في رده على اليبنتز ،من زاوية منطقية ،إذ رأى أنه إن كان الوجود
خيرا وهو يحتوي الشر ،فسوف يلزم عن ذلك أن الشر خير أيضا ،مما يعني أن مصدر الشر
ميتافيزيقي ،39مع ما تحمل هذه النتيجة من تناقض داخلي ،يظهر في القول :إن الشر هو خير.
41انظر :كنط ،عمانويل :نقد العقل المحض ،ت :موسى وهبة ،مركز اإلنماء القومي ،بيروت ،ص286
ــ .328
أيضا التجريبية المنطقية ،وهي حركة فلسفية نشأت في فيينا في عشرينيات 42الوضعية المنطقية ،وتسمى ً
القرن الماضي وتميزت بالرأي القائل بأن المعرفة العلمية هي النوع الوحيد من المعرفة الواقعية وأن
جميع المذاهب الميتافيزيقية التقليدية يجب رفضها باعتبارها ال معنى لها .أنظر:
Encyclopedia Britannica; logical positivism, https://www.britannica.com/topic/
positivism.ــ logical
43كان دليل التصميم الذكي سببا أساسيا في قلب مواقف الفيلسوف اإلنكليزي المعاصر أنتوني فلو
رأسا على عقب .كان متيقنا من عدم وجود إله ثم صار متيقنا من وجوده .حين كان منكرا لوجود
االله أغضى عن المشكالت التي يستتبعها هذا الموقف واألسئلة التي تبقى معلقة ،ثم حين انقلب
موقفه ،بدا وكأنه نسي األسئلة المتكررة في تاريخ الفلسفة التي يستتبعها هذا الموقف ،ومن أجل
تجاوز تلك األسئلة ذكر أنه صار ربوبيا وحسب ،أي مؤمنا بوجود إله ما (يشبه إله أرسطو) ،وليس
مؤمنا بدين معين وال ببعث .وقال إن مشكلة وجود الشر بالدرجة األولى هي التي تمنعه من أن
يصبح مسيحيا .أي أنه ال يستطيع التوفيق بين صفات االله حسب الديانة المسيحية ووجود الشر في
العالم ،وبدا له صراحة أن ال ّله خلق كثيرا من الشر.
99 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
أي وجود عقل ُعلوي أعظم يحرك كل شيء من خلف الستار» .44وهذا الدليل ببساطة
يمثل دهشة اإلنسان أمام دقة التصاميم في هذا الكون بدء من أجزاء الذرة ومكونات
الحمض النووي والشفرة الوراثية وصوال إلى نظام المجرات والثقوب السوداء ،وأن
هذه التصاميم ال يمكن تفسيرها بالمصادفة المحضة ،فيكون االستنتاج أنه البد من
وجود مصمم ذكي خارق القدرة هو الذي صممها بهذه الدقة .وبهذا يمكن رد دليل
التصميم الذكي إلى دليل النظام التقليدي الذي يرى أن هناك نظا ًما في هذا العالم،
ولكل نظام البد من وجود سبب وفاعل هو الذي قام به.45
النظام والعلية:
إن دليل المصمم الذكي أو التصميم الذكي هو عبارة عن تنويع وتفصيل في ثنايا دليل
النظام ،ويعتمد كل من الدليلين على دليل العلية ،الذي يفيد أنه ال بد لكل معلول من علة،
انظر:
Habermas, Gary R.; «My Pilgrimage from Atheism to Theism: An Exclusive In-
terview with Former British Atheist Professor Antony Flew», Philosophia Christi,
Biola, 6 (2), (9 December 2004), archived from the original on 30 October 2005.
http://www.biola.edu/antonyflew/page6.cfm
44صدر في النصف الثاني من عام 2021في فرنسا كتاب القى رواجا واسعا عنوانه( :ال ّله ،العلم،
البراهين ،وهو من تأليف :ميشيل ــ إيف بولوريه ،وأوليفيه بوناسييس) .وهذا الكتاب عبارة عن سرد
للمنجزات العلمية في مجالي الفيزياء الكونية والبيولوجيا منذ القرن العشرين لحد االن ،وعرضها
في سياق يبين النظام في الكون ليستنتج ضرورة وجود فاعل ذكي لهذا النظام .انظر:
صالح ،هاشم؛ العلم يبرهن على وجود ال ّله للمرة األولى ،مقال في صحيفة الشرق األوسط ،لندن،
25ــ 11ــ .2021
45نجد هذا االستدالل بوجود النظام على المنظم ووجود الصناعة الذكية على الصانع الذكي في
ف ف ُخ ِل َقت ( )17وإِ َلى السم ِ
اء َك ْي َ ون إِ َلى ْ ِ
البِ ِل َك ْي َ القران الكريم ،سورة الغاشيةَ [ :أ َف َل َين ُظ ُر َ
َّ َ َ ْ
ف ُسط َح ْت] ( .)20وكذلك: ِ ف ن ُِص َب ْت (َ )19وإ َلى ْال ْرض َك ْي َ
ِ َ ِ ال َك ْي َ رفِ َع ْت (َ )18وإِ َلى ا ْل ِج َب ِ
ُ
ً ِ ْ َ َ ٍ
و[وخل َق كُل َش ْيء فقدَّ َر ُه َتقديرا] الفرقان (.)2 َّ َ َ َّ
[صن َْع الله الذي أ ْتق َن كُل َش ْيء] النمل (.)88َ َ ِ َّ ّ
َ ُ
و[إِ َّنا ك َُّل َش ْي ٍء َخ َل ْقنَا ُه بِ َقدَ ر] القمر ( .)49وغير ذلك .وكذلك نجد إشارة الى دليل السببية في
ات َواألَ ْر َض ون (َ )35أم َخ َل ُقوا السماو ِ
َّ َ َ ْ القران ،سور ة الطورَ [ :أ ْم ُخ ِل ُقوا ِم ْن َغ ْي ِر َش ْي ٍء َأ ْم ُه ُم ا ْل َخالِ ُق َ
وقنُون] ( .)36وكذلك تتواتر مقولة في الموروث العربي بهذا الخصوص مؤداها أنه :سئل ب ْل الَ ي ِ
ُ َ
أعرابي :بم عرفت ربك؟ فقال :األثر يدل على المسير ،وال َب ْع َرة تدل على البعير ،فسماء ذات ٍ
أبراج
وبحار ذات أمواج أال تدل على السميع البصير؟ ٌ وأرض ذات فجاج ٌ
بولج رذنم .د 100
ولكل حدث البد له من سبب .ويعود القول أخيرا إلى أرسطو؛ أن لكل متحرك البد من
محرك حتى نصل إلى محرك ال يتحرك( 46وهذا هو أساس الدليل الكوزمولوجي أو
الكوني الطبيعي) .ودليل النظام ،بوصفه امتدادا للدليل الكوزمولوجي ،هناك عليه من
الردود ما يوهن فاعليته ،وأهم تلك الردود هو ما جاء في النقائض التي أوردها إمانويل
كانت حين قدم حجة مناقضة لدليل العلية بنفس قوة هذا الدليل وهو في الوقت نفسه
رد على دليل المحرك الذي ال يتحرك من ناحية ارتباطه بدليل العلية .فدليل العلية أو
السببية هو أساس في أي تدليل على وجود علة أساسية (أو وجود منظم أو مصمم
ذكي) سواء بوصفها سببا لوجود العالم ،أو للحركة في العالم ،أو النظام فيه .فبمجرد
بيان أن العلية أمر مشكوك فيه تتزعزع كل الحجج التي تبنى عليها.
في النقيضة الثالثة من نقائض العقل المجرد يثبت إمانويل كانت ضرورة القول
بوجود سبب لكل ما في العالم ،ثم ،بعد ذلك ،يثبت أن اإلصرار على هذا القول يؤدي
إلى التناقض .47وإثبات كانت هنا يعتمد على استخدام حجج العقل المجرد ،وغايته
46المحرك الذي ال يتحرك عند أرسطو هو علة سببية وليست علة فاعلة .أي أنه سبب حركة األشياء
وليس هو العلة الفاعلة لحركتها ،إذ أنه ليست هناك بداية زمنية للعالم بدأت مع تحريك المحرك
األول للموجودات ،بل هو محرك بمعنى كونه غاية .انظر:
Aristotle, Metaphysics XII, 1072a.
And:
Humphrey, P.; Metaphysics of Mind: Hylomorphism and Eternality in Aristotle and
Hegel, State University of New York at Stony Brook, 2007, p. 71.
47يحتج كانت في النقيضة الثالثة أن القول بوجود السببية في الطبيعة يؤدي الى التناقض« ،إن سببية
السبب التي بها يحصل شيء ما ،هي أبدا بدورها شيء ما يحصل ويفترض بدوره وفقا لقانون
الطبيعة حاال متقدمة وسببية هذه الحال؛ وهذه األخيرة حال أقدم وهكذا دواليك .إذن ،لو كان كل
شيء يحصل وفقا لقوانين الطبيعة وحدها ،فلن يكون هناك قط سوى بدء رديف وليس البتة بدء أول
ومن ثم لن يكون هناك أي تمامية للسلسلة لجهة األسباب التي يتولد بعضها من بعض ...إذن ،إن
القضية ،التي تنص على أن كل سببية ليست ممكنة إال وفقا للقوانين الطبيعية تتناقض ذاتيا في كليتها
الالمحدودة؛ ومن المحال إذن أن نسلم بهذه السببية بوصفها السببية الوحيدة ».بقي لنا أن نفترض
وجود حرية خارج إلزام السببية الطبيعية ،ويسميها كانت نوعا آخر من السببية هي السببية المتعالية
(ألن العقل عنده ال يمكنه أن يفكر خارج سببية ما) .لكن هذه الحرية أو السببية المتعالية تؤدي إلى
تناقض أيضا .فإن القول بوجود حرية بالمعنى الترنسندنتالي أو المتعالي ،أي وجود «نوع خاص من
العلية بموجبه يمكن ألحداث العالم أن تحصل ،أعني ،القدرة بالمطلق على بدء حالة ،ومن ثم أيضا
على بدء سلسلة من نتائج هذه الحالة ،فسوف لن يكون هناك فقط سلسلة تبدأ بالمطلق بفعل هذه
101 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
أن االعتماد على العقل المجرد ،في بحث قضايا الحدود القصوى ،يؤدي إلى إثبات ّ
الوقوع في التناقض ألنه يؤدي إلى إمكانية إثبات القضية ونقيضها في الوقت نفسه.
فهو بذلك وضع حدودا الستخدام العقل ،وأن العقل إن تجاوز هذه الحدود وحاول
خوض موضوعات خارجها فإنه واقع في التناقض ال محالة .ومن ضمن القضايا التي
تقع خارج الحدود ،ما ذكرناه هنا عن السببية .وكذلك يورد كانت في النقيضة الرابعة
مسألة وجود كائن ضروري (ال ّله) بوصفها من القضايا التي يمكن للعقل إثباتها وإثبات
نقيضتها بالقوة نفسها .وهكذا نجد أن كانت يدحض دليل العلية بوصفه يمكن إثباته
وإثبات نقيضه بالقوة نفسها ،وهو أمر يصلح أن يكون ردا على دليل المصمم الذكي
الذي يعتمد على دليل النظام ،ودليل النظام يعتمد على دليل العلية بوصف المنظم
هو علة النظام ،مثلما أن المصمم هو علة التصميم ،فدحض العلية هو دحض لكل ما
يترتب عليها .فضال عن ذلك ،نجد أن الفكرة من وراء نقائض كانت كلها ،هي إثبات
أن العقل المجرد يقع في التناقض إن تجاوز حدوده التي تتيحها له آلية اشتغاله ،تلك
الحدود التي يمكنه العمل ضمنها فقط ،ويقع في التناقض إن تجاوزها .وهكذا ،فإن
محاولة التدليل على وجود مصمم ذكي تمثل وقوعا في الخطأ نفسه الذي حذر منه
48
كانت وهو استخدام العقل النظري في محاولة إثبات قضايا ال تقع ضمن حدوده.
وتسلسل العلل ثم انتهاؤها إلى علة أولى ال علة لها ،وكذلك تسلسل
المتحركات ثم انتهاؤها إلى محرك أول غير متحرك عند أرسطو لنا عليه ردان،
( :)1إذا سلمنا أنه (لكل معلول توجد علة) ،فإن القول بوجود علة ال علة لها
يناقض ذلك .ألن معنى ذلك أننا نقول إن لكل موجود هناك موجد هو سبب
التلقائية ،بل سيجب أيضا أن يبدأ بدءا مطلقا تعين هذه التلقائية لتوليد السلسلة ،أي العلية بحيث ال
يكون هناك شيء يتقدم على الفعل الحاصل ليعينه وفقا لقوانين ثابتة .إال أن كل بدء لفعل يفترض
حاال ليس لها أي ترابط سببي مع سببه بالذات ،أعني ال تنتج عنه بأي شكل .فالحرية الترنسندنتالية
تضاد إذن قانون السببية «وهذه الحرية المتعالية بهذا الشكل تكون عبارة عن اقتران ألحوال األسباب
الفاعلة هو نوع من الفوضى ال يمكن أن تقوم علية وحدة تجربة من أي نوع ،أي أن افتراضا كهذا
يجعل إمكانية المعرفة مستحيلة فهو عبث .وبالنتيجة فإن القول بالسببية والقول بالحرية كالهما
متناقض إذا سرنا معه إلى حدوده القصوى التي تقع خارج شبكة بناء العقل» .كنط ،عمانويل :نقد
العقل المحض ،ص .236
48انظر :كنط ،عمانويل :نقد العقل المحض ،ص 227ــ .244
بولج رذنم .د 102
وجوده ،بموجب مبدأ السببية أو العلية ،فقولنا أن هناك موجودا ال موجد له وال
سبب هو قول مناقض لقولنا السابق .فكأننا قلنا قولين متناقضين ،أحدهما :لكل
موجود سبب .والثاني :ليس لكل موجود سبب ألن هناك موجودا ال سبب له.
وكذلك إذا كان (لكل متحرك محرك) حتى ننتهي إلى محرك أول غير متحرك.
فلماذا توقفت عند محرك أول وقلت إنه ال محرك له وأنه ال يتحرك؟ بمعنى أن
عبارة «حتى ننتهي» ال إثبات لها وال يدعمها مبدأ العلية .فهي ال تكفي إلثبات
وجود أحد الموجودات أو إثبات انعدام حركته .وكونك ال تستوعب إمكانية
االستمرار إلى ما النهاية له في وجود المحركات والمتحركات ،فإن ذلك ال
يسوغ لك افتراض وجود محرك ال يتحرك لكي تتوقف عنده بعد التعب .والشيء
أن لكل متحرك البد نفسه ينطبق على العلل والمعلوالت .و( :)2إن افتراض ّ
من محرك هو افتراض غير مبرر ،فقد يكون هناك متحرك ال محرك له .حيث ال
يتوافق هذا االفتراض مع مبدأ القصور الذاتي الذي يؤكد أن الجسم يحافظ على
حالته الحركية إذا لم يتعرض إلى مؤثر خارجي .فالجسم المتحرك يبقى متحركا
إذا لم يصطدم بشيء أو لم يتعرض إلى احتكاك في محيطه يؤدي إلى تباطؤ حركته
ومن ثم يوقفه .فالمتحرك ال يحتاج بالضرورة إلى ما يحركه ،وإنما يحتاج إلى ما
يوقفه عن الحركة .فيمكن أن تكون حركات األجرام أزلية من دون حاجة إلى ما
يحركها .ثم إن الحركة مفهوم مرتبط بالعالقة المكانية بين األجسام .فلو تخيلنا
وجود جسم واحد فقط في الكون ،فلن يكون بإمكاننا وصفه بأنه متحرك أو ساكن،
ألن الحركة هي إما اقتراب من شيء آخر أو ابتعاد عنه .هذا إذا نظرنا إلى األمر من
وجهة نظر الفيزياء التقليدية ،أما إذا دققنا في الموضوع بموجب مجريات الفيزياء
المعاصرة فنجد أن المادة في نهاية المطاف ،وفي أصغر مكوناتها من إلكترونات
وبروتونات ونيترونات ...إلخ ،ذات طبيعة مزدوجة موجية جسيمية وأن الحالة
الجسيمية لألشياء ال يمكن الجزم بأنها حالة سابقة على حالتها الموجية ومعنى
ذلك أنه يمكن اعتبار الحركة هي األصل في الوجود .هكذا يصبح ممكنا إثبات
أن الوجود يحتوي متحركا ال محرك له ،ويصعب إثبات وجود محرك ال يتحرك.
فينقلب موقف أرسطو رأسا على عقب.
103 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
ذلك المصمم أو قدرته أو ذكاءه موضع سؤال .أي أن هناك تصميما ذكيا ،فإن كان لهذا
التصميم الذكي من مصمم ،فإن وجود الشر يثير السؤال :هل ذلك المصمم في غاية
الذكاء ،أو في غاية الخير ،أو أنه الوحيد وليس هناك من يفسد في تصميماته؟
فينبغي على القائلين حديثا بدليل التصميم الذكي االنتباه إلى أمر مهم ،هو أننا لسنا
بحاجة إلى دليل جديد أو ترقيع دليل قديم على وجود إله األديان الميتافيزيقي الواقع
خارج العالم .لكننا بحاجة إلى حل المعضالت والتناقضات التي يسببها القول بوجود
ذلك اإلله ،ابتداء من تفسير الكثرة في العالم في مقابل وحدة اإلله ،وليس انتهاء بحل
معضلة الشر حيث يصعب تبرير وجود الشر مع وجود ذلك اإلله.
51أفالطون؛ في الفضيلة ،محاورة مينون ،ت :د .عزت قرني ،دار قباء ،القاهرة ،2001 ،ص 120فما
بعدها.
بولج رذنم .د 106
والحقيقة أن الضمير يعرف الخير والفضيلة دائما ويشير إليهما بوضوح ،وتأتي
الشرور والرذائل نتيجة تجاهل الضمير .ويحدث التجاهل والعمل خالف ما يشير إليه
الضمير بسبب عمل اإلنسان على سد حاجات الجسد من حفاظ على البقاء أو تحقيق
منافع للفرد والجماعة .وحين تدخل هذه المنافع في االعتبار يمكن أن يتم تجاهل
الضمير والعمل على خالفه .فلو كان ما يشير إليه الضمير يترتب عليه ،مثال ،تقصير أب
في توفير طعام ألطفاله إذا رفض أخذ رشوة ،عندها يمكن أن تجد ذلك األب يتجاهل
ضميره من دون تردد ،فما بالك لو تعلق األمر بسالمة أولئك األطفال؟
فتكتسب الموجودات قيمتها وغايتها من األنا .فليس هناك غاية وال ضرورة لوجود
الحياة أو الكائنات الحية على األرض أو في الكون عموما ،لكن الضرورة في وجود
الكون تكون بسبب األنا ،التي هي الكيان الوحيد الذي «أنا» على يقين من وجوده من
ناحية ،ومن ناحية أخرى فإن هذا الكيان هو النافذة الوحيدة لإلطالل على كل ما سواه.
52 Shaftesbury, Lord; Characteristicks, in Den Uyl, D., (ed.), Anthony, Third Earl of
Shaftesbury: Characteristicks of Men, Manners, Opinions, Times, Indianapolis,
Liberty Fund, 2001, Vol. II.1 [119].
بولج رذنم .د 108
األخالقي للفعل ،فال توجد عالقة بين العقوبة وصواب الفعل أو خطئه ،وإنما هو
مجرد نزول عند اإلرادة (التعسفية) للمشرع .وهذا االرتباط بين الفعل وبين العقوبة أو
كاف للدوافع األخالقية .عندما أتصرف فقط بسبب عقوبة خارجية ،فأنا ال المكافأة غير ٍ
أتصرف وف ًقا لقانون من ذاتي .53فعقوبات المشرع أو مكافآته منبعها القانون األخالقي
النابع من الضمير وليس العكس وإال كانت تعسفية إذ تكون بال سبب أو مسوغ .وبتلر
بذلك يتجاهل كون المصلحة العامة أو مصلحة المجموع تكون هي المرجع والمسوغ
للتشريعات المدنية واإللهية.
وهنا نجد أن بتلر على الرغم من تسليطه الضوء على أهمية الضمير إال أنه لم يصل
إلى البعد األنطولوجي للضمير وهو كونه «األنا» المتعالية على الجسد وعلى العقل
بوصف العقل هو مقدرة الدماغ على التفكير ،فقد وصف الضمير بأنه «مبدأ في العقل
البشري» .فإن كان ما يعنيه بالعقل البشري هو الدماغ ،فليس من دليل تجريبي أو
تشريحي يثبت وجود مبدأ الضمير في تالفيف الدماغ وخالياه أو أي من أجزاء الجسد،
أما إن كان ما يعنيه بالعقل البشري كيانا ميتافيزيقيا ،فإن بتلر يحتاج إلى بيان حدوده
وإمكانياته ومكان وجوده وطبيعة ارتباطه بالجسد وبالعالم ،فيعيده ذلك إلى ساحة
المساجالت الشعواء حول الروح والجسد والعقل ومجموعة المفاهيم الميتافيزيقية
والغيبية التي ال سبيل إلى البت بها.
على خالف بتلر ،نرى أن الضمير هو الحاكم والمشرف على التفكير ،وبوصف
الضمير حرية مطلقة يحتكم إليها اختيار اإلنسان ألفكاره وأفعاله .هذا من ناحية ،ومن
الناحية األخرى فإن رؤية بتلر ال تتمكن من تفسير الخروقات األخالقية .فطالما كان
الضمير عند بتلر هو واضع القانون األخالقي الوحيد وهو المشرع من دون منازع ومن
دون حاجة إلى ثواب أو عقاب ،فما الذي يدفع اإلنسان إلى الخروقات األخالقية؟
هنا يغفل بتلر العامل األخر المهم المؤثر في أفعال البشر وهو اهتمامهم األساسي
بحفظ بقائهم وحماية مصالحهم .فيكون حفظ البقاء وحماية المصالح هو الدافع وراء
التشريعات المدنية والدينية .إن الفرق الحاسم هنا هو أننا وصلنا إلى الضمير من نقطة
53 Butler, J.; The Analogy of Religion, Natural and Revealed, to the Constitution and
Course of Nature, London: J. and P. Knapton, 2nd corrected edition, 1736, 1-5.
109 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
ال بداية قبلها ،من الوجود األولي واليقين غير القابل للشك .من الثابت الوحيد المستند
إلى الكوجيتو .وأثبتنا أن الضمير هو واجب الوجود ،بمعنى أننا إذا افترضنا عدم وجوده
ينشأ عن ذلك محال.
التي ستبهر بصره لشدة صعوبتها وعدم اعتياد عينه على رؤية ضيائها الساطع ،54نجد
أن االنسان يوجد أمامه كذلك عامالن يساهمان في رسم المشهد الذي يراه ليظن
أنه الحقيقة؛ العامل األول :هو حالته النفسية والجسدية وظروف نشأته ،والعامل
الثاني :هو طبيعة األيديولوجيا السائدة في المرحلة التاريخية التي يعيشها ،حيث إن
هذه األيديولوجيا هي الصانع األهم للرؤى الكبرى والنظريات العلمية واالجتماعية
واالقتصادية وحتى الدينية السائدة.55
وهنا االختالف المهم عن رؤية أفالطون؛ إن اإلنسان غير قادر على التغلب على أي
من هذين العاملين الذين يصوغان رؤيته للوقائع ويؤديان إلى تكوين فكرته عن ذاته وعما
حوله ،وإن تمكن من بعض اإلزاحة الجزئية لهذين العاملين بغية أن يرى الحقيقة كما هي،
فإنه لن يرى شيئا ،وذلك لعدم وجود حقيقة كما هي أو بحد ذاتها أو (المثال) كما يسميه
أفالطون ،وإنما الحقيقة هي فكرتنا المتكونة بعد المرور بمخروط عام َلي األيديولوجيا
(الخارجية) وعوامل النفس والمحيط التي تؤثر في الذات العارفة (الداخلية).
54يورد أفالطون في كتاب الجمهورية قصة رمزية لشرح موقفه في هذا المجال خالصتها أن مجموعة
أشخاص مكبلين في كهف وخلفهم موقد نار يسقط أشعته على جدار أمامهم ،وتمر من وراء
ظهورهم بينهم وبين النار ُدمى على هيئات مختلفة ،يرون ظاللها على الجدار أمامهم فيظنون أنها
الحقائق .الدمى في كهف أفالطون تقابل أشياء العالم مثلما أن أشياء العالم هي بمثابة دمى إذ إنها
ظالل للمثل التي هي الحقائق النهائية في الوجود .ومع ذلك فإن الناس ال يرون الدمى وإنما يرون
ظاللها .في الكهف يرون الظالل فقط على الجدار ،وفي العالم يرون األشياء من خالل منظورهم
وأفكارهم المسبقة .وهذه هي الفجوة الثانية بينهم وبين الحقيقة .ثم تضاف إلى ذلك الصعوبة الثالثة
متمثلة في ثقل الحقيقة على األفهام والنفوس .فرؤية الشمس مؤذية لساكني الكهف الذين لم يروها
سابقا ،ومعرفة الحقيقة مؤذية وشاقة على الذين يدركونها في واقع الحياة .حول قصة الكهف عند
أفالطون وموقفه المعرفي ،انظر:
أفالطون :المحاورات الكاملة ،ت :شوقي داود تمراز ،األهلية للنشر والتوزيع ،بيروت،1994 ،
المجلد األول :الجمهورية ،الكتاب السابع ،ص 319فما بعدها.
55الدين أيضا يزداد أو يقل أثره على مستويين :مستوى التشدد في طروحاته ،فمقدار التشدد في االلتزام
بطروحاته من قبل أتباعه يتفاوت بين األفراد بحسب المحيط والتنشئة والعوامل النفسية ،ومستوى
اكتراث الجمهور به ،فهذا االكتراث ال يكون على وتيرة واحدة باختالف األزمنة ،فقد تأتي موجة
من االكتراث الشعبي الكبير بالدين وأوامره في بيئة معينة لفترة من الزمن ،ثم تنحسر هذه الموجة
في البيئة نفسها بعد فترة لتحل محلها موجة من ميول أخرى من االنتماء ومنظومة أخرى من األفكار
كالموجة القومية أو الوطنية وما إلى ذلك.
بولج رذنم .د 112
وبهذا فان العلوم ونظرياتها ال تمثل حقائق مستقلة بذاتها ،ال عند المجتمعات وال
عند األفراد .الحقيقة ترتبط بالحاجات الفردية ،وحاجات المجتمع ،ومصالح األفراد
والجماعات.
وهذه عبرة حقيقية يلخصها قول العرب قديما (لكل مقام مقال) ،مما يعني أنه
ال وجود لحقيقة واحدة يمكن أن تقال دائما ،وأن ذلك قد يؤدي إلى المهالك ،وأن
األقوال يجب أن تأتي بحسب المواقف وبحسب النتائج المرجوة منها .وهنا تحضر
المفارقة التي واجهت القائلين بأن األخالق مطلقة وال مجال للنسبية فيها .فمثال لو
اختبأ شخص في مكان تعرفه وجاء آخر يريد قتله ،وسألك عن مكانه .هل تبقى صادقا
وتدل القاتل على مكان المختبئ ،أم تكذب وتنقذ حياة إنسان؟ إن قلت إنك يجب أن
تلتزم بالصدق (كما يرى إمانويل كانت) 56فذلك اختيار فيه هالك إنسان وهو من أعظم
الشرور التي يمكن حدوثها ،وإن قلت أنك ستكذب وأن الكذب في هذه الحالة فعل
أخالقي خير ،عندها تكون قد بررت الكذب وطمس الحقائق من دون وضع حدود
واضحة لمعيار أخالقي يوازن بين الصدق وفعل الخير ،وأثبت تعارضا بين الحق وبين
الخير ،وصرت على مفترق مأساوي يرى في الشر ناتجا من نواتج الحقيقة والصدق،
فيضطرك هذا الموقف الى الدعوة الى طمس الحقيقة أحيانا .وهنا ستدخل في مأزق
جديد هو عدم معرفة متى وما هي الحدود التي يجب عندها طمس الحقائق .هل يتوقف
األمر عند إنقاذ حياة اإلنسان ،أم يتعدى ذلك إلى مجاالت أخرى من قبيل الدفاع عن
الشرف أو عن المصلحة العامة أو الخاصة أو من قبيل إباحة الكذب أو االفتراء على
57
الخصوم والمناوئين في المجاالت المتعلقة بالدفاع عن العقائد؟
Hill,ــ 56 Rachels, James; The Elements of Moral Philosophy (Third ed.), McGraw
1999, p128.
57يشرع بعض فقهاء الدين (من قدماء ومحدثين) بإباحة االفتراء على خصوم العقيدة .يقول السبكي« :وقد
بلغ الحال بالخطابية ...وهم المجسمة في زماننا ،فصاروا يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة ،ال
أن كبيرهم استفتى في شافعي أيشهد عليه سيما القائم عليهم بكل ما يسوؤه في نفسه وماله ..وبلغني ّ
بالكذب فقال ألست تعتقد أن دمه حالل؟ قال :نعم :فما دون ذلك دون دمه فاشهد وادفع فساده عن
المسلمين»( .طبقات الشافعية ،ج 1ص )193نقال عن( :السيد محمد الكثيري :السلفية بين أهل
السنة واإلمامية ،مؤسسة الميالني إلحياء الفكر الشيعي Milani .ــ 2018, alــ Copyright © 2011
،Foundationص .)482ويقول الخوئي« :قد تقتضي المصلحة الملزمة جواز بهتهم واإلزراء عليهم،
113 يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا
ال حقيقة إذن وراء رؤانا لوقائع العالم بحد ذاتها وال معيار للمفاضلة سوى أمرين:
أحدهما :هو تناسق هذه الرؤى في اصطفافها مع بعضها وفاعليتها في التفسير
وتسيير األمور بانسيابية تحفظ البقاء والمصالح للفرد وللجماعة.
والثاني :هو الضمير؛ ذلك الثابت الوحيد والحقيقة المطلقة المستقلة عن كل
ما سواها .وبسبب ما يحدث من تعارض بين هذين األمرين تأتي جميع االنتهاكات
األخالقية وتتولد الشرور.
كل ما هنالك ،إذن ،نسبي ومتغير وقابل للتعديل حسب الظرف ،إال ما أقوله «أنا».
والمقصود بـ«أنا» هو الضمير ببعده األنطولوجي من ناحية كونه اإلطاللة الوحيدة على
الوجود والفاعلة المشاركة في صنعه.
كل ما يسمى بحقائق علمية ووقائع تاريخية وقوانين اقتصادية وإجراءات صحية
ومقوالت وحكم أخالقية ونصوص مقدسة ومذاهب دينية ومدارس فلسفية باحثة عن
الحقيقة وزاعمة الوصول إليها ،كلها قابلة لالختالف والزيادة والنقصان والتغيير ،فهي
بمعنى ما صياغات متناسقة يقصد منها المنافع والحفاظ على البقاء.
ومعنى الصياغات هنا أنها اتفاقات أو مواضعات ترسم صورة للوقائع بهدف
الفهم والتعامل .وليس مهما أن تكون هذه النظريات مشابهة للوقائع أو الحقائق بقدر
أهمية أن تكون متناسقة وعملية من ناحية قدرتها على تيسير الفهم والتعامل .على
سبيل المثال؛ التيار الكهربائي ،يفسر على أنه سيل من اإللكترونات يجري في سلك
معدني فيؤدي إلى توهج مصباح مثال .فعليا :هناك ظاهرة توهج المصباح لدى توصيل
سلك به ،والسلك متصل بمصدر .أما اإللكترون نفسه فهو مجرد افتراض ال سبيل إلى
التأكد منه؛ إنه فرضية ،إنه كذبة متناسقة نافعة من أجل التفسير والتعامل العملي .وهذا
ينسحب على جميع النظريات العلمية.
وتلك الصياغات أجدى من الحقائق وأكثر فاعلية وأقدر على العمل وتسيير
األمور ،والسبب وراء ذلك بسيط ،وهو عدم وجود حقائق في الواقع العملي .وتتفاوت
الصياغات في قيمتها بحسب تناسقها وقدرتها على العمل والفاعلية.
وذكرهم بما ليس فيهم افتضاحا لهم ،والمصلحة في ذلك هي استبانة شؤونهم لضعفاء المؤمنين ،حتى
ال يغتروا بآرائهم الخبيثة وأغراضهم المرجفة»( .مصباح الفقاهة ــ الخوئي ،ج ،1ط ،1ص .)701
بولج رذنم .د 114
وحتى الرياضيات هي مجموعة من الصياغات ،بمعنى أنها اتفاقات .هي اتفاقات على
معاني أساسية ندعوها المسلمات ،فمجمل بنية الرياضيات ونتائجها تتغير جذريا بمجرد
تغيير بعض تلك المسلمات أو جميعها .هي اتفاق على معنى الواحد ،وأن األعداد هي
تكرارات للواحد .وكل العمليات الحسابية هي إجراءات متفق عليها بموجب قواعد
موضوعة ومتفق عليها أيضا .وتدخل األعداد (الواحد وتكراراته) تحت هذه القواعد
في عمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب والجبر...إلخ في عملية هي أشبه باللعبة.
وهذه اللعبة ذات القواعد المتناسقة هي الحاكم األقوى فيما يسمى بالعلوم الدقيقة .واألمر
نفسه ينطبق على األشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر التي هي افتراضات
نرسمها على الورق ونقارب بينها وبين األشياء لندخلها في عمليات حسابية .ومع ذلك
فالرياضيات هي نظامنا األكثر ضبطا فيما يتعلق في تعاملنا مع الواقع.
وأهم ما يطلبه واقع الحياة البشرية هو الحفاظ على البقاء والحفاظ على المنافع،
وهذه توفر تبريرات لالحتيال وحتى للكذب.
أما مجال الضمير فهو مجال الحقيقة المطلقة التي تبقى ثابتة مهما تغيرت متطلبات
واقع الحياة العملية .وتذكره المستمر هو الوسيلة الوحيدة للخروج كليا من كهف
أفالطون .الضمير أولى أن يتبع ألنه هو حقيقتنا األولى واألهم واألسمى ،وهو،
بالنسبة لهذا الوجود ،الجوهر الذي يجب عدم الوقوع في فخ نسيانه .وإن مقدار
حقيقة وجود الفرد يتعلق بتذكر الضمير واإلصرار على التذكر ومقاومة النسيان الذي
تجر نحوه وقائع الحياة ،فضال عن كون هذا التذكر المستمر يوفر الرفعة واحترام
الذات واالنسجام والتوافق الداخلي .وبسبب نسيانه الذي يحدث باستمرار ،وبسبب
التعارض بينه وبين متطلبات الواقع الحياتي والعملي تنشأ الشرور البشرية .فالضمير
هو الكيان الوحيد الذي يمكن أن يواجه الشر في العالم ،فبتذكره والتسليم له يمكن
تحقيق الوجود البشري الممتلئ المتعالي على الخير والشر .وذلك يستدعي قوة
عظيمة يمكن أن يوفرها تذكره المستمر واإلصرار عليه .ومن النواتج المترتبة على
ذلك تهميش متطلبات الحياة كلها من بقاء ومصالح ،واالنتصار للضمير متى حدث
تعارض بينها وبينه .فالبقاء هو بقاء الضمير أو األنا ،فذلك هو الوجود الواحد الذي ال
يفنى وال يستحدث.
دراسات
ميتافيزيقا الشر
عند سبينوزا وشوبنهاور
1
د .زيد عباس الكبيسي __________________________________________
2للمزيد من االطالع على هذا الموضوع ينظر :سامي عامري ،مشكلة الشر ووجود ال ّله ،دار
تكوين ،المملكة العربية السعودية ط ،2016 ،2ص 109وما بعدها.
3نسبة الى القديس اوغسطينوس 354م ــ 430م وهي الثيوديسيا التي وضعها فيلسوف الدين جون
هيك في ضوء كتابات اوغسطين.
117 رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم
على الشاهد ،لكن الغائب هنا ال يحمل أي صفة في الثبات األنطولوجي وال الثبات
الرياضي ،إذ إن الشر األعظم أو الخير المستقبلي غير قابل للقياس بأي شكل من
األشكال.كما أن افتراض وجود إله كامل القدرة والعلم بجانب وجود الشر غير
ممكن معرفيا من دون معرفة مسبقة بماهية ذلك اإلله أوال ،وهو أمر مستحيل ،لذا
فإن كل حجج الثيوديسيا وحتى حجج (جون هيك 1922ــ )2012بـ (وجود الكل
أو ال شيء) ،تبقى واهنة أمام البناء المنطقي لمشكلة الشر ،ألنها حاولت أوال اإلبقاء
على التصور الالهوتي لإلله ،وثانيا التأكيد على الضرورة الوجودية للشر.
أما النمط الثاني من الردود على المشكلة المنطقية للشر ذهب إلى أصل تلك
البنية المنطقية ،وخير من َم َّث َل هذا النمط هو (ألفن بالنتينجا ،4)Alvin Plantinga
حيث يبدأ دفاعه في إثبات أال تناقض منطقي واضح بين وجود ال ّله ووجود الشر،
وأن أي تناقض مفترض إنما ينشأ من االفتراضات الضمنية والتي تمثل مقدمات
غير مذكورة في الحجة نفسها .ولم يدّ ع بالنتينجا أن الصيغة المنطقية لمشكلة الشر
خاطئة منطقيا ،وإنما هي غير ممكنة ،بل إن الممكن منطق ًّيا هو أن يخلق اإلله الكلي
العلم والكلي القدرة عا َلما يحتوي على شر (أخالقي) .لكن ال ّله رغم أنه كلي
القدرة ال يمكن أن يفعل أي شيء خارج طبيعته ،فإنه ال يمكن مث ً
ال أن يخلق دوائر
مربعة .وعليه يكون من غير المعقول أن يخلق كائنات تمتلك إرادة حرة وال تختار
الشر مطلقا .وهو هنا بتقديمه القيمة األخالقية لإلرادة الحرة لإلنسان يضع سببا
أخالق ًّيا متوازنًا يبرر للسماح بوجود الشر« .فا َلعالم الذي يحتوي على مخلوقات
حرة وتؤدي بكامل حريتها األفعال الشريرة هو أكثر قيمة من عا َلم ال يحتوي على
مخلوقات حرة على اإلطالق» ،ألن ال ّله يمكن له خلق مخلوقات حرة ،لكنه ال
يمكن أن يحدد لها مسبقا أال تفعل إال ما هو حق ،ألنه إذا فعل ذلك ،فلن تكون
تلك المخلوقات حرة على اإلطالق .لذلك ،لكي يخلق مخلوقات قادرة على الخير
األخالقي ،يجب أن يخلق مخلوقات قادرة على الشر األخالقي ،إذ ال يمكنه أن
4ألڤين كارل بالنتينغ ا .1932فيلسوف تحليلي أمريكي ،وأستاذ فخري للفلسفة في جامعة نوتردام.
مهتم بالدراسات الميتافيزيقية وفلسفة الدين والالهوت المسيحي .للمزيد عن هذا الفيلسوف
وأعماله ينظر :موسوعة اإلنترنيت للفلسفة منشورة على الرابط log::ــ //iep.utm.edu/evil
يسيبكلا سابع ديز .د 118
يمنح هذه المخلوقات حرية القيام بالشر وفي نفس الوقت منعها من القيام به .وعليه
فإن مصدر الشر األخالقي هو أن بعض المخلوقات الحرة التي خلقها ال ّله تخطئ
في ممارسة حريتها .ومع ذلك فإن حجة بالنتينجا في أن المخلوقات الحرة التي
تسيء أحيانًا ال تتعارض مع قدرة ال ّله المطلقة وال ضد صالحه ،تشير الى أن ال ّله
كان بإمكانه منع حدوث الشر األخالقي فقط بإزالة إمكانية الخير األخالقي ،أي أنه
على الرغم من كونه كلي القدرة فإنه لم يكن في وسعه خلق عالم يحتوي على الخير
األخالقي فقط دون الشر أخالقي .وهذه الحجة بلحاظ ثيوديسيا (ليبنتز) تفترض أن
هناك عوالم محتملة ال يستطيع حتى كائن كلي القدرة تحقيقها ،عالم فيه مخلوقات
حرة أخالقيا تمارس الخير االخالقي فقط .5
المالحظ في حجج النمطين أعاله أنها استندت في دفاعها عن وجود اإلله
بمحايثة وجود الشر في العالم إلى مفهومين يحمالن دالالت ميتافيزيقية نوقشت
في سياقاتها المتداولة فلسفيا والهوتيا وهما مفهوم االله ومفهوم االرادة ،فكانت
هناك الحجج المنطقية من جهة والحجج الثبوتية من جهة أخرى ،وما نذهب اليه
في هذا البحث ليس مناقشة ما تم عرضه من حجج وردود خاصة بمشكلة الشر
ضمن التصورات النمطية لمفهومي (اإلله واالرادة) ضمن علم الالهوت أو فلسفة
الدين ،وإنما قصدنا أن نبحث في مشكلة الشر في غير مجالي بحثها المعتادة ،نبحث
في مشكلة الشر بوصفها مشكلة أخالقية وإن حملت دالالت ميتافيزيقية من خالل
مفهومي (اإلله واإلرادة) إال أن حلها يبقى في حدود النظرية األخالقية بعيدا عن
أي تأويل الهوتي أو تبرير ديني لدى نموذجين نرى أنهما قدما المختلف والصادم
في تاريخ الفلسفة ككل ،وفي نظريتيهما األخالقية ،وفي موقفهما من مفهومي اإلله
واإلرادة وصلتهما بموضوع الشر ،وهما كل من الهولندي (باروخ سبينوزا Baruch
1632 Spinozaــ ،)1677واأللماني (آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer
5لمزيد من االطالع في هذا الموضوع ينظر :سامي عامري ،المصدر السابق ،ص120وما بعدها.
كذلك ينظر:
Logical Problem of Evil internet encyclopedia of philosophy،
منشور على الرابط log :ــ https://iep.utm.edu/evil
119 رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم
6ال يستخدم سبينوزا كلمة «سبب» بالمعنى االعتيادي بل بمعنى الماهية أو األساس المنطقي
للشيء .وهذا أشبه ما يكون بالقانون الذي يولد المتسلسالت الرياضية ،د .كريم متي :الفلسفة
الحديثة ــ عرض نقدي ،ص.100
7 Spinoza: Ethics, III. Prop. XL, P. 203
8د .كريم متي :الفلسفة الحديثة ــ عرض نقدي ،ص.99
9 Spinoza: Ethics, II. Prop. X, Note2, P: 90
يسيبكلا سابع ديز .د 120
إن فكرة اإلله عند سبينوزا ليست مجرد واحدة من األفكار التي تعالجها فلسفته ،بل
إن كل فلسفة سبينوزا يمكن أن تعد تفكيرا في اإلله .ويبدو أن المشكلة التي واجهت
البحث في هذا الموضوع هي مشكلة الداللة الحقيقية لمفهوم اإلله عند سبينوزا التي
اتخذت شكل المفاضلة بين األلفاظ والمعاني .من الواضح جدا وبالنظر لألهمية التي
يعطيها للموضوع في تصديره كتاب األخالق أنه أراد أن يصوغ معاني جديدة لمفهوم
اإلله تختلف كل االختالف عن تلك المتداولة في الالهوت التقليدي ،فلغة سبينوزا
تبدو تقية ورعة متمشية مع كل التقاليد الدينية الشائعة في عصره ،لكن معانيه تسير في
طريق مخالف لذلك كل االختالف ،إذ تهدم األفكار األساسية التي يرتكز عليها ذلك
التراث الديني الشائع .وهنا يكون على الباحث أن يفاضل بين األخذ بمعاني األلفاظ
الحرفية فيكون حتما أن يصف سبينوزا بالتناقض ،وبين مراعاة األلفاظ بحسب شفراتها
ٍ
معان جديدة ،وعندئذ ستبدو فلسفته متسقة من التأويلية وتطويعها لما تقتضيه هذه من
بدايتها إلى نهايتها.10
وقد أشار سبينوزا في أكثر من موضوع إلى سوء الفهم الذي قد يواجه مفهومه لفكرة
االله ،فيقول مثالً« :ليس لدى الناس معرفة لإلله تماثل في وضوحها معرفتهم لألفكار
العامة ،إذ إنهم يعجزون عن تخيل اإلله مثلما يتخيلون األجسام ،وهم أيضا يربطون
بين لفظ اإلله وبين صور األشياء التي اعتادوا رؤيتها ،وهو ما يبدو أمرا ال مفر منه ،إذ
إنهم بعد كل شيء بشر .وهم يتأثرون دوما باألجسام الخارجية .والحق أنه من الممكن
إرجاع كثير من األخطاء إلى هذا األصل ،أعني كونهم ال يطلقون األسماء على األشياء
بطريقة دقيقة ...وكم ثار من الخالف بسبب عدم إيضاح الناس معانيهم بدقة ،أو عدم
فهمهم معاني اآلخرين على النحو الصحيح».11
لقد وجد سبينوزا أن المفهوم الديني التقليدي عن اإلله من حيث هو جوهر ال ٍ
متناه
10اتخذ هذا الموضوع لدى الباحثين شكل الخالف المتضاد بين رأيين ،يؤكد أحدهما بعدم تعارض
مذهب سبينوزا مع التراث الديني ،بينما يرى اآلخر أن مذهب سبينوزا يمثل أفجر إلحاد عرفه العالم.
انظر :العرض المفصل لهذا الموضوع ومواقف الباحثين منه الذي قدمه الدكتور فؤاد زكريا في
كتابه ،سبينوزا ،ص 102ــ .115
11 Spinoza: Ethics, II, Note, P: 90.
121 رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم
ٍ
ومتعال عليها ،يتنافى مع نظام خلق الطبيعة من العدم بفعل إرادي حر ،وأنه مفارق لها
سلسلة األسباب الذي اقترحه منهجه .ولما كانت األشياء ال تفسر إال بأسبابها القريبة،
فإنه ينبغي إذا أردنا أن نتجنب متراجعة ال متناهية ،أن نتوصل في آخر المطاف إلى
شيء هو سبب ذاته ،أو ما كانت ماهيته تتضمن وجوده ،فال يمكن أن نفسر الكون
تفسيرا معقوال إال إذا اكتشفنا هذا الشيء الذي ترجع إليه وتستخلص منه كل األشياء
استخالص النتائج من المقدمات .12ففي رسالة له يقول فيها« :إنني أعتنق رأيا عن
اإلله والطبيعة يختلف كل االختالف عن الرأي الذي يدافع عنه المسيحيون ،فأنا
أعتقد أن اإلله هو كما يقولون الع ّلة الباطنة لكل األشياء ،ولكنني ال أعتقد أنه الع ّلة
المتعدية ...وأنا أقول إن كثيرا من الصفات التي يرون ،ويرى جميع اآلخرين الذين
أعرفهم على األقل ،أنها من صفات اإلله ،أرى أنها أشياء مخلوقة ،ومن ناحية أخرى
فإن األشياء التي يرون أنها مخلوقة ،بسبب تحيزاتهم أرى أنها صفات لإلله ،ولكنهم
يسيئون فهمها ،وكذلك ال أستطيع أن أفصل اإلله عن الطبيعة على اإلطالق» .13وهذا
النص يشير بوضوح إلى المعاني الجديدة التي أراد أن يدخلها سبينوزا على التصور
العقلي لمفهوم اإلله ،فيذهب إلى تعريف الجوهر بأنه« :الشيء الموجود بذاته وفي
ذاته ،وبعبارة أخرى هو الشيء الذي يمكن إدراك ماهيته بشكل مستقل عن أي مفهوم
أخر» .14ويعرف اإلله بأنه «كائن ال متناه بصفة مطلقة ،أي أنه جوهر ينطوي على صفات
ال متناهية تعبر كل منها عن ماهية أزلية ال متناهية».15
ومما يثير االنتباه أنه وضع لفكرة اإلله تعريفا ضمن التعريفات األولى في كتابه
األخالق ،ذلك األمر الذي ال نجده لدى غيره من الفالسفة ،ألن اللفظ في نظر سواه
مفهوم بذاته فال يحتاج إلى تعريف ،أما إدراج اللفظ ضمن مجموعة أخرى من األلفاظ
التي يراد التنبيه إلى معانيها الجديدة فهذا أمر ال نلمسه إال لدى سبينوزا .وهو بذلك
أراد أن ينبه القارئ تنبيها صريحا إلى أن تلك الفكرة ليست تلك التي ألفها واعتادها
إال اإلله .وحينما نتأمل تعريف الجوهر بأنه ما هو بذاته ومتصور بذاته ،وبمعنى آخر أنه
التصور الذي ال يحتاج إلى تصور شيء آخر من مكوناته ،نحصل على حقيقة مفهوم
سبينوزا للجوهر بأنه ال يوجد جوهر ما عدا اإلله أو الطبيعة من حيث هي كل ،19وذلك
لسببين ،أوال :إن كل شيء في الطبيعة يعتمد في وجوده على غيره من األشياء ،ولذلك
ال يمكن اعتباره جوهرا .فال يمكن أن يوجد سواد العين مستقال عن العين ،وال يمكن
أن توجد العين مستقلة عن الجسم وال يمكن أن يوجد الجسم مستقال عن األجسام
األخرى ،وهكذا إلى ما ال نهاية .لكن إذا كانت األشياء الفردية في الطبيعة تعتمد في
وجودها على بعضها البعض ،فهي لذلك ليست جواهر .إن المجموع الكلي للطبيعة
The Totality of Natureأو الطبيعة بما هي كل ،ال تعتمد على أي شيء .لذلك يمكن
أن تعد جوهرا متسببا لذاته Cause Suiأو أن تتضمن ماهيته وجوده ،وال يمكن تصور
طبيعته غير موجودة .20ثانيا :إذا كانت الطبيعة بما هي كل جوهرا ،فمن المحال أن يكون
هناك جوهر آخر إلى جانبها ،ألن االعتقاد بوجود جوهرين أو أكثر يفضي إلى تناقض
منطقي .إذا قلنا إن هناك جوهرين يتفاعل أحدهما مع ويؤثر في اآلخر ،فال يمكن أن
نتصور كال منها بذاته ،وال يمكن عده جوهرا ،ألن الجوهر كما هو مفروض شيء متقوم
بذاته ،ويتغير بحسب قوانين طبيعته أو ماهيته ،وليس بتأثير شيء آخر خارجه .وبعبارة
أخرى ينبغي أن يكون سبب ذاته ،لذلك ال يمكن اعتبار األشياء المتفاعلة مع ،والتي
تؤثر في بعضها البعض جواهر ،ألن ذلك ينطوي على القول بوجود جوهر ال يكون
ٍ
لجوهر آخر ،ألنه جوهر سب ًبا
ٌ سبب ذاته ،وهذا تناقض في األلفاظ .فال يمكن أن يكون
إذا أمكن أن يتولد جوهر من آخر فإن معرفته تعتمد على معرفة سببه وعندئذ ال يكون
جوهرا .21طالما كان مفهوم اإلله هو النظام الكلي لألشياء ،أو الطبيعة في مجموعها،
ً
فإن سبينوزا يحذف كل الصفات التي ال تشير إلى ذلك المعنى الذي اضطلع فيه لمفهوم
اإلله .وهي على وجه التحديد الصفات التشخيصية أو التشبيهية باإلنسان ،وهو ينتقد
ذلك النزوع اإلنساني إلى تشبيه اإلله باإلنسان ،أو تصوره على مثال اإلنسان .وذلك
للحرية .هذه الفكرة بدورها تنفصل عن فكرة اإلرادة الخارجة على كل قانون ،وعليه
فإن سبينوزا ينفي عن اإلله اإلرادة وكذلك العقل ،إذ يقول إن العقل واإلرادة ليست
مما يعود إلى طبيعة اإلله .25إذا ما أردنا أن نسلم بأن ًّ
كل من العقل واإلرادة يرتبطان
بالماهية األزلية لإلله ،فإن علينا أن نتعامل مع هذه الكلمات بنوع من االختالف عما
درجنا عليه غالبا ،فالعقل واإلرادة اللذان يشكالن ماهية اإلله يجب أن ننظر إليهما
باعتبارهما مختلفين تماما عن العقل واإلرادة الخاصين بالبشر ،وفي الحقيقة ليس
المختص بالطبيعة اإللهية ال يمكن
ّ هناك ما يجمع بينهما سوى االسم فقط ،فإن العقل
أن يكون في طبيعته كعقولنا ،ألننا ندرك األشياء بصورة تالية على وجودها ،بينما اإلله
سابق لكل شيء ألنه سبب لوجود كل شيء .26إن اإلله حر إال أنه ليس له حرية اختيار
فيما يفعله .وإن أوامر اإلله قد صدرت عنه منذ األزل ،وبعكس ذلك يكون اإلله ناقصا
ومتقلبا .وال معنى لمتى وقبل وبعد وغيرها من الكلمات الزمانية عند اإللهّ .
إن الكمال
اإللهي يقتضي أن يكون اإلله غير قادر على أن يأمر إال ما أمر به .ولو كان بإمكان اإلله
أن يخلق األشياء على غير نحو ما خلقها فيه لكان في إمكانه أن يغير إرادته وألصبح
ناقصا ،ولذلك ال يمكن أن تحدث األشياء على غير ما حدثت فيه .27كل شيء في رأي
سبينوزا ضروري ال يكون عرضيا إال باإلضافة إلى جهلنا ،فإذا اكتمل علمنا باألشياء
فإن كل شيء يغدو ضروريا ،وال يكون لإلمكان معنى مطلقا في العا َلم .القول بأن
األشياء ممكنة ليس إال نتيجة لنقص معرفتنا باألسباب .ال تكون إرادة اإلله إال قوانين
الطبيعة األزلية الثابتة ،ألن اإلله هو النظام الكلي للطبيعة وهذا ما يشير إليه صراحة
بقوله« :أعني بمعرفة اإلله النظا َم الثابت غير المتغير للطبيعة ،أو سلسلة الحوادث
الطبيعية ،فليست القوانين العامة للطبيعة التي توجد بموجبها األشياء إال اسما آخر
إلرادة اإلله األزلية التي تنطوي دائما على الصدق األزلي والضرورة األزلية .وسيان
إن كل شيء يحدث على وفق القوانين الطبيعية ،أو ّ
أن كل شيء مكتوب بإرادة إن قلنا ّ
ْ
وجود لهما إال في أذهاننا ال في الطبيعة ،وليست لهما أية داللة ميتافيزيقية ،وإنما هما
يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب .ويصرح بعبارة أخرى بأن الخير والشر ال يدالن على
صفة إيجابية في األشياء منظورا إليها في ذاتها ،وإنما هما أحوال للفكر ،أو موضوعات
فكرية نكونها من مقارنة األشياء بعضها ببعض .هكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد في
وشرا ،وسو ًّيا إزاء هذا وذاك .32مثال ذلك هبوط سعر سلعة ما يمكن
خيرا ًّ
نفس الوقت ً
أن ُيعد خيرا من وجهة نظر الشاري ،وشرا من وجهة نظر البائع ،أما من وجهة نظر
الشخص الذي لن يشتري هذه السلعة ولن يبيعها وال صلة له بها فليس لهذا الحادث
معنى أو قيمة في ذاته .إذا تساءلنا بعد ذلك عن داللة الحادث أي هبوط سعر السلعة
كما هو في ذاته ،سيظهر أن هذا الحادث في ذاته ال ينطوي على قيمة أو داللة أخالقية،
بل إنه يتّخذ هذه الداللة من وجهة النظر الشخصية ،ونتيجة للمقارنة مع حوادث أخرى
في سياق الحياة اليومية ،ولذا يذهب سبينوزا إلى وصف الشر بأنه سلب بحت ،ألنه
تعبيرا عن
ً ال صل َة له بالماه ّية الفعل ّية لألشياء ،إذ الشر بالمفهوم السبينوزي ليس إال
انخفاض قوة الفعل أو تفكيك لعالقة ،33إال أن انخفاض قوة الفعل ليست شرا إال ألنها
تهدد العالقة التي تركبنا وتختزلها .لذلك يمكن أن نضع تعريفا إجرائيا لمفهوم الشر
عند سبينوزا بأنه تهديم العالقة التي تميز حاال ما وتفككها .من هذا المنطلق لن يكون
ممكنا الحديث عن الشر إال من وجهة النظر الخاصة بحال ما موجود فعال ،فال خير
وال شر في الطبيعة ،بل هناك نافع وضار بالنسبة لكل نمط موجود ،فالشر هو السيء من
وجهة نظر هذا الحال أو ذاك ،وبما أننا بشر فإننا نحكم على الشر من وجهة نظرنا.34
وغالبا ما يتحدث سبينوزا عن الجيد والسيء ً
آخذا في اعتباره منفعة االنسان وحدها،
فنحن ال نفكر أبدا في شر عندما نهدم ،لكي نتغذى ،العالقة التي يوجد ضمنها حيوان.
لكننا نتحدث عن شر في حالتين :عندما ُيهدم جسدنا ،وفي تفكيك عالقتنا تحت تأثير
شيء آخر ،أو عندما نهدم بأنفسنا كائنا مشابها لنا ،أي كائن يكفي شبهه لنا لجعلنا نفكر
بأنه كان يتوافق من حيث المبدأ معنا ،وأن عالقته كانت من حيث المبدأ قابلة للتراكب
تقسيما ثنائ ًّيا إلى :وجهة النظر اإللهية؛ وهي التي ال
ً وجهات النظر الممكنة إلى االشياء
تتعلق اال بالماهيات الحقيقية والعلل الفاعلة ،ووجهة النظر البشرية؛ وهي التي تضيف
ِ
مقارنة األشياء بعضها ببعض تبعا وقيما مستمدة من ٍ
إلى وجهة النظر السابقة غايات ً
لألهواء الفرد ّية الخاصة.38
فكرة اإلله المحايد العالمي الذي ال يوصف في فلسفة سبينوزا تتناقض تماما مع
الفردية الحديثة التي ربطت الحاجة اإلنسانية بالدين مع فهم تشخيصي عن إله يمكن
أن يكون رحيما ،عطوفا ،عالما خ ّيرا ،جميال .هذا يؤدي إلى أن يكون مفهوم اإلرادة
الحرة عنده مختل ًفا هو اآلخر ،إذ إن االرادة الحرة بحسب سبينوزا تشترط على العقل
تكامل المعرفة لفهم النظام والضرورة في العالم ،من أجل أن يكون حرا في اختيار
المعقول دائما بوصفه حال لكل مشكلة .وهذا يختلف عن الفردية الحديثة التي ترى
أن اإلرادة الحرة هي التصرف وفقا لمصالحنا الشخصية .وهذه الرؤية تظهر تناقضا من
نوع آخر بين مفهوم اإلله ومفهوم االرادة الحرة .إذن ،كيف تتسق اإلرادة الحرة الفردية
المرتكنة إلى المصلحة الشخصية مع اإللزام باالختيار الجماعي لبراهين وجود اإلله؟
كنت أؤمن بال ّله بفرديتي
كيف تتسق المشاركة الجماعية لدين تم اختياره شخصيا؟ اذا ُ
وبحريتي الشخصية فأنا لست بحاجة إلى مشاركة ومظاهرة عالمية بإيماني هذا ،إال إذا
قدّ مت لي تلك المشاركة برهان ًا يتك ّيف مع طريقتي في التفكير ،وهذا معناه أن الدين
ليس االختيار الجماعي كما تسوق له الفردية الحديثة .هكذا يبدو من الواضح أن إله
سبينوزا ال يمكن تبنيه من قبل مجتمعنا الفردي ،ألنه إله غير شخصي تماما ،وأن هذا
العالم يمكنه أن يعمل من دون الحاجة للبشر ،وهذا يصطدم مع مشكلة التطور التاريخي
التي بدأها كل من ديكارت وبيكون عندما دافعا عن أن اإلنسان يستطيع السيطرة على
الطبيعة ،وتبعا لذلك ظهرت في الفلسفات الغربية المتمحورة حول الذات كيف
يمكن أن تكون لتلك الفلسفة أن تصنع توترا ميتافيزيقيا يرتكز على محايثة ال ّله مع
الشر ،في حين أن المختلف االسبينوزي قد أقر بعدم إمكان تغيير العالم ألنه خلق
ال ّله .ويمكن لفكرة سبينوزا هذه عن اإلله أن تقدم المبدأ المتعالي الذي يمكن أن يفي
إرادة وتمثال ،أي أنه أرجع العالم كله إلى شيئين هما إرادة تتحكم به ،وتصورات تنطبع
في الذهن عنه .وقد رأى اإلرادة حقيقة الكون؛ أي الشيء في ذاته ،وهي ليست في
تعم الكون ك َّله ،وهي تظهر نفسها في موجودات العالم كل على حده
اإلنسان فقط بل ّ
وبشكل مستقل وموضوعي ،فهي مسؤولة عن كل ما يجري في العالم من تغيرات.40
كلمة إرادة عند شــوبنهاور ال تشــير إلى المفهــوم العادي والمألوف لهــذه الكلمة،
التي يتصورها اإلنسان بالمعنى البشري الذي يشير إلى اتخاذ القرار المسترشد بالعقل،
إنما يعني بها الرغبة الملحة التي ال تهدأ وتحرك كل شــيء ،41وبه يتحقق وجوده
ويســتمر في الحياة ،وهي قــوة عمياء ال عاقلة ،أو اندفاع أعمى في قوى الطبيعة ،بمعنى
أنها تسيطر على الكائنات وتقع خارج وعيها .أيضا كانــت اإلرادة عند شــوبنهاور تعبر
عــن االتجاه الالعقالنــي في فلســفته باعتبارها قوة غير عاقلة ،وهي في الوقت نفســه
أســاس لالتجاه التشــاؤمي في فلســفته .42حين يتحدث عن اإلرادة فإنه يتحدث عنها
بوصفها ال عقالنية ،فاإلرادة منظورا إليها في ذاتها تكون عارية من المعرفة ،وهي
ليست سوى رغبة ملحة عمياء ،حينما تتبدى في الطبيعة الالعضوية والنباتية وقوانينها،
مثلما تتبدی أيضا في الجانب التناسلي من حياتنا .من خالل إضافة العالم بوصفه
تمثال ينشأ ليكون في خدمة اإلرادة ،فإن اإلرادة تحصل عندئذ على المعرفة بمشيئتها
الخاصة ،أعني أن مشيئتها ليست سوى هذا العالم ذاته ،أي الحياة كما توجد بالضبط.43
هنا ترتبط اإلرادة بالحياة مثلما ترتبط بكل األشياء في العالم ،حيث أن اإلرادة هي
الشيء في ذاته ،أي جوهر العالم ومضمونه الباطني ،في حين أن الحياة ،أي العالم
المرئي أو الظاهري هو مجرد مرآة لإلرادة؛ فإن هذا العالم يرافق اإلرادة بشكل متالزم
مثلما يكون الجسم مصحوبا بظله ،فحيثما توجد اإلرادة ستوجد الحياة والعالم .44لهذا
فجوهر الوجود والذات اإلنسانية هي اإلرادة ،ال الفكر كما أقر كانط ،ألن اإلرادة هي
يمكن أن يعرف إرادته بعمومها ،وال أن يعرفها في وحدتها المطلقة ،بل حتى إنه ال
يعرفها تماما في جوهرها ،ألنه ال يدركها إال من خالل تمظهراتها الفعلية في ذاته وفي
األشياء كلها .ومعرفته هذه يستحيل تمثلها من دون تدخل جسده واألشياء األخرى في
العالم ،إذ إن اإلحساس بها مشروط بجعل العالم تمثال .من هذه النظرة المعرفية ،فإن
اإلرادة هي مجموعة األفعال التي يقوم بها الفرد من أجل معرفة العالم ،وفهم الطبيعة
الباطنة لألشياء ،والطبيعة الباطنة التي تحوينا جميعا هي التي تسعى من خاللنا إلى
تحقيق أهداف استمراريتها.48
يرى شوبنهاور أن اإلرادة لكي تؤكد سيطرتها ونفوذها على الكائنات الحية ،فإنها
زودت الكائنات الحية بغريزة حفظ النوع ،ولهذا كانت هذه الغريزة هي المظهر األقوى
إلرادة الحياة .الفرد الذي يخضع لتلك الغريزة ليس في الواقع غير مناسبة صرفة لكي
تتحقق اإلرادة في لحظة زمانية معينة وفي مكان معين .والفرد الوالد والفرد المولود
وإن اختلفا كظاهرتين ،فإن بقاء النوع هو العلة من وجود أفراده .وإذا ما سألنا عن
ً
سؤال ال تقدم لنا الطبيعة عنه أي جواب ،ألن الطبيعة بهذه علة وجود النوع فإن هذا
السيطرة العمياء لإلرادة عليها والصراع المستمر والوحشي فيها ال يمكن أن تهبنا جوابا
منطقيا عن علة وجود أنواع من الكائنات الحية في الطبيعة ،ألن زمان األفراد وقوتهم
ينفقان بأسرهما في االحتفاظ بالبقاء؛ بقاء الفرد في نفسه وفي ذريته من بعده ،أي في
االحتفاظ بالنوع.49
نخلص مما تقدم إلى أن اإلرادة ليست جانبا من الشي في ذاته ،بل هي الشيء في
ذاته نفسه ،وهي حقيقة جميع الكائنات ،فهي أساس كل الحيوانات والبشر على حد
سواء ،وهي الشيء الذي يوحدها جميعا رغم اختالفاتها .والعقل اإلنساني هو عنصر
ثانوي ،فهو مجرد ٍّ
تجل وأداة في خدمة اإلرادة .فال فرق بين إرادة جميع المخلوقات
واإلرادة اإلنسانية ،من حيث الجوهر ،أما من حيث شدة ظهورها فيوجد اختالف
بسبب تباينها في الذكاء.50
كل رغباتنا قد تحققت ،فسوف تنتابنا حالة من السأم أو الضجر ،وهكذا تتأرجح الحياة
بين األلم والسأم ،فالحياة كلها معاناة .وأفضل عزاء في المصيبة أو أي نوع من البلوى
يصيب اإلنسان هو التفكير في اآلخرين المبتلين بمحنة أسوأ من محنتك ،وهذا النوع
من المواساة متاح للجميع ،فالجميع مثل الخراف في الحقل ،تلهو تحت عين الجزار
الذي يختار واحدة تلو اآلخر ليكون ضحيته ،ولذلك فإننا في أيامنا الجيدة نكون غير
واعين للشر الذي لربما يخبئه لنا القدر :المرض ،الفقر .كما أن الوقت يضغط علينا
وال يترك لنا مجاال للتنفس بل يالحقنا دوما ،وإذا كف الوقت عنا يده في لحظة ما ،فال
يكون ذلك إال حتى يسلمنا إلى معاناة الملل.56
ومن هذا كله فإن شوبنهاور يؤكد أن واقعية الحياة تعطينا هذه الحقيقة المؤلمة ال
غير ،وحتى مع وفرة حظوظ المرء ومهما نال من مراتب تشعره بشيء من الراحة ،فإن
جوهر الحياة هو األلم ال محالة .يقول شوبنهاور« :إن الحياة مهما زوقناها ونمقناها
وأحطناها بمظاهر البهرجة ،فإن حقيقتها العميقة ومعدنها المغمور سرعان ما تنكشف
متدثرة بأسمال البؤس والشقاء».57
من هنا يؤسس شوبنهاور تمييزه لمعن َيي الخير والشر بوصفهما مفهومين تُبرر من
خاللها األفعال اإلنسانية ،ونفصلها إلى أفعال أخالقية وغير أخالقية ،على مفهوم
الفردية ،فكلما كان اإلنسان موغال في فرديته ،كان واقعا في الشر ،وإذا ما تحرر من هذه
الفردية فإنه يكون في كنف الخير ،وبالتالي تكون أفعاله خ ّيرة ،إذ إن مبدأ الفردية يفصل
بين عالم الرذيلة والشر ،وعالم الخير والفضيلة ،ونحن ما دمنا خاضعين لعالم الرذيلة
والشر عشنا في هذه المتضادات ،وإذا تجاوزناها دخلنا في عالم الخير والفضيلة.58
مفهوم الخير إذا نظرنا إليه بذاته ،هو الحد من اإلرادة وتهدئة طلباتها التي ال تنتهي،
أما الشر فهو االنصياع التام لها مع إلغاء إرادات اآلخرين .الشرير هو الذي يؤكد
إرادة الحياة المتجسدة في بدنه مع تماديه إلى حد إلغاء اآلخرين وتسخيرهم لخدمته
الشخصية؛ هذا هو المعنى اإليجابي .شوبنهاور يؤكد أن الفردانية التي تنتج األنانية
ً
وتمثال ،ج 1الوجه الثاني ،ص .235 59شوبنهاور ،العالم إرادة
ً
وتمثال ،ج 1الوجه الثاني ،ص .169 60شوبنهاور ،العالم إرادة
ً
61شوبنهاور ،العالم إرادة وتمثال ،ج 1الوجه الثاني ،ص .292كذلك ينظر:
Collin, James, A History of Modern European Philosophy, p. 695.
137 رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم
مع ما يراه من صيرورة وتغير مستمرين في كل شيء عدا اإلرادة ،فكل فعل أخالقي هو
نسبي متغير بحسب الظروف واألزمنة.
من الواضح جدا أن شوبنهاور يضع فلسفة أخالقية تحدد طرق تعامل الذات مع
اآلخر ،رغم أنه يعتقد أن الذات واآلخر هما في حقيقتهما شيء واحد ،فكالهما تجسد
لإلرادة ،فهو يبني هذه الفلسفة على مفهوم وحدة األفراد ووهم الفردية ،فالفرد فالن
وفالن يبدوان ظاهرتين مختلفتين في التتابع ،لكنهما شيء واحد في ذاتهما أي بالنسبة
لإلرادة التي تتحقق فيهما سويا ،وإن كونهما ظاهرتين يجعل منهما فردين مختلفين
كونهما خضعا لمبدأ الفردية ،وليس بوصفهما إرادة ،فهما شيء واحد؛ كون اإلرادة ال
تخضع لمبدأ الفردية .62هذا يؤدي إلى مشكلة حرية اإلرادة االنسانية ،وهذه المشكلة
تنطلق من اعتبار شوبنهاور اإلراد َة حقيقة مطلقة ،وكل ما عداها خاضعا لها ،وأن
اإلنسان ال يختلف عن أي شيء آخر ،فهو خاضع لإلرادة كذلك .إذن كيف نعلم إذا
ما كانت لدي أية حرية في إرادة هذا أو ذاك المسار من السلوك؟ المشكلة األخالقية
هنا ترتبط وجوديا بمفهوم اإلرادة ،فإذا كان كل شيء خاض ًعا لإلرادة ،فكيف يمكن
لإلنسان أن يختار أفعاله بحرية؟ بعبارة أخرى :إذا كان شوبنهاور يرى أن الشخصية
اإلنسانية ال يمكن تغييرها ،فلماذا يضع نظاما أخالقيا لتوجيه الفرد نحو الخير وترك
الشر؟ وكيف يمكن التغلب على اإلرادة بالقيام بفعل أخالقي غير خاضع لها؟ هذه
هي المشكلة الوجودية التي تكتنف موقفه األخالقي ،فنحن كما يرى شوبنهاور مجرد
ظواهر لإلرادة ،واإلرادة هي جوهر كل شيء في العالم .63وللتخلص من هذه المشكلة
يذهب إلى أن األفعال تحدث من خالل ارتباط بين شخصية المرء ودافع يحدث في
وعيه .وهذا أساس دعواه بأن كل األفعال تكون محتمة .وهو يميز بين حرية اإلرادة
وحرية الفعل ،فحرية الفعل هي القدرة على فعل شيء ما ،إذا ما أراد المرء أن يفعله.
وهذه الحرية يمكن إبطالها من خالل عوائق خارجية تحول دون حدوث الفعل ،ومن
خالل دوافع قهرية ،ومن خالل قوانين أو تهديدات لها نتائج متنوعة إذا ما قام المرء
بالفعل ،أو من خالل إضعاف الملكات المعرفية للذات .إن شوبنهاور يعي هذا األمر،
محطما بذلك النزعة العقلية في تفسير تصرفات اإلنسان ،إذ جعل اإلرادة هي التي تملي
هذه التصرفات ال العقل .في ضوء هذا الفهم الذي يقدمه شوبنهاور لمعنى اإلرادة ال
يعود دفاع اإلرادة الحرة لـ (بالنتينجا) صالحا ألن يمثل حال لمشكلة الشر والمعاناة
المنطقية ،لكنه يمكن أن يكون دفاعا ضد مشكلة الشر اإلثباتية ،69التي ترى بأن
االيمان بال ّله أمر غير منطقي في عالم يحتوي على الكثير من المعاناة .قد يكون العالم
أفضل بالنسبة لبعض حاالت المعاناة( ،فالناس يتعلمون من أخطائهم ،والمجرمون
محبوسون لحماية المجتمع ،واألبطال يخاطرون بحياتهم إلنقاذ اآلخرين) .لكن األمر
األسوأ هنا يتعلق بحاالت من المعاناة الشديدة التي ال يستحقها شخص وال تعود بفائدة
ألحد .ربما ال يمكن للبشر الحصول على أحدهما دون األخرى ،لكن إذا كان األمر
كذلك ،فإن هذا المزيج من الخير والشر ،في رأي الملحدين ،أكثر داللة على المذهب
الطبيعي منه على اإليمان بال ّله.
لذلك فإن القضية الرئيسية ،كما نراها ،هي تحديد األسباب النموذجية للشر وما يسببه
من المعاناة واأللم التي ال طائل من ورائها ،سواء كان ذلك األلم جسد ًّيا أو نفس ًّيا ،وشرح
كيف يمكن للبشر فرد ًيا أو جماع ًيا ،أن يتدخلوا بشكل أفضل لمنع أو تقليل الحاالت
المستقبلية من هذه الشرور والمعاناة من الناحية العملية .هذا يعني القيام بكل ما يمكننا
القيام به من أجل تثقيف الناس ضد خطر التعرض للتضليل من قبل األيديولوجيات
الطائشة والتي تعمد إلى معاملة اآلخرين على أنهم غير بشر أو اناس من الدرجة الثانية،
وكل ما يمكننا القيام به لمساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية ،وكل ما يمكننا القيام به
لحماية األطفال والفئات الضعيفة األخرى من الناس من الوقوع ضحية للجشع واالنانية
والالمباالة االجتماعية .ويكفي أن نقول إن هذه مهام كبيرة بتأثيرها في التعاطي مع
مشكلة ،ومن المشكوك فيه أن يكون علم الالهوت مفيدً ا أو ضرور ًّيا إلحراز أي تقدم
فيها .لكن بلغة الالهوتيين يقال« :إن ال ّله يساعد الذين يساعدون أنفسهم».
69لمزيد من االطالع حول الدفاع المنطقي والدفاع االثباتي في مشكلة الشر ينظرShan Andre، :
The Problem with the Problem of Evil Open Journal of Philosophy > Vol.11 No.2،
.May 2021منشور على الرابطhttps://www.scirp.org/journal/paperinformation. :
aspx?paperid=109394
يسيبكلا سابع ديز .د 140
الئحة المراجع
-سبينوزا ،رسالة في الالهوت والسياسة ،ترجمة حسن حنفي ،دار الطليعة ،بيروت،
ط.1981 ،2
-أمل مبروك ،الفلسفة الحديثة ،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،ط،1
.2011
-برتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية ،ج ،3ترجمة :محمد فتحي الشنيطي ،الهيئة
المصرية العامة للكتاب ،ط.1977 ،1
-تيري إيجلتون ،مشكالت مع الغرباء ،ترجمة :عبد الرحمن مجدي ،ومصطفى
محمد ،مؤسسة هنداوي ،القاهرة ،ط.2017 ،1
-جيل دولوز ،سبينوزا ومشكلة التعبير ،ترجمة انطوان حمصي ،اطلس للنشر
والطباعة ،دمشق ،ط.2004 ،1
-روبرت فكس ،شوبنهاور
-زيد عباس الكبيسي ،سبينوزا الفلسفة االخالقية ،دار التنوير ،بيروت ،ط.2012 ،2
-سامي عامري ،مشكلة الشر ووجود ال ّله ،دار تكوين ،المملكة العربية السعودية
ط.2016 ،2
-شوبنهاور ،العالم إرادة وتمثالً ،ج.1
-شوبنهاور ،تهمة اليأس،
-شوبنهاور ،حكمة الحياة.
-شوبنهاور ،فن العيش الحكيم ،ترجمة :عبد ال ّله زارو ،منشورات الضفاف،
الرباط ،ط ،2018 ،1ص .308
-عادل العوا ،العمدة في فلسفة القيم ،دار طالس للدراسات والترجمة والتنشر،
الطبعة األولى .1986
141 جارملا ةحئال
الشر األخالقي
وإنتاج الشر البشري
1 _____________________________________________
د .لؤي خزعل جبر
المنتِج
تعمد ــ ُ
الم َّ الشر األخالقي Moral Evilفعل اإلنسان أو تجنبه للفعل ــ ُ
ِ
متغلغل في إشكالي موضوع لحدث الأخالقي ،كالقتل واالستغالل واالنتهاك.
ٌّ ٌ
ِ
مختلف المنظومات الفلسف َّية والدين َّية والعلم َّية ،لخطورته وعمقه وتعقيده .لماذا
العوامل التي تقوده إلى ذلك؟ ِ يمارس اإلنسان الشر؟ لماذا يؤذي اإلنسان اآلخر؟ ما ِ
كيف يستطيع التعايش مع ذلك؟ أسئلة لطا َلما َّأر َقت الباحثين ،ودفعتهم إلنتاج
أجوب ٍة .وفي علم النفس االجتماعي احت َّلت ِ
موضع عشرات الدراسات بح ًثا عن ِ َ
األول يرى أن الشر الصدارة ،ووجدت ثالثة تيارات :نزوعي وموقفي وتفاعليَّ ، َ
ِ ِ
يعود ــ باألساس ــ إلى اإلنسان ذاته ،طبيعته ،غرائزه ،حاجاته ،إدراكاته ،مشاعره،
والثاني يرى أنه يعود ــ باألساس ــ إلى الظروف المحيطة باإلنسان ،الموقف،
ِ
والموقف، نتاج تفاعل األولين؛ تفاعل الشخص َّية ِ
السياقات ،النُظم ،والثالث يرى أنه ُ
األصوب ،بل لع َّل ُه ال يوجد األوالن بالصي َغة البحتة ،فكل منهما ــ كما سنرى َ ولع َّل ُه
الحقائق النفسية األولية .وفي ِ
هذه ِ بالمط َلق ،لكون التفاعل من ِ
َّ َّ ــ ال ُيغفل اآلخر ُ
هذه التنظيرات ،والتي الفار َقة في تأريخ ِ
سنحاول التعريف بأهم اللحظات ِ ِ الدراسة
َ
ستكشف عن الرؤية التفاعل َّية. ِ
1باحث وأكاديمي عراقي متخصص في علم النفس االجتماعي ،أستاذ في كلية التربية األساس َّية
.
بجامعة المثنى ــ العراق
143 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
الموا ِقف
في كتابِ ِه «طاعة السلطة :رؤية تجريب َّية» (Obedience to Authority: )1974
،An Experimental Viewصدم عالِم النفس االجتماعي ستانلي ملغرام Stanley
مكن أن ِ
يوقع أغلب الناس العاديين ) 1984ــ Milgram (1933البشرية بحقيقة أنه ي ِ
ُ َّ
األذى ِ
بغيرهم لمجرد طلب السلطة ذلك ،حيث عرض فيه تجاربه الشهيرة« :تجارب
طاعة السلطة» ( 1960ــ .Obedience to Authority Experiments )1963وكانت
دربُ /معلم، األول ُم ِّ
التجارب ذات بنية واضحة وبسيطة :ثالثة أشخاصَّ ، ِ تلك
دراس ٍة عن تأثيرات العقاب على
َ باحث ،في والثاني متدرب/متعلم ،والثالث ِ
ُ ُ ِّ
التعلم ،وهناك جهاز صدمات كهربائ َّية ،بمفاتيح متدرجة من ( 15ــ 450فولت)،
ُطرح عليه أسئلة ،فإن أجاب إجابة صحيحة ال ُيص َعق،
ويوصل الثاني إلى الجهاز ،وت َ
َ
وإن كانت خاطئة ُيص َعق ،ومع تكرار اإلجابات الخاطئة تتصاعد شدة الصعقات،
واألول هو ِ
الباحث/السلطة. األول ،بطلب من
َّ ومن يوجه هذه الصعقات هو َّ
موضع التركيز ،فالثاني متعاون في التجربة ،والصدمات غير حقيقية ،وما يصدر
عنه من اعتراضات وصرخات عند تصاعد الصعقات إنما هو تمثيل ،وقد اتخذت
األول بأن ما يجري حقيقي .والهدف المباشر من التجربة كان:
كافة التدابير ليقتنع َّ
معرفة إلى أي حد سيذهب الشخص في الموقف الملموس والقابل للقياس الذي
ِ
المعار َضة ،وعند أي نقطة سيرفض طاعة يطلب منه فيه إلحاق ألم متزايد بالضحية
الباحث؟
أع َلن ملغرام في الجريدة المحلية عن حاجته لمتطوعين لدراسة عن الذاكرة
والتعلم بمقابل مالي ،فاستجاب عدد كبير من الناس ،متنوعون في مهنهم وأعمارهم
األول ،أما الثاني فكان محاس ًبا أربعين ًّيا
وتحصيلهم ،وهم الذين شكلوا الشخص َّ
جلس كل شخص لطي ًفا ،وكان الثالث الباحث الذي يشرح طبيعة الدراسة ،وي ِ
ُ
األول مواصلة الصدمات في حال امتناعه ،حتى يمتنع تماما،
بمكانه ،ويطلب من َّ
وبذلك تتوقف التجربة ،فيتم إطالعه على عدم حقيقية التجربة ،ويجلس الثالثة في
جلسة ودية وتُناقش بعض الموضوعات الخاصة بما حدث .فكان ما يفعله الموقف
التجريبي ــ بتعبير ملغرام ــ « :تكثيف العناصر الموجودة عند حدوث الطاعة في
ربج لعزخ يؤل .د 144
العالم األكبر ،حيث تحضر المكونات األساس َّية إلى مساحة محدودة خاضعة
للتدقيق العلمي».
قبل الشروع بالتجارب حاول ملغرام استكشاف التوقعات المسبقة عن النتائج،
فوجه استبانات لثالثة مجموعات :أطباء نفسيون وطلبة جامعة وبالغون متنوعون،
طلب فيها توقع نقطة رفض طاعة المجرب ،فأشارت التوقعات إلى أن الجميع
سيرفضون ،ومعظمهم سيتوقف عند ( 120فولت) ،بهامش مرضي ال يتعدى (1
ــ )% 2يصلون إلى النهاية .لكن النتائج بينت أن ( )% 17توقفوا عند ( 150فولت
فما دون) ،بينما ( )% 65واصلوا إلى ( 450فولت)! مما يشير بوضوح إلى أن الناس
العاديين مستعدون لقتل غريب بريء لمجرد أن السلطة تطلب منهم ذلك ،ويكشف
عن القوة التدميرية والحتمية للطاعة.
قام ملغرام بإدخال عدد من التعديالت على التجربة األساس َّية للتدقيق في
العوامل المؤثرة على ارتفاع أو انخفاض نسبة الطاعة ،من قبيل اإلطار المؤسسي،
حيث أنه عندما قابل المشاركين بعد التجربة وسألهم عن سبب استمرارهم في توجيه
الصدمات ،أجاب بعضهم بأن السبب يعود إلى أن التجربة كانت تجري في جامعة
ييل ذات السمعة العلمية الرفيعة ،فأعاد التجربة في بناية متداعية في وسط مدينة
صغيرة ،فبلغت نسبة من وصل للنهاية ( ،)% 47,5وكذلك القرب والمالمسة ،حيث
أجلس األول والثاني في غرفة واحدة ،بعد أن كانا في غرفتين منفصلتين في التجربة
األساسية ،فانخفضت النسبة إلى ( ،)% 40والسلطة النائية ،حيث يعطي المجرب
التعليمات ويغادر الغرفة ،ويواصل إعطاء التعليمات عبر الهاتف ،فانخفضت النسبة
إلى ( ،)% 20وقرين يوجه الصدمات ،حيث يصاحب األول شخص ثان هو من
يوجه الصدمات ،بينما تكون مهمة األول قراءة األسئلة ،فقفزت النسبة إلى (.)% 92
وإجماال ،في كل التعديالت ،وبصرف النظر عن تفاوت النسب ،كانت الجميع فوق
ِ
الباحث سوى سلطة محدودة ،وليس المتو َّقع ،في موقف بسيط ،حيث ال يمتلك
لديه إمكانيات الفرض ،وكان بإمكان كل فرد أن ينسحب بسهولة ،ومع ذلك كانت
النسبة مرتفعة ،مما يثير تساؤالت حادة عن الوضع في العا َلم الواقعي.
قدم ملغرام جملة تفسيرات لهذه النتائج ،بداية مع اإليديولوجية الغامرة ،حيث
145 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
التنشئة االجتماعية للطاعة ذات أهمية كبيرة ،فمنذ الطفولة المبكرة ،تعلمنا أن نطيع
معيارا عمل ًيا ال جدال فيه في عدد ال
ً السلطة ونكافأ على القيام بذلك .لتصبح الطاعة
يحصى من المؤسسات واألوساط ،والتي يتمتع العديد منها بمكانة ثقافية عالية جدً ا،
كالجيش والطب والقانون والدين والتعليم وعالم الشركات الصناعية .وغال ًبا ما
تعكس النتائج الناجحة في ظروف ال حصر لها الطاعة اإلنتاجية للسلطة ،سواء كانت
درجات الشخص ،أو الصحة ،أو الترقيات ،أو الميداليات ،أو االنتصار العسكري،
أو األداء الرياضي ،أو التقدير ،فيتم تعلم أن تقدير قيمة الطاعة ،حتى لو كان ما
أيضا في شرعية العديد من السلطات في حياتنا،
يترتب عليها غير سار .كما أننا نثق ً
حتى لو حدثت انتهاكات لهذه الثقة أحيانًا ،على سبيل المثال في مجاالت السياسة
أو المؤسسات المالية للشركات أو خدمات رعاية األطفال .وفي هذا السياق ،يصبح
الناس عرضة إلمالءات السلطة غير الشرعية ألنهم اعتادوا على افتراض الشرعية
أيضا
وال يمارسون فعل تحدي السلطة عندما يكون هذا هو الرد المناسب .ويعكس ً
التنشئة االجتماعية للطاعة توقعنا أن يكون شخص ما مسؤوالً في أي مكان نواجهه.
لذلك ،في ذهنية المشاركين بالبحث ،بدأت الطاعة في الحركة قبل وقت طويل من
وصولها فعل ًيا ،قبل إصدار أوامر المجرب وصراخ المتعلم من األلم .إضافة إلى
ِ
الملز َمة ،ففي عملية طاعة سلطة ،قد يكون من الصعب للغاية ذلك هناك العوامل
تخليص المرء نفسه من هذا الموقف .قد تكون هذه الصعوبات ذاتية إلى حد كبير.
انعكاسا ضرور ًيا الستخدام السلطة لإلكراه أو التهديد .وعامل مهم هو
ً وليست
التزام الفرد المسبق بالسلطة ،فالشخص ،بعد أن تطوع للمشاركة ،هو «محبوس»
في ما سيحدث :يخشى أنه إذا انفصل ،سيبدو متعجر ًفا وغير مرغوب فيه ووقح.
وهذه المشاعر على الرغم من أنها تبدو صغيرة إلى جانب العنف الذي يمارس
على المتعلم ،إال أنها تساعد في ربط الشخص بالطاعة ،وجعل االحتمال الكامل
لالنقالب على السلطة التجريبية ،مع ما يصاحبها من تعطيل لوضع اجتماعي محدد
جيدً ا ،هو إحراج ال يستطيع الكثير من الناس مواجهته .حيث يربطون الفرد بالبنية
الهرمية للعالقة مع السلطة .وهكذا ،باإلضافة إلى األوامر الصريحة من السلطة،
هناك عناصر خفية ومفروضة ذات ًيا في العديد من مواقف الطاعة التي تمارس ضغ ًطا
ربج لعزخ يؤل .د 146
للبقاء في مواقف غير سارة بشكل غير عادي .كما أن هناك سيكولوجية التصعيد
والتوريط ،ففي تجربة الطاعة ،ال ُيطلب من الفرد أن ينزل ،في البداية ،عقوبة شديدة،
بل يتدرج مستوى العقوبة المفروضة بموجب األوامر .وبمجرد موافقة الفرد على أمر
تافه ،فمن المرجح أن يوافق على طلب أكثر تطل ًبا في وقت الحق .فكنتيجة للسلوك
األولي الصغير الحجم ،يحدث تغيير في اإلدراك الذاتي مما يسهل االمتثال الالحق
للطلب األكبر ،ويتماشى هذا اإلجراء بعد ذلك مع تصور الفرد لذاته على أنه «نوع
الشخص الذي يوافق على القيام بمثل هذه األشياء» .لينتهي عند القول« :ما الذي
رأيناه؟ ال عداء وال غضب وال حقد وال كراهية لدى من صدم الضحية ...تم الكشف
عن شيء أكثر خطورة بكثير :قدرة اإلنسان على التخلي عن إنسانيته ،وحتمية قيامه
ضميرا
ً بذلك ،ألنه يدمج شخصيته الفريدة في بنى مؤسسة أكبر ...إن كل فرد يمتلك
يعمل بدرجة أكبر أو أقل على كبح التدفق غير العوق للنبضات المدمرة لآلخرين،
ولكن عندما يدمج شخصه في بنية تنظيمية ،فإن مخلو ًقا جديدً ا يحل محل اإلنسان
عوائق من قيود األخالق الفردية» (مكفلين وغروس ،2002 ،ص31 المستقل ،دون ِ
ــ ،61ميلجرام(Milgram, 1974; Miller, Collins & Brief, 1995, p1 )2022 ،
19ــ).
وفي كتابِ ِه «تأثير الشيطان :فهم كيف يتحول الناس األخيار إلى أشرار» ()2007
،The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evilأعاد
عالِم النفس االجتماعي فيليب زيمباردو ) Philip Zimbardo (1933تفصيل تجربته
ِ
الرائدَ ة« :تجربة سجن ستانفورد» ( ،Stanford Prison Experiment )1971المتأثرة
بتجربة ملغرام ،والتي أكدت التأثيرات الموقف َّية في إنتاج الشر .يفتتح زيمباردو كتابه
بتأكيد أن الكتابة عن الشر شا َّقة ،حيث معايشة العذابات واالنتهاكات والمواقف
إن ذلك كان ِ
بفائدَ ة ،يقول: السلبية ،ولذلك ترك إتمام الكتاب لثالثين سنة ،إال َّ
«لو كتبت هذا الكتاب بعد إنهاء تجربة سجن ستانفورد بمدة قصيرة لكنت اكتفيت
بالتفصيل في مدى قوة الضغوط الموقفية ،وفي كونها أقدر مما نتصور أو نعترف على
تشكيل سلوكنا في سياقات متنوعة ،لكنني كنت سأفقد الصورة الكاملة ،ذاهال عن
القوة األكبر التي تخلق الشر في قلب الخير ،إنها قوة النظام ومجموع القوى الفعالة
147 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
التي تصنع الموقف .فمن المفهوم أن تفوق قوة الموقف قوة الفرد في سياقات محددة،
وهو مفهوم تؤيده أدلة كثيرة في علم النفس االجتماعي ،واستشهدت بهذه األدلة في
العديد من الفصول ،لكن مع ذلك لم يهتم أغلب علماء النفس بالروافد األكثر عمقا
لهذه القوة الفعالة التي تالزم منظومة السياسة واالقتصاد والدين والتاريخ والثقافة،
والتي تصنع المواقف وتشرعن وجودها أو تلغي مشروعيتها .يتطلب الفهم الكامل
لديناميات السلوك اإلنساني التعرف على امتداد وحدود قدرة كل من الفرد والموقف
والنظام ...محاولة فهم دور الموقف والنظام في توجيه أي سلوك فردي ال تعذر الفرد
أو تعفيه من مسؤوليته في التورط في أفعال شريرة غير أخالقية وغير قانونية».
ِ
ينطلق زيمباردو من لوحة موريتس إيشر لرسم صورة كل َّية لتراث مشكلة الشر ،إذ
ــ كما يرى ــ تظهر ثالث حقائق نفسية )1(« :العالم مليء بالخير والشر ،كذلك كان،
وما يزال ،وسيبقى ،و( )2الحد الفاصل بين الخير والشر قابل لالختراق وضبابي،
و( )3بإمكان المالئكة التحول إلى شياطين ،وبإمكان الشياطين التحول إلى مالئكة».
وبذلك تذكر بتحول لوسيفر ــ حامل النور والمالك المفضل ــ إلى الشيطان ،بعد
تحدي سلطة الرب ،وعزمه على إفساد مخلوقاته ،ليصبح بعد ذلك وسطاؤه هدف
المفتشين لتخليص العالم من الشر ،بأساليب مروعة ستصبح صورة جديدة من الشر
الممنهج .فـ»تأثير الشيطان» ــ كما يقول زيمباردو ــ « :محاولتي لفهم كيفية تحول
البشر العاديين أو األخيار إلى القيام بأفعال سيئة أو شريرة ...بدل االستعانة بالثنائية
الدينية التقليدية للخير والشر ،الطبيعة المصلحة ضد الطبيعة المفسدة ،سننظر إلى
بشر حقيقيين منشغلين بمهام حياتهم اليومية ،منهمكين في شؤونهم ،منغمسين في
بوتقة الطبيعة البشرية الموارة ،سنسعى إلى فهم طبيعة التحوالت الطارئة عليهم عند
مواجهتهم للضغوط الموقفية».
يقدم زيمباردوا تعريفا ــ بسيطا سيكولوجيا ــ للشر ،هو« :يقوم الشر على تعمد
التصرف بطرق تؤذي ،أو تعتدي على ،أو تحقر ،أو تسلب اإلنسانية عن اآلخر البريء
أو تدمره ،ويقوم كذلك على استغالل الفرد لصالحياته وسلطاته النظامية في تشجيع
اآلخرين على ذلك أو في السماح لهم بالقيام به نيابة عنه .باختصار ،هو معرفة األفضل
مع القيام باألسوأ» .ليشير إلى ثنائية السلوك األصيل والمكتسب ،ويقدم ــ كبديل ــ
ربج لعزخ يؤل .د 148
مقاربة تدرجية ،وكذلك إلى دوافع السلوكين النزوعي والموقفي ،وينتهي إلى كون
اإلنسان والموقف في حالة تفاعل دينامي .ثم يشرع بتتبع تاريخي في محاكم التفتيش،
مؤكدا أنه «في الغالب حماة النظام ،أولئك الذين يريدون تحييد المشكلة بغية تشتيت
االنتباه وصرف اللوم بعيدا عن المتربعين على قمة هرم السلطة ،والذين ربما كانوا
المتسببين في صناعة ظروف عمل متردية أو في غياب الرقابة واإلشراف» .ويشير
إلى أنه «ال يقوم أصحاب النفوذ والسلطة عادة بتنفيذ األعمال القذرة بأنفسهم ،لكن
ــ كسادة المافيا ــ يتركون األعمال الكبيرة لمرؤوسيهم ...يتطلب األمر مخيلة عدائية
وبناء نفسيا مدمجا بعمق في عقولهم عن طريق الدعاية التي تحول هذا اآلخر إلى
العدو ...تبدأ العملية بتنميط اآلخر ،تجريده من إنسانيته ،فاآلخر ال قيمة له ،اآلخر بالغ
القوة ،اآلخر شيطاني ،اآلخر مطلق التوحش ،اآلخر خطر رئيس يهدد قيمنا ومعتقداتنا
الغالية ،ومع تصاعد الرهاب العام واقتراب خطر العدو يتصرف العقالنيون بال عقل
ويذعن أصحاب التفكير المستقل ويتصرف المسالمون كما لو كانوا محاربين» .ليمر
بعد ذلك على الجرائم ضد اإلنسانية ،إذ نعيش عصر القتل الجماعي ،واالغتصاب
واإلرهاب ،ويقف عند الحالة الرواندية والنانكينجية الصينية ،لينتهي عند تأكيد أن هذه
الدراسة هي رحلة لـ»استكشاف الجانب المظلم للطبيعة البشرية».
في سياق اهتمامه بحياة السجون ،اقترح زيمباردو على جامعة ستانفورد فكرة
تجربة محاكاة لسجن تطبق بتحويل الطابق التحتي لقسم على النفس لما يشبه السجن،
وأع َلن عن حاجته لمتطوعين مقابل مبلغ مالي في تجربة لمدة أسبوعين ،فتقدم الكثير
من الطلبة ،اختار منهم مجموعة ممن يتصفون بمواصفات طبيعية ،وقسمهم بشكل
عشوائي إلى سجناء وحراس ،واتفق مع قسم الشرطة أن يقوموا بتنفيذ اعتقال الذين
سيكونون في جماعة السجناء دون علمهم بذلك .يوم األحد وفجأة االعتقاالت:
في صباح ( 14ــ 8ــ )1971انطلقت دوريات الشرطة واعتقلت الطلبة ،وجلبتهم
إلى السجن معصوبين ،وطبقت أساليب الدخول الحقيقية عليهم ،وإلباسهم مالبس
ِ
وإعطائهم أرقاما بدل األسماء ،وفي الوقت ذاته كان قد تم تهيئة الحراس، السجن،
بمالبس خاصة ونظارات ،بثالث نوبات (كل نوبة ثالثة ،وثالثة احتياطيون) ،فباشروا
بتبيان القواعد الجديدة ،وإحصاء السجناء ،وفرض االنضباط ،وكان المحظور
149 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
الوحيد عليهم استعمال العقوبات الجسدية ،وفيما عدى ذلك يمكنهم استعمال أية
طريقة ،كالملل واإلحباط والخوف .وهنا يذكر زيمباردو أن تركيزه كان على السجناء
وتكيفهم مع الظرف المشابه للسجن أكثر من الحراس ،ولكن تبين له مع مرور الوقت
أن سلوك الحراس ال يقل أهمية عن سلوك السجناء ،بل ربما فاقه .في هذا اليوم تم
إكمال عناصر التجربة ،ووضع كل شخص في دوره المقرر ،وبدء عمليات التكييف
للوضع الجديد ،وممارسة الحراس لسياسات الهيمنة .يوم اإلثنين وتمرد السجناء :بعد
يوم مرهق ،تنطلق الصافرة عند السادسة لتوقظ السجناء ،فيخرجون متثاقلين ،يلوح
الحراس أمامهم بهراواتهم ،ويعيدون عليهم التعليمات ،ويطلبون منهم تأدية تمارين،
فيمتنع أحدهم ،ويرمونه في السجن االنفرادي ،وكذلك آخر ،ليبقيا بال إفطار ،ليتمرد
بعد ذلك آخرون ،فيدفعونهم إلى الزنازين ،ويمنعون المتمردين من الغداء ،لينهار
أحدهم ،ويطلق سراحه .في هذا اليوم تراكمت المشاعر السلبية ،وتصاعد التوتر
عند ــ وبين ــ السجناء والحراس ،وبدأ السجناء بالشعور بثقل الوضع ،مع تعرضهم
المتهانات وحرمانات ،وتجربتهم لتمردات محبطة .يوم الثالثاء والزوار والمشاغبون:
بدأت رائحة السجن بالتغير ،وتكررت الشكاوى الغاضبة ،وصيغت قواعد جديدة،
وأخذ الحراس تجاوز األداء التمثيلي إلى تقمص العدوانية والمشاعر السلبية والهيئة
الوجدانية لحراس السجن الحقيقيين ،وقد جرت زيارات للسجناء من أهلهم ،وكان
ذلك أول اتصال بالعالم الخارجي ،وسرت فكرة أن هناك عملية مدبرة القتحام السجن
ومهاجمته ،مما ولد التنافر المعرفي عند الباحثين ،وأشار إلى افتقادهم للموضوعية
العلمية ،وبتعبير زيمباردوا« :كنت في طريقي للتحول إلى رئيس سجن بدال من كوني
باحثا ً
أول» .في هذا اليوم خيم شعور عام باإلحباط على ساحة السجن ،انعكس على
البحث عن كبش فداء ،فكان السجناء .يوم األربعاء والخروج عن السيطرة :يزور قس
السجن ،ويتحدث مع السجناء ،ليؤكد أنهم في وضع مشابه للسجن الحقيقي ،وكان
أحد السجناء في حالة هستيرية مزرية ،تطلبت إخراجه ،ويعوض ببديل ،وتتواصل
المشاكل واالضطرابات ،فيتمرد سجين ويعاقب ،ويعاقب اآلخرون معه ،لكسر تمرده،
وتحريضهم عليه .في هذا اليوم حدث طمس الحد الفاصل بين التجربة والواقع،
وخضوع وجدية السجناء ،واستعراض القوة بال شفقة .يوم الخميس ومواجهة الحقيقة:
ربج لعزخ يؤل .د 150
تصاعد العنف في اإلحصاء الصباحي ،وتلقى السجنا ُء مزيدً ا من العقوبات ،وأضرب
أحدُ هم عن الطعام ،وانهار سجينان آخران ،لتأتي كريستينا ــ الباحثة وحبيبة زيمباردو ــ
لتقله ،فتالحظ الوضع المزريِ ،
فتعلن له« :ما تفعلونه بهؤالء الفتية مريع» .كانت تلك
الكلمات بمثابة صفعة ــ بحسب تعبير زيمباردو ــ أيقظت الباحثين ،ودعتهم إلى إيقاف
التجربة ،إذ وصلت إلى حدود غاية في البشاعة .ولذلك قرر زيمباردو إنهاء التجربة.
يوم الجمعة والتحول إلى السواد :شهد هذا اليوم إجراءات تفكيك السجن ،وانجاز
األعمال الروتينية لذلك ،ومقابلة السجناء والحراس للتحدث عن تجاربهم خالل
األيام السابقة ،التي كشفت عن حقيقة مرعبة« :إن وضعت في موقف غريب وجديد
وقاس في ظل نظام قاهر ،فعلى األرجح أنك ستفشل في الحفاظ على شخصيتك التي
دخلت بها بوتقة الطبيعة البشرية هذه ،ربما ال تعود قادرا على التعرف على صورتك
المألوفة لديك إذا ما وضعت إلى جانب صورتك التي أصبحت عليها .جميعنا نريد
اإليمان بصالبتنا الداخلية وقدرتنا على مقاومة المؤثرات الخارجية الشبيهة بتلك التي
عملت عملها في تجربة سجن ستانفورد .بالنسبة للبعض فهم صادقون في هذا اإليمان،
لكنهم أقلية ،هم طيور تغرد خارج السرب ،أما بالنسبة لألغلبية فإن اإليمان بالقدرة
على مقاومة الضغوط الظرفية والنظامية ليس بأكثر من وهم يطمئنون به أنفسهم إلى
أنهم معصومون ،وللمفارقة فإن اإلبقاء على هذا الوهم يجعل األشخاص أكثر عرضة
للتالعب بهم ولإلخفاق في الحذر بالقدر الكافي من محاوالت التأثير غير المرغوب
بها ،والتي تمارس عليهم في الخفاء».
تحوالت الشخصية :أبدت التجربة قدرة تفسيرية عالية للتأثير السلبي المحتمل
لألنظمة والظروف السلبية في جعل الصالحين يتصرفون على نحو مرضي غريب
عن طبيعتهم ،ففقدان الهوية الشخصية والخضوع لتحكم متعسف ومتواصل في
تصرفاتهم ،إضافة إلى الحرمان من الخصوصية ،ولد فيهم متالزمة السلبية واالتكالية
واالكتئاب ،وهو ما يمثل العجز المتعلم .في البداية لم تكن ثمة فوارق بين المجموعتين
ــ السجناء والحراس ــ وبعد أقل من أسبوع لم يعد ثمة تشابه بينهم ،وبذلك كشفت عن
تحول الشخصية :الصالحون يتحولون فجأة إلى حراس قادرين على ارتكاب الشرور،
والسجناء ضحايا للسلبية المرضية تجاه المؤثرات الموقفية .وذلك يكشف عن الحقيقة
151 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
الحاجات
للشر، أكَّد Ervin Staubأن إحباط الحاجات النفس َّية األساس َّية لإلنسان هو المو ِّلد َ
إذ هناك حاجات نفس َّية عامة ــ مشتركة بين جميع البشر ــ متى ما ُلبيت خلقت إمكانات
قو َّية للخير ،لالهتمام والمساعدة والرعاية ،ومتى ما ُأحبِ َطت خلقت إمكانات قو َّية
للشر ،للعدوان والعنف والكراهية ،فتلبية أو إحباط االحتياجات النفسية األساسية توفر
قواعد «طبيعية» (قواعد متجذرة في الطبيعة والخبرة البشرية المشتركة) للخير والشر.
الحاجات األساسية عالمية ،وفي الوقت ذاته تتشكل خصائص ومسارات تحقيق
تلك الحاجات من خالل الثقافة والتجربة الشخصية .وأهم تلك الحاجات )1( :األمان:
تشمل الحاجة إلى معرفة أو االعتقاد بأننا (وكذلك األشخاص المهمين بالنسبة لنا:
العائلة ،الجماعة) ،وسنظل ،خاليين من األذى الجسدي والنفسي (أي الهجوم ،إصابة
أو تهديد لجسدنا أو مفهوم الذات والكرامة) وأننا قادرون وسنكون قادرين على تلبية
احتياجاتنا البيولوجية األساسية (من الغذاء والماء وما إلى ذلك) وحاجتنا إلى المأوى.
وأن تكون هناك حاجة معينة أساسية ال يعني أن الناس ال يستطيعون التصرف بشكل
فنظرا ألن لدينا حاجات متنوعة ،فقد تكون متضاربة في ظل ظروف معينة
مخالف لهاً ،
أو ــ في بعض األحيان ــ يتم التعبير عنها بطرق قد تبدو متعارضة للمراقبين الخارجيين.
ال ــ أن المفجرين االنتحاريين يتصرفون بشكل مخالف للحاجة إلى فمن المؤكد ــ مث ً
األمن الجسدي ،وذلك قد يعمل لتلبية االحتياجات األخرى ،كالحاجة إلى الفعالية
والسيطرة .ويشير مثال المفجرين االنتحاريين إلى شيء مهم للغاية حول البشر ،ال
سيما عندما نحاول فهم الخير العظيم الذي يتضمن التضحية الشديدة والشر العظيم
الذي ينطوي على تدمير شديد :أننا قادرون على بناء طرق للنظر إلى األحداث التي
تكون غير عادية وغير متصورة عادة ،حيث تصبح األفعال ممكنة ،بل مثالية .و()2
الفعالية والسيطرة :الحاجة إلى معرفة أو االعتقاد بأن لدينا القدرة على حماية أنفسنا
(وكذلك األشخاص المهمين بالنسبة لنا) من األذى (الخطر والهجوم وما إلى ذلك)،
وتحقيق األشياء شرعنا في القيام (مثل تحقيق أهداف مهمة) ،وعيش حياة هادفة لديها
القدرة على التأثير على مجتمعنا أو العالم .وعلى الرغم من أن معظم عناصر هذه
الحاجة (واالحتياجات األخرى) تدخل حيز التنفيذ في وقت مبكر جدً ا من الحياة،
ربج لعزخ يؤل .د 154
يصبح بعضها وثيق الصلة في وقت الحق في الحياة .وهناك ارتباط جوهري بين
الحاجة إلى األمان والفعالية والسيطرة .فمن خالل العمل الفعال يمكننا حماية أنفسنا
من األذى وتحقيق النتائج التي تعزز أمننا ،فمثال ،يمكن أن يكون للسيطرة أو االعتقاد
بأن المرء يتحكم في الضوضاء أو الصدمات الكهربائية التي يتم تلقيها في التجربة تأثير
عميق على األداء الفسيولوجي والمعرفي والنفسي ،ويحاول الناس ممارسة السيطرة
حتى في ظل ظروف سيئة للغاية عندما يحاولون إنقاذ أنفسهم في إبادة جماعية.
والتحكم الناجح في مواجهة مثل هذا الخطر الشديد ال ينتج عنه البقاء على قيد الحياة
فحسب ،بل يؤدي إلى فوائد نفسية كبيرة .و( )3الهوية اإليجابية :الحاجة إلى امتالك
ذات متطورة بشكل جيد وتصور إيجابي لمن نحن ومن نريد أن نكون (تقدير الذات)،
وهو ما يتطلب الوعي الذاتي وقبول الذات ،بما في ذلك قبول المحددات .و()4
االتصال اإليجابي :الحاجة إلى وجود عالقات نشعر فيها باالرتباط اإليجابي بأفراد
أو مجموعات أخرى ،مثل الروابط األسرية الوثيقة ،والصداقات الحميمة ،وعالقات
الحب ،والعالقات مع المجتمعات .و( )5فهم الواقع :الحاجة إلى فهم الناس والعالم
(ما يشبهون ،كيف يعملون) ومكاننا في العالم؛ أن يكون لديك آراء أو تصورات تفهم
العالم .وهذه حاجة أساسية ،لذا فإن أي درجة من الفهم أفضل من ال شيء .ومع
ذلك ،فإن أنوا ًعا معينة من فهم الواقع من قبيل رؤية العالم والناس على أنهم معادون
وخطيرون بسبب تاريخ سابق من إحباط الحاجة تجعل تلبية االحتياجات األساسية
األخرى أكثر صعوبة .و( )6االستقالل أو التحكم الذاتي :الحاجة إلى اتخاذ الخيارات
قادرا على العمل كفرد .وقد تتعارض بعض
شخصا ،ليكون ً
ً والقرارات ،ليكون المرء
االحتياجات مع بعضها البعض ،خاصة في ظل ظروف معينة .ومن الواضح أن هذا هو
الحال مع الحاجة إلى االستقاللية ،والتي يمكن أن تتعارض مع الحاجة إلى االتصال.
يمكن للثقافات أن تكثف أو تقلل الصراع المتأصل بين الحاجات ،ففي الثقافات
التي تعمل بشكل جيد ،يمكن تلبية جميع االحتياجات األساسية إلى حد معقول؛
ومع ذلك ،تؤكد الثقافات المختلفة على االحتياجات المختلفة .ومن المحتمل أن
تؤثر الثقافة على سهولة أو صعوبة تلبية االحتياجات؛ االستقاللية هي حاجة أكثر
صعوبة لتحقيقها في الثقافات الجماعية ،والتواصل في الثقافات الفردية .وتشكل
155 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
أيضا الطريقة التي يتم بها تلبية االحتياجات .ففي الثقافات الجماعية ،يمكن
الثقافات ً
تلبية الحاجة إلى الفعالية والسيطرة بشكل أكبر من خالل «التحكم الثانوي» :يصطف
األفراد مع المجموعة واألشخاص المهمين فيها ،أو يمارسون السيطرة المعرفية من
خالل إعادة تنظيم فهمهم لألحداث .وفي المجتمعات الفردية ،يميل األعضاء إلى
اتخاذ إجراءات للتأثير على األحداث ،ما يشار إليه بالسيطرة األولية .والحاجات
األساسية أساسية بنفس القدر ،وكلها بحاجة إلى التحقيق ،وربما يكون األمان استثنا ًء؛
قد يلزم تحقيقه قبل تلبية االحتياجات األخرى .وتلبية هذه االحتياجات األساسية في
وقت مبكر يجعلها أكثر مقاومة لإلحباط ويسهل تحقيقها في وقت الحق في الحياة.
والتجارب المبكرة ،حتى في مرحلة الطفولة ،لها صلة بتلبية جميع االحتياجات ،بما
في ذلك الهوية اإليجابية .ومع ذلك ،هناك احتياجات معينة مهمة بشكل خاص خالل
مراحل نمو أو فترات حياة معينة .وبالمثل ،يمكن أن تتغير العوامل المهمة في تلبية
االحتياجات ،حيث يكون للوالدين أهمية خاصة في وقت مبكر من الحياة ويصبح
األقران أكثر أهمية في مرحلة ما قبل المراهقة فيما يتعلق باحتياجات االتصال والهوية
وربما فهم الواقع.
وهناك حاجتان أخريان ،تعدان حاجات أساسية متقدمة ،ألن كالهما مرتبطان
بشكل كبير بالوفاء المسبق باالحتياجات األخرى )1( .الرضا الطويل :الحاجة إلى
الشعور واالعتقاد بأن األشياء جيدة في حياة المرء وأن الحياة تتقدم بطريقة مرغوبة
(ليس بالضرورة في الوقت الحالي ،ولكن بشكل عام) على المدى الطويل .وأستخدم
مصطلح الرضا الطويل بدال من السعادة للتعبير عن االستقرار حتى في خضم الضيق أو
الحزن أو األلم المؤقت ،وهو أمر ال مفر منه في حياة اإلنسان .وتلبية هذه الحاجة هو
في المقام األول نتيجة ثانوية لتلبية االحتياجات األخرى .وتلبية هذه الحاجة إلى الرضا
الطويل له صلة مباشرة بظهور المساعدة وربما اإلضرار .و( )2تجاوز الذات :الحاجة
إلى تجاوز التركيز على الذات واالهتمام بها ،وتشمل أشكال التعالي تجربة االرتباط
بالطبيعة أو الكون أو الكيانات الروحية ،أو تكريس الذات لرفاهية اآلخرين ،أو العمل
من أجل تغيير اجتماعي كبير .وتظهر هذه الحاجة بشكل متزايد ،في شكلها اإليجابي
ونظرا لطبيعة تجاربهم
ً الحقيقي ،عندما يلبي الناس االحتياجات األساسية األخرى.
ربج لعزخ يؤل .د 156
الحياتية ،قد يطور الناس قدرات مختلفة للتجاوز .فبعض تجارب التنشئة االجتماعية،
باإلضافة إلى تلبية االحتياجات األساسية ،قد تعزز الروابط إلى حد كبير مع ما هو
أبعد من الذات ،كالطبيعة والمجال الروحي ،واألشخاص اآلخرين ورفاههم ،وما إلى
ذلك .وعندما ال يتم تلبية االحتياجات األساسية ،تستمر تلك االحتياجات في الضغط
من أجل اإلشباع ،وبالتالي ال تظهر الحاجة إلى التعالي .وعندما تكون موجودة بقوة،
ولكن الناس ال يعملون لتحقيقها ،يتطور نوع من الشعور بالضيق أو عدم الرضا عن
الحياة .ويمكن أن يتشكل التعالي أو يتم التعبير عنه في حاالت نفسية وأفعال وطريقة
كاملة للكينونة .ففعل اإليثار الحقيقي ،الموجه من خالل الدافع للمساعدة ،هو عمل
ٍ
متعال ،من حيث إنه يتجاوز التركيز على الذات .وباإلضافة إلى التعالي الحقيقي،
أيضا «تجاوز زائف» ،حيث يؤدي اإلحباط من االحتياجات األساسية إلى
هناك ً
إعطاء الناس أنفسهم لألسباب والمعتقدات المتطرفة والحركات المدمرة .والدوافع
األساسية هي التخلي عن الذات المرهقة ،واكتساب فهم جديد للواقع ،وتجربة
االتصال .واعتما ًدا على طبيعة الحركة التي ينضم إليها الشخص والتجارب الالحقة
فيه ،قد يتم تلبية االحتياجات األساسية وقد ينمو التجاوز الزائف إلى تجاوز حقيقي.
وقد يحدث هذا في بعض الحركات الدينية .وحتى في بعض العصابات ،فإن إعطاء
تجاوزا زائ ًفا كام ً
ال ــ يمكن أن يساعد في ً المرء نفسه للمجموعة ــ وليس بالضرورة
تلبية االحتياجات األساسية .وقد يكون هذا هو السبب في أنه في العقود السابقة،
قبل أن تتحول العصابات إلى العنف واإلجرام ،غال ًبا ما انتقل الشباب من عصابات
الشباب ليعيشوا حياة طبيعية ،بينما في المقابل ،في حركة إيديولوجية مدمرة وعنيفة،
يمكن تلبية االحتياجات األساسية للمشاركين على المدى القصير ،لكن انخراطهم في
جروحا نفسية ،وغال ًبا ما يجلب العار الح ًقا ،وفي النهاية يحبط
ً األعمال المدمرة يخلق
االحتياجات األساسية.
تلبية االحتياجات البناء يؤدي إلى استمرار النمو .ويعني الرضا البناء أوال أن الحاجة
يتم إشباعها بطريقة ال تحبط (وربما تلبي) احتياجات أخرى .والبيئة واإلجراءات
المتخذة على حد سواء متضمنة .على سبيل المثال ،في األسرة التي تشجع االستقاللية
والتواصل بين األطفال ،ال يؤدي السلوك المستقل المعقول إلى تعطيل العالقات ،وال
157 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
يؤدي االتصال إلى إغالق أو منع االستقالل .ومن المرجح أن يواجه الشخص الذي
يلبي الحاجة إلى الفعالية والهوية اإليجابية بالوسائل العدوانية صعوبة في تلبية الحاجة
إلى االتصال أو الحاجة إلى األمن (ألن الناس يميلون إلى االنتقام) .وثان ًيا ،ال يؤدي
اإلرضاء البناء الحتياجات شخص ما إلى إحباط احتياجات اآلخرين األساسية أو تثبيط
قدرتهم على تلبية االحتياجات .بينما يشير الرضا المدمر إلى أنماط تلبية حاجة أساسية
تحبط تلبية حاجة أخرى أو احتياجات شخص آخر .وعادة ما يظهر عنصر الهدم عندما
تحدث محاوالت لتلبية االحتياجات في ظل ظروف تحبطهم أو عندما يكون لدى
الشخص الذي يحاول إشباع حاجة ما تاريخ سابق من إحباط الحاجة .واالفتراض المهم
هو أن االحتياجات هي دوافع قوية تضغط من أجل الرضا ،وعندما ال يمكن تحقيقها
بشكل بناء ،يتعلم الناس تحقيقها بطرق مدمرة ،والتي ــ مع ذلك ــ تتداخل مع إشباع
الحاجة على المدى الطويل والنمو الشخصي .على سبيل المثال ،قد يؤدي اإلفراط في
الحماية مؤقتًا إلى تلبية االحتياجات األساسية للوالد لالتصال والسيطرة واألمن ،وحتى
حاجة الطفل إلى االتصال .ومع ذلك ،فإن حماية الوالدين هذه تحبط حاجة الطفل إلى
االستقاللية والفعالية والسيطرة وتطوير الهوية .وعلى المدى الطويل ،من المرجح أن
أيضا .وسبب
تحبط العالقة التي تتطور بين الوالدين والطفل تلبية احتياجات الوالدين ً
شائع آخر للمحاوالت المدمرة لتلبية االحتياجات هو حدوث أحداث مؤلمة أو ساحقة
أو مهددة للحياة ال يتحكم فيها الشخص؛ مثل هذه األحداث تحبط جميع االحتياجات
األساسية ،خاصة عندما تنطوي األحداث على إيذاء من قبل أشخاص آخرين .واستجابة
لذلك ،قد يطور الشخص حاجة شديدة لممارسة السيطرة على المواقف واألشخاص،
وهو سلوك يتعارض بدوره مع القدرة على تطوير عالقات إيجابية .وقد توفر العمليات
أيضا وسائل مدمرة لتلبية الحاجة .على سبيل المثال ،قد يؤدي إلقاء اللوم
النفسية الداخلية ً
على النفس بسبب سوء المعاملة من قبل اآلخرين إلى اعتقاد الطفل أو البالغ أنه بإمكانه
حماية نفسه بشكل فعال في المستقبل من خالل التصرف بالطرق التي ُيتوقع أن تجلب
معاملة جيدة ،وبالتالي اكتساب بعض الشعور باألمان والفعالية .ومع ذلك ،فإن مثل هذا
السلوك يحبط الحاجة إلى هوية إيجابية ومن المرجح أن يمنع الناس من بدء العالقات
إحساسا زائ ًفا باألمان.
ً أيضا
وتطويرها .وقد يمنح الشخص ً
ربج لعزخ يؤل .د 158
عند تحليل أصول العنف الشديد من قبل مجموعة ضد أخرى نجد نقطة االنطالق
المتكررة للعنف الجماعي الشديد هي «ظروف الحياة الصعبة» .وتشمل هذه المشكالت
االقتصادية الشديدة ،والفوضى السياسية الشديدة ،والتغير االجتماعي السريع ،أو
مزيج من هذه العوامل ،إلى جانب الفوضى االجتماعية واالضطراب الناجم عن هذه
العوامل .وتصور هذه الظروف كعوامل إلحباط الحاجة األساسية يجعل االستجابات
دائما تقري ًبا مفهومة كمحاوالت تحتاج إلى إشباع .وهذه ردود فعل
األولية التي تولدها ً
نفسية ــ عاطفية وإدراكية ــ تتولد في مجموعة كاملة ويتم التعبير عنها بطرق اجتماعية
يمكن مالحظتها والتي تشمل ( )1التحول من الهويات الفردية إلى مزيد من التماهي مع
مجموعة معينة (ككيان عرقي أو أيديولوجي أو وطني)؛ و( )2رفع مكانة المجموعة،
والذي يتم تحقيقه عن طريق تقليص المجموعات األخرى؛ و( )3كبش فداء ،بمعنى
إلقاء اللوم على مجموعة ما بسبب مشاكل حياة المجموعة المرتفعة؛ و( )4تبني أو
إنشاء أيديولوجيات مدمرة ،وهي رؤى لترتيبات اجتماعية مرغوبة تكون مدمرة ألنها
تتضمن تحديد مجموعة ما كعدو يقف في طريق تحقيق األيديولوجية .وعلى الرغم من
أن ردود الفعل هذه تلبي جزئ ًيا بعض االحتياجات األساسية ،إال أنها ال تحل مشاكل
الحياة .وفي الوقت نفسه ،هي نقاط البداية للتمييز واالضطهاد والعنف الذي قد ينتهي
بمحاولة اإلبادة الجماعية أو اإلبادة الجماعية الفعلية .فالتركيز على عضوية الفرد في
مجموعة يقلل من انعدام األمن ،ويقوي الهوية ،ويخلق التواصل .ويكاد يكون استخدام
كبش الفداء عالم ًيا عندما تكون مشاكل الحياة شديدة ومستمرة .وتقليص المسؤولية
الشخصية والجماعية عن مشاكل الحياة ،بما في ذلك عدم القدرة على رعاية الذات
واألسرة ،يقوي الهوية .ومن خالل تقديم فهم ألسباب مشاكل الحياة ،فإن كبش الفداء
يخدم الحاجة إلى فهم الواقع .كما أنه يخدم الحاجة إلى الفعالية والسيطرة ،من خالل
اقتراح إمكانية حل المشكالت من خالل اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين تسببوا فيها.
أيضا إلى إنشاء االتصال ،حيث يكتسب أعضاء المجموعة
ويؤدي استخدام كبش فداء ً
إحساسا باالنتماء إلى المجتمع من خالل االعتقاد المشترك ،وبعد ذلك من خالل
ً
اإلجراء المتخذ ضد كبش الفداء المحدد .وترتبط األيديولوجيات ببعض العناصر
ولكنها ربما تكون أكثر عالمية من إلقاء اللوم على كبش فداء على طريق اإلبادة
159 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
الجماعية والقتل الجماعي ،فتبني األيديولوجيات التي تتضمن رؤى لمجتمع أفضل
(مثل القومية) أو عالم أفضل (مثل الشيوعية وجوانب النازية) يقدم فهما جديدا للعالم
ويوفر اتصاال باآلخرين ذوي التفكير المماثل ،هوية إيجابية (حيث يتصور المرء وتسعى
جاهدة لخلق «عالم أفضل») ،والفعالية في مكان العجز (حيث أن المرء جزء من حركة
تشارك في العمل لتغيير العالم) .ويمكن للجماعات أن ترتكب اإلبادة الجماعية حتى
في حالة عدم وجود تضارب في المصالح الحيوية ،كما هو الحال عندما تكون ظروف
الحياة الصعبة هي العوامل المحرضة المركزية .والجذور النفسية واالجتماعية لإلبادة
الجماعية هي دائما حاسمة ،ولكن في تلك الحاالت ،أكثر هيمنة .ومع ذلك ،فإن نقطة
ٍ
ومستعص، انطالق مهمة أخرى لإلبادة الجماعية والقتل الجماعي هي نزاع مكثف
صراع طويل األمد كان يقاوم الحل وأدى إلى العنف المتبادل .ففي حين أن التضارب
آثارا مهمة ،فإن أسباب صعوبة حل النزاع غال ًبا ما تكون
المصالح الحقيقية والملموسة ً
نفسية .فظروف الحياة ،باإلضافة إلى تصرفات الطرف اآلخر والتفاعالت بين الطرفين
كلها تتضافر إلحباط االحتياجات األساسية لكل منهما .عالوة على ذلك ،في النزاعات
أيضا العمليات النفسية واالجتماعية الجماعية التي تساعد على
المستعصية ،تنشأ ً
تلبية االحتياجات األساسية ،وعلى الرغم من أن هذه العمليات النفسية واالجتماعية
أيضا تقود
الجماعية قد تلبي االحتياجات النفسية األساسية ،على األقل مؤقتًا ،فإنها ً
المجموعات إلى االنقالب على بعضها البعض .وعند وجود خصائص اجتماعية/
أيضا ،وعندما يكون «المتفرجون» سلبيين ،فمن المرجح أن يتبع «التطور»
ثقافية معينة ً
كبش الفداء ،أو العدو األيديولوجي ،حيث يصبح موضوع التمييز ثم العنف المتزايد
تدريجيا .واألفراد والجماعات يتغيرون نتيجة أفعالهم .ويتم تبرير التمييز والعنف
المحدود من خالل زيادة تخفيض قيمة المجموعة الضحية وكذلك من خالل ُم ُثل
األيديولوجية .ويتزايد العنف تدريجيا ،مدعوما بتغييرات في قواعد ومعايير السلوك
فيما يتعلق بالمجموعة الضحية ،وفي بعض األحيان بتغييرات في القوانين ،وبإنشاء
مجموعات شبه عسكرية ومؤسسات أخرى تخدم العنف .وبدون قوى معاكسة ،مثل
المعارضة داخل المجتمع (المتفرجون الداخليون النشطون) أو من قبل الجماعات
واألمم الخارجية (المتفرجون الخارجيون النشطون) ،من المرجح أن ينتهي تطور
ربج لعزخ يؤل .د 160
األعمال العنيفة بشكل متزايد إلى القتل الجماعي أو اإلبادة الجماعية .وفي حالة
الصراع المستعصي ،يميل العنف المتزايد إلى أن يكون متبادال ،على الرغم من أنه قد
أيضا ،يتعرف األشخاص أكثر
يتم تصعيده بشكل خاص من قبل طرف أو آخر .وهنا ً
مع مجموعتهم بمرور الوقت ،وبالتالي يفون باحتياجاتهم للهوية والتواصل واألمن.
ويقوون هويتهم الفردية والجماعية من خالل إلقاء اللوم على اآلخر في الصراع ومن
خالل تطوير معتقدات جماعية تجعل قضيتهم عادلة ،ويساهم االنتقام المتبادل في
تصعيد العنف.
بعض الخصائص الثقافية تجعل هذه العمليات أكثر احتمالية .وأحد العناصر
المركزية هو تاريخ «التقليل من القيمة الثقافية» ،وهو تخفيض راسخ لقيمة مجموعة
فرعية أو أكثر من مجموعات المجتمع ،والذي «يختار مسب ًقا» المجموعة التي تم
تخفيض قيمتها ككبش فداء محتمل أو عدو أيديولوجي .واآلخر هو احترام قوي
جدا للسلطة .وهذا يقود الناس إلى االعتماد على التوجيه من قبل القادة ودعمهم أكثر
من االعتماد على تصوراتهم وقيمهم .ونتيجة لذلك ،تؤدي مشاكل الحياة الشديدة
والفوضى االجتماعية إلى نشوء مشاعر قوية بشكل خاص بعدم األمان ،وتشتت
ٍ
عندئذ يبحث الناس عن قادة جدد .واإليذاء السابق بالهوية ،وفقدان فهم الواقع،
لمجموعة ما هو سمة أخرى من السمات الموهمة ،فاالضطهاد والعنف الشديد ضد
شعورا بالضعف (أي
ً مجموعة واحدة يحبط جميع االحتياجات األساسية ويخلق
وتصورا للعالم على أنه خطير (أي فهم للواقع يؤدي إلى استمرار انعدام
ً هوية ضعيفة)
األمن) .وعندما يكون هناك تهديد جديد ،قد تهاجم المجموعة للدفاع عن نفسها،
حتى عندما ال يكون الدفاع ضرور ًيا ،ويتم تعزيز احتمالية هذه االستجابة عندما تؤكد
الذاكرة الجماعية للمجموعة على اإليذاء السابق .والثقافة والترتيب االجتماعي الذي
يحبط بدال من تلبية االحتياجات األساسية لألعضاء ،أو لمجموعة فرعية كبيرة ،بحيث
يصبحون حساسين للغاية لإلحباط الجديد ،قد يكون سمة ثقافية أخرى مهيأة ،إذ قد
تستجيب مجموعة تابعة في المجتمع بشدة لظروف الحياة الصعبة؛ وهذه الظروف
الصعبة تزيد من حدة االختالفات بين المجموعات وتعزز تجربة الظلم في المجموعة
أيضا إيديولوجيات إضفاء الشرعية القوية التي تبرر امتياز مجموعة
التابعة ،وقد تساهم ً
161 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
أيضا تحدي هوية المجموعة وفهمها مهيمنة .وعندما يتم الطعن في هذا االمتياز ،يتم ً
للواقع .وبالنظر إلى األيديولوجية ،واعتما ًدا على صورة األعضاء للجماعة األقل ح ًظا
على أنها خطيرة ،كذلك يكون أمنهم.
سياق مماثِل ،حدد Baumeisterأربعة أسباب جذرية رئيسية للشر ،حيث يتم
وفي ٍ
استخدام العنف ( )1كوسيلة لتحقيق غاية ،فبعض الناس يلجؤون إلى العنف كوسيلة
أمرا ال مفر منه في
للحصول على ما يريدون ،وربما تكون درجة معينة من الصراع ً
الحياة االجتماعية لإلنسان ،وقد يرغب شخصان في الشيء نفسه ،أو قد يرغبان في
أشياء ال تتوافق مع تفضيالت كل منهما ،وتوجد طرق عديدة لحل النزاع ،والعنف هو
بالتأكيد أحدها .وغال ًبا ما تكون األهداف التي يستخدم الناس العنف لتحقيقها عادية
تما ًما .إذ يستخدم الناس العنف للحصول على المال والموارد والسلطة والجنس،
ويستخدمونها لكسب الجدل أو لجعل شخص ما يتوقف عن فعل شيء ال يحبه،
وهذه الغايات ليست مرفوضة بشكل عام في حد ذاتها ،فالشر يكمن في الوسيلة وليس
شريرا .و( )2استجابة لألنوية المهددة،
الغاية ،واللجوء إلى العنف هو ما يجعل النشاط ً
إذ يهاجم الناس اآلخرين الذين جرحوا كبريائهم أو شوهوا شرفهم ،وبالتالي ،فإن
صورة الذات ،وليس المكاسب المادية ،هي القضية األساسية في هذه الفئة من العنف.
وتتعارض نظرية األنوية المهددة مع بعض الحكمة النفسية التقليدية ،التي أكدت منذ
فترة طويلة أن تدني احترام الذات هو سبب مهم للعنف .وتكررت نظرية تدني احترام
الذات على نطاق واسع ،لكن لم يكن لها أي أساس نظري أو تجريبي واضح .عالوة
على ذلك ،فإن الرأي القائل بأن تدني احترام الذات يسبب العنف ظهر تدريج ًيا بشكل
خطير يتعارض بشكل خطير مع شخصية األشخاص الذين يعانون من تدني احترام
الذات ،كما ظهر في عقود من الدراسة ،فاألشخاص الذين يعانون من تدني احترام
الذات هم عمو ًما خجولون ،ومترددون في المخاطرة ،وبطيئون في لفت االنتباه إلى
أنفسهم ،وغير متأكدين من اإلجراء الذي يجب اتخاذه ،ويميلون إلى االستسالم لما
يقوله اآلخرون ،وال يبدو أن أ ًيا من هذه الصفات تؤدي إلى أعمال عنيفة .وقد رسمت
الدراسات التي أجريت على الجناة تدريجيا صورة مختلفة للغاية ،حيث بدا أن العديد
منهم لديهم وجهات نظر مواتية للغاية ،بل ومضخمة ،ألنفسهم .ولوحظ هذا التضخم
ربج لعزخ يؤل .د 162
في المجرمين العنيفين ،مثل القتلة والمغتصبين ،باإلضافة إلى أنواع العنف األخرى،
مثل الطغاة .وتم العثور على أعلى مستويات العدوانية بين األشخاص الذين سجلوا
درجات عالية في النرجسية والذين تعرضوا لإلهانة من قبل خصمهم .وبالتالي ،فإن
األشخاص الذين استثمروا بشكل كبير في صورة مواتية عن أنفسهم والذين واجهوا
شخصا عارض وجهة النظر اإلطراء هذه كانوا أكثر عرضة للهجوم والهجوم
ً بعد ذلك
الم ُثل
على هذا الشخص .و( )3محاولة مضللة لفعل الخير ،أشخاص تحفزهم ُ
السامية ،ويعتبرون العنف وسيلة ضرورية ،غال ًبا ما تكون بغيضة ومؤسفة ،لتحقيق شيء
جيد وإيجابي .في بعض الحاالت ،يعتبرون أن ارتكاب أعمالهم العنيفة هو واجبهم
األخالقي .وقد أدى تعاطفنا مع الضحايا إلى حجب هذا الجانب من نفسية العديد من
الجناة .فقد يكون من المذهل أن ندرك أن العديد من مرتكبي أفظع أعمال العنف في
القرن العشرين كانوا مدفوعين في الواقع بالمثل العليا اإليجابية .حيث تم العثور على
أعلى معدالت الوفيات باستثناء الحرب ــ وفي الواقع تجاوز الجميع باستثناء الحروب
العالمية ــ في عمليات التطهير الستالينية في االتحاد السوفيتي وفي الثورة الثقافية في
الصين الماوية .ويقدر اآلن أن كالهما قتال حوالي عشرين مليون شخص .لكن كالهما
استرشدا باألمل في خلق يوتوبية شيوعية أو اشتراكية ،يكون فيها الجميع متساوين،
وسيهتم الناس ببعضهم البعض ويتشاركون جميع الممتلكات ،ولن يستغل أحد
المثل بصدق،
الضحايا األبرياء .وحتى لو شك المرء في أن ستالين أو ماو اعتنقوا هذه ُ
فيبدو أنه ال جدال في أن معظم كوادر الحزب الذين نفذوا االعتقاالت واإلعدامات
كانوا يعتقدون بصدق أنهم كانوا يفعلون الشيء الصحيح ،من أجل وطنهم الحبيب
ومن أجل الوطن ،خلق الجنة االشتراكية .و( )4وسيلة الكتساب اللذة السادية ،الجذر
األكثر شيو ًعا في روايات الضحايا وصورهم الخيالية ولكنه األقل شيو ًعا في الحياة
اليومية :السادية .فعندما ُينظر إلى األشرار من الخارج على أنهم أشرار ،فغال ًبا ما ُينظر
إليهم على أنهم يستمتعون بالضرر الذي يتسببون فيه .والسادية هي المصطلح التقني
الشتقاق المتعة من إلحاق األذى أو األلم باآلخرين .وقد تم العثور على إشارات كثيرة
إلى السادية في روايات الضحايا ،ولكن ذكرها نادر جدً ا في روايات الجناة ،ويمكن
للمرء أن يتساءل عما إذا كانت موجودة على اإلطالق .فـ «أسطورة الشر الخالص»
163 رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا
تنفي أن يكون للجناة أي دوافع مشروعة ألفعالهم السيئة ،ولذا فمن الشائع تصويرهم
على أنهم يؤذون الناس لمجرد التسلية .ومع ذلك ،على الرغم من أن عد ًدا ً
قليل نسب ًيا
من الجناة يعترفون باالستمتاع بإلحاق األذى ،فإن عد ًدا أكبر من الجناة يلمحون إلى
اآلخرين الذين يبدو أنهم يستمتعون به .ويبدو أن فكرة السادية تتعارض مع العديد من
المالحظات حول الناس ،مثل ميلهم إلى التعاطف مع بعضهم البعض ،وإحجامهم
عن إلحاق األذى ،وردود الفعل السلبية للغاية عاد ًة على التجارب األولى مع األذى.
شخصا ما ،يكون لدى المرء رد
ً ولكن في المرة األولى التي يؤذي فيها المرء أو يقتل
فعل سلبي قوي ،ولكن مع استمرار المرء في أداء مثل هذه األعمال ،ينتج عن عملية
الخصم تدريجي ًا المزيد والمزيد من المتعة.
الوسيلية واألنوية المهددة والمثالية والسادية هي األسباب الجذرية األربعة للشر.
تقود السلسلة السببية من خالل مجموعة متنوعة من الوسطاء والوسطاء المحتملين،
لتنتهي بالفعل العنيف .ومع ذلك ،فمن بعض النواحي ،فإن السبب األكثر أهمية
ليس أ ًيا من هذه الجذور ولكن ما يمكن العثور عليه في الطرف اآلخر من السلسلة
السببية ،قبل الفعل العنيف مباشرةً .في كثير من الحاالت ،يتضمن هذا الرابط األخير
انهيارا في السيطرة على الذات .فمعظم الناس لديهم مجموعة من القيود
ً في السلسلة
الداخلية والموانع التي تمنعهم من التصرف بنا ًء على كل اندفاع قد يشعرون به .وهو
أيضا :ستكون الحياة المتحضرة في المجتمع البشري فوضوية ،إن لم تكن
أمر جيد ً
مستحيلة تما ًما ،بدون هذه القيود .وتتطور القدرة على التنظيم الذاتي لدى البشر
بدرجة أكبر مما هي عليه في معظم األنواع األخرى (وربما في أي نوع آخر) .وأحد
االستخدامات المركزية لعمليات التنظيم الذاتي هذه هو تجاوز االستجابات والدوافع
األولية والسماح للشخص بالتصرف بطريقة أكثر مالءمة .وال يوجد مكان تكون آلية
ضبط الذات هذه أكثر فائدة منه في كبح العدوان .إذ تستلزم حتمية الصراع في التعايش
البشري أن يكون الناس غال ًبا محبطين أو غاضبين أو غاضبين أو مستائين من بعضهم
البعض .وتؤدي العديد من هذه النزاعات الشخصية إلى اندفاعات عدوانية أو عنيفة،
لكن القليل منها فقط يؤدي إلى العنف .فمن اإلنصاف التفكير في الميول البشرية
العدوانية بهذه الطريقة :تؤدي العديد من األحداث إلى ظهور دوافع عدوانية ،لكن
ربج لعزخ يؤل .د 164
ضبط الذات يمنع ذلك .وبمعنى ما ،ضبط الذات هو آخر دفاع ضد العدوان؛ لذلك،
مهما للعدوان .فعندما تتوقف القيود عن العمل ،تؤدي النبضات
قد يكون فشله سب ًبا ً
العدوانية إلى عمل عدواني.
165 عجارملا
المراجع
: ترجمة. كيف يتحول األخيار إلى أشرار:) تأثير الشيطان2019( فيليب،زيمباردو-
. تكوين: المملكة العربية السعودية.هشام سمير
.) مدخل إلى علم النفس االجتماعي2002( ريتشارد، روبرت وغروس،مكلفين-
. دار األوائل: عمان. موفق الحمداني وياسمين حداد وفارس حلمي:ترجمة
. وجهة نظر علمية عن التسلط:) كيف تُصنع الطاعة2022( ستانلي،ميلجرام-
. دار نصوص: بغداد. أندي مارديني:ترجمة
- Baumeister, R. F. (1997) Evil: Inside human violence and cruelty. New
York: Freeman.
- Baumeister, R. F., & Campbell, W. K. (1999) The intrinsic appeal of
evil: Sadism, sensational thrills, and threatened egotism. Personality
and Social Psychology Review, 3, 210 ــ221.
- Baumeister, R. F. & Vohs, K. D. (2004) Four Roots of Evil. In: Arthur
G. Miller (ed.) The Social Psychology of Good and Evil. New York:
The Guilford Press. pp.85 ــ101.
- Milgram, S. (1974). Obedience to authority: An experimental view.
New York: Harper & Row.
- Miller, A. G., Collins, B. E. & Brief, D. E. (1995) Perspectives on
Obedience to Authority: The Legacy of the Milgram Experiments.
Journal of Social Issues. Vol. 51. No. 3. pp. 1 ــ19
- Staub, E. (1999). The roots of evil: Personality, social conditions,
د. ربج لعزخ يؤل 166
culture and basic human needs. Personality and Social Psychology
Review, V. 3, pp.179 ــ192.
- Staub, E. (2004) Basic Human Needs, Altruism and Aggression. In:
Arthur G. Miller (ed.) The Social Psychology of Good and Evil. New
York: The Guilford Press. pp. 51 ــ84.
- Zimbardo, P. (2004) A Situationist Perspective on the Psychology
of Evil: Understanding How Good People Are Transformed into
Perpetrators. In: Arthur G. Miller (ed.) The Social Psychology of
Good and Evil. New York: The Guilford Press. pp. 21 ــ50.
- Zimbardo, P. (2007) The Lucifer Effect: Understanding How Good
People Turn Evil. New York: Random House.
دراسات
1 _________________________________________
د .صالح الدين العامري
عما يجب أن نفعله أوال نفعله ضمن «فلسفة األخالق» .وهو مبحث
يندرج الحديث ّ
مهم شغل بال اإلنسان منذ وعى ذاته ووجوده وبحث عن صيغ للوجود الجمعي تضمن
ّ
قدرا من األمان والسعادة .وتطلبت هذه الرغبة إيجاد صيغة ما لالجتماع البشري.
والشر ،وارتبطت هذه المعادلة بجدل ّية الثواب
ّ ومن أكثر الصيغ حضورا ثنائ ّية الخير
والعقاب ضمن رؤية شاملة للنظام االجتماعي ،رؤية اجتهد اإلنسان في صياغتها
مر تاريخه لتحقيق حالة من اإلشباع يتقاطع فيها الوجداني والعقلي.
وتطويرها على ّ
بتنوع زوايا النّظر وتعدّ د الخلف ّيات
تنوعت مرجعيات تأسيس النظام االجتماعي ّ
وقد ّ
تنوعت الخلفيات واآلليات
الموجهة للتنظير والتطبيق في التّاريخّ .
ّ الثقاف ّية والفكر ّية
وبقي الهدف واحدا ،وهو االجتماع والتنظيم األرقى في محاولة مفتوحة لتحقيق
والتلون في
ّ التنوع
إنسان ّية اإلنسان .وال يمكن تحقيق هذا الهدف دون معالجة حالة ّ
وتجسدت في الواقع
ّ األفكار والسلوك والتطلعات والوسائل .تبلورت فكرة التنظيم
عبر شبكة من القيم ،واتخذت القيم تدريج ّيا بعدا تداول ّيا ملزما يعد بتحقيق الخالص،
لتتحول إلى منظومة ثقاف ّية
ّ وسرعان ما ّ
تجذرت هذه القيم في الواقع تنظيرا وممارسة
رمز ّية تجيب على أسئلة البدايات واآلنيات والنهايات في سرديات جمع ّية .وهذا ما
سنحاول تب ّينه في القسمين األساسيين من البحث.
1أكاديمي وباحث تونسي ،مختص في الدراسات الحضارية وتاريخ األديان ،جامعة الزيتونة.
رماعلا نيدلا حالص .د 168
تحديد المفاهيم وضبط المنهج
توجه السلوك والفكر
ما نقصده بالقيم هو النّظم األخالق ّية المكتوبة التي ّ
والشر
ّ والعمل في عمل ّية تنظيم البناء االجتماعي ،ونقاربها من خالل ثنائ ّية الخير
باعتبارها معيارا للتمييز بين مجموعة من الثنائيات المن ّظمة للوجود البشري مثل
والضار ،والمقدّ س والمدنّس ،والثواب والعقاب
ّ والصواب ،والنّافع
ّ الخطأ
وغيرها من محدّ دات الوجود األسمى .المقصود بالبعد الرمزي هو الشبكة
الثقاف ّية التي تتشكّل من مفاهيم جرى تثبيتها ثقاف ًة رسم ّي ًة بين األفراد واألجيال
بفعل الممارسة وتكرارها .ولما كان مدار اشتغالنا متمحورا حول مسألة أخالق ّية
تراوح بين االجتماعي والديني ،وتم ّثل مشتركا إنسان ّيا ،احتجنا إلى اإلفادة من
منجزات أكثر من منهج بحثي ،وذلك لتنويع زوايا الفهم وتمتين بنية التم ّثل.
وجعلنا المنهج المقارن إطارا عاما للبحث بحكم العودة إلى أكثر من مرجع ّية
وديانة ،وعملنا على اإلفادة من بعض منجزات المنهج السوسيولوجي بالتركيز
فكرتي النّظام والنسق االجتماعي ألنّهما أساس الفكر الوظيفي في علم ْ على
االجتماع واألنتروبولوجيا ،2وانفتحنا على األنتروبولوجيا الثقاف ّية باعتبارها آل ّية
في فهم سياق ثقافي من الدّ اخل ،وتب ّين روافده وآلياته ورموزه ووظائفه .3واشتغلنا
بمعزل عن الماقبليات الفكرية التي نحملها .وقاربنا المسألة وفق ما يعتبره باستيد
فهم البناء ( )Constructionوتفكيك البناء ( )Déconstructionوإعادة البناء
( .4)Reconstructionولئن بدأنا في تناول الظاهرة بالجانب التنظري لها ،فإنّنا
تأسس على دراسة الممارسة في التاريخ وأنّه الحق على وعي ّ
بأن هذا الجانب ّ
بها زمن ّيا.
تي الفعل والنسق االجتماعي ،مكتبة 2جماعي ،علم االجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظر ّي ْ
العميس للنشر ،القصيم/بريدة ،ط ،1.د.ت ،ص.201
3بريان هويل وجينيل ويليامز باريس ،المدخل إلى األنتروبولوجيا الثقاف ّية من منظور مسيحي،
ترجمة إدوارد عبد المسيح ،القاهرة ،مكتبة دار الكلمة ،ط ،2015 ،1.ص.18
4دوني كوش ،مفهوم الثقافة في العلوم االجتماع ّية ،ترجمة قاسم المقداد ،بيروت ،مكتبة ناشرون،
ط ،2012 ،1.ص.76
169 باقعلاو باوثلا ةيلدج
الخير ّ
والشر من الفكرة إلى القيمة
يم ّثل ّ
تحول الفكرة من المستوى النّظري إلى المستوى العملي التداولي قانونا
يحكم المفاهيم واألفكار الجامعة .فما من سلوك أو قيمة إال وبدأت تنظيرا ثم
وتنوعت تطبيقاتها وطقوسها.
تتوسع نصوصها ومفاهيمها وقوانينها ّ
صارت ثقافة ّ
وهذا ما سنسعى إلى رصده في هذا القسم من البحث.
للتوسع حول هذه الخصوص ّية تمكن العودة إلى :مايكل كاريذرس ،لماذا ينفرد اإلنسان بالثقافة،ّ 5
وتنوعها ،ترجمة شوقي جالل ،الكويت ،سلسلة عالم المعرفة ،ع ،229 الثقافات البشر ّية نشأتها ّ
.1989
6العقالن ّية عند السوسيولوجي الفرنسي ريمون بودون Raymond Boudonهي مبدأ منهجي
يسمح بمقاربة هو ّية الفاعل االجتماعي والبحث في المنطق الذي يحكم سلوكه الذي يعني
البحث في األسباب المنظمة ألفعاله.
Raymond Boudon, «Individualisme et holisme en sciences sociales», Dans Pièrre
Birnbaum et Jean Leca (S/D): Sur l’individualisme. Ed. PFSP. Paris. 1991 p58.
رماعلا نيدلا حالص .د 170
على الدّ ور الذي تؤ ّديه القيم الستمرار الحياة وضمان استقرارها .7ويساعد توظيف
المدخل األنتروبولوجي الثقافي على الحفر في جذور الفكرة ،وتفضي عمل ّية الحفر
إلى العودة إلى نظر ّية العمران البشري لمؤسس اإلرهاصات األولى لعلم االجتماع عبد
تطرق في نظريته إلى معنى مدن ّية اإلنسان
الرحمن بن خلدون (تـ808.هـ1406/م) .وقد ّ
وقوانينها .واعتبر حاجة اإلنسان إلى التن ّظيم واالجتماع في إطار جماعات مسألة فطر ّية
والصراع.
وفسر هذه الحاجة بعاملين أساسيين ،هما التعاون ّ
وضرورة طبيع ّيةّ .
ع ّبر ابن خلدون عن معنى التعاون في تعريف علم العمران بأنّه «التّساكن والتّنازل
في مصر أو ح ّلة لألنس بالعشير ،واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون
عرف
على المعاش» .وع ّبر عن معنى الصراع الذي يهدّ د الفرد في فردانيته حين ّ
8
اإلنسان من خالل ثنائية الفكر والساعد ،وقال في هذا المعنى« :فاليد مه ّيأة للصنائع
بخدمة الفكر ،والصنائع تحصل له باآلالت التي تنوب له عن الجوارح المعدّ ة في
سائر الحيوانات للدفاع» .9فالتعاون ضروري لتحقيق منافع يضمنها التكامل بين
مضار يمكن أن تهدّ د
ّ األدوار البشر ّية ،والخوف من الصراع والفناء يجنب اإلنسان
حياته في حالة فردانيته (L’individualisme)10وعدم العيش ضمن وجود جمعي
(.)communautaire
تي الفعل والنسق االجتماعي ،ص.177 جماعي ،علم االجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظر ّي ْ 7
عبد الرحمان بن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،تقديم نواف الجراح ،بيروت ،دار صادر ،ط،2. 8
،2009ص.38
م.ن ،ص.39 9
ّ ّ
يؤكّد دوركايم أن الفرد ليس بإمكانه االندماج االجتماعي إال من خالل قبول إمالءات المجتمع. 10
ُينظر:
Emile Durkheim, De la division du travail social, PUF, Paris, 1994, p325.
في المقابل ينقد ريمون بودن المقاربات الكليان ّية التي تنظر إلى الفرد باعتباره نقطة عبور لألفكار
الجماع ّية التي تك ّبله وتحدّ من طموحاته ورغباته .وواضح أنّه تأ ّثر بأطروحة ماكس فيبر Max
Weberالذي انتقد ماركس وهيغل وأوغيست كونت بسبب انطالقهم من الجماعة وإهمال الفرد
الذي تنتفي الجماعة في غيابه ،وفي ظل سلبيته .ومع تماسك طرح ريمون بودن فإنّنا نميل هذا
السياق إلى الطرح الدوركايمي ولكن دون تهميش ك ّلي إلمكانات الذات الفرد ّية.
للتوسع حول أطروحة ريمون بودن تمكن العودة إلى:
Raymond Boudon, «Individualisme et holisme en sciences sociales», p49.
171 باقعلاو باوثلا ةيلدج
الذات عينها كآخر ،ترجمة جورجللتوسع حول صناعة القيم تمكن العودة إلى :بول ريكورّ ،
ّ 11
ّ
(الذات واالستهداف زيناتي ،بيروت ،المنظمة العربية للترجمة ،ط ،2005 ،1.ص341
األخالقي).
12برتراند راسل ،المجتمع البشري في األخالق والسياسة ،ترجمة عبد الكريم أحمد ،القاهرة،
مكتبة األنجلو المصرية ،د.ت ،ص.10
رماعلا نيدلا حالص .د 172
جو ّية أو زلزال أو ضباب أو أمطار طوفان ّية .يدفع هذا ال ّطارئ الجميع إلى التفاعل،
مسهم جميعا وسيؤ ّثر في حياتهم الفرد ّية
فيتبادلون الحديث في هذا الشأن العام الذي ّ
ويهدّ دها .يعكس هذا السلوك حسب غراهام حالة «التذبذب بين الشخصي والجانب
االجتماعي» .13وهذا أنموذج للحدود بين الحالتين والوجودين.
م ّثلت الموازنة بين القطبين المتضا ّدين (الفكرة) أساس االنتقال السليم من الفردي
إلى الجمعي ،ومن العجز إلى القدرة ،ومن الخطإ إلى الصواب ،ومن السلبية إلى
التحول من الفكرة إلى القيمة
ّ اإليجابية (القيمة) .وع ّبر برتراند راسل عن الحاجة إلى
بقوله« :ألنّنا لسنا اجتماعيين تماما فنحن في حاجة إلى أخالق لتوحي لنا باألهداف،
التصرفات» .14ويلتقي ارنيست كاسير مع هذا
ّ وإلى قواعد أخالق ّية لتفرض علينا قواعد
الطرح حين يربط حياة اإلنسان الحقيق ّية واإليجابية بوجوده داخل المجموعة ،وإنكار
أي معنى لوجوده الفردي المنفصل الذي يعني العدم.15
ّ
13 Graham Wallas, Humain nature in politics, Perligo, London, 2004, p49.
14برتراند راسل ،المجتمع البشري في األخالق والسياسة ،ص.10
15إرنست كاسيرر ،مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان ،ترجمة إحسان عباس،
بيروت ،دار األندلس ،1961 ،ص.83
173 باقعلاو باوثلا ةيلدج
المؤمنة على هذا المعطى رهانا عقد ّيا ومقصدا خالص ّيا يفصل بين عالمين ووجودين.
وأنتجت تم ّثالت وضوابط لالجتماع البشري من خارج إرادة الذات الفرد ّية وإن كان
بمشاركتها ،وسعت لتكريسها ثقافة وجود ّية خالص ّية في الحياة ،وعند الحياة الثانية
وتكرست تدريج ّيا فكرة تقسيم
ّ بالنسبة إلى الديانات التي تؤمن بالبعث بعد الموت.
العالم إلى وجودين متقابلين على أساس منظومة قيم ّية خالص ّية أساسها التقابل بين
وتوسعت دائرتها بالتوازي مع تغ ّير وجود اإلنسان في التاريخ.
ّ والشر.
ّ الخير
يعود التاريخ البعيد للتمييز قيم ّيا بين وجودين أو عالمين في الفضاء الديني إلى
لتكون الشعور الديني لدى اإلنسان .وتم ّثل الثنو ّية الكون ّية أولى
ّ المراحل األولى
المنظومات الدين ّية التي انخرطت في تحويل فكرة تنظيم الوجود في التاريخ إلى
الثنوية على فكرة وجود مبدأين أو أصلين متناقضين متصارعين
منظومة أخالق ّية .وتقوم ّ
هما عالم الروح والنّور األزلي ،وعالم الما ّدة والظلمة األزل ّية .16وبنى المصريون
(الشر) ،وتعني
ّ األول »اإلسفت«القدامى تم ّثالتهم للوجود على ثنائ ّية متقابلة قطبها ّ
الكلمة مجموع الشرور والفساد والظلم واالعتداء واختالل التوازن والفوضى سياسيا
والشرير هو »اإلسفتي« ،وهو الفوضوي والعاصي والمذنب
ّ واجتماعيا وأخالقيا.17
حق األفراد والجماعات ،والمهدّ د للنظام القائم .18والقطب الثاني هو
والمخطئ في ّ
»الماعت« (الخير) ،ويشمل كل مظاهر النفع واإليجابية التي تحقق الفائدة للمجتمع
المصري .وتم ّثل قائمة ّ
الشرور جزءا من قائمة المخاوف التي تهدّ د االجتماع البشري 19
بالمعنى التاريخي الما ّدي ،وقد تل ّقفها الفكر الديني ليوظفها في بناء منظوماته القيم ّية
الخالص ّية.
16فراس السواح ،الشيطان والرحمان ،الثنو ّية الكون ّية والهوت التاريخ في الديانات المشرق ّية ،دمشق،
دار عالء الدّ ين ،ط ،2000 ،1.ص.11
الشر في مصر القديمة ،ط ،2018 ،1.الهيئة العامة المصرية للكتاب، 17علي عبد الحليم علي ،مفهوم ّ
القاهرة ،ص.7
18نجد المعنى ذاته في تعريف القديس أوغسطين للشرُ ،ينظر:
Saint Augustin, Œuvres complètes, Nature du bien, B. Boland Gosselin, Desclée de
Brouwer & Cie, Paris, 1949, 2em Ed, p 465.
السوسيولوجي
الشر في األديان بين ّ
للتوسع حول المسألة تمكن العودة إلى مقالنا» :مقولة ّ
ّ 19
والميتافيزيقي« ،ضمن قضايا إسالم ّية معاصرة ،ع ،2020 ،73-74ص .87-112
رماعلا نيدلا حالص .د 174
لم يختلف طرح المسألة مع الديانات الكتاب ّية الثالث في تم ّثل الوجود ،واعتمدت
والشر لبناء منظومتها القيم ّية الخالص ّية ،ومن خاللهما رسمت
ّ أدبياتها ثنائ ّية الخير
قواعد نظامها المثالي .وينطلق الالهوتيون اليهود والمسيحيون من اآليات نفسها في
بالشر.
ّ سفر التكوين لتفسير الوجود الحقيقي الخير وما لحق به من أحداث وسمته
ٍ ِ ِ ِ الر ُّب ِ
الر ُّب اإلل ُه آ َد َم َو َو َض َع ُه في َجنَّة عَدْ ن ل َي ْع َم َل َها َو َي ْح َف َظ َها َو َأ ْو َصى َّ وجاء فيها « َأ َخ َذ َّ
الش ِّر«م ْن َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأ ْكالًَ ،و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ اإلله آدم َق ِائالًِ :
ِ ُ ََ
وت» .20وكان النهي عن األكل من شجرة ال ت َْأك ُْل ِمن َْها ،ألَن ََّك َي ْو َم ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ
َف َ
الرباألول للفصل بين وجودين :وجود في الجنّة ناله آدم بمباركة ّ المعرفة هو الشكل ّ
الشر.
حل به وبزوجته بعد الوقوع في الخطيئة وهو ّ وهو الخير ،ووجود في الدنيا ّ
يذهب األب فاضل سيداروس اليسوعي إلى ّ
أن اإلنسان عاش في انسجام مع تلك
الوص ّية اإلله ّية بقطبيها :األكل/االمتناع عن األكل ،إلى أن ورطته الح ّية حين ركزت
على الممنوع/الحرام ،وأخفت المسموح به/الحالل .21وجاءت الدعوة صريحة في
الشر من أجل وجود حقيقي وراق « ُا ْط ُل ُبوا ا ْل َخ ْي َر الَ
سفر عاموس الختيار الخير وترك ّ
الشر هو الطريق َّ ِ
َح َي ْوا» .فإذا كان الخير هو طريق الحياة ،فمعناه أن نقيضه ّ
22
الش َّر لك َْي ت ْ
إلى الموت بالمعنى الرمزي .وأكّد األب فاضل سيداروس اليسوعي بوضوح اعتبار
«إن الحياة األخالق ّية مبن ّية أساسا والشر أساس المنظومة األخالقية في قولهّ :
ّ ثنائ ّية الخير
والشر» ،23وهي معرفة خالص ّية للفرد والجماعة يضمنها الحلول في
ّ على معرفة الخير
أخالق المسيح القائمة على فضيلة المح ّبة .ولئن ندر اعتماد لفظ «األخالق» في العهد
عوضته عبارة «الفضيلة» بمعنى قوة النّفس التي تدفع اإلنسان لفعل الخير
الجديد ،فقد ّ
الشر.24
كل نوازع ّ والتغلب على ّ
استأنفت الثقافة اإلسالمية هذا الطرح وجعلته أساسا لرسالة اإلسالم في تحقيق
الخير لإلنسان .وبنت أغلب المقاربات تم ّثالتها على اآلية الثالثة عشرة من سورة
َّاس إِنَّا َخ َل ْقنَاك ُْم ِم ْن َذك ٍَر َو ُأ ْن َثى َو َج َع ْلنَاك ُْم ُش ُعو ًبا َو َق َب ِائ َل لِ َت َع َار ُفوا
الحجرات [ َيا َأ ُّي َها الن ُ
إِ َّن َأك َْر َمك ُْم ِعنْدَ ال َّل ِه َأ ْت َقاك ُْم] ،قال محمد حسين الطباطبائي في تفسيرها« :وجعلناكم
شعوبا وقبائل مختلفة ال لكرامة لبعضكم على بعض ،بل ألن تتعارفوا فيعرف بعضكم
ويتم بذلك أمر اجتماعكم ،فيستقيم مواصالتكم ومعامالتكم ،فلو فرض ارتفاع
بعضا ّ
المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد االجتماع وبادت اإلنسان ّية».25
أجمل الطباطبائي في تفسير اآلية أهم القواعد المن ِّظمة لالجتماع المدني ،فأعاد
القول القرآني من دائرة المقدّ س المتعالي إلى أرض ّية التفاعل االجتماعي المتغ ّير ،وهو
المطلوب في فهم النصوص المقدسة وربطها بالواقع والتاريخ .وتر ّدد هذا الفهم في
أغلب مظاهر التن ّظيم في الجماعات البشر ّية .وورد هذا الطرح في تعريف فخر الدين
الرازي (تـ606.هـ) لوظائف اإلمام باعتباره رأس النظام في هرم القيادة اإلسالمية
ببعديها الديني والدنيوي .وحدّ د له فائدتين :دين ّية وهي تنظيم إقامة الشعائر ،ودنيو ّية
بالحث على الواجبات وترك ّ وهي دفع الضرر والتصدّ ي للفوضى ومنع انتشار الفساد
القبائح .26ويندرج أغلبها ضمن دائرة قيمتي الخير والشر .وحصر تقي الدين النبهاني
بالضرورة إلى المضار بالدين ،وأكّد ّ
أن اجتماع أ ّية أ ّمة يحتاج ّ ّ تحقيق المنافع ودفع
أنظمة ومبادئّ ،
وأن اإلسالم بأوامره ونواهيه هو الذي يوجد هذا المجتمع ويرفعه من
المثل .27وأكّد الطاهر بن عاشور دور الدين في البناء
وهدة الهبوط إلى ذرى السمو نحو ُ
االجتماعي في قوله« :مراد ال ّله في األديان ك ّلها منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد ،وهو
وتطرق في مقدمة أطروحته حول النظام
ّ حفظ نظام العالم وصالح أحوال أهله».28
االجتماعي في اإلسالم إلى هذه المعادلة فقال« :غرضي أن أبحث عن حقيقة اإلسالم
محمد حسين الطباطبائي ،الميزان في تفسير القرآن ،بيروت ،مؤسسة األعلمي للمطبوعات، 25
1418هـ1998/م ،ج ،18ص .330
فخر الدين الرازي ،نهاية العقول في دراية األصول ،تحقيق سعيد عبد اللطيف فودة ،بيروت ،دار 26
الذخائر ،د.ت ،ج ،4ص.331
تقي الدّ ين النبهاني ،النظام االجتماعي في اإلسالم ،بيروت ،1952 ،ص.31 27
محمد الطاهر ابن عاشور ،أصول النظام االجتماعي في اإلسالم ،تونس ــ الدار التونس ّية للنشر، 28
الجزائر ــ المؤسسة الوطن ّية للكتاب ،ط ،2.د.ت،ص.10
رماعلا نيدلا حالص .د 176
وحقيقته من جهة مقدار تأثيرها في تأسيس المدن ّية الصالحة ،ومقدار ما ينتزع المسلم
بها يهتدي بها إلى مناهج الخير والسعادة».29
مما نخلص إليه في هذا القسم من البحث ّ
أن رغبة اإلنسان في االجتماع جعلته يفكّر في ّ
تحولت الفكرة إلى منظومة من القيم األخالق ّية
وسائل هذا االجتماع وآلياته ،وسرعان ما ّ
والشر ،وقد أسهم الفكر الديني بفاعل ّية في تأسيس هذه المعادلة.
ّ يتجاذبها قطبان هما الخير
األساس ّية هي ثنائ ّية الثواب والعقاب .وتنبني القيم على معايير تتمتع بمشروعية وفاعلية
تجعالن منها قواعد صارمة يتأسس عليها الوعي والسلوك فرديا وجمع ّيا ،وتتخذ بعدا
والشر .وتعني القيمة في المرجع ّية االجتماع ّية معايير
ّ مقدّ سا انطالقا من ثنائ ّية الخير
جماعية تم ّثل قواعد ومرجعا للسلوك الفردي والجمعي ،تسندها مشاعر قوية فتنهض
بوظائف عملية تقود الجماعة إلى السعادة .31وأ ّما األخالق فهي منظومة من القيم
والمعايير التي تجعلها الجماعة مرجعا في تنظيم سلوكها وعالقاتها بهدف تحقيق
المنافع والفضائل للفرد والجماعة عاجال وآجال.
يتمايز مفهوم األخالق من مرجع ّية فكر ّية إلى أخرى رغم التقاطعات ،ففي المرجع ّية
الفلسف ّية م ّيز بول ريكور مثال بين مصطلحي Ethiqueو .Moraleواستخدم مصطلح
Ethiqueللتعبير عن المضامين الفكرية لألخالق وقوانينها ،وجعل مصطلح Morale
للداللة على نسق القيم والمعايير األخالقية التي تتمحور حول قيمتي الخير والشر.32
وم ّيز فيليب ميريو ) (Philipe Meirieuبين المصطلحين ،فجعل كلمة Ethiqueدا ّلة
على دراسة السلوك األخالقي عند األفراد ،وحصر معنى Moraleفي اإلحالة على
نظام المعايير والقيم والمبادئ األخالقية التي تنظم سلوك األفراد في المجتمع 33.وتعدّ
الموجه الحقيقي للفعل االجتماعي بالمعنى السوسيولوجي .ويم ّثل ّ القيم األخالق ّية
الفعل الترجمة الماد ّية الملموسة للقيم.
أن كلمة Moraleهي األقرب للداللة على السياق الذي يب ّين هذا التمييز االصطالحي ّ
«الخير/الشر» في بناء الهياكل القيم ّية األخالق ّية المن ّظمة لحياة
ّ نقارب فيه مركز ّية الزوج
والشر
ّ جماعة بشر ّية ماّ .
وأن المسألة األخالقية تقوم أساسا على الصراع األبدي بين الخير
للتوسع حول مفهوم القيمة بين النظر والمارسة في الواقع ،تمكن العودة إلى:
ّ 31
Hassan Rachik et Autres, Islam au quotidien, Enquête sur les valeurs et les pratiques
religieuses au Maroc, Editions Prologues, collection dirigée par Mohamed–Sghir
Janjar (Collection: Religion et Société), Casablanca, 2007.
32 Paul Ricœur, Avant la loi morale, l’éthique , Encyclopedia Universalis, Les enjeux,
1988, p. 42-45
33 Philippe Meirieu, Éduquer: un métier impossible ? ou «Éthique et pédagogie», Con-
férence prononcée à Montréal le mercredi 27 mai 1992, dans le cadre du congrès
Collèges célébrations 92. Pédagogie Collégiale Septembre, Vol. 6 n° 1, 1992.
رماعلا نيدلا حالص .د 178
وما يتع ّلق بهما من ثنائيات أخرى مثل الفضيلة والرذيلة ،والط ّيب والخبيث ،والحق
والضار .ويرتبط هذا الحقل الداللي بثنائ ّية أخرى
ّ والصواب ،والنّافع
والباطل ،والخطأ ّ
هي العقاب وال ّثواب ،وهي المقابل والجزاء القتراف ّ
الشرور أو فعل الخير.
المنتجة للضرر مثل
«الشر» في التوراة اليهودي على األفعال السلبية ُّ تحيل عبارة
وتحمل اإلنسان
ّ الكذب والخداع والتحريف وال ّظلم والقتل .34وتقرن بين ال ّله والخير،
الرب .ورد هذا المعنى في المحاورة بين النبي يوسف وإخوته الشر بتجاوز حدود ّ فعل ّ
َخا ُفوا .ألَ َّن ُه َه ْل ف الَ ت َ وس ُ شرهم بخيره « َف َق َال َل ُه ْم ُي ُ حين خافوا انتقامه ،غير أنّه ر ّد على ّ
َان ال ّل ِه؟ َأ ْنت ُْم َق َصدْ ت ُْم لِي َش ًّراَ ،أ َّما ال ّل ُه َف َق َصدَ بِ ِه َخ ْي ًرا ،لِك َْي َي ْف َع َل ك ََما ا ْل َي ْو َم ،لِ ُي ْح ِي َي
َأنَا َمك َ
ب ُق ُلو َب ُه ْم» .35بدّ د َخا ُفواَ .أنَا َأ ُعو ُلك ُْم َو َأ ْوالَ َدك ُْم»َ .ف َع َّز ُاه ْم َو َط َّي َ َش ْع ًبا كَثِ ًيراَ .ف َ
اآلن الَ ت َ
الشر
وأن ّ بالربّ ، ّ يوسف خوف إخوته وذكّرهم باألصل في األشياء وهو الخير المرتبط
حادث بسبب أنان ّية اإلنسان وطمعه .وفي المقابل استحضر اإلخوة في خطابهم ثنائ ّية
ف َي ْض َط ِهدُ نَا وس َ والشر .وجاء فيهَ « :ل َع َّل ُي ُ ّ قيمتي الخير ْ الثواب والعقاب المتو ّلدة عن
الش ِّر ا َّل ِذي َصنَ ْعنَا بِ ِه» .36فاالضطهاد والعقاب هما الجزاء المناسب يع َّ ِ
َو َي ُر ُّد َع َل ْينَا َجم َ
الشرور التي ارتُكبت على يوسف ،ووردالرتكاب الكذب والحسد والقتل ،وهي ّ
أغلبها في الوصايا العشر للنبي موسى .وانطلق المتك ّلم اليهودي موسى بن ميمون
الشر عن الرب
والشر باعتبارهما قرينين للوجود والعدم لينفي صفة ّ
ّ من تعريف الخير
وتتكرر
ّ وتقديمه خيرا محضا .37وهي أطروحة تستمدّ سيرورتها من الفلسفة اليونان ّية
في المنظومات الدين ّية الالحقة.
واصلت الثقافة المسيح ّية هذا السياق المفاهيمي الهيكلي لطبيعة القيم األخالق ّية
الشر
وأن ّ أن األصل في الوجود هو الخيرّ ، ومضامينها وآلياتها .فأكّد القدّ يس أوغسطين ّ
طارئ عليه بسبب عدم التزام اإلنسان بالمعايير اإلله ّية للوجود .فكل عناصر الخلق
ألن ال ّله خلق كل شيء خ ّيرا ،وهو الخير المطلق ،غير ّ
أن أخطاء اإلنسان خ ّيرة في ذاتها ّ
الشر .38وجعلت المسيح ّية من التي حصلت بتجاوز النظام األخالقي إراد ّيا تحدث ّ
المح ّبة والتّسامح أرقى مراتب األخالق التي تستحق الجزاء وال ّثواب« :لِك َْي َتكُونُوا
الصالِ ِحي َنَ ،و ُي ْمطِ ُر
اواتَ ،فإِ َّن ُه ُي ْش ِر ُق َش ْم َس ُه َع َلى األَ ْش َر ِار َو َّ
َأبنَاء َأبِيكُم ا َّل ِذي فِي السم ِ
َّ َ َ ُ ْ َ
َع َلى األَ ْب َر ِار َوال َّظالِ ِمي َن .ألَ َّن ُه إِ ْن َأ ْح َب ْبت ُُم ا َّل ِذي َن ُي ِح ُّبو َنك ُْمَ ،ف َأ ُّي َأ ْج ٍر َلك ُْم؟» .39وم ّثلت
الرذائل في فلسفة أغسطين أساس الشرور ،والسلوك المستوجب للعقاب اإللهي
العادل .40ود ّعم القدّ يس انسليم هذا المعنى بدعوة المؤمن بالمسيح أن «اعشق الخير
كل الخيرات ويكفيها ،ارغب في الخير البسيط وكفاك به فهو الوحيد الذي يحوي ّ
والشر.
ّ الخير ك ّله» .41فالخير هو اإليمان ،واإليمان هو الخير ،وغير ذلك هو االنحراف
استأنفت الثقافة اإلسالمية هذه الجدل ّية في اإلطار نفسه تقريبا ،مع بعض التمايزات.
أن ال ّله خير محض مثلما يتحدّ ث عن وقد حافظت على الفكرة الرئيس ّية التي تقوم على ّ
َاء ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو َين َْهى َع ِن ان وإِيت ِ
ِ ذاته في سورة النحل [إِ َّن ال َّل َه َي ْأ ُم ُر بِا ْل َعدْ ِل َو ْ ِ
ال ْح َس َ
ب ِ اء َوا ْل ُمنْك َِر َوا ْل َب ْغ ِي] .42وأثر عن النبي قوله «المؤم ُن ِغ ٌّر ا ْل َفح َش ِ
والفاجر خ ٌّ
ُ كريم
ٌ ْ
أن االبتعاد و«إن مكارم األخالق من أعمال أهل الجنّة» .اإلجماع حاصل على ّ
43 ّ لئيم»
ُ
الشر .ال ّله الذي أفرد اإلنسان بالعقل ،ك ّلفه باالستخالف في األرض عن شرائع ال ّله هو ّ
تحمل الرسالة بما
والصواب .وإذا أحسن ّ
وتعميرها ،وأوجب عليه التّمييز بين الخطأ ّ
بين الديانات الثالث .وربط المتك ّلمون المسلمون بين الجزاء واالستحقاق والعدالة
اإلله ّية .46وورد تدقيق هذه المعادلة في سورة الزلزلة [ َف َمن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا
والذرة هي المقياس األدنى لألحجام ،وقد ّ َي َر ُه * َو َمن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َال َذ َّر ٍة َش ًّرا َي َر ُه].47
جاءت العبارة في صيغة رمز ّية لتؤكّد الصفة المطلقة للعدل اإللهي عند الحساب.
وتجمع المقاربات التوحيد ّية على مسؤول ّية اإلنسان في ما يناله من جزاء مقابل أفعاله
تحت ضمانة العدالة اإللهية.
46تمكن العودة إلى :هويدا فؤاد الطويل ،مقتضيات العدل اإللهي (الثواب والعقاب بين الوجوب
والفضل لدى المعتزلة واألشاعرة) ،اإلسكندر ّية ،كلية الدراسات اإلسالم ّية1439 ،هـ2018/م.
47الزلزلة.99/7 :
48 Paul Ricœur, Le confit des interprétation, essais d’herméneutique, Edition du seuil
Paris,1969, P87 .
انظر أيضا :ــ Paul Ricœur, Du texte à l’action, essais d’herméneutique, Ed seuil, Paris,
1986, p112.
رماعلا نيدلا حالص .د 182
اهتم ّ
بفك شفرات اللغة الرمز ّية من خالل التأ ّمل في لغة االعتراف بالخطأ.49 الشر ّ
رمز ّية ّ
الشر في الذاكرات الدين ّية الخطيئة األصل ّية والشيطان
ومن العالمات اللغو ّية الدّ الة على ّ
تأسسا على أرض ّية نظام الوجود وتنظيمه.
باعتبارهما معنيين رمزيين ّ
ارتبطت الخطيئة في الذاكرة الدين ّية الكتاب ّية بحادثة «الطرد» من الجنّة النّاتجة عن
الرب أو الجرأة عليها .واشتركت في ارتكابها أنثيان :الح ّية مد ّبرة والمرأة/
تجاوز أوامر ّ
حواء من ّفذة ،واعتبر ّ
الذكر ضح ّية مكرهما دون اإلشارة الصريحة إلى مسؤوليته .وهذا
وخصه بأوامر
ّ موجها إلى آدم
ما تداركه النص القرآني حين أورد الخطاب اإللهي ّ
وحمل القسط األكبر من مسؤولية المعصية ّ تنظيم وجوده في الجنّة أمرا ونهيا،
اس ُك ْن َأ َ
نت َو َز ْو ُج َك ا ْل َجنَّ َة [ويا آ َد ُم ْ
بالعدو .وجاء في األمر اإللهي َ ّ للشيطان ووصفه
الش َج َر َة َف َتكُونَا ِم َن ال َّظالِ ِمي َن] .50تر ّددت هذه
ال ِم ْن َح ْي ُث ِش ْئت َُما َوالَ َت ْق َر َبا َه ِـذ ِه َّ
َف ُك َ
للشر في المرجع ّيتين األطروحة في الديانات الكتاب ّية الثالث ،وصارت الخطيئة رمزا ّ
الالهوت ّية والفلسفية ،وإن تباينت القراءة والتأويل .وتبحث المرجعيات الدين ّية عن
وتفسرها انطالقا من مدى
ّ والشر في إطار تم ّثل العالقة بين اإلنسان ور ّبه،
ّ الخطيئة
التزام اإلنسان باألوامر الدين ّية المن ّظمة لحياته ،وهي الخيار الوحيد بالنسبة إليهّ ،
ألن
الخير األسمى هو اإليمان .يقول بولس الفغالي« :الحكمة ترتبط بال ّله ( ،)...لهذا فهي
الرب والخيرات التي
الشر والموت ،ويقودنا إلى مخافة ّ
ينبوع الحياة الذي يحفظنا من ّ
تنتج عن هذه المخافة» .51وقد واجه الالهوتيون إشكال ّية حر ّية اإلنسان ومسؤوليته
الشر عن اإلله وتحميل
فيما ورثه عن التحالف األنثوي بين األفعى وحواء بنفي صفة ّ
اإلنسان طبيعة أفعاله .واعتبروا الخطيئة نتيجة لمعصية النواميس اإلله ّية المن ّظمة
للوجود على قاعدة أنّها المرجع ّية األسمى للنّظام .فالمعصية تؤ ّدي إلى الخطيئة،
والخطيئة تحدث تبدّ ال سلب ّيا في وجود اإلنسان ،ويم ّثل الوضع الجديد تحريفا
49بول ريكو ،فلسفة اإلرادة ،اإلنسان الخطاء ،ترجمة عدنان نجيـب الـدين ،الدار البيضاء ،المركـز
الثقـافي العربـي ،ط2003 ،1.م ،ص15.
50البقرة.2/35 :
51الخوري بولس الفغالي ،المدخل إلى الكتاب المقدّ س ،بيروت ،منشورات المكتبة البولس ّية ،ط،1.
،1995ص.122
183 باقعلاو باوثلا ةيلدج
للوجود األصلي .52ويقتضي هذا التبدّ ل البحث عن الخالص والتوبة بمجموعة من
الشر باعتبارها مس ّببا
الطقوس والشعائر .وصنّف بول ريكور الخطيئة رمزا من رموز ّ
الصلة به وبالمكان األصلي للوجود.53
له بعد خرق القانون اإللهي للوجود وقطع ّ
الشر المصمم وذهب إلى ّ
أن الرمزية األقدم ،والتي نستطيع أن ننطلق منها هي رمزية ّ
بوصفه دنسا.54
يقل حضوره في المتخ ّيل الديني عن حضور للشر ال ّ
ّ يم ّثل الشيطان رمزا آخر
الخطيئة ،بل هو قرينها .ويحضر هذا الرمز باعتباره نقيضا للخير ورموزه مثل اإلله
أسست لرمز ّية الشيطان الزرادشت ّية،
والنبي واإلنسان الصالح .ومن أولى الدّ يانات التي ّ
الشريرة عند المجوس .وتج ّلى هذا الكائن
الروح ّ
وصنعت الرمز ّية من خالل أهرمان ّ
قوة الخير التي يم ّثلها أهورا مازدا.55
الشرير في مواجهة ّ
ّ
والضالل والهالك.
للشر ّ
ّ تر ّدد صدى هذا الرمز في األديان الكتاب ّية الثالثة قرينا
ورافق ظهوره المراحل األولى لظهور اإلنسان على األرض .وغالبا ما يحضر إبليس
الشر غواية وتوجيها وتحفيزا .فبعد أن أحدث الفتنة بين قابيل
ليساعد في إنجاز فعل ّ
الشرير ،أخذ
وهابيل ،دفع قابيل إلى قتل أخيه ،وألنّه لم ينجح في إنجاز هذا الفعل ّ
ليدربه على الفعل ،فوضع رأسها على حجر ،وأخذ يضرب به رأسها حتى
إبليس دا ّبة ّ
شر قتلة .56وبدأت غواية إبليس ليسوع المسيح
فكرر ابن آدم المشهد فقتل أخاه ّ
قتلهاّ ،
نبوته ،فاجتهد في صرفه عن األمر
في األدبيات المسيح ّية منذ المراحل األولى لظهور ّ
وجره بمجموعة من اإلغراءات ،إال ّ
أن المسيح قاوم وثبت على خياره الرباني اإللهي ّ
52القدّ يس أوغسطين ،مدينه ال ّله ،ترجمة ،يوحنا الحلو ،دار المشرق ،بيروت ،ط ،2.مج ،2ص،2007
ص ص22-25.
53بول ريكور ،صراع التأويالت ،دراسات هرمينوطيقية ،ترجمة منذر عياشي ،دار الكتاب الجديد
المتحدة ،ط ،1.لبنان ،2005،ص ص.235-237
54م.ن ،ص.488
55 Mircea Eliade and Johan P. Couliano, Dictionnaire des religions, Paris: Plon, 1990,
pp297-303.
56ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن عمر) ،تفسير القرآن العظيم ،بيروت ،دار الكتب العلم ّية ،د.ت،
ج ،2ص.42
رماعلا نيدلا حالص .د 184
تكررت السرد ّية األولى في صورة 57
(الخير في إتمام مضامين النّاموس الموسوي) ّ .
أن إرادة عيسى الخيرة انتصرت لتح ّقق وعدا
مستعادة لما حدث آلدم في الجنّة ،غير ّ
إله ّيا بالخالص.
وخصه القرآن بصفات
ّ لم تختلف صورة الشيطان ورمزيته في الثقافة اإلسالم ّية،
الشر
الشرور في األرض جميعا .واستنادا إلى العالقة بين ّ ونعوت تربط بينه وبين ّ
الشر مع اللحظة األولى لوجود اإلنسان
والمعصية ،يكون الشيطان أول من أجرى فعل ّ
عدوا لإلنسان وحاقدا عليه إلى حدّ أوقعه في الكفر
األول آدم .فمنذ البداية ظهر الشيطان ّ
ّ
المقربين .وقال ناصر مكارم الشيرازي في هذا السياقّ :
«إن ّ بعد أن كان من المالئكة
عناد الشيطان وغروره وتك ّبره وحسده تس ّببت في سقوطه من مقامه الشامخ الرفيع».58
الشر بمحضرفض أمر ال ّله بالسجود لإلنسان واختار المعصية والخطيئة وارتكب فعل ّ
إرادته .وم ّيز ناصر مكارم الشيرازي بين إبليس المخلوق المالئكي السوي والشيطان
الذي اختار أن يكون شيطانا باختيار المعص ّية والخروج من دائرة اإليمان وشروطه
التسليم ّية للخالق .59وقد ّ
حذر القرآن اإلنسان من اتباع الشيطان وخطواته ألنّه اختار
الشر من أجل االنتقام منه .وجاء
المعصية حقدا على اإلنسان وإصرارا على اقتياده إلى ّ
الشي َط ِ
ان إِ َّن ُه َلك ُْم عَدُ ٌّو ُمبِي ٌن] .60ولم تقتصر صناعة ِ
[وال َتتَّبِ ُعوا ُخ ُط َوات َّ ْ
في اآلية َ
رمز ّية الشيطان على الفقهاء والمتك ّلمين ،بل استقطبت أيضا رموز الفكر العقالني في
المراحل األولى لتأسيس الثقافة اإلسالم ّية .وهذا ابن المق ّفع يرسم صورة للشيطان من
زاوية أخرى ،فيقول« :حياة الشيطان ترك العلم ،وروحه وجسده الجهل ،ومعدنه في
أهل الحقد ،ومثواه في أهل الغضب ،وعيشه في المصارمة ،ورجاؤه في اإلصرار على
هذا ا ْل َح َج ِر َأ ْن َي ِص َير ُخ ْب ًزا»َ .ف َأ َجا َب ُه يس«:إِ ْن ُكن َْت ا ْب َن ال ّل ِهَ ،ف ُق ْل لِ َ ِ
«و َق َال َل ُه إِ ْبل ُ
جاء في سفر متّىَ : 57
ِ ِ ٍ ِ
انَ ،ب ْل بِك ُِّل كَل َمة م َن ال ّله»ُ .ث َّم َأ ْص َعدَ ُه اإلن َْس ُ ِ
ُوبَ :أ ْن َل ْي َس بِا ْل ُخ ْبز َو ْحدَ ُه َي ْح َيا ِ يس ِ ِ
وع قائالًَ «:م ْكت ٌ َُ ُ
يسَ «:ل َك ُأ ْعطِي ِ إِب ِليس إِ َلى جبل َعال و َأراه ج ِميع ممالِ ِك ا ْلمسكُون َِة فِي َلح َظ ٍة ِمن َّ ِ
الز َمانَ .و َق َال َل ُه إِ ْبل ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ََ ََ ْ ُ
َ ُ ِ َ ْ ِ َ ِ ُ ِ ِ ِ ُ َ ِ َ َ ِ
السلطان ُكل ُه َو َم ْجدَ ُه َّن ،أل َّن ُه إل َّي قدْ ُدف َعَ ،وأنَا أ ْعطيه ل َم ْن أريدُ .فإن َس َجدْ َت أ َمامي َيكُون ل َك َ َّ َ َ ْ َ
هذا ُّ
له َك ت َْس ُجدُ َوإِ َّيا ُه َو ْحدَ ُه َت ْع ُبدُ ». ِ
ُوب :ل َّلر ِّب إِ ِ ِ
ان إِ َّن ُه َم ْكت ٌ
ب َيا َش ْي َط ُ وع َو َق َال«:ا ْذ َه ْ يع»َ .ف َأ َجا َب ُه َي ُس ُا ْل َجم ُ
المنزل ،بيروت ،مؤسسة األعلمي للمطبوعات، ناصر مكارم الشيرازي ،األمثل في تفسير كتاب ال ّله ّ 58
ط1424 ،1.هـ2013/م ،ج ،21ص.391
المنزل ،ج ،21ص.398 ّ
ناصر مكارم الشيرازي ،األمثل في تفسير كتاب الله ّ 59
البقرة.2/208 : 60
185 باقعلاو باوثلا ةيلدج
الذنوب» .61ويضع ابن المقفع معادلة وجودية طرفاه ال ّله والشيطان ،فمن استقام علىّ
أمر ال ّله ح ّقق السعادة ،ومن اتبع الشيطان غرق في الشقاء والنغيص والخزي.
الخاتمة
والشر من أكثر المباحث التي شغلت بال ّ أن مبحث الخيرمما تقدّ م إلى ّ
نخلص ّ
تنوعت خلفيات جهود البحث مر تاريخه دون أن يفقد مركزيته مهما ّ اإلنسان على ّ
وظل سؤاال مفتوحا لم تث ّبت له جهة بحث ّية جوابا نهائ ّيا .ولعلوتطورت مناهجهّ . ّ
ارتباطه بأسئلة الوجود المتعدّ دة والمتجدّ دة في التاريخ وارتباطه بالجانب األخالقي
وخصص له هذه المجال من االهتمام .وقد سمحت هذه ّ هما من منحه هذه المكانة،
ومرت الورشة الممتدّ ة بخلق سيرورة فلسف ّية رأينا أنّها انفتحت بفكرة تنظيم الوجودّ ،
واستقرت القيم منظومة رمز ّية تواصل ّية ورؤية وجودية
ّ تحول الفكرة إلى قيمة،
بمرحلة ّ
التطهر ّية .وذهب ارنيست كاسيررّ من خالل مجموعة من النّصوص والطقوس الشعائر
في حديثه عن كيف ّية إدراة اإلنسان لعالمه إلى أنّه يسعى دوما إلى خلق رموز لغو ّية
ورموز دين ّية وصور أسطور ّية وفن ّية ،وبواسطة هذه الصور ،وعن طريق نسقها ،يستطيع
الحفاظ على حياته االجتماع ّية ،ويمتلك القدرة على التواصل مع الكائنات البشر ّية
األخرى وفهم ذاته.62
61عبد ال ّله بن المق ّفع ،األدب الصغير واألدب الكبير ،تحقيق :إنعام ّ
فوال ،بيروت ،دار الكتاب العربي،
ط1420 ،1.هـ1999/م ،ص.45
62إرنست كاسيرر ،مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان ،ص.83
رماعلا نيدلا حالص .د 186
المصادر والمراجع
-القدّ يس أوغسطين ،مدينه ال ّله ،ترجمة ،يوحنا الحلو ،دار المشرق ،بيروت ،ط،2.
مج ،2ص2007.
-فلسفة اإلرادة ،اإلنسان الخطاء ،ترجمة عدنان نجيـب الـدين ،الدار البيضاء،
المركـز الثقـافي العربـي ،ط2003 ،1.م.
-الطويل هويدا فؤاد ،مقتضيات العدل اإللهي (الثواب والعقاب بين الوجوب
والفضل لدى المعتزلة واألشاعرة) ،اإلسكندر ّية ،كلية الدراسات اإلسالم ّية،
1439هـ2018/م.
-السواح فراس ،الشيطان والرحمان ،الثنو ّية الكون ّية والهوت التاريخ في الديانات
المشرق ّية ،دمشق ،دار عالء الدين ،ط.2000 ،1.
المنزل ،بيروت ،مؤسسة
ّ -الشيرازي ناصر مكارم ،األمثل في تفسير كتاب ال ّله
األعلمي للمطبوعات ،ط1424 ،1.هـ2013/م ،ج.21
-الطباطبائي محمد حسين ،الميزان في تفسير القرآن ،بيروت ،مؤسسة األعلمي
للمطبوعات1418 ،هـ1998/م ،ج.18
-ابن عاشور محمد الطاهر ،أصول النظام االجتماعي في اإلسالم ،تونس ــ الدار
التونس ّية للنشر ،الجزائر ــ المؤسسة الوطن ّية للكتاب ،ط ،2.د.ت.
السوسيولوجي والميتافيزيقي«،
الشر في األديان بين ّ
-العامري صالح الدين» ،مقولة ّ
ضمن قضايا إسالم ّية معاصرة ،ع ،2020 ،74-73ص ص .112-87
النجار
-عبد الج ّبار القاضي ،المغني في أبواب التوحيد والعدل ،تحقيق محمد علي ّ
وعبد الحليم النجار ،القاهرة ،المؤسسة العا ّمة للتأليف والنشر1385،هـ1965/م،
ج.11
الشر في مصر القديمة ،ط ،2018 ،1.الهيئة العامة
-علي عبد الحليم علي ،مفهوم ّ
المصرية للكتاب ،القاهرة.
-الفغالي الخوري بولس ،المدخل إلى الكتاب المقدّ س ،بيروت ،منشورات
المكتبة البولس ّية ،ط1995 ،1.
وتنوعها،
-كاريذرس مايكل ،لماذا ينفرد اإلنسان بالثقافة ،الثقافات البشر ّية نشأتها ّ
ترجمة شوقي جالل ،الكويت ،سلسلة عالم المعرفة ،ع .1989 ،229
رماعلا نيدلا حالص .د 188
-القرآن الكريم.
-الكتاب المقدّ س.
-ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن عمر) ،تفسير القرآن العظيم ،بيروت ،دار الكتب
العلم ّية،د.ت،ج.2
-كاسيرر إرنست ،مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان ،ترجمة
إحسان عباس ،بيروت ،دار األندلس.1961 ،
-كوش دوني ،مفهوم الثقافة في العلوم االجتماع ّية ،ترجمة قاسم المقداد ،بيروت،
مكتبة ناشرون ،ط.2012 ،1.
-ابن المق ّفع عبد ال ّله ،األدب الصغير واألدب الكبير ،تحقيق إنعام ّ
فوال ،بيروت،
دار الكتاب العربي ،ط1420 ،1.هـ1999/م.
عساف ،األخالق المسيح ّية ،لبنان ،المطبعة المخلصية ،ط،1.
-ميخائيل المطران ّ
.1948
-ابن ميمون موسى ،داللة الحائرين ،ترجمة حسين آتاي ،مكتبة الثقافة الدين ّية،
د.ت.
-النبهاني تقي الدين ،النظام االجتماعي في اإلسالم ،بيروت.1952 ،
-نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسييط (أوغسطين ــ أنسيلم ــ توما
اإلكويني) ،ترجمة ووتعلق حسن حنفي،القاهرة ،مكتبة األنجلو المصرية ،ط،2.
.1978
-هويل ،بريان جينيل وباريس ويليامز ،المدخل إلى األنتروبولوجيا الثقاف ّية من
منظور مسيحي ،ترجمة إدوارد عبد المسيح ،القاهرة ،مكتبة دار الكلمة ،ط،1.
.2015
-اليسوعي األب فاضل سيداروس ،األنتروبولوجيا المسيح ّية ،اإلنسان بين ز ّلته
وخالصه ،بيروت ،دار المشرق ،ط.2015 ،1.
189 عجارملاو رداصملا
التطرف واإلرهاب
في ضوء نظرية التنافر المعرفي
1
زادان المرزوقي _______________________________________________
وخصوصا تطور علم النفس في دراسةً في ضوء تطور العلوم في العصر الحديث،
الدماغ وطريقة عمله بأساليب تجريبية ومختبرية ،ما جعل التعامل مع مشكالت
العقل والنفس أكثر يسرا وسهولة من ذي قبل .ارتضينا في هذا المقال أن نستغل
علم النفس الحديث في حل مشكالت التطرف الديني لدينا في الشرق األوسط،
ومعالجة ظواهر العنف والتشدد بالتحليل العلمي حتى نصل لنتائج إيجابية ملموسة.
إن اإلنسان في المحيط البيئي هو عبارة عن (فكرة ،مشاعر ،سلوك) .تحدث هذه
المكونات بالتسلسل بد ًءا بالفكرة ــ التي تمثل المعرفة ــ ثم يعقبها انفعاالت وفق ًا
لتلك األفكار/المعرفة التي يحملها الفرد ،فتنتهي بسلوك ناتج عن تفاعل الفكرة
والمشاعر في حياة اإلنسان اليومية .وكل ما نراه من سلوكيات اإلنسان في مجتمعه
وفي تفاعله مع الطبيعة تبدأ غالب ًا بـ «فكرة/معرفة/معتقد» ،وهي ما يحمله العقل من
معلومات ومواقف وذاكرة وتحيزات مسبقة تسيطر على كل مخرجاته في التعامل
مع الطبيعة والكون.
إن أغلب المدارس العالجية في علم النفس الحديث تدور حول التعامل مع
عقل اإلنسان وتغيير معرفته وتطوير تصوراته للوصول لعالج مشاكله النفسية ،ألن
كل هذه المدارس أدركت أن المؤثر الحقيقي في سيكولوجية اإلنسان ــ بالمقام
األول ــ يكمن في قدراته العقلية وتراكمه المعرفي وطريقة معالجته للبيانات
المدخلة المتمثل فيما يسمى بـ( )Encodingــ مع عدم إهمال المؤثرات األخرى
البيئية والبيولوجية والنمو العصبي للدماغ .)Passer 2018, p12-24( -هذه
المدخالت بدورها التي تحكم نوعية مخرجات اإلنسان السلوكية ،بعد معالجتها
من قبل العقل حسب قواعد ومنظومة التفكير الموجودة في الذهن مسب ًقا .بدأت
هذه المنهجية في علم النفس «التي تركز على النظام المعرفي لإلنسان» بعد ما
يسمى بالثورة المعرفية في مطلع الخمسينيات ()Cognitive revolution 1950s
بعد ما يسمى بالثورة المعرفية في مطلع الخمسينات بعد اكتشاف الحاسوب .فتم
تجاوز المناهج القديمة التي كانت مسيطرة ساب ًقا على علم النفس في فهم السلوك،
التي بدأت بالمنهجية الباطنية ( )Introspectionوهي تركز على الغوص في باطن
النفس لتحليل السلوك ،ثم المدرسة التحليلية مع فرويد ( )Psychoanalysisالتي
تركز على تحليل الدوافع المكبوته والعقل الالوعي المسيطر على سلوك الشخص،
والمدرسة السلوكية في أمريكا ( )Behaviorismالتي تركز فقط على طريقة تكيف
اإلنسان مع الطبيعة في دراسة سلوكه .وكانت تلك المدارس لها سلبيات كبيرة ألنها
لم تصل لحلول جذرية في مصدر سلوك اإلنسان الحقيقي ،حتى ظهرت الثورة
المعرفية التي بدورها حولت الرؤية المنهجية لعلم النفس إلى إستخدام التقنية
في فهم عقل اإلنسان واكتشاف عمليات الدماغ العصبية بالتقنيات الحديثة ،ودور
المعرفية الكبير في الجانب النفسي/العقلي لإلنسان.
بعد هذه الثورة المعرفية ،توصل علم النفس إلى واحد من أفضل مناهج البحث
السيكولوجية وهو علم النفس المعرفي ( )Cognitive Psychologyالذي يعتبر
األكثر تأثير ًا حال ًيا حول العالم مع إضافة تطويرات في مناهج المدارس النفسية
السابقة ( .)Kihlstrom, 2018وأشهر أساليب العالج النفسي حالي ًا ــ وأكثرها
نجاح ًا وفعالية ــ هو العالج السلوكي المعرفي ()Cognitive behavioral therapy
الذي يدمج بين محاولة تغيير معرفة اإلنسان وتطوير أفكاره مع تأهيل أطباعه
وسلوكياته ،بتوفير تكيف جديد يجعله يرتقي ويتخلص من كل معوقاته النفسية
والسلوكية التي تؤثر على نمو حياته الذي يجب أن يكون بالشكل الصحيح .هذه
كانت مقدمة حتى نستوعب أهمية التركيز على دور المعرفة واألفكار في الحياة
يقوزرملا ناداز 192
السلوكية لإلنسان ،وكيف أن علم النفس تطور حتى انتهى بالتركيز على المعرفة،
التي هي محرك اإلنسان الحقيقي .وبذلك نصل إلى المشكلة التي نحن في صدد
عرضها وهي مشكلة «التنافر المعرفي» ( )Cognitive dissonanceالتي هي غال ًبا
خلف السلوك المتطرف والقلق والتوتر الذي يعيشه الفرد في حال تنافر معرفته مع
واقعه ،وقد تحوله لمجرم أو إرهابي في محيطنا العربي/اإلسالمي الذي يغلب عليه
التدين والعقائد واألفكار الموروثة عن الماضي التي تخالف الواقع والزمن المعاش
لحامليها.
يعتقد الكثير من المسلمين حال ًيا في الشرق وحتى في الغرب بأن المذاهب
(الفقهية والعقدية) التراثية هي الحق الذي يجب اتباعه حسب تصورات السلف
دون تغيير أو تبديل .وفي المقابل يعيشون في واقع مختلف تما ًما عن الذي يحملونه
من معتقدات وأفكار ال تناسب محيطهم وال احتياجاتهم وال تتماشى مع أنظمة
دولهم التي يعيشون فيها .من هنا تبدأ المشكلة النفسية للفرد المسلم في صراع
مع الكون ومع الطبيعة ومع اآلخر في حالة من القلق الوجودي والتوتر الهو ّياتي
واالضطراب المعرفي بين الذهن الكالسيكي والواقع الحديث المعاش .في
هذا المقال نعرض النظرية النفسية حسب علم النفس الحديث الذي تطرق لهذه
المشكلة النفسية باألساليب التجريبية .وبعد ذلك نقوم بعرض التشخيص العلمي
لها والطرق المطروحة في عالجها وأساليب التعامل معها في الفضاء االجتماعي
والتربوي والثقافي .ونختم ذلك بعرض الحلول المقترحة لهذه المشكلة ،ومناقشة
الوضع الحالي من قبل المجتمع اإلسالمي والتيارات الدينية في تعاملهم مع هذه
المعضلة حتى نصل لمقاربات تق ّلص من تضخم هذا التنافر المعرفي بين (الذهن
والواقع) الذي قد يزداد مع سرعة تطور التكنلوجيا وانفتاح الثقافات على بعضها عبر
التقنية وبرامج التواصل واأللعاب األلكترونية؛ مما يجعل العقل المسلم التقليدي
يدخل في دوامة حرج أكبر يزيد من احتمالية تطرفه أو دخوله في أزمة من الصراع
النفسي مع الذات وتوتر وجودي بين الكون والمعتقد.
193 يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا
مخرجات النظرية:
تزعم نظرية التنافر المعرفي بأن اإلنسان عندما يعيش حالة من التناقض بين
معتقداته وسلوكه ،يبدأ في محاولة تخفيف هذا التناقض بطرق مختلفة منها:
195 يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا
1ــ تغيير المعتقدات/التصورات حتى توافق السلوك/الواقع ،أو العكس (وهذه أكثر
طريقة مستخدمة).
2ــ إيجاد مبرر منطقي (خارجي/داخلي) لتخفيف التناقض.
3ــ مهاجمة المعتقدات األخرى المخالفة والتقليل من صحتها ،أو تجاهلها واالبتعاد
عنها.
هذه الطرق هي الممارسة التي يفعلها اإلنسان تلقائيا في مقاومة ذلك االضطراب
الشعوري الذي يشعر به داخليا عند التناقض ،وليس بالضرورة أن هذه الطرق هي الحل
تخديرا مؤقتًا .هذه الدراسة تعتبر
ً الصحيح في إنهاء المشكلة .بل هي األقرب ألن تكون
وص ًفا لممارسة اإلنسان الطبيعية ــ التلقائية -في حال الشعور بالتنافر المعرفي .ولكن
العالج يكون بطرق أخرى أهمها تصحيح مفاهيم الفرد وتطوير تصوراته المعرفية نحو
األشياء واألحداث من حوله وطريقة تفاعله معها ،مثل طريقة العالج المعرفية للعالم
النفسي إليس المعتمد على العالج بالتفاعل العقالني والمشاعري (–Ellis’s rational
.)emotive therapyوهذا ماجعلنا نركز على هذه النظرية وطرق التعامل معها التي
تنطبق كثيرا على مانراه من تطرف وتشدد وإرهاب في مجتمعاتنا العربية واإلسالمية.
يقوزرملا ناداز 196
مثال عملي على التجربة والنظرية:
لو كان هناك شخص يعشق فتاة ،وهذه الفتاة التحبه وال تبادله ذات المشاعر .فهو
غالبا سيقوم ببعض السلوكيات التي تخفف من التناقض الداخلي الذي يشعر فيه،
بين كونه «شخصا مستحقا للحب والتقدير واإلحترام» وبين الواقع الذي يقول له
«إن معشوقته ال تبادله نفس ذلك الحب والتقدير الذي يستحقه» .يبدأ بممارسة بعض
السلوكيات التي تجعله يحقق التناغم بين ذاته والواقع .فإما أن يقوم هذا العاشق بتوهم
أن تلك الفتاة تعشقه ويصدق ذلك الوهم ويفسر أفعالها بما يتوافق مع الوهم الذي
اخترعه حتى تستقر نفسه .أو أن يحاول التخلص من مشاعره تجاهها ويخفف من
حبها في قلبه باالبتعاد أو االنعزال أو الهجرة وعدم التطرق لهذا الموضوع بتاتا .أو
مضطرا بتغيير هذا الواقع المضاد له وجعل تلك الفتاة تحبه باإلكراه أو بالقوة،
ً سيقوم
بممارسة أساليب وخداع وضغوطات لكي يجعل تلك الفتاة تحتاجه وتلجأ إليه حتى
فعل .كان هذا ً
مثال تقريب ًيا حتى تكتمل الصورة عن النظرية يصبح الواقع وكأنها تحبه ً
وتطبيقها العملي في الحياة اليومية.
المشاكل العقلية والنفسية للفرد المسلم المعاصر بطريقة علمية محايدة ،لكن يفاجؤنا
بعكس ذلك ،فهم بهذا التوجه المتفشي حاليا يساهم في تضخم المشكلة ،ألنه يقدم
نفسه باسم العلم وهذا تبرير قوي ألتباع تلك األصالة السلبية.
من عواقب هذا التوجه الخاطئ أن المنتج العلمي النفسي على هذا المنوال
سيكون عقيما جدا وغير ٍ
مجد وال يمس المشاكل النفسية ،ألنه سيكون منفصال تماما
عن التراكم المعرفي لعلم النفس في العالم ،وخصوصا التجارب المعملية للدماغ
واختبارات طريقة عمل العقل اإلنساني بمعزل عن االنتماءات الدينية واإليمانية.
سيطرة الالوعي الماضوي على العقل المسلم:
انطال ًقا من هذه التصورات الماضوية تتشكل معرفة الجيل وطريقة تفكيره
كإعدادات عقلية ( )Set upتكون هي جهاز اإلنتاج المعرفي لدى الفرد الذي يحملها.
ويتحدد بناء عليها رؤيته للكون وللطبيعة ولآلخر ،وينتج عنها السلوك المترتب على
كل هذه التصورات واإلعدادات العقلية التي هي المسؤولة عن معالجة البيانات
والمدخالت .وتقوم بتفسير األحداث والتجارب الحياتية وفقا للقواعد الكبرى التي
تأسس عليها العقل منذ الطفولة وخالل فترة التعليم االبتدائي والثانوي .وإضافة على
ذلك ،فإن البيئة المحيطة والتربية تؤكد وتعزز هذه الرؤية الماضوية/األصولية فتترسخ
هذه المبادىء بشكل جذري متأصل يصعب تفكيكه في وقت الحق أو بعد الرشد.
هذا التأسيس األصولي المبطن غالب ًا في الخطابات والحوارات واألدبيات هو
الحاضنة األولية لصناعة قابلية التطرف ،وهو البذرة التي تسقيها الحركات الدينية حتى
تنبت وتزدهر بشكل سريع بمجرد تفعيلها في العقل المسلم وخصوصا الشباب الناشئ
الغض المتحمس .الحركات الدينية المتطرفة دائما تنجح في التأثير أكثر من غيرها
من التيارات العقالنية ،وذلك بسبب وجود «بذرة األصالة الدينية» المزروعة في العقل
المسلم مسبقا ،والتي هي مناسبة فقط للتيارات اإلسالموية دون غيرها التي ال ترفع
شعارات األصالة .هذه الرؤية العقلية هي أول المحددات المعرفية الجوهرية التي
تساهم في تشكل التطرف .المحرك األساسي هو إعدادات العقل المسلم وغالبا تكون
متراكمة في الالواعي المؤثر بطريقة ال إدراكية في حياة المسلم وسلوكه .وحسب
يقوزرملا ناداز 198
علم النفس فإن أغلب سلوكيات اإلنسان ومواقفه من األشياء في حياته تحدث بتأثير
من العقل الالواعي الذي يحمل كل التراكمات المعرفية ويعمل تلقائيا في التحليل
واإلنتاج حسب الذاكرة السريعة ( )working memoryغير الدقيقة مع مشاركة العادة
والتكيف الطبعي الذي اعتاد عليه اإلنسان لمدة طويلة (.)Passer 2018, p196-207
الالوعي المقدس
من الناحية العملية ،إن في عالمنا اإلسالمي والعربي تحديدا تكمن مشكلة
التطرف والتزمت في كون األفكار والتصورات الحياتية هي غالبا ذات طابع ديني.
واألكثر إشكاال هو أن األفكار الدينية غالبا ماتكون مقدسة وصعب تغييرها أو نقدها أو
حتى التفكير في مناقشتها ،فتجد كثيرا من المسلمين البسطاء والعوام يرددون مقولة:
«انتبه على عقيدتك» .يقصدون بالعقيدة هنا كتلة من التأويالت الطائفية «حسب
بولي) ،أو
مذاهبهم» في فهم الدين سواء في أمور تفصيلية حياتية (الحجاب/الزواج ّ
أمور عقدية الهوتية (الصفات اإللهية/الحاكمية) .وهذا نابع من الخطاب الديني الذي
يؤسس اإليمان على الخوف ثم يستغل هذا الخوف في حشو العقول بكتلة كبيرة من
التفصيالت والتأويالت البشرية واالجتهادية الكالسيكية تحت مسمى «عقيدة» .تبدأ
رحلة المسلم منذ الطفولة في تناقض مستمر بين ما يحمله من معتقدات تراثية وما
يعيشه من واقع مغاير تماما عن كل مخرجات المذهب الذي ينتمي إليه.
اختبار» ،وإما أن يغير هذا الواقع «ومن هنا تبدأ حاالت التطرف» .فيقوم ،إذا سمحت له
الظروف ،بتغيير هذا المنكر الذي يراه في محيطه بمحاولة منع الموسيقى في األماكن
وتوترا
ً تناقضا وقل ًقا
العامة أو منع اآلخرين من االستماع إليها .ألنه ال يستطيع أن يعيش ً
حيال معتقده الذي ينافي طبيعته والواقع الذي يعيشه .وفي أفضل الحاالت يصمت ويتمنع
ويحاول االنعزال عن المجتمع ،ويتقوقع مع المجموعة التي تشبهه في معتقداته .وهذا
التقوقع خطر على المدى البعيد ،كما نراه لدى األقليات المسلمة التي تعيش في دول
الغرب؛ تكون غالبا منعزلة ومتقوقعة على نفسها دون االحتكاك باآلخرين والمختلفين،
واالبتعاد عن الواقع الذي يخالف معتقداتهم كل ًّيا .وخطورة هذا األمر تكمن في أن
التقوقع يزيد من احتمالية التطرف كما سنشرح ذلك الحقا.
من حوله تبدأ حالة التنافر المعرفي بسبب عقيدة الوالء والبراء في ذهنه ،والتي
تصادم واقعه الحتمي الذي يجبره على العيش مع المختلفين .يعيش حالة من التوتر
والتوهان عندما يتعامل مع اآلخرين المختلفين عنه ويبدأ في مودتهم بحكم العشرة
معهم والمصالح التي تربط بينهم ،لكنه يظل غير مستقر نفس ًّيا ،ألن السؤال المعضل
الزال يدور داخله :كيف تخالف عقيدتك وتوالي بالمحبة والود أفراد الديانات
األخرى! وبما أن العقيدة مبنية على الخوف من ال ّله المتجبر في األساس (الالهوتي
التقليدي) ،فهذا يزيد من حالة التوتر الداخلي ويضخم من المشكلة النفسية .تكون
النتيجة كما ذكرنا في جميع الحاالت السابقة؛ أن الفرد المسلم سيمارس أحد تلك
األساليب المتوقعة لتخفيف ذلك التناقض الداخلي والتنافر المعرفي الذي يعيشه.
ولكن ما يهمنا هنا هو أن السلوك المتوقع من المسلم داخل هذا النسيج المتعدد
من األديان والثقافات هو في الغالب سلوك مضطرب ،يميل إلى العدوانية والنفور
والكراهية وعدم االرتياح من اآلخر ،مما يجعل اآلخرين ينفرون منه.
ما يزيد من تأكيدات الذهن الخاطئة في تفسير أفعال اآلخرين حسب نظرية التنبؤ
ذاتي التحقق ( .)self-fulfilling prophecyهذه النظرية تقول باختصار إن الشخص
ّ
ً
تعامل سلب ًّيا ضده فسوف قد يجعل اآلخرين يعاملونه حسب ما يتوقع ،فإذا كان يتوقع
يتجاوب اآلخرون مع لغة جسده التي تحيلهم للتجاوب مع ما يشعرونه من توتر يظهر
متشخصا في لغة جسده ومفرداته المستخدمة في التواصل .وبالتالي يستقبل ما تنبأ
به ذهنه ،لذلك هو من يصنع ما يتوقعه من اآلخرين ويجلب لنفسه التعامل المتوقع
تجاهه بحسب أفكاره المتشخصة في لغة جسده« ،فهو سيرى ما سيتوقع أن يراه»
وبذلك هو بنفسه من حقق تنبؤه ( .)Passer 2018, p700وهذه الحالة من التوقع
السلبي ذاتي التح ّقق ستجعل المسلم يصدق أوهامه عندما يرى اآلخرين يعاملونه فعال
بطريقة سلبية ،ويصل لحالة يتأكد من أنه كائن منبوذ وتحاك ضده مؤامرة كونية من كل
الديانات .وفي حقيقة األمر أن اآلخرين عاملوه بحسب ما شعروا منه في تعامله معهم
وطريقته المتوترة وغير المستقرة والتي تشعرهم بالنفور وليس بالتقارب.
يقوزرملا ناداز 202
تبني أيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تجعل الفرد أكثر قابلية للتحيز والتعصب
ضد اآلخر.
وهذه المسببات أغلبها موجودة في المجتمعات المسلمة المتقوقعه على نفسها
والمنعزلة عن الواقع في الدول الغربية ــ وفي بعض الدول الشرقية ــ بسبب التنافر
المعرفي الذي سبق تحليله .ومما يصعب المهمة هو أن بعض الحلول المقترحة في علم
النفس لحل مشكلة التطرف والتحيز ضد اآلخر في العقل المسلم ،تحتاج لجرأة حتى
يتم حلها بشكل صحيح .وذلك ألن الذات المسلمة صلبة ،وهويتها متعلقة باألصالة
بشكل عميق جدا .وهذا ما سنختم به المقال بطرح رؤى علمية في حل المشكلة.
وأختم هذا المقال ببعض الحلول التي أرتضيها وأراها حلوال جوهرية تنتزع
التكفير من جذوره وتقلل من الطائفية المتفشية ،ألن التكفير هو وقود التطرف والدافع
األقوى للعنف .وقد وضعت هذه الحلول بما يخص هذا المبحث الذي كان يركز على
المعضالت النفسية/العقلية التي تصنع قابلية التطرف في اإلنسان .إن الخطوات التي
يجب فعلها لتقليص هذا التطرف والتعصب الديني هي:
-تغيير اسم كلية العقيدة وتحويله إلى مسمى مناسب لمجالها مثل (علم الكالم/
الالهوت اإلسالمي/الفلسفة اإلسالمية).
َ -سن قانون أخالقي تربوي يمنع من تربية األطفال بطريقة طائفية ونشر التوعية في
ما يخص عواقب أدلجة األطفال.
-سن قانون مدني بمنع أي منهج طائفي في المدارس االبتدائية والمتوسطة وتدريس
التصوف كمنهج سلوكي تربوي.
-حصر العقيدة اإلسالمية في اإليمان بال ّله ورسوله والمحكمات فقط ،وما عداه
يعتبر تأويال واجتهادا بشريا متغيرا.
هذه الحلول المقترحة تتميز بأنها ستقضي على فكرة التكفير التي غالبا ما تنبع عن
209 يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا
«علم العقيدة» .ففي حالة تحويل علم العقيدة إلى مكانه الصحيح وهو علم الكالم
(الالهوت اإلسالمي)؛ يتبخر التكفير وال توجد له أرضيه يقوم عليها .الحل اآلخر
الخاص بالتربية الالطائفية لألطفال تقضي على الخطأ السابق في تدجين األطفال
وتجهيزهم للحركات الدينية تتلقفهم كيفما شاءت .الطفل غير ملزم وال يحتاج في
حياته كل هذه التأويالت (الالهوتية/الفقهية) المتراكمة عبر القرون .ويمكن بسلوك
هذا السبيل أن نقضي على سالح الحركات الدينية المتطرفة األكبر وهو إعداد «الشباب
المؤدلج» المتحمس دائما .أما القانون المدني بمنع المناهج الطائفية في المدارس
وتعليم التصوف الروحاني اإليجابي ،فإنه يمكن أن يبني جيال متسامحا ومرنا وقابال
للتطور واإلقدام على الحياة والعلم بدون معوقات فكرية وال اضطرابات نفسية .وأما
الحل األخير المتمثل في حصر العقيدة بالتوحيد والمحكمات فقط فهذا ما أنادي
به دائما لصناعة مسلم مؤمن حر ،وصناعة عقلية مؤمنة غير متزمتة متمسكة بجوهر
إيماني غيبي يكون سندا وعونا لها في الحياة .يكون ذلك اإليمان الحر الذي يزيد
من قوة اإلنسان ويحفز وجدانه في كل مره يواجه فيها تحديات الحياة؛ ذلك اإليمان
الذي ال يعيق عقالنية الفرد المسلم في ممارسته لشؤون الحياة وخوضه حقول العلم
والتجارب.
يقوزرملا ناداز 210
المراجع
- Festinger, L. (1957). A theory of cognitive dissonance. Stanford, CA:
Stanford University Press.
- Kihlstrom, J., & Park, L. (2018). Cognitive Psychology: Overview.
Reference Module In Neuroscience And Biobehavioral Psychology.
https://doi.org/10.1016/b978-0-12-809324-5.21702-1
- Passer, M, Smith, R, Allen, F, Boag, S, Edwards, M, Garvey, D,
Kohler, M, Lewis, A, Norris, K, & Stough, C 2018, Psychology: The
Science of Mind and Behaviour, McGraw-Hill Education (Australia)
Pty Limited, Sydney. Available from: ProQuest Ebook Central. [15
October 2021].
- Vaughan 2017, Human Social Behaviour (Custom Edition EBook),
Pearson Education Australia, Melbourne. Available from: ProQuest
Ebook Central. [15 October 2021].
التنوير للطباعة والنشر، الدين والظمأ األنطولوجي،2018 ،عبد الجبار الرفاعي-
. الطبعة الثالثة،والتوزيع
التنوير للطباعة والنشر، الدين والكرامة اإلنسانية،2021 ،عبد الجبار الرفاعي-
. الطبعة األولى،والتوزيع
دار المصورات للنشر، مقدمة في علم الكالم الجديد،2021 ،عبد الجبار الرفاعي-
. الطبعة الثانية،والطباعة والتوزيع
دراسات
مشكلة الشر
والدليل على وجود اهلل
1 _______________________________________
مايكل بيترسون وزمالؤه
يصور إيلي ويزل (و )1928 .في روايته Nightمشهدا رهيبا ألفراد عائلته وهم
ُيساقون في عربات النقل مع أسرى يهود آخرين في أوشفيتز:
تلك األغراض العزيزة التي حملناها معنا حتى هذه المسافة خلفناها في القطار ،وخلفنا
معها في النهاية أوهامنا .كان رجال منظمة شوتزشتافل 2يتوزعون عند كل مسافة ياردتين
تقريبا مصوبين رشاشاتهم نحونا .تبعنا الحشد ونحن ممسكون بأيدي بعضنا البعض.
تقدم نحونا أحد ضباط الصف وبيده هراوة .ثم أصدر أمره إلينا:
«الرجال إلى اليسار! والنساء إلى اليمين!»
كلمات قيلت بمنتهى الهدوء والالمباالة والتجرد من المشاعر .بضعٍ بضع
كلمات قصيرة وبسيطة ...لم يكن لدي وقت للتفكير ،بل كنت قد شعرت بضغط
يد والدي :كنا وحدنا ....فيما أمسكت تزيبورا يد أمي .ورأيتهما وهما تختفيان
على بعد مسافة منا؛ كانت أمي تمسح بيدها على شعر أختي الجميل ،كما لو أنها
سرت أنا مع أبي والرجال اآلخرين .ولم أكن أعلم أنني
ُ بفعلها ذلك تحميها ،بينما
3
في ذلك المكان وفي تلك اللحظة ،قد افترقت عن أمي وتزيبورا إلى األبد.
1ترجمة فصل 9من كتابPeterson, Michael(et al).Reason and Religious Belief: An :
Introduction to the Philosophy of Religion. 5th ed. (NY: Oxford University
289ــ .Press, 2013). pp 264
ترجمة :زهراء طاهر.
2إحدى المنظمات التابعة للحزب النازي األلماني {المترجمة}.
3 Elie Wiesel, Night (New York: Bantam, 1960).
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 212
إن القصة التي يرويها ويزل عن األلم والمعاناة والموت في معسكرات الموت
النازية تجعل الخيال مشدوها.
غالبا ما ُيشار إلى الشر على أنه السبب الرئيسي للصعوبة التي يواجهها الناس في
التصديق بوجود إله قادر ومحب ،حتى أنه ُيعد السبب في أن يمر بعض المؤمنين
بأزمة إيمانية .يكتب إيوجين بورويتز عن الهولوكوست ( 1924ــ :)2000
إن أي إله قد يسمح بحدوث الهولوكوست ،وباستطاعته البقاء صامتا أثناء
حدوثه ،و«إخفاء وجهه» فيما كان ذلك يحدث ،فهو ليس جدير ًا باإليمان به .لعل
يمكننا استيعابه عن ال ّله محدو ٌد ،ولكن ما حدث في أوشفيتز يتطلب تعطي ً
ال بالغا
للفهم .لقد كان ال ّله الخ ّير والقادر أمام هذا الشر العظيم إلها غير مفهوم ،لذلك أعلن
الناس أن «ال ّله قد مات».4
سواء تمثل الشر في الرعب المهول الذي رافق الهولوكوست ،أو اإلرهاب
الذي دمر حياة الناس في تفجير برجي التجارة العالميين ،أو المجاعة الشديدة التي
تسود البلدان النامية ،أو المعاناة واليأس التي يقاسيها مرضى السرطان في مراحله
المتأخرة ،فإن وجود الشر أمر ال يمكن إنكاره .إن الشر يمسنا جميعا بطريقة أو
بأخرى .يعتقد بعض الناس أن ال أحد يمتلك الحق الفكري في اإليمان بال ّله إلى أن
يصبح في وسعه أن يوافق بين اعتقاده هذا ووجود الشر.
بالرغم من أن كل نظرة عالمية كبرى سواء كانت دينية أو دنيوية لديها تفسير ما
لظاهرة الشر ،فإن مسألة الشر في الفلسفة الغربية وعبر تاريخها تمحورت حول وجهة
النظر السائدة في اإليمان المسيحي .فادعائها بالخير األخالقي الكامل والمقاصد
مختلف تماما عما
ٌ اإللهية العليا تؤدي بالعديد من الناس إلى أن يتوقعوا أن العالم
هو عليه مع الشر الذي يحتويه .ليس مفاجئا إذن أن مسألة الشر حاضرة في قلب
نقاشات فلسفية والهوتية ال حصر لها حول وجود ال ّله .في الواقع يعتقد العديد من
المفكرين أن هذه المسألة فعال هي من أكثر االعتراضات العقالنية إفحاما لإليمان،
4 Eugene Borowitz, The Mask Jews Wear (New York: Simon and Scuster, 1973),
99.
213 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
وهو ما أسماه الالهوتي األلماني هانز كوهن (و« )1923 .صخرة اإللحاد» .5تماما
كما استعرضنا في الفصل الخامس أكبر الحجج على وجود ال ّله ،فهذا الفصل ينظر
إلى مسألة الشر على أنها تشكل قضية مهمة ضد وجود ال ّله.
ال تبدأ معظم النقاشات لهذه المسألة مع التعريف الدقيق للشر ولكن تفترض
بدال من ذلك أن هنالك فكرة أوسع وبديهية عن الشر مفهومة على نطاق واسع.
يفترض النقاش على هذا المنوال تجنّب االنحياز الذي قد يشكله وجود نظرية
مسبقة عن الشر .فحتى لو اختلف الناس في تعريف الشر فإنهم يتفقون بشكل كبير
على الحاالت التي تعد تعبير ًا عن الشر .قد يوجد اتفاق في االصطالح الفلسفي
على مجموعة من األمثلة ينطبق عليها اصطالح «الشر» ،ولكن قد يوجد اختالف
كبير على داللتها .ومجموعة الحاالت التي ينطبق عليها اصطالح «الشر» تشتمل
على أقل تقدير األلم الشديد ،ومعاناة األبرياء ،والتشوهات الجسدية واالضطرابات
النفسية ،وعيوب الخلقة ،والظلم ،والكوارث الطبيعية .يمكننا أن نسم بشكل شرعي
ظواهر كهذه على أنها «سلبية» أو «مدمرة» ،ألن توصيفات كهذه صغير ٌة والتفسد
دراسة أكثر للمسألة.
وقد يساعدنا أيضا تصنيف الشرور إلى فئتين عريضتين هما الشر األخالقي
والشر الطبيعي .تتضمن فئة الشر األخالقي األفعال المؤذية والخاطئة باإلضافة
إلى الخصال السيئة لإلنسان الحر :أفعال كالقتل والكذب والسرقة ،وصفات مثل
والجبن ،يعتبر األشخاص مسؤولين أخالقيا عن هذه األشياء كلها.
الخيانة والطمع ُ
أما فئة الشر الطبيعي فتشتمل على األلم والمعاناة الجسدية التي تنتج إما عن قوة
الشخصية أو أفعال إنسانية غير مقصودة .يتضمن ذلك األلم والموت الذي ينتج عن
أحداث مثل الطوفان والحرائق والمجاعات باإلضافة إلى المعاناة والخسران التي
تسببها أمراض مثل السرطان والكزاز واإليدز؛ والعيوب والتشوهات واإلعاقات
مثل العمى والصمم والجنون ينبغي أيضا ضمها إلى قائمة الشرور الطبيعية.
5 Hans Küng, On Being a Christisn, tr. E. Quinn (Garden City, NY: Doubleday,
1976), 432.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 214
مشكلة الشر المنطقية
إن العبارات المشابهة لما قاله ويزل وبورويتز مألوفة في النقاشات التقليدية
حول ال ّله والشر .ولكن توجد في أوساط الفالسفة التحليليين صياغات فنية متنوعة
لالعتراض على الشر ،ما يعني أن الحديث يكون أدق عن مشاكل الشر بدال من أن
يكون عن مشكلة منفردة .من الشائع اآلن التفريق بين صياغتين مختلفتين طورهما
الفالسفة المختصون :المشكلة المنطقية والمشكلة البرهانية .وتعريف «المشكلة»
لغرض نقاشنا الحالي هو أنها حجة تتمتع مقدماتها بالمصداقية و ُيعتبر استنتاجها
مقلقا بالنسبة للشخص الذي ينظر فيها.
كان تشكيل المسألة ولفترة كبيرة من القرن العشرين يتم من حيث ما بات يعرف
بالصيغة المنطقية لمشكلة الشر .تشير النقطة األساسية في هذه الحجة إلى وجود
ٍ
تناقض بين بعض االدعاءات الدينية عن ال ّله وبين فكرة الشر .يكتب جاي ماكي
( 1917ــ )1981في هذا الصدد قائال« :باإلمكان أن نثبت هنا ،ليس أن المعتقدات
الدينية تفتقر لما يعززها عقالنيا ،بل أن هذه المعتقدات غير عقالنية بالتأكيد ،وأن
الكثير مما يكون المعتقد الالهوتي األساسي ينطوي على التناقض6».إن الصعوبة
المفترضة واضحة :يؤكد التأليهي على ٍ
كل من:
إن ال ّله القادر والعليم بكل شيء والخ ّير تماما موجود
وأن
الشر موجود في العالم
يصر ماكي ونقاد آخرون على أن هاتين العبارتين متناقضتين منطقيا مع بعضهما
البعض ،وأنهما ال يمكن أن تكونا صادقتين في الوقت ذاته .إذا كانت هاتان العبارتان
متناقضتين بالفعل ،إذن ليس من العقالنية اإليمان بهما معا .إن وجهة النظر التي
تحتوي على التناقض مرفوضة ،وما نقصده بوجهة النظر هنا هو التأليهية .إذا كان
6 J.L. Mackie, «Evil and Omnipotence,» Mind 64 (1955), 200. [Also see this selec-
tion in Michael Peterson, William Hasker, Bruce Reichenbach, and David Bas-
inger, eds., Philosophy of Religion: Selected Readings, 4th ed. (New York: Oxford
]University Press, 2009) (hereinafter PRSR 4e), 4e, Part 7
215 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
7 Alvin Plantinga, The Native of Necissity (Oxford: Clarendon Press, 1974), 165.
8 Plantinga, Necessity, 166-167.
217 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
إن االدعاء هنا هو أنه من الممكن (أو ممكن أن يكون صادقا) أن يخلق ال ّله عالما
فيه مخلوقات حرة تختار أن تفعل الشر.
بمعنى آخر ،ففي أي عالم يخلقه ال ّله ،يسكنه أي نوع من المخلوقات الحرة ،لن يكون
لدى ال ّله القدرة على منع هذه المخلوقات الحرة بقدر كبير من أن ترتكب األخطاء.9
هذه العبارة الجديدة إلى جانب عبارة تؤكد على وجود ال ّله تدل على احتمال وجود
الشر ،نستطيع اآلن أن نرى كيف يمكن أن يجتمع وجود ال ّله مع وجود الشر .وبهذا فقد
ُدحضت تهمة النقاد بعدم إمكانية وجود ال ّله والشر معا.
يظهر جاي ماكي وأنتوني فلو ( 1923ــ )2010ونقاد آخرون اعتراضا كبيرا على
ذريعة بالنتينجا ،فهم يجادلون بأنه من الممكن منطقيا أن يوجد عالم يحتوي على
مخلوقات حرة بقدر كبير تفعل الصواب دائما وأن قدرة ال ّله الكلية هي القوة التي
تحدث أي مجموعة من األحوال الممكنة منطقيا ،ويستنتجون إمكانية أن يخلق ال ّله
عالما يحوي مخلوقات حرة تفعل الصواب دائما .من المؤكد أن ال وجود للتناقض في
توصيف حالة كهذه ،إن كان النقاد محقين في هذا الشأن إذن فالدفاع عن اإلرادة الحرة
مسألة خاطئة .وكما يطرح ماكي التساؤل التالي« ،لماذا َل ْم يخلق ال ّله البشر على شاكلة
تجعلهم يختارون دائم ًا وبحرية فعل الخير؟» 10في النهاية ال ّله قادر على كل شيء.
ر ُد بالنتينجا على اعتراض ماكي يتضمن استدالال معقدا حول منطق القدرة الكلية
والحرية يذكرنا ببعض النقاط في النقاش الموجود في الفصلين 7و .8إن استدالل
بالنتينجا حول مسائل كهذه ُيظهر بوضوح شديد قوة الدفاع عن اإلرادة الحرة .يقبل
العديد من المفكرين التأليهيين وغير التأليهيين التعريف القياسي للقدرة الكلية على
أنها القدرة على استحداث أي حالة ال يكون وصفها متناقضا ذاتياُ .يقصد بهذا التعريف
أنه ال توجد حدود غير منطقية لما يستطيع أن يفعله كائن كلي القدرة .ومن هنا فإن لدى
ال ّله قدرة على استحداث أي حالة ممكنة جوهريا .وبذلك تكون لديه القدرة أن يخلق
9إن حجة بالنتينجا المفصلة نفسها تخوض عميقا في مفاهيم مثل «هفوة اليبنتز» و«انحراف عبر
العوالم» .يمكن القراءة عنها بتفصيل أكثر في كتابه God, Freedom, and Evil (Grand Rapids,
MI: Eerdmans, 1977; 1974 rpt) or in very analytical detail in his Necessity, Part 9.
10 J. L. Mackie, «Evil and Ompnipotence,» 209.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 218
مثال دببة قطبية وقطعا من الورق مثلثة الشكل ألنها ممكنة جوهريا؛ ولكنه ال يستطيع أن
يوجد عزابا متزوجين ويجعل الدوائر مربعة ألن هذه األشياء غير ممكنة في جوهرها.11
عند هذه النقطة يقدم بالنتينجا فارقا في النقاش حول الحدود المنطقية المفروضة
على القدرة الكلية من خالل اإلشارة إلى أن هنالك حاالت تكون ممكنة في ذاتها (أي
جوهريا) ولكن من غير الممكن ل ّله أن يوجدها .وليؤسس لهذه النقطة فإنه يحاجج
على وجود فهم محدد لمنطق اإلرادة الحرة .إذا كان الشخص حرا فيما يتعلق بفعل
معين ،إذن فسواء قام به أو أحجم عنه فهي مسألة تعود له وليس ل ّله .بالرغم من أن
العالم الذي يقوم جميع األشخاص فيه بحرية بفعل الصواب عالم ممكن يقينا ،إال
أنها لم تكن حالة داخلة ضمن قدرة ال ّله حتى يخلقها ،سيتعين على جميع المخلوقات
الحرة في ذلك العالم أن تساهم في حدوث هذه الحالة من خالل االختيارات التي
تقوم بهاُ .يصر المدافع عن اإلدارة الحرة أن ال ّله ال يستطيع تحديد أفعال اإلنسان الحر.
ولكن ماكي وفلو يردان بالقول أن هذا اإلصرار قائم على وجهة نظرة التوافقية
incompatibilistللحرية (وهو الموقف الذي يرى أن اإلرادة الحرة والحتمية
متضادتان منطقيا) ،في حين أنهما يتبنيان وجهة نظر توافقية ( compatibilistالموقف
12
الذي يرى أن اإلرادة الحرة والحتمية سواء المادية أو التأليهية متوافقتان منطقيا).
يرى التوافقي عادة أن الشخص يكون حرا فيما لو أنه كان اختار فعل عكس ما قد فعله،
كان سيفعل العكس؛ ولكن التوافقي مع ذلك يرى أنه من المحتم على الشخص أن
يقوم باالختيار كما فعل على وجه الدقة .بالنسبة للتوافقي إذن فإن ال ّله يمكنه بالفعل أن
يخلق عالما يحتوي على الخير األخالقي ولكن ليس الشر األخالقي .في عال ٍم كهذا
كان بإمكان األشخاص االختيار ،لنقل أن يقوموا باألفعال الخيرة فقط ،بالرغم من أن
كل اختيارتهم حتمية.
ٍ
شكل من أشكال الحتمية .إذا يرد بالنتينجا بأن اإلرادة الحرة غير متوافقة مع أي
11من الناحية الفنية نقول ،حاالت تتألف من دبب قطبية بيضاء ،وحاالت تتألف من عازبين متزوجين،
وهكذا.
12 John Mackie, «Theism and Utopia,» Philosophy 38 (1962), 153 - 159; Antony Flew,
«Compatibilism, Free Will and God,» Philosophy 48 (1973), 231 - 244.
219 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
كانت الحرية الالتوافقية ــ التي يطلق عليها غالبا حرية اإلرادة المستقلة ــ libertarian
freedomهي الحالة ،إذن فإن هذا يعني بأن ال ّله لم يستطيع أن يخلق أي عالم بناء على
رغبته .يعلل بالنتينجا بأن ال ّله ظن أنه من الخير خلق عالم يحتوي على مخلوقات حرة
عرف بالنتينجا بدقة مفهوم
بقدر كبير ،مخلوقات تكون مثله محور النشاط الخلقيُ .ي ّ
الحرية الكبيرة التي لها وظيفة في الدفاع عن اإلرادة الحرة« :إن الشخص يكون حر ًا
بالنسبة للفعل «أ» في وقت «و» فقط إذا لم تحدد القوانين السببية والشروط المسبقة
ما إن كان عليه تنفيذ «أ» عند «و» أو أن يحجم عنه» 13.إن كان هذا التعريف للحرية
مقبوال تكون الغلبة إذن لجانب الدفاع عن اإلرادة الحرة .إن الحرية المهمة أخالقيا
ال تتوافق مع أي شكل من أشكال الحتمية .وهكذا في حين أنه من الممكن أن يوجد
عالم كهذا فهو
عالم يحوي فقط على الخير األخالقي دون الشر األخالقي ،إن وجد ٌ
أمر عائد بالفعل إلى المخلوقات الحرة التي تسكنه وليس إلى ال ّله.
هذا الجدل بين التوافقية والالتوافقية هو تبادل آراء بين الطرفين داخل اإلطار الكلي
لمشكلة الشر المنطقية .ركزت النقاشات األخرى مث ً
ال على العبارة الدقيقة حول الشر
والتي يتم اختيارها لتعبر عن حجة عدم االتساق .وكما رأينا فإن أكثر أشكال الحجة
شيوعا يشتمل على االدعاء بأن الشر موجود بذاته .ولكن بعض النقاد أقروا أن ما يمثل
انعدام التوافق مع التأليهية ليس الوجود المحض للشر ولكنه مقدار الشر في العالم.
يحاجج هؤالء النقاد بقولهم أنه كان بإمكان ال ّله أن يخلق عالما فيه شر أقل مما هو
موجود في العالم الحقيقي .يرد بالنتينجا بأن الدفاع عن اإلرادة الحرة ال يزال ممكن
التطبيق ويظهر أنه من الممكن أن ال يكون داخال في قدرة ال ّله أن يخلق عالما يحوي
شرا أخالقيا أقل من العالم الحالي.
بعض النقاد اآلخرين الذين يسلمون بأن وجود ال ّله وحتى قدرا كبيرا من الشر
األخالقي متوافقان في عالم توجد فيه حرية اإلرادة المستقلة ،يؤكدون بأن الشر
الطبيعي متضاد مع وجود ال ّله .بالرغم من أنه على ال ّله أن يحترم اإلرادة الحرة كما
يجادلون ،فهو ليس بحاجة ألن يسمح للقوى الطبيعية العمياء أن تؤذي الناس .يرد
14 Plantinga, God, Freedom, and Evil, 55 - 59. (see a selection from this book in PRSR,
Part 7).
15 Madden and Hare, Evil and the Concept of God (Springfield, IL: Charles C. Thom-
as, 1968); Michael Martin, Atheism: A Philosophical Justification (Philadelphia:
Temple University Press, 1990), Chapter 14; William Rowe, Philosophy of Religion:
An Introduction (Belmont, CA: Dickenson, 1978), 86 - 89; Wesely Salmon, «Re-
ligion and Science: A New Look at Hume’s Dialogues,» Philosophical Studies, 33
(1978), 143 – 176.
221 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
16ولمزيد من الدعم لحجته اإلحصائية أو التكرارية ،يدعي سالمون أن جملة مثل «إن ال ّله القادر
ٍ
«ضئيلة جد ًا» (القيمة أقل بكثير من )0.5بالنسبة والعليم والخ ّير موجود» ذات احتمالية عددية
لبعض الجمل مثل «الشر موجود ».وعلى العكس فإنه يسعى إلى إظهار أنه وبالنظر إلى وجود الشر،
فإن احتمالية جملة «إن ال ّله القادر والعليم والخير غير موجود» تكون مرتفعة (مؤكدٌ أنها أعلى من
.)0.5أنظر:
Salmon, «A New Look,» 143 - 176.
17 Alvin, Plantinga, «The Probilistic Argument from Evil,» Philsophical Studies, 35
(1979), 1 - 53.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 222
بالكامل لمعالجة المسائل الميتافيزيقية 18.بالرغم من أن العديد من المفكرين قد اتفقوا
على وجود خلل فيما طرحه سالمون ،بقي معظم النقاد الالتأليهيين مقتنعين بأن عبارة
حاسمة للمشكلة البرهانية للشر كانت في متناولهم .من المؤكد أن حجة استقرائية عامة
(غير برهانية) يمكن أن تُصاغ إلثبات أنه من العقالنية أكثر اإليمان بعدم وجود ال ّله
بالنظر إلى وجود الشر كدليل على ذلك .والبرهان األقوى لن يكون الوجود المحض
للشر ،ألن بعض الشر يبدو خاضع ًا للتفسير التأليهي المعقول .بل إن البرهان الظاهري
يصبح عبارة عن شواهد للشر ال يبدو أن لها ما يفسرها تفسيرا كافيا .يوجد بالطبع
افتراض قاعدي background assumptionمؤثر هنا يحمل معنى أن التفسير اإللهي
المقبول هو الذي يؤول الشرور قيد النظر على أن وجودها ضروري في سبيل بلوغ خير
أعظم .إن لم يكن باإلمكان تحديد هذا الخير ،إذن من المؤكد أن االعتقاد بأن الشرور
المقصودة ال جدوى منها أو أنها بال مقابل اعتقاد معقول .لدينا الكثير لنقوله عن هذا
الموضوع الحقا.
في هذه الصياغة للحجة البرهانية تُعا َمل التأليهية على أنها فرضية ميتافيزيقية شاملة
أو نظرية تفسيرية تتضمن نتائج محددة لما يجب أن يكون عليه العالم .إن كانت التأليهية
18تشير كارترايت إلى أن الحجة االحتمالية من جانب الشر تواجه مباشرة صعوبة في تخصيص صنف
المرجعية المناسب .من الواضح أن ال أحد مطلع بصورة مباشرة على جميع أصناف األكوان حتى
نتوصل إلى قياس إحصائي لعدد األكوان التي تحتوي على الشر بالنسبة إلى األكوان التي خلقها
اإلله .وبذلك لجأ سالمون إلى مقارنة الكون بكيانات أخرى باإلمكان مالحظة أصولها .ولكن
كارترايت تزعم أن هذه الحركة فيها مصادرة على المطلوب مقدم ًا وذلك عندما يقرر أن يضم
الكيانات إلى صف المرجعية وهي كيانات تُستحضر باإلنتاج اآللي .إضافة إلى ذلك ،تحاجج
كارترايت بأن أساليب التكراريين غير مناسبة تمام ًا لمعالجة المسائل الميتافيزيقية ،مثل مسألة وجود
ال ّله .لو أن أي نو ٍع من األساليب االستقرائية هو المناسب فهي ترى أنه سيكون في توظيف المناهج
ال أن نتخيل حالة تجريبية حيث تكون مجموعة من األجزاء العشوائية مرمية التجريبية .فهي تقترح مث ً
داخل صندوق ويتم هز الصندوق حتى تخرج منه هذه األجزاء على شكل مجموعة من التروس
تتناغم في النهاية لغرض غاية معينة .من المؤكد أن احتمالية خروج المجموعة العشوائية األولية
في تشكيل عالي التنظيم هو أقرب ما يكون للصفر ،وهو استنتاج معاكس تمام ًا لالستنتاج الذي
ينتج عن منهج سالمون .سيكون من المثير لالهتمام النظر في ادعاء ريتشارد سوينبورن أن اسلوب
التكراريين مناسب لمسائل مثل وجود ال ّله .انظر Swinburne, The Existence of God (Oxford:
21.ــ Clarendon Press, 1979), 5
223 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
صادقة نتوقع إذن أن يتحول العالم بطريقة معينة .بالطبع إن الفرضيات العالمية المعقدة
قليال ما تتضمن نتائج محددة إال إذا كانت مبدوءة بافترضات إضافية .في حالتنا هذه ،فإن
الفرضية التأليهية (أي أن شكال من أشكال األلوهية موجود) ينبغي أن تُدعم بافترضات
أخرى .واحدة من هذه االفتراضات التي يقبلها عادة ٌ
كل من التأليهيين وغير التأليهيين هي
أن ال ّله يمنع وجود أو يزيل من الوجود أي نوع من الشرور التي ال معنى لها وال جدوى.
يشير ويليام روي إلى أن هذا االدعاء «يبدو معبرا عن المعتقد الذي يتوافق مع مبادئنا
األخالقية األساسية ،مبادئ يتشاركها التأليهيون مع الالتأليهيين 19».يكتب تيرنيس بينيلوم
أمر يتسم بالتناقض المنطقي 20».على هذا شر ال معنى له ٌقائال« :إن إقرار التأليهي بوجود ٍ
األساس يستدل النقاد بأنه لو أن ال ّله موجود فعلينا أن أال نتوقع وجود شر ال جدوى منه أو
عديم المعنى في الكون .إال أن الشر العديم المعنى أو الجدوى موجود بالفعل؛ واألسس
التي تدعو إلى االعتقاد بذلك قوية جدا .يستنتج النقاد إذن بأن التأليهية ال تفسر بشكل
ٍ
أمر غير مرجح.كاف ماهية األشياء ،وأن وجود ال ّله ٌ
إن الجهود التي بذلها ويليام روي في صياغة حجة برهانية فعالة ــ و تحسينها من
خالل مراجعات عدة ــ جديرة بالنقاش .لننظر إلى الحجة األصلية التي أثارها عام
أمر يتخطى نطاق هذا الكتاب:
1979على الرغم من أن المناقشة الفنية لمراجعاته ٌ
توجد لحظات معاناة شديدة كان يمكن لكائن كلي القدرة وعالم بكل شيء أن
يمنعها من دون أن يترتب على ذلك خسارة خير أعظم أو إتاحة الفرصة لحدوث شر
يوازيه في السوء أو يكون أسوء منه.
(مقدمة وقائعية)
إن كائنا قادرا على كل شيء ،خ ّيرا بالكامل سيمنع حدوث أي معاناة شديدة يمكنه
منعها ،إال إذا لم يكن قادر ًا على فعل ذلك بدون أن يؤدي ذلك إلى خسارة خير أعظم
أو أن ذلك يتيح الفرصة أمام شر ٍ
مواز أو أكثر سوء منه.
21 William Rowe, «The Problem of Evil and some Varieties of Atheism,» American
Philosophical Quarterly 16 (1979), 336.
22 Keith Yandell, Basic Issues in the Philosophy of Religion (boston: Allyn and bacon,
1971), 62 - 63.
23 William Rowe, Philosophy of Religion, 88.
225 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
قديما كانت تدعى نظرية كهذه بنظرية العدل اإللهي theodicyوتعني بالضبط تبرير
طرق ال ّله في التصرف في العالم .سنقوم بتصنيف وإحصاء أمثلة مهمة للعدل اإللهي في
ٍ
حدث عادة ما يرد النقاد على العدل اإللهي من خالل قسم آخر من هذا الفصل .في أي
االستشهاد بحاالت عصية في الشر تؤدي وظيفة المثال المضاد لالدعاء بأن الشرور
ضرورية للخير .يؤكد روي« :توجد شواهد على المعاناة الشديدة كان بوسع كائن قادر
على كل شيء وعالم بكل شيء أن يمنعها من دون خسارة خير أعظم أو إتاحة الفرصة
أمام شر ٍ
مواز أو ٍ
شر أسوء» 24.باالنطالق من مثال الظبية ،يقول روي« :ال يبدو أن وقف
معاناة ظبية يؤدي إلى خسران خير أعظم أو إلى حدوث شر يوازيه أو أسوء منه» 25.من
الواضح إذن أن الحالة المأساوية للظبية ال معنى لها؛ من غير المعقول االعتقاد بأن هذه
ُ
والمثل يقال عن حالة الفتاة الصغيرة. الحالة تخدم أي غاية مستحسنة.
27 Stephen Wykstra, «The Human Obstacle to Evidential Arguments from Suffering:
On Avoiding the Evils of ‘Appearance,’ International Journal for Philosophy of Re-
ligion 16 (1984), 85.
28 Rowe, «Evil and the Theistic Hypothesis: A Response to Wykstra,» International
Journal for the Philosophy of Religion 16 (1984), 95 - 100.
227 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
هنالك نقطة أخرى أثارها روي في معرض رده على الدفاع اإللهي الشكوكي
تُعرف بمماثلة األهل الصالحين .في المماثلة يقول روي إنه حتى لو سلمنا بأن هنالك
فجوة كبيرة بين فهم ال ّله الالمتناهي وفهم البشر المتناهي ،فإن ال ّله متعالي في خيره
وحبه وقدرته .وعلى نحو مشابه فإن األهل الصالحين يفهمون أكثر من طفلهم بعض
أشكال من المعاناة التي يسمحون لطفلهم أن يختبرها ،ولكن هؤالء األهل سيجدون
طرقا ليريحوا ويطمئنوا الطفل بوجودهم المستمر خالل حدوث هذه المعاناة 29.ثم
يحاجج روي بأن ال ّله على العكس يبدو بعيدا وصامتا وحتى غائبا .بالنسبة لروي إن
مجرد احتمال وجود شر ال مقابل له واقتران ذلك باختفاء األلوهية البد وأن ُيرجح كفة
الميزان لصالح اإللحاد .إن موضوع الغموض الديني في الحياة واإلحساس بالخفاء
اإللهي هي حقائق مظلمة في الوجود البشري ذكرنا في الفصل األول أنها بحاجة إلى
30
الدراسة المتأنية؛ ولكن دراسة كهذه تقع خارج نطاق هذا الكتاب.
إن النقاش حول المقدمة الوقائعية المهمة والطرق المتعددة في رفضها قد يبدو
ٍ
شيء أشبه باألزمة للكثيرين غير حاسم بصورة نهائية أو أنه يؤدي بأطراف الجدل إلى
العقلية .ولكن هذه األزمة ــ إن كانت هذه هي النتيجة الصافية ــ تصب في صالح
الالتأليهيين .في النهاية فإن اإللهي هو الذي يتقدم بادعاءات معينة حول وجود ال ّله
وطبيعته ،ثم يواجه صعوبات كبيرة في إثبات كيفية تفسير هذه االدعاءات لبعض
الشرور الكبيرة .إن لدى الالتأليهي بذلك مسو ًغا في الحث على أن المشكلة البرهانية
للشر تقلص بشكل كبير صدق الموقف التأليهي .بالطبع إن أي تقييم عقالني إجمالي
للتأليهية البد أن يأخذ بالحسبان االنتقادات األخرى باإلضافة إلى ما يقدم دعما إيجابيا
كالحجج التأليهية الكالسيكية .ولكن وألن معظم الالتأليهيين يعتقدون أن مشكلة
الشر مؤثرة وأن الحجج الكالسيكية فقيرة أو على األقل غير مقنعة فإنهم يدعون أن
مبرر.
رفضهم للتأليهية َّ
31 See Michael Peterson, Evil and the Christian God (Grand rapids, MI: Baker, 1982),
Chapter 4. See also William Hasker, «The Necessity of Gratuitous Evil,» Faith and
Philosophy 9:1 (Jan. 1992), 23 - 44.
هذه المقالة نتيجة لورقة بحثية ُقرأت أص ً
ال في لقاء للرابطة األمريكية للفلسفة ،سينسناتي ،أوهيو،
نيسان .1988
229 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
أن فكرة الكون اإللهي ككل حيث توجد مشروطية أصيلة ــ أو انفتاح على نتائج بديلة ــ
قد نوقشت في الفصل الثامن بإمكاننا هنا أن نتوسع في بعض هذه االعتبارات لنعرض
طريقة تأييد الشر الذي ال مقابل له .نقطة البدء هي في اإلقرار بالمفهوم الكامل لما تعنيه
اإلرادة الحرة .إذا كان نطاق االختيارات الحرة المتوفرة أمام المخلوقات كبيرا بالفعل
وليس ضئيال ،إذن ينبغي على المخلوقات أن تكون قادرة على بلوغ أعلى مراتب الخير
باإلضافة إلى أسوء أنواع الشرور .إن تقييد ال ّله للشرور الكبيرة يعني أيضا وضع حد
للخير األعظم .إذن فالحرية الكبيرة تتضمن كذلك القدرة على استحضار الشرور
عديمة المعنى ،وهي مخاطرة تقع في جوهر المخطط الذي وضعه ال ّله للبشر.
حتى نكون أكثر دقة ،فالحجة هنا ال تتمحور حول ضرورة واقعية العديد من الشرور
بالنسبة للخير األعظم؛ كان من الممكن افتراضيا أن يوجد قدر كبير من الخير من دون
أن تكون هذه الشرور موجودة واقعا .بل تتمحور الحجة حول إمكانية وجود العديد
من الشرور ومن ضمنها الشرور التي ال يمكن أن تكون مرتبطة بالخير األعظم ،تكون
بالفعل ضرورية للحفاظ على قدر كبير من اإلرادة الحرة .إذن فتصور العديد من
الشرور الموجود في الكون اإللهي على هذه الشاكلة يعني المعقوليتها باألساس .وفقا
لهذا المسار في االستدالل المنطقي ،فإن االفتراض الذي يتشاركه الكثير من التأليهيين
وكذلك منتقديهم من الالتأليهيين ــ أي أن ال ّله لن يسمح بوجود شر ال معنى له ــ يمكن
أن ُيقابل بالرفض .أطلق البعض على هذا االفتراض اسم مبدأ العناية اإللهية الدقيقة.32
ولكن عندما ُيرفض المبدأ فإن المقدمة الالهوتية بتفسيرها الكالسيكي ينبغي أن تُرفض
أيضا .نتيجة لذلك فإن الشرور التي تبدو عديمة الجدوى أو المعنى ال تُعتبر برهانا
ضد التأليهية .وهكذا فإن الموقف التأليهي الذي يقر بإمكانية وجود الشرور عديمة
الجدوى ليس بحاجة إلى الخضوع للحجة البرهانية.
32 See Michael Peterson, evil and the Christian God (Grand Rapids, MI: Baker, 1982),
in which the Principle of Meticulous Providence is discussed at length. Also see
William Hasker, «The Necissity of Gratuitous Evil,» Faith and Philosophy 9 (Janu-
ary 1992), 23 - 44; and «can God Permit ‘Just Enough’ Evil?» In Hasker, Providence,
Evil and the Openness of God (London and New York: Routledge, 2004).
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 230
الدفاع والعدالة اإللهية
اطلعنا على الكثير من النقاشات حول مشكالت الشر المنطقية والبرهانية .فقد رأينا
كيف أن الشر يميل إلى أن يكون مدمجا مع أنواع متباينة من الحجج على عدم وجود
ال ّله في التأليهية .وقد وضحنا الفارق بين نوعين من الردود ،الدفاع والعدالة اإللهية.
يهدف الدفاع إلى ترسيخ فشل صياغة معينة للحجة من الشر ،في البداية كانت الصياغة
المنطقية والحقا البرهانية .أما العدالة اإللهية على العكس من ذلك تقدم تعليال أو
تفسيرا لسبب سماح ال ّله بوجود المعاناة والشر .من السهل رسم مخطط هذا التاريخ.
بالنتينجا كما نعرف صمم ما يعرف بدفاع اإلرادة الحرة ليثبت أن الحجة المنطقية ال
تثبت عدم االتساق في التأليهية .بما أن نجاح جهوده الدفاعية ضد الحجة المنطقية
أصبحت تحظى بالقبول بشكل متزايد بدأ النقاد اإللهيون في البحث إذا ما كانت
بعض الحجج البرهانية ما تزال صالحة .إن تطوير الحجج البرهانية المهمة على يد
الالتأليهيين حفز ردودا إلهية متنوعة ،ولكن أصحاب الردود التأليهيين يختلفون حول
مسالة أي من االستراتيجيتين هي األفضل ،الدفاع أو العدالة اإللهية.
كما أن النقاد الالتأليهيين اقترحوا أشكاال مختلفة من الحجج البرهانية من الشر،
فإن بعض التأليهيين أتبعوا ذلك بردود دفاعية ضد هذه الصيغ المختلفة .في الرد على
الصيغة االحتمالية لدى سالمون ،مثال يجادل بالنتينجا بأن التأليهية ليست احتماال
مستبعدا .وفي الرد على صيغة روي البرهانية التي نوقشت على نطاق واسع ،يرى
التأليهيون الشكوكيون أن ليس باإلمكان معرفة صدق المقدمة الوقائعية المفتاحية
أو حتى احتمالية صدقها .يمكننا أن نرى أن االستراتيجية الدفاعية للحجة البرهانية
تحاول إثبات أن حجج ًا كهذه ال تنجح في ترسيخ فكرة أن التأليهية مستبعدة أو غير
مرجحة أو غير معقولة .إال أن هذه االستراتيجيات ال ترتقي إلى المهمة األكثر إيجابية
في تقديم أسباب معقولة لالعتقاد بأن لدى التأليهية مرجعيات تجعل المعاناة والشر
أمورا مفهومة.
في الواقع أن االهتمام الشديد بالدفاع الذي يظهره بعض التأليهيين ينسجم تمام ًا
المقومة التي ناقشناها في الفصل السادس .فقد رأينا أن
َّ مع توجه اإلبيستملوجيا
المقومة توازن بين االنتقادات الالذعة ضد البرهانية واالفترضات
َّ اإلبيستملوجيا
231 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
المقومة أن الدفاع ضد مسألة َّ 33يمكن أن نرى مسبق ًا لم قد يعتقد التأليهي الذي يقبل االبيستملوجيا
شيء مطلوب عقالني ًا .يتقدم الناقد بحجة من الشر ضد االعتقاد بال ّله والتأليهي يدافع ٍ الشر هو كل
ضدها .ولكن ليس على التأليهي أن يشعر أن عليه أن يقدم حجة العتقاده بال ّله .بل يمكنه ببساطة أن
يعتبر االعتقاد بال ّله أساسي ًا.
ً ً ّ ٍ
34يلمح بالنتينجا بالفعل إلى شيء يشابه هذه النقطة« :لعل لدى الله سببا جيدا [للشر] ،ولكن
السبب معقد جد ًا بالنسبة ألفهامنا».Plantinga, God, 10 .
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 232
من خالل وجود العديد من نظريات العدالة التأليهية الكالسيكية ويوازيها العديد من
االنتقادات لها .من أوغسطين ( 354ــ )430إلى اليبنتز ( 1646ــ )1716إلى ريتشارد
سونبورن (و )1934 .وصلتنا نظريات في العدالة اإللهية تتصف بغناها وتعقيدها .وعلى
الجانب اآلخر ،نجد انتقادات حادة من قبل فولتير ( 1694ــ ،)1778وهيوم ( 1711ــ
)1776وشخصية إيفان من رواية دستويفسكي ( 1821ــ )1881الذي أصبح أحد اآلراء
الكالسيكية .وأبرز نظريتين حديثتين للعدالة اإللهية تعودان لجون هيك ( 1922ــ )2012
وسوينبورن ،وكالهما يفصح عن رؤية تأليهية للكون تتضمن احتماالت الشر واأللم فيه،
كما يفضي إلى خلق أشخاص ناضجين أخالقيا وروحيا .هذا النوع من وجهات النظر
35
تعرض للنقد الشديد من قبل الفالسفة الالتأليهيين أمثال بول درابر (و.)1957 .
بالطبع إن التأليهيين الذي يرون االدعاء بأن «ال ّله موجود» على أنه مرتبط بقوة
بشبكة كاملة من االدعاءات الالهوتية التي تعكس فهم ًا رفيع ًا للغايات اإللهية يكونون
أكثر ميال لالعتقاد بصالحية مبدأ العدالة اإللهية .بالنظر إلى أن عبارة «ال ّله موجود»
قد استُثمرت مسبقا مع هذه األشكال المحدودة من الفهم للطبيعة اإللهية وصفاتها
وغاياتها ،فهي تنطوي ضمنا ومسبقا على بعض االتجاهات التي تتخذها العدالة
اإللهية .في النهاية فإن النقطة التي يسجلها روي ضد ويكسترا هي أن ويكسترا ينقل
بدون قصد بعض االلتزامات الالهوتية اإلضافية إلى فهمه لالدعاء التأليهي المحوري
الذي من أجله صاغ دفاعه .ببساطة نذكر أنفسنا بأن فكرة روي تؤكد على حقيقة أن
التأليهية القياسية المقيدة ال تمتاز بوجود تصورات غنية ومفيدة حقا لينشأ عنها الكثير
من نظريات العدالة اإللهية .في النهاية ليست التأليهية ديانة حية بل هي مكون اعتقادي
مهم في النسق اإليماني األكبر لدى بعض األديان الحية .من المنطقي االعتقاد إذن
أن بإمكان صيغة من التأليهية المقيدة أو الصغرى أن تؤدي في أفضل األحوال إلى
بزوغ نظرية عدالة صغرى .وبالمثل من المعقول االعتقاد أن العدالة اإللهية إن كانت
ستحظى بفرصة لتدافع عن نفسها ،وإن كانت ستحظى باألهمية وتصبح مؤثرة فينبغي
35 Paul Draper, «Pain and Pleasure: An Evidential Problem for Theists,» in Dan How-
ard - Snyder, ed. The Evidential Argument from Evil (Bloomington, In: Indiana
Universirt Press, 1996), 12 - 29.
233 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
لها أن تجلب معها كامل مصادر موروثها الديني (عقائده األساسية ،نصوصه ،بصائر
وتجارب المجتمع اإليماني خاصته ،إلخ .)..سواء كان المؤمن المفكر منشغال بنظرية
العدالة اإللهية للرد على أحد النقاد أو فقط ليتفكر أكثر في معتقداته الدينية ،يبدو هذا
تقييما كامال للمصادر المتنوعة التي يمكن استخراج أفكار العدالة اإللهية منها .بل إن
المجال مفتوح أمام وجود اختالف مهم في التأكيد فيما بين مأثورات دينية بعينها ،سواء
كانت المسيحية أو اليهودية أو اإلسالم.
فإن مشروع العدالة اإللهية أمر ٌ
سهل نسبياّ ، بالرغم من أن توصيف مشروع الدفاع ٌ
أصعب بعض الشيء .المسائل التي تخص طبيعة العدالة اإللهية ونطاقها وأسسها،
جميعها مسائل في نطاق ما وراء العدالة اإللهية .metatheodicyيختلف التأليهيون
فيما بينهم على بعض المسائل الدقيقة ،ولدى الالتأليهيين توقعاتهم الخاصة بالنسبة
للعبء الذي ينبغي للعدالة اإللهية أن تحمله .هل العدالة اإللهية معنية باقتراح مجرد
أسباب ممكنة فقط لسماح ال ّله بوجود الشر أم أنها ملزمة بتقديم تفسيرات معقولة
للشر؟ هل يقع على التأليهي عبء تقديم األسباب لسماح ال ّله بوجود الشر أو ببساطة
عليه استنتاج تضمينات من أحد المنظورات الدينية المحددة؟ هل ينبغي للتأليهية أن
تصور تفسيرا تأليهي ًا عاما ــ لنَ ُقل لجميع طبقات الشر ــ أم ينبغي لها أن تتطرق للحاالت
الفردية؟ ما الدور الذي تلعبه النظرية األخالقية ــ أو حتى إحساسنا العام بالحياة ــ في
مناقشة العدالة اإللهية؟ هذه األسئلة وغيرها توفر مادة للمزيد من النقاش حول بنية
نظرية العدالة اإللهية ودورها.
مثال اإلصحاح السابع والثاني عشر من سفر أيوب ترى أن اإلنسان الجيد يعاني أحيان ًا والشرير
ً 36
ينجح.
235 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
الكينونات واألحداث نفسها ،متصلة ببعضها بالطريقة نفسها بالضبط التي تجعل هذا
37
العالم األفضل.
نقاش يدعمها ،فإن مسائل عديدة تبرزٍ بالرغم من أن نظرية أفضل العوالم تدعو إلى
على السطح مباشرة .أوال مفهوم أفضل عالم ممكن قد يكون غير متسق منطقي ًا ،تمام ًا
كمفهوم أعلى عدد صحيح ممكن هو مفهوم غير متسق منطقيا أيضا .ببساطة ال توجد
لم علينا التفكير بوجود عالم هو األفضل؟ ثانيا يبدو
نهاية لنظام األعداد الصحيحة ،إذن َ
أن منهج اليبنز يشير ضمنا إلى فكرة أن عالمنا غير قابل للتحسين ،وهو تضمين يتناقض
مع أحكامنا األخالقية االعتيادية .المسألة الثالثة ولعلها األكثر أهمية تتعلق بالسؤال عن
السبب وراء اختيار ال ّله الخ ّير أن يخلق عالما أصال ،بالنظر إلى أنه سيحتوي هذا القدر
لم خلق ال ّله هذا العالم إن لم يكن بمقدوره
من المعاناة .ولو صغنا األمر بطريقة أخرىَ ،
خلق عالم أفضل؟ في األخوة كارمازوف ،يتلو إيفان كارمازوف مجموعة من الشواهد
التي تتضمن حاالت تعذيب وقتل ألطفال صغار وذلك على مسامع أخيه أليوشا الذي
كان راهبا مبتدئا انخرط لتوه في الكنيسة الروسية األرثوذكسية ثم انطلق إلى العالم،
ٍ
سؤال دقيق« :لو أنك ال ّله هل كنت ستوافق على خلق العالم الحالي بعدها يقوم بتمرير
إذا علمت أن خلقه ال يقوم إال على الدموع التي ال فدية لها لطفل واحد معذب يبكي
مستنجدا« :يا إلهي الرحيم!» يصمت أليوشا للحظة ثم يجيب« ،كال لن أوافق» .هذه
38
اإلجابة الضمنية تعني أن كائنا يتصف بالخير األخالقي لن يخلق عالما كهذا إطالقا.
نوع آخر من الموضوعات في العدالة اإللهية هو حل االنسجام المطلق ،والذي
ٍ
شيء جيد في العالم من منظور ال ّله. يمكن تقسيمه إلى موقفين متمايزين :أوال ،كل
شيء سيكون جيدا على المدى الطويل .يمكن تعزيز الموقف األول بإحدى ٍ ثانيا ،كل
صفتين منسوبتين إلى األلوهية ،األولى هي صفة العالِم بكل شيء ،أي علم ال ّله
39جاء في سفر إشعياء 8 :55ــ ( 9نسخة الملك جيمس)« :ألن أفكاري ليست أفكاركم ،وال طرقكم
طرقي ،يقول الرب ألنه كما علت السماوات عن األرض ،هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري
عن أفكاركم» ولكن وعلى ضوء المسيحية األرثوذكسية المسكونية فإن أفضل تفسير لهذا النص
ليس بمعنى أن غايات ال ّله مختلفة جذري ًا عن أي شيء بوسعنا أن نفهمه ،وأن المعايير الخلقية اإللهية
منقطعة تمام ًا عن المعايير البشرية.
237 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
يتسمون بالحساسية األخالقية .من الواضح أن هذا الموقف يقلل من جديد من أهمية
أحكام البشر األخالقية بإضمار أنه البد وأن تكون هذه األحكام خاطئة على مستوى
النسق .يرى النقاد الالتأليهيين وهم على قناعة بذلك أنه وبعد إخضاع مفهوم األخالق
ٌ
أخالق كهذه ،ناهيك عن اإللهية العليا للتحليل يصبح بال معنى ألننا لن نعرف ما تعنيه
كيف يمكن لهذا المفهوم أن يعزز رد التأليهية على مسألة الشر.
وفي استنكار صريح جد ًا لهذا الموقف التأليهي يقول جون ستوارت ميل ( 1806ــ
)1873أن هذا الموقف يجعل من ال ّله وحشا أخالقيا ،وحشا لديه معايير ال تتوافق أبدا
مع أعمق قناعاتنا األخالقية:
في الحياة اليومية أعرف ما هو صحيح وما هو خاطئ ،ألن بوسعي بسهولة أن أرى
صحة الشيء أو خطأه .اآلن إن كان ال ّله يطالبني بأن أعتبر صوابا ما أدعوه في األحوال
االعتيادية خطأ في السلوك البشري ألنه هو يقوم بهذا السلوك ،أو يدعوني ألقول
بصواب ما أدعوه خطأ في األحوال االعتيادية فقط ألنه يدعوه بذلك ،حتى وأنا ال أرى
القصد من وراء ذلك؛ وإن كان سيحكم علي بالجحيم إن رفضت ذلك ،فإني ذاهب
40
للجحيم بكل سرور.
إن التأليهيين الذين يدركون قوة هذه االنتقادات والذين يفهمون أن موروثهم الديني
الخاص يؤكد على الرابط بين األخالق البشرية والتأليهية ال يعتمدون في ذلك على
موضوعة األخالق العليا .في حين أنهم يؤكدون على كمال األخالق اإللهية ،إال أنهم
ال يصرون على الفصل التام بين المعايير األخالقية البشرية والتأليهية .في الواقع ،يرى
هؤالء معقولية الطبيعة الخطاءة ألحكامنا األخالقية البشرية على أنها تعطي زخما
لمشكلة الشر في المقام األول.
المقاربة الثانية ــ مقاربة األمور بخواتيمها ــ ال تدعي أن جميع الشرور مرتبطة في
الوقت الحاضر بخير أعظم .تؤكد هذه المقاربة بدال من ذلك على أن كل الشرور
ستنتج في النهاية خيرا أعظم ،سواء في الحياة الزائلة أو الحياة اآلخرة .بالرغم من أن
40 John Stuart Mill, selection from An Examination of Sir William Hamilton’s Phi-
losophy included as an appendix in Richard Taylor, ed. Theism (New York: The
Liberal Arts Press, 1957), 89 - 96.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 238
العديد من االنتقادات الموجهة للموقف الذي يقول أن األمور كلها بخير من منظور
ال ّله ،تنطبق أيضا على مقاربة األمور بخواتيمها ،توجد مسائل أخرى مهمة أيضا .أوال،
خير أعظم مستقبلي ترتبط به الشرور الحالية ،فال يبدو
في حين قد يوجد (أو ال يوجد) ٌ
واضحا كيف يمكن لهذا الخير األعظم أن يبرر حدوث هذه الشرور في الوقت الحالي.
نمى بداخلها دوافع
على سبيل المثال كيف يمكن لحقيقة أن ُيت َْم طفلة في صغرها قد ّ
إنسانية قوية لتصبح جراحة عظيمة في إحدى بلدان الدول النامية ،كيف لهذا أن يبرر
أخالقيا موت أبويها على يد مجرمين قتلة؟ أو كيف يمكن للسعادة والغبطة الموعودة
في الجنة أن تبرر معاناة األلم الشديد لمريض بالسرطان في الحياة الدنيا؟ إن األمر أشبه
تماما بالقفزة التصورية من فكرة الخير الذي يرجح على الشر إلى فكرة خير َيج ُب ُر الشر
وقفزة كبيرة جد ًا إلى فكرة الخير الذي يبرر وجود الشر .في ضوء هذه الصعوبات فإن
العديد من أنصار فكرة األمور بخواتيمها يقولون ببساطة إننا نحن البشر ومع قدرتنا
المحدودة ال نعلم كيف يمكن للخير المستقبلي أن َيج ُب َر الشرور الحالية ولكن حكمة
ال ّله المستغلقة علينا تعلم ذلك .على أقل تقدير ،هنالك حاجة لوجود نقاش أكثر جدية
لنوع النظرية األخالقية التي تستند عليها هذه المسألة قبل أن يكون بإمكاننا أن نفهم ما
يعنيه أن يج ُبر خير أعظم الشر أو أن يبرر الخير وجود الشر.
إن الموضوعات السابقة وجدت طريقها إلى بعض نظريات العدالة المطروحة
للتخفيف من المسألة الفلسفية فيما يخص الشرور في العالم .إال أنه من المفيد عند
هذه النقطة النظر إلى موضوعة تتطرق خصوصا لمسألة الشر الطبيعي .لعل أهم
الحلول لمسألة الشر الطبيعي هي ما ُيعرف بتفسير القانون الطبيعي ،والذي يدعي أن
ٌ
مكون كجزء من مخططه َ
الخلقي .والنظام الطبيعي عالم ٍ ال ّله وضع النظام الطبيعي
من أشياء تسلك سلوكا يتفق مع القوانين الطبيعية .إن عمل القوانين الطبيعية بجميع
أنواعها إذن يجعل مجموعة من المنافع الطبيعية ممكنة ،مثل اإلحساس الفسيلوجي
بالمتعة أو حتى اإلنذار وقت الشعور باأللم .عالوة على ذلك ،فإن وجود نظام طبيعي
ثابت ويمكن التنبؤ به عام ًة يدعم وجود نظام أخالقي يوجد فيه مكان لالختيار والتأمل
العقالني ،وحيث يمكن لالختيارات الحرة أن تتحقق بالعمل .ولكن احتمالية حدوث
الشر الطبيعي جوهرية في النظام الطبيعي ،إن الماء الذي يروي عطشنا هو نفس الماء
239 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
الذي يمكن أن يتسبب بغرقنا؛ وإن نفس الخاليا العصبية التي تنقل اإلحساس بالمتعة
يمكنها أيضا أن تنقل إحساس األلم الشديد الذي ال يطاق.
إن نقاد نظرية العدالة اإللهية المرتبطة بالقانون الطبيعي ،أمثال مكلوسكي (و.
،)1925يجادلون في أن ال ّله بإمكانه أن يقلل كثير ًا من الشرور الطبيعية أو يزيلها ،إما
ٍ
مختلف بالتدخل اإلعجازي في النظام الطبيعي الحالي أو من خالل خلق نظام طبيعي
بالكامل 41.يشير بعض التأليهيين أمثال ريتشارد سوينبورن ،إلى الصعوبات التي تأتي مع
أي من هذه المقترحات البديلة .أحد األسباب أن فكرة التدخل اإللهي المتكرر تتناقض
قادر على كل شيء 42 مع ٍ
كل من الصفات الكلية ل ّله ومفهوم النظام الطبيعي .فلو أن ال ّله ٌ
وعالم بكل شيء ،فسيخلق نظاما طبيعيا لن يكون عليه التدخل فيه بصورة متكررة؛
ٌ
وإن كان يتصف بكمال الخير فإنه سيخلق نظاما طبيعيا خ ّيرا بالكامل .باإلضافة إلى أن
مفهوم النظام الطبيعي في ذاته يشير ضمنا إلى أنه ال يخضع للتعديل بصورة متكررة من
خارج النظام ،وأن هذا النظام يجري بنفسه وس َيب ُطل بالتدخل اإللهي المستمر .عنصر
آخر في هذا النقاش هو االدعاء اإللهي المضاد على حجة النقاد بأن الناقد ال يمكنه أن
43
يتصور ،مع ما يتطلبه ذلك من التعقيد والدقة ،شكل النظام الطبيعي األفضل.
اآلن ينبغي علينا النظر في موضوعة أخرى في العدالة اإللهية مصممة بخاصة
لمسألة الشر األخالقي ،وهي مسأل ٌة نجد التعبير عنها على كال المستويين األكاديمي
والشعبي أيضا .من الواضح أن موضوعة اإلرادة الحرة تسبق دفاع بالنتينجا الشهير
عن اإلرادة الحرة وقد وظفت فعال كجزء في العديد من نظريات العدالة التقليدية .كما
الحظنا فإن مناورة بالنتينجا الدفاعية تستند على االدعاء بأنه من الممكن أن يكون ال ّله
قد خلق أشخاصا يمتلكون اإلرادة الحرة واختاروا الشر األخالقي .على العكس من
ذلك فإن نظرية العدالة المرتبطة باإلرادة الحرة تتسم بالمباشرة أكثر في تأكيدها على
41 H. J. McCloskey, «God and Evil,» Philosophical Quarterly 10: 39 (1960), 97 - 114.
42 Richard Swinburne, «Natural Evil,» American Philosophical Quarterly 15:4 (Oct.
1978), 295 - 301. Also see Bruce Reichenbach, Evil and a Good God (New York:
Fordham Universirty Press, 1982), Chapter5.
43 Reichenbach, Evil, Chapter 4.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 240
اإلرادة الحرة :إن القول بأن ال ّله خلق كائنات تتمتع بقدر كبير من الحرية واتخذت
صادق أيض ًا .بالرغم من أن ال ّله علم بأن
ٌ أمر ممكن بل هومسلك ًا خاطئ ًا ،ليس مجرد ٍ
المخلوقات الحرة أخالقي ًا قد ترتكب الشر عن قصد إال أنه منحها اإلرادة الحرة ألن
عالما يحوي مخلوقات مع نطاق معقول من االختيار الحر هو عالم أكثر قيمة من آخر
يحتوي كائنات آلية .يمثل هذا السيناريو عنصرا مهما جدا في الرؤية التأليهية التي تنظر
إلى عظمة وخطورة أن نكون بشرا.
يقترح النقاد الالتأليهيون عددا من الطرق التي تحتاج فيها مناورة اإلرادة الحرة
إلى المزيد من التبرير .أحد األسباب هو أنهم يطلبون أسبابا لقبول الرؤية الالتوافقية
لإلرادة الحرة مع األخذ باالعتبار تفسير الشر 44.فهنالك وجهات نظر توافقية عديدة
حول طبيعة اإلرادة الحرة .حتى بعض النقاد الذين لديهم نية االعتراف باالفتراض
الالتوافقي يجادلون ببساطة فكرة أنه كان من الممكن أن يخلق ال ّله بشرا أحرارا مع
ميول قوية باتجاه السلوك الصحيح أقوى من الميول التي لديهم بالفعل .من المؤكد أن
فعل ذلك كان سيقلل الكثير من الشر الذي يحدث بسبب سوء استخدام اإلرادة الحرة.
يرد التأليهيون إجماال بأن ال ّله خلق البشر ولديهم ميل باتجاه الخير يكون في أقصى
شكل من أشكال القوة الممكنة ويحافظ على اتساقه مع حرية االختيار .يتحدى النقاد
فكرة أن حركة كهذه قد تبدو مخصصة وأنه ال يوجد سبب لالعتقاد بأن األمر على هذه
الشاكلة .لذا فإن النقاش يبقى مستمرا.
بإمكاننا تحديد الكثير من الردود على مسألة الشر ،ولكن معظمها إما ذو أهمية
هامشية أو الأهمية له بالنسبة للتأليهية المقيدة أو بالنسبة للصيغ الكبرى من التأليهية
الممتدة :الشر باعتباره وهما ،الشر باعتباره عنصرا عبثيا جوهريا في واقع الخلق،
األرواح الشيطانية بوصفها مسببة للشر ،وهكذا .في الواقع أنه عندما طرحت ردود
كهذه واجهت الدحض والتحليل الصارم من النقاد.
44 See for example, Anthony Flew, «Divine Omnipotence and Human Freedom,» in
A. Flew and A. MacIntyre, eds., New Essays in Philosophical Theology (New York:
»Macmillan, 1955), 144 - 169. Also see Flew, «Compatibilism, Free Will and God,
Philosophy 48 (July 1973), 231 - 244.
241 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
على النمو الشخصي ينبغي أن تتضمن تحديات حقيقية وفرصا حقيقية إلظهار الفضائل
ٍ
واحتماالت حقيقية للتعبير عن اإليمان .أحد المكونات الرئيسية لهذه البيئة األخالقية،
هو وجود مجتمع من الفاعلين األخالقيين الذين يتفاعلون بطرق خاصة وحتى في نظام
طبيعي من األشياء الالشخصية والتي تعمل بصورة مستقلة عن إرادتنا .من الواضح أن
ظروف ًا مماثلة تعني مخاطرة حقيقية بوجود الشر ،وكذلك وجود الفشل والدمار والمعاناة
والظلم .من المثير لالهتمام أن هيك يعتقد أن مظهر العالم الذي يجعله يبدو مكانا يخلو
من ال ّله أمر مهم ،والشر بالتأكيد يلعب دورا مهما في خلق هذا المظهر .بالنسبة لهيك
فإن المظهر اإللحادي الكامن للعالم يخلق «مسافة إبيستملوجية» بين الخلق والخالق،
مفسحا بذلك المجال لظهور اإليمان والثقة الحقيقيين بال ّله .إن هذه النقطة تتصل بالفعل
بمسائل سكون ال ّله والغموض الديني للحياة والتي ناقشناها في الفصل األول.
بالنسبة للعدالة اإللهية عند إيرينيوس فإن خطة ال ّله المطلقة هي في الخالص
الكوني لجميع البشر ،للذين يتركون الحياة الفانية دون تحقيق الدرجة المناسبة من
النضج األخالقي مهما كانت األسباب التي أدت بهم إلى ذلك ،فإن ال ّله يسعى لهذا
الهدف ذاته من أجلهم في الحياة القادمة ،ويمنحهم فرصا إلظهار الحب والثقة إلى أن
تصبح عالقة األشخاص جميعهم عالقة جيدة مع ال ّله .هذا التأكيد على المثابرة اإللهية
49
متمم للتوجه األخروي والتطوري والمستمر في العدالة اإللهية لدى إيرينيوس.
ٌ
إن صيغة هيك المعروفة من العدالة اإللهية لدى إيرينيوس تشتمل على عناصر
من عدة تفسيرات كاإلرادة الحرة ،والقانون الطبيعي وبناء الشخصية ،باإلضافة إلى
موضوعات خاصة نجدها تحديدا عند هيك .تعرضت الكثير من االنتقادات لجوانب
مختلفة من وجهة نظر هيك .على سبيل المثال جادل جاي ستانلي كاين ( 1938ــ
ال إن «المسافة اإلبيستملوجية» التي يطالب بها هيك بين اإلنسانية وال ّله
)2010قائ ً
لغرض إتاحة المجال أمام توكيد اإليمان يمكن تحقيقها بمقابل أقل من هذا 50.ال
49لغرض الطريقة المحددة التي استنبط بها جون هيك هذا النوع من العدل اإللهي األرينوسيsee his ،
Evil, Parts 3 and 4.
50 G. Stanley Kane, «The Failure of Soul_Making Theodicy,» International Journal for
Philosophy of Religion 6 (1975), 1 - 22.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 244
يبدو أن العديد من الشرور األخالقية والطبيعية ضرورية إلضفاء مظهر غياب ال ّله ،ألنه
طرق أخرى يستطيع ال ّله بها أن يخفي وجوده.
وبالتأكيد توجد ٌ
ويرى النقاد أيضا أن وجهة نظر هيك تفتقر إلى ما يدعمها تجريبيا في ادعائها
الرئيسي :وهو أن العالم في خضم عملية بناء للروح .إن في الحياة الزائلة ما يكفي من
الخيبات لوحدها لتؤدي إلى الشك فيما إذا كان برنامج إعداد الروح موجودا بالفعل.
من المؤكد أن هنالك العديد من الناس ممن تحطمت شخصياتهم ولم تتطور مما يثير
المفكرين من الناس وقد يتسائلون حول فعالية أو حتى وجود عملية بناء الروح هذه.
باإلضافة إلى أن العديد من النقاد يتساءلون حول ما إن كان الهدف من بناء الروح ،حتى
ولو تحقق في العديد من الحاالت ،بإمكانه أصال تبرير الوسائل المستخدمة لتحقيقه
(مثل ،المصائب والمعاناة واألزمات العظيمة) .فكلنا سمعنا عن األشخاص الذين
أصبحوا أمثلة مضيئة للفعل اإلنساني أو الشجاعة األخالقية ،ولكن الكثير منهم اضطر
إلى أن يواجه خسارة أحد أفراد العائلة أو اضطر إلى تحمل آالم شديدة وعلى فترات
طويلة .في الرد على هذه النقطة األخيرة ،يشير هيك إلى أنه ينبغي على كل شخص أن
يقرر بصورة نهائية ما إن كان يعتقد بأن عملية بناء الروح تستحق كل ذلك.
أما نظرية العدالة في الصيرورة اإللهية فهي التفسير األكبر الثالث للشر الذي ينبغي أن
نبحث فيه .إن فلسفة الصيرورة اإللهية والتي نجد دفاع ًا عنها في مؤلفات ألفريد نورث
وايتهيد ( 1861ــ ،)1947تعدل على الصفات الكالسيكية لأللوهية في التأليهية وبذلك
تنشئ نوعا مميزا من العدالة اإللهية حظي باهتمام كبير في أوساط علماء الالهوت
ٍ
بشكل عام تقوم على وجهة نظر أن الواقع والفالسفة المعاصرين .إن الصيرورة اإللهية
صيرورة أكثر منه كينونة ،ما يعني َقلبا للمنهج التقليدي .ليس من المفاجئ إذن أن يكون
الموضوع الرئيسي للعدالة في الصيرورة اإللهية هو مفهوم التغير والنمو والتطور فيما
يخص ال ّله والكائنات المتناهية معا .تعد المخلوقات محورا واعيا ومتغيرا باستمرار
في نطاق التجربة والفعل .بالنسبة للمفكر في الصيرورة اإللهية فال ّله ذو طبيعتين ،طبيعة
أولية وأخرى الحقة .تشتمل طبيعة ال ّله األولية على جميع االحتماالت األزلية لكيفية
تقدم عالم الخلق ،أما طبيعته الالحقة فتتضمن تجارب المخلوقات واستجابتها وهي
تقوم بعملية اختيار تجعل من هذه االحتماالت واقعا في حياتهم .وبما أن طبيعة ال ّله
245 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
الالحقة تتغير استجابة لألحداث في عالم الخلق ،فيمكن القول إن ال ّله أيضا يتغير أو
في طور التغير .هذا التصوير للصيرورة اإللهية بالنسبة للشر يتالئم مع النقاش حولها
بالنسبة لمواضيع أخرى في الكتاب ،كما في الفصول 7و 8و.13
إن العدالة في الصيرورة اإللهية تستند مباشرة على رفض المفهوم الكالسيكي
قاصر وملي ٌء بالمغالطات .ينكر
ٌ لقدرة ال ّله ،والذي يرى مفكرو الصيرورة اإللهية أنه
ٍ
«المتناه في الفالسفة والمفكرون في الصيرورة اإللهية فكرة أن ال ّله يحتكر القوة أو أنه
قدرته» كما تؤكد التأليهية الكالسيكية .إن المخلوقات المتناهية تشكل أيضا محاور
قوة وبذلك تستطيع أن تؤدي إلى نشوء حاالت جديدة أيضا .يتحدث هؤالء المفكرون
عموما عن هذه القدرة الخلقية من حيث «الحرية» ،وبذلك تذكرنا مصطلحاتهم وفي
نقاط معينة بالنقاشات الكالسيكية .إن صيغتهم عن الحرية متجذرة في بنية الواقع
ذاتها ،في أن كل مخلوق لديه القدرة في جوهره على تقرير مصيره .وهكذا بإمكاننا
القول إن ال ّله يمتلك كل القدرة التي يمكن لمخلوق أن يمتلكها ولكنه ال يمتلك كل
بعضا من القدرة التي تخصها ،وهي قدرة القدرة الموجودة .إن لدى المخلوقات ً
تتيح لها اختيار الخير والشر بوصفها احتماالت ممكنة في حياتها .فقدرة ال ّله إذن
يمكن أن تجابه مقاومة حقيقية من قبل المخلوقات .وفق ًا لمفكري الصيرورة اإللهية
ينبغي النظر إلى قدرة ال ّله على أنها إقناعية أكثر منها قسرية .يمكن أن يحاول ال ّله
استدراج المخلوقات باتجاه الخير بعيدا عن الشر ،ولكنه ال يستطيع إجبارها على
اختيار الخير .أحد هؤالء هو دايفيد راي غريفين (و )1939 .يقول بأن ال ّله ال يستطيع
إزالة الشر ألن «ال ّله ال يستطيع أن يؤثر في أي حالة من جانبه وحده 51».بل إن ال ّله
يطرح أمام األشخاص احتماالت إلدراك الخير ،ويعدّ ُل في خططه بصورة مناسبة
عندما تفشل المخلوقات المتناهية في االلتزام بالخطة اإللهية ويحاول استدراجهم
لتحقيق المجموعة التالية من االحتماالت المثالية ،إلى جانب الهدف المطلق
المتمثل بتعزيز حيواتهم وإثرائها.
أحد الموضوعات المهمة للعدالة في الصيرورة اإللهية هو أن جميع التجارب
اإليجابية منها والسلبية في عالم الخلق تُحفظ وتُصالح بصورة مطلقة في وعي ال ّله.
51 David Ray Griffin, God, Power, and Evil (Philadelphia: Westminister, 1976), 280.
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 246
ضمن ال ّله نفسه في تركيبة
وبذلك يمكن القول إن األمور تسير بشكل جيد بمقدار ما « ُي ّ
الكون الشامل»ُ 52.يحدث ال ّله في مملكة السماء نو ًعا من التآلف بين جميع التجارب
الدنيوية ولكنه ال يصلح من جانبه جميع الشرور .عمو ًما لم يتصور المفكرون في
الصيرورة اإللهية «الخلود الشخصي» أو «الحياة بعد الموت» كمحور للدفاع عن خيرية
ال ّله في وجه مسألة الشر ،كما يفعل المفكرون المسيحيون الكالسيكيون 53.وال توجد
ذروة أخروية حتمية ونهائية لجميع األشياء .وهكذا ،فبالنسبة للمفكرين في الصيرورة
اإللهية فإن التآلف المستمر لجميع التجارب في وعي ال ّله هو األمل األساسي ليظفر
الخير ويتحقق خالص العالم.
لقد أرغمت العدالة في الصيرورة اإللهية التأليهيين الكالسيكيين على إعادة التفكير
وتشذيب مفاهيمهم األساسية 54.ولكن التأليهيين الكالسيكيين باإلضافة إلى بعض
الالتأليهيين أثاروا عددا من االعتراضات المهمة على مفاهيم في الصيرورة أيضا.
قيل ــ على سبيل المثال ــ أن الهجوم الذي توجهه الصيرورة اإللهية على المفهوم
الكالسيكي في القدرة اإللهية مثير للسخرية المحضة ،وذلك باستخدام مصطلحات
مشحونة كـ»الشمولية» و«االحتكارية» .هذا التصوير الساخر يؤسس لوجود فارق
(إما/أو) مبسط جدا بين القدرة القهرية والقدرة اإلقناعية والتي نوقشت في الفصل
السابع وذكرت في الفصل الثامن .اقترح النقاد لهذه النظرية في العدالة اإللهية أيضا
احتمال وجود نطاق من الحاالت في القدرة اإللهية ،مثل «القدرة اإلنتاجية» أو «القدرة
الحافظة» أو «القدرة الممكنة» ،والعديد منها متوافق مع اإلقناع األخالقي 55.وكذلك
;52 Alfred North Whitehead, Religion in the Making (New York: Macmillan, 1926), 98
also see his Process and Reality (New York: Macmillan, 1929), 524 - 525.
53ينبغي أن نلحظ وجود محاوالت من قبل بعض فالسفة الصيرورة اإللهية لطرح تفسير تطوري
للخلود الشخصي والحياة بعد الموت .انظر النقاش حول هذا الموضوع في David Ray Griffin,
40.ــ Evil Revisited (Albany: SUNY press, 1991), 34
54 See the full - scale discussion of process theodicy in Michael Peterson, «God nad
Evil in Process Theodicy,» in Ronald Nash, ed., Process Theology (Grand Rapids,
MI: Baker Book House, 1987), 121 - 139.
55 Nancy Frankenberry, «Some Problems in Process Theodicy,» Religious Studies 17
(1981), 181-184.
247 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
ٌ
خلط بين «حيازة القدرة» وبين قد يكون من ضمن نموذج الصيرورة اإللهية للقدرة
«امتالك القدرة» .بالنسبة لألشياء أو الممتلكات فإن االمتالك يكون حصريا (مثال لو
أن شخصا يمتلك جميع البلى ،إذن فاآلخرون ال يمتلكون أيا منها) .أما فيما يخص
القدرة والتفويض فإن االمتالك ال يكون حصريا .يمكن للشخص أن يمتلك القدرة
على رفع القلم الرصاص من الطاولة ،إال أن غيره من األشخاص وكذلك ال ّله قد تكون
لديهم نفس القدرة .لم يعمد الكثير من التأليهيين الكالسيكيين إلى نظرة تنافسية أو
احتكارية للقدرة اإللهية ولكن اعتمدوا نظرة تتوافق مع أن يكون لدى المخلوقات
المتناهية بعض القدرة.
انتقاد عام آخر ُوجه للعدالة في الصيرورة اإللهية يركز على مفهوم الخير اإللهي،
فيعلن أن هذا الخير ذو توجه جمالي أكثر منه أخالقي .إذا كان هدف الصيرورة اإللهية
جعل تجارب الخلق أثرى وأعقد حتى لو كان ذلك على حساب األلم والعداء ،إذن
لوجدت مخاطرة في خرق العديد من المبادئ األخالقية االعتيادية في الطريق إلى
ذلك .إن النقاد التأليهيين والالتأليهيين الكالسيكيين عبروا معا عن هذا االعتراض.
يبدو أن التأليهية الكالسيكية توجب فكرة أن ال ّله لن يكون كامال أخالقيا لو أنه تسبب
أو سمح بوجود المعاناة لغرض بلوغ أهداف جمالية بحتة .يرد أتباع الصيرورة اإللهية
بأن القيمة الجمالية أكبر وأكثر شموال من القيمة األخالقية ،وهي مناورة يبدو أنها تجعل
من خيرية ال ّله شيئا ال يشبه أيا مما نستطيع إدراكه واستحسانه .بالطبع فإن السؤال حول
استحقاق ال ّله للعبادة متعلق بمسألة ما إن كان ال ّله ال يمثل الخير األخالقي.
56 Marilyn Adams, Horrendous Evils and the Goodness of God (Ithaca and London:
Cornell University Press, 1999).
249 هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم
المروعة هو سؤال ملح بالنسبة لالتأليهيين باإلضافة إلى كونه السؤال األصعب
بالنسبة للتأليهيين.
في التطرق لهذه المسألة تشير أدمز إلى أن على التأليهيين أن يتخلوا عن االفتراض
المنهجي المشترك الذي يقضي بأن عليهم الرد على مسألة الشر باإلشارة فقط إلى
ٍ
ومتناه الخير الذي يقبل به الالتأليهيون أيض ًا .تجادل أدمز بأن هذا الخير دنيوي
نوع من الخير الالمتناهي
ومؤقت ،في حين أن التأليهي لديه في ذخيرته التصورية ٌ
واألبدي .كما تجادل أيضا بأن الطبيعة الميتافيزيقية ل ّله تكون على شاكلة تجعل من
ال ّله مصدرا للقيم وبذلك للخير بهذا المعنى ،ولكن ال ّله ال يخضع للشبكة االعتيادية
من الحقوق والواجبات التي تفترض العديد من صياغات مسألة الشر أنها سائدة بين
المخلوقات .في النهاية تفترض معظم الحجج أن على ال ّله واجبات مشابهة لتلك
ٍ
شكل من الخير يوازن الشرور الموثقة ،في المتصلة بالمخلوقات ،وذلك لتحقيق
الواقع ال توجد طريقة أخرى ل ّله ليكون بها خ ّيرا.
تزعم أدمز أكثر من ذلك بأن مناقشة مسألة الشر ببساطة من حيث المصادر الفكرية
للتأليهية األساسية ،فيه محدودية كبيرة بالنسبة للمؤمن .وألن التأليهية المسيحية هي
التي تكون في أذهان كل من النقاد والتأليهيين على السواء ،فإن أدمز تدافع عن إقحام
العقائد والتعاليم المسيحية في الجدال .بنا ًء على فهمها الخاص للتأليهية المسيحية
تأتي أدمز بمفاهيم أخرى لخيرية ال ّله وكيف أن هذا الخير مرتبط بحياة األفراد التي
تهدد الشرور المروعة معناها وقيمتها .أحد المزاعم التي تتقدم بها أدمز هو أن العقيدة
المسيحية في التجسيد (تجسد ال ّله في جسد يسوع الناصري) يرمز إلى االرتباط
الحميم ل ّله بالحالة اإلنسانية ،ويشمل ذلك المعاناة .يتيح لها ذلك القول بأن جميع
ٍ
مغروس فيها .تزعم أدمز أشكال المعاناة مهما كانت مروعة ،البد من جانب إيجابي
أيضا أن ال ّله وهو الكائن الشخصي اإللهي والصانع األكمل للمعنى سينقذ بصورة
مطلقة كل فرد ٍ
متناه .يتيح لها ذلك أن تجادل في أن أيا من األشخاص المخلوقين ممن
اختبروا شرورا مروعة قادرون في لحظة ما على تأكيد وجود قيمة لحياتهم.
قد ال تكون مساهمة أدمز في التفاصيل بقدر ما هي في التبدل األكبر الذي تبشر به
للنقاش الدائر حول مسألة الشر والعدالة اإللهية .إن التأليهيين األخرين يجادلون بال
ؤالمزو نوسرتيب لكيام 250
المشكلة لنظريتها الكونية وذلك لصالح شكل من التأليهية المسيحية ِ شك في الطبيعة
يكون أكثر قربا من الكالسيكية .في حين يدرك العديد من النقاد الالتأليهيين أن أدمز
قد ساعدت على توضيح أشد صيغ الحجة حدة في الشر ،فإنهم يلحون بشكل شبه
يقيني على مسألة لماذا ينبغي على التفسير الذي يتضمن عقائد مسيحية بالغة التحديد
أن يكون معقوال بالنسبة للذين ال يعتنقون المسيحية .بالطبع عند هذه النقطة نواجه
سؤاال حول المقايضة األساسية في تحديد إطار النزاع حول موضوع الشر .من جهة
يمكننا تتبع النقاش في العموميات وبذلك نؤكد على أكبر قدر من األسس المشتركة.
يتضمن هذا الخيار بصورة عامة تأليهيين يجادلون بأن ال ّله سوف يخلق ويحفظ نوعا
من العالم ،مع وجود الهدف الذي يقضي بتتبع أنواع محددة من األهداف بخاصة مع
أفراد من البشر .أما الردود النقدية الداحضة فتدور حول وجود تقييم إجمالي على
أساس ثنائية الثمن/المنفعة لمنهج ال ّله المزعوم .ومن جهة أخرى ،يمكن تتبع النقاش
على المستوى الواقعي وهو مستوى يميل فيه التأليهيون بشكل متزايد إلى استحضار
المصادر الكاملة لموروثاتهم الدينية الخاصة .في هذه المرحلة ،يتعين على النقاد
تقرير ما إن كانوا يطالبون التأليهيين بتقديم إجابة ترضي الرؤى الالتأليهية الميتافيزيقية
واألخالقية أو أن التأليهيين يثبتون كيف أن التزاماتهم (التأليهية الممتدة والمسيحية
غالبا) تؤدي إلى إجابة معقولة في حد ذاتها.
في النهاية ،فإن النزاع حول الشر هو واحد من اعتبارات متعددة ذات صلة بالقبول
أو الرفض العقالني للمعتقد اإللهي .وهكذا فإن الحكم المنطقي ينبغي أن يقام على
ضوء جميع الحجج المتصلة سواء التي هي مع أو ضد وجود ال ّله في التأليهية .زيادة
على ذلك ينبغي للحكم النهائي أن يأخذ باالعتبار كيف أن الموقف التأليهي يصيب
النجاح بالمقارنة مع النظرات العالمية األخرى سواء كانت دينية أو دنيوية.
دراسات
إذا سألنا مؤمنًا بالتقليد الديني اليهودي المسيحي :2هل ال ّله شرير؟ سيجيب في
الغالِب« :كال ،بالعكس ،ال ّله خير ،خير مطلق» .وبالنسبة للبعض ،القول بأن ال ّله خير
هذه الحقيقةنعرف ــ قبول ِ
هو حقيقة منبثقة من تحليل مفهوم ال ّله .ومع ذلك ــ كما ِ
(بصرف النظر عن مدى تحليليتها) و َّلد السؤال الثيوديسي :إذا كان ال ّله ً
خيرا، 3
فلماذا يسمح بالشر؟ وعبر القرون ،حاول الكثير من الكُتاب في التقليد اليهودي
المسيحي اإلجابة عن هذا السؤال الصعب والمؤلم ،وإلى حد ما لم يصل أحد إلى
نجاح حقيقي.
هدف هذه المقالة ليس حل مشكلة الثيوديسية ،وإنما تفكيك المشكلة بمناقشة
ُ
كون الحلول المتصلبة ليست ُمرضية من جانِبَّ ،
وأن المشكلة المتولدة من قبول
ب آخر. مفهوم ال ّله ليست هي الوحيدة الممكنة فقط وال حتى الجذابة من جانِ ٍ
المس َبقين ِ
ولتحقيق ذلك ،قسمت المقالة إلى أربعة مقاطع .األول يوضح االفتراضين ُ
Isabel Cabrera (2001) Is God Evil? In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: 1
26ــ Contemporary Perspectives. Berkely: University of California Press. pp.17
ترجمة د .لؤي خزعل جبر.
2في ما يلي أتحدث عن «التقليد اليهودي المسيحي» ،وأنا أدرك جيدا أن االختالفات ــ ليس فقط
أيضا داخل كل من هذه المجموعات ــ كثيرة ،وهي بشكل عام بين اليهود والمسيحيين ،ولكن ً
أكثر أهمية من نقاط االتفاق .ومع ذلك ،أعتقد أنه بشكل عام يشتركون جميعا في مفهوم ال ّله
الذي يسمح لنا بالتحدث ،ألغراض هذا المقال ،عن تقليد ديني واحد.
المصطلح صا َغ ُه
ُ حقل متخصص بتبرئة ال ّله ،وحل مشكلة الشر، 3الثيوديسية ٌ Theodicy
ِ ِ
الفيلسوف األلماني اليبنتز ( 1646ــ )1716في كتابِه ( .)1710( Théodicéeالمترجم).
اريرباك ليبازيإ 252
للسؤال الثيوديسي :مفهوم ال ّله كشخص أخالقي له أهدافه وأفعاله وتقصيراته يمكن
ٍ
كقياس للشر األخالقي، أن يحكم عليه بشكل أخالقي ،وفكرة المعاناة غير الضرورية
ٍ
باختصار أربع استجابات عامة لمشكلة الثيوديسية ،ويسلط الضوء والثاني يبحث
على نقاط الضعف في تلك االستجابات ،والثالث يبحث في سؤال مفهوم ال ّله
ككينونة ذات أهداف وإرادة ،في مقابِل مفهوم المقدس المتجذر في الخبرة الدينية،
ِ
يحاول الرابع تعرف وظيفة المفهوم الذي ال يعد فيه ال ّله كشخص أخالقي .وأخير ًا،
المؤنسنَة عن ال ّله المنسجمة مع هذا المفهوم البديل وال تتيح بالنتيجة لمشكلة
َ اللغة
الثيوديسية أن تنبثق ثانية.
يبدو لي أن كل ما كتبته ُهنا موجود بالفعل في كتاب أيوب ،4على الرغم من
قراءته من وجهة نظر معينة لن أدافِع عنها بالتفصيل هنا ،فعلى أية حال ،هذه المقالة
ربما تُعد تعليقا على أيوب.
جانب آخر ،إن لم يكن هناك أحد يمكن أن ينسب إليه الفعل المؤذي ،فالمعاناة
ال تعكس خطأ ذا صفة أخالقية ،فإذا دمر وباء الجراد المحاصيل وأنتج مجاعة،
سنقول أن هناك خطأ ،لكننا ال نستطيع القول أنه ذو طبيعة أخالق َّية ،فعلى الرغم
من أن الجراد سببه ،لكن من الواضح عدم إمكانية إسناد مسؤولية أخالق َّية .فإلسناد
ٍ
شخص ما له ــ على األقل ــ درجة معينة المسؤولية األخالقية نحتاج إلى شخص،
من الوعي واإلرادة ،تصرف بطريقة معينة بينما كان يمكنه التصرف بطريقة أخرى.
ولهذا السبب فمن أجل الحكم على أن شخصا ما فعل خطأ ،يجب أن نكون قادرين
على وصفه ــ إن لم تكن هناك ن َّية واضحة ــ باإلهمال والالمباالة.
باختصار ،إلسناد خطأ ذي صفة أخالقية لشخص ما يجب توافر ثالثة شروط:
الشخص مسؤول عن فعله ،وهذا الفعل له نتائج مؤذية (تسبب معاناة لآلخرين أو
لنفسه) ،وأخيرا ،هذه المعاناة غير مبررة .ولذلك عندما يحاول شخص ما تبرئة
نفسه من الشر المنسوب إليه ،فإنه عادة ما يفيد نفسه من أحد الطرق اآلتية :يدعي
إما أن فعله حميد وليس له نتائج مؤذية أو أنه فعله لكونه وجده ضروري لتحقيق
ِ
إدراكه ،أو لكونه لم يكن بإمكانه التصرف خير أع َظم ،أو أنه لم يكن متعمدا ،بدون
بطريقة أخرى ،مما يعني أنه تصرف بشكل غير مقصود وغير إرادي.
وبعد االلتفات إلى ذلك ،أود اآلن العودة إلى اهتمام الثيوديسية :كيف أن ال ّله،
الخير المطلق ،يسمح بالشر؟ ال شك في أن العا َلم مليء بالشر ،الجرائم والمظالم
والحروب واألمراض والكوارث الطبيعية جزء من واقعنا اليومي ،وهذا الشر يؤدي
المسببين .بالنسبة للمؤمن الديني ،الوجود الواضح
إلى معاناة يومية نادرا ما تعود إلى ُ
للشر يبعث أسئلة مؤلمة .وال شك ــ كما أكدت التقاليد اليهودية المسيحية مرارا
وتكرارا ــ أن الكثير من هذا الشر هو خطؤنا ،ومع ذلك هناك قسم من هذا الشر ــ
جزء ليس بالقليل ــ ال يمكن أن يرجع لمسؤولية البشر :أغلب األمراض والكوارث
الطبيعية تؤذينا بدون أن نفعل أي شيء إلحداثها .لكن إذا كان البشر غير مسؤولين،
هل هذا الشر مسؤولية ال ّله؟ هل ال ّله ملوم عن الشر الذي لم نسببه؟
دعونا نتوقف قليال ،وف ًقا لما قلناه فيما سبق ،فإن وصف بعض اإلجراءات التي
ننسبها إلى ال ّله على أنها خاطئة أخالقيا يعني ثالثة أشياء :أن ال ّله مسؤول عن أفعاله،
اريرباك ليبازيإ 254
وأن بعض أعمال ال ّله تنتج المعاناة ،وأخيرا ،أن هذه المعاناة غير ضرورية (أي
ليست مبررة) .الفكرة األولى ،إسناد المسؤولية إلى ال ّله ،قليل جدا من المؤمنين
في التقليد الغربي يضعونها موضع شك .فعادة ما يعتقد المؤمن أن ال ّله مسؤول عن
خيرا ،فإن ال ّله كلي العلم .نحن نفترض إذن ،أنه يفعل
خليقته ،وإلى جانب كونه ً
كل شيء عن علم وحرية ،فليس هناك مجال للقول بأن ال ّله يتصرف دون قصد.
فيما يتعلق بالنقطة الثانية ،ليس هناك مجال للشك :الشر الذي ال ننتجه يؤذينا أيضا،
كل يوم ،تؤدي الكوارث واألمراض إلى مصرع العديد من األشخاص وتولد قدرا
كبيرا من المعاناة اإلنسانية .وعلى الرغم من أن ال ّله ال ينتج هذا الشر أو يسببه بشكل
مباشر ،إال أنه يبدو بالفعل مسؤوال عن السماح به ،حيث (وفقا للمؤمن التقليدي)
كل ما يحدث ،يحدث بموافقة ال ّله .ماذا عن النقطة الثالثة؟ هل يجوز أال تكون لدى
ال ّله دائما أسباب وجيهة لفعل ما يفعله والسماح بما يسمح به؟ أم من الممكن أن
يسمح ال ّله بالمعاناة من أجل دوافع جيدة وعادلة؟ عادة ما اتبعت اإلجابات على
مشكلة الثيوديسية المسار األخير .إذن فقد تحولت مشكلة اإللهية إلى مشكلة معنى
المعاناة.
سفر التثنية 5بقيت مصونة بال تبديل حتى كتاب أيوب ،حيث تمت مناقشة كون
المعاناة ليست مستحقة عادة ،ومن النادر ــ كما سنقول اآلن ــ أن يصدر ال ّله عقوبة
للصالحين واألشرار بال تمييز ،فالحضور الظاهر للمعاناة البريئة جعل هذه اإلجابة
األولى ضعيفة جدا .فالتفكير بأن المعاناة هي عقوبة يفترض أن أي شخص ُمبتلى
هو شخص ُمذنب ،حتى الوليد الجديد ،وال يمكن القبول بذلك .السؤال المطروح
اآلن :إذا سمح ال ّله بالشر للمعاقبة ،لماذا لم يبعد عن المعاناة من ال يستحقون
تختار أن تصيب المذنب فقط.
ُ العقوبة؟ من الواضح أنه ال األمراض وال الكوارث
المعاناة اختبار ــ هي الطريقة العامة الغالبة للتعامل مع حاالت
اإلجابة الثانية ــ ُ
غير محلولة كهذه .إذا كان الناس األبرياء يعانون بدون استحقاق ذلك ،فإن هناك
حاالت إذن حيث يرسل ال ّله المعاناة ليس للمعاقبة وإنما لالختبار .لكن الختبار
ماذا؟ المسالك الشهيرة للعهد القديم قدمت اإلجابة :الختبار خوف الفرد من ال ّله
ِ
الفاض َلة:6 وإخالصه له .وهذا هو ما يبشر به ــ من بين تعاليم أخرى ــ مؤلف الحكمة
«اق َبل ما يجري عليك ،وفي التغييرات الحقيرة كن صبورا ،فالذهب يختبر بالنار،
ُ
والرجال المحترمون في آتون اإلذالل».7
وهكذا لطالما لفت التقليد اليهودي المسيحي االنتباه إلى شجاعة إبراهيم
الو َجع ،كلهم
والمؤسسون اآلخرون ،وصبر أيوب الشهير ،وتقبل المسيح لكأس َ
تقبلوا القدر المؤلم خوفا أو حبا بإلههم .مع ذلك ما الذي يحاول ال ّله تحقيقه عندما
يختبر استقامة الشخص بوسائل المعاناة؟ عن هذه القضية ،يعتقد موسى بن ميمون
أن يهوه يبحث عن توريث مثال س ُي ِ
لهم الشجاعة لآلخرين (كما في حالة إبراهيم ّ
وربما أيوب) .مفكرون آخرون ــ مسيحيون باألساس ــ يعتقدون عالوة على ذلك
أن هدف ال ّله هو تخليد رسالة الفداء والخالص (كما في حالة المسيح) ،وبهذا
5انظر بشكل خاص الفصول 5و .21–11.13في األول يتم عرض الوصايا العشر ،وفي الثاني
يتكرر وعد يهوه بأن يبارك المطيع ،وكذلك التهديد بزيادة المعاناة ألولئك الذين ال يلتزمون
بأحكام العهد.
ِ
6كتاب الحكمة الفاض َلة Ecclesiasticusهو تعاليم أخالقية تعود إلى الكاتب اليهودي بن سيرا،
كتبت بين ( 200ــ )175قبل الميالد( .المترجم)
7 Ecclesiasticus 2: 4–5.
اريرباك ليبازيإ 256
االتجاه يكتب الالهوتي البروتستانتي« :ابن ال ّله عانى حتى الموت ال لكيال يعاني البشر،
وإنما لتكون معاناتهم كمعاناته» .8أوال يهوه ،ثم ال ّله األب ،كان لديهما مبررات جيدة
للسماح باختبارات كهذه ،وما هو أكثر ،والنصوص اإلنجيلية التي تشير إليها عادة ما
تتضمن نهاية حيث يثيب ال ّله هؤالء الذين خضعوا لهذه االختبارات بنعيم عظيم .ولكن
هل حدث بالفعل أن كل من يعاني هو خاضع الختبار؟ وهل أن هؤالء الذين تخطوا
االختبارات تمت مكافأتهم؟ كيف يمكن ذلك إذا لم يتح الوقت للكثيرين لالستجابة،
ولم يتركوا لتلقي المكافأة ،ألنهم ماتوا نتيجة االختبار؟ المعاناة سحقتهم بال تقديم
أي هدف تربوي .اإلجابة الثانية إذن كذلك تركت حاالت غير محلولة .وهكذا نصل ــ
برأيي ــ إلى االحتمالية الثالثة :النظر إلى المعاناة كمقدمة لألبدية.
بالضد من العقيدة العبرية في العقاب ،يفترض التقليد المسيحي وجود حياة أخرى
حيث تُعالج مظالِم الحاضر ،فال ّله يسمح بالمعاناة للصالحين ألنه يحتفظ لهم بمكافأة
في الحياة األخرى .المعاناة أحيانا قد تعد ثمنًا يجب أن ندفعه لنجعل أنفسنا ذوي قيمة
في الحياة األخرى .وهكذا يبدو ال ّله مبررا بسماحه بالشر ،ألنه يحتفظ لنا بنعيم عظيم،
سنحرزه إذا ك َّفرنا عن خطايانا وإذا أخضعنا أنفسنا لالختبار .أعتقد أننا هنا نواجه أمال
ال نستطيع تقاسمه .ماذا إذا لم يكن هناك حياة أخرى يعوضنا فيها ال ّله عن المعاناة
الخاطئة في هذه الحياة؟ وأكثر من ذلك ،تنطوي هذه االجابة على خطر تمت اإلشارة
إليه في مكان آخر :إن حل مظالم هذه الحياة بوعد آخر هو إنقاص وخفض قيمة هذه
الحياة ،والحث على االستقالة والسلبية .هذا يعني أنه بالنسبة للمؤمن الذي ال يرغب
في التخلي عن قيمة هذه الحياة أو الذي ال يؤمن بالحياة األبدية ،فإن معاناة األبرياء
تستمر في المطالبة بتفسير وتهدد بتركنا مع إله ال يبالي بالظلم.
وأخيرا ،يتمثل الرد الرابع في القول بأن ما نعتبره شر ًا ليس كذلك في الواقع ،وإنما
ً
خير .فلدينا وجهة نظر محدودة ومبعثرة لألشياء ،ولهذا السبب ال يمكننا أن نفهم تماما
ما يعنيه الحدث؛ الشر المعين (بالنسبة لنا) هو في الواقع ،عندما ُيرى من المنظور
الصحيح ــ أي منظور ال ّله ــ خير عام (للكون) .يعلم ال ّله لماذا يفعل األشياء ،على
8 Douglas MacDonald, Unspoken Sermons, cited in C. S. Lewis, The Problem of Pain
(London: Fontana Books, 1957), p. vi.
257 ؟ريرش هللا له
الرغم من أن هذا ال يزال لغزا .يتصرف ال ّله بعلم وحرية ،لكن عقله وإرادته هي ألغاز
ال يمكن فهمها .إن اإلشارة إلى هذه اإلمكانية تتركنا كما كنا :دون فهم ،ودون أن
نكون قادرين على المساعدة في التفكير في أن المعاناة التي نمر بها ،والتي ال نتحمل
مسؤوليتها كجنس ،هو شر ال معنى له يبدو غير مبرر تماما .يقال لنا إننا ال نستطيع أن
نلوم ال ّله على ذلك .ولكن لم يتم إخبارنا لماذا ال .هذا الرد ال يقدم أي تفسير .إنه يشير
فقط إلى حد ،ويخبرنا أن المشكلة ليس لها حل.
على أساس ما سبق ،لم يتبين أن أيا من الحلول الكالسيكية لمشكلة الثيوديسية
ٍ
مرض تماما .بمجرد أن نسمح بإمكانية الحكم على ال ّله أخالقي ًا ــ بمجرد أن نقبل أن
ٍ
عندئذ المفاهيم المعتادة للخير األخالقي والشر تنطبق على ما يفعله ال ّله ويسمح به ــ
تنشأ مسألة ما إذا كان ال ّله مسؤوالً عن أي شر ال محالة ،وليس من الواضح أنه يمكن
أن نبرئه من جميع المخالفات ،لهذا السبب ،عندما نواجه مشكلة ثيودسية ،قد يكون
أفضل بديل ليس محاولة اإلجابة على السؤال ،ولكن تجنبه .ولكن كيف يمكن تجنبه؟
9 R. Otto,The Idea of the Holy (Oxford: Oxford University Press, 1967).
10 B. Spinoza, in the appendix to the first book of his Ethica, ordine geometrico dem-
ostrata.
259 ؟ريرش هللا له
حاول التقليد الذي بدأ مع ويليام جيمس ،وبشكل أكثر وضوحا مع رودولف أوتو،
توصيف المقدّ س بطرق مختلفة كثيرة ،على الرغم من أن كل هذه التوصيفات مرتبطة
ببعضها .11هنا لن أحاول مراجعتها ،وال أن أميز أيا منها .على الرغم من ذلك ،فإنني
ألمح إليها ألنني أعتقد أنها جميعا ــ وبمعنى ما ،كل منها بمفرده ــ تشكل مفهوما بديال
للمقدس ،حيث ال يعتبر ال ّله موضو ًعا أخالق ًيا .إلنهاء هذا القسم ،أود فقط أن أعطي
مثاال على ما أعنيه :حل مشكلة الثيوديسية نتيجة لتغيير في مفهوم ال ّله .وال أعلم أفضل
من كتاب أيوب.
في معظم القصيدة التي تشكل نص أيوب ،يتضح أنه عندما يطلب أيوب من الرب
تفسيرا ،يفكر في أن يهوه هو شخص قادر على إعطائه إياه .إلهه إله العهد ،الذي
وافق على أن يكون مسؤوال عن مصير مخلوقاته .وهكذا ،فإن أيوب ــ كما أشارت
فنغاريت 12ــ يخاطب ال ّله بلغة قانونية حيث يكون الرب في بعض األحيان مدعيا،
وأحيانا قاضيا ،ودائما ما يكون مدافعا مرغوبا ولكن غائبا .كما يعلم جميع قراء
الكتاب ،ال يقدم يهوه أبدا التفسير الذي ينتظره أيوب بلهفة ،ومع ذلك تأتي لحظة
يتوقف فيها أيوب ــ الذي بدا حتى ذلك الحين بال هوادة ــ عن التساؤل .الفصول
النهائية تحكي عن التجربة الدينية التي يفترض أنها أقنعت أيوب وأخمدت سخطه.
تم الكشف عن يهوه كقوة ،خالق تنوع طبيعي هائل ،لكون مذهل وسا ٍم على حد
سواء ،لكنه ٍ
خال من األغراض األخالقية .الصوت من الزوبعة ،الذي يجيب أيوب
ال يتكلم ــ كما الحظ أوتو وفنغاريت ــ ال عن نهايات حسنة ،وال عن أسباب تفسر
معاناة أيوب البريئة؛ وبهذا المعنى ،فإن الصوت من الزوبعة ال يحل مشكلة أيوب،
بل يفككها بدال من ذلك ،ألنه يكشف عن إله غير خاضع للتقييم األخالقي .إذا كان
11أعتقد أن جميع هؤالء المؤلفين الذين اتبعوا ــ بشكل ضمني أو صريح ــ تأكيد أوتو على الخبرة
الدينية ،سيوافقون على هذه النقطة .أشير إلى فان دير ليو وميشيل ميسلين وميرسيا إلياد ومارتن بوبر
و(في العالم الناطق باإلسبانية) خوسيه غوميز كافارينا ومارتن فيالسكو ولويس فيلورو ورامون
شيراو .بالطبع ،لكل منهم سماته الخاصة ،ولكن يمكن ألي واحد منهم أن يجسد مفهوم ال ّله الذي
أشير إليه.
12 H. Fingarette, «The Meaning of Law in the Book of Job,» in Revisions, ed. S. Hau-
erwas and A. MacIntyre (London: Notre Dame Press, 1983).
اريرباك ليبازيإ 260
الكون ال يستجيب لتوقعات اإلنسان ،فلماذا يكون ال ّله كذلك؟ أخشى أن العدل
واألخالق هي اهتمامات إنسانية باألساس.13
ولكن إذا لم نتصور أن ال ّله كائن متعال يمكن أن يحكم عليه أخالقيا ،فعندئذ ال
يمكننا أن نجد فيه معنى المعاناة ،وال تفسير الشر الذي يبتلعنا .ال يزال أيوب عاجزا عن
الكالم ،لكن معاناته تظل بال إجابة .لن يحتاج بعد اآلن إلى البحث عن الجواب في
ال ّله ،لكن هذا ال يعني أنه قد تم العثور على الجواب.
ترتبط فكرة ال ّله على أنه أخالقي بفكرة أن اإليمان الديني يعطي المعاناة بطريقة ما
معنى .في الواقع ،كما أشرنا سابقا ،فإن االستجابات الكالسيكية لمشكلة الثيوديسية
هي أيضا ردود على مشكلة معنى المعاناة .ولكن كيف يمكن إعادة صياغة هذا السؤال
فيما يتعلق بالمقدس؟ كيف يمكن إفساح المجال للعزاء الذي يطلبه المؤمن بال ّله
عندما تعذبه المعاناة الفاقدة للمعنى؟ يبدو المفهوم البديل للمقدس غريبا وغير ٍ
مبال
بهذه المخاوف .بهذا المعنى ،الحوار الساخر الذي يتخيله روبرت فروست يحدث بعد
سنوات بين أيوب ويهوه هو في صميم الموضوع .يقول ال ّله أليوب:
لمدة طويلة ،أدين لك باعتذار
ِ
الظاهر من أجل الحزن العبثي في
كنت تعاني في تلك األيام الخوالي
لكنها كانت من جوهر المحاكمة
ال يجب أن تفهم ذلك في ذلك الوقت
كان ال بد من أن يكون لها معنى
وخرج على ما يرام .ليس لدي شك
أنت تدرك اآلن الجزء الذي لعبته
لتبطل سفر التثنية
13 Chapter 3, «El Dios de Job,» of El lado oscuro de Dios (Barcelona and Mexico City:
Paidós, 1998).ــ UNAM
261 ؟ريرش هللا له
المؤنس َنة
ِ موضع اللغة
أود أخيرا أن أقول شيئ ًا عن مشكلة مهمة في رأيي .يمكن القول أن فرض تصور
للمقدس على فكرة إله متعال يعني تجاهل الجزء األكبر مما قيل عن ال ّله في التقليد
اليهودي المسيحي .ليس هناك شك في أن غالبية النصوص الدينية تستخدم لغة مؤنسنة،
وتتحدث عن ال ّله كما لو كانت تتعامل مع كائن متعال يقيم عهودا مع مخلوقاته ،وف ًقا
14 «A Masque of Reason,» in Job: A Case Study, by Robert Frost, ed. Raymond Break-
stone (New York: Bookman Associates, 1964), pp. 224–25.
اريرباك ليبازيإ 262
للبعض ،يتجسد في عمل يسوع .ما الذي يمكن قوله عن هذا؟ أبرزت بعض التحليالت
للتجربة الدينية وجود شعور بالتقارب ،والعالقة ،والحميمية في كثير من األحيان ،مع
المقدس .عنصر االتصال أو التقارب هذا ضروري إلعطاء معنى للصالة والعبادة
والدعوة والممارسات الدينية األخرى .ال يرى المؤمن شيئا مقدسا أو يختبره فحسب،
بل يعتقد أيضا أنه يستطيع أن يقيم عالقة شخصية معه ،ويقيمه بشكل معتاد من خالل
هذه الممارسات الدينية .كما يالحظ بوبر بحدة ،يؤمن المؤمن عادة بإله يمكنه مخاطبته
كـ»أنت» .ليس من قبيل المصادفة أن أصل كلمة «دين» متجذرة في فكرة العالقة أو
االرتباط بالمقدس .لكن هذه الحاجة إلى التقارب ال تلزمنا بالضرورة بمفهوم ال ّله
على أنه شيء مماثل للشخص .هناك ألوهية سامية موهوبة بالعقل واإلرادة ،مع ذلك،
بعيدة :قد نفكر في المحرك غير المتحرك ألرسطو ،والخالِق ألفالطون ،أو إله بعض
الربوبيين اإلنجليز .من ناحية أخرى ،هناك مفاهيم دينية متأصلة ،وتصر على أن ال ّله
ليس شيئا مشابها للشخص ،ولكنه مع ذلك يسمح بعالقة وثيقة :قد نفكر في اإلطار
الديني القديم الذي يتمحور حول آالمنا ،أو في طريقة حديث جوته عن ومع الطبيعة،
على سبيل المثال ال الحصر ،بعض األمثلة التي قدمها بوبر في كتابه أنا وأنت.
بالنظر إلى هذه الحقيقة ،وهي أن الحاجة إلى التقارب والعالقة مع المقدس هي
عنصر موجود في معظم التجارب الدينية ،عادة ما تفسر التحليالت الفينومينولوجية
اللغة الدينية على أنها تناظرية بدال من وصفية .عندما يشير المؤلف إلى ال ّله على أنه
رب الجيوش ،كملك أو كأب ،فإنه ال يصف من هو ال ّله؛ بدال من ذلك ،يعبر عن نوع
المشاعر والتجارب التي أثارها فيه المقدس .في الواقع ،تشير النصوص في العديد من
األماكن إلى ال ّله باستخدام الصور التي ــ إذا تم تفسيرها بشكل وصفي ــ تجعل الرب
حيوانا شرسا ،أو زوبعة ،أو عاصفة صحراوية ،أو رشقا مسموما .هنا أيضا ،من الواضح
أن هناك استخداما تناظريا للغة.
على أي حال ،يبدو أن التخلي عن اللغة المؤنسنة يعني نبذ األلفة مع ال ّله .إن تصور
ال ّله كشخص يمكنه أن يشاركنا بعض اهتماماتنا يفتح الباب أمام إمكانية التحدث معه،
وبالتالي الصالة .من ناحية أخرى ،ال يبدو المقدس ــ الذي اقترحته كمفهوم بديل ــ
شي ًئا يمكننا التواصل معه بطريقة شخصية .وبهذا المعنى ،فإن شكل التعبير ليس ذا
263 ؟ريرش هللا له
صلة؛ بالنسبة للمؤمن ،يهم ما إذا كان يتم استخدام لغة مؤنسنة أو مجموعة من الرموز
الكونية ،ألن الشكل يسهل استدعاء ال ّله وبالتالي اإلحساس بالتقارب مع ال ّله .ما يهم
ليس مجرد اإلشارة بنجاح (وإن تكن بغموض) إلى ال ّله ،إلى اآلخر كليا ،من المهم
أيضا إنشاء نوع معين من العالقة معه.
لكن يبدو أن المقدس عرضة للتبخر والذوبان بسهولة أكبر من إله شخصي .لهذا
السبب (من بين أمور أخرى) ،قامت األديان بشخصنة أربابها ،وال يوجد أي مؤمن
يصلي أو يتكلم مع إله له اسم آخر غير ال ّله الذي يؤمن به .وبالتالي ،إذا كان المؤمن ال
يميل ،كما هو الحال عادةً ،إلى التخلي عن عالقة شخصية مع المقدّ س ،فقد يستسلم
لإلغراء الطبيعي لمعاملته على أنه «أنت» ،ولكن دائما يعرف على مستوى ما أن هذا
مجرد أسلوب للتحدث .يبدو لي أن تأمالت إيكهارت ،وكرب لوثر ،وشعر سان خوان
دي ال كروز ،أو تراتيل األم لفيفالدي ،كلها طرق مختلفة للتحدث مع ال ّله ــ للصالة
ــ التي تفترض إلها قريبا وشخصيا؛ وهذا يقودنا في الغالب إلى اللغة المؤنسنة التي
يستخدمونها لمخاطبة المقدس .ومع ذلك ،أعتقد أن هذا هو المفتاح :يبدو أنه يجوز
التشكيك إذا كان من المفترض استخدام لغة مؤنسنة لغرض التحدث عن ال ّله ،أو
وصفه؛ ولكن ال يصح رفضه عند استخدامه للتكلم مع ال ّله .في النهاية ،كما الحظ
غوميز كافارينا ،فإن الهدف ليس صياغة نظرية عن إله شخصي ،بل أن نعيش ال ّله
شخصيا ،حتى نكون قادرين على التعامل مع الغموض النهائي كمحبين.15
15 La entraña humanista del cristianismo (Navarre: Verbo Divino, 1998), p. 287.
دراسات
إن الصيغة المنطقية لمسألة الشر تدعي وجود تناقض بين القضية القائلة« :إن
ال ّله موجود» ،والقضية القائلة« :إن الشر موجود في هذا العالم» .وفي الجزء األول
أثبتنا أن هذه الصيغة من االدعاء غير صحيحة .بمعنى أنك إنما تستطيع أن تعتبر
أصل وقوع الشر في هذا العالم دليال على عدم وجود ال ّله ،إذا أضفت إلى برهان
الشر مقدمة أخرى .ونعني بهذه المقدمة أن تستدل على أن ال ّله ال يستطيع أن يقدم
أي سبب أخالقي يبرر جواز هذا الشر .ولكن ما هو هذا الدلي والسبب األخالقي َّ
الذي يبرر له ذلك؟ وهنا أفضى بنا الكالم إلى الحديث عن نظرية الدفاع القائم على
االختيار.
إن الدفاع القائم على االختيار يدعي في الحقيقة أن السبب الذي يبيح ل ّله أن
يوجد الشرور في هذا العالم هو أصل وجود االختيار لدى اإلنسان أو االختيار في
هذا العالم .وقد ذكرنا هناك أنا نفترض أن ال ّله كان أمامه خياران في خلق العالم؛
الخيار األول :أن يخلق عالما خاليا من االختيار ،وأن جميع الكائنات فيه تقوم
بأعمالها وفقا لخطة معدة سلفا ،وأنهم في ذلك يشبهون أجهزة الروبوت ،أما الخيار
الثاني :أن يخلق عالما يتمتع بعض سكانه ــ في الحد األدنى ــ بحرية االختيار وال
وحررها
1أستاذ فلسفة الدين في جامعة Moravian Collegeفي الواليات المتحدة .أعدها ّ
بالفارسية :أميد قائم بناه ،ترجمها للعربية :حسن مطرُ .تن َْش ُر على ثالثة أجزاء ،هذا هو الثاني
منها ،وقد ن ُِشر الجزء األول في عدد المجلة الماضي.
265 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
سيما في بعض سلوكياتهم وقراراتهم الهامة إلى حد كبير .وعليه فإن السؤال الماثل
هنا هو :ما هو الخيار الذي سيكون األفضل؟ وخلق أي العالمين سيكون هو الراجح
من الناحية األخالقية؟ يبدو بالنسبة إلى الغالب أن العالم الواجد لالختيار أفضل
بكثير من العالم الفاقد ألي نوع من أنواع االختيار؛ بمعنى أننا نرى نوعا من القيمة
للحرية واإلرادة واالختيار .هذا ولو كان الفرد يرى أن االختيار شرط في األخالق،
فهذا يعني أنه قد آمن بأن عدم االختيار ال يجعل من الشرور األخالقية أمرا مستحيال
فحسب ،بل ستكون حتى الخيرات األخالقية مستحيلة أيضا .وعليه فإننا في العالم
الفاقد لالختيار وإن كنا نحد من حدوث الشرور ،ولكننا في الوقت نفسه نحد من
حدوث الخيرات أيضا .وعليه فإن ال ّله إذا اختار خلق العالم المختار يكون قد أحسن
صنعا .ولكنه بمجرد أن يخلق هذا العالم المختار ،يكون اتخاذ بعض القرارات واقعا
على عاتق هذا العالم المختار ،وإذا أراد ال ّله أن يحول دون هذه القرارات ،فهذا يعني
أنه سيحول دون اختيارهم ،وال يخفى أن هذا يعني نقضا للغرض .وعليه إذا أمكن
وقوع الشر أمكن لنا أن نتصور انحراف بعض الفاعلين الذين يتمتعون باالختيار،
حيث يوظفون اختيارهم في إطار ارتكاب الشرور .وبذلك يتحقق لدينا عالم رغم
اتصافه بقيمة االختيار ،إال أنه في الوقت نفسه هناك ثمن وضريبة يجب أن تُدفع بإزاء
هذا االختيار ،وتتمثل هذه الضريبة بوقوع الشرور في هذا العالم أيضا ،لذا فإنه بنا ًء
على الدفاع القائم على االختيار يكون ال ّله قد أحسن صنعا في خلق العالم المختار،
بمعنى أنه خلق عالما من الممكن أن تقع فيه الخيرات األخالقية ،إال أن الشرط
الضروري لتحقق هذا العالم هو إمكان تحقق الشر أيضا .ولكن ال يمكن لكم خلق
هذا العالم األفضل «أي العالم الواجد للخير والخيرات األخالقية» دون أن يكون
هناك إمكان لفتح باب الشرور على هذا العالم ،بمعنى أن إمكان تحقق الشر يمثل
شرطا ضروريا والزما من الناحية المنطقية ،لتحقيق االختيار ،وليس بإمكان أحد
ــ حتى ال ّله ــ أن يخلق عالما مختارا واجدا للخيرات األخالقية ،وفي الوقت نفسه
يخلو من الشرور األخالقية.
هذه هي خالصة أطروحة الدفاع القائم على االختيار ،إال أن هذا الدفاع قد
تعرض للنقد من قبل المفكرين وفالسفة الدين من مختلف الجهات .وفيما يلي
يقارن شرآ .د 266
سوف نتحدث بالتدريج عن ثالثة انتقادات هامة تم إيرادها على هذا الدفاع القائم
على االختيار ،مع ذكر بعض األمور األخرى في ذات السياق.
الختيار اإلنسان في حدوثها .وعلى هذا األساس فإن أطروحة الدفاع القائم على
االختيار حتى إذا كانت مجدية ،فهي إنما تجدي في تقديم التبرير األخالقي الوجيه
بالنسبة إلى بعض الشرور الواقعة في هذا العالم ،وأما الجزء األعظم من الشرور،
وهي الشرور الطبيعية فتخرج عن دائرة التبرير ،وال يمكن طبقا ألطروحة الدفاع
القائم على االختيار تبرئة ساحة ال ّله من هذا النوع من الشرور.
هذه ثالثة انتقادات رئيسة ،وفيما يلي أود أن أذكر بعض النقاط واألمور بشأن
النقد األول.
2ــ جون ليسلي ماكي ( 1917ــ 1981م) :فيلسوف أسترالي ملحد ،اشتهر بآرائه ما وراء األخالقية،
وال سيما دفاعة عن مذهب الشك األخالقي .من أشهر كتبه (األخالقيات :االختراع الصائب
والخاطئ) ،وقد استهله بجملته الحاسمة التي يقول فيها( :ال وجود للحقيقة العينية)؛ ليستدل
عرب). (الم ّ
بعد ذلك على ضرورة اختراع األخالقيات دون اكتشافها؛ إذ ال وجود لهاُ ،
يقارن شرآ .د 268
استدالل «ماكي» على إمكان هذا العالم الثالث ،.ويمكن لك أن تتصور هذا العالم
من خالل شخص ال يرتكب أي خطأ ولم يرتكب أي شر في حياته ،ولنفترض
وجود مثل هذا اإلنسان في شخص «المهاتما غاندي» فهو على الرغم من قدرته
ف حياته على فعل الخير ،وافتراض عالم على فعل الشرور ،قد اختار بإرادته أن ي ِ
وق َ ُ
يكون فيه جميع الناس من أمثال «المهاتما غاندي» ليس محاال من الناحية المنطقية،
ففي هذا العالم الذي هو عالم ممكن ،نعيش متمتعين بإرادتنا واختيارنا ،ويمكن أن
نختار أفعال الخير ونجتنب أفعال الشر كما صنع «المهاتما غاندي» مثال .لنعد اآلن
إلى التعريف الذي يقدمه المؤمنون بال ّله عن القدرة المطلقة ،بمعنى أن ال ّله قادر
على فعل كل شيء ممكن من الناحية المنطقية ،فإذا كان هذا العالم الثالث ممكنا،
وهو كذلك ،وإذا كان ال ّله قادرا بشكل مطلق ،وهو كذلك ،إذن يمكن ل ّله أن يخلق
هذا العالم الثالث ،وبالتالي يمكنه ْ
أن يخلق عالما تختار فيه الكائنات أفعال الخير،
وتتجنب ارتكاب الشرور .يمكن ل ّله إذن أن يخلق عالما ثالثا يتصف باالختيار
ويخلو من الشرور ،ولكن الحقيقة هي أن هذا العالم الثالث لم يتم خلقه ،فالعالم
الذي نعيش فيه حاليا هو العالم الثاني .ومن هنا يذهب ماكي إلى االدعاء بأن ال ّله
كان بإمكانه أن يخلق مثل هذا العالم األفضل المشتمل على الخير والخالي من
الشر ،وكان عليه بمقتضى خيريته أن يخلق هذا العالم ،وحيث إنه لم يقم بخلق هذا
العالم ،وجب التشكيك في خيريته.
فما الذي يمكن قوله في الجواب عن هذا النقد الهام؟ لقد كان بالنتينغا من بين
الفالسفة الذين خاضوا في هذا النقد ،وقدم له إجابة ملفتة لالنتباه .فقد أذعن بالنتينغا
بأن العالم الذي يتحدث عنه ماكي هو عالم ممكن ،بمعنى أن باإلمكان أن نفترض ــ
الكائنات مختارةً ،وأنها تختار فعل الخيرات
ُ من الناحية المنطقية ــ عالما تكون فيه
وتجتنب الشرور على الدوام ،بيد أن الخطأ الذي يرتكبه ماكي هو أنه يدعي أن خلق
هذا العالم يدخل في قدرة ال ّلهّ ،
وأن هذه الفرضية تعود بطبيعة الحال إلى غوتفريد
فيلهيلم ليبنتز 3الذي صاغ هذا المفهوم في فلسفة الغرب ،وهو المفهوم القائل بأن ال ّله
3غوتفريد فيلهيلم ليبنتز ( 1646ــ 1716م) :فيلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي
ومكتبي ومحام ألماني الجنسية .عرف عنه تفاؤله بأن هذا الكون هو أكمل خلق ال ّله ،بحيث ال
269 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
إذا كان يتصف بالقدرة المطلقة ،أمكنه خلق كل عالم ممكن .وقد كانت هذه القاعدة
ــ بطبيعة الحال ــ هي القاعدة التي آمن بها الكثير من المؤمنين التقليديين في األديان
التوحيدية .إال أن بالنتينغا قد ذهب إلى االدعاء بأن هذا االفتراض غير صحيح ،وقال بأن
ال ّله غير قادر على خلق كل عالم ممكن ،وقد تقدم أن ذكرنا أن قدرة ال ّله طبقا لإللهيات
التوحيدية تتحدد بحدود المحاالت المنطقية ،فإذا لم يكن ممكنا من الناحية المنطقية،
فسوف يستحيل على ال ّله أن يقوم به .إال أن بالنتينغا يقدم مزيدا من اإليضاح بشأن هذا
أن أمر العا َلم ال ينحصر هنا في الممكنات فقط ،بل علينا أن نسأل أنفسنا:
التعريف ،ويرى ّ
هل يمكن ل ّله أن يخلق مثل هذه العوالم أم ال؟ ولكي يتضح أن خلق عالم ممكنًا غير
ممكن ل ّله من الناحية المنطقية ،في مثل هذه الحالة حتى إذا كان ذلك العالم ممكنا ،إال
أن عدم تمكن ال ّله من خلق هذا العالم ال يضر بقدرة ال ّله المطلقة؛ وذلك ألننا عندما نقول
إن ال ّله قادر مطلق ،نريد بذلك أن قدرة ال ّله تنحصر بحدود المحاالت المنطقية ،ومن
ذلك أنه إذا كان القيام بفعل غير ممكن بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية ،فإن ال ّله ال
أن عدم القيام بذلك األمر ال ُينقص من قدرة ال ّله المطلقة .يذهب
يستطيع أن يقوم به ،أي ّ
بالنينغا إلى االعتقاد بأن العالم الثالث ممكن ،إال أن خلقه رهن بإرادة وقرار حر من
سكان هذا العالم الثالث ،وليس بقرار وإرادة من ال ّله ،إذ طبقا للتعريف ،ال يمكن تحديد
وتعيين القرارات االختيارية من خالل العوامل والشرائط على نحو سابق .بمعنى أن ال ّله
إذا أراد أن يتدخل ،ويضطر الكائنات بنحو من األنحاء إلى القيام دائما بأعمال الخير ،لن
تعود هذه الكائنات مختارة ،فعلى هذه الكائنات أن تتخذ قرارها بنفسها ،وأن تختار فعل
الخيرات بإرادتها ،وأن تجتنب جميع الشرور بحريتها وقرارها ،وبالتالي فإن خالصة ما
يريد بالنتينغا قوله هو أن هذا العالم الثالث ممكن من الناحية المنطقية ،إال أن خلقه محال
على ال ّله ،فال يمكن أن يوجد إال إذا أراد سكانه ذلك .وعلى هذا األساس فإن ال ّله عندما
خلق هذا العالم كان يرجو أن يخلق هذا العالم الثالث ،إال أن اختيار سكان هذا العالم بين
أن يخلقوا العالم الثالث أو العالم الثاني ،خارج عن إرادة ال ّله ،إذ إنه رهن بإرادة وقرار
سكان هذا العالم .وعليه يمكن للمؤمنين في حيال نقد ماكي أن يلتزموا بأن العالم الثالث
يمكن أن يوجد أكمل منه .كما أنه كان باإلضافة إلى (رينيه ديكارت) ،و(باروخ سبينوزا) ،أحد
أعمدة الفلسفة العقالنية خالل القرن السابع عشر للميالد.
يقارن شرآ .د 270
ــ العالم المتصف باالختيار والخالي من الشرور ــ ممكن ،بيد أنه خالفا لـليبنيتز وخالفا
لـماكي يجب االدعاء في الحقيقة أن هذا العالم وإن كان ممكنا ،إال أن تحققه غير ممكن
بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية ،إذ تحقق هذا العالم رهن بإرادة سكانه ،فإذا أراد
سكان هذا العالم القيام بالخيرات فقط ،فإن هذا العالم الثالث سيتحقق ،وإذا لم يريدوا
ذلك؛ تحقق العالم الثاني .بعبارة أخرى إن ال ّله خلق عالما يمكنه أن يتصف بأنه عالم ثان
كما يمكنه أن يتصف بأنه عالم ثالث؛ وحيث خلق الكائنات فيه حرة مريدة ومختارة،
فقد ترك لهذه الكائنات حرية اختيار أحد هذين العالمين ،وتحديد هوية هذا العالم الذي
يمكن له أن يكون عالما ثالثا ،ويمكن له أن يكون عالما ثانيا ،وبذلك يبدو أن انتقاد ماكي
على أطروحة الدفاع القائم على االختيار غير وارد ،وأنه في الحقيقة قد أقام استدالله
على شيء يطلق عليه بالنتينغا اسم «خطأ ليبنيتز» ،بمعنى اإلدراك الخاطئ لمفهوم القدرة
اإللهية ،إذ يجب أن يكون لدينا إدراك أكبر لتعريف القدرة اإللهية ،فعندما نقول إن ال ّله
قادر مطلق ،نريد بذلك أن ال ّله قادر على أن يحقق كل عالم ممكن يكون تحققه ممكنا
بالنسبة له من الناحية المنطقية .وإذا أخذتم ذلك في تعريفكم وفهمكم لمفهوم القدرة
اإللهية المطلقة ،يكون العالم الثالث رغم إمكانه إال أن تحققه خارج عن دائرة قدرة ال ّله،
ّ
وأن سكان هذا العالم هم الذين يستطيعون تحقيقه أو عدم تحقيقه تبعا إلرادتهم والقرار
الذي يتخذونه ،وبذلك يبدو أن هذا النقد ال يتمتع بالوزن واالعتبار الكافي من الناحية
المنطقية.
يفترض النقد
ُ يبقى هناك ــ بطبيعة الحال ــ انتقادان يجب علينا اإلجابة عنهما ،إذ
الثاني أن مشكلة قدرة ال ّله محلولة ،بيد أن ال ّله باإلضافة إلى ذلك عالم مطلق أيضا،
وعلمه المطلق يتضمن العلم السابق ،بمعنى أن ال ّله يعلم ماذا سيحدث في المستقبل،
وألن ال ّل َه ــ طبقا للتعريف ــ ال يستطيع أن يتع ّلق بأي قضية كاذبة ،فإن علم ال ّله يجب أن
ّ
علم ال ّله األزلي .وإذا كان
يتعلق بما سيصدر عنا فقط ،وأال يصدر عنا سوى ما تعلق به ُ
األمر كذلك ،لن يكون باإلمكان أن يصدر عنا سوى ما قدر لنا ،وأساسا ال يمكن للفعل
االختياري أن يصدر عنا ،وعلى هذا األساس ،فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار
تقوم على فرضية خاطئة؛ فرضية اختيار اإلنسان .والنقد الثالث ــ كما سبق بيانُه ــ يعود
إلى طريقة بيان الشرور الطبيعية في هذا العالم.
271 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
إن ال ّله ــ من الناحية األخالقية ــ لديه سبب وجيه فيما يتعلق بوجود الشرور في
ّ
هذا العالم ،فال ّله عند خلق هذا العالم كان أمام خيارين؛ وهما :أن يخلق عالما مختارا،
أو أن يخلق عالما فاقدا لالختيار .وحيث أن االختيار والقدرة على القيام بالخيرات
األخالقية المتوقفة على االختيار ينطوي على خير عظيم وق ّيم ،فقد اختار خلق هذا
العالم ،ولكن بمجرد خلقه هذا العالم المختار ،وقعت مسؤولية القيام ببعض األمور
على عاتق الكائنات المختارة التي تقطنه ،إذ إنهم أحرار في أن يقوموا بتلك األعمال أو
باب وقوع الشرور في هذا العالم ،فالفاعل
يتركوها .وبطبيعة الحال فتح هذا اإلمكان َ
المختار في هذا العالم قد يعقد العزم على ارتكاب بعض األعمال الشريرة ،وبالتالي
تظهر الشرور في هذا العالم .وعلى هذا األساس فإن إمكان تحقق الشرور في هذا
العالم يمثل شرطا ضروريا لتحقق االختيار فيه ،فال ّله لو أمكنه أن يسلب اإلنسان
القدرة على اختيار الشر ،فإنه في الحقيقة سيكون بمعنى من المعاني قد سلبه القدرة
على االختيار .وعلى هذا األساس فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار ،تقوم على
فرضية وجود االختيار في هذا العالم .تقدم أن شرحنا واحدا من االنتقادات الواردة
على أطروحة الدفاع القائم على االختيار ،وهو النقد القائل بأن الخيارات الموضوعة
أمام ال ّله عند الخلق ال تنحصر بهذين الخيارين فقط ،وإنما هناك خيار ثالث؛ إذ يمكن
ل ّله أن يخلق عالما ثالثا يكون فيه اإلنسان مختارا ،وأنه يختار فعل الخيرات دائما،
ويترك أفعال الشر ،وأن هذا العالم الثالث خير من العالم األول ومن العالم الثاني؛ ألنه
ينطوي على حسنات العالم الثاني وحسنات العالم األول ،ويتنزه عن سيئاتهما .من هنا
يجب على ال ّله المتصف بحب الخير أن يخلق هذا العالم الثالث ،وحيث إنه لم يخلقه
وجب التشكيك في اتصافه بالخير .وفي معرض اإلجابة عن هذا النقد ،هناك من يعتقد
بأن هذا العالم الثالث وإن كان ممكنا من الناحية المنطقية ،إال أن تحققه غير ممكن
بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية ،إذ ال ّله وإن كان قادرا مطلقا ،إال أنه ال يستطيع
خلق هذا العالم دون نقض اختيار اإلنسان .وبعبارة أخرى :إن خلق هذا العالم المثالي
متروك للناس أنفسهم ،فإن قرروا فعل الخير دائما وأبدا وترك الشرور مطلقا ،تحقق
العالم الثالث ،وإن قرروا فعل الشرور فلن يتحقق هذا العالم الثالث بطبيعة الحال،
إنما الذي سيتحقق هو العالم الثاني ،أي العالم الواجد لالختيار والذي ينطوي على
يقارن شرآ .د 272
الشرور .وعليه فإن هذا العالم الثالث وإن كان ممكن التحقق ،إال أن تحققه رهن بإرادة
الناس وسكان هذا العالم أنفسهم ،وعليه ال يكون تحقيق هذا العالم ممكنا ل ّله من
الناحية المنطقية.
المطلق ،يكون من بين مدلوالت هذا الكالم أن ال ّله ال يعتقد بأي قضية كاذبة ،وال
يمكنه أن يعتقد بها ،وبعبارة أخرى :إن ال ّله ال يتعرض إلى الخطأ من الناحية المعرفية؛
وهذا هو الجانب السلبي من علم ال ّله المطلق والذي يعني أن علم ال ّله المطلق يحول
دون تسلل القضايا الكاذبة إلى المنظومة المعرفية ل ّله ،أما الجانب اإليجابي فيدعي
أن ال ّله عالم بجميع القضايا الصادقة .وعلى هذا األساس فإن من بين مدلوالت علم
ال ّله المطلق هو أن ال ّله يعلم بكل ما يحدث أو يقع في هذا العالم سواء في الماضي أو
الحاضر ،واألهم من ذلك أنه يعلم ما سوف يحدث في المستقبل أيضا ،فإذا افترضنا
أن حادثة سوف تقع في هذه الوحدة الزمنية ،فإن ال ّله يعلم بها قبل وقوعها ،إذ لو كنت
سأشرب كوب لبن غدا ،فإن ال ّله في أي وقت مضى يعلم أني سأشرب كوب اللبن غدا،
وهذا ما يسمى بعلم ال ّله السابق ،أي أن ال ّله كان عالما منذ األزل بأحداث المستقبل،
بما في ذلك أفعال البشر .وعلى هذا األساس يكون علم ال ّله المطلق في الوقت نفسه
متضمنا لعلمه السابق بوقائع المستقبل بما فيها أفعال اإلنسان ،لذا فال ّله كان على الدوام
يعلم بأفعالنا نحن البشر التي سنقوم بها في الوحدة الزمنية الخاصة بها.
أما القائلون بعدم انسجام علم ال ّله المطلق مع القول باختيار اإلنسان ،فيقولون :إذا
كان ال ّله يمتلك مثل هذا العلم حقيقة ،فهل يمكن اعتبار شرب الشخص للبن غدا ،فعال
اختياريا له؟ علينا أال ننسى أن االختيار ــ طبقا لمعنى االختيار في أطروحة الدفاع القائم
على االختيار ــ يعني قدرتك على فعل الشيء وتركه على السواء ،فإذا افترضنا أن ال ّله
كان يعلم قبل مئة سنة أني سأشرب اللبن غدا ،فهل سيمكن لي أن أمتنع عن شرب اللبن
غدا؟ لنفترض أنني سأمتنع عن شرب اللبن ،ولكن هذا سيعني أن علم ال ّله السابق لم
يكن صحيحا ،وحيث أن ال ّله يستحيل عليه الخطأ ،وأنه بوصفه عالما مطلقا ،ال يعتقد
بأي قضية كاذبة ،فهذا يعني أني سوف أشرب اللبن غدا ال محالة ،وأنني ال أستطيع غير
ذلك .وعليه يبدو وجود مشكلة هنا ،فما هو الطريق إلى حلها؟
إن واحدة من طرق الحل قد تكون على صيغة أن يقول شخص :إن ذلك يعني
أني أستطيع اليوم أن أقوم بفعل كان ال ّله قبل ثمانين سنة يعلم بغير الذي كان يعلم به
اآلن ،إال أن هذا ال يبدو صحيحا ،وأن الماضي ال يمكن تغييره .فلنفترض أنني قبل
عشر سنوات كنت أعتقد مثال أن حكم اإلعدام من الناحية األخالقية غير جائز في
يقارن شرآ .د 274
بعض الموارد ،واليوم قد تغير رأيي في هذا الشأن ،صحيح أنني أعتقد بهذا الرأي
حاليا ،ولكن ليس ألحد اليوم أن يقوم بشيء ليثبت أني لم أكن أعتقد بذلك االعتقاد
قبل عشر سنوات ،وال أستطيع اآلن أن أقوم بشيء يعمل على تغيير القضية التي
كان ال ّله يعلم بها قبل ثمانين سنة .وبذلك نحصل على أصل جديد ،وهو األصل
القائل باستحالة التصرف في الماضي؛ ما يعني أني ال أستطيع تغيير علم ال ّله وما كان
يعتقده قبل ثمانين سنة ،فإذا كان األمر كذلك فهذا يعني أننا سنواجه مشكلة هامة،
إذ ال يمكن تغيير علم ال ّله من الناحية المنطقية ،وحيث أن الفعل الذي أقوم به اليوم
يجب أن يصدق قضية علم ال ّله بأني سأقوم بالفعل «أ» ،فهذا يعني أني ال أستطيع إال
أن أقوم بذلك الفعل «أ».
بعبارة أخرى ،يمكن بيان صورة االستدالل على الشكل اآلتي :إذا كان ال ّله قبل
ثمانين سنة يعلم بأني سأشرب غدا كوب لبن ،فإني في مثل هذه الحالة سأشرب غدا
كوب لبن .وهذا يعني أنني سأشرب كوب اللبن غدا حتما ،وألنه ال يستطيع أحد تغيير
وألن أن ال ّله ال يجوز عليه الخطأ ،لذا ال أستطيع القيام بغير ذلك .وإذا كان
ّ الماضي،
األمر كذلك ،فهذا يعني أني لست مختارا في هذا الفعل؛ إذ إن شرط االختيار هو أنني
في لحظة القيام بالفعل أستطيع فعله وتركه على السواء ،وألن هذا اإلمكان غير متوفر
بالنسبة لي ،فلن يكون فعلي ــ بطبيعة الحال ــ فعال اختياريا ،ويمكن بيان صورة هذا
االستدالل على النحو اآلتي:
1ـ إذا علم ال ّله ضرورة بأني سأقوم غدا بالفعل «أ» ،فإنني سأقوم غدا بالفعل «أ».
2ـ إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا بالفعل «أ».
3ـ إني سأقوم غدا بالفعل «أ» ضرورة .وعليه:
4ـ إن قيامي بالفعل «أ» لن يكون اختياريا.
ال بد لنا من دراسة هذا االستدالل ،إذ يمكن بيان الصورة الخام لهذا االستدالل
الذي ذكرته ،من الناحية الفنية والمنطقية ــ في حده األدنى ــ على النحو اآلتي:
لنفترض أني أظهر مفهوم الضرورة على شكل نجمة كما هو الحال في منطق
الموجهات .وعليه ستكون الصورة المنطقية للبرهان على النحو اآلتي:
275 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
التكهن ال يعني أن ذلك الشخص ال يبقى أمامه من خيار سوى القيام بذلك الفعل
الذي تكهنت به .ويقال الشيء ذاته بالنسبة إلى ال ّله أيضا ،فال ّله بسبب معرفته العميقة
عن الناس ،يتكهن أنك في اليوم القادم سوف تقوم بالفعل «أ» ،وهذا ال يعني أن ال ّله
سيكرهك على القيام بالفعل «أ».
إال أن هذه المقارنة بدورها تبدو مقارنة غير صحيحة أيضا ،إذ هناك اختالف
جوهري بين علمي وعلم ال ّله ،وذلك أننا لو فرضنا أن صديقي زيد قرر هذه المرة أن
يأكل السمك بدال من لحم البقر ،وذلك ألنه بدأ مؤخرا يعاني من ارتفاع في الضغط
وغلظة في الدم ،وقد نصحه الطبيب باالبتعاد عن تناول اللحوم الحمراء ،واستبدالها
باللحوم الحمراء ،وال سيما لحم السمك .وهذا يعني أن تكهني لم يكن مصيبا؛ هل
يمكن قول ذات الشيء بالنسبة إلى ال ّله أيضا؟ الجواب :كال ،ألن ال ّله إذا تكهن بأن
صديقي سيأكل من طبق لحم البقر ،واختار صديقي أن يأكل من طبق السمك ،فهذا
يعني أن علم ال ّله سينقلب جهال ،في حين أن علم ال ّله علم مطلق ،وال يمكن أن يكون
كاذبا أبدا .وعليه من الممكن لي أنا أن أخطئ ،ولكن ال يمكن تصور هذا اإلمكان بحق
ال ّله أبدا.
وعلى هذا األساس يمكن لنا أن نقوم بإجراء تصحيح وتعديل على هذا البرهان
المطروح بشأن عدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان ،وذلك بأن نجري تعديال
المقدمة الثانية من هذا البرهان ،وهي المقدمة القائلة« :إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا
بالفعل «أ»» .وذلك بأن نوضح أن علم ال ّله هو من نوع خاص يختلف عن علمنا ،حيث
أن علم ال ّله يكون بحيث يعلم بالضرورة أني سأقوم غدا بالفعل «أ» .إذ لو كان الفعل
«أ» صادقا ،فإن ال ّله لن يكون بإمكانه سوى العلم بالقضية الصادقة .وهذا ما ال يصدق
علي أن أصدق بالقضايا التي قد يحدث أن تكون كاذبة ،وهذا ما ال بحقي أنا؛ إذ يجوز ّ
يجوز بحق ال ّله .وعليه يجب علينا أن نضيف إلى هذه القضية الثانية قيدا هاما ،وهذا
القيد الهام هو «الضرورة» .ولكي تكون هذه القضية صادقة يجب أن يكون ال ّله في هذه
الحالة عالما بأن القضية «أ» ستقع بالضرورة ،وال يمكن له أن يعلم بقضية كاذبة أبدا.
وعليه يمكن بيان الشكل المعدل للبرهان على النحو اآلتي:
1ـ لو علم ال ّله بأني سأقوم غدا بالفعل «أ» ،فإني سأقوم بذلك الفعل غدا بالضرورة.
يقارن شرآ .د 278
2ـ إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا بالفعل «أ» بالضرورة.
3ـ إني سأقوم غدا بالفعل «أ» بالضرورة .وعليه:
4ـ إن الفعل «أ» سيصدر عني غدا ،دون إرادتي.
* « Qــ »P
*P
*Q
إن هذا البرهان برهان معتبر ،ويؤدي إلى النتيجة المطلوبة ،إذ المطلوب من البرهان
أن ينتجه هو أني ال أستطيع بالضرورة أن أقوم بغير الفعل الذي قمت به ،لذا فهذه الصورة
للبرهان ــ بطبيعة الحال ــ صورة معتبرة .وعليه فإن الذي يقول بأن علم ال ّله المطلق ال
ينسجم مع اختيار اإلنسان يكون مخطأ .إنما الذي ال ينسجم هو اختيار اإلنسان مع
علم ال ّله الذاتي «بالضرورة» العالم المطلق .إن ال ّله المتصف بأنه عالم مطلق ذاتا ،يعني
أنه ال يوجد عالم ممكن ،وال يكون فيه ال ّله محيطا بجميع قضاياه الصادقة ،أو عالما
ببعض قضاياه الكاذبة .ما الذي يمكن قوله بشأن هذه الصورة المعدلة؟ لقد تم تقديم
إجابات متنوعة عن هذه الصيغة الجديدة للبرهان ،وسوف نتناول هذه اإلجابات بمزيد
من التفصيل.
قلنا إن الدفاع القائم على االختيار يدّ عي أن أصل وجود االختيار بالنسبة إلى
اإلنسان ،يمثل دليال أخالقيا وجيها ل ّله يبيح وجود الشرور في هذا العالمّ ،إل أن
المنتقدين يشكلون على ذلك بالقول ّ
إن افتراض وجود االختيار لدى البشر يتعارض
مع بعض المعتقدات األخرى في النظام اإللهي التوحيدي ،فعلى سبيل المثال يقوم
االفتراض في اإللهيات التوحيدية على أن ال ّله يتصف بالعلم المطلق ،وهذا يعني أن
ال ّله يعلم حتى باألحداث التي ستقع في المستقبل أيضا ،وهذا العلم اإللهي المطلق
ذكرت قبل ذلك صورة لهذا البرهان،
ُ ال ينسجم مع اختيار اإلنسان في أفعاله ،ولقد
وشرحت أنها صورة غير دقيقة ،وبينت سبب عدم دقتها ،وحاولت أن أقدم صورة
أدق لهذا االدعاء .يصطلح على االدعاء القائل بعد االنسجام بين علم ال ّله السابق
وافتراض اختيار اإلنسان بالرأي القائل بعدم االنسجام ،وهناك في المقابل من ذهب
279 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
إلى القول بوجود االنسجام بين هذين المفهومين .وإن الصورة األدق لبرهان القائلين
بعدم االنسجام هي أن ال ّله يعلم أني سوف أتناول غدا كوب لبن بالضرورة .لنفترض
أني أقوم بهذا األمر ،فإذا قمت بذلك تكون هذه القضية صادقة ،وإذا كان ال ّله عالما
مطلقا ،وجب أن يعلم بجميع القضايا الصادقة .وعلى هذا األساس؛ أني سأشرب
هذا الكوب من اللبن ،وكانت هذه القضية صادقة ،فهذا يعني أن ال ّله كان يعلم دائما
أني سوف أتناول غدا كوب لبن بالضرورة .ومن جهة أخرى إذا كان ال ّله يمتلك مثل
هذا العلم ،بمعنى أنه كان يعلم دائما بأني سوف أتناول كوب اللبن غدا بالضرورة،
ففي مثل هذه الحالة سوف أقوم بتناول كوب اللبن غدا ،وهذا يعني أن هذا األمر هو
الذي سيتحقق ،وستكون نتيجة هاتين المقدمتين هي أني سوف أتناول كوب اللبن غدا
بالضرورة .وعندما أقول «بالضرورة» فهذا يعني أني ال أمتلك أي خيار آخر غير شرب
ذلك الكوب من اللبن .وإذا كان األمر كذلك ،وكان شربي لكوب اللبن هو الخيار
الوحيد المتوفر أمامي ،ال يعود بإمكانك أن تعتبر شربي لذلك الكوب من اللبن فعال
اختياريا .ألن الفرض في االختيار يقوم على وجود العديد من الخيارات وأن باإلمكان
القيام بالفعل «أ» أو تركه ،أما إذا كان الخيار «أ» هو الخيار الوحيد الماثل أمامي ،بحيث
ال يكون لدي من خيار آخر غير القيام بالعمل «أ» ،فطبقا لهذا التحليل ال يمكن لك أن
تعتبر القيام بالفعل «أ» عمال اختياريا .وعليه فإن القائلين بعدم االنسجام يذهبون إلى
االعتقاد بأننا من خالل االدعاء القائل بأن ال ّله بذاته عالم مطلق بالضرورة ،وأن الزم
علمه المطلق أن يكون عالما بجميع القضايا الصادقة ،نستنتج أن الفعل الذي سأقوم
به غدا الثابت في علم ال ّله السابق» ،ال يمكن أن يصدر مني اختيارا ،وبالتالي ال يمكن
لعلم ال ّله السابق أن ينسجم مع اختيار اإلنسان.
ومن ناحية أخرى يذهب القائلون باالنسجام إلى االعتقاد باختيار كال هذين
المفهومين .إن القائلين باالنسجام ــ يعتقدون بانسجام علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان
ــ يذهبون إلى تبني ادعائين؛ وهما :االدعاء األول :إن ال ّله مثال كان يعلم قبل ثمانين سنة
بأني سوف أتناول اليوم كوب لبن ،وهذا في الحقيقة يرتبط بعلم ال ّله السابق ،واالدعاء
الثاني :أن مفهوم االختيار يقتضي أن يكون بمقدوري اليوم تناول كوب لبن .وبذلك
فإن القائلين باالنسجام يعتقدون بإمكان الجمع بين هاتين القضيتين ،أما المنتقدون
يقارن شرآ .د 280
فيقولون باستحالة اعتبار كلتا هاتين القضيتين صادقة .إذ لو افترضنا أن بمقدوري أن
أحجم اليوم عن تناول كوب اللبن ،فلنر ما هي التبعات والتداعيات التي سوف تترتب
على هذا اإلحجام:
التبعة األولى؛ أن يكون علم ال ّله كاذبا :سيكون هذا األمر ممكنا إذا حدث واحد
من األمور التي سأشير إليها .لنفترض مثال أنه كان بإمكاني اليوم ّأل أقوم بشيء كان
بأي أنني لو استطعت اليوم ّأل أشرب
ال ّله يعلم به قبل ثمانين سنة على نحو كاذبْ ،
ذلك الكوب من اللبن ،فهذا يعني أن علم ال ّله قبل ثمانين سنة المتعلق بأني سأشرب
كوب اللبن صباح هذا اليوم كان كاذبا .وعلى هذا األساس إنما يمكنك االعتقاد بهاتين
القضيتين معا ،إذا أذعنت في الوقت نفسه إلى أني اليوم يمكنني القيام بأمر يجعل من
العلم الذي كان ل ّله قبل ثمانين سنة علما كاذبا ّإل ّ
أن هذا االفتراض باطل؛ إذ لو اعتبرنا
عالما ُم ْط َل ًقا ،ال يمكن عليه بأي حال من األحوال أن يعلم بقضية كاذبة ،وهذا في
ال ّله ً
الحقيقة جزء من مفهوم العلم اإللهي ،إذ عندما نقول إن ال ّله عالم بالمطلق في حد
ذاته بالضرورة ،فهذا يعني استحالة أن تدخل في منظومته العلمية قضية كاذبة ،وبالتالي
ينغلق هذا الطريق.
التبعة الثانية؛ تغيير الماضي :هناك احتمال آخر أيضا ،إذ لو ُ
قمت اليوم بأمر ال يعلمه
ال ّله بذلك العلم الذي كان يعلم به قبل ثمانين سنة ،أي أن ال ّله قبل ثمانين سنة كان
يعلم بأني سوف أتناول اليوم كوب لبن ،ولكني أستطيع اليوم أن أقوم بعمل يجنبني
شرب ذلك الكوب من اللبن ،وهذا يعني أن بإمكاني القيام بشيء يغير الماضي؛ ما
يعني أال يكون ال ّله عالما بما كان يعلمه في الواقع ،أو يلزم عن ذلك أني أستطيع اليوم
إلها قبل ثمانين سنة ،ليس إلها في الواقع! وهذا
القيام بشيء يجعل الشخص الذي كان ً
االحتمال ال يمكن أن يكون مقبوال ،إذ يستحيل تغيير الماضي ،فإذا كان ال ّله قد علم
بشيء قبل ثمانين سنة ،كان أمر ذلك الشيء محسوما ،وال يمكنك أن تعمل على تغيير
إلها في الماضي ،كان األمر مقضيا وال يمكنك
ذلك العلم .أو إذا كان ذلك الشخص ً
اليوم أن تفعل شيء يجعل منه غير إله قبل ثمانين سنة!
وعلى هذا األساس فإن القائلين بعد االنسجام يقولون إنك على خطأ إذ تعتقد
بإمكان الجمع بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان ،إذ إن اعتقادك هذا يدخل في دائرة
281 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
ِ
المستحيل ،وذلك ألن ال ّله الذي يتَّصف بذاته بأنه عالم مطلق ال يمكنه أن يعلم ّ
بأي
قضية كاذبة ،وعليه ال يمكنك أن تقوم بشيء يجعل من الممكن أن يتسلل إلى المنظومة
المعرفية ل ّله ــ الذي تفترضون أنه عالم مطلق ــ علم كاذب .كذلك ،ال يمكنك اليوم
أن تقوم بشيء من شأنه أن يغير الماضي؛ إذ يستحيل القيام بأي عمل يغير شيئا من
الماضي ،وبالتالي يعتقد القائلون بعدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان أنك ما
أن ال ّله كان يعلم قبل ثمانين سنة
دمت معتقدا بهذين األصلين م ًعا ،ال تستطيع أن تدعي ّ
أني سوف أتناول اليوم كوب لبن ،وفي الوقت نفسه يمكنني اليوم أن أحجم عن تناول
هذا الكوب من اللبن ،نوجز هذين األصلين:
األصل األول :أن ال ّله بذاته عالم مطلق ،ولذلك ال يمكنه أن يعلم بقضية كاذبة.
األصل الثاني :إن إحداث أي تغيير أو تصرف في الماضي مستحيل.
أما القائلون بعدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان فيرون عدم صدق هذين
القولين:
إن يعلم ال ّله العالم المطلق «على فرض وجوده» بقضية كاذبة.
استحالة التغيير والتصرف في األمور التي حدثت في الماضي.
إال أن القائلين باالنسجام يذهبون إلى االعتقاد بأن هذه االستنتاجات خاطئة ،ولكي
يبينوا كيف يمكن الجمع بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان ،وأن يكون كال هذين
األمرين صادقا ،يخضعون هذين األصلين «األصل األول وهو اتصاف ال ّله بالعلم
المطلق ،واألصل الثاني وهو استحالة تغيير الماضي أو التصرف فيه» للبحث والتأمل.
من هنا يتعين على القائلين باالنسجام إما أن يوضحوا أن هذين األصلين كاذبان ،أو
إذا كانا صادقين كيف يمكن مع افتراض صدقهما ،التصديق بوجود االنسجام بينهما.
مثل هذه الحالة سيكون عالما بالقضية .bوعلى هذا األساس فإن القائلين باالنسجام
يقولون :على الرغم من صحة األصل األول؛ أن ال ّله بذاته عالم مطلقا بالضرورة وال
يمكن ألي قضية كاذبة أن تجد طريقها إلى دائرته المعرفية ،إال أنه ال ينتج من قدرتي
على عدم شرب كوب اللبن أن ال ّله قد تعلق علمه بقضية كاذبة .وهذا هو الجواب عن
األصل األول ،لذا فإن القائلين باالنسجام يعترفون بصحة األصل األول ،ولكنهم ال
يقبلون بالنتيجة التي يتوصل إليها القائلون بعدم االنسجام.
ال تنظر إلى الماضي تماما ،وإنما هي من القضايا التي تتم إعادتها إلى المستقبل على
نحو خفي ،أما القضايا الصلبة فليست كذلك .ومن هنا فإن األصل القائل باستحالة
إحداث أي تغيير أو تصرف في الماضي ،إنما يصدق بالنسبة إلى الحقائق الصلبة ،أما
القضايا الماضية التي يتم إرجاعها إلى المستقبل ،فال تكون مشمولة لهذه القاعدة .وفي
الحقيقة فإن القائلين باالنسجام يقولون :إن علم ال ّله السابق بشأن أفعالنا االختيارية
هو من نوع تلك القضايا الناظرة إلى الماضي التي يمكن إرجاعها بنحو من األنحاء
إلى المستقبل ،بمعنى أنها ليست من نوع القضايا الضرورية ،وإنما تعبر عن الحقائق
المرنة .وعلى هذا األساس ،عندما نقول في االستدالل إن ال ّله يعلم بأفعالنا االختيارية
بالضرورة ،يجب أن ندرك مفهوم الضرورة بشكل آخر ال يستلزم الضرورة الناظرة إلى
القضايا المعبرة عن الحقائق الصلبة .وبطبيعة الحال ،هناك الكثير من البحث والنقاش
بشأن هذا التقسيم للحقائق إلى صلبة ومرنة ،وما إذا كان بإمكان هذا التقسيم أن يخرج
موقف القائلين باالنسجام من مأزق التوفيق بين القول بعلم ال ّله السابق والقول باختيار
اإلنسان في الوقت نفسه .وال أستطيع ــ لألسف الشديد ــ الخوض هنا أكثر في هذه
المسألة في سياق البحث حول برهان الشر ،إذ هذه المسألة في حد ذاتها تحتاج إلى
بحث تفصيلي مستقل ،وإنما أردت أن أبين مجرد شيء من التعقيد القائم في البحث
المحتدم بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان ،وأن يدرك القارئ أن لدى كال طرفي
النزاع في هذا الشأن لدعم وجهة نظره أدلة جديرة بالمالحظة والتدبر.
ال ّله المطلق ،وذلك من خالل القول إن علم ال ّله المطلق إنما يتعلق بجميع القضايا
الصادقة التي يمكن ل ّله من الناحية المنطقية أن يعلم بها ،لذا إذا افترضنا االختيار بهذا
المعنى ،فإن العلم بالقرارات االختيارية لألفراد مادام أنهم لم يتخذوها ،فال يمكن
ألحد ــ بما في ذلك ال ّله نفسه ــ أن يعلم بها من الناحية المنطقية.
يقول الذاهبون إلى االعتقاد باالختيار :إن ال ّله قد خلق الكائنات مختارة ،وأراد تكريم
الكائنات بمنحهم حرية االختيار ،وعلى الرغم من قدرته على العلم بنتائج اختياراتهم
حجب عن نفسه العلم بها بإرادته احتراما لكرامتهم.
المنطقية لبرهان الشر عاجزة عن دعم رؤيتها ،ولم تستطع أن تثبت وجود التنافي
والتناقض المدعى بين وجود ال ّله المتصف بتلك الصفات الثالث وبين وجود الشرور
في هذا العالم.
وال بد من التذكير بأن أطروحة الدفاع القائم على االختيار ــ كما سبق أن أشرنا
ــ تقوم على نظرية خاصة في حقل الميتافيزيقا ،وهي تعود إلى التعريف الذي تقدمه
لماهية االختيار .وكما تقدم أن أشرنا أيضا ،فإن هذا الموقف يقول به في الحقيقة
القائلون بعدم االنسجام ،إذ النظرية المفترضة في أطروحة الدفاع القائم على االختيار
هي أن االختيار بهذا المعنى ال ينسجم مع فرضية تعين قرارنا ،أي أنه إذا كانت
المؤثرات الخارجية هي التي تتحكم بسلوكنا ،فلن تكون أعمالنا صادرة عن اختيارنا.
وعلى هذا األساس يكون افتراض االختيار متنافيا مع افتراض التعين ،إذ المؤثرات
الخارجية إذا كانت هي التي تعين أفعالنا ،فإن األفعال الصادرة عنا ال يمكن اعتبارها
صادرة عن إرادتنا واختيارنا ،وبالتالي فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار تقوم
على هذه الفرضية ،ومن هنا بمجرد أن تختار نظرية ميتافيزيقية أخرى يكون فيها التعين
ممكنا ،وفي الوقت نفسه تعتبر أفعال اإلنسان صادرة عن اختياره ،ستكون قائال بموقف
ميتافيزيقي نطلق عليه مصطلح الـ«( ،»compatibilismتعني االنسجامية واالتساق
والتناغمية) .وإذا قلت بهذه النظرية فهذا يعني أنك تعتقد بفهم ورؤية أخرى لالختيار،
وترى أن هذا النوع من االختيار ينسجم مع الفرضية القائلة بأن أفعالنا قد تم تعينها
مسبقا من قبل المؤثرات الخارجية .فلو كنت ــ في حقل الميتافزيقا ــ من القائلين بهذه
النظرية ،فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار لن تكون مؤثرة في هذه الحالة ،إذ إن
ال ّله يمكنه والحال هذه أن يحدد أعمالنا بحيث نقوم دائما باألفعال الصالحة والحسنة،
وفي الوقت نفسه تكون تلك األفعال صادرة عن إرادتنا واختيارنا .إن أطروحة الدفاع
القائم على االختيار تقوم على فرضية استحالة هذا الجمع .وبطبيعة الحال فإن القائلين
بـ «االنسجامية» أو الـ« »compatibilismيمتلكون أدلة وبراهين قوية لصالح دعم وجهة
نظرهم ،أما القائلون بـ «الالانسجامية» أو الـ« »incompatibilismفال يزال موقفهم
يتمتع بالقوة والمكانة في الفلسفة المعاصرة أيضا .وأما توجهك إلى أي من الطرفين
فيعود إلى موقفك الميتافيزيقي الذي يجب عليك اتخاذه خارج الدائرة الدينية .وأما
يقارن شرآ .د 294
إذا كان الشخص من القائلين بعدم إمكان التعين واختيار اإلنسان ،فيبدو أن أطروحة
الدفاع القائم على االختيار مجدية ومؤثرة عنده ،وأن الصيغة المنطقية لبرهان الشر ال
تؤدي إلى النتيجة المنشودة له؛ وهي النتيجة المتمثلة بادعاء عدم االنسجام بين وجود
ال ّله ووجود الشر في هذا العالم» ،وبالتالي ال يمكنه أن يدعي عدم وجود ال ّله بسبب
وجود الشرور في هذا العالم.
إن هذا بمعنى من المعاني يمثل نهاية بحثنا حول الصورة المنطقية للشر ،ولكن
علينا أن نضيف هنا مسألة تمثل في الحقيقة مقدمة لبحثنا القادم بشأن الصورة
االستقرائية لمسألة الشر .لقد كان ادعاء برهان الشر حتى اآلن يقوم في الحقيقة على
وجود التنافي المنطقي بين أصل وجود الشرور في هذا العالم وفرضية وجود ال ّله في
هذا العالم ،ولكن قد يقول شخص :لنفترض أن ال ّله كان يمتلك دليال وسببا وجيها
للسماح بحدوث بعض الشرور في هذا العالم .وإذا كان ال ّله ال يستطيع المنع من وقوع
الشر ،ولكنه كان يستطيع أن يحد من حجم الشرور في هذا العالم ،فما هو التفسير
الذي يمكن تقديمه في تبرير هذا الكم الهائل من الشرور في العالم؟ فليست كمية
الشرور وحدها التي كان يمكن تقليلها في هذا العالم فحسب ،بل حتى كيفية الشرور
كان باإلمكان أن تكون بحيث تكون ّ
أقل وقعا وأخف وطأة وألما مما هي عليه اآلن ،لذا
هناك من يعتقد بأننا حتى إذا قلنا بأصل وقوع الشرور في هذا العالم «مع افتراض وجود
االختيار» ،إال أنه يتساءل عن سبب هذا الحجم الكبير من الشرور في هذا العالم؟
ويتساءل قائال :ما هو السبب في هذا الحجم الكبير من القسوة والوحشية المترتبة على
الشرور في هذا العالم؟ وهذه صيغة جديدة لالعتراض على وجود الشرور في هذا
العالم ،إذ يقول هذا اإلشكال :إن كمية وكيفية الشرور في هذا العالم كان من الممكن
أن تكون أقل وأخف وطأة مما هي عليه اآلن .وهذا بطبيعة الحال يعود إلى صيغة أدق
فيما يتعلق باإلشكال على وجود الشرور االعتباطية وغير الضرورية .وبعبارة أخرى:
إن هذا االعتراض واالدعاء ينطوي على ادعاء ثانوي يرى أن الجزء األعظم من الشرور
في هذا العالم وشدة هذه الشرور ال يوجد أي سبب أخالقي وجيه لتبريرها ،إذ إنه وإن
كان هناك سبب وجيه ألصل وجود الشر ،إال أنه ليس هناك من سبب وجيه يبرر هذا
الحجم الكبير والهائل من الشرور على المستويين الكمي والكيفي ،وبذلك يكون هذا
295 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
الحجم الزائد من الشرور اعتباطيا؛ ال يؤدي إلى مزيد من الخير بحيث يكون هذا الخير
من األهمية التي تبرر هذا الفائض من الشرور ،وال إلى الحيلولة دون حدوث شرور
أعظم .وبالتالي حتى إذا أمكن لك أن تبرر أصل وجود الشرور في هذا العالم ،ولكن ما
الذي يمكنك قوله في تبرير هذه الزيادة المفرطة واالعتباطية؟ وهذا بطبيعة الحال ينقلنا
من الصورة المنطقية لبرهان الشر إلى الصورة االحتمالية للشر.
لقد عالجنا مشكلة الشر متحدثين عن الصورة المنطقية للمسألة .طبقا للقراءة
الفرض على التنافي المنطقي بين القول بوجود ال ّله والقول
ُ المنطقية لمسألة الشر يقوم
بوجود الشرور في هذا العالم ،فصدق أحدهما يعني كذب اآلخر بالضرورة من الناحية
المنطقية ،إال أن المؤمنين في المقابل يذهبون إلى االعتقاد بأن هذا االستدالل إنما
يكون ناهضا إذا أمكن للملحدين أن يثبتوا أن ال ّله ال يمتلك أي مبرر أخالقي وجيه على
جواز الشرور في هذا العالم ،في حين أن أطروحة الدفاع القائم على االختيار تثبت أن
ال ّله يمتلك دليال أخالقيا وجيها على جواز الشرور في هذا العالم «على التفصيل الذي
قدمناه في المحاضرات السابقة».
والحقيقة أن الكثير من فالسفة الدين ــ ومن بينهم الكثير من الفالسفة الملحدين
ــ قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن الصورة المنطقية لمسألة الشر عاجزة عن إثبات
النتيجة المطلوبة لهم ،إذ من الصعب ادعاء التنافي المنطقي بين القضية القائلة« :إن
ال ّله موجود» والقضية القائلة« :إن الشر موجود» .إن مقدمات هذا البرهان عاجزة عن
إثبات هذه النتيجة .وقد ذهب الفالسفة الملحدون من أمثال وليم رآ وإدوارد مدن إلى
االعتقاد بأن ملف الصورة المنطقية للشر مع أطروحة الدفاع القام على االختيار قد
أغلق ،وأن على الملحدين أن يبحثوا عن برهان آخر لدعم وجهة النظر اإللحادية.
إن من بين الحلول التي مال إليها هؤالء الفالسفة هي قولهم :صحيح أن إثبات
التنافي المنطقي صعب ،ولكن يمكن القول في الوقت ذاته :إن الشرور التي تحدث
في هذا العالم هي بشكل بحيث ال تبرر االعتقاد بوجود ال ّله من الناحية العقلية ،إذ
يمكن اعتبار وجود الشرور في هذا العالم قرينة على عدم وجود ال ّله ،وبالتالي نجد
أنهم في قبال الصورة المنطقية «القياسية ــ االستنتاجية» للشر المقترحة من قبل الجيل
السابق من الفالسفة الملحدين ،يقدمون صورة استقرائية لهذا البرهان .وهناك للصورة
يقارن شرآ .د 296
االستقرائية ــ بطبيعة الحال ــ أنواع مختلفة ،إال أننا سنبحث هنا نوعين منها .وقد أطلق
على أحد هذه األنواع مصطلح «القراءة االحتمالية» ،وعلى النوع اآلخر مصطلح
«القراءة القرينية» أو الـ «.»evidential
العالم من الناحية المنطقية خالق عالم وقادر مطلق وخير محض ،فإن هذا االحتمال
ممكن ،بيد أن الفرضية األكثر واألنسب واألقرب إلى المعقولية في هذا العالم الذي
نعيش فيه هو أال يكون لهذا العالم خالق يتمتع بهذه الصفات ،لذا يمكن لك بعبارة
أخرى أن تصوغ االستدالل الرئيس للقراءة االحتمالية لمسألة الشر على النحو اآلتي:
لنفترض أن Pتعني أن قضية «إن ال ّله موجود» محتملة .وأن Gتعني أن قضية «إن
ال ّله القادر المطلق والعالم المطلق والخير المحض موجود» .بشرط وجود الشرور في
هذا العالم ،يكون هذا االحتمال ضئيال .وعليه فإن المقدمة الرئيسة لهذا البرهان تقول:
إن احتمال صدق قضية «إن ال ّله موجود» ضئيلة جدا مع افتراض وجود الشرور العظيمة
في هذا العالم.
P «G/E»I,
ومن هذه المقدمة نستنتج القضية الثانية:
إن االعتقاد بال ّله غير وجيه من الناحية العقلية.
وهذا في الحقيقة يمثل الصورة المختزلة لبرهان االحتمالية .إن احتمال صدق
قضية إن ال ّله موجود مع اشتراط وقوع الشرور في هذا العالم ،ضئيل للغاية ،وبالتالي
فإن االعتقاد بال ّله ال يكون مبررا من الناحية العقلية .فما الذي يمكن قوله بشأن هذا
االستدالل؟
األمر األول الذي يجب إيضاحه هنا هو ما الذي يراد من مفهوم االحتمال المستعمل
في هذا البرهان .الحقيقة أننا عندما نتحدث في األدبيات ذات الصلة ،ال سيما عندما
نتحدث عن مفهوم االحتمال في سياق األبحاث الفلسفية ،نجده مفهوما في غاية
الغموض ،وعليه يجب علينا أن نوضح ما هو المراد من مفهوم االحتمال هنا؟
وبشكل عام هناك ثالث قراءات مختلفة لمفهوم االحتمال:
مفادها أن 950شخصا منهم قد بلغ عمر األربعين سنة .ونتيجة لذلك تنشأ نسبة احتمالية
بمقدار % 95تثبت هذه المسألة ،حيث تقول إن % 95من هؤالء األلف شخص البالغة
أعمارهم 30سنة سيبلغون سن األربعين .وعندها ستتخذ هذه المؤسسة إجراءاتها
وقوانينها على أساس هذه اإلحصائية .وعلى أساس هذا التفسير عندما يقول شخص:
إن احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور في هذا العالم ضئيل ،فإنه في الواقع يقول:
إن االحتمال اإلحصائي لقضية «إن ال ّله موجود» بشرط وجود الشرور في هذا العالم
أقل من % 50مثال .ولكن السؤال الوارد هنا يقول :كيف يمكن لهؤالء التوصل إلى
تحديد هذه النسبة في الدائرة اإللهية؟ يبدو بحسب القاعدة أن الذين يطرحون مثل
هذا البرهان يقولون في الحقيقة :إن من بين جميع العوالم الممكنة التي يكون حجم
الشرور فيها بمقدار حجم الشرور في العالم الذي نعيش فيه ،يكون عدد ضئيل منها ــ
أقل من نصف هذا العالم مثال ــ قد خلقت على يد قوة إلهية تتصف بالعلم والقدرة
المطلقة والخير المحض .وعلى هذا األساس تكون القيمة االحتمالية للقضية القائلة
«إن ال ّله موجود» قليلة ،إال أن هذا الكالم غريب جدا ،إذ إن عدد العوالم الممكنة إلى
ما ال نهاية ،فكيف أمكن لهذا المدعي أن يجري دراسة ميدانية تستوعب جميع هذه
العوالم الممكنة؟ ثم إنه ما معنى أن نأخذ بنظر االعتبار عوالم ممكنة قد خلقها ال ّله أو
لم يخلقها؟! فما معنى حساب االحتماالت اإلحصائية في فضاء هذا البحث؟ إن هذا
السؤال في غاية الصعوبة ،ومن المستبعد أن يكون بإمكان الفالسفة الذين طرحوا مثل
هذا االدعاء أن يقدموا تقريرا واضحا عنها.
هذا العالم ،قليل جدا ،ال يكون هناك حتى اآلن إشكال في هذه النتيجة .ولكن لو ادعى
المؤمن ادعاء آخر ،وقال مثال :إن لدى ال ّله سببا أخالقيا وجيها لتبرير وجود الشرور في
هذا العالم ،فعندها سيكون احتمال وجود ال ّله بشرط ،Rأي أن يكون لدى ال ّله سبب
لوقوع هذه الشرور كبير جدا .وإذا كان بإمكانها أن تبرر االحتمال القليل بوجود ال ّله من
الناحية العقلية ،فإنها سوف ترفع من االحتمال الكبير باالعتقاد بوجود ال ّله من الناحية
العقلية أيضا .وعلى هذا األساس لو أنك فسرت االحتمال هنا بمعنى االحتمال السابق
أو المنطقي ،فسوف تقول إن احتمال وجود ال ّله بالنسبة إلى الشرور في هذا العالم،
قليل .في حين سيقول لك المؤمن بدوره :إن احتمال أن يكون ال ّله موجودا بشرط أن
يكون لديه سبب أخالقي وجيه لتبرير الشرور ،كبير جدا .بمعنى أن المؤمن في المقابل
يطرح هذا االستدالل:
«P «G/R»I’ »1
« »2إن االعتقاد بال ّله مبرر من الناحية العقلية
أي أنه يقول :إن االحتمال السابق لقضية إن ال ّله موجود بشرط أن يكون لديه سبب
أخالقي وجيه لتبرير الشرور في هذا العالم ،كبير جدا ،وإذا كان األمر كذلك فإن
المؤمن سوف يستنتج من ذلك أن االعتقاد بال ّله مبرر من الناحية العقلية.
إنه باإلمكان دائما أن تنسب كل قضية إلى مجموعة من القضايا التي ترفع من
احتمالها إلى حد كبير ،ويمكن أحيانا أن تنسب ذات هذه القضية إلى مجموعة من
القضايا األخرى التي تخفض من احتمالها إلى حد كبير .وعلى هذا األساس فإن الفرد
المؤمن ــ خالفا للفرد الملحد الذي ينسب قضية «إن ال ّله موجود» إلى وجود الشرور
في هذا العالم ــ إنما ينسب قضية «إن ال ّله موجود» إلى قضية «إن ال ّله لديه دليل أخالقي
وجيه لتبرير هذه الشرور» ،وبذلك يرتفع احتمال القضية القائلة «إن ال ّله موجود»،
وعلى هذا ال يمكن حسم الجدل.
بالقياس إلى احتمال اآلخر «بنفس معنى االحتمال» أقل أو أكثر ،وفي الحقيقة فقد
سعى البعض إلى حل مشكلة هذا البرهان من طريق القراءة المقارنة ،ولكن علينا أوال
أن نذكر بأن هناك قانونين في حساب االحتماالت:
"(1) P "A & B" = P "A" + P "B/A
"P "B & A
"(2) P "B/A = --------------
"P "A
وهنا إذا أخذت هذين القانونين البسيطين لحساب االحتماالت ،عندها يمكن لنا أن
نصوغ استدالال جديدا على نفي وجود ال ّله .إننا نهدف في الحقيقة إلى مقارنة احتمال
صدق اإللحاد « »Nمع احتمال صدق اإليمان « .»Tوطبقا للقواعد التي طرحناها نجد
«أن الحرف « »Eيرمز إلى الشر».
هذه صيغة أخرى أكثر تطورا عن برهان االحتماالت مقدمة من قبل بعض
الملحدين؛ إذ يقولون :إنك إذا وضعت مجموع القرائن إلى جوار بعضها ،سيكون
احتمال عدم وجود ال ّله بشرط وجود الشر أكثر بكثير من احتمال صدق وجود ال ّله
بشرط وجود الشرور ،وهذا دليل يبرر لك ترجيح اإللحاد على اإليمان.
هذا االستدالل يواجه إشكالين رئيسين :اإلشكال الرئيس األول أن المستدل بهذا
االستدالل قد افترض أن وقوع الشرور في هذا العالم هو السبب الوحيد المرتبط
بدليل حساب االحتماالت هذا ،وأنه ال وجود ألي دليل أو سبب آخر ،في حين أن
األمر ليس كذلك ،إذ لو أنك افترضت أن القرينة الوحيدة التي تمتلكها هي قرينة أن
رضا خان شخص قروي ال يعرف القراءة أو الكتابة ،سيكون احتمال أن يكون ملكا
305 رشلا ةلأسم ىلإ لخدم
على إيران قليال جدا ،إال أنك إذا ضممت إلى هذه القرينة قرائن أخرى سيرتفع رصيد
احتمال أن يغدو رضا خان واحدا من ملوك إيران .وفي الحقيقة ،إن األرضية والخلفية
المعرفية التي تضع هذه االحتماالت في صلبها هامة للغاية ،إذ ليس عليك أال تنظر
إلى االحتماالت بالقياس إلى قرينة واحدة فقط ،بل ال بد من أخذ جميع القرائن ذات
الصلة في هذه المعادلة .وعندها ستكون النتيجة مختلفة بطبيعة الحال .يقول المؤمن
بوجود ال ّله :لنفترض أن ما تقوله صحيح ،وأن احتمال عدم وجود ال ّله بشرط وجود
أن هذه ليست الشرور أكثر من احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور في العالم ،إال ّ
هي المعلومة والقرينة الوحيدة الموجودة بين أيدينا ،فنحن نعلم أن لدى ال ّله أسبابا
أخالقية وجيهة لتبرير وجود الشرور في هذا العالم ،وهناك لدينا الكثير من األدلة على
إثبات وجود ال ّله ،وأنك إذا أخذت جميع هذه القرائن بنظر االعتبار ،قد تصل إلى نتيجة
مختلفة تماما .وعليه فإن اإلشكال األول على هذه الصيغة يأخذ على المستدل أنه قد
أخذ بحسبانه مجرد احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور قياسا إلى قضية واحدة
خاصة ،ولم يأخذ بحسبانه جميع القرائن والمعلومات األخرى.
وأما اإلشكال الثاني هو أن جميع هذه األبحاث تقوم على فرضية تقول إن االحتمال
القليل أو الكثير يتحدد بالقياس والنسبة إلى المعقولية ،إذ احتمال شيء بالنسبة إلى
القضية األخرى إذا كان أكثر ،فهذا يعني دائما ولزوما أن يكون االعتقاد باألكثر احتماال
متمتعا بالتبرير العقلي األكبر .ولكن هذه الفرضية ــ كما سبق أن ذكرنا في محله ــ
موضع شك وترديد .إن هذا االستدالل برمته يقوم على فرضية يصطلح عليها تسمية
«القرينية» .والقرينية تذهب إلى االعتقاد بأن المعقولية رهن بالقرائن المناسبة ،ومرادهم
من القرائن هنا مجموعة من المعتقدات األخرى التي نعتقد بها ،ولكن تم االستدالل
في بعض الموارد بقرائن قد ال تشكل نظرية معرفية صحيحة .لنفترض أني قد اعتدت
على المشي في صباح كل يوم في الغابة المجاورة لمنزلي ،وفي صبيحة يوم كنت ذاهبا
إلى الغابة على مألوف عادتي وحدث أن قتل أحد أقربائي في تلك الغابة ،وكانت جميع
القرائن وأصابع االتهام تشير إلى أني أنا من ارتكب جريمة القتل ،وعليه فإذا أخذنا هذه
القرائن المتوفرة لدينا بنظر االعتبار يكون من المعقول والمبرر جدا أن يقوم االعتقاد
على أن أكون أنا آرش نراقي قد ارتكبت هذه الجريمة ،ولكنني رغم اعتقادي بمعقولية
يقارن شرآ .د 306
جميع تلك القرائن المبررة التهامي ،أعلم يقينا أني لست من ارتكب جريمة القتل،
وأرى لذلك أن لي كامل الحق بتبرئة نفسي من تلك الجريمة .إن اعتقادي ال يقوم هنا
في الحقيقة على سائر القرائن المتوفرة لدى الجميع ،وإنما يقوم على أساس تجربتي
الخاصة ،ويمكن لتلك التجربة قي ظل بعض الشرائط أن تبرر اعتقادي رغم كل القرائن
التي تشهد على خالف ذلك .لذا يبدو أننا نواجه هنا مشكلة كبيرة ،وهي أن الفرضية
القائلة بتبرير االعتقاد بقضية مبررة على أساس وجود القرائن القوية والثابتة ،قد ال
تكون صحيحة على الدوام ،ففي بعض الموارد يمكن للفرد أن يعتقد بقضية ــ في بعض
الظروف الخاصة ــ على الرغم من وجود سائر القرائن األخرى المتوفرة على الخالف.
وهناك الكثير من التفاصيل التي يجب الخوض فيها بشأن هذه المسألة ،ولكن أرى أن
نكتفي بهذا المقدار؛ إذ الغرض هو أن نثبت أن القراءة االحتمالية لبرهان الشر يواجه
الكثير من العقبات الجادة التي تمثل تحديا لهذا البرهان .وقد أردت أن أعرض عليكم
بعض أدلة الطرفين ،مع إيضاح هذه المسألة ،وهي أن القرائن االحتمالية تواجه بعض
اإلشكاالت الجادة والهامة .ثم إن من بين أهم اإلشكاالت الرئيسة هو اإلشكال القائل
بأن توظيف برهان حساب االحتماالت في األبحاث الفلسفية أمر مشبوه للغاية؛ إذ
من غير المعلوم أن يجدي ذلك المفهوم من حساب االحتماالت في حقل األبحاث
الفلسفية ،ويذهب الكثير من الفالسفة إلى االعتقاد بأن استخدام حساب االحتماالت
في األبحاث الفلسفية ينطوي على مغالطة.
وفي الجزء الثالث من هذا البحث ،الذي ينشر في العدد القادم نتناول القراءات
األخرى لبرهان الشر الخالية من مشاكل حساب االحتماالت بمزيد من التفصيل.
دراسات
والمعاناة
اإلله والشر ُ
1
دانيال هاوارد سنايدر ______________________________________________
.1الشر والمعاناة
منذ وقت ليس ببعيدَ ،ذك ََّر عدد من جريدتي المحلية َّقرا َءها بسوزان سميث؛
والدة كارولينان التي دحرجت سيارة مازدا في بحيرة ،وأغرقت ابنيها الصغيرين
المحبوسين في الداخل .كما أفادت باختطاف واغتصاب جماعي لفتاة في الحادية
عشرة من عمرها على يد ثمانية مراهقين من أنجيليتوس ،وإدانة «فريتو مان» في 68
تهمة تتعلق باالعتداء الجنسي ،لرجل يبلغ من العمر خمسة وأربعين عا ًما سلم رقائق
الذرة ألطفال الحي لجذبهم إلى مكان منعزل .في اآلونة األخيرة ،أعلنت عناوين
الصحف عن الوفاة المبكرة آلشلي جونز ،وهي فتاة تبلغ من العمر اثني عشر عاما
من ستانوود في واشنطن ،تعرضت لالغتصاب والضرب بالهراوات حتى الموت
أثناء رعايتها ألطفال جيرانها.
هذه هي حاالت الشر المروعة المثيرة لالشمئزاز بشكل خاص ،وكل ذلك ألن
األطفال هم الضحايا .قد يعتقد المرء أن مثل هذه الحاالت تحدث فقط في حاالت
نادرة .أتمنى أن يكون األمر كذلك .أفادت قناة بي بي سي األخبارية مؤخرا أن طفال
يموت في الواليات المتحدة بسبب سوء المعاملة من قبل أحد الوالدين أو الوصي
كل ست ساعات .يتبقى لدى المرء فكرة مزعجة :إذا كان هذا هو عدد المرات
1 Daniel Howard-Snyder (1999) God, Evil and Suffering. In: Michael J. Murray
(Ed.) Reason for the Hope Within. Eerdmans.
ترجمة :د .لؤي خزعل جبر.
رديانس دراواه لايناد 308
التي يموت فيها الطفل من سوء المعاملة في الواليات المتحدة ،فكم مرة يتعرض
األطفال لإليذاء فقط؟ من اآلثار الجانبية الشريرة لإليذاء األسري أن األطفال
الذين يتعرضون لإليذاء هم أكثر عرضة لإلساءة إلى أطفالهم؛ وبالتالي فإن مواقف
وعادات اإلساءة تنتقل من جيل إلى جيل ،وهي حلقة من الشر والمعاناة التي قد
يكون من الصعب للغاية تخليص المرء منها.
في كثير من األحيان ،تحدث معاناة الطفل عن غير قصد بسبب أولئك الذين
يحبونهم أكثر من غيرهم .يتذكر ألفين بالنتينجا قصة عن:
رجل يقود شاحنة خلط إسمنت .عاد إلى المنزل ذات يوم لتناول طعام الغداء.
كانت ابنته البالغة من العمر ثالث سنوات تلعب في الفناء ،وبعد الغداء ،عندما ركب
شاحنته وتراجع ،لم يالحظ أنها كانت تلعب خلفها؛ لقد ُقتلت تحت العجالت
المزدوجة الكبيرة.2
ومن يستطيع أن ينسى صيف عام 1995الحارق ،عندما ذهب أستاذ من والية
كنتاكي ،بعد أن أوصل زوجته في العمل ،إلى المدرسة ،وأوقف السيارة ،وترك
أطفاله سهوا في السيارة طيلة اليوم ،النوافذ مغلقة؛ فاحترقوا ببطء حتى الموت.
هذه المعاناة والشر من صنع أيدي البشر .ومع ذلك ،هناك مصادر أخرى .تكشف
زيارة أي مستشفى كبير تقريبا عن أطفال ولدوا بتشوهات وراثية منهكة بشكل كبير
تضعفهم بشدة لدرجة ال يسع المرء إال أن يعتقد أن حياتهم ال تستحق العيش .كما
أن األطفال ليسوا بمنأى عن األهوال الناجمة عن الزالزل واألعاصير والمجاعات
وما شابه ذلك.
بالطبع ،يعاني الكبار أيضا بشكل مروع وغير مستحق ،على الرغم من أن
براءتهم تكون في كثير من األحيان موضع شك .واألرقام مذهلة :ستة ماليين ُقتِ ُلوا
في الهولوكوست ،وثالثون مليونا في تجارة الرقيق ،وأربعون مليونا في عمليات
التطهير الستالينية ،وثلث سكان أوروبا أثناء الطاعون ،وعدة ماليين من الجوع فقط
خالل حياتي :القائمة تطول وتطول .وماذا عن الحيوانات غير البشرية؟ نحن في
2 «Self-Profile,» in Peter van Inwagen and James E. Tomberlin, eds, Alvin Plantinga
(Dordrecht: Reidel, 1985), 34.
309 اناعُملاو رشلاو هلإلا
الغرب المستنير نحب أن نعتقد أننا أكثر تحضرا من أسالفنا في عالقتنا بالحيوانات.
على سبيل المثال ،نحن نعتبر ممارسة ضرب الحيوانات التي كانت شائعة في السابق
أمرا بربريا .ومع ذلك ،ال نفكر مرتين في رياضة الصيد ،أو كيف وصلت الماشية
والدواجن التي ال نحتاج إلى تناولها إلى أطباقنا ،أو كيف دخل المسك في عطورنا.
لكن هذا ال شيء مقارنة بالمعاناة التي تحملها الطبيعة .يحير العقل عند التفكير في
باليين باليين الحيوانات التي تالحقها الحيوانات المفترسة وتقتلها أو تأكلها حية أو
ماتت ببطء وألم ،وهلكت بسبب المرض أو المجاعة أو الجفاف.
لذلك يجب علينا أن نواجه حقيقة واقعية :تاريخ كوكبنا هو تاريخ حافل بالشر
المروع والمعاناة.
.2مشكلتان
ُيعتقد أن الشر والمعاناة يمثالن مشكلة بالنسبة للمسيحيين ،أو بشكل عام،
بالنسبة للمؤمنين ،أولئك الذين يؤمنون بإله كلي القدرة ،وكلي المعرفة ،والصالح
تماما .ما هو نوع المشكلة؟ كما اتضح ،هناك مشكلتان ،وليست واحدة.
1-2المشكلة العملية للشر والمشكلة النظرية للشر
عندما نعاني نحن أو أحبائنا بشدة ،قد ال نفهم لماذا يسمح ال ّله بذلك؛ قد ال نرى
خيرا يتحقق منه؛ قد ال نكون قادرين على فهم ذلك .كتب بالنتينجا« :يمكن أن يكون
هذا محيرا للغاية ومزعجا للغاية .يمكن أن يقود المؤمن إلى اتخاذ موقف تجاه ال ّله
هو نفسه يأسف له؛ ويمكن أن يغريه أن يغضب من ال ّله ،وال يثق في ال ّله ،ويتبنى
موقف مرارة وعصيان .3في قبضة هذا الغضب نرفع قبضتنا نحو السماء ونلعنها.
بدال من ذلك ،قد نقمع مشاعرنا ،ونصبح بائسين ،وفي النهاية نستسلم لليأس .ومع
ذلك ،فإن الموقف المختلف تماما تجاه الشر والمعاناة ،يدرس فقط ما إذا كان دلي ً
ال
على عدم وجود إله ،أو دليال على أن اإليمان التوحيدى غير مبرر أو غير عقالني أو
غير معقول أو مشكوك فيه أو مشكوك فيه فكريا.
أحدهما قد ال يكون حال لآلخر .قد ال تكون أنواع األشياء التي نحتاج إلى القيام
بها للتعامل مع المشكلة العملية ذات صلة بحل المشكلة النظرية؛ على العكس
من ذلك ،قد ال تكون أنواع األشياء التي نحتاج إلى القيام بها للتعامل مع المشكلة
النظرية ذات صلة بحل المشكلة العملية.
2-2أهمية التمييز بين المشكلتين
اآلن ،لماذا ميزت المشاكل العملية والنظرية للشر وحذرت من توقعنا أن يكون
حل أحدهما حال لآلخر؟ لسببين .أوال ،ألنني فيما يلي سوف أركز على المشكلة
النظرية ،وليس المشكلة العملية ،وثانيا (واألهم من ذلك) ،ما يجب أن أقوله حول
المشكلة النظرية ليس المقصود منه المساعدة في المشكلة العملية ،وبالتالي ،حتى
إذا فشل ما يجب أن أقوله أدناه في هذه النتيجة ،فهذا ليس ضربة ضده.
ال شك أن العديد من القراء سيصابون بالفزع من اختياري للتركيز .أنا أتعاطف
معهم .بعد كل شيء ،الشر والمعاناة حقيقة واقعة للغاية بحيث ال يمكن التعامل
معها على المستوى النظري فقط .نحن بحاجة إلى نصيحة عملية وحكمة ،وليس
فرضيات تأملية؛ نحتاج إلى شيء يمكننا تطبيقه في حياتنا ،شيء يمكننا استخدامه،
شيء لتغذية القلب والروح ،وليس الرأس .باختصار ،لسنا بحاجة إلى مجموعة من
«الهراء الفلسفي» حول ال ّله والشر ،كما قال القس في كنيسة أمي مؤخرا.
هناك حقيقة مهمة كامنة هنا .وبعض االلتباسات التي ال تقل أهمية .أوال ،الحقيقة
المهمة ،بالنسبة للكثيرين منا ،هناك أوقات حتى لو فهمنا تماما سبب عدم كون الشر
والمعاناة دليلين ضد وجود ال ّله ،فلن يهمنا ذلك .يواجه الكثير منا تدهور أجسادنا
هائل؛ نرى أحباءنا تسحقهم وعقولنا؛ نحن خائفون ونشعر بألم دائم ،وأحيانا ِ
القسوة أو يد الطبيعة الحازمة .نحن بحاجة إلى العزاء ،وليس القياس .إن تقديم
تكهنات فلسفية في مثل هذه األوقات يعني أن يتم تقديم حجر بارد عندما يكون
الخبز الدافئ فقط هو المناسب .حتى اآلن جيدة جدا .ومع ذلك ،يستمر الكثير من
الناس في االستدالل من هذه الحقيقة المهمة أنه مضيعة للوقت فحص ما إذا كان
الشر دليال ضد التوحيد ومعرفة سبب عدم وجوده بالضبط .يستنتجون أن الفهم
رديانس دراواه لايناد 312
العميق للتعقيدات التي ينطوي عليها حل المشكلة النظرية ال عالقة له بما يحتاجون
إليه هم واآلخرون حقا.
الفرضية هنا صحيحة :بالنسبة للعديد من الناس ،هناك أوقات ال يستطيع فيها
«الهراء الفلسفي» عن ال ّله والشر تلبية احتياجاتهم .لكن هذا ال يعني أنه ال يوجد وقت
يفيدهم فيه مثل هذا التفكير الفلسفي بشكل كبير؛ عالوة على ذلك ،حتى لو لم يكسب
بعض الناس شيئا من مثل هذا التفكير ،فهذا ال يعني أن ال أحد سيفعله .هناك نقطتان
للتأكيد هنا .أوال ،بينما بالنسبة للكثيرين منا ،هناك أوقات في حياتنا ال يبدو فيها «الهراء
الفلسفي» عن ال ّله والشر أكثر من مجرد مجموعة من الهراء غير ذي صلة ،سيأتي وقت
ال يكون فيه أي شيء آخر أكثر أهمية بالنسبة لمعظم األشخاص التأمليين .وثانيا،
حتى لو لم نستفد نحن أنفسنا أبدا من معرفة كيفية حل مشكلة الشر النظرية بالضبط،
فقد يكون هناك أشخاص آخرون سيفعلون ذلك ،وربما حتى أشخاص سنلتقي بهم.
اسمحوا لي أن أوضح هاتين النقطتين بإيجاز.
كثير من المؤمنين ممزقون بشأن الشر والمعاناة على وجه التحديد ألنه يبدو أنه دليل
قوي ضد إيمانهم بإله محب .يجدون صعوبة في محبة ال ّله من كل قلوبهم ونفوسهم
وقوتهم وعقولهم ،وخاصة عقولهم .إذا فهم هؤالء الناس لماذا الشر ليس سببا لالعتقاد
بأن ال ّله ال يحبهم ،إذا تعاملوا حقا مع مشكلة الشر النظرية ،فقد يكونون في طريقهم
للعثور على الراحة التي يحتاجون إليها؛ وبالتالي ،قد يكتسبون القوة لالستجابة بشكل
مناسب للشر المروع والمعاناة التي يواجهونها في حياتهم وفي العالم بأسره .من ناحية
أخرى ،يشك كثير من غير المؤمنين في مصداقية اإليمان المسيحي األساسي بسبب
الشر والمعاناة في العالم .إذا أمكن إقناعهم بأن الشر ليس دليال ضد وجود ال ّله ،فقد يتم
إزالة واحدة من أشد العقبات الفكرية التي تحول دون وصولهم إلى اإليمان.
لذلك ،من وجهة نظر مسيحية ،نحتاج إلى أن نأخذ الجهود التالية في هذا الفصل
بجدية تامة حتى لو كانت «مجرد» نظرية.4
4 Nicholas Wolterstorff, Lament for a Son (Grand Rapids, Mich.: Eerdmans, 1987),
C.S. Lewis, A Grief Observed (New York: Bantam Books, 1961), and Harold Kush-
ner, When Bad Things Happen to Good People (New York: Avon Books, 1981).
313 اناعُملاو رشلاو هلإلا
.3لماذا يسمح ّ
الل بالشر والمعاناة؟
أبدأ بمالحظة بسيطة :غالبا ما يتم التعبير عن «مشكلة» الشر النظرية في شكل سؤال
محدد .ال ّله قادر على منع الشر والمعاناة وكان يعلم بها قبل حدوثها ،أليس كذلك؟
عالوة على ذلك ،بما أنه خير بالمطلق ،فمن المؤكد أنه لن يسمح بها لمجرد التسلية.
فلماذا ال يمنعها؟ ومع ذلك ،عادة ما يكون السؤال أكثر وضوحا :لماذا سمح ال ّله
لألطفال في قصف أوكالهوما سيتي بالمعاناة من هذا القبيل؟ ولماذا سمح لوالدي ــ
وهو رجل أمين ومجتهد ــ أن يتالشى قبل األوان بسبب سرطان الدم؟ وحتى لو كان
هناك سبب وجيه للسماح له ببعض الشر والمعاناة ،حتى الكثير منه ،فلماذا كل هذا؟
بعض الناس يجيبون بسهولة على مثل هذه األسئلة .قد يقولون ،على سبيل المثال:
«ال ّله يسمح بالشر ألنه إذا لم يفعل ،فلن تكون لدينا حرية؛ سنكون مثل الروبوتات.
ونفس الشيء ينطبق على األطفال في أوكالهوما سيتي ووالدك .إذا كان ال ّله حال
دون القصف ،لكانت حرية تيموثي ماكفي معرضة للخطر؛ وإذا كان ال ّله قد منع
معاناة والدك ،ولو قليال ،فلن يكون حرا في الرد عليها بذكاء» .ويرى آخرون ،بمن
فيهم المسيحيون المخلصون ،أن مثل هذه اإلجابات «فاترة ،سطحية ،وتافهة في نهاية
المطاف» ،على حد تعبير بالنتينجا .سنتعمق في هذه األمور قريبا؛ اآلن أريد أن أوضح
نقطة مختلفة.
أسئلة حول لماذا يسمح ال ّله بالشر والمعاناة ،عندما ت َ
ُطرح بنغمة «إذن هناك!» ،هي
ممو َهة .على سبيل المثال ،األسئلة المشار إليها في الفقرة قبل األخير تخفي
حجج َّ
الحجة القائلة بأنه بما أنك ال تستطيع أن تقول لماذا سيسمح ال ّله بالشر بشكل عام
أو تفجير أوكالهوما سيتي أو موت والدي المؤلم والمفاجئ ،فال يوجد سبب .هذا
يفترض أنك ستكون في وضع يسمح لك بتحديد األسباب التي من شأنها أن تبرر
وجود ال ّله ،إن وجدت .لكن أليس من المعقول تماما أن نسأل لماذا يجب أن نفترض
ذلك؟ من خالل تمويه حجته في شكل سؤال ،قد يحاول السائل التهرب من مسؤوليته
في الدفاع عن إجابته على سؤالنا .لذلك ،عندما يسألك الناس بالغي ًا« ،لماذا يسمح ال ّله
بالشر؟» ،أدخل الحجة المقنعة وافتراضاتها في وضح النهار وقم بتقييمها ،كما سنفعل
في القسم 6أدناه.
رديانس دراواه لايناد 314
.4الحجة األساسية من الشر
مالحظة اصطالحية :يمكن استخدام كلمة «شر» بعدة طرق .تستخدمه الطريقة
القديمة لإلشارة إلى الفظاعة« ،الشر» ،والمعاناة واأللم وأي شيء سيء آخر يحدث.
هذا االستخدام للكلمة له تاريخ جليل .تستخدم المناقشات حول مشكلة الشر النظرية
عبر التاريخ كلمة «الشر» بهذه الطريقة .ومع ذلك ،في ما يلي ،سأستخدمها لإلشارة
على وجه التحديد إلى المعاناة واأللم الشديد غير المستحقين وكذلك الشر المروع.
لست مهتما هنا بالمعاناة التي يستحقها الناس ،أو في المطبات والكدمات أو األكاذيب
البيضاء ونوبات الغضب المعتدلة .سأركز على األشياء التي تقلب بطوننا.
أطروحتي بسيطة :كل حجة من الشر تفشل .لسوء الحظ ،ليس لدي مساحة للنظر
في كل حجة ،لذلك سأقتصر على بعض الحجج الشائعة وأقدم اعتراضات تنطبق على
اآلخرين .أبدأ بالحجة األساسية.
1-4ذكرت الحجة األساسية
الطريقة األكثر مباشرة لوضع حجة الشر هي كما يلي:
.1إن كان ال ّله موجودا ،فال شر.
.2هناك شر.
.3إذن ،ال ّله غير موجود (من 1و.)2
3تنبع من 1و ،2و 2صحيح بالتأكيد ،5وهذا يترك الفرضية ،1هل هي صحيحة؟
نقاش ماكي المشهور للمقدمة 1مثل هذا:6
5يعترض القديس أوغسطينوس والتقاليد المسيحية في العصور الوسطى بشكل عام على أن الفرضية
الثانية خاطئة .ألنه ،بالمعنى الدقيق للكلمة ،ال يوجد شر ولكن فقط نقص في الخير تماما ،كما أنه
ــ بالمعنى الدقيق للكلمة ــ ال توجد فجوات ولكن فقط نقص في األوساخ في أماكن معينة .لسوء
الحظ ،ال يصل هذا االعتراض إلى لب الموضوع .يمكن إعادة صياغة المقدمة 2بسهولة على أنها
«أحيانا الكائنات الواعية تعاني بشدة وبشكل غير مستحق ،وفي بعض األحيان يتصرف األشخاص
بطرق شريرة مروعة» ،مما ال يعني أن هناك شرا .واألوغسطينيون مدعوون إلجراء البدائل المناسبة
في جميع أنحاء النص.
6 «Evil and Omnipotence,» Mind (1955), collected in Robert and Marilyn Adams,
eds, The Problem of Evil (Oxford: Oxford University Press, 1990).
315 اناعُملاو رشلاو هلإلا
7تحت تأثير االعتراضات مثل تلك التي سننظر فيها في القسم ،5أعاد ماكي صياغة حجته لعام 1955
في ،1982 The Miracle of Theismالفصل 9؛ انظر بشكل خاص 154ــ .55وشيء قريب من
إعادة صياغة ماكي هو محور القسم .6
317 اناعُملاو رشلاو هلإلا
بالطبع ،ال ّله ،على عكسك ،كلي القدرة وكلي المعرفة .فإذا ال يمكنك الوصول إلى
جميع السباحين؛ فإن ال ّله يستطيع .قد يؤكد المرء ،إذن ،أن األسباب الوحيدة التي تبرر
لنا السماح بالشر هي عجزنا أو جهلنا .لذلك ،بينما قد تكون هناك ظروف ال يكون فيها
السماح بالمعاناة أمرا خاطئا وال غير محبب لنا ،فال يمكن أن يكون هناك أي شيء ل ّله
ألنه ليس عاجزا وال جاهال .يمكنه دائما أن يجلب الخير األعظم دون السماح بالشر.
بقدر ما قد يبدو عليه هذا الخط الفكري معقوال في البداية ،إال أنه فاشل .ألنه حتى
لو كان ال ّله كلي القدرة وكلي المعرفة ،فال يترتب على ذلك أنه قادر دائما على تحقيق
الخير األعظم دون السماح بالشر .قوة ال ّله محدودة بما هو ممكن .وال يمتلك حتى
للكائن القاهر القدرة على فعل ما هو مستحيل تماما .وبالتالي ،إذا كان هناك بعض
الخير األعظم الذي ال يمكن أن يحدث مطلق ًا ما لم ُيسمح بالشر ،فقد يظهر جيدا سبب
ال ّله للسماح بالشر.
يواجه العديد من المسيحيين صعوبة مع جمل مثل «قوة ال ّله محدودة بما هو
ممكن» .نقطتان قد تكون لهما فائدة هنا .أوال ،أن نقول إن قوة ال ّله محدودة بما هو
ممكن ال يعني أن قوة ال ّله محدودة بما نستطيع فعله ،أو بما نعتقد أنه ممكن .بدال
من ذلك ،يعني أن قوة ال ّله ال تسمح له بعمل ما هو مستحيل تماما .ثانيا ،قلة قليلة من
المفكرين المسيحيين أبدوا استعدادا للقول إنه من الممكن أن يكون ال ّله موجودا وغير
موجود في نفس الوقت ،أو أنه من الممكن أن يكون الرجل عز ًبا ومتزوجا في وقت
واحد ،أو أن هذا العدد 2يمكن أن يكون العدد الصحيح الوحيد بين 1و 3ويكون فرديا،
ولسبب وجيه .مثل هذه األشياء مستحيلة تماما .هذه هي اإلجابة نفسها التي يعطيها
المسيحيون عاد ًة ألسئلة مثل «لماذا لم يخلصنا ال ّله بدون التضحية بابنه؟» و«لماذا ال
يخالف ال ّله الوعد؟» لذلك ال ينبغي أن يكون مفاجئا قبول نفس اإلجابة عن أسئلة مثل
«لماذا لم يحقق ال ّله مقاصده دون السماح بالشر؟» أو «لماذا ال يجلب ال ّله كل خير
أعظم بينما ال يزال يمنع الشر؟» دعنا نعود إلى الموضوع الرئيسي للفكر.
إذا كان هناك خير أعظم ال يمكن أن يحدث ما لم ُيسمح بالشر ،فقد يظهر سبب ال ّله
للسماح بالشر .بالطبع ،هذا أمر كبير إذن .وهل هناك خير أعظم ال يمكن أن يحدث
إال إذا أباح الشر؟ هل يوجد مثل هذا الخير الذي قد يظهر في سبب إجازة ال ّله للشر؟
رديانس دراواه لايناد 318
.5الثيوديسيات
هناك العديد من المحاوالت المترابطة لتبرير سماح ال ّله بالشر ،وإلعطاء أسباب
لذلك .نسميها الثيوديسيات .سأقوم برسم الثيوديسيات األكثر شيوعا وتقييم
االعتراضات القياسية.
1-5العقاب الثيودسي
ال ّله مبرر في معاقبة األشرار ،وتكون المعاناة نتيجة معاقبته لهم .لكن ماذا عن المعاناة
غير المستحقة؟ في حين أن ال ّله له ما يبرر له معاقبة األشرار على إثمهم ،فإن الكثير من
المعاناة في العالم غير مستحقة .وال أحد يستطيع أن يقول بشكل منطقي إن ال ّله له ما يبرره
في معاقبة من ال يستحق ذلك .ولكن أال تستحق كل المعاناة في العالم؟ أشك به .تعاني
الحيوانات غير البشرية ،واألطفال الصغار جدا ،والبالغون المصابون بإعاقات شديدة،
معاناة شديدة لكنهم ال يستحقونها ألنهم ليسوا مسؤولين أخالقيا عن أفعالهم .إنهم
يفتقرون إلى القدرات الالزمة للتشاور األخالقي والوعي .عالوة على ذلك ،على الرغم
من أن العديد من األشخاص المسؤولين أخالقيا يعانون إلى درجة تتناسب مع خطاياهم،
فإن الكثيرين ال يعانون( .هذا هو أحد الدروس الرئيسية في سفر أيوب) .أخيرا ،ال تبدأ
العقوبة اإللهية حتى في تفسير سبب سماح ال ّله بالشر في المقام األول.
لذلك ،في حين أن بعض المعاناة قد تُحسب من خالل العقاب اإللهي ،فإنها ال
تستطيع تفسير الشر الذي نهتم به بشكل أساسي :المعاناة غير المستحقة والشر المروع.8
2-5النظير الثيوديسي
الخير والشر مثل أزواج من األضداد أو النظراء .إذا كان أحدهما موجو ًدا ،كان اآلخر
كذلك .لذلك ،إذا لم يكن هناك شر ،فلن يوجد نقيضه :الخير األخالقي .وبالتالي ،فإن
ال ّله له ما يبرره في السماح بالشر ألن هذا هو السبيل الوحيد لوجود الخير.
8مالحظتان :أوال ،إذا تجسدنا من جديد ،فربما ،على الرغم من كل ما نعرفه ،يبدو أن المعاناة غير
المستحقة تستحق حق ًا ألنها عقاب على اإلثم في الحياة السابقة .لكن الكنيسة رفضت دائم ًا عقيدة
التناسخ .ثان ًيا ،يمكن للمسيحي أن يؤكد أن هناك معاناة غير مستحقة دون التشكيك في عقيدة
الخطيئة الموروثة أو العقاب األبدي.
319 اناعُملاو رشلاو هلإلا
كيف يمكن للثيوديسي استخدام هذا؟ تتمثل إحدى الصعوبات هنا في أنه
وفقا لإليمان بال ّله ،فإن ال ّله خير أخالقيا ال يمكن تجاوزه .عالوة على ذلك،
كان يمكن أن يكون موجودا دون أن يكون هناك أي شر .بعد كل شيء ،ماذا لو
لم يخلق شيئا أبدا؟ عندها سيكون موجودا وسيكون هناك خير ،لكن لن يكون
هناك شر .لذلك ،وفقا لإليمان بال ّله ،فإنه من الخطأ أنه إذا لم يكن هناك شر فلن
يكون هناك خير.
صعوبات في مبدأ وجود األضداد :الحظ أن الفهم األكثر طبيعية لالدعاء بأنه في
أيضا هو :إذا كان هناك
حالة وجود زوج من «األضداد» أو «النظراء» ،فإن اآلخر موجود ً
شيء يحتوي على ميزة معينة :ف ،فهناك شيء له الميزة المعاكسة :ليس ف .نسمي هذا
مبدأ وجود األضداد .هذا يعني أنه طالما أن هناك شي ًئا ما له خاصية كونه مستطيال،
فهناك شيء له خاصية كونه غير مستطيل .وبالمثل ،طالما أن شيئا ما يمتلك خاصية
كونه صالحا أخالقيا ،فهناك شيء له خاصية االفتقار إلى الخير األخالقي ،أو كونه غير
صالح ،كما يمكنك القول.
تتمثل إحدى الصعوبات هنا في أنه مثلما توجد طرق مختلفة ألن تكون غير
مستطيلة (على سبيل المثال ،مثلثة ودائرية) ،فهناك طرق مختلفة لكونك غير صالح.
إحدى الطرق هي أال تكون جيدا وال شريرا من الناحية األخالقية ،وأن تكون محايدا
بين الخير والشر األخالقي .ذرات الهيدروجين وشعر الشارب ،على سبيل المثال،
محايدة بهذه الطريقة .لذا ،حتى لو كان مبدأ وجود األضداد صحيحا ،فإنه ال يعني أنه
ٍ
فعندئذ يوجد شيء شرير (بدال من أن يكون محايدا). إذا كان هناك شيء جيد أخالقيا،
عالوة على ذلك ،حتى لو أشار المبدأ إلى أن هناك شيئا شريرا ،فلن يتطلب سوى ذرة
من الشر ،وليس عالما مليئا به مثل عالمنا .الصعوبة األكثر أهمية هي أن المبدأ خاطئ.
بعد كل شيء ،ليس من المستحيل أن يكون هناك عالم يكون فيه كل شيء غير مادي.
عالوة على ذلك ،هناك شيء ما له خاصية كونه شخص ًا غير موحد ،أي أنت .وما هو
عكس تلك الخاصية؟ كونه وحيد القرن .لذا ،إذا كان المبدأ صحيح ًا ،فهناك شيء له
خاصية كونه وحيد القرن ،وهو ما يعني أنه يوجد على األقل وحيد القرن .بالطبع ،ال
رديانس دراواه لايناد 320
توجد حيدات؛ وبالتالي ،بما أن المبدأ يشير إلى وجود حيدات ،فهو خطأ .9دعنا اآلن
نفكر في بعض النظريات التي لديها فرصة أفضل لشرح الشر.
3-5ثيوديسية اإلرادة الحرة
كان من الممكن أن يخلقنا ال ّله بطريقة ال تكون هناك فرصة لخطئنا أو أن نكون
سيئين .لو كان قد فعل ذلك لكانت النتيجة رائعة ،لكننا خسرنا منفعة عظيمة للغاية،
أال وهي تقرير المصير .لكي يقرر المرء نفسه بنفسه هو أن يكون المرء حرا إلى درجة
كبيرة فيما يتعلق بنوع الشخص الذي يصبح عليه ،نوع الشخصية التي يمتلكها ،وهذا
يتطلب أن يكون المرء في حدود قدرته أن يكون جيدا وشريرا .في ظل افتقارنا إلى هذه
الحرية ،ال يمكننا أن نكون مسؤولين مسؤولية عميقة عما نحن عليه ،ومن سنصبح وما
إذا كنا سنظهر ونؤكد شخصيتنا من خالل الخيارات التي نتخذها .بما أن القدرة على
تقرير المصير هي خير عظيم وتتطلب منا حرية كبيرة فيما يتعلق بإلحاق األذى بأنفسنا
بشدة ،فهذا سبب يبرر ال ّله في السماح بالشر.10
لكن لماذا ال تمنع األذى عن اآلخرين؟ قد يعترض المرء على أن تطوير شخصيتي
يتطلب فقط أن تؤثر اختياراتي علي ،أي أنها تعمل على تطوير شخصيتي بطريقة أو
بأخرى .لكن أال يمكن أن يرتب ال ّله األشياء بطريقة تجعل اختياراتي لها تأثير علي
وعلى شخصيتي ،إال أنها ال تؤثر على أي شخص آخر (أو على األقل ال تؤثر أي من
األشياء السيئة على أي شخص آخر) .على سبيل المثال ،افترض أنني اخترت السرقة
منك بحرية .يمكن أن يساهم خياري في عدم جدارة بالثقة دون أن أسرق فعليا ألن
ال ّله يمكنه ترتيب األشياء بطريقة أعتقد أنني سرقتها على الرغم من أنني لم أفعل ذلك.
باختصار ،تقرير المصير ال يأخذ في الحسبان العواقب السيئة لالختيارات الشريرة
الحرة لآلخرين .11هناك عدة ردود على هذا االعتراض ،في مقدمتها اثنان.
9ربما أولئك الذين يستخدمون النظير الثيوديسي يعني شيئا مختلفا تماما .ربما يقصدون أننا ال نستطيع
معرفة أحد األضداد دون معرفة اآلخر .لذلك ال يمكننا أن نعرف الخير بدون معرفة الشر .وال يمكننا
معرفة الشر بدون وجود الشر؛ لذلك ،لمعرفة الخير ،يجب أن يكون هناك شر .وبالتالي ،فإن ال ّله له ما
يبرره في السماح بالشر ألننا بدونه لن نعرف الخير .أترك كواجب منزلي تقييم هذه الحجة.
ً
تفصيال لخط التفكير هذا؟ 10راجع مايكل موراي للحصول على تطوير أكثر
11 Steven Boer’s «The Irrelevance of the Free Will Defense,» Analysis (1975), 110-12.
321 اناعُملاو رشلاو هلإلا
الرد .1إذا كان ال ّله يمنعنا بشكل منهجي من إيذاء اآلخرين ومع ذلك سمح لنا بأن
ٍ
عندئذ يجب أن ينظر إلينا يكون لنا رأي مهم حول أنواع األشخاص الذين نصبحهم،
كما لو أننا نستطيع أن نؤذي اآلخرين رغم أننا ال نستطيع ذلك .ألنني إذا كنت أعلم أن
ال شيء أفعله يمكن أن يؤذي اآلخرين ،فلن تكون لدي نفس الفرصة لتطوير شخصيتي
كما لو كان يبدو أنني أستطيع إيذاء اآلخرين .لكن الخداع ال يتوافق مع صالح ال ّله،
كما قد يحث المرء .لسوء الحظ ،يتجاهل هذا الرد حقيقة أن الخداع ليس دائما خطأ
وال دائما غير محبب( .فقط أسأل مثل أي والد) .ربما يكون منع العواقب المروعة
لخياراتنا الحرة لآلخرين سببا محكما للخداع قدر اإلمكان .ثم مرة أخرى ،ربما ال.
دعونا ننظر في األمر عن كثب.
إذا قام ال ّله بترتيب األمور بحيث ال تحدث أي من العواقب المروعة لخياراتنا
لآلخرين على الرغم من ظهورها ،فإننا ــ كل واحد منا ــ سنعيش وهما مأساويا .يبدو
األمر كما لو كنا منخرطين في عالقات حقيقية مع اآلخرين ،ونتخذ خيارات تهم بعضنا
البعض ،بينما في الواقع لم يحدث شيء من هذا القبيل حقا .ستكون حياتنا كلها تمثيلية،
خدعة ،مهزلة؛ ولن يكون لدينا دليل .في حين أن مثل هذا الخداع الهائل لن يؤدي إلى
وجود ال معنى له تماما (سنظل كائنات ذاتية التحديد) ،فليس من الواضح أن مثل هذا
الخداع الهائل حول األمور المركزية جدا في حياتنا سيكون مسموحا به أو محبوبا.
الرد .2يوافق أحد الردود ذات الصلة على أن تقرير المصير ال يبرر سماح ال ّله لنا
بإيذاء اآلخرين ،حتى لو كان يبرر سماح ال ّله لنا بإيذاء أنفسنا .ما هي الخيرات األخرى،
إذن ،التي ستفقد إذا أعطانا ال ّله الحرية لنؤثر فقط على أنفسنا؟ حسنا ،كما هو موضح
في الرد األخير ،لن نتحمل أي مسؤولية تجاه بعضنا البعض ولن نتمكن من الدخول في
العالقات األكثر أهمية؛ ألننا مسؤولون بشكل كبير عن اآلخرين وال يمكننا الدخول في
عالقات حب إال إذا استطعنا منفعة اآلخرين وإيذائهم.
هذه النقطة تستحق التطوير .نحن مسؤولون بشكل كبير عن اآلخرين فقط إذا كانت
اختياراتنا تحدث فرقا كبيرا في رفاهيتهم ،وال يمكن أن يحدث ذلك ما لم نتمكن من
االستفادة منهم وكذلك إلحاق الضرر بهم .يبدو هذا واضحا بدرجة كافية .غالبا ما
يتم إغفال حقيقة أن نقطة مماثلة تنطبق على عالقات الحب ،على عكس المواقف
رديانس دراواه لايناد 322
والمشاعر المحبة .ال يمكن لشخصين أن يشتركا في أهم عالقات الحب ما لم يكن
األمر متروكا لكل منهما أن يكونا مرتبطين؛ يمكن رؤية هذه الحقيقة من خالل النظر
في ما نريده من أولئك الذين نقدر حبهم أكثر .يعبر جان بول سارتر عن نقطة مثل
هذا :الرجل الذي يريد أن يكون محبوبا ال يرغب في استعباد الحبيب .إنه ليس عازما
على أن يصبح موضوعا للعاطفة التي تتدفق ميكانيكيا .إنه ال يريد امتالك إنسان آلي،
وإذا أردنا إذالله ،فنحن بحاجة فقط إلى محاولة إقناعه بأن شغف الحبيب هو نتيجة
حتمية نفسية .عندها سيشعر الحبيب أن كال من حبه ووجوده قد تم بخسهما ...إذا كان
الحبيب كذلك المحبوب ،الذي تحول إلى إنسان آلي ،يجد نفسه وحيد ًا.12
نظر ًا ألن عالقات الحب التي نعتز بها كثير ًا هي تلك التي نوليها بعمق أكبر ،في
ضوء حرية الحب فهي أيضا تلك التي يمكن أن نعاني منها أكثر من غيرها .ببساطة،
ليس من الممكن بالنسبة لنا أن نكون في عالقات حب دون أن يكون في وسعنا (في
وقت ما) أن نؤذي ونتعرض لألذى بطريقة خطيرة.
يمكن قول شيء مماثل عن عالقتنا مع ال ّله أيضا .لنفترض أن ال ّله أراد عالقة حب
مع بعض مخلوقاته ،وبالتالي جعل البعض منهم مناسبا ليحبه ال ّله وقادرا على تبادل
محبته .هنا يواجه خيارا :يمكنه أن يضمن لهم أن يعيدوا حبه ،أو أن يترك األمر لهم .إذا
ضمن ذلك ،فلن يكون لديهم خيار بشأن ما إذا كانوا يحبونه ،وفي هذه الحالة سيكون
حبهم له عارا ،وكان يعرف ذلك .من الواضح ،إذن ،أن ال ّله ال يمكن أن يكون في عالقة
حب مع مخلوقاته ما لم يترك لهم األمر فيما إذا كانوا سيتبادلون محبته .وهذا يتطلب
أن يكون لديهم (في وقت ما) ما في وسعهم لحجب حبهم عنه .لكن هذا ال يمكن أن
يحدث ما لم يكونوا قادرين على فعل الشر وفعلوه.13
12 Being and Nothingness (New York, 1956), 367, quoted in Vincent Brummer, The
Model of Love (Cambridge: Cambridge University Press, 1993), 160.
13سؤال :يدخل ال ّله في عالقات حب ،ومع ذلك فهو غير قادر على أن يفعل الشر أو يفعله .فلماذا ال
يجعلنا قادرين على إقامة عالقات حب بينما يجعلنا أيضا غير قادرين على أن نكون الشر ونفعله؟
ردا على ذلك ،ينكر البعض أن ال ّله ال يستطيع أن يفعل الشر أو يفعله .يميز البعض اآلخر الحب في
أفضل حاالته لكائن إلهي جيد بشكل أساسي عن الحب في أفضل حاالته لمخلوق ُصنع ليدخل في
عالقات حب ،ثم يجادلون بأنه بينما يتطلب األخير القدرة على حجب الحب ،فإن األول ال يتطلب
ذلك .وهناك خيارات أخرى أيض ًا.
323 اناعُملاو رشلاو هلإلا
المسؤولية العميقة تجاه اآلخرين ،وعالقات الحب مع رفقائنا ومع ال ّله :إذا كانت
هذه أشياء ال قيمة لها أو حتى جيدة إلى حد ما ،فلن يكون ال ّله مبررا في السماح بالشر
حتى نكون قادرين عليها .لكن هذه خيرات ذات قيمة هائلة ،ربما ال يمكن تجاوزها،
وهي مستحيلة في عالم ال تؤثر فيه اختياراتنا إال على أنفسنا.14
لماذا ال نخلق أشخاصا يختارون الخير دائما بحرية؟ اعتراض آخر هو أنه بما أن
ال ّله يعلم قبل أن يخلق كيف سيتصرف كل مخلوق ،فإنه يستطيع أن يصنع عالما يختار
فيه كل فرد الخير دائما بحرية .إنه كلي القدرة ،في النهاية ،وبالتالي يمكنه أن يخلق
أي عالم يشاء .15ويترتب على ذلك أن ال ّله يستطيع أن يخلق عالما به خيرات عظيمة
لتقرير المصير ،ومسؤولية عميقة عن اآلخرين ،ومحبة دون أن يكون هناك أي شر على
اإلطالق .وبالتالي ،ال يمكن لهذه الخيرات أن تبرر إذن ال ّله بالشر.
الرد .الحظ أن هذا االعتراض يعتمد على فكرة أنه إذا كان ال ّله كلي القدرة ،فيمكنه
أن يخلق أي عالم يشاء .هذا غير صحيح .ألنه إذا خلق ال ّله مخلوقات حرة ،فعليه أن
يترك لها ما سينتج العالم من اختياراتها .دعونا نطور هذه النقطة بإيجاز.
من بين جميع المخلوقات المحتملة التي يمكن أن يخلقها ال ّله ،افترض أنه يهدف
إلى خلقي ،وافترض أنه يفكر فيما إذا كان سيحررني فيما يتعلق بزراعة الورود على
طول طريق أو قطعة معينة ،وهو جزء صغير من حديقتي .إذا فعل ذلك ،فسيضعني في
موقف يكون فيه األمر متروكا لي سواء أزرع الورود أو امتنع عن القيام بذلك .اآلن ،إذا
وضعني في مثل هذه الحالة ،فإما أن أزرع بحرية أو ال أفعل .من أجل التوضيح ،افترض
أنني سأفعل .تخيل اآلن أن ال ّله يحاول أن يصنع عالما أمتنع فيه بحرية عن الزراعة .هل
يستطيع؟ ليس إذا ترك األمر لي إذا كنت أزرع .ألنه ،حسب افتراضنا ،إذا ترك األمر لي،
فلن أمتنع؛ بدال من ذلك ،أود أن أزرع .لذلك ،نظرا ألنني سأزرع الورود بحرية على
طول طريق والقطعة إذا تركت لي ،فإن ال ّله ــ على الرغم من أنه كلي القدرة ــ ال يمكنه
14 Richard Swinburne in The Existence of God, chapter 11, and «Some Major Strands
of Theodicy,» in Daniel Howard-Snyder, ed, The Evidential Argument from Evil
(Bloomington: Indiana University Press, 1996), 36-42.
15 Mackie, The Miracle of Theism (Oxford, 1982), 164.
رديانس دراواه لايناد 324
أن يصنع عالما أكون فيه في هذا الموقف وأمتنع بحرية عن زراعة الورود .لكي يصنع
هذا العالم ،يجب أن يصنعني ال ّله حتى أمتنع ،وفي هذه الحالة لن أمتنع بحرية.
لذلك ،فإن االفتراض الذي قدمه هذا االعتراض خاطئ .إذا كان ال ّله قد خلق
أشخاصا أحرارا ،فال يمكنه أن يخلق أي عالم يرضيه ،رغم أنه كلي القدرة .أي عالم
ينتج عن نشاطه الخالق يعود ،في جزء كبير منه ،إلى مخلوقاته الحرة.
يمكننا الذهاب أبعد من ذلك .ألنه يمكننا اآلن أن نرى أنه على الرغم من كل ما
نعرفه ،لم يكن في مقدور ال ّله أن يخلق عالما بأشخاص يختارون الخير دائما بحرية.
كيف يكون ذلك؟ حسنا ،كما رأينا للتو ،إذا خلق ال ّله مخلوقات حرة ،فال يمكنه أن
يخلق بعض العوالم .في المثال أعاله ،ال يمكن أن يخلق ال ّله عالما أمتنع فيه بحرية
عن زراعة الورود على طول طريق والقطعة .هذا ألنني سأزرع بحرية إذا تركها ال ّله
أن ألي عالم لديه على األقل نفس القدر من الخير مثلنا لي .اآلن ،ماذا لو كان صحيحا ّ
والذي يختار فيه كل شخص دائما الخير بحرية ،بغض النظر عن كيفية بدء ال ّله لألشياء،
فإن األشخاص سيخطئون بحرية على األقل بقدر ما نخطئ نحن (البشر الفعليون)؟
إذا كان هذا صحيحا ،فبغض النظر عن مدى جدية ال ّله في المحاولة ،لم يستطع ببساطة
أن يخلق عالما به أشخاص يختارون الخير دائما بحرية ،على األقل ليس لديهم نفس
القدر من الخير الذي يتمتع به عالمنا .وهنا تكمن المشكلة :لكل ما نعرفه ،ربما يكون
هذا هو الوضع.16
هذا مكان جيد لمالحظة أن اإلرادة الحرة الثيوديسية ال ينبغي الخلط بينها وبين
الكليشيهات« ،ال ّله ال يفعل الشر ،نحن نفعل .هو فقط يسمح بذلك .لذلك فهو ليس
المسؤول ،نحن كذلك» .تفترض هذه العبارة المبتذلة ،على عكس ثيودسية اإلرادة
ٍ
فعندئذ ليس المرء مسؤوال عن الحرة ،أنه إذا لم يفعل المرء الشر ولكنه سمح به فقط،
شموال لهذا النوع من الردود في كتاب بالنتينجا .الحظ أن كال من االعتراض ً 16يوجد عرض أكثر
والرد اللذين قدمتهما يفترضان مسبق ًا أن كائن ًا كلي العلم يمكنه أن يعرف قبل الخلق ما الذي ستفعله
المخلوقات غير المخلوقة (الممكنة فقط) إذا خلقتها وتركت األمر لها في كيفية التصرف .ينكر
العديد من المؤمنين هذا.
Robert Adams, «Middle Knowledge and the Problem of Evil,» American
Philosophical Quarterly (1977), collected in The Problem of Evil.
325 اناعُملاو رشلاو هلإلا
حدوثه .هذا خطأ .قد ال أقطع أصابع ابنتي ولكن أسمح فقط البني بالقيام بذلك؛ ما
زلت ،إذا فعل ذلك ،فأنا على األقل مسؤول جزئيا.
وماذا عن الشر الناتج عن االضطرابات الطبيعية؟ قد يعترض المرء على أن اإلرادة
الحرة ال تفسر سبب سماح ال ّله بالشر الطبيعي ،أي المعاناة الناتجة عن االضطرابات
الطبيعية مثل الزالزل والمرض والمجاعة ،مصادر الشر غير األشخاص األحرار.
الرد .قد نحاول تمديد اإلرادة الحرة الثيودسية لشرح الشر الطبيعي .على سبيل
المثال ،قد نقول ،على عكس المظاهر ،أن مثل هذا الشر هو في الحقيقة نتيجة مباشرة
لنشاط األشخاص األحرار من غير البشر ،المالئكة األشرار األقوياء العازمين على
تدمير خلق ال ّله وإيذاء مخلوقاته .الشيطان وأتباعه يخدشون القشرة األرضية فتسبب
البراكين والزالزل ،ويحرفون خيوط الحمض النووي إلى أشكال مدمرة ،وتدخل
داخل الحيوانات وتجعلها تأكل بعضها البعض ،وهكذا .هذا التفسير له قيمة اعتذارية
مشكوك فيها ألنه يفترض مسبقا وجود مالئكة ،وهي أطروحة لم يقبلها معظم غير
المؤمنين .عالوة على ذلك ،فإنه يتعارض مع فهمنا لألسباب الطبيعية للبراكين
والزالزل والطفرات الجينية واالفتراس ومصادر أخرى للشر الطبيعي .التفسير األكثر
منطقية هو أن الشر الطبيعي ينتج بشكل غير مباشر من الخيارات البشرية الحرة .تم
رسم هذا الخط الفكري مؤخرا في سياق «ثيوديسية العواقب الطبيعية» ،والتي تستحق
النظر في حد ذاتها أيضا .دعونا نلقي نظرة فاحصة.
4-5ثيوديسية العواقب الطبيعية
افترض أن ال ّله قد خلق البشر ليحبهم ويرجعوا إلى حبه .بمنح أسالفنا القوة ليحبوه،
أعطاهم ال ّله القدرة على حجب حبهم .وهذا ما فعلوه .نتيجة لذلك ،أفسدوا أنفسهم .بعد
أن رجعوا عن ال ّله ،بدأوا في إيذاء بعضهم البعض .عالوة على ذلك ،أصبحت قوى الطبيعة
المدمرة المحتملة عدوهم ألن نتيجة انفصالهم عن ال ّله كانت خسارة قوتهم الفكرية الخاصة
للتنبؤ بأين ومتى ستحدث االضطرابات الطبيعية ولحماية أنفسهم من األمراض والوحوش
البرية ،حيث تعتمد القوى على اتحادهم بال ّله .والنتيجة هي شر طبيعي .استمرت هذه
الحالة ــ شرهم وعجزهم ــ عبر جميع األجيال ،وأصبحت وراثية إلى حد ما.
رديانس دراواه لايناد 326
لكن ال ّله لم يتركنا لبؤسنا .لقد وضع لنا الوسائل لكي نتصالح معه ونفكك خرابنا.
ومع ذلك ،يجب على كل واحد منا التعاون في المشروع ألن نوع التجديد المطلوب
يتضمن إعادة توجيه أعمق مشاعرنا وشهواتنا بعيدا عن قوتنا وسعادتنا وتوجيههم
نحوه .يمكن أن يعيدنا ال ّله بأعجوبة وعلى الفور لكنه ال يفعل ذلك ألن حبه لنا سيكون
خدعة .لسوء الحظ ،فإن ميولنا العميقة تجعلنا نبتعد تمام ًا عن الحب المناسب له
لدرجة أننا لن نصلح أنفسنا بدون نوع من الزخم الخارجي.
المشكلة التي يواجهها ال ّله إذن هي جعلنا نلجأ إليه طلبا للمساعدة بينما يتركنا
أحرارا في األمر .ومع ذلك ،سوف نلجأ إليه بحرية فقط إذا رأينا حالتنا البائسة وأصبحنا
غير راضين عنها .ال توجد طريقة أفضل لنا لكي نرى حالتنا ونشعر بعدم الرضا عنها
أكثر من السماح بعواقبها الطبيعية ،األلم والمعاناة والظلم الذي أدى إليه انفصالنا عنه،
وجعله «صعبا قدر اإلمكان بالنسبة لنا لنخدع أنفسنا بشأن نوع العالم الذي نعيش فيه:
عالم شنيع ،يمكن عزو الكثير من بشاعته بوضوح إلى عدم قدرة البشر على التحكم في
أنفسهم أو تنظيم حياتهم «.17
لذلك ،فإن جز ًء أساسيا من خطة ال ّله للمصالحة هو أن ندرك أن النتيجة الطبيعية
لمحاولتنا تنظيم حياتنا بمفردنا هي عالم بشع ،عالم به شر ،بما في ذلك الشر الطبيعي.
لو تدخل ال ّله ،فإنه سيخدعنا بشأن بشاعة حياتنا ألنفسنا وسيضعف بشدة دافعنا الوحيد
للتوجه إليه.
ماذا عن معاناة الحيوانات غير البشرية؟ في حين أن العواقب الطبيعية قد تكون
مسؤولة عن سماح ال ّله للشر الطبيعي أن يصيب البشر ،إال أنها ال تقدم أي سبب
للسماح للشر الطبيعي بأن يصيب الحيوانات غير البشرية.
الرد .لردم الفجوة ،يمكن للمرء أن يقدم «ثيودسية القانون الطبيعي».
17 Peter van Inwagen, «The Magnitude, Duration and Distribution of Evil: A Theo-
dicy,» Philosophical Topics (1988), collected in his God, Knowledge and Mystery
(Ithaca, New York: Cornell University Press, 1995), 110. My presentation follows
his closely. See also Eleonore Stump, «The Problem of Evil,» Faith and Philosophy
(1985).
327 اناعُملاو رشلاو هلإلا
18 Bruce Reichenbach, Evil and a Good God (New York: Fordham University Press,
1982), 101. See also Richard Swinburne, «Natural Evil,» American Philosophical
Quarterly (1978), 295-301, and The Existence of God, chapter 11. C.S. Lewis takes
this line in The Problem of Pain (New York: Macmillan, 1978, 21st printing), 30ff.
19 Peter van Inwagen, «The Problem of Evil, the Problem of Air, and the Problem
of Silence,» in The Evidential Argument from Evil, 160. For more on the physical
parameters in question, see Robin Collins, chapter x, and John Leslie, Universes
(London: Routledge, 1989), chapters 1-3.
329 اناعُملاو رشلاو هلإلا
النوع الذي يناشده المعترض :عالم مناسب للمخلوقات الحرة لتتواصل مع بعضها
البعض ولكنها تحكمها قوانين ليس لها مصدر للشر الطبيعي كمنتج ثانوي.
أال يستطيع ال ّله أن يمنع الكثير من الشر الطبيعي دون تقويض الحرية؟ افترض أننا
نميز ( )1حاالت الشر الطبيعي حيث يساهم تدخل ال ّله في إضعاف قدرتنا على التنبؤ
لتدخل ال ّله مثل هذا التأثير
بنتائج اختياراتنا من ( )2حاالت الشر الطبيعي حيث لن يكون ُّ
على اإلطالق .من الواضح أن هناك الكثير من الشر الطبيعي حيث لن يكون لتدخل
ال ّله تداعيات على حريتنا ،بل إنه أمر محير للعقل كثيرا عندما نأخذ في االعتبار التاريخ
التطوري أو االفتراس .وهكذا ،فإن السبب الوحيد الوارد في القانون الطبيعي الثيوديسي
لسماح ال ّله للشر الطبيعي يفشل في تبرير سماحه بالشر الطبيعي من نوع ( ،)2الحاالت
التي ال يكون لتدخله فيها أي تأثير على قدرتنا على التنبؤ بعواقب اختياراتنا.20
الرد .قد يقول المرء إن العدالة تتطلب اإلنصاف .في هذه الحالة ،إذا كان ال ّله ــ الذي
هو عادل تماما ــ يتدخل لمنع ألم هذا الحيوان غير البشري أو ذاك في ظروف منعزلة،
فسيكون مضطرا إلى التصرف بشكل مشابه في جميع حاالت المعاناة المماثلة .لذلك،
على سبيل المثال ،إذا منع ال ّل ُه سنجابا في أعماق الشالالت من الشعور باأللم أثناء
اصطدامه بأحد أطرافه وهو في طريقه إلى أسفل من أعلى جبل دوغالس الشاهق،
فإن التساوي في اليد سيتطلب منه منعي من الشعور باأللم عندما دفعت الرياح باب
السيارة وأغلق على إبهامي .لكن إذا منع ال ّله األلم عن كل حيوان غير بشري في ظروف
منعزلة ،فإن اإلنصاف يتطلب التدخل نفسه من جانب البشر؛ مثل هذا التدخل الهائل
من شأنه أن يقوض بشدة انتظام قوانين الطبيعة وبالتالي القضاء على حريتنا.
في حين أن بعض الناس سعداء بهذا الرد ،فأنا أقل تفاؤال .أوال ،يشير مثل
العمال في الكرم إلى أن ال ّله ال يعاملنا دائما بإنصاف .بالطبع ،ال ّله كامل في
20 See William Rowe, «William Alston on the Problem of Evil,» in Thomas Senor,ed,
The Rationality of Belief and the Plurality of Faith (Ithaca, New York: Cornell Uni-
versity Press, 1995), 84-87; also see Quentin Smith, «An Atheological Argument
from Evil Natural Laws,» International Journal for the Philosophy of Religion (1991),
154-74.
رديانس دراواه لايناد 330
العدل ،وبالتالي فإن كل ما يفعله يتفق مع العدل .ويترتب على ذلك أن مبادئ
العدالة ال تتطلب اإلنصاف ،أو أنه إذا فعلت ذلك ،يمكن أن تتفوق عليها
اعتبارات أخرى في بعض الحاالت .ثانيا ،تتطلب المساواة في التعامل مع
الحاالت على حد سواء .لكن القضايا المطروحة ليست متشابهة .إن منع ال ّله
المنهجي للشر الطبيعي في المجال البشري سيؤدي إلى فقدان حرية اإلنسان
وكل ما يترتب على هذه الخسارة .إذا منع ال ّله البشر بشكل منهجي من األذى
عندما يصطدمون باألشياء الصلبة ،فإن حريتهم ستُقوض .لن يكون لتدخل
مماثل في مملكة الحيوان مثل هذا التأثير ،بشرط أال يحدث من حولنا .إذا
كان ال ّله يمنع بانتظام الحيوانات غير البشرية من األذى عندما تصطدم باألشياء
الصلبة ،فلن يتم تقويض حرية أحد .من المؤكد أن هذا فرق مهم ،فرق سيأخذه
ال ّله العادل في االعتبار.
مالحظة عامة نهائية .في إجابتي على اعتراض أن ال ّله كان بإمكانه خلق عالم آخر
أعربت عن شكوكي بشأن قدرتنا على معرفة ما إذا كانت أي قوانين ُ بقوانين مختلفة،
من هذا القبيل ستؤدي إلى عالم يكون مضياف ًا للحياة .هذا الرد سيف ذو حدين .ألنه،
مثلما ال يمكننا أن نؤكد بثقة أن هناك عوالم مضيافة بقوانين مختلفة لن يكون لها أي
مصدر للشر الطبيعي كمنتج ثانوي ،لذلك ال يمكننا أن ننكر ذلك بثقة .إحساسي هو
أنه ليس لدينا أي فكرة عن كيفية تبرير ال ّله في السماح بمعاناة الحيوانات غير البشرية
على يد الطبيعة.
6-5ثيوديسية الخيرات عالية الرتبة
تتطلب بعض الخيرات الشر :يطلق عليهم «خيرات ذات ترتيب أعلى» .وتشمل هذه
إظهار التعاطف والرحمة والكرم للمرضى والفقراء والمهمشين .ليس مجرد امتالك
هذه الفضائل أمر جيد .إن تطويرها وممارستها وتأكيدها له قيمة هائلة ،خاصة عندما
يكون من الصعب القيام بذلك ألنه في هذه الحالة ،يتم عرض نوع معين من الشجاعة
والتضحية بالنفس والثبات .وبالمثل ،فإن العفو عن الظلم الذي وقع لنا ،والتعويض
عن الظلم لآلخرين ،وإبداء االمتنان للمساعدة التي تلقيناها ،ومكافأة أولئك الذين
عملوا بشكل جيد من خالل المحن الخطيرة ،كلها أمور تتطلب الشر .ما لم يكن هناك
331 اناعُملاو رشلاو هلإلا
شر ،ال يمكن أن يكون هناك مثل هذه الخيرات عالية المستوى .وبما أن هذه الخيرات
لها قيمة هائلة وتتطلب الشر ،فهي تبرر سماح ال ّله بالشر.21
ال تتطلب البضائع ذات الترتيب األعلى شرا حقيقيا .صحيح أنه ال يمكننا الرد برأفة
على الفقراء ما لم يكن هناك فقراء .ال يمكننا التحلي بالصبر في مواجهة المصاعب
ما لم نمر بأوقات عصيبة .ال يمكننا أن نغفر لغيرنا إال إذا ظلمنا آخر .ومع ذلك،
يمكننا تطوير وممارسة وتأكيد سمات الشخصية هذه استجابة لمحاكاة الفقر والمشقة
والخطأ« ،الشر الوهمي» ،كما قد نطلق عليه .ال يجب أن يكون هناك شر حقيقي
لحدوث ذلك .لمعرفة كيف يكون هذا ممكنًا ،تخيل عالما كان فيه األشخاص ،دون
علمهم ،متصلين بـ»آالت التجربة» ،وهي أجهزة معقدة مبرمجة لمحاكاة الواقع بشكل
مثالي (كما في فيلم هوليوود الشهير :توتال ريكال) ،على الرغم من أن الفقر والمشقة
والخطأ وما إلى ذلك الذي «عانوه» أثناء وجودهم على اآللة كان مجرد شر وهمي،
إال أنهم سيظلون قادرين على الرد عليه بطريقة فاضلة .ويمكننا أن نتخيل أن برنامج
اآللة حساس الستجاباتهم .بهذه الطريقة ،سيكونون قادرين على تطوير وممارسة
وتأكيد شخصياتهم دون أن يكون هناك أي شر حقيقي يستجيبون له .بشكل عام ،ال
يلزم إال الشر الوهمي لكي تكون هناك خيرات ذات مرتبة أعلى؛ الشر الحقيقي غير
ضروري .لذلك كان بإمكان ال ّله أن يخلق عالما به خيرات عالية المستوى ولكن بدون
شر (حقيقي).
الرد .ينص االعتراض بشكل صحيح على أن الخيرات ذات الترتيب األعلى ال
تتطلب سوى الشر الوهمي .ومع ذلك ،إذا أقام ال ّله عالما ال يوجد فيه سوى الشر
الوهمي الذي يمكننا الرد عليه في تكوين شخصيتنا ،فسيكون هناك شيء ذا قيمة هائلة
مفقود .في الواقع لن يساعد أحد أي شخص آخر؛ ولن يساعد أحد .في الواقع لن
يكون أحد عطوفا ومتعاطفا مع اآلخر؛ ولن ينال أحد الرحمة والتعاطف .في الواقع
لن يغفر أحد لغيره .ولن يغفر ألحد .لن يقوم أحد في الواقع بتعويض شخص آخر؛
21 See Swinburne, «Some Major Strands of Theodicy,» and Providence (Oxford: forth-
coming); also see John Hick, Evil and the God of Love (New York: Harper & Row,
1978, rev ed).
رديانس دراواه لايناد 332
ولن يحصل أحد على تعويض .ال أحد في الواقع يمدح أو يعجب بزمالئه في السعي
وراء غايات نبيلة في مواجهة الشدائد؛ ولن ينال أحد مثل هذا الثناء واإلعجاب .في
الواقع ،لن يرضي أحد أهدافه ورغباته الرائعة؛ ولن يكون أحد متلقيها .في الواقع،
لن يهب أحد بسخاء من وقته أو مواهبه أو أمواله للفقراء؛ ولن ينال أحد الكرم من
غيره .باختصار ،إذا كانت كل فرصة للرد الفاضل موجهة نحو الشرور الوهمية ،فإن كل
واحد منا سيعيش في «عالمنا» الصغير الخاص بنا ،عوالم خالية من أي تفاعل حقيقي
وعالقات شخصية.
يبدو ،إذن ،أنه إذا أراد ال ّله أن يالئمنا مع القدرة على تطوير وممارسة وتأكيد
شخصياتنا في سياق األشخاص الذين يشكلون عالقات مع بعضهم البعض ،فال بد
أن يسمح بالشر.
7-5السبب
لنقم بتقييم ما فعلناه في هذا القسم حتى اآلن .تقول المقدمة 3من الحجة األساسية
المعدلة من الشر أنه ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بالشر .هذا االفتراض خاطئ.
تساعدنا األسباب الموضحة أعاله على فهم كيف يمكن أن يبرر ل ّله السماح ببعض
الشر ،وربما حتى قدر كبير منه.
ومع ذلك ،فإن األسباب الموضحة أعاله ال تسمح لنا برؤية كيف يمكن أن يبرر ل ّله
السماح بكل الشر في العالم .ليس من الواضح على اإلطالق أن أيا من هذه األسباب
يبرر ل ّله إجازة الكثير من الشر بدال من تقليله كثيرا .كما أنه ليس من الواضح أن أيا منها
سوف يبرر ل ّله السماح بحاالت معينة من الشر المروع ،على سبيل المثال ،اغتصاب
أشلي جونز وضربها حتى الموت .كما أنه ليس من الواضح أن أ ًّيا منهم يبرر ل ّله السماح
للحيوانات غير البشرية بالمعاناة في أماكن بعيدة عن اهتمام البشر.
يمكن للمرء أن يختلف معي هنا .ربما يصر المرء على أن بعض األسباب الموضحة
أعاله تبرر بوضوح سماح ال ّله بالكثير من الشر واالغتصاب الوحشي والضرب
بالهراوات ومعاناة الحيوانات غير البشرية المنعزلة .بدال من ذلك ،يمكن للمرء أن
يقول إنه حتى لو لم نتمكن من رؤية كيف يمكن ألي من هذه األسباب في حد ذاته
333 اناعُملاو رشلاو هلإلا
أن يبرر ل ّله السماح بهذه األشياء ،يمكن دمجها في سبب واحد من شأنه أن يبرر ل ّله
بوضوح .دعونا ننظر في هذه الردود بإيجاز ،مع التركيز على الثانية حيث أننا في تقييمها
سنقيم األولى.
افترض أننا جمعنا جميع األسباب المختلفة الموضحة أعاله معا ،ودعنا نضيف
كل ما نعرف أنه تم استبعاده ،على سبيل المثال التماثل مع آالم المسيح .22أطلق على
النتيجة :السبب .ودعونا نركز على الكم الهائل من الشر في العالم بدال من بعض
الرعب المعين أو معاناة الحيوانات غير البشرية المنعزلة .السؤال ،إذن ،هو :هل يبرر
العقل ل ّله السماح بالكثير من الشر بدال من تقليله؟
حسنًا ،ما الذي يمكن اعتباره أقل بكثير؟ عالم بدون إبادة جماعية سيفي بالغرض.
أو ماذا عن عالم لم يحدث فيه الخرف؟ أو ربما عالم لم يتطور فيه فيروس إيبولي.
قم باالختيار .كان من الممكن أن يمنع الوجود القاهر أيا منها بسهولة .عندها كان من
الممكن أن تحدث معاناة أقل .في هذه الحالة ،هل كانت الخيرات المعنية بالسبب قد
ضاعت أو تم تخفيضها بشكل غير مقبول؟ ال أستطيع أن أرى لماذا .افترض أنه منعنا
ببساطة من التفكير في اإلبادة الجماعية .هل كنا إذن غير قادرين على إدراك بشاعة
العيش بأنفسنا؟ هل كنا نفتقر إلى الحافز المطلوب للجوء إلى ال ّله؟ ال :إن بشاعتنا
كانت ستظل واضحة في المجموعة الواسعة من األنشطة غير القاتلة للجنس التي
ننخرط فيها .23وما إلى ذلك ،وجمعها في مصلحة واحدة مشتركة؟ كل منا بحاجة
لإلجابة عن هذا السؤال ألنفسنا ،ولكن من جهتي ،عند التفكير بعناية ال أستطيع أن
أرى كيف أن أيا منها بمفرده أو مجتمعة كان سيضيع أو يتضاءل بشكل كبير إذا كان ال ّله
22 See, e.g., Marilyn McCord Adams, «Redemptive Suffering: A Christian Solution
to the Problem of Evil,» Faith and Philosophy 3 (1986), and «Horrendous Evils and
the Goodness of God,» Proceedings of the Aristotelian Society 63 (1989), 297-310,
collected in Adams and Adams 1990, 209-221.
23لكن أال يخدعنا ال ّله بشأن العواقب الطبيعية لترتيب حياتنا بمفردنا؟ ربما .لكن قد يكون بعض
الخداع يستحق ذلك .فكر في األمر على هذا النحو :لنفترض أنه دون علمنا ،لن يسمح ال ّله بحرب
نووية عالمية شاملة حتى لو تضمنت إحدى النتائج الطبيعية لحالتنا البائسة القدرة على القيام بذلك.
هل نتهمه بالخداع غير المشروع عند تعلمه؟ بالكاد .يجب أن نجثو على ركبنا ونشكره على لطفه
العظيم.
رديانس دراواه لايناد 334
قد منع اإلبادة الجماعية بشكل منهجي (أو ،من أجل هذا األمر ،الخرف أو فيروس
إيبولي أو .)...وبالتالي ،ال أستطيع أن أرى كيف يتطلب السبب من ال ّله أن يسمح
بالكثير من الشر بدال من تقليله كثيرا .لهذا السبب ال أستطيع أن أرى كيف يبرر العقل
ل ّله السماح بهذا القدر من الشر.
ال شك أن العديد من المسيحيين سيختلفون معي .لكن دعونا نتفق على هذا كثيرا:
ال يوجد مصدر مسيحي موثوق يؤكد أننا يجب أن نتوقع أن نكون قادرين على فهم
سبب سماح ال ّله بهذا القدر من الشر بدال من تقليله كثيرا .في الواقع ،الرسالة اإلنجيلية
هي أنه ليس من شغلنا أن نفكر في أنه يمكننا فعل أي شيء من هذا القبيل .هذا هو درس
سفر أيوب وكالم النبي (إشعياء )10-8 :55
«ألن أفكاري ليست أفكارك،
وال طرقكم طرقي ،يقول الرب.
«ألنه كما علت السموات عن األرض،
إذن هل طرقي أعلى من طرقك،
وأفكاري أكثر من أفكارك».
نحن نلحق ضررا جسيم ًا باآلخرين لنبدي لهم على انفراد أو على المنبر أي توقع
لفهم سبب سماح ال ّله بهذا القدر من الشر أو أي حالة معينة ،والتوقعات التي ليس
لدينا سبب لالعتقاد بها سوف تتحقق ،والتوقعات التي إذا تُركت دون تحقيق يمكن
أن تصبح بالقرب من أسس ال تقاوم لرفض اإليمان .نحن في الظالم هنا .ال يمكننا
أن نرى كيف يمكن ألي سبب نعرفه ،أو كل هذه األسباب مجتمعة ،أن يبرر ل ّله
السماح بالكثير من الشر المروع أو أي رعب معين .نحن بحاجة إلى االعتراف بهذه
الحقيقة.
.6حجة المقدار
المقدمة 3من الحجة األساسية المعدلة خاطئة .لكن االنعكاسات الواردة في
القسم 7-5قد تقدم نواة لحجج أخرى أفضل من الشر .ألنه حتى لو كان هناك
335 اناعُملاو رشلاو هلإلا
سبب يبرر ل ّله السماح ببعض الشر ،وحتى الكثير منه ،فقد ال يكون هناك سبب
على اإلطالق يبرر سماحه بهذا القدر ،أو بعض الحاالت المعينة مثل االغتصاب
والضرب الوحشي آلشلي جونز .في الواقع ،هذا هو بالضبط ما يدعيه العديد من
مؤيدي الحجة من الشر.
لكن ألن يكون مصير مثل هذه الحجة مقرر منذ البداية؟ بعد كل شيء ،إذا كان
هناك سبب يبرر سماح ل ّله ببعض الشر ،أفال يبرر ذلك تلقائي ًا سماحه بكل الشر
الموجود؟ على اإلطالق .يمكن للمرء أن يكون لديه سبب للسماح ببعض الشر،
حتى الكثير منه ،حتى لو لم يكن لديه سبب للسماح بأي قدر منه أو ال يوجد سبب
للسماح ببعض األمثلة الخاصة .لمجرد أن لدي سببا للسماح البني بمعاملة أخته
معاملة سيئة أحيان ًا ،فليس لدي سبب للسماح له بمعاملتها معاملة سيئة طوال الوقت؛
وبالتالي ليس لدي سبب للسماح له بدفعها من جرف في مناسبة معينة .سيتعين علينا
التفكير بجدية أكبر للرد على هذه الحجج (المزعومة) األفضل من الشر .دعونا ننظر
في األمر عن كثب.
1-6ذكرت الحجة
ستذهب الحجة من حاالت معينة من الشر المروع بشكل مختلف اعتمادا على
الحالة أو الحاالت المذكورة في المبنى ،لكن النسخة النموذجية ستذهب إلى شيء
مثل هذا:
ال يوجد سبب يبرر سماح ال ّله باالغتصاب الوحشي والضرب بالهراوات حتى
الموت.
إذا كان ال ّله موجودا ،فال بد من وجود مثل هذا السبب.
إذن ،ال ّله غير موجود.
وحجة المقدار ستكون كاآلتي:
ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بهذا القدر من الشر بدال من تقليله.
إذا كان ال ّله موجودا ،فال بد من وجود مثل هذا السبب.
إذن ،ال ّله غير موجود.
رديانس دراواه لايناد 336
حجة المقدار ليست عرضة لالعتراضات التي. سأركز على حجة المقدار،فيما يلي
. كما أنها الحجة التي وجدتها أكثر إثارة للقلق.24تتعرض لها الحجة من شواهد معينة
ما الذي. سألتزم بحجة المقدار،لذلك في محاولة لطرح (ما أعتقد أنه) أفضل حجة
يجب علينا فعله؟
إذا كان هناك كائن كلي القدرة على كل شيء يسمح. صحيحة2 المقدمة،حسنًا
بالشر في عالمنا بدون سبب على اإلطالق أو كان من الممكن تحقيق أهدافه في
جميع اإلبادة، على سبيل المثال،السماح بالشر حتى لو كان قد منع بشكل منهجي
إن فظاعة بشاعته تتحدى الوصف، لكنه سمح بها على أي حال،الجماعية أو الطاعون
هل.1 هذا يترك المقدمة. ال تشوبه شائبة3 إلى2 و1 االستدالل من، بالطبع.المناسب
هي صحيح؟
وأفضلها جاء من فيلسوف،تم تقديم العديد من الحجج حول ذلك في األدب
، ليس لدي مساحة هنا ألتوسع بعدالة في حججه الثالث. ويليام رو:معجب به كثيرا
أن تمتد إلى، بقليل من البراعة،لكن االعتراضات على تلك التي سأقيمها هنا يمكن
.25الحالتين األخريين
24 See Peter van Inwagen, «The Magnitude, Duration, and Distribution of Evil: A
Theodicy,» Philosophical Topics (1988), 167-68, «The Place of Chance in a World
Sustained by God,» in Divine and Human Action (Ithaca, New York: Cornell Uni-
versity Press, 1988), ed. Thomas V. Morris, 230ff, and «The Problem of Evil, the
Problem of Air, and the Problem of Silence,» Philosophical Perspectives (1991),
note 11. All three essays are collected in his God, Knowledge and Mystery. See also
my «The Argument from Inscrutable Evil,» in The Evidential Argument from Evil,
286-89.
25 «The Argument from Inscrutable Evil». The one I assess here is in «The Problem
of Evil and Some Varieties of Atheism,» American Philosophical Quarterly (1979),
collected in The Evidential Argument from Evil. The other two are in «Evil and
Theodicy,» Philosophical Topics (1988), «Ruminations About Evil,» Philosophical
Perspectives (1991), and «The Evidential Argument from Evil: A Second Look,» in
The Evidential Argument from Evil.
337 اناعُملاو رشلاو هلإلا
26سيالحظ القارئ اليقظ أنني ربما أزعم هنا أيضا أنه عند التفكير في مختلف النظريات ،بقدر ما
يمكننا أن نقول ،هناك سبب يبرر قيام ال ّله بمثل هذا الشر .الهدف من بقية القسم 6هو الفهم الواضح
لسبب أهمية هذا الفكر وتدميره.
رديانس دراواه لايناد 338
هذا :بقدر ما نستطيع أن نقول ،ال يوجد سبب يبرر ال ّله .لذلك ،من المحتمل جدا أنه
ال يوجد مثل هذا السبب.
ما الذي يجب أن نستخلصه من استنتاج عدم الرؤية لرو ،كما سأطلق عليه؟
من الواضح أن العديد من استدالالت عدم الرؤية معقولة .وكما هو واضح،
فإن الكثير منها ليس كذلك .على سبيل المثال ،بالنظر إلى حديقتي البعيدة من نافذة
مطبخي ،فإن حقيقة أنه ،بقدر ما أستطيع أن أقول ،ال توجد رخويات هناك بالكاد تجعل
من المحتمل عدم وجود أي رخويات .وبالمثل ،فإن المبتدئ الذي يشاهد مباراة
الشطرنج بين كاسباروف وديب بلو ال ُينصح بالعقل« :ال أستطيع أن أرى أي طريقة
لخروج ديب بلو من الشطرنج؛ لذلك ،ال يوجد شيء» .أو تخيل أننا نستمع إلى أفضل
علماء الفيزياء في العالم يناقشون الرياضيات المستخدمة لوصف الظواهر الكمومية أو
نظرية النسبية العامة .من المفترض أنه سيكون من غير المعقول بالنسبة لنا أن نستنتج
أنه ،بما أننا ال نستطيع فهم أو استيعاب ما يقولونه ،فال يوجد شيء يمكن فهمه .السؤال
الحاسم ،إذن ،هو :ما الذي يميز استنتاجات عدم الرؤية المعقولة عن تلك الرديئة؟
خذ بعين االعتبار الحاالت التي تم رسمها بالفعل .الحظ أنه من المحتمل جدا أن
أرى إبريق حليب في الثالجة إذا كان موجودا ،ومن المحتمل جدا أن يرى كاسباروف
طريقة للخروج من األزمة إذا كان هناك واحدا .ذلك ألن كاسباروف وأنا لدينا ما يلزم
لتمييز أنواع األشياء المعنية .من ناحية أخرى ،ليس من المحتمل جدا أن أرى سبيكة
في حديقتي حتى لو كانت هناك واحدة ،على األقل ليس من نافذة مطبخي .كما أنه من
غير المحتمل جدًّ ا أن يكون المبتدئ قادرا على رؤية طريقة للخروج من أزمة ديب بلو
حتى لو كانت هناك واحدة ألن إستراتيجية على مستوى ٍ
عال يمكن أن تكون معقدة
للغاية .وينطبق الشيء نفسه على فهمنا للرياضيات شديدة التعقيد :حتى لو كان ما
يتحدث عنه الفيزيائيون منطقيا ،فليس من المحتمل جدا أننا سنكون قادرين على فهمه.
يمكننا استخالص هذه االنعكاسات في المبدأ التالي ،الذي يمثل فرقا مهما بين
استنتاجات عدم الرؤية المعقولة وغير المعقولة :ال يكون استنتاج عدم الرؤية منطقيا إال
إذا كان من المعقول االعتقاد بأننا من المحتمل جدا أن نرى (فهم ،استيعاب) العنصر
المعني إذا كان موجود ًا .وبتطبيق هذا المبدأ على استدالل عدم الرؤية لرو ،نحصل
339 اناعُملاو رشلاو هلإلا
على النتيجة التالية :االنتقال من «بقدر ما يمكننا أن نقول ،ال يوجد سبب» إلى أنه من
المحتمل جدا أن «ال يوجد سبب» يكون معقوال فقط إذا كان من المعقول االعتقاد بأننا
سنرى أو نفهم سببا على األرجح ،إذا كان هناك واحد .يمكن تسمية العبارة األخيرة
بافتراض عدم الرؤية لرو .نحن اآلن في وضع يسمح لنا بطرح سؤال مهم .هل من
المعقول تصديق افتراض عدم الرؤية رو؟
3-6حجة تولي المدافعة عن افتراض عدم الرؤية لرو
يمكن تقديم عدة أسباب هنا ،لكن أكثرها قوة هو :نظرا ألنه من المحتمل جد ًا أننا
نعرف جميع الخيرات الجوهرية الموجودة ،27فمن المحتمل جدا أننا نعرف بالفعل
جميع األسباب التي من شأنها أن تبرر سماح ال ّله بالشر؛ ومن ثم ،إذا كان هناك سبب،
فمن المحتمل جدا أن نراه أو نفهمه.
هذه الحجة معلقة على فكرة أنه «بما أنه من المحتمل جدا أننا نعرف جميع
الخيرات الجوهرية الموجودة ،فمن المحتمل جدا أننا نعرف بالفعل جميع األسباب
التي من شأنها أن تبرر سماح ال ّله بالشر» .قد نشكك في االستنتاج هنا ،28لكنني سأركز
على المقدمة .لماذا نعتقد أنه من المحتمل جدا أننا نعرف جميع الخيرات الجوهرية
الموجودة؟ يقدم مايكل تولي هذه الحجة :عدد قليل جدا من الحاالت التي اكتشفها
البشر على مدار تاريخهم هي خيرات جوهرية ،وفي الثالثة آالف سنة الماضية أو نحو
ذلك لم يتم اكتشاف أي خيرات جوهرية على اإلطالق؛ لذلك ،من «غير المحتمل
في أقصى الحدود» وجود خيرات جوهرية بخالف تلك التي نعرفها .وبالتالي ،فمن
المحتمل جدا أننا نعرف كل الخيرات الجوهرية.29
27الخير الجوهري هو خير في حد ذاته ،ليس فقط ألنه وسيلة لبعض الخير اآلخر .في حين أنه من
القابل للنقاش أي السلع هي خيرات جوهرية ،فإن أكثر المرشحين ً
قبول هم المتعة والمعرفة
والحرية والحب والعدالة ،من بين أمور أخرى.
28ال يصح االستدالل إال إذا كان من المحتمل جدا أيضا أن نعرف جميع شروط تحقيق هذه الخيرات
التي نعرفها.
See Alston, «Some (Temprarily) Final Thoughts on Evidential Arguments from
Evil,» in The Evidential Argument from Evil, 315ff.
29 See «The Argument from Evil,» Philosophical Perspectives (1991), especially 114-15.
رديانس دراواه لايناد 340
هل هذا سبب وجيه لالعتقاد بأنه من المحتمل أننا نعرف جميع الخيرات
الجوهرية الموجودة؟ ال أعتقد ذلك .بادئ ذي بدء ،في أفضل األحوال ،فإن فرضية
أن البشر اكتشفوا عددا قليال جدا من الخيرات الجوهرية وال توجد خيرات جديدة
مؤخرا تُظهر أنه من المحتمل جد ًا أننا اكتشفنا جميع الخيرات الجوهرية التي يمكننا
حاليا اكتشافها ،تماما مثل القطط ،على سبيل المثال ،التي اكتشفت جميع الخيرات
الجوهرية التي يمكنها اآلن اكتشافها .ما إذا كان هناك المزيد من الخيرات الجوهرية،
على وجه التحديد ،خيرات نحن غير قادرين حاليا على اإلمساك بها ،تُترك مفتوحة
على مصراعيها .ومن ثم فمن غير المعقول االنتقال من «اكتشف البشر القليل جدا من
الخيرات الجوهرية ولم يكتشفوا خيرات جديدة مؤخرا» إلى «من المحتمل جدا أننا
اكتشفنا جميع الخيرات الجوهرية».
ثان ًيا ،هذه الخطوة معقولة فقط إذا اكتشف أسالفنا البشر القليل من الخيرات
الجوهرية التي نعرفها خالل فترة زمنية قصيرة .خالفا لذلك ،لنفترض أن أسالفنا
اكتشفوا خيرات جوهرية على مدار عشرات اآلالف من السنين مع عدة آالف من
السنين في الفترة الفاصلة عندما لم يتم اكتشاف أي خيرات .إن مثل هذا التقدم المتقطع
في اكتشافنا للخيرات الجوهرية لن يكون مفاجئا على اإلطالق نظرا ألن قدرة جنسنا
البشري حتى على تصورها متجذرة في بنى الدماغ البشري ،البنى التي ــ على حد علمنا
ــ تطورت بشكل متقطع على مدار فترة عشرات اآلالف من السنين( .قد يساعدك على
رسم خط زمني يربط بين التطورات الدماغية المتميزة بقدرات مميزة لتصور وتقدير
الخيرات الجوهرية المختلفة) .إذا حدث مثل هذا التقدم المتقطع ،فعلينا أن نتوقع
عدم اكتشاف أي خيرات لعدة آالف من السنين ،وحتى لو كانت هناك ال نعرف عنها
الكثير .لذا ،فإن حقيقة أن البشر قد اكتشفوا القليل من الخيرات الجوهرية وعدم وجود
خيرات جديدة في اآلونة األخيرة تجعل من المحتمل عدم وجود خيرات أخرى فقط
إذا اكتشف أسالفنا الخيرات التي نعرفها خالل فترة زمنية قصيرة نسبيا في تاريخ جنسنا
البشري.
لكن لماذا نفترض ذلك؟ حقيقة األمر هي أنه ال تولي وال أي شخص آخر لديه
أي سبب على اإلطالق لتصديقه .ال يوجد سبب لالعتقاد بأن فهم أسالفنا للخيرات
341 اناعُملاو رشلاو هلإلا
الجوهرية يجب أن يكون قد أتى في مثل هذه الحزمة المربوطة بإحكام بحيث لم يكن
بإمكانهم استيعابها دون استيعابها جميع ًا( .في هذا الصدد ،فكر في تطور وعي الطفل
وتقديره للخيرات الجوهرية المختلفة) .عالوة على ذلك ،وبالنظر إلى األدلة األثرية
والحفرية الضئيلة التي لدينا ،فلن يكون من المفاجئ على اإلطالق أن يحدث هذا
النوع من التقدم المتقطع المشار إليه أعاله .أنا ال أقول أن لدينا سببا لالعتقاد بحدوث
مثل هذا التقدم .بدال من ذلك ،أنا أقول ــ على عكس ما يفترضه تولي :-إن المعلومات
التي لدينا حاليا ال تمنحنا أي سبب لالعتقاد بأنها لم تحدث.30
وبالتالي ،فإن حجة تولي تفشل في إظهار أنه «من غير المحتمل في أقصى الحدود»
وجود خيرات جوهرية غير تلك التي نعرفها .لذلك ال يمكننا استخدامه كأساس
لالعتقاد بأننا من المحتمل جد ًا أن نميز سببا لسماح ال ّله بهذا القدر من الشر إذا كان
هناك واحد ،وهو مجرد افتراض عدم الرؤية لرو.
قد يتم تقديم المزيد من الحجج حول افتراض عدم الرؤية لرو ،لكن اعتراضي العام
على حجة تولي هي أنها تعتمد على افتراضات أننا لسنا في وضع يسمح لنا بالقيام بها
بشكل معقول ينطبق عليها أيض ًا .31دعونا ننتقل ،إذن ،إلى ما يمكن أن يقال ضد افتراض
عدم الرؤية لرو.
4-6استراتيجيتان
أبدأ بالتمييز بين استراتيجيتين للجدل ضد افتراض عدم الرؤية لرو Kيمكننا
الوصول إليهما عن طريق مقارنة سؤالين.
30قد يقول بعض القراء أنه نظرا ألن لدينا سببا وجيها لالعتقاد بأن عمر األرض ال يزيد عن 10000
عام ،فلدينا سبب وجيه إلنكار الفجوات التي تمتد آالف السنين التي تعتمد عليها تكهناتي ،ناهيك
عن األنثروبولوجيا التطورية التي تتطلبها أكيد .إذا كان هذا هو رأيك ،فأنا أدعوك للتفكير فيما سيفكر
به جمهورك في مهمة االعتذار بشأن هذه األمور .في هذه الحالة ،قد تفكر في ردي على تولي كطريقة
لتوضيح لهم كيف يجب ،نظر ًا آلرائهم الخاصة حول ما قبل التاريخ ،رفض حجة تولي.
31 «The Argument from Inscrutable Evil,» 291-97. Rowe, «The Evidential Argument
from Evil: A Second Look,» 276. See also «Argument from Inscrutable Evil,» 305-
307. The Hiddenness of God: New Essays (forthcoming), eds. Daniel Howard-Snyder
and Paul K. Moser.
رديانس دراواه لايناد 342
أوالً :هل من المحتمل جد ًا أن أرى سبيكة في حديقتي من نافذة المطبخ إذا كانت
موجودة؟ على اإلطالق .أعلم أن البزاقات صغيرة نسبيا ،وأعلم أن العين البشرية
المجردة ليست مناسبة لرؤية مثل هذه األشياء الصغيرة على ارتفاع مائة قدم؛ عالوة
كبيرا ،وعادة ما تكون متضخمة .لذلك لدينا
على ذلك ،تبلغ مساحة حديقتي فدانا ً
سبب رائع لالعتقاد بأنه من الخطأ أن أرى على األرجح سبيكة في حديقتي حتى لو
كانت هناك .اآلن ،سؤال آخر :هل من المحتمل جدا أن تتواصل معنا أشكال الحياة
خارج األرض إذا كانت موجودة؟ الجواب الوحيد المناسب هنا هو «كيف لي أن
أعرف؟» إذا كانت هناك أشكال حياة خارج األرض ،فما مدى احتمالية أن يكون
بعضها ذكيا بما يكفي لمحاولة االتصال؟ ومن بين هؤالء األذكياء بما فيه الكفاية ،كم
عدد الذين سيهتمون بذلك؟ ومن بين أولئك الذين يتمتعون بالذكاء واالهتمام ،ما مدى
احتمالية توفر الوسائل المتاحة لهم للمحاولة؟ ومن بين أولئك الذين لديهم الوسائل،
ما مدى احتمالية نجاحهم؟ ليس لدي أدنى فكرة عن كيفية اإلجابة على هذه األسئلة.
ال أستطيع حتى أن أقول بأدنى درجة من الثقة أن االحتمالية منخفضة أو متوسطة أو
عالية .ليس لدي ما يكفي لالستمرار .في هذه الحالة ،يجب أن أشك في مدى احتمال
اتصال أشكال الحياة خارج األرض بنا إذا كانت موجودة .يجب أن أكون ال معها وال
ضدها .يجب أن أهز كتفي فقط وأقول« :ال أعرف .أنا لست على معرفة بشأن هذه
النتيجة».
هناك نقطتان .أوال ،في كل حالة ،ليس من المعقول االعتقاد بأن االقتراح المعني
من المرجح أن يكون صحيحا ،وإن كان ألسباب مختلفة .في الحالة األولى ،ليس من
المعقول تصديق أنه من المحتمل جدا أن أرى سبيكة في الحديقة حتى لو كانت هناك
واحدة ألنه من المعقول االعتقاد بأن االقتراح خاطئ بشكل إيجابي ،في الواقع ،ألن
الحديقة كبيرة ومتضخمة وأنا أشاهدها من مسافة بعيدة ،لدي سبب وجيه لالعتقاد
بأنه من المحتمل جدا أال أرى سبيكة .ومع ذلك ،في الحالة الثانية ،ليس من المعقول
االعتقاد بأن االقتراح المعني خاطئ .بدال من ذلك ،لألسباب المذكورة ،لدينا سبب
وجيه للشك حول مدى احتمالية أن يتم االتصال بنا من قبل أشخاص خارج األرض
إذا كان هناك أي منها .في الواقع ،ليس لدينا ما يكفي لالستمرار في تخمين تقريبي.
343 اناعُملاو رشلاو هلإلا
نتيجة لذلك ــ وهنا النقطة الثانية الحاسمة تماما ــ فإن وجود سبب وجيه للشك في
األمر هو سبب ٍ
كاف في حد ذاته لالعتقاد بأنه ليس من المعقول االعتقاد بأنه ربما تم
االتصال بنا .كيف يمكن أن يكون من المعقول بالنسبة لنا أن نصدق شيئا لدينا سبب
وجيه لالعتقاد بأننا جاهلون به تماما؟
اآلن دعنا نطبق هذه النقاط على افتراض عدم الرؤية لرو .لتقييم معقولية االعتقاد
بأننا سنرى على األرجح سببا يبرر ل ّله السماح بالكثير من الشر إذا كان هناك سبب،
قد نفكر في ما إذا كان افتراض عدم الرؤية لرو غير صحيح .في هذه الحالة ،قد
نحاول التفكير في أسباب لالعتقاد بأنه من المحتمل جدا أال نرى سببا يبرر ل ّله .بعد
ذلك ،سوف نتعامل مع افتراض عدم الرؤية لرو كما تعاملت مع االقتراح القائل بأنه
من المحتمل جدا أن أرى سبيكة في حديقتي من نافذة المطبخ .32من ناحية أخرى،
قد نفكر فيما إذا كان يجب أن نشك في ما إذا كنا من المحتمل جدا أن نرى سببا يبرر
ل ّله ،كما تعاملت مع االقتراح القائل بأنه من المحتمل جدا أن يتصل بنا من خارج
األرض إذا كان هناك أي شيء .النقطة الحاسمة التي يجب أن نفهمها هنا هي أنه
حتى لو كان كل ما لدينا هو سبب وجيه للشك حول ما إذا كان من المحتمل جدا أن
نرى سببا يبرر ل ّله ،فهذا أمر جيد بما فيه الكفاية إلنكار أنه من المعقول أن نصدق
افتراض عدم الرؤية لرو.
في ما يلي ،أركز على األسباب التي تجعلني في شك بافتراض عدم الرؤية لرو
بدال من أسباب االعتقاد بأنه خاطئة .لماذا؟ ألن أسباب الشك أسهل في الحصول
عليها واألسباب الوحيدة التي يمكنني التفكير فيها لالعتقاد بأن هذا غير صحيح
تفترض مسبقا أن ال ّله قد أخبرنا أنه يجب أن نتوقع أال نكون قادرين على تمييز أهدافه
في السماح بالشر( .يبدو أن هذا هو الدرس الرئيسي في كتاب أيوب ،ويمكن القول
إنه ضمني لعقيدة السقوط) .في حين أن مثل هذه األسباب توفر للمؤمن أسبابا إلنكار
32إلثبات أن افتراض رو باطل ،ليس لدينا سبب لالعتقاد بأنه من المحتمل جدا أننا لن نرى سببا يبرر
وجود ال ّله .كل ما نحتاجه حقا هو سبب لالعتقاد بأنه ليس من المرجح أن نرى سببا يبرر ال ّله أكثر
مما ال نفعله .ألنه إذا لم يكن من المرجح أن نرى سببا يبرر ال ّله أكثر مما لن نرى ذلك ،فليس من
المحتمل جد ًا أن نرى سب ًبا يبرر ل ّله .أطباقنا ممتلئة بدرجة كافية دون متابعة هذا الخيار هنا.
رديانس دراواه لايناد 344
افتراض عدم الرؤية لرو ،فإنها ال تفعل شيئا يذكر لغير المؤمن ألنه ال يقبل الكتاب
المقدس كمصدر للمعلومات .بالطبع ،قد نحاول إقناعه بصحة الكتاب المقدس ثم
نستخدمه لنجادل بأن افتراض عدم الرؤية لرو غير صحيح .لكن هذا طريق غير مباشر
لهدف يمكن تحقيقه بشكل مباشر .فيما يلي ،أحاول اللجوء إلى األسباب التي يجب
أن تكون مقنعة لغير المؤمنين مثل المؤمنين؛ وبما أنني ال أعرف أي سبب مقنع لظن
غير المؤمن أن افتراض رو زائف ،فسأتمسك باألسباب التي تجعلنا جمي ًعا ــ المؤمنين
وغير المؤمنين على حد سواء ــ نشك في افتراض رو.
5-6أسباب الشك بافتراض عدم الرؤية لرو
ظهرت عدة أنواع من االعتبارات في األدبيات .سأذكر ثالثة.
نظائر ألستون
يتضمن استدالل عدم الرؤية لرو جانبين يجب أن يجعلنا حذرين من قدرتنا على
معرفة ما إذا كنا سنرى على األرجح أسبابا مبررة إذا كان هناك أي منها .أوال ،يأخذ
«الرؤى التي يمكن الحصول عليها من قبل البشر المحدودين غير المعصومين كمؤشر
ٍ
كاف لما هو متاح في طريق األسباب لكائن كلي العلم والقادر» .ولكن هذا يشبه
االفتراض أنه عندما أواجه نشاطا أو إنتاجات سيد في مجال ليس لدي سوى القليل
من الخبرة فيه ،فمن المعقول بالنسبة لي أن أستخلص استنتاجات حول جودة عملها
لمجرد أنني «ال أحصل على ذلك» .لقد درست سنة في الفيزياء الجامعية ،لقد واجهت
بعض النظريات حول الظواهر الكمومية وال أستطيع أن أثيرها .بالتأكيد من غير
المعقول بالنسبة لي أن أفترض أنه من المحتمل أن أكون قادرا على فهم ذلك .وبالمثل
في مجاالت الخبرة األخرى :الرسم والتصميم المعماري والشطرنج والموسيقى وما
إلى ذلك.
ثاني ًا ،يتضمن استدالل عدم الرؤية لرو محاولة تحديد ما إذا كان هناك كذا وكذا في
منطقة ال نعرف نطاقها وتكوينها إلى حد كبير .إنه مثل شخص معزول ثقافيا وجغرافيا
يفترض أنه إذا كان هناك شيء ما على األرض خارج هذه الغابة ،فمن المحتمل أن
يميزه .إنه مثل عالم فيزيائي يفترض أنه إذا كان هناك شيء ما خارج الحدود الزمنية
345 اناعُملاو رشلاو هلإلا
للكون ،فربما نعرف عنه (حيث تكون هذه الحدود هي االنفجار األعظم واألزمة
األخيرة) .تشير كل هذه المقارنات إلى نفس االتجاه :يجب أن نشك في ما إذا كان من
المحتمل جدا أن نفهم سببا يبرر وجود ال ّله حتى لو كان هناك.33
حجة التقدم
تقدمت المعرفة في مجموعة متنوعة من مجاالت البحث ،وخاصة العلوم الفيزيائية.
يشير االكتشاف الدوري لجوانب غير معروفة سابقا للواقع بقوة إلى أنه سيكون هناك
مزيد من التقدم من نوع مماثل .نظرا ألن التقدم في المستقبل يعني الجهل الحالي ،فمن
المحتمل جدا أن هناك الكثير الذي نجهله اآلن .اآلن ،ما يتعين علينا المضي قدما في
رسم تقدم اكتشاف الخيرات الجوهرية من قبل أسالفنا هو أقل ما يقال .في الواقع ،نظرا
لألدلة األثرية الضئيلة التي لدينا ،وإعطاء األدلة الحفرية فيما يتعلق بالتطور التطوري
للدماغ في اإلنسان العاقل ،فلن يكون مفاجئا على اإلطالق أن البشر اكتشفوا العديد
من الخيرات الجوهرية على مدى عشرات اآلالف من السنين المنقطة من قبل العديد.
آالف السنين ،فجوات طويلة لم يتم اكتشاف أي شيء فيها( .تذكر نقطة ردي الثاني
على حجة تولي في القسم .)3-6ومن ثم ،نظرا لما يتعين علينا المضي فيه ،فلن يكون
من المفاجئ أن يكون هناك نوع من التقدم الدوري الذي يوحي بقوة بأنه ال تزال هناك
خيرات يجب اكتشافها .وبالتالي لن يكون مفاجئا إذا كانت هناك خيرات نجهلها ،ولن
يجهلها ال ّله في علمه المطلق.
حجة التعقيد
هناك شيء واحد مشترك بين كونشيرتو الكمان رقم 4لموزارت ،والقهوة الفاخرة
(ال سيما قهوة ستاربكس) ،وأفضل أنواع الحب عند مقارنتها بحب تشوبستيكس،
وفولجر ،وهي أن كل منها يوضح حقيقة أن جودة الوضع ،في بعض األحيان يكون
أكبر ،جزئيا ،ألنه أكثر تعقيدا .اآلن ،بما أن المعاناة الهائلة غير المستحقة والشر الفظيع
أمر سيئ للغاية ،فسوف يتطلب األمر خيرات أكبر في المقابل لتبرير سماح ال ّله بالكثير
ل ّله السماح بالكثير الشر إذا كان هناك سبب .هذا ال يعني أن هذه االعتبارات تشكل معا
سببا جيدا لالعتقاد بأنه من المحتمل جد ًا أننا لن نرى سببا يبرر وجود ال ّله .يجب أال
نبالغ في تقدير قضيتنا .ومع ذلك ،فإنها تشكل سببا جيدا لالعتقاد بأنه من غير المعقول
تصديق افتراض عدم الرؤية لرو .وبالتالي ،إلى الحد الذي تعتمد فيه حجة المقدار على
استدالل عدم الرؤية لرو ،فإنها تفشل.
6-6عن التعامل
العديد من األشخاص الذين تحدثت إليهم حول حجة الشر قد استجابوا لمداوالتي
بالطريقة اآلتية:
لم ِ
تعط سببا يبرر ل ّله السماح بهذا القدر من الشر بدال من تقليله كثير ًا .على أي حال،
لم ِ
تعط سبب ًا يبرره بوضوح تام .وأنت تعترف بذلك .أنت تقر بعدم ذكر أي سبب من
هذا القبيل .لكن هذا مجرد خروج شرطي .بعد كل شيء ،مشكلة الشر فقط هي مشكلة
إبداء سبب مبرر ،سبب يمكننا أن نرى أنه مبرر .وقد تخليت عن هذا المشروع .ضعها
على هذا النحو :أنت مسيحي .على هذا النحو ،فأنت تعتقد أن هناك سببا يبرر إذن ال ّله
ليست
ْ بهذا القدر من الشر المروع وغير المستحق في العالم .إذا ما هو؟ ما هذا السبب؟
لديك إجابة .إن إلهك متهم بأنه وحش أخالقي .تقول أنت تدافع عنه .وفقا لك ،فهو
كامل في الحب والقوة والحكمة .يمكنه أن يمنع كل حالة من الشر والمعاناة بمجرد
التفكير «بهدوء» .ال يمكنك أن تتوقع منا إذن أال ندين ،ليس بعد بوخنفالد وأوشفيتز،
وليس بعد أن عانى الماليين بال استحقاق وبصورة مروعة .نحتاج إلى بعض اإلجابات.
نحتاج أن نعرف لماذا لم يوقف أكثر من ذلك .لكن كل ما تقدمه لنا هو مجموعة من
االحتماالت البعيدة ،مجموعة من االفتراضات« .لكل ما نعرفه ،هناك سبب لجهلنا».
حسنا ،آسف ،لكن هذا ليس جيدا بما يكفي .أي محامي دفاع جرب تلك الحيلة في
المحكمة س ُيلقى خارجا .لماذا يجب أن نعاملك بشكل مختلف؟
هناك الكثير مما يدور في هذا الخطاب العاطفي ،والذي تناولته بالفعل فيما سبق
(انظر القسم .)3ولكن دعني أؤكد هنا ثالث نقاط.
أوال ،صحيح أنني لم أحاول أن أجادل في أن هناك سببا يبرر ل ّله إجازة الكثير
رديانس دراواه لايناد 348
من الشر بدال من تقليله كثيرا .أعتقد أن محاوالتنا في تمييز أي سبب من هذا القبيل
تفشل .ومع ذلك ،أعتقد أن هناك سببا .هذا ألنني أؤمن بوجود إله ،وبالطبع ،إذا كان
هذا صحيحا ،فهناك سبب ،حتى لو لم أستطع تحديد ما هو .لكن حقيقة أنني أعتقد أن
هناك سببا وال أستطيع أن أقول ما هو ال يمكن أن يكون بديال عن حجة ضد وجود ال ّله،
ما لم يفترض ،بالطبع ،أنني (أو نحن) ربما نكون مطلعين على مثل هذا السبب إذا كان
هناك واحد ،وهو االفتراض الذي جادلت بأنه يجب أن نشك في ذلك .هذا يقودني إلى
نقطتي الثانية.
التشبيه القضائي في الخطاب معيب بشكل مهم .من األمور الحاسمة لممارستنا
لمحاكمة المذنبين المشتبه بهم في محكمة قانونية االفتراض المعقول بأننا نحاكم
شخصا تميل أسباب تصرفه إلى أن تكون متاحة لنا ألنها أنواع األسباب ً واحدا منا،
المتاحة للبشر بشكل عام .بدون هذا االفتراض لن يكون لدينا أي أساس على اإلطالق
الستبعاد األسباب التي ال نعرف عنها .عندما يكون ال ّله في قفص االتهام ،مع ذلك ،ال
يمكننا االفتراض بأننا نعرف جيدا أنواع األسباب التي قد يكون مطلعا عليها .كما قلت،
نحن في الظالم بشأن هذه النتيجة.
أخيرا ،ال شيء قلته في القسم 6يفترض مسبقا وجود ال ّله أو أن الكتاب المقدس
موحى به من ال ّله أو أي شيء من هذا القبيل .إذا كنت ملحدا أو ال أدريا وال يزال
يعتبر اإليمان بال ّله خيارا حيا ،فيجب أن تكون قادرا على تقدير األسباب التي
قدمتها لالعتقاد بأننا في حالة جهل بشأن افتراض عدم الرؤية لرو .إذا كنت تعتقد
أن حججي تفترض وجود إله أو أن الكتاب المقدس هو كلمة ال ّله ،فأنت لم تفهم
حججي.
لذا ،هل «قطعت»؟ حسنا ،كل هذا يتوقف .إذا كانت اللعبة التي نلعبها هي «دعونا
نوجد ثيوديسية» ،إذن نعم ،لقد خرجت .ومع ذلك ،إذا كانت اللعبة التي نلعبها هي
ٍ
فعندئذ لست أنا من ألقى خطابا حماسيا ،ولكن أولئك «دعونا نصنع حجة من الشر»،
الذين ألقوا خطابات حماسية مثل تلك المذكورة أعاله.
349 اناعُملاو رشلاو هلإلا
34 William Alston, Perceiving God: the Epistemology of Religious Experience (Ithaca,
New York: Cornell University Press, 1991), Keith Yandell, The Epistemology of
Religious Experience (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), and Alvin
Plantinga, Warranted Christian Belief (Oxford: Oxford University Press, forthcom-
ing).
رديانس دراواه لايناد 350
استنتاج
في القسم الثاني ،ميزت مشكلة الشر العملية عن «مشكلة» الشر النظرية .ركزت
على األخير .يشكل الشر مشكلة نظرية حقيقية فقط إذا كانت هناك حجة جيدة من
الشر .ال توجد حجة جيدة من الشر .لذا ،ال توجد مشكلة نظرية في الشر.
ما هي صلة هذا االستنتاج بمهمة الدفاعات؟ عدة ،ولكن أبرزها هذا :يدعو ال ّله
الرجال والنساء ليحبوه من كل قلوبهم وروحهم وقوتهم وعقولهم .إنها تلك النقطة
األخيرة التي تبدو بالنسبة للكثيرين داخل الكنيسة وخارجها صعوبة ال يمكن التغلب
عليها .أحب ال ّله من كل عقلك .وهنا يأتي دور الدفاعيات .علم الدفاع هو إلى حد
كبير مهمة إزالة العقبات الفكرية أمام محبة ال ّله .لقد ظهر الشر والمعاناة دائما على
أنهما العقبة األكثر إزعاجا .وخاتمة هذا الفصل هي أنها ،في الواقع ،ليست عقبة على
اإلطالق أمام محبة ال ّله الكاملة.35
35أنا ممتن لمؤلفي هذا الكتاب وعدة آخرين للتعليق على المسودات السابقة لهذا الفصل ،وخاصة
تيرينس كونيو ،وويليام ديفيس ،وماري هوارد ،وفرانسيس هوارد-سنايدر ،ونيت كينج ،وترينتون
ميريكس ،وجورجيا ،وتوم سينور ،ومايكل موراي ،األخير الذي مارس الفضائل التحريرية بتفوق.
شكل تفكيري عن ال ّله والشر في الغالب من قبل ويليام ألستون ،وبول درابر ،وألفين بالنتينجا،
وويليام رو ،وبيتر فان إنفاجن ،وستيف ويكسترا .لكن في هذه المناسبة ،أود أن أعرب عن أعمق
امتناني لستيف .عمله في موضوعنا لم ُيثري فهمي لشيء أهتم به بعمق فحسب ،بل كان بالنسبة
لي حبة الرمل التي استخدمها ال ّله لصنع اللؤلؤة غير المكتملة التي هي إيماني .أهدي هذا الفصل
لستيف .سأكون مقصرا إذا لم أذكر أنني اعتمدت بشدة على ورقتين من أوراقه ،وكالهما تحتاجان
إلى دراسة متأنية:
«The Humean Obstacle to Evidential Arguments from Suffering: On Avoiding the
Evils of ‘Appearance’,» International Journal for the Philosophy of Religion (1984),
collected in The Problem of Evil, and «Rowe’s Noseeum Arguments from Evil,» in
The Evidential Argument from Evil.
دراسات
1 Strickland, L. (2018) The problem of religious evil: Does belief in god cause evil?.
International Journal of Philosophy Religion, pp.1-14.
ترجمة :د .لؤي خزعل جبر
2انظر على سبيل المثال ( ،)Lucretius, 2007, p5,6و )Russell, 1957,( ،)Hume, 1793, p.42
،)pxxiv, 38و( ،)Hitchens,2007, p26, 223و( .)Dawkins, 2006, p.1يرى (Buijs, 2009,
)p.45الوضع بشكل مختلف ،إذ يقرأ ،Lucretiusو Dawkins ،Russellكما تقدم ــ وإن
كان ذلك بشكل دقيق ــ حجة فعلية لإللحاد ،ومحاوالت الستخراج هذه الحجة ،التي يسميها
الكيرتس دويال 352
السنوات األخيرة ،بدأ التفكير في االدعاء على أنه أساس حجة مؤيدة لإللحاد
قادرة على تهديد الكفاية المعيارية لالعتقاد الديني .3المثال األهم لهذا الخط من
التفكير يمكن إيجاده في ورقة دانيال كوداج ،)2014( Kodajحيث قام بتطوير
حجة يسميها «مشكلة الشر الديني» ،وصاغ الحجة على النحو اآلتي (ص :)248
( )1اإليمان بال ّله يسبب الشر ،و( )2ال ّله ُيدين الشر ،و( )3كل ما ُيدينه ال ّله هو
خطأ موضوعي ،و( )4لذلك ،من خالل ( ،)3-1يؤدي اإليمان بال ّله إلى شيء
خاطئ بشكل موضوعي ،و( )5يجب على المؤمنين االمتناع عن القيام بأي شيء
يسبب خطأ موضوع ًّيا ،و( )6لذلك ،بحلول ( ،)5-4يجب على المؤمنين االمتناع
عن اإليمان بال ّله.4
ُصور المعتقد اإليماني
يقول كوداج أن «الحجة تولد هزيمة معيارية لإليمان ،وت ِّ
على أنه دحض ذاتي معياري .إذا كانت الحجة سليمة ،فإن الشر الديني يجبر المؤمن
العقالني على التخلي عن إيمانه» ( ،2014ص .)428يصر كوداج على أن مشكلة الشر
الديني تختلف عن مشكلة الشر التقليدية حيث أن االستجابات المختلفة التي ُو ِّج َه ْت
لألخير ــ في شكل دفاعات وثيوديسيات ــ ليست فعال ًة ضدّ األول .يسعى إلى إظهار
ذلك من خالل النظر في عدد من هذه الردود واالستنتاج بأن ال شيء يحل مشكلة الشر
الديني .ربما أولئك الذين يطورون ويؤيدون هذه الدفاعات والثيوديسيات سيرون األمر
بشكل مختلف ،وسيشعرون بأنهم يمتلكون في الواقع الموارد المفاهيمية لمعالجة
بدل من ذلك ،سيكون تركيزي في هذه المشكلة ،لكنني لن أشغل نفسي بذلك هناً .
«الحجة من األذى» من عملهم ،ويصوغ الحجة على هذا النحو )1( :يلحق أتباع الدين العديد
من األذى بإخوانهم من البشر ،و( )2يلحق أتباع الدين مثل هذه األضرار بسبب معتقداتهم
الدينية ،و( )3لذلك ،الدين ضار برفاهية اإلنسان.
3على سبيل المثال ،ال نجد أي حجة من الشر الديني في األعمال الحديثة للفلسفة المؤيدة لإللحاد
مثل ( )Le Poidevin, 1996أو ( ،)Everitt, 2004وال شيء من هذا النوع مذكور في (Oppy,
)2013الذي هو مقال استقصائي للمناقشات الداعمة لإللحاد.
4في ورقة الحقة ( ،2016ص ،)280قدم كوداج صيغة مبسطة للحجة )1( :اإليمان بال ّله يسبب
الشر ،و( )2إذا كان ال ّله موجو ًدا ،فإن ال ّله يريدنا أن نؤمن بال ّله ،و( )3إذا كان ال ّله موجو ًدا ،فإن
ال ّله ال يريدنا أن نفعل أي شيء يسبب الشر ،و( )4لذلك ،من خالل (1و ،)3إذا كان ال ّله موجو ًدا،
فإن ال ّله ال يريدنا أن نؤمن بال ّله ،و( )5لذلك ،من (2و ،)4ال ّله غير موجود.
353 ينيدلا رشلا ةلكشم
الورقة على الفرضية األولى لحجة كوداج ،وهي أن اإليمان بال ّله يسبب الشر .على
خصوصا في الغرب العلماني ،إال أنها
ً الرغم من أن هذه الفكرة وجدت ً
قبول واس ًعا،
إشكالية بما يكفي لتكون غير مناسبة كأساس لحجة اإللحاد ،كما يسعى كوداج إلى
استعمالها .في ما يلي سأسلط الضوء على المشاكل المتأصلة فيها بثالثة طرقً :
أول،
من خالل النظر فيما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر؛ ثاني ًا،
وأخيرا ،بالنظر
ً بالنظر في ما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر؛
إلى ما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر .في كل حالة ،سأناقش
صعوبة تقديم مثل هذه االدعاءات ،وبنا ًء على ذلك سأستنتج أن الفرضية القائلة ّ
بأن
«اإليمان بال ّله يسبب الشر» غير مقبولة كما هي ،وبالتالي غير قادرة على إثبات حجة
نظرا للمخاوف التي
كوداج المؤيدة لإللحاد .قبل أن أبدأ ،أشعر أنه من الجدير بالذكرً ،
مؤخرا حول التح ُّيز في فلسفة الدين المدرسية من قبل درابر ونيكولز (،)2013
ً ُأثيرت
لدي دافع للدفاع عن أي دين معين أو فرع منه ،أو حتى
أنني ال أدري ،وبالتالي ليس ّ
الدين بشكل عام .دافعي ببساطة هو التأكد مما إذا كان لحجة كوداج قوة كافية إلقناع
المؤمن باالمتناع عن اإليمان بال ّله.
5يبدو أن هذا يتزامن مع تفكير كوداج نفسه ،ألنه يذكر ( ،2014ص )427أن الشر الديني هو «الشر
الذي يبدو أنه مدفوع بمعتقدات حول ،وتم تبريره صراحة باإلشارة إلى ،اإلمالءات المفترضة
لمبدأ أو كيان فائق .من الواضح أن «المعتقدات» المشار إليها هنا تساعد في اإليمان بوجود
ال ّله ،على الرغم من أنه في مشكلة الشر الديني نفسه ،فإن اإليمان بال ّله هو فقط المذكور .لسوء
الحظ ،ال يحدد كوداج ماهية هذه المعتقدات المساعدة ،أو لماذا يجب تعبئتها جن ًبا إلى جنب مع
اإليمان بوجود ال ّله.
أيضا اليانية ،التي تمت مالحظتها اللتزامها 6وخارج التقليد المسيحي ،يمكن للمرء أن يذكر ً
العقائدي بالالعنف.
الكيرتس دويال 356
متور ًطا في هذه األحداث ،وفي الواقع بعضها لم تكن موجودة حتى في األوقات التي
حدثت فيها هذه األحداث) ،ولكن فقط على األحداث المحددة التي تم تضمينها،
وهي الكاثوليكية في حالة الحروب الصليبية ،والكاثوليكية واللوثرية والكالفينية في
حالة المحاكمات الساحرة .وهكذا في الفرضية األولى ،يجب أن يؤخذ «اإليمان بال ّله
يسبب الشر» ليعني اإليمان بإله الدين ( Xكالمسيحية) وجميع المعتقدات المساعدة
المرتبطة بالفرع أو الطائفة ( Yكالكاثوليكية أو اللوثرية أو الكالفينية) تسبب الشر .يعني
هذا التعديل بالطبع أن مشكلة الشر الديني ستكون محدودة النطاق أكثر من حيث أنه
يمكن أن يهزم طائفة واحدة فقط في كل مرة ً
(بدل من دين بأكمله ،أو دين بشكل عام،
كما يفترض كوداج) ،ولكن يمكن اعتبار ذلك ثمنًا يستحق دفعه لوضع الحجة على
أساس أكثر أمانًا.
ومع ذلك ،من المشكوك فيه أن التعديل المقترح للفرضية يضع في الواقع الجدل
على أساس أكثر أمانًا ،ألن الفرضية المعدلة تؤدي إلى مزيد من المشاكل .من الواضح
أكثر ،كيف يمكن للمرء أن يحدد المعتقدات المساعدة المرتبطة بطائفة معينة؟ من
المفترض أن المعتقدات المساعدة المعنية هي المعتقدات الرسمية لهذه الفئة ،ألن هذا
هو كل ما يمكن تحمله بشكل معقول .لتحديد ما هي هذه المعتقدات ،البداية الجيدة
هي النظر إلى التعليم المسيحي لطائفة معينة ،ألن هذا ينص على ما يعتقده أتباع الطائفة
«رسمي ًا» .ومع ذلك ،إذا تم اعتبار كل من المعتقدات المساعدة لطائفة معينة هي فقط
تلك التي ورد ذكرها في هذا التعليم ،فإن حجة كوداج ستكافح من أجل االبتعاد عن
األرض ،حيث أن هذا التعليم ال يتضمن عاد ًة تلك المعتقدات التي غال ًبا ما يعتقد أنها
تسبب الشر .التعليم الكاثوليكي ،على سبيل المثال ،ال يقول شي ًئا عن القيام بالحمالت
الصليبية ،أو تشريد المسلمين من األرض المقدسة ،أو استصواب قتل الكفار ،إلخ.
سيكون من الصعب جدً ا تقديم قضية مقنعة بأن «اإليمان بإله المسيحية والمعتقدات
المساعدة الموجودة في التعليم الكاثوليكي» تسبب أنواع الشر التي ُيعتقد أحيانًا أن
الكاثوليكية مسؤولة عنها .بالطبع ،التعليم الكاثوليكي ال يستنفد المعتقدات الرسمية
للكاثوليكية ،وينطبق الشيء نفسه على الطوائف األخرى .كما تشكل تصريحات
الزعماء الدينيين المعتقدات التي ُيتوقع من أتباع طائفة معينة االلتزام بها .لذا إذا أردنا
357 ينيدلا رشلا ةلكشم
تحديد جميع المعتقدات المساعدة للكاثوليك ،على سبيل المثال ،فسوف نحتاج إلى
أيضا.
تجاوز تلك المحددة في التعليم المسيحي ،والنظر في تلك التي يروج لها البابا ً
ولكن هذا أيض ًا يمثل مشكلة ،ألنه في هذه الحالة لن تكون هناك مجموعة مستقرة من
المعتقدات المساعدة «الرسمية» للكاثوليكية .لمعرفة سبب ذلك ،ضع في اعتبارك أنه
في عام 1095اعتقد البابا أوربان الثاني أن الحج المسلح إلى األرض المقدسة (أي
الحملة الصليبية األولى) كان وف ًقا للمبادئ الكاثوليكية ،وفي عام 2000اعتقد البابا
يوحنا بولس الثاني أن الحروب الصليبية كانت «خيانة لإلنجيل» ،واحد من العديد من
األشخاص الذين حددهم على أنهم ارتكبوا في الماضي من قبل أولئك الذين ينتمون
إلى كنيسته والذي طلب العفو عنه (مقتبس في ستانلي .)2000إذا أردنا صياغة الفرضية
األولى لمشكلة الشر الديني على أنها تشير إلى الكاثوليكية ،بحيث تُقرأ «اإليمان بإله
المسيحية وكل المعتقدات المساعدة المرتبطة بالكاثوليكية» ،التي يجب أن تكون
مجموعتنا من المعتقدات المساعدة يعتبرون ممثلين للكاثوليكية :أمثال أوربان الثاني
أم يوحنا بولس الثاني؟ ال شك أنها ستناسب حجة كوداج الختيار األولى (على أساس
أن المعتقدات المساعدة ألوربان أدت إلى الشر) ،ولكن القيام بذلك سيتجاهل حقيقة
أن المعتقدات المساعدة للطائفة يمكن أن تتغير وتتغير بمرور الوقت ،في هذه الحالة،
انعكاسا أفضل لوجهات النظر الكاثوليكية المعاصرة.
ً سيكون رأي يوحنا بولس الثاني
في الواقع ،سيكون من غير العدل تضمين وجهات نظر أوربان حول الحملة الصليبية
في المعتقدات المساعدة «الرسمية» للكاثوليكية ليس فقط ألنها لم تعد مقبولة ،ولكن
ألنه تم التنصل منها الح ًقا ،ليس فقط من قبل البابا يوحنا بولس الثاني (الذي يبدو أنه
وصف العنف المسيحي في الحروب الصليبية بأنه خطايا) ،7ولكن أيض ًا من قبل البابا
بنديكت ،الذي عبر عن خجله من عنف الماضي الذي ارتكبه المسيحيون باسم ال ّله،
واص ًفا إياه بأنه «إساءة لإليمان المسيحي ،وهو يناقض بشكل واضح طبيعتها الحقيقية»
(مقتبسة في .)Pullella 2011فيما يتعلق بمشكلة الشر الديني ،ال يوجد شيء إليقاف
مناهض الالهوت الذي يعتمد االفتراض األول من أن يقرأ ‹›اإليمان بإله المسيحية
وجميع المعتقدات المساعدة المرتبطة بالكاثوليكية›› حيث المعتقدات المساعدة هي
أن المعتقدات تحفز الفاعلين على القيام باألفعال الشريرة .في ما يلي ،سأستمر في
الحديث عن المعتقدات التي تسبب الشر أو ال تسببه ،سواء كانت هذه اللغة التي يتم
أيضا إلى أن المعتقدات
فيها الجدل حول العنف الديني أفضل أو أسوأ ،لكنني سأشير ً
هي الدافع للشر ،وسأستعمل المصطلحين «سبب» و«دافع» بالتبادل ،دون أن يمس
ذلك بجوهر النقاط التي أرغب في إثارتها.8
وغني عن القول ،يبقى من المثير للجدل أن ندعي أن المعتقد الديني يسبب الشر حتى
بمعنى أنه «دوافع» الشر .وقد اقترح عدد من العلماء أن مناهضي الالهوت يستعجلون
إلقاء اللوم فيما يخص الشر الديني على الدين ،وبذلك يتجاهلون عوامل أخرى .على
سبيل المثال ،يكتب غاري كيوغ ( ،2015ص « :)741يبدأ دوكينز كتابه :وهم اإلله...
من خالل اإلشارة إلى أن أحداث 11سبتمبر ما كانت لتحدث أبدً ا لوال الدين ،عبارة
مبسطة بشكل مفرط تتجاهل التاريخ السياسي المعقد بين الواليات المتحدة والشرق
األوسط» .9ال يسعى كيوغ إلى إنكار أن المعتقد الديني هو عامل سببي أو دافعي في
الشر الديني؛ هو ينكر فقط أنه العامل الوحيد (أو حتى العامل الرئيسي) .في اقتراحه،
يضغط على وريد من الفكر العلمي الذي يحدد الشر الديني ــ سواء في العالم الحديث
أو ما قبل الحداثي ــ نتيجة للتفاعل المعقد للعوامل السياسية واالقتصادية واالجتماعية
والعرقية والقومية والدينية .10وهناك من يدّ عون أنه ال يمكن أن يكون األمر خالف
ذلك .جادل سميث ( ،1962ص )19 ،18وكافانو ( ،2009ص ،)69-64على سبيل
المثال ،بأن فكرة الدين كمجموعة من المعتقدات أو الممارسات منفصلة عن السياسة
والثقافة ومجاالت الحياة األخرى هي فكرة ابتكرها الغرب ،وفي زمن حديث نسب ًّيا
(تشكلت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر) .وبالتالي ،فإن «الدين» كما نفهمه
في الغرب اليوم ،كظاهرة متميزة عن المساعي العلمانية مثل السياسة ،لم تكن موجودة
8إن القضية األساسية ،على ما أظن ،هي ما إذا كان االعتقاد الديني يمكن أن يكون متور ًطا بشكل ُم ْج ٍد
في ارتكاب الشر ،وبالتأكيد سيكون ما إذا كان يعمل كسبب أو دافع.
9من أجل رؤية مشابهة ،انظر (شورت.)2016 ،
10على سبيل المثال ،كتب (سيالنجوت ،2011 ،ص« :)94تتشابك بعض حاالت العنف الديني
مع العناصر الثقافية والسياسية والحضارية لدرجة أنها ،من جذورها ،دينية وثقافية» .وانظر كذلك
(القرطبي.)2016 ،
الكيرتس دويال 360
ببساطة في الغرب ما قبل الحداثة ،وال توجد اآلن في أجزاء أخرى كثيرة من العالم.
على هذا النحو ،لن يكون من المنطقي إلقاء اللوم عن الشر الديني على أعتاب المعتقد
الديني وحده.
هناك آخرون يذهبون إلى أبعد من ذلك ،ويجادلون بأن الشر الديني له أسباب سياسية
فقط ،وبالتالي فإن العقيدة الدينية ليست هي المسؤولة على اإلطالق .فقد جادل العديد
من العلماء في أن الهجمات اإلرهابية ،إلى جانب حاالت أخرى من الشر الديني ،لها
دوافع سياسية في األساس .11روبرت بيب ،على سبيل المثال ،بعد التحقيق في أكثر من
ثالثمائة هجوم إرهابي انتحاري ،يدعي أن اإلرهاب االنتحاري يرتبط بالحركات القومية
ضد االحتالل األجنبي واالضطهاد ً
بدل من األصولية الدينية ،كما يعتقد الناس:
تظهر البيانات أنه ال توجد صلة تذكر بين اإلرهاب االنتحاري واألصولية اإلسالمية،
أو أي من أديان العالم .في الواقع ،إن المحرضين الرئيسيين على الهجمات االنتحارية
هم نمور التاميل في سريالنكا ،وهي مجموعة ماركسية لينينية ينتمي أفرادها إلى
عائالت هندوسية ولكنهم يعارضون بشدة الدين ...الهدف العلماني واالستراتيجي:
إجبار الديمقراطيات الحديثة على سحب القوات العسكرية من األراضي التي يعتبرها
اإلرهابيون وطنهم ( ،2005ص.)4
أيضا
يطبق بيب هذا التحليل ليس فقط على قادة المنظمات اإلرهابية ،ولكن ً
على أولئك الذين يقومون بمهام انتحارية بأنفسهم .فيشير ( ،2005ص )173إلى أن
اإلرهابيين االنتحاريين يتصرفون بدوافع اإليثار ،لخدمة مصالح مجتمعهم أو أمتهم،
و«قبول المهمة مثل الجندي الذي يقبل مهمة انتحارية في الحرب االعتيادية» .وعلى
الرغم من أنه ال يستخدم العبارة بنفسه ،إال أن تحليل بيب يشير إلى أن اإلرهاب
االنتحاري يتم عادة بحجة الدين وليس بسبب الدين ،على الرغم مما يقوله األبطال.
عرف عادة
11انظر على سبيل المثال (غودن ،2006 ،ص .)42-45وتجدر اإلشارة إلى أن اإلرهاب ُي ّ
بأنه عمل سياسي وليس ديني .يكشف كتالوج يضم أكثر من 250تعري ًفا لإلرهاب أن نسبة ضئيلة
جدً ا من هؤالء (أقل من )٪5تعتبر المعتقد الديني سب ًبا لإلرهاب ،حيث تعتبر الغالبية العظمى أن
بدل من الظاهرة الدينية .في الواقع ،في تصنيفأساسا ،الظاهرة السياسية ً
اإلرهاب هو اجتماعي ً
اإلرهاب األكثر استخدا ًما (مارسدن وشميد ،2011صُ ،)171يعتبر اإلرهاب الديني أحد أنواع
اإلرهاب السياسي.
361 ينيدلا رشلا ةلكشم
يدعي آخرون أن المعتقد الديني ليس هو نفسه سبب العنف الديني ،ولكن ً
بدل
دورا مختل ًفا (وإن كان ال يزال إشكال ًّيا) .يقول مارك يورجنسماير،
من ذلك يلعب ً
على سبيل المثال ،2006( ،ص )141أن أولئك المنخرطين في العنف الديني غال ًبا
ما يعتبرون أنفسهم فاعلين في حرب كونية ،مع أفعالهم التي تتم الموافقة عليها إله ًّيا،
على الرغم من أن ما يكمن وراء العنف ــ السبب الجذري ــ عوامل سياسية واقتصادية
واجتماعية أكثر دنيوية مثل «اإلحساس باالغتراب والتهميش واإلحباط االجتماعي».
من خالل التضحية بسببهم الدنيوي ،فإن مرتكبي العنف الديني يضعون «صور ًا للصراع
اإللهي ــ الحرب الكونية ــ في خدمة المعارك السياسية الدنيوية›› ( ،2006ص .)141
يجادل يورجنسماير بأن الدين ال يسبب العنف بأي معنى طبيعي للمصطلح ،ولكن
حقيقة أنه يتم استدعاؤه من قبل األبطال ال يزال يعمل على تعقيد الوضع بشكل كبير،
ألنه يوفر الموارد إلضفاء الشرعية على األعمال العنيفة وتبريرها ويجعل التسوية أقل
ً
احتمال.12
يمكننا تقسيم ما سبق إلى أربع طرق متميزة لفهم العالقة بين المعتقد الديني والشر
الديني( :13أ) المعتقد الديني هو سبب الشر ،و(ب) المعتقد الديني هو سبب جزئي أو
مساعد للشر ،وال يؤدي وجوده إلى الشر إال باالشتراك مع مكونات أخرى (كيوغ)،
و(ج) المعتقد الديني هو الوسيط للسبب الحقيقي للشر ،يتفاعل مع السبب الحقيقي
بطريقة تغير التأثير (يورجنسماير) ،و(د) ال يلعب المعتقد الديني أي دور سببي في
الشر (بيب).
أفترض أنه عند صياغة الفرضية األولى لمشكلته عن الشر الديني ،كان كوداج يفكر
في العالقة بين المعتقدات الدينية والشر على غرار (أ)؛ مالحظته ( ،2016ص )278
أن «العنف يبدو متوطنًا للدين ،بمعنى أن التقاليد والنصوص الدينية تلهم العنف بانتظام
أيضا.
وبفعالية كبيرة» ،يبدو أنه يشير إلى ذلك ً
12في سياق مماثل ،يدعي كيث وارد ( ،2006ص )81أن األسباب الجذرية للصراع اإلسرائيلي
الفلسطيني هي اجتماعية وسياسية ،لكن الدين «يغذي الصراع» ألنه يستخدم «عالمة على هوية’’.
13في ما يلي ،أستخدم المصطلحات واألوصاف (سبب العطف ،الوسيط) من) ستيرنبيرغ والين
وستيرنبيرغ ،2011 ،ص.)180-190
الكيرتس دويال 362
ومع ذلك ،قد يعني الخيار (أ) أشياء مختلفة كثيرة ،على سبيل المثال أن المعتقد
الديني هو سبب ضروري للشر ،أو سبب كاف ،أو سبب وحيد (أي ضروري وكاف
على حد سواء) .14ال يقول كوداج ما يكفي لنتمكن من التحقق عن أي من هذه األشياء
يعكس تفكيره بشكل أفضل ،على الرغم من أن هذا ال يهم في النهاية حيث أن كل
الطرق الثالثة لفهم (أ) يمكن أن تُر َفضً .
أول ،إذا كان المعتقد الديني سب ًبا ضرور ًّيا
للشر الديني ،فلن يحدث الشر الديني بدون المعتقد الديني .لكن حقيقة أن الشر ُيرتكَب
ظاهر ًّيا باسم ال ّله ال يعني أن المعتقد الديني كان وراءه ،حيث يمكن استخدام الدين
كذريعة للعنف ،كما الحظ الكثيرون .15وبالتالي ،ال يمكن أن يكون المعتقد الديني
سب ًبا ضرور ًّيا للشر الديني .ثان ًيا ،إذا كان المعتقد الديني سب ًبا كاف ًيا للشر ،فإن المعتقد
الديني سيضمن حدوث الشر .ولكن يمكن رفض ذلك على أسس تجريبية ،ببساطة من
خالل مالحظة أن هناك (وكان) العديد من األشخاص ذوي المعتقدات اإليمانية الذين
صرح أسد لم يشاركوا في مثل هذه الممارسات التي يصفها كوداج بأنها شريرة .كما ّ
( ،2003ص ،)10بقوله «ال يحتاج المرء إال أن ُي َذكِّر نفسه بالحقيقة المبتذلة القائلة
بأن عد ًدا ال ُيحصى من المسلمين واليهود والمسيحيين يقرؤون كتبهم المقدسة دون
أن تهيمن عليهم الحاجة إلى قتل غير المؤمنين» .لذا ال يمكن أن يكون المعتقد الديني
وأخيرا ،إذا كان المعتقد الديني هو السبب الوحيد للشر ،فلن تكون
ً سب ًبا كافي ًا للشر.
هناك عوامل أخرى .ولكن يمكن رفض ذلك على أساس عدم قابلية التطبيق المطلق:
القول أنه لم تكن هناك عوامل سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو قومية في الشر غال ًبا
ما توصف بأنها «دينية» (مثل االضطرابات في أيرلندا الشمالية وصراع اإلسرائيليين
والفلسطينيين أو الحرب البوسنية) هو ببساطة خيالي بحيث ال يمكن أخذه بجدية.16
14أذكر القارئ مرة أخرى أن «السبب» قد ُيفهم هنا بمعنى «الدافع» أو «العامل الدافعي».
15على سبيل المثال ،رئيس أساقفة كانتربري ،ويلبي ( ،)2016وحتى هاريس ( ،2005ص .)137
16طريقة أخرى لهزيمة االدعاء بأن المعتقد الديني هو السبب الوحيد للشر هو االعتراف ،على حد تعبير
أرمسترونغ ( ،2014ص ،)359بأن «المعتقدات والممارسات المتطابقة ألهمت مسارات العمل
المتعارضة تمام ًا».تالحظ ،على سبيل المثال ،أن «في الكتاب المقدس العبري يتأمل المؤلفون
الكهنوتيون في نفس القصص ،لكن علماء التثنية انقلبوا بشدة على الشعوب األجنبية ،في حين سعى
المؤلفون الكهنوتيون إلى المصالحة ...انعكس كتاب القديس لوقا والكاتب جوهانين على رسالة
محبة يسوع ،لكن لوقا تواصل مع األفراد المهمشين في المجتمع ،بينما يقتصر الجوهانين حبهم
363 ينيدلا رشلا ةلكشم
بالنتيجة ،على الرغم من أنه الشائع في األدبيات اإللحادية الجدلية ووسائل اإلعالم
الغربية ،17فإنه ال يمكن التصديق باالدعاء أن المعتقدات الدينية تسبب الشر ،سواء
أخذنا «السبب» بمعنى السبب الضروري أو السبب الكافي أو السبب الوحيد.
هذا يعني أنه عندما يحدث مثل هذا الشر ،يجب أن يكون الدين إما سبب ًا جزئي ًا
أو مشارك ًا (الخيار ب أعاله) ،أو متوسط ًا (ج) ،أو ليس له دور سببي على اإلطالق
(د) .أنا أفترض أنه إذا كان (ب) هو المقصود ،فسيظل من الصحيح تقن ًّيا أن نقول
أن المعتقد الديني يسبب الشر ،وتُعاد صياغة الفرضية األولى في حجة كوداج لتكون
أن «المعتقد الديني هو جزء من أو سبب المساهم في الشر» .هذا يصدمني بما يكفي
لمشكلة الشر الديني للعمل بالطريقة التي قصدها كوداج ،كمنكر ألشكال معينة من
نظرا ألن مشكلته المتعلقة بالشر الديني تتوقف على المعتقدات الدينية .ومع ذلكً ،
المعتقدات الدينية المسببة للشر ،فإنه قد يبدو ً
فاشل تما ًما إذا كان أي من الخيارين (ج)
و(د) يصفان العالقة بين الدين والشر بشكل أفضل ،فضمن هذين الخيارين لن يكون
من الصحيح القول أن المعتقد الديني يسبب الشر.18
وبالتالي فإن النجاح أو الفشل المحتمل لمشكلة الشر الديني يعتمد على ما إذا
كان الخيار ب أو ج أو د هو الطريقة األكثر معقولية لوصف العالقة بين المعتقد الديني
والشر .لسوء الحظ ،هذا ليس شي ًئا يمكن للفيلسوف الحكم عليه بسهولة ،ألنه ليس
مسألة فلسفية؛ في نهاية المطاف هو شيء على عالم االجتماع وعالم األنثروبولوجيا
والعالم السياسي أن يقرره ،وكما رأينا ال يوجد إجماع بينهم حول ذلك .لكن الحظ أنه
على مجموعتهم الخاصة» .وهذا يشير إلى أن المعتقدات وحدها ال يمكن أن تكون سبب الشر ،وأن
المرء يحتاج إلى النظر في عوامل أخرى (مثل الظروف السياسية واالقتصادية السائدة ،ووجود أو
غياب التهديدات الخارجية وعلم النفس الفردي وما إلى ذلك) لتوضيح سبب حدوثها عند حدوثه.
17على وسائل اإلعالم الغربية في الغالب تمثيل و/أو تصوير غير مفصل للعنف المستوحى من الدين،
انظر ميتشل (.)2011
18بالطبع قد يكون الوضع أكثر تعقيدً ا من هذا :قد يكون من المناسب وصف بعض حاالت الشر
الديني بشكل مناسب تحت (ب) ،وبعضها تحت (ج) ،وبعضها تحت (د) .سيلينجوت (،2011
ص )92مصيب في هذا االتجاه عندما يجادل بأنه في حين أن بعض العنف الديني له جذوره في
بدل من ذلك هو نتاج ادعاءات سياسية أو أيديولوجية يتمالمعتقد الديني ،والبعض اآلخر الً ،
إعطاؤها الغطاء الديني من أجل زيادة شرعيتها.
الكيرتس دويال 364
ليست المشكلة مجرد وجود الخالف ،بل حجمه .الوضع هكذا :يدعي بعض الناس
أن اإليمان بال ّله يسبب الشر .يقع عب ُء اإلثبات بشكل مباشر على أولئك الذين يدعون
مثل هذا االدعاء .فكيف يثبتون ذلك؟ يمكنهم محاولة تبرير مثل هذا االدعاء باإلشارة
إلى عمل علماء االجتماع وعلماء األنثروبولوجيا وعلماء السياسة ،الذي هو مجالهم،
ولكن عمل علماء االجتماع وعلماء األنثروبولوجيا وعلماء السياسة ال يدعم بشكل ال
لبس فيه االدعاء الذي يرغبون في تقديمه؛ في الواقع ،يشير الكثير منها بعيدً ا عن هذا
االدعاء .لذلك ،في غياب أي دليل آخر ،فإن االدعاء غير آمن.
هذا تعقيد كبير بالنسبة لعلماء الالهوت الذين سيستخدمون مشكلة الشر الديني
لهزيمة األديان والطوائف المختلفة ،ألنها تجعل الفرضية األولى للحجة «اإليمان بال ّله
أساسا آمنًا بشكل خاص يمكن ً أن هذه ليستيسبب الشر» غير مؤكدة تما ًما ،وكما ّ
أن تبني عليه بقية الجدل .ما لم يتم حل المسألة المتعلقة بالعالقة بين المعتقد الديني
والشر ،ومعقولية (أو خالف ذلك) الفرضية األولى من حجة كوداج ،يتم اختزال حجته
إلى كونها افتراضية في طبيعتها .أي أنه يقول بشكل فعال :إذا كان المعتقد الديني يسبب
الشر ،فعندئذ (وف ًقا للمباني المتبقية) يجب على المرء أن يمتنع عن المعتقد الديني.
لكن بالطبع مثل هذه الحجة التي أعيد تشكيلها لن تكون معاقبة معرفية أو معيارية ألي
ساللة من المعتقدات الدينية ،الرسمية أو غير ذلك.19
19ومن الجدير بالذكر ما يقوله كوداج ر ًدا على من يزعمون أن اإليمان بال ّله ليس سبب ًا للشر .إذ يشير
صحيحا ،فيجب أن يكون هذا هو السبب في أن اإليمان بال ّله الً إلى أنه إذا كان مثل هذا اال ّدعاء
يمنع الناس من ارتكاب الشرور الرهيبة ،التي يصفها كوداج بأنها «هازم معرفي لإليمان›› على
أساسها الخاص ،على أساس أنه «يلقي بظالل من الشك على قوة اإليمان لتحفيز السلوك الخاطئ»
( ،2014ص .)430من غير الواضح ما إذا كان كوداج يعتقد أن المعتقدات الدينية الصحيحة يجب
أن يكون لها نوع من السيطرة السحرية على المؤمنين ،مما يضمن عدم ارتكابهم خطأ ،أو ما إذا كانت
المعتقدات الدينية الصحيحة يجب أن تحفز المؤمنين ببساطة على الخطيئة من خالل العمليات
النفسية العادية .في كلتا الحالتين ،يبدو أن كوداج يفترض أن المعتقدات الدينية يجب أن تكون سب ًبا
كاف ًيا لألعمال الصالحة ،وحقيقة أنها ال تنعكس سل ًبا على الدين .لكن يبدو أن هذا ا ّدعاء غريب،
حيث أن العديد من األديان نفسها تفترض أن اإليمان ال يمكن أو ال يحفز السلوك الخاطئ ،وحتى
بناء هذا االفتراض في ممارساتها .جميع الديانات اإلبراهيمية لديها إجراءات محددة للخطاة للتوبة
واالستغفار ،إما من خالل مناشدة مباشرة ل ّله أو من خالل وسيط معين .ستكون هذه الممارسات
زائدة عن الحاجة تما ًما إذا تم االعتقاد بأن لديها نوع القوة التي يعتقد كوداج أنها يجب أن تكون .في
365 ينيدلا رشلا ةلكشم
التقاليد الدينية العظيمة ،لم ُينظر إلى اإليمان على أنه عازل أو ضامن ضد الخطيئة ،ومن يقترح أنه
يجب أن يكون على هذا النحو ساذج وغير واقعي .عالوة على ذلك ،فإن التقليد المسيحي (وهو
حتما خطيئة ــ المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء ــ بسبب عقيدة
الهدف الرئيسي لكوداج) يقبل ً
الخطيئة األصلية .كما الحظ تشيستيرتون ( ،2002ص )67ذات مرة بقلق ،بالنظر إلى التاريخ
الطويل للفساد البشري ،فإن عقيدة الخطيئة األصلية «هي الجزء الوحيد من الالهوت المسيحي
اعتراضا غري ًبا على التقليد المسيحي أن االعتقاد ال يحفز
ً الذي يمكن إثباته ح ًّقا» .لذلك سيكون
السلوك الالخاطئ بالنظر إلى أنه من خالل مبادئه الخاصة ،فإن الالخطيئة ليست ممكنة.
مثال (هيك ،2010 ،ص ،)12و(سينبورن.)1998 ، 20تنظر ً
الكيرتس دويال 366
ولكن إلى حد ما :يتعلق كالهما باألفعال البشرية ،وكالهما سيعتبران العديد من نفس
األفعال شريرة ،ولكن بعض األفعال التي يمكن اعتبارها شريرة بموجب مفهوم واحد
شرا بحسب اآلخر ،والعكس صحيح .على سبيل المثال ،ال يعتبر مفهوم لن يعتبر ًّ
كوداج عن الشر رفض شخص متعمد ل ّله على أنه شر ،ألنه ال يتضرر منه أي فرد أو
مجموعة اجتماعية ،ولكن رفض ال ّله يمكن اعتباره ًّ
شرا أخالق ًّيا إذا وصفه الدين على
هذا النحو .على العكس من ذلك ،فإن مفهوم كوداج عن الشر قد يعتبر فعل إيذاء
المعتدي الذي يهدد دين المرء بأنه شر ،ألنه بحكم تعريفه يؤدي إلى األذى ،لكن الفعل
لن يعد كذلك إذا لم يعينه الدين المعني كخطيئة .في الحاالت المهمة إذن ،الشخص
الذي يؤيد فكرة الشر األخالقي والذي يؤيد فكرة الشر عند كوداج قد يختلف مع ما
يصف الشر .21وغني عن القول ،من المرجح أن يركز بدقة معظم الخالف على هذه
األنواع من الحاالت التي سيأخذها كوداج كأمثلة على الشرور الدينية.
ومن غير المحتمل أن ينجح التحكيم في مثل هذه الحاالت .والسبب في ذلك ،بطبيعة
الحال ،هو أن فكرة كوداج عن الشر تستمد من األخالق العلمانية للحداثة الغربية بدالً
من أي من األديان التي يسعى إلى هزيمتها .هذا يعني أن العلماني يتحدث لغة أخالقية
مختلفة عن تلك التي يؤمن بها ،حيث أن األخالق العلمانية معنية بشكل أساسي بزيادة
الرفاهية وتقليل المعاناة (وبالتالي ،يمكن تعريف الشر في المجال العلماني على
أنه ما يمكن أن يسبب الضرر) ،في حين أن األخالق الدينية ،على األقل في السياق
المسيحي ،معنية بشكل أساسي بمواءمة النفس أخالقيا وروحيا مع ال ّله (وبالتالي لماذا
يتم تعريف الشر في المجال اإللهي على أنه خطيئة) .غال ًبا ما يصر العلمانيون على أن
األخالق العلمانية للحداثة الغربية تتفوق على أي شكل من أشكال األخالق القائمة
على الدين ،وعلى هذا النحو يجب أن تعمل كحكم لما هو الصحيح والخطأ ،والخير
21تجدر اإلشارة إلى أن الكثير من المؤلفات حول هذا الموضوع تستخدم تعبير «العنف الديني» ،وهو
مصطلحا وصف ًّيا ،بينما
ً مصطلح أكثر حيادية بكثير من «الشر الديني» ،ألن «العنف» عادة ما يكون
عاد ًة ما يكون «الشر» تقييم ًّيا ،حيث ُيستخدم لوصف األفعال التي تستحق اللوم وغير المبررة .وغني
عن القول ،إن أولئك الذين يؤيدون فكرة الشر األخالقي يمكن ،ومن المفترض ،أن يقبلوا أن فعل
شرا.
العنف الديني يتسبب في ضرر ،أو أنه عنيف ،حتى لو أنكروا أنه يعتبر ًّ
367 ينيدلا رشلا ةلكشم
أو الشر .22المؤمنون الذين يقبلون األخالق الدينية سيختلفون بالتأكيد ،وسيصرون
على أن شكلهم األخالقي متفوق ،وبالتالي الحكم الحقيقي للخير أو الشر .الخالف
عميق ،وال يمكن تسويته ببساطة من قبل أحد الطرفين الذي يدعي التفوق األخالقي
على اآلخر ،على الرغم من أن هذا هو ما يحدث في الممارسة العملية .23والنتيجة
هي أن المؤمنين يمكن أن يرفضوا حجة كوداج بالكامل بشكل معقول على أساس أنه
يستخدم فكرة علمانية وليست إيمانية عن الشر ،وبالتالي تصنف بشكل غير صحيح
على أنها أعمال شريرة معينة وهي في الواقع ليست كذلك .هذه بالتأكيد نكسة كبيرة
لمشكلة الشر الديني ،بقدر ما تم تصميم حجة كوداج بشكل واضح إلجبار المؤمنين
على التخلي عن معتقداتهم الدينية .من الناحية العملية ،ال يمكنها تحقيق ذلك إال إذا
كان المؤمنون مستعدين لتفضيل فكرة العلمانية عن الشر على الفكرة التوحيدية ،ولكن
بما أن الحجة ال تعطيهم سب ًبا للقيام بذلك ،فليس من الواضح ما يجعلهم يفعلون ذلك.
استنتاج
على امتداد هذه الورقة ،رأينا أن هناك عد ًدا من المشاكل في فكرة أن اإليمان بال ّله
يسبب الشر ،وبالتالي مع محاولة كوداج استخدام هذه الفكرة كأساس لحجة مؤيدة
لإللحاد .كشفت المشاكل أن الحجة يمكن أن تنجح فقط ضد تلك الطوائف التي
تشمل معتقداتها الرسمية ارتكاب األفعال الشريرة ،وعندئذ فقط إذا كان من الممكن
مساهما أو داف ًعا لتلك األعمال .يعتمد
ً ً
عامل تحديد أن المعتقدات المعنية كانت
أيضا على رغبة المرء في تبني فكرة علمانية عن الشر ،وهو ما ال يمكن توقعه نجاحه ً
من المؤمنين .وبناء على ذلك ،فإن آفاق حجة مؤيدة لإللحاد على أساس الشر الديني
22على سبيل المثال ،يدعي كوين ( ،2015ص )261أن «األخالق العلمانية ،التي ال تتحرك بااللتزام
باألوامر المفترضة إلله ،تتفوق على معظم األخالق» الدينية « .يبدو أن كوداج يقبل هذا ،بالنسبة
للحل «الجزئي» المؤقت الذي يقدمه ( ،2014ص )442لمشكلته الخاصة بالشر الذي ينطوي على
مزيج من ثالث أفكار متميزة ،وهي )1( :األخالق العلمانية تتفوق على التدين ،و( )2المعتدون
في الشر الديني ليسوا متدينين أصيلين ،و( )3الخالص يعتمد في المقام األول على األخالق
(العلمانية) ،وليس على التدين.
23ولكن ليس دائم ًا .لمحاولة الدفاع عن تفوق األخالق الدينية ،انظر (مافروديس ،)1986 ،ولمحاولة
الدفاع عن تفوق األخالق العلمانية ،انظر (هاريس ،2005 ،ص 170ــ .)203
الكيرتس دويال 368
ال تبدو لي جيدة .يجب أن تستند أي حجة من هذا القبيل على فكرة أن اإليمان بال ّله
يسبب الشر ،أو شيء مشابه جدًّ ا ،ولكن حتى مع هذا النوع من التعديالت المقترحة
في هذه الورقة ،فإن الفكرة ال تزال إشكالي ًة للغاية بحيث ال تفعل أي شيء آخر سوى
تقليل قوة أي حجة تعتمد عليه .على الرغم من ذلك ،هناك شيء مقلق بشأن الشر
الديني ،ومن المؤكد أنه من الصحيح أن نسأل عن مقدار الدور الذي يلعبه الدين فيه،
وكيف تنوي األديان مواءمته مع رؤيتها الخاصة للكون ودور اإلنسان فيه .قد يؤدي هذا
إلى أسئلة غير مريحة لبعض األديان أو طوائفها ،ولكن ليس ــ كما أعتقد ــ إلى اعتراض
حاسم ضدها.
369 عجارملا
المراجع
- Al Qurtuby, S. (2016). Religious violence and conciliation in
Indonesia: Christians and muslims in Moluccas. London: Routledge.
- Armstrong, K. (2014). Fields of blood: Religion and the history of
violence. London: Penguin.
- Asad, T. (2003). Formations of the secular: Christianity, Islam,
modernity. Stanford: Stanford University Press.
- Buijs, J. A. (2009). Atheism and the argument from harm. Philosophia
Christi, 11(1), 42–52.
- Canadian Security Intelligence Service. (2002). Doomsday religious
movements. In J. Kaplan (Ed.), Millennial violence: Past, present and
future (pp. 53–60). London: Frank Cass.
- Cavanaugh, W. T. (2009). The myth of religious violence: Secular
ideology and the roots of modern conflict. Oxford: Oxford University
Press.
- Chesterton, G. K. (2002). In M. W. Perry (Ed.), Chesterton day by
day. Seattle: Inkling Books.
- Coyne, J. A. (2015). Faith versus fact: Why science and religion are
incompatible. London: Penguin.
- Dawkins, R. (2006). The God delusion. London: Bantam Books.
- Draper, P., & Nichols, R. (2013). Diagnosing bias in philosophy of
religion. The Monist, 96(3), 420–446.
الكيرتس دويال 370
- Everitt, N. (2004). The non-existence of God. London: Routledge.
- Goodin, R. E. (2006). What’s wrong with terrorism?. Cambridge:
Polity.
- Harris, S. (2005). The end of faith: Religion, terror, and the future of
reason. London: Simon & Schuster.
- Hick, J. (2010). Evil and the God of love. Basingstoke: Palgrave
Macmillan.
- Hitchens, C. (2007). God is not great. London: Atlantic Books.
- Hume, D. (1793). Essays and treatises on several subjects. Basil:
Tourneisen.
- Jones, J. W. (2008). Blood that cries out from the Earth: The psychology
of religious terrorism. Oxford: Oxford University Press.
- Juergensmeyer, M. (2006). Religion as a cause of terrorism. In L.
Richardson (Ed.), The roots of terrorism (pp. 133–144). London:
Routledge.
- Keogh, G. (2015). Theology after new atheism. New Blackfriars,
96(1066), 739–750.
- Kodaj, D. (2014). The problem of religious evil. Religious Studies,
50(4), 425–443.
- Kodaj, D. (2016). Religious evil. Philosophy Compass, 11(5), 277–286.
- Le Poidevin, P. (1996). Arguing for atheism. London: Routledge.
- Lucretius. (2007). The nature of the universe (A. E. Stallings, Trans.).
London: Penguin.
- Marsden, S. V., & Schmid, A. P. (2011). Typologies of terrorism and
political violence. In A. P. Schmid (Ed.), The Routledge handbook of
terrorism research (pp. 158–200). London: Routledge.
371 عجارملا
ثيوديسيا أوغسطين
1
من منظور ابن سينا
2
د .أمير عباس علي زماني ___________________________________
3
د .فاطمة السادات هاشمي
بيان المسألة:
الشرور نفسها في العالم المادي على اإلنسان ،مما ال يبقي معه أي مجال
ُ تفرض
للتشكيك في وجودها .والسؤال الذي يفرض نفسه على كل إنسان يتمتع بالقدرة
على التفكير ،يكمن في البحث عن ماهية الشرور وأسباب وجودها؛ إذ يقال :أال
يتنافى وجود هذه الشرور مع اتصاف ال ّله بالعلم والقدرة وإرادة الخير المطلقة؟ أال
يتناقض وجود هذه الشرور مع أصل وجود ال ّله المعرف من قبل األديان التوحيدية؟
إذا كان خالق عالم الوجود هو القادر المطلق على كل شيء ،والعالم المطلق بكل
شيء ،والمريد للخير والعادل على اإلطالق ،فلماذا يسمح بحدوث جميع مظاهر
االنحراف والظلم والشرور في العالم؟ هل يمكن اعتبار وجود الشرور دليال على
محدودية الصفات اإللهية الحسنى؟ لقد تمخض عن جميع هذه األسئلة بحث
تحت عنوان (معضلة الشر).4
5 defense.
6 theodicy.
7 affirmation of justice of God.
8انظر :رضائي ،مهين ،تئوديسه وعدل الهي ،ص ،68دفتر پژوهش ونشر سهروردي ،طهران،
1380هـ ش.
375 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
وقد سعى كل من ابن سينا وأوغسطين 9من خالل نظريتيهما إلى بيان فلسفة
الشرور .وقد عمد أوغسطين في مقام اإلجابة عن مسألة الشرور إلى توظيف مفاهيم
من قبيل :عدمية الشرور ،والخطيئة األولى ،واختيار اإلنسان .كما قام ابن سينا في
معرض بيان الشرور إلى توظيف عبارات مشابهة ،من قبيل :عدمية الشرور ،والنظام
األحسن ،10واختيار اإلنسان ً
أيضا.
وهناك في هذا المجال مقال تحت عنوان( :بررسي ومقايسه شر از ديدگاه
آگوستين وابن سينا) .11وقد ورد في هذا المقال أن أوغسطين يذهب إلى االعتقاد
بوجود نوعين من الشر ،وهما :الشر األخالقي ،والشر المعرفي ،ويقدم لكل واحد
من هذين النوعين طري ًقا للحل .إن الشر األخالقي يعود بجذوره إلى المعاصي
والذنوب التي يقترفها اإلنسان ،وأما في تبرير الشرور المعرفية فقد عمد إلى توظيف
طريقتين للحل ،وهما :عدمية الشرور ونسبيتها .وهذان الطريقان هما اللذان يعمل
أيضا .وعليه فإن ًّ
كل ابن سينا على توظيفهما في سياق تبرير وجود الشرور في العالم ً
أمرا عدم ًّيا أو نسب ًّيا .وقد
من أوغسطين وابن سينا يتفقان على اعتبار ماهية الشرور ً
ركز ذلك المقال على بيان مواطن االختالف والتشابه بين هاتين الرؤيتين .وأما نحن
فسوف نسعى إلى نقد رؤية أوغسطين من وجهة نظر ابن سينا ،وهو ما لم يتعرض له
المقال المذكور.
إن اإلجابة المعتمدة على القول بـ(عدمية الشرور) من قبل بعض الفالسفة،
تتعرض إلى النقد الجاد بالنظر إلى الشرور الوجودية .فإن الشرور اإلدراكية من قبيل:
أمورا الخوف والشعور ّ
بالذل والهوان هو من الشرور الوجودية التي ال يمكن اعتبارها ً
عدم ّية .فإن كل شخص يدرك وجود هذه األمور والحاالت من نفسه ،ويعتبر وجودها
من األمور البديهية .وعليه كيف سيمكن تبرير وجود الشرور الوجودية من وجهة نظر
9 Augustine.
10 the best possible world.
11لمزيد من االطالع ،انظر :سلطان القرايي ،وخليل وحسين آتشي ،وزهراء علمي ،بررسي
ومقايسه شر از ديدگاه آگوستين وابن سينا ،مجلة پژوهشهاي فلسفي ،العدد التاسع ،خريف
وشتاء عام 1390هـ ش.
أمير زماني 376
هذين الفيلسوفين؟ يضاف إلى ذلك :هل اإلشكاالت الواردة على أوغسطين بشأن
عدمية الشرور ،ترد على ابن سينا أيضا؟ وبشكل عام أي هذين الجوابين هو األرجح
ً
إشكال من اآلخر؟ ولذلك فإننا ضمن بيان وتشريح نظرية أوغسطين وابن سينا واألقل
في حقل الشرور ،سنثبت أن نظرية ِ
ابن سينا في هذا اإلطار كانت هي األوفر حظا من
نظرية أوغسطين ،حيث سلمت من اإلشكاالت واالعتراضات الموجهة ضد نظرية
أوغسطين .ولكننا قبل الدخول في صلب البحث ،نرى ضرورة لبيان أقسام الشرور
تمهيدً ا لتوضيح المسألة وتحديد محل النزاع.
أقسام الشر
هناك العديد من التقسيمات للشرور ،ومن بين أشهر تلك التقسيمات ،تقسيم
الشرور إلى ثالثة أقسام ،وهي :الشر الميتافيزيقي ،والشر األخالقي ،والشر الطبيعي.
الشر الميتافيزيقي
إن كل ما سوى ال ّله يتصف بالنقص الذاتي ،وعليه فإننا إذا افترضنا شيئا من دون
شر ،نكون في الحقيقة قد افترضناه متساو ًيا مع ال ّله في الكمال ،وهو أمر ممتنع.
ولذلك فإن نفس افتراض أن العالم مخلوق ل ّله ،يثبت ضرورة اشتماله على الشر.12
إن الشر الميتافيزيقي يعني عدم وجود الكمال المطلق الموجود في صلب جميع
العالم .إن الشر الميتافيزيقي هو من لوازم اعتبار عالم اإلمكان مخلو ًقا .إن الشر
السائد في كل عالم اإلمكان ،والذي هو عبارة أخرى عن محدودية ونقص العالم،
إنما هو بالنسبة إلى عدم تناهي الذات اإللهية المقدسة.
وبعبارة أخرى :إن الشر الميتافيزيقي هو الشر الذي تعاني منه كافة الموجودات
اإلمكانية وكل مخلوقات ال ّله ،وهو الشر الذي يالزم هذه الكائنات بحيث ال يمكنها
االنفكاك عنه ،وهو الذي يعني المحدودية .وعلى حد تعبير صدر المتألهين :إن الفقر
الوجودي لجميع الكائنات الممكنة ،هو في قبال الكمال الالمتناهي ل ّله عز وجل؛
12انظر :عسكري سليماني أميري ،نقد برهان نابذيري وجود خدا ،ص ،925بوستان كتاب ،ط ،3
قم 1388 ،هـ ش.
377 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
بدليل أن كل محدودية تعد نقصا وضع ًفا ،وكل نقص وضعف يعد ًّ
شرا بشكل من
األشكال .ومن هنا فإن المحدودية واالفتقار واإلمكان الوجودي ،يعتبر من الشرور.
إن المحدودية الوجودية هي من لوازم الخلق ومن مقتضيات طبيعة كل ممكن
الوجود .وإن الذين يرون وجود الشرور ينافي أو يعارض وجود ال ّله ،ال يعترضون
أبدا على النقص التكويني الذي يعانون منه ويعاني اآلخرون منه أيضا؛ إذ ال يوجد ــ
تعارض أو منافاة بين وجود ال ّله وصفاته الحسنى وبين الضعفمن وجهة نظرهم ــ ُ
الوجودي والنقص التكويني لسائر الموجودات والكائنات .من هنا فإن هذا القسم
كثيرا مور ًدا لبحثنا.
من الشرور ،ال يقع ً
الشر األخالقي
إن الشر األخالقي ينبثق عن إرادة واختيار اإلنسان ،بمعنى الشرور التي تصدر
عن اإلنسان بإرادته واختياره ،أي أنها المعاصي واألمور القبيحة التي يقوم اإلنسان
بارتكابها ،من قبيل :الظلم والخيانة والسرقة والتكبر والقتل بغير حق وما إلى ذلك
من األعمال غير األخالقية األخرى .إن الشرور األخالقية هي من لوازم اختيار
اإلنسان .ال يمكن تصور الخطأ في ما يقوم به ال ّله ،حتى وإن كان هو من أذن به؛ ألنه
قد خلق اإلنسان مختارا ،بحيث يمكنه أن ينتخب بين فعل الخير أو فعل الشر ،وألنه
مختار قد يفعل الشر والقبيح بسوء اختياره أحيانا.
وبعبارة أخرى :إن الخير والشر األخالقي يطلق على تلك المجموعة من
شخصا من أفراد
ً الخيرات والشرور التي يكون للعنصر اإلنساني دخل فيها ،ولو أن
اإلنسان لم يقم بتلك األفعال ،لما تحقق ذلك الخير أو الشر على أرض الواقع؛ من
قبيل :اإلحسان إلى اآلخرين ،أو قتلهم بغير حق.13
الشر الطبيعي
يطلق لفظ الخير والشر الطبيعي على تلك المجموعة من الخيرات والشرور التي
ال يكون للعنصر البشري دخل في تحققها .وبعبارة أخرى :حتى إذا لم يقم شخص
13انظر :سبحاني جعفر ،ومحمد محمد رضائي ،انديشه اسالمي ( ،)1ص ،122دفتر نشر معارف،
التنقيح الثاني ،الطبعة التاسعة واألربعون ،طهران 1387 ،هـ ش.
أمير زماني 378
بذلك الفعل ،فإن ذلك الخير أو الشر كان سيتحقق؛ إذ أن وقوعه ال يتوقف على وجود
اإلنسان أصال ،من قبيل :الزالزل والطبيعة الخضراء وما إليهما .14إن الشرور الطبيعية ،هي
األمور التي تفرض على اإلنسان من قبل الطبيعة ،من قبيل :السيل ،والطوفان ،والبراكين،
واألمراض الفتاكة ،والموت ،والفقر وما إلى ذلك من األمور التي تهدد اإلنسان من
الخارج .وفي بعض الموارد التي يؤدي الفعل االختياري واإلرادي للقبيح إلى األلم
شرا طبيعيا ،فنشهد
شرا أخالقيا كما يمكن اعتباره ًّ
والحزن الفيزيقي ،حيث يمكن اعتباره ًّ
نوعا من الشر المركب .15يتم طرح مسألة الشر فيما يتعلق بالشرور الطبيعية على نحو أكثر
جدية ،وهناك من يعتبر وجود هذا النوع من الشرور دليال على إنكار وجود ال ّله .وهناك من
شكك ــ ألجل ذلك ــ في اتصاف ال ّله ببعض الصفات؛ فأنكر أن يكون ال ّله متصفا بالكمال
المطلق ،والخير المطلق ،والقدرة المطلقة .وقال (سويين بيرن) 16في هذا الشأن( :إن
األلم الذي يعاني منه األطفال ،أو الذي تعاني منه الحيوانات يعتصر قلوبنا بشدة ...وأرى
أن هذا هو مكمن العقدة في المسألة .17)...إن الشر الميتافيزيقي والشر األخالقي لم يؤديا
إلى مشكلة كما هو الحال بالنسبة إلى الشر الطبيعي .وعليه فإن المشكلة الرئيسة في بيان
مسألة الشرور إنما تكمن في الشرور الطبيعية.
فمع الحرمان من الخير ،لن يكون هناك من وجود لألشياء بالمطلق ،وهذا يعني أنها
ما دامت موجودة فإنها تتصف بالخير .يقول أوغسطين« :إن كل ما هو موجود يتصف
بالحسن ،وإن الشر الذي كنت بصدد البحث عن أسبابه وعلله ليس له شأن جوهري؛
ألن كل ما هو جوهري يتصف بالحسن ...وعليه فقد اتضح لي أن كل ما خلقته حسن،
وليس هناك من جوهر ليس مخلوقا لك).19
يذهب أوغسطين إلى اعتبار الوجود مساويا ومساوقا للخير ،ويرى أن كل من
يرتدي جلباب الوجود فهو من الخير .وعليه فإن جميع الشرور تتنزع من عدم الوجود،
وليس هناك من وجود هو شر بالذات .من هنا فإن الذي يتصف بالشر هو العدم ،والعدم
ال يحتاج إلى خالق ،فال يكون منافيا لصفات ال ّله.
يرى أوغسطين أن الشر أمر سلبي ،وقال بأن الشر ليس أمرا إيجابيا .20إن الشر هو
دائما عبارة عن سوء عمل شيء هو خير في نفسه .21ليس هناك من وجود للشر ،وإن
الذي يتمثل لناظرنا بوصفه شرا إنما هو مجرد عدم نسبي للخير .فالعمى مثال هو فقدان
البصر ،ال أنه حقيقة موجودة في قبال البصر .يرى (جون هيك) 22أن أوغسطين هو
المفكر األول الذي انتظم معه عقد اإلجابة الجوهرية في التقليد المسيحي عن مسألة
الشر .قال (هيك) في تقريره لنظرية أوغسطين:
«إن رؤيته الفلسفية الجوهرية تكمن في القول بالماهية العدمية للشرور .إن أوغسطين
يتمسك بهذه العقيدة اليهودية؛ المسيحية بشدة ،وهي القول باعتبار العالم خيرا .بمعنى
أن العالم هو خلق ال ّله المريد للخير لغاية خيرة .يرى أوغسطين أن الخيرات العالية
والدانية والكبيرة والصغيرة موجودة بوفرة وبأشكال مختلفة .وعلى كل حال فإن كل ما
له نصيب من الوجود ،له حظ من الخير .إال إذا انجرف نحو االنحراف والفساد .إن ال ّله
لم يوجد الشر أو إرادة الشر في العالم ،بل الشر عبارة عن انحراف شيء هو خير في حد
19آگوستين ،اعترافات ،ص ،217ترجمه إلى الفارسية :سايه هيثمي ،دفتر نشر وپژوهش سهروردي،
طهران 1380هـ ش.
20انظر :المصدر أعاله.
21انظر :هيك ،جون ،فلسفه دين ،ص 93ـ ،94ترجمه إلى الفارسية :بهرام راد ،مؤسسه انتشارات بين
المللي الهدى ،طهران 1372 ،هـ ش.
22 John Hick.
أمير زماني 380
ذاته .فقد أشار أوغسطين إلى العمى ـ مثال ـ والعمى ليس (شيئا) ،بمعنى أنه ليس أمرا
وجوديا .فالشيء الوحيد الموجود هنا هو العين ،وهي في حد ذاتها من الخير .والشر
هنا المتمثل بالعمى إنما هو االفتقار إلى اآللية الصحيحة لوظيفة العين).23
أما عن الخطيئة األولى ،24يرى أوغسطين أن الشر منبثق عنها25؛ ما يعني أن جبلة
اإلنسان قد خلقت طاهرة ،ولكن تم تدنيسها بخطيئة آدم ،بمعنى أنها قد مالت إلى
المعصية ،وقد انتقل هذا الميل إلى ذرية آدم ،ولم يعد بإمكان الناس العثور على طريق
للنجاة إال بواسطة المسيح .في العقيدة المسيحية يكمن سر حاجة اإلنسان إلى النجاة
في اقترافه للمعصية ،وبذلك فقد نسي اإلنسان حقيقته ،وأخذ يتخبط في مستنقع الذل
والمهانة ،ومن هنا يأتي سر دعوة الناس إلى التوبة واإلنابة.
تعتبر خطيئة آدم ــ أي الخطيئة األولى ــ هي خطيئة كل إنسان ،والسبب الرئيس في
معاناته وآالمه ،فقد ورد في الكتاب المقدس ً
مثل أن الموت هو من بين النتائج الطبيعية
للخطيئة ،باعتباره عقوبة على تلك الخطيئة؛ إذ جاء في التوراة« :فيؤخذ الشرير بشره،
وتمسكه حبائل خطيئته؛ يموت لفقدانه التأديب ،وبكثرة حماقته يتيه».26
وبسبب اقتراف هذه الخطيئة تم طرد اإلنسان إلى هذا العالم لكي يقاسي األلم .وقد
وعد ال ّله اإلنسان ــ بوصفه أبا رحيما ــ أن ينقذه من هذا البؤس واأللم ،وقد تحقق هذا
الوعد بإرسال السيد المسيح إلى األرض لهداية الناس إلى الطريق القويم .وعليه فإن
اإلنسان سيتخلص من األلم إذا اتبع تعاليم عيسى.
أما عن االختيار ،فإن من بين آراء أوغسطين هي القول بأن العالم ــ بمعنى جميع
مخلوقات ال ّله ــ خير ،وأما الشر فليس له من جوهر وحقيقة مستقلة عن ال ّله ،بل هو
فقدان للخير.27
23المصدر نفسه.
24 original sin.
25آگوستين ،اعترافات ،ص ،22ترجمه إلى الفارسية :سايه هيثمي ،دفتر نشر وپژوهش سهروردي،
طهران 1380هـ ش.
26العهد القديم ،األمثال ،اإلصحاح الخامس ،الفقرة 22 :ـ .23
27 Augustine, saint 1961, Confessions, (trans. Edward Pusey, New York: Macmilan, p.
7.
381 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
إن العالم ــ بخالف ال ّله الذي هو مطلق وثابت ال يطاله التغير ــ قد ُخلق من العدم،
ولذلك كان متغيرا ومتحوال .يرى أوغسطين أن هذا األمر يدل على سبب زوال خيرية
العالم األول ،والذي على إثره ظهر الشر.28
«إن الخيرات التي يسعى إليها الخاطئون ،ليست من الشر أبدا ،وإن ذات
االختيار الذي يجب أن نعده من جملة الخيرات ليس من الشر .وإن الذي هو
من الشر إنما هو إعراض اإلرادة وانحرافها عن الخير الثابت إلى الخير المتغير
والمتحول».29
يرى أوغسطين أن اإلنسان قد خلق بفطرة وجبلة طاهرة ،ولكنها تلوثت بخطيئة
آدم ،وقد انتقلت هذه الخطيئة إلى ذريته ،ولم يعد بإمكان الناس الخالص والنجاة
إال بواسطة المسيح .يقول أوغسطين« :لقد تورط أبوانا األوالن في ارتكاب خطيئة
واضحة؛ إذ سبق لهما أن فسدا في الخفاء؛ ولوال تقدم إرادة الشر على فعل الشر ،لما
تحقق فعل الشر أبدا» .30وهذه العبارة تؤكد على أنه يرى أن مبنى الخطيئة هي الخطيئة
الباطنية.
إن سوء استفادة اإلنسان من االختيار قد سمح لإلنسان بتجربة الخطيئة أو الشر.
يرى أوغسطين أن (نظرية الهبوط) 31في المسيحية تسعى إلى إثبات أن المخلوقات
كانت في بداية أمرها كاملة ومنزهة من شائبة النقص ،ولكنها ارتكبت المعصية في
حضرة الرب بواسطة خطيئة آدم.32
يرى أوغسطين أن الشر يتسلل إلى عالم الخليقة من طريق إساءة استعمال اإلرادة
28 Ibid, 1984, City of God, D. Knowles, ed. New York: Penguin, xii. p. 6.
29 Ibid, 1999, In Free choice of the Will. Translated by Thomas Williams. Hackett
publishing company. Indianapolis, Cambridge, seventh printing. P. 68.
30 Augustine, saint, 1971, The City of God, Translated by Marcus Dods. Ik great books
of the western world. Ed. By Robert Maynard Hutchins, William Benton. Publsher:
Encyclopedia Britannica, Nineteenth printing. P. 13-14, 387.
31 fall.
32بيترسون ،مايكل وآخرون ،عقل واعتقاد ديني ،ص ،204ترجمه إلى الفارسية :أحمد نراقي وإبراهيم
سلطاني ،طرح نو ،الطبعة الثالثة ،طهران 1379 ،هـ ش.
أمير زماني 382
34
الحرة 33المتناهية .وقد عمد إلى نسبة جميع الشرور ــ األعم من الشرور الطبيعية
واألخالقية 35ــ إلى االختيارات غير الصائبة للكائنات الحرة والعاقلة .ويطلق على هذا
االختيار للشر في الثقافة الدينية بـ(الخطيئة).
يقسم أوغسطين الشرور إلى قسمين ،وهما :الشرور األخالقية ،والشرور
الطبيعية .وقد رأى في الشرور األخالقية (خطيئة) ،وفي الشرور الطبيعية (عقابا)
على تلك الخطيئة .وقد عمد إلى تقسيم جميع الشرور إلى هذين القسمين ،بمعنى
أن بعض الشرور عنده تتمثل بالمعاصي والذنوب التي يقترفها الناس ،والبعض
اآلخر من قبيل :السيول والبراكين وغيرهما ،التي يعتبرها نتيجة وعقابا للشرور من
القسم األول.
يرى أوغسطين أن العالم الذي يحتوي على كائنات مختارة مع وجود الشرور ،خير
من العالم الخالي من الشرور وال يكون فيه شيء من االختيار .وقد عمد بالنتينغا إلى
بيان هذه الرؤية ألوغسطين على النحو اآلتي:
«إن ال ّله لشدة جوده وكرمه لم يبخل على مخلوقاته بالخلق ،فخلق حتى أولئك
الذين سبق له في علمه الغيبي أنهم لن يصدر عنهم غير المعاصي والذنوب ،ولم
يسلبهم حرية ارتكاب الذنوب .إن الفرس الجامحة خير من الخشبة الساكنة التي ال
تستطيع الجموح لسلب اإلرادة والحركة منها .وعلى هذا قياس المخلوقات التي ال
ترتكب الذنب بسبب سلب االختيار عنها ،فإنها لذلك أسوأ من المخلوقات التي تتمتع
باإلرادة وإن اقترفت الذنوب».36
يرى أوغسطين أن الشر أمر عدمي ،وأن العالم خير كله .ويرى أن الشر يحدث
حيث يتوفر االختيار .وبذلك فقد عمد أوغسطين إلى تبرئة ال ّله من وجود الشر في
الدنيا ،وألقى مسؤولية وجود الشرور في العالم على عاتق المخلوقات بشكل كامل.
«إن الشر من وجهة نظر أوغسطين عبارة أخرى عن حرية اإلنسان التي منحت
له بفعل هبوط آدم ،ومن ثم أخذ ينتقل عبر الخطيئة المتوارثة ،لتتكرر في وجود كل
إنسان ،من خالل ممارسة الطغيان في حضرة الرب .وعليه فإن الشر ليس من فعل ال ّله،
بل هو من فعل اإلنسان ،ولكن ال ّله سمح به كما أذن بتأثيره».37
هل يحق ل ّله أن يخلق عالما يمكن فيه لإلنسان أن يقترف المعاصي؟ إن المعصية
هي نتاج سوء استغالل اإلرادة الحرة ،ومن دون اإلرادة الحرة ال يمكن أن يكتب
الوجود ألي سلوك ينطوي على فضيلة .وعليه فإن ال ّله من خالل خلق اإلنسان
حرا ،يكون قد فعل الصواب .وإن خير وشر اإلنسان تحت إرادة اإلنسان نفسه،
وليس هناك أي دور للجبر اإللهي أو الطبيعي في ذلك« .إن الشر إنما يصدر عندما
تنحرف اإلرادة عن جادة الصواب ،وتعرض عن ال ّله بوصفه الموجود األسمى،
وتقبل على ما دونه من الموجودات الدنيا .وعندها سيغدو اإلنسان كائنا أجوف،
ويمتلئ بالشوق إلى كل ما هو خارج عن ذاته»« .38وفي الحقيقة فإن الخطيئة إنما
هي نتاج الشر اإلرادي ،بحيث لوال تلك اإلرادة ،لما كان هناك من خطيئة في
األساس».39
«إن الفعل الذي ال يصدر عن إرادة ،ال يمكن وصفه بأنه خطيئة أو خير .وعليه
لو لم يكن اإلنسان مختارا ،لما كان العقاب والمكافأة عدال» .40يشير أوغسطين
من خالل هذا البيان إلى اختيارية الخطيئة والشر األخالقي ،ويؤكد على أن
الذنب إذا لم يصدر عن اختيار ،لم يكن باإلمكان عده ذنبا وخطيئة .يذهب
أوغسطين إلى االعتقاد بأن اإلنسان إنما يقدر على إرادة الخير بواسطة اللطف
37انظر :ياسبرس ،كارل ،آگوستين ،ص ،131ترجمه إلى الفارسية :محمد حسن لطفي ،خوارزمي،
طهران 1363 ،هـ ش؛ كونغ ،هانس ،متفكران بزرك مسيحي ،ص ،131مركز أديان ومذاهب ،قم،
.1386
38آگوستين ،اعترافات ،ص ،220ترجمه إلى الفارسية :سايه هيثمي ،دفتر نشر وپژوهش سهروردي،
طهران 1380هـ ش.
39 Augustine, saint 1964, Of True Religion. Translated by J. H. S. Burleigh. Chicago:
Henrey Regnery company. Third printing. P. 24.
40 Ibid.
أمير زماني 384
اإللهي ،وإال لما أمكنه غير اختيار وإرادة الخطيئة .إال أنه في الوقت نفسه ال ينكر
دور االختيار بشكل مطلق .حيث يرى اختيار اإلنسان في اتخاذ القرار بمعنى أن
يفعل الشر بإرادته دون الخير .بمعنى أن اإلنسان يقترف الذنب بإرادته ،وأما
في عمل الخير فهو بحاجة إلى ال ّله« .إن أفعال الخير الصادرة إنما تيسرت لي
بلطفك وعنايتك ،وأما أخطائي فأنا المسؤول عنها وحدي .فإنها عقوبة منك
على سوء اختياري».41
41آگوستين ،اعترافات ،ص ،297ترجمه إلى الفارسية :سايه هيثمي ،دفتر نشر وپژوهش سهروردي،
طهران 1380هـ ش.
42انظر :ابن سينا ،اإللهيات من كتاب الشفاء ،ص ،355تصحيح :العالمة حسن حسن زادة اآلملي،
دفتر تبليغات اسالمي ،قم المقدسة 1376 ،هـ ش.
385 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
ابن سينا في هذا الشأن« :لو انفصل الشيء عن ناحيته العدمية ،فسيكون هو غيره ،وعليه
لن تكون النار نارا».43
إن خلق ممكن الوجود لن يخلو من الناحية العدمية والنقص الذاتي .وفي هذا
الشأن يقول ابن سينا« :إن ممكن الوجود ليس خيرا محضا في حد ذاته؛ إذ ال يستتبع
الوجود في حد ذاته ،وإن الذي يقبل العدم بوجه ،لن يخلو من الشر والنقص من
جميع الجهات».44
«ال يوجد في العالم سوى موجود واحد ،وهو الخيرات .أما الشرور فهي بأجمعها
من نوع العدم ،والعدم ليس مخلوقا .فالعدم من عدم الخلق ال من خلق العدم» .45إن
الشر الذي هو نتيجة للنقصان والقصور الحادث في خلق ظاهرة ما ،ليس بالشيء الذي
ينسب إلى فعل الفاعل ،بل يعود سببه إلى عدم قيام الفاعل بشيء.
النظام األحسن:
كما تقدم أن رأينا فإن ابن سينا يذهب إلى االعتقاد بأن الشرور عدمية ،وليس
لها من ناحية وجودية ،فال تحتاج إلى خالق .قد يشكل أحد ويقول :إن ما ذكر
من أن جميع الشرور أمور عدمية غير صحيح ،بل هناك من الشرور ما ال يمكن
عده أمرا عدميا أبدا .وفي الحقيقة فقد تم إيراد إشكال على تقرير عدمية الشرور،
وذلك من خالل مسألة األلم ،فإن األلم على الرغم من كونه أمرا وجوديا،
ولكنه مع ذلك يعد من الشرور ويتسبب لإلنسان باألذى .إن األلم إدراك ألمر
غير متالئم مع النفس واللذة ،وإدراك األمور مالزم ومنسجم مع النفس .وعليه
فإن اللذة واأللم من سنخ اإلدراك وهو أمر وجودي .وعليه ليس جميع الشرور
أمورا عدمية ،فهناك موارد يكون فيها الشر موجودا وليس عدميا .وال شك في
أننا نشاهد في العالم من حولنا الكثير من الشرور والفساد والحوادث المريرة من
43انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،اإلشارات بشرح الخواجة نصير الدين الطوسي ،ج ،3ص ،328
نشر البالغة ،قم المقدسة 1383 ،هـ ش.
44انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،التعليقات ،ص ،356مكتبة اإلعالم اإلسالمي ،بيروت 1404 ،هـ.
45انظر :المطهري ،مرتضى ،عدل إلهي ،ص ،129انتشارات صدرا ،الطبعة التاسعة والثالثون1391 ،
هـ ش.
أمير زماني 386
قبيل :البراكين والزالزل ،وال نشك في وجودها أبدا .وإن كنا نعترف بأن بعض
الشرور األخرى أمورا عدمية ،ولكن ال يمكن اعتبار جميع الشرور أمورا عدمية.
وفي معرض اإلجابة عن اإلشكال ،يجب القول :إن ابن سينا ال يعتبر جميع
الشرور عدمية ،وإنما يقر برؤيته الواقعية بوجود الشرور في العالم .وفي الحقيقة
فإنه من خالل طرح نظرية عدمية الشرور ينجح في حل مشكلة بعض الشرور ،وليس
جميعها ،ومن هنا فإنه يلجأ ــ لحل مشكلة الشرور الوجودية ــ إلى حلول أخرى،
ومن بينها نظرية (النظام األحسن) .فهو من خالل القول بالنظرية المنسوبة إلى
(أرسطو) يذهب إلى االعتقاد بأن هذا العالم هو النظام األحسن ،وأن نسبة الشرور
في هذا العالم بالقياس إلى الخيرات نسبة قليلة جدا ،وأن هذه الشرور القليلة هي
الزم تحقق الخير الكثير ،وعلى هذا األساس فإن وجودها ال يتنافى مع العدل وسائر
الصفات اإللهية األخرى .بل على العكس من ذلك ،لو لم يخلق هذا العالم الذي
تتفوق فيه الخيرات على الشرور ،سيتم التشكيك في الفيض اإللهي ،حيث سيقال
حينها :لماذا ترك ال ّله خلق هذا العالم وضحى بالخير الكثير من أجل مقدار قليل من
الشر؟ يقول ابن سينا:
«إن بعض األمور الممكنة ،كما هو المناسب لوجودها منزهة من الشر والخلل
والفساد (الخير المحض) ،ومن الممكنات أمور تكون الفضيلة فيها هي الغالبة ،ولكن
عند الحركة والتصادم يعتريها بعض الشر (الخير الغالب) ،وسوف تكون في البين أمور
من الشر المطلق (الشر المحض) ،أو التي يكون فيها الشر هو الغالب (الشر الغالب)،
وإذا كان الجواد المطلق ،مبدأ فيض الوجود الخيري ،كان القسم األول والقسم الثاني
من الفيض واجبا ،ومثاله النار.46)...
بيد أن هذا السؤال ال يزال قائما ،وهو :هل يمكن إلفاضة الخير على الكثير أن
يبرر حدوث الشر للبعض القليل؟ إن ترك الخير الكثير (العالم المادي) من أجل
وجود الشر القليل يتنافى مع الفيض اإللهي .ألن الذات اإللهية تقتضي أن يفيض
بكرمه على جميع الكائنات .بيد أن حرمان النزر القليل من هذه الفيض والجود
46ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،اإلشارات بشرح الخواجة نصير الدين الطوسي ،ج ،3ص ،319نشر
البالغة ،قم 1383 ،هـ ش.
387 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
اإللهي بسبب بعض الموانع أو عدم القابليات ،ال يستوجب أن يمنع ال ّله نعمته على
الكثير من مخلوقاته .وذلك ألن ترك الخير الكثير تجنبا للشر القليل ،يشتمل في
حد ذاته على شر كثير .من هنا فإن ابن سينا لم يقل بإمكان هذا العالم (الخير الكثير
والشر القليل) فحسب ،بل قال بأن صدور مثل هذا العالم عن ذات الباري تعالى
واجب أيضا.47
يرى ابن سينا أن الشرور ال تظهر إال في عالم المادة ،وأن المادة هي منشأ
الشرور ،وحيث أن خلق عالم المادة ضروري للنظام الكلي للعالم ــ المتمثل
بعالم العقل ،وعالم المثال ،وعالم المادة ــ ولوال عالم المادة سوف يترك الخير
الكلي والكثير الذي هو النظام الكلي للعالم ،وعليه ال مندوحة من وجود المادة
وعالم المادة ،وبتبعه وجود الشرور ،بل إن وجود الشرور ضروري ومقدمة لوجود
الخيرات.48
يرى ابن سينا أن وجود األنواع الطبيعية والبشرية من الشر ،تعتبر من لوازم مراتب
الوجود ،وأن حذفها يؤدي إلى حدوث انقالب في ذات األشياء ،أو حذف أجزاء كثيرة
من العالم ،وكال هذين األمرين يعتبر نوعا من الشر والنقص في الخلق ،حيث سيؤدي
األمر إلى شر أكبر بكثير من الشر المسؤول عنه .وعليه ال وجود للتنافي بين وجود الشر
والحكمة والعلم اإللهي أبدا.
يقول ابن سينا« :لو كان البناء على حذف وإخراج الماديات والطبيعيات بسبب
اشتمالها على الشر الضمني ،للزم من ذلك ــ بااللتفات إلى قاعدة الضرورة بين العلة
والمعلول ــ أن ال توجد عللها التامة أيضا ،وحيث يرى المشاؤون في العوالم السابقة
علة إيجادية للعوالم الالحقة ،وجب أن ال تكون العوالم السابقة موجودة أيضا ،في
حين أن هذا يتنافى مع الجود والفيض اإللهي.49
47انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،اإلشارات والتنبيهات ،ج ،3ص 299ـ ،300تحقيق :سليمان
دنيا ،مؤسسة النعمان ،بيروت 1993 ،م.
48انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،شرح اإلشارات والتنبيهات ،الخواجة نصير الدين الطوسي ،ج
،3ص ،322نشر البالغة ،قم 1375 ،هـ ش.
49انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،الشفاء /اإللهيات ،ص ،454تصحيح :العالمة حسن حسن
زادة اآلملي ،دفتر تبليغات اسالمي ،قم 1376 ،هـ ش.
أمير زماني 388
يضيف ابن سينا قائال :لو أزيلت جميع الشرور الالحقة عن موجودات عالم المادة،
فسوف تتحول إلى موجودات القسم األول ،أي سوف تتحول إلى موجودات عالم
العقول ،هذا في حين أن الموجودات العقلية والسماوية التي هي خير محض ونور
محض ،قد سبق لها أن خلقت ،وطبقا لقانون النظام األحسن ،لو كان هناك إمكانية
إليجاد المراتب التالية ،وجب أن توجد ،وإال تم التشكيك في فياضية الباري تعالى.
وعلى هذا األساس يدور األمر بين حالتين؛ فإما يجب عدم إيجاد هذه الكائنات ،أو
يجب تبديلها إلى النوع األول ،وكلتا الحالتين تستلزم عدم صدور الفيض الوجودي
من قبل الفياض على اإلطالق ،وهذا ال يليق بشأن الحق تعالى.50
لو قبلنا بأن خلق العالم هو نتيجة لتخطيط إلهي مسبق ،ومع افتراض أن المخطط
السابق أو العلم اإللهي إنما يتعلق بالخير فقط ،وأن العالم قد وجد على أفضل شكل
ممكن ،يطرح هذا السؤال نفسه :هل يمكن لنا أن نستنتج من ذلك أن الشرور الموجودة
في العالم والتي ال يمكن إنكارها ،تقع موردا لرضا الحق تعالى وتحت أمره وتدبيره؟
وإذا كان األمر كذلك كيف يمكن للمؤمنين ــ والمعتقدين بأن ال ّله خير محض 51ــ أن
يبرروا وجود هذه األمور في العالم؟
حيث أن ال ّله تعالى يتصف بكونه كماال محضا ،فإن إرادته تتعلق بجهة كمال
وخير المخلوقات أصالة ،وإذا كان الزم وجود مخلوق ظهور بعض الشرور
والنقائص في العالم ،ستكون جهة الشر مقصودة بالتبع؛ بمعنى أن الشر الزم ال
ينفك عن الخير الكثير ،وأن ذلك الخير الغالب سوف يقع موردا لإلرادة اإللهية.
وبعبارة أخرى« :إن الشرور ليست مجعولة بالذات ،بل هي مجعولة بالتبع
والعرض» .52إذن مقتضى صفات ال ّله الكمالية أن يتم خلق العالم بحيث يغلب فيه
الكمال والخير الممكن.53
انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،النجاة من الغرق في بحر الضالل ،ص ،675جامعة طهران، 50
طهران 1379 ،هـ ش.
انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،رسائل ابن سينا ،ص ،390نشر بيدار ،قم المقدسة 1400 ،هـ ش. 51
مطهري ،مرتضى ،عدل إلهي ،ص ،129انتشارات صدرا ،الطبعة التاسعة والثالثون 1391 ،هـ ش. 52
مصباح اليزدي ،محمد تقي ،آموزش عقايد ،ص ،197مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام خميني، 53
الطبعة الثالثة 1389 ،هـ ش.
389 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
طبقا لنظرية (النظام األحسن) تكون الغلبة لخيرات العالم على شروره .وعلى
الرغم من تسليمنا بهذه المسألة ،يبقى السؤال قائما :لماذا لم يخلق ال ّله ــ وهو
القادر المطلق ــ طبيعة العالم المادي بحيث ال يوجد فيه حتى هذا النزر القليل من
54
الشرور؟
لقد عمد ابن سينا إلى طرح هذه الشبهة ،ثم أجاب عنها قائال( :لو خلق العالم
المادي المالزم للشرور بحيث ال يكون فيه شر أبدا ،لما عاد ذلك العالم ماديا،
بل كان عالما آخر هو صرف خير محض ،في حين أن هذا العالم قد سبق ل ّله أن
خلقه) .55
إن ابن سينا ال ينكر تحقق الشرور وكثرتها النسبية ،بيد أنه ضمن اإلقرار بوجودها،
يعتبرها مالزمة للخيرات األسمى .وبعبارة أخرى« :إن الشر مالزم للعالم ،ولكنه
مغلوب أمام الخير» .56وذلك ألن الشرور وإن كانت كثيرة نسبيا ،ولكننا عندما نقيسها
إلى جميع الخيرات في العالم ،فسوف تنخفض نسبتها إلى مستويات متدنية جدا .ومن
هنا نجد ابن سينا يعبر عن الشر بـ(الكثير) دون (األكثر) .57وفي الحقيقة فإن هذا التعبير
من قبل ابن سينا يؤكد على رد مدعي أولئك الذين يقولون بأن الشر هو الغالب في
العالم.
وعلى هذا األساس فإن ابن سينا قد عمل على توظيف مختلف الطرق لحل مشكلة
وجود الشرور في العالم .وقد عمد إلى تبرير وجود بعضها من خالل القول بنظرية
عدمية الشرور ،وعالج وجود البعض اآلخر منها من خالل القول بـ (النظام األحسن).
انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،الشفاء /اإللهيات ،ص ،454تصحيح :العالمة حسن حسن 54
زادة اآلملي ،دفتر تبليغات اسالمي ،قم 1376 ،هـ ش.
المصدر أعاله. 55
انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،اإلشارات والتنبيهات ،ج ،3ص ،305تحقيق :سليمان دنيا، 56
مؤسسة النعمان ،بيروت1993 ،م.
انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،النجاة من الغرق في بحر الضالل ،ص ،681جامعة طهران، 57
طهران 1379 ،هـ ش؛ الشفاء /اإللهيات ،ص ،422تصحيح :العالمة حسن حسن زادة اآلملي ،دفتر
تبليغات اسالمي ،قم 1376 ،هـ ش.
أمير زماني 390
تحليل ونقد نظرية أوغسطين طبقا للمباني الفكرية البن سينا
سنعمل في هذا القسم على مناقشة وتحليل نظرية (ابن سينا) و(أوغسطين) حول
مسألة الشرور ضمن خمسة محاور ،سنثبت من خاللها أن نظرية أوغسطين تواجه
بعض اإلشكاالت التي تؤدي إلى ضعفها ،وأن نظرية ابن سينا في المجموع أكثر متانة
من نظرية أوغسطين.
1ـ يذهب كل من ابن سينا وأوغسطين إلى القول بعدمية الشرور ،بيد أن االعتقاد
بعدمية العمى والصمم وسائر اإلعاقات األخرى ،ال يبدو كافيا لحل مشكلة جميع
أنواع الشرور .وفي الحقيقة فإن «مسألة عدمية الشرور ال تكفي وحدها لحل
مشكلة (العدل اإللهي) ،بل هي الخطوة والمرحلة األولى في هذا الشأن» .58وكما
تقدم أن ذكرنا فإن كال من ابن سينا وأوغسطين يؤمنان بعدمية الشرور ،ويبدو
أن هذا االنتقاد يرد عليهما معا .إال أن الحقيقة هي أن ابن سينا من خالل طرحه
لنظرية عدمية الشرور ،إنما يقصد إبطال الثنوية ،وأما فيما يتعلق بحل التعارض
القائم بين وجود الشرور والعدل اإللهي ،فيلجأ إلى طرق أخرى للحل« .إن هذه
الرؤية تنظر إلى إبطال توهم التهافت بين القول بوجود الشرور والقول بالتوحيد
الواجبي ،وبصدد إثبات عدمية الشرور ،والتوصل بالتالي إلى عدم معقولية الرؤية
(الثنوية) .من هنا علينا أن ال نتوقع من هذا الحل اإلجابة عن إشكاالت من قبيل
العدل اإللهي» .59يذهب ابن سينا ــ من خالل اعتقاده بالتعاليم اإلسالمية ــ إلى
القول بأن ال ّله سوف يعوض األبرياء في اآلخرة عن جميع اآلالم والشرور التي
يتعرضون لها في هذه الدنيا.
طبقا لهذه النظرية (التعويض) ،يجب على ال ّله تبارك وتعالى أن يعوض عن
اآلالم والباليا التي تنزل على العباد دون استحقاق ،ويجب حصول العباد األبرياء
على هذا التعويض إما في هذه الدنيا أو في عالم اآلخرة .فالذين يتعرضون مثال
للزالزل ،أو الطفل الذي يبتلى بمرض عضال ،يجب على ال ّله أن يعوضه إما في
58انظر :المطهري ،مرتضى ،عدل إلهي ،ص ،134انتشارات صدرا ،الطبعة التاسعة والثالثون1391 ،
هـ ش.
59قدردان قراملكي ،محمد حسن ،خدا ومسأله شر ،ص ،42بوستان كتاب ،ط ،3قم 1388 ،هـ ش.
391 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
هذه الدنيا أو في اآلخرة .60إن تحمل أي نوع من أنواع العنت واأللم في هذا العالم
ــ إذا كان لغاية صحيحة ــ سوف يتم التعويض عنه بمكافأة قيمة وعلى نحو أفضل
في دار الخلود.61
وعليه فمن خالل القول بنظرية عدمية الشرور ،يتم حل إشكال الثنوية ،ومن
خالل القول بنظرية التعويض ،يتم التغلب على مشكلة التناقض بين وجود الشرور
والعدل اإللهي .وأما أوغسطين فيسعى ــ من خالل طرح نظرية عدمية الشرور ــ إلى
حل مشكلة العدل اإللهي أيضا ،في حين أن هذه النظرية ال تستطيع حل مسألة العدل
اإللهي.
2ـ لقد أورد اإلشكال على كالم أوغسطين القائل بأن العالم خير كله ،وليس فيه شر
أبدا .وربما كان من أعقد األسئلة هو السؤال القائل :كيف يمكن للمخلوق المختار في
إطار نظرية أوغسطين أن يرتكب المعصية والخطيئة؟ فلو كان اإلنسان يعيش وضعا
مثاليا أو عصرا ذهبيا ال وجود للشر فيه ،فكيف نزع إلى ارتكاب الشر62؟ وبعبارة
أخرى( :إن العالم الذي خلقه ال ّله بقدرته المطلقة ،كان هو تماما ما أراده ال ّله بشكل
دقيق ،بحيث ال ينطوي على شر أبدا ،ومع ذلك فقد اتجه إلى االنحراف ...وعليه فإن
اإلشكال الرئيس يقول إن الخلق المنزه من العيب لن ينزع إلى االنحراف ،وإذا حصل
أن مال إلى االنحراف ،وقعت مسؤولية ذلك على الخالق؛ ألن هذا هو مقام عدم إلقاء
المسؤولية على اآلخرين).63
كما يعتقد ابن سينا بـ(النظام األحسن) أيضا .وطبقا لهذه النظرية تكون خيرات
العالم هي الغالبة على شروره .إال أن ابن سينا ــ خالفا ألوغسطين ــ ال ينكر تحقق
انظر :سنجري ،غالم علي ،مسأله منطقي شر از ديدگاه عالمه طباطبائي وآلوين بلنتينگا ،بوستان 60
كتاب ،قم المقدسة ،ص 1390 ،56هـ ش.
انظر :مصباح اليزدي ،محمد تقي ،آموزش عقايد ،ص 199ـ ،200مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام 61
خميني ،الطبعة الثالثة 1389 ،هـ ش.
انظر :بيترسون ،مايكل وآخرون ،عقل واعتقاد ديني ،ص 204ـ ،205ترجمه إلى الفارسية :أحمد 62
نراقي وإبراهيم سلطاني ،طرح نو ،ط ،3طهران 1379 ،هـ ش.
انظر :هيك ،جون ،فلسفه دين ،ص ،96ترجمه إلى الفارسية :بهرام راد ،مؤسسه انتشارات بين 63
المللي الهدى ،طهران 1372 ،هـ ش.
أمير زماني 392
الشرور وكثرتها النسبية ،بل يقر وجودها ويعتبرها من لوازم الخيرات األسمى؛ وذلك
ألن الشرور رغم كثرتها النسبية ،بيد أنها إذا ما قيست إلى جميع الخيرات في العالم
المادي ،فإن مقدار الشرور ستنخفض إلى أدنى مستوياتها.
يرى ابن سينا أن المادة هي مصدر الشرور ،ولكن حيث أن خلق عالم
المادة ضروري لكمال النظام العام للعالم ،والذي لواله لكان قد تم ترك الخير
العام والكثير المتمثل بذلك النظام الكلي للعالم ،وعليه ال مندوحة من وجود
المادة وعالم المادة وتبعا لذلك وجود الشرور .64يرى ابن سينا أن الشر مقصود
بالعرض ،ألن ال ّله تعالى كمال محض ،وأن إرادته إنما تتعلق أصالة بكمال وخير
المخلوقات ،وإذا كان الزم وجود مخلوق ظهور شرور ونواقص في العالم ،كان
ذلك الشر مقصو ًدا بالتبع .وبعبارة أخرى« :إن الشرور ليست مجعولة بالذات ،بل
هي مجعولة بالتبع والعرض» .65إن ابن سينا برؤيته الواقعية ال ينكر وجود الشرور
في العالم .إن النظام األحسن المنشود البن سينا يختلف عن خيرية العالم من
وجهة نظر أوغسطين .إن أوغسطين يرى أن العالم خير بأسره ،وأن جميع الشرور
أمور عدمية ،أما النظام األحسن البن سينا فيعكس غلبة الخيرات على الشرور،
وليس القول بأن العالم خير كله ،بل يرى أن هذا العالم رغم اشتماله على الشرور
إال أنه أفضل عالم ممكن .وفي الحقيقة فإن ابن سينا من خالل طرحه لنظرية
النظام األحسن ،يعمل على تبرير الشرور الوجودية أيضا ــ خالفا ألوغسطين
ــ الذي قال بعدمية جميع الشرور فعجز عن تبرير الشرور الوجودية ،ويختار
السكوت بشأنها.
3ـ قال (جون هيك) في بيان رأي (أوغسطين)« :يرى أوغسطين أن جميع الشرور
الطبيعية التي تنزل على اإلنسان ،إنما هي بسبب ذنوبه ،فهو يرى أن الشرور من قبيل:
األمراض الطبيعية أو الزالزل والطوفان وما إلى ذلك ،إنما هي ناتجة عن الذنوب ،ألن
64انظر :ابن سينا ،حسين بن عبد ال ّله ،شرح اإلشارات والتنبيهات ،الخواجة نصير الدين الطوسي ،ج
،3ص ،322نشر البالغة ،قم 1375 ،هـ ش.
65انظر :المطهري ،مرتضى ،عدل إلهي ،ص ،129انتشارات صدرا ،الطبعة التاسعة والثالثون1391 ،
هـ ش.
393 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
نوع اإلنسان كان يجب أن يكون خليفة ال ّله على األرض ،وأن هذا النقص البشري قد
جر عالم الطبيعة بأسره نحو االنحراف».66
من هنا فإن الشرور إما هي من قبيل :الذنوب واألخطاء األخالقية ،أو هي من قبيل:
العقوبات على هذه الذنوب .67وأما من خالل المباني الفكرية البن سينا فال يمكن
القبول بمدعيات أوغسطين بالمطلق؛ وذلك ألن بعض ضحايا الشرور الطبيعية أحيانا
هم من األبرياء واألطفال الذين ال يمكن تصور صدور الخطيئة عنهم ،كما أن في بعض
البالء النازل على بعض األتقياء واألولياء ما ال يمكن عده عقوبة لهم ،68وعليه فإن هذه
الموارد تتنافى مع ما يقوله أوغسطين.
إذا اعتمدنا الرؤية الواقعية لن نستطيع القول إن نوع اإلنسان كان كامال في
لحظة ما من الناحية األخالقية والروحية ،ثم اعتراه السقوط ليتجرد من هذه
الحالة .كما ال يمكن اعتبار الشرور الطبيعية ،من قبيل :األمراض والزالزل وما
إلى ذلك بوصفها عقوبة على الذنوب أو نتيجة لهبوط اإلنسان؛ ألننا نعلم حاليا
أن الكثير من هذه الشرور والكوارث كانت موجودة قبل أن يوجد اإلنسان على
هذه األرض.69
4ـ إن رؤية أوغسطين فيما يتعلق بالخطيئة رؤية بشرية؛ وذلك العتقاده بأن خطيئة
النبي آدم قد انتقلت إلى جميع البشر ،وأصبح الجميع مذنبا .70وأما من وجهة نظر ابن
سينا ،فإن هذه المسألة تكتسب بعدا فرديا ،فاإلنسان يولد بريئا من الذنوب ،ثم ينغمس
ــ بعد أن يكبر ــ في الخطيئة باختياره وإرادته ،فطبقا لرؤية اإلسالم وتعاليمه وما يراه ابن
66انظر :هيك ،جون ،فلسفه دين ،ص ،96ترجمه إلى الفارسية :بهرام راد ،مؤسسه انتشارات بين
المللي الهدى ،طهران 1372 ،هـ ش.
67 Hick, John, 2007, Evil and the God of Love, palgrave Macmillan, New York, P. 59.
68لقد ورد في بعض النصوص الدينية« :البالء للظالم أدب ،وللمؤمن امتحان ،ولألنبياء درجة»،
محمدي ريشهري ،محمد ،ميزان الحكمة ،ج ،1ص 1404 ،493هـ
69انظر :هيك ،جون ،فلسفة دين ،ص 104ـ ،105ترجمه إلى الفارسية :بهزاد سالكي ،انتشارات
الهدى ،طهران 1376 ،هـ ش.
70 Augustine, 2004, the father of the church, translated by Matthew A. Schumacher,
the catholic university of America press. P. 317.
أمير زماني 394
سينا تبعا لذلك هو أن كل مولود يولد على الفطرة ،ومن هنا ال يحمل أحد وزر أحد،
[والَ ت َِز ُر َو ِاز َر ٌة ِو ْز َر ُأ ْخ َرى].71
كما ورد ذلك في صريح القرآن الكريم إذ يقولَ :
يذهب أوغسطين فيما يتعلق بمسألة النجاة إلى االعتقاد بالجبر ،بل إنه يعتبر
جبريا حتى فيما يتعلق بوقوع الشر أيضا؛ ألنه يؤمن بالخطيئة األولى .إن اعتقاده بأن
الشر ينشأ من اختيار اإلنسان ال ينسجم مع متبنياته الفكرية الجبرية .وال يمكن حل
هذا التناقض إال في حالة واحدة ،وهي القول بأن أوغسطين يعتقد بالخطيئة األولى،
ويراها هي المنشأ والعلة للشرور ،ولكن بعد أن قام السيد المسيح بالتضحية بنفسه،
يكون قد دفع ضريبة تلك الخطيئة عن جميع البشر ،ومنذ ذلك الحين أضحت
الشرور علة لسوء اختيار اإلنسان؛ ألن ال ّله قد قبل بتضحية السيد المسيح وزال
بذلك أثر تلك الخطيئة .بمعنى أن الفترة ما قبل تضحية السيد المسيح كان الجبر
فيها هو الحاكم والسائد ،وأما في فترة ما بعد التضحية فقد أصبح االختيار هو
المنشأ للشرور ،وليست الخطيئة األولى .وبعبارة أخرى :هناك مرحلتان؛ مرحلة
الجبر ،ومرحلة االختيار .ولكن يبقى السؤال قائما :لماذا يصر المسيحيون على
االعتقاد بأن اإلنسان يولد مذنبا؟ ولماذا يعتقدون بأن الخطيئة األولى قد انتقلت
إلى جميع أفراد البشر؟ ففي الحد األدنى كان عليهم االعتقاد بأن أفراد اإلنسان قبل
السيد المسيح ،كانوا يولدون مذنبين ،أما الذين ولدوا بعد صلب السيد المسيح،
فيجب أن ال يكونوا مذنبين؛ ألن السيد المسيح قد دفع كفارة الخطيئة من خالل
تضحيته بنفسه ،والمفروض أن ال ّله قد قبل بتلك التضحية .فلماذا يستمر االعتقاد
بأن اإلنسان يولد مذنبا؟
يذهب أوغسطين إلى االعتقاد طبقا للتعاليم المسيحية بأن الناس يولدون مذنبين،
وعليه فإن خطيئة اإلنسان خارجة عن اختياره ،وبذلك فإنه يعتقد بنوع من الجبر .وأما
في رؤية ابن سينا فإن كل فرد هو المسؤول عن خطيئته؛ ألنه هو الذي ارتكب تلك
الخطيئة ،وبذلك يذهب ابن سينا إلى االعتقاد باختيار اإلنسان .يذهب أوغسطين
في كتاب له تحت عنوان (االعترافات) إلى القول بأن آدم كان مختارا في ارتكاب
71األنعام.164 :
395 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
الخطيئة ،بينما يرى نفسه مجبرا على ارتكابها .72فهو يرى أن الشر نتاج سوء توظيف
االختيار ،في حين يذهب في الوقت نفسه إلى االعتقاد بالخطيئة األولى أيضا ويعتبرها
منشأ للشر ،وبذلك نالحظ نوعا من التناقض في تفكير أوغسطين ،بمعنى أن اإلنسان
قد تعرض للجبر (الخطيئة األولى) ،ولالختيار (بسبب اإلرادة واالختيار) أيضا ،وهذا
التناقض ملحوظ في كتاباته ،حيث يذهب في بعض المواضع إلى االعتقاد باالختيار،
وبذهب في مواضع أخرى إلى االعتقاد بالجبر.
وبعبارة أخرى :لقد تعرض أوغسطين للتناقض في كالمه ،فهو من جهة يرى
اإلنسان مجبرا ،وأنه سقط في الخطيئة دون إرادة منه (الخطيئة األولى) ،ومن جهة
أخرى يعتبر الخطيئة والذنب من الزاوية العاطفية واإلرادية لوجود اإلنسان .في حين
أننا ال نشاهد هذا التناقض في كتابات ابن سينا ،ويعود ذلك إلى االختالف بينهما في
المتبنيات الفكرية؛ وذلك ألن القول بالخطيئة األولى من المفاهيم المعترف بها رسميا
في الديانة المسيحية ،أما الدين اإلسالمي فيرى أن كل مولود يولد على الفطرة اإليمانية
الطاهرة ،وأنه ال يكون مسؤوال عن معصية ارتكبها غيره ،وإنما سيكون مسؤوال فيما لو
ارتكب الخطيئة بعد ذلك باختياره .وعليه فإن هذا االختالف في المباني هو الذي أدى
إلى االختالف في آراء هذين الفيلسوفين.
5ـ يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن أعمال اإلنسان إذا اشتملت على شر وخطيئة،
فمر ّد ذلك إلى سوء توظيف اإلرادة؛ بمعنى أن اإلنسان بنفسه هو الذي يعمل على
توظيف إرادته وتوجيهها في المسار الخاطئ .كما يشير أوغسطين إلى تأثير الخطيئة
األولى ،ويقول إنه بسبب الخطيئة األولى قد انجرف اإلنسان ناحية األمور المادية،
وابتعد عن ال ّله .كما أنه يعتقد في الوقت نفسه بأن هذا الشر والخطأ صادر عن اإلنسان،
وأنه هو الذي يتحمل مسؤوليته .يرى أوغسطين أن اإلنسان فيما يتعلق باألعمال
الصالحة ليس حرا ،وإنما هو فيها بحاجة إلى لطف ال ّله ،وأما فيما يتعلق بارتكاب
المعصية فهو حر ومختار ،ويقترف الذنب بإرادة حرة ،ودون تدخل من قبل ال ّله.73
72آگوستين ،اعترافات ،ص ،297ترجمه إلى الفارسية :سايه هيثمي ،دفتر نشر وپژوهش سهروردي،
طهران 1380هـ ش.
73انظر :المصدر أعاله.
أمير زماني 396
وهنا قد يشكل ويقال :إن أوغسطين ال يرى اإلنسان مختارا في القيام بأعمال الخير،
ويقصر ذلك على ارتكاب المعاصي فقط ،ولكننا نقول في الجواب :إن األمر ليس
كذلك ،إذ ال يسلب أوغسطين اإلرادة واالختيار عن اإلنسان في فعل الخير ،بل إنه يرى
ضرورة لوجود اإلرادة واالختيار لقيام اإلنسان بأفعال الخير ،ولكنه يقول :باإلضافة
إلى إرادة اإلنسان واختياره ،فإننا نحتاج كذلك إلى رعاية ال ّله ولطفه أيضا .وما لم
يتحقق الجزء األخير من العلة التامة ،لن يتحق فعل الخير بوصفه نتيجة لتلك العلة،
وبعبارة أخرى :فيما يتعلق بأفعال الخير تعتبر اإلرادة هي العلة الناقصة ،وفيما يتعلق
بالقيام بأعمال الشر تعتبر اإلرادة هي العلة التامة .وعليه فإن ما يقال من أن أوغسطين
يرى اإلنسان مجبرا على فعل الخير ليس صحيحا ،وإن كان العتقاده بالخطيئة األولى
يقع في مصيدة القول بالجبر.
االستنتاج
بشكل عام يجب بالنظرية العلمية أن تكون بحيث ال تتعارض أجزاؤها فيما
بينها ،وأال تشتمل على التناقض الداخلي .ولكن كما تقدم أن أوضحنا في معرض
النقد والتحليل ،فإن نظرية أوغسطين تعاني من التناقض الداخلي ،فإن ما ذكره من
مفهوم الخطيئة األولى ،ومفهوم اختيار اإلنسان مثال يتعارضان فيما بينهما .فإن
واحدا من هذين المفهومين (الخطيئة األولى) يؤدي إلى القول بالجبر ،والمفهوم
اآلخر (االختيار) يؤدي إلى القول باالختيار .إن نظرية أوغسطين في إطار تبرير
الشرور يواجه بعض اإلشكاالت .فإن ابن سينا ــ على سبيل المثال ــ من خالل
طرحه لنظرية عدمية الشرور يجيب عن إشكال الثنوية ،ومن خالل طرح نظرية
التعويض ،يعمل على حل مشكلة التناقض بين وجود الشرور والعدل اإللهي.
أما أوغسطين فيروم من خالل طرحه لنظرية عدمية الشرور ،اإلجابة حتى عن
مشكلة العدل اإللهي ،في حين أن هذه النظرية ال تستطيع حل هذه المشكلة .وفي
الحقيقة فإن ابن سينا ــ بسبب رؤيته الواقعية ــ ال ينكر وجود الشرور في العالم .إن
النظام األحسن المنشود البن سينا ،يختلف عن القول بخيرية العالم من وجهة نظر
أوغسطين .يذهب أوغسطين إلى القول بأن العالم خير بأسره ،وأن الشرور ْ
إن هي
397 ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا
إال أمور عدمية ،أما النظام األحسن البن سينا فيعكس غلبة الخيرات على الشرور،
ال أن يقول بأن العالم بأجمعه خير ،بل يقول إن هذا العالم رغم اشتماله على
بعض الشرور هو أفضل العوالم الممكنة .وفي الحقيقة فإن ابن سينا من خالل
طرحه لنظرية النظام األحسن ،يعمل على تبرير الشرور الوجودية أيضا ،خالفا
ألوغسطين الذي يعجز عن تبرير الشرور الوجودية بسبب ذهابه إلى االعتقاد
بعدمية جميع الشرور.
يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن خطيئة النبي آدم قد انتقلت إلى جميع ذريته،
وبذلك أحاطت الخطيئة بجميع أفراد البشر .وأما في المباني الفكرية البن سينا فاإلنسان
يولد طاهرا من الذنوب ،ثم يبتلى بالمعصية وارتكاب الذنب بإرادته واختياره .كما
يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن جميع الشرور الطبيعية التي يتعرض لها اإلنسان
معلولة لذنوبه .ولكننا ال نستطيع القبول بادعاء أوغسطين بشكل مطلق .فإننا نعلم اليوم
أن الكوارث الطبيعية كانت موجودة حتى قبل وجود اإلنسان على األرض ،وأحيانا
تحصد الشرور الطبيعية أرواح األبرياء من األطفال واألتقياء .كما أن بعض المصائب
التي تنزل على األولياء من باب االمتحان أو رفع الدرجات ،ال يمكن تبريرها بكالم
أوغسطين.
وفي المقابل فإن نظرية ابن سينا تتمتع بتناغم داخلي أكبر .فهو ال يقتصر لحل
المسألة على طريقة حل واحدة ،وإنما يعمل على توظيف مختلف الطرق لحل هذه
المسألة ،حيث يحل جزءا من المشكلة من خالل كل واحد منها .في حين ينظر
أوغسطين إلى المسألة برمتها من بعد واحد .فهو يسعى إلى بيان جميع شرور العالم
من خالل طريقة حل واحدة ،ومن هنا يكمن سر إخفاقه ،فعندما يقول مثال على نحو
مطلق :إن الشرور إما ذنوب أو عقوبة على ذنوب ،يشكل عليه بالقول :لماذا يعاني
األبرياء واألطفال أحيانا من األلم؟ وأما إذا نظرنا إلى المسألة برؤية متعددة األبعاد،
فلن يرد هذا اإلشكال ،حيث يمكن لنا اإلجابة عن هذا اإلشكال إما من خالل القول
بنظرية التعويض ،أو من خالل اعتبار هذا النوع من الشرور اختبارا إلهيا يتوقف عليه
كمال اإلنسان.
من هنا ال بد لحل مسألة الشرور من توظيف العديد من طرق الحل ،والعمل على
أمير زماني 398
تبرير بعض الشرور من خالل كل واحد منها ،وإال لن ننجح في تبرير جميع الشرور في
العالم .وعلى هذا األساس يبدو أن رؤية أوغسطين بسب نظرته األحادية البعد تواجه
مشكلة ،ولذلك فإنه يعجز عن تبرير جميع الشرور ،وأما ابن سينا فحيث يعمل على
توظيف مختلف طرق الحل في هذا المجال ،تحظى نظريته بنجاح أوفر.
دراسات
1
محمد حسين الرفاعي
دَّ .
___________________________________
اإلشكالية:
َّ { }Iفي تخصيص َّ
التساؤل عن
العربي الحديث والمعاصر ،في موقع ّ تقع إشكال َّية إسالمية المعرفة ،في الفكر
الفكرة .وكل فكرة إنَّما هي تتو َّفر على إمكان أن تتسا َءل .إنَّها من جهة كونها كذلك،
المتسا َءل عنه ،اِنطالق ًا من مختلف الحقول
هي تُقدِّ ُم نفسها على أنها في موضع ُ
ِ
العلم َّية الحديثة.
الخاص بالفلسفة ،فلسف َّي ًا ،يعني
ّ متى ُفهمت هذه الحقول ،داخل {حقل ــ الفهم}
واالفتراضات ،عند مستوى ذلك أننا يمكن أن نتساءل عنها بواسطة التصورات ِ
ُّ َ
العلمي ،من جهة ،واألساليب والطرق والتقنيات واألدوات ،عند مستوى ّ الموضوع
ٍ
العلمي ،من جهة أخرى. المنهج
ّ
االختالف والتعدُّ د والتنوع ،على عند ذلك ،يقوم التَّساؤل ،في حقل كبير من ِ
حقول الفلسفة الخمسة ،أي الميتافيزيقا ،واإلبستيمولوجيا ،واللوجيكا ،واإلثيقا،
والبولتيكا؛ وفي بعض األحايين ،يمكن إضافة اإلسثتيكا ،إليها.
وبالطبع ،ال يمكن اِختزال النَّظرة ــ الرؤية في منطق الفهم ،داخل التَّساؤل
العلمي الحديث ،في حقل دون غيره .لكن ،من جهة أن التَّساؤل ال يقوم إالَّ
ّ
1مدير تحرير مجلة قضايا إسالمية معاصرة ،وأستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية ــ وجامعة القديس
يوسف في بيروت ــ قسم الفلسفة.
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 400
بضروب تحديد صريحة من ِق َب ِل ُثالث َّية {السابق إلى التَّساؤل ــ والمنظور الذي من
الخاص
ّ فإن تخصيص {حقل ــ الفهم} شأن التَّساؤل ــ وما عنه يتسا َء ُل التَّساؤل}َّ ،
العلمي الحديث ،أي
ّ بالتساؤل إنَّما هو المهمة األولى التي يضطلع بها التَّساؤل
تساؤل علمي حديث.
على ذلك ،يقوم التَّساؤل عن إشكال َّية إسالمية المعرفة على ميتافيزيقا سابقة
الخاصة واالفتراضاتإلى أسلمة المعرفة ،في كل ضروب إنتاجها للفرضيات ِ
َّ
بها ،من جهة أولى ،وعلى إبستيمولوجيا تبحث عن الضروب اآليديولوجية،
أي مواقف فهم الوجود ،والعا َلم ،والكينونة ،والمجتمع ،واإلنسان ،التي
تحتجب داخل اإلشكال َّية ،من جهة ثانية ،وعلى الوعي بمنطق الفهم الضابط
لكل ضروب {اإلنتاج ــ والبناء ــ والتحديد} التي ت ِ
ُمارسها اإلشكال َّي ُة َع َبر
ُمارس بها ،من جهة ثالثة. ِ
الممارسات العلم َّية ،أي األبحاث والدراسات ،وت َ
وف ًقا لذلك ،بأ َّي ِة معان يمكننا أن نع ِّي َن األرض َّية الميتافيزيقية للتساؤل؟ وعلى أي
نحو يمكننا أن نفهم تساؤل الفهم داخلها؟
اإلشكالية:
َّ { }IIتعيين َّ
التساؤل الميتافيزيقي داخل
التَّساؤل عن التواشج البنيوي بين عناصر و ُمك َِّونات إشكال َّية إسالمية المعرفة
العربي الحديث والمعاصر ،يقوم على التَّساؤل عن البِن َية والصيرورة ّ في الفكر
اللتين من شأن اإلشكالية .وفي هذا السبيل ،علينا أن ننطلق من بناء محطات ِ
بناء َّ َّ
{التَّساؤل ــ والتفكير ــ والفهم} اإلبستيمولوج َّية التي ُيمكن وف ًقا لها أن نستخرج
األرض َّية الميثودولوج َّية التي تضبط الدراسات واألبحاث في ،وحول ،موضوعات
هذه اإلشكال َّية األكثر إشكال َّي ًة في المجتمعات العرب َّية ،منذ قرنين من الزمان
الكرونولوجي.
ذاهب نحو التفحص البنيوي ٌ َّ
إن التَّساؤل الميتافيزيقي ،والحال هذي ،إنَّما هو
لفهم العا َلم داخل هذه اإلشكال َّية .أو في عبارة صريحة ،هو ُيقدِّ ُم نفسه على النحو
تصو ٍر للعا َلم ،والعالم َّية ،يقبع ٌ
فعل معرفي حديث يريد أن ُيد ِّي َن اآلتي :ضمن أي ُّ
(من الدِّ ين) المعرف َة؟
401 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
أن تساؤالً من هذا النوع ال يمكن أن ُيفهم ،في موضوعه ومنهجه، ومن جهة َّ
ومنظور الحقيقة داخله ،إالَّ َعبر الكشف عن موضوعه ،أي المعرفة ِ
العلم َّية الحديثة، َ
َ
وفوق ِ
فإ َّن ُه علينا أن نستجلي بداهات المعرفة العلم َّية الحديثة ،وما بعد الحديثةَّ ،أوالً
ٍ
شيء. ك ُِّل
لمية الحديثة:
المنطقية التي من شأن المعرفة ال ِع َّ
َّ { }IIIالبداهات
إبستيمولوجي ًا ،أي اِنطالق ًا من الفلسفة بالعلوم الحديثة ،والمعرفة ِ
العلم َّية َّ
والفلسفية الحديثة ،وما بعد الحديثة ،يمكننا أن ننطلق من بداهات هي ،على أقل
تقدير ،اآلتية:
البداهة األولى :بناء الفه ِم The Understanding Constructionعلى
قاعدة {التعدُّ د ــ في ــ الفهم} .معنى ذلك أن كل فهم إنَّما هو يقوم علىِ
ُثنائ َّيات المعرفة الحديثة .أي ُثنائ َّية َّ
{الذات ــ والموضوع} ،2وثنائية {الفكرة
نتج عن 4 3
ــ والمالحظة (أو المعاينة)} ،وثنائية {الفهم ــ وحقل الفهم} َ .ي ُ
االتجاهاتواالستنباط) ،ومدارس تجسد ِ(االستقراء ِ ذلك ،اِتجاهات علمية ِ
ِّ َّ
العلم َّية ،وتوجهات آيديولوجية مختلفة ومتعددة ومتنوعة داخل المدارس ِ
ِ
العلم َّية.
ويمكن أن نضيف أننا ،بعد جان فرانسوا ليوتار ،5نعيش في عصر سقوط
السرديات الكبرى ،أي عصر اِنهيار الليبرالية ،والماركسية ،والقومية ،والدينية.
بد ًءا من ُثالث َّية رينيه ديكارت ،وفرنسيس بيكون ،وإيمانوئيل كانْت. 2
بد ًءا من ُثنائ َّية جورج فردريش هيغل ،وكارل ماركس. 3
بد ًءا من دوستات دي ت َْر ْيسي ،وتوماس كون ،وميشيل فوكو. 4
أنظر :جان فرانسوا ليوتار ،الوضع ما بعد الحداثي ــ تقرير عن المعرفة ،ترجمة :أحمد حسان، 5
ط ،1دار شرقيات للنشر والتوزيع ،القاهرة.1994 ،
وكذلك أنظر :جان فرانسوا ليوتار ،في معنى ما بعد الحداثة ــ نصوص في الفلسفة والفن ،ترجمة:
العربي ،ط ،1الدار البيضاء ــ بيروت.2016 ،
ّ السعيد لبيب ،المركز الثقافي
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 402
البداهة ال َّثانية :ال َثم َة حقيقة؛ هناك حقيقة في كل ٍ
مرة ،أو ال تكون .إذن: َّ
ِ
Iــ اإلجابة هي دائم ًا َق ْب ِل َّي ًا ا ٌ
فتراض على هذا النحو أو ذاك،
ِ
المعرفة ،أو ال تكون. IIــ المعرف ُة حدُّ
الواقعي ،ألنه ،ببساطة،ّ البداهة ال َّثالثة :ليس يمكن الحديث عن الواقع
لم تعد إمكانات اإلحاطة به متوفرةً؛ بل يمكن الظفر بفهم جديد {في ــ ك ُِّل ــ
العلمي
ّ أساسا للتعميم
ً َم َّر ٍة} عن الواقع .إذن ،ال َث َّم َة واقع َّيات يمكن أن تكون
الحديث .ألنَّه ،بعدَ جان بودريار ،وأطروحة موت الواقع ،6نحن ،في الحقيقة
الم َّرة ،كائنات تفهم الواقع على نحو مختلف .فإذن ال َث َّم َة التي هنا ،أي هذه َ
وحدة الواقع .وحد ُة الواقع هذه ضرب من الفهم اآليديولوجي؛ وال ُيتو َّفر
عليها ،في أغلب األحايين ،إالَّ كوجهة نظر .ولكن ،المعرفة ِ
العلم َّية والفلسفية
ال تقوم على وجهة نظر؛ بل على نظر َّيات ومفاهيم وأبحاث ودراسات تمارس
بناء {موضوع ــ العلم} ،والفلسفة، المحطات الموضوعية في بناء وإعادة ِ
َّ
جهة أخرى ،المحطات الميثودولوجية في بناء وإعادة بناء منهج وتمارس ،من ٍ
ُ
العلم والفلسفة.
ضرب من ضروب التعدُّ د الثقافي
ٌ الرابعة :نحن ،أي المجتمعات العرب َّية، البداهة َّ
في وحدة الثقافة العا َلم َّية.
بنا ًء على البداهات األربع هذه ،يمكننا أن نتسا َءل مباشر ًة عن ماه َّية الموضوع
أيالذي تدور النقاشات حوله ،داخل إشكال َّية إسالمية المعرفة .ونقول :على ِّ
يتم ِ
مفاهيم ،ولغة مفاهيم ،وباالعتماد على أ َّية نظر َّيات ،ومضامين ،ومنظوراتُّ ،
تحديد موضوع إشكال َّية إسالمية المعرفة؟ كيف ولماذا؟
6أنظر :جان بودريار ،الفكر الجذري ــ أطروحة موت الواقع ،ترجمة :منير الحجوجي وأحمد
القصوار ،دار توبقال للنشر ،ط ،1الدار البيضاء.2006 ،
403 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
اإلشكالية هو اآليديولوجيا:
َّ { }IVالموضوع في
إسالمية المعرفة فكر ٌة يمكن ،اِنطالق ًا من سوسيولوجيا المعرفة أن نتسا َء َل
مصدرا روح َّي ًا االنتقال داخل حقل الدِّ ين من الدِّ ين بوصفهعنها ،باِعتبارها نتاج ِ
ً
الذات الفاعلة مجتمع َّي ًا ،إلى الدِّ ين من جهةالمجتمعي ،الذي من شأن َّ
ّ للوجود
المجتمعي في أن يكون ضمن طبقات أربعة من شأن ّ كونه آيديولوجيا ضابطة للفعل
مفهوم اآليديولوجيا ،هي ،على أقل تقدير ،اآلتية:
Iــ مفهوم {النموذج ــ المثال }Ideal-Typeللفعالية المجتمع َّية ،والفعل
المجتمعي داخلها،
ّ
المجتمعي ،أي الذي ينطلق من
ّ IIــ حركة مفهوم اآليديال داخل الفعل
مرورا بضروب تحديد المؤسسة
ً المجتمعي،
ّ داخل الفعل والذاهب نحو الخارج
المجتمع َّية له،
IIIــ مفهوم الرؤية ال ُك ِّل َّية والشاملة للوجود والكينونة والعالم والمجتمع
واإلنسان،
االصطناع والفبركة على صعيدَ ْي موضوع َّية الواقع ،وذاتية الفكرة؛ IVــ مفهوم ِ
أي خارجانية الموضوع ،وداخالنية المفهوم.
وبالتالي ،بداهة حضور اآليديولوجيا ،بوصفها األصول المجتمع َّية للمعرفة،
داخل كل ضرب من ضروب إنتاج المعرفة البشرية .لذا ،نكون ،على نحو
ميثودولوجي ،أمام إشكال َّية تُقدِّ ُم نفسها على أنها إشكال َّية آيديولوجية .لكن ،ما هي
عناصر اآليديولوجيا المجتمع َّية داخل إشكال َّية إسالمية المعرفة ،بعدَ الكشف عن
7
بداهات منطق َّية ــ إبستيمولوج َّية تقوم اإلشكال َّية عليها؟
تتضمن المعرفة اإلسالمية ضرب من ضروب ممارسة إنتاج المعرفة ،يقع كإمكان
بين إمكانات أخرى (مثالً :المعرفة الماركسية ،والمعرفة الليبرالية ،والمعرفة القومية،
والمعرفة النسوية...إلخ) .فيما تتضمن عملية إسالمية المعرفة ،وأسلمة المعرفة ضرب ًا
واحد ًا صريح ًا يريد أن يذهب إلى أن تكون معرف ٌة ما هي المعرفة األصلية لكل المعارف
الممكنة .أي تلك التي ت َُمكِّن المعارف األخرى من أن تكون كذلك .وبذلك ،هي
تتضمن كل ضروب إمكان التساؤل والتفكير والفهم التي من شأن إنتاج وبناء وتحديد
المعارف األخرى.
بالتالي حينما نقول أسلمة نذهب إلى مستوى فعل معرفي يقوم على فعالية
معرفية ،وحقل معرفة ،ومؤسسة معرفة ،وبالتالي مجتمع معرفة بعينه تضبطه جملة
قواعد ،وضوابط تتحكم بإمكانات وعمليات إنتاج المعرفة .وبواسطة ذلك ،هي تنتج
حقل المعرفة ،وحقل الفهم ،أي حقل الحقول الذي يتضمن كل الحقول المعرفية
الممكنة.
وحينما نقول المعرفة اإلسالمية نقول أن ثمة معرفة ما ،قد تطرح نفسها ،أو تضع
نفسها في مواجهة ،ضمن الصراع المعرفي حول مفهوم الحقيقة ،وإمكانها ،مع
المعارف األخرىِ ،
واالتجاهات المعرفية األخرى ،والمدارس المعرفية األخرى،
والتوجهات الفكرية داخل المدارس المعرفية األخرى.
إن ذلك يشير مباشر ًة إلى ثالث بداهات ميتافيزيقية ــ ميثودولوجية ،على أقل
تقدير ،من خاللها تمارس إشكالية إسالمية المعرفة كل ضروب الفبركة والحجب
ِ
واالصطناع ،على صعيد فهم الواقع المجتمعي العربي ،وفهم المفاهيم العلمية الحديثة
وما بعد الحدثية .هذه البداهات ،هي اآلتية:
Iــ بداهة تقسيم العا َلم إلى عوالِم متنافرة ،ومتصارعة ،وتجاوز وحدة العا َلم
والعالمية الحديثة،
405 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
IIــ بداهة وحدة الحقيقة القائمة على ثيولوجيا تجيب حتَّى َق َبل أن يقوم التَّساؤل،
IIIــ بداهة تديين (من الدِّ ين) البِنى المجتمع َّية األساس َّية الثالث :بِن َية الثقافة (في
االقتصاد (وثالثية اإلنتاج والتبادل والتوزيع) ،وبنية المعنى ال ُك ِّلي ــ المعقد لها) ،وبينة ِ
ّ
السياسة (وثالثية السلطة ،والمشروعية القانونية ،والشرعية المجتمع َّية).
إشكالية
َّ إشكالية إسالمية المعرفة َّإنما هي
َّ { }VIولكن ماذا نعني َّ
بأن
آيديولوجية؟
هل نعني بذلك أن هذه اإلشكال َّية دون غيرها هي إشكال َّية آيديولوجية؟ وهل أنها
تشتمل على مواقف آيديولوجية نابعة من أفهام مغلقة ،في حين أن اإلشكاليات األخرى
تتضم ُن ذلك؟
َّ ال
في الحقيقة ،أن نقول أنها إشكالية آيديولوجية دون غيرها ،فإن ذلك كالم يقع ،وغيره
من ضروب إمكان إنتاج الكلمة ضمن تصور ماركسي 8مغلق لمفهوم اآليديولوجيا.
ولكن ،ال ثمة معرفة من دون حضور اآليديولوجيا فيها ،على هذا النحو أو ذاك .إننا
حينما نقول آيديولوجيا داخل المعرفة نشير مباشر ًة إلى األصول المجتمعية التي تُسهم
في إنتاج المعرفة ،وتشارك في تحديد ماهيتها ،وبنيتها ،وتحدد نمط ًا بعينه من أنماط
المعرفة.
علينا أن نعيد بناء التساؤل ،وفق ًا لذلك ،من جهة مفهوم آخر هو الفهم المغلق .أو
الفهم الذي يذهب نحو بناء الجماعة ــ الهوية .إنه الفهم الذي يريد أن يحجب إمكان
اله َو ِو ُّي الذي يجعل منا كائنات منفصلة عن العا َلم.
الفهم .ذلك الفهم َ
حينما نتساءل بهذه الطريقة ،يمكننا أن نضع الفرضيات التفسيرية الدالة الفاهمة
اآلتية:
يجب أن نميز بين نفي وجود المعرفة ،وبين نفي إمكان المعرفة؛ َث َّم َة إمكان
للمعرفة في أن تُبنى اِنطالق ًا من اإلنسان؛ بوصفنا ــ نحن اإلنسان في مجتمعات
8أنظر :كارل ماركس وفردريك أنجلز ،اآليديولوجيا األلمانية ،ترجمة :فؤاد أيوب ،دار الفارابي ،ط،2
بيروت.
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 406
العلم َّية الحديثة وما بعد الحديثة من بلدان العلم في الغرب ــ تتلقى المعرفة ِ
ال من أشكال ممارسة فكرة اإلنسان في عصر اإلنسان هذا .إنَّنا في عصر شك ً
الر ْغ ِم ِم ْن أنوفنا؛ شئنا ذلك أم أبينا ،ال فرق .حينما نضع هذه البداهة
اإلنسان على َّ
في أعلى درجة من درجات سلم اإلعالن عن ذات أنفسنا العميقة بوصفنا كائنات
ننطلق من ثقافة ،أي شكل من أشكال الثقافة ،عالم َّي ًا ،إلى العا َلم ،نحدِّ ُد على
أن ال َثم إمكانًا لمعرفة تُضاف إلى حقل المعرفة ِ
العلم َّية الحديثة نحو صريح َّ
َّ
تنطلق من الدِّ ين ،أي دين كان .ال يمكن إنتاج معرفة ما ،أي شكل من أشكال
المعرفة ،وممارستها ،إالَّ بواسطة ُثالث َّية {إدراك المعرفة ــ وفهم المعرفة ــ ووعي
المعرفة} .أي تلقي المعرفة من الخارج ،ومن َبعدُ تفكيكها إلى أجزاء مفهومة،
ومن بعدُ وضعها في موقع معرفي يخصها؛ أي وضعها بواسطة فه ٍم ِ
حاك ٍم ضمن َ
حقل فهم بعينه.
وهكذا ،متى قلنا أسلمة المعرفة ،وإسالمية المعرفة ،نكون واقعين في
علميات نسخ ،وتكرار ،واِجترار لمعارف تقع خارج الزمان األُنطولوجي ــ
المجتمعي الذي من شأن مفاهيم المعرفة ِ
العلم َّية الحديثة وما بعد الحديثة. ّ
تتضم ُن آيديولوجيا إسالمية تريد أن تواجه كل ما
َّ وحينما نقول معرفة إسالمية
سواها نقول أشياء معرفية أخرى قد تكون خارج موضوع المعرفة الحديث؛ أي
بهذا القول نقع ،على هذا النحو أو ذاك ،خارج تاريخ المعرفة ،بوصفه{ ،ههنا
ــ وــ اآلن} ،صار صناعة ،وخلق ًا ،وإنتاج ًا .وهذا ال يعني ،على اإلطالق ،أن
موضوعات إنسانية ومجتمعية ،في مجتمعات إسالمية ،تخرج عن ماه َّية
موضوع المعرفة ِ
العلم َّية الحديثة .ال؛ َّ
إن ذلك ،وما نقوله ،يرتبط باألرضية
األُنطولوجية ــ واإلبستيمولوجية ــ والميثودولوجية التي من شأن دراسة هذه
الموضوعات ،والتساؤل عنها ،والبحث فيها ،والنقاش حولها؛ وليس يتع َّلق
المجتمعي المحسوس.
ّ بماهية الموضوعات هذه ،وحضورها العميق في الواقع
ألن َث َّم َة ُمك َِّونات أساس َّية هي ،على أقل تقدير ،ثالثة في المعرفة،
ألن ،وفقط َّ
َّ
والمك َِّون
والمك َِّون اإلبستيمولوجيُ ،
المك َِّون اآليديولوجيُ ،
أ َّية معرفة مهما كانتُ :
المك َِّونات األخرى التي يمكن أن تُضاف إلى شكل من
وسيولوجي .تقع كل ُ
ّ الس
ُّ
407 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
المك َِّونات الثالثة هذه .وعلى ذلك ،ال َث َّم ُبعد ًا آيديولوجي ًا في أشكال ممارسة ُ
المعرفة ،بل إنَّه ُمك َِّو ٌن أساسي في المعرفة .لكن هذه ليست دعوة للسقوط المدوي
َصور الماركسي لمفهوم اآليديولوجيا؛ بوصفه تصور ًا آيديولوجي ًا، للمعرفة داخل الت ُّ
وهذا ضمن حقل لغة ماركس نفسه ،عن اآليديولوجيا .وفي عبارة صارمة :الفهم
اآليديولوجي األكثر بعد ًا عن المفهوم إنَّما هو أتى إلينا ،أي اِنتقل إلى مستوى وحدة
العلمي
ّ الفهم ،بواسطة ماركس ،وأدبيات ماركسية لم تستطع أن تصل إلى المفهوم
في ُك ِّل َّيتِه؛ أي المفهوم مأخو ًذا بواسطة التعدُّ د في مضامينه ،ومنظوراته المختلفة
عةَ ،ع َبر البِن َية والصيرورة اللتين من شأنه .أي وحدة المفهوم، والمتعدِّ دة والمتنو ِ
ِّ
وتعدد المفهوم ،وصيرورة المفهوم ،وبالتالي {حقل ــ الفهم} الذي من شأن المفهوم
بوصفه موضوع ًا فلسفي ًا علمي ًا حديث ًا.
بهذا المعنى ،نكون أمام إمكان مفتوح ،إلى حين ،في أن تنتقل إشكال َّية إسالمية
المعرفة ،وأسلمة المعرفة ،من كونها إشكال َّية علم َّية إلى إشكال َّية يلتبس على أصحابها
وممارسيها مفهوم اإلشكال َّية ذاته في حقل مفاهيم العلم الحديث .وهكذا ،تُصبِح
إشكالية إسالمية المعرفة عقبة معرفية في وجه التعرف إلى ،وممارسة ،المعرفة ِ
العلم َّية َّ
والفلسفية الحديثة.
المنتج
الخاص بالعقل ُ
ّ اإلشكالية ـ العقبة ...أو في الهَبيتوس
َّ {}VII
المعرفية:
َّ للعقبات
يقع الكالم عن أسلمة المعرفة ،وتبرير وتسويغها ،في مواجهة الكالم عن أن
العلم َّية الحديثة هي بدورها تقوم على أرض َّية آيديولوجية ناتجة عن شروط المعرفة ِ
مجتمع َّية وتاريخية ،أصبحت فيما بعد بنيوية ،في بلدان العلم في الغرب .وبالتالي،
االنطالق تريد أسلمة المعرفة أن تُحدِّ د المعارف ،كل المعارف العا َلمية ،بواسطة ِ
َّ َ
فحسب ،بل حتَّى في ماه َّية التَّساؤل ،وكيف َّية
ُ من الدِّ ين ــ اإلسالم9؛ ال في اإلجابة
9أنظر المرتكزات إلشكال َّية إسالمية المعرفة في الفلسفة ،وعلوم المجتمع واإلنسان الحديثة في:
ــ محمد المبارك ،نظام اإلسالم العقائدي في العصر الحديث ،الدار العالمية للكتاب اإلسالمي
والمعهد العالمي للفكر اإلسالمي ،الطبعة الثانية ،الرياض.1995 ،
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 408
مر ٍة من جديد .ما الذي تريد أن تضعه ممارسات
بنائه ،وطرحه ،وتحديده ،في كل َّ
تلتبس عليها معاني الممارسة ِ
العلم َّية ،على النحو هذا؟
ثمة تصور للعا َلم ،و{الوجود ــ في ــ العا َلم} يحتجب بواسطة هذا النوع
من الكالم .إنه تقسيم العا َلم إلى ثنائيات منهكة مستهلكة لم تعد تقدم إمكان ًا
لفهم العا َلم .ثنائيات من نوع :شرق ــ وغرب ،مفاهيمنا ومفاهيمهم} ،لغتها ــ
ولغتهم ،علمنا ــ وعلمهم ،فلسفتنا ــ وفلسفتهم...،وإلى آخره من هذه الثنائيات
التي من الصعب تُحصى .ولكن التساؤل األصلي الذي علينا أن نبنيه ،في هذا
النوع من تقسيم العا َلم ،إنما هو ُيطرح حول تصنيف العا َلم ضمن معلبات فكرية
ــ مفهومية جاهزة .وهو إنما يسحب المعرفة إلى التساؤل عن ماهيتها ،انطال ًقا
من كوننا كائنات ال نتوفر على إمكان أن نكون خارج العالمية .وههنا ،علينا أن
نميز بين العالمية التي تخصنا ،والعالمية في المعنى العالمي الذي يتضمن معنى
الكوزموبوليتانية ،والكونية ،والمفهوم العلمي ــ الفلسفي القائم على المشترك
10
اإلنساني ــ المجتمعي.
حينما ننطلق من بداهات المعرفة الحديثة ،في الوقت الذي نفهم ،بداه ًة ،أن
ثم إنسان قادر على أن 11
الحداثة مؤجلة إلى التتمة ،ويستحيل أن تنتهي ،مادام َّ
باالنغالق ،وخلق جماعة، يقدم فهم ًا ما ،خارج إطار األوهام ــ األصنام التي تتعلق ِ
والتخشب ضمن هوية ثقافة ما ،مهما كانت ،نكون أمام تساؤل جذري يقوده فكر ُّ
جذري يتضمن اآلتي :إذا كانت المعرفة العلمية تقوم على {التعدُّ د ــ في ــ الفهم}؛
فإن فعل التعدُّ دِ ،
واالختالف، بوصفنا كائنات ثقافية تتعدد ،وتتنوع ،وتختلف؛ َّ
ــ محمد أمزيان ،منهج البحث العلمي بين الوضعية والمعيارية ،المعهد العالمي للفكر اإلسالمي ،ط
،4بيروت.2008 ،
محمدحسين الرفاعي ،مفهوم اآليديولوجيا ،مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير ،بغداد ــ 10أنظرَّ :
بيروت ــ تونس ،ط.2020 ،1
11أنظر :حوار مع يورغن هابرماس ،الحداثة مشروع لم يكتمل ،ترجمة :فتحي المسكيني ،مجلة تب ُّين
للدراسات الفكر َّية والثقافية ،العدد األول.2012 ،
وكذلك أنظر :آالن تورين ،الحداثة المتجددة ــ نحو مجتمعات أكثر إنسانية ،ترجمة :جالل بدلة،
ط ،1دار الساقي ،بيروت.2020 ،
409 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
والتنوع ،إنَّما هو ُ
فعل العقل الحديث؛ إذا كان كذلك ماذا يعني عصر {التعدُّ د ــ في ــ
الفهم} في ما بعد الحداثة؟
حينما نذهب إلى ،أو نأتي من تفكيك المعرفة ،إنَّنا ،في الحقيقة ،نقول خلق
المعرفة ،وصنعها ،وخلقها ،وبنا َءها .هكذا ،تأخذ كوغيتو رينه ديكارت ،ووضع
االستقراء بواسطة بيكون ،وكارل بوبر ،وإيمانوئيل كانت ،موقع ًا في مشكلة ِ
المن َْهج َّية في بناء الموضوع ،موضوع إنتاج المعرفة يبلغ مستوى بناء المحطات َ
يتم ِ
المعرفة العلم َّية ــ والفلسفية الحديثة .وهكذا ،علينا أن نفهم أننا في عصر ُّ
تحديده بواسطة اإلنسان ،وتلك اإلمكانية الهائلة في أننا لم نقع في الحقيقة،
وعليها ،وال هي تقع فينا ،وعلينا ،إالَّ حينما تكون الحقيقة{ ،في ــ ك ُِّل ــ َم َّر ٍة}،
جز ًءا من الحقيقة .أو حينما تكون الحقيق ُة إمكانًا من إمكانات إنتاج الحقيقة ،ال
أكثر.
لقد قام عصر الحداثة على رؤية جديدة بواسطة ُثالث َّية {فولتير ــ رينه ديكارت
نموذجا ــ مثاالً Typeــ Idealعميق ًا في ً ــ وإيمانوئيل كانت} .قدم لنا فولتير
تجاوز األحاديات إلى مستوى التعدُّ د؛ على صعيد بِن َية الثقافة في الحداثة .أخذنا
الذات بوصفها إمكانات قيام المعرفة على العقل ديكارت إلى مستوى بناء َّ
فحسب؛ أي اِنطالق ًا من العقل البشري وإليه .أي في، ُ البشري ،واِنطال ًقا منه
عقالني يقع ،في ما بعد بناء الذات َّية ،Subjectivismفي ّ وبواسطة فعل عقلي ــ
الدرجة األولى من مستوى اإلعالن عن المعرفة بوصفها خل ًقا؛ أي من جهة كونها
ال ممكن ًا قائم ًا على إمكانات خارج حقل الدِّ ين؛ كما وضعنا أخذت تُصبِح فع ً
إيمانوئيل كانْت في البؤرة األكثر توتر ًا للعقل؛ تلك التي يجد العقل نفسه فيها
وحده ،ويجب أن ينقذ نفسه وحده .وال َث َّم َة إنقاذ إالَّ بعد الشعور العميق بالخطر.
إنَّنا في عصر خطر ،في المعنى األخص لهذه الكلمة .إنَّه خطر أالَّ نكون.
واالفتراضات واألفكار التي تتع َّلق ببناء حينما نواجه هذا النوع من التصورات ِ
ُّ
موضوع المعرفة ،بواسطة النص المقدس ،أو الحديث ،أو السنة ،أو التُّراث بوصفه
سلطة له ،أ َّية سلطة مهما كانت ،ناهيك عن ٍ قد ُج ِّمدَ في طريق ــ ووجهة ــ ورؤية
أننا نمارس قلة لياقة تجاه العقل العالمي ،في الحقيقة نحن نضع أنفسنا خارج إطار
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 410
العقل؛ ال أقصد العقل الحديث ،بل العقل بعا َّم ٍة .لماذا؟ َّ
ألن الوظيفة األساس َّية
يتم توجيهها نحو موضوع ليس من للعقل أي إنتاج {اإلدراك ــ والفهم ــ والوعي} ُّ
صناعة العقل البشري .وهكذا نسقط في بئر مظلم تريد مؤسسة الدِّ ين ،الدِّ ين كما
تراه مؤسسة قد صارت وقامت وفق ًا لعقل بشري ،في النهاية ،أن يبقى ،أي الدِّ ين،
محتجب ًا عن الفهمَّ .
إن ذلك لهو أمر يقع في صلب مهام سوسيولوجيا السياسة،
والمعرفة.
حقل الفهم الخاص بالواقع المجتمعي العربي ،ههنا واآلن؛ ال دياكرونيك َّي ًا وال
سينكرونيك َّي ًا .كل ما نجده يتضمن ضرب ًا من ضروب بناء شيء ما ،على هدي
التراث أو الحداثة ال فرق ،من أجل القفز على الواقع ،إما ضمن آيديولوجيا
الواقع ،أو ضمن يوتوبيا الواقع؛ أو ضمن معادالت مناهضة لديستوبيا الواقع.12
لقد وضعت ،في كتابي األخير« ،المعرفة واآليديولوجيا» ،جملة الفرضيات
المفسرة الدالة الفاهمة لهذا األمر .13إننا ،بوصفنا كائنات مفكرة ــ متسائلة ــ
عارفة ،أو تريد ذلك ،قد وصلنا إلى مستوى مواجهة الخطر ،والشعور به .إننا
بأن ال ثمة طري ًقا قد وجده مجتمع علماء ــ فالسفة عصر النهضة يفتح أفق
نشعر َّ
الفهم ،أي يفتح إمكانات موضوعية لبناء الفهم بالواقع المجتمعي العربي ،من
جهة ،وبالمفاهيم العلمية ــ الفلسفية التي تأتي إلينا من بلدان {العلم ــ واإلنسان
ــ والقانون} في الغرب ،من جهة أخرى.
هكذا ،تجدنا كائنات قلقة .وهذا إمكان عميق من أجل {أن ــ نكون} .ألني أميز بين
القلق الذي يصيبنا من المعرفة العامية ــ العادية ــ اليومية ،والمعرفة التي من شأن العلم،
والفلسفة ،في المعنى الحديث لهما.
تقع الصحوة اإلسالمية ،بوصفها أداة {ضرب ــ وتحديد ــ وضبط} من شأن
َ
{حقل ــ تديين ــ المعرفة المعرفة ضمن حقل قد سميته ،في كتاب «ما هو المفهوم؟»،
ــ والمجتمع} .14هكذا ،حينما أقول تديين أقول في الوقت نفسه جملة اإلمكانات
التي تتوفر في الدين ،دين بعينه ،والتي ترتبط اِرتباط ًا مباشر ًا ،ببناء موضوع العلم،
وبناء منهج العلم .ومن أجل ذلك علينا أن ننتقل مع ًا إلى موقع إبستيمولوجي ــ
ميثودولوجي يستنهض تساؤالً من موقع {من ــ الخارج} ،و{بعد ــ حين} ،اللذين
من شأن الموقع اإلبستيمولوجي ،هو هذا :ماذا تتضمن الصحوة اإلسالمية في
محمدحسين الرفاعي ،ما هو المفهوم؟، 12أنظر ُثالث َّية {اآليديولوجيا ــ والديستوبيا ــ واليوتوبيا} فيَّ :
مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير ،بغداد ــ بيروت ــ تونس ،ط.2020 ،1
محمدحسين الرفاعي ،المعرفة واآليديولوجيا ،مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير ،بغداد 13أنظرَّ :
ــ بيروت ــ تونس ،ط.2020 ،1
محمدحسين الرفاعي ،ما هو المفهوم؟ ...مصدر مذكور. 14أنظرَّ :
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 412
المجتمع؟ وفي المعرفة؟ وفي البنى المجتمعية األساسية الثالث ،أي بنية الثقافة،
االقتصاد ،وبنية السياسة؛ ووحدة العالقة بين هذه البنى ،أي اآليديولوجيا وبنية ِ
المجتمعية.
تتضمن الصحوة اإلسالمية في المجتمع معنى اِختزال المجتمع في جزء منه؛
أي بناء وحدة مجتمعية قائمة على ما يقوله اإلسالم ،والمقولة األكثر خطورة
واالختالف اآليديولوجي ،والتنوع على المجتمعات التي تتميز بالتعدُّ د الهو ِويِ ،
َ َ ِّ
ال لمشكالت المجتمعي ،أي مقولة «اإلسالم هو الحل» .اإلسالم ليس ح ً
المجتمعات الحديثة ،ال ألنه يشكو من نقص ،أو من كونه ينتمي إلى عصر بعينه،
وزمان ومكان بعينه ،أو ،كذلك ،ال ألنه يرتبط بيوتوبيا يريد أن يجعل منه براديغما
معرفي ًا ما ،كما قد اِدعى ذلك ،في بحث مهم« :من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث»،
جورج طرابيشي ،15وال كما ذهب إلى ذلك «محمد أركون» 16في بحثه الذي يقع،
في أحسن األحوال ،ضمن يوتوبيا فكر تريد أن تجعل من الحداثة براديغم ًا معرفي ًا
ألن ماهية العالمية لم تقم على النص الديني .أي لم جاهز ًا ،ال؛ ال فقط ذلك؛ بل َّ
نستطع أن نبحث في ماهية العالمية الحديثة ،بوصفنا قد أصبحنا كائنات المجتمع
العالمي ،عن إمكانات دينية من أجل بناء فهم بالوجود ،والعا َلم ،والوجود في
العا َلم ،واإلنسان ،والمجتمع.
خارج ماهية الدين،
َ إننا كائنات نتوفر على إمكان أن نكون ذاتًا فاعلة مجتمع َّي ًا ألننا
ؤخ ُذ بوصفه روح العصر .هكذا، من جهة كونه مصدر ًا روحي ًا .أي من جهة كونه قد ُي َ
ال تقع الصحوة اإلسالمية في مواجهة مع اآلخر فحسب؛ وال هي تريد أن تواجه
اآلخر بردود فعل دينية فحسب ،وال هي متعلقة ببناء عا َل ٍم لإلنسان العا َلمي ،بل هل
تدخل في صراع معرفي ال أول له وال آخر مع ذات أنفسنا العميقة ،وهي تجد نفسها
ال إنساني ًا ــ مجتمعي ًاَّ .
إن التاريخ، وحيد ًة في التاريخ ،حينما يؤخذ التاريخ بوصفه فع ً
فعل إنساني ــ مجتمعي ،أم ال يكون .وإن ترانسندنتالية متى ُأ ِخ َذ من جذره ،إنما هو ٌ
االختالف عن أدلجة التاريخ عبر األفهام المغلقة .هكذا يمكن التاريخ تختلف أشدَّ ِ
اإلشكالية؟
َّ إشكالية التجديد أم تجديد
َّ {}IX
دعوات التجديد تتضمن ،حسب مدعيها ،إشكالية التجديد .يمكن أن نراجع بذلك
الكم الهائل 17من األبحاث والدراسات التي تنشر في هذه المسألةِ ،
وباالنطالق منها.
ولكن ماذا نعني إذا قلنا إشكالية التجديد؟ إنها تعني منظور نظري يتعلق بالتجديد.
تجديد ماذا؟ تجديد المعرفة .أية معرفة؟ معرفتنا بالمجتمع واإلنسان .ولمجرد أن
نقول معرفتنا فإننا نكون قد سقطنا ،بوعي أو من دونه ،ال فرق ،في عقبة إبستيمولوجية
في وجه فهم وحدة العالمية .في الحقيقة ،إشكال التجديد ،وإشكالية التجديد ،أي
المضمون النظري ــ الفلسفي للتجديد ،والمنظور النظري ــ الفلسفي للتجديد يجب
أن ُيسحبا إلى مستوى التساؤل اإلبستيمولوجي ــ والميثودولوجي ،على نحو جذري.
أيتوهم إشكال التجديد ،وأتتوهم إشكالية التجديد ،تجديدً ا للمعرفة العالمية بواسطة
الدين؟
في الحقيقة ال بد من أن نواجه هذا الوهم بواسطة تجديد وتحديث اإلشكاالت
واإلشكاليات .إنه عليناِ ،
باالنطالق منه ،من التجديد ــ التحديث هذا ،أن نكون مباشر ًة
كل شيء ،والشك بكل شيء ،نحن في الحقيقة نضع المعرفة في موقع البناء .من نحن؟
نحن الكائنات التي يستحيل أن نستمر ،وأن نسوغ اِستمرارنا في الوجود في العا َلم،
بمعزل عن العالمية.
ومتى صارت المعرفة قائمة على أسس بناء المعرفة الحديثة ،تجاوزت ،في
الوقت نفسه ،كل ضرب من ضروب الضبط الميثولوجي ــ الثيولوجي لها .إنني
أشير إلى الضبط في المعنى المؤسسي له .أي الضبط وقد صار ُم َم ْأ َس ًسا .ما يميز
المعرفة في العصر الحديث ،وقد قلت سابق ًا وفي مواضع مختلفة :أن الحداثة
ليس مشروع ًا لم يكتمل بعد ،كما ذهب إلى ذلك يورغن هابرماس ،بل إنه َّ
مؤجل
إلى التتمة .والفرق بينهما كبير .التتمة شيءِ ،
واالكتمال شيء آخر .ولربما هذا
يعود إلى عبقرية اللغة العربية .حينما تكون الحداثة مؤجلة إلى التتمة ،في
كل مرة ،فإن ذلك يتضمن معنى أن الحداثة هي جذر ماهية المعرفة في عصر
اإلنسان؛ وبذلك أنا أقصد مباشر ًة أن المعرفة الحديثة ،واألسس التي وضعتها
االختالف ،عن تلك العوالِم التي بناها الدين،
في بناء عا َل ٍم جديد يختلف ،أشدَّ ِ
أو ميثولوجيا ــ ثيولوجيا ما مهما كانت ،أو الميتافيزيقي ،أو ميتافيزيقا ما مهما
االكتمال؛ بل هي تستمر طالماكانت ،إنما هي معرفة يستحيل أن تتوفر على إمكان ِ
يتوفر وجود إنساني ــ مجتمعي للكائن الذي نفهمه اليوم بوصفه كائنًا عقالن َّي ًا.
وهكذا ،يقع كالم يورغن هابرماس في موقع إمكان اِنغالق المعرفة على ذاتها؛
وهذا يواجه تش ُّي ًأ للمعرفة؛ بل تقع المعرفة داخله .أو بعبارة صارمة :لربما تأخذ
مدرسة فرانكفورت بكليتها ،وليس يورغن هابرماس وحده إلى النقطة األكثر
قلق ًا وتوتر ًا لهما ،يذهب كالم هابرماس إلى اِنغالق الفهم على النحو الذي
ال ِ
لالكتمال في لحظة معرفية يحدده فهم ِ
االنغالق؛ بحيث يجعل من الفهم قاب ً
بعينها .وهذا معناه أن تتوقف المعرفة الحديثة؛ أي يتوقف إنتاج المعرفة بأشياء
العا َلم الحديث الحديثة؛ وهذا ضرب من ضروب الخلط اإلبستيمولوجي بين
إمكان المعرفة بعا َّم ٍة ،في أن تكون قادر ًة على أن تزودنا بأدوات فهم ،ووسائل
تساؤل ،وتقنيات تفكير ،وبين معرفة إمكان المعرفة الحديثة التي قد وصلت
االكتمال .ال؛ هذا مستحيل.مع هابرماس إلى مستوى أنها تتو َّفر على إمكان ِ
محمد حسين الرفاعي
دَّ . 416
وتأتي اِستحالة ذلك من اِستحالة العودة إلى وحدة الحقيقة الواحدة؛ أي وحدة
الحقيقة وقد صار تعدُّ د الحقيقة فيها ضرب ًا من ت ُّ
َصور سابق إلى/على الحقيقة.
اإلسالمويون كثير ًا ما يلتجؤون إلى هذا النوع من المعرفة الذي يجدون فيه
مبررات ومسوغات إلنتاجهم لمعرفة قد صارت ،بعد سيادة العقل ،ونزع سحر
العا َلم ،من ماضي اإلنسان َّية.
إنه ،والحال هذه ،يعني التساؤل ما هي المعرفة ،اليوم؟ التساؤل عن ما يتوفر على
إمكان معرفته اليوم بواسطة العقلية Mentalــ والعقالنية .Rationalityوأرجو أالَّ
يتم الخلط بينهما .هكذا ،تقوم المعرفة على بناء الموضوع{ ،موضوع ــ العلم} ،وبناء
ُّ
المنهج{ ،منهج ــ العلم} ،فيها.
وإذا كان ،على سبيل المثال« ،عبدال ّله العروي» ،في الـ {ههنا ــ واآلن}
ِ
ذات أنفسنا العميقة ،يمارس بنا َء فهم بـ«اآليديولوجيا العربية الذي من شأن
المعاصرة» 18،وفق ًا لمنهج بعينه من المناهج الحديثة في العلم ،أي المنهج
الذي يقوم على ضوابط وقواعد كارل ماركس ،فإن ذلك يقع ضمن ضرب من
ضروب التعدد في بناء موضوع العلم ،وال يقع في بناء موضوع العلم .لذلك،
يقع «عبدال ّله العروي» ،ضمن إمكان من إمكانات بناء المعرفة ،وال يقع ضمن
بناء المعرفة .لماذا؟ ألن المعرفة العلمية ــ الفلسفية الحديثة ال تقدم نفسها ،في
اللحظة المعرفية األولى ،أي لحظة ثنائية {الذات ــ والموضوع} ،إالَّ بوصفها
تتوفر على إمكان ِ
بناء الكُل َّي ِة التي من شأن الفهم العلمي ــ الفلسفي الحديث ،من
جهة ،وإنها تظفر بفهم متفحص يذهب إلى بناء فرضيات علمية ــ فلسفية مفسرة
دالة فاهمة لموضوعها ،موضوعها هي .يجب أن نفهم أن الموضوع ،موضوع
العلم ،وموضوع المعرفة بعامة ،وموضوع ثنائية {الذات ــ والموضوع} ،الذي
ينطلق إلى بنائه ،في كل مرة ،من قبل ِ
االتجاهات والمدارس والتوجهات العلمية ُ
ــ والفلسفية المختلفة ،والمتعددة ،والمتنوعة ،هي أشياء تختلف ،وتتميز عن
بعضها البعض.
العربي...
ّ 18أنظر :عبدال ّله العروي ،اآليديولوجيا العرب َّية المعاصرة ،المركز الثقافي
417 النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة
IVــ لقد وضعت المعرفة ،في علوم المجتمع واإلنسان ،منذ بدء نشأتها ،ما بعد
يتضم ُن
َّ القرن الثامن عشر ،الدِّ ين وكل ما يرتبط به ضمن حقل فهم صريح واضح
إمكانات فهم الدِّ ين عند ثالثة مستويات :مستوى الدِّ ين بوصفه وظيفة مجتمع َّية،
المجتمعي ،ومستوى الدِّ ين بوصفه
ّ ومستوى الدِّ ين بوصفه مصدر ًا روحي ًا للفعل
آيديولوجيا مجتمع َّية.
وبنا ًء على ذلك ،تتبين مصادر المعرفة في العلم بالمجتمع واإلنسان مباشر ًة في
ال ُثنائ َّيات األساس َّية في المعرفة الحديثة ،وإمكانات العالقة بين طرفيها.
المعرفة الحديثة؛ أي تلك التي تليق بنا ألننا نتوفر على الفهم ،الذي قد ظفرنا به
ضمن أفق العا َلم؛ عا َلم النحن العا َلم َّيةَ .ب ْيدَ أ َّن ُه متى تم الظفر بذلك ،نتوفر على
إمكان أن يكون اإلسالم ضر ًبا من التعدُّ د في بناء العالقات مع العا َلم َّية.
تدعو مجلة قضايا إسالمية معاصرة الباحثين الكرام
للمشاركة في محور العدد القادم:
مشكلة الشر
()3