Professional Documents
Culture Documents
المبحث الرابع-converti
المبحث الرابع-converti
أما عن عالقة الشخصية باألحداث في رواية وادي الجن ،فإن الروائي مبروك
دريدي يقدم لنا شخصية البطل فريد المليئة بالمغامرة وهذا مايجعل القارئ يعيش في
حيرة وتشوي ق لما سيحدث ،وتظهر لنا هذه الشخصية من خالل تتبع األحداث من
مر بحياة ممزوجة بالفرح والحزن واألمل
بداية الرواية حتى نهايتها ،فنجد البطل ّ
والخيبة ،وحلمه الكبير في الحصول على ملكية وادي الجن ُليصبح صاحب ثروة ،
كنا اليوم فيما نحن فيه من الجاه والمال والسلطان ؟ الحياة
تمهلت هل ّ
يقول " :لو ّ
ياصاحبي مغامرة كبرى ،خطر ّ
البد منه ،لقد تعلمت أن لحظة انتظار واحدة كافية
ألن تكون فاصلة هزيمة تكسر طموحك ،وتدفن آمالك " ، 2وكان متخرجا من
الجامعة إال أنه يؤمن بأن تلك الشهادة ال تنفعه في شيء ،وال تجعله يحصل على
وظيف عمل ،وهذا مايظهر في قوله " :هذه األرض مسقية بدماء الضعفاء ..
إن جريك وراء الوظيفة ليس حدثا تهلك فيه آمالك وجهدك
الضعفاء فقط ،قلت لك ّ
- 1حسن سالم هندي إسماعيل :الرواية التاريخية في األدب العربي الحديث ،دراسة في البنية
السردية ،دار الحامد للنشر والتوزيع ،عمان ( ،ط2014 ، )1م ،ص.120
2
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .26
..الفرق بينهما أنني ال أطلب الوظيفة بتلك الشهادة التي يساوي حبرها أكثر منها ،
1
أن العلم ينجز شيئا ال أن يصير أكوام ورق "...
لقد تعلمت وفهمت ّ
كما كان لجدته مسعودة دور هام في وضع الحدث باعتبارها العفريتة التي أدخلته
وادي الجن أول مرة ،وبعدها أصبح هو أيضا غفريتاً ،في قوله :
" آمنت باالنتحار منذ زيارتي األولى إلى الجدة مسعودة ... ،جاذبية من فوالذ شدتني
إلى بيتها هناك حيث فم الوادي المرعب كغول أسطوري ،بقيت جملتها ستزورني
يكبر صداها ".2
حيث استمد شجاعته من اليوم الذي دخل فيه الوادي ،وأصبح يحب المخاطرة
والمغامرة وال يخشى شيء ويواصل مبروك دريدي في ذكر األحداث التي عملت
ف على الفتاة نهى عبر الفايس بوك ،والتي
على خلق الشخصية وذلك عندما تعر ّ
غيرته و حركت أحاسيسه ومشاعره بعدما كانت حياته خالية من النساء ،ولم يشعر
بحب أو إعجاب اتجاه ّأية امرأة في شبابه ،ويوضح ذلك من خالل قوله " :كانت
مرحلة شبابي األول خالية تماما من ّأية امرأة ،كنت أرفع كتفي عن كل المتسلقات ،
3
في الجامعة صارت البنات عن قرب شديد مني ولكنني لم أشم عطر واحدة "..
وهكذا ساهمت نهى على تغيير هذه الشخصية فتحول إلى عاشق ومما أدى إلى
تطور أحداث الرواية ،يقول " كان كالمي هذا كافيا حين التقيت نهى لتحكم عليّ
بأني لم أكتشف الرجل الذي بداخلي ،كانت تقول لي أنا من يجعلك تعرف أن
النساء لسن سواء " ، 4وأيضا مساهمتها في الحدث الكبير وهو اكتشاف السر الكبير
-1مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص.56
-2المصدر نفسه ،ص .33
3
-المصدر نفسه ،ص .65
4
-المصدر نفسه ،ص .67
الذي يخبئه وادي الجن ،وهذا من أهم األحداث في الرواية ،حيث يجعل القاريء
يشعر باإلثارة والتشويق عند قراءته ،يقول في هذا الصدد " :تقول لي نهى أن
النص مطابق لكثير من آثار عديدة مكتومة لدى من يعرفها فقط ،وتخبرني أن
األحجار التي في الوادي شاهد على كنز مقبور في بطنه ،...هل يعقل أن في
1
الوادي كنز عريق ُمهرب من الحضارات البائدة ؟ " .
كما ساهمت شخصية الماريشال في تطور األحداث ،فقد كان يبدو قاسيا بعد
ولديه ،لنكتشف فيما بعد أن له جانب ضعيف وطيب ،ورحلة
قتل زوجته وهروب ّ
فريد للبحث عنهما وتحقيق أمنية الماريشال في رؤيتهما قبل موته ،قائال ":كل هذا
ولدي هما من يغمض عيني على الومض األخير منهما
ّ ليس مهماً ...تمنيت لو أن
،ومن ذلك ال تعني الجثة شيئا " .2
تعرض فريد لمواقف كثيرة تشكلت على إثرها شخصيته ،فبعد رحيل زوجته
نهى وأخذها البنتهما ماريا ،وموت الجدة مسعودة ،فقد كانت كل هذه األحداث
التي سارت على نهجها الرواية ،يقول " :تركتموني يتيما ..عاريا تماما من كل
دفء ..جوعان إلى حليب أطعمه من يديك ساخنا وشافيا " ،3فقد اختار الكاتب
األحداث التي تكون سببا في تفاعل الشخصيات وتكون أجوائها مشبعة ومليئة
بالتشويق والمغامرة .
1
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .73
2
-المصدر نفسه ،ص .106
-3المصدر نفسه ،ص .152
يعتبر الزمن مكونا أساسيا وعنص ار هاما في بناء الرواية ،وقد ارتبطت الشخصية
بالزمن ارتباطا وثيقا ،فهي تعيش الماضي والحاضر والمستقبل ،وتتطور في كل
األزمنة ،والزمن هو اآلخر يؤثر في الشخصيات وطبائعها وسلوكاتها " ،فهو الخيط
1
الوهمي الذي يربط األحداث ويؤسس لعالقات الشخصيات بعضها ببعض "
وبما أن الزمن يتطور من الماضي إلى الحاضر وصوال إلى المستقبل ،كيف
استطاع الروائي ربطه بالشخصيات في رواية وادي الجن ؟
ومن أجل معرفة العالقة التي تربط الشخصية الروائية بعناصر الزمن وأثرها في
تجسيد الشخصية ،وجب دراسة حركتي االسترجاع واالستباق .
• االسترجاع :
هو استرجاع ذكريات وأحداث حدثت أو وقعت في زمن الرواية أي بعد بدايتها ،
عندما يسرد الروائي أحداث الرواية يبدأ في استرجاع ذكريات ماضية " ،هو الذي
-1عبد المالك مرتاض :في نظرية الرواية ،بحث في تقنيات السرد ،سلسلة عالم المعرفة،
الكويت ( ،دط) ،1998،ص .178
-2حسن البحراوي :بنية الشكل الروائي(الفضاء،الزمن،الشخصية)،المركز الثقافي العربي،
(ط1992،)1م ،ص .121
يستعيد أحداثا وقعت ضمن زمن الحكاية أي بعد بدايتها" 1ونحن اآلن أمام رواية
وادي الجن و نالحظ فيها االسترجاع الداخلي وبكثرة ،حيث قام الراوي باسترجاع
عمار
أحداث و مواقف التي عاشها في طفولته وتذكره أيام الجامعة مع صديقه ّ
ويتضح لنا في هذا المقطع " كنا ندرس بالجامعة واألمل يدفعنا نحو أحالمنا ،لم
نكن نعلم أن سنوات الجامعة ستصبح خيبة للعمر ،وفراغا طعن وقتنا بأمل كاذب ،
2
عمار طالبا في معهد اإللكترونيك ".
كنت طالب بيولوجيا وكان ّ
ونجد أيضا استرجاع عمار ذكريات حزينة عاشها في صغره في هذا المقطع
عمار في خواطر من ذكرياته ،أعرف صاحبي ،تسكن كل هذه الربوع في "يغرق ّ
قلبه ،يتذكر ُيتمه وآالمه ،يتذكر كيف عاش في كفالة الشيخ درويش إمام الجامع ،
النحس ".4
تسميه ّ
وال ينسى قسوة زوجته التي كانت ّ
ومن االسترجاعات الداخلية أيضا نلمح في هذا المقطع الذي يدل هو اآلخر
على رغبته الكبيرة في دخول وادي الجن " منذ أن كنت طفال وأنا أحترق شوقا ورغبة
1
-شعبان عبد الحكيم محمد :الرواية العربية الجديدة ،دراسة في آليات السرد وقراءات نصية،
الوراق للنشر والتوزيع ( ،ط2004 ، )1م ،ص .27
2
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص.28
3
-المصدر نفسه ،ص .25
4
-المصدر نفسه ،ص .39
في أمرين ،نزول الوادي واعتالء قمم بوبرنوس ألشهد جنة الوادي من فوق ..كنت
أقول ألمي بأني سأفعلها ،وكانت تهتز خوفا وترتعب محذرة إياك أن تفعل ،في هذا
1
الوادي غيالن ووحوش وجن ."..
هو استرجاع أحداث وقعت أو حدثت قبل بداية الرواية ،أي يحيلنا إلى زمن
سابق للرواية ،من أجل إعطاء معلومات عن الشخصيات ليتمكن القاريء من فهم
الرواية " ،هو الذي يستعيد أحداثا تعود إلى ماقبل بداية الحكاية " 2ومن أمثلته في
هذه الرواية عندما استرجعت الجدة مسعودة ذكرياتها مع صديقتها رحمة جدة فريد في
أيام االحتالل وكيف احتضنتا معاً الثورة " ،أفقت من النوم على نحيب أمي وعويلها
كذئبة جريحة ...لم أشهد أبي يضحك أبدا ،كانت كل جملة لعنات على المحتلين
الفرنسيين وظلمهم ". 3
ويظهر االسترجاع الخارجي أيضا في مقطع آخر " كنت الولد البكر ألبي
وأمي ،تركتهما اللعنة وحيدين ،حين ضرب الطاعون أوالد سيدي المرعوش .نجت
أمي من بين جميع أهلها ،ونجا أبي من جميع أهله ،حين صا ار شابين تزوجا وبنى
أبي من فقره بيتا من خشب ...ولكن اللعنة عادت مرة أخرى ...ذات شتاء اشتعل
عمار عن والديه وكيف عاشا
في لمح البصر كل شيء " .في هذا المقطع يحكي ّ
4
1
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .28
-2شعبان عبد الحكيم محمد :الرواية العربية الجديدة ،دراسة في آليات السرد وقراءات نصية،
ص. 107
3
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .34
4
-المصدر نفسه ،ص .41
عمار وحده وعاش يتيما
وتزوجا وبعدها ماتا عندما اندلع الحريق في منزلهما ونجا ّ
منذ صغره.
• االستباق :
هو توقع حصول أحداث في المستقبل ،ويعرف أنه " كل مقطع حكائي يروي
أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها ...ويقضي هذا النمط من السرد بقلب
نظام األحداث في الرواية عن طريق تقديم متواليات حكائية محل أخرى سابقة عليها
في الحدوث ،أي القفز على فترة مامن زمن القصة ...،والتطلع إلى ماسيحصل
من مستجدات في الرواية ".1
حيث يستعمل الراوي هذه التقنية من أجل التلميح أو اإلخبار عن حدث سابق ألوانه،
والتنبؤ والتطلع إلى ماسيحدث في المستقبل .
ونجد في رواية وادي الجن العديد من االستباقات من بينها في هذا المقطع "
وعمار تزرعان نباتا غريبا عن الوادي ،وحين ينضج تحصدانه ذهبا ،
رأيتك أنت ّ
ولكن حين تغادران تنبت مكانه رؤوس شياطين صغيرة تصرخ ليلة كاملة ثم تشرق
عليها الشمس فتحترق ".2
وعمار بزراعة
كانت هذه الرؤية األولى للجدة مسعودة وتحققت فعال عندما قام فريد ّ
بذور القنب في وادي الجن من أجل الحصول على المخذرات .
وأيضا نجد االستباق في المقطع التالي " ورؤيتها الثانية كانت يوم زرتها بعد
عودتي من رحلتي األولى إلى ستوكهولم ،...قالت :رأيتك في المنام ،في بلد يلفه
1
-محمد عزام :شعرية الخطاب السردي ،دراسة من منشورات إتحاد الكتاب العرب،
(دط)2005،م ،ص110
2
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .47
الصقيع مع امرأة شابة سمراء بوجه أبلج كصحراء ،ورأيتك تضع طفلة رضيعة على
سرير من الجليد " ،1في هذا المقطع نجد الرؤية الثانية للجدة مسعودة ،وكانت
تعرف فريد على نهى وأحبها ثم تزوجها ،و أنجبت طفلة اسمها
رؤيتها صادقة ،فقد ّ
إليس ماريا .
من خالل ماسبق نستنتج أن الزمن مكون أساسي في بناء الشخصية ،وهو
الذي يحدد عالقته بباقي الشخصيات األخرى ،كما أن تقنية االسترجاع واالستباق
ساهمت كثي ار في سيرورة األحداث وتطويرها و تحريك الشخصيات داخل الزمن
باستذكار لبعض الحوادث أو الشخصيات المرتبطة بزمن الرواية .
-1مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .47
-2المصدر نفسه ،ص .48
عبر تماسه معها بذلك ليس وعاءا مجردا لوقوع الحدث ،أو حيز للحياة فحسب بل
صورة مهمة من صور وجودها " ، 1يعتبر المكان العمود الفقري الذي يربط أجزاء
العمل الروائي ببعضها البعض
وهكذا تتضح العالقة الوطيدة بين المكان والشخصيات الروائية ،فالروائي ال
يستطيع تشكيلها بعيدا عنه ،والتستطيع العيش دونه ،فهو بيئتها التي تتحرك فيه
يحتضنها بكل ما أوتي من قوة .
وإذا ما نظرنا في رواية وادي الجن سنجد تماثال في توظيف المكان ،حيث تعددت
األماكن وتنوعت وفقا لألحداث المسرودة ،بين أماكن مغلقة و أماكن مفتوحة .
يؤدي هذا النوع من األمكنة في رواية وادي الجن دو ار مهما في تشكيل الشخصية
الروائية ،حيث نجدها " مليئة باألفكار و الذكريات واآلمال والترقب وحتى الخوف
والتوجس ،فهي تولد المشاعر المتناقضة المتضاربة في النفس ،وتخلق لدى
اإلنسان صراعا داخليا بين الرغبات والمواقع ،وتوحي بالراحة و األمان ،وفي الوقت
نفسه بالضيق والخوف " 2ومن أهمها :
• البيت :
1
-ضياء غني لفتة :البنية السردية في شعر الصعاليك ،دار الحامد للنشر،
األردن(،ط2016،)1م ،ص.117
-2حفيظة أحمد :بنية الخطاب في الرواية النسائية الفلسطينية ،منشورات مركز أو غاريت
الثقافي ،رام هللا ،فلسطين (،ط2007 ،)1م ،ص .134
البيت له ارتباطا وثيق باإلنسان ،وله دور مهم في تشكيل العمل الروائي ،وهو
عند جاستون باشالر " البيت جسد وروح وهو عالم اإلنسان األول " ،1فهو المكان
الوحيد الذي يلجأ إليه اإلنس ان وفيه يصب آالمه وأحزانه،فهو يمثل مكان االحتماء
واالستقرار والهروب من الخارج ،ونالحظ في رواية وادي الجن أن الكاتب قدم لنا
وصفا جميال لبيته ،قائال " :بيت جميل مرتب وكل شيء في مكانه ،نظيف ورائحة
فواح ،على الجدار زربية صغيرة عليها النعناع المغروس بحوشه تتنفس بعطر ّ
رسمة الكعبة ،وعلى الجدار المقابل بندقية قديمة معلقة ، 2"..وفي البيت تُقام
مأدوبات للطعام يجتمع فيها األهل واألحباب واألصدقاء ،في قوله " :وفي الحديقة
فرشت الزرابي ووضعت طاوالت الغداء الفاخر ..كل صنوف ماتعشقه الكروش من
3
اللحم والطعام والفاكهة "...
البيت هو المكان الذي يحمل الذكريات واآلالم واألحالم ،وفيه يتذكر المرء كل
لحظاته الماضية من حزن أو فرح ،في قوله " :مفتاح أنجبت به عودة إلى داخل
البيت الذي غرست فيه شتلة من روحي ،ومخطوط من إلهة غرست خلودا بعمري ،
وصورة إلبنتي إليس ماريا ،أعود على مالمحها طفال نقيا من كل الدنس،4"..معنى
هذا القول أن بعد عودة فريد إلى بيته ولم يجد زوجته وابنته ماريا ،بدأ بتذكر
اللحظات التي عاشها فيه ،فالبيت يعتبر المكان المفضل كونه يحتوي على لحظات
الفرح والسرور ،وحين نبتعد عنه نشعر بالحنين إليه ،في قوله " :في الزيارة ،...
-1غاستون باشالر :جماليات المكان ،ترجمة غالب هلسا ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر
والتوزيع ،بيروت-لبنان( ،ط1984،)2م ،ص .38
2
-مبروك دريدي :وادي الجن "فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص.36
3
-المصدر نفسه ،ص.61
4
-المصدر نفسه ،ص.149
هناك في الحوش المبّلط بالرخام الناصح تفتح أمي ذراعيها لعناق صغيرها،...
أعانقها ورنين ذهبها ينبس من كل جهة ". 1
من خالل كل هذا نستنتح أن للبيت أهمية كبيرة في هذه الرواية ،حيث قام
الروائي بتوظيفه في أشكال مختلفة ومتعددة .
• السيارة :
تعتبر السيارة مكان مغلق ووسيلة نقل من مكان إلى آخر ،وتعد من األماكن
المغلقة التي تؤثر على اإلنسان بصورة إيجابية وسلبية ،فمن خالل زجاج السيارة
الالمع يتأمل ويفكر في ماضيه ومستقبله ،حيث كانت السيارة في رواية "وادي
وعمار ويتشاركان في آالمهما وأحزانهماّ الجن" المكان الذي يجتمع فيه فريد
ويسترجعان ذكريات من طفولتهما وأيام من الجامعة ،في قوله " :ندخل بالسيارة في
عمار في خواطر من دروب عند سفح الجبال ونأخذ في التسلق رويدا ...يغرق ّ
ذكرياته ...يتذكر يتمه وآالمه 2".وأيضا كانت المكان الذي تشاركا فيه فرحتهما
عمار ...تركض بنا السيارة
بالحصول على ملكية وادي الجن ،قائال :أنطلق رفقة ّ
3
كمهرة في شدة الفرح ،هذا اليوم مشهود ..يوم تاريخي " .
• المستشفى :
هو مكان لعالج المرضى أمال في الشفاء " ،يتخذ المستشفى في الواقع شكل
مكان للعالج وال يركن بزواره المؤقتين يأتونه من أمكنة مختلفة بحثا عن الشفاء ثم
1
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .52
2
-المصدر نفسه ،ص.39-38
3
-المصدر نفسه ،ص .53
يغادرونه ،يعيش حركة تجعله مكان انتقال مفتوح على الناس " ، 1فهو المكان الذي
يقدم أكثر الخدمات اإلنسانية ،وقد ذكر الكاتب مبروك دريدي المستشفى عدة مرات
عند زيارة البطل للماريشال الذي كان على فراش الموت ،في قوله " :أزور موالنا ،
ممدد في سرير مرضه ،خيوط وأنابيب في هذه المرة أراه كما لم أره من قبل ّ ،
تنغرس بلحم جسمه وعروقه ،يتنفس بصعوبة بين فاصلة وأخرى من أنفاسه يأخذ
قناع األوكسجين ويضعه على فمه وأنفه " ، 2وذكره أيضا عندما وضعت نهى
مولودها ،قائال " :ذهبت إلى المستشفى لتضع مولودها ،زرتها قبل ثالثة أيام وقد
3
وضعت بنتا كأنها الشمس ..عدت ألطمئن عليها فأخبروني أنها خرجت".
• المصنع :
هو عبارة عن مبنى أو مجموعة مباني التي تصنع فيها المنتجات ،حيث تختلف
أحجامها ،ويتم فيه تحويل المواد الخام واألجزاء إلى منتجات جاهزة لإلستخدام ،
وفي هذه الرواية البطل يريد استغالل المصنع في تجارة المخدرات تحت غطاء
مصنع لمواد البناء ،نالحظ أنه قدم لنا وصفا دقيقا له في قوله " :وبدأ المصنع
ينبت وتتضح معالمه ،شركة بناء أجنبية صممته وفقا للطلب ،وتبنيه بكل مرافقه..
وحدة اإلنتاج ووحدات التجميع ،وحفر مناجم الخام ...،وأمام المصنع مستودعات
التخزين . 4"..وبعدها اكتمل بناء المصنع وبدأ بمشروعه في قوله " اكتمل بناء
المصنع ،وتم وضع كل شيء فيه موضع اإلنتاج ،اشتغلت اآلالت .5"..
1
-الشريف حبيلة :بنية الخطاب الروائي ،ص .238
2
-مبروك دريدي :وادي الجن ،ص .104
3
-المصدر نفسه ،ص.148
-4المصدر نفسه ،ص.63
5
-المصدر نفسه ،ص .132
• المقهى :
يعتبر من األماكن المغلقة التي وظفها الكاتب في روايته ،فهو " مكانا جماليا
مطروقا وزيادة على ذلك فإن المقهى كمكان جمالي يعتبر عالمة من عالمات
اإلنفتاح اإلجتماعي والثقافي ،فنالحظ أن المقاهي انتشرت في كتابات العديد من
الروائيين العرب ،كما يعد المقهى مسرح الحياة الشعبية ،وهو مكان اللعب ،لعب
األفكار واللغو ..والتأمل والترويج عن النفس التي ضاقت بالحاضر وهمومه وأغالله
اإلجتماعية والسياسية والفكرية " .1حيث كان المقهى في رواية وادي الجن المكان
الذي يلتقي فيه البطل مع أصدقائه من بينهم يوسف اليهودي الذي ساعده كثي ار في
الحصول على بذور القنب ،في قوله " :زرته مرات في مقهى المدينة وصاحبته
،شيخ متقاعد من عمله لنصف قرن بفرنسا .2"...
وقوله أيضا " :دخلت مقهى المدينة باك ار وجلست في صمت أنتظر قهوتي...
جاءني النادل بقهوتي " .3فهو الملجأ الوحيد الذي يجد فيه اإلنسان راحته ،ويجتمع
فيه مع أحبته ،عند سفر البطل فريد إلى باريس لجأ إلى المقهى المفضل لديه ،
المحبب في باريس " ،مقهى فوكتس" الذي
ّ قائال " :أركب سيارة أجرة إلى مقهاي
يفوق عمره المئة عام ...في مقهى "فوكتس" أخذت وجبة فطور ،تعقب قهوة
أرابيكا .4"...
-1شاكر النابلسي :جماليات المكان في الرواية العربية ،دار فارس للنشر والتوزيع (،ط،)1
1994م ،ص.195-194
2
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص.76
3
-المصدر نفسه ،ص .78
-4المصدر نفسه ،ص .112
نستنتج أن توظيف الروائي مبروك دريدي لألمكنة المغلقة في رواية " وادي
الجن " قد زادها فنية جمالية وأن هناك ثراء نسبي في األمكنة ،وتعددها واختالفها
ينعكس على وظائفها ،ولها دالالت تعكسها على نفسية الشخصيات .
" يوحي المكان المفتوح باالتساع والتحرر ،وال يخلو األمر من مشاعر الضيق
والخوف والسيما إذا كان المكان المفتوح في أمكنة الشتات والمنافي والمخيمات،
ويرتبط المكان المفتوح بالمكان المغلق ارتباطا وثيقا ولعل حلقة الوصل بينهما هي
اإلنسان الذي ينطلق من المكان المغلق إلى المكان المفتوح ،توافقا مع طبيعته
الراغبة دائما في االنطالق و التحرر " ،1فهي األمكنة التي فيها حرية التنقل دون
قيود ،ومتاحة للجميع ،وتشكل مع األمكنة المغلقة ثنائيات ضدية ،وقد وظف
الكاتب العديد من األماكن المفتوحة في هذه الرواية أهمها :
• المدينة :
س افر البطل فريد إلى جنيف لزيارة موالنا الذي هو طريح في المستشفى ،يقول :
"أستقل القطار إلى جنيف ..المدينة األنيقة ،مدفن كنوز الجنوب ،وملتقى حقوق
اإلنسان " .2
وأيضا سافر البطل إلى باريس في قوله " :تحط الطائرة بمطار شارل ديغول في
باريس عاصمة الجن والمالئكة ،عرفتها في زوايا الليل والنهار ،ومنها نسجت
دروبا عديدة هنا ،وانطلقت منها إلى عواصم كثيرة ،سائحا و تاج ار " .3
كذلك سفره وتجوله في دول أوروبا كلها وهذا مايتضح لنا في قوله " :في عباءة
أحج إلى
الغريب تجولت في كل أوروبا ،أبيت ليلتي هنا بباريس وعند خيط الفجر ّ
سويس ار ..إلى جنيف ". 4
وعند هروب زوجته وابنته ،سافر وتنقل بين بلدان العالم باحثا عنهما ،ولكن
دون جدوى فلم يستطع العثور عليهما و كأن األرض ابتلعتهما قائال " :عدت إلى
البلد بعد شهور أنفقتها في البحث عن نهى ..من ستوكهولم إلى فيينا إلى أمستردام
-1مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص.88
-2المصدر نفسه ،ص .85
-3المصدر نفسه ،ص.84
-4المصدر نفسه ،ص .84
إلى سان بطرس بورغ إلى روما ..ومنها إلى نيويورك وشيكاغو وكواال النبور وهونغ
كونك ". 1
ومنه يتضح لنا أن المدينة من األماكن المفتوحة وأهم مكان تلتقي فيه شخصيات
الرواية .
• القرية :
من األمكنة المفتوحة ،وتعد أكثر ثراء فني في الرواية المعاصرة ،وهي " ذلك
الحيز المكاني الخصب الذي يؤثر في اإلنسان وتشده إلى األرض وتتميز جغرافيا
بامتداد حقولها ،وببساطة أبنيتها التي تعكس حياة أصحابها ". 2
تعتبر القرية مكانا له عالقة بشخصيات الرواية ،حيث ذكر الكاتب قريتين قرية
عمار،
سيدي الوزاني التي عاش فيها فريد وقرية سيدي المرعوش التي عاش فيها ّ
وكان يفصلهما الوادي ،في قوله " :في قريتنا وفي القرى المجاورة من أوالد سيدي
الوزاني وسيدي المرعوش اتفق الناس على الحكاية الواحدة ..وادي الجن للجن ". 3
يمتد الوادي بين السهول والهضاب والجبال ،وتسيل األنهار والسيول التي تتدفق في
األودية ،تدريجيا من األراضي الداخلية إلى المحيط ،حيث تتميز أراضي األودية
بخصوبتها ،مما يجعلها صالحة للزراعة ،ويعتبر في هذه الرواية أهم مكان تحدث
عنه الروائي ،والذي أراد البطل فريد الحصول على ملكيته ليستغله في زراعة بذور
1
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .151
2
-حنان محمد موسى حمودة :الزمكانية وبنية الشعر المعاصر ،أحمد عبد المعطي نموذجا،
عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع ( ،ط2006 ، )1م .29،
3
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .29
ا لقنب من أجل تجارة المخدرات ،ويصفه في قوله " :يتدفق وادي الجن من سفح
وتضج شرايينه بماء زالل على مدى مئة وخمسين كيلومتر ...حيث
ّ جبال بوبرنوس
تذوب عذوبة الماء في مطحنة الملح ...،وعلى طول الضفاف تنتشر قرى إلى
اليسار نزوال إلى البحر " 1.
ويعد هذا الوادي الفاصل بين القريتين ،قرية سيدي المرعوش وقرية سيدي
ومحرم اجتيازه ،
حد فاصل بينهما ّ
الوزاني ،في قوله " :وتقول الحكاية أن الوادي ّ
وعلى مدى زمن طويل تكاثر األبناء وتفسحوا في أرض الضفتين ". 2
وأيضا هو المكان الذي كانت تسرح فيه الجدة مسعودة عنزاتها السبعة ،وكانت
الوحيدة التي تدخله دون خوف ،يقول :
" كان بيتها أقرب بيت إلى الوادي ،كانت تقيم على ضفة بعيدة عن كل أوالد
سيدي الوزاني ،وكان الناس يحكون فيها العجب ..يقولون بأنها صديقة الجن ". 3
وفي األخير نالحظ أن هناك تنوع في األماكن المغلقة والمفتوحة ،وأنها لم
توظف كديكور يؤطر األحداث فقط بل لها دور ووظيفة وهو المشاركة في األحداث
وساعدت في تفاعل الشخصيات معها ،من أجل تشكيل المعنى العام للرواية ،لهذا
لجأ إليها الروائي ليؤسس بها عمله السردي.
1
-مبروك دريدي :وادي الجن " فصل من سيرة فريد الجحش " ،ص .22
2
-المصدر نفسه ،ص .23
3
-المصدر نفسه ،ص .29