You are on page 1of 425

‫جملة حمكمة متخصصة بفلسفة الدين وعلم الكالم اجلديد‬

‫السنة الخامسة والعشرون العدد ‪ 75‬ـ ‪ 2021 /76‬ـ ‪1442‬‬

‫صاحب االمتياز ورئـيس التحـرير‬

‫د‪ .‬عبد الجبار الرفاعي‬

‫مدير التحرير‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬
‫سكرتيرة التحرير‬
‫إنتزال الجبوري‬

‫تصدر عن‪ :‬مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد‬


‫‪www.rifae.com‬‬
‫‪mohammad.refaee@gmail.com‬‬
‫هاتف‪0096170619679 :‬‬
‫مركز دراسات فلسفة الدين‬
‫مؤسسة فكرية مستقلة‪ ،‬تعنى بدراسة االتجاهات الحديثة في فلسفة الدين وعلم الكالم‪،‬‬
‫وتسعى لبلوغ أهدافها من خالل ما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ الدعوة للتعددية والتسامح‪ ،‬وإرساء قيم االختالف وقبول اآلخر‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين األديان والثقافات‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ ترسيخ العقلية النقدية الحوارية‪ ،‬وتجاوز العقلية السكونية المغلقة‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ االستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ تعميم االجتهاد ليشمل كافة حقول الموروث‪ ،‬واسبتعاد عناصره القاتلة والميتة‪ ،‬واستدعاء‬
‫العناصر الحية منه ودمجها بالواقع‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ تمثل روح العصر‪ ،‬واالنفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم‪ ،‬انطالقا من‪ :‬الحكمة ضالة‬
‫المؤمن حيثما وجدها التقطها‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ دراسة الدين والتراث على ضوء المناهج الحديثة للعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ 8‬ــ تطهير التدين من الكراهية واإلكراهات‪.‬‬
‫‪ 9‬ــ تحــريـر فهم الــدين من المقــوالت واألفــكار والمــواقــف التعصبيــة والعدوانية‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ الكشف عن األثر اإليجابي للفهم العقالني اإلنساني للدين في التنمية االجتماعية‬
‫واالقتصادية والسياسية والثقافية‪.‬‬
‫‪ 11‬ــ تبني الرؤى والمفاهيم التي تهدف الى مواكبة العصر‪ ،‬وتعزز المصالحة بين المتدين‬
‫والمحيط الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫‪ 12‬ــ بناء مجتمع مدني تعددي تسود حياته قيم التسامح والعيش المشترك‪.‬‬
‫‪ 13‬ــ التثقيف على الحريات وحقوق االنسان‪ ،‬وتجفيف المنابع التي ترسخ مفاهيم االستبداد‪،‬‬
‫وتعمل على صياغة نفسية العبيد في المجتمع‪.‬‬
‫‪ 14‬ــ تجلية األبعاد العقالنية واألخالقية واإلنسانية والجمالية والمعنوية المضيئة في الدين والتراث‪.‬‬
‫‪ 15‬ــ التحرر من سلطة السلف‪ ،‬وأعمال العقل وشحذ وإطالق فاعلياته‪ ،‬والتوغل في الحقول‬
‫المعرفية الالمفكر فيها‪.‬‬
‫‪ 16‬ــ تنمية التفكير والبحث واالجتهاد في فلسفة الدين وعلم الكالم‪.‬‬
‫يحق للمجلة إعادة إصدار النصوص المنشورة فيها‪ ،‬في كتاب‪ ،‬مستقلة أو ضمن مجموعة‪ ،‬بعد‬
‫نشرها فيها‪.‬‬
‫‪ISBN: 978 - 1 - 77472 - 159 - 9‬‬
‫محتويات العدد‬

‫كلمة التحرير‬
‫‪4‬‬ ‫فريتيوف شوان‬ ‫الشر في العا َلم‬
‫مسألة ال ّثيوديس َّيات وضرورة ّ‬
‫حوارات‬
‫ُ‬
‫وطرق ال َت ِ‬ ‫ِ‬
‫‪19‬‬ ‫مصطفى ملكيان‬ ‫عامل معها‬ ‫ُمشكل ُة ّ‬
‫الشر‬
‫دراسات‬
‫‪39‬‬ ‫أوزجور كوجا‬ ‫والرومي‬
‫الشر بين ابن عربي ّ‬
‫مشكلة ّ‬
‫‪75‬‬ ‫د‪ .‬منذر جلوب‬ ‫الشر في العالم بين الضمير والمصمم الذكي‬
‫‪115‬‬ ‫د‪ .‬زيد الكبيسي‬ ‫ميتافيزيقا الشر عند سبينوزا وشوبنهاور‬
‫‪142‬‬ ‫د‪ .‬لؤي خزعل جبر‬ ‫الشر األخالقي وإنتاج الشر البشري‬
‫د‪ .‬صالح الدين العامري ‪167‬‬ ‫جدل ّية الثواب والعقاب مقاربة سوسيوثقافيّة‬
‫‪190‬‬ ‫التطرف واإلرهاب في ضوء نظرية التنافر المعرفي زادان المرزوقي‬
‫مايكل بيترسون وزمالؤه ‪211‬‬ ‫مشكلة الشر والدليل على وجود ال ّٰله؟‬
‫‪251‬‬ ‫إيزابيل كابريرا‬ ‫هل ال ّٰله شرير؟‬
‫‪264‬‬ ‫د‪ .‬آرش نراقي‬ ‫مدخل إلى مسألة الشر (‪)2‬‬
‫‪307‬‬ ‫دانيال هاوارد سنايدر‬ ‫والمعاناة‬
‫اإلله والشر ُ‬
‫‪351‬‬ ‫اليود ستريكالند‬ ‫مشكلة الشر الديني؟‬
‫د‪ .‬أمير عباس علي زماني ‪373‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬
‫محمد حسين الرفاعي ‪399‬‬‫د‪َّ .‬‬ ‫الن ُّظم المعرفيَّة في إشكاليَّة إسالمية المعرفة‬
‫كلمة التحرير‬

‫يوديسيات‬
‫َّ‬ ‫مسألة ال ّث‬
‫الشر في العالَم‬
‫وضرورة ّ‬
‫فريتيوف شوان‬
‫‪1‬‬ ‫_________________________________________________‬

‫فريتيوف شوان ‪ Frithjof Schuon‬واحد من ّ‬


‫أهم الميتافيزيق ِّيين الروحان ِّيين‬
‫في القرن العشرين‪ُ ،‬ولِدَ بمدينة بازل في سويسرا في ‪ 18‬يونيو عام ‪ 1907‬ميالد ًّيا‪،‬‬
‫وبدأ حياتَه بقراءة كتب الهندوس ّية المقدَّ سة‪ ،‬فكان لها عظيم أثر في فكره وكتاباته‬
‫فيما بعد‪ ،‬واعتنق اإلسال َم وهو في س ّن السادسة عشرة من عمره وت ََس َّمى بعيسى‬
‫الباطني‬
‫ّ‬ ‫تعرف على الفيلسوف‬ ‫كانت بعدما َّ‬
‫ْ‬ ‫أهم مرحلة في حياته‬ ‫نور الدِّ ين‪َّ ،‬‬
‫ولعل ّ‬
‫تسمى بعد ذلك بعبد الواحد يحيى‪ ،‬إذ من خالله‬
‫رينيه جينو ‪ René Guénon‬الذي َّ‬
‫َت َع َّرف على المدرسة اإلرثو ّية ‪ ،Traditionalist School‬ومدرسة الحكمة الخالدة‬
‫اكتشاف ُم َغ ِامرة لمبادئ‬
‫ٍ‬ ‫وكانت كت ُبه عونًا له في رحلة‬
‫ْ‬ ‫‪،Perennial philosophy‬‬
‫َّأليف عاد ًة ال تنقطع لدى شوان ‪ ،Schuon‬كذلك‬ ‫ِ‬
‫أغوارها‪ .‬كان الت ُ‬ ‫وس ْب ِر‬
‫الميتافيزيقا َ‬
‫وغرب في أسفاره يمن ًة ويسر ًة بين ألمانيا وفرنسا والجزائر‬
‫فشرق َّ‬
‫أسفاره‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫أن أل َقى عصا التّرحال بين قبائل هنود ّ‬
‫السهول‬ ‫والمغرب ومصر وتركيا وإسبانيا إلى ْ‬
‫قدر ال ّطاقة من المذاهب الدين ّية‬
‫بالواليات المتحدة األمريكية حيث انتهى؛ مستفيدً ا َ‬
‫أهم‬
‫جديرا باالهتمام‪ ،‬فمن ّ‬
‫ً‬ ‫والروح ّية حول العالم‪ .‬ترك شوان ‪ Schuon‬إر ًثا روح ًّيا‬
‫مؤ َّلفاتِه التي ال َق ْت نو ًعا من القبول في القرن الماضي‪( :‬عين القلب ‪The Eye of the‬‬

‫‪1 The Question of Theodicies, Frithjof Schuon, Studies in Comparative Religion,‬‬


‫‪Vol. 8, No. 1 (Winter, 1974).‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫(صدَ ى الحكمة الخالدة ‪Echoes‬‬ ‫‪ُ ( ،)Heart‬لعبة األقنعة ‪َ ،)The Play of Masks‬‬
‫(الوحدة‬‫‪( ،)of Perennial Wisdom‬مقامات الحكمة ‪َ ،)Stations of wisdom‬‬
‫َج ِّلي اإلنسان‬‫المتعالية لألديان ‪( ،)The transcendent unity of religions‬ت َ‬
‫‪( ،)The Transfiguration of Man‬كنوز البوذ ّية ‪،)Treasures of Buddhism‬‬
‫ِ‬
‫الميتافيزيقية العرفان ّية‬ ‫عرض في كتاباتِه‬
‫(فهم اإلسالم ‪َ .2)Understanding Islam‬‬
‫(الحق) لما وراء الوجود‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والوجود المطلق‬ ‫كالوحدة االرتقائ َّية لألديان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أفكارا َ‬
‫ً‬
‫والدِّ ين الخالد وحكمته الخالدة‪ ،‬والطريق الروحي القائم على التمييز بين الحق‬
‫ت بالمريم َّية ‪Tarīqa‬‬
‫والوهم‪ ...‬وغير ذلك‪ ،‬كما قام على تأسيس طريقة صوف ّية ُس ِّم َي ْ‬
‫‪ Maryamiyya‬لها نشاط كبير في الواليات المتحدة األمريكية حتى هذا اليوم‪ .‬وافتْه‬
‫‪3‬‬
‫المن َّي ُة وهو في الواليات المتحدة عام ‪ 1998‬من الميالد‪.‬‬
‫[و َي ْف َع ُل ال َّل ُه َما َي َشا ُء] (‪ !)27 :14‬يتساهل كثيرون في استحضار هذا َ‬
‫الج ْزم‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫القول باستبداد اإلرادة اإلله ّية إلى حدٍّ كبير؛ في حين أنه ال يعني َّإل‬ ‫القرآني لتأكيد‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جهل اإلنسان العا ّم بدوافع تلك المشيئة‪ ،‬وال س ّيما ما يتع ّلق منها بتناقضات العا َلم‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫إظهارها‪ .‬يرى الالهوت ّيون ال ّل َه ال يريد الخطيئة باعتبارها‬ ‫المتعدِّ دة التي يقوم على‬
‫أمرا ممكنًا في العالم‪ ،‬وال شيء‬ ‫أمرا ُي َح ِّر ُمه‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬يشاؤها باعتبارها ً‬ ‫ً‬
‫الضطررنا إلى االعتراف ــ كما يبدو ــ‬ ‫يحدث ّإل وهو مراد له ومخلوق؛ وإال ُ‬
‫منع ما لم ُي ِر ْده‪ ...‬حاشاه‪ .‬تكمن أصل المشكلة هنا في هذا الخلط‬ ‫بعد ِم استطاعته َ‬
‫(اإليجادي)‪ ،‬والجوهر‬
‫ّ‬ ‫بين الوجود وما وراء الوجود‪ ،‬أو بين المبدأ األنطولوجي‬
‫ٍ‬
‫ناحية في‬ ‫تصور الالهوت ال ّل َه من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الخلط عن حقيقة ُّ‬ ‫فوق األنطولوجي‪َ .4‬ينتج هذا‬

‫‪ 2‬تَرجم هذا الكتاب إلى العرب ّية‪ :‬عفيف دمشق ّية‪ ،‬وصدرت عن درا اآلداب ــ بيروت‪ ،‬عام ‪1978‬‬
‫ميالد َّية تحت عنوان‪( :‬كيف نفهم اإلسالم؟)‪.‬‬
‫‪ 3‬لمزيد مطالعة عن حياة فريتيوف شوان ‪ Frithjof Schuon‬وفلسفته؛ ُينْ َظ ُر‪ :‬فريتيوف شوان‪ :‬حياته‬
‫وتعاليمه ‪ Baptiste Aymard and Patrick‬ــ ‪Frithjof Schuon: Life and Teachings, Jean‬‬
‫‪ xii.‬ــ ‪Laude, STATE UNIVERSITY OF NEW YORK PRESS 2004, ix‬‬
‫‪ 4‬إن الوجود عبارة عن ُه َّوة ال قاع لها ‪( The Ungrund‬أرض ال أرض َّية لها) كما ُي َع ّبر بوهمه‬
‫الم َج َّرد عن الصفات)‬ ‫ِ‬
‫‪ ،Böhme‬أو هو براهمان نرجونا ‪( Brahma nirguna‬براهمان األعلى؛ ُ‬
‫َخدَ م في أصله مردا ًفا لجزء من‬ ‫الذي يقول به أصحاب فِيدانتا ‪( Vedanta‬مصطلح كان ُي ْست ْ‬
‫نصوص فيدا ‪( Vedas‬الكتاب المقدس لدى الهندوس)؛ الجزء األخير من هذه الكتابات‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪6‬‬
‫منحه طبيعتَه اإلله َّية‬ ‫ٍ‬
‫صورة جسم َّية كما لوكان ذاتًا إنسان َّية‪ ،‬ومن ناحية أخرى يبتغي َ‬
‫الذكر‪.‬‬ ‫الم ْست ََح َّق َة كامل ًة حتى وإن لم تتوافق ووجهة النظر سالفة ِّ‬ ‫ُ‬
‫ينزع في أصله إلى‬ ‫أن الخ ِّي َر ِ‬ ‫اعتما ًدا على صياغة أوغسطينوس للمشكلة؛ ِمن َّ‬
‫فإن إراد َة الجوهر باعتبار النهائ َّية طالقته؛ تعني إشعا َعه‬ ‫االتِّصال بذاته مع ذاته‪َّ ،‬‬
‫أن يكون‬ ‫تكشف العا َلم إذن ْ‬ ‫الخاص الذي ينتج عنه العا َلم في ُك ِّل َيتِه بالضرورة‪ .‬يعني ُّ‬ ‫ّ‬
‫إظهار اإلرادة ْ‬
‫أن يشا َء اإلل ُه‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة يعني فيها‬ ‫البعد عن مصدره؛‬ ‫ِ‬ ‫ُمت ََض َّمنًا في مسألة‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َوج ٍه مباشر؛ خو ًفا من‬ ‫ِ‬
‫المخاطرة‬ ‫جزا ًء ت ََرتُّبِ ًّيا؛ وهو ما ِّ‬
‫يسميه أحدُ نا َش ًّرا ضمنًا ودون ت ُّ‬
‫وبالرغم من ذلك‪،‬‬ ‫الجزاءات بنفسها في العالم‪ّ .‬‬‫ُ‬ ‫بعدم إرادة اإلشعاع‪ ،‬أو أن تستعلن‬
‫ُحرم الخطايا ــ‬ ‫األخالقي ــ ومن أجل ذلك ت ِّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فإن اإلرادة اإلله ّية التي تشا ُء الخير‬
‫نفسها تلك اإلرادة التي تشاء العا َلم‪ ،‬إذ إرادة ما وراء الوجود‪ ،‬أو الجوهر‬ ‫ليست َ‬
‫كانت ُم ِمدَّ ًة لما‬
‫ْ‬ ‫تشاء العا َلم في نفسه‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن إرادة الوجود ــ أكثر نسب ًّي ًة ْ‬
‫وإن‬
‫وراءها من وجود ــ تستلزم العا َل َم و ُت ْع ِل ُن عن نفسها في إطاره فحسب‪ .‬وبتعبير آخر؛‬
‫الخير في صورة إشعاع‪ ،‬أو ظهور‪ ،‬أو َعا َل ٍم ما‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫يشتهي ما وراء الوجود‬
‫اإللهي‪ ،‬فمن‬
‫ّ‬ ‫الخير مشاركًا األشيا َء في الخير‬
‫ُ‬ ‫نفسه ال يرغب ّإل أن يكون‬ ‫الوجو َد َ‬
‫أن متابعة‬‫ظاهرا به‪ ،‬في حين ّ‬
‫ً‬ ‫الخير األسمى‬
‫ُ‬ ‫الناحية األولى؛ يظهر العا َل ُم ً‬
‫خيرا ما دا َم‬
‫خيرا في ذاتها إال إذا‬‫طبيعي ــ ال تكون ً‬‫ّ‬ ‫أي ناموس‪ ،‬أو صواب‬ ‫الشرائع اإلله ّية ــ أو ّ‬
‫ِ‬
‫الحالة‬ ‫أتاحت لنا المشارك َة الفعل ّية في هذا الخير األسمى‪ .‬تتأكَّد اإلرادة اإلله َّية في‬
‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫المايا ‪( Mâyâ‬لها عدّ ة‬
‫معان في الفلسفة‬ ‫األولى عن طريق اإلشعاع األنطولوجي أو َ‬
‫السحر)‪ ،‬أ ّما في الحالة الثانية‪ ،‬فإنها تتأكّد عن طريق الناموس‪،‬‬
‫الهند ّية؛ منها الوهم أو ِّ‬
‫أنفسنا قائلين بحضور شخص َّيتَين إله َّيتَين؛ تتع َّلق‬
‫أو الشريعة‪ ،‬أو الوحي؛ وبذلك نجد َ‬
‫األولى منهما بالطالقة‪ ،‬وتتحدَّ د األخرى بالنسب ّية‪ ،‬وعلى الرغم من تطابقهما باطن ًّيا‬
‫ظهورا‬
‫ً‬ ‫متمايز ْي ِن‪ ،‬ولهذا يظهر الممكن بهما‬
‫َ‬ ‫أنهما َّ‬
‫يتكشفان بذاتهما في طريقين‬ ‫إال َّ‬

‫وتمظه ِرها فهي ما‬


‫ُ‬ ‫المعروفة باسم األوبانيشاد ‪ ،)Upanishads‬أما عمل ّية إبراز الموجودات‬
‫الم َق َّيد بالصفات)‪ .‬يمكن تطبيق هذا‬
‫ساجنا ‪( Saguna brahman‬براهمان ُ‬ ‫ت َُس َّمى براهمان ُ‬
‫التمييز المدرسي بين ــ المطلق الالمتناهي ‪ ،Infinitum absolutum‬وما بعد المطلق الالمتناهي‬
‫لي حيث يتآلف هذا المبدأ‬ ‫األو ّ‬
‫‪ Infinitum secundum quid‬ــ على هذا الفرق الميتافيزيقي َّ‬
‫ٍ‬
‫بوجه من وجوهه والمصطلح اآلخر البديل عنه‪.‬‬ ‫المبدع‬
‫ُ‬
‫‪7‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫ب من السبب‬‫ّعج ِ‬ ‫َ‬
‫مجال مطل ًقا للت ُّ‬ ‫متضا ًّدا‪ .‬إنه وبظهور المسألة على هذا النحو‪ ،‬فال‬
‫ِ‬
‫للتساؤل‬ ‫الذي من ورائه يريد ال ّل ُه هذا الخير أو ذاك‪ ،‬وبصورة أحرى؛ ال مجال ً‬
‫أيضا‬
‫عن إرادته الخطيئ َة في هذا العا َلم مع تحريمه إ َّياها‪.‬‬
‫وصف العالم بالخير َّية إذا ما اعتُبِ َر ك ًُّل واحدً ا‪ ،‬وبقدر ما ُي ْظ ِه ُر ال ّل َه فيه! إن العا َلم‬ ‫ُي َ‬
‫يتضمن جز ًء ُم َعانِدً ا له في بعض جوانبه!‬ ‫َّ‬ ‫مظاهر اإلله إال أنه‬‫ِ‬ ‫وإن كان َم ْظ َه ًرا من‬
‫ْ‬
‫يأخذ هذا الجز ُء وجو َده في االعتبار‪ ،‬وما دام كونُه ليس منعد ًما‪ ،‬فهو يحاول منازع َة‬
‫نفسه‪ ،‬أو النّزوع إلى التَّساوي به! والستحالة هذا األمر‪ّ ،‬‬
‫فإن الظواهر‬ ‫الوجود اإللهي ِ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫ف باألفول وانعدام البقاء‪ ،‬فهي باطل يتهادى‬ ‫جميعها ــ من ضمنها العا َلم نفسه ــ تت َِّص ُ‬
‫يتقارب سهم ُمنْ َط ِلق نحو‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بحال إال كما‬ ‫دائما‪ ،‬وال يمكنها ُم َق َار َبة األلوه ّية‬ ‫ويتهاوى ً‬
‫الشمس يريد النَّ ْي َل منها‪.‬‬
‫َّ‬
‫***‬
‫ٍ‬
‫بحال من‬ ‫أي نظرية للعدالة اإلله َّية‬
‫يرى إبيقور وأتباعه عد َم إمكان القول بصواب ّية ّ‬
‫ٍ‬
‫ألسباب َأ ْو َر ُدوها‪ ،‬إذ يقولون إن ال ّله‪:‬‬ ‫األحوال‬
‫قادرا على َم ْح ِو الشر‪ ،‬لكنه ال يستطيع‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يكون‬
‫‪1‬ـ ‪1‬إ َّما أن يكون ً‬
‫قادرا‪.‬‬
‫ً‬
‫وإن‬ ‫قادرا على ِ‬
‫محوه‪ ،‬لكنّه ال يريد ذلك‪ ،‬وبهذا ال يكون خ ِّي ًرا ْ‬ ‫‪2‬ـ ‪2‬وإما أن يكون ً‬
‫قادرا‪.‬‬
‫كان ً‬
‫محوه أو ال يقدر عليه‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يمكن اتِّصافه بالقدرة‬
‫‪3‬ـ ‪3‬وإما أنه ال يريد َ‬
‫المطلقة أو الخير ّية‪.‬‬
‫قادرا ومريدً ا لمحوه‪ ،‬لكن في هذه الحالة ينبغي للشر ّأل يوجد‪،‬‬
‫‪4‬ـ ‪4‬وإما أن يكون ً‬
‫لكنه ال يزال موجو ًدا في العالم!‬
‫ٍ‬
‫أفكار كـ«الشر»‪ ،‬و«اإلرادة»‪ ،‬و«القدرة»‬ ‫اإلبيقوري في حديثه عن‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫يعتمد‬
‫على الغموض! بادئ ذي بدء علينا القول َّ‬
‫بأن صفتي اإلرادة والقدرة ــ باعتبارهما‬
‫أن ال ّله ال يمكنه‬
‫تأصلتان باط َن الطبيعة اإلله َّية؛ ما يعني َّ‬
‫ُمطلقتَين غير متناهيتَين ــ ُم ِّ‬
‫أي شيء‬
‫بحال ــ تحت وطأة قانون التناقض ــ أن يفعل ما ُيناقض طبيعتَه‪ ،‬أو أن يريد َّ‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪8‬‬
‫ٍ‬
‫بمكان‬ ‫ف‬ ‫يناقضها‪ ،‬وإال كان األمر عب ًثا برمتِه‪ .‬يستحيل األمر‪ ،‬ألنه سيكون من الس ْخ ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ‬
‫إلها‪ ،‬أو أن يكون مطل ًقا متناه ًيا‪ ،‬أو ّأل‬
‫أن تكون ل ّله قدر ٌة أن يكون شي ًئا آخر غير كونه ً‬
‫يكون على اإلطالق! إن قدرة ال ّله ال تتع َّلق بما يقع خارج نطاق قانون العا َلم‪ ،‬فهو‬
‫ُلي القدرة إذا ما تع َّلق األمر بالعا َلم‪ ،‬وما فيه من مخلوقات أو تمظهرات لوجوده‬‫ك ُّ‬
‫اإللهي نفسه‪ ،‬فهو‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‪ .‬تصير القدر ُة المطلقة عاجز ًة إذا ما ُس ِّل َط ْت على الوجود‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫صاحبها و ُم ْصد ُرها وليس العكس‪.‬‬
‫إن الطالق َة التي هي جانب من جوانب الطبيعة اإلله َّية تنطوي على إمكان غير‬ ‫َّ‬
‫الحديث عن العا َلم‬
‫َ‬ ‫والتكشف‪ ،‬وعلى العا َلم تب ًعا لذلك‪ّ .‬‬
‫إن‬ ‫ُّ‬ ‫محدود‪ ،‬وعلى النسبية‪،‬‬
‫الشر‬
‫حديث عن االنفصال عن المبدأ‪ ،‬والحديث عن االنفصال حديث عن إمكان ّ‬ ‫ٌ‬
‫شرا؛ يظهر ــ من هذه الزاوية ــ كنتيجة غير مباشرة‬‫إن ما نسميه ًّ‬ ‫ووجوبه في العا َلم‪ّ .‬‬
‫شك‪ .‬ال يمكن ل ّله ــ بخصوص هذا األمر ــ أن يكون‬ ‫ِ‬
‫والطبيعة اإللهية بال ّ‬ ‫للطالقة‪،‬‬
‫شرا فيما يتع ّلق بهذا األمر ــ بهذا األمر‬
‫الشر عن كونه ًّ‬
‫راغ ًبا في قمعها‪ ،‬وإال ينتهي ُّ‬
‫صورة غير مباشرة لجانب يكتنفه‬ ‫ٍ‬ ‫ظهورا ينأى بنفسه في‬ ‫فحسب ــ ؛ كونه ليس ّإل‬
‫ً‬
‫الغموض من الطبيعة اإلله ّية‪ ،‬وبالتحديد ما يتع َّلق بطالقته وإمكاناته جميعها‪.‬‬
‫ُ‬
‫إن الالنهائ َّية ينتج عنها اإلمكان‪ ،‬كما ينتج عن اإلمكان نسب ّي ٌة‬‫أيضا ّ‬ ‫ٍ‬
‫لقائل ْ‬
‫أن يقول ً‬
‫تحتاج الصف ُة أنطولوج ًّيا إلى أن‬
‫ُ‬ ‫تتضمن داخلها معنى ما يمكن تسميتُه مبد َأ التَّبا ُين‪.‬‬
‫َّ‬
‫تتباي َن بالقدر الذي تظهر فيه نسب َّي ًة‪ ،‬وال يكون تبا ُينُها جوهر ًّيا‪ ،‬لكن بصورة َع َر ِّض َّية؛‬
‫أن صف ًة‬ ‫شك َّ‬ ‫الخاص‪ ،‬وال سيما حدوثها في هذا العا َلم‪ .‬وال َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫أخذا في االعتبار نمطها‬
‫أن تتط َّلب أو تؤ َّدي إلى مقابلة حصر ّية لل ّظهور بجميع درجاته‬‫نسب َّية أو حادثة ال ُبدّ ْ‬
‫وشره‪ ،‬وخطيئتُه‪.‬‬
‫الخاص في درجته‪ُّ ،‬‬‫ّ‬ ‫الوجود ّية الممكنة؛ ما ينتج عن ذلك َخ َل ُل ُه‬
‫ِّسبي ليس َّإل مقارب ًة واحدة‬
‫انتقال بالمستحيل إلى ح ِّيز اإلمكان‪ ،‬فالخير الن ّ‬ ‫ً‬ ‫ُي َم ِّث ُل ُّ‬
‫الشر‬
‫من المقاربات الممكنة للمستحيل‪ ،‬ف َيت ََأتَّى عن طريق هذا اإلمكان واالستحالة في‬
‫َح ُّق َق لالستحالة في الخارج إال عن طريق اإلمكان فحسب‬ ‫ِ‬
‫مزيجهما ال َّتنَا ُقض ّي ــ ال ت َ‬
‫الحدوث أو النسب َّية‪ .‬لقد كان في إمكاني اختزال ما هو ُم َع َّقد وجريء‪ ،‬لكن يصعب‬ ‫ُ‬ ‫ــ‬
‫ذلك ما دمنا وصلنا إلى هذه المرحلة من البحث‪.‬‬
‫َخ ُلص من عدم قدرة ال ّله على إزالة ّ‬
‫الشر وهو في طور اإلمكان إلى القول‬ ‫إنّنا ن ْ‬
‫‪9‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫إن ما ال‬‫شرا‪ّ .‬‬


‫دورا في طبيعته اإلله ّية‪ ،‬وينتهي عن كونه ًّ‬ ‫ّ‬
‫بأن الشر بهذا المعنى ُي َؤ ِّدي ً‬
‫يقدر ال ّله عليه لوقوعه تحت وطأة التناقض أو العبث؛ ال يقدر على تصريفه في العا َلم‬
‫الشر‬
‫فإن اإلرادة اإلله ّية تعمل على منافحة ّ‬ ‫أي ظرف‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ّ ،‬‬ ‫أبدً ا تحت ِّ‬
‫الم َف َّع َمة بالخير والكمال‪ ،‬وفي هذه الحالة ــ‬ ‫بالمقدار الذي يناقض به الطبيعة اإلله ّية ُ‬
‫بصورة جوهر َّي ٍة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫شرا‬
‫الشر ًّ‬
‫في هذه الحالة وحدها ــ من المنافحة اإللهية للشر يكون ُ‬
‫كل ٍ‬‫يناهض ال ّل ُه الشر مناهض ًة تا َّم ًة‪ ،‬وعلى ِّ‬
‫َّصر نهاي ًة‪ ،‬وليس ُّ‬
‫الشر‬ ‫الخير الن َ‬
‫ُ‬ ‫حال‪ ،‬يح ِّق ُق‬
‫بمكانة تسمح لنا‬ ‫ٍ‬ ‫قطعة صغيرة أو حالة انتقال َّية‪ ،‬سواء كنا‬‫ٍ‬ ‫أكثر من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أفضل أحواله ــ َ‬ ‫ــ في‬
‫تتأس َس في‬ ‫ِ‬ ‫أي ثيوديسيا تُريد أن تلقى مكانَها من ِ‬
‫الجدَّ ة؛ يجب ْ‬ ‫رؤية ذلك أم ال‪ّ .‬‬
‫أن َّ‬ ‫إن ّ‬
‫أصولها األولى على ما يلي‪:‬‬
‫أول‪َّ :‬أل تتع َّلق القدر ُة اإلله ّية المطلقة بالطبيعة اإلله َّية نفسها‪ ،‬فال تكون َم َح ًّل لها‬
‫ً‬
‫حال من األحوال‪.‬‬ ‫بأي ٍ‬

‫أن تأتلف اإلراد ُة اإللهية والقدر ُة المطلقة م ًعا؛ ما يستتبع انعدا َم قدرتها على‬‫ثان ًيا‪ْ :‬‬
‫ِ‬
‫مصدر َم َلكَاتها ووظائفها في العالم‪.‬‬ ‫معارضة الطبيعة اإللهية؛‬
‫ٍ‬ ‫شرا إال بالقدر الذي ُين ِ‬
‫بصورة مباشرة‪،‬‬ ‫َاوئ فيه الطبيع َة اإلله َّية‬ ‫ثال ًثا‪ :‬ألَّ ُي َعد ُّ‬
‫الشر ًّ‬
‫ُ‬
‫االنفصال أو‬ ‫وليس بالقدر الذي يصدر فيه عنها بصورة غير مباشرة كوسيلة يتأتَّى بها‬
‫بالضرورة‪.‬‬ ‫اإللهي الكامل‪ ،‬ومن َث َّم عن الالنهائ َّية ذاتها ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصادران عن اإلمكان‬ ‫التنو ُع ّ‬
‫ّ‬
‫حسبوا مصلحتَهم تكمن في عدم اإليمان ٍ‬
‫بإله‬ ‫بحماس من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫استدالل إبيقور‬ ‫لم يتب َّن‬
‫اإليحائي‬ ‫لحالة من التنويم‬‫ٍ‬ ‫أيضا أولئك الذين أس َل ُموا قيا َد أنفسهم‬ ‫تحمس له ً‬
‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬لكن َّ‬
‫الميتاقيزيقي ــ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫بـ«الواقعي»‪ ،‬و«الملموس»‪ .‬يرى‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫باعتبارهم ما ُي َس َّمى في العا َلم‬
‫مما يمكن‬ ‫ٍ‬
‫ودالالت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫من وجهة نظره ــ العا َل َم المنظور محتو ًيا على‬
‫أقل بكثير ّ‬ ‫إفصاحات‬
‫استدالل إبيقور ً‬
‫مثال تُراث ًّيا لما‬ ‫ُ‬ ‫إدراكُه اعتما ًدا على العا َلم المحجوب المتعالي‪ُ .‬ي َعدُّ‬
‫اعتبار للمعلومات‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن تسميتُه عمل َّية منطق َّية تعمل بصورة ال تشوبها شائبة‪ ،‬لكن دون‬
‫الشر‪ ،‬لكنهم يعجزون عن إدراك أنّه ــ بحكم‬ ‫التي يتط َّلبها محتواها! إنهم يتحدثون عن ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬إذ‬ ‫جهة واحدة فحسب‪ ،‬وليس كذلك من‬ ‫شرا من‬‫تعريفه ــ ليس َّإل ًّ‬
‫وقت‬‫وأن الشر لم يكن جوهرا في ٍ‬ ‫وجود الشر المطلق‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّضحت لنا بداي ًة حقيق ُة انعدام‬‫ْ‬ ‫ات‬
‫ً‬
‫أن ال ّل َه لكونه مطل ًقا‪،‬‬ ‫عجز عن فه ِم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫من األوقات‪ .‬إنّهم يتحدثون عن ال ّله‪ ،‬لكنهم في‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪10‬‬
‫ِ‬
‫باعتبار‬ ‫بالضرورة عناصر ُتن ِ‬
‫َاقضه‬ ‫َ‬ ‫تتضمن ّ‬‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ظهور‬ ‫فإنه ُي ْض ِم ُر في طبيعته اإلله َّية إراد َة‬
‫الغامر‪ .‬إنهم يتحدَّ ثون عن القدرة اإللهية‪ ،‬واإلرادة اإللهية‪ ،‬لكنهم يعجزون‬‫ِ‬ ‫التناهيه‬
‫أن الطبيع َة اإلله َّية هي الفاعلة‪ ،‬فال يمكن بحال أن تكون منفعل ًة بشيء؛ ما‬ ‫ِ‬
‫إدراك َّ‬ ‫عن‬
‫الص َفتين (القدرة‪ ،‬واإلرادة)‪ .‬وعلى الرغم من كونهما ُم ْط َل َق َت ْي ِن‬ ‫يمكن معه اعتبار هاتين ِّ‬
‫باعتبار الحدوث في العا َلم وال يتعدَّ ِ‬
‫يان‬ ‫ِ‬ ‫باعتبار الالمحدودي ِة اإللهية‪ ،‬إال أنَّهما م َقيدت ِ‬
‫َان‬ ‫ِ‬
‫ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ذروتَهما‪ ،‬إذ تحدُّ هما الطالق ُة اإلله ّية‪ ،‬فال إرادة وال قوة تعلو فوقها أبدً ا‪.‬‬
‫بأن كان ل ّله مطلق الحرية في خلق العا َلم‪ ،‬لكن ال يقول‬ ‫الهوتي ال محال َة ْ‬
‫ّ‬ ‫ُي َس ِّلم ُّ‬
‫كل‬
‫إلها‪ ،‬أو َّأل يكون على اإلطالق!‬ ‫حر في َّأل يتَّصف بالحر ّية‪ ،‬أو َّأل يكون ً‬ ‫أحدٌ بأنّه ّ‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫وتهور تتع َّلق ُبر َّمتِها‬
‫ومن َث َّم‪ ،‬فإن مشكلة الثيوديسيا التي عالجها إبيقور بصرامة ُّ‬
‫بمسألة الطبيعة اإلله ّية التي يمكن وص ُفها بلغة جوهر َّية خصائص َّية بال َّطالقة والالتناهي‪.‬‬
‫***‬
‫الشر ُمالز ًما ضرور ًّيا للخير‪ ،‬وعلى مثل هذا النّحو ينحو اليبنتز‬
‫َّ‬ ‫ترى الرواق ّي ُة‬
‫كامل في صورته الكل ّية ْ‬
‫وإن كانت عناصره تعاني من النّقص‪.‬‬ ‫‪ ،Leibniz‬فيرى العا َلم ً‬
‫‪5‬‬
‫األخالقي في العا َلم ألنه ال يمكن أن تكون للعا َلم فضيل ٌة دونه‪.‬‬‫ّ‬ ‫أجاز ال ّل ُه َّ‬
‫الشر‬ ‫لقد َ‬
‫الشر ُمن َْح ِص ًرا‬
‫الدور الذي يؤ ّديه ُّ‬
‫َ‬ ‫يشيع هذا الرأي في حقيقته بين الالهوت ّيين‪ ،‬إذ يرون‬
‫ِ‬
‫وجها غير‬‫ً‬ ‫تعاونه مع الخير المخلوق‪ ،‬ومن َث َّم ال يكون ُّ‬
‫الشر شي ًئا أكثر من كونه‬ ‫في ُ‬
‫الحجة على مبدأ التّبا ُين الذي أشرنا إليه سال ًفا؛‬
‫ّ‬ ‫مباشر من وجوه الخير‪ .‬تعتمد هذه‬
‫ٍ‬
‫درجة‬ ‫ب وجو ُد الخير وجو َد عنصر آخر ُيغايره في‬ ‫وال يتح َّقق هذا المبدأ ّإل إذا تط َّل َ‬
‫داخلي‬
‫ّ‬ ‫يصير التّح ُق ُق بها نسب ًّيا؛ ما يجعل المسألة هنا في أصلها تتع ّلق بالكالم عن قانون‬
‫للنسب ّية‪.‬‬
‫الكون بأسره‪ ،‬إذ يقوم ُّ‬
‫كل ما هو‬ ‫ُ‬ ‫يرى أفالطون «الما َّدة» مبد ًأ ينهار عند قدميه‬
‫َّخ ُّثر العا ّم‪ُ .‬ت َع ِّبر المسيحي ُة عن ما َّدة أفالطون‬
‫مركزي تؤ ِّدي إلى الت َ‬ ‫قوة ٍ‬
‫طرد‬ ‫ِحسي بدور ِ‬
‫ٍّ‬ ‫ِّ ّ‬

‫تصور‬
‫‪ 5‬بالنّسبة إلى «أفضل العوالم الممكنة» الذي يقول به اليبنتز ‪ ،Leibniz‬فإنّه ال يمكن في الحقيقة ّ‬
‫ِ‬
‫باعتبار ُك ّل َيته‪،‬‬ ‫إن العا َلم ُ‬
‫الم َعاش هو األفضل‬ ‫مبدأ األفضل ّية هذا ما دام يتالشى في طالقة الالنهائ ّية‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫وحقيقة وجوده ذاته‪ ،‬وبهذا االعتبار ليس إال؛ ما يعني أن مثل هذا التقدير منعد ًما عن المعنى‪ ،‬ألنه‬
‫يقفز على المسألة ً‬
‫قول بخير ّية الوجود كنتيجة بده ّية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫الش ِ‬
‫الشر ك َّله في ِّ‬
‫رك‪،‬‬ ‫بـ«الجسد» مصحو ًبا بال ّلذة‪ ،‬في حين يرى اإلسال ُم واليهودية كذلك َّ‬
‫‪6‬‬

‫وعبادة األصنام‪ ،‬والعصيان‪ ،‬انتها ًء بأي ثنائ َّي ٍة مع ال ّله؛ ال نرى في أصولها األنطولوج ّية‬
‫األمر ذاتُه على «ما َّدة» أفالطون‪ ،‬و«جسد»‬
‫ُ‬ ‫نسميه خطيئ ًة‪ .‬ينطبق‬ ‫ٍ‬
‫تقدير ــ ما ِّ‬ ‫ــ على ِّ‬
‫أقل‬
‫الخاص؛ الجسم ّية وال ّت ْطويب‬
‫ّ‬ ‫أصل ْي ِه َما‬
‫آثارهما النتهينا إلى ْ‬
‫المسيح ِّيين‪ ،‬إذ لو تابعنا َ‬
‫(نسبة إلى كلمة «طوبى» التي كان المسيح يبدأ بها عباراته في «عظة الجبل»)‪.‬‬
‫أخيرا؛‬ ‫ً‬ ‫الشر‬
‫ِّ‬ ‫مصدرا لما نطلق عليه ُم َس َّمى‬
‫ً‬ ‫المطلق‬
‫َ‬ ‫يرى أفلوطين الموجو َد‬
‫اد َر عن المطلق والذي يتخ َّلق عنه العا َلم عبارة عن خليط‬ ‫أن الموجود الص ِ‬
‫بمعنى َّ‬
‫َ َّ‬
‫ِ‬
‫العارم‪ ،‬أو هذا الصدور؛ وبالتَّالي يصير ُمه َّي ًأ‬ ‫من اإلمكان يتس َّبب في هذا الفيض‬
‫الهابط للعا َلم‪ .‬يصدر عن هذا الموجود‬
‫َ‬ ‫ّنوع‬
‫السقوط التي ُتك َِّون الت َ‬
‫لكل أشكال ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫الحرمان بصورة غير مباشرة‪ ،‬ليس‬ ‫المبدع ــ‬
‫اإللهي األدنى‪ ،‬أو ُ‬
‫ّ‬ ‫الصادر ــ المبدأ‬
‫َّ‬
‫األول‪ ،‬لكن على العكس من ذلك‪ ،‬إذ يتق َّيد بنفسه ويتحدَّ د‬
‫بمقدار صدور الموجود ّ‬
‫ثم يشغل جان ًبا ه ِّينًا من‬
‫بمقدار ما يصدر عن الموجود المطلق أو ما وراءه‪ ،‬ومن َّ‬
‫الواقعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العالم‬
‫األمراض الطبيع َّي ُة ِّ‬
‫بكل‬ ‫ُ‬ ‫شرا أخالق ًّيا فوق ِّ‬
‫كل شيء؛ تترتب عنه‬ ‫يتصور أوريجانوس ًّ‬
‫َّ‬
‫عوالم الطبيعة جمي ُعها مع هبوط اإلنسان وسقوطه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تهاوت‬
‫ْ‬ ‫مستوياتها على الحقيقة‪ ،‬إذ‬
‫الحرة التي ُمنِ َحها‬
‫الشر على أنه سوء استخدام اإلنسان إلرادته ّ‬ ‫مصدر ّ‬ ‫َ‬ ‫أوريجانوس‬
‫ُ‬ ‫يفهم‬
‫إن ال ّله يتمت َُّع بحر َّية اإلرادة‬ ‫ٍ‬
‫لمعترض أن يقول ّ‬ ‫قصد ّأل يشابه اإلله في ال َّث َبات والصمد َّية‪.‬‬
‫فإن أساء‬ ‫قط‪ْ ،‬‬ ‫من قبل اإلنسان وهو في طبيعته أفضل منه‪ ،‬لكنَّه لم ُي ِسئ استخدا َمها ّ‬
‫وألن ِع َّل َة الشر‬
‫ّ‬ ‫ألن طبيعته ال تتناسب وما ُأ ْعطِ َي إليه‪،‬‬‫ب‪ ،‬فذلك ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان استخدا َم ما ُوه َ‬
‫الحر َّية في ذاتها لكنّها قابل َّية الفساد بال َّطبعِ‪ .‬على ٍّ‬
‫كل‪ ،‬تتمتّع ُح َّج ُة أوريجانوس‬ ‫ليست ِّ‬
‫ِ‬
‫الخلق على‬ ‫الشر عن طريق القول بانطواء‬ ‫بنوع من الجدارة؛ كونها تتحاشى معضلة ّ‬

‫فإن المذهب األخالقي لدى أرسطوطاليس القائل بالوسط االعتباري الواقع‬ ‫‪ 6‬خال ًفا للرأي السائد هنا‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫مسؤول تما ًما عن النّزعة العلمان ّية البرجوازية‬ ‫بين رذيل َت ْي ِن‪ ،‬لم يكن دعو ًة إلى االعتدال‪ ،‬بل ولم يكن‬
‫كل‪ ،‬يجب التمييز بين هذا المذهب األخالقي والمذهب الذي يقول‬ ‫التي ربما كانت سب ًبا فيها‪ .‬على ٍّ‬
‫ِ‬
‫باعتبار إيمانها بالتَّضحية ــ في حين أنّ‬ ‫به المسيح ّيون‪ ،‬إذ ترى المسيح ّية في األخالق وسيلة روح َّية ــ‬
‫روحي ال وسيلة َع َر ِض َّية‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫أصل‬ ‫األخالقي لدى اليونان ِّيين والشرق ِّيين على حدّ سواء‬
‫ّ‬ ‫ّوازن‬
‫الت ُ‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪12‬‬
‫الممكنات بين القديم والحادث‪ ،‬أو بين‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫نقص تس َّب َب ْت فيه الضرور ُة الميتافيزيق َّية‪ .‬تتر َّد ُد‬
‫نحو تسلسله وانحداره‪.‬‬ ‫َ‬ ‫االختيار عن طريق قوة م ِ‬ ‫ِ‬
‫الكون َ‬ ‫حف َز ًة تدفع‬ ‫ّ ُ‬ ‫الحق والوهم عند‬ ‫ِّ‬
‫تنوع المخلوقات واختالفها درج ًة‬ ‫ناجما عن ّ‬
‫ً‬ ‫الشر‬
‫األكويني َّ‬
‫ّ‬ ‫يرى القدِّ يس توما‬
‫ِ‬
‫العالمي في ك ِّل َّيته ً‬
‫دورا تعويض ًيا؛ من خالله‬ ‫ّ‬ ‫فيما بينها من صفات حيث يؤ ِّدي النِّظا ُم‬
‫ّسامح مع وجود الشر ممكنًا‪ .‬تعني األمراض الجسد ّية ــ على سبيل المثال ــ‬ ‫ُ‬ ‫يصير الت‬
‫نقصا متع ِّل ًقا‬
‫األخالقي كذلك ً‬
‫ُّ‬ ‫نقصا وجود ًّيا ُم َت َع ِّل ًقا بجوهر المخلوقات‪ ،‬ويعني ُ‬
‫الشر‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫الم ْفسدة لفكرة‬ ‫بممارسات اإلنسان في العا َلم‪ .‬وحتى يتحاشى‬
‫األكويني ثنو َّي َة ماني ُ‬
‫ُّ‬
‫للشر في العا َلم‪ ،‬إذ ليس‬
‫ّ‬ ‫اإليجادي‬
‫ّ‬ ‫الخير األعلى‪ ،‬فإنه ُي َض ِّمن نظر َّيته انعدا َم السبب‬
‫من ِع َّلة مباشرة له في حقيقة أمره؛ ما يعني عدم إمكان ّية فهمه دون الخير إذ يتل َّبسه‬
‫الشر معدو ًما في ذاته وإن كان له وجود‪،‬‬
‫حار ًما إ َّياه من صفة جزئ َّية بعينها؛ وبهذا يكون ُّ‬
‫ِ‬
‫باعتبار النظر إلى ك ِّل َّية العا َلم وبسببها‪ .‬بالعودة إلى صياغة‬ ‫خيرا‬
‫وبلغة أخرى؛ يكون ً‬
‫شرا ــ‬ ‫للشر سب ًبا ــ ليس بقدر كونه ًّ‬ ‫بأن ّ‬ ‫أوغسطينوس المذكورة في البداية؛ يمكن القول ّ‬
‫ِ‬
‫ب‬ ‫العالم‪ ،‬إذ يتط َّل ُ‬
‫ُ‬ ‫َّعرف يصدر‬ ‫يتعرف بذاته‪ ،‬وبهذا الت ُّ‬ ‫وهو حاجة الخير ال َباطنَة إلى أن َّ‬
‫ِّجاه ْي ِن ُم ْخت َِل َف ْي ِن أفق ًّيا و َع ْر ِض ًّيا؛ ما‬
‫األول نو ًعا من التَّبا ُين في ات َ‬
‫فيضه عن ّ‬ ‫صدوره‪ ،‬أو ُ‬
‫ُ‬
‫شرا في عالمنا‪.‬‬
‫نسميه ًّ‬
‫الوجودي؛ وهو ما ِّ‬
‫ّ‬ ‫يستلزم عنه أنما ًطا من النَّقص‬
‫***‬
‫سواء تحدَّ ثنا عن «الما َّدة»‪ ،‬أو «الجسد»‪ ،‬أو إساءة استخدام «حر َّية اإلرادة»‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫الع َّل ِة المطلقة؛ أعني َشك ِ‬
‫ْت ‪Shakti‬‬ ‫بمسألة اإلمكان من وجهة نظر ِ‬
‫ِ‬ ‫المسألة بر َّمتِها تتع َّلق‬
‫ُ‬
‫قوة َأت َْمان ‪( Ātman‬النّفس‪ ،‬أو َّ‬
‫الذات الدَّ اخل َّية) المتطابقة مع‬ ‫(القدرة أو الطاقة)‪ ،‬أو ّ‬
‫يبشر‬‫كانت أو كون َّية‪ .‬وهو ما ِّ‬‫ْ‬ ‫ثم جميع الممارسات في العالم فرد َّي ًة‬ ‫النِّسب َّية‪ ،‬ومن َّ‬
‫ِ‬
‫بعض الهندوس المثال ِّيين ب َق ْولة «الخطيئة هي األَنَا ‪»ego‬؛ ما يرفع عنهم الحرج‬ ‫به ُ‬
‫ريحا‪ .‬بهذا‬ ‫ٍ‬
‫أي خيار ال يكون ُم ً‬ ‫الموضوعي‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬ ‫محاولة للتّمييز‬ ‫بأي‬
‫بالمناسبة من القول ِّ‬
‫اخلة‬ ‫المعنى‪ ،‬تصير األَنَا مش َّت َّق ًة عن الذات اإللهية ليس فقط مباشر ًة وإِ ْن بصورة مدَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫حيث ُيط َّل علينا‬ ‫ً‬
‫وارتحال عنها ُ‬ ‫ً‬
‫انفصال‬ ‫و ُم َماثِلة كذلك‪ ،‬لكن بطريقة غير مباشرة ً‬
‫أيضا؛‬
‫وظهورا‪ ،‬وحيث ُت ْف ِص ُح عن نفسها ما يمكن تسميتُه لوسيفر ّية‬ ‫ً‬ ‫تكش ًفا‬
‫الشر‪/‬الخطيئة ُّ‬ ‫ُّ‬
‫أن األنا‪ ،‬والما ّدة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أردت‪ .‬وعلى الرغم من اعتبارنا هذا الجانب ّإل ّ‬ ‫َ‬ ‫إن‬‫‪ْ Luciferianism‬‬
‫‪13‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫الروحي فعل ًّيا ووجود ًّيا‪،‬‬


‫ّ‬ ‫َّظر إلى نقائها‬ ‫ِ‬
‫باعتبار الن ِ‬ ‫والجسد‪ ،‬والتّطويب؛ ك ٌُّل بريء تما ًما‬
‫أن القداس َة ال تنفي عنها مثل هذه العناصر َّ‬
‫بالضرورة‪.‬‬ ‫نت حقيق ُة َّ‬
‫إذ تب َّي ْ‬
‫بمثابة الخير األعلى‪ ،‬فلماذا يتساءل فالسفة‬ ‫ِ‬ ‫اإلنسان مصنو ًعا على ِ‬
‫عين مبدأ‬ ‫ُ‬ ‫ما دام‬
‫َ‬
‫اإلنسان‬ ‫كثيرون عن سبب صدور الشر؟! وحتى نكون أكثر تحديدً ا‪ ،‬يمك ُن القول ّ‬
‫إن‬
‫مصنوع على ِ‬
‫عين هذا المبدأ ال غير‪ ،‬فهو ليس المبد َأ نفسه‪ ،‬إذ المبدأ خير محض بنفسه‬ ‫ٌ‬
‫محضا‪ ،‬وليس له كذلك أن يكون‬ ‫ً‬ ‫خيرا‬
‫دون غيره‪ ،‬لذا فال يمكن لإلنسان أن يكون ً‬
‫يتكشف به المبد ُأ األعلى‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬
‫بمقدار ما َّ‬ ‫مقهورا للخير وحده‪ ،‬إذ هو موصوف بالخير‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫مظاهر آدم‪ ،‬كما‬ ‫إن حواء َم ْظ َهر من‬
‫يوصف به بالمقدار الذي ينفصل به ويرتحل عنه‪ّ .‬‬
‫الشر في‬
‫إن الدور الذي يؤ ِّديه ُّ‬ ‫الهبوط الذي تس َّب َب ْت فيه حوا ُء كذلك! وبتعبير آخر؛ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن‬
‫العالم هو اإلله؛ ما‬
‫ُ‬ ‫بأن ال ّله وحده هو الخير الخالص‪ ،‬وإلَّ كان‬ ‫العا َلم هو التَّذكير الدَّ ائم َّ‬
‫أن تو ًقا كهذا إلى الظهور‬ ‫الرغم من َّ‬ ‫ِ‬
‫نحوا كهذا‪ .‬إنّه على ّ‬ ‫يعني انعدام وجوده ما دمنا ننحو ً‬
‫ّكشف ُيعارض في حقيقته القول بال تناهيه‪ ،‬إال‬ ‫المذكور إلى الت ُّ‬
‫َ‬ ‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫يعتري المبدأ‬
‫الخير إلى ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫أنه ينزع إلى إظهار نفسه في صور متعدِّ دة ال ينضب معينُها‪ ،‬كما يشتاق‬
‫إن القول بضرورة كمال‬ ‫الخاصة‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫ُي َع ِّرف بنفسه في أغياره؛ في أشياء أخرى تُباين ذاتَه‬
‫ضروب المعاناة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫انتهت عن اإلنسان‬ ‫ْ‬ ‫العا َلم ُي َعدُّ نو ًعا من السذاجة فوق ما ُذ ِكر! إذا‬
‫منغمسا في‬ ‫األخالقي‬ ‫وصار سلوكه‬ ‫إنسان القرون المظلمة‪،‬‬‫ِ‬ ‫جرائم‬ ‫ولم َي ُعد يرتكب‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل البعد عن تمثيل الخير الخالص‪ ،‬وسيغدو مسلكُه في‬ ‫الصواب َّية‪ ،‬فإنه سيظل بعيدً ا ّ‬
‫األرضي؛ ما يعني ابتعاد هذا المسلك‬
‫ّ‬ ‫مستوى يناسب انحطا َطه‬
‫ً‬ ‫الشر والخير في‬
‫َح ِّري ّ‬
‫ت َ‬
‫ابتعا ًدا حقيق ًّيا عن مصلحة اإلنسان المطلقة‪.‬‬
‫الشر نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أكثر الثيوديس َّيات فيما يبدو عن نقطة ها َّمة؛ أال وهي محدود َّية ّ‬ ‫تتغاضى ُ‬
‫وتعينه في المكان والزمان حيث يع َتبر وجوده فيهما منَتَهى ِ‬
‫بلوغه‪ ،‬وال س ّيما إذا ما اعتبرنا‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ َُ‬ ‫ُّ‬
‫الض ِّيق مقارن ًة بضخامة هذا الوجود في ُك ِّل َّيتِه‪ .‬وال يتساءل واضعو هذه المذاهب‬‫سيا َقه ّ‬
‫حضوره فحسب‪ْ ،‬‬
‫وإن‬ ‫جسيما أم ً‬
‫ذليل‪ ،‬بل ُي َس ِّجلون‬ ‫الشر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫األمر إذا ما كان ُّ‬ ‫حقيقة‬ ‫في‬
‫مناطات أقوالهم دائر ًة حول هذا المعنى‪ ،‬إذ تؤ ِّديهم مالحظ ُة الشرور إلى القول‬ ‫ُ‬ ‫َت‬
‫كان ْ‬
‫وجدُ مقياس مشترك بينهما في‬ ‫بنوع من التّنا ُظر بين الخير والشر؛ في حين أنّه ال ُي َ‬
‫دوائر الكون كاعتبارهما بالنَّظر إلى العا َلم في ُك ِّل َّيتِه‪ .‬علينا االعتراف بوقوع شيء من‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪14‬‬
‫والسام ِّيين‬
‫كل من اآلر ِّيين َّ‬ ‫المسؤول َّية على عاتق علم األخرو َّيات ‪ Eschatology‬عند ٍّ‬
‫األرضي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الواق َع ِة لإلنسان‬
‫بمالحظة الحالة ِ‬
‫ِ‬ ‫في التَّأسيس لهذا التَّنا ُظر‪ ،‬إذ كانوا مأخوذين‬
‫ِ‬
‫بالعدالة باعتبار النّسبة اإلجمال ّية لألشياء‪.‬‬ ‫لذا لم يقصدوا إلى القول‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سعى البعض إلى رؤية ثيوديس َّية تفاؤل َّية؛ ما ُي َعدُّ إساءة فه ٍم للمسألة بر َّمتها‪ ،‬إذ ّ‬
‫الشر‬
‫الحالي للمصطلح‬ ‫ّ‬ ‫أن الت َ‬
‫َّفاؤل ــ طب ًقا لمفهومنا‬ ‫معضلة موضوع َّية في جوهرها؛ في حين ّ‬
‫أي نظر ّية تفاؤل َّية للوجود‬‫أمرا موضوع ًّيا‪ .‬يكمن الخطأ هنا في تنك ُِّر ّ‬ ‫ــ أمر ذاتي وليس ً‬
‫ِ‬
‫الشر‪ ،‬لكن في‬ ‫أي نظر ّية تشاؤم َّية؛ ال في َت َل ُّمسها ُخ َطى ِّ‬ ‫الشرير في العالم‪ ،‬مثلها مثل ِّ‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫تنك ُِّرها للخير َّ‬
‫الصادق‪.‬‬
‫***‬
‫عناصره على أصعدة شتَّى؛ تتو َّلد عنها‬ ‫ُ‬ ‫بقو ٍة تؤ ِّدي به إلى أن تتفاعل‬
‫يندفع الكون ِّ‬
‫بالشر! ينتهي‬ ‫ظهورات فيض َّية متعدِّ َدة ينتج عنها تخصيص وتدمير؛ وهو ما ندعوه‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫الغنوص ّيون إلى هذه النتيجة النهائ ّية من التّشديد على القوة المبدعة ذاتها؛ ما يؤ ّدي‬
‫ٍ‬
‫بوجود‬ ‫المادي لدى أفالطون وص ًفا سلب ًّيا‪ ،‬ووصمه‬ ‫خالق الكون‬‫ِ‬ ‫بهم إلى وصف‬
‫ّ‬
‫شبه وضيع؛ يشابه ما تعزوه الزرادشت َّيه إلى أهريمان ‪( Ahriman‬إله الشر في الديانة‬ ‫ِ‬
‫الزرادشتيه‪ ،‬وهو بمثابة الشيطان في الديانات األخرى)‪ .‬إذا كانت المسيح َّية من جهتها‬
‫قو ٍة‬
‫ترى لوسيفر ‪ Lucifer‬مالكًا ساق ًطا‪ ،‬فذلك إشار ًة إلى استحالة القوة الدافعة إلى ّ‬
‫خضم ُولوجها الحال َة الروحان ّية‪ .‬وإذا كان اإلسال ُم من جهة أخرى يضع‬ ‫ّ‬ ‫ُم ْعتِ َم ٍة في‬
‫نار ال من‬‫الشيطان أو إبليس في ُز ْم َر ِة الج ّن ال المالئكة‪ ،‬ويؤ ِّكدُ على كونه مخلو ًقا من ٍ‬
‫وهدْ ٍم في ُم ْعت ََر ِك ُولوجها‬ ‫ٍ‬
‫سلب َ‬ ‫نور‪ ،‬فذلك إشار ًة هنا إلى استحالة القوة الدّ افعة إلى‬ ‫ٍ‬
‫كوني أعلى‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ماض‬ ‫توس ِل‬
‫ثمة حاجة إلى ُّ‬ ‫الماكر‪ ،‬وبذلك ال تكون َّ‬
‫َ‬ ‫الروحاني‬
‫َّ‬ ‫جوهرها‬
‫َ‬
‫عند الحديث عن {الشيطان} «رئيس هذا العا َلم» (يوحنَّا ‪.)31 :12‬‬
‫اإللهي قد ت ََأن َْسن َْت في عمل َّية اتِّصالها باإلنسان‪ ،‬فإن القوة‬
‫ّ‬ ‫ما دامت قوة الجذب‬
‫أقل من ذلك‪ ،‬إذ ال يوجد ما يمنعها من الت ََّش ْخ ُصن في عالقاتها‬ ‫ليست ّ‬
‫ْ‬ ‫الدَّ افعة المسيئة‬
‫بعالم اإلنسان ما بقينا نعرف عنها بداه ًة كونها غير شخص َّية على الحقيقة‪ّ .‬‬
‫إن ما ينجم عن‬
‫ت ََش ْخ ُصن هذه القوة المسيئة انتها ُء بعض المسلمين والمسيح ِّيين على حدٍّ سواء إلى رؤية‬
‫تصوره ُمنْدَ ِم ًجا مر ًة أخرى في الرحمة‬
‫الشيطان ُم َش َّخ ًصا في صورة شبه إنسان َّية‪ ،‬وإلى ُّ‬
‫‪15‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫يتضمن‬
‫ّ‬ ‫الرأي في صورته التَّشبيه َّية غير مقبول الدّ عوى‪ ،‬إال أنّه‬ ‫اإلله َّية‪ .‬ورغم كون هذا ّ‬
‫باعتبار الحدّ الذي تشير فيه إلى َأ ُبوكَات َْست َِاسيس ‪Apocatastasis‬‬
‫ِ‬ ‫داخله جدار ًة ميتافيزيق َّية‬
‫الشر مرة‬
‫ب ُّ‬ ‫(االستعادة الكل َّية‪ ،‬أو الرجوع إلى الحالة األصل ّية أو األول ّية) ُ‬
‫حيث ُي ْست َْو َع ُ‬
‫خالصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نورا‬
‫األصلي والمحايد؛ وتستحيل النار والظلمة ً‬
‫ّ‬ ‫أخرى في جوهره‬
‫حرا في عدم خلق عا َلم بعينه‪،‬‬ ‫تلخيصا لما سبق؛ تعني الحر ّي ُة اإلله ّي ُة أن يكون ال ّل ُه ًّ‬
‫ً‬
‫الحر َّي َة اإلله َّية المتع ِّلقة بالوجود‬
‫أن ِّ‬ ‫الخلق بإطالق؛ ما يعني ّ‬ ‫ِ‬ ‫حرا في عدم‬
‫ال أن يكون ًّ‬
‫العالم‬
‫َ‬ ‫بالص َفات} ‪ )Saguna brahman‬تسلك في‬ ‫ساجنا {براهمان ُم َق َّيدً ا ِّ‬
‫(براهمان ُ‬
‫على طريقة األنماط والصور في تَم ْظهر ٍ‬
‫ات عالم َّية‪ ،‬فال تتأ َّثر بذلك مبادئُه السرمد َّية‪.‬‬ ‫َ َُ‬
‫الشر‪ ،‬إذ الشر في ذاته جزاء‬ ‫ول ّله إرادة وقدرة على محو ٍّ‬
‫‪7‬‬
‫ذات ِّ‬ ‫يمحو َ‬
‫َ‬ ‫شر بعينه‪ ،‬ال أن‬
‫تمظهرات العا َلم النّاتجة‬
‫ُ‬ ‫ضروري مترتِّب على عمل َّية الفيض الكامل الذي تتط َّل ُبه‬‫ّ‬
‫األمر بالجوهر‪ّ ،‬‬
‫فإن سؤال‬ ‫ُ‬ ‫اإللهي‪ .‬وإذا ما تع َّلق‬
‫ّ‬ ‫أيضا عن طالقة الجوهر‬ ‫بالضرورة ً‬
‫نفسها من‬
‫الشر على وجه الخصوص‪ ،‬ال تفرض َ‬ ‫اإللهي وما يتع َّلق منها بمسألة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الت ُّ‬
‫َّكشف‬
‫لباطن المطلق‪ ،‬إذ لم يكن الحلم العالمي‪ 8‬في ٍ‬
‫حال من األحوال‬ ‫ِ‬ ‫اله َّو ِة ال َي ِق َظة‬ ‫ِ‬
‫وجهة ِ‬
‫نظر ُ‬
‫ٍ‬
‫جديد إلى الجوهر على اإلطالق‪.‬‬ ‫متع ِّل ًقا بالحادث مهما ْ‬
‫كانت صفته‪ ،‬فال يمكنه إضافة‬
‫ٍ‬
‫لمجادل أن ينافح عن كون الحادث ال شيء دون الجوهر‪ ،‬أو أنه‬ ‫وعلى الرغم من ذلك؛‬
‫ٍ‬
‫بصورة من الصور‪ ،‬أو لع ّله في أهون الحاالت يفرض سلطانه على‬ ‫يتداخل في حقيقته‬
‫الواقع؛ ويناظر فيه طبائ َعه وإمكاناتِه‪.‬‬
‫***‬
‫حجة ميتافيزيق ّية ممكنه‪ ،‬فإنها لن‬
‫غني عن البيان أنّه حتى وإن أتينا بأفضل ّ‬
‫وما هو ّ‬
‫تكون قادر ًة على إقناعنا أبدً ا ما دمنا ال نلمس آثارها في دواخلنا‪ ،‬وال نُصغي بآذاننا إلى‬
‫َ‬
‫وإشعال الجذوة الكامنة في‬ ‫ما ترمي إليه‪ ،‬إذ تبتغي إيقا َظنا من ُّ‬
‫الس َبات الذي نحياه‪،‬‬
‫أصل أرواحنا! نرى هذا اليقين يستعلن وحده بصورة فعل ّية لدى البعض‪ ،‬لكنه ُّ‬
‫يظل‬ ‫ِ‬

‫وضح المذهب الذي‬ ‫ِ‬


‫المرض ذاته؛ ما ُيدَ ِّعم و ُي ِّ‬ ‫ِ‬
‫يقض على‬ ‫‪ 7‬لقد كان المسيح يعالج المرضى‪ ،‬لكنّه لم‬
‫قدَّ منا له هنا دراسة موجزة عنه‪.‬‬
‫َ‬
‫الحلم فحسب‪ ،‬لكنه يتداخل‪ ،‬إذ ف ْي ُضه يعني اقترانَه بالجوهر‪ ،‬في حين أنه‬ ‫ُ‬ ‫‪ 8‬ولهذا السبب ال يفيض‬
‫طبيعة وهم ّي ٍة في عالقته بالجوهر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫غايرا؛ ُم َتك َِّش ًفا عن‬‫م‬
‫ً ُ ً‬‫ا‬‫ظهور‬ ‫وهو ي ِ‬
‫داخله َيظهر‬ ‫ُ‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪16‬‬
‫أي ظرف ــ‬ ‫موجو ًدا بالقوة لدى آخرين في صورة خاملة‪ .‬إنّه لمن المستحيل ــ تحت ّ‬
‫لمن يرجو َح ًّل برهان ًّيا‬ ‫أن تكون مقنع ًة في ذاتها َ‬ ‫والم َت َعالِي ْ‬
‫المرئي ُ‬
‫ّ‬ ‫ألي ُح َّج ٍة ك َِل َف ٍة بغير‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يمكن تحلي ُله و َت َت ُّبع أجزائه في صورة بيان ّية‪ ،‬ومن َث ّم إثباته رياض ًّيا أو ح ِّس ًّيا‪.‬‬
‫ِ‬
‫المطارحات الميتافيزيق ّي َة‬ ‫يخص‬ ‫التقليدي الذي يقع فيه العقالن ّيون فيما‬ ‫إن الخطأ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الميتافيزيقي يطرح مذهبه اعتما ًدا على قضايا ُمنْتِ َجة قام على خدمتها‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫افتراضهم ّ‬ ‫ُ‬
‫مجرد التّنديد بجوانب‬ ‫ما يقول به ليس إال مآل تلك ال ّطريقة في االستدالل‪ ،‬لذا يرون َّ‬
‫أن ما يقومون به‬ ‫أي نظرية ميتافيزيقية يؤ ِّدي بها إلى االنهيار الك ِّل ّي‪ ،‬في حين ّ‬ ‫الضعف في ّ‬
‫الواقعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المطارحات الميتافيزيق ّي ُة بنفسها عن االعتياد‬
‫ُ‬ ‫أمرا صع ًبا في حقيقته‪ ،‬إذ تنأى‬
‫ليس ً‬
‫أن الحجج الميتافيزيق ّية ال تؤ ِّدي إلى اليقين بذاتها في حقيقة األمر‪ ،‬لك ّن‬‫كر َرنا قبل ّ‬
‫وكما َّ‬
‫ناتجا‬ ‫آثارها تفعل ذلك‪ ،‬وبلغة أخرة؛ ّ‬
‫إن اليقين ــ مناط النّظر هنا ــ ظاهرة ذات َّية رغم كونها ً‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫تنكب تع ُّل ًقا بحقيقة مستق ّلة تمام االستقالل داخل أذهاننا‪.‬‬ ‫عن الموضوع َّية‪ ،‬ألنها‬
‫ُّ‬
‫اإللهي‬
‫َّ‬ ‫العالمي أو‬
‫ّ‬ ‫ترى الثيوديسيا ضرور َة معرفة َأ ْن للعقل قدر ُة إدراك الخير‬
‫الشر بفه ٍم أو إرادة فهم‪ .‬لع ّله في مقدور‬ ‫ِ‬
‫ّوجه إلى ّ‬ ‫يتعرف عليه قبل الت ُّ‬ ‫َبدَ ه ًّيا‪ ،‬بمعنى أنه َّ‬
‫الشر‪ ،‬إذ ُي َس ِّل ُم بادئ ذي بدء ــ‬ ‫المتصوف أن يتغاضى عن االعتقاد في ّ‬ ‫ّ‬ ‫الميتافيزيقي‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫معان‬ ‫أولي للفهم ــ بصدارة الخير الالنهائ ّية؛ متر ِّد ًدا بين‬ ‫ٍ‬
‫بصورة غير مشروطة‪ ،‬وبنمط ّ‬
‫أي‬‫إن َّ‬‫و«الروح ال َّطاهرة»‪ ،‬و«التّطويب المحض»‪ّ 9.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثالثة هي «الوجود الخالص»‪،‬‬
‫آخر لديه؛ وهو «طمأنينة القلب»؛ تماش ًيا‬ ‫نظرية للعدالة اإلله ّية إنَّما تخدم َط َر ًفا ثانو ًّيا َ‬
‫برهان ُم ْل ِز ًما يتس َّلط عليه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بحال‪ ،‬وال‬ ‫الصوفي‪ ،‬فهو غير متق ِّيد بثيوديسيا‬ ‫مع المزاج‬
‫ّ‬
‫المثالي ــ‬
‫ّ‬ ‫اإليمان إلَّ على أنّه ت ََش ُّوف لليقين‬
‫َ‬ ‫ال يستطيع القدِّ يس أنسلم أن يفهم‬
‫تشوف‬ ‫الوجودي ك ّله ال العقل وحده‪ .‬وعن طريق ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫الكيان‬ ‫المذكور قبل قليل ــ يستغرق‬
‫دائما معرفة ُمنْتَهى‬
‫اإليمان فيها بالفعل دون أن يكون في اإلمكان ً‬‫ُ‬ ‫هذه الفكرة؛ ينغمس‬
‫ٍ‬
‫بمعرفة مباشرة‪ ،‬وهذا ما ُيعطيه معنى اليقين‬ ‫هذا اإليمان وال ُم ْبتَدَ َأه‪ً ،‬‬
‫فضل عن التّح ُّقق‬
‫ِ‬
‫رحابة معانيه التّطويب الهابط على هؤالء ا ّلذين «آمنوا ولم َي َروا»‬ ‫هنا في أصله‪ ،‬فمن‬
‫النص السابق على جميع المستويات؛ بحكم طابعه‬ ‫ُ‬
‫تنزيل ّ‬ ‫(يوحنا ‪ .)29 :20‬يمكن‬

‫‪ 9‬فالحديث عن «الوجود» حديث عن «الروح» و«التّطويب» في حقيقة األمر‪ ،‬بل ُي ْستَد َعى معنى‬
‫«التّطويب» تزامنًا مع ٍ‬
‫معان أخرى كـ«الخير»‪ ،‬و«الجمال»‪ ،‬و«الرحمة»‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫ةرورضو تاَّيسيويّثلا ة ألسم‬
‫د‬ ‫مَلاعلا يف ّرشلا‬

‫المت َِّنورين‬
‫المقدّ س‪ ،‬فيشمل بذلك مستوى الغنوسيس ‪( Gnosis‬المعرفة الروح ّية لدى ُ‬
‫قبول اإليمان بال َّطبع ُم َج َّر َد اإلقرار شعور ًّيا وطواعي ًة‪ ،‬لكنّه ً‬
‫أيضا‬ ‫روح ًّيا)‪ ،‬إذ ال يعني ُ‬
‫مآالت أن نعرف معرف َة َم ْن رأى‪ ،‬وإدراك أنَّه تعا َلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طالقة اليقين عقل ًّيا‪ ،‬ودراية‬ ‫ت َْو ِش َي ُة‬
‫مجرد فهم‪ ،‬فهو‬ ‫أكثر من ّ‬
‫اإليمان بهذا المعنى َ‬ ‫ُ‬ ‫يرانا من حيث ال نراه وال ندركه‪ .10‬يكون‬
‫أردت القول ــ ُب ْعدٌ آخر ُمت َِّصف بوفرة الفهم وانبساطِه‪ .‬إنّه ال ُبعد ا ّلذي ُيتيح للوعي‬ ‫َ‬ ‫ــ إن‬
‫المفهومي ــ أن يصبح‬
‫ّ‬ ‫ال َبدَ ِه ّي التأ ُم ِّل ّي ــ وإن كان كاف ًيا بالتَّأكيد بالنِّسبة إلى المعيار‬
‫أن نالحظ فقدان العديد من‬ ‫جنب وما يصاحب ذلك من َمنْع َو َمنْح‪ .‬لنا ْ‬ ‫ٍ‬ ‫فاعل جن ًبا إلى‬ ‫ً‬
‫أهميتها فعل َّيا وذات ًّيا فيما يتع ّلق‬
‫كثيرا من ّ‬
‫التّأويالت العقائد ّية ــ في باب الثيوديس َّيات ــ ً‬
‫بحدْ س الجوهر‪ ،‬إذ نحوز بهذا الحدس قدر ًة على فتح قوسين نضع بينهما عديدً ا من‬
‫األسئلة التي ال نجيب عنها إال بالتَّخ ُّيل واالفتراض‪ ،‬وبتعبير آخر؛ نضع بينهما أسئل ًة ال‬
‫األمر لدى من َت َع ّرفوا‬ ‫إن‬ ‫ٍ‬
‫بإجابات تفصيل َّية لها‪ ،‬فنقوم على إجمالها في المبدأ‪ّ .‬‬ ‫نظفر‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫معرفة‬ ‫انتهاؤهم إلى‬
‫ُ‬ ‫على ال ّله َط ْل َق الخير ّية ــ على ّ‬
‫الرغم من وعيهم بالشر كما يظهر ــ‬
‫للش ِّر أن يقول الكلم َة األخير َة في العا َلم‪ ،‬وإلى ضرورة أن تظهر له ِع َّلة تتماشى‬
‫أن ليس ّ‬ ‫ْ‬
‫والخير ّية اإلله ّية المطلقة؛‪ 11‬ينتهون إلى هذا اليقين حتى وإن كانوا ال يعرفون شي ًئا عن‬
‫الع َّلة! إذ مهما كانت الدَّ رجة التي يمكن أن يكون عليها اعتقادنا من جهة العلم أو‬‫هذه ِ‬

‫ٍ‬
‫للسقوط في األرض‪ .‬من‬ ‫وأخالقي ما كان إال نتيج ًة ّ‬ ‫ّ‬ ‫إرادي‬
‫ّ‬ ‫كمال‬ ‫الذكاء الذي ُش ِّو َه من‬ ‫‪ 10‬ما َح ُر َم على ّ‬
‫ناحية موضوع ّية‪ ،‬نرى ال َّت َع ُّق َل وحده كاف ًيا بذاته‪ ،‬لكن ألنّنا ذوات ُم َش َّخ َصة‪ ،‬أو عوالم ُم َص َّغرة‪ ،‬فال ُبدّ‬ ‫ٍ‬
‫ُخ َر ُب‪،‬‬‫الموضوعي عن الفناء والهالك‪ ،‬إذ «ك ُُّل َم ْم َلك ٍَة ُمنْ َق ِس َم ٍة َع َلى َذاتِ َها ت ْ‬
‫ّ‬ ‫أن نتأقلم تما ًما مع علمنا‬
‫ت ُمنْ َق ِس ٍم َع َلى َذاته الَ َي ْث ُب ُت» (متى ‪.)25 :12‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وك ُُّل م ِدين ٍَة َأو بي ٍ‬
‫ْ َْ‬ ‫َ َ‬
‫مما‬‫ّطويبات (تسع عبارات قالها المسيح في «عظة الجبل»؛ كل منها تبدأ بكلمة طوبى) َّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ 11‬تتأ َّلف الت‬
‫(السعادة لدى البوذ ّية‪ ،‬وهي في أصلها اسم واحد من‬ ‫لق عليه باللغة السنسكريت ّية أناندا ‪ّ Ânanda‬‬ ‫ُي ْط ُ‬
‫اإلنسان على تسميته‬ ‫ُ‬ ‫تالمذة بوذا األساس ِّيين)‪ .‬وللتّطويب سلطته فوق المخلوقات فهو ما اصطلح‬
‫أن العا َلم‬ ‫كل ح َّب ٍة غذائ َّي ٍة صغيرة‪ ،‬فإنهم يعنون ّ‬ ‫أن بوذا كامن في ِّ‬ ‫بالخير ّية‪ .‬عندما يقول البوذ ُّيون ّ‬
‫حالة سامسارا ‪( Samsâra‬دورة الميالد‪ ،‬واالنحالل والموت؛ تشارك فيها‬ ‫يتد َّفق باستمرار‪ ،‬وأنّه في ِ‬
‫ٍ‬
‫بوجه من الوجوه ــ مع التّطويب‪،‬‬ ‫هرب منها إال من خالل االستنارة) التي تتآلف ــ‬ ‫اإلنسانية ك ّلها‪ ،‬وال َ‬
‫المتكرر)؛ ما‬‫ِّ‬ ‫ّحرر اإلنساني من سامسارا ‪ ،Samsâra‬والتّخ ُّلص من الميالد‬ ‫أو نيرفانا ‪( Nirvana‬الت ُّ‬
‫أخيرا ّأن سامسارا ‪ Samsâra‬في حقيقتها ليست شي ًئا غير نيرفانا ‪Nirvana‬‬ ‫يجعلنا ننتهي إلى القول ً‬
‫هندوسي يعني‬
‫ّ‬ ‫تم ُاز ِج القديم مع َد َراما ‪( Dharma‬مصلح‬ ‫أيضا على َ‬ ‫على وجه التّأكيد‪ ،‬وهو ما يد ّلنا ً‬
‫ِ‬
‫اخلي في الطبيعة‪ ،‬وترتيب الحياة اإلنسانية وف ًقا لهذا النّظام) الحوادث في العا َلم‪.‬‬ ‫الخفي والدّ‬ ‫النّظام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ناوش فويتيرف‬ ‫‪18‬‬
‫قهره في دواخلنا؛ وال‬
‫فإن أجدى وسيلة لفهم الحدود الميتافيزيق ّية للشر هي ُ‬ ‫الجهل‪ّ ،‬‬
‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫حدس الجوهر‬ ‫نتمكَّن من هذا األمر ــ على وجه التّحديد ــ ّإل اعتما ًدا على‬
‫المتناغم مع الخير الالمتناهي‪.‬‬
‫***‬
‫الشر ديالكتيك ًّيا‬
‫ّ‬ ‫إن القادر على حدس المطلق ــ ذلك ا ّلذي ال يعالج مشكلة‬ ‫ّ‬
‫ّخ ُّلص من سمومها ــ َي ِعي ــ بطبيعة‬ ‫(جدل ًّيا)‪ ،‬بل يضعها بين قوسين على طريقة الت َ‬
‫بصورة ال يمكنه فيها أن يرى الحوادث‬ ‫ٍ‬ ‫الحال ــ طبيع َة العالقة بين القديم والحادث‬
‫خارج ًة عن القديم‪ .‬يتّصف الحادث بالخير ّية ــ سواء كان ظاهرةً‪ ،‬أو كان شي ًئا آخر من‬
‫ٍ‬
‫وبتعبير آخر؛ بالقدر‬ ‫أي نوع ــ بال َقدْ ِر الذي يكون فيه ُم ْظ ِه ًرا للقديم‪ ،‬أو ما ُيعادله مكان ًة‪،‬‬
‫ّ‬
‫اخ ًل للقديم‪ .‬وعلى العكس من ذلك؛ تتّصف الظاهر ُة‬ ‫الحادث مدَ ِ‬
‫بالشر‬
‫ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ظهر فيه‬
‫الذي َي ُ‬
‫انفصال الحادث عن القديم‪ ،‬أو ــ بتعبير‬‫َ‬ ‫ــ في ٍ‬
‫وجه من وجوهها ــ بال َقدْ ِر الذي ُت ْظ ِهر فيه‬
‫كانت ال تقوى على ذلك في‬ ‫ْ‬ ‫غياب القديم‪ ،‬وإن‬ ‫َ‬ ‫آخر صحيح ــ بالقدر الذي ُت ْظ ِهر فيه‬
‫دال على وجوده‪.‬‬ ‫حقيقة األمر‪ ،‬إذ ما من شيء في الوجود َإل وهو ّ‬
‫يدور األمر ك ّله إذن بين ال ّله والعا َلم‪ ،‬والقديم والحادث‪ ،‬والجوهر وال َع َرض‪،‬‬
‫واألعراض القد َم والجوهر ّي َة ‪ ،‬وت َْر َف ُع لهما راي َة الجالل! ليس ُّ‬
‫الشر‬ ‫‪12‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحوادث‬ ‫ف ُت ْظ ِه ُر‬
‫ويتفرد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الحدوث فيها‪ ،‬إذ هو المقدار الذي ينفصل فيه‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫إذن إال ضريب ًة مفروضة تس َّب َ‬
‫انتصار على‬
‫ٌ‬ ‫ال المقدار الذي يتداخل فيه وينغمس‪ ،‬لذا فمعرفة القديم الذي يتل ّب ُسنا‬
‫االنفصالي الذي أنتجه التّناظر بين العا َلم‬ ‫ِ‬
‫حوادث النّفس ــ وبالتّالي على الحدوث‬
‫ّ‬
‫الصغير والعا َلم الكبير ــ ولهذا السبب وحده‪ ،‬فهي أجود نظر ّية في العدالة اإلله ّية‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ 12‬إنّه لمن الممكن َت َل ُّمس نوع من االستمرارية في العالقة بين القديم والحادث‪ ،‬كما ُتت ََص َّو ُر العالقة‬
‫انفصالي‪ .‬تُشير العالقة األولى {بين القديم والحادث}‬ ‫ِّصالي ال‬ ‫بين الجواهر واألعراض على ٍ‬
‫وجه ات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ــ بصورة جزئ ّية ال ُك ِّل َّية ــ إلى الالنهائ ّية والتّأنيث‪ ،‬بينما تشير الثاني ُة {بين الجواهر واألعراض}‬
‫وتداخل‪ ،‬وطب ًقا للثانية يحصل خمود‬ ‫ُ‬ ‫إلى ال ّطالقة والتّذكير‪ .‬وف ًقا للعالقة األولى يحصل امتزاج‬
‫عبورها إليه دون شهوةٍ‬ ‫ِ‬ ‫الحق من خالل‬
‫الجوهر َّ‬ ‫الروح‬ ‫واندثار‪ ...‬وبتعبير آخر؛ وف ًقا لألولى تلتقي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مز الحادث‪ ،‬بينما تُس ِّلم الروح الراي َة وف ًقا للثانية‪ ،‬وتنخلع عن وه ِم الحدوثِ‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ُّ ُ‬ ‫ُمل َّحة من خالل ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بإطالق عن الحدوث وال َع َرض َّية‪ ،‬إذ‬ ‫ِ‬
‫كل هذا فكر َة عدم انفصال القدَ م والجوهر ّية‬ ‫توجع‪ .‬يؤكِّد ُّ‬
‫دون ُّ‬
‫بعضا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ه‬‫بعض‬
‫ُ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اخ‬ ‫دَ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫الجمع‬ ‫يتقاطع‬
‫ُ ُ‬
‫حوارات‬

‫َعامل معها‬
‫وطرق الت ِ‬
‫ُ‬ ‫الشر‬
‫لة ّ‬ ‫شك ُ‬
‫ُم ِ‬
‫(‪)2‬‬
‫حوار مع‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫مصطفى ملكيان‬ ‫_________________________________________________‬

‫ضروري الوجود‪ ،‬ال من أجل تح ُّقق الخير‬


‫ُّ‬ ‫َ‬
‫القليل‬ ‫‪ ‬أال يمكن ُ‬
‫القول بأنّ الشر‬
‫الكثير‪ ،‬لكن من أجل إدراك الخير ِ‬
‫نفسه والشعور به في العا َلم؟‬
‫فعل‪ ،‬إذ يرى أصحا ُبه أن ضرور ّية وجود‬ ‫تفض ْل َت به مهم ً‬‫‪ ‬هذا التقرير الذي َّ‬
‫الشر ال تأتي من كون الخير ال يمكن وجو ُده إال به فحسب‪ ،‬بل يمكن للخير أن يكون‬ ‫ّ‬
‫موجو ًدا دون وجود الشر‪ ،‬لكنه في هذه الحالة ال يمكن له أن ُي ْف َه َم و ُيدْ َر َك ح ًّقا ما‬
‫الشر غائ ًبا عن العا َلم؛ إن الشر القليل هنا يكون واج ًبا من أجل أن ُيدرك اإلنسان‬ ‫دام ُّ‬
‫إن الشر القليل ضروري‬ ‫أخيرا ّ‬ ‫ُ‬
‫القول ً‬ ‫هذا الخير الكثير الموجود في العا َلم‪ .‬إنه يمكن‬
‫أصل‪ ،‬أو ألن يكون ُمدْ َركًا في العا َلم‪.‬‬ ‫الخير الكثير موجو ًدا ً‬
‫ُ‬ ‫الوجود إما ألن يصير‬
‫جذورا في ثقافتنا اإلسالم ّية‪ ،‬إذ يرى الغزالي ً‬
‫مثل في‬ ‫ً‬ ‫إننا نرى لهذا القول بش ِّق ْيه‬
‫أخروي‪ ،‬وال بدّ من هذا‬ ‫دنيوي هو زيادة وكمال‬ ‫ٍ‬
‫نقصان‬ ‫أن كل‬ ‫(إحياء علوم الدين) ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النقصان حتى يكون للتمام معنى‪ ،‬بل إن العذاب الواقع على أهل النار ضروري في‬
‫جهنم ما‬
‫ُ‬ ‫اآلخرة حتى يكون لنعيم أصحاب الجنة معنى ومعقول ّية‪ ،‬إذ لو لم توجد‬
‫كان باإلمكان أن يشعر أهل الحنة بما هم فيه من نعمة‪ .‬وإن سأل سائل‪ :‬لماذا وجب‬
‫تقديم‬
‫ُ‬ ‫أهل الجنة؟ ُأجيب عنه بأن عي َن العدل‬‫عذاب حتى يتنعم ُ‬ ‫ٌ‬ ‫أن يصيب َ‬
‫أهل النار‬

‫ِ‬
‫ُش اجلزء‬
‫وحرر احلوار بالعربية‪ :‬عبد العاطي طلبة‪ .‬ن َ‬
‫‪ 1‬ترمجها عن الفارسية‪ :‬حسن اهلاشمي‪ ،‬أعد ّ‬
‫األول من هذه املحاورة يف العدد املايض‪ ،‬وهذا هو اجلزء الثاين منها‪.‬‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪20‬‬
‫الكامل على الناقص‪ ،‬كتقديم أرواح الناس على أرواح الخراف والدجاج من أجل‬ ‫ِ‬
‫بقاء النوع اإلنساني‪ ،‬كذلك تكون التضحي ُة بأهل النار من أجل أهل الجنة هي عين‬
‫ُ‬
‫الكامل‪ ،‬و ُم ْقتَضى الجود والحكمة أن يخلق‬ ‫العدل‪ ،‬وإذا لم ُيعرف الناقص ما ُع ِرف‬
‫الناقص‪ .‬يب ّين عبد الجبار‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الكامل بإدراكنا‬ ‫َ‬
‫الكامل والناقص جمي ًعا حتى ندرك‬ ‫ال ّل ُه‬
‫اقتضت حكم ُة‬
‫ْ‬ ‫الهمذاني في كتابه (إلهام التمهيدات) هذا التقرير السابق بقوله‪« :‬لقد‬
‫ال ّله أن يخلق الشيء وضدَّ ه‪ ،‬فالبياض ال يكون من دون السواد‪ ،‬والسماء ال تكون إال‬
‫وخ ْل ُق محمد يقابله ُ‬
‫خلق إبليس‪ ،‬والطاعة‬ ‫مع األرض‪ ،‬وهكذا الجوهر مع العرض‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫اإليمان‪ ،‬وهكذا األمر بالنسبة لجميع األضداد‪ ،‬إذ بضدها‬ ‫والكفر‬
‫ُ‬ ‫تقابلها المعصية‪،‬‬
‫الشق‬ ‫النص ّ‬
‫أن الهمذاني قد مال إلى ّ‬ ‫تتب ّين األشياء»‪ .‬إنه يمكن لنا أن نفهم من هذا ّ‬
‫القائل من كون الخير ال يتحقق إال بوجود الشر‪.‬‬
‫لعله يمكن ر ُّد أصل هذا القول إلى ما قبل اإلسالم‪ ،‬إذ يرى خروسيبوس ــ من‬
‫الشر‬
‫الخير دون الشر‪ ،‬فكون ِّ‬
‫ُ‬ ‫الحمق أن ُيت ََص َّو َر‬
‫أعظم فالسفة الرواقية ــ أنه من ُ‬
‫ُم َضا ًّدا للخير يستلزم حتمية وجودهما م ًعا‪ ،‬إذ ال يسعى أحدهما إلى إضعاف اآلخر‪،‬‬
‫ُ‬
‫أفالطون يرى أن إبطال‬ ‫كل منهما أخاه‪ .‬ولقد كان‬ ‫عضد ٌّ‬
‫بل على العكس من ذلك؛ ُي ِّ‬
‫إن لم يكن لألدنى وجود ما كان لألعلى‬ ‫َ‬
‫إبطال اآلخر‪ ،‬بل ْ‬ ‫أحدهما يعني بالضرورة‬
‫أيضا‪ ،‬بل وذكره‬
‫وجود‪ ،‬كما قال كل من هيراقليطس وتوما األكويني بهذا التقرير ً‬
‫أرسطوطاليس في كتبه ْ‬
‫وإن ر َّده‪.‬‬
‫القول من إشكاالت ت َِر ُد عليه؟‬
‫‪ ‬هل يخلو هذا ُ‬
‫وكلي العلم؟ إذن ما‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬بالطبع ال يخلو من إشكاالت؛ أليس ال ّل ُه َّ‬
‫كلي القدرة‬
‫الذي أعجزه عن إيجاد الخير الكثير دون وقوع الشر القليل‪ ،‬أو أن ُي ِ‬
‫وجدَ الخير من‬
‫الشر؟ أما بالنسبة لموضوع أن الخير الكثير ال ُيدْ َرك إال بالشر القليل؛‬ ‫الخير ال من ّ‬
‫المستشكل هنا‪ :‬ألم يجد ال ّل ُه طري ًقا آخر إلفهامنا معنى الخير دون أن يصيبنا‬
‫ُ‬ ‫يتساءل‬
‫بهذا الشر؟ هذا إشكال‪ ،‬أما اإلشكال الثاني فيمكن ضرب مثال له؛ فلنقل أن أ ًبا أراد‬
‫إفهام ابنه األكبر معنى نعمة عدم العقوبه‪ ،‬فأمسك ابنه األصغر وقام بضربه ضربا‬
‫فهمت المعنى‪ ،‬وال حاجة لكل هذا‬‫ُ‬ ‫مبرحا‪ ،‬فجاءه االبن األكبر ً‬
‫قائل‪ :‬أبي‪ ،‬لقد‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫إن ما هو ّ‬
‫أقل من الشر القليل كاف إلدراك‬ ‫الضرب المبرح ألخي األصغر حتى أفهم! ّ‬
‫‪21‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫نعمة وجود الخير‪ ،‬وليس ال ّل ُه بمضطر إلى االستمرار في ذلك على طول الخط‪ ،‬إذ‬
‫العالمي من خالل ما شاهدوه وعاينوه من أحداث شريرة في‬ ‫ّ‬ ‫فهمت البشرية الخير‬
‫أن إدراك الخير وفهمه أمر حسن‪ ،‬لكنه باهظ‬ ‫أيضا؛ وهو ّ‬ ‫التاريخ‪ .‬يرد إشكال ثالث ً‬
‫الثمن ولعله ال يستحق الكلفة التي ُب ِذ َل ْت من أجله‪ .‬إنه من األفضل لي ً‬
‫مثل أن أعيش‬
‫سبعين سنة دون أن أشعر بمعنى السعادة على أن أعيش ُم َع َّذ ًبا تس ًعا وستين سنة حتى‬
‫حينئذ‪ :‬نعم يا رب‪ ،‬لقد منحتني‬ ‫ٍ‬ ‫ُي ْف ِه َمني ال ّل ُه معنى أن أكون سعيدً ا‪ .‬لإلنسان أن يقول‬
‫خيرا‪ ،‬لكنه خير بمقابل مرتفع جدًّ ا؛ كلفني معظم حياتي! أما اإلشكال الرابع فيقول‬‫ً‬
‫تقديم الكامل على الناقص لعلها تعاني من خلل ما‪ ،‬إذ ما‬
‫ُ‬ ‫إن القول ّ‬
‫بأن عين العدل‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫الجيران‬ ‫معنى أن أتن َّعم عن طريق العناء الذي يكابده غيري؟ ما معنى أن ُيصاب اب ُن‬
‫بإعاقة ما حتى أقدر نعمة الصحة لدى ابني؟ هذا األمر ليس مفهوما لدى أصحاب‬
‫هذا اإلشكال‪ ،‬فتقديم البشر على الحيوان قد يكون مفهو ًما بوجه ما‪ ،‬أما أن يكون‬
‫طرفا المعادلة من البشر‪ ،‬فهذا ما ال يمكن فهمه هنا؛ لماذا يكون ابن جاري المعاق‬
‫أنقص من ابني الصحيح؟ وكما ال يمكن التسليم بأن أحدنا أنقص من اآلخر‪ ،‬كذلك‬
‫ال يمكن التسليم بأن أحدنا أكمل من اآلخر‪.‬‬
‫البعض تدعيم القول بضرور ّية الشر من أجل وجود الخير عن طريق‬
‫ُ‬ ‫يحاول‬
‫القول بأن التجربة هي التي تثبت بأن الوصول إلى الخير غير ممكن إال من خالل‬
‫الدخول في نفق الشر‪ ،‬فاإلنسان الذي لم ي ِ‬
‫عان من الفقر وشظف العيش‪ ،‬ال يمكنه أن‬ ‫ُ‬
‫تيسر حاله‪ ،‬وال يمكن إلنسان عاش حياته كلها‬
‫يعرف معنى التدبير واالقتصاد إذا ما ّ‬
‫في ٍ‬
‫رغد أن يكون ُمدَ ِّب ًرا و ُم ْقت َِصدً ا‪ .‬إن التجربة تثبت لدى هؤالء أن الخير ال يمكن‬
‫دائما وأبدً ا‪ .‬ال يقبل جون ستيورات ميل‬
‫الوصول إليه إال من خالل سلوك أنفاق الشر ً‬
‫هذا اال ِّدعاء التجريبي‪ ،‬بل يرى أنه إذا دققنا النظر في األمور بشكل تجريبي‪ ،‬سيتضح‬
‫لنا أن الشر ال ُينتج غير الشر‪ ،‬وأن الخير ال ُينتج غير الخير في غالب األمر‪ .‬فلنقل‬
‫أني أعاني من إعاقة جسدية أقعدتني عن العمل‪ ،‬ما الذي سيستتبع ذلك؟ انقطاع‬
‫عاجزا عن الحصول على فرصة عمل جديدة‪ ،‬وبالتالي‬
‫ً‬ ‫الرزق عني‪ ،‬وبالطبع سأصير‬
‫الضروري لي؛ مما سيؤ ّدي إلى سوء التغذية‪ ،‬وضرر كبير‬
‫ّ‬ ‫لن أستطيع توفير الطعام‬
‫يقع على أعضاء جسدي التي كانت سليمة من قبل‪ ...‬إن الشر في حقيقة أمره ال‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪22‬‬
‫يستتبعه إال شر آخر‪ .‬واآلالم بنوعيها الجسدي والروحي تزيد من احتمال تتابع‬
‫ضروب أخرى من المعاناة‪ ،‬فالفقر مثال ما هو إال أصل لكثير من الشرور الجسدية‬
‫ومتعمد‬
‫َّ‬ ‫ب أن إنسانًا ما يتعرض إلذالل متكرر‬
‫والروحية‪ ،‬وكذلك الظلم المتكرر؛ َه ْ‬
‫يمر عليه وقت كثير حتى يصير فيه فاقدً ا معنى الكرامة؛‬
‫شخصا كهذا لن َّ‬
‫ً‬ ‫باستمرار‪ ،‬إن‬
‫ً‬
‫مسخا يرى اإلهانة فيه طبيعة وسج ّية‪.‬‬ ‫إنه سيصير‬
‫‪ ‬كان لديفيد هيوم موقف معارض للقول بأن الطريق الوحيد للوصول إلى‬
‫الخير قد ال يكون إال عبر وجود الشر‪ ،‬إذ كان يرى أنّه يمكن قبول هذا القول في إطار‬
‫الحديث عن محدودي القدرة كالبشر الذين قد يرتكبون بعض الشرور أو األخطاء‬
‫عرض مريض السرطان آلالم شديدة‬ ‫الموصلة إلى الخير في النهاية كالطبيب الذي ُي ِّ‬
‫ً‬
‫مقبول في خضم‬ ‫عن طريق عملية جراحية من أجل عالجه نهاية‪ .‬إن كان هذا األمر‬
‫كلي‬ ‫ً‬
‫مقبول عند الحديث عن ال ّله ّ‬ ‫الحديث عن البشر محدودي القدرة‪ ،‬فإنه ال يكون‬
‫القدرة والعلم والخير ّية‪.‬‬
‫مبنى تم بناؤه‪،‬‬
‫مهندس قام باإلشراف على ً‬‫ٍ‬ ‫‪ ‬يضرب هيوم ً‬
‫مثال آخر عن‬
‫لك ّن بعض جدرانه تعاني من انحراف وم ْي ٍل ما‪ .‬إذا ما ُو ِ‬
‫وجه هذا المهندس بهذا‬ ‫َ‬
‫مضطرا إليه من أجل‬
‫ً‬ ‫الخطأ البائن لعله يقول بأنه قد ارتكبه عن عمد ألنه وجد نفسه‬
‫تفادي أخطاء أخرى قد تكون أعظم وأكبر‪ .‬يرى هيوم أن مثل هذه األعذار قد تكون‬
‫سبب خارج عن‬
‫مقبولة من هذا المهندس محدود القدرة‪ ،‬إذ قد أ ّداه إلى هذا الخطأ ٌ‬
‫قدرته المحدودة كأن تكون األرض نفسها مائلة‪ ،‬أو أن تكون المواد اإلنشائية رديئة‬
‫الجودة‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬وبالعودة إلى مثال مريض السرطان الذي ضربتَه‪ ،‬يسأل هيوم‬
‫مريض السرطان ً‬
‫أصل إلى إجراء عملية جراحية؟ فإن قال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أحوجت‬
‫َ‬ ‫ال ّل َه‪ :‬لماذا‬
‫مفر منها إذا أردنا عالجه؛ قلنا‬
‫أعرف أن العلمية الجراحية قد تكون مؤلمة‪ ،‬لكنه ال ّ‬
‫لست محدو َد القدرة كالطبيب المعالج الذي‬
‫له‪ :‬إننا ال نقبل هذا األمر منك‪ ،‬ألنك َ‬
‫مريض‬
‫قد يضطر إلى إيالم المريض؛ لماذا لم تخلق العالم منذ البداية بحيث ُيشفى ُ‬
‫السرطان تلقائ ًّيا دون الحاجة إلى إيالمه بعالج أو عملية جراحية؟ إننا نقبل منك‬
‫عاجزا‪ ،‬لكنك تدّ عي المحدود ّية اإلرادة والقدرة وتع ُّلقهما‬
‫ً‬ ‫كنت خال ًقا‬
‫ذلك فقط إن َ‬
‫التذرع بمثل هذه األعذار‪ .‬قد يقول قائل لهيوم‪ :‬إنك تريد‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫بكل شيء‪ ،‬فال يحق لك‬
‫‪23‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫ومنافحا عن طريق التدخل‬


‫ً‬ ‫من ال ّله أن يعالج المرضى وأن ّ‬
‫يتفرغ للخليقة مداف ًعا عنها‬
‫الدائم باجتراح المعجزات وخرق قوانين الطبيعة‪ .‬لهيوم أن يقول إنه ال يطلب من‬
‫ال ّله معجز ًة أو خر ًقا لقانون‪ ،‬بل يطلب منه أن يضع القوانين منذ البداية على أن‬
‫تكون لصالح مرضى السرطان ً‬
‫مثل‪ ،‬أن يضعها بحيث أن ُي َعتبر ما ُي َعدّ معجزة اليوم‬
‫أصل منذ البداية! إن هيوم في نقده هذا يرى‬ ‫وخر ًقا للقانون الطبيعي قانونًا طبيع ًّيا ً‬
‫متصور إال في حق الموجودات الناقصة التي تستعين‬
‫َّ‬ ‫أن نظام الوسيلة والغايات غير‬
‫ببعض الوسائل الضرورية من أجل الوصول إلى أهدافها كمن يريد ً‬
‫مثل االنتقال من‬
‫المكان (أ) إلى المكان (ب)‪ ،‬لكن الطريق طويل‪ ،‬أو أنه ال يعرفه ً‬
‫أصل‪ ،‬ففي الحالة‬
‫مثل‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬
‫يستقل سيار ًة ً‬ ‫األولى نراه يستعين ببعض الوسائل الضرورية إليصاله كأن‬
‫الحالة الثانية نراه يستعين بأحد األشخاص العارفين بالطريق ليوصله في أقرب وقت‬
‫ممكن‪ .‬إن الذي يحدث هنا أن هذا الشخص قام بتعويض نقصه ومحدوديته بهذه‬
‫الوسائل التي ال يمكن صد ُقها على كائن مطلق العلم والقدرة واإلرادة كال ّله الذي‬
‫كل هذه الوسائط الضرورية طب ًقا لجميع‬ ‫كل شيء دون الحاجة إلى ِّ‬ ‫يستطيع تحقيق ّ‬
‫بعضا من الطرق‬ ‫إن ما قرره هيوم هنا قد ُيبطِل ً‬
‫األديان‪ .‬لعله من اإلنصاف أن نقول هنا ّ‬
‫ِ‬
‫بصدده‬ ‫الشر‪ ،‬ولكنها ال تبطل ما نحن‬
‫التي يحاول المؤمنون اإلجابة بها عن مشكلة ّ‬
‫مهما‬ ‫ً‬
‫مغفل جان ًبا ًّ‬ ‫هنا‪ ،‬إذ نراه يركّز في جميع ما قاله على علم ال ّله وقدرته المطلقة‬
‫دائما سعاد َة‬‫جدًّ ا من الصفات اإللهية المتعلقة بحكمته تعالى‪ ،‬إذ ال تقتضي الحكم ُة ً‬
‫بعضا من النقود‪ ،‬ألنه يعرف أن هذه النقود لها‬ ‫ب ّ‬
‫أن أ ًبا يرفض إعطاء ابنه ً‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان‪َ .‬ه ْ‬
‫األب قادر هنا على إعطائه هذه النقود‪ ،‬لك ّن الحكمة‬
‫عواقب وخيمة على ابنه‪ .‬إن َ‬
‫تقتضي المنع! وهكذا‪ ،‬فإن ال ّله يتّصف بالحكمة ــ قد تقتضي الحجب والمنع ــ إلى‬
‫جانب قدرته وعلمه‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن الحكمة اإللهية تشكّل سق ًفا لعلمه وقدرته‪.‬‬
‫‪ ‬يقول أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)‪« :‬والضار في الحال‪،‬‬
‫الج َّهال‪ ،‬ومثاله الدواء البشع‬
‫النافع في المآل نعمة عند ذوي األلباب‪ ،‬بالء عند ُ‬
‫شاف من األمراض واألسقام‪ ،‬وجالب للصحة والسالمة‪،‬‬ ‫في الحال مذا ُقه‪ ،‬إال أنه ٍ‬
‫بالء‪ ،‬والعاقل يعدّ ه نعمة‪ ،‬ويتق ّلد المنّة ممن يهديه‬
‫فالصبي الجاهل إذا ُك ِّلف شربه ظنه ً‬
‫ب الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) إلى‬ ‫ِ‬
‫ويقربه منه و ُيه َِّيئ له أسبا َبه»‪ ،‬و َينْس ُ‬
‫إليه ّ‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪24‬‬
‫علي الج ّبائي وابنه أبي هاشم قو َلهما‪« :‬وليس األصلح هو ّ‬
‫األلذ‪ ،‬بل هو األعود‬ ‫أبي ّ‬
‫مكروها؛ وذلك كالحجامة‪،‬‬
‫ً‬ ‫مؤلما‬
‫ً‬ ‫في العاقبة‪ ،‬واألصوب في العاجلة وإن كان ذلك‬
‫والفصد‪ ،‬وشرب األدوية»‪ .‬أال تؤ ِّدي هذه األقوال إلى طريقة لحل مشكلة الشر في‬
‫العالم تقول بأننا إذا غيّرنا وجهة نظرنا عن العا َلم فلربما يظهر في صورة خير ّية تخلو‬
‫من الشرور؟‬
‫‪ ‬يضرب عين القضاة الهمذاني ً‬
‫مثال على هذه الطريقة ــ التي قد تبدو ناجع ًة ــ‬
‫يعالجه بالحجامة‪ ،‬ورغم معرفته بأن الحجامة‬
‫َ‬ ‫جما‪ ،‬وتع َّين عليه أن‬
‫بابن يحبه أبوه ح ًّبا ًّ‬
‫أيضا؛ يشعر بالرضا‪،‬‬
‫تؤذيه في الظاهر إال أنّه كان يشعر بالرضا وإن كان الحزن يعتريه ً‬
‫أذى مؤ ّقتًا‪ .‬يطرح هذا الحل طريقة‬
‫ألن الحجامة تعالج ولدَ ه نهاي ًة‪ ،‬وبالحزن ألنها تؤذيه ً‬
‫اقتراحا بتغيير وجهة نظرنا تجاه العالم‪ ،‬فلعل ما‬
‫ً‬ ‫تتضمن‬‫ّ‬ ‫للتعامل مع الشرور في العا َلم‬
‫وأن ال ّله ال يتعامل مع األمور في العا َلم‬ ‫شرا في ظاهره ليس إال ّ‬
‫كل الخير في باطنه‪ّ ،‬‬ ‫نراه ًّ‬
‫ِ‬
‫وجهة نظر اإلله لم‬ ‫البشر برؤيتهم القاصرة‪ ،‬فالعالم من‬ ‫بنفس الطريقة التي يتعامل بها‬
‫ُ‬
‫ُي ْخ َل ْق إلمتاعنا وإسعادنا على المستوى الجسدي‪ ،‬ولكنه مخلوق من أجل تكا ُم ِلنا‬
‫الروحي والنفسي الذي لن يكون أبدً ا إال عن طريق هذه المعاناة وتلك اآلالم الكثيرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن وجود الباليا ــ طب ًقا لهذه الرؤية ــ يصير ضرور ًّيا من أجل هذه الغاية؛ كمال الروح‬
‫ورق ّيها‪ .‬إنه لن يكون للشر معنى في ظالل هذه الرؤية‪ ،‬ألن العا َلم ِّ‬
‫بكل ما فيه ما هو إال‬
‫صح القول‪ .‬وهكذا تظهر هذه الطريقة في التعا ُمل‬
‫مختبر لتكا ُمل الروح اإلنسانية إن ّ‬
‫مع الشرور على صورتين؛ الصورة األولى أن نقول إن العالم ليس مخلو ًقا إلسعادنا‬
‫الجسدي المباشر‪ ،‬ولكنه مخلوق لتكاملنا الروحي وتحسين أوضاعنا‪ ،‬أما الصورة‬
‫الثانية فأن نقول إن إرادة ال ّله للخير تختلف وإرادة اإلنسان كل ًّيا‪ ،‬ففي حين أن اإلنسان‬
‫قد يرى أن السعادة المباشرة والظاهرة هي الخير له‪ ،‬فإن ال ّله قد يرى خالف ذلك من‬
‫أجل كماله الروحي ورق ِّيه اإلنساني في هذا العالم‪.‬‬
‫منهجا‬
‫ً‬ ‫تعاني هذه الطريقة من مشكلة ثابتة أال وهي ّ‬
‫أن أصحابها ال يقدمون لنا‬
‫واضحا في بيان األمور التي تؤ ِّدي إلى كمال الروح أو إعاقتها؛ إنهم لم يقدموا لنا‬
‫ً‬
‫شي ًئا من هذا القبيل أبدً ا على مدار التاريخ رغم قدمها‪ .‬فلنقل أنه قد ح ّلت باإلنسان‬
‫وتعرض ألشد أنواع الظلم‪ ،‬وأنه قد عانى أسوأ أنواع المعاناة‬
‫أشنع أنواع الكوارث‪َّ ،‬‬
‫‪25‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫وأشدها؛ ما الذي ُي َخ ِّول لقائل أن يقول ّ‬


‫إن جميع هذه المآسي التي نزلت به ليست إال‬
‫أن العا َلم إما أن يكون‬
‫لكماله الروحي ورق ّيه في العا َلم؟! يرى أصحاب هذه الطريقة ّ‬
‫الروح وترقى‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫مكانًا لراحة الجسد وإسعاده وتلبية مطالبه‪ ،‬أو مكانًا تتكامل فيه‬
‫العالم مخلو ًقا على صورة بين هذين‬
‫ُ‬ ‫أعرف حقيق ًة سر هذا الحصر! أال يمكن أن يكون‬
‫الروح وترتقي؟!‬
‫ُ‬ ‫الطريقين؛ على صورة يتح ّقق فيها الجسد بمطالبه‪ ،‬وتتكامل فيها‬
‫لعل هذا العا َلم الممكن أقرب إلى الخيرية من عالم يقاسي في الجسدُ من أجل نعيم‬
‫ّ‬
‫الروح وتكاملها األخير‪ .‬هذا‪ ،‬والعا َلم ال يسير في طريق تتكامل فيه الروح كما نرى‪،‬‬
‫مستحيل في هذا العا َلم‪ ،‬فالمتد ِّبر يرى أن االتجاه العا َّم يسير عكس‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تكامل الروح‬ ‫َّ‬
‫ولعل‬
‫وأن حياة القدِّ يسين والعرفاء ليست إال سلسلة من الصعوبات والعقبات؛ إنهم‬ ‫تكا ُملها‪َّ ،‬‬
‫كمن يسبحون خالف التيار فيعانون من العن ِ‬
‫ْت ما ُيعانون‪ .‬إن العالم لو كان مصنو ًعا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫العالم هذا الهوى‬
‫ُ‬ ‫يساير‬
‫َ‬ ‫من أجل هذه الغاية (تكا ُمل الروح اإلنسانية)‪ ،‬لكان الز ًما أن‬
‫المدَّ َعى‪ ،‬لك ّن األمر عكس ذلك‪ ،‬فكل من يريد‬
‫قي ُ‬‫والر ّ‬
‫الروحي من أجل هذا التكامل ّ‬
‫غالب الغاي َة التي من أجلها كان‬
‫سلوك الطريق الذي تتكامل فيه روحه يكون كمن ُي ُ‬
‫أصل‪ .‬ولقائل أن يقول إن إرادة ال ّله تختلف ً‬
‫كثيرا عن إرادة البشر للخير‪ ،‬فإرادة‬ ‫العالم ً‬
‫ُ‬
‫ال ّله ال تتعلق بجلب السعادة اآلنية بقدر ما هي متعلقة بسعادة أرواحنا ً‬
‫أخيرا‪ ،‬وجلب ما‬
‫هو في مصلحتها وخيرها‪ .‬أقول لع َّلنا في هذه الحالة نفقد ثقتنا التا ّمة بال ّله‪ ،‬ألنه سيتذرع‬
‫النهائي وسعادتنا الروحيه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بأن كل ما خلقه من ضروب الشقاوة واأللم كان لصالحنا‬
‫عالمنا إلى عالم اآلخرة حيث ُيقال ألصحاب النّار إن كل‬
‫بل ولعل هذا اال ِّدعاء َي ْع ُب ُر َ‬
‫الخاصة‪ ،‬لكنهم لم ُي ِ‬
‫دركوا ذلك بعد‪ .‬إن هذه‬ ‫ّ‬ ‫ما هم فيه من عذاب ليس إال لمصلحتهم‬
‫شرا إال‬
‫الشر ليس ًّ‬
‫الطريقة تُذكِّرني بمن ُيحيل معنى الشر إلى إدراك اإلنسان؛ بمعنى أن ّ‬
‫شرا‪ ،‬ولع ّله في حقيقته ليس كذلك‪.‬‬ ‫َ‬
‫اإلنسان يراه ًّ‬ ‫ّ‬
‫ألن‬
‫ِ‬
‫وموقف‬ ‫أشرت إليه نهاي ًة ً‬
‫نتاجا للوهم ليس إال‬ ‫َ‬ ‫الشر تب ًعا لما‬
‫‪ ‬أال يمكن أن يكون ُّ‬
‫اإلنسان من الحوادث‪ ،‬فال يكون للشر وجود ً‬
‫أصل إال تب ًعا للوجود اإلنساني ومواقفه؟‬
‫أصل في العا َلم‪،‬‬
‫الشر ال وجود له ً‬
‫‪ ‬رأينا ساب ًقا رأ ًيا للسيدة ماري بيكر ترى فيه َّ‬
‫خيرا ك ّله ال مكان فيه ّ‬
‫للشر‪ ،‬لكنني هنا‬ ‫نتاجا للوهم‪ ،‬وهكذا يكون العا َل ُم ً‬
‫وأنه ليس إال ً‬
‫ٍ‬
‫بوجه من الوجوه؛ وهي‬ ‫أريد أن أشير إلى طريقة أخرى لع ّلها مشابهة لطريقة ماري بيكر‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪26‬‬
‫إن اإلنسان قادر على أن يرى‬ ‫الشر يكون موجو ًدا فقط طب ًقا لموقف اإلنسان منه‪ّ .‬‬ ‫أن ّ‬
‫إن َ‬
‫كان‬ ‫أيضا بشكل قبيح ْ‬ ‫إن كان إيجاب ًّيا‪ ،‬كما أنه قادر على رؤيتها ً‬ ‫األمور بشكل حسن ْ‬
‫سلب ًّيا‪ .‬هناك آية في القرآن تقول‪َ [ :‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذي َن آ َمنُوا َع َل ْيك ُْم َأن ُف َسك ُْم الَ َي ُض ُّرك ُْم َم ْن‬
‫َض َّل إِ َذا ْاهتَدَ ْيت ُْم]‪ ،‬لع ّلها قريبة من هذا المعنى وإن لم تكن مطابقة له تما ًما‪ .‬فلنفترض‬
‫معنى؟ يرى أصحاب هذا‬ ‫أن ال وجود لإلنسان على وجه األرض‪ ،‬أيكون للخير والشر ً‬
‫أن الخير والشر ال وجود لهما إال تب ًعا لوجود اإلنسان ومواقفه في العا َلم تُجاه‬
‫الرأي ّ‬
‫ما يحدث فيه‪ ،‬وبذلك إذا انعدم وجو ُده‪ ،‬فلن يكون للشر والخير مصاديق في الخارج‪.‬‬
‫خيرا من وجهة نظر فالن‪ ،‬ولكنها شر من وجهة نظر فالن‬ ‫إن الحادثة الواحدة قد تكون ً‬ ‫ّ‬
‫آخر‪ ،‬ولعلها تكون ممتزج ًة خيرا وشرا من وجهة نظر ٍ‬
‫ثالث‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫التعامل مع مشكلة الشر بشكل ناجع‪ ،‬ولع ّلها تُفاقم المشكلة‬
‫َ‬ ‫ال تستطيع هذه الطريق ُة‬
‫أصل! فما معنى أن يكون ُّ‬
‫كل شيء يحدث في هذا العالم من وجهة نظر الصالحين‬ ‫ً‬
‫شرا؟ ال يخلو األمر عن إجابتَين؛ أن يكون‬ ‫خيرا‪ ،‬وكل شيء من وجهة نظر الطالحين ًّ‬
‫ً‬
‫خيرا؛ بمعنى أنه يوافق ُم َرا َدهم في العا َلم‪ ،‬أو أن يكون‬
‫كل شيء بالنسبة إلى الصالحين ً‬
‫إن القول بأن‬ ‫األمر بالنسبة إلى الطالحين‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫كل ما يحدث مواف ًقا لمصالحهم‪ ،‬وهكذا‬
‫كثيرا من‬
‫المشاهد أن ً‬ ‫َ‬ ‫الصواب‪ ،‬إذ من‬
‫َ‬ ‫كل ما يحدث في العا َلم خير للصالحين يجانب‬
‫صريح القرآن‪ ،‬إذ يقول‪َ [ :‬ل ْن َتنَا ُلوا ا ْلبِ َّر َحتَّى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫يناقض هذا‬
‫األمور ال تعجبهم‪ ،‬بل ُ‬
‫ّ‬
‫الخط‪،‬‬ ‫إن العا َلم في حقيقته ال يوافق مصالح الصالحين على طول‬ ‫ون]‪ّ .‬‬ ‫ُتن ِْف ُقوا ِمما ت ِ‬
‫ُح ُّب َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫كثيرا بمجموعة ال تتناهى من اآلالم والم َحن‪.‬‬ ‫ولكنه في حقيقة أمره يقوم على ابتالئهم ً‬
‫شرا‪ ،‬ولربما‬ ‫وإذا ما انتقلنا إلى الطالحين‪ ،‬فليس كل ما يحدث في العا َلم بالنسبة إليهم ًّ‬
‫تكون األمور وفق مرادهم عندما ينغمسون في القوة والسلطة واللذائذ‪ ،‬أو ال تكون في‬
‫النص القرآني كما ور َد في‬ ‫أحايين أخرى عندما ُي ْح َرمون من هذه المتع؛ وبهذا جاء ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْح َٰم ِن ل ُب ُيوت ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس ُأ َّم ًة َواحدَ ًة َّل َج َع ْلنَا ل َمن َي ْك ُف ُر بِ َّ‬ ‫[و َل ْو َل َأن َيك َ‬
‫ُون الن ُ‬ ‫سورة الزخرف‪َ :‬‬
‫ون ﴿‪﴾34‬‬ ‫ون ﴿‪ ﴾33‬ولِبيوتِ ِهم َأبوابا وسررا َع َليها يت ِ‬
‫َّك ُئ َ‬ ‫ُس ُق ًفا ِّمن فِ َّض ٍة َو َم َع ِ‬
‫ار َج َع َل ْي َها َي ْظ َه ُر َ‬
‫َ ُُ ْ ْ َ ً َ ُ ُ ً ْ َ َ‬
‫َاع ا ْل َح َي ِاة الدُّ ْن َيا َو ْال ِخ َر ُة ِعندَ َر ِّب َك لِ ْل ُمت َِّقي َن ﴿‪﴾35‬‏]‪ ،‬فال‬ ‫ِ‬
‫َو ُز ْخ ُر ًفا َوإِن ك ُُّل َٰذل َك َل َّما َمت ُ‬
‫تجري األمور ك ُّلها في حقيقة األمر وفق مراد الصالحين من الناس أو خالف مراد‬
‫كل خير إنما يجري مواف ًقا لمصلحة الصالحين دون‬ ‫إن ّ‬‫الطالحين منهم‪ .‬وإن قال قائل ّ‬
‫‪27‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫غيرهم‪ ،‬وما هو شر إنما يجري مخال ًفا لمصلحة الطالحين دون غيرهم‪ ،‬وال يخفى ما‬
‫بأن ال ّله يتح ّيز للصالحين من الناس‪ ،‬وأن إرادته للخير‬ ‫يترتب على هذا الكالم من القول ّ‬
‫َاك إِالَّ‬
‫[و َما َأ ْر َس ْلن َ‬
‫ال تتعلق إال بهم‪ ،‬وال تعم الخلق جميعهم‪ ،‬وهذا ما يناقض قوله‪َ :‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬يترتب على قولهم إن اإلنسان إذا انقطعت صلته بالعالم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َر ْح َم ًة لِ ْل َعا َل ِمي َن]‪.‬‬
‫أصل‪ ،‬إذ ال تتعلق اإلرادة اإلله ّية في هذه الحالة ال بالخير‬ ‫فلن يكون للخير والشر معنى ً‬
‫ِ‬
‫شر ًيرا‪.‬‬ ‫وال بالشر‪ ،‬ويصير ال ّل ُه خ ْل ًوا منهما م ًعا‪ ،‬فال يمكن وصفه بكونه خ ِّي ًرا أو ِّ‬
‫البعض أنَّ ال ّله عندما‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬دعني أنتقل بكم إلى ما ُي َس ّمى دفاع حر ّية اإلرادة‪ ،‬إذ يرى‬
‫توج َه ْت إرادتُه إلى خلق العا َلم كان أمام خيارين؛ أن يخلق العالم خال ًيا من ّ‬
‫الشر ولكن‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫مشتمل على‬ ‫دائما‪ ،‬أو أن يخلقه‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان فيه ُمك َْر ًها على أفعاله بحيث يلتزم الخير ً‬
‫ُ‬ ‫يكون‬
‫حرا يملك‬ ‫اإلنسان ًّ‬
‫ُ‬ ‫الخير والشر حفا ًظا على فضيلة حرية اإلرادة لإلنسان‪ ،‬وحتى يكون‬
‫القدرة على االختيار‪ .‬هل يمكن زيادة بيان لهذه الطريقة في معالجة مشكلة الشر؟‬
‫لت به دفاع في حقيقته عن االختيار من طريق‬
‫تفض َ‬
‫‪ ‬إن دفاع حرية اإلرادة الذي َّ‬
‫االختيار‪ ،‬إذ هو دفاع عن ذات االختيار عن طريق القول بحرية االختيار لإلنسان‪ .‬على‬
‫مجبورا معدو ًما عن حرية االختيار‪ ،‬فيكون كل‬
‫ً‬ ‫العالم‬
‫َ‬ ‫كل‪ ،‬كان يمكن أن يخلق ال ّل ُه‬
‫ٍّ‬
‫شيء كالماء ال يملك إال أن يجري ويروي‪ ،‬أو كالنار ال تملك إال أن تشعل وتُحرق‪،‬‬
‫دائما وأبدً ا‪ .‬ينطلق‬
‫عنصرا من عناصره المجبورة على فعل الخير ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان فيه‬ ‫ويكون‬
‫أصل من أجل اإلنسان‪ ،‬فكان ال بدّ أن‬ ‫هذا الدفاع عن فكرة أن العالم بأسره مخلوق ً‬
‫فضله ال ّل ُه وآثره على خلقه‪ .‬فلنفترض‬ ‫يكون ّ‬
‫كل شيء مواف ًقا لمصلحة هذا الكائن الذي َّ‬
‫أن ال ّله كان قد اختار خلق العالم على هذه الصورة الخالية عن الشر؛ ألن يكون ً‬
‫عالما‬
‫يدعو إلى الضجر والملل الشديد‪ ،‬فما فائدة أن يكون مخلو ًقا على هذه الصورة في‬
‫حين أن قاطنه (اإلنسان) يعيش حالة من السأم الشديد‪ّ .‬‬
‫إن خلق عالم كهذا سيكون أكثر‬
‫شرا وسوء من هذا العالم الذي نحياه ويمتزج الخير والشر فيه‪ّ .‬‬
‫إن خلق عالم يقوم على‬ ‫ًّ‬
‫االختيار‪ ،‬وبالتالي يظهر فيه الخير والشر أفضل عالم ممكن من أجل تكامل اإلنسان‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لعل أول من هاجم هذه الطريقة في عالج مشكلة الشر هو الفيلسوف اإلنجليزي‬
‫أيضا بالهجوم عليه هجو ًما حا ًّدا‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫الملحد جاي‪ .‬إل‪ .‬ماكي‪ ،‬كما قام أنطوني فلو ً‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪28‬‬
‫ِ‬
‫فلنلق نظر ًة على اإلشكاالت التي قام ماكي بطرحها‪ .‬يرى ماكي َّ‬
‫أن أصحاب دفاع حرية‬
‫يتوسلون ما ُي َس َّمى بالبرهان األقرن‪ ،‬أو البرهان ذي الحدّ ين‪ ،‬وهو من البراهين‬
‫اإلرادة َّ‬
‫التي ينحصر فيها الخصم في ِش ِّقين ال ثالث لهما‪ ،‬عليه أن يختار من بينهما‪ ،‬وإن اختار‬
‫الش َّقين اللذين يحصر فيهما ُ‬
‫دفاع حرية‬ ‫إن ِّ‬‫أ ًّيا منهما فإنه سيترتّب عليه نتيجة فاسدة‪ّ .‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫الشر‪ ،‬لكن ال يكون‬ ‫المخالف هنا هما أن يخلق ال ّل ُه ً‬
‫عالما ُمن ََّز ًها عن ّ‬ ‫َ‬ ‫اإلرادة‬
‫مختارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان فيه‬ ‫والشر م ًعا ويكون‬
‫ُّ‬ ‫الخير‬
‫ُ‬ ‫عالما يمتزج فيه‬
‫مختارا‪ ،‬أو أن يخلق ً‬
‫ً‬ ‫فيه‬
‫وهناك طريقان للتخ ّلص من مثل تلك البراهين؛ أال وهما‪ :‬أن نثبت ّ‬
‫أن أحد ال َّط َر َفين‬
‫المنحصر فيهما ال يترتب عليه تلك النتيجة الفاسدة‪ ،‬أو أن نثبت وجود طرف ثالث‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫البرهان‪ .‬يرى ماكي أنّه باستطاعتنا أن نثبت وجود طرف ثالث لم يذكره‬ ‫ً‬
‫أصل لم يذكره‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫الشر‪ ،‬ويكون‬
‫العالم ُمن ََّز ًها عن ّ‬
‫ُ‬ ‫أصحاب دفاع حرية اإلرادة؛ أال وهو أن يكون‬
‫ُ‬
‫مختارا في نفس الوقت‪ .‬إنه ال يستحيل وجو ُد مثل هذا العا َلم‪ ،‬وما دام في إطار‬
‫ً‬ ‫حرا‬
‫فيه ًّ‬
‫يفترض‬
‫ُ‬ ‫اإلمكان‪ ،‬فإن لقدرة ال ّله َت َع ُّلق به‪ ،‬وبهذا نكون أمام ثالثة طرق ال طريقين كما‬
‫أيضا أن نظرية دفاع حرية اإلرادة تقوم على افتراضات خاطئة‪،‬‬ ‫المؤمنون‪ .‬يرى ماكي ً‬
‫أو لم يقم على صحتها الحدُّ األدنى من الدليل‪ ،‬إذ تفترض النظرية أن جميع الشرور‬
‫كثيرا من‬
‫العالمية يأتي منشؤها من الشرور األخالقية‪ ،‬وهذا ما يخالف الواقع‪ ،‬إذ نرى ً‬
‫الشرور الطبيعية في العالم ال دخل لإلنسان فيها كالزالزل والبراكين وبعض األمراض‬
‫أيضا أن ال ّله قد خلق العالم لخدمة اإلنسان‪،‬‬
‫واألوبئة وغير ذلك‪ ،‬كما تفترض النظرية ً‬
‫توسلنا بعض النصوص الدينية‬
‫أيضا‪ ،‬إال إن َّ‬
‫وهذا ما لم يقم عليه دليل عقلي متماسك ً‬
‫في التوراة والقرآن التي قد تثبت ذلك‪ ،‬وتفترض النظرية كذلك أن الكمال اإلنساني‬
‫مجبورا ما تسنى له أن‬
‫ً‬ ‫ال يمكن له أن يكون إال من طريق حرية االختيار‪ ،‬وأنه لو ُخ ِل َق‬
‫كثيرا من الموجودات األخرى التي تسلك طريق كمالها‬ ‫يتكامل! يرى ماكي ّ‬
‫أن هناك ً‬
‫توفرت‬
‫ْ‬ ‫قسرا كالنباتات واألشجار ً‬
‫مثل؛ تبدأ بذر ًة صغيرة ال حول لها‪ ،‬ثم إذا‬ ‫في العا َلم ً‬
‫كاف وضوء مناسب وغير ذلك = سلكت طريقها‬ ‫لها شروط معينة من تربة صالحة وماء ٍ‬
‫َّ‬
‫نحو التكامل الجبري حتى تصير شجر ًة أو نباتًا ً‬
‫كامل‪.‬‬
‫‪ ‬عود على بدأ‪ ،‬كنا قد تكلمنا منذ قليل على فكرة أنّنا كبشر إذا غيرنا وجهة نظرنا‬
‫خيرا‪ .‬ويبدو أنّ هذه الفكرة لم ت َُر ْق‬
‫عن العالم‪ ،‬فإنه يمكن من خالل ذلك أن نرى العالم ً‬
‫‪29‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫يتوسل هذه الفكرة‪ ،‬وإن كان أعمق منها بكثير؛ أال‬ ‫لكم‪ ،‬لكن دعني أطرح عليكم ً‬
‫سؤال َّ‬
‫خيرا ح ًّقا‪ ،‬لكن إذا نظرنا إليه نظرة شموليَّة؛ بمعنى أن ال‬
‫وهو‪ :‬أال يمكن أن نرى العالم ً‬
‫الشر فيه‪ ،‬بل نضع في اعتبارنا المجاالت األخرى وموقع الشر منها‪،‬‬ ‫نُركِّز على مجال ِّ‬
‫والذي عند المقارنة قد يبدو ً‬
‫ضئيل بجانبها جدًّ ا؟‬
‫‪ ‬تُنسب هذه الطريقة إلى سبينوزا‪ ،‬إذ كان يرى أن ّ‬
‫كل شيء بالقياس إلى ما هو‬
‫أدنى من الكل‪ ،‬فهو شر‪ .‬إننا إذا حاولنا أن ننظر إلى األمور بالقياس إلى مصالحنا ال‬
‫إلى رغباتنا وأهوائنا‪ ،‬فلربما نرى الخير وراء ما هو شر في الظاهر‪ ،‬خاصة إذا اعتبرنا‬
‫المصالح طويلة األجل‪ ،‬ال المصالح القريبة‪ .‬إن النظر إلى العا َلم ــ طب ًقا لوجهة النظر‬
‫تلك ــ من زاوية ض ّيقة‪ ،‬تجعله كتل ًة من ّ‬
‫الشر‪ ،‬أما إذا نظرنا إليه نظرة أكثر شمول ّية ــ ما‬
‫خيرا‪ .‬وفي هذا يدَّ ِعي‬ ‫ٍ‬
‫يسميه البعض نظر ًة من «زاوية إله ّية» ــ فإنه يمكن عندئذ أن نراه ً‬
‫سبينوزا أن تحصيل اإلنسان لهذه الزاوية اإللهية ممكن بالتدريج‪ ،‬إذ يمنحه التأ ُّمل‬
‫إن التأمل‬ ‫الفلسفي القدر َة على رؤية األمور برؤية فلسفية مجردة ال مجال فيها للعاطفة؛ ّ‬
‫ُّ‬
‫الفلسفي وحده هو القادر على أن يقود اإلنسان تدريج ًّيا إلى هذه القدة اإللهية في النظر‬
‫ٍ‬
‫دائرة كانت (أ) واحد ًة من أجزائه‬ ‫الشمولي للعا َلم‪ .‬فلنفترض أن العالم ك ّله واقع في‬
‫الصغيرة جدًّ ا‪ ،‬وهي تم ّثل مجموع الشر في العالم‪ .‬إن النظرة الض ِّيقة لهذه الدائرة باعتبار‬
‫محضا‪ ،‬لكنَّنا إذا نظرنا إلى (أ) باعتبارها‬ ‫ً‬ ‫شرا قد يكون‬ ‫(أ) وحدها‪ ،‬تجعلنا نرى العا َلم ًّ‬
‫ٍ‬
‫الشر فيه إال‬
‫خيرا؛ ال يمثل ُّ‬ ‫صغيرا من مجموع الدائرة‪ ،‬فلربما نرى العا َلم حينئذ ً‬ ‫ً‬ ‫جز ًء‬
‫البيت تفوح منها رائحة كريهة‪ ،‬وتمتلئ‬ ‫ِ‬ ‫إن النظر إلى بالوعة‬ ‫تافها ال يكا ُد ُي ْذكَر‪ّ .‬‬
‫جز ًء ً‬
‫عاش فيه‪ ،‬لك ّن الناظر إلى‬ ‫قاذورات؛ ينفر من البيت ك ِّله وقد يراه بيتًا دنِ ًسا ال يكاد ُي ُ‬ ‫ٍ‬
‫البيت ك ُّله إلى بالوعة كبيرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لتحول‬
‫البالوعة بالنسبة إلى موقعها من البيت‪ ،‬وأنه لوالها ّ‬
‫ِ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫منظر البالوعة الصغيرة فيه ً‬ ‫البيت نظي ًفا ولن يؤ ِّث َر ُ‬
‫َ‬ ‫سيرى‬
‫فلنأت اآلن إلى بعض اإلشكاالت الواردة على هذه الطريقة‪ ،‬ولنبدأ بما انتهينا إليه‬ ‫ِ‬
‫محبوسا في‬
‫ً‬ ‫شخصا كان نصيبه من هذا البيت كله أن يظل‬
‫ً‬ ‫من مثال البالوعة‪ .‬فلنقل ّ‬
‫أن‬
‫أي وجه‬
‫خيرا من ِّ‬
‫هذه البالوعة طول عمره‪ ،‬هل يمكن لشخص كهذا أن يرى البالوعة ً‬
‫من الناحية العمل ّية الواقعية؟ اإلجابة‪ :‬ال‪ ،‬إذ ال يمكن لشخص كهذا إال أن يرى العالم‬
‫محضا‪ ،‬وله أن يتساءل‪ :‬لماذا ال يعيش داخل هذا البيت‬
‫ً‬ ‫شرا‬ ‫ــ عا َلمه هو على ّ‬
‫األقل ــ ًّ‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪30‬‬
‫الجميل‪ ،‬ولماذا كان نصيبه منه هذه الحفرة القذرة اآلسنة؟! هل يمكن أن تقنع أ ًبا فقد‬
‫موت أبنائه ينطوي على خير لكل العا َلم‪،‬‬
‫أن َ‬ ‫ٍ‬
‫مرض ما كالشلل أو السرطان ّ‬ ‫أبناءه بسبب‬
‫شرا؟! ّ‬
‫إن إجراء‬ ‫علمه في موت أبنائه فحسب فيرى العالم ًّ‬
‫وأنه ال ينبغي عليه أن ينحصر ُ‬
‫ِ‬
‫كل هذا‪ ،‬وأن الشر ُمط ّل على‬
‫أدنى عمل ّية حسابية تجعله يدرك أنه الخاسر الوحيد وراء ّ‬
‫العا َلم‪ .‬تدعونا هذه الطريقة إلى أن ننظر إلى العالم نظر ًة شمول َّية‪ ،‬ال يستطيعها إال إله‪،‬‬
‫أن يكون على علم مطلق بكل هذا العالم‬ ‫إنها تطلب من اإلنسان محدود العلم والقدرة ْ‬
‫بحال أن يحيط بجميع أجزاء العا َلم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫المترامي األطراف؛ إن إنسانًا محدو ًدا‪ ،‬ال يمكنه‬
‫اللهم إال إذا وهبه ال ّله قدر ًة على ذلك‪ .‬ثم َهب أن إنسانًا قد امتلك هذه القدرة اإللهية‪،‬‬
‫خيرا؟ قد يجيب أحدهم عن‬‫ما الذي يضمن لنا أن الجزء إذا ما قيس إلى الكل كان ً‬
‫خيرا‬ ‫ذلك بأن الكل مخلوق إلله مريد للخير‪ ،‬وهو خير مطلق‪ ،‬لذا ال بد أن يكون ُّ‬
‫الكل ً‬
‫ال محالة! جواب كهذا يلزم عنه الدَّ ْو ُر‪ ،‬إذ المسألة بر ّمتها تتع َّلق بإثبات وجود ال ّله من‬
‫عدمه‪ ،‬وال يمكن الجواب عن هذا اإلشكال بافتراض وجود ال ّله بداي ًة‪ ،‬وعلى صحة‬
‫خيرا عند النظر إلى‬
‫عالما ال نراه ً‬ ‫خير مطلق‪ ،‬فلماذا خلق ً‬ ‫افتراض وجوده‪ ،‬فما دام إل َه ٍ‬
‫ذرة في العالم حسنة باعتبار مجموع أجزاء العالم يؤدي‬ ‫كل ٍ‬ ‫أصل؟! إن اعتبار ِّ‬
‫أجزائه ً‬
‫بنا إلى مشكلة تسويغ أفعال اإلنسان الشريرة في العالم من كذب وقتل وسرقة وغير‬
‫شرا في‬
‫خيرا ال ًّ‬ ‫ذلك بأنَّها خير باعتبار المجموع‪ ،‬فلماذا َ‬
‫يؤاخذ عليها اإلنسان ما دامت ً‬
‫حقيقتها!‬
‫يتمس ُك المؤمنون‬
‫مزعجا لبعض المؤمنين؛ لماذا َّ‬ ‫ً‬ ‫‪ ‬دعني أسألك ً‬
‫سؤال قد يكون‬
‫باتِّصاف ال ّله المطلق بالعلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والخير م ًعا‪ ،‬أال يمكن التخ ِّلي عن صفة العلم‬
‫المطلق أو القدرة في مقابل اإلبقاء على صفة الخير ّية ل ّله؟‬
‫‪ ‬لعله يمكن إرجاع أصل هذه الطريقة في التفكير إلى فلسفة وايتهيد في الصيرورة‪،‬‬
‫والذي واحدً ا من أكبر الفالسفة الذين عاشوا في القرن التاسع عشر والنصف األول‬
‫فلسفي ُع ِرف بـ»فلسفة‬
‫ّ‬ ‫من القرن العشرين للميالد‪ ،‬ولقد قام هذا الفيلسوف ببناء نظام‬
‫ري من‬
‫التطو ّ‬
‫ُّ‬ ‫الصيرورة»‪ .‬ترى هذه الفلسفة أن عالم الوجود يعيش حالة من السيالن‬
‫أجل كماله‪ ،‬فهو يسيل في تغ ُّير دائم ومستمر في حالة من التكامل الوجودي‪ّ .‬‬
‫لعل هذه‬
‫بأن عا َلم‬
‫الفلسفة تشبه إلى حد كبير فلسف َة مال صدرا في «الحركة الجوهرية» القائلة َّ‬
‫‪31‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫َّ‬
‫ولعل الفارق بينهما َّ‬
‫أن مال صدرا‬ ‫التكاملي الدائم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الطبيعة يعيش حالة من السيالن‬
‫خص هذا السيالن بهذا العالم الطبيعي فحسب‪ ،‬لكن وايتهيد جعلها تشمل عالم ما‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫وراء الطبيعة كذلك حتى اإلله نفسه! لم يكن وايتهيد ُي ْقح ُم َ‬
‫نفسه في أمور كالم ّية‪ ،‬لكنه‬
‫كان مهمو ًما ببيان فلسفته العا َّمة ليس إال‪ ،‬حتى جاء من تبنّى مذه َبه من بعده ــ كهارت‬
‫شورن‪ ،‬وديفيد جريفن ــ بمحاولة استخدام فلسفته في مباحث كالمية كمشكلة الشر‬
‫ف‬‫إلها أن يت ِّص َ‬ ‫ّ‬
‫محل حديثنا هنا‪ .‬ترى فلسفة الصيرورة أنّه ال ُي ْشت ََرط في اإلله حتى يكون ً‬
‫التطوري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ككل شيء في العا َلم حال ًة من السيالن‬ ‫بالعلم والقدرة بإطالق‪ ،‬ألنه يعيش ِّ‬
‫لكنه ال بدّ أن يكون ُمتّص ًفا بالخيرية المطلقة حتى يكون مستح ًّقا لأللوه ّية و َم َح ًّل‬
‫إن المشكلة ّ‬
‫كل المشكلة في موضوع معضلة الشر هو محاولة‬ ‫للتبجيل والعبادة‪ّ .‬‬
‫المؤمنين الجمع بين القدرة والعلم والخيرية عند الحديث عن الصفات اإللهية‪ ،‬لكن‬
‫حل هذه المشكالت فقط بالتّخ ِّلي عن بعض هذه‬
‫يمكن ــ طب ًقا لفلسفة الصيرورة ــ ّ‬
‫الصفات! يحاول فالسفة الصيرورة تدعيم كالمهم حول نفي العلم والقدرة اإللهية‬
‫بأن الكتاب المقدس لم ُي ِشر إليهما أبدً ا كما أشار إلى الخيرية اإللهية‬
‫عن طريق القول ّ‬
‫السبب في اعتبارهما ما ورثناه عن أرسطوطاليس وأفالطون من‬
‫ُ‬ ‫المطلقة‪ ،‬ولربما كان‬
‫وجوب اتصافه تعالى بهما‪ .‬ثم إنهم يتساءلون‪ :‬ما المانع من عبادة إله يتصف بالخيرية‬
‫إلها يكون ً‬
‫أهل للعبادة عليه أن يكون خ ِّي ًرا‬ ‫وعالما؟ إن ً‬
‫ً‬ ‫قادرا‬
‫المطلقة وإن لم يكن ً‬
‫أهل لإليمان به وعبادته؛ إنهم‬ ‫فحسب‪ ،‬وعلينا أن نتأكد من خير َّيته تلك حتى يكون ً‬
‫بأي صفة ما دام متِّص ًفا بالخير ّية‬
‫مهما لإلله أن يتصف ّ‬ ‫يقولون بكل وضوح‪ :‬ليس ًّ‬
‫المطلقة‪.‬‬
‫وجة إلى هذه الطريقة من إشكاالت أنهم ال ينفون عن ال ّله العلم‬
‫لعل ما يمكن أن ُي ّ‬
‫مفتقرا إلى العلم الناقص‬
‫ً‬ ‫المطلق والقدرة المطلقة فحسب‪ ،‬ولكنهم يجعلونه حتى‬
‫والقدرة الناقصة! إن إله الصيرورة هذا عاجز عن مساعدتنا بأي صورة‪ ،‬وال يستطيع‬
‫أي من مشاكلنا‪ ،‬وال فرق بينه وبين آحادنا في واجهة الشرور في العا َلم‪،‬‬
‫القضاء على ٍّ‬
‫إلها‬
‫إن ً‬‫نفسه عليها! َّ‬
‫شر بصورة ال يقدر إله الصيرورة ُ‬
‫بل قد يقوم آحا ُد الناس بمنافحة ٍّ‬
‫يتَّصف بالخيريه المطلقة‪ ،‬ال بد أن تظهر محاوالته في العالم إلزالته‪ ،‬لك ّن الظاهر أنه‬
‫ال يحاول وال يسعى إلى إزالة أي شر‪ .‬وإذا نظرنا إلى النصوص القرآنية‪ ،‬فليس صع ًبا‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪32‬‬
‫آيات تناقض هذه الرؤية؛ وتصف ال ّله بالقدرة المطلقة والعلم المطلق كقوله‪:‬‬ ‫أن تجد ٍ‬
‫ٍ ِ‬ ‫[إن ال ّل َه َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء َق ِد ٌير]‪،‬‬
‫و[و ُه َو بِك ُِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم]‪ ،‬فال تتناسب هذه الفلسفة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بحال والفلسفة الدينية في القرآن‪.‬‬
‫للشر‪ .‬أال‬
‫‪ ‬تؤمن بعض األديان بوجود إلهين في العالم؛ أحدهما للخير‪ ،‬واآلخر ّ‬
‫ريحا لمشكلة الشر؟‬ ‫حل ُم ً‬ ‫ترى أن مثل هذا اإليمان ُي َعدّ ًّ‬
‫‪ ‬لع ّلك تشير إلى الديان َت ْي ِن الزرادشت ّية والمانوية‪ ،‬إذ تقول الزرادشتية بوجود‬
‫إله للخير وإله للشر‪ ،‬كما تقول المانوية بوجود إله للنور‪ ،‬وآخر لل ُّظلمة‪ .‬لعله بداية‬
‫علينا أن نشير إلى الفرق بين معنى األلوهية لدى األديان التوحيدية ومعناها لدى‬
‫ِ‬
‫والموجد‪ ،‬لذا‬ ‫الزرادشتية والمانوية‪ .‬إن اإلله لدى الزرادشتية والمانوية يعني الخالق‬
‫لم يكن من ضير وجو ُد خال َقين للعالم؛ أحدهما للشر‪/‬الظلمة‪ ،‬واآلخر للخير‪/‬النور‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وبمعان أخرى ال يمكن فص ُلها‬ ‫أما اإلله في الديانات التوحيدية‪ ،‬فيأتي بمعنى الخالق‬
‫ٍ‬
‫بحال عن اتِّصافه بالخيرية التي ال تؤ ِّدي إال إلى الوحدان ّية‪ ،‬ومحاولة تسويغ وجود‬
‫الزرادشتي ّ‬
‫أن‬ ‫ُّ‬ ‫الشر في العالم‪ .‬يؤمن‬
‫الشر بعيدً ا عن القول بوجود إله آخر يصدر عنه ُّ‬
‫إله الشر هو خالق الفقر والمرض والحرب والظلم وما إلى ذلك‪ّ ،‬‬
‫وأن إله الخير هو‬
‫والسلم والعدل وما إلى ذلك‪ ،‬أما ماني فإنه كان يرى جميع‬
‫خالق الغنى والصحة ِّ‬
‫مصدرها‪ ،‬فال وجو َد للشر إال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫الشرور منبثق ًة عن الشر األخالقي التي يكون‬
‫في حالة اجتراح اإلنسان له‪.‬‬
‫التوسل لهذا الحل دون التعبير بوجود‬ ‫ُّ‬ ‫لعلنا نجد في السياق اإلسالمي شي ًئا من‬
‫البعض أن للخير مصدر واحد وهو ال ّله‪ ،‬وأن الشر في العا َلم‬
‫ُ‬ ‫إلهين في العا َلم‪ ،‬إذ يرى‬
‫إبليس الذي كان وجو ُده ضرور ًّيا حتى‬
‫َ‬ ‫بعض العرفاء عن‬
‫مصدره الشيطان‪ ،‬بل يدافع ُ‬
‫شأن العا َلم‪ ،‬كما يمكن اعتبار القديس أوغسطين واحدً ا من القائلين بهذا الرأي‬
‫يستقيم ُ‬
‫تأ ُّث ًرا بالديانة المانو ّية‪ ،‬إذ بدأ حياته وثن ًّيا‪ ،‬ثم مانو ًّيا‪ ،‬منته ًيا إلى المسيحية في نهاية األمر‪.‬‬
‫القول بإلهين‪ ،‬وال ترى في هذا حلًّ لمشكلة‬ ‫َ‬ ‫األديان التوحيدي ُة‬
‫ُ‬ ‫بشكل عام‪ ،‬ترفض‬
‫أن هذا الحل يطرح صورة مغايرة للمسألة التي نحن بصددها؛‬ ‫بحال‪ ،‬ولكن ترى ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الشر‬
‫صورة تقترح القول بوجود إلهين من البداية‪ ،‬فال معنى لنسبة الشر إلى إله الخير من‬
‫الموحدون الذين يرون استحالة القول بالثنو ّية ً‬
‫أصل‪ ،‬إذ‬ ‫ِّ‬ ‫األساس‪ ،‬وهذا ما ال يقبله‬
‫‪33‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫ال يخلو أن يكون أحدُ هذين اإللهين أقوى من اآلخر‪ ،‬أو مساو ًيا له‪ ،‬فإن كان أحدُ هما‬
‫ِ‬
‫متساويين‪ ،‬فهذا ما‬ ‫أقوى من اآلخر‪ ،‬فلماذا ال يقضي عليه ويخ ِّلصنا منه‪ ،‬وأما إن كانا‬
‫السلمي م ًعا؛ ما يعني أن‬ ‫أصل‪ ،‬إذ لو كانا كذلك‪ ،‬الضطرا إلى التعا ُيش‬ ‫ٍ‬
‫بحال ً‬ ‫ال يمكن‬
‫ّ‬
‫يكونا معلولين لع ّلة أخرى أسمى منهما لع ّلها اإلله الواحد الحق‪ .‬على ٍّ‬
‫كل‪ ،‬إن التفكير‬
‫البشري الراهن يتجه بشكل عام إلى القول بدوران األمر ك ِّله بين اإللحاد والتوحيد ال‬
‫مجرد اإليمان‪ ،‬وكأن العقل البشري قد انتهى إلى أحد أمرين‪ :‬إما اإليمان بإله واحد‪ ،‬أو‬
‫إنكاره وعدم اإليمان به‪/‬اإللحاد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بموجد‬ ‫‪ ‬إن السؤال الذي يدور بخلدي اآلن‪ :‬ما لنا نهرع ً‬
‫أصل إلى ضرورة القول‬
‫ٍ‬
‫موجد له ُيديره‬ ‫للخير والشر في هذا العا َلم‪ ،‬أال يمكن أن يكون العا َل ُم دون البحث عن‬
‫لغاية داخلية أو خارجية؟‬
‫‪ ‬تجد هذه الرؤية اإللحاد ّية للعالم صداها لدى ديفيد هيوم؛ وهي رؤية ترى‬
‫الخاص دون أن يكون لها هدف‬
‫ّ‬ ‫العا َلم عبارة عن منظومة عالم ّية تسير نحو تكاملها‬
‫خاصة تنحو خاللها في العالم‪،‬‬ ‫من داخلها أو من خارجها‪ ،‬ودون أن تكون لها إرادة ّ‬
‫ودون أن يكون له م ِ‬
‫وجد عالم ُمريد قادر خ ِّير! إن العا َلم بأسره ــ طب ًقا لهذه الرؤية ــ كائن‬ ‫ُ‬
‫القسري؛ وكل شيء في هذا العا َلم من أقصاه إلى أدناه ليس إال‬
‫ّ‬ ‫حي ينحو نحو كماله‬
‫ّ‬
‫جزء من هذه المنظومة الكل ّية التي تتشارك أجزاؤها في إدامة إبقائها على قيد الحياة‪.‬‬
‫تضرب بجذورها في أعماق األرض حتى تتكامل أغصانًا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫إن الشجرة التي تحاول أن‬
‫وثمارا ال تمتلك في ذلك إرادة داخل ّية في تكاملها الخاص‪ ،‬وال إرادة من‬ ‫ً‬ ‫وأورا ًقا‬
‫خارجها يمنحها التوفيق من عدمه‪ ،‬فال يمكن أن نقول ً‬
‫مثل إن هذه الشجرة المثمرة قد‬
‫اختارت الحياة‪ ،‬وأن تُطِ ّل علينا بظاللها الوارفة‪ ،‬كما ال يمكن أن نقول في حالة مواتها‬
‫وذبولها أنها اختارت الموت ومغادرة الحياة؛ إن الشجرة في كلتا الحالتين ال وعي لها‬
‫مسلوب اإلرادة؛ ك ًُّل‬
‫َ‬ ‫تما ًما‪ .‬إن نظرية المنظومة الكاملة ترى العا َلم على مثل هذا النحو‬
‫تتكامل أجزاؤه أو تتهافت دون ُم َو ِّج ٍه من داخلها أو من خارجها‪ ،‬فهو يسير في مساره‬
‫الخاص أو ال يسير‪.‬‬
‫ّ‬
‫تصور أنه إذا حذف الموجود المريد العالِم القادر الخ ِّير من‬ ‫ّ‬
‫لعل القائل بهذا القول قد ّ‬
‫حل المشكلة‪ ،‬ولكنه في الحقيقة يقوم على تعقيدها‬ ‫هذا الوجود (ال ّله)‪ ،‬فإنه يكون قد ّ‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪34‬‬
‫إلهي‪،‬‬
‫من حيث يريد اإلصالح‪ .‬إن األمر ببساطة سيزداد سوء‪ ،‬فإن لم يكن للعالم مرجع ّ‬
‫فمن ذا الذي يمكن أن نعود إليه محاسبين إياه عن حدوث الشر في العالم؟! إننا سنفقد‬
‫البوصلة‪ ،‬وسنعيش حالة من التيه والبؤس العا َل ّ‬
‫مي‪ .‬إن غاية ما يمكن أن تعتمله نظرية‬
‫المنطومة الكاملة هو حذف المسؤول‪ ،‬وإبقاء الشر على حاله‪ ،‬وتقييد دعوى الشر في‬
‫دفاترنا ضد مجهول ال نعرفه! إن تبرير وجود الشر ضمن منظومة كل ّية عالمية لع ّله‬
‫يكون مفهو ًما فحسب في دائرة عالم الطبيعة التي يمكن الحديث بصدده عن مقتضياته‬
‫وموانعه‪ ،‬فإذا ن ََم ْت شجرة وألقت بظاللها علينا من طولها وصالبتها وتف ُّعمها بالحياة‪،‬‬
‫نموها وحياتها كمنظومة طبيعية‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬لك ّن‬ ‫فإنه يمكن أن نسرد أسباب ِّ‬
‫الطبيعي ككل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمر يكون أقرب إلى المستحيل عندما يكون الحديث عن العالم‬
‫األمر تعقيدً ا وسوء إذا ما تجاوزنا العا َلم الطبيعي إلى ما وراءه‪.‬‬
‫ويزداد ُ‬
‫الشر عند القائلين بوجوده طب ًعا‪ ،‬وال أعني هنا الع ّلة‬
‫‪ ‬ما هي العلة وراء وجود ّ‬
‫الفاعلية‪ ،‬ولكنّي أتساءل عن العلة الغائيّة؟‬
‫‪ ‬إن السؤال الذي َّأرق المتكلمين في مسألة الشر هو انسجام وجود الشر من‬
‫اإللهي‪ ،‬فالقائلون بانسجامهما م ًعا حاولوا الحديث عن العلة من‬ ‫ّ‬ ‫عدمه مع الوجود‬
‫وراء وجود الشر في العا َلم‪ ،‬وكان حدي ُثهم عن العلة الغائية بالطبع كما تفضلتُم‪ ،‬إذ الع َّلة‬
‫الطبيعي‪ ،‬فللعلم أن ُي َحدَّ ثنا عن‬
‫ّ‬ ‫كثيرا بقدر ما تهم العلم‬
‫ته ّم البحث الفلسفي ً‬‫الفاعل ّية ال ُ‬
‫ِ‬
‫األسباب‪/‬الع َلل الطبيعية وراء حدوث البراكين والزالزل في العالم‪ ،‬ولطبيب األسنان‬
‫تسو َس أو غير‬
‫السبب ُّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مثل أن ُي َحدِّ ثنا عن أسباب شعوري بوجع في أسناني سواء كان‬
‫ذلك‪ ،‬لكن ليس للعلم أن يحدثنا عن العلل الغائية ألنها ال تتماشى وسياقاته التي يبحث‬
‫تنحصر ُ‬
‫أقوال المتكلمين في علة الشر‬ ‫ُ‬ ‫فيها عن الفواعل‪/‬األسباب و ُم َس ِّب َباتها فحسب‪.‬‬
‫الغائ ّية في أقوال ثالثة؛ أن تكون الشرور بمثابة اختبار وامتحان لإلنسان في الدنيا‪ ،‬أو أن‬
‫تكون رود أفعال طبيعية على ممارسات اإلنسان في العالم (عقوبة)‪ ،‬أو أن تكون ردود‬
‫ِ‬
‫إشكاالن؛‬ ‫أفعال ما بعد طبيعية على ممارساته (عقوبة أخروية)‪َ .‬ي ِر ُد على هذه األقوال‬
‫أحدهما أن ُي َق َال إنّها ال تشتمل جميع الشرور في العا َلم‪ ،‬فال يمكن القول بأن جمي َعها‬
‫حادث لهذه الغايات ليس إال‪ ،‬فهي أقوال موضع ّية مقطع َّية؛ تعالج البعض ال ّ‬
‫الكل‪،‬‬
‫تتوسل‬
‫وثانيهما كون هذه األقوال تتوسل النَّقل في حين أننا نبحث عن إجابات عقل ّية ّ‬
‫‪35‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬
‫ِ‬
‫َرط أن نعرف ع َل َل ّ‬
‫الشر‬ ‫إن القائلين بوجود ال ّله يرون طب ًعا أنه ال ُي ْشت ُ‬
‫العقل قدر اإلمكان‪ّ .‬‬
‫الغائية في العالم من أجل اإليمان بوجود ال ّله‪ ،‬إذ هو موجود سواء عرفنا أم لم نعرف!‬
‫من بين تقسيمات الشرور في العالم ــ تحدثنا عنها من قبل ــ التقسيم الرباعي؛‬
‫الشرور الطبيعية‪ ،‬والشرور األخالقية (الذنوب والمعاصي)‪ ،‬والشرور العاطفية‬
‫المعني لدى كثيرين‬
‫ّ‬ ‫(اآلالم واألوجاع)‪ ،‬والشرور ما بعد الطبيعية‪ ،‬لكن يبدو أن الشر‬
‫هو الشر الذي ينتج عنه األلم والوجع في النهاية‪ّ ،‬‬
‫فإن اإلنسان الذي يشعر بألم شديد‬
‫بالذات‪ ،‬وإن كان‬ ‫ِ‬
‫ضربة عصا أصابتْه‪ ،‬يرى أن أصل الوجع‪/‬األلم هو الشر َّ‬ ‫في رأسه إثر‬
‫يرى أن الضربة التي أصابتْه شر لكن بال َع َرض‪ ،‬فألم الرأس شر الحقيقي‪ ،‬أما الضرب‬
‫صح القول‪ .‬يختلف الناس في ماه ّية الشر اختال ًفا متفاوتًا‪ ،‬كما‬
‫مجازي إن ّ‬
‫ّ‬ ‫بالعصا فشر‬
‫البعض أن الشر لم يكن له وجود قبل الوجود اإلنساني‪ ،‬وهذا ما تُكذبه الدراسات‬
‫ُ‬ ‫يرى‬
‫العلمية التي تقول بوجود الحوادث والكوارث الطبيعية قبل وجود اإلنسان‪ ،‬لكن‬
‫يمكن القول إن هذه الكوارث ال معنى لها دون وجود اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان هو الذي‬
‫األلم هو‬
‫ُ‬ ‫األلم ً‬
‫بديل عن الشر هنا‪ ،‬إذ‬ ‫َ‬ ‫يعطيها معنى الخير والشر‪ ،‬لذا فإنني سأستخدم‬
‫ني من وجود الشر من عدمه‪ ،‬فما دام اإلنسان ال يتألم فال شر‪ ،‬وما دام يتألم فثمة‬
‫الم ْع ُّ‬
‫َ‬
‫شر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وبعد هذا التقديم‪ ،‬فلنحاول اإلجابة عن الغاية من وراء وجود األلم في العالم من‬
‫وجهة نظر بعض المؤمنين‪ .‬ما الذي يعنيه إراد ُة الخير؟ إننا عندما نقول إن (أ) تريد‬
‫الخير لـ(ب)‪ ،‬فمعنى هذا ينحصر في أمرين؛ أال وهما‪ :‬أن تقوم (أ) بجلب السعادة‬
‫دائما حتى وإن تضمن ذلك‬
‫دائما‪ ،‬أو أن تقوم (أ) بفعل ما يضمن مصلحة (ب) ً‬
‫لـ(ب) ً‬
‫بعض األلم‪ .‬يحاول المؤمنون ت ََو ُّسل المعنى الثاني دون األول الذي يشتمل على كثير‬
‫ُ‬
‫من المشكالت الداخل ّية‪ ،‬فإذا قال المؤمنون بالقول األول‪ ،‬فسيواجهون مشكلة حيال‬
‫دائما‪ ،‬بل فيها أحيانًا من الكلفة‬
‫مثل التي ال تضمن سعادة اإلنسان ً‬‫التكاليف اإللهية ً‬
‫الخير لدى كثيرين معناها أن يريد المصلحة لإلنسان‬
‫َ‬ ‫والمشقة ما فيها‪ .‬لذا‪ ،‬فإرادة ال ّله‬
‫أن ً‬
‫طفل يبكي؛ يريد أن يلعب‬ ‫ب َّ‬
‫بعض اآلالم‪َ .‬ه ْ‬
‫حتى وإن تضمنت هذه المصلحة َ‬
‫بالسكين‪ ،‬وهو يرى اللعب بها ضامنًا لسعادته اآلنية‪ ،‬لك ّن األم ترفض إعطاءه السكين‬
‫ضمانة لمصلحته‪ .‬نعم سيتأذى الطفل من منع أمه إ ّياه‪ ،‬لك ّن مصلحتَه وهي انعدام‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪36‬‬
‫الم ْف ِسدَ ة‪ .‬يرى المؤمن إذن‬
‫األذى بالسكين قد تحققت بحرمان األم إياه هذه السعادة ُ‬
‫أن ال ّله مريد للخير رغم أي شيء ما دام يقوم على تحقيق مصالحنا وإمضائها بحكمته‪.‬‬
‫ال يمكن إنكار الشر‪/‬األلم الموجود في العالم‪ ،‬لكن يمكن القول بأنها موجودة ضمن‬
‫إرادة الخير العالمي بما يضمن مصالح اإلنسان‪ ،‬وعلى منكري وجود ال ّله إذن اعتما ًدا‬
‫مصالح ومنافع أكثر من‬
‫َ‬ ‫أن مجموعها ال ينطوي على‬ ‫على وجود هذه اآلالم أن يثبتوا َّ‬
‫خسائرها وأضرارها بكثير في هذه الدنيا وفي اآلخرة! َّ‬
‫لعل الناظر الملحد هنا ال يسعه‬
‫إال أن ينتهي إلى السكوت أو أن ينتهج فلسفة الأدرية حيال هذا األمر‪ ،‬ولعله يورد‬
‫نحب ال ّل َه ونعبده‪ ،‬ألنه رحيم‬
‫بعض االعتراضات؛ من أهمها أن ُيقال إنكم أردتم منا أن ّ‬
‫ولطيف بعباده ويتصف بالعلم والقدرة والخير المطلق‪ ،‬وها نحن ذا قد عبدناه‪ ،‬ثم‬
‫أخذتم تقولون لنا بعد ذلك إن من رحمة ال ّله وحكمته أن يرزق فالنًا بأطفال معاقين‪،‬‬
‫وأن يصيب فالنًا بالعمى! إنكم لو وضحتم لنا هذه األمور منذ البداية ما أحبه أحد‪ ،‬كما‬
‫يمكن أن ُيقال إننا نحن البشر أكثر عط ًفا ورحم ًة من هذا اإلله الذي ال تنطوي رحمته‬
‫وعطفه إال على جميع أنواع الشرور المخيفة‪ .‬وليس ألحد أن يحدِّ ثنا عن مصالح‬
‫ال نعرفها‪ ،‬وال يمكن إدراك سرها‪ ،‬ألنه إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فلن يكون هناك مجال‬
‫الحسن والقبيح سيصيران بهذا القول إله َّيان‪.‬‬
‫الحسن والقبح عقل ًّيا‪ ،‬ألن َ‬‫للحديث عن ُ‬
‫عالما ال يمكن فيه تلبية مصالح اإلنسان إال‬ ‫ً‬
‫سؤال يطرح نفسه هنا‪ :‬لماذا يخلق ال ّل ُه ً‬ ‫ّ‬
‫إن‬
‫عن طريق إيالمه والتخ ِّلي عن سعادته‪ ،‬ألم يكن ال ّله ً‬
‫قادرا على خلق العالم على هذا‬
‫األساس؟!‬
‫دعنا نقسم اآلال َم إلى قسمين؛ قسم ال يمكننا التخ ُّلص منه بأنفسنا‪ ،‬لكننا يمكن‬
‫مثل‪ ،‬وقسم آخر ال يمكن لواحد‬ ‫أن نتخلص منه عن طريق اآلخرين كآالم األسنان ً‬
‫منا أن يتخ َّلص منها‪ ،‬إذ نواجهها في هذه الحالة ً‬
‫وجها لوجه وهي كثيرة؛ منها الشعور‬
‫الوحدة الموحشة حتى‬ ‫خاصة حال ًة من ِ‬
‫بالوحدة والعزلة‪ ،‬إذ يعيش اإلنسان المعاصر ّ‬‫ِ‬
‫وإن كان وسط مجموع من البشر؛ وهذه هي الوحدة الحقيقية‪ ،‬التي يشعر فيها اإلنسان‬
‫باالنفراد وإن كان وسط الحشد‪ ،‬فمعظم الناس يعيشون في مجتمعات وتكتُّالت ولك َّن‬
‫إن األوجاع النفسية المصاحبة لهذا الشعور ال تكاد تُطاق‪ ،‬وال يجد‬ ‫قلوبهم شتّى! ّ‬
‫أيضا ت َْو ُق اإلنسان الدائم إلى الخلود رغم قطعه‬
‫مفرا‪ .‬ومن هذه اآلالم ً‬
‫اإلنسان منها ًّ‬
‫‪37‬‬ ‫و‬
‫ُقرط ّرشلا ُةلِكشُم‬ ‫اهعم ِلماعَتلا‬

‫الضروري! ّ‬
‫إن الروح اإلنسانية تنزع إلى البقاء وحب الحياة‪ ،‬لك ّن اليقين‬ ‫ّ‬ ‫بقدوم الموت‬
‫دائما‪ ،‬إذ‬
‫يؤرق مضاجع اإلنسان‪ ،‬ويجعله يشعر بالخوف والضيق ً‬ ‫الموجع بالرحيل ّ‬
‫مفر من الموت والفناء وإن كانت نفسه تنازعه إلى الحياة والبقاء‪ .‬ومن تلك اآلال ِم‬
‫ال ّ‬
‫اآلال ُم المصاحبة للوصول إلى الحقيقة وطلبها‪ ،‬فكما ينزع اإلنسان إلى البقاء الدائم‪،‬‬
‫نظرا‬
‫فإنه ينزع كذلك إلى طلب الحقيقة والمعرفة التا ّمة التي ال يمكنه تحصيلها أبدً ا؛ ً‬
‫حص ُل معرف ًة ما‪ ،‬ويؤمن بها حقيق ًة‬
‫لمحدود ّية قدراته في التحصيل والفهم‪ ،‬بل إنه قد ُي ِّ‬
‫الحق على‬
‫وأن ّ‬ ‫ال مراء فيها ثم يكتشف متأ ِّل ًما بعد مرور وقت ّ‬
‫أن ما آمن به ليس صاد ًقا ّ‬
‫خالفه‪ .‬ومن تلك اآلالم كذلك‪ ،‬اآلالم المصاحبه ِ‬
‫لتوق اإلنسان إلى الكمال والسعي‬ ‫ُ‬
‫الخاص الذي‬
‫ّ‬ ‫مستمرة نحو كماله‬
‫ّ‬ ‫عمره ك َّله في صيرورة‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان َ‬ ‫نحو الخير‪ ،‬إذ يعيش‬
‫الصور‪ .‬وبالنسبة إلى توق البعض‬
‫َ‬ ‫ال يمكنه التح ُّقق به أبدً ا وإن اقترب إليه بصورة من‬
‫لفعل الخير‪ ،‬فإنهم يعيشون حال ًة من األلم المستمر عند ارتكابهم شي ًئا من الشرور‪ ،‬أو‬
‫شر فيه! كما أن هناك آال ًما‬
‫الشك أن ما هم بصدده ينطوي على خير خالص ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫حال ًة من‬
‫أن اإلنسان في تكوينه الروحي‬ ‫َ‬
‫الجمال؛ ومكمن األلم في ذلك ّ‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان‬ ‫حب‬‫تصاحب ّ‬
‫يتوق إلى تحصيل الجماالت بأنواعها المختلفة‪ ،‬وعندما يصطدم بالواقع يجد نفسه‬
‫ال يستطيع التحقق إال بطرف من هذا الجمال‪ ،‬وفي سبيل تحصيله يتخ ّلى عن أنواعه‬
‫األخرى التي كان يرجوها‪.‬‬
‫ذكرت من أنواع األلم وما لم أذكر؛ يمكنني القول إن اإلنسان يعيش‬ ‫ُ‬ ‫بالنظر إلى ما‬
‫ٍ‬
‫إجابات فاصلة‬ ‫ُ‬
‫الوصول إلى‬ ‫مستمرة من األلم القابع في نفسه؛ ولع َّله ال يمكننا أبدً ا‬ ‫حالة‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعض آثارها وحكَمها‪.‬‬
‫عن العلل وراء وجود اآلالم العالم ّية‪ ،‬ولكنه يمكننا أن ندرك َ‬
‫يقول ال ّله‪َ [ :‬فإِ َذا َر ِك ُبوا فِي ا ْل ُف ْل ِك َد َع ْوا ال َّل َه ُم ْخ ِل ِصي َن َل ُه الدِّ ي َن]؛ ما الذي حدث هنا؟‬
‫إن هذا اإلنسان الراكب عرض البحر يعيش حالة من التيه والخوف واأللم الشديد الذي‬ ‫ّ‬
‫يجعله يشعر بتبع َّيته إلى غيره‪ ،‬إن هذا الشعور ال يمكن إلنسان أن يعيشه ما دام يعيش‬
‫الروحي‪ً ،‬‬
‫فضل عن‬ ‫ّ‬ ‫حياة رخاء و َد َعة؛ إن األلم هنا يجعل اإلنسان ينحو تُجاه تكامله‬
‫أنه بهذه اآلالم يستطيع أن يعيش حال ًة من اللين والرفق ور َّقة القلب! حال ًة حدثنا عنها‬
‫َّأوه‪،‬‬
‫«إن اإلنسان عندما يشعر بالوجع ويبدأ في الت ُّ‬‫الفيلسوف اإلسباني أونامونو بقوله ّ‬
‫فإنه ال يريد من اآلخرين أن يفزعوا إلى نجدته‪ ،‬وإنما يريد التنفيس عن نفسه والتعبير‬
‫نايكلم ىفطصم‬ ‫‪38‬‬
‫عن ضعفه وعجزه‪ ...‬فعندما يشعر اإلنسان باللين والرفق تجاه نفسه‪ ،‬فإنه سيكون رقي ًقا‬
‫مرنًا تجاه غيره‪ ،‬وهذا ما ال يمكن حصوله في حالة الفرح والسعادة‪ ،‬ألن السعادة ال‬
‫تدعو اإلنسان إلى الخضوع وخفض جناح الذل لآلخرين‪ ،‬بخالف الحزن واأللم»‪.‬‬
‫إن اآلالم هي التي تجعل اإلنسانية تتكاتف وتتعاضد‪ ،‬وليس هناك ما يقربنا من بعضنا‬
‫البعض كالموت على سبيل المثال‪ ،‬والمصائب التي تجترحنا!‬
‫دراسات‬

‫‪1‬‬
‫والرومي‬
‫الشر بين ابن عربي ّ‬
‫مشكلة ّ‬
‫أوزجور كوجا‬
‫‪2‬‬ ‫_____________________________________________________‬

‫ُم َل َّخص‬
‫ُت َقارن هذه الورقة بين ما قدّ مه محيي الدين بن عربي من تقرير حول مشكلة‬
‫الشر قد‬
‫ّ‬ ‫قر َره جالل الدين الرومي‪ .‬يرى اب ُن عربي وجود‬ ‫الشر في مقابل ما َّ‬
‫فالشر عنده يعني‬
‫ّ‬ ‫الميتافيزيقي والفعل االختياري ل ّله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل من الجبر‬‫جاء نتيج َة ٍّ‬
‫ُوجدُ‬
‫وبالرحمة اإلله ّية ت َ‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ظلًّ ضرور ًّيا للوجود المنطوي في الالتناهي‬
‫الم ْض َم َرة في المطلق‪ ،‬وبها يمكن لهذه الضرورة الميتافيزيق ّية أن‬
‫الممكنات ُ‬
‫ُ‬
‫تتع ّين‪ .‬وفي مقابل تلك النّظر ّية الجبرية االختيارية في العدالة اإلله ّية لدى‬
‫الرومي نظر ّي ًة للعدالة اإلله ّية ُمنحصر ًة في االختيار إلى حدٍّ‬ ‫ابن عربي؛ ُيقدِّ م ّ‬
‫الشر في اإلرادة اإلله ّية‪ .‬ومن أجل الحفاظ على الكمال‬ ‫فيتلمس جذور ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعيد‪،‬‬
‫كثيرا ما يشير إلى النتائج اإليجاب ّية ا ّلتي ال ُيت ََأ َّدى‬
‫األخالقي ل ّله دون مساس‪ ،‬فإنّه ً‬
‫الشر‪ .‬تساعد نظري ُة ابن عربي في العدالة اإللهية في‬
‫إليها إال عن طريق وجود ّ‬
‫الشر من أجل الحفاظ على فعل االختيار؛ وبالتّالي يتح ّقق‬‫التّأكيد على ضرور ّية ّ‬
‫الرومي‪،‬‬‫الشرور‪ ،‬أما ّ‬ ‫مباشرا بتج ِّلي هذه ّ‬
‫ً‬ ‫اإللهي‪ ،‬وال يرتبط ارتبا ًطا‬
‫ّ‬ ‫الكمال‬

‫‪1 Ozgur Koca, Ibn Arabī (1165–1240) and Rūmī (1207–1273) on the Question of‬‬
‫‪Evil: Discontinuities in Sufi Metaphysics, ISLAM AND CHRISTIAN-MUSLIM‬‬
‫‪RELATIONS, 2017, VOL. 28, NO. 3, 293-311,‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪.‬‬
‫‪ 2‬أوزجور كوجا ‪ Ozgur Koca‬أستاذ الدراسات اإلسالمية والفلسفة في مدرسة بيان كليرمونت‬
‫اإلسالمية للدراسات العليا بكاليفورنيا‪.‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪40‬‬
‫مباشرا‬
‫ً‬ ‫جاعل إراد َة ال ّله متع ّلق ًة َت َع ُّل ًقا‬
‫ً‬ ‫فإنّه يأتي في نظريته عن العدالة اإللهية؛‬
‫اإللهي عن طريق إبراز النتائج‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالش ّر؛ وبالتّالي يحاول الحفاظ على خير ّية القصد‬
‫الش ّر في العا َلم‪.‬‬
‫اإليحاب ّية لحصول ّ‬

‫كلمات مفتاح ّية‪ :‬ابن عربي‪ ،‬ال ّرومي‪ ،‬ثيوديسيا‪ ،‬العدالة اإلله ّية‪،‬‬
‫ّ‬
‫الش ّر‪ ،‬ال ّت َص ّوف‪ ،‬اإلسالم‪.‬‬
‫الشر؟ أال يقدر على ذلك‪ ،‬أم أنّه ال يريد؟ ُت َعدّ مشكل ُة ّ‬
‫الشر‬ ‫لماذا ال يمنع ال ّل ُه َّ‬
‫ال‪،‬‬ ‫واحد ًة من أكثر المشكالت تحدِّ يا ألي رؤية كوني ٍة تتأسس على اإليمان ٍ‬
‫بإله م َت َع ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً ّ‬
‫قائما بين القول بخير ّية ال ّله‬
‫إشكال ً‬‫ً‬ ‫ُك ِّل ّي القدرة‪ ،‬صاحب وجود مطلق‪ .‬ال ّ‬
‫شك َّ‬
‫أن‬
‫الشر‪ ،‬والمعاناة ا ّلتي ال ُم َس ِّو َغ لها‬
‫المحضة مضاف ًة إلى قدرته المطلقة وبين استفحال ّ‬
‫قوبل علما ُء الكالم المسلمون‪ ،‬والفالسف ُة‪ ،‬والعرفا ُء بهذا التّحدّ ي‬ ‫في هذا العالم‪َ .‬‬
‫تأويالت للمشكلة تختلف في‬ ‫ٍ‬ ‫الم َؤ َّسس على مثل هذه التّناقضات ال ّظاهرة‪ ،‬فقدّ موا‬ ‫ُ‬
‫‪3‬‬
‫نجوعها ق ّل ًة وكثرةً‪.‬‬
‫المقال بين َت ْق ِر َير ِي ابن عربي ّ‬
‫والرومي حول مشكلة َّ‬
‫الشر‪ ،‬ويقابل‬ ‫ُ‬ ‫يقارن هذا‬
‫نظرا‬
‫الشيء؛ ً‬ ‫أن قراء ًة مقارن ًة هنا قد تت ُ‬
‫ّسم بالخداع بعض ّ‬ ‫بينهما‪ .‬أعرف تما ًما ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فابن عربي‬ ‫الم َت َل ِّقي ً‬
‫الختالف َش ْخ َص َّي َت ْي َها في المسلك‪ ،‬ور ّبما في الجمهور ُ‬
‫َش إلى حدٍّ بعيد؛‬ ‫وصوفي ُمنْت ٍ‬
‫ّ‬ ‫ومي شاعر‬
‫الر ُّ‬
‫صوفي متفلسف‪ ،‬بينما ّ‬
‫ّ‬ ‫األول‬
‫في المقام ّ‬
‫الولِ ِه في العشق‪ ،‬أ ّما جمهور ابن عربي فيبدو أكثر تع ّل ًقا‬‫يبدو جمهوره متع ّل ًقا بشعره َ‬
‫مقارنة في حسبانها هذه‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫أي محاولة إلجراء ّ‬ ‫بفتوحاته العرفان ّية‪ .‬يجب أن تأخذ ُّ‬
‫والرومي من كتاباتِهما‪ .‬وعلى‬ ‫الفروق ا ّلتي قد تؤ ّثر على ما كان يرمي إليه اب ُن عربي ّ‬

‫الش ّر ِجدًّ ا‪ ،‬لذا نذكر منها ما وجدناه مفيدً ا فحسب‪ ،‬إذ يمكن‬
‫‪ 3‬تكثر األدب ّيات ا ّلتي تتناول مشكلة ّ‬
‫مثل على نظرة عا ّمة حول الموضوع عند هيك ‪ ،)1972( Hick‬وبيريبوم ‪Pereboom‬‬ ‫العثور ً‬
‫(‪ .)2005‬ولمقاربة مقارنة‪ ،‬يمكن اال ِّطالع على بوكر ‪ ،)1975( Bowker‬وجولدتسهير‬
‫‪ ،)51-99 ،1981( Goldziher‬وفان إينواجين ‪ .)1995( van Inwagen‬وألجل معالجات‬
‫إلحاد ّية وإيمان ّية للموضوع‪ ،‬يمكن اال ِّطالع على هيوم ‪ ،)1990( Hume‬ومارتن ‪Martin‬‬
‫(‪ ،)1978‬وماكي ‪ ،)1955( Mackie‬والكروا ‪ ،)1974( La Croix‬وبالنتينجا ‪Plantinga‬‬
‫(‪.)1974‬‬
‫‪41‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫إن الرومي وابن عربي كانا ينتهالن‬ ‫ُ‬


‫القول ّ‬ ‫الرغم من هذه االختالفات‪ ،‬إال أنّه يمكن‬
‫ّ‬
‫استقر في القرنَين ال ّثاني‬ ‫الصوفي في اإلسالم كما‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫معين واحد؛ أال وهو التّقليد ّ‬ ‫من‬
‫عشر والثالث عشر‪ .‬إنّهما يلتقيان على مستوى ال ّطريقة والفكر في جوانب بعينها‪،‬‬
‫مثل على أبعاد فلسف ّية والهوت ّية‪ ،‬أ ّما ابن عربي‪ ،‬فإنّه كان‬ ‫الرومي ً‬ ‫فتحتوي قصائد ّ‬
‫َش‪ ،‬وبينما كان الرومي يكتب بعض نصوصه في‬ ‫كصوفي ُمنْت ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُيع ّبر عن نفسه أحيانًا‬
‫الشعر بعض‬ ‫أيضا في قول ّ‬ ‫فإن ابن عربي كان ينبسط ً‬ ‫صورة نسق ّية كـ (فِ ِيه َما فيه)‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األحايين‪.‬‬
‫لحظ مع ذلك أنّهما لم يكتبا بطريقة‬ ‫والرومي ِ‬
‫غز َيري اإلنتاج‪ ،‬و ُي َ‬ ‫كان ابن عربي ّ‬
‫أردت معالج َة موضوع ما قد تناواله بالنَّ َظر‪ ،‬فإنّه ينبغي عليك‬‫َ‬ ‫نسق ّية غال ًبا‪ ،‬فإذا ما‬
‫الضخمة‪ ،‬ومن َث ّم عليك أن‬ ‫مدوناتهما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫أن تجمع قصاصات ومقتطفات عنه من َّ‬
‫أخيرا في نمط متماسك واحد‪ .‬وبدوري سأقوم بمتابعتهما‬ ‫تضعها م ًعا حتى تظهر ً‬
‫الخاص عندما‬
‫ّ‬ ‫سأقدِّ م تفسيري‬ ‫نصا عندما يساعد خطابهما في ذلك صراح ًة‪ ،‬وإال ُ‬ ‫ًّ‬
‫اإلطار العا َّم ا ّلذي تدور‬
‫َ‬ ‫المباشر بعيدَ المنال‪ ،‬مع األخذ في االعتبار‬
‫ُ‬ ‫يكون خطا ُبهما‬
‫ّلت رؤاهم الكون ّية‪.‬‬ ‫كل واحد منهما‪ ،‬وكذلك المصادر ا ّلتي شك ْ‬ ‫فيه ميتافيزيق ُة ِّ‬
‫الصفحات التّالية‬ ‫ومع ت ََو ِّخي الحذر ا ّلذي أسلفنا الكال َم فيه‪ ،‬فإنّي سأجادل في ّ‬
‫الشر وكمال‬ ‫ِ‬
‫عن فكرة اختالفهما في مقاربة مشكلة الشر‪ ،‬ومحاولة التّوفيق بين وجود ّ‬
‫ٍ‬
‫بوجه‬ ‫ال ّله األخالقي وقدرته المطلقة‪ ،‬ورغم وجود عالقة كبيرة تجمع بين المفك َِّرين‬
‫أن العا َل َم‬
‫عا ّم‪ ،‬إال أنّهما يختلفان في هذه المسألة‪ 4.‬يؤكد كالهما ــ كما يظهر ــ على َّ‬
‫فإن رحم َة‬ ‫داخل فيه أو مفار ًقا عنه‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫صورة غامضة‪ ،‬وأنَّه ْ‬
‫وإن لم يكن‬ ‫مغمور بال ّله في‬
‫ٌ‬
‫الخ ْلق‪ ،‬إذ يصدر َت َك ُّث ُر هذا العا َلم في بعض نواحيه عن‬
‫ال ّله وإحسانَه هما الدّ افع وراء َ‬

‫أن الرومي كان يؤ ّدي صالته‬ ‫‪ 4‬يذكر سيد حسين نصر ‪ّ )138 ،1987( Seyyed Hossein Nasr‬‬
‫رجح ــ‬ ‫ّ‬
‫مرجعي البن عربي في قون ّية‪ .‬ولعل هذا ُي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فسر‬‫اليوم ّية مأمو ًما خلف القونوي؛ وهو أشهر ُم ِّ‬
‫تأثيرا غير مباشر مارسه ابن عربي على الرومي من خالل تلميذه‪ .‬ويجادل‬ ‫كما يرى ‪ Nasr‬نصر ــ ً‬
‫ويليام تشيتيك ‪ )2012( William Chittick‬على الجانب اآلخر عن فكرة ّ‬
‫أن التّراث الروحي‬
‫بالشخص‪ ،‬أو‬ ‫أن الرومي كان يعرف ابن عربي ّ‬ ‫قد ألهم كال الرجلين‪ ،‬فال يوجد دليل قاطع على ّ‬
‫أن يكون قد عالج فكره عن كثب‪ .‬ويعتقد فرانكلين لويس ‪ Franklin Lewis‬وآناماري شيمل‬
‫الرومي لم يتأ ّثر فكر ًّيا بابن عربي أبدً ا‪.‬‬ ‫أيضا ّ‬
‫بأن ّ‬ ‫‪ً Annemarie Schimmel‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪42‬‬
‫ليست في حقيقتها إال‬
‫ْ‬ ‫أسماء ال ّله وصفاته وتج ّل َياتِها المتعدِّ َدة على الدّ وام‪ ،‬فال ّظواهر‬
‫اإلنساني هنا ّإل كونَه مرآ ًة ُمحيط ًة تنعكس‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الكمال‬ ‫مجموع عالقاتها بال ّله‪ ،‬وال يعني‬
‫َ‬
‫عوالم ُم َص َّغ َّرة؛ تعكس‬
‫َ‬ ‫عليها أسماء ال ّله وصفاته؛ وبذلك يصبح الناس في آحادهم‬
‫ِ‬
‫إمكانات هذا العا َلم الكبير‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بتساو‬
‫ٍ‬
‫اختالفات ها ّمة‬ ‫المفكرين إال ّ‬
‫أن هناك‬ ‫الص َلة الفكر ّية بين‬
‫َ‬ ‫الرغم من هذا ِّ‬ ‫إنّه على ّ‬
‫الشر‪ .‬يفهم ابن عربي وجود الشر على أنه الزم عن الضرورة‬ ‫في معالجاتهما لمشكلة ّ‬
‫روري للوجود المنطوي في الالتناهي‬ ‫ّ‬ ‫الض‬
‫الظل ّ‬ ‫فالشر يعني ذلك ّ‬ ‫الميتافيزيق ّية‪ّ ،‬‬
‫الرحمة‬
‫اختياري؛ أال وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬كما تحتوي نظريته في العدالة اإلله ّية على عنصر‬ ‫ّ‬
‫المضمر ُة في المطلق‪ ،‬وبها يمكن لهذه الضرورة‬‫َ‬ ‫الممكنات‬
‫ُ‬ ‫اإلله ّية ا ّلتي بها ت َ‬
‫ُوجد‬
‫ٍ‬
‫إرادة مباشرة‪ ،‬أو خلق مباشر من جهة ال ّله‪ .‬وفي مقابل‬ ‫تتكشف دون‬ ‫أن َّ‬ ‫الميتافيزيق ّية ْ‬
‫الرومي‬
‫تلك النّظر ّية الضرور ّية اإلراد ّية في العدالة اإلله ّية لدى ابن عربي‪ُ ،‬يقدِّ م ّ‬
‫جذورا‬
‫ً‬ ‫للشر‬
‫ِّ‬ ‫نظر ّي ًة للعدالة اإلله ّية تنحصر في االختيار إلى حدٍّ بعيد‪ ،‬إذ ّ‬
‫يتلمس‬
‫في اإلرادة اإلله ّية‪ .‬ومن أجل الحفاظ على الكمال األخالقي ل ّله دون مساس‪ ،‬فإنّه‬
‫كثيرا ما يشير إلى النتائج اإليجاب ّية ا ّلتي ال ُيت ََأ َّدى إليها إال عن طريق وجود ّ‬
‫الشر في‬ ‫ً‬
‫فالشر عنده ليس مخلو ًقا لذاته عندما يريده ال ّله‪ ،‬أو يخلقه‪ ،‬أو ُيبرزه إلى‬
‫هذا العا َلم‪ّ ،‬‬
‫الشر في‬
‫دمج ِّ‬
‫الوجود‪ ،‬لكنّه يظهر من أجل خير أسمى‪ ،‬وفي نهاية المطاف يمكن ُ‬
‫الرحمة الك ِّل ّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫السائدة حول مشكلة ّ‬
‫الش ّر‬ ‫باختصار إلى بعض االتّجاهات ّ‬‫ٍ‬ ‫بادئ ذي بدء‪ُ ،‬أشير‬
‫ُ‬
‫اإلسالمي ما بين القرن التاسع والثاني عشر كمقدِّ مة في ظاللها‬ ‫ّ‬ ‫في تاريخ الفكر‬
‫بتناو ِل نظر ّي َت ْي ِه َما في العدالة‬
‫يمكن مناقشة الرومي وابن عربي‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬سأقوم ُ‬
‫تقرير ْي ِهما‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأخيرا أقارن وأقابل بين‬
‫ً‬ ‫اإلله ّية‪،‬‬

‫ُ‬
‫المعالجات اإلسالمية لمشكلة الشر‬
‫بعض‬ ‫المجال واس ًعا لتفسيرات متعدِّ دة حول مشكلة الشر‪ ،‬إذ تأتي ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫القرآن‬ ‫يفتح‬
‫اآليات القرآن ّية مؤ ِّكدَ ة على سيادة ال ّله وقدرته المطلقة؛ مثل قوله‪[ :‬إِ َّن ال َّل َه َع َلى ك ُِّل‬
‫ون](األنبياء‪:‬‬ ‫َش ْي ٍء َق ِد ٌير] (البقرة‪ ،)20 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫[ل ُي ْس َأ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْس َأ ُل َ‬
‫‪43‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫ون إِلَّ َأن َي َشا َء ال َّل ُه] (اإلنسان‪ ،)30 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫[وال َّل ُه‬ ‫[و َما ت ََشا ُء َ‬
‫‪ ،)23‬وقوله‪َ :‬‬
‫اآليات إلى حدٍّ بعيد على السيادة‬ ‫ُ‬ ‫ون] (الصافات‪ .)96 :‬تشدِّ د هذه‬ ‫َخ َل َقك ُْم َو َما َت ْع َم ُل َ‬
‫َ‬
‫األفعال اإلنسان ّي َة‪ .‬وال‬ ‫خلق ال ّل ِه‬
‫اإلله َّية‪ ،‬كما تؤكِّد على قدرته وإرادته؛ إشار ًة إلى ِ‬
‫بحدٍّ ‪ ،‬درجة أنها تحيط بمقاصد اإلنسان الكامنة خلف اختياراتِه‬ ‫ُحدُّ هذه القدر ُة َ‬ ‫ت َ‬
‫ألي ِع َّلة ثانو ّية أخرى قد تكون في هذا العا َلم‪ .‬لك ّن هذا‬
‫حقيقي ّ‬‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬فال وجو َد‬ ‫ّ‬
‫الرواية القرآن ّية‪ ،‬إذ هنالك آيات أخرى كثيرة تشير إلى‬
‫ليس سوى جانب واحد من ّ‬
‫محاس ًبا‬
‫َ‬ ‫اإلرادة اإلنسان ّية على أنّها حقيقة‪ ،‬وإلى مسئولية اإلنسان عن أفعاله وكونه‬
‫عليها‪ ،‬كما تشير كذلك إلى ضرورة تح ُّقق العدل المطلق؛ ومن ذلك قوله‪[ :‬إِ َّن ال َّل َه‬
‫[و َلت ُْس َأ ُل َّن َع َّما كُنت ُْم َت ْع َم ُل َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون] (النَّحل‪:‬‬ ‫َل َي ْظل ُم م ْث َق َال َذ َّرة] (النِّساء‪ ،)40 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫‪ ،)93‬وقوله‪َ [ :‬ما َأ َصا َب َك ِم ْن َح َسن ٍَة َف ِم َن ال َّل ِه َو َما َأ َصا َب َك ِم ْن َس ِّي َئ ٍة َف ِم ْن َن ْف ِس َك]‬
‫(النّساء‪ ،)79 :‬وقوله‪َ [ :‬أ َو َل َّما َأ َصا َب ْتكُم ُّم ِصي َب ٌة َقدْ َأ َص ْبتُم ِّم ْث َل ْي َها ُق ْلت ُْم َأن َّٰى َٰه َذا ُق ْل‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫[و َما‬ ‫ُه َو م ْن عند َأن ُفسك ُْم إِ َّن ال َّل َه َع َل ٰى ك ُِّل َش ْيء َقد ٌير] (آل عمران‪ ،)165 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫ون ِم ْن َع َم ٍل إِ َّل ُكنَّا َع َل ْيك ُْم ُش ُهو ًدا إِ ْذ‬ ‫ُون فِي َش ْأ ٍن وما َت ْت ُلو ِمنْه ِمن ُقر ٍ‬
‫آن َو َل َت ْع َم ُل َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َتك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يض َ ِ ِ‬ ‫ت ُِف ُ‬
‫[و َق َال ا َّلذي َن َك َف ُروا َل ت َْأتينَا َّ‬
‫السا َع ُة ُق ْل َب َل ٰى‬ ‫ون فيه] (يونس‪ ،)61 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫ض‬ ‫ات َو َل فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫ب َل يع ُزب َعنْه ِم ْث َق ُال َذر ٍة فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َر ِّبي َلت َْأت َينَّك ُْم َعال ِم ا ْل َغ ْي ِ َ ْ ُ ُ‬
‫‪5‬‬
‫ين] (سبأ‪.)3 :‬‬ ‫َو َل َأ ْص َغ ُر ِمن َٰذلِ َك َو َل َأ ْك َب ُر إِ َّل فِي ِكت ٍ‬
‫َاب ُّمبِ ٍ‬
‫الصريح؟! إذا كان ال ّل ُه َ‬
‫خالق أفعالنا‪،‬‬ ‫كيف يمكن للمرء هنا معالجة هذا التّناقض ّ‬
‫شرا‬
‫وإن ً‬‫فخيرا‪ْ ،‬‬
‫ً‬ ‫خيرا‬
‫إن ً‬ ‫ً‬
‫مسئول عن أفعاله‪ُ ،‬معا َق ًبا عليها؛ ْ‬ ‫فلماذا يكون الواحد منّا‬
‫الرسول لم يتناول هذا الموضوع في‬ ‫أن الجيل األول من صحابة ّ‬ ‫فشرا؟ يظهر لنا ّ‬
‫ًّ‬
‫ِ‬
‫منهجي إلى حدٍّ بعيد‪ ،‬ولذلك ت ُِركت المسأل ُة عص َّي ًة على َ‬
‫الح ّل‪ .‬ال ّله خالق‬ ‫ٍّ‬ ‫نقاش‬
‫ألهي‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫يظل‬ ‫أفعالنا‪ ،‬وأ ًّيا ما كان يحدث في هذا العا َلم‪ ،‬فهو حاصل بأمر ّ‬
‫ً‬
‫مسؤول عن أفعاله‪ ،‬ويبقى ال ّل ُه هو العدل المطلق!‬ ‫اإلنسان‬
‫لقد كان لزا ًما على المجتمع المسلم النّاشئ النّزوع نحو تحليل أكثر منهج ّية‬
‫السابقة عليه‪ ،‬واألنظمة الفلسف ّية‬
‫خضم اشتباكه مع التّقاليد الدّ ين ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫الشر في‬
‫لمشكلة ّ‬

‫‪ 5‬في الحقيقة‪ ،‬يمكن إدراج جميع اآليات التشريعية والوعظية هنا‪ ،‬ألنها تعتمد على افتراض كون‬
‫حرا‪.‬‬
‫اإلنسان ًّ‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪44‬‬
‫ِ‬
‫وجهات ٍ‬
‫نظر مختلفة‪،‬‬ ‫مدارس كالم ّية متعدّ دة بمعالجة الموضوع من‬ ‫قامت‬
‫ْ‬ ‫القديمة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫جانب واحد من جوانبها فحسب‪ ،‬على حساب‬ ‫فأحيانًا تُعا َلج ّ‬
‫الرواي ُة القرآن ّية من جهة‬
‫تناو َل الموضوع عن طريق الجمع بين ّ‬
‫الحرية‬ ‫البعض ُ‬
‫ُ‬ ‫الجوانب األخرى‪ ،‬بينما يحاول‬
‫نسقي واحد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإللهي في نظام‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية والجبر‬
‫نشأت‬
‫ْ‬ ‫تقدّ م مدرس ُة المعتزلة الكالم ّية َّأو َل معالجة منهج ّية لمشكلة ّ‬
‫الشر؛ ولقد‬
‫الميالدي‪ ،‬وكان على رأسها‬
‫ّ‬ ‫الهجري‪/‬ال ّثامن‬
‫ّ‬ ‫هذه المدرسة في البصرة في القرن ال ّثاني‬
‫متك ّلمون مثل واصل بن عطاء (تُو ّفي ‪ ،)748/131‬وعمرو بن عبيد (تو ّفي ‪،)761/144‬‬
‫موقف المعتزلة ر َّد فعل تُجاه المدرسة‬
‫ُ‬ ‫العلف (تو ّفي ‪ .)849/235‬كان‬
‫وأبي الهذيل ّ‬
‫السيادة‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬والقدرة اإلله ّية على حساب أفكار أخرى‬ ‫ا ّلتي تشدِّ د على فكرة ِّ‬
‫كالعدالة اإللهية‪ ،‬والحر ّية اإلنسان ّية؛ َحدّ أن تصير لديهم منعدم َة المعنى‪ .‬لم تكن تلك‬
‫أن المبالغة في‬ ‫ِ‬
‫فكرة َّ‬ ‫النّزعة غريب ًة في اإلسالم المبكِّر‪ ،‬لذا قام المعتزل ُة بالجدال عن‬
‫يحط من العدالة اإللهية‪ ،‬وخير ّية ال ّله المطلقة‪.‬‬
‫السيادة اإلله ّية من شأنه أن ّ‬
‫التّاكيد على ّ‬
‫أي أساس يكون اعتما ُده عليها‬ ‫إذا كان ال ّل ُه َ‬
‫خالق أفعالنا جمي ًعا‪ ،‬وحتى بمقاصدها‪ ،‬فعلى ّ‬
‫ّوفيق بها بين خلق ال ّله لألفعال مع فكرة الجزاء‬
‫إذ يحاسبنا؟ ما الطريقة ا ّلتي بها يمكن الت ُ‬
‫الحط من شأن العدالة والخير ّية المطلقة ل ّله؟‬
‫ّ‬ ‫األخروي سواء كان عقا ًبا أم إنعا ًما دون‬
‫ّ‬
‫فكرا عقالن ًيا للغاية؛ يجمع بين العدالة‬‫من أجل الخروج من هذا المأزق؛ قدّ م المعتزل ُة ً‬
‫اإللهية والحر ّية اإلنسان ّية‪ ،‬إذ قالوا بنفي فعل الخلق عن ال ّله هنا‪ ،‬فال ّله ال يخلق ال الخير‬
‫اإلنسان ا ّلذي يملك إراد ًة َّ‬
‫حرةً؛ وبالتّالي يمكن محاسبتُه على‬ ‫ُ‬ ‫الشر‪ ،‬بل يخلقهما‬
‫وال ّ‬
‫شر‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬يقول واصل بن عطاء‪ّ :‬‬
‫«إن الباري‬ ‫ما قدّ َم ْت يداه من خير أو ّ‬
‫ُ‬
‫الفاعل للخير‬ ‫شر وال ظلم {‪ ،}...‬فالعبد هو‬
‫اف إليه ّ‬
‫تعالى حكيم عادل‪ ،‬ال يجوز أن ُي َض َ‬
‫والرب تعالى‬
‫ُّ‬ ‫الم َج َازى على فعله‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والش ّر‪ ،‬واإليمان والكفر‪ ،‬والطاعة والمعص ّية‪ ،‬وهو ُ‬
‫َأ ْقدَ َر ُه على ذلك ك ّله»‪.6‬‬
‫والشر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خالق الخير‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان َ‬ ‫لعل هذا ال ّطرح يحل مشكلة العدالة اإلله ّية‪ ،‬فإذا كان‬ ‫َّ‬
‫مت يداه‪ ،‬وبذلك يتح ّقق العدل‪ .‬لكن‪ ،‬تنشأ عن هذا‬ ‫فإنّه يمكن ل ّله محاسبته طب ًقا لما قدّ ْ‬

‫ّ‬
‫الشهرستاني‪ ،‬الملل والنِّحل‪( ،‬السعودية‪ :‬مكتبة نزار مصطفى البان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،)2007‬ص ‪.29‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪45‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫إجبارا‬
‫ً‬ ‫عادل؟ أليس هذا َحدًّ ا ُم ِ‬
‫لز ًما‪ ،‬بل‬ ‫تساؤالت‪ :‬هل يجب على ال ّله أن يكون ً‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫الحل‬
‫والشر ً‬ ‫ِ‬
‫أصل؟‬ ‫ُّ‬ ‫الخير‬
‫ُ‬ ‫ُمخ ًّل ّ‬
‫بالسيادة اإلله ّية المطلقة؟ واألهم من ذلك؛ ما الذي يعنيه‬
‫مدى يمكن لعقل اإلنسان المحدود تمييز أحدهما عن‬ ‫أي ً‬ ‫أهما مفهومان عقل ّيان؟ وإلى ّ‬
‫اآلخر؟ وما دمنا ال نمتلك رؤي ًة واضح ًة للشر والخير‪ ،‬فعلى ّ‬
‫أي أساس يمكن اعتبار‬
‫األفعال اإلله ّية عادل ًة أو ظالم ًة؟‬

‫السابقة‪ ،‬تأتي مدرس ُة األشاعرة الكالم ّية التي ّ‬


‫أسسها أبو الحسن‬ ‫ولهذه الصعوبات ّ‬
‫الحجة‬
‫ّ‬ ‫األشعري (تو ّفي ‪ )936/324‬رافض ًة النظر ّي َة المعتزل ّية تما ًما‪ .‬يمكن وضع أصل‬
‫قاصرا عن تمييز الخير من الشر‬ ‫ً‬ ‫اإلنساني‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫التي طرحوها في هذه الكلمات‪ :‬ما دام‬
‫ِ‬
‫افتراض‬ ‫ائر ك ُّله حول العدالة اإلله ّية منبن ًيا على‬ ‫ُ‬
‫الجدال الدّ ُ‬ ‫على نحو حاسم‪ ،‬وما دام‬
‫أي كالم حول نظرية للعدالة اإلله ّية ّ‬
‫يظل كال ًما فاقدَ‬ ‫الح َس َن من القبيح‪ّ ،‬‬
‫فإن َّ‬ ‫معرفتنا َ‬
‫أصل‪ .‬يع ّبر أبو بكر محمد الباقالني (تو ّفي‬
‫األسس ال وجو َد لها ً‬
‫ُ‬ ‫المعنى‪ ،‬وتكون تلك‬
‫الم َم ِّيز للمدرسة األشعر ّية‪ ،‬فيقول‪« :‬نحن نمنعكم أشدّ‬ ‫‪ )1013/403‬عن هذا األصل ُ‬
‫ِ‬
‫المنع من أن يكون في العقل بِ ُم َج َّرده طريق إلى العلم ب ُق ْب ِح فعل أو ُ‬
‫بح ْسنه‪ ،‬أو حظره‬
‫أو إباحته أو إيجابه‪ ،‬ونقول‪ّ :‬‬
‫إن هذه األحكام بأسرها ال تثبت لألفعال إال ّ‬
‫بالشرع دون‬
‫قضية العقل»‪.7‬‬
‫مغايرا لطريق المعتزلة ويرتدّ ون مر ًة أخرى إلى‬ ‫ً‬ ‫وهكذا يسلك األشاعرة طري ًقا‬
‫الوراء؛ مؤكّدين على الس َّيادة والقدرة اإلله ّية‪ ،‬قائلين بما ُي ْم ِكن تسميتُه «ال أدر ّية‬
‫البشري‬
‫ُّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬وال يستطيع ُ‬
‫العقل‬ ‫الشر‪ ،‬فال ّله هنا خالق ّ‬
‫مشروطة» فيما يتع ّلق بمسألة ّ‬
‫الح َس ِن من القبيح‪ ،‬ومن َث َّم التّمييز بينهما‪ 8.‬يلخص‬
‫اإللهي لمعرفة َ‬
‫ّ‬ ‫التّخ ُّل َ‬
‫ص إلى العلم‬
‫موجز‪« :‬الخير والشر بقضاء ال ّله وقدره‪ ،‬وإنّا‬
‫موقف هذه المدرسة في قول َ‬
‫َ‬ ‫األشعري‬
‫ُّ‬
‫و«أن ما شاء ال ّله كان‪ ،‬وما لم يشأ‬
‫ّ‬ ‫نؤمن بقضاء ال ّله وقدره‪ ،‬خيره وشره‪ ،‬حلوه ومره»‪،9‬‬

‫‪ 7‬الباقالني‪ ،‬التمهيد‪( ،‬بيروت‪ ،‬المكتبة الشرقية‪ ،)1957 ،‬ص ‪.105‬‬


‫أيضا على مذهب المناسبة ِ‬
‫الع ِّل ّي لدى األشاعرة‪.‬‬ ‫‪ 8‬ينعكس هذا ً‬
‫‪ 9‬األشعري‪ ،‬اإلبانة عن أصول الديانة‪ ،‬تحقيق وتقديم وتعليق‪ :‬فوقية حسين محمود (مصر‪ :‬دار‬
‫األنصار‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪46‬‬
‫أيضا بإدخال بعض العناصر العقالن ّية َأ ْخ ًذا عن المعتزلة من‬ ‫لم يكن»‪ .10‬قام األشاعرة ً‬
‫أجل التّخفيف من ِحدَّ ِة النتائج الالزمة عن نظرتهم المفرطة في الجبر ّية‪ ،‬فقالو بنظر ّي ٍة‬
‫يظل ال ّله‬
‫أسموها «الكسب»؛ شغلت هذه النظر ّي ُة مكانًا ها ًّما من اإلرادة اإلنسان ّية‪ ،‬إذ فيها ّ‬
‫ِ‬
‫لمسؤولية‬ ‫والشر‪ ،‬ولك ّن كسب النتائج يكون لإلنسان فحسب؛ ما ُي َؤ ِّس ُس‬ ‫الخير‬ ‫خال ًقا‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫بقدرة ال ّل ِه وخير ّيته المطلقة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫القول‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان عن أفعاله فيما يرى األشاعرة‪ ،‬و ُيدَ ِّعم‬
‫يتّخذ بعض الصوفية في مؤ َّلفاتهم موق ًفا يقارب األشاعرة‪ ،‬إذ تقع الرحمة واإلرادة‬
‫اإلله ّية في القلب من تأويالتهم‪ ،‬فقالوا تحديدً ا بوجوب استسالم اإلنسان لإلرادة‬
‫اإلله ّية‪ ،‬فما دا َم العالم مخلو ًقا ل ّله على أجمل صورة وأعدلها‪ ،‬فإنّه على اإلنسان‬
‫بالرضا والتّوكُّل على ال ّله المتصف بالرحمة والحكمة‪ُ .‬ي ِ‬
‫ور ُد‬ ‫أن يتل َّقى األمر اإللهي ِّ‬
‫ْ‬
‫عز ّ‬
‫وجل كالم ّيت‬ ‫«أن يكون العبدُ بين يدَ ي ال ّله ّ‬
‫مثل في رسالته معنى ْ‬
‫القشيري (‪ً )1966‬‬
‫ّ‬
‫بين يدي الغاسل؛ ُي َق ِّل ُبه كيف يشاء؛ ال يكون له حركة وال تدبير»‪.11‬‬
‫الشر من خالل‬ ‫ُيقارب فالسفة مسلمون كابن سينا (تو ّفي ‪ )4037/428‬مشكل َة ّ‬
‫األفالطوني‬ ‫الفيض‬ ‫تتوسل‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أساسا إلى مصادر الفلسفة اليونان ّية‪ ،‬ففي معالجة َّ‬ ‫ً‬ ‫العودة‬
‫اتي‪ ،‬إذ يفيض عن‬ ‫إيجاب ال ّل ِه ّ‬
‫الذ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ث؛ يقول ابن سينا بصدور‪َ /‬ف ْيض العا َلم بفعل‬ ‫الم ْحدَ َ‬
‫ُ‬
‫كل شيء آخر في تخطيط ت ََرتُّبِ ّي‪ .‬وكما ترسل الشمس أش ّعتَها طبيع ًة‪،‬‬ ‫الحقيقة األولى ُّ‬
‫إرادي‬
‫ّ‬ ‫ومنح الوجود‪ .‬وهكذا‪ ،‬لم يخلق ال ّل ُه العالم بفعل‬ ‫َ‬ ‫الفيض‬
‫َ‬ ‫طبيعة ال ّل ِه‬
‫ِ‬ ‫فإن من‬‫ّ‬
‫أو اختياري‪ ،‬ولكنه كان موجو ًدا بالضرورة في األزل ولم ينفصل عنه بحال أبدً ا‪.‬‬
‫المدارس الالهوت ّية والصوف ّي ُة المحافِ َظة‬
‫ُ‬ ‫لذا‪ ،‬فإن فكر َة الحرية اإللهية ــ والتي بالغت‬
‫ات لدى‬ ‫{األرثوذوكسية} في التّأكيد عليها ــ ال تشغل مكانا مركزيا في ميتافيزيقا الكوني ِ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬
‫ابن سينا كما يتّضح هنا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ال يهمل ابن سينا الحر ّي َة اإلله ّية تما ًما‪ ،‬إذ ُيعيد‬
‫الذ ِ‬
‫ات‬ ‫اإللهي مرة أخرى‪ ،‬والذي بدوره يستحيل تمييزه عن ّ‬ ‫ِ‬
‫سياق العلم‬ ‫توظي َفها في‬
‫ّ‬
‫إن ال ّله «عالِم {‪ }...‬بما عليه‬ ‫موقف ابن سينا بقوله ّ‬
‫َ‬ ‫اإللهية‪ .‬يعرض الغزالي بإيجاز‬

‫‪ 10‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 11‬القشيري‪ ،‬الرسالة القشيرية‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الحليم محمود (القاهرة‪ :‬مطابع مؤسسة دار الشعب‪،‬‬
‫‪ 1409‬هـ ــ ‪ 1959‬م)‪ ،‬ص ‪.295‬‬
‫‪47‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫األول ــ باإلضافة إلى‬


‫إن ّ‬
‫‪12‬‬ ‫ٍ‬
‫وراض به» ‪ ،‬ولع ّله ع ّبر هنا عن اإلرادة ِّ‬
‫بالرضا‪ّ .‬‬ ‫الوجود {‪}...‬‬
‫أيضا‪ .‬وما دام‬
‫كامل ً‬‫ّقص‪ ،‬وما يصدر عن الكامل ال بدّ أن يكون ً‬ ‫ذلك ــ كامل ِ‬
‫وكار ٌه الن َ‬
‫األول‪ ،‬فإلى َمن تمكن نسبة الشر؟ لإلجابة عن هذا السؤال‪،‬‬ ‫النّقص ال يتماشى وفكر َة ّ‬
‫الحل ا ّلذي يقول به أفلوطين؛ ُمتبنِّ ًيا إ ّياه‪ 13.‬ليس للشر ماه ّية في ذاته‪،‬‬
‫يستدعى ابن سينا ّ‬
‫طبيعي‪ 14.‬وال ّله هو‬
‫ّ‬ ‫إذ ليس إال عد َم الخير‪ ،‬أو عدم كماله‪ ،‬وما يصاحب ذلك من فيض‬
‫الع ّلة الحقيقية وراء الوجود‪ ،‬وهو خالق هذا العالم على أحسن صورة حسب ما يت ِّفق‬
‫فـ«األول عالم لذاته بما عليه الوجود في نظام الخير‪ ،‬وع َّل ٌة لذاتِه للخير‬
‫ّ‬ ‫ومعنى اإلمكان‪،‬‬
‫والكمال بحسب اإلمكان»‪.15‬‬
‫ِ‬
‫ولنأت اآلن إلى إخوان الصفا؛ وهم مجموعة سرية من الفالسفة‪ ،‬أقاموا في البصرة‬
‫حوالي القرن العاشر‪ ،‬وقاموا بتأليف موسوعة عمالقة تتناول موضوعات متعدّ دة‪،‬‬
‫النبوي في التّعامل مع‬ ‫ّ‬ ‫وتتكون من اثنتين وخمسين رسالة؛ نو ًعا من المحاكاة للنموذج‬
‫ات العصر‪ .‬يظهر أنهم قاموا بنوع من التأليف بين التأكيد اإلسالمي على اإلرادة‬ ‫م ِلم ِ‬
‫ُ َّ‬
‫«إن للعا َلم صان ًعا واحدً ا ح ًّيا‬
‫الج َلد والقناعة الرواق ّية‪ ،‬فيقولون‪ّ :‬‬
‫والحكمة اإللهية‪ ،‬وبين َ‬
‫أمر العا َلم على أحسن النّظام والتّرتيب في إتقان الحكمة»‪.16‬‬ ‫ّب َ‬ ‫حكيما‪ ،‬وإنّه قد رت َ‬
‫ً‬ ‫قادرا‬
‫ً‬
‫قد ال يستطيع اآلحاد إدراك الحكمة والصالح وراء األحداث الواقعة‪ ،‬لكن الثقة بإلهٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عادل حكيم‪ ،‬تحمل المرء على ِ‬
‫قبول قسوة العا َلم وجماله على حدٍّ سواء‪.‬‬ ‫َ‬
‫السجاالت حول مشكلة الشر التي كانت قبله‪ ،‬وأرى‬
‫كثيرا من تلك ِّ‬
‫استفاد الغزالي ً‬
‫مما‬ ‫أنّه قدّ م معالجة نسقية للمشكلة‪ .‬يدل تصريحه ّ‬
‫الشهير‪« :‬ليس في اإلمكان أبدع ّ‬

‫ابن سينا‪ِّ ،‬‬


‫الشفاء ــ اإلله ّيات‪ ،‬راجعه وقدم له‪ :‬إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق‪ :‬األب قنواتي ــ سعيد زايد (قم‪،‬‬ ‫‪12‬‬
‫إيران‪ ،‬مكتبة سماحة آية ال ّله العظمى المرعشي النجفي‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1433‬هـ ــ ‪ 2012‬م)‪ ،‬ص ‪.415‬‬
‫لمطالعة المناقشة األفلوطينية ُينْ َظر‪( :‬التاسوعات‪ ،)2.5.III ،‬ولقد كان توما األكويني يفضل هذا‬ ‫‪13‬‬
‫التفسير ( ُينْ َظر‪ :‬توما األكويني‪.)3:6-15 ،Summa contra Gentiles ،‬‬
‫ُينْ َظر‪ :‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مقاصد الفالسفة‪ ،‬تحقيق‪ :‬سليمان دنيا (مصر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬بدون‬ ‫‪14‬‬
‫تاريخ)‪ ،‬ص ‪.297‬‬
‫ابن سينا‪ِّ ،‬‬
‫الشفاء ــ اإلله ّيات‪ ،‬راجعه وقدم له‪ :‬إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق‪ :‬األب قنواتي ــ سعيد زايد (قم‪،‬‬ ‫‪15‬‬
‫إيران‪ ،‬مكتبة سماحة آية ال ّله العظمى المرعشي النجفي‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1433‬هـ ــ ‪ 2012‬م)‪ ،‬ص ‪.415‬‬
‫إخوان الصفا‪ ،‬رسائل‪ ،‬الجزء الرابع (إيران‪ ،‬مكتب اإلعالن اإلسالمي‪ ،‬جمادى األولى ‪1405‬هـ)‪،‬‬ ‫‪16‬‬
‫ص ‪.72-73‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪48‬‬
‫اإلسالمي بمختلف ن ََز َعاتِها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تيارات الفكر‬
‫ُ‬ ‫كان»‪ 17‬على حجم التّأثير ا ّلذي مارستْه عليه‬
‫تقتضي هذه الجمل ُة معنى كون العالم مخلو ًقا على أصلح صورة من الكمال؛ وهو‬
‫مفهوم يمكن إرجاعه إلى مدرسة المعتزلة‪ّ .‬‬
‫إن العالم هنا نوع من أنواع الموجودات كما‬
‫عند ابن سينا؛ وهو الموجود الممكن‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬يسلك الغزالي طري ًقا يغاير طريق‬
‫ابن سينا في تأكيده على اإلرادة اإللهية‪ ،‬ويجادل في (تهافت الفالسفة) عن فكرة خلق‬
‫العا َلم في الزمان ُم َت َع ِّل ًقا باإلرادة اإلله ّية‪ ،‬ال صدوره عنه ضرورةً‪.‬‬
‫َ‬
‫المجال ليس‬ ‫واآلن‪ ،‬كيف نجمع بين هذه األفكار المتعارضة في ظاهرها؟ ّ‬
‫لعل‬
‫مناس ًبا للخوض في نظرية العدالة اإلله ّية لدى الغزالي‪ ،‬لكن يمكن اإلشارة بإيجاز إلى‬
‫أنه من أجل اإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬فإنّه يقول بأن هناك حدو ًدا ما للقدرة اإللهية دون‬
‫رفض مفهوم القدرة المطلقة؛ يقول‪ِ :‬‬
‫«وم ْن ُحكمها {القدرة اإلله ّية} أنّها متع ِّلقة بجميع‬
‫ِ‬
‫الممكنات ك َّلها»‪ .18‬ال تكون القدر ُة اإللهية مطلق ًة‬ ‫المقدورات؛ وأعني بالمقدورات‬
‫ليست من المقدورات ل ّله؛ ما يعني ّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫إال في حدود الممكنات‪ ،‬فالتناقضات المنطقية‬
‫القدرة اإلله ّية المطلقة محكومة بقانون التناقض‪ ،‬فال يستطيع ال ّله أن ُي َص ِّير «نعم» و«ال»‬
‫إلها آخر؛ مثل هذه القضايا تقع ضمن‬
‫صادق َت ْين في الوقت نفسه‪ ،‬وال يمكنه أن يخلق ً‬
‫وجود ال ّله‪،‬‬
‫يفسره ُ‬ ‫إلها‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ألن وجو َده ِّ‬ ‫لمخلوق أن يكون ً‬ ‫المنطقي‪ .‬إنه ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫التناقض‬
‫إلها‪ ،‬فإن فكرة «العا َلم‬
‫وألن مخلو ًقا ُي َف َّسر وجو ُده بالنّسبة إلى غيره ال يمكن أن يكون ً‬
‫ّ‬
‫الكامل» بالتّالي تصبح غير معقولة منطق ًّيا‪.‬‬

‫ابن عربي‪َّ :‬‬


‫الل َت َن ِ‬
‫اهي‪ ،‬والوجود‪ ،‬والش ّر‬
‫قبل اإلجابة عن سؤال الشر‪ ،‬يطرح اب ُن عربي سؤا َلين قبل َّيين؛ هما‪ :‬لماذا ُو ِجدَ العا َلم؟‬
‫وما طبيعة وجوده؟ وعن طريق اإلجابة عن هذين السؤالين؛ يستطيع وضع مشكلة الشر‬
‫أسميه نظرية العدالة اإللهية الضرور ّية االختيار ّية‪.‬‬
‫في نظام ميتافيزيقي أكبر؛ يعرض فيه ما ّ‬

‫‪ 17‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين (بيروت‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،)2005‬ص ‪.1618‬‬
‫أتم وال أكمل»‪.‬‬ ‫ونص العبارة الواردة‪« :‬وليس في اإلمكان ً‬
‫أصل أحسن منه وال ّ‬
‫‪ 18‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم آكاه جوبوقجي‪ ،‬حسين آتاي (تركيا‪ ،‬كلية‬
‫اإللهيات بجامعة أنقرة‪ ،)1962 ،‬ص ‪.81-82‬‬
‫‪49‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫أن وجود العا َلم ما هو إال أثر من آثار‬


‫فيما يتع ّلق بالسؤال األول؛ يرى اب ُن عربي ّ‬
‫ٍّ‬
‫كل من الضرورة الميتافيزيق ّية وفعل اإلرادة اإلله ّية‪ .‬تتحتّم هذه الضرورة‪ ،‬ألنّها ُمت ََست َِّرة‬
‫مجرد ممكن من الممكنات‪ ،‬وما من ممكن إال‬ ‫بعباءة الالتناهي اإللهي‪ ،‬فما العالم إال ّ‬
‫وهو ُمنْ َط ٍو في الالتناهي‪ .‬يشير اب ُن عربي إلى هذه «الممكنات الوجود ّية {األنطولوج ّية}‬
‫الكامنة في المطلق» (إيزوتسو ‪ )157 ،1983‬باألعيان ال ّثابتة؛ وهي ثابتة بالنسبة إلى العلم‬
‫اإللهي‪ ،‬فكل ما هو مستقر في علمه تعالى قديم‪ ،‬وال يطرأ عليه تغ ُّير ما‪ 19.‬وبالتالي يكون‬
‫نفي وجودها‪ ،‬وال يمكن‬‫وجو ُدها وجو َد ممكنات فحسب‪ ،‬ومن أجل ذلك ال يمكن ُ‬
‫عارف‬
‫ٌ‬ ‫إثباته كذلك‪ .‬يعلم ال ّل ُه تما ًما هذه الممكنات الباطنة في الذات اإللهية‪ ،‬ألنه‬
‫دائما وأبدً ا‪.‬‬
‫تتكشف له ً‬ ‫نفسه‪ ،20‬كما ّ‬
‫أن الذات اإللهية ّ‬ ‫َ‬
‫وإذا لم ت َت َع َّي ْن هذه الممكنات في الخارج‪ّ ،‬‬
‫فإن هذا يعارض مفهوم الالتناهي الذي‬
‫أيضا؛ تكون ًّ‬
‫محل لإلبداع‪ ،‬وبدون هذا النوع من الخلق‪/‬‬ ‫يتضمن إمكانات ال تتناهى ً‬
‫الظهور‪ ،‬فال معنى من القول بالتناهي اإلله‪ .‬وحتّى يتحقق معنى الطالقة اإللهية في‬
‫الحقيقة‪ ،‬فعلى هذه الممكنات أن تظهر في ح ّيز الوجود‪ ،‬فهذه «الكنوز المخف ّية» تتخ ّلق‬
‫‪21‬‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتظهر من خالل الالتناهي‬
‫ومن خالل عمل ّية إيجاد هذه الممكنات‪ ،‬تظهر األسماء اإلله ّية؛ وهي عبارة عن‬
‫ُك ِّلي ٍ‬
‫ات الهوت ّية تدل على تلك العالقات التي يقيمها ال ّله مع هذه الممكنات‪ ،22‬فعندما‬ ‫َّ‬

‫الذات المتست َِّرة‬ ‫السرمدي حتى وهي ُمتّصفة باإلمكان الخالص في ّ‬ ‫ّ‬ ‫تظل األشياء في حالة من الثبوت‬ ‫ّ‬ ‫‪19‬‬
‫(كوربان ‪ ،186 ،1969 Corbin‬إيزوتسو ‪.)90 ،1983 Izutsu‬‬
‫الذات اإللهية نفسها بـ«الفيض‬ ‫والم ْض َمرة في ّ‬ ‫ُيع ِّبر ابن عربي عن هذه العالقة ما قبل السرمدية ُ‬ ‫‪20‬‬
‫األقدس»‪ ،‬كما ُيع ِّبر عن الفيض الثاني بـ«الفيض المقدس» حيث تتع َّين األعيان الثابتة في الوجود‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫عرف‪،‬‬ ‫فأحببت أن ُأ َ‬
‫ُ‬ ‫كنزا لم ُأ ْع َرف‪،‬‬
‫{كنت ً‬
‫ُ‬ ‫قدسي يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫المخفي» من حديث‬
‫ّ‬ ‫اس ُت ْل ِه َم مفهو ُم «الكنز‬ ‫‪21‬‬
‫فت إليهم فعرفوني}‪ .‬ورغم ضعف هذا الحديث من جهة السند‪ ،‬إال أنه‬ ‫وتعر ُ‬
‫الخلق‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫فخلقت‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫ُي ْست َْش َهدُ به من ق َبل ابن عربي وغيره من الصوف ّية‪ .‬يقول ابن عربي‪« :‬ورد في الحديث الصحيح ك َْشفا‪،‬‬‫ِ‬
‫كنزا لم ُأ ْع َرف‪،‬‬‫{كنت ً‬
‫ُ‬ ‫ثابت َن ْق ًل عن رسول ال ّله ــ صلى ال ّله عليه وسلم ــ عن ر ِّبه ما هذا معناه‪:‬‬ ‫الغير ٍ‬
‫فت إليهم فعرفوني}» (ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪،‬‬ ‫وتعر ُ‬
‫الخلق‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫فخلقت‬
‫ُ‬ ‫عرف‪،‬‬ ‫فأحببت أن ُأ َ‬
‫ُ‬
‫السطر‪.28 :‬‬ ‫الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪َّ ،399‬‬
‫الكالمي بأجمعه‪ ،‬إذ يرى‬ ‫ّ‬ ‫يقدّ م ابن عربي طر ًقا متعدِّ دة لفهم األسماء اإلله ّية تختلف ُك ِّل ًّيا مع التقليد‬ ‫‪22‬‬
‫ب أو حقائق الن َِّسب بين ال ّله والعا َلم‪ُ .‬ت َع ِّبر األسماء اإللهية عن مشاهد‬ ‫األسماء اإللهية تدل على نِ َس ٍ‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪50‬‬
‫ّ‬
‫وألن عملية‬ ‫تظهر الممكنات إلى الوجود‪ ،‬تنعكس األسماء اإللهية على َم َحا ِّل َها‪.‬‬
‫أيضا؛‬
‫الخلق‪/‬الظهور مستمرة‪ ،‬والالتناهي متنوع‪ ،‬فإن عدد تلك العالقات ال يتناهى ً‬
‫يقول ابن عربي‪« :‬والممكنات غير متناهية‪ ،‬فاألسماء غير متناهية»‪ .23‬وهكذا‪ ،‬يمكن‬
‫القول ــ طب ًقا لكون ّيات {كوزمولوجيا} ابن عربي الميتافيزيق ّية ــ إن الطالقة اإللهية‬
‫كل ِمن التناهي جميع الممكنات‪ ،‬والصفات اإللهية‪ ،‬وضرورة ظهورها في‬ ‫تتضمن ً‬
‫ّ‬
‫الخارج؛ وما دام ال ّل ُه ال يتناهى‪ ،‬فال بد من وجود العالم‪.‬‬
‫السبب الذي من أجله يخلق ال ّله العالم خل ًقا جديدً ا‬
‫َ‬ ‫يطرح مفهوم الالتناهي أمامنا‬
‫ُ‬
‫يكرر‬ ‫آن‪ .‬إنه من أجل تح ُّقق الممكنات الالنهائية‪ّ ،‬‬ ‫في كل ٍ‬
‫فإن فعل الخلق ينبغي أال ِّ‬
‫نفسه‪ ،‬إذ «ال تَكرار في التج ِّلي»‪ ،24‬وال بد من تغ ُّير فيه على الدوام‪ .‬يشغل هذا العا َلم‬
‫محل لتح ُّقق الممكنات غير‬ ‫الم َّط ِرد ــ مكانًا يكون فيه ًّ‬
‫ــ الذي يحيا حالة من التغ ُّير ُ‬
‫المتناهية‪ .‬وعن طريق خلق حالة من التغير غير المنقطع في عالمنا المتناهي‪ ،‬فإن‬
‫الممكنات غير المتناهية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مجلوة؛ ّ‬
‫تتكشف عليها‬ ‫ّ‬ ‫الالمتناهي يجعل من المتناهي مرآ ًة‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬ال تخلو من‬ ‫حتى الكائنات التي تبدو من الخارج عص ّية على الفناء‪ ،‬وتبقى‬
‫ِ‬
‫حالة التغير المستمر هذه‪ .‬ال يعيد ال ّله ظهور تج ِّلياته في نفس الصورة كل مرة‪ ،‬بل‬

‫متعدِّ دة من خاللها يمكن مقارب ُة أسرار هذه العالئق ّية‪ .‬يقول إيزوتسو ‪ُ « :)99 ،1983( Izutsu‬يع ِّبر‬
‫خاص من إعالن الذات اإللهية عن نفسها {‪ .}...‬إنها حقائق الن َِّسب؛ العالقة‬ ‫ّ‬ ‫كل اسم عن جانب‬
‫العالم إلى َم ْظ َهر ُم َت َعدِّ د حيث‬
‫َ‬ ‫ة‬‫ُ‬ ‫الغاطس‬ ‫ة‬‫ُ‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫العالئق‬ ‫هذه‬ ‫تحول‬ ‫م»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫العا‬ ‫في‬ ‫الواحد‬ ‫الحق‬
‫التي يظهر بها ّ‬
‫دائما دون انقطاع‪ .‬يمكن أن ُيعتَبر الموجود من هذا الجانب ك ًُّل منتس ًبا إلى‬ ‫تتج ّلى األسماء اإللهية ً‬
‫ومزجا لهذه األسماء اإللهية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ال ّله‪،‬‬
‫‪ 23‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الرابع (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.288‬‬
‫أساسا في فكر ابن عربي‪ ،‬فاألشياء ال تتخ ّلق في حالة واحدة‪،‬‬ ‫‪ 24‬تعد فكرة «ال تكرار في التجلي» مبدأ ً‬
‫كل آن‪.‬‬ ‫كل حين بهذا المعنى‪ ،‬بل يتخ َّلق العالم خل ًقا جديدً ا في ِّ‬ ‫دائما‪ ،‬وكل شيء يتجدَّ ُد ّ‬
‫ولكنها تتغ ّير ً‬
‫ِ‬
‫كانت فكرة الخلق المستمر حاضر ًة في النقاشات المبكرة حول الع ِّل َّية بين الالهوت ّيين المسلمين‪.‬‬
‫وأن االرتباط النّاشئ بينهما لم ينشأ‬ ‫والم َس َّبب إلى ال ّله‪ّ ،‬‬ ‫اشتهر األشاعرة بأنهم ينسبون خلق السبب ُ‬
‫يؤس ُس للسيادة‬ ‫ِّ‬ ‫ما‬ ‫وهذا‬ ‫ة؛‬‫ي‬‫ّ‬ ‫الكالم‬ ‫ة‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫األد‬ ‫من‬ ‫عدد‬ ‫على‬ ‫إال على سبيل العادة‪ ،‬ويقيمون رأيهم هذا‬
‫اإللهية المطلقة وقيام العا َلم المطلق على ظهوره تعالى والمدد اإللهي الدائم‪َ .‬ت َبنَّى هذه الفكرة ــ‬
‫كتضمنها معنى الحضور‬ ‫ُّ‬ ‫المكي (توفي ‪ )996‬لتطبيقاتها العرفانية‬ ‫ّ‬ ‫كما يبدو ــ علماء مثل أبي طالب‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫آن‪ .‬لمراجعة العقيدة األشعرية في العل َّية ُينْظر‪ :‬األشعري (‪،)9-10 ،1967‬‬ ‫اإللهي المحيط في كل ٍ‬
‫ّ‬
‫وابن فورك (‪ ،)131 ،1987‬وكوجا ‪.)2016( Koca‬‬
‫‪51‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫دائما‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬ال بد من وجود تغ ّير مستمر‪ ،‬وحتى ُيدَ ِّعم‬ ‫يتج ّلى تج ِّل ًيا فريدً ا ً‬
‫ابن عربي ما انتهى إليه‪ ،‬فإنه يعتمد في ذلك على ما جاء في القرآن من قوله‪[ :‬ك َُّل َي ْو ٍم‬
‫ُه َو فِي َش ْأ ٍن] (الرحمن‪ّ .)29 :‬‬
‫إن اليوم اإللهي ــ كما يرى ابن عربي ــ قد يكون َز َمنًا‬
‫الزمن الفرد»‪ ،25‬وهو ما جاء‬
‫فر ًدا «آن»‪ ،‬فـ«األيام كثيرة‪ ،‬ومنها كبير وصغير‪ ،‬فأصغرها ّ‬
‫ٍ ‪26‬‬ ‫ِ‬
‫في قوله تعالى‪[:‬ك َُّل َي ْو ٍم ُه َو في َش ْأن] (الرحمن‪ ،)29 :‬ولذلك يلزم عن «الت ُّ‬
‫ّوسع‬
‫اإللهي» أن يتخلق العالم خل ًقا جديدً ا كل حين‪.27‬‬
‫ّ‬
‫صادرا عن ضرورة فيما يرى اب ُن عربي‪ ،‬ومن هنا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الكون‬ ‫إلى هذا الحد‪ ،‬يبدو‬
‫الرحمة‪ ،‬فال ّله لم يخلق العالم لمجرد ضرورة ميتافيزيقية‪ ،‬بل‬
‫يعرض لمفهومه عن ّ‬
‫عنصرا إراد ًّيا إلى كون ّيات ابن عربي‪.‬‬
‫ً‬ ‫إنعامي صادر عن الرحمة‪ ،‬وهذا ما يضيف‬ ‫ّ‬ ‫كفعل‬
‫وإليضاح ما سبق بلغة أكثر تجسيدً ا لمذهبه‪ ،‬فإنه يستخدم تعبير « َن َفس الرحمن» الذي‬
‫يشير في لغته الفنّية إلى عملية الخلق المستمرة ل ّله في هذا العا َلم‪28‬؛ فعن طريق تن ُّف ِسه‬

‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء األول (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.292‬‬ ‫‪25‬‬
‫يقول ابن عربي‪« :‬ونحن كثيرون عن َع ْي ٍن واحدة َج َّل ْت َو َت َعا َل ْت؛ انتُس َب ْت إلينا إيجا ًدا‪ ،‬وانتَسبنا إليها‬ ‫‪26‬‬
‫نظرت إلى أحد ّية العالم‪،‬‬ ‫وجدً ا‪ ،‬فإذا‬ ‫الحق خال ًقا وم ِ‬ ‫نفسه َخ ْل ًقا وموجو ًدا‪ ،‬عرف َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وجو ًدا‪ ،‬فمن عرف َ‬
‫ِ‬
‫ضربت الواحدَ في الكثير‪ ،‬والعا َلم َأ َث ُر أسمائه»‬ ‫َ‬ ‫العالم‬ ‫إلى‬ ‫نظرت‬
‫َ‬ ‫وإذا‬ ‫الواحد‪،‬‬ ‫ضر ْب َت الواحدَ في‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪،500‬‬
‫شأن مع كل جزء من العالم بأن يخلق فيه ما يبقيه سوى ما يحدثه‬ ‫أيضا‪« :‬فهو في ٍ‬ ‫السطر‪ .16 :‬ويقول ً‬
‫الم َحال لوجودها فيهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫مما هو قائم بنفسه في كل زمان فرد‪ ،‬وتلك الشئون أحوال المخلوقين‪ ،‬وهم َ‬
‫الحق في‬ ‫ال زمانين‪ ،‬ألنه لو بقي زمانين لم يكن ُّ‬ ‫الح ِ‬ ‫فإنه فيهم يخلق تلك الشئون دائما‪ ،‬فال يصح بقا ُء َ‬
‫خلقا وال فقيرا إليه‪ ،‬وكان يتصف بالغنى عن ال ّٰله‪ ،‬وهذا ُم َحال وما يؤدي‬ ‫الحال َّ‬‫ُ‬ ‫حق َم ْن بقي عليه‬ ‫ِّ‬
‫الم َحال ُم َحال» ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪،‬‬ ‫إلى ُ‬
‫‪1911‬م)‪ ،‬ص ‪ ،384‬السطر‪.31 :‬‬
‫وردت كلم ُة «الخلق الجديد» في قوله تعالى‪َ [ :‬أ َف َع ِيينَا بِا ْل َخ ْل ِق َْال َّو ِل َب ْل ُه ْم فِي َل ْب ٍ‬
‫س ِّم ْن َخ ْل ٍق‬ ‫ْ‬ ‫‪27‬‬
‫يد] (ق‪.)15 :‬‬ ‫ج ِد ٍ‬
‫َ‬
‫يفرق ابن عربي بين «رحمة االمتنان»‪ ،‬و«رحمة الوجوب»‪ ،‬إذ األولى ِع َّلة الوجود‪ ،‬لذا فهي رحمة‬ ‫ِّ‬ ‫‪28‬‬
‫يخص‬ ‫ّ‬ ‫عالم ّية وتحيط جميع الموجودات‪ ،‬أما الثانية فإنها تنطوي على ظهور أكثر تحديدً ا للرحمة؛‬
‫هؤالء الذين استجابوا لرحمة اإليجاد العالم ّية من خالل متابعة الوحي اإللهي‪ .‬يقول ابن عربي‪« :‬فال‬
‫[و َر ْح َمتِي َو ِس َع ْت ك َُّل‬‫العرش َمن ال تصيبه الرحم ُة اإلله ّي ُة؛ وهو قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫يبقى فيمن حوى عليه‬
‫ِ‬
‫سريان الرحمة في العا َلم»‬ ‫ُ‬ ‫والم ْستَوي الرحم ُن‪ ،‬فبحقيقته يكون‬ ‫ِ‬ ‫كل شيء‪ُ ،‬‬ ‫َش ْي ٍء]‪ ،‬والعرش وسع َّ‬
‫(ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬علق عليه‪ :‬أبو العال عفيفي (إيران‪ ،‬انتشارات الزهرا‪1946 ،‬م)‪ ،‬ص‬
‫‪.220-221‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪52‬‬
‫اض الجود»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الممكنات إلى «الكون»‪ ،‬وهو يتن ّفس ألنه «ف َي ُ‬ ‫خرج‬‫تعالى بكلمة « ُك ْن»‪ُ ،‬ي ِ‬
‫تظهر الممكنات في الخارج بزفير األنفاس اإللهية تلك‪ ،‬وبها تتج ّلى األسماء اإللهية‬
‫س الرحمن الذي َن َّف َس به عن األسماء‬ ‫في َم َحا ِّل َها؛ يقول ابن عربي‪« :‬العا َلم ظهر في َن َف ِ‬
‫كل من الممكنات واألسماء اإللهية إذن‬ ‫اإللهية ما تجده من عدم ظهور آثارها»‪ .29‬على ٍّ‬
‫أن يتج َّل َيا‪ ،‬وبذلك يستجيب ال ّله المتصف بالعلم والرحمة لطلب التّج ِّلي‪ ،‬و ُينَ ِّفس عن‬
‫ك ُْر َب ِة الممكنات‪ .‬يقول ابن عربي‪« :‬والحقيقة ُت ْعطِي أن يكون لكل اسم يظهر ــ إلى ما ال‬
‫يتناهى ــ حقيقة يتميز بها عن اسم آخر»‪.30‬‬
‫ب عن أسرار‬‫الح ُج َ‬
‫اإللهي والرحمة يرفعان ُ‬
‫ّ‬ ‫ّوسع‬
‫يرى ابن عربي إذن فكرتَي الت ُّ‬
‫ِ‬
‫سؤال لماذا كان وجود الشر‬ ‫ِ‬
‫الخلق‪ ،‬لكن ال تزال هذه األفكار عاجز ًة عن اإلجابة عن‬
‫المبدئي الثاني‪ :‬ما هي طبيعة وجود‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫السؤال‬ ‫واج ًبا في العالم‪ .‬يتساءل ابن عربي هنا‬
‫أن العا َلم إمكان أو ممكن من الممكنات‪ ،‬وهو ممكن‬ ‫ٍ‬
‫بإيجاز ّ‬ ‫العالم؟ والجواب عنه‬
‫واقع بين ُم ْط َل َق ِ‬
‫ين؛ أال وهما‪ :‬ال ّله والعدم‪ .‬لكن‪ ،‬ما معنى الممكن؟ لإلجابة عن هذا‬
‫أن أص َله يعود بنا إلى ّ‬
‫السجاالت التي كانت دائر ًة حول هذه المسألة بين‬ ‫السؤال‪ ،‬يظهر ّ‬
‫السابقين‪ً ،‬‬
‫فمثل‪ ،‬يقوم مفهوم «اإلمكان» عند الغزالي‬ ‫المتكلمين المسلمين‪ ،‬والفالسفة ّ‬
‫على التساوي بين الوجود والعدم ونفي لزوم أحدهما‪ .31‬وتشير التعريفات ــ كان اب ُن‬
‫كل‪،‬‬‫عالما بها على األرجح ــ إلى أن الممكن ليس واج ًبا وليس ممتن ًعا بذاته‪ .‬على ٍّ‬
‫عربي ً‬
‫أكثر منهج ّية وعم ًقا‪ ،‬إذ يرى الوجود ال يخلو من‬‫تأتي معالج ُة ابن سينا لمفهوم اإلمكان َ‬
‫ِ‬
‫وجوده‪ ،‬أو ما‬ ‫كونه إ ّما واج ًبا‪ ،‬أو ممكنًا‪ ،‬أو ممتن ًعا‪ .‬وواجب الوجود هو ما يمتنع عد ُم‬
‫يتضمن وجو ُده استحال ًة في‬‫ّ‬ ‫تضمن عد ُمه استحال ًة‪ ،‬وأما الممكن الوجود‪ ،‬فهو ما ال‬
‫قد ّ‬
‫القول بوجوب وجود‬ ‫ُ‬ ‫والواجب ما كان وجو ُده واج ًبا بذاته؛ وبهذا المعنى يصح‬
‫ُ‬ ‫نفسه‪،‬‬
‫أصل‪ ،‬وأ ّما الممتنع الوجود‪ ،‬فهو ما استحال‬ ‫ً‬ ‫بغيره‪ ،‬وإال ما ُو ِجدَ‬
‫أيضا‪ ،‬لكن ِ‬‫الممكن ً‬
‫منطقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫تناقض‬ ‫في نفسه‪ ،‬وانطوى وجو ُده على‬

‫‪ 29‬ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬علق عليه‪ :‬أبو العال عفيفي (إيران‪ ،‬انتشارات الزهرا‪1946 ،‬م)‪ ،‬ص‬
‫‪.145‬‬
‫‪ 30‬ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬علق عليه‪ :‬أبو العال عفيفي (إيران‪ ،‬انتشارات الزهرا‪1946 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪ُ 31‬ينْ َظر‪ :‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم آكاه جوبوقجي‪ ،‬حسين آتاي‬
‫(تركيا‪ ،‬كلية اإللهيات بجامعة أنقرة‪ ،)1962 ،‬ص ‪.84-85‬‬
‫‪53‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫ووصف واجب الوجود ينطبق على ال ّله‪ ،‬أما ممتنع الوجود فهو ما نَا َظ َر العدم‪ ،‬وأ ّما‬
‫وقوع العا َلم في منطقة ّ‬
‫الظل من اإلمكان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ممكن الوجود فهو ما اتَّصف به العا َلم؛ ما يعني‬
‫مصطلحا كـ«البرزخ» لإلشارة إلى هذا النّطاق األنطولوجي‬
‫ً‬ ‫كثيرا ما يستخدم ابن عربي‬
‫ً‬
‫البرزخ بقوله‪« :‬اعلم ّ‬
‫أن البرزخ عبارة عن أمر فاصل‬ ‫َ‬ ‫الوسيط للعا َلم؛ يصف ابن عربي‬
‫الظل والشمس»‪ .32‬إنّه من الصواب‬ ‫كالخط الفاصل بين ّ‬ ‫ّ‬ ‫متطر ًفا أبدً ا‪،‬‬
‫بين أمرين؛ ال يكون ّ‬
‫يتلون في الوقت نفسه بالشيء‬ ‫كل ما َي ْف ِرق ويجمع‪ ،‬وما ّ‬ ‫إن البرزخ عبارة عن ّ‬ ‫أن ُيقال ّ‬
‫برزخا في ُك ِّل َّيتِه‪ّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫ٍ‬
‫منطقة بين ال ّله والعدم؛ ويكون ً‬ ‫الذي َي ْف ِر ُق ُه‪ 33.‬وبذلك يقع العا َلم في‬
‫ما في العا َلم ما هو إال برزخ واقع بين درجتَين متتاليتَين من الوجود‪ ،‬فـ«ما في الوجود‬
‫غير البرازخ»‪ ،34‬وكل شيء له مكان ما من ال َبين‪ ،‬وكل شيء هو وال هو‪ ،‬وعالم الوجود‬
‫والصيرورة ليس ّإل ً‬
‫برزخا بين ال ّله والعدم‪ ،‬إذ ليس موجو ًدا في ذاته‪.‬‬
‫تساعد هذه التفرق ُة بين واجب الوجود وممكنه وممتنعه اب َن عربي على تقديم‬
‫الشر‬
‫الخير والوجود‪ ،‬كما يتساوى ّ‬
‫ُ‬ ‫أنطولوجي لسؤال الخير والشر ُ‬
‫حيث يتساوى‬ ‫ّ‬ ‫ُب ْع ٍد‬
‫األخالقي تحت ُم َس َّميات الخير‬
‫ّ‬ ‫والعدم؛ وتظهر هذه التفرقة األنطولوجية في السياق‬
‫والشر‪.‬‬
‫وسعت ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬حتى إذا رحم َم ْن وقع‬ ‫ْ‬ ‫الحق هذا ك َّله إال ّ‬
‫للرحمة التي‬ ‫«وما َّقرر ُّ‬
‫َ‬
‫الحق في الدار الدنيا‬ ‫الخلق ّ‬
‫أن هذه الرحمة اإلله ّية تقدّ َم اإلعال ُم بها من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األخذ به‪ ،‬عرف‬
‫ِ‬
‫دار التكليف‪ ،‬فال ينكرها العالمون؛ فما أخرج ال ّل ُه العا َل َم من العدم الذي هو الشر إال‬
‫للخير الذي أراده له ليس إال الوجود»‪.35‬‬
‫أن ال ّل َه ما َأ ْظ َه َر الممكنات في أعيانها موجود ًة إال ليخرجها من ّ‬
‫شر العدم‪،‬‬ ‫«واعلم ّ‬
‫بح ْك ِم ال َع َرض»‪.36‬‬
‫شر فيه إال ُ‬ ‫إذ علم ّ‬
‫أن الوجود هو الخير المحض الذي ال ّ‬

‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء األول (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.304‬‬ ‫‪32‬‬
‫ٍ‬
‫مطالعة حول مفهوم البرازخ وكيف استخدمها ابن عربي للتعبير عن العالقة بين ال ّله والعالم‬ ‫ِ‬
‫لمزيد‬ ‫‪33‬‬
‫والتطبيقات المتعارضة لهذه العالقة‪ ،‬يمكن النظر فيما كتبه بشير ‪.)2004( Basheir‬‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.156‬‬ ‫‪34‬‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.377‬‬ ‫‪35‬‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.207‬‬ ‫‪36‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪54‬‬
‫وال ّله خير محض‪ ،‬ألنه وجود محض‪ ،‬ال قيدَ لوجوده‪ ،‬فهو واجب الوجود بذاته؛‬
‫يقول اب ُن عربي‪:‬‬
‫«الحق تعالى له إطالق الوجود من غير تقييد‪ ،‬وهو الخير المحض الذي ال شر فيه‪،‬‬
‫ف ُيقابله إطالق العدم الذي هو الشر المحض الذي ال خير فيه»‪.37‬‬
‫ومن َث ّم‪ ،‬يعود الشر أنطولوج ًّيا في أصله إلى العدم‪ ،‬أ ّما الخير فإنه يعود إلى الوجود‬
‫شر محض ال خير فيه أبدً ا كما‬
‫الواجب‪ ،‬إذ ُيقابل العد ُم «الوجود من غير تقييد»؛ وهو ّ‬
‫أسلفنا‪.‬‬
‫«واعلم ّ‬
‫أن ُم َس ّمى الشر على الحقيقة و ُم َس َّمى الخير إنما هو راجع إ ّما لوض ٍع ّ‬
‫إلهي‬
‫خيرا في ح ّقه‪ ،‬أو منافرة مزاج‬
‫مزاج فيكون ً‬ ‫ٍ‬ ‫جاءت به ألس ُن الشرائع‪ ،‬وإ ّما لمالءمة‬
‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫مقر ٍر اقتضاه الدّ ُ‬ ‫ٍ‬
‫نقص عن تلك‬ ‫خيرا‪ ،‬أو‬
‫ليل فيكون ً‬ ‫شرا في ح ّقه‪ ،‬وإ ّما لكمال َّ‬
‫فيكون ًّ‬
‫خيرا في نظره‪ ،‬أو عدم حصوله فيكون‬
‫شرا‪ ،‬وإما لحصول غرض فيكون ً‬
‫الدرجة فيكون ً‬
‫‪38‬‬
‫شرا في نظره»‬
‫ًّ‬
‫ّ‬
‫فالظل‬ ‫ظل فإنه يكون أشب َه ما يكون بمصدره‪،‬‬ ‫للحق‪ ،‬وألنّه ّ‬
‫ّ‬ ‫ليس العالم إذن إال ّ‬
‫ظل‬
‫كمال من النور المحض‪ ،‬لذا فهو في ُب ْع ٍد عن ال ّله‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫أقل ً‬ ‫ال عين له بعدم النّور‪ ،‬وهو ّ‬
‫ال ّله هو النور المحض‪ 39.‬وليس معنى الظل أن يكون ظلم ًة‪ ،‬أو ضع ًفا في النور‪ ،‬بل كل‬
‫ظل‪ .‬واللون بهذا المعنى ظل‬ ‫مفص َلة به أو محدودة‪ ،‬تكون ًّ‬
‫صورة ُمعطاة عن الحق‪ ،‬أو َّ‬
‫الم َت َل ِّون ّ‬
‫ظل‪،‬‬ ‫جاج الذي ال لون له في نفس األمر‪ .‬هذا الزجاج ُ‬
‫الز َ‬
‫كذلك‪ ،‬إذ يتل َّب ُس ّ‬
‫ظهورا ُم َق َّيدً ا‬
‫ً‬ ‫ففيه يظهر النور ويتق ّيد في الوقت نفسه‪ .‬وهكذا كل موجود غيره؛ ليس إال‬
‫الم َق َّيد‪ ،‬وظلًّ له‪ .‬ومعنى الظهور هو ال َّت َع ُّين‪ ،‬وهكذا يظهر العا َلم الذي هو‬
‫للمطلق غير ُ‬
‫ظل ال ّله «النّور» في حقيقة األمر‪ 40.‬وبذلك يعترينا نور ناقص‪ ،‬ألنّنا لسنا ال ّله الذي هو‬

‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء األول (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪37‬‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.576‬‬ ‫‪38‬‬
‫ُينْ َظر‪ :‬ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬علق عليه‪ :‬أبو العال عفيفي (إيران‪ ،‬انتشارات الزهرا‪1946 ،‬م)‪،‬‬ ‫‪39‬‬
‫ص ‪.103‬‬
‫ُينْ َظ ُر‪ :‬ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬علق عليه‪ :‬أبو العال عفيفي (إيران‪ ،‬انتشارات الزهرا‪1946 ،‬م)‪،‬‬ ‫‪40‬‬
‫ص ‪.100-104‬‬
‫‪55‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫نور محض‪ ،‬ووجود محض‪ ،‬وخير محض‪ .‬إننا نقع في منطقة بين النور والظلمة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫والظل حيث تلتقي األضدا ُد؛‬ ‫الوجود والعدم‪ ،‬ونحن ذلك الخط الفاصل بين النور‬
‫ولوقوعنا في هذا العا َلم الوسيط‪ ،‬فإنّنا نكون قد تلونّا ٍّ‬
‫بكل من النور والظلمة؛ تلك‬
‫الطبيعة المختلطة هي التي تُمكِّننا من معرفة ال ّله‪ ،‬وعن طريق شهود ّ‬
‫الظل الخاص في‬
‫ُ‬
‫إدراك النور المحض‪ .‬وبذلك‪ ،‬يكون مفهوم اإلمكان هو المفتاح الذي‬ ‫آحادنا‪ ،‬يمكن‬
‫‪41‬‬
‫مغاليق واجب الوجود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫به تتفتّح‬
‫التعرف على طبيعة العا َلم كموجود ممكن‪ ،‬وبعد المساواة بين الخير والوجود من‬
‫وبعد ُّ‬
‫جهة‪ ،‬والشر والعدم من جهة أخرى؛ يأتي ابن عربي للحديث عن الشر كضرورة ظ ِّل َّية لفعل‬
‫الخلق‪/‬الظهور‪ ،‬فما دامت األشيا ُء ممكن ًة‪ ،‬فإنها ال يمكن أن تماثل واجب الوجود الذي‬
‫تتضمن عملي ُة تع ُّي ِن‬
‫ّ‬ ‫آثارا منهما م ًعا‪.‬‬‫اإلمكان واق ًعا بين ال ّله والعدم‪ ،‬فإن فيه ً‬
‫ُ‬ ‫هو ال ّله‪ ،‬وما دام‬
‫تمييزا ال بدّ من حدوثه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الوجود نسب َة اإلمكان‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وتمييزا بين الخالق والمخلوق؛ ً‬ ‫ً‬ ‫شيء في‬
‫أن الممكن َل َّما كان‬ ‫«والعا َلم في قبضة الخير المحض‪ ،‬وهو الوجود التّا ّم‪ ،‬غير َّ‬
‫ب إليه‪ ،‬فإنه ليس له من ذاته‬ ‫الشر ما ُين َْس ُ‬
‫ب إليه من ِّ‬‫نظر إليه‪ ،‬كان بذلك ال َقدْ ِر ُين َْس ُ‬
‫للعدم ٌ‬
‫يستقر عليه‪ ،‬وال َي ْث ُب ُت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الشر َفم ْن هناك‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫وجوب الوجود لذاته‪ ،‬فإذا عرض له ُّ‬ ‫حكم‬
‫ُ‬
‫‪42‬‬
‫فإنه في قبضة الخير المحض والوجود» ‪.‬‬
‫يظل الموجود الممك ُن مرتب ًطا بالعدم لمرتبته الوسيطة بين الوجود والعدم‪ .‬تتضمن‬
‫ٍ‬
‫كمال‪ ،‬فليس كمثل ال ّله شيء‪،‬‬ ‫عملي ُة الخلق‪/‬الظهور غير ّية تنطوي بدورها على عدم‬
‫والكمال ال يكون إال ل ّله‪ ،‬لذا‪ ،‬يأتي الشر من «جهة» الممكن‪ ،‬ال من جانب ال ّله‪.‬‬
‫ُ‬
‫الشر في العا َلم‪ ،‬فما‬
‫«إمكان {الشيء} ال يحول بينه وبين العدم‪ ،‬فبهذا القدر ظهر ُّ‬
‫ظهر إال من جهة الممكن‪ ،‬ال من جانب الحق»‪.43‬‬
‫القول بضرورة انعدام الخلق‪ ،‬فالخلق يعني‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫النقص يشبه‬ ‫َ‬
‫القول بضرورة انعدام‬ ‫ّ‬
‫إن‬
‫يتضمن نو ًعا من ال َغ ْي ِر َّية‪ ،‬فعملية الخلق‪ ،‬والظهور‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تما ُي ًزا عن ّ‬
‫الذات اإلله َّية؛ وهو ما‬
‫النقص هنا حتم ًّيا؛ وهو ما يفسر‬
‫ُ‬ ‫والتع ُّين في الوجود هي عملية غير َّية‪ ،‬ومن ثم يكون‬

‫‪ 41‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.303‬‬
‫‪ 42‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪ 43‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.389‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪56‬‬
‫أخيرا‪ ،‬هناك سؤال آخر ال‬
‫الشر ضرور ًة أنطولوج ّية‪ً .‬‬
‫بدوره السبب وراء كون وجود ّ‬
‫الشر إذن؟‬
‫نسب ُّ‬
‫مطروحا؛ على ابن عربي اإلجابة عليه‪ :‬لمن ينبغي أن ُي َ‬
‫ً‬ ‫يزال‬
‫فإن ما ُي ِ‬
‫وجدُ ه‬ ‫أمرا واحدً ا‪َّ ،‬‬ ‫واآلن‪ ،‬ما دام الوجو ُد المطلق ل ّله‪ ،‬وما دام الوجو ُد‬
‫والخير ً‬
‫ُ‬
‫والخيالي‬
‫ّ‬ ‫والحسي‬
‫ّ‬ ‫المعنوي‬
‫ّ‬ ‫خيرا مطل ًقا كذلك‪« ،‬فما في الوجود‬ ‫ال ّل ُه ينبغي أن يكون ً‬
‫يقول ابن عربي‪« :‬ولهذا‪،‬‬ ‫الحق»‪ُ .44‬‬
‫الحق إال َّ‬
‫ُّ‬ ‫حق‪ ،‬فإنّه موجود عن حق‪ ،‬وال ُي ِ‬
‫وجدُ‬ ‫إال ّ‬
‫النبي قال في دعائه ر َّبه‪{ :‬والخير كله في يديك‪ ،‬والشر ليس‬
‫أن ّ‬‫َو َر َد في الخبر الصحيح ّ‬
‫ألن الخير مخلوق ل ّله‪ ،‬أ ّما الشر‬
‫الشر إلى ال ّله‪ّ ،‬‬
‫إليك}» ‪ .‬يرفض ابن عربي إذن نسب َة ّ‬
‫‪45‬‬

‫أي صفة وجود ّية‪ ،‬إذ يم ّثل نو ًعا من النقص‬


‫وليست له ّ‬
‫ْ‬ ‫أمرا مخلو ًقا ً‬
‫أصل‪ ،‬بل‬ ‫فليس ً‬
‫األنطولوجي‪ ،‬وعدم اكتمال عمل ّية وجوده‪.‬‬
‫وجودي‪ ،‬والعدم هو‬
‫ّ‬ ‫«فالجهل إنما هو عبارة عن عدم العلم ال غير‪ ،‬فليس بأمر‬
‫النبي قال‬
‫أن ّ‬ ‫الشر‪ ،‬والشر قبيح لنفسه حيثما فرضتَه‪ ،‬ولهذا‪َ ،‬و َر َد في الخبر الصحيح ّ‬
‫الشر إليه‪ ،‬فلو كان‬
‫نسب َّ‬ ‫في دعائه ر َّبه‪{ :‬والخير كله في يديك‪ ،‬والشر ليس إليك}‪ ،‬فما َ‬
‫فاعل إال ال ّله‪ ،‬فالوجود ك ّله خير‪ ،‬ألنه عي ُن‬
‫أمرا وجود ًّيا َلكان إيجا ُده إلى ال ّله‪ ،‬إذ ال َ‬
‫الشر ً‬
‫ُّ‬
‫الخير المحض وهو ال ّله تعالى»‪.46‬‬
‫الشر مخلو ًقا إذن‪ ،‬بل هو نقص في الوجود‪ ،‬وال يمكن العثور على أصل له‬ ‫ليس ُّ‬
‫في اإلله َّية‪ ،‬فال يأتي من الخير المحض إال الخير‪ .‬صدر العا َل ُم الممك ُن إلى الوجود‬
‫كنتيجة عن فعل الخلق‪/‬الظهور‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشر فإنّه يصدر َع َر ًضا‪،‬‬
‫عن طريق الرحمة اإلله ّية‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫فالممكن ــ مر ًة أخرى ــ ال يمكن أن يكون َع ْي َن واجب الوجود الذي هو ال ّله‪ ،‬ألنه ْ‬
‫إن‬
‫يحتل العا َل ُم إذن منطق ًة بين الوجود المطلق‬‫حدث؛ وقع نوع من التناقض المنطقي! ّ‬
‫والعدم المطلق‪ ،‬ولهذا ال يسعه إال أن يتخ ّلق بصفات كليهما‪.‬‬
‫بالذات‪َ ،‬و َو َق َع الشقا ُء في ِّ‬
‫حق َم ْن‬ ‫ِ‬
‫للسعادة ّ‬ ‫العالم بعد هذا التقرير إال‬ ‫«فما خلق ال ّل ُه‬
‫َ‬
‫الحق الذي أعطى‬ ‫شر فيه هو وجود ّ‬ ‫ألن الخير المحض الذي ال ّ‬‫بح ْك ِم ال َع َرض‪ّ ،‬‬ ‫وقع به ُ‬
‫خاصة‪ ،‬فلهذا كان للعا َلم الخير‬ ‫الوجو َد للعالم؛ ال يصدر عنه إال المناسب وهو الخير ّ‬

‫‪ 44‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.373‬‬
‫‪ 45‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.528‬‬
‫‪ 46‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.528‬‬
‫‪57‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫الحكم عليه باإلمكان التِّصافه بأحد الطرفين على البدل‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بالذات‪ ،‬ولكون العالم كان‬
‫الشر الذي هو عد ُم ِ‬
‫نيل الغرض‪،‬‬ ‫فلم يكن في رتبة الواجب الوجود لذاته؛ َع َر َض له من ّ‬
‫ومالءم ُة ما عرض»‪.47‬‬
‫الرغم من كونه ــ من ناحية أخرى ــ مخلو ًقا على‬ ‫نقصه ضرورةً‪ ،‬على ّ‬ ‫العالم يحيا َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫إن‬
‫بأن العا َل َم‬‫أحسن صورة بالنسبة إلى كونه ممكنًا‪ .‬يقول اب ُن عربي بمقاربة الغزالي القائلة ّ‬
‫هو األكمل من بين العوالم الممكنة األخرى؛ يقول‪« :‬وهو تعالى صانع العا َلم‪ ،‬و َأ ْو َجدَ ُه‬
‫على صورته‪ ،‬فالعا َلم ك ّله في غاية الجمال؛ ما فيه شيء من ال ُقبح»‪ .48‬ال ّله كامل إذن‪،‬‬
‫فنقص العا َلم كما ُله؛‬
‫ُ‬ ‫لم ْم ِك ٍن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وما يصدر عنه ال بدّ أن يكون في أحسن صورة ممكنة ُ‬
‫ِ‬
‫النقص‬ ‫ِ‬
‫كمال العا َلم وجو ُد‬ ‫يقول‪« :‬فلو لم يوجد النقص في العا َلم َلما كمل العا َلم‪ِ ،‬‬
‫فمن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلضافي فيه»‪ .49‬وما يتع ّين شيء في الخارج بالكامل إال وكان على صورة من الكمال‬
‫ّ‬
‫خالق العا َلم على ما هو عليه من الكمال‪.‬‬
‫المالئم له‪ ،‬ولهذا يبقى ُ‬
‫أطروحات ابن عربي في هذه األصول‪ )1( :‬ال تتناهى الماه ّية‬‫ِ‬ ‫يمكن تلخيص‬
‫أيضا‪ ،‬ومن‬ ‫ٍ‬
‫إمكانات ال تتناهى ً‬ ‫اإلله ّية ورحمان ّيتها في ذاتها‪ ،‬كما يحوز التناهيها‬
‫أجل ذلك تنطوي طبيعتُها على عدد ال يتناهى من الممكنات التي له أن يبقيها في‬
‫َك ْت ِم العدم أو أن يخلقها و ُيظهرها‪ .‬وما يترتّب عن الرحمة اإلله ّية ْ‬
‫أن يكون إيجا ُد‬
‫ما سوى ال ّله حت ًْما ضرور ًّيا‪ ،‬إذ يستجيب اسم ال ّله الرحمن لصلوات الممكنات‬
‫الالمتناهية‪ ،‬ومن ثم يقوم على إبرازها في الوجود‪ )2( .‬ليس العا َل ُم إال إمكانًا‬
‫واق ًعا بين واجب الوجود «ال ّله» والعدم‪ ،‬وليس الوجود إال ً‬
‫خيرا‪ ،‬وليس العد ُم إال‬
‫فإن الوجود والعد َم يتقاسمانِه‪ ،‬وبالتّالي ينطوي‬
‫وألن العالم موجود ممكن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫شرا‪.‬‬
‫ً‬
‫العا َلم على الخير والشر كليهما؛ كنتيحة ضرورية للشيء ما دام ممكنًا‪ )3( .‬يعني‬
‫ٍ‬
‫منطو‬ ‫ّ‬
‫وألن هذا الظهور‬ ‫الذ ِ‬
‫ات اإلله ّية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫التناهي ّ‬ ‫ب عن‬ ‫العا َلم‬
‫ظهورا ضرور ًّيا؛ تس َّب َ‬
‫ً‬
‫عين القول بعدم إمكان الكمال‬ ‫على غير ّية‪ ،‬فإن القول بغير ّية العالم عن ال ّله هو ُ‬
‫ً‬
‫كامل إال‬ ‫كامل إال ال ّله‪ ،‬والكمال له وحده‪ ،‬وال يمكن أن يكون العا َل ُم‬
‫َ‬ ‫فيه‪ ،‬فال‬

‫‪ 47‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.389‬‬
‫‪ 48‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.449‬‬
‫‪ 49‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثاني (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.244‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪58‬‬
‫العالم موجو ًدا‪ ،‬فال بد من وجود الخير‬
‫ُ‬ ‫إن ص َّي ْرنا ُه مع ال ّله شي ًئا واحدً ا‪ .‬وما دام‬
‫ْ‬
‫أيضا‪ ،‬وليس هذا إال النفصالنا عن ال ّله؛ وهو ما ّ‬
‫يفسر‬ ‫فيه‪ ،‬كما يجب وجود الشر ً‬
‫الشر مخلو ًقا‪ ،‬وليس ً‬
‫أمرا من األمور الوجود ّية‪،‬‬ ‫َ‬
‫القول بضرور ّية الشر‪ )4( .‬ليس ُّ‬
‫ضروري للوجود‪ ،‬فال وجو َد‬
‫ّ‬ ‫وإنما يعود أصله إلى العدم‪ ،‬كما يظهر على أنه ظل‬
‫له بنفسه‪ ،‬وال يمكن له ذلك‪ )5( .‬ينطوي تأكيدُ ابن عربي على مبدأ الرحمة في‬
‫الخلق على أنّه ما كان عن ضرورة فحسب‪ ،‬بل عن إرادة ال ّله ً‬
‫أيضا‪ ،‬وال يرى هنا‬
‫نوعا من التناقض‪ ،‬إذ يرى انسجام الضرورة وحرية اإلرادة في الذات اإللهية‪)6( .‬‬ ‫ً‬
‫دائما ساب ًقا على الشر في هذا العا َلم‪،‬‬
‫الخير ً‬
‫ُ‬ ‫تسبق رحم ُة ال ّله غض َبه‪ ،‬ولهذا كان‬
‫الشر ُمنْ َط ِمس ال محالة في الخير‬
‫وفي العا َلم اآلخر كذلك‪ .‬وما ُينْت ََهى إليه هنا أن ّ‬
‫ِّ ‪50‬‬
‫ال ُكل ّي‪.‬‬

‫نظرية العدالة اإللهية لدى جالل الدين الرومي‬


‫تعود نظر ّي ُة العدالة االختيار ّية بالشر وأصوله إلى اإلرادة اإلله ّية‪ ،‬وال تؤ ِّث ُر هذه العالقة‬
‫شرا ويخلقه إال وفي باطنه‬ ‫األخالقي ل ّله‪ ،‬إذ ال يريد ًّ‬
‫ّ‬ ‫المباشرة بين ال ّله والشر على الكمال‬

‫األشرار إذن؟ يجيب ابن عربي‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫منطمسا نهاي ًة في الخير الكلي‪ ،‬فكيف س ُي َعا َق ُ‬‫ً‬ ‫‪ 50‬واآلن‪ ،‬ما دام الشر‬
‫عن هذا السؤال في إطار فهمه الخاص لنار جهنم التي تفنى في النهاية من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر‬
‫لمن كان من أهلها‪ .‬يقول ابن عربي‪« :‬وأما أهل النار الذين هم من أهلها‪ ،‬ولم يقل‬ ‫تكون َم َح ًّل للنعيم َ‬
‫ِ‬
‫العذاب‪ .‬وال يلزم َمن كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا ُم َع َّذبين بها‪ّ ،‬‬
‫فإن أهلها و ُع َّم َارها‬
‫مالِ ٌك وخزنتُها؛ وهم المالئكة َو َما فيها من الحشرات والح َّيات وغير ذلك من الحيوانات التي ُت ْب َع ُث‬
‫النار عليه عذا ًبا‪ .‬كذلك َم ْن يبقى فيها؛ ال يموتون فيها وال يحيون‪،‬‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬وال واحد منهم تكون ُ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫النار أهلها لتعذبوا‬ ‫ُ‬
‫مسرورا‪ ،‬وأشدّ العذاب مفارقة الوطن‪ ،‬فلو فارق َ‬ ‫ً‬ ‫ف موطنَه كان به‬ ‫وكل َم ْن َألِ َ‬
‫ُّ‬
‫فعمرت الداران‪ ،‬وسبقتِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وإن ال ّله خلقهم على نشأة تألف ذلك الموط َن‪،‬‬ ‫باغترابهم َع َّما ُأ ِّه ُلوا له‪ّ .‬‬
‫جهنم ومن فيها‪ ،‬وال ّله أرحم الراحمين كما قال عن نفسه»‬ ‫َ‬ ‫كل شيء؛‬ ‫ووسعت َّ‬
‫ْ‬ ‫الغضب‪،‬‬‫َ‬ ‫الرحم ُة‬
‫ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬الجزء الثالث (مصر‪ ،‬دار الكتب العربية الكبرى‪1911 ،‬م)‪ ،‬ص ‪،25‬‬
‫ليبرالي‬
‫ّ‬ ‫«إجمالي‬
‫ّ‬ ‫السطر‪ .14 :‬يرى محمد حسن خليل ‪ Mohammad Hassan Khalil‬أن ابن عربي‬
‫‪ »liberal inclusivist‬فيما يتعلق بعلم الخالص في اآلخرة‪ ،‬إذ يقبل فكرة الخلود في النار‪ ،‬لك ّن‬
‫«الرحمة اإللهية»؛ أكثر الصفات اإلله ّية ذات َّي ًة على اإلطالق ستتغ َّلب نهاية حتى في الجحيم‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫تظل الجنة مختلفة عن الجحيم الذي يطلق عليه اب ُن عربي اسم «الجحيم الفردوسي»‪ .‬لمزيد مطالعة‬ ‫ّ‬
‫حول هذا الموضوع لدى ابن عربي‪ُ ،‬ينظر‪ Mohammad Hassan Khalil :‬محمد حسن خليل‬
‫(‪ ،)54-74 ،2012‬وسميث ‪ ،Smith‬وحداد ‪.)2002( Haddad‬‬
‫‪59‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫خير ُيكافؤه‪ .‬يعمل الرومي على تقديم مجموعة من األدوار اإليجاب ّية التي يؤ ِّديها وجود‬
‫‪51‬‬
‫الكلي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشر في الخير‬
‫الشر‪ ،‬كما يرمي إلى بيان غلبة الرحمة اإللهية نهاية األمر‪ ،‬وانمحاق ّ‬
‫ّ‬
‫سر الخلق معتمدً ا في ذلك على الحديث‬ ‫ِ‬
‫على غرار ابن عربي‪ ،‬يشرح الرومي ّ‬
‫بأن حكمة الخلق‪/‬الظهور كانت من أجل‬ ‫المنسوب إلى النبي محمد؛ القائل ّ‬
‫الذات اإللهية‪،‬‬ ‫أن تتعرف الموجودات العاقلة على كنوز ال ّله المخف ّية في ثنايا ّ‬
‫إذ ليس العا َلم إال مرايا متكاثرة تظهر عليها الكنوز المخفية‪ ،‬والصفات اإللهية‪.‬‬
‫يتعرف على ال ّله‬‫وبمشاهدة هذه االنعكاسات‪ ،‬يمكن للمرء ــ إلى حدٍّ ما ــ أن َّ‬
‫العالم من أجل إظهار‬‫َ‬ ‫نتاجا عن معرفته‪« .‬لقد خلق ال ّل ُه هذا‬
‫الذي تحصل محبتُه ً‬
‫كنوزها مدفون ًة مخف َّي ًة»‪.52‬‬
‫ُ‬ ‫{هذه الحكمة}‪ ،‬وذلك حتى ال تبقى‬
‫ات اإلله ّية‪ ،‬فتبقى‬ ‫تظهر على مرايا الخلق إذن أسما ُء ال ّله الحسنى وصفاته‪ ،‬أما َّ‬
‫الذ ُ‬
‫بوجهك ناحي َة صفاته»‪53‬؛ ما‬
‫َ‬ ‫مت ال تملك الصمو َد عند ماه ّيته‪ ،‬فأشح‬ ‫مخف َّية‪ ،‬فـ«ما ُد َ‬
‫أن األسماء اإللهية تملك قدر َة شرح وتفسير الظواهر الوجود ّية‪ .‬تلتقي األضداد‬ ‫يعني ّ‬
‫إذن في هذا العالم حيث يظهر الخير والشر‪ ،‬والجمال وال ُقبح‪ ،‬والجبر واالختيار‪،‬‬
‫واللطف والقهر‪ .‬كيف يمكن للمرء استيعاب هذه الثنائ ّية في األسماء والصفات‬
‫اإلله ّية؟ لإلجابة عن هذا السؤال‪ُ ،‬ي َف ِّرق الرومي بين أسماء اللطف والقهر اإلله ّية‪ ،‬إذ‬
‫بالشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتع ّلق األولى منها بالخير‪ ،‬والثانية‬
‫خلقت العا َلم‬
‫ُ‬ ‫ف}‪ ،‬أي‬ ‫فأحببت أن ُأ ْع َر َ‬
‫ُ‬ ‫كنزا مخف ًّيا‪،‬‬
‫{كنت ً‬ ‫ُ‬ ‫«الحق تعالى يقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إظهار ذاتي تار ًة بال ُّلطف وتار ًة بالقهر»‪.54‬‬ ‫الغرض من ذلك ك ِّله‬
‫ُ‬ ‫ك َّله‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬

‫يخص‬
‫‪ 51‬لزيالن موريس ‪ Zailan Moris‬مقالة جيدة جدا؛ تشرح فيها جوانب بعينها في غاية األهمية فيما ّ‬
‫نظرية العدالة اإللهية لدى جالل الدين الرومي‪ ،‬ويبدو أنها تنسب الرومي إلى المذهب الجبري في‬
‫بعض مواقفه وهو يعالج موضوع الشر‪ .‬وما أجادل عنه هنا أن الرومي يقدم تفسيريا اختيار ًّيا لوجود‬
‫الشر في العالم‪ ،‬لذا فإنه يختلف في هذا الصدد عن معالجة ابن عربي الجبر ّية االختيار ّية‪ .‬لمطالعة‬
‫تمهيد جيد لالهوت الرومي‪ ،‬ونظريته في العدالة اإللهية‪ ،‬ومفهومه عن حرية اإلرادة في مواجهة‬
‫زرينكوب ‪.)2009( Abdolhossein Zarrinkoub‬‬ ‫الجبر‪ ،‬يمكن مطالعة‪ :‬عبد الحسين ِّ‬
‫‪ 52‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الرابع‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مصر‪ ،‬المركز القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪.299‬‬
‫‪53 Rumi 1957-67, 4106; trans. Chittick 1983, 44.‬‬
‫‪ 54‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪60‬‬
‫للحق هو‬
‫ِّ‬ ‫دائما‪ ،‬وذلك الشخص النّافي‬ ‫للحق ُي ْظ ِه ُر َّ‬
‫الحق ً‬ ‫ِّ‬ ‫الم ْثبِ ُت‬
‫«ذلك الشخص ُ‬
‫أيضا ُم ْظ ِه ٌر {له}»‪.55‬‬
‫ً‬
‫والعالقة بين هذين النوعين من األسماء ليست عالقة بين متكاف َئ ْي ِن على الرغم‬
‫األمر نهاي ًة على‬
‫ُ‬ ‫ليستقر‬
‫ّ‬ ‫من ذلك‪ ،‬إذ الغلب ُة ألسماء اللطف على أسماء القهر‪،‬‬
‫اإللهي‪ ،‬ويحدث هذا‬
‫ّ‬ ‫انكسار القهر والجبروت لصالح اللطف والرحمة والجمال‬
‫اإللهي؛ إنها‬
‫ّ‬ ‫حتى في هذا العا َلم؛ يقول‪« :‬ماذا تكون هذه ُ‬
‫النار إلى جوار الغضب‬
‫الرحمة قد‬
‫أن ّ‬‫وأنت ال تزال تُر ِّد ُد ّ‬
‫َ‬ ‫مجرد سوط في يده ُيهدّ د به ال ّلئا َم في الدنيا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫سبقت الغضب» ‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫الشر إذن من هذا العا َلم مرآ ًة أكثر شمول ّية من أجل أن تنعكس عليها‬
‫يجعل وجو ُد ّ‬
‫شر فيه‪ ،‬ال يمكن أن تظهر فيه أسماء كـ «الغفور»‪،‬‬
‫فعالم ال َّ‬
‫ٌ‬ ‫األسما ُء اإلله َّية بنو َع ْي َها‪،‬‬
‫كانت لط ًفا أو ً‬
‫قهرا ــ إلى‬ ‫ْ‬ ‫تتعرف‪ .‬تحتاج األسما ُء اإلله َّية ــ سواء‬
‫أو «المنتقم»‪ ،‬فال َّ‬
‫الظهور‪ ،‬فتعمل اإلرادة اإلله ّية على تلب َية حاجتها تلك؛ ما يعني إمكان الرجوع بأصل‬
‫وألن الشر منسوب إلى ال ّله عند الرومي‬
‫ّ‬ ‫واالختياري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلبداعي‬
‫ّ‬ ‫الشر إلى فعل ال ّله‬
‫كما ُينا َقش ذلك بعد قليل‪ ،‬فإنه يمكن الوقوف هنا على جزء ها ٍّم جدًّ ا من نظر َّيته في‬
‫الرؤية التي طرحها اب ُن عربي حول الموضوع‬ ‫العدالة اإللهية؛ ُي َعدّ ِ‬
‫فار ًقا بينه وبين ّ‬
‫نفسه‪.‬‬
‫أمر بالخير {‪ ،}...‬ف ُع ِل َم أنه {تعالى} مريد للشر‬
‫بالشر‪ ،‬وإال لما َ‬
‫ّ‬ ‫{الحق}‬
‫ُّ‬ ‫«ال يرضى‬
‫وجه‪ ،‬وغير مريد له من ٍ‬
‫وجه {‪ ،}...‬فلو لم ُي ِر ْد هذه الشرور‪ ،‬لم يرد النفس‪{ ،‬وإذا‬ ‫من ٍ‬

‫أيضا َل َما أمرها‬


‫لم يرد النفس}‪ ،‬ال يريد األمر والنهي الملزو َمين للنفس‪ ،‬ولو رضي بها ً‬
‫و َل َما نهاها‪ ،‬فالحاصل‪ :‬الشر ُم َراد لغيره»‪.57‬‬

‫‪ 55‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.253-254‬‬
‫‪ 56‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الرابع‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مصر‪ ،‬المركز القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪.624‬‬
‫‪ 57‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪( 252‬هذا الفصل بالعربية في األصل الفارسي)‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫األخالقي ل ّله‪ ،‬إذ الشر هنا ُم َراد ال لذاته ولكن ٍ‬


‫لخير‬ ‫ّ‬ ‫ال تؤ ّثر هذه النظرة على الكمال‬
‫أسمى‪ ،‬فال ّله َخ ِّير‪ ،‬وال يصدر عن ذاته المقدّ سة إال ما هو خير بالضرورة‪ ،‬فيلزم عن ذلك‬
‫أن تكون للشر أدوار تعويض َّية؛ ماذا عساها أن تكون؟‬
‫الم َغا َي َر ِة في هذا العا َلم‪ ،‬إذ ال تتعارف‬
‫َّأو ًل‪ ،‬دور الشر يأتي في كونه يصنع نو ًعا من ُ‬
‫الشر‪ ،‬فالخير ّية المطلقة‬
‫األشيا ُء إال بأضدادها‪ ،‬وال تمكن معرفة الخير إال بنقيضه من ّ‬
‫ل ّله ْ‬
‫إن كانت خالية عن نقطة مرجع َّية تغايرها ــ حتى ولو كانت متناهية الصغر ــ ال يمكن‬
‫الخير معرو ًفا‪ ،‬بل ويبرزه بطريقة ما‪.‬‬
‫َ‬ ‫الشر‬
‫التعرف عليها‪ ،‬ولذلك ُيص ِّير ُّ‬
‫ّ‬
‫«ولقد خلق ال ّل ُه َ‬
‫األلم والحزن‪ ،‬حتى تتضح لك سعاد ُة القلب بضدّ ها»‪« ،.58‬وال تمكن‬
‫الجراح‪ ،‬يعرف المالطفة واإلكرام»‪.59‬‬
‫َ‬ ‫معرفة الشيء إال بضدّ ه‪ ،‬وعندما يذوق المر ُء‬
‫كون الذات اإللهية تستعصي على الوصف‪ ،‬فال ّله ال ضدّ‬
‫األمر كذلك َ‬
‫ُ‬ ‫يفسر هذا‬
‫ِّ‬
‫التعرف عليها‪ .‬ولنأخذ في‬
‫له في الحقيقة‪ ،‬وبعض األشياء التي ال ضدّ لها ال يمكن ُّ‬
‫أكبر من أن‬
‫أيضا كونَه تعالى جام ًعا لألضداد؛ ما ينفي عنه المثل َّية‪ ،‬ويجعله َ‬
‫االعتبار ً‬
‫يكون له ضدّ ‪.‬‬
‫َّب دون‬ ‫فكل ما خطر ببالك‪ ،‬فال ّله بخالفه؛ وهو ُ‬
‫الم َرك ُ‬ ‫جامع األضداد‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫«وألنه‬
‫ٍ‬
‫اختيار منه»‪.60‬‬ ‫جميل تصدر أفعا ُله الضرور ّية عن‬
‫ٌ‬ ‫تركيب‪،‬‬
‫الشر‬ ‫َ‬
‫يكون مرآ ًة شاملة‪ ،‬فإذا انعدم ُّ‬ ‫الشر إذا ُأ ِريدَ من العا َلم أن‬
‫ثان ًيا‪ ،‬ال بدّ من وجود ّ‬
‫بعض األسماء اإللهية في ٍ‬
‫طور من الخفاء‪ ،‬وظهور ال ُق ْبح في العالم‬ ‫من العالم ستبقى ُ‬
‫ِ‬
‫يجازي‬
‫َ‬ ‫دليل على َغنَاء اإلمكانات اإلله ّية‪ ،‬ثم ّ‬
‫أي نوع من الذنوب يمكن له أن يغفرها أو‬
‫عليها دون أن يكون للشر وجود؟!‬
‫ِ‬
‫حانوت‬ ‫أمرا ال بأس به من أجل الحفاظ على‬ ‫العالم ْي ِن ً‬
‫َ‬ ‫جواز تدمير‬
‫َ‬ ‫«هل ترى‬

‫‪ 58‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد عبد السالم كفافي (بيروت‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،)1966‬ص ‪.180‬‬
‫‪ 59‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الخامس‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مصر‪ ،‬المركز‬
‫القومي للترجمة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪.100‬‬
‫‪60 Rumi, Jalal al-Din. 1957-67. Diwan Shams-i Tabrizi, Edited by B Furuzanfar. 10‬‬
‫‪vols. Tehran: University of Tehran Press, 26832; trans. Chittick 1983, 50.‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪62‬‬
‫قائما؟»‪« ،61‬ولو لم يعرف كيف يصنع ال ُق ْب َح لكان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطبيعي عدي ِم القيمة ً‬
‫ِّ‬ ‫مزاج َك‬
‫ناقصا»‪.62‬‬
‫ً‬
‫الحسن وال ُقبح في األشياء ال يتع ّلقان بال ّله‪ ،‬ولكنهما‬ ‫أن ُ‬ ‫ثال ًثا‪ ،‬يرى الرومي ّ‬
‫غير مباشر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يتع ّلقان بنا نحن‬
‫خيرا َ‬ ‫الكوني حينئذ ً‬ ‫ّ‬ ‫الشر في سياقه‬
‫ّ‬ ‫البشر‪ ،‬فيظهر‬
‫َ‬
‫كانت ُمت ََح ِّي َز ًة في مكانها‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ويصبح وجو ُده نسب ًّيا وعرض ًيا‪ ،‬وتبقى حقيقتُه كما‬
‫يرى ال ّل ُه األشيا َء في عليائه موضوع ًة في َم َحا ِّل َها المناسبة‪ ،‬كما تظهر األشياء من‬
‫منظوره مختلف ًة‪.‬‬
‫الشرك‬‫«الزنا والطهارة‪ ،‬ت َْرك الصالة وأداء الصالة‪ ،‬الكفر واإلسالم‪ّ ،‬‬
‫الحق‪ ،‬أ ّما بالنسبة إلينا ّ‬
‫فإن الزنا‬ ‫ّ‬ ‫والتوحيد؛ هذه األشياء جميعها خير بالنسبة إلى‬
‫والسرقة والكفر والشرك شر‪ ،‬أما التوحيد والصالة والخيرات فهي لدينا خير‪،‬‬
‫الم ِلك الذي يكون لديه سجن ومشنقة‬ ‫مثل َ‬ ‫أما عند الحق فكلها خير‪ .‬وذلك ُ‬
‫ِ‬
‫وح َشم ومآدب ومالذ وطبول وأعالم‪ .‬أ ّما بالنسبة إلى‬ ‫وخ ْلع وأموال وأمالك َ‬
‫لكه‪ ،‬وهي جمي ًعا بالنسبة‬ ‫كمال م ِ‬
‫ِ‬ ‫ك فهي جمي ًعا ِمن َم َجالِي {جمع َم ْج ًلى}‬
‫الم ِل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫والمشنقة شي ًئا‬ ‫ِ‬
‫لم ْلكه‪ ،‬أما بالنسبة إلى الخلق‪ ،‬فكيف تكون الخ ْل َع ُة‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫كمال ُ‬ ‫إليه‬
‫واحدً ا؟»‪.63‬‬
‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬ال وجود للتفرقة بين اللطف والقهر إال بالنسبة إلينا نحن فحسب‪،‬‬
‫ذات ال ّل ِه التي ليس كمثلها شيء‪ ،‬فإنهما يتساويان وال فرق بينهما‪ ،‬وال‬‫أما بالنسبة إلى ِ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫يظهر بينهما اختالف إال عند تع ُّلق ِه َما بالخلق أو في الخلق‪.‬‬
‫يتوجهون بنظرهم إلى‬
‫ّ‬ ‫الذات‪ ،‬فكيف‬ ‫«وحينما يكون الواصلون غارقين في َّ‬
‫َج ٍّل منه تج ِّل ًيا آخر‪ .‬أنت ً‬
‫أيضا في‬ ‫الصفات؟» ‪« ،‬ولو تج ّلى مائة ألف مرة َل َما أشبه ت َ‬
‫‪64‬‬
‫ّ‬

‫‪61 Rumi, Jalal al-Din. 1925-40. The Mathnawi of Jalaluddin Rumi. Edited and trans-‬‬
‫‪lated by R. A, Nicholson. 8 vols. Lindon: Luzac. 6: 1745.‬‬
‫‪ 62‬جالل الدين الرومي ‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد عبد السالم كفافي (بيروت‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،)1966‬ص ‪ ،256‬البيت‪.2542 :‬‬
‫‪ 63‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 64‬جالل الدين الرومي ‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد عبد السالم كفافي (بيروت‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،)1966‬ص ‪.282‬‬
‫‪63‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫هذه اللحظة ترى ال ّله؛ كل لحظة تراه في آثاره وأفعاله متعدّ َد األلوان‪ ،‬ال يشبه ٌ‬
‫فعل من‬
‫اآلخر»‪.65‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الفعل‬ ‫أفعاله‬
‫راب ًعا‪ ،‬ال وجو َد للشر المطلق أبدً ا‪ ،‬وال يمكن التمييز بين الشر والخير بالقطع في‬
‫والشر‪ .‬يقول الرومي‪« :‬أرني في هذه الدنيا‬
‫ّ‬ ‫دائما بالخير‬
‫هذا العالم‪ ،‬وتتمازج األشيا ُء ً‬
‫سيء»‪« ،66‬ومن هنا‪ ،‬فليس‬
‫شي ًئا س ِّي ًئا ليس فيه شيء حسن‪ ،‬وشي ًئا حسنًا ليس فيه شيء ّ‬
‫الشر نسبي‪.‬‬
‫أن ّ‬ ‫هناك شر مطلق في هذه الدنيا‪ ،‬اعلم إذن َّ‬
‫السكَّر‪.‬‬
‫وآلخر كأنّه ُّ‬
‫َ‬ ‫وال يكون أبدً ا ُس ّم وسكر في وقت واحد ال يكونان قو ًة ألحد‬
‫وس ُّم الح ّية يكون حيا ًة لتلك الح ّية‪ ،‬لكنة بالنسبة إلى اإلنسان موت‪.‬‬
‫ُ‬
‫والبحر بالنسبة ألحياء البحر كالحديقة‪ ،‬لكنه لمخلوقات األرض موت ومصيبة»‪.67‬‬
‫القرآني في‬
‫ّ‬ ‫كثيرا ما ُي َذك ُِّر الرومي بفكرة أن االبتالء اختبار؛ عائدً ا إلى ّ‬
‫النص‬ ‫خامسا‪ً :‬‬
‫ً‬
‫حقيقة ِ‬
‫ِ‬
‫نفسه‬ ‫ذلك‪ ،‬ويرى وراء هذا االختبار قصدً ا وغاية‪ ،‬ومن ذلك إيقا ُفه ُ‬
‫الم ْبتَلى على‬
‫أوامر ثقيلة‪ ،‬وجمال وقبح‪ ،‬وصخور و َمرجان‪ ،‬وإذا لم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫هناك‬ ‫كما هي‪« .‬وإذا لم تكن‬
‫يكن هناك شيطان‪ ،‬ونفس‪ ،‬وإراد ُة ذات‪ ،‬وإذا لم يكن هناك ِصدام‪ ،‬أو معركة وحرب‪،‬‬
‫الم ِل ُك عبا َده‪ :‬بـ»الملعون»‪ ،‬وكيف يمكن له أن يقول‪« :‬أيها الصبور»‪« ،‬ويا‬
‫فكيف ينادي َ‬
‫‪68‬‬
‫وصف أحدهم بالشجاعة والحكمة؟!»‬
‫ُ‬ ‫الو ِرع»‪ ،‬أو كيف يمكنه‬ ‫أيها َ‬
‫إن الرومي رأى العا َلم مخلو ًقا ل ّله من أجل إظهار كنوزه‬
‫تلخيصا لما سبق‪ ،‬نقول ّ‬
‫ً‬
‫قسم األسماء اإلله ّية إلى قسمين‪ :‬أسماء اللطف‪ ،‬وأسماء القهر‪.‬‬
‫المخف ّية‪ ،‬كما أنّه ُي ِّ‬
‫النبوي‪ .69‬ووجود الشر‬
‫ّ‬ ‫تسبق أسما ُء اللطف أسما َء القهر وتغلبها كما ور َد في األثر‬

‫‪ 65‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.173‬‬
‫‪ 66‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ِ ،304‬‬
‫الفقرة‪.214 :‬‬
‫‪ 67‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الرابع‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مصر‪ ،‬المركز القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪ ،48‬األبيات‪.65-69 :‬‬
‫‪68 Rumi, Jalal al-Din. 1925-40. The Mathnawi of Jalaluddin Rumi. Edited and trans-‬‬
‫‪lated by R. A, Nicholson. 8 vols. Lindon: Luzac. 4:1747-1749.‬‬
‫الخ ْل َق‪َّ :‬‬
‫إن َر ْح َمتي‬ ‫َب ِكتا ًبا َق ْب َل ْ‬
‫أن َي ْخ ُل َق َ‬ ‫«إن ال َّل َه َكت َ‬
‫‪ 69‬يشير إلى حديث أبي هريرة عن النبي أنّه قال‪َّ :‬‬
‫ش» (البخاري‪.)7554 :‬‬ ‫ُوب ِعنْدَ ُه َف ْو َق ال َع ْر ِ‬
‫َس َب َق ْت َغ َضبِي‪َ ،‬فهو َم ْكت ٌ‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪64‬‬
‫شمول؛ تظهر عليها األسماء اإلله ّية تلك؛ ما يعني َّ‬
‫أن‬ ‫ً‬ ‫يجعل من العالم مرآة أكثر‬
‫الشر‪ ،‬كما‬
‫يوجد فيه ّ‬ ‫ً‬
‫معقول فقط في عا َلم َ‬ ‫ظهور اس ٍم كـ«الغفور» أو «المنتقم» يكون‬
‫نقيضه‪ ،‬فال يمكن للخير المط َلق‬
‫الخير به على أنّه ُ‬
‫ُ‬ ‫دورا عكس ًّيا‪ ،‬إذ يظهر‬ ‫أيضا ً‬ ‫َّ‬
‫أن للشر ً‬
‫نقيضه ا ّلذي يظهر على أنه نقطة مرجع ّية‬ ‫ِ‬
‫بدون ِ‬ ‫ف في هذا العا َلم‬ ‫غير المحدود أن ُي ْع َر َ‬
‫إن الشر حقيقة عارضة متموضعة من جهة كونه موجو ًدا‬ ‫مقارن ًة بالخير الذي يعارضه‪ّ .‬‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مي‪ ،‬سيظهر‬ ‫فقط من وجهة نظر إدرك َّية محدودة‪ ،‬في حين أنّه لو ُوض َع في سياقه العا َل ّ‬
‫على أنه خير غير مباشر‪ .‬وال وجود لشر مطلق أبدً ا‪ ،‬إذ يمتزج الخير والشر في هذا‬
‫إن الشر اختبار ُي ْع ِلن عن ماه َّياتِنا الحقيق ّية‪ .‬وبعد‬
‫وأخيرا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫امتزاجا في ّ‬
‫كل شيء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫العا َلم‬
‫طر ِح هذه الوظائف التعويض ّية اإليجاب ّية التي يشغلها الشر‪ ،‬تنسب نظرية العدالة اإلله ّية‬ ‫ْ‬
‫الشر ل ّله‪.‬‬
‫االختيار ّية لدى الرومي ّ‬

‫ابن عربي والرومي‪ :‬أصل وطبيعة الش ّر‬


‫أول‪ ،‬إيمان كليهما‬ ‫يتفق اب ُن عربي والرومي على مجموعة من النقاط؛ من بينها‪ً :‬‬
‫وأن وجود الشر يجعل العا َل َم‬ ‫ظهورات األسماء اإلله ّية‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫بأن العا َلم َم َح ٌّل تتكاثر فيه‬
‫َّ‬
‫أن انعدام الشر في العالم يترتّب عليه بقاء بعض‬ ‫شمول لهذا األمر‪ ،‬كما ّ‬ ‫ً‬ ‫مرآ ًة أكثر‬
‫أسمائه تعالى مخف ّي ًة كـ«الغفور»‪ ،‬و«المنتقم»‪ ،‬إذ في خفائها ينعدم معنى المغفرة أو‬
‫الشر ليس موجو ًدا‪ .‬ووجود الشر يجعل العا َلم أكثر تعقيدً ا؛ ما يفتح‬ ‫االنتقام ما دام ُّ‬
‫بأن‬ ‫ٍ‬
‫عالقات أكثر َغنَا ًء بين ال ّله والعا َلم‪ُ .‬يقارب الرومي المعنى‪ ،‬فيقول ّ‬ ‫َ‬
‫المجال أمام‬
‫صورا قبيح ًة‪ .‬وما تجب‬ ‫ً‬ ‫يرسم‬
‫قادرا على أن ُ‬ ‫كمال الرسم يتط َّلب أن يكون َّ‬
‫الرسا ُم ً‬
‫أن كمال‬ ‫كل من ابن عربي والرومي الميتافيزيق ّية ّ‬‫أيضا طب ًقا لكون ّيات ّ‬‫اإلشار ُة إليه هنا ً‬
‫اإلنسان مرآ ًة تظهر فيها الصفات اإلله ّية متوازن ًة‬
‫ُ‬ ‫اإلنساني يكمن في أن يكون‬
‫ّ‬ ‫الخلق‬
‫بين اللطف والقهر‪».‬وهكذا خلق ال ّل ُه العا َل َم ــ الذي هو من الظلمة ــ لكي يظهر ُ‬
‫نوره‪،‬‬
‫لكل منهم‪ :‬اخرج بصفاتي إلى خلقي‪ ،‬وهم‬ ‫قائل ّ‬‫أظهر األنبياء واألولياء؛ ً‬
‫َ‬ ‫وهكذا‬
‫العدو‪ ،‬ويمتاز القريب من الغريب‪ ،‬فذلك‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ ،‬لكي يظهر الصديق من‬ ‫ّ‬ ‫َم ْظ َه ُر نور‬
‫المعنى‪ ،‬من جهة المعنى‪ ،‬ليس له ضدّ إال بطريق الصورة؛ مثلما أنه في مقابل إبليس‬
‫آدم‪ ،‬وفي مقابل موسى فرعون‪ ،‬وفي مقابل إبراهيم النمرود‪ ،‬وفي مقابل المصطفى‬
‫‪65‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫أبو جهل‪ ،‬وهكذا إلى ما ال نهاية‪{ ،‬فباألولياء} يظهر ضد ال ّله‪ ،‬برغم أنه في المعنى‬
‫ال ضدّ له»‪.70‬‬
‫وهما في حقيقته‪،‬‬ ‫الخاص‪ ،‬وليس ً‬ ‫ّ‬ ‫الوجودي‬
‫ّ‬ ‫الشر لكليهما حقيقة في مستواه‬ ‫ثان ًيا‪ ،‬إن ّ‬
‫إن زنزان َة َم ِل ٍك ما‬
‫خيرا أعظم كما يمكن أن ُي َل َحظ‪ّ .‬‬ ‫يتضمن من وجهة ٍ‬
‫نظر إله َّية ً‬ ‫ّ‬ ‫لكنّه‬
‫وقهره‪ ،‬لكنَّها من وجهة نظر رعاياه تظهر على أنّها نوع من العقاب والقهر‬ ‫َ‬ ‫تم ِّثل عد َله‬
‫نظر أحاد ّية‪ ،‬لكنها عالج من وجهة‬ ‫ِ‬
‫وجهة ٍ‬ ‫أن ُس َّم األفعى تم ِّثل تهديدً ا من‬ ‫الشديد‪ ،‬كما ّ‬
‫نظر أخرى‪ ،‬وهكذا تظهر األشياء في حسنها وقبحها بالنسبة إلينا نحن‪ ،‬ال بالنسبة إلى‬
‫اإللهي في شيء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال ّله‪ ،71‬وال يؤ ِّثر هذا النّقص في العا َلم على الكمال‬
‫الشر يشغل‬ ‫وأن ّ‬ ‫ثال ًثا‪ ،‬يرى كالهما أن النّقص في هذا العالم هو كما ُله في الحقيقة‪َّ ،‬‬
‫مقارنة يلعب‬ ‫فالشر كنقطة مرجع َّية َ‬ ‫ّ‬ ‫وظائف إيجاب ّية في هذه اللعبة الكون ّية العظيمة‪،‬‬ ‫َ‬
‫دورا معرف ًّيا في عمل ّية ظهور الخير؛ «وبضدِّ ها تتب َّي ُن األشيا ُء»‪ 72‬كما‬ ‫على سبيل المثال ً‬
‫َج ِّلي‬
‫َحدٍّ غايته ت َ‬ ‫ٍ‬
‫كاختبار على ت َ‬ ‫المفكر ْي ِن‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬ينطوي ُّ‬
‫الشر‬ ‫َ‬ ‫يرى كال‬
‫المت ََستِّرة في الطبيعة اإلنسان َّية‪ ،‬إذ ر ُّد فعل اإلنسان تُجاه الشيطان‪ ،‬والنفس‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اإلمكانات ُ‬
‫الطريق أمام اإلنسان ليسلك نحو الت َّح ُّقق بذاته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫والصدَ مات‪ ،‬والحروب ُي َع ِّبد‬
‫ّ‬
‫نقاط أخرى مع ّينة؛‬ ‫ٍ‬ ‫وعلى الرغم من هذه القواسم المشتركة‪ ،‬إال أنهما يفترقان في‬
‫أيضا‪،‬‬‫اختياري ً‬
‫ّ‬ ‫الشر على أنه ضرورة ميتافيزيقية وفعل‬ ‫فهم ابن عربي َّ‬ ‫أهمها في رأيي ُ‬‫ّ‬
‫عنصر الضرورة المنطوي‬ ‫ُ‬ ‫حصرا‪ ،‬وال يبدو‬
‫ً‬ ‫اختياري‬
‫ّ‬ ‫الشر على أنه فعل‬ ‫بينما يرى الرومي ّ‬
‫‪73‬‬
‫في الطالقة اإلله َّية موجو ًدا عند الرومي‪.‬‬

‫جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬ ‫‪70‬‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ ،80‬الفقرة ‪.80‬‬
‫اإللهي‪ ،‬بسبب األدوار التعويضية التي يقوم بها‪ ،‬وألنه‬ ‫ّ‬ ‫شرا من وجهة نظر‬ ‫بمعنى ّ‬
‫أن الشر لم يعد ًّ‬ ‫‪71‬‬
‫ِ‬
‫شرا من وجهة نظر اإلنسان بسبب‬ ‫المع ِّم األكبر نهاي ًة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬يظل ُّ‬
‫الشر ًّ‬ ‫سينطوي في الخير ُ‬
‫تع ّلقه بالجزئ ّيات‪ ،‬وبذلك يبقى الشر في اإلدراك حقيق ًّيا ضمن هذا المستوى‪.‬‬
‫جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬ ‫‪72‬‬
‫الف َقر‪.77 :‬‬ ‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ِ ،125‬‬
‫كل شيء‪ ،‬من أجل أن يكون للخير والشر‬ ‫يشير الرومي في بعض نصوصه إلى ضرورة أن ُي ْمت َْح َن ُّ‬ ‫‪73‬‬
‫ٍ‬
‫تتحمل من عناء‪ ،‬لكي نستخلص‬ ‫معنى؛ ُينْ َظر على سبيل المثال قوله‪« :‬وكم يجب على عقولنا أن‬
‫ّ‬
‫أهل الصفاء من بين الكَدَ ر» (جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد عبد‬ ‫َ‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪66‬‬
‫االختياري للكون‬ ‫ّصور الضروري‬ ‫وكما ن ِ‬
‫ُوق َش من قبل ّ‬
‫ّ‬ ‫أن التطبيقات الالزمة عن الت ُّ‬
‫اإللهي حيث ينطوي مفهوم الخلق‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫لدى ابن عربي تنعكس على نظريته في العدالة‬
‫الظهور في باطنه على معنى «الغير َّية»‪ ،‬فالعا َلم يغاير ال ّله وال يمكنه أن يكون كال ّله‪،‬‬
‫النقصان‪ .‬يعتمد ابن عربي في تِبيان فكرته تلك على المدرسة‬ ‫ُ‬ ‫ومن أجل ذلك يعتريه‬
‫األشعر ّية وتقسيم ابن سينا للوجود‪ ،‬فالعا َلم عنده وجود ُم ْم ِكن‪ ،‬بينما يأتي الوجود‬
‫منطقة ُو ْس َطى بين الوجود الضروري‬ ‫ٍ‬ ‫اإللهي ضرور ًّيا‪ .‬يقع هذا الوجود الممكن في‬
‫ّ‬
‫آثارهما في‬ ‫المحض «ال ّله» والعدم كالهما َ‬
‫ُ‬ ‫والعدم‪ .‬يلزم عن ذلك أن َيترك الوجو ُد‬
‫الم ْط َل َق ْي ِن؛‬
‫النقص إذن على إمكانه‪ ،‬على موقعه الوسيط بين ُ‬
‫ُ‬ ‫الوجود الممكن‪ .‬ينطوي‬
‫االختياري بطريقة تقترب‬
‫ّ‬ ‫ال ّله والعدم‪ .‬ينحو الرومي ً‬
‫نحوا مختل ًفا ويؤكّد على الجانب‬
‫أن خلق‪/‬ظهور العا َلم قد‬
‫الشر عنده ُم َرا ًدا‪ ،‬لكن لخير أعظم‪ ،‬كما ّ‬
‫من الحصر‪ ،‬إذ يأتي ّ‬
‫كان من أجل الكشف عن كنوزه المخف َّية‪ .‬وليس العا َلم إال مرآ ًة تنعكس عليها أسماء‬
‫شمول عن طريق إفساح المجال‬‫ً‬ ‫العالم مرآة أكثر‬
‫َ‬ ‫ال ّله وصفاته‪ .‬ولهذا يجعل وجو ُد ّ‬
‫الشر‬
‫َخ َّلق له‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ونظامه الذي ت َ‬ ‫ٍ‬
‫عالقات أكثر َغنَا ًء مع ال ّله‬ ‫أمام‬
‫تختلف وجه ُة نظر الرومي عن ابن عربي َت َب ًعا لذلك‪ ،‬فالشر عند ابن عربي ليس‬
‫مخلو ًقا‪ ،‬وليس من األمور الوجود ّية‪ ،‬ولكنه يعني نقصانًا في األمور الوجود ّية‬
‫الموجودة في العا َلم ً‬
‫أصل‪ ،‬ورغم أنّه يشارك في العمل ّية الوجود ّية إال أنه ليس موجو ًدا‬
‫معقول‪ ،‬وال يمكن تع ُّقله إال حينما يتع َّلق بالوجود فحسب‪ .‬يعثر‬‫ً‬ ‫في حدِّ ذاته‪ ،‬وليس‬
‫ابن عربي إذن على أصل الشر في العدم ذاته‪ ،‬إذ ليس موجو ًدا في نفسه‪ ،‬ولهذا فإنه يرى‬
‫فألن العا َلم‬
‫الشر ميتافيزيق ًّيا دون أن ينسبه إلى ال ّله‪ .‬أ ّما إذا انتقلنا إلى الرومي‪ّ ،‬‬
‫ضرور ّية ّ‬
‫لكل من الجمال والعظمة‪ ،‬فإنّه من أجل فهم هذه الثنائ ّية‪ ،‬يمكن تقسيم الصفات‬ ‫َم ْظ َهر ٍّ‬
‫ِ‬
‫القسمان هما‪ :‬أسماء‬ ‫سم ْي ِن ُك ِّل َّي ْي ِن تندرج تحتهما الصفات األخرى؛ هذان‬ ‫ِ‬
‫اإلله ّية إلى ق َ‬
‫صفات الجمال‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والخير‪ ،‬وعن‬
‫ُ‬ ‫اللطف‪ ،‬وأسماء القهر‪ ،‬فعن اللطف تظهر‬

‫السالم كفافي (بيروت‪ ،‬المكتبة العصر ّية‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،)1967‬ص ‪ ،296‬البيت‪ ،)2950 :‬وقوله‪:‬‬
‫ِ‬
‫اللذين امتزجا به» (جالل الدين‬ ‫«لقد أطلق {ال ّل ٌه} هذا الوعدَ وذاك الوعيدَ ‪ ،‬من أجل الخير والشر‬
‫الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد عبد السالم كفافي (بيروت‪ ،‬المكتبة العصر ّية‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪ ،)1967‬ص ‪ ،297‬البيت‪ .2965 :‬تشرح مثل هذه النصوص وظيف ّية الشر هنا‪ ،‬ولكنها ال‬
‫تب ّين أصل الشر في شيء وال تشبه المعالجة الميتافيزيقية التي قدمها اب ُن عربي حول هذا الموضوع‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫والشر‪ .‬إن نسبة أصل الشر إلى ال ّله ال ينفي‬


‫ّ‬ ‫القهر يصدر ال ُقبح‪ ،‬والجبروت‪ ،‬والن َّصب‪،‬‬
‫األخالقي ل ّله‪ ،‬فكل شيء له أصل في ال ّله عند النظر إلى‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الكمال‬ ‫ــ كما يرى الرومي ــ‬
‫مشابها بين اللطف والقهر في األسماء‬ ‫ً‬ ‫أيضا تفري ًقا‬
‫مضامينه اإليجاب ّية‪ُ .‬ي َف ِّرق ابن عربي ً‬
‫ً‬
‫شمول‪ ،‬لك ْن طب ًقا‬ ‫يجعل العا َلم مرآة أكثر‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫يريان وجو َد الشر‬ ‫المفكر ْي ِن‬ ‫اإلله ّية‪ ،‬لذا فكال‬
‫َ‬
‫لنظرية ابن عربي الضرورية االختيار ّية‪ ،‬فإنه يقول بعدم اعتبار األسماء اإلله ّية سب ًبا‬
‫للشر‪ .‬نعم‪ ،‬يمكن إرجاع أصل الخير إلى ال ّله‪ ،‬وإلى أسمائه اللطيفة‪ ،‬لكن ال يمكن‬
‫وإن شي ًئا لم ُي ْخ َلق‬
‫ألن الشر معدوم في ذاته؛ ّ‬
‫الشر إلى أسمائه القهر ّية‪ّ ،‬‬
‫إرجاع أصل ّ‬
‫أصل ال يكون ع َّل ًة لشيء‪ ،‬وبالتالي يمكن النظر إلى أسماء قهره تعالى على أنها ر ّد فعل‬
‫ً‬
‫كل‪ ،‬يرى الرومي وابن عربي كالهما ّ‬
‫أن أسما َء‬ ‫ضروري لظهور الشر في العالم‪ .‬على ٍّ‬
‫ّ‬
‫تتكشف جمي ًعا‪ ،‬ولكنهما يفترقان في أنّها ِعل ُة الشرور عند الرومي‪ ،‬ور ّد فعل‬
‫ّ‬ ‫القهر‬
‫ضروري لظهور الشر لدى ابن عربي‪.‬‬
‫ّ‬
‫حاضرا عند الرومي وابن عربي كما ُذ ِك َر من قبل‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫االختياري‬
‫ُّ‬ ‫الجانب‬
‫ُ‬ ‫يأتي‬
‫ُفرق نظرية العدالة اإللهية لدى الرومي بين‬ ‫هناك اختالف ظاهر في هذا الحضور‪ .‬ت ِّ‬
‫إرادة الفعل وبين السماح به في الواقع؛ يقول على سبيل المثال‪« :‬ال ّله تعالى ُمريد للخير‬
‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫الحفاظ على فكرة الكمال‬ ‫األمر‬
‫ُ‬ ‫والشر‪ ،‬وال يرضى إال بالخير»‪ .74‬يتيح هذا‬
‫ِ‬
‫مخلوقان ل ّله‪،‬‬ ‫َ‬
‫القول ّ‬
‫بأن الخير والشر كالهما‬ ‫ل ّله دون المساس بها‪ ،‬وفي نفس الوقت‬
‫الشر إنما تكون قبيح ًة إذا أراد ُه لعينه‪ ،‬أ ّما إذا أراده لخير فال يكون ً‬
‫قبيحا»‪.75‬‬ ‫ّ‬
‫ألن «إرادة ّ‬
‫لعل ابن عربي يميز كذلك ــ فيما أرى ــ بين إرادة الفعل وبين السماح به كالرومي‬ ‫ّ‬
‫أن الشر ال‬ ‫ِ‬
‫الممكنات وجو َدها‪ .‬يعلم ال ّله ّ‬ ‫تما ًما ما دامت اإلراد ُة اإلله ّية هي ما تمنح‬
‫الز ًما لإليجاد‪ ،‬لكنّه ال يشاء الشر وإن كان يسمح بوجوده‬ ‫بد أن يحدث بالضرورة ُم ِ‬
‫كنتيجة ضرورية لعمل ّية الخلق‪/‬الظهور‪ ،‬لكن ــ في نهاية المطاف ــ تنهزم هذه الضرورة‬
‫الميتافيزيق ّية‪ ،‬بل وتنمحق في الخير ال محالة‪ .‬ت َُم ِّك ُن نظري ُة ِ‬
‫ابن عربي الضرورية‬

‫‪ 74‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ِ ،256‬‬
‫الف َقر‪.179 ::‬‬
‫‪ 75‬جالل الدين الرومي‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى علي العاكوب (بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر ــ‬
‫دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ِ ،257‬‬
‫الف َقر‪.180 ::‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ ‫‪68‬‬
‫بضرورية الشر من أجل الحفاظ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫القول‬ ‫برز‬
‫االختيارية في العدالة اإلله ّية اب َن عربي أن ُي َ‬
‫ارتباط ما بحدوث‬ ‫ٍ‬ ‫نوع‬
‫على فعل اإلرادة والكمال اإللهي بالتّالي دون أن يكون لهما ُ‬
‫الشر‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬يرى الرومي في نظريته االختيار ّية عن العدالة اإللهية نسبة الشر‬
‫اإللهي بعيدً ا عن ال َقدْ ِح فيه من خالل إبراز‬ ‫ّ‬ ‫إلى ال ّله مباشرةً‪ ،‬ولهذا يحاول إبقاء القصد‬
‫إيجاب ّية األدوار التعويض ّية التي يؤ ِّديها الشر في العا َلم‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬يستطيع اب ُن‬
‫ِ‬
‫نوع الصلة التي تحدِّ ُد العالقة‬ ‫عربي عن طريق التفريق بين إرادة ال ّله وعلمه أن ُيقارب َ‬
‫اإللهي‪ ،‬لكنّها تقوم على‬ ‫ّ‬ ‫أقدارنا ال تقوم على الجبر‬ ‫َ‬ ‫والشر‪ ،‬فيرى‬
‫ّ‬ ‫بين مصائر اإلنسان‬
‫مفروضا‪ ،‬فال‬
‫ً‬ ‫علما مسب ًقا‪ ،‬ال ً‬
‫جبرا‬ ‫الخاصة‪ .‬وال يكون ال َقدَ ُر لهذا إال ً‬ ‫ّ‬ ‫أعياننا ال ّثابتة‬
‫اإللهي متع ِّلق باألعيان‬
‫ّ‬ ‫أن العلم‬ ‫يتعارض وجو ُده والحرية اإلنسان ّية‪ .‬كما تب ّين من قبل ّ‬ ‫ُ‬
‫اإللهي ا ّلتي يعمل على‬ ‫ّ‬ ‫الثابتة‪ ،‬أو بكلمات أخرى؛ باإلمكانات الكامنة في الالتناهي‬
‫الرحمة؛ ما يعني أنّه تعالى ال يصنع العا َلم على ما هو عليه‪ ،‬بل يكون‬ ‫ِ‬
‫إيجادها بفعل ّ‬
‫فقط على علم به كما هو‪ ،‬بل و ُينعم بالتالي على الموجودات بالوجود‪ 76.‬ولهذا يكون‬
‫الشر تب ًعا لذلك‪ ،‬فيشاء ال ّل ُه َ‬
‫إبراز هذه‬ ‫لفعل اإليجاد نتيجة ضرورية من الغير ّية ووجود ّ‬
‫األعيان الثابتة من األنماط البدائ ّية إلى الوجود طب ًقا لِ ُم ْمكناتها كفعل من أفعال الرحمة‬
‫اإللهية‪ ،‬ومع ذلك يسمح بالنتائج الضرور ّية الالزمة عن فعل اإليجاد هذا‪ ،‬وإن كان ال‬
‫يفسر مفهو َما الالتناهي والرحمة ضرور َة ظهور جيمع الممكنات‬ ‫نكرر‪ّ ،‬‬ ‫يريدها‪ .‬ولهذا ِّ‬
‫شريرا‪ ،‬أو ُم ْجبِ ًرا بال َقدَ ر‪.‬‬
‫ً‬ ‫يظهر ال ّل ُه‬‫وحر ّيتها بالنسبة إلى ال ّله‪ ،‬دون أن َ‬
‫أيضا‪،‬‬‫بالج ْب ِر ً‬
‫ال ينتهي الرومي في نظر ّيته االختيارية عن العدالة اإلله ّية إلى القول َ‬
‫عالما ُم َص َّغ ًرا؛ مرآ ًة تنعكس عليها أسماء ال ّله‬ ‫اإلنسان ً‬ ‫َ‬ ‫أن تعاليمه ترى‬ ‫فكما ُذ ِكر قبل ّ‬
‫ِ‬
‫فكرة‬ ‫وصفاته‪ ،‬وهذه القدرة على االنعكاس فيها شمول يشبه العا َلم أجمع؛ ما يشير إلى‬

‫األعيان الثابت َة ثابت ًة بالشكل الذي تظهر عليه؟ أعتقد أن معالجة ابن عربي لحرية‬
‫َ‬ ‫‪ 76‬ما الذي يجعل هذه‬
‫اإلنسان ع َّلها تكون مهمة لإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬وفي رأيي أن ابن عربي يدافع عن رؤية ُ‬
‫تشارك ّية‬
‫مثل هذا الفصل القاطع بين ال ّله والعالم كما يعتقد ابن عربي فيما يبدو‪ ،‬فال‬ ‫للحرية‪ ،‬فما دام ال يوجد ُ‬
‫أيضا بين حرية اإلرادة اإلنسانية وحرية اإلرادة‬ ‫ينبغي أن يكون هناك هذا الفصل الحقيقي القاطع ً‬
‫اإللهية‪.‬إذا لم يوجد مثل هذا الفصل حقيق ًة‪ ،‬فإنه يمكن القول ّ‬
‫إن اإلنسان يشارك في الحرية اإلله ّية‪،‬‬
‫التعرف على‬ ‫األمر‪ ،‬فمن الممكن ّ‬
‫ُ‬ ‫حر بالقدر الذي يشارك فيه الحرية اإللهية! وإذا صح هذا‬ ‫وهو ّ‬
‫درجة ما من الحرية حتى في هذه األعيان الثابتة‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫يموّرلاو يبرع نبا نيب ّرشلا ةلكشم‬

‫وألن اإلنسان مخلوق على صورة ال ّله‪ ،‬فإنه ينبغي‬


‫ّ‬ ‫خلق اإلنسان على صورة ال ّله نفسه‪،‬‬
‫أن يشابه ال ّل َه في حر ّية اإلرادة إلى حدٍّ بعيد؛ يقول الرومي‪« :‬واختياره {تعالى} هو الذي‬
‫كل أنواع االختيار»‪ ،77‬ول ّله مطلق الحرية في خلق اإلنسان‪ ،‬وهو يريد ذلك‪،‬‬ ‫اختار َّ‬
‫ولكنه ال يرضى عن احتمال أن يجنح اإلنسان نحو ارتكاب الشرور في العا َلم‪.‬‬
‫يعمل كل من ابن عربي والرومي على التأسيس ألرض صلبة تقوم عليها اإلرادة‬
‫الحرة‪ ،‬وليس االختالف بينهما هنا إال في ُم ْرتَكزات االنطالق والتأكيد‪ .‬يؤكّد ابن عربي‬
‫تتضمن معالجتُه‬
‫ّ‬ ‫على مفهو َمي الالتناهي والرحمة أثناء تفسيره لعملية الخلق‪ ،‬ولهذا‬
‫والشر على عناصر ضرورية واختيار ّية‪ .‬وعلى الجانب اآلخر‪ ،‬يضع الرومي‬ ‫ّ‬ ‫لل َقدَ ِر‬
‫فعل ال ّله االختياري‬
‫مفهو َم اإلرادة اإلله ّية في المركز؛ ويؤكّد على الدّ ور الذي يؤ ِّديه ُ‬
‫االختالف بينهما في مناطات التّأكيد‪ ،‬ال في‬
‫ُ‬ ‫أثناء تفسيره ٍّ‬
‫لكل من ال َقدَ ر والشر‪ .‬ينطوي‬
‫غياب المفاهيم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تستفيد نظرية العدالة النسق ّية لدى ابن عربي من األشاعرة‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والفالسفة‬
‫ميتافيزيقي‬
‫ّ‬ ‫المسلمين‪ ،‬إذ يحاول ــ كما يبدو ــ أن يطوي هذه الن ََّز َعات المتخالفة في ن ََس ٍق‬
‫أكبر‪ .‬ويقدِّ م منظور ابن عربي َّأو ًل عمل ّية خلق العا َلم أو ظهوره على أنها فعل ضروري‬
‫الرحمن الرحيم‪ .‬وينطوي فعل الخلق‪/‬الظهور هذا على‬ ‫اختياري يتع ّلق بالمطلق ّ‬
‫إن الشر ليس شي ًئا‬ ‫اختالف بين ال ّله والعا َلم؛ يلزم عنه وجود النقص والشر في العا َلم‪ّ .‬‬
‫والنقص التّام لجميع‬ ‫ِ‬ ‫مخلو ًقا‪ ،‬لذا فال ّله ليس خال ًقا له‪ ،‬بل وليس إال ً‬
‫اسما آخر للعد ِم‬
‫الصفات الوجود ّية‪ .‬تؤكّد نظرية العدالة اإللهية لدى الرومي على أمر آخر؛ أال وهو‬
‫ٍ‬
‫بحال‪ ،‬لذا‬ ‫اإلرادة اإلله ّية‪ ،‬إذ يريد ال ّله وألجل إرادته يخلق‪ ،‬ولكنه ال يرضى عن ّ‬
‫الشر‬
‫تركيزه على فكرة األدوار التعويض ّية اإليجاب ّية التي يؤ ِّديها وجود الشر‬ ‫َ‬ ‫يك ّثف الرومي‬
‫في العا َلم‪ ،‬فالشر وإن كان ال ّل ُه قد أراده‪ ،‬إال أنه سوف ينمحق نهاية في الخير ال ُك ِّل ّي‪.‬‬

‫‪ 77‬جالل الدين الرومي‪ ،‬المثنوي‪ ،‬الكتاب الخامس‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مصر‪ ،‬المركز‬
‫القومي للترجمة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪ ،48‬انظر‪ :‬األبيات‪.3085-3089 :‬‬
‫اجوك روجزوأ‬ 70

‫المراجع‬
-- Arberry, A.J. (trans.). 1961. Discourses of Rūmī. London: John Murray.
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1929–1933. Maqālāt al-Islamiyyīn wa-
ikhtilāf al-muṣallīn, edited by H. Ritter. 2 vols & index, Istanbul: Devlet
Matbaasi
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1967. The Elucidation from Islam’s
Foundation(Kitāb al-ibāna ʿan uṣūl al-diyāna). Translated by Walter
C. Klein {American Oriental Series 19}. New York: Kraus Reprint
Corporation.
-- al-Ashʿarī, Abū al-Ḥasan. 1977. Al-ibāna ʿan uṣūl al-diyāna, edited by F.
H. Maḥmūd. Cairo: Dār al-Anṣār.
-- al-Bāqillānī, Abū Bakr Muḥammad. 1957. Al-tamhīd, edited by Richard
J. McCarthy. Beirut: al-Maktabah al-Sharqī yah
-- Bashier, Salman H. 2004. Ibn al-ʿArabī’s Barzakh: The Concept of the
Limit and the Relationship between God and the World. Albany: State
University of New York Press.
-- Bowker, John. 1975. Problems of Suffering in Religions of the World.
Cambridge: Cambridge University Press.

-- Chittick, William. 2012 «The Question of Ibn al-’Arabī’s ‘Influence’ on


Rūmī.» In In Search of the Lost Heart, edited by Mohammed Rustom,
Atif Khalil, and Kazuyo Murata, 89–101. New York: State University of
New York Press.
71 ‫عجارملا‬

-- Chittick, William. 1989. The Sufi Path of Knowledge: Ibn al-ʿArabī’s


Metaphysics of Imagination. Albany: State University of New York
Press.

-- Chittick, William. 1998. Self-Disclosure of God: Te Principles of Ibn


al-ʿArabī’s Cosmology. Albany: State University of New York Press.
-- Chittick, William. 1983. Sufi Path of Love: Te Spiritual Teachings of
Rumi. Albany: State University of New York Press.
-- Corbin, Henry. 1969. Alone with the Alone: Creative Imagination in
the Sūfism of Ibn ʿArabī. Translated by Ralph Manheim. Princeton NJ:
Princeton University Press.

-- al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad. 1916a. Iḥyāʾ ʿulūm al-dīn.4 vols.


Cairo. Dār al-Ma’arīf.

-- al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad. 1916b. Kitāb al-Arbaʿīn, Cairo.

-- al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad. 1961. Maqāsid al-falāsifa, edited


by Suleyman Dunyā. Cairo: Dār al-Ma’arīf.

-- al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad. 1962. Al-iqtiṣād fī al-iʿtiqād, edited


by Ibrahim Cubukcu and Huseyin Atay. Ankara: University of Ankara
Ilahiyat Fakultesi Yayinlari.

-- al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad. 1997. The Incoherence of the


Philosophers (Tahȃfut al-Falȃsifa), a Parallel English-Arabic Text. ed.
and trans. M. E. Marmura. Provo (Utah): Brigham Young University
Press.

-- Goldzhier, Ignaz. 1981. Introduction to Islamic Theology and Law.


Translated by Andras and Ruth Hamori. Princeton NJ: Princeton
University Press.
‫اجوك روجزوأ‬ 72
-- Hick, John. 1972. «The Problem of Evil.» In The Encyclopedia of
Philosophy, 3: 136–141. New York: Macmillan.
-- Hume, David. 1990. Dialogues Concerning Natural Religion. New
York: Penguin Classics.
-- Ibn ʿArabī. 1946. Fuṣūṣ al-ḥikam, edited by A. ʿAfīfī. Beirut: Dār al-
Kutub al-ʿArabī.
-- Ibn ʿArabī. 1972–1991. Al-futūḥāt al-Makkiyya, edited by O. Yayia. 14
vols. Cairo: Al-Hayʾa al-Miṣriyya al-ʿĀmma li-al-Kitāb.
-- Ibn ʿArabī 1980. The Bezels of Wisdom. Translated by R.W.J. Austin.
New York: Paulist Press.
-- Ibn Fūrāk. 1987. Mujarrad maqālāt al-Ashʿarī,edited by Daniel Gimaret.
Beirut: Dār al-Mashriq, Editeurs Sarl.
-- Ibn Sīnā. 1960. Al-shifāʾ. Al-ilāhiyyāt, edited by Ibrāhīm Makdūr, G. S.
Qanawati, S. Zayid. 2 vols. Cairo.
-- Ibn Sīnā. 2005. The Metaphysics of The Healing: Al-shifāʾ. Al-ilāhiyyāt.
A Parallel English-Arabic Text, edited and translated by Michael.E.
Marmura. Provo UT: Brigham Young University Press.
-- Izutsu, Toshihiko. 1983. Sufism and Taoism. Los Angeles: University of
California Press.
-- al ‫ ــ‬Jurjānī, Sayyid Sharif. 2003. Kitāb al-Ta’rīfāt. Ed. Muhammad Abd
ar-Rahman Marashli. Beirut:Dār al-Nafāis.

-- Khalil, Mohammad Hassan. 2012. Islam and the Fate of Others. Oxford:
Oxford University Press.

-- Koca, Ozgur. 2016. «Causality as a ‘Veil’: The Ash’arites, Ibn ʿArabī


(1165–1240), and Said Nursi (1877–1960).»Islam and Christian–
Muslim Relations 27 (4): 455–470.
73 ‫عجارملا‬

-- La Croix, Richard R. 1974. «Unjustified Evil and God’s Choice.» Sophia


13: 20–28.
-- Mackie, J. L. 1955. «Evil and Omnipotence.» Mind 64: 200–212 (repr. in
Marilyn McCord Adams and Robert Adams {eds}. 1991. The Problem
of Evil. New York: Oxford University Press).
-- al-Makkī, Abū Tālib. 1351/1932. Qūṭ al-qulūb. 4 vols. Cairo
-- al-Malatī, Ahmad. 1936. Kitāb al-tanbīh, edited by S. Dedering. Istanbul:
Devlet Matbaasi
-- Martin, Michael. 1978. «Is Evil Evidence against the Existence of God?»
Mind 87: 429–432.
-- Moris, Zailan. 1997/8. «Rumi’s View of Evil.» Sufi 36. Accessed
November 18, 2016. http://www.sufism.ru/eng/txts/rumi.htm
-- Nasr, Seyyed Hossein. 1987. Islamic Art and Spirituality. Albany: State
University of New York Press.
-- Nicholson, R.A. 1921. Studies in Islamic Mysticism. Cambridge:
Cambridge University Press.
-- Ormsby, Eric. 1981. «An Islamic Version of Theodicy: The Dispute
over al-Ghazālī’s ‘Best of All Possible Worlds’.» PhD Diss. Princeton
University.
-- Pereboom, Derk. 2005. «The Problem of Evil.» In Blackwell Guide
to the Philosophy of Religion, edited by. William E Mann, 161–191.
Oxford: Blackwell.
-- Plantinga, Alvin. 1974. God, Freedom and Evil. Grand Rapids, MI:
William B. Eerdmans.
-- al-Qushayrī, Abū al-Qāsim. 1966. Al-risāla al-Qushayriyya. 2 vols.
Cairo: Dār al-kutub al-hadītha.
‫اجوك روجزوأ‬ 74
-- Rūmī, Jalāl al-Dīn. 1925–1940. The Mathnawīof Jālu’ddīn Rūmī, edited
and translated by R. A. Nicholson. 8 vols. London: Luzac.
-- Rūmī, Jalāl al-Dīn. 1957–1967. Dīwān Shams-i Tabrīzī, edited by B.
Furūzānfar, 10 vols. Tehran: University of Tehran Press.
-- Rūmī, Jalāl al-Dīn. 1969. Fīhi mā fīhi, edited by B. Furūzānfar, Tehran:
Amīr Kabīr.
-- Smith, Jane I., and Yvonne Yazbeck Haddad. 2001. The Islamic
Understanding of Death and Resurrection. New York: Oxford University
Press.
-- van Inwagen, Peter. 1995. God, Knowledge and Mystery. Ithaca, NY:
Cornell University Press.
-- Zarrinkub, A.H. 2009. Step by Step Up to Union with God: Life, Thought
and Spiritual Journey of Jalal-al-din Rūmī. Translated by M. Keyvani.
Winona Lake IN: Eisenbrauns.
‫دراسات‬

‫الشر في العالم‬
‫بين الضمير والمصمم الذكي‬
‫‪1‬‬
‫د‪ .‬منذر جلوب‬ ‫_____________________________________________________‬

‫كانت مشكلة الشر‪ ،‬وما تزال‪ ،‬موضو ًعا للخالف بين المؤمنين والملحدين‪ .‬أقر‬
‫المؤمنون والملحدون كالهما بوجود الشر في العالم‪ .‬لكن وجود الشر كان حجة‬
‫للملحدين إلنكار وجود إله خير قادر عادل‪ .‬في المقابل حاول المؤمنون إيجاد‬
‫تبريرات وحلول للتوفيق بين وجود إله بتلك الصفات وبين وجود الشر‪ ،‬في حين لم‬
‫يجد الملحدون سوى التسليم بوجود الشر والتسليم بالعجز عن مواجهته‪ .‬المؤمنون‬
‫وجدوا ــ بطريقة أو بأخرى ــ أن مواجهة الشر تكون بالرجوع إلى ال ّله‪ .‬بينما تركنا‬
‫الملحدون أمامه بال سالح‪.‬‬
‫حاول المؤمنون تقديم دفاع عن طروحاتهم يصمد بوجه التناقض الحاصل بين‬
‫قولهم بوجود إله كامل الخير تام القدرة وبين تسليمهم بوجود الشر الذي يستحيل‬
‫إنكار وجوده‪ .‬منهم من حاول اإلنكار‪ ،‬على استحياء‪ ،‬فقالوا إن وجود الشر ليس‬
‫حقيقيا‪ ،‬وأنه انعدام للخير وحسب‪ .‬وتلك مراوغة لم تجد نفعا وال وجدت لهم منفذا‬
‫بداللة استمرارهم بتبرير انعدام الخير‪ .‬لكنهم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬قدموا حلوال لتخفيف وطأة‬
‫الشر وتغذية الحلم اإلنساني بالعدالة والخير التامين‪ .‬أما الملحدون فلم يتمكنوا من‬
‫تبرير الشر‪ ،‬فبقي واقعا شاخصا قاسيا‪ ،‬ال سبيل إلى دفعه‪.‬‬
‫خارج أطروحات الطرفين‪ ،‬نرى أن الوجود ككل ليس خيرا وال شرا‪ .‬إذ الخير‬
‫والشر ثنائية من ثنائيات اللغة‪ ،‬وهي إحدى نواتجها حين يتم التعامل مع حدودها‬

‫‪ 1‬أستاذ الفلسفة في كلية اآلداب بجامعة الكوفة‪.‬‬


‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪76‬‬
‫القصوى‪ .‬تشابه بقية الثنائيات التي تفقد معناها حين تصل إلى تلك الحدود‪ .‬يمكننا‬
‫الحديث عن الطول والقصر في االستخدام الواقعي‪ ،‬لكن هذه المفاهيم تفقد معناها‬
‫إذا تحدثنا عن الطول األقصى أو القصر األقصى‪ .‬واألشياء إما طويلة أو قصيرة قياسا‬
‫إلى بعضها‪ ،‬ولو وجد شيء وحيد في الكون لما أمكن وصفه بأي من الصفتين‪ .‬كذلك‬
‫األمر نفسه ينطبق على مفهومي الخير والشر‪ .‬وفي مجال التعامل اليومي يكون الشر‬
‫والخير مستوى إنسانيا ينشأ من متطلبات الواقع التي تتعارض مع الضمير‪.2‬‬
‫يوجد نوعان من الشرور؛ شرور طبيعية‪ ،‬وهي تقييمات بشرية لألحداث التي‬
‫ال يكون فعل اإلنسان سببا في وقوعها‪ ،‬مثل األمراض الكوارث البيئية والزالزل‬
‫والبراكين وما شابه ذلك‪ ،‬يعدها الناس شرورا ألنها تهدد حياتهم أو مصالحهم‪.‬‬
‫وهناك شرور بشرية مما يرتكبه بعض الناس ضد بعضهم أفرادا أو شعوبا‪ ،‬مثل‬
‫الحروب واالنتهاكات والظلم والسرقة والكذب‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫إن وجود الشر في عالمنا أمر ال يمكن نكرانه‪ ،‬ال من الناحية الواقعية وال من‬
‫الناحية المنطقية‪ .‬وال مشكلة في فهم أسباب وجوده بوصفه ناتجا عن طبائع األشياء‬
‫فتكون الشرور نواتج عرضية لقوانين الطبيعة أو طبائع النفوس البشرية‪ ،‬فالنار تحرق‬
‫ألن ذلك من طبيعتها‪ ،‬والناس يرتكبون الشرور لعلل في نفوسهم أو سعيا وراء‬
‫مصالحهم وأنانيتهم أو حفظا لبقائهم‪.‬‬
‫لكن وجود الشر يصبح مشكلة وتناقضا منطقيا يصعب حله عند التسليم‬
‫بالمقوالت الدينية التي تستند على فكرة مركزية قائمة على القول بوجود إله متعال‬
‫مفارق مطلق الكمال والعلم والخير والقدرة‪ .‬فعند التسليم بوجود إله بهذه الصفات‬
‫التي ال تنازل عنها وال زحزحة فيها‪ ،‬يصير لزاما أن يكون عالمنا هذا‪ ،‬الزاخر بأنواع‬
‫الشرور‪ ،‬هو أفضل عالم يمكن إلله بهذه الصفات أن يصنعه أو يسمح بوجوده‪ ،‬إذ ال‬

‫‪ 2‬نعني بالضمير األنا التي هي أول ما يمكن التأكد منه بيقين يتجاوز كل شك‪ ،‬بل أن الشك نفسه‬
‫يكون دليال على وجود األنا‪ ،‬ومن خالل هذه األنا وحدها يتم إدراك كل ما عداها‪ .‬لها عالقة‬
‫باألخالق مثلما أن لها عالقة بالوجود‪ ،‬وكل ذلك متداخل مع اللغة‪ ،‬فتكون هي المرجع األهم‬
‫لألخالق‪ .‬وقد فصلنا الحديث عن األنا ومكانتها من الوجود في بحوث أخرى منشورة ضمن‬
‫أعداد سابقة من هذه المجلة وغيرها‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫يصح أن يقبل ذلك اإلله بعالم ليس هو األفضل‪ ،‬ألن قبوله أو إيجاده لعالم أقل من‬
‫األفضل يتعارض مع كونه كامال أو كلي القدرة أو مطلق العلم أو تام الخير‪ .‬فلماذا‬
‫وجد الشر في عالم من نتاج أفضل إمكانيات اإلله؟ وهذا هو التناقض بين مسلمات‬
‫األديان السماوية وبين وجود الشر‪ .‬وكان هذا المأزق سببا في ظهور مجال بحث هو‬
‫الثيوديسيا ‪( Theodicy‬هذا المصطلح وضعه الفيلسوف األلماني غوتفريد فلهلم‬
‫اليبنتز ‪ 1646‬ــ ‪ ،)1716‬وهو فرع من الفلسفة والالهوت يهتم بحل مشكلة الشر‬
‫‪3‬‬
‫والدفاع عن العدالة اإللهية‪.‬‬

‫النظام والعناية اإللهية ومعضلة الشر‪:‬‬


‫يورد الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا (‪ 980‬ــ ‪1037‬م) دليال يسميه العناية ويسميه‬
‫النظام‪ ،‬قائال‪« :‬وال لك سبيل إلى أن تنكر اآلثار العجيبة في تكون العالم‪ ،‬وأجزاء‬
‫‪4‬‬
‫السماويات‪ ،‬وأجزاء النبات والحيوان‪ ،‬مما يصدر اتفاقا‪ ،‬بل يقتضي تدبيرا ما‪».‬‬
‫ويشرح معنى العناية والنظام في بضعة سطور‪ ،‬ثم يستطرد مسهبا في شرح معنى الشر‬
‫محاوال إيجاد توافق بين وجود النظام والعناية اإللهية ووجود الشر وعدم التعارض‬
‫بينهما‪ .‬وهو بذلك يكون على دراية أن أهم معضلة يواجهها ُ‬
‫دليل النظام أو العناية‬
‫هي معضلة الشر‪ ،‬فبمجرد القول بالنظام أو العناية يصير لزاما تفسير الشر وتبرير‬
‫وقوعه‪ ،‬ومن هنا فإن وجود الشر هو أهم اعتراض على العناية والنظام والصانع‬
‫أو المصمم الذكي‪ .‬فيذكر ابن سينا في كتاب النجاة أن الشر مقصور على العالم‬
‫األرضي‪ ،‬وأن الوجود كله خير‪ ،‬وال يكون الشر إال جزئيا لسبب أو آلخر في العالم‬
‫األرضي أو ما يسميه عالم ما تحت فلك القمر‪« ،‬وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما‬
‫تحت فلك القمر»‪ 5‬فالنظام‪ ،‬في الموجودات دليل على عناية ال ّله‪ .‬وبذلك فإن هذا‬

‫‪ 3‬حول تفاصيل موقفنا من مشكلة الشر وحلها‪ ،‬راجع بحثنا‪ :‬منبعا الخير والشر‪ ،‬مجلة قضايا‬
‫إسالمية معاصرة‪ ،‬عدد ‪73‬و‪ ،74‬مركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬بغداد‪ ،2020 ،‬ص ‪ 113‬ــ ‪.138‬‬
‫‪ 4‬ابن سينا‪ ،‬الحسين بن علي؛ النجاة في الحكمة الطبيعية والمنطقية واإللهية‪ ،‬مطبعة السعادة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬ط‪ ،1938 ،2‬ص‪.286‬‬
‫‪ 5‬انظر‪ :‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.286‬‬
‫وهذا مختلف عن الموقف الذي نعرضه والذي يرى أن ثنائية الخير والشر ال يمكن أن تنطبق‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪78‬‬
‫النظام له داللتان مترابطتان هما وجود المنظم وكذلك خيرية هذا المنظم‪« .‬العناية‪،‬‬
‫هي كون األول عالما بما عليه الوجود من نظام الخير‪ ،‬وع ّلة لذاته للخير والكمال‬
‫حسب اإلمكان‪ ،‬وراضيا به على النحو المذكور»‪ .6‬وألن العناية تعني النظام والبد‬
‫أن يكون ذلك خيرا‪ ،‬صار لزاما على من يقول بها أن يجد منفذا وحال لكي يفسر‬
‫الشرور التي تقع في هذا العالم‪ .‬فمع وجود كائن كلي القدرة كامل الخير يعتني‬
‫بالوجود وينظمه صار وجود الشر أمرا محرجا وتناقضا يستلزم الحل‪ .‬إذ كيف‬
‫تسمح العناية بوجود الشر وقبل ذلك من أوجد الشر وما سبب وجوده‪ ،‬وهل يتمكن‬
‫كلي القدرة من إزالته؟ إن كان قادرا على إزالته‪ ،‬فلم ال يفعل؟ وإن لم‬
‫هذا الكائن ّ‬
‫يكن قادرا‪ ،‬فقدرته محدودة وليست كلية‪ .‬يقدم ابن سينا حله بالقول إن الشر موجود‬
‫بحكم طبيعة الموجودات ومخالطة المادة‪ ،‬وأن «الكل إنما رتبت فيه القوة الفعالة‬
‫والمنفعلة السماوية واألرضية الطبيعية والنفسانية‪ ،‬بحيث تؤدي إلى النظام الكلي‬
‫مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه وال تؤدي إلى شرور»‪ .7‬االستحالة هنا‬
‫استحالة طبيعية‪ ،‬فطبائع األشياء من المستحيل تغييرها‪ .‬وهذه االستحالة ناتجة عن‬
‫طبائع األشياء‪ ،‬فالنار من طبيعتها أنها تحرق ونفعها كبير مع إمكانية وجود الضرر‬
‫وهو أن يتأذى منها رجل صالح مثال‪ ،‬ومن المستحيل إزالة هذه االمكانية‪ .‬هذا المثال‬
‫يورده ابن سينا‪ ،‬مع أن النصوص الدينية تورد أمثل ًة على ُ‬
‫تجاوز هذه االستحالة‪« ،‬قلنا‬
‫يا نار كوني بردا وسالما على إبراهيم»‪ ،8‬فيجب على ابن سينا بموجب المقوالت‬
‫الدينية أال يقر بوجود استحالة طبيعية على ال ّله‪ .‬سنأتي على تحليل المواقف التي‬
‫تقول بوجود أمور مستحيلة على ال ّله‪ ،‬لدى عرض موقف بالنتنغا بعد قليل‪.‬‬
‫إن ال ّله يريد‬
‫لكن ابن سينا يحاول تسويغ الشر بطرق الحجاج التقليدية‪ ،‬قائال ّ‬
‫الشر أيضا ليس ألجل الشر وإنما ألجل الخير‪ ،‬إذا كان الشر مالزما وجوده لوجود‬

‫على الوجود برمته‪ ،‬ألنها ثنائية لغوية مثلها مثل ثنائية الكامل والناقص أو ثنائية الطويل والقصير‪،‬‬
‫وما الى ذلك‪.‬‬
‫‪ 6‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.286‬‬
‫‪ 7‬ابن سينا؛ الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬تحقيق‪ :‬األب قنواتي وسعيد زايد‪ ،‬مراجعة‪ :‬إبراهيم مدكور‪ ،‬ج‪1‬و‪،2‬‬
‫ص ‪.174‬‬
‫‪ 8‬القران الكريم‪ ،‬األنبياء‪.69 ،‬‬
‫‪79‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫خير أكبر‪ .‬فبدال من ترك الخير الكثير بسبب شر قليل‪ ،‬سمح ال ّله بوجود الشر القليل‬
‫من أجل اإلبقاء على الخير الكثير‪« ،‬إن ال ّله تعالى يريد األشياء‪ ،‬ويريد الشر أيضا‬
‫على الوجه الذي بالعرض‪ ،‬إذ علم أنه يكون ضرورة فلم يعبأ به‪ ،‬فالخير مقتضى‬
‫بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر»‪ ،9‬فالشر‪ ،‬على رأي الشيخ الرئيس‪،‬‬
‫موجود بإرادة ال ّله وليس خارجها‪ ،‬وأنه جاء بالعرض‪ ،‬نتيجة أن ال ّله أراد خيرا كثيرا‬
‫فلم يعبأ إن خالطه شر قليل‪« ،‬فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض‬
‫بالضرورة»‪.10‬‬
‫وبعد أن يؤكد ابن سينا على أن الشر يوجد فقط في عالم ما تحت فلك القمر‪،‬‬
‫الذي هو أصغر بكثير من عالم ما فوق فلك القمر‪ ،‬يقرر أن الشر قليل جدا بالقياس‬
‫الى الخير الكثير الذي يعم نظام الوجود‪ .‬وكأنه يطلب منا أن نتجاهله وال نعبأ به‪،‬‬
‫بعد أن قرر أن ال ّله نفسه ال يعبأ به‪ ،‬مشيحا ببصره أنه بسبب وجود الشر إنما خلق‬
‫ال ّله الجنة والنار والثواب والعقاب‪ .‬وهذا ال يتوافق مع القول بوجود العناية اإللهية‬
‫التي معناها أنها عناية باإلنسان ورعاية له‪ ،‬لكن ابن سينا يرى أنها عناية بالوجود‬
‫ونظامه الكلي‪ .‬وبموجب هذه الرؤية يصبح موقف األديان والرساالت السماوية‬
‫عرضة للشك إذ تنتفي الغاية منها‪ ،‬فالمبرر األساسي لتلك الرساالت هي عناية ال ّله‬
‫باإلنسان‪ .‬فبينما يحاول ابن سينا إثبات وجود ال ّله من خالل وجود النظام في الكون‬
‫وعنايته بهذا النظام‪ ،‬يجازف بأن يتخذ موقفا يتعارض مع الموقف الديني العام‪ ،‬بل‬
‫يصبح على النقيض من الموقف الديني‪ ،‬مما يبرز صعوبة التوافق بين القول بالنظام‬
‫من جهة والتمسك بمقوالت الدين من الجهة األخرى‪ .‬كل ذلك مرده صعوبة تفسير‬
‫وقوع الشرور‪ ،‬التي يسلم ابن سينا بوقوعها لكنه يحاول التقليل من أهميتها بأكثر من‬
‫طريقة كما رأينا‪ ،‬بدءا من القول بأن «الشر بالذات هو العدم»‪ ،11‬ثم القول بأن الشر‬
‫وجوده الزم ألنه من مقتضيات الخير‪ ،‬ثم في دفاعه األخير يرى أن الشر قليل نسبة‬
‫إلى وجود الخير الكثير‪ ،‬فيقول‪« :‬فإن قال قائل‪ :‬ليس الشر شيئا نادرا أو أقليا‪ ،‬بل‬

‫‪ 9‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص ‪ 290‬ــ ‪.291‬‬


‫‪ 10‬ابن سينا؛ الشفاء‪ ،‬االلهيات‪ ،‬ص ‪.174‬‬
‫‪ 11‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.288‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪80‬‬
‫هو أكثري‪ .‬فليس هو كذلك بل الشر كثير‪ ،‬وليس بأكثري‪ ،‬وفرق بين الكثير واألكثري‪،‬‬
‫‪12‬‬
‫فإن ههنا أمورا كثيرة هي كثيرة وليس بأكثرية كاألمراض‪ ،‬فإنها كثيرة وليست أكثرية»‬
‫هكذا يقر الشيخ الرئيس‪ ،‬أن الشر كثير‪ ،‬ويحاول التسويغ أنه ليس أكثريا‪ .‬لكن المسألة‬
‫تتعلق باألهمية ال بالتعداد الغفل للفوائد والشرور‪ ،‬فجرح يحدث بلحظة قد يحتاج‬
‫أياما حتى يلتئم‪ ،‬ووجع ضرس قد يفسد حفال بهيجا‪ ،‬واألحزان أطول عمرا من‬
‫األفراح‪ ،‬وكذلك اآلالم أطول عمرا من اللذات‪ .‬ثم هل هنالك ما هو شر من الموت؟‬
‫فحتى إذا كانت األمور تقاس بالتعداد للشرور والخيرات‪ ،‬فهل يستثني الموت أحدا؟‬
‫فالشر أكثري بحكم انتهاء كل شيء بالموت‪ ،‬موت كل شيء وأهمه موت اإلنسان‪.‬‬
‫وال يزعمن أحد أن الموت خير‪ .‬فلو كان خيرا لما انتفى في الجنة‪ .‬قد يكون الموت‬
‫خيرا بمعيار طبيعي هو معيار سيرورة الحياة على األرض‪ ،‬مع التحفظ على ذلك‪ ،‬إذ لو‬
‫آمنت البشرية فعال أن الموت خير لما سعت إلى إطالة األعمار ولما بحث األقدمون‬
‫عن إكسير الحياة‪ ،‬مع ذلك نفترض أن الموت خير من العيش مع الهرم الشديد أو ما‬
‫شابهه‪ ،‬وتلك معايير تتجاهل فرضية وجود ال ّله القادر على كل شيء‪ ،‬والواعد بجنة ال‬
‫موت فيها وال هرم وال أي شر من أي نوع‪ .‬يكون موت اآلخر خيرا لو كان هذا اآلخر‬
‫ظالما فموته خير من ظلمه‪ ،‬وظلمه شر أكبر من موته‪ ،‬ويكون موت اإلنسان خيرا لو‬
‫أنه عمر طويال وأقعده الهرم طريح الفراش فال يقوى على أداء حاجاته الضرورية وال‬
‫يتمكن من فعل شيء ينفعه أو ينفع غيره عندها قد يتمنى الموت ألنه خير من بقائه على‬
‫هذا الحال‪ .‬لكن الموت ليس خيرا إن حدث لشخص في الجنة الموعودة؛ بمعنى إن‬
‫حدث في ظروف خير مطلق ال وجود فيه أللم أو مرض أو هرم أو حزن أو ظلم‪ ،‬وبهذا‬
‫فإن الشر أكثري ألن الموت أكثري‪.‬‬
‫ودفاعا عن إحجام ال ّله‪ ،‬على الرغم من قدرته‪ ،‬عن إزالة الشر‪ ،‬وإبقائه على الخير‬
‫المحض‪ ،‬يقول ابن سينا‪« :‬فإن قال قائل‪ :‬فقد كان جائزا أن يوجد المدبر األول خيرا‬
‫محضا مبرأ عن الشر‪ ،‬فنقول‪ :‬هذا لم يكن جائزا في مثل هذا النمط من الوجود‪ ،‬وإن كان‬
‫جائزا في الوجود المطلق على أنه ضرب من الوجود المطلق مبرأ‪ ،‬ليس هذا الضرب‪،‬‬

‫‪ 12‬ابن سينا؛ الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪.174‬‬


‫‪81‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫‪13‬‬
‫وذلك مما قد فاض عن المدبر األول‪ ،‬ووجد في األمور العقلية والنفسية والسماوية»‬
‫وهنا يترك ابن سينا مجاال لنوع آخر من الوجود المبرأ عن الشر وهو الوجود في األمور‬
‫العقلية والنفسية‪ ،‬ليجد منفذا إلمكانية أنواع اخرى من الوجود من بينها الوجود في‬
‫الجنة‪ ،14‬مشيرا إلى قدرة ال ّله أن يخلق أنوا ًعا مختلفة من العوالم‪ ،‬بمعنى أن هناك أكثر‬
‫من إمكانية لخلق العالم وأن عالمنا هذا هو إحدى اإلمكانيات‪ ،‬لكنها ليست اإلمكانية‬
‫األفضل‪ .‬ويبقى السؤال‪ :‬لماذا اختار ال ّله أن يكون الوجو ُد في الدنيا على هذا الحال‬
‫إن كان الوجود في الجنة أفضل‪ ،‬وكيف يستقيم ذلك مع القول بأن ال ّله اختار أن يكون‬
‫العالم على ما هو عليه ألنه األفضل؟ وإن لم يكن الوجود في الجنة أفضل‪ ،‬فلماذا خلق‬
‫ُ‬
‫الجنة؟‬
‫مجمل كالم ابن سينا يؤكد كونه يرى أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬فهل‬
‫ليس بمقدور ال ّله أن يخلق عالما أفضل منه؟ واذا كان هذا هو أفضل العوالم الممكنة‪،‬‬
‫فهل الجنة بوصفها عالما ممكنا ليست أفضل منه؟ هذه األسئلة تستند إلى المسلمات‬
‫الفيضية‪ ،15‬التي بنى عليها ابن سينا نظامه وموقفه‪ .‬فمعنى كالمه أن ال ّله اختار األفضل‬

‫‪ 13‬ابن سينا؛ الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪.172‬‬


‫‪ 14‬يقدم ابن سينا فهما مغايرا لمعاني العالم اآلخر والجنة والنار وينكر بعث األجساد‪ ،‬فوجود العالم‬
‫اآلخر عنده ليس ماديا (وهذا أحد األسباب التي كفره الغزالي ألجلها)‪ ،‬ولكن هذا العالم اآلخر له‬
‫وجود فعلي‪ .‬وهو «محل أرفع» مكانة من عالمنا هذا‪ ،‬كما تدل على ذلك مجمل كتاباته‪ ،‬ومنها عينيته‬
‫الشهيرة‪:‬‬
‫ورقاء ذات تعزز وتمنع‬ ‫ ‬
‫هبطت إليك من المحل األرفع‬ ‫ ‬
‫وهذا القول ال يتوافق مع قوله إن عالمنا هذا يمثل «نظاما‪ ...‬وخيرا على الوجه األبلغ»‪.‬‬
‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ :‬رسالة أضحوية في أمر المعاد‪ ،‬تحقيق‪ :‬سليمان دنيا‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ .1949‬وابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪ .286‬والمناوي‪ ،‬محمد عبد الرؤف؛ النفس والروح‪ ،‬شرح القصيدة‬
‫العينية البن سينا الرئيس‪ ،‬دار اآلفاق العربية‪ ،‬ط‪ .2012 ،1‬والغزالي‪ ،‬أبو حامد‪ :‬تهافت الفالسفة‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬الدكتور سليمان دنيا‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،6‬ص‪.282‬‬
‫‪ 15‬أي مجموعة األفكار األساسية التي قدم بموجبها ابن سينا (وغيره) نظرية الفيض أو الصدور؛ وهي‬
‫نظرية تحاول تفسير عالقة اإليجاد بين ال ّله الواحد المحض والعالم الذي يحتوي الكثرة‪ .‬وفكرته‬
‫األساسية أن ال ّله لشدة كماله فاض عنه العالم‪ .‬وتدخل النظرية في تشعبات من أجل إيجاد تفسير‬
‫إن الواحد ال يصدر عنه إال واحد (من دون بيان‬ ‫لكيفية صدور الكثرة عن الوحدة‪ ،‬حيث تبدأ بالقول ّ‬
‫لماذا وكيف يصدر‪ ،‬أساسا‪ ،‬واحد عن واحد ألن هذا الواحد مفرط الكمال)‪ .‬وبمجرد صدور أول‬
‫شيء‪ ،‬صار هناك اثنان في الوجود هما ال ّله وهذا الصادر األول‪ ،‬الذي يأخذ تسميات مختلفة عند‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪82‬‬
‫من بين إمكانيات متعددة ألنواع العوالم‪ ،‬وهو العالم الحالي غير المبرأ عن الشر‪ .‬لكن‬
‫ابن سينا مازال يقول بإمكانية عالم مبرأ عن الشر‪ .‬فيبقى السؤال‪ :‬طالما أن ال ّله كلي‬
‫القدرة فلماذا لم يختر منذ البداية نوع العالم المبرأ عن الشر؟‬
‫إن كان وجود النظام دليال على العناية اإللهية‪ ،‬فإن وجود الشر في العالم يمثل‬
‫تحديا صعبا للقائلين بالعناية‪ .‬لقد كان ابن سينا أسير تناقض واضح حين عرض النظام‬
‫دليل على العناية ثم نفى وجو َد العناية حين رأى أن ال ّله سمح بوجود الشر‪.‬‬
‫بوصفه ً‬
‫وقد برر ذلك مرة بالقول إن ال ّله سمح بوجود الشر حفاظا على خير أعظم والستحالة‬
‫اإلبقاء على ذلك الخير من دون الشر المالزم له‪ ،‬ومرة بالقول بعدم اكتراث ال ّله‪ .‬وبهذا‬
‫كان قد حد من قدرة ال ّله في الحالة األولى‪ ،‬ونفى عنايته في الحالة الثانية‪.‬‬

‫العوالم المتعددة أو العوالم الممكنة‪:‬‬


‫إن فكرة العوالم الممكنة هي فكرة منطق ّية باألساس تعتمد على االحتماالت التي‬
‫يضعها ويتصورها ذهن االنسان أكثر من اعتمادها على واقع العالم‪ .‬ومن ذلك تنشأ‬
‫األفكار المترتبة عليها متمثلة في تصور عوالم افتراضية في مجال الفلسفة والالهوت‬
‫والفيزياء واألدب وأفالم الخيال العلمي‪ .‬ويمكن أن نتمثل تعدد اإلمكانيات للوقائع‬
‫في هذا العالم الواحد الذي نعيش فيه بالشكل التالي‪ :‬أنا اآلن أجلس قرب طاولتي‬
‫في غرفة المكتب في بيتي‪ ،‬في مدينتي على هذا الكوكب الذي يالحق الشمس دائرا‬
‫حولها وهي تجري في مسار داخل المجرة ضمن هذا الكون الذي يحتوي عددا هائال‬
‫من الكواكب والنجوم والمجرات‪ ،‬مما يتيح احتماالت أخرى كثيرة ألن يكون مكاني‬
‫مختلفا‪ .‬من ناحية الزمان كان يمكن أال أكون هنا في هذه اللحظة ألسباب واحتماالت‬
‫علي ظرفا مختلفا أو صحتي‪ ،‬أو مسار‬
‫كثيرة أيضا‪ ،‬من قبيل أن يكون عملي يوجب ّ‬

‫مختلف الفالسفة الفيضيين‪ .‬وهكذا بوجود اثنين في الوجود صار يمكن تفسير الكثرة في العالم‬
‫من خالل استمرار الصدور نتيجة المفاعلة بينهما وبين ما يصدر عنهما‪ .‬وما زال بعض الالهوتيين‬
‫المعاصرين يتحدثون بشيء من التقبل لهذه النظرية (محمد عبده ومحمد باقر الصدر‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال) على الرغم من وضوح الصعوبات التي تعانيها‪ ،‬بل تهافتها (بحسب تعبير الغزالي)‪ ،‬إال أنها‬
‫أفضل ما أمكن لالهوتيين تقديمه حين أرادوا بيان كيفية إيجاد ال ّله للعالم بصورة تفصيلية ومن دون‬
‫رفض السؤال أو االلتفاف حوله‪ .‬حول المزيد من التفاصيل انظر‪ :‬الكوثر‪ ،‬منذر؛ فلسفة الفارابي‪ ،‬دار‬
‫الحكمة‪ ،‬لندن‪.2002 ،‬‬
‫‪83‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫حياتي ودراستي‪ ،‬أو حتى التقاء أمي وأبي قبل عقود في مكان وزمان معين‪ ،‬مما يمنع‬
‫والدتي من األساس‪ .‬كل هذه احتماالت كثيرة ألغيت لتتحقق سلسلة احتماالت ذات‬
‫مسار واحد منها كان يمكن أن يتغير في أية لحظة من اللحظات التي مر بها منذ األزل‪،‬‬
‫مما أدى إلى تحقق احتمال واحد فقط هو وجودي هنا واآلن‪ .‬واقع العالم هو أنني‬
‫اآلن موجود مع هذه الظروف المحيطة بي‪ ،‬أما اإلمكانيات واالحتماالت األخرى فهي‬
‫تصورات تتيحها مقدرتي الذهنية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن مفهوم «العالم المحتمل» كان جز ًء من المعجم الفلسفي‬
‫على األقل منذ اليبنتز‪ ،‬فقد أصبحت الفكرة راسخة في الفلسفة المعاصرة مع تطوير‬
‫دالالت محتملة للغات المنطق االفتراضي والمنطق الجهوي ‪ modal logic‬الذي هو‬
‫منطق صوري يهتم بجهات الحمل من قبيل االحتمال والضرورة واإللزام والسماح‪.16‬‬
‫واألكوان المتعددة ‏‪« Multiverse‬عبارة عن مجموعة افتراضية متكونة من عدة‬
‫أكوان ــ بما فيها الكون الخاص بنا ــ وتشكل معا الوجود بأكمله‪ ،‬وفكرة الوجود متعدد‬
‫األكوان هو نتيجة لبعض النظريات العلمية التي تستنتج في الختام وجوب وجود‬
‫أكثر من كون واحد‪ ،‬وهو غالبا يكون نتيجة لمحاوالت تفسير الرياضيات األساسية‬
‫في نظرية الكم»‪ 17.‬وقد دخلت فكرة العوالم االفتراضية ومن ثم العوالم الموازية َ‬
‫حقل‬
‫الفيزياء المعاصرة منذ النصف األول من القرن العشرين مع تطور فيزياء الكم وفيزياء‬
‫أجزاء الذرة‪ .‬واستمرت الفكرة باكتساب مقبولية متزايدة مع ظهور نظريات تؤيدها‪،‬‬
‫وتقبل عدد ال بأس به من علماء الفيزياء لها سعيا لتفسير سلوك المكونات األصغر‬
‫للذرات‪ .‬وهي أمور تعتمد على افتراضات مستندة الى الحسابات الرياضية واتساق‬
‫المعادالت وليس على أي نوع من االفتراضات الدينية او الغيبية‪ .18‬ومع ذلك يوجد‬
‫حول فكرة تعدد األكوان جدل كثير بين الفيزيائيين‪ ،‬ألن كثيرا منهم يرون فيها فكرة‬
‫فلسفية أكثر من كونها فرضية علمية حقيقية لعدم خضوعها لمعايير الفرضيات العلمية‬

‫‪ 16‬انظر‪.Stanford Encyclopedia of Philosophy; Possible Worlds :‬‬


‫‪ 17‬ويكيبيديا‪ ،‬الموسوعة الحرة؛ تعدد األكوان‪.‬‬
‫‪ 18‬انظر‪Max Tegmark; Alexander Vilenkin; «The Case for Parallel Universes», July:‬‬
‫‪.2011‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪84‬‬
‫وعدم خضوعها ألية تجربة ممكنة وعدم خضوعها لمبدأ قابلية التكذيب‪ .19‬وتعود‬
‫الفكرة إلى وقت مبكر هو عصر حضارة اإلغريق‪ ،‬وتحديدا في الفلسفة الذرية اليونانية‬
‫القديمة‪ ،‬مبناها أن عوالم النهائية نشأت من اصطدام الذرات‪.20‬‬

‫أفضل العوالم الممكنة‪:‬‬


‫تعد فكرة الفيلسوف األلماني غوتفريد فلهلم اليبنتز عن أفضل العوالم الممكنة الفكرة‬
‫األهم في مواجهة معضلة الشر‪ .‬والمقصود بكون الشر معضلة هو أن وجود الشر في العالم‬
‫يمثل دعما لموقف المنكرين لوجود العناية اإللهية أو القدرة اإللهية أو النظام في العالم ومن‬
‫ثم يمثل حجة مناقضة للحجج على وجود ال ّله بصفاته التي تعرضها األديان السماوية‪ :‬خير‪،‬‬
‫كلي القدرة‪ ،‬مطلق العلم‪...‬إلخ‪ .21‬يرى اليبنتز أن هناك إمكانيات ال تحصى لخلق عوالم‬
‫مختلفة‪ ،‬وأن ال ّله اختار أن يخلق أفضلها وأحسنها نظاما وأكثرها خيرا‪ ،‬وهو عالمنا هذا‪ .‬وأن‬
‫هذا العالم األفضل كان البد من أن يتضمن وجود الشر فيه‪ ،‬من أجل تحقيق خير أكبر‪ .‬ولوال‬
‫ذلك لكان أقل خيرا‪ ،‬فاختار ال ّله العالم الذي يتضمن الشر ألنه يتضمن خيرا أكثر‪.‬‬
‫والسبب األساس الذي دعا اليبنتز إلى القول بفكرة أفضل العوالم الممكنة هو‬
‫حل معضلة وجود الشر في العالم‪ .‬وهذا الحل يقوم على مقدمتين ونتيجة‪.‬‬‫محاولته ّ‬
‫المقدمة األولى‪ :‬إن ال ّله يمكنه فقط اختيار كون واحد من بين عدد ال حصر له من‬
‫األكوان الممكنة‪ .‬والمقدمة الثانية‪ :‬إن ال ّله هو وجود مثالي‪ ،‬فهو يتخذ القرارات بنا ًء‬
‫على العقل‪ .‬النتيجة‪ :‬إن العالم الحالي الذي اختاره ال ّله هو األفضل‪.22‬‬

‫‪ 19‬ال توجد عوالم أخرى غير عالمنا هذا بحسب اليبنز‪ ،‬وإنما مفاد فكرته أن هناك احتماالت ال نهائية‬
‫أمام ال ّله لخلق عوالم‪ ،‬وأن ال ّله اختار أفضلها فخلق عالمنا الذي نحن فيه‪ .‬في حين أنه‪ ،‬وبموجب‬
‫منطق الجهات المعاصر ال توجد استحالة أو تناقض في افتراض عوالم أخرى غير عالمنا هذا‪.‬‬
‫وكذلك تفترض بعض النظريات في الفيزياء الكونية المعاصرة وجود عوالم أخرى‪.‬‬
‫‪20 Sedacca, Matthew; The Multiverse Is an Ancient Idea. Nautilus, 2017.‬‬
‫‪ 21‬وفكرة اليبنتز هذه عبارة عن استفاضة في شرح فكرة ابن سينا‪ .‬وليس مما يعنينا هنا إثبات اقتباس‬
‫فيلسوف عن آخر (ابن سينا أسبق زمنيا من اليبنتز) بقدر ما يعنينا مالحقة تطور الفكرة وأهميتها في‬
‫مواجهة المعضلة التي هي موضع اهتمام الفيلسوفين‪ ،‬على الرغم من وجود عبارات وأمثلة تبدو‬
‫وكأنها ترجمة حرفية لعبارات ابن سينا‪.‬‬
‫‪22 Leibniz, Gottfried (1991). Discourse on Metaphysics and Other Essays. Indianapo-‬‬
‫‪lis: Daniel Garber and Roger Ariew. p. 53–55.‬‬
‫‪85‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫لم ينكر اليبنتز وجود الشر في العالم‪ ،‬بل قال إن ال ّله قد خلق عالما فيه الشر‪ ،‬وكان‬
‫بإمكانه خلق عالم خال ًيا منه‪ .‬لكنه رأى أن هذا العالم ال يزال أفضل عالم يمكن أن‬
‫يصنعه ال ّله‪ ،‬فوجود الشر ال يعني بالضرورة ً‬
‫عالما أسوأ‪ ،‬إنما على العكس من ذلك‪،‬‬
‫خيرا أكبر»‪ 23‬وقد‬
‫الشر ً‬
‫عالما أفضل‪ ،‬إذ «قد يحدث أن يصاحب ُّ‬
‫فإن وجود الشر يخلق ً‬
‫تابع اليبنتز الفكرة التي استخدمها ابن سينا‪ ،‬وقبلهما أوغسطين (‪ 354‬ــ ‪430‬م)‪ ،‬حول‬
‫معنى الشر‪ .‬وتفيد أن «الشر‪ ،‬على الرغم من كونه واقعا حقيق ًيا‪ ،‬فهو ليس شي ًئا‪ ،‬ولكنه‬
‫اتجاه االنسان بعيدا عن الصالح‪ .‬فالشر هو غياب الخير»‪ .24‬واعتمادا على هذا النوع‬
‫من الفهم لمعنى الشر أنه عدم أو أنه انعدام الخير‪ ،‬وعلى الموقف الالهوتي المسبق‬
‫المبني على تصور مفهوم ال ّله وصفاته رأى اليبنتز‪ ،‬تماما كما فعل ابن سينا من قبل؛ أن‬
‫العالم الذي فيه شر تكون نتيجته المزيد من الخير‪ ،‬وبالتالي فهو أفضل من عالم يخلو‬
‫من الشر‪ .‬أو كما قال ابن سينا‪« :‬واعلم أن الشر الذي هو بمعنى العدم‪ ،‬إما أن يكون شرا‬
‫بحسب أمر واجب أو نافع قريب من الواجب‪ ،‬وإما أال يكون شرا بحسب ذلك‪ ،‬بل شرا‬
‫بحسب األمر الذي هو ممكن في األقل»‪ ،25‬كذلك «فإن وجود الشر في األشياء ضرورة‬
‫تابعة للحاجة إلى الخير»‪ ،26‬بل إن إزالة الشر من العالم قد تؤدي إلى شر أكبر‪« ،‬فإفاضة‬
‫الخير ال توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر‪ ،‬فيكون تركه شرا من ذلك الشر‪ ،‬ألن‬
‫عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده إذا كان عدمان شرا من عدم واحد»‪.27‬‬
‫هذه الرؤية القائلة إن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة هي رؤية متسقة مع‬
‫المس َّلمات الدينية‪ ،‬فطالما أن ال ّله كامل وكلي الخير والقدرة فالبد أن يخلق العالم‬
‫على أفضل وجه ويختار من بين اإلمكانيات أفضلها‪ .‬فال يمكن تخيل أن يفعل ال ّله شيئا‬
‫يقصر عن قدرته وخيريته‪ .‬مع ذلك فإن هذه الرؤية‪ ،‬في مؤداها النهائي‪ ،‬تظهر ال ّله غير‬

‫‪23 Thomson/Wadswort; Leibniz, Gottfried, Philosophy of Religion: an Anthology,‬‬


‫‪2008, p. 172–173.‬‬
‫‪24  Murray and Greenberg, Michael J. and Sean. «Leibniz on the Problem of Evil». Stan-‬‬
‫‪ford Encyclopedia of Philosophy. Retrieved December 9, 2019.‬‬
‫‪ 25‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.286‬‬
‫‪ 26‬ابن سينا؛ النجاة‪.286 ،‬‬
‫‪ 27‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.286‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪86‬‬
‫قادر على خلق عالم خال ًيا من الشر‪ ،‬فلو كان قادرا لفعل‪ .28‬وليس منقذا من هذا المأزق‬
‫بشر قليل من أجل ٍ‬
‫خير كثير‪ ،‬ألنه وبحكم قدرته الالنهائية كان يمكن أن‬ ‫القول إنه َقبِ َل ٍّ‬
‫يخلق خيرا كثيرا من دون شائبة من شر‪ .‬فكان هدف ابن سينا واليبنتز هو تبرير وجود‬
‫َ‬
‫الشر وعرضه بطريقة حتى يبدو غير متعارض مع قدرة ال ّله وخيريته‪ .‬يقول ابن سينا إن‬
‫طبائع األشياء تقتضي وجود الشر مثلما تقتضي طبيعة النار أن تكون محرقة من أجل أن‬
‫تكون نافعة‪ ،‬وأن الشر هو انعدام الخير في جهة معينة‪.‬‬

‫الشر واإلرادة الحرة‪:‬‬


‫يضيف اليبنتز‪« :‬إن الشر مقتضى من مقتضيات حرية اإلرادة‪ ،‬من أجل أن يعطي ال ّله‬
‫لإلنسان القدرة على االختيار بين الخير والشر‪ ،‬وأن الخطيئة ضرورية لخلق أفضل ما‬
‫في العوالم الممكنة‪ ،‬والخطايا هي نتائج إرادتنا الحرة»‪ .29‬هكذا يربط اليبنتز بين اإلرادة‬
‫الحرة لإلنسان ووجود الشر في العالم‪ ،‬فمن دون وجود الشر ال معنى لإلرادة الحرة‬
‫ألنها‪ ،‬كما يفهمها‪ ،‬القدرة على االختيار بين شر وخير‪ ،‬وأن وجود اإلرادة الحرة خير‬
‫ِ‬
‫أسباب‬ ‫بحد ذاته وانعدامها شر‪( .‬المفارقة أن اليبنتز يجعل من اإلرادة الحرة سب ًبا من‬
‫أن ال ّله سمح بوجود‬
‫سماح ال ّله بوجود الشر في عالمه األفضل‪ .‬يبدو أن اليبنتز يرى َّ‬
‫الشر ألجل اإلرادة الحرة وليس العكس‪ ،‬أي أن ال ّله لم ِ‬
‫يعط لإلنسان إرادة حرة لكي‬ ‫َّ‬
‫يتجنب الشرور‪ ،‬وإنما سمح بوجود الشرور لكي يحاول اإلنسان أن يتجنبها باستخدام‬
‫اإلرادة الحرة‪ .‬فوجود حرية اإلرادة سبب في وجود الشرور أو هو سبب لسماح ال ّله‬
‫بوجود الشرور قبل أن تكون وسيلة لتجنبها‪ .‬هكذا وضع العربة أمام الحصان‪ ،‬أو أن‬
‫اليبنتز جعل من ال ّله كمن يجرح شخصا لكي يضمده فيبين إنسانيته وتعاطفه‪ .‬وهذه‬
‫المفارقة نفسها وقع فيها بالنتنغا‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫ثم إن هذا التصور يجعل خيارات ال ّله ضيقة إلى حد بعيد‪ .‬في حين أنه من الممكن‬
‫تصور وجود إرادة حرة لالختيار بين خيرين‪ ،‬فأنت من الممكن أن تختار أن ترتدي‬

‫‪ 28‬وتلك هي النتيجة التي اضطر إلى القول بها ألفن بالنتنغا‪ ،‬مع أنه لم يقل بأن عالمنا هذا هو أفضل‬
‫العوالم الممكنة‪ ،‬كما سنبين‪.‬‬
‫‪29 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil, Stanford En-‬‬
‫‪cyclopedia of Philosophy Archive, Winter 2016 Edition, First published Jan 4, 1998.‬‬
‫‪87‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫قميصا أبيض أو قميصا أزرق وكالهما خير‪ .‬هذا فضال عن كون وجود حرية اإلرادة‬
‫لدى االنسان موضع أخذ ورد في ضوء األسس الالهوتية التي يستند عليها اليبنتز‪،30‬‬
‫فال يمكن البناء عليه‪ .‬فإذا كان ال ّله نفسه يقبل بوجود الشر في العالم بحكم ضرورات‬
‫شتى‪ ،‬مما يعني أن إرادته الخيرة محكومة بتلك الضرورات‪ ،‬فما المقدار الذي يمكن‬
‫توقعه من حرية إرادة البشر؟ ثم إذا كانت الخطيئ ُة ضروري ًة‪ ،‬فهل يمكن عدُّ ها شرا؟ بعد‬
‫ذلك كيف يمكن النظر بجدية إلى هذا السيناريو الذي يضعه اليبنتز‪ ،‬وهو أن ال ّله يتيح‬
‫مجال للشر‪ ،‬ثم يترك حرية لإلنسان أن يرتكب الخطيئة والشر‪ ،‬وأنه من الضروري أن‬ ‫ً‬
‫يرتكبها االنسان‪ ،‬ألجل أن يسامح ال ّله الناس ويرحمهم أو يعاقبهم‪ ،‬وأن هذا أفضل‬
‫العوالم الممكنة وهو أقصى ما يقدر عليه ال ّله‪ ،‬وأن وجود الشر والقدرة على فعله إنما‬
‫هي ألجل «حفظ الفرق بين ال ّله وبين اإلنسان وإفساح المجال للرحمة اإللهية»‪31‬؟‬
‫والحقيقة أن هذا الوصف ال يليق أن يطلقه عاقل على ال ّله‪ .‬بل هو ال يليق أن يوصف‬
‫به من هو أدنى من ال ّله‪ .‬فلو تخيلنا أن حاكما أطلق يد المجرمين في مدينته وأتاح لهم‬
‫وسائل وإمكانيات ارتكاب جرائمهم التي يرى ضرورة ارتكابهم لها‪ ،‬وهو يرى أن‬
‫ارتكابهم للجرائم خير من عدمه‪ ،‬وغايته من ذلك أن يسامحهم ويرحمهم أو يعاقبهم‪،‬‬
‫ويبين الفرق بينه وبينه‪ ،‬فهل يمكن أن يوصف ذلك الحاكم بالعدل أو الحكمة؟‬

‫بالنتنغا والدفاع عن الشر‪:‬‬


‫في أحد جوانب معالجته لمشكلة الشر‪ ،‬يورد الفيلسوف المسيحي األمريكي‬
‫المعاصر ألفن كارل بالنتنغا‪ ،‬المولود في عام (‪ )1932‬دفاعا طويال وتفصيليا عن رأي‬
‫مقارب لهذا‪ ،‬مدعما إياه باألمثلة من الحياة اليومية واالستنتاجات المنطقية‪ ،‬على الرغم‬
‫تعارض بين وجود ال ّله وقدرته وعلمه‬
‫من فحواه البسيطة والمباشرة‪ .‬ملخص فكرته أال ُ‬
‫وخيره‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبين وجود الشر في العالم من جهة أخرى‪ ،‬وذلك من وجهين‪ ،‬فقد‬
‫فإن قيام ال ّله بإزالة الشر القليل‬
‫قليل‪ ،‬لذلك ّ‬
‫شرا ً‬
‫يستلزم وجود الخير الكثير وجود ًّ‬

‫‪ 30‬نقصد باألسس الالهوتية صفات ال ّله من علم مطلق وعدل تام وعالقة ذلك بإمكان قيام االنسان‬
‫بفعل حر‪ ،‬ومقدار حرية االختيار التي تبقى لإلنسان طالما أن ال ّله يعلم مسبقا اختيار اإلنسان وليس‬
‫في مستطاع اإلنسان أن يفعل فعال لم يكن في علم ال ّله أنه سيفعله‪.‬‬
‫‪31 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪88‬‬
‫سيؤدي الى إزالة الخير الكثير‪ ،‬وهذا هو الوجه األول‪ .‬والوجه اآلخر لدفاعه‪ ،‬أن عدم‬
‫معرفتنا بأسباب إبقاء ال ّله للشر في العالم ال يعني ضرورة عدم وجود ال ّله أو نقصا في‬
‫إحدى صفاته المذكورة‪.32‬‬
‫الردود على الوجه األول من هذا الدفاع هي عين الردود التي ترد على ابن سينا‬
‫واليبنتز للتشابه بين مواقف هؤالء الفالسفة في هذه النقطة‪ .‬أما الرد على الوجه الثاني‬
‫فهو؛ إن الحديث ليس عن أسباب وجود الشر بقدر ما هو حديث عن التعارض بين‬
‫وجود الشر وخيرية ال ّله وقدرته على إزالة الشر‪ .‬وهذا يستتبع الحديث عن صفات‬
‫كلي القدرة‪ ،‬كلي الخير‪ ،‬كلي العلم‪ ،‬وبغض النظر عن أسباب وجود‬ ‫ال ّله‪ ،‬الذي هو ّ‬
‫الشر وسواء أعرفناها أم لم نعرفها‪ ،‬فخيريه ال ّله إما تامة وإما فيها نقص‪ ،‬وكذلك علمه‬
‫وقدرته‪ .‬فإن كانت هذه الصفات تا َّمة لم يعد من سبب يكفي لوجود الشر‪ ،‬وإن كان فيها‬
‫جديرا باأللوهية التي هي الحد‬
‫ً‬ ‫نقص لم يعد ال ّله كما تصفه األديان السماوية‪ ،‬بل لم يعد‬
‫األقصى لكل كمال‪ .‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن الناحية األخرى فإن قولك إن عدم معرفتنا‬
‫باألسباب ال يعني عدم الوجود أو نقصا في الصفات هو محاولة إللجام من يحاجك‪.‬‬
‫إن هذا القول ينهي النقاش من أساسه وهو عبثي‪ ،‬فإذا أنهينا النقاش بذريعة أننا ال نعرف‬
‫وال يمكن أن نعرف االسباب وراء إبقاء ال ّله على الشر في العالم‪ ،‬ينتهي القول من‬
‫أساسه‪ ،‬ألن كل البحث هو عبارة عن بحث أسباب وجود الشر‪ .‬وإن أنت اتبعت هذا‬
‫المنطق في الحوار فيمكنك وضع ما شئت من االفتراضات‪ ،‬منطقية وغير منطقية‪،‬‬
‫والدفاع عنها بأنك وخصمك ال تعرفان األسباب وال يمكنكما معرفة األسباب‪ ،‬لذلك‬
‫عليه قبول افتراضاتك‪ .‬وهذا هو أيضا‪ ،‬ردنا على القول بأن الحكمة اإللهية المفارقة‪،‬‬
‫التي تقصر عقولنا عن معرفتها أو فهمها‪ ،‬هي السبب في حدوث كل شيء‪ ،‬كما سنبين‪.‬‬
‫ينتهي بالنتنغا في دفاعه عن حرية اإلرادة إلى أنه ليس في مستطاع ال ّله أن يخلق عالما‬
‫يحتوي الخير األخالقي من دون شر أخالقي‪ ،‬مع عدم الشك في قدرة ال ّله وخيريته‬
‫التامتين‪ .‬وهو يحاول تبرير ذلك منطقيا عن طريق وضع قضايا منطقية افتراضية وأمثلة‬
‫لعوالم محتملة ليستنتج ّ‬
‫أن الشر األخالقي مالزم للخير األخالقي في أي عالم ممكن‪.‬‬

‫‪ 32‬بالنتنجا‪ ،‬ألفين؛ مشكلة الشر ودفاع حرية اإلرادة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪ ،‬مجلة قضايا إسالمية‬
‫معاصرة‪ ،‬عدد‪ 73‬و‪ ،74‬مركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬بغداد‪ ،2020 ،‬ص ‪ 209‬ــ ‪.228‬‬
‫‪89‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫وهو يحاول أن يثبت عدم قدرة ال ّله‪ ،‬مع كونه كامال ومطلق القدرة‪ ،‬على خلق عالم ال‬
‫يحتوي الشر‪ ،‬من خالل إثبات اتساق أو عدم وجود تناقض بين القضيتين‪:‬‬
‫«ال ّله قادر على كل شيء‪ ،‬وهو خير كامل»‪.‬‬
‫«ليس في مقدور ال ّله أن يخلق عالما يحتوي على الخير األخالقي من دون خلق‬
‫‪33‬‬
‫عالم يحتوي على شر أخالقي»‪.‬‬
‫وهو بهذا االستنتاج يريد فك التناقض والحيرة الناتجة عن كيفية وجود الشر‬
‫األخالقي على الرغم من كون ال ّله خيرا مطلقا‪ ،‬فيقرر ّأل تناقض في ذلك من الناحية‬
‫المنطقية‪ .‬وهو يماثل هذه االستحالة مع استحالة أن يخلق ال ّله دوائر مربعة او عزاب‬
‫متزوجين‪.‬‬
‫وهنا نجد بالنتنغا‪ ،‬كما فعل ابن سينا من قبل‪ ،‬يؤكد وجود أمور مستحيلة على ال ّله‪،‬‬
‫فنأتي على مفصل مهم نطل من خالله على عدد من المفارقات والنقائض التي يؤدي‬
‫إليها هذا السياق‪ ،‬من قبيل‪ :‬أن ال ّله الواحد كلي القدرة‪ ،‬هل يقدر على خلق إله ثان شبيه‬
‫به؟ إن قلنا «نعم» نكون قد أشركنا وأنكرنا وحدانيته‪ ،‬وإن قلنا «ال»‪ ،‬نكون قد شككنا‬
‫بقدرته‪ .‬أو أبسط من ذلك‪ ،‬كالسؤال‪ :‬هل بإمكان ال ّله أن يخلق مربعا دائريا؟ الجواب‬
‫أن ذلك مستحيل ألنه يخرق تعريف المربع والدائرة‪ .‬وكال السؤالين يقومان على‬
‫طريقة تفكير عبثية‪ ،‬فهما يتعلقان باستحالة منطقية‪ ،‬بحيث يمكن القول إن تلك األمور‬
‫مستحيلة على ال ّله ألن العبث مستحيل على ال ّله‪ .‬ولكن من الواضح أن جعل النار باردة‬
‫(مثال ابن سينا) هو أمر من أمور الطبيعة‪ ،‬وهو مختلف عن خلق مربع دائري‪ .‬وهنا‬
‫يمكن أن تكون المقارنة مع مسألة الشر عموما‪ ،‬فهل إزالة الشر أكثر شبها في نوعها‬
‫بإبراد النار أم خلق المربع المستدير؟ من البين أن النوعين مختلفان‪ ،‬فاستحالة المربع‬
‫المستدير أمر واضح لوجود تناقض ذاتي في معنى العبارة‪ .‬أما الشر والنار فاألقوال‬
‫المتعلقة فيهما تختلف في نوعها‪ .‬إذ هما قابلتان للزيادة والنقصان واالنتفاء‪ .‬فهناك‬
‫نار أشد أو أقل استعارا وهناك تفاوت في مقادير الشر وإمكانية النتفائه‪ .‬في حين ّ‬
‫أن‬

‫‪33 Plantinga, Alvin; God, Freedom and Evil, Reprinted by; Harper & Row, New York,‬‬
‫‪2002. P.54.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪90‬‬
‫قضية المربع المستدير ليس فيها شيء من هذا‪( .‬لم يشر ابن سينا إلى مثال المربع أو ما‬
‫ً‬
‫مستحيل عنده)‪ .‬وفي كل‬ ‫يشبهه‪ ،‬لكنه ذكر استحالة إبراد النار لذا نحسب كال األمرين‬
‫األحوال‪ ،‬يصعب أن تستقيم فكرة االستحالة على كائن كلي ومطلق القدرة‪ .‬مع ذلك‬
‫من الواضح أن هناك عب ًثا في مفاصل هذه األقوال‪ ،‬فأين هو؟ العبث حقا هو في كون‬
‫مفهوم ال ّله هو مفهوم يعبر عن الالنهاية‪ .‬ومفهوم الالنهاية ال يمكن أن يدخل ويفاعل‬
‫مع مفاهيم أخرى ألن ذلك يؤدي إلى نتائج فاسدة‪ .‬تماما مثل مفهوم الالنهاية في‬
‫الرياضيات‪ ،‬إذا أدخلته في معادلة رياضية تصل إلى نتائج فاسدة‪ .‬مثل المعادلة أدناه‪:‬‬
‫∞=‪∞+1‬‬
‫∞‪∞=2+‬‬
‫فإذا كانت ∞ = ∞‬
‫إذن‪2 = 1 :‬‬
‫وهذه نتيجة بينة الخطأ‪.‬‬
‫‪ ،‬عندها يكون مفهوم الالنهاية خارجا عن أول مبادئ‬ ‫أما إذا كانت ∞ ال تساوي ∞‬
‫الفكر األساسية التي ال يستقيم أي تفكير بدونها أال وهو مبدأ الهوية أو الذاتية‪ ،‬فيصبح‬
‫مفهوم الالنهاية مفهوما متناقضا ال يصح التعامل به في المعادالت‪.‬‬
‫فتلك نتائج خاطئة بشكل واضح‪ .‬سببها إدخال الالنهاية في المعادلة وكأنها عدد‬
‫يشبه األعداد األخرى‪ ،‬بينما هي حد أقصى يستحيل التعامل بها واقعيا‪ .‬كذلك مفهوم‬
‫ال ّله الالنهائي يجب ّأل يدخل في عبارات اللغة التي تصف الوقائع بوصفه جزءا منها‬
‫وواقعة من الوقائع‪ ،‬وإنما هو حد أقصى للوجود‪.‬‬
‫فضال عن ذلك يصر بالنتنغا أنه ألجل أن تكون حر االختيار البد من وجود شر‬
‫أخالقي مقابل للخير األخالقي‪ .‬وبهذا يقع أسير المفارقة نفسها التي وقع فيها اليبنتز‪،‬‬
‫وهي جعل اإلرادة الحرة سببا في وجود الشر‪ ،‬كما عرضناها‪ .‬ويغفل بالنتنغا نتيجة‬
‫تركيزه على الجانب المنطقي عن كون المسألة تتعلق باللغة وثنائياتها‪ .‬عالوة على‬
‫كون تصوره للعوالم الممكنة كان متغاضيا عن كونها افتراضات لعوالم مازال يحكمها‬
‫المنطق ومبادئ الفكر األساسية؛ الذاتية وعدم التناقض والثالث المرفوع‪ .‬وهذه‬
‫‪91‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫القوانين متعلقة بالفهم البشري‪ ،‬ومن ثم لم تعد هناك إمكانية الفتراض أكوان أو عوالم‬
‫أخرى طالما صارت تلك العوالم المفترضة مشابهة لعالمنا‪ ،‬حيث يجب قطعها بنصل‬
‫أوكام‪ .34‬فإن وجدت عوالم أخرى فهي تبقى ضمن هذا الوجود الذي توحده األنا‪.‬‬
‫فمهما كانت تخيالتنا عن عوالم افتراضية أخرى‪ ،‬ال يمكننا أن نتخيل عالما فيه دوائر‬
‫مربعة أو عزاب متزوجون‪ ،‬لعدم إمكانيتنا الحديث عن عوالم ال تخضع لقوانين فكرنا‪،‬‬
‫ألن تخيالتنا وافتراضاتنا مهما اشتطت‪ ،‬البد لها من أن تكون منطلقة من ناصية «األنا‬
‫أفكر» التي ال سبيل الى إنكارها أو الخروج منها‪ .‬وقد استحكم في تصورات بالنتنغا‪،‬‬
‫كما هو حال الكثيرين غيره‪ ،‬نسيان األنا‪ .‬فال يمكن تصور أي عالم ممكن من دون وجود‬
‫ذات تقوم بتصوره أو افتراضه‪ .‬وهذه األنا التي تتخيل ذلك العالم أو تفترضه البد لها‬
‫من لغة لكي تخاطب ذاتها وتحدث نفسها أنه يوجد عالم ممكن أو أكثر‪ ،‬ومن أجل‬
‫ذلك البد من وجود منطق كي يحكم تنظيم اللغة واستنتاجاتها‪ .‬وبحكم تلك اللغة‪ ،‬ال‬
‫بحكم اختالف العوالم‪ ،‬ال يمكن أن توجد دوائر مربعة وال عزاب متزوجون‪ .‬وبحكم‬
‫تلك اللغة أيضا‪ ،‬ال بحكم اإلرادة الحرة أو النعمة اإللهية‪ ،‬ال يمكن أن يوجد خير من‬
‫دون شر‪ .‬فألن الخير موجود كان لزاما وجود الشر معه‪ ،‬مثلما أن وجود القصير متالزم‬
‫مع وجود الطويل‪ ،‬ووجود األعلى مع األسفل؛ بمعنى أن كل مفهوم يستلزم نقيضه‪.‬‬
‫وموقف بالنتنغا كله يمكن مواجهته بنقطتين؛ األولى‪ :‬إذا كان إيجاد الشر األخالقي‬
‫من أجل حرية اإلرادة اإلنسانية‪ ،‬فماذا عن الشرور الطبيعية مثل الكوارث البيئية‬

‫‪ 34‬مبدأ منهجي واسع االستخدام في الفلسفة وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية يعزى للفيلسوف‬
‫اإلنكليزي وليم أوكام م‪1288 – 1348‬‏‪ William of Ockham‬مفاده أنه «ال يجوز مضاعفة الكيانات‬
‫بدون ضرورة» وال ينبغي اإلكثار من شيء إذا لم تقتض الضرورة ذلك‪ .‬وهو مبدأ ما يزال مقبوال من‬
‫قبل الفالسفة إذ ال أحد يريد أنطولوجيا منتفخة بشكل غير مبرر‪.‬‬
‫انظر‪:‬‬
‫‪Barry, C.M.; Who sharpened Occam’s Razor, 2014, https://www.irishphilosophy.‬‬
‫‪ razor/.‬ــ ‪ occams‬ــ ‪ sharpened‬ــ ‪com/2014/05/27/who‬‬
‫‪And:‬‬
‫‪Spade, Paul Vincent; William of Ockham, Stanford Encyclopaedia of Philosophy,‬‬
‫‪https://plato.stanford.edu/entries/ockham/#4.1, 2019.‬‬
‫وويكيبيديا الموسوعة الحرة‪،‬‬
‫‪ https://ar.wikipedia.org/‬نصل اوكام‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪92‬‬
‫واألمراض؟ والثانية‪ :‬تتعلق بعالم ممكن موعود يفترض بهذا الفيلسوف أن يكون مؤمنا‬
‫به بوصفه مسيحيا مخلصا‪ ،‬وهو الجنة‪ ،‬هل ينطبق عليها وجود الشر ألن فيها خيرا وأن‬
‫ال ّله ال يقدر على إزالته؟ يالبؤس الوجود إن كان يستحيل‪ ،‬حتى على ال ّله‪ ،‬إيجاد عالم‬
‫يخلو من الشر‪ ،‬ويالضياع الوعود بالعدالة‪ ،‬ويالعبثية إيمان بالنتنغا‪.‬‬

‫نقيضة الخير وتناقض المس ّلمات‪:‬‬


‫كل هذه المحاوالت تبدو ضعيفة لدى مواجهتها بالمسلمة األساسية التي تفيد بأن‬
‫ال ّله قادر قدرة مطلقة وأنه هو الخير الكامل‪ .‬فال ّله كائن كامل على اإلطالق‪ .‬ويمكن‬
‫للناس‪ ،‬كما يؤكد اليبنتز‪ ،‬أن يستنتجوا هذا منطق ًيا‪ ،‬ألن «األعمال يجب أن تحمل بصمة‬
‫فاعلها‪ ،‬ويمكننا معرفة فاعلها من خالل فحصها»‪ .35‬ويطلق اليبنتز على هذا تسمية مبدأ‬
‫الكمال‪ ،‬الذي يفيد أن معرفة ال ّله وقدرته على أعلى درجة‪ ،‬أكثر مما يمكن ألي إنسان‬
‫نظرا لقدرة ال ّله المطلقة‪ ،‬وأن ال ّله قد فكر في كل احتمال قبل إنشاء هذا‬
‫أن يفهمه‪ً .‬‬
‫العالم‪« ،‬فكماله يمنحه القدرة على التفكير بما يتجاوز قوة العقل المحدود‪ ،‬لذلك‬
‫يوجد لديه سبب ٍ‬
‫كاف الختيار عالم بدال من آخر»‪ ،36‬وعندها سيكون «من المناقض‬
‫لطبيعته الخيرة والكاملة لو لم يختر أفضل العوالم‪ ،‬وبالتالي فإن الكون الذي اختار ال ّله‬
‫أن يخلقه ال يمكن إال أن يكون األفضل من بين جميع العوالم الممكنة»‪ .37‬ثم يكتمل‬
‫انهيار كل هذا الدفاع إذا أوردنا مقولة وجود الجنة سواء أكان ذلك الوجود واقعيا أو‬
‫ممكنا فحسب‪ .‬مقولة وجود الجنة (سواء أفهمنا أن وجودها روحاني عقلي أو كان‬
‫وجودها جسمان ًّيا) هي إحدى ثوابت مقوالت الديانات السماوية التي تعرضها على‬
‫أنها عالم خال من الشر وأفضل من عالمنا هذا‪.‬‬
‫ثم أال يتناقض القول بأن عالمنا هذا هو أفضل العوالم الممكنة مع بداهة سعي‬
‫البشرية نحو األفضل؟ إذا كان هذا هو أفضل العوالم الممكنة التي يقدر عليها ال ّله فما‬

‫‪35 Murray, Michael J.; Greenberg, Sean; Leibniz on the Problem of Evil.‬‬
‫‪36 Leibniz, Gottfried Wilhelm. Discourse on Metaphysics. Trans. Jonathan F. Bennett,‬‬
‫‪2004, p.3.‬‬
‫‪37 Look, Brandon C; Gottfried Wilhelm Leibniz, Stanford Encyclopaedia of Philoso-‬‬
‫‪phy, 22 Dec. 2007.‬‬
‫‪93‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫الغاية من الرساالت السماوية والقوانين البشرية ولماذا يسعى الناس الى االستزادة من‬
‫العلوم واالختراعات وتطوير الطب وعالج االمراض؟ أال يكون العالم أفضل لو أن‬
‫عدد األطفال الذين يموتون جوعا صار أقل‪ ،‬أو عدد الذين يشفون من أمراض السرطان‬
‫صار أكبر؟ كم من المواقف في حياتنا كانت ستكون أفضل لو أن أحد الظروف كان‬
‫مختلفا؟ كم من المناسبات كانت ستكون أفضل لو أنها حدثت في وقت آخر أو مكان‬
‫آخر؟ كم من المشاكل واألزمات كانت لتنتهي لو حضرها شخص معين أو اختفى‬
‫منها شخص آخر؟ هذا ما أدعوه نقيضة الخير؛ فالعالم يكون أفضل لو أن ال ّله أضاف‬
‫إلى الخير فيه شيئا يسيرا خيرا‪ ،‬ويكون أفضل لو أنه أنقص من الشر فيه شيئا يسيرا‪.‬‬
‫ويمكن دائما إضافة خير آخر وإنقاص شر آخر حتى يعم الخير ويتالشى الشر‪ .‬وال‬
‫توجد استحالة منطقية أو واقعية في ذلك‪ .‬ومن الصعب إنكار تلك اإلمكانية على قدرة‬
‫ال ّله المطلقة‪.‬‬
‫والنقيضة نضعها بهذا الشكل‪:‬‬
‫البرهان األول‪ :‬فيما يخص الخير‪:‬‬
‫القياس األول‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله تام القدرة‪.‬‬
‫تام القدرة يتمكن من تكرار أفعاله‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله يتمكن من تكرار أفعاله‪.‬‬
‫القياس الثاني‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله تام القدرة‪.‬‬
‫تام القدرة يتمكن من إضافة بعض الخير‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله قادر على إضافة بعض الخير‪.‬‬
‫القياس الثالث‪:‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪94‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله قادر على إضافة بعض الخير‪.‬‬
‫ال ّله قادر على تكرار أفعاله‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله قادر على إضافة كل الخير‪.‬‬
‫لكن الخير ما يزال ناقصا‪.‬‬
‫والبرهان اآلخر‪ :‬فيما يخص الشر‪:‬‬
‫القياس األول‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله تام القدرة‪.‬‬
‫تام القدرة يتمكن من تكرار أفعاله‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله يتمكن من تكرار أفعاله‪.‬‬
‫القياس الثاني‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله تام القدرة‪.‬‬
‫تام القدرة يستطيع إزالة بعض الشر‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله قادر على إزالة بعض الشر‪.‬‬
‫القياس الثالث‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله قادر على إزالة بعض الشر‪.‬‬
‫ال ّله قادر على تكرار أفعاله‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬ال ّله قادر على إزالة كل الشر‪.‬‬
‫لكن الشر ما زال موجودا‪.‬‬
‫إن عدم وجود استحالة منطقية (أو واقعية) في زيادة الخير وتقليل الشر يدحض‬
‫‪95‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫حجة بالنتنغا المنطقية التي يؤكد فيها أنه من المستحيل على ال ّله أن يخلق عالما خاليا‬
‫من الشر‪ ،‬كما أن عدم وجود استحالة تمنع زيادة الخير ونقصان الشر تدحض قول‬
‫اليبنتز أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة‪.‬‬
‫دع عنك من يجادل أن الحالة ربما كانت تصبح أكثر سوءا لو أن كل ما ذكرته أعاله قد‬
‫تغير‪ ،‬وأن حكمة ال ّله الخيرة التي ال نعرفها هي التي اقتضت أن تكون األوضاع على ماهي‬
‫عليه من وجود الشرور‪ .‬وهو رأي يقارب رأي بالنتنغا في سياق حجته‪ ،‬التي أسماها «الدفاع‬
‫عن اإلرادة الحرة»‪ ،‬وهي في حقيقتها دفاع عن وجود الشر وتبرير له‪ ،‬أننا ال نعرف الحقيقة‬
‫النهائية‪ .‬وهذا الدفاع يقع على الطرف المقابل ألحد أهم األسس التي بنى عليها ابن سينا‬
‫دفاعه‪ ،‬وهو القول بأن العناية مهتمة بالنظام الكلي وليست ألجلنا؛ وأن «العلل العالية ال‬
‫يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية ألجلنا»‪ ،38‬أي أن حكمة ال ّله ليس لها شأن فيما يحدث‬
‫من شرور للبشر‪ .‬أوجد ابن سينا منفذا مختلفا للمروق من المأزق‪ ،‬فلم يقل بوجود حكمة‬
‫إلهية ال نعلمها‪ ،‬وإنما قال إن تلك الحكمة ال تتعلق بعالمنا‪ .‬فهو ال ينكر وجود الحكمة‬
‫اإللهية التي ال نعلمها‪ ،‬لكنه ال يعلق عليها أسباب ما يحدث في عالمنا‪ .‬في حين أن بالنتنغا‬
‫يقول بوجود حكمة متدخلة في عالمنا ونحن نجهلها‪ .‬واالحتجاج بحكمة ال ّله التي ال نعرفها‬
‫وال نفهمها هو احتجاج ال يمكن إثباته‪ ،‬وما ال يمكن إثباته قد يمكن رده‪ .‬فهو يوقعنا في‬
‫حتمية قاسية وينسف أية إمكانية للتغيير‪ ،‬وال يستقيم مع أي قول بإرادة حرة‪ ،‬إذ إن االحتجاج‬
‫بالحكمة اإللهية على أنها السبب في عدم إمكانية التغيير معناه التسليم بحتمية األحداث‬
‫وأن وقوعها إنما هو بسبب إرادة إلهية‪ ،‬األمر الذي يعني انتفاء قدرة اإلنسان على التغيير‪،‬‬
‫وتلك حتمية تامة ال تترك مجاال للقول بحرية اإلرادة اإلنسانية‪ .‬وبحسب هذا يكون مصدر‬
‫الشر ميتافيزيقيا‪ ،‬طالما أن كل ما يحدث إنما يحدث بموجب حكمة وإرادة الهية‪ .‬وكما عبر‬
‫عن هذا برتراند رسل‪ ،‬في رده على اليبنتز‪ ،‬من زاوية منطقية‪ ،‬إذ رأى أنه إن كان الوجود‬
‫خيرا وهو يحتوي الشر‪ ،‬فسوف يلزم عن ذلك أن الشر خير أيضا‪ ،‬مما يعني أن مصدر الشر‬
‫ميتافيزيقي‪ ،39‬مع ما تحمل هذه النتيجة من تناقض داخلي‪ ،‬يظهر في القول‪ :‬إن الشر هو خير‪.‬‬

‫‪ 38‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬ص‪.286‬‬


‫‪39 Russell, Bertrand; A Critical Exposition of the Philosophy of Leibniz. London:‬‬
‫‪George Allen & Unwin, 1900.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪96‬‬
‫نقيضة أفضل عالم‪:‬‬
‫كذلك فإن فكرة كون عالمنا هذا هو األفضل‪ ،‬تؤدي إلى نتيجة مناقضة للموقف‬
‫الديني؛ فهي تستلزم استمرار الحياة الدنيا على ماهي عليه إلى االبد‪ ،‬فكأن لسان حال‬
‫الذي يتبناها يقول‪[ :‬إن هي اال حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين]‪ ،40‬فال حياة بعد‬
‫هذه الحياة وال عالم غير هذا العالم‪ .‬فال بعث وال جنة وال نار‪ ،‬إذ إن افتراض وجود‬
‫حياة أخرى وعالم غير هذا العالم يجعل ذلك العالم اآلخر إما أفضل من عالمنا‪ ،‬وهذا‬
‫مخالف للقول إن عالمنا أفضل العوالم‪ ،‬وإما أدنى منه‪ ،‬وذلك غير ممكن حيث ال يليق‬
‫بال ّله أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير‪ .‬وإما أن يكون العالمان متساويين في‬
‫األفضلية‪ ،‬فتنتفي الحاجة إلى االستبدال وتصبح عبثا‪.‬‬
‫وهل حقا أن هذا العالم هو أفضل عالم ممكن؟ من الناحية المنطقية البد لمن يتبنى‬
‫المسلمات الدينية من أن يقول بأن هذا العالم هو األفضل‪ ،‬لكن القول إن هذا العالم هو‬
‫أفضل العوالم الممكنة يحتوي تناقضا مع المقدمات التي يقوم عليها‪ .‬ويتضح التناقض‬
‫بالشكل التالي‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫ال ّله قادر تام‪.‬‬
‫القادر التام يفعل األفضل‪.‬‬
‫النتيجة‪:‬‬
‫إذن؛ هذا العالم هو األفضل‪.‬‬
‫ثم يأتي التناقض حين نجد أن هناك عالم أفضل من هذا العالم هو الجنة التي وعد‬
‫ال ّله بها المؤمنين‪.‬‬
‫فبناء على االستنتاج السابق يأتي استنتاج آخر‪:‬‬
‫المقدمتان‪:‬‬
‫هذا العالم هو األفضل‪.‬‬

‫‪ 40‬القران الكريم‪ ،‬األنعام‪.29 ،‬‬


‫‪97‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫الجنة أفضل من هذا العالم‪.‬‬


‫النتيجة‪ :‬العالم األفضل‪ ،‬يوجد عالم أفضل منه‪.‬‬
‫ومن ناحية الواقع وتاريخ الفكر‪ ،‬نجد التناقض قائما كذلك‪ .‬فنحن نجد أن كل ما‬
‫حولنا ناقص‪ ،‬وال شيء كامل في هذا العالم‪ .‬وأن كل ما حولنا يمكن أن يكون أفضل‬
‫وأكمل‪ ،‬وهذا هو دافع سعينا المستمر نحو الكمال‪ .‬ثم ألم تكن فكرة ضرورة وجود‬
‫كائن كامل ملهمة للقديس أنسلم وديكارت واليبنتز نفسه وغيرهم لصياغة حجة مهمة‬
‫على وجود ال ّله هي «الدليل األنطولوجي»؟ فكيف أمكن ألصحاب هذه الحجة القول‬
‫بوجود الكامل‪ ،‬أو مجرد التفكير فيه‪ ،‬إن لم يسلموا بوجود النقص في ما يحيطهم؟‬
‫فكيف‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬يكون هذا العالم هو أفضل العوالم؟‬
‫من البين أن هذا العالم يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه‪ ،‬فكل إنسان لديه قائمة‬
‫من األشياء واألحداث التي يقترح تعديلها ويعمل عليها‪ ،‬وتلك هي مسيرة الناس‬
‫أفرادا وشعوبا‪ ،‬وذلك هو سبب جميع األشياء الجيدة والسيئة التي تقع من اكتشافات‬
‫واختراعات وجرائم وحروب وهلم جرا‪ ،‬فذلك هو سبب ما يحدث من خير وشر‬
‫يصيبان البشر‪ .‬هذا ما يحدث في العالم‪ .‬وما نعنيه بالعالم هو مجموعة األحداث‬
‫والوقائع التي يتعامل معها اإلنسان وتؤثر في مجريات حياته ومشاعره بطريقة‬
‫مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬أما الوجود فهو الوجود الوحيد الممكن بحكم وحدة األنا‬
‫التي تطل عليه والتي يتعلق وجوده بوجودها‪ ،‬وال إمكانية أن يكون متعددا‪ .‬فمهما‬
‫تعددت التمثالت في ذهني فهي تبقى تمثالت لعوالم متعددة ضمن وجود واحد‪.‬‬
‫مصدر التمثالت وسببها طبيعة لغتي والقوى الذهنية الخاصة بي وقدراتي المعرفية‬
‫ودوافعي النفسية واالجتماعية‪ ،‬وذلك مختلف عن الوجود الذي هو الومضة الدائمة‬
‫إلطالل األنا على ذاتها وعلى سواها‪.‬‬
‫هناك من العوالم الممكنة عدد كبير هو بعدد الذوات التي يتمثل فيها األنا‪ .‬يوجد‬
‫عالمي وعالمك وعالمه وعالمها‪ .‬وكل منها فيه من الخير بقدر تذكر األنا واالرتكان‬
‫إلى الضمير‪ ،‬وفيه من الشر بقدر نسيانها‪ .‬وكل ذلك في وجود واحد ال يمكن أن يوجد‬
‫سواه ألنه مرتبط بالضمير الواحد‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪98‬‬
‫دليل التصميم الذكي ومشكلة الشر‬
‫يقدم الدين مقوالته على أنها معبرة عن الحقيقة المطلقة وأن ثباتها غير قابل ألي‬
‫شك‪ ،‬في كل زمان وكل مكان‪ .‬ومن أجل ذلك اجتهد فالسفة الدين في تقديم الحجج‬
‫والبراهين إلثبات صدق مقوالته‪ .‬ومسألة وجود إله األديان (ذلك الكائن المطلق‬
‫المفارق خارج الزمان والمكان) هي أول وأهم مقوالت الدين (األديان السماوية‬
‫تحديدا) على اإلطالق‪ .‬واستمر الجدال بين المؤمنين وغير المؤمنين‪ ،‬حول هذه‬
‫المقولة‪ ،‬حتى جاء كانت ليقدم البراهين على عدم إمكانية حسمه‪ ،‬ألن العقل يمكنه‬
‫اإلثبات والنفي حين يتعلق األمر بما يتجاوز حدوده‪ ،‬وأن هذا الموضوع يتجاوز حدود‬
‫وإمكانيات العقل النظري‪ ،‬فال سبيل إلى الجزم بوجود ال ّله أو نفي وجوده اعتمادا‬
‫على حجج وبراهين العقل النظري‪ .41‬ثم جاءت الوضعية المنطقية في بدايات القرن‬
‫العشرين لتتخذ‪ ،‬في االتجاه نفسه‪ ،‬موقفا متشد ًدا مؤداه أن جميع قضايا الميتافيزيقا هي‬
‫في حقيقتها نواتج أخطاء في استخدام اللغة وأنها بال معنى‪.42‬‬
‫وقد حدث مؤخرا اهتمام وتركيز على حجة أو دليل التصميم الذكي الذي يرى أن‬
‫وجود تصميمات ذكية في العالم يستلزم وجود مصمم ذكي هو السبب والعلة وراء هذه‬
‫التصميمات‪ .43‬فخالصة هذه الحجة هي القول «بوجود روح ذكية تقف خلف الظواهر‪،‬‬

‫‪ 41‬انظر‪ :‬كنط‪ ،‬عمانويل‪ :‬نقد العقل المحض‪ ،‬ت‪ :‬موسى وهبة‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‪286‬‬
‫ــ ‪.328‬‬
‫أيضا التجريبية المنطقية‪ ،‬وهي حركة فلسفية نشأت في فيينا في عشرينيات‬ ‫‪ 42‬الوضعية المنطقية‪ ،‬وتسمى ً‬
‫القرن الماضي وتميزت بالرأي القائل بأن المعرفة العلمية هي النوع الوحيد من المعرفة الواقعية وأن‬
‫جميع المذاهب الميتافيزيقية التقليدية يجب رفضها باعتبارها ال معنى لها‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Encyclopedia Britannica; logical positivism, https://www.britannica.com/topic/‬‬
‫‪ positivism.‬ــ ‪logical‬‬
‫‪ 43‬كان دليل التصميم الذكي سببا أساسيا في قلب مواقف الفيلسوف اإلنكليزي المعاصر أنتوني فلو‬
‫رأسا على عقب‪ .‬كان متيقنا من عدم وجود إله ثم صار متيقنا من وجوده‪ .‬حين كان منكرا لوجود‬
‫االله أغضى عن المشكالت التي يستتبعها هذا الموقف واألسئلة التي تبقى معلقة‪ ،‬ثم حين انقلب‬
‫موقفه‪ ،‬بدا وكأنه نسي األسئلة المتكررة في تاريخ الفلسفة التي يستتبعها هذا الموقف‪ ،‬ومن أجل‬
‫تجاوز تلك األسئلة ذكر أنه صار ربوبيا وحسب‪ ،‬أي مؤمنا بوجود إله ما (يشبه إله أرسطو)‪ ،‬وليس‬
‫مؤمنا بدين معين وال ببعث‪ .‬وقال إن مشكلة وجود الشر بالدرجة األولى هي التي تمنعه من أن‬
‫يصبح مسيحيا‪ .‬أي أنه ال يستطيع التوفيق بين صفات االله حسب الديانة المسيحية ووجود الشر في‬
‫العالم‪ ،‬وبدا له صراحة أن ال ّله خلق كثيرا من الشر‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫أي وجود عقل ُعلوي أعظم يحرك كل شيء من خلف الستار»‪ .44‬وهذا الدليل ببساطة‬
‫يمثل دهشة اإلنسان أمام دقة التصاميم في هذا الكون بدء من أجزاء الذرة ومكونات‬
‫الحمض النووي والشفرة الوراثية وصوال إلى نظام المجرات والثقوب السوداء‪ ،‬وأن‬
‫هذه التصاميم ال يمكن تفسيرها بالمصادفة المحضة‪ ،‬فيكون االستنتاج أنه البد من‬
‫وجود مصمم ذكي خارق القدرة هو الذي صممها بهذه الدقة‪ .‬وبهذا يمكن رد دليل‬
‫التصميم الذكي إلى دليل النظام التقليدي الذي يرى أن هناك نظا ًما في هذا العالم‪،‬‬
‫ولكل نظام البد من وجود سبب وفاعل هو الذي قام به‪.45‬‬

‫النظام والعلية‪:‬‬
‫إن دليل المصمم الذكي أو التصميم الذكي هو عبارة عن تنويع وتفصيل في ثنايا دليل‬
‫النظام‪ ،‬ويعتمد كل من الدليلين على دليل العلية‪ ،‬الذي يفيد أنه ال بد لكل معلول من علة‪،‬‬

‫انظر‪:‬‬
‫‪Habermas, Gary R.; «My Pilgrimage from Atheism to Theism: An Exclusive In-‬‬
‫‪terview with Former British Atheist Professor Antony Flew», Philosophia Christi,‬‬
‫‪Biola, 6 (2), (9 December 2004), archived from the original on 30 October 2005.‬‬
‫‪http://www.biola.edu/antonyflew/page6.cfm‬‬
‫‪ 44‬صدر في النصف الثاني من عام ‪ 2021‬في فرنسا كتاب القى رواجا واسعا عنوانه‪( :‬ال ّله‪ ،‬العلم‪،‬‬
‫البراهين‪ ،‬وهو من تأليف‪ :‬ميشيل ــ إيف بولوريه‪ ،‬وأوليفيه بوناسييس)‪ .‬وهذا الكتاب عبارة عن سرد‬
‫للمنجزات العلمية في مجالي الفيزياء الكونية والبيولوجيا منذ القرن العشرين لحد االن‪ ،‬وعرضها‬
‫في سياق يبين النظام في الكون ليستنتج ضرورة وجود فاعل ذكي لهذا النظام‪ .‬انظر‪:‬‬
‫صالح‪ ،‬هاشم؛ العلم يبرهن على وجود ال ّله للمرة األولى‪ ،‬مقال في صحيفة الشرق األوسط‪ ،‬لندن‪،‬‬
‫‪ 25‬ــ ‪ 11‬ــ ‪.2021‬‬
‫‪ 45‬نجد هذا االستدالل بوجود النظام على المنظم ووجود الصناعة الذكية على الصانع الذكي في‬
‫ف‬ ‫ف ُخ ِل َقت (‪ )17‬وإِ َلى السم ِ‬
‫اء َك ْي َ‬ ‫ون إِ َلى ْ ِ‬
‫البِ ِل َك ْي َ‬ ‫القران الكريم‪ ،‬سورة الغاشية‪َ [ :‬أ َف َل َين ُظ ُر َ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف ُسط َح ْت] (‪ .)20‬وكذلك‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ف ن ُِص َب ْت (‪َ )19‬وإ َلى ْال ْرض َك ْي َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ال َك ْي َ‬ ‫رفِ َع ْت (‪َ )18‬وإِ َلى ا ْل ِج َب ِ‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫و[وخل َق كُل َش ْيء فقدَّ َر ُه َتقديرا] الفرقان (‪.)2‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫[صن َْع الله الذي أ ْتق َن كُل َش ْيء] النمل (‪.)88‬‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫و[إِ َّنا ك َُّل َش ْي ٍء َخ َل ْقنَا ُه بِ َقدَ ر] القمر (‪ .)49‬وغير ذلك‪ .‬وكذلك نجد إشارة الى دليل السببية في‬
‫ات َواألَ ْر َض‬ ‫ون (‪َ )35‬أم َخ َل ُقوا السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫القران‪ ،‬سور ة الطور‪َ [ :‬أ ْم ُخ ِل ُقوا ِم ْن َغ ْي ِر َش ْي ٍء َأ ْم ُه ُم ا ْل َخالِ ُق َ‬
‫وقنُون] (‪ .)36‬وكذلك تتواتر مقولة في الموروث العربي بهذا الخصوص مؤداها أنه‪ :‬سئل‬ ‫ب ْل الَ ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أعرابي‪ :‬بم عرفت ربك؟ فقال‪ :‬األثر يدل على المسير‪ ،‬وال َب ْع َرة تدل على البعير‪ ،‬فسماء ذات ٍ‬
‫أبراج‬
‫وبحار ذات أمواج أال تدل على السميع البصير؟‬ ‫ٌ‬ ‫وأرض ذات فجاج‬ ‫ٌ‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪100‬‬
‫ولكل حدث البد له من سبب‪ .‬ويعود القول أخيرا إلى أرسطو؛ أن لكل متحرك البد من‬
‫محرك حتى نصل إلى محرك ال يتحرك‪( 46‬وهذا هو أساس الدليل الكوزمولوجي أو‬
‫الكوني الطبيعي)‪ .‬ودليل النظام‪ ،‬بوصفه امتدادا للدليل الكوزمولوجي‪ ،‬هناك عليه من‬
‫الردود ما يوهن فاعليته‪ ،‬وأهم تلك الردود هو ما جاء في النقائض التي أوردها إمانويل‬
‫كانت حين قدم حجة مناقضة لدليل العلية بنفس قوة هذا الدليل وهو في الوقت نفسه‬
‫رد على دليل المحرك الذي ال يتحرك من ناحية ارتباطه بدليل العلية‪ .‬فدليل العلية أو‬
‫السببية هو أساس في أي تدليل على وجود علة أساسية (أو وجود منظم أو مصمم‬
‫ذكي) سواء بوصفها سببا لوجود العالم‪ ،‬أو للحركة في العالم‪ ،‬أو النظام فيه‪ .‬فبمجرد‬
‫بيان أن العلية أمر مشكوك فيه تتزعزع كل الحجج التي تبنى عليها‪.‬‬
‫في النقيضة الثالثة من نقائض العقل المجرد يثبت إمانويل كانت ضرورة القول‬
‫بوجود سبب لكل ما في العالم‪ ،‬ثم‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬يثبت أن اإلصرار على هذا القول يؤدي‬
‫إلى التناقض‪ .47‬وإثبات كانت هنا يعتمد على استخدام حجج العقل المجرد‪ ،‬وغايته‬

‫‪ 46‬المحرك الذي ال يتحرك عند أرسطو هو علة سببية وليست علة فاعلة‪ .‬أي أنه سبب حركة األشياء‬
‫وليس هو العلة الفاعلة لحركتها‪ ،‬إذ أنه ليست هناك بداية زمنية للعالم بدأت مع تحريك المحرك‬
‫األول للموجودات‪ ،‬بل هو محرك بمعنى كونه غاية‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Aristotle, Metaphysics XII, 1072a.‬‬
‫‪And:‬‬
‫‪Humphrey, P.; Metaphysics of Mind: Hylomorphism and Eternality in Aristotle and‬‬
‫‪Hegel, State University of New York at Stony Brook, 2007, p. 71.‬‬
‫‪ 47‬يحتج كانت في النقيضة الثالثة أن القول بوجود السببية في الطبيعة يؤدي الى التناقض‪« ،‬إن سببية‬
‫السبب التي بها يحصل شيء ما‪ ،‬هي أبدا بدورها شيء ما يحصل ويفترض بدوره وفقا لقانون‬
‫الطبيعة حاال متقدمة وسببية هذه الحال؛ وهذه األخيرة حال أقدم وهكذا دواليك‪ .‬إذن‪ ،‬لو كان كل‬
‫شيء يحصل وفقا لقوانين الطبيعة وحدها‪ ،‬فلن يكون هناك قط سوى بدء رديف وليس البتة بدء أول‬
‫ومن ثم لن يكون هناك أي تمامية للسلسلة لجهة األسباب التي يتولد بعضها من بعض‪ ...‬إذن‪ ،‬إن‬
‫القضية‪ ،‬التي تنص على أن كل سببية ليست ممكنة إال وفقا للقوانين الطبيعية تتناقض ذاتيا في كليتها‬
‫الالمحدودة؛ ومن المحال إذن أن نسلم بهذه السببية بوصفها السببية الوحيدة‪ ».‬بقي لنا أن نفترض‬
‫وجود حرية خارج إلزام السببية الطبيعية‪ ،‬ويسميها كانت نوعا آخر من السببية هي السببية المتعالية‬
‫(ألن العقل عنده ال يمكنه أن يفكر خارج سببية ما)‪ .‬لكن هذه الحرية أو السببية المتعالية تؤدي إلى‬
‫تناقض أيضا‪ .‬فإن القول بوجود حرية بالمعنى الترنسندنتالي أو المتعالي‪ ،‬أي وجود «نوع خاص من‬
‫العلية بموجبه يمكن ألحداث العالم أن تحصل‪ ،‬أعني‪ ،‬القدرة بالمطلق على بدء حالة‪ ،‬ومن ثم أيضا‬
‫على بدء سلسلة من نتائج هذه الحالة‪ ،‬فسوف لن يكون هناك فقط سلسلة تبدأ بالمطلق بفعل هذه‬
‫‪101‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫أن االعتماد على العقل المجرد‪ ،‬في بحث قضايا الحدود القصوى‪ ،‬يؤدي إلى‬ ‫إثبات ّ‬
‫الوقوع في التناقض ألنه يؤدي إلى إمكانية إثبات القضية ونقيضها في الوقت نفسه‪.‬‬
‫فهو بذلك وضع حدودا الستخدام العقل‪ ،‬وأن العقل إن تجاوز هذه الحدود وحاول‬
‫خوض موضوعات خارجها فإنه واقع في التناقض ال محالة‪ .‬ومن ضمن القضايا التي‬
‫تقع خارج الحدود‪ ،‬ما ذكرناه هنا عن السببية‪ .‬وكذلك يورد كانت في النقيضة الرابعة‬
‫مسألة وجود كائن ضروري (ال ّله) بوصفها من القضايا التي يمكن للعقل إثباتها وإثبات‬
‫نقيضتها بالقوة نفسها‪ .‬وهكذا نجد أن كانت يدحض دليل العلية بوصفه يمكن إثباته‬
‫وإثبات نقيضه بالقوة نفسها‪ ،‬وهو أمر يصلح أن يكون ردا على دليل المصمم الذكي‬
‫الذي يعتمد على دليل النظام‪ ،‬ودليل النظام يعتمد على دليل العلية بوصف المنظم‬
‫هو علة النظام‪ ،‬مثلما أن المصمم هو علة التصميم‪ ،‬فدحض العلية هو دحض لكل ما‬
‫يترتب عليها‪ .‬فضال عن ذلك‪ ،‬نجد أن الفكرة من وراء نقائض كانت كلها‪ ،‬هي إثبات‬
‫أن العقل المجرد يقع في التناقض إن تجاوز حدوده التي تتيحها له آلية اشتغاله‪ ،‬تلك‬
‫الحدود التي يمكنه العمل ضمنها فقط‪ ،‬ويقع في التناقض إن تجاوزها‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن‬
‫محاولة التدليل على وجود مصمم ذكي تمثل وقوعا في الخطأ نفسه الذي حذر منه‬
‫‪48‬‬
‫كانت وهو استخدام العقل النظري في محاولة إثبات قضايا ال تقع ضمن حدوده‪.‬‬
‫وتسلسل العلل ثم انتهاؤها إلى علة أولى ال علة لها‪ ،‬وكذلك تسلسل‬
‫المتحركات ثم انتهاؤها إلى محرك أول غير متحرك عند أرسطو لنا عليه ردان‪،‬‬
‫(‪ :)1‬إذا سلمنا أنه (لكل معلول توجد علة)‪ ،‬فإن القول بوجود علة ال علة لها‬
‫يناقض ذلك‪ .‬ألن معنى ذلك أننا نقول إن لكل موجود هناك موجد هو سبب‬

‫التلقائية‪ ،‬بل سيجب أيضا أن يبدأ بدءا مطلقا تعين هذه التلقائية لتوليد السلسلة‪ ،‬أي العلية بحيث ال‬
‫يكون هناك شيء يتقدم على الفعل الحاصل ليعينه وفقا لقوانين ثابتة‪ .‬إال أن كل بدء لفعل يفترض‬
‫حاال ليس لها أي ترابط سببي مع سببه بالذات‪ ،‬أعني ال تنتج عنه بأي شكل‪ .‬فالحرية الترنسندنتالية‬
‫تضاد إذن قانون السببية «وهذه الحرية المتعالية بهذا الشكل تكون عبارة عن اقتران ألحوال األسباب‬
‫الفاعلة هو نوع من الفوضى ال يمكن أن تقوم علية وحدة تجربة من أي نوع‪ ،‬أي أن افتراضا كهذا‬
‫يجعل إمكانية المعرفة مستحيلة فهو عبث‪ .‬وبالنتيجة فإن القول بالسببية والقول بالحرية كالهما‬
‫متناقض إذا سرنا معه إلى حدوده القصوى التي تقع خارج شبكة بناء العقل»‪ .‬كنط‪ ،‬عمانويل‪ :‬نقد‬
‫العقل المحض‪ ،‬ص ‪.236‬‬
‫‪ 48‬انظر‪ :‬كنط‪ ،‬عمانويل‪ :‬نقد العقل المحض‪ ،‬ص ‪ 227‬ــ ‪.244‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪102‬‬
‫وجوده‪ ،‬بموجب مبدأ السببية أو العلية‪ ،‬فقولنا أن هناك موجودا ال موجد له وال‬
‫سبب هو قول مناقض لقولنا السابق‪ .‬فكأننا قلنا قولين متناقضين‪ ،‬أحدهما‪ :‬لكل‬
‫موجود سبب‪ .‬والثاني‪ :‬ليس لكل موجود سبب ألن هناك موجودا ال سبب له‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان (لكل متحرك محرك) حتى ننتهي إلى محرك أول غير متحرك‪.‬‬
‫فلماذا توقفت عند محرك أول وقلت إنه ال محرك له وأنه ال يتحرك؟ بمعنى أن‬
‫عبارة «حتى ننتهي» ال إثبات لها وال يدعمها مبدأ العلية‪ .‬فهي ال تكفي إلثبات‬
‫وجود أحد الموجودات أو إثبات انعدام حركته‪ .‬وكونك ال تستوعب إمكانية‬
‫االستمرار إلى ما النهاية له في وجود المحركات والمتحركات‪ ،‬فإن ذلك ال‬
‫يسوغ لك افتراض وجود محرك ال يتحرك لكي تتوقف عنده بعد التعب‪ .‬والشيء‬
‫أن لكل متحرك البد‬ ‫نفسه ينطبق على العلل والمعلوالت‪ .‬و(‪ :)2‬إن افتراض ّ‬
‫من محرك هو افتراض غير مبرر‪ ،‬فقد يكون هناك متحرك ال محرك له‪ .‬حيث ال‬
‫يتوافق هذا االفتراض مع مبدأ القصور الذاتي الذي يؤكد أن الجسم يحافظ على‬
‫حالته الحركية إذا لم يتعرض إلى مؤثر خارجي‪ .‬فالجسم المتحرك يبقى متحركا‬
‫إذا لم يصطدم بشيء أو لم يتعرض إلى احتكاك في محيطه يؤدي إلى تباطؤ حركته‬
‫ومن ثم يوقفه‪ .‬فالمتحرك ال يحتاج بالضرورة إلى ما يحركه‪ ،‬وإنما يحتاج إلى ما‬
‫يوقفه عن الحركة‪ .‬فيمكن أن تكون حركات األجرام أزلية من دون حاجة إلى ما‬
‫يحركها‪ .‬ثم إن الحركة مفهوم مرتبط بالعالقة المكانية بين األجسام‪ .‬فلو تخيلنا‬
‫وجود جسم واحد فقط في الكون‪ ،‬فلن يكون بإمكاننا وصفه بأنه متحرك أو ساكن‪،‬‬
‫ألن الحركة هي إما اقتراب من شيء آخر أو ابتعاد عنه‪ .‬هذا إذا نظرنا إلى األمر من‬
‫وجهة نظر الفيزياء التقليدية‪ ،‬أما إذا دققنا في الموضوع بموجب مجريات الفيزياء‬
‫المعاصرة فنجد أن المادة في نهاية المطاف‪ ،‬وفي أصغر مكوناتها من إلكترونات‬
‫وبروتونات ونيترونات‪ ...‬إلخ‪ ،‬ذات طبيعة مزدوجة موجية جسيمية وأن الحالة‬
‫الجسيمية لألشياء ال يمكن الجزم بأنها حالة سابقة على حالتها الموجية ومعنى‬
‫ذلك أنه يمكن اعتبار الحركة هي األصل في الوجود‪ .‬هكذا يصبح ممكنا إثبات‬
‫أن الوجود يحتوي متحركا ال محرك له‪ ،‬ويصعب إثبات وجود محرك ال يتحرك‪.‬‬
‫فينقلب موقف أرسطو رأسا على عقب‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫الشر في مواجهة المصمم‪:‬‬


‫هناك في الكون ً‬
‫فعل تصميمات فائقة الذكاء‪ ،‬وهذا أمر ال يمكن إنكاره وال ينبغي‪.‬‬
‫أما بالنسبة الستخدام وجود التصميم الذكي دليال على وجود مصمم خارق الذكاء‪ ،‬أو‬
‫أن ذكاءه النهائي‪ ،‬فهو أمر يستتبع سيال من المجادالت التي استمرت قرونا‪ ،‬كما رأينا‪.‬‬
‫إن التصميم‬‫ووجود التصميم الذكي جدير أن يثير االهتمام والتساؤل‪ .‬فيمكن القول ّ‬
‫هو خصيصة تمنحها اللغة‪ ،‬وميزة في ذهن اإلنسان‪ ،‬وأن الفهم اإلنساني هو الذي يسبغ‬
‫األنماط النظامية على كل ما يقع تحت طائلته‪ ،‬وأن اإلنسان يستنتج النظام حتى من‬
‫العشوائية‪ ،‬فيضع لالحتمالية قوانينها النَّاظمة‪ .‬مع ذلك يبقى السؤال‪ :‬من الذي منح‬
‫الذهن هذه الخاصية؟ هنا يمكن التساؤل عن مشروعية هذا السؤال‪ ،‬فهنا يمكن القول‬
‫إن هذه هي طبيعة الفهم‪ ،‬وأنه حتى لو لم تكن للذهن هذه الخاصية وكانت له بدال عنها‬
‫خاصية أخرى مختلفة‪ ،‬يمكن االستمرار باألسئلة‪ :‬من أو ما هو الذي منح الذهن تلك‬
‫الخاصية األخرى؟ في كل األحوال إن الوجود موجود‪ ،‬ألنه أحد احتمالين (وجود‬
‫أو عدم) ال ثالث لهما‪ ،‬فكان وجود‪ .‬فيه عالم البد منه على هيئة ما‪ ،‬وقد حدث أن‬
‫لغتنا‪ ،‬بحكم تركيبها‪ ،‬تجد عالقات وقوانين بين أجزاء هذا العالم فتسميها نظاما‪ .‬وهذه‬
‫الخاصية في أذهاننا هي ميزة عالقتنا بالوجود‪ .‬وهذه العالقة تبدأ بالمشاركة واالستمرار‬
‫باإليجاد والفاعل هنا هو الضمير أو األنا‪.‬‬
‫نحن هنا بإزاء التخوم القصوى وما هو خارج حدود اللغة وإمكانياتها‪ .‬فإن قلنا‬
‫(تجاوزا) إن اللغة آلة‪ ،‬فهي آلة للتعامل مع العالم وليس مع ما ورائه‪ .‬أي أن اللغة ال‬
‫يمكنها حسم المسألة الميتافيزيقية المتعلقة بما هو خارج العالم‪ ،‬ألن اللغة (وبالتالي‬
‫كل اإلمكانيات المعرفية أو ما كان يسمى تقليديا باإلمكانيات العقلية) ليس في‬
‫مستطاعها اإلجابة عن األسئلة الميتافيزيقية‪ ،‬ألنها ال تقع ضمن نطاقها‪ .‬إننا كمن يتوقع‬
‫من تمساح أن يطير أو كمن يتوقع من ملعقة أن تؤدي وظيفة خزانة مالبس‪ .‬ال يمكننا‬
‫أن نحسم مسألة وجود صانع ذكي أو عدم وجوده‪ .‬وال يمكننا السير قيد أنملة باتجاه‬
‫الحديث عنه بأي شكل من األشكال أو إسباغ أية صفة عليه‪ .‬ال نستطيع أن نقول إنه خير‬
‫أو عادل أو حر‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫فكيف الحال واللغة ليست مجرد آلة وحسب‪ ،‬وإنما هي بمثابة الصانع للوجود‪،‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪104‬‬
‫ألن الوجود من دونها يفقد «األنا» وبفقد األنا يستحيل تمثل الوجود أو التفكير فيه‪.‬‬
‫وكما أثبت مؤسس األنطولوجيا األول بارمنيدس منذ ما يقرب من خمسة وعشرين‬
‫قرنا أن ما ال يوجد ال يمكن التفكير فيه‪ ،49‬فالبد من إكمال تلك العبارة بالقول إن ما‬
‫ال يمكن التفكير فيه ال يمكن أن يوجد‪ .50‬وعلى من يعترض على هذا القول تقع مهمة‬
‫إثبات وجود شيء ال يمكن التفكير فيه‪ .‬إن ذلك محال بحكم طبيعة القول‪ ،‬فبمجرد‬
‫أنك شرعت أن تثبت لي وجود شيء ال يمكن التفكير فيه تكون قد بدأت بالتفكير فيه‬
‫وناقضت نفسك عند بداية محاولتك‪.‬‬
‫وبحكم تلك الميزة المركزية للغة بإزاء الوجود‪ ،‬تكون هي المحدد لكل ما يمكن‬
‫الحديث عنه‪ ،‬وما يقع خارج نطاقها يكون خارج نطاق ما يمكن الحديث عنه‪ .‬وهذا‬
‫بطبيعة الحال ال ينفي إمكانية السؤال‪ ،‬لكنه يجعل الجواب مستحيال‪ .‬فيمكن السؤال‬
‫عن المصمم الذكي‪ ،‬لكن ليس من الممكن اإلجابة عن ذلك السؤال‪ .‬وكذلك األمر مع‬
‫جميع األسئلة التي تقع إجاباتها خارج نطاق اللغة‪.‬‬
‫وعودا على وجود الشر في العالم الذي ال يمكن إنكاره‪ ،‬وهو يتعارض مع كمال‬
‫المصمم‪ .‬فإذا دل وجود التصميم على وجود المصمم‪ ،‬فإن وجود الشر يجعل خيرية‬

‫‪ 49‬عبارة بارمنيدس هي‪:‬‬


‫‪DK fragment B 6: «χρὴ τὸ λέγειν τε νοεῖν τ᾿ ἐὸν ἔμμεναι»; cf. DK B 3 «τὸ γὰρ‬‬
‫‪αὐτὸ νοεῖν ἐστίν τε καὶ εἶναι» It is the same thing that can be thought and that‬‬
‫‪can be. For to be aware and to be are the same.‬‬
‫تدرك وأن تكون‪ ،‬أمران متماهيان»‬‫«إن ما يمكن التفكير فيه وما يمكن أن يكون‪ ،‬هما الشيء ذاته‪ ،‬فأن ِ‬
‫‪ 50‬ربما يبدو هذا القول مقاربا لموقف الفيلسوف األيرلندي جورج باركلي في فلسفته الالمادية‪ ،‬إذ يرى‬
‫أن الموجودات المألوفة‪ ،‬مثل الطاوالت والكراسي‪ ،‬ما هي إال أفكار في عقول من يدركونها حس ًيا‪،‬‬
‫ُدرك‪ .‬وهكذا ينكر وجود أي جوهر مادي‪ ،‬بسبب‬ ‫وبالتالي فليس بإمكانها أن توجد من دون أن ت َ‬
‫موقفه المعرفي التجريبي الذي يرى في الحواس مصدرا وحيدا للمعرفة‪ .‬وبذلك فإن ما ال يدركه‬
‫عقل ال يمكنه أن يوجد‪ .‬وأن الضامن لوجود شجرة في غابة لم يدركها أي أنسان هو وجودها في‬
‫ذهن ال ّله‪ .‬والردود على ذلك كثيرة‪ .‬وردي عليه هو أنك لم تتمكن من الجزم بوجود تلك الشجرة‬
‫ألنك لم تدركها حسيا‪ ،‬ثم قررت أنها موجودة لوجودها في ذهن ال ّله‪ ،‬فكيف جزمت بوجود ال ّله‪ ،‬بل‬
‫وزعمت معرفة ما في ذهنه؟ وما هي الحواس التي أوصلتك لتلك المعرفة أو أوصلت تلك المعرفة‬
‫إليك؟ وموقفه هذا مغاير للموقف الذي يرى أن ما ال يمكن التفكير فيه ال يمكن أن يوجد‪ ،‬وهو‬
‫موقف أقرب إلى موقف بارمنيدس ويقوم على األساس األنطولوجي الذي رسخه ذلك الفيلسوف‬
‫اإلغريقي‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫ذلك المصمم أو قدرته أو ذكاءه موضع سؤال‪ .‬أي أن هناك تصميما ذكيا‪ ،‬فإن كان لهذا‬
‫التصميم الذكي من مصمم‪ ،‬فإن وجود الشر يثير السؤال‪ :‬هل ذلك المصمم في غاية‬
‫الذكاء‪ ،‬أو في غاية الخير‪ ،‬أو أنه الوحيد وليس هناك من يفسد في تصميماته؟‬
‫فينبغي على القائلين حديثا بدليل التصميم الذكي االنتباه إلى أمر مهم‪ ،‬هو أننا لسنا‬
‫بحاجة إلى دليل جديد أو ترقيع دليل قديم على وجود إله األديان الميتافيزيقي الواقع‬
‫خارج العالم‪ .‬لكننا بحاجة إلى حل المعضالت والتناقضات التي يسببها القول بوجود‬
‫ذلك اإلله‪ ،‬ابتداء من تفسير الكثرة في العالم في مقابل وحدة اإلله‪ ،‬وليس انتهاء بحل‬
‫معضلة الشر حيث يصعب تبرير وجود الشر مع وجود ذلك اإلله‪.‬‬

‫عودة إلى سقراط‪:‬‬


‫قديما ربط سقراط الفضيلة بالمعرفة‪ 51‬فرأى أن الرذائل وما ينتج عنها من شرور‬
‫إنما هي نتيجة الجهل‪ ،‬وأن المعرفة كفيلة بتجنب الناس للرذائل وتمسكهم بالفضيلة‪.‬‬
‫اإلنسان إن عرف الخير فعله وإن عرف الشر اجتنبه‪ .‬وهذا االفتراض السقراطي الجميل‬
‫ال يحسم أية معرفة هي المقصودة‪ ،‬وال ما هو ذلك النوع السحري من المعرفة لكي‬
‫نتعلمه ونعلمه ألوالدنا ليكونوا أخيارا بشكل تلقائي‪ ،‬على الرغم من حواره المطول‪.‬‬
‫فواقع الحال أن كثيرا من الشرور يقترفها أناس على معرفة جيدة بوسائل وعواقب ما‬
‫يقترفون‪ .‬فكم من المعرفة يمتلكه صناع األسلحة وتجارها ومشعلو الحروب والفتن!‬
‫هل كان الذي صنع القنبلة النووية جاهال بكيفية صناعتها أو بآثارها أم كان جاهال‬
‫بمقدار الشر الذي تحتويه؟ أم أنه رأى وجود فضيلة في صنعها أو في استخدامها أم‬
‫اختلط عنده معنى الشر ومعنى الخير فرأى فيها خيرا؟ (كالقول إن هذا االختراع كان‬
‫خيرا ألنه ساهم في وضع نهاية للحرب العالمية الثانية)‪ .‬هل نعود للتفكر مرة أخرى‪ :‬إذا‬
‫كانت المعرفة هي الخير فيجب علينا قبل ذلك أن نكون أكثر تحديدا في فهمنا لمعنى‬
‫المعرفة ومعنى الخير‪ ،‬فندخل في الجدال المستمر منذ آالف السنين دون الوصول إلى‬
‫حل حاسم فيفرغ رأي سقراط من الفحوى‪.‬‬

‫‪ 51‬أفالطون؛ في الفضيلة‪ ،‬محاورة مينون‪ ،‬ت‪ :‬د‪ .‬عزت قرني‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‪ ،2001 ،‬ص‪ 120‬فما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪106‬‬
‫والحقيقة أن الضمير يعرف الخير والفضيلة دائما ويشير إليهما بوضوح‪ ،‬وتأتي‬
‫الشرور والرذائل نتيجة تجاهل الضمير‪ .‬ويحدث التجاهل والعمل خالف ما يشير إليه‬
‫الضمير بسبب عمل اإلنسان على سد حاجات الجسد من حفاظ على البقاء أو تحقيق‬
‫منافع للفرد والجماعة‪ .‬وحين تدخل هذه المنافع في االعتبار يمكن أن يتم تجاهل‬
‫الضمير والعمل على خالفه‪ .‬فلو كان ما يشير إليه الضمير يترتب عليه‪ ،‬مثال‪ ،‬تقصير أب‬
‫في توفير طعام ألطفاله إذا رفض أخذ رشوة‪ ،‬عندها يمكن أن تجد ذلك األب يتجاهل‬
‫ضميره من دون تردد‪ ،‬فما بالك لو تعلق األمر بسالمة أولئك األطفال؟‬

‫العالم األرضي والكون‪:‬‬


‫الكائنات الحية كلها تبدو هامشية وتافهة وال قيمة لها مقارنة بمكونات الكوكب‬
‫من صخور وبحار وجبال وغازات‪...‬الخ‪ .‬ومقارنة بالكون ومكوناته من أجرام فهي‬
‫أكثر تفاهة وانعدام قيمة‪ ،‬وهي طارئة جدا‪ .‬الحياة هشة وقصيرة فيما يتعلق باألفراد‬
‫وحتى األنواع برمتها مقارنة بعمر األرض وعمر الكون‪ .‬بالمجمل وباختصار شديد‬
‫ال يبدو أن هنالك ما يدعو لوجود الحياة‪ ،‬وأن وجود هذه الحياة هو في منتهى العبث‪.‬‬
‫الكون غير محتاج لهذه الحياة وغير مبال بها‪ ،‬وال يوجد ما يمكن أن تؤديه تجاه الكون‬
‫من نفع أو ضرر‪ ،‬فهي أصغر وأضعف من أن يكون لها هذا الخطر‪ .‬إن أهمية الكائنات‬
‫الحية منحصرة في حدودها‪ ،‬وخطرها يقع على بعضها البعض وال يتعداه‪ .‬األسود‬
‫تطارد الخنازير والغزالن‪ ،‬والذئاب تطارد األغنام‪ ،‬والثعالب تطارد الدجاج واألرانب‪،‬‬
‫والنسور تطارد هذه األخيرة‪ ،‬واألبقار تبحث عن البرسيم‪ ،‬واإلنسان يطارد الجميع‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬كل ذلك في عملية مأساوية وفواجع متواصلة يكون الموت نهايتها المحتومة‪.‬‬
‫وفي هذا السياق نستذكر قول الشيخ الرئيس ابن سينا أن عناية العلل العالية ليست‬
‫ألجلنا‪.‬‬
‫هذه هي صورة ما يجري إذا نظرنا إليها من زاوية شخص نسي األنا أو لم يعرف‬
‫كيف ينظر إلى المشهد من خالل األنا أو الضمير‪.‬‬
‫لكن للمشهد بعدا آخر إذا نظرنا إليه من الزاوية األخرى‪ .‬فحين نعي أن األنا هي‬
‫المركز لهذا الوجود ككل سندرك أن الوجود موجود بحكم وجود األنا وينتفي بانتفائها‪،‬‬
‫‪107‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫فتكتسب الموجودات قيمتها وغايتها من األنا‪ .‬فليس هناك غاية وال ضرورة لوجود‬
‫الحياة أو الكائنات الحية على األرض أو في الكون عموما‪ ،‬لكن الضرورة في وجود‬
‫الكون تكون بسبب األنا‪ ،‬التي هي الكيان الوحيد الذي «أنا» على يقين من وجوده من‬
‫ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى فإن هذا الكيان هو النافذة الوحيدة لإلطالل على كل ما سواه‪.‬‬

‫الضمير عند جوزيف بتلر‪:‬‬


‫هناك من تحدث عن الضمير من بين الفالسفة‪ ،‬وأهمهم جوزيف بتلر (‪ 1692‬ــ‬
‫‪1752‬م)‪ ،‬واللورد شافتسبري (‪ 1621‬ــ ‪1683‬م) قبله‪ .‬ونرى ضرورة ذكر ذلك من أجل‬
‫بيان اختالف الموقف الذي نعرضه عن مواقفهم‪ .‬فالموقف الذي نعرضه له سعة تجمع‬
‫األنطولوجيا والمعرفة والقيم باالجتماع والسياسة والنفس وغيرها من جوانب الفكر‬
‫والفعل‪ ،‬في حين أن مواقف هؤالء الفالسفة كانت مواقف أخالقية اجتماعية وحسب‪.‬‬
‫وهذا اختالف كبير من حيث المبدأ‪ .‬فضال عن ذلك فإن تعريفنا للضمير مختلف عن‬
‫التعريفات التي قدموها‪ ،‬وبهذا كان الفهم في الحالتين مختلف جملة وتفصيال‪.‬‬
‫يقول بتلر‪ ،‬ويتفق في ذلك مع شافتسبري‪ ،‬أن الضمير مبدأ تأملي يوجد في العقل‬
‫البشري‪ ،52‬له سلطة على اإلنسان وطاعته واجبة‪ .‬ويرى أننا عندما نتصرف وف ًقا‬
‫للضمير‪ ،‬فإننا نتصرف وف ًقا لقانون من طبيعتنا‪ .‬ويقصد بتلر أن يكون الدافع هو إحساسنا‬
‫الداخلي بالصواب والخطأ األخالقيين وليس اعتبارات خارجية حول صواب أو خطأ‬
‫التصرف‪ .‬وبالنسبة إلى بتلر فإن القانون األخالقي المتمثل بالواجب أو االلتزام أو‬
‫الفضيلة ثابت وال عالقة له بالمكافأة أو العقوبة سواء أكانت بموجب قوانين وضعية‬
‫مدنية أو تشريعات إلهية‪ .‬وبذلك اختلف موقف بتلر عن فكرة القانون الطبيعي ورؤية‬
‫توماس هوبز (‪ 1588‬ــ ‪1679‬م) عن الدوافع التي ترى أنني مدفوع أخالقيا وأعطيت‬
‫سب ًبا للتصرف بموجب قانون يكافئ ويعاقب‪ ،‬بعد أن وضعه مشرع إلهي أو مدني‪.‬‬
‫وقال إنه مهما كان مقدار المكافآت أو العقوبات على الصواب األخالقي أو الخطأ‬

‫‪52 Shaftesbury, Lord; Characteristicks, in Den Uyl, D., (ed.), Anthony, Third Earl of‬‬
‫‪Shaftesbury: Characteristicks of Men, Manners, Opinions, Times, Indianapolis,‬‬
‫‪Liberty Fund, 2001, Vol. II.1 [119].‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪108‬‬
‫األخالقي للفعل‪ ،‬فال توجد عالقة بين العقوبة وصواب الفعل أو خطئه‪ ،‬وإنما هو‬
‫مجرد نزول عند اإلرادة (التعسفية) للمشرع‪ .‬وهذا االرتباط بين الفعل وبين العقوبة أو‬
‫كاف للدوافع األخالقية‪ .‬عندما أتصرف فقط بسبب عقوبة خارجية‪ ،‬فأنا ال‬ ‫المكافأة غير ٍ‬
‫أتصرف وف ًقا لقانون من ذاتي‪ .53‬فعقوبات المشرع أو مكافآته منبعها القانون األخالقي‬
‫النابع من الضمير وليس العكس وإال كانت تعسفية إذ تكون بال سبب أو مسوغ‪ .‬وبتلر‬
‫بذلك يتجاهل كون المصلحة العامة أو مصلحة المجموع تكون هي المرجع والمسوغ‬
‫للتشريعات المدنية واإللهية‪.‬‬
‫وهنا نجد أن بتلر على الرغم من تسليطه الضوء على أهمية الضمير إال أنه لم يصل‬
‫إلى البعد األنطولوجي للضمير وهو كونه «األنا» المتعالية على الجسد وعلى العقل‬
‫بوصف العقل هو مقدرة الدماغ على التفكير‪ ،‬فقد وصف الضمير بأنه «مبدأ في العقل‬
‫البشري»‪ .‬فإن كان ما يعنيه بالعقل البشري هو الدماغ‪ ،‬فليس من دليل تجريبي أو‬
‫تشريحي يثبت وجود مبدأ الضمير في تالفيف الدماغ وخالياه أو أي من أجزاء الجسد‪،‬‬
‫أما إن كان ما يعنيه بالعقل البشري كيانا ميتافيزيقيا‪ ،‬فإن بتلر يحتاج إلى بيان حدوده‬
‫وإمكانياته ومكان وجوده وطبيعة ارتباطه بالجسد وبالعالم‪ ،‬فيعيده ذلك إلى ساحة‬
‫المساجالت الشعواء حول الروح والجسد والعقل ومجموعة المفاهيم الميتافيزيقية‬
‫والغيبية التي ال سبيل إلى البت بها‪.‬‬
‫على خالف بتلر‪ ،‬نرى أن الضمير هو الحاكم والمشرف على التفكير‪ ،‬وبوصف‬
‫الضمير حرية مطلقة يحتكم إليها اختيار اإلنسان ألفكاره وأفعاله‪ .‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن‬
‫الناحية األخرى فإن رؤية بتلر ال تتمكن من تفسير الخروقات األخالقية‪ .‬فطالما كان‬
‫الضمير عند بتلر هو واضع القانون األخالقي الوحيد وهو المشرع من دون منازع ومن‬
‫دون حاجة إلى ثواب أو عقاب‪ ،‬فما الذي يدفع اإلنسان إلى الخروقات األخالقية؟‬
‫هنا يغفل بتلر العامل األخر المهم المؤثر في أفعال البشر وهو اهتمامهم األساسي‬
‫بحفظ بقائهم وحماية مصالحهم‪ .‬فيكون حفظ البقاء وحماية المصالح هو الدافع وراء‬
‫التشريعات المدنية والدينية‪ .‬إن الفرق الحاسم هنا هو أننا وصلنا إلى الضمير من نقطة‬

‫‪53 Butler, J.; The Analogy of Religion, Natural and Revealed, to the Constitution and‬‬
‫‪Course of Nature, London: J. and P. Knapton, 2nd corrected edition, 1736, 1-5.‬‬
‫‪109‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫ال بداية قبلها‪ ،‬من الوجود األولي واليقين غير القابل للشك‪ .‬من الثابت الوحيد المستند‬
‫إلى الكوجيتو‪ .‬وأثبتنا أن الضمير هو واجب الوجود‪ ،‬بمعنى أننا إذا افترضنا عدم وجوده‬
‫ينشأ عن ذلك محال‪.‬‬

‫الخروج من كهف أفالطون‪:‬‬


‫ال وجود لحقائق مستقلة عن النظريات المعبرة عنها‪ .‬النظرية‪ ،‬التي هي أشبه ما تكون‬
‫بأكذوبة متناسقة نافعة من الناحية العملية‪ ،‬هي الحقيقة‪ ،‬بمعنى أنها مؤقتة يمكن دائما‬
‫تطويرها أو استبدالها سعيا نحو تناسق أكثر ومقدرة أفضل على التفسير‪ ،‬بغية الوصول‬
‫إلى كمال هو غاية منشودة نسعى نحوها باستمرار مع يقين بعدم إمكانية بلوغها‪ ،‬مثل‬
‫الذي يبدأ بالعد من العدد واحد ويستمر باتجاه العدد ما ال نهاية‪ .‬عملية العد تستمر‬
‫والالنهاية هي الغاية‪ ،‬لكنها غاية ال يمكن بلوغها ألنها غير متحققة‪ .‬فالعدد بازدياد‬
‫والالنهاية ما تزال هناك‪ ،‬مستحيل بلوغها‪ .‬كذلك النظريات التي يضعها اإلنسان لفهم‬
‫واقعه هي دوما بحاجة إلى تعديل وتطوير ليصبح تفسيرها للوقائع أكثر وضوحا وسهولة‬
‫وأفضل وأكثر خدمة لتعاملنا مع هذه الوقائع‪ ،‬لكنها ال يمكن أن تعبر عن الحقيقة المطلقة‬
‫أو الحقيقة كما هي مستقلة عنا وعن فهمنا للعالم‪ ،‬إذ ال وجود لحقيقة بهذا الوصف‪،‬‬
‫وإنما النظرية المفسرة في حينها هي الحقيقة‪ .‬حين كان تفسير بطليموس‪ ،‬الذي يرى أن‬
‫األرض هي مركز الكون وأن جميع األجرام تدور حولها‪ ،‬سائدا كان معبرا عن الحقيقة‬
‫في حينه ألنه كان تفسيرا مقنعا وشغاال‪ .‬ثم جاءت نظرية كوبرنيكوس التي رأت أن‬
‫الشمس ثابتة وأن األرض هي التي تدور حولها‪ ،‬فأصبحت نظرية بطليموس خاطئة غير‬
‫معبرة عن الحقيقة ونظرية كوبرنيكوس هي الحقيقة‪ .‬بعد ذلك جاءت تفسيرات أخرى‬
‫رأت أن األرض والشمس كالهما متحرك بموجب النظرية النسبية وأنه ال وجود لثابت‬
‫في الكون وال مركز له‪ ،‬فصارت هذه النظرية هي الحقيقة‪ .‬وسوف يستمر هذا األمر الى‬
‫أن تأتي نظرية أخرى بتفسير أفضل لتستبدل النظرية السائدة حاليا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫المهم أن ما يراه اإلنسان أو ما يقدمه من تفسيرات للوقائع إنما تكمن قيمته في‬
‫تناسق مقوالته وقدرته على التفسير وإمكانية الفهم والتعامل مع تلك الوقائع‪ .‬وهذا‬
‫األمر ينطبق على مجمل العلوم الدقيقة واالجتماعية والسياسة‪ .‬وتقع األديان في هذا‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪110‬‬
‫السياق أيضا‪ ،‬إذ أنها تمثل تفسيرات للوقائع وللتجربة الدينية‪ ،‬وتكون أكثر فاعلية كلما‬
‫كانت قادرة على جذب األتباع المتمسكين بها والمستعدين للدفاع عنها والتضحية‬
‫من أجلها‪ .‬هنا ال يكون معيار صدق مقوالت الدين هو قدرتها على التفسير المتناسق‬
‫لوجود العالم واإلنسان وغايته القصوى بقدر قدرتها على الجذب والتحشيد‪ ،‬وذلك‬
‫نتيجة لتفاعلها مع الجوانب النفسية والعاطفية لألفراد والجماعات من جهة‪ ،‬ولوجود‬
‫بعد أيديولوجي تتضمنه‪ ،‬وهو أنها تكون منظومة لمجموعة بشرية وتقترح آليات للدفاع‬
‫عن مصالح هذه المجموعة من جهة أخرى‪ .‬فيمكن لألديان أن تؤدي إلى إنجازات‬
‫كبيرة على صعيد األفراد والمجموعات‪ ،‬فهي توفر مالذات نفسية لألفراد كما توفر‬
‫مسارات وأهدافا للشعوب‪ ،‬ويمكن أن تساعد في بناء حضارة وقوة عسكرية وإنشاء‬
‫علوم وفنون وعمارة وآداب‪ .‬وكذلك يمكن أن تؤدي األيديولوجيا الدينية إلى انتهاكات‬
‫بحق األفراد واألمم‪.‬‬
‫العلم‪ ،‬إذن‪ ،‬هو ما ينظم الوقائع في فرضيات ونظريات وقوانين جاعال منها صياغات‬
‫مقبولة قادرة على التفسير لمدة من الزمن حتى تأتي محاولة علمية جديدة لسد الثغرات‬
‫فيها وتقدم نظرية أخرى من خالل صياغة شبكة من األقوال أكثر اتساقا وأشمل أو‬
‫أدق تفسيرا‪ .‬أما األيديولوجيا فهي ما ينظم منظومات الصياغات من الحقول المعرفية‬
‫المختلفة ويص ّفها في أنساق من أجل خدمة مصالح الجماعات‪ ،‬فمصلحة الجماعة‬
‫هي ما يتحكم بطريقة فهم الواقع‪.‬‬
‫أما على نطاق األفراد وطريقة فهمهم لوقائع الحياة التي يعيشونها فإن هذا الفهم‬
‫للوقائع ومن ثم طريقة التعامل معها إنما تتحكم به طبيعة العوامل النفسية لدى كل‬
‫فرد‪ ،‬فالشخص يرى الوقائع من خالل شبكة الدوافع واالنفعاالت التي تعتمل في‬
‫داخله‪ .‬فإن كان عاطفيا فإنه يرى الوقائع من منظار عواطفه‪ ،‬وإن كان ذا شخصية‬
‫مقامرة فإنه سينظر إلى الوقائع أو يتعامل معها بأسلوب المقامر‪ .‬إن كان قد عانى‬
‫من اليتم والبؤس في طفولته‪ ،‬مثال‪ ،‬فال شك أنه سيتعامل بطريقة مختلفة عمن عاش‬
‫طفولة المدلل‪.‬‬
‫نحن أمام كهف افالطوني من نوع آخر‪ ،‬فبينما يرى أفالطون أن هناك طبقتين من‬
‫الحجب الخادعة والمموهة التي البد من إزالتها لكي يتمكن االنسان من رؤية الحقائق‬
‫‪111‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫التي ستبهر بصره لشدة صعوبتها وعدم اعتياد عينه على رؤية ضيائها الساطع‪ ،54‬نجد‬
‫أن االنسان يوجد أمامه كذلك عامالن يساهمان في رسم المشهد الذي يراه ليظن‬
‫أنه الحقيقة؛ العامل األول‪ :‬هو حالته النفسية والجسدية وظروف نشأته‪ ،‬والعامل‬
‫الثاني‪ :‬هو طبيعة األيديولوجيا السائدة في المرحلة التاريخية التي يعيشها‪ ،‬حيث إن‬
‫هذه األيديولوجيا هي الصانع األهم للرؤى الكبرى والنظريات العلمية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية وحتى الدينية السائدة‪.55‬‬
‫وهنا االختالف المهم عن رؤية أفالطون؛ إن اإلنسان غير قادر على التغلب على أي‬
‫من هذين العاملين الذين يصوغان رؤيته للوقائع ويؤديان إلى تكوين فكرته عن ذاته وعما‬
‫حوله‪ ،‬وإن تمكن من بعض اإلزاحة الجزئية لهذين العاملين بغية أن يرى الحقيقة كما هي‪،‬‬
‫فإنه لن يرى شيئا‪ ،‬وذلك لعدم وجود حقيقة كما هي أو بحد ذاتها أو (المثال) كما يسميه‬
‫أفالطون‪ ،‬وإنما الحقيقة هي فكرتنا المتكونة بعد المرور بمخروط عام َلي األيديولوجيا‬
‫(الخارجية) وعوامل النفس والمحيط التي تؤثر في الذات العارفة (الداخلية)‪.‬‬

‫‪ 54‬يورد أفالطون في كتاب الجمهورية قصة رمزية لشرح موقفه في هذا المجال خالصتها أن مجموعة‬
‫أشخاص مكبلين في كهف وخلفهم موقد نار يسقط أشعته على جدار أمامهم‪ ،‬وتمر من وراء‬
‫ظهورهم بينهم وبين النار ُدمى على هيئات مختلفة‪ ،‬يرون ظاللها على الجدار أمامهم فيظنون أنها‬
‫الحقائق‪ .‬الدمى في كهف أفالطون تقابل أشياء العالم مثلما أن أشياء العالم هي بمثابة دمى إذ إنها‬
‫ظالل للمثل التي هي الحقائق النهائية في الوجود‪ .‬ومع ذلك فإن الناس ال يرون الدمى وإنما يرون‬
‫ظاللها‪ .‬في الكهف يرون الظالل فقط على الجدار‪ ،‬وفي العالم يرون األشياء من خالل منظورهم‬
‫وأفكارهم المسبقة‪ .‬وهذه هي الفجوة الثانية بينهم وبين الحقيقة‪ .‬ثم تضاف إلى ذلك الصعوبة الثالثة‬
‫متمثلة في ثقل الحقيقة على األفهام والنفوس‪ .‬فرؤية الشمس مؤذية لساكني الكهف الذين لم يروها‬
‫سابقا‪ ،‬ومعرفة الحقيقة مؤذية وشاقة على الذين يدركونها في واقع الحياة‪ .‬حول قصة الكهف عند‬
‫أفالطون وموقفه المعرفي‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫أفالطون‪ :‬المحاورات الكاملة‪ ،‬ت‪ :‬شوقي داود تمراز‪ ،‬األهلية للنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪،1994 ،‬‬
‫المجلد األول‪ :‬الجمهورية‪ ،‬الكتاب السابع‪ ،‬ص‪ 319‬فما بعدها‪.‬‬
‫‪ 55‬الدين أيضا يزداد أو يقل أثره على مستويين‪ :‬مستوى التشدد في طروحاته‪ ،‬فمقدار التشدد في االلتزام‬
‫بطروحاته من قبل أتباعه يتفاوت بين األفراد بحسب المحيط والتنشئة والعوامل النفسية‪ ،‬ومستوى‬
‫اكتراث الجمهور به‪ ،‬فهذا االكتراث ال يكون على وتيرة واحدة باختالف األزمنة‪ ،‬فقد تأتي موجة‬
‫من االكتراث الشعبي الكبير بالدين وأوامره في بيئة معينة لفترة من الزمن‪ ،‬ثم تنحسر هذه الموجة‬
‫في البيئة نفسها بعد فترة لتحل محلها موجة من ميول أخرى من االنتماء ومنظومة أخرى من األفكار‬
‫كالموجة القومية أو الوطنية وما إلى ذلك‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪112‬‬
‫وبهذا فان العلوم ونظرياتها ال تمثل حقائق مستقلة بذاتها‪ ،‬ال عند المجتمعات وال‬
‫عند األفراد‪ .‬الحقيقة ترتبط بالحاجات الفردية‪ ،‬وحاجات المجتمع‪ ،‬ومصالح األفراد‬
‫والجماعات‪.‬‬
‫وهذه عبرة حقيقية يلخصها قول العرب قديما (لكل مقام مقال)‪ ،‬مما يعني أنه‬
‫ال وجود لحقيقة واحدة يمكن أن تقال دائما‪ ،‬وأن ذلك قد يؤدي إلى المهالك‪ ،‬وأن‬
‫األقوال يجب أن تأتي بحسب المواقف وبحسب النتائج المرجوة منها‪ .‬وهنا تحضر‬
‫المفارقة التي واجهت القائلين بأن األخالق مطلقة وال مجال للنسبية فيها‪ .‬فمثال لو‬
‫اختبأ شخص في مكان تعرفه وجاء آخر يريد قتله‪ ،‬وسألك عن مكانه‪ .‬هل تبقى صادقا‬
‫وتدل القاتل على مكان المختبئ‪ ،‬أم تكذب وتنقذ حياة إنسان؟ إن قلت إنك يجب أن‬
‫تلتزم بالصدق (كما يرى إمانويل كانت)‪ 56‬فذلك اختيار فيه هالك إنسان وهو من أعظم‬
‫الشرور التي يمكن حدوثها‪ ،‬وإن قلت أنك ستكذب وأن الكذب في هذه الحالة فعل‬
‫أخالقي خير‪ ،‬عندها تكون قد بررت الكذب وطمس الحقائق من دون وضع حدود‬
‫واضحة لمعيار أخالقي يوازن بين الصدق وفعل الخير‪ ،‬وأثبت تعارضا بين الحق وبين‬
‫الخير‪ ،‬وصرت على مفترق مأساوي يرى في الشر ناتجا من نواتج الحقيقة والصدق‪،‬‬
‫فيضطرك هذا الموقف الى الدعوة الى طمس الحقيقة أحيانا‪ .‬وهنا ستدخل في مأزق‬
‫جديد هو عدم معرفة متى وما هي الحدود التي يجب عندها طمس الحقائق‪ .‬هل يتوقف‬
‫األمر عند إنقاذ حياة اإلنسان‪ ،‬أم يتعدى ذلك إلى مجاالت أخرى من قبيل الدفاع عن‬
‫الشرف أو عن المصلحة العامة أو الخاصة أو من قبيل إباحة الكذب أو االفتراء على‬
‫‪57‬‬
‫الخصوم والمناوئين في المجاالت المتعلقة بالدفاع عن العقائد؟‬

‫‪ Hill,‬ــ ‪56 Rachels, James; The Elements of Moral Philosophy (Third ed.), McGraw‬‬
‫‪1999, p128.‬‬
‫‪ 57‬يشرع بعض فقهاء الدين (من قدماء ومحدثين) بإباحة االفتراء على خصوم العقيدة‪ .‬يقول السبكي‪« :‬وقد‬
‫بلغ الحال بالخطابية‪ ...‬وهم المجسمة في زماننا‪ ،‬فصاروا يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة‪ ،‬ال‬
‫أن كبيرهم استفتى في شافعي أيشهد عليه‬ ‫سيما القائم عليهم بكل ما يسوؤه في نفسه وماله‪ ..‬وبلغني ّ‬
‫بالكذب فقال ألست تعتقد أن دمه حالل؟ قال‪ :‬نعم‪ :‬فما دون ذلك دون دمه فاشهد وادفع فساده عن‬
‫المسلمين»‪( .‬طبقات الشافعية‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ )193‬نقال عن‪( :‬السيد محمد الكثيري‪ :‬السلفية بين أهل‬
‫السنة واإلمامية‪ ،‬مؤسسة الميالني إلحياء الفكر الشيعي‪ Milani .‬ــ ‪ 2018, al‬ــ ‪Copyright © 2011‬‬
‫‪ ،Foundation‬ص‪ .)482‬ويقول الخوئي‪« :‬قد تقتضي المصلحة الملزمة جواز بهتهم واإلزراء عليهم‪،‬‬
‫‪113‬‬ ‫ يكذلا ممصملاو ريمضلا نيب ملاعلا يف رشلا‬

‫ال حقيقة إذن وراء رؤانا لوقائع العالم بحد ذاتها وال معيار للمفاضلة سوى أمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬هو تناسق هذه الرؤى في اصطفافها مع بعضها وفاعليتها في التفسير‬
‫وتسيير األمور بانسيابية تحفظ البقاء والمصالح للفرد وللجماعة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬هو الضمير؛ ذلك الثابت الوحيد والحقيقة المطلقة المستقلة عن كل‬
‫ما سواها‪ .‬وبسبب ما يحدث من تعارض بين هذين األمرين تأتي جميع االنتهاكات‬
‫األخالقية وتتولد الشرور‪.‬‬
‫كل ما هنالك‪ ،‬إذن‪ ،‬نسبي ومتغير وقابل للتعديل حسب الظرف‪ ،‬إال ما أقوله «أنا»‪.‬‬
‫والمقصود بـ«أنا» هو الضمير ببعده األنطولوجي من ناحية كونه اإلطاللة الوحيدة على‬
‫الوجود والفاعلة المشاركة في صنعه‪.‬‬
‫كل ما يسمى بحقائق علمية ووقائع تاريخية وقوانين اقتصادية وإجراءات صحية‬
‫ومقوالت وحكم أخالقية ونصوص مقدسة ومذاهب دينية ومدارس فلسفية باحثة عن‬
‫الحقيقة وزاعمة الوصول إليها‪ ،‬كلها قابلة لالختالف والزيادة والنقصان والتغيير‪ ،‬فهي‬
‫بمعنى ما صياغات متناسقة يقصد منها المنافع والحفاظ على البقاء‪.‬‬
‫ومعنى الصياغات هنا أنها اتفاقات أو مواضعات ترسم صورة للوقائع بهدف‬
‫الفهم والتعامل‪ .‬وليس مهما أن تكون هذه النظريات مشابهة للوقائع أو الحقائق بقدر‬
‫أهمية أن تكون متناسقة وعملية من ناحية قدرتها على تيسير الفهم والتعامل‪ .‬على‬
‫سبيل المثال؛ التيار الكهربائي‪ ،‬يفسر على أنه سيل من اإللكترونات يجري في سلك‬
‫معدني فيؤدي إلى توهج مصباح مثال‪ .‬فعليا‪ :‬هناك ظاهرة توهج المصباح لدى توصيل‬
‫سلك به‪ ،‬والسلك متصل بمصدر‪ .‬أما اإللكترون نفسه فهو مجرد افتراض ال سبيل إلى‬
‫التأكد منه؛ إنه فرضية‪ ،‬إنه كذبة متناسقة نافعة من أجل التفسير والتعامل العملي‪ .‬وهذا‬
‫ينسحب على جميع النظريات العلمية‪.‬‬
‫وتلك الصياغات أجدى من الحقائق وأكثر فاعلية وأقدر على العمل وتسيير‬
‫األمور‪ ،‬والسبب وراء ذلك بسيط‪ ،‬وهو عدم وجود حقائق في الواقع العملي‪ .‬وتتفاوت‬
‫الصياغات في قيمتها بحسب تناسقها وقدرتها على العمل والفاعلية‪.‬‬

‫وذكرهم بما ليس فيهم افتضاحا لهم‪ ،‬والمصلحة في ذلك هي استبانة شؤونهم لضعفاء المؤمنين‪ ،‬حتى‬
‫ال يغتروا بآرائهم الخبيثة وأغراضهم المرجفة»‪( .‬مصباح الفقاهة ــ الخوئي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ط‪ ،1‬ص ‪.)701‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪114‬‬
‫وحتى الرياضيات هي مجموعة من الصياغات‪ ،‬بمعنى أنها اتفاقات‪ .‬هي اتفاقات على‬
‫معاني أساسية ندعوها المسلمات‪ ،‬فمجمل بنية الرياضيات ونتائجها تتغير جذريا بمجرد‬
‫تغيير بعض تلك المسلمات أو جميعها‪ .‬هي اتفاق على معنى الواحد‪ ،‬وأن األعداد هي‬
‫تكرارات للواحد‪ .‬وكل العمليات الحسابية هي إجراءات متفق عليها بموجب قواعد‬
‫موضوعة ومتفق عليها أيضا‪ .‬وتدخل األعداد (الواحد وتكراراته) تحت هذه القواعد‬
‫في عمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب والجبر‪...‬إلخ في عملية هي أشبه باللعبة‪.‬‬
‫وهذه اللعبة ذات القواعد المتناسقة هي الحاكم األقوى فيما يسمى بالعلوم الدقيقة‪ .‬واألمر‬
‫نفسه ينطبق على األشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر التي هي افتراضات‬
‫نرسمها على الورق ونقارب بينها وبين األشياء لندخلها في عمليات حسابية‪ .‬ومع ذلك‬
‫فالرياضيات هي نظامنا األكثر ضبطا فيما يتعلق في تعاملنا مع الواقع‪.‬‬
‫وأهم ما يطلبه واقع الحياة البشرية هو الحفاظ على البقاء والحفاظ على المنافع‪،‬‬
‫وهذه توفر تبريرات لالحتيال وحتى للكذب‪.‬‬
‫أما مجال الضمير فهو مجال الحقيقة المطلقة التي تبقى ثابتة مهما تغيرت متطلبات‬
‫واقع الحياة العملية‪ .‬وتذكره المستمر هو الوسيلة الوحيدة للخروج كليا من كهف‬
‫أفالطون‪ .‬الضمير أولى أن يتبع ألنه هو حقيقتنا األولى واألهم واألسمى‪ ،‬وهو‪،‬‬
‫بالنسبة لهذا الوجود‪ ،‬الجوهر الذي يجب عدم الوقوع في فخ نسيانه‪ .‬وإن مقدار‬
‫حقيقة وجود الفرد يتعلق بتذكر الضمير واإلصرار على التذكر ومقاومة النسيان الذي‬
‫تجر نحوه وقائع الحياة‪ ،‬فضال عن كون هذا التذكر المستمر يوفر الرفعة واحترام‬
‫الذات واالنسجام والتوافق الداخلي‪ .‬وبسبب نسيانه الذي يحدث باستمرار‪ ،‬وبسبب‬
‫التعارض بينه وبين متطلبات الواقع الحياتي والعملي تنشأ الشرور البشرية‪ .‬فالضمير‬
‫هو الكيان الوحيد الذي يمكن أن يواجه الشر في العالم‪ ،‬فبتذكره والتسليم له يمكن‬
‫تحقيق الوجود البشري الممتلئ المتعالي على الخير والشر‪ .‬وذلك يستدعي قوة‬
‫عظيمة يمكن أن يوفرها تذكره المستمر واإلصرار عليه‪ .‬ومن النواتج المترتبة على‬
‫ذلك تهميش متطلبات الحياة كلها من بقاء ومصالح‪ ،‬واالنتصار للضمير متى حدث‬
‫تعارض بينها وبينه‪ .‬فالبقاء هو بقاء الضمير أو األنا‪ ،‬فذلك هو الوجود الواحد الذي ال‬
‫يفنى وال يستحدث‪.‬‬
‫دراسات‬

‫ميتافيزيقا الشر‬
‫عند سبينوزا وشوبنهاور‬

‫‪1‬‬
‫د‪ .‬زيد عباس الكبيسي‬ ‫__________________________________________‬

‫الكثير من التعريفات قد تصل دالالتها إلى أبعد‬


‫َ‬ ‫يحمل الشر بحسب طبيعته‬
‫مما يمكن أن يتصوره اإلنسان‪ .‬لكن مهما تشعبت دالالته ال يخرج في تصنيفه عن‬
‫نوعين رئيسيين اثنين‪ :‬شر طبيعي (يشمل الكوارث الطبيعية كالزالزل والبراكين‬
‫والفيضانات واألوبئة وما سواها)‪ ،‬وشر أخالقي (يشمل األفعال البشرية كالقتل‬
‫والسرقة وغيرها)‪ .‬وينقسم كل نوع بدوره إلى شر فيزيقي‪ ،‬وشر ميتافيزيقي‪ .‬أما‬
‫المشكلة التي شكلت تحديا فلسفيا والتي تسمى بـ (مشكلة الشر) ال تكمن في‬
‫السؤال عن ماهية الشر ووجوده في العالم‪ ،‬وال في كيفية خلق التوازن بين الخير‬
‫والشر‪ ،‬بل هي بحسب ما نراها مشكلة أنطولوجية نشأت نتيجة الختالط مجموعة‬
‫من األفكار والمفاهيم ذات الطابع األنطولوجي مع تصورات وأفكار ذات طابع‬
‫الهوتي‪ ،‬ومفاهيم أخرى ذات طابع أخالقي‪ .‬فنتج عن ذلك مشكلة من التناقض‬
‫المفاهيمي الواضح أو التناقض في عدد من الصفات المرتبطة باإلله‪ .‬نشأت مشكلة‬
‫الشر بوصفها محاولة إلعطاء تفسير منطقي لكيفية وجود كائن كامل الصفات في‬
‫نفس الوقت الذي يوجد فيه شر أخالقي‪ .‬المشكلة ببساطة هي كيف يمكن أن‬
‫يكون هناك إله كلي الخير وكلي العلم وكلي القدرة في نفس الوقت الذي يوجد فيه‬
‫الشر؟ كيف يمكن أن يكون هناك إله خير رحيم رؤوف مع وجود الشر في العالم؟‬

‫‪ 1‬أستاذ الفلسفة بكلية اآلداب في جامعة الكوفة‪.‬‬


‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪116‬‬
‫مشكلة الشر تتعلق بما قيل عنها أنها تَنا ُقض في فكرة اإلله‪ .‬إنها مشكلة احتاجت‬
‫عبر تاريخها إلى الكثير من البحث والتأمل والنقاش الفلسفي‪ ،‬ألنها في األساس‬
‫مشكلة أنطولوجية متعلقة بمفهوم اإلله انتقلت من المفاهيم اليونانية للمثال األعلى‬
‫إلى مفهوم اإلله في الديانات السماوية‪.‬‬
‫كما ساهمت المشكلة األنطولوجية للشر في تقديمها بشكل أو آخر في الغطاء‬
‫المنطقي لمعظم االتجاهات اإللحادية في العالم‪ ،‬فقد جاءت الصياغة المنطقية‬
‫لمشكلة الشر منذ أول ظهور لها على يد ابيقور مستهدفة ثالث من صفات ال ّله هي‬
‫(العلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والكمال) بوصفها مقدمات‪ ،‬بالقياس إلى وجود الشر‪ ،‬لنتيجة‬
‫مفادها إنكار وجود ال ّله‪ .‬من حيث أن وجود إله كامل عالم قادر يتعارض منطقيا مع‬
‫وجود الشر‪ .‬وقد جاءت الصيغة المنطقية األولية لمشكلة الشر على النحو التالي‪:‬‬
‫(إذا كان يوجد إل ٌه كامل القدرة والمعرفة والخير في العالم‪ ،‬إذن لن يوجد الشر‪.‬‬
‫وإذا وجد شر في العالم‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬فإنَّه ال يوجد إله كامل القدرة والمعرفة والخير في اآلن‬
‫ذاته)‪ .‬أجريت تعديالت كثيرة على هذه الصيغة وصوال إلى عصرنا هذا‪ ،‬لكنها كلها‬
‫تصب في بوتقة التعارض بين وجود ال ّله ووجود الشر في الوقت ذاته‪ .2‬في المقابل‬
‫قدم بعض الفالسفة والمفكرين الكثير من الردود على تلك الصيغ المنطقية لمشكلة‬
‫الشر في محاوالت دفاعية تشكلت فلسفيا على شكل نمطين‪ :‬األول اتخذ الجانب‬
‫التبريري لتفسير وجود الشر في العالم‪ ،‬وهو ما يعرف بنظرية العدالة االلهية أو‬
‫(الثيوديسيا) بصيغتها األوغسطينية‪ 3‬أو كما قال بها (ليبنتز ‪ 1646‬ــ ‪ ،)1716‬فاألخير‬
‫ال يرى أي تناقض بين وجود ال ّله ووجود الشر‪ ،‬فإن هذا العالم هو أفضل العوالم‬
‫الممكنة‪ ،‬لذا فهو يبرر وجود الشر مع وجود ال ّله‪ ،‬ألنه إما لدفع شر أعظم أو تقديم‬
‫لخير مستقبلي‪ .‬وثيوديسيا ليبنتز بهذا الدافع تحاول أن تقدم سببا مقنعا أخالقيا‪،‬‬
‫لكنه في نفس الوقت يحمل طابعا احتماليا‪ ،‬فهو من جهة يأخذ شكل قياس الغائب‬

‫‪ 2‬للمزيد من االطالع على هذا الموضوع ينظر‪ :‬سامي عامري‪ ،‬مشكلة الشر ووجود ال ّله‪ ،‬دار‬
‫تكوين‪ ،‬المملكة العربية السعودية ط‪ ،2016 ،2‬ص ‪ 109‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬نسبة الى القديس اوغسطينوس ‪354‬م ــ ‪430‬م وهي الثيوديسيا التي وضعها فيلسوف الدين جون‬
‫هيك في ضوء كتابات اوغسطين‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫على الشاهد‪ ،‬لكن الغائب هنا ال يحمل أي صفة في الثبات األنطولوجي وال الثبات‬
‫الرياضي‪ ،‬إذ إن الشر األعظم أو الخير المستقبلي غير قابل للقياس بأي شكل من‬
‫األشكال‪.‬كما أن افتراض وجود إله كامل القدرة والعلم بجانب وجود الشر غير‬
‫ممكن معرفيا من دون معرفة مسبقة بماهية ذلك اإلله أوال‪ ،‬وهو أمر مستحيل‪ ،‬لذا‬
‫فإن كل حجج الثيوديسيا وحتى حجج (جون هيك ‪ 1922‬ــ ‪ )2012‬بـ (وجود الكل‬
‫أو ال شيء)‪ ،‬تبقى واهنة أمام البناء المنطقي لمشكلة الشر‪ ،‬ألنها حاولت أوال اإلبقاء‬
‫على التصور الالهوتي لإلله‪ ،‬وثانيا التأكيد على الضرورة الوجودية للشر‪.‬‬
‫أما النمط الثاني من الردود على المشكلة المنطقية للشر ذهب إلى أصل تلك‬
‫البنية المنطقية‪ ،‬وخير من َم َّث َل هذا النمط هو (ألفن بالنتينجا ‪،4)Alvin Plantinga‬‬
‫حيث يبدأ دفاعه في إثبات أال تناقض منطقي واضح بين وجود ال ّله ووجود الشر‪،‬‬
‫وأن أي تناقض مفترض إنما ينشأ من االفتراضات الضمنية والتي تمثل مقدمات‬
‫غير مذكورة في الحجة نفسها‪ .‬ولم يدّ ع بالنتينجا أن الصيغة المنطقية لمشكلة الشر‬
‫خاطئة منطقيا‪ ،‬وإنما هي غير ممكنة‪ ،‬بل إن الممكن منطق ًّيا هو أن يخلق اإلله الكلي‬
‫العلم والكلي القدرة عا َلما يحتوي على شر (أخالقي)‪ .‬لكن ال ّله رغم أنه كلي‬
‫القدرة ال يمكن أن يفعل أي شيء خارج طبيعته‪ ،‬فإنه ال يمكن مث ً‬
‫ال أن يخلق دوائر‬
‫مربعة‪ .‬وعليه يكون من غير المعقول أن يخلق كائنات تمتلك إرادة حرة وال تختار‬
‫الشر مطلقا‪ .‬وهو هنا بتقديمه القيمة األخالقية لإلرادة الحرة لإلنسان يضع سببا‬
‫أخالق ًّيا متوازنًا يبرر للسماح بوجود الشر‪« .‬فا َلعالم الذي يحتوي على مخلوقات‬
‫حرة وتؤدي بكامل حريتها األفعال الشريرة هو أكثر قيمة من عا َلم ال يحتوي على‬
‫مخلوقات حرة على اإلطالق»‪ ،‬ألن ال ّله يمكن له خلق مخلوقات حرة‪ ،‬لكنه ال‬
‫يمكن أن يحدد لها مسبقا أال تفعل إال ما هو حق‪ ،‬ألنه إذا فعل ذلك‪ ،‬فلن تكون‬
‫تلك المخلوقات حرة على اإلطالق‪ .‬لذلك‪ ،‬لكي يخلق مخلوقات قادرة على الخير‬
‫األخالقي‪ ،‬يجب أن يخلق مخلوقات قادرة على الشر األخالقي‪ ،‬إذ ال يمكنه أن‬

‫‪ 4‬ألڤين كارل بالنتينغ ‏ا ‪ .1932‬فيلسوف تحليلي أمريكي‪ ،‬وأستاذ فخري للفلسفة في جامعة نوتردام‪.‬‬
‫مهتم بالدراسات الميتافيزيقية وفلسفة الدين والالهوت المسيحي‪ .‬للمزيد عن هذا الفيلسوف‬
‫وأعماله ينظر‪ :‬موسوعة اإلنترنيت للفلسفة منشورة على الرابط‪ log::‬ــ ‪//iep.utm.edu/evil‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪118‬‬
‫يمنح هذه المخلوقات حرية القيام بالشر وفي نفس الوقت منعها من القيام به‪ .‬وعليه‬
‫فإن مصدر الشر األخالقي هو أن بعض المخلوقات الحرة التي خلقها ال ّله تخطئ‬
‫في ممارسة حريتها‪ .‬ومع ذلك فإن حجة بالنتينجا في أن المخلوقات الحرة التي‬
‫تسيء أحيانًا ال تتعارض مع قدرة ال ّله المطلقة وال ضد صالحه‪ ،‬تشير الى أن ال ّله‬
‫كان بإمكانه منع حدوث الشر األخالقي فقط بإزالة إمكانية الخير األخالقي‪ ،‬أي أنه‬
‫على الرغم من كونه كلي القدرة فإنه لم يكن في وسعه خلق عالم يحتوي على الخير‬
‫األخالقي فقط دون الشر أخالقي‪ .‬وهذه الحجة بلحاظ ثيوديسيا (ليبنتز) تفترض أن‬
‫هناك عوالم محتملة ال يستطيع حتى كائن كلي القدرة تحقيقها‪ ،‬عالم فيه مخلوقات‬
‫حرة أخالقيا تمارس الخير االخالقي فقط ‪.5‬‬
‫المالحظ في حجج النمطين أعاله أنها استندت في دفاعها عن وجود اإلله‬
‫بمحايثة وجود الشر في العالم إلى مفهومين يحمالن دالالت ميتافيزيقية نوقشت‬
‫في سياقاتها المتداولة فلسفيا والهوتيا وهما مفهوم االله ومفهوم االرادة‪ ،‬فكانت‬
‫هناك الحجج المنطقية من جهة والحجج الثبوتية من جهة أخرى‪ ،‬وما نذهب اليه‬
‫في هذا البحث ليس مناقشة ما تم عرضه من حجج وردود خاصة بمشكلة الشر‬
‫ضمن التصورات النمطية لمفهومي (اإلله واالرادة) ضمن علم الالهوت أو فلسفة‬
‫الدين‪ ،‬وإنما قصدنا أن نبحث في مشكلة الشر في غير مجالي بحثها المعتادة‪ ،‬نبحث‬
‫في مشكلة الشر بوصفها مشكلة أخالقية وإن حملت دالالت ميتافيزيقية من خالل‬
‫مفهومي (اإلله واإلرادة) إال أن حلها يبقى في حدود النظرية األخالقية بعيدا عن‬
‫أي تأويل الهوتي أو تبرير ديني لدى نموذجين نرى أنهما قدما المختلف والصادم‬
‫في تاريخ الفلسفة ككل‪ ،‬وفي نظريتيهما األخالقية‪ ،‬وفي موقفهما من مفهومي اإلله‬
‫واإلرادة وصلتهما بموضوع الشر‪ ،‬وهما كل من الهولندي (باروخ سبينوزا ‪Baruch‬‬
‫‪ 1632 Spinoza‬ــ ‪ ،)1677‬واأللماني (آرثر شوبنهاور ‪Arthur Schopenhauer‬‬

‫‪ 5‬لمزيد من االطالع في هذا الموضوع ينظر‪ :‬سامي عامري‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪120‬وما بعدها‪.‬‬
‫كذلك ينظر‪:‬‬
‫‪Logical Problem of Evil internet encyclopedia of philosophy،‬‬
‫منشور على الرابط‪ log :‬ــ ‪https://iep.utm.edu/evil‬‬
‫‪119‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫‪ 1788‬ــ ‪ ،)1860‬اللذان ابتعدا عن بعضهما تاريخا وجغرافية‪ ،‬واختلفا في المنطلقات‬


‫الفلسفية‪ ،‬لكنهما اتفقا في األهداف األخالقية‪.‬‬

‫إله سبينوزا وطبيعة الشر‪:‬‬


‫العنصر األكثر جاذبية في فلسفة سبينوزا هو المنهج الصارم الذي لجأ إلى‬
‫استخدامه‪ ،‬فمن خالل البدء بتعريف الجوهر انطلق لالستدالل على نظام الفلسفة‬
‫الكامل اعتمادا على حقيقة واحدة‪ .‬ومن خالل هذا التعريف حاول أن يدرس تنوع‬
‫األشياء‪ ،‬وعلى هذا النحو ستأتي فلسفته في األخالق ملبية للمطالب المنهجية التي‬
‫جاء بها في كتابه (إصالح الفهم البشري)‪ ،‬حيث تحملنا قراءة هذا الكتاب إلى‬
‫اكتشاف فكرة اإلله نتيجة لمطلب منهجي؛ الطريقة التي يشير إليها سبينوزا تقوم في‬
‫اكتشاف فكرة صادقة بذاتها تلزم عنها أفكارنا األخرى كلها‪.‬‬
‫وينبغي أن تمثل هذه الفكرة سبب األشياء كلها‪ ،6‬والواقع أن سبينوزا يضع‬
‫فلسفته كلها على نحو يجعلها تلزم من فكرة اإلله بالضرورة المنطقية نفسها التي‬
‫يقضي تعريف المثلث أن تكون زواياه الداخلة مساوية لقائمتين‪ .7‬ولذلك ينبغي‬
‫أن نبدأ مع سبينوزا بفكرة اإلله‪ ،‬وإن كانت الفلسفات التقليدية قد بدأت باألشياء‬
‫المخلوقة‪ .‬وكما بدأ ديكارت بالنفس‪ ،‬فإن سبينوزا وجد أنه ال مناص من االبتداء‬
‫بفكرة اإلله‪ ،8‬حيث يقول‪« :‬إن طبيعة اإلله هي التي يجب أن نفكر بها باعتبارها‬
‫األولى‪ ،‬ألنها سابقة لكل من نظام المعرفة ونظام الطبيعة»‪ .9‬وعلى ذلك نراه يجعل‬
‫البحث في موضوع اإلله في الباب األول من كتابه (األخالق)‪ .‬وهو يؤكد في الباب‬
‫الثاني الذي تناول طبيعة العقل البشري على عالقة هذا األخير بالماهية اإللهية‪.‬‬
‫ومثل هذا التأكيد موجود ضمن كل األبواب األخرى للكتاب‪ .‬ومن الممكن القول‬

‫‪ 6‬ال يستخدم سبينوزا كلمة «سبب» بالمعنى االعتيادي بل بمعنى الماهية أو األساس المنطقي‬
‫للشيء‪ .‬وهذا أشبه ما يكون بالقانون الذي يولد المتسلسالت الرياضية‪ ،‬د‪ .‬كريم متي‪ :‬الفلسفة‬
‫الحديثة ــ عرض نقدي‪ ،‬ص‪.100‬‬
‫‪7 Spinoza: Ethics, III. Prop. XL, P. 203‬‬
‫‪ 8‬د‪ .‬كريم متي‪ :‬الفلسفة الحديثة ــ عرض نقدي‪ ،‬ص‪.99‬‬
‫‪9 Spinoza: Ethics, II. Prop. X, Note2, P: 90‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪120‬‬
‫إن فكرة اإلله عند سبينوزا ليست مجرد واحدة من األفكار التي تعالجها فلسفته‪ ،‬بل‬
‫إن كل فلسفة سبينوزا يمكن أن تعد تفكيرا في اإلله‪ .‬ويبدو أن المشكلة التي واجهت‬
‫البحث في هذا الموضوع هي مشكلة الداللة الحقيقية لمفهوم اإلله عند سبينوزا التي‬
‫اتخذت شكل المفاضلة بين األلفاظ والمعاني‪ .‬من الواضح جدا وبالنظر لألهمية التي‬
‫يعطيها للموضوع في تصديره كتاب األخالق أنه أراد أن يصوغ معاني جديدة لمفهوم‬
‫اإلله تختلف كل االختالف عن تلك المتداولة في الالهوت التقليدي‪ ،‬فلغة سبينوزا‬
‫تبدو تقية ورعة متمشية مع كل التقاليد الدينية الشائعة في عصره‪ ،‬لكن معانيه تسير في‬
‫طريق مخالف لذلك كل االختالف‪ ،‬إذ تهدم األفكار األساسية التي يرتكز عليها ذلك‬
‫التراث الديني الشائع‪ .‬وهنا يكون على الباحث أن يفاضل بين األخذ بمعاني األلفاظ‬
‫الحرفية فيكون حتما أن يصف سبينوزا بالتناقض‪ ،‬وبين مراعاة األلفاظ بحسب شفراتها‬
‫ٍ‬
‫معان جديدة‪ ،‬وعندئذ ستبدو فلسفته متسقة من‬ ‫التأويلية وتطويعها لما تقتضيه هذه من‬
‫بدايتها إلى نهايتها‪.10‬‬
‫وقد أشار سبينوزا في أكثر من موضوع إلى سوء الفهم الذي قد يواجه مفهومه لفكرة‬
‫االله‪ ،‬فيقول مثالً‪« :‬ليس لدى الناس معرفة لإلله تماثل في وضوحها معرفتهم لألفكار‬
‫العامة‪ ،‬إذ إنهم يعجزون عن تخيل اإلله مثلما يتخيلون األجسام‪ ،‬وهم أيضا يربطون‬
‫بين لفظ اإلله وبين صور األشياء التي اعتادوا رؤيتها‪ ،‬وهو ما يبدو أمرا ال مفر منه‪ ،‬إذ‬
‫إنهم بعد كل شيء بشر‪ .‬وهم يتأثرون دوما باألجسام الخارجية‪ .‬والحق أنه من الممكن‬
‫إرجاع كثير من األخطاء إلى هذا األصل‪ ،‬أعني كونهم ال يطلقون األسماء على األشياء‬
‫بطريقة دقيقة‪ ...‬وكم ثار من الخالف بسبب عدم إيضاح الناس معانيهم بدقة‪ ،‬أو عدم‬
‫فهمهم معاني اآلخرين على النحو الصحيح»‪.11‬‬
‫لقد وجد سبينوزا أن المفهوم الديني التقليدي عن اإلله من حيث هو جوهر ال ٍ‬
‫متناه‬

‫‪ 10‬اتخذ هذا الموضوع لدى الباحثين شكل الخالف المتضاد بين رأيين‪ ،‬يؤكد أحدهما بعدم تعارض‬
‫مذهب سبينوزا مع التراث الديني‪ ،‬بينما يرى اآلخر أن مذهب سبينوزا يمثل أفجر إلحاد عرفه العالم‪.‬‬
‫انظر‪ :‬العرض المفصل لهذا الموضوع ومواقف الباحثين منه الذي قدمه الدكتور فؤاد زكريا في‬
‫كتابه‪ ،‬سبينوزا‪ ،‬ص‪ 102‬ــ ‪.115‬‬
‫‪11 Spinoza: Ethics, II, Note, P: 90.‬‬
‫‪121‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫ٍ‬
‫ومتعال عليها‪ ،‬يتنافى مع نظام‬ ‫خلق الطبيعة من العدم بفعل إرادي حر‪ ،‬وأنه مفارق لها‬
‫سلسلة األسباب الذي اقترحه منهجه‪ .‬ولما كانت األشياء ال تفسر إال بأسبابها القريبة‪،‬‬
‫فإنه ينبغي إذا أردنا أن نتجنب متراجعة ال متناهية‪ ،‬أن نتوصل في آخر المطاف إلى‬
‫شيء هو سبب ذاته‪ ،‬أو ما كانت ماهيته تتضمن وجوده‪ ،‬فال يمكن أن نفسر الكون‬
‫تفسيرا معقوال إال إذا اكتشفنا هذا الشيء الذي ترجع إليه وتستخلص منه كل األشياء‬
‫استخالص النتائج من المقدمات‪ .12‬ففي رسالة له يقول فيها‪« :‬إنني أعتنق رأيا عن‬
‫اإلله والطبيعة يختلف كل االختالف عن الرأي الذي يدافع عنه المسيحيون‪ ،‬فأنا‬
‫أعتقد أن اإلله هو كما يقولون الع ّلة الباطنة لكل األشياء‪ ،‬ولكنني ال أعتقد أنه الع ّلة‬
‫المتعدية‪ ...‬وأنا أقول إن كثيرا من الصفات التي يرون‪ ،‬ويرى جميع اآلخرين الذين‬
‫أعرفهم على األقل‪ ،‬أنها من صفات اإلله‪ ،‬أرى أنها أشياء مخلوقة‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬
‫فإن األشياء التي يرون أنها مخلوقة‪ ،‬بسبب تحيزاتهم أرى أنها صفات لإلله‪ ،‬ولكنهم‬
‫يسيئون فهمها‪ ،‬وكذلك ال أستطيع أن أفصل اإلله عن الطبيعة على اإلطالق»‪ .13‬وهذا‬
‫النص يشير بوضوح إلى المعاني الجديدة التي أراد أن يدخلها سبينوزا على التصور‬
‫العقلي لمفهوم اإلله‪ ،‬فيذهب إلى تعريف الجوهر بأنه‪« :‬الشيء الموجود بذاته وفي‬
‫ذاته‪ ،‬وبعبارة أخرى هو الشيء الذي يمكن إدراك ماهيته بشكل مستقل عن أي مفهوم‬
‫أخر»‪ .14‬ويعرف اإلله بأنه «كائن ال متناه بصفة مطلقة‪ ،‬أي أنه جوهر ينطوي على صفات‬
‫ال متناهية تعبر كل منها عن ماهية أزلية ال متناهية»‪.15‬‬
‫ومما يثير االنتباه أنه وضع لفكرة اإلله تعريفا ضمن التعريفات األولى في كتابه‬
‫األخالق‪ ،‬ذلك األمر الذي ال نجده لدى غيره من الفالسفة‪ ،‬ألن اللفظ في نظر سواه‬
‫مفهوم بذاته فال يحتاج إلى تعريف‪ ،‬أما إدراج اللفظ ضمن مجموعة أخرى من األلفاظ‬
‫التي يراد التنبيه إلى معانيها الجديدة فهذا أمر ال نلمسه إال لدى سبينوزا‪ .‬وهو بذلك‬
‫أراد أن ينبه القارئ تنبيها صريحا إلى أن تلك الفكرة ليست تلك التي ألفها واعتادها‬

‫‪ 12‬د‪ .‬كريم متي‪ :‬الفلسفة الحديثة‪ ،‬ص‪.99‬‬


‫‪13 Spinoza: Letter, No. 20‬‬
‫‪14 Spinoza: Ethics, I, Def. III, p: 46‬‬
‫‪15 Ibid: I, Def. VL, p: 46‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪122‬‬
‫طوال حياته‪ ،‬ففي محاولة التعريف االستهاللي هذه خروج تام على المألوف في عالم‬
‫الفلسفة والالهوت حتى ذلك العصر‪ ،‬ألن المفروض أن معنى كلمة اإلله يفرض ذاته‬
‫على المفكر‪ ،‬وليس المفكر هو الذي يحدد هذا المعنى‪ .‬وهنا تصبح الفكرة أداة في يد‬
‫الفيلسوف إلثبات مواقف معينة‪ ،‬وليست فكرة تفرض نفسها على العقل البشري وتأتي‬
‫معها بمعانيها دون أن يملك هذا العقل تغيرها أو التحكم فيها‪.16‬‬
‫حاول سبينوزا من خالل تعريفات وبديهيات الفصل األول من (األخالق)‪،‬‬
‫االستدالل على كل ما يحتاجه الشخص حول الجوهر‪ ،‬فقد صاغ حجته بالطريقة‬
‫االستداللية‪ ،‬وكانت تعريفاته وبديهياته تخدم ربط مفاهيم الجوهر «اإلله» الطبيعة‬
‫باعتبارها معلولة بذاتها‪ ،‬وقد صاغ تعريفاته بدقة ليجعل من الممكن له أن يثبت أن‬
‫اإلله موجود وبشكل ال ٍ‬
‫متناه أزل ًّيا‪ ،‬وليوضح أن اإلله والكون هما شيء واحد‪ .‬الجوهر‬
‫بحسب تعريف سبينوزا ال يقتضي شيئا آخر سواه‪ ،‬فأي شيء ال يمكن إدراكه من خالل‬
‫شيء آخر يجب أن يدرك بذاته‪ .17‬ولما كان الجوهر موجودا ومتصورا من خالل ذاته‪،‬‬
‫أي ما كان مفهومه ال يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يستمد منه‪ ،‬فال يمكن أن يوجد‬
‫شيء واحد وواحد فقط يصدق عليه هذا التعريف وهو اإلله‪.‬‬
‫في نسق سبينوزا الفلسفي‪ ،‬يكون من الضروري ونحن نتكلم عن فكرة الجوهر‬
‫عنده أن نتنقل مباشر ًة إلى فكرة اإلله‪ .‬بمعنى أننا حين نفكر في الجوهر كما حدده‬
‫وفسره نجد أنفسنا موجهين إلى اإلله مباشرةً‪ ،‬إذ أن الجوهر عنده واإلله شيء واحد‪.18‬‬
‫ومع أن كتاب (األخالق) يبدأ‪ ،‬ولو عن طريق غير مباشر‪ ،‬بفكرة اإلله‪ ،‬إال أنه‬
‫حتى القضية الرابعة عشر من كتابه ال يذكر لفظ اإلله مباشرة‪ .‬اإلله حتى هذه القضية‬
‫ُيذكر على أنه جوهر من بين الجواهر المتعددة‪ .‬كما أنه لم يذكر لفظ الجوهر بصيغة‬
‫الجمع ال في تعريفاته وال في بديهياته وال حتى في قضاياه‪ .‬لكنه أيضا لم يذكر حتى‬
‫هذه القضية المذكورة أن ذلك الجوهر الوحيد هو اإلله‪ .‬إال أنه جعلنا نستنتج أن مجرد‬
‫تصور الجوهر يجعلنا نعتقد أنه ال شيء في الطبيعة يمكن أن نطلق عليه لفظ الجوهر‬

‫‪ 16‬د‪ .‬فؤاد زكريا‪ :‬سبينوزا‪ ،‬ص‪.117‬‬


‫‪17 Spinoza: Ethics, I, Axiom. II, p: 46‬‬
‫‪ 18‬علي عبد المعطي‪ :‬تيارات فلسفية حديثة‪ ،‬ص‪.162‬‬
‫‪123‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫إال اإلله‪ .‬وحينما نتأمل تعريف الجوهر بأنه ما هو بذاته ومتصور بذاته‪ ،‬وبمعنى آخر أنه‬
‫التصور الذي ال يحتاج إلى تصور شيء آخر من مكوناته‪ ،‬نحصل على حقيقة مفهوم‬
‫سبينوزا للجوهر بأنه ال يوجد جوهر ما عدا اإلله أو الطبيعة من حيث هي كل‪ ،19‬وذلك‬
‫لسببين‪ ،‬أوال‪ :‬إن كل شيء في الطبيعة يعتمد في وجوده على غيره من األشياء‪ ،‬ولذلك‬
‫ال يمكن اعتباره جوهرا‪ .‬فال يمكن أن يوجد سواد العين مستقال عن العين‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن توجد العين مستقلة عن الجسم وال يمكن أن يوجد الجسم مستقال عن األجسام‬
‫األخرى‪ ،‬وهكذا إلى ما ال نهاية‪ .‬لكن إذا كانت األشياء الفردية في الطبيعة تعتمد في‬
‫وجودها على بعضها البعض‪ ،‬فهي لذلك ليست جواهر‪ .‬إن المجموع الكلي للطبيعة‬
‫‪ The Totality of Nature‬أو الطبيعة بما هي كل‪ ،‬ال تعتمد على أي شيء‪ .‬لذلك يمكن‬
‫أن تعد جوهرا متسببا لذاته ‪ Cause Sui‬أو أن تتضمن ماهيته وجوده‪ ،‬وال يمكن تصور‬
‫طبيعته غير موجودة ‪ .20‬ثانيا‪ :‬إذا كانت الطبيعة بما هي كل جوهرا‪ ،‬فمن المحال أن يكون‬
‫هناك جوهر آخر إلى جانبها‪ ،‬ألن االعتقاد بوجود جوهرين أو أكثر يفضي إلى تناقض‬
‫منطقي‪ .‬إذا قلنا إن هناك جوهرين يتفاعل أحدهما مع ويؤثر في اآلخر‪ ،‬فال يمكن أن‬
‫نتصور كال منها بذاته‪ ،‬وال يمكن عده جوهرا‪ ،‬ألن الجوهر كما هو مفروض شيء متقوم‬
‫بذاته‪ ،‬ويتغير بحسب قوانين طبيعته أو ماهيته‪ ،‬وليس بتأثير شيء آخر خارجه‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى ينبغي أن يكون سبب ذاته‪ ،‬لذلك ال يمكن اعتبار األشياء المتفاعلة مع‪ ،‬والتي‬
‫تؤثر في بعضها البعض جواهر‪ ،‬ألن ذلك ينطوي على القول بوجود جوهر ال يكون‬
‫ٍ‬
‫لجوهر آخر‪ ،‬ألنه‬ ‫جوهر سب ًبا‬
‫ٌ‬ ‫سبب ذاته‪ ،‬وهذا تناقض في األلفاظ‪ .‬فال يمكن أن يكون‬
‫إذا أمكن أن يتولد جوهر من آخر فإن معرفته تعتمد على معرفة سببه وعندئذ ال يكون‬
‫جوهرا‪ .21‬طالما كان مفهوم اإلله هو النظام الكلي لألشياء‪ ،‬أو الطبيعة في مجموعها‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن سبينوزا يحذف كل الصفات التي ال تشير إلى ذلك المعنى الذي اضطلع فيه لمفهوم‬
‫اإلله‪ .‬وهي على وجه التحديد الصفات التشخيصية أو التشبيهية باإلنسان‪ ،‬وهو ينتقد‬
‫ذلك النزوع اإلنساني إلى تشبيه اإلله باإلنسان‪ ،‬أو تصوره على مثال اإلنسان‪ .‬وذلك‬

‫‪ 19‬زيد عباس الكبيسي‪ ،‬سبينوزا الفلسفة االخالقية‪ ،‬ص‪.135‬‬


‫‪20 Spinoza: Ethics: I, Def. I, p: 46‬‬
‫‪21 Ibid: I, prop. VIII, p: 48‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪124‬‬
‫في رأيه هو منشأ كل األخطاء واألوهام واألفكار الباطلة التي ترسخت في أذهان الناس‬
‫عن فكرة اإلله‪ .22‬فهو أصل االعتقاد بالمشيئة الحرة‪ ،‬حين يجد الناس في حكامهم‬
‫والسيما المستبدين منهم نزوعا إلى السلوك بال قانون‪ ،‬فيتصورون آلهتهم على هذا‬
‫النحو‪ .‬وقد يحكم اإلنسان على بعض الظواهر بأنها خير ألنها أفادته على نحو ما‪،‬‬
‫فيتصور أن اإلله يستهدف مثل هذا الخير‪ .‬وهكذا‪ ،‬وإلى مثل ذلك ترتد كل األخطاء‬
‫العقلية التي يقع فيها الناس في هذا الصدد‪ ،‬إلى خطأ واحد هو وصف األشياء على‬
‫مثال صورة اإلنسان‪ .‬ومن هذه الصفات التي يرفضها سبينوزا رفضا قاطعا ويرى أنها‬
‫متأتية من وجهة نظر بشرية بحتة‪ ،‬صفات العقل‪ ،‬واإلرادة الحرة‪ ،‬والخير‪ ،‬والجمال‪،‬‬
‫وكل المعاني التي تختص بها الطبيعة البشرية‪ ،‬والتي ينظر من خاللها إلى الطبيعة‬
‫اإللهية‪ .‬وهذا مخالف للقاعدة المنهجية التي ينادي بها سبينوزا «كل ما هو كائن كائن‬
‫من اإلله وينبغي أن ُيفهم من خالل اإلله»‪ .23‬ولما كان اإلل ُه أو الطبيع ُة بما هي كل‬
‫الجوهر الوحيد الالمتناهي المتسبب لذاته‪ ،‬فإنه يعمل على وفق قوانين طبيعته وحدها‪،‬‬
‫َ‬
‫وال يتأثر بأي شيء آخر ألنه ليس هناك ع ّلة خارجية أو داخلية يمكنها أن توجهه‪ .‬اإلله‬
‫يعمل فقط بموجب قوانين طبيعته الخاصة وهو غير خاضع ألحد أو لشيء‪ .‬على أن‬
‫هذا ال يتضمن أن اإلله يستطيع أن يريد أو يجعل األشياء تحدث على غير نحو ما‬
‫تحدث فيه‪ .‬إن سبينوزا يعترف بالحضور اللفظي للحرية اإللهية‪ ،‬إال أن الحرية ال تعني‬
‫عنده القدرة على الفعل وعدم الفعل‪ ،‬وإنما هي الحرية المعبرة عن الطبيعة الحتمية‬
‫لإلله‪ ،‬فال معنى للفهم الشائع للحرية داخل نظام الطبيعة الحتمي‪ ،‬لذا فهو ينكر الفكرة‬
‫القائلة إن اإلله يستطيع أال يفعل ما يفعل‪ ،‬وهذا أشبه بالقول‪ :‬إن اإلله يمكن أن يحدث‬
‫ضمن المثلث ما ال يترتب على طبيعة هذا المثلث‪ ،‬أي أن زواياه الداخلية مثال ال تكون‬
‫مساوية لقائمتين‪ .24‬وبذلك يكون معنى الحرية الذي ينسبه إلى اإلله هي أن يفعل اإلله‬
‫على وفق قوانينه الخاصة‪ ،‬ولن تكون هناك قوة خارج أو داخل اإلله تدفعه أو ترغمه‬
‫على تغيير مسلكه أو تغيير القوانين التي تسير عليها طبيعته‪ ،‬هذا هو المعنى الحتمي‬

‫‪ 22‬زيد عباس الكبيسي‪ ،‬سبينوزا الفلسفة االخالقية‪ ،‬ص ‪.138‬‬


‫‪23 Spinoza: Ethics: I, prop. XVIII, p: 60‬‬
‫‪24 Spinoza: Ethics:, prop. XVII, p: 60‬‬
‫‪125‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫للحرية‪ .‬هذه الفكرة بدورها تنفصل عن فكرة اإلرادة الخارجة على كل قانون‪ ،‬وعليه‬
‫فإن سبينوزا ينفي عن اإلله اإلرادة وكذلك العقل‪ ،‬إذ يقول إن العقل واإلرادة ليست‬
‫مما يعود إلى طبيعة اإلله‪ .25‬إذا ما أردنا أن نسلم بأن ًّ‬
‫كل من العقل واإلرادة يرتبطان‬
‫بالماهية األزلية لإلله‪ ،‬فإن علينا أن نتعامل مع هذه الكلمات بنوع من االختالف عما‬
‫درجنا عليه غالبا‪ ،‬فالعقل واإلرادة اللذان يشكالن ماهية اإلله يجب أن ننظر إليهما‬
‫باعتبارهما مختلفين تماما عن العقل واإلرادة الخاصين بالبشر‪ ،‬وفي الحقيقة ليس‬
‫المختص بالطبيعة اإللهية ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫هناك ما يجمع بينهما سوى االسم فقط‪ ،‬فإن العقل‬
‫أن يكون في طبيعته كعقولنا‪ ،‬ألننا ندرك األشياء بصورة تالية على وجودها‪ ،‬بينما اإلله‬
‫سابق لكل شيء ألنه سبب لوجود كل شيء‪ .26‬إن اإلله حر إال أنه ليس له حرية اختيار‬
‫فيما يفعله‪ .‬وإن أوامر اإلله قد صدرت عنه منذ األزل‪ ،‬وبعكس ذلك يكون اإلله ناقصا‬
‫ومتقلبا‪ .‬وال معنى لمتى وقبل وبعد وغيرها من الكلمات الزمانية عند اإلله‪ّ .‬‬
‫إن الكمال‬
‫اإللهي يقتضي أن يكون اإلله غير قادر على أن يأمر إال ما أمر به‪ .‬ولو كان بإمكان اإلله‬
‫أن يخلق األشياء على غير نحو ما خلقها فيه لكان في إمكانه أن يغير إرادته وألصبح‬
‫ناقصا‪ ،‬ولذلك ال يمكن أن تحدث األشياء على غير ما حدثت فيه‪ .27‬كل شيء في رأي‬
‫سبينوزا ضروري ال يكون عرضيا إال باإلضافة إلى جهلنا‪ ،‬فإذا اكتمل علمنا باألشياء‬
‫فإن كل شيء يغدو ضروريا‪ ،‬وال يكون لإلمكان معنى مطلقا في العا َلم‪ .‬القول بأن‬
‫األشياء ممكنة ليس إال نتيجة لنقص معرفتنا باألسباب‪ .‬ال تكون إرادة اإلله إال قوانين‬
‫الطبيعة األزلية الثابتة‪ ،‬ألن اإلله هو النظام الكلي للطبيعة وهذا ما يشير إليه صراحة‬
‫بقوله‪« :‬أعني بمعرفة اإلله النظا َم الثابت غير المتغير للطبيعة‪ ،‬أو سلسلة الحوادث‬
‫الطبيعية‪ ،‬فليست القوانين العامة للطبيعة التي توجد بموجبها األشياء إال اسما آخر‬
‫إلرادة اإلله األزلية التي تنطوي دائما على الصدق األزلي والضرورة األزلية‪ .‬وسيان‬
‫إن كل شيء يحدث على وفق القوانين الطبيعية‪ ،‬أو ّ‬
‫أن كل شيء مكتوب بإرادة‬ ‫إن قلنا ّ‬
‫ْ‬

‫‪25 Ibid, prop. XXXIII, Note 2, p: 73‬‬


‫‪26 Ibid, prop. XVII, p: 61‬‬
‫‪27 Ibid, prop. XXXIII, Note 2, p: 73‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪126‬‬
‫اإلله»‪ .28‬بالتالي فإن تلك اإلرادة ال تنتج نتائجها دون النظر إلى اإلنسان ورغبته‪ ،‬فمن‬
‫الخطأ الظن أن حوادث العالم تدور حول محور اإلنسان وأنها دبرت تدبيرا لكي تنتهي‬
‫ُ‬
‫القول بالخير ّية‪ .‬في حين أن سيادة الضرورة في الطبيعة تعني عدم‬ ‫إلى غاية‪ .‬من هنا جاء‬
‫وجود غايات‪ .‬والقول بأن الخير غاية إلهية معناه أن هناك قوة خارجية توجه اإلله نحو‬
‫الفعل‪ ،‬وهذا عكس ما حاول سبينوزا إثباته‪ .‬والواقع أن صفة الخير مستمدة من المجال‬
‫البشري‪ ،‬وال يمكن أن نتصورها بدون اإلنسان‪ .‬وليس في عالم تسود فيه الضرورة‬
‫المطلقة أي مجال للخير أو للشر‪ .‬إن ما يحكم عليه اإلنسان بالشر ليس شرا بالنسبة إلى‬
‫قانون الطبيعة ونظامها‪ ،‬فالخير والشر كلمتان ال تدالن على شيء إيجابي‪ ،‬بل هما آراء‬
‫شخصية تتغير بتغير ظروف اإلنسان وال تعترف بها الحقيقة الخالدة‪ .‬وهذا الشيء نفسه‬
‫بالنسبة لفكرتي القبيح والجميل‪ ،‬إذ هما كذلك أمران اعتباريان ال يدالن على حقيقة‬
‫واقعة؛ «إنني ال أعزو للطبيعة جماال وال قبحا‪ ،‬فاألشياء ال يمكن أن تسمى جميلة أو‬
‫قبيحة‪ ،‬حسنة أو سيئة إال بالنسبة إلى مداركنا نحن»‪ .29‬وإذ ينتقد سبينوزا تلك النظرة‬
‫التشبيهية إلى فكرة اإلله‪ ،‬فهو يحمل على معنى للتشبيه أبعد من ذلك الذي يصور‬
‫اإلله بصورة إنسانية مباشرة ويجعل لها جسما ويدين‪ ،‬ويتخيلها غاضبة منتقمة‪ .‬فمعنى‬
‫التشبيه الذي ينتقده يتسع إلى أبعد من ذلك‪ ،‬ويمتد إلى ميادين عديدة ينزلق فيها الذه ُن‬
‫إلى فكرة التشبيه دون أن يشعر‪ .‬نسبة أي قيمة بشرية كالخير إلى فكرة اإلله فيها تشبيه‬
‫باإلنسان‪ ،‬وغايته ينبغي أال تسري على نظام الكون المطلق‪ ،‬فمجال القوانين اإللهية ال‬
‫صلة له بغاياتنا‪ ،‬بل إن أمانينا وقيمنا تنحصر في عالمنا الجزئي الخاص‪ ،‬وال يكون لها‬
‫معنى إال في داخله‪ ،‬وال تعني شيئا إال في ذلك المجال‪.30‬‬
‫القيم االخالقية ــ بحسب سبينوزا ــ ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة‪،‬‬
‫فهي عنده خالية تماما من القيم البشرية‪ ،‬فليس في وسع المرء أن يقول عن األشياء‬
‫إنها جميلة أو قبيحة‪ ،‬منظمة أو مضطربة‪ ،‬إال من وجهة نظر الخيال‪ .31‬والخير والشر ال‬

‫‪ 28‬سبينوزا‪ :‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ص ‪.194‬‬


‫‪29 Spinoza: Ethics, I, prop, XII, p: 55‬‬
‫‪ 30‬فؤاد زكريا‪ :‬سبينوزا‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪31 Spinoza: Letter, no’ 32‬‬
‫‪127‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫وجود لهما إال في أذهاننا ال في الطبيعة‪ ،‬وليست لهما أية داللة ميتافيزيقية‪ ،‬وإنما هما‬
‫يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب‪ .‬ويصرح بعبارة أخرى بأن الخير والشر ال يدالن على‬
‫صفة إيجابية في األشياء منظورا إليها في ذاتها‪ ،‬وإنما هما أحوال للفكر‪ ،‬أو موضوعات‬
‫فكرية نكونها من مقارنة األشياء بعضها ببعض‪ .‬هكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد في‬
‫وشرا‪ ،‬وسو ًّيا إزاء هذا وذاك‪ .32‬مثال ذلك هبوط سعر سلعة ما يمكن‬
‫خيرا ًّ‬
‫نفس الوقت ً‬
‫أن ُيعد خيرا من وجهة نظر الشاري‪ ،‬وشرا من وجهة نظر البائع‪ ،‬أما من وجهة نظر‬
‫الشخص الذي لن يشتري هذه السلعة ولن يبيعها وال صلة له بها فليس لهذا الحادث‬
‫معنى أو قيمة في ذاته‪ .‬إذا تساءلنا بعد ذلك عن داللة الحادث أي هبوط سعر السلعة‬
‫كما هو في ذاته‪ ،‬سيظهر أن هذا الحادث في ذاته ال ينطوي على قيمة أو داللة أخالقية‪،‬‬
‫بل إنه يتّخذ هذه الداللة من وجهة النظر الشخصية‪ ،‬ونتيجة للمقارنة مع حوادث أخرى‬
‫في سياق الحياة اليومية‪ ،‬ولذا يذهب سبينوزا إلى وصف الشر بأنه سلب بحت‪ ،‬ألنه‬
‫تعبيرا عن‬
‫ً‬ ‫ال صل َة له بالماه ّية الفعل ّية لألشياء‪ ،‬إذ الشر بالمفهوم السبينوزي ليس إال‬
‫انخفاض قوة الفعل أو تفكيك لعالقة‪ ،33‬إال أن انخفاض قوة الفعل ليست شرا إال ألنها‬
‫تهدد العالقة التي تركبنا وتختزلها‪ .‬لذلك يمكن أن نضع تعريفا إجرائيا لمفهوم الشر‬
‫عند سبينوزا بأنه تهديم العالقة التي تميز حاال ما وتفككها‪ .‬من هذا المنطلق لن يكون‬
‫ممكنا الحديث عن الشر إال من وجهة النظر الخاصة بحال ما موجود فعال‪ ،‬فال خير‬
‫وال شر في الطبيعة‪ ،‬بل هناك نافع وضار بالنسبة لكل نمط موجود‪ ،‬فالشر هو السيء من‬
‫وجهة نظر هذا الحال أو ذاك‪ ،‬وبما أننا بشر فإننا نحكم على الشر من وجهة نظرنا‪.34‬‬
‫وغالبا ما يتحدث سبينوزا عن الجيد والسيء ً‬
‫آخذا في اعتباره منفعة االنسان وحدها‪،‬‬
‫فنحن ال نفكر أبدا في شر عندما نهدم‪ ،‬لكي نتغذى‪ ،‬العالقة التي يوجد ضمنها حيوان‪.‬‬
‫لكننا نتحدث عن شر في حالتين‪ :‬عندما ُيهدم جسدنا‪ ،‬وفي تفكيك عالقتنا تحت تأثير‬
‫شيء آخر‪ ،‬أو عندما نهدم بأنفسنا كائنا مشابها لنا‪ ،‬أي كائن يكفي شبهه لنا لجعلنا نفكر‬
‫بأنه كان يتوافق من حيث المبدأ معنا‪ ،‬وأن عالقته كانت من حيث المبدأ قابلة للتراكب‬

‫‪32 Spinoza: Ethics, IV, proface, p: 188‬‬


‫‪ 33‬جيل دولوز‪ :‬سبينوزا ومشكلة التعبير‪ ،‬ص ‪203‬‬
‫‪ 34‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.203‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪128‬‬
‫مع عالقتنا‪ .35‬باإلجمال يسمي سبينوزا الشر بـ(العوز أو النقصان ‪ )privation‬فهو كيان‬
‫عقلي وطريقة في التفكير عندما نقوم بإجراء مقارنة‪ .‬مثال نقول عن الشخص إنه أعمى‬
‫ألننا نقيسه بغيره من المبصرين‪ ،‬أما من وجهة النظر اإللهية فال يمكن أن يعد كذل‪،‬‬
‫اإللهي‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫إذ إن هذا الرجل ال يملك وال يمكن أن يملك شي ًئا سوى ما منحه إياه‬
‫واإلراد ُة اإللهية‪ ،36‬فإذا ما كان اإلل ُه عند سبينوزا هو الع ّله المطلقة والحقيقية لكل ما‬
‫يمكن أن تُعزى إليه ماهية‪ ،‬وأن الشر والخطأ ليس شيئا معبرا عن ماهية على االطالق‪،‬‬
‫وبالتالي فإن اإلله ليس سببا للشر على اإلطالق‪.37‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فإن استبعاد الشر عن الفاعلية اإللهية يستتبع كذلك استبعاد الخير‬
‫أيضا باعتبار أن الخير والشر قيم متضايفة‪ ،‬فكما أننا ال نستطيع أن نفهم َ‬
‫لفظ «ابن» دون‬
‫فهم الخير دون الشر م ًعا‪ ،‬الفكرتان متضايفتان م ًعا‪ْ ،‬‬
‫إن‬ ‫لفظ «أب»‪ ،‬كذلك ال يمكن ُ‬
‫وجدت إحداهما البد ْ‬
‫أن توجد األخرى‪ ،‬وإن غابت واحدة غابت معها الثانية‪.‬‬ ‫َ‬
‫هنا يخالف سبينوزا كل االتجاهات المدرسية والالهوتية التي عمدت الى استبقاء‬
‫الطابع الخير في الفاعلية االلهية‪ ،‬فإن طريقته الخاصة تنفي فكرة الشر عن الفاعلية‬
‫اإللهية ويتضمن ذلك في الوقت نفسه نفي الخير ومعه كل القيم المماثلة‪ .‬وبذلك‬
‫يخلي الميدان االنساني من جميع القيم المالئمة وغير المالئمة في آن واحد‪ ،‬بل وفي‬
‫واقع االمر يهدم كل أسس التفكير المدرسي الغائي‪ ،‬من حيث أنه يستبعد الخير بوصفه‬
‫غاية لمسار الحوادث في الكون‪ .‬وهذا يقود إلى التقسيم المعروف للعلل إلى فاعلة‬
‫وغائية‪ ،‬فالعلل الفاعلة هي وحدها الحقيقية وهي ال تنطوي في ذاتها على قيمة ما‪،‬‬
‫وإنما هي تُحدث أفعاالً إيجابية فحسب‪ .‬أما العلل الغائية فهي التي تُضفي على األفعال‬
‫قيمتها من وجهة نظر البشرية‪ ،‬لكن ليس لها خارج وجهة النظر هذه أي كيان‪ ،‬فهي‬
‫ليست حقيقية إذا نظرنا إلى األمور من منظور األزلية والضرورة المتحكمة في الطبيعة‪.‬‬
‫َ‬
‫يكون لهذا‬ ‫ُ‬
‫الفعل الواحد بشتى أنواع القيم والغايات‪ ،‬دون أن‬ ‫ومن الممكن أن يصطبغ‬
‫أدنى تأثير في ماهية الفعل نفسه من حيث هو ناتج عن علة فاعلة‪ .‬هكذا يقسم سبينوزا‬

‫‪ 35‬جيل دولوز‪ :‬سبينوزا ومشكلة التعبير‪ ،‬ص ‪.204‬‬


‫‪36 Spinoza: Letter, no’ 21‬‬
‫‪37 Spinoza: Letter, no’ 23‬‬
‫‪129‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫تقسيما ثنائ ًّيا إلى‪ :‬وجهة النظر اإللهية؛ وهي التي ال‬
‫ً‬ ‫وجهات النظر الممكنة إلى االشياء‬
‫تتعلق اال بالماهيات الحقيقية والعلل الفاعلة‪ ،‬ووجهة النظر البشرية؛ وهي التي تضيف‬
‫ِ‬
‫مقارنة األشياء بعضها ببعض تبعا‬ ‫وقيما مستمدة من‬ ‫ٍ‬
‫إلى وجهة النظر السابقة غايات ً‬
‫لألهواء الفرد ّية الخاصة‪.38‬‬
‫فكرة اإلله المحايد العالمي الذي ال يوصف في فلسفة سبينوزا تتناقض تماما مع‬
‫الفردية الحديثة التي ربطت الحاجة اإلنسانية بالدين مع فهم تشخيصي عن إله يمكن‬
‫أن يكون رحيما‪ ،‬عطوفا‪ ،‬عالما خ ّيرا‪ ،‬جميال‪ .‬هذا يؤدي إلى أن يكون مفهوم اإلرادة‬
‫الحرة عنده مختل ًفا هو اآلخر‪ ،‬إذ إن االرادة الحرة بحسب سبينوزا تشترط على العقل‬
‫تكامل المعرفة لفهم النظام والضرورة في العالم‪ ،‬من أجل أن يكون حرا في اختيار‬
‫المعقول دائما بوصفه حال لكل مشكلة‪ .‬وهذا يختلف عن الفردية الحديثة التي ترى‬
‫أن اإلرادة الحرة هي التصرف وفقا لمصالحنا الشخصية‪ .‬وهذه الرؤية تظهر تناقضا من‬
‫نوع آخر بين مفهوم اإلله ومفهوم االرادة الحرة‪ .‬إذن‪ ،‬كيف تتسق اإلرادة الحرة الفردية‬
‫المرتكنة إلى المصلحة الشخصية مع اإللزام باالختيار الجماعي لبراهين وجود اإلله؟‬
‫كنت أؤمن بال ّله بفرديتي‬
‫كيف تتسق المشاركة الجماعية لدين تم اختياره شخصيا؟ اذا ُ‬
‫وبحريتي الشخصية فأنا لست بحاجة إلى مشاركة ومظاهرة عالمية بإيماني هذا‪ ،‬إال إذا‬
‫قدّ مت لي تلك المشاركة برهان ًا يتك ّيف مع طريقتي في التفكير‪ ،‬وهذا معناه أن الدين‬
‫ليس االختيار الجماعي كما تسوق له الفردية الحديثة‪ .‬هكذا يبدو من الواضح أن إله‬
‫سبينوزا ال يمكن تبنيه من قبل مجتمعنا الفردي‪ ،‬ألنه إله غير شخصي تماما‪ ،‬وأن هذا‬
‫العالم يمكنه أن يعمل من دون الحاجة للبشر‪ ،‬وهذا يصطدم مع مشكلة التطور التاريخي‬
‫التي بدأها كل من ديكارت وبيكون عندما دافعا عن أن اإلنسان يستطيع السيطرة على‬
‫الطبيعة‪ ،‬وتبعا لذلك ظهرت في الفلسفات الغربية المتمحورة حول الذات كيف‬
‫يمكن أن تكون لتلك الفلسفة أن تصنع توترا ميتافيزيقيا يرتكز على محايثة ال ّله مع‬
‫الشر‪ ،‬في حين أن المختلف االسبينوزي قد أقر بعدم إمكان تغيير العالم ألنه خلق‬
‫ال ّله‪ .‬ويمكن لفكرة سبينوزا هذه عن اإلله أن تقدم المبدأ المتعالي الذي يمكن أن يفي‬

‫‪ 38‬فؤاد زكريا‪ :‬سبينوزا‪ ،‬ص ‪.200‬‬


‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪130‬‬
‫بالتوتر الميتافيزيقي الذي تمت إثارته من قبل‪ ،‬دون الوقوع في مخاطر األيديولوجيات‬
‫الشائعة‪ ،‬إذ سيكون التعصب مستحيالً‪ ،‬ألن سبينوزا يجعل الهوة عميقة بين المجال‬
‫السياسي والمجال الديني‪ .‬كل الخطابات الدرامية التي صدمت العالم آلالف السنين‬
‫(كعقيدة الفداء‪ ،‬ونهاية العالم) على سبيل المثال ستكون غير قابلة للتصور‪ ،‬ألنه ال‬
‫يوجد عالم باستثناء العالم الحالي‪ .‬واألهم من كل ذلك أن فكرة سبينوزا عن اإلله‬
‫يمكن أن تمنع هيمنة أي شخص أو مؤسسة على العقيدة أو الممارسات الدينية‪ ،‬من‬
‫حيث أن ال ّله موجود بالضرورة‪ ،‬وفي كل مكان‪ ،‬يكفي أن يكون االنسان على قيد الحياة‬
‫أن دروس إله سبينوزا ال تقتصر على الدين فحسب‪ ،‬بل يمكن‬ ‫لتكريمه‪ .‬باإلضافة إلى ّ‬
‫تطبيقها أيضا على المسائل البيئية أو االقتصادية‪ ،‬فكما خلق العالم بال ّله كامال بالفعل‪،‬‬
‫فإنه من غير المجدي محاولة السيطرة عليه‪ ،‬فكل إنسان لديه مكانه في العالم‪ ،‬ال أقل‬
‫وال أكثر ويتعين علينا قبول مكانتنا كما هي‪ ،‬ومحاولة الحفاظ عليها‪ .‬والشيء الوحيد‬
‫الذي يجب القيام به هو معادلة الظروف المعيشية لكل البشر من أجل العيش بخير‬
‫وبسالم‪.‬‬
‫وعلى ذلك كان البد لقيم الخير والشر بطبيعة الحال أن تكون مستمدة من القيم‬
‫االجتماعية الناجمة عن اتصال الناس بعضهم ببعض ففي الحالة الطبيعية يستحيل‬
‫تصور الخطيئة‪ ،‬وهي ال توجد إال في حالة يتفق فيها الناس على معنى الخير والشر‪،‬‬
‫ويتعين على كل شخص أن يطيع سلطة الدولة‪ ،‬ففي الحالة الطبيعية ال نستطيع أن‬
‫نتصور رغبة في إعطاء كل ذي حق حقه‪ .‬بعبارة أخرى ال يوجد في الحالة الطبيعية شيء‬
‫يطابق العدالة والظلم‪ .‬مثل هذه األفكار ال تكون ممكنة إال في دولة اجتماعية‪ ...‬من‬
‫هذا كله يتضح أن العدل والظلم‪ ،‬والخطيئة والفضيلة‪ ،‬أفكار خارجية وليست صفات‬
‫تكشف عن طبيعة العقل‪ .39‬وعلى هذا ال يكون الطريق الغائي نحو القيم الفضلى هو‬
‫الطريق المؤدي إلى السعادة بالمعنى السبينوزي‪.‬‬

‫إرادة شوبنهاور وجوهرية الشر‬


‫يجعل شوبنهاور اإلرادة المبدأ األساس في الكون كله‪ ،‬ولذلك أسمى كتابه بـالعالم‬

‫‪39 Spinoza: Ethics: IV, XXXVII, not. 2, p: 213‬‬


‫‪131‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫إرادة وتمثال‪ ،‬أي أنه أرجع العالم كله إلى شيئين هما إرادة تتحكم به‪ ،‬وتصورات تنطبع‬
‫في الذهن عنه‪ .‬وقد رأى اإلرادة حقيقة الكون؛ أي الشيء في ذاته‪ ،‬وهي ليست في‬
‫تعم الكون ك َّله‪ ،‬وهي تظهر نفسها في موجودات العالم كل على حده‬
‫اإلنسان فقط بل ّ‬
‫وبشكل مستقل وموضوعي‪ ،‬فهي مسؤولة عن كل ما يجري في العالم من تغيرات‪.40‬‬
‫كلمة إرادة عند شــوبنهاور ال تشــير إلى المفهــوم العادي والمألوف لهــذه الكلمة‪،‬‬
‫التي يتصورها اإلنسان بالمعنى البشري الذي يشير إلى اتخاذ القرار المسترشد بالعقل‪،‬‬
‫إنما يعني بها الرغبة الملحة التي ال تهدأ وتحرك كل شــيء‪ ،41‬وبه يتحقق وجوده‬
‫ويســتمر في الحياة‪ ،‬وهي قــوة عمياء ال عاقلة‪ ،‬أو اندفاع أعمى في قوى الطبيعة‪ ،‬بمعنى‬
‫أنها تسيطر على الكائنات وتقع خارج وعيها‪ .‬أيضا كانــت اإلرادة عند شــوبنهاور تعبر‬
‫عــن االتجاه الالعقالنــي في فلســفته باعتبارها قوة غير عاقلة‪ ،‬وهي في الوقت نفســه‬
‫أســاس لالتجاه التشــاؤمي في فلســفته‪ .42‬حين يتحدث عن اإلرادة فإنه يتحدث عنها‬
‫بوصفها ال عقالنية‪ ،‬فاإلرادة منظورا إليها في ذاتها تكون عارية من المعرفة‪ ،‬وهي‬
‫ليست سوى رغبة ملحة عمياء‪ ،‬حينما تتبدى في الطبيعة الالعضوية والنباتية وقوانينها‪،‬‬
‫مثلما تتبدی أيضا في الجانب التناسلي من حياتنا‪ .‬من خالل إضافة العالم بوصفه‬
‫تمثال ينشأ ليكون في خدمة اإلرادة‪ ،‬فإن اإلرادة تحصل عندئذ على المعرفة بمشيئتها‬
‫الخاصة‪ ،‬أعني أن مشيئتها ليست سوى هذا العالم ذاته‪ ،‬أي الحياة كما توجد بالضبط‪.43‬‬
‫هنا ترتبط اإلرادة بالحياة مثلما ترتبط بكل األشياء في العالم‪ ،‬حيث أن اإلرادة هي‬
‫الشيء في ذاته‪ ،‬أي جوهر العالم ومضمونه الباطني‪ ،‬في حين أن الحياة‪ ،‬أي العالم‬
‫المرئي أو الظاهري هو مجرد مرآة لإلرادة؛ فإن هذا العالم يرافق اإلرادة بشكل متالزم‬
‫مثلما يكون الجسم مصحوبا بظله‪ ،‬فحيثما توجد اإلرادة ستوجد الحياة والعالم‪ .44‬لهذا‬
‫فجوهر الوجود والذات اإلنسانية هي اإلرادة‪ ،‬ال الفكر كما أقر كانط‪ ،‬ألن اإلرادة هي‬

‫‪ 40‬هنري توماس‪ ،‬أعالم الفلسفة كيف نفهمهم‪ ،‬ص ‪.290‬‬


‫‪ 41‬تيري إيجلتون‪ ،‬مشكالت مع الغرباء‪ ،‬ص ‪.186‬‬
‫‪42 E. F. J. Payne’s Introduction to the World as Will and Representation،, Volume 1,‬‬
‫‪P. ix.‬‬
‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.156‬‬ ‫‪ 43‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬
‫‪ 44‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪132‬‬
‫الشيء في ذاته والحقيقة المطلقة‪ ،‬فالعالم ليس فقط تصورا خالصا ومحضا‪ ،‬بل هو‬
‫إرادة تسكن اإلنسان وتسبق العقل وتتقدم عليه وغير خاضعة لمقولتي الزمان والمكان‪،‬‬
‫كونها مستقلة وغير خاضعة ال لقوانين الطبيعة وال لمبدأ العقل الذي تسبقه وتحدده‪.45‬‬
‫نالحظ إذن أن اإلرادة تمثل كل فعل نقوم به حتى وإن كان جزئيا فهو يعبر عنها‪ ،‬ألنها‬
‫هي الطبيعة الباطنة التي تسكن الذات والتي يستطيع من خاللها الفر ُد فهم ذاته وفهم‬
‫العالم بكل تجلياته‪ ،‬ألنها توجد في ذاته كجوهر وماهية غير خاضعة لقوانين العالم‬
‫الحسي‪ ،‬أما العقل فما هو إال خادم لها‪ ،‬فحينما نشعر بالجوع على سبيل المثال؛‬
‫وتكون لنا إرادة في األكل فإن العقل يبدأ بالتفكير في كيفية تحضير األكل‪ ،‬ومن هنا‬
‫فهو الوسيلة التي تحقق رغبة اإلرادة‪ .‬اإلرادة وحدها هي الع ّلة الكاملة للمشيئة‪ ،‬بمعنى‬
‫أنها هي أصل كل فعل‪ ،‬وليس المعرفة أو العقل‪ .‬ال ننكر أن أفعالنا تتوقف إلى حد كبير‬
‫على المعرفة‪ ،‬أي أننا نريد شيئا ألننا نعرفه‪ ،‬بيد أنه يجب أن نالحظ في نفس اآلن أننا إذا‬
‫كنا نعرف هذا الشيء دون اآلخر فما ذلك إال ألن إرادتنا قد شاءته دون اآلخر‪ ،‬وهكذا‬
‫ففعل اإلرادة سابق حتى على فعل التعقل‪ ،‬ألن اإلرادة باعتبارها جوهرا ونواة ثابتة‪،‬‬
‫فإنها تتحمل مسؤولية التصميم والعزم‪ ،‬فاإلنسان في آخر المطاف كائن مريد‪.46‬‬
‫وهذه اإلرادة في نظر شوبنهاور هي الشر وهي أصل المعاناة‪ ،‬فهي من خالل‬
‫التأكيد على الصراع الذي تفرضه على الكائنات الحية تأتي الشرور المسببة للمعاناة‪،‬‬
‫وتجليات هذا الصراع في الطبيعة يوضحها بقوله إننا في كل مكان من الطبيعة نرى‬
‫الصراع وتناوب االنتصار‪ .‬هذا الصراع يمكن اقتفاء أثره في مجمل الطبيعة‪ ،‬وهذا‬
‫الصراع الكوني يشاهد على أوضح نحو في المملكة الحيوانية‪ .‬الحيوانات تتخذ‬
‫المملكة النباتية مصدرا لغذائها‪ ،‬وداخل المملكة الحيوانية ذاتها نجد أيضا أن كل‬
‫حيوان يكون فريسة وغذاء لحيوان آخر‪ ،‬حتى إننا لنجد الجنس البشري آخر األمر‪،‬‬
‫من حيث إنه يخضع كل الكائنات األخرى لذاته ويعتبر مجمل الطبيعة مصنوعة ألجل‬
‫منفعته الخاصة؛ نجد أن اإلنسان يكون ذئبا ألخيه اإلنسان‪ .47‬لكن اإلنسان كفرد ال‬

‫‪ 45‬عادل العوا‪ ،‬العمدة في فلسفة القيم‪ ،‬ص‪.119:‬‬


‫‪ 46‬عبدالرحمن بدوي‪ :‬خالصة الفكر األوروبي‪ :‬شوبنهاور‪ ،‬ص‪.106 :‬‬
‫‪ : 47‬فرنر شينيدرس‪ ،‬الفلسفة األلمانية في القرن العشرين‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪133‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫يمكن أن يعرف إرادته بعمومها‪ ،‬وال أن يعرفها في وحدتها المطلقة‪ ،‬بل حتى إنه ال‬
‫يعرفها تماما في جوهرها‪ ،‬ألنه ال يدركها إال من خالل تمظهراتها الفعلية في ذاته وفي‬
‫األشياء كلها‪ .‬ومعرفته هذه يستحيل تمثلها من دون تدخل جسده واألشياء األخرى في‬
‫العالم‪ ،‬إذ إن اإلحساس بها مشروط بجعل العالم تمثال‪ .‬من هذه النظرة المعرفية‪ ،‬فإن‬
‫اإلرادة هي مجموعة األفعال التي يقوم بها الفرد من أجل معرفة العالم‪ ،‬وفهم الطبيعة‬
‫الباطنة لألشياء‪ ،‬والطبيعة الباطنة التي تحوينا جميعا هي التي تسعى من خاللنا إلى‬
‫تحقيق أهداف استمراريتها‪.48‬‬
‫يرى شوبنهاور أن اإلرادة لكي تؤكد سيطرتها ونفوذها على الكائنات الحية‪ ،‬فإنها‬
‫زودت الكائنات الحية بغريزة حفظ النوع‪ ،‬ولهذا كانت هذه الغريزة هي المظهر األقوى‬
‫إلرادة الحياة‪ .‬الفرد الذي يخضع لتلك الغريزة ليس في الواقع غير مناسبة صرفة لكي‬
‫تتحقق اإلرادة في لحظة زمانية معينة وفي مكان معين‪ .‬والفرد الوالد والفرد المولود‬
‫وإن اختلفا كظاهرتين‪ ،‬فإن بقاء النوع هو العلة من وجود أفراده‪ .‬وإذا ما سألنا عن‬
‫ً‬
‫سؤال ال تقدم لنا الطبيعة عنه أي جواب‪ ،‬ألن الطبيعة بهذه‬ ‫علة وجود النوع فإن هذا‬
‫السيطرة العمياء لإلرادة عليها والصراع المستمر والوحشي فيها ال يمكن أن تهبنا جوابا‬
‫منطقيا عن علة وجود أنواع من الكائنات الحية في الطبيعة‪ ،‬ألن زمان األفراد وقوتهم‬
‫ينفقان بأسرهما في االحتفاظ بالبقاء؛ بقاء الفرد في نفسه وفي ذريته من بعده‪ ،‬أي في‬
‫االحتفاظ بالنوع‪.49‬‬
‫نخلص مما تقدم إلى أن اإلرادة ليست جانبا من الشي في ذاته‪ ،‬بل هي الشيء في‬
‫ذاته نفسه‪ ،‬وهي حقيقة جميع الكائنات‪ ،‬فهي أساس كل الحيوانات والبشر على حد‬
‫سواء‪ ،‬وهي الشيء الذي يوحدها جميعا رغم اختالفاتها‪ .‬والعقل اإلنساني هو عنصر‬
‫ثانوي‪ ،‬فهو مجرد ٍّ‬
‫تجل وأداة في خدمة اإلرادة‪ .‬فال فرق بين إرادة جميع المخلوقات‬
‫واإلرادة اإلنسانية‪ ،‬من حيث الجوهر‪ ،‬أما من حيث شدة ظهورها فيوجد اختالف‬
‫بسبب تباينها في الذكاء‪.50‬‬

‫‪ 48‬أمل مبروك‪ ،‬الفلسفة الحديثة‪ ،‬ص ‪.275‬‬


‫‪ 49‬فؤاد كامل‪ ،‬الفرد في فلسفة شوبنهاو‪ ،‬ص‪ .٩٣‬كذلك‪ :‬بدوي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬ص‪.٢٣٣‬‬
‫‪ 50‬عادل العوا‪ ،‬العمدة في فلسفة القيم‪ ،‬ص‪ 600:‬ــ ‪.601‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪134‬‬
‫يرى شوبنهاور أن المعاناة هي صفة حقيقية للوجود‪ .‬والحياة ال يرجى منها غير‬
‫المعاناة‪ ،‬وهي مفعمة بالبؤس واأللم‪ ،‬فهذه هي طبيعتها وهي جوهر الحياة‪ .51‬من خالل‬
‫فحص السمات األولى األساسية للحياة اإلنسانية‪ ،‬فإن هذه الحياة بفطرتها وطبيعتها‬
‫ليست بقادرة على أن تمنحنا أي سعادة حقيقية‪ ،‬وإنما هي في أصلها معاناة في صور‬
‫عديدة وحالة مأساوية يمكننا اآلن أن نتمثل تلك القناعة إلى أمثلة من الحياة أكثر تحديدا‬
‫واألمثلة النهائية‪ ،‬وهي مأساوية دوما في كل أشكالها‪ .52‬هذه المعاناة حتمية كونها صفة‬
‫ثبوتية للجوهر‪ ،‬وتتحقق هذه الحتمية بإعاقة ما تتطلبه اإلرادة‪ ،‬او بالخضوع لها‪ ،‬فسواء‬
‫خضعنا لإلرادة أم قاومناها‪ ،‬فبكال الحالتين المعاناة متحققة ومحتمة علينا‪ .‬نحن في‬
‫معاناة مستمرة وبدون أي سعادة باقية‪ .‬كل سعي في الحياة سواء حقق المرجو منه أم‬
‫لم يحقق‪ ،‬فإن المعاناة مالزمة له دائما من دون انقطاع‪ ،‬لذلك ال يوجد رضا دائم‪.53‬‬
‫على النقيض من ذلك‪ ،‬فإننا دائما نعاني من بداية سعي جديدة‪ ،‬بعد كل سعي ينقضي‪،‬‬
‫ومن هنا نجد أن المساعي كثيرة ومتعددة في األزمنة واألمكنة وبها تبدأ المعاناة‪ .‬لذلك‬
‫فإنه ال يوجد هدف محدد للسعي‪ ،‬وبالتالي ال يوجد حد للمعاناة‪ .‬وألن المعرفة التي‬
‫يتمتع بها اإلنسان تحقق التمييز‪ ،‬فإن الوعي سوف يزداد واأللم يتزايد وبالتالي يصل‬
‫إلى أقصى حد عند اإلنسان‪.54‬‬
‫لذلك كله‪ ،‬فإن شوبنهاور يصر على موقفه من أن العالم مليء بالشرور‪ ،‬وال مجال‬
‫للتفاؤل فيه‪ .‬من أجل هذا‪ ،‬هاجم شوبنهاور دعوى ليبنتز بأن هذا العالم هو أحسن‬
‫العوالم الممكنة‪ ،‬على أساس أن هذا العالم هو بالفعل أسوأ العوالم الممكنة‪ .‬وهو يرى‬
‫أن براهين ليبنتز على إيجابية الخير وسلبية الشر‪ ،‬إنما هي نوع من السفسطة فالعالم‬
‫جحيم مستمر‪ ،‬وال مجال فيه للتنعم باستمرار‪ .55‬وفي هذا يقول‪« :‬إن من أمعن النظر‬
‫في تعالیم فلسفتي‪ ،‬هو بالتالي من يعرف أن وجودنا كله هو شيء كان من األفضل أال‬
‫يوجد‪ ،‬وأن نبذه وإنكاره هو الحكمة األسمى»‪ .‬يؤكد شوبنهاور أنه حتى إذا فرضنا أن‬

‫شوبنهاور‪ ،‬حكمة الحياة‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪51‬‬


‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.223‬‬ ‫شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬ ‫‪52‬‬
‫برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.387‬‬ ‫‪53‬‬
‫وفيق غريزي‪ ،‬شوبنهاور وفلسفة التشاؤم‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪54‬‬
‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬الجزء االول الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.225‬‬ ‫شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬ ‫‪55‬‬
‫‪135‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫كل رغباتنا قد تحققت‪ ،‬فسوف تنتابنا حالة من السأم أو الضجر‪ ،‬وهكذا تتأرجح الحياة‬
‫بين األلم والسأم‪ ،‬فالحياة كلها معاناة‪ .‬وأفضل عزاء في المصيبة أو أي نوع من البلوى‬
‫يصيب اإلنسان هو التفكير في اآلخرين المبتلين بمحنة أسوأ من محنتك‪ ،‬وهذا النوع‬
‫من المواساة متاح للجميع‪ ،‬فالجميع مثل الخراف في الحقل‪ ،‬تلهو تحت عين الجزار‬
‫الذي يختار واحدة تلو اآلخر ليكون ضحيته‪ ،‬ولذلك فإننا في أيامنا الجيدة نكون غير‬
‫واعين للشر الذي لربما يخبئه لنا القدر‪ :‬المرض‪ ،‬الفقر‪ .‬كما أن الوقت يضغط علينا‬
‫وال يترك لنا مجاال للتنفس بل يالحقنا دوما‪ ،‬وإذا كف الوقت عنا يده في لحظة ما‪ ،‬فال‬
‫يكون ذلك إال حتى يسلمنا إلى معاناة الملل‪.56‬‬
‫ومن هذا كله فإن شوبنهاور يؤكد أن واقعية الحياة تعطينا هذه الحقيقة المؤلمة ال‬
‫غير‪ ،‬وحتى مع وفرة حظوظ المرء ومهما نال من مراتب تشعره بشيء من الراحة‪ ،‬فإن‬
‫جوهر الحياة هو األلم ال محالة‪ .‬يقول شوبنهاور‪« :‬إن الحياة مهما زوقناها ونمقناها‬
‫وأحطناها بمظاهر البهرجة‪ ،‬فإن حقيقتها العميقة ومعدنها المغمور سرعان ما تنكشف‬
‫متدثرة بأسمال البؤس والشقاء»‪.57‬‬
‫من هنا يؤسس شوبنهاور تمييزه لمعن َيي الخير والشر بوصفهما مفهومين تُبرر من‬
‫خاللها األفعال اإلنسانية‪ ،‬ونفصلها إلى أفعال أخالقية وغير أخالقية‪ ،‬على مفهوم‬
‫الفردية‪ ،‬فكلما كان اإلنسان موغال في فرديته‪ ،‬كان واقعا في الشر‪ ،‬وإذا ما تحرر من هذه‬
‫الفردية فإنه يكون في كنف الخير‪ ،‬وبالتالي تكون أفعاله خ ّيرة‪ ،‬إذ إن مبدأ الفردية يفصل‬
‫بين عالم الرذيلة والشر‪ ،‬وعالم الخير والفضيلة‪ ،‬ونحن ما دمنا خاضعين لعالم الرذيلة‬
‫والشر عشنا في هذه المتضادات‪ ،‬وإذا تجاوزناها دخلنا في عالم الخير والفضيلة‪.58‬‬
‫مفهوم الخير إذا نظرنا إليه بذاته‪ ،‬هو الحد من اإلرادة وتهدئة طلباتها التي ال تنتهي‪،‬‬
‫أما الشر فهو االنصياع التام لها مع إلغاء إرادات اآلخرين‪ .‬الشرير هو الذي يؤكد‬
‫إرادة الحياة المتجسدة في بدنه مع تماديه إلى حد إلغاء اآلخرين وتسخيرهم لخدمته‬
‫الشخصية؛ هذا هو المعنى اإليجابي‪ .‬شوبنهاور يؤكد أن الفردانية التي تنتج األنانية‬

‫‪ 56‬شوبنهاور‪ ،‬تهمة اليأس‪ ،‬ص ‪ 11‬ــ ‪.12‬‬


‫‪ 57‬شوبنهاور‪ ،‬فن العيش الحكيم‪ ،‬ص ‪.308‬‬
‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪ 58‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪136‬‬
‫هي مصدر الشر‪ ،‬إذ إن األكثرية من البشر يخضعون للغريزة الجنسية وهم بذلك يبقون‬
‫الحياة‪ ،‬ويؤكدون عليها دون تفكير‪ ،‬وهذا التوكيد فوق العادة يكون مصدرا للرغبات‬
‫والشهوات واالنفعاالت القوية‪ ،‬والذي يقود إلى إنكار وجود اآلخرين والتفكير‬
‫بالقضاء عليهم إذا اعترضوا طريقه‪ ،‬وهذا ما نسميه األنانية وهي أساس الصراع بين‬
‫األفراد‪ .‬االنغماس بالفردية يؤدي إلى أن يكون كل فرد يجعل من نفسه مركز العالم‬
‫وينظر إلى وجوده ومصالحه في المقام االول‪ .‬ووفقا للنزوع الطبيعي فإنه يكون على‬
‫استعداد ألن يضحي بأي شيء آخر من أجل ذلك يكون على استعداد ألن يبيد العالم‬
‫لكي يؤكد البقاء على ذاته الخاصة لفترة أطول‪ ،‬تلك الذات التي هي قطرة في المحيط‬
‫وهذا النزوع هو األنانية‪.59‬‬
‫وللخير معنى سلبي عند شوبنهاور يتمثل في عدم التعدي على إرادات اآلخرين‪ ،‬إذ إننا‬
‫نصف كل األشخاص الذين يحابون ويدعمون ويناصرون األهداف التي تطلبها رغباتنا‪،‬‬
‫نصفهم بأنهم خیرون‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن أولئك الذين يكونون بطبيعتهم ميالين‪ ،‬ال إلى إعاقة‬
‫جهود اإلرادة لدى شخص آخر‪ ،‬وإنما إلى تشجيعهم‪ ،‬أولئك الذين يكونون على الدوام‬
‫مساعدين‪ ،‬ومحبين للخير‪ ،‬وودودين‪ ،‬ومحسنين إلى الناس‪ ،‬هم من نصفهم بالخيرين‪.60‬‬
‫األفعال الخيرية عنده تتحقق في االبتعاد عن الفردانية‪ ،‬فهذه االفعال تنشأ بدرجة أكبر في‬
‫النزوع نحو الخيرية‪ ،‬فــالخيرية التي تتبدى بوصفها محبة لآلخرين خالصة ال مصلحة‬
‫فيها‪ ،‬وعندما تصبح الخيرية تامة‪ ،‬فإن المرء يتعامل مع الفردية ومصائر اآلخرين تماما‬
‫مثلما يتعامل مع فرديته ومصيره‪ ،‬فالفردية ال يمكنها أبدا أن تتجاوز ذلك‪ ،‬ألنه ال يوجد‬
‫سبب لتفضيل فردية شخص آخر على فردية المرء التي تخصه‪ .‬لكن في مثل هذه الحالة‬
‫نجد أن الشخصية التي تلعب أسمى درجات الخيرية والشهامة التامة‪ ،‬سوف تضحي‬
‫بخيرها الخاص وبحياتها تماما من أجل خير كثير من اآلخرين‪.61‬‬
‫األخالق بهذا المعنى نسبية ال مطلقة‪ ،‬اإلطالق والكلية ال ينسجم لدى شوبنهاور‬

‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.235‬‬ ‫‪ 59‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬
‫ً‬
‫وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص ‪.169‬‬ ‫‪ 60‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة‬
‫ً‬
‫‪ 61‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة وتمثال‪ ،‬ج‪ 1‬الوجه الثاني‪ ،‬ص‪ .292‬كذلك ينظر‪:‬‬
‫‪Collin, James, A History of Modern European Philosophy, p. 695.‬‬
‫‪137‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫مع ما يراه من صيرورة وتغير مستمرين في كل شيء عدا اإلرادة‪ ،‬فكل فعل أخالقي هو‬
‫نسبي متغير بحسب الظروف واألزمنة‪.‬‬
‫من الواضح جدا أن شوبنهاور يضع فلسفة أخالقية تحدد طرق تعامل الذات مع‬
‫اآلخر‪ ،‬رغم أنه يعتقد أن الذات واآلخر هما في حقيقتهما شيء واحد‪ ،‬فكالهما تجسد‬
‫لإلرادة‪ ،‬فهو يبني هذه الفلسفة على مفهوم وحدة األفراد ووهم الفردية‪ ،‬فالفرد فالن‬
‫وفالن يبدوان ظاهرتين مختلفتين في التتابع‪ ،‬لكنهما شيء واحد في ذاتهما أي بالنسبة‬
‫لإلرادة التي تتحقق فيهما سويا‪ ،‬وإن كونهما ظاهرتين يجعل منهما فردين مختلفين‬
‫كونهما خضعا لمبدأ الفردية‪ ،‬وليس بوصفهما إرادة‪ ،‬فهما شيء واحد؛ كون اإلرادة ال‬
‫تخضع لمبدأ الفردية‪ .62‬هذا يؤدي إلى مشكلة حرية اإلرادة االنسانية‪ ،‬وهذه المشكلة‬
‫تنطلق من اعتبار شوبنهاور اإلراد َة حقيقة مطلقة‪ ،‬وكل ما عداها خاضعا لها‪ ،‬وأن‬
‫اإلنسان ال يختلف عن أي شيء آخر‪ ،‬فهو خاضع لإلرادة كذلك‪ .‬إذن كيف نعلم إذا‬
‫ما كانت لدي أية حرية في إرادة هذا أو ذاك المسار من السلوك؟ المشكلة األخالقية‬
‫هنا ترتبط وجوديا بمفهوم اإلرادة‪ ،‬فإذا كان كل شيء خاض ًعا لإلرادة‪ ،‬فكيف يمكن‬
‫لإلنسان أن يختار أفعاله بحرية؟ بعبارة أخرى‪ :‬إذا كان شوبنهاور يرى أن الشخصية‬
‫اإلنسانية ال يمكن تغييرها‪ ،‬فلماذا يضع نظاما أخالقيا لتوجيه الفرد نحو الخير وترك‬
‫الشر؟ وكيف يمكن التغلب على اإلرادة بالقيام بفعل أخالقي غير خاضع لها؟ هذه‬
‫هي المشكلة الوجودية التي تكتنف موقفه األخالقي‪ ،‬فنحن كما يرى شوبنهاور مجرد‬
‫ظواهر لإلرادة‪ ،‬واإلرادة هي جوهر كل شيء في العالم‪ .63‬وللتخلص من هذه المشكلة‬
‫يذهب إلى أن األفعال تحدث من خالل ارتباط بين شخصية المرء ودافع يحدث في‬
‫وعيه‪ .‬وهذا أساس دعواه بأن كل األفعال تكون محتمة‪ .‬وهو يميز بين حرية اإلرادة‬
‫وحرية الفعل‪ ،‬فحرية الفعل هي القدرة على فعل شيء ما‪ ،‬إذا ما أراد المرء أن يفعله‪.‬‬
‫وهذه الحرية يمكن إبطالها من خالل عوائق خارجية تحول دون حدوث الفعل‪ ،‬ومن‬
‫خالل دوافع قهرية‪ ،‬ومن خالل قوانين أو تهديدات لها نتائج متنوعة إذا ما قام المرء‬
‫بالفعل‪ ،‬أو من خالل إضعاف الملكات المعرفية للذات‪ .‬إن شوبنهاور يعي هذا األمر‪،‬‬

‫‪ 62‬فؤاد كامل‪ ،‬الفرد في فلسفة شوبنهاور‪ ،‬ص ‪.93‬‬


‫‪ 63‬كريستوفر جاناواي‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪138‬‬
‫ويجعل قواعده األخالقية لتوجيه مسار السلوك ومنعه من االنفالت‪ ،‬بمعنى أن من له‬
‫صفة األنانية مع التدرب يمكنه كبح جماح نفسه والسيطرة عليها‪ ،‬فيكون أقل تعبيرا عن‬
‫أنانيته‪ ،‬لكنه ال يكون شخصا غير أناني بصورة تامة وباستمرار‪.64‬‬
‫إال أنه ومن خالل االستناد إلى مبدأ السبب الكافي‪ ،‬القائل بأن كل شيء يخضع‬
‫للسببية‪ ،‬ال توجد حرية إلرادتنا المتجسدة فينا‪ ،‬فقراراتنا تخضع ألسباب ودوافع‬
‫تحركنا قهرا لتنفيذها‪ .‬ومهما حاولنا فإن كل ما يصدر منا تقف وراءه أسباب في وعينا‪،‬‬
‫ال يمكن أن نتخلص منها‪ .65‬إن شوبنهاور يؤكد أن اإلنسان فيه ذات وهمية زائفة‪ ،‬هي‬
‫الذات الفردية‪ ،‬وذات متعالية على الفردية ترتبط بالمعرفة الكاملة هي الذات العارفة‪.‬‬
‫فهذه الذات األخيرة يمكن أن تحرره من اإلرادة‪ ،‬باعتبارها غير خاضعة لها‪ ،‬ورغم أن‬
‫شوبنهاور لم يعرف حقيقتها بالضبط‪ ،‬فهي عقدة العالم التي لم تنحل‪ ،66‬لكنه ينطلق‬
‫من تحقق وجودها الواقعي‪ ،‬الذي يحكم بإمكانية تجاوز متطلبات اإلرادة‪ .‬فيؤكد أن‬
‫ارتقاء العقل فوق متطلبات اإلرادة يحدث في حاالت قد تكون نادرة وتحت ظروف‬
‫استثنائية‪ ،‬كالتأمل الجمالي‪ .‬وأحيانا تكون لحظات طويلة (كما في األفعال األخالقية‬
‫والزهد)‪ ،‬فاإلرادة خلقت لها عدوا وهو العقل‪ ،‬الذي يمكنه اكتشاف طبيعة الوجود‪،‬‬
‫ومعرفة أن كل شيء يخضع لإلرادة العمياء وللزوال المحتوم‪ ،‬وبهذه القدرة يمكنه أن‬
‫يتخلص من سيطرة اإلرادة ومأساة الحياة‪ .67‬وال تنهار المسؤولية األخالقية‪ ،‬والجزاء‬
‫نتيجة لهذه النظرية‪ ،‬فشوبنهاور يبقي على تأييد تحمل مسؤولية األفعال‪ ،‬رغم أنه ال‬
‫توجد حرية في أفعالنا‪ ،‬والسبب تجريبي هنا‪ ،‬فنحن نعاقب الجاني على جنايته رغم‬
‫عدم حريته في فعله هذا‪ ،‬ألننا نعلم بصدور الفعل منه‪.68‬‬
‫في فلسفة شوبنهاور نعثر على ذلك الطابع الالعقلي‪ ،‬وتلك الجرأة التي سمحت‬
‫له أن يكون أول من أدخل فكرة الالمعقول في الفلسفة إذ جعل اإلرادة عمياء طائشة‪،‬‬

‫روبرت فكس‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬ص ‪.113‬‬ ‫‪64‬‬


‫كريستوفر جاناواي‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬ص‪.١١٧‬‬ ‫‪65‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.71‬‬ ‫‪66‬‬
‫جوزايا رويس‪ ،‬روح الفلسفة الحديثة‪ ،‬ص ‪.308‬‬ ‫‪67‬‬
‫كريستوفر جاناواي‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬ص ‪ 120‬ــ ‪ .121‬كذلك ينظر‪:‬‬ ‫‪68‬‬
‫‪Jade،H Davis, A Miror is for Reflection،, p. 264.‬‬
‫‪139‬‬ ‫ رواهنبوشو ازونيبس دنع رشلا اقيزيفاتيم‬

‫محطما بذلك النزعة العقلية في تفسير تصرفات اإلنسان‪ ،‬إذ جعل اإلرادة هي التي تملي‬
‫هذه التصرفات ال العقل‪ .‬في ضوء هذا الفهم الذي يقدمه شوبنهاور لمعنى اإلرادة ال‬
‫يعود دفاع اإلرادة الحرة لـ (بالنتينجا) صالحا ألن يمثل حال لمشكلة الشر والمعاناة‬
‫المنطقية‪ ،‬لكنه يمكن أن يكون دفاعا ضد مشكلة الشر اإلثباتية‪ ،69‬التي ترى بأن‬
‫االيمان بال ّله أمر غير منطقي في عالم يحتوي على الكثير من المعاناة‪ .‬قد يكون العالم‬
‫أفضل بالنسبة لبعض حاالت المعاناة‪( ،‬فالناس يتعلمون من أخطائهم‪ ،‬والمجرمون‬
‫محبوسون لحماية المجتمع‪ ،‬واألبطال يخاطرون بحياتهم إلنقاذ اآلخرين)‪ .‬لكن األمر‬
‫األسوأ هنا يتعلق بحاالت من المعاناة الشديدة التي ال يستحقها شخص وال تعود بفائدة‬
‫ألحد‪ .‬ربما ال يمكن للبشر الحصول على أحدهما دون األخرى‪ ،‬لكن إذا كان األمر‬
‫كذلك‪ ،‬فإن هذا المزيج من الخير والشر‪ ،‬في رأي الملحدين‪ ،‬أكثر داللة على المذهب‬
‫الطبيعي منه على اإليمان بال ّله‪.‬‬
‫لذلك فإن القضية الرئيسية‪ ،‬كما نراها‪ ،‬هي تحديد األسباب النموذجية للشر وما يسببه‬
‫من المعاناة واأللم التي ال طائل من ورائها‪ ،‬سواء كان ذلك األلم جسد ًّيا أو نفس ًّيا‪ ،‬وشرح‬
‫كيف يمكن للبشر فرد ًيا أو جماع ًيا‪ ،‬أن يتدخلوا بشكل أفضل لمنع أو تقليل الحاالت‬
‫المستقبلية من هذه الشرور والمعاناة من الناحية العملية‪ .‬هذا يعني القيام بكل ما يمكننا‬
‫القيام به من أجل تثقيف الناس ضد خطر التعرض للتضليل من قبل األيديولوجيات‬
‫الطائشة والتي تعمد إلى معاملة اآلخرين على أنهم غير بشر أو اناس من الدرجة الثانية‪،‬‬
‫وكل ما يمكننا القيام به لمساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية‪ ،‬وكل ما يمكننا القيام به‬
‫لحماية األطفال والفئات الضعيفة األخرى من الناس من الوقوع ضحية للجشع واالنانية‬
‫والالمباالة االجتماعية‪ .‬ويكفي أن نقول إن هذه مهام كبيرة بتأثيرها في التعاطي مع‬
‫مشكلة‪ ،‬ومن المشكوك فيه أن يكون علم الالهوت مفيدً ا أو ضرور ًّيا إلحراز أي تقدم‬
‫فيها‪ .‬لكن بلغة الالهوتيين يقال‪« :‬إن ال ّله يساعد الذين يساعدون أنفسهم»‪.‬‬

‫‪ 69‬لمزيد من االطالع حول الدفاع المنطقي والدفاع االثباتي في مشكلة الشر ينظر‪Shan Andre، :‬‬
‫‪The Problem with the Problem of Evil Open Journal of Philosophy > Vol.11 No.2،‬‬
‫‪ .May 2021‬منشور على الرابط‪https://www.scirp.org/journal/paperinformation. :‬‬
‫‪aspx?paperid=109394‬‬
‫يسيبكلا سابع ديز ‪.‬د‬ ‫‪140‬‬

‫الئحة المراجع‬
‫ ‪-‬سبينوزا‪ ،‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة حسن حنفي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪.1981 ،2‬‬
‫ ‪-‬أمل مبروك‪ ،‬الفلسفة الحديثة‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2011‬‬
‫ ‪-‬برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ج‪ ،3‬ترجمة‪ :‬محمد فتحي الشنيطي‪ ،‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬ط‪.1977 ،1‬‬
‫ ‪-‬تيري إيجلتون‪ ،‬مشكالت مع الغرباء‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الرحمن مجدي‪ ،‬ومصطفى‬
‫محمد‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2017 ،1‬‬
‫ ‪-‬جيل دولوز‪ ،‬سبينوزا ومشكلة التعبير‪ ،‬ترجمة انطوان حمصي‪ ،‬اطلس للنشر‬
‫والطباعة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.2004 ،1‬‬
‫ ‪-‬روبرت فكس‪ ،‬شوبنهاور‬
‫ ‪-‬زيد عباس الكبيسي‪ ،‬سبينوزا الفلسفة االخالقية‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2012 ،2‬‬
‫ ‪-‬سامي عامري‪ ،‬مشكلة الشر ووجود ال ّله‪ ،‬دار تكوين‪ ،‬المملكة العربية السعودية‬
‫ط‪.2016 ،2‬‬
‫ ‪-‬شوبنهاور‪ ،‬العالم إرادة وتمثالً‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫ ‪-‬شوبنهاور‪ ،‬تهمة اليأس‪،‬‬
‫ ‪-‬شوبنهاور‪ ،‬حكمة الحياة‪.‬‬
‫ ‪-‬شوبنهاور‪ ،‬فن العيش الحكيم‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد ال ّله زارو‪ ،‬منشورات الضفاف‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1‬ص ‪.308‬‬
‫ ‪-‬عادل العوا‪ ،‬العمدة في فلسفة القيم‪ ،‬دار طالس للدراسات والترجمة والتنشر‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪.1986‬‬
141 ‫جارملا ةحئال‬

.‫ دار القلم لبنان‬،،‫ خالصة الفكر األوروبي شوبنهاور‬:‫عبدالرحمن بدوي‬-


.1984 ،‫ االسكندرية‬،‫ دار المعرفة‬،‫ تيارات فلسفية حديثة‬:‫علي عبد المعطي‬-
،‫ محسن الدمرداش‬:‫ ترجمة‬،‫ الفلسفة األلمانية في القرن العشرين‬،‫فرنر شينيدرس‬-
.2005 ،1‫ ط‬،‫المشروع القومي للترجمة‬
.1983 ،3‫ ط‬،‫ بيروت‬،‫ دار التنوير‬،‫ سبينوزا‬،‫فؤاد زكريا‬-
،‫ الفرد في فلسفة شوبنهاور‬،‫فؤاد كامل‬-
.1974،‫ جامعة بنغازي‬،‫ عرض نقدي‬:‫ الفلسفة الحديثة‬،‫كريم متي‬-
‫ دار النهضة‬،‫ أمين‬،‫ متري‬:‫ ترجمة‬،‫ أعالم الفلسفة كيف نفهمهم‬،‫هنري توماس‬-
.1964 ،1‫ ط‬،‫ القاهرة‬،‫العربية‬
.‫ شوبنهاور وفلسفة التشاؤم‬،‫وفيق غريزي‬-
- Collin, James, A History of Modern European Philosophy, Bruce
Publishing Minnesota, USA, 3rd published،1959, p. 695.
- E. F. J. Payne’s Introduction to the World as Will and Representation,
Dover, Publications, New York, 1958, Volume 1.
- h t t p s : / / w w w. s c i r p . o r g / j o u r n a l / p a p e r i n f o r m a t i o n .
aspx?paperid=109394 Shan Andre, The Problem with the Problem of
Evil Open Journal of philosophy> Vol.11 No.2, May.
- Jade،H Davis, A Miror is for Reflection, Oxford University Press,
New York, USA, 1st published, 2017, p. 264.
- internet encyclopedia of philosophy, Logical Problem of Evil.ps://iep.
utm.edu/evil ‫ ــ‬log
- Spinoza, Ethics, the chief works of Spinoza, translated by R.H.M
Elwes, Dover publication،vol 2, New York, 1951.
- Spinoza, selected Letters, the chief works of Spinoza, translated by
R.H.M Elwes, Dover publication،vol 2, New York, 1951.
‫دراسات‬

‫الشر األخالقي‬
‫وإنتاج الشر البشري‬
‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬
‫د‪ .‬لؤي خزعل جبر‬

‫المنتِج‬
‫تعمد ــ ُ‬
‫الم َّ‬ ‫الشر األخالقي ‪ Moral Evil‬فعل اإلنسان أو تجنبه للفعل ــ ُ‬
‫ِ‬
‫متغلغل في‬ ‫إشكالي‬ ‫موضوع‬ ‫لحدث الأخالقي‪ ،‬كالقتل واالستغالل واالنتهاك‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫مختلف المنظومات الفلسف َّية والدين َّية والعلم َّية‪ ،‬لخطورته وعمقه وتعقيده‪ .‬لماذا‬
‫العوامل التي تقوده إلى ذلك؟‬ ‫ِ‬ ‫يمارس اإلنسان الشر؟ لماذا يؤذي اإلنسان اآلخر؟ ما‬ ‫ِ‬
‫كيف يستطيع التعايش مع ذلك؟ أسئلة لطا َلما َّأر َقت الباحثين‪ ،‬ودفعتهم إلنتاج‬
‫أجوب ٍة‪ .‬وفي علم النفس االجتماعي احت َّلت ِ‬
‫موضع‬ ‫عشرات الدراسات بح ًثا عن ِ َ‬
‫األول يرى أن الشر‬ ‫الصدارة‪ ،‬ووجدت ثالثة تيارات‪ :‬نزوعي وموقفي وتفاعلي‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يعود ــ باألساس ــ إلى اإلنسان ذاته‪ ،‬طبيعته‪ ،‬غرائزه‪ ،‬حاجاته‪ ،‬إدراكاته‪ ،‬مشاعره‪،‬‬
‫والثاني يرى أنه يعود ــ باألساس ــ إلى الظروف المحيطة باإلنسان‪ ،‬الموقف‪،‬‬
‫ِ‬
‫والموقف‪،‬‬ ‫نتاج تفاعل األولين؛ تفاعل الشخص َّية‬ ‫ِ‬
‫السياقات‪ ،‬النُظم‪ ،‬والثالث يرى أنه ُ‬
‫األصوب‪ ،‬بل لع َّل ُه ال يوجد األوالن بالصي َغة البحتة‪ ،‬فكل منهما ــ كما سنرى‬ ‫َ‬ ‫ولع َّل ُه‬
‫الحقائق النفسية األولية‪ .‬وفي ِ‬
‫هذه‬ ‫ِ‬ ‫بالمط َلق‪ ،‬لكون التفاعل من‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ــ ال ُيغفل اآلخر ُ‬
‫هذه التنظيرات‪ ،‬والتي‬ ‫الفار َقة في تأريخ ِ‬
‫سنحاول التعريف بأهم اللحظات ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدراسة‬
‫َ‬
‫ستكشف عن الرؤية التفاعل َّية‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪ 1‬باحث وأكاديمي عراقي متخصص في علم النفس االجتماعي‪ ،‬أستاذ في كلية التربية األساس َّية‬
‫‪.‬‬
‫بجامعة المثنى ــ العراق‬
‫‪143‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫الموا ِقف‬
‫في كتابِ ِه «طاعة السلطة‪ :‬رؤية تجريب َّية» (‪Obedience to Authority: )1974‬‬
‫‪ ،An Experimental View‬صدم عالِم النفس االجتماعي ستانلي ملغرام ‪Stanley‬‬
‫مكن أن ِ‬
‫يوقع أغلب الناس العاديين‬ ‫)‪ 1984‬ــ ‪ Milgram (1933‬البشرية بحقيقة أنه ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫األذى ِ‬
‫بغيرهم لمجرد طلب السلطة ذلك‪ ،‬حيث عرض فيه تجاربه الشهيرة‪« :‬تجارب‬
‫طاعة السلطة» (‪ 1960‬ــ ‪ .Obedience to Authority Experiments )1963‬وكانت‬
‫درب‪ُ /‬معلم‪،‬‬ ‫األول ُم ِّ‬
‫التجارب ذات بنية واضحة وبسيطة‪ :‬ثالثة أشخاص‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫تلك‬
‫دراس ٍة عن تأثيرات العقاب على‬
‫َ‬ ‫باحث‪ ،‬في‬ ‫والثاني متدرب‪/‬متعلم‪ ،‬والثالث ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫التعلم‪ ،‬وهناك جهاز صدمات كهربائ َّية‪ ،‬بمفاتيح متدرجة من (‪ 15‬ــ ‪ 450‬فولت)‪،‬‬
‫ُطرح عليه أسئلة‪ ،‬فإن أجاب إجابة صحيحة ال ُيص َعق‪،‬‬
‫ويوصل الثاني إلى الجهاز‪ ،‬وت َ‬
‫َ‬
‫وإن كانت خاطئة ُيص َعق‪ ،‬ومع تكرار اإلجابات الخاطئة تتصاعد شدة الصعقات‪،‬‬
‫واألول هو‬ ‫ِ‬
‫الباحث‪/‬السلطة‪.‬‬ ‫األول‪ ،‬بطلب من‬
‫َّ‬ ‫ومن يوجه هذه الصعقات هو َّ‬
‫موضع التركيز‪ ،‬فالثاني متعاون في التجربة‪ ،‬والصدمات غير حقيقية‪ ،‬وما يصدر‬
‫عنه من اعتراضات وصرخات عند تصاعد الصعقات إنما هو تمثيل‪ ،‬وقد اتخذت‬
‫األول بأن ما يجري حقيقي‪ .‬والهدف المباشر من التجربة كان‪:‬‬
‫كافة التدابير ليقتنع َّ‬
‫معرفة إلى أي حد سيذهب الشخص في الموقف الملموس والقابل للقياس الذي‬
‫ِ‬
‫المعار َضة‪ ،‬وعند أي نقطة سيرفض طاعة‬ ‫يطلب منه فيه إلحاق ألم متزايد بالضحية‬
‫الباحث؟‬
‫أع َلن ملغرام في الجريدة المحلية عن حاجته لمتطوعين لدراسة عن الذاكرة‬
‫والتعلم بمقابل مالي‪ ،‬فاستجاب عدد كبير من الناس‪ ،‬متنوعون في مهنهم وأعمارهم‬
‫األول‪ ،‬أما الثاني فكان محاس ًبا أربعين ًّيا‬
‫وتحصيلهم‪ ،‬وهم الذين شكلوا الشخص َّ‬
‫جلس كل شخص‬ ‫لطي ًفا‪ ،‬وكان الثالث الباحث الذي يشرح طبيعة الدراسة‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬
‫األول مواصلة الصدمات في حال امتناعه‪ ،‬حتى يمتنع تماما‪،‬‬
‫بمكانه‪ ،‬ويطلب من َّ‬
‫وبذلك تتوقف التجربة‪ ،‬فيتم إطالعه على عدم حقيقية التجربة‪ ،‬ويجلس الثالثة في‬
‫جلسة ودية وتُناقش بعض الموضوعات الخاصة بما حدث‪ .‬فكان ما يفعله الموقف‬
‫التجريبي ــ بتعبير ملغرام ــ ‪« :‬تكثيف العناصر الموجودة عند حدوث الطاعة في‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪144‬‬
‫العالم األكبر‪ ،‬حيث تحضر المكونات األساس َّية إلى مساحة محدودة خاضعة‬
‫للتدقيق العلمي»‪.‬‬
‫قبل الشروع بالتجارب حاول ملغرام استكشاف التوقعات المسبقة عن النتائج‪،‬‬
‫فوجه استبانات لثالثة مجموعات‪ :‬أطباء نفسيون وطلبة جامعة وبالغون متنوعون‪،‬‬
‫طلب فيها توقع نقطة رفض طاعة المجرب‪ ،‬فأشارت التوقعات إلى أن الجميع‬
‫سيرفضون‪ ،‬ومعظمهم سيتوقف عند (‪ 120‬فولت)‪ ،‬بهامش مرضي ال يتعدى (‪1‬‬
‫ــ ‪ )% 2‬يصلون إلى النهاية‪ .‬لكن النتائج بينت أن (‪ )% 17‬توقفوا عند (‪ 150‬فولت‬
‫فما دون)‪ ،‬بينما (‪ )% 65‬واصلوا إلى (‪ 450‬فولت)! مما يشير بوضوح إلى أن الناس‬
‫العاديين مستعدون لقتل غريب بريء لمجرد أن السلطة تطلب منهم ذلك‪ ،‬ويكشف‬
‫عن القوة التدميرية والحتمية للطاعة‪.‬‬
‫قام ملغرام بإدخال عدد من التعديالت على التجربة األساس َّية للتدقيق في‬
‫العوامل المؤثرة على ارتفاع أو انخفاض نسبة الطاعة‪ ،‬من قبيل اإلطار المؤسسي‪،‬‬
‫حيث أنه عندما قابل المشاركين بعد التجربة وسألهم عن سبب استمرارهم في توجيه‬
‫الصدمات‪ ،‬أجاب بعضهم بأن السبب يعود إلى أن التجربة كانت تجري في جامعة‬
‫ييل ذات السمعة العلمية الرفيعة‪ ،‬فأعاد التجربة في بناية متداعية في وسط مدينة‬
‫صغيرة‪ ،‬فبلغت نسبة من وصل للنهاية (‪ ،)% 47,5‬وكذلك القرب والمالمسة‪ ،‬حيث‬
‫أجلس األول والثاني في غرفة واحدة‪ ،‬بعد أن كانا في غرفتين منفصلتين في التجربة‬
‫األساسية‪ ،‬فانخفضت النسبة إلى (‪ ،)% 40‬والسلطة النائية‪ ،‬حيث يعطي المجرب‬
‫التعليمات ويغادر الغرفة‪ ،‬ويواصل إعطاء التعليمات عبر الهاتف‪ ،‬فانخفضت النسبة‬
‫إلى (‪ ،)% 20‬وقرين يوجه الصدمات‪ ،‬حيث يصاحب األول شخص ثان هو من‬
‫يوجه الصدمات‪ ،‬بينما تكون مهمة األول قراءة األسئلة‪ ،‬فقفزت النسبة إلى (‪.)% 92‬‬
‫وإجماال‪ ،‬في كل التعديالت‪ ،‬وبصرف النظر عن تفاوت النسب‪ ،‬كانت الجميع فوق‬
‫ِ‬
‫الباحث سوى سلطة محدودة‪ ،‬وليس‬ ‫المتو َّقع‪ ،‬في موقف بسيط‪ ،‬حيث ال يمتلك‬
‫لديه إمكانيات الفرض‪ ،‬وكان بإمكان كل فرد أن ينسحب بسهولة‪ ،‬ومع ذلك كانت‬
‫النسبة مرتفعة‪ ،‬مما يثير تساؤالت حادة عن الوضع في العا َلم الواقعي‪.‬‬
‫قدم ملغرام جملة تفسيرات لهذه النتائج‪ ،‬بداية مع اإليديولوجية الغامرة‪ ،‬حيث‬
‫‪145‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫التنشئة االجتماعية للطاعة ذات أهمية كبيرة‪ ،‬فمنذ الطفولة المبكرة‪ ،‬تعلمنا أن نطيع‬
‫معيارا عمل ًيا ال جدال فيه في عدد ال‬
‫ً‬ ‫السلطة ونكافأ على القيام بذلك‪ .‬لتصبح الطاعة‬
‫يحصى من المؤسسات واألوساط‪ ،‬والتي يتمتع العديد منها بمكانة ثقافية عالية جدً ا‪،‬‬
‫كالجيش والطب والقانون والدين والتعليم وعالم الشركات الصناعية‪ .‬وغال ًبا ما‬
‫تعكس النتائج الناجحة في ظروف ال حصر لها الطاعة اإلنتاجية للسلطة‪ ،‬سواء كانت‬
‫درجات الشخص‪ ،‬أو الصحة‪ ،‬أو الترقيات‪ ،‬أو الميداليات‪ ،‬أو االنتصار العسكري‪،‬‬
‫أو األداء الرياضي‪ ،‬أو التقدير‪ ،‬فيتم تعلم أن تقدير قيمة الطاعة‪ ،‬حتى لو كان ما‬
‫أيضا في شرعية العديد من السلطات في حياتنا‪،‬‬
‫يترتب عليها غير سار‪ .‬كما أننا نثق ً‬
‫حتى لو حدثت انتهاكات لهذه الثقة أحيانًا‪ ،‬على سبيل المثال في مجاالت السياسة‬
‫أو المؤسسات المالية للشركات أو خدمات رعاية األطفال‪ .‬وفي هذا السياق‪ ،‬يصبح‬
‫الناس عرضة إلمالءات السلطة غير الشرعية ألنهم اعتادوا على افتراض الشرعية‬
‫أيضا‬
‫وال يمارسون فعل تحدي السلطة عندما يكون هذا هو الرد المناسب‪ .‬ويعكس ً‬
‫التنشئة االجتماعية للطاعة توقعنا أن يكون شخص ما مسؤوالً في أي مكان نواجهه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬في ذهنية المشاركين بالبحث‪ ،‬بدأت الطاعة في الحركة قبل وقت طويل من‬
‫وصولها فعل ًيا‪ ،‬قبل إصدار أوامر المجرب وصراخ المتعلم من األلم‪ .‬إضافة إلى‬
‫ِ‬
‫الملز َمة‪ ،‬ففي عملية طاعة سلطة‪ ،‬قد يكون من الصعب للغاية‬ ‫ذلك هناك العوامل‬
‫تخليص المرء نفسه من هذا الموقف‪ .‬قد تكون هذه الصعوبات ذاتية إلى حد كبير‪.‬‬
‫انعكاسا ضرور ًيا الستخدام السلطة لإلكراه أو التهديد‪ .‬وعامل مهم هو‬
‫ً‬ ‫وليست‬
‫التزام الفرد المسبق بالسلطة‪ ،‬فالشخص‪ ،‬بعد أن تطوع للمشاركة‪ ،‬هو «محبوس»‬
‫في ما سيحدث‪ :‬يخشى أنه إذا انفصل‪ ،‬سيبدو متعجر ًفا وغير مرغوب فيه ووقح‪.‬‬
‫وهذه المشاعر على الرغم من أنها تبدو صغيرة إلى جانب العنف الذي يمارس‬
‫على المتعلم‪ ،‬إال أنها تساعد في ربط الشخص بالطاعة‪ ،‬وجعل االحتمال الكامل‬
‫لالنقالب على السلطة التجريبية‪ ،‬مع ما يصاحبها من تعطيل لوضع اجتماعي محدد‬
‫جيدً ا‪ ،‬هو إحراج ال يستطيع الكثير من الناس مواجهته‪ .‬حيث يربطون الفرد بالبنية‬
‫الهرمية للعالقة مع السلطة‪ .‬وهكذا‪ ،‬باإلضافة إلى األوامر الصريحة من السلطة‪،‬‬
‫هناك عناصر خفية ومفروضة ذات ًيا في العديد من مواقف الطاعة التي تمارس ضغ ًطا‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪146‬‬
‫للبقاء في مواقف غير سارة بشكل غير عادي‪ .‬كما أن هناك سيكولوجية التصعيد‬
‫والتوريط‪ ،‬ففي تجربة الطاعة‪ ،‬ال ُيطلب من الفرد أن ينزل‪ ،‬في البداية‪ ،‬عقوبة شديدة‪،‬‬
‫بل يتدرج مستوى العقوبة المفروضة بموجب األوامر‪ .‬وبمجرد موافقة الفرد على أمر‬
‫تافه‪ ،‬فمن المرجح أن يوافق على طلب أكثر تطل ًبا في وقت الحق‪ .‬فكنتيجة للسلوك‬
‫األولي الصغير الحجم‪ ،‬يحدث تغيير في اإلدراك الذاتي مما يسهل االمتثال الالحق‬
‫للطلب األكبر‪ ،‬ويتماشى هذا اإلجراء بعد ذلك مع تصور الفرد لذاته على أنه «نوع‬
‫الشخص الذي يوافق على القيام بمثل هذه األشياء»‪ .‬لينتهي عند القول‪« :‬ما الذي‬
‫رأيناه؟ ال عداء وال غضب وال حقد وال كراهية لدى من صدم الضحية‪ ...‬تم الكشف‬
‫عن شيء أكثر خطورة بكثير‪ :‬قدرة اإلنسان على التخلي عن إنسانيته‪ ،‬وحتمية قيامه‬
‫ضميرا‬
‫ً‬ ‫بذلك‪ ،‬ألنه يدمج شخصيته الفريدة في بنى مؤسسة أكبر‪ ...‬إن كل فرد يمتلك‬
‫يعمل بدرجة أكبر أو أقل على كبح التدفق غير العوق للنبضات المدمرة لآلخرين‪،‬‬
‫ولكن عندما يدمج شخصه في بنية تنظيمية‪ ،‬فإن مخلو ًقا جديدً ا يحل محل اإلنسان‬
‫عوائق من قيود األخالق الفردية» (مكفلين وغروس‪ ،2002 ،‬ص‪31‬‬ ‫المستقل‪ ،‬دون ِ‬
‫ــ ‪ ،61‬ميلجرام‪(Milgram, 1974; Miller, Collins & Brief, 1995, p1 )2022 ،‬‬
‫‪ 19‬ــ)‪.‬‬
‫وفي كتابِ ِه «تأثير الشيطان‪ :‬فهم كيف يتحول الناس األخيار إلى أشرار» (‪)2007‬‬
‫‪ ،The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evil‬أعاد‬
‫عالِم النفس االجتماعي فيليب زيمباردو )‪ Philip Zimbardo (1933‬تفصيل تجربته‬
‫ِ‬
‫الرائدَ ة‪« :‬تجربة سجن ستانفورد» (‪ ،Stanford Prison Experiment )1971‬المتأثرة‬
‫بتجربة ملغرام‪ ،‬والتي أكدت التأثيرات الموقف َّية في إنتاج الشر‪ .‬يفتتح زيمباردو كتابه‬
‫بتأكيد أن الكتابة عن الشر شا َّقة‪ ،‬حيث معايشة العذابات واالنتهاكات والمواقف‬
‫إن ذلك كان ِ‬
‫بفائدَ ة‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫السلبية‪ ،‬ولذلك ترك إتمام الكتاب لثالثين سنة‪ ،‬إال َّ‬
‫«لو كتبت هذا الكتاب بعد إنهاء تجربة سجن ستانفورد بمدة قصيرة لكنت اكتفيت‬
‫بالتفصيل في مدى قوة الضغوط الموقفية‪ ،‬وفي كونها أقدر مما نتصور أو نعترف على‬
‫تشكيل سلوكنا في سياقات متنوعة‪ ،‬لكنني كنت سأفقد الصورة الكاملة‪ ،‬ذاهال عن‬
‫القوة األكبر التي تخلق الشر في قلب الخير‪ ،‬إنها قوة النظام ومجموع القوى الفعالة‬
‫‪147‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫التي تصنع الموقف‪ .‬فمن المفهوم أن تفوق قوة الموقف قوة الفرد في سياقات محددة‪،‬‬
‫وهو مفهوم تؤيده أدلة كثيرة في علم النفس االجتماعي‪ ،‬واستشهدت بهذه األدلة في‬
‫العديد من الفصول‪ ،‬لكن مع ذلك لم يهتم أغلب علماء النفس بالروافد األكثر عمقا‬
‫لهذه القوة الفعالة التي تالزم منظومة السياسة واالقتصاد والدين والتاريخ والثقافة‪،‬‬
‫والتي تصنع المواقف وتشرعن وجودها أو تلغي مشروعيتها‪ .‬يتطلب الفهم الكامل‬
‫لديناميات السلوك اإلنساني التعرف على امتداد وحدود قدرة كل من الفرد والموقف‬
‫والنظام‪ ...‬محاولة فهم دور الموقف والنظام في توجيه أي سلوك فردي ال تعذر الفرد‬
‫أو تعفيه من مسؤوليته في التورط في أفعال شريرة غير أخالقية وغير قانونية»‪.‬‬
‫ِ‬
‫ينطلق زيمباردو من لوحة موريتس إيشر لرسم صورة كل َّية لتراث مشكلة الشر‪ ،‬إذ‬
‫ــ كما يرى ــ تظهر ثالث حقائق نفسية‪ )1(« :‬العالم مليء بالخير والشر‪ ،‬كذلك كان‪،‬‬
‫وما يزال‪ ،‬وسيبقى‪ ،‬و(‪ )2‬الحد الفاصل بين الخير والشر قابل لالختراق وضبابي‪،‬‬
‫و(‪ )3‬بإمكان المالئكة التحول إلى شياطين‪ ،‬وبإمكان الشياطين التحول إلى مالئكة»‪.‬‬
‫وبذلك تذكر بتحول لوسيفر ــ حامل النور والمالك المفضل ــ إلى الشيطان‪ ،‬بعد‬
‫تحدي سلطة الرب‪ ،‬وعزمه على إفساد مخلوقاته‪ ،‬ليصبح بعد ذلك وسطاؤه هدف‬
‫المفتشين لتخليص العالم من الشر‪ ،‬بأساليب مروعة ستصبح صورة جديدة من الشر‬
‫الممنهج‪ .‬فـ»تأثير الشيطان» ــ كما يقول زيمباردو ــ ‪« :‬محاولتي لفهم كيفية تحول‬
‫البشر العاديين أو األخيار إلى القيام بأفعال سيئة أو شريرة‪ ...‬بدل االستعانة بالثنائية‬
‫الدينية التقليدية للخير والشر‪ ،‬الطبيعة المصلحة ضد الطبيعة المفسدة‪ ،‬سننظر إلى‬
‫بشر حقيقيين منشغلين بمهام حياتهم اليومية‪ ،‬منهمكين في شؤونهم‪ ،‬منغمسين في‬
‫بوتقة الطبيعة البشرية الموارة‪ ،‬سنسعى إلى فهم طبيعة التحوالت الطارئة عليهم عند‬
‫مواجهتهم للضغوط الموقفية»‪.‬‬
‫يقدم زيمباردوا تعريفا ــ بسيطا سيكولوجيا ــ للشر‪ ،‬هو‪« :‬يقوم الشر على تعمد‬
‫التصرف بطرق تؤذي‪ ،‬أو تعتدي على‪ ،‬أو تحقر‪ ،‬أو تسلب اإلنسانية عن اآلخر البريء‬
‫أو تدمره‪ ،‬ويقوم كذلك على استغالل الفرد لصالحياته وسلطاته النظامية في تشجيع‬
‫اآلخرين على ذلك أو في السماح لهم بالقيام به نيابة عنه‪ .‬باختصار‪ ،‬هو معرفة األفضل‬
‫مع القيام باألسوأ»‪ .‬ليشير إلى ثنائية السلوك األصيل والمكتسب‪ ،‬ويقدم ــ كبديل ــ‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪148‬‬
‫مقاربة تدرجية‪ ،‬وكذلك إلى دوافع السلوكين النزوعي والموقفي‪ ،‬وينتهي إلى كون‬
‫اإلنسان والموقف في حالة تفاعل دينامي‪ .‬ثم يشرع بتتبع تاريخي في محاكم التفتيش‪،‬‬
‫مؤكدا أنه «في الغالب حماة النظام‪ ،‬أولئك الذين يريدون تحييد المشكلة بغية تشتيت‬
‫االنتباه وصرف اللوم بعيدا عن المتربعين على قمة هرم السلطة‪ ،‬والذين ربما كانوا‬
‫المتسببين في صناعة ظروف عمل متردية أو في غياب الرقابة واإلشراف»‪ .‬ويشير‬
‫إلى أنه «ال يقوم أصحاب النفوذ والسلطة عادة بتنفيذ األعمال القذرة بأنفسهم‪ ،‬لكن‬
‫ــ كسادة المافيا ــ يتركون األعمال الكبيرة لمرؤوسيهم‪ ...‬يتطلب األمر مخيلة عدائية‬
‫وبناء نفسيا مدمجا بعمق في عقولهم عن طريق الدعاية التي تحول هذا اآلخر إلى‬
‫العدو‪ ...‬تبدأ العملية بتنميط اآلخر‪ ،‬تجريده من إنسانيته‪ ،‬فاآلخر ال قيمة له‪ ،‬اآلخر بالغ‬
‫القوة‪ ،‬اآلخر شيطاني‪ ،‬اآلخر مطلق التوحش‪ ،‬اآلخر خطر رئيس يهدد قيمنا ومعتقداتنا‬
‫الغالية‪ ،‬ومع تصاعد الرهاب العام واقتراب خطر العدو يتصرف العقالنيون بال عقل‬
‫ويذعن أصحاب التفكير المستقل ويتصرف المسالمون كما لو كانوا محاربين»‪ .‬ليمر‬
‫بعد ذلك على الجرائم ضد اإلنسانية‪ ،‬إذ نعيش عصر القتل الجماعي‪ ،‬واالغتصاب‬
‫واإلرهاب‪ ،‬ويقف عند الحالة الرواندية والنانكينجية الصينية‪ ،‬لينتهي عند تأكيد أن هذه‬
‫الدراسة هي رحلة لـ»استكشاف الجانب المظلم للطبيعة البشرية»‪.‬‬
‫في سياق اهتمامه بحياة السجون‪ ،‬اقترح زيمباردو على جامعة ستانفورد فكرة‬
‫تجربة محاكاة لسجن تطبق بتحويل الطابق التحتي لقسم على النفس لما يشبه السجن‪،‬‬
‫وأع َلن عن حاجته لمتطوعين مقابل مبلغ مالي في تجربة لمدة أسبوعين‪ ،‬فتقدم الكثير‬
‫من الطلبة‪ ،‬اختار منهم مجموعة ممن يتصفون بمواصفات طبيعية‪ ،‬وقسمهم بشكل‬
‫عشوائي إلى سجناء وحراس‪ ،‬واتفق مع قسم الشرطة أن يقوموا بتنفيذ اعتقال الذين‬
‫سيكونون في جماعة السجناء دون علمهم بذلك‪ .‬يوم األحد وفجأة االعتقاالت‪:‬‬
‫في صباح (‪ 14‬ــ ‪ 8‬ــ ‪ )1971‬انطلقت دوريات الشرطة واعتقلت الطلبة‪ ،‬وجلبتهم‬
‫إلى السجن معصوبين‪ ،‬وطبقت أساليب الدخول الحقيقية عليهم‪ ،‬وإلباسهم مالبس‬
‫ِ‬
‫وإعطائهم أرقاما بدل األسماء‪ ،‬وفي الوقت ذاته كان قد تم تهيئة الحراس‪،‬‬ ‫السجن‪،‬‬
‫بمالبس خاصة ونظارات‪ ،‬بثالث نوبات (كل نوبة ثالثة‪ ،‬وثالثة احتياطيون)‪ ،‬فباشروا‬
‫بتبيان القواعد الجديدة‪ ،‬وإحصاء السجناء‪ ،‬وفرض االنضباط‪ ،‬وكان المحظور‬
‫‪149‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫الوحيد عليهم استعمال العقوبات الجسدية‪ ،‬وفيما عدى ذلك يمكنهم استعمال أية‬
‫طريقة‪ ،‬كالملل واإلحباط والخوف‪ .‬وهنا يذكر زيمباردو أن تركيزه كان على السجناء‬
‫وتكيفهم مع الظرف المشابه للسجن أكثر من الحراس‪ ،‬ولكن تبين له مع مرور الوقت‬
‫أن سلوك الحراس ال يقل أهمية عن سلوك السجناء‪ ،‬بل ربما فاقه‪ .‬في هذا اليوم تم‬
‫إكمال عناصر التجربة‪ ،‬ووضع كل شخص في دوره المقرر‪ ،‬وبدء عمليات التكييف‬
‫للوضع الجديد‪ ،‬وممارسة الحراس لسياسات الهيمنة‪ .‬يوم اإلثنين وتمرد السجناء‪ :‬بعد‬
‫يوم مرهق‪ ،‬تنطلق الصافرة عند السادسة لتوقظ السجناء‪ ،‬فيخرجون متثاقلين‪ ،‬يلوح‬
‫الحراس أمامهم بهراواتهم‪ ،‬ويعيدون عليهم التعليمات‪ ،‬ويطلبون منهم تأدية تمارين‪،‬‬
‫فيمتنع أحدهم‪ ،‬ويرمونه في السجن االنفرادي‪ ،‬وكذلك آخر‪ ،‬ليبقيا بال إفطار‪ ،‬ليتمرد‬
‫بعد ذلك آخرون‪ ،‬فيدفعونهم إلى الزنازين‪ ،‬ويمنعون المتمردين من الغداء‪ ،‬لينهار‬
‫أحدهم‪ ،‬ويطلق سراحه‪ .‬في هذا اليوم تراكمت المشاعر السلبية‪ ،‬وتصاعد التوتر‬
‫عند ــ وبين ــ السجناء والحراس‪ ،‬وبدأ السجناء بالشعور بثقل الوضع‪ ،‬مع تعرضهم‬
‫المتهانات وحرمانات‪ ،‬وتجربتهم لتمردات محبطة‪ .‬يوم الثالثاء والزوار والمشاغبون‪:‬‬
‫بدأت رائحة السجن بالتغير‪ ،‬وتكررت الشكاوى الغاضبة‪ ،‬وصيغت قواعد جديدة‪،‬‬
‫وأخذ الحراس تجاوز األداء التمثيلي إلى تقمص العدوانية والمشاعر السلبية والهيئة‬
‫الوجدانية لحراس السجن الحقيقيين‪ ،‬وقد جرت زيارات للسجناء من أهلهم‪ ،‬وكان‬
‫ذلك أول اتصال بالعالم الخارجي‪ ،‬وسرت فكرة أن هناك عملية مدبرة القتحام السجن‬
‫ومهاجمته‪ ،‬مما ولد التنافر المعرفي عند الباحثين‪ ،‬وأشار إلى افتقادهم للموضوعية‬
‫العلمية‪ ،‬وبتعبير زيمباردوا‪« :‬كنت في طريقي للتحول إلى رئيس سجن بدال من كوني‬
‫باحثا ً‬
‫أول»‪ .‬في هذا اليوم خيم شعور عام باإلحباط على ساحة السجن‪ ،‬انعكس على‬
‫البحث عن كبش فداء‪ ،‬فكان السجناء‪ .‬يوم األربعاء والخروج عن السيطرة‪ :‬يزور قس‬
‫السجن‪ ،‬ويتحدث مع السجناء‪ ،‬ليؤكد أنهم في وضع مشابه للسجن الحقيقي‪ ،‬وكان‬
‫أحد السجناء في حالة هستيرية مزرية‪ ،‬تطلبت إخراجه‪ ،‬ويعوض ببديل‪ ،‬وتتواصل‬
‫المشاكل واالضطرابات‪ ،‬فيتمرد سجين ويعاقب‪ ،‬ويعاقب اآلخرون معه‪ ،‬لكسر تمرده‪،‬‬
‫وتحريضهم عليه‪ .‬في هذا اليوم حدث طمس الحد الفاصل بين التجربة والواقع‪،‬‬
‫وخضوع وجدية السجناء‪ ،‬واستعراض القوة بال شفقة‪ .‬يوم الخميس ومواجهة الحقيقة‪:‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪150‬‬
‫تصاعد العنف في اإلحصاء الصباحي‪ ،‬وتلقى السجنا ُء مزيدً ا من العقوبات‪ ،‬وأضرب‬
‫أحدُ هم عن الطعام‪ ،‬وانهار سجينان آخران‪ ،‬لتأتي كريستينا ــ الباحثة وحبيبة زيمباردو ــ‬
‫لتقله‪ ،‬فتالحظ الوضع المزري‪ِ ،‬‬
‫فتعلن له‪« :‬ما تفعلونه بهؤالء الفتية مريع»‪ .‬كانت تلك‬
‫الكلمات بمثابة صفعة ــ بحسب تعبير زيمباردو ــ أيقظت الباحثين‪ ،‬ودعتهم إلى إيقاف‬
‫التجربة‪ ،‬إذ وصلت إلى حدود غاية في البشاعة‪ .‬ولذلك قرر زيمباردو إنهاء التجربة‪.‬‬
‫يوم الجمعة والتحول إلى السواد‪ :‬شهد هذا اليوم إجراءات تفكيك السجن‪ ،‬وانجاز‬
‫األعمال الروتينية لذلك‪ ،‬ومقابلة السجناء والحراس للتحدث عن تجاربهم خالل‬
‫األيام السابقة‪ ،‬التي كشفت عن حقيقة مرعبة‪« :‬إن وضعت في موقف غريب وجديد‬
‫وقاس في ظل نظام قاهر‪ ،‬فعلى األرجح أنك ستفشل في الحفاظ على شخصيتك التي‬
‫دخلت بها بوتقة الطبيعة البشرية هذه‪ ،‬ربما ال تعود قادرا على التعرف على صورتك‬
‫المألوفة لديك إذا ما وضعت إلى جانب صورتك التي أصبحت عليها‪ .‬جميعنا نريد‬
‫اإليمان بصالبتنا الداخلية وقدرتنا على مقاومة المؤثرات الخارجية الشبيهة بتلك التي‬
‫عملت عملها في تجربة سجن ستانفورد‪ .‬بالنسبة للبعض فهم صادقون في هذا اإليمان‪،‬‬
‫لكنهم أقلية‪ ،‬هم طيور تغرد خارج السرب‪ ،‬أما بالنسبة لألغلبية فإن اإليمان بالقدرة‬
‫على مقاومة الضغوط الظرفية والنظامية ليس بأكثر من وهم يطمئنون به أنفسهم إلى‬
‫أنهم معصومون‪ ،‬وللمفارقة فإن اإلبقاء على هذا الوهم يجعل األشخاص أكثر عرضة‬
‫للتالعب بهم ولإلخفاق في الحذر بالقدر الكافي من محاوالت التأثير غير المرغوب‬
‫بها‪ ،‬والتي تمارس عليهم في الخفاء»‪.‬‬
‫تحوالت الشخصية‪ :‬أبدت التجربة قدرة تفسيرية عالية للتأثير السلبي المحتمل‬
‫لألنظمة والظروف السلبية في جعل الصالحين يتصرفون على نحو مرضي غريب‬
‫عن طبيعتهم‪ ،‬ففقدان الهوية الشخصية والخضوع لتحكم متعسف ومتواصل في‬
‫تصرفاتهم‪ ،‬إضافة إلى الحرمان من الخصوصية‪ ،‬ولد فيهم متالزمة السلبية واالتكالية‬
‫واالكتئاب‪ ،‬وهو ما يمثل العجز المتعلم‪ .‬في البداية لم تكن ثمة فوارق بين المجموعتين‬
‫ــ السجناء والحراس ــ وبعد أقل من أسبوع لم يعد ثمة تشابه بينهم‪ ،‬وبذلك كشفت عن‬
‫تحول الشخصية‪ :‬الصالحون يتحولون فجأة إلى حراس قادرين على ارتكاب الشرور‪،‬‬
‫والسجناء ضحايا للسلبية المرضية تجاه المؤثرات الموقفية‪ .‬وذلك يكشف عن الحقيقة‬
‫‪151‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫الواضحة‪« :‬أغلبنا نختبر تحوالت في شخصياتنا عندما نسقط في قبضة المؤثرات‬


‫االجتماعية‪ .‬الطريقة التي نتصور أننا سنتصرف على وفقها ونحن خارج مجال تأثير هذا‬
‫الضغط ال تشبه بالضرورة ما قد نصبح عليه وما نقدر على فعله بمجرد دخولنا مجال‬
‫التأثير‪ .‬تجربة سجن ستانفورد هي دعوة لالستيقاظ والتخلي عن المفاهيم السطحية‬
‫حول الذات الصالحة القادرة على السيطرة على المواقف الفاسدة‪ .‬تزداد قدرتنا على‬
‫تجنب ومنع ومواجهة بل وتغيير هذه المؤثرات الظرفية السلبية عندما نؤمن بقدرتها‬
‫على التأثير فينا كما حدث مع آخرين تعرضوا للمواقف ذاتها»‪ .‬فقد اشتملت تجربة‬
‫ستانفورد على عدد من العوامل التي أثرت بالتفاعل المتبادل‪ ،‬من قبيل تأثير القواعد‬
‫على تشكيل الواقع‪ ،‬وتحول األدوار‪ ،‬والحجب وسلب الذاتية‪ ،‬والتنافر المعرفي‪ ،‬وقوة‬
‫القبول المجتمعي‪ ،‬والبناء االجتماعي للواقعية‪ ،‬والتجريد من اإلنسانية‪ ،‬كل ذلك أفرز‬
‫الدرس األهم‪« :‬الظروف يخلقها النظام‪ ،‬والنظام يوفر الدعم المؤسسي والصالحيات‬
‫والمصادر التي تسمح للظروف بأن تعمل وفق تلك الطرق‪ ...‬تتضمن أنظمة السلطة‬
‫الصالحية أو التصريح المؤسسي بتصرف األفراد وفقا لما هو محدد لهم أو منع ومعاقبة‬
‫ما يخالفه‪ ،‬يوفر النظام سلطة عليا تعطي صالحية لعب أدوار جديدة واتباع قواعد‬
‫جديدة وتبني تصرفات يقيدها القانون والعرف واألخالق في الغالب‪ ،‬وتأتي الصالحية‬
‫بتحديد هذه القواعد أكثر األحيان متسترة بعباءة األيديولوجية‪ ،‬واأليديولوجية بدورها‬
‫هي رمز أو شيء مفترض الهدف منها هو تقنين وإضفاء الشرعية على أية وسيلة تفيد‬
‫في تحقيق الغاية النهائية المرغوبة‪ .‬األيديولوجية هي الكبير الذي ال يعارضه أحد أو‬
‫يشكك فيه ألن هذا الكبير بالنسبة للغالبية في أزمنة وأماكن معينة يكون بوضوح على‬
‫حق‪ .‬من في السلطة يقدمون برنامج العمل على أنه صالح ونبيل في غايته‪ ،‬وأنه ضرورة‬
‫ذات قيمة أخالقية عالية»‪.‬‬
‫الديناميات االجتماعية‪ :‬السلطة واالنصياع والطاعة وسلب الذاتية والتجريد من‬
‫اإلنسانية وشر التقاعس تعد أهم الديناميات االجتماعية الفاعلة في ذلك التحول‪ .‬كانت‬
‫تجارب آش عن االنصياع وملغرام عن الطاعة رافدين أساسيين لتجربة ستانفورد‪،‬‬
‫وفكرة «عادية الشر» ألرندت‪ ،‬وهذه ــ كما يرى زيمباردو ــ مجرد بدايات‪ ،‬رغم القوة‬
‫الهائلة‪ ،‬إذ هناك عمليات كامنة تعمل على تغيير البنية النفسية للفرد‪ ،‬من قبيل سلب‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪152‬‬
‫الذاتية‪ ،‬الذي يحول الطبيعة البشرية من األبولونية إلى الديونيسية‪ ،‬إذ يخلق حالة نفسية‬
‫فريدة يخضع فيها السلوك لمقتضيات الموقف المباشرة وللمحفزات األيديولوجية‬
‫والهرمونية‪ ،‬حيث يحل الفعل محل الفكر‪ ،‬وتسود الرغبة في تحقيق المتعة المباشرة‬
‫على القدرة على تعطيل أو تأجيل هذه الرغبة‪ .‬كما أن التجريد من اإلنسانية ركن أساس‬
‫في فهم همجية اإلنسان‪ ،‬حيث يتم من خالل االنفصال األخالقي‪ ،‬بعزل الفرد ذاته‬
‫أخالقيا عن أي سلوك مدمر أو شرير عندما ينشط في داخله واحدة أو أكثر من اآلليات‬
‫أول‪ ،‬إعادة تعريف السلوك المؤذي بجعله سلوكا كريما‪ ،‬بمعنى اختالق‬ ‫األربعة التالية‪ً :‬‬
‫ٍ‬
‫ضرورات أخالقية تسمح بالعنف‪ ،‬أو اختالق‬ ‫تبرير أخالقي لهذا التصرف‪ ،‬وذلك بتبني‬
‫مقارنات مالئمة تناقض السلوك الصالح بالسلوك الشرير لألعداء‪ ،‬واستخدام لغة‬
‫ملطفة تحسن من واقع األعمال الوحشية‪ ،‬وثانيا‪ ،‬تقليل الشعور بالصلة المباشرة بين‬
‫األفعال ونتائجها المؤذية بتشتيت أو تحويل المسؤولية‪ ،‬فتبعد الذات عن اإلدانة عندما‬
‫ال تكون العامل األساس‪ ،‬وثالث ًا‪ ،‬تعديل كيفية التفكير في األذى الفعلي الذي وقع‬
‫بسبب تلك األفعال‪ ،‬عبر تجاهل أو تخفيف أو عدم تصديق النتائج السلبية‪ ،‬ورابعا‪،‬‬
‫إعادة بناء النظرة للضحايا على أنهم يستحقون العقاب وكونهم الملومين فيما حدث‬
‫لهم‪ ،‬وتجريدهم من اإلنسانية وعدهم أقل من اإلنسان‪ .‬ليأتي في النهاية التقاعس عن‬
‫الفعل‪ ،‬ففي المواقف التي يمارس فيها الشر هناك مراقبون ال يتدخلون‪ ،‬وهم بذلك‬
‫يسمحون للشر باالستمرار‪ ،‬فالحضور الصامت يجعل من الخط الضبابي الفاصل‬
‫بين الخير والشر أكثر ضبابية‪ .‬كل ذلك يؤكد أن تفاعل الشخصية مع الظروف يصنع‬
‫السلوك الفردي‪ ،‬فـ»يتحرك البشر داخل سياقات سلوكية مختلفة‪ ،‬لذلك فإن اإلنسان‬
‫ً‬
‫مفعول بهم‬ ‫هو منتج بيئات مختلفة‪ ،‬وهو نفسه ينتج البيئات في المقابل‪ .‬البشر ليسوا‬
‫سلبيين تضربهم العوارض البيئية‪ ،‬بل في الغالب هم من يختارون النمط الذي سيتبنونه‬
‫أو الذي سيتجنبونه‪ ،‬ويمكنهم تغيير ذلك النمط بوجودهم أو بأفعالهم‪ ،‬يؤثرون في‬
‫هذه البيئة المجتمعية ويحولون البيئات بعدة طرق»‪( .‬زيمباردو‪Zimbardo,( )2019 ،‬‬
‫‪.)2007‬‬
‫‪153‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫الحاجات‬
‫للشر‪،‬‬ ‫أكَّد ‪ Ervin Staub‬أن إحباط الحاجات النفس َّية األساس َّية لإلنسان هو المو ِّلد َ‬
‫إذ هناك حاجات نفس َّية عامة ــ مشتركة بين جميع البشر ــ متى ما ُلبيت خلقت إمكانات‬
‫قو َّية للخير‪ ،‬لالهتمام والمساعدة والرعاية‪ ،‬ومتى ما ُأحبِ َطت خلقت إمكانات قو َّية‬
‫للشر‪ ،‬للعدوان والعنف والكراهية‪ ،‬فتلبية أو إحباط االحتياجات النفسية األساسية توفر‬
‫قواعد «طبيعية» (قواعد متجذرة في الطبيعة والخبرة البشرية المشتركة) للخير والشر‪.‬‬
‫الحاجات األساسية عالمية‪ ،‬وفي الوقت ذاته تتشكل خصائص ومسارات تحقيق‬
‫تلك الحاجات من خالل الثقافة والتجربة الشخصية‪ .‬وأهم تلك الحاجات‪ )1( :‬األمان‪:‬‬
‫تشمل الحاجة إلى معرفة أو االعتقاد بأننا (وكذلك األشخاص المهمين بالنسبة لنا‪:‬‬
‫العائلة‪ ،‬الجماعة)‪ ،‬وسنظل‪ ،‬خاليين من األذى الجسدي والنفسي (أي الهجوم‪ ،‬إصابة‬
‫أو تهديد لجسدنا أو مفهوم الذات والكرامة) وأننا قادرون وسنكون قادرين على تلبية‬
‫احتياجاتنا البيولوجية األساسية (من الغذاء والماء وما إلى ذلك) وحاجتنا إلى المأوى‪.‬‬
‫وأن تكون هناك حاجة معينة أساسية ال يعني أن الناس ال يستطيعون التصرف بشكل‬
‫فنظرا ألن لدينا حاجات متنوعة‪ ،‬فقد تكون متضاربة في ظل ظروف معينة‬
‫مخالف لها‪ً ،‬‬
‫أو ــ في بعض األحيان ــ يتم التعبير عنها بطرق قد تبدو متعارضة للمراقبين الخارجيين‪.‬‬
‫ال ــ أن المفجرين االنتحاريين يتصرفون بشكل مخالف للحاجة إلى‬ ‫فمن المؤكد ــ مث ً‬
‫األمن الجسدي‪ ،‬وذلك قد يعمل لتلبية االحتياجات األخرى‪ ،‬كالحاجة إلى الفعالية‬
‫والسيطرة‪ .‬ويشير مثال المفجرين االنتحاريين إلى شيء مهم للغاية حول البشر‪ ،‬ال‬
‫سيما عندما نحاول فهم الخير العظيم الذي يتضمن التضحية الشديدة والشر العظيم‬
‫الذي ينطوي على تدمير شديد‪ :‬أننا قادرون على بناء طرق للنظر إلى األحداث التي‬
‫تكون غير عادية وغير متصورة عادة‪ ،‬حيث تصبح األفعال ممكنة‪ ،‬بل مثالية‪ .‬و(‪)2‬‬
‫الفعالية والسيطرة‪ :‬الحاجة إلى معرفة أو االعتقاد بأن لدينا القدرة على حماية أنفسنا‬
‫(وكذلك األشخاص المهمين بالنسبة لنا) من األذى (الخطر والهجوم وما إلى ذلك)‪،‬‬
‫وتحقيق األشياء شرعنا في القيام (مثل تحقيق أهداف مهمة)‪ ،‬وعيش حياة هادفة لديها‬
‫القدرة على التأثير على مجتمعنا أو العالم‪ .‬وعلى الرغم من أن معظم عناصر هذه‬
‫الحاجة (واالحتياجات األخرى) تدخل حيز التنفيذ في وقت مبكر جدً ا من الحياة‪،‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪154‬‬
‫يصبح بعضها وثيق الصلة في وقت الحق في الحياة‪ .‬وهناك ارتباط جوهري بين‬
‫الحاجة إلى األمان والفعالية والسيطرة‪ .‬فمن خالل العمل الفعال يمكننا حماية أنفسنا‬
‫من األذى وتحقيق النتائج التي تعزز أمننا‪ ،‬فمثال‪ ،‬يمكن أن يكون للسيطرة أو االعتقاد‬
‫بأن المرء يتحكم في الضوضاء أو الصدمات الكهربائية التي يتم تلقيها في التجربة تأثير‬
‫عميق على األداء الفسيولوجي والمعرفي والنفسي‪ ،‬ويحاول الناس ممارسة السيطرة‬
‫حتى في ظل ظروف سيئة للغاية عندما يحاولون إنقاذ أنفسهم في إبادة جماعية‪.‬‬
‫والتحكم الناجح في مواجهة مثل هذا الخطر الشديد ال ينتج عنه البقاء على قيد الحياة‬
‫فحسب‪ ،‬بل يؤدي إلى فوائد نفسية كبيرة‪ .‬و(‪ )3‬الهوية اإليجابية‪ :‬الحاجة إلى امتالك‬
‫ذات متطورة بشكل جيد وتصور إيجابي لمن نحن ومن نريد أن نكون (تقدير الذات)‪،‬‬
‫وهو ما يتطلب الوعي الذاتي وقبول الذات‪ ،‬بما في ذلك قبول المحددات‪ .‬و(‪)4‬‬
‫االتصال اإليجابي‪ :‬الحاجة إلى وجود عالقات نشعر فيها باالرتباط اإليجابي بأفراد‬
‫أو مجموعات أخرى‪ ،‬مثل الروابط األسرية الوثيقة‪ ،‬والصداقات الحميمة‪ ،‬وعالقات‬
‫الحب‪ ،‬والعالقات مع المجتمعات‪ .‬و(‪ )5‬فهم الواقع‪ :‬الحاجة إلى فهم الناس والعالم‬
‫(ما يشبهون‪ ،‬كيف يعملون) ومكاننا في العالم؛ أن يكون لديك آراء أو تصورات تفهم‬
‫العالم‪ .‬وهذه حاجة أساسية‪ ،‬لذا فإن أي درجة من الفهم أفضل من ال شيء‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن أنوا ًعا معينة من فهم الواقع من قبيل رؤية العالم والناس على أنهم معادون‬
‫وخطيرون بسبب تاريخ سابق من إحباط الحاجة تجعل تلبية االحتياجات األساسية‬
‫األخرى أكثر صعوبة‪ .‬و(‪ )6‬االستقالل أو التحكم الذاتي‪ :‬الحاجة إلى اتخاذ الخيارات‬
‫قادرا على العمل كفرد‪ .‬وقد تتعارض بعض‬
‫شخصا‪ ،‬ليكون ً‬
‫ً‬ ‫والقرارات‪ ،‬ليكون المرء‬
‫االحتياجات مع بعضها البعض‪ ،‬خاصة في ظل ظروف معينة‪ .‬ومن الواضح أن هذا هو‬
‫الحال مع الحاجة إلى االستقاللية‪ ،‬والتي يمكن أن تتعارض مع الحاجة إلى االتصال‪.‬‬
‫يمكن للثقافات أن تكثف أو تقلل الصراع المتأصل بين الحاجات‪ ،‬ففي الثقافات‬
‫التي تعمل بشكل جيد‪ ،‬يمكن تلبية جميع االحتياجات األساسية إلى حد معقول؛‬
‫ومع ذلك‪ ،‬تؤكد الثقافات المختلفة على االحتياجات المختلفة‪ .‬ومن المحتمل أن‬
‫تؤثر الثقافة على سهولة أو صعوبة تلبية االحتياجات؛ االستقاللية هي حاجة أكثر‬
‫صعوبة لتحقيقها في الثقافات الجماعية‪ ،‬والتواصل في الثقافات الفردية‪ .‬وتشكل‬
‫‪155‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫أيضا الطريقة التي يتم بها تلبية االحتياجات‪ .‬ففي الثقافات الجماعية‪ ،‬يمكن‬
‫الثقافات ً‬
‫تلبية الحاجة إلى الفعالية والسيطرة بشكل أكبر من خالل «التحكم الثانوي»‪ :‬يصطف‬
‫األفراد مع المجموعة واألشخاص المهمين فيها‪ ،‬أو يمارسون السيطرة المعرفية من‬
‫خالل إعادة تنظيم فهمهم لألحداث‪ .‬وفي المجتمعات الفردية‪ ،‬يميل األعضاء إلى‬
‫اتخاذ إجراءات للتأثير على األحداث‪ ،‬ما يشار إليه بالسيطرة األولية‪ .‬والحاجات‬
‫األساسية أساسية بنفس القدر‪ ،‬وكلها بحاجة إلى التحقيق‪ ،‬وربما يكون األمان استثنا ًء؛‬
‫قد يلزم تحقيقه قبل تلبية االحتياجات األخرى‪ .‬وتلبية هذه االحتياجات األساسية في‬
‫وقت مبكر يجعلها أكثر مقاومة لإلحباط ويسهل تحقيقها في وقت الحق في الحياة‪.‬‬
‫والتجارب المبكرة‪ ،‬حتى في مرحلة الطفولة‪ ،‬لها صلة بتلبية جميع االحتياجات‪ ،‬بما‬
‫في ذلك الهوية اإليجابية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هناك احتياجات معينة مهمة بشكل خاص خالل‬
‫مراحل نمو أو فترات حياة معينة‪ .‬وبالمثل‪ ،‬يمكن أن تتغير العوامل المهمة في تلبية‬
‫االحتياجات‪ ،‬حيث يكون للوالدين أهمية خاصة في وقت مبكر من الحياة ويصبح‬
‫األقران أكثر أهمية في مرحلة ما قبل المراهقة فيما يتعلق باحتياجات االتصال والهوية‬
‫وربما فهم الواقع‪.‬‬
‫وهناك حاجتان أخريان‪ ،‬تعدان حاجات أساسية متقدمة‪ ،‬ألن كالهما مرتبطان‬
‫بشكل كبير بالوفاء المسبق باالحتياجات األخرى‪ )1( .‬الرضا الطويل‪ :‬الحاجة إلى‬
‫الشعور واالعتقاد بأن األشياء جيدة في حياة المرء وأن الحياة تتقدم بطريقة مرغوبة‬
‫(ليس بالضرورة في الوقت الحالي‪ ،‬ولكن بشكل عام) على المدى الطويل‪ .‬وأستخدم‬
‫مصطلح الرضا الطويل بدال من السعادة للتعبير عن االستقرار حتى في خضم الضيق أو‬
‫الحزن أو األلم المؤقت‪ ،‬وهو أمر ال مفر منه في حياة اإلنسان‪ .‬وتلبية هذه الحاجة هو‬
‫في المقام األول نتيجة ثانوية لتلبية االحتياجات األخرى‪ .‬وتلبية هذه الحاجة إلى الرضا‬
‫الطويل له صلة مباشرة بظهور المساعدة وربما اإلضرار‪ .‬و(‪ )2‬تجاوز الذات‪ :‬الحاجة‬
‫إلى تجاوز التركيز على الذات واالهتمام بها‪ ،‬وتشمل أشكال التعالي تجربة االرتباط‬
‫بالطبيعة أو الكون أو الكيانات الروحية‪ ،‬أو تكريس الذات لرفاهية اآلخرين‪ ،‬أو العمل‬
‫من أجل تغيير اجتماعي كبير‪ .‬وتظهر هذه الحاجة بشكل متزايد‪ ،‬في شكلها اإليجابي‬
‫ونظرا لطبيعة تجاربهم‬
‫ً‬ ‫الحقيقي‪ ،‬عندما يلبي الناس االحتياجات األساسية األخرى‪.‬‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪156‬‬
‫الحياتية‪ ،‬قد يطور الناس قدرات مختلفة للتجاوز‪ .‬فبعض تجارب التنشئة االجتماعية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى تلبية االحتياجات األساسية‪ ،‬قد تعزز الروابط إلى حد كبير مع ما هو‬
‫أبعد من الذات‪ ،‬كالطبيعة والمجال الروحي‪ ،‬واألشخاص اآلخرين ورفاههم‪ ،‬وما إلى‬
‫ذلك‪ .‬وعندما ال يتم تلبية االحتياجات األساسية‪ ،‬تستمر تلك االحتياجات في الضغط‬
‫من أجل اإلشباع‪ ،‬وبالتالي ال تظهر الحاجة إلى التعالي‪ .‬وعندما تكون موجودة بقوة‪،‬‬
‫ولكن الناس ال يعملون لتحقيقها‪ ،‬يتطور نوع من الشعور بالضيق أو عدم الرضا عن‬
‫الحياة‪ .‬ويمكن أن يتشكل التعالي أو يتم التعبير عنه في حاالت نفسية وأفعال وطريقة‬
‫كاملة للكينونة‪ .‬ففعل اإليثار الحقيقي‪ ،‬الموجه من خالل الدافع للمساعدة‪ ،‬هو عمل‬
‫ٍ‬
‫متعال‪ ،‬من حيث إنه يتجاوز التركيز على الذات‪ .‬وباإلضافة إلى التعالي الحقيقي‪،‬‬
‫أيضا «تجاوز زائف»‪ ،‬حيث يؤدي اإلحباط من االحتياجات األساسية إلى‬
‫هناك ً‬
‫إعطاء الناس أنفسهم لألسباب والمعتقدات المتطرفة والحركات المدمرة‪ .‬والدوافع‬
‫األساسية هي التخلي عن الذات المرهقة‪ ،‬واكتساب فهم جديد للواقع‪ ،‬وتجربة‬
‫االتصال‪ .‬واعتما ًدا على طبيعة الحركة التي ينضم إليها الشخص والتجارب الالحقة‬
‫فيه‪ ،‬قد يتم تلبية االحتياجات األساسية وقد ينمو التجاوز الزائف إلى تجاوز حقيقي‪.‬‬
‫وقد يحدث هذا في بعض الحركات الدينية‪ .‬وحتى في بعض العصابات‪ ،‬فإن إعطاء‬
‫تجاوزا زائ ًفا كام ً‬
‫ال ــ يمكن أن يساعد في‬ ‫ً‬ ‫المرء نفسه للمجموعة ــ وليس بالضرورة‬
‫تلبية االحتياجات األساسية‪ .‬وقد يكون هذا هو السبب في أنه في العقود السابقة‪،‬‬
‫قبل أن تتحول العصابات إلى العنف واإلجرام‪ ،‬غال ًبا ما انتقل الشباب من عصابات‬
‫الشباب ليعيشوا حياة طبيعية‪ ،‬بينما في المقابل‪ ،‬في حركة إيديولوجية مدمرة وعنيفة‪،‬‬
‫يمكن تلبية االحتياجات األساسية للمشاركين على المدى القصير‪ ،‬لكن انخراطهم في‬
‫جروحا نفسية‪ ،‬وغال ًبا ما يجلب العار الح ًقا‪ ،‬وفي النهاية يحبط‬
‫ً‬ ‫األعمال المدمرة يخلق‬
‫االحتياجات األساسية‪.‬‬
‫تلبية االحتياجات البناء يؤدي إلى استمرار النمو‪ .‬ويعني الرضا البناء أوال أن الحاجة‬
‫يتم إشباعها بطريقة ال تحبط (وربما تلبي) احتياجات أخرى‪ .‬والبيئة واإلجراءات‬
‫المتخذة على حد سواء متضمنة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬في األسرة التي تشجع االستقاللية‬
‫والتواصل بين األطفال‪ ،‬ال يؤدي السلوك المستقل المعقول إلى تعطيل العالقات‪ ،‬وال‬
‫‪157‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫يؤدي االتصال إلى إغالق أو منع االستقالل‪ .‬ومن المرجح أن يواجه الشخص الذي‬
‫يلبي الحاجة إلى الفعالية والهوية اإليجابية بالوسائل العدوانية صعوبة في تلبية الحاجة‬
‫إلى االتصال أو الحاجة إلى األمن (ألن الناس يميلون إلى االنتقام)‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬ال يؤدي‬
‫اإلرضاء البناء الحتياجات شخص ما إلى إحباط احتياجات اآلخرين األساسية أو تثبيط‬
‫قدرتهم على تلبية االحتياجات‪ .‬بينما يشير الرضا المدمر إلى أنماط تلبية حاجة أساسية‬
‫تحبط تلبية حاجة أخرى أو احتياجات شخص آخر‪ .‬وعادة ما يظهر عنصر الهدم عندما‬
‫تحدث محاوالت لتلبية االحتياجات في ظل ظروف تحبطهم أو عندما يكون لدى‬
‫الشخص الذي يحاول إشباع حاجة ما تاريخ سابق من إحباط الحاجة‪ .‬واالفتراض المهم‬
‫هو أن االحتياجات هي دوافع قوية تضغط من أجل الرضا‪ ،‬وعندما ال يمكن تحقيقها‬
‫بشكل بناء‪ ،‬يتعلم الناس تحقيقها بطرق مدمرة‪ ،‬والتي ــ مع ذلك ــ تتداخل مع إشباع‬
‫الحاجة على المدى الطويل والنمو الشخصي‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬قد يؤدي اإلفراط في‬
‫الحماية مؤقتًا إلى تلبية االحتياجات األساسية للوالد لالتصال والسيطرة واألمن‪ ،‬وحتى‬
‫حاجة الطفل إلى االتصال‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن حماية الوالدين هذه تحبط حاجة الطفل إلى‬
‫االستقاللية والفعالية والسيطرة وتطوير الهوية‪ .‬وعلى المدى الطويل‪ ،‬من المرجح أن‬
‫أيضا‪ .‬وسبب‬
‫تحبط العالقة التي تتطور بين الوالدين والطفل تلبية احتياجات الوالدين ً‬
‫شائع آخر للمحاوالت المدمرة لتلبية االحتياجات هو حدوث أحداث مؤلمة أو ساحقة‬
‫أو مهددة للحياة ال يتحكم فيها الشخص؛ مثل هذه األحداث تحبط جميع االحتياجات‬
‫األساسية‪ ،‬خاصة عندما تنطوي األحداث على إيذاء من قبل أشخاص آخرين‪ .‬واستجابة‬
‫لذلك‪ ،‬قد يطور الشخص حاجة شديدة لممارسة السيطرة على المواقف واألشخاص‪،‬‬
‫وهو سلوك يتعارض بدوره مع القدرة على تطوير عالقات إيجابية‪ .‬وقد توفر العمليات‬
‫أيضا وسائل مدمرة لتلبية الحاجة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬قد يؤدي إلقاء اللوم‬
‫النفسية الداخلية ً‬
‫على النفس بسبب سوء المعاملة من قبل اآلخرين إلى اعتقاد الطفل أو البالغ أنه بإمكانه‬
‫حماية نفسه بشكل فعال في المستقبل من خالل التصرف بالطرق التي ُيتوقع أن تجلب‬
‫معاملة جيدة‪ ،‬وبالتالي اكتساب بعض الشعور باألمان والفعالية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن مثل هذا‬
‫السلوك يحبط الحاجة إلى هوية إيجابية ومن المرجح أن يمنع الناس من بدء العالقات‬
‫إحساسا زائ ًفا باألمان‪.‬‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫وتطويرها‪ .‬وقد يمنح الشخص ً‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪158‬‬
‫عند تحليل أصول العنف الشديد من قبل مجموعة ضد أخرى نجد نقطة االنطالق‬
‫المتكررة للعنف الجماعي الشديد هي «ظروف الحياة الصعبة»‪ .‬وتشمل هذه المشكالت‬
‫االقتصادية الشديدة‪ ،‬والفوضى السياسية الشديدة‪ ،‬والتغير االجتماعي السريع‪ ،‬أو‬
‫مزيج من هذه العوامل‪ ،‬إلى جانب الفوضى االجتماعية واالضطراب الناجم عن هذه‬
‫العوامل‪ .‬وتصور هذه الظروف كعوامل إلحباط الحاجة األساسية يجعل االستجابات‬
‫دائما تقري ًبا مفهومة كمحاوالت تحتاج إلى إشباع‪ .‬وهذه ردود فعل‬
‫األولية التي تولدها ً‬
‫نفسية ــ عاطفية وإدراكية ــ تتولد في مجموعة كاملة ويتم التعبير عنها بطرق اجتماعية‬
‫يمكن مالحظتها والتي تشمل (‪ )1‬التحول من الهويات الفردية إلى مزيد من التماهي مع‬
‫مجموعة معينة (ككيان عرقي أو أيديولوجي أو وطني)؛ و(‪ )2‬رفع مكانة المجموعة‪،‬‬
‫والذي يتم تحقيقه عن طريق تقليص المجموعات األخرى؛ و(‪ )3‬كبش فداء‪ ،‬بمعنى‬
‫إلقاء اللوم على مجموعة ما بسبب مشاكل حياة المجموعة المرتفعة؛ و(‪ )4‬تبني أو‬
‫إنشاء أيديولوجيات مدمرة‪ ،‬وهي رؤى لترتيبات اجتماعية مرغوبة تكون مدمرة ألنها‬
‫تتضمن تحديد مجموعة ما كعدو يقف في طريق تحقيق األيديولوجية‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫أن ردود الفعل هذه تلبي جزئ ًيا بعض االحتياجات األساسية‪ ،‬إال أنها ال تحل مشاكل‬
‫الحياة‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬هي نقاط البداية للتمييز واالضطهاد والعنف الذي قد ينتهي‬
‫بمحاولة اإلبادة الجماعية أو اإلبادة الجماعية الفعلية‪ .‬فالتركيز على عضوية الفرد في‬
‫مجموعة يقلل من انعدام األمن‪ ،‬ويقوي الهوية‪ ،‬ويخلق التواصل‪ .‬ويكاد يكون استخدام‬
‫كبش الفداء عالم ًيا عندما تكون مشاكل الحياة شديدة ومستمرة‪ .‬وتقليص المسؤولية‬
‫الشخصية والجماعية عن مشاكل الحياة‪ ،‬بما في ذلك عدم القدرة على رعاية الذات‬
‫واألسرة‪ ،‬يقوي الهوية‪ .‬ومن خالل تقديم فهم ألسباب مشاكل الحياة‪ ،‬فإن كبش الفداء‬
‫يخدم الحاجة إلى فهم الواقع‪ .‬كما أنه يخدم الحاجة إلى الفعالية والسيطرة‪ ،‬من خالل‬
‫اقتراح إمكانية حل المشكالت من خالل اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين تسببوا فيها‪.‬‬
‫أيضا إلى إنشاء االتصال‪ ،‬حيث يكتسب أعضاء المجموعة‬
‫ويؤدي استخدام كبش فداء ً‬
‫إحساسا باالنتماء إلى المجتمع من خالل االعتقاد المشترك‪ ،‬وبعد ذلك من خالل‬
‫ً‬
‫اإلجراء المتخذ ضد كبش الفداء المحدد‪ .‬وترتبط األيديولوجيات ببعض العناصر‬
‫ولكنها ربما تكون أكثر عالمية من إلقاء اللوم على كبش فداء على طريق اإلبادة‬
‫‪159‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫الجماعية والقتل الجماعي‪ ،‬فتبني األيديولوجيات التي تتضمن رؤى لمجتمع أفضل‬
‫(مثل القومية) أو عالم أفضل (مثل الشيوعية وجوانب النازية) يقدم فهما جديدا للعالم‬
‫ويوفر اتصاال باآلخرين ذوي التفكير المماثل‪ ،‬هوية إيجابية (حيث يتصور المرء وتسعى‬
‫جاهدة لخلق «عالم أفضل»)‪ ،‬والفعالية في مكان العجز (حيث أن المرء جزء من حركة‬
‫تشارك في العمل لتغيير العالم)‪ .‬ويمكن للجماعات أن ترتكب اإلبادة الجماعية حتى‬
‫في حالة عدم وجود تضارب في المصالح الحيوية‪ ،‬كما هو الحال عندما تكون ظروف‬
‫الحياة الصعبة هي العوامل المحرضة المركزية‪ .‬والجذور النفسية واالجتماعية لإلبادة‬
‫الجماعية هي دائما حاسمة‪ ،‬ولكن في تلك الحاالت‪ ،‬أكثر هيمنة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن نقطة‬
‫ٍ‬
‫ومستعص‪،‬‬ ‫انطالق مهمة أخرى لإلبادة الجماعية والقتل الجماعي هي نزاع مكثف‬
‫صراع طويل األمد كان يقاوم الحل وأدى إلى العنف المتبادل‪ .‬ففي حين أن التضارب‬
‫آثارا مهمة‪ ،‬فإن أسباب صعوبة حل النزاع غال ًبا ما تكون‬
‫المصالح الحقيقية والملموسة ً‬
‫نفسية‪ .‬فظروف الحياة‪ ،‬باإلضافة إلى تصرفات الطرف اآلخر والتفاعالت بين الطرفين‬
‫كلها تتضافر إلحباط االحتياجات األساسية لكل منهما‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬في النزاعات‬
‫أيضا العمليات النفسية واالجتماعية الجماعية التي تساعد على‬
‫المستعصية‪ ،‬تنشأ ً‬
‫تلبية االحتياجات األساسية‪ ،‬وعلى الرغم من أن هذه العمليات النفسية واالجتماعية‬
‫أيضا تقود‬
‫الجماعية قد تلبي االحتياجات النفسية األساسية‪ ،‬على األقل مؤقتًا‪ ،‬فإنها ً‬
‫المجموعات إلى االنقالب على بعضها البعض‪ .‬وعند وجود خصائص اجتماعية‪/‬‬
‫أيضا‪ ،‬وعندما يكون «المتفرجون» سلبيين‪ ،‬فمن المرجح أن يتبع «التطور»‬
‫ثقافية معينة ً‬
‫كبش الفداء‪ ،‬أو العدو األيديولوجي‪ ،‬حيث يصبح موضوع التمييز ثم العنف المتزايد‬
‫تدريجيا‪ .‬واألفراد والجماعات يتغيرون نتيجة أفعالهم‪ .‬ويتم تبرير التمييز والعنف‬
‫المحدود من خالل زيادة تخفيض قيمة المجموعة الضحية وكذلك من خالل ُم ُثل‬
‫األيديولوجية‪ .‬ويتزايد العنف تدريجيا‪ ،‬مدعوما بتغييرات في قواعد ومعايير السلوك‬
‫فيما يتعلق بالمجموعة الضحية‪ ،‬وفي بعض األحيان بتغييرات في القوانين‪ ،‬وبإنشاء‬
‫مجموعات شبه عسكرية ومؤسسات أخرى تخدم العنف‪ .‬وبدون قوى معاكسة‪ ،‬مثل‬
‫المعارضة داخل المجتمع (المتفرجون الداخليون النشطون) أو من قبل الجماعات‬
‫واألمم الخارجية (المتفرجون الخارجيون النشطون)‪ ،‬من المرجح أن ينتهي تطور‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪160‬‬
‫األعمال العنيفة بشكل متزايد إلى القتل الجماعي أو اإلبادة الجماعية‪ .‬وفي حالة‬
‫الصراع المستعصي‪ ،‬يميل العنف المتزايد إلى أن يكون متبادال‪ ،‬على الرغم من أنه قد‬
‫أيضا‪ ،‬يتعرف األشخاص أكثر‬
‫يتم تصعيده بشكل خاص من قبل طرف أو آخر‪ .‬وهنا ً‬
‫مع مجموعتهم بمرور الوقت‪ ،‬وبالتالي يفون باحتياجاتهم للهوية والتواصل واألمن‪.‬‬
‫ويقوون هويتهم الفردية والجماعية من خالل إلقاء اللوم على اآلخر في الصراع ومن‬
‫خالل تطوير معتقدات جماعية تجعل قضيتهم عادلة‪ ،‬ويساهم االنتقام المتبادل في‬
‫تصعيد العنف‪.‬‬
‫بعض الخصائص الثقافية تجعل هذه العمليات أكثر احتمالية‪ .‬وأحد العناصر‬
‫المركزية هو تاريخ «التقليل من القيمة الثقافية»‪ ،‬وهو تخفيض راسخ لقيمة مجموعة‬
‫فرعية أو أكثر من مجموعات المجتمع‪ ،‬والذي «يختار مسب ًقا» المجموعة التي تم‬
‫تخفيض قيمتها ككبش فداء محتمل أو عدو أيديولوجي‪ .‬واآلخر هو احترام قوي‬
‫جدا للسلطة‪ .‬وهذا يقود الناس إلى االعتماد على التوجيه من قبل القادة ودعمهم أكثر‬
‫من االعتماد على تصوراتهم وقيمهم‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬تؤدي مشاكل الحياة الشديدة‬
‫والفوضى االجتماعية إلى نشوء مشاعر قوية بشكل خاص بعدم األمان‪ ،‬وتشتت‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يبحث الناس عن قادة جدد‪ .‬واإليذاء السابق‬ ‫بالهوية‪ ،‬وفقدان فهم الواقع‪،‬‬
‫لمجموعة ما هو سمة أخرى من السمات الموهمة‪ ،‬فاالضطهاد والعنف الشديد ضد‬
‫شعورا بالضعف (أي‬
‫ً‬ ‫مجموعة واحدة يحبط جميع االحتياجات األساسية ويخلق‬
‫وتصورا للعالم على أنه خطير (أي فهم للواقع يؤدي إلى استمرار انعدام‬
‫ً‬ ‫هوية ضعيفة)‬
‫األمن)‪ .‬وعندما يكون هناك تهديد جديد‪ ،‬قد تهاجم المجموعة للدفاع عن نفسها‪،‬‬
‫حتى عندما ال يكون الدفاع ضرور ًيا‪ ،‬ويتم تعزيز احتمالية هذه االستجابة عندما تؤكد‬
‫الذاكرة الجماعية للمجموعة على اإليذاء السابق‪ .‬والثقافة والترتيب االجتماعي الذي‬
‫يحبط بدال من تلبية االحتياجات األساسية لألعضاء‪ ،‬أو لمجموعة فرعية كبيرة‪ ،‬بحيث‬
‫يصبحون حساسين للغاية لإلحباط الجديد‪ ،‬قد يكون سمة ثقافية أخرى مهيأة‪ ،‬إذ قد‬
‫تستجيب مجموعة تابعة في المجتمع بشدة لظروف الحياة الصعبة؛ وهذه الظروف‬
‫الصعبة تزيد من حدة االختالفات بين المجموعات وتعزز تجربة الظلم في المجموعة‬
‫أيضا إيديولوجيات إضفاء الشرعية القوية التي تبرر امتياز مجموعة‬
‫التابعة‪ ،‬وقد تساهم ً‬
‫‪161‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫أيضا تحدي هوية المجموعة وفهمها‬ ‫مهيمنة‪ .‬وعندما يتم الطعن في هذا االمتياز‪ ،‬يتم ً‬
‫للواقع‪ .‬وبالنظر إلى األيديولوجية‪ ،‬واعتما ًدا على صورة األعضاء للجماعة األقل ح ًظا‬
‫على أنها خطيرة‪ ،‬كذلك يكون أمنهم‪.‬‬
‫سياق مماثِل‪ ،‬حدد ‪ Baumeister‬أربعة أسباب جذرية رئيسية للشر‪ ،‬حيث يتم‬
‫وفي ٍ‬
‫استخدام العنف (‪ )1‬كوسيلة لتحقيق غاية‪ ،‬فبعض الناس يلجؤون إلى العنف كوسيلة‬
‫أمرا ال مفر منه في‬
‫للحصول على ما يريدون‪ ،‬وربما تكون درجة معينة من الصراع ً‬
‫الحياة االجتماعية لإلنسان‪ ،‬وقد يرغب شخصان في الشيء نفسه‪ ،‬أو قد يرغبان في‬
‫أشياء ال تتوافق مع تفضيالت كل منهما‪ ،‬وتوجد طرق عديدة لحل النزاع‪ ،‬والعنف هو‬
‫بالتأكيد أحدها‪ .‬وغال ًبا ما تكون األهداف التي يستخدم الناس العنف لتحقيقها عادية‬
‫تما ًما‪ .‬إذ يستخدم الناس العنف للحصول على المال والموارد والسلطة والجنس‪،‬‬
‫ويستخدمونها لكسب الجدل أو لجعل شخص ما يتوقف عن فعل شيء ال يحبه‪،‬‬
‫وهذه الغايات ليست مرفوضة بشكل عام في حد ذاتها‪ ،‬فالشر يكمن في الوسيلة وليس‬
‫شريرا‪ .‬و(‪ )2‬استجابة لألنوية المهددة‪،‬‬
‫الغاية‪ ،‬واللجوء إلى العنف هو ما يجعل النشاط ً‬
‫إذ يهاجم الناس اآلخرين الذين جرحوا كبريائهم أو شوهوا شرفهم‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن‬
‫صورة الذات‪ ،‬وليس المكاسب المادية‪ ،‬هي القضية األساسية في هذه الفئة من العنف‪.‬‬
‫وتتعارض نظرية األنوية المهددة مع بعض الحكمة النفسية التقليدية‪ ،‬التي أكدت منذ‬
‫فترة طويلة أن تدني احترام الذات هو سبب مهم للعنف‪ .‬وتكررت نظرية تدني احترام‬
‫الذات على نطاق واسع‪ ،‬لكن لم يكن لها أي أساس نظري أو تجريبي واضح‪ .‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬فإن الرأي القائل بأن تدني احترام الذات يسبب العنف ظهر تدريج ًيا بشكل‬
‫خطير يتعارض بشكل خطير مع شخصية األشخاص الذين يعانون من تدني احترام‬
‫الذات‪ ،‬كما ظهر في عقود من الدراسة‪ ،‬فاألشخاص الذين يعانون من تدني احترام‬
‫الذات هم عمو ًما خجولون‪ ،‬ومترددون في المخاطرة‪ ،‬وبطيئون في لفت االنتباه إلى‬
‫أنفسهم‪ ،‬وغير متأكدين من اإلجراء الذي يجب اتخاذه‪ ،‬ويميلون إلى االستسالم لما‬
‫يقوله اآلخرون‪ ،‬وال يبدو أن أ ًيا من هذه الصفات تؤدي إلى أعمال عنيفة‪ .‬وقد رسمت‬
‫الدراسات التي أجريت على الجناة تدريجيا صورة مختلفة للغاية‪ ،‬حيث بدا أن العديد‬
‫منهم لديهم وجهات نظر مواتية للغاية‪ ،‬بل ومضخمة‪ ،‬ألنفسهم‪ .‬ولوحظ هذا التضخم‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪162‬‬
‫في المجرمين العنيفين‪ ،‬مثل القتلة والمغتصبين‪ ،‬باإلضافة إلى أنواع العنف األخرى‪،‬‬
‫مثل الطغاة‪ .‬وتم العثور على أعلى مستويات العدوانية بين األشخاص الذين سجلوا‬
‫درجات عالية في النرجسية والذين تعرضوا لإلهانة من قبل خصمهم‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن‬
‫األشخاص الذين استثمروا بشكل كبير في صورة مواتية عن أنفسهم والذين واجهوا‬
‫شخصا عارض وجهة النظر اإلطراء هذه كانوا أكثر عرضة للهجوم والهجوم‬
‫ً‬ ‫بعد ذلك‬
‫الم ُثل‬
‫على هذا الشخص‪ .‬و(‪ )3‬محاولة مضللة لفعل الخير‪ ،‬أشخاص تحفزهم ُ‬
‫السامية‪ ،‬ويعتبرون العنف وسيلة ضرورية‪ ،‬غال ًبا ما تكون بغيضة ومؤسفة‪ ،‬لتحقيق شيء‬
‫جيد وإيجابي‪ .‬في بعض الحاالت‪ ،‬يعتبرون أن ارتكاب أعمالهم العنيفة هو واجبهم‬
‫األخالقي‪ .‬وقد أدى تعاطفنا مع الضحايا إلى حجب هذا الجانب من نفسية العديد من‬
‫الجناة‪ .‬فقد يكون من المذهل أن ندرك أن العديد من مرتكبي أفظع أعمال العنف في‬
‫القرن العشرين كانوا مدفوعين في الواقع بالمثل العليا اإليجابية‪ .‬حيث تم العثور على‬
‫أعلى معدالت الوفيات باستثناء الحرب ــ وفي الواقع تجاوز الجميع باستثناء الحروب‬
‫العالمية ــ في عمليات التطهير الستالينية في االتحاد السوفيتي وفي الثورة الثقافية في‬
‫الصين الماوية‪ .‬ويقدر اآلن أن كالهما قتال حوالي عشرين مليون شخص‪ .‬لكن كالهما‬
‫استرشدا باألمل في خلق يوتوبية شيوعية أو اشتراكية‪ ،‬يكون فيها الجميع متساوين‪،‬‬
‫وسيهتم الناس ببعضهم البعض ويتشاركون جميع الممتلكات‪ ،‬ولن يستغل أحد‬
‫المثل بصدق‪،‬‬
‫الضحايا األبرياء‪ .‬وحتى لو شك المرء في أن ستالين أو ماو اعتنقوا هذه ُ‬
‫فيبدو أنه ال جدال في أن معظم كوادر الحزب الذين نفذوا االعتقاالت واإلعدامات‬
‫كانوا يعتقدون بصدق أنهم كانوا يفعلون الشيء الصحيح‪ ،‬من أجل وطنهم الحبيب‬
‫ومن أجل الوطن‪ ،‬خلق الجنة االشتراكية‪ .‬و(‪ )4‬وسيلة الكتساب اللذة السادية‪ ،‬الجذر‬
‫األكثر شيو ًعا في روايات الضحايا وصورهم الخيالية ولكنه األقل شيو ًعا في الحياة‬
‫اليومية‪ :‬السادية‪ .‬فعندما ُينظر إلى األشرار من الخارج على أنهم أشرار‪ ،‬فغال ًبا ما ُينظر‬
‫إليهم على أنهم يستمتعون بالضرر الذي يتسببون فيه‪ .‬والسادية هي المصطلح التقني‬
‫الشتقاق المتعة من إلحاق األذى أو األلم باآلخرين‪ .‬وقد تم العثور على إشارات كثيرة‬
‫إلى السادية في روايات الضحايا‪ ،‬ولكن ذكرها نادر جدً ا في روايات الجناة‪ ،‬ويمكن‬
‫للمرء أن يتساءل عما إذا كانت موجودة على اإلطالق‪ .‬فـ «أسطورة الشر الخالص»‬
‫‪163‬‬ ‫رشبلا رشلا جاتنإو يقالخألا رشلا‬

‫تنفي أن يكون للجناة أي دوافع مشروعة ألفعالهم السيئة‪ ،‬ولذا فمن الشائع تصويرهم‬
‫على أنهم يؤذون الناس لمجرد التسلية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬على الرغم من أن عد ًدا ً‬
‫قليل نسب ًيا‬
‫من الجناة يعترفون باالستمتاع بإلحاق األذى‪ ،‬فإن عد ًدا أكبر من الجناة يلمحون إلى‬
‫اآلخرين الذين يبدو أنهم يستمتعون به‪ .‬ويبدو أن فكرة السادية تتعارض مع العديد من‬
‫المالحظات حول الناس‪ ،‬مثل ميلهم إلى التعاطف مع بعضهم البعض‪ ،‬وإحجامهم‬
‫عن إلحاق األذى‪ ،‬وردود الفعل السلبية للغاية عاد ًة على التجارب األولى مع األذى‪.‬‬
‫شخصا ما‪ ،‬يكون لدى المرء رد‬
‫ً‬ ‫ولكن في المرة األولى التي يؤذي فيها المرء أو يقتل‬
‫فعل سلبي قوي‪ ،‬ولكن مع استمرار المرء في أداء مثل هذه األعمال‪ ،‬ينتج عن عملية‬
‫الخصم تدريجي ًا المزيد والمزيد من المتعة‪.‬‬
‫الوسيلية واألنوية المهددة والمثالية والسادية هي األسباب الجذرية األربعة للشر‪.‬‬
‫تقود السلسلة السببية من خالل مجموعة متنوعة من الوسطاء والوسطاء المحتملين‪،‬‬
‫لتنتهي بالفعل العنيف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فمن بعض النواحي‪ ،‬فإن السبب األكثر أهمية‬
‫ليس أ ًيا من هذه الجذور ولكن ما يمكن العثور عليه في الطرف اآلخر من السلسلة‬
‫السببية‪ ،‬قبل الفعل العنيف مباشرةً‪ .‬في كثير من الحاالت‪ ،‬يتضمن هذا الرابط األخير‬
‫انهيارا في السيطرة على الذات‪ .‬فمعظم الناس لديهم مجموعة من القيود‬
‫ً‬ ‫في السلسلة‬
‫الداخلية والموانع التي تمنعهم من التصرف بنا ًء على كل اندفاع قد يشعرون به‪ .‬وهو‬
‫أيضا‪ :‬ستكون الحياة المتحضرة في المجتمع البشري فوضوية‪ ،‬إن لم تكن‬
‫أمر جيد ً‬
‫مستحيلة تما ًما‪ ،‬بدون هذه القيود‪ .‬وتتطور القدرة على التنظيم الذاتي لدى البشر‬
‫بدرجة أكبر مما هي عليه في معظم األنواع األخرى (وربما في أي نوع آخر)‪ .‬وأحد‬
‫االستخدامات المركزية لعمليات التنظيم الذاتي هذه هو تجاوز االستجابات والدوافع‬
‫األولية والسماح للشخص بالتصرف بطريقة أكثر مالءمة‪ .‬وال يوجد مكان تكون آلية‬
‫ضبط الذات هذه أكثر فائدة منه في كبح العدوان‪ .‬إذ تستلزم حتمية الصراع في التعايش‬
‫البشري أن يكون الناس غال ًبا محبطين أو غاضبين أو غاضبين أو مستائين من بعضهم‬
‫البعض‪ .‬وتؤدي العديد من هذه النزاعات الشخصية إلى اندفاعات عدوانية أو عنيفة‪،‬‬
‫لكن القليل منها فقط يؤدي إلى العنف‪ .‬فمن اإلنصاف التفكير في الميول البشرية‬
‫العدوانية بهذه الطريقة‪ :‬تؤدي العديد من األحداث إلى ظهور دوافع عدوانية‪ ،‬لكن‬
‫ربج لعزخ يؤل ‪.‬د‬ ‫‪164‬‬
‫ضبط الذات يمنع ذلك‪ .‬وبمعنى ما‪ ،‬ضبط الذات هو آخر دفاع ضد العدوان؛ لذلك‪،‬‬
‫مهما للعدوان‪ .‬فعندما تتوقف القيود عن العمل‪ ،‬تؤدي النبضات‬
‫قد يكون فشله سب ًبا ً‬
‫العدوانية إلى عمل عدواني‪.‬‬
165 ‫ عجارملا‬

‫المراجع‬
:‫ ترجمة‬.‫ كيف يتحول األخيار إلى أشرار‬:‫) تأثير الشيطان‬2019( ‫ فيليب‬،‫زيمباردو‬-
.‫ تكوين‬:‫ المملكة العربية السعودية‬.‫هشام سمير‬
.‫) مدخل إلى علم النفس االجتماعي‬2002( ‫ ريتشارد‬،‫ روبرت وغروس‬،‫مكلفين‬-
.‫ دار األوائل‬:‫ عمان‬.‫ موفق الحمداني وياسمين حداد وفارس حلمي‬:‫ترجمة‬
.‫ وجهة نظر علمية عن التسلط‬:‫) كيف تُصنع الطاعة‬2022( ‫ ستانلي‬،‫ميلجرام‬-
.‫ دار نصوص‬:‫ بغداد‬.‫ أندي مارديني‬:‫ترجمة‬
- Baumeister, R. F. (1997) Evil: Inside human violence and cruelty. New
York: Freeman.
- Baumeister, R. F., & Campbell, W. K. (1999) The intrinsic appeal of
evil: Sadism, sensational thrills, and threatened egotism. Personality
and Social Psychology Review, 3, 210 ‫ ــ‬221.
- Baumeister, R. F. & Vohs, K. D. (2004) Four Roots of Evil. In: Arthur
G. Miller (ed.) The Social Psychology of Good and Evil. New York:
The Guilford Press. pp.85 ‫ ــ‬101.
- Milgram, S. (1974). Obedience to authority: An experimental view.
New York: Harper & Row.
- Miller, A. G., Collins, B. E. & Brief, D. E. (1995) Perspectives on
Obedience to Authority: The Legacy of the Milgram Experiments.
Journal of Social Issues. Vol. 51. No. 3. pp. 1 ‫ ــ‬19
- Staub, E. (1999). The roots of evil: Personality, social conditions,
‫د‬. ‫ربج لعزخ يؤل‬ 166
culture and basic human needs. Personality and Social Psychology
Review, V. 3, pp.179 ‫ ــ‬192.
- Staub, E. (2004) Basic Human Needs, Altruism and Aggression. In:
Arthur G. Miller (ed.) The Social Psychology of Good and Evil. New
York: The Guilford Press. pp. 51 ‫ ــ‬84.
- Zimbardo, P. (2004) A Situationist Perspective on the Psychology
of Evil: Understanding How Good People Are Transformed into
Perpetrators. In: Arthur G. Miller (ed.) The Social Psychology of
Good and Evil. New York: The Guilford Press. pp. 21 ‫ ــ‬50.
- Zimbardo, P. (2007) The Lucifer Effect: Understanding How Good
People Turn Evil. New York: Random House.
‫دراسات‬

‫جدلية الثواب والعقاب‬


‫سوسيوثقافية‬
‫ّ‬ ‫مقاربة‬

‫‪1‬‬ ‫_________________________________________‬
‫د‪ .‬صالح الدين العامري‬

‫عما يجب أن نفعله أوال نفعله ضمن «فلسفة األخالق»‪ .‬وهو مبحث‬
‫يندرج الحديث ّ‬
‫مهم شغل بال اإلنسان منذ وعى ذاته ووجوده وبحث عن صيغ للوجود الجمعي تضمن‬
‫ّ‬
‫قدرا من األمان والسعادة‪ .‬وتطلبت هذه الرغبة إيجاد صيغة ما لالجتماع البشري‪.‬‬
‫والشر‪ ،‬وارتبطت هذه المعادلة بجدل ّية الثواب‬
‫ّ‬ ‫ومن أكثر الصيغ حضورا ثنائ ّية الخير‬
‫والعقاب ضمن رؤية شاملة للنظام االجتماعي‪ ،‬رؤية اجتهد اإلنسان في صياغتها‬
‫مر تاريخه لتحقيق حالة من اإلشباع يتقاطع فيها الوجداني والعقلي‪.‬‬
‫وتطويرها على ّ‬
‫بتنوع زوايا النّظر وتعدّ د الخلف ّيات‬
‫تنوعت مرجعيات تأسيس النظام االجتماعي ّ‬
‫وقد ّ‬
‫تنوعت الخلفيات واآلليات‬
‫الموجهة للتنظير والتطبيق في التّاريخ‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫الثقاف ّية والفكر ّية‬
‫وبقي الهدف واحدا‪ ،‬وهو االجتماع والتنظيم األرقى في محاولة مفتوحة لتحقيق‬
‫والتلون في‬
‫ّ‬ ‫التنوع‬
‫إنسان ّية اإلنسان‪ .‬وال يمكن تحقيق هذا الهدف دون معالجة حالة ّ‬
‫وتجسدت في الواقع‬
‫ّ‬ ‫األفكار والسلوك والتطلعات والوسائل‪ .‬تبلورت فكرة التنظيم‬
‫عبر شبكة من القيم‪ ،‬واتخذت القيم تدريج ّيا بعدا تداول ّيا ملزما يعد بتحقيق الخالص‪،‬‬
‫لتتحول إلى منظومة ثقاف ّية‬
‫ّ‬ ‫وسرعان ما ّ‬
‫تجذرت هذه القيم في الواقع تنظيرا وممارسة‬
‫رمز ّية تجيب على أسئلة البدايات واآلنيات والنهايات في سرديات جمع ّية‪ .‬وهذا ما‬
‫سنحاول تب ّينه في القسمين األساسيين من البحث‪.‬‬

‫‪ 1‬أكاديمي وباحث تونسي‪ ،‬مختص في الدراسات الحضارية وتاريخ األديان‪ ،‬جامعة الزيتونة‪.‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪168‬‬
‫تحديد المفاهيم وضبط المنهج‬
‫توجه السلوك والفكر‬
‫ما نقصده بالقيم هو النّظم األخالق ّية المكتوبة التي ّ‬
‫والشر‬
‫ّ‬ ‫والعمل في عمل ّية تنظيم البناء االجتماعي‪ ،‬ونقاربها من خالل ثنائ ّية الخير‬
‫باعتبارها معيارا للتمييز بين مجموعة من الثنائيات المن ّظمة للوجود البشري مثل‬
‫والضار‪ ،‬والمقدّ س والمدنّس‪ ،‬والثواب والعقاب‬
‫ّ‬ ‫والصواب‪ ،‬والنّافع‬
‫ّ‬ ‫الخطأ‬
‫وغيرها من محدّ دات الوجود األسمى‪ .‬المقصود بالبعد الرمزي هو الشبكة‬
‫الثقاف ّية التي تتشكّل من مفاهيم جرى تثبيتها ثقاف ًة رسم ّي ًة بين األفراد واألجيال‬
‫بفعل الممارسة وتكرارها‪ .‬ولما كان مدار اشتغالنا متمحورا حول مسألة أخالق ّية‬
‫تراوح بين االجتماعي والديني‪ ،‬وتم ّثل مشتركا إنسان ّيا‪ ،‬احتجنا إلى اإلفادة من‬
‫منجزات أكثر من منهج بحثي‪ ،‬وذلك لتنويع زوايا الفهم وتمتين بنية التم ّثل‪.‬‬
‫وجعلنا المنهج المقارن إطارا عاما للبحث بحكم العودة إلى أكثر من مرجع ّية‬
‫وديانة‪ ،‬وعملنا على اإلفادة من بعض منجزات المنهج السوسيولوجي بالتركيز‬
‫فكرتي النّظام والنسق االجتماعي ألنّهما أساس الفكر الوظيفي في علم‬ ‫ْ‬ ‫على‬
‫االجتماع واألنتروبولوجيا‪ ،2‬وانفتحنا على األنتروبولوجيا الثقاف ّية باعتبارها آل ّية‬
‫في فهم سياق ثقافي من الدّ اخل‪ ،‬وتب ّين روافده وآلياته ورموزه ووظائفه‪ .3‬واشتغلنا‬
‫بمعزل عن الماقبليات الفكرية التي نحملها‪ .‬وقاربنا المسألة وفق ما يعتبره باستيد‬
‫فهم البناء (‪ )Construction‬وتفكيك البناء (‪ )Déconstruction‬وإعادة البناء‬
‫(‪ .4)Reconstruction‬ولئن بدأنا في تناول الظاهرة بالجانب التنظري لها‪ ،‬فإنّنا‬
‫تأسس على دراسة الممارسة في التاريخ وأنّه الحق‬ ‫على وعي ّ‬
‫بأن هذا الجانب ّ‬
‫بها زمن ّيا‪.‬‬

‫تي الفعل والنسق االجتماعي‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪ 2‬جماعي‪ ،‬علم االجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظر ّي ْ‬
‫العميس للنشر‪ ،‬القصيم‪/‬بريدة‪ ،‬ط‪ ،1.‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.201‬‬
‫‪ 3‬بريان هويل وجينيل ويليامز باريس‪ ،‬المدخل إلى األنتروبولوجيا الثقاف ّية من منظور مسيحي‪،‬‬
‫ترجمة إدوارد عبد المسيح‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة دار الكلمة‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1.‬ص‪.18‬‬
‫‪ 4‬دوني كوش‪ ،‬مفهوم الثقافة في العلوم االجتماع ّية‪ ،‬ترجمة قاسم المقداد‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة ناشرون‪،‬‬
‫ط‪ ،2012 ،1.‬ص‪.76‬‬
‫‪169‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫الخير ّ‬
‫والشر من الفكرة إلى القيمة‬
‫يم ّثل ّ‬
‫تحول الفكرة من المستوى النّظري إلى المستوى العملي التداولي قانونا‬
‫يحكم المفاهيم واألفكار الجامعة‪ .‬فما من سلوك أو قيمة إال وبدأت تنظيرا ثم‬
‫وتنوعت تطبيقاتها وطقوسها‪.‬‬
‫تتوسع نصوصها ومفاهيمها وقوانينها ّ‬
‫صارت ثقافة ّ‬
‫وهذا ما سنسعى إلى رصده في هذا القسم من البحث‪.‬‬

‫فلسفة الخير والش ّر في العلوم اإلنسان ّية‬


‫ويتفرد بإنتاج‬
‫ّ‬ ‫تؤكّد العلوم اإلنسان ّية ّ‬
‫أن الكائن البشري يتم ّيز عن الحيوان بالعقل‬
‫الثقافة‪ .5‬ومع هذا التم ّيز ّ‬
‫فإن نزعاته ورغباته وغرائزه يمكن أن تكون ّأشد خطورة من‬
‫تلك التي يظهرها الحيوان في كثير من األحيان‪ ،‬ويمكن أن تحدث من الصعوبات‬
‫والفوضى واألضرار ما يفوق التو ّقع‪ ،‬سواء في المستوى الفردي أو الجمعي‪ .‬وحين‬
‫شعر اإلنسان بالرغبة في االستقرار والتعايش في إطار جماعات‪ ،‬بحث عن خلق‬
‫أشكال من التنّظيم تنقله من حالة الفرد ّية والحر ّية المطلقة‪ ،‬إلى حالة االجتماع والتن ّظيم‬
‫المعق َلنة‬
‫والتشارك اإليجابي‪ .‬ويرتبط تح ّقق هذه الرغبة بمجموعة من الشروط ُ‬
‫والمعقلنة‪ ،‬ويتط ّلب حدودا وتنازالت فرد ّية يفرضها قانون الوجود داخل الجماعة‪.6‬‬ ‫ِ‬

‫السياق االجتماعي‪ ،‬وقد م ّثل السعي إلى‬


‫يتنزل جانب أساسي من هذه المسألة ضمن ّ‬
‫ّ‬
‫خلق حالة التوازن االجتماعي إحدى القضايا الرئيس ّية التي اشتغل بها أصحاب االتجاه‬
‫البنائي الوظيفي‪ .‬يعتبر تالكوت بارسونز أبرز مم ّثلي هذا االتجاه‪ ،‬ومن ّ‬
‫أهم مقاالته‬
‫المكونة لالجتماع البشري وأعضاء الجسد‪ ،‬وتنعقد المماثلة‬
‫ّ‬ ‫المماثلة بين العناصر‬

‫للتوسع حول هذه الخصوص ّية تمكن العودة إلى‪ :‬مايكل كاريذرس‪ ،‬لماذا ينفرد اإلنسان بالثقافة‪،‬‬‫ّ‬ ‫‪5‬‬
‫وتنوعها‪ ،‬ترجمة شوقي جالل‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬ع ‪،229‬‬ ‫الثقافات البشر ّية نشأتها ّ‬
‫‪.1989‬‬
‫‪ 6‬العقالن ّية عند السوسيولوجي الفرنسي ريمون بودون ‪ Raymond Boudon‬هي مبدأ منهجي‬
‫يسمح بمقاربة هو ّية الفاعل االجتماعي والبحث في المنطق الذي يحكم سلوكه الذي يعني‬
‫البحث في األسباب المنظمة ألفعاله‪.‬‬
‫‪Raymond Boudon, «Individualisme et holisme en sciences sociales», Dans Pièrre‬‬
‫‪Birnbaum et Jean Leca (S/D): Sur l’individualisme. Ed. PFSP. Paris. 1991 p58.‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪170‬‬
‫على الدّ ور الذي تؤ ّديه القيم الستمرار الحياة وضمان استقرارها‪ .7‬ويساعد توظيف‬
‫المدخل األنتروبولوجي الثقافي على الحفر في جذور الفكرة‪ ،‬وتفضي عمل ّية الحفر‬
‫إلى العودة إلى نظر ّية العمران البشري لمؤسس اإلرهاصات األولى لعلم االجتماع عبد‬
‫تطرق في نظريته إلى معنى مدن ّية اإلنسان‬
‫الرحمن بن خلدون (تـ‪808.‬هـ‪1406/‬م)‪ .‬وقد ّ‬
‫وقوانينها‪ .‬واعتبر حاجة اإلنسان إلى التن ّظيم واالجتماع في إطار جماعات مسألة فطر ّية‬
‫والصراع‪.‬‬
‫وفسر هذه الحاجة بعاملين أساسيين‪ ،‬هما التعاون ّ‬
‫وضرورة طبيع ّية‪ّ .‬‬
‫ع ّبر ابن خلدون عن معنى التعاون في تعريف علم العمران بأنّه «التّساكن والتّنازل‬
‫في مصر أو ح ّلة لألنس بالعشير‪ ،‬واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون‬
‫عرف‬
‫على المعاش» ‪ .‬وع ّبر عن معنى الصراع الذي يهدّ د الفرد في فردانيته حين ّ‬
‫‪8‬‬

‫اإلنسان من خالل ثنائية الفكر والساعد‪ ،‬وقال في هذا المعنى‪« :‬فاليد مه ّيأة للصنائع‬
‫بخدمة الفكر‪ ،‬والصنائع تحصل له باآلالت التي تنوب له عن الجوارح المعدّ ة في‬
‫سائر الحيوانات للدفاع»‪ .9‬فالتعاون ضروري لتحقيق منافع يضمنها التكامل بين‬
‫مضار يمكن أن تهدّ د‬
‫ّ‬ ‫األدوار البشر ّية‪ ،‬والخوف من الصراع والفناء يجنب اإلنسان‬
‫حياته في حالة فردانيته‪ (L’individualisme)10‬وعدم العيش ضمن وجود جمعي‬
‫(‪.)communautaire‬‬

‫تي الفعل والنسق االجتماعي‪ ،‬ص‪.177‬‬ ‫جماعي‪ ،‬علم االجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظر ّي ْ‬ ‫‪7‬‬
‫عبد الرحمان بن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬تقديم نواف الجراح‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط‪،2.‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪ ،2009‬ص‪.38‬‬
‫م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪9‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يؤكّد دوركايم أن الفرد ليس بإمكانه االندماج االجتماعي إال من خالل قبول إمالءات المجتمع‪.‬‬ ‫‪10‬‬
‫ُينظر‪:‬‬
‫‪Emile Durkheim, De la division du travail social, PUF, Paris, 1994, p325.‬‬
‫في المقابل ينقد ريمون بودن المقاربات الكليان ّية التي تنظر إلى الفرد باعتباره نقطة عبور لألفكار‬
‫الجماع ّية التي تك ّبله وتحدّ من طموحاته ورغباته‪ .‬وواضح أنّه تأ ّثر بأطروحة ماكس فيبر ‪Max‬‬
‫‪ Weber‬الذي انتقد ماركس وهيغل وأوغيست كونت بسبب انطالقهم من الجماعة وإهمال الفرد‬
‫الذي تنتفي الجماعة في غيابه‪ ،‬وفي ظل سلبيته‪ .‬ومع تماسك طرح ريمون بودن فإنّنا نميل هذا‬
‫السياق إلى الطرح الدوركايمي ولكن دون تهميش ك ّلي إلمكانات الذات الفرد ّية‪.‬‬
‫للتوسع حول أطروحة ريمون بودن تمكن العودة إلى‪:‬‬
‫‪Raymond Boudon, «Individualisme et holisme en sciences sociales», p49.‬‬
‫‪171‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫واصلت السوسيولوجيا المعاصرة تبنّي الفكرة القديمة في التمييز بين وجودين‬


‫مختلفين ومتناقضين‪ ،‬وأعادت إنتاج فكرة حاجة اإلنسان إلى االجتماع مع بني‬
‫ويتم‬
‫جنسه الستكمال بناء إنسانيته وتهذيبها وتنظيمها وجعلها فاعلة إيجاب ّيا ونفع ّيا‪ّ .‬‬
‫التحول على أساس التمييز يين مجالين يحكمهما قطبان أحدهما سلبي يس ّبب‬ ‫ّ‬ ‫هذا‬
‫الشر‪ ،‬واآلخر إيجابي يح ّقق النّفع والسعادة وهو الخير‪.11‬‬‫الضرر واإلساءة وهو ّ‬ ‫ّ‬
‫وانخرط في هذا الطرح فالسفة مثل كارل ماركس ماركس وهيغل وأوغيست‬
‫كونت‪ ،‬وراهن جميعهم على الوجود الجمعي في تحقيق االجتماع المدني الراقي‬
‫النّافع والمطلوب إنسان ّيا‪ ،‬واعتباره البديل األفضل للوجود الفردي‪ .‬ولم يروا للفرد‬
‫وجودا وال نفعا وال فائدة خارج الجماعة‪ ،‬رغم دوره في بنائها وتشكيل معالمها‪.‬‬
‫ذهب برتراند راسل في هذا السياق إلى ّ‬
‫أن اإلنسان ليس كائنا اجتماع ّيا تماما‬
‫انفرادي مثل الحيوانات المفترسة‪ ،‬بل هو خليط‬
‫ّ‬ ‫مثل النمل والنحل‪ ،‬وال هو كائن‬
‫بين هذا وذاك‪ ،‬أي «هو حيوان شبه اجتماعي»‪ 12‬يحتاج إلى ضوابط ّ‬
‫تهذب سلوكه‬
‫وتن ّظمه ليصير كائنا اجتماع ّيا‪ .‬ولمزيد توضيح هذه الفكرة نقل راسل عن غراهام‬
‫ولس بعض مالحظته حول العالقات بين األفراد في الفضاءات العامة اإلنجليز ّية‬
‫مثل القطار أو شوارع لندن‪.‬‬
‫دفاعي من السلوك‬
‫ّ‬ ‫نمو جهاز‬
‫أن اإلنسان في فردانيته يعرف ّ‬ ‫استنتج غراهام ّ‬
‫االجتماعي يحميه من االتصاالت اآلدم ّية غير المرغوب فيها وغير االضطرار ّية‪،‬‬
‫وهو ما يع ّطل ّ‬
‫توجهه إلى االجتماع والوجود اإليجابي بالمعنى القيمي‪ .‬ويضرب‬
‫االجتماعي المعيش‪ .‬وتتم ّثل القرينة في سلوك التجاهل‬
‫ّ‬ ‫لهذه الحالة قرينة من الواقع‬
‫الذي يبديه األفراد في مقاعد القطار أو عند االلتقاء في األماكن الض ّيقة‪ .‬وهو سلوك‬
‫سلبي في الس ّلم القيمي‪ .‬وتتغ ّير هذه الحال شرط حدوث تهديد جماعي مثل غارة‬

‫الذات عينها كآخر‪ ،‬ترجمة جورج‬‫للتوسع حول صناعة القيم تمكن العودة إلى‪ :‬بول ريكور‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪11‬‬
‫ّ‬
‫(الذات واالستهداف‬ ‫زيناتي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1.‬ص‪341‬‬
‫األخالقي)‪.‬‬
‫‪ 12‬برتراند راسل‪ ،‬المجتمع البشري في األخالق والسياسة‪ ،‬ترجمة عبد الكريم أحمد‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪172‬‬
‫جو ّية أو زلزال أو ضباب أو أمطار طوفان ّية‪ .‬يدفع هذا ال ّطارئ الجميع إلى التفاعل‪،‬‬
‫مسهم جميعا وسيؤ ّثر في حياتهم الفرد ّية‬
‫فيتبادلون الحديث في هذا الشأن العام الذي ّ‬
‫ويهدّ دها‪ .‬يعكس هذا السلوك حسب غراهام حالة «التذبذب بين الشخصي والجانب‬
‫االجتماعي»‪ .13‬وهذا أنموذج للحدود بين الحالتين والوجودين‪.‬‬
‫م ّثلت الموازنة بين القطبين المتضا ّدين (الفكرة) أساس االنتقال السليم من الفردي‬
‫إلى الجمعي‪ ،‬ومن العجز إلى القدرة‪ ،‬ومن الخطإ إلى الصواب‪ ،‬ومن السلبية إلى‬
‫التحول من الفكرة إلى القيمة‬
‫ّ‬ ‫اإليجابية (القيمة)‪ .‬وع ّبر برتراند راسل عن الحاجة إلى‬
‫بقوله‪« :‬ألنّنا لسنا اجتماعيين تماما فنحن في حاجة إلى أخالق لتوحي لنا باألهداف‪،‬‬
‫التصرفات»‪ .14‬ويلتقي ارنيست كاسير مع هذا‬
‫ّ‬ ‫وإلى قواعد أخالق ّية لتفرض علينا قواعد‬
‫الطرح حين يربط حياة اإلنسان الحقيق ّية واإليجابية بوجوده داخل المجموعة‪ ،‬وإنكار‬
‫أي معنى لوجوده الفردي المنفصل الذي يعني العدم‪.15‬‬
‫ّ‬

‫الخير والش ّر في األديان‬


‫يمثل الفكر الديني الوجه األخر لعملة البحث الثقافي‪ ،‬لذلك لم يكن بمعزل عن‬
‫سياق فكرة التمييز بين حالتين متقابلتين في الوجود‪ ،‬إحداهما سلبية ضارة‪ ،‬واألخرى‬
‫إيجابية نافعة‪ .‬بل كان س ّباقا إلى ترسيخ هذه المعادلة منذ المراحل األولى لتشكّل الشعور‬
‫الديني لدى اإلنسان‪ ،‬وأسهم بفاعل ّية في تحويل الفكرة األصل ّية‪ ،‬وهي تنظيم الوجود‪،‬‬
‫الشر‪ ،‬وطرفها اإليجابي‬
‫إلى منظومة قيمة أخالقية تحقق الخالص‪ ،‬طرفها السلبي هو ّ‬
‫هو الخير‪ .‬وأسهمت ّ‬
‫جل األديان في تناول هذا التصنيف للوجود البشري ونقله من‬
‫سياق اجتماعي فطري نسبي إلى سياق عقدي مقدّ س مطلق‪ .‬فالوجود السالب لإلنسان‬
‫الشر‪ ،‬والوجود الموجب هو أن يكون ضمن‬
‫هو أن يكون خارج دائرة اإليمان ويعني ّ‬
‫دائرة اإليمان التي تحدّ دها شرائع الدين ويعني الخير‪ .‬وجعلت األديان من بناء الجماعة‬

‫‪13 Graham Wallas, Humain nature in politics, Perligo, London, 2004, p49.‬‬
‫‪ 14‬برتراند راسل‪ ،‬المجتمع البشري في األخالق والسياسة‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ 15‬إرنست كاسيرر‪ ،‬مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان‪ ،‬ترجمة إحسان عباس‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬دار األندلس‪ ،1961 ،‬ص‪.83‬‬
‫‪173‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫المؤمنة على هذا المعطى رهانا عقد ّيا ومقصدا خالص ّيا يفصل بين عالمين ووجودين‪.‬‬
‫وأنتجت تم ّثالت وضوابط لالجتماع البشري من خارج إرادة الذات الفرد ّية وإن كان‬
‫بمشاركتها‪ ،‬وسعت لتكريسها ثقافة وجود ّية خالص ّية في الحياة‪ ،‬وعند الحياة الثانية‬
‫وتكرست تدريج ّيا فكرة تقسيم‬
‫ّ‬ ‫بالنسبة إلى الديانات التي تؤمن بالبعث بعد الموت‪.‬‬
‫العالم إلى وجودين متقابلين على أساس منظومة قيم ّية خالص ّية أساسها التقابل بين‬
‫وتوسعت دائرتها بالتوازي مع تغ ّير وجود اإلنسان في التاريخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخير‬
‫يعود التاريخ البعيد للتمييز قيم ّيا بين وجودين أو عالمين في الفضاء الديني إلى‬
‫لتكون الشعور الديني لدى اإلنسان‪ .‬وتم ّثل الثنو ّية الكون ّية أولى‬
‫ّ‬ ‫المراحل األولى‬
‫المنظومات الدين ّية التي انخرطت في تحويل فكرة تنظيم الوجود في التاريخ إلى‬
‫الثنوية على فكرة وجود مبدأين أو أصلين متناقضين متصارعين‬
‫منظومة أخالق ّية‪ .‬وتقوم ّ‬
‫هما عالم الروح والنّور األزلي‪ ،‬وعالم الما ّدة والظلمة األزل ّية‪ .16‬وبنى المصريون‬
‫(الشر)‪ ،‬وتعني‬
‫ّ‬ ‫األول »اإلسفت«‬‫القدامى تم ّثالتهم للوجود على ثنائ ّية متقابلة قطبها ّ‬
‫الكلمة مجموع الشرور والفساد والظلم واالعتداء واختالل التوازن والفوضى سياسيا‬
‫والشرير هو »اإلسفتي«‪ ،‬وهو الفوضوي والعاصي والمذنب‬
‫ّ‬ ‫واجتماعيا وأخالقيا‪.17‬‬
‫حق األفراد والجماعات‪ ،‬والمهدّ د للنظام القائم‪ .18‬والقطب الثاني هو‬
‫والمخطئ في ّ‬
‫»الماعت« (الخير)‪ ،‬ويشمل كل مظاهر النفع واإليجابية التي تحقق الفائدة للمجتمع‬
‫المصري ‪ .‬وتم ّثل قائمة ّ‬
‫الشرور جزءا من قائمة المخاوف التي تهدّ د االجتماع البشري‬ ‫‪19‬‬

‫بالمعنى التاريخي الما ّدي‪ ،‬وقد تل ّقفها الفكر الديني ليوظفها في بناء منظوماته القيم ّية‬
‫الخالص ّية‪.‬‬

‫‪ 16‬فراس السواح‪ ،‬الشيطان والرحمان‪ ،‬الثنو ّية الكون ّية والهوت التاريخ في الديانات المشرق ّية‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫دار عالء الدّ ين‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1.‬ص‪.11‬‬
‫الشر في مصر القديمة‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1.‬الهيئة العامة المصرية للكتاب‪،‬‬ ‫‪ 17‬علي عبد الحليم علي‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫القاهرة‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ 18‬نجد المعنى ذاته في تعريف القديس أوغسطين للشر‪ُ ،‬ينظر‪:‬‬
‫‪Saint Augustin, Œuvres complètes, Nature du bien, B. Boland Gosselin, Desclée de‬‬
‫‪Brouwer & Cie, Paris, 1949, 2em Ed, p 465.‬‬
‫السوسيولوجي‬
‫الشر في األديان بين ّ‬
‫للتوسع حول المسألة تمكن العودة إلى مقالنا‪» :‬مقولة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪19‬‬
‫والميتافيزيقي«‪ ،‬ضمن قضايا إسالم ّية معاصرة‪ ،‬ع ‪ ،2020 ،73-74‬ص ‪.87-112‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪174‬‬
‫لم يختلف طرح المسألة مع الديانات الكتاب ّية الثالث في تم ّثل الوجود‪ ،‬واعتمدت‬
‫والشر لبناء منظومتها القيم ّية الخالص ّية‪ ،‬ومن خاللهما رسمت‬
‫ّ‬ ‫أدبياتها ثنائ ّية الخير‬
‫قواعد نظامها المثالي‪ .‬وينطلق الالهوتيون اليهود والمسيحيون من اآليات نفسها في‬
‫بالشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سفر التكوين لتفسير الوجود الحقيقي الخير وما لحق به من أحداث وسمته‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ُّب ِ‬
‫الر ُّب‬ ‫اإلل ُه آ َد َم َو َو َض َع ُه في َجنَّة عَدْ ن ل َي ْع َم َل َها َو َي ْح َف َظ َها َو َأ ْو َصى َّ‬ ‫وجاء فيها « َأ َخ َذ َّ‬
‫الش ِّر‬‫«م ْن َج ِمي ِع َش َج ِر ا ْل َجن َِّة ت َْأك ُُل َأ ْكالً‪َ ،‬و َأ َّما َش َج َر ُة َم ْع ِر َف ِة ا ْل َخ ْي ِر َو َّ‬ ‫اإلله آدم َق ِائالً‪ِ :‬‬
‫ِ ُ ََ‬
‫وت»‪ .20‬وكان النهي عن األكل من شجرة‬ ‫ال ت َْأك ُْل ِمن َْها‪ ،‬ألَن ََّك َي ْو َم ت َْأك ُُل ِمن َْها َم ْوتًا ت َُم ُ‬
‫َف َ‬
‫الرب‬‫األول للفصل بين وجودين‪ :‬وجود في الجنّة ناله آدم بمباركة ّ‬ ‫المعرفة هو الشكل ّ‬
‫الشر‪.‬‬
‫حل به وبزوجته بعد الوقوع في الخطيئة وهو ّ‬ ‫وهو الخير‪ ،‬ووجود في الدنيا ّ‬
‫يذهب األب فاضل سيداروس اليسوعي إلى ّ‬
‫أن اإلنسان عاش في انسجام مع تلك‬
‫الوص ّية اإلله ّية بقطبيها‪ :‬األكل‪/‬االمتناع عن األكل‪ ،‬إلى أن ورطته الح ّية حين ركزت‬
‫على الممنوع‪/‬الحرام‪ ،‬وأخفت المسموح به‪/‬الحالل‪ .21‬وجاءت الدعوة صريحة في‬
‫الشر من أجل وجود حقيقي وراق « ُا ْط ُل ُبوا ا ْل َخ ْي َر الَ‬
‫سفر عاموس الختيار الخير وترك ّ‬
‫الشر هو الطريق‬ ‫َّ ِ‬
‫َح َي ْوا» ‪ .‬فإذا كان الخير هو طريق الحياة‪ ،‬فمعناه أن نقيضه ّ‬
‫‪22‬‬
‫الش َّر لك َْي ت ْ‬
‫إلى الموت بالمعنى الرمزي‪ .‬وأكّد األب فاضل سيداروس اليسوعي بوضوح اعتبار‬
‫«إن الحياة األخالق ّية مبن ّية أساسا‬ ‫والشر أساس المنظومة األخالقية في قوله‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫ثنائ ّية الخير‬
‫والشر»‪ ،23‬وهي معرفة خالص ّية للفرد والجماعة يضمنها الحلول في‬
‫ّ‬ ‫على معرفة الخير‬
‫أخالق المسيح القائمة على فضيلة المح ّبة‪ .‬ولئن ندر اعتماد لفظ «األخالق» في العهد‬
‫عوضته عبارة «الفضيلة» بمعنى قوة النّفس التي تدفع اإلنسان لفعل الخير‬
‫الجديد‪ ،‬فقد ّ‬
‫الشر‪.24‬‬
‫كل نوازع ّ‬ ‫والتغلب على ّ‬
‫استأنفت الثقافة اإلسالمية هذا الطرح وجعلته أساسا لرسالة اإلسالم في تحقيق‬

‫تكوين‪.)15-17( 2 :‬‬ ‫‪20‬‬


‫األب فاضل سيداروس اليسوعي‪ ،‬األنتروبولوجيا المسيح ّية‪ ،‬اإلنسان بين ز ّلته وخالصه‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪21‬‬
‫دار المشرق‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1.‬ص‪.14‬‬
‫عاموس‪.)14( 5 :‬‬ ‫‪22‬‬
‫األب فاضل سيداروس اليسوعي‪ ،‬األنتروبولوجيا المسيح ّية‪ ،‬ص‪.14‬‬ ‫‪23‬‬
‫عساف ميخائيل‪ ،‬األخالق المسيح ّية‪ ،‬لبنان‪ ،‬المطبعة المخلصية‪ ،‬ط‪ ،1948 ،1.‬ص‪ 16‬و‪.19‬‬ ‫المطران ّ‬ ‫‪24‬‬
‫‪175‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫الخير لإلنسان‪ .‬وبنت أغلب المقاربات تم ّثالتها على اآلية الثالثة عشرة من سورة‬
‫َّاس إِنَّا َخ َل ْقنَاك ُْم ِم ْن َذك ٍَر َو ُأ ْن َثى َو َج َع ْلنَاك ُْم ُش ُعو ًبا َو َق َب ِائ َل لِ َت َع َار ُفوا‬
‫الحجرات [ َيا َأ ُّي َها الن ُ‬
‫إِ َّن َأك َْر َمك ُْم ِعنْدَ ال َّل ِه َأ ْت َقاك ُْم]‪ ،‬قال محمد حسين الطباطبائي في تفسيرها‪« :‬وجعلناكم‬
‫شعوبا وقبائل مختلفة ال لكرامة لبعضكم على بعض‪ ،‬بل ألن تتعارفوا فيعرف بعضكم‬
‫ويتم بذلك أمر اجتماعكم‪ ،‬فيستقيم مواصالتكم ومعامالتكم‪ ،‬فلو فرض ارتفاع‬
‫بعضا ّ‬
‫المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد االجتماع وبادت اإلنسان ّية»‪.25‬‬
‫أجمل الطباطبائي في تفسير اآلية أهم القواعد المن ِّظمة لالجتماع المدني‪ ،‬فأعاد‬
‫القول القرآني من دائرة المقدّ س المتعالي إلى أرض ّية التفاعل االجتماعي المتغ ّير‪ ،‬وهو‬
‫المطلوب في فهم النصوص المقدسة وربطها بالواقع والتاريخ‪ .‬وتر ّدد هذا الفهم في‬
‫أغلب مظاهر التن ّظيم في الجماعات البشر ّية‪ .‬وورد هذا الطرح في تعريف فخر الدين‬
‫الرازي (تـ‪606.‬هـ) لوظائف اإلمام باعتباره رأس النظام في هرم القيادة اإلسالمية‬
‫ببعديها الديني والدنيوي‪ .‬وحدّ د له فائدتين‪ :‬دين ّية وهي تنظيم إقامة الشعائر‪ ،‬ودنيو ّية‬
‫بالحث على الواجبات وترك‬ ‫ّ‬ ‫وهي دفع الضرر والتصدّ ي للفوضى ومنع انتشار الفساد‬
‫القبائح‪ .26‬ويندرج أغلبها ضمن دائرة قيمتي الخير والشر‪ .‬وحصر تقي الدين النبهاني‬
‫بالضرورة إلى‬ ‫المضار بالدين‪ ،‬وأكّد ّ‬
‫أن اجتماع أ ّية أ ّمة يحتاج ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحقيق المنافع ودفع‬
‫أنظمة ومبادئ‪ّ ،‬‬
‫وأن اإلسالم بأوامره ونواهيه هو الذي يوجد هذا المجتمع ويرفعه من‬
‫المثل‪ .27‬وأكّد الطاهر بن عاشور دور الدين في البناء‬
‫وهدة الهبوط إلى ذرى السمو نحو ُ‬
‫االجتماعي في قوله‪« :‬مراد ال ّله في األديان ك ّلها منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد‪ ،‬وهو‬
‫وتطرق في مقدمة أطروحته حول النظام‬
‫ّ‬ ‫حفظ نظام العالم وصالح أحوال أهله»‪.28‬‬
‫االجتماعي في اإلسالم إلى هذه المعادلة فقال‪« :‬غرضي أن أبحث عن حقيقة اإلسالم‬

‫محمد حسين الطباطبائي‪ ،‬الميزان في تفسير القرآن‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪،‬‬ ‫‪25‬‬
‫‪1418‬هـ‪1998/‬م‪ ،‬ج‪ ،18‬ص ‪.330‬‬
‫فخر الدين الرازي‪ ،‬نهاية العقول في دراية األصول‪ ،‬تحقيق سعيد عبد اللطيف فودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬ ‫‪26‬‬
‫الذخائر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.331‬‬
‫تقي الدّ ين النبهاني‪ ،‬النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ ،1952 ،‬ص‪.31‬‬ ‫‪27‬‬
‫محمد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬أصول النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬تونس ــ الدار التونس ّية للنشر‪،‬‬ ‫‪28‬‬
‫الجزائر ــ المؤسسة الوطن ّية للكتاب‪ ،‬ط‪ ،2.‬د‪.‬ت‪،‬ص‪.10‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪176‬‬
‫وحقيقته من جهة مقدار تأثيرها في تأسيس المدن ّية الصالحة‪ ،‬ومقدار ما ينتزع المسلم‬
‫بها يهتدي بها إلى مناهج الخير والسعادة»‪.29‬‬
‫مما نخلص إليه في هذا القسم من البحث ّ‬
‫أن رغبة اإلنسان في االجتماع جعلته يفكّر في‬ ‫ّ‬
‫تحولت الفكرة إلى منظومة من القيم األخالق ّية‬
‫وسائل هذا االجتماع وآلياته‪ ،‬وسرعان ما ّ‬
‫والشر‪ ،‬وقد أسهم الفكر الديني بفاعل ّية في تأسيس هذه المعادلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتجاذبها قطبان هما الخير‬

‫الخير والشر‪ :‬من القيمة إلى الرمز‬


‫تحول الفكرة إلى قيمة بسبب حاجة اإلنسان إلى تطبيق ما يفكّر به‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫مثلما كان ّ‬
‫تحوالن تدريج ّيا الممارسة إلى منظومة رمز ّية تكتسب‬
‫مراكمة الممارسة والتداول ّ‬
‫قيمتها وفاعل ّيتها من تبنّي الجماعة لها وتقديسها‪ .‬وهذا ما سنسعى إلى تت ّبعه من خالل‬
‫تحول مجموعة القيم والسلوك إلى شبكة ثقاف ّية يحتكم نسيجها إلى عدد من‬ ‫رصد ّ‬
‫الرموز المؤ ّثرة في االجتماع البشري‪.‬‬

‫القيم من النظري إلى التداولي‬


‫تحولت فكرة تنظيم الوجود البشري إلى نظام قيمي خالصي في المقاربتين الدين ّية‬ ‫ّ‬
‫والشر‪ .‬ويتح ّقق الخالص المنشود ُ‬
‫والم َب ّشر‬ ‫ّ‬ ‫والفلسف ّية‪ ،‬وحدود النظام هي ثنائ ّية الخير‬
‫وتفرعاته‪ .‬وارتبطت بهذه القطب ّية‬
‫والتوجه إلى الخير ّ‬
‫ّ‬ ‫الشر ومتع ّلقاته‬
‫به بالهروب من ّ‬
‫تقل عنها فاعل ّية في آليات فرض النظام االجتماعي‪ ،‬هي العقاب‬ ‫ثنائ ّية أخرى ال ّ‬
‫والثواب‪ .‬ولئن تعدّ دت تعريفات القيمة‪ ،‬فإنّنا نميل إلى اختزالها في تعريفين يستندان‬
‫إلى المرجع ّيتين االجتماع ّية والدين ّية بما ينسجم وطبيعة هذا البحث‪.‬‬
‫تم ّثل القيم في المرجع ّية الدين ّية مجموعة من الضوابط األخالقية المطلقة‪ ،‬وظيفتها‬
‫وتوجهاتهم‪ ،‬وآليتها‬
‫ّ‬ ‫التداول ّية‪ 30‬تحديد سلوك الفاعلين االجتماعين وضبط مواقفهم‬

‫‪ 29‬محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬أصول النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬ص‪.7‬‬


‫تعرف الموسوعة الكون ّية التداولية (‪ )Pragmatique‬بكونها «مجموعة من البحوث المنطقية‬ ‫‪ّ 30‬‬
‫وتهتم بقضية التالؤم بين التعابير الرمزية والسياقات المرجعية‬
‫ّ‬ ‫اللسانية (‪ )...‬تعنى باستعمال اللغة‬
‫المقام ّية والحدث ّية والبشر ّية»‪ .‬فيليب بالنشي‪ ،‬التداولية من أوستين إلى غوفمان‪ ،‬ترجمة صابر‬
‫الحباشة‪ ،‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪2007 ،‬م‪ ،‬ط‪ ،1‬ص ص ‪ 13‬ــ ‪.14‬‬
‫‪177‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫األساس ّية هي ثنائ ّية الثواب والعقاب‪ .‬وتنبني القيم على معايير تتمتع بمشروعية وفاعلية‬
‫تجعالن منها قواعد صارمة يتأسس عليها الوعي والسلوك فرديا وجمع ّيا‪ ،‬وتتخذ بعدا‬
‫والشر‪ .‬وتعني القيمة في المرجع ّية االجتماع ّية معايير‬
‫ّ‬ ‫مقدّ سا انطالقا من ثنائ ّية الخير‬
‫جماعية تم ّثل قواعد ومرجعا للسلوك الفردي والجمعي‪ ،‬تسندها مشاعر قوية فتنهض‬
‫بوظائف عملية تقود الجماعة إلى السعادة‪ .31‬وأ ّما األخالق فهي منظومة من القيم‬
‫والمعايير التي تجعلها الجماعة مرجعا في تنظيم سلوكها وعالقاتها بهدف تحقيق‬
‫المنافع والفضائل للفرد والجماعة عاجال وآجال‪.‬‬
‫يتمايز مفهوم األخالق من مرجع ّية فكر ّية إلى أخرى رغم التقاطعات‪ ،‬ففي المرجع ّية‬
‫الفلسف ّية م ّيز بول ريكور مثال بين مصطلحي ‪ Ethique‬و ‪ .Morale‬واستخدم مصطلح‬
‫‪ Ethique‬للتعبير عن المضامين الفكرية لألخالق وقوانينها‪ ،‬وجعل مصطلح ‪Morale‬‬
‫للداللة على نسق القيم والمعايير األخالقية التي تتمحور حول قيمتي الخير والشر‪.32‬‬
‫وم ّيز فيليب ميريو )‪ (Philipe Meirieu‬بين المصطلحين‪ ،‬فجعل كلمة ‪ Ethique‬دا ّلة‬
‫على دراسة السلوك األخالقي عند األفراد‪ ،‬وحصر معنى ‪ Morale‬في اإلحالة على‬
‫نظام المعايير والقيم والمبادئ األخالقية التي تنظم سلوك األفراد في المجتمع‪ 33.‬وتعدّ‬
‫الموجه الحقيقي للفعل االجتماعي بالمعنى السوسيولوجي‪ .‬ويم ّثل‬ ‫ّ‬ ‫القيم األخالق ّية‬
‫الفعل الترجمة الماد ّية الملموسة للقيم‪.‬‬
‫أن كلمة ‪ Morale‬هي األقرب للداللة على السياق الذي‬ ‫يب ّين هذا التمييز االصطالحي ّ‬
‫«الخير‪/‬الشر» في بناء الهياكل القيم ّية األخالق ّية المن ّظمة لحياة‬
‫ّ‬ ‫نقارب فيه مركز ّية الزوج‬
‫والشر‬
‫ّ‬ ‫جماعة بشر ّية ما‪ّ .‬‬
‫وأن المسألة األخالقية تقوم أساسا على الصراع األبدي بين الخير‬

‫للتوسع حول مفهوم القيمة بين النظر والمارسة في الواقع‪ ،‬تمكن العودة إلى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪31‬‬
‫‪Hassan Rachik et Autres, Islam au quotidien, Enquête sur les valeurs et les pratiques‬‬
‫‪religieuses au Maroc, Editions Prologues, collection dirigée par Mohamed–Sghir‬‬
‫‪Janjar (Collection: Religion et Société), Casablanca, 2007.‬‬
‫‪32 Paul Ricœur, Avant la loi morale, l’éthique , Encyclopedia Universalis, Les enjeux,‬‬
‫‪1988, p. 42-45‬‬
‫‪33 Philippe Meirieu, Éduquer: un métier impossible ? ou «Éthique et pédagogie», Con-‬‬
‫‪férence prononcée à Montréal le mercredi 27 mai 1992, dans le cadre du congrès‬‬
‫‪Collèges célébrations 92. Pédagogie Collégiale Septembre, Vol. 6 n° 1, 1992.‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪178‬‬
‫وما يتع ّلق بهما من ثنائيات أخرى مثل الفضيلة والرذيلة‪ ،‬والط ّيب والخبيث‪ ،‬والحق‬
‫والضار‪ .‬ويرتبط هذا الحقل الداللي بثنائ ّية أخرى‬
‫ّ‬ ‫والصواب‪ ،‬والنّافع‬
‫والباطل‪ ،‬والخطأ ّ‬
‫هي العقاب وال ّثواب‪ ،‬وهي المقابل والجزاء القتراف ّ‬
‫الشرور أو فعل الخير‪.‬‬
‫المنتجة للضرر مثل‬
‫«الشر» في التوراة اليهودي على األفعال السلبية ُ‬‫ّ‬ ‫تحيل عبارة‬
‫وتحمل اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫الكذب والخداع والتحريف وال ّظلم والقتل‪ .34‬وتقرن بين ال ّله والخير‪،‬‬
‫الرب‪ .‬ورد هذا المعنى في المحاورة بين النبي يوسف وإخوته‬ ‫الشر بتجاوز حدود ّ‬ ‫فعل ّ‬
‫َخا ُفوا‪ .‬ألَ َّن ُه َه ْل‬ ‫ف الَ ت َ‬ ‫وس ُ‬ ‫شرهم بخيره « َف َق َال َل ُه ْم ُي ُ‬ ‫حين خافوا انتقامه‪ ،‬غير أنّه ر ّد على ّ‬
‫َان ال ّل ِه؟ َأ ْنت ُْم َق َصدْ ت ُْم لِي َش ًّرا‪َ ،‬أ َّما ال ّل ُه َف َق َصدَ بِ ِه َخ ْي ًرا‪ ،‬لِك َْي َي ْف َع َل ك ََما ا ْل َي ْو َم‪ ،‬لِ ُي ْح ِي َي‬
‫َأنَا َمك َ‬
‫ب ُق ُلو َب ُه ْم»‪ .35‬بدّ د‬ ‫َخا ُفوا‪َ .‬أنَا َأ ُعو ُلك ُْم َو َأ ْوالَ َدك ُْم»‪َ .‬ف َع َّز ُاه ْم َو َط َّي َ‬ ‫َش ْع ًبا كَثِ ًيرا‪َ .‬ف َ‬
‫اآلن الَ ت َ‬
‫الشر‬
‫وأن ّ‬ ‫بالرب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يوسف خوف إخوته وذكّرهم باألصل في األشياء وهو الخير المرتبط‬
‫حادث بسبب أنان ّية اإلنسان وطمعه‪ .‬وفي المقابل استحضر اإلخوة في خطابهم ثنائ ّية‬
‫ف َي ْض َط ِهدُ نَا‬ ‫وس َ‬ ‫والشر‪ .‬وجاء فيه‪َ « :‬ل َع َّل ُي ُ‬ ‫ّ‬ ‫قيمتي الخير‬ ‫ْ‬ ‫الثواب والعقاب المتو ّلدة عن‬
‫الش ِّر ا َّل ِذي َصنَ ْعنَا بِ ِه»‪ .36‬فاالضطهاد والعقاب هما الجزاء المناسب‬ ‫يع َّ‬ ‫ِ‬
‫َو َي ُر ُّد َع َل ْينَا َجم َ‬
‫الشرور التي ارتُكبت على يوسف‪ ،‬وورد‬‫الرتكاب الكذب والحسد والقتل‪ ،‬وهي ّ‬
‫أغلبها في الوصايا العشر للنبي موسى‪ .‬وانطلق المتك ّلم اليهودي موسى بن ميمون‬
‫الشر عن الرب‬
‫والشر باعتبارهما قرينين للوجود والعدم لينفي صفة ّ‬
‫ّ‬ ‫من تعريف الخير‬
‫وتتكرر‬
‫ّ‬ ‫وتقديمه خيرا محضا‪ .37‬وهي أطروحة تستمدّ سيرورتها من الفلسفة اليونان ّية‬
‫في المنظومات الدين ّية الالحقة‪.‬‬

‫اهدَ ُظ ْل ٍم‪َ .‬ال َت ْت َب ِع ا ْلكَثِ ِيري َن إِ َلى َفا ْع ِل َّ‬


‫الش ِّر‪،‬‬ ‫ُون َش ِ‬ ‫َاذ ًبا‪َ ،‬و َال ت ََض ْع َيدَ َك َم َع ا ْل ُمنَافِ ِق لِ َتك َ‬ ‫«ال َت ْقب ْل َخبرا ك ِ‬
‫َ َ ًَ‬ ‫‪34‬‬
‫ين في َد ْع َوا ُه‪ .‬إِ َذا َصا َد ْف َت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب فِي َد ْع َوى َمائ ً‬
‫ِ‬ ‫َوالَ ت ِ‬
‫اب َم َع ا ْلم ْسك ِ‬ ‫ُح ِ‬ ‫ال َو َرا َء ا ْلكَث ِيري َن للت َّْح ِريف‪َ .‬والَ ت َ‬ ‫ُج ْ‬
‫َح َت ِح ْم ِل ِه َوعَدَ ْل َت َع ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َث ْو َر عَدُ ِّو َك َأ ْو ح َم َار ُه َش ِار ًدا‪ ،‬ت َُر ُّد ُه إِ َل ْيه‪ .‬إِ َذا َر َأ ْي َت ح َم َار ُم ْبغض َك َواق ًعا ت ْ‬
‫ب‪َ ،‬والَ َت ْقت ُِل ا ْل َب ِري َء‬ ‫ال ِم ا ْلك َِذ ِ‬
‫ف َح َّق َف ِق ِير َك فِي َد ْع َوا ُه‪ .‬اِ ْبت َِعدْ َع ْن َك َ‬ ‫َح َّل َم َع ُه‪ .‬الَ ت َ‬
‫ُح ِّر ْ‬ ‫َح ِّل ِه‪َ ،‬ف َ‬
‫ال ُبدَّ َأ ْن ت ُ‬
‫ال َم األَ ْب َر ِار‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْش َو َة ُت ْعمي ا ْل ُم ْبص ِري َن‪َ ،‬و ُت َع ِّو ُج َك َ‬ ‫ِ‬
‫ب‪ .‬والَ ت َْأ ُخ ْذ َر ْش َوةً‪ ،‬ألَ َّن َّ‬ ‫َوا ْل َب َّار‪ ،‬ألَنِّي الَ ُأ َب ِّر ُر ا ْل ُم ْذن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يب َفإِ َّنك ُْم َع ِار ُف َ‬
‫ض م ْص َر»‪ ،‬خروج‪23 :‬‬ ‫يب‪ ،‬ألَ َّنك ُْم ُكنْت ُْم ُغ َر َبا َء في َأ ْر ِ‬ ‫ون َن ْف َس ا ْل َغ ِر ِ‬ ‫َوالَ ت َُض ِاي ِق ا ْل َغ ِر َ‬
‫(‪.)1-9‬‬
‫تكوين‪.)20-21( 50 :‬‬ ‫‪35‬‬
‫تكوين‪.)15( 50 :‬‬ ‫‪36‬‬
‫موسى بن ميمون‪ ،‬داللة الحائرين‪ ،‬ترجمة حسين آتاي‪ ،‬مكتبة الثقافة الدّ ين ّية‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.494‬‬ ‫‪37‬‬
‫‪179‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫واصلت الثقافة المسيح ّية هذا السياق المفاهيمي الهيكلي لطبيعة القيم األخالق ّية‬
‫الشر‬
‫وأن ّ‬ ‫أن األصل في الوجود هو الخير‪ّ ،‬‬ ‫ومضامينها وآلياتها‪ .‬فأكّد القدّ يس أوغسطين ّ‬
‫طارئ عليه بسبب عدم التزام اإلنسان بالمعايير اإلله ّية للوجود‪ .‬فكل عناصر الخلق‬
‫ألن ال ّله خلق كل شيء خ ّيرا‪ ،‬وهو الخير المطلق‪ ،‬غير ّ‬
‫أن أخطاء اإلنسان‬ ‫خ ّيرة في ذاتها ّ‬
‫الشر‪ .38‬وجعلت المسيح ّية من‬ ‫التي حصلت بتجاوز النظام األخالقي إراد ّيا تحدث ّ‬
‫المح ّبة والتّسامح أرقى مراتب األخالق التي تستحق الجزاء وال ّثواب‪« :‬لِك َْي َتكُونُوا‬
‫الصالِ ِحي َن‪َ ،‬و ُي ْمطِ ُر‬
‫اوات‪َ ،‬فإِ َّن ُه ُي ْش ِر ُق َش ْم َس ُه َع َلى األَ ْش َر ِار َو َّ‬
‫َأبنَاء َأبِيكُم ا َّل ِذي فِي السم ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫َع َلى األَ ْب َر ِار َوال َّظالِ ِمي َن‪ .‬ألَ َّن ُه إِ ْن َأ ْح َب ْبت ُُم ا َّل ِذي َن ُي ِح ُّبو َنك ُْم‪َ ،‬ف َأ ُّي َأ ْج ٍر َلك ُْم؟»‪ .39‬وم ّثلت‬
‫الرذائل في فلسفة أغسطين أساس الشرور‪ ،‬والسلوك المستوجب للعقاب اإللهي‬
‫العادل‪ .40‬ود ّعم القدّ يس انسليم هذا المعنى بدعوة المؤمن بالمسيح أن «اعشق الخير‬
‫كل الخيرات ويكفيها‪ ،‬ارغب في الخير البسيط وكفاك به فهو‬ ‫الوحيد الذي يحوي ّ‬
‫والشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخير ك ّله»‪ .41‬فالخير هو اإليمان‪ ،‬واإليمان هو الخير‪ ،‬وغير ذلك هو االنحراف‬
‫استأنفت الثقافة اإلسالمية هذه الجدل ّية في اإلطار نفسه تقريبا‪ ،‬مع بعض التمايزات‪.‬‬
‫أن ال ّله خير محض مثلما يتحدّ ث عن‬ ‫وقد حافظت على الفكرة الرئيس ّية التي تقوم على ّ‬
‫َاء ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو َين َْهى َع ِن‬ ‫ان وإِيت ِ‬
‫ِ‬ ‫ذاته في سورة النحل [إِ َّن ال َّل َه َي ْأ ُم ُر بِا ْل َعدْ ِل َو ْ ِ‬
‫ال ْح َس َ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫اء َوا ْل ُمنْك َِر َوا ْل َب ْغ ِي]‪ .42‬وأثر عن النبي قوله «المؤم ُن ِغ ٌّر‬ ‫ا ْل َفح َش ِ‬
‫والفاجر خ ٌّ‬
‫ُ‬ ‫كريم‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫أن االبتعاد‬ ‫و«إن مكارم األخالق من أعمال أهل الجنّة» ‪ .‬اإلجماع حاصل على ّ‬
‫‪43‬‬ ‫ّ‬ ‫لئيم»‬
‫ُ‬
‫الشر‪ .‬ال ّله الذي أفرد اإلنسان بالعقل‪ ،‬ك ّلفه باالستخالف في األرض‬ ‫عن شرائع ال ّله هو ّ‬
‫تحمل الرسالة بما‬
‫والصواب‪ .‬وإذا أحسن ّ‬
‫وتعميرها‪ ،‬وأوجب عليه التّمييز بين الخطأ ّ‬

‫‪38 Saint Augustin, La Morale Chrétienne, Introduction et traduction, B. Roland- Gos-‬‬


‫‪selin, Edition Descellée De Brouwer et Cie, Paris, 1949 pp 443 – 445.‬‬
‫‪ 39‬متّى‪.)45-46( 5 :‬‬
‫‪40 Ibid, p344.‬‬
‫‪ 41‬نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط (أوغسطين ــ أنسيلم ــ توما اإلكويني)‪ ،‬ترجمة‬
‫وتعلق حسن حنفي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪ ،1978 ،2.‬ص‪.172‬‬
‫‪ 42‬النحل‪.16/90 :‬‬
‫ّ‬
‫‪ 43‬أبو بكر بن عبد الله ابن أبي الدنيا‪ ،‬مكارم األخالق‪ ،‬تحقيق محمد عبد القادر عطا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلم ّية‪ ،‬ط‪1409 ،1.‬هـ‪ ،1989/‬ص ‪.17-18‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪180‬‬
‫وحصل السعادة‬
‫ّ‬ ‫الصواب وحافظ على الخير‬
‫حدّ دته الشريعة اإلسالم ّية يكون قد اختار ّ‬
‫تمرد على إرادة ال ّله التي ترجمها رجال الدين وب ّلغوها‪ ،‬يكون‬
‫في الدّ ارين‪ ،‬وفي حال ّ‬
‫والشر‪ .‬ويستند التمييز بين الحالتين عند القاضي عبد الج ّبار‬
‫ّ‬ ‫قد خرج إلى دائرة الخطأ‬
‫إلى اإلرادة اإلنسان ّية المؤسسة على العقل‪ .‬فالعقل عنده عبارة عن جملة من العلوم‬
‫المخصوصة متى اكتسبها المك ّلف ّ‬
‫صح منه النظر واالستدالل ونجح في القيام بما‬
‫ُك ّلف به‪ .44‬وااللتزام بأمر ال ّله يعني ّ‬
‫أن صاحب العقل اختار الصواب والخير‪ ،‬وترك‬
‫والشر‪ ،‬وح ّقق الخالص في الدّ ارين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخطأ‬
‫والشر في الديانات‬
‫ّ‬ ‫قيمتي الخير‬
‫ْ‬ ‫ارتبط الزوج «ثواب‪/‬عقاب» المتو ّلد عن‬
‫الكتاب ّية الثالث بالزمن الدنيوي في الحياة‪ ،‬وبالزمن األخروي بعد الموت‪ .‬ولئن‬
‫فإن المتك ّلمين‬
‫غاب معنى الثواب والعقاب في عالقة بيوم الدينونة في التوراة‪ّ ،‬‬
‫اليهود تالفوا هذا النقص‪ ،‬وانسجموا مع اإلطار العام لفكر الديني التوحيدي‪.‬‬
‫وتفاعلوا في بناء أطروحاتهم مع علم الكالم اإلسالمي‪ ،‬وتأ ّثروا بتم ّثالته‪ .‬وأوضح‬
‫أن ما يصل باإلنسان من باليا (عقاب) أو نعم (ثواب)‬ ‫المتك ّلم موسى بن ميمون ّ‬
‫يكون على وجه االستحقاق بالحكم العادل الذي ال جور فيه أصال‪ .‬ونقل عن كبار‬
‫األحبار قولهم‪« :‬يجازى الطائع على ّ‬
‫كل ما فعله من أفعال البر واالستقامة‪ ،‬ولو لم‬
‫يؤمر بذلك على يد نبي‪ ،‬وأنّه ُيعا َقب على كل فعل ّ‬
‫شر فعله الشخص‪ ،‬ولو لم ُينه عنه‬
‫عن يد نبي»‪.45‬‬
‫فإن المتك ّلمين المسلمين‬
‫لئن كان اإلسالم الحقا تاريخ ّيا باليهود ّية والمسيح ّية‪ّ ،‬‬
‫قد أثروا بوضوح في نظرائهم اليهود والمسيحيين باعتبار تزامن الظهور بينهم‪ .‬ونلمس‬
‫التأ ّثر عند موسى بن ميمون الذي ال يعرض فكرة عن العقائد اليهود ّية إال وسرد مواقف‬
‫الفرق اإلسالم ّية مثل المعتزلة واألشاعرة‪ .‬ولهذا السبب تماثلت المقاربات الكالم ّية‬

‫النجار وعبد الحليم‬


‫‪ 44‬القاضي عبد الج ّبار‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬تحقيق محمد علي ّ‬
‫النجار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬المؤسسة العا ّمة للتأليف والنشر‪1385،‬هـ‪1965/‬م‪ ،‬ج‪ ،11‬ص‪.375‬‬
‫جماعي‪ ،‬اإلسالم ومكارم األخالق بأقالم عشرة من أعالم اإلسالم‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪1412‬هـ‪ ،1992/‬ص‪.23‬‬
‫‪ 45‬موسى بن ميمون‪ ،‬داللة الحائرين‪ ،‬ص ص ‪.526-527‬‬
‫‪181‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫بين الديانات الثالث‪ .‬وربط المتك ّلمون المسلمون بين الجزاء واالستحقاق والعدالة‬
‫اإلله ّية‪ .46‬وورد تدقيق هذه المعادلة في سورة الزلزلة [ َف َمن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا‬
‫والذرة هي المقياس األدنى لألحجام‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫َي َر ُه * َو َمن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َال َذ َّر ٍة َش ًّرا َي َر ُه]‪.47‬‬
‫جاءت العبارة في صيغة رمز ّية لتؤكّد الصفة المطلقة للعدل اإللهي عند الحساب‪.‬‬
‫وتجمع المقاربات التوحيد ّية على مسؤول ّية اإلنسان في ما يناله من جزاء مقابل أفعاله‬
‫تحت ضمانة العدالة اإللهية‪.‬‬

‫القيمة من التداولي إلى الرمزي‬


‫طرحنا في العنصر السابق مظاهر تحول فكرة تنظيم الوجود إلى قيمة ذات بعد‬
‫تداولي وظيفي تبني الواقع وتن ّظمه بفاعل ّية‪ .‬وسنتب ّين في هذا القسم ّ‬
‫تحول القيمة من‬
‫السياق التداولي إلى البعد الرمزي في شكل ثقافة جمع ّية ملزمة‪ .‬ونستند في الصدد‬
‫إلى اعتبار اإلنسان كائنا رامزا يو ّظف مجموعة من الوسائط لالجتماع والتواصل‪ .‬وقد‬
‫اعتمد أساسا وسائط ثقاف ّية مثل اللغة والدين واألسطورة والشعائر وال ّطقوس‪ .‬وتؤكّد‬
‫فلسفة األشكال الرمز ّية وجود عالقة وثيقة بين الرموز واألشياء والثقافة‪ .‬وتقوم العالقة‬
‫مجرد‪.‬‬
‫فكري ّ‬
‫ّ‬ ‫على دور الوساطة بين ما هو مادي وما هو‬
‫والشر في األنظمة القيم ّية للجماعات البشر ّية‬
‫ّ‬ ‫يرتبط الحديث عن ترميز الخير‬
‫بالتشكيل اللغوي الخطابي أساسا‪ ،‬وإن اتخذ مظاهر أخرى مثل الطقوس‪ .‬وذهب بول‬
‫أن ال ّلغة ليست ّ‬
‫مجرد موضوع‪ ،‬بل واسطة و َم ْع َبرا ووسيلة‬ ‫ريكور‪ ،‬في هذا اإلطار‪ ،‬إلى ّ‬
‫وأن التك ّلم هو الفعل الذي يمكّن المتك ّلم‬
‫َن ْع ُبر بواسطتها ونُع ّبر من خاللها عن األشياء‪ّ ،‬‬
‫من تجاوز العالم المغلق إلى العالمات الرمز ّية‪ .48‬وحين اتجه ريكور إلى البحث في‬

‫‪ 46‬تمكن العودة إلى‪ :‬هويدا فؤاد الطويل‪ ،‬مقتضيات العدل اإللهي (الثواب والعقاب بين الوجوب‬
‫والفضل لدى المعتزلة واألشاعرة)‪ ،‬اإلسكندر ّية‪ ،‬كلية الدراسات اإلسالم ّية‪1439 ،‬هـ‪2018/‬م‪.‬‬
‫‪ 47‬الزلزلة‪.99/7 :‬‬
‫‪48 Paul Ricœur, Le confit des interprétation, essais d’herméneutique, Edition du seuil‬‬
‫‪Paris,1969, P87 .‬‬
‫انظر أيضا‪ :‬ــ ‪Paul Ricœur, Du texte à l’action, essais d’herméneutique, Ed seuil, Paris,‬‬
‫‪1986, p112.‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪182‬‬
‫اهتم ّ‬
‫بفك شفرات اللغة الرمز ّية من خالل التأ ّمل في لغة االعتراف بالخطأ‪.49‬‬ ‫الشر ّ‬
‫رمز ّية ّ‬
‫الشر في الذاكرات الدين ّية الخطيئة األصل ّية والشيطان‬
‫ومن العالمات اللغو ّية الدّ الة على ّ‬
‫تأسسا على أرض ّية نظام الوجود وتنظيمه‪.‬‬
‫باعتبارهما معنيين رمزيين ّ‬
‫ارتبطت الخطيئة في الذاكرة الدين ّية الكتاب ّية بحادثة «الطرد» من الجنّة النّاتجة عن‬
‫الرب أو الجرأة عليها‪ .‬واشتركت في ارتكابها أنثيان‪ :‬الح ّية مد ّبرة والمرأة‪/‬‬
‫تجاوز أوامر ّ‬
‫حواء من ّفذة‪ ،‬واعتبر ّ‬
‫الذكر ضح ّية مكرهما دون اإلشارة الصريحة إلى مسؤوليته‪ .‬وهذا‬
‫وخصه بأوامر‬
‫ّ‬ ‫موجها إلى آدم‬
‫ما تداركه النص القرآني حين أورد الخطاب اإللهي ّ‬
‫وحمل القسط األكبر من مسؤولية المعصية‬ ‫ّ‬ ‫تنظيم وجوده في الجنّة أمرا ونهيا‪،‬‬
‫اس ُك ْن َأ َ‬
‫نت َو َز ْو ُج َك ا ْل َجنَّ َة‬ ‫[ويا آ َد ُم ْ‬
‫بالعدو‪ .‬وجاء في األمر اإللهي َ‬ ‫ّ‬ ‫للشيطان ووصفه‬
‫الش َج َر َة َف َتكُونَا ِم َن ال َّظالِ ِمي َن]‪ .50‬تر ّددت هذه‬
‫ال ِم ْن َح ْي ُث ِش ْئت َُما َوالَ َت ْق َر َبا َه ِـذ ِه َّ‬
‫َف ُك َ‬
‫للشر في المرجع ّيتين‬ ‫األطروحة في الديانات الكتاب ّية الثالث‪ ،‬وصارت الخطيئة رمزا ّ‬
‫الالهوت ّية والفلسفية‪ ،‬وإن تباينت القراءة والتأويل‪ .‬وتبحث المرجعيات الدين ّية عن‬
‫وتفسرها انطالقا من مدى‬
‫ّ‬ ‫والشر في إطار تم ّثل العالقة بين اإلنسان ور ّبه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الخطيئة‬
‫التزام اإلنسان باألوامر الدين ّية المن ّظمة لحياته‪ ،‬وهي الخيار الوحيد بالنسبة إليه‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫الخير األسمى هو اإليمان‪ .‬يقول بولس الفغالي‪« :‬الحكمة ترتبط بال ّله (‪ ،)...‬لهذا فهي‬
‫الرب والخيرات التي‬
‫الشر والموت‪ ،‬ويقودنا إلى مخافة ّ‬
‫ينبوع الحياة الذي يحفظنا من ّ‬
‫تنتج عن هذه المخافة»‪ .51‬وقد واجه الالهوتيون إشكال ّية حر ّية اإلنسان ومسؤوليته‬
‫الشر عن اإلله وتحميل‬
‫فيما ورثه عن التحالف األنثوي بين األفعى وحواء بنفي صفة ّ‬
‫اإلنسان طبيعة أفعاله‪ .‬واعتبروا الخطيئة نتيجة لمعصية النواميس اإلله ّية المن ّظمة‬
‫للوجود على قاعدة أنّها المرجع ّية األسمى للنّظام‪ .‬فالمعصية تؤ ّدي إلى الخطيئة‪،‬‬
‫والخطيئة تحدث تبدّ ال سلب ّيا في وجود اإلنسان‪ ،‬ويم ّثل الوضع الجديد تحريفا‬

‫‪ 49‬بول ريكو‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬اإلنسان الخطاء‪ ،‬ترجمة عدنان نجيـب الـدين‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المركـز‬
‫الثقـافي العربـي‪ ،‬ط‪2003 ،1.‬م‪ ،‬ص‪15.‬‬
‫‪ 50‬البقرة‪.2/35 :‬‬
‫‪ 51‬الخوري بولس الفغالي‪ ،‬المدخل إلى الكتاب المقدّ س‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات المكتبة البولس ّية‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪ ،1995‬ص‪.122‬‬
‫‪183‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫للوجود األصلي‪ .52‬ويقتضي هذا التبدّ ل البحث عن الخالص والتوبة بمجموعة من‬
‫الشر باعتبارها مس ّببا‬
‫الطقوس والشعائر‪ .‬وصنّف بول ريكور الخطيئة رمزا من رموز ّ‬
‫الصلة به وبالمكان األصلي للوجود‪.53‬‬
‫له بعد خرق القانون اإللهي للوجود وقطع ّ‬
‫الشر المصمم‬ ‫وذهب إلى ّ‬
‫أن الرمزية األقدم‪ ،‬والتي نستطيع أن ننطلق منها هي رمزية ّ‬
‫بوصفه دنسا‪.54‬‬
‫يقل حضوره في المتخ ّيل الديني عن حضور‬ ‫للشر ال ّ‬
‫ّ‬ ‫يم ّثل الشيطان رمزا آخر‬
‫الخطيئة‪ ،‬بل هو قرينها‪ .‬ويحضر هذا الرمز باعتباره نقيضا للخير ورموزه مثل اإلله‬
‫أسست لرمز ّية الشيطان الزرادشت ّية‪،‬‬
‫والنبي واإلنسان الصالح‪ .‬ومن أولى الدّ يانات التي ّ‬
‫الشريرة عند المجوس‪ .‬وتج ّلى هذا الكائن‬
‫الروح ّ‬
‫وصنعت الرمز ّية من خالل أهرمان ّ‬
‫قوة الخير التي يم ّثلها أهورا مازدا‪.55‬‬
‫الشرير في مواجهة ّ‬
‫ّ‬
‫والضالل والهالك‪.‬‬
‫للشر ّ‬
‫ّ‬ ‫تر ّدد صدى هذا الرمز في األديان الكتاب ّية الثالثة قرينا‬
‫ورافق ظهوره المراحل األولى لظهور اإلنسان على األرض‪ .‬وغالبا ما يحضر إبليس‬
‫الشر غواية وتوجيها وتحفيزا‪ .‬فبعد أن أحدث الفتنة بين قابيل‬
‫ليساعد في إنجاز فعل ّ‬
‫الشرير‪ ،‬أخذ‬
‫وهابيل‪ ،‬دفع قابيل إلى قتل أخيه‪ ،‬وألنّه لم ينجح في إنجاز هذا الفعل ّ‬
‫ليدربه على الفعل‪ ،‬فوضع رأسها على حجر‪ ،‬وأخذ يضرب به رأسها حتى‬
‫إبليس دا ّبة ّ‬
‫شر قتلة‪ .56‬وبدأت غواية إبليس ليسوع المسيح‬
‫فكرر ابن آدم المشهد فقتل أخاه ّ‬
‫قتلها‪ّ ،‬‬
‫نبوته‪ ،‬فاجتهد في صرفه عن األمر‬
‫في األدبيات المسيح ّية منذ المراحل األولى لظهور ّ‬
‫وجره بمجموعة من اإلغراءات‪ ،‬إال ّ‬
‫أن المسيح قاوم وثبت على خياره الرباني‬ ‫اإللهي ّ‬

‫‪ 52‬القدّ يس أوغسطين‪ ،‬مدينه ال ّله‪ ،‬ترجمة‪ ،‬يوحنا الحلو‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2.‬مج‪ ،2‬ص‪،2007‬‬
‫ص ص‪22-25.‬‬
‫‪ 53‬بول ريكور‪ ،‬صراع التأويالت‪ ،‬دراسات هرمينوطيقية‪ ،‬ترجمة منذر عياشي‪ ،‬دار الكتاب الجديد‬
‫المتحدة‪ ،‬ط‪ ،1.‬لبنان‪ ،2005،‬ص ص‪.235-237‬‬
‫‪ 54‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.488‬‬
‫‪55 Mircea Eliade and Johan P. Couliano, Dictionnaire des religions, Paris: Plon, 1990,‬‬
‫‪pp297-303.‬‬
‫‪ 56‬ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن عمر)‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب العلم ّية‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫ج‪ ،2‬ص‪.42‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪184‬‬
‫تكررت السرد ّية األولى في صورة‬ ‫‪57‬‬
‫(الخير في إتمام مضامين النّاموس الموسوي) ‪ّ .‬‬
‫أن إرادة عيسى الخيرة انتصرت لتح ّقق وعدا‬
‫مستعادة لما حدث آلدم في الجنّة‪ ،‬غير ّ‬
‫إله ّيا بالخالص‪.‬‬
‫وخصه القرآن بصفات‬
‫ّ‬ ‫لم تختلف صورة الشيطان ورمزيته في الثقافة اإلسالم ّية‪،‬‬
‫الشر‬
‫الشرور في األرض جميعا‪ .‬واستنادا إلى العالقة بين ّ‬ ‫ونعوت تربط بينه وبين ّ‬
‫الشر مع اللحظة األولى لوجود اإلنسان‬
‫والمعصية‪ ،‬يكون الشيطان أول من أجرى فعل ّ‬
‫عدوا لإلنسان وحاقدا عليه إلى حدّ أوقعه في الكفر‬
‫األول آدم‪ .‬فمنذ البداية ظهر الشيطان ّ‬
‫ّ‬
‫المقربين‪ .‬وقال ناصر مكارم الشيرازي في هذا السياق‪ّ :‬‬
‫«إن‬ ‫ّ‬ ‫بعد أن كان من المالئكة‬
‫عناد الشيطان وغروره وتك ّبره وحسده تس ّببت في سقوطه من مقامه الشامخ الرفيع»‪.58‬‬
‫الشر بمحض‬‫رفض أمر ال ّله بالسجود لإلنسان واختار المعصية والخطيئة وارتكب فعل ّ‬
‫إرادته‪ .‬وم ّيز ناصر مكارم الشيرازي بين إبليس المخلوق المالئكي السوي والشيطان‬
‫الذي اختار أن يكون شيطانا باختيار المعص ّية والخروج من دائرة اإليمان وشروطه‬
‫التسليم ّية للخالق‪ .59‬وقد ّ‬
‫حذر القرآن اإلنسان من اتباع الشيطان وخطواته ألنّه اختار‬
‫الشر من أجل االنتقام منه‪ .‬وجاء‬
‫المعصية حقدا على اإلنسان وإصرارا على اقتياده إلى ّ‬
‫الشي َط ِ‬
‫ان إِ َّن ُه َلك ُْم عَدُ ٌّو ُمبِي ٌن]‪ .60‬ولم تقتصر صناعة‬ ‫ِ‬
‫[وال َتتَّبِ ُعوا ُخ ُط َوات َّ ْ‬
‫في اآلية َ‬
‫رمز ّية الشيطان على الفقهاء والمتك ّلمين‪ ،‬بل استقطبت أيضا رموز الفكر العقالني في‬
‫المراحل األولى لتأسيس الثقافة اإلسالم ّية‪ .‬وهذا ابن المق ّفع يرسم صورة للشيطان من‬
‫زاوية أخرى‪ ،‬فيقول‪« :‬حياة الشيطان ترك العلم‪ ،‬وروحه وجسده الجهل‪ ،‬ومعدنه في‬
‫أهل الحقد‪ ،‬ومثواه في أهل الغضب‪ ،‬وعيشه في المصارمة‪ ،‬ورجاؤه في اإلصرار على‬

‫هذا ا ْل َح َج ِر َأ ْن َي ِص َير ُخ ْب ًزا»‪َ .‬ف َأ َجا َب ُه‬ ‫يس‪«:‬إِ ْن ُكن َْت ا ْب َن ال ّل ِه‪َ ،‬ف ُق ْل لِ َ‬ ‫ِ‬
‫«و َق َال َل ُه إِ ْبل ُ‬
‫جاء في سفر متّى‪َ :‬‬ ‫‪57‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ان‪َ ،‬ب ْل بِك ُِّل كَل َمة م َن ال ّله»‪ُ .‬ث َّم َأ ْص َعدَ ُه‬ ‫اإلن َْس ُ‬ ‫ِ‬
‫ُوب‪َ :‬أ ْن َل ْي َس بِا ْل ُخ ْبز َو ْحدَ ُه َي ْح َيا ِ‬ ‫يس ِ ِ‬
‫وع قائالً‪َ «:‬م ْكت ٌ‬ ‫َُ ُ‬
‫يس‪َ «:‬ل َك ُأ ْعطِي‬ ‫ِ‬ ‫إِب ِليس إِ َلى جبل َعال و َأراه ج ِميع ممالِ ِك ا ْلمسكُون َِة فِي َلح َظ ٍة ِمن َّ ِ‬
‫الز َمان‪َ .‬و َق َال َل ُه إِ ْبل ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ ُ َ َ ََ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫السلطان ُكل ُه َو َم ْجدَ ُه َّن‪ ،‬أل َّن ُه إل َّي قدْ ُدف َع‪َ ،‬وأنَا أ ْعطيه ل َم ْن أريدُ ‪ .‬فإن َس َجدْ َت أ َمامي َيكُون ل َك‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫هذا ُّ‬
‫له َك ت َْس ُجدُ َوإِ َّيا ُه َو ْحدَ ُه َت ْع ُبدُ »‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُوب‪ :‬ل َّلر ِّب إِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان إِ َّن ُه َم ْكت ٌ‬
‫ب َيا َش ْي َط ُ‬ ‫وع َو َق َال‪«:‬ا ْذ َه ْ‬ ‫يع»‪َ .‬ف َأ َجا َب ُه َي ُس ُ‬‫ا ْل َجم ُ‬
‫المنزل‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪،‬‬ ‫ناصر مكارم الشيرازي‪ ،‬األمثل في تفسير كتاب ال ّله ّ‬ ‫‪58‬‬
‫ط‪1424 ،1.‬هـ‪2013/‬م‪ ،‬ج‪ ،21‬ص‪.391‬‬
‫المنزل‪ ،‬ج ‪ ،21‬ص‪.398‬‬ ‫ّ‬
‫ناصر مكارم الشيرازي‪ ،‬األمثل في تفسير كتاب الله ّ‬ ‫‪59‬‬
‫البقرة‪.2/208 :‬‬ ‫‪60‬‬
‫‪185‬‬ ‫باقعلاو باوثلا ةيلدج‬

‫الذنوب»‪ .61‬ويضع ابن المقفع معادلة وجودية طرفاه ال ّله والشيطان‪ ،‬فمن استقام على‬‫ّ‬
‫أمر ال ّله ح ّقق السعادة‪ ،‬ومن اتبع الشيطان غرق في الشقاء والنغيص والخزي‪.‬‬

‫الخاتمة‬
‫والشر من أكثر المباحث التي شغلت بال‬ ‫ّ‬ ‫أن مبحث الخير‬‫مما تقدّ م إلى ّ‬
‫نخلص ّ‬
‫تنوعت خلفيات جهود البحث‬ ‫مر تاريخه دون أن يفقد مركزيته مهما ّ‬ ‫اإلنسان على ّ‬
‫وظل سؤاال مفتوحا لم تث ّبت له جهة بحث ّية جوابا نهائ ّيا‪ .‬ولعل‬‫وتطورت مناهجه‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫ارتباطه بأسئلة الوجود المتعدّ دة والمتجدّ دة في التاريخ وارتباطه بالجانب األخالقي‬
‫وخصص له هذه المجال من االهتمام‪ .‬وقد سمحت هذه‬ ‫ّ‬ ‫هما من منحه هذه المكانة‪،‬‬
‫ومرت‬ ‫الورشة الممتدّ ة بخلق سيرورة فلسف ّية رأينا أنّها انفتحت بفكرة تنظيم الوجود‪ّ ،‬‬
‫واستقرت القيم منظومة رمز ّية تواصل ّية ورؤية وجودية‬
‫ّ‬ ‫تحول الفكرة إلى قيمة‪،‬‬
‫بمرحلة ّ‬
‫التطهر ّية‪ .‬وذهب ارنيست كاسيرر‬‫ّ‬ ‫من خالل مجموعة من النّصوص والطقوس الشعائر‬
‫في حديثه عن كيف ّية إدراة اإلنسان لعالمه إلى أنّه يسعى دوما إلى خلق رموز لغو ّية‬
‫ورموز دين ّية وصور أسطور ّية وفن ّية‪ ،‬وبواسطة هذه الصور‪ ،‬وعن طريق نسقها‪ ،‬يستطيع‬
‫الحفاظ على حياته االجتماع ّية‪ ،‬ويمتلك القدرة على التواصل مع الكائنات البشر ّية‬
‫األخرى وفهم ذاته‪.62‬‬

‫‪ 61‬عبد ال ّله بن المق ّفع‪ ،‬األدب الصغير واألدب الكبير‪ ،‬تحقيق‪ :‬إنعام ّ‬
‫فوال‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫ط‪1420 ،1.‬هـ‪1999/‬م‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫‪ 62‬إرنست كاسيرر‪ ،‬مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪186‬‬

‫المصادر والمراجع‬

‫قائمة المصادر والمراجع العرب ّية والمع ّربة‬


‫ ‪)-‬القدّ يس(أوغسطين‪ ،‬مدينه ال ّله‪ ،‬ترجمة‪ ،‬يوحنا الحلو‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪ ،2.‬مج‪،2‬ص‪2007.‬‬
‫ ‪-‬بالنشي فيليب‪ ،‬التداولية من أوستين إلى غوفمان‪ ،‬ترجمة صابر الحباشة‪ ،‬دار‬
‫الحوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪2007 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ ‪-‬جماعي‪ ،‬اإلسالم ومكارم األخالق بأقالم عشرة من أعالم اإلسالم‪ ،‬دار الكتاب‬
‫العربي‪ ،‬ط‪1412 ،1.‬هـ‪.1992/‬‬
‫تي الفعل والنسق‬
‫ ‪-‬جماعي‪ ،‬علم االجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظر ّي ْ‬
‫االجتماعي‪،‬مكتبة العميس للنشر‪ ،‬القصيم‪/‬بريدة‪ ،‬ط‪ ،1.‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫ ‪-‬ابن خلدون عبد الرحمان‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬تقديم نواف الجراح‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬
‫صادر‪ ،‬ط‪.2009 ،2.‬‬
‫ ‪-‬ابن أبي الدنيا أبو بكر بن عبد ال ّله‪ ،‬مكارم األخالق‪ ،‬تحقيق محمد عبد القادر عطا‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬دار الكتب العلم ّية‪ ،‬ط‪1409 ،1.‬هـ‪.1989/‬‬
‫ ‪-‬الرازي فخر الدين‪ ،‬نهاية العقول في دراية األصول‪ ،‬تحقيق سعيد عبد اللطيف‬
‫فودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الذخائر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ج‪.4‬‬
‫ ‪-‬راسل برتراند‪ ،‬المجتمع البشري في األخالق والسياسة‪ ،‬ترجمة عبد الكريم‬
‫أحمد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫ ‪ -‬ريكور بول‪ّ ،‬‬
‫الذات عينها كآخر‪ ،‬ترجمة جورج زيناتي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المنظمة العربية‬
‫للترجمة‪ ،‬ط‪.2005 ،1.‬‬
‫‪187‬‬ ‫عجارملاو رداصملا‬

‫ ‪-‬القدّ يس أوغسطين‪ ،‬مدينه ال ّله‪ ،‬ترجمة‪ ،‬يوحنا الحلو‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2.‬‬
‫مج‪ ،2‬ص‪2007.‬‬
‫ ‪-‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬اإلنسان الخطاء‪ ،‬ترجمة عدنان نجيـب الـدين‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫المركـز الثقـافي العربـي‪ ،‬ط‪2003 ،1.‬م‪.‬‬
‫ ‪-‬الطويل هويدا فؤاد‪ ،‬مقتضيات العدل اإللهي (الثواب والعقاب بين الوجوب‬
‫والفضل لدى المعتزلة واألشاعرة)‪ ،‬اإلسكندر ّية‪ ،‬كلية الدراسات اإلسالم ّية‪،‬‬
‫‪1439‬هـ‪2018/‬م‪.‬‬
‫ ‪-‬السواح فراس‪ ،‬الشيطان والرحمان‪ ،‬الثنو ّية الكون ّية والهوت التاريخ في الديانات‬
‫المشرق ّية‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار عالء الدين‪ ،‬ط‪.2000 ،1.‬‬
‫المنزل‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬الشيرازي ناصر مكارم‪ ،‬األمثل في تفسير كتاب ال ّله‬
‫األعلمي للمطبوعات‪ ،‬ط‪1424 ،1.‬هـ‪2013/‬م‪ ،‬ج‪.21‬‬
‫ ‪-‬الطباطبائي محمد حسين‪ ،‬الميزان في تفسير القرآن‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة األعلمي‬
‫للمطبوعات‪1418 ،‬هـ‪1998/‬م‪ ،‬ج‪.18‬‬
‫ ‪-‬ابن عاشور محمد الطاهر‪ ،‬أصول النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬تونس ــ الدار‬
‫التونس ّية للنشر‪ ،‬الجزائر ــ المؤسسة الوطن ّية للكتاب‪ ،‬ط‪ ،2.‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫السوسيولوجي والميتافيزيقي«‪،‬‬
‫الشر في األديان بين ّ‬
‫ ‪-‬العامري صالح الدين‪» ،‬مقولة ّ‬
‫ضمن قضايا إسالم ّية معاصرة‪ ،‬ع ‪ ،2020 ،74-73‬ص ص ‪.112-87‬‬
‫النجار‬
‫ ‪-‬عبد الج ّبار القاضي‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬تحقيق محمد علي ّ‬
‫وعبد الحليم النجار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬المؤسسة العا ّمة للتأليف والنشر‪1385،‬هـ‪1965/‬م‪،‬‬
‫ج‪.11‬‬
‫الشر في مصر القديمة‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1.‬الهيئة العامة‬
‫ ‪-‬علي عبد الحليم علي‪ ،‬مفهوم ّ‬
‫المصرية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫ ‪-‬الفغالي الخوري بولس‪ ،‬المدخل إلى الكتاب المقدّ س‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات‬
‫المكتبة البولس ّية‪ ،‬ط‪1995 ،1.‬‬
‫وتنوعها‪،‬‬
‫ ‪-‬كاريذرس مايكل‪ ،‬لماذا ينفرد اإلنسان بالثقافة‪ ،‬الثقافات البشر ّية نشأتها ّ‬
‫ترجمة شوقي جالل‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬ع ‪.1989 ،229‬‬
‫رماعلا نيدلا حالص ‪.‬د‬ ‫‪188‬‬
‫ ‪-‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫ ‪-‬الكتاب المقدّ س‪.‬‬
‫ ‪-‬ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن عمر)‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلم ّية‪،‬د‪.‬ت‪،‬ج‪.2‬‬
‫ ‪-‬كاسيرر إرنست‪ ،‬مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية أو مقال في اإلنسان‪ ،‬ترجمة‬
‫إحسان عباس‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار األندلس‪.1961 ،‬‬
‫ ‪-‬كوش دوني‪ ،‬مفهوم الثقافة في العلوم االجتماع ّية‪ ،‬ترجمة قاسم المقداد‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫مكتبة ناشرون‪ ،‬ط‪.2012 ،1.‬‬
‫ ‪-‬ابن المق ّفع عبد ال ّله‪ ،‬األدب الصغير واألدب الكبير‪ ،‬تحقيق إنعام ّ‬
‫فوال‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪1420 ،1.‬هـ‪1999/‬م‪.‬‬
‫عساف‪ ،‬األخالق المسيح ّية‪ ،‬لبنان‪ ،‬المطبعة المخلصية‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫ ‪-‬ميخائيل المطران ّ‬
‫‪.1948‬‬
‫ ‪-‬ابن ميمون موسى‪ ،‬داللة الحائرين‪ ،‬ترجمة حسين آتاي‪ ،‬مكتبة الثقافة الدين ّية‪،‬‬
‫د‪.‬ت‪.‬‬
‫ ‪-‬النبهاني تقي الدين‪ ،‬النظام االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬بيروت‪.1952 ،‬‬
‫ ‪-‬نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسييط (أوغسطين ــ أنسيلم ــ توما‬
‫اإلكويني)‪ ،‬ترجمة ووتعلق حسن حنفي‪،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪،2.‬‬
‫‪.1978‬‬
‫ ‪-‬هويل‪ ،‬بريان جينيل وباريس ويليامز‪ ،‬المدخل إلى األنتروبولوجيا الثقاف ّية من‬
‫منظور مسيحي‪ ،‬ترجمة إدوارد عبد المسيح‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة دار الكلمة‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.2015‬‬
‫ ‪-‬اليسوعي األب فاضل سيداروس‪ ،‬األنتروبولوجيا المسيح ّية‪ ،‬اإلنسان بين ز ّلته‬
‫وخالصه‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬ط‪.2015 ،1.‬‬
189 ‫عجارملاو رداصملا‬

‫قائمة المصادر األجنب ّية‬


- Saint Augustin, Œuvres complètes, Nature du bien, B. Boland
Gosselin, Desclée de Brouwer & Cie, Paris, 1949, 2em Ed.
- La Morale Chrétienne, Introduction et traduction, B. Roland-
Gosselin, Edition Descellée De Brouwer et Cie, Paris, 1949.
- Boudon Raymond, «Individualisme et holisme en sciences sociales»,
Dans Pierre Birnbaum et Jean Leca (S/D): Sur l’individualisme. Ed.
PFSP. Paris. 1991.
- Durkheim Emile, De la division du travail social, PUF, Paris, 1994.
- Eliade Mircea and Couliano Johan P., Dictionnaire des religions,
Paris: Plon, 1990
- Meirieu Philippe, Éduquer: un métier impossible ? ou «Éthique et
pédagogie», Conférence prononcée à Montréal le mercredi 27 mai
1992, dans le cadre du congrès Collèges célébrations 92. Pédagogie
Collégiale Septembre, Vol. 6 n° 1, 1992.
- Rachik Hassan et Autres, Islam au quotidien, Enquête sur les valeurs
et les pratiques religieuses au Maroc, Editions Prologues, collection
dirigée par Mohamed–Sghir Janjar (Collection: Religion et Société),
Casablanca, 2007.
- Paul Ricœur, Avant la loi morale, l’éthique , Encyclopedia Universalis,
Les enjeux, 1988.
- Du texte à l’action, essais d’herméneutique, Ed seuil, Paris, 1986.
- Le confit des interprétation, essais d’herméneutique, Edition du seuil
Paris,1969.
- Wallas Graham, Humain nature in politics, Perligo, London, 2004.
‫دراسات‬

‫التطرف واإلرهاب‬
‫في ضوء نظرية التنافر المعرفي‬

‫‪1‬‬
‫زادان المرزوقي‬ ‫_______________________________________________‬

‫وخصوصا تطور علم النفس في دراسة‬‫ً‬ ‫في ضوء تطور العلوم في العصر الحديث‪،‬‬
‫الدماغ وطريقة عمله بأساليب تجريبية ومختبرية‪ ،‬ما جعل التعامل مع مشكالت‬
‫العقل والنفس أكثر يسرا وسهولة من ذي قبل‪ .‬ارتضينا في هذا المقال أن نستغل‬
‫علم النفس الحديث في حل مشكالت التطرف الديني لدينا في الشرق األوسط‪،‬‬
‫ومعالجة ظواهر العنف والتشدد بالتحليل العلمي حتى نصل لنتائج إيجابية ملموسة‪.‬‬
‫إن اإلنسان في المحيط البيئي هو عبارة عن (فكرة‪ ،‬مشاعر‪ ،‬سلوك)‪ .‬تحدث هذه‬
‫المكونات بالتسلسل بد ًءا بالفكرة ــ التي تمثل المعرفة ــ ثم يعقبها انفعاالت وفق ًا‬
‫لتلك األفكار‪/‬المعرفة التي يحملها الفرد‪ ،‬فتنتهي بسلوك ناتج عن تفاعل الفكرة‬
‫والمشاعر في حياة اإلنسان اليومية‪ .‬وكل ما نراه من سلوكيات اإلنسان في مجتمعه‬
‫وفي تفاعله مع الطبيعة تبدأ غالب ًا بـ «فكرة‪/‬معرفة‪/‬معتقد»‪ ،‬وهي ما يحمله العقل من‬
‫معلومات ومواقف وذاكرة وتحيزات مسبقة تسيطر على كل مخرجاته في التعامل‬
‫مع الطبيعة والكون‪.‬‬
‫إن أغلب المدارس العالجية في علم النفس الحديث تدور حول التعامل مع‬
‫عقل اإلنسان وتغيير معرفته وتطوير تصوراته للوصول لعالج مشاكله النفسية‪ ،‬ألن‬
‫كل هذه المدارس أدركت أن المؤثر الحقيقي في سيكولوجية اإلنسان ــ بالمقام‬
‫األول ــ يكمن في قدراته العقلية وتراكمه المعرفي وطريقة معالجته للبيانات‬

‫‪ 1‬مهندس معماري سعودي يدرس ماجستير فلسفة في جامعة ديكن ‪ Deakin‬االسترالية‪.‬‬


‫‪191‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫المدخلة المتمثل فيما يسمى بـ(‪ )Encoding‬ــ مع عدم إهمال المؤثرات األخرى‬
‫البيئية والبيولوجية والنمو العصبي للدماغ‪ .)Passer 2018, p12-24( -‬هذه‬
‫المدخالت بدورها التي تحكم نوعية مخرجات اإلنسان السلوكية‪ ،‬بعد معالجتها‬
‫من قبل العقل حسب قواعد ومنظومة التفكير الموجودة في الذهن مسب ًقا‪ .‬بدأت‬
‫هذه المنهجية في علم النفس «التي تركز على النظام المعرفي لإلنسان» بعد ما‬
‫يسمى بالثورة المعرفية في مطلع الخمسينيات (‪)Cognitive revolution 1950s‬‬
‫بعد ما يسمى بالثورة المعرفية في مطلع الخمسينات بعد اكتشاف الحاسوب‪ .‬فتم‬
‫تجاوز المناهج القديمة التي كانت مسيطرة ساب ًقا على علم النفس في فهم السلوك‪،‬‬
‫التي بدأت بالمنهجية الباطنية (‪ )Introspection‬وهي تركز على الغوص في باطن‬
‫النفس لتحليل السلوك‪ ،‬ثم المدرسة التحليلية مع فرويد (‪ )Psychoanalysis‬التي‬
‫تركز على تحليل الدوافع المكبوته والعقل الالوعي المسيطر على سلوك الشخص‪،‬‬
‫والمدرسة السلوكية في أمريكا (‪ )Behaviorism‬التي تركز فقط على طريقة تكيف‬
‫اإلنسان مع الطبيعة في دراسة سلوكه‪ .‬وكانت تلك المدارس لها سلبيات كبيرة ألنها‬
‫لم تصل لحلول جذرية في مصدر سلوك اإلنسان الحقيقي‪ ،‬حتى ظهرت الثورة‬
‫المعرفية التي بدورها حولت الرؤية المنهجية لعلم النفس إلى إستخدام التقنية‬
‫في فهم عقل اإلنسان واكتشاف عمليات الدماغ العصبية بالتقنيات الحديثة‪ ،‬ودور‬
‫المعرفية الكبير في الجانب النفسي‪/‬العقلي لإلنسان‪.‬‬
‫بعد هذه الثورة المعرفية‪ ،‬توصل علم النفس إلى واحد من أفضل مناهج البحث‬
‫السيكولوجية وهو علم النفس المعرفي (‪ )Cognitive Psychology‬الذي يعتبر‬
‫األكثر تأثير ًا حال ًيا حول العالم مع إضافة تطويرات في مناهج المدارس النفسية‬
‫السابقة (‪ .)Kihlstrom, 2018‬وأشهر أساليب العالج النفسي حالي ًا ــ وأكثرها‬
‫نجاح ًا وفعالية ــ هو العالج السلوكي المعرفي (‪)Cognitive behavioral therapy‬‬
‫الذي يدمج بين محاولة تغيير معرفة اإلنسان وتطوير أفكاره مع تأهيل أطباعه‬
‫وسلوكياته‪ ،‬بتوفير تكيف جديد يجعله يرتقي ويتخلص من كل معوقاته النفسية‬
‫والسلوكية التي تؤثر على نمو حياته الذي يجب أن يكون بالشكل الصحيح‪ .‬هذه‬
‫كانت مقدمة حتى نستوعب أهمية التركيز على دور المعرفة واألفكار في الحياة‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪192‬‬
‫السلوكية لإلنسان‪ ،‬وكيف أن علم النفس تطور حتى انتهى بالتركيز على المعرفة‪،‬‬
‫التي هي محرك اإلنسان الحقيقي‪ .‬وبذلك نصل إلى المشكلة التي نحن في صدد‬
‫عرضها وهي مشكلة «التنافر المعرفي» (‪ )Cognitive dissonance‬التي هي غال ًبا‬
‫خلف السلوك المتطرف والقلق والتوتر الذي يعيشه الفرد في حال تنافر معرفته مع‬
‫واقعه‪ ،‬وقد تحوله لمجرم أو إرهابي في محيطنا العربي‪/‬اإلسالمي الذي يغلب عليه‬
‫التدين والعقائد واألفكار الموروثة عن الماضي التي تخالف الواقع والزمن المعاش‬
‫لحامليها‪.‬‬
‫يعتقد الكثير من المسلمين حال ًيا في الشرق وحتى في الغرب بأن المذاهب‬
‫(الفقهية والعقدية) التراثية هي الحق الذي يجب اتباعه حسب تصورات السلف‬
‫دون تغيير أو تبديل‪ .‬وفي المقابل يعيشون في واقع مختلف تما ًما عن الذي يحملونه‬
‫من معتقدات وأفكار ال تناسب محيطهم وال احتياجاتهم وال تتماشى مع أنظمة‬
‫دولهم التي يعيشون فيها‪ .‬من هنا تبدأ المشكلة النفسية للفرد المسلم في صراع‬
‫مع الكون ومع الطبيعة ومع اآلخر في حالة من القلق الوجودي والتوتر الهو ّياتي‬
‫واالضطراب المعرفي بين الذهن الكالسيكي والواقع الحديث المعاش‪ .‬في‬
‫هذا المقال نعرض النظرية النفسية حسب علم النفس الحديث الذي تطرق لهذه‬
‫المشكلة النفسية باألساليب التجريبية‪ .‬وبعد ذلك نقوم بعرض التشخيص العلمي‬
‫لها والطرق المطروحة في عالجها وأساليب التعامل معها في الفضاء االجتماعي‬
‫والتربوي والثقافي‪ .‬ونختم ذلك بعرض الحلول المقترحة لهذه المشكلة‪ ،‬ومناقشة‬
‫الوضع الحالي من قبل المجتمع اإلسالمي والتيارات الدينية في تعاملهم مع هذه‬
‫المعضلة حتى نصل لمقاربات تق ّلص من تضخم هذا التنافر المعرفي بين (الذهن‬
‫والواقع) الذي قد يزداد مع سرعة تطور التكنلوجيا وانفتاح الثقافات على بعضها عبر‬
‫التقنية وبرامج التواصل واأللعاب األلكترونية؛ مما يجعل العقل المسلم التقليدي‬
‫يدخل في دوامة حرج أكبر يزيد من احتمالية تطرفه أو دخوله في أزمة من الصراع‬
‫النفسي مع الذات وتوتر وجودي بين الكون والمعتقد‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫نظرية التنافر المعرفي‬


‫تعريف النظرية‪:‬‬
‫إن التنافر المعرفي حسب نتائج التجربة التي قام بها عالما النفس فستنغر وكارل‬
‫سميث (‪ )Festinger & Carlsmith, 1957‬تتلخص في أن اإلنسان يسعى دائما‬
‫للوصول لحالة معرفية متناسقة بين أفكاره وواقعه‪ ،‬واتساق بين المعتقدات واألفكار‬
‫التي يحملها داخل ذهنه‪ .‬وفي حال تناقض تلك األفكار مع بعضها في الذهن أو‬
‫تعارضها مع الواقع الحقيقي‪ ،‬يبدأ الشخص في حالة من التوتر والقلق الذي يدفعه‬
‫لمحاولة تقليل هذا التنافر وتخفيف التناقض الذي يعيشه (‪.)Passer 2018 p702‬‬

‫التجربة العلمية للتنافر المعرفي‪:‬‬


‫أجرى مختصون تجربة بتقسيم المشاركين لثالث مجموعات‪ ،‬وعدم إخبارهم‬
‫أنهم سيقيمون تجربة علمية لهم «وهي في الحقيقة اختبار لنظرية التنافر المعرفي»‪.‬‬
‫قاموا بتطبيق تجربة مملة جدا للمشاركين لمدة ساعة من الزمن‪ ،‬بجعلهم يلفون‬
‫مكعبات صغيرة بطريقة مملة لمدة طويلة‪ ،‬حتى يتأكدوا أنها ستكون مملة للمشاركين‪.‬‬
‫وبعد إنتهاء كل مشارك يطلبون منه تحفيز صديقه المشارك اآلخر بالكذب عليه وإقناعه‬
‫بأن التجربة ممتعة جدا ومشوقه وغير مملة‪ ،‬حتى يدخل المشارك التالي بنشاط ٍ‬
‫عال‬
‫متحفزا بطاقة إيجابية لكي يكمل التجربة‪ ،‬ومن ثم ويعرضون عليهم‬
‫ً‬ ‫ويبدأ التجربة‬
‫مبل ًغا مال ًيا للقيام بهذه المهمة وهي الكذب على زمالئهم الذين سيدخلون بعدهم‪،‬‬
‫بأن التجربة ممتعة جدا‪ .‬طلبوا من المجموعة األولى هذه المهمة مقابل (‪)$20‬‬
‫ٍ‬
‫ومغر للطالب)‪ .‬وطلبوا من‬ ‫دوالرا في ذلك الوقت مبلغ كبير‬
‫ً‬ ‫عشرين دوالر (عشرون‬
‫المجموعة الثانية نفس الطلب مقابل دوالر واحد فقط (‪ .)$1‬والمجموعة الثالثة هي‬
‫المجموعة االعتيادية غير المؤثرة (‪ )Control group‬التي تكون في التجارب العلمية‬
‫دوالرا»‬
‫ً‬ ‫فقط كمعيار الفروقات في اختبار النظريات‪ .‬وقامت مجموعة «العشرين‬
‫ومجموعة «الدوالر الواحد» بالكذب فعال على أصدقائهم وزمالئهم الطلبة حتى‬
‫يقنعوهم بالمشاركة في التجربة المملة‪ ،‬وقالوا لهم بأن التجربة ممتعة جدا وغير مملة‬
‫ومشوقة كي يشجعوهم على المشاركة‪ .‬وبعد انتهاء التجربة عاد المختصون وسألوا‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪194‬‬
‫المشاركين واحدً ا تلو اآلخر من كال المجموعتين التي كذبت (وحتى المجموعة‬
‫االعتيادية) لكي يسألوهم عن نفس هذه التجربة المملة وكيف كانت ممارستها بعد أن‬
‫دوالرا» عن التجربة التي‬
‫ً‬ ‫انتهوا منها‪ .‬وهنا كانت المفاجئة‪ :‬سألوا مجموعة «العشرين‬
‫امتدت لساعة من الزمن‪ ،‬فقالوا جميعهم بأنها كانت تجربة مملة فعال وغير مشوقة ولم‬
‫يحبوها‪ .‬وسألوا مجموعة «الدوالر الواحد» فقالوا‪ :‬إن التجربة كانت ممتعة ومشوقة‬
‫دوالرا»‬
‫ً‬ ‫وغير مملة وأنهم استمتعوا بها‪ ،‬رغم أن المتوقع أن تكون مجموعة «العشرين‬
‫محرزا حيال ذلك‪ .‬لكن‬
‫ً‬ ‫هي األقرب لقول إن التجربة كانت ممتعة ألنهم كسبوا مبلغا‬
‫كانت مجموعة «الدوالر الواحدة» فاجأت الجميع وصرحت بأن التجربة كانت فعال‬
‫ممتعة‪ ،‬وهذا عكس حقيقة التجربة التي كانت مملة جدا‪.‬‬

‫ما سبب هذه النتيجة غير المتوقعة؟‬


‫هنا توصل فستنغر وزميله إلى افتراض أن اإلنسان يسعى دائما لحالة من االتساق‬
‫المعرفي‪ ،‬وأال يكون هناك تناقض بين أفكاره‪/‬معتقداته مع سلوكه‪/‬واقعه‪ .‬وذلك‬
‫دوالرا» لم تشعر بتنافر‬
‫ً‬ ‫عندما قام فستنغر بتحليل التجربة‪ ،‬بأن مجموعة «العشرين‬
‫معرفي كبير ألنهم كانوا يملكون التبرير الكافي والشافي بكسبهم مبلغ عشرين‬
‫دوالر مقابل ممارستهم الكذب‪ .‬في حين أن مجموعة «الدوالر الواحد» لم تملك‬
‫ذلك التبرير الكافي والشافي الذي يحل مشكلة التوتر والقلق بين المعتقد (أنا إنسان‬
‫صادق) والسلوك (أنهم كذبوا على زمالئهم في التجربة)‪ ،‬فدخلوا حالة من التوتر‪.‬‬
‫وبالتالي اضطروا في هذه الحالة لكي يغيروا قناعتهم في حقيقة التجربة المملة‬
‫أشخاصا‬
‫ً‬ ‫ويصدقون داخليا بأنها فعال ممتعة كي ال يعيشوا ذلك التناقض‪ ،‬بكونهم‬
‫صادقين‪ ،‬لكنهم كذبوا على زمالئهم فيما يخص حقيقة التجربة‪( .‬انظر اليوتيوب‬
‫‪.)cognitive dissonance experiment‬‬

‫مخرجات النظرية‪:‬‬
‫تزعم نظرية التنافر المعرفي بأن اإلنسان عندما يعيش حالة من التناقض بين‬
‫معتقداته وسلوكه‪ ،‬يبدأ في محاولة تخفيف هذا التناقض بطرق مختلفة منها‪:‬‬
‫‪195‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫‪ 1‬ــ تغيير المعتقدات‪/‬التصورات حتى توافق السلوك‪/‬الواقع‪ ،‬أو العكس (وهذه أكثر‬
‫طريقة مستخدمة)‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ إيجاد مبرر منطقي (خارجي‪/‬داخلي) لتخفيف التناقض‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ مهاجمة المعتقدات األخرى المخالفة والتقليل من صحتها‪ ،‬أو تجاهلها واالبتعاد‬
‫عنها‪.‬‬
‫هذه الطرق هي الممارسة التي يفعلها اإلنسان تلقائيا في مقاومة ذلك االضطراب‬
‫الشعوري الذي يشعر به داخليا عند التناقض‪ ،‬وليس بالضرورة أن هذه الطرق هي الحل‬
‫تخديرا مؤقتًا‪ .‬هذه الدراسة تعتبر‬
‫ً‬ ‫الصحيح في إنهاء المشكلة‪ .‬بل هي األقرب ألن تكون‬
‫وص ًفا لممارسة اإلنسان الطبيعية ــ التلقائية‪ -‬في حال الشعور بالتنافر المعرفي‪ .‬ولكن‬
‫العالج يكون بطرق أخرى أهمها تصحيح مفاهيم الفرد وتطوير تصوراته المعرفية نحو‬
‫األشياء واألحداث من حوله وطريقة تفاعله معها‪ ،‬مثل طريقة العالج المعرفية للعالم‬
‫النفسي إليس المعتمد على العالج بالتفاعل العقالني والمشاعري (–‪Ellis’s rational‬‬
‫‪ .)emotive therapy‬وهذا ماجعلنا نركز على هذه النظرية وطرق التعامل معها التي‬
‫تنطبق كثيرا على مانراه من تطرف وتشدد وإرهاب في مجتمعاتنا العربية واإلسالمية‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪196‬‬
‫مثال عملي على التجربة والنظرية‪:‬‬
‫لو كان هناك شخص يعشق فتاة‪ ،‬وهذه الفتاة التحبه وال تبادله ذات المشاعر‪ .‬فهو‬
‫غالبا سيقوم ببعض السلوكيات التي تخفف من التناقض الداخلي الذي يشعر فيه‪،‬‬
‫بين كونه «شخصا مستحقا للحب والتقدير واإلحترام» وبين الواقع الذي يقول له‬
‫«إن معشوقته ال تبادله نفس ذلك الحب والتقدير الذي يستحقه»‪ .‬يبدأ بممارسة بعض‬
‫السلوكيات التي تجعله يحقق التناغم بين ذاته والواقع‪ .‬فإما أن يقوم هذا العاشق بتوهم‬
‫أن تلك الفتاة تعشقه ويصدق ذلك الوهم ويفسر أفعالها بما يتوافق مع الوهم الذي‬
‫اخترعه حتى تستقر نفسه‪ .‬أو أن يحاول التخلص من مشاعره تجاهها ويخفف من‬
‫حبها في قلبه باالبتعاد أو االنعزال أو الهجرة وعدم التطرق لهذا الموضوع بتاتا‪ .‬أو‬
‫مضطرا بتغيير هذا الواقع المضاد له وجعل تلك الفتاة تحبه باإلكراه أو بالقوة‪،‬‬
‫ً‬ ‫سيقوم‬
‫بممارسة أساليب وخداع وضغوطات لكي يجعل تلك الفتاة تحتاجه وتلجأ إليه حتى‬
‫فعل‪ .‬كان هذا ً‬
‫مثال تقريب ًيا حتى تكتمل الصورة عن النظرية‬ ‫يصبح الواقع وكأنها تحبه ً‬
‫وتطبيقها العملي في الحياة اليومية‪.‬‬

‫تمثالت النظرية في الواقع اإلسالمي‬


‫التربية الماضوية وعقدة األصالة‪:‬‬
‫التعليم الديني والمعرفي في عالمنا اإلسالمي كما هو معروف يعتمد كثيرا على‬
‫الماضي‪ .‬ويركز في أغلب منتجاته على األصالة والتفرد بين الحضارات األخرى‪ ،‬حتى‬
‫أن علم النفس ذاته المحايد في دراسة النفس البشرية‪ ،‬قام كثير من الباحثين والمختصين‬
‫واالستشاريين النفسيين المسلمين باختراع «علم نفس إسالمي» للتعبير عن تلك‬
‫األصالة المتوهمة لمنافسة الحضارة الغربية المتقدمة في العلوم الطبيعية واإلنسانية‬
‫(راجع لقاء الدكتور‪/‬خالد حمد الجابر‪ ،‬برنامج «بودكاست كاف»‪ ،‬حلقة‪ :‬اإلنسان في‬
‫علم النفس اإلسالمي)‪ .‬وهذا توجه خطير جدا من قبل علماء النفس العرب والمسلمين‬
‫سيضخم من الذات المسلمة أكثر مما هي عليه اآلن‪ .‬ويزيد من حالة النرجسية والفوقية‬
‫عند العقل المسلم على باقي الحضارات‪ ،‬بسبب هذا التبرير العلمي «المتوهم» من قبل‬
‫علماء النفس المسلمين‪ .‬كان من المتوقع أن يشارك علماء النفس المسلمين في حل‬
‫‪197‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫المشاكل العقلية والنفسية للفرد المسلم المعاصر بطريقة علمية محايدة‪ ،‬لكن يفاجؤنا‬
‫بعكس ذلك‪ ،‬فهم بهذا التوجه المتفشي حاليا يساهم في تضخم المشكلة‪ ،‬ألنه يقدم‬
‫نفسه باسم العلم وهذا تبرير قوي ألتباع تلك األصالة السلبية‪.‬‬
‫من عواقب هذا التوجه الخاطئ أن المنتج العلمي النفسي على هذا المنوال‬
‫سيكون عقيما جدا وغير ٍ‬
‫مجد وال يمس المشاكل النفسية‪ ،‬ألنه سيكون منفصال تماما‬
‫عن التراكم المعرفي لعلم النفس في العالم‪ ،‬وخصوصا التجارب المعملية للدماغ‬
‫واختبارات طريقة عمل العقل اإلنساني بمعزل عن االنتماءات الدينية واإليمانية‪.‬‬
‫سيطرة الالوعي الماضوي على العقل المسلم‪:‬‬
‫انطال ًقا من هذه التصورات الماضوية تتشكل معرفة الجيل وطريقة تفكيره‬
‫كإعدادات عقلية (‪ )Set up‬تكون هي جهاز اإلنتاج المعرفي لدى الفرد الذي يحملها‪.‬‬
‫ويتحدد بناء عليها رؤيته للكون وللطبيعة ولآلخر‪ ،‬وينتج عنها السلوك المترتب على‬
‫كل هذه التصورات واإلعدادات العقلية التي هي المسؤولة عن معالجة البيانات‬
‫والمدخالت‪ .‬وتقوم بتفسير األحداث والتجارب الحياتية وفقا للقواعد الكبرى التي‬
‫تأسس عليها العقل منذ الطفولة وخالل فترة التعليم االبتدائي والثانوي‪ .‬وإضافة على‬
‫ذلك‪ ،‬فإن البيئة المحيطة والتربية تؤكد وتعزز هذه الرؤية الماضوية‪/‬األصولية فتترسخ‬
‫هذه المبادىء بشكل جذري متأصل يصعب تفكيكه في وقت الحق أو بعد الرشد‪.‬‬
‫هذا التأسيس األصولي المبطن غالب ًا في الخطابات والحوارات واألدبيات هو‬
‫الحاضنة األولية لصناعة قابلية التطرف‪ ،‬وهو البذرة التي تسقيها الحركات الدينية حتى‬
‫تنبت وتزدهر بشكل سريع بمجرد تفعيلها في العقل المسلم وخصوصا الشباب الناشئ‬
‫الغض المتحمس‪ .‬الحركات الدينية المتطرفة دائما تنجح في التأثير أكثر من غيرها‬
‫من التيارات العقالنية‪ ،‬وذلك بسبب وجود «بذرة األصالة الدينية» المزروعة في العقل‬
‫المسلم مسبقا‪ ،‬والتي هي مناسبة فقط للتيارات اإلسالموية دون غيرها التي ال ترفع‬
‫شعارات األصالة‪ .‬هذه الرؤية العقلية هي أول المحددات المعرفية الجوهرية التي‬
‫تساهم في تشكل التطرف‪ .‬المحرك األساسي هو إعدادات العقل المسلم وغالبا تكون‬
‫متراكمة في الالواعي المؤثر بطريقة ال إدراكية في حياة المسلم وسلوكه‪ .‬وحسب‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪198‬‬
‫علم النفس فإن أغلب سلوكيات اإلنسان ومواقفه من األشياء في حياته تحدث بتأثير‬
‫من العقل الالواعي الذي يحمل كل التراكمات المعرفية ويعمل تلقائيا في التحليل‬
‫واإلنتاج حسب الذاكرة السريعة (‪ )working memory‬غير الدقيقة مع مشاركة العادة‬
‫والتكيف الطبعي الذي اعتاد عليه اإلنسان لمدة طويلة (‪.)Passer 2018, p196-207‬‬

‫الالوعي المقدس‬
‫من الناحية العملية‪ ،‬إن في عالمنا اإلسالمي والعربي تحديدا تكمن مشكلة‬
‫التطرف والتزمت في كون األفكار والتصورات الحياتية هي غالبا ذات طابع ديني‪.‬‬
‫واألكثر إشكاال هو أن األفكار الدينية غالبا ماتكون مقدسة وصعب تغييرها أو نقدها أو‬
‫حتى التفكير في مناقشتها‪ ،‬فتجد كثيرا من المسلمين البسطاء والعوام يرددون مقولة‪:‬‬
‫«انتبه على عقيدتك»‪ .‬يقصدون بالعقيدة هنا كتلة من التأويالت الطائفية «حسب‬
‫بولي)‪ ،‬أو‬
‫مذاهبهم» في فهم الدين سواء في أمور تفصيلية حياتية (الحجاب‪/‬الزواج ّ‬
‫أمور عقدية الهوتية (الصفات اإللهية‪/‬الحاكمية)‪ .‬وهذا نابع من الخطاب الديني الذي‬
‫يؤسس اإليمان على الخوف ثم يستغل هذا الخوف في حشو العقول بكتلة كبيرة من‬
‫التفصيالت والتأويالت البشرية واالجتهادية الكالسيكية تحت مسمى «عقيدة»‪ .‬تبدأ‬
‫رحلة المسلم منذ الطفولة في تناقض مستمر بين ما يحمله من معتقدات تراثية وما‬
‫يعيشه من واقع مغاير تماما عن كل مخرجات المذهب الذي ينتمي إليه‪.‬‬

‫التنافر المعرفي في العقل المسلم‪:‬‬


‫في هذه الرحلة المتناقضة للعقل المسلم المعاصر بين «ذهن تراثي إمبراطوري»‬
‫و«واقع حديث مدني» ينطلق الصراع الداخلي للمسلم مع الكون والطبيعة‪ .‬ويعيش العقل‬
‫المسلم كما ذكرنا سابقا حالة التنافر المعرفي بين المعتقدات‪/‬األفكار وبين السلوك‪/‬‬
‫الواقع‪ ،‬فمثال كأبسط مثال‪ ،‬عندما يحمل الفرد المسلم معتقد «تحريم الموسيقى» وهو‬
‫في نفس الوقت يسمعها في كل مكان من حوله‪ ،‬بل إنه كشخص ال يستطيع العيش بدون‬
‫موسيقى حتى وإن كانت بطرق مختلفة‪ .‬فهو إما أن يغير حكم التحريم في ذهنه «وهذا‬
‫أمر حساس وخطير»‪ ،‬وإما أن يبرر ذلك منطقيا مثل اقتناعه بفكرة «اإلنسان ُمبتلى والحياة‬
‫‪199‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫اختبار»‪ ،‬وإما أن يغير هذا الواقع «ومن هنا تبدأ حاالت التطرف»‪ .‬فيقوم‪ ،‬إذا سمحت له‬
‫الظروف‪ ،‬بتغيير هذا المنكر الذي يراه في محيطه بمحاولة منع الموسيقى في األماكن‬
‫وتوترا‬
‫ً‬ ‫تناقضا وقل ًقا‬
‫العامة أو منع اآلخرين من االستماع إليها‪ .‬ألنه ال يستطيع أن يعيش ً‬
‫حيال معتقده الذي ينافي طبيعته والواقع الذي يعيشه‪ .‬وفي أفضل الحاالت يصمت ويتمنع‬
‫ويحاول االنعزال عن المجتمع‪ ،‬ويتقوقع مع المجموعة التي تشبهه في معتقداته‪ .‬وهذا‬
‫التقوقع خطر على المدى البعيد‪ ،‬كما نراه لدى األقليات المسلمة التي تعيش في دول‬
‫الغرب؛ تكون غالبا منعزلة ومتقوقعة على نفسها دون االحتكاك باآلخرين والمختلفين‪،‬‬
‫واالبتعاد عن الواقع الذي يخالف معتقداتهم كل ًّيا‪ .‬وخطورة هذا األمر تكمن في أن‬
‫التقوقع يزيد من احتمالية التطرف كما سنشرح ذلك الحقا‪.‬‬

‫تنافر معرفي بين فكرتين داخل الذهن‪:‬‬


‫المشكلة الكبرى في العالم اإلسالمي تكمن في ما يسمى «علم العقيدة»‪ .‬هذا العلم‬
‫علما «قطعي الداللة»‪ ،‬بل‬
‫الذي يحمل تصورات وتأويالت الهوتية في حقيقته ليس ً‬
‫هو «ظني الداللة» في معظم مخرجاته‪ ،‬لكن أغلب المذاهب مارست هذا المصطلح‬
‫حتى يضفي لها طابع القداسة‪ .‬استخدام مصطلح العقيدة الزال مستمرا حتى اليوم في‬
‫إضافة تأويالت جديدة على حموالت قديمة تحت ما يسمى عقيدة‪ .‬وهذا المصطلح‬
‫هو في وجهة نظري عائق كبير أمام العقل المسلم في العصر الحديث‪ ،‬ويمنعه في‬
‫كثير من األحيان من التقدم والتخوف من العلوم‪ .‬من أشهر تلك النزاعات العقدية مع‬
‫العلم هو نزاع نظرية التطور بين معتقدين متنازعين في الذهن أحدهما ديني واآلخر‬
‫علمي‪ ،‬فيكون المسلم حام ً‬
‫ال لقصة الخلق تحت مسمى «عقيدة» ثم يواجه بها العلوم‬
‫البيولوجية الحديثة ويرفضها أو يبدأ في محاولة تقريب الفكرتين الذهنية (العلمية ‪vs‬‬
‫الدينية) حول حقيقة بداية الخلق‪ .‬ولو كانت تأويالت قصة الخلق الدينية ال تحمل‬
‫مسمى عقيدة لما دخل العقل المسلم في هذه الدوامة من الصراع غير المجدي بين‬
‫الحقل العلمي الطبيعي وحقل اإليمان الميتافيزيقي الوجداني‪ .‬وهذا الطابع المقدس‬
‫لألفكار واالجتهادات الدينية جعل اإللحاد ظاهرة متفشية في العالم العربي ومتزايدة‬
‫بين الجيل الناشئ‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪200‬‬
‫عندما يواجه العقل المسلم نظرية التطور في حياته العلمية أو اليومية يبدأ في‬
‫ممارسة تخفيف التناقض الداخلي بين المعتقدين‪ .‬فإما أن يرفض نظرية التطور‪ ،‬وإما‬
‫أن يحاول تبرير وعقلنة قصة الخلق الدينية بما يوافق المنتج العلمي لنظرية التطور‪ .‬أو‬
‫أن يتخذ القرار الصعب اجتماع ًّيا والمريح ــ بالنسبة لوضعه العقائدي المغلق والمعقد‬
‫ــ بأن يرفض الدين بالكلية ألنه باختصار تعلم وتربى على أن قصة الخلق هي عقيدة‬
‫جوهرية في الدين اإلسالمي‪.‬‬

‫تنافر معرفي بين فكرة وسلوك‪:‬‬


‫من النزاعات المؤثرة األخرى على سلوك الفرد المسلم تحت مسمى عقيدة‬
‫هو نزاع «الوالء والبراء» في عالم ال يناسب هذه العقيدة‪ ،‬بحكم العالم الجديد‬
‫القائم على التعددية‪ .‬وهذا نزاع بين فكر وسلوك‪ ،‬يحمل المسلم في ذهنه معتقد‬
‫الوالء والبراء النابع من عصور إمبراطورية ودول قديمة تقوم في أساسها على‬
‫المكون الديني وسلطة الفكر األحادي داخل المجتمع‪ ،‬بينما المسلم اليوم يعيش‬
‫في مجتمعات تعددية منفتحة على بعضها ودول قطرية مدنية تعيش داخلها ديانات‬
‫مختلفة وثقافات مختلفة‪ ،‬بل إن التكنولوجيا قربت كل بعيد فأصبح العالم قرية‬
‫صغيرة‪ .‬عندما يضطر المسلم للعيش وسط الديانات األخرى والثقافات المختلفة‬
‫‪201‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫من حوله تبدأ حالة التنافر المعرفي بسبب عقيدة الوالء والبراء في ذهنه‪ ،‬والتي‬
‫تصادم واقعه الحتمي الذي يجبره على العيش مع المختلفين‪ .‬يعيش حالة من التوتر‬
‫والتوهان عندما يتعامل مع اآلخرين المختلفين عنه ويبدأ في مودتهم بحكم العشرة‬
‫معهم والمصالح التي تربط بينهم‪ ،‬لكنه يظل غير مستقر نفس ًّيا‪ ،‬ألن السؤال المعضل‬
‫الزال يدور داخله‪ :‬كيف تخالف عقيدتك وتوالي بالمحبة والود أفراد الديانات‬
‫األخرى! وبما أن العقيدة مبنية على الخوف من ال ّله المتجبر في األساس (الالهوتي‬
‫التقليدي)‪ ،‬فهذا يزيد من حالة التوتر الداخلي ويضخم من المشكلة النفسية‪ .‬تكون‬
‫النتيجة كما ذكرنا في جميع الحاالت السابقة؛ أن الفرد المسلم سيمارس أحد تلك‬
‫األساليب المتوقعة لتخفيف ذلك التناقض الداخلي والتنافر المعرفي الذي يعيشه‪.‬‬
‫ولكن ما يهمنا هنا هو أن السلوك المتوقع من المسلم داخل هذا النسيج المتعدد‬
‫من األديان والثقافات هو في الغالب سلوك مضطرب‪ ،‬يميل إلى العدوانية والنفور‬
‫والكراهية وعدم االرتياح من اآلخر‪ ،‬مما يجعل اآلخرين ينفرون منه‪.‬‬
‫ما يزيد من تأكيدات الذهن الخاطئة في تفسير أفعال اآلخرين حسب نظرية التنبؤ‬
‫ذاتي التحقق (‪ .)self-fulfilling prophecy‬هذه النظرية تقول باختصار إن الشخص‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫تعامل سلب ًّيا ضده فسوف‬ ‫قد يجعل اآلخرين يعاملونه حسب ما يتوقع‪ ،‬فإذا كان يتوقع‬
‫يتجاوب اآلخرون مع لغة جسده التي تحيلهم للتجاوب مع ما يشعرونه من توتر يظهر‬
‫متشخصا في لغة جسده ومفرداته المستخدمة في التواصل‪ .‬وبالتالي يستقبل ما تنبأ‬
‫به ذهنه‪ ،‬لذلك هو من يصنع ما يتوقعه من اآلخرين ويجلب لنفسه التعامل المتوقع‬
‫تجاهه بحسب أفكاره المتشخصة في لغة جسده‪« ،‬فهو سيرى ما سيتوقع أن يراه»‬
‫وبذلك هو بنفسه من حقق تنبؤه (‪ .)Passer 2018, p700‬وهذه الحالة من التوقع‬
‫السلبي ذاتي التح ّقق ستجعل المسلم يصدق أوهامه عندما يرى اآلخرين يعاملونه فعال‬
‫بطريقة سلبية‪ ،‬ويصل لحالة يتأكد من أنه كائن منبوذ وتحاك ضده مؤامرة كونية من كل‬
‫الديانات‪ .‬وفي حقيقة األمر أن اآلخرين عاملوه بحسب ما شعروا منه في تعامله معهم‬
‫وطريقته المتوترة وغير المستقرة والتي تشعرهم بالنفور وليس بالتقارب‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪202‬‬

‫اإلرهاب كنتيجة للتنافر المعرفي في عقل المسلم‪:‬‬


‫بناء على ما سبق توضيحه من التأسيس األصولي للعقل الالواعي منذ الطفولة‬
‫كشريحة إعدادات تتحكم في أغلب تصورات الفرد المسلم من حيث الهوية والوجود‪.‬‬
‫وبعد أن رأينا قوة تأثير مصطلح «العقيدة» وما يحمله من تفاصيل مقدسة ــ حسب كل‬
‫مذهب ــ تحول العقل المسلم إلى حالة من الجمود الفكري المغلق بعد أن تم تدعيم‬
‫ذلك بالتلقين الخطابي والتربوي والبيئة المحيطة‪ ،‬حتى تحولت من «بذرة أصالة»‬
‫هويات ّيه إلى «صخرة صلبة» تمثل وجوده الكلي في الكون‪ ،‬ال تقبل الكسر وال التجزئة‪.‬‬
‫وهنا يتمثل ذلك الخطر األكبر الذي هو قلق العالم كله حاليا وهو «اإلرهاب»‪ .‬وقد‬
‫عانى العالم في الماضي القريب من اإلرهاب وتفاجؤوا من نتائجه‪ ،‬ألنهم لم يستوعبوا‬
‫في ذلك الوقت مدى تأثير المعرفة الدينية المضطربة والقلق النفسي المستمر واألضرار‬
‫المترتبة عليها من ظهور سلوكيات غير سوية وإجرامية‪ ،‬تنبع كنتيجة تلقائية لكل ما‬
‫يحمله الفرد من معتقدات متراكمة منذ الطفولة‪.‬‬
‫في هذا السياق سنتحدث في ضوء نظرية التنافر المعرفي ومدى تأثيرها في مظاهر‬
‫التطرف العنيف والعدوانية والتدمير‪ .‬وهذه النظرية هي تفسير مقنع جدًّ ا لظاهرة‬
‫اإلرهاب المستمرة منذ عقود في العالم اإلسالمي‪ ،‬وهذا يجعلنا نقترب جدا من حل‬
‫المشكلة جذريا وراديكاليا‪.‬‬
‫‪203‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫إن أكبر ما يجمع الحركات اإلرهابية المتطرفة في الوقت الحالي هو قضية‬


‫«الحاكمية» المتمثلة في المطالبة بـ«تطبيق الشريعة»‪ ،‬حتى أن كثيرا من المسلمين‬
‫المواطنين في الدول الغربية بدؤوا يطالبون بتطبيق الشريعة في دولهم العلمانية التي ال‬
‫تتماشى مع معتقدهم‪ .‬ونعتقد بأن هذا نابع من قلقهم الداخلي المستمر وعدم االستقرار‬
‫النفسي من حيث ما يحملونه من عقيدة «تطبيق الشريعة» ومن كونهم يعيشون في دول‬
‫علمانية ال تقبل تطبيق شريعة دينية في قانونها المدني‪.‬‬
‫فعندما يحمل المسلم عقيدة «تطبيق الشريعة» كحق إلهي يجب تطبيقه على األرض‬
‫كي ال يغضب ال ّله الذي أمره بذلك‪ ،‬وهو يعيش واق ًعا مدن ًّيا ال يتماشى تما ًما مع «تطبيق‬
‫الشريعة»‪ ،‬التي هي في الغالب يجب تنفيذها حسب أصول وقواعد الرؤية التراثية‬
‫للمذاهب اإلسالمية‪ ،‬يدخل المسلم في خيارات صعبة وحتمية مقابل هذا التنافر المعرفي‬
‫بين اإليمان والواقع‪ .‬واتخاذ القرار المناسب في هذا التناقض غالبا يعتمد على مدى قوة‬
‫تدين الفرد ومدى زهده والتزامه باألوامر والنواهي‪ .‬البعض يرى أن تطبيق الشريعة مسألة‬
‫وقت وأنها ستأتي ــ يوما ما ــ في المستقبل‪ ،‬وهذا أقل اإليمان وهو التبرير الذي يرتضيه‬
‫في هذا التناقض الذي يعيشه‪ .‬والبعض اآلخر ــ وهم القلة ــ ال يراها عقيدة فيرتاح كليا‬
‫من هذا التناقض ويستقر‪ .‬ولكن هناك المجموعة األخطر من بين هؤالء والتي تجمع‬
‫بين التدين وعوامل أخرى سلبية في حياتهم تجعلهم قابلين للعنف‪ ،‬فهم بحكم تدينهم‬
‫يرون أن حاكمية «تطبيق الشريعة» عقيدة جوهرية وتوحيدً ا ال ينفصل عن جوهر اإليمان‬
‫بالدين اإلسالمي ورضى اإلله «الذي يخافون منه»‪ .‬وهذا يعني بأنهم لن يتنازلوا عن‬
‫الفكرة أو يناقشوها وبذلك يستغنون عن خيار تغيير المعتقد لحل مشكلة التنافر المعرفي‪.‬‬
‫وبما أن أغلب العالم حاليا يتكون من دول مدنية في الغالب‪ ،‬أو مجتمعات مسلمة تتجه‬
‫نحو المدنية‪ ،‬وهذا واقع متحقق وصيرورة طبيعية للحضارات‪ ،‬فبالتالي ليس أمامهم إال‬
‫خيار واحد فقط وهو «تغيير الواقع» لكي يناسب معتقداتهم وعالمهم الذهني المتخيل‪.‬‬
‫وهنا تكون أول منابع اإلرهاب من منطلق نفسي‪/‬ديني بحت‪ .‬ويعزز ذلك ــ باإلضافة لما‬
‫سبق ــ في دفع الفرد المتدين لتغيير الواقع بالعنف واإلرهاب هو ضمير «هم األمة» الذي‬
‫يحمله و ُيشحن به في شبابه‪ ،‬كأنه هو المسؤول عن تحقيق مراد ال ّله وحده من وجهة نظره‪،‬‬
‫فتصبح المعادلة الذهنية المتوقعة للعقل المتشدد‪:‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪204‬‬
‫تطبيق الشريعة ضد الواقع المدني = اضطراب نفسي = الحاكمية عقيدة = تغيير‬
‫الواقع = إرهاب‬
‫لذلك‪ ،‬فإن المسلم «المتدين» الذي يعيش في هذا الواقع المدني ــ المتعدد ثقافيا ــ‬
‫حالة كبيرة من القلق الوجودي و«عقدة الذنب» حيال تقصيره في حق ال ّله ــ من وجهة‬
‫نظره‪ -‬خصوصا تقصيره في قضية «تطبيق الشريعة» وقضايا أخرى مشابهه‪ .‬وأيضا عدم‬
‫توافق العالم الذي يعيش فيه مع ما يحمله في ذهنه من معتقدات وتصورات تراثية غير‬
‫موجودة نهائيا في عصره الحديث‪ ،‬تجعل منه أكثر قابلية للتطرف والعنف واإلرهاب في‬
‫حال توفرت الظروف المناسبة لذلك‪ .‬ومن ال يستطيع تبرير هذا التناقض الداخلي منطقي ًا‪،‬‬
‫وال يستطيع االنعزال عنه‪ ،‬وال الصمت عن التحدث فيه‪ ،‬وال الهجرة واالبتعاد عن ذلك‬
‫المحيط الحتمي‪ ،‬فسوف يلجأ الكثير منهم إلى التقوقع واالنعزال الداخلي كمجموعات‬
‫منفصلة عن الواقع‪ ،‬لكي يحققوا بعضا من العالم المتخيل الذي يريدونه ويهربون من قلق‬
‫التنافر المعرفي؛ وهذا ما يزيد من تضخم قابلية التطرف كما سنبين بعد قليل‪.‬‬

‫آثار التقوقع الجماعي واالنعزال عن المجتمع المدني‪:‬‬


‫من أكثر ما يزيد التحيز ضد اآلخر والتمييز العنصري هو التقوقع على الذات‬
‫كجماعات‪ .‬وأبسط ما يمكن االستشهاد به هو حياة القرى التي غالبا ما تكون عر ًقا‬
‫واحدً ا ودينًا واحدً ا ولونًا حيات ًّيا واحدًّ ا‪ .‬وفي حال دخول شيء جديد عليها أو كائن‬
‫غريب يكون هناك رد فعل عنيف ورفض شديد وكأنه فايروس غير مرحب به‪ .‬وفي‬
‫حال تواصلهم مع القرى األخرى يكون بتحيزات مسبقة وحذر من الغريب وعدم‬
‫أمان‪ ،‬قد تصل لعداوات وحروب بسبب االنعزال التام عن المختلف‪ .‬وهذا ما يثبته‬
‫علم النفس االجتماعي (‪Vaughan 2017, p285-263‬‏) بأن أكثر ثالثة أسباب تجعل‬
‫متحيزا وعنصر ًّيا ضد اآلخر هي‪:‬‬
‫ً‬ ‫الفرد‬
‫وحذرا‬
‫ً‬ ‫عدم االحتكاك باآلخر وفقر التواصل مع الجماعات المختلفة تصنع خو ًفا‬
‫يعقبه موقف سلبي ضد اآلخر‪.‬‬
‫التربية المتحيزة من اآلباء والتعليم والتنشئة األحادية المتعصبة والتكيف البيئي‬
‫بالتعود على لون واحد من البشر‪.‬‬
‫‪205‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫تبني أيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تجعل الفرد أكثر قابلية للتحيز والتعصب‬
‫ضد اآلخر‪.‬‬
‫وهذه المسببات أغلبها موجودة في المجتمعات المسلمة المتقوقعه على نفسها‬
‫والمنعزلة عن الواقع في الدول الغربية ــ وفي بعض الدول الشرقية ــ بسبب التنافر‬
‫المعرفي الذي سبق تحليله‪ .‬ومما يصعب المهمة هو أن بعض الحلول المقترحة في علم‬
‫النفس لحل مشكلة التطرف والتحيز ضد اآلخر في العقل المسلم‪ ،‬تحتاج لجرأة حتى‬
‫يتم حلها بشكل صحيح‪ .‬وذلك ألن الذات المسلمة صلبة‪ ،‬وهويتها متعلقة باألصالة‬
‫بشكل عميق جدا‪ .‬وهذا ما سنختم به المقال بطرح رؤى علمية في حل المشكلة‪.‬‬

‫الحلول المقترحة ومناقشتها‪:‬‬


‫في المقام األول يؤكد علم النفس على التعليم والتطوير التربوي من ناحية اآلباء‬
‫والمدرسين الذين هم قدوة الطفل في التربية ويقلدهم في كل ما يفعلونه‪ .‬وكذلك نشر‬
‫الثقافة التعددية ومبادئ التسامح لرفع الوعي الفردي والجماعي في هذا األمر المهم‪.‬‬
‫وفي المقام الثاني يكون الحل اآلخر هو زيادة االحتكاك والتواصل بين الجماعات‬
‫داخل المجتمع الواحد وتقليص التباعد بين الطوائف والمذاهب واإلثنيات المختلفة‪،‬‬
‫ألن كثرة التواصل يزيد من الحميمية ويصنع مصالح مشتركة تخفف من شدة اآلراء‬
‫المتنازع عليها‪ ،‬وتزيد من مرونة التقبل والتعايش (‪Vaughan 2017, p258-261‬‏)‪.‬‬
‫في المقام الثالث واألخير يكون هناك الحل األكثر تقدما على نطاقين‪ :‬األول؛ صناعة‬
‫«الهوية المرنة» لألفراد‪ ،‬والثاني؛ التركيز على «الغايات المشتركة» الكبرى بين‬
‫الجماعات‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬الهوية المرنة (‪ )Common ingroup identity‬هي الهوية التي تستطيع أن‬
‫تشمل االنتماء لجماعة‪/‬ثقافة أخرى‪ .‬هو تكنيك يحتاج لتطور معرفي كبير لكنه حل‬
‫عميق جدا في صناعة إنسان مرن من الناحية االنتمائية غير الجامدة‪ ،‬والقابلة للتوسع‬
‫والشمول والتغيير لألفضل‪ ،‬ألن الباحثين يذكرون أنه من الصعب جدا فصل الفرد‬
‫عن االنتماء الجماعي‪ ،‬وخصوصا االنتماءات الدينية‪ ،‬لكنهم وجدوا أن تحقق الهوية‬
‫المرنة التي تستطيع أن تشمل انتماءات جديدة‪ ،‬ليس فقط تطور الفرد‪ ،‬بل تقضي تماما‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪206‬‬
‫على التعصب والتحيز‪ .‬ولذلك تحتاج صناعة هذه الهوية للكثير من العمل في العالم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ألن المشكلة األكثر تعقيدا حاليا هي أزمة الهوية الوجودية ذات البعد‬
‫الواحد‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬الغايات المشتركة الكبرى‪ ،‬فالمقصود هنا أن يكون بين الجماعات المختلفة‬
‫واألعراق المتباينة أهداف مشتركة سامية تجمعهم في تحقيقها بطرق مختلفة تخفف‬
‫من حدة الصراع المباشر بينهم‪ .‬وهذا متمثل في نظرية العالم النفسي شيريف (‪Sherif‬‬
‫‪ )1966‬المسماة بنظرية األهداف المتعالية (‪ )superordinate goals‬في اقتراحه لحل‬
‫مشكلة النزاعات بين اإلثنيات العرقية والدينية‪ ،‬بأن يكون لهم أهداف سامية مشتركة‬
‫بينهم (‪Vaughan 2017, p261-262‬‏)‪ .‬والذي ينجح هذه الفكرة هو أن يكون الهدف‬
‫السامي ال تستطيع جماعة واحدة تحقيقه‪ ،‬فيضطرون للتكامل والتعاون من أجل‬
‫الوصول لغاياتهم الكبرى المشتركة‪.‬‬
‫قد يكون أفضل ما يمكن البناء عليه في عالمنا اإلسالمي ويصبح الهدف األسمى‬
‫لجميع المنتجات الفكرية والفلسفية هو «مركزية اإلنسان»‪ ،‬لكي يكون هناك رابط‬
‫ٍ‬
‫ومتعال مع باقي الديانات والحضارات حتى نخرج من وهم الفوقية‬ ‫مشترك أسمى‬
‫والتعالي باسم األصالة‪ ،‬سواء العربية أو اإلسالمية‪ .‬وتكون األرضية الباردة التي‬
‫نضع فيها أقدامنا مع العالم أجمع هي «اإلنسانية» وهي تعني أن اإلنسان هو محور‬
‫اإلنتاج المعرفي واإلقتصادي والسياسي‪ .‬وأفضل ما يمكن اإلحالة عليه في هذا المقام‬
‫هو منتجات الفيلسوف العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬الذي ساهم في بناء‬
‫تصورات جديدة للعقل المسلم‪ ،‬وإحياء روح اإلسالم التي تشمل البشرية جمعاء‪.‬‬
‫خصوصا في مؤلفه األخير (مقدمة في علم الكالم الجديد) الذي يعتبر ثورة معرفية‬
‫في الداخل اإلسالمي‪ ،‬على الجمود والتقليد السلبي‪ .‬وتركيزه في أغلب أعماله على‬
‫التصوف المعرفي الذي يعبر عنه بـ «تصوف الحرية» مقابل «تصوف االستعباد»؛‬
‫التصوف الطرقي للدراويش‪ ،‬ذلك الحب المتج ّلي في أرواحنا الذي ال يكترث للعقائد‬
‫االقصائية وال للخالفات‪ ،‬وإنما يرى اإلنسان وكل شيء من أجل ذلك اإلنسان مهما‬
‫كان‪ .‬إن اإلختالف في عين التصوف هو األلوان التي تزين لوحة الخالق عز وجل وتزيد‬
‫من جمال الكون في أعيننا‪.‬‬
‫‪207‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫الرؤية المقترحة في علم النفس المعرفي هي من أفضل تلك الطرق العالجية‬


‫المرتبطة بموضوع البحث هي نظرية إليس العقالنية‪/‬المشاعرية (–‪Ellis’s rational‬‬
‫‪ )emotive therapy‬ونظرية إيرون بيك المعرفية (‪،)Beck’s cognitive therapy‬‬
‫وتركز كال النظريتين على محاولة تغيير أفكار وقناعات الفرد التي بها يفسر العالم‬
‫واألحداث‪ .‬ويدعي علماء العالج النفسي المعرفي بأن أغلب السلوكيات نابعة من‬
‫اإلعدادات العقلية للفرد وطريقة تفكيره وتعامله مع األحداث من حوله‪ .‬حتى أن‬
‫بعض األمراض مثل االكتئاب والقلق وغيرها تكون بسبب طريقة التفكير‪ ،‬بعد أن‬
‫قاموا بنقد المدرسة السلوكية واهمالها للدور المعرفي والمعالجة الفكرية الخاطئة‬
‫في عقل اإلنسان (‪ .)Passer 2018, p653‬وتركز هذه المدرسة على تأهيل الفرد في‬
‫برنامج معرفي يجعله قادرا على تفسير العالم واألحداث من حوله بطريقة سليمة‬
‫غير متحيزة وال سلبية‪ .‬تسعى المدرسة العالجية المعرفية في تغيير جهاز التفكير‬
‫الالعقالني في اإلنسان وتقديم بدائل فكرية عقالنية ومنطقيه تمكنه من العيش‬
‫بطريقة صحية ومرنة‪ .‬وتهتم كثيرا بتمكين اإلنسان من أداة التفكير الصحيح والسوي‬
‫الذي يجعل منه قادرا على حل المشكالت المستقبلية ومواجهة التحديات المتوقعة‬
‫بطريقة أكثر فعالية‪ .‬وهذا المجال العالجي يعتمد كثيرا على الفلسفة وفن اإلقناع‬
‫والمحاججة‪ .‬وهذا يجعلني أزعم بأن حاجتنا للفالسفة في محيطنا اإلسالمي أكثر‬
‫من أي متخصص آخر في الوقت الحالي‪ ،‬لسببين؛ أولهما‪ :‬نحتاج إلنتاج وتطوير‬
‫تصورات كثيرة تراثية متراكمة تحتاج للتفكيك الفلسفي والنقد العميق الذي يولد‬
‫تبعا لذلك بناء مفاهيم جديدة عن ال ّله والكون والطبيعة واإلنسان‪ ،‬وثانيها‪ :‬رأينا‬
‫في المقال كيف أن علم النفس الحديث يعتمد المعرفة وطريقة التفكير بأنها مركز‬
‫التكوين الذاتي لإلنسان والمؤثر األكبر في حياته‪ ،‬وكذلك محور عالج مشاكله‬
‫النفسية والعقلية في حياته اليومية‪ ،‬وهذا النطاق هو من أحد أكبر فنون المنتج‬
‫الفلسفي‪ ،‬فإن وظيفة الفلسفة الكبرى هي صناعة «اإلنسان»‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪208‬‬

‫وأختم هذا المقال ببعض الحلول التي أرتضيها وأراها حلوال جوهرية تنتزع‬
‫التكفير من جذوره وتقلل من الطائفية المتفشية‪ ،‬ألن التكفير هو وقود التطرف والدافع‬
‫األقوى للعنف‪ .‬وقد وضعت هذه الحلول بما يخص هذا المبحث الذي كان يركز على‬
‫المعضالت النفسية‪/‬العقلية التي تصنع قابلية التطرف في اإلنسان‪ .‬إن الخطوات التي‬
‫يجب فعلها لتقليص هذا التطرف والتعصب الديني هي‪:‬‬
‫ ‪-‬تغيير اسم كلية العقيدة وتحويله إلى مسمى مناسب لمجالها مثل (علم الكالم‪/‬‬
‫الالهوت اإلسالمي‪/‬الفلسفة اإلسالمية)‪.‬‬
‫ ‪َ -‬سن قانون أخالقي تربوي يمنع من تربية األطفال بطريقة طائفية ونشر التوعية في‬
‫ما يخص عواقب أدلجة األطفال‪.‬‬
‫ ‪-‬سن قانون مدني بمنع أي منهج طائفي في المدارس االبتدائية والمتوسطة وتدريس‬
‫التصوف كمنهج سلوكي تربوي‪.‬‬
‫ ‪-‬حصر العقيدة اإلسالمية في اإليمان بال ّله ورسوله والمحكمات فقط‪ ،‬وما عداه‬
‫يعتبر تأويال واجتهادا بشريا متغيرا‪.‬‬
‫هذه الحلول المقترحة تتميز بأنها ستقضي على فكرة التكفير التي غالبا ما تنبع عن‬
‫‪209‬‬ ‫يفرعملا رفانتلا ةيرظن ءوض يف باهرإلاو فرطتلا‬

‫«علم العقيدة»‪ .‬ففي حالة تحويل علم العقيدة إلى مكانه الصحيح وهو علم الكالم‬
‫(الالهوت اإلسالمي)؛ يتبخر التكفير وال توجد له أرضيه يقوم عليها‪ .‬الحل اآلخر‬
‫الخاص بالتربية الالطائفية لألطفال تقضي على الخطأ السابق في تدجين األطفال‬
‫وتجهيزهم للحركات الدينية تتلقفهم كيفما شاءت‪ .‬الطفل غير ملزم وال يحتاج في‬
‫حياته كل هذه التأويالت (الالهوتية‪/‬الفقهية) المتراكمة عبر القرون‪ .‬ويمكن بسلوك‬
‫هذا السبيل أن نقضي على سالح الحركات الدينية المتطرفة األكبر وهو إعداد «الشباب‬
‫المؤدلج» المتحمس دائما‪ .‬أما القانون المدني بمنع المناهج الطائفية في المدارس‬
‫وتعليم التصوف الروحاني اإليجابي‪ ،‬فإنه يمكن أن يبني جيال متسامحا ومرنا وقابال‬
‫للتطور واإلقدام على الحياة والعلم بدون معوقات فكرية وال اضطرابات نفسية‪ .‬وأما‬
‫الحل األخير المتمثل في حصر العقيدة بالتوحيد والمحكمات فقط فهذا ما أنادي‬
‫به دائما لصناعة مسلم مؤمن حر‪ ،‬وصناعة عقلية مؤمنة غير متزمتة متمسكة بجوهر‬
‫إيماني غيبي يكون سندا وعونا لها في الحياة‪ .‬يكون ذلك اإليمان الحر الذي يزيد‬
‫من قوة اإلنسان ويحفز وجدانه في كل مره يواجه فيها تحديات الحياة؛ ذلك اإليمان‬
‫الذي ال يعيق عقالنية الفرد المسلم في ممارسته لشؤون الحياة وخوضه حقول العلم‬
‫والتجارب‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ 210

‫المراجع‬
- Festinger, L. (1957). A theory of cognitive dissonance. Stanford, CA:
Stanford University Press.
- ‫‏‬Kihlstrom, J., & Park, L. (2018). Cognitive Psychology: Overview.
Reference Module In Neuroscience And Biobehavioral Psychology.
https://doi.org/10.1016/b978-0-12-809324-5.21702-1
- Passer, M, Smith, R, Allen, F, Boag, S, Edwards, M, Garvey, D,
Kohler, M, Lewis, A, Norris, K, & Stough, C 2018, Psychology: The
Science of Mind and Behaviour, McGraw-Hill Education (Australia)
Pty Limited, Sydney. Available from: ProQuest Ebook Central. [15
October 2021].
- ‫‏‬Vaughan 2017, Human Social Behaviour (Custom Edition EBook),
Pearson Education Australia, Melbourne. Available from: ProQuest
Ebook Central. [15 October 2021].
‫ التنوير للطباعة والنشر‬،‫ الدين والظمأ األنطولوجي‬،2018 ،‫عبد الجبار الرفاعي‬-
.‫ الطبعة الثالثة‬،‫والتوزيع‬
‫ التنوير للطباعة والنشر‬،‫ الدين والكرامة اإلنسانية‬،2021 ،‫عبد الجبار الرفاعي‬-
.‫ الطبعة األولى‬،‫والتوزيع‬
‫ دار المصورات للنشر‬،‫ مقدمة في علم الكالم الجديد‬،2021 ،‫عبد الجبار الرفاعي‬-
.‫ الطبعة الثانية‬،‫والطباعة والتوزيع‬
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر‬
‫والدليل على وجود اهلل‬
‫‪1‬‬ ‫_______________________________________‬
‫مايكل بيترسون وزمالؤه‬

‫يصور إيلي ويزل (و‪ )1928 .‬في روايته ‪ Night‬مشهدا رهيبا ألفراد عائلته وهم‬
‫ُيساقون في عربات النقل مع أسرى يهود آخرين في أوشفيتز‪:‬‬
‫تلك األغراض العزيزة التي حملناها معنا حتى هذه المسافة خلفناها في القطار‪ ،‬وخلفنا‬
‫معها في النهاية أوهامنا‪ .‬كان رجال منظمة شوتزشتافل‪ 2‬يتوزعون عند كل مسافة ياردتين‬
‫تقريبا مصوبين رشاشاتهم نحونا‪ .‬تبعنا الحشد ونحن ممسكون بأيدي بعضنا البعض‪.‬‬
‫تقدم نحونا أحد ضباط الصف وبيده هراوة‪ .‬ثم أصدر أمره إلينا‪:‬‬
‫«الرجال إلى اليسار! والنساء إلى اليمين!»‬
‫كلمات قيلت بمنتهى الهدوء والالمباالة والتجرد من المشاعر‪ .‬بضع‬‫ٍ‬ ‫بضع‬
‫كلمات قصيرة وبسيطة‪ ...‬لم يكن لدي وقت للتفكير‪ ،‬بل كنت قد شعرت بضغط‬
‫يد والدي‪ :‬كنا وحدنا‪ ....‬فيما أمسكت تزيبورا يد أمي‪ .‬ورأيتهما وهما تختفيان‬
‫على بعد مسافة منا؛ كانت أمي تمسح بيدها على شعر أختي الجميل‪ ،‬كما لو أنها‬
‫سرت أنا مع أبي والرجال اآلخرين‪ .‬ولم أكن أعلم أنني‬
‫ُ‬ ‫بفعلها ذلك تحميها‪ ،‬بينما‬
‫‪3‬‬
‫في ذلك المكان وفي تلك اللحظة‪ ،‬قد افترقت عن أمي وتزيبورا إلى األبد‪.‬‬

‫‪ 1‬ترجمة فصل ‪ 9‬من كتاب‪Peterson, Michael(et al).Reason and Religious Belief: An :‬‬
‫‪Introduction to the Philosophy of Religion. 5th ed. (NY: Oxford University‬‬
‫‪ 289‬ــ ‪.Press, 2013). pp 264‬‬
‫ترجمة‪ :‬زهراء طاهر‪.‬‬
‫‪ 2‬إحدى المنظمات التابعة للحزب النازي األلماني {المترجمة}‪.‬‬
‫‪3 Elie Wiesel, Night (New York: Bantam, 1960).‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪212‬‬
‫إن القصة التي يرويها ويزل عن األلم والمعاناة والموت في معسكرات الموت‬
‫النازية تجعل الخيال مشدوها‪.‬‬
‫غالبا ما ُيشار إلى الشر على أنه السبب الرئيسي للصعوبة التي يواجهها الناس في‬
‫التصديق بوجود إله قادر ومحب‪ ،‬حتى أنه ُيعد السبب في أن يمر بعض المؤمنين‬
‫بأزمة إيمانية‪ .‬يكتب إيوجين بورويتز عن الهولوكوست (‪ 1924‬ــ ‪:)2000‬‬
‫إن أي إله قد يسمح بحدوث الهولوكوست‪ ،‬وباستطاعته البقاء صامتا أثناء‬
‫حدوثه‪ ،‬و«إخفاء وجهه» فيما كان ذلك يحدث‪ ،‬فهو ليس جدير ًا باإليمان به‪ .‬لعل‬
‫يمكننا استيعابه عن ال ّله محدو ٌد‪ ،‬ولكن ما حدث في أوشفيتز يتطلب تعطي ً‬
‫ال بالغا‬
‫للفهم‪ .‬لقد كان ال ّله الخ ّير والقادر أمام هذا الشر العظيم إلها غير مفهوم‪ ،‬لذلك أعلن‬
‫الناس أن «ال ّله قد مات»‪.4‬‬
‫سواء تمثل الشر في الرعب المهول الذي رافق الهولوكوست‪ ،‬أو اإلرهاب‬
‫الذي دمر حياة الناس في تفجير برجي التجارة العالميين‪ ،‬أو المجاعة الشديدة التي‬
‫تسود البلدان النامية‪ ،‬أو المعاناة واليأس التي يقاسيها مرضى السرطان في مراحله‬
‫المتأخرة‪ ،‬فإن وجود الشر أمر ال يمكن إنكاره‪ .‬إن الشر يمسنا جميعا بطريقة أو‬
‫بأخرى‪ .‬يعتقد بعض الناس أن ال أحد يمتلك الحق الفكري في اإليمان بال ّله إلى أن‬
‫يصبح في وسعه أن يوافق بين اعتقاده هذا ووجود الشر‪.‬‬
‫بالرغم من أن كل نظرة عالمية كبرى سواء كانت دينية أو دنيوية لديها تفسير ما‬
‫لظاهرة الشر‪ ،‬فإن مسألة الشر في الفلسفة الغربية وعبر تاريخها تمحورت حول وجهة‬
‫النظر السائدة في اإليمان المسيحي‪ .‬فادعائها بالخير األخالقي الكامل والمقاصد‬
‫مختلف تماما عما‬
‫ٌ‬ ‫اإللهية العليا تؤدي بالعديد من الناس إلى أن يتوقعوا أن العالم‬
‫هو عليه مع الشر الذي يحتويه‪ .‬ليس مفاجئا إذن أن مسألة الشر حاضرة في قلب‬
‫نقاشات فلسفية والهوتية ال حصر لها حول وجود ال ّله‪ .‬في الواقع يعتقد العديد من‬
‫المفكرين أن هذه المسألة فعال هي من أكثر االعتراضات العقالنية إفحاما لإليمان‪،‬‬

‫‪4 Eugene Borowitz, The Mask Jews Wear (New York: Simon and Scuster, 1973),‬‬
‫‪99.‬‬
‫‪213‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫وهو ما أسماه الالهوتي األلماني هانز كوهن (و‪« )1923 .‬صخرة اإللحاد»‪ .5‬تماما‬
‫كما استعرضنا في الفصل الخامس أكبر الحجج على وجود ال ّله‪ ،‬فهذا الفصل ينظر‬
‫إلى مسألة الشر على أنها تشكل قضية مهمة ضد وجود ال ّله‪.‬‬
‫ال تبدأ معظم النقاشات لهذه المسألة مع التعريف الدقيق للشر ولكن تفترض‬
‫بدال من ذلك أن هنالك فكرة أوسع وبديهية عن الشر مفهومة على نطاق واسع‪.‬‬
‫يفترض النقاش على هذا المنوال تجنّب االنحياز الذي قد يشكله وجود نظرية‬
‫مسبقة عن الشر‪ .‬فحتى لو اختلف الناس في تعريف الشر فإنهم يتفقون بشكل كبير‬
‫على الحاالت التي تعد تعبير ًا عن الشر‪ .‬قد يوجد اتفاق في االصطالح الفلسفي‬
‫على مجموعة من األمثلة ينطبق عليها اصطالح «الشر»‪ ،‬ولكن قد يوجد اختالف‬
‫كبير على داللتها‪ .‬ومجموعة الحاالت التي ينطبق عليها اصطالح «الشر» تشتمل‬
‫على أقل تقدير األلم الشديد‪ ،‬ومعاناة األبرياء‪ ،‬والتشوهات الجسدية واالضطرابات‬
‫النفسية‪ ،‬وعيوب الخلقة‪ ،‬والظلم‪ ،‬والكوارث الطبيعية‪ .‬يمكننا أن نسم بشكل شرعي‬
‫ظواهر كهذه على أنها «سلبية» أو «مدمرة»‪ ،‬ألن توصيفات كهذه صغير ٌة والتفسد‬
‫دراسة أكثر للمسألة‪.‬‬
‫وقد يساعدنا أيضا تصنيف الشرور إلى فئتين عريضتين هما الشر األخالقي‬
‫والشر الطبيعي‪ .‬تتضمن فئة الشر األخالقي األفعال المؤذية والخاطئة باإلضافة‬
‫إلى الخصال السيئة لإلنسان الحر‪ :‬أفعال كالقتل والكذب والسرقة‪ ،‬وصفات مثل‬
‫والجبن‪ ،‬يعتبر األشخاص مسؤولين أخالقيا عن هذه األشياء كلها‪.‬‬
‫الخيانة والطمع ُ‬
‫أما فئة الشر الطبيعي فتشتمل على األلم والمعاناة الجسدية التي تنتج إما عن قوة‬
‫الشخصية أو أفعال إنسانية غير مقصودة‪ .‬يتضمن ذلك األلم والموت الذي ينتج عن‬
‫أحداث مثل الطوفان والحرائق والمجاعات باإلضافة إلى المعاناة والخسران التي‬
‫تسببها أمراض مثل السرطان والكزاز واإليدز؛ والعيوب والتشوهات واإلعاقات‬
‫مثل العمى والصمم والجنون ينبغي أيضا ضمها إلى قائمة الشرور الطبيعية‪.‬‬

‫‪5 Hans Küng, On Being a Christisn, tr. E. Quinn (Garden City, NY: Doubleday,‬‬
‫‪1976), 432.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪214‬‬
‫مشكلة الشر المنطقية‬
‫إن العبارات المشابهة لما قاله ويزل وبورويتز مألوفة في النقاشات التقليدية‬
‫حول ال ّله والشر‪ .‬ولكن توجد في أوساط الفالسفة التحليليين صياغات فنية متنوعة‬
‫لالعتراض على الشر‪ ،‬ما يعني أن الحديث يكون أدق عن مشاكل الشر بدال من أن‬
‫يكون عن مشكلة منفردة‪ .‬من الشائع اآلن التفريق بين صياغتين مختلفتين طورهما‬
‫الفالسفة المختصون‪ :‬المشكلة المنطقية والمشكلة البرهانية‪ .‬وتعريف «المشكلة»‬
‫لغرض نقاشنا الحالي هو أنها حجة تتمتع مقدماتها بالمصداقية و ُيعتبر استنتاجها‬
‫مقلقا بالنسبة للشخص الذي ينظر فيها‪.‬‬
‫كان تشكيل المسألة ولفترة كبيرة من القرن العشرين يتم من حيث ما بات يعرف‬
‫بالصيغة المنطقية لمشكلة الشر‪ .‬تشير النقطة األساسية في هذه الحجة إلى وجود‬
‫ٍ‬
‫تناقض بين بعض االدعاءات الدينية عن ال ّله وبين فكرة الشر‪ .‬يكتب جاي ماكي‬
‫(‪ 1917‬ــ ‪ )1981‬في هذا الصدد قائال‪« :‬باإلمكان أن نثبت هنا‪ ،‬ليس أن المعتقدات‬
‫الدينية تفتقر لما يعززها عقالنيا‪ ،‬بل أن هذه المعتقدات غير عقالنية بالتأكيد‪ ،‬وأن‬
‫الكثير مما يكون المعتقد الالهوتي األساسي ينطوي على التناقض‪6».‬إن الصعوبة‬
‫المفترضة واضحة‪ :‬يؤكد التأليهي على ٍ‬
‫كل من‪:‬‬
‫إن ال ّله القادر والعليم بكل شيء والخ ّير تماما موجود‬
‫وأن‬
‫الشر موجود في العالم‬
‫يصر ماكي ونقاد آخرون على أن هاتين العبارتين متناقضتين منطقيا مع بعضهما‬
‫البعض‪ ،‬وأنهما ال يمكن أن تكونا صادقتين في الوقت ذاته‪ .‬إذا كانت هاتان العبارتان‬
‫متناقضتين بالفعل‪ ،‬إذن ليس من العقالنية اإليمان بهما معا‪ .‬إن وجهة النظر التي‬
‫تحتوي على التناقض مرفوضة‪ ،‬وما نقصده بوجهة النظر هنا هو التأليهية‪ .‬إذا كان‬

‫‪6 J.L. Mackie, «Evil and Omnipotence,» Mind 64 (1955), 200. [Also see this selec-‬‬
‫‪tion in Michael Peterson, William Hasker, Bruce Reichenbach, and David Bas-‬‬
‫‪inger, eds., Philosophy of Religion: Selected Readings, 4th ed. (New York: Oxford‬‬
‫]‪University Press, 2009) (hereinafter PRSR 4e), 4e, Part 7‬‬
‫‪215‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫الناقد مصيبا‪ ،‬فإن التأليهي يرتكب ً‬


‫خطأ منطقيا كبيرا وعليه أن ينكر على األقل إحدى‬
‫العبارات في هذا الثنائية المتناقضة‪.‬‬
‫ال يبدو واضحا على الفور كيف يمكن أن تتناقض عبارة تؤكد على وجود ال ّله‬
‫مع عبارة تؤكد على وجود الشر‪ .‬إذا ُوجد التناقض بينهما فهو تناقض ضمني ال‬
‫مكمن التناقض‪ .‬يقول‬
‫ظاهري‪ ،‬وبذلك يقع العبء على الناقد في أن يظهر بدقة َ‬
‫النقاد أن بعض العبارات اإلضافية‪ ،‬أو «القواعد شبه المنطقية» ــ كما يدعوها ماكي‬
‫ــ مطلوبة هنا لجعل هذا التناقض ظاهرا‪ .‬بعض العبارات اإلضافية المقترحة تتضمن‬
‫التالي‪ :‬إن الكائن العليم بكل شيء يعرف كيف يقضي على الشر؛ والكائن القادر‬
‫لديه القدرة على محو الشر؛ والكائن الخ ّير ستكون لديه الرغبة أو لزا ٌم عليه أن‬
‫يمحو الشر؛ والشر ليس ضرورة منطقيا‪ ،‬وهكذا‪ .‬تحدد هذه العبارات معاني بعض‬
‫المصطلحات األساسية بصورة أكمل‪ .‬يعلل الناقد بأنه إن كان لدى ال ّله المعرفة‬
‫والقدرة والرغبة على محو الشر‪ ،‬وإذا لم يكن الشر ضروري ًا إذن فمهما كان نوع‬
‫الشر فال داعي لوجوده‪ .‬بالنسبة للناقد فإن هذه العبارات المساعدة تكمل االستدالل‬
‫المنطقي لتظهر أن ادعاء المؤمن أن ال ّله موجود وأن الشر موجود ادعاء متناقض‪.‬‬
‫ُيعرف الفيلسوف التأليهي ألفين بالنتينجا (و‪ )1932 .‬بمحاولته لدحض تهمة‬
‫التناقض‪ .‬في دفاعه عن اإلرادة الحرة يقدم بالنتينجا طريقة إلثبات اتساق االدعاءات‬
‫اإليمانية ذات الصلة‪ .‬ألن الناقد يدعي أنه من المستحيل منطقيا أن يوجد ال ّله والشر‬
‫معا‪ ،‬ينبغي على التأليهي في دفاعه أن يثبت أن األمر ممكن منطقيا‪ .‬بتعبير آخر على‬
‫المدافع أن يظهر أن االدعاءين يمكن أن يكونا صادقين‪ ،‬بالرغم من أنه ليس بحاجة‬
‫إلى إثبات أنهما صادقان بالفعل‪ .‬هذه االستراتيجة ينظر إليها على أنها دفاع‪ ،‬وسيل ٌة‬
‫تظهر أن الغلبة ليست للنقد؛ وال يمثل هذا الدفاع محاولة لتقديم نظرية في العدالة‬
‫اإللهية ‪ ،Theodicy‬وهي تفسير ل ّله وللكون يبرر سماح ال ّله بوجود الشر‪ .‬ولنترك‬
‫النقاش حول الفارق بين الدفاع ونظرية العدالة اإللهية لمكان آخر في هذا الفصل‪،‬‬
‫ولننظر في منهج بالنتينجا الرئيسي‪ .‬كما يحدد بالنتينجا‪ ،‬فإن االستراتيجية العامة‬
‫إلثبات االتساق بين أي عبارتين (لنقل أ وب) تتضمن إيجاد عبارة ثالثة (ج) يكون‬
‫صدقها محتمال‪ ،‬متسقة مع العبارة أ وبالعطف على العبارة أ تدل هذه العبارة على‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪216‬‬
‫العبارة الثانية‪ .‬بالطبع ليس مطلوبا أن تكون العبارة ج صادقة أو معروفة بصدقها؛ ليس‬
‫مطلوب ًا أن تكون معقولة حتى‪ .‬ما ينبغي على المدافع عن اإلرادة الحرة أن يفعله إذن هو‬
‫‪7‬‬
‫أن يجد العبارة التي تحقق هذه الشروط‪.‬‬
‫يعتقد بالنتينجا أن أفكار علماء المنطق المعاصرين حول العوالم الممكنة تقترح‬
‫طريقة الكتشاف العبارة المطلوبة‪ .‬إن احتمال وجود عالم آخر يعني احتمال وجود‬
‫أحوال أخرى بالكامل‪ ،‬شكال آخر تماما لما يمكن أن تكون عليه األشياء‪ .‬إن بحث‬
‫بالنتينجا عن عبارة مفتاحية ثالثة يبدأ مع وصف للعالم المحتمل‪ ،‬سيناريو مختصر‬
‫للحرية اإلنسانية باالرتباط مع القدرة الكلية اإللهية‪:‬‬
‫إن العالم الذي يحتوي على مخلوقات حرة بقدر ملحوظ أحيانا (ويقومون‬
‫بحرية بأفعال خيرة أكثر من األفعال الشريرة) لهو عالم ذو قيمة أكبر من عالم ال‬
‫يحتوي على مخلوقات حرة على اإلطالق‪ ،‬مع تساوي كل شيء آخر‪ ،‬اآلن ال ّله قادر‬
‫على خلق مخلوقات حرة‪ ،‬ولكنه ال يستطيع التسبب أو أن ُيحتّم عليهم أن يفعلوا‬
‫الصواب فقط‪ .‬وذلك ألنه لو فعل ذلك‪ ،‬فلن يكونوا أحرارا بقدر كبير بعد ذلك؛ فهم‬
‫ال يفعلون الصواب بحرية‪ .‬إذن ينبغي ل ّله حتى يخلق مخلوقات قادرة على ممارسة‬
‫الخير األخالقي أن يخلق مخلوقات قادرة على ممارسة الشر األخالقي؛ وال يمكنه أن‬
‫يترك هذه المخلوقات حرة في فعل الشر ويمنعها من فعل ذلك في الوقت نفسه‪ .‬لقد‬
‫خلق ال ّله بالفعل مخلوقات حرة بقدر كبير؛ ولكن بعضها وقع في الخطأ أثناء ممارسة‬
‫هذه الحرية؛ وهذا هو مصدر الشر األخالقي‪ .‬ولكن حقيقة أن هذه المخلوقات الحرة‬
‫تخطئ أحيانا ال تُحتسب نقطة ضد قدرة ال ّله وال ضد صفة الخير لديه؛ فقد كان بإمكانه‬
‫‪8‬‬
‫أن يتفادى حدوث الشر األخالقي فقط من خالل إقصاء احتمالية الخير األخالقي‪.‬‬
‫باإلمكان استخالص العبارة األساسية اآلن من قلب هذه القصة‪:‬‬
‫إن ال ّله قادر على كل شيء‪ ،‬وليس ضمن مقدرته خلق عالم يحتوي على الخير‬
‫األخالقي ويخلو من الشر األخالقي‪.‬‬

‫‪7 Alvin Plantinga, The Native of Necissity (Oxford: Clarendon Press, 1974), 165.‬‬
‫‪8 Plantinga, Necessity, 166-167.‬‬
‫‪217‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫إن االدعاء هنا هو أنه من الممكن (أو ممكن أن يكون صادقا) أن يخلق ال ّله عالما‬
‫فيه مخلوقات حرة تختار أن تفعل الشر‪.‬‬
‫بمعنى آخر‪ ،‬ففي أي عالم يخلقه ال ّله‪ ،‬يسكنه أي نوع من المخلوقات الحرة‪ ،‬لن يكون‬
‫لدى ال ّله القدرة على منع هذه المخلوقات الحرة بقدر كبير من أن ترتكب األخطاء‪.9‬‬
‫هذه العبارة الجديدة إلى جانب عبارة تؤكد على وجود ال ّله تدل على احتمال وجود‬
‫الشر‪ ،‬نستطيع اآلن أن نرى كيف يمكن أن يجتمع وجود ال ّله مع وجود الشر‪ .‬وبهذا فقد‬
‫ُدحضت تهمة النقاد بعدم إمكانية وجود ال ّله والشر معا‪.‬‬
‫يظهر جاي ماكي وأنتوني فلو (‪ 1923‬ــ ‪ )2010‬ونقاد آخرون اعتراضا كبيرا على‬
‫ذريعة بالنتينجا‪ ،‬فهم يجادلون بأنه من الممكن منطقيا أن يوجد عالم يحتوي على‬
‫مخلوقات حرة بقدر كبير تفعل الصواب دائما وأن قدرة ال ّله الكلية هي القوة التي‬
‫تحدث أي مجموعة من األحوال الممكنة منطقيا‪ ،‬ويستنتجون إمكانية أن يخلق ال ّله‬
‫عالما يحوي مخلوقات حرة تفعل الصواب دائما‪ .‬من المؤكد أن ال وجود للتناقض في‬
‫توصيف حالة كهذه‪ ،‬إن كان النقاد محقين في هذا الشأن إذن فالدفاع عن اإلرادة الحرة‬
‫مسألة خاطئة‪ .‬وكما يطرح ماكي التساؤل التالي‪« ،‬لماذا َل ْم يخلق ال ّله البشر على شاكلة‬
‫تجعلهم يختارون دائم ًا وبحرية فعل الخير؟»‪ 10‬في النهاية ال ّله قادر على كل شيء‪.‬‬
‫ر ُد بالنتينجا على اعتراض ماكي يتضمن استدالال معقدا حول منطق القدرة الكلية‬
‫والحرية يذكرنا ببعض النقاط في النقاش الموجود في الفصلين ‪ 7‬و‪ .8‬إن استدالل‬
‫بالنتينجا حول مسائل كهذه ُيظهر بوضوح شديد قوة الدفاع عن اإلرادة الحرة‪ .‬يقبل‬
‫العديد من المفكرين التأليهيين وغير التأليهيين التعريف القياسي للقدرة الكلية على‬
‫أنها القدرة على استحداث أي حالة ال يكون وصفها متناقضا ذاتيا‪ُ .‬يقصد بهذا التعريف‬
‫أنه ال توجد حدود غير منطقية لما يستطيع أن يفعله كائن كلي القدرة‪ .‬ومن هنا فإن لدى‬
‫ال ّله قدرة على استحداث أي حالة ممكنة جوهريا‪ .‬وبذلك تكون لديه القدرة أن يخلق‬

‫‪ 9‬إن حجة بالنتينجا المفصلة نفسها تخوض عميقا في مفاهيم مثل «هفوة اليبنتز» و«انحراف عبر‬
‫العوالم»‪ .‬يمكن القراءة عنها بتفصيل أكثر في كتابه ‪God, Freedom, and Evil (Grand Rapids,‬‬
‫‪MI: Eerdmans, 1977; 1974 rpt) or in very analytical detail in his Necessity, Part 9.‬‬
‫‪10 J. L. Mackie, «Evil and Ompnipotence,» 209.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪218‬‬
‫مثال دببة قطبية وقطعا من الورق مثلثة الشكل ألنها ممكنة جوهريا؛ ولكنه ال يستطيع أن‬
‫يوجد عزابا متزوجين ويجعل الدوائر مربعة ألن هذه األشياء غير ممكنة في جوهرها‪.11‬‬
‫عند هذه النقطة يقدم بالنتينجا فارقا في النقاش حول الحدود المنطقية المفروضة‬
‫على القدرة الكلية من خالل اإلشارة إلى أن هنالك حاالت تكون ممكنة في ذاتها (أي‬
‫جوهريا) ولكن من غير الممكن ل ّله أن يوجدها‪ .‬وليؤسس لهذه النقطة فإنه يحاجج‬
‫على وجود فهم محدد لمنطق اإلرادة الحرة‪ .‬إذا كان الشخص حرا فيما يتعلق بفعل‬
‫معين‪ ،‬إذن فسواء قام به أو أحجم عنه فهي مسألة تعود له وليس ل ّله‪ .‬بالرغم من أن‬
‫العالم الذي يقوم جميع األشخاص فيه بحرية بفعل الصواب عالم ممكن يقينا‪ ،‬إال‬
‫أنها لم تكن حالة داخلة ضمن قدرة ال ّله حتى يخلقها‪ ،‬سيتعين على جميع المخلوقات‬
‫الحرة في ذلك العالم أن تساهم في حدوث هذه الحالة من خالل االختيارات التي‬
‫تقوم بها‪ُ .‬يصر المدافع عن اإلدارة الحرة أن ال ّله ال يستطيع تحديد أفعال اإلنسان الحر‪.‬‬
‫ولكن ماكي وفلو يردان بالقول أن هذا اإلصرار قائم على وجهة نظرة التوافقية‬
‫‪ incompatibilist‬للحرية (وهو الموقف الذي يرى أن اإلرادة الحرة والحتمية‬
‫متضادتان منطقيا)‪ ،‬في حين أنهما يتبنيان وجهة نظر توافقية ‪( compatibilist‬الموقف‬
‫‪12‬‬
‫الذي يرى أن اإلرادة الحرة والحتمية سواء المادية أو التأليهية متوافقتان منطقيا)‪.‬‬
‫يرى التوافقي عادة أن الشخص يكون حرا فيما لو أنه كان اختار فعل عكس ما قد فعله‪،‬‬
‫كان سيفعل العكس؛ ولكن التوافقي مع ذلك يرى أنه من المحتم على الشخص أن‬
‫يقوم باالختيار كما فعل على وجه الدقة‪ .‬بالنسبة للتوافقي إذن فإن ال ّله يمكنه بالفعل أن‬
‫يخلق عالما يحتوي على الخير األخالقي ولكن ليس الشر األخالقي‪ .‬في عال ٍم كهذا‬
‫كان بإمكان األشخاص االختيار‪ ،‬لنقل أن يقوموا باألفعال الخيرة فقط‪ ،‬بالرغم من أن‬
‫كل اختيارتهم حتمية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شكل من أشكال الحتمية‪ .‬إذا‬ ‫يرد بالنتينجا بأن اإلرادة الحرة غير متوافقة مع أي‬

‫‪ 11‬من الناحية الفنية نقول‪ ،‬حاالت تتألف من دبب قطبية بيضاء‪ ،‬وحاالت تتألف من عازبين متزوجين‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫‪12 John Mackie, «Theism and Utopia,» Philosophy 38 (1962), 153 - 159; Antony Flew,‬‬
‫‪«Compatibilism, Free Will and God,» Philosophy 48 (1973), 231 - 244.‬‬
‫‪219‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫كانت الحرية الالتوافقية ــ التي يطلق عليها غالبا حرية اإلرادة المستقلة ــ ‪libertarian‬‬
‫‪ freedom‬هي الحالة‪ ،‬إذن فإن هذا يعني بأن ال ّله لم يستطيع أن يخلق أي عالم بناء على‬
‫رغبته‪ .‬يعلل بالنتينجا بأن ال ّله ظن أنه من الخير خلق عالم يحتوي على مخلوقات حرة‬
‫عرف بالنتينجا بدقة مفهوم‬
‫بقدر كبير‪ ،‬مخلوقات تكون مثله محور النشاط الخلقي‪ُ .‬ي ّ‬
‫الحرية الكبيرة التي لها وظيفة في الدفاع عن اإلرادة الحرة‪« :‬إن الشخص يكون حر ًا‬
‫بالنسبة للفعل «أ» في وقت «و» فقط إذا لم تحدد القوانين السببية والشروط المسبقة‬
‫ما إن كان عليه تنفيذ «أ» عند «و» أو أن يحجم عنه»‪ 13.‬إن كان هذا التعريف للحرية‬
‫مقبوال تكون الغلبة إذن لجانب الدفاع عن اإلرادة الحرة‪ .‬إن الحرية المهمة أخالقيا‬
‫ال تتوافق مع أي شكل من أشكال الحتمية‪ .‬وهكذا في حين أنه من الممكن أن يوجد‬
‫عالم كهذا فهو‬
‫عالم يحوي فقط على الخير األخالقي دون الشر األخالقي‪ ،‬إن وجد ٌ‬
‫أمر عائد بالفعل إلى المخلوقات الحرة التي تسكنه وليس إلى ال ّله‪.‬‬
‫هذا الجدل بين التوافقية والالتوافقية هو تبادل آراء بين الطرفين داخل اإلطار الكلي‬
‫لمشكلة الشر المنطقية‪ .‬ركزت النقاشات األخرى مث ً‬
‫ال على العبارة الدقيقة حول الشر‬
‫والتي يتم اختيارها لتعبر عن حجة عدم االتساق‪ .‬وكما رأينا فإن أكثر أشكال الحجة‬
‫شيوعا يشتمل على االدعاء بأن الشر موجود بذاته‪ .‬ولكن بعض النقاد أقروا أن ما يمثل‬
‫انعدام التوافق مع التأليهية ليس الوجود المحض للشر ولكنه مقدار الشر في العالم‪.‬‬
‫يحاجج هؤالء النقاد بقولهم أنه كان بإمكان ال ّله أن يخلق عالما فيه شر أقل مما هو‬
‫موجود في العالم الحقيقي‪ .‬يرد بالنتينجا بأن الدفاع عن اإلرادة الحرة ال يزال ممكن‬
‫التطبيق ويظهر أنه من الممكن أن ال يكون داخال في قدرة ال ّله أن يخلق عالما يحوي‬
‫شرا أخالقيا أقل من العالم الحالي‪.‬‬
‫بعض النقاد اآلخرين الذين يسلمون بأن وجود ال ّله وحتى قدرا كبيرا من الشر‬
‫األخالقي متوافقان في عالم توجد فيه حرية اإلرادة المستقلة‪ ،‬يؤكدون بأن الشر‬
‫الطبيعي متضاد مع وجود ال ّله‪ .‬بالرغم من أنه على ال ّله أن يحترم اإلرادة الحرة كما‬
‫يجادلون‪ ،‬فهو ليس بحاجة ألن يسمح للقوى الطبيعية العمياء أن تؤذي الناس‪ .‬يرد‬

‫‪13 Plantinga, Necessity, 170 - 171.‬‬


‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪220‬‬
‫بالنتينجا أنه باإلمكان أن يكون ما نسميه بالشرور الطبيعية هي نتيجة مستحقة ألفعال‬
‫أشخاص أحرار بقدر كبير ولكنهم غير بشريين (مثال‪ ،‬أرواح ثائرة)‪ .‬وهكذا ال يزال‬
‫الدفاع عن اإلرادة الحرة منطبقا هنا‪ .‬من المثير لالهتمام أن بعض الفالسفة أساؤوا‬
‫فهم بالنتينجا على أنه ادعى بالفعل وجود أرواح ثائرة كهذه‪ ،‬في حين أنه يدعي فقط‬
‫أن احتمال وجودها ٍ‬
‫كاف لدحض الجدل بأن ال ّله والشرور الطبيعية متضادان‪.14‬فهو‬
‫ببساطة يصر على تطبيق منطق الدفاع عن اإلرادة الحرة‪.‬‬

‫الشر كمشكلة برهانية‬


‫بالرغم من أن المشكلة المنطقية للشر تشير إلى طور مهم من الجدل المستمر‪ ،‬إال‬
‫أن الجدل تحول خالل الثمانينات وبصورة متزايدة إلى المشكلة البرهانية‪ .‬ومع وجود‬
‫اتفاق عام بأن بالنتينجا وكيث ياندل (و‪ )1938 .‬وغيرهما من الفالسفة التأليهيين أثاروا‬
‫شكا كبيرا حول جميع صيغ المشكلة المنطقية‪ ،‬فإن العديد من النقاد الالتأليهيين كانوا‬
‫مقتنعين بأن الشر ال يزال يمثل تهديدا حقيقيا للمعتقد اإليماني‪ .‬إن المشكلة البرهانية‬
‫للشر هي باألساس تحدٍّ للتأليهيين ليجعلوا اعتقادهم بال ّله منسجما مع الوقائع المرتبطة‬
‫بالشر في العالم‪ .‬إن ادعاءهم ليس في أن التأليهية غير متسقة داخليا بل في كونها غير‬
‫معقولة‪ .‬إن حجتهم ال تقوم على مسألة منطقية بل على مسألة ما إن كانت التأليهية تقدم‬
‫تفسيرا معقوال لوقائع الشر‪ .‬أصدر عد ٌد من الفالسفة التأليهيين صيغهم الخاصة من‬
‫الحجة البرهانية وهم إدوارد مادين (‪ 1925‬ــ ‪ ،)2006‬بيتر هير (‪ 1935‬ــ ‪ ،)2008‬مايكل‬
‫‪15‬‬
‫مارتن (و‪ ،)1932 .‬ويسلي سالمون (‪ 1925‬ــ ‪ )2001‬ووليام روي (و‪.)1931 .‬‬
‫عرض ويسلي سالمون محاولة مبكرة إلنشاء حجة برهانية مبنية على نظرية‬

‫‪14 Plantinga, God, Freedom, and Evil, 55 - 59. (see a selection from this book in PRSR,‬‬
‫‪Part 7).‬‬
‫‪15 Madden and Hare, Evil and the Concept of God (Springfield, IL: Charles C. Thom-‬‬
‫‪as, 1968); Michael Martin, Atheism: A Philosophical Justification (Philadelphia:‬‬
‫‪Temple University Press, 1990), Chapter 14; William Rowe, Philosophy of Religion:‬‬
‫‪An Introduction (Belmont, CA: Dickenson, 1978), 86 - 89; Wesely Salmon, «Re-‬‬
‫‪ligion and Science: A New Look at Hume’s Dialogues,» Philosophical Studies, 33‬‬
‫‪(1978), 143 – 176.‬‬
‫‪221‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫فاعال ذكي ًا‬


‫االحتمالية‪ .16‬يركز سالمون على الشكل التقليدي للحجة‪ ،‬والذي يدعي بأن ً‬
‫هو الذي أوجد هذا الكون‪ ،‬ويدعي سالمون أن هذا الكون ما كان ليكون شيئا نتوقع‬
‫مسبق ًا صدوره عن كائن حاد الذكاء يتصف باإلحسان والقدرة‪ .‬بالنظر إلى العديد من‬
‫السيناريوهات حول شكل الكون الذي قد يخلقه هذا الكائن المطلق‪ ،‬فإن القليل فقط‬
‫من هذه السيناريوهات يحتوي ذلك النوع من الشرور التي تبدو عبثية وغير قابلة للتفسير‬
‫والتي نحن على وعي بها‪ .‬من الواضح أن هذا الخط في االستدالل المنطقي قائم على‬
‫النظرية اإلحصائية (أو التكرار) لالحتمالية‪ .‬االفتراضات التي تُصاغ هنا تكون بالنظر‬
‫إلى احتماليات مسبقة مرتبطة بمفهوم ال ّله بشرط أن يكون ممكنا تأويل الشرور الفعلية‬
‫على أنها برهان سلبي ضد فرضية وجود ال ّله في التأليهية‪ .‬تُعرف هذه الحجة بالمشكلة‬
‫االحتمالية للشر؛ واالستنتاج فيها هو أن الشر يجعل من غير المحتمل أو المرجح أن‬
‫يكون ال ّله موجودا‪.‬‬
‫يرد بالنتينجا بأنه ال توجد نظرية احتمالية ــ سواء كانت إحصائية أو شخصانية أو‬
‫منطقية ــ يمكن توظيفها إلنشاء حجة صالحة من موضوع الشر‪ 17.‬من بين العقبات‬
‫التي تواجهها هذه النظريات هي المشاكل الجوهرية الموجودة في دراسات االحتمالية‬
‫الحديثة عموما (مثال االفتقار إلى وجود أي معيار واضح للحكم على احتمالية عبارة‬
‫واحدة بنا ًء على أخرى)‪ ،‬باإلضافة إلى ميل النقاد للسماح الفتراضاتهم المسبقة بأن‬
‫تؤثر على تعيينهم لالحتماالت القبلية (مثالً‪ ،‬التقييم الذي يشير إلى رجحان مسبق ألن‬
‫يخلق ال ّله في التأليهية عالم ًا يحتوي على الشر الموجود في هذا العالم)‪ .‬ترد نانسي‬
‫كارترايت (و‪ )1944 .‬أيضا على سالمون‪ ،‬بقولها إن المنهج اإلحصائي غير مالئم‬

‫‪ 16‬ولمزيد من الدعم لحجته اإلحصائية أو التكرارية‪ ،‬يدعي سالمون أن جملة مثل «إن ال ّله القادر‬
‫ٍ‬
‫«ضئيلة جد ًا» (القيمة أقل بكثير من ‪ )0.5‬بالنسبة‬ ‫والعليم والخ ّير موجود» ذات احتمالية عددية‬
‫لبعض الجمل مثل «الشر موجود‪ ».‬وعلى العكس فإنه يسعى إلى إظهار أنه وبالنظر إلى وجود الشر‪،‬‬
‫فإن احتمالية جملة «إن ال ّله القادر والعليم والخير غير موجود» تكون مرتفعة (مؤكدٌ أنها أعلى من‬
‫‪ .)0.5‬أنظر‪:‬‬
‫‪Salmon, «A New Look,» 143 - 176.‬‬
‫‪17 Alvin, Plantinga, «The Probilistic Argument from Evil,» Philsophical Studies, 35‬‬
‫‪(1979), 1 - 53.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪222‬‬
‫بالكامل لمعالجة المسائل الميتافيزيقية‪ 18.‬بالرغم من أن العديد من المفكرين قد اتفقوا‬
‫على وجود خلل فيما طرحه سالمون‪ ،‬بقي معظم النقاد الالتأليهيين مقتنعين بأن عبارة‬
‫حاسمة للمشكلة البرهانية للشر كانت في متناولهم‪ .‬من المؤكد أن حجة استقرائية عامة‬
‫(غير برهانية) يمكن أن تُصاغ إلثبات أنه من العقالنية أكثر اإليمان بعدم وجود ال ّله‬
‫بالنظر إلى وجود الشر كدليل على ذلك‪ .‬والبرهان األقوى لن يكون الوجود المحض‬
‫للشر‪ ،‬ألن بعض الشر يبدو خاضع ًا للتفسير التأليهي المعقول‪ .‬بل إن البرهان الظاهري‬
‫يصبح عبارة عن شواهد للشر ال يبدو أن لها ما يفسرها تفسيرا كافيا‪ .‬يوجد بالطبع‬
‫افتراض قاعدي ‪ background assumption‬مؤثر هنا يحمل معنى أن التفسير اإللهي‬
‫المقبول هو الذي يؤول الشرور قيد النظر على أن وجودها ضروري في سبيل بلوغ خير‬
‫أعظم‪ .‬إن لم يكن باإلمكان تحديد هذا الخير‪ ،‬إذن من المؤكد أن االعتقاد بأن الشرور‬
‫المقصودة ال جدوى منها أو أنها بال مقابل اعتقاد معقول‪ .‬لدينا الكثير لنقوله عن هذا‬
‫الموضوع الحقا‪.‬‬
‫في هذه الصياغة للحجة البرهانية تُعا َمل التأليهية على أنها فرضية ميتافيزيقية شاملة‬
‫أو نظرية تفسيرية تتضمن نتائج محددة لما يجب أن يكون عليه العالم‪ .‬إن كانت التأليهية‬

‫‪ 18‬تشير كارترايت إلى أن الحجة االحتمالية من جانب الشر تواجه مباشرة صعوبة في تخصيص صنف‬
‫المرجعية المناسب‪ .‬من الواضح أن ال أحد مطلع بصورة مباشرة على جميع أصناف األكوان حتى‬
‫نتوصل إلى قياس إحصائي لعدد األكوان التي تحتوي على الشر بالنسبة إلى األكوان التي خلقها‬
‫اإلله‪ .‬وبذلك لجأ سالمون إلى مقارنة الكون بكيانات أخرى باإلمكان مالحظة أصولها‪ .‬ولكن‬
‫كارترايت تزعم أن هذه الحركة فيها مصادرة على المطلوب مقدم ًا وذلك عندما يقرر أن يضم‬
‫الكيانات إلى صف المرجعية وهي كيانات تُستحضر باإلنتاج اآللي‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬تحاجج‬
‫كارترايت بأن أساليب التكراريين غير مناسبة تمام ًا لمعالجة المسائل الميتافيزيقية‪ ،‬مثل مسألة وجود‬
‫ال ّله‪ .‬لو أن أي نو ٍع من األساليب االستقرائية هو المناسب فهي ترى أنه سيكون في توظيف المناهج‬
‫ال أن نتخيل حالة تجريبية حيث تكون مجموعة من األجزاء العشوائية مرمية‬ ‫التجريبية‪ .‬فهي تقترح مث ً‬
‫داخل صندوق ويتم هز الصندوق حتى تخرج منه هذه األجزاء على شكل مجموعة من التروس‬
‫تتناغم في النهاية لغرض غاية معينة‪ .‬من المؤكد أن احتمالية خروج المجموعة العشوائية األولية‬
‫في تشكيل عالي التنظيم هو أقرب ما يكون للصفر‪ ،‬وهو استنتاج معاكس تمام ًا لالستنتاج الذي‬
‫ينتج عن منهج سالمون‪ .‬سيكون من المثير لالهتمام النظر في ادعاء ريتشارد سوينبورن أن اسلوب‬
‫التكراريين مناسب لمسائل مثل وجود ال ّله‪ .‬انظر ‪Swinburne, The Existence of God (Oxford:‬‬
‫‪ 21.‬ــ ‪Clarendon Press, 1979), 5‬‬
‫‪223‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫صادقة نتوقع إذن أن يتحول العالم بطريقة معينة‪ .‬بالطبع إن الفرضيات العالمية المعقدة‬
‫قليال ما تتضمن نتائج محددة إال إذا كانت مبدوءة بافترضات إضافية‪ .‬في حالتنا هذه‪ ،‬فإن‬
‫الفرضية التأليهية (أي أن شكال من أشكال األلوهية موجود) ينبغي أن تُدعم بافترضات‬
‫أخرى‪ .‬واحدة من هذه االفتراضات التي يقبلها عادة ٌ‬
‫كل من التأليهيين وغير التأليهيين هي‬
‫أن ال ّله يمنع وجود أو يزيل من الوجود أي نوع من الشرور التي ال معنى لها وال جدوى‪.‬‬
‫يشير ويليام روي إلى أن هذا االدعاء «يبدو معبرا عن المعتقد الذي يتوافق مع مبادئنا‬
‫األخالقية األساسية‪ ،‬مبادئ يتشاركها التأليهيون مع الالتأليهيين‪ 19».‬يكتب تيرنيس بينيلوم‬
‫أمر يتسم بالتناقض المنطقي‪ 20».‬على هذا‬ ‫شر ال معنى له ٌ‬‫قائال‪« :‬إن إقرار التأليهي بوجود ٍ‬
‫األساس يستدل النقاد بأنه لو أن ال ّله موجود فعلينا أن أال نتوقع وجود شر ال جدوى منه أو‬
‫عديم المعنى في الكون‪ .‬إال أن الشر العديم المعنى أو الجدوى موجود بالفعل؛ واألسس‬
‫التي تدعو إلى االعتقاد بذلك قوية جدا‪ .‬يستنتج النقاد إذن بأن التأليهية ال تفسر بشكل‬
‫ٍ‬
‫أمر غير مرجح‪.‬‬‫كاف ماهية األشياء‪ ،‬وأن وجود ال ّله ٌ‬
‫إن الجهود التي بذلها ويليام روي في صياغة حجة برهانية فعالة ــ و تحسينها من‬
‫خالل مراجعات عدة ــ جديرة بالنقاش‪ .‬لننظر إلى الحجة األصلية التي أثارها عام‬
‫أمر يتخطى نطاق هذا الكتاب‪:‬‬
‫‪ 1979‬على الرغم من أن المناقشة الفنية لمراجعاته ٌ‬
‫توجد لحظات معاناة شديدة كان يمكن لكائن كلي القدرة وعالم بكل شيء أن‬
‫يمنعها من دون أن يترتب على ذلك خسارة خير أعظم أو إتاحة الفرصة لحدوث شر‬
‫يوازيه في السوء أو يكون أسوء منه‪.‬‬
‫(مقدمة وقائعية)‬
‫إن كائنا قادرا على كل شيء‪ ،‬خ ّيرا بالكامل سيمنع حدوث أي معاناة شديدة يمكنه‬
‫منعها‪ ،‬إال إذا لم يكن قادر ًا على فعل ذلك بدون أن يؤدي ذلك إلى خسارة خير أعظم‬
‫أو أن ذلك يتيح الفرصة أمام شر ٍ‬
‫مواز أو أكثر سوء منه‪.‬‬

‫‪19 Rowe, Philosophy, 88.‬‬


‫‪20 Terence Penelhum, «Divine Goodness and the Problem of Evil,» in Baruch Brody,‬‬
‫‪ed., Readings in the Philosophy of Religion: An Analytic Approach (Englewood‬‬
‫‪Cliffs, NJ: Prentice - Hall, 1974), 226.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪224‬‬
‫(مقدمة الهوتية)‬
‫‪21‬‬
‫إذن ال يوجد كائن خ ّي ٌر بالكامل‪ ،‬قادر على كل شيء وعليم بكل شيء‪.‬‬
‫(االستنتاج)‬
‫في إحدى المراحل األولية من النقاش ُو ّظفت حالتا بامبي وسو لتعزيز المقدمة‬
‫الوقائعية‪ :‬وهما الظبية التي عانت ون َف َقت في حريق الغابة والطفلة ذات الخمسة أعوام‬
‫التي تعرضت لإلساءة والضرب حتى الموت على يد صديق والدتها‪.‬‬
‫إذا كان المنطق في الحجة البرهانية صحيحا‪ ،‬إذن فإن النقاش حوله يتحول بشكل‬
‫طبيعي إلى النقاش حول أسس الحقيقة أو األسس العقالنية لمقدمات هذه الحجة‪.‬‬
‫بشكل عام يعتقد كال الطرفين التأليهيون وغير التأليهيين أن مفتاح النجاح في الحجة‬
‫يتمحور حول مقدمتها الوقائعية‪ :‬االدعاء بأن الشر الذي ال معنى له موجود‪ .‬يكتب‬
‫كيث ياندل وهو من التأليهيين بهذا الصدد أن «السؤال الحاسم هنا هو ما إن كان‬
‫وجود الشر الذي ال مبرر له‪ ،‬الطبيعي أو األخالقي‪ ،‬أمرا يقينيا أو على األقل تغلب‬
‫أرجحية وجوده على عدمه‪ 22».‬يتفق روي مع الرأي القائل بأن مدى إمكانية قلب‬
‫‪23‬‬
‫أمر يعتمد على إيجاد «خطأٍ ما في مقدمتها [الوقائعية]»‪.‬‬
‫المؤمن للحجة البرهانية ٌ‬
‫إن المؤمنين الذين يحاولون دحض المقدمة الوقائعية ينقسمون إلى معسكرين‪ :‬أولئك‬
‫الذين يعتقدون أن باستطاعتنا معرفة أنها زائفة وأولئك الذين يعتقدون أننا ال نستطيع‬
‫معرفة صدقها‪ .‬بالطبع إن كال من هذين المنهجين استثارا ردودا من النقاد الالتأليهيين‪،‬‬
‫مما يجعل الجدل المستمر مهما جدا‪.‬‬
‫يعتنق العديد من المؤمنين فكرة الخير األعظم في الرد على تحدي الشر‪ .‬يعتنق‬
‫هؤالء نظرية أو عنصرا معينا من النظرية يصف أشكال الخير األعظم وأشكال الشرور‬
‫المرتبطة ٍ‬
‫بكل منها (مثالً‪ ،‬المعاناة تبني الشخصية‪ ،‬أو تُعد نقيض ًا يبرز الخير‪ ..‬إلخ)‪.‬‬

‫‪21 William Rowe, «The Problem of Evil and some Varieties of Atheism,» American‬‬
‫‪Philosophical Quarterly 16 (1979), 336.‬‬
‫‪22 Keith Yandell, Basic Issues in the Philosophy of Religion (boston: Allyn and bacon,‬‬
‫‪1971), 62 - 63.‬‬
‫‪23 William Rowe, Philosophy of Religion, 88.‬‬
‫‪225‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫قديما كانت تدعى نظرية كهذه بنظرية العدل اإللهي ‪ theodicy‬وتعني بالضبط تبرير‬
‫طرق ال ّله في التصرف في العالم‪ .‬سنقوم بتصنيف وإحصاء أمثلة مهمة للعدل اإللهي في‬
‫ٍ‬
‫حدث عادة ما يرد النقاد على العدل اإللهي من خالل‬ ‫قسم آخر من هذا الفصل‪ .‬في أي‬
‫االستشهاد بحاالت عصية في الشر تؤدي وظيفة المثال المضاد لالدعاء بأن الشرور‬
‫ضرورية للخير‪ .‬يؤكد روي‪« :‬توجد شواهد على المعاناة الشديدة كان بوسع كائن قادر‬
‫على كل شيء وعالم بكل شيء أن يمنعها من دون خسارة خير أعظم أو إتاحة الفرصة‬
‫أمام شر ٍ‬
‫مواز أو ٍ‬
‫شر أسوء»‪ 24.‬باالنطالق من مثال الظبية‪ ،‬يقول روي‪« :‬ال يبدو أن وقف‬
‫معاناة ظبية يؤدي إلى خسران خير أعظم أو إلى حدوث شر يوازيه أو أسوء منه»‪ 25.‬من‬
‫الواضح إذن أن الحالة المأساوية للظبية ال معنى لها؛ من غير المعقول االعتقاد بأن هذه‬
‫ُ‬
‫والمثل يقال عن حالة الفتاة الصغيرة‪.‬‬ ‫الحالة تخدم أي غاية مستحسنة‪.‬‬

‫الرد بالتأليهية الشكوكية‬


‫أحد اتجاهات الدحض التي ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالنقاش حول الحجة البرهانية هي‬
‫ما بات ُيعرف بالدفاع التأليهي الشكوكي‪ .‬إن التأليهيين «الشكوكيين» في هذا السياق ال‬
‫يقدمون نظرية إيجابية في العدالة اإللهية؛ ولكن يقدمون دفاعا من خالل التشكيك في‬
‫األسس اإلبيستملوجية لدى الالتأليهيين في قبولهم للمقدمة الوقائعية‪ .‬ستيفن ويكسترا‬
‫(و‪ ،)1964 .‬ويليام ألستون (‪ 1921‬ــ ‪ ،)2009‬دان هوارد ــ سيندر (و‪ ،)1959 .‬ومايكل‬
‫بيرغمان (و‪ )1964 .‬جميعهم معروفون بتحديهم الدعاء روي القائل بأنه من العقالنية‬
‫اإليمان بالمقدمة الوقائعية‪ ،‬فقد حاججوا بقوة بأننا ال نستطيع معرفة صدق المقدمة‬
‫أو حتى احتمال صدقها‪ 26.‬لنتتبع باختصار مقاربة ويكسترا‪ ،‬ينكر ويكسترا فكرة أننا‬
‫نستطيع أن نستنتج من جملة «ال يبدو أن هنالك خيرا يبرر الشر المشار إليه» أنه «ال‬
‫وجود لهذا الخير»‪ .‬ويكسترا معروف بفكرته القائلة إن قبول االدعاء الظاهري في حالة‬

‫‪24 Rowe, «The Problem of Evil,» 337.‬‬


‫‪25 Rowe, «The Problem of Evil,» 338.‬‬
‫‪26 See Michael Bregmann, «Skeptical Theism and the Problem of Evil» in Thomas‬‬
‫‪Flint and Michael Rea, eds., The Oxford Handbook of Philosophical Theology‬‬
‫‪(New York: Oxford University Press, 2009), Chapter 11.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪226‬‬
‫ما مسموح به فقط عندما يكون من المعقول وبالنظر لملكاتنا المعرفية وتوظيفنا لها‬
‫اإليمان بأن من الممكن أن ندرك صدق هذا االدعاء‪ 27.‬بتفسيره معرفة ال ّله على أنها‬
‫المتناهية وأعلى من معرفة البشر يستنتج ويكسترا أنه ليس من المعقول االعتقاد أنه‬
‫لو كان ال ّله يعلم شيئا من الخير المبرر من وراء ٍ‬
‫شر معين لكنا قادرين على معرفته أو‬
‫أنه سيكون ظاهرا لنا‪ ،‬أي سيكون لدينا «المدخل المعرفي المعقول» إلى منظور ال ّله‪.‬‬
‫إما أن ال ّله يعرف االرتباطات بين أشكال معروفة من الخير والشر ال ندركها أو أن ال ّله‬
‫يعرف خيرا يتخطى قدرتنا على االستيعاب‪ :‬عند هذه النقطة وفي أي من الحالتين‪ ،‬فإن‬
‫طرق ال ّله تتجاوز القدرة المتناهية للعقول على االستيعاب‪ .‬هذه االستراتيجية الدفاعية‬
‫مبنية على قناعة معينة فيما يخص الحدود اإلدراكية للبشر المتناهين عندما يتعلق‬
‫األمر بكيفية تعامل األلوهية الالمتناهية مع الخير والشر‪ .‬وبإدراك وجود هذه القيود‬
‫اإلدراكية‪ ،‬هنالك ٌ‬
‫حث على نوع معين من الشكوكية‪ ،‬وهي أنه ال يوجد مبرر لنعتقد بأن‬
‫هذه الشرور بال جدوى فقط على أساس أنها «ال تبدو» لنا ذات جدوى‪.‬‬
‫في الرد على ذلك يكرر روي بأن حجته تستهدف التأليهية المقيدة (االدعاء أن ألوهية‬
‫عالمة بكل شيء قادرة على كل شيء‪ ،‬خير ًة بالكامل موجودة وهي التي خلقت العالم)‬
‫وقد تحدى وصف ويكسترا القائم على فكرة وجود تناقض بين المتناهي والالمتناهي‪.‬‬
‫يزعم روي أن معلومات كهذه ال يمكن استنتاجها من التأليهية المقيدة وحدها بل أنها‬
‫مستمدة بشكل غير متعمد من الصيغة المفضلة لدى ويكسترا من التأليهية الممتدة (وهي‬
‫التأليهية المقيدة مضموما إليها ادعا ٌء إضافي أو مجموعة ادعاءات إضافية من موروث‬
‫ديني معين)‪ ،‬يدعي روي أن ويكسترا ّ‬
‫‪28‬‬
‫مرر بشكل غير متعمد بعض االدعاءات حول‬
‫غموض الغايات اإللهية‪ ،‬وحدود المعرفة اإلنسانية وما شابه‪ .‬إذن فإن دفاع ويكسترا عن‬
‫التأليهية المقيدة يفشل هنا‪ ،‬بالرغم من أنه قد ينجح كدفاع عن صيغة معينة من التأليهية‬
‫الممتدة التي توجد فيها مثل هذه االدعاءات اإلضافية‪.‬‬

‫‪27 Stephen Wykstra, «The Human Obstacle to Evidential Arguments from Suffering:‬‬
‫‪On Avoiding the Evils of ‘Appearance,’ International Journal for Philosophy of Re-‬‬
‫‪ligion 16 (1984), 85.‬‬
‫‪28 Rowe, «Evil and the Theistic Hypothesis: A Response to Wykstra,» International‬‬
‫‪Journal for the Philosophy of Religion 16 (1984), 95 - 100.‬‬
‫‪227‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫هنالك نقطة أخرى أثارها روي في معرض رده على الدفاع اإللهي الشكوكي‬
‫تُعرف بمماثلة األهل الصالحين‪ .‬في المماثلة يقول روي إنه حتى لو سلمنا بأن هنالك‬
‫فجوة كبيرة بين فهم ال ّله الالمتناهي وفهم البشر المتناهي‪ ،‬فإن ال ّله متعالي في خيره‬
‫وحبه وقدرته‪ .‬وعلى نحو مشابه فإن األهل الصالحين يفهمون أكثر من طفلهم بعض‬
‫أشكال من المعاناة التي يسمحون لطفلهم أن يختبرها‪ ،‬ولكن هؤالء األهل سيجدون‬
‫طرقا ليريحوا ويطمئنوا الطفل بوجودهم المستمر خالل حدوث هذه المعاناة‪ 29.‬ثم‬
‫يحاجج روي بأن ال ّله على العكس يبدو بعيدا وصامتا وحتى غائبا‪ .‬بالنسبة لروي إن‬
‫مجرد احتمال وجود شر ال مقابل له واقتران ذلك باختفاء األلوهية البد وأن ُيرجح كفة‬
‫الميزان لصالح اإللحاد‪ .‬إن موضوع الغموض الديني في الحياة واإلحساس بالخفاء‬
‫اإللهي هي حقائق مظلمة في الوجود البشري ذكرنا في الفصل األول أنها بحاجة إلى‬
‫‪30‬‬
‫الدراسة المتأنية؛ ولكن دراسة كهذه تقع خارج نطاق هذا الكتاب‪.‬‬
‫إن النقاش حول المقدمة الوقائعية المهمة والطرق المتعددة في رفضها قد يبدو‬
‫ٍ‬
‫شيء أشبه باألزمة‬ ‫للكثيرين غير حاسم بصورة نهائية أو أنه يؤدي بأطراف الجدل إلى‬
‫العقلية‪ .‬ولكن هذه األزمة ــ إن كانت هذه هي النتيجة الصافية ــ تصب في صالح‬
‫الالتأليهيين‪ .‬في النهاية فإن اإللهي هو الذي يتقدم بادعاءات معينة حول وجود ال ّله‬
‫وطبيعته‪ ،‬ثم يواجه صعوبات كبيرة في إثبات كيفية تفسير هذه االدعاءات لبعض‬
‫الشرور الكبيرة‪ .‬إن لدى الالتأليهي بذلك مسو ًغا في الحث على أن المشكلة البرهانية‬
‫للشر تقلص بشكل كبير صدق الموقف التأليهي‪ .‬بالطبع إن أي تقييم عقالني إجمالي‬
‫للتأليهية البد أن يأخذ بالحسبان االنتقادات األخرى باإلضافة إلى ما يقدم دعما إيجابيا‬
‫كالحجج التأليهية الكالسيكية‪ .‬ولكن وألن معظم الالتأليهيين يعتقدون أن مشكلة‬
‫الشر مؤثرة وأن الحجج الكالسيكية فقيرة أو على األقل غير مقنعة فإنهم يدعون أن‬
‫مبرر‪.‬‬
‫رفضهم للتأليهية َّ‬

‫‪29 Rowe, «Skeptical Theism: A Response to Bergmann,» Nous 35 (2001), 243.‬‬


‫‪30 See John Schellenberg, «Divine Hiddenness» in A Companion to Philosophy of‬‬
‫‪Religion (Oxford: Wiley - Blackwell, 2010), Chapter 60.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪228‬‬
‫هل يمكن للتأليهيين قبول المقدمة الوقائعية؟‬
‫بعض التألهيين ــ من أمثال ويليام هاسكر (و‪ )1935.‬ومايكل بيترسون (و‪)1950 .‬‬
‫ــ اتخذوا منهجا مختلفا في دحض الحجة البرهانية من الشر؛ وهو القبول بالمقدمة‬
‫الوقائعية ورفض المقدمة الالهوتية‪ 31.‬يدافع هؤالء التأليهيون عن المقدمة الوقائعية‬
‫وفقا ألسس فلسفية والهوتية معا‪ .‬في الفلسفة يصادق هؤالء على المصداقية العامة‬
‫ألحكامنا األخالقية االعتيادية‪ ،‬مشيرين إلى أن معظمنا غالبا وبصورة شرعية تماما‬
‫يحكم على كثير من الشر في العالم على أنه عديم الجدوى بالكامل‪ .‬وألسباب الهوتية‬
‫فإنهم يدعمون المقدمة الوقائعية من خالل تحديد أن الربوبية التأليهية خلقت البشر مع‬
‫قدرات أخالقية وعقلية يمكن الوثوق بها‪ .‬من الواضح أن هؤالء المفكرين التأليهيين‬
‫يتبنون شكال من التأليهية الممتدة مختلفا جدا عن الذي يتبناه ويكسترا‪ .‬وفقا لموقفهم‬
‫التأليهي‪ ،‬فإن الفجوة بين الالمتناهي والمتناهي ليست بالسعة التي يعتقدها ويكسترا‪،‬‬
‫وقد يبدو عدم االتساق في حث التأليهيين بقوة على فكرة أن أحكامنا البشرية‪ ،‬بالنظر‬
‫إلى عدم جدوى العديد من الشرور‪ ،‬هي أحكام خاطئة بصورة منتظمة ومنهجية‪.‬‬
‫بالرغم من وجود مسافة معرفية بين عوالم البشر واإلله فإن ثقل التجربة اإلنسانية في‬
‫الالمعقولية ينبغي النظر إليه على أنه موثوق بشكل كبير‪.‬‬
‫إذن فالتأليهيون الذين يقبلون بالمقدمة الوقائعية ينبغي عليهم إيجاد طريقة ليرفضوا‬
‫المقدمة الالهوتية‪ .‬فهم يوافقون على الصفات اإللهية القياسية التي توظفها تلك‬
‫المقدمة ولكنهم يرون أن هنالك سببا لوضع االفتراضات المدمجة موضع التساؤل‬
‫وهي التي تقول إن ال ّله لن يسمح بوجود شر ال جدوى منه أو معنى‪ .‬إذا كان باستطاعة‬
‫هؤالء التأليهيين أن يجادلوا بصورة مقنعة حول فكرة مكانة الشرور عديمة الجدوى‬
‫داخل التصور التأليهي للعالم‪ ،‬إذن فهم يوقفون الحجة البرهانية عن التقدم‪ .‬بالرغم من‬

‫‪31 See Michael Peterson, Evil and the Christian God (Grand rapids, MI: Baker, 1982),‬‬
‫‪Chapter 4. See also William Hasker, «The Necessity of Gratuitous Evil,» Faith and‬‬
‫‪Philosophy 9:1 (Jan. 1992), 23 - 44.‬‬
‫هذه المقالة نتيجة لورقة بحثية ُقرأت أص ً‬
‫ال في لقاء للرابطة األمريكية للفلسفة‪ ،‬سينسناتي‪ ،‬أوهيو‪،‬‬
‫نيسان ‪.1988‬‬
‫‪229‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫أن فكرة الكون اإللهي ككل حيث توجد مشروطية أصيلة ــ أو انفتاح على نتائج بديلة ــ‬
‫قد نوقشت في الفصل الثامن بإمكاننا هنا أن نتوسع في بعض هذه االعتبارات لنعرض‬
‫طريقة تأييد الشر الذي ال مقابل له‪ .‬نقطة البدء هي في اإلقرار بالمفهوم الكامل لما تعنيه‬
‫اإلرادة الحرة‪ .‬إذا كان نطاق االختيارات الحرة المتوفرة أمام المخلوقات كبيرا بالفعل‬
‫وليس ضئيال‪ ،‬إذن ينبغي على المخلوقات أن تكون قادرة على بلوغ أعلى مراتب الخير‬
‫باإلضافة إلى أسوء أنواع الشرور‪ .‬إن تقييد ال ّله للشرور الكبيرة يعني أيضا وضع حد‬
‫للخير األعظم‪ .‬إذن فالحرية الكبيرة تتضمن كذلك القدرة على استحضار الشرور‬
‫عديمة المعنى‪ ،‬وهي مخاطرة تقع في جوهر المخطط الذي وضعه ال ّله للبشر‪.‬‬
‫حتى نكون أكثر دقة‪ ،‬فالحجة هنا ال تتمحور حول ضرورة واقعية العديد من الشرور‬
‫بالنسبة للخير األعظم؛ كان من الممكن افتراضيا أن يوجد قدر كبير من الخير من دون‬
‫أن تكون هذه الشرور موجودة واقعا‪ .‬بل تتمحور الحجة حول إمكانية وجود العديد‬
‫من الشرور ومن ضمنها الشرور التي ال يمكن أن تكون مرتبطة بالخير األعظم‪ ،‬تكون‬
‫بالفعل ضرورية للحفاظ على قدر كبير من اإلرادة الحرة‪ .‬إذن فتصور العديد من‬
‫الشرور الموجود في الكون اإللهي على هذه الشاكلة يعني المعقوليتها باألساس‪ .‬وفقا‬
‫لهذا المسار في االستدالل المنطقي‪ ،‬فإن االفتراض الذي يتشاركه الكثير من التأليهيين‬
‫وكذلك منتقديهم من الالتأليهيين ــ أي أن ال ّله لن يسمح بوجود شر ال معنى له ــ يمكن‬
‫أن ُيقابل بالرفض‪ .‬أطلق البعض على هذا االفتراض اسم مبدأ العناية اإللهية الدقيقة‪.32‬‬
‫ولكن عندما ُيرفض المبدأ فإن المقدمة الالهوتية بتفسيرها الكالسيكي ينبغي أن تُرفض‬
‫أيضا‪ .‬نتيجة لذلك فإن الشرور التي تبدو عديمة الجدوى أو المعنى ال تُعتبر برهانا‬
‫ضد التأليهية‪ .‬وهكذا فإن الموقف التأليهي الذي يقر بإمكانية وجود الشرور عديمة‬
‫الجدوى ليس بحاجة إلى الخضوع للحجة البرهانية‪.‬‬

‫‪32 See Michael Peterson, evil and the Christian God (Grand Rapids, MI: Baker, 1982),‬‬
‫‪in which the Principle of Meticulous Providence is discussed at length. Also see‬‬
‫‪William Hasker, «The Necissity of Gratuitous Evil,» Faith and Philosophy 9 (Janu-‬‬
‫‪ary 1992), 23 - 44; and «can God Permit ‘Just Enough’ Evil?» In Hasker, Providence,‬‬
‫‪Evil and the Openness of God (London and New York: Routledge, 2004).‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪230‬‬
‫الدفاع والعدالة اإللهية‬
‫اطلعنا على الكثير من النقاشات حول مشكالت الشر المنطقية والبرهانية‪ .‬فقد رأينا‬
‫كيف أن الشر يميل إلى أن يكون مدمجا مع أنواع متباينة من الحجج على عدم وجود‬
‫ال ّله في التأليهية‪ .‬وقد وضحنا الفارق بين نوعين من الردود‪ ،‬الدفاع والعدالة اإللهية‪.‬‬
‫يهدف الدفاع إلى ترسيخ فشل صياغة معينة للحجة من الشر‪ ،‬في البداية كانت الصياغة‬
‫المنطقية والحقا البرهانية‪ .‬أما العدالة اإللهية على العكس من ذلك تقدم تعليال أو‬
‫تفسيرا لسبب سماح ال ّله بوجود المعاناة والشر‪ .‬من السهل رسم مخطط هذا التاريخ‪.‬‬
‫بالنتينجا كما نعرف صمم ما يعرف بدفاع اإلرادة الحرة ليثبت أن الحجة المنطقية ال‬
‫تثبت عدم االتساق في التأليهية‪ .‬بما أن نجاح جهوده الدفاعية ضد الحجة المنطقية‬
‫أصبحت تحظى بالقبول بشكل متزايد بدأ النقاد اإللهيون في البحث إذا ما كانت‬
‫بعض الحجج البرهانية ما تزال صالحة‪ .‬إن تطوير الحجج البرهانية المهمة على يد‬
‫الالتأليهيين حفز ردودا إلهية متنوعة‪ ،‬ولكن أصحاب الردود التأليهيين يختلفون حول‬
‫مسالة أي من االستراتيجيتين هي األفضل‪ ،‬الدفاع أو العدالة اإللهية‪.‬‬
‫كما أن النقاد الالتأليهيين اقترحوا أشكاال مختلفة من الحجج البرهانية من الشر‪،‬‬
‫فإن بعض التأليهيين أتبعوا ذلك بردود دفاعية ضد هذه الصيغ المختلفة‪ .‬في الرد على‬
‫الصيغة االحتمالية لدى سالمون‪ ،‬مثال يجادل بالنتينجا بأن التأليهية ليست احتماال‬
‫مستبعدا‪ .‬وفي الرد على صيغة روي البرهانية التي نوقشت على نطاق واسع‪ ،‬يرى‬
‫التأليهيون الشكوكيون أن ليس باإلمكان معرفة صدق المقدمة الوقائعية المفتاحية‬
‫أو حتى احتمالية صدقها‪ .‬يمكننا أن نرى أن االستراتيجية الدفاعية للحجة البرهانية‬
‫تحاول إثبات أن حجج ًا كهذه ال تنجح في ترسيخ فكرة أن التأليهية مستبعدة أو غير‬
‫مرجحة أو غير معقولة‪ .‬إال أن هذه االستراتيجيات ال ترتقي إلى المهمة األكثر إيجابية‬
‫في تقديم أسباب معقولة لالعتقاد بأن لدى التأليهية مرجعيات تجعل المعاناة والشر‬
‫أمورا مفهومة‪.‬‬
‫في الواقع أن االهتمام الشديد بالدفاع الذي يظهره بعض التأليهيين ينسجم تمام ًا‬
‫المقومة التي ناقشناها في الفصل السادس‪ .‬فقد رأينا أن‬
‫َّ‬ ‫مع توجه اإلبيستملوجيا‬
‫المقومة توازن بين االنتقادات الالذعة ضد البرهانية واالفترضات‬
‫َّ‬ ‫اإلبيستملوجيا‬
‫‪231‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫مبررة‪ .‬من الواضح تماما أن هذه‬


‫األصولية القوية حول الكيفية التي تكون بها معتقداتنا َّ‬
‫االفترضات شكلت موضوع نقاشات عديدة بين التأليهيين والالتأليهيين عبر القرون‪.‬‬
‫المقومة فهما بديال لكيفية تبرير المعتقدات‪:‬‬
‫َّ‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬تقدم اإلبيستملوجيا‬
‫يمكن مع توفر شروط مناسبة أن نعتبر أن بعض المعتقدات «أساسية» دون الحاجة‬
‫إلى حجة‪ .‬إذن يمكن للشخص أن يكون مؤهال لإليمان بال ّله إذا كان معتقده أساسيا‬
‫وعند الحاجة يكون قادرا على عرض دفا ٍع ناجح ضد االعترضات التي تُثار ضد هذا‬
‫ٍ‬
‫شكل من أشكال الشر‪ .‬يدعم هذا‬ ‫المعتقد‪ ،‬مثال االعتراض الذي قد ينشأ من وجود‬
‫التوجه بشكل كبير وجهة النظر التي ترى أن العدالة اإللهية غير ضرورية من حيث‬
‫المبدأ‪ ،‬وأن التأليهي ليس ملزما عقالنيا بتقديم نظرية في العدالة اإللهية ليواجه بها‬
‫‪33‬‬
‫الشر‪.‬‬
‫نجد دافعا آخر وراء هذا الدفاع البحت مضمرا في حجة ويكسترا في حدود المعرفة‬
‫البشرية وهي حجة موجهة ضد روي‪ .‬كما أشار روي‪ ،‬فإن صيغة ويكسترا الخاصة من‬
‫التأليهية الممتدة تشدد على وجود فجوة ال حدود لها بين العقل اإللهي الالمتناهي‬
‫والعقل البشري المتناهي‪ ،‬مثل ذلك أننا ال نستطيع أن نأمل معرفة أسباب ال ّله في‬
‫السماح بوجود الشرور الواضحة جدا في عالمنا‪ .‬طالما أن العدالة اإللهية مفهومة على‬
‫أنها ُمهمة تحديد السبب وراء إيجاد ال ّله لشر معين ــ لنقل الشر الذي يستشهد به روي ــ‬
‫إذن سيبدو أن العدالة اإللهية مستحيلة بصورة قبلية‪ 34.‬إذن إذا كانت العدالة اإللهية غير‬
‫ممكنة حتى‪ ،‬ال يتبقى لدى التأليهي ظاهريا سوى القيام بالدفاع الخالص ضد حجج‬
‫الشر المختلفة‪.‬‬
‫ال يتفق الجميع مع فكرة أن العدالة اإللهية ال أمل فيها‪ .‬من الواضح أن التأليهيين‬
‫الكالسيكيين ونقادهم اعتقدوا أن العدالة اإللهية فكرة مناسبة بالفعل‪ ،‬كما هو ظاهر‬

‫المقومة أن الدفاع ضد مسألة‬ ‫َّ‬ ‫‪ 33‬يمكن أن نرى مسبق ًا لم قد يعتقد التأليهي الذي يقبل االبيستملوجيا‬
‫شيء مطلوب عقالني ًا‪ .‬يتقدم الناقد بحجة من الشر ضد االعتقاد بال ّله والتأليهي يدافع‬ ‫ٍ‬ ‫الشر هو كل‬
‫ضدها‪ .‬ولكن ليس على التأليهي أن يشعر أن عليه أن يقدم حجة العتقاده بال ّله‪ .‬بل يمكنه ببساطة أن‬
‫يعتبر االعتقاد بال ّله أساسي ًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫‪ 34‬يلمح بالنتينجا بالفعل إلى شيء يشابه هذه النقطة‪« :‬لعل لدى الله سببا جيدا [للشر]‪ ،‬ولكن‬
‫السبب معقد جد ًا بالنسبة ألفهامنا»‪.Plantinga, God, 10 .‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪232‬‬
‫من خالل وجود العديد من نظريات العدالة التأليهية الكالسيكية ويوازيها العديد من‬
‫االنتقادات لها‪ .‬من أوغسطين (‪ 354‬ــ ‪ )430‬إلى اليبنتز (‪ 1646‬ــ ‪ )1716‬إلى ريتشارد‬
‫سونبورن (و‪ )1934 .‬وصلتنا نظريات في العدالة اإللهية تتصف بغناها وتعقيدها‪ .‬وعلى‬
‫الجانب اآلخر‪ ،‬نجد انتقادات حادة من قبل فولتير (‪ 1694‬ــ ‪ ،)1778‬وهيوم (‪ 1711‬ــ‬
‫‪ )1776‬وشخصية إيفان من رواية دستويفسكي (‪ 1821‬ــ ‪ )1881‬الذي أصبح أحد اآلراء‬
‫الكالسيكية‪ .‬وأبرز نظريتين حديثتين للعدالة اإللهية تعودان لجون هيك (‪ 1922‬ــ ‪)2012‬‬
‫وسوينبورن‪ ،‬وكالهما يفصح عن رؤية تأليهية للكون تتضمن احتماالت الشر واأللم فيه‪،‬‬
‫كما يفضي إلى خلق أشخاص ناضجين أخالقيا وروحيا‪ .‬هذا النوع من وجهات النظر‬
‫‪35‬‬
‫تعرض للنقد الشديد من قبل الفالسفة الالتأليهيين أمثال بول درابر (و‪.)1957 .‬‬
‫بالطبع إن التأليهيين الذي يرون االدعاء بأن «ال ّله موجود» على أنه مرتبط بقوة‬
‫بشبكة كاملة من االدعاءات الالهوتية التي تعكس فهم ًا رفيع ًا للغايات اإللهية يكونون‬
‫أكثر ميال لالعتقاد بصالحية مبدأ العدالة اإللهية‪ .‬بالنظر إلى أن عبارة «ال ّله موجود»‬
‫قد استُثمرت مسبقا مع هذه األشكال المحدودة من الفهم للطبيعة اإللهية وصفاتها‬
‫وغاياتها‪ ،‬فهي تنطوي ضمنا ومسبقا على بعض االتجاهات التي تتخذها العدالة‬
‫اإللهية‪ .‬في النهاية فإن النقطة التي يسجلها روي ضد ويكسترا هي أن ويكسترا ينقل‬
‫بدون قصد بعض االلتزامات الالهوتية اإلضافية إلى فهمه لالدعاء التأليهي المحوري‬
‫الذي من أجله صاغ دفاعه‪ .‬ببساطة نذكر أنفسنا بأن فكرة روي تؤكد على حقيقة أن‬
‫التأليهية القياسية المقيدة ال تمتاز بوجود تصورات غنية ومفيدة حقا لينشأ عنها الكثير‬
‫من نظريات العدالة اإللهية‪ .‬في النهاية ليست التأليهية ديانة حية بل هي مكون اعتقادي‬
‫مهم في النسق اإليماني األكبر لدى بعض األديان الحية‪ .‬من المنطقي االعتقاد إذن‬
‫أن بإمكان صيغة من التأليهية المقيدة أو الصغرى أن تؤدي في أفضل األحوال إلى‬
‫بزوغ نظرية عدالة صغرى‪ .‬وبالمثل من المعقول االعتقاد أن العدالة اإللهية إن كانت‬
‫ستحظى بفرصة لتدافع عن نفسها‪ ،‬وإن كانت ستحظى باألهمية وتصبح مؤثرة فينبغي‬

‫‪35 Paul Draper, «Pain and Pleasure: An Evidential Problem for Theists,» in Dan How-‬‬
‫‪ard - Snyder, ed. The Evidential Argument from Evil (Bloomington, In: Indiana‬‬
‫‪Universirt Press, 1996), 12 - 29.‬‬
‫‪233‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫لها أن تجلب معها كامل مصادر موروثها الديني (عقائده األساسية‪ ،‬نصوصه‪ ،‬بصائر‬
‫وتجارب المجتمع اإليماني خاصته‪ ،‬إلخ‪ .)..‬سواء كان المؤمن المفكر منشغال بنظرية‬
‫العدالة اإللهية للرد على أحد النقاد أو فقط ليتفكر أكثر في معتقداته الدينية‪ ،‬يبدو هذا‬
‫تقييما كامال للمصادر المتنوعة التي يمكن استخراج أفكار العدالة اإللهية منها‪ .‬بل إن‬
‫المجال مفتوح أمام وجود اختالف مهم في التأكيد فيما بين مأثورات دينية بعينها‪ ،‬سواء‬
‫كانت المسيحية أو اليهودية أو اإلسالم‪.‬‬
‫فإن مشروع العدالة اإللهية‬ ‫أمر ٌ‬
‫سهل نسبيا‪ّ ،‬‬ ‫بالرغم من أن توصيف مشروع الدفاع ٌ‬
‫أصعب بعض الشيء‪ .‬المسائل التي تخص طبيعة العدالة اإللهية ونطاقها وأسسها‪،‬‬
‫جميعها مسائل في نطاق ما وراء العدالة اإللهية ‪ .metatheodicy‬يختلف التأليهيون‬
‫فيما بينهم على بعض المسائل الدقيقة‪ ،‬ولدى الالتأليهيين توقعاتهم الخاصة بالنسبة‬
‫للعبء الذي ينبغي للعدالة اإللهية أن تحمله‪ .‬هل العدالة اإللهية معنية باقتراح مجرد‬
‫أسباب ممكنة فقط لسماح ال ّله بوجود الشر أم أنها ملزمة بتقديم تفسيرات معقولة‬
‫للشر؟ هل يقع على التأليهي عبء تقديم األسباب لسماح ال ّله بوجود الشر أو ببساطة‬
‫عليه استنتاج تضمينات من أحد المنظورات الدينية المحددة؟ هل ينبغي للتأليهية أن‬
‫تصور تفسيرا تأليهي ًا عاما ــ لنَ ُقل لجميع طبقات الشر ــ أم ينبغي لها أن تتطرق للحاالت‬
‫الفردية؟ ما الدور الذي تلعبه النظرية األخالقية ــ أو حتى إحساسنا العام بالحياة ــ في‬
‫مناقشة العدالة اإللهية؟ هذه األسئلة وغيرها توفر مادة للمزيد من النقاش حول بنية‬
‫نظرية العدالة اإللهية ودورها‪.‬‬

‫موضوعات في العدالة اإللهية‬


‫إن مراجعة األدبيات المعاصرة والكالسيكية في نظرية العدالة اإللهية تُظهر وجود‬
‫عدد من الموضوعات المتكررة‪ .‬هذه الموضوعات والتي ُيعتقد عموما أنها تنبثق من‬ ‫ٍ‬
‫التزامات تأليهية كالسيكية‪ ،‬غالبا ما تدخل في النقاشات التي تدور حول الشر في‬
‫أوساط غير المشتغلين بالفلسفة أيضا‪ ،‬مما يوحي بأنها تحظى باهتمام واسع ومتواصل‪.‬‬
‫سنركز اهتمامنا على العديد من هذه الموضوعات هنا ألن بعضها يحتوي على أفكار‬
‫مهمة في حين أن غيرها يحتوي على األخطاء‪.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪234‬‬
‫إحدى هذه المقاربات التي تحظى بالرواج في أوساط بعض المتدينين على مستوى‬
‫الثقافة الشعبية هي أن الشر عقاب على ارتكاب المعاصي‪ .‬فمثال عندما يختبر أيوب في‬
‫العهد القديم المعاناة فقد ُأخبر من قبل «المواسين» له بأنه قد أذنب‪ .‬فهم يعتقدون بمبدأ‬
‫أن الكون الذي يسير وفق نظام إلهي عادل‪ ،‬يكافئ ال ّله فيه من هو على الحق (يكافئه‬
‫بالصحة والثروة والذرية) ولكنه يعاقب الشرير (بالمرض وتعثر الحظ والخسران)‪،‬‬
‫ولكن أيوب اعترض لكونه لم يقترف أي خطأ يستحق عليه هذه المعاناة الفظيعة‪.‬‬
‫كان أيوب أشبه بالرائد الديني الذي لديه رؤية للعالم أكثر تعقيدا من أن يستوعبها رد‬
‫ٍ‬
‫متساو وبالتأكيد ال‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫«مواسيه» البسيط‪ ،‬عالم ال تتوزع فيه أعباء ومنافع الحياة‬
‫تتوزع بناء على الميزة أو األفضلية‪ .‬في عالم كهذا ينبغي أن يكون لدى الشخص دافع‬
‫أنقى يدفعه لإليمان بال ّله أكثر من مجرد كسب الثواب أو تجنب العقاب‪ 36.‬إلى جانب‬
‫ذلك فإن نظرية العقاب عندما تُطرح بوصفها نظرية شاملة في العدالة فإنها تنحدر إلى‬
‫العبثية المحضة في حاالت معينة مثل موت األطفال األبرياء أو الهالك المأساوي الذي‬
‫يلحق بسكان قرية بأكملها‪.‬‬
‫إحدى الموضوعات المهمة جدا ولكن المعقدة أيضا والموجهة لتفسير الشر‬
‫نجدها في توظيف االدعاء القائل بأن العالم هو األفضل من بين عدة عوالم ممكنة‪ .‬في‬
‫القرن الثامن عشر انطلق غوتفريد اليبنز من خالل هذا االستدالل‪ :‬إن ال ّله كلي القدرة‬
‫وبذلك فإنه قادر على خلق أي عالم محتمل؛ إذن فإن هذا العالم بشروره البد وأن‬
‫يكون أفضل ما هو ممكن‪ .‬من المثير لالهتمام أن وجود عوالم محتملة تحوي شرا أقل‬
‫أمر ممكن؛ ولكن الثغرة الرئيسية هنا هي أن هذا العالم يحتوي على التوازن األفضل‬
‫ٌ‬
‫بين الخير والشر وذلك متكافئ مع كونه الكون األفضل إجماال‪ .‬من الواضح أن بعض‬
‫الخير يكون ممكنا فقط بوجود الشر (مثال الرحمة تكون ممكنة عند رؤية المعاناة‪،‬‬
‫والصبر عند الشدة)‪ .‬معنى هذا أنه كان على ال ّله أن يزن القيمة الكلية لجميع العوالم‬
‫الممكنة وأن يخلق عالما تكون فيه الشرور مساهمة في جعل هذا العالم أفضل العوالم‪.‬‬
‫يرى اليبنز أن عوالم فيها شر أقل وكذلك عوالم فيها شر أكثر ال تحتوي ببساطة على‬

‫مثال اإلصحاح السابع والثاني عشر من سفر أيوب ترى أن اإلنسان الجيد يعاني أحيان ًا والشرير‬
‫‪ً 36‬‬
‫ينجح‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫الكينونات واألحداث نفسها‪ ،‬متصلة ببعضها بالطريقة نفسها بالضبط التي تجعل هذا‬
‫‪37‬‬
‫العالم األفضل‪.‬‬
‫نقاش يدعمها‪ ،‬فإن مسائل عديدة تبرز‬‫ٍ‬ ‫بالرغم من أن نظرية أفضل العوالم تدعو إلى‬
‫على السطح مباشرة‪ .‬أوال مفهوم أفضل عالم ممكن قد يكون غير متسق منطقي ًا‪ ،‬تمام ًا‬
‫كمفهوم أعلى عدد صحيح ممكن هو مفهوم غير متسق منطقيا أيضا‪ .‬ببساطة ال توجد‬
‫لم علينا التفكير بوجود عالم هو األفضل؟ ثانيا يبدو‬
‫نهاية لنظام األعداد الصحيحة‪ ،‬إذن َ‬
‫أن منهج اليبنز يشير ضمنا إلى فكرة أن عالمنا غير قابل للتحسين‪ ،‬وهو تضمين يتناقض‬
‫مع أحكامنا األخالقية االعتيادية‪ .‬المسألة الثالثة ولعلها األكثر أهمية تتعلق بالسؤال عن‬
‫السبب وراء اختيار ال ّله الخ ّير أن يخلق عالما أصال‪ ،‬بالنظر إلى أنه سيحتوي هذا القدر‬
‫لم خلق ال ّله هذا العالم إن لم يكن بمقدوره‬
‫من المعاناة‪ .‬ولو صغنا األمر بطريقة أخرى‪َ ،‬‬
‫خلق عالم أفضل؟ في األخوة كارمازوف‪ ،‬يتلو إيفان كارمازوف مجموعة من الشواهد‬
‫التي تتضمن حاالت تعذيب وقتل ألطفال صغار وذلك على مسامع أخيه أليوشا الذي‬
‫كان راهبا مبتدئا انخرط لتوه في الكنيسة الروسية األرثوذكسية ثم انطلق إلى العالم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سؤال دقيق‪« :‬لو أنك ال ّله هل كنت ستوافق على خلق العالم الحالي‬ ‫بعدها يقوم بتمرير‬
‫إذا علمت أن خلقه ال يقوم إال على الدموع التي ال فدية لها لطفل واحد معذب يبكي‬
‫مستنجدا‪« :‬يا إلهي الرحيم!» يصمت أليوشا للحظة ثم يجيب‪« ،‬كال لن أوافق»‪ .‬هذه‬
‫‪38‬‬
‫اإلجابة الضمنية تعني أن كائنا يتصف بالخير األخالقي لن يخلق عالما كهذا إطالقا‪.‬‬
‫نوع آخر من الموضوعات في العدالة اإللهية هو حل االنسجام المطلق‪ ،‬والذي‬
‫ٍ‬
‫شيء جيد في العالم من منظور ال ّله‪.‬‬ ‫يمكن تقسيمه إلى موقفين متمايزين‪ :‬أوال‪ ،‬كل‬
‫شيء سيكون جيدا على المدى الطويل‪ .‬يمكن تعزيز الموقف األول بإحدى‬ ‫ٍ‬ ‫ثانيا‪ ،‬كل‬
‫صفتين منسوبتين إلى األلوهية‪ ،‬األولى هي صفة العالِم بكل شيء‪ ،‬أي علم ال ّله‬

‫‪37 Leibniz, Theodicy, tr. E. M. Huggard (Chicago: Open Court, 1988).‬‬


‫‪ 38‬هذه المواجهة بين إيفان وأليوشا تُعد واحدة من أرقى المشاهد األدبية العالمية وتستحق القراءة‬
‫المتأنية‪.‬‬
‫‪Fyodor Dostoevsky, The Brothers Karamzove, tr. Constance Garnett (New York:‬‬
‫‪Norton, 1976), Book Five, «Pro and Contra,» Chapters 3 - 5. The quote from Alyo-‬‬
‫‪sha is on p. 226.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪236‬‬
‫الكامل‪ .‬ألن علم ال ّله بالعالم علم تا ٌم في حين أن علم البشر محدود وجزئي‪ ،‬يكون‬
‫الحكم اإللهي على حالة األشياء هو الحكم الوحيد الصادق‪ .‬فالوتر الموسيقي عندما‬
‫ُيسمع لوحده يبدو منفرا‪ ،‬ولكن عند سماعه في سياق أكبر يبدو أكثر انسجاما‪ .‬القياس‬
‫هنا إذن هو أن ال ّله وحده يرى كيف يتشكل مجموع األحداث في العالم بطريقة مناسبة‪،‬‬
‫في حين أن البشر لضآلتهم ال يستطيعون إدراك ذلك‪ .‬هذه المقاربة والتي طالما ظهرت‬
‫على السطح عبر القرون في الردود الدينية تعكس بوضوح كثيرا مما جاء في الدفاع‬
‫اإللهي الشكوكي الجديد الذي نظرنا فيه مسبقا‪ .‬وكما أشرنا سابقا‪ ،‬من المؤسف أن‬
‫هذه المقاربة تطرح جانبا وبشكل كبير كل األحكام األخالقية لدى البشر وتثبطها‪ ،‬ذلك‬
‫ألنها أحكام تصدر دائما من المنظور البشري المتناهي‪ .‬بالرغم من أن التأليهية المقيدة‬
‫تستلزم السمو اإللهي على العلم البشري‪ ،‬تتضمن أشكال متنوعة من التأليهية الممتدة‬
‫أساليب يمكن من خاللها تتبع العالقة الدقيقة بين العلم الالمتناهي والمتناهي‪ .‬وكما‬
‫أشرنا سابقا‪ ،‬تنكر بعض أشكال التأليهية المسيحية الفصل الشديد بين العلم البشري‬
‫واإللهي وتؤكد على أن البشر المتناهين هم مخلوقات على صورة ال ّله ويمكنهم إصدار‬
‫أحكام أخالقية موثوقة ومعقولة‪.‬‬
‫الصفة اإللهية األخرى التي تقوم عليها هذه المقاربة هي صفة الكمال األخالقي‬
‫عند ال ّله‪ .‬هذا المسار في الفكر يؤكد على فكرة أن أخالق ال ّله أعلى من أخالق البشر‪،‬‬
‫لذا حتى لو استطعنا نحن البشر رؤية أحداث العالم في سياق كلي‪ ،‬فإننا لن نطبق‬
‫المعيار األخالقي الكامل ذاته الذي يطبقه ال ّله في تقييمها‪ .‬إن التأليهيين الذين يتخذون‬
‫هذا المسلك يظنون أنه يخفف من االعتراضات الموجهة إلى اإليمان بال ّله وهي‬
‫اعتراضات مبنية على ما يبدو أنها شرور غير مبررة وعديمة المعنى‪ .‬يشير هذا الموقف‬
‫ضمنا وفي أقوى أشكاله إلى أن سبل ال ّله «أرفع بكثير من سبلنا»‪39‬حتى أن كل شيء في‬
‫العالم مقبول أخالقي ًا لدى ال ّله‪ ،‬بالرغم من أنه ال يحظى بقبول العديد من البشر ممن‬

‫‪ 39‬جاء في سفر إشعياء ‪ 8 :55‬ــ ‪( 9‬نسخة الملك جيمس)‪« :‬ألن أفكاري ليست أفكاركم‪ ،‬وال طرقكم‬
‫طرقي‪ ،‬يقول الرب ألنه كما علت السماوات عن األرض‪ ،‬هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري‬
‫عن أفكاركم» ولكن وعلى ضوء المسيحية األرثوذكسية المسكونية فإن أفضل تفسير لهذا النص‬
‫ليس بمعنى أن غايات ال ّله مختلفة جذري ًا عن أي شيء بوسعنا أن نفهمه‪ ،‬وأن المعايير الخلقية اإللهية‬
‫منقطعة تمام ًا عن المعايير البشرية‪.‬‬
‫‪237‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫يتسمون بالحساسية األخالقية‪ .‬من الواضح أن هذا الموقف يقلل من جديد من أهمية‬
‫أحكام البشر األخالقية بإضمار أنه البد وأن تكون هذه األحكام خاطئة على مستوى‬
‫النسق‪ .‬يرى النقاد الالتأليهيين وهم على قناعة بذلك أنه وبعد إخضاع مفهوم األخالق‬
‫ٌ‬
‫أخالق كهذه‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫اإللهية العليا للتحليل يصبح بال معنى ألننا لن نعرف ما تعنيه‬
‫كيف يمكن لهذا المفهوم أن يعزز رد التأليهية على مسألة الشر‪.‬‬
‫وفي استنكار صريح جد ًا لهذا الموقف التأليهي يقول جون ستوارت ميل (‪ 1806‬ــ‬
‫‪ )1873‬أن هذا الموقف يجعل من ال ّله وحشا أخالقيا‪ ،‬وحشا لديه معايير ال تتوافق أبدا‬
‫مع أعمق قناعاتنا األخالقية‪:‬‬
‫في الحياة اليومية أعرف ما هو صحيح وما هو خاطئ‪ ،‬ألن بوسعي بسهولة أن أرى‬
‫صحة الشيء أو خطأه‪ .‬اآلن إن كان ال ّله يطالبني بأن أعتبر صوابا ما أدعوه في األحوال‬
‫االعتيادية خطأ في السلوك البشري ألنه هو يقوم بهذا السلوك‪ ،‬أو يدعوني ألقول‬
‫بصواب ما أدعوه خطأ في األحوال االعتيادية فقط ألنه يدعوه بذلك‪ ،‬حتى وأنا ال أرى‬
‫القصد من وراء ذلك؛ وإن كان سيحكم علي بالجحيم إن رفضت ذلك‪ ،‬فإني ذاهب‬
‫‪40‬‬
‫للجحيم بكل سرور‪.‬‬
‫إن التأليهيين الذين يدركون قوة هذه االنتقادات والذين يفهمون أن موروثهم الديني‬
‫الخاص يؤكد على الرابط بين األخالق البشرية والتأليهية ال يعتمدون في ذلك على‬
‫موضوعة األخالق العليا‪ .‬في حين أنهم يؤكدون على كمال األخالق اإللهية‪ ،‬إال أنهم‬
‫ال يصرون على الفصل التام بين المعايير األخالقية البشرية والتأليهية‪ .‬في الواقع‪ ،‬يرى‬
‫هؤالء معقولية الطبيعة الخطاءة ألحكامنا األخالقية البشرية على أنها تعطي زخما‬
‫لمشكلة الشر في المقام األول‪.‬‬
‫المقاربة الثانية ــ مقاربة األمور بخواتيمها ــ ال تدعي أن جميع الشرور مرتبطة في‬
‫الوقت الحاضر بخير أعظم‪ .‬تؤكد هذه المقاربة بدال من ذلك على أن كل الشرور‬
‫ستنتج في النهاية خيرا أعظم‪ ،‬سواء في الحياة الزائلة أو الحياة اآلخرة‪ .‬بالرغم من أن‬

‫‪40 John Stuart Mill, selection from An Examination of Sir William Hamilton’s Phi-‬‬
‫‪losophy included as an appendix in Richard Taylor, ed. Theism (New York: The‬‬
‫‪Liberal Arts Press, 1957), 89 - 96.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪238‬‬
‫العديد من االنتقادات الموجهة للموقف الذي يقول أن األمور كلها بخير من منظور‬
‫ال ّله‪ ،‬تنطبق أيضا على مقاربة األمور بخواتيمها‪ ،‬توجد مسائل أخرى مهمة أيضا‪ .‬أوال‪،‬‬
‫خير أعظم مستقبلي ترتبط به الشرور الحالية‪ ،‬فال يبدو‬
‫في حين قد يوجد (أو ال يوجد) ٌ‬
‫واضحا كيف يمكن لهذا الخير األعظم أن يبرر حدوث هذه الشرور في الوقت الحالي‪.‬‬
‫نمى بداخلها دوافع‬
‫على سبيل المثال كيف يمكن لحقيقة أن ُيت َْم طفلة في صغرها قد ّ‬
‫إنسانية قوية لتصبح جراحة عظيمة في إحدى بلدان الدول النامية‪ ،‬كيف لهذا أن يبرر‬
‫أخالقيا موت أبويها على يد مجرمين قتلة؟ أو كيف يمكن للسعادة والغبطة الموعودة‬
‫في الجنة أن تبرر معاناة األلم الشديد لمريض بالسرطان في الحياة الدنيا؟ إن األمر أشبه‬
‫تماما بالقفزة التصورية من فكرة الخير الذي يرجح على الشر إلى فكرة خير َيج ُب ُر الشر‬
‫وقفزة كبيرة جد ًا إلى فكرة الخير الذي يبرر وجود الشر‪ .‬في ضوء هذه الصعوبات فإن‬
‫العديد من أنصار فكرة األمور بخواتيمها يقولون ببساطة إننا نحن البشر ومع قدرتنا‬
‫المحدودة ال نعلم كيف يمكن للخير المستقبلي أن َيج ُب َر الشرور الحالية ولكن حكمة‬
‫ال ّله المستغلقة علينا تعلم ذلك‪ .‬على أقل تقدير‪ ،‬هنالك حاجة لوجود نقاش أكثر جدية‬
‫لنوع النظرية األخالقية التي تستند عليها هذه المسألة قبل أن يكون بإمكاننا أن نفهم ما‬
‫يعنيه أن يج ُبر خير أعظم الشر أو أن يبرر الخير وجود الشر‪.‬‬
‫إن الموضوعات السابقة وجدت طريقها إلى بعض نظريات العدالة المطروحة‬
‫للتخفيف من المسألة الفلسفية فيما يخص الشرور في العالم‪ .‬إال أنه من المفيد عند‬
‫هذه النقطة النظر إلى موضوعة تتطرق خصوصا لمسألة الشر الطبيعي‪ .‬لعل أهم‬
‫الحلول لمسألة الشر الطبيعي هي ما ُيعرف بتفسير القانون الطبيعي‪ ،‬والذي يدعي أن‬
‫ٌ‬
‫مكون‬ ‫كجزء من مخططه َ‬
‫الخلقي‪ .‬والنظام الطبيعي عالم‬ ‫ٍ‬ ‫ال ّله وضع النظام الطبيعي‬
‫من أشياء تسلك سلوكا يتفق مع القوانين الطبيعية‪ .‬إن عمل القوانين الطبيعية بجميع‬
‫أنواعها إذن يجعل مجموعة من المنافع الطبيعية ممكنة‪ ،‬مثل اإلحساس الفسيلوجي‬
‫بالمتعة أو حتى اإلنذار وقت الشعور باأللم‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن وجود نظام طبيعي‬
‫ثابت ويمكن التنبؤ به عام ًة يدعم وجود نظام أخالقي يوجد فيه مكان لالختيار والتأمل‬
‫العقالني‪ ،‬وحيث يمكن لالختيارات الحرة أن تتحقق بالعمل‪ .‬ولكن احتمالية حدوث‬
‫الشر الطبيعي جوهرية في النظام الطبيعي‪ ،‬إن الماء الذي يروي عطشنا هو نفس الماء‬
‫‪239‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫الذي يمكن أن يتسبب بغرقنا؛ وإن نفس الخاليا العصبية التي تنقل اإلحساس بالمتعة‬
‫يمكنها أيضا أن تنقل إحساس األلم الشديد الذي ال يطاق‪.‬‬
‫إن نقاد نظرية العدالة اإللهية المرتبطة بالقانون الطبيعي‪ ،‬أمثال مكلوسكي (و‪.‬‬
‫‪ ،)1925‬يجادلون في أن ال ّله بإمكانه أن يقلل كثير ًا من الشرور الطبيعية أو يزيلها‪ ،‬إما‬
‫ٍ‬
‫مختلف‬ ‫بالتدخل اإلعجازي في النظام الطبيعي الحالي أو من خالل خلق نظام طبيعي‬
‫بالكامل‪ 41.‬يشير بعض التأليهيين أمثال ريتشارد سوينبورن‪ ،‬إلى الصعوبات التي تأتي مع‬
‫أي من هذه المقترحات البديلة‪ .‬أحد األسباب أن فكرة التدخل اإللهي المتكرر تتناقض‬
‫قادر على كل شيء‬ ‫‪42‬‬ ‫مع ٍ‬
‫كل من الصفات الكلية ل ّله ومفهوم النظام الطبيعي‪ .‬فلو أن ال ّله ٌ‬
‫وعالم بكل شيء‪ ،‬فسيخلق نظاما طبيعيا لن يكون عليه التدخل فيه بصورة متكررة؛‬
‫ٌ‬
‫وإن كان يتصف بكمال الخير فإنه سيخلق نظاما طبيعيا خ ّيرا بالكامل‪ .‬باإلضافة إلى أن‬
‫مفهوم النظام الطبيعي في ذاته يشير ضمنا إلى أنه ال يخضع للتعديل بصورة متكررة من‬
‫خارج النظام‪ ،‬وأن هذا النظام يجري بنفسه وس َيب ُطل بالتدخل اإللهي المستمر‪ .‬عنصر‬
‫آخر في هذا النقاش هو االدعاء اإللهي المضاد على حجة النقاد بأن الناقد ال يمكنه أن‬
‫‪43‬‬
‫يتصور‪ ،‬مع ما يتطلبه ذلك من التعقيد والدقة‪ ،‬شكل النظام الطبيعي األفضل‪.‬‬
‫اآلن ينبغي علينا النظر في موضوعة أخرى في العدالة اإللهية مصممة بخاصة‬
‫لمسألة الشر األخالقي‪ ،‬وهي مسأل ٌة نجد التعبير عنها على كال المستويين األكاديمي‬
‫والشعبي أيضا‪ .‬من الواضح أن موضوعة اإلرادة الحرة تسبق دفاع بالنتينجا الشهير‬
‫عن اإلرادة الحرة وقد وظفت فعال كجزء في العديد من نظريات العدالة التقليدية‪ .‬كما‬
‫الحظنا فإن مناورة بالنتينجا الدفاعية تستند على االدعاء بأنه من الممكن أن يكون ال ّله‬
‫قد خلق أشخاصا يمتلكون اإلرادة الحرة واختاروا الشر األخالقي‪ .‬على العكس من‬
‫ذلك فإن نظرية العدالة المرتبطة باإلرادة الحرة تتسم بالمباشرة أكثر في تأكيدها على‬

‫‪41 H. J. McCloskey, «God and Evil,» Philosophical Quarterly 10: 39 (1960), 97 - 114.‬‬
‫‪42 Richard Swinburne, «Natural Evil,» American Philosophical Quarterly 15:4 (Oct.‬‬
‫‪1978), 295 - 301. Also see Bruce Reichenbach, Evil and a Good God (New York:‬‬
‫‪Fordham Universirty Press, 1982), Chapter5.‬‬
‫‪43 Reichenbach, Evil, Chapter 4.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪240‬‬
‫اإلرادة الحرة‪ :‬إن القول بأن ال ّله خلق كائنات تتمتع بقدر كبير من الحرية واتخذت‬
‫صادق أيض ًا‪ .‬بالرغم من أن ال ّله علم بأن‬
‫ٌ‬ ‫أمر ممكن بل هو‬‫مسلك ًا خاطئ ًا‪ ،‬ليس مجرد ٍ‬
‫المخلوقات الحرة أخالقي ًا قد ترتكب الشر عن قصد إال أنه منحها اإلرادة الحرة ألن‬
‫عالما يحوي مخلوقات مع نطاق معقول من االختيار الحر هو عالم أكثر قيمة من آخر‬
‫يحتوي كائنات آلية‪ .‬يمثل هذا السيناريو عنصرا مهما جدا في الرؤية التأليهية التي تنظر‬
‫إلى عظمة وخطورة أن نكون بشرا‪.‬‬
‫يقترح النقاد الالتأليهيون عددا من الطرق التي تحتاج فيها مناورة اإلرادة الحرة‬
‫إلى المزيد من التبرير‪ .‬أحد األسباب هو أنهم يطلبون أسبابا لقبول الرؤية الالتوافقية‬
‫لإلرادة الحرة مع األخذ باالعتبار تفسير الشر‪ 44.‬فهنالك وجهات نظر توافقية عديدة‬
‫حول طبيعة اإلرادة الحرة‪ .‬حتى بعض النقاد الذين لديهم نية االعتراف باالفتراض‬
‫الالتوافقي يجادلون ببساطة فكرة أنه كان من الممكن أن يخلق ال ّله بشرا أحرارا مع‬
‫ميول قوية باتجاه السلوك الصحيح أقوى من الميول التي لديهم بالفعل‪ .‬من المؤكد أن‬
‫فعل ذلك كان سيقلل الكثير من الشر الذي يحدث بسبب سوء استخدام اإلرادة الحرة‪.‬‬
‫يرد التأليهيون إجماال بأن ال ّله خلق البشر ولديهم ميل باتجاه الخير يكون في أقصى‬
‫شكل من أشكال القوة الممكنة ويحافظ على اتساقه مع حرية االختيار‪ .‬يتحدى النقاد‬
‫فكرة أن حركة كهذه قد تبدو مخصصة وأنه ال يوجد سبب لالعتقاد بأن األمر على هذه‬
‫الشاكلة‪ .‬لذا فإن النقاش يبقى مستمرا‪.‬‬
‫بإمكاننا تحديد الكثير من الردود على مسألة الشر‪ ،‬ولكن معظمها إما ذو أهمية‬
‫هامشية أو الأهمية له بالنسبة للتأليهية المقيدة أو بالنسبة للصيغ الكبرى من التأليهية‬
‫الممتدة‪ :‬الشر باعتباره وهما‪ ،‬الشر باعتباره عنصرا عبثيا جوهريا في واقع الخلق‪،‬‬
‫األرواح الشيطانية بوصفها مسببة للشر‪ ،‬وهكذا‪ .‬في الواقع أنه عندما طرحت ردود‬
‫كهذه واجهت الدحض والتحليل الصارم من النقاد‪.‬‬

‫‪44 See for example, Anthony Flew, «Divine Omnipotence and Human Freedom,» in‬‬
‫‪A. Flew and A. MacIntyre, eds., New Essays in Philosophical Theology (New York:‬‬
‫»‪Macmillan, 1955), 144 - 169. Also see Flew, «Compatibilism, Free Will and God,‬‬
‫‪Philosophy 48 (July 1973), 231 - 244.‬‬
‫‪241‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫بعض النظريات العالمية المهمة في العدالة اإللهية‬


‫باإلضافة إلى تحديد بعض الموضوعات الخاصة التي تتطرق لمسألة الشر بوسعنا‬
‫تحديد تفسيرات أوسع وأكثر اكتماال وهي تجمع موضوعات متنوعة ومنتقاة في نسيج‬
‫واحد أشمل‪ .‬هذه التفسيرات الشاملة ــ أو نظريات العدالة اإللهية العالمية ــ تفصح‬‫ٍ‬
‫بصورة عامة عن رؤية ممنهجة لطرق ال ّله في الكون‪ .‬ثالثة من هذه النظريات أصبحت‬
‫بالغة األهمية في أدبيات الشر وهي جديرة بالدراسة المتأنية‪ :‬نظرية العدالة اإللهية عند‬
‫أوغسطين‪ ،‬نظرية العدالة اإللهية عند إيرينيوس والعدالة اإللهية في الصيرورة اإللهية‪.‬‬
‫العدالة اإللهية عند أوغسطين وهي أول النظريات وأكثرها شيوعا تعود إلى عالم‬
‫الالهوت والفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين (‪ 354‬ــ ‪ 430‬م)‪ .‬طرح أوغسطين‬
‫تأويال مسيحيا وتأليهيا للواقع يجمع بين خيوط فكرية متعددة‪ .‬إحدى أفكار أوغسطين‬
‫كانت أن الكون ــ أي جميع خلق ال ّله ــ يتصف بطبيعة خيرة‪ .‬ال ّله يخلق الخير فقط؛‬
‫وبذلك فإن كل مخلوق بدون استثناء خ ّير في جوهره‪ .‬والشر إذن ليس شيئ ًا‪ ،‬ال يمثل‬
‫كيانا؛ ال شيء في الوجود يعتبر شرا في جوهره‪ .‬من الناحية الميتافيزيقية ال يمثل الشر‬
‫الجانب اإليجابي ألي شيء؛ بل هو افتقار للخير‪ ،‬نقصان في الخير‪ 45.‬على العكس‬
‫من ال ّله ذي الطبيعة األزلية والالمتغيرة فإن الكون ُخلق من العدم (‪ )ex nihlio‬وهو‬
‫متحول أو قابل للتغيير‪ .‬بالنسبة ألوغسطين يفسر ذلك كيف أن الخير األصيل في هذا‬
‫الكون قابل للفساد وبذلك يظهر فيه الشر‪ 46.‬إن األمر بالتحديد يتعلق بإساءة استخدام‬
‫اإلرادة الحرة التي تفسح المجال لآلثام أو الشر في التجربة اإلنسانية‪ .‬إن فهم أوغسطين‬
‫للعقيدة المسيحية في سقوط آدم هو أنها تحدد كيف أن الخلق الكامل األصيل ثار في‬
‫وجه ال ّله وذلك من خالل االنتهاك الذي قام به آدم‪ .‬يواصل أوغسطين استكشافه ليصل‬
‫إلى الكيفية التي جلبت بها هذه الخطيئة األولى الذنب والعقاب على الجنس البشري‬
‫كله‪ ،‬وكيف أن المؤمنين سيحصلون على خالصهم بالرحمة اإللهية‪ ،‬وكيف أن تاريخ‬
‫ّ ‪47‬‬
‫البشر نفسه سيبلغ ذروته في تأسيس مملكة الله‪.‬‬

‫‪45 Augustine, Enchiridion, i. 8, 7.‬‬


‫‪46 Augustine, City of God, xii, 1,6.‬‬
‫‪47 Augustine, Confession, City of God, Enchiridion.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪242‬‬
‫من الواضح أن العدالة اإللهية من منظور أوغسطين قد هيمنت على الخيال‬
‫الجمعي للمسيحية الغربية منذ القرن الخامس للميالد فصاعدا وال تزال تمثل خلفية‬
‫للعديد من الردود المسيحية على مسألة الشر اليوم‪ .‬إال أنها كانت عرضة لقدر كبير من‬
‫التدقيق‪ .‬على سبيل المثال اتهم النقا ُد أوغسطين بالفشل في حل المفارقة التي يثيرها‬
‫الشر عندما ُيوضع إلى جانب رأيه القوي في سلطان ال ّله‪ .‬ولعل أكثر األسئلة المثيرة‬
‫للسخط هو كيف يمكن وفقا لتفسير أوغسطين‪ ،‬لمخلوق خ ّير في أصله وحر‪ ،‬خاضع‬
‫للسلطان اإللهي أن يرتكب خطيئة‪ .‬إن كان البشر قد تمتعوا يوما بحالة مثالية أو «بعصر‬
‫ذهبي» حيث ال وجود للشر‪ ،‬كيف إذن يختارون فعل الشر؟ من المعروف في النهاية أن‬
‫‪48‬‬
‫أوغسطين تراجع إلى فكرة «غموض الحرية المتناهية»‪.‬‬
‫يمكن تتبع مقاربة بديلة في العدالة اإللهية لدى األب إيرينيوس (حوالي ‪ 130‬ــ‬
‫‪ 202‬م) وهو من المفكرين الكبار في العصور المسيحية المشرقية األولى وتعكس‬
‫أعماله بعضا من التأثير اإلغريقي وهو يتميز عن الفكر الذي نجده لدى أوغسطين وآباء‬
‫الكنيسة الغربية‪ .‬جون هيك‪ ،‬وهو من المؤيدين المعاصرين لتفسير إيرينيوس لنظرية‬
‫العدالة اإللهية‪ ،‬يفسر لنا بأن آدم والخلق األصلي كانوا أبرياء وغير ناضجين ولكن‬
‫ُعرضت عليهم فرصة أن يصبحوا أخيارا من خالل حب ال ّله والمخلوقات األخرى‪.‬‬
‫ولكن من الخطأ االعتقاد بأن البراءة األصلية يمكن أن تتساوى مع الكمال األصلي‪ .‬في‬
‫الواقع ليس واضحا ما إن كان بوسع ال ّله أن يخلق على الفور أشخاصا يتمتعون بالنضج‬
‫األخالقي‪ ،‬وذلك ألن النضج األخالقي يتطلب يقينا خوض تجربة مواجهة المغريات‬
‫ولفترة من الزمن‪ ،‬ويرى البعض أنها تتطلب أيضا مشاركة فعلية في الشر‪ .‬ومن هنا فإن‬
‫الشر كما نعرفه ينبغي أن ُيفسر ال على أنه انحدار من حالة النقاء والخير األصيلين بل‬
‫على أنه مرحلة حتمية في التطور التدريجي للجنس البشري‪.‬‬
‫ُيطلق على مقاربة هيك المتصلة بإيرينيوس‪ ،‬نظرية بناء الروح ألنه يصور مخطط ال ّله‬
‫العظيم على أنه يهدف لمساعدة البشر حتى يحققوا النضج األخالقي والروحي‪ .‬بنا ًء على‬
‫هذا الرأي فإن بيئ ًة من نو ٍع خاص هي المطلوبة لهذه العملية برمتها‪ .‬إن بيئة كهذه تساعد‬

‫‪48 Augustine, On Free will, III. Xvii. .‬‬


‫‪243‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫على النمو الشخصي ينبغي أن تتضمن تحديات حقيقية وفرصا حقيقية إلظهار الفضائل‬
‫ٍ‬
‫واحتماالت حقيقية للتعبير عن اإليمان‪ .‬أحد المكونات الرئيسية لهذه البيئة‬ ‫األخالقية‪،‬‬
‫هو وجود مجتمع من الفاعلين األخالقيين الذين يتفاعلون بطرق خاصة وحتى في نظام‬
‫طبيعي من األشياء الالشخصية والتي تعمل بصورة مستقلة عن إرادتنا‪ .‬من الواضح أن‬
‫ظروف ًا مماثلة تعني مخاطرة حقيقية بوجود الشر‪ ،‬وكذلك وجود الفشل والدمار والمعاناة‬
‫والظلم‪ .‬من المثير لالهتمام أن هيك يعتقد أن مظهر العالم الذي يجعله يبدو مكانا يخلو‬
‫من ال ّله أمر مهم‪ ،‬والشر بالتأكيد يلعب دورا مهما في خلق هذا المظهر‪ .‬بالنسبة لهيك‬
‫فإن المظهر اإللحادي الكامن للعالم يخلق «مسافة إبيستملوجية» بين الخلق والخالق‪،‬‬
‫مفسحا بذلك المجال لظهور اإليمان والثقة الحقيقيين بال ّله‪ .‬إن هذه النقطة تتصل بالفعل‬
‫بمسائل سكون ال ّله والغموض الديني للحياة والتي ناقشناها في الفصل األول‪.‬‬
‫بالنسبة للعدالة اإللهية عند إيرينيوس فإن خطة ال ّله المطلقة هي في الخالص‬
‫الكوني لجميع البشر‪ ،‬للذين يتركون الحياة الفانية دون تحقيق الدرجة المناسبة من‬
‫النضج األخالقي مهما كانت األسباب التي أدت بهم إلى ذلك‪ ،‬فإن ال ّله يسعى لهذا‬
‫الهدف ذاته من أجلهم في الحياة القادمة‪ ،‬ويمنحهم فرصا إلظهار الحب والثقة إلى أن‬
‫تصبح عالقة األشخاص جميعهم عالقة جيدة مع ال ّله‪ .‬هذا التأكيد على المثابرة اإللهية‬
‫‪49‬‬
‫متمم للتوجه األخروي والتطوري والمستمر في العدالة اإللهية لدى إيرينيوس‪.‬‬
‫ٌ‬
‫إن صيغة هيك المعروفة من العدالة اإللهية لدى إيرينيوس تشتمل على عناصر‬
‫من عدة تفسيرات كاإلرادة الحرة‪ ،‬والقانون الطبيعي وبناء الشخصية‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫موضوعات خاصة نجدها تحديدا عند هيك‪ .‬تعرضت الكثير من االنتقادات لجوانب‬
‫مختلفة من وجهة نظر هيك‪ .‬على سبيل المثال جادل جاي ستانلي كاين (‪ 1938‬ــ‬
‫ال إن «المسافة اإلبيستملوجية» التي يطالب بها هيك بين اإلنسانية وال ّله‬
‫‪ )2010‬قائ ً‬
‫لغرض إتاحة المجال أمام توكيد اإليمان يمكن تحقيقها بمقابل أقل من هذا‪ 50.‬ال‬

‫‪ 49‬لغرض الطريقة المحددة التي استنبط بها جون هيك هذا النوع من العدل اإللهي األرينوسي‪see his ،‬‬
‫‪Evil, Parts 3 and 4.‬‬
‫‪50 G. Stanley Kane, «The Failure of Soul_Making Theodicy,» International Journal for‬‬
‫‪Philosophy of Religion 6 (1975), 1 - 22.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪244‬‬
‫يبدو أن العديد من الشرور األخالقية والطبيعية ضرورية إلضفاء مظهر غياب ال ّله‪ ،‬ألنه‬
‫طرق أخرى يستطيع ال ّله بها أن يخفي وجوده‪.‬‬
‫وبالتأكيد توجد ٌ‬
‫ويرى النقاد أيضا أن وجهة نظر هيك تفتقر إلى ما يدعمها تجريبيا في ادعائها‬
‫الرئيسي‪ :‬وهو أن العالم في خضم عملية بناء للروح‪ .‬إن في الحياة الزائلة ما يكفي من‬
‫الخيبات لوحدها لتؤدي إلى الشك فيما إذا كان برنامج إعداد الروح موجودا بالفعل‪.‬‬
‫من المؤكد أن هنالك العديد من الناس ممن تحطمت شخصياتهم ولم تتطور مما يثير‬
‫المفكرين من الناس وقد يتسائلون حول فعالية أو حتى وجود عملية بناء الروح هذه‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن العديد من النقاد يتساءلون حول ما إن كان الهدف من بناء الروح‪ ،‬حتى‬
‫ولو تحقق في العديد من الحاالت‪ ،‬بإمكانه أصال تبرير الوسائل المستخدمة لتحقيقه‬
‫(مثل‪ ،‬المصائب والمعاناة واألزمات العظيمة)‪ .‬فكلنا سمعنا عن األشخاص الذين‬
‫أصبحوا أمثلة مضيئة للفعل اإلنساني أو الشجاعة األخالقية‪ ،‬ولكن الكثير منهم اضطر‬
‫إلى أن يواجه خسارة أحد أفراد العائلة أو اضطر إلى تحمل آالم شديدة وعلى فترات‬
‫طويلة‪ .‬في الرد على هذه النقطة األخيرة‪ ،‬يشير هيك إلى أنه ينبغي على كل شخص أن‬
‫يقرر بصورة نهائية ما إن كان يعتقد بأن عملية بناء الروح تستحق كل ذلك‪.‬‬
‫أما نظرية العدالة في الصيرورة اإللهية فهي التفسير األكبر الثالث للشر الذي ينبغي أن‬
‫نبحث فيه‪ .‬إن فلسفة الصيرورة اإللهية والتي نجد دفاع ًا عنها في مؤلفات ألفريد نورث‬
‫وايتهيد (‪ 1861‬ــ ‪ ،)1947‬تعدل على الصفات الكالسيكية لأللوهية في التأليهية وبذلك‬
‫تنشئ نوعا مميزا من العدالة اإللهية حظي باهتمام كبير في أوساط علماء الالهوت‬
‫ٍ‬
‫بشكل عام تقوم على وجهة نظر أن الواقع‬ ‫والفالسفة المعاصرين‪ .‬إن الصيرورة اإللهية‬
‫صيرورة أكثر منه كينونة‪ ،‬ما يعني َقلبا للمنهج التقليدي‪ .‬ليس من المفاجئ إذن أن يكون‬
‫الموضوع الرئيسي للعدالة في الصيرورة اإللهية هو مفهوم التغير والنمو والتطور فيما‬
‫يخص ال ّله والكائنات المتناهية معا‪ .‬تعد المخلوقات محورا واعيا ومتغيرا باستمرار‬
‫في نطاق التجربة والفعل‪ .‬بالنسبة للمفكر في الصيرورة اإللهية فال ّله ذو طبيعتين‪ ،‬طبيعة‬
‫أولية وأخرى الحقة‪ .‬تشتمل طبيعة ال ّله األولية على جميع االحتماالت األزلية لكيفية‬
‫تقدم عالم الخلق‪ ،‬أما طبيعته الالحقة فتتضمن تجارب المخلوقات واستجابتها وهي‬
‫تقوم بعملية اختيار تجعل من هذه االحتماالت واقعا في حياتهم‪ .‬وبما أن طبيعة ال ّله‬
‫‪245‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫الالحقة تتغير استجابة لألحداث في عالم الخلق‪ ،‬فيمكن القول إن ال ّله أيضا يتغير أو‬
‫في طور التغير‪ .‬هذا التصوير للصيرورة اإللهية بالنسبة للشر يتالئم مع النقاش حولها‬
‫بالنسبة لمواضيع أخرى في الكتاب‪ ،‬كما في الفصول ‪ 7‬و‪ 8‬و‪.13‬‬
‫إن العدالة في الصيرورة اإللهية تستند مباشرة على رفض المفهوم الكالسيكي‬
‫قاصر وملي ٌء بالمغالطات‪ .‬ينكر‬
‫ٌ‬ ‫لقدرة ال ّله‪ ،‬والذي يرى مفكرو الصيرورة اإللهية أنه‬
‫ٍ‬
‫«المتناه في‬ ‫الفالسفة والمفكرون في الصيرورة اإللهية فكرة أن ال ّله يحتكر القوة أو أنه‬
‫قدرته» كما تؤكد التأليهية الكالسيكية‪ .‬إن المخلوقات المتناهية تشكل أيضا محاور‬
‫قوة وبذلك تستطيع أن تؤدي إلى نشوء حاالت جديدة أيضا‪ .‬يتحدث هؤالء المفكرون‬
‫عموما عن هذه القدرة الخلقية من حيث «الحرية»‪ ،‬وبذلك تذكرنا مصطلحاتهم وفي‬
‫نقاط معينة بالنقاشات الكالسيكية‪ .‬إن صيغتهم عن الحرية متجذرة في بنية الواقع‬
‫ذاتها‪ ،‬في أن كل مخلوق لديه القدرة في جوهره على تقرير مصيره‪ .‬وهكذا بإمكاننا‬
‫القول إن ال ّله يمتلك كل القدرة التي يمكن لمخلوق أن يمتلكها ولكنه ال يمتلك كل‬
‫بعضا من القدرة التي تخصها‪ ،‬وهي قدرة‬ ‫القدرة الموجودة‪ .‬إن لدى المخلوقات ً‬
‫تتيح لها اختيار الخير والشر بوصفها احتماالت ممكنة في حياتها‪ .‬فقدرة ال ّله إذن‬
‫يمكن أن تجابه مقاومة حقيقية من قبل المخلوقات‪ .‬وفق ًا لمفكري الصيرورة اإللهية‬
‫ينبغي النظر إلى قدرة ال ّله على أنها إقناعية أكثر منها قسرية‪ .‬يمكن أن يحاول ال ّله‬
‫استدراج المخلوقات باتجاه الخير بعيدا عن الشر‪ ،‬ولكنه ال يستطيع إجبارها على‬
‫اختيار الخير‪ .‬أحد هؤالء هو دايفيد راي غريفين (و‪ )1939 .‬يقول بأن ال ّله ال يستطيع‬
‫إزالة الشر ألن «ال ّله ال يستطيع أن يؤثر في أي حالة من جانبه وحده‪ 51».‬بل إن ال ّله‬
‫يطرح أمام األشخاص احتماالت إلدراك الخير‪ ،‬ويعدّ ُل في خططه بصورة مناسبة‬
‫عندما تفشل المخلوقات المتناهية في االلتزام بالخطة اإللهية ويحاول استدراجهم‬
‫لتحقيق المجموعة التالية من االحتماالت المثالية‪ ،‬إلى جانب الهدف المطلق‬
‫المتمثل بتعزيز حيواتهم وإثرائها‪.‬‬
‫أحد الموضوعات المهمة للعدالة في الصيرورة اإللهية هو أن جميع التجارب‬
‫اإليجابية منها والسلبية في عالم الخلق تُحفظ وتُصالح بصورة مطلقة في وعي ال ّله‪.‬‬

‫‪51 David Ray Griffin, God, Power, and Evil (Philadelphia: Westminister, 1976), 280.‬‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪246‬‬
‫ضمن ال ّله نفسه في تركيبة‬
‫وبذلك يمكن القول إن األمور تسير بشكل جيد بمقدار ما « ُي ّ‬
‫الكون الشامل»‪ُ 52.‬يحدث ال ّله في مملكة السماء نو ًعا من التآلف بين جميع التجارب‬
‫الدنيوية ولكنه ال يصلح من جانبه جميع الشرور‪ .‬عمو ًما لم يتصور المفكرون في‬
‫الصيرورة اإللهية «الخلود الشخصي» أو «الحياة بعد الموت» كمحور للدفاع عن خيرية‬
‫ال ّله في وجه مسألة الشر‪ ،‬كما يفعل المفكرون المسيحيون الكالسيكيون‪ 53.‬وال توجد‬
‫ذروة أخروية حتمية ونهائية لجميع األشياء‪ .‬وهكذا‪ ،‬فبالنسبة للمفكرين في الصيرورة‬
‫اإللهية فإن التآلف المستمر لجميع التجارب في وعي ال ّله هو األمل األساسي ليظفر‬
‫الخير ويتحقق خالص العالم‪.‬‬
‫لقد أرغمت العدالة في الصيرورة اإللهية التأليهيين الكالسيكيين على إعادة التفكير‬
‫وتشذيب مفاهيمهم األساسية‪ 54.‬ولكن التأليهيين الكالسيكيين باإلضافة إلى بعض‬
‫الالتأليهيين أثاروا عددا من االعتراضات المهمة على مفاهيم في الصيرورة أيضا‪.‬‬
‫قيل ــ على سبيل المثال ــ أن الهجوم الذي توجهه الصيرورة اإللهية على المفهوم‬
‫الكالسيكي في القدرة اإللهية مثير للسخرية المحضة‪ ،‬وذلك باستخدام مصطلحات‬
‫مشحونة كـ»الشمولية» و«االحتكارية»‪ .‬هذا التصوير الساخر يؤسس لوجود فارق‬
‫(إما‪/‬أو) مبسط جدا بين القدرة القهرية والقدرة اإلقناعية والتي نوقشت في الفصل‬
‫السابع وذكرت في الفصل الثامن‪ .‬اقترح النقاد لهذه النظرية في العدالة اإللهية أيضا‬
‫احتمال وجود نطاق من الحاالت في القدرة اإللهية‪ ،‬مثل «القدرة اإلنتاجية» أو «القدرة‬
‫الحافظة» أو «القدرة الممكنة»‪ ،‬والعديد منها متوافق مع اإلقناع األخالقي‪ 55.‬وكذلك‬

‫;‪52 Alfred North Whitehead, Religion in the Making (New York: Macmillan, 1926), 98‬‬
‫‪also see his Process and Reality (New York: Macmillan, 1929), 524 - 525.‬‬
‫‪ 53‬ينبغي أن نلحظ وجود محاوالت من قبل بعض فالسفة الصيرورة اإللهية لطرح تفسير تطوري‬
‫للخلود الشخصي والحياة بعد الموت‪ .‬انظر النقاش حول هذا الموضوع في ‪David Ray Griffin,‬‬
‫‪ 40.‬ــ ‪Evil Revisited (Albany: SUNY press, 1991), 34‬‬
‫‪54 See the full - scale discussion of process theodicy in Michael Peterson, «God nad‬‬
‫‪Evil in Process Theodicy,» in Ronald Nash, ed., Process Theology (Grand Rapids,‬‬
‫‪MI: Baker Book House, 1987), 121 - 139.‬‬
‫‪55 Nancy Frankenberry, «Some Problems in Process Theodicy,» Religious Studies 17‬‬
‫‪(1981), 181-184.‬‬
‫‪247‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫ٌ‬
‫خلط بين «حيازة القدرة» وبين‬ ‫قد يكون من ضمن نموذج الصيرورة اإللهية للقدرة‬
‫«امتالك القدرة»‪ .‬بالنسبة لألشياء أو الممتلكات فإن االمتالك يكون حصريا (مثال لو‬
‫أن شخصا يمتلك جميع البلى‪ ،‬إذن فاآلخرون ال يمتلكون أيا منها)‪ .‬أما فيما يخص‬
‫القدرة والتفويض فإن االمتالك ال يكون حصريا‪ .‬يمكن للشخص أن يمتلك القدرة‬
‫على رفع القلم الرصاص من الطاولة‪ ،‬إال أن غيره من األشخاص وكذلك ال ّله قد تكون‬
‫لديهم نفس القدرة‪ .‬لم يعمد الكثير من التأليهيين الكالسيكيين إلى نظرة تنافسية أو‬
‫احتكارية للقدرة اإللهية ولكن اعتمدوا نظرة تتوافق مع أن يكون لدى المخلوقات‬
‫المتناهية بعض القدرة‪.‬‬
‫انتقاد عام آخر ُوجه للعدالة في الصيرورة اإللهية يركز على مفهوم الخير اإللهي‪،‬‬
‫فيعلن أن هذا الخير ذو توجه جمالي أكثر منه أخالقي‪ .‬إذا كان هدف الصيرورة اإللهية‬
‫جعل تجارب الخلق أثرى وأعقد حتى لو كان ذلك على حساب األلم والعداء‪ ،‬إذن‬
‫لوجدت مخاطرة في خرق العديد من المبادئ األخالقية االعتيادية في الطريق إلى‬
‫ذلك‪ .‬إن النقاد التأليهيين والالتأليهيين الكالسيكيين عبروا معا عن هذا االعتراض‪.‬‬
‫يبدو أن التأليهية الكالسيكية توجب فكرة أن ال ّله لن يكون كامال أخالقيا لو أنه تسبب‬
‫أو سمح بوجود المعاناة لغرض بلوغ أهداف جمالية بحتة‪ .‬يرد أتباع الصيرورة اإللهية‬
‫بأن القيمة الجمالية أكبر وأكثر شموال من القيمة األخالقية‪ ،‬وهي مناورة يبدو أنها تجعل‬
‫من خيرية ال ّله شيئا ال يشبه أيا مما نستطيع إدراكه واستحسانه‪ .‬بالطبع فإن السؤال حول‬
‫استحقاق ال ّله للعبادة متعلق بمسألة ما إن كان ال ّله ال يمثل الخير األخالقي‪.‬‬

‫الشرور المروعة وتقييم التأليهية‬


‫إن القائمة الكاملة للموضوعات باإلضافة إلى نظريات العدالة الشاملة التي‬
‫ُضمنت فيها هذه الموضوعات أطول بكثير مما باستطاعتنا مناقشته في هذا الفصل‪.‬‬
‫إال أن نماذج من المقاربات هنا تطلعنا على نطاق واسع من التوجهات المتاحة بالنسبة‬
‫للتأليهيين وما يوازيها من التوجهات المضادة المفتوحة أمام النقاد‪ .‬من المثير لالهتمام‬
‫وجود افتراض شائع كامن في الحجج المضادة للتأليهية من الشر والردود التأليهية‬
‫مع ًا؛ ال ّله (وهو ذو القدرة الكلية والعالِم بكل شيء والخ ّير بالكامل) لن يسمح بوجود‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪248‬‬
‫أي شر إن لم يكن وجوده ضرورة في سبيل خير أعظم‪ .‬إن تحقيق هذا المعيار كما‬
‫يحاجج الكثيرون هو الشيء الوحيد الذي سيمنح ل ّله السبب األخالقي الكافي للسماح‬
‫بوجود الشر‪ .‬يزعم النقاد أن هنالك شرور ًا ضرورية لبلوغ خير أعظم‪ ،‬ويقدم اإللهيون‬
‫تفسيرات حول كيفية ارتباط هذه الشرور بالخير‪.‬‬
‫و ُيفهم من تبادل اآلراء الذي يعقب ذلك‪ ،‬أن النقاد الالتأليهيين الذين يؤمنون بأن‬
‫ٍ‬
‫شرور ال مبرر لها‬ ‫بإمكانهم تفكيك العديد من الردود التأليهية في نيتهم الزعم بوجود‬
‫ٍ‬
‫شرور ليست ضرورية لبلوغ‬ ‫ٍ‬
‫شرور كهذه‪،‬‬ ‫أو أن من المعقول تماما االعتقاد بوجود‬
‫ٌ‬
‫مدخل آخر مفتوح أمام النقاد ويندر البحث فيه‪ ،‬يتعلق بما إن كان التصور‬ ‫خير أعظم‪.‬‬
‫مصمم‬
‫ٌ‬ ‫التبريري بوجود خير أعظم تصورا صالحا أصال‪ .‬في النهاية فإن هذا التصور‬
‫ٍ‬
‫عامل عرضي أو نتيجة أو عاقبة‪.‬‬ ‫بطريقة تبعية بجعله الثقل األخالقي للشر معتمد ًا على‬
‫قد يتعين على النقاد أن يتتبعوا الحدس الذي نجده في شخصية رواية دستويفسكي‬
‫إيفان كارمازوف الذي يقول بأن بعض الشرور الواقعية سلبية ومدمرة في جوهرها‬
‫لدرجة ال يمكن معها ألي خير خارجي أن يرجح عليها‪.‬‬
‫إن النقطة التي يثيرها إيفان تحث على مزيد من التفكير في طبيعة العدالة اإللهية‬
‫وهدفها‪ .‬هل ينبغي على العدالة اإللهية أن تقدم إجابات عالمية وشاملة حول الكيفية‬
‫التي يضمن بها ال ّله أن يكون العالم مع مافيه من الشر خير ًا ككل؟ أو هل على العدالة‬
‫اإللهية أن تكون أكثر واقعية وتحديدا في محاولة تفسير كيف أن خيرية ال ّله ال تتيح‬
‫للشر أن يبتلع حياة أي شخص ويجعلها غير جديرة بالعيش؟ إن التأليهيين الذين‬
‫يتتبعون خط التفكير نفسه لدى إيفان يواجهون هنا قضية كبيرة‪ .‬تقول مارلين أدمز‬
‫(و‪ )1943 .‬وهي من التأليهيين أن النقاشات المستقبلية حول العدالة اإللهية في حال‬
‫أنها كانت منصفة ينبغي أن تنتقل من المستوى العالمي إلى مستوى األفراد‪ .‬ما تدعوه‬
‫أدمز بالشرور المروعة هي شرور مدمرة جدا للمعنى في حياة األفراد لدرجة أن‬
‫حياة الفرد ليست بالخير العظيم بالنسبة ل‪56‬ه‪ .‬يمكننا النظر إلى مثال روي عن الطفلة‬
‫سو من هذا الجانب‪ .‬إن مدى ما يشوب حياة األفراد من دمار نهائي بسبب الشرور‬

‫‪56 Marilyn Adams, Horrendous Evils and the Goodness of God (Ithaca and London:‬‬
‫‪Cornell University Press, 1999).‬‬
‫‪249‬‬ ‫ هللا دوجو ىلع ليلدلاو رشلا ةلكشم‬

‫المروعة هو سؤال ملح بالنسبة لالتأليهيين باإلضافة إلى كونه السؤال األصعب‬
‫بالنسبة للتأليهيين‪.‬‬
‫في التطرق لهذه المسألة تشير أدمز إلى أن على التأليهيين أن يتخلوا عن االفتراض‬
‫المنهجي المشترك الذي يقضي بأن عليهم الرد على مسألة الشر باإلشارة فقط إلى‬
‫ٍ‬
‫ومتناه‬ ‫الخير الذي يقبل به الالتأليهيون أيض ًا‪ .‬تجادل أدمز بأن هذا الخير دنيوي‬
‫نوع من الخير الالمتناهي‬
‫ومؤقت‪ ،‬في حين أن التأليهي لديه في ذخيرته التصورية ٌ‬
‫واألبدي‪ .‬كما تجادل أيضا بأن الطبيعة الميتافيزيقية ل ّله تكون على شاكلة تجعل من‬
‫ال ّله مصدرا للقيم وبذلك للخير بهذا المعنى‪ ،‬ولكن ال ّله ال يخضع للشبكة االعتيادية‬
‫من الحقوق والواجبات التي تفترض العديد من صياغات مسألة الشر أنها سائدة بين‬
‫المخلوقات‪ .‬في النهاية تفترض معظم الحجج أن على ال ّله واجبات مشابهة لتلك‬
‫ٍ‬
‫شكل من الخير يوازن الشرور الموثقة‪ ،‬في‬ ‫المتصلة بالمخلوقات‪ ،‬وذلك لتحقيق‬
‫الواقع ال توجد طريقة أخرى ل ّله ليكون بها خ ّيرا‪.‬‬
‫تزعم أدمز أكثر من ذلك بأن مناقشة مسألة الشر ببساطة من حيث المصادر الفكرية‬
‫للتأليهية األساسية‪ ،‬فيه محدودية كبيرة بالنسبة للمؤمن‪ .‬وألن التأليهية المسيحية هي‬
‫التي تكون في أذهان كل من النقاد والتأليهيين على السواء‪ ،‬فإن أدمز تدافع عن إقحام‬
‫العقائد والتعاليم المسيحية في الجدال‪ .‬بنا ًء على فهمها الخاص للتأليهية المسيحية‬
‫تأتي أدمز بمفاهيم أخرى لخيرية ال ّله وكيف أن هذا الخير مرتبط بحياة األفراد التي‬
‫تهدد الشرور المروعة معناها وقيمتها‪ .‬أحد المزاعم التي تتقدم بها أدمز هو أن العقيدة‬
‫المسيحية في التجسيد (تجسد ال ّله في جسد يسوع الناصري) يرمز إلى االرتباط‬
‫الحميم ل ّله بالحالة اإلنسانية‪ ،‬ويشمل ذلك المعاناة‪ .‬يتيح لها ذلك القول بأن جميع‬
‫ٍ‬
‫مغروس فيها‪ .‬تزعم أدمز‬ ‫أشكال المعاناة مهما كانت مروعة‪ ،‬البد من جانب إيجابي‬
‫أيضا أن ال ّله وهو الكائن الشخصي اإللهي والصانع األكمل للمعنى سينقذ بصورة‬
‫مطلقة كل فرد ٍ‬
‫متناه‪ .‬يتيح لها ذلك أن تجادل في أن أيا من األشخاص المخلوقين ممن‬
‫اختبروا شرورا مروعة قادرون في لحظة ما على تأكيد وجود قيمة لحياتهم‪.‬‬
‫قد ال تكون مساهمة أدمز في التفاصيل بقدر ما هي في التبدل األكبر الذي تبشر به‬
‫للنقاش الدائر حول مسألة الشر والعدالة اإللهية‪ .‬إن التأليهيين األخرين يجادلون بال‬
‫ؤالمزو نوسرتيب لكيام‬ ‫‪250‬‬
‫المشكلة لنظريتها الكونية وذلك لصالح شكل من التأليهية المسيحية‬ ‫ِ‬ ‫شك في الطبيعة‬
‫يكون أكثر قربا من الكالسيكية‪ .‬في حين يدرك العديد من النقاد الالتأليهيين أن أدمز‬
‫قد ساعدت على توضيح أشد صيغ الحجة حدة في الشر‪ ،‬فإنهم يلحون بشكل شبه‬
‫يقيني على مسألة لماذا ينبغي على التفسير الذي يتضمن عقائد مسيحية بالغة التحديد‬
‫أن يكون معقوال بالنسبة للذين ال يعتنقون المسيحية‪ .‬بالطبع عند هذه النقطة نواجه‬
‫سؤاال حول المقايضة األساسية في تحديد إطار النزاع حول موضوع الشر‪ .‬من جهة‬
‫يمكننا تتبع النقاش في العموميات وبذلك نؤكد على أكبر قدر من األسس المشتركة‪.‬‬
‫يتضمن هذا الخيار بصورة عامة تأليهيين يجادلون بأن ال ّله سوف يخلق ويحفظ نوعا‬
‫من العالم‪ ،‬مع وجود الهدف الذي يقضي بتتبع أنواع محددة من األهداف بخاصة مع‬
‫أفراد من البشر‪ .‬أما الردود النقدية الداحضة فتدور حول وجود تقييم إجمالي على‬
‫أساس ثنائية الثمن‪/‬المنفعة لمنهج ال ّله المزعوم‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يمكن تتبع النقاش‬
‫على المستوى الواقعي وهو مستوى يميل فيه التأليهيون بشكل متزايد إلى استحضار‬
‫المصادر الكاملة لموروثاتهم الدينية الخاصة‪ .‬في هذه المرحلة‪ ،‬يتعين على النقاد‬
‫تقرير ما إن كانوا يطالبون التأليهيين بتقديم إجابة ترضي الرؤى الالتأليهية الميتافيزيقية‬
‫واألخالقية أو أن التأليهيين يثبتون كيف أن التزاماتهم (التأليهية الممتدة والمسيحية‬
‫غالبا) تؤدي إلى إجابة معقولة في حد ذاتها‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬فإن النزاع حول الشر هو واحد من اعتبارات متعددة ذات صلة بالقبول‬
‫أو الرفض العقالني للمعتقد اإللهي‪ .‬وهكذا فإن الحكم المنطقي ينبغي أن يقام على‬
‫ضوء جميع الحجج المتصلة سواء التي هي مع أو ضد وجود ال ّله في التأليهية‪ .‬زيادة‬
‫على ذلك ينبغي للحكم النهائي أن يأخذ باالعتبار كيف أن الموقف التأليهي يصيب‬
‫النجاح بالمقارنة مع النظرات العالمية األخرى سواء كانت دينية أو دنيوية‪.‬‬
‫دراسات‬

‫هل اهلل شرير؟‬


‫‪1‬‬
‫إيزابيل كابريرا‬ ‫____________________________________________‬

‫إذا سألنا مؤمنًا بالتقليد الديني اليهودي المسيحي‪ :2‬هل ال ّله شرير؟ سيجيب في‬
‫الغالِب‪« :‬كال‪ ،‬بالعكس‪ ،‬ال ّله خير‪ ،‬خير مطلق»‪ .‬وبالنسبة للبعض‪ ،‬القول بأن ال ّله خير‬
‫هذه الحقيقة‬‫نعرف ــ قبول ِ‬
‫هو حقيقة منبثقة من تحليل مفهوم ال ّله‪ .‬ومع ذلك ــ كما ِ‬
‫(بصرف النظر عن مدى تحليليتها) و َّلد السؤال الثيوديسي ‪ :‬إذا كان ال ّله ً‬
‫خيرا‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫فلماذا يسمح بالشر؟ وعبر القرون‪ ،‬حاول الكثير من الكُتاب في التقليد اليهودي‬
‫المسيحي اإلجابة عن هذا السؤال الصعب والمؤلم‪ ،‬وإلى حد ما لم يصل أحد إلى‬
‫نجاح حقيقي‪.‬‬
‫هدف هذه المقالة ليس حل مشكلة الثيوديسية‪ ،‬وإنما تفكيك المشكلة بمناقشة‬
‫ُ‬
‫كون الحلول المتصلبة ليست ُمرضية من جانِب‪َّ ،‬‬
‫وأن المشكلة المتولدة من قبول‬
‫ب آخر‪.‬‬ ‫مفهوم ال ّله ليست هي الوحيدة الممكنة فقط وال حتى الجذابة من جانِ ٍ‬
‫المس َبقين‬ ‫ِ‬
‫ولتحقيق ذلك‪ ،‬قسمت المقالة إلى أربعة مقاطع‪ .‬األول يوضح االفتراضين ُ‬

‫‪Isabel Cabrera (2001) Is God Evil? In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: 1‬‬
‫‪ 26‬ــ ‪Contemporary Perspectives. Berkely: University of California Press. pp.17‬‬
‫ترجمة د‪ .‬لؤي خزعل جبر‪.‬‬
‫‪ 2‬في ما يلي أتحدث عن «التقليد اليهودي المسيحي»‪ ،‬وأنا أدرك جيدا أن االختالفات ــ ليس فقط‬
‫أيضا داخل كل من هذه المجموعات ــ كثيرة‪ ،‬وهي بشكل عام‬ ‫بين اليهود والمسيحيين‪ ،‬ولكن ً‬
‫أكثر أهمية من نقاط االتفاق‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أعتقد أنه بشكل عام يشتركون جميعا في مفهوم ال ّله‬
‫الذي يسمح لنا بالتحدث‪ ،‬ألغراض هذا المقال‪ ،‬عن تقليد ديني واحد‪.‬‬
‫المصطلح صا َغ ُه‬
‫ُ‬ ‫حقل متخصص بتبرئة ال ّله‪ ،‬وحل مشكلة الشر‪،‬‬ ‫‪ 3‬الثيوديسية ‪ٌ Theodicy‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الفيلسوف األلماني اليبنتز (‪ 1646‬ــ ‪ )1716‬في كتابِه ‪( .)1710( Théodicée‬المترجم)‪.‬‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪252‬‬
‫للسؤال الثيوديسي‪ :‬مفهوم ال ّله كشخص أخالقي له أهدافه وأفعاله وتقصيراته يمكن‬
‫ٍ‬
‫كقياس للشر األخالقي‪،‬‬ ‫أن يحكم عليه بشكل أخالقي‪ ،‬وفكرة المعاناة غير الضرورية‬
‫ٍ‬
‫باختصار أربع استجابات عامة لمشكلة الثيوديسية‪ ،‬ويسلط الضوء‬ ‫والثاني يبحث‬
‫على نقاط الضعف في تلك االستجابات‪ ،‬والثالث يبحث في سؤال مفهوم ال ّله‬
‫ككينونة ذات أهداف وإرادة‪ ،‬في مقابِل مفهوم المقدس المتجذر في الخبرة الدينية‪،‬‬
‫ِ‬
‫يحاول الرابع تعرف وظيفة‬ ‫المفهوم الذي ال يعد فيه ال ّله كشخص أخالقي‪ .‬وأخير ًا‪،‬‬
‫المؤنسنَة عن ال ّله المنسجمة مع هذا المفهوم البديل وال تتيح بالنتيجة لمشكلة‬
‫َ‬ ‫اللغة‬
‫الثيوديسية أن تنبثق ثانية‪.‬‬
‫يبدو لي أن كل ما كتبته ُهنا موجود بالفعل في كتاب أيوب‪ ،4‬على الرغم من‬
‫قراءته من وجهة نظر معينة لن أدافِع عنها بالتفصيل هنا‪ ،‬فعلى أية حال‪ ،‬هذه المقالة‬
‫ربما تُعد تعليقا على أيوب‪.‬‬

‫بعض افتراضات السؤال الثيوديسي‬


‫عندما نصف ن َّية أو فعال أو منتجا بكونِه سي ًئا أخالقيا‪ ،‬ما الذي نركز له؟ أوال‬
‫ِ‬
‫منحر ًفا عن المعيار أو المبدأ‬ ‫وفي األغلب‪ ،‬يكون الفعل المقصود غير صحيح‪،‬‬
‫ِ‬
‫القواعد التي يجب أن نبحث‬ ‫الذي نقبله كقاعدة أخالق َّية‪ .‬ولكن كيف نعرف ما هي‬
‫في االنحراف عنها؟ وبمواجهة هذا السؤال الصعب‪ ،‬أحد أكثر المحكات العامة‬
‫المطبقة هو المعاناة‪ :‬شخص ما يفعل شيء سي ًئا أخالقيا إذا سبب األذى‪ ،‬إذ أنتج‬
‫معاناة غير ضرورية لآلخرين‪ .‬فنمطيا‪ ،‬مؤشر الشر هو المعاناة‪ ،‬كما أننا عادة ــ ونفعل‬
‫ِ‬
‫وجود أذى‪ .‬ولفعل‬ ‫ذلك دائما ــ نستطيع مناقشة أن ليس هناك خطأ أخالقي عند عدم‬
‫ذلك يجب توافر شرطين إضافيين‪ :‬يجب أن يكون الشخص مسؤوال عن الشر‪،‬‬
‫والشخص المسؤول يجب أال يكون لديه دافع تبريري‪ .‬الطبيب الذي يخ َلع عظما‬
‫يسبب األلم للمريض‪ ،‬لكن فعله غير قابل للتقييم األخالقي‪ ،‬بالعكس‪ ،‬األلم في‬
‫ِ‬
‫هذه الحالة ضروري ومبرر بالنتيجة‪ ،‬فالمعاناة الناتجة ال تؤلف خطأ أخالق َّي ًا‪ .‬ومن‬

‫كتاب في أسفار الكتابات من الكتاب المقدس العبري‪ ،‬وأول‬


‫ٌ‬ ‫‪ 4‬كتاب أيوب ‪ Book of Job‬هو‬
‫كتاب شعري في العهد القديم من اإلنجيل المسيحي‪ ،‬مكرس لمشكلة الثيوديسية‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫‪253‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫جانب آخر‪ ،‬إن لم يكن هناك أحد يمكن أن ينسب إليه الفعل المؤذي‪ ،‬فالمعاناة‬
‫ال تعكس خطأ ذا صفة أخالقية‪ ،‬فإذا دمر وباء الجراد المحاصيل وأنتج مجاعة‪،‬‬
‫سنقول أن هناك خطأ‪ ،‬لكننا ال نستطيع القول أنه ذو طبيعة أخالق َّية‪ ،‬فعلى الرغم‬
‫من أن الجراد سببه‪ ،‬لكن من الواضح عدم إمكانية إسناد مسؤولية أخالق َّية‪ .‬فإلسناد‬
‫ٍ‬
‫شخص ما له ــ على األقل ــ درجة معينة‬ ‫المسؤولية األخالقية نحتاج إلى شخص‪،‬‬
‫من الوعي واإلرادة‪ ،‬تصرف بطريقة معينة بينما كان يمكنه التصرف بطريقة أخرى‪.‬‬
‫ولهذا السبب فمن أجل الحكم على أن شخصا ما فعل خطأ‪ ،‬يجب أن نكون قادرين‬
‫على وصفه ــ إن لم تكن هناك ن َّية واضحة ــ باإلهمال والالمباالة‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬إلسناد خطأ ذي صفة أخالقية لشخص ما يجب توافر ثالثة شروط‪:‬‬
‫الشخص مسؤول عن فعله‪ ،‬وهذا الفعل له نتائج مؤذية (تسبب معاناة لآلخرين أو‬
‫لنفسه)‪ ،‬وأخيرا‪ ،‬هذه المعاناة غير مبررة‪ .‬ولذلك عندما يحاول شخص ما تبرئة‬
‫نفسه من الشر المنسوب إليه‪ ،‬فإنه عادة ما يفيد نفسه من أحد الطرق اآلتية‪ :‬يدعي‬
‫إما أن فعله حميد وليس له نتائج مؤذية أو أنه فعله لكونه وجده ضروري لتحقيق‬
‫ِ‬
‫إدراكه‪ ،‬أو لكونه لم يكن بإمكانه التصرف‬ ‫خير أع َظم‪ ،‬أو أنه لم يكن متعمدا‪ ،‬بدون‬
‫بطريقة أخرى‪ ،‬مما يعني أنه تصرف بشكل غير مقصود وغير إرادي‪.‬‬
‫وبعد االلتفات إلى ذلك‪ ،‬أود اآلن العودة إلى اهتمام الثيوديسية‪ :‬كيف أن ال ّله‪،‬‬
‫الخير المطلق‪ ،‬يسمح بالشر؟ ال شك في أن العا َلم مليء بالشر‪ ،‬الجرائم والمظالم‬
‫والحروب واألمراض والكوارث الطبيعية جزء من واقعنا اليومي‪ ،‬وهذا الشر يؤدي‬
‫المسببين‪ .‬بالنسبة للمؤمن الديني‪ ،‬الوجود الواضح‬
‫إلى معاناة يومية نادرا ما تعود إلى ُ‬
‫للشر يبعث أسئلة مؤلمة‪ .‬وال شك ــ كما أكدت التقاليد اليهودية المسيحية مرارا‬
‫وتكرارا ــ أن الكثير من هذا الشر هو خطؤنا‪ ،‬ومع ذلك هناك قسم من هذا الشر ــ‬
‫جزء ليس بالقليل ــ ال يمكن أن يرجع لمسؤولية البشر‪ :‬أغلب األمراض والكوارث‬
‫الطبيعية تؤذينا بدون أن نفعل أي شيء إلحداثها‪ .‬لكن إذا كان البشر غير مسؤولين‪،‬‬
‫هل هذا الشر مسؤولية ال ّله؟ هل ال ّله ملوم عن الشر الذي لم نسببه؟‬
‫دعونا نتوقف قليال‪ ،‬وف ًقا لما قلناه فيما سبق‪ ،‬فإن وصف بعض اإلجراءات التي‬
‫ننسبها إلى ال ّله على أنها خاطئة أخالقيا يعني ثالثة أشياء‪ :‬أن ال ّله مسؤول عن أفعاله‪،‬‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪254‬‬
‫وأن بعض أعمال ال ّله تنتج المعاناة‪ ،‬وأخيرا‪ ،‬أن هذه المعاناة غير ضرورية (أي‬
‫ليست مبررة)‪ .‬الفكرة األولى‪ ،‬إسناد المسؤولية إلى ال ّله‪ ،‬قليل جدا من المؤمنين‬
‫في التقليد الغربي يضعونها موضع شك‪ .‬فعادة ما يعتقد المؤمن أن ال ّله مسؤول عن‬
‫خيرا‪ ،‬فإن ال ّله كلي العلم‪ .‬نحن نفترض إذن‪ ،‬أنه يفعل‬
‫خليقته‪ ،‬وإلى جانب كونه ً‬
‫كل شيء عن علم وحرية‪ ،‬فليس هناك مجال للقول بأن ال ّله يتصرف دون قصد‪.‬‬
‫فيما يتعلق بالنقطة الثانية‪ ،‬ليس هناك مجال للشك‪ :‬الشر الذي ال ننتجه يؤذينا أيضا‪،‬‬
‫كل يوم‪ ،‬تؤدي الكوارث واألمراض إلى مصرع العديد من األشخاص وتولد قدرا‬
‫كبيرا من المعاناة اإلنسانية‪ .‬وعلى الرغم من أن ال ّله ال ينتج هذا الشر أو يسببه بشكل‬
‫مباشر‪ ،‬إال أنه يبدو بالفعل مسؤوال عن السماح به‪ ،‬حيث (وفقا للمؤمن التقليدي)‬
‫كل ما يحدث‪ ،‬يحدث بموافقة ال ّله‪ .‬ماذا عن النقطة الثالثة؟ هل يجوز أال تكون لدى‬
‫ال ّله دائما أسباب وجيهة لفعل ما يفعله والسماح بما يسمح به؟ أم من الممكن أن‬
‫يسمح ال ّله بالمعاناة من أجل دوافع جيدة وعادلة؟ عادة ما اتبعت اإلجابات على‬
‫مشكلة الثيوديسية المسار األخير‪ .‬إذن فقد تحولت مشكلة اإللهية إلى مشكلة معنى‬
‫المعاناة‪.‬‬

‫أربع استجابات كالسيكية لمشكلة الثيوديسية‬


‫نتناول باختصار تلك اإلجابات على مشكلة الثيوديسية التي أهملت‬
‫َ‬ ‫دعونا‬
‫افتراض أن ال ّله يمكن أن يحكم عليه أخالقيا وركزت هجومها ــ بدال من ذلك ــ‬
‫بأن سماح ال ّله بالمعاناة غير ضروري‪ ،‬ولتبيان‬
‫على افتراض آخر‪ ،‬وهو المعروف َّ‬
‫كون هذه المعاناة مبررة‪ ،‬يقدم المؤمنون (بشكل موحد أحيانا) اإلجابات األربع‬
‫اآلتية‪ )1( :‬المعاناة عقاب‪ ،‬و(‪ )2‬المعاناة اختبار وتجربة‪ ،‬و(‪ )3‬المعاناة مقدمات‬
‫للحياة األبدية‪ ،‬و(‪ )4‬المعاناة سر‪ .‬اإلجابة األولى قديمة جدا‪ ،‬فالفكرة القادمة من‬
‫العهد القديم هي أن يهوه عاقب أولئك الذين لم يطيعوا إراداته‪ ،‬فجعلهم يعانون‪.‬‬
‫نِ َع ُم ال ّله اليهودي تجلب السالم والراحة‪ ،‬وكذلك بالؤه ومحنه وخساراته‪ .‬ولتجنب‬
‫المعاناة يجب أن يطيع المؤمن‪ ،‬ويحترم بنود الميثاق‪ ،‬وال يتخطى تفويضات إلهه‪.‬‬
‫هذه الفكرة التي شكلت النظرية التقليدية للجزاء في العهد القديم وتبلورت في‬
‫‪255‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫سفر التثنية‪ 5‬بقيت مصونة بال تبديل حتى كتاب أيوب‪ ،‬حيث تمت مناقشة كون‬
‫المعاناة ليست مستحقة عادة‪ ،‬ومن النادر ــ كما سنقول اآلن ــ أن يصدر ال ّله عقوبة‬
‫للصالحين واألشرار بال تمييز‪ ،‬فالحضور الظاهر للمعاناة البريئة جعل هذه اإلجابة‬
‫األولى ضعيفة جدا‪ .‬فالتفكير بأن المعاناة هي عقوبة يفترض أن أي شخص ُمبتلى‬
‫هو شخص ُمذنب‪ ،‬حتى الوليد الجديد‪ ،‬وال يمكن القبول بذلك‪ .‬السؤال المطروح‬
‫اآلن‪ :‬إذا سمح ال ّله بالشر للمعاقبة‪ ،‬لماذا لم يبعد عن المعاناة من ال يستحقون‬
‫تختار أن تصيب المذنب فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العقوبة؟ من الواضح أنه ال األمراض وال الكوارث‬
‫المعاناة اختبار ــ هي الطريقة العامة الغالبة للتعامل مع حاالت‬
‫اإلجابة الثانية ــ ُ‬
‫غير محلولة كهذه‪ .‬إذا كان الناس األبرياء يعانون بدون استحقاق ذلك‪ ،‬فإن هناك‬
‫حاالت إذن حيث يرسل ال ّله المعاناة ليس للمعاقبة وإنما لالختبار‪ .‬لكن الختبار‬
‫ماذا؟ المسالك الشهيرة للعهد القديم قدمت اإلجابة‪ :‬الختبار خوف الفرد من ال ّله‬
‫ِ‬
‫الفاض َلة‪:6‬‬ ‫وإخالصه له‪ .‬وهذا هو ما يبشر به ــ من بين تعاليم أخرى ــ مؤلف الحكمة‬
‫«اق َبل ما يجري عليك‪ ،‬وفي التغييرات الحقيرة كن صبورا‪ ،‬فالذهب يختبر بالنار‪،‬‬
‫ُ‬
‫والرجال المحترمون في آتون اإلذالل»‪.7‬‬
‫وهكذا لطالما لفت التقليد اليهودي المسيحي االنتباه إلى شجاعة إبراهيم‬
‫الو َجع‪ ،‬كلهم‬
‫والمؤسسون اآلخرون‪ ،‬وصبر أيوب الشهير‪ ،‬وتقبل المسيح لكأس َ‬
‫تقبلوا القدر المؤلم خوفا أو حبا بإلههم‪ .‬مع ذلك ما الذي يحاول ال ّله تحقيقه عندما‬
‫يختبر استقامة الشخص بوسائل المعاناة؟ عن هذه القضية‪ ،‬يعتقد موسى بن ميمون‬
‫أن يهوه يبحث عن توريث مثال س ُي ِ‬
‫لهم الشجاعة لآلخرين (كما في حالة إبراهيم‬ ‫ّ‬
‫وربما أيوب)‪ .‬مفكرون آخرون ــ مسيحيون باألساس ــ يعتقدون عالوة على ذلك‬
‫أن هدف ال ّله هو تخليد رسالة الفداء والخالص (كما في حالة المسيح)‪ ،‬وبهذا‬

‫‪ 5‬انظر بشكل خاص الفصول ‪ 5‬و‪ .21–11.13‬في األول يتم عرض الوصايا العشر‪ ،‬وفي الثاني‬
‫يتكرر وعد يهوه بأن يبارك المطيع‪ ،‬وكذلك التهديد بزيادة المعاناة ألولئك الذين ال يلتزمون‬
‫بأحكام العهد‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ 6‬كتاب الحكمة الفاض َلة ‪ Ecclesiasticus‬هو تعاليم أخالقية تعود إلى الكاتب اليهودي بن سيرا‪،‬‬
‫كتبت بين (‪ 200‬ــ ‪ )175‬قبل الميالد‪( .‬المترجم)‬
‫‪7 Ecclesiasticus 2: 4–5.‬‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪256‬‬
‫االتجاه يكتب الالهوتي البروتستانتي‪« :‬ابن ال ّله عانى حتى الموت ال لكيال يعاني البشر‪،‬‬
‫وإنما لتكون معاناتهم كمعاناته»‪ .8‬أوال يهوه‪ ،‬ثم ال ّله األب‪ ،‬كان لديهما مبررات جيدة‬
‫للسماح باختبارات كهذه‪ ،‬وما هو أكثر‪ ،‬والنصوص اإلنجيلية التي تشير إليها عادة ما‬
‫تتضمن نهاية حيث يثيب ال ّله هؤالء الذين خضعوا لهذه االختبارات بنعيم عظيم‪ .‬ولكن‬
‫هل حدث بالفعل أن كل من يعاني هو خاضع الختبار؟ وهل أن هؤالء الذين تخطوا‬
‫االختبارات تمت مكافأتهم؟ كيف يمكن ذلك إذا لم يتح الوقت للكثيرين لالستجابة‪،‬‬
‫ولم يتركوا لتلقي المكافأة‪ ،‬ألنهم ماتوا نتيجة االختبار؟ المعاناة سحقتهم بال تقديم‬
‫أي هدف تربوي‪ .‬اإلجابة الثانية إذن كذلك تركت حاالت غير محلولة‪ .‬وهكذا نصل ــ‬
‫برأيي ــ إلى االحتمالية الثالثة‪ :‬النظر إلى المعاناة كمقدمة لألبدية‪.‬‬
‫بالضد من العقيدة العبرية في العقاب‪ ،‬يفترض التقليد المسيحي وجود حياة أخرى‬
‫حيث تُعالج مظالِم الحاضر‪ ،‬فال ّله يسمح بالمعاناة للصالحين ألنه يحتفظ لهم بمكافأة‬
‫في الحياة األخرى‪ .‬المعاناة أحيانا قد تعد ثمنًا يجب أن ندفعه لنجعل أنفسنا ذوي قيمة‬
‫في الحياة األخرى‪ .‬وهكذا يبدو ال ّله مبررا بسماحه بالشر‪ ،‬ألنه يحتفظ لنا بنعيم عظيم‪،‬‬
‫سنحرزه إذا ك َّفرنا عن خطايانا وإذا أخضعنا أنفسنا لالختبار‪ .‬أعتقد أننا هنا نواجه أمال‬
‫ال نستطيع تقاسمه‪ .‬ماذا إذا لم يكن هناك حياة أخرى يعوضنا فيها ال ّله عن المعاناة‬
‫الخاطئة في هذه الحياة؟ وأكثر من ذلك‪ ،‬تنطوي هذه االجابة على خطر تمت اإلشارة‬
‫إليه في مكان آخر‪ :‬إن حل مظالم هذه الحياة بوعد آخر هو إنقاص وخفض قيمة هذه‬
‫الحياة‪ ،‬والحث على االستقالة والسلبية‪ .‬هذا يعني أنه بالنسبة للمؤمن الذي ال يرغب‬
‫في التخلي عن قيمة هذه الحياة أو الذي ال يؤمن بالحياة األبدية‪ ،‬فإن معاناة األبرياء‬
‫تستمر في المطالبة بتفسير وتهدد بتركنا مع إله ال يبالي بالظلم‪.‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬يتمثل الرد الرابع في القول بأن ما نعتبره شر ًا ليس كذلك في الواقع‪ ،‬وإنما‬
‫ً‬
‫خير‪ .‬فلدينا وجهة نظر محدودة ومبعثرة لألشياء‪ ،‬ولهذا السبب ال يمكننا أن نفهم تماما‬
‫ما يعنيه الحدث؛ الشر المعين (بالنسبة لنا) هو في الواقع‪ ،‬عندما ُيرى من المنظور‬
‫الصحيح ــ أي منظور ال ّله ــ خير عام (للكون)‪ .‬يعلم ال ّله لماذا يفعل األشياء‪ ،‬على‬

‫‪8 Douglas MacDonald, Unspoken Sermons, cited in C. S. Lewis, The Problem of Pain‬‬
‫‪(London: Fontana Books, 1957), p. vi.‬‬
‫‪257‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫الرغم من أن هذا ال يزال لغزا‪ .‬يتصرف ال ّله بعلم وحرية‪ ،‬لكن عقله وإرادته هي ألغاز‬
‫ال يمكن فهمها‪ .‬إن اإلشارة إلى هذه اإلمكانية تتركنا كما كنا‪ :‬دون فهم‪ ،‬ودون أن‬
‫نكون قادرين على المساعدة في التفكير في أن المعاناة التي نمر بها‪ ،‬والتي ال نتحمل‬
‫مسؤوليتها كجنس‪ ،‬هو شر ال معنى له يبدو غير مبرر تماما‪ .‬يقال لنا إننا ال نستطيع أن‬
‫نلوم ال ّله على ذلك‪ .‬ولكن لم يتم إخبارنا لماذا ال‪ .‬هذا الرد ال يقدم أي تفسير‪ .‬إنه يشير‬
‫فقط إلى حد‪ ،‬ويخبرنا أن المشكلة ليس لها حل‪.‬‬
‫على أساس ما سبق‪ ،‬لم يتبين أن أيا من الحلول الكالسيكية لمشكلة الثيوديسية‬
‫ٍ‬
‫مرض تماما‪ .‬بمجرد أن نسمح بإمكانية الحكم على ال ّله أخالقي ًا ــ بمجرد أن نقبل أن‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫المفاهيم المعتادة للخير األخالقي والشر تنطبق على ما يفعله ال ّله ويسمح به ــ‬
‫تنشأ مسألة ما إذا كان ال ّله مسؤوالً عن أي شر ال محالة‪ ،‬وليس من الواضح أنه يمكن‬
‫أن نبرئه من جميع المخالفات‪ ،‬لهذا السبب‪ ،‬عندما نواجه مشكلة ثيودسية‪ ،‬قد يكون‬
‫أفضل بديل ليس محاولة اإلجابة على السؤال‪ ،‬ولكن تجنبه‪ .‬ولكن كيف يمكن تجنبه؟‬

‫التحول من اهلل إلى المقدس‬


‫في موضع سابق‪ ،‬الحظنا أنه لتحميل شخص المسؤولية عن شر ذي طابع أخالقي‪،‬‬
‫شخصا ــ وإن لم يكن بالضرورة بشرا ــ يتمتع بالوعي واإلرادة‪.‬‬
‫ً‬ ‫كنا بحاجة إلى اعتباره‬
‫والحظنا أيضا أن غالبية المفكرين في التقليد اليهودي المسيحي افترضوا هذا المفهوم‬
‫عن ال ّله‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إذا رفضنا هذا المفهوم عن ال ّله كموضوع أخالقي مثلنا ــ وهو مفهوم‬
‫مؤنسن في نهاية المطاف ــ فليس من الواضح كيف يمكن صياغة مشكلة الثيوديسية‪.‬‬
‫َ‬
‫ومع ذلك‪ ،‬هذا يعني على ما يبدو التخلي عن التقليد اليهودي المسيحي‪ .‬كل من إله‬
‫إبراهيم وإله يسوع هما مشرعان ويعدَّ ان عند أغلب المؤمنين مماثالن للملك أو األب‪،‬‬
‫كشخص (وإن لم يكن إنسانا)‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هناك عنصر أساسي في التجربة الدينية‬
‫للتقليد نفسه الذي يسمح لنا بتجاهل مفهوم ال ّله باعتباره متعال ًيا متص ًفا بالفكر واإلرادة‪،‬‬
‫ويوجهنا إلى مفهوم آخر أكثر جوهرية‪ ،‬حيث ال يمكن أن يكون ال ّله موضوع أحكامنا‬
‫األخالقية‪.‬‬
‫يقترح رودولف أوتو أن تصور ال ّله كموضوع أخالقي هو عق َلنَة الحقة للموضوع‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪258‬‬
‫األصلي للتجربة الدينية‪ .9‬يتم تحويل الغموض الهائل الذي هو موضوع التجربة‬
‫المضيئة األصلية إلى إله شخصي باعتباره الفكرة العقالنية للعدالة اإللهية‪ ،‬يتغلغل‬
‫تدريجيا ويترجم هذه التجربة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اإلصرار على أن ال ّله له أهداف يمكننا‬
‫أن نحكم على أنها عادلة أو غير عادلة هو اعتقاد ــ كما قال سبينوزا ــ في وجود إله في‬
‫صورة وشبه البشر‪ .10‬ولماذا يجب على المرء أن يعتقد أن ال ّله شيء مماثل لإلنسان؟‬
‫لماذا ال نفترض‪ ،‬مرة واحدة وإلى األبد ّ‬
‫أن التقييمات واألحكام األخالقية تخص البشر‬
‫فقط؟ لماذا ال تتخطى األنسنة المتغلغلة في كل الالهوت الغربي تقريبا‪ ،‬من خالل‬
‫استعادة مفهوم قديم لكن أساسي للمقدس؟ مرة أخرى‪ ،‬إذا استغنينا عن المفهوم‬
‫التقليدي‪ ،‬فما الذي سيحل محل إله موهوب باإلرادة والفكر؟ أال يفرغ المؤمن؟‬
‫المؤنسن عن ال ّله‪ ،‬فإنه يستبدله بمفهوم عن‬
‫َ‬ ‫عندما يقترح سبينوزا التخلي عن المفهوم‬
‫إله جوهري ال يمكن تمييزه عاد ًة عن الطبيعة‪ .‬فهل ُحل ال ّله بين شظايا الكون بهذه‬
‫الطريقة؟ يبدو لي أن الظواهر الدينية محقة في قضية مركزية‪ :‬من أجل اإلجابة على‬
‫السؤال‪« ،‬ما هو ال ّله؟»‪ ،‬نحتاج أن نبدأ بال ّله كهدف مقصود للمعتقدات والخبرات‬
‫والممارسات البشرية التي تم اعتبارها‪ ،‬والتي تعتبر دينية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الفكرة التي‬
‫تكشفها النصوص الدينية اليهودية المسيحية ــ خاصة عندما تؤكد تجربة صريحة أو‬
‫دائما فكرة ال ّله‪ .‬لذا‪ ،‬يفضل العديد‬
‫ليست ً‬
‫ْ‬ ‫تشدد على ممارسات معينة مثل األضحية ــ‬
‫من اإلنسانيين المعاصرين الذين ينتمون إلى نفس التقليد اليهودي المسيحي التحدث‬
‫عن «المقدس» وليس «ال ّله»‪ ،‬وذلك بهدف اإلشارة إلى الهدف المتعمد للتجربة‬
‫الدينية‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يتم تجنب االستنتاج المتسارع‪ :‬في حين يشير مصطلح «ال ّله»‬
‫إلى شخص ما‪ ،‬فإن «المقدس» ال يحمل مثل هذا االرتباط (على الرغم من أنه ال‬
‫يستبعده)‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن «المقدس»‪ ،‬بحكم كونه صفة‪ُ ،‬يفهم بشكل مشابه لـ‬
‫«الجميل» أو «الخير»‪ .‬وهذا يعني أن الدين‪ ،‬مثل الجماليات أو األخالق‪ ،‬يبدو أنه يمثل‬
‫مجاال من القيم التي يمكن للبشر فهمها وتقديرها‪.‬‬

‫‪9 R. Otto,The Idea of the Holy (Oxford: Oxford University Press, 1967).‬‬
‫‪10 B. Spinoza, in the appendix to the first book of his Ethica, ordine geometrico dem-‬‬
‫‪ostrata.‬‬
‫‪259‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫حاول التقليد الذي بدأ مع ويليام جيمس‪ ،‬وبشكل أكثر وضوحا مع رودولف أوتو‪،‬‬
‫توصيف المقدّ س بطرق مختلفة كثيرة‪ ،‬على الرغم من أن كل هذه التوصيفات مرتبطة‬
‫ببعضها‪ .11‬هنا لن أحاول مراجعتها‪ ،‬وال أن أميز أيا منها‪ .‬على الرغم من ذلك‪ ،‬فإنني‬
‫ألمح إليها ألنني أعتقد أنها جميعا ــ وبمعنى ما‪ ،‬كل منها بمفرده ــ تشكل مفهوما بديال‬
‫للمقدس‪ ،‬حيث ال يعتبر ال ّله موضو ًعا أخالق ًيا‪ .‬إلنهاء هذا القسم‪ ،‬أود فقط أن أعطي‬
‫مثاال على ما أعنيه‪ :‬حل مشكلة الثيوديسية نتيجة لتغيير في مفهوم ال ّله‪ .‬وال أعلم أفضل‬
‫من كتاب أيوب‪.‬‬
‫في معظم القصيدة التي تشكل نص أيوب‪ ،‬يتضح أنه عندما يطلب أيوب من الرب‬
‫تفسيرا‪ ،‬يفكر في أن يهوه هو شخص قادر على إعطائه إياه‪ .‬إلهه إله العهد‪ ،‬الذي‬
‫وافق على أن يكون مسؤوال عن مصير مخلوقاته‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن أيوب ــ كما أشارت‬
‫فنغاريت‪ 12‬ــ يخاطب ال ّله بلغة قانونية حيث يكون الرب في بعض األحيان مدعيا‪،‬‬
‫وأحيانا قاضيا‪ ،‬ودائما ما يكون مدافعا مرغوبا ولكن غائبا‪ .‬كما يعلم جميع قراء‬
‫الكتاب‪ ،‬ال يقدم يهوه أبدا التفسير الذي ينتظره أيوب بلهفة‪ ،‬ومع ذلك تأتي لحظة‬
‫يتوقف فيها أيوب ــ الذي بدا حتى ذلك الحين بال هوادة ــ عن التساؤل‪ .‬الفصول‬
‫النهائية تحكي عن التجربة الدينية التي يفترض أنها أقنعت أيوب وأخمدت سخطه‪.‬‬
‫تم الكشف عن يهوه كقوة‪ ،‬خالق تنوع طبيعي هائل‪ ،‬لكون مذهل وسا ٍم على حد‬
‫سواء‪ ،‬لكنه ٍ‬
‫خال من األغراض األخالقية‪ .‬الصوت من الزوبعة‪ ،‬الذي يجيب أيوب‬
‫ال يتكلم ــ كما الحظ أوتو وفنغاريت ــ ال عن نهايات حسنة‪ ،‬وال عن أسباب تفسر‬
‫معاناة أيوب البريئة؛ وبهذا المعنى‪ ،‬فإن الصوت من الزوبعة ال يحل مشكلة أيوب‪،‬‬
‫بل يفككها بدال من ذلك‪ ،‬ألنه يكشف عن إله غير خاضع للتقييم األخالقي‪ .‬إذا كان‬

‫‪ 11‬أعتقد أن جميع هؤالء المؤلفين الذين اتبعوا ــ بشكل ضمني أو صريح ــ تأكيد أوتو على الخبرة‬
‫الدينية‪ ،‬سيوافقون على هذه النقطة‪ .‬أشير إلى فان دير ليو وميشيل ميسلين وميرسيا إلياد ومارتن بوبر‬
‫و(في العالم الناطق باإلسبانية) خوسيه غوميز كافارينا ومارتن فيالسكو ولويس فيلورو ورامون‬
‫شيراو‪ .‬بالطبع‪ ،‬لكل منهم سماته الخاصة‪ ،‬ولكن يمكن ألي واحد منهم أن يجسد مفهوم ال ّله الذي‬
‫أشير إليه‪.‬‬
‫‪12 H. Fingarette, «The Meaning of Law in the Book of Job,» in Revisions, ed. S. Hau-‬‬
‫‪erwas and A. MacIntyre (London: Notre Dame Press, 1983).‬‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪260‬‬
‫الكون ال يستجيب لتوقعات اإلنسان‪ ،‬فلماذا يكون ال ّله كذلك؟ أخشى أن العدل‬
‫واألخالق هي اهتمامات إنسانية باألساس‪.13‬‬
‫ولكن إذا لم نتصور أن ال ّله كائن متعال يمكن أن يحكم عليه أخالقيا‪ ،‬فعندئذ ال‬
‫يمكننا أن نجد فيه معنى المعاناة‪ ،‬وال تفسير الشر الذي يبتلعنا‪ .‬ال يزال أيوب عاجزا عن‬
‫الكالم‪ ،‬لكن معاناته تظل بال إجابة‪ .‬لن يحتاج بعد اآلن إلى البحث عن الجواب في‬
‫ال ّله‪ ،‬لكن هذا ال يعني أنه قد تم العثور على الجواب‪.‬‬
‫ترتبط فكرة ال ّله على أنه أخالقي بفكرة أن اإليمان الديني يعطي المعاناة بطريقة ما‬
‫معنى‪ .‬في الواقع‪ ،‬كما أشرنا سابقا‪ ،‬فإن االستجابات الكالسيكية لمشكلة الثيوديسية‬
‫هي أيضا ردود على مشكلة معنى المعاناة‪ .‬ولكن كيف يمكن إعادة صياغة هذا السؤال‬
‫فيما يتعلق بالمقدس؟ كيف يمكن إفساح المجال للعزاء الذي يطلبه المؤمن بال ّله‬
‫عندما تعذبه المعاناة الفاقدة للمعنى؟ يبدو المفهوم البديل للمقدس غريبا وغير ٍ‬
‫مبال‬
‫بهذه المخاوف‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬الحوار الساخر الذي يتخيله روبرت فروست يحدث بعد‬
‫سنوات بين أيوب ويهوه هو في صميم الموضوع‪ .‬يقول ال ّله أليوب‪:‬‬
‫لمدة طويلة‪ ،‬أدين لك باعتذار‬
‫ِ‬
‫الظاهر‬ ‫من أجل الحزن العبثي في‬
‫كنت تعاني في تلك األيام الخوالي‬
‫لكنها كانت من جوهر المحاكمة‬
‫ال يجب أن تفهم ذلك في ذلك الوقت‬
‫كان ال بد من أن يكون لها معنى‬
‫وخرج على ما يرام‪ .‬ليس لدي شك‬
‫أنت تدرك اآلن الجزء الذي لعبته‬
‫لتبطل سفر التثنية‬

‫‪13 Chapter 3, «El Dios de Job,» of El lado oscuro de Dios (Barcelona and Mexico City:‬‬
‫‪ Paidós, 1998).‬ــ ‪UNAM‬‬
‫‪261‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫وتغيير فحوى الفكر الديني‬


‫شكري لك إلطالق سراحي‬
‫من العبودية األخالقية للجنس البشري‬
‫اإلرادة الحرة فقط كانت هناك لإلنسان‬
‫من يستطيع أن يفعل الخير أو الشر كما يشاء‬
‫لم يكن لدي أي خيار ولكن يجب أن أتبعه‬
‫كان علي أن ُأ ِ‬
‫زهر الخير وأعاقب الشر‬
‫لقد غيرت كل ذلك‪ .‬لقد حررتني في الحكم‬
‫‪14‬‬
‫أنت مخلص إلهك‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إذا حرر ال ّله نفسه من االهتمام بتوق اإلنسان إلى العدالة‪ ،‬فبأي‬
‫معنى يمكن لإليمان الديني أن يساعد في حل مشكلة معنى المعاناة؟ يبدو لي أن الدين‬
‫يمكن أن يعطي إجابة جزئية فقط‪ ،‬بطريقة مشابهة لتلك التي تساعدنا فيها أشياء أخرى‬
‫على تهدئة هذا القلق‪ :‬الجمال والحب والتضامن هي أيضا استجابات جزئية لمشكلة‬
‫معنى الحياة ومعنى المعاناة‪ .‬إنها ردود بقدر ما تعطينا وجهة نظر أخرى‪ ،‬وتذكرنا أنه‬
‫في هذه الحياة هناك أشياء أخرى إلى جانب األلم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قد ال يكون هناك جدوى‬
‫من السعي للحصول على المزيد من العزاء من هذا العقيدة الدينية الموجهة إلى إله ال‬
‫يعتبر عامال مسؤوال أخالقيا‪ ،‬ولكن لغزا هائال‪.‬‬

‫المؤنس َنة‬
‫ِ‬ ‫موضع اللغة‬
‫أود أخيرا أن أقول شيئ ًا عن مشكلة مهمة في رأيي‪ .‬يمكن القول أن فرض تصور‬
‫للمقدس على فكرة إله متعال يعني تجاهل الجزء األكبر مما قيل عن ال ّله في التقليد‬
‫اليهودي المسيحي‪ .‬ليس هناك شك في أن غالبية النصوص الدينية تستخدم لغة مؤنسنة‪،‬‬
‫وتتحدث عن ال ّله كما لو كانت تتعامل مع كائن متعال يقيم عهودا مع مخلوقاته‪ ،‬وف ًقا‬

‫‪14 «A Masque of Reason,» in Job: A Case Study, by Robert Frost, ed. Raymond Break-‬‬
‫‪stone (New York: Bookman Associates, 1964), pp. 224–25.‬‬
‫اريرباك ليبازيإ‬ ‫‪262‬‬
‫للبعض‪ ،‬يتجسد في عمل يسوع‪ .‬ما الذي يمكن قوله عن هذا؟ أبرزت بعض التحليالت‬
‫للتجربة الدينية وجود شعور بالتقارب‪ ،‬والعالقة‪ ،‬والحميمية في كثير من األحيان‪ ،‬مع‬
‫المقدس‪ .‬عنصر االتصال أو التقارب هذا ضروري إلعطاء معنى للصالة والعبادة‬
‫والدعوة والممارسات الدينية األخرى‪ .‬ال يرى المؤمن شيئا مقدسا أو يختبره فحسب‪،‬‬
‫بل يعتقد أيضا أنه يستطيع أن يقيم عالقة شخصية معه‪ ،‬ويقيمه بشكل معتاد من خالل‬
‫هذه الممارسات الدينية‪ .‬كما يالحظ بوبر بحدة‪ ،‬يؤمن المؤمن عادة بإله يمكنه مخاطبته‬
‫كـ»أنت»‪ .‬ليس من قبيل المصادفة أن أصل كلمة «دين» متجذرة في فكرة العالقة أو‬
‫االرتباط بالمقدس‪ .‬لكن هذه الحاجة إلى التقارب ال تلزمنا بالضرورة بمفهوم ال ّله‬
‫على أنه شيء مماثل للشخص‪ .‬هناك ألوهية سامية موهوبة بالعقل واإلرادة‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬
‫بعيدة‪ :‬قد نفكر في المحرك غير المتحرك ألرسطو‪ ،‬والخالِق ألفالطون‪ ،‬أو إله بعض‬
‫الربوبيين اإلنجليز‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬هناك مفاهيم دينية متأصلة‪ ،‬وتصر على أن ال ّله‬
‫ليس شيئا مشابها للشخص‪ ،‬ولكنه مع ذلك يسمح بعالقة وثيقة‪ :‬قد نفكر في اإلطار‬
‫الديني القديم الذي يتمحور حول آالمنا‪ ،‬أو في طريقة حديث جوته عن ومع الطبيعة‪،‬‬
‫على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬بعض األمثلة التي قدمها بوبر في كتابه أنا وأنت‪.‬‬
‫بالنظر إلى هذه الحقيقة‪ ،‬وهي أن الحاجة إلى التقارب والعالقة مع المقدس هي‬
‫عنصر موجود في معظم التجارب الدينية‪ ،‬عادة ما تفسر التحليالت الفينومينولوجية‬
‫اللغة الدينية على أنها تناظرية بدال من وصفية‪ .‬عندما يشير المؤلف إلى ال ّله على أنه‬
‫رب الجيوش‪ ،‬كملك أو كأب‪ ،‬فإنه ال يصف من هو ال ّله؛ بدال من ذلك‪ ،‬يعبر عن نوع‬
‫المشاعر والتجارب التي أثارها فيه المقدس‪ .‬في الواقع‪ ،‬تشير النصوص في العديد من‬
‫األماكن إلى ال ّله باستخدام الصور التي ــ إذا تم تفسيرها بشكل وصفي ــ تجعل الرب‬
‫حيوانا شرسا‪ ،‬أو زوبعة‪ ،‬أو عاصفة صحراوية‪ ،‬أو رشقا مسموما‪ .‬هنا أيضا‪ ،‬من الواضح‬
‫أن هناك استخداما تناظريا للغة‪.‬‬
‫على أي حال‪ ،‬يبدو أن التخلي عن اللغة المؤنسنة يعني نبذ األلفة مع ال ّله‪ .‬إن تصور‬
‫ال ّله كشخص يمكنه أن يشاركنا بعض اهتماماتنا يفتح الباب أمام إمكانية التحدث معه‪،‬‬
‫وبالتالي الصالة‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ال يبدو المقدس ــ الذي اقترحته كمفهوم بديل ــ‬
‫شي ًئا يمكننا التواصل معه بطريقة شخصية‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإن شكل التعبير ليس ذا‬
‫‪263‬‬ ‫؟ريرش هللا له‬

‫صلة؛ بالنسبة للمؤمن‪ ،‬يهم ما إذا كان يتم استخدام لغة مؤنسنة أو مجموعة من الرموز‬
‫الكونية‪ ،‬ألن الشكل يسهل استدعاء ال ّله وبالتالي اإلحساس بالتقارب مع ال ّله‪ .‬ما يهم‬
‫ليس مجرد اإلشارة بنجاح (وإن تكن بغموض) إلى ال ّله‪ ،‬إلى اآلخر كليا‪ ،‬من المهم‬
‫أيضا إنشاء نوع معين من العالقة معه‪.‬‬
‫لكن يبدو أن المقدس عرضة للتبخر والذوبان بسهولة أكبر من إله شخصي‪ .‬لهذا‬
‫السبب (من بين أمور أخرى)‪ ،‬قامت األديان بشخصنة أربابها‪ ،‬وال يوجد أي مؤمن‬
‫يصلي أو يتكلم مع إله له اسم آخر غير ال ّله الذي يؤمن به‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إذا كان المؤمن ال‬
‫يميل‪ ،‬كما هو الحال عادةً‪ ،‬إلى التخلي عن عالقة شخصية مع المقدّ س‪ ،‬فقد يستسلم‬
‫لإلغراء الطبيعي لمعاملته على أنه «أنت»‪ ،‬ولكن دائما يعرف على مستوى ما أن هذا‬
‫مجرد أسلوب للتحدث‪ .‬يبدو لي أن تأمالت إيكهارت‪ ،‬وكرب لوثر‪ ،‬وشعر سان خوان‬
‫دي ال كروز‪ ،‬أو تراتيل األم لفيفالدي‪ ،‬كلها طرق مختلفة للتحدث مع ال ّله ــ للصالة‬
‫ــ التي تفترض إلها قريبا وشخصيا؛ وهذا يقودنا في الغالب إلى اللغة المؤنسنة التي‬
‫يستخدمونها لمخاطبة المقدس‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أعتقد أن هذا هو المفتاح‪ :‬يبدو أنه يجوز‬
‫التشكيك إذا كان من المفترض استخدام لغة مؤنسنة لغرض التحدث عن ال ّله‪ ،‬أو‬
‫وصفه؛ ولكن ال يصح رفضه عند استخدامه للتكلم مع ال ّله‪ .‬في النهاية‪ ،‬كما الحظ‬
‫غوميز كافارينا‪ ،‬فإن الهدف ليس صياغة نظرية عن إله شخصي‪ ،‬بل أن نعيش ال ّله‬
‫شخصيا‪ ،‬حتى نكون قادرين على التعامل مع الغموض النهائي كمحبين‪.15‬‬

‫‪15 La entraña humanista del cristianismo (Navarre: Verbo Divino, 1998), p. 287.‬‬
‫دراسات‬

‫مدخل إلى مسألة الشر‬


‫‪2‬‬
‫« »‬
‫‪1‬‬
‫د‪ .‬آرش نراقي‬ ‫______________________________________________‬

‫إن الصيغة المنطقية لمسألة الشر تدعي وجود تناقض بين القضية القائلة‪« :‬إن‬
‫ال ّله موجود»‪ ،‬والقضية القائلة‪« :‬إن الشر موجود في هذا العالم»‪ .‬وفي الجزء األول‬
‫أثبتنا أن هذه الصيغة من االدعاء غير صحيحة‪ .‬بمعنى أنك إنما تستطيع أن تعتبر‬
‫أصل وقوع الشر في هذا العالم دليال على عدم وجود ال ّله‪ ،‬إذا أضفت إلى برهان‬
‫الشر مقدمة أخرى‪ .‬ونعني بهذه المقدمة أن تستدل على أن ال ّله ال يستطيع أن يقدم‬
‫أي سبب أخالقي يبرر جواز هذا الشر‪ .‬ولكن ما هو هذا الدلي والسبب األخالقي‬ ‫َّ‬
‫الذي يبرر له ذلك؟ وهنا أفضى بنا الكالم إلى الحديث عن نظرية الدفاع القائم على‬
‫االختيار‪.‬‬
‫إن الدفاع القائم على االختيار يدعي في الحقيقة أن السبب الذي يبيح ل ّله أن‬
‫يوجد الشرور في هذا العالم هو أصل وجود االختيار لدى اإلنسان أو االختيار في‬
‫هذا العالم‪ .‬وقد ذكرنا هناك أنا نفترض أن ال ّله كان أمامه خياران في خلق العالم؛‬
‫الخيار األول‪ :‬أن يخلق عالما خاليا من االختيار‪ ،‬وأن جميع الكائنات فيه تقوم‬
‫بأعمالها وفقا لخطة معدة سلفا‪ ،‬وأنهم في ذلك يشبهون أجهزة الروبوت‪ ،‬أما الخيار‬
‫الثاني‪ :‬أن يخلق عالما يتمتع بعض سكانه ــ في الحد األدنى ــ بحرية االختيار وال‬

‫وحررها‬
‫‪ 1‬أستاذ فلسفة الدين في جامعة ‪ Moravian College‬في الواليات المتحدة‪ .‬أعدها ّ‬
‫بالفارسية‪ :‬أميد قائم بناه‪ ،‬ترجمها للعربية‪ :‬حسن مطر‪ُ .‬تن َْش ُر على ثالثة أجزاء‪ ،‬هذا هو الثاني‬
‫منها‪ ،‬وقد ن ُِشر الجزء األول في عدد المجلة الماضي‪.‬‬
‫‪265‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫سيما في بعض سلوكياتهم وقراراتهم الهامة إلى حد كبير‪ .‬وعليه فإن السؤال الماثل‬
‫هنا هو‪ :‬ما هو الخيار الذي سيكون األفضل؟ وخلق أي العالمين سيكون هو الراجح‬
‫من الناحية األخالقية؟ يبدو بالنسبة إلى الغالب أن العالم الواجد لالختيار أفضل‬
‫بكثير من العالم الفاقد ألي نوع من أنواع االختيار؛ بمعنى أننا نرى نوعا من القيمة‬
‫للحرية واإلرادة واالختيار‪ .‬هذا ولو كان الفرد يرى أن االختيار شرط في األخالق‪،‬‬
‫فهذا يعني أنه قد آمن بأن عدم االختيار ال يجعل من الشرور األخالقية أمرا مستحيال‬
‫فحسب‪ ،‬بل ستكون حتى الخيرات األخالقية مستحيلة أيضا‪ .‬وعليه فإننا في العالم‬
‫الفاقد لالختيار وإن كنا نحد من حدوث الشرور‪ ،‬ولكننا في الوقت نفسه نحد من‬
‫حدوث الخيرات أيضا‪ .‬وعليه فإن ال ّله إذا اختار خلق العالم المختار يكون قد أحسن‬
‫صنعا‪ .‬ولكنه بمجرد أن يخلق هذا العالم المختار‪ ،‬يكون اتخاذ بعض القرارات واقعا‬
‫على عاتق هذا العالم المختار‪ ،‬وإذا أراد ال ّله أن يحول دون هذه القرارات‪ ،‬فهذا يعني‬
‫أنه سيحول دون اختيارهم‪ ،‬وال يخفى أن هذا يعني نقضا للغرض‪ .‬وعليه إذا أمكن‬
‫وقوع الشر أمكن لنا أن نتصور انحراف بعض الفاعلين الذين يتمتعون باالختيار‪،‬‬
‫حيث يوظفون اختيارهم في إطار ارتكاب الشرور‪ .‬وبذلك يتحقق لدينا عالم رغم‬
‫اتصافه بقيمة االختيار‪ ،‬إال أنه في الوقت نفسه هناك ثمن وضريبة يجب أن تُدفع بإزاء‬
‫هذا االختيار‪ ،‬وتتمثل هذه الضريبة بوقوع الشرور في هذا العالم أيضا‪ ،‬لذا فإنه بنا ًء‬
‫على الدفاع القائم على االختيار يكون ال ّله قد أحسن صنعا في خلق العالم المختار‪،‬‬
‫بمعنى أنه خلق عالما من الممكن أن تقع فيه الخيرات األخالقية‪ ،‬إال أن الشرط‬
‫الضروري لتحقق هذا العالم هو إمكان تحقق الشر أيضا‪ .‬ولكن ال يمكن لكم خلق‬
‫هذا العالم األفضل «أي العالم الواجد للخير والخيرات األخالقية» دون أن يكون‬
‫هناك إمكان لفتح باب الشرور على هذا العالم‪ ،‬بمعنى أن إمكان تحقق الشر يمثل‬
‫شرطا ضروريا والزما من الناحية المنطقية‪ ،‬لتحقيق االختيار‪ ،‬وليس بإمكان أحد‬
‫ــ حتى ال ّله ــ أن يخلق عالما مختارا واجدا للخيرات األخالقية‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫يخلو من الشرور األخالقية‪.‬‬
‫هذه هي خالصة أطروحة الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬إال أن هذا الدفاع قد‬
‫تعرض للنقد من قبل المفكرين وفالسفة الدين من مختلف الجهات‪ .‬وفيما يلي‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪266‬‬
‫سوف نتحدث بالتدريج عن ثالثة انتقادات هامة تم إيرادها على هذا الدفاع القائم‬
‫على االختيار‪ ،‬مع ذكر بعض األمور األخرى في ذات السياق‪.‬‬

‫النقد األول على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬


‫يقوم النقد األول في الحقيقة على افتراض عالم ثالث؛ وهو العالم الذي يقوم‬
‫قاطنه باختيار العمل الصالح بإرادته واختياره‪ .‬ويقوم لب االدعاء على ّ‬
‫أن هذا العالم‬
‫الثالث ممكن‪ ،‬ولو كان ال ّله يتصف بالخير المحض يتعين عليه أن يخلق هذا العالم‬
‫بالتحديد؛ ألنه أفضل بكثير من الخيارات األخرى المتقدم ذكرها‪.‬‬

‫النقد الثاني على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬


‫أما النقد الثاني فيعود إلى أصل وجود االختيار في هذا العالم‪ .‬إن من بين‬
‫العقائد القائمة في اإللهيات التوحيدية هي أن ال ّله يتصف بأنه عالم محض‪ ،‬وأن‬
‫العالِ َم المطلق يعلم بالوقائع واألحداث التي ستقع في المستقبل‪ .‬وهو ما نطلق عليه‬
‫مصطلح «علم ال ّله السابق»‪ .‬وإذا كان ال ّله يعلم ما يقوم به اإلنسان في المستقبل‪ ،‬فإن‬
‫هذا اإلنسان لن يقوم بغير ما علم ال ّله أنه سيفعله‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ :‬إن النقد الثاني على الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬يقول‪ :‬إنك إذا كنت‬
‫اتك باتصاف ال ّله بالعلم المطلق‪ ،‬ال يمكنك القول باختيار اإلنسان‪ ،‬إذ‬‫تقول في إله َّي َ‬
‫لو قام الناس بأعمالهم باختيارهم‪ ،‬فإن ال ّله لن يكون على علم بها‪ ،‬وبذلك ال يتصف‬
‫علمه بالطالقة‪ ،‬وإذا كان عالما بما سيختاره اإلنسان‪ ،‬فإنه لن يختار إال ما علم ال ّله أنه‬
‫سيختاره‪ ،‬وبذلك ال يكون مختارا في فعله‪.‬‬

‫النقد الثالث على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬


‫أما النقد الثالث فيعود بدوره إلى ظاهرة الشرور الطبيعية؛ بمعنى أن أطروحة‬
‫الدفاع القائمة على االختيار إذا كانت مجدية وناجعة‪ ،‬فهي في أفضل حاالتها ال‬
‫يمكنها ّإل تفسير الشرور األخالقية في هذا العالم فقط‪ ،‬في حين أن الكثير من‬
‫الشرور التي تقع في هذا العالم هي من قبيل الشرور الطبيعية؛ وهي شرور ال دخل‬
‫‪267‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫الختيار اإلنسان في حدوثها‪ .‬وعلى هذا األساس فإن أطروحة الدفاع القائم على‬
‫االختيار حتى إذا كانت مجدية‪ ،‬فهي إنما تجدي في تقديم التبرير األخالقي الوجيه‬
‫بالنسبة إلى بعض الشرور الواقعة في هذا العالم‪ ،‬وأما الجزء األعظم من الشرور‪،‬‬
‫وهي الشرور الطبيعية فتخرج عن دائرة التبرير‪ ،‬وال يمكن طبقا ألطروحة الدفاع‬
‫القائم على االختيار تبرئة ساحة ال ّله من هذا النوع من الشرور‪.‬‬
‫هذه ثالثة انتقادات رئيسة‪ ،‬وفيما يلي أود أن أذكر بعض النقاط واألمور بشأن‬
‫النقد األول‪.‬‬

‫مناقشة النقد األول‬


‫إن الصيغة الحديثة لالنتقاد األول قد تم طرحها من قبل الفيلسوف التحليلي‬
‫الشهير ج‪ .‬ل‪ .‬ماكي‪ .2‬يقول ماكي إن الفرضية األولى في أطروحة الدفاع القائم‬
‫على االختيار‪ ،‬والتي تقول إن ال ّله في لحظة الخلق كان أمام خيارين‪ ،‬غير صحيحة‪.‬‬
‫فقد كان الخيار األول أن يخلق ال ّله عالما تفتقر الكائنات فيه إلى عنصر االختيار‪،‬‬
‫ولنطلق عليه اختصارا مصطلح «العالم األول»‪ ،‬والخيار الثاني أن يخلق عالما تتمتع‬
‫فيه الكائنات باإلرادة واالختيار‪ ،‬ولنطلق على هذا العالم اختصارا مصطلح «العالم‬
‫الثاني»‪ .‬وكان القائلون بأطروحة الدفاع القائم على االختيار يقولون بأن العالم‬
‫وأن ال ّله‬
‫المتصف باإلرادة واالختيار خير من العالم المسلوب اإلرادة واالختيار‪ّ ،‬‬
‫في مقام المقارنة بين هذين العالمين‪ ،‬قد اختار خلق العالم األفضل «العالم الثاني»‪،‬‬
‫انفتح باب الشرور في هذا العالم‪ ،‬بيد أن ماكي‬
‫ولكنه ما إن خلق العالم الثاني‪ ،‬حتى َ‬
‫يقول‪ :‬هناك عالم ثالث يمكن تصوره في البين؛ وهو عالم يحتوي على حسنات‬
‫ٍ‬
‫وخال من‬ ‫العالمين األول والثاني‪ ،‬بمعنى أنه متصف باالختيار مثل العالم الثاني‪،‬‬
‫الشر مثل العالم األول‪ .‬وهذا العالم الثالث أفضل بكثير من العالمين األولين‪ .‬يقوم‬

‫‪ 2‬ــ جون ليسلي ماكي (‪ 1917‬ــ ‪ 1981‬م)‪ :‬فيلسوف أسترالي ملحد‪ ،‬اشتهر بآرائه ما وراء األخالقية‪،‬‬
‫وال سيما دفاعة عن مذهب الشك األخالقي‪ .‬من أشهر كتبه (األخالقيات‪ :‬االختراع الصائب‬
‫والخاطئ)‪ ،‬وقد استهله بجملته الحاسمة التي يقول فيها‪( :‬ال وجود للحقيقة العينية)؛ ليستدل‬
‫عرب)‪.‬‬ ‫(الم ّ‬
‫بعد ذلك على ضرورة اختراع األخالقيات دون اكتشافها؛ إذ ال وجود لها‪ُ ،‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪268‬‬
‫استدالل «ماكي» على إمكان هذا العالم الثالث‪ ،.‬ويمكن لك أن تتصور هذا العالم‬
‫من خالل شخص ال يرتكب أي خطأ ولم يرتكب أي شر في حياته‪ ،‬ولنفترض‬
‫وجود مثل هذا اإلنسان في شخص «المهاتما غاندي» فهو على الرغم من قدرته‬
‫ف حياته على فعل الخير‪ ،‬وافتراض عالم‬ ‫على فعل الشرور‪ ،‬قد اختار بإرادته أن ي ِ‬
‫وق َ‬ ‫ُ‬
‫يكون فيه جميع الناس من أمثال «المهاتما غاندي» ليس محاال من الناحية المنطقية‪،‬‬
‫ففي هذا العالم الذي هو عالم ممكن‪ ،‬نعيش متمتعين بإرادتنا واختيارنا‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نختار أفعال الخير ونجتنب أفعال الشر كما صنع «المهاتما غاندي» مثال‪ .‬لنعد اآلن‬
‫إلى التعريف الذي يقدمه المؤمنون بال ّله عن القدرة المطلقة‪ ،‬بمعنى أن ال ّله قادر‬
‫على فعل كل شيء ممكن من الناحية المنطقية‪ ،‬فإذا كان هذا العالم الثالث ممكنا‪،‬‬
‫وهو كذلك‪ ،‬وإذا كان ال ّله قادرا بشكل مطلق‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬إذن يمكن ل ّله أن يخلق‬
‫هذا العالم الثالث‪ ،‬وبالتالي يمكنه ْ‬
‫أن يخلق عالما تختار فيه الكائنات أفعال الخير‪،‬‬
‫وتتجنب ارتكاب الشرور‪ .‬يمكن ل ّله إذن أن يخلق عالما ثالثا يتصف باالختيار‬
‫ويخلو من الشرور‪ ،‬ولكن الحقيقة هي أن هذا العالم الثالث لم يتم خلقه‪ ،‬فالعالم‬
‫الذي نعيش فيه حاليا هو العالم الثاني‪ .‬ومن هنا يذهب ماكي إلى االدعاء بأن ال ّله‬
‫كان بإمكانه أن يخلق مثل هذا العالم األفضل المشتمل على الخير والخالي من‬
‫الشر‪ ،‬وكان عليه بمقتضى خيريته أن يخلق هذا العالم‪ ،‬وحيث إنه لم يقم بخلق هذا‬
‫العالم‪ ،‬وجب التشكيك في خيريته‪.‬‬
‫فما الذي يمكن قوله في الجواب عن هذا النقد الهام؟ لقد كان بالنتينغا من بين‬
‫الفالسفة الذين خاضوا في هذا النقد‪ ،‬وقدم له إجابة ملفتة لالنتباه‪ .‬فقد أذعن بالنتينغا‬
‫بأن العالم الذي يتحدث عنه ماكي هو عالم ممكن‪ ،‬بمعنى أن باإلمكان أن نفترض ــ‬
‫الكائنات مختارةً‪ ،‬وأنها تختار فعل الخيرات‬
‫ُ‬ ‫من الناحية المنطقية ــ عالما تكون فيه‬
‫وتجتنب الشرور على الدوام‪ ،‬بيد أن الخطأ الذي يرتكبه ماكي هو أنه يدعي أن خلق‬
‫هذا العالم يدخل في قدرة ال ّله‪ّ ،‬‬
‫وأن هذه الفرضية تعود بطبيعة الحال إلى غوتفريد‬
‫فيلهيلم ليبنتز‪ 3‬الذي صاغ هذا المفهوم في فلسفة الغرب‪ ،‬وهو المفهوم القائل بأن ال ّله‬

‫‪ 3‬غوتفريد فيلهيلم ليبنتز (‪ 1646‬ــ ‪ 1716‬م)‪ :‬فيلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي‬
‫ومكتبي ومحام ألماني الجنسية‪ .‬عرف عنه تفاؤله بأن هذا الكون هو أكمل خلق ال ّله‪ ،‬بحيث ال‬
‫‪269‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫إذا كان يتصف بالقدرة المطلقة‪ ،‬أمكنه خلق كل عالم ممكن‪ .‬وقد كانت هذه القاعدة‬
‫ــ بطبيعة الحال ــ هي القاعدة التي آمن بها الكثير من المؤمنين التقليديين في األديان‬
‫التوحيدية‪ .‬إال أن بالنتينغا قد ذهب إلى االدعاء بأن هذا االفتراض غير صحيح‪ ،‬وقال بأن‬
‫ال ّله غير قادر على خلق كل عالم ممكن‪ ،‬وقد تقدم أن ذكرنا أن قدرة ال ّله طبقا لإللهيات‬
‫التوحيدية تتحدد بحدود المحاالت المنطقية‪ ،‬فإذا لم يكن ممكنا من الناحية المنطقية‪،‬‬
‫فسوف يستحيل على ال ّله أن يقوم به‪ .‬إال أن بالنتينغا يقدم مزيدا من اإليضاح بشأن هذا‬
‫أن أمر العا َلم ال ينحصر هنا في الممكنات فقط‪ ،‬بل علينا أن نسأل أنفسنا‪:‬‬
‫التعريف‪ ،‬ويرى ّ‬
‫هل يمكن ل ّله أن يخلق مثل هذه العوالم أم ال؟ ولكي يتضح أن خلق عالم ممكنًا غير‬
‫ممكن ل ّله من الناحية المنطقية‪ ،‬في مثل هذه الحالة حتى إذا كان ذلك العالم ممكنا‪ ،‬إال‬
‫أن عدم تمكن ال ّله من خلق هذا العالم ال يضر بقدرة ال ّله المطلقة؛ وذلك ألننا عندما نقول‬
‫إن ال ّله قادر مطلق‪ ،‬نريد بذلك أن قدرة ال ّله تنحصر بحدود المحاالت المنطقية‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أنه إذا كان القيام بفعل غير ممكن بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية‪ ،‬فإن ال ّله ال‬
‫أن عدم القيام بذلك األمر ال ُينقص من قدرة ال ّله المطلقة‪ .‬يذهب‬
‫يستطيع أن يقوم به‪ ،‬أي ّ‬
‫بالنينغا إلى االعتقاد بأن العالم الثالث ممكن‪ ،‬إال أن خلقه رهن بإرادة وقرار حر من‬
‫سكان هذا العالم الثالث‪ ،‬وليس بقرار وإرادة من ال ّله‪ ،‬إذ طبقا للتعريف‪ ،‬ال يمكن تحديد‬
‫وتعيين القرارات االختيارية من خالل العوامل والشرائط على نحو سابق‪ .‬بمعنى أن ال ّله‬
‫إذا أراد أن يتدخل‪ ،‬ويضطر الكائنات بنحو من األنحاء إلى القيام دائما بأعمال الخير‪ ،‬لن‬
‫تعود هذه الكائنات مختارة‪ ،‬فعلى هذه الكائنات أن تتخذ قرارها بنفسها‪ ،‬وأن تختار فعل‬
‫الخيرات بإرادتها‪ ،‬وأن تجتنب جميع الشرور بحريتها وقرارها‪ ،‬وبالتالي فإن خالصة ما‬
‫يريد بالنتينغا قوله هو أن هذا العالم الثالث ممكن من الناحية المنطقية‪ ،‬إال أن خلقه محال‬
‫على ال ّله‪ ،‬فال يمكن أن يوجد إال إذا أراد سكانه ذلك‪ .‬وعلى هذا األساس فإن ال ّله عندما‬
‫خلق هذا العالم كان يرجو أن يخلق هذا العالم الثالث‪ ،‬إال أن اختيار سكان هذا العالم بين‬
‫أن يخلقوا العالم الثالث أو العالم الثاني‪ ،‬خارج عن إرادة ال ّله‪ ،‬إذ إنه رهن بإرادة وقرار‬
‫سكان هذا العالم‪ .‬وعليه يمكن للمؤمنين في حيال نقد ماكي أن يلتزموا بأن العالم الثالث‬

‫يمكن أن يوجد أكمل منه‪ .‬كما أنه كان باإلضافة إلى (رينيه ديكارت)‪ ،‬و(باروخ سبينوزا)‪ ،‬أحد‬
‫أعمدة الفلسفة العقالنية خالل القرن السابع عشر للميالد‪.‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪270‬‬
‫ــ العالم المتصف باالختيار والخالي من الشرور ــ ممكن‪ ،‬بيد أنه خالفا لـليبنيتز وخالفا‬
‫لـماكي يجب االدعاء في الحقيقة أن هذا العالم وإن كان ممكنا‪ ،‬إال أن تحققه غير ممكن‬
‫بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية‪ ،‬إذ تحقق هذا العالم رهن بإرادة سكانه‪ ،‬فإذا أراد‬
‫سكان هذا العالم القيام بالخيرات فقط‪ ،‬فإن هذا العالم الثالث سيتحقق‪ ،‬وإذا لم يريدوا‬
‫ذلك؛ تحقق العالم الثاني‪ .‬بعبارة أخرى إن ال ّله خلق عالما يمكنه أن يتصف بأنه عالم ثان‬
‫كما يمكنه أن يتصف بأنه عالم ثالث؛ وحيث خلق الكائنات فيه حرة مريدة ومختارة‪،‬‬
‫فقد ترك لهذه الكائنات حرية اختيار أحد هذين العالمين‪ ،‬وتحديد هوية هذا العالم الذي‬
‫يمكن له أن يكون عالما ثالثا‪ ،‬ويمكن له أن يكون عالما ثانيا‪ ،‬وبذلك يبدو أن انتقاد ماكي‬
‫على أطروحة الدفاع القائم على االختيار غير وارد‪ ،‬وأنه في الحقيقة قد أقام استدالله‬
‫على شيء يطلق عليه بالنتينغا اسم «خطأ ليبنيتز»‪ ،‬بمعنى اإلدراك الخاطئ لمفهوم القدرة‬
‫اإللهية‪ ،‬إذ يجب أن يكون لدينا إدراك أكبر لتعريف القدرة اإللهية‪ ،‬فعندما نقول إن ال ّله‬
‫قادر مطلق‪ ،‬نريد بذلك أن ال ّله قادر على أن يحقق كل عالم ممكن يكون تحققه ممكنا‬
‫بالنسبة له من الناحية المنطقية‪ .‬وإذا أخذتم ذلك في تعريفكم وفهمكم لمفهوم القدرة‬
‫اإللهية المطلقة‪ ،‬يكون العالم الثالث رغم إمكانه إال أن تحققه خارج عن دائرة قدرة ال ّله‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأن سكان هذا العالم هم الذين يستطيعون تحقيقه أو عدم تحقيقه تبعا إلرادتهم والقرار‬
‫الذي يتخذونه‪ ،‬وبذلك يبدو أن هذا النقد ال يتمتع بالوزن واالعتبار الكافي من الناحية‬
‫المنطقية‪.‬‬
‫يفترض النقد‬
‫ُ‬ ‫يبقى هناك ــ بطبيعة الحال ــ انتقادان يجب علينا اإلجابة عنهما‪ ،‬إذ‬
‫الثاني أن مشكلة قدرة ال ّله محلولة‪ ،‬بيد أن ال ّله باإلضافة إلى ذلك عالم مطلق أيضا‪،‬‬
‫وعلمه المطلق يتضمن العلم السابق‪ ،‬بمعنى أن ال ّله يعلم ماذا سيحدث في المستقبل‪،‬‬
‫وألن ال ّل َه ــ طبقا للتعريف ــ ال يستطيع أن يتع ّلق بأي قضية كاذبة‪ ،‬فإن علم ال ّله يجب أن‬
‫ّ‬
‫علم ال ّله األزلي‪ .‬وإذا كان‬
‫يتعلق بما سيصدر عنا فقط‪ ،‬وأال يصدر عنا سوى ما تعلق به ُ‬
‫األمر كذلك‪ ،‬لن يكون باإلمكان أن يصدر عنا سوى ما قدر لنا‪ ،‬وأساسا ال يمكن للفعل‬
‫االختياري أن يصدر عنا‪ ،‬وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬
‫تقوم على فرضية خاطئة؛ فرضية اختيار اإلنسان‪ .‬والنقد الثالث ــ كما سبق بيانُه ــ يعود‬
‫إلى طريقة بيان الشرور الطبيعية في هذا العالم‪.‬‬
‫‪271‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫إن ال ّله ــ من الناحية األخالقية ــ لديه سبب وجيه فيما يتعلق بوجود الشرور في‬
‫ّ‬
‫هذا العالم‪ ،‬فال ّله عند خلق هذا العالم كان أمام خيارين؛ وهما‪ :‬أن يخلق عالما مختارا‪،‬‬
‫أو أن يخلق عالما فاقدا لالختيار‪ .‬وحيث أن االختيار والقدرة على القيام بالخيرات‬
‫األخالقية المتوقفة على االختيار ينطوي على خير عظيم وق ّيم‪ ،‬فقد اختار خلق هذا‬
‫العالم‪ ،‬ولكن بمجرد خلقه هذا العالم المختار‪ ،‬وقعت مسؤولية القيام ببعض األمور‬
‫على عاتق الكائنات المختارة التي تقطنه‪ ،‬إذ إنهم أحرار في أن يقوموا بتلك األعمال أو‬
‫باب وقوع الشرور في هذا العالم‪ ،‬فالفاعل‬
‫يتركوها‪ .‬وبطبيعة الحال فتح هذا اإلمكان َ‬
‫المختار في هذا العالم قد يعقد العزم على ارتكاب بعض األعمال الشريرة‪ ،‬وبالتالي‬
‫تظهر الشرور في هذا العالم‪ .‬وعلى هذا األساس فإن إمكان تحقق الشرور في هذا‬
‫العالم يمثل شرطا ضروريا لتحقق االختيار فيه‪ ،‬فال ّله لو أمكنه أن يسلب اإلنسان‬
‫القدرة على اختيار الشر‪ ،‬فإنه في الحقيقة سيكون بمعنى من المعاني قد سلبه القدرة‬
‫على االختيار‪ .‬وعلى هذا األساس فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬تقوم على‬
‫فرضية وجود االختيار في هذا العالم‪ .‬تقدم أن شرحنا واحدا من االنتقادات الواردة‬
‫على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬وهو النقد القائل بأن الخيارات الموضوعة‬
‫أمام ال ّله عند الخلق ال تنحصر بهذين الخيارين فقط‪ ،‬وإنما هناك خيار ثالث؛ إذ يمكن‬
‫ل ّله أن يخلق عالما ثالثا يكون فيه اإلنسان مختارا‪ ،‬وأنه يختار فعل الخيرات دائما‪،‬‬
‫ويترك أفعال الشر‪ ،‬وأن هذا العالم الثالث خير من العالم األول ومن العالم الثاني؛ ألنه‬
‫ينطوي على حسنات العالم الثاني وحسنات العالم األول‪ ،‬ويتنزه عن سيئاتهما‪ .‬من هنا‬
‫يجب على ال ّله المتصف بحب الخير أن يخلق هذا العالم الثالث‪ ،‬وحيث إنه لم يخلقه‬
‫وجب التشكيك في اتصافه بالخير‪ .‬وفي معرض اإلجابة عن هذا النقد‪ ،‬هناك من يعتقد‬
‫بأن هذا العالم الثالث وإن كان ممكنا من الناحية المنطقية‪ ،‬إال أن تحققه غير ممكن‬
‫بالنسبة إلى ال ّله من الناحية المنطقية‪ ،‬إذ ال ّله وإن كان قادرا مطلقا‪ ،‬إال أنه ال يستطيع‬
‫خلق هذا العالم دون نقض اختيار اإلنسان‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن خلق هذا العالم المثالي‬
‫متروك للناس أنفسهم‪ ،‬فإن قرروا فعل الخير دائما وأبدا وترك الشرور مطلقا‪ ،‬تحقق‬
‫العالم الثالث‪ ،‬وإن قرروا فعل الشرور فلن يتحقق هذا العالم الثالث بطبيعة الحال‪،‬‬
‫إنما الذي سيتحقق هو العالم الثاني‪ ،‬أي العالم الواجد لالختيار والذي ينطوي على‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪272‬‬
‫الشرور‪ .‬وعليه فإن هذا العالم الثالث وإن كان ممكن التحقق‪ ،‬إال أن تحققه رهن بإرادة‬
‫الناس وسكان هذا العالم أنفسهم‪ ،‬وعليه ال يكون تحقيق هذا العالم ممكنا ل ّله من‬
‫الناحية المنطقية‪.‬‬

‫مناقشة النقد الثاني‬


‫بيد أن أطروحة الدفاع القائم على االختيار قد تعرضت لالنتقاد من جهة أخرى‬
‫أيضا‪ ،‬إذ يستهدف النقد الثاني في الحقيقة أصل وجود االختيار‪ ،‬فيرى أنه من الصعب‬
‫على الناس القول بوجود االختيار في إطار فرضيات اإللهيات التوحيدية‪ ،‬وأنك إذا‬
‫كنت تعتقد بأن ال ّله عالم مطلق وأنه مطلع على جميع أحداث هذا العالم‪ ،‬ال يعود‬
‫بإمكانك القول بمفهوم االختيار‪ .‬إن هذا النقد الثاني ــ المتمثل بالعالقة بين العلم‬
‫المطلق‪ ،‬أو ما يتصف به ال ّله من العلم السابق «علم الغيب» واختيار اإلنسان ــ قد‬
‫أثار الكثير من الجدل والمسائل الشائكة والمعقدة في حقل فلسفة الدين المعاصرة‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال فإن الفلسفة القديمة قد تعرضت لبحث هذا الموضوع بالتفصيل‪ ،‬وال‬
‫يزال الحوار حولها قائما في فلسفة الدين المعاصرة‪ ،‬إال أننا ــ بطبيعة الحال ــ لسنا هنا‬
‫بصدد بيان الدقائق الفنية لهذا البحث‪ ،‬كما أن ذلك سوف يخرجنا عن نطاق موضوعنا‬
‫المتمثل بمسألة وجود الشر في العالم‪ ،‬إال أنني مع ذلك سأكتفي باإلشارة إلى أهم‬
‫المواضيع والمواضع التي أثيرت من قبل فالسفة الدين في هذا الشأن‪ ،‬إذ نجد موقفين‬
‫مختلفين بين القائلين باإللهيات التوحيدية فيما يتعلق بالنسبة إلى اختيار اإلنسان وعلم‬
‫ال ّله المطلق‪ ،‬فقد ذهبت جماعة إلى عدم االنسجام بين القول بعلم ال ّله المطلق والقول‬
‫باختيار اإلنسان‪ ،‬وذهبت جماعة أخرى إلى العكس من ذلك‪ ،‬وقالت بعدم وجود‬
‫التناقض بين القولين‪ ،‬وقد تعاطت هاتان الجماعتان ــ بطبيعة الحال ــ مع مسألة الشر‬
‫بأساليب مختلفة‪.‬‬
‫ال بد أوال من إيضاح أصل المسألة‪ ،‬مع بيان السبب الذي يدعو البعض إلى القول‬
‫بعد االنسجام بين القول بعلم ال ّله المطلق والقول باختيار اإلنسان‪ ،‬وأنك إذا قلت بعلم‬
‫ال ّله المطلق‪ ،‬ال مناص لك من القول بعد اختيار اإلنسان‪ .‬ما هو المعنى الذي نأخذه‬
‫بنظر االعتبار عند قولنا‪« :‬إن ال ّله عالم مطلق»؟ يبدو أننا عندما نتحدث عن علم ال ّله‬
‫‪273‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫المطلق‪ ،‬يكون من بين مدلوالت هذا الكالم أن ال ّله ال يعتقد بأي قضية كاذبة‪ ،‬وال‬
‫يمكنه أن يعتقد بها‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن ال ّله ال يتعرض إلى الخطأ من الناحية المعرفية؛‬
‫وهذا هو الجانب السلبي من علم ال ّله المطلق والذي يعني أن علم ال ّله المطلق يحول‬
‫دون تسلل القضايا الكاذبة إلى المنظومة المعرفية ل ّله‪ ،‬أما الجانب اإليجابي فيدعي‬
‫أن ال ّله عالم بجميع القضايا الصادقة‪ .‬وعلى هذا األساس فإن من بين مدلوالت علم‬
‫ال ّله المطلق هو أن ال ّله يعلم بكل ما يحدث أو يقع في هذا العالم سواء في الماضي أو‬
‫الحاضر‪ ،‬واألهم من ذلك أنه يعلم ما سوف يحدث في المستقبل أيضا‪ ،‬فإذا افترضنا‬
‫أن حادثة سوف تقع في هذه الوحدة الزمنية‪ ،‬فإن ال ّله يعلم بها قبل وقوعها‪ ،‬إذ لو كنت‬
‫سأشرب كوب لبن غدا‪ ،‬فإن ال ّله في أي وقت مضى يعلم أني سأشرب كوب اللبن غدا‪،‬‬
‫وهذا ما يسمى بعلم ال ّله السابق‪ ،‬أي أن ال ّله كان عالما منذ األزل بأحداث المستقبل‪،‬‬
‫بما في ذلك أفعال البشر‪ .‬وعلى هذا األساس يكون علم ال ّله المطلق في الوقت نفسه‬
‫متضمنا لعلمه السابق بوقائع المستقبل بما فيها أفعال اإلنسان‪ ،‬لذا فال ّله كان على الدوام‬
‫يعلم بأفعالنا نحن البشر التي سنقوم بها في الوحدة الزمنية الخاصة بها‪.‬‬
‫أما القائلون بعدم انسجام علم ال ّله المطلق مع القول باختيار اإلنسان‪ ،‬فيقولون‪ :‬إذا‬
‫كان ال ّله يمتلك مثل هذا العلم حقيقة‪ ،‬فهل يمكن اعتبار شرب الشخص للبن غدا‪ ،‬فعال‬
‫اختياريا له؟ علينا أال ننسى أن االختيار ــ طبقا لمعنى االختيار في أطروحة الدفاع القائم‬
‫على االختيار ــ يعني قدرتك على فعل الشيء وتركه على السواء‪ ،‬فإذا افترضنا أن ال ّله‬
‫كان يعلم قبل مئة سنة أني سأشرب اللبن غدا‪ ،‬فهل سيمكن لي أن أمتنع عن شرب اللبن‬
‫غدا؟ لنفترض أنني سأمتنع عن شرب اللبن‪ ،‬ولكن هذا سيعني أن علم ال ّله السابق لم‬
‫يكن صحيحا‪ ،‬وحيث أن ال ّله يستحيل عليه الخطأ‪ ،‬وأنه بوصفه عالما مطلقا‪ ،‬ال يعتقد‬
‫بأي قضية كاذبة‪ ،‬فهذا يعني أني سوف أشرب اللبن غدا ال محالة‪ ،‬وأنني ال أستطيع غير‬
‫ذلك‪ .‬وعليه يبدو وجود مشكلة هنا‪ ،‬فما هو الطريق إلى حلها؟‬
‫إن واحدة من طرق الحل قد تكون على صيغة أن يقول شخص‪ :‬إن ذلك يعني‬
‫أني أستطيع اليوم أن أقوم بفعل كان ال ّله قبل ثمانين سنة يعلم بغير الذي كان يعلم به‬
‫اآلن‪ ،‬إال أن هذا ال يبدو صحيحا‪ ،‬وأن الماضي ال يمكن تغييره‪ .‬فلنفترض أنني قبل‬
‫عشر سنوات كنت أعتقد مثال أن حكم اإلعدام من الناحية األخالقية غير جائز في‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪274‬‬
‫بعض الموارد‪ ،‬واليوم قد تغير رأيي في هذا الشأن‪ ،‬صحيح أنني أعتقد بهذا الرأي‬
‫حاليا‪ ،‬ولكن ليس ألحد اليوم أن يقوم بشيء ليثبت أني لم أكن أعتقد بذلك االعتقاد‬
‫قبل عشر سنوات‪ ،‬وال أستطيع اآلن أن أقوم بشيء يعمل على تغيير القضية التي‬
‫كان ال ّله يعلم بها قبل ثمانين سنة‪ .‬وبذلك نحصل على أصل جديد‪ ،‬وهو األصل‬
‫القائل باستحالة التصرف في الماضي؛ ما يعني أني ال أستطيع تغيير علم ال ّله وما كان‬
‫يعتقده قبل ثمانين سنة‪ ،‬فإذا كان األمر كذلك فهذا يعني أننا سنواجه مشكلة هامة‪،‬‬
‫إذ ال يمكن تغيير علم ال ّله من الناحية المنطقية‪ ،‬وحيث أن الفعل الذي أقوم به اليوم‬
‫يجب أن يصدق قضية علم ال ّله بأني سأقوم بالفعل «أ»‪ ،‬فهذا يعني أني ال أستطيع إال‬
‫أن أقوم بذلك الفعل «أ»‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬يمكن بيان صورة االستدالل على الشكل اآلتي‪ :‬إذا كان ال ّله قبل‬
‫ثمانين سنة يعلم بأني سأشرب غدا كوب لبن‪ ،‬فإني في مثل هذه الحالة سأشرب غدا‬
‫كوب لبن‪ .‬وهذا يعني أنني سأشرب كوب اللبن غدا حتما‪ ،‬وألنه ال يستطيع أحد تغيير‬
‫وألن أن ال ّله ال يجوز عليه الخطأ‪ ،‬لذا ال أستطيع القيام بغير ذلك‪ .‬وإذا كان‬
‫ّ‬ ‫الماضي‪،‬‬
‫األمر كذلك‪ ،‬فهذا يعني أني لست مختارا في هذا الفعل؛ إذ إن شرط االختيار هو أنني‬
‫في لحظة القيام بالفعل أستطيع فعله وتركه على السواء‪ ،‬وألن هذا اإلمكان غير متوفر‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬فلن يكون فعلي ــ بطبيعة الحال ــ فعال اختياريا‪ ،‬ويمكن بيان صورة هذا‬
‫االستدالل على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إذا علم ال ّله ضرورة بأني سأقوم غدا بالفعل «أ»‪ ،‬فإنني سأقوم غدا بالفعل «أ»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا بالفعل «أ»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إني سأقوم غدا بالفعل «أ» ضرورة‪ .‬وعليه‪:‬‬
‫‪ 4‬ـ إن قيامي بالفعل «أ» لن يكون اختياريا‪.‬‬
‫ال بد لنا من دراسة هذا االستدالل‪ ،‬إذ يمكن بيان الصورة الخام لهذا االستدالل‬
‫الذي ذكرته‪ ،‬من الناحية الفنية والمنطقية ــ في حده األدنى ــ على النحو اآلتي‪:‬‬
‫لنفترض أني أظهر مفهوم الضرورة على شكل نجمة كما هو الحال في منطق‬
‫الموجهات‪ .‬وعليه ستكون الصورة المنطقية للبرهان على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪275‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫»‪ Q‬ــ ‪* «P‬‬


‫‪P‬‬
‫‪*Q‬‬
‫إن هذه الصورة لالستدالل‪ ،‬تمثل استدالال سيئا‪ ،‬ألنه غير منتج‪ ،‬وألن مقدمات هذا‬
‫البرهان ال تؤدي إلى النتائج المنشودة‪ .‬وفي الحقيقة فإن هذه الصيغة من االستدالل‬
‫تمثل مغالطة مشهورة جدا نرتكبها هنا في منطق الموجهات‪ .‬وعندما نقول إن هذه‬
‫الصورة من االستدالل تنطوي على مغالطة وإنها غير منتجة‪ ،‬فهذا يعني أني أستطيع‬
‫أن أقدم مصداقا لهذا البرهان‪ ،‬بحيث تكون مقدماته صادقة‪ ،‬ومع ذلك يؤدي إلى نتيجة‬
‫كاذبة‪ .‬فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فهذا يعني أن هذه الصورة من البرهان ال تستطيع أن تنقل‬
‫صدق المقدمات إلى النتيجة‪ ،‬وبذلك ال يكون البرهان معتبرا‪ .‬لنذكر مثاال في هذا‬
‫الشأن‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ من الضروري إذا كنت عزبا‪ ،‬أال تكون لدي زوجة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لنفترض أني كنت عزبا حقا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تدعي نتيجة هذا البرهان أني ال زوجة لي بالضرورة‪.‬‬
‫إن هذه النتيجة خاطئة‪ ،‬إذ يمكن لك أن تفترض صدق المقدمة األولى والثانية‪،‬‬
‫إال أن القضية الثالثة ليست صادقة‪ .‬إذ إن معنى «الضروري» هو أني في جميع العوالم‬
‫الممكنة شخص غير صاحب زوجة‪ ،‬وهذا خطأ‪ .‬من الممكن أن يكون األمر كذلك‬
‫في عالم الواقع‪ ،‬ولكن هناك ما ال نهاية له من العوالم الممكنة التي أكون فيها صاحب‬
‫زوجة‪ .‬وعليه ال يمكن أن نستنتج القضية الثالثة من المقدمتين األولى والثانية‪.‬‬
‫إن الذي تنتجه المقدمات‪ ،‬ويمثل الصورة الصحية لالستدالل‪ ،‬هو كاآلتي‪:‬‬
‫* «‪ Q‬ــ ‪»P‬‬
‫‪P‬‬
‫‪ Q‬ــ ‪P‬‬
‫‪Q‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪276‬‬
‫بمعنى أن الذي يحصل هو هذا البرهان الثاني‪ ،‬دون ذلك البرهان األول‪ ،‬فالحاصل‬
‫هو أن ‪ Q‬صادق في العالم الواقع‪ ،‬وليس في أي عالم ممكن‪ ،‬كما هو ادعاء قضية‬
‫البرهان األول؛ ما يعني أن الفرد لو آمن ضرورة بأن ال ّله علم بأني سأقوم غدا بالفعل‬
‫«أ»‪ ،‬فإن النتيجة التي ستحصل هي أني سأقوم بالفعل «أ» واقعا‪ ،‬ال أني سأقوم به‬
‫ضرورة‪ .‬وهذا يعني بعبارة أخرى أن القضية الثالثة ليست صادقة بالضرورة‪ .‬بمعنى أني‬
‫سوف أقوم غدا بالفعل «أ» في عالم الواقع‪ ،‬وليس في أي عالم ممكن‪.‬‬
‫إن الذي ينفي االختيار هو مفردة «الضروري»؛ بمعنى أنه لو كان من الضروري أن‬
‫أقول بالفعل «أ» في كل عالم ممكن‪ ،‬فهذا يعني أني عندما أواجه الفعل «أ» ال يكون‬
‫أمامي من خيار سوى القيام بالفعل «أ»‪ ،‬بيد أنه طبقا لهذا االستدالل رغم أني أقوم‬
‫بالفعل «أ»‪ ،‬إال أنه كان بإمكاني أن أحجم عن القيام بالفعل «أ»‪ ،‬وعلى هذا األساس فإن‬
‫الشكل األول لهذا االستدالل من هذا البرهان يقوم في الحقيقة على مغالطة مشهورة‬
‫في منطق الموجهات‪ ،‬وأن مقدماته غير منتجة‪.‬‬
‫لحل هذه المشكلة يمكن لنا تغيير صورة هذا البرهان‪ ،‬كي يرتفع اإلشكال‪ .‬ال بد‬
‫حل لهذا اإلشكال من االلتفات إلى مسألة في غاية األهمية‪ ،‬وهي عبارة عن‬‫لنا من ٍّ‬
‫االختالف بين علمنا وعلم ال ّله‪ .‬فما هو هذا االختالف؟ لنفترض أني كنت صديقا لزيد‬
‫أدق التفاصيل الخاصة بحياته الشخصية وخصاله‬‫منذ سنوات طويلة‪ ،‬وكنت أعرف َّ‬
‫الروحية‪ ،‬وأعلم أنه يحب أكل اللحم األحمر ويكره أكل السمك‪ .‬وذات يوم كنت وإياه‬
‫مدعوين عند شخص على الغداء‪ ،‬وقد قدم على المائدة طبقين رئيسين‪ ،‬وكان أحدهما‬
‫مؤل ًفا من لحم البقر‪ ،‬واآلخر مؤل ًفا من السمك‪ ،‬وقبل أن يصل صديقي زيد‪ ،‬أخبرت‬
‫صاحب الدعوة أني على يقين من أن زيدا سوف يتناول لحم البقر حتما وأنه سوف‬
‫يجتنب األكل من طبق السمك‪ .‬فلنفترض أن زيدا عندما وصل وعرضنا عليه الطعام‪،‬‬
‫اختار أن يأكل من طبق لحم البقر كما كنت أعلم‪ .‬إن هذا ال يعني أن علمي بأنه سيأكل‬
‫من لحم البقر هو الذي اضطره إلى اختيار أكل لحم البقر دون السمك‪ ،‬وإنما قام علمي‬
‫على أساس معرفتي السابقة لخصائص زيد الشخصية والروحية‪ .‬قد يقول شخص‪:‬‬
‫إن هذا المثال يثبت أن علمنا ليس هو الذي يجبر األفراد على القيام ببعض األعمال‪،‬‬
‫بل يمكن لك بسبب ما تعرفه من األمور عن الشخص أن تتكهن بما سيقوم به‪ .‬وهذا‬
‫‪277‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫التكهن ال يعني أن ذلك الشخص ال يبقى أمامه من خيار سوى القيام بذلك الفعل‬
‫الذي تكهنت به‪ .‬ويقال الشيء ذاته بالنسبة إلى ال ّله أيضا‪ ،‬فال ّله بسبب معرفته العميقة‬
‫عن الناس‪ ،‬يتكهن أنك في اليوم القادم سوف تقوم بالفعل «أ»‪ ،‬وهذا ال يعني أن ال ّله‬
‫سيكرهك على القيام بالفعل «أ»‪.‬‬
‫إال أن هذه المقارنة بدورها تبدو مقارنة غير صحيحة أيضا‪ ،‬إذ هناك اختالف‬
‫جوهري بين علمي وعلم ال ّله‪ ،‬وذلك أننا لو فرضنا أن صديقي زيد قرر هذه المرة أن‬
‫يأكل السمك بدال من لحم البقر‪ ،‬وذلك ألنه بدأ مؤخرا يعاني من ارتفاع في الضغط‬
‫وغلظة في الدم‪ ،‬وقد نصحه الطبيب باالبتعاد عن تناول اللحوم الحمراء‪ ،‬واستبدالها‬
‫باللحوم الحمراء‪ ،‬وال سيما لحم السمك‪ .‬وهذا يعني أن تكهني لم يكن مصيبا؛ هل‬
‫يمكن قول ذات الشيء بالنسبة إلى ال ّله أيضا؟ الجواب‪ :‬كال‪ ،‬ألن ال ّله إذا تكهن بأن‬
‫صديقي سيأكل من طبق لحم البقر‪ ،‬واختار صديقي أن يأكل من طبق السمك‪ ،‬فهذا‬
‫يعني أن علم ال ّله سينقلب جهال‪ ،‬في حين أن علم ال ّله علم مطلق‪ ،‬وال يمكن أن يكون‬
‫كاذبا أبدا‪ .‬وعليه من الممكن لي أنا أن أخطئ‪ ،‬ولكن ال يمكن تصور هذا اإلمكان بحق‬
‫ال ّله أبدا‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس يمكن لنا أن نقوم بإجراء تصحيح وتعديل على هذا البرهان‬
‫المطروح بشأن عدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان‪ ،‬وذلك بأن نجري تعديال‬
‫المقدمة الثانية من هذا البرهان‪ ،‬وهي المقدمة القائلة‪« :‬إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا‬
‫بالفعل «أ»»‪ .‬وذلك بأن نوضح أن علم ال ّله هو من نوع خاص يختلف عن علمنا‪ ،‬حيث‬
‫أن علم ال ّله يكون بحيث يعلم بالضرورة أني سأقوم غدا بالفعل «أ»‪ .‬إذ لو كان الفعل‬
‫«أ» صادقا‪ ،‬فإن ال ّله لن يكون بإمكانه سوى العلم بالقضية الصادقة‪ .‬وهذا ما ال يصدق‬
‫علي أن أصدق بالقضايا التي قد يحدث أن تكون كاذبة‪ ،‬وهذا ما ال‬ ‫بحقي أنا؛ إذ يجوز ّ‬
‫يجوز بحق ال ّله‪ .‬وعليه يجب علينا أن نضيف إلى هذه القضية الثانية قيدا هاما‪ ،‬وهذا‬
‫القيد الهام هو «الضرورة»‪ .‬ولكي تكون هذه القضية صادقة يجب أن يكون ال ّله في هذه‬
‫الحالة عالما بأن القضية «أ» ستقع بالضرورة‪ ،‬وال يمكن له أن يعلم بقضية كاذبة أبدا‪.‬‬
‫وعليه يمكن بيان الشكل المعدل للبرهان على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ لو علم ال ّله بأني سأقوم غدا بالفعل «أ»‪ ،‬فإني سأقوم بذلك الفعل غدا بالضرورة‪.‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪278‬‬
‫‪ 2‬ـ إن ال ّله يعلم بأني سأقوم غدا بالفعل «أ» بالضرورة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إني سأقوم غدا بالفعل «أ» بالضرورة‪ .‬وعليه‪:‬‬
‫‪ 4‬ـ إن الفعل «أ» سيصدر عني غدا‪ ،‬دون إرادتي‪.‬‬
‫* «‪ Q‬ــ ‪»P‬‬
‫*‪P‬‬
‫*‪Q‬‬
‫إن هذا البرهان برهان معتبر‪ ،‬ويؤدي إلى النتيجة المطلوبة‪ ،‬إذ المطلوب من البرهان‬
‫أن ينتجه هو أني ال أستطيع بالضرورة أن أقوم بغير الفعل الذي قمت به‪ ،‬لذا فهذه الصورة‬
‫للبرهان ــ بطبيعة الحال ــ صورة معتبرة‪ .‬وعليه فإن الذي يقول بأن علم ال ّله المطلق ال‬
‫ينسجم مع اختيار اإلنسان يكون مخطأ‪ .‬إنما الذي ال ينسجم هو اختيار اإلنسان مع‬
‫علم ال ّله الذاتي «بالضرورة» العالم المطلق‪ .‬إن ال ّله المتصف بأنه عالم مطلق ذاتا‪ ،‬يعني‬
‫أنه ال يوجد عالم ممكن‪ ،‬وال يكون فيه ال ّله محيطا بجميع قضاياه الصادقة‪ ،‬أو عالما‬
‫ببعض قضاياه الكاذبة‪ .‬ما الذي يمكن قوله بشأن هذه الصورة المعدلة؟ لقد تم تقديم‬
‫إجابات متنوعة عن هذه الصيغة الجديدة للبرهان‪ ،‬وسوف نتناول هذه اإلجابات بمزيد‬
‫من التفصيل‪.‬‬
‫قلنا إن الدفاع القائم على االختيار يدّ عي أن أصل وجود االختيار بالنسبة إلى‬
‫اإلنسان‪ ،‬يمثل دليال أخالقيا وجيها ل ّله يبيح وجود الشرور في هذا العالم‪ّ ،‬إل أن‬
‫المنتقدين يشكلون على ذلك بالقول ّ‬
‫إن افتراض وجود االختيار لدى البشر يتعارض‬
‫مع بعض المعتقدات األخرى في النظام اإللهي التوحيدي‪ ،‬فعلى سبيل المثال يقوم‬
‫االفتراض في اإللهيات التوحيدية على أن ال ّله يتصف بالعلم المطلق‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫ال ّله يعلم حتى باألحداث التي ستقع في المستقبل أيضا‪ ،‬وهذا العلم اإللهي المطلق‬
‫ذكرت قبل ذلك صورة لهذا البرهان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ال ينسجم مع اختيار اإلنسان في أفعاله‪ ،‬ولقد‬
‫وشرحت أنها صورة غير دقيقة‪ ،‬وبينت سبب عدم دقتها‪ ،‬وحاولت أن أقدم صورة‬
‫أدق لهذا االدعاء‪ .‬يصطلح على االدعاء القائل بعد االنسجام بين علم ال ّله السابق‬
‫وافتراض اختيار اإلنسان بالرأي القائل بعدم االنسجام‪ ،‬وهناك في المقابل من ذهب‬
‫‪279‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫إلى القول بوجود االنسجام بين هذين المفهومين‪ .‬وإن الصورة األدق لبرهان القائلين‬
‫بعدم االنسجام هي أن ال ّله يعلم أني سوف أتناول غدا كوب لبن بالضرورة‪ .‬لنفترض‬
‫أني أقوم بهذا األمر‪ ،‬فإذا قمت بذلك تكون هذه القضية صادقة‪ ،‬وإذا كان ال ّله عالما‬
‫مطلقا‪ ،‬وجب أن يعلم بجميع القضايا الصادقة‪ .‬وعلى هذا األساس؛ أني سأشرب‬
‫هذا الكوب من اللبن‪ ،‬وكانت هذه القضية صادقة‪ ،‬فهذا يعني أن ال ّله كان يعلم دائما‬
‫أني سوف أتناول غدا كوب لبن بالضرورة‪ .‬ومن جهة أخرى إذا كان ال ّله يمتلك مثل‬
‫هذا العلم‪ ،‬بمعنى أنه كان يعلم دائما بأني سوف أتناول كوب اللبن غدا بالضرورة‪،‬‬
‫ففي مثل هذه الحالة سوف أقوم بتناول كوب اللبن غدا‪ ،‬وهذا يعني أن هذا األمر هو‬
‫الذي سيتحقق‪ ،‬وستكون نتيجة هاتين المقدمتين هي أني سوف أتناول كوب اللبن غدا‬
‫بالضرورة‪ .‬وعندما أقول «بالضرورة» فهذا يعني أني ال أمتلك أي خيار آخر غير شرب‬
‫ذلك الكوب من اللبن‪ .‬وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬وكان شربي لكوب اللبن هو الخيار‬
‫الوحيد المتوفر أمامي‪ ،‬ال يعود بإمكانك أن تعتبر شربي لذلك الكوب من اللبن فعال‬
‫اختياريا‪ .‬ألن الفرض في االختيار يقوم على وجود العديد من الخيارات وأن باإلمكان‬
‫القيام بالفعل «أ» أو تركه‪ ،‬أما إذا كان الخيار «أ» هو الخيار الوحيد الماثل أمامي‪ ،‬بحيث‬
‫ال يكون لدي من خيار آخر غير القيام بالعمل «أ»‪ ،‬فطبقا لهذا التحليل ال يمكن لك أن‬
‫تعتبر القيام بالفعل «أ» عمال اختياريا‪ .‬وعليه فإن القائلين بعدم االنسجام يذهبون إلى‬
‫االعتقاد بأننا من خالل االدعاء القائل بأن ال ّله بذاته عالم مطلق بالضرورة‪ ،‬وأن الزم‬
‫علمه المطلق أن يكون عالما بجميع القضايا الصادقة‪ ،‬نستنتج أن الفعل الذي سأقوم‬
‫به غدا الثابت في علم ال ّله السابق»‪ ،‬ال يمكن أن يصدر مني اختيارا‪ ،‬وبالتالي ال يمكن‬
‫لعلم ال ّله السابق أن ينسجم مع اختيار اإلنسان‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى يذهب القائلون باالنسجام إلى االعتقاد باختيار كال هذين‬
‫المفهومين‪ .‬إن القائلين باالنسجام ــ يعتقدون بانسجام علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان‬
‫ــ يذهبون إلى تبني ادعائين؛ وهما‪ :‬االدعاء األول‪ :‬إن ال ّله مثال كان يعلم قبل ثمانين سنة‬
‫بأني سوف أتناول اليوم كوب لبن‪ ،‬وهذا في الحقيقة يرتبط بعلم ال ّله السابق‪ ،‬واالدعاء‬
‫الثاني‪ :‬أن مفهوم االختيار يقتضي أن يكون بمقدوري اليوم تناول كوب لبن‪ .‬وبذلك‬
‫فإن القائلين باالنسجام يعتقدون بإمكان الجمع بين هاتين القضيتين‪ ،‬أما المنتقدون‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪280‬‬
‫فيقولون باستحالة اعتبار كلتا هاتين القضيتين صادقة‪ .‬إذ لو افترضنا أن بمقدوري أن‬
‫أحجم اليوم عن تناول كوب اللبن‪ ،‬فلنر ما هي التبعات والتداعيات التي سوف تترتب‬
‫على هذا اإلحجام‪:‬‬
‫التبعة األولى؛ أن يكون علم ال ّله كاذبا‪ :‬سيكون هذا األمر ممكنا إذا حدث واحد‬
‫من األمور التي سأشير إليها‪ .‬لنفترض مثال أنه كان بإمكاني اليوم ّأل أقوم بشيء كان‬
‫بأي أنني لو استطعت اليوم ّأل أشرب‬
‫ال ّله يعلم به قبل ثمانين سنة على نحو كاذب‪ْ ،‬‬
‫ذلك الكوب من اللبن‪ ،‬فهذا يعني أن علم ال ّله قبل ثمانين سنة المتعلق بأني سأشرب‬
‫كوب اللبن صباح هذا اليوم كان كاذبا‪ .‬وعلى هذا األساس إنما يمكنك االعتقاد بهاتين‬
‫القضيتين معا‪ ،‬إذا أذعنت في الوقت نفسه إلى أني اليوم يمكنني القيام بأمر يجعل من‬
‫العلم الذي كان ل ّله قبل ثمانين سنة علما كاذبا ّإل ّ‬
‫أن هذا االفتراض باطل؛ إذ لو اعتبرنا‬
‫عالما ُم ْط َل ًقا‪ ،‬ال يمكن عليه بأي حال من األحوال أن يعلم بقضية كاذبة‪ ،‬وهذا في‬
‫ال ّله ً‬
‫الحقيقة جزء من مفهوم العلم اإللهي‪ ،‬إذ عندما نقول إن ال ّله عالم بالمطلق في حد‬
‫ذاته بالضرورة‪ ،‬فهذا يعني استحالة أن تدخل في منظومته العلمية قضية كاذبة‪ ،‬وبالتالي‬
‫ينغلق هذا الطريق‪.‬‬
‫التبعة الثانية؛ تغيير الماضي‪ :‬هناك احتمال آخر أيضا‪ ،‬إذ لو ُ‬
‫قمت اليوم بأمر ال يعلمه‬
‫ال ّله بذلك العلم الذي كان يعلم به قبل ثمانين سنة‪ ،‬أي أن ال ّله قبل ثمانين سنة كان‬
‫يعلم بأني سوف أتناول اليوم كوب لبن‪ ،‬ولكني أستطيع اليوم أن أقوم بعمل يجنبني‬
‫شرب ذلك الكوب من اللبن‪ ،‬وهذا يعني أن بإمكاني القيام بشيء يغير الماضي؛ ما‬
‫يعني أال يكون ال ّله عالما بما كان يعلمه في الواقع‪ ،‬أو يلزم عن ذلك أني أستطيع اليوم‬
‫إلها قبل ثمانين سنة‪ ،‬ليس إلها في الواقع! وهذا‬
‫القيام بشيء يجعل الشخص الذي كان ً‬
‫االحتمال ال يمكن أن يكون مقبوال‪ ،‬إذ يستحيل تغيير الماضي‪ ،‬فإذا كان ال ّله قد علم‬
‫بشيء قبل ثمانين سنة‪ ،‬كان أمر ذلك الشيء محسوما‪ ،‬وال يمكنك أن تعمل على تغيير‬
‫إلها في الماضي‪ ،‬كان األمر مقضيا وال يمكنك‬
‫ذلك العلم‪ .‬أو إذا كان ذلك الشخص ً‬
‫اليوم أن تفعل شيء يجعل منه غير إله قبل ثمانين سنة!‬
‫وعلى هذا األساس فإن القائلين بعد االنسجام يقولون إنك على خطأ إذ تعتقد‬
‫بإمكان الجمع بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان‪ ،‬إذ إن اعتقادك هذا يدخل في دائرة‬
‫‪281‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫ِ‬
‫المستحيل‪ ،‬وذلك ألن ال ّله الذي يتَّصف بذاته بأنه عالم مطلق ال يمكنه أن يعلم ّ‬
‫بأي‬
‫قضية كاذبة‪ ،‬وعليه ال يمكنك أن تقوم بشيء يجعل من الممكن أن يتسلل إلى المنظومة‬
‫المعرفية ل ّله ــ الذي تفترضون أنه عالم مطلق ــ علم كاذب‪ .‬كذلك‪ ،‬ال يمكنك اليوم‬
‫أن تقوم بشيء من شأنه أن يغير الماضي؛ إذ يستحيل القيام بأي عمل يغير شيئا من‬
‫الماضي‪ ،‬وبالتالي يعتقد القائلون بعدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان أنك ما‬
‫أن ال ّله كان يعلم قبل ثمانين سنة‬
‫دمت معتقدا بهذين األصلين م ًعا‪ ،‬ال تستطيع أن تدعي ّ‬
‫أني سوف أتناول اليوم كوب لبن‪ ،‬وفي الوقت نفسه يمكنني اليوم أن أحجم عن تناول‬
‫هذا الكوب من اللبن‪ ،‬نوجز هذين األصلين‪:‬‬
‫األصل األول‪ :‬أن ال ّله بذاته عالم مطلق‪ ،‬ولذلك ال يمكنه أن يعلم بقضية كاذبة‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬إن إحداث أي تغيير أو تصرف في الماضي مستحيل‪.‬‬
‫أما القائلون بعدم االنسجام بين علم ال ّله واختيار اإلنسان فيرون عدم صدق هذين‬
‫القولين‪:‬‬
‫إن يعلم ال ّله العالم المطلق «على فرض وجوده» بقضية كاذبة‪.‬‬
‫استحالة التغيير والتصرف في األمور التي حدثت في الماضي‪.‬‬
‫إال أن القائلين باالنسجام يذهبون إلى االعتقاد بأن هذه االستنتاجات خاطئة‪ ،‬ولكي‬
‫يبينوا كيف يمكن الجمع بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان‪ ،‬وأن يكون كال هذين‬
‫األمرين صادقا‪ ،‬يخضعون هذين األصلين «األصل األول وهو اتصاف ال ّله بالعلم‬
‫المطلق‪ ،‬واألصل الثاني وهو استحالة تغيير الماضي أو التصرف فيه» للبحث والتأمل‪.‬‬
‫من هنا يتعين على القائلين باالنسجام إما أن يوضحوا أن هذين األصلين كاذبان‪ ،‬أو‬
‫إذا كانا صادقين كيف يمكن مع افتراض صدقهما‪ ،‬التصديق بوجود االنسجام بينهما‪.‬‬

‫جواب القائلين باالنسجام عن األصل األول‪:‬‬


‫األصل األول إن ال ّله المتصف بذاته بالعلم المطلق بالضرورة ال يمكنه العلم‬
‫ُ‬ ‫يقول‬
‫بأي قضية كاذبة؛ ومعنى هذا أني إذا أمكن لي اليوم أن أحجم عن شرب كوب اللبن‪،‬‬
‫ّ‬
‫وألن هذا‬ ‫فهذا يعني بحسب الظاهر أن ال ّله قبل ثمانين سنة كان يعلم بقضية كاذبة‪.‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪282‬‬
‫خيارا‬
‫ً‬ ‫األصل يرى استحالة أن يتعلق علم ال ّله بقضية كاذبة‪ ،‬فإنّه يبدو أننا ال نمتلك‬
‫غير الحكم بوجود التنافي بين علم ال ّله السابق وبين اختيار اإلنسان‪ .‬ال يرى القائلون‬
‫باالنسجام ذلك‪ ،‬ويقولون‪ :‬رغم صحة هذا األصل‪ ،‬إال أنه ال يؤدي إلى هذه النتيجة‬
‫المدعاة‪ ،‬وبالتّالي فإن القائلين باالنسجام ال ينكرون األصل األول‪ ،‬ويعترفون بأن‬
‫ال ّله يتصف ذاتا بالعلم المطلق ضرورة‪ ،‬ولكنهم ينكرون النتيجة التي يتوصل إليها‬
‫القائلون بعدم االنسجام‪ .‬ولنفترض هنا حالتين؛ الحالة األولى‪ :‬أن أقوم اليوم بالفعل‬
‫«أ» وأتناول كوب اللبن‪ .‬إذا قمت بذلك يتحقق لدينا عالم نطلق عليه اسم العالم ‪.W‬‬
‫وفي العالم ‪ W‬تكون القضية ‪ a‬صادقة‪ .‬تقول القضية ‪ a‬أني اليوم تناولت كوب لبن‪ ،‬لذا‬
‫لو قمت اليوم بالفعل ‪ a‬فإن العالم الذي يتحقق هو العالم ‪ ،W‬وفي هذا العالم تكون‬
‫القضية ‪ a‬صحيحة‪ .‬لذا‪ ،‬إذا كان ال ّله عالما مطلقا‪ ،‬فإنه يعلم ــ طبقا للتعريف ــ بجميع‬
‫القضايا الصادقة في العالم ‪ .W‬وإن القضية الصادقة في العالم ‪ W‬هي القضية ‪ .a‬وعلى‬
‫هذا األساس لو شربت كوب اللبن فإن الذي يتحقق هو العالم ‪ ،W‬وفي هذا العالم‬
‫تكون القضية ‪ a‬صادقة‪ ،‬وألن ال ّله عالم مطلقا فإنه يعلم بالضرورة أن القضية ‪ a‬صادقة؛‬
‫بمعنى أنه منذ ثمانين سنة كان يعلم بأن القضية ‪ a‬في ‪ W‬صادقة؛ بمقتضى اتصافه بالعلم‬
‫المطلق‪.‬‬
‫ولنفترض اآلن أني باستطاعتي اليوم أن أقوم بعمل آخر؛ أن أقوم بالفعل ‪ b‬بدال من‬
‫الفعل ‪ a‬وفي هذه الحالة فإنني من خالل القيام بالفعل ‪ b‬لن يكون المتحقق هو العالم‬
‫‪ ،W‬وإنما هو العالم ‪ .W1‬وفي هذا العالم ‪ W1‬ال تعود القضية ‪ a‬صحيحة‪ .‬إنما الصحيح‬
‫في العالم ‪ W1‬هي القضية ‪ .b‬إن القضية ‪ b‬هي القضية القائلة إن عمرا قد أحجم عن‬
‫شرب اللبن‪ .‬فإذا كان ال ّله عالما مطلقا‪ ،‬فإنه سيكون قبل ثمانين سنة عالما بأن الصادق‬
‫في العالم ‪ W1‬هي القضية ‪ ،b‬فال ّله كان يعلم قبل ثمانين سنة بالقضية ‪ .b‬وعلى هذا‬
‫األساس فإن القائلين باالنسجام يقولون إن قدرتي على اجتناب شرب هذا الكوب من‬
‫اللبن‪ ،‬ال يعني أن علم ال ّله قد تعلق بقضية كاذبة‪ ،‬فلو أني أحجمت عن تناول هذا اللبن‬
‫فإنه بدال من العالم ‪ W‬سيتحقق العالم ‪ .W1‬وفي العالم ‪ W1‬يكون عدم شربي لكوب‬
‫اللبن قضية صادقة‪ .‬وألن قضية عدم شربي للبن قضية صادقة‪ ،‬وكان ال ّله بذاته عالما‬
‫مطلقا بالضرورة‪ ،‬فإنه قبل ثمانين سنة كان يعلم بأن العالم ‪ W1‬سوف يتحقق‪ ،‬وفي‬
‫‪283‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫مثل هذه الحالة سيكون عالما بالقضية ‪ .b‬وعلى هذا األساس فإن القائلين باالنسجام‬
‫يقولون‪ :‬على الرغم من صحة األصل األول؛ أن ال ّله بذاته عالم مطلقا بالضرورة وال‬
‫يمكن ألي قضية كاذبة أن تجد طريقها إلى دائرته المعرفية‪ ،‬إال أنه ال ينتج من قدرتي‬
‫على عدم شرب كوب اللبن أن ال ّله قد تعلق علمه بقضية كاذبة‪ .‬وهذا هو الجواب عن‬
‫األصل األول‪ ،‬لذا فإن القائلين باالنسجام يعترفون بصحة األصل األول‪ ،‬ولكنهم ال‬
‫يقبلون بالنتيجة التي يتوصل إليها القائلون بعدم االنسجام‪.‬‬

‫جواب القائلين باالنسجام في األصل الثاني‪:‬‬


‫لنتحدث قليال حول األصل الثاني أيضا‪ .‬يثبت برهان القائلين بعدم االنسجام‬
‫األصل الثاني القائم على استحالة تغيير الماضي‪ ،‬إذ يرى استحالة أي نوع من التغيير‬
‫والتصرف في الماضي‪ .‬أما القائلون باالنسجام فيرون أن هذا األصل خاطئ‪ ،‬لذا فإن‬
‫القائلين باالنسجام كانوا يقولون بصحة األصل األول ــ وإن كانوا ال يقولون بالنتيجة‬
‫التي يتوصل إليها القائلون بعدم االنسجام ــ إال أنهم ال يرون صوابية األصل الثاني‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬هل نستطيع تغيير الماضي حقا؟ إن القائلين باالنسجام يميزون بين نوعين من‬
‫الوقائع الناظرة إلى الماضي‪ ،‬إذ يطلقون على النوع األول من الوقائع مصطلح الحقائق‬
‫الصلبة ‪ ،hard facts‬ويطلقون على النوع الثاني من الوقائع مصطلح الحقائق المرنة‬
‫‪ ،soft facts‬فما هو الفرق بين الحقائق الصلبة والحقائق المرنة؟ إن الحقائق الصلبة‬
‫هي الحقائق التي وقعت في الماضي‪ ،‬وال يكون هناك بالضرورة أي إمكانية لتغييرها‬
‫أو التصرف فيها‪ ،‬إال أن القائلين باالنسجام ال يرون جميع الحقائق الماضية من هذا‬
‫النوع‪ ،‬فهناك نوع من الحقائق الماضية على الرغم من كونها ناظرة إلى الماضي‪ ،‬ولكن‬
‫يمكن التغيير والتصرف فيها‪ .‬ولنشرح ذلك من خالل مثال؛ خذ مثال القضية القائلة‪:‬‬
‫«لقد تناول زيد اليوم كوب لبن على وجبة الغداء»‪ ،‬ولنفترض أن هذه القضية صادقة‪،‬‬
‫ولنفترض أيضا أني ذكرت هذه الحقيقة عصر هذا اليوم‪ ،‬أي أني ذكرتها بعد االنتهاء‬
‫من وجبة الغداء؛ في هذه الحالة يكون كوب اللبن قد تم تناوله وانتهى األمر‪ ،‬وبذلك ال‬
‫يبقى هناك أي إمكانية للتغيير والتصرف في هذه الواقعة‪ .‬ومن هنا تسمى هذه الحقيقة‬
‫بـ «الحقيقة الصلبة»‪ .‬ولنفترض اآلن أني بينت هذه القضية على النحو اآلتي‪ :‬إذا كانت‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪284‬‬
‫هذه القضية صادقة‪ ،‬فإن هذه القضية القائلة‪« :‬إن زيدا سوف يتناول اليوم على الغداء‬
‫كوب لبن» صادقة في الساعة السادسة صباحا أيضا‪ ،‬فلو أني تحدثت عن هذه القضية‬
‫في تمام الساعة السادسة والربع صباحا‪ ،‬فإن هذه القضية ــ في هذه الحالة ــ وإن كانت‬
‫صحيحة بحسب الفرض‪ ،‬إال أنها تتحدث عن ماض ال يبدو خارجا عن حدود سيطرتنا‬
‫وتصرفنا‪ ،‬إذ الوقت اآلن هو السادسة والربع صباحا‪ ،‬وبيننا وبين حلول الظهر ووقت‬
‫وجبة الغداء فترة زمنية طويلة‪ ،‬ويمكن أن تحدث آالف األمور التي من شأنها أن تحول‬
‫دون شرب زيد لكوب اللبن كأن يحول شخص مثال دون تمكن زيد من شرب اللبن‬
‫على الغداء‪ .‬وبطبيعة الحال ال يقوم شخص بحسب الواقع بمنع زيد من شرب اللبن‬
‫ظهرا؛ إذ الفرض أن هذه القضية صادقة في عالم الواقع‪ ،‬وأن زيدا سوف يتناول كوب‬
‫اللبن على الغداء ظهرا‪ ،‬ولكن كان بإمكان الكثير من األفراد أن يحولوا دون شرب زيد‬
‫لكوب اللبن ظهرا‪ ،‬ولكنهم لم يمنعوه‪ .‬إن هذه القضية ــ بحسب المصطلح ــ قضية‬
‫شرطية كاذبة المقدم‪ ،‬فإذا تحدثت عن هذه القضية في الساعة السادسة والربع صباحا‪،‬‬
‫أكون قد تحدثت في الواقع عن «حقيقة مرنة»‪ ،‬ألنها من تلك الحقائق التي كان يمكن‬
‫أال تحدث‪ ،‬رغم أننا لم نتصرف فيها‪ ،‬وبالتالي تكون هذه القضية من جملة األمور التي‬
‫نصطلح عليها بـ»الحقائق المرنة»‪ .‬ولنذكر مثاال آخر قد ال يبدو بدقة المثال األول‪ ،‬ولكنه‬
‫يساعد على فهم المسألة بشكل أفضل‪ .‬لنفترض أن صديقا لي اسمه إبراهيم كان في‬
‫سنة ‪ 1993‬للميالد‪ ،‬يعتقد بأن صديقه فؤاد سيولد له ولد سنة ‪1995‬م‪ .‬إن االعتقاد الذي‬
‫كان يعتقده إبراهيم بهذا الشأن‪ ،‬كان في سنة ‪1993‬م‪ ،‬وهذا حدث من أحداث الماضي‪.‬‬
‫ولكنني اآلن حيث نعيش في سنة ‪1993‬م‪ ،‬يمكن لي أن أقوم بعمل يجعل من االعتقاد‬
‫الذي كان يعتقده صديقي إبراهيم قبل سنتين اعتقادا صادقا أو كاذبا‪ ،‬إذ بإمكاني اليوم‬
‫أن أغير من شيء كان في الماضي‪ ،‬فليس األمر بحيث تكون جميع القضايا الناظرة إلى‬
‫الوقائع الماضية صادقة بالضرورة‪ ،‬وال بد من التمييز بين الحقائق الصلبة والحقائق‬
‫المرنة‪ .‬إن القضايا المعبرة عن الحقائق الصلبة ضرورية‪ ،‬أما القضايا المرنة فهي من‬
‫القضايا التي ال تكون صادقة بالضرورة‪ ،‬وحتى إذا كانت صادقة‪ ،‬فإنه يكون باإلمكان‬
‫أن تكون كاذبة‪ ،‬وباإلمكان في الواقع التغيير والتصرف فيها‪ .‬ما هو السبب في ذلك؟‬
‫إن من بين التحليالت التي تم تقديمها لبيان ماهية القضايا المرنة‪ ،‬هي أن هذه القضايا‬
‫‪285‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫ال تنظر إلى الماضي تماما‪ ،‬وإنما هي من القضايا التي تتم إعادتها إلى المستقبل على‬
‫نحو خفي‪ ،‬أما القضايا الصلبة فليست كذلك‪ .‬ومن هنا فإن األصل القائل باستحالة‬
‫إحداث أي تغيير أو تصرف في الماضي‪ ،‬إنما يصدق بالنسبة إلى الحقائق الصلبة‪ ،‬أما‬
‫القضايا الماضية التي يتم إرجاعها إلى المستقبل‪ ،‬فال تكون مشمولة لهذه القاعدة‪ .‬وفي‬
‫الحقيقة فإن القائلين باالنسجام يقولون‪ :‬إن علم ال ّله السابق بشأن أفعالنا االختيارية‬
‫هو من نوع تلك القضايا الناظرة إلى الماضي التي يمكن إرجاعها بنحو من األنحاء‬
‫إلى المستقبل‪ ،‬بمعنى أنها ليست من نوع القضايا الضرورية‪ ،‬وإنما تعبر عن الحقائق‬
‫المرنة‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬عندما نقول في االستدالل إن ال ّله يعلم بأفعالنا االختيارية‬
‫بالضرورة‪ ،‬يجب أن ندرك مفهوم الضرورة بشكل آخر ال يستلزم الضرورة الناظرة إلى‬
‫القضايا المعبرة عن الحقائق الصلبة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬هناك الكثير من البحث والنقاش‬
‫بشأن هذا التقسيم للحقائق إلى صلبة ومرنة‪ ،‬وما إذا كان بإمكان هذا التقسيم أن يخرج‬
‫موقف القائلين باالنسجام من مأزق التوفيق بين القول بعلم ال ّله السابق والقول باختيار‬
‫اإلنسان في الوقت نفسه‪ .‬وال أستطيع ــ لألسف الشديد ــ الخوض هنا أكثر في هذه‬
‫المسألة في سياق البحث حول برهان الشر‪ ،‬إذ هذه المسألة في حد ذاتها تحتاج إلى‬
‫بحث تفصيلي مستقل‪ ،‬وإنما أردت أن أبين مجرد شيء من التعقيد القائم في البحث‬
‫المحتدم بين علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان‪ ،‬وأن يدرك القارئ أن لدى كال طرفي‬
‫النزاع في هذا الشأن لدعم وجهة نظره أدلة جديرة بالمالحظة والتدبر‪.‬‬

‫المؤمنون القائلون بعدم االنسجام‪:‬‬


‫لنفترض أن هذا االدعاء صادق‪ ،‬بمعنى أن علم ال ّله السابق ال ينسجم مع القول‬
‫باختيار اإلنسان‪ .‬إذا افترضنا ذلك فما الذي سيحل بمسألة الشر؟ هناك إجابتان‬
‫على علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان يقومان على فرضية عدم االنسجام بين هذين‬
‫المفهومين‪ ،‬فهناك من يقول بعدم إمكان اجتماع علم ال ّله السابق واختيار اإلنسان على‬
‫ذلك التعريف المتقدم‪ ،‬فإذا كان علم ال ّله السابق ثابتا‪ ،‬ال يمكن لإلنسان أن يكون حرا‪،‬‬
‫وإذا كان اإلنسان مختارا‪ ،‬ال يمكن لعلم ال ّله السابق أن يوجد بذلك المعنى‪ .‬هل يعني‬
‫هذا أن المؤمنين مثال يجب أن يتخلوا عن واحد من هذين المفهومين‪ ،‬كأن يتخلوا‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪286‬‬
‫عن اتصاف ال ّله بالعلم المطلق‪ ،‬أو أن يتخلوا عن اتصاف اإلنسان بالحرية واالختيار؟‬
‫الحقيقة أن الجواب هنا هو النفي‪ .‬وفي بيان ذلك سنذكر إجابتين من بين اإلجابات التي‬
‫يذكرها المؤمنون القائلون بعدم إمكان الجمع بين علم ال ّله السابق وبين اختيار اإلنسان‬
‫بالمعنى الذي تقدم‪ ،‬وفي الوقت نفسه يعتقدون بإمكان أن نقدم تقريرا آخر لعلم ال ّله‬
‫السابق بحيث تتسع دائرته للقول باختيار اإلنسان أيضا‪.‬‬

‫التقرير األول‪ :‬علم ّ‬


‫الل المطلق بالقضايا التي يمكن العلم بها‬
‫إن من بين هذه التقارير هو التقرير الذي يقترحه ريتشارد سوين برن؛ يقول‪ :‬إنك إذا‬
‫كنت تعتقد بوجود الكائنات المختارة في هذا العالم‪ ،‬ففي هذه الحالة ال يمكن ألي‬
‫حالة سابقة أن تحدد نتيجة القرارات التي يتخذها الناس‪ ،‬وهذا يعني استحالة التكهن‬
‫من الناحية المنطقية بالسلوكيات االختيارية لهذه الكائنات المختارة‪ .‬قد يمكن لك أن‬
‫تصيب في حدسك إلى حدود كبيرة‪ ،‬وربما أمكن لك أن تحتمل أن شخصا معينا سيقوم‬
‫بفعل وتبلغ درجة احتمالك ‪ ،% 99‬وربما يصدق ظنك وحدسك‪ ،‬ولكنك ال تستطيع أن‬
‫تصل إلى مستوى العلم واليقين التام والكامل والضروري بما سيقوم به اآلخرون من‬
‫األفعال االختيارية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬هناك من يعتقد إذا كان هناك من وجود لالختيار‬
‫بهذا المعنى الخاص‪ ،‬فال يمكن من الناحية المنطقية للناظر أن يتمكن من العلم بنتائج‬
‫القرارات التي يتخذها األفراد بشكل مسبق وعلى نحو ضروري وبضرس قاطع‪ .‬وإذا‬
‫كان ذلك محاال من الناحية المنطقية‪ ،‬فلن يكون بمقدور أي أحد ــ حتى ال ّله العالم‬
‫المطلق ــ أن يحيط علما بصدق قضية تعبر عن اختيار األفراد‪ ،‬وال يكون من الممكن‬
‫العلم بتلك القضايا إال بعد اتخاذ الفاعل المختار قرارا بالقيام بها‪ ،‬لذا وكما سبق أن‬
‫ذكرنا بشأن قدرة ال ّله حيث قلنا إن ال ّله إنما يقدر ــ من الناحية المنطقية ــ على القيام‬
‫باألمور التي تدخل في حدود اإلمكان‪ ،‬نقول ذات الشيء بالنسبة إلى علم ال ّله أيضا‪،‬‬
‫إذ ال ّله العالم المطلق إنما يعلم بجميع القضايا الصادقة التي يمكن له أن يعلم بها من‬
‫الناحية المنطقية‪ .‬فإذا كان األمر كذلك واتضح أن علم ال ّله باألفعال االختيارية لألفراد‬
‫محال من الناحية المنطقية‪ ،‬عندئذ إذا لم يعلم ال ّله بهذا النوع من األفعال قبل وقوعها‪،‬‬
‫فلن يضر ذلك في علم ال ّله المطلق‪ .‬وبذلك ترون أنه يوجد هنا تعديل في مفهوم علم‬
‫‪287‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫ال ّله المطلق‪ ،‬وذلك من خالل القول إن علم ال ّله المطلق إنما يتعلق بجميع القضايا‬
‫الصادقة التي يمكن ل ّله من الناحية المنطقية أن يعلم بها‪ ،‬لذا إذا افترضنا االختيار بهذا‬
‫المعنى‪ ،‬فإن العلم بالقرارات االختيارية لألفراد مادام أنهم لم يتخذوها‪ ،‬فال يمكن‬
‫ألحد ــ بما في ذلك ال ّله نفسه ــ أن يعلم بها من الناحية المنطقية‪.‬‬

‫التقرير الثاني‪ّ :‬‬


‫الل بنفسه يختار عدم العلم بما سيختاره الناس‬
‫ما يتعلق بالجواب اآلخر الذي يقدمه القائلون بعدم االنسجام بين علم ال ّله السابق‬
‫واختيار اإلنسان‪ ،‬فمنهم من قال بضرورة إعادة النظر في مفهوم علم ال ّله المطلق‪ ،‬ورأى‬
‫أن اتصاف ال ّله بالعلم المطلق‪ ،‬ال يعني بالضرورة أن ال ّله يعلم فعال بجميع القضايا‬
‫الصادقة‪ ،‬بل يعني أن ال ّله يستطيع أن يعلم بجميع القضايا الصادقة‪ .‬ويمكن توضيح ذلك‬
‫على أساس قدرة ال ّله؛ إذ ال يعني أن يكون ال ّله متصفا بالقدرة المطلقة أن يقوم بالضرورة‬
‫بكل شيء يقدر عليه بالفعل‪ ،‬فهناك الكثير من األفعال الممكنة التي يستطيع ال ّله أن يفعلها‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك لم يفعلها‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ :‬كان بإمكان ال ّله أن يخلقني أطول مما أنا‬
‫عليه اآلن‪ ،‬ولكنه لم يخلقني طويال‪ ،‬دون أن يمس ذلك بقدرة ال ّله أو اعتبارها غير مطلقة‪،‬‬
‫لذا عندما نقول إن ال ّله قادر مطلق‪ ،‬فإن هذا ال يعني أنه يقوم بفعل جميع الممكنات‪ ،‬بل‬
‫يعني أن ال ّله قادر على فعل كل شيء ممكن له من الناحية المنطقية‪ .‬ونفس الشيء يمكن‬
‫أن يقال بالنسبة إلى اتصاف ال ّله بالعلم المطلق؛ فهناك من يعتقد أن اتصاف ال ّله بالعلم‬
‫المطلق ال يعني أنه يعلم بكل شيء‪ ،‬وإنما يعني أن ال ّله يستطيع أن يعلم بكل شيء يريد‬
‫العلم به‪ .‬وإذا قبلنا بهذا التعريف للعلم اإللهي المطلق‪ ،‬فعندها نقول‪ :‬حيث نقول إن علم‬
‫ال ّله السابق إذا تحقق فإن هذا يعني إلغاء اختيار اإلنسان‪ ،‬وألن ال ّله يريد اإلبقاء على اختيار‬
‫اإلنسان رعاية لحرمته وكرامته‪ ،‬فإن ال ّله بنفسه يعقد العزم على أال يعلم بأفعال اإلنسان‬
‫االختيارية‪ ،‬حتى يتم اختيار ذلك الفعل‪ .‬من هنا‪ ،‬فإن ال ّله على الرغم من قدرته واستطاعته‬
‫بأن يعلم كل شيء بما في ذلك أفعال اإلنسان االختيارية‪ ،‬إال أنه يقرر بنفسه عدم إرادته‬
‫العلم بتلك األفعال االختيارية بنفسه‪.‬‬
‫وبذلك ندرك أن الذين يدافعون عن أطروحة الدفاع القائم على االختيار‪ ،‬على‬
‫قسمين‪:‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪288‬‬
‫القسم األول‪ :‬المؤمنون الذين يعتقدون بانسجام القول بعلم ال ّله السابق والقول‬
‫باختيار اإلنسان‪ ،‬وبذلك يمكن لك االعتقاد بأن ال ّله يتصف بالعلم المطلق وأنه يتوفر‬
‫على العلم السابق‪ ،‬وفي الوقت نفسه تقول بحرية اإلنسان واختياره‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬المؤمنون الذين ال يعتقدون بانسجام القول بعلم ال ّله السابق والقول‬
‫باختيار اإلنسان‪ ،‬ولكنهم مع ذلك تمسكوا بأطروحة الدفاع القائم على االختيار‪.‬‬
‫وعمدوا إلى معالجة المشكلة من خالل التصرف والتعديل في تعريف علم ال ّله‬
‫المطلق‪ ،‬فقالوا‪ :‬إما أن نقول باستحالة العلم باألفعال االختيارية من الناحية المنطقية؛‬
‫فيكون ذلك محاال على الجميع بما في ذلك ال ّله نفسه دون أن يترتب على ذلك نقصان‬
‫في علم ال ّله المطلق‪ ،‬أو نقول بأن ال ّله عالم مطلق‪ ،‬بمعنى أنه يستطيع العلم بجميع‬
‫القضايا الصادقة إن أراد ذلك‪ ،‬بما فيها األعمال االختيارية لإلنسان‪ ،‬ولكنه لم يرد ذلك‬
‫رعاية منه للحفاظ على حرمة وكرامة اإلنسان‪ ،‬لذا فإنه ال يعلم بنتيجة تلك األفعال‬
‫االختيارية إال بعد عقد العزم من قبل اإلنسان إلى العمل‪ .‬وعلى كال الحالتين هناك‬
‫متسع لإلنسان في أن يقوم بأعماله عن حرية واختيار كاملين‪ ،‬فبعد إجراء تغيير طفيف‬
‫في تعريف علم ال ّله المطلق‪ ،‬يكون هناك متسع للقول باختيار اإلنسان‪ ،‬وحيث يتم فتح‬
‫متسع لالختيار‪ ،‬يمكن ألطروحة الدفاع القائم على االختيار أن تلعب دورا في إطار‬
‫بحث مسألة الشر‪.‬‬
‫ولنتحدث اآلن بشأن النقد الثالث على أطروحة الدفاع القائم على االختيار المتعلق‬
‫ببحث مسألة الشرور الطبيعية‪ .‬لقد دار حديثنا حول أطروحة الدفاع القائم على‬
‫االختيار‪ ،‬والتي على أساسها يكون لدى ال ّله دليل وجيه لتبرير وجود الشرور في هذا‬
‫العالم‪ ،‬وإن هذا الدليل يتمثل في أصل وجود االختيار لدى البشر‪ .‬وعلى هذا األساس‬
‫يكون ال ّله قد خلق أفضل ما كان بإمكانه من العالم‪ ،‬وهو العالم المتصف باالختيار‪،‬‬
‫ولكنه بمحض أن يخلق هذا العالم حتى ينفتح باب الشرور‪ ،‬إذ يمكن أحيانا لبعض‬
‫أفراد البشر أن يختاروا ارتكاب الشرور األخالقية‪ .‬ولقد تم توجيه االنتقاد إلى هذه‬
‫األطروحة المتمثلة بالدفاع على أساس االختيار من عدة جهات‪.‬‬
‫‪289‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫النقدان األوالن على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬


‫لقد كان من بين أوائل االنتقادات التي تقدم ذكرها هو االنتقاد القائل‪ :‬لقد كان‬
‫بإمكان ال ّله القادر المطلق والخير المحض أن يخلق عالما ممكنا تمارس فيه الكائنات‬
‫المختارة األفعال الحسنة باختيارها‪ ،‬وألنه لم يتم خلق هذا العالم‪ ،‬فال يمكن للخير‬
‫المحض أن يكون موجودا‪ ،‬وال بد من التشكيك في أصل وجوده‪ .‬وقد أجبنا عن هذا‬
‫االنتقاد بأنه مجرد ادعاء خاطئ‪ ،‬إذ إن هذا العالم الممكن؛ العالم المتصف باالختيار‬
‫والمنزه من الشر وإن كان ممكنا‪ ،‬إال أن خلق هذا العالم غير ممكن بالنسبة إلى ال ّله‬
‫من الناحية المنطقية‪ ،‬إذ ال ّله ال يستطيع أن يجبر الناس على اختيار فعل الخير دائما‬
‫وأبدا؛ ألن هذا ال ينسجم مع التعريف المفترض لالختيار في هذا البحث‪ ،‬وإن كان هذا‬
‫العالم ممكنا‪ ،‬إال أن الذي يمكنه أن يوجد هذا العالم الممكن هم الناس والكائنات‬
‫التي تقطنه‪ ،‬فإن اختار هؤالء السكان فعل الخير دائما‪ ،‬خلق ذلك العالم‪ ،‬وإال فال‪.‬‬
‫أما االنتقاد الثاني فكان ــ من بعض الجهات ــ أكثر جوهرية من االنتقاد األول‪ ،‬إذ‬
‫يدعي أن علم ال ّله المطلق الشامل لعلمه السابق؛ بمعنى علمه بأحداث المستقبل ال‬
‫ينسجم مع أصل القول باختيار اإلنسان‪ .‬إن ال ّله إذا كان يعلم على نحو سابق ما الذي‬
‫أي خيار إال‬
‫سأفعله‪ ،‬فإنني في تلك اللحظة التي أنوي فيها القيام بالفعل ال يكون لدي ّ‬
‫القيام بذلك الفعل الذي علم ال ّله أني سأفعله‪ ،‬وعليه فإن ذلك ال ينسجم مع تعريف‬
‫اختيار اإلنسان‪ ،‬إال أن بعض فالسفة الدين في معرض الجواب عن هذا االنتقاد ذهب‬
‫إلى االعتقاد بأن هذا التقرير في شكله المصطلح ليس تقريرا دقيقا‪ ،‬بمعنى أن صيغة‬
‫هذه المسألة تنطوي على إشكال‪ ،‬فإن القول بأن ال ّله يعلم ضرورة بأني سأقوم غدا‬
‫بالفعل أ‪ ،‬وألن ال ّله يعلم أنني سأقوم بالفعل أ‪ ،‬فهذا يعني أني سأقوم بالفعل أ‪ .‬إن هذه‬
‫الصيغة تنطوي على مغالطة‪ ،‬وهذه المقدمات ال توصل إلى هذه النتيجة‪ .‬ال بد إذن من‬
‫إصالح هذا التقرير‪ .‬وحتى عندما يتم إصالح هذا التقرير‪ ،‬يبقى هناك من يعتقد بأن‬
‫مقدمات هذا البرهان ال تؤدي إلى النتيجة التي يتوقعها المدعي‪ ،‬فال ّله العالم المطلق‬
‫هو اإلله العالم بجميع القضايا الصادقة في ذلك العالم‪ ،‬وفي العالم الذي ال أقوم فيه‬
‫بالفعل أ‪ ،‬ستكون قضية «إن جابرا لم يقم بالعمل أ» صادقة في ذلك العالم‪ ،‬وسيكون‬
‫ال ّله عالما بتلك القضية‪ ،‬وليس بالقضية المناقضة لها والتي ال تصدق في هذا العالم‪،‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪290‬‬
‫ولكن حتى لو اعتبرنا أن هذه الشبهة قوية‪ ،‬سيكون هناك من يعتقد أن علم ال ّله حتى إذا‬
‫كان بهذا المعنى القوي‪ ،‬إال أن هذا االعتقاد القائل إن الماضي ال يمكن تغييره‪ ،‬ليس‬
‫اعتقادا صحيحا وال دقيقا‪ .‬وقد كان هذا واحدا من فرضيات عدم االنسجام بين القول‬
‫بعلم ال ّله المطلق والقول باختيار اإلنسان‪ .‬وهنا يتم التفكيك والفصل بين األحداث‬
‫والحقائق الصلبة وبين األحداث والحقائق المرنة‪ .‬إن الحقائق المرنة عبارة عن القضايا‬
‫الناظرة إلى الماضي والتي تنطوي على نوع خفيف من اإلرجاع إلى المستقبل‪ ،‬وإن‬
‫هناك من يعتقد أن علم ال ّله بالسلوك االختياري للناس هو من نوع الحقائق المرنة‪ ،‬وإن‬
‫باإلمكان من خالل السلوكيات التي تقع في المستقبل من تغيير الحقائق المرنة‪ .‬وحتى‬
‫إذا لم يقبل أحد هذه االستدالالت إال أن الفرد بالتالي سيقول‪ :‬إن علم ال ّله المطلق ال‬
‫ينسجم مع اختيار اإلنسان‪ .‬ولكن هل يعني ذلك أنه يجب التخلي عن القول باختيار‬
‫اإلنسان‪ ،‬واعتبار أطروحة الدفاع القائم على االختيار غير مجدية بالمرة؟ الجواب هو‬
‫النفي‪ ،‬إذ يمكنك من خالل إجراء تغيير طفيف على تعريفك لالختيار أن تحافظ على‬
‫عقائدك الدينية‪ ،‬وفي الوقت نفسه تفتح حيزا لالختيار أيضا‪ .‬وعليه هناك من يعتقد أننا‬
‫إذا أخذنا هذا التعريف لالختيار في هذا البرهان بنظر االعتبار‪ ،‬فعندها سوف يكون‬
‫من غير الممكن لشخص من الناحية المنطقية أن يعلم أحد بما سيقوم به الفاعل قبل‬
‫أن يتخذ ذلك الفاعل قرارا بالقيام بالفعل‪ .‬وإذا كان هذا األمر مستحيال من الناحية‬
‫المنطقية فسوف يستحيل حتى على ال ّله أن يعلم به‪ ،‬دون أن يستوجب هذا نقصا في‬
‫علم ال ّله؛ بعبارة أخرى‪ :‬إن ال ّله يستطيع أن يعلم بجميع القضايا الصادقة التي يمكن له‬
‫العلم بها من الناحية المنطقية‪ ،‬وفي هذه الحالة حيث يكون العلم بالقرارات االختيارية‬
‫لألفراد قبل اتخاذها محاال من الناحية المنطقية‪ ،‬لن يكون بإمكان أي أحد «حتى ال ّله»‬
‫أن يعلم بها‪ ،‬دون أن يكون في ذلك نقص في علم ال ّله المطلق‪.‬‬
‫وقام آخرون بإحداث تغيير آخر على تعريف العلم اإللهي‪ ،‬وفي هذا التعديل‪ ،‬بدال‬
‫من القول‪« :‬إن ال ّله يعلم بجميع القضايا الصادقة»‪ ،‬نقول‪« :‬إن ال ّله يستطيع العلم بجميع‬
‫القضايا الصادقة‪ ،‬شريطة أن يريد العلم بها»‪ .‬وعلى هذا األساس فكما أن القول بأن‬
‫ال ّله قادر مطلق ال يعني أن ال ّله يقوم بكل فعل ممكن يقدر عليه‪ ،‬كذلك القول بأن ال ّله‬
‫عالم مطلق ال يعني أن ال ّله يعلم بكل قضية صادقة يستطيع العلم بها‪ .‬وفي هذه الحالة‬
‫‪291‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫يقول الذاهبون إلى االعتقاد باالختيار‪ :‬إن ال ّله قد خلق الكائنات مختارة‪ ،‬وأراد تكريم‬
‫الكائنات بمنحهم حرية االختيار‪ ،‬وعلى الرغم من قدرته على العلم بنتائج اختياراتهم‬
‫حجب عن نفسه العلم بها بإرادته احتراما لكرامتهم‪.‬‬

‫النقد الثالث على أطروحة الدفاع القائم على االختيار‪ :‬الشرور‬


‫الطبيعية‬
‫أود أن أستعرض باختصار بعض األمور فيما يتعلق باالنتقاد الثالث على أطروحة‬
‫الدفاع القائم على االختيار‪ .‬يقول المنتقدون من الملحدين‪ :‬هب أن أطروحة الدفاع‬
‫القائم على االختيار صحيحة‪ ،‬إال أن هذه األطروحة في أفضل حاالتها إنما تبرر وجود‬
‫الشرور األخالقية في هذا العالم فقط‪ ،‬مثل‪ :‬األفعال القبيحة التي تصدر عنا بسوء‬
‫اختيارنا‪ ،‬من قبيل‪ :‬القتل والسرقة والكذب وما إلى ذلك‪ ،‬إال أن هذه الشرور إنما تمثل‬
‫جانبا من الشرور التي تحدث في هذا العالم‪ .‬في حين هناك جانب أكبر من الشرور‬
‫أي تدخل لإلنسان أبدا‪ ،‬وذلك مثل أنواع‬
‫التي تحدث في هذا العالم وال يكون فيها ّ‬
‫الكوارث الطبيعية‪ ،‬من قبيل‪ :‬الزالزل والسيول والبراكين وما إلى ذلك‪ ،‬فهذه األمور ال‬
‫ربط لإلنسان بها‪ ،‬بل كانت تحدث حتى قبل مجيء اإلنسان إلى هذه األرض‪ ،‬فكيف‬
‫يمكن تفسير هذا النوع من الشر‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬حتى إذا قلنا بأن أطروحة الدفاع‬
‫القائم على االختيار صحيحة تماما‪ ،‬إال أنها على أفضل الحاالت‪ ،‬إنما تبرر وجود‬
‫الشرور األخالقية‪ ،‬فما هو التوضيح الذي يمكنها أن تقدمه بشأن الشرور الطبيعية؟‬
‫إن أطروحة الدفاع القائم على االختيار ال يمكنها تفسير أصل وجود الشرور الطبيعية‬
‫في هذا العالم‪ ،‬لذا يمكن للملحدين هنا أن يعيدوا النظر قليال في الصيغة المنطقية‬
‫لبرهان الشر‪ ،‬والقول‪ :‬إذا كان ال ّله القادر المطلق والعالم المطلق والخير المحض‬
‫موجودا‪ ،‬إذن يجب أال يكون هناك شيء من الشرور الطبيعية في هذا العالم‪ .‬وألن‬
‫الشرور الطبيعية موجودة في هذا العالم‪ ،‬فإنه ال يمكن ل ّله المتصف بتلك الصفات‬
‫الثالثة المتقدمة أن يكون موجودا‪ ،‬ومن خالل إضافة قيد «الطبيعية» يمكن إنقاذ الصيغة‬
‫المنطقية لبرهان الشر‪ ،‬فما الذي يمكن قوله بشأن هذا البرهان؟ ال بد من االلتفات إلى‬
‫أننا حتى اآلن نتحدث عن الصورة المنطقية لبرهان الشر‪ .‬إن الصورة المنطقية لبرهان‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪292‬‬
‫الشر ــ على ما تقدم ذكره ــ تدعي أن القول بأن ال ّله موجود ال ينسجم مع القول بوجود‬
‫الشرور من الناحية المنطقية‪ ،‬فالتعبير بـ»المنطقية» مهم هنا‪ .‬إن لعدم االنسجام المنطقي‬
‫تعريفا فنيا دقيقا؛ إذ ال يمكنك تصور أي عالم ممكن تصدق فيه هاتان القضيتان معا‪،‬‬
‫ليس في هذا العالم الواقعي فقط‪ ،‬بل ال يمكن لهاتين القضيتين أن تصدقا معا في أي‬
‫عالم ممكن آخر‪ .‬لنفترض على سبيل المثال‪ :‬أن القضية أ تقول‪« :‬إن زيدا غير متزوج»‪،‬‬
‫وتقول القضية ب‪« :‬إن زوجة زيد مؤمنة»‪ .‬إن هاتين القضيتين متنافيتان‪ ،‬بمعنى أنه ال‬
‫يمكن أن نفترض عالما ممكنا يمكن لهاتين القضيتين أن تكونا صادقتين فيه‪ ،‬ففي كل‬
‫عالم ممكن يكون فيه زيد غير متزوج‪ ،‬وهذا يعني أال تكون له زوجة‪ ،‬وعليه تكون‬
‫القضية القائلة‪« :‬إن زوجة زيد مؤمنة» قضية باطلة‪ .‬ولذلك عندما يتم الحديث عن‬
‫التنافي المنطقي‪ ،‬فإنما يعني ذلك أن هذا التنافي ال يكون في هذا العالمي الواقعي‬
‫فقط‪ ،‬بل يكون في كل عالم ممكن أو متصور‪.‬‬
‫فإذا قلنا إن ال ّله المتصف بتلك األوصاف الثالثة موجود‪ ،‬وقلنا في الوقت نفسه إن‬
‫الشرور الطبيعية موجودة أيضا‪ ،‬هل ال يمكن لهاتين القضيتين أن تصدقا في أي عالم‬
‫ممكن؟ فهل يمكن لنا أن نتصور عالما ــ ولو خياليا ــ تصدق فيه هاتان القضيتان معا‪،‬‬
‫دون أن يكون هناك أي تناقض بينهما؟ قال بعض الفالسفة بإمكان ذلك‪ ،‬ويذكرون‬
‫لذلك مثال بالقصص واألساطير الواردة في األديان التوحيدية التي يتم فيها تصوير‬
‫الشرور في العالم مع افتراض وجود ال ّله المطلق من جميع الجهات‪ .‬قد تقول إن هذه‬
‫مجرد قصص وأساطير! ولكن ال يوجد إشكال من هذه الناحية بعد أن كان الفرض‬
‫هو إمكان أن نتصور وجود مثل هذا العالم الذي يجمع بين ال ّله المطلق ووجود الشر‪،‬‬
‫وإن في عالم الخيال‪ ،‬فالبحث هنا ال يكمن في صدق هذا العالم‪ ،‬بل في اإلمكان‬
‫المنطقي لهذا العالم‪ .‬وهذا يعني إمكان أن نتصور عالما يكون فيه ال ّله موجودا ومتصفا‬
‫بهذه الصفات الثالثة‪ ،‬ومع ذلك تكون هناك شرور طبيعية‪ ،‬وهذا يكفي لبيان الصورة‬
‫المنطقية لبرهان الشر‪ ،‬أي أنه كاف للنقض؛ إذ يثبت إمكان صدق هاتين القضيتين في‬
‫عالم ممكن ولو على نحو التصور‪ ،‬وبذلك تخفق الصورة المنطقية لبرهان الشر‪.‬‬
‫إنه باإلمكان اإلجابة عن المشاكل الرئيسة الماثلة أمام أطروحة الدفاع القائم على‬
‫االختيار‪ ،‬وإذا اعتبرنا هذه األطروحة مقبولة‪ ،‬فعندها ال بد من التصديق بأن الصورة‬
‫‪293‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫المنطقية لبرهان الشر عاجزة عن دعم رؤيتها‪ ،‬ولم تستطع أن تثبت وجود التنافي‬
‫والتناقض المدعى بين وجود ال ّله المتصف بتلك الصفات الثالث وبين وجود الشرور‬
‫في هذا العالم‪.‬‬
‫وال بد من التذكير بأن أطروحة الدفاع القائم على االختيار ــ كما سبق أن أشرنا‬
‫ــ تقوم على نظرية خاصة في حقل الميتافيزيقا‪ ،‬وهي تعود إلى التعريف الذي تقدمه‬
‫لماهية االختيار‪ .‬وكما تقدم أن أشرنا أيضا‪ ،‬فإن هذا الموقف يقول به في الحقيقة‬
‫القائلون بعدم االنسجام‪ ،‬إذ النظرية المفترضة في أطروحة الدفاع القائم على االختيار‬
‫هي أن االختيار بهذا المعنى ال ينسجم مع فرضية تعين قرارنا‪ ،‬أي أنه إذا كانت‬
‫المؤثرات الخارجية هي التي تتحكم بسلوكنا‪ ،‬فلن تكون أعمالنا صادرة عن اختيارنا‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس يكون افتراض االختيار متنافيا مع افتراض التعين‪ ،‬إذ المؤثرات‬
‫الخارجية إذا كانت هي التي تعين أفعالنا‪ ،‬فإن األفعال الصادرة عنا ال يمكن اعتبارها‬
‫صادرة عن إرادتنا واختيارنا‪ ،‬وبالتالي فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار تقوم‬
‫على هذه الفرضية‪ ،‬ومن هنا بمجرد أن تختار نظرية ميتافيزيقية أخرى يكون فيها التعين‬
‫ممكنا‪ ،‬وفي الوقت نفسه تعتبر أفعال اإلنسان صادرة عن اختياره‪ ،‬ستكون قائال بموقف‬
‫ميتافيزيقي نطلق عليه مصطلح الـ«‪( ،»compatibilism‬تعني االنسجامية واالتساق‬
‫والتناغمية)‪ .‬وإذا قلت بهذه النظرية فهذا يعني أنك تعتقد بفهم ورؤية أخرى لالختيار‪،‬‬
‫وترى أن هذا النوع من االختيار ينسجم مع الفرضية القائلة بأن أفعالنا قد تم تعينها‬
‫مسبقا من قبل المؤثرات الخارجية‪ .‬فلو كنت ــ في حقل الميتافزيقا ــ من القائلين بهذه‬
‫النظرية‪ ،‬فإن أطروحة الدفاع القائم على االختيار لن تكون مؤثرة في هذه الحالة‪ ،‬إذ إن‬
‫ال ّله يمكنه والحال هذه أن يحدد أعمالنا بحيث نقوم دائما باألفعال الصالحة والحسنة‪،‬‬
‫وفي الوقت نفسه تكون تلك األفعال صادرة عن إرادتنا واختيارنا‪ .‬إن أطروحة الدفاع‬
‫القائم على االختيار تقوم على فرضية استحالة هذا الجمع‪ .‬وبطبيعة الحال فإن القائلين‬
‫بـ «االنسجامية» أو الـ«‪ »compatibilism‬يمتلكون أدلة وبراهين قوية لصالح دعم وجهة‬
‫نظرهم‪ ،‬أما القائلون بـ «الالانسجامية» أو الـ«‪ »incompatibilism‬فال يزال موقفهم‬
‫يتمتع بالقوة والمكانة في الفلسفة المعاصرة أيضا‪ .‬وأما توجهك إلى أي من الطرفين‬
‫فيعود إلى موقفك الميتافيزيقي الذي يجب عليك اتخاذه خارج الدائرة الدينية‪ .‬وأما‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪294‬‬
‫إذا كان الشخص من القائلين بعدم إمكان التعين واختيار اإلنسان‪ ،‬فيبدو أن أطروحة‬
‫الدفاع القائم على االختيار مجدية ومؤثرة عنده‪ ،‬وأن الصيغة المنطقية لبرهان الشر ال‬
‫تؤدي إلى النتيجة المنشودة له؛ وهي النتيجة المتمثلة بادعاء عدم االنسجام بين وجود‬
‫ال ّله ووجود الشر في هذا العالم»‪ ،‬وبالتالي ال يمكنه أن يدعي عدم وجود ال ّله بسبب‬
‫وجود الشرور في هذا العالم‪.‬‬
‫إن هذا بمعنى من المعاني يمثل نهاية بحثنا حول الصورة المنطقية للشر‪ ،‬ولكن‬
‫علينا أن نضيف هنا مسألة تمثل في الحقيقة مقدمة لبحثنا القادم بشأن الصورة‬
‫االستقرائية لمسألة الشر‪ .‬لقد كان ادعاء برهان الشر حتى اآلن يقوم في الحقيقة على‬
‫وجود التنافي المنطقي بين أصل وجود الشرور في هذا العالم وفرضية وجود ال ّله في‬
‫هذا العالم‪ ،‬ولكن قد يقول شخص‪ :‬لنفترض أن ال ّله كان يمتلك دليال وسببا وجيها‬
‫للسماح بحدوث بعض الشرور في هذا العالم‪ .‬وإذا كان ال ّله ال يستطيع المنع من وقوع‬
‫الشر‪ ،‬ولكنه كان يستطيع أن يحد من حجم الشرور في هذا العالم‪ ،‬فما هو التفسير‬
‫الذي يمكن تقديمه في تبرير هذا الكم الهائل من الشرور في العالم؟ فليست كمية‬
‫الشرور وحدها التي كان يمكن تقليلها في هذا العالم فحسب‪ ،‬بل حتى كيفية الشرور‬
‫كان باإلمكان أن تكون بحيث تكون ّ‬
‫أقل وقعا وأخف وطأة وألما مما هي عليه اآلن‪ ،‬لذا‬
‫هناك من يعتقد بأننا حتى إذا قلنا بأصل وقوع الشرور في هذا العالم «مع افتراض وجود‬
‫االختيار»‪ ،‬إال أنه يتساءل عن سبب هذا الحجم الكبير من الشرور في هذا العالم؟‬
‫ويتساءل قائال‪ :‬ما هو السبب في هذا الحجم الكبير من القسوة والوحشية المترتبة على‬
‫الشرور في هذا العالم؟ وهذه صيغة جديدة لالعتراض على وجود الشرور في هذا‬
‫العالم‪ ،‬إذ يقول هذا اإلشكال‪ :‬إن كمية وكيفية الشرور في هذا العالم كان من الممكن‬
‫أن تكون أقل وأخف وطأة مما هي عليه اآلن‪ .‬وهذا بطبيعة الحال يعود إلى صيغة أدق‬
‫فيما يتعلق باإلشكال على وجود الشرور االعتباطية وغير الضرورية‪ .‬وبعبارة أخرى‪:‬‬
‫إن هذا االعتراض واالدعاء ينطوي على ادعاء ثانوي يرى أن الجزء األعظم من الشرور‬
‫في هذا العالم وشدة هذه الشرور ال يوجد أي سبب أخالقي وجيه لتبريرها‪ ،‬إذ إنه وإن‬
‫كان هناك سبب وجيه ألصل وجود الشر‪ ،‬إال أنه ليس هناك من سبب وجيه يبرر هذا‬
‫الحجم الكبير والهائل من الشرور على المستويين الكمي والكيفي‪ ،‬وبذلك يكون هذا‬
‫‪295‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫الحجم الزائد من الشرور اعتباطيا؛ ال يؤدي إلى مزيد من الخير بحيث يكون هذا الخير‬
‫من األهمية التي تبرر هذا الفائض من الشرور‪ ،‬وال إلى الحيلولة دون حدوث شرور‬
‫أعظم‪ .‬وبالتالي حتى إذا أمكن لك أن تبرر أصل وجود الشرور في هذا العالم‪ ،‬ولكن ما‬
‫الذي يمكنك قوله في تبرير هذه الزيادة المفرطة واالعتباطية؟ وهذا بطبيعة الحال ينقلنا‬
‫من الصورة المنطقية لبرهان الشر إلى الصورة االحتمالية للشر‪.‬‬
‫لقد عالجنا مشكلة الشر متحدثين عن الصورة المنطقية للمسألة‪ .‬طبقا للقراءة‬
‫الفرض على التنافي المنطقي بين القول بوجود ال ّله والقول‬
‫ُ‬ ‫المنطقية لمسألة الشر يقوم‬
‫بوجود الشرور في هذا العالم‪ ،‬فصدق أحدهما يعني كذب اآلخر بالضرورة من الناحية‬
‫المنطقية‪ ،‬إال أن المؤمنين في المقابل يذهبون إلى االعتقاد بأن هذا االستدالل إنما‬
‫يكون ناهضا إذا أمكن للملحدين أن يثبتوا أن ال ّله ال يمتلك أي مبرر أخالقي وجيه على‬
‫جواز الشرور في هذا العالم‪ ،‬في حين أن أطروحة الدفاع القائم على االختيار تثبت أن‬
‫ال ّله يمتلك دليال أخالقيا وجيها على جواز الشرور في هذا العالم «على التفصيل الذي‬
‫قدمناه في المحاضرات السابقة»‪.‬‬
‫والحقيقة أن الكثير من فالسفة الدين ــ ومن بينهم الكثير من الفالسفة الملحدين‬
‫ــ قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن الصورة المنطقية لمسألة الشر عاجزة عن إثبات‬
‫النتيجة المطلوبة لهم‪ ،‬إذ من الصعب ادعاء التنافي المنطقي بين القضية القائلة‪« :‬إن‬
‫ال ّله موجود» والقضية القائلة‪« :‬إن الشر موجود»‪ .‬إن مقدمات هذا البرهان عاجزة عن‬
‫إثبات هذه النتيجة‪ .‬وقد ذهب الفالسفة الملحدون من أمثال وليم رآ وإدوارد مدن إلى‬
‫االعتقاد بأن ملف الصورة المنطقية للشر مع أطروحة الدفاع القام على االختيار قد‬
‫أغلق‪ ،‬وأن على الملحدين أن يبحثوا عن برهان آخر لدعم وجهة النظر اإللحادية‪.‬‬
‫إن من بين الحلول التي مال إليها هؤالء الفالسفة هي قولهم‪ :‬صحيح أن إثبات‬
‫التنافي المنطقي صعب‪ ،‬ولكن يمكن القول في الوقت ذاته‪ :‬إن الشرور التي تحدث‬
‫في هذا العالم هي بشكل بحيث ال تبرر االعتقاد بوجود ال ّله من الناحية العقلية‪ ،‬إذ‬
‫يمكن اعتبار وجود الشرور في هذا العالم قرينة على عدم وجود ال ّله‪ ،‬وبالتالي نجد‬
‫أنهم في قبال الصورة المنطقية «القياسية ــ االستنتاجية» للشر المقترحة من قبل الجيل‬
‫السابق من الفالسفة الملحدين‪ ،‬يقدمون صورة استقرائية لهذا البرهان‪ .‬وهناك للصورة‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪296‬‬
‫االستقرائية ــ بطبيعة الحال ــ أنواع مختلفة‪ ،‬إال أننا سنبحث هنا نوعين منها‪ .‬وقد أطلق‬
‫على أحد هذه األنواع مصطلح «القراءة االحتمالية»‪ ،‬وعلى النوع اآلخر مصطلح‬
‫«القراءة القرينية» أو الـ «‪.»evidential‬‬

‫القراءة االحتمالية لبرهان الشر‬


‫في القراءة االحتمالية يقوم االدعاء في الحقيقة على أن الشرور التي تحدث في هذا‬
‫العالم بحيث تقلل من احتمال وجود ال ّله في هذا العالم إلى حد كبير‪ .‬ولكي نوضح‬
‫هذه المسألة من خالل مثال‪ ،‬نقول‪ :‬تصور أنك تدخل بيتا دون أن تكون لديك معرفة‬
‫سابقة بصاحب هذا البيت‪ ،‬وتجد جميع األثاث في البيت متسخا ومبعثرا‪ ،‬فقال لكم‬
‫شخص‪ :‬إن صاحب هذا البيت في غاية األناقة والنظافة والترتيب والنظام! وقال آخر‪:‬‬
‫إن صاحب هذا البيت في غاية اإلهمال والفوضى وعدم الترتيب‪ .‬فأي هذين الشخصين‬
‫تميل إلى تصديقه بالنظر إلى ما تراه من الفوضى العارمة التي تسود البيت؟ يبدو من‬
‫الطبيعي جدا أن تميل إلى قول الشخص الثاني‪ .‬واآلن يمكن لكم تسرية هذا المثال إلى‬
‫الوضع السائد في هذا العالم‪ ،‬وذلك بافتراض شخص ينظر إلى هذا العالم الذي نعيش‬
‫فيه فيجده مشحونا بالشرور‪ ،‬وعندها ال يتمثل أمامنا أصل وجود الشر فحسب‪ ،‬بل‬
‫تتمثل لنا شدّ ة قسوته وحجم األلم الهائل المترتب عليه‪.‬‬
‫وهنا توجد فرضيتان‪ ،‬الفرضية األولى‪ :‬أن يكون لهذا العالم المشحون باأللم‬
‫والعذاب خالق يتصف بالرحمة والرأفة ويمكنه القيام بكل شيء ممكن من الناحية‬
‫المنطقية‪ ،‬وهو في الوقت نفسه مطلع على جميع األحداث التي تقع في هذا العالم‪،‬‬
‫وهو إلى ذلك في غاية الرحمانية والرحيمية‪ .‬وأما الفرضية األخرى فتقول‪ :‬ال وجود‬
‫لمثل هذا الخالق في هذا العالم‪.‬‬
‫فلو وضعت هاتان الفرضيتان أمامك‪ ،‬فإلى أيهما تميل بالنظر إلى وضع العالم‬
‫الماثل أمامك؟ يقول الملحد من الطبيعي جدا في هذه الظروف القول بعدم وجود‬
‫خالق لهذا العالم يتصف بالعلم والقدرة المطلقة والخير المحض‪ .‬وإذا كان األمر‬
‫كذلك ال يكون االعتقاد بوجود مثل هذا الخالق اعتقادا صحيحا أو مبررا من الناحية‬
‫العقلية‪ .‬وعلى هذا األساس فإن القراءة االحتمالية ال تدعي استحالة أن يكون لهذا‬
‫‪297‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫العالم من الناحية المنطقية خالق عالم وقادر مطلق وخير محض‪ ،‬فإن هذا االحتمال‬
‫ممكن‪ ،‬بيد أن الفرضية األكثر واألنسب واألقرب إلى المعقولية في هذا العالم الذي‬
‫نعيش فيه هو أال يكون لهذا العالم خالق يتمتع بهذه الصفات‪ ،‬لذا يمكن لك بعبارة‬
‫أخرى أن تصوغ االستدالل الرئيس للقراءة االحتمالية لمسألة الشر على النحو اآلتي‪:‬‬
‫لنفترض أن ‪ P‬تعني أن قضية «إن ال ّله موجود» محتملة‪ .‬وأن ‪ G‬تعني أن قضية «إن‬
‫ال ّله القادر المطلق والعالم المطلق والخير المحض موجود»‪ .‬بشرط وجود الشرور في‬
‫هذا العالم‪ ،‬يكون هذا االحتمال ضئيال‪ .‬وعليه فإن المقدمة الرئيسة لهذا البرهان تقول‪:‬‬
‫إن احتمال صدق قضية «إن ال ّله موجود» ضئيلة جدا مع افتراض وجود الشرور العظيمة‬
‫في هذا العالم‪.‬‬
‫‪P «G/E»I,‬‬
‫ومن هذه المقدمة نستنتج القضية الثانية‪:‬‬
‫إن االعتقاد بال ّله غير وجيه من الناحية العقلية‪.‬‬
‫وهذا في الحقيقة يمثل الصورة المختزلة لبرهان االحتمالية‪ .‬إن احتمال صدق‬
‫قضية إن ال ّله موجود مع اشتراط وقوع الشرور في هذا العالم‪ ،‬ضئيل للغاية‪ ،‬وبالتالي‬
‫فإن االعتقاد بال ّله ال يكون مبررا من الناحية العقلية‪ .‬فما الذي يمكن قوله بشأن هذا‬
‫االستدالل؟‬
‫األمر األول الذي يجب إيضاحه هنا هو ما الذي يراد من مفهوم االحتمال المستعمل‬
‫في هذا البرهان‪ .‬الحقيقة أننا عندما نتحدث في األدبيات ذات الصلة‪ ،‬ال سيما عندما‬
‫نتحدث عن مفهوم االحتمال في سياق األبحاث الفلسفية‪ ،‬نجده مفهوما في غاية‬
‫الغموض‪ ،‬وعليه يجب علينا أن نوضح ما هو المراد من مفهوم االحتمال هنا؟‬
‫وبشكل عام هناك ثالث قراءات مختلفة لمفهوم االحتمال‪:‬‬

‫القراءة األولى لمفهوم االحتمال‬


‫إن القراءة األولى عن االحتمال تمثل نوعا من التفسير الشخصي‪ .‬طبقا للتفسير‬
‫الشخصي لالحتمال‪ ،‬عندما يتحدث شخص عن احتمال صدق قضية ما‪ ،‬فهو إنما يعبر‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪298‬‬
‫في الحقيقة عن رأيه ومعتقده الشخصي تجاه تلك القضية‪ ،‬فعندما أقول مثال‪« :‬أحتمل‬
‫أن تمطر السماء غدا»‪ ،‬فأنا هنا إنما أعبر عن اعتقادي بأن الطقس سيشهد غدا سماء‬
‫ممطرة بالنظر إلى القرائن والعالمات التي أراها‪ ،‬وهذا يعني أن لدي احتماال كبيرا بأن‬
‫السماء ستمطر غدا‪ .‬وعليه طبقا لهذا التفسير عندما تتحدث عن احتمال قضية ما‪ ،‬فإنك‬
‫تعبر عن موقفك ورأيك الشخصي‪ ،‬فإذا أخذنا هذه القراءة في تفسير مفهوم االحتمال‬
‫بنظر االحتمال‪ ،‬فإن الملحد عندما يقول‪ :‬إن احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور‬
‫في هذا العالم‪ ،‬احتمال ضئيل‪ ،‬إنما يعبر في الواقع عن رأيه الشخصي؛ بمعنى أنه يقول‪:‬‬
‫بااللتفات إلى الظروف والشرائط التي أراها في هذا العالم‪ ،‬ال أستطيع التفاعل كثيرا‬
‫مع قضية «إن ال ّله موجود»‪ ،‬إال أننا إذا أخذنا هذا المعنى في تفسير االحتمال‪ ،‬عندها‬
‫من المستبعد أن يكون االستدالل االحتمالي استدالال قويا‪ ،‬إذ يمكن للفرد المؤمن في‬
‫المقابل أن يعبر عن رأيه الشخصي‪ ،‬ويكون احتمال االعتقاد بوجود ال ّله أكبر بكثير‪ .‬لذا‬
‫فإن األفراد فيما نحن فيه تختلف احتماالتهم الشخصية بشأن القضايا‪ ،‬وبطبيعة الحال‬
‫فإن درجات االحتمال تختلف شدة وضعفا‪ ،‬ولن يؤدي هذا الخالف في االحتماالت‬
‫إلى نتيجة‪ ،‬وسيبقى كل شخص متمسكا باحتماالته الشخصية‪.‬‬

‫القراءة الثانية لمفهوم االحتمال‬


‫أما التفسير اآلخر لمفهوم االحتمال فقد ذهب إليه بعض الفالسفة الملحدين من‬
‫القائلين بالقراءة االحتمالية‪ ،‬وقد فسروا االحتمال هنا حينا بالنظرية التواترية‪ ،‬وحينا‬
‫باالحتمال اإلحصائي‪ .‬طبقا لهذه النظرية يكون االحتمال في الواقع عبارة عن نسبة‪.‬‬
‫إن االحتمال هنا يعد في الحقيقة ميزانا لتواتر وقوع أمر ما‪ .‬لنأخذ بنظر االعتبار أعضاء‬
‫مجموعة مؤلفة من مئة شخص‪ ،‬وكان تسعون شخصا منهم يتصفون بخصوصية‬
‫محددة‪ ،‬وبااللتفات إلى تواتر وقوع هذه الخصوصية يحتمل أن يتصف العضو الحادي‬
‫والتسعون من هذه الجماعة بذات هذه الخصوصية أيضا‪ .‬وهنا يكون االحتمال األكبر‬
‫من كل شيء في الحقيقة هو مستوى الوقوع النسبي للموارد التي تحكي عن صفة‬
‫خاصة‪ .‬على سبيل المثال خذ بنظر االعتبار مؤسسة للضمان االجتماعي‪ .‬وفي دراسة‬
‫ميدانية أجرتها هذه المؤسسة على ألف شخص بعمر الثالثين سنة‪ ،‬توصلت إلى نتيجة‬
‫‪299‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫مفادها أن ‪ 950‬شخصا منهم قد بلغ عمر األربعين سنة‪ .‬ونتيجة لذلك تنشأ نسبة احتمالية‬
‫بمقدار ‪ % 95‬تثبت هذه المسألة‪ ،‬حيث تقول إن ‪ % 95‬من هؤالء األلف شخص البالغة‬
‫أعمارهم ‪ 30‬سنة سيبلغون سن األربعين‪ .‬وعندها ستتخذ هذه المؤسسة إجراءاتها‬
‫وقوانينها على أساس هذه اإلحصائية‪ .‬وعلى أساس هذا التفسير عندما يقول شخص‪:‬‬
‫إن احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور في هذا العالم ضئيل‪ ،‬فإنه في الواقع يقول‪:‬‬
‫إن االحتمال اإلحصائي لقضية «إن ال ّله موجود» بشرط وجود الشرور في هذا العالم‬
‫أقل من ‪ % 50‬مثال‪ .‬ولكن السؤال الوارد هنا يقول‪ :‬كيف يمكن لهؤالء التوصل إلى‬
‫تحديد هذه النسبة في الدائرة اإللهية؟ يبدو بحسب القاعدة أن الذين يطرحون مثل‬
‫هذا البرهان يقولون في الحقيقة‪ :‬إن من بين جميع العوالم الممكنة التي يكون حجم‬
‫الشرور فيها بمقدار حجم الشرور في العالم الذي نعيش فيه‪ ،‬يكون عدد ضئيل منها ــ‬
‫أقل من نصف هذا العالم مثال ــ قد خلقت على يد قوة إلهية تتصف بالعلم والقدرة‬
‫المطلقة والخير المحض‪ .‬وعلى هذا األساس تكون القيمة االحتمالية للقضية القائلة‬
‫«إن ال ّله موجود» قليلة‪ ،‬إال أن هذا الكالم غريب جدا‪ ،‬إذ إن عدد العوالم الممكنة إلى‬
‫ما ال نهاية‪ ،‬فكيف أمكن لهذا المدعي أن يجري دراسة ميدانية تستوعب جميع هذه‬
‫العوالم الممكنة؟ ثم إنه ما معنى أن نأخذ بنظر االعتبار عوالم ممكنة قد خلقها ال ّله أو‬
‫لم يخلقها؟! فما معنى حساب االحتماالت اإلحصائية في فضاء هذا البحث؟ إن هذا‬
‫السؤال في غاية الصعوبة‪ ،‬ومن المستبعد أن يكون بإمكان الفالسفة الذين طرحوا مثل‬
‫هذا االدعاء أن يقدموا تقريرا واضحا عنها‪.‬‬

‫القراءة الثالثة لمفهوم االحتمال‬


‫يبدو أن أغلب فالسفة الدين قد استفادوا من القراءة الثالثة لمفهوم االحتمال في‬
‫نظريتهم‪ ،‬أي التفسير المنطقي لالحتماالت‪ .‬إن «االحتمال» هنا يميل إلى نوع من‬
‫االرتباط شبه المنطقي لعالقة االستلزام مع واحد من المنظورين تحت دائرتها‪ ،‬فعندما‬
‫نقول‪« :‬إن جميع الناس يموتون»‪ ،‬و«سقراط إنسان»‪ ،‬فإن هاتين المقدمتين تستلزمان‬
‫القضية القائلة‪« :‬إن سقراط يموت»‪ ،‬فنسبة احتمال موت سقراط هنا تبلغ مستوى الـ‬
‫‪ .% 100‬ولكن هناك موارد ال تؤدي المقدمات فيها إلى احتمال صادق ‪ .% 100‬ولكن‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪300‬‬
‫بشرط صدق المقدمات‪ ،‬يرتفع مستوى احتمال النتيجة إلى حد كبير‪ ،‬ويطلق على‬
‫هذا االحتمال مصطلح االحتمال السابق‪ .‬لنفترض مثال أن شخصا يدعي أن زيدا ال‬
‫يعرف السباحة‪ ،‬وأنت لم تكن تعرف زيدا ولم تره أبدا‪ ،‬فتسأل‪ :‬لماذا ال يعرف زيد‬
‫السباحة؟ تقول‪ :‬إن من بين كل عشرة عراقيين هناك تسعة ال يعرفون السباحة‪ ،‬وزيد‬
‫عراقي‪ .‬فإذا كان األمر كذلك فإنك تقول‪ :‬ألن زيدا مواطن عراقي‪ ،‬فإن احتمال أال‬
‫يعرف زيد السباحة تبلغ نسبته ‪ .% 90‬وعلى هذا األساس من المعقول جدا أن تعتقد بأن‬
‫زيدا ال يعرف السباحة‪ .‬وفيما نحن فيه هناك من يحتمل ــ على فرض وجود الشرور في‬
‫هذا العالم ــ أن صدق القضية القائلة «إن ال ّله العالم القادر المحب للخير» قليل‪ .‬وفي‬
‫الحقيقة فإنهم ينسبون نوعا من االحتمال السابق؛ بمعنى أنهم يقولون‪ :‬بشرط وجود‬
‫الشرور يكون احتمال القضية القائلة‪« :‬إن ال ّله العالم المطلق‪ ،‬والقادر المطلق‪ ،‬والخير‬
‫المحض» قليل جدا‪ .‬إن القضية األولى تستلزم نوعا ما القضية الثانية‪ ،‬أو أنها تستلزم‬
‫القضية الثانية في الحد األدنى‪ ،‬إذ قضية «إن الشر موجود في هذا العالم» تستلزم إلى‬
‫حد ما القضية القائلة‪« :‬إن ال ّله العالم المطلق‪ ،‬والقادر المطلق‪ ،‬والخير المحض غير‬
‫موجود»‪ .‬إذن لنفترض أننا نفسر االحتمال هنا بهذا المعنى‪ ،‬إال أن هذا التفسير ال يخلو‬
‫من اإلشكال؛ إذ إن هذا التفسير إنما يصح إذا كان هذا هو كل ما تعرفه عن زيد ال غير؛‬
‫بمعنى أن الشيء الوحيد الذي تعرفه عن زيد هو أنه مواطن عراقي‪ .‬ولكن لنفترض أنه‬
‫قد اتضح الحقا أن زيدا يعمل في إنقاذ الغرقى‪ ،‬فمجرد أن تطلع على هذه المعلومة حتى‬
‫تتدنى قيمة احتمال القضية القائلة‪« :‬إن زيدا ال يعرف السباحة» إلى أدنى مستوياتها‪،‬‬
‫فاالحتمال السابق يتوقف دائما على ما هو الشيء الذي تنسب إليه ذلك االحتمال‪،‬‬
‫فإن كنت تنسب احتمال قضية «إن زيدا ال يعرف السباحة» إلى القضية القائلة‪« :‬هناك‬
‫من كل عشرة عراقيين تسعة ال يعرفون السباحة‪ ،‬وزيد عراقي»‪ ،‬سيكون احتمال القضية‬
‫القائلة‪« :‬إن زيدا ال يعرف السباحة» كبيرا جدا‪ .‬وأما إذا نسبت هذه القضية إلى القضية‬
‫القائلة‪« :‬إن زيدا يعمل في إنقاذ الغرقى»‪ ،‬فإن االحتمال السابق للقضية القائلة‪« :‬إن‬
‫زيدا ال يعرف السباحة» سيكون قليال جدا‪ ،‬إذ إن زيدا إذا كان يعمل ضمن فريق إلنقاذ‬
‫الغرقى‪ ،‬فسوف تقول‪ :‬إن احتمال أن يكون زيد يعرف السباحة كبيرا جدا‪ .‬وعليه إذا كان‬
‫هناك من يعتقد بأن االحتمال السابق لقضية‪« :‬إن ال ّله موجود» بشرط وجود الشرور في‬
‫‪301‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫هذا العالم‪ ،‬قليل جدا‪ ،‬ال يكون هناك حتى اآلن إشكال في هذه النتيجة‪ .‬ولكن لو ادعى‬
‫المؤمن ادعاء آخر‪ ،‬وقال مثال‪ :‬إن لدى ال ّله سببا أخالقيا وجيها لتبرير وجود الشرور في‬
‫هذا العالم‪ ،‬فعندها سيكون احتمال وجود ال ّله بشرط ‪ ،R‬أي أن يكون لدى ال ّله سبب‬
‫لوقوع هذه الشرور كبير جدا‪ .‬وإذا كان بإمكانها أن تبرر االحتمال القليل بوجود ال ّله من‬
‫الناحية العقلية‪ ،‬فإنها سوف ترفع من االحتمال الكبير باالعتقاد بوجود ال ّله من الناحية‬
‫العقلية أيضا‪ .‬وعلى هذا األساس لو أنك فسرت االحتمال هنا بمعنى االحتمال السابق‬
‫أو المنطقي‪ ،‬فسوف تقول إن احتمال وجود ال ّله بالنسبة إلى الشرور في هذا العالم‪،‬‬
‫قليل‪ .‬في حين سيقول لك المؤمن بدوره‪ :‬إن احتمال أن يكون ال ّله موجودا بشرط أن‬
‫يكون لديه سبب أخالقي وجيه لتبرير الشرور‪ ،‬كبير جدا‪ .‬بمعنى أن المؤمن في المقابل‬
‫يطرح هذا االستدالل‪:‬‬
‫«‪P «G/R»I’ »1‬‬
‫«‪ »2‬إن االعتقاد بال ّله مبرر من الناحية العقلية‬
‫أي أنه يقول‪ :‬إن االحتمال السابق لقضية إن ال ّله موجود بشرط أن يكون لديه سبب‬
‫أخالقي وجيه لتبرير الشرور في هذا العالم‪ ،‬كبير جدا‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك فإن‬
‫المؤمن سوف يستنتج من ذلك أن االعتقاد بال ّله مبرر من الناحية العقلية‪.‬‬
‫إنه باإلمكان دائما أن تنسب كل قضية إلى مجموعة من القضايا التي ترفع من‬
‫احتمالها إلى حد كبير‪ ،‬ويمكن أحيانا أن تنسب ذات هذه القضية إلى مجموعة من‬
‫القضايا األخرى التي تخفض من احتمالها إلى حد كبير‪ .‬وعلى هذا األساس فإن الفرد‬
‫المؤمن ــ خالفا للفرد الملحد الذي ينسب قضية «إن ال ّله موجود» إلى وجود الشرور‬
‫في هذا العالم ــ إنما ينسب قضية «إن ال ّله موجود» إلى قضية «إن ال ّله لديه دليل أخالقي‬
‫وجيه لتبرير هذه الشرور»‪ ،‬وبذلك يرتفع احتمال القضية القائلة «إن ال ّله موجود»‪،‬‬
‫وعلى هذا ال يمكن حسم الجدل‪.‬‬

‫اإلشكال األهم على القراءة االحتمالية لمسألة الشر‬


‫بيد أن اإلشكال األهم في هذا االستدالل يكمن في الحقية في االنتقال من المقدمة‬
‫األولى إلى المقدمة الثانية‪ ،‬إذ إن هذا االنتقال يعني أن العقالنية رهن باالحتمال األكبر‪،‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪302‬‬
‫إذ إنك إنما يمكنك االعتقاد بقضية من الناحية العقلية إذا كان احتمالها كبيرا‪ ،‬وأما‬
‫إذا كان احتمال صدق القضية قليال‪ ،‬فعندها ال يكون االعتقاد بها مبررا من الناحية‬
‫العقلية‪ ،‬إال أن هذا األصل المعرفي خاطئ جدا وال يمكن الدفاع عنه‪ ،‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ :‬إن احتمال القضية القائلة‪« :‬إن رضا خان كان ملكا على إيران» على فرض أن‬
‫يكون رضا خان عسكريا قرويا أميا‪ ،‬قليل جدا‪ .‬ولكن هل يمكن أن نستنتج منها أن رضا‬
‫خان بوصفه واحدا من ملوك إيران قضية غير مبررة من الناحية العقلية؟ كال أبدا‪ .‬إن‬
‫احتمال أن أكون أنا آرش نراقي أستاذ فلسفة في الواليات المتحدة األمريكية بشرط أن‬
‫أكون قد درست تصنيع الدواء في جامعة طهران‪ ،‬قليل جدا‪ .‬فهل إذا اعتقد أحد اآلن‬
‫أني أنا آرش نراقي أستاذ الفلسفة في الواليات المتحدة األمريكية حقيقة‪ ،‬ال يكون‬
‫اعتقاده هذا مبررا من الناحية العقلية؟ كال أبدا‪ .‬والدليل على ذلك واضح جدا؛ ألني‬
‫أستاذ في حقل الفلسفة في الواليات المتحدة األمريكية حقيقة‪ .‬إن الكثير من األمور‬
‫التي تقع في هذا العالم احتمال وقوعها قليل جدا‪ ،‬إال إن قلة احتمال وقوعها ال يعني‬
‫أنها ال تقع أبدا‪ .‬لنفترض أنك قد اشتريت بطاقة يانصيب‪ ،‬ونعلم أن احتمال ربح ورقة‬
‫اليانصيب قليل جدا‪ ،‬ولكن صادف أن كانت بطاقتك رابحة‪ ،‬فهل يكون االعتقاد بأنك‬
‫قد ربحت اليانصيب غير مبرر؟ بمعنى أن هذه الصورة لالستنتاج حيث تتوصل من‬
‫هذا االستدالل إلى النتيجة من احتمال أسفل غير مبرر لالعتقاد‪ ،‬ينطوي على مغالطة‪،‬‬
‫وعليه ال يكون االستنتاج صحيحا‪ .‬إذا كان األمر كذلك فإن جميع األمور التي كنا نعتقد‬
‫بها تقريبا‪ ،‬يمكن لك على الدوام أن تجعل احتمالها قليال جدا من خالل نسبتها إلى‬
‫قضية من النادر احتمالها جدا‪ ،‬وإذا قبلت بهذا األصل‪ ،‬عندها ال يمكنك من الناحية‬
‫العقلية أن تؤمن بهذه القضية‪ .‬ويصح هذا الكالم بشأن كل قضية من القضايا؛ إذ ليست‬
‫هناك قضية ما إال ويمكن نسبتها إلى قضية أخرى يندر احتمالها‪ ،‬فيكون االعتقاد بها‬
‫غير مبرر من الناحية العقلية‪ .‬وفي هذه الحالة تكون جميع األمور التي تؤمن بها تقريبا‬
‫غير مبررة من الناحية العقلية‪ ،‬وهذه النتيجة ــ بطبيعة الحال ــ ال تبدو صائبة‪.‬‬
‫وقد عمد بعض الفالسفة في سعي منهم إلى رفع هذا اإلشكال ــ إلى حد ما ــ إلى‬
‫القول‪ :‬إننا هنا ال نتحدث عن احتمال مطلق القضايا‪ ،‬وإنما نقوم بالمقارنة بين نظريتين‪،‬‬
‫وعندما نقارن بينهما نقول‪ :‬إن احتمال أحدهما ــ بأي معنى من معاني االحتمال ــ‬
‫‪303‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫بالقياس إلى احتمال اآلخر «بنفس معنى االحتمال» أقل أو أكثر‪ ،‬وفي الحقيقة فقد‬
‫سعى البعض إلى حل مشكلة هذا البرهان من طريق القراءة المقارنة‪ ،‬ولكن علينا أوال‬
‫أن نذكر بأن هناك قانونين في حساب االحتماالت‪:‬‬
‫"‪(1) P "A & B" = P "A" + P "B/A‬‬
‫"‪P "B & A‬‬
‫"‪(2) P "B/A‬‬ ‫=‬ ‫‪--------------‬‬
‫"‪P "A‬‬

‫وهنا إذا أخذت هذين القانونين البسيطين لحساب االحتماالت‪ ،‬عندها يمكن لنا أن‬
‫نصوغ استدالال جديدا على نفي وجود ال ّله‪ .‬إننا نهدف في الحقيقة إلى مقارنة احتمال‬
‫صدق اإللحاد «‪ »N‬مع احتمال صدق اإليمان «‪ .»T‬وطبقا للقواعد التي طرحناها نجد‬
‫«أن الحرف «‪ »E‬يرمز إلى الشر»‪.‬‬

‫"‪P "N & E‬‬ ‫"‪P "E/N" + P "N‬‬


‫= ‪P "N/E" = --------------‬‬ ‫‪----------------------‬‬
‫"‪P "E‬‬ ‫"‪P "E‬‬

‫"‪P "T & E‬‬ ‫"‪P "E/T" + P "T‬‬


‫= ‪P "T/E" = ---------------‬‬ ‫‪----------------------‬‬
‫"‪P "E‬‬ ‫"‪P "E‬‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪304‬‬

‫"‪P "E/N" + P"T‬‬


‫‪----------------‬‬
‫"‪P "N/E‬‬ ‫"‪P "E‬‬ ‫"‪P "E/N" + P "N" P "E/N" + 0.5 P "E/N‬‬
‫= ‪---------- = ---------------------- = -------------------- = ------------------‬‬
‫"‪P "T/E" P "E/T" + P "T" P "E/T" + P "T" P "E/T" + 0.5 P "E/T‬‬
‫‪------------------‬‬
‫"‪P "E‬‬

‫"‪P "N/E‬‬ ‫"‪P "E/N‬‬


‫‪---------- = -------------‬‬
‫"‪P "T/E‬‬ ‫"‪P "E/N‬‬

‫"‪P "E/N" " "P "E/T‬‬

‫هذه صيغة أخرى أكثر تطورا عن برهان االحتماالت مقدمة من قبل بعض‬
‫الملحدين؛ إذ يقولون‪ :‬إنك إذا وضعت مجموع القرائن إلى جوار بعضها‪ ،‬سيكون‬
‫احتمال عدم وجود ال ّله بشرط وجود الشر أكثر بكثير من احتمال صدق وجود ال ّله‬
‫بشرط وجود الشرور‪ ،‬وهذا دليل يبرر لك ترجيح اإللحاد على اإليمان‪.‬‬
‫هذا االستدالل يواجه إشكالين رئيسين‪ :‬اإلشكال الرئيس األول أن المستدل بهذا‬
‫االستدالل قد افترض أن وقوع الشرور في هذا العالم هو السبب الوحيد المرتبط‬
‫بدليل حساب االحتماالت هذا‪ ،‬وأنه ال وجود ألي دليل أو سبب آخر‪ ،‬في حين أن‬
‫األمر ليس كذلك‪ ،‬إذ لو أنك افترضت أن القرينة الوحيدة التي تمتلكها هي قرينة أن‬
‫رضا خان شخص قروي ال يعرف القراءة أو الكتابة‪ ،‬سيكون احتمال أن يكون ملكا‬
‫‪305‬‬ ‫رشلا ةلأسم ىلإ لخدم‬

‫على إيران قليال جدا‪ ،‬إال أنك إذا ضممت إلى هذه القرينة قرائن أخرى سيرتفع رصيد‬
‫احتمال أن يغدو رضا خان واحدا من ملوك إيران‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬إن األرضية والخلفية‬
‫المعرفية التي تضع هذه االحتماالت في صلبها هامة للغاية‪ ،‬إذ ليس عليك أال تنظر‬
‫إلى االحتماالت بالقياس إلى قرينة واحدة فقط‪ ،‬بل ال بد من أخذ جميع القرائن ذات‬
‫الصلة في هذه المعادلة‪ .‬وعندها ستكون النتيجة مختلفة بطبيعة الحال‪ .‬يقول المؤمن‬
‫بوجود ال ّله‪ :‬لنفترض أن ما تقوله صحيح‪ ،‬وأن احتمال عدم وجود ال ّله بشرط وجود‬
‫أن هذه ليست‬ ‫الشرور أكثر من احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور في العالم‪ ،‬إال ّ‬
‫هي المعلومة والقرينة الوحيدة الموجودة بين أيدينا‪ ،‬فنحن نعلم أن لدى ال ّله أسبابا‬
‫أخالقية وجيهة لتبرير وجود الشرور في هذا العالم‪ ،‬وهناك لدينا الكثير من األدلة على‬
‫إثبات وجود ال ّله‪ ،‬وأنك إذا أخذت جميع هذه القرائن بنظر االعتبار‪ ،‬قد تصل إلى نتيجة‬
‫مختلفة تماما‪ .‬وعليه فإن اإلشكال األول على هذه الصيغة يأخذ على المستدل أنه قد‬
‫أخذ بحسبانه مجرد احتمال وجود ال ّله بشرط وجود الشرور قياسا إلى قضية واحدة‬
‫خاصة‪ ،‬ولم يأخذ بحسبانه جميع القرائن والمعلومات األخرى‪.‬‬
‫وأما اإلشكال الثاني هو أن جميع هذه األبحاث تقوم على فرضية تقول إن االحتمال‬
‫القليل أو الكثير يتحدد بالقياس والنسبة إلى المعقولية‪ ،‬إذ احتمال شيء بالنسبة إلى‬
‫القضية األخرى إذا كان أكثر‪ ،‬فهذا يعني دائما ولزوما أن يكون االعتقاد باألكثر احتماال‬
‫متمتعا بالتبرير العقلي األكبر‪ .‬ولكن هذه الفرضية ــ كما سبق أن ذكرنا في محله ــ‬
‫موضع شك وترديد‪ .‬إن هذا االستدالل برمته يقوم على فرضية يصطلح عليها تسمية‬
‫«القرينية»‪ .‬والقرينية تذهب إلى االعتقاد بأن المعقولية رهن بالقرائن المناسبة‪ ،‬ومرادهم‬
‫من القرائن هنا مجموعة من المعتقدات األخرى التي نعتقد بها‪ ،‬ولكن تم االستدالل‬
‫في بعض الموارد بقرائن قد ال تشكل نظرية معرفية صحيحة‪ .‬لنفترض أني قد اعتدت‬
‫على المشي في صباح كل يوم في الغابة المجاورة لمنزلي‪ ،‬وفي صبيحة يوم كنت ذاهبا‬
‫إلى الغابة على مألوف عادتي وحدث أن قتل أحد أقربائي في تلك الغابة‪ ،‬وكانت جميع‬
‫القرائن وأصابع االتهام تشير إلى أني أنا من ارتكب جريمة القتل‪ ،‬وعليه فإذا أخذنا هذه‬
‫القرائن المتوفرة لدينا بنظر االعتبار يكون من المعقول والمبرر جدا أن يقوم االعتقاد‬
‫على أن أكون أنا آرش نراقي قد ارتكبت هذه الجريمة‪ ،‬ولكنني رغم اعتقادي بمعقولية‬
‫يقارن شرآ ‪.‬د‬ ‫‪306‬‬
‫جميع تلك القرائن المبررة التهامي‪ ،‬أعلم يقينا أني لست من ارتكب جريمة القتل‪،‬‬
‫وأرى لذلك أن لي كامل الحق بتبرئة نفسي من تلك الجريمة‪ .‬إن اعتقادي ال يقوم هنا‬
‫في الحقيقة على سائر القرائن المتوفرة لدى الجميع‪ ،‬وإنما يقوم على أساس تجربتي‬
‫الخاصة‪ ،‬ويمكن لتلك التجربة قي ظل بعض الشرائط أن تبرر اعتقادي رغم كل القرائن‬
‫التي تشهد على خالف ذلك‪ .‬لذا يبدو أننا نواجه هنا مشكلة كبيرة‪ ،‬وهي أن الفرضية‬
‫القائلة بتبرير االعتقاد بقضية مبررة على أساس وجود القرائن القوية والثابتة‪ ،‬قد ال‬
‫تكون صحيحة على الدوام‪ ،‬ففي بعض الموارد يمكن للفرد أن يعتقد بقضية ــ في بعض‬
‫الظروف الخاصة ــ على الرغم من وجود سائر القرائن األخرى المتوفرة على الخالف‪.‬‬
‫وهناك الكثير من التفاصيل التي يجب الخوض فيها بشأن هذه المسألة‪ ،‬ولكن أرى أن‬
‫نكتفي بهذا المقدار؛ إذ الغرض هو أن نثبت أن القراءة االحتمالية لبرهان الشر يواجه‬
‫الكثير من العقبات الجادة التي تمثل تحديا لهذا البرهان‪ .‬وقد أردت أن أعرض عليكم‬
‫بعض أدلة الطرفين‪ ،‬مع إيضاح هذه المسألة‪ ،‬وهي أن القرائن االحتمالية تواجه بعض‬
‫اإلشكاالت الجادة والهامة‪ .‬ثم إن من بين أهم اإلشكاالت الرئيسة هو اإلشكال القائل‬
‫بأن توظيف برهان حساب االحتماالت في األبحاث الفلسفية أمر مشبوه للغاية؛ إذ‬
‫من غير المعلوم أن يجدي ذلك المفهوم من حساب االحتماالت في حقل األبحاث‬
‫الفلسفية‪ ،‬ويذهب الكثير من الفالسفة إلى االعتقاد بأن استخدام حساب االحتماالت‬
‫في األبحاث الفلسفية ينطوي على مغالطة‪.‬‬
‫وفي الجزء الثالث من هذا البحث‪ ،‬الذي ينشر في العدد القادم نتناول القراءات‬
‫األخرى لبرهان الشر الخالية من مشاكل حساب االحتماالت بمزيد من التفصيل‪.‬‬
‫دراسات‬

‫والمعاناة‬
‫اإلله والشر ُ‬
‫‪1‬‬
‫دانيال هاوارد سنايدر‬ ‫______________________________________________‬

‫‪ .1‬الشر والمعاناة‬
‫منذ وقت ليس ببعيد‪َ ،‬ذك ََّر عدد من جريدتي المحلية َّقرا َءها بسوزان سميث؛‬
‫والدة كارولينان التي دحرجت سيارة مازدا في بحيرة‪ ،‬وأغرقت ابنيها الصغيرين‬
‫المحبوسين في الداخل‪ .‬كما أفادت باختطاف واغتصاب جماعي لفتاة في الحادية‬
‫عشرة من عمرها على يد ثمانية مراهقين من أنجيليتوس‪ ،‬وإدانة «فريتو مان» في ‪68‬‬
‫تهمة تتعلق باالعتداء الجنسي‪ ،‬لرجل يبلغ من العمر خمسة وأربعين عا ًما سلم رقائق‬
‫الذرة ألطفال الحي لجذبهم إلى مكان منعزل‪ .‬في اآلونة األخيرة‪ ،‬أعلنت عناوين‬
‫الصحف عن الوفاة المبكرة آلشلي جونز‪ ،‬وهي فتاة تبلغ من العمر اثني عشر عاما‬
‫من ستانوود في واشنطن‪ ،‬تعرضت لالغتصاب والضرب بالهراوات حتى الموت‬
‫أثناء رعايتها ألطفال جيرانها‪.‬‬
‫هذه هي حاالت الشر المروعة المثيرة لالشمئزاز بشكل خاص‪ ،‬وكل ذلك ألن‬
‫األطفال هم الضحايا‪ .‬قد يعتقد المرء أن مثل هذه الحاالت تحدث فقط في حاالت‬
‫نادرة‪ .‬أتمنى أن يكون األمر كذلك‪ .‬أفادت قناة بي بي سي األخبارية مؤخرا أن طفال‬
‫يموت في الواليات المتحدة بسبب سوء المعاملة من قبل أحد الوالدين أو الوصي‬
‫كل ست ساعات‪ .‬يتبقى لدى المرء فكرة مزعجة‪ :‬إذا كان هذا هو عدد المرات‬

‫‪1 Daniel Howard-Snyder (1999) God, Evil and Suffering. In: Michael J. Murray‬‬
‫‪(Ed.) Reason for the Hope Within. Eerdmans.‬‬
‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جبر‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪308‬‬
‫التي يموت فيها الطفل من سوء المعاملة في الواليات المتحدة‪ ،‬فكم مرة يتعرض‬
‫األطفال لإليذاء فقط؟ من اآلثار الجانبية الشريرة لإليذاء األسري أن األطفال‬
‫الذين يتعرضون لإليذاء هم أكثر عرضة لإلساءة إلى أطفالهم؛ وبالتالي فإن مواقف‬
‫وعادات اإلساءة تنتقل من جيل إلى جيل‪ ،‬وهي حلقة من الشر والمعاناة التي قد‬
‫يكون من الصعب للغاية تخليص المرء منها‪.‬‬
‫في كثير من األحيان‪ ،‬تحدث معاناة الطفل عن غير قصد بسبب أولئك الذين‬
‫يحبونهم أكثر من غيرهم‪ .‬يتذكر ألفين بالنتينجا قصة عن‪:‬‬
‫رجل يقود شاحنة خلط إسمنت‪ .‬عاد إلى المنزل ذات يوم لتناول طعام الغداء‪.‬‬
‫كانت ابنته البالغة من العمر ثالث سنوات تلعب في الفناء‪ ،‬وبعد الغداء‪ ،‬عندما ركب‬
‫شاحنته وتراجع‪ ،‬لم يالحظ أنها كانت تلعب خلفها؛ لقد ُقتلت تحت العجالت‬
‫المزدوجة الكبيرة‪.2‬‬
‫ومن يستطيع أن ينسى صيف عام ‪ 1995‬الحارق‪ ،‬عندما ذهب أستاذ من والية‬
‫كنتاكي‪ ،‬بعد أن أوصل زوجته في العمل‪ ،‬إلى المدرسة‪ ،‬وأوقف السيارة‪ ،‬وترك‬
‫أطفاله سهوا في السيارة طيلة اليوم‪ ،‬النوافذ مغلقة؛ فاحترقوا ببطء حتى الموت‪.‬‬
‫هذه المعاناة والشر من صنع أيدي البشر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هناك مصادر أخرى‪ .‬تكشف‬
‫زيارة أي مستشفى كبير تقريبا عن أطفال ولدوا بتشوهات وراثية منهكة بشكل كبير‬
‫تضعفهم بشدة لدرجة ال يسع المرء إال أن يعتقد أن حياتهم ال تستحق العيش‪ .‬كما‬
‫أن األطفال ليسوا بمنأى عن األهوال الناجمة عن الزالزل واألعاصير والمجاعات‬
‫وما شابه ذلك‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬يعاني الكبار أيضا بشكل مروع وغير مستحق‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫براءتهم تكون في كثير من األحيان موضع شك‪ .‬واألرقام مذهلة‪ :‬ستة ماليين ُقتِ ُلوا‬
‫في الهولوكوست‪ ،‬وثالثون مليونا في تجارة الرقيق‪ ،‬وأربعون مليونا في عمليات‬
‫التطهير الستالينية‪ ،‬وثلث سكان أوروبا أثناء الطاعون‪ ،‬وعدة ماليين من الجوع فقط‬
‫خالل حياتي‪ :‬القائمة تطول وتطول‪ .‬وماذا عن الحيوانات غير البشرية؟ نحن في‬

‫‪2 «Self-Profile,» in Peter van Inwagen and James E. Tomberlin, eds, Alvin Plantinga‬‬
‫‪(Dordrecht: Reidel, 1985), 34.‬‬
‫‪309‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫الغرب المستنير نحب أن نعتقد أننا أكثر تحضرا من أسالفنا في عالقتنا بالحيوانات‪.‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬نحن نعتبر ممارسة ضرب الحيوانات التي كانت شائعة في السابق‬
‫أمرا بربريا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال نفكر مرتين في رياضة الصيد‪ ،‬أو كيف وصلت الماشية‬
‫والدواجن التي ال نحتاج إلى تناولها إلى أطباقنا‪ ،‬أو كيف دخل المسك في عطورنا‪.‬‬
‫لكن هذا ال شيء مقارنة بالمعاناة التي تحملها الطبيعة‪ .‬يحير العقل عند التفكير في‬
‫باليين باليين الحيوانات التي تالحقها الحيوانات المفترسة وتقتلها أو تأكلها حية أو‬
‫ماتت ببطء وألم‪ ،‬وهلكت بسبب المرض أو المجاعة أو الجفاف‪.‬‬
‫لذلك يجب علينا أن نواجه حقيقة واقعية‪ :‬تاريخ كوكبنا هو تاريخ حافل بالشر‬
‫المروع والمعاناة‪.‬‬

‫‪ .2‬مشكلتان‬
‫ُيعتقد أن الشر والمعاناة يمثالن مشكلة بالنسبة للمسيحيين‪ ،‬أو بشكل عام‪،‬‬
‫بالنسبة للمؤمنين‪ ،‬أولئك الذين يؤمنون بإله كلي القدرة‪ ،‬وكلي المعرفة‪ ،‬والصالح‬
‫تماما‪ .‬ما هو نوع المشكلة؟ كما اتضح‪ ،‬هناك مشكلتان‪ ،‬وليست واحدة‪.‬‬
‫‪ 1-2‬المشكلة العملية للشر والمشكلة النظرية للشر‬
‫عندما نعاني نحن أو أحبائنا بشدة‪ ،‬قد ال نفهم لماذا يسمح ال ّله بذلك؛ قد ال نرى‬
‫خيرا يتحقق منه؛ قد ال نكون قادرين على فهم ذلك‪ .‬كتب بالنتينجا‪« :‬يمكن أن يكون‬
‫هذا محيرا للغاية ومزعجا للغاية‪ .‬يمكن أن يقود المؤمن إلى اتخاذ موقف تجاه ال ّله‬
‫هو نفسه يأسف له؛ ويمكن أن يغريه أن يغضب من ال ّله‪ ،‬وال يثق في ال ّله‪ ،‬ويتبنى‬
‫موقف مرارة وعصيان‪ .3‬في قبضة هذا الغضب نرفع قبضتنا نحو السماء ونلعنها‪.‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬قد نقمع مشاعرنا‪ ،‬ونصبح بائسين‪ ،‬وفي النهاية نستسلم لليأس‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن الموقف المختلف تماما تجاه الشر والمعاناة‪ ،‬يدرس فقط ما إذا كان دلي ً‬
‫ال‬
‫على عدم وجود إله‪ ،‬أو دليال على أن اإليمان التوحيدى غير مبرر أو غير عقالني أو‬
‫غير معقول أو مشكوك فيه أو مشكوك فيه فكريا‪.‬‬

‫‪3 «Self-Profile,» 35.‬‬


‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪310‬‬
‫لدينا هنا مزيجان معقدان من المواقف والمشاعر ومشكلتان متماثلتان‪ .‬في‬
‫الحالة األولى‪ ،‬تكمن المشكلة في كيفية الحفاظ على عالقة مع ال ّله أو استعادتها‬
‫في مواجهة المعاناة والمأساة مع كوننا صادقين مع أنفسنا ومنفتحين تماما وصادقين‬
‫معه بشأن ما نشعر به‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في الحالة الثانية‪ ،‬تكمن المشكلة في معرفة ما إذا‬
‫كان الشر والمعاناة سببا وجيها لالعتقاد بعدم وجود ال ّله‪ .‬في الحالة األولى‪ ،‬تكون‬
‫عالقتنا مع ال ّله متوترة؛ في الثانية‪ ،‬نريد أن نعرف ما إذا كان نوع معين من الحجة‬
‫قد نجح‪ .‬من األفضل إجراء األول بمساعدة القس المميز أو الكاهن أو المرشد؛‬
‫الثاني يتطلب مساعدة أولئك المدربين لتقييم األدلة والحجج‪ ،‬والقلم في متناول‬
‫اليد والكثير من األوراق القريبة‪ .‬األول هو مشكلة عملية بشكل مكثف؛ والثاني هو‬
‫«مجرد» ــ كما يقولون ــ نظرية‪.‬‬
‫الحظ حقيقتين حول هاتين المشكلتين‪ .‬أوال‪ ،‬على الرغم من أنه يمكننا فصلها‬
‫بشكل مجرد‪ ،‬إال أنهما عاد ًة ما تجتمعان في تجربتنا‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬عند التفكير‬
‫في حجة قوية بشكل مؤثر من الشر‪ ،‬قد أبدأ في الشك في أنه ال يوجد إله على‬
‫اإلطالق؛ شكي قد يتحول إلى خوف أو شعور باالبتعاد من ال ّله؛ وبالتالي‪ ،‬قد‬
‫أصبح غاضبا أو حزينا‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬من السهل نسبيا ــ ومن الطبيعي تقريبا ــ أن‬
‫ينتقل المؤمن من المعاناة إلى الكفر التام‪ .‬غاضبا من ال ّله ألنه سمح لي أو ألحبائي‬
‫بالمعاناة‪ ،‬فقد أهاجمه‪ ،‬ربما ال شعوريا؛ وما هي أفضل طريقة للقيام بذلك من رفض‬
‫حقه والمطالبة بأن يلتزم بقواعدي‪ ،‬وهي قواعد منطقية‪ ،‬ليس فقط بالنسبة لي ولكن‬
‫لجميع األشخاص المنصفين‪ .‬في هذا اإلطار العقلي‪ ،‬قد أحاكم ال ّله بسبب اإلهمال‬
‫وعدم الكفاءة الجسيمة‪ ،‬وهناك‪ ،‬في قاعة المحكمة الخاصة بي داخلي‪ ،‬أحشد‬
‫األدلة ضده‪ .‬إذا تركت األمور هنا‪ ،‬أتدرب داخليا على قضيتي ضد ال ّله‪ ،‬أسبوعا بعد‬
‫أسبوع‪ ،‬وشهرا بعد شهر‪ ،‬وفقد ال يمر وقت طويل قبل أن أستيقظ ذات صباح ألجد‬
‫الحكم قد صدر‪ :‬ما كان يوما ما هو الغضب واأللم والخوف هو اآلن الكفر البارد‬
‫المحسوب‪.‬‬
‫ومع ذلك ــ وهذه هي الحقيقة الثانية المهمة ــ على الرغم من أن المشاكل النظرية‬
‫والعملية للشر تتضافر معا في تجربتنا‪ ،‬يجب أن ندرك أنها متميزة‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن حل‬
‫‪311‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫أحدهما قد ال يكون حال لآلخر‪ .‬قد ال تكون أنواع األشياء التي نحتاج إلى القيام‬
‫بها للتعامل مع المشكلة العملية ذات صلة بحل المشكلة النظرية؛ على العكس‬
‫من ذلك‪ ،‬قد ال تكون أنواع األشياء التي نحتاج إلى القيام بها للتعامل مع المشكلة‬
‫النظرية ذات صلة بحل المشكلة العملية‪.‬‬
‫‪ 2-2‬أهمية التمييز بين المشكلتين‬
‫اآلن‪ ،‬لماذا ميزت المشاكل العملية والنظرية للشر وحذرت من توقعنا أن يكون‬
‫حل أحدهما حال لآلخر؟ لسببين‪ .‬أوال‪ ،‬ألنني فيما يلي سوف أركز على المشكلة‬
‫النظرية‪ ،‬وليس المشكلة العملية‪ ،‬وثانيا (واألهم من ذلك)‪ ،‬ما يجب أن أقوله حول‬
‫المشكلة النظرية ليس المقصود منه المساعدة في المشكلة العملية‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬حتى‬
‫إذا فشل ما يجب أن أقوله أدناه في هذه النتيجة‪ ،‬فهذا ليس ضربة ضده‪.‬‬
‫ال شك أن العديد من القراء سيصابون بالفزع من اختياري للتركيز‪ .‬أنا أتعاطف‬
‫معهم‪ .‬بعد كل شيء‪ ،‬الشر والمعاناة حقيقة واقعة للغاية بحيث ال يمكن التعامل‬
‫معها على المستوى النظري فقط‪ .‬نحن بحاجة إلى نصيحة عملية وحكمة‪ ،‬وليس‬
‫فرضيات تأملية؛ نحتاج إلى شيء يمكننا تطبيقه في حياتنا‪ ،‬شيء يمكننا استخدامه‪،‬‬
‫شيء لتغذية القلب والروح‪ ،‬وليس الرأس‪ .‬باختصار‪ ،‬لسنا بحاجة إلى مجموعة من‬
‫«الهراء الفلسفي» حول ال ّله والشر‪ ،‬كما قال القس في كنيسة أمي مؤخرا‪.‬‬
‫هناك حقيقة مهمة كامنة هنا‪ .‬وبعض االلتباسات التي ال تقل أهمية‪ .‬أوال‪ ،‬الحقيقة‬
‫المهمة‪ ،‬بالنسبة للكثيرين منا‪ ،‬هناك أوقات حتى لو فهمنا تماما سبب عدم كون الشر‬
‫والمعاناة دليلين ضد وجود ال ّله‪ ،‬فلن يهمنا ذلك‪ .‬يواجه الكثير منا تدهور أجسادنا‬
‫هائل؛ نرى أحباءنا تسحقهم‬ ‫وعقولنا؛ نحن خائفون ونشعر بألم دائم‪ ،‬وأحيانا ِ‬
‫القسوة أو يد الطبيعة الحازمة‪ .‬نحن بحاجة إلى العزاء‪ ،‬وليس القياس‪ .‬إن تقديم‬
‫تكهنات فلسفية في مثل هذه األوقات يعني أن يتم تقديم حجر بارد عندما يكون‬
‫الخبز الدافئ فقط هو المناسب‪ .‬حتى اآلن جيدة جدا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يستمر الكثير من‬
‫الناس في االستدالل من هذه الحقيقة المهمة أنه مضيعة للوقت فحص ما إذا كان‬
‫الشر دليال ضد التوحيد ومعرفة سبب عدم وجوده بالضبط‪ .‬يستنتجون أن الفهم‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪312‬‬
‫العميق للتعقيدات التي ينطوي عليها حل المشكلة النظرية ال عالقة له بما يحتاجون‬
‫إليه هم واآلخرون حقا‪.‬‬
‫الفرضية هنا صحيحة‪ :‬بالنسبة للعديد من الناس‪ ،‬هناك أوقات ال يستطيع فيها‬
‫«الهراء الفلسفي» عن ال ّله والشر تلبية احتياجاتهم‪ .‬لكن هذا ال يعني أنه ال يوجد وقت‬
‫يفيدهم فيه مثل هذا التفكير الفلسفي بشكل كبير؛ عالوة على ذلك‪ ،‬حتى لو لم يكسب‬
‫بعض الناس شيئا من مثل هذا التفكير‪ ،‬فهذا ال يعني أن ال أحد سيفعله‪ .‬هناك نقطتان‬
‫للتأكيد هنا‪ .‬أوال‪ ،‬بينما بالنسبة للكثيرين منا‪ ،‬هناك أوقات في حياتنا ال يبدو فيها «الهراء‬
‫الفلسفي» عن ال ّله والشر أكثر من مجرد مجموعة من الهراء غير ذي صلة‪ ،‬سيأتي وقت‬
‫ال يكون فيه أي شيء آخر أكثر أهمية بالنسبة لمعظم األشخاص التأمليين‪ .‬وثانيا‪،‬‬
‫حتى لو لم نستفد نحن أنفسنا أبدا من معرفة كيفية حل مشكلة الشر النظرية بالضبط‪،‬‬
‫فقد يكون هناك أشخاص آخرون سيفعلون ذلك‪ ،‬وربما حتى أشخاص سنلتقي بهم‪.‬‬
‫اسمحوا لي أن أوضح هاتين النقطتين بإيجاز‪.‬‬
‫كثير من المؤمنين ممزقون بشأن الشر والمعاناة على وجه التحديد ألنه يبدو أنه دليل‬
‫قوي ضد إيمانهم بإله محب‪ .‬يجدون صعوبة في محبة ال ّله من كل قلوبهم ونفوسهم‬
‫وقوتهم وعقولهم‪ ،‬وخاصة عقولهم‪ .‬إذا فهم هؤالء الناس لماذا الشر ليس سببا لالعتقاد‬
‫بأن ال ّله ال يحبهم‪ ،‬إذا تعاملوا حقا مع مشكلة الشر النظرية‪ ،‬فقد يكونون في طريقهم‬
‫للعثور على الراحة التي يحتاجون إليها؛ وبالتالي‪ ،‬قد يكتسبون القوة لالستجابة بشكل‬
‫مناسب للشر المروع والمعاناة التي يواجهونها في حياتهم وفي العالم بأسره‪ .‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬يشك كثير من غير المؤمنين في مصداقية اإليمان المسيحي األساسي بسبب‬
‫الشر والمعاناة في العالم‪ .‬إذا أمكن إقناعهم بأن الشر ليس دليال ضد وجود ال ّله‪ ،‬فقد يتم‬
‫إزالة واحدة من أشد العقبات الفكرية التي تحول دون وصولهم إلى اإليمان‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬من وجهة نظر مسيحية‪ ،‬نحتاج إلى أن نأخذ الجهود التالية في هذا الفصل‬
‫بجدية تامة حتى لو كانت «مجرد» نظرية‪.4‬‬

‫‪4 Nicholas Wolterstorff, Lament for a Son (Grand Rapids, Mich.: Eerdmans, 1987),‬‬
‫‪C.S. Lewis, A Grief Observed (New York: Bantam Books, 1961), and Harold Kush-‬‬
‫‪ner, When Bad Things Happen to Good People (New York: Avon Books, 1981).‬‬
‫‪313‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫‪ .3‬لماذا يسمح ّ‬
‫الل بالشر والمعاناة؟‬
‫أبدأ بمالحظة بسيطة‪ :‬غالبا ما يتم التعبير عن «مشكلة» الشر النظرية في شكل سؤال‬
‫محدد‪ .‬ال ّله قادر على منع الشر والمعاناة وكان يعلم بها قبل حدوثها‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬بما أنه خير بالمطلق‪ ،‬فمن المؤكد أنه لن يسمح بها لمجرد التسلية‪.‬‬
‫فلماذا ال يمنعها؟ ومع ذلك‪ ،‬عادة ما يكون السؤال أكثر وضوحا‪ :‬لماذا سمح ال ّله‬
‫لألطفال في قصف أوكالهوما سيتي بالمعاناة من هذا القبيل؟ ولماذا سمح لوالدي ــ‬
‫وهو رجل أمين ومجتهد ــ أن يتالشى قبل األوان بسبب سرطان الدم؟ وحتى لو كان‬
‫هناك سبب وجيه للسماح له ببعض الشر والمعاناة‪ ،‬حتى الكثير منه‪ ،‬فلماذا كل هذا؟‬
‫بعض الناس يجيبون بسهولة على مثل هذه األسئلة‪ .‬قد يقولون‪ ،‬على سبيل المثال‪:‬‬
‫«ال ّله يسمح بالشر ألنه إذا لم يفعل‪ ،‬فلن تكون لدينا حرية؛ سنكون مثل الروبوتات‪.‬‬
‫ونفس الشيء ينطبق على األطفال في أوكالهوما سيتي ووالدك‪ .‬إذا كان ال ّله حال‬
‫دون القصف‪ ،‬لكانت حرية تيموثي ماكفي معرضة للخطر؛ وإذا كان ال ّله قد منع‬
‫معاناة والدك‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬فلن يكون حرا في الرد عليها بذكاء»‪ .‬ويرى آخرون‪ ،‬بمن‬
‫فيهم المسيحيون المخلصون‪ ،‬أن مثل هذه اإلجابات «فاترة‪ ،‬سطحية‪ ،‬وتافهة في نهاية‬
‫المطاف»‪ ،‬على حد تعبير بالنتينجا‪ .‬سنتعمق في هذه األمور قريبا؛ اآلن أريد أن أوضح‬
‫نقطة مختلفة‪.‬‬
‫أسئلة حول لماذا يسمح ال ّله بالشر والمعاناة‪ ،‬عندما ت َ‬
‫ُطرح بنغمة «إذن هناك!»‪ ،‬هي‬
‫ممو َهة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬األسئلة المشار إليها في الفقرة قبل األخير تخفي‬
‫حجج َّ‬
‫الحجة القائلة بأنه بما أنك ال تستطيع أن تقول لماذا سيسمح ال ّله بالشر بشكل عام‬
‫أو تفجير أوكالهوما سيتي أو موت والدي المؤلم والمفاجئ‪ ،‬فال يوجد سبب‪ .‬هذا‬
‫يفترض أنك ستكون في وضع يسمح لك بتحديد األسباب التي من شأنها أن تبرر‬
‫وجود ال ّله‪ ،‬إن وجدت‪ .‬لكن أليس من المعقول تماما أن نسأل لماذا يجب أن نفترض‬
‫ذلك؟ من خالل تمويه حجته في شكل سؤال‪ ،‬قد يحاول السائل التهرب من مسؤوليته‬
‫في الدفاع عن إجابته على سؤالنا‪ .‬لذلك‪ ،‬عندما يسألك الناس بالغي ًا‪« ،‬لماذا يسمح ال ّله‬
‫بالشر؟»‪ ،‬أدخل الحجة المقنعة وافتراضاتها في وضح النهار وقم بتقييمها‪ ،‬كما سنفعل‬
‫في القسم ‪ 6‬أدناه‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪314‬‬
‫‪ .4‬الحجة األساسية من الشر‬
‫مالحظة اصطالحية‪ :‬يمكن استخدام كلمة «شر» بعدة طرق‪ .‬تستخدمه الطريقة‬
‫القديمة لإلشارة إلى الفظاعة‪« ،‬الشر»‪ ،‬والمعاناة واأللم وأي شيء سيء آخر يحدث‪.‬‬
‫هذا االستخدام للكلمة له تاريخ جليل‪ .‬تستخدم المناقشات حول مشكلة الشر النظرية‬
‫عبر التاريخ كلمة «الشر» بهذه الطريقة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في ما يلي‪ ،‬سأستخدمها لإلشارة‬
‫على وجه التحديد إلى المعاناة واأللم الشديد غير المستحقين وكذلك الشر المروع‪.‬‬
‫لست مهتما هنا بالمعاناة التي يستحقها الناس‪ ،‬أو في المطبات والكدمات أو األكاذيب‬
‫البيضاء ونوبات الغضب المعتدلة‪ .‬سأركز على األشياء التي تقلب بطوننا‪.‬‬
‫أطروحتي بسيطة‪ :‬كل حجة من الشر تفشل‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬ليس لدي مساحة للنظر‬
‫في كل حجة‪ ،‬لذلك سأقتصر على بعض الحجج الشائعة وأقدم اعتراضات تنطبق على‬
‫اآلخرين‪ .‬أبدأ بالحجة األساسية‪.‬‬
‫‪ 1-4‬ذكرت الحجة األساسية‬
‫الطريقة األكثر مباشرة لوضع حجة الشر هي كما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬إن كان ال ّله موجودا‪ ،‬فال شر‪.‬‬
‫‪ .2‬هناك شر‪.‬‬
‫‪ .3‬إذن‪ ،‬ال ّله غير موجود (من ‪ 1‬و‪.)2‬‬
‫‪ 3‬تنبع من ‪ 1‬و‪ ،2‬و‪ 2‬صحيح بالتأكيد‪ ،5‬وهذا يترك الفرضية ‪ ،1‬هل هي صحيحة؟‬
‫نقاش ماكي المشهور للمقدمة ‪ 1‬مثل هذا‪:6‬‬

‫‪ 5‬يعترض القديس أوغسطينوس والتقاليد المسيحية في العصور الوسطى بشكل عام على أن الفرضية‬
‫الثانية خاطئة‪ .‬ألنه‪ ،‬بالمعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬ال يوجد شر ولكن فقط نقص في الخير تماما‪ ،‬كما أنه‬
‫ــ بالمعنى الدقيق للكلمة ــ ال توجد فجوات ولكن فقط نقص في األوساخ في أماكن معينة‪ .‬لسوء‬
‫الحظ‪ ،‬ال يصل هذا االعتراض إلى لب الموضوع‪ .‬يمكن إعادة صياغة المقدمة ‪ 2‬بسهولة على أنها‬
‫«أحيانا الكائنات الواعية تعاني بشدة وبشكل غير مستحق‪ ،‬وفي بعض األحيان يتصرف األشخاص‬
‫بطرق شريرة مروعة»‪ ،‬مما ال يعني أن هناك شرا‪ .‬واألوغسطينيون مدعوون إلجراء البدائل المناسبة‬
‫في جميع أنحاء النص‪.‬‬
‫‪6 «Evil and Omnipotence,» Mind (1955), collected in Robert and Marilyn Adams,‬‬
‫‪eds, The Problem of Evil (Oxford: Oxford University Press, 1990).‬‬
‫‪315‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫‪1‬أ الكائن الصالح تماما يمنع الشر دائما بقدر ما يستطيع‪.‬‬


‫‪1‬ب يمكن للكائن القادر على كل شيء أن يفعل أي شيء ممكن‪.‬‬
‫‪1‬ج لذلك‪ ،‬إذا كان هناك كائن صالح تماما‪ ،‬كلي القدرة وكلي المعرفة‪ ،‬فهو يمنع‬
‫الشر تماما‪( .‬من ‪ 1‬أ و‪1‬ب)‬
‫‪1‬د إذا كان ال ّله موجودا‪ ،‬فهو صالح تماما‪ ،‬كلي القدرة وكلي المعرفة‪.‬‬
‫‪1‬هـ لذلك‪ ،‬إذا كان ال ّله موجودا‪ ،‬فهو يمنع الشر تماما‪( .‬من ‪1‬ج و‪1‬د)‬
‫يستنتج من ‪1‬هـ أنه إذا كان ال ّله موجودا‪ ،‬فال يوجد شر‪ ،‬وهذا هو االفتراض األول‬
‫للحجة األساسية‪.‬‬
‫هل حجة ماكي حجة جيدة؟ هذا يعتمد على ما إذا كانت جميع المقدمات صحيحة‪.‬‬
‫هل هي كذلك؟‬
‫يقبل معظم المؤمنين ‪1‬د‪ ،‬لكن البعض يقول أنها خاطئة‪ :‬يقولون إننا بحاجة إلى‬
‫التخلي عن قدرة ال ّله المطلقة وعلمه المطلق‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬هذا األسلوب ليس‬
‫جذابا كما يبدو ألول مرة‪ .‬ألننا يجب أن نتخلى عن أكثر بكثير من القدرة المطلقة‬
‫والمعرفة المطلقة للمساعدة هنا‪ .‬يجب أن نقول إن ال ّله يفتقر إلى القوة والمعرفة‬
‫لدرجة أنه ال يستطيع منع الشر‪ .‬وهناك تكمن المشكلة‪ .‬ألنه كيف يمكن أن يمتلك‬
‫ال ّله القوة والمعرفة الكافية لخلق الكون المادي والحفاظ عليه إذا كان ال يستطيع‬
‫حتى منع الشر؟ كيف يمكن أن يكون هو الحاكم اإللهي للعالم إذا كان غير قادر‬
‫على فعل ما نفعله كثيرا‪ ،‬أي منع الشر؟ لذلك إذا سلكنا هذا الطريق‪ ،‬فيبدو أنه‬
‫سيتعين علينا التخلي أكثر مما كنا نتفاوض عليه‪ .‬ربما من األفضل أن ننظر في‬
‫مكان آخر‪.‬‬
‫ضع في اعتبارك ‪1‬أ هل سيمنع الكائن الصالح تماما الشر بقدر ما يستطيع؟ لنفترض‬
‫أن لديه سببا للسماح بالشر‪ ،‬سب ًبا يتوافق مع عدم قيامه بأي خطأ مطلقا وكونه مثاليا‬
‫في الحب‪ ،‬ما سأسميه سببا مبررا‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬لنفترض أنه إذا منع الشر تماما‪،‬‬
‫فسنخسر خيرا أعظم‪ ،‬خيرا كان صالحه عظيما لدرجة أنه تجاوز شر الشر‪ .‬في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬قد ال يمنع الشر بقدر ما يستطيع‪ ،‬ألنه سيكون لديه سبب مبرر للسماح به‪ .‬عادة‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪316‬‬
‫ما يستجيب مؤيدو الحجة األساسية بتعديل ‪1‬أ ليقرأ‪« :‬الكائن الصالح تماما يمنع الشر‬
‫دائما بقدر ما يستطيع ما لم يكن هناك سبب يبرره في السماح به»‪.‬‬
‫لكن الحظ أن تغيير ‪1‬أ بهذه الطريقة يعني أنه يجب تغيير حجة ماكي بطرق أخرى‪.‬‬
‫ألنه إذا كان هناك كائن صالح تماما قد يسمح بالشر لسبب مبرر‪ ،‬فقد يفعل ال ّله الشيء‬
‫نفسه‪ ،‬وفي هذه الحالة يجب تغيير ‪1‬ج و‪1‬هـ بالمثل‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يجب علينا أيضا تغيير‬
‫الحجة األساسية بطريقتين‪ ،‬مشار إليه بالخط المائل أدناه‪:‬‬
‫إن كان ال ّله موجودا‪ ،‬فال شر إال إذا كان هناك سبب يبرر له السماح به‪.‬‬
‫هناك شر‪.‬‬
‫ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بالشر‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ال ّله غير موجود‪.7‬‬
‫الحظ الفرضية الجديدة‪ ،‬المقدمة ‪ .3‬هذه الحجة األساسية المعدلة تطرح بشكل‬
‫جيد القضية الرئيسية في المقدمة‪ ،‬أي ما إذا كان هناك سبب يبرر ل ّله السماح بالشر‪.‬‬
‫‪ 2-4‬المنع القاطع من إباحة الشر‬
‫لماذا نفترض أنه ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بالشر؟ أحد اإلجابات هو أنه من‬
‫الخطأ أو غير المحبوب أن يسمح أي شخص بالشر تحت أي ظرف من الظروف‪.‬‬
‫هذه اإلجابة تبدو خاطئة‪ .‬ماذا لو كانت الطريقة الوحيدة لمنع المعاناة الفظيعة‬
‫هي السماح بحدوث معاناة أقل فظاعة ولكن غير مستحقة؟ أو ماذا لو كانت الطريقة‬
‫الوحيدة لمنع المعاناة الفظيعة وغير المستحقة من إيقاع العديد من اآلخرين هي ترك‬
‫عدد أقل من الناس يعانون؟ لنفترض أنك حارس إنقاذ والعديد من السباحين يغرقون‪.‬‬
‫إذا ذهبت بعد واحد بعيد‪ ،‬فسيتعين عليك ترك ثالثة آخرين بالقرب منك يغرقون‪،‬‬
‫ولكن يمكنك إنقاذ السباحين الثالثة القريبين‪ ،‬بشرط أن تغرق األبعد‪ .‬في هذه الحالة‪،‬‬
‫ليس من الخطأ وال غير المحب أن تنقذ الثالثة وتترك الواحد يغرق‪ .‬لذلك من الخطأ‬
‫أن يسمح أي شخص بالشر تحت أي ظرف من الظروف أو أنه غير محب‪.‬‬

‫‪ 7‬تحت تأثير االعتراضات مثل تلك التي سننظر فيها في القسم ‪ ،5‬أعاد ماكي صياغة حجته لعام ‪1955‬‬
‫في ‪ ،1982 The Miracle of Theism‬الفصل ‪9‬؛ انظر بشكل خاص ‪ 154‬ــ ‪ .55‬وشيء قريب من‬
‫إعادة صياغة ماكي هو محور القسم ‪.6‬‬
‫‪317‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫بالطبع‪ ،‬ال ّله‪ ،‬على عكسك‪ ،‬كلي القدرة وكلي المعرفة‪ .‬فإذا ال يمكنك الوصول إلى‬
‫جميع السباحين؛ فإن ال ّله يستطيع‪ .‬قد يؤكد المرء‪ ،‬إذن‪ ،‬أن األسباب الوحيدة التي تبرر‬
‫لنا السماح بالشر هي عجزنا أو جهلنا‪ .‬لذلك‪ ،‬بينما قد تكون هناك ظروف ال يكون فيها‬
‫السماح بالمعاناة أمرا خاطئا وال غير محبب لنا‪ ،‬فال يمكن أن يكون هناك أي شيء ل ّله‬
‫ألنه ليس عاجزا وال جاهال‪ .‬يمكنه دائما أن يجلب الخير األعظم دون السماح بالشر‪.‬‬
‫بقدر ما قد يبدو عليه هذا الخط الفكري معقوال في البداية‪ ،‬إال أنه فاشل‪ .‬ألنه حتى‬
‫لو كان ال ّله كلي القدرة وكلي المعرفة‪ ،‬فال يترتب على ذلك أنه قادر دائما على تحقيق‬
‫الخير األعظم دون السماح بالشر‪ .‬قوة ال ّله محدودة بما هو ممكن‪ .‬وال يمتلك حتى‬
‫للكائن القاهر القدرة على فعل ما هو مستحيل تماما‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إذا كان هناك بعض‬
‫الخير األعظم الذي ال يمكن أن يحدث مطلق ًا ما لم ُيسمح بالشر‪ ،‬فقد يظهر جيدا سبب‬
‫ال ّله للسماح بالشر‪.‬‬
‫يواجه العديد من المسيحيين صعوبة مع جمل مثل «قوة ال ّله محدودة بما هو‬
‫ممكن»‪ .‬نقطتان قد تكون لهما فائدة هنا‪ .‬أوال‪ ،‬أن نقول إن قوة ال ّله محدودة بما هو‬
‫ممكن ال يعني أن قوة ال ّله محدودة بما نستطيع فعله‪ ،‬أو بما نعتقد أنه ممكن‪ .‬بدال‬
‫من ذلك‪ ،‬يعني أن قوة ال ّله ال تسمح له بعمل ما هو مستحيل تماما‪ .‬ثانيا‪ ،‬قلة قليلة من‬
‫المفكرين المسيحيين أبدوا استعدادا للقول إنه من الممكن أن يكون ال ّله موجودا وغير‬
‫موجود في نفس الوقت‪ ،‬أو أنه من الممكن أن يكون الرجل عز ًبا ومتزوجا في وقت‬
‫واحد‪ ،‬أو أن هذا العدد ‪ 2‬يمكن أن يكون العدد الصحيح الوحيد بين ‪ 1‬و‪ 3‬ويكون فرديا‪،‬‬
‫ولسبب وجيه‪ .‬مثل هذه األشياء مستحيلة تماما‪ .‬هذه هي اإلجابة نفسها التي يعطيها‬
‫المسيحيون عاد ًة ألسئلة مثل «لماذا لم يخلصنا ال ّله بدون التضحية بابنه؟» و«لماذا ال‬
‫يخالف ال ّله الوعد؟» لذلك ال ينبغي أن يكون مفاجئا قبول نفس اإلجابة عن أسئلة مثل‬
‫«لماذا لم يحقق ال ّله مقاصده دون السماح بالشر؟» أو «لماذا ال يجلب ال ّله كل خير‬
‫أعظم بينما ال يزال يمنع الشر؟» دعنا نعود إلى الموضوع الرئيسي للفكر‪.‬‬
‫إذا كان هناك خير أعظم ال يمكن أن يحدث ما لم ُيسمح بالشر‪ ،‬فقد يظهر سبب ال ّله‬
‫للسماح بالشر‪ .‬بالطبع‪ ،‬هذا أمر كبير إذن‪ .‬وهل هناك خير أعظم ال يمكن أن يحدث‬
‫إال إذا أباح الشر؟ هل يوجد مثل هذا الخير الذي قد يظهر في سبب إجازة ال ّله للشر؟‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪318‬‬
‫‪ .5‬الثيوديسيات‬
‫هناك العديد من المحاوالت المترابطة لتبرير سماح ال ّله بالشر‪ ،‬وإلعطاء أسباب‬
‫لذلك‪ .‬نسميها الثيوديسيات‪ .‬سأقوم برسم الثيوديسيات األكثر شيوعا وتقييم‬
‫االعتراضات القياسية‪.‬‬
‫‪ 1-5‬العقاب الثيودسي‬
‫ال ّله مبرر في معاقبة األشرار‪ ،‬وتكون المعاناة نتيجة معاقبته لهم‪ .‬لكن ماذا عن المعاناة‬
‫غير المستحقة؟ في حين أن ال ّله له ما يبرر له معاقبة األشرار على إثمهم‪ ،‬فإن الكثير من‬
‫المعاناة في العالم غير مستحقة‪ .‬وال أحد يستطيع أن يقول بشكل منطقي إن ال ّله له ما يبرره‬
‫في معاقبة من ال يستحق ذلك‪ .‬ولكن أال تستحق كل المعاناة في العالم؟ أشك به‪ .‬تعاني‬
‫الحيوانات غير البشرية‪ ،‬واألطفال الصغار جدا‪ ،‬والبالغون المصابون بإعاقات شديدة‪،‬‬
‫معاناة شديدة لكنهم ال يستحقونها ألنهم ليسوا مسؤولين أخالقيا عن أفعالهم‪ .‬إنهم‬
‫يفتقرون إلى القدرات الالزمة للتشاور األخالقي والوعي‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬على الرغم‬
‫من أن العديد من األشخاص المسؤولين أخالقيا يعانون إلى درجة تتناسب مع خطاياهم‪،‬‬
‫فإن الكثيرين ال يعانون‪( .‬هذا هو أحد الدروس الرئيسية في سفر أيوب)‪ .‬أخيرا‪ ،‬ال تبدأ‬
‫العقوبة اإللهية حتى في تفسير سبب سماح ال ّله بالشر في المقام األول‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬في حين أن بعض المعاناة قد تُحسب من خالل العقاب اإللهي‪ ،‬فإنها ال‬
‫تستطيع تفسير الشر الذي نهتم به بشكل أساسي‪ :‬المعاناة غير المستحقة والشر المروع‪.8‬‬
‫‪ 2-5‬النظير الثيوديسي‬
‫الخير والشر مثل أزواج من األضداد أو النظراء‪ .‬إذا كان أحدهما موجو ًدا‪ ،‬كان اآلخر‬
‫كذلك‪ .‬لذلك‪ ،‬إذا لم يكن هناك شر‪ ،‬فلن يوجد نقيضه‪ :‬الخير األخالقي‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن‬
‫ال ّله له ما يبرره في السماح بالشر ألن هذا هو السبيل الوحيد لوجود الخير‪.‬‬

‫‪ 8‬مالحظتان‪ :‬أوال‪ ،‬إذا تجسدنا من جديد‪ ،‬فربما‪ ،‬على الرغم من كل ما نعرفه‪ ،‬يبدو أن المعاناة غير‬
‫المستحقة تستحق حق ًا ألنها عقاب على اإلثم في الحياة السابقة‪ .‬لكن الكنيسة رفضت دائم ًا عقيدة‬
‫التناسخ‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬يمكن للمسيحي أن يؤكد أن هناك معاناة غير مستحقة دون التشكيك في عقيدة‬
‫الخطيئة الموروثة أو العقاب األبدي‪.‬‬
‫‪319‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫كيف يمكن للثيوديسي استخدام هذا؟ تتمثل إحدى الصعوبات هنا في أنه‬
‫وفقا لإليمان بال ّله‪ ،‬فإن ال ّله خير أخالقيا ال يمكن تجاوزه‪ .‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫كان يمكن أن يكون موجودا دون أن يكون هناك أي شر‪ .‬بعد كل شيء‪ ،‬ماذا لو‬
‫لم يخلق شيئا أبدا؟ عندها سيكون موجودا وسيكون هناك خير‪ ،‬لكن لن يكون‬
‫هناك شر‪ .‬لذلك‪ ،‬وفقا لإليمان بال ّله‪ ،‬فإنه من الخطأ أنه إذا لم يكن هناك شر فلن‬
‫يكون هناك خير‪.‬‬
‫صعوبات في مبدأ وجود األضداد‪ :‬الحظ أن الفهم األكثر طبيعية لالدعاء بأنه في‬
‫أيضا هو‪ :‬إذا كان هناك‬
‫حالة وجود زوج من «األضداد» أو «النظراء»‪ ،‬فإن اآلخر موجود ً‬
‫شيء يحتوي على ميزة معينة‪ :‬ف‪ ،‬فهناك شيء له الميزة المعاكسة‪ :‬ليس ف‪ .‬نسمي هذا‬
‫مبدأ وجود األضداد‪ .‬هذا يعني أنه طالما أن هناك شي ًئا ما له خاصية كونه مستطيال‪،‬‬
‫فهناك شيء له خاصية كونه غير مستطيل‪ .‬وبالمثل‪ ،‬طالما أن شيئا ما يمتلك خاصية‬
‫كونه صالحا أخالقيا‪ ،‬فهناك شيء له خاصية االفتقار إلى الخير األخالقي‪ ،‬أو كونه غير‬
‫صالح‪ ،‬كما يمكنك القول‪.‬‬
‫تتمثل إحدى الصعوبات هنا في أنه مثلما توجد طرق مختلفة ألن تكون غير‬
‫مستطيلة (على سبيل المثال‪ ،‬مثلثة ودائرية)‪ ،‬فهناك طرق مختلفة لكونك غير صالح‪.‬‬
‫إحدى الطرق هي أال تكون جيدا وال شريرا من الناحية األخالقية‪ ،‬وأن تكون محايدا‬
‫بين الخير والشر األخالقي‪ .‬ذرات الهيدروجين وشعر الشارب‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫محايدة بهذه الطريقة‪ .‬لذا‪ ،‬حتى لو كان مبدأ وجود األضداد صحيحا‪ ،‬فإنه ال يعني أنه‬
‫ٍ‬
‫فعندئذ يوجد شيء شرير (بدال من أن يكون محايدا)‪.‬‬ ‫إذا كان هناك شيء جيد أخالقيا‪،‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬حتى لو أشار المبدأ إلى أن هناك شيئا شريرا‪ ،‬فلن يتطلب سوى ذرة‬
‫من الشر‪ ،‬وليس عالما مليئا به مثل عالمنا‪ .‬الصعوبة األكثر أهمية هي أن المبدأ خاطئ‪.‬‬
‫بعد كل شيء‪ ،‬ليس من المستحيل أن يكون هناك عالم يكون فيه كل شيء غير مادي‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬هناك شيء ما له خاصية كونه شخص ًا غير موحد‪ ،‬أي أنت‪ .‬وما هو‬
‫عكس تلك الخاصية؟ كونه وحيد القرن‪ .‬لذا‪ ،‬إذا كان المبدأ صحيح ًا‪ ،‬فهناك شيء له‬
‫خاصية كونه وحيد القرن‪ ،‬وهو ما يعني أنه يوجد على األقل وحيد القرن‪ .‬بالطبع‪ ،‬ال‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪320‬‬
‫توجد حيدات؛ وبالتالي‪ ،‬بما أن المبدأ يشير إلى وجود حيدات‪ ،‬فهو خطأ‪ .9‬دعنا اآلن‬
‫نفكر في بعض النظريات التي لديها فرصة أفضل لشرح الشر‪.‬‬
‫‪ 3-5‬ثيوديسية اإلرادة الحرة‬
‫كان من الممكن أن يخلقنا ال ّله بطريقة ال تكون هناك فرصة لخطئنا أو أن نكون‬
‫سيئين‪ .‬لو كان قد فعل ذلك لكانت النتيجة رائعة‪ ،‬لكننا خسرنا منفعة عظيمة للغاية‪،‬‬
‫أال وهي تقرير المصير‪ .‬لكي يقرر المرء نفسه بنفسه هو أن يكون المرء حرا إلى درجة‬
‫كبيرة فيما يتعلق بنوع الشخص الذي يصبح عليه‪ ،‬نوع الشخصية التي يمتلكها‪ ،‬وهذا‬
‫يتطلب أن يكون المرء في حدود قدرته أن يكون جيدا وشريرا‪ .‬في ظل افتقارنا إلى هذه‬
‫الحرية‪ ،‬ال يمكننا أن نكون مسؤولين مسؤولية عميقة عما نحن عليه‪ ،‬ومن سنصبح وما‬
‫إذا كنا سنظهر ونؤكد شخصيتنا من خالل الخيارات التي نتخذها‪ .‬بما أن القدرة على‬
‫تقرير المصير هي خير عظيم وتتطلب منا حرية كبيرة فيما يتعلق بإلحاق األذى بأنفسنا‬
‫بشدة‪ ،‬فهذا سبب يبرر ال ّله في السماح بالشر‪.10‬‬
‫لكن لماذا ال تمنع األذى عن اآلخرين؟ قد يعترض المرء على أن تطوير شخصيتي‬
‫يتطلب فقط أن تؤثر اختياراتي علي‪ ،‬أي أنها تعمل على تطوير شخصيتي بطريقة أو‬
‫بأخرى‪ .‬لكن أال يمكن أن يرتب ال ّله األشياء بطريقة تجعل اختياراتي لها تأثير علي‬
‫وعلى شخصيتي‪ ،‬إال أنها ال تؤثر على أي شخص آخر (أو على األقل ال تؤثر أي من‬
‫األشياء السيئة على أي شخص آخر)‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬افترض أنني اخترت السرقة‬
‫منك بحرية‪ .‬يمكن أن يساهم خياري في عدم جدارة بالثقة دون أن أسرق فعليا ألن‬
‫ال ّله يمكنه ترتيب األشياء بطريقة أعتقد أنني سرقتها على الرغم من أنني لم أفعل ذلك‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬تقرير المصير ال يأخذ في الحسبان العواقب السيئة لالختيارات الشريرة‬
‫الحرة لآلخرين‪ .11‬هناك عدة ردود على هذا االعتراض‪ ،‬في مقدمتها اثنان‪.‬‬

‫‪ 9‬ربما أولئك الذين يستخدمون النظير الثيوديسي يعني شيئا مختلفا تماما‪ .‬ربما يقصدون أننا ال نستطيع‬
‫معرفة أحد األضداد دون معرفة اآلخر‪ .‬لذلك ال يمكننا أن نعرف الخير بدون معرفة الشر‪ .‬وال يمكننا‬
‫معرفة الشر بدون وجود الشر؛ لذلك‪ ،‬لمعرفة الخير‪ ،‬يجب أن يكون هناك شر‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن ال ّله له ما‬
‫يبرره في السماح بالشر ألننا بدونه لن نعرف الخير‪ .‬أترك كواجب منزلي تقييم هذه الحجة‪.‬‬
‫ً‬
‫تفصيال لخط التفكير هذا؟‬ ‫‪ 10‬راجع مايكل موراي للحصول على تطوير أكثر‬
‫‪11 Steven Boer’s «The Irrelevance of the Free Will Defense,» Analysis (1975), 110-12.‬‬
‫‪321‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫الرد ‪ .1‬إذا كان ال ّله يمنعنا بشكل منهجي من إيذاء اآلخرين ومع ذلك سمح لنا بأن‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يجب أن ينظر إلينا‬ ‫يكون لنا رأي مهم حول أنواع األشخاص الذين نصبحهم‪،‬‬
‫كما لو أننا نستطيع أن نؤذي اآلخرين رغم أننا ال نستطيع ذلك‪ .‬ألنني إذا كنت أعلم أن‬
‫ال شيء أفعله يمكن أن يؤذي اآلخرين‪ ،‬فلن تكون لدي نفس الفرصة لتطوير شخصيتي‬
‫كما لو كان يبدو أنني أستطيع إيذاء اآلخرين‪ .‬لكن الخداع ال يتوافق مع صالح ال ّله‪،‬‬
‫كما قد يحث المرء‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬يتجاهل هذا الرد حقيقة أن الخداع ليس دائما خطأ‬
‫وال دائما غير محبب‪( .‬فقط أسأل مثل أي والد)‪ .‬ربما يكون منع العواقب المروعة‬
‫لخياراتنا الحرة لآلخرين سببا محكما للخداع قدر اإلمكان‪ .‬ثم مرة أخرى‪ ،‬ربما ال‪.‬‬
‫دعونا ننظر في األمر عن كثب‪.‬‬
‫إذا قام ال ّله بترتيب األمور بحيث ال تحدث أي من العواقب المروعة لخياراتنا‬
‫لآلخرين على الرغم من ظهورها‪ ،‬فإننا ــ كل واحد منا ــ سنعيش وهما مأساويا‪ .‬يبدو‬
‫األمر كما لو كنا منخرطين في عالقات حقيقية مع اآلخرين‪ ،‬ونتخذ خيارات تهم بعضنا‬
‫البعض‪ ،‬بينما في الواقع لم يحدث شيء من هذا القبيل حقا‪ .‬ستكون حياتنا كلها تمثيلية‪،‬‬
‫خدعة‪ ،‬مهزلة؛ ولن يكون لدينا دليل‪ .‬في حين أن مثل هذا الخداع الهائل لن يؤدي إلى‬
‫وجود ال معنى له تماما (سنظل كائنات ذاتية التحديد)‪ ،‬فليس من الواضح أن مثل هذا‬
‫الخداع الهائل حول األمور المركزية جدا في حياتنا سيكون مسموحا به أو محبوبا‪.‬‬
‫الرد ‪ .2‬يوافق أحد الردود ذات الصلة على أن تقرير المصير ال يبرر سماح ال ّله لنا‬
‫بإيذاء اآلخرين‪ ،‬حتى لو كان يبرر سماح ال ّله لنا بإيذاء أنفسنا‪ .‬ما هي الخيرات األخرى‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬التي ستفقد إذا أعطانا ال ّله الحرية لنؤثر فقط على أنفسنا؟ حسنا‪ ،‬كما هو موضح‬
‫في الرد األخير‪ ،‬لن نتحمل أي مسؤولية تجاه بعضنا البعض ولن نتمكن من الدخول في‬
‫العالقات األكثر أهمية؛ ألننا مسؤولون بشكل كبير عن اآلخرين وال يمكننا الدخول في‬
‫عالقات حب إال إذا استطعنا منفعة اآلخرين وإيذائهم‪.‬‬
‫هذه النقطة تستحق التطوير‪ .‬نحن مسؤولون بشكل كبير عن اآلخرين فقط إذا كانت‬
‫اختياراتنا تحدث فرقا كبيرا في رفاهيتهم‪ ،‬وال يمكن أن يحدث ذلك ما لم نتمكن من‬
‫االستفادة منهم وكذلك إلحاق الضرر بهم‪ .‬يبدو هذا واضحا بدرجة كافية‪ .‬غالبا ما‬
‫يتم إغفال حقيقة أن نقطة مماثلة تنطبق على عالقات الحب‪ ،‬على عكس المواقف‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪322‬‬
‫والمشاعر المحبة‪ .‬ال يمكن لشخصين أن يشتركا في أهم عالقات الحب ما لم يكن‬
‫األمر متروكا لكل منهما أن يكونا مرتبطين؛ يمكن رؤية هذه الحقيقة من خالل النظر‬
‫في ما نريده من أولئك الذين نقدر حبهم أكثر‪ .‬يعبر جان بول سارتر عن نقطة مثل‬
‫هذا‪ :‬الرجل الذي يريد أن يكون محبوبا ال يرغب في استعباد الحبيب‪ .‬إنه ليس عازما‬
‫على أن يصبح موضوعا للعاطفة التي تتدفق ميكانيكيا‪ .‬إنه ال يريد امتالك إنسان آلي‪،‬‬
‫وإذا أردنا إذالله‪ ،‬فنحن بحاجة فقط إلى محاولة إقناعه بأن شغف الحبيب هو نتيجة‬
‫حتمية نفسية‪ .‬عندها سيشعر الحبيب أن كال من حبه ووجوده قد تم بخسهما‪ ...‬إذا كان‬
‫الحبيب كذلك المحبوب‪ ،‬الذي تحول إلى إنسان آلي‪ ،‬يجد نفسه وحيد ًا‪.12‬‬
‫نظر ًا ألن عالقات الحب التي نعتز بها كثير ًا هي تلك التي نوليها بعمق أكبر‪ ،‬في‬
‫ضوء حرية الحب فهي أيضا تلك التي يمكن أن نعاني منها أكثر من غيرها‪ .‬ببساطة‪،‬‬
‫ليس من الممكن بالنسبة لنا أن نكون في عالقات حب دون أن يكون في وسعنا (في‬
‫وقت ما) أن نؤذي ونتعرض لألذى بطريقة خطيرة‪.‬‬
‫يمكن قول شيء مماثل عن عالقتنا مع ال ّله أيضا‪ .‬لنفترض أن ال ّله أراد عالقة حب‬
‫مع بعض مخلوقاته‪ ،‬وبالتالي جعل البعض منهم مناسبا ليحبه ال ّله وقادرا على تبادل‬
‫محبته‪ .‬هنا يواجه خيارا‪ :‬يمكنه أن يضمن لهم أن يعيدوا حبه‪ ،‬أو أن يترك األمر لهم‪ .‬إذا‬
‫ضمن ذلك‪ ،‬فلن يكون لديهم خيار بشأن ما إذا كانوا يحبونه‪ ،‬وفي هذه الحالة سيكون‬
‫حبهم له عارا‪ ،‬وكان يعرف ذلك‪ .‬من الواضح‪ ،‬إذن‪ ،‬أن ال ّله ال يمكن أن يكون في عالقة‬
‫حب مع مخلوقاته ما لم يترك لهم األمر فيما إذا كانوا سيتبادلون محبته‪ .‬وهذا يتطلب‬
‫أن يكون لديهم (في وقت ما) ما في وسعهم لحجب حبهم عنه‪ .‬لكن هذا ال يمكن أن‬
‫يحدث ما لم يكونوا قادرين على فعل الشر وفعلوه‪.13‬‬

‫‪12 Being and Nothingness (New York, 1956), 367, quoted in Vincent Brummer, The‬‬
‫‪Model of Love (Cambridge: Cambridge University Press, 1993), 160.‬‬
‫‪ 13‬سؤال‪ :‬يدخل ال ّله في عالقات حب‪ ،‬ومع ذلك فهو غير قادر على أن يفعل الشر أو يفعله‪ .‬فلماذا ال‬
‫يجعلنا قادرين على إقامة عالقات حب بينما يجعلنا أيضا غير قادرين على أن نكون الشر ونفعله؟‬
‫ردا على ذلك‪ ،‬ينكر البعض أن ال ّله ال يستطيع أن يفعل الشر أو يفعله‪ .‬يميز البعض اآلخر الحب في‬
‫أفضل حاالته لكائن إلهي جيد بشكل أساسي عن الحب في أفضل حاالته لمخلوق ُصنع ليدخل في‬
‫عالقات حب‪ ،‬ثم يجادلون بأنه بينما يتطلب األخير القدرة على حجب الحب‪ ،‬فإن األول ال يتطلب‬
‫ذلك‪ .‬وهناك خيارات أخرى أيض ًا‪.‬‬
‫‪323‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫المسؤولية العميقة تجاه اآلخرين‪ ،‬وعالقات الحب مع رفقائنا ومع ال ّله‪ :‬إذا كانت‬
‫هذه أشياء ال قيمة لها أو حتى جيدة إلى حد ما‪ ،‬فلن يكون ال ّله مبررا في السماح بالشر‬
‫حتى نكون قادرين عليها‪ .‬لكن هذه خيرات ذات قيمة هائلة‪ ،‬ربما ال يمكن تجاوزها‪،‬‬
‫وهي مستحيلة في عالم ال تؤثر فيه اختياراتنا إال على أنفسنا‪.14‬‬
‫لماذا ال نخلق أشخاصا يختارون الخير دائما بحرية؟ اعتراض آخر هو أنه بما أن‬
‫ال ّله يعلم قبل أن يخلق كيف سيتصرف كل مخلوق‪ ،‬فإنه يستطيع أن يصنع عالما يختار‬
‫فيه كل فرد الخير دائما بحرية‪ .‬إنه كلي القدرة‪ ،‬في النهاية‪ ،‬وبالتالي يمكنه أن يخلق‬
‫أي عالم يشاء‪ .15‬ويترتب على ذلك أن ال ّله يستطيع أن يخلق عالما به خيرات عظيمة‬
‫لتقرير المصير‪ ،‬ومسؤولية عميقة عن اآلخرين‪ ،‬ومحبة دون أن يكون هناك أي شر على‬
‫اإلطالق‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يمكن لهذه الخيرات أن تبرر إذن ال ّله بالشر‪.‬‬
‫الرد‪ .‬الحظ أن هذا االعتراض يعتمد على فكرة أنه إذا كان ال ّله كلي القدرة‪ ،‬فيمكنه‬
‫أن يخلق أي عالم يشاء‪ .‬هذا غير صحيح‪ .‬ألنه إذا خلق ال ّله مخلوقات حرة‪ ،‬فعليه أن‬
‫يترك لها ما سينتج العالم من اختياراتها‪ .‬دعونا نطور هذه النقطة بإيجاز‪.‬‬
‫من بين جميع المخلوقات المحتملة التي يمكن أن يخلقها ال ّله‪ ،‬افترض أنه يهدف‬
‫إلى خلقي‪ ،‬وافترض أنه يفكر فيما إذا كان سيحررني فيما يتعلق بزراعة الورود على‬
‫طول طريق أو قطعة معينة‪ ،‬وهو جزء صغير من حديقتي‪ .‬إذا فعل ذلك‪ ،‬فسيضعني في‬
‫موقف يكون فيه األمر متروكا لي سواء أزرع الورود أو امتنع عن القيام بذلك‪ .‬اآلن‪ ،‬إذا‬
‫وضعني في مثل هذه الحالة‪ ،‬فإما أن أزرع بحرية أو ال أفعل‪ .‬من أجل التوضيح‪ ،‬افترض‬
‫أنني سأفعل‪ .‬تخيل اآلن أن ال ّله يحاول أن يصنع عالما أمتنع فيه بحرية عن الزراعة‪ .‬هل‬
‫يستطيع؟ ليس إذا ترك األمر لي إذا كنت أزرع‪ .‬ألنه‪ ،‬حسب افتراضنا‪ ،‬إذا ترك األمر لي‪،‬‬
‫فلن أمتنع؛ بدال من ذلك‪ ،‬أود أن أزرع‪ .‬لذلك‪ ،‬نظرا ألنني سأزرع الورود بحرية على‬
‫طول طريق والقطعة إذا تركت لي‪ ،‬فإن ال ّله ــ على الرغم من أنه كلي القدرة ــ ال يمكنه‬

‫‪14 Richard Swinburne in The Existence of God, chapter 11, and «Some Major Strands‬‬
‫‪of Theodicy,» in Daniel Howard-Snyder, ed, The Evidential Argument from Evil‬‬
‫‪(Bloomington: Indiana University Press, 1996), 36-42.‬‬
‫‪15 Mackie, The Miracle of Theism (Oxford, 1982), 164.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪324‬‬
‫أن يصنع عالما أكون فيه في هذا الموقف وأمتنع بحرية عن زراعة الورود‪ .‬لكي يصنع‬
‫هذا العالم‪ ،‬يجب أن يصنعني ال ّله حتى أمتنع‪ ،‬وفي هذه الحالة لن أمتنع بحرية‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن االفتراض الذي قدمه هذا االعتراض خاطئ‪ .‬إذا كان ال ّله قد خلق‬
‫أشخاصا أحرارا‪ ،‬فال يمكنه أن يخلق أي عالم يرضيه‪ ،‬رغم أنه كلي القدرة‪ .‬أي عالم‬
‫ينتج عن نشاطه الخالق يعود‪ ،‬في جزء كبير منه‪ ،‬إلى مخلوقاته الحرة‪.‬‬
‫يمكننا الذهاب أبعد من ذلك‪ .‬ألنه يمكننا اآلن أن نرى أنه على الرغم من كل ما‬
‫نعرفه‪ ،‬لم يكن في مقدور ال ّله أن يخلق عالما بأشخاص يختارون الخير دائما بحرية‪.‬‬
‫كيف يكون ذلك؟ حسنا‪ ،‬كما رأينا للتو‪ ،‬إذا خلق ال ّله مخلوقات حرة‪ ،‬فال يمكنه أن‬
‫يخلق بعض العوالم‪ .‬في المثال أعاله‪ ،‬ال يمكن أن يخلق ال ّله عالما أمتنع فيه بحرية‬
‫عن زراعة الورود على طول طريق والقطعة‪ .‬هذا ألنني سأزرع بحرية إذا تركها ال ّله‬
‫أن ألي عالم لديه على األقل نفس القدر من الخير مثلنا‬ ‫لي‪ .‬اآلن‪ ،‬ماذا لو كان صحيحا ّ‬
‫والذي يختار فيه كل شخص دائما الخير بحرية‪ ،‬بغض النظر عن كيفية بدء ال ّله لألشياء‪،‬‬
‫فإن األشخاص سيخطئون بحرية على األقل بقدر ما نخطئ نحن (البشر الفعليون)؟‬
‫إذا كان هذا صحيحا‪ ،‬فبغض النظر عن مدى جدية ال ّله في المحاولة‪ ،‬لم يستطع ببساطة‬
‫أن يخلق عالما به أشخاص يختارون الخير دائما بحرية‪ ،‬على األقل ليس لديهم نفس‬
‫القدر من الخير الذي يتمتع به عالمنا‪ .‬وهنا تكمن المشكلة‪ :‬لكل ما نعرفه‪ ،‬ربما يكون‬
‫هذا هو الوضع‪.16‬‬
‫هذا مكان جيد لمالحظة أن اإلرادة الحرة الثيوديسية ال ينبغي الخلط بينها وبين‬
‫الكليشيهات‪« ،‬ال ّله ال يفعل الشر‪ ،‬نحن نفعل‪ .‬هو فقط يسمح بذلك‪ .‬لذلك فهو ليس‬
‫المسؤول‪ ،‬نحن كذلك»‪ .‬تفترض هذه العبارة المبتذلة‪ ،‬على عكس ثيودسية اإلرادة‬
‫ٍ‬
‫فعندئذ ليس المرء مسؤوال عن‬ ‫الحرة‪ ،‬أنه إذا لم يفعل المرء الشر ولكنه سمح به فقط‪،‬‬

‫شموال لهذا النوع من الردود في كتاب بالنتينجا‪ .‬الحظ أن كال من االعتراض‬ ‫ً‬ ‫‪ 16‬يوجد عرض أكثر‬
‫والرد اللذين قدمتهما يفترضان مسبق ًا أن كائن ًا كلي العلم يمكنه أن يعرف قبل الخلق ما الذي ستفعله‬
‫المخلوقات غير المخلوقة (الممكنة فقط) إذا خلقتها وتركت األمر لها في كيفية التصرف‪ .‬ينكر‬
‫العديد من المؤمنين هذا‪.‬‬
‫‪Robert Adams, «Middle Knowledge and the Problem of Evil,» American‬‬
‫‪Philosophical Quarterly (1977), collected in The Problem of Evil.‬‬
‫‪325‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫حدوثه‪ .‬هذا خطأ‪ .‬قد ال أقطع أصابع ابنتي ولكن أسمح فقط البني بالقيام بذلك؛ ما‬
‫زلت‪ ،‬إذا فعل ذلك‪ ،‬فأنا على األقل مسؤول جزئيا‪.‬‬
‫وماذا عن الشر الناتج عن االضطرابات الطبيعية؟ قد يعترض المرء على أن اإلرادة‬
‫الحرة ال تفسر سبب سماح ال ّله بالشر الطبيعي‪ ،‬أي المعاناة الناتجة عن االضطرابات‬
‫الطبيعية مثل الزالزل والمرض والمجاعة‪ ،‬مصادر الشر غير األشخاص األحرار‪.‬‬
‫الرد‪ .‬قد نحاول تمديد اإلرادة الحرة الثيودسية لشرح الشر الطبيعي‪ .‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬قد نقول‪ ،‬على عكس المظاهر‪ ،‬أن مثل هذا الشر هو في الحقيقة نتيجة مباشرة‬
‫لنشاط األشخاص األحرار من غير البشر‪ ،‬المالئكة األشرار األقوياء العازمين على‬
‫تدمير خلق ال ّله وإيذاء مخلوقاته‪ .‬الشيطان وأتباعه يخدشون القشرة األرضية فتسبب‬
‫البراكين والزالزل‪ ،‬ويحرفون خيوط الحمض النووي إلى أشكال مدمرة‪ ،‬وتدخل‬
‫داخل الحيوانات وتجعلها تأكل بعضها البعض‪ ،‬وهكذا‪ .‬هذا التفسير له قيمة اعتذارية‬
‫مشكوك فيها ألنه يفترض مسبقا وجود مالئكة‪ ،‬وهي أطروحة لم يقبلها معظم غير‬
‫المؤمنين‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإنه يتعارض مع فهمنا لألسباب الطبيعية للبراكين‬
‫والزالزل والطفرات الجينية واالفتراس ومصادر أخرى للشر الطبيعي‪ .‬التفسير األكثر‬
‫منطقية هو أن الشر الطبيعي ينتج بشكل غير مباشر من الخيارات البشرية الحرة‪ .‬تم‬
‫رسم هذا الخط الفكري مؤخرا في سياق «ثيوديسية العواقب الطبيعية»‪ ،‬والتي تستحق‬
‫النظر في حد ذاتها أيضا‪ .‬دعونا نلقي نظرة فاحصة‪.‬‬
‫‪ 4-5‬ثيوديسية العواقب الطبيعية‬
‫افترض أن ال ّله قد خلق البشر ليحبهم ويرجعوا إلى حبه‪ .‬بمنح أسالفنا القوة ليحبوه‪،‬‬
‫أعطاهم ال ّله القدرة على حجب حبهم‪ .‬وهذا ما فعلوه‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬أفسدوا أنفسهم‪ .‬بعد‬
‫أن رجعوا عن ال ّله‪ ،‬بدأوا في إيذاء بعضهم البعض‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬أصبحت قوى الطبيعة‬
‫المدمرة المحتملة عدوهم ألن نتيجة انفصالهم عن ال ّله كانت خسارة قوتهم الفكرية الخاصة‬
‫للتنبؤ بأين ومتى ستحدث االضطرابات الطبيعية ولحماية أنفسهم من األمراض والوحوش‬
‫البرية‪ ،‬حيث تعتمد القوى على اتحادهم بال ّله‪ .‬والنتيجة هي شر طبيعي‪ .‬استمرت هذه‬
‫الحالة ــ شرهم وعجزهم ــ عبر جميع األجيال‪ ،‬وأصبحت وراثية إلى حد ما‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪326‬‬
‫لكن ال ّله لم يتركنا لبؤسنا‪ .‬لقد وضع لنا الوسائل لكي نتصالح معه ونفكك خرابنا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يجب على كل واحد منا التعاون في المشروع ألن نوع التجديد المطلوب‬
‫يتضمن إعادة توجيه أعمق مشاعرنا وشهواتنا بعيدا عن قوتنا وسعادتنا وتوجيههم‬
‫نحوه‪ .‬يمكن أن يعيدنا ال ّله بأعجوبة وعلى الفور لكنه ال يفعل ذلك ألن حبه لنا سيكون‬
‫خدعة‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬فإن ميولنا العميقة تجعلنا نبتعد تمام ًا عن الحب المناسب له‬
‫لدرجة أننا لن نصلح أنفسنا بدون نوع من الزخم الخارجي‪.‬‬
‫المشكلة التي يواجهها ال ّله إذن هي جعلنا نلجأ إليه طلبا للمساعدة بينما يتركنا‬
‫أحرارا في األمر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬سوف نلجأ إليه بحرية فقط إذا رأينا حالتنا البائسة وأصبحنا‬
‫غير راضين عنها‪ .‬ال توجد طريقة أفضل لنا لكي نرى حالتنا ونشعر بعدم الرضا عنها‬
‫أكثر من السماح بعواقبها الطبيعية‪ ،‬األلم والمعاناة والظلم الذي أدى إليه انفصالنا عنه‪،‬‬
‫وجعله «صعبا قدر اإلمكان بالنسبة لنا لنخدع أنفسنا بشأن نوع العالم الذي نعيش فيه‪:‬‬
‫عالم شنيع‪ ،‬يمكن عزو الكثير من بشاعته بوضوح إلى عدم قدرة البشر على التحكم في‬
‫أنفسهم أو تنظيم حياتهم «‪.17‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن جز ًء أساسيا من خطة ال ّله للمصالحة هو أن ندرك أن النتيجة الطبيعية‬
‫لمحاولتنا تنظيم حياتنا بمفردنا هي عالم بشع‪ ،‬عالم به شر‪ ،‬بما في ذلك الشر الطبيعي‪.‬‬
‫لو تدخل ال ّله‪ ،‬فإنه سيخدعنا بشأن بشاعة حياتنا ألنفسنا وسيضعف بشدة دافعنا الوحيد‬
‫للتوجه إليه‪.‬‬
‫ماذا عن معاناة الحيوانات غير البشرية؟ في حين أن العواقب الطبيعية قد تكون‬
‫مسؤولة عن سماح ال ّله للشر الطبيعي أن يصيب البشر‪ ،‬إال أنها ال تقدم أي سبب‬
‫للسماح للشر الطبيعي بأن يصيب الحيوانات غير البشرية‪.‬‬
‫الرد‪ .‬لردم الفجوة‪ ،‬يمكن للمرء أن يقدم «ثيودسية القانون الطبيعي»‪.‬‬

‫‪17 Peter van Inwagen, «The Magnitude, Duration and Distribution of Evil: A Theo-‬‬
‫‪dicy,» Philosophical Topics (1988), collected in his God, Knowledge and Mystery‬‬
‫‪(Ithaca, New York: Cornell University Press, 1995), 110. My presentation follows‬‬
‫‪his closely. See also Eleonore Stump, «The Problem of Evil,» Faith and Philosophy‬‬
‫‪(1985).‬‬
‫‪327‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫‪ 5-5‬ثيوديسية القانون الطبيعي‬


‫من أجل الحصول على عالم به مخلوقات يمكنها االختيار بحرية‪ ،‬يجب إنشاء‬
‫البيئة التي يتم وضعهم فيها بطرق معينة محددة جيدا‪ .‬أحد هذه المتطلبات البيئية هو أن‬
‫العالم تحكمه قوانين الطبيعة العادية والمنظمة‪ .‬لماذا هذا مطلب؟ حسنا‪ ،‬تخيل عالما‬
‫لم تكن فيه الطبيعة محكومة بمثل هذه القوانين‪ .‬كيف شكله؟ ببساطة‪ ،‬لن تكون هناك‬
‫عالقة منتظمة بين حدوث نوع من األحداث وآخر‪ .‬حرر الكرة وأحيانا تسقط‪ ،‬وأحيانا‬
‫تطير بشكل مستقيم‪ ،‬وأحيانا تدور في حلقة وتتحطم عبر النافذة‪ .‬األشياء ستحدث‬
‫بشكل عشوائي‪ .‬سيكون العالم فوضويا تما ًما‪.‬‬
‫لكن لماذا يعطل هذا قدرتنا على االختيار بحرية؟ ألنه بدون قدر كبير من النظام‬
‫واالنتظام في الطبيعة‪ ،‬لن نتمكن من التنبؤ بآثار اختياراتنا‪ ،‬حتى على أقل تقدير؛‬
‫لكن ال يمكننا االختيار بحرية إال إذا استطعنا التنبؤ بآثار اختياراتنا‪ ،‬وتحديدا آثارها‬
‫الفورية‪ .‬لرؤية النقطة هنا‪ ،‬تخيل عالما حدثت فيه األشياء بشكل عشوائي‪ ،‬على الرغم‬
‫اخترت أن أمنحك زهرة وعناقا كبيرا للتعبير عن‬‫ُ‬ ‫من جهودنا القصوى‪ .‬لنفترض أنني‬
‫عاطفتي‪ ،‬لكن أطرافي تصرفت بشكل متقطع لدرجة أنه من المرجح أن خياري سينتج‬
‫عنه ما قصدته‪ ،‬ألنني سأغمزك في عينيك وسحق أضالعك‪ .‬أو افترض أنك كنت‬
‫غاضبا جدا مني‪ ،‬لكن الهواء بيننا كان يتصرف بشكل غير منتظم لدرجة أن أي محاولة‬
‫من جانبك لمنحني جزء من انتباهك كان من المرجح أن تنجح مثل دحرجة زوج‬
‫من المربعات مرتين على التوالي‪ .‬إذا كانت هذه هي الطريقة التي تعمل بها األشياء‪،‬‬
‫فستكون اختياراتنا مرتبطة بالعالم بالطريقة التي ترتبط بها (في هذا العالم) بنتائج‬
‫سحب الرافعة على ماكينة القمار‪ .‬كيف ستخرج األشياء سيكون خارج سيطرتنا تماما‪.‬‬
‫لن تكون متروكة لنا‪ .‬لذلك ال يمكننا أن نكون أحرارا ما لم نتمكن من التنبؤ باآلثار‬
‫(الفورية) لخياراتنا‪ .‬وهذا يتطلب بيئة تسمح لخياراتنا أن تكون لها تأثيرات متوقعة‪،‬‬
‫أي بيئة تتصرف بطريقة شبيهة بالقانون‪ ،‬منتظمة‪ ،‬ثابتة‪.‬‬
‫ولكن اآلن الجانب السلبي‪ .‬إن قوانين الزخم ذاتها التي تمكنك من إعطاء الزهور‬
‫واستالمها ستؤدي أيضا إلى سقوط صخرة تسحقك إذا كنت تحتها‪ .‬نفس قوانين‬
‫الديناميكا الحرارية وديناميكيات السوائل التي تسمح لي بالتحدث عبر الهواء مما‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪328‬‬
‫يتسبب في اهتزاز الحبال الصوتية أيض ًا تسبب األعاصير‪ .‬بشكل عام‪ ،‬فإن مصادر الشر‬
‫الطبيعي الذي يصيب الحيوانات غير البشرية‪ ،‬ونحن‪ ،‬المرض‪ ،‬والكوارث‪ ،‬والعيوب‬
‫الخلقية‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬هي كلها نتاج النظام الطبيعي الذي نحن جزء منه‪ .‬المنتجات‬
‫الثانوية التي أصبحت ممكنة بفضل ما هو ضروري للصالح العام‪.18‬‬
‫ماذا عن العوالم ذات القوانين الطبيعية المختلفة؟ االعتراض األكثر اتساعا على‬
‫ثيوديسية القانون الطبيعي هو أن هناك عوالم كان من الممكن أن يخلقها ال ّله والتي‬
‫تعمل وفقا لقوانين الطبيعة المختلفة‪ ،‬والقوانين التي ال تحتوي على مصادر للشر‬
‫الطبيعي كنتيجة ثانوية لعملها ولكنها مع ذلك توفر ما يكفي من بيئة مستقرة يمكننا من‬
‫خاللها التنبؤ بشكل موثوق بآثار اختياراتنا الحرة‪ .‬وهكذا‪ ،‬كان بإمكان ال ّله أن يصنع‬
‫مخلوقات حرة دون السماح بالشر الطبيعي‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يمكننا أن نقول إن ال ّله‬
‫قد يسمح بشكل مبرر للشر الطبيعي من أجل الحرية‪.‬‬
‫الرد‪ .‬يفترض هذا االعتراض مسبقا أن هناك عوالم بها النوع المطلوب من القوانين‬
‫الطبيعية‪ ،‬تلك التي من شأنها أن توفر بيئة مستقرة للحرية ولكن ليس لها شر طبيعي كأثر‬
‫جانبي‪ .‬لكن لم يحدد أحد أيا من هذه القوانين‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن إمكانية الحياة في‬
‫كوننا مرتبطة بعدد كبير من المعايير الفيزيائية التي لها قيم اعتباطية على ما يبدو‪ ،‬مثل أنه‬
‫ال (جد ًا‪ ،‬جد ًا مختلف)‪ ،‬فلن يحتوي الكون على حياة‪،‬‬ ‫إذا كانت هذه القيم مختلفة قلي ً‬
‫ومن ثم ال يوجد أشخاص أحرار‪ .‬لكل ما نعرفه‪ ،‬فإن القوانين التي تحكم عالمنا هي‬
‫القوانين الوحيدة الممكنة؛ بدال من ذلك‪ ،‬لكل ما نعرفه‪ ،‬هناك قيود صارمة للغاية على‬
‫أنواع التعديالت في القوانين التي يمكن السماح بها مع االحتفاظ بقدرات الحفاظ‬
‫على الحياة‪ .19‬وهكذا‪ ،‬على الرغم من كل ما نعرفه‪ ،‬ال يمكن أن يكون هناك عالم من‬

‫‪18 Bruce Reichenbach, Evil and a Good God (New York: Fordham University Press,‬‬
‫‪1982), 101. See also Richard Swinburne, «Natural Evil,» American Philosophical‬‬
‫‪Quarterly (1978), 295-301, and The Existence of God, chapter 11. C.S. Lewis takes‬‬
‫‪this line in The Problem of Pain (New York: Macmillan, 1978, 21st printing), 30ff.‬‬
‫‪19 Peter van Inwagen, «The Problem of Evil, the Problem of Air, and the Problem‬‬
‫‪of Silence,» in The Evidential Argument from Evil, 160. For more on the physical‬‬
‫‪parameters in question, see Robin Collins, chapter x, and John Leslie, Universes‬‬
‫‪(London: Routledge, 1989), chapters 1-3.‬‬
‫‪329‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫النوع الذي يناشده المعترض‪ :‬عالم مناسب للمخلوقات الحرة لتتواصل مع بعضها‬
‫البعض ولكنها تحكمها قوانين ليس لها مصدر للشر الطبيعي كمنتج ثانوي‪.‬‬
‫أال يستطيع ال ّله أن يمنع الكثير من الشر الطبيعي دون تقويض الحرية؟ افترض أننا‬
‫نميز (‪ )1‬حاالت الشر الطبيعي حيث يساهم تدخل ال ّله في إضعاف قدرتنا على التنبؤ‬
‫لتدخل ال ّله مثل هذا التأثير‬
‫بنتائج اختياراتنا من (‪ )2‬حاالت الشر الطبيعي حيث لن يكون ُّ‬
‫على اإلطالق‪ .‬من الواضح أن هناك الكثير من الشر الطبيعي حيث لن يكون لتدخل‬
‫ال ّله تداعيات على حريتنا‪ ،‬بل إنه أمر محير للعقل كثيرا عندما نأخذ في االعتبار التاريخ‬
‫التطوري أو االفتراس‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن السبب الوحيد الوارد في القانون الطبيعي الثيوديسي‬
‫لسماح ال ّله للشر الطبيعي يفشل في تبرير سماحه بالشر الطبيعي من نوع (‪ ،)2‬الحاالت‬
‫التي ال يكون لتدخله فيها أي تأثير على قدرتنا على التنبؤ بعواقب اختياراتنا‪.20‬‬
‫الرد‪ .‬قد يقول المرء إن العدالة تتطلب اإلنصاف‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬إذا كان ال ّله ــ الذي‬
‫هو عادل تماما ــ يتدخل لمنع ألم هذا الحيوان غير البشري أو ذاك في ظروف منعزلة‪،‬‬
‫فسيكون مضطرا إلى التصرف بشكل مشابه في جميع حاالت المعاناة المماثلة‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬إذا منع ال ّل ُه سنجابا في أعماق الشالالت من الشعور باأللم أثناء‬
‫اصطدامه بأحد أطرافه وهو في طريقه إلى أسفل من أعلى جبل دوغالس الشاهق‪،‬‬
‫فإن التساوي في اليد سيتطلب منه منعي من الشعور باأللم عندما دفعت الرياح باب‬
‫السيارة وأغلق على إبهامي‪ .‬لكن إذا منع ال ّله األلم عن كل حيوان غير بشري في ظروف‬
‫منعزلة‪ ،‬فإن اإلنصاف يتطلب التدخل نفسه من جانب البشر؛ مثل هذا التدخل الهائل‬
‫من شأنه أن يقوض بشدة انتظام قوانين الطبيعة وبالتالي القضاء على حريتنا‪.‬‬
‫في حين أن بعض الناس سعداء بهذا الرد‪ ،‬فأنا أقل تفاؤال‪ .‬أوال‪ ،‬يشير مثل‬
‫العمال في الكرم إلى أن ال ّله ال يعاملنا دائما بإنصاف‪ .‬بالطبع‪ ،‬ال ّله كامل في‬

‫‪20 See William Rowe, «William Alston on the Problem of Evil,» in Thomas Senor,ed,‬‬
‫‪The Rationality of Belief and the Plurality of Faith (Ithaca, New York: Cornell Uni-‬‬
‫‪versity Press, 1995), 84-87; also see Quentin Smith, «An Atheological Argument‬‬
‫‪from Evil Natural Laws,» International Journal for the Philosophy of Religion (1991),‬‬
‫‪154-74.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪330‬‬
‫العدل‪ ،‬وبالتالي فإن كل ما يفعله يتفق مع العدل‪ .‬ويترتب على ذلك أن مبادئ‬
‫العدالة ال تتطلب اإلنصاف‪ ،‬أو أنه إذا فعلت ذلك‪ ،‬يمكن أن تتفوق عليها‬
‫اعتبارات أخرى في بعض الحاالت‪ .‬ثانيا‪ ،‬تتطلب المساواة في التعامل مع‬
‫الحاالت على حد سواء‪ .‬لكن القضايا المطروحة ليست متشابهة‪ .‬إن منع ال ّله‬
‫المنهجي للشر الطبيعي في المجال البشري سيؤدي إلى فقدان حرية اإلنسان‬
‫وكل ما يترتب على هذه الخسارة‪ .‬إذا منع ال ّله البشر بشكل منهجي من األذى‬
‫عندما يصطدمون باألشياء الصلبة‪ ،‬فإن حريتهم ستُقوض‪ .‬لن يكون لتدخل‬
‫مماثل في مملكة الحيوان مثل هذا التأثير‪ ،‬بشرط أال يحدث من حولنا‪ .‬إذا‬
‫كان ال ّله يمنع بانتظام الحيوانات غير البشرية من األذى عندما تصطدم باألشياء‬
‫الصلبة‪ ،‬فلن يتم تقويض حرية أحد‪ .‬من المؤكد أن هذا فرق مهم‪ ،‬فرق سيأخذه‬
‫ال ّله العادل في االعتبار‪.‬‬
‫مالحظة عامة نهائية‪ .‬في إجابتي على اعتراض أن ال ّله كان بإمكانه خلق عالم آخر‬
‫أعربت عن شكوكي بشأن قدرتنا على معرفة ما إذا كانت أي قوانين‬ ‫ُ‬ ‫بقوانين مختلفة‪،‬‬
‫من هذا القبيل ستؤدي إلى عالم يكون مضياف ًا للحياة‪ .‬هذا الرد سيف ذو حدين‪ .‬ألنه‪،‬‬
‫مثلما ال يمكننا أن نؤكد بثقة أن هناك عوالم مضيافة بقوانين مختلفة لن يكون لها أي‬
‫مصدر للشر الطبيعي كمنتج ثانوي‪ ،‬لذلك ال يمكننا أن ننكر ذلك بثقة‪ .‬إحساسي هو‬
‫أنه ليس لدينا أي فكرة عن كيفية تبرير ال ّله في السماح بمعاناة الحيوانات غير البشرية‬
‫على يد الطبيعة‪.‬‬
‫‪ 6-5‬ثيوديسية الخيرات عالية الرتبة‬
‫تتطلب بعض الخيرات الشر‪ :‬يطلق عليهم «خيرات ذات ترتيب أعلى»‪ .‬وتشمل هذه‬
‫إظهار التعاطف والرحمة والكرم للمرضى والفقراء والمهمشين‪ .‬ليس مجرد امتالك‬
‫هذه الفضائل أمر جيد‪ .‬إن تطويرها وممارستها وتأكيدها له قيمة هائلة‪ ،‬خاصة عندما‬
‫يكون من الصعب القيام بذلك ألنه في هذه الحالة‪ ،‬يتم عرض نوع معين من الشجاعة‬
‫والتضحية بالنفس والثبات‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فإن العفو عن الظلم الذي وقع لنا‪ ،‬والتعويض‬
‫عن الظلم لآلخرين‪ ،‬وإبداء االمتنان للمساعدة التي تلقيناها‪ ،‬ومكافأة أولئك الذين‬
‫عملوا بشكل جيد من خالل المحن الخطيرة‪ ،‬كلها أمور تتطلب الشر‪ .‬ما لم يكن هناك‬
‫‪331‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫شر‪ ،‬ال يمكن أن يكون هناك مثل هذه الخيرات عالية المستوى‪ .‬وبما أن هذه الخيرات‬
‫لها قيمة هائلة وتتطلب الشر‪ ،‬فهي تبرر سماح ال ّله بالشر‪.21‬‬
‫ال تتطلب البضائع ذات الترتيب األعلى شرا حقيقيا‪ .‬صحيح أنه ال يمكننا الرد برأفة‬
‫على الفقراء ما لم يكن هناك فقراء‪ .‬ال يمكننا التحلي بالصبر في مواجهة المصاعب‬
‫ما لم نمر بأوقات عصيبة‪ .‬ال يمكننا أن نغفر لغيرنا إال إذا ظلمنا آخر‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫يمكننا تطوير وممارسة وتأكيد سمات الشخصية هذه استجابة لمحاكاة الفقر والمشقة‬
‫والخطأ‪« ،‬الشر الوهمي»‪ ،‬كما قد نطلق عليه‪ .‬ال يجب أن يكون هناك شر حقيقي‬
‫لحدوث ذلك‪ .‬لمعرفة كيف يكون هذا ممكنًا‪ ،‬تخيل عالما كان فيه األشخاص‪ ،‬دون‬
‫علمهم‪ ،‬متصلين بـ»آالت التجربة»‪ ،‬وهي أجهزة معقدة مبرمجة لمحاكاة الواقع بشكل‬
‫مثالي (كما في فيلم هوليوود الشهير‪ :‬توتال ريكال)‪ ،‬على الرغم من أن الفقر والمشقة‬
‫والخطأ وما إلى ذلك الذي «عانوه» أثناء وجودهم على اآللة كان مجرد شر وهمي‪،‬‬
‫إال أنهم سيظلون قادرين على الرد عليه بطريقة فاضلة‪ .‬ويمكننا أن نتخيل أن برنامج‬
‫اآللة حساس الستجاباتهم‪ .‬بهذه الطريقة‪ ،‬سيكونون قادرين على تطوير وممارسة‬
‫وتأكيد شخصياتهم دون أن يكون هناك أي شر حقيقي يستجيبون له‪ .‬بشكل عام‪ ،‬ال‬
‫يلزم إال الشر الوهمي لكي تكون هناك خيرات ذات مرتبة أعلى؛ الشر الحقيقي غير‬
‫ضروري‪ .‬لذلك كان بإمكان ال ّله أن يخلق عالما به خيرات عالية المستوى ولكن بدون‬
‫شر (حقيقي)‪.‬‬
‫الرد‪ .‬ينص االعتراض بشكل صحيح على أن الخيرات ذات الترتيب األعلى ال‬
‫تتطلب سوى الشر الوهمي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا أقام ال ّله عالما ال يوجد فيه سوى الشر‬
‫الوهمي الذي يمكننا الرد عليه في تكوين شخصيتنا‪ ،‬فسيكون هناك شيء ذا قيمة هائلة‬
‫مفقود‪ .‬في الواقع لن يساعد أحد أي شخص آخر؛ ولن يساعد أحد‪ .‬في الواقع لن‬
‫يكون أحد عطوفا ومتعاطفا مع اآلخر؛ ولن ينال أحد الرحمة والتعاطف‪ .‬في الواقع‬
‫لن يغفر أحد لغيره‪ .‬ولن يغفر ألحد‪ .‬لن يقوم أحد في الواقع بتعويض شخص آخر؛‬

‫‪21 See Swinburne, «Some Major Strands of Theodicy,» and Providence (Oxford: forth-‬‬
‫‪coming); also see John Hick, Evil and the God of Love (New York: Harper & Row,‬‬
‫‪1978, rev ed).‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪332‬‬
‫ولن يحصل أحد على تعويض‪ .‬ال أحد في الواقع يمدح أو يعجب بزمالئه في السعي‬
‫وراء غايات نبيلة في مواجهة الشدائد؛ ولن ينال أحد مثل هذا الثناء واإلعجاب‪ .‬في‬
‫الواقع‪ ،‬لن يرضي أحد أهدافه ورغباته الرائعة؛ ولن يكون أحد متلقيها‪ .‬في الواقع‪،‬‬
‫لن يهب أحد بسخاء من وقته أو مواهبه أو أمواله للفقراء؛ ولن ينال أحد الكرم من‬
‫غيره‪ .‬باختصار‪ ،‬إذا كانت كل فرصة للرد الفاضل موجهة نحو الشرور الوهمية‪ ،‬فإن كل‬
‫واحد منا سيعيش في «عالمنا» الصغير الخاص بنا‪ ،‬عوالم خالية من أي تفاعل حقيقي‬
‫وعالقات شخصية‪.‬‬
‫يبدو‪ ،‬إذن‪ ،‬أنه إذا أراد ال ّله أن يالئمنا مع القدرة على تطوير وممارسة وتأكيد‬
‫شخصياتنا في سياق األشخاص الذين يشكلون عالقات مع بعضهم البعض‪ ،‬فال بد‬
‫أن يسمح بالشر‪.‬‬
‫‪ 7-5‬السبب‬
‫لنقم بتقييم ما فعلناه في هذا القسم حتى اآلن‪ .‬تقول المقدمة ‪ 3‬من الحجة األساسية‬
‫المعدلة من الشر أنه ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بالشر‪ .‬هذا االفتراض خاطئ‪.‬‬
‫تساعدنا األسباب الموضحة أعاله على فهم كيف يمكن أن يبرر ل ّله السماح ببعض‬
‫الشر‪ ،‬وربما حتى قدر كبير منه‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن األسباب الموضحة أعاله ال تسمح لنا برؤية كيف يمكن أن يبرر ل ّله‬
‫السماح بكل الشر في العالم‪ .‬ليس من الواضح على اإلطالق أن أيا من هذه األسباب‬
‫يبرر ل ّله إجازة الكثير من الشر بدال من تقليله كثيرا‪ .‬كما أنه ليس من الواضح أن أيا منها‬
‫سوف يبرر ل ّله السماح بحاالت معينة من الشر المروع‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬اغتصاب‬
‫أشلي جونز وضربها حتى الموت‪ .‬كما أنه ليس من الواضح أن أ ًّيا منهم يبرر ل ّله السماح‬
‫للحيوانات غير البشرية بالمعاناة في أماكن بعيدة عن اهتمام البشر‪.‬‬
‫يمكن للمرء أن يختلف معي هنا‪ .‬ربما يصر المرء على أن بعض األسباب الموضحة‬
‫أعاله تبرر بوضوح سماح ال ّله بالكثير من الشر واالغتصاب الوحشي والضرب‬
‫بالهراوات ومعاناة الحيوانات غير البشرية المنعزلة‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يمكن للمرء أن‬
‫يقول إنه حتى لو لم نتمكن من رؤية كيف يمكن ألي من هذه األسباب في حد ذاته‬
‫‪333‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫أن يبرر ل ّله السماح بهذه األشياء‪ ،‬يمكن دمجها في سبب واحد من شأنه أن يبرر ل ّله‬
‫بوضوح‪ .‬دعونا ننظر في هذه الردود بإيجاز‪ ،‬مع التركيز على الثانية حيث أننا في تقييمها‬
‫سنقيم األولى‪.‬‬
‫افترض أننا جمعنا جميع األسباب المختلفة الموضحة أعاله معا‪ ،‬ودعنا نضيف‬
‫كل ما نعرف أنه تم استبعاده‪ ،‬على سبيل المثال التماثل مع آالم المسيح‪ .22‬أطلق على‬
‫النتيجة‪ :‬السبب‪ .‬ودعونا نركز على الكم الهائل من الشر في العالم بدال من بعض‬
‫الرعب المعين أو معاناة الحيوانات غير البشرية المنعزلة‪ .‬السؤال‪ ،‬إذن‪ ،‬هو‪ :‬هل يبرر‬
‫العقل ل ّله السماح بالكثير من الشر بدال من تقليله؟‬
‫حسنًا‪ ،‬ما الذي يمكن اعتباره أقل بكثير؟ عالم بدون إبادة جماعية سيفي بالغرض‪.‬‬
‫أو ماذا عن عالم لم يحدث فيه الخرف؟ أو ربما عالم لم يتطور فيه فيروس إيبولي‪.‬‬
‫قم باالختيار‪ .‬كان من الممكن أن يمنع الوجود القاهر أيا منها بسهولة‪ .‬عندها كان من‬
‫الممكن أن تحدث معاناة أقل‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬هل كانت الخيرات المعنية بالسبب قد‬
‫ضاعت أو تم تخفيضها بشكل غير مقبول؟ ال أستطيع أن أرى لماذا‪ .‬افترض أنه منعنا‬
‫ببساطة من التفكير في اإلبادة الجماعية‪ .‬هل كنا إذن غير قادرين على إدراك بشاعة‬
‫العيش بأنفسنا؟ هل كنا نفتقر إلى الحافز المطلوب للجوء إلى ال ّله؟ ال‪ :‬إن بشاعتنا‬
‫كانت ستظل واضحة في المجموعة الواسعة من األنشطة غير القاتلة للجنس التي‬
‫ننخرط فيها‪ .23‬وما إلى ذلك‪ ،‬وجمعها في مصلحة واحدة مشتركة؟ كل منا بحاجة‬
‫لإلجابة عن هذا السؤال ألنفسنا‪ ،‬ولكن من جهتي‪ ،‬عند التفكير بعناية ال أستطيع أن‬
‫أرى كيف أن أيا منها بمفرده أو مجتمعة كان سيضيع أو يتضاءل بشكل كبير إذا كان ال ّله‬

‫‪22 See, e.g., Marilyn McCord Adams, «Redemptive Suffering: A Christian Solution‬‬
‫‪to the Problem of Evil,» Faith and Philosophy 3 (1986), and «Horrendous Evils and‬‬
‫‪the Goodness of God,» Proceedings of the Aristotelian Society 63 (1989), 297-310,‬‬
‫‪collected in Adams and Adams 1990, 209-221.‬‬
‫‪ 23‬لكن أال يخدعنا ال ّله بشأن العواقب الطبيعية لترتيب حياتنا بمفردنا؟ ربما‪ .‬لكن قد يكون بعض‬
‫الخداع يستحق ذلك‪ .‬فكر في األمر على هذا النحو‪ :‬لنفترض أنه دون علمنا‪ ،‬لن يسمح ال ّله بحرب‬
‫نووية عالمية شاملة حتى لو تضمنت إحدى النتائج الطبيعية لحالتنا البائسة القدرة على القيام بذلك‪.‬‬
‫هل نتهمه بالخداع غير المشروع عند تعلمه؟ بالكاد‪ .‬يجب أن نجثو على ركبنا ونشكره على لطفه‬
‫العظيم‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪334‬‬
‫قد منع اإلبادة الجماعية بشكل منهجي (أو‪ ،‬من أجل هذا األمر‪ ،‬الخرف أو فيروس‬
‫إيبولي أو‪ .)...‬وبالتالي‪ ،‬ال أستطيع أن أرى كيف يتطلب السبب من ال ّله أن يسمح‬
‫بالكثير من الشر بدال من تقليله كثيرا‪ .‬لهذا السبب ال أستطيع أن أرى كيف يبرر العقل‬
‫ل ّله السماح بهذا القدر من الشر‪.‬‬
‫ال شك أن العديد من المسيحيين سيختلفون معي‪ .‬لكن دعونا نتفق على هذا كثيرا‪:‬‬
‫ال يوجد مصدر مسيحي موثوق يؤكد أننا يجب أن نتوقع أن نكون قادرين على فهم‬
‫سبب سماح ال ّله بهذا القدر من الشر بدال من تقليله كثيرا‪ .‬في الواقع‪ ،‬الرسالة اإلنجيلية‬
‫هي أنه ليس من شغلنا أن نفكر في أنه يمكننا فعل أي شيء من هذا القبيل‪ .‬هذا هو درس‬
‫سفر أيوب وكالم النبي (إشعياء ‪)10-8 :55‬‬
‫«ألن أفكاري ليست أفكارك‪،‬‬
‫وال طرقكم طرقي‪ ،‬يقول الرب‪.‬‬
‫«ألنه كما علت السموات عن األرض‪،‬‬
‫إذن هل طرقي أعلى من طرقك‪،‬‬
‫وأفكاري أكثر من أفكارك»‪.‬‬
‫نحن نلحق ضررا جسيم ًا باآلخرين لنبدي لهم على انفراد أو على المنبر أي توقع‬
‫لفهم سبب سماح ال ّله بهذا القدر من الشر أو أي حالة معينة‪ ،‬والتوقعات التي ليس‬
‫لدينا سبب لالعتقاد بها سوف تتحقق‪ ،‬والتوقعات التي إذا تُركت دون تحقيق يمكن‬
‫أن تصبح بالقرب من أسس ال تقاوم لرفض اإليمان‪ .‬نحن في الظالم هنا‪ .‬ال يمكننا‬
‫أن نرى كيف يمكن ألي سبب نعرفه‪ ،‬أو كل هذه األسباب مجتمعة‪ ،‬أن يبرر ل ّله‬
‫السماح بالكثير من الشر المروع أو أي رعب معين‪ .‬نحن بحاجة إلى االعتراف بهذه‬
‫الحقيقة‪.‬‬

‫‪ .6‬حجة المقدار‬
‫المقدمة ‪ 3‬من الحجة األساسية المعدلة خاطئة‪ .‬لكن االنعكاسات الواردة في‬
‫القسم ‪ 7-5‬قد تقدم نواة لحجج أخرى أفضل من الشر‪ .‬ألنه حتى لو كان هناك‬
‫‪335‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫سبب يبرر ل ّله السماح ببعض الشر‪ ،‬وحتى الكثير منه‪ ،‬فقد ال يكون هناك سبب‬
‫على اإلطالق يبرر سماحه بهذا القدر‪ ،‬أو بعض الحاالت المعينة مثل االغتصاب‬
‫والضرب الوحشي آلشلي جونز‪ .‬في الواقع‪ ،‬هذا هو بالضبط ما يدعيه العديد من‬
‫مؤيدي الحجة من الشر‪.‬‬
‫لكن ألن يكون مصير مثل هذه الحجة مقرر منذ البداية؟ بعد كل شيء‪ ،‬إذا كان‬
‫هناك سبب يبرر سماح ل ّله ببعض الشر‪ ،‬أفال يبرر ذلك تلقائي ًا سماحه بكل الشر‬
‫الموجود؟ على اإلطالق‪ .‬يمكن للمرء أن يكون لديه سبب للسماح ببعض الشر‪،‬‬
‫حتى الكثير منه‪ ،‬حتى لو لم يكن لديه سبب للسماح بأي قدر منه أو ال يوجد سبب‬
‫للسماح ببعض األمثلة الخاصة‪ .‬لمجرد أن لدي سببا للسماح البني بمعاملة أخته‬
‫معاملة سيئة أحيان ًا‪ ،‬فليس لدي سبب للسماح له بمعاملتها معاملة سيئة طوال الوقت؛‬
‫وبالتالي ليس لدي سبب للسماح له بدفعها من جرف في مناسبة معينة‪ .‬سيتعين علينا‬
‫التفكير بجدية أكبر للرد على هذه الحجج (المزعومة) األفضل من الشر‪ .‬دعونا ننظر‬
‫في األمر عن كثب‪.‬‬
‫‪ 1-6‬ذكرت الحجة‬
‫ستذهب الحجة من حاالت معينة من الشر المروع بشكل مختلف اعتمادا على‬
‫الحالة أو الحاالت المذكورة في المبنى‪ ،‬لكن النسخة النموذجية ستذهب إلى شيء‬
‫مثل هذا‪:‬‬
‫ال يوجد سبب يبرر سماح ال ّله باالغتصاب الوحشي والضرب بالهراوات حتى‬
‫الموت‪.‬‬
‫إذا كان ال ّله موجودا‪ ،‬فال بد من وجود مثل هذا السبب‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ال ّله غير موجود‪.‬‬
‫وحجة المقدار ستكون كاآلتي‪:‬‬
‫ال يوجد سبب يبرر ل ّله السماح بهذا القدر من الشر بدال من تقليله‪.‬‬
‫إذا كان ال ّله موجودا‪ ،‬فال بد من وجود مثل هذا السبب‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ال ّله غير موجود‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ 336
‫ حجة المقدار ليست عرضة لالعتراضات التي‬.‫ سأركز على حجة المقدار‬،‫فيما يلي‬
.‫ كما أنها الحجة التي وجدتها أكثر إثارة للقلق‬.24‫تتعرض لها الحجة من شواهد معينة‬
‫ ما الذي‬.‫ سألتزم بحجة المقدار‬،‫لذلك في محاولة لطرح (ما أعتقد أنه) أفضل حجة‬
‫يجب علينا فعله؟‬
‫ إذا كان هناك كائن كلي القدرة على كل شيء يسمح‬.‫ صحيحة‬2 ‫ المقدمة‬،‫حسنًا‬
‫بالشر في عالمنا بدون سبب على اإلطالق أو كان من الممكن تحقيق أهدافه في‬
‫ جميع اإلبادة‬،‫ على سبيل المثال‬،‫السماح بالشر حتى لو كان قد منع بشكل منهجي‬
‫ إن فظاعة بشاعته تتحدى الوصف‬،‫ لكنه سمح بها على أي حال‬،‫الجماعية أو الطاعون‬
‫ هل‬.1 ‫ هذا يترك المقدمة‬.‫ ال تشوبه شائبة‬3 ‫ إلى‬2‫ و‬1 ‫ االستدالل من‬،‫ بالطبع‬.‫المناسب‬
‫هي صحيح؟‬
‫ وأفضلها جاء من فيلسوف‬،‫تم تقديم العديد من الحجج حول ذلك في األدب‬
،‫ ليس لدي مساحة هنا ألتوسع بعدالة في حججه الثالث‬.‫ ويليام رو‬:‫معجب به كثيرا‬
‫ أن تمتد إلى‬،‫ بقليل من البراعة‬،‫لكن االعتراضات على تلك التي سأقيمها هنا يمكن‬
.25‫الحالتين األخريين‬

24 See Peter van Inwagen, «The Magnitude, Duration, and Distribution of Evil: A
Theodicy,» Philosophical Topics (1988), 167-68, «The Place of Chance in a World
Sustained by God,» in Divine and Human Action (Ithaca, New York: Cornell Uni-
versity Press, 1988), ed. Thomas V. Morris, 230ff, and «The Problem of Evil, the
Problem of Air, and the Problem of Silence,» Philosophical Perspectives (1991),
note 11. All three essays are collected in his God, Knowledge and Mystery. See also
my «The Argument from Inscrutable Evil,» in The Evidential Argument from Evil,
286-89.
25 «The Argument from Inscrutable Evil». The one I assess here is in «The Problem
of Evil and Some Varieties of Atheism,» American Philosophical Quarterly (1979),
collected in The Evidential Argument from Evil. The other two are in «Evil and
Theodicy,» Philosophical Topics (1988), «Ruminations About Evil,» Philosophical
Perspectives (1991), and «The Evidential Argument from Evil: A Second Look,» in
The Evidential Argument from Evil.
‫‪337‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫‪ 2-6‬استدالل عدم الرؤية لرو‬


‫لنفترض أنه بعد البحث بعناية في ثالجتي‪ ،‬لم أجد علبة حليب‪ .‬من الطبيعي أن‬
‫أستنتج أنه ال توجد علبة‪ .‬أو لنفترض أنه عند مشاهدة مباراة شطرنج بين اثنين من‬
‫المبتدئين‪ ،‬قال كاسباروف لنفسه‪« :‬بقدر ما أستطيع أن أقول‪ ،‬ال توجد طريقة ليخرج‬
‫جون عن السيطرة»‪ ،‬ثم يستنتج أنه ال توجد طريقة‪ .‬هذه هي ما يمكن أن نسميه‬
‫استدالالت عدم الرؤية‪ :‬نحن ال نراهم‪ ،‬لذا فهم ليسوا هناك!‬
‫الحظ أربعة أشياء حول استدالالت عدم الرؤية‪ .‬أوال‪ ،‬لديها هذا الشكل‬
‫األساسي‪« :‬بقدر ما يمكننا أن نقول‪ ،‬ال يوجد ‪x‬؛ لذلك‪ ،‬ال يوجد ‪ .»x‬ثانيا‪ ،‬الحظ‬
‫أنه في كل من الحاالت المذكورة للتو‪ ،‬من الممكن أن تكون النتيجة خاطئة حتى‬
‫لو كانت المقدمة صحيحة‪ .‬على الرغم من أنني بحثت في الثالجة بعناية وكانت‬
‫رؤيتي ممتازة‪ ،‬إال أنني قد أفتقد علبة الحليب ببساطة‪ .‬وحتى كاسباروف يمكنه‬
‫قضاء يوم عطلة‪ .‬ومع ذلك ــ وهذه هي النقطة الثالثة ــ في كل حالة الحجة قوية‪ .‬في‬
‫ظل ظروف معينة (سأقول عنها بعد قليل)‪ ،‬فإن عدم قدرتنا على رؤية شيء ما يجعل‬
‫من المحتمل جدا عدم وجود أي شيء من النوع الذي فشلنا في رؤيته‪ .‬أخيرا‪ ،‬لن‬
‫يكون من المفيد االعتراض على أي استنتاج خاص بالنظام حتى لو كان االفتراض‬
‫صحيحا‪ ،‬فقد يكون االستنتاج خاطئا‪ .‬لكل حجة نصية ــ حتى أقويها ــ هي كذلك‪.‬‬
‫عند تقييم حجة عدم رؤية معينة‪ ،‬ال يمكننا فقط شطبها بجملة غير رسمية‪« ،‬آه! ولكن‬
‫قد يكون هناك ‪ x‬ال نعرفه حتى لو بقدر ما يمكننا معرفة أنه ال يوجد واحد»‪ .‬هذا‬
‫صحيح‪ ،‬لكنه غير ذي صلة بقوة االستدالل‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬في الواقع‪ ،‬لقد زعمت في القسم ‪ 7-5‬أنه عند التفكير مليا في النظريات‬
‫المختلفة‪ ،‬بقدر ما يمكننا أن نقول‪ ،‬ال يوجد سبب يبرر قيام ال ّله بإتاحة الكثير من‬
‫الشر‪ .26‬قد نميل إلى استنتاج أنه ــ تماما على األرجح ــ ال يوجد مثل هذا السبب‪ .‬في‬
‫الواقع‪ ،‬يطلب منا رو أن نفعل ذلك بالضبط‪ .‬يمكننا وضع الحجة الناتجة ببساطة مثل‬

‫‪ 26‬سيالحظ القارئ اليقظ أنني ربما أزعم هنا أيضا أنه عند التفكير في مختلف النظريات‪ ،‬بقدر ما‬
‫يمكننا أن نقول‪ ،‬هناك سبب يبرر قيام ال ّله بمثل هذا الشر‪ .‬الهدف من بقية القسم ‪ 6‬هو الفهم الواضح‬
‫لسبب أهمية هذا الفكر وتدميره‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪338‬‬
‫هذا‪ :‬بقدر ما نستطيع أن نقول‪ ،‬ال يوجد سبب يبرر ال ّله‪ .‬لذلك‪ ،‬من المحتمل جدا أنه‬
‫ال يوجد مثل هذا السبب‪.‬‬
‫ما الذي يجب أن نستخلصه من استنتاج عدم الرؤية لرو‪ ،‬كما سأطلق عليه؟‬
‫من الواضح أن العديد من استدالالت عدم الرؤية معقولة‪ .‬وكما هو واضح‪،‬‬
‫فإن الكثير منها ليس كذلك‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬بالنظر إلى حديقتي البعيدة من نافذة‬
‫مطبخي‪ ،‬فإن حقيقة أنه‪ ،‬بقدر ما أستطيع أن أقول‪ ،‬ال توجد رخويات هناك بالكاد تجعل‬
‫من المحتمل عدم وجود أي رخويات‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فإن المبتدئ الذي يشاهد مباراة‬
‫الشطرنج بين كاسباروف وديب بلو ال ُينصح بالعقل‪« :‬ال أستطيع أن أرى أي طريقة‬
‫لخروج ديب بلو من الشطرنج؛ لذلك‪ ،‬ال يوجد شيء»‪ .‬أو تخيل أننا نستمع إلى أفضل‬
‫علماء الفيزياء في العالم يناقشون الرياضيات المستخدمة لوصف الظواهر الكمومية أو‬
‫نظرية النسبية العامة‪ .‬من المفترض أنه سيكون من غير المعقول بالنسبة لنا أن نستنتج‬
‫أنه‪ ،‬بما أننا ال نستطيع فهم أو استيعاب ما يقولونه‪ ،‬فال يوجد شيء يمكن فهمه‪ .‬السؤال‬
‫الحاسم‪ ،‬إذن‪ ،‬هو‪ :‬ما الذي يميز استنتاجات عدم الرؤية المعقولة عن تلك الرديئة؟‬
‫خذ بعين االعتبار الحاالت التي تم رسمها بالفعل‪ .‬الحظ أنه من المحتمل جدا أن‬
‫أرى إبريق حليب في الثالجة إذا كان موجودا‪ ،‬ومن المحتمل جدا أن يرى كاسباروف‬
‫طريقة للخروج من األزمة إذا كان هناك واحدا‪ .‬ذلك ألن كاسباروف وأنا لدينا ما يلزم‬
‫لتمييز أنواع األشياء المعنية‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ليس من المحتمل جدا أن أرى سبيكة‬
‫في حديقتي حتى لو كانت هناك واحدة‪ ،‬على األقل ليس من نافذة مطبخي‪ .‬كما أنه من‬
‫غير المحتمل جدًّ ا أن يكون المبتدئ قادرا على رؤية طريقة للخروج من أزمة ديب بلو‬
‫حتى لو كانت هناك واحدة ألن إستراتيجية على مستوى ٍ‬
‫عال يمكن أن تكون معقدة‬
‫للغاية‪ .‬وينطبق الشيء نفسه على فهمنا للرياضيات شديدة التعقيد‪ :‬حتى لو كان ما‬
‫يتحدث عنه الفيزيائيون منطقيا‪ ،‬فليس من المحتمل جدا أننا سنكون قادرين على فهمه‪.‬‬
‫يمكننا استخالص هذه االنعكاسات في المبدأ التالي‪ ،‬الذي يمثل فرقا مهما بين‬
‫استنتاجات عدم الرؤية المعقولة وغير المعقولة‪ :‬ال يكون استنتاج عدم الرؤية منطقيا إال‬
‫إذا كان من المعقول االعتقاد بأننا من المحتمل جدا أن نرى (فهم‪ ،‬استيعاب) العنصر‬
‫المعني إذا كان موجود ًا‪ .‬وبتطبيق هذا المبدأ على استدالل عدم الرؤية لرو‪ ،‬نحصل‬
‫‪339‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫على النتيجة التالية‪ :‬االنتقال من «بقدر ما يمكننا أن نقول‪ ،‬ال يوجد سبب» إلى أنه من‬
‫المحتمل جدا أن «ال يوجد سبب» يكون معقوال فقط إذا كان من المعقول االعتقاد بأننا‬
‫سنرى أو نفهم سببا على األرجح‪ ،‬إذا كان هناك واحد‪ .‬يمكن تسمية العبارة األخيرة‬
‫بافتراض عدم الرؤية لرو‪ .‬نحن اآلن في وضع يسمح لنا بطرح سؤال مهم‪ .‬هل من‬
‫المعقول تصديق افتراض عدم الرؤية رو؟‬
‫‪ 3-6‬حجة تولي المدافعة عن افتراض عدم الرؤية لرو‬
‫يمكن تقديم عدة أسباب هنا‪ ،‬لكن أكثرها قوة هو‪ :‬نظرا ألنه من المحتمل جد ًا أننا‬
‫نعرف جميع الخيرات الجوهرية الموجودة‪ ،27‬فمن المحتمل جدا أننا نعرف بالفعل‬
‫جميع األسباب التي من شأنها أن تبرر سماح ال ّله بالشر؛ ومن ثم‪ ،‬إذا كان هناك سبب‪،‬‬
‫فمن المحتمل جدا أن نراه أو نفهمه‪.‬‬
‫هذه الحجة معلقة على فكرة أنه «بما أنه من المحتمل جدا أننا نعرف جميع‬
‫الخيرات الجوهرية الموجودة‪ ،‬فمن المحتمل جدا أننا نعرف بالفعل جميع األسباب‬
‫التي من شأنها أن تبرر سماح ال ّله بالشر»‪ .‬قد نشكك في االستنتاج هنا‪ ،28‬لكنني سأركز‬
‫على المقدمة‪ .‬لماذا نعتقد أنه من المحتمل جدا أننا نعرف جميع الخيرات الجوهرية‬
‫الموجودة؟ يقدم مايكل تولي هذه الحجة‪ :‬عدد قليل جدا من الحاالت التي اكتشفها‬
‫البشر على مدار تاريخهم هي خيرات جوهرية‪ ،‬وفي الثالثة آالف سنة الماضية أو نحو‬
‫ذلك لم يتم اكتشاف أي خيرات جوهرية على اإلطالق؛ لذلك‪ ،‬من «غير المحتمل‬
‫في أقصى الحدود» وجود خيرات جوهرية بخالف تلك التي نعرفها‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فمن‬
‫المحتمل جدا أننا نعرف كل الخيرات الجوهرية‪.29‬‬

‫‪ 27‬الخير الجوهري هو خير في حد ذاته‪ ،‬ليس فقط ألنه وسيلة لبعض الخير اآلخر‪ .‬في حين أنه من‬
‫القابل للنقاش أي السلع هي خيرات جوهرية‪ ،‬فإن أكثر المرشحين ً‬
‫قبول هم المتعة والمعرفة‬
‫والحرية والحب والعدالة‪ ،‬من بين أمور أخرى‪.‬‬
‫‪ 28‬ال يصح االستدالل إال إذا كان من المحتمل جدا أيضا أن نعرف جميع شروط تحقيق هذه الخيرات‬
‫التي نعرفها‪.‬‬
‫‪See Alston, «Some (Temprarily) Final Thoughts on Evidential Arguments from‬‬
‫‪Evil,» in The Evidential Argument from Evil, 315ff.‬‬
‫‪29 See «The Argument from Evil,» Philosophical Perspectives (1991), especially 114-15.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪340‬‬
‫هل هذا سبب وجيه لالعتقاد بأنه من المحتمل أننا نعرف جميع الخيرات‬
‫الجوهرية الموجودة؟ ال أعتقد ذلك‪ .‬بادئ ذي بدء‪ ،‬في أفضل األحوال‪ ،‬فإن فرضية‬
‫أن البشر اكتشفوا عددا قليال جدا من الخيرات الجوهرية وال توجد خيرات جديدة‬
‫مؤخرا تُظهر أنه من المحتمل جد ًا أننا اكتشفنا جميع الخيرات الجوهرية التي يمكننا‬
‫حاليا اكتشافها‪ ،‬تماما مثل القطط‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬التي اكتشفت جميع الخيرات‬
‫الجوهرية التي يمكنها اآلن اكتشافها‪ .‬ما إذا كان هناك المزيد من الخيرات الجوهرية‪،‬‬
‫على وجه التحديد‪ ،‬خيرات نحن غير قادرين حاليا على اإلمساك بها‪ ،‬تُترك مفتوحة‬
‫على مصراعيها‪ .‬ومن ثم فمن غير المعقول االنتقال من «اكتشف البشر القليل جدا من‬
‫الخيرات الجوهرية ولم يكتشفوا خيرات جديدة مؤخرا» إلى «من المحتمل جدا أننا‬
‫اكتشفنا جميع الخيرات الجوهرية»‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ ،‬هذه الخطوة معقولة فقط إذا اكتشف أسالفنا البشر القليل من الخيرات‬
‫الجوهرية التي نعرفها خالل فترة زمنية قصيرة‪ .‬خالفا لذلك‪ ،‬لنفترض أن أسالفنا‬
‫اكتشفوا خيرات جوهرية على مدار عشرات اآلالف من السنين مع عدة آالف من‬
‫السنين في الفترة الفاصلة عندما لم يتم اكتشاف أي خيرات‪ .‬إن مثل هذا التقدم المتقطع‬
‫في اكتشافنا للخيرات الجوهرية لن يكون مفاجئا على اإلطالق نظرا ألن قدرة جنسنا‬
‫البشري حتى على تصورها متجذرة في بنى الدماغ البشري‪ ،‬البنى التي ــ على حد علمنا‬
‫ــ تطورت بشكل متقطع على مدار فترة عشرات اآلالف من السنين‪( .‬قد يساعدك على‬
‫رسم خط زمني يربط بين التطورات الدماغية المتميزة بقدرات مميزة لتصور وتقدير‬
‫الخيرات الجوهرية المختلفة)‪ .‬إذا حدث مثل هذا التقدم المتقطع‪ ،‬فعلينا أن نتوقع‬
‫عدم اكتشاف أي خيرات لعدة آالف من السنين‪ ،‬وحتى لو كانت هناك ال نعرف عنها‬
‫الكثير‪ .‬لذا‪ ،‬فإن حقيقة أن البشر قد اكتشفوا القليل من الخيرات الجوهرية وعدم وجود‬
‫خيرات جديدة في اآلونة األخيرة تجعل من المحتمل عدم وجود خيرات أخرى فقط‬
‫إذا اكتشف أسالفنا الخيرات التي نعرفها خالل فترة زمنية قصيرة نسبيا في تاريخ جنسنا‬
‫البشري‪.‬‬
‫لكن لماذا نفترض ذلك؟ حقيقة األمر هي أنه ال تولي وال أي شخص آخر لديه‬
‫أي سبب على اإلطالق لتصديقه‪ .‬ال يوجد سبب لالعتقاد بأن فهم أسالفنا للخيرات‬
‫‪341‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫الجوهرية يجب أن يكون قد أتى في مثل هذه الحزمة المربوطة بإحكام بحيث لم يكن‬
‫بإمكانهم استيعابها دون استيعابها جميع ًا‪( .‬في هذا الصدد‪ ،‬فكر في تطور وعي الطفل‬
‫وتقديره للخيرات الجوهرية المختلفة)‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬وبالنظر إلى األدلة األثرية‬
‫والحفرية الضئيلة التي لدينا‪ ،‬فلن يكون من المفاجئ على اإلطالق أن يحدث هذا‬
‫النوع من التقدم المتقطع المشار إليه أعاله‪ .‬أنا ال أقول أن لدينا سببا لالعتقاد بحدوث‬
‫مثل هذا التقدم‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬أنا أقول ــ على عكس ما يفترضه تولي‪ :-‬إن المعلومات‬
‫التي لدينا حاليا ال تمنحنا أي سبب لالعتقاد بأنها لم تحدث‪.30‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن حجة تولي تفشل في إظهار أنه «من غير المحتمل في أقصى الحدود»‬
‫وجود خيرات جوهرية غير تلك التي نعرفها‪ .‬لذلك ال يمكننا استخدامه كأساس‬
‫لالعتقاد بأننا من المحتمل جد ًا أن نميز سببا لسماح ال ّله بهذا القدر من الشر إذا كان‬
‫هناك واحد‪ ،‬وهو مجرد افتراض عدم الرؤية لرو‪.‬‬
‫قد يتم تقديم المزيد من الحجج حول افتراض عدم الرؤية لرو‪ ،‬لكن اعتراضي العام‬
‫على حجة تولي هي أنها تعتمد على افتراضات أننا لسنا في وضع يسمح لنا بالقيام بها‬
‫بشكل معقول ينطبق عليها أيض ًا‪ .31‬دعونا ننتقل‪ ،‬إذن‪ ،‬إلى ما يمكن أن يقال ضد افتراض‬
‫عدم الرؤية لرو‪.‬‬
‫‪ 4-6‬استراتيجيتان‬
‫أبدأ بالتمييز بين استراتيجيتين للجدل ضد افتراض عدم الرؤية لرو ‪ K‬يمكننا‬
‫الوصول إليهما عن طريق مقارنة سؤالين‪.‬‬

‫‪ 30‬قد يقول بعض القراء أنه نظرا ألن لدينا سببا وجيها لالعتقاد بأن عمر األرض ال يزيد عن ‪10000‬‬
‫عام‪ ،‬فلدينا سبب وجيه إلنكار الفجوات التي تمتد آالف السنين التي تعتمد عليها تكهناتي‪ ،‬ناهيك‬
‫عن األنثروبولوجيا التطورية التي تتطلبها أكيد‪ .‬إذا كان هذا هو رأيك‪ ،‬فأنا أدعوك للتفكير فيما سيفكر‬
‫به جمهورك في مهمة االعتذار بشأن هذه األمور‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬قد تفكر في ردي على تولي كطريقة‬
‫لتوضيح لهم كيف يجب‪ ،‬نظر ًا آلرائهم الخاصة حول ما قبل التاريخ‪ ،‬رفض حجة تولي‪.‬‬
‫‪31 «The Argument from Inscrutable Evil,» 291-97. Rowe, «The Evidential Argument‬‬
‫‪from Evil: A Second Look,» 276. See also «Argument from Inscrutable Evil,» 305-‬‬
‫‪307. The Hiddenness of God: New Essays (forthcoming), eds. Daniel Howard-Snyder‬‬
‫‪and Paul K. Moser.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪342‬‬
‫أوالً‪ :‬هل من المحتمل جد ًا أن أرى سبيكة في حديقتي من نافذة المطبخ إذا كانت‬
‫موجودة؟ على اإلطالق‪ .‬أعلم أن البزاقات صغيرة نسبيا‪ ،‬وأعلم أن العين البشرية‬
‫المجردة ليست مناسبة لرؤية مثل هذه األشياء الصغيرة على ارتفاع مائة قدم؛ عالوة‬
‫كبيرا‪ ،‬وعادة ما تكون متضخمة‪ .‬لذلك لدينا‬
‫على ذلك‪ ،‬تبلغ مساحة حديقتي فدانا ً‬
‫سبب رائع لالعتقاد بأنه من الخطأ أن أرى على األرجح سبيكة في حديقتي حتى لو‬
‫كانت هناك‪ .‬اآلن‪ ،‬سؤال آخر‪ :‬هل من المحتمل جدا أن تتواصل معنا أشكال الحياة‬
‫خارج األرض إذا كانت موجودة؟ الجواب الوحيد المناسب هنا هو «كيف لي أن‬
‫أعرف؟» إذا كانت هناك أشكال حياة خارج األرض‪ ،‬فما مدى احتمالية أن يكون‬
‫بعضها ذكيا بما يكفي لمحاولة االتصال؟ ومن بين هؤالء األذكياء بما فيه الكفاية‪ ،‬كم‬
‫عدد الذين سيهتمون بذلك؟ ومن بين أولئك الذين يتمتعون بالذكاء واالهتمام‪ ،‬ما مدى‬
‫احتمالية توفر الوسائل المتاحة لهم للمحاولة؟ ومن بين أولئك الذين لديهم الوسائل‪،‬‬
‫ما مدى احتمالية نجاحهم؟ ليس لدي أدنى فكرة عن كيفية اإلجابة على هذه األسئلة‪.‬‬
‫ال أستطيع حتى أن أقول بأدنى درجة من الثقة أن االحتمالية منخفضة أو متوسطة أو‬
‫عالية‪ .‬ليس لدي ما يكفي لالستمرار‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬يجب أن أشك في مدى احتمال‬
‫اتصال أشكال الحياة خارج األرض بنا إذا كانت موجودة‪ .‬يجب أن أكون ال معها وال‬
‫ضدها‪ .‬يجب أن أهز كتفي فقط وأقول‪« :‬ال أعرف‪ .‬أنا لست على معرفة بشأن هذه‬
‫النتيجة‪».‬‬
‫هناك نقطتان‪ .‬أوال‪ ،‬في كل حالة‪ ،‬ليس من المعقول االعتقاد بأن االقتراح المعني‬
‫من المرجح أن يكون صحيحا‪ ،‬وإن كان ألسباب مختلفة‪ .‬في الحالة األولى‪ ،‬ليس من‬
‫المعقول تصديق أنه من المحتمل جدا أن أرى سبيكة في الحديقة حتى لو كانت هناك‬
‫واحدة ألنه من المعقول االعتقاد بأن االقتراح خاطئ بشكل إيجابي‪ ،‬في الواقع‪ ،‬ألن‬
‫الحديقة كبيرة ومتضخمة وأنا أشاهدها من مسافة بعيدة‪ ،‬لدي سبب وجيه لالعتقاد‬
‫بأنه من المحتمل جدا أال أرى سبيكة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في الحالة الثانية‪ ،‬ليس من المعقول‬
‫االعتقاد بأن االقتراح المعني خاطئ‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬لألسباب المذكورة‪ ،‬لدينا سبب‬
‫وجيه للشك حول مدى احتمالية أن يتم االتصال بنا من قبل أشخاص خارج األرض‬
‫إذا كان هناك أي منها‪ .‬في الواقع‪ ،‬ليس لدينا ما يكفي لالستمرار في تخمين تقريبي‪.‬‬
‫‪343‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫نتيجة لذلك ــ وهنا النقطة الثانية الحاسمة تماما ــ فإن وجود سبب وجيه للشك في‬
‫األمر هو سبب ٍ‬
‫كاف في حد ذاته لالعتقاد بأنه ليس من المعقول االعتقاد بأنه ربما تم‬
‫االتصال بنا‪ .‬كيف يمكن أن يكون من المعقول بالنسبة لنا أن نصدق شيئا لدينا سبب‬
‫وجيه لالعتقاد بأننا جاهلون به تماما؟‬
‫اآلن دعنا نطبق هذه النقاط على افتراض عدم الرؤية لرو‪ .‬لتقييم معقولية االعتقاد‬
‫بأننا سنرى على األرجح سببا يبرر ل ّله السماح بالكثير من الشر إذا كان هناك سبب‪،‬‬
‫قد نفكر في ما إذا كان افتراض عدم الرؤية لرو غير صحيح‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬قد‬
‫نحاول التفكير في أسباب لالعتقاد بأنه من المحتمل جدا أال نرى سببا يبرر ل ّله‪ .‬بعد‬
‫ذلك‪ ،‬سوف نتعامل مع افتراض عدم الرؤية لرو كما تعاملت مع االقتراح القائل بأنه‬
‫من المحتمل جدا أن أرى سبيكة في حديقتي من نافذة المطبخ‪ .32‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫قد نفكر فيما إذا كان يجب أن نشك في ما إذا كنا من المحتمل جدا أن نرى سببا يبرر‬
‫ل ّله‪ ،‬كما تعاملت مع االقتراح القائل بأنه من المحتمل جدا أن يتصل بنا من خارج‬
‫األرض إذا كان هناك أي شيء‪ .‬النقطة الحاسمة التي يجب أن نفهمها هنا هي أنه‬
‫حتى لو كان كل ما لدينا هو سبب وجيه للشك حول ما إذا كان من المحتمل جدا أن‬
‫نرى سببا يبرر ل ّله‪ ،‬فهذا أمر جيد بما فيه الكفاية إلنكار أنه من المعقول أن نصدق‬
‫افتراض عدم الرؤية لرو‪.‬‬
‫في ما يلي‪ ،‬أركز على األسباب التي تجعلني في شك بافتراض عدم الرؤية لرو‬
‫بدال من أسباب االعتقاد بأنه خاطئة‪ .‬لماذا؟ ألن أسباب الشك أسهل في الحصول‬
‫عليها واألسباب الوحيدة التي يمكنني التفكير فيها لالعتقاد بأن هذا غير صحيح‬
‫تفترض مسبقا أن ال ّله قد أخبرنا أنه يجب أن نتوقع أال نكون قادرين على تمييز أهدافه‬
‫في السماح بالشر‪( .‬يبدو أن هذا هو الدرس الرئيسي في كتاب أيوب‪ ،‬ويمكن القول‬
‫إنه ضمني لعقيدة السقوط)‪ .‬في حين أن مثل هذه األسباب توفر للمؤمن أسبابا إلنكار‬

‫‪ 32‬إلثبات أن افتراض رو باطل‪ ،‬ليس لدينا سبب لالعتقاد بأنه من المحتمل جدا أننا لن نرى سببا يبرر‬
‫وجود ال ّله‪ .‬كل ما نحتاجه حقا هو سبب لالعتقاد بأنه ليس من المرجح أن نرى سببا يبرر ال ّله أكثر‬
‫مما ال نفعله‪ .‬ألنه إذا لم يكن من المرجح أن نرى سببا يبرر ال ّله أكثر مما لن نرى ذلك‪ ،‬فليس من‬
‫المحتمل جد ًا أن نرى سب ًبا يبرر ل ّله‪ .‬أطباقنا ممتلئة بدرجة كافية دون متابعة هذا الخيار هنا‪.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪344‬‬
‫افتراض عدم الرؤية لرو‪ ،‬فإنها ال تفعل شيئا يذكر لغير المؤمن ألنه ال يقبل الكتاب‬
‫المقدس كمصدر للمعلومات‪ .‬بالطبع‪ ،‬قد نحاول إقناعه بصحة الكتاب المقدس ثم‬
‫نستخدمه لنجادل بأن افتراض عدم الرؤية لرو غير صحيح‪ .‬لكن هذا طريق غير مباشر‬
‫لهدف يمكن تحقيقه بشكل مباشر‪ .‬فيما يلي‪ ،‬أحاول اللجوء إلى األسباب التي يجب‬
‫أن تكون مقنعة لغير المؤمنين مثل المؤمنين؛ وبما أنني ال أعرف أي سبب مقنع لظن‬
‫غير المؤمن أن افتراض رو زائف‪ ،‬فسأتمسك باألسباب التي تجعلنا جمي ًعا ــ المؤمنين‬
‫وغير المؤمنين على حد سواء ــ نشك في افتراض رو‪.‬‬
‫‪ 5-6‬أسباب الشك بافتراض عدم الرؤية لرو‬
‫ظهرت عدة أنواع من االعتبارات في األدبيات‪ .‬سأذكر ثالثة‪.‬‬
‫نظائر ألستون‬
‫يتضمن استدالل عدم الرؤية لرو جانبين يجب أن يجعلنا حذرين من قدرتنا على‬
‫معرفة ما إذا كنا سنرى على األرجح أسبابا مبررة إذا كان هناك أي منها‪ .‬أوال‪ ،‬يأخذ‬
‫«الرؤى التي يمكن الحصول عليها من قبل البشر المحدودين غير المعصومين كمؤشر‬
‫ٍ‬
‫كاف لما هو متاح في طريق األسباب لكائن كلي العلم والقادر»‪ .‬ولكن هذا يشبه‬
‫االفتراض أنه عندما أواجه نشاطا أو إنتاجات سيد في مجال ليس لدي سوى القليل‬
‫من الخبرة فيه‪ ،‬فمن المعقول بالنسبة لي أن أستخلص استنتاجات حول جودة عملها‬
‫لمجرد أنني «ال أحصل على ذلك»‪ .‬لقد درست سنة في الفيزياء الجامعية‪ ،‬لقد واجهت‬
‫بعض النظريات حول الظواهر الكمومية وال أستطيع أن أثيرها‪ .‬بالتأكيد من غير‬
‫المعقول بالنسبة لي أن أفترض أنه من المحتمل أن أكون قادرا على فهم ذلك‪ .‬وبالمثل‬
‫في مجاالت الخبرة األخرى‪ :‬الرسم والتصميم المعماري والشطرنج والموسيقى وما‬
‫إلى ذلك‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬يتضمن استدالل عدم الرؤية لرو محاولة تحديد ما إذا كان هناك كذا وكذا في‬
‫منطقة ال نعرف نطاقها وتكوينها إلى حد كبير‪ .‬إنه مثل شخص معزول ثقافيا وجغرافيا‬
‫يفترض أنه إذا كان هناك شيء ما على األرض خارج هذه الغابة‪ ،‬فمن المحتمل أن‬
‫يميزه‪ .‬إنه مثل عالم فيزيائي يفترض أنه إذا كان هناك شيء ما خارج الحدود الزمنية‬
‫‪345‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫للكون‪ ،‬فربما نعرف عنه (حيث تكون هذه الحدود هي االنفجار األعظم واألزمة‬
‫األخيرة)‪ .‬تشير كل هذه المقارنات إلى نفس االتجاه‪ :‬يجب أن نشك في ما إذا كان من‬
‫المحتمل جدا أن نفهم سببا يبرر وجود ال ّله حتى لو كان هناك‪.33‬‬
‫حجة التقدم‬
‫تقدمت المعرفة في مجموعة متنوعة من مجاالت البحث‪ ،‬وخاصة العلوم الفيزيائية‪.‬‬
‫يشير االكتشاف الدوري لجوانب غير معروفة سابقا للواقع بقوة إلى أنه سيكون هناك‬
‫مزيد من التقدم من نوع مماثل‪ .‬نظرا ألن التقدم في المستقبل يعني الجهل الحالي‪ ،‬فمن‬
‫المحتمل جدا أن هناك الكثير الذي نجهله اآلن‪ .‬اآلن‪ ،‬ما يتعين علينا المضي قدما في‬
‫رسم تقدم اكتشاف الخيرات الجوهرية من قبل أسالفنا هو أقل ما يقال‪ .‬في الواقع‪ ،‬نظرا‬
‫لألدلة األثرية الضئيلة التي لدينا‪ ،‬وإعطاء األدلة الحفرية فيما يتعلق بالتطور التطوري‬
‫للدماغ في اإلنسان العاقل‪ ،‬فلن يكون مفاجئا على اإلطالق أن البشر اكتشفوا العديد‬
‫من الخيرات الجوهرية على مدى عشرات اآلالف من السنين المنقطة من قبل العديد‪.‬‬
‫آالف السنين‪ ،‬فجوات طويلة لم يتم اكتشاف أي شيء فيها‪( .‬تذكر نقطة ردي الثاني‬
‫على حجة تولي في القسم ‪ .)3-6‬ومن ثم‪ ،‬نظرا لما يتعين علينا المضي فيه‪ ،‬فلن يكون‬
‫من المفاجئ أن يكون هناك نوع من التقدم الدوري الذي يوحي بقوة بأنه ال تزال هناك‬
‫خيرات يجب اكتشافها‪ .‬وبالتالي لن يكون مفاجئا إذا كانت هناك خيرات نجهلها‪ ،‬ولن‬
‫يجهلها ال ّله في علمه المطلق‪.‬‬
‫حجة التعقيد‬
‫هناك شيء واحد مشترك بين كونشيرتو الكمان رقم ‪ 4‬لموزارت‪ ،‬والقهوة الفاخرة‬
‫(ال سيما قهوة ستاربكس)‪ ،‬وأفضل أنواع الحب عند مقارنتها بحب تشوبستيكس‪،‬‬
‫وفولجر‪ ،‬وهي أن كل منها يوضح حقيقة أن جودة الوضع‪ ،‬في بعض األحيان يكون‬
‫أكبر‪ ،‬جزئيا‪ ،‬ألنه أكثر تعقيدا‪ .‬اآلن‪ ،‬بما أن المعاناة الهائلة غير المستحقة والشر الفظيع‬
‫أمر سيئ للغاية‪ ،‬فسوف يتطلب األمر خيرات أكبر في المقابل لتبرير سماح ال ّله بالكثير‬

‫‪33 William Alston, «Some (Temporarily) Final Thoughts on Evidential Arguments‬‬


‫‪from Evil,» 316-319.‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪346‬‬
‫منها بدال من تقليلها كثيرا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬لن يكون مفاجئا إذا كانت أسباب ال ّله متعلقة‬
‫بخيرات ال يمكن أن ندرك تعقيدها‪ .‬يترتب على ذلك أنه لن يكون مفاجئا إذا كانت‬
‫أسباب ال ّله خارجة عن عقيدتنا‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬في حين أن التعقيد ال يؤثر دائما بشكل سلبي على قدرتنا على التعرف على‬
‫القيمة‪ ،‬إال أنه يمكن أن يحدث في بعض األحيان‪ .‬للدفاع عن هذا االدعاء‪ ،‬ال يمكنني‬
‫أن أريكم حالة معقدة من األمور ندرك قيمتها ولكن تعقيدها يعيق هذا االعتراف‪ .‬يجب‬
‫أن ألجأ إلى اعتبارات أكثر عمومية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬هناك ظاهرة عامة تتمثل في تعقيد شيء ما يعيق رؤيتنا لبعض السمات المهمة‬
‫التي يمتلكها‪ ،‬على سبيل المثال‪ .‬تعقيد الحجة التي تعيق قدرتنا على تمييز صحتها‪،‬‬
‫أو تعقيد إستراتيجية خصمك التي تعيق قدرتك على إدراك أنه ما لم تحرك فارسك‬
‫إلى جانب الملكة‪ ،‬فإن خطوتها التالية هي كش ملك‪ .‬ولكن‪ ،‬أكثر من ذلك‪ ،‬لماذا‬
‫يمكن للطفل أن يميز المزايا األدبية لكتاب فكاهي وليس هنري الخامس أو األخوان‬
‫كاراموزوف؟ لماذا يمكن للطفل أن يميز بوضوح القيمة الجمالية للحلوى ولكن ليس‬
‫سمك السلمون الذي يقدم مع صلصة الليمون والشبت وهليون دنت قليل الزبدة‬
‫والقهوة الفاخرة؟ لماذا يمكن للطفل أن يتعرف على قيمة صداقته مع صديقه المجاور‬
‫ولكن ليس القيمة الكاملة لحب والديه لبعضهما البعض؟ بالتأكيد ألن األعمال األدبية‬
‫العظيمة أسلوب راق وحب البالغين أكثر بكثير مما يستطيع أن يفهمه‪ .‬وينطبق هذا أيضا‬
‫على البالغين‪ ،‬حيث يكشف التفكير في تقدمنا في فهم تعقيد األشياء المختلفة ذات‬
‫القيمة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬عند التفكير بشكل دوري في نسيج عالقاتنا مع أولئك الذين‬
‫نحبهم كثير ًا والذين نعتز بحبهم كثير ًا‪ ،‬فقد نجد خيوطا وظالال تسمح لنا عند إبرازها‬
‫بالكامل برؤية هذا الحب على أنه أكثر قيمة مما كنا عليه في السابق‪ .‬إذا كان الفشل في‬
‫فهم الجوانب األكثر تعقيدا لعالقاتنا يمكن أن يمنع التقدير الكامل لقيمة الحب‪ ،‬فمن‬
‫المؤكد أن الفشل في فهم تعقيد حالة األمور قد يمنعنا من إدراك صالحها‪ .‬غالبا ما يتم‬
‫إخفاء القيمة في التعقيد‪.‬‬
‫االعتبارات الثالثة المعروضة هنا ــ مقارنات ألستون‪ ،‬وحجة التقدم‪ ،‬وحجة التعقيد‬
‫ــ تشكل معا سببا جيدا للشك حول ما إذا كان من المحتمل جدا أننا سنرى سببا يبرر‬
‫‪347‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫ل ّله السماح بالكثير الشر إذا كان هناك سبب‪ .‬هذا ال يعني أن هذه االعتبارات تشكل معا‬
‫سببا جيدا لالعتقاد بأنه من المحتمل جد ًا أننا لن نرى سببا يبرر وجود ال ّله‪ .‬يجب أال‬
‫نبالغ في تقدير قضيتنا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنها تشكل سببا جيدا لالعتقاد بأنه من غير المعقول‬
‫تصديق افتراض عدم الرؤية لرو‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إلى الحد الذي تعتمد فيه حجة المقدار على‬
‫استدالل عدم الرؤية لرو‪ ،‬فإنها تفشل‪.‬‬
‫‪ 6-6‬عن التعامل‬
‫العديد من األشخاص الذين تحدثت إليهم حول حجة الشر قد استجابوا لمداوالتي‬
‫بالطريقة اآلتية‪:‬‬
‫لم ِ‬
‫تعط سببا يبرر ل ّله السماح بهذا القدر من الشر بدال من تقليله كثير ًا‪ .‬على أي حال‪،‬‬
‫لم ِ‬
‫تعط سبب ًا يبرره بوضوح تام‪ .‬وأنت تعترف بذلك‪ .‬أنت تقر بعدم ذكر أي سبب من‬
‫هذا القبيل‪ .‬لكن هذا مجرد خروج شرطي‪ .‬بعد كل شيء‪ ،‬مشكلة الشر فقط هي مشكلة‬
‫إبداء سبب مبرر‪ ،‬سبب يمكننا أن نرى أنه مبرر‪ .‬وقد تخليت عن هذا المشروع‪ .‬ضعها‬
‫على هذا النحو‪ :‬أنت مسيحي‪ .‬على هذا النحو‪ ،‬فأنت تعتقد أن هناك سببا يبرر إذن ال ّله‬
‫ليست‬
‫ْ‬ ‫بهذا القدر من الشر المروع وغير المستحق في العالم‪ .‬إذا ما هو؟ ما هذا السبب؟‬
‫لديك إجابة‪ .‬إن إلهك متهم بأنه وحش أخالقي‪ .‬تقول أنت تدافع عنه‪ .‬وفقا لك‪ ،‬فهو‬
‫كامل في الحب والقوة والحكمة‪ .‬يمكنه أن يمنع كل حالة من الشر والمعاناة بمجرد‬
‫التفكير «بهدوء»‪ .‬ال يمكنك أن تتوقع منا إذن أال ندين‪ ،‬ليس بعد بوخنفالد وأوشفيتز‪،‬‬
‫وليس بعد أن عانى الماليين بال استحقاق وبصورة مروعة‪ .‬نحتاج إلى بعض اإلجابات‪.‬‬
‫نحتاج أن نعرف لماذا لم يوقف أكثر من ذلك‪ .‬لكن كل ما تقدمه لنا هو مجموعة من‬
‫االحتماالت البعيدة‪ ،‬مجموعة من االفتراضات‪« .‬لكل ما نعرفه‪ ،‬هناك سبب لجهلنا»‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬آسف‪ ،‬لكن هذا ليس جيدا بما يكفي‪ .‬أي محامي دفاع جرب تلك الحيلة في‬
‫المحكمة س ُيلقى خارجا‪ .‬لماذا يجب أن نعاملك بشكل مختلف؟‬
‫هناك الكثير مما يدور في هذا الخطاب العاطفي‪ ،‬والذي تناولته بالفعل فيما سبق‬
‫(انظر القسم ‪ .)3‬ولكن دعني أؤكد هنا ثالث نقاط‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬صحيح أنني لم أحاول أن أجادل في أن هناك سببا يبرر ل ّله إجازة الكثير‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪348‬‬
‫من الشر بدال من تقليله كثيرا‪ .‬أعتقد أن محاوالتنا في تمييز أي سبب من هذا القبيل‬
‫تفشل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أعتقد أن هناك سببا‪ .‬هذا ألنني أؤمن بوجود إله‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬إذا كان‬
‫هذا صحيحا‪ ،‬فهناك سبب‪ ،‬حتى لو لم أستطع تحديد ما هو‪ .‬لكن حقيقة أنني أعتقد أن‬
‫هناك سببا وال أستطيع أن أقول ما هو ال يمكن أن يكون بديال عن حجة ضد وجود ال ّله‪،‬‬
‫ما لم يفترض‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أنني (أو نحن) ربما نكون مطلعين على مثل هذا السبب إذا كان‬
‫هناك واحد‪ ،‬وهو االفتراض الذي جادلت بأنه يجب أن نشك في ذلك‪ .‬هذا يقودني إلى‬
‫نقطتي الثانية‪.‬‬
‫التشبيه القضائي في الخطاب معيب بشكل مهم‪ .‬من األمور الحاسمة لممارستنا‬
‫لمحاكمة المذنبين المشتبه بهم في محكمة قانونية االفتراض المعقول بأننا نحاكم‬
‫شخصا تميل أسباب تصرفه إلى أن تكون متاحة لنا ألنها أنواع األسباب‬ ‫ً‬ ‫واحدا منا‪،‬‬
‫المتاحة للبشر بشكل عام‪ .‬بدون هذا االفتراض لن يكون لدينا أي أساس على اإلطالق‬
‫الستبعاد األسباب التي ال نعرف عنها‪ .‬عندما يكون ال ّله في قفص االتهام‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ال‬
‫يمكننا االفتراض بأننا نعرف جيدا أنواع األسباب التي قد يكون مطلعا عليها‪ .‬كما قلت‪،‬‬
‫نحن في الظالم بشأن هذه النتيجة‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬ال شيء قلته في القسم ‪ 6‬يفترض مسبقا وجود ال ّله أو أن الكتاب المقدس‬
‫موحى به من ال ّله أو أي شيء من هذا القبيل‪ .‬إذا كنت ملحدا أو ال أدريا وال يزال‬
‫يعتبر اإليمان بال ّله خيارا حيا‪ ،‬فيجب أن تكون قادرا على تقدير األسباب التي‬
‫قدمتها لالعتقاد بأننا في حالة جهل بشأن افتراض عدم الرؤية لرو‪ .‬إذا كنت تعتقد‬
‫أن حججي تفترض وجود إله أو أن الكتاب المقدس هو كلمة ال ّله‪ ،‬فأنت لم تفهم‬
‫حججي‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬هل «قطعت»؟ حسنا‪ ،‬كل هذا يتوقف‪ .‬إذا كانت اللعبة التي نلعبها هي «دعونا‬
‫نوجد ثيوديسية»‪ ،‬إذن نعم‪ ،‬لقد خرجت‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كانت اللعبة التي نلعبها هي‬
‫ٍ‬
‫فعندئذ لست أنا من ألقى خطابا حماسيا‪ ،‬ولكن أولئك‬ ‫«دعونا نصنع حجة من الشر»‪،‬‬
‫الذين ألقوا خطابات حماسية مثل تلك المذكورة أعاله‪.‬‬
‫‪349‬‬ ‫اناعُملاو رشلاو هلإلا‬

‫‪ .7‬حجة الشر والدليل على اإلله‬


‫ال توجد حجة من الشر الذي أدركه تجعل من المحتمل أو حتى من المعقول‬
‫االعتقاد بأنه ال يوجد إله‪ .‬ال يمكن أن يحمل الشر عبء اإلثبات‪ .‬لكن افترض أنني‬
‫مخطئ‪ .‬افترض أن الشر دليل على االعتقاد بأن ال ّله غير موجود‪ .‬هل يترتب على ذلك‬
‫أنه من المعقول اإليمان بعدم وجود إله؟‬
‫دعونا نتناول هذا السؤال عن طريق القياس‪ .‬لنفترض أنك تعلمت في صف الثقافة‬
‫األوروبية اليوم أن ‪ % 95‬من الفرنسيين ال يستطيعون السباحة‪ .‬هذه اإلحصائية هي بعض‬
‫األدلة على االعتقاد بأن بيير‪ ،‬صديقك من باريس‪ ،‬ال يستطيع السباحة‪ .‬هل يتبع ذلك أن‬
‫تصدق أن بيير ال يستطيع السباحة؟ بالطبع ال‪ .‬ماذا لو قضيتما أنت وبيير بعد ظهر يوم‬
‫السبت الماضي معا تسبح وتتحدثان حول الجدل الدقيق وطاعون ألبير كامو؟ بالتأكيد‪،‬‬
‫في هذه الحالة‪ ،‬ليس من المعقول أن تصدق أن بيير ال يستطيع السباحة‪ .‬تجربتك معه‬
‫هي دليل أفضل بكثير لالعتقاد بأنه يستطيع السباحة على الرغم من أن األدلة اإلحصائية‬
‫في حد ذاتها تجعل من المحتمل جدا أنه ال يستطيع السباحة‪.‬‬
‫الشيء نفسه ينطبق على الشر وال ّله‪ .‬حتى لو كان الشر دلي ً‬
‫ال على عدم وجود إله‪،‬‬
‫فقد يكون لديك دليل أفضل بكثير لالعتقاد بوجود ال ّله؛ في هذه الحالة‪ ،‬لن يكون من‬
‫المعقول أن تؤمن بأنه ال إله‪.‬‬
‫يقود هذا الخط الفكري بطبيعة الحال إلى بعض األسئلة المهمة ليس أقلها هذه‪:‬‬
‫هل الدليل ل ّله أفضل بكثير من الدليل الذي يقدمه الشر ضد ال ّله؟ ما هي مصادر األدلة‬
‫الموجودة؟ كيف يجب أن نوازن بين األدلة المؤيدة والمعارضة لإليمان بال ّله؟ تم‬
‫تقديم بعض اإلجابات على هذه األسئلة وأسئلة مماثلة في جميع أنحاء هذا الكتاب‬
‫وفي مصادر أخرى‪.34‬‬

‫‪34 William Alston, Perceiving God: the Epistemology of Religious Experience (Ithaca,‬‬
‫‪New York: Cornell University Press, 1991), Keith Yandell, The Epistemology of‬‬
‫‪Religious Experience (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), and Alvin‬‬
‫‪Plantinga, Warranted Christian Belief (Oxford: Oxford University Press, forthcom-‬‬
‫‪ing).‬‬
‫رديانس دراواه لايناد‬ ‫‪350‬‬
‫استنتاج‬
‫في القسم الثاني‪ ،‬ميزت مشكلة الشر العملية عن «مشكلة» الشر النظرية‪ .‬ركزت‬
‫على األخير‪ .‬يشكل الشر مشكلة نظرية حقيقية فقط إذا كانت هناك حجة جيدة من‬
‫الشر‪ .‬ال توجد حجة جيدة من الشر‪ .‬لذا‪ ،‬ال توجد مشكلة نظرية في الشر‪.‬‬
‫ما هي صلة هذا االستنتاج بمهمة الدفاعات؟ عدة‪ ،‬ولكن أبرزها هذا‪ :‬يدعو ال ّله‬
‫الرجال والنساء ليحبوه من كل قلوبهم وروحهم وقوتهم وعقولهم‪ .‬إنها تلك النقطة‬
‫األخيرة التي تبدو بالنسبة للكثيرين داخل الكنيسة وخارجها صعوبة ال يمكن التغلب‬
‫عليها‪ .‬أحب ال ّله من كل عقلك‪ .‬وهنا يأتي دور الدفاعيات‪ .‬علم الدفاع هو إلى حد‬
‫كبير مهمة إزالة العقبات الفكرية أمام محبة ال ّله‪ .‬لقد ظهر الشر والمعاناة دائما على‬
‫أنهما العقبة األكثر إزعاجا‪ .‬وخاتمة هذا الفصل هي أنها‪ ،‬في الواقع‪ ،‬ليست عقبة على‬
‫اإلطالق أمام محبة ال ّله الكاملة‪.35‬‬

‫‪ 35‬أنا ممتن لمؤلفي هذا الكتاب وعدة آخرين للتعليق على المسودات السابقة لهذا الفصل‪ ،‬وخاصة‬
‫تيرينس كونيو‪ ،‬وويليام ديفيس‪ ،‬وماري هوارد‪ ،‬وفرانسيس هوارد‪-‬سنايدر‪ ،‬ونيت كينج‪ ،‬وترينتون‬
‫ميريكس‪ ،‬وجورجيا‪ ،‬وتوم سينور‪ ،‬ومايكل موراي‪ ،‬األخير الذي مارس الفضائل التحريرية بتفوق‪.‬‬
‫شكل تفكيري عن ال ّله والشر في الغالب من قبل ويليام ألستون‪ ،‬وبول درابر‪ ،‬وألفين بالنتينجا‪،‬‬
‫وويليام رو‪ ،‬وبيتر فان إنفاجن‪ ،‬وستيف ويكسترا‪ .‬لكن في هذه المناسبة‪ ،‬أود أن أعرب عن أعمق‬
‫امتناني لستيف‪ .‬عمله في موضوعنا لم ُيثري فهمي لشيء أهتم به بعمق فحسب‪ ،‬بل كان بالنسبة‬
‫لي حبة الرمل التي استخدمها ال ّله لصنع اللؤلؤة غير المكتملة التي هي إيماني‪ .‬أهدي هذا الفصل‬
‫لستيف‪ .‬سأكون مقصرا إذا لم أذكر أنني اعتمدت بشدة على ورقتين من أوراقه‪ ،‬وكالهما تحتاجان‬
‫إلى دراسة متأنية‪:‬‬
‫‪«The Humean Obstacle to Evidential Arguments from Suffering: On Avoiding the‬‬
‫‪Evils of ‘Appearance’,» International Journal for the Philosophy of Religion (1984),‬‬
‫‪collected in The Problem of Evil, and «Rowe’s Noseeum Arguments from Evil,» in‬‬
‫‪The Evidential Argument from Evil.‬‬
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر الديني‬


‫‪1‬‬
‫اليود ستريكالند‬ ‫______________________________________________‬

‫مؤخرا حج ًة مؤيدة لإللحاد بتسمية «مشكلة الشر الديني»‪.‬‬


‫ً‬ ‫طور دانيال كوداج‬
‫الفرضية األولى لهذه الحجة هي أن «اإليمان بال ّله يسبب الشر»‪ .‬على الرغم‬
‫من أن الفكرة القائلة بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر مقبولة على نطاق واسع‪،‬‬
‫وبالتأكيد في الغرب العلماني‪ ،‬فهي إشكالية بما فيه الكفاية بحيث تكون غير‬
‫مناسبة كأساس لحجة اإللحاد‪ ،‬كما يسعى كوداج إلى استعمالها‪ .‬في هذه الورقة‬
‫سوف أسلط الضوء على المشاكل المتأصلة فيها بثالثة طرق‪ :‬من خالل النظر‬
‫فيما إذا كان من المعقول القول بأن «اإليمان بال ّله» يسبب الشر؛ وما إذا كان من‬
‫المنطقي أن نقول أن اإليمان بال ّله يسبب الشر‪ .‬في كل حالة سأناقش إشكالية‬
‫تقديم ادعاءات كهذه‪ ،‬وبنا ًء على ذلك سأخلص إلى أن فرضية «اإليمان بال ّله‬
‫يسبب الشر» أمر غير مقبول كما هو عليه اآلن‪ ،‬وبالنتيجة غير قادرة على إرساء‬
‫حجة كوداج المؤيدة لإللحاد‪.‬‬
‫منذ آالف السنين‪ ،‬غال ًبا ما ُيثار االدعاء بأن المعتقد الديني يسبب الشر‪ ،‬باعتباره‬
‫شكوى ضد الدين من قبل أولئك الذين ليس لديهم تعاطف ديني‪ .2‬ومع ذلك‪ ،‬في‬

‫‪1 Strickland, L. (2018) The problem of religious evil: Does belief in god cause evil?.‬‬
‫‪International Journal of Philosophy Religion, pp.1-14.‬‬
‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جبر‬
‫‪ 2‬انظر على سبيل المثال (‪ ،)Lucretius, 2007, p5,6‬و )‪Russell, 1957,( ،)Hume, 1793, p.42‬‬
‫‪ ،)pxxiv, 38‬و(‪ ،)Hitchens,2007, p26, 223‬و(‪ .)Dawkins, 2006, p.1‬يرى (‪Buijs, 2009,‬‬
‫‪ )p.45‬الوضع بشكل مختلف‪ ،‬إذ يقرأ ‪ ،Lucretius‬و‪ Dawkins ،Russell‬كما تقدم ــ وإن‬
‫كان ذلك بشكل دقيق ــ حجة فعلية لإللحاد‪ ،‬ومحاوالت الستخراج هذه الحجة‪ ،‬التي يسميها‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪352‬‬
‫السنوات األخيرة‪ ،‬بدأ التفكير في االدعاء على أنه أساس حجة مؤيدة لإللحاد‬
‫قادرة على تهديد الكفاية المعيارية لالعتقاد الديني‪ .3‬المثال األهم لهذا الخط من‬
‫التفكير يمكن إيجاده في ورقة دانيال كوداج ‪ ،)2014( Kodaj‬حيث قام بتطوير‬
‫حجة يسميها «مشكلة الشر الديني»‪ ،‬وصاغ الحجة على النحو اآلتي (ص ‪:)248‬‬
‫(‪ )1‬اإليمان بال ّله يسبب الشر‪ ،‬و(‪ )2‬ال ّله ُيدين الشر‪ ،‬و(‪ )3‬كل ما ُيدينه ال ّله هو‬
‫خطأ موضوعي‪ ،‬و(‪ )4‬لذلك‪ ،‬من خالل (‪ ،)3-1‬يؤدي اإليمان بال ّله إلى شيء‬
‫خاطئ بشكل موضوعي‪ ،‬و(‪ )5‬يجب على المؤمنين االمتناع عن القيام بأي شيء‬
‫يسبب خطأ موضوع ًّيا‪ ،‬و(‪ )6‬لذلك‪ ،‬بحلول (‪ ،)5-4‬يجب على المؤمنين االمتناع‬
‫عن اإليمان بال ّله‪.4‬‬
‫ُصور المعتقد اإليماني‬
‫يقول كوداج أن «الحجة تولد هزيمة معيارية لإليمان‪ ،‬وت ِّ‬
‫على أنه دحض ذاتي معياري‪ .‬إذا كانت الحجة سليمة‪ ،‬فإن الشر الديني يجبر المؤمن‬
‫العقالني على التخلي عن إيمانه» (‪ ،2014‬ص ‪ .)428‬يصر كوداج على أن مشكلة الشر‬
‫الديني تختلف عن مشكلة الشر التقليدية حيث أن االستجابات المختلفة التي ُو ِّج َه ْت‬
‫لألخير ــ في شكل دفاعات وثيوديسيات ــ ليست فعال ًة ضدّ األول‪ .‬يسعى إلى إظهار‬
‫ذلك من خالل النظر في عدد من هذه الردود واالستنتاج بأن ال شيء يحل مشكلة الشر‬
‫الديني‪ .‬ربما أولئك الذين يطورون ويؤيدون هذه الدفاعات والثيوديسيات سيرون األمر‬
‫بشكل مختلف‪ ،‬وسيشعرون بأنهم يمتلكون في الواقع الموارد المفاهيمية لمعالجة‬
‫بدل من ذلك‪ ،‬سيكون تركيزي في هذه‬ ‫المشكلة‪ ،‬لكنني لن أشغل نفسي بذلك هنا‪ً .‬‬

‫«الحجة من األذى» من عملهم‪ ،‬ويصوغ الحجة على هذا النحو‪ )1( :‬يلحق أتباع الدين العديد‬
‫من األذى بإخوانهم من البشر‪ ،‬و(‪ )2‬يلحق أتباع الدين مثل هذه األضرار بسبب معتقداتهم‬
‫الدينية‪ ،‬و(‪ )3‬لذلك‪ ،‬الدين ضار برفاهية اإلنسان‪.‬‬
‫‪ 3‬على سبيل المثال‪ ،‬ال نجد أي حجة من الشر الديني في األعمال الحديثة للفلسفة المؤيدة لإللحاد‬
‫مثل (‪ )Le Poidevin, 1996‬أو (‪ ،)Everitt, 2004‬وال شيء من هذا النوع مذكور في (‪Oppy,‬‬
‫‪ )2013‬الذي هو مقال استقصائي للمناقشات الداعمة لإللحاد‪.‬‬
‫‪ 4‬في ورقة الحقة (‪ ،2016‬ص ‪ ،)280‬قدم كوداج صيغة مبسطة للحجة‪ )1( :‬اإليمان بال ّله يسبب‬
‫الشر‪ ،‬و(‪ )2‬إذا كان ال ّله موجو ًدا‪ ،‬فإن ال ّله يريدنا أن نؤمن بال ّله‪ ،‬و(‪ )3‬إذا كان ال ّله موجو ًدا‪ ،‬فإن‬
‫ال ّله ال يريدنا أن نفعل أي شيء يسبب الشر‪ ،‬و(‪ )4‬لذلك‪ ،‬من خالل (‪1‬و‪ ،)3‬إذا كان ال ّله موجو ًدا‪،‬‬
‫فإن ال ّله ال يريدنا أن نؤمن بال ّله‪ ،‬و(‪ )5‬لذلك‪ ،‬من (‪2‬و‪ ،)4‬ال ّله غير موجود‪.‬‬
‫‪353‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫الورقة على الفرضية األولى لحجة كوداج‪ ،‬وهي أن اإليمان بال ّله يسبب الشر‪ .‬على‬
‫خصوصا في الغرب العلماني‪ ،‬إال أنها‬
‫ً‬ ‫الرغم من أن هذه الفكرة وجدت ً‬
‫قبول واس ًعا‪،‬‬
‫إشكالية بما يكفي لتكون غير مناسبة كأساس لحجة اإللحاد‪ ،‬كما يسعى كوداج إلى‬
‫استعمالها‪ .‬في ما يلي سأسلط الضوء على المشاكل المتأصلة فيها بثالثة طرق‪ً :‬‬
‫أول‪،‬‬
‫من خالل النظر فيما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر؛ ثاني ًا‪،‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬بالنظر‬
‫ً‬ ‫بالنظر في ما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر؛‬
‫إلى ما إذا كان من المعقول القول بأن اإليمان بال ّله يسبب الشر‪ .‬في كل حالة‪ ،‬سأناقش‬
‫صعوبة تقديم مثل هذه االدعاءات‪ ،‬وبنا ًء على ذلك سأستنتج أن الفرضية القائلة ّ‬
‫بأن‬
‫«اإليمان بال ّله يسبب الشر» غير مقبولة كما هي‪ ،‬وبالتالي غير قادرة على إثبات حجة‬
‫نظرا للمخاوف التي‬
‫كوداج المؤيدة لإللحاد‪ .‬قبل أن أبدأ‪ ،‬أشعر أنه من الجدير بالذكر‪ً ،‬‬
‫مؤخرا حول التح ُّيز في فلسفة الدين المدرسية من قبل درابر ونيكولز (‪،)2013‬‬
‫ً‬ ‫ُأثيرت‬
‫لدي دافع للدفاع عن أي دين معين أو فرع منه‪ ،‬أو حتى‬
‫أنني ال أدري‪ ،‬وبالتالي ليس ّ‬
‫الدين بشكل عام‪ .‬دافعي ببساطة هو التأكد مما إذا كان لحجة كوداج قوة كافية إلقناع‬
‫المؤمن باالمتناع عن اإليمان بال ّله‪.‬‬

‫اإليمان باهلل يسبب الشر‬


‫من أجل تقييم ما إذا كان من الصحيح أن نقول أن اإليمان بال ّله يسبب الشر‪،‬‬
‫أول ما يعنيه بالضبط من «الشر»‪.‬‬ ‫كما يؤكد كوداج‪ ،‬سيكون من الحكمة أن نفهم ً‬
‫وه األفراد أو المجموعات‬ ‫يعرف الشر بأنه «أفعال أو ممارسات اإلضرار بر ُف ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َّ‬
‫االجتماعية›› (‪ ،2016‬ص ‪ ،)277‬و«الشرور الدينية» مثل تلك الشرور «التي‬
‫ترتكب باسم كائنات فائقة‪ ،‬غال ًبا بموافقة صريحة من الزعماء الدينيين» (‪،2014‬‬
‫ص ‪ .)425‬أمثلة الشرور الدينية هي الحروب الصليبية ومحاكمات الساحرات‪،‬‬
‫وكالهما تم ّيز بالتعذيب والقتل الجماعي وقتل األطفال‪ ،‬وكلها تتم ظاهر ًّيا باسم‬
‫ال ّله‪ .‬بالنسبة لكل المقاصد واألغراض‪ ،‬فإن مفهوم كوداج عن الشر الديني هو‬
‫مرادف للعنف الديني‪ ،‬أي أن العنف الذي يمارس ظاهر ًّيا باسم ال ّله‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالة يمكن استخدام «الشر» و«العنف» كمصطلحات قابلة للتبادل‪( .‬وفي‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪354‬‬
‫الوقت الحاضر سأعاملها على هذا النحو)‪ .‬في الواقع‪ ،‬يوضح كوداج أن تعريفه‬
‫للشر مستفاد من األعمال األخيرة حول العنف الديني‪ ،‬وهو أدب نما بشكل كبير‬
‫في السنوات التي تلت هجمات ‪ 11‬سبتمبر‪ .‬في ضوء هذه األدبيات المزدهرة‬
‫والمجموعة المذهلة من االدعاءات الموجودة فيها‪ ،‬تجدر اإلشارة إلى ما ال‬
‫تقوله الفرضية األولى لحجة كوداج‪ .‬يقول أن «اإليمان بال ّله يسبب الشر»‪ ،‬والذي‬
‫يختلف بشكل ملحوظ عن القول ــ كما فعل البعض ــ أن النصوص الدينية هي‬
‫السبب الجذري للشر (كما في نيلسون بالميير ‪2003‬؛ يونغ ‪ ،2008‬ص ‪،)1‬‬
‫وأن التفكير المروع السائد في العديد من األديان يسبب الشر (كما في وكالة‬
‫االستخبارات األمنية الكندية ‪2002‬؛ جونز ‪ ،2008‬ص ‪ ،)47 ،46‬أو أن الدين‬
‫بشكل عام يسبب الشر (كما في داوكينز ‪ ،2006‬ص ‪306‬؛ ويلمان وتوكونو‬
‫‪ .)2004‬أي شخص على دراية باألدبيات حول هذا الموضوع سيعرف أنه غال ًبا‬
‫ما يتم االستشهاد بها كأسباب للشر الديني‪ ،‬ولكن اإليمان بال ّله ليس كذلك‪.‬‬
‫أن اإليمان بال ّله يسبب الشر فكرة غريبة؛ ذات تأييد علمي‬
‫وبالفعل‪ ،‬فإن فكرة ّ‬
‫قليل أو معدوم‪ .‬تحدد مقالة استطالعية حديثة أجراها (‪ )2014 ،Rowley‬ما ال‬
‫يقل عن ثالثمائة سبب للمساهمة في العنف الديني‪ ،‬وكلها مستمدة من األدبيات‬
‫الضخمة حول هذا الموضوع‪ .‬والجدير بالذكر أن «اإليمان بال ّله» ليس واحدً ا‬
‫مرشحا‬
‫ً‬ ‫نظرا ّ‬
‫ألن مجرد اإليمان بإله ال يبدو في حد ذاته‬ ‫منها‪ .‬هذا ليس مفاج ًئا‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫مقبول لقضية الشر‪ .‬في حاالت نموذج الشر الديني التي يستشهد بها كوداج‪ ،‬أي‬
‫الحروب الصليبية ومحاكمات الساحرات‪ ،‬لم يكن اإليمان بال ّله هو الذي دفع‬
‫مرتكبي العنف إلى التصرف كما فعلوا‪ .‬لجعل أفعالهم واضحة‪ ،‬يجب على الفرد‬
‫أن ينظر إلى ما وراء إيمانهم بال ّله‪ ،‬إلى معتقدات أخرى‪ ،‬مثل (في حالة الحروب‬
‫الصليبية) أن ال ّله أرادهم استعادة األرض المقدسة أو (في حالة المحاكمات‬
‫الساحرة) إلى قتل المشتبه في نبذه‪ .‬لكن هذه المعتقدات المساعدة ال يمكن‬
‫اختزالها في اإليمان بال ّله‪ ،‬وال يمكن استنتاجها منه‪ .‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬عند البحث‬
‫مرشحا مقبوالً‪ .‬الطريقة الوحيدة‬
‫ً‬ ‫عن سبب الشر الديني‪ ،‬فإن اإليمان بال ّله ليس‬
‫لتحقيق ذلك هي استيعاب معتقدات مساعدة مختلفة تحته‪ ،‬فيكون عندما يقال‬
‫‪355‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫قصد هو أن اإليمان بال ّله مع عدد من المعتقدات‬


‫«اإليمان بال ّله يسبب الشر» ما ُي َ‬
‫المساعدة يسبب الشر‪.5‬‬
‫ولكن حتى لو تم تعديلها بالطريقة المقترحة‪ ،‬فإن الفرضية األولى من حجة‬
‫كوداج ال تزال واسعة للغاية‪ .‬كلنا نفترض جيدً ا أن «اإليمان بال ّله» هو اختصار لـ‬
‫«اإليمان بال ّله مع عدد من المعتقدات المساعدة»‪ ،‬لكن هذه المعتقدات المساعدة‬
‫تختلف اختال ًفا ً‬
‫كبيرا بين األديان المختلفة‪ ،‬وحتى بين الفروع والطوائف المختلفة‬
‫من دين معين‪ .‬كما يالحظ كوداج نفسه (‪ ،2016‬ص ‪ ،)278‬هناك فروع للمسيحية‬
‫بطبيعتها داعية سالم؛ كـ«الكنيسة المينونية‪ ،‬الكويكرز‪ ،‬األميش‪ ،‬وكنيسة اإلخوة»‪.6‬‬
‫اإليمان بإله المسيحية‪ ،‬إلى جانب المعتقدات المساعدة لهذه الطوائف‪ ،‬من‬
‫المفترض أنه ال يسبب الشر على اإلطالق‪ .‬ما يعنيه هذا هو أن مشكلة الشر الديني ال‬
‫يمكن أن تعمل كمنكر للتوحيد ككل‪ ،‬كما يفترض كوداج‪ ،‬أو حتى المسيحية‪ ،‬ولكن‬
‫في أفضل األحوال فقط تلك الطوائف التي يرتكب أتباعها الشر نتيجة لمعتقداتهم‬
‫الدينية‪ .‬ال يمكن للحجة‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬أن تشكل أي تهديد لتلك الطوائف التي‬
‫ال تلهم أتباعها الشر من خالل معتقداتهم الدينية‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك‪ ،‬يجب تعديل الفرضية األولى من حجة كوداج بشكل أكبر‪،‬‬
‫بحيث تشير إشارة محددة إلى معتقدات فرع معين أو طائفة من المسيحية (أو دين‬
‫آخر)‪ .‬يقدم هذا درجة أكبر من اإلنصاف في حجة كوداج‪ ،‬حيث ال يمكن وضع‬
‫المسؤولية عن أمثلة مخزونه من الشرور الدينية‪ ،‬أي الحروب الصليبية ومحاكمات‬
‫الساحرات‪ ،‬بشكل معقول على جميع الطوائف المسيحية (حيث لم يكن بعضها‬

‫‪ 5‬يبدو أن هذا يتزامن مع تفكير كوداج نفسه‪ ،‬ألنه يذكر (‪ ،2014‬ص ‪ )427‬أن الشر الديني هو «الشر‬
‫الذي يبدو أنه مدفوع بمعتقدات حول‪ ،‬وتم تبريره صراحة باإلشارة إلى‪ ،‬اإلمالءات المفترضة‬
‫لمبدأ أو كيان فائق‪ .‬من الواضح أن «المعتقدات» المشار إليها هنا تساعد في اإليمان بوجود‬
‫ال ّله‪ ،‬على الرغم من أنه في مشكلة الشر الديني نفسه‪ ،‬فإن اإليمان بال ّله هو فقط المذكور‪ .‬لسوء‬
‫الحظ‪ ،‬ال يحدد كوداج ماهية هذه المعتقدات المساعدة‪ ،‬أو لماذا يجب تعبئتها جن ًبا إلى جنب مع‬
‫اإليمان بوجود ال ّله‪.‬‬
‫أيضا اليانية‪ ،‬التي تمت مالحظتها اللتزامها‬‫‪ 6‬وخارج التقليد المسيحي‪ ،‬يمكن للمرء أن يذكر ً‬
‫العقائدي بالالعنف‪.‬‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪356‬‬
‫متور ًطا في هذه األحداث‪ ،‬وفي الواقع بعضها لم تكن موجودة حتى في األوقات التي‬
‫حدثت فيها هذه األحداث)‪ ،‬ولكن فقط على األحداث المحددة التي تم تضمينها‪،‬‬
‫وهي الكاثوليكية في حالة الحروب الصليبية‪ ،‬والكاثوليكية واللوثرية والكالفينية في‬
‫حالة المحاكمات الساحرة‪ .‬وهكذا في الفرضية األولى‪ ،‬يجب أن يؤخذ «اإليمان بال ّله‬
‫يسبب الشر» ليعني اإليمان بإله الدين ‪( X‬كالمسيحية) وجميع المعتقدات المساعدة‬
‫المرتبطة بالفرع أو الطائفة ‪( Y‬كالكاثوليكية أو اللوثرية أو الكالفينية) تسبب الشر‪ .‬يعني‬
‫هذا التعديل بالطبع أن مشكلة الشر الديني ستكون محدودة النطاق أكثر من حيث أنه‬
‫يمكن أن يهزم طائفة واحدة فقط في كل مرة ً‬
‫(بدل من دين بأكمله‪ ،‬أو دين بشكل عام‪،‬‬
‫كما يفترض كوداج)‪ ،‬ولكن يمكن اعتبار ذلك ثمنًا يستحق دفعه لوضع الحجة على‬
‫أساس أكثر أمانًا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬من المشكوك فيه أن التعديل المقترح للفرضية يضع في الواقع الجدل‬
‫على أساس أكثر أمانًا‪ ،‬ألن الفرضية المعدلة تؤدي إلى مزيد من المشاكل‪ .‬من الواضح‬
‫أكثر‪ ،‬كيف يمكن للمرء أن يحدد المعتقدات المساعدة المرتبطة بطائفة معينة؟ من‬
‫المفترض أن المعتقدات المساعدة المعنية هي المعتقدات الرسمية لهذه الفئة‪ ،‬ألن هذا‬
‫هو كل ما يمكن تحمله بشكل معقول‪ .‬لتحديد ما هي هذه المعتقدات‪ ،‬البداية الجيدة‬
‫هي النظر إلى التعليم المسيحي لطائفة معينة‪ ،‬ألن هذا ينص على ما يعتقده أتباع الطائفة‬
‫«رسمي ًا»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا تم اعتبار كل من المعتقدات المساعدة لطائفة معينة هي فقط‬
‫تلك التي ورد ذكرها في هذا التعليم‪ ،‬فإن حجة كوداج ستكافح من أجل االبتعاد عن‬
‫األرض‪ ،‬حيث أن هذا التعليم ال يتضمن عاد ًة تلك المعتقدات التي غال ًبا ما يعتقد أنها‬
‫تسبب الشر‪ .‬التعليم الكاثوليكي‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ال يقول شي ًئا عن القيام بالحمالت‬
‫الصليبية‪ ،‬أو تشريد المسلمين من األرض المقدسة‪ ،‬أو استصواب قتل الكفار‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫سيكون من الصعب جدً ا تقديم قضية مقنعة بأن «اإليمان بإله المسيحية والمعتقدات‬
‫المساعدة الموجودة في التعليم الكاثوليكي» تسبب أنواع الشر التي ُيعتقد أحيانًا أن‬
‫الكاثوليكية مسؤولة عنها‪ .‬بالطبع‪ ،‬التعليم الكاثوليكي ال يستنفد المعتقدات الرسمية‬
‫للكاثوليكية‪ ،‬وينطبق الشيء نفسه على الطوائف األخرى‪ .‬كما تشكل تصريحات‬
‫الزعماء الدينيين المعتقدات التي ُيتوقع من أتباع طائفة معينة االلتزام بها‪ .‬لذا إذا أردنا‬
‫‪357‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫تحديد جميع المعتقدات المساعدة للكاثوليك‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬فسوف نحتاج إلى‬
‫أيضا‪.‬‬
‫تجاوز تلك المحددة في التعليم المسيحي‪ ،‬والنظر في تلك التي يروج لها البابا ً‬
‫ولكن هذا أيض ًا يمثل مشكلة‪ ،‬ألنه في هذه الحالة لن تكون هناك مجموعة مستقرة من‬
‫المعتقدات المساعدة «الرسمية» للكاثوليكية‪ .‬لمعرفة سبب ذلك‪ ،‬ضع في اعتبارك أنه‬
‫في عام ‪ 1095‬اعتقد البابا أوربان الثاني أن الحج المسلح إلى األرض المقدسة (أي‬
‫الحملة الصليبية األولى) كان وف ًقا للمبادئ الكاثوليكية‪ ،‬وفي عام ‪ 2000‬اعتقد البابا‬
‫يوحنا بولس الثاني أن الحروب الصليبية كانت «خيانة لإلنجيل»‪ ،‬واحد من العديد من‬
‫األشخاص الذين حددهم على أنهم ارتكبوا في الماضي من قبل أولئك الذين ينتمون‬
‫إلى كنيسته والذي طلب العفو عنه (مقتبس في ستانلي ‪ .)2000‬إذا أردنا صياغة الفرضية‬
‫األولى لمشكلة الشر الديني على أنها تشير إلى الكاثوليكية‪ ،‬بحيث تُقرأ «اإليمان بإله‬
‫المسيحية وكل المعتقدات المساعدة المرتبطة بالكاثوليكية»‪ ،‬التي يجب أن تكون‬
‫مجموعتنا من المعتقدات المساعدة يعتبرون ممثلين للكاثوليكية‪ :‬أمثال أوربان الثاني‬
‫أم يوحنا بولس الثاني؟ ال شك أنها ستناسب حجة كوداج الختيار األولى (على أساس‬
‫أن المعتقدات المساعدة ألوربان أدت إلى الشر)‪ ،‬ولكن القيام بذلك سيتجاهل حقيقة‬
‫أن المعتقدات المساعدة للطائفة يمكن أن تتغير وتتغير بمرور الوقت‪ ،‬في هذه الحالة‪،‬‬
‫انعكاسا أفضل لوجهات النظر الكاثوليكية المعاصرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫سيكون رأي يوحنا بولس الثاني‬
‫في الواقع‪ ،‬سيكون من غير العدل تضمين وجهات نظر أوربان حول الحملة الصليبية‬
‫في المعتقدات المساعدة «الرسمية» للكاثوليكية ليس فقط ألنها لم تعد مقبولة‪ ،‬ولكن‬
‫ألنه تم التنصل منها الح ًقا‪ ،‬ليس فقط من قبل البابا يوحنا بولس الثاني (الذي يبدو أنه‬
‫وصف العنف المسيحي في الحروب الصليبية بأنه خطايا)‪ ،7‬ولكن أيض ًا من قبل البابا‬
‫بنديكت‪ ،‬الذي عبر عن خجله من عنف الماضي الذي ارتكبه المسيحيون باسم ال ّله‪،‬‬
‫واص ًفا إياه بأنه «إساءة لإليمان المسيحي‪ ،‬وهو يناقض بشكل واضح طبيعتها الحقيقية»‬
‫(مقتبسة في ‪ .)Pullella 2011‬فيما يتعلق بمشكلة الشر الديني‪ ،‬ال يوجد شيء إليقاف‬
‫مناهض الالهوت الذي يعتمد االفتراض األول من أن يقرأ ‹›اإليمان بإله المسيحية‬
‫وجميع المعتقدات المساعدة المرتبطة بالكاثوليكية›› حيث المعتقدات المساعدة هي‬

‫‪ 7‬انظر (ستانلي‪.)2000 ،‬‬


‫الكيرتس دويال‬ ‫‪358‬‬
‫معتقدات أوربان وأتباعه‪ ،‬ولكن كل هذا يساعدها على هزيمة رؤية أوربان للكاثوليكية‪،‬‬
‫وليس الكاثوليكية اليوم‪ .‬وغني عن القول‪ ،‬إن هزيمة نسخة من الكاثوليكية التي لم‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫إنجازا ً‬
‫ً‬ ‫يؤيدها أحد اليوم‪ ،‬والتي تم التنصل منها في الواقع‪ ،‬ليس‬
‫ما يوحي به هذا هو أن مشكلة الشر الديني لن تكون قادرة على هزيمة أي دين أو طائفة‬
‫ما لم يكن ارتكاب أعمال عنيفة‪ ،‬أي القيام بأعمال شريرة‪ ،‬هو أحد معتقداتها الرسمية‪.‬‬
‫فيما يتعلق بالمسيحية (التي تركز عليها كوداج)‪ ،‬ال يمكنني التفكير في أي طائفة تحمل‬
‫هذا الواقع‪ .‬هذا ال ينفي أنه قد يكون هناك أتباع لطوائف معينة تؤدي معتقداتهم الدينية‬
‫إلى ارتكاب الشر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عندما تكون هناك مثل هذه الحاالت‪ ،‬يحتاج المرء إلى‬
‫تحديد ما إذا كانت المعتقدات التي تسبب الشر هي المعتقدات الرسمية للطائفة أم ال‪.‬‬
‫إذا لم تكن كذلك‪ ،‬فال يمكن القول بشكل معقول أن معتقدات تلك الطائفة تسبب‬
‫الشر‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يمكن استخدام مشكلة الشر الديني إللحاق الهزيمة بالطائفة‬
‫المعنية‪ .‬بالطبع إذا استطاع المرء إظهار أن المعتقدات الدينية غير الرسمية أو الفاسدة‬
‫لواحد أو أكثر من أتباعه تسببت في الشر‪ ،‬فيمكن للمرء أن يستخدم مشكلة الشر الديني‬
‫إللحاق الهزيمة بأشكال الدين الفاسدة‪ .‬ولكن من المحتمل أن يكون غير فعال ضد‬
‫العديد من (أو معظم) أشكال الدين غير الفاسدة‪ ،‬بالنظر إلى أن معتقداتهم الرسمية ال‬
‫تشجع الشر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬حتى لو كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفعله مشكلة كوداج‬
‫للشر الديني هو التخلص من األشكال المفسدة من األديان‪ ،‬فمن الواضح أنه سيكون‬
‫له بعض القيمة‪ .‬لكن ما إذا كان بإمكانه أداء حتى هذا الدور المحدود سيعتمد على ما‬
‫إذا كان من الصحيح القول أن المعتقدات الدينية (الرسمية أو غير ذلك) تسبب الشر‪،‬‬
‫كما تؤكد فرضيته األولى‪ .‬ننتقل اآلن إلى هذا السؤال‪.‬‬

‫المعتقد الديني والشر‬


‫االدعاء بأن هناك صلة سببية بين المعتقد الديني والشر هو أمر قديم‪ ،‬ولكن على‬
‫الرغم من أنه غالب ًا ما يكون من المشكوك فيه أن أولئك الذين يجعلونه في الواقع‬
‫ينوون أن يتم أخذه حرف ًّيا‪ ،‬األمر الذي قد ينطوي على استثمار المعتقدات مع قوة سببية‬
‫بدل من ذلك‪ ،‬يفترض أنها تعني أن المعتقدات تسبب الشر بمعنى‬ ‫حقيقية خاصة‪ً .‬‬
‫‪359‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫أن المعتقدات تحفز الفاعلين على القيام باألفعال الشريرة‪ .‬في ما يلي‪ ،‬سأستمر في‬
‫الحديث عن المعتقدات التي تسبب الشر أو ال تسببه‪ ،‬سواء كانت هذه اللغة التي يتم‬
‫أيضا إلى أن المعتقدات‬
‫فيها الجدل حول العنف الديني أفضل أو أسوأ‪ ،‬لكنني سأشير ً‬
‫هي الدافع للشر‪ ،‬وسأستعمل المصطلحين «سبب» و«دافع» بالتبادل‪ ،‬دون أن يمس‬
‫ذلك بجوهر النقاط التي أرغب في إثارتها‪.8‬‬
‫وغني عن القول‪ ،‬يبقى من المثير للجدل أن ندعي أن المعتقد الديني يسبب الشر حتى‬
‫بمعنى أنه «دوافع» الشر‪ .‬وقد اقترح عدد من العلماء أن مناهضي الالهوت يستعجلون‬
‫إلقاء اللوم فيما يخص الشر الديني على الدين‪ ،‬وبذلك يتجاهلون عوامل أخرى‪ .‬على‬
‫سبيل المثال‪ ،‬يكتب غاري كيوغ (‪ ،2015‬ص ‪« :)741‬يبدأ دوكينز كتابه‪ :‬وهم اإلله‪...‬‬
‫من خالل اإلشارة إلى أن أحداث ‪ 11‬سبتمبر ما كانت لتحدث أبدً ا لوال الدين‪ ،‬عبارة‬
‫مبسطة بشكل مفرط تتجاهل التاريخ السياسي المعقد بين الواليات المتحدة والشرق‬
‫األوسط»‪ .9‬ال يسعى كيوغ إلى إنكار أن المعتقد الديني هو عامل سببي أو دافعي في‬
‫الشر الديني؛ هو ينكر فقط أنه العامل الوحيد (أو حتى العامل الرئيسي)‪ .‬في اقتراحه‪،‬‬
‫يضغط على وريد من الفكر العلمي الذي يحدد الشر الديني ــ سواء في العالم الحديث‬
‫أو ما قبل الحداثي ــ نتيجة للتفاعل المعقد للعوامل السياسية واالقتصادية واالجتماعية‬
‫والعرقية والقومية والدينية‪ .10‬وهناك من يدّ عون أنه ال يمكن أن يكون األمر خالف‬
‫ذلك‪ .‬جادل سميث (‪ ،1962‬ص ‪ )19 ،18‬وكافانو (‪ ،2009‬ص ‪ ،)69-64‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬بأن فكرة الدين كمجموعة من المعتقدات أو الممارسات منفصلة عن السياسة‬
‫والثقافة ومجاالت الحياة األخرى هي فكرة ابتكرها الغرب‪ ،‬وفي زمن حديث نسب ًّيا‬
‫(تشكلت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر)‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن «الدين» كما نفهمه‬
‫في الغرب اليوم‪ ،‬كظاهرة متميزة عن المساعي العلمانية مثل السياسة‪ ،‬لم تكن موجودة‬

‫‪ 8‬إن القضية األساسية‪ ،‬على ما أظن‪ ،‬هي ما إذا كان االعتقاد الديني يمكن أن يكون متور ًطا بشكل ُم ْج ٍد‬
‫في ارتكاب الشر‪ ،‬وبالتأكيد سيكون ما إذا كان يعمل كسبب أو دافع‪.‬‬
‫‪ 9‬من أجل رؤية مشابهة‪ ،‬انظر (شورت‪.)2016 ،‬‬
‫‪ 10‬على سبيل المثال‪ ،‬كتب (سيالنجوت‪ ،2011 ،‬ص‪« :)94‬تتشابك بعض حاالت العنف الديني‬
‫مع العناصر الثقافية والسياسية والحضارية لدرجة أنها‪ ،‬من جذورها‪ ،‬دينية وثقافية»‪ .‬وانظر كذلك‬
‫(القرطبي‪.)2016 ،‬‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪360‬‬
‫ببساطة في الغرب ما قبل الحداثة‪ ،‬وال توجد اآلن في أجزاء أخرى كثيرة من العالم‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬لن يكون من المنطقي إلقاء اللوم عن الشر الديني على أعتاب المعتقد‬
‫الديني وحده‪.‬‬
‫هناك آخرون يذهبون إلى أبعد من ذلك‪ ،‬ويجادلون بأن الشر الديني له أسباب سياسية‬
‫فقط‪ ،‬وبالتالي فإن العقيدة الدينية ليست هي المسؤولة على اإلطالق‪ .‬فقد جادل العديد‬
‫من العلماء في أن الهجمات اإلرهابية‪ ،‬إلى جانب حاالت أخرى من الشر الديني‪ ،‬لها‬
‫دوافع سياسية في األساس‪ .11‬روبرت بيب‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬بعد التحقيق في أكثر من‬
‫ثالثمائة هجوم إرهابي انتحاري‪ ،‬يدعي أن اإلرهاب االنتحاري يرتبط بالحركات القومية‬
‫ضد االحتالل األجنبي واالضطهاد ً‬
‫بدل من األصولية الدينية‪ ،‬كما يعتقد الناس‪:‬‬
‫تظهر البيانات أنه ال توجد صلة تذكر بين اإلرهاب االنتحاري واألصولية اإلسالمية‪،‬‬
‫أو أي من أديان العالم‪ .‬في الواقع‪ ،‬إن المحرضين الرئيسيين على الهجمات االنتحارية‬
‫هم نمور التاميل في سريالنكا‪ ،‬وهي مجموعة ماركسية لينينية ينتمي أفرادها إلى‬
‫عائالت هندوسية ولكنهم يعارضون بشدة الدين‪ ...‬الهدف العلماني واالستراتيجي‪:‬‬
‫إجبار الديمقراطيات الحديثة على سحب القوات العسكرية من األراضي التي يعتبرها‬
‫اإلرهابيون وطنهم (‪ ،2005‬ص‪.)4‬‬
‫أيضا‬
‫يطبق بيب هذا التحليل ليس فقط على قادة المنظمات اإلرهابية‪ ،‬ولكن ً‬
‫على أولئك الذين يقومون بمهام انتحارية بأنفسهم‪ .‬فيشير (‪ ،2005‬ص ‪ )173‬إلى أن‬
‫اإلرهابيين االنتحاريين يتصرفون بدوافع اإليثار‪ ،‬لخدمة مصالح مجتمعهم أو أمتهم‪،‬‬
‫و«قبول المهمة مثل الجندي الذي يقبل مهمة انتحارية في الحرب االعتيادية»‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من أنه ال يستخدم العبارة بنفسه‪ ،‬إال أن تحليل بيب يشير إلى أن اإلرهاب‬
‫االنتحاري يتم عادة بحجة الدين وليس بسبب الدين‪ ،‬على الرغم مما يقوله األبطال‪.‬‬

‫عرف عادة‬
‫‪ 11‬انظر على سبيل المثال (غودن‪ ،2006 ،‬ص‪ .)42-45‬وتجدر اإلشارة إلى أن اإلرهاب ُي ّ‬
‫بأنه عمل سياسي وليس ديني‪ .‬يكشف كتالوج يضم أكثر من ‪ 250‬تعري ًفا لإلرهاب أن نسبة ضئيلة‬
‫جدً ا من هؤالء (أقل من ‪ )٪5‬تعتبر المعتقد الديني سب ًبا لإلرهاب‪ ،‬حيث تعتبر الغالبية العظمى أن‬
‫بدل من الظاهرة الدينية‪ .‬في الواقع‪ ،‬في تصنيف‬‫أساسا‪ ،‬الظاهرة السياسية ً‬
‫اإلرهاب هو اجتماعي ً‬
‫اإلرهاب األكثر استخدا ًما (مارسدن وشميد ‪ ،2011‬ص‪ُ ،)171‬يعتبر اإلرهاب الديني أحد أنواع‬
‫اإلرهاب السياسي‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫يدعي آخرون أن المعتقد الديني ليس هو نفسه سبب العنف الديني‪ ،‬ولكن ً‬
‫بدل‬
‫دورا مختل ًفا (وإن كان ال يزال إشكال ًّيا)‪ .‬يقول مارك يورجنسماير‪،‬‬
‫من ذلك يلعب ً‬
‫على سبيل المثال‪ ،2006( ،‬ص ‪ )141‬أن أولئك المنخرطين في العنف الديني غال ًبا‬
‫ما يعتبرون أنفسهم فاعلين في حرب كونية‪ ،‬مع أفعالهم التي تتم الموافقة عليها إله ًّيا‪،‬‬
‫على الرغم من أن ما يكمن وراء العنف ــ السبب الجذري ــ عوامل سياسية واقتصادية‬
‫واجتماعية أكثر دنيوية مثل «اإلحساس باالغتراب والتهميش واإلحباط االجتماعي»‪.‬‬
‫من خالل التضحية بسببهم الدنيوي‪ ،‬فإن مرتكبي العنف الديني يضعون «صور ًا للصراع‬
‫اإللهي ــ الحرب الكونية ــ في خدمة المعارك السياسية الدنيوية›› (‪ ،2006‬ص ‪.)141‬‬
‫يجادل يورجنسماير بأن الدين ال يسبب العنف بأي معنى طبيعي للمصطلح‪ ،‬ولكن‬
‫حقيقة أنه يتم استدعاؤه من قبل األبطال ال يزال يعمل على تعقيد الوضع بشكل كبير‪،‬‬
‫ألنه يوفر الموارد إلضفاء الشرعية على األعمال العنيفة وتبريرها ويجعل التسوية أقل‬
‫ً‬
‫احتمال‪.12‬‬
‫يمكننا تقسيم ما سبق إلى أربع طرق متميزة لفهم العالقة بين المعتقد الديني والشر‬
‫الديني‪( :13‬أ) المعتقد الديني هو سبب الشر‪ ،‬و(ب) المعتقد الديني هو سبب جزئي أو‬
‫مساعد للشر‪ ،‬وال يؤدي وجوده إلى الشر إال باالشتراك مع مكونات أخرى (كيوغ)‪،‬‬
‫و(ج) المعتقد الديني هو الوسيط للسبب الحقيقي للشر‪ ،‬يتفاعل مع السبب الحقيقي‬
‫بطريقة تغير التأثير (يورجنسماير)‪ ،‬و(د) ال يلعب المعتقد الديني أي دور سببي في‬
‫الشر (بيب)‪.‬‬
‫أفترض أنه عند صياغة الفرضية األولى لمشكلته عن الشر الديني‪ ،‬كان كوداج يفكر‬
‫في العالقة بين المعتقدات الدينية والشر على غرار (أ)؛ مالحظته (‪ ،2016‬ص ‪)278‬‬
‫أن «العنف يبدو متوطنًا للدين‪ ،‬بمعنى أن التقاليد والنصوص الدينية تلهم العنف بانتظام‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وبفعالية كبيرة»‪ ،‬يبدو أنه يشير إلى ذلك ً‬

‫‪ 12‬في سياق مماثل‪ ،‬يدعي كيث وارد (‪ ،2006‬ص ‪ )81‬أن األسباب الجذرية للصراع اإلسرائيلي‬
‫الفلسطيني هي اجتماعية وسياسية‪ ،‬لكن الدين «يغذي الصراع» ألنه يستخدم «عالمة على هوية‪’’.‬‬
‫‪ 13‬في ما يلي‪ ،‬أستخدم المصطلحات واألوصاف (سبب العطف‪ ،‬الوسيط) من) ستيرنبيرغ والين‬
‫وستيرنبيرغ‪ ،2011 ،‬ص‪.)180-190‬‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪362‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬قد يعني الخيار (أ) أشياء مختلفة كثيرة‪ ،‬على سبيل المثال أن المعتقد‬
‫الديني هو سبب ضروري للشر‪ ،‬أو سبب كاف‪ ،‬أو سبب وحيد (أي ضروري وكاف‬
‫على حد سواء)‪ .14‬ال يقول كوداج ما يكفي لنتمكن من التحقق عن أي من هذه األشياء‬
‫يعكس تفكيره بشكل أفضل‪ ،‬على الرغم من أن هذا ال يهم في النهاية حيث أن كل‬
‫الطرق الثالثة لفهم (أ) يمكن أن تُر َفض‪ً .‬‬
‫أول‪ ،‬إذا كان المعتقد الديني سب ًبا ضرور ًّيا‬
‫للشر الديني‪ ،‬فلن يحدث الشر الديني بدون المعتقد الديني‪ .‬لكن حقيقة أن الشر ُيرتكَب‬
‫ظاهر ًّيا باسم ال ّله ال يعني أن المعتقد الديني كان وراءه‪ ،‬حيث يمكن استخدام الدين‬
‫كذريعة للعنف‪ ،‬كما الحظ الكثيرون‪ .15‬وبالتالي‪ ،‬ال يمكن أن يكون المعتقد الديني‬
‫سب ًبا ضرور ًّيا للشر الديني‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬إذا كان المعتقد الديني سب ًبا كاف ًيا للشر‪ ،‬فإن المعتقد‬
‫الديني سيضمن حدوث الشر‪ .‬ولكن يمكن رفض ذلك على أسس تجريبية‪ ،‬ببساطة من‬
‫خالل مالحظة أن هناك (وكان) العديد من األشخاص ذوي المعتقدات اإليمانية الذين‬
‫صرح أسد‬ ‫لم يشاركوا في مثل هذه الممارسات التي يصفها كوداج بأنها شريرة‪ .‬كما ّ‬
‫(‪ ،2003‬ص ‪ ،)10‬بقوله «ال يحتاج المرء إال أن ُي َذكِّر نفسه بالحقيقة المبتذلة القائلة‬
‫بأن عد ًدا ال ُيحصى من المسلمين واليهود والمسيحيين يقرؤون كتبهم المقدسة دون‬
‫أن تهيمن عليهم الحاجة إلى قتل غير المؤمنين»‪ .‬لذا ال يمكن أن يكون المعتقد الديني‬
‫وأخيرا‪ ،‬إذا كان المعتقد الديني هو السبب الوحيد للشر‪ ،‬فلن تكون‬
‫ً‬ ‫سب ًبا كافي ًا للشر‪.‬‬
‫هناك عوامل أخرى‪ .‬ولكن يمكن رفض ذلك على أساس عدم قابلية التطبيق المطلق‪:‬‬
‫القول أنه لم تكن هناك عوامل سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو قومية في الشر غال ًبا‬
‫ما توصف بأنها «دينية» (مثل االضطرابات في أيرلندا الشمالية وصراع اإلسرائيليين‬
‫والفلسطينيين أو الحرب البوسنية) هو ببساطة خيالي بحيث ال يمكن أخذه بجدية‪.16‬‬

‫‪ 14‬أذكر القارئ مرة أخرى أن «السبب» قد ُيفهم هنا بمعنى «الدافع» أو «العامل الدافعي»‪.‬‬
‫‪ 15‬على سبيل المثال‪ ،‬رئيس أساقفة كانتربري‪ ،‬ويلبي (‪ ،)2016‬وحتى هاريس (‪ ،2005‬ص ‪.)137‬‬
‫‪ 16‬طريقة أخرى لهزيمة االدعاء بأن المعتقد الديني هو السبب الوحيد للشر هو االعتراف‪ ،‬على حد تعبير‬
‫أرمسترونغ (‪ ،2014‬ص ‪ ،)359‬بأن «المعتقدات والممارسات المتطابقة ألهمت مسارات العمل‬
‫المتعارضة تمام ًا»‪.‬تالحظ‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬أن «في الكتاب المقدس العبري يتأمل المؤلفون‬
‫الكهنوتيون في نفس القصص‪ ،‬لكن علماء التثنية انقلبوا بشدة على الشعوب األجنبية‪ ،‬في حين سعى‬
‫المؤلفون الكهنوتيون إلى المصالحة‪ ...‬انعكس كتاب القديس لوقا والكاتب جوهانين على رسالة‬
‫محبة يسوع‪ ،‬لكن لوقا تواصل مع األفراد المهمشين في المجتمع‪ ،‬بينما يقتصر الجوهانين حبهم‬
‫‪363‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫بالنتيجة‪ ،‬على الرغم من أنه الشائع في األدبيات اإللحادية الجدلية ووسائل اإلعالم‬
‫الغربية‪ ،17‬فإنه ال يمكن التصديق باالدعاء أن المعتقدات الدينية تسبب الشر‪ ،‬سواء‬
‫أخذنا «السبب» بمعنى السبب الضروري أو السبب الكافي أو السبب الوحيد‪.‬‬
‫هذا يعني أنه عندما يحدث مثل هذا الشر‪ ،‬يجب أن يكون الدين إما سبب ًا جزئي ًا‬
‫أو مشارك ًا (الخيار ب أعاله)‪ ،‬أو متوسط ًا (ج)‪ ،‬أو ليس له دور سببي على اإلطالق‬
‫(د)‪ .‬أنا أفترض أنه إذا كان (ب) هو المقصود‪ ،‬فسيظل من الصحيح تقن ًّيا أن نقول‬
‫أن المعتقد الديني يسبب الشر‪ ،‬وتُعاد صياغة الفرضية األولى في حجة كوداج لتكون‬
‫أن «المعتقد الديني هو جزء من أو سبب المساهم في الشر»‪ .‬هذا يصدمني بما يكفي‬
‫لمشكلة الشر الديني للعمل بالطريقة التي قصدها كوداج‪ ،‬كمنكر ألشكال معينة من‬
‫نظرا ألن مشكلته المتعلقة بالشر الديني تتوقف على‬ ‫المعتقدات الدينية‪ .‬ومع ذلك‪ً ،‬‬
‫المعتقدات الدينية المسببة للشر‪ ،‬فإنه قد يبدو ً‬
‫فاشل تما ًما إذا كان أي من الخيارين (ج)‬
‫و(د) يصفان العالقة بين الدين والشر بشكل أفضل‪ ،‬فضمن هذين الخيارين لن يكون‬
‫من الصحيح القول أن المعتقد الديني يسبب الشر‪.18‬‬
‫وبالتالي فإن النجاح أو الفشل المحتمل لمشكلة الشر الديني يعتمد على ما إذا‬
‫كان الخيار ب أو ج أو د هو الطريقة األكثر معقولية لوصف العالقة بين المعتقد الديني‬
‫والشر‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬هذا ليس شي ًئا يمكن للفيلسوف الحكم عليه بسهولة‪ ،‬ألنه ليس‬
‫مسألة فلسفية؛ في نهاية المطاف هو شيء على عالم االجتماع وعالم األنثروبولوجيا‬
‫والعالم السياسي أن يقرره‪ ،‬وكما رأينا ال يوجد إجماع بينهم حول ذلك‪ .‬لكن الحظ أنه‬

‫على مجموعتهم الخاصة»‪ .‬وهذا يشير إلى أن المعتقدات وحدها ال يمكن أن تكون سبب الشر‪ ،‬وأن‬
‫المرء يحتاج إلى النظر في عوامل أخرى (مثل الظروف السياسية واالقتصادية السائدة‪ ،‬ووجود أو‬
‫غياب التهديدات الخارجية وعلم النفس الفردي وما إلى ذلك) لتوضيح سبب حدوثها عند حدوثه‪.‬‬
‫‪ 17‬على وسائل اإلعالم الغربية في الغالب تمثيل و‪/‬أو تصوير غير مفصل للعنف المستوحى من الدين‪،‬‬
‫انظر ميتشل (‪.)2011‬‬
‫‪ 18‬بالطبع قد يكون الوضع أكثر تعقيدً ا من هذا‪ :‬قد يكون من المناسب وصف بعض حاالت الشر‬
‫الديني بشكل مناسب تحت (ب)‪ ،‬وبعضها تحت (ج)‪ ،‬وبعضها تحت (د)‪ .‬سيلينجوت (‪،2011‬‬
‫ص ‪ )92‬مصيب في هذا االتجاه عندما يجادل بأنه في حين أن بعض العنف الديني له جذوره في‬
‫بدل من ذلك هو نتاج ادعاءات سياسية أو أيديولوجية يتم‬‫المعتقد الديني‪ ،‬والبعض اآلخر ال‪ً ،‬‬
‫إعطاؤها الغطاء الديني من أجل زيادة شرعيتها‪.‬‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪364‬‬
‫ليست المشكلة مجرد وجود الخالف‪ ،‬بل حجمه‪ .‬الوضع هكذا‪ :‬يدعي بعض الناس‬
‫أن اإليمان بال ّله يسبب الشر‪ .‬يقع عب ُء اإلثبات بشكل مباشر على أولئك الذين يدعون‬
‫مثل هذا االدعاء‪ .‬فكيف يثبتون ذلك؟ يمكنهم محاولة تبرير مثل هذا االدعاء باإلشارة‬
‫إلى عمل علماء االجتماع وعلماء األنثروبولوجيا وعلماء السياسة‪ ،‬الذي هو مجالهم‪،‬‬
‫ولكن عمل علماء االجتماع وعلماء األنثروبولوجيا وعلماء السياسة ال يدعم بشكل ال‬
‫لبس فيه االدعاء الذي يرغبون في تقديمه؛ في الواقع‪ ،‬يشير الكثير منها بعيدً ا عن هذا‬
‫االدعاء‪ .‬لذلك‪ ،‬في غياب أي دليل آخر‪ ،‬فإن االدعاء غير آمن‪.‬‬
‫هذا تعقيد كبير بالنسبة لعلماء الالهوت الذين سيستخدمون مشكلة الشر الديني‬
‫لهزيمة األديان والطوائف المختلفة‪ ،‬ألنها تجعل الفرضية األولى للحجة «اإليمان بال ّله‬
‫أساسا آمنًا بشكل خاص يمكن‬ ‫ً‬ ‫أن هذه ليست‬‫يسبب الشر» غير مؤكدة تما ًما‪ ،‬وكما ّ‬
‫أن تبني عليه بقية الجدل‪ .‬ما لم يتم حل المسألة المتعلقة بالعالقة بين المعتقد الديني‬
‫والشر‪ ،‬ومعقولية (أو خالف ذلك) الفرضية األولى من حجة كوداج‪ ،‬يتم اختزال حجته‬
‫إلى كونها افتراضية في طبيعتها‪ .‬أي أنه يقول بشكل فعال‪ :‬إذا كان المعتقد الديني يسبب‬
‫الشر‪ ،‬فعندئذ (وف ًقا للمباني المتبقية) يجب على المرء أن يمتنع عن المعتقد الديني‪.‬‬
‫لكن بالطبع مثل هذه الحجة التي أعيد تشكيلها لن تكون معاقبة معرفية أو معيارية ألي‬
‫ساللة من المعتقدات الدينية‪ ،‬الرسمية أو غير ذلك‪.19‬‬

‫‪ 19‬ومن الجدير بالذكر ما يقوله كوداج ر ًدا على من يزعمون أن اإليمان بال ّله ليس سبب ًا للشر‪ .‬إذ يشير‬
‫صحيحا‪ ،‬فيجب أن يكون هذا هو السبب في أن اإليمان بال ّله ال‬‫ً‬ ‫إلى أنه إذا كان مثل هذا اال ّدعاء‬
‫يمنع الناس من ارتكاب الشرور الرهيبة‪ ،‬التي يصفها كوداج بأنها «هازم معرفي لإليمان›› على‬
‫أساسها الخاص‪ ،‬على أساس أنه «يلقي بظالل من الشك على قوة اإليمان لتحفيز السلوك الخاطئ»‬
‫(‪ ،2014‬ص ‪ .)430‬من غير الواضح ما إذا كان كوداج يعتقد أن المعتقدات الدينية الصحيحة يجب‬
‫أن يكون لها نوع من السيطرة السحرية على المؤمنين‪ ،‬مما يضمن عدم ارتكابهم خطأ‪ ،‬أو ما إذا كانت‬
‫المعتقدات الدينية الصحيحة يجب أن تحفز المؤمنين ببساطة على الخطيئة من خالل العمليات‬
‫النفسية العادية‪ .‬في كلتا الحالتين‪ ،‬يبدو أن كوداج يفترض أن المعتقدات الدينية يجب أن تكون سب ًبا‬
‫كاف ًيا لألعمال الصالحة‪ ،‬وحقيقة أنها ال تنعكس سل ًبا على الدين‪ .‬لكن يبدو أن هذا ا ّدعاء غريب‪،‬‬
‫حيث أن العديد من األديان نفسها تفترض أن اإليمان ال يمكن أو ال يحفز السلوك الخاطئ‪ ،‬وحتى‬
‫بناء هذا االفتراض في ممارساتها‪ .‬جميع الديانات اإلبراهيمية لديها إجراءات محددة للخطاة للتوبة‬
‫واالستغفار‪ ،‬إما من خالل مناشدة مباشرة ل ّله أو من خالل وسيط معين‪ .‬ستكون هذه الممارسات‬
‫زائدة عن الحاجة تما ًما إذا تم االعتقاد بأن لديها نوع القوة التي يعتقد كوداج أنها يجب أن تكون‪ .‬في‬
‫‪365‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫مفهوم كوداج حول الشر الديني‬


‫ننتقل اآلن إلى المشكلة الثالثة واألخيرة في االدعاء بأن «اإليمان بال ّله يسبب الشر»‪،‬‬
‫يعرف كوداج‬‫هذه القضية المتعلقة بمفهوم الشر الذي يستخدمه كوداج‪ .‬كما رأينا‪ّ ،‬‬
‫الشرور بأنها أفعال أو ممارسات تؤدي إلى األذى‪ ،‬والشرور الدينية كتلك الشرور‬
‫المرتكبة باسم ال ّله‪ .‬ظاهر ًّيا‪ ،‬يبدو أن الجزء األقل إثارة للجدل من فكرة أن «اإليمان‬
‫بال ّله يسبب الشر» هو أن بعض المؤمنين في الواقع يفعلون الشر (بمعنى التسبب في‬
‫ضرر)‪ ،‬ويفعل ذلك ظاهريا باسم ال ّله‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الفحص الدقيق لمفهوم كوداج‬
‫عن الشر سيكشف عن أوجه القصور‪.‬‬
‫يقول كوداج (‪ ،2016‬ص‪ )277‬أن سبب تبنيه لما يصفه بـ «مفهومه الليبرالي نسبي ًا»‬
‫للشر هو «براغماتي بحت؛ فهو يغطي الحاالت التي يتم االستشهاد بها بشكل روتيني‬
‫في األدب وفي الخطاب العام كدليل على أن الدين (أو أي شكل منه) ضار»‪ .‬وبتعبير‬
‫آخر‪ ،‬إن مالحظته المفضلة للشر مشتقة من األدبيات والمناقشات المضادة للتوحيد‪،‬‬
‫وكذلك‪ ،‬إن اختياره لهذه المالحظة المعينة للشر‪ ،‬بالنظر إلى انحياز األدبيات التي‬
‫ألهمته‪ ،‬يبدو أنه خرق لمبدأ المحبة‪ ،‬الذي يتطلب من المرء تقديم موقف الخصم‬
‫بأقصى تعاطف ممكن‪ .‬يحدث الخرق ألنه ــ باعتراف كوداج (‪ ،2016‬ص ‪ )277‬ــ‬
‫يختلف مفهومه عن الشر عن ذلك الذي يفضله العديد من المؤمنين‪ .‬اعترف التوحيد‬
‫ــ بشكل تقليدي ــ بنوعين متميزين من «الشر»‪ :‬الشر األخالقي (الخطيئة)‪ ،‬والشر‬
‫الطبيعي (الضرر الناجم عن العمليات الطبيعية‪ ،‬مثل المرض والزالزل والجفاف وما‬
‫إلى ذلك)‪ .20‬يتطابق مفهوم كوداج حول الشر الديني والفئة التقليدية للشر األخالقي‪،‬‬

‫التقاليد الدينية العظيمة‪ ،‬لم ُينظر إلى اإليمان على أنه عازل أو ضامن ضد الخطيئة‪ ،‬ومن يقترح أنه‬
‫يجب أن يكون على هذا النحو ساذج وغير واقعي‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن التقليد المسيحي (وهو‬
‫حتما خطيئة ــ المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء ــ بسبب عقيدة‬
‫الهدف الرئيسي لكوداج) يقبل ً‬
‫الخطيئة األصلية‪ .‬كما الحظ تشيستيرتون (‪ ،2002‬ص ‪ )67‬ذات مرة بقلق‪ ،‬بالنظر إلى التاريخ‬
‫الطويل للفساد البشري‪ ،‬فإن عقيدة الخطيئة األصلية «هي الجزء الوحيد من الالهوت المسيحي‬
‫اعتراضا غري ًبا على التقليد المسيحي أن االعتقاد ال يحفز‬
‫ً‬ ‫الذي يمكن إثباته ح ًّقا»‪ .‬لذلك سيكون‬
‫السلوك الالخاطئ بالنظر إلى أنه من خالل مبادئه الخاصة‪ ،‬فإن الالخطيئة ليست ممكنة‪.‬‬
‫مثال (هيك‪ ،2010 ،‬ص‪ ،)12‬و(سينبورن‪.)1998 ،‬‬ ‫‪ 20‬تنظر ً‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪366‬‬
‫ولكن إلى حد ما‪ :‬يتعلق كالهما باألفعال البشرية‪ ،‬وكالهما سيعتبران العديد من نفس‬
‫األفعال شريرة‪ ،‬ولكن بعض األفعال التي يمكن اعتبارها شريرة بموجب مفهوم واحد‬
‫شرا بحسب اآلخر‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬ال يعتبر مفهوم‬ ‫لن يعتبر ًّ‬
‫كوداج عن الشر رفض شخص متعمد ل ّله على أنه شر‪ ،‬ألنه ال يتضرر منه أي فرد أو‬
‫مجموعة اجتماعية‪ ،‬ولكن رفض ال ّله يمكن اعتباره ًّ‬
‫شرا أخالق ًّيا إذا وصفه الدين على‬
‫هذا النحو‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬فإن مفهوم كوداج عن الشر قد يعتبر فعل إيذاء‬
‫المعتدي الذي يهدد دين المرء بأنه شر‪ ،‬ألنه بحكم تعريفه يؤدي إلى األذى‪ ،‬لكن الفعل‬
‫لن يعد كذلك إذا لم يعينه الدين المعني كخطيئة‪ .‬في الحاالت المهمة إذن‪ ،‬الشخص‬
‫الذي يؤيد فكرة الشر األخالقي والذي يؤيد فكرة الشر عند كوداج قد يختلف مع ما‬
‫يصف الشر‪ .21‬وغني عن القول‪ ،‬من المرجح أن يركز بدقة معظم الخالف على هذه‬
‫األنواع من الحاالت التي سيأخذها كوداج كأمثلة على الشرور الدينية‪.‬‬
‫ومن غير المحتمل أن ينجح التحكيم في مثل هذه الحاالت‪ .‬والسبب في ذلك‪ ،‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬هو أن فكرة كوداج عن الشر تستمد من األخالق العلمانية للحداثة الغربية بدالً‬
‫من أي من األديان التي يسعى إلى هزيمتها‪ .‬هذا يعني أن العلماني يتحدث لغة أخالقية‬
‫مختلفة عن تلك التي يؤمن بها‪ ،‬حيث أن األخالق العلمانية معنية بشكل أساسي بزيادة‬
‫الرفاهية وتقليل المعاناة (وبالتالي‪ ،‬يمكن تعريف الشر في المجال العلماني على‬
‫أنه ما يمكن أن يسبب الضرر)‪ ،‬في حين أن األخالق الدينية‪ ،‬على األقل في السياق‬
‫المسيحي‪ ،‬معنية بشكل أساسي بمواءمة النفس أخالقيا وروحيا مع ال ّله (وبالتالي لماذا‬
‫يتم تعريف الشر في المجال اإللهي على أنه خطيئة)‪ .‬غال ًبا ما يصر العلمانيون على أن‬
‫األخالق العلمانية للحداثة الغربية تتفوق على أي شكل من أشكال األخالق القائمة‬
‫على الدين‪ ،‬وعلى هذا النحو يجب أن تعمل كحكم لما هو الصحيح والخطأ‪ ،‬والخير‬

‫‪ 21‬تجدر اإلشارة إلى أن الكثير من المؤلفات حول هذا الموضوع تستخدم تعبير «العنف الديني»‪ ،‬وهو‬
‫مصطلحا وصف ًّيا‪ ،‬بينما‬
‫ً‬ ‫مصطلح أكثر حيادية بكثير من «الشر الديني»‪ ،‬ألن «العنف» عادة ما يكون‬
‫عاد ًة ما يكون «الشر» تقييم ًّيا‪ ،‬حيث ُيستخدم لوصف األفعال التي تستحق اللوم وغير المبررة‪ .‬وغني‬
‫عن القول‪ ،‬إن أولئك الذين يؤيدون فكرة الشر األخالقي يمكن‪ ،‬ومن المفترض‪ ،‬أن يقبلوا أن فعل‬
‫شرا‪.‬‬
‫العنف الديني يتسبب في ضرر‪ ،‬أو أنه عنيف‪ ،‬حتى لو أنكروا أنه يعتبر ًّ‬
‫‪367‬‬ ‫ينيدلا رشلا ةلكشم‬

‫أو الشر‪ .22‬المؤمنون الذين يقبلون األخالق الدينية سيختلفون بالتأكيد‪ ،‬وسيصرون‬
‫على أن شكلهم األخالقي متفوق‪ ،‬وبالتالي الحكم الحقيقي للخير أو الشر‪ .‬الخالف‬
‫عميق‪ ،‬وال يمكن تسويته ببساطة من قبل أحد الطرفين الذي يدعي التفوق األخالقي‬
‫على اآلخر‪ ،‬على الرغم من أن هذا هو ما يحدث في الممارسة العملية‪ .23‬والنتيجة‬
‫هي أن المؤمنين يمكن أن يرفضوا حجة كوداج بالكامل بشكل معقول على أساس أنه‬
‫يستخدم فكرة علمانية وليست إيمانية عن الشر‪ ،‬وبالتالي تصنف بشكل غير صحيح‬
‫على أنها أعمال شريرة معينة وهي في الواقع ليست كذلك‪ .‬هذه بالتأكيد نكسة كبيرة‬
‫لمشكلة الشر الديني‪ ،‬بقدر ما تم تصميم حجة كوداج بشكل واضح إلجبار المؤمنين‬
‫على التخلي عن معتقداتهم الدينية‪ .‬من الناحية العملية‪ ،‬ال يمكنها تحقيق ذلك إال إذا‬
‫كان المؤمنون مستعدين لتفضيل فكرة العلمانية عن الشر على الفكرة التوحيدية‪ ،‬ولكن‬
‫بما أن الحجة ال تعطيهم سب ًبا للقيام بذلك‪ ،‬فليس من الواضح ما يجعلهم يفعلون ذلك‪.‬‬

‫استنتاج‬
‫على امتداد هذه الورقة‪ ،‬رأينا أن هناك عد ًدا من المشاكل في فكرة أن اإليمان بال ّله‬
‫يسبب الشر‪ ،‬وبالتالي مع محاولة كوداج استخدام هذه الفكرة كأساس لحجة مؤيدة‬
‫لإللحاد‪ .‬كشفت المشاكل أن الحجة يمكن أن تنجح فقط ضد تلك الطوائف التي‬
‫تشمل معتقداتها الرسمية ارتكاب األفعال الشريرة‪ ،‬وعندئذ فقط إذا كان من الممكن‬
‫مساهما أو داف ًعا لتلك األعمال‪ .‬يعتمد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عامل‬ ‫تحديد أن المعتقدات المعنية كانت‬
‫أيضا على رغبة المرء في تبني فكرة علمانية عن الشر‪ ،‬وهو ما ال يمكن توقعه‬ ‫نجاحه ً‬
‫من المؤمنين‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإن آفاق حجة مؤيدة لإللحاد على أساس الشر الديني‬

‫‪ 22‬على سبيل المثال‪ ،‬يدعي كوين (‪ ،2015‬ص ‪ )261‬أن «األخالق العلمانية‪ ،‬التي ال تتحرك بااللتزام‬
‫باألوامر المفترضة إلله‪ ،‬تتفوق على معظم األخالق» الدينية «‪ .‬يبدو أن كوداج يقبل هذا‪ ،‬بالنسبة‬
‫للحل «الجزئي» المؤقت الذي يقدمه (‪ ،2014‬ص ‪ )442‬لمشكلته الخاصة بالشر الذي ينطوي على‬
‫مزيج من ثالث أفكار متميزة‪ ،‬وهي‪ )1( :‬األخالق العلمانية تتفوق على التدين‪ ،‬و(‪ )2‬المعتدون‬
‫في الشر الديني ليسوا متدينين أصيلين‪ ،‬و(‪ )3‬الخالص يعتمد في المقام األول على األخالق‬
‫(العلمانية)‪ ،‬وليس على التدين‪.‬‬
‫‪ 23‬ولكن ليس دائم ًا‪ .‬لمحاولة الدفاع عن تفوق األخالق الدينية‪ ،‬انظر (مافروديس‪ ،)1986 ،‬ولمحاولة‬
‫الدفاع عن تفوق األخالق العلمانية‪ ،‬انظر (هاريس‪ ،2005 ،‬ص ‪ 170‬ــ ‪.)203‬‬
‫الكيرتس دويال‬ ‫‪368‬‬
‫ال تبدو لي جيدة‪ .‬يجب أن تستند أي حجة من هذا القبيل على فكرة أن اإليمان بال ّله‬
‫يسبب الشر‪ ،‬أو شيء مشابه جدًّ ا‪ ،‬ولكن حتى مع هذا النوع من التعديالت المقترحة‬
‫في هذه الورقة‪ ،‬فإن الفكرة ال تزال إشكالي ًة للغاية بحيث ال تفعل أي شيء آخر سوى‬
‫تقليل قوة أي حجة تعتمد عليه‪ .‬على الرغم من ذلك‪ ،‬هناك شيء مقلق بشأن الشر‬
‫الديني‪ ،‬ومن المؤكد أنه من الصحيح أن نسأل عن مقدار الدور الذي يلعبه الدين فيه‪،‬‬
‫وكيف تنوي األديان مواءمته مع رؤيتها الخاصة للكون ودور اإلنسان فيه‪ .‬قد يؤدي هذا‬
‫إلى أسئلة غير مريحة لبعض األديان أو طوائفها‪ ،‬ولكن ليس ــ كما أعتقد ــ إلى اعتراض‬
‫حاسم ضدها‪.‬‬
369 ‫عجارملا‬

‫المراجع‬
- Al Qurtuby, S. (2016). Religious violence and conciliation in
Indonesia: Christians and muslims in Moluccas. London: Routledge.
- Armstrong, K. (2014). Fields of blood: Religion and the history of
violence. London: Penguin.
- Asad, T. (2003). Formations of the secular: Christianity, Islam,
modernity. Stanford: Stanford University Press.
- Buijs, J. A. (2009). Atheism and the argument from harm. Philosophia
Christi, 11(1), 42–52.
- Canadian Security Intelligence Service. (2002). Doomsday religious
movements. In J. Kaplan (Ed.), Millennial violence: Past, present and
future (pp. 53–60). London: Frank Cass.
- Cavanaugh, W. T. (2009). The myth of religious violence: Secular
ideology and the roots of modern conflict. Oxford: Oxford University
Press.
- Chesterton, G. K. (2002). In M. W. Perry (Ed.), Chesterton day by
day. Seattle: Inkling Books.
- Coyne, J. A. (2015). Faith versus fact: Why science and religion are
incompatible. London: Penguin.
- Dawkins, R. (2006). The God delusion. London: Bantam Books.
- Draper, P., & Nichols, R. (2013). Diagnosing bias in philosophy of
religion. The Monist, 96(3), 420–446.
‫الكيرتس دويال‬ 370
- Everitt, N. (2004). The non-existence of God. London: Routledge.
- Goodin, R. E. (2006). What’s wrong with terrorism?. Cambridge:
Polity.
- Harris, S. (2005). The end of faith: Religion, terror, and the future of
reason. London: Simon & Schuster.
- Hick, J. (2010). Evil and the God of love. Basingstoke: Palgrave
Macmillan.
- Hitchens, C. (2007). God is not great. London: Atlantic Books.
- Hume, D. (1793). Essays and treatises on several subjects. Basil:
Tourneisen.
- Jones, J. W. (2008). Blood that cries out from the Earth: The psychology
of religious terrorism. Oxford: Oxford University Press.
- Juergensmeyer, M. (2006). Religion as a cause of terrorism. In L.
Richardson (Ed.), The roots of terrorism (pp. 133–144). London:
Routledge.
- Keogh, G. (2015). Theology after new atheism. New Blackfriars,
96(1066), 739–750.
- Kodaj, D. (2014). The problem of religious evil. Religious Studies,
50(4), 425–443.
- Kodaj, D. (2016). Religious evil. Philosophy Compass, 11(5), 277–286.
- Le Poidevin, P. (1996). Arguing for atheism. London: Routledge.
- Lucretius. (2007). The nature of the universe (A. E. Stallings, Trans.).
London: Penguin.
- Marsden, S. V., & Schmid, A. P. (2011). Typologies of terrorism and
political violence. In A. P. Schmid (Ed.), The Routledge handbook of
terrorism research (pp. 158–200). London: Routledge.
371 ‫عجارملا‬

- Mavrodes, G. I. (1986). Religion and the queerness of morality. In R.


Audi & W. J. Wainright (Eds.), Rationality, religious belief and moral
commitment: Essays in the philosophy of religion (pp. 213–226).
Ithaca: Cornell University Press.
- Mitchell, J. (2011). Mediating religious violence. In A. R. Murphy
(Ed.), The Blackwell companion to religion and violence (pp. 112–
124). Oxford: Blackwell.
- Nelson-Pallmeyer, J. (2003). Is religion killing us? Violence in the
Bible and Quran. Harrisburg: Trinity Press International.
- Oppy, G. (2013). Arguments for atheism. In S. Bullivant & M. Ruse
(Eds.), The Oxford handbook of atheism (pp. 53–70). Oxford: Oxford
University Press.
- Pape, R. A. (2005). Dying to win: The strategic logic of suicide
terrorism. New York: Random House.
- Pullella, P. (2011). Pope Benedict expresses shame for Christian
violence in history.
- Rowley, M. (2014). What causes religious violence? Three hundred claimed
contributing causes. Journal of Religion and Violence, 2(3), 361–402.
- Russell, B. (1957). Why I am not a Christian. London: Routledge.
- Schmid, A. P. (2011). The definition of terrorism. Appendix 2.1:
250-plus academic, governmental and intergovernmental definitions
of terrorism. In A. P. Schmid (Ed.), The Routledge handbook of
terrorism research (pp. 39–157). London: Routledge.
- Selengut, C. (2011). The sociology of religious violence. In A. R.
Murphy (Ed.), The Blackwell companion to religion and violence (pp.
89–98). Oxford: Blackwell.
‫الكيرتس دويال‬ 372
- Shortt, R. (2016). God is no thing. London: Hurst & Company.
- Smith, W. C. (1962). The meaning and end of religion. New York:
Macmillan.
- Stanley, A. (2000). Pope asks forgiveness for errors of the church over
2000 years. New York Times.
- Steinberg, J. R., Layne, C. M., & Steinberg, A. M. (2011). Ceteris
paribus causal generalizations and scientific inquiry in empirical
psychology. Journal of Theoretical and Philosophical Psychology,
32(3), 180–190.
- Swinburne, R. (1998). Providence and the problem of evil. Oxford:
Clarendon Press.
- Ward, K. (2006). Is religion dangerous?. Oxford: Lion Hudson.
- Welby, J. (2016). Lecture: ‘The Generational Struggle’-ending
religiously justified violence.
- Wellman, J. K., Jr., & Tokuno, K. (2004). Is religious violence inevitable?
Journal for the Scientific Study of Religion, 43(3), 291–296.
- Young, J. (2008). The violence of god and the war on terror. New
York: Seabury.
‫دراسات‬

‫ثيوديسيا أوغسطين‬
‫‪1‬‬
‫من منظور ابن سينا‬

‫‪2‬‬
‫د‪ .‬أمير عباس علي زماني‬ ‫___________________________________‬

‫‪3‬‬
‫د‪ .‬فاطمة السادات هاشمي‬

‫بيان المسألة‪:‬‬
‫الشرور نفسها في العالم المادي على اإلنسان‪ ،‬مما ال يبقي معه أي مجال‬
‫ُ‬ ‫تفرض‬
‫للتشكيك في وجودها‪ .‬والسؤال الذي يفرض نفسه على كل إنسان يتمتع بالقدرة‬
‫على التفكير‪ ،‬يكمن في البحث عن ماهية الشرور وأسباب وجودها؛ إذ يقال‪ :‬أال‬
‫يتنافى وجود هذه الشرور مع اتصاف ال ّله بالعلم والقدرة وإرادة الخير المطلقة؟ أال‬
‫يتناقض وجود هذه الشرور مع أصل وجود ال ّله المعرف من قبل األديان التوحيدية؟‬
‫إذا كان خالق عالم الوجود هو القادر المطلق على كل شيء‪ ،‬والعالم المطلق بكل‬
‫شيء‪ ،‬والمريد للخير والعادل على اإلطالق‪ ،‬فلماذا يسمح بحدوث جميع مظاهر‬
‫االنحراف والظلم والشرور في العالم؟ هل يمكن اعتبار وجود الشرور دليال على‬
‫محدودية الصفات اإللهية الحسنى؟ لقد تمخض عن جميع هذه األسئلة بحث‬
‫تحت عنوان (معضلة الشر)‪.4‬‬

‫ترجمة‪ :‬حسن مطر‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫أستاذ مساعد في جامعة طهران‪ ،‬قسم فلسفة الدين‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫دكتوراه الفلسفة المقارنة من الجامعة اإلسالمية الحرة‪ ،‬قسم العلوم الدراسات‪ ،‬طهران‪ ،‬إيران‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪.problem of evil‬‬ ‫‪4‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪374‬‬
‫يتم بيان بحث الشرور في الغالب ضمن المحورين اآلتيين‪:‬‬
‫المحور األول‪ :‬مسألة الشر بوصفها قرينة‪ :‬إن وجود الشرور في العالم ــ طبقا‬
‫لهذا المحور ــ ال ينسجم مع بعض الصفات اإللهية الحسنى؛ إذ كيف يمكن الجمع‬
‫بين وجود الشرور والمصائب وبين اتصاف ال ّله بالقدرة المطلقة والالمتناهية؟ هل‬
‫يمكن وصف ال ّله بالخير المحض والمطلق‪ ،‬مع سماحه بحدوث جميع هذه الشرور‬
‫واآلفات؟ وهل يمكن بعد حدوث جميع هذه المصائب والباليا وصف ال ّله بالعلم‬
‫الالمتناهي؟ من هنا يجب على المؤمنين أن يبحثوا عن مخارج تبرر وجود الشرور‬
‫في العالم‪ ،‬أو أن يتخلوا عن وصف ال ّله بهذه الصفات التي تقدم ذكرها‪.‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬مسألة منطقية الشر‪ ،‬حيث يتم السعي في هذا المحور إلى إثبات‬
‫التناقض المنطقي بين وجود ال ّله ووجود الشرور‪ .‬فحيث يعتبر وجود هذه الشرور‬
‫أمرا بديه ًّيا‪ ،‬يعتبر إنكار وجود ال ّله حقيقة ثابتة ال يمكن التشكيك فيها‪.‬‬
‫ً‬
‫وبشكل عام يتم تقسيم أجوبة المؤمنين عن مسألة الشر إلى قسمين رئيسين‪،‬‬
‫وهما‪:‬‬
‫األجوبة الدفاعية‪ ،5‬واألجوبة التنظيرية‪ .6‬فهناك من اإلجابات ما يتمحض للدفاع‬
‫عن المعتقدات الدينية في مواجهة الشبهات‪ .‬أما األجوبة األخرى فتنطلق في تبرير‬
‫الشرور من منطلق التنظير البحت‪ ،‬والعمل على تعليل وجود الشرور في العالم‬
‫وبيان أسباب ذلك‪ .‬إن لفظ الـ(‪ )theodicy‬المبتكرة من قبل (اليب نيتس) مركب‬
‫من كلمتين يونانيتين‪ ،‬وهما (‪ )theo‬بمعنى‪ :‬ال ّله‪ ،‬و(‪ )dicy‬بمعنى‪ :‬عادل‪ .‬وبذلك‬
‫فإن هذه العبارة تعني‪ :‬العدل اإللهي‪ .‬وقد تحول (العدل اإللهي) في المرحلة‬
‫المعاصرة إلى مصطلح فني يطلق على مجموع الجهود التي تصب في حل المشكلة‬
‫اصطالحا‪( :‬إثبات عدالة ال ّله سبحانه) ‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫ً‬ ‫الكالمية المتمثلة في مفهوم الشر‪ ،‬ويعني‬

‫‪5 defense.‬‬
‫‪6 theodicy.‬‬
‫‪7 affirmation of justice of God.‬‬
‫‪ 8‬انظر‪ :‬رضائي‪ ،‬مهين‪ ،‬تئوديسه وعدل الهي‪ ،‬ص ‪ ،68‬دفتر پژوهش ونشر سهروردي‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪375‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫وقد سعى كل من ابن سينا وأوغسطين‪ 9‬من خالل نظريتيهما إلى بيان فلسفة‬
‫الشرور‪ .‬وقد عمد أوغسطين في مقام اإلجابة عن مسألة الشرور إلى توظيف مفاهيم‬
‫من قبيل‪ :‬عدمية الشرور‪ ،‬والخطيئة األولى‪ ،‬واختيار اإلنسان‪ .‬كما قام ابن سينا في‬
‫معرض بيان الشرور إلى توظيف عبارات مشابهة‪ ،‬من قبيل‪ :‬عدمية الشرور‪ ،‬والنظام‬
‫األحسن‪ ،10‬واختيار اإلنسان ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وهناك في هذا المجال مقال تحت عنوان‪( :‬بررسي ومقايسه شر از ديدگاه‬
‫آگوستين وابن سينا)‪ .11‬وقد ورد في هذا المقال أن أوغسطين يذهب إلى االعتقاد‬
‫بوجود نوعين من الشر‪ ،‬وهما‪ :‬الشر األخالقي‪ ،‬والشر المعرفي‪ ،‬ويقدم لكل واحد‬
‫من هذين النوعين طري ًقا للحل‪ .‬إن الشر األخالقي يعود بجذوره إلى المعاصي‬
‫والذنوب التي يقترفها اإلنسان‪ ،‬وأما في تبرير الشرور المعرفية فقد عمد إلى توظيف‬
‫طريقتين للحل‪ ،‬وهما‪ :‬عدمية الشرور ونسبيتها‪ .‬وهذان الطريقان هما اللذان يعمل‬
‫أيضا‪ .‬وعليه فإن ًّ‬
‫كل‬ ‫ابن سينا على توظيفهما في سياق تبرير وجود الشرور في العالم ً‬
‫أمرا عدم ًّيا أو نسب ًّيا‪ .‬وقد‬
‫من أوغسطين وابن سينا يتفقان على اعتبار ماهية الشرور ً‬
‫ركز ذلك المقال على بيان مواطن االختالف والتشابه بين هاتين الرؤيتين‪ .‬وأما نحن‬
‫فسوف نسعى إلى نقد رؤية أوغسطين من وجهة نظر ابن سينا‪ ،‬وهو ما لم يتعرض له‬
‫المقال المذكور‪.‬‬
‫إن اإلجابة المعتمدة على القول بـ(عدمية الشرور) من قبل بعض الفالسفة‪،‬‬
‫تتعرض إلى النقد الجاد بالنظر إلى الشرور الوجودية‪ .‬فإن الشرور اإلدراكية من قبيل‪:‬‬
‫أمورا‬ ‫الخوف والشعور ّ‬
‫بالذل والهوان هو من الشرور الوجودية التي ال يمكن اعتبارها ً‬
‫عدم ّية‪ .‬فإن كل شخص يدرك وجود هذه األمور والحاالت من نفسه‪ ،‬ويعتبر وجودها‬
‫من األمور البديهية‪ .‬وعليه كيف سيمكن تبرير وجود الشرور الوجودية من وجهة نظر‬

‫‪9 Augustine.‬‬
‫‪10 the best possible world.‬‬
‫‪ 11‬لمزيد من االطالع‪ ،‬انظر‪ :‬سلطان القرايي‪ ،‬وخليل وحسين آتشي‪ ،‬وزهراء علمي‪ ،‬بررسي‬
‫ومقايسه شر از ديدگاه آگوستين وابن سينا‪ ،‬مجلة پژوهشهاي فلسفي‪ ،‬العدد التاسع‪ ،‬خريف‬
‫وشتاء عام ‪ 1390‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪376‬‬
‫هذين الفيلسوفين؟ يضاف إلى ذلك‪ :‬هل اإلشكاالت الواردة على أوغسطين بشأن‬
‫عدمية الشرور‪ ،‬ترد على ابن سينا أيضا؟ وبشكل عام أي هذين الجوابين هو األرجح‬
‫ً‬
‫إشكال من اآلخر؟ ولذلك فإننا ضمن بيان وتشريح نظرية أوغسطين وابن سينا‬ ‫واألقل‬
‫في حقل الشرور‪ ،‬سنثبت أن نظرية ِ‬
‫ابن سينا في هذا اإلطار كانت هي األوفر حظا من‬
‫نظرية أوغسطين‪ ،‬حيث سلمت من اإلشكاالت واالعتراضات الموجهة ضد نظرية‬
‫أوغسطين‪ .‬ولكننا قبل الدخول في صلب البحث‪ ،‬نرى ضرورة لبيان أقسام الشرور‬
‫تمهيدً ا لتوضيح المسألة وتحديد محل النزاع‪.‬‬

‫أقسام الشر‬
‫هناك العديد من التقسيمات للشرور‪ ،‬ومن بين أشهر تلك التقسيمات‪ ،‬تقسيم‬
‫الشرور إلى ثالثة أقسام‪ ،‬وهي‪ :‬الشر الميتافيزيقي‪ ،‬والشر األخالقي‪ ،‬والشر الطبيعي‪.‬‬
‫الشر الميتافيزيقي‬
‫إن كل ما سوى ال ّله يتصف بالنقص الذاتي‪ ،‬وعليه فإننا إذا افترضنا شيئا من دون‬
‫شر‪ ،‬نكون في الحقيقة قد افترضناه متساو ًيا مع ال ّله في الكمال‪ ،‬وهو أمر ممتنع‪.‬‬
‫ولذلك فإن نفس افتراض أن العالم مخلوق ل ّله‪ ،‬يثبت ضرورة اشتماله على الشر‪.12‬‬
‫إن الشر الميتافيزيقي يعني عدم وجود الكمال المطلق الموجود في صلب جميع‬
‫العالم‪ .‬إن الشر الميتافيزيقي هو من لوازم اعتبار عالم اإلمكان مخلو ًقا‪ .‬إن الشر‬
‫السائد في كل عالم اإلمكان‪ ،‬والذي هو عبارة أخرى عن محدودية ونقص العالم‪،‬‬
‫إنما هو بالنسبة إلى عدم تناهي الذات اإللهية المقدسة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إن الشر الميتافيزيقي هو الشر الذي تعاني منه كافة الموجودات‬
‫اإلمكانية وكل مخلوقات ال ّله‪ ،‬وهو الشر الذي يالزم هذه الكائنات بحيث ال يمكنها‬
‫االنفكاك عنه‪ ،‬وهو الذي يعني المحدودية‪ .‬وعلى حد تعبير صدر المتألهين‪ :‬إن الفقر‬
‫الوجودي لجميع الكائنات الممكنة‪ ،‬هو في قبال الكمال الالمتناهي ل ّله عز وجل؛‬

‫‪ 12‬انظر‪ :‬عسكري سليماني أميري‪ ،‬نقد برهان نابذيري وجود خدا‪ ،‬ص ‪ ،925‬بوستان كتاب‪ ،‬ط ‪،3‬‬
‫قم‪ 1388 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪377‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫بدليل أن كل محدودية تعد نقصا وضع ًفا‪ ،‬وكل نقص وضعف يعد ًّ‬
‫شرا بشكل من‬
‫األشكال‪ .‬ومن هنا فإن المحدودية واالفتقار واإلمكان الوجودي‪ ،‬يعتبر من الشرور‪.‬‬
‫إن المحدودية الوجودية هي من لوازم الخلق ومن مقتضيات طبيعة كل ممكن‬
‫الوجود‪ .‬وإن الذين يرون وجود الشرور ينافي أو يعارض وجود ال ّله‪ ،‬ال يعترضون‬
‫أبدا على النقص التكويني الذي يعانون منه ويعاني اآلخرون منه أيضا؛ إذ ال يوجد ــ‬
‫تعارض أو منافاة بين وجود ال ّله وصفاته الحسنى وبين الضعف‬‫من وجهة نظرهم ــ ُ‬
‫الوجودي والنقص التكويني لسائر الموجودات والكائنات‪ .‬من هنا فإن هذا القسم‬
‫كثيرا مور ًدا لبحثنا‪.‬‬
‫من الشرور‪ ،‬ال يقع ً‬
‫الشر األخالقي‬
‫إن الشر األخالقي ينبثق عن إرادة واختيار اإلنسان‪ ،‬بمعنى الشرور التي تصدر‬
‫عن اإلنسان بإرادته واختياره‪ ،‬أي أنها المعاصي واألمور القبيحة التي يقوم اإلنسان‬
‫بارتكابها‪ ،‬من قبيل‪ :‬الظلم والخيانة والسرقة والتكبر والقتل بغير حق وما إلى ذلك‬
‫من األعمال غير األخالقية األخرى‪ .‬إن الشرور األخالقية هي من لوازم اختيار‬
‫اإلنسان‪ .‬ال يمكن تصور الخطأ في ما يقوم به ال ّله‪ ،‬حتى وإن كان هو من أذن به؛ ألنه‬
‫قد خلق اإلنسان مختارا‪ ،‬بحيث يمكنه أن ينتخب بين فعل الخير أو فعل الشر‪ ،‬وألنه‬
‫مختار قد يفعل الشر والقبيح بسوء اختياره أحيانا‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إن الخير والشر األخالقي يطلق على تلك المجموعة من‬
‫شخصا من أفراد‬
‫ً‬ ‫الخيرات والشرور التي يكون للعنصر اإلنساني دخل فيها‪ ،‬ولو أن‬
‫اإلنسان لم يقم بتلك األفعال‪ ،‬لما تحقق ذلك الخير أو الشر على أرض الواقع؛ من‬
‫قبيل‪ :‬اإلحسان إلى اآلخرين‪ ،‬أو قتلهم بغير حق‪.13‬‬
‫الشر الطبيعي‬
‫يطلق لفظ الخير والشر الطبيعي على تلك المجموعة من الخيرات والشرور التي‬
‫ال يكون للعنصر البشري دخل في تحققها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬حتى إذا لم يقم شخص‬

‫‪ 13‬انظر‪ :‬سبحاني جعفر‪ ،‬ومحمد محمد رضائي‪ ،‬انديشه اسالمي (‪ ،)1‬ص ‪ ،122‬دفتر نشر معارف‪،‬‬
‫التنقيح الثاني‪ ،‬الطبعة التاسعة واألربعون‪ ،‬طهران‪ 1387 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪378‬‬
‫بذلك الفعل‪ ،‬فإن ذلك الخير أو الشر كان سيتحقق؛ إذ أن وقوعه ال يتوقف على وجود‬
‫اإلنسان أصال‪ ،‬من قبيل‪ :‬الزالزل والطبيعة الخضراء وما إليهما‪ .14‬إن الشرور الطبيعية‪ ،‬هي‬
‫األمور التي تفرض على اإلنسان من قبل الطبيعة‪ ،‬من قبيل‪ :‬السيل‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والبراكين‪،‬‬
‫واألمراض الفتاكة‪ ،‬والموت‪ ،‬والفقر وما إلى ذلك من األمور التي تهدد اإلنسان من‬
‫الخارج‪ .‬وفي بعض الموارد التي يؤدي الفعل االختياري واإلرادي للقبيح إلى األلم‬
‫شرا طبيعيا‪ ،‬فنشهد‬
‫شرا أخالقيا كما يمكن اعتباره ًّ‬
‫والحزن الفيزيقي‪ ،‬حيث يمكن اعتباره ًّ‬
‫نوعا من الشر المركب‪ .15‬يتم طرح مسألة الشر فيما يتعلق بالشرور الطبيعية على نحو أكثر‬
‫جدية‪ ،‬وهناك من يعتبر وجود هذا النوع من الشرور دليال على إنكار وجود ال ّله‪ .‬وهناك من‬
‫شكك ــ ألجل ذلك ــ في اتصاف ال ّله ببعض الصفات؛ فأنكر أن يكون ال ّله متصفا بالكمال‬
‫المطلق‪ ،‬والخير المطلق‪ ،‬والقدرة المطلقة‪ .‬وقال (سويين بيرن)‪ 16‬في هذا الشأن‪( :‬إن‬
‫األلم الذي يعاني منه األطفال‪ ،‬أو الذي تعاني منه الحيوانات يعتصر قلوبنا بشدة‪ ...‬وأرى‬
‫أن هذا هو مكمن العقدة في المسألة‪ .17)...‬إن الشر الميتافيزيقي والشر األخالقي لم يؤديا‬
‫إلى مشكلة كما هو الحال بالنسبة إلى الشر الطبيعي‪ .‬وعليه فإن المشكلة الرئيسة في بيان‬
‫مسألة الشرور إنما تكمن في الشرور الطبيعية‪.‬‬

‫نظرية أوغسطين في مواجهة مسألة الشر‬


‫لقد عمد أوغسطين إلى بيان مسألة الشر‪ ،‬من خالل طرحه لنظرية عدمية الشرور‪،‬‬
‫والخطيئة األولى‪ ،‬واإلشارة إلى عنصر اختيار اإلنسان ودوره في حدوث الشرور‪.‬‬
‫عدمية الشرور من وجهة نظر أوغسطين‬
‫لقد ورد التعبير في الكتاب المقدس (اإلنجيل) بالقول‪« :‬كل ما خلق ال ّله حسن‪،‬‬
‫فما من شيء يجب رفضه {واعتباره شرا}‪ ،‬بل يجب قبول كل شيء بحمد»‪ .18‬وعليه‬

‫‪ 14‬انظر‪ :‬المصدر أعاله‪.‬‬


‫‪15 complex evil.‬‬
‫‪16 Swinburne.‬‬
‫‪17 Swinburne, 1991, p. 219.‬‬
‫‪ 18‬العهد الجديد‪ ،‬تيموثاوس األول‪ ،‬اإلصحاح الرابع‪ ،‬الفقرة الرابعة‪.‬‬
‫‪379‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫فمع الحرمان من الخير‪ ،‬لن يكون هناك من وجود لألشياء بالمطلق‪ ،‬وهذا يعني أنها‬
‫ما دامت موجودة فإنها تتصف بالخير‪ .‬يقول أوغسطين‪« :‬إن كل ما هو موجود يتصف‬
‫بالحسن‪ ،‬وإن الشر الذي كنت بصدد البحث عن أسبابه وعلله ليس له شأن جوهري؛‬
‫ألن كل ما هو جوهري يتصف بالحسن‪ ...‬وعليه فقد اتضح لي أن كل ما خلقته حسن‪،‬‬
‫وليس هناك من جوهر ليس مخلوقا لك)‪.19‬‬
‫يذهب أوغسطين إلى اعتبار الوجود مساويا ومساوقا للخير‪ ،‬ويرى أن كل من‬
‫يرتدي جلباب الوجود فهو من الخير‪ .‬وعليه فإن جميع الشرور تتنزع من عدم الوجود‪،‬‬
‫وليس هناك من وجود هو شر بالذات‪ .‬من هنا فإن الذي يتصف بالشر هو العدم‪ ،‬والعدم‬
‫ال يحتاج إلى خالق‪ ،‬فال يكون منافيا لصفات ال ّله‪.‬‬
‫يرى أوغسطين أن الشر أمر سلبي‪ ،‬وقال بأن الشر ليس أمرا إيجابيا‪ .20‬إن الشر هو‬
‫دائما عبارة عن سوء عمل شيء هو خير في نفسه‪ .21‬ليس هناك من وجود للشر‪ ،‬وإن‬
‫الذي يتمثل لناظرنا بوصفه شرا إنما هو مجرد عدم نسبي للخير‪ .‬فالعمى مثال هو فقدان‬
‫البصر‪ ،‬ال أنه حقيقة موجودة في قبال البصر‪ .‬يرى (جون هيك)‪ 22‬أن أوغسطين هو‬
‫المفكر األول الذي انتظم معه عقد اإلجابة الجوهرية في التقليد المسيحي عن مسألة‬
‫الشر‪ .‬قال (هيك) في تقريره لنظرية أوغسطين‪:‬‬
‫«إن رؤيته الفلسفية الجوهرية تكمن في القول بالماهية العدمية للشرور‪ .‬إن أوغسطين‬
‫يتمسك بهذه العقيدة اليهودية؛ المسيحية بشدة‪ ،‬وهي القول باعتبار العالم خيرا‪ .‬بمعنى‬
‫أن العالم هو خلق ال ّله المريد للخير لغاية خيرة‪ .‬يرى أوغسطين أن الخيرات العالية‬
‫والدانية والكبيرة والصغيرة موجودة بوفرة وبأشكال مختلفة‪ .‬وعلى كل حال فإن كل ما‬
‫له نصيب من الوجود‪ ،‬له حظ من الخير‪ .‬إال إذا انجرف نحو االنحراف والفساد‪ .‬إن ال ّله‬
‫لم يوجد الشر أو إرادة الشر في العالم‪ ،‬بل الشر عبارة عن انحراف شيء هو خير في حد‬

‫‪ 19‬آگوستين‪ ،‬اعترافات‪ ،‬ص ‪ ،217‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬سايه هيثمي‪ ،‬دفتر نشر وپژوهش سهروردي‪،‬‬
‫طهران ‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 20‬انظر‪ :‬المصدر أعاله‪.‬‬
‫‪ 21‬انظر‪ :‬هيك‪ ،‬جون‪ ،‬فلسفه دين‪ ،‬ص ‪ 93‬ـ ‪ ،94‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬بهرام راد‪ ،‬مؤسسه انتشارات بين‬
‫المللي الهدى‪ ،‬طهران‪ 1372 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪22 John Hick.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪380‬‬
‫ذاته‪ .‬فقد أشار أوغسطين إلى العمى ـ مثال ـ والعمى ليس (شيئا)‪ ،‬بمعنى أنه ليس أمرا‬
‫وجوديا‪ .‬فالشيء الوحيد الموجود هنا هو العين‪ ،‬وهي في حد ذاتها من الخير‪ .‬والشر‬
‫هنا المتمثل بالعمى إنما هو االفتقار إلى اآللية الصحيحة لوظيفة العين)‪.23‬‬
‫أما عن الخطيئة األولى‪ ،24‬يرى أوغسطين أن الشر منبثق عنها‪25‬؛ ما يعني أن جبلة‬
‫اإلنسان قد خلقت طاهرة‪ ،‬ولكن تم تدنيسها بخطيئة آدم‪ ،‬بمعنى أنها قد مالت إلى‬
‫المعصية‪ ،‬وقد انتقل هذا الميل إلى ذرية آدم‪ ،‬ولم يعد بإمكان الناس العثور على طريق‬
‫للنجاة إال بواسطة المسيح‪ .‬في العقيدة المسيحية يكمن سر حاجة اإلنسان إلى النجاة‬
‫في اقترافه للمعصية‪ ،‬وبذلك فقد نسي اإلنسان حقيقته‪ ،‬وأخذ يتخبط في مستنقع الذل‬
‫والمهانة‪ ،‬ومن هنا يأتي سر دعوة الناس إلى التوبة واإلنابة‪.‬‬
‫تعتبر خطيئة آدم ــ أي الخطيئة األولى ــ هي خطيئة كل إنسان‪ ،‬والسبب الرئيس في‬
‫معاناته وآالمه‪ ،‬فقد ورد في الكتاب المقدس ً‬
‫مثل أن الموت هو من بين النتائج الطبيعية‬
‫للخطيئة‪ ،‬باعتباره عقوبة على تلك الخطيئة؛ إذ جاء في التوراة‪« :‬فيؤخذ الشرير بشره‪،‬‬
‫وتمسكه حبائل خطيئته؛ يموت لفقدانه التأديب‪ ،‬وبكثرة حماقته يتيه»‪.26‬‬
‫وبسبب اقتراف هذه الخطيئة تم طرد اإلنسان إلى هذا العالم لكي يقاسي األلم‪ .‬وقد‬
‫وعد ال ّله اإلنسان ــ بوصفه أبا رحيما ــ أن ينقذه من هذا البؤس واأللم‪ ،‬وقد تحقق هذا‬
‫الوعد بإرسال السيد المسيح إلى األرض لهداية الناس إلى الطريق القويم‪ .‬وعليه فإن‬
‫اإلنسان سيتخلص من األلم إذا اتبع تعاليم عيسى‪.‬‬
‫أما عن االختيار‪ ،‬فإن من بين آراء أوغسطين هي القول بأن العالم ــ بمعنى جميع‬
‫مخلوقات ال ّله ــ خير‪ ،‬وأما الشر فليس له من جوهر وحقيقة مستقلة عن ال ّله‪ ،‬بل هو‬
‫فقدان للخير‪.27‬‬

‫‪ 23‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪24 original sin.‬‬
‫‪ 25‬آگوستين‪ ،‬اعترافات‪ ،‬ص ‪ ،22‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬سايه هيثمي‪ ،‬دفتر نشر وپژوهش سهروردي‪،‬‬
‫طهران ‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 26‬العهد القديم‪ ،‬األمثال‪ ،‬اإلصحاح الخامس‪ ،‬الفقرة‪ 22 :‬ـ ‪.23‬‬
‫‪27 Augustine, saint 1961, Confessions, (trans. Edward Pusey, New York: Macmilan, p.‬‬
‫‪7.‬‬
‫‪381‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫إن العالم ــ بخالف ال ّله الذي هو مطلق وثابت ال يطاله التغير ــ قد ُخلق من العدم‪،‬‬
‫ولذلك كان متغيرا ومتحوال‪ .‬يرى أوغسطين أن هذا األمر يدل على سبب زوال خيرية‬
‫العالم األول‪ ،‬والذي على إثره ظهر الشر‪.28‬‬
‫«إن الخيرات التي يسعى إليها الخاطئون‪ ،‬ليست من الشر أبدا‪ ،‬وإن ذات‬
‫االختيار الذي يجب أن نعده من جملة الخيرات ليس من الشر‪ .‬وإن الذي هو‬
‫من الشر إنما هو إعراض اإلرادة وانحرافها عن الخير الثابت إلى الخير المتغير‬
‫والمتحول»‪.29‬‬
‫يرى أوغسطين أن اإلنسان قد خلق بفطرة وجبلة طاهرة‪ ،‬ولكنها تلوثت بخطيئة‬
‫آدم‪ ،‬وقد انتقلت هذه الخطيئة إلى ذريته‪ ،‬ولم يعد بإمكان الناس الخالص والنجاة‬
‫إال بواسطة المسيح‪ .‬يقول أوغسطين‪« :‬لقد تورط أبوانا األوالن في ارتكاب خطيئة‬
‫واضحة؛ إذ سبق لهما أن فسدا في الخفاء؛ ولوال تقدم إرادة الشر على فعل الشر‪ ،‬لما‬
‫تحقق فعل الشر أبدا»‪ .30‬وهذه العبارة تؤكد على أنه يرى أن مبنى الخطيئة هي الخطيئة‬
‫الباطنية‪.‬‬
‫إن سوء استفادة اإلنسان من االختيار قد سمح لإلنسان بتجربة الخطيئة أو الشر‪.‬‬
‫يرى أوغسطين أن (نظرية الهبوط)‪ 31‬في المسيحية تسعى إلى إثبات أن المخلوقات‬
‫كانت في بداية أمرها كاملة ومنزهة من شائبة النقص‪ ،‬ولكنها ارتكبت المعصية في‬
‫حضرة الرب بواسطة خطيئة آدم‪.32‬‬
‫يرى أوغسطين أن الشر يتسلل إلى عالم الخليقة من طريق إساءة استعمال اإلرادة‬

‫‪28 Ibid, 1984, City of God, D. Knowles, ed. New York: Penguin, xii. p. 6.‬‬
‫‪29 Ibid, 1999, In Free choice of the Will. Translated by Thomas Williams. Hackett‬‬
‫‪publishing company. Indianapolis, Cambridge, seventh printing. P. 68.‬‬
‫‪30 Augustine, saint, 1971, The City of God, Translated by Marcus Dods. Ik great books‬‬
‫‪of the western world. Ed. By Robert Maynard Hutchins, William Benton. Publsher:‬‬
‫‪Encyclopedia Britannica, Nineteenth printing. P. 13-14, 387.‬‬
‫‪31 fall.‬‬
‫‪ 32‬بيترسون‪ ،‬مايكل وآخرون‪ ،‬عقل واعتقاد ديني‪ ،‬ص ‪ ،204‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬أحمد نراقي وإبراهيم‬
‫سلطاني‪ ،‬طرح نو‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬طهران‪ 1379 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪382‬‬
‫‪34‬‬
‫الحرة‪ 33‬المتناهية‪ .‬وقد عمد إلى نسبة جميع الشرور ــ األعم من الشرور الطبيعية‬
‫واألخالقية‪ 35‬ــ إلى االختيارات غير الصائبة للكائنات الحرة والعاقلة‪ .‬ويطلق على هذا‬
‫االختيار للشر في الثقافة الدينية بـ(الخطيئة)‪.‬‬
‫يقسم أوغسطين الشرور إلى قسمين‪ ،‬وهما‪ :‬الشرور األخالقية‪ ،‬والشرور‬
‫الطبيعية‪ .‬وقد رأى في الشرور األخالقية (خطيئة)‪ ،‬وفي الشرور الطبيعية (عقابا)‬
‫على تلك الخطيئة‪ .‬وقد عمد إلى تقسيم جميع الشرور إلى هذين القسمين‪ ،‬بمعنى‬
‫أن بعض الشرور عنده تتمثل بالمعاصي والذنوب التي يقترفها الناس‪ ،‬والبعض‬
‫اآلخر من قبيل‪ :‬السيول والبراكين وغيرهما‪ ،‬التي يعتبرها نتيجة وعقابا للشرور من‬
‫القسم األول‪.‬‬
‫يرى أوغسطين أن العالم الذي يحتوي على كائنات مختارة مع وجود الشرور‪ ،‬خير‬
‫من العالم الخالي من الشرور وال يكون فيه شيء من االختيار‪ .‬وقد عمد بالنتينغا إلى‬
‫بيان هذه الرؤية ألوغسطين على النحو اآلتي‪:‬‬
‫«إن ال ّله لشدة جوده وكرمه لم يبخل على مخلوقاته بالخلق‪ ،‬فخلق حتى أولئك‬
‫الذين سبق له في علمه الغيبي أنهم لن يصدر عنهم غير المعاصي والذنوب‪ ،‬ولم‬
‫يسلبهم حرية ارتكاب الذنوب‪ .‬إن الفرس الجامحة خير من الخشبة الساكنة التي ال‬
‫تستطيع الجموح لسلب اإلرادة والحركة منها‪ .‬وعلى هذا قياس المخلوقات التي ال‬
‫ترتكب الذنب بسبب سلب االختيار عنها‪ ،‬فإنها لذلك أسوأ من المخلوقات التي تتمتع‬
‫باإلرادة وإن اقترفت الذنوب»‪.36‬‬
‫يرى أوغسطين أن الشر أمر عدمي‪ ،‬وأن العالم خير كله‪ .‬ويرى أن الشر يحدث‬
‫حيث يتوفر االختيار‪ .‬وبذلك فقد عمد أوغسطين إلى تبرئة ال ّله من وجود الشر في‬
‫الدنيا‪ ،‬وألقى مسؤولية وجود الشرور في العالم على عاتق المخلوقات بشكل كامل‪.‬‬

‫‪33 free will.‬‬


‫‪34 natural evil.‬‬
‫‪35 moral evil.‬‬
‫‪ 36‬بلنتينغا‪ ،‬ألفين وآخرون‪ ،‬كالم فلسفي‪ ،‬ص ‪ ،199‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬إبراهيم سلطاني وأحمد‬
‫نراقي‪ ،‬صراط‪ ،‬طهران‪ 1374 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪383‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫«إن الشر من وجهة نظر أوغسطين عبارة أخرى عن حرية اإلنسان التي منحت‬
‫له بفعل هبوط آدم‪ ،‬ومن ثم أخذ ينتقل عبر الخطيئة المتوارثة‪ ،‬لتتكرر في وجود كل‬
‫إنسان‪ ،‬من خالل ممارسة الطغيان في حضرة الرب‪ .‬وعليه فإن الشر ليس من فعل ال ّله‪،‬‬
‫بل هو من فعل اإلنسان‪ ،‬ولكن ال ّله سمح به كما أذن بتأثيره»‪.37‬‬
‫هل يحق ل ّله أن يخلق عالما يمكن فيه لإلنسان أن يقترف المعاصي؟ إن المعصية‬
‫هي نتاج سوء استغالل اإلرادة الحرة‪ ،‬ومن دون اإلرادة الحرة ال يمكن أن يكتب‬
‫الوجود ألي سلوك ينطوي على فضيلة‪ .‬وعليه فإن ال ّله من خالل خلق اإلنسان‬
‫حرا‪ ،‬يكون قد فعل الصواب‪ .‬وإن خير وشر اإلنسان تحت إرادة اإلنسان نفسه‪،‬‬
‫وليس هناك أي دور للجبر اإللهي أو الطبيعي في ذلك‪« .‬إن الشر إنما يصدر عندما‬
‫تنحرف اإلرادة عن جادة الصواب‪ ،‬وتعرض عن ال ّله بوصفه الموجود األسمى‪،‬‬
‫وتقبل على ما دونه من الموجودات الدنيا‪ .‬وعندها سيغدو اإلنسان كائنا أجوف‪،‬‬
‫ويمتلئ بالشوق إلى كل ما هو خارج عن ذاته»‪« .38‬وفي الحقيقة فإن الخطيئة إنما‬
‫هي نتاج الشر اإلرادي‪ ،‬بحيث لوال تلك اإلرادة‪ ،‬لما كان هناك من خطيئة في‬
‫األساس»‪.39‬‬
‫«إن الفعل الذي ال يصدر عن إرادة‪ ،‬ال يمكن وصفه بأنه خطيئة أو خير‪ .‬وعليه‬
‫لو لم يكن اإلنسان مختارا‪ ،‬لما كان العقاب والمكافأة عدال»‪ .40‬يشير أوغسطين‬
‫من خالل هذا البيان إلى اختيارية الخطيئة والشر األخالقي‪ ،‬ويؤكد على أن‬
‫الذنب إذا لم يصدر عن اختيار‪ ،‬لم يكن باإلمكان عده ذنبا وخطيئة‪ .‬يذهب‬
‫أوغسطين إلى االعتقاد بأن اإلنسان إنما يقدر على إرادة الخير بواسطة اللطف‬

‫‪ 37‬انظر‪ :‬ياسبرس‪ ،‬كارل‪ ،‬آگوستين‪ ،‬ص ‪ ،131‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬محمد حسن لطفي‪ ،‬خوارزمي‪،‬‬
‫طهران‪ 1363 ،‬هـ ش؛ كونغ‪ ،‬هانس‪ ،‬متفكران بزرك مسيحي‪ ،‬ص ‪ ،131‬مركز أديان ومذاهب‪ ،‬قم‪،‬‬
‫‪.1386‬‬
‫‪ 38‬آگوستين‪ ،‬اعترافات‪ ،‬ص ‪ ،220‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬سايه هيثمي‪ ،‬دفتر نشر وپژوهش سهروردي‪،‬‬
‫طهران ‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪39 Augustine, saint 1964, Of True Religion. Translated by J. H. S. Burleigh. Chicago:‬‬
‫‪Henrey Regnery company. Third printing. P. 24.‬‬
‫‪40 Ibid.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪384‬‬
‫اإللهي‪ ،‬وإال لما أمكنه غير اختيار وإرادة الخطيئة‪ .‬إال أنه في الوقت نفسه ال ينكر‬
‫دور االختيار بشكل مطلق‪ .‬حيث يرى اختيار اإلنسان في اتخاذ القرار بمعنى أن‬
‫يفعل الشر بإرادته دون الخير‪ .‬بمعنى أن اإلنسان يقترف الذنب بإرادته‪ ،‬وأما‬
‫في عمل الخير فهو بحاجة إلى ال ّله‪« .‬إن أفعال الخير الصادرة إنما تيسرت لي‬
‫بلطفك وعنايتك‪ ،‬وأما أخطائي فأنا المسؤول عنها وحدي‪ .‬فإنها عقوبة منك‬
‫على سوء اختياري»‪.41‬‬

‫نظرية ابن سينا في مواجهة مسألة الشر‬


‫كما سبق أن ذكرنا فإن ابن سينا في بيانه للشر‪ ،‬قد عمل على توظيف مفاهيم من‬
‫قبيل‪ :‬عدمية الشرور‪ ،‬والنظام األحسن‪ ،‬وفيما يلي سندخل في تفاصيل بحث هذه‬
‫المفاهيم على النحو اآلتي‪:‬‬
‫عدمية الشرور‪:‬‬
‫يقول ابن سينا‪« :‬وأما الشر المحض فال وجود له‪ ،‬إذ الشرور أعدام والخيرات‬
‫وجوداتها‪ .‬فصرف الوجود المقدس عن شوائب العدم هو الخير المحض‪ ،‬وصرف‬
‫العدم وهو الشر المحض وال وجود له‪ ،‬والوجودات اإلمكانية كلما كان في سلسلة‬
‫الصدور إليه تعالى أقرب كان خيريته»‪ .42‬وفي الحقيقة فإن عدمية الشر‪ ،‬واعتباره‬
‫مقصودا بالعرض‪ ،‬يعتبر من العناصر الجوهرية في رؤية ابن سينا‪ .‬وهو يرى أن الشرور‬
‫األخالقية عدمية أيضا‪.‬‬
‫تقدم أن الشر أمر عدمي‪ ،‬ولكن هل كان يمكن ل ّله أن يخلق هذا الشيء بحيث ال‬
‫يشتمل على هذه الناحية العدمية؟‬
‫يجب القول في الجواب‪ :‬إن هذه الناحية العدمية هي جزء ال ينفك عن ذلك الشيء‪.‬‬
‫فالنار إذا أريد لها أن تكون نارا‪ ،‬ال بد لها من أن تكون حارقة‪ ،‬وإال لم تكن نارا‪ .‬يقول‬

‫‪ 41‬آگوستين‪ ،‬اعترافات‪ ،‬ص ‪ ،297‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬سايه هيثمي‪ ،‬دفتر نشر وپژوهش سهروردي‪،‬‬
‫طهران ‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 42‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬اإللهيات من كتاب الشفاء‪ ،‬ص ‪ ،355‬تصحيح‪ :‬العالمة حسن حسن زادة اآلملي‪،‬‬
‫دفتر تبليغات اسالمي‪ ،‬قم المقدسة‪ 1376 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪385‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫ابن سينا في هذا الشأن‪« :‬لو انفصل الشيء عن ناحيته العدمية‪ ،‬فسيكون هو غيره‪ ،‬وعليه‬
‫لن تكون النار نارا»‪.43‬‬
‫إن خلق ممكن الوجود لن يخلو من الناحية العدمية والنقص الذاتي‪ .‬وفي هذا‬
‫الشأن يقول ابن سينا‪« :‬إن ممكن الوجود ليس خيرا محضا في حد ذاته؛ إذ ال يستتبع‬
‫الوجود في حد ذاته‪ ،‬وإن الذي يقبل العدم بوجه‪ ،‬لن يخلو من الشر والنقص من‬
‫جميع الجهات»‪.44‬‬
‫«ال يوجد في العالم سوى موجود واحد‪ ،‬وهو الخيرات‪ .‬أما الشرور فهي بأجمعها‬
‫من نوع العدم‪ ،‬والعدم ليس مخلوقا‪ .‬فالعدم من عدم الخلق ال من خلق العدم»‪ .45‬إن‬
‫الشر الذي هو نتيجة للنقصان والقصور الحادث في خلق ظاهرة ما‪ ،‬ليس بالشيء الذي‬
‫ينسب إلى فعل الفاعل‪ ،‬بل يعود سببه إلى عدم قيام الفاعل بشيء‪.‬‬
‫النظام األحسن‪:‬‬
‫كما تقدم أن رأينا فإن ابن سينا يذهب إلى االعتقاد بأن الشرور عدمية‪ ،‬وليس‬
‫لها من ناحية وجودية‪ ،‬فال تحتاج إلى خالق‪ .‬قد يشكل أحد ويقول‪ :‬إن ما ذكر‬
‫من أن جميع الشرور أمور عدمية غير صحيح‪ ،‬بل هناك من الشرور ما ال يمكن‬
‫عده أمرا عدميا أبدا‪ .‬وفي الحقيقة فقد تم إيراد إشكال على تقرير عدمية الشرور‪،‬‬
‫وذلك من خالل مسألة األلم‪ ،‬فإن األلم على الرغم من كونه أمرا وجوديا‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك يعد من الشرور ويتسبب لإلنسان باألذى‪ .‬إن األلم إدراك ألمر‬
‫غير متالئم مع النفس واللذة‪ ،‬وإدراك األمور مالزم ومنسجم مع النفس‪ .‬وعليه‬
‫فإن اللذة واأللم من سنخ اإلدراك وهو أمر وجودي‪ .‬وعليه ليس جميع الشرور‬
‫أمورا عدمية‪ ،‬فهناك موارد يكون فيها الشر موجودا وليس عدميا‪ .‬وال شك في‬
‫أننا نشاهد في العالم من حولنا الكثير من الشرور والفساد والحوادث المريرة من‬

‫‪ 43‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬اإلشارات بشرح الخواجة نصير الدين الطوسي‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪،328‬‬
‫نشر البالغة‪ ،‬قم المقدسة‪ 1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 44‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬التعليقات‪ ،‬ص ‪ ،356‬مكتبة اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ 1404 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ 45‬انظر‪ :‬المطهري‪ ،‬مرتضى‪ ،‬عدل إلهي‪ ،‬ص ‪ ،129‬انتشارات صدرا‪ ،‬الطبعة التاسعة والثالثون‪1391 ،‬‬
‫هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪386‬‬
‫قبيل‪ :‬البراكين والزالزل‪ ،‬وال نشك في وجودها أبدا‪ .‬وإن كنا نعترف بأن بعض‬
‫الشرور األخرى أمورا عدمية‪ ،‬ولكن ال يمكن اعتبار جميع الشرور أمورا عدمية‪.‬‬
‫وفي معرض اإلجابة عن اإلشكال‪ ،‬يجب القول‪ :‬إن ابن سينا ال يعتبر جميع‬
‫الشرور عدمية‪ ،‬وإنما يقر برؤيته الواقعية بوجود الشرور في العالم‪ .‬وفي الحقيقة‬
‫فإنه من خالل طرح نظرية عدمية الشرور ينجح في حل مشكلة بعض الشرور‪ ،‬وليس‬
‫جميعها‪ ،‬ومن هنا فإنه يلجأ ــ لحل مشكلة الشرور الوجودية ــ إلى حلول أخرى‪،‬‬
‫ومن بينها نظرية (النظام األحسن)‪ .‬فهو من خالل القول بالنظرية المنسوبة إلى‬
‫(أرسطو) يذهب إلى االعتقاد بأن هذا العالم هو النظام األحسن‪ ،‬وأن نسبة الشرور‬
‫في هذا العالم بالقياس إلى الخيرات نسبة قليلة جدا‪ ،‬وأن هذه الشرور القليلة هي‬
‫الزم تحقق الخير الكثير‪ ،‬وعلى هذا األساس فإن وجودها ال يتنافى مع العدل وسائر‬
‫الصفات اإللهية األخرى‪ .‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬لو لم يخلق هذا العالم الذي‬
‫تتفوق فيه الخيرات على الشرور‪ ،‬سيتم التشكيك في الفيض اإللهي‪ ،‬حيث سيقال‬
‫حينها‪ :‬لماذا ترك ال ّله خلق هذا العالم وضحى بالخير الكثير من أجل مقدار قليل من‬
‫الشر؟ يقول ابن سينا‪:‬‬
‫«إن بعض األمور الممكنة‪ ،‬كما هو المناسب لوجودها منزهة من الشر والخلل‬
‫والفساد (الخير المحض)‪ ،‬ومن الممكنات أمور تكون الفضيلة فيها هي الغالبة‪ ،‬ولكن‬
‫عند الحركة والتصادم يعتريها بعض الشر (الخير الغالب)‪ ،‬وسوف تكون في البين أمور‬
‫من الشر المطلق (الشر المحض)‪ ،‬أو التي يكون فيها الشر هو الغالب (الشر الغالب)‪،‬‬
‫وإذا كان الجواد المطلق‪ ،‬مبدأ فيض الوجود الخيري‪ ،‬كان القسم األول والقسم الثاني‬
‫من الفيض واجبا‪ ،‬ومثاله النار‪.46)...‬‬
‫بيد أن هذا السؤال ال يزال قائما‪ ،‬وهو‪ :‬هل يمكن إلفاضة الخير على الكثير أن‬
‫يبرر حدوث الشر للبعض القليل؟ إن ترك الخير الكثير (العالم المادي) من أجل‬
‫وجود الشر القليل يتنافى مع الفيض اإللهي‪ .‬ألن الذات اإللهية تقتضي أن يفيض‬
‫بكرمه على جميع الكائنات‪ .‬بيد أن حرمان النزر القليل من هذه الفيض والجود‬

‫‪ 46‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬اإلشارات بشرح الخواجة نصير الدين الطوسي‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ ،319‬نشر‬
‫البالغة‪ ،‬قم‪ 1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪387‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫اإللهي بسبب بعض الموانع أو عدم القابليات‪ ،‬ال يستوجب أن يمنع ال ّله نعمته على‬
‫الكثير من مخلوقاته‪ .‬وذلك ألن ترك الخير الكثير تجنبا للشر القليل‪ ،‬يشتمل في‬
‫حد ذاته على شر كثير‪ .‬من هنا فإن ابن سينا لم يقل بإمكان هذا العالم (الخير الكثير‬
‫والشر القليل) فحسب‪ ،‬بل قال بأن صدور مثل هذا العالم عن ذات الباري تعالى‬
‫واجب أيضا‪.47‬‬
‫يرى ابن سينا أن الشرور ال تظهر إال في عالم المادة‪ ،‬وأن المادة هي منشأ‬
‫الشرور‪ ،‬وحيث أن خلق عالم المادة ضروري للنظام الكلي للعالم ــ المتمثل‬
‫بعالم العقل‪ ،‬وعالم المثال‪ ،‬وعالم المادة ــ ولوال عالم المادة سوف يترك الخير‬
‫الكلي والكثير الذي هو النظام الكلي للعالم‪ ،‬وعليه ال مندوحة من وجود المادة‬
‫وعالم المادة‪ ،‬وبتبعه وجود الشرور‪ ،‬بل إن وجود الشرور ضروري ومقدمة لوجود‬
‫الخيرات‪.48‬‬
‫يرى ابن سينا أن وجود األنواع الطبيعية والبشرية من الشر‪ ،‬تعتبر من لوازم مراتب‬
‫الوجود‪ ،‬وأن حذفها يؤدي إلى حدوث انقالب في ذات األشياء‪ ،‬أو حذف أجزاء كثيرة‬
‫من العالم‪ ،‬وكال هذين األمرين يعتبر نوعا من الشر والنقص في الخلق‪ ،‬حيث سيؤدي‬
‫األمر إلى شر أكبر بكثير من الشر المسؤول عنه‪ .‬وعليه ال وجود للتنافي بين وجود الشر‬
‫والحكمة والعلم اإللهي أبدا‪.‬‬
‫يقول ابن سينا‪« :‬لو كان البناء على حذف وإخراج الماديات والطبيعيات بسبب‬
‫اشتمالها على الشر الضمني‪ ،‬للزم من ذلك ــ بااللتفات إلى قاعدة الضرورة بين العلة‬
‫والمعلول ــ أن ال توجد عللها التامة أيضا‪ ،‬وحيث يرى المشاؤون في العوالم السابقة‬
‫علة إيجادية للعوالم الالحقة‪ ،‬وجب أن ال تكون العوالم السابقة موجودة أيضا‪ ،‬في‬
‫حين أن هذا يتنافى مع الجود والفيض اإللهي‪.49‬‬

‫‪ 47‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ 299‬ـ ‪ ،300‬تحقيق‪ :‬سليمان‬
‫دنيا‪ ،‬مؤسسة النعمان‪ ،‬بيروت‪ 1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 48‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬شرح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬الخواجة نصير الدين الطوسي‪ ،‬ج‬
‫‪ ،3‬ص ‪ ،322‬نشر البالغة‪ ،‬قم‪ 1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 49‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬الشفاء ‪ /‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪ ،454‬تصحيح‪ :‬العالمة حسن حسن‬
‫زادة اآلملي‪ ،‬دفتر تبليغات اسالمي‪ ،‬قم‪ 1376 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪388‬‬
‫يضيف ابن سينا قائال‪ :‬لو أزيلت جميع الشرور الالحقة عن موجودات عالم المادة‪،‬‬
‫فسوف تتحول إلى موجودات القسم األول‪ ،‬أي سوف تتحول إلى موجودات عالم‬
‫العقول‪ ،‬هذا في حين أن الموجودات العقلية والسماوية التي هي خير محض ونور‬
‫محض‪ ،‬قد سبق لها أن خلقت‪ ،‬وطبقا لقانون النظام األحسن‪ ،‬لو كان هناك إمكانية‬
‫إليجاد المراتب التالية‪ ،‬وجب أن توجد‪ ،‬وإال تم التشكيك في فياضية الباري تعالى‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس يدور األمر بين حالتين؛ فإما يجب عدم إيجاد هذه الكائنات‪ ،‬أو‬
‫يجب تبديلها إلى النوع األول‪ ،‬وكلتا الحالتين تستلزم عدم صدور الفيض الوجودي‬
‫من قبل الفياض على اإلطالق‪ ،‬وهذا ال يليق بشأن الحق تعالى‪.50‬‬
‫لو قبلنا بأن خلق العالم هو نتيجة لتخطيط إلهي مسبق‪ ،‬ومع افتراض أن المخطط‬
‫السابق أو العلم اإللهي إنما يتعلق بالخير فقط‪ ،‬وأن العالم قد وجد على أفضل شكل‬
‫ممكن‪ ،‬يطرح هذا السؤال نفسه‪ :‬هل يمكن لنا أن نستنتج من ذلك أن الشرور الموجودة‬
‫في العالم والتي ال يمكن إنكارها‪ ،‬تقع موردا لرضا الحق تعالى وتحت أمره وتدبيره؟‬
‫وإذا كان األمر كذلك كيف يمكن للمؤمنين ــ والمعتقدين بأن ال ّله خير محض‪ 51‬ــ أن‬
‫يبرروا وجود هذه األمور في العالم؟‬
‫حيث أن ال ّله تعالى يتصف بكونه كماال محضا‪ ،‬فإن إرادته تتعلق بجهة كمال‬
‫وخير المخلوقات أصالة‪ ،‬وإذا كان الزم وجود مخلوق ظهور بعض الشرور‬
‫والنقائص في العالم‪ ،‬ستكون جهة الشر مقصودة بالتبع؛ بمعنى أن الشر الزم ال‬
‫ينفك عن الخير الكثير‪ ،‬وأن ذلك الخير الغالب سوف يقع موردا لإلرادة اإللهية‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪« :‬إن الشرور ليست مجعولة بالذات‪ ،‬بل هي مجعولة بالتبع‬
‫والعرض»‪ .52‬إذن مقتضى صفات ال ّله الكمالية أن يتم خلق العالم بحيث يغلب فيه‬
‫الكمال والخير الممكن‪.53‬‬

‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬النجاة من الغرق في بحر الضالل‪ ،‬ص ‪ ،675‬جامعة طهران‪،‬‬ ‫‪50‬‬
‫طهران‪ 1379 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬رسائل ابن سينا‪ ،‬ص ‪ ،390‬نشر بيدار‪ ،‬قم المقدسة‪ 1400 ،‬هـ ش‪.‬‬ ‫‪51‬‬
‫مطهري‪ ،‬مرتضى‪ ،‬عدل إلهي‪ ،‬ص ‪ ،129‬انتشارات صدرا‪ ،‬الطبعة التاسعة والثالثون‪ 1391 ،‬هـ ش‪.‬‬ ‫‪52‬‬
‫مصباح اليزدي‪ ،‬محمد تقي‪ ،‬آموزش عقايد‪ ،‬ص ‪ ،197‬مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام خميني‪،‬‬ ‫‪53‬‬
‫الطبعة الثالثة‪ 1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪389‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫طبقا لنظرية (النظام األحسن) تكون الغلبة لخيرات العالم على شروره‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من تسليمنا بهذه المسألة‪ ،‬يبقى السؤال قائما‪ :‬لماذا لم يخلق ال ّله ــ وهو‬
‫القادر المطلق ــ طبيعة العالم المادي بحيث ال يوجد فيه حتى هذا النزر القليل من‬
‫‪54‬‬
‫الشرور؟‬
‫لقد عمد ابن سينا إلى طرح هذه الشبهة‪ ،‬ثم أجاب عنها قائال‪( :‬لو خلق العالم‬
‫المادي المالزم للشرور بحيث ال يكون فيه شر أبدا‪ ،‬لما عاد ذلك العالم ماديا‪،‬‬
‫بل كان عالما آخر هو صرف خير محض‪ ،‬في حين أن هذا العالم قد سبق ل ّله أن‬
‫خلقه) ‪.55‬‬
‫إن ابن سينا ال ينكر تحقق الشرور وكثرتها النسبية‪ ،‬بيد أنه ضمن اإلقرار بوجودها‪،‬‬
‫يعتبرها مالزمة للخيرات األسمى‪ .‬وبعبارة أخرى‪« :‬إن الشر مالزم للعالم‪ ،‬ولكنه‬
‫مغلوب أمام الخير»‪ .56‬وذلك ألن الشرور وإن كانت كثيرة نسبيا‪ ،‬ولكننا عندما نقيسها‬
‫إلى جميع الخيرات في العالم‪ ،‬فسوف تنخفض نسبتها إلى مستويات متدنية جدا‪ .‬ومن‬
‫هنا نجد ابن سينا يعبر عن الشر بـ(الكثير) دون (األكثر)‪ .57‬وفي الحقيقة فإن هذا التعبير‬
‫من قبل ابن سينا يؤكد على رد مدعي أولئك الذين يقولون بأن الشر هو الغالب في‬
‫العالم‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس فإن ابن سينا قد عمل على توظيف مختلف الطرق لحل مشكلة‬
‫وجود الشرور في العالم‪ .‬وقد عمد إلى تبرير وجود بعضها من خالل القول بنظرية‬
‫عدمية الشرور‪ ،‬وعالج وجود البعض اآلخر منها من خالل القول بـ (النظام األحسن)‪.‬‬

‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬الشفاء ‪ /‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪ ،454‬تصحيح‪ :‬العالمة حسن حسن‬ ‫‪54‬‬
‫زادة اآلملي‪ ،‬دفتر تبليغات اسالمي‪ ،‬قم‪ 1376 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫المصدر أعاله‪.‬‬ ‫‪55‬‬
‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ ،305‬تحقيق‪ :‬سليمان دنيا‪،‬‬ ‫‪56‬‬
‫مؤسسة النعمان‪ ،‬بيروت‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬النجاة من الغرق في بحر الضالل‪ ،‬ص ‪ ،681‬جامعة طهران‪،‬‬ ‫‪57‬‬
‫طهران‪ 1379 ،‬هـ ش؛ الشفاء ‪ /‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪ ،422‬تصحيح‪ :‬العالمة حسن حسن زادة اآلملي‪ ،‬دفتر‬
‫تبليغات اسالمي‪ ،‬قم‪ 1376 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪390‬‬
‫تحليل ونقد نظرية أوغسطين طبقا للمباني الفكرية البن سينا‬
‫سنعمل في هذا القسم على مناقشة وتحليل نظرية (ابن سينا) و(أوغسطين) حول‬
‫مسألة الشرور ضمن خمسة محاور‪ ،‬سنثبت من خاللها أن نظرية أوغسطين تواجه‬
‫بعض اإلشكاالت التي تؤدي إلى ضعفها‪ ،‬وأن نظرية ابن سينا في المجموع أكثر متانة‬
‫من نظرية أوغسطين‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ يذهب كل من ابن سينا وأوغسطين إلى القول بعدمية الشرور‪ ،‬بيد أن االعتقاد‬
‫بعدمية العمى والصمم وسائر اإلعاقات األخرى‪ ،‬ال يبدو كافيا لحل مشكلة جميع‬
‫أنواع الشرور‪ .‬وفي الحقيقة فإن «مسألة عدمية الشرور ال تكفي وحدها لحل‬
‫مشكلة (العدل اإللهي)‪ ،‬بل هي الخطوة والمرحلة األولى في هذا الشأن»‪ .58‬وكما‬
‫تقدم أن ذكرنا فإن كال من ابن سينا وأوغسطين يؤمنان بعدمية الشرور‪ ،‬ويبدو‬
‫أن هذا االنتقاد يرد عليهما معا‪ .‬إال أن الحقيقة هي أن ابن سينا من خالل طرحه‬
‫لنظرية عدمية الشرور‪ ،‬إنما يقصد إبطال الثنوية‪ ،‬وأما فيما يتعلق بحل التعارض‬
‫القائم بين وجود الشرور والعدل اإللهي‪ ،‬فيلجأ إلى طرق أخرى للحل‪« .‬إن هذه‬
‫الرؤية تنظر إلى إبطال توهم التهافت بين القول بوجود الشرور والقول بالتوحيد‬
‫الواجبي‪ ،‬وبصدد إثبات عدمية الشرور‪ ،‬والتوصل بالتالي إلى عدم معقولية الرؤية‬
‫(الثنوية)‪ .‬من هنا علينا أن ال نتوقع من هذا الحل اإلجابة عن إشكاالت من قبيل‬
‫العدل اإللهي»‪ .59‬يذهب ابن سينا ــ من خالل اعتقاده بالتعاليم اإلسالمية ــ إلى‬
‫القول بأن ال ّله سوف يعوض األبرياء في اآلخرة عن جميع اآلالم والشرور التي‬
‫يتعرضون لها في هذه الدنيا‪.‬‬
‫طبقا لهذه النظرية (التعويض)‪ ،‬يجب على ال ّله تبارك وتعالى أن يعوض عن‬
‫اآلالم والباليا التي تنزل على العباد دون استحقاق‪ ،‬ويجب حصول العباد األبرياء‬
‫على هذا التعويض إما في هذه الدنيا أو في عالم اآلخرة‪ .‬فالذين يتعرضون مثال‬
‫للزالزل‪ ،‬أو الطفل الذي يبتلى بمرض عضال‪ ،‬يجب على ال ّله أن يعوضه إما في‬

‫‪ 58‬انظر‪ :‬المطهري‪ ،‬مرتضى‪ ،‬عدل إلهي‪ ،‬ص ‪ ،134‬انتشارات صدرا‪ ،‬الطبعة التاسعة والثالثون‪1391 ،‬‬
‫هـ ش‪.‬‬
‫‪ 59‬قدردان قراملكي‪ ،‬محمد حسن‪ ،‬خدا ومسأله شر‪ ،‬ص ‪ ،42‬بوستان كتاب‪ ،‬ط ‪ ،3‬قم‪ 1388 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪391‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫هذه الدنيا أو في اآلخرة‪ .60‬إن تحمل أي نوع من أنواع العنت واأللم في هذا العالم‬
‫ــ إذا كان لغاية صحيحة ــ سوف يتم التعويض عنه بمكافأة قيمة وعلى نحو أفضل‬
‫في دار الخلود‪.61‬‬
‫وعليه فمن خالل القول بنظرية عدمية الشرور‪ ،‬يتم حل إشكال الثنوية‪ ،‬ومن‬
‫خالل القول بنظرية التعويض‪ ،‬يتم التغلب على مشكلة التناقض بين وجود الشرور‬
‫والعدل اإللهي‪ .‬وأما أوغسطين فيسعى ــ من خالل طرح نظرية عدمية الشرور ــ إلى‬
‫حل مشكلة العدل اإللهي أيضا‪ ،‬في حين أن هذه النظرية ال تستطيع حل مسألة العدل‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لقد أورد اإلشكال على كالم أوغسطين القائل بأن العالم خير كله‪ ،‬وليس فيه شر‬
‫أبدا‪ .‬وربما كان من أعقد األسئلة هو السؤال القائل‪ :‬كيف يمكن للمخلوق المختار في‬
‫إطار نظرية أوغسطين أن يرتكب المعصية والخطيئة؟ فلو كان اإلنسان يعيش وضعا‬
‫مثاليا أو عصرا ذهبيا ال وجود للشر فيه‪ ،‬فكيف نزع إلى ارتكاب الشر‪62‬؟ وبعبارة‬
‫أخرى‪( :‬إن العالم الذي خلقه ال ّله بقدرته المطلقة‪ ،‬كان هو تماما ما أراده ال ّله بشكل‬
‫دقيق‪ ،‬بحيث ال ينطوي على شر أبدا‪ ،‬ومع ذلك فقد اتجه إلى االنحراف‪ ...‬وعليه فإن‬
‫اإلشكال الرئيس يقول إن الخلق المنزه من العيب لن ينزع إلى االنحراف‪ ،‬وإذا حصل‬
‫أن مال إلى االنحراف‪ ،‬وقعت مسؤولية ذلك على الخالق؛ ألن هذا هو مقام عدم إلقاء‬
‫المسؤولية على اآلخرين)‪.63‬‬
‫كما يعتقد ابن سينا بـ(النظام األحسن) أيضا‪ .‬وطبقا لهذه النظرية تكون خيرات‬
‫العالم هي الغالبة على شروره‪ .‬إال أن ابن سينا ــ خالفا ألوغسطين ــ ال ينكر تحقق‬

‫انظر‪ :‬سنجري‪ ،‬غالم علي‪ ،‬مسأله منطقي شر از ديدگاه عالمه طباطبائي وآلوين بلنتينگا‪ ،‬بوستان‬ ‫‪60‬‬
‫كتاب‪ ،‬قم المقدسة‪ ،‬ص ‪ 1390 ،56‬هـ ش‪.‬‬
‫انظر‪ :‬مصباح اليزدي‪ ،‬محمد تقي‪ ،‬آموزش عقايد‪ ،‬ص ‪ 199‬ـ ‪ ،200‬مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام‬ ‫‪61‬‬
‫خميني‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫انظر‪ :‬بيترسون‪ ،‬مايكل وآخرون‪ ،‬عقل واعتقاد ديني‪ ،‬ص ‪ 204‬ـ ‪ ،205‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬أحمد‬ ‫‪62‬‬
‫نراقي وإبراهيم سلطاني‪ ،‬طرح نو‪ ،‬ط ‪ ،3‬طهران‪ 1379 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫انظر‪ :‬هيك‪ ،‬جون‪ ،‬فلسفه دين‪ ،‬ص ‪ ،96‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬بهرام راد‪ ،‬مؤسسه انتشارات بين‬ ‫‪63‬‬
‫المللي الهدى‪ ،‬طهران‪ 1372 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪392‬‬
‫الشرور وكثرتها النسبية‪ ،‬بل يقر وجودها ويعتبرها من لوازم الخيرات األسمى؛ وذلك‬
‫ألن الشرور رغم كثرتها النسبية‪ ،‬بيد أنها إذا ما قيست إلى جميع الخيرات في العالم‬
‫المادي‪ ،‬فإن مقدار الشرور ستنخفض إلى أدنى مستوياتها‪.‬‬
‫يرى ابن سينا أن المادة هي مصدر الشرور‪ ،‬ولكن حيث أن خلق عالم‬
‫المادة ضروري لكمال النظام العام للعالم‪ ،‬والذي لواله لكان قد تم ترك الخير‬
‫العام والكثير المتمثل بذلك النظام الكلي للعالم‪ ،‬وعليه ال مندوحة من وجود‬
‫المادة وعالم المادة وتبعا لذلك وجود الشرور‪ .64‬يرى ابن سينا أن الشر مقصود‬
‫بالعرض‪ ،‬ألن ال ّله تعالى كمال محض‪ ،‬وأن إرادته إنما تتعلق أصالة بكمال وخير‬
‫المخلوقات‪ ،‬وإذا كان الزم وجود مخلوق ظهور شرور ونواقص في العالم‪ ،‬كان‬
‫ذلك الشر مقصو ًدا بالتبع‪ .‬وبعبارة أخرى‪« :‬إن الشرور ليست مجعولة بالذات‪ ،‬بل‬
‫هي مجعولة بالتبع والعرض»‪ .65‬إن ابن سينا برؤيته الواقعية ال ينكر وجود الشرور‬
‫في العالم‪ .‬إن النظام األحسن المنشود البن سينا يختلف عن خيرية العالم من‬
‫وجهة نظر أوغسطين‪ .‬إن أوغسطين يرى أن العالم خير بأسره‪ ،‬وأن جميع الشرور‬
‫أمور عدمية‪ ،‬أما النظام األحسن البن سينا فيعكس غلبة الخيرات على الشرور‪،‬‬
‫وليس القول بأن العالم خير كله‪ ،‬بل يرى أن هذا العالم رغم اشتماله على الشرور‬
‫إال أنه أفضل عالم ممكن‪ .‬وفي الحقيقة فإن ابن سينا من خالل طرحه لنظرية‬
‫النظام األحسن‪ ،‬يعمل على تبرير الشرور الوجودية أيضا ــ خالفا ألوغسطين‬
‫ــ الذي قال بعدمية جميع الشرور فعجز عن تبرير الشرور الوجودية‪ ،‬ويختار‬
‫السكوت بشأنها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال (جون هيك) في بيان رأي (أوغسطين)‪« :‬يرى أوغسطين أن جميع الشرور‬
‫الطبيعية التي تنزل على اإلنسان‪ ،‬إنما هي بسبب ذنوبه‪ ،‬فهو يرى أن الشرور من قبيل‪:‬‬
‫األمراض الطبيعية أو الزالزل والطوفان وما إلى ذلك‪ ،‬إنما هي ناتجة عن الذنوب‪ ،‬ألن‬

‫‪ 64‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬حسين بن عبد ال ّله‪ ،‬شرح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬الخواجة نصير الدين الطوسي‪ ،‬ج‬
‫‪ ،3‬ص ‪ ،322‬نشر البالغة‪ ،‬قم‪ 1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 65‬انظر‪ :‬المطهري‪ ،‬مرتضى‪ ،‬عدل إلهي‪ ،‬ص ‪ ،129‬انتشارات صدرا‪ ،‬الطبعة التاسعة والثالثون‪1391 ،‬‬
‫هـ ش‪.‬‬
‫‪393‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫نوع اإلنسان كان يجب أن يكون خليفة ال ّله على األرض‪ ،‬وأن هذا النقص البشري قد‬
‫جر عالم الطبيعة بأسره نحو االنحراف»‪.66‬‬
‫من هنا فإن الشرور إما هي من قبيل‪ :‬الذنوب واألخطاء األخالقية‪ ،‬أو هي من قبيل‪:‬‬
‫العقوبات على هذه الذنوب‪ .67‬وأما من خالل المباني الفكرية البن سينا فال يمكن‬
‫القبول بمدعيات أوغسطين بالمطلق؛ وذلك ألن بعض ضحايا الشرور الطبيعية أحيانا‬
‫هم من األبرياء واألطفال الذين ال يمكن تصور صدور الخطيئة عنهم‪ ،‬كما أن في بعض‬
‫البالء النازل على بعض األتقياء واألولياء ما ال يمكن عده عقوبة لهم‪ ،68‬وعليه فإن هذه‬
‫الموارد تتنافى مع ما يقوله أوغسطين‪.‬‬
‫إذا اعتمدنا الرؤية الواقعية لن نستطيع القول إن نوع اإلنسان كان كامال في‬
‫لحظة ما من الناحية األخالقية والروحية‪ ،‬ثم اعتراه السقوط ليتجرد من هذه‬
‫الحالة‪ .‬كما ال يمكن اعتبار الشرور الطبيعية‪ ،‬من قبيل‪ :‬األمراض والزالزل وما‬
‫إلى ذلك بوصفها عقوبة على الذنوب أو نتيجة لهبوط اإلنسان؛ ألننا نعلم حاليا‬
‫أن الكثير من هذه الشرور والكوارث كانت موجودة قبل أن يوجد اإلنسان على‬
‫هذه األرض‪.69‬‬
‫‪ 4‬ـ إن رؤية أوغسطين فيما يتعلق بالخطيئة رؤية بشرية؛ وذلك العتقاده بأن خطيئة‬
‫النبي آدم قد انتقلت إلى جميع البشر‪ ،‬وأصبح الجميع مذنبا‪ .70‬وأما من وجهة نظر ابن‬
‫سينا‪ ،‬فإن هذه المسألة تكتسب بعدا فرديا‪ ،‬فاإلنسان يولد بريئا من الذنوب‪ ،‬ثم ينغمس‬
‫ــ بعد أن يكبر ــ في الخطيئة باختياره وإرادته‪ ،‬فطبقا لرؤية اإلسالم وتعاليمه وما يراه ابن‬

‫‪ 66‬انظر‪ :‬هيك‪ ،‬جون‪ ،‬فلسفه دين‪ ،‬ص ‪ ،96‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬بهرام راد‪ ،‬مؤسسه انتشارات بين‬
‫المللي الهدى‪ ،‬طهران‪ 1372 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪67 Hick, John, 2007, Evil and the God of Love, palgrave Macmillan, New York, P. 59.‬‬
‫‪ 68‬لقد ورد في بعض النصوص الدينية‪« :‬البالء للظالم أدب‪ ،‬وللمؤمن امتحان‪ ،‬ولألنبياء درجة»‪،‬‬
‫محمدي ريشهري‪ ،‬محمد‪ ،‬ميزان الحكمة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 1404 ،493‬هـ‬
‫‪ 69‬انظر‪ :‬هيك‪ ،‬جون‪ ،‬فلسفة دين‪ ،‬ص ‪ 104‬ـ ‪ ،105‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬بهزاد سالكي‪ ،‬انتشارات‬
‫الهدى‪ ،‬طهران‪ 1376 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪70 Augustine, 2004, the father of the church, translated by Matthew A. Schumacher,‬‬
‫‪the catholic university of America press. P. 317.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪394‬‬
‫سينا تبعا لذلك هو أن كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬ومن هنا ال يحمل أحد وزر أحد‪،‬‬
‫[والَ ت َِز ُر َو ِاز َر ٌة ِو ْز َر ُأ ْخ َرى]‪.71‬‬
‫كما ورد ذلك في صريح القرآن الكريم إذ يقول‪َ :‬‬
‫يذهب أوغسطين فيما يتعلق بمسألة النجاة إلى االعتقاد بالجبر‪ ،‬بل إنه يعتبر‬
‫جبريا حتى فيما يتعلق بوقوع الشر أيضا؛ ألنه يؤمن بالخطيئة األولى‪ .‬إن اعتقاده بأن‬
‫الشر ينشأ من اختيار اإلنسان ال ينسجم مع متبنياته الفكرية الجبرية‪ .‬وال يمكن حل‬
‫هذا التناقض إال في حالة واحدة‪ ،‬وهي القول بأن أوغسطين يعتقد بالخطيئة األولى‪،‬‬
‫ويراها هي المنشأ والعلة للشرور‪ ،‬ولكن بعد أن قام السيد المسيح بالتضحية بنفسه‪،‬‬
‫يكون قد دفع ضريبة تلك الخطيئة عن جميع البشر‪ ،‬ومنذ ذلك الحين أضحت‬
‫الشرور علة لسوء اختيار اإلنسان؛ ألن ال ّله قد قبل بتضحية السيد المسيح وزال‬
‫بذلك أثر تلك الخطيئة‪ .‬بمعنى أن الفترة ما قبل تضحية السيد المسيح كان الجبر‬
‫فيها هو الحاكم والسائد‪ ،‬وأما في فترة ما بعد التضحية فقد أصبح االختيار هو‬
‫المنشأ للشرور‪ ،‬وليست الخطيئة األولى‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬هناك مرحلتان؛ مرحلة‬
‫الجبر‪ ،‬ومرحلة االختيار‪ .‬ولكن يبقى السؤال قائما‪ :‬لماذا يصر المسيحيون على‬
‫االعتقاد بأن اإلنسان يولد مذنبا؟ ولماذا يعتقدون بأن الخطيئة األولى قد انتقلت‬
‫إلى جميع أفراد البشر؟ ففي الحد األدنى كان عليهم االعتقاد بأن أفراد اإلنسان قبل‬
‫السيد المسيح‪ ،‬كانوا يولدون مذنبين‪ ،‬أما الذين ولدوا بعد صلب السيد المسيح‪،‬‬
‫فيجب أن ال يكونوا مذنبين؛ ألن السيد المسيح قد دفع كفارة الخطيئة من خالل‬
‫تضحيته بنفسه‪ ،‬والمفروض أن ال ّله قد قبل بتلك التضحية‪ .‬فلماذا يستمر االعتقاد‬
‫بأن اإلنسان يولد مذنبا؟‬
‫يذهب أوغسطين إلى االعتقاد طبقا للتعاليم المسيحية بأن الناس يولدون مذنبين‪،‬‬
‫وعليه فإن خطيئة اإلنسان خارجة عن اختياره‪ ،‬وبذلك فإنه يعتقد بنوع من الجبر‪ .‬وأما‬
‫في رؤية ابن سينا فإن كل فرد هو المسؤول عن خطيئته؛ ألنه هو الذي ارتكب تلك‬
‫الخطيئة‪ ،‬وبذلك يذهب ابن سينا إلى االعتقاد باختيار اإلنسان‪ .‬يذهب أوغسطين‬
‫في كتاب له تحت عنوان (االعترافات) إلى القول بأن آدم كان مختارا في ارتكاب‬

‫‪ 71‬األنعام‪.164 :‬‬
‫‪395‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫الخطيئة‪ ،‬بينما يرى نفسه مجبرا على ارتكابها‪ .72‬فهو يرى أن الشر نتاج سوء توظيف‬
‫االختيار‪ ،‬في حين يذهب في الوقت نفسه إلى االعتقاد بالخطيئة األولى أيضا ويعتبرها‬
‫منشأ للشر‪ ،‬وبذلك نالحظ نوعا من التناقض في تفكير أوغسطين‪ ،‬بمعنى أن اإلنسان‬
‫قد تعرض للجبر (الخطيئة األولى)‪ ،‬ولالختيار (بسبب اإلرادة واالختيار) أيضا‪ ،‬وهذا‬
‫التناقض ملحوظ في كتاباته‪ ،‬حيث يذهب في بعض المواضع إلى االعتقاد باالختيار‪،‬‬
‫وبذهب في مواضع أخرى إلى االعتقاد بالجبر‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬لقد تعرض أوغسطين للتناقض في كالمه‪ ،‬فهو من جهة يرى‬
‫اإلنسان مجبرا‪ ،‬وأنه سقط في الخطيئة دون إرادة منه (الخطيئة األولى)‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى يعتبر الخطيئة والذنب من الزاوية العاطفية واإلرادية لوجود اإلنسان‪ .‬في حين‬
‫أننا ال نشاهد هذا التناقض في كتابات ابن سينا‪ ،‬ويعود ذلك إلى االختالف بينهما في‬
‫المتبنيات الفكرية؛ وذلك ألن القول بالخطيئة األولى من المفاهيم المعترف بها رسميا‬
‫في الديانة المسيحية‪ ،‬أما الدين اإلسالمي فيرى أن كل مولود يولد على الفطرة اإليمانية‬
‫الطاهرة‪ ،‬وأنه ال يكون مسؤوال عن معصية ارتكبها غيره‪ ،‬وإنما سيكون مسؤوال فيما لو‬
‫ارتكب الخطيئة بعد ذلك باختياره‪ .‬وعليه فإن هذا االختالف في المباني هو الذي أدى‬
‫إلى االختالف في آراء هذين الفيلسوفين‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن أعمال اإلنسان إذا اشتملت على شر وخطيئة‪،‬‬
‫فمر ّد ذلك إلى سوء توظيف اإلرادة؛ بمعنى أن اإلنسان بنفسه هو الذي يعمل على‬
‫توظيف إرادته وتوجيهها في المسار الخاطئ‪ .‬كما يشير أوغسطين إلى تأثير الخطيئة‬
‫األولى‪ ،‬ويقول إنه بسبب الخطيئة األولى قد انجرف اإلنسان ناحية األمور المادية‪،‬‬
‫وابتعد عن ال ّله‪ .‬كما أنه يعتقد في الوقت نفسه بأن هذا الشر والخطأ صادر عن اإلنسان‪،‬‬
‫وأنه هو الذي يتحمل مسؤوليته‪ .‬يرى أوغسطين أن اإلنسان فيما يتعلق باألعمال‬
‫الصالحة ليس حرا‪ ،‬وإنما هو فيها بحاجة إلى لطف ال ّله‪ ،‬وأما فيما يتعلق بارتكاب‬
‫المعصية فهو حر ومختار‪ ،‬ويقترف الذنب بإرادة حرة‪ ،‬ودون تدخل من قبل ال ّله‪.73‬‬

‫‪ 72‬آگوستين‪ ،‬اعترافات‪ ،‬ص ‪ ،297‬ترجمه إلى الفارسية‪ :‬سايه هيثمي‪ ،‬دفتر نشر وپژوهش سهروردي‪،‬‬
‫طهران ‪ 1380‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ 73‬انظر‪ :‬المصدر أعاله‪.‬‬
‫أمير زماني‬ ‫‪396‬‬
‫وهنا قد يشكل ويقال‪ :‬إن أوغسطين ال يرى اإلنسان مختارا في القيام بأعمال الخير‪،‬‬
‫ويقصر ذلك على ارتكاب المعاصي فقط‪ ،‬ولكننا نقول في الجواب‪ :‬إن األمر ليس‬
‫كذلك‪ ،‬إذ ال يسلب أوغسطين اإلرادة واالختيار عن اإلنسان في فعل الخير‪ ،‬بل إنه يرى‬
‫ضرورة لوجود اإلرادة واالختيار لقيام اإلنسان بأفعال الخير‪ ،‬ولكنه يقول‪ :‬باإلضافة‬
‫إلى إرادة اإلنسان واختياره‪ ،‬فإننا نحتاج كذلك إلى رعاية ال ّله ولطفه أيضا‪ .‬وما لم‬
‫يتحقق الجزء األخير من العلة التامة‪ ،‬لن يتحق فعل الخير بوصفه نتيجة لتلك العلة‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬فيما يتعلق بأفعال الخير تعتبر اإلرادة هي العلة الناقصة‪ ،‬وفيما يتعلق‬
‫بالقيام بأعمال الشر تعتبر اإلرادة هي العلة التامة‪ .‬وعليه فإن ما يقال من أن أوغسطين‬
‫يرى اإلنسان مجبرا على فعل الخير ليس صحيحا‪ ،‬وإن كان العتقاده بالخطيئة األولى‬
‫يقع في مصيدة القول بالجبر‪.‬‬

‫االستنتاج‬
‫بشكل عام يجب بالنظرية العلمية أن تكون بحيث ال تتعارض أجزاؤها فيما‬
‫بينها‪ ،‬وأال تشتمل على التناقض الداخلي‪ .‬ولكن كما تقدم أن أوضحنا في معرض‬
‫النقد والتحليل‪ ،‬فإن نظرية أوغسطين تعاني من التناقض الداخلي‪ ،‬فإن ما ذكره من‬
‫مفهوم الخطيئة األولى‪ ،‬ومفهوم اختيار اإلنسان مثال يتعارضان فيما بينهما‪ .‬فإن‬
‫واحدا من هذين المفهومين (الخطيئة األولى) يؤدي إلى القول بالجبر‪ ،‬والمفهوم‬
‫اآلخر (االختيار) يؤدي إلى القول باالختيار‪ .‬إن نظرية أوغسطين في إطار تبرير‬
‫الشرور يواجه بعض اإلشكاالت‪ .‬فإن ابن سينا ــ على سبيل المثال ــ من خالل‬
‫طرحه لنظرية عدمية الشرور يجيب عن إشكال الثنوية‪ ،‬ومن خالل طرح نظرية‬
‫التعويض‪ ،‬يعمل على حل مشكلة التناقض بين وجود الشرور والعدل اإللهي‪.‬‬
‫أما أوغسطين فيروم من خالل طرحه لنظرية عدمية الشرور‪ ،‬اإلجابة حتى عن‬
‫مشكلة العدل اإللهي‪ ،‬في حين أن هذه النظرية ال تستطيع حل هذه المشكلة‪ .‬وفي‬
‫الحقيقة فإن ابن سينا ــ بسبب رؤيته الواقعية ــ ال ينكر وجود الشرور في العالم‪ .‬إن‬
‫النظام األحسن المنشود البن سينا‪ ،‬يختلف عن القول بخيرية العالم من وجهة نظر‬
‫أوغسطين‪ .‬يذهب أوغسطين إلى القول بأن العالم خير بأسره‪ ،‬وأن الشرور ْ‬
‫إن هي‬
‫‪397‬‬ ‫ثيوديسيا أوغسطين من منظور ابن سينا‬

‫إال أمور عدمية‪ ،‬أما النظام األحسن البن سينا فيعكس غلبة الخيرات على الشرور‪،‬‬
‫ال أن يقول بأن العالم بأجمعه خير‪ ،‬بل يقول إن هذا العالم رغم اشتماله على‬
‫بعض الشرور هو أفضل العوالم الممكنة‪ .‬وفي الحقيقة فإن ابن سينا من خالل‬
‫طرحه لنظرية النظام األحسن‪ ،‬يعمل على تبرير الشرور الوجودية أيضا‪ ،‬خالفا‬
‫ألوغسطين الذي يعجز عن تبرير الشرور الوجودية بسبب ذهابه إلى االعتقاد‬
‫بعدمية جميع الشرور‪.‬‬
‫يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن خطيئة النبي آدم قد انتقلت إلى جميع ذريته‪،‬‬
‫وبذلك أحاطت الخطيئة بجميع أفراد البشر‪ .‬وأما في المباني الفكرية البن سينا فاإلنسان‬
‫يولد طاهرا من الذنوب‪ ،‬ثم يبتلى بالمعصية وارتكاب الذنب بإرادته واختياره‪ .‬كما‬
‫يذهب أوغسطين إلى االعتقاد بأن جميع الشرور الطبيعية التي يتعرض لها اإلنسان‬
‫معلولة لذنوبه‪ .‬ولكننا ال نستطيع القبول بادعاء أوغسطين بشكل مطلق‪ .‬فإننا نعلم اليوم‬
‫أن الكوارث الطبيعية كانت موجودة حتى قبل وجود اإلنسان على األرض‪ ،‬وأحيانا‬
‫تحصد الشرور الطبيعية أرواح األبرياء من األطفال واألتقياء‪ .‬كما أن بعض المصائب‬
‫التي تنزل على األولياء من باب االمتحان أو رفع الدرجات‪ ،‬ال يمكن تبريرها بكالم‬
‫أوغسطين‪.‬‬
‫وفي المقابل فإن نظرية ابن سينا تتمتع بتناغم داخلي أكبر‪ .‬فهو ال يقتصر لحل‬
‫المسألة على طريقة حل واحدة‪ ،‬وإنما يعمل على توظيف مختلف الطرق لحل هذه‬
‫المسألة‪ ،‬حيث يحل جزءا من المشكلة من خالل كل واحد منها‪ .‬في حين ينظر‬
‫أوغسطين إلى المسألة برمتها من بعد واحد‪ .‬فهو يسعى إلى بيان جميع شرور العالم‬
‫من خالل طريقة حل واحدة‪ ،‬ومن هنا يكمن سر إخفاقه‪ ،‬فعندما يقول مثال على نحو‬
‫مطلق‪ :‬إن الشرور إما ذنوب أو عقوبة على ذنوب‪ ،‬يشكل عليه بالقول‪ :‬لماذا يعاني‬
‫األبرياء واألطفال أحيانا من األلم؟ وأما إذا نظرنا إلى المسألة برؤية متعددة األبعاد‪،‬‬
‫فلن يرد هذا اإلشكال‪ ،‬حيث يمكن لنا اإلجابة عن هذا اإلشكال إما من خالل القول‬
‫بنظرية التعويض‪ ،‬أو من خالل اعتبار هذا النوع من الشرور اختبارا إلهيا يتوقف عليه‬
‫كمال اإلنسان‪.‬‬
‫من هنا ال بد لحل مسألة الشرور من توظيف العديد من طرق الحل‪ ،‬والعمل على‬
‫أمير زماني‬ ‫‪398‬‬
‫تبرير بعض الشرور من خالل كل واحد منها‪ ،‬وإال لن ننجح في تبرير جميع الشرور في‬
‫العالم‪ .‬وعلى هذا األساس يبدو أن رؤية أوغسطين بسب نظرته األحادية البعد تواجه‬
‫مشكلة‪ ،‬ولذلك فإنه يعجز عن تبرير جميع الشرور‪ ،‬وأما ابن سينا فحيث يعمل على‬
‫توظيف مختلف طرق الحل في هذا المجال‪ ،‬تحظى نظريته بنجاح أوفر‪.‬‬
‫دراسات‬

‫إشكالية إسالمية المعرفة‬


‫َّ‬ ‫المعرفية في‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫النظم‬
‫ميثودولوجيا العقل الذي ُينتج العقبات في وجه العقل الحديث‬

‫‪1‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬
‫___________________________________‬

‫اإلشكالية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫{‪ }I‬في تخصيص َّ‬
‫التساؤل عن‬
‫العربي الحديث والمعاصر‪ ،‬في موقع‬ ‫ّ‬ ‫تقع إشكال َّية إسالمية المعرفة‪ ،‬في الفكر‬
‫الفكرة‪ .‬وكل فكرة إنَّما هي تتو َّفر على إمكان أن تتسا َءل‪ .‬إنَّها من جهة كونها كذلك‪،‬‬
‫المتسا َءل عنه‪ ،‬اِنطالق ًا من مختلف الحقول‬
‫هي تُقدِّ ُم نفسها على أنها في موضع ُ‬
‫ِ‬
‫العلم َّية الحديثة‪.‬‬
‫الخاص بالفلسفة‪ ،‬فلسف َّي ًا‪ ،‬يعني‬
‫ّ‬ ‫متى ُفهمت هذه الحقول‪ ،‬داخل {حقل ــ الفهم}‬
‫واالفتراضات‪ ،‬عند مستوى‬ ‫ذلك أننا يمكن أن نتساءل عنها بواسطة التصورات ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫العلمي‪ ،‬من جهة‪ ،‬واألساليب والطرق والتقنيات واألدوات‪ ،‬عند مستوى‬ ‫ّ‬ ‫الموضوع‬
‫ٍ‬
‫العلمي‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫المنهج‬
‫ّ‬
‫االختالف والتعدُّ د والتنوع‪ ،‬على‬ ‫عند ذلك‪ ،‬يقوم التَّساؤل‪ ،‬في حقل كبير من ِ‬
‫حقول الفلسفة الخمسة‪ ،‬أي الميتافيزيقا‪ ،‬واإلبستيمولوجيا‪ ،‬واللوجيكا‪ ،‬واإلثيقا‪،‬‬
‫والبولتيكا؛ وفي بعض األحايين‪ ،‬يمكن إضافة اإلسثتيكا‪ ،‬إليها‪.‬‬
‫وبالطبع‪ ،‬ال يمكن اِختزال النَّظرة ــ الرؤية في منطق الفهم‪ ،‬داخل التَّساؤل‬
‫العلمي الحديث‪ ،‬في حقل دون غيره‪ .‬لكن‪ ،‬من جهة أن التَّساؤل ال يقوم إالَّ‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬مدير تحرير مجلة قضايا إسالمية معاصرة‪ ،‬وأستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية ــ وجامعة القديس‬
‫يوسف في بيروت ــ قسم الفلسفة‪.‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪400‬‬
‫بضروب تحديد صريحة من ِق َب ِل ُثالث َّية {السابق إلى التَّساؤل ــ والمنظور الذي من‬
‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫فإن تخصيص {حقل ــ الفهم}‬ ‫شأن التَّساؤل ــ وما عنه يتسا َء ُل التَّساؤل}‪َّ ،‬‬
‫العلمي الحديث‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫بالتساؤل إنَّما هو المهمة األولى التي يضطلع بها التَّساؤل‬
‫تساؤل علمي حديث‪.‬‬
‫على ذلك‪ ،‬يقوم التَّساؤل عن إشكال َّية إسالمية المعرفة على ميتافيزيقا سابقة‬
‫الخاصة‬ ‫واالفتراضات‬‫إلى أسلمة المعرفة‪ ،‬في كل ضروب إنتاجها للفرضيات ِ‬
‫َّ‬
‫بها‪ ،‬من جهة أولى‪ ،‬وعلى إبستيمولوجيا تبحث عن الضروب اآليديولوجية‪،‬‬
‫أي مواقف فهم الوجود‪ ،‬والعا َلم‪ ،‬والكينونة‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬التي‬
‫تحتجب داخل اإلشكال َّية‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬وعلى الوعي بمنطق الفهم الضابط‬
‫لكل ضروب {اإلنتاج ــ والبناء ــ والتحديد} التي ت ِ‬
‫ُمارسها اإلشكال َّي ُة َع َبر‬
‫ُمارس بها‪ ،‬من جهة ثالثة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الممارسات العلم َّية‪ ،‬أي األبحاث والدراسات‪ ،‬وت َ‬
‫وف ًقا لذلك‪ ،‬بأ َّي ِة معان يمكننا أن نع ِّي َن األرض َّية الميتافيزيقية للتساؤل؟ وعلى أي‬
‫نحو يمكننا أن نفهم تساؤل الفهم داخلها؟‬

‫اإلشكالية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫{‪ }II‬تعيين َّ‬
‫التساؤل الميتافيزيقي داخل‬
‫التَّساؤل عن التواشج البنيوي بين عناصر و ُمك َِّونات إشكال َّية إسالمية المعرفة‬
‫العربي الحديث والمعاصر‪ ،‬يقوم على التَّساؤل عن البِن َية والصيرورة‬ ‫ّ‬ ‫في الفكر‬
‫اللتين من شأن اإلشكالية‪ .‬وفي هذا السبيل‪ ،‬علينا أن ننطلق من بناء محطات ِ‬
‫بناء‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫{التَّساؤل ــ والتفكير ــ والفهم} اإلبستيمولوج َّية التي ُيمكن وف ًقا لها أن نستخرج‬
‫األرض َّية الميثودولوج َّية التي تضبط الدراسات واألبحاث في‪ ،‬وحول‪ ،‬موضوعات‬
‫هذه اإلشكال َّية األكثر إشكال َّي ًة في المجتمعات العرب َّية‪ ،‬منذ قرنين من الزمان‬
‫الكرونولوجي‪.‬‬
‫ذاهب نحو التفحص البنيوي‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫إن التَّساؤل الميتافيزيقي‪ ،‬والحال هذي‪ ،‬إنَّما هو‬
‫لفهم العا َلم داخل هذه اإلشكال َّية‪ .‬أو في عبارة صريحة‪ ،‬هو ُيقدِّ ُم نفسه على النحو‬
‫تصو ٍر للعا َلم‪ ،‬والعالم َّية‪ ،‬يقبع ٌ‬
‫فعل معرفي حديث يريد أن ُيد ِّي َن‬ ‫اآلتي‪ :‬ضمن أي ُّ‬
‫(من الدِّ ين) المعرف َة؟‬
‫‪401‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫أن تساؤالً من هذا النوع ال يمكن أن ُيفهم‪ ،‬في موضوعه ومنهجه‪،‬‬ ‫ومن جهة َّ‬
‫ومنظور الحقيقة داخله‪ ،‬إالَّ َعبر الكشف عن موضوعه‪ ،‬أي المعرفة ِ‬
‫العلم َّية الحديثة‪،‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫وفوق‬ ‫ِ‬
‫فإ َّن ُه علينا أن نستجلي بداهات المعرفة العلم َّية الحديثة‪ ،‬وما بعد الحديثة‪َّ ،‬أوالً‬
‫ٍ‬
‫شيء‪.‬‬ ‫ك ُِّل‬

‫لمية الحديثة‪:‬‬
‫المنطقية التي من شأن المعرفة ال ِع َّ‬
‫َّ‬ ‫{‪ }III‬البداهات‬
‫إبستيمولوجي ًا‪ ،‬أي اِنطالق ًا من الفلسفة بالعلوم الحديثة‪ ،‬والمعرفة ِ‬
‫العلم َّية‬ ‫َّ‬
‫والفلسفية الحديثة‪ ،‬وما بعد الحديثة‪ ،‬يمكننا أن ننطلق من بداهات هي‪ ،‬على أقل‬
‫تقدير‪ ،‬اآلتية‪:‬‬
‫البداهة األولى‪ :‬بناء الفه ِم ‪ The Understanding Construction‬على‬
‫قاعدة {التعدُّ د ــ في ــ الفهم}‪ .‬معنى ذلك أن كل فهم إنَّما هو يقوم على‬‫ِ‬
‫ُثنائ َّيات المعرفة الحديثة‪ .‬أي ُثنائ َّية َّ‬
‫{الذات ــ والموضوع}‪ ،2‬وثنائية {الفكرة‬
‫نتج عن‬ ‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬
‫ــ والمالحظة (أو المعاينة)} ‪ ،‬وثنائية {الفهم ــ وحقل الفهم} ‪َ .‬ي ُ‬
‫االتجاهات‬‫واالستنباط)‪ ،‬ومدارس تجسد ِ‬‫(االستقراء ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬اِتجاهات علمية ِ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫العلم َّية‪ ،‬وتوجهات آيديولوجية مختلفة ومتعددة ومتنوعة داخل المدارس‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫العلم َّية‪.‬‬
‫ويمكن أن نضيف أننا‪ ،‬بعد جان فرانسوا ليوتار‪ ،5‬نعيش في عصر سقوط‬
‫السرديات الكبرى‪ ،‬أي عصر اِنهيار الليبرالية‪ ،‬والماركسية‪ ،‬والقومية‪ ،‬والدينية‪.‬‬

‫بد ًءا من ُثالث َّية رينيه ديكارت‪ ،‬وفرنسيس بيكون‪ ،‬وإيمانوئيل كانْت‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫بد ًءا من ُثنائ َّية جورج فردريش هيغل‪ ،‬وكارل ماركس‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫بد ًءا من دوستات دي ت َْر ْيسي‪ ،‬وتوماس كون‪ ،‬وميشيل فوكو‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫أنظر‪ :‬جان فرانسوا ليوتار‪ ،‬الوضع ما بعد الحداثي ــ تقرير عن المعرفة‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد حسان‪،‬‬ ‫‪5‬‬
‫ط‪ ،1‬دار شرقيات للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.1994 ،‬‬
‫وكذلك أنظر‪ :‬جان فرانسوا ليوتار‪ ،‬في معنى ما بعد الحداثة ــ نصوص في الفلسفة والفن‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫العربي‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء ــ بيروت‪.2016 ،‬‬
‫ّ‬ ‫السعيد لبيب‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪402‬‬
‫البداهة ال َّثانية‪ :‬ال َثم َة حقيقة؛ هناك حقيقة في كل ٍ‬
‫مرة‪ ،‬أو ال تكون‪ .‬إذن‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫‪ I‬ــ اإلجابة هي دائم ًا َق ْب ِل َّي ًا ا ٌ‬
‫فتراض على هذا النحو أو ذاك‪،‬‬
‫ِ‬
‫المعرفة‪ ،‬أو ال تكون‪.‬‬ ‫‪ II‬ــ المعرف ُة حدُّ‬
‫الواقعي‪ ،‬ألنه‪ ،‬ببساطة‪،‬‬‫ّ‬ ‫البداهة ال َّثالثة‪ :‬ليس يمكن الحديث عن الواقع‬
‫لم تعد إمكانات اإلحاطة به متوفرةً؛ بل يمكن الظفر بفهم جديد {في ــ ك ُِّل ــ‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫أساسا للتعميم‬
‫ً‬ ‫َم َّر ٍة} عن الواقع‪ .‬إذن‪ ،‬ال َث َّم َة واقع َّيات يمكن أن تكون‬
‫الحديث‪ .‬ألنَّه‪ ،‬بعدَ جان بودريار‪ ،‬وأطروحة موت الواقع‪ ،6‬نحن‪ ،‬في الحقيقة‬
‫الم َّرة‪ ،‬كائنات تفهم الواقع على نحو مختلف‪ .‬فإذن ال َث َّم َة‬ ‫التي هنا‪ ،‬أي هذه َ‬
‫وحدة الواقع‪ .‬وحد ُة الواقع هذه ضرب من الفهم اآليديولوجي؛ وال ُيتو َّفر‬
‫عليها‪ ،‬في أغلب األحايين‪ ،‬إالَّ كوجهة نظر‪ .‬ولكن‪ ،‬المعرفة ِ‬
‫العلم َّية والفلسفية‬
‫ال تقوم على وجهة نظر؛ بل على نظر َّيات ومفاهيم وأبحاث ودراسات تمارس‬
‫بناء {موضوع ــ العلم}‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬ ‫المحطات الموضوعية في بناء وإعادة ِ‬
‫َّ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬المحطات الميثودولوجية في بناء وإعادة بناء منهج‬ ‫وتمارس‪ ،‬من ٍ‬
‫ُ‬
‫العلم والفلسفة‪.‬‬
‫ضرب من ضروب التعدُّ د الثقافي‬
‫ٌ‬ ‫الرابعة‪ :‬نحن‪ ،‬أي المجتمعات العرب َّية‪،‬‬ ‫البداهة َّ‬
‫في وحدة الثقافة العا َلم َّية‪.‬‬
‫بنا ًء على البداهات األربع هذه‪ ،‬يمكننا أن نتسا َءل مباشر ًة عن ماه َّية الموضوع‬
‫أي‬‫الذي تدور النقاشات حوله‪ ،‬داخل إشكال َّية إسالمية المعرفة‪ .‬ونقول‪ :‬على ِّ‬
‫يتم‬ ‫ِ‬
‫مفاهيم‪ ،‬ولغة مفاهيم‪ ،‬وباالعتماد على أ َّية نظر َّيات‪ ،‬ومضامين‪ ،‬ومنظورات‪ُّ ،‬‬
‫تحديد موضوع إشكال َّية إسالمية المعرفة؟ كيف ولماذا؟‬

‫‪ 6‬أنظر‪ :‬جان بودريار‪ ،‬الفكر الجذري ــ أطروحة موت الواقع‪ ،‬ترجمة‪ :‬منير الحجوجي وأحمد‬
‫القصوار‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪.2006 ،‬‬
‫‪403‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫اإلشكالية هو اآليديولوجيا‪:‬‬
‫َّ‬ ‫{‪ }IV‬الموضوع في‬
‫إسالمية المعرفة فكر ٌة يمكن‪ ،‬اِنطالق ًا من سوسيولوجيا المعرفة أن نتسا َء َل‬
‫مصدرا روح َّي ًا‬ ‫االنتقال داخل حقل الدِّ ين من الدِّ ين بوصفه‬‫عنها‪ ،‬باِعتبارها نتاج ِ‬
‫ً‬
‫الذات الفاعلة مجتمع َّي ًا‪ ،‬إلى الدِّ ين من جهة‬‫المجتمعي‪ ،‬الذي من شأن َّ‬
‫ّ‬ ‫للوجود‬
‫المجتمعي في أن يكون ضمن طبقات أربعة من شأن‬ ‫ّ‬ ‫كونه آيديولوجيا ضابطة للفعل‬
‫مفهوم اآليديولوجيا‪ ،‬هي‪ ،‬على أقل تقدير‪ ،‬اآلتية‪:‬‬
‫‪ I‬ــ مفهوم {النموذج ــ المثال ‪ }Ideal-Type‬للفعالية المجتمع َّية‪ ،‬والفعل‬
‫المجتمعي داخلها‪،‬‬
‫ّ‬
‫المجتمعي‪ ،‬أي الذي ينطلق من‬
‫ّ‬ ‫‪ II‬ــ حركة مفهوم اآليديال داخل الفعل‬
‫مرورا بضروب تحديد المؤسسة‬
‫ً‬ ‫المجتمعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫داخل الفعل والذاهب نحو الخارج‬
‫المجتمع َّية له‪،‬‬
‫‪ III‬ــ مفهوم الرؤية ال ُك ِّل َّية والشاملة للوجود والكينونة والعالم والمجتمع‬
‫واإلنسان‪،‬‬
‫االصطناع والفبركة على صعيدَ ْي موضوع َّية الواقع‪ ،‬وذاتية الفكرة؛‬‫‪ IV‬ــ مفهوم ِ‬
‫أي خارجانية الموضوع‪ ،‬وداخالنية المفهوم‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬بداهة حضور اآليديولوجيا‪ ،‬بوصفها األصول المجتمع َّية للمعرفة‪،‬‬
‫داخل كل ضرب من ضروب إنتاج المعرفة البشرية‪ .‬لذا‪ ،‬نكون‪ ،‬على نحو‬
‫ميثودولوجي‪ ،‬أمام إشكال َّية تُقدِّ ُم نفسها على أنها إشكال َّية آيديولوجية‪ .‬لكن‪ ،‬ما هي‬
‫عناصر اآليديولوجيا المجتمع َّية داخل إشكال َّية إسالمية المعرفة‪ ،‬بعدَ الكشف عن‬
‫‪7‬‬
‫بداهات منطق َّية ــ إبستيمولوج َّية تقوم اإلشكال َّية عليها؟‬

‫العربي المعاصر‪ ،‬مؤسسة‬


‫ّ‬ ‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬إشكال َّية التُّراث ــ والحداثة في الفكر‬
‫‪ 7‬أنظر‪َّ :‬‬
‫مؤمنون بال حدود‪ ،‬ط‪ ،1‬الرباط‪.2016 ،‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪404‬‬
‫إشكالية آيديولوجية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫إشكالية إسالمية المعرفة‬
‫َّ‬ ‫{‪}V‬‬
‫علينا أن نميز بين إسالمية المعرفة وأسلمة المعرفة‪ ،‬من جهة‪ ،‬والمعرفة اإلسالمية‪،‬‬
‫جهة أخرى‪.‬‬‫من ٍ‬

‫تتضمن المعرفة اإلسالمية ضرب من ضروب ممارسة إنتاج المعرفة‪ ،‬يقع كإمكان‬
‫بين إمكانات أخرى (مثالً‪ :‬المعرفة الماركسية‪ ،‬والمعرفة الليبرالية‪ ،‬والمعرفة القومية‪،‬‬
‫والمعرفة النسوية‪...‬إلخ)‪ .‬فيما تتضمن عملية إسالمية المعرفة‪ ،‬وأسلمة المعرفة ضرب ًا‬
‫واحد ًا صريح ًا يريد أن يذهب إلى أن تكون معرف ٌة ما هي المعرفة األصلية لكل المعارف‬
‫الممكنة‪ .‬أي تلك التي ت َُمكِّن المعارف األخرى من أن تكون كذلك‪ .‬وبذلك‪ ،‬هي‬
‫تتضمن كل ضروب إمكان التساؤل والتفكير والفهم التي من شأن إنتاج وبناء وتحديد‬
‫المعارف األخرى‪.‬‬
‫بالتالي حينما نقول أسلمة نذهب إلى مستوى فعل معرفي يقوم على فعالية‬
‫معرفية‪ ،‬وحقل معرفة‪ ،‬ومؤسسة معرفة‪ ،‬وبالتالي مجتمع معرفة بعينه تضبطه جملة‬
‫قواعد‪ ،‬وضوابط تتحكم بإمكانات وعمليات إنتاج المعرفة‪ .‬وبواسطة ذلك‪ ،‬هي تنتج‬
‫حقل المعرفة‪ ،‬وحقل الفهم‪ ،‬أي حقل الحقول الذي يتضمن كل الحقول المعرفية‬
‫الممكنة‪.‬‬
‫وحينما نقول المعرفة اإلسالمية نقول أن ثمة معرفة ما‪ ،‬قد تطرح نفسها‪ ،‬أو تضع‬
‫نفسها في مواجهة‪ ،‬ضمن الصراع المعرفي حول مفهوم الحقيقة‪ ،‬وإمكانها‪ ،‬مع‬
‫المعارف األخرى‪ِ ،‬‬
‫واالتجاهات المعرفية األخرى‪ ،‬والمدارس المعرفية األخرى‪،‬‬
‫والتوجهات الفكرية داخل المدارس المعرفية األخرى‪.‬‬
‫إن ذلك يشير مباشر ًة إلى ثالث بداهات ميتافيزيقية ــ ميثودولوجية‪ ،‬على أقل‬
‫تقدير‪ ،‬من خاللها تمارس إشكالية إسالمية المعرفة كل ضروب الفبركة والحجب‬
‫ِ‬
‫واالصطناع‪ ،‬على صعيد فهم الواقع المجتمعي العربي‪ ،‬وفهم المفاهيم العلمية الحديثة‬
‫وما بعد الحدثية‪ .‬هذه البداهات‪ ،‬هي اآلتية‪:‬‬
‫‪ I‬ــ بداهة تقسيم العا َلم إلى عوالِم متنافرة‪ ،‬ومتصارعة‪ ،‬وتجاوز وحدة العا َلم‬
‫والعالمية الحديثة‪،‬‬
‫‪405‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫‪ II‬ــ بداهة وحدة الحقيقة القائمة على ثيولوجيا تجيب حتَّى َق َبل أن يقوم التَّساؤل‪،‬‬
‫‪ III‬ــ بداهة تديين (من الدِّ ين) البِنى المجتمع َّية األساس َّية الثالث‪ :‬بِن َية الثقافة (في‬
‫االقتصاد (وثالثية اإلنتاج والتبادل والتوزيع)‪ ،‬وبنية‬ ‫المعنى ال ُك ِّلي ــ المعقد لها)‪ ،‬وبينة ِ‬
‫ّ‬
‫السياسة (وثالثية السلطة‪ ،‬والمشروعية القانونية‪ ،‬والشرعية المجتمع َّية)‪.‬‬

‫إشكالية‬
‫َّ‬ ‫إشكالية إسالمية المعرفة َّإنما هي‬
‫َّ‬ ‫{‪ }VI‬ولكن ماذا نعني َّ‬
‫بأن‬
‫آيديولوجية؟‬
‫هل نعني بذلك أن هذه اإلشكال َّية دون غيرها هي إشكال َّية آيديولوجية؟ وهل أنها‬
‫تشتمل على مواقف آيديولوجية نابعة من أفهام مغلقة‪ ،‬في حين أن اإلشكاليات األخرى‬
‫تتضم ُن ذلك؟‬
‫َّ‬ ‫ال‬
‫في الحقيقة‪ ،‬أن نقول أنها إشكالية آيديولوجية دون غيرها‪ ،‬فإن ذلك كالم يقع‪ ،‬وغيره‬
‫من ضروب إمكان إنتاج الكلمة ضمن تصور ماركسي‪ 8‬مغلق لمفهوم اآليديولوجيا‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ال ثمة معرفة من دون حضور اآليديولوجيا فيها‪ ،‬على هذا النحو أو ذاك‪ .‬إننا‬
‫حينما نقول آيديولوجيا داخل المعرفة نشير مباشر ًة إلى األصول المجتمعية التي تُسهم‬
‫في إنتاج المعرفة‪ ،‬وتشارك في تحديد ماهيتها‪ ،‬وبنيتها‪ ،‬وتحدد نمط ًا بعينه من أنماط‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫علينا أن نعيد بناء التساؤل‪ ،‬وفق ًا لذلك‪ ،‬من جهة مفهوم آخر هو الفهم المغلق‪ .‬أو‬
‫الفهم الذي يذهب نحو بناء الجماعة ــ الهوية‪ .‬إنه الفهم الذي يريد أن يحجب إمكان‬
‫اله َو ِو ُّي الذي يجعل منا كائنات منفصلة عن العا َلم‪.‬‬
‫الفهم‪ .‬ذلك الفهم َ‬
‫حينما نتساءل بهذه الطريقة‪ ،‬يمكننا أن نضع الفرضيات التفسيرية الدالة الفاهمة‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫يجب أن نميز بين نفي وجود المعرفة‪ ،‬وبين نفي إمكان المعرفة؛ َث َّم َة إمكان‬
‫للمعرفة في أن تُبنى اِنطالق ًا من اإلنسان؛ بوصفنا ــ نحن اإلنسان في مجتمعات‬

‫‪ 8‬أنظر‪ :‬كارل ماركس وفردريك أنجلز‪ ،‬اآليديولوجيا األلمانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬فؤاد أيوب‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪406‬‬
‫العلم َّية الحديثة وما بعد الحديثة من بلدان العلم في الغرب ــ‬ ‫تتلقى المعرفة ِ‬
‫ال من أشكال ممارسة فكرة اإلنسان في عصر اإلنسان هذا‪ .‬إنَّنا في عصر‬ ‫شك ً‬
‫الر ْغ ِم ِم ْن أنوفنا؛ شئنا ذلك أم أبينا‪ ،‬ال فرق‪ .‬حينما نضع هذه البداهة‬
‫اإلنسان على َّ‬
‫في أعلى درجة من درجات سلم اإلعالن عن ذات أنفسنا العميقة بوصفنا كائنات‬
‫ننطلق من ثقافة‪ ،‬أي شكل من أشكال الثقافة‪ ،‬عالم َّي ًا‪ ،‬إلى العا َلم‪ ،‬نحدِّ ُد على‬
‫أن ال َثم إمكانًا لمعرفة تُضاف إلى حقل المعرفة ِ‬
‫العلم َّية الحديثة‬ ‫نحو صريح َّ‬
‫َّ‬
‫تنطلق من الدِّ ين‪ ،‬أي دين كان‪ .‬ال يمكن إنتاج معرفة ما‪ ،‬أي شكل من أشكال‬
‫المعرفة‪ ،‬وممارستها‪ ،‬إالَّ بواسطة ُثالث َّية {إدراك المعرفة ــ وفهم المعرفة ــ ووعي‬
‫المعرفة}‪ .‬أي تلقي المعرفة من الخارج‪ ،‬ومن َبعدُ تفكيكها إلى أجزاء مفهومة‪،‬‬
‫ومن بعدُ وضعها في موقع معرفي يخصها؛ أي وضعها بواسطة فه ٍم ِ‬
‫حاك ٍم ضمن‬ ‫َ‬
‫حقل فهم بعينه‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬متى قلنا أسلمة المعرفة‪ ،‬وإسالمية المعرفة‪ ،‬نكون واقعين في‬
‫علميات نسخ‪ ،‬وتكرار‪ ،‬واِجترار لمعارف تقع خارج الزمان األُنطولوجي ــ‬
‫المجتمعي الذي من شأن مفاهيم المعرفة ِ‬
‫العلم َّية الحديثة وما بعد الحديثة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تتضم ُن آيديولوجيا إسالمية تريد أن تواجه كل ما‬
‫َّ‬ ‫وحينما نقول معرفة إسالمية‬
‫سواها نقول أشياء معرفية أخرى قد تكون خارج موضوع المعرفة الحديث؛ أي‬
‫بهذا القول نقع‪ ،‬على هذا النحو أو ذاك‪ ،‬خارج تاريخ المعرفة‪ ،‬بوصفه‪{ ،‬ههنا‬
‫ــ وــ اآلن}‪ ،‬صار صناعة‪ ،‬وخلق ًا‪ ،‬وإنتاج ًا‪ .‬وهذا ال يعني‪ ،‬على اإلطالق‪ ،‬أن‬
‫موضوعات إنسانية ومجتمعية‪ ،‬في مجتمعات إسالمية‪ ،‬تخرج عن ماه َّية‬
‫موضوع المعرفة ِ‬
‫العلم َّية الحديثة‪ .‬ال؛ َّ‬
‫إن ذلك‪ ،‬وما نقوله‪ ،‬يرتبط باألرضية‬
‫األُنطولوجية ــ واإلبستيمولوجية ــ والميثودولوجية التي من شأن دراسة هذه‬
‫الموضوعات‪ ،‬والتساؤل عنها‪ ،‬والبحث فيها‪ ،‬والنقاش حولها؛ وليس يتع َّلق‬
‫المجتمعي المحسوس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بماهية الموضوعات هذه‪ ،‬وحضورها العميق في الواقع‬
‫ألن َث َّم َة ُمك َِّونات أساس َّية هي‪ ،‬على أقل تقدير‪ ،‬ثالثة في المعرفة‪،‬‬
‫ألن‪ ،‬وفقط َّ‬
‫َّ‬
‫والمك َِّون‬
‫والمك َِّون اإلبستيمولوجي‪ُ ،‬‬
‫المك َِّون اآليديولوجي‪ُ ،‬‬
‫أ َّية معرفة مهما كانت‪ُ :‬‬
‫المك َِّونات األخرى التي يمكن أن تُضاف إلى شكل من‬
‫وسيولوجي‪ .‬تقع كل ُ‬
‫ّ‬ ‫الس‬
‫ُّ‬
‫‪407‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫المك َِّونات الثالثة هذه‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬ال َث َّم ُبعد ًا آيديولوجي ًا في‬ ‫أشكال ممارسة ُ‬
‫المعرفة‪ ،‬بل إنَّه ُمك َِّو ٌن أساسي في المعرفة‪ .‬لكن هذه ليست دعوة للسقوط المدوي‬
‫َصور الماركسي لمفهوم اآليديولوجيا؛ بوصفه تصور ًا آيديولوجي ًا‪،‬‬ ‫للمعرفة داخل الت ُّ‬
‫وهذا ضمن حقل لغة ماركس نفسه‪ ،‬عن اآليديولوجيا‪ .‬وفي عبارة صارمة‪ :‬الفهم‬
‫اآليديولوجي األكثر بعد ًا عن المفهوم إنَّما هو أتى إلينا‪ ،‬أي اِنتقل إلى مستوى وحدة‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫الفهم‪ ،‬بواسطة ماركس‪ ،‬وأدبيات ماركسية لم تستطع أن تصل إلى المفهوم‬
‫في ُك ِّل َّيتِه؛ أي المفهوم مأخو ًذا بواسطة التعدُّ د في مضامينه‪ ،‬ومنظوراته المختلفة‬
‫عة‪َ ،‬ع َبر البِن َية والصيرورة اللتين من شأنه‪ .‬أي وحدة المفهوم‪،‬‬ ‫والمتعدِّ دة والمتنو ِ‬
‫ِّ‬
‫وتعدد المفهوم‪ ،‬وصيرورة المفهوم‪ ،‬وبالتالي {حقل ــ الفهم} الذي من شأن المفهوم‬
‫بوصفه موضوع ًا فلسفي ًا علمي ًا حديث ًا‪.‬‬
‫بهذا المعنى‪ ،‬نكون أمام إمكان مفتوح‪ ،‬إلى حين‪ ،‬في أن تنتقل إشكال َّية إسالمية‬
‫المعرفة‪ ،‬وأسلمة المعرفة‪ ،‬من كونها إشكال َّية علم َّية إلى إشكال َّية يلتبس على أصحابها‬
‫وممارسيها مفهوم اإلشكال َّية ذاته في حقل مفاهيم العلم الحديث‪ .‬وهكذا‪ ،‬تُصبِح‬
‫إشكالية إسالمية المعرفة عقبة معرفية في وجه التعرف إلى‪ ،‬وممارسة‪ ،‬المعرفة ِ‬
‫العلم َّية‬ ‫َّ‬
‫والفلسفية الحديثة‪.‬‬

‫المنتج‬
‫الخاص بالعقل ُ‬
‫ّ‬ ‫اإلشكالية ـ العقبة‪ ...‬أو في الهَبيتوس‬
‫َّ‬ ‫{‪}VII‬‬
‫المعرفية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫للعقبات‬
‫يقع الكالم عن أسلمة المعرفة‪ ،‬وتبرير وتسويغها‪ ،‬في مواجهة الكالم عن أن‬
‫العلم َّية الحديثة هي بدورها تقوم على أرض َّية آيديولوجية ناتجة عن شروط‬ ‫المعرفة ِ‬
‫مجتمع َّية وتاريخية‪ ،‬أصبحت فيما بعد بنيوية‪ ،‬في بلدان العلم في الغرب‪ .‬وبالتالي‪،‬‬
‫االنطالق‬ ‫تريد أسلمة المعرفة أن تُحدِّ د المعارف‪ ،‬كل المعارف العا َلمية‪ ،‬بواسطة ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫فحسب‪ ،‬بل حتَّى في ماه َّية التَّساؤل‪ ،‬وكيف َّية‬
‫ُ‬ ‫من الدِّ ين ــ اإلسالم‪9‬؛ ال في اإلجابة‬

‫‪ 9‬أنظر المرتكزات إلشكال َّية إسالمية المعرفة في الفلسفة‪ ،‬وعلوم المجتمع واإلنسان الحديثة في‪:‬‬
‫ــ محمد المبارك‪ ،‬نظام اإلسالم العقائدي في العصر الحديث‪ ،‬الدار العالمية للكتاب اإلسالمي‬
‫والمعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬الرياض‪.1995 ،‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪408‬‬
‫مر ٍة من جديد‪ .‬ما الذي تريد أن تضعه ممارسات‬
‫بنائه‪ ،‬وطرحه‪ ،‬وتحديده‪ ،‬في كل َّ‬
‫تلتبس عليها معاني الممارسة ِ‬
‫العلم َّية‪ ،‬على النحو هذا؟‬
‫ثمة تصور للعا َلم‪ ،‬و{الوجود ــ في ــ العا َلم} يحتجب بواسطة هذا النوع‬
‫من الكالم‪ .‬إنه تقسيم العا َلم إلى ثنائيات منهكة مستهلكة لم تعد تقدم إمكان ًا‬
‫لفهم العا َلم‪ .‬ثنائيات من نوع‪ :‬شرق ــ وغرب‪ ،‬مفاهيمنا ومفاهيمهم}‪ ،‬لغتها ــ‬
‫ولغتهم‪ ،‬علمنا ــ وعلمهم‪ ،‬فلسفتنا ــ وفلسفتهم‪...،‬وإلى آخره من هذه الثنائيات‬
‫التي من الصعب تُحصى‪ .‬ولكن التساؤل األصلي الذي علينا أن نبنيه‪ ،‬في هذا‬
‫النوع من تقسيم العا َلم‪ ،‬إنما هو ُيطرح حول تصنيف العا َلم ضمن معلبات فكرية‬
‫ــ مفهومية جاهزة‪ .‬وهو إنما يسحب المعرفة إلى التساؤل عن ماهيتها‪ ،‬انطال ًقا‬
‫من كوننا كائنات ال نتوفر على إمكان أن نكون خارج العالمية‪ .‬وههنا‪ ،‬علينا أن‬
‫نميز بين العالمية التي تخصنا‪ ،‬والعالمية في المعنى العالمي الذي يتضمن معنى‬
‫الكوزموبوليتانية‪ ،‬والكونية‪ ،‬والمفهوم العلمي ــ الفلسفي القائم على المشترك‬
‫‪10‬‬
‫اإلنساني ــ المجتمعي‪.‬‬
‫حينما ننطلق من بداهات المعرفة الحديثة‪ ،‬في الوقت الذي نفهم‪ ،‬بداه ًة‪ ،‬أن‬
‫ثم إنسان قادر على أن‬ ‫‪11‬‬
‫الحداثة مؤجلة إلى التتمة ‪ ،‬ويستحيل أن تنتهي‪ ،‬مادام َّ‬
‫باالنغالق‪ ،‬وخلق جماعة‪،‬‬ ‫يقدم فهم ًا ما‪ ،‬خارج إطار األوهام ــ األصنام التي تتعلق ِ‬
‫والتخشب ضمن هوية ثقافة ما‪ ،‬مهما كانت‪ ،‬نكون أمام تساؤل جذري يقوده فكر‬ ‫ُّ‬
‫جذري يتضمن اآلتي‪ :‬إذا كانت المعرفة العلمية تقوم على {التعدُّ د ــ في ــ الفهم}؛‬
‫فإن فعل التعدُّ د‪ِ ،‬‬
‫واالختالف‪،‬‬ ‫بوصفنا كائنات ثقافية تتعدد‪ ،‬وتتنوع‪ ،‬وتختلف؛ َّ‬

‫ــ محمد أمزيان‪ ،‬منهج البحث العلمي بين الوضعية والمعيارية‪ ،‬المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬ط‬
‫‪ ،4‬بيروت‪.2008 ،‬‬
‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬مفهوم اآليديولوجيا‪ ،‬مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير‪ ،‬بغداد ــ‬ ‫‪ 10‬أنظر‪َّ :‬‬
‫بيروت ــ تونس‪ ،‬ط‪.2020 ،1‬‬
‫‪ 11‬أنظر‪ :‬حوار مع يورغن هابرماس‪ ،‬الحداثة مشروع لم يكتمل‪ ،‬ترجمة‪ :‬فتحي المسكيني‪ ،‬مجلة تب ُّين‬
‫للدراسات الفكر َّية والثقافية‪ ،‬العدد األول‪.2012 ،‬‬
‫وكذلك أنظر‪ :‬آالن تورين‪ ،‬الحداثة المتجددة ــ نحو مجتمعات أكثر إنسانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬جالل بدلة‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪.2020 ،‬‬
‫‪409‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫والتنوع‪ ،‬إنَّما هو ُ‬
‫فعل العقل الحديث؛ إذا كان كذلك ماذا يعني عصر {التعدُّ د ــ في ــ‬
‫الفهم} في ما بعد الحداثة؟‬
‫حينما نذهب إلى‪ ،‬أو نأتي من تفكيك المعرفة‪ ،‬إنَّنا‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬نقول خلق‬
‫المعرفة‪ ،‬وصنعها‪ ،‬وخلقها‪ ،‬وبنا َءها‪ .‬هكذا‪ ،‬تأخذ كوغيتو رينه ديكارت‪ ،‬ووضع‬
‫االستقراء بواسطة بيكون‪ ،‬وكارل بوبر‪ ،‬وإيمانوئيل كانت‪ ،‬موقع ًا في‬ ‫مشكلة ِ‬
‫المن َْهج َّية في بناء الموضوع‪ ،‬موضوع‬ ‫إنتاج المعرفة يبلغ مستوى بناء المحطات َ‬
‫يتم‬ ‫ِ‬
‫المعرفة العلم َّية ــ والفلسفية الحديثة‪ .‬وهكذا‪ ،‬علينا أن نفهم أننا في عصر ُّ‬
‫تحديده بواسطة اإلنسان‪ ،‬وتلك اإلمكانية الهائلة في أننا لم نقع في الحقيقة‪،‬‬
‫وعليها‪ ،‬وال هي تقع فينا‪ ،‬وعلينا‪ ،‬إالَّ حينما تكون الحقيقة‪{ ،‬في ــ ك ُِّل ــ َم َّر ٍة}‪،‬‬
‫جز ًءا من الحقيقة‪ .‬أو حينما تكون الحقيق ُة إمكانًا من إمكانات إنتاج الحقيقة‪ ،‬ال‬
‫أكثر‪.‬‬
‫لقد قام عصر الحداثة على رؤية جديدة بواسطة ُثالث َّية {فولتير ــ رينه ديكارت‬
‫نموذجا ــ مثاالً ‪ Type‬ــ ‪ Ideal‬عميق ًا في‬ ‫ً‬ ‫ــ وإيمانوئيل كانت}‪ .‬قدم لنا فولتير‬
‫تجاوز األحاديات إلى مستوى التعدُّ د؛ على صعيد بِن َية الثقافة في الحداثة‪ .‬أخذنا‬
‫الذات بوصفها إمكانات قيام المعرفة على العقل‬ ‫ديكارت إلى مستوى بناء َّ‬
‫فحسب؛ أي اِنطالق ًا من العقل البشري وإليه‪ .‬أي في‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البشري‪ ،‬واِنطال ًقا منه‬
‫عقالني يقع‪ ،‬في ما بعد بناء الذات َّية ‪ ،Subjectivism‬في‬ ‫ّ‬ ‫وبواسطة فعل عقلي ــ‬
‫الدرجة األولى من مستوى اإلعالن عن المعرفة بوصفها خل ًقا؛ أي من جهة كونها‬
‫ال ممكن ًا قائم ًا على إمكانات خارج حقل الدِّ ين؛ كما وضعنا‬ ‫أخذت تُصبِح فع ً‬
‫إيمانوئيل كانْت في البؤرة األكثر توتر ًا للعقل؛ تلك التي يجد العقل نفسه فيها‬
‫وحده‪ ،‬ويجب أن ينقذ نفسه وحده‪ .‬وال َث َّم َة إنقاذ إالَّ بعد الشعور العميق بالخطر‪.‬‬
‫إنَّنا في عصر خطر‪ ،‬في المعنى األخص لهذه الكلمة‪ .‬إنَّه خطر أالَّ نكون‪.‬‬
‫واالفتراضات واألفكار التي تتع َّلق ببناء‬ ‫حينما نواجه هذا النوع من التصورات ِ‬
‫ُّ‬
‫موضوع المعرفة‪ ،‬بواسطة النص المقدس‪ ،‬أو الحديث‪ ،‬أو السنة‪ ،‬أو التُّراث بوصفه‬
‫سلطة له‪ ،‬أ َّية سلطة مهما كانت‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫ٍ‬ ‫قد ُج ِّمدَ في طريق ــ ووجهة ــ ورؤية‬
‫أننا نمارس قلة لياقة تجاه العقل العالمي‪ ،‬في الحقيقة نحن نضع أنفسنا خارج إطار‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪410‬‬
‫العقل؛ ال أقصد العقل الحديث‪ ،‬بل العقل بعا َّم ٍة‪ .‬لماذا؟ َّ‬
‫ألن الوظيفة األساس َّية‬
‫يتم توجيهها نحو موضوع ليس من‬ ‫للعقل أي إنتاج {اإلدراك ــ والفهم ــ والوعي} ُّ‬
‫صناعة العقل البشري‪ .‬وهكذا نسقط في بئر مظلم تريد مؤسسة الدِّ ين‪ ،‬الدِّ ين كما‬
‫تراه مؤسسة قد صارت وقامت وفق ًا لعقل بشري‪ ،‬في النهاية‪ ،‬أن يبقى‪ ،‬أي الدِّ ين‪،‬‬
‫محتجب ًا عن الفهم‪َّ .‬‬
‫إن ذلك لهو أمر يقع في صلب مهام سوسيولوجيا السياسة‪،‬‬
‫والمعرفة‪.‬‬

‫{‪ }VIII‬الصراع على َه َّ‬


‫وية المعرفة‪:‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما الذي يجعل من أسلمة المعرفة‪ ،‬وشعارات اإلصالح السياسي التي‬
‫تنطق من هذه اإلشكال َّية‪ ،‬أن تظهر على المسرح‪ ،‬في لحظات معرفية ثالث هي‪:‬‬
‫عصر النهضة العرب َّية‪ ،‬لحظة الصحوة اإلسالمية‪ ،‬ولحظة تجديد وإصالح الدعوة‬
‫اإلسالمية؟‬
‫التساؤل هذا يرتبط بتساؤل يختفي وراءه‪ .‬إنه التساؤل الذي يبحث‪ ،‬أي يسحب إلى‬
‫مستوى المسا َءلة موضوع ًا آخر هو اآلتي‪ :‬ما هي هوية المعرفة بعد أن تمت مصادرة‬
‫هوية المعرفة؟‬
‫أخذ عصر النهضة العربية على عاتقه بناء إجابات أكثر من بناء تساؤالت متفحصة‪.‬‬
‫نجد ذلك في أعمال الطهطاوي‪ ،‬واألفغاني‪ ،‬ومحمد عبده‪ ...،‬وإلخ‪ .‬وهكذا هو‪،‬‬
‫بوعي أصحابه‪ ،‬ورواده‪ ،‬ومؤسسيه‪ ،‬أو من دون وعيهم‪ ،‬يقع ضمن معادلة فارغة من‬
‫المضمون والمنظور الجديدَ ين‪ ،‬لم تضف إلينا‪ ،‬أي إلى كينونتنا من جهة كوننا عالميين‪،‬‬
‫أي شيء‪ .‬إنها اآلتية‪ :‬كيف يمكن‪ ،‬اِنطالق ًا من التراث العربي األصلي‪ ،‬أو من الحداثة‬
‫الغربية األصلية‪ ،‬النهوض بواقعنا؟‬
‫في الحقيقة‪ ،‬هذا التساؤل ال يمكن أن يجاب عنه بواسطة أي شيء غير البحث‬
‫العلمي‪ ،‬وبناء موضوع العلم‪ ،‬وبناء منهج العلم‪ ،‬بالذهاب‪ ،‬مباشرة إلى الواقع‬
‫المجتمعي الواقعي المحسوس‪ .‬وهذا ما غاب كل َّي ًا عن مجتمع علماء عصر‬
‫النهضة‪ .‬واألمر ليس يختلف كثير ًا في ما يتعلق بمفكري العرب‪ ،‬وعلمائهم‬
‫المعاصرين‪ .‬إن حداثة الفكر العربي مسأل ٌة لم تُطرح‪ ،‬على نحو صريح‪ ،‬ضمن‬
‫‪411‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫حقل الفهم الخاص بالواقع المجتمعي العربي‪ ،‬ههنا واآلن؛ ال دياكرونيك َّي ًا وال‬
‫سينكرونيك َّي ًا‪ .‬كل ما نجده يتضمن ضرب ًا من ضروب بناء شيء ما‪ ،‬على هدي‬
‫التراث أو الحداثة ال فرق‪ ،‬من أجل القفز على الواقع‪ ،‬إما ضمن آيديولوجيا‬
‫الواقع‪ ،‬أو ضمن يوتوبيا الواقع؛ أو ضمن معادالت مناهضة لديستوبيا الواقع‪.12‬‬
‫لقد وضعت‪ ،‬في كتابي األخير‪« ،‬المعرفة واآليديولوجيا»‪ ،‬جملة الفرضيات‬
‫المفسرة الدالة الفاهمة لهذا األمر‪ .13‬إننا‪ ،‬بوصفنا كائنات مفكرة ــ متسائلة ــ‬
‫عارفة‪ ،‬أو تريد ذلك‪ ،‬قد وصلنا إلى مستوى مواجهة الخطر‪ ،‬والشعور به‪ .‬إننا‬
‫بأن ال ثمة طري ًقا قد وجده مجتمع علماء ــ فالسفة عصر النهضة يفتح أفق‬
‫نشعر َّ‬
‫الفهم‪ ،‬أي يفتح إمكانات موضوعية لبناء الفهم بالواقع المجتمعي العربي‪ ،‬من‬
‫جهة‪ ،‬وبالمفاهيم العلمية ــ الفلسفية التي تأتي إلينا من بلدان {العلم ــ واإلنسان‬
‫ــ والقانون} في الغرب‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬تجدنا كائنات قلقة‪ .‬وهذا إمكان عميق من أجل {أن ــ نكون}‪ .‬ألني أميز بين‬
‫القلق الذي يصيبنا من المعرفة العامية ــ العادية ــ اليومية‪ ،‬والمعرفة التي من شأن العلم‪،‬‬
‫والفلسفة‪ ،‬في المعنى الحديث لهما‪.‬‬
‫تقع الصحوة اإلسالمية‪ ،‬بوصفها أداة {ضرب ــ وتحديد ــ وضبط} من شأن‬
‫َ‬
‫{حقل ــ تديين ــ المعرفة‬ ‫المعرفة ضمن حقل قد سميته‪ ،‬في كتاب «ما هو المفهوم؟»‪،‬‬
‫ــ والمجتمع}‪ .14‬هكذا‪ ،‬حينما أقول تديين أقول في الوقت نفسه جملة اإلمكانات‬
‫التي تتوفر في الدين‪ ،‬دين بعينه‪ ،‬والتي ترتبط اِرتباط ًا مباشر ًا‪ ،‬ببناء موضوع العلم‪،‬‬
‫وبناء منهج العلم‪ .‬ومن أجل ذلك علينا أن ننتقل مع ًا إلى موقع إبستيمولوجي ــ‬
‫ميثودولوجي يستنهض تساؤالً من موقع {من ــ الخارج}‪ ،‬و{بعد ــ حين}‪ ،‬اللذين‬
‫من شأن الموقع اإلبستيمولوجي‪ ،‬هو هذا‪ :‬ماذا تتضمن الصحوة اإلسالمية في‬

‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬ما هو المفهوم؟‪،‬‬ ‫‪ 12‬أنظر ُثالث َّية {اآليديولوجيا ــ والديستوبيا ــ واليوتوبيا} في‪َّ :‬‬
‫مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير‪ ،‬بغداد ــ بيروت ــ تونس‪ ،‬ط‪.2020 ،1‬‬
‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬المعرفة واآليديولوجيا‪ ،‬مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار التنوير‪ ،‬بغداد‬ ‫‪ 13‬أنظر‪َّ :‬‬
‫ــ بيروت ــ تونس‪ ،‬ط‪.2020 ،1‬‬
‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬ما هو المفهوم؟‪ ...‬مصدر مذكور‪.‬‬ ‫‪ 14‬أنظر‪َّ :‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪412‬‬
‫المجتمع؟ وفي المعرفة؟ وفي البنى المجتمعية األساسية الثالث‪ ،‬أي بنية الثقافة‪،‬‬
‫االقتصاد‪ ،‬وبنية السياسة؛ ووحدة العالقة بين هذه البنى‪ ،‬أي اآليديولوجيا‬ ‫وبنية ِ‬
‫المجتمعية‪.‬‬
‫تتضمن الصحوة اإلسالمية في المجتمع معنى اِختزال المجتمع في جزء منه؛‬
‫أي بناء وحدة مجتمعية قائمة على ما يقوله اإلسالم‪ ،‬والمقولة األكثر خطورة‬
‫واالختالف اآليديولوجي‪ ،‬والتنوع‬ ‫على المجتمعات التي تتميز بالتعدُّ د الهو ِوي‪ِ ،‬‬
‫َ َ ِّ‬
‫ال لمشكالت‬ ‫المجتمعي‪ ،‬أي مقولة «اإلسالم هو الحل»‪ .‬اإلسالم ليس ح ً‬
‫المجتمعات الحديثة‪ ،‬ال ألنه يشكو من نقص‪ ،‬أو من كونه ينتمي إلى عصر بعينه‪،‬‬
‫وزمان ومكان بعينه‪ ،‬أو‪ ،‬كذلك‪ ،‬ال ألنه يرتبط بيوتوبيا يريد أن يجعل منه براديغما‬
‫معرفي ًا ما‪ ،‬كما قد اِدعى ذلك‪ ،‬في بحث مهم‪« :‬من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث»‪،‬‬
‫جورج طرابيشي‪ ،15‬وال كما ذهب إلى ذلك «محمد أركون»‪ 16‬في بحثه الذي يقع‪،‬‬
‫في أحسن األحوال‪ ،‬ضمن يوتوبيا فكر تريد أن تجعل من الحداثة براديغم ًا معرفي ًا‬
‫ألن ماهية العالمية لم تقم على النص الديني‪ .‬أي لم‬ ‫جاهز ًا‪ ،‬ال؛ ال فقط ذلك؛ بل َّ‬
‫نستطع أن نبحث في ماهية العالمية الحديثة‪ ،‬بوصفنا قد أصبحنا كائنات المجتمع‬
‫العالمي‪ ،‬عن إمكانات دينية من أجل بناء فهم بالوجود‪ ،‬والعا َلم‪ ،‬والوجود في‬
‫العا َلم‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬والمجتمع‪.‬‬
‫خارج ماهية الدين‪،‬‬
‫َ‬ ‫إننا كائنات نتوفر على إمكان أن نكون ذاتًا فاعلة مجتمع َّي ًا ألننا‬
‫ؤخ ُذ بوصفه روح العصر‪ .‬هكذا‪،‬‬ ‫من جهة كونه مصدر ًا روحي ًا‪ .‬أي من جهة كونه قد ُي َ‬
‫ال تقع الصحوة اإلسالمية في مواجهة مع اآلخر فحسب؛ وال هي تريد أن تواجه‬
‫اآلخر بردود فعل دينية فحسب‪ ،‬وال هي متعلقة ببناء عا َل ٍم لإلنسان العا َلمي‪ ،‬بل هل‬
‫تدخل في صراع معرفي ال أول له وال آخر مع ذات أنفسنا العميقة‪ ،‬وهي تجد نفسها‬
‫ال إنساني ًا ــ مجتمعي ًا‪َّ .‬‬
‫إن التاريخ‪،‬‬ ‫وحيد ًة في التاريخ‪ ،‬حينما يؤخذ التاريخ بوصفه فع ً‬
‫فعل إنساني ــ مجتمعي‪ ،‬أم ال يكون‪ .‬وإن ترانسندنتالية‬ ‫متى ُأ ِخ َذ من جذره‪ ،‬إنما هو ٌ‬
‫االختالف عن أدلجة التاريخ عبر األفهام المغلقة‪ .‬هكذا يمكن‬ ‫التاريخ تختلف أشدَّ ِ‬

‫‪ 15‬أنظر‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث‪.‬‬


‫محمد آركون‪ ،‬الفكر اإلسالم ــ قراءة علم َّية‪.‬‬
‫‪ 16‬أنظر‪َّ :‬‬
‫‪413‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫عد َّية خارج ًة عن َق ْب ِل َّي ِة‬


‫أن نتساءل عن التجديد والتحديث بوصفهما ضروب أفعال ب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الفاعل َّية‪.‬‬

‫اإلشكالية؟‬
‫َّ‬ ‫إشكالية التجديد أم تجديد‬
‫َّ‬ ‫{‪}IX‬‬
‫دعوات التجديد تتضمن‪ ،‬حسب مدعيها‪ ،‬إشكالية التجديد‪ .‬يمكن أن نراجع بذلك‬
‫الكم الهائل‪ 17‬من األبحاث والدراسات التي تنشر في هذه المسألة‪ِ ،‬‬
‫وباالنطالق منها‪.‬‬
‫ولكن ماذا نعني إذا قلنا إشكالية التجديد؟ إنها تعني منظور نظري يتعلق بالتجديد‪.‬‬
‫تجديد ماذا؟ تجديد المعرفة‪ .‬أية معرفة؟ معرفتنا بالمجتمع واإلنسان‪ .‬ولمجرد أن‬
‫نقول معرفتنا فإننا نكون قد سقطنا‪ ،‬بوعي أو من دونه‪ ،‬ال فرق‪ ،‬في عقبة إبستيمولوجية‬
‫في وجه فهم وحدة العالمية‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬إشكال التجديد‪ ،‬وإشكالية التجديد‪ ،‬أي‬
‫المضمون النظري ــ الفلسفي للتجديد‪ ،‬والمنظور النظري ــ الفلسفي للتجديد يجب‬
‫أن ُيسحبا إلى مستوى التساؤل اإلبستيمولوجي ــ والميثودولوجي‪ ،‬على نحو جذري‪.‬‬
‫أيتوهم إشكال التجديد‪ ،‬وأتتوهم إشكالية التجديد‪ ،‬تجديدً ا للمعرفة العالمية بواسطة‬
‫الدين؟‬
‫في الحقيقة ال بد من أن نواجه هذا الوهم بواسطة تجديد وتحديث اإلشكاالت‬
‫واإلشكاليات‪ .‬إنه علينا‪ِ ،‬‬
‫باالنطالق منه‪ ،‬من التجديد ــ التحديث هذا‪ ،‬أن نكون مباشر ًة‬

‫‪ 17‬أنظر األبحاث اآلتية وغيرها الكثير الكثير‪:‬‬


‫ِ‬
‫ــ حسين رحال‪ ،‬إشكال َّيات التجديد اإلسالمي المعاصر‪ :‬دراسة في ضوء علم اجتماع المعرفة‪،‬‬
‫دار الهادي‪ ،‬ضمن سلسلة فلسفة الدِّ ين والكالم الجديد الصادرة عن مركز دراسات فلسفة الدِّ ين‬
‫ــ بغداد‪ ،‬بيروت‪.2004 ،‬‬
‫ــ لؤي الصافي‪ ،‬إسالمية المعرفة من المبادئ المعرف َّية إلى الطرائق اإلجرائية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة‪،‬‬
‫العدد ال َّثالث‪.‬‬
‫ــ عبد ال ّله فهد النفيسي‪ ،‬التراث وتحديات العصر‪ ،‬شركة الربيعان للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫الكويت‪.1986 ،‬‬
‫ــ أحمد المختاري‪ ،‬نحو علم إجتماع إسالمي‪ ،‬مجلة المسلم المعاصر‪ ،‬العدد ‪ ،43‬بيروت‪.1985 ،‬‬
‫ــ إسماعيل الفاروقي‪ ،‬إسالمية المعرفة ــ المبادئ العا َّمة ــ خطة العمل ــ اإلنجازات‪ ،‬كتاب قضايا‬
‫إسالمية معاصرة‪ ،‬دار الهادي‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪.2001 ،‬‬
‫ً‬
‫ــ إسماعيل راجي الفاروقي‪ ،‬صياغة العلوم اإلجتماع َّية صياغة إسالمية‪ ،‬مجلة المسلم المعاصر‪،‬‬
‫العدد ‪ ،20‬بيروت‪.1979 ،‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪414‬‬
‫أمام تجديد اإلشكال‪ ،‬وتجديد اإلشكالية‪ ،‬بدالً عن إشكال التجديد‪ ،‬وإشكاليته‪.‬‬
‫وبالتالي أذهب بمعية التساؤل عن تجديد اإلشكالية إلى مفهوم التحديث‪ .‬ولكن ال‬
‫أقصد بذلك السقوط في نمط بعينه من أنماط التفكير الذي ُفرض على العا َلم بوصفه‬
‫النمط الوحيد لممارسة {التساؤل ــ التفكير ــ الفهم}؛ ال‪ .‬إنني أقصد على نحو صريح‬
‫ذات أنفسنا العميقة من أن نبلغ مستوى التحديث الذي‬ ‫أن نبلغ مستوى‪ ،‬أو نم ِّك َن َ‬
‫ال عالم َّي ًا‪ .‬لقد أخذ مركزنا‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫قد صار‪ ،‬في النظرية‪ ،‬والممارسة‪ ،‬فع ً‬
‫«مركز دراسات فلسفة الدين ــ بغداد ــ بيروت»‪ ،‬على عاتقه مهمة تحديث التفكير‬
‫الديني‪ .‬ماذا يعني ذلك؟ هل يعني الذهاب إلى أدوات وأساليب وتقنيات التفكير‬
‫الحديثة من أجل ممارستها وتوظيفها في فهم ديننا وتفكيكه ونقده ِ‬
‫واالنطالق من‬
‫بعد نحو العالمية؟‬
‫ال بالتأكيد؛ إننا نذهب إلى نمط من تحديث التفكير الديني‪ ،‬تحديث التفكير القائم‬
‫على الدين‪ ،‬أي دين مهما كان‪ ،‬يكون قد يشترك مع اإلنسان والمجتمع في عصر‬
‫اإلنسان هذا‪ ،‬في بناء عا َلمه ووجوده في العا َلم على نحو بحيث هو يستطيع أن يكون‬
‫ذات ًا فاعل ًة مجتمع َّي ًة فيه‪ ،‬وعلى نحو عالمي‪ .‬إن التجديد‪ ،‬وإشكالية التجديد‪ ،‬إنما هما‬
‫يحتجبا‪ ،‬من دون وعي أصحابه‪ ،‬بواسطة رداء المجددين في التراث؛ وال يبلغان هذا‬
‫المستوى من الفعل المعرفي عالم َّي ًا‪.‬‬

‫التساؤل اِنطال ًقا من ميثودولوجيا‬


‫{‪ }X‬ميتافيزيقا الفيزيقي‪ ...‬أو في َّ‬
‫الدينية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬
‫يتضم ُن معنى إضافة الوحي إلى مصادر المعرفة‪ .‬ماذا‬
‫َّ‬ ‫أساس الميتافيزيقا الدينية‬
‫يعني ذلك؟ علينا أن نفكك عبارة «الوحي كمصدر تأسيسي للمعرفة» على نحو‬
‫ميثودولوجي‪ .‬أوالً‪ :‬ما هي المعرفة؟ ثاني ًا‪ :‬ماذا يعني التساؤل‪ :‬ما هي المعرفة؟‬
‫اليو َم؟ ثالث ًا‪ :‬على أية أرضية إبستيمولوجية يقوم هذا التساؤل؟ رابع ًا‪ :‬كيف يمكن‬
‫للميثولوجي أن يكون مصدر ًا تأسيس َّي ًا للمعرفة؟ خامس ًا‪ :‬ماذا نعني‪ ،‬أساس ًا‪ ،‬بمصدر‬
‫المعرفة؟‬
‫حينما نقوم بالتساؤل عن المعرفة في اللحظة التاريخية هذه‪ ،‬أي لحظة التساؤل عن‬
‫‪415‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫كل شيء‪ ،‬والشك بكل شيء‪ ،‬نحن في الحقيقة نضع المعرفة في موقع البناء‪ .‬من نحن؟‬
‫نحن الكائنات التي يستحيل أن نستمر‪ ،‬وأن نسوغ اِستمرارنا في الوجود في العا َلم‪،‬‬
‫بمعزل عن العالمية‪.‬‬
‫ومتى صارت المعرفة قائمة على أسس بناء المعرفة الحديثة‪ ،‬تجاوزت‪ ،‬في‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬كل ضرب من ضروب الضبط الميثولوجي ــ الثيولوجي لها‪ .‬إنني‬
‫أشير إلى الضبط في المعنى المؤسسي له‪ .‬أي الضبط وقد صار ُم َم ْأ َس ًسا‪ .‬ما يميز‬
‫المعرفة في العصر الحديث‪ ،‬وقد قلت سابق ًا وفي مواضع مختلفة‪ :‬أن الحداثة‬
‫ليس مشروع ًا لم يكتمل بعد‪ ،‬كما ذهب إلى ذلك يورغن هابرماس‪ ،‬بل إنه َّ‬
‫مؤجل‬
‫إلى التتمة‪ .‬والفرق بينهما كبير‪ .‬التتمة شيء‪ِ ،‬‬
‫واالكتمال شيء آخر‪ .‬ولربما هذا‬
‫يعود إلى عبقرية اللغة العربية‪ .‬حينما تكون الحداثة مؤجلة إلى التتمة‪ ،‬في‬
‫كل مرة‪ ،‬فإن ذلك يتضمن معنى أن الحداثة هي جذر ماهية المعرفة في عصر‬
‫اإلنسان؛ وبذلك أنا أقصد مباشر ًة أن المعرفة الحديثة‪ ،‬واألسس التي وضعتها‬
‫االختالف‪ ،‬عن تلك العوالِم التي بناها الدين‪،‬‬
‫في بناء عا َل ٍم جديد يختلف‪ ،‬أشدَّ ِ‬
‫أو ميثولوجيا ــ ثيولوجيا ما مهما كانت‪ ،‬أو الميتافيزيقي‪ ،‬أو ميتافيزيقا ما مهما‬
‫االكتمال؛ بل هي تستمر طالما‬‫كانت‪ ،‬إنما هي معرفة يستحيل أن تتوفر على إمكان ِ‬
‫يتوفر وجود إنساني ــ مجتمعي للكائن الذي نفهمه اليوم بوصفه كائنًا عقالن َّي ًا‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يقع كالم يورغن هابرماس في موقع إمكان اِنغالق المعرفة على ذاتها؛‬
‫وهذا يواجه تش ُّي ًأ للمعرفة؛ بل تقع المعرفة داخله‪ .‬أو بعبارة صارمة‪ :‬لربما تأخذ‬
‫مدرسة فرانكفورت بكليتها‪ ،‬وليس يورغن هابرماس وحده إلى النقطة األكثر‬
‫قلق ًا وتوتر ًا لهما‪ ،‬يذهب كالم هابرماس إلى اِنغالق الفهم على النحو الذي‬
‫ال ِ‬
‫لالكتمال في لحظة معرفية‬ ‫يحدده فهم ِ‬
‫االنغالق؛ بحيث يجعل من الفهم قاب ً‬
‫بعينها‪ .‬وهذا معناه أن تتوقف المعرفة الحديثة؛ أي يتوقف إنتاج المعرفة بأشياء‬
‫العا َلم الحديث الحديثة؛ وهذا ضرب من ضروب الخلط اإلبستيمولوجي بين‬
‫إمكان المعرفة بعا َّم ٍة‪ ،‬في أن تكون قادر ًة على أن تزودنا بأدوات فهم‪ ،‬ووسائل‬
‫تساؤل‪ ،‬وتقنيات تفكير‪ ،‬وبين معرفة إمكان المعرفة الحديثة التي قد وصلت‬
‫االكتمال‪ .‬ال؛ هذا مستحيل‪.‬‬‫مع هابرماس إلى مستوى أنها تتو َّفر على إمكان ِ‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪416‬‬
‫وتأتي اِستحالة ذلك من اِستحالة العودة إلى وحدة الحقيقة الواحدة؛ أي وحدة‬
‫الحقيقة وقد صار تعدُّ د الحقيقة فيها ضرب ًا من ت ُّ‬
‫َصور سابق إلى‪/‬على الحقيقة‪.‬‬
‫اإلسالمويون كثير ًا ما يلتجؤون إلى هذا النوع من المعرفة الذي يجدون فيه‬
‫مبررات ومسوغات إلنتاجهم لمعرفة قد صارت‪ ،‬بعد سيادة العقل‪ ،‬ونزع سحر‬
‫العا َلم‪ ،‬من ماضي اإلنسان َّية‪.‬‬
‫إنه‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬يعني التساؤل ما هي المعرفة‪ ،‬اليوم؟ التساؤل عن ما يتوفر على‬
‫إمكان معرفته اليوم بواسطة العقلية ‪ Mental‬ــ والعقالنية ‪ .Rationality‬وأرجو أالَّ‬
‫يتم الخلط بينهما‪ .‬هكذا‪ ،‬تقوم المعرفة على بناء الموضوع‪{ ،‬موضوع ــ العلم}‪ ،‬وبناء‬
‫ُّ‬
‫المنهج‪{ ،‬منهج ــ العلم}‪ ،‬فيها‪.‬‬
‫وإذا كان‪ ،‬على سبيل المثال‪« ،‬عبدال ّله العروي»‪ ،‬في الـ {ههنا ــ واآلن}‬
‫ِ‬
‫ذات أنفسنا العميقة‪ ،‬يمارس بنا َء فهم بـ«اآليديولوجيا العربية‬ ‫الذي من شأن‬
‫المعاصرة»‪ 18،‬وفق ًا لمنهج بعينه من المناهج الحديثة في العلم‪ ،‬أي المنهج‬
‫الذي يقوم على ضوابط وقواعد كارل ماركس‪ ،‬فإن ذلك يقع ضمن ضرب من‬
‫ضروب التعدد في بناء موضوع العلم‪ ،‬وال يقع في بناء موضوع العلم‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫يقع «عبدال ّله العروي»‪ ،‬ضمن إمكان من إمكانات بناء المعرفة‪ ،‬وال يقع ضمن‬
‫بناء المعرفة‪ .‬لماذا؟ ألن المعرفة العلمية ــ الفلسفية الحديثة ال تقدم نفسها‪ ،‬في‬
‫اللحظة المعرفية األولى‪ ،‬أي لحظة ثنائية {الذات ــ والموضوع}‪ ،‬إالَّ بوصفها‬
‫تتوفر على إمكان ِ‬
‫بناء الكُل َّي ِة التي من شأن الفهم العلمي ــ الفلسفي الحديث‪ ،‬من‬
‫جهة‪ ،‬وإنها تظفر بفهم متفحص يذهب إلى بناء فرضيات علمية ــ فلسفية مفسرة‬
‫دالة فاهمة لموضوعها‪ ،‬موضوعها هي‪ .‬يجب أن نفهم أن الموضوع‪ ،‬موضوع‬
‫العلم‪ ،‬وموضوع المعرفة بعامة‪ ،‬وموضوع ثنائية {الذات ــ والموضوع}‪ ،‬الذي‬
‫ينطلق إلى بنائه‪ ،‬في كل مرة‪ ،‬من قبل ِ‬
‫االتجاهات والمدارس والتوجهات العلمية‬ ‫ُ‬
‫ــ والفلسفية المختلفة‪ ،‬والمتعددة‪ ،‬والمتنوعة‪ ،‬هي أشياء تختلف‪ ،‬وتتميز عن‬
‫بعضها البعض‪.‬‬

‫العربي‪...‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 18‬أنظر‪ :‬عبدال ّله العروي‪ ،‬اآليديولوجيا العرب َّية المعاصرة‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫‪417‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫يقوم التساؤل على أرضية إبستيمولوجية ــ ميثودولوجية تريد أن تُبنى بواسطة‬


‫ضرب من ضروب إمكان المعرفة وبنائها‪ ،‬نسميها في المعرفة الحديثة الفينومينولوجيا‪.‬‬
‫«الوحي كمصدر أساس للمعرفة» يتوفر على إمكان تأسيس المعرفة يعني تجربة ُمعاشة‪،‬‬
‫ال للمعرفة من عا َل ٍم ما‪،‬‬
‫وتجربة حية تاريخية قامت على أن الوحي قد كان‪ ،‬بوصفه نق ً‬
‫المصدر؛ وليس مصدر ًا من بين مصادر متعددة ومتنوعة ومختلفة‪ .‬وهذا يتضمن ما تريد‬
‫َ‬
‫أن تذهب إليه الفينومينولوجيا؛ بوصفها تصرح‪ ،‬مع مرلوبونتي‪ ،‬وهوسرل‪ ،‬وهايدغر‪،‬‬
‫وفي السوسيولوجيا مع آلفرد شوتس‪ ،‬أن المعرفة يمكن أن تُبنى بوصفها تُنقل‪ .‬ولكن‬
‫هذا تصور اإلسالمويين يصطدم بعقبات معرفية تتوفر على اِستحالة تجاوزها هي‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫‪ I‬ــ ليست الفينومينولوجيا‪ ،‬بوصفها باحث ًة عن الماهيات في التجربة الحية‬
‫التاريخ َّية المعاشة إالَّ إمكان ًا في بناء الموضوع‪ ،‬وليس اإلمكان الوحيد في بناء‬
‫الموضوع‪{ ،‬موضوع ــ العلم}‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬تقع الممارسات ِ‬
‫العلم َّية ــ الفلسف َّية‬
‫الحديثة‪ ،‬في وبالفينومينولوجيا‪ ،‬ضمن مقولة فلسفية قد بنيتها‪ ،‬في كتابي‪،‬‬
‫السوسيولوجيا‪ :‬في {اِستنهاض ــ تساؤل ــ العلم ــ بالمجتمع ــ‬ ‫«إبستيمولوجيا ُّ‬
‫تتضم ُن‬ ‫واإلنسان ــ في ــ المجتمعات ــ العربية}»‪ 19،‬في فرضية مفسرة دالة ِ‬
‫فاه َمة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الذوات‪ ،‬بوصفها إمكانات موضوع َّية في الوجود في العا َلم‪ .‬وال‬ ‫اآلتي‪ :‬تعدُّ د َّ‬
‫تقوم هذه اإلمكانات الموضوع َّية ‪ Objective Possibilities‬إالَّ على ماه َّية العا َلم‬
‫الحديث‪ .‬أي حداثة َّ‬
‫الذات‪ ،‬وتحديثها‪ ،‬وحداثة الموضوع وتحديثه‪ ،‬وحداثة الفكرة‪،‬‬
‫وتحديثها‪ ،‬وحداثة المالحظة وتحديثها‪ ،‬وحداثة الفهم وتحديثه‪ ،‬وحداثة {حقل ــ‬
‫الفهم} وتحديثه‪.‬‬
‫باالنطالق من الميثولوجي ــ الثيولوجي بعا َّم ٍة‪ ،‬والميتافيزيقي‬ ‫‪ II‬ــ ماهية الوحي تُحدِّ د ِ‬
‫َّ‬
‫بخاص ٍة‪ .‬ومتى نظرنا‪ ،‬نظرة عميقة‪ ،‬إلى الميثولوجي والثيولوجي والميتافيزيقي في‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫أن النقل واالنتقال من وإلى؛ أي معادلة‬ ‫ِ‬
‫المعرفة العلم َّية الحديثة‪ ،‬أي العا َلم َّية‪ ،‬نجد َّ‬
‫واالنتقال‪ ،‬ال تجد مكان ًا لها‪ ،‬وإمكان ًا لوجودها بوصفها مصدر {تساؤل ــ وتفكير‬ ‫النقل ِ‬

‫السوسيولوجيا‪ ،‬مركز دراسات فلسفة الدِّ ين ودار‬


‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬إبستيمولوجيا ُّ‬ ‫َّ‬ ‫‪ 19‬أنظر‪:‬‬
‫التنوير‪ ،‬بغداد ــ بيروت ــ تونس‪ ،‬ط‪.2017 ،1‬‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪418‬‬
‫العلم َّية ــ الفلسف َّية الحديثة‬ ‫ــ وفهم}‪ .‬لماذا؟ ألننا أمام ُثنائيات صريحة في نشأة المعرفة ِ‬
‫َّ‬
‫التي اِستطاعت أن تبني عا َلم ًا حديث ًا لنا‪ ،‬كما نعرفه اليوم‪ .‬إنَّها ال ُثنائ َّيات اآلتية‪ُ :‬ثنائ َّية‬
‫َّ‬
‫{الذات ــ والموضوع}‪ ،‬وثنائية {الفكرة ــ والمالحظة}‪ ،‬وثنائية {الفهم ــ وحقل‬
‫الفهم}‪.20‬‬
‫‪ III‬ــ ال تفهم المعرفة ِ‬
‫العلم َّية ــ الفلسف َّية الحديثة الوحي إالَّ بوصفه حقل‬
‫فه ٍم ُيقدِّ ُم نفسه من خارجها‪ .‬وهو‪ ،‬اِنطالق ًا من ُثنائ َّية {العلم ــ والدين} يضع‬
‫أول لحظة‪ .‬ولكن‪ ،‬ما السبب في هذا الخلط العميق‬ ‫نفسه خارج حقل العلم منذ َّ‬
‫بين أساس معرفة هو الوحي‪ ،‬وبين أسس المعرفة األساس َّية؟ إنَّه ببساطة يتم َّثل‬
‫في اِستحالة مواجهة المعرفة العقلية ــ العقالنية‪ ،‬أي تلك التي ُينتجها اإلنسان‪،‬‬
‫يوجهها لإلنسان‪ ،‬أو ُينقلها َع َبر وسيط إلى اإلنسان‪.‬‬
‫بمعرفة ينتجها كائن آخر‪ ،‬أو ِّ‬
‫ال من أشكال المعرفة‪ ،‬يستحيل أن يقبل في أن ُيسحب إلى‬ ‫الوحي بوصفه شك ً‬
‫مستوى ُثنائ َّية {النقد ــ والنقد المضاد}‪ ،‬وهكذا‪ ،‬بمباشرة‪ ،‬يقع خارج حقل‬
‫العلم‪ ،‬ومؤسسة العلم‪ ،‬و{موضوع ــ العلم}‪ .‬ناهيك عن أنَّه ال يمكن أن ُيصبح‬
‫ضرب ًا من ضروب {التعدُّ د ــ في ــ الفهم} كونه يشتمل على صفة األلوهية‪ .‬وإذا‬
‫تمت مواجهة كالمي بأن َث َّم اِختالف ًا في فهم الوحي‪ ،‬فأقول مباشر ًة أن ماه َّية‬
‫االختالف عن‬ ‫العلمية ــ الفلسفية الحديثة تختلف أشد ِ‬ ‫االختالف في المعرفة ِ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫االختالف األول اِختالف حول‬ ‫االختالف التي تمارس في فهم الوحي‪ِ .‬‬ ‫ماهية ِ‬
‫َّ‬
‫إن االختالف األول‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلنساني‪ ،‬واالختالف ال َّثاني اختالف حول اإللهي‪ .‬أي َّ‬
‫االختالف عن طبيعة العقيدة‪ ،‬وماهيتها‪ ،‬وخصوصيتها‪ ،‬وبناء‬ ‫يقع ضمن حقل ِ‬
‫واالختالف ال َّثاني لهو اِختالف يقع ضمن‬‫جماعة‪/‬أو جماعات على ذلك‪ِ ،‬‬
‫االختالف عن طبيعة المعرفة العا َلم َّية وماهيتها وخصوصيتها وبناء‬ ‫حقل ِ‬
‫واالختالف بين اإلثنين‪ ،‬أي ِ‬
‫االختالف بين‬ ‫مجتمع وإنسان عالميين على ذلك‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫االختال َف ْين‪ ،‬كبير‪ ،‬كبير جد ًا‪.‬‬

‫محمدحسين الرفاعي‪ ،‬ال ُثالث َّية‪.‬‬


‫‪ 20‬أنظر‪َّ :‬‬
‫‪419‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫‪ IV‬ــ لقد وضعت المعرفة‪ ،‬في علوم المجتمع واإلنسان‪ ،‬منذ بدء نشأتها‪ ،‬ما بعد‬
‫يتضم ُن‬
‫َّ‬ ‫القرن الثامن عشر‪ ،‬الدِّ ين وكل ما يرتبط به ضمن حقل فهم صريح واضح‬
‫إمكانات فهم الدِّ ين عند ثالثة مستويات‪ :‬مستوى الدِّ ين بوصفه وظيفة مجتمع َّية‪،‬‬
‫المجتمعي‪ ،‬ومستوى الدِّ ين بوصفه‬
‫ّ‬ ‫ومستوى الدِّ ين بوصفه مصدر ًا روحي ًا للفعل‬
‫آيديولوجيا مجتمع َّية‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك‪ ،‬تتبين مصادر المعرفة في العلم بالمجتمع واإلنسان مباشر ًة في‬
‫ال ُثنائ َّيات األساس َّية في المعرفة الحديثة‪ ،‬وإمكانات العالقة بين طرفيها‪.‬‬

‫{‪ }XI‬ما بع َد أسلمة المعرفة‪:‬‬


‫فبركة ــ ُم ِ‬
‫فبركة لماهية‬ ‫تقع ممارسة أسلمة المعرفة‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬ضمن إشكالية ُم َ‬
‫المعرفة الحديثة‪ ،‬مصطنَعة ــ مصطنِعة إلشكاليات ال تُناقش في عصر اإلنسان هذا‪،‬‬
‫مخت َلقة ــ مختلقة لتساؤالت ال تحضر في حقل فهم اإلنسان العا َلمي‪ .‬أما مسألة وحدة‬
‫المعرفة القائمة على أسلمة المعرفة فهي ضرب من ضروب ِ‬
‫االحتيال على العقل‬
‫ِ‬
‫بذات أنفسنا العميقة‬ ‫العا َلمي الحديث؛ التي ال تصل إالَّ لمواجهة ِ‬
‫ذات أنفسنا العميقة‬
‫وهكذا نصطدم بحائط؛ أو نسقط في ظالم‪.‬‬
‫ذات أنفسنا العميقة بوصفنا كائنات عقالنية عالمية؛ وإالَّ سوف‬
‫علينا أن نفهم َ‬
‫نخرج عن التاريخ‪ .‬نحن لسنا الماضي‪ ،‬وال الماضي يستطيع أن يحدد ماهيتنا بوصفنا‬
‫مشاركين في بناء العا َلم‪ .‬ولكن الماضي الذي نريده أن يكون‪ ،‬أو نذهب لكل إمكانات‬
‫بنائه على نحو بحيث هو يتناسب مع العالمية‪ ،‬هو ليس أكثر من يوتوبيا فكرية‪ ،‬فارغة‬
‫المضمون والمنظور الموضوع َّي ْين‪ ،‬تفعل كل شيء من أجل أن تضع العا َلم بأسره في‬
‫مواجهتنا‪ ،‬في موقع العدو‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬علينا أن نصرح مباشرةً‪ :‬ال يمكن ألية مؤسسة تابعة ألي فكر تابع ألي دين‬
‫مهما كان أن تبلغ مرتبة توجيه المعرفة الحديثة؛ أو أن تضع مساهم ًة‪ ،‬على هذا النحو أو‬
‫ذاك‪ ،‬فيها‪ .‬لماذا؟ وما هو السبب وراء ذلك؟‬
‫ألننا حينما نقول العلم اإلسالمي‪ ،‬أو الفلسفة اإلسالمية نشير بذلك إلى أننا نتوفر‬
‫على مفهوم اآلكاديميا في المعنى الحديث للمفهوم‪ ،‬ونتوفر على ضرب من ضروب‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬ ‫‪420‬‬
‫ممارسة الفكر تتناسب مع بناء المعرفة الحديثة بموضوعات المجتمع واإلنسان‪ .‬وهذا‬
‫يواجه اِستحالة صريحة تقوم على التمايز بين اآليديولوجيا داخل المعرفة العلمية‪،‬‬
‫والمعرفة العلمية داخل اآليديولوجيا‪.‬‬
‫حينما نقول المعرفة المؤسسة على الوحي‪ ،‬نحن في الحقيقة نذهب بذات‬
‫أنفسنا العميقة إلى مستوى عالقة مع التراث‪ ،‬تراث بعينه‪ ،‬يتمثل في اِحتكار فهم‬
‫الماضي‪ .‬أي‪ ،‬وهذا من جهة الميثود ــ المنهج‪ ،‬ننفصل اِنفصاالً رهيب ًا عن كوننا‬
‫نتوفر على إمكانات أن نكون عالميين‪ .‬لم تقم المعرفة الحديثة في كليتها‪ ،‬على‬
‫نحو كوزموبوليتاني‪ ،‬إالَّ ألنَّها قد صارت‪ ،‬في عصر اإلنسان هذا‪ ،‬قائمة على‬
‫ثنائيات إبستيمولوجية ال يوفرها النص‪ ،‬أو المقدس‪ ،‬أو أي ضرب من ضروب‬
‫ممارسة المعرفة الثيولوجية أو الميثولوجية أو الميتافيزيقية حتى‪ .‬ونحن نعرف‬
‫أن ميتافيزيقا المعرفة الحديثة تختلف أشد ِ‬
‫االختالف عن ميتافيزيقا أرسطو مثالً‪،‬‬
‫بوصفه نتيجة وحدة المعرفة في العصر ِ‬
‫االغريقي السحيق‪ ،‬والقريب أيض ًا في‬
‫الوقت نفسه‪ .‬ثمة آيديولوجيا فهم مغلق تريد أن تواجه المعرفة الحديثة‪ ،‬بعد‬
‫أن فقدت كل أسلحة الدفاع عن ذاتها‪ ،‬بواسطة نمط من أنماط الفعل المعرفي‬
‫هو يذهب إلى ِ‬
‫االختباء في جلباب معرفة تستمد قوتها المجتمعية‪ ،‬أي شعرية‬
‫ثم مقدس‪ .‬وفي هذا الصراع‪ ،‬خالف ًا لما نتصور‪ ،‬ال نخسر اآلخر؛‬
‫وجودها‪ ،‬من َّ‬
‫بل نخسر ذات أنفسنا العميقة باِعتبارها قد صارت عالمية‪ ،‬وقد سبقتنا إلى‬
‫المستقبل‪ .‬نحن الكائنات العالمية على الرغم من أنوفنا‪ ،‬نجد أن التساؤل عن‬
‫الوحي‪ ،‬وقد صار مصدر ًا لبناء المعرفة‪ ،‬ضرب من ضروب اإلمكان من أجل أن‬
‫الهو َّية) ‪ Identification‬على أرضية ما ليس من فعلنا‪ .‬وهكذا نُقذف‬
‫َنت ََه ْو َو (من َ‬
‫إلى‪/‬في الظالم‪ .‬ظالم خارج العا َلم الذي نعرفه‪ ،‬العا َلم الحديث‪ ،‬أي حقل‬
‫تحديث العا َلم بوصفه يوفر لنا إمكان أن نكون مواطنين عالميين في كل مرة؛‬
‫ن َت َع ْو َلم ألننا َنت َّ‬
‫َذوت بذات أنفسنا العالمية‪ ،‬نحن آخر الكوزموبوليتانيين الجدد‪.‬‬
‫هذه النحن وإن كانت ضرب ًا مؤلم ًا على أسس إسالمية المعرفة‪ ،‬التي ُو ِّ‬
‫ظفت‬
‫في اإلسالمو َّية السياسية‪ ،‬ولكنها هي إعادة تحديد البداهات‪ ،‬من موقع بداهة‬
‫التساؤل عن البداهات‪ .‬إننا لم نبلغ بعد مستوى بداهات بناء ــ وتحديد ــ وإنتاج‬
‫‪421‬‬ ‫النُّظم المعرف َّية في إشكال َّية إسالمية المعرفة‬

‫المعرفة الحديثة؛ أي تلك التي تليق بنا ألننا نتوفر على الفهم‪ ،‬الذي قد ظفرنا به‬
‫ضمن أفق العا َلم؛ عا َلم النحن العا َلم َّية‪َ .‬ب ْيدَ أ َّن ُه متى تم الظفر بذلك‪ ،‬نتوفر على‬
‫إمكان أن يكون اإلسالم ضر ًبا من التعدُّ د في بناء العالقات مع العا َلم َّية‪.‬‬
‫تدعو مجلة قضايا إسالمية معاصرة الباحثين الكرام‬
‫للمشاركة في محور العدد القادم‪:‬‬

‫مشكلة الشر‬
‫(‪)3‬‬

You might also like