Professional Documents
Culture Documents
موقف ابن رشد من قدم العالم
موقف ابن رشد من قدم العالم
الملخص
يتحدث هذا البحث عن موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم؛ حيث اتهم بالقول بقدم
العالم ،إال أني توصلت في هذا البحث إلى أن هذا اتهام باطل ،ومجانب للحقيقة.
ألن ابن رشد يعتقد أن العالم مخلوق مصنوع من هللا تعالى ،وأن لفظ القدم والحدوث
لفظ بدعي ،وأن الخالف في المسألة راجع لالختالف في التسمية ،وأن حقيقة اعتقاد ابن رشد
في العالم تقوم على آيات داللة العناية اإللهية الواردة في القرآن الكريم ،فضال عن أن ابن
رشد يعارض نظرية الفيض اإللهي التي اتهم بالقول بها أيضا ،والتي يقتضي القول بها القول
بقدم العالم.
كما أن سبب االختالف في الحكم على ابن رشد راجع إلى الجهل بمنهج ابن رشد
وبموضوعيته التي فسرها البعض جهال بأنها انحياز للباطل ،وكذلك إلى اقتصار البعض
على شروح ومختصرات ابن رشد الفلسفية التي ال تعبر عن رأيه في المسألة ،مع عدم
االطالع الكامل على جميع مؤلفاته األصلية التي تتضمن حقيقة اعتقاده وعدم فهم كالمه
وفق ما يريد ويقصد في مؤلفاته ،كما في كتابه تهافت التهافت؛ إذ يظن البعض أن ابن رشد
لم ينتقد فيه إال الغزالي فقط ،مع أن الحقيقة أن ابن رشد قد انتقد الفارابي وابن سينا أيضا،
ووافق الغزالي في بعض ما ذهب إليه ،وأثبت أن الفارابي وابن سينا قد خالفا الفالسفة
(*) مجلة كلية اآلداب ،جامعة القاهرة ،المجلد ( ،)81العدد ( ،)3أبريل .2021
2021 ) أبريل3( ) العدد81( مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد 156
فيما نقلوا عن الفالسفة، وأن علومهم ظنية،القدماء؛ أل نهم لم ينقلوا عنهم النقل السليم
.القدماء
أنه ع از قصور الغزالي في كتابه تهافت،ومما يثبت أمانة ابن رشد وموضوعيته
وأن الفارابي وابن سينا قد شوهوا ما ذهب،التهافت القتصاره على النظر في كتب ابن سينا
وذلك لعدم، ال سيما أرسطو ومن قبله، ولم يعرفوا حقيقة ما ذهبوا إليه،إليه الفالسفة القدماء
ولتأثرهم بغثاء األفالطونية المحدثة وغيرها من،نقلهم النقل السليم عن الفالسفة القدماء
.الفلسفات التي ال تمثل حقيقة ما ذهب إليه الفالسفة القدماء
Alfarabi and Ibn Sina alike, he also come into an agreement with AL
Ghazali on certain points and proved that Alfarabi and Ibn Sina
disagreed with the ancient philosophers because they did not properly
impart their teachings, and all the knowledges they imparted had been
based on the mere assumption.
In furtherance to Averroes's trust and objectivity qualities, he
traced back the inadequacy of AL Ghazali, in Tahafut Altahafut, to
restricting itself to the proposed opinions in Ibn Sina's publications,
and that Alfarabi and Ibn Sina had tarnished the doctrines adopted by
the ancient philosophers, in this they failed to fathom the depths of
such doctrines especially those of Aristotle and his predecessors due
to their improper approach to impart their knowledges after having
influenced by the Neoplatonism and the other philosophies, which in
fact failed to reflect the true mindset of the ancient philosophers.
Keywords: Averroes - AL Ghazali - eternity of the world -
divine emanationism – Aristotle – Thales.
المقدمة
لطالما تعرض الفيلسوف العظيم أبو الوليد بن رشد للكثير من األحكام
بل وصل األمر ببعض من، حتى عند من يدعي مناصرته،الجائرة والمشوهة
يتفق معه أو ممن يخالفه بأن يصفه باالنسالخ عن اإلسالم؛ لزعمهم بأنه يقول
.بقدم العالم وبنظرية الفيض اإللهي األفالطونية
وهذا ما حدا ببعض الجائرين في الحكم على ابن رشد أن يحاولوا نزعه
ومعاديا، واعتباره فيلسوفا يدافع عن اإللحاد والزندقة،عن الحضارة اإلسالمية
السيما بسبب كتابه «تهافت التهافت» الذي رد فيه على،للوحي المعصوم
والمعاداة الشديدة، واتهامه بالتأثر بفلسفة أفالطون،«تهافت الفالسفة» للغزالي
، الذين اتهموه بالزندقة واإللحاد،من قبل أعداء الرشدية الالتينية في أوروبا
السيما شروحه ومختصراته الفلسفية التي أنارت عقول أتباعه،بسبب مؤلفاته
. وتأثر بها بعض الخصوم المعادين له،من الالتين
وقد فات هؤالء المتخبطون أن جهلهم بابن رشد وبفلسفته ومنهجه في
هو الذي أدى بهم إلى هذه، وشروحه ومختصراته الفلسفية،مؤلفاته العظيمة
. وعلى سوء القصد أحيانا أخرى،األحكام الجائرة المبنية على الجهل أحيانا
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 158
كما أدى بهم تخبطهم هذا إلى الجهل أيضا بأن ابن رشد هو الذي عرف
أوروبا بأرسطو الحقيقي ،وميزه عن غثاء األفالطونية في شروحه ومختصراته
الفلسفية التي فاق بها شراح الفلسفة بال استثناء ،السيما أكبر الشراح ألبرت
األكبر وغيره من الشراح.
إن من يريد أن يحكم على ابن رشد ،عليه أن يفرق بين ابن رشد في
مؤلفاته األصلية ،وابن رشد في شروحه ومختصراته الفلسفية؛ ألن حقيقة ابن
رشد موجودة في مؤلفاته األصلية المعبرة عن آرائه؛ إذ يحتاج من يق أر مؤلفات
ابن رشد أن يفهم ويدرك ويفقه طريقة منهج ابن رشد ،وموضوعيته ،وعدالته في
مؤلفاته ،حتى مع األقوال الشنيعة التي يخالفها ويعارضها ،وهذا ما أكدناه في
زور وبهتانا
بحثنا هذا عن موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم ،التي اتهم بها ا
حتى سارت الركبان بهذا االتهام ،إال أننا بينا حقيقة قوله في العالم ،وهو أنه ال
يقول بأن العالم قديم أو بقدم العالم ،بل العالم عنده مخلوق مصنوع من هللا
تعالى الذي خلقه وصنعه ،وأن الخالف حول القدم والحدوث يرجع إلى
االختالف في التسمية.
ومنهجي في هذا البحث هو المنهج النقدي والتحليلي ،فضال عن
اعتمادي على مؤلفات ابن رشد األصلية التي استقيت منها حقيقة قوله في
العالم ،ال الرجوع إلى شروحه ومختصراته الفلسفية ،أو ما قيل عنه ممن يجهل
منهج ابن رشد في مؤلفاته األصلية.
وقد أثبت بطالن اتهامه بالقول بقدم العالم؛ ببيان أن سبب االختالف
راجع لالختالف في التسمية ،وببيان حكم ابن رشد على الغزالي ،وقسوته عليه،
ثم ببيان اعتقاد ابن رشد في المسألة؛ من خالل بيان منهجه في مؤلفاته ،مع
إيراد أهم أقواله المخالفة لقدم العالم وللفيض اإللهي ،ثم ببيان سبب قبول ابن
رشد بأمثلة األجرام السماوية.
وقد حاولت ترتيبها وفق نسق متكامل ومترابط حتى تتضح حقيقة ما
ذهب إليه في العالم.
159 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد وهو في الثالثين من عمره ،وأثناء تدريسه بها
شرع في التأليف والتصنيف ،فصنف في األصول والفقه وعلم الكالم والحكمة،
وفي حلقته العلمية كان يحضر العلماء والفقهاء ممن تعجبوا من فصاحته،
وذكاءه المفرط ،واطالعه الواسع.
فعظم جاهه وحشمته حتى فاقت األمراء والوزراء ،وأقبل عليه الناس،
وضربت به األمثال ،وأتته الدنيا ،فرفض تولي المناصب ،وترفع عن الدنيا،
وتخلق بالزهد واإلخالص ،واالنشغال بإصالح نفسه ،فخرج حاجا إلى بيت هللا
الحرام ،ثم بعد الحج سافر إلى دمشق التي قضى بها عشر سنين بمنارة
الجامع ،فصنف فيها كتابه «إحياء علوم الدين» ،الذي لم يسلم من التشنيع من
قبل بعض العلماء؛ كابن الجوزي وابن الصالح والمازري ،وغيرهم من علماء
المغرب ،وكذلك صنف كتاب «األربعين» ،و«القسطاس» ،و«محك النظر» ،ثم
اجتهد في إصالح نفسه ورياضتها ومجاهدتها بالعبادات ،ولزوم طريق التقوى،
والبعد عن طريق الشيطان والرعونة ،ثم بعد ذلك رحل إلى بيت المقدس
واإلسكندرية ،ثم رجع إلى بلدته طوس ،فأقبل بها على تصنيف المؤلفات،
والتفرغ لعبادة هللا تعالى وتقواه ،والعكوف على تالوة كتاب هللا تعالى ،ونشر
العلم ،والبعد عن مخالطة الناس.
ومن مصنفاته األخرى« :بداية الهداية» ،و«المستصفى في أصول
الفقه» ،و«مقاصد الفالسفة» ،و«تهافت الفالسفة» ،و«جواهر القرآن» ،و«شرح
األسماء الحسنى» ،و«المنقذ من الضالل» ،و«االقتصاد في االعتقاد»،
و«قواعد العقائد».
فلما كان في بلدته طوس ،حضر إليه الوزير فخر الدين نظام الملك
ودعاه إلى التدريس في نظامية نيسابور ،وبعد أن بالغ الوزير في اإللحاح عليه؛
استجاب لمطلبه فدرس بها فترة من الزمن ،ثم رجع إلى بلدته طوس ،ولزم
العبادة وأعمال البر والخير ،وابتنى مدرسة للمشتغلين بالعلم والعبادة ،فأوقف
جميع أوقاته على العبادات والطاعات ،وتالوة القرآن والتدريس ،وكان يكثر
161 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
النظر في صحيحي البخاري ومسلم -رحمهما هللا تعالى -إلى أن توفاه هللا
تعالى في سنة خمس وخمسمائة للهجرة.
ب -ترجمة مختصرة للفيلسوف أبي الوليد بن رشد( -)2رحمه هللا:
هو حكيم زمانه ،وفيلسوف وقته ،العالمة محمد بن أحمد بن محمد بن
أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي ،وكنيته أبوالوليد.
ولد في سنة عشرين وخمسمائة للهجرة قبل وفاة جده بشهر.
كان من أكمل وأعلم وأفضل أهل األندلس ،فضال عن تواضعه وانخفاض
جناحه ،مع علو قدره ،وعظم شأنه ،وقوة نفسه ،حتى إنه ولي قضاء قرطبة،
وسمي بقاضي الجماعة ،فقام بذلك خير قيام؛ إذ حمدت سيرته ،وكان مثاال
للعدل واإلنصاف في قضاء قرطبة.
أما مكانته العلمية ،فغ ازرة علمه وكثرة تأليفه تدل على ذلك ،حتى إنه
ألف عشرة آالف ورقة ،ولم يترك االشتغال بالعلم والتأليف منذ عقل إال ليلة
وفاة أبيه وليلة زواجه ،وكان ذا ذكاء مفرط ،وطلب العلم منذ نشأته ،حيث حفظ
موطأ اإلمام مالك على أبيه ،الذي كان شيخا للمالكية ،وروى عنه ،وتتلمذ على
جماعة من العلماء؛ منهم :أبو مروان بن مسرة ،وابن بشكوال ،وابن سمجون،
وبلغ االجتهاد في الفقه واألصول والخالف فألف «بداية المجتهد ونهاية
المقتصد» ،و«المقدمات» ،و«مختصر المستصفى» ،وفي علم الكالم ألف
«فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من االتصال» ،و«مناهج األدلة»،
وفي الطب تتلمذ على أبي مروان بن حزبول ،وأبي جعفر بن هارون ،وأبي
مروان بن زهر؛ إذ كان بينهما مودة ومحبة ،فبرع في الطب وألف «الكليات»
و«شرح أرجوزة ابن سينا».
أما في علوم العربية ،فقد ألف «الضروري في علم النحو» ،وكان يحفظ
وكثير ما كان يستشهد ا أشعار أبي تمام والمتنبي ،بل يحفظ دواوينهما،
بأشعارهما.
وأكثر العلوم التي برع بها ابن رشد وصار إماما فيها هي علوم الحكمة
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 162
والفلسفة ،السيما علوم األوائل من قدماء الفالسفة اليونان ،حتى صار إماما في
علومهم ،وعلما يضرب به المثل ،فألف كتاب «جوامع كتب أرسطوطاليس»،
و«شرح كتاب النفس» ،وكتاب «في المنطق» ،وكتاب «تلخيص اإللهيات»
لنيقوالوس ،وكتاب «تلخيص ما بعد الطبيعة» ألرسطو ،وكتاب «تلخيص
االستقصات» لجالينوس ،ولخص له كتاب «المزاج» ،و«القوى» ،و«العلل»،
و«التعريف» ،و«الحميات» ،و«حيلة البرء» ،ولخص كتاب «السماع
الطبيعي» ،وله كتاب «تهافت التهافت» ،و«منهاج األدلة» في األصول،
و«فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من االتصال» ،و«شرح القياس»
ألرسطو ،و«مقالة في العقل» ،و«مقالة في القياس» ،وكتاب «الفحص في أمر
العقل» ،و«الفحص عن مسائل في الشفاء» ،و«مسألة في الزمان» ،و«مقالة
فيما يعتقده المشاؤون وما يعتقده المتكلمون في كيفية وجود العالم» ،و«مقالة
في نظر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو» ،و«مقالة في اتصال العقل
المفارق لإلنسان» ،و«مقالة في وجود المادة األولى» ،و«مقالة في الرد على
ابن سينا» ،و«مقالة في الم ازج» ،و«مسائل حكمية» ،و«مقالة في حركة
الفلك» ،وكتاب «ما خالف فيه الفارابي أرسطو».
وفي قرطبة استدعاه المنصور باهلل أبو يوسف يعقوب بن يوسف؛
صاحب المغرب ،فقربه واحترمه وأجل قدره ،فكان ذا قدر كبير ومكانة عالية
عنده ،إال أن المنصوربعد ذلك نقم عليه وأهانه؛ بسبب ما قيل عنه من اهتمامه
بالعلوم المهجورة ،أي الفلسفة ،وصدور أقوال ردية عنه ،وقد أمر المنصور باهلل
بهجرانه وعدم الدخول عليه؛ إذ حبسه في داره في مراكش حتى مات مظلوما -
رحمه هللا– وقيل :إن المنصور باهلل استدعى ابن رشد إلى مراكش وأحسن إليه
وقربه،ثم توفي ابن رشد في مراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة ،ثم مات
المنصور باهلل بعده بشهر.
المطلب األول :مسألة قدم العالم
تعتبر مسألة قدم العالم وحدوثه من المسائل التي كثر خوض الناس بها
163 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
قديما ،والسبب في ذلك يرجع لبعد أكثرهم عن مسالك األنبياء المرسلين -
عليهم السالم -أو للتلبيس الذي ط أر عليهم حول العالم؛ ألنمسألة العالم قد
حسمها الوحي اإللهي؛ بأن حكم عليه بأنه عالم مخلوق مصنوع ،وخالقه
وصانعه هو هللا ،إال أن بعض البشر لما نظروا لثبات وجود اإلجرام العلوية
والكواكب والنجوم ،اعتقدوا أنها باقية لألبد ،وأنه لن يط أر عليها فساد وال اندثار؛
مما أدى بهم إلى الحكم على هذه األجرام والكواكب والنجوم بأنها قديمة ،بل
وإن الكون كله قديم(.)3
وممن قال بقدم العالم من القدماء كل من بلعام بن باعوراء ،الذي يرى
أن للعالم مدبر يدبره ،إال أنه عالم قديم ،وأصحاب الجثة الذين قالوا بقدم العالم،
وأنه مثل الجثة المصمتة ،وأصحاب الجوهرة الذين قالوا عن العالم أنه جوهرة
قديمة( ،)4والكلدانيون الذين عبدوا األفالك وألهوها ،ثم حكموا بقدم هذه
األفالك(.)5
أما الفالسفة اليونان ،فقد استقر رأي جماهير متقدميهم ومتأخريهم على
القول بقدم العالم( ،)6كإجماع اإليونيين ،ومنهم الفيلسوف هيرقليطس ،على
القول بعدم فناء المادة ،وأنها أزلية قديمة ،وأن العالم وجد منذ األزل،
والفيثاغورثيين وكبيرهم فيثاغورث الذي يرى بقدم العالم ،وقد استدل فيثاغورث
بفلسفة األعداد عنده للحكم على قدم العالم( .)7كذلك لوقبيوس وتلميذه
ديمقريطس اللذان قاال بأزلية المادة وقدمها( ،)8ثم زاد ديمقريطس بأن قال
بالقدماء الخمسة(.)9
أما أفالطون فقد اختلف في الحكم عليه؛ هل يقول بقدم العالم أم
بحدوثه؟ وهذا االختالف في الحكم على أفالطون سببه تناقض فلسفة أفالطون
-كما يرى تلميذه أرسطو -السيما في حواراته الفلسفية ،كما في محاورة
طيماوس المليئة بالتناقض واالختالف والغموض؛ مما أدى إلى اضطراب
وتباين الحكم عليه ،لكن الحقيقة أن أفالطون يقول بقدم العالم؛ ألن العالم عنده
قد وجد من مادة قديمة ومثال قديم ،كما في المحاورات األخرى ،خالفا لما في
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 164
كذلك فإن البن سينا تناقضا في مسألة قدم العالم ،إذ يرى أن العالم قديم
أزلي ،وأن له علة أو موجد أوجده ،وهو الباري تعالى( ،)22وهذا تناقض في
قوله ،بسبب وجود علة للعالم مع القول بقدمه ،مما يناقض ويبطل القول بقدم
العالم ،الجماع العقالء على حدوث كل شيء ممكن الوجود والعدم ،أي أن
العالم عند ابن سينا -في تناقضه هذا -محدث حتى لو قال بقدمه ،ألنه قد
جعل للعالم علة( ،)23كما قد يكون سبب قول ابن سينا بهذا الرأي المتناقض
تقية أو للتسويق لفلسفته.
المطلب الثاني :سبب االختالف في المسألة:
تعمق الخالف في مسألة قدم العالم بين متكلمي األشاعرة والحكماء،
واشتهر هذا الخالف عند أبي حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفالسفة» الذي
رد فيه على الفالسفة في عشرين مسألة ،وعلى رأسها مسألة قدم العالم( ،)24ثم
بعد ذلك رد أبو الوليد بن رشد (ت595 :هـ) على الغزالي (ت505 :هـ) في
كتابه «تهافت التهافت» بشكل مفصل ،فضال عن التعرض للمسألة في كتابيه
«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال» و«مناهج األدلة في
عقائد الملة» وغيرهما.
وقد أرجع ابن رشد سبب االختالف في مسألة قدم العالم وحدوثه
الختالف متكلمي األشعرية ،وعلى رأسهم الغزالي والحكماء ،في التسمية،
السيما عند بعض القدماء من الحكماء(.)25
وهذا يعني أن ابن رشد يرى أن حقيقة الخالف في المسألة هي بين
متكلمي األشاعرة وبعض قدماء الفالسفة ،ال بين الفارابي وابن سينا اللذين خالفا
القدماء ،وهذا ما جعل ابن رشد يدافع عن فلسفة أرسطو ضد تلبيسات الفارابي
وابن سينا ،كما سنرى الحقا.
إذ يرى ابن رشد()26أن اختالفهم بالتسمية هو أنهم اتفقوا على تقسيم
الموجودات إلى ثالثة أصناف ،طرفان منهما اتفقوا على تسميتهما ،وواسطة
بينهما اختلفوا في تسميتها ،واألصناف كالتالي:
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 166
صنف موجود من شيء غيره ،أي وجد من مادة ولم يوجد من العدم،
والزمان سابق على وجوده ،وأوجده فاعل له.
وهذا الصنف مجمع على تسميته بالمحدث عند القدماء ومتكلمي
األشاعرة وغيرهم ،مثل تكون الماء والهواء واألرض والحيوان والنبات وغيرها من
األجسام ممن يدرك تكونها بالحس.
والصنف المقابل لهذا الصنف المحدث هو صنف موجود من غير
شيء ،وال عن فاعل له ،والزمان غير سابق لوجوده.
وهذا الصنف مجمع على تسميته بالقديم عند القدماء ومتكلمي األشاعرة،
والمقصود بالقديم هو هللا الذي يدرك بالبرهان ،والفاعل للكل وموجده،
والحافظ له.
أما الصنف الموجود الوسط بين الصنف المحدث والصنف القديم ،فهو
ما اختلف في تسميته؛ إذ هو موجود من غير شيء ،أو وجد من عدم ،والزمان
غير سابق لوجوده ،إال أنه موجود عن فاعل أوجده من العدم ،وهذا الموجود
هو العالم أو الكون بكل ما فيه(.)27
وقد اتفق( )28كل القدماء ومتكلمي األشاعرة وغيرهم على ثبوت ثالث
صفات للعالم ،وهي :أنه موجود من العدم ،وأن وجوده لم يسبق بزمان -وهذه
من المسلمات عند المتكلمين -وأن له فاعال أوجده.
وهكذا ستتضح لنا أهمية سبر وتشخيص ابن رشد لمعرفة سبب
االختالف ،الذي ال يتصور فهم ما ذهب إليه ابن رشد في مسألة قدم العالم من
دون معرفة أن االختالف كان بسبب اختالفهم في تسمية أصناف الموجودات
الثالثة ،التي اتفقوا فيها على الطرفين واختلفوا على الواسطة التي بينهما.
فما ذهب إليه ابن رشد في بيان هذه األصناف الثالثة ،يوجهنا إلى
معرفة حقيقة الخالف في المسألة ،وإلى تلمس رأي ابن رشد بعد ذلك في مسألة
قدم العالم.
لذلك فالواجب علينا أن نتفهم ونقدر ما ذهب إليه ابن رشد ،مهما كان
167 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
رأيه في المسألة ،والذي سيتضح لنا فيما بعد ،فابن رشد يرى أن هذه المسألة
من المسائل العويصة واالجتهادية التي اختلف في تأويلها ،وأن المصيب فيها
مأجور ،والمخطئ فيها معذور؛ ألن مسألة قدم العالم من المسائل المختلف
فيها ،وغير المجمع عليها ،بل وحتى لو كان فيها إجماع ،فإن من يخرق
اإلجماع ال يكفر ،حسب ما ذهب إليه الغزالي من احتمالية كفر من خرق
اإلجماع وليس القطع بكفره ،إال أن الغزالي قد قطع بتكفير الفالسفة كالفارابي
وابن سينا في «تهافت الفالسفة» ،وهذا يخالف ما ذهب إليه من أن خرق
اإلجماع يحتمل أن يكفر أو ال يكفر(،)29كما في قوله« :ولو أنكر ما ثبت
باإلجماع؛ فهذا فيه نظر»(.)30
المطلب الثالث :حكم ابن رشد على الغزالي في المسألة:
ألف ابن رشد كتابه «تهافت التهافت» للرد على كتاب «تهافت
الفالسفة» للغزالي ،وقد انتقده وفصل في الرد عليه؛ إذ كان يأتي بقول الغزالي،
فيقول« :قال أبوحامد ،»...ثم يبدأ كالمه بالرد على قول الغزالي بكلمة «قلت»،
ثم يورد تفاصيل رده(.)31
وقد أبان ابن رشد في مقدمة كتابه «تهافت التهافت» أن غرضة من
تأليف هذا الكتاب هو« :أن نبين مراتب األقاويل المثبتة في كتاب «التهافت»
ألبي حامد ،في التصديق واإلقناع ،وقصور أكثرها عن رتبة اليقين
والبرهان»(.)32
وقال أيضا« :فقد تبين لك أنه ليس في األدلة التي حكاها عن المتكلمين
في حدوث العالم كفاية في أن تبلغ مرتبة اليقين ،وأنها ليست تلحق بمراتب
البرهان ،وال األدلة التي أدخلها وحكاها عن الفالسفة في هذا الكتاب الحقة في
مراتب البرهان ،وهو الذي قصدنا بيانه في هذا الكتاب»(.)33
لذلك نجد ابن رشد في «تهافت التهافت» يحكم على الغزالي بأنه قد
شوش في كالمه عن الفالسفة(،)34وأن أقواله سوفسطائية ال تصلح لتزييف
وإبطال قضية قدم العالم عند الفالسفة ،الذين يسميهم ابن رشد بالخصوم(.)35
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 168
مما قد يعني أن لدى ابن رشد ما يثبت تزييف قضية قدم العالم عند
الفالسفة ،خالفا للغزالي الذي أخطأ في ذلك ،ولم يقدر ،حسب ما يراه ابن رشد.
وهذا ما دعا ابن رشد إلى القول بأن في أقوال الغزالي في كتابه «تهافت
الفالسفة» أقاويل ركيكة اإلقناع( ،)36ومعاندات سوفسطائية( ،)37وأقوال يظهر
منها السخافة والتناقض( ،)38وأقوال ساقطة( ،)39وأنه ألزم الفالسفة بأقوال قد قالوا
بامتناعها( ،)40وأنه أخطأ في حق الشريعة كما أخطأ في حق الحكمة(.)41
ورأى أن األليق أال يسمى كتاب «تهافت الفالسفة» بهذا االسم ،بل
يسمى بكتاب التهافت بإطالق ،أي من غير نسبة التهافت للفالسفة ،أو يسمى
التفاهة أو تهافت أبي حامد ال تهافت الفالسفة(.)42
أما كتابه «تهافت التهافت» فقد قال عنه« :وكان أحق األسماء بهذا
الكتاب كتاب التفرقة بين الحق والتهافت من األقاويل»(.)43
كما اعتبره من الكتب المشاعة لعامة المتعلمين ،وليس للخاصة منهم؛
مما يعني أن بعض العلوم ال سبيل إلى إفشائها في كتابه(.)44
وهذا يصدق أيضا على كتاب «تهافت الفالسفة» بأنه أيضا ليس كتابا
للخاصة ،بل كتاب مشاع للعامة من المتعلمين(.)45
إن اعتبار ابن رشد بأن كتابه «تهافت التهافت» من الكتب المشاعة
لعامة المتعلمين وليس للخاصة منهم؛ ألعظم دليل على علو مكانة ابن رشد
والغزالي ،وكونهما من أعظم أساطين العلم.
ومع انتقاد ابن رشد للغزالي ،وتسميته كتابه بـ« :تهافت التهافت» ،إال أن
هذا ال يعني أن ابن رشد لم يوافق الغزالي في بعض ما ذهب إليه في نقده
للفالسفة ،كما في موافقته له في أن تقدم الباري على العالم ليس تقدما
زمانيا ،وأنه قول صحيح(.)46كما أثنى على الغزالي بقوله إنه أجاد في أكثر ما
ذكره من وصف مذاهب الفالسفة في وحدانية الباري وصفاته المتعددة(.)47
كذلك وافقه على وجوب الرجوع إلى الشرع في كل ما قصرت العقول
اإلنسانية عن إدراكه ،وأنه قول حق( ،)48وغيرها من اآلراء التي وافق فيها ابن
169 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
رشد الغزالي ،وحكم بصحة ما ذهب إليه ،بل إن ابن رشد لم يكتف بذلك ،بل
انتقد الفارابي وابن سينا ،وأخذ عليهم قلة تحصيلهم لمذاهب القدماء( ،)49وأن
علومهم اإللهية ظنية(،)50حتى إنه وصف كالم ابن سينا بالخرافة ،وإنه قليل
اإلقناع ،لما انفرد ابن سينا دون سائر الناس بالتفريق بين ماله وضع وما ليس
له وضع(،)51وأن ابن سينا غلط على المشائين في زعمه أن الجسم السماوي
يتكون كما تتكون األجسام من صورة وهيولى( ،)52وغلط أيضا في ظنه أن
الواحد معنى زائد على الذات لما اعتبر أن وجود الشيء معنى زائد على
جوهره(.)53
ويرى ابن رشد أن أصل هذيان وخرافات ابن سينا والفارابي وسائر
الفالسفة راجع لعدم فهمهم لمذهب أرسطاطاليس وأتباعه من المشائين(.)54
وهذا ما دعا ابن رشد إلى وصف بعض أقوال ابن سينا بأنها غير
صادقة ،ومخالفة ألصول الفالسفة( ،)55بل جعل سبب قصور الغزالي في
الحكمة هو اقتصار الغزالي على النظر في كتب ابن سينا(.)56
ومع ذلك فقد استفاد ابن رشد من مؤلفات الغزالي وتأثر بها ،وفتحت هذه
المؤلفات آفاقا النطالق فلسفة ابن رشد ،بل لوال «تهافت الفالسفة» لما وجد
«تهافت التهافت» ،فكالهما من أعظم ما ألف في حقل الفلسفة في الحضارة
اإلسالمية.
كذلك من أمثلة تأثر ابن رشد واستفادته من الغزالي :أنه ألف كتابه
اختصار لكتاب «المستصفى من علم األصول» ا «الضروري في أصول الفقه»
كثير على كتاب «المستصفى» ا للغزالي ،وعلى الرغم من أن ابن رشد قد علق
وابتعد عن مضمونه(،)57فإنه قد استفاد من الغزالي الذي ألهمه في علوم الفقه
واألصول والردود على الفالسفة ،فتفتق ذهنه عن الكثير.
كذلك ال أستبعد استفادة ابن رشد في تسمية كتابه العظيم «بداية المجتهد
ونهاية المقتصد»( )58من كتاب الغزالي «بداية الهداية»()59؛ إذ لفظ «بداية»
تكرر في عنوان الكتابين.
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 170
نصر وابن سينا( .)63فنقتصر على إبطال ما اختاراه ،ورأياه الصحيح من مذهب
رؤسائهما في الضالل ،فإن ما هجراه واستنكفا من المتابعة فيه ال يتمارى في
اختالفه ،وال يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله ،فليعلم أنا مقتصرون على رد
مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين؛ كي ال ينتشر الكالم بحسب انتشار
المذاهب»(.)64
لقد اقتصر الغزالي في كتابه «تهافت الفالسفة» على الرد فقط على
الفارابي وابن سينا؛ ألنهما -حسب قوله -أقوم بالنقل والتحقيق من باقي
المتفلسفة في اإلسالم.
لكن الحقيقة أن الفارابي وابن سينا لم يكونا أقوم بالنقل والتحقيق من باقي
المتفلسفين كثيرا ،بل كانا قريبين لخبط وتباعد وتدابر وتناقض هؤالء
المتفلسفين ،حتى إن ابن رشد قال بقلة تحصيلهم لمذاهب القدماء( ،)65أي أنهم
لم يفلحوا في فهم فلسفة القدماء ،ولم ينقلوها بشكل صحيح ،وحتى لو نقلوها
بشكل صحيح فليس بالضرورة أنهم تدبروها ،بل كانوا متناقضين متباعدين
متدابرين.
فاجتمعت فيهم هذه المثالب التي أعطت الحق للغزالي في أن يؤلف سفره
الخالد «تهافت الفالسفة» الذي قال فيه« :انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردا على
الفالسفة القدماء ،مبينا تهافت عقيدتهم ،وتناقض كلمتهم فيما يتعلق باإللهيات،
وكاشفا عن غوائل مذهبهم وعوراته ،التي هي على التحقيق مضاحك العقالء،
وعبرة عند األذكياء»(.)66
ومما يدل على ذلك غير ما ورد في «تهافت الفالسفة» و«تهافت
التهافت» ،أن أبا نصر الفارابي( )67قد ألف كتابه «الجمع بين رأي الحكيمين»؛
ليجمع بين رأي أفالطون وأرسطو -حسب زعمه -بسذاجة وسطحية ،مستندا
على كتاب منسوب بالخطأ إلى أرسطو ،يسمى «أثولوجيا أرسطو»( ،)68الذي
اشتهر بـ« :كتاب الربوبية» ،وهذا الكتاب في حقيقته هو اقتباس وتلخيص
لبعض ما في كتاب «تاسوعات أفلوطين»( )69مع تعليق وشرح عليها.
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 172
أن يثبت المذهب الحق ،فالغزالي أبان عن مقصده هذا في مقدمة كتابه ،إال أن
هذه اإلبانة لم تشفع له عند ابن رشد ،الذي يرى أن قصد العالم يجب أن يكون
هو السعي إلى الحق ،وليس تشكيك الخصوم وتحيير عقولهم ،كما ذكرنا.
وهذا ما دعا من يجهلون حقيقة ابن رشد أو من يتحاملون عليه ،إلى أن
يحكموا على ابن رشد -ظلما وبهتانا -بأنه يوافق الفالسفة في كل ما ذهبوا
إليه ،ويختلف مع الغزالي في كل ما ذهب إليه.
لكن من يق أر مؤلفات ابن رشد يجد فيلسوفا مؤمنا يتحرى الحق ،ويسعى
لحماية جناب الشريعة ،والمحافظة على الحكمة.
إن حديثنا فيما سبق عن سبب االختالف في المسألة ،وعن حكم ابن
رشد على الغزالي ،ق د أبان لنا الطريق للوصول إلى اعتقاد ابن رشد في مسألة
قدم العالم ،والتي لن تتضح بشكل متكامل إال بعد الرجوع إلى مؤلفات ابن رشد
األصلية ،وليس شروحه ومختصراته الفلسفية التي ال تصلح لبيان ما يعتقده
والحكم عليه.
فالواجب على كل باحث وقارئ أن يفرق بين ابن رشد في كتبه األصلية،
وابن رشد الشارح والمختصر لكتب الفالسفة وغيرهم ،حتى ال يجني على ابن
رشد بإصدار األحكام الجائرة والظالمة عليه.
يقول إرنست رينان« :فكان من نصيب ابن رشد أن يتخذ ذريعة ألشد
األحقاد اختالفا في منازعات العقل البشري ،وأن تستر باسمه مذاهب يظهر أنه
أقل من يفكر فيها ال ريب»(.)76
ويؤكد ذلك أيضا جورج ريفوار إذ يقول« :والواقع أنه يوجد ،غالبا ،هوة
بين فكرة الشارح الحقيقية واآلراء التي عزيت إليه ،فمن نصيب ابن رشد ،ومن
دية شهرته ،أن يستر اسمه بمذاهب ما كان ليوافق عليها ال ريب»(.)77
وهذا ما نحاول إثباته في دراستنا هذه حول موقف ابن رشد من مسألة
قدم العالم.
وحتى يتبين لنا اعتقاد ابن رشد في مسألة قدم العالم ،البد لنا من معرفة
175 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
وهذا ما دعا ابن رشد إلى القول بأن الوجود اآلخر يشبه من جانب
الوجود المادي المحدود بمكان وزمان معين ،وهذا يسمى بالوجود الكائن
الحقيقي ،ومن جانب آخر يشبه الوجود الذي ليس له مبدأ زماني من حيث
الزمان ،وال مبدأ يتعلق به من حيث الذات ،وهذا يسمى بالوجود القديم ،فمن
يترجح لديه ما في الوجود اآلخر من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث؛
يسميه قديما ،ومن يترجح لديه ما في الوجود اآلخر من شبه المحدث على ما
فيه من شبه القديم؛ يسميه محدثا ،فلم يجزم ابن رشد بأن العالم محدث حقيقي
أو قديم حقيقي ،بل يرى أنه ليس محدثا حقيقيا وال قديما حقيقيا؛ ألن من
مسلمات المحدث الحقيقي أنه فاسد ،وأن القديم الحقيقي ال علة له ،ورأي ابن
رشد هذا قريب من رأي جالينوس الذي توقف في الحكم على العالم؛ ألنه ال
يدري هل العالم قديم أم محدث؟ ألنها مسألة عصية على العقول ،واليجب أن
يكفر أحد من المذاهب في مسألة القدم والحدوث؛ ألن آراء المذاهب فيها
متقاربة وليست متباعدة ،وألن تكفير بعض المذاهب دون بعضيجب أن يكون
في المسائل التي بلغت غاية التباعد؛ حيث تكون المذاهب فيها متقابلة
لتباعدها ،وهذا ما ظنه المتكلمون في حكمهم على اسم القدم والحدوث بأنه من
المتقابلة ،وهذا ليس بصحيح؛ ألن اسم القدم والحدوث ليس متباعدا حتى نقول
عنه إنه من المتقابلة ،مع أن المتكلمين قد حكموا عليه بأنه من المتقابلة؛ ألنهم
يرون أنه بلغ غاية التباعد ،وهذا ليس بصحيح(.)81
لكن هذا ال يعني عدم وجود نسبة من التباعد في مسألة قدم العالم
وحدوثه؛ إذ يرى ابن رشد أن التباعد موجود بين جواز أن يكون العالم قديما أو
أن يكون محدثا ،وأنه في حال كان العالم محدثا ،فهل يجوز أن يكون فعال أوال
لفاعل أول ،أو ال أول له؟
عندها أجاب ابن رشد بأن العقل ال يمكنه أن يقف على أحد هذه
المتقابالت لتباعدها ،فضال عن كون المسألة ال تعد من العقليات ،وأن الواجب
الرجوع فيها إلى السماع( ،)82الذي يخالف هذه اآلراء وال يتفق معها؛ ألن من
177 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
يتصفح ظاهر الشرع في قوله تعالى{ :وهو الذي خلق السمواتواألرض في ستة
أيام وكان عرشه على الماء}( ،)83يجد أن وجود العرش والماء سابق على وجود
العالم ،وأنه يوجد زمان سابق على زماننا الذي يقاس بعدد حركة األفالك في
هذا الوجود ،وظاهر الشرع في قوله تعالى{ :يوم تبدل األرض غير األرض
والسموات}( ،)84أي أنه سيوجد وجود آخر بعد وجود العالم ،وظاهر الشرع في
قوله تعالى{ :ثم استوى إلى السماء وهي دخان}( ،)85أي أن هللا تعالى لم يخلق
العالم من عدم ،بل خلقه من شيء(.)86
لذلك يوجب ابن رشد()87عدم تأويل هذه اآليات الكريمة للجمهور ،وال
إنزالها على خالف هذا التمثيل ،بل التمسك بتصور الشرع في تعليم الجمهور،
دون أن يأتي بغير ما جاء به الشرع؛ ألن نوع هذا التمثيل في إثبات أن العالم
مخلوق قد سبق وأن ورد في الكتب المنزلة ،السيما خاتمها وخالصتها القرآن
الكريم ،وأن هذا التمثيل الوارد في الشرع في أن العالم مخلوق ،مطابق للحدوث
الذي في الشاهد ،إال أن الشرع لم يذكره صراحة بهذا اللفظ؛ حتى ينبه العلماء
على أن حدوث العالم الذي سماه بالخلق والفطور مختلف عن الحدوث الذي
في الشاهد ،وإن كانت هذه المسميات ممكنة لتصور الحدوث الذي في الشاهد،
وممكنة أيضا لتصور الحدوث الذي نتج عن البرهان عند العلماء في الغائب،
وهذا ما جعل ابن رشد يرى أن الحكم على العالم بأنه محدث أو قديم ،بدعة ال
أصل لها في الشرع ،فضالعن كونها أيضاتوقع الجمهور بالشبه العظيمة،
والتلبيسات والشكوك حتى تفسد عقائدهم جميعا ،السيما أهل الجدال فيهم ،وهذا
ما حصل لمتكلمي األشاعرة.
يقول ابن رشد« :فيجب أال يتأول شيء من هذا للجمهور ،وال يعرض
لتنزيله على غير هذا التمثيل؛ فإنه من غير ذلك فقد أبطل الحكمة
الشرعية.فأما أن يقال لهم إن عقيدة الشرع في العالم هي أنه خلق من غير
شيء ،وفي غير زمان ،فذلك شيء ال يمكن أن يتصوره العلماء فضال عن
الجمهور،فينبغي -كما قلنا-أال يعدل في الشرع عن التصور الذي وضعه
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 178
وجعل الماء صالحا لتعيش فيه الحيوانات المائية ،وجعل الهواء صالحا
للحيوانات الطائرة؛إذ لو حصل اختالل في شيء من خلقة هذه المخلوقات
وبنيتها ومقاديرها؛ الضطرب واختل وجودها.
عندها يتيقن لدينا أن توافق العالم مع المخلوقات التي خلقها هللا تعالى
فيه كالبشر والحيوانات والنباتات ،قد وجدبقصد وإرادة من هللا تعالى ،ولم يوجد
من غير قصد وإرادة؛ مما يعني أن للعالم صانعا صنعه ،وخالقا خلقه ،وهذا
أمر بديهي ومقطوع به.
فلو لم يكن للعالم صانع صنعه ،وخالق خلقه ،لم تكن الموافقة بين العالم
والمخلوقات موجودة ،بل سيحل االضطراب واالختالل ،وهو الذي سيكون
موجودا.
لذلك يظهر لنا مما سبق أن نوع هذه األدلة مقطوع به وبسيط ،ألنه مبني
على أصلين؛ األول منهما :موافقة العالم بجميع أجزائه لوجود جميع المخلوقات
وعلى رأسها اإلنسان ،وثانيهما :أن الموجود الموافق والمسدد في جميع أجزائه
لفعل واحد ،وغاية واحدة ،هو بالضرورة ال يكون إال مصنوعا.
لهذا فاألصالن يدالن على أنه عالم مصنوع ،وله صانع صنعه ،مثلما
دلت داللة العناية على الصانع والمصنوع ،وهي تعتبر أشرف ما يدل على
وجود الصانع؛ ألنها أدلة موجودة في كتاب هللا تعالى،السيما اآليات الكريمة
المتعلقةببدء الخلق ،كما في قوله تعالى{ :ألم نجعل األرض مهادا ،والجبال
أوتادا ،وخلقناكم أزواجا ،وجعلنا نومكم سباتا ،وجعلنا الليل لباسا ،وجعلنا النهار
معاشا ،وبنينا فوقكم سبعا شدادا ،وجعلنا سراجاوهاجا ،وأنزلنا من المعصرات
ماء ثجاجا ،لنخرج به حباونباتا}( ،)96وقوله تعالى{ :وجعلنا السماء سقفا
محفوظا}( ،)97وقوله تعالى{ :ألم تروا كيف خلق َّللا سبع سموات طباقا ،وجعل
القمر فيهن نوراوجعل الشمس سراجا ،وَّللا أنبتكم من األرض نباتا}( ،)98وقوله
تعالى{ :الذي جعل لكم األرض فراشاوالسماء بناءوأنزل من السماء ماء فأخرج
به من الثمرات رزقا لكم}(.)99
181 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
فمن ينظر في هذه اآليات الكريمة ،يجدها تدل داللة عظيمة على العناية
اإللهية ،ومن يتأملها يستخلص منها أن أجزاء العالم موافقة لوجود المخلوقات
والموجودات جميعا.
أما لو كانت األرض متحركة من تحت أقدام البشر ،وشكلها مختلف،
ووضعها مختلف ،وبقدر مختلف؛ لتعذرت إقامة البشر فيها ،وأكثر ما يؤيد
ذلك( )100قوله تعالى{ :ألم نجعل األرض مهادا} ،فالمهاد يجتمع فيه لإلنسان
والمخلوقات ما في األرض من موافقات في الشكل والسكون والوضع ،والوثارة
واللين.
يقول ابن رشد« :فقد تبين من هذا أن الطرق الشرعية التي نصبها هللا
لعباده ليعرفوا منها أن العالم مخلوق له ومصنوع ،هي ما يظهر فيه من الحكمة
والعناية بجميع الموجودات التي فيه ،وبخاصة اإلنسان ،وهي طريقة نسبتها في
الظهور إلى العقل نسبة الشمس في الظهور إلى الحس»(.)101
وهكذا ،وبعد أن أثبتنا براءة ابن رشد من القول بقدم العالم ،نأتي إلى
شبهة أخرى مرتبطة ارتباطا وثيقا بتهمة القول بقدم العالم عند ابن رشد ،وهي
اتهام ابن رشد من قبل الكثير من مؤرخي الفلسفة كـ :مونك وإرنست رينان
اللذين حرفا كالم ابن رشد ،وخلطاه مع كالم أتباع نظرية الفيض ،بأنه يقول
بنظرية الفيض اإللهي األفالطونية( ،)102التي يقتضي القول بها القول بقدم
العالم( ،)103وأن العالم لم يخلق ،وإنكار الخالق الستحالة صدور الحادث
عن القديم(.)104
وهذا قد يكون هو ما دعا إرنست رينان ليتهم نظريات ابن رشد بأنها قد
أوضحت القول بقدم العالم( ،)105وأن السماء موجود قديم عند ابن رشد(.)106
إن سبب عدم فهمهم لكالم ابن رشد ،وخلطهم كالمه بكالم القائلين
بنظرية الفيض هو جهلهم بمنهج ابن رشد الموضوعي والمجرد عن كل هوى؛
إذ يوجب ابن رشد على الباحث عن الحقيقة أن يؤثر الحق على ما سواه ،وذلك
بأال يحكم بالبطالن على األقوال الشنيعة الخالية من مقدمات تزيل عنها
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 182
الشنعة ،بل الواجب عليه أن ينظر من الزاوية والجهة التي نظر منها،ووقف
عليها من يدعي هذا القول ،وأن يستخدم في فهم وتعلم ذلك ما يحتاجه من
األوقات واألزمنة حتى لو طالت؛ ليتمكن من إثبات مقتضى األمر الذي فهمه
وتعلمه( ،)107وأن الواجب على الحكماء انتهاج طريق العدل؛ بأن يلتمسوا
الحجج لخصومهم مثلما يلتمسوها ألنفسهم(.)108
ومن منهج ابن رشد أيضا ،أن على الباحثين عن الحقيقة أال يقابلوا
إشكاالت خصومهم بإشكاالت وتشكيكات أخرى ،فيضربوا أقاويلهم بعضها
ببعض؛ مما يؤدي إلى وقوع خصومهم بالحيرة والشك ،دون أن يؤدي ذلك إلى
هدم آراء هؤالء الخصوم ،وهذه هي المعاندة غير التامة ،فالواجب أن تكون
المعاندة تامة مع الخصوم ،وهي -كما يعرفها ابن رشد -التي تقتضي إبطال
مذهبهم بحسب األمر في نفسه ،ال بحسب قول القائل به(.)109
إن الجهل بمنهج ابن رشد مع المخالفين له قد أدى إلى وقوع كثير من
مؤرخي الفلسفة باللبس وباألحكام الخاطئة؛ مما جعلهم يحكمون على ابن رشد
بأنه يقول بقدم العالم وبالفيض اإللهي ،كما أعطى مسوغات ألهل النوايا السيئة
ليطعنوا بإيمان ابن رشد ،ويحكموا عليه باإللحاد والزندقة ،السيما أعداء الرشدية
الالتينية من بعض األوروبيين الذين شوهوا ابن رشد لدى الرأي العام ،كدپلسيس
مورنه الذي ينسب بعض التدين ألرسطو وينفيه عن ابن رشد ،واتهمه بأنه
زنديق محض لعدم قبوله بشروحه التي تكلف في محاولة تفنيدها ،وتعسف بها،
ومن بعده أتى كنبنال وبريغارد اللذان اتهما ابن رشد بأنه أول واضع لتجديف
الثالثة ،وغير هؤالء يوجد من دعا ابن رشد بالغول وكاتب الجحيم(.)110
هذا فضال عن القديس "توما األكويني" الذي عارض ابن رشد والرشدية
الالتينية ،فكان من أخطر خصوم المذهب الرشدي ،وألد خصوم ابن رشد ،إال
أنه مدين البن رشد في كل شيء.
يقول إرنست رينان« :يعد القديس توما ،في وقت واحد ،أخطر خصم
لقيه المذهب الرشدي ،والتلميذ األول للشارح العظيم بال منازع ،وكما أن ألبرت
183 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
مدين البن سينا في كل شيء ،فإن القديس توما مثل فيلسوف مدين البن رشد
في كل شيء تقريبا ،وال مراء في أن أهم اقتباساته منه هو في شكل مؤلفاته
الفلسفية»(.)111
وفضال عن ذلك ،فإن ما أثبتناه مسبقا من أن ابن رشد يقول بأن العالم
مخلوق ومصنوع من هللا تعالى؛ لهو أكبر دليل على عدم قول ابن رشد بنظرية
الفيض اإللهي األفالطونية.
زد على ذلك أن ابن رشد ليس من أتباع أفالطون واألفالطونية ،بل من
األتباع المخلصين والمعجبين المغالين بأرسطو وفلسفته( )112التي تخالف نظرية
الفيض؛ إذ يرى أرسطو أن العالم واحد صدر عن واحد ،وأن الواحد صدر عنه
العالم ،وهو سبب للوحدة من جهة ،وسبب للكثرة من جهة أخرى ،وأن ابن سينا
ومن تبعه قد بدلوا ما في كتب القدماء ،ولم يفهموها حتى صار مذهبهم في
اإللهيات ظنيا بعدما حشوها بأقاويلهم(.)113
ومن أقوال ابن رشد التي تثبت رفضه لنظرية الفيض األفالطونية:
أ -قوله عن جهل الفارابي وابن سينا بمذاهب القدماءبنسبة الفيض إليهم؛
إذ يقول« :هذا كله تخرص على الفالسفة -أي القدماء -من ابن سينا وأبي
نصر وغيره»(.)114
ب -وقوله« :وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادئ بعضها من
بعض ،فهو شيء ال يعرفه القوم»(.)115
جـ -وقوله« :وعلى هذا يصح القول :إن هللا خالق كل شيء وممسكه
وحافظه ،كما في قوله تعالى{ :إن َّللا يمسك السمواتواألرض أن تزوال} .وليس
يلزم من سريان القوة الواحدة في أشياء كثيرة أن يكون في تلك القوة كثرة ،كما
في ظن من قال :إن المبدأ الواحد إنما فاض عنه أوال واحد ،ثم فاض من ذلك
الواحد كثرة»(.)116
د -وقوله« :الواحد ال يصدر عنه إال واحد .قضية صادقة ،وأن :الواحد
يصدر عنه كثرة .قضية صادقة أيضا»(.)117
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 184
هـ -وقوله« :وهذا كله سخافات وهذيانات أدى إليه هذا النظر الذي هو
شبيه بالهذيان في العلم اإللهي .والمصنوع الواحد في الشاهد إنما يصنعه صانع
واحد ،وإن كان فيه يوجد المقوالت العشر ،فما أكذب هذه القضية! إن الواحد ال
يصنع إال واحدا»(.)118
و -وقوله عن ابن سينا والفالسفة ...« :الستراحوا من هذه اللوازم التي
ألزمهم بها أبوحامد ،وخرجوا من هذه الشناعات ،فأبوحامد لما ظفر هاهنا
بوضع فاسد منسوب إلى الفالسفة ،ولم يجد مجيبا يجاوبه بجواب صحيح؛ سر
بذلك ...وأصل فساد هذا الوضع قولهم :إن الواحد ال يصدر عنه إال واحد ،ثم
وضعوا في ذلك الواحد الصادر كثرة ،فلزمهم أن تكون تلك الكثرة عن غير
علة ...فهذا كله هذيان وخرافات .وأصل هذا أنهم لم يفهموا كيف يكون الواحد
علة على مذهب أرسطاطاليس ،ومذهب من تبعه من المشائيين»(.)119
وهكذا نرى أن أقوال ابن رشد تصف الفارابي وابن سينا اللذين قاال
بنظرية الفيض اإللهي ،بأنهما تخرصا على قدماء الفالسفة بشيء لم يعرفه
هؤالء القدماء ،وأن كالم الفارابي وابن سينا سخافات وهذيانات وخرافات
وأكاذيب ،وأن قولهم بأن الواحد ال يصدر عنه إال واحد هو أصل فسادهم،
وأنهم يجهلون حقيقة مذهب أرسطاطاليس وأتباعه المشائيين.
إن الواحد عند ابن رشد يصدر عنه الواحد ،وتصدر عنه الكثرة ،كما
أوردنا من أقواله ،وهذه األقوال تهدم أساس نظرية الفيض اإللهي التي تقوم
على أساس أن الواحد ال تصدر عنه الكثرة(.)120
المطلب الخامس :سبب قبول ابن رشد بأمثلة األجرام السماوية عندد الفالسدفة
القدماء:
ولسائل أن يسأل :لماذا استخدم الفالسفة القدماء أمثلةاألجرام
السماوية()121المؤثرة في الكواكب ،مع أن هللا قد قال في كتابه الحكيم{ :ما
أشهدتهم خلق السموات واألرض وال خلق أنفسهم}()122؟ وما سبب قبول ابن
رشد بها كأمثلة؟
185 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
الجواب( )123هو أن ابن رشد يرى أن هذه األمثلة عبارة عن أدلة برهانية
عند الفالسفة القدماء إذ حاولوا االستدالل والبرهنة ،بعد النظر في الموجودات
من جهة داللتها على الصانع ،وأن الشرع قد أمرنا بذلك وأوجبه علينالما دعانا
إلى اعتبار الموجودات بالعقل،حيث تكون معرفتها به ،كما في قوله تعالى:
{فاعتبروا يا أولي األبصار}( ،)124الذي نص فيه على وجوب القياس
بالعقل ،أو بالعقل مع الشرع.
كما حثعباده على النظر في الموجودات كلها بالقياس العقلي ،كما
في قوله تعالى{ :أولم ينظروا في ملكوت السموات واألرض وما خلق هللا من
شيء}( ،)125وغيرها من اآليات الكريمة ،وذلك باستخراج المجهول من المعلوم،
وهذا هو القياس العقلي ،أي أن ننظر في الموجودات بعقولنا ،فاألمر بالنظر
فيها يؤدي إلى وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه ،مثلما يؤدي األمر بالتفقه
في األحكام إلى وجوب معرفة األقيسة الفقهية وأنواعها.
وهذا القياس العقلي يعتبر أكمل أنواع النظر بأكمل أنواع القياس ،وهذا ما
يسمى بالبرهان أو القياس البرهاني الذي حث عليه الشرع لمعرفة هللا تعالى،
ومعرفة جميع الموجودات؛ إذ ال يتحقق القياس البرهاني مع الجهل بأنواع
البراهين وشروطها.
كذلك البد من تمييز القياس البرهاني عن باقي األقيسة الجدلية
والخطابية والمغالطية ،وأن نعلم بأن عدم وجود النظر في القياس العقلي في
الصدر األول ال يعني أنه عمل بدعي؛ ألن النظر في القياس الفقهي وأنواعه
هو أيضا لم يستنبط إال بعد الصدر األول ،وليس عمال بدعيا.
فمن قوله تعالى{ :فاعتبروا يا أولي األبصار} يستنبط كل من العارف
باهلل وجوب معرفة القياس العقلي ،والفقيه وجوب معرفة القياس الفقهي وأنواعه؛
لذلك فأكثر أهل اإلسالم على إثبات القياس العقلي( )126إال الحشوية( )127الذين
حجبوا بالنصوص ،وهم قلة.
وهكذا يرى ابن رشد أنه قد تقرر في الشرع وجوب النظر في القياس
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 186
العقلي ،كما في القياس الفقهي ،مع أن الذين سبقونا لم يفحصوا القياس العقلي،
وه ذا يدعونا إلى وجوب الفحص عن القياس العقلي ،مع االستعانة بالمتقدمين
علينا من الفالسفة القدماء ،حتى لو كانوا من غير أهل ملتنا ،حتى نحوز كمال
المعرفة والعلم بتضافر الجهود في ذلك.
إذ إنه ال يمكن ألحد من الناس أن يقف ابتداء أو من تلقاء نفسه على
كل ما هو بحاجة إليه من ذلك ،بل يتعسر عليه استنباط كل ما هو بحاجة إليه
من معرفة أنواع القياس الفقهي ،فإذا كان ذلك كذلك؛ فمن باب أولى أن يتعسر
عليه معرفة القياس العقلي ،بل قد ال يمكنه ذلك.
مما يعني أننا بحاجة إلى االستعانة بكل من فحص عن معرفة القياس
العقلي ممن تقدم علينا ،حتى لو كان من غير أهل ملتنا ،السيما الفالسفة
القدماء الذين فحصوا في معرفة القياس العقلي البرهاني.
فحالنا معهم كحال من استخدام آلة التذكية ،مع أنها لغير مشارك لنا في
الملة؛ إذ تصح التذكية بها ،دون اعتبار لكونها آلة لمشارك لنا في الملة أو
غير مشارك ،ما دامت شروط الصحة متوفرة فيها.
وهذا ما فعله الفالسفة القدماء لما فحصوا في معرفة القياس العقلي
البرهاني :الفحص التام والوافي لكل ما هم بحاجة إليه من النظر في أمر
األقيسة العقلية ،مع عدم مشاركتهم لنا في الملة.
وما دام الفالسفة القدماء قد فحصوا الفحص التام والوافي ،فإن الواجب
علينا أن نطلع على كتبهم وعلى نظرهم في الموجودات( ،)128ونقيم ما ذهبوا
إليه ،فإن كان صوابا وموافقا للحق؛ قبلناه وسررنا به ،وشكرناهم عليه ،وإن كان
غير صواب ومخالفا للحق؛ فإننا ال نقبله ،بل ننبه عليه ونحذر منه ،مع
التماسنا العذر لهم فيما خالفوا الحق فيه.
وفي هذه الحالة نكون قد حزنا الملكة البرهانية أو اآلالت التي تمكننا من
اعتبار داللة صنعة هللا تعالى في الموجودات؛ ألن معرفة الصنعة تؤدي إلى
معرفة المصنوع ،ومعرفة المصنوع تؤدي إلى معرفة الصانع؛ مما يوجب علينا
187 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
نحن معاشر المسلمين ،وهي سعادة تحصل عند كل مسلم حسب طريق
التصديق الذي تقتضيه جبلته وطبعه ،فطباع الناس وجبالتهم متفاوتة في
التصديق ،فمنهم من يتحقق لديه التصديق بالبرهان ،ومنهم من يتحقق لديه
التصديق باألقاويل الجدلية ،ومنهم من يتحقق لديه التصديق باألقاويل
الخطابية.
وهؤالء جميعا كتصديق صاحب البرهان ،إال أنهم اختلفوا في طرق
ومسالك الدعاء إلى هللا ،أي طرق التصديق الثالثة التي دعتنا إليها شريعتنا
اإللهية ،وهي طرق تناسب جميع البشر ،إال المعاندين من أهل األهواء
والشهوات ،أو من غفل من نفسه هذه الطرق الثالثة؛ ألن النبي -صلى هللا
عليه وسلم -قد بعث للناس كافة األحمر واألسود ،والشريعة اإللهية متضمنة
لهذه الطرق ،وتدعو إليها ،كما في قوله تعالى{ :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(.)130
ومادام ديننا يدعونا للحكمة ،والموعظة الحسنة ،والمجادلة بالتي هي
أحسن ،فإننا كمسلمين نعلم علم اليقين أن شريعتنا ال تدعونا إلى ما يخالفها
أويناقضها؛ ألن النظر البرهاني ال يؤدي إال إلى الحق ،وال يخالف الشرع؛ ألن
الحق يوافق الحق ،ويشهد له ،ويضاد الباطل.
ويجب علينا أن نعلم أن الموجود الذي أدى النظر البرهاني إلى نحو ما
من معرفته ،إما أن يكون الشرع قد سكت عنه أو نطق به.
أما ما سكت عنه الشرع ،فهو بمنزلة األحكام التي سكت عنها ،ولم
تعرف إال بالقياس الفقهي باستنباط الفقيه لها.
وأما ما نطق به الشرع ،فهو إما أن يكون ظاهره موافقا لنتيجة البرهان،
وهذا ال قول فيه ،وإما أن يكون مخالفا لنتيجة البرهان ،وهذا يستلزم التأويل.
وهكذا ،وبعد أن أوردنا رأي ابن رشد من كتابه فصل المقال ،في سبب
قبوله بأمثلة األجرام السماوية عند الفالسفة القدماء ،فإن ابن رشد يرى()131أيضا
أنه يجب علينا أن نعلم أن طريق أمثلة األجرام السماوية هو من طرق القياس
189 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
العقلي البرهاني ،الذي ال يصلح مع الجمهور؛ ألن الكالم معهم فيه بمنزلة من
يسقيهم السم()132؛ مما يعني أن القياس العقلي البرهاني بمنزلة السم للجمهور،
لكنه ليس سما في حق العلماء الراسخين ،أهل النظر بالمقاييس البرهانية؛ألن
السموم من األمور المضافة ،فبعض الحيوانات تتضرر من السم عند تناولها
له ،وأما البعض اآلخر من الحيوانات ،فيكون هذا السم بالنسبة لها غذاء مفيدا
لبدنها ،وهذا يكون مع اإلنسان أيضا؛ إذ يوجد من اآلراء ما يكون سما م ا
ضر
لعقول بعض الناس ،وغذاء نافعا لعقول البعض اآلخر ،فاآلراء ليست مالئمة
لكل الناس ،كما األغذية ليست مالئمة لكل الناس.
ضر
مضر لكل الناس ،فهو كمن جعل الغذاء سما م ا ا أما من يجعل النظر
ألبدان كل الناس ،مع أن الحقيقة أن النظر هو سم لبعض الناس ،وغذاء
للبعض اآلخر من الناس ،ومن يسقي الناس سما وهو في حقهم سم وليس
غذاء؛ فهذا يستحق القود ،ومن حرمهم السم وهو في حقهم غذاء حتى ماتوا؛
فهذا أيضا يستحق القود.
لذلك البد للطبيب من بذل قصارى جهده لصنع الدواء لشفاء من سقي
السم وهو في حقه سم ،بعد أن اعتدى عليه الشرير الجاهل الذي سقاه السم
على أنه غذاء في حقه.
وهذا هو ما دعا ابن رشد إلى تأليف كتابه «تهافت التهافت»؛ إذ يقول
فيه« :ولذلك استجزنا نحن التكلم في هذه المسألة في مثل هذا الكتاب ،وإال فما
كنا نرى أن ذلك يجوز لنا ،بل هو من أكبر المعاصي ،أو من أكبر الفساد في
األرض ،وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة»(.)133
لهذا فابن رشد يرى أنه مضطر للكالم في هذه المسائل؛ ألنه يجوز له
الكالم فيها ،خالفا لغيره ممن ال يجوز له الكالم والخوض فيها.
أما من كانت فطرته معدة لقبول علوم األوائل البرهانية ،وكان من أهل
الثبات ،وأهل الفراغ ،فإنه يجب عليه النظر في كتبهم وعلومهم ،حتى يميز
الحق من ضده عندهم ،وأما من نقص عنده أحد الثالثة ،فالواجب عليه أال
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 190
يخوض في علوم األوائل البرهانية ،بل يفزع إلى ظاهر الشرع ،دون النظر
وإعمال العقل في علوم الفالسفة األوائل المحدثة في اإلسالم؛ إذ أهل هذه العلوم
القديمة ليسوا من أهل اليقين والشرع(.)134
لذلك كان تشنيع الغزالي على الفالسفة ال عبرة له ،وال يلتفت إليه عند
أهل القياس العقلي البرهاني ،خالفا للجمهور وعامة الناس الذين يتضررون من
سماع هذه األقوال المحرمة عليهم()135؛ إذ ذهب الفالسفة القدماء ،في قياسهم
العقلي البرهاني في الموجودات ،إلى أن مبادئ األجرام السماوية عبارة عن
موجودات مفارقة للمواد ،وليست أجساما ،وهي تحرك األجرام السماوية التي
بدورها تتحرك تجاه المبادئ طاعة ومحبة وامتثاال ألوامرها ،مما يلزم أن هذه
األجسام السماوية عاقلة لذاتها؛ ألنها حية ناطقة ،وحركتها دائمة من غير أن
يمسها كالل وال تعب؛ ألنها استفادت البقاء والحركة الدائمة من المبادئ
المفارقة التي ارتبط وجودها بالمبدأ األول ،الذي أمر بحركة جميع األفالك
على الدواملما أمر جميع المبادئ بأن تأمر جميع األفالك بالحركة ،فمن غير
ذلك لن يكون هاهنا نظام موجود.
وبهذه األوامر قامت السموات واألرض ،كما في قوله تعالى{ :وأوحي في
كل سماء أمرها}( ،)136وفي قوله تعالى{ :وما منا إال له مقام معلوم}()137؛
لكونها مرتبطة بعضها ببعض ،فهي معلولة عن المبدأ األول(.)138
كذلك نستفيد من قوله تعالى{ :وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات
واألرض وليكون من الموقنين}( ،)139أن اطالع الفالسفة القدماء على األجرام
السماوية ،وما تضمنته من أفعال خاصة هو كاطالع إبراهيم على ملكوت
السموات واألرض(.)140
يقول ابن رشد(« :)141فلما تأمل القدماء الموجودات و أروا أنها كلها تؤم
غاية واحدة ،وهو النظام الموجود في العالم ،كالنظام الموجود في العسكر من
قبل قائد العسكر ،والنظام الموجود في المدن من قبل مدبري المدن؛ اعتقدوا أن
العالم يجب أن يكون بهذه الصفة .وهذا هو معنى قوله سبحانه :لو كان فيهما
191 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
خالفا البن رشد الذي يرى أن القياس العقلي البرهاني يستطيع االستدالل
عليها ،كما ذكرنا.
هذا وأرى أنه مما يمكن أن يستدل به على إمكان حدوث أمثلة األجرام
السماوية على سبيل المثال ال الحصر؛ هو تسبيح الموجودات كلها هلل تعالى،
كما في قوله تعالى( :تسبح له ٱلسموت ٱلسبع وٱألرض ومن فيهن ۚ وإن من
شىء إال يسبح بحمدهۦ ولكن ال تفقهون تسبيحهم ۚ)(.)148
يقول البغوي في تفسيره« :وقال إبراهيم النخعي :وإن من شيء جماد إال
يسبح بحمده ،حتى صرير الباب ونقيض السقف ،وقال مجاهد :كل األشياء
تسبح هلل حيا كان أو ميتا أو جمادا؛ وتسبيحها سبحان هللا وبحمده ...وقال
بعض أهل المعاني :تسبيح السماوات واألرض والجمادات»(.)149
وكذلك تسليم الحجر على النبي صلى هللا عليه وسلم ،إذ يقول« :إني
حجر بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ،إني ألعرفه اآلن»(.)150
ا ألعرف
وقوله صلى هللا عليه وسلم عن جبل أحد« :وهذا أحد ،وهو جبل يحبنا
ونحبه»(.)151
تعقيب الباحث:
وهكذا ،وبعد أن بينا موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم ،فإني أرى أن
نتفهم اجتهاد ابن رشد وما ذهب إليه في المسألة ،وأن كتاب «تهافت الفالسفة»
للغزالي ال يكتمل إال مع كتاب «تهافت التهافت» البن رشد ،والعكس صحيح.
كذلك يجب علينا أن نقبل بهما معا؛ ألنهما يكمالن بعضهما بعضا ،مع
وجود االختالفات واالجتهادات بينهما ،مع إحساننا الظن بهما -رحمهما هللا
تعالى.
كما أني ال أتفق مع بعض اجتهادات ابن رشد فيما ذهب إليه ،السيما
قوله أن الشرع دعانا إلى وجوب النظر واالطالع على كتب الفالسفة القدماء،
ودعوته الجمهور إلى أن يفزعوا إلى ظاهر الشرع عند عدم مناسبة المقاييس
العقلية البرهانية لهم؛ ألن الواجب على المسلم التمسك بظواهر النصوص،
193 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
رسوله ،وأن المقصود بالموعظة الحسنة :هو اللين واللطف في الدعوة إلى
هللا ،مع الترغيب والترهيب بعبر جميلة ،وأن المقصود بجادلهم بالتي هي
أحسن :مخاصمتهم ومناظرتهم على أحسن وجه ،مع العفو عنهم ،واإلعراض
عن أذاهم ،مع دعوتهم إلى الحق بأحسن خطاب ،السيما من احتاج منهم
للجدال والمناظرة من غير هوى أو عناد.
ومع ذلك ،فإن ابن رشد قد اجتهد ،ويؤجر -إن شاء هللا -على
اجتهاده؛ لحسن نيته ،وطيب مقصده -رحمه هللا تعالى -فهو من أعظم
أساطين العلم الذين يمثلون حضارتنا اإلسالمية على أكمل وجه ،والحمد هلل رب
العالمين.
الخاتمة
وفي ختام دراستي حول موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم ،أرجو من
هللا تعالى أن أكون قد وفقت في هذا البحث ،وإن كان الجهد اإلنساني ال يخلو
من التقصير.
هذا وقد توصلت إلى أهم النتائج والتوصيات ،وهي كالتالي:
أن مسألة قدم العالم وحدوثه من المسائل التي خاض فيها الناس قديما، -1
ومن قال منهم بقدم العالم كان ذلك بسبب بعدهم عن مسالك األنبياء والمرسلين
-عليهم الصالة والسالم.
أن معظم فالسفة اليونان قد استقر رأيهم على القول بقدم العالم. -2
أسهب ابن رشد في بيان مسألة قدم العالم وحدوثه في كتابه «تهافت -3
التهافت» ،وكذلك في «فصل المقال» و«مناهج األدلة».
أن سبب االختالف في مسألة قدم العالم وحدوثه يرجع الختالف -4
الغزالي واألشاعرة مع الفالسفة القدماء في التسمية ،وليس مع الفارابي وابن
سينا ،ال سيما أنهم اتفقوا على تسمية الطرفين ،واختلفوا في تسمية الواسطة
بينهما ،وهذا مما يؤدي إلى معرفة حقيقة اعتقاد ابن رشد في مسألة قدم العالم.
195 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
يرى ابن رشد أن الفارابي وابن سينا قد خالفا الدين اإلسالمي ،وتناقضا -5
مع فلسفة أرسطاطاليس ولم يفهماها.
يرى ابن رشد أن الواجب أن يكون الخالف في مسألة قدم العالم بين -6
األشاعرة القائلين بحدوث العالم وأرسطاطاليس وأتباعه القائلين بقدم العالم،
وليس بين األشاعرة والفارابي وابن سينا المتأثرين بغثاء األفالطونية.
حاول ابن رشد في تهافت التهافت أن يوفق بين األشاعرة -7
وأرسطاطاليس بالتقريب بين آرائهما ،وذلك بتحوير رأي أرسطاطاليس بشكل
عميق حتى يتوافق مع الدين اإلسالمي ،مع بيانه أن الخالف بينهما خالف
لفظي وليس حقيقيا؛ بسبب االختالف في التسمية.
اجتهد ابن رشد في محاولة تقريب اآلراء بين األشاعرة وأرسطاطاليس -8
في مسألة العالم ،إال أن ابن رشد يقرب بينهما على حساب رأي أرسطو القائل
بقدم العالم ،وليس على حساب رأي األشاعرة القائلين بحدوث العالم.
اقتصر ابن رشد في ردوده على األشاعرة والغزالي؛ ألنه يرى أن األذية -9
أصابت الحكمة والشريعة من قبل متكلمي األشاعرة ،ال سيما الغزالي في كتابه
«تهافت الفالسفة».
-10استفاد ابن رشد من مؤلفات الغزالي وتأثر بها.
-11يرى ابن رشد أن مسألة قدم العالم من المسائل العويصة واالجتهادية
المختلف في تأويلها ،وأن المصيب فيها مأجور ،والمخطئ فيها معذور.
-12احتج ابن رشد على أن الغزالي يقول بعدم تكفير من يخرق اإلجماع،
لكنه مع ذلك قطع بتكفير الفارابي وابن سينا.
غرض ابن رشد من تأليف كتاب «تهافت التهافت» هو بيان مراتب -13
األقاويل المثبتة في «تهافت الفالسفة» ألبي حامد في التصديق واإلقناع ،وأن
أكثرها قاصر عن رتبة اليقين والبرهان.
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 196
المشكك ،المظهر لتناقضهم ،وعوار مذهبهم ،وقد عاب ابن رشد على الغزالي
مقصده هذا.
-21اقتصر الغزالي في الرد على الفارابي وابن سينا ألنهما ،حسب ظنه،
أقوم بالنقل والتحقيق من باقي الفالسفة ،وإن كنا نرى أنهما ليسا بعيدين عن
تخبط باقي الفالسفة ،كما بينا.
-22يرى ابن رشد أنه لم يقل أحد في العلوم اإللهية بقول يعتد به إال من
عصمه هللا بأمر إلهي -أي الوحي -وأن علم الوحي رحمة للعقول ،وأنه مفيد
ومتم لعلوم العقل عند عجز العقل.
-23أدى االختالف في التسمية إلى قول ابن رشد بأن الوجود اآلخر يشبه
من جانب الوجود الكائن الحقيقي ،ومن جانب آخر يشبه الوجود القديم ،وأن
من ترجح لديه ما في الوجود اآلخر من شبه القديم على ما فيه من شبه
المحدث يسميه قديما ،ومن ترجح لديه ما في الوجود اآلخر من شبه المحدث
على ما فيه من شبه القديم يسميه حديثا.
-24لم يجزم ابن رشد بأن العالم محدث حقيقي أو قديم حقيقي ،بل يرى أنه
ليس محدثا حقيقيا وال قديما حقيقيا؛ ألن من مسلمات المحدث الحقيقي أنه
فاسد ،وأن القديم الحقيقي ال علة له.
-25يرى ابن رشد أنه ال يجب أن يكفر أحد من المذاهب المختلفة في
مسألة قدم العالم وحدوثه؛ ألن آراء المذاهب فيها ليست متقابلة ،بل متقاربة،
وليست متباعدة ،وأن التكفير يكون في المسائل المتقابلة التي بلغت غاية
التباعد ،ومسألة قدم العالم وحدوثه ليست متباعدة.
-26يرى ابن رشد أن مسألة قدم العالم وحدوثه ليست من العقليات ،وأن
الواجب الرجوع فيها إلى السماع.
-27قول ابن رشد أن العالم ليس قديما حقيقيا وال محدثا حقيقيا قريب من
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 198
رأي جالينوس.
-28يرى ابن رشد عدم جواز تأويل بعض آيات خلق السموات واألرض
للجمهور ،وأال يتم إنزالها على خالف هذا التمثيل ،بل يجب التمسك بتصور
الشرع ،وأن حدوث العالم الذي سماه بالخلق والفطور مختلف عن الحدوث الذي
في الشاهد.
-29يرى ابن رشد أن الحكم على العالم ،بأنه محدث أو قديم ،بدعة ال
أصل لها في الشرع؛ إذ توقع الجمهور بالشبه العظيمة والتلبيسات والشكوك،
حتى تفسد عقائدهم جميعا.
قول ابن رشد بالتوقف في الحدوث والقدم ال يعني أنه ال يقول :إن -30
العالم مخلوق ومصنوع من هللا تعالى.
-31خالف ابن رشد مع الغزالي حول كون العالم حادثا أم قديما ،وليس
حول كون العالم مخلوقا مصنوعا هلل تعالى.
-32يرى ابن رشد أن العالم مخلوق مصنوع من هللا تعالى ،فهو موجده
وصانعه ومخترعه.
-33يرى ابن رشد أن طريقة األشاعرة في إثبات حدوث العالم ليست من
طرق العلماء اليقينية ،وال من طرق العامة البسيطة ،بل استخدموا الطرق
الجدلية؛ مما أدى بهم إلى االنحراف عن الشرع الذي ال يستعمل هذه المقاييس.
-34يرى ابن رشد أن من يتأمل اآليات الكريمة التي تضمنت معنى أن
العالم مصنوع هلل تبارك وتعالى ،فسيجد طريق العناية اإللهية الذي يعتبر أحد
طرق إثبات وجود الخالق تعالى؛ ألن إثبات حدوث العالم وأنه مصنوع هلل تعالى
يؤدي إلى إثبات وجود الخالق تعالى عن طريق العناية اإللهية.
إثبات بطالن اتهام ابن رشد بالقول بنظرية الفيض اإللهي؛ ألن حقيقة -35
موقف ابن رشد هو أنه انتقدها ورفضها ،وأبطلها في كتبه ،عن طريق إثبات أن
199 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
العالم مخلوق ،مصنوع من هللا تعالى ،وإثباته لوجود الخالق تعالى ،فضال عن
انتقاده لها في كتابه «تهافت التهافت» ،والحكم عليها بأنها خرافات وسخافات
وهذيانات وأكاذيب ال يعرفها الفالسفة القدماء ،السيما أرسطو المناقض لها.
كما أن ابن رشد يوافق أرسطو في مناقضته لها؛ ألنه يعتبر نفسه تلميذا
مخلصا له ،فضال عما سبق.
إن القول بالفيض اإللهي يقتضي القول بقدم العالم ،الستحالة صدور -36
الحادث عن القديم عند القائلين بنظرية الفيض اإللهي ،وهذا يصدق على
الفارابي وابن سينا ،العتقادهما بالفيض اإللهي ،مما يؤكد قولهما بقدم العالم،
وأن حكم الغ ازلي عليهما في محله ،وفضال عن ذلك فإن البن سينا رأيا
متناقضا يخالف ما ذهب إليه في الفيض اإللهي ،وهو قوله بأن العالم قديم له
علة وموجد أوجده ،وهذا يقتضي أن العالم محدث ،حتى لو قال ابن سينا
بقدمه ،كما قد يكون سبب قول ابن سينا بهذا الرأي المتناقض تقية أو للتسويق
لفلسفته.
-37يجب أن نفرق بين ابن رشد في مؤلفاته األصلية ،وابن رشد في
شروحه ومختصراته الفلسفية ،فرأي ومعتقد ابن رشد يكون في مؤلفاته األصلية،
وليس في شروحه ومختصراته الفلسفية.
-38إثبات بطالن اتهام ابن رشد بالزندقة واإللحاد ،السيما عند بعض
األوروبيين من أعداء الرشدية الالتينية الذين فقدوا صوابهم بسبب عظم شروح
ابن رشد وفلسفته ،وعند تبني بعض المدارس الالتينية لفلسفة ابن رشد وشروحه
ومختصراته على فلسفة أرسطو التي عرفتهم بأرسطو الحقيقي ،وذيوع ذلك في
أوروبا.
-39يرى ابن رشد أن على الباحث عن الحقيقة أن يؤثر الحق على ما
سواه ،وذلك بأال يحكم بالبطالن على األقوال الشنيعة الخالية من مقدمات تزيل
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 200
عنها الشنعة ،بل الواجب عليه أن ينظر من الزاوية والجهة التي نظر منها من
يدعي القول ،ووقف عليها ،وأن يستخدم في فهم وتعلم ذلك ما يحتاجه من
الوقت؛ ليتمكن من إثبات مقتضى األمر الذي فهمه وتعلمه ،وأن الواجب على
الحكماء انتهاج طريق العدل؛ بأن يلتمسوا الحجج لخصومهم مثلما يلتمسونها
ألنفسهم.
-40يرى ابن رشد وجوب أن تكون معاندة الخصم معاندة تامة عند الباحث
عن الحقيقة ،أي بأن يتم إبطال مذهب المخالف بحسب األمر في نفسه ،ال
بالمعاندة غير التامة التي تكون بإيراد اإلشكاالت والتشكيكات التي تبطل
المذهب بحسب قول القائل به.
-41أن الجهل بمنهج ابن رشد مع خصومه هو الذي أدى إلى التباس على
كثير من مؤرخي الفلسفة؛ بأن حكموا على ابن رشد بأنه يقول بقدم العالم
وبالفيض اإللهي ،السيما من اطلع على كتابه «تهافت التهافت» مع جهله
بمنهج ابن رشد وعدالته وموضوعيته.
-42هناك فرق بين ابن رشد وباقي الفالسفة ،فابن رشد فيلسوف مؤمن،
خالفا للفارابي وابن سينا.
-43يجب تفهم واحترام ما ذهب إليه ابن رشد في نقده وآرائه في مسألة قدم
العالم ،وكذلك تفهم واحترام ما ذهب إليه الغزالي في نقده وآرائه في مسألة قدم
العالم ،وإحسان الظن بهما -رحمهما هللا تعالى.
-44يعتبر ابن رشد أعظم فيلسوف في الحضارة العربية اإلسالمية ،وهو
خير من يمثل الحضارة العربية واإلسالمية في فهم علوم األوائل من الحكماء
والفالسفة ،وليس كما يحاول البعض أن يسلخه من الحضارة العربية
واإلسالمية ،ويلحقه بركب المعادين لإلسالم ،متجاهلين آثاره ومؤلفاته العظيمة
في علوم اإلسالم والحكمة والفلسفة.
201 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
-45يرى ابن رشد أن أمثلة األجرام السماوية عبارة عن أدلة برهانية على
الموجودات عند الفالسفة القدماء.
-46يرى ابن رشد أن الفالسفة القدماء قد حاولوا االستدالل والبرهنة بعد
النظر في الموجودات من جهة داللتها على الصانع ،وأن الشرع قد أمرنا بذلك
وأوجبه علينا.
-47يرى ابن رشد أن الشرع قد دعا إلى وجوب اعتبار الموجودات بالعقل
الذي تتحقق معرفتنا بها من خالله ،كما في قوله تعالى{ :فاعتبروا يا أولي
األبصار} [الحشر.]2 :
-48يرى ابن رشد أن الشرع حث الناس على النظر في الموجودات كلها
بالقياس العقلي ،كما في قوله تعالى{ :أو لم ينظروا في ملكوت السموات
واألرض وما خلق هللا من شيء [ }...األعراف ،]185 :وغيرها من اآليات.
-49يرى ابن رشد أن القياس العقلي هو استخراج المجهول من المعلوم من
خالل النظر في الموجودات بعقولنا.
-50يعتبر ابن رشد أن القياس العقلي أكمل أنواع النظر بأكمل أنواع
القياس ،وهذا هو ما يسمى بالبرهان أو القياس البرهاني الذي حث عليه الشرع
لمعرفة هللا تعالى ،ومعرفة جميع الموجودات.
-51يرى ابن رشد أن القياس العقلي البرهاني ال يتحقق مع الجهل بأنواع
البراهين وشروطها.
-52يرى ابن رشد ضرورة تمييز القياس العقلي البرهاني عن باقي األقيسة
الجدلية والخطابية والمغالطية.
-53يرى ابن رشد أن عدم وجود النظر في القياس العقلي البرهاني في
الصدر األول ال يعني أنه عمل بدعي؛ ألن النظر في القياس الفقهي وأنواعه
هو أيضا لم يستنبط إال بعد الصدر األول ،ولم يكن عمال بدعيا.
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 202
-54يرى ابن رشد أن أكثر أهل اإلسالم على إثبات القياس العقلي البرهاني
إال الحشوية الذين حجبوا بالنصوص ،وهم قلة.
-55يرى ابن رشد أنه قد تقرر في الشرع وجوب النظر في القياس العقلي
البرهاني ،كما في القياس الفقهي ،مع أن الذين سبقونا لم يفحصوا القياس
العقلي.
-56يرى ابن رشد وجوب الفحص عن القياس العقلي البرهاني مع االستعانة
بالمتقدمين علينا من الفالسفة القدماء ،حتى لو كانوا من غير أهل ملتنا ،حتى
نحوز كمال المعرفة والعلم بتضافر الجهود في ذلك؛ ألن الواحد من الناس
يتعسر عليه استنباط كل ما هو بحاجة إليه.
-57يرى ابن رشد جواز استخدام فحص الفالسفة القدماء في معرفة القياس
العقلي البرهاني حتى مع عدم مشاركتهم لنا في الملة.
-58يرى ابن رشد أنه ما دام الفالسفة القدماء قد فحصوا الفحص التام
والوافي ،فإن الواجب علينا أن نطلع على كتبهم وعلى نظرهم في الموجودات،
ونقيم ما ذهبوا إليه ،فإن كان صوابا وموافقا للحق؛ قبلناه وسررنا به ،وشكرناهم
عليه ،وإن كان غير صواب ومخالفا للحق ،فإننا ال نقبله ،بل ننبه عليه ونحذر
منه ،ونلتمس لهم العذر فيما خالفونا به.
-59يرى ابن رشد بوجوب حيازة الملكة البرهانية أو اآلالت التي تمكننا من
اعتبار داللة صنعة هللا تعالى في الموجودات؛ ألن معرفة الصنعة تؤدي إلى
معرفة المصنوع ،ومعرفة المصنوع تؤدي إلى معرفة الصانع.
-60يرى ابن رشد بوجوب البدء بفحص الموجودات حسب استفادتنا من
صناعة المعرفة بالمقاييس العقلية البرهانية.
-61يرى ابن رشد بوجوب تداول فحص الموجودات واحدا تلو اآلخر ،من
قبل العديد من النظار ،مع االستعانة بالمتقدمين ممن سبقونا؛ حتى يكمل
203 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
النظر ،ألن الواحد ال يستطيع الوقوف على جميع ما استنبطه النظار من
حجج ،ولو أراد أن يقف الواحد بنفسه على جميع ذلك لصار أهال للسخرية؛
المتناع ذلك عليه ،السيما الحكمة التي تعتبر صناعة الصنائع ،والتي يستحيل
أن ينشئها واحد بنفسه.
-62يرى ابن رشد أن مقصد الفالسفة القدماء في كتبهم مقصد حسن؛ ألنهم
نظروا في معرفة المقاييس العقلية البرهانية للوصول إلى الحق.
-63يرى ابن رشد أن حكم النظر في كتب الفالسفة القدماء هو مما أوجبه
الشرع على أهل النظر المتصفين بذكاء الفطرة ،والعدالة الشرعية ،والفضيلة
العلمية والخلقية.
-64يرى ابن رشد أن نهي المتصفين بذكاء الفطرة ،والعدالة الشرعية،
والفضيلة العلمية والخلقية ،عن النظر في كتب الفالسفة القدماء مخالف لما
أوجبه الشرع عليهم ،بل وجهل ما بعده جهل؛ ألن النظر هو الباب الذي من
خالله دعا الشرع الناس إلى معرفة هللا تعالى ،وأن حق المعرفة هلل تعالى ال
يكون إال بالنظر المؤدي إليها.
-65يرى ابن رشد أن صد الناس عن القياس العقلي البرهاني هو إبعاد لهم
عن هللا تعالى ،وحرمان لهم من السعادة التي دعتنا إليها ونبهتنا عليها شريعتنا
اإللهية الحقة.
-66يرى ابن رشد أن السعادة ال تكون إال في معرفة هللا تعالى ومعرفة
مخلوقاته؛ إذ تحصل عند كل مسلم حسب طريق التصديق الذي تقتضيه جبلته
وطبعه ،فمنهم من يتحقق لديه التصديق بالبرهان ،ومنهم باألقاويل الجدلية،
ومنهم باألقاويل الخطابية ،وتصديق هؤالء جميعا كتصديق صاحب البرهان،
وهذا هو ما دعتنا إليه شريعتنا اإللهية الحقة في قوله تعالى{ :ادع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل،]125 :
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 204
وهي طرق التصديق الثالثة التي تناسب جميع البشر في الدعوة إلى هللا ،إال
أهل األهواء والشهوات أو من غفل عن نفسه هذه الطرق.
-67يرى ابن رشد أن ما نطق به الشرع وكان مخالفا لنتيجة البرهان ،فهذا
يستلزم التأويل.
-68يرى ابن رشد أن أمثلة األجرام السماوية هي من طرق القياس العقلي
البرهاني الذي ال يصلح مع الجمهور؛ ألن الكالم معهم فيه بمنزلة من يسقيهم
السم.
-69يرى ابن رشد أن النظر البرهاني سم لبعض الناس ،وغذاء للبعض
اآلخر من الناس ،وهذا دليل على اقتناع ابن رشد بخطورة هذه البراهين على
الذين ليسوا من أهلها ،كما أنها دليل على حسن نية ومقصد ابن رشد -رحمه
هللا.
-70يرى ابن رشد أنه مضطر للكالم في هذه المسائل؛ ألنه يجوز له الكالم
فيها؛ ألن فطرته معدة لقبول علوم األوائل البرهانية ،فضال عن كونه من أهل
الثبات وأهل الفراغ؛ مما يوجب عليه النظر في كتبهم حتى يميز الحق من
الباطل.
-71يرى ابن رشد أن الذي ال يجوز له النظر عليه أن يفزع إلى ظاهر
الشرع ،دون النظر وإعمال العقل في علوم الفالسفة األوائل المحدثة في
اإلسالم.
-72يرى ابن رشد أن أهل العلوم القديمة ليسوا من أهل اليقين والشرع.
-73يرى ابن رشد أن مبادئ األجرام السماوية عبارة عن موجودات مفارقة
للمواد ،وليست أجساما ،وهي تحرك األجرام السماوية التي بدورها تتحرك تجاه
المبادئ طاعة ومحبة وامتثاال ألوامرها.
-74يرى ابن رشد أن هذه األجرام السماوية عاقلة لذاتها؛ ألنها حية ناطقة،
205 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
يكفي في الثناء عليهم ومدحهم حتى لو كان جميع ما ذهبوا إليه خاطئا.
-81يرى ابن رشد أن الفالسفة يرون أن أقاويل المقاييس العقلية البرهانية
هي المعنى المعبر عنه في الشرع بالخلق واالختراع والتكليف.
يتأول ابن رشد للفالسفة ويقول :إن ما ذهب إليه في كالمه عنهم هو -82
أقرب تعليم يمكن أن نفهم به مذهب هؤالء القوم ،من غير أن يلحق ذلك الشنعة
التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد.
-83يرى ابن رشد أن من ينظر في كتب الفالسفة القدماء فسيقف على
صحة ما يزعمون أو ضده ،وأن هذا هو مقتضى مذهب أرسطو ومذهب
أفالطون.
-84يرى ابن رشد أن ما توصل إليه أرسطو وأفالطون يعتبر منتهى ما
وقفت عليه العقول اإلنسانية ،وأجزم أن ابن رشد يقصد بعبارة منتهى ما وقفت
عليه العقول اإلنسانية ،أي من غير األنبياء والمرسلين -عليهم الصالة
والسالم -وهذا يدل على انبهار وإعجاب ابن رشد الالمحدود بأرسطو والقدماء.
-85يرى الغزالي وابن رشد بإمكان حدوث أمثلة األجرام السماوية إال أن
الغزالي يرى بعجز الفالسفة عن معرفة ذلك بداللة العقول خالفا البن رشد ،وأن
هذه األمثلة في حال صحتها فإنه ال يعلم بها وال يعرفها إال األنبياء عليهم
الصالة والسالم عن طريق الوحي واإللهام من هللا تعالى.
-86أرى أنه بإمكاننا أن نستدل على حدوث أمثلة األجرام السماوية بتسبيح
الجمادات هلل تعالى ،وبتسليم الحجر على النبي صلى هللا عليه وسلم.
كتاب «تهافت الفالسفة» للغزالي ال يكتمل إال مع كتاب «تهافت -87
التهافت» البن رشد ،والعكس صحيح.
-88من المعيب على ابن رشد أنه يحث الجمهور على أن يفزعوا إلى
ظاهر الشرع عند عدم مناسبة المقاييس العقلية البرهانية لهم ،وكأن فطرة
207 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
الجمهور منتكسة.
-89أرى وجوب التمسك بظواهر النصوص وفهمها على فهم السلف
الصالح من الصحابة والتابعين أجمعين؛ ألن مراد هللا تعالى موجود في
ظواهر النصوص ،وال حاجة لنا إلى صرف ظواهر النصوص بالتأويل بدعوى
أن ظاهر النص يخالف المقاييس العقلية البرهانية.
-90الشرع الصحيح والعقل الصريح ال يتعارضان.
الفطرة السليمة مع شريعتنا اإللهية الحقة تغنينا عن أقاويل الفالسفة -91
القدماء.
-92األقيسة العقلية البرهانية عند الفالسفة القدماء تصلح لزمانهم وليس
لزماننا ،بعد أن أكرمنا هللا تعالى بشريعة اإلسالم.
حاول ابن رشد أن يقرب آراء الفالسفة القدماء إلى الشريعة اإللهية -93
الحقة ،لكن ليس على حساب الشريعة اإللهية الحقة ،بل على حساب آراء
الفالسفة القدماء ،وهذا يحمد له مع اختالفنا معه في بعض ما ذهب إليه.
-94تعسف ابن رشد في تقسيم مراتب الناس إلى ثالث طرق في الدعوة إلى
هللا.
-95يحمد البن رشد اجتهاده ـ وإن اختلفنا مع بعض ما ذهب إليه ـ لحسن
نيته ،وطيب مقصده.
الهوامش:
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 208
وقد أورد ابن أبي العز الحنفي قول الحق سبحانه وتعالى عن وجوب التأدب مع
نصوص الوحي ،السيما أسماءه وصفاته سبحانه وتعالى ،إذ يقول هللا تعالى« :من
ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته األدب ،ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته
العطب ،فاختر األدب أو العطب» .ويؤكد ذلك ابن أبي العز الحنفي بقوله« :ويشهد
لهذا :أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة
الذات» .شرح العقيدة الطحاوية ص 313البن أبي العز الحنفي.
( )128ال سيما أنهم ال يقولون بقدم العالم ،وهذا يرجح ما ذهب إليه ابن تيمية من أن
أساطين الفالسفة القدماء قبل أرسطو كانوا يرون بحدوث األفالك ،مع نزاع منتشر في
المادة ،كما ذكرنا في المطلب األول.
( )129قد يكون السبب هو خلو بالد المغرب من المناظرات الفقهية؛ لسيادة المذهب
المالكي فيها .فصل المقال ،هامش ص.27
( )130سورة النحل :آية .125
( )131تهافت التهافت 553-552/2البن رشد.
( )132هذا يثبت خطورة هذه البراهين لمن ليس من أهلها ،كما يثبت حسن نية ومقصد ابن
رشد -رحمه هللا.
( )133تهافت التهافت 553/2البن رشد.
( )134تهافت التهافت 557/2البن رشد.
( )135تهافت التهافت 558/2البن رشد.
( )136سورة فصلت :آية .12
( )137سورة الصافات :آية .164
( )138تهافت التهافت 309-306/1البن رشد.
( )139سورة األنعام :آية .75
تهافت التهافت 119-118/1البن رشد. ()140
تهافت التهافت 294-293/1البن رشد ،سورة األنبياء :آية .22 ()141
تهافت التهافت 113/1البن رشد. ()142
تهافت التهافت 547-546/2البن رشد. ()143
تهافت التهافت 310/1البن رشد. ()144
تهافت التهافت 310/1البن رشد. ()145
بتصرف من تهافت التهافت 311-310/1البن رشد. ()146
215 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
المصادر والمراجع
مجلة كلية اآلداب جامعة القاهرة المجلد ( )81العدد ( )3أبريل 2021 216
-1آراء أهل المدينة الفاضلة ،أبو نصر الفارابي ،مطبعة محمد علي صبيح
بميدان األزهر.
-2ابن رشد والرشدية ،إرنست رينان ،نقله إلى العربية :عادل زعيتر ،طبع
بدار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي وشركاه ،القاهرة،
1957م.
-3أثولوجيا أرسطو ،بتصحيح ومعاينة من الشيخ المعلم في المدرسة الكلية
البرينية :فريدرخ دبتريصي ،الطبعة األولى ،مدينة برلين1883 ،م.
-4اجتماع الجيوش اإلسالمية على غزو المعطلة والجهمية ،لشمس الدين
أبي عبدهللا محمد ابن القيم الجوزية ،تحقيق بشير محمد عيون ،مكتبة دار
البيان ،الطبعة الثالثة ،دمشق1421 ،ه2000-م.
-5أرسطو عند العرب ،دراسة ونصوص غير منشورة ،عبد الرحمن بدوي،
وكالة المطبوعات ،الطبعة الثانية ،الكويت1978 ،م.
-6اإلشارات والتنبيهات ،ألبي علي ابن سينا ،مع شرح نصير الدين
الطوسي ،تحقيق الدكتور سليمان دنيا ،القسم الثالث ،مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر ،الطبعة الثانية1413 ،ه 1993-م.
-7األصول األفالطونية ،فيدون ،ترجمة وتعليق :د .نجيب بلدي ،ود .علي
سامي النشار ،وعباس الشربيني ،منشأة المعارف ،اإلسكندرية ،الطبعة
األولى1961 ،م.
-8أفلوطين عند العرب ،نصوص حققها وقدم لها :عبد الرحمن بدوي ،مكتبة
النهضة المصرية1955 ،م.
-9البدء والتاريخ ،المطهر بن طاهر المقدسي ،مكتبة الثقافة الدينية.
-10بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،ألبي الوليد بن رشد ،تحقيق :محمد
صبحي حسن حالق ،الطبعة األولى ،مكتبة ابن تيمية1415 ،هـ -
1994م.
-11بداية الهداية ،ألبي حامد الغزالي ،تحقيق :د .محمود زينهم ،ومحمد
عزب ،مكتبة مدبولي ،القاهرة ،الطبعة األولى1413 ،هـ 1993-م.
-12البداية والنهاية ،ألبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى1421 ،هـ 2001-م.
-13تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم ،للحافظ شمس الدين محمد بن
أحمد بن عثمان الذهبي ،تحقيق :د .عمر عبد السالم تدمري ،دار الكتاب
217 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم
-26ردود ابن تيمية على القانون الكلي عند فخر الدين الرازي ،د.سلمان
العنزي ،حولية كلية اآلداب ،جامعة عين شمس ،العدد الثالث ،المجلد
،47لعام 2019م.
-27الرسالة الصفدية ،ابن تيمية ،تحقيق :د .محمد رشاد سالم ،الطبعة
الثانية1406 ،هـ.
-28سير أعالم النبالء ،للحافظ الذهبي ،تحقيق :د .بشار عواد معروف ،ود.
محيي هالل السرحان ،الطبعة األولى ،مؤسسة الرسالة ،بيروت1404 ،هـ
1984-م.
-29شذرات الذهب في أخبار من ذهب ،ألبي الفالح عبد الحي بن أحمد بن
محمد بن العماد الحنبلي ،تحقيق :عبد القادر األرناؤوط ،ومحمود
األرناؤوط ،دار ابن كثير1406 ،هـ 1986-م.
-30شرح العقيدة الطحاوية البن أبي العز الحنفي ،حققها وراجعها جماعة من
العلماء ،وخرج أحاديثها محمد ناصر الدين األلباني ،المكتب اإلسالمي،
بيروت ،الطبعة التاسعة 1408هـ1988-م.
-31الشفاء ،البن سينا ،راجعه وقدم له د .إبراهيم مدكور ،تحقيق محمد
يوسف موسى ،سليمان دنيا ،سعيد زايد ،الجمهورية العربية المتحدة ،و ازرة
الثقافة واإلرشاد القومي ،الهيئة العامة لشئون المطابع األميرية ،القاهرة ،
1380ه1960-م.
-32صابئة حران وإخوان الصفا ،محمد عبد الحميد الحمد ،األهالي للطباعة
والنشر والتوزيع ،سوريا ،الطبعة األولى1998 ،م.
-33صحيح مسلم= المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ألبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري
النيسابوري ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،دار إحياء التراث العربي،
بيروت.
-34الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى ،ألبي الوليد محمد بن
رشد الحفيد ،تقديم وتحقيق :جمال الدين العلوي ،دار الغرب اإلسالمي،
بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى1994 ،م.
-35طبقات الشافعية الكبرى ،لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب السبكي،
تحقيق :د .عبد الفتاح الحلو ،ود .محمود الطناحي ،هجر للطباعة والنشر
والتوزيع واإلعالن ،الطبعة الثانية1413 ،هـ 1993-م.
219 د /سلمان نشمي العنزي :موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم