Professional Documents
Culture Documents
1997
فهرس الدوريات فهرس العدد
اللص والكالب( ) 1أو الصراع بين الفرد و المجتمع ـــ د.محمد البصير
1-
"وكما جاءت "اللص والكالب" مباشرة بعد "أوالد حارتنا" ،كان اللص سعيد مهران أحد أبناء الحارة
الضالين ،الذين يعيشون في وحدة وفراغ ،وفقدان اتجاه ،تطلع إلى الخالص ،إلى رؤية بشرية عامة،
فظنها في الفتوة الفردية ،في الرفض الفردي للمجتمع ،والخروج فردياً على شريعته ،دون بديل آخر دون
بناء آخر ،دون ارتباط بشيء.
ظن الخالص بالهدم الفوضوي ،لم يجمع بين الكتاب والعواطف ،بل جمع بين الكتاب والمسدس ،لم يجمع
بين الكتاب واآلخرين بل كان هو وحده البطل المتفرد الذي ظن أنه بسرقة األغنياء يمحق الظلم والفساد.
وهكذا فقد االتجاه وانحرف عن جادة الطريق ،وتعرض لخيانة أقرب الناس إليه .أما زوجته فأسلمته هي
وعشيقها إلى السجن ،وجعلت ابنته تتنكر له ،ثم تعرض لخيانة أستاذه الذي أخذ بيده إلى طريق التمرد
وتمرغ في نعيم اإلنتهازية"(.)3
الفردي ،ثم تخلى عنهّ ،
إن " اللص والكالب" التي تجيء ثاني رواية في المرحلة الفلسفية من مراحل السير لدى نجيب محفوظ،
وهي تتخذ البطل الواحد مداراً لها ولما كانت تدور حول لص ظنها بعض الدارسين رواية بوليسية تتناول
مغامرات لص شريف ،ولكن هذا الرأي سريع بل متسرع.
"اللص والكالب" رواية بطل واحد وهذا صحيح ولكنها ليست بوليسية .إنما هي صراع بين إرادتين ،إرادة
الفرد الذي فقد اتجاهه ولم يعد يهتدي إلى خط سير الحركة االجتماعية الصاعدة فأحس أنه محشور في
الزاوية ،تتعاوى عليه الكالب وتتخاطفه األنياب ،وهو هائج ثائر صائح يضرب باليمين وبالشمال على غير
هدى .وفي يأس لم يعد معه يؤمن بالقدرة على النجاة!"(.)4
لقد تكالبت قوى الشر والعدوان على سعيد مهران فسلبته حريته وأدخلته السجن ونهبت أمواله واستولت
على زوجته وابنته وحرمته من نعمة الهدوء واالستقرار وراحة البال ،وأغرقته في بحر ال قرار له من
والضياع .فحاول التخلص من أعدائه واالنتقام منهم ولكن محاولته باءت بالفشل الذريع!!
ّ القلق واليأس
وكان سعيد مهران يحمل آالمه المكبوتة في نفسه المضطربة التي تنطوي عليها حياته المتجهمة التي لم
تعرف طعماً للراحة واالستقرار بسبب تكالب األعداء والخصوم ضده لذلك لم يجد مفراً من اللجوء إلى
الدين له القداسة األولى واالحترام الكلي في نفوس الجماهير
الدين لعله يجد فيه األمن والطمأنينة .ألن ّ
ّ
الشعبية.
"ويخرج سعيد مهران من السجن وكأنه يولد من جديد ،خرج ليواجه قدره ويواجه الحياة بكل ما فيها من
خير وشر .وكان أول شيء يواجه سعيد هو إنكار ابنته سناء له فهي ال تتعرف عليه
أبوته .وقد وضع المؤلف إنكار االبنة داللة رمزية على اإلنكار األشمل الذي
وترفض التجاوب مع مشاعر ّ
سيواجهه سعيد من المجتمع كافة .وفكرة اإلنكار قدمها نجيب محفوظ في غير رواية ،وهذه القضية تبرز
عن حركات التغيير في المجتمع ،إذ يسقط أفراد في دورتها بينما يعلو معها آخرون نتيجة لمواكبتها.
ونالحظ أن المؤلف قد عرض لفكرة اإلنكار في غير رواية له في المرحلة الروائية التي أعقبت ثورة يوليو
،1952فقد شهد حركة التغيير التي نجم عنها موقف السقوط التي لحقت بعضاً .فنجد هذه القضية في
"السمان والخريف" حيث إنكار نعمات ألبيها عيسى الدباغ الذي كان داللة على سقوطه في حركة التغيير
ونحته عن دائرة الحكم .وكذلك قدم هذه القضية في رواية ميرامار إذ نجد الوفدي
التي أطاحت بحزبه ّ
القديم عامر وجدي يعاني مرارة اإلنزواء بعد أن فقد دوره في الحياة العامة .وإ نكار االبنة لسعيد مهران،
امتد إلى المستوى اآلخر حين وجد سعيد تعاطف المخبر حسب اللّه مع عليش سدرة وتهجمه عليه ،وقد
تبعه الباقون الذين كانوا أعواناً لسعيد فهم المستفيدون من تملقها ،ولهذا كان موقفهم من سعيد يتسم
باإلنكار والجحود"(.)5
وهذا اإلحساس العارم بالضياع الذي يغمر سعيد مهران إنما يتسع كلما اتسعت رقعة األحداث والمواقف
والوقائع في الرواية ،يتسع اإلحساس بالخيانة العامة خيانة الزوجة ،وخيانة التابع والصديق ،وخيانة
األستاذ وتنكر االبنة ،ثم تنتقل الخيانة لتشمل المجتمع كله.
"ويحاول سعيد مهران كلما ارتكب خطيئة أن يبحث عن االطمئنان يهرب من توتر اإلثم إلى الدين في
رحاب الشيخ الجنيدي ،وهو غير مؤمن إيماناً كامالً إنما هي ظالل من االعتقاد تخلفت في نفسه تسوقه
من الالوعي إلى ذلك الشيخ".)6(.
والحق أن سعيد مهران يحاول العمل بال إيمان صادق وبال عقيدة راسخة متجذرة ذات بعد عميق من
الناحية األخالقية والدينية والروحية التي سوف تعيد إليه األمن والطمأنينة والثقة بالنفس واإلعتماد عليها
ليبلغ الغاية المرجوة التي كان يسعى لتحقيقها ،غير أن سعيد مهران ال يهتم اهتماماً كبيراً بالدين وال
يؤمن إيماناً راسخاً بالعقيدة اإلسالمية التي تهدف إلى نشر الخير بين الناس وتعينهم على أعباء الحياة
اليومية ثم تدفع بهم إلى النشاط اإليجابي الفعال الذي يعود عليهم بالفائدة والنفع العميم .لكنا رأينا سعيد
مهران تدفعه رغبة جامحة مجنونة في اإلنتقام من أعدائه في أقصى سرعة ممكنة مهما كانت النتائج
المترتبة على ذلك ومهما كان الثمن غالياً.
فاإليمان العميق بالدين هو بالضبط ما كان يفتقر إليه سعيد مهران في رحلته الشاقة .فالدين إذن هو
الخالص الوحيد إنه األمل األخير وبدونه يخيم اليأس والقنوط .فالعقيدة في حياة اإلنسان صمام األمن في
عالم يمتلئ باهتزاز والقلق واالعتالل النفسي.
على أننا إذا قلّبنا المشكلة من جميع وجوهها ربما التمسنا بعض العذر لـ سعيد مهران الذي كان يعيش
شددت عليه الخناق فحاول المقاومة قدر استطاعته لكنه فشل وسقط قتيالً برصاص
أزمة حادة خانقة ّ
البوليس!!
وهذا الضياع الذي يعانيه سعيد مهران ضياع مركب فهو ضياع ديني واجتماعي وفكري ونفسي ،والقدر
من ورائه يدفعه بقوة إلى مصيره كما يدفع غيره من الناس ،وقد يعاند قدره ولكنه في النهاية مسوق
إليه ،والقدر يدفعه وهو مجرم في عرف الناس ويدفع غيره وهم أبرياء كذلك في عرفهم.
-2-
فالمؤلف من خالل روايته "اللص والكالب" يشير بإصبع اإلتهام إلى المجتمع وعيوبه ومفاسده وشروره .
هذا المجتمع الذي تسوده الفوضى واالضطراب وبكل ما يعج فيه من صراعات
والحق أن النهاية المأساوية التي دمرت سعيد مهران إنما هي الظروف االجتماعية الفاسدة المتعفنة
قضاء مبرماً في
ً والقوة الغاشمة للعالقات المحددة التي وقع هذا اإلنسان في شباكها والتي قضت عليه
نهاية األمر .وقد أشار إلى هذه الفكرة أحد الدارسين حين كتب قائالً" :يحرص المؤلف على أن يشير
بأصبع االتهام إلى المجتمع ،إذ أن المجتمع في نظره مسؤول عن جريمة سعيد مهران وهو العامل
األساسي الذي دفعه إلى التهور والجنون وارتكاب الحماقة وراء األخرى ،فالمجرم عند نجيب محفوظ لم
يخلق مجرماً بل يفرض عليه المجتمع أن يسلك هذا الطريق الوعر المحفوف باآلالم والرعب والمخاطر"(
.)11
والمؤلف يهدف من وراء مأساة سعيد مهران إلى بيان غربة اإلنسان المعاصر وعزلته وضياعه وسط
مجتمع الغدر والخيانة واألنانية المقيتة التي داست على كل المبادئ والمثل والقيم اإلنسانية بال وازع ديني
وال ضمير أخالقي وال موقف إنساني.
" -3-
تشتمل رواية "اللص والكالب" على شخصيات اختلفت اتجاهاتها ومواقفها وميولها ،وتناقضت تناقضاً
الصدام واالقتتال ،وسقطت ضحايا
الصراع الحاد القوي فيما بينها حتى وصل إلى درجة ّ
شديداً حتى ليشتد ّ
أبرياء ونجا األشرار!!
وكان سعيد مهران هو الشخصية الرئيسية في الرواية بال منازع ،وهو الثائر المتمرد على الظلم والفساد
والغدر والخيانة .فقد "كان حتى وهو خادم صغير يميل إلى التفكير ،ويطمع في القيام بعمل كبير ،وحين
لصاً عادياً ،بل كان زعيماً وقائد عصابة ،وكان شخصاً مرهوب
احترف السرقة لم يكن بين اللصوص ّ
السرقة إالّ ومعه فكرة تبرر له هذه السرقة وتفسرها تفسيراً
حد بعيد .وهو أيضاً لم يحترف ّ
الجانب إلى ّ
كامالً ،لقد أخذ الفكرة عن أستاذه الصحفي رؤوف علوان ،وهذه الفكرة خالصتها" :إن السرقة من
اللصوص هي العدالة بعينها .وهو يسرق من اللصوص الشرعيين ،الذين كنا نسميهم في مجتمعنا القديم
باألغنياء .إنه يسرق ويرى في ذلك احتجاجاً طبيعياً على مجتمع ظالم ،يسمح للبعض أن يأكل حتى يكتظ،
ويحرم اآلخرين من أبسط مظاهر الحياة ،وأبسط ألوان الطعام .إنه يفلسف السرقة ويجعل منها عمالً عادياً
سليماً واحتجاجاً طبيعياً على مجتمع ظالم.
وهو عندما يدخل السجن يشعر أنه وقع في المأساة .ويخرج من السجن ال ليلتمس الهدوء واإلستقرار
والبعد عن المشاكل ،بل ليجد نفسه يزداد تمرداً ،إن فكرة رهيبة تتحكم فيه هي االنتقام ،واالنتقام من
ثرياً ال يهمه العدل وال يفكر في
الصحفي الذي قاده يوماً إلى فكرة العدالة ثم خان مبادئه ،وأصبح رجالً ّ
ذلك الحلم القديم ،واالنتقام من زوجته التي خانته وتزوجت من أقرب أصدقائه وأتباعه ،وذلك عندما كان
يقضي مدة العقوبة في السجن.
كان سعيد مهران مثقفاً يعطي للثقافة العلمية المكانة األولى إلى جانب الحركة العملية ،وهو ما لخصه له
أستاذه رؤوف علوان في قوله" :المسدس يتكفل بالماضي والكتاب للمستقبل .تدرب واقرأ"(ص.)67
وهكذا فإن نجيب محفوظ "يستخدم ما يمكن تسميته بالرمز العفوي في اإلشارة إلى التفاعل العميق الذي
حدث بين رؤوف وسعيد سواء من خالل فكرة السرقة من األغنياء أو من خالل الكتب التي كان يعيرها
الرمز العفوي في تجاهل سعيد ألزمته الشخصية
الصحراء .يتضح هذا ّ إياه أو التدريبات المسلحة في قلب ّ
مع نبوية وعليش ،واتجاهه رأساً إلى الفيالّ التي يسكنها رؤوف .ففي فترة السجن الذي سيق إليه سعيد
على إثر خيانة زوجته وصديقه ،في هذه الفترة كان رؤوف المثقف الثائر قد مارس خيانة أكثر بشاعة هي
تحوله إلى جانب الطبقات التي حاربها من قبل .كان رؤوف إذن هو القيمة الجديدة التي اكتشفها سعيد في
بواكير حياته .وكانت هذه القيمة تتمرغ في الطين وهو يولي ظهره أبواب السجن .لقد أحس أنه -من
جديد -يدخل سجناً من نوع آخر ،ذلك أن القيمة الوحيدة التي كان يحقق من خاللها ذاته وحريته .كانت
تتحول إلى قضبان حديدية لسجن كبير يقوم رؤوف بحراسة أحد جدرانه"(.)18
من خالل تتبعنا لهذه العالقات األساسية في تكوين شخصية سعيد مهران نالحظ بضع حقائق هامة ،أوالها
لصاً عادياً أو مجرماً خطيراً ،فأين هذا اللص الذي يسرق بنظرية ويقرأ الكتب ويناقش اآلراء
أنه ليس ّ
ويفلسفها ؟!
"وهو إذا كان قد بدأ ثائراً على الخيانة الشخصية متمثلة في نبوية وعليش ،فإن ثورته ما لبثت بفضل
خيانة رؤوف علوان لمبادئه أن تحولت إلى ثورة عامة ذات طابع اجتماعي ،ثورة على
الخيانة بشكل عام وعلى الفساد في كل صوره ،وعلى المجتمع الذي يسمح بقيام مثل هذه الخيانات
ويحميها.
وإ حساس سعيد مهران القوي المتأزم ببشاعة الخيانة وسخطه الحاد عليها يؤكد أنه إنسان شريف في
أعماقه ،فهو كما يستبشع الخيانة ال يطيق الكذب ،وإ ذا كان قد سرق فهو لم يسرق إالّ األثرياء"(.)19
"وأثناء انهماك سعيد مهران في السطو والسرقة على األغنياء غدر به عليش سدرة أحد أتباعه فأخبر
الشرطة عن مكانه فقبض عليه وحوكم وزج به في السجن ليمكث فيه أربعة أعوام كاملة يتزوج خاللها
عليش من نبوية.
إن سعيد مهران عاش حياة فقر مدقع تجرع خاللها مرارة البؤس والذل والحرمان والشقاء طيلة حياته،
وهذا ما جعله يحس إحساساً مفرطاً بواقع حياته البائسة وقسوة مجتمعه الظالم .فحاول أن يثور على تلك
ش ّر والظلم
األوضاع االجتماعية المتعفنة مفرداً ،ولكن محاولته وجدت قوى أعتى منها هي قوى ال ّ
والعدوان ،فدمرته ولم يبق من ثورته وتمرده غير صوت ضعيف لم يلبث أن تبدد صداه ،وخاب أمله في
مبتغاه .ورغم تكالب القوى الغاشمة ضد سعيد وتآمرها عليه إالّ أنه لم يستسلم ولم يضعف بل قاوم بعزم
وثبات ورباطة جأش حتى النهاية.
"ومن الطبيعي إذن أن ينتقل من العدائية السلبية إلى الهجوم والسطو في البداية ثم الهجوم المسلح .ألن
أصر على محاربتها بعد خروجه منه ،هي في الواقع
الطبقة التي كان يحاربها قبل دخوله للسجن والتي ّ
ليست نفس الطبقة وإ نما خليفتها ،فالموظف البيروقراطي االنتهازي رؤوف علوان هو وريث لالقطاعي
فاضل باشا حسنين.)22(" .
هذا وقد "جعل نجيب محفوظ من سعيد مهران شخصاً متوافقاً ومتصالحاً مع القراء عبر تجسيده أخطاء
إن ميالً واضحاً لالنتصار للبطل كان قائماً في نفس نجيب محفوظ الذي طرحه كنموذج "نظيف"
اآلخرينّ ،
متجرد من المصلحة لكنه بسيط وقع عرضة لتربية فكرية خاطئة ،ودفع إلى ممارسات خاطئة .إنه وحيد،
وحيد أمام الخيانة والغدر.)23 .
لقد اجتاحت سعيد مهران أزمة نفسية متعددة الوجوه شديدة الخطورة بعيدة األثر تركت في قلبه آثاراً ال
تمحى وجراحاً ال تندمل ودمرت في نفسه كل أمل ورجاء في الحياة .وظ ّل خالل فترة محاربته الغدر
والخيانة يتحمل شقاء فوق طاقة البشر .وهذا ما جعل إحساسه يتعمق بحدة األزمة الخانقة التي كان
يعانيها ولم يجد منها مخرجاً رغم قسوتها ومرارتها فشعر بالغربة والتمزق واليأس والضياع ،شعر بعمق
هول المأساة المدمرة!!
"ومن هنا يتحول سعيد مهران إلى بطل تراجيدي يحمل كل بذور المأساة ،فهو يحارب الخيانة بمفرده ولكن
ضرباته تطيش وال تصيب إالّ األبرياء وتتحول حياته إلى جحيم متصل وتنقلب أيامه إلى كابوس ثقيل يقلق
راحته أثناء النهار ويزوره في الليل زيارة الضيف الثقيل .وبذلك يثير تعاطف القارئ على مصيره .إذ أنه
ثار على الخونة والخيانة ،بل إن ذلك كان مجرد عاصفة هوجاء كنتيجة لطبيعته المندفعة العمياء التي
ترى الهدف أمامها فقط وال ترسم الخطط المحكمة للوصول إليه وينتج عن ذلك أن يصاب بخيبة األمل
عندما يظن أنه على وشك افتراس عدوه ويتكرر هذا في كل هجمة من هجماته بسبب روح االنتقام التي
مألت عليه حياته وحولتها إلى جنون مستعر"(.)24
ومن خالل كل ذلك ندرك أن سعيد مهران عاش فترة توتر واضطراب اختلت فيها العالقة بين الفرد
والمجتمع الذي يعيش فيه .وقد أصبح محصوراً في دائرة ضيقة تتعاوى عليه الكالب من كل جهة ومكان،
إنه إنسان محاصر بال نصير وال معين في خضم األمواج المعادية .وفي مواجهة عالم لم يعد احتماله ممكناً
وال اإلفالت منه متاحاً .لذلك صمم على إزالة الظلم الذي لحقه من أعدائه وخصومه بأية وسيلة ،ألنه كانت
تحدوه الرغبة الجامحة في االنتقام من المجتمع الظالم الذي يحمي المجرمين الحقيقيين ،يريد أن يقضي
على هؤالء الخونة المرتدين مهما كلفه ذلك من تضحيات جسام ،المهم أن ينتقم من أولئك الذين سلبوه
نعمة الحرية وما أعظمها من نعمة!!
"والحق أن نجيب محفوظ يستخدم منهجاً تعبيرياً معقداً في "اللص والكالب" ،فهو يصوغ سعيد مهران في
حالة تمرده ،بينما التمرد ليس إالّ مظهراً سطحياً لحالة االنتماء المأزوم الذي يمثله رؤوف من ناحية،
وفردية سعيد من ناحية أخرى .والتحول والفردية هما عنصران متكامالن في شخصية واحدة ،يمثالن
الصراع الدرامي داخل البطل التراجيدي تحقيقاً فنياً على
وحدة الذات والموضوع في إطار جدلي يحقّق ّ
الصعيد الجمالي ،وتحقيقاً فكرياً على المستوى النظري .سعيد مهران ليس بطالً ملحمياً ،وإ نما هو بطل،
بطل تراجيدي يتضمن في تكوينه مقومات التناقض والتمزق ،ويحمل في أعماقه كافة العناصر المؤدية إلى
المأساة"(.)27
كلية،
حاول سعيد مهران مراراً وتكراراً أن ينتقم من أعدائه الذين غدروا به وتآمروا عليه ودمروا حياته ّ
لكن محاولته فشلت ولم يستطع تحقيق ما كان يصبو إليه عن طريق مسدسه ،ألن أعداءه كانوا متسلحين
بأسلحة أكثر فتكاً ودماراً من سالحه ،وهي أسلحة الغدر والخيانة والزيف والردة والنفاق .لذلك باءت كل
محاوالته بالفشل الذريع ،ذلك ألن فرداً واحداً ال يستطيع أن يحارب مجتمعاً فاسداً بأكمله .ولعل مأساة
سعيد مهران إنما تعود بالدرجة األولى إلى ذلك الركام الهائل من الزيف والخداع والنفاق الذي ساد الحالة
االجتماعية المتعفنة
"وألن سعيد مهران كان وحيداً لم ينجح في إقامة جسر بينه وبين الجماهير العاطفة عليه ،وألنه لم يستطع
أن ينظم ثورته على الفساد ويخطط لها فقد كان مصيرها الفشل وكان مصيره السقوط قتيالً!! إن هذا
الباحث عن االنتقام ينتكس وتطيش رصاصاته وتخيب كل مساعيه ،ولكنه يظل حتى آخر لحظة شجاعاً
مقداماً يخلف في النفس -رغم جرائمه الفاشلة -إحساساً عميقاً باإلعجاب ببطولته ومقاومته للخونة
واالنتهازيين حتى لكأني به -وهو اللّص القاتل -يموت ميتة الشهداء"(.)30
حد سواء .ذلك أنهمإن مأساة سعيد مهران مأساة رهيبة حقاً وقد استرعت انتباه القراء والنقاد على ّ
أعجبوا بشجاعة سعيد وبطولته حيناً ،وتعاطفوا معه ألنه مهضوم الحقوق قد تآمر عليه أعداؤه أحياناً
أخرى.
"والقارئ يتعاطف معه ألنه يدافع عن شرفه المسلوب ويخاف من مصيره ألنه ال يحكم عقله ،ولذلك كان
كل رصاصه يستقر في صدور األبرياء مما كان يزيد في جنونه واندفاعه .فهو لم يملك القدرة على أن
يتفادى عاصفة الحقد واالنتقام التي أجبرته على أن يسير في اتجاهها إلى مصيره المحتوم الذي لم يستطع
له دفعاً .إالّ أننا كلما عرفنا نفسية البطل وضميره ازداد اقترابنا منه وتعاطفنا معه .إنه وحيد حيال الجميع
يدافع عن شرفه المسلوب ولكن ال رجاء له"(.)32
"إن سعيد مهران قد ولد (أو أخرج من السجن!) عمالقاً ،تتضاءل إلى جواره كل الشخصيات التي يتعامل
معها ،ومن تكون شخصية عليش ،أو نبوية ،أو طرزان ،أو رؤوف ،أو نور ،إذا قورنت بشخصيته؟ وهو
يحس بهذا التميز ،وهو تميز فيه الحنان والرقة ،والمودة والعطف على محبيه ،وفيه البغضاء
نفسه ّ
والحقد والنار على خائنيه" :وهو بين الناس يتضخم كالعمالق ويمارس المودة والرياسة والبطولة وبغير
ذلك ال يجد للحياة مذاقاً"(.)34
وبهذه الكيفية نما شعوره بنفسه على حساب الشعور باالنتماء إلى مجموعة يشترك وإ ياها في المصير
وأهم .ومن الشواهد
ّ نفسه والغايات ذاتها .وبدأ ينفصل عن اآلخرين ويتسامى عليهم ليتخذ أبعاداً أوسع
على ذلك رأيه في عليش سدرة صديقه ومعينه في السرقة .يقول" :أنا الفتى الذي يخافه الجن األحمر.
كنت البطل وكان عابد البطل"(.ص.)117
تتحدد نظرته إلى نفسه .فهو البطل ال يعترف باآلخرين إالّ على قدر إعجابهم به وعبادتهم
وفي هذا الرأي ّ
له"(.)35
فسعيد مهران يرفض حلوالً كثيرة الحت له ،يرفض الحل الذي وضعته أمامه نور الفتاة التي أحبته وتمنت
أن تعيش له ومن أجله ،وهو أن يبقى في البيت على أن تتحمل نور مسؤوليته حتى يلوح لهما حل آخر،
وهو يرفض التصوف ،وال يجد فيه حالً ألزمته ،وهو يرفض أن يعمل عمالً مادياً يأكل منه ويتالءم فيه -
من جديد -مع الدنيا والناس"(.)36
ومما ال شك فيه أن سعيد مهران كان صلب العود قوي الشكيمة صادق اإلرادة شجاعاً ال يخاف أحداً.
حاول التغيير عن طريق الرفض واالحتجاج والتمرد الفردي بكل عزم وإ صرار وثبات ،لم يتسرب اليأس
إلى نفسه اعتقاداً منه أن تحدي الظروف يساوي االنتصار عليها!!
يصور بأسلوبه الشعري شخصي ًة واقعية ،فيها عنصر الخير والشر، وهكذا "لقد استطاع نجيب محفوظ أن ّ
وعنصر الحب والبغض ،وعنصر الرغبة في االستقرار والتطلع القلق إلى المجهول .وقد فتح له كثيراً من
األبواب التي تساعده على تحقيق العناصر اإليجابية في شخصيته؛ حب القراءة ،وحب سناء ،وحب الشيخ
الجنيدي ،وحب شهامة إخوانه الذين يساعدونه على تنفيذ مغامراته ،وحب نور الذي بدأ يولد في نفسه
أخيراً .وفي الوقت نفسه أغلق في وجهه أبواباً عاقت الطاقات السابقة ،ومنعتها من تحقيق ذاتها بخلق
خيرة بالفعل ،أغلق في وجهه باب الوفاء فخانه أقرب الناس إليه ،وأغلق في وجهه باب العدلشخصية ّ
فعاش يعاني إحساساً فادحاً بوقوع الظلم عليه.
وواقعية هذه الشخصية ال تنفي أبعادها الرمزية ،وفي األدب العالمي تظهر كثيراً هذه الشخصية التي أسيء
فهمها ،فهي ظالمة مظلومة ،مسيئة ومساء إليها في الوقت نفسه .إنها رمز اإلنسان في رحلته األبدية
الهادفة إلى تحقيق العدل ،والتي كثيراً ما تنتهي بنوع من خيبة األمل الذي قد يتجلّى في الوقوع تحت
طائلة القانون باسم العدل نفسه"(.)39
وهكذا تنتهي حياة سعيد مهران نهاية مأساوية مؤلمة دفع دمه هدراً احتجاجاً على األوضاع المتعفنة
وتمرداً على قوى الغدر والخيانة التي تصدر عن وحوش المجتمع المفترسة وأرواحه الشريرة ونفوسه
المريضة وضمائره الميتة" ..إن سعيد مهران هو رمز لقيمة أصيلة في مجتمع متغير ومتدهور .ولئن فشل
في قلب عجلة الزمن فقد أهدر دمه احتجاجاً على هذا الحاضر الذي فقد فيه كل قيمة أصيلة .قيمة األبوة
والصدق والحرية"(.)40
ّ والحب
وال نختم دراستنا وتحليلنا لشخصية سعيد مهران وما تنطوي عليه من رموز وأبعاد دون أن نشير إلى
ذلك التساؤل الكبير الذي طرحه أحد الدارسين حول رواية "اللص والكالب" عامة ومشكلة بطلها الرئيسي
سعيد مهران خاصة وهو تساؤل أجاب عنه المؤلف ولم يتركه معلقاً .ما هي القضية التي تطرحها رواية
"اللص والكالب" بين أيدينا؟ هل تريد أن تطرح رواج الرفض الفردي للمجتمع هذا الرفض الذي يهدر أبعاد
ويبددها ويوجهها في غير طريقها ،بحيث تستنزف كل جهود الفرد وتشلّه ،وتصيبه بالتخبط حتى
الطاقات ّ
يقع فريسة تخبطه ويستسلم إلى الموت؟!
المتفجر ،المتش ّنج الحاقد ،الذي ال ينقذ أبداً من جنون الوحدة .وال يمأل على
ّ هل هي فضح لهذا األسلوب
صاحبه فراغاً ،وال يرده إلى االتجاه الصحيح؟ .أغلب الظن أنها سهم يشير إلى عقم هذا المنهج"(.)42
نحن نعلم من خالل السياق الروائي أن رؤوف علوان من العناصر المرتدة التي دفعتها االنتهازية والنفعية
واألنانية إلى احتالل المناصب العليا في أشهر كبريات الصحف الحكومية .وعن طريق هذه االنتهازية صعد
رؤوف علوان فوق قمة المجد والشهرة والثروة وانضم إلى صفوف األغنياء الذين كان باألمس يهاجمهم
زين له هذه السرقة
بمقاالته الصحفية ويدفع بـ سعيد مهران إلى سرقتهم والسطو على ممتلكاتهم .حيث ّ
عدها عمالً مشروعاً!!
ودفعه إليها دفعاً بل ّ
لقد لعب رؤوف علوان دوراً هاماً في حياة سعيد مهران منذ مرحلة مبكرة فهو الذي سعى كي يحل هو
مرة .وقبل ذلك كان هو
وأمه مكان أبيه المتوفى في العمل ببيت الطلبة ،وهو الذي أنقذه حينما سرق ألول ّ
الذي أقنع أباه بإلحاقه بالمدرسة .وهو الذي برر له السرقة وجعلها شرعية في نظره "ولواله لكان من
الممكن ،بل كان من المرجح أن يقلع سعيد عن السرقة بعد الضرب الذي ناله
من الطالب الريفي عند ّأول سرقة .لقد زرع التمرد في نفسه ،وضمه إلى منظمة سرية كان أفرادها
يتدربون على القتال في صحراء العباسية ورؤوف على رأسهم .لذلك لم يكن غريباً أن يقول سعيد" :إن
حياته ما هي إالّ امتداد ألفكار هذا الرجل" .وأن يؤمن بكلماته ،ويتأثر بفلسفته أكثر من تأثره بالشيخ علي
الجنيدي الذي زرع أبوه في نفسه اإليمان به"(.)44
وحين خرج سعيد مهران من السجن ذهب إلى قصر رؤوف علوان ملتمساً منه يد العون وطلب المساعدة،
لكنه تلقاه ببرودة وجفاء وأمطره بنصائح جوفاء وإ غراءات فارغة ومسوغات ومبررات ال طائل من
المرة .ونشب بينهما خالف تحول
مرة .لكن سعيد لم ينخدع هذه ّ
ورائها .محاوالً أن يخدعه كما خدعه ّأول ّ
دبرها سعيد لخصمه الذي كان أكثر منه مكراً ،وقد عاقبه بقسوة وعنف
إلى صدام ،ومحاولة اغتيال فاشلة ّ
كبيرين.
إن نجيب محفوظ في رواية "اللص والكالب" يفضح الطبقة المتسلقة التي غيرت جلدها وداست على
مبادئها وقيمها وأخالقها وانضمت إلى الطبقة الراقية عن طريق الغدر والخيانة ،فاستأثرت بمصالح
وامتيازات متعددة بحكم احتاللها لمناصب هامة .وكان رؤوف علوان يرمز إلى هذه الطبقة المتسلقة التي
حصلت على الكسب المادي السريع والمكانة المرموقة دون جهد أو تعب.
وفي هذا المعنى نذكر ما أشار إليه أحد النقاد إذ كتب يقول" :تحولت قيمة الحرية عند رؤوف إلى عبودية
مذلة تتستر خلف قصر براق وسيارة فاخرة ومكتب فخم بإحدى دور الصحف الكبرى .تحول رؤوف إلى
قيد للحرية بعد أن كان قيمة تحقق الحرية في نظر سعيد .وال يدع الفنان رموزه متعلقة في الفضاء،
فسرعان ما يصبح سعيد مطارداً من جانب السلطة ،ويصبح رؤوف أحد مطارديه!"(.)46
وفعالً فقد نجا رؤوف المجرم من انتقام سعيد "ونجاة المجرمين ما هي إالّ داللة على قوة وسائلهم لحماية
أنفسهم وحماية مكاسبهم .وهي في الوقت نفسه دليل على ضعف وسائل أمثال سعيد أمام هذه القوى
الغاشمة"(.)50
هذا وقد لعبت شخصية نور دوراً بارزاً في حياة سعيد مهران فرغم أنها مختلفة إالّ أنها في الوقت نفسه
كانت الحبيبة الوافية والصديقة المخلصة لـ سعيد مهران في حين خانته زوجته نبوية وباعته بثمن بخس
ألرذل الناس بينما غدر به تابعه وأحد أعوانه عليش سدرة ووشى به لدى البوليس ليستولي بعد ذلك على
أما رؤوف فقد خان مبادئه وتنكر لثورته وعاقب سعيد معاقبة قاسية؟!
ماله وزوجته وابنتهّ .
صحيح أن نور أخالقها غير مهذبة تحت ضغط ظروف المجتمع القاسية ،وتحت وطأة الفقر والحرمان.
وقد أكد نجيب محفوظ على أن نور أفضل من أولئك الخونة أكد ذلك في حوار له قائالً" :ففي "اللص
سيدة محترمة ،وهناك رفيقته ،وهناك رؤوف والكالب" مثالً هناك زوجة سعيد مهران ،والمفروض أنها ّ
علوان وهو مثقف المفروض فيه أنه كان شريفاً وملتزماً لكن انظر مدى إخالص ك ّل من هؤالء الثالثة أو
خيانته لقد كانت أكثر إخالصاً من الزوجة ومن رؤوف علوان معاً .إن نور تدخل رواياتي لكي تشتم
شخصاً محترماً تقول له أنت السيء وليس أنا"(.)51
ونور هي األخرى تحس بالقلق والمطاردة والغربة النفسية وافتقاد األمان كما أحسها سعيد مهران من قبل
فكالهما ضحية من ضحايا األوضاع االجتماعية الفاسدة .
وشخصية نور غنية بالرموز والمعاني والدالالتـ الموحية سنتناول ذلك كله ونوضحه عند حديثنا عن
رموز الشخصيات.
-4-
لقد اشتملت رواية "اللص والكالب" على رموز كثيرة متعددة ومتنوعة وعميقة تدور كلّها حول األحداث
الصراع القائم بين
الرواية ،وعبر ّ
والمواقف واألفكار والمشاعر التي تصطخب وتحتدم داخل شخصيات ّ
هذه الشخصيات وبين نوازعهم الداخلية وتصرفاتهم الخارجية والظروف المحيطة بهم وبين حياتهم
الحافلة بالصراعات والتناقضات الحادة .ومن خالل ذلك تتضح لنا األبعاد اإليحائية العميقة لهذه الشخصيات
التي ترمز إلى شرائح عريضة من المجتمع المصري وفئاته الشعبية على اختالف مشاربهم ونزعاتهم
الروح وتتحرك بقوة وفعالية ونشاط ،وهو
وميولهم .وهي حقاً شخصيات تنبض فيها الحياة وتسري فيها ّ
ما يعطي لهذه الرواية معنى مترابطاً ومغزى ذا قيمة
اجتماعية وإ نسانية يمنح الرواية ثراء رمزياً مليئاً بالدالالت واإليحاءات العميقة" .ومن هنا فإن نجيب
محفوظ بأبعاده الفنية الجديدة صاحب موقف من التركيب االجتماعي الحديث .وله دوره في إقامة هذا
التركيب ،وتلويثه وتطويره بل وتغييره بهذه الوسائل الفنية ذات األعماق البعيدة .ومن هنا كان فنه ف ّناً
جماعياً .ثمرة لحركة المجتمع ،ونتيجة لسلوك األنماط اإلنسانية في هذه الحركة االجتماعية"(.)55
وقد ركز المؤلف في روايته "اللص والكالب" على بعض القضايا الفكرية والسياسية والعقائدية معبراً عن
هذه المعاني السامية تعبيراً فنياً رائعاً يجمع بين التفكير الفلسفي واإلبداع الفني مؤثراً الميل إلى التجريد
والرمز وإ رسال الفكرة المعنوية ذات المغزى العميق ،لما انطوت عليه الرواية من رموز غامضة وفلسفة
عميقة ذات أعماق وأبعاد وإ يحاءات بعيدة الغور .وبذلك ارتفعت هذه الرواية بمستواها الفني ومضمونها
الفكري وبعدها االجتماعي وموقفها اإلنساني إلى مستوى رفيع جداً يجعلها ترتفع إلى مصاف روائع الفن
الروائي العالمي.
هذا " وقد ترك لنا نجيب محفوظ حرية التفسير والتبرير لسلوك شخصياته وحرية الحكم عليها كأنماط
بشرية تعيش في مجتمعنا أو كرموز إيحائية لمشكالت يعرفها المجتمع.
والواقع أن الرمز في "اللص والكالب" ال يقتصر على الشخصيات والمواقف فحسب وإ نما هو رمز كلي عام
وشامل يجمع كل رموز الشخصيات واألحداث والمواقف واألسماء واألماكن واللغة واألسلوب مجتمعة
وبصفة عامة.
ويأتي في مقدمة رموز الشخصيات ،شخصية سعيد مهران البطل الرئيسي في الرواية اسمه سعيد وهو
غير سعيد إطالقاً ذلك أنه لم يذق طعماً للراحة واالستقرار فضالً عن الرفاهية والسعادة .فهو تعيس عاش
حياة التشرد والغبن والسجن والمطاردة من بداية حياته إلى نهايتها .وكانت الخيانة
تطارده باستمرار ،وتالحقه كظله وتشككه في كل من حوله .وقد أجهض الغدر كل أفراحه ومطامحه
وأحالمه وآماله وح ّل محلها اليأس واإلحباط واالنكسار ولم يفت ذلك كله في عضده فواجه أعداءه بصالبة
وعزيمة وثبات فو إذن رمز للماليين "إن من يقتلني إنما يقتل الماليين واحكموا ما شئتم"( .ص.)180
أما رؤوف علوان فليس رؤوفاً وال عالياً بل إنه رمز الغدر والخيانة واالنتهازية والتسلق "رمز الخيانة
التي ينطوي تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة في األرض"(.ص.)163
ويكرر يوسف الشاروني من جهته نفس الرأي فيؤكد على أن "نور ترمز -كما يدل على ذلك اسمها -إلى
جانب النور في حياة سعيد مهران"(.)59
ويرى أحد النقاد أن شقة نور ترمز إلى حالة سعيد ونفسيته المتدهورة "يقع هذا الملجأ على حافة المدينة،
وفي مواجهة المقابر .وهذا الموقع الذي يختاره نجيب محفوظ له ال يخلو من مغزى .إنه يقع على حافة
المدينة ،وكذلك الحال مع سعيد مهران الذي يهيم على حافة المجتمع موتوراً مطارداً .وهو يقع في
مواجهة المقابر ،وعلى بعد خطوات منها ،ومن الممكن أن يرمز ذلك إلى تقابل جديد بين الموت والحياة،
مشيراً إلى أن المجتمع الذي لفظ سعيد مهران إلى حافته يوشك أن يلفظه إلى األبد ،هذا األبد الماثل على
قيد خطوات في المقابر رمز الفناء"(.)62
ولعل هذا الرأي األخير أقرب اآلراء إلى حقيقة رمز المقبرة فقد ترمز هذه األخيرة إلى القاهرة أو "األرض
الخراب" أو ترمز إلى غابة موحشة يتصارع فيها وحوشها حيث يأكل فيها القوي الضعيف .وقد ترمز إلى
الروحية والمعنوية وتحوله إلى آلة صماء ال قلب
الحضارة المادية المعاصرة التي تخنق في اإلنسان القيم ّ
لها وال روح وال ضمير .وهي مقبرة حقاً تقبر آمال اإلنسان ومطامحه حيث يشعر بقسوة الواقع وجهامته،
وحيث يعاني مرارة الظلم والقهر والعزلة واالنفراد حتى تدوسه آلة المجتمع الجهنمية التي ال ترحم.
ومن هنا أيضاً لم تتشابك األحداث فيها ،بل كانت واضحة ،جلية ،مركزة تركيزاً بالغاً تكاد تخدم الرموز
التي استوعبتها األحداث نفسها ،سواء أكانت هذه الرموز تشتمل على األبعاد الزمانية أم األبعاد المكانية.
فَ َع ْطفة الصيرفي ،وبيت نور ،وقصر رؤوف علوان كلّها امتداد للسجن ،بصورة أو بأخرى ،وكلها ملتقى
التضاد والتناقض ،ولكها تحمل بذور الخير والشر ،وكلّها رموز تحتوي على قدر من جوانب شخصية
البطل!
إن البطل ال يقوى على التكيف مع هذه األبعاد المكانية ،إنه يحس بأنها منطلقات فساد .ومنعطفات شر،
وهو يريدها أن تتحول ،يريدها أن تتغير ،ولكنه كمن يريد أن يغرف البحر بطاقيته كما يقولون.
أما عنوان الرواية "اللص والكالب" فهو عنوان رمزي عميق الداللة فاللص مثالً يرمز إلى سعيد مهران
الثائر المتمرد على األوضاع االجتماعية المتعفنة ،والكالب ترمز إلى الخونة( فكر في العنوان)
الرواية في وضح النهار وانتهت عند نزول الظالم وكأنما الرواية وداللة مضمونها فـ"لقد بدأت ّ
أما رمز ّ
دامت يوماً واحداً ،زيادة على رمزيته من الوجهة الميتافيزيقية باعتبار أن هذه المدة هي اختزال للحياة
البشرية بأكملها .فتكون بدايتها الخروج إلى نور الحياة ،ونهايتها الولوج إلى ظلمات الموت .فـ سعيد
مهران قد انزوى في بيت نور ال يغادره إالّ في الظالم حيث يستطيع التنقل وتنفيذ ما يخطط دون أن ينتبه
إليه أحد .فيكون الظالم هنا رمزاً للحصار الذي يعيشه ،ولكن معناه الحقيقي يكمن في داللته الميتافيزيقية،
فالحياة ظالم متواصل بكل ما في الظالم من وحدة وسهاد ووحشة وضيق وقلق"(.)66
أما الحوار فقد "جاء في الرواية مشبعاً بهذا الجو ،متسقاً مع هذا البناء الرمزي المكثف ،فيأتي موحياً
بأجزاء الصورة كلّها حسب طبيعة الموقف والشخصية وهذا الجو قد يكون مرتبطاً بشخصية معينة فيأتي
مجسداً ألعماق العالقة بينهما وبين سعيد وبواسطتها يكتسب هذا الحوار أبعاده المميزة"(.)68
والبد من اإلشارة هنا إلى أن أسلوب رواية "اللص والكالب" قد ارتفع فيه المؤلف إلى لغة الشعر العالي
الرفيع ،أسلوب مليء باإلشارات والدالالت العميقة مما جعل الرواية زاخرة بالخصب والتنوع والعمق
واالتساع الفني والفكري ،أسلوب يقطر رقة وعذوبة وشاعرية فيبعث في الرواية الحياة والحيوية والحركة
والحرارة .وفي هذه الرواية "ستجد أن كل لحظة وكل حركة وإ شارة
ومعنى موظفة إلبراز أو تجسيد نقطة وتسليط الضوء على جانب من القضية المطروحة ،فمن أول سطر
في الرواية ينفذ إلينا بقوة جو الرواية العام من خالل كلمة الوصف العاديـ الذي كان يقدم لنا اإلطار العام
إليهامنا بالواقع أو ليرسم أمامنا مواقع التحرك لشخصيات الرواية ،سنجد هذا الوصف يتغير هنا تبعاً لتغير
وظيفته ،فهو أكثر دخوالً في القضية .وكما أننا الحظنا كيف أن الكلمة في "الشحاذ" قد تعني معنيين في
آن واحد دون محاولة أي تفسير أو تأويل ،فإن هذا المنحى يتكرر مرة أخرى ،فتبدأ الرواية :مرة أخرى
يتنفس نسمة الحرية ولكن في الجو غبار خانق وحر ال يطاق .إن معاني هذه الكلمات الخفية تشي بالكثير
وكرست الرواية كلها
إن لم نقل أن جو الطبيعة هو نفسه جو الناس الذي لم يستطع سعيد أن يتحمله ّ
لتأكيد نسمة الحرية بالقضاء على الغبار الخانق فيها"(.)69
والمالحظ أن هذه الرواية قد اشتملت على كلمات عذبة وعبارات جميلة ومعان مركزة تركيزاً مكثفاً .وقد
امتازت لغة الرواية بدقة التصوير وبراعة التعبير وسالمة األسلوب ،وغنى الرموز ،فكانت حقاً لغة غنية
صو رت شتى األفكار والعواطف والمشاعر واألحاسيس واالنفعاالت والرغبات تصويراً ف ّن ّياً
باإليحاءات ّ
جميالً رائعاً" .في اعتقادي أن دراسة "اللص والكالب" ال تتم إالّ بدراسة دقيقة للغتها تكشف عن اللعب
المقصود بدالالت األلفاظ وفي مقدمتها كلمتا "اللص" و"الكالب" اللتان تتحوالن فيما يبدو لي من النظرة
صورت األساطير "إيزيس" و"بروميثيوس" سارقين،األولى إلى رمزين لجانبين من الطبيعة البشرية .وقد ّ
صورت مئات من الحكايات الشعبية مسخ الناس كالباً"(.)70
كما ّ
عبر تعبيراً صادقاً وموضوعياً عن األبعاد والحق أن نجيب محفوظ في روايته "اللص والكالب" قد ّ
االجتماعية والمؤثرات السياسية ،واألعماق النفسية والقضايا الدينية والعقائدية والقيم اإلنسانية والمثل
األخالقية التي اشتملت عليها روايته الرائعة التي أبرز فيها بجالء ووضوح خصائصها ومميزاتها الفكرية
والفنية والجمالية والرمزية "ومن هنا استطاع نجيب محفوظ أن يبلغ باألبعاد الفنية ذروة عالية ،واستطاع
أن يجعل هذا البعد الفني يأتي في أعماق األبعاد األخرى .بل في نهاية المطاف من سائر األبعاد .بحيث
ينفذ إليه من خالل األبعاد الثقافية ،والفلسفية ،والفكرية ،واالجتماعية ،والسياسية واالقتصادية ،والخبرات
العلمية ،فتتصافى صفوات تلك األبعاد ،وخالصاتها المركزة .وتنفذ جميعاً من خالل مصفاة إنسانية دقيقة
حتى تصل بحيرة الفن لك ّل أبعاده العميقة .وهناك تتالقى وتتفاعل وتتمازج ،وإ ذا هي تركيب جديد .فيه
والسمات الجمالية ،والعواطف اإلنسانية ،والتجارب االجتماعية ،ثم تخرج بعد ذلك في بعدّ المالمح الذاتية،
جديد لتؤثر في التركيب االجتماعي بمقدار ما تأثرت به"(.)71
وهكذا نختم تحليلنا النقدي لهذه الرواية الممتازة التي عبرت تعبيراً صادقاً وعميقاً فنياً وفكرياً عن مأساة
اإلنسان المعاصر وعذابه بشكل عام .ورواية "اللص والكالب" لـ نجيب محفوظ تقف بال شك موقف الند للند
الرواية العالمية المعاصرة شكالً ومضموناً.
لروائع ّ
( )1نجيب محفوظ " ،اللص والكالب" ،دار القلم ،بيروت ،ط.1973 ،1
( )2جورج سالم ،المغامرة الروائية ،منشورات اتحاد الكتاب العرب ،دمشق 1973ص.153
( )3محمود أمين العالم ،نجيب محفوظ ،بين "أوالد حارتنا" و"الشحاذ" ،مجلة الهالل ،القاهرة ،يوليو
،1965ص.72
( )4د .عبد الرحمن ياغي ،في الجهود الروائية ما بين سليم البستاني ونجيب محفوظ ،المؤسسة العربية
للدراسات والنشر ،بيروت ،ط ،1981 ،2ص.182
( )5فاطمة الزهراء محمد سعيد ،الرمزية في أدب نجيب محفوظ ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت ،ط ،1981 ،1ص.159
( )6د .محمد زغلول سالم ،دراسات في القصة العربية الحديثة ،منشأة المعارف ،اإلسكندرية،1987 ،
ص.159
( )7فؤاد دوارة ،نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة،1989 ،
ص.66
الص مد زايد ،مفهوم الزمن وداللته في الرواية العربية المعاصرة ،الدار العربية للكتاب ،طرابلس،
( )9عبد ّ
تونس ،1988 ،ص.146
( )10مصطفى التواتي ،دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنية ،الدار التونسية للنشر ،تونس،1986 ،
ص.87
شكل الفني عند نجيب محفوظ ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،ط،3
( )11د .نبيل راغب ،قضية ال ّ
،1988ص.251 ،250
( )12جوستاف النسون ،تاريخ األدب الفرنسي ،ترجمة د .محمود قاسم ،المؤسسة العربية الحديثة،
القاهرة ،1962 ،جـ ،2ص.138
( )13صبري حافظ ،اإلتجاه الروائي الجديد عند نجيب محفوظ ،مجلة اآلداب ،عدد ،1963 ،11ص.48
( )16رجاء النقاش ،أدباء معاصرون ،وزارة اإلعالم العراقية ،بغداد ،1972 ،ص.149 ،148
( )17ستيفن سبندر ،الحياة والشاعر ،ترجمة ،د .مصطفى بدوي ،مكتبة األنجلو المصرية ،القاهرة،
سلسلة األلف كتاب ،عدد ،258ص.44
( )18د .غالي شكري ،المنتمي ،دراسة في أدب نجيب محفوظ ،دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،ط،1982 ،3
ص.275 ،274
( )23محسن جاسم الموسوي ،الموقف الثوري في الرواية العربية المعاصرة ،دار الحرية ،بغداد،
،1975ص.48
( )29د .محمود الربيعي ،قراءة الرواية ،دار المعارف بمصر ،القاهرة ،1974 ،ص.27 ،26
( )33نجيب محفوظ :أتحدث إليكم ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1971 ،1ص.156
( )54د .سليمان الشطي ،الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ ،المطبعة العصرية ،الكويت ،ط،1
،1976ص.293
( )58د .لويس عوض ،دراسات في النقد واألدب ،منشورات المكتب التجاري للطبع والنشر ،بيروت،
،1963ص.351
( )59يوسف الشاروني ،الفن الروائي في "اللص والكالب" مجلة اآلداب ،بيروت ،عدد ،1962 ،6ص
.11
( )61د .شكري عياد ،تجارب في األدب والنقد ،دار الكاتب العربي ،القاهرة ، 1967 ،ص.245
( )63د .شفيع السيد ،اتجاهات الرواية المصرية ،دار المعارف بمصر ،القاهرة ،ط ،1978 ،2ص.261