Professional Documents
Culture Documents
الكاشف الصغير
عن
مواقع الغلط في كتب الفيلسوف ابن رشد
وهو ملخص في الرد على ابن رشد وفيه بيان أهدافه وغاياته من الهجوم
على األشاعرة ،وطرقه في نصرة فلسفة أرسطو .ويحتوي أيضا ً على لفت
أنظار الناظرين إلى أساليبه الملتوية في تحقيق ما يريد
كتبه
سعيد فودة
وليس لنا إلى غير هللا تعالى حاجة وال مذهب
بسم هللا الرحمن الرحيم
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على سيدنا حممد أفضل األنبياء واملرسلني:
فهذه تعليقات عاجلة وخمتصرة على بعض ما كتبه ابن رشد احلفيد الفيلسوف ،وخاصة ما أودعه
يف كتبه التالية:
وسوف نوجه جهدنا إىل إبراز بعض املواضع اليت خالف فيها ما هو معلوم من املناهج الشرعية
والقوانني النقلية والعقلية ،ونشري إىل بعض ما وقع فيه من مغالطات يف االستدالل وخاصة يف مناقشته
لألشاعرة ومن يوافقهم من املتكلمني يف املباحث اليت تكلم فيها .
وسنقسم هذه املقالة إىل ثالثة أقسام حبسب الكتب الثالثة املذكورة سابقاً .وكل قسم إىل
مسائل حبسب املسألة اليت سنتكلم عليها ،وسوف منهد لذلك كله بتمهيد نبني فيه باختصار حقيقة
ابن رشد وهدفه الذي يسعى إليه .
)]1[(1هذا الكتاب والكتاب الذي قبله ،سوف نعتمد فيهما على الطبعة اليت أصدرها األستاذ حممد
عمارة ،حتت سلسلة ذخائر العرب رقم ،47دار املعارف1969 ،م .
)]2[(2سوف نعتمد يف هذا الكتاب على طبعة دار اآلفاق اجلديدة ،الطبعة األوىل 1402هـ1982-م.
التمهيد
أبو الوليد ابن رشد فيلسوف معروف ،بل هو من أشهر الفالسفة اإلسالميني ،فال نريد
التحدث هنا عن حياته ،بل نريد إمجال حقيقة أهدافه من فلسفته كما نعتقده حنن .
وحقيقة األمر فإن اهلدف األكرب الذي يسعى إليه ابن رشد هو نشر فلسفة أرسطو
الفيلسوف اليوناين املعروف ونصرهتا ،وإن كلفه األمر حماولة إثبات أهنا ال تعارض ال يف جزئي وال
كلي الشريعة اإلسالمية ،واألساس عنده هو احلكمة أي الفلسفة ال الشريعة ،وليس األساس عنده هو
احلكمة مطلقاً ،بل حكمة أرسطو على التحديد ،فإنه يوجد فالسفة آخرون غري أرسطو سواء كانوا
من اليونان أو من غريهم ،ولكن ابن رشد ال يهتم على اخلصوص إال بأرسطو ،فهو مغرمـ به ،وحمب
فلسفته وناصر هلا ومعتقد مبا فيها .نعم له بعض اإلضافات والتعديالت ولكنها ال تذكر إذا قورنت
مبا وافقه فيه .
ولكن نصرة فلسفة أرسطو أمر ال خيلو من يريد حتقيقه من االحتماالت التالية:
· إما أن يتحقق عنده أن فلسفته توافق متاماً الشريعة اإلسالمية وأقوال علماء
اإلسالم الذين هم أوىل الناس بفهم الشريعة ،وحينذاك فإن هذه احلالة تكون غاية املراد بال
تكلف وال توفيق ،ألنه حاصل أصلي .
· وإما أن يالحظ أن فلسفة أرسطو ختالف الشريعة يف بعض األمور ،وحينذاك،
فال خيلو احلال :إما أن حيكم بغلط الفلسفة وصواب الشريعة ،أو العكس أو يتوقف بينهما .
وميكن أن يلجأ إىل نوع آخر من التوفيق وهو التأويل ،أي حماولة تفسري أحد األمرين على خالف ما
يظهر منه ألول نظرة ،وحينذاك إما أن يقع التأويل على فلسفة أرسطو أو على الشريعة .
واحلكم بغلط الشريعة هكذا بصراحة مل يقع من ابن رشد ،وكذلك احلكم بغلط أرسطو مل
يقع كذلك .
فالباقي من ذلك كله هو التأويل ،والتأويل إما أن يقع على الشريعة أو احلكمة أو عليهما
معاً .
واحلاصل بالفعل من ذلك كله ،هو أن أكثر التأويالت اليت فعلها ابن رشد إمنا هي تأوالت
للشريعة ،وتفسري نصوصها بطريقة ختالف ما فهمه منها علماء الشريعة أنفسهم .
وقد كانت تأوالت الشريعة عند ابن رشد بطريقة حاصلها أن علماء الشريعة مل يفهموا
حقيقة مراد الشريعة ،وما نسبوه إليها من أفهام وأحكام يف هذه املطالب إمنا هي تقوالت عليها،
وكذب وتشويه حلقيقتها .
وأما وصف الشريعة على ما هي عليه يف نفس األمر ،فإنه يدعي يف هذه الكتب أنه هو من
استطاع أن يقدمه ،وأن سائر الناس غريه احنرفوا عنه إما بسبب أو بال سبب .
ووقع من ابن رشد بعض تأوالت لفلسفة أرسطو ولكن من حيث أن ما اشتهر من املعاين
عند بعض شراح أرسطو كابن سينا وغريه من الفالسفة إمنا هو أمر غلط ،ألهنم مل يفهموا حقيقة
مراده يف أقواله ،ويشرع بعد ذلك يف تقدمي توضيحاته وتأويالته هو لكالم ومعاين أرسطو ،ويدعي
أهنا هي احملاكية املخلصة ألرسطو !!
فابن رشد يف احلاصل يضع فلسفة أرسطو مقابلة للشريعة ،ومن نفس جنسها ،أي يف نفس
مرتبتها ،ألن ما يوضع مقابالً ألمر فيجب أن يكون من نفس رتبته -ال أقول من نفس املصدر -
ورده على من شرحها ويعترب أن الشريعة مل يفهمها أكثر من اتبعها ،ولذلك فإنه بالغ يف تأويالته هلاِّ ،
من علماء الشريعة ،وأما فلسفة أرسطو فإنه يعترب نفسه املبلغ األعظم حلقائقها ومعانيها ،وبالتايل فإن
ما يقوله عنها فإنه احلق يف ذاته يف شرحها ،وأما ما يقوله غريه فاألصل أن ال يعرب به إال عن صاحبه
وال ينسب إىل أرسطو .
هذا كان عرضاً جممالً لطريقة ابن رشد يف هذه الكتب ،وفيه تلخيص هلدفه .
وفيما يلي سوف حناول أن نتعقبه يف بعض املسائل اليت تكلم فيها يف هذه الكتب ،ونبني
وجوه الغلط اليت وقع فيها ،وندعو اهلل تعاىل أن ييسر لنا من الوقت والفراغ ما فيه نتمكن من التوسع
يف هذا الباب ألمهيته .
القسم األول
كتاب
الكشف عن مناهج األدلة في عقائد الملة
قال ابن رشد يف ص 45وهي أول صفحة من الكتاب((:ـ إن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول،
وإن الظاهر منها فرض الجمهور ،وأن المؤول هو فرض العلماء )) .
هذا هو األسلوب العام والطريقة الشاملة اليت بىن عليها ابن رشد نقده ملناهج األدلة اليت
اتبعها املتكلمون وعلماء الشريعة يف شرحها ،فالشريعة عنده قسمان ،األول ظاهر وهو فرض
اجلمهور ،والثاين مؤول وهو فرض العلماء .
مث قال (( :وأما الجمهور ففرضهم /فيه حمله على ظاهره وترك تأويله ،وأنه ال يحل للعلماء أن
يفصحوا بتأويله للجمهور ،كما قال علي رضي اهلل عنه :حدثوا الناس بما يفهمون ،أتريدون أن يكذب اهلل
ورسوله )) .
إذن فاجلمهور جيب عليهم األخذ بالظاهر وحيرم عليهم أن يعرفوا املؤول من الشريعة،
ويعتمد ابن رشد يف ذلك على القول الذي أورد عن اإلمام علي كرم اهلل وجهه .
وليس البن رشد دليل يف هذه الكلمة املروية عن اإلمام علي رضي اهلل عنه ،كما سرتى،
فإن هلا مفهوماً آخر عرب عنه املتكلمون باختالف الناس يف فهمهم من حيث التفصيل واإلمجال ،ال
كما قال ابن رشد .
واعلم أن هذا الذي يقوله ابن رشد يف غاية اخلطورة على الشريعة ،وإن كان هو يقول به
ويدعي أنه لنصرة الشريعة ،فإنه ال جيوز أن نقول إن الشريعة تأمرنا أن نقول للعامة مثال إن اهلل تعاىل
جسم أو إن علمه حادث ،أو إن إرادته حادثة ،بينما تأمرنا أن نقول للخاصة عكس ذلك باملرة ،
فإن هذا بعيد عن احلكمة .
وأما كون الناس على مراتب يف الفهم ،فهذا أمر ال يستنكر ،ولكنهم على كل األحوال
مفهوم
ٌ ت
جيب أن يلقى إليهم نفس املفهوم ولكن خيتلف هذا اإللقاء باإلمجال والتفصيل ،أما أن يُثْبَ َ
ما للبعض وينفى عند البعض ،فإن هذا لعمري غريب !!
وأما املتكلمون فإهنم يقولون بالتأويل والتفويض ،كمرتبتني للناس ،ولكنهم ال يقولون إن
الناس بناء على التفويض جيب أن يعتقدوا اجلسمية ،وبناءاً على التأويل جيب أن ينفوها ،بل اجلسمية
تنفى بناءاً على الطريقتني ،ولكن االختالف إمنا يكون من حيث اإلمجال والتفصيل .
ففرق كبري بني طريقة ابن رشد ،وبني طريقتهم ،وطريقة ابن رشد ال يوجد له دليل عليها،
أما طريقة املتكلمني فإهنا املوافقة للكتاب والسنة واللغة ،كما هو بنِّي ٌ بنفسه .
وأما قول ابن رشد يف ص(( :45ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى اهلل عليه وسلم
بحسب الجهد واالستطاعة )) اهـ فإنه غري مسلم ،وغري ظاهر ،فإن مقصده – أي ابن رشد – إمنا هو
ما وضحناه سابقاً ،وهو حتصيل التوافق بني الشريعة وفلسفة أرسطو ولو بتأويل الشريعة على النحو
الباطل الذي قررناه .
أما يف مسألة حدوث العامل ،فإن ابن رشد يتخبط ويغالط مغالطات عديدة ،وذلك كله يف
سبيل الوصول إىل طريقة خيدش فيها ما قاله املتكلمون من أن العامل حادث واهلل تعاىل قدمي ،وسوف
نشري حنن إىل بعض مغالطاته يف ذلك .
أما ما حاوله من نقض القول بأن الفاعل قدمي واملفعول حادث ،وهو األمر الذي يقول به
األشاعرة ،فهو ال قيمة له .
وقوله يف ص 48واصفاً ما قال األشاعرة من حدوث العامل عن حمدث قدمي(( :ومع ذلك
فهي طريقة غير برهانية وال مفضية بيقين إلى وجود الباري ،وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم كما
يقولون أن يكون له وال بد من فاعل محدث )) اهـ ،فهذا الكالم ال يعدو أن يكون تشغيباً عليهم،
رد عليها املتكلمون املتقدمون واملتأخرون
فطريقتهم يقينية ،ومجيع الشكوك اليت أوردها ابن رشد فقد َّ
.
وقد تعلق ابن رشد بالشك املشهور وهو أن احلادث ال بد أن يكون قد حدث بفعل
حادث ،للزوم حدوثه عن إرادة حادثة !! وغاية ما يتعلق به هؤالء أنه ال يتعقل إرادة قدمية ،يرتتب
عليها فعل حادث !!
وهذا كله عبارة عن استبعاد قائم على نظر سطحي وظاهري،ـ وليس مبنياً على أدلة عقلية،
بل على جمرد مبالغات خطابية .
وغاية ما يريده ابن رشد من ذلك هو إثبات حدوث احلادث عن فعل حادث ،وأن هذا
الفعل احلادث مرتتب على فعل قدمي بوسائط ال متناهية ،ويف هناية األمر فهذا الفعل القدمي صادر عن
الواجب الوجود أصالة .
فهذه هي الطريقة الوحيدة اليت يتعقل فيها ابن رشد صدور الفعل احلادث عن فاعل قدمي،
وأن حاصل ما يقوله هو أن الفعل احلادث ال يصدر عن الفاعل القدمي إال بالواسطة ،أي بواسطة
مفعوالت عديدة بعضها حادث بالزمان وبعضها قدمي بالزمان .
ويف أثناء تعلق ابن رشد مبثل هذه األقاويل الضعيفة ،وقع يف مغالطات كما قلنا ،فمنها ما
قاله يف ص ((:49وأيضاً فهذه اإلرادة القديمة يجب أن تتعلق بعد الحادث دهرا ال نهاية له ،إذا كان
الحادث معدوما /دهرا ال نهاية له ،فهي ال تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إال بعد انقضاء دهر
ال نهاية له ،وما ال نهاية له ال ينقضي ،فيجب أن ال يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر ال نهاية له،
وذلك ممتنع )) اهـ .
أقول :هذا القول جمرد مغالطة واضحة ،فإن األشاعرة القائلني باإلرادة القدمية ،ال يقولون
بالدهر القدمي ،فضالً عن قوهلم بكون هذه اإلرادة يف هذا الدهر القدمي ،وإلزام ابن رشد ال يتم إال
بينت
بعد التسليم هباتني املقدمتني ،وهم ال يسلمون هبما ،بل نصوا على انتفائهما يف كتبهم كما ُ
ذلك يف تعليقايت على رد اإلمخيمي على ابن تيمية يف مسألة التسلسل .
فالقائل بالدهر القدمي ال يريد منه إال القدمي بالفرض،ـ أي لكي ميكن تقريب ما يقول
للسامع ،أما يف نفس األمر ،فهو ينفيه.
وهذا الدهر الذي يفرتض ابن رشد وجوده على مذهب األشاعرة ،كيف يوجد يف حال
عدم وجود شيء إال اهلل تعاىل ،والدهر كما يعلم حتى األطفال في العلوم إنما هو عبارة عن
تجريد مشتق من وجود المتغيرات ،وهم قد نفوا كون اهلل تعاىل متغرياً ،فكيف باهلل يلزمهم ابن
رشد مبثل هذا اإللزام الفاسد يف نفسه !!
وابن رشد ال شك أنه يعلم أهنم ينفون هذا الدهر القدمي لشهرة ذلك عنهم ،وأقرب من ذكر
ابن رشد خصماً للغزايل مع أنه وقع يف أثناء
نصب ُ ذلك اإلمام الغزايل يف كتابه التهافت ،وقد َّ
خصومته لتهافتات عديدة ال يقع فيها إال جمسم أو حاقد .
ونفس هذا اإليراد الذي صاح به ابن رشد ،فقد اعتمد عليه ابن تيمية اجملسم الكبري ،بل
شيخ اجملسمة على التحقيق ،وقد أخذه هذا لتعصبه وانعدام بصريته من ابن رشد ،ووجهه على
األشاعرة أيضاً .
وهذا يثبت ما ذكرناه يف أكثر من حمل من أن ابن تيمية إمنا يعتمد على ابن رشد يف رده
على األشاعرة ،وكما وقع ابن رشد يف مغالطات فإن ابن تيمية قد سبح يف حبر منها ،وزاد عليه
أقواالً كثرية قريبة من الكذب على أئمة الدين ،وكلٌّ منهما هدفه خمتلف ،فهدف ابن تيمية هو
ترويج مذهب اجملسمة ،وهدف ابن رشد هو ترويج مذهب أرسطو ،واحلائل الوحيد الذي يقف أما
هذين املذهبني هو مذهب أهل السنة األشاعرة ،فلذلك ترى كال من ابن تيمية وابن رشد قد بذل
عمره يف سبيل نقض مذهبهم ،وأىن هلما ولغريمها أن يستطيعوا ذلك .
ال غري . بل كان كل ما قدموه من أقوال متهافتة دليالً على قوة مذهب األشاعرة،
وأما كالمه على اجلوهر الفرد ،هل هو ثابت أو غري ثابت ،ومدخليته يف إثبات حدوث
العامل ،فقد قال يف ذلك ص (( : 50وجود جوهر فرد غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ،وفي وجوده
أقاويل متضادة شديدة التعاند ،وليس في قوة صناعة الكالم تخليص الحق منها ،وإنما ذلك لصناعة البرهان
)) اهـ .
فنقول :مل يد ِ
َّع أحد من املتكلمني أن وجود جوهر فرد معلوم بنفسه ،ومعىن هذه العبارة أنه
معلوم بالبديهة ،بل إهنم ادعوا أنه معلوم بالربهان ،وأقروا أن االستدالل عليه صعب ،وال يوجد يف
ذلك خالف .
وأما ادعاء ابن رشد أن إثبات اجلوهر الفرد ال تطيقه صناعة الكالم ،فإمنا هذا من اغرتاره
بالفلسفة ،وعدم معرفته لعلم الكالم ،فعلم الكالم مل يقل أحد أنه خمتص فقط باألدلة اخلطابية ،أو
اجلدلية حىت يقال هذا الكالم ،وإمنا َّ
أكــد حمققو املتكلمني أن الكالم يستعمل الرباهني .
واحلاصل أنه يوجد فريقان يصران على أن الكالم ال يستعمل إال األدلة اخلطابية فما دوهنا يف
اإلفادة ،األول الفالسفة مثل ابن رشد ،والثاين اجملسمة مثل ابن تيمية ،وكل منهما له هدف معلوم
من ذلك .
وأما اعرتاضه على املتكلمني يف إثبات اجلوهر الفرد ص 50بعد أن ذكر حجة االنقسام
املشهورة ،وإن ذكرها بأسلوب غري مشهور ،مث قال((:وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية
المنفصلة بالمتصلة ،فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة )) اهـ .
أقول :الصحيح أنه إن أراد بكالمه السابق اللزوم بالفعل ،فقد يصح ،مع ما يرد عليه من
اعرتاضات ،ولكن قد يكون له وجه يصحح النظر فيه ،أما إن أراد اللزوم مطلقاً ،فكالمه باطل ،ألنه
يكفي يف برهان اجلوهر الفرد اللزوم ولو باإلمكان ،وهو مقطوع فيه هنا ،فكالمه جمرد اغرتار
وحتامل .
وأما قوله يف نفس الصفحة((:وعلى هذا تكون األشياء كلها أعداداً ،وال يكون هنالك ِعظَ ٌم
متصل أبدا ،فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها )) اهـ .
أقول :هذا كالم باطل ،فلو ثبت اجلوهر الفرد ،فإن صناعة اهلندسة ال تبطل كما يشري هنا،
وال تصبح هي بعينها صناعة العدد ،وذلك ألنه على فرض ثبوت اجلوهر الفرد ،فإن الكمية املتصلة
اليت يقوم عليها اهلندسة ،تكون من باب اإلضافيات ،وهذا الكو ُن ٍ
كاف يف إقامة علم اهلندسة عليه،
الكم املتصل حقيقياً ،أي له وجود يف اخلارج ،حىت تصح اهلندسة .
وال يلزم أن يكون ّ
وكذلك يقال يف عدم وجود العظم املتصل ،فهذا هو غاية الالزم ،أما انتفاء العظم نفسه،
فكيف يلزم ؟!
وباإلضافة إىل ذلك ،فإن كالمه غري دقيق من حيث التعبري ،فإن الصحيح أن يقول ( :وعلى
هذا تكون األشياء كلها معدودات ) ال أعداداً ،كما قال ،ملا يعلمه املبتدئ يف علوم العقليات أن
العدد هو من املعقوالت الثانية ،وهذا ال يلزم املتكلمني من جمرد إثبات اجلوهر الفرد ،بل يلزمهم كون
كل شيء معدوداً .
نقول :وإن لزم ذلك فأين وجه بطالنه ،بل ميكن أن يقال هنا إن بطالن ذلك غري معلوم
بنفسه ،كما قال سابقاً ،وإثباته ينبين على مقوالت غري مسلمة كإثبات عدم وجود اجلوهر الفرد !!
فهذا كالم يف مقابل كالمه ،وهو متساو معه يف الدرجة ،فكيف يدعي أن ما قاله كاف
إلبطال كالم املتكلمني ،بل الصحيح الظاهر أن كالمه ما هو إال جمرد اهتام ال أساس عليه ،وهتويل ال
يلتفت إليه .
وأيضاً فإن قوله يف ص (( :51ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يُسألوا إذا حدث الجزء
الذي ال يتجزأ ،ما القابل لنفس الحدوث ،فإن من أصولهم أن األعراض ال تفارق الجواهر ،فيضطرهم األمر
أن يضعوا الحدوث من موجود /ما ولِموجود /ما )) اهـ .
واحلقيقة أن هذا السؤال قد يكون معتاصاً عند املغفلني ،ولكنه يضحك منه من حتقق عنده
أدىن علم من مبادئ علم الكالم ،فالحدوث صحيح أنه عرض ،ولكنه من األعراض الثانية ،أي
اليت ال حتقق هلا إال بالنسبة إىل حالتني ،وليس من الكرب مثالً ،أو مثل اللون ،كمثال أوضح ،فاحلدوث
هو أمر يصف به العقل املوجود الذي حيدث بعد أن مل يكن حادثا ،وليس هو أمرا يقوم بأمر ،حىت
يسأل ما القابل له ،ومن وقع فيه من املتكلمني فليس حبجة على غريهم .
ابن رشد ،تظهر لنا مدى جديته يف معرفة احلق ،فإنه ال
ومثل هذه اإلشكاالت اليت يثريها ُ
يتجاوز التشكيك باألمور ،وال يقوم على املعتمد عند املتكلمني من قواعد وأصول ،كما ستالحظ
بوضوح أكثر ،مث إن حاصل تشكيكاته هواء .
وأما قوله يف ص((: 51وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع األعراض محدثة فهي مقدمة/
مشكوك فيها ،وخفاء هذا المعنى فيها لخفائه في الجسم )) اهـ .
يقصد من ذلك أن حدوث اجلسم معرفته خفية ،مبعىن أنه لكي يصدق به جيب أن يتوسل
إليه بأدلة ،فليس بديهياً ،أو رمبا يقصد أن اجلسم ال ميكن أن يتوصل إىل معرفة حدوثه .
فإن قصد المعنى األول ،فنقول :ما أتى به املتكلمون من أدلة فقد بسطوها وسهلوها حىت
صارت قريبة إىل العامة من الناس ،وهذه هي إحدى ميزاهتم ،ورمبا هذا هو ما يدفع مثل ابن رشد
إىل التعدي على األشاعرة ،واالستهانة بأدلتهم ورمبا يتصور أن الصياغة القريبة إىل العامة اليت يراها يف
بعض كتبهم للمبتدئني هي تفصيل دليلهم على ذلك ،فيتجرأ عليهم كما حيصل للكثري من املتسرعني
،ويكون الواجب على من تعرض ملثل هذا أن يتوجه مباشرة إىل الكتب املطولة يف علم الكالم ليجد
حتقيق املرام يف مثل هذه املطالب ،ومن احملال أن تكون املعلومات املذكورة للمبتدئي هي عني
املعلومات املذكورة للمنتهني يف التفصيل واإلمجال .
ب ِ
وإن قصد املعىن الثاين فإنه يكون قد اعرتف بقدم األجسام ،وهو عني القول بأن اهلل موج ٌ
ال خمتار !!
ويتهافت مرة أخرى يف نفس الباب فيقول يف حماولته لتصوير ضعف دليل املتكلمني ص:52
(( وأيضاً فإن الزمان من األعراض ،ويعسر تصور حدوثه ،وذلك أن كل حادث يجب أن يتقدمه /العدم
بالزمان ،فإن تقدم عدم الشيء على الشيء ال يتصور إال من قبل الزمان )) اهـ .
وهذا الكالم باطل وحماولة سخيفة منه للتشكيك يف دليل احلدوث ،ومن قال بأن تقدم العدم
على العامل يكون بالزمان ؟!
أال يعلم ابن رشد أن املتكلمني قالوا بأن هذا التقدم إمنا يسمى تقدماً بالذات ،وليس تقدماً
بالزمان ،ملا يلزم على هذا من التسلسل يف ِ
الق َدم بالنسبة إىل الزمان .
وأما كون الزمان من األعراض ،فإنه من األعراض غري املوجودة بذاته بل من األعراض
النسبية ،اليت تكون من قبيل حكم العقل على الشيء بعد مالحظة التغري فيه ،وهذا النوع من
األعراض ال يشرتط لكي يقال به ،أن حيدث أوالً مث حيدث الذي يقوم هو به ،كما يعتقد ابن رشد
أو كما يوحي به إىل القراء .
وقد سبق أن أشرنا إىل ذلك ،ولذلك صرح األشاعرة بأن الزمان غري موجود بذاته ،وإمنا
يكون نتيجة حكم عقلي للتغري احلاصل للشيء ومقارنة ذلك بغريه من التغريات املوجودة أو
املوهومة ،كما بينوه يف موضعه ،وقالوا بأن الزمان الزم للحوادث ،وليس شرطاً لها ،وفرق كبري
بني العبارتني كما هو ظاهر للنبيه.
وأيضاً فقد هتافت ابن رشد مرة أخرى يف كالمه عن املكان يف نفس الصفحة وبناء على
نفس األساس فقال (( :وأيضاً فإن المكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون بالمكان سابق له
يعسر تصور حدوثه أيضاً )) اهـ .
أقول :ومن قال إن املكان شرط حلصول احلادث ،بل التحقيق الذي صرح به أئمة األشاعرة
من املتكلمني أن املكان الزم من لوازم احلوادث املشاهدة ،وليس شرطاً لوجودها كما يتومهه ويومهه
ابن رشد .فاملكان مبا أنه الزم للحادث ،فهو غري مفارق له ،من حيث الوجود ،وميكن مفارقته له من
حيث التصور ،بأن تتصور املكان بدون حادث ،ولكن العكس مستحيل ،فافهم .
وقد ذكر ابن رشد بعض الشكوك األخرى،ـ مث قال((:وهذه كلها شكوك عويصة )) اهـ .
قلت :كذا يتوهم ابن رشد ،وكذا يريد للقارئ أن يعتقد ،ولكن َمن شذا حنواً من الكالم
ُ
يعرف أن هذا الكالم ليس بكالم .
واحلقيقة أن كالمه كله يف هذا الكتاب عبارة عن هتويالت غري مبنية على حتقيق يليق
بالسمعة اليت اكتسبها ابن رشد عند أهل هذا العصر لغفلة منهم عن غريه وجلهلهم حبقيقة أقوال أهل
السنة من علماء الكالم .فتأمل وال تغرت .
وأما قوله ص (( :53وأما المقدمة الثالثة ،وهي أن ما ال يخلو من الحوادث فهو حادث ،فهي
مشتركة االسم )) اهـ .
يريد بذلك أهنا حمتملة ألن يكون املراد منها ما ال خيلو عن جنس احلوادث ،أو عن حادث
معني ،فإن كان الثاين فهو يسلم حبدوثه ،وأما األول فال يسلم حبدوثه ،بل يقول بوجوب قدمه .
ووجوب قدم هذا النوع عند ابن رشد قائم على القول بقدم العامل الذي يعرتف هو به وال
ينكره ،ومعىن قدم العامل وجوب وجوده ،ولكنه يقول بأن العامل موجود شيئاً بعد شيء ،ومل مير
زمان منذ األزل مل يكن فيه العامل موجوداً ،أو بعض مراحل تكون العامل ،وهذا القول منه مبين على
القول جبواز التسلسل يف ِ
القدم ،بل وجوبه .
وأنت ترى أن هذا هو عني كالم ابن تيمية اجملسم احلراين الذي مأل الدنيا بصراخه القبيح
مبذهبه املتهافت ،وقد انقاد ابن تيمية البن رشد انقياداً تاماً كما نرى ،ولكن كل منهما يبين نفس
األساس إلقامة بناء خمتلف ،فهذا يبين مذهب التجسيم ،وذلك يبين مذهب أرسطو !!
رد علماء الكالم على هذا التهافت ببيان أن التسلسل باطل مجلة وتفصيالً ،وبينوا ذلك
وقد َّ
بعدة أدلة تنتج وجوب انقطاع السلسلة ،وليس هذا موضع بياهنا .
ويف كالم ابن رشد على هذه املقدمة وقع يف مغالطات عديدة نذكر لك بعضها هنا متثيالً .
فتأمل مثالً كيف وضح املثال الذي ضربه املتكلمون على انتفاء التسلسل وهو مثال الدرهم،
فقد قال يف ص (( :54ومثلوا ذلك برجل قال لرجل ال أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير ال
نهاية لها ،فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً )) اهـ .
هذه هي الطريقة اليت وضح هبا ابن رشد مثال املتكلمني .
مث شرع يف نقده قائالً (( :وهذا التمثيل ليس بصحيح ،ألن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية
ووضع ما بينهما غير متناه ،ألن قوله وقع في زمان محدود ،وإعطاءه الدينار يقع أيضاً في زمن محدود،
فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين الزمان الذي تكلم فيه أزمنة ال نهاية لها ،وهي التي
يعطيه فيها دنانير ال نهاية لها ،وذلك مستحيل ،فهذا التمثيل بيِّ ٌن من أمره أنه ال يشبه المسألة الممثل بها ))
اهـ .
كذا قال ابن رشد ،ويف احلقيقة فإن توضيحه للمثال ليس صحيحاً ،وأيضاً فإن طريقة نقده
هلذا التوضيح ليست صحيحة ،وحنن هنا ال نريد التفصيل يف بيان غلطه يف ذلك ،فإن الظاهر من
كالمه هو التكلف ،ولكن ما نريد توضيحه هنا هو املثال الذي ضربه املتكلمون حقيقة من
كالمهم ،ليفهم الفرق بني ما قال وبني ما ذكروه ،فيكون هذا مغنياً عن بيان ناحية الغلط يف كالمه
.
فاإلمام اجلويين يف كتاب اإلرشاد قد ذكر هذا املثال وهاحنن نورد لك نص كالمه ،فقد قال
رمحه اهلل يف ص (( :26وضرب المحصلون مثالين في الوجهين ،فقالوا مثال إثبات حوادث ال
أول لها ،قول القائل لمن يخاطبه :ال أعطيك درهما إال وأعطيك قبله دينارا ،وال أعطيك دينارا
إال وأعطيك قبله درهما ،فال يتصور أن يعطى على حكم شرطه ال دينارا وال درهما…الخ ))
اهـ .
فهذا التوضيح يظهر منه خمالفته للطريقة اليت بينها ابن رشد كما ترى ،واخلالف جوهري،
ألن كالم اجلويين ال يوجد فيه حصر ملا ال هناية له بني حمدودين ،خالفاً لكالم ابن رشد .
واملثال الذي ذكره اجلويين صحيح فإن حاصله ،أن يقول القائل :ال أعطيك درمهاً إال بعد
أن أكون قد أعطيتك ديناراً ،وال أعطي هذا الدينار ،إال بعد أن أكون قد أعطيتك درمها قبله ،وال
أعطيك هذا الدرهم إال بعد أن أكون قد أعطيتك ديناراً ،وهكذا ال إىل بداية !!
فإن حاصل هذا الكالم أنه ال أعطيك ال درمها وال دينارا ،ألن هذه القبلية ال بداية هلا ،بل
إهنا ال تتناهى يف األزل املفروض ،فيكون هذا من قبيل اشرتاط وقوع شروط ال هناية هلا حلصول أمر
من األمور ،ومعلوم أن انقضاء ما ال هناية له باطل متاماً ،فيكون احلاصل عدم حصول أي أمر من
األمور املشروطة بذلك .
وهذا هو ما يعرب عنه العلماء بأن التسلسل يف القدم يلزم عنه فراغ العامل .
ومن هذا الكالم تعلم أن ابن رشد قد ابتعد ونأى عن طريقة املثال ،واستلزم عليها ما ال
يلزمهم ،من التناقض ،وهذا تشويه للكالم ال جيوز صدوره ممن يدعي أنه يبني حقيقة معاين الشريعة
!!
وقد اعرتض اجملسم الغايل يف التعصب ولكن بصورة االجتهاد وعدم التقليد ،وهو ابن أيب
العز املنتسب إىل األحناف خداعاً للمغفلة من الناس ،اعرتض على هذا املثال الذي ذكره اجلويين فقال
كما يف شرحه على العقيدة الطحاوية ص (( :136وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار
على التسلسل في الماضي ،فقالوا إنك لو قلت ال أعطيك درهما إال أعطيك بعده درهما ،كان هذا ممكنا،
ولو قلت ال أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما كان هذا ممتنعا .وهذا التمثيل الموازنة غير صحيحة بل
الموازنة الصحيحة أن تقول ما أعطيتك درهما إال أعطيتك قبله درهما ،فتجعل ماضيا قبل ماض ،كما جعلت
هناك مستقبال بعد مستقبل ،وأما قول القائل ال أعطيك حتى أعطيك قبله ،فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في
المستقبل ،ويكون قبله ،فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ،وهذا ممتنع ،أما نفي الماضي حتى يكون
قبله ماض ،فإن هذا ممكن ،والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل ،والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء ال
يكون قبله ما ال نهاية له ،فإن ما ال نهاية فيما يتناهى ممتنع )) اهـ .
هذا هو كالمه ،وهو يدل على هتافت عقله ،ويرد عليه أمور:
أولها :أن ما نسبه إىل اإلمام اجلويين ليس كما نسبه بل كما ذكرناه لك سابقاً عنه ،فإن
اإلمام اجلويين قال كما مضى (( :ال أعطيك درهما إال وأعطيك قبله ديناراً ،وال أعطيك ديناراً
إال وأعطيك قبله درهماً )) ،فهذا حاصله أين ال أعطيك درمها حىت أكون قد أعطيتك ديناراً ،كما
وضحناه ،وليس كما قاله هذا الشارح .وبناءا على ما قلنا فال يرتتب على كالم اجلويين ومثاله نفي
املستقبل حىت حيصل يف املستقبل ويكون قبله كما ادعى الشارح .
ثانيها :قوله (( :أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض ،فإن هذا ممكن )) اهـ .
أقول :هذا هو حمل النزاع ،فحكمه عليه باإلمكان مصادرة على المطلوب ،فال جيوز ادعاء
اجلواز فيه من غري جتريد دليل أو توضيح مثال لتقريب اجلواز ،ومل يفعل الشارح من ذلك شيئاً .
ثالثاً :قوله (( :أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض )) .
يريد به أما نفي املاضي بشرط أن يكون قبله ماض ،قاصدا جتويز التسلسل ولكن تعبريه عن
ذلك خمتل ،والصواب ما ذكرته .
ولكن يشكل عليه أن حمل االتفاق هو أن اهلل تعاىل فاعل ،والفعل الواحد -اتفاقاً بيننا وبني
اجملسمة -له ابتداء ،معىن أ ّن له ابتداءاً أي أن اهلل تعاىل سابق عليه ،وإمنا اخلالف وقع يف جنس
يتصورن أحد أن اخلالف قد وقع يف جنس الفعل ،مبعىن أن الفعل كان مستحيالً مث َّ املفعوالت ،وال
صار جائزاً كما يومهه ابن تيمية يف كثري من كتبه ،بل اخلالف إمنا هو يف أن جنس املفعوالت هل له
ابتداء أم ليس له ابتداء ؟
فاجملسمة قالوا :ال ابتداء له ،ومل تزل املفعوالت توجد واحداً وقبلها واحد ال إىل بداية وال
إىل االنتهاء إىل أول للمفعوالت،ـ وهم يف هذا املوضع بالتحديد قد خالفوا أهل السنة األشاعرة
واملتكلمني ،وخالفوا الفالسفة أيضاً ،ألن الفالسفة اعرتفوا بأنه يوجد خملوق أول حبيث ال يوجد قبله
خملوق ،وغاية خالفنا معهم إمنا هو يف أن هذا املوجود هل هو قدمي بالزمان أو ال ؟ وهذا مبين يف
التحقيق على أن اهلل تعاىل هل هو فاعل باإلجياب أم ال ؟ ومل يقل الفالسفة بالتسلسل بالطريقة اليت
قال هبا ابن تيمية ،الستحالتها عقالً ونقالً كما بيناه يف موضعه ،فيكون احلاصل أن اجملسمة قد
خالفوا الفريقني يف هذا املوضع .
ويلزمهم بناءاً عليه ما لزم الفالسفة من كون اهلل تعاىل موجباً بالذات ،بل يلزمهم أكثر من
ذلك كما أوضحناه يف التعليق على اإلمخيمي .
رابعاً :أما قوله (( :والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء ال يكون قبله ما ال نهاية له ،فإن ما ال نهاية
فيما يتناهى ممتنع )) ،فهو ال حيتمل إال أحد معنيني:
األول :أن حصر ما ال هناية له بني حمدودين ليس جائزاً ،وعند ذاك يعود إىل اعرتض ابن
رشد ،ولكنا قد بينا أن هذا ال يفهم من كالم اجلويين وال من كالم غريه ،فبطل أصل كالمه .
الثاني :أن أصل اإلعطاء ال بد أن يكون له بداية ،واإلعطاء ال يكون إال مبُعطَى ،واملعطى ال
بد أن يكون له بداية ،وما كان كذلك فال ميكن أن يكون قبله ال هناية له ،لتعارض ذلك مع أول
الكالم .هذا احتمال آخر لكالمه ،وهو قد يبدو أظهر من بعض اجلوانب ،ولكن لو كان هذا ما
قصده ،لعاد على أصل كالمه ومقصدهـ باإلبطال ،وهو إثبات أصل التسلسل يف ِ
الق َدم .
ورمبا كان هذا هو احلاصل ،وال نستغرب حنن هذا التناقض لشيوع ذلك عند اجملسمة
خصوصاً يف مباحث العقليات لعدم متكنهم من فهمها فكيف حيققون احلق فيها .
وما كان قصدنا من إيراد كالم ابن أيب العز احلنفي شارح الطحاوية بل جارحها ،إال
اإلشارة إىل أن هذا الكالم -الذي أصله من كالم ابن تيمية -اعتمد فيه على كالم ابن رشد
الفيلسوف ناصر فلسفة أرسطو .فاحلاصل أن هؤالء قد اجتمعوا على حماولة هدم كالم األشاعرة ال
لبطالنه ،بل ملخالفته ملا يقولون ،ولذلك نراهم يقعون يف هتافتات وتناقضات ال يستسيغها العاقل .
قال ابن رشد يف ص (( :54وأما قولهم إن ما يوجد بعد وجود أشياء ال نهاية لها ال يمكن
وجوده فليس صادقا في جميع الوجوه ،وذلك أن األشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين ،إما على
جهة الدور ،وإما على جهة االستقامة ،فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إال أن
يعرض عليها ما ينهيها… )) ثم قال …(( :وأما التي توجد على االستقامة /مثل كون اإلنسان من اإلنسان،
وذلك اإلنسان من إنسان آخر ،فإن هذا إن كان بالذات ،لم يصح أن يمر إلى غير نهاية ،ألنه إذا لم يوجد
األول من األسباب لم يوجد األخير ،وإن كان بالعرض مثل أن يكون اإلنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير
اإلنسان الذي هو األب وهو المصور له ،ويكون األب إنما منزلته منزلة اآللة من الصانع فليس يمتنع إن وجد
ذلك الفاعل يفعل /فعال ال نهاية له أن يفعل بآالت متبدلة أشخاصا ال نهاية لهم ،وهذا كله ليس يظهر في هذا
الموضع )) اهـ .
هذا الكالم منه حماولة لتربير قول الفالسفة بقدم العامل ،فلجأوا إىل هذا التفريق ،وسنبني
ضعف قوهلم هذا .
فانظر أوالً إىل قوله (( :فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية ))
لتعرف أن مقصده هو تربير القول بقدم العامل ،مث كيف يقول إن الواجب فيها أن تكون غري متناهية،
واملفهومـ من هذا القول هو القول بقدمها أوالً ،مث القول بوجوهبا على اهلل تعاىل ،ومعلوم أن القول
بالواجبات على اهلل تعاىل باطل ،خصوصاً إذا كان ابتداء فعل من األفعال ،فقد يتصور أن خيلق األمر
على سبيل اجلواز ،مث يطرأ أمر واجب على هذا األمر ،بعد ذلك ،ولكن أن يقال :إن أمراً ما جيب أن
يكون غري متناه فإنه يساوي القول بوجوب أن خيلق اهلل تعاىل هذا الفعل ،وهو شنيع جداً ،ورغم
شناعة هذا القول فقد قال به ابن تيمية كما بيناه يف تعليقاتنا على رسالة اإلمخيمي ،وبينا هناك بعض
لوازمه الفاسدة .
وأما قول ابن رشد هنا بأن ما على سبيل الدور فيجب أن يكون غري متناه ،فيفهم منه أصالة
أنه جيب أن يكون قدمياً ،ولكن قد يعدم لطارئ يعرض عليه فيما ال يزال .
ويفهم منه أن كونه على سبيل الدور علة لوجوب عدم تناهيه ،أي قدمه ،وهذا باطل،
فاألمر سواءا كان على سبيل الدور أو على سبيل االستقامة فإنه يكون ممكنا ،ما دام غري اهلل تعاىل،
وإذا سلم ابن رشد أنه ممكن فيستحيل أن يكون واجب الوجود ،ومن مث فيستحيل أن يكون قدمياً .
أما إذا قال ابن رشد بأن هذا األمر واجب أصالة على اهلل تعاىل ،فهذا قول باطل بنفسه،
كما أشرنا إليك وكما هو معلوم من مباحث أصول الدين .
وأما قوله بعد ذلك …(( :وأما التي توجد على االستقامة مثل كون اإلنسان )) فهو قول ال
معىن له ،وال معىن للتفريق بني األمرين ،إال أن يريد بأن األول الدوري مادته واحدة ،وصورته
متغرية ،وأما اآلخر فإن كانت مادته واحدة رجع إىل الدوري،ـ وإال فال فرق بينه وبني الدوري إال يف
حصول املادة والصورة،ـ ولكن كل من املادة والصورة ،أمر مكن ،فال جيوز أن يكون ما هو ممكن
علة يف أمر واجب ،بل إن هذا تناقض ،ولذلك قال ابن رشد يف هناية كالمه (( :فليس يمتنع إن وجد
ذلك الفاعل يفعل /فعال ال نهاية له أن يفعل بآالت متبدلة أشخاصاً ال نهاية لهم )) ،فإن هذا قول منه
بتجويز القول بالتسلسل بالصورة ،ولكن بشرط عدم التسلسل باملادة أيضاً ،أي بالقول بقدم املادة،
ولكن قد أشرنا إىل أنه ال فرق بني املادة والصورة يف ذلك .
وبناءاً على هذا نتبين أن ابن تيمية قد خالف في قوله بالتسلسل النوعي للحوادث
بمعنى أن المادة والصورة كال منهما حادثة ،قول ابن رشد أيضاً ،وال يشابه إال قول بعض
المتقدمين من الفالسفة اليونان .
وقد يُفهم من كالم ابن رشد أن املادة والصورة إن كانتا حادثتني كلتامها ،فيجوز التسلسل
يف القدم فيهما معاً ،وذلك مطابق لقول ابن تيمية ،وهذا هو األظهر يف تفسري كالم ابن رشد كما
كنا ذكرناه يف تعليقاتنا على اإلمخيمي أن ابن رشد يفهم من كالمه القول بذلك أيضاً يف بعض
املواضع .
ولكن احلق من حيث النظر العقلي أنه ال فرق بني التسلسل الدوري والتسلسل الذي على
االستقامة ،فإن كان أحدمها ممتنعاً فاآلخر ممتنع ،ومل يبني ابن رشد علة االمتناع هنا .
فإذا قال قائل :إنه بني ذلك بأن التسلسل على االستقامة يلزم عليه التسلسل يف العلل وهو
باطل .
قلنا :والتسلسل الدوري يلزم عليه التسلسل يف الشروط وهو باطل ،والشرط جزء من العلة
كما هو معلوم .
جهة أخرى،ـ لتحققنا عدم ووجد فرق حقيقي يستحق أنوأيضاً لو نظرنا إىل هذه احلالة من ٍ
يكون علة للفرق يف األحكام املرتتبة على هاتني احلالتني ،نقصد بذلك ما كان على الدور وما كان
على االستقامة .
فاملثال الذي أوضحه ابن رشد للدور ،هو مثال الغيوم واملطر ،وكون املياه صاعدة من
األرض ،أو احلركة الدورية ،وما مثل به على االستقامة فهو تولد االبن من والده ،فلو نظرنا إىل
هذين األمرين لرأينا أنه حىت تولد الولد من الوالد فإنه مياثل تولد األمطار من األرض ،فإن مادة الولد
من الوالد ،ومادة الوالد من والده ،ومادة اجلميع من األرض ،وكذلك فإن األمطار من األرض،
والغيوم متكونة من جتمعات هلذه التبخرات املائية احلاصلة على سطح األرض ،مث حني تسقط من
الغيوم فإهنا ترجع إىل األرض ،وكذلك فإن الولد يأكل من األرض ،وعندما ميوت فإن مواده تتحلل
وتنتشر يف سطح األرض ،مث يعود التولد اإلنساين مرة أخرى .
إذن فإن ما صوره ابن رشد على أنه يكون على االستقامة فإنه يف احلقيقة يرجع إىل نفس
باب ما كان على الدور ،وبالتايل فإنه ال جيوز التفريق بينهما يف احلكم ،بأن يقال :هذا الدوري جيوز
كونه ال بداية له ،وما كان على االستقامة ال جيوز !!
ولو قلنا باستحالة ما كان على االستقامة ،وهو حمال ،فإن علة االستحالة ليست هي كونه
على االستقامة ،بل علتها هي لزوم انقضاء عدد ال هناية له للوصول إىل الفرد احلاصل يف هذا اآلن،
وهذه العلة بعينها متوفرة يف ما كان على سبيل الدور ،فلم الفرق بينهما ؟!
فإن قيل :إن الفرق يف أن الدوري مادته واحدة ،وما كان على االستقامة ،مادته خمتلفة .
وقد وقع ابن رشد أيضاً يف هتافتات عديدة أثناء مناقشته لطريقة اإلمام اجلويين لالستدالل
على حدوث العامل ،وال أظن اجملال مناسباً لذكر ما يرد عليه هنا ،ولكن ما منعه من جواز كل العامل
بسائر أجزائه ،هو نفسه يف حيز املنع ،فاجلائز يبقى جائزاً حىت بعد وجوده ،هذا بالنظر لذات اجلائز
من غري التفات إىل ما يعرض عليه من خارج ،وأما مع ذلك فقد يكون الزماً ،وحمل كالم اجلويين هو
األول ال الثاين ،أي ال جيوز أن نقول :إن مراد اهلل حال إرادته له جائز الوجود بل هو واجب
الوجود ،ولكنه بالنظر إىل ذاته ويف نفسه األمر ،فهو جائز الوجود .
وهذا هو ما بىن عليه اجلويين دليله ،فالذي ال يسلم له هذا الدليل قد يقع يف القول بوجوب
ابتداء اخللق على اهلل تعاىل ،وهذا يستلزم كون اهلل تعاىل موجباً بالذات ال فاعالً باالختيار .
وأما قوله يف ص (( : 57نقول فأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث ،فهي مقدمة غير
بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء ،فأجاز أفالطون أن يكون شيء جائز أزليا ،ومنعه أرسطو ،وهو مطلب
عويص ،ولن نبين حقيقته إال ألهل صناعة البرهان )) اهـ .
أقول :ما دام األمر عويصاً فكيف جتيز لنفسك أن تتخذه حمالً للتشنيع على من قال بأحد
طرفيه ؟!
ذكرت وكما هو مشهور ،فكيف جتيز لنفسك أن تشنع َ وما دام األمر فيه خالف قوي كما
على األشاعرة الذين صح عندهم أحد الرأيني وأقاموا األدلة عليه .
إنه ال جيوز التشنيع إال بناءاً على ادعاء البداهة ،ومل يدعوا فيها البداهة ،أو حىت إذا ادعوها
فإهنم أقاموا على ذلك األدلة ،فإن البداهة هبذا املعىن تكون عبارة عن شدة وضوح القضية ،و ال شك
أن األقرب إىل العقول أن اجلائز ال بد أن يكون حادثاً ،واملخالف لذلك هو الذي يلزمه اإلتيان
باألدلة القوية ،وهو الذي يستحق التشنيع ،وأما املتكلمون فإهنم قالوا حبدوث املمكن ،فكيف
يستحقون ذلك ؟!!
مث إن قول أفالطون جبواز قدم بعض اجلائزات ،يقصد به املثُ َل ،وقوله مردود عليه وال دليل
ُ
قوياً أقامه على هذا املطلب ،فكيف جيوز أن يكون جمرد هذا اخلالف الذي هو يف احلقيقة ضعيف
وليس قوياً ،لرجحان أحد طرفيه رجحاناً بيِّناً ،كيف جيوز أن يكون ذلك احلال قاعدة للتشنيع كما
فعل ابن رشد؟!
ويف أثناء كالم ابن رشد على الدليل الذي انتهجه اإلمام اجلويين يف رسالته النظامية وقع يف
هتافتات عديدة وفاضحة ،نبينها هنا ألمهيتها ،فإن أبا املعايل اعتمد على هذه املقدمة املذكورة آنفاً،
نعم أقام عليها األدلة فلم جيعلها مسلمة كما أشرنا فيما قبل ،وقد سبق أن تكلمنا على ما خيص ذلك
.
مث قال ابن رشد يف أثناء توضيحه لكالم اجلويين ص (( :57ثم أضاف إلى هذه أن العالم
مماثل ،كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه ،يريد الخالء ،لكونه في غير ذلك الموضع
من ذلك الخالء ،فنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة .والمقدمة /القائلة إن اإلرادة هي التي تخص أحد
المماثلين صحيحة ،والقائلة إن العالم في خالء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها .ويلزم عن وضعه هذا
الخالء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما ،ألنه إن كان محدثا احتاج إلى خالء )) اهـ .
واحلق أ ّن فيه خلالً عجيباً وهتافتاً مريعاً ،ال يلتفت إليه إال من دقق النظر فيه .
كذا كالمهُّ ،
وقد اغرت ابن تيمية أيضاً هبذا الكالم ،وأقام عليه قوله باجلهة احلقيقية واملكان العدمي
خارج العامل ،وظن نفسه أنه يناقض املتكلمني .
وال بد لنا قبل الشروع يف هذه املسألة من أن نبني حقيقة كالم املتكلمني فيها ،مث نذكر
كالم اجلويين ،ونكمل تعليقنا بعد ذلك على ما قاله هذا الفيلسوف .
قال العالمة الشريف الجرجاني يف شرحه على المواقف ص 227من املطبوعة يف جملد
واحد ،وذلك أثناء بيانه لألقوال يف معىن املكان ( (( :االحتمال الثالث ) في المكان (أنه البعد المفروض/
وهو الخالء ،وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث ال يتماسان وليس ) أيضاً ( بينهما ما يماسهما ) فيكون ما
بينهما بعداً موهوماً ممتداً في الجهات ،صالحاً ألن يشغله جسم ثالث لكنه اآلن خال عن الشاغل ( وجوزه
المتكلمون ومنعه الحكماء ) القائلون بأن المكان هو السطح ،وأما القائلون بأنه البعد الموجود فهم أيضاً
يمنعون الخالء بالتفسير المذكور ،أعني البعد المفروض فيما بين األجسام ،لكنهم اختلفوا :فمنهم من لم
يجوز خلو البعد الموجود عن جسم شاغل له ،ومنهم من جوزه ،فهؤالء المجوزون وافقوا المتكلمين في
جواز المكان الخالي عن الشاغل ،وخالفوهم في أن ذلك المكان بعد موهوم ،فالحكماء كلهم متفقون على
مر من التقدر ) فإن ما بين الجسمين اللذين ال يتماسان قابل
امتناع المكان بمعنى البعد المفروض ( لما َّ
للتقدر بالتنصيف وغيره ،ومتصف بالتفاوت مقيسا إلى ما بين جسمين آخرين ال يتماسان كما عرفته وال شيء
من المعدوم كذلك ،فما بين الجسمين المذكورين أمر موجود /،إما جسم كما هو رأي القائل بالسطح ،وإما
بعد مجرد كما هو رأي القائل به ،وهذا الخالف إنما هو في الخالء داخل العالم بناءاً على كونه متقدراً قطعاً
وأن تقدره هل يقتضي وجوده في الخارج أو ال .
( وأما ) الخالء ( خارج العالم فمتفق عليه ) إذ ال تقدر هناك بحسب نفس األمر ( فالنزاع ) فيما
وراء العالم إنما هو ( في التسمية بالبعد فإنه عند الحكماء عدم محض ) ونفي صرف ( يثبته الوهم )
خالءا أيضاً.
ويقدره من عند نفسه ،وال عبرة بتقديره الذي ال يطابق نفس األمر ،فحقه أن ال يسمى بعداً وال ً
( وعند المتكلمين ) هو ( بعد ) موهوم كالمرفوض /فيما بين األجسام على رأيهم )) اهـ .
وقال العالمة التهانوي يف الكشاف( (( :)1/289وقيل حاصله /أن المكان عند المتكلمين
قريب من معناه اللغوي ،ومعناه ما يعتمد عليه المتمكن ،فإن ضمير هو راجع إلى المفهوم اللغوي بدليل أن
المكان عندهم بعد موهوم ال أمر موجود /،كاألرض للسرير ،وأن الحيِّز غير المكان عندهم ،فالحيز هو
الفراغ المتوهم مع غير اعتبار حصول الجسم فيه أو عدمه /كما قال الشارح الحرزباني ،والمكان هو الفراغ
المتوهم مع اعتبار حصول الجسم فيه ،والخالء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغوالً
بالمتحيز،انتهى ،يعني أن الخالء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغوال واآلن خال عن الشاغل،
على ما هو رأي المتكلمين ،وإال يصير الخالء مرادفاً للحيز ،ولذا قيل إن الخالء عندهم أخص من الحيز،
ألن الخالء هو الفراغ الموهوم مع اعتبار أن ال يحصل فيه جسم ،والحيز هو الفراغ الموهوم من غير اعتبار
حصول الجسم فيه أو عدم حصوله )) اهـ .
ولو تأملنا يف العبارة األخرية فقط لكفى بيان الفرق بني احليز واملكان وتبني بالضبط ما الذي
يريده املتكلمون باحليز .
وقد اضطررنا للنقل وإن كان طويالً ألن كثرياً من الناس ال يعرفون بالضبط أقوال
املتكلمني ،ولندلل بعد ذلك باالعتماد على كالم منقول وليس فقط معقوالً أو خمرجاً ،حقيقة
مذاهبهم .
ولنرجع اآلن إلى نقد كالم ابن رشد ،فأما القسم األول من كالمه فال شيء فيه ،وال
خالف لنا معه .
وأما قوله عن املقدمة الثانية (( :القائلة إن العالم في خالء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ))
اهـ فإن هذا الكالم غري صحيح باملرة ،بل إنه عرض خبيث لكالمهم ،ومن الغريب إنه يعتمد على
جمرد هذا العرض الساذج ملا قاله اإلمام اجلويين ،مث يشرع بإلزامهم مبثل هذه اإللزامات العريضة
اخلطرية !!
واملفروضـ والالئق مبثل هذه املباحث أن يستقصي املرء عن حقيقة مذاهبهم قبل أن يتعرض
هلم بكلمة ،ولكن هذه هي الطريقة اليت اتبعها ابن رشد يف كتابه كله كما رأينا حىت اآلن وكما
سنرى فيما يلي .
فإن قوهلم باحليز ال يريدون به احليز الوجودي ،أي الفراغ املوجود ،بل الفراغ المتوهم ال
مع حصول جسم فيه ،فلو تأمل يف هذا القيد األخري ،فإنه نص صريح يف أهنم يتكلمون عن احليز
املتوهم يف العقول ،كما لو تكلموا عن احلركة للشمس من الغرب إىل الشرق ،فإن هذه احلركة يف
احلقيقة غري موجودة،ـ بل متومهة ولكنهم جيعلوهنا من اجلائزات .
وهكذا فإهنم عندما يتكلمون عن أن العامل ميكن أن يوجد يف حيز آخر غري هذا الذي وجد
فيه ،فإهنم يتكلمون عن حيز مفروض متوهم ال أمر موجود يف نفسه .
فمن هذه املالحظة السريعة بعد ما نقلناه ،يتبني لك مدى هتافت ابن رشد يف هذا املوضع .
وأما قوله بعد ذلك (( :ويلزم عن وضعه /هذا الخالء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديماً ))
فهو جمرد استمرار يف املغالطة السابقة ،فلما عرفنا حنن أهنم ال يريدون باخلالء الفراغ املوجود ،فكيف
يلزمهم هذا الالزم الشنيع ؟!
مث قال (Lبل الحق أن الشرع لم يصرح في اإلرادة ال بحدوث وال بقدم ،لكون هذا من
المتشابهات في حق األكثر ،وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود
قديم )) اهـ .
واحلق أن هذا الكالم كله ،ساقط ال قيمة له ،فكون الشرع مل يصرح بذلك ال يعين أن هذا
الذي قاله املتكلمون ليس حبق ،فكثري من أصول الدين قد استنبطها املتكلمون بإشارة القرآن وليس
بنصه الصريح .
مر
وأما قوله إنه ال يوجد لديهم دليل قطعي على ذلك ،فهو باطل ،بل هو جمرد ادعاء ،وقد َّ
الكالم على بعض ما يتعلق بذلك عند الكالم على أن ما ال خيلو عن احلوادث فهو حادث ،وسيأيت
بتوفيق اهلل تعاىل بقيته عند الكالم تفصيالً على صفات اهلل تعاىل ومنها اإلرادة .
وتأمل إىل ابن رشد كيف مييل إىل أن اهلل تعاىل متصف بإرادة حادثة ،أو -على األقل -إن
إرادة اهلل تعاىل حادثة حىت من دون لفت النظر إىل كوهنا صفة له أو غري ذلك .
وهذا األمر الذي يسعى إليه هذا الرجل من أصول مذهبه ،ألنه إذا سلم للمتكلمني أن إرادة
اهلل تعاىل قدمية ،ومع ذلك يصدر عنها أمر حمدث ،اهندم مجيع مذهبه ومذهب أرسطو ،كما أشرنا
غري مرة ،ولذلك تراه يصرح أن القول باإلرادة احلادثة أمر حادث .
واعلم أن ابن تيمية قد اغرت هبذا القول بل وتابعه عليه ،وصرح بأن القول باإلرادة احلادثة
أمر مبتدع .
والفرق بينهما أن ابن تيمية يصرح بالقول بأن إرادة اهلل تعاىل حادثة وقائمة فيه ،فهي حادثة
بالشخص وقدمية بالنوع عنده بناءاً على قاعدته املشهورة ،وأما ابن رشد فإنه كما رأينا خيتبئ وراء
األلفاظ .
وابن تيمية عندما يقول بذلك فإنه متوافق متاماً مع مذهبه يف التجسيم أي مع القول بأن اهلل
تعاىل جسم جمسم ،ومتصف بالصفات احلادثة الطارئة واملتجددة ،وأما ابن رشد فإنه متوافق متاماً مع
مذهبه بأن للشريعة ظاهراً ومؤوالً ،وأن املؤول مغاير للظاهر ،وأن الظاهر مالئم للعوام واملؤول مالئم
للخواص !! وهذا كله حمض حتكم .
وأما المتكلمون فإنهم كما وضحنا مذهبهم أوالً ،يرون أن الشريعة نزلت على مراتب
في التفصيل واإلجمال ،ال على مراتب ظاهرة وباطنة ،فالمعنى بين المجمل والمبين واحد،
واالختالف عارض من حيث حذق اإلنسان له ال غير .ومن هنا كان مذهب األشاعرة أعدل
المذاهب .
وهبذا نكون قد انتهينا من الكالم على املسألة األوىل من املسائل اليت تكلم عليها ابن رشد يف
هذا الكتاب ،ونكون قد أوضحنا أصوالً كبرية يف طريقته ،ويتضح للقارئ العادل مدى املغالطة اليت
تلبس هبا يف كالمه .
وحنن يف املسائل الالحقة سوف نزيد من بيان هذا األصل من خالل مناقشتنا لكالمه فقرة
فقرة.
وسوف لن نتكلم على أدلته اليت أوردها كبديل عن أدلة املتكلمني ،وذلك ألن هدفنا من
هذا النقد املختصر إمنا هو بيان مدى جتنيه على األشاعرة خاصة ،وأما هذا املطلب فسوف خنصص له
حمالً الئقاً مع تفصيل ملا هنا إن يسر اهلل لنا الزمان الكايف لذلك بفضله .
المسألة الثالثة:الوحدانية
وقد تكلم ابن رشد على دليل الوحدانية كما يراه ،ووجهه على حسب ما يريده ،وحنن هنا
ال نريد توجيه مهنا إىل نقد نفس أدلة ابن رشد ،ولكن مرادنا بيان ما وقع فيه من مغالطات أثناء نقده
لكالم األشاعرة .
مث شرع بعد ذلك يف مقصوده من نقد دليل املمانعة املشهور الذي اعتمده األشاعرة ،يريد
حماولة بيان عدم برهانيته.
فقال يف ص (( :67ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياساً على
المريدين في الشاهد ،يجوز أن يتفقا /،وهو أليق باآللهة من الخالف ،وإذا اتفقا على صناعة العالم ،كانا مثل
صانعين اتفقا على صنع مصنوع )) اهـ .
يريد أنه كما جيوز خالفهما جيوز أيضاً وفاقهما ،والوفاق يتحقق هنا يف صور ،وهي أن
يتفقا على أن خيلق كل واحد منهما قسماً من العامل ،أو أن يتفقا على أن يكون واحد منهما آمراً
واآلخر ناهياً مثالً ،أو غري ذلك من الصور .
وحاصلها يعود إىل أن اإلله الواحد خيصص من عموم تعلقات إرادته وقدرته يف بعض
املوجودات دون البعض ،وحاصل ذلك أن يكون الواحد منهما مطيعاً لآلخر يف ناحية من النواحي،
هذا هو حاصل االعرتاض الذي أورده ابن رشد هنا .
ابن رشد أنه يف الصفحة السابقة عندما كان يقرر دليله هو على الوحدانية ،قال:
وقد نسي ُ
(( وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان ،كل واحد منهما فعله فعل صاحبه ،فإنه ليس يمكن أن
يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة ،ألنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إ ْن
فعال معاً فعالً واحداً أن تفسد المدينة الواحدة ،إال أن يكون أحدهما يفعل وينهى اآلخر ،وذلك منتف في
صفة اآللهة ،فإنه متى اجتمع فعالن من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة )) اهـ ،فإن هذا
الكالم يناقض ما ذكره يف االعرتاض السابق ،كما تراه بعينك ،فإنه هناك أجاز االتفاق ،وهنا قال إن
االتفاق ال يليق بصفات اإلهلية !!
ولك أن تتعجب من هذا التناقض ما شئت ،ولكنه كما أراه متفق مع طريقة وأهداف
ابن رشد في هذا الكتاب ،كما وضحناه لك أكثر من مرة .
مث إن ابن رشد قد نسي أن اإلله ال جيوز عليه التخصيص ،سواء كان هو املخصص لنفسه أو
كان غريه هو املخصص له أو لصفة من صفاته ،وهو يف اعرتاضه السابق أجاز أن خيصص اإلله إرادته
ليتفق مع اإلله اآلخر ،وهذا باطل ،ألن التخصيص عالمة اإلمكان ،كما هو ظاهر ،واإلمكان واإلهلية
ال جيتمعان .
وقد أشار العديد من العلماء إىل احتمال أن يتفقا وأتوا باألدلة على انتفاء أن يقدح ذلك
االحتمال يف دليل الوحدانية وعدم تأثريه ،واستحالته يف نفسه ،وذكروا ذلك بطرق عديدة ،منها ما
أورده اإلمام العالمة التفتازاني يف شرحه على النسفية فقال يف ص ( (( :86الواحد ) يعني أن
صانع العالم واحد ،وال يمكن أن يصدق مفهوم /واجب الوجود إال على ذات واحدة ،والمشهور في ذلك بين
المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى (( :لو كان فيهما آلهة إال اهلل لفسدتا ) ،وتقريره أنه لو
أمكن إلهان ألمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد واآلخر سكونه /،ألن كال منهما في نفسه أمر
ممكن ،وكذا تعلق اإلرادة بكل منهما ،إذ ال تضاد بين اإلرادتين بل بين المرادين ،وحينئذ إما أن يحصل
األمران فيجتمع الضدان ،أو ال فيلزم عجزهما ،أو يحصل أحدهما فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة الحدوث
واإلمكان لما فيه من شائبة االحتياج .فالتعدد مستلزم إلمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محاالً.
وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة اآلخر ،لزم عجزه وإن قدر لزم عجز
اآلخر .وبما ذكرنا يندفع أنه يجوز أن يتفقا /من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة
الستلزامها المحال أو أن يمتنع اجتماع اإلرادتين إرادة الواحد حركة زيد وسكونه مثالً )) اهـ .
ابن رشد مهه إىل تضعيفه وإيراد الشكوك عليه ،وتأمل كيف هدم
وجه ُ
فهذا هو الدليل الذي َّ
التفتازاني الشك الذي اعتمد ابن رشد عليه وبني هتافته بكل يسر وسهولة .
وقد نص على اهندام هذا اإليراد والتشكيك يف نفسه اإلمام العالمة الشيخ الدردير يف
شرحه على خريدته في علم التوحيد يف ص (( :24فالتعدد مستلزم إلمكان التمانع المستلزم للمحال
فيكون التعدد محاال ،وبما ذكر اندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا /من غير تمانع ،وحاصل الدفع أن اإلمكان
محال وإن لم يقع تمانع بالفعل )) /اهـ .
أي إنه يكفي يف قيام الدليل على الوحدانية أن يستلزم فرض إله آخر إمكان احملال وهو
إمكان التمانع ،وال جيب لصحة داللته أن يكون داالً على وقوع التمانع بالفعل ،فافهم .
ذكرت يف تهذيب شرح السنوسية خالصة هذا الدليل على صورة حسنة واضحة وها
ُ وقد
أنا أنقلها إليك اآلن:
(( لو كان معه مماثل في األلوهية للزم عجزهما سواءاً اتفقا أو اختلفا أو اقتسما ،فكل من هذه
األقسام ،إماأن يكون اضطرارياً أو اختيارياً ،فإن كان اضطرارياً لزم قهرهما وعجزهما فينتفي العالم ،ونفي
العالم محال .
وإن اتفقا اختياراً فيتعرض /لهما جوهر فرد فإن أوجداه معا لزم انقسام ما ال ينقسم وهو محال ،ألن
الجوهر الفرد ال يقبل االنقسام .
وإن أوجد أحدهما عين ما أوجده اآلخر لزم تحصيل الحاصل وهو محال .
وإن أوجده أحدهما وعجز اآلخر ،فاآلخر ليس بإله ألنه عجز واإلله ليس بعاجز ،والذي قدر على
فعله أيضاً ليس بإله ألن الفرض أنه مثل لآلخر ،ومثل العاجز عاجز.
وإن عجز االثنان فهما ليسا بإلهين ،وإذا لزم عجزهما عن إيجاد هذا الجوهر لزم عجزهما عن سائر
الممكنات ألنه ال فرق بين ممكن وممكن .
وإن اختلفا بأن يريد أحدهما حركة جسم في زمان واحد ويريد اآلخر سكونه في ذلك الزمان بعينه،
فال يصح أن يحصل مرادهما لما فيه من الجمع بين الضدين وال يصح عدم مرادهما لما فيه من ارتفاع
الضدين مع قبول الجسم لهما ،وال يصح أن يحصل مراد أحدهما دون اآلخر ألن عجز أحدهما دليل على
عجز اآلخر ألنه مثله .
وإن اقتسما اختياراً لزم عجز كل واحد منهما مما عند صاحبه ألن شرط اإلله يجب أن تكون قدرته
عامة التعلق بجميع الممكنات .
ومن هنا تعلم أن املبالغة اليت قام هبا ابن رشد يف سبيل التشكيك يف هذا الدليل ،مل تكن
مبنية على أسس عقلية حسنة ،بل على دوافع أخرى سبق أن أشرنا إليها ،فتأمل !!
مث قال ابن رشد يف ص (( :68فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله تعالى (( :ولعال بعضهم على
بعض )) من جهة اختالف األفعال فقط ،بل ومن جهة اتفاقهما ،فإن األفعال المتفقة تتعاون في ورودها على
المحل الواحد )) اهـ .
أقول :إن املتكلمني وضحوا كما ذكرنا أن دليل التمانع جيري يف حال التوافق ويف حال
التمانع ،وكالم ابن رشد هذا إمنا خرج منه عندما جهل ما الذي قرره املتكلمون ،وقد أوضحناه حنن
لك سابقاً ،فيبني لك هتافته هنا .
فائدة /:ولئال يعتقد أحد مغرتاً بكالم ابن رشد أن األشاعرة الذين عرفوا وجه الرد على حالة
االتفاق املفرتضة هم املتأخرون فقط ،فإننا نورد لك اآلن بعض ما قاله املتقدمون يف إبطال حالة
التوافق املفرتضة هذه .
قال اإلمام الباقالني يف كتاب اإلنصاف ص 50بعد أن أورد دليل التمانع (( :فإن قيل:
فيجوز أن ال خيتلفا يف اإلرادة .
قلنا :هذا القول يؤدي إىل أحد أمرين :إما أن يكون ذلك لقول أحدمها آلخر ال تُِر ْد إال ما
أريد ،فيصري أحدمها آمراً واآلخر مأموراً ،واملأمور ال يكون إهلاً ،واآلمر على احلقيقة هو اإلله .
أو يكون كل واحد منهما ال يقدر أن يريد إال ما أراده اآلخر ولو كان كذلك دل على
عجزمها ،إذ مل يتم مراد واحد منهما إال بإرادة اآلخر معه .
وإذا ثبت هذا بطل أن يكون اإلله إال واحداً على ما قررناه )) اهـ .
وكذلك فقد قرر امتناع التعدد بناءاً على جتويز التوافق يف اإلرادة اإلمام الجويني أيضاً يف
كتاب اإلرشاد ،فقال يف ص (( :53فإن قيل :رتبتم هذه الداللة على اختالف إراديت القدميني ،فبم
تنكرون على من يعتقد قدميني يريد كل واحد منهما ما يريده اآلخر؟
قلنا :هذه الداللة مطردة على تقدير االختالف كما قررناه ،وهي مطردة أيضاً على تقدير
االتفاق ،فإن إرادة حتريك اجلسم من أحدمها مع إرادة الثاين تسكينه ممكنة غري مستحيلة ،وكل ما دل
وقوعه على العجز واالتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله ،والدليل عليه أن من اعتقد جواز
قيام احلوادث بالقدمي ،ملتزماً ما يفضي إىل احلكم حبدثه ،نازل منزلة من يعتقد قيام احلوادث به وقوعا
وحتققاً ،واجلاري من أحد احملدثني يف تنفيذ إرادته املتصدي ألن مينع عرضة للنقص ،كاملصدود عما
يريده حقا بتسوية بني من جيوز ضده وبني من اتفق رده )) اهـ .
وأيضاً فقد رد ذلك االحتمال اإلمام الغزالي يف كتابه االقتصاد في االعتقاد ،فقال يف ص
107وذلك بعد أن أبطل احتمال أن يقتسم اإلهلان الكون فيوجد واحد منهما قسماً ويوجد الثاين
القسم اآلخر (( :فإن قيل :مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده اآلخر على العرض ،وكذا
بالعكس .
قلنا :هذه املساعدة هل هي واجبة ال يتصور يف العقل خالفها فإن أوجبتموها فهو حتكم بل
هو أيضاً مبطل للقدرة ،فإن خلق اجلوهر واحد كأنه يضطر اآلخر إىل خلق العرض ،وكذا بالعكس
فال تكون له قدرة على الرتك وال تتحقق القدرة مع هذا .
وعلى اجلملة فرتك املساعدة إن كان ممكناً فقد تعذر العقل وبطل معىن القدرة ،واملساعدة إن
كانت واجبة صار الذي ال بد له من مساعدة مضطراً ال قدرة له )) اهـ .
وكذلك فقد رد على ذلك اإلمام الشهرستاني يف كتابه نهاية اإلقدام .
فهذه نصوص صرحية تدل على أن األئمة املتقدمني كاملتأخرين تنبهوا إىل هذا االحتمال
وردوه ،كل واحد منهم رده بأسلوبه اخلاص ،وأدلتهم على ذلك قطعية للمتأمل ،وللقارئ بعد ذلك
أن يتعجب من ابن رشد كيف يدعي أن األشاعرة مل ينتبهوا إىل ذلك االحتمال ،أو إهنم مل يستطيعوا
الرد عليه ،فهل هذا إال مقارب للكذب والتدليس عليهم ؟!
َّ
واعلم أن املتكلمني قد فهموا من اآلية ( لو كان فيهما آلهة )..ـ دليلني وليس دليالً
واحداً على التوحيد ،األول من اإلشارة ،والثاين من العبارة .
فالذي من اإلشارة هو دليل التمانع ،وهو الذي سبق أن وضحناه لك ،وأما الذي من
اإلشارة ،فهو يعتمد على أن اآلهلة املتعددة جيب عادة أن ختتلف ،واختالفها جيب أن ينتج عنه فساد
العامل ولو بعد وجوده .
وقد أشار العالمة الدسوقي يف حاشيته على شرح أم البراهين إىل هذين الدليلني ،فوضح
أن الدليل لو أقيم على أساس انتفاء العامل وفساده ولو بعد وجوده ،كان دليالً إقناعياً ،أما لو أقيم
بناءاً على أن التعدد ينتج عنه عدم وجود العامل أصالً فإنه يكون قطعياً ال خطابياً ،فقال يف ص:163
(( وهذا البرهان هو المشار إليه بقوله تعالى (( :لو كان فيهما آلهة إال اهلل لفسدتا )) وهو دليل قطعي ال
إقناعي خالفا للسعد ،حيث قال :إنه إقناعي ،وهو مبني على أن المراد بالفساد اختالل نظامهما ،وأما لو قلنا
إن المراد بالفساد عدم الوجود أصال كان الدليل إقناعيا )) اهـ .
وأما قول ابن رشد يف ص (( :68وقد يدل على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من اآلية ليس
هو الدليل الذي تضمنت اآلية ،أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل
المذكور في اآلية )) اهـ .
كذا قال ،واحلقيقة الواضحة أن املتكلمني قد فهموا دليلني كما وضحناه له سابقاً ،واحملال
الالزم من الدليل املذكور من اآلية هو فساد العامل ،وفساد العامل يصدق بعدم وجوده أصالً ،أو
بفساده واختالل أركانه ولو بعد وجوده ،وهذان الالزمان يلمان عن دليلي املتكلمني .
واحلقيقة البينة بعد النظر يف اآلية أن اآلية ناظرة إىل العامل يف هذا اآلن ،ومالحظة وجوده،
وانتظامه ،مث وبعد استحضار هذه احلالة ،تفرض أنه يوجد إهلان ،فاحلاصل بعد هذا الفرض يف تلك
احلالة ،هو فساد العامل ،وفساد العامل يف تلك الظروف واألحوال ،حيتمل كال من الالزمني احملالني،
ومها اختالل أركان النظام يف العامل ،والثاين انعدامه أصال .وأنت تعلم اآلن أن الالزم الثاين هو احملال
الالزم من دليل التمانع املأخوذ باإلشارة ،والالزم األول هو احملال الالزم من الدليل املأخوذ من
العبارة ،وكل هذا قد وضحه املتكلمون ومل حيم حوله ابن رشد وال غريه .
وقد أودع ابن رشد يف هذه املسألة كثرياً من مغالطاته اليت قد ختفى على كثري من الناظرين
يف كتابه هذا ،ولكننا اكتفينا بإبراز هذه األمور السابقة ،لتكون تنبيهاً للنبيه ،وكاشفة لغريها من
املفاسد املودعة فيه .
المسألة الرابعة:يف الصفات
أوال :العلم
أنت تعلم أن املتكلمني من األشاعرة قد قالوا بأن اهلل تعاىل يعلم األمور كلها بعلم واحد،
فالعلم من حيث هو صفة قائمة باهلل تعاىل واحد ،ولكن تعلقاته ال هناية هلا ،فعلمه تعاىل قدمي مطلقاً .
وابن رشد له كالم غريب يف ذلك ،فإنه يقر بأن العلم قدمي ولكنه يقول يف ص (( :70لكن
ليس ينبغي أن يتعمق في هذا فيقال ما يعول عليه المتكلمون أنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم،
فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت عدمه ،وفي وقت وجوده واحداً وهذا أمر غير معقول
)) اهـ .
وادعاؤه بأن ذلك غري معقول ادعاء باطل ،فإن العلم من حيث هو صفة أمر واحد ال تعدد
فيه ،ولكن تعلقات العلم متعددة ،فالعلم يتعلق باألمر قبل وجوده تعلقاً معيناً ،ويتعلق باألمر بعد
وجوده تعلقاً ثانياً ،فالعلم واحد والتعلقات متعددة .
فالقول بأن كون العلم واحداً قبل وبعد احملدث غري معقول هو عينه غري معقول .
ولنتأمل اآلن يف السبب الذي من أجله قال ابن رشد بأن ذلك غري معقول،ـ فقد قال كما يف
ص 71مباشرة بعد كالمه السابق (( :إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعاً للموجود /،ولما كان الموجود/
تارةً يوجد فعالً وتارة يوجد قوةً ،وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً إذا كان وقت وجوده بالقوة غير
وقت وجوده بالفعل )) اهـ .
ابن رشد أن العلم نفسه جيب أن يتغري بعد وجود احملدث املعلوم وقبل وجوده، قص َد ُ
فإ ْن َ
فهو أمر باطل وقد بينا أنه ال جيب أن يتغري كما مر ألن التعلقات هي اليت تتعدد وليس العلم .
قص َد إن العلم باحملدث قبل وجوده ال ميكن أن يكون عني العلم به بعد وجوده،
وإ ْن َ
فمسلم ،ولكن من قال إهنما أمر واحد ؟!
ونقصد بعدم الوحدة هنا عدم وحدة التعلقات بعد وجود احملدث وقبل وجوده ،أما العلم
الذي هو صفة فواحدة ال تتعدد وال تتغري .
وتأمل كيف يبالغ ابن رشد يف الغلط يف قوله بعد ذلك (( :وهذا شيء لم يصرح به الشرع ،بل
الذي صرح به خالفه ،وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى (( :وما تسقط من ورقة إال
يعلمها وال حبة في ظلمات األرض وال يابس إال في كتاب مبين )) اهـ .
كذا ادعى ابن رشد ،ولكن املتأمل يف اآلية الكرمية يعرف متاماً أهنا ال تدل على أن علم اهلل
تعاىل يكون حني سقوط الورقة ،أي إهنا ال تدل على أنه تعاىل ال يعلم السقوط لورقة قبل سقوطها،
فاهلل تعاىل يعلم مىت تسقط كل ورقة فيما ال يزال منذ األزل ،وحاصل ما يف اآلية أهنا تقول إن اهلل
تعاىل يعلمها ،والفعل املضارع ليس نصاً يف املستقبل وال يف احلاضر ،بل هو يدل على مطلق ثبوت
الفعل ،خاصة يف هذه اآلية ،أي إن املعىن يكون :إن اهلل تعاىل يعلم ذلك ،وعلمه تعاىل بذلك ليس
مقيداً بكونه عاملاً بذلك اآلن فقط أو إنه كان منذ األزل عاملاً بذلك وال يزال ،واألكمل أن حيمل
الفعل املضارع على االستمرار والدوام ،كما هو ظاهر .
وما دام األمر كذلك فكيف جيرؤ ابن رشد على القول بأن اهلل تعاىل يعلم الشيء ال منذ
األزل بل حني حدوثه ؟!
مث تأمل يف قوله تعاىل (( :إال في كتاب مبين )) لتعلم أنه أراد جل شأنه أن يبني أن ذلك
كله كان اهلل تعاىل عاملاً ،وعرب عن ذلك بقوله (( :في كتاب مبين ))،ـ وهو اللوح احملفوظ ،أو علمه
األزيل .
والكتاب يف أصل اللغة اجملموع ،فدل ذلك على أن علمه تعاىل بذلك جمموع منذ األزل
وليس متفرقاً يأيت شيئاً بعد شيء .
وأما ادعاؤه بعد ذلك أن املتكلمني ما قالوا بذلك إال ألهنم يعتقدون بامتناع حلول احلوادث
يف اهلل تعاىل ،ألن ما ال ينفك عن احلوادث فهو حادث ،قال (( :وقد بينا نحن كذب هذه المقدمة ))
اهـ .
أقول :إنه يف احلقيقة مل يبني إال بعض التشكيكات السخيفة اليت ال يهتم هبا إال املبتدئون يف
هذا العلم ،وحنن قد تكلمنا على هذه املسألة أثناء مناقشته يف حدوث العامل .
مث بالغ يف هذا الكالم وقال (( :وال يقال إنه يعلم حدوث المحدثات وفساد الفاسدات ال بعلم
محدث وال بعلم قديم ،فإن هذه بدعة في اإلسالم )) اهـ .
أقول :هذا جمرد هتافت من ابن رشد ،فإنه إذا أثبت أن هلل تعاىل علماً ،فإنه جيب عليه أن
يبني فيما إذا كان يعتقد قدمه أو حدوثه ،فإن األمر ال ينفك عن أن يكون إما حادثاً أو قدمياً ،أما أن
يقال ال جيوز التصريح بأي منهما ،فذلك الكالم باطل ال أساس له .
فلنفرض أحد املتشككني سأل عن علم اهلل تعاىل هل هو قدمي أو حادث ؟ هل ترى أن من
احلكمة أن نقول له :ال قدمي وال حادث ،أو إن نسكت وال جنيبه بأي من هذين االحتمالني ؟
إن هذا التصرف يف مثل هذه احلال ال يكون إال دليالً على الضعف واجلهل .
وال جيوز البن رشد أن يدعي إن السكوت هنا إمنا هو جمرد موقف يقفه العلماء إذا سأهلم
العامة عن ذلك ،ألن الكالم إمنا هو عن األمر يف نفسه ،فال بد أن يكون إما قدمياً أو حادثاً ،ومسألة
الظاهر والباطن للشريعة أو الظاهر واملؤول فإمنا هي كالم فارغ ال قيمة له يف نفس األمر ،كما بينا
يف املسألة األوىل .
وأما قوله إن اجلواب بأحد األمرين بدعة ،فهو كالم مردود ،فالبدعة إمنا هي األمر الذي
خيالف قواعد اإلسالم ،ومعانيه اليت بينها ،وأما القول بأن علم اهلل تعال قدمي وليس حبادث ،فكيف
خيالف ذلك ،بل هو مبني حلقيقة معاين الدين ،فقوله :إنه بدعة هو البدعة .
ثانياً :الحياة
مل خيالف ابن رشد املتكلمني يف إثبات صفة احلياة ويف كوهنا شرطاً لصحة االتصاف بالعلم،
ووافقهم يف القاعدة اليت قرروها وهي أن الشرط جيب أن ينتقل فيه احلكم من الشاهد إىل الغائب .
ثالثاً :اإلرادة
يسلم ابن رشد بأصل اإلرادة ،أما أن تكون اإلرادة قدمية ،فإنه يقول :إن هذا القول بدعة،
ومقصودهـ بالبدعة هو األمر الذي خيالف الدين ،وليس األمر الذي مل ينطق به السلف ،وشتان بني
املفهومني .
ويدعي أن كون اإلرادة قدمية ((شيء ال يعقله /العلماء وال يقنع الجمهور )) كما يف ص!! 72
واقرتح البديل بأنه ((ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في
غير وقت كونه )) اهـ .
احملد ِ
ث ،ال قبل ذلك . وكالمه يعين أن إرادة اهلل تعاىل حادثة يف وقت حدوث َ
وجيب على القارئ أن يتنبه أن ابن رشد ال يقول هو حبلول احلوادث من مثل اإلرادة والعلم
وغري ذلك يف الذات اإلهلية ،وغاية ما يقول به أن املتكلمني ال ميلكون دليالً على نفي ذلك ،بل إنه
يقول :إن هذا املعىن جيب أن يلقى على العوام ،ألهنم ال يقدرون على خالفه ،وأما العلم القدمي
واإلرادة القدمية ،فإنه يكتفي مبجرد االعرتاض عليهما ،ويدعي أن الشريعة جاءت على خالف ذلك،
وأن اجلمهور ال يفهم ذلك .
رابعاً :الكالم
وأما رأي ابن رشد يف الكالم ،فقد أكثر فيه من الغرابة ،فإن أصل الكالم عنده كما قال(( :
فإن قيل :فصفة الكالم له من أين تثبت له ؟ قلنا :ثبتت له من قيام صفة /العلم به وصفة القدرة على االختراع،
فإن الكالم ليس شيئاً أكثر من أن يفعل /المتكلم فعالً يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه ،أو يصير
المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه ،وذلك من جملة أفعال الفاعل )) اهـ .
هكذا يوضح ابن رشد هذه املسألة اخلطرية ،فإنه يبدأ بالكالم على أمر مساه صفة ،ثم يجيب
السائل بجواب فيه كالم على أمر هو في الحقيقة وصف وليس صفة ،فالفعل ليس عبارة عن
ني ،وال يقال على ِ معىن قائم يف الفاعل ،بل هو عبارة عن َ ٍ
حمدث قائم يف نفسه أو يف غريه من املفعول َ
الفعل إنه صفة ،بل يقال على املعىن القائم يف الذات إنه صفة ،وأما الفعل ،فإن العقل اإلنساين إذا
الحظ صدوره عن الفاعل ،فإنه يشتق للفاعل وصفاً اعتبارياً يسميه فعالً ،وهذا الفعل يف احلقيقة ليس
قائماً يف الفاعل ،بل هو عبارة عن إضافة بني الفاعل واملفعول،ـ أي ليس أمراً موجوداً بنفسه .
وهكذا فابن رشد عندما قال إن الكالم عبارة عن فعل ،وأجاب بذلك عن سؤال السائل عن
صفة الكالم ،فإنه يكون قد وقع يف مغالطة صرحية ،أساسها الذي بينَّاه سابقاً .
مث إن قوله :إن الكالم ثبت هلل تعاىل من قيام صفة العلم به والقدرة ،معناه أن الكالم إمنا
ينسب إىل اهلل تعاىل عندما يفعل بقدرته فعالً داالً على علمه القائم بنفسه ،فالكالم من حيث وجوده
صادر أصالة عن القدرة ،ال عن العلم ،وهو من حيث النظر إىل داللته معرب عن العلم ال عن القدرة،
فافهم ذلك وال تغرت بكالمه هنا فإنه متهافت .
مث قوله بعد ذلك يف ص (( :73واألشاعرة قد نفوا أن يكون المتكلم فاعالً للكالم )) اهـ .
أقول :هذا الكالم خطأ هكذا ،بل إن األشاعرة بعد أن نظروا نظراً عقلياً ،عرفوا نوعني من
أنواع الكالم :األول كالم قائم يف النفس ،وهذا الزم للنفس مبجرد كوهنا عاملة حية ،وهذا الكالم
هو الصفة القائمة يف الذات ،والثاني كالم هو يف احلقيقة فعل للذات ،تدل به الذات غريها على
الكالم القائم فيها ،وهذا الكالم ليس صفة بل هو فعل للذات.
مث قالوا :الكالم النفسي الذي هو صفة هلل تعاىل ال يكون حادثاً ،والكالم الذي هو فعل هلل
تعاىل ٌّ
دال على كالمه النفسي ،ال يكون إال حادثاً .
فاحلاصل أن األشاعرة قد قالوا بأن اهلل تعاىل فاعل للكالم الذي هو فعل دال على كالمه
النفسي ،وليس فاعالً للكالم النفسي القائم بذاته ،ألن صفاته ال تكون مفعولة ،وبذلك يتبني لك أن
ما صرح به ابن رشد غلط حمض .
(( وقد قال ابن رشد عن كالم النفس الذي قالت به األشاعرة يف ص:74
واألشعرية تتمسك بأن من شرطه –أي الكالم( -)]3[3أن يقوم بالمتكلم )) اهـ .
أي إن من شرط الكالم مطلقاً أن يقوم باملتكلم ،ويدخل يف ضمن توضيح ابن رشد – على
زعمه – ملذهب األشاعرة كلٌّ من نوعي الكالم ،أعين النفسي واللفظي ،ولذلك أكمل ابن رشد
قائالً (( :وهذا صحيح في الشاهد في الكالمين معاً ،أعني كالم النفس واللفظ الدال عليه .وأما في الخالق،
فكالم النفس هو الذي قام به ،فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه )) اهـ .
فإن كان هذا الكالم تكملة لتوضيح كالم األشاعرة من ابن رشد ،فهو صحيح مطلقاً ،وإن
كان هذا الكالم تعليقاً من ابن رشد على كالم األشاعرة ،فهو اعرتاض عليهم ،ومعىن ذلك أنه
خيالفهم فيه ،أي إنه ال يقول به ،أو ببعضه .
ولنعرف جهة خمالفته هلم ،نكمل لك كالمه ،فقد قال (( :فاألشعرية لما شرطت أن يكون
الكالم بإطالق قائماً بالمتكلم ،أنكرت أن يكون المتكلم فاعالً للكالم بإطالق ،والمعتزلة لما شرطت أن
يكون فاعال للكالم بإطالق ،أنكرت كالم النفس ،وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء
من الباطل على ما الح لك من قولنا )) اهـ .
يعين من هذا الكالم كله ،أن األشاعرة أخطأت عندما نفت كون املتكلم فاعالً للكالم
بإطالق ،فاحلق إذن عند ابن رشد أن املتكلم فاعل للكالم بإطالق ،ومعىن بإطالق أن كل ما هو
كالم فاملتكلم يفعله ،أي إنه فعل للمتكلم .
هذا هو حاصل قول ابن رشد ،ولكننا نعلم أن هذا الكالم باطل ،وذلك للفرق بني الكالم
النفسي وبني الكالم اللفظي الفعلي .
وابن رشد يريد أن يقول من هذه العبارة األخرية أنه ال ينفي الكالم النفسي ،ولكن الصحيح
أنه ينفيه بإطالق ،وذلك ألنه قد عرف الكالم كما سبق بأنه فعل الفاعل ،والكالم النفسي ليس فعالً
أصالً ،فكيف يكون قائالً به .
وأما الذي قال به ابن رشد فهو العلم القائم بذات اهلل تعاىل ،والعلم ليس هو الكالم كما
تعلم للفرق الواضح بعد قليل من النظر بني العلم والكالم ،وإذا أوهم ابن رشد بأن العلم القائم
بالذات هو عني الكالم النفسي فإن هذا يكون هتافتاً وتدليساً منه على اجلمهور ،وهذا كله واضح .
وبعد ذلك كله يتبني لك مدى املغالطات اليت وقع فيها ابن رشد ،ولعله ملا رأى قوة كالم
األشاعرة يف إثبات الكالم النفسي ،مل يستطع أن خيالفه متاماً ،وملا رأى قوة كالم املعتزلة يف الكالم
اللفظي ،مل يستطع أن خيالفهم ،ومل حيقق احلق يف هذه املسألة ،فدار حول الرأيني ،ومل جيزم بأحدمها
فوقع يف هذه املغالطات والسقطات الشنيعة .
واحلق الذي أوضحه العلماء يف علم الكالم ،أن الكالم النفسي ثابت ،وأن الذي قال به
املعتزلة من حدوث الكالم اللفظي حق ،ال جيوز أن خيالفه أحد ،وقد قال به األشاعرة .
ولكن الكالم النفسي الذي نفته املعتزلة ال جيوز أن يُتابَعوا عليه ،بل إهنم – أي األشاعرة -
قد خالفوا املعتزلة يف النفي وزادوا عليهم يف اإلثبات ،فاعلم ذلك وال تشرد خبيالك .
خامساً :السمع والبصر
ويف كالم ابن رشد على السمع والبصر أرجع هاتني الصفتني إىل صفة العلم ،ومع أن هذا
خمالف لظاهر الشريعة إال إنه قال به ،وجحد الظاهر ،وادعى أن األمر على الصورة اليت ادعاها هي
اليت جيب إلقاؤها إىل اجلمهور ،فقال ملا تكلم على السمع والبصر يف ص (( :74وجب أن يكون له
هذان اإلدراكان ،فواجب أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع ،وجب أن يكون له هذان
اإلدراكان ،فواجب أن يكون عالماً بمدركات البصر ،وعالماً بمدركات السمع ،إذ هي
مصنوعات له )) اهـ .
فأرجع السمع والبصر كما ترى إىل العلم ،وهذا مع أنه خمالف لظاهر الشريعة إال أنه قال به
مث قال يف هناية كالمه على هذه املسألة (( :فهذا القدر مما يوصف به اهلل سبحانه ويسمى به هو القدر
الذي نص الشرع أن يعلمه الجمهور ال غير ذلك )) اهـ .
وهذه مغالطة خطرية وحتكم حمض من ابن رشد ،ال جيوز أن يقع فيها من هو دونه يف
املنزلة ،وال يالئم هذا خطورة املهمة اليت نصب نفسه هلا .
وقد يقول قائل :ما وجه االعرتاض على ابن رشد عندما أرجع السمع والبصر إىل العلم،
وقد نقل هذا القول عن األشعري،ـ وعن غريه من العلماء ؟
فالجواب :إن األشعري أرجع هاتني إىل العلم حتقيقاً بعد البحث عن حقيقة كل منهما يف
الشاهد ،وملا وجد أهنما يف الشاهد ال تغايران العلم ،قال بذلك ،ولكن ابن رشد ملا بىن كالمه يف
هذا الكتاب ويف غريه ،على أن األصل االقتصار على الظاهر من الشريعة ،وعدم التعمق فيها ،وأصر
على منع إلقاء ما خيالف الظاهر إىل اجلمهور ،حىت وإن كان هو احلق ،ولكنه هنا خالف الظاهر ،فإنه
يكون قد خالف القاعدة اليت ألزم نفسه هبا ،ومل يلتزم هبا ،وهذا غاية السفسطة .
ومن هذا فقد بان الفرق الكبري بني الكالم الذي نقل عن األشعري ،وبني الكالم الذي تفوه
به ابن رشد .
مث إن األشعري مل يقل إن كل ما يظهر للعامة فإنه جيب القول به ،بل صرح بأن بعض ما
يظهر للعامة ،ال جيوز القول به ،بل وجيب هنر العامة عن االعتقاد به ،كما يتوهم العامة اجلهة من
بعض النصوص ،فهل يقول األشعري إهنم جيب أن يؤمنوا باجلهة هلل تعاىل ؟! بل إنه صرح بامتناع
ذلك ،يف حقهم كما يف حق اخلاصة من العلماء .
وهذا كالم باطل ،وعكس للموازين ،فإن العامة جيب أن يتبعوا العلماء ال العكس .
انتقد ابن رشد مذهب األشاعرة يف الصفات املعنوية بأنه يؤدي إىل القول بأن اهلل تعاىل
جسم ،وعلل ذلك بقوله يف ص (( :75ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً ،ألنه يكون هنالك
صفة وموصوف /،وحامل ومحمول ،وهذه هي حال الجسم )) اهـ .
واحلقيقة أن اجلسم ليس كذلك ،فاجلسم هو ما جاز فيه ثالثة أبعاد عندهم ،واجلسم عند
األشاعرة هو املمتد ولو يف بعد واحد ،واجلسم عند الفالسفة هو املركب من اهليوىل والصورة،
وليست حال الصفات مع الذات مثل هذه االحتماالت ،كما هو ظاهر للمتأمل .
فالصفات ال يقال عنها غري الذات ،حىت يكون قيامها بالذات مثل قيام الصورة باهليوىل،
وليست هي جوهراً قائماً بذاته أيضاً ،وليست الذات جنساً للصفات وال العكس ،حىت يلزم
الرتكيب املستلزم للجسمية ،ولو من جهة العقل .
فاحلاصل أن كالم ابن رشد هنا ال قيمة له ،وجمرد هتافت .
وأما مقارنته بني قول األشاعرة والنصارى يف هذا القول فهو اشتداد يف التشنيع عليهم مبا ال
وجه حق فيه ،كما ترى ،وذلك ألن النصارى وإن قالوا بالصفات الثالثة فإهنم قالوا بانفكاكها عن
الذات ،ومل يقل األشاعرة بذلك ،وقال النصارى مبا يلزم عنه كون الصفات جواهر قائمة بذاهتا ،ومل
يقل بذلك األشاعرة .
ومذهب النصارى هذا قد نقله ابن رشد عنهم يف نفس هذا املوضع ،ومع ذلك فقد ادعى
أن األشاعرة يقولون به ،وهذا كذب حمض عليهم .
وبعد أن يصرح ابن رشد أنه ال جيوز أن يلقى مثل هذا الكالم على اجلمهور ،لبعدهم عن
األدلة التحقيقية والربهانية ،فإنه مل يقل ما هو الرأي الصحيح من هذه اآلراء ،وذلك أنه انتقد
األشاعرة واملعتزلة ،ومل يبني رأيه !!
واحلق أن جمرد أن هذا الكالم – أي كالم األشاعرة -وإن سلمنا أنه ال يناسب اجلمهور،
ولكننا ال نسلم أنه ليس حبق يف ذاته .
ومع أن ابن رشد يكثر من االهتمام بالنقد من جهة أن هذا الرأي يناسب اجلمهور أو ال
يناسبهم ،إال أن هذا األسلوب أسلوب سفسطي حمض ،وذلك ألن كالم املتكلمني ليس على ما
يناسب أو ال يناسب ،بل على ما هو احلق يف نفسه ،مث إن ناسب مع كونه حقاً ،أن يلقى إىل
اجلمهور أل َقوه،ـ وإال منعوه عنهم ومنعوهم عنه ،واكتفوا بتعليمه للخاصة ،وأمجلوه إمجاالً للجمهور
!!
وال جيوز عند العقالء أن يكون األمر حقاً يف نفسه مث إذا أردت أن تتكلم مع اجلمهور
وتعلمه هلم أوحيت إليهم مبا خيالف هذا األمر ،بل مبا يناقضه،ـ فأين احلكمة يف ذلك ؟! أين احلكمة يف
الكذب حينما ال تلجئ الضرورة إليه ؟!
المسألة الخامسة:في معرفة التنـزيه
ويف هذا الفصل أغرب ابن رشد غاية اإلغراب ،وخالف حىت نفسه يف سبيل الرد على
األشاعرة ،وخالف البديهي يف العقول حىت يصل إىل تلك الغاية .
وأىن لواحد يتبع تلك السبل أن يصل إىل بيان احلق من الباطل كما يزعم .
وما أشبه طريقة ومنهاج ابن رشد بطريقة ومنهاج ابن تيمية ،وكيف ال يتبعان نفس السبيل
وهدفهما واحد ،وهو هدم مذهب األشاعرة ،وال يتوصل إليه إال هبدم البديهيات واملغالطات
املكشوفة ؟!
ويف هذا الفصل سيتكلم ابن رشد على مسألة تنزيه اهلل تعاىل ،ما هي الطرق اليت اتبعها
املتكلمون وما هي الطرق اليت أجازها الشرع للوصول إىل هذا اهلدف .
قال ابن رشد يف ص (( :77من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون إما على غير
صفة الذي ال يخلق شيئا ،وإال كان من يخلق ليس بخالق )) اهـ .
يشرتك اجملسمة وابن رشد يف االستدالل بشيء يسمونه بالفطرة،ـ وهذه الفطرة إما أن يريدوا
هبا معلومات موجودة يف النفس اإلنسانية ،منذ والدهتا ،وإما املعلومات البديهية:
· فإن قصد األمر األول ،فهو ليس بشيء يف احلقيقة ألن النفس عند والدهتا ال يكون فيها أي
شيء من املعلومات اليت يتكلم عنها هؤالء .
· وإن قصد الثاين فاخلالف بني املشبهة وغريهم ليس يف األمور اليت يعرف مجيع الناس أهنا
بديهيات ،كما سنوضحه لك فيما يلي .
وابن رشد وابن تيمية يكثرون من االستشهاد بالفطرة على ما يريدون إثباته من التجسيم،
ولكن ابن تيمية ،يثبت التجسيم باطناً وظاهراً ،وابن رشد يثبت التجسيم هلل تعاىل ظاهراً فقط،
وينفيه باطناً .
وكثري من الناس يلجؤون إىل الفطرة للوصول إىل أهدافهم ،والتحقيق أنه ال توجد معلومات
خملوقة مع اإلنسان كتلك اليت يسميها هؤالء بالفطرة .
وأما إن قصدوا بالفطرة جمموعة الغرائز وامليوالت النفسية واألهواء اليت يتصف هبا اإلنسان،
فإننا نعلم أن هذه ال يقال عنها لذاهتا إهنا حق أو باطل ،ألهنا ميكن عبارة عن أدوات ،وميكن أن
يستعملها اإلنسان يف احلق ،وميكن أن يستعملها يف الباطل .
وكائنا ما أراد هؤالء بالفطرة فال جيوز أن حيتجوا هبا على أمر دقيق كهذا األمر الذي نتكلم
حنن عليه .
أما من حيث اإلمجال فإن اخلالق غري املخلوق ،ولكن الغريية اليت نتكلم عنها يف هذا احملل،
ما حقيقتها ؟ وما معناها بالتفصيل ؟
هل إذا أثبتنا إهلاً جسماً ولكن من طبيعة أخرى من األجسام وذا صورة أخرى خمالفة جلميع
الصور اليت للمخلوقات ،هل نكون هبذا قد حققنا أمر التغاير الذي نقول إنه فطري أو بديهي ؟!
إن العاقل يعلم على سبيل القطع ،أن هذا الكالم باطل ،ال ريب يف بطالنه.
واج َهنا اجملسم بقوله :إن يف فطريت أن اهلل تعاىل إذا مل يكن جسماً جمسماً
وماذا نقول إذا َ
وحمدوداً ويف جهة ويتحرك ويقوم ويقعد …اخل ،فإنه ال ميكن أن يكون إهلاً ،وال ميكن أن يكون
موجوداً !!
ترى ،هل يسلم ابن رشد هلذا القائل بأن فطرته توحي له هبذه األفكار اخلطرية ؟ ولو سلمنا
أن فطرته تقول له ذلك ،فهل ننزل حتت حكم فطرته ،ونسلم له أن اهلل تعاىل هكذا ؟!
ما هو املعيار الدقيق ملا يسمونه بالفطرة ؟ هل هو عبارة عن أدلة عقلية ميكن إقامة احلجة هبا
على الغري ،أم هي عبارة عن جمموعة أحاسيس نفسية ،ميكن اجلزم أن اآلخرين حيسون هبا ؟
إن الفطرة إذا كانت مقاييس عقلية ،فإهنا ال خترج عن العقل إذن ،ولكن الواضح أهنم ال
يريدون هبا هذا املعىن .
فهل هي عندهم جمموعة أحاسيس ومشاعر تدهلم على عقائدهم ؟! أهنم إذا كانوا يسلمون
أنفسهم يف الدنيا واآلخرة ملثل تلك األحاسيس واملشاعر ،فال ريب أهنم يتبعون غيَّا ،وال ريب أهنم
مغرقون يف الضاللة واالحنراف عن سبيل اهلدى واجلادة الصحيحة .
فإن هذه األحاسيس واملشاعر ال منلك حنن وال ميلك صاحبها أن جيعلها دليالً إال على من
حيس هبا ،ويعرتف أنه حيس هبا ،مث قبل ذلك جيب أن نتأكد أن ما يعرب لنا عنه من مشاعر فإهنا
مطابقة ملا حنس به حنن ونعرب عنه بنفس األلفاظ !!
الحاصل من هذا الكالم السريع كله أن االعتماد على أمر يسمى بالفطرة يشابه ترك
الدليل الجلي واالعتماد على الدليل الخفي ،واالعتماد على الدليل الذي ال يسلم الخصم داللته
أصالً ،والدليل الذي ال يمكن ضبطه أصال ضبطا دقيقا ليكون ميزانا توزن به األمور .
ومعلوم أن من يفعل ذلك فإنه يستحق عن جدارة أن يكون ضحكة األولني واآلخرين .
ومن املعلوم أن بعض الصفات اليت تعرض للمخلوقني ال ميكن نسبتها هلل تعاىل ،وهذه
الصفات هي الصفات اليت ال يشك واحد فيها بأهنا صفة نقص ،وذلك كاجلهل والنوم والغفلة
وغريها ،فهذه معلوم نفيها ببداهة العقول ،وباألدلة اليت تثبت هلل تعاىل ما ينايف هذه الصفات ،وهي
األدلة النظرية اليت تثبت أن اهلل تعاىل عامل حي قيوم ،فما كان كذلك ال يكون متصفاً بصفات
النقص تلك .
وقد تكلم ابن رشد عن هذه الصفات ،ومل خيالف يف بطالن نسبتها إىل اهلل تعاىل ،ال ظاهراً
وال باطناً ،وال خالف يف هذه الصفات إال من قِبَ ِل اجملسمة الذين اختذوا إهلهم هواهم ،وهواهم
إهلهم ،فاعتقدوا أنه يثبت هلل تعاىل نسيان يليق بذاته ،ونوم يليق بذاته ،وقد تكلمت مع بعضهم يف
هذا الزمان ،وهم بعض الناس الذين يتبعون اجملسم الكبري ابن تيمية ،وهؤالء عبارة عن جمموعة من
احلمقى ال يلتفت إليهم إال على سبيل التنبيه إىل خطرهم وسوء معتقدهم .
مث بعد ذلك شرع ابن رشد يف الكالم على صفة اجلسمية ،وهي من األوصاف اليت أثبتها
البعض من املنتسبني إىل الدين اإلسالمي هلل تعاىل ،ونفاها األكثرون من الطوائف اإلسالمية .
ومعلوم أن األشاعرة من أكثر الناس الذي بذلوا جهوداً يف نفي تلك الصفة عن اهلل تعاىل،
موقف ابن رشد من هذه املسألة .
َ َفْلَنَر اآل َن
فقال يف ص (( :79فإن قيل :فما تقول في صفة /الجسمية هل هي من الصفات التي صرح
الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها ؟
فنقول :إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها ،وهي إلى التصريح بإثباتها في
الشرع أقرب منها إلى نفيها ،وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين )) اهـ .
واحلقيقة أن هذا القول خطري جداً ،وفيه افرتاءات على الشريعة وعلى علماء الشريعة
اإلسالمية ،وعلى مثل هذه النصوص الشاذة اعتمد ابن تيمية يف بناء مذهبه يف التجسيم كما وضحته
يف كتاب (( الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية )) .
وبعض اجلهلة يف هذا الزمان يعتربون نصوص ابن رشد كأهنا نصوص ال يأتيها الباطل من
بني يديها وال من خلفها ،وهذا منهم دليل على ضعف عقوهلم وقلة معارفهم الدينية والعقلية .
فأول ما ادعاه ابن رشد يف هذا النص أن صفة اجلسمية من الصفات اليت سكت عنها
الشرع ،وهذا يف حد ذاته ،قريب من الكذب ،ألن اهلل تعاىل يقول (( :ولم يكن له كفواً أحد)) ،
ويقول (( :ليس كمثله شيء ))،ـ أليست هذه النصوص صرحية يف نفي املماثلة يف الذات بني اهلل
تعاىل وخلقه ،وأال ينفي هذا أن يكون اهلل تعاىل جسماً .
إن ابن رشد يعرف هذا متاماً ،ولكنه يغالط يف هذه احلقيقة ليتقرب إىل الوصول إىل مقصوده
األساسي وهو هدم مذهب وطريقة األشاعرة ،ملا أهنم هم الواقفون سداً منيعاً أمام سيل فلسفة
أرسطو وغريه .
وتأمل كيف جعل ابن رشد سكوت الشريعة عن نفي اجلسمية أمراً بيناً بنفسه ،مث قال :إن
الشريعة أقرب إىل اإلثبات منها إىل النفي ،فكيف يكون السكوت بيناً ،يف حال كون اإلثبات أقرب
يف منظار الشريعة ؟!!!ـ أال يدل ذلك على أن ابن رشد يلقي كالمه إلقاءاً .
مث ما حجة ابن رشد يف أن الشريعة أقرب إىل اإلثبات منها إىل النفي للجسمية ؟ إنه يقول
إن الدليل على ذلك هو أن الشريعة صرحت بالوجه واليدين .
وتوجد هنا أيضاً مغالطات ،فإن الشريعة مل تصرح بالوجه ومل تصرح باليدين ولو صرحت
هبما لكفر من نفامها ،وكفر من أوهلما عن حقيقتهما اليت يريدها ابن رشد ،وهي اجلوارح واألركان
املعروفة لإلنسان وغريه .
ولكن الشريعة ساقت لفظ الوجه واليدين سياق اجملاز يف اللغة العربية ،وهلذا فإن داللة
الشريعة على إثبات الوجه على احلقيقة اللغوية املتعارفة ليست داللة أكيدة ،وال جيوز أن يقال عنها
إهنا نص يف ذلك .
عرفت أن ابن رشد أراد اليد والوجه اللذين مها جوارح .
َ وقد يقول قائل :كيف
قلنا :ألنه اعترب جمرد إيراد الشريعة للوجه واليد دليالً على اجلسمية ،وال يكون األمر كذلك
إال إذا كان الوجه واليد جارحتني وعضوين .
وهنا فإننا نسأل :هل صحيح أن الشريعة قد أثبتت الوجه واليد اجلارحتني على سبيل النص
والتأكيد كما يوحي ابن رشد إىل قرائه ؟!
أقول :ال أحد من العقالء يستطيع أن يدعي مثل هذا االدعاء ويقوى على اإلتيان بأدلة عليه
.
وأما ابن رشد فإمنا يدفعه إىل مثل هذا السقوط جمرد هدفه الذي نصبه لنفسه ،وقد ذكرناه
لك مراراً .
إن كثرياً من علماء اإلسالم قالوا :إن الوجه واليدين صفتان هلل تعاىل ليستا جبارحتني ،فهل
هؤالء العلماء يصنفون عند ابن رشد من ضمن اجملسمة ؟
قد يقول قائل :إن ابن رشد قد سبق له أن اعترب أن التجسيم يكفي فيه جمرد إثبات صفة
زائدة على الذات ،سواءا كانت عضواً أو صفة معىن ،فلم مل تعترب أنه أراد هنا الوجه واليد اللذين مها
صفتان معنويتان قائمتان بالذات كقيام العلم والقدرة ،وعند ذاك يرجع كالمه إىل كالم كثري من
قلت ؟
العلماء على ما َ
نقول :إن هذا الفهم غري موافق للمعاين اليت ينطق هبا ابن رشد ،فإنه ملا تكلم سابقاً على
كون الصفات زائدة على الذات ،وألزم املتكلمني القائلني بذلك باجلسمية بناءاً على املعىن املشار
إليه ،وحنن قد بينا أن إلزامه ال يلزمهم يف موضعه،ـ وتكلم هنا على صفة اجلسمية بالتحديد ،فإننا
عرفنا أن مراده هناك باجلسمية جمرد قيام صفة زائدة يف الذات ،وعرفنا هنا أن مراده باجلسمية هو
اجلسمية باملعىن املعهود عند سائر العلماء ،وهو وجود أبعاد ثالثة للذات ،وهلذا أطلق اجلسمية هنا،
وقيدها بقيام صفة يف الذات ووجود حامل وحممول هناك ،وهذا يبني للذكي صحة ما قلناه .
وحينئذ فإن التعجب يزداد منه كيف ينص على أن الشرع صرح على إثبات هذه الصفة .
وما هو أشنع من ذلك يف كالمه هو أنه يقول :إن كثرياً من علماء الشريعة قد نصوا على
القول باجلسمية !!!
فكيف يقول ذلك وحنن نعلم أن القائل بذلك إمنا هم فرقة الكرامية واجملسمة من احلنابلة،
وأما سائر العلماء من الفرق اإلسالمية كافة فإهنم شنعوا على هؤالء لتعديهم على الذات اإلهلية
ونسبة هذا العيب هلا .
فإذا كان األمر كذلك ،فكيف يتجرأ ابن رشد عل القول يف نفس الصفحة(( :ولهذا صار
كثير من أهل اإلسالم إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم ال يشبه سائر األجسام ،وعلى هذا الحنابلة وكثير
ممن اتبعهم )) اهـ .
فإن هذا الكالم فيه مغالطات عديدة ،منها أنه يعترب كافة احلنابلة قائلني باجلسمية ،وحنن نعلم
يقيناً أن الفضالء وأئمة احلنابلة املقتدى هبم يف املذهب ال يثبتون ذلك ،بل يصرحون أن هذا اإلثبات
من الشنائع اليت جيب الفرار منها ،وهذا كله مبني يف حمله ،وأما من صرح منهم بذلك فإنه قليل جداً،
وأما من قال منهم مبا يلزم منه قوله باجلسمية فهم أكثر من املصرحني ،ولكن على كل األحوال ،فال
جيوز البن رشد أن يدعي أن احلنابلة قائلني بذلك ،ألنك إذا واجهتهم بصفة اجلسمية فروا منها،
ونفوها عن أنفسهم ،صحيح أن هذا يلزمهم ولكن يوجد فرق بني التصريح وبني اللزوم ،واملصرحني
بذلك منهم معدودون ال يقال عنهم أهنم كثري .
أقرب أسلوب ابن رشد إىل
فقد تبني لك أن حاصل هذه العبارة جمرد هتويل ال قيمة له ،وما َ
أسلوب ابن تيمية ،بل ما أقرب أسلوب ابن تيمية إىل أسلوب ابن رشد؟! فتأمل .
وقال ابن رشد بعد ذلك يف ص (( :79والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على
منهاج الشرع ،فال يصرح فيها بنفي وال إثبات )) اهـ .
كذا قال ،واحلقيقة أن منهاج الشرع كما ادعاه هو القرب من إثباهتا ،ال جمرد عدم النفي
واإلثبات ،فهل يقول ابن رشد بذلك ؟!
ولكن املتأمل بعد كل ذلك مبا ذكرناه قبل ،جيد أن كالمه جمرد مغالطة ال دليل عليها،
فكيف يتصور أن الشريعة تساوي بني اإلثبات والنفي أو أهنا ترجح جانب إثبات اجلسمية على نفيها
عن اهلل تعاىل !!
أي إننا نقول بوضوح أكثر ،إذا كان االتفاق حاصالً بني ابن رشد وبني املتكلمني عامة على
أن اهلل تعاىل ليس جبسم ،فلماذا يصر هو على أن ظاهر الشريعة يرجح أن اهلل تعاىل جسم ،أال يرتتب
على ذلك أن الشريعة وما تريد أن تقوله للناس يف الظاهر باطل ،وليس مطابقاً لألمر يف نفسه ؟!
وهل يريد العقالء أُسلوبا يف االستخفاف بالشريعة أكرب من هذا ،وأصرح !!!ـ
ال يجوز أن يقول قائل :إن املتكلمني أيضاً يقعون يف تأويل ظاهر الشريعة ،فلم االعرتاض
على ابن رشد فقط ؟
والجواب :إن املتكلمني ال يقولون إن الشريعة أرادت أن تفهم الناس أمراً يف الظاهر هو
خمالف للحقيقة ،بل إهنم يقولون إن الناس فهموا بظاهر فهمهم معاين ال تريد الشريعة إثباهتا ،وكان
األصل أن يرجع العامة يف ذلك إىل العلماء لينحل اإلشكال .
األول :أن اجلمهور من الناس ال ميكنهم أن يعرفوا هذه الرباهني اليت أقامها املتكلمون على
نفي اجلسمية .
والثاني :أن اجلمهور من الناي يرون أن املوجود هو املتخيل واحملسوس ،وأن ما ليس مبتخيل
وال مبحسوس فهو عدم .
والثالث :الشكوك اليت تعرض على الشريعة عند نفي اجلسمية .
فهذه األمور الثالثة خالص ما احتج به ابن رشد لقوله ،وأنت ترى أن األول ال قيمة له،
ألنه ال يطالب اجلمهور من الناس باملعرفة التفصيلية لألدلة ،ومل يطلب منهم ذلك أحد من أهل
السنة ،بل غاية ما يطلب منهم هو األدلة اإلمجالية ،واألدلة اإلمجالية على هذه املطالب مقدور عليها
عند بذل أقل جهد ،وقد بني العلماء ذلك كله يف كتب التوحيد .
وأما األمر الثاين :فال نسلم أن اجلمهور على هذا الرأي ،بل منهم من يقول بذلك ومنهم من
ال يقول به ،بل جيوز أن يوجد موجود ال حيس به وال يتخيله الوهم ،وحىت من صدق عليه حكم ابن
رشد ،فال ينبغي أن تنزل الشريعة على رأيه ،بل هو املطلوب منه أن ينزل على حكم الشريعة ،فإذا
كانت الشريعة تقول :إن اهلل تعاىل ليس جبسم ،وفرضنا واحداً من الناس يقول بأنه ال يوجد إال ما
هو جسم ،فإن هذا ينبغي أن يفهم أن كالمه غلط ،وأنه إن مل يقدر على تصور ما تقوله الشريعة،
فإنه جيب أن يفوض ذلك وينزل على حكمها ،وال حيكم هو عليها مبجرد رأيه العاطل وقوله الباطل،
بل عليه أن يقيس قياساً بديهياً ،وهو أن يقول :إن العلماء املشهود هلم حبسن العقل وجودة الفكر،
قد علموا أن اهلل تعاىل ليس جبسم ،ونفوا اجلسمية عنه جل شأنه ،وال جيوز أن يكون هؤالء قد ضلوا
الطريق وأصاهبا هو ،ال سيما إذا اعرتف أنه ال حيسن ما يعلمونه من علوم كثرية نافعة ،ويعرتف
جبودة ذهنهم ،وصدقهم وإخالصهم يف خدمة الدين .
وبعد ذلك كله ،فأن يقول اإلنسان رأياً وال ميلك عليه دليالً ،فإن هذا مبجرده كاف عند
لرد رأيه ،وهذا القياس يعرفة العامة كما يعرفه اخلاصة ،فافهم ذلك ،يتبني لك
العقالء ببداهة العقول ِّ
ضعف قول ابن رشد .
وأما األمر الثالث الذي اعتمد عليه ابن رشد ،فهو باطل وال حجة به ،وذلك يتبني إذا عرفنا
أن الشكوك اليت أثارها ابن رشد واعتربها كافية لرد القول بنفي اجلسمية ليست هي يف نفسها
صحيحة ،وال تقوى على الوقوف أمام األدلة اليت أحضرها النفاة للجسمية عن اهلل تعاىل ،وهم
مجهور العقالء .
وذكر ابن رشد بعد ذلك أن نفي اجلسمية يؤدي إىل إشكاالت يف مبحث الرؤية ،وهو قد
عقد مبحثاً خاصاً لتلك املسألة ،وسوف نرى هند مناقشتنا له فيه ما هي هذه اإلشكاالت ،لتعرف
أهنا عبارة عن متحالت .
وذكر أن نفي اجلسمية يستلزم نفي اجلهة واحلركة وأن ذلك يؤدي إىل إشكاالت يف
الشريعة ،واحلق أن ذلك ال يؤدي إىل إشكاالت ،بل إن الشريعة تظل مفهومة حىت مع نفي كل
ذلك ،ألن باب التأويل القريب املطرد مع قواعد اللغة مفتوح ،وألن كثرياً من النصوص اليت يتومهها
مشكلة كإتيان الرب يوم القيامة قد بينت يف أحاديث ونصوص أخرى بأن ذلك كناية عن إتيان
املالئكة أو إتيان موعد احلساب ،وكذلك نزول الرب يف الثلث األخري من الليل ،معناه أن اهلل تعاىل
يأمر ملكاً يف ذلك الوقت فينزل ،وامللك هو الذي ينادي يف الناس أال من داع فيستجاب له ،أال من
مستغفر ُفي ْغ َفُر له .
فالحقيقة أنني كلما تمعنت في قراءة كتاب ابن رشد هذا ازددت استصغاراً له لما يتبعه
من أساليب وطرق نازلة للوصول إلى أهدافه المعلومة ،هذا مع ما يظهر في هذه األساليب من
مغالطات وسفسطة بينة ،ومع أنه يقول فيها ما ال يعتقده ،ويوهم الناس أن للشريعة ظاهراً
يخالف ياطنها وذلك من دون أدلة كافية وال مقنعة .
وسوف يزداد تفهم القارئ لكالمنا هذا كلما قرأ أكثر من هذه التعليقات .
قال ابن رشد يف ص (( :81ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور الكتفى بذلك
الخليل صلى اهلل عليه وسلم في محاجة الكافر حين قال له ( :ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت )
اآلية ،ألنه كان يكتفي بأن يقول له أنت جسم واهلل ليس بجسم ،وألن كل جسم محدث كما تقول األشعرية/
)) اهـ .
فتأمل رمحك اهلل تعاىل يف هذا الكالم لتعرف مدى وعظم املغالطات اليت يعتمد عليها ابن
رشد يف كالمه .
فإن سيدنا إبراهيم عليه السالم ،مل يكن ليقول لواحد يدعي عن نفسه أنه الرب مناقشا إياه
الرب ليس جبسم ،ألن هذا ال يفيد يف تلك احلال ،وبيان ذلك كما يلي:
إن الكافر ملا ادعى الربوبية لنفسه ،علم سيدنا إبراهيم أنه ال يعتقد بأن الرب جيب أن يكون
غري مشابه للناس ،وعلم أنه ال يعتقد أن الرب جيب أن ال يكون مولوداً ،وعلم منه أنه ال يعتقد أن
الرب جيب أن ال يكون حمتاجاً إىل غريه من اجلنود والسحرة واملعاونني ،وغري ذلك ،فلما كانت هذه
هي حال ذلك الكافر مل يكن من املناسب إلبراهيم أن ينكر عليه باستعمال ما ال يسلم هو به ،مع أن
ذلك كله منفي عن اإلله باتفاق اجلميع ،ومن ضمن ما هو منفي عن اإلله كونه جسماً ،ولكن
املوضع موضع مناظرة ،واملناظرة يستعمل فيها إلفحام اخلصم املقدمات اليت يسلم هبا ،ال املقدمات
اليت ينكرها ،ولذلك فقد استعمل إبراهيم املقدمة اليت يسلم هبا هذا الكافر ،وهذه املقدمة هي القدرة
على اخللق كاإلحياء واإلماتة ،فلذلك قال له إبراهيم :ريب الذي حييي ومييت ،فقال له ذلك الكافر:
أنا أحيي وأميت ،وهذا االدعاء من الكافر ال يتم له إال إذا كان يدعي القدرة على مطلق اخللق ،ألن
القادر على اإلحياء واإلماتة ،قادر على مجيع األفعال األخرى ،ألهنا من جنس واحد ،فلما عرف منه
إبراهيم ذلك االدعاء ،استعمله ضده فقال :فإن اهلل يأيت بالشمس من املشرق فأت هبا من املغرب،
وذلك ألن األفعال واحدة والقادر على فعل جيب أن يقدر على ما هو من جنسه ،فلذلك هبت الذي
كفر ،والبهت هو أشد أنواع اإلفحام يف املناظرات ،وذلك ألن إبراهيم استعمل مقدمة اعتمد عليها
اخلصم يف معارضته يف مذهبه الذي يذهب إليه.
هذا هو أصل مناظرة إبراهيم عليه السالم للكافر ،وهكذا جيب أن تفهم ،ال كما ادعى ابن
رشد وتابعه فيه ابن تيمية .
ولو كان اجملال مناسباً لطولنا لك يف شرح أصول مناظرة إبراهيم معليه السالم واستخرجنا
لك منها قواعد التوحيد .
ومن ذلك تعرف األسلوب املاكر الغريب الذي يعتمد عليه ابن رشد يف بناء أقواله ،وهذا
األسلوب ال خيلو صاحبه من أحد أمرين:
والثاني :أن يكون عارفاً هبا ولكن يستخدم هذه املغالطات عن قصد وتدبري .
وكل من احلالني أسوأ من صاحبتها وتؤدي بصاحبها إىل السقوط الشديد من مراتب النظر
والفكر .
وكذلك وبناءاً على نفس األصول ،ينهدم قول ابن رشد يف توجيه إرشاد النيب عليه الصالة
والسالم ألمته يف أمر الدجال ،وحنن قد َبيَّـنَّا شيئا من ذلك يف حاشيتنا على تهذيب شرح السنوسية
.
وهكذا فأنت ترى أن طريقة ابن رشد يف تفسري الشريعة موغلة يف التأويل مع أنه يوهم
القارئ أنه جيري فيها على ظاهرها ،ولكن أين هذا االدعاء من القول بأن ظاهر الشريعة دال على
معاين ليس صحيحة يف نفس األمر ،بل هي غلط حمض ،وأن الشريعة أرادت من العلماء أن يعتقدوا
ما بطن منها ،وأرادت من اجلمهور أن يعتقدوا ما ظهر منها !!
وهكذا يصبح الناس إذا التزموا مذهب ابن رشد فريقني كل منهما يعارض اآلخر يف
معتقده ،وكل منهما يقطع أن ما يعتقد به هو احلق يف نفسه .
فأين هذا احلال من الطريقة اليت بينها املتكلمون واليت ينتهي األمر هبا إىل أن يكون العامة
واخلاصة يتمسكون بنفس األمر واألحكام ،وال تفاضل بينهما إال من جهة العلم التفصيلي والعلم
اإلمجايل ،وبالتايل يكون التوافق التام حاصالً بني مجيع الناس ،وبذلك ال يستطيع فريق منهما أن يبدع
وال أن يفسق فضالً عن أن حيكم بتكفري الفريق الثاين .
إن العاقل مبجرد علمه هبذه النتيجة يقطع جزما أن طريقة ابن رشد طريقة متهاوية فاسدة ال
قيمة حتتها إال كثرة التشغيب والسفسطة املغالية .
وابن رشد ملا اختار أن ال ينفي اجلسمية عن اهلل تعاىل وال يثبتها ،لزمه أن يتعرض لإلشكال
ُ
الالزم على طريقته ،وهو إذا كان اهلل ال يقال فيه :إنه جسم ،وال يقال فيه :إنه ليس جبسم ،فما
اجلواب على من سأل ما هو ؟
وسنبني فيما يلي كيف يتصدى ابن رشد للجواب بناءا على طريقته وكيف يقع يف
مغالطات وهتافتات عديدة ،وهذا كله الزم ملقدماته .
إن ابن رشد قال يف اجلواب على القول ما هو اهلل (( :فيقال لهم:إنه نور ،فإنه الوصف الذي
وصف اهلل به نفسه في كتابه العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته فقال تعالى( :اهلل نور
السموات واألرض) )) اهـ اخل كالمه .
إن هذا اجلواب قد اختاره ابن رشد ليتخلص من اإلشكال الذي أشرنا إليه سابقاً ،ولكن هل
فعالً ينجو هبذا األمر؟!
إنه يدعي أن وصف اهلل تعاىل بالنور يف اآلية إمنا جاء على جهة ما يوصف الشيء بالصفة
اليت هي ذاته ،وهذا باطل قطعاً ،فإن اآلية مل تصف اهلل تعاىل بالنور ،بل أخربت عنه بأنه نور
السموات ،ومل تقل اآلية إنه نور مطلقاً ،وفرق بني أن تقول :إن اهلل نور ،وبني أن تقول :اهلل نور
السموات واألرض ،فمعىن اآلية يكون أننا إذا اعتربنا السموات واألرض أي نظرنا إليهما نظراً عقلياً،
والحظنا نسبتهما إىل اهلل تعاىل ،لوجدنا أن اهلل تعاىل بالنسبة هلما كالنور ،ومها كاملتنور باهلل تعاىل،
والنور معناه اإلضاءة والوضوح يف الوجود والتجلي ،واهلل تعاىل هو الذي يوجد السموات واألرض
وخيرجهما من ظلمة العدم إىل نور الوجود .فاهلل تعاىل كالنور بالنسبة إىل السموات واألرض ،وليس
هو ذاته نوراً ،فإطالق النور عليه تعاىل يف اآلية إطالق جمازي وكنائي ،ال خيالف يف هذا إال مغالط
كابن رشد .
ومما يشري إىل ذلك أنه أخرب عن كونه نوراً بقيد اإلضافة إىل السموات واألرض ،وهذا معناه
أنه ال يطلق عليه أنه نور إال مبعىن إضايف ،وما هو معىن إضايف ال يقال عنه إنه أطلق على اهلل تعاىل
على جهة ما يوصف الشيء بالصفة اليت هي ذاته ،فإن هذا ادعاء بعيد عن احلقيقة ،فإن الذات ليست
أمراً إضافياً ،وإطالق النور على الذات إمنا جاء ملعىن إضايف ،فكيف يقال :إن النور أطلق على الذات
لبيان حقيقتها .
وهلذا فقد قال العلماء يف هذه اآلية إن معناها إن اهلل ُمَن ِّو ُر السموات واألرض خبلقه هلما
وإجياده ،ومل يقولوا بناءاً عليها إنه نور بالفعل .
إذن فإن ما فعله ابن رشد هنا هو أمر شنيع جداً ،وهو مغالطة حمضة انبنت على معارضته
لألشاعرة ،وهو قريب جداً من أن يكون حتريفاً للقرآن للوصول إىل أهدافه ؟!
ونفس ما قلناه على النور يف هذه اآلية يقال أيضاً على قول النيب عليه السالم ملا سألوه يف
اإلسراء هل رأيت ربك (( :نور أنَّى أراه )) ،أي هو كالنور الشديد اإلضاءة وال يستطيع أحد أن
يتحمل رؤية مثل هذا النور ،فكذلك ال أستطيع أن أرى ذات اهلل تعاىل ،ومل يقصد النيب عليه السالم
إنه نور على احلقيقة .
وكذلك احلديث القائل بأن هلل تعاىل حجاباً من نور ،فإنه حيمل على نفس املعىن .
وكما ترى فإن هذه املعاين مجيعها بعيدة عما اقرتحه ابن رشد ،بل ومعارضة له يف النهاية .
ثانياً :الكالم على الجهة
وبعد ذلك شرع ابن رشد يف الكالم على اجلهة ،فقال يف ص (( :83وأما هذه الصفة فلم
يزل أهل الشريعة من أول األمر يثبتونها هلل سبحانه ،حتى نفتها المعتزلة ،ثم تبعهم على نفيها متأخرو األشعرية
كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ،وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة )) اهـ .
هبذه العبارة اخلطرية استهل ابن رشد كالمه يف اجلهة ،وبكل جرأة أطلق هذا االدعاء
العجيب ،وهذا تسرع كبري من واحد مثل ابن رشد ،وسوف يؤدي به إىل الوقوع يف مغالطات
وسفسطات كثرية نبينها هنا إن شاء اهلل تعاىل .
ومعىن كالمه هذا أن مجيع األشاعرة واملعتزلة والشيعة واإلباضية والزيدية وغريهم من الفرق
الذين نفوا اجلهة ،هؤالء كلهم خمالفون ألصول الشريعة ،وخمالفون للسلف الصاحل ،الذين يزعم ابن
رشد أهنم كانوا يثبتون اجلهة هلل تعاىل .
والثابت يف كتب الفرق اإلسالمية أن الذين كانوا يثبتون اجلهة هلل تعاىل هم فقط اجملسمة
واحلنابلة الذين تبعوهم ،فاجملسمة واحلنابلة عند ابن رشد وهم القائلون باجلهة هلل تعاىل يدعي أهنم هم
املمثلون والعارفون مبعاين الشريعة .
مع أن املطلعني على علم التوحيد يعلمون جيداً أن القائلني باجلهة هلل تعاىل هم أبعد الناس
عن معاين الشريعة ،ولو كان هذا األمر من األسس واألصول الكبرية اليت كما يدعي ابن رشد واليت
صرح هبا الشرع هبذا الوضوح ملا جاز عقالً أن حيصل فيها مثل هذه املخالفة من أكثر الفرق
اإلسالمية .
وهذا األسلوب من االستدالل على األصول الدينية اليت يدعي فيها صاحبها أنه مصرح هبا
يف الشريعة ،أسلوب صحيح ،وهو أيضاً ميكن أن يستعمل يف مناقشة الشيعة يف قوهلم أن النيب عليه
الصالة والسالم قد أوصى لعلي بن أيب طالب باإلمامة الكربى ،وأن هذا النص كان معروفاً مث أعدمه
الصحابة ومل ينشروه ومل يعملوا مبقتضاه ،بل خالفوه ،ومل ينكر عليهم أحد هذا الفعل ،فلو نظرنا يف
هذا األمر لرأيناه جمرد ادعاء من الشيعة يف أن هذا النص كان موجوداً ،واحلقيقة أن هذا النص
موجود فقط يف أذهاهنم .
وكذلك يقال يف مسألة ابن رشد ،فإنه يدعي أن اجلهة كانت مصرحاً هبا يف نصوص
الشريعة ،وأن سائر السلف كانوا يعتقدون هبا ،حىت جاء املعتزلة واألشاعرة فأنكروها ،ولو انتبهنا إىل
أن املعتزلة واألشاعرة إمنا ظهروا بعد زمان ليس أقل من مائة عام ،لكان مفهوم كالم ابن رشد أنه
خالل هذه املائة عام كان أهل الشريعة ينصون على إثبات اجلهة هلل تعاىل ،وحيتجون على ذلك
بالنصوص الصرحية الدالة على ذلك ،وال أحد منهم يعارض ذلك اإلثبات ،حىت جاء هؤالء فأنكروا
إثبات اجلهة .
ولو علمنا أن سائر املسلمني بعد ذلك سلموا لألشاعرة واملعتزلة وغريهم من الفرق
اإلسالمية يف هذا النفي ،وأن األقل فقط بقوا على إثباهتم للجهة يف حقه تعاىل ،لكانت هذه احلال
توافق كما لو أن الشريعة قد حرفت عن قصد على أيدي هذا اجلم الغفري من الناس .
فيصبح الناتج أن مجيع هؤالء الناس قد قصدوا حتريف الشريعة ،ووافقهم على ذلك اجلمهور
ومشوا معهم !!
وهذا الفرض الذي يطلب منا ابن رشد متابعته فيه صعب القبول ،ويناقض املعقول واملعلوم
من التاريخ اإلسالمي .
وسوف نشرع اآلن يف نقد كالم ابن رشد بالرتتيب الذي سار هو عليه يف مناقشته هلذه
املسألة ،ولن هنتم مبناقشة النصوص الشرعية اليت استدل هبا على ما يريد ،فإن هذا إمنا يكون أليق عند
مناقشة اجملسمة ،وذلك لعلمنا أن ابن رشد وأمثاله ال يستدلون أساسا بالنصوص ملا أهنم يؤمنون مبا
جاء هبا ،وال ألهنم يعتقدون أهنا تدل داللة أكيدة ظاهراً وباطنا على ما يدعون ،وذلك خالفا
للمجسمة .
وهلذا فقد رأينا أن ال نتكلم مع ابن رشد إال على ما يورده من وجوه يعتقد أهنا عقلية ،فإننا
نبني عند ذلك عدم عقليتها .
وسوف نورد أوال أهم ما قاله ابن رشد يف هذه املسألة ،مث نشرع يف مناقشته .
قال ابن رشد يف ص (( :84وجميع الحكماء اتفقوا على أن اهلل والمالئكة في السماء
كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك )) اهـ .
وقد علل ابن رشد نفي املتكلمني للجهة فقال يف ص (( :84والشبهة التي قادت نفاة الجهة
إلى نفيها ،هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان ،وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية،
ونحن نقول :إن هذا كله غير الزم ،فإن الجهة غير المكان ،وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه
المحيطة به وهي ستة ،وبهذا نقول للحيوان فوق وأسفل ويمينا وشماال وأما وخلف ،وإما سطوح جسم
آخر ،محيط بالجسم ذي الجهات الست .
فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصالً ،وأما سطوح
األجسام المحيطة به فهي له مكان ،مثل سطوح الهواء المحيطة باإلنسان ،وسطوح الفلك المحيطة بسطوح
الهواء هي أيضاً مكان للهواء وهكذا األفالك بعضها محيطة ببعض ،ومكان له .
وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم ،ألنه لو كان ذلك كذلك ،لوجب أن
يكون خارجه جسم آخر ،ويمر إلى غير نهاية ،فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصال ،إذ ليس يمكن
أن يوجد فيه جسم ،ألن كل ما هو مكان يمكن أن يقوم فيه جسم ،فإذا إن قام البرهان على وجود موجود/
في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم ،فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه وهو موجود /هو
جسم ال موجود /ليس بجسم )) اهـ .
مث قال بعد كالم له يف ص (( :85فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل
)) اهـ .
هذا هو حاصل ما اعتمد عليه ابن رشد يف مسألة اجلهة ،وحنن هنا سوف نوضح حقيقة هذه
املسألة ،ونتبع يف ذلك اخلطوات التالية:
ثالثاً :بيان معىن كون اهلل تعاىل ليس يف جهة كما هو مذهب املتكلمني .
رابعاً :الشروع يف نقد كالم ابن رشد وبيان مدى التهافت الذي وقع فيه .
أوالً في بيان معنى الحيز والجهة عند المتكلمين على وجه مختصر
احليز عند املتكلمني :هو البعد املوهوم الذي يشغلُه اجلسم وتنفذ فيه أبعاده .
ومسوه موهوماً ألنه ال يوجد وحده إال يف الذهن ،وحقيقته أن الذهن عندما يالحظ اجلسم،
فإنه يعلم فيه صفة االمتداد يف األبعاد ،ولو يف بعد واحد على األقل ،والعقل عنده القدرة على التفريق
بني ما يالحظه غري مفرتق يف اخلارج ،وهذا يسمى عند البعض بالتجريد العقلي ،أي إن العقل جيرد
بعض املعاين عن البعض ،وذلك ملالحظته أمراً خاصاً يف هذه دون تلك ،وملا يرتتب عليها من
أحكام ،ال تكون األخرى شروطاً فيها .
فاجلسم مثال لكونه متحيزاً فيجب أن يكون حمدوداً ،وذلك بغض النظر عن كون اجلسم
متألفاً من جواهر فردة أو متألفاً من هيوىل وصورة،ـ أو من غريمها مما قد يقول به البعض كالطاقة
واألمواج مثالً ،فاحلكم على اجلسم بأنه حمدود تابع لكونه متحيزاً ،وغري تابع لكونه من أحد األمور
السابقة .
وهلذا فإن العقل جيرد هذا املعىن الذي هو التحيز والتابع للجسم ،أو الذي هو جزء من
حقيقته ،أو هو متام حقيقته يف الواقع ،ويرتب عليه األحكام املرتتبة ومن دون مالحظة حقيقة اجلسم
يف نفسه .
فاملتكلمون يالحظون يف األمر جمرد كونه متحيزاً ،مث حيكمون عليه باحملدودية ،بغض النظر
عن األصل الذي يتألف منه ،وحيكمون عليه باالفتقار ،ألن أصل التحيز يلزم عنه االفتقار مطلقاً كما
بينوه يف كتب علم الكالم .
ولذلك يقول البعض منهم :إن احليز هو من املعقوالت الثانية أي اليت ال يالحظها العقل
وحدها يف اخلارج مباشرة ،بل إنه جيردها مما هو مالحظ لذاته وهو اجلسم .
فاحليز بناءاً على هذا التفسري وهو التفسري املعتمد عند األشاعرة ،هو من األعراض الذاتية،
وهو غري موجود يف نفسه .
وأما الجهة فإهنا من األعراض النسبية اإلضافية ،أي اليت ال ميكن للعقل أن يفهمها إال
مبالحظة أمرين ال أمر واحد كما يف احليز .
وبيان ذلك أن اجلهة هي يف التعريف مقصد املتحرك من حركته ،فاملتحرك إذا حترك فإنه
يقصد حيزاً معيناً أو حداً معيناً حليز ،ال فرق يف احلقيقة ،فإن املتحرك نفسه له حيز ،وينتقل من حيز
إىل حيز ،وال يوجد متحرك غري متحيز .
وهلذا فإن اجلهة ال توجد يف اخلارج وحدها ملا أهنا إضافية باملعىن السابق .
فاملتحيز ( =اجلسم ) املتحرك يقصد االنتهاء يف حركته إىل حد جلسم آخر ،فالبعد الذي
املنتهى إليه هو اجلهة يف حق هذا املتحيز .
يقطعه ينتهي منه إىل حد آخر هو اجلهة املقصودة،ـ فاحلد َ
واعلم أنه يكفي إلطالق اجلهة على احملدود إمكان احلركة إليه وليس حصوهلا بالفعل ،وقد
يكفي يف ذلك إمكان تصورها ولو بالوهم ،وهذا قوي .
وهكذا فإننا نعلم أن اجلهة واحليز واحلد واحلركة أمور متالزمة ال ينفك واحد منها عن
اآلخر ،إذا توفرت شروطها .
ومن هاهنا فإن احليوان ملا أمكنه أن يتحرك إىل ستة جهات ،وهي األسفل واألعلى واليمني
والشمال واألمام واخللف ،صارت له هذه األمور جهات ،فصار يقال له ست جهات ،وصار البعض
يطلق على هذه اجلهات اجلهات احليوانية .
وأما األجسام الطبيعية فإهنا إذا تركت وحدها فإهنا إما أن تتحرك إىل أسفل وإما أن تتحرك
إىل األعلى ،وهذه احلركة مشروطة يف احلقيقة مبا يسمى باجلاذبية أو بالرتكيب الكوين الزمكاين ،أو
حبسب اختالف املادة الكونية شدة وضعفاً ،واختالف تركيزها ،على أي حال .
وبناء على أي من هذه األقوال فإن اجلسم الطبيعي أقصد غري املتحرك بإرادته كاحلجر ،ال
يتحرك إذا ترك وحده إال إىل أسفل أو إىل أعلى ،هذا إن مل ميانعه مانع ،فلما كان للحجر والنار مثالً
واهلواء والرتاب واملعادن وغري ذلك من األجسام الطبيعية هذان االحتماالن ،صار يقال إن اجلهات
الطبيعية هي فقط العلو والسفل ،ويقصد من ذلك أن هذه اجلهات الزمة للموجودات الطبيعية غري
املتحركة باإلرادة .
وعند التحقيق يتبني لك أن مجيع اجلهات إضافية وليست الزمة للموجودات .
وابن تيمية توهم أن هاتني اجلهتني ومها العلو والسفل الزمتان ألصل الوجود ،وأن الوجود
يف نفسه ال ينفك عنهما ،فسمامها جهتني الزمتني ،ولذلك قال :إن اهلل تعاىل ملا كان موجوداً ،فإنه
يلزم أن يوجد يف جهة ،فهذه اجلهة إما أن تكون العلو وإما أن تكون التحت ،فاختار لربه جهة العلو
!!
وهذا الكالم مبين من ابن تيمية على قياس الغائب على الشاهد ،كما ترى ،ومن أخربه حىت
على التسليم بأن كل ما شاهدنا وجوده فإنه ال ينفك عن اجلهتني ،أن اهلل تعاىل مبا أنه موجود فهو
كذلك ال ينفك عن واحدة منهما؟! ال مصدر لديه يف ذلك إال قياس الغائب على الشاهد .
وحنن قد فصلنا يف قول ابن تيمية هذا وبينا أصوله اليت يبين مذهبه عليها يف كتابنا الكاشف
الصغري عن عقائد ابن تيمية .
واعلم أن احليز أعم من املكان عند املتكلمني وقد سبقت اإلشارة إىل ذلك ،وذلك ألهنم
قالوا :إن اجلوهر الفرد يف حيز وليس يف مكان ،ولكن يف هذا احملل لن حنتاج إىل مثل هذا التفريق،
وسوف نفرض التساوي يف املفهومني،ـ مع مالحظة أن املعتزلة قالوا :إن اجلسم ال يكون إال من ثالثة
أبعاد ،وأما األشاعرة فإهنم قالوا إن املمتد ولو يف بعد واحد يسمى جسماً .
وهذا البيان حلقيقة اجلهة واحليز عند املتكلمني كاف ملقصدنا هنا .
فاعلم أن املعىن السابق للجهة كما أوضحناه عند املتكلمني ال خيالفه الفالسفة إال من نواحي
معينة ،وأما يف املعىن العام فإهنما متساوقان .
وسوف نورد إليك فيما يلي بعض األقوال الشارحة حلقيقة مذهب الفالسفة يف اجلهة .
قال اإلمام الرازي يف شرحه على عيون احلكمة ( (( :)2/65الجهة شيء موجود ،بدليل أنه
مقصد للمتحرك أو متعلق اإلشارة الحسية ،وكل ما كان كذلك فهو موجود /،ثم نقول :وهي من الموجودات/
المحسوسة بدليل أنها متعلق اإلشارة الحسية ،ثم نقول أيضاً :وهي حد غير منقسم ،إذ لو انقسم لكان
المتحرك إذا وصل إلى نصف ذلك المنقسم ثم بقي متحركا فإن قلنا إنه متحرك بعد إلى الجهة ،فالجهة وراء
المنقسم ،وإن قلنا إنه يتحرك عن الجهة فالجهة هي ذلك المنقسم ،وما وراءه خارج عن الجهة )) اهـ .
وقال ابن سينا يف عيون احلكمة (( :كل جهة فهي نهاية وغاية ويستحيل أن تذهب الجهة في غير
النهاية ،إذ ال بعد غير متناه ،وإذ لو لم يكن إليها إشارة لما كان لها وجود ،وإذا كان لها إشارة فهي حد،
ليست وراء ذلك ،ولو كان حد ما أمعنت إليه الجهة ،لم يحصل ،لم تكن الجهة موجودة لشيء )) اهـ .
وفسر اإلمام الرازي هذه العبارة بقوله يف ( (( :)266إن الجهة تكون مقصد المتحرك ،بمعنى
أن المتحرك يطلب الوصول إليه والحصول فيه ،ولو كانت الجهة غير متناهية ،المتنع كونها كذلك ،ألن
الوصول إلى غير المتناهي واالنتهاء إليه محال ،وهذا هو المراد من قوله لو كان حد ما أمعنت إليه الجهة لو
لم يحصل له حد ونهاية لم يكن الوصول إليه مطلوباً بالحركة ،فلم يكن مقصداً للمتحرك ،فلم يكن الوصول
إليه مطلوباً للحركة ،فلم يكن مقصدا للمتحرك ،فلم تكن الجهة موجودة لشيء .وهذا هو تفسير هذه
األلفاظ بقدر اإلمكان )) اهـ .
وقال هبمنيار يف التحصيل ص (( :606إنه قد سلف حيث تكلمنا في التناهي وغير التناهي أن
ترك وقص ٌد ،وحيث
الجهة متحددة ،وأنه إذا تحدد السفل تحدد العلو ،فكلما وجدت حركة مستقيمة تعيَّ َن ٌ
تعين ترك وقصد يتعين مبدء ومنتهى ،فكلما وجدت الحركة المستقيمة وجب أن يكون مبدء ومنتهى ،ونحن
نسمي ذلك جهة .
وال يصح أن يتحرك شيء من جهة إلى جهات كثيرة وإال لم يكن الحركة طبيعية ،فيجب أن تكون
الجهة اثنين ،فإحداهما يسمى فوقا واألخرى يسمى أسفل .
ثم ال يصح أن يكون المبدأ والمنتهى أمرين معقولين لما ستعرفه /من بعد ،فبقي أن يكونا أمرين
ذو ْي وضع .وحيث تعين أحدهما تعين اآلخر ،فلهذا يجب أن يكون البعد من شرط تحدد
مشارا إليهماَ ،
الجهة ،ويجب أن يكون كل واحد منهما من اآلخر في نهاية البعد .فيجب أن تكون الجهة ذات وضع غير
منقسمة )) اهـ .
مث قال (( :وال يخلو إما أن يكون تحدد الجهة بجسم واحد أو أكثر من جسم واحد ،فإن كان
أكثر من جسم واحد فإما أن يكون بجسمين أو بأكثر منهما ،فإن كان بجسم واحد فإما أن يكون مستديرا
أو غير مستدير ،فإن كان مستديرا فإما أن يكون على سبيل اإلحاطة أو على سبيل المركز ،فإن كان على
سبيل المركز تحدد إحدى الجهتين ولم يتحدد األخرى ،فبقي أن يكون على سبيل اإلحاطة .
وذلك إما أن يكون بافتراض حدين في سطحه الخارج أو في سطحه الداخل ،ولو كان يتحدد
الجهتان بافتراض حدين في سطح واحد لكان اختالف الجهتين الختالف أمرين متفقين في النوع مختلفين
في العدد ،والتالي محال ،فإذن إنما يصح أن يحدد الجسم المستدير الموجود على سبيل اإلحاطة الجهتين
بأن يتحدد إحدى الجهتين به واألخرى بمحويِِّه ،وهذا هو المركز أو ما هو في حكم المركز )) اهـ .
ولنجمل هذا الكالم فنقول :إن التحديد إما أن يكون بجسم مستدير أو أجسام مستديرة ،ألن
المحدد يجب أن يكون جسما طبيعيا ،ولو كان المحدد جسمين أو أكثر لزم أن يكون قد تحددت الجهة من
قبل الجسمين أو األجسام ،وأن يكون تلك األجسام يصح عليها مفارقة أمكنتها ،ومحدد الجهات ال يصح
عليه مفارقة مكانه /.ولو كان المحدد جسما واحدا مستديرا وتحدد منه سطح القرب وسطح البعد ،لزم أن
يكون الشيء الواحد مطلوباً ومهروباً عنه ،فيجب أن يكون المستدير المحدد يحدد على سبيل اإلحاطة
والمركز ،فيجب أن يكون هذا الجسم متقدما /على سائر األجسام التي يتحرك على سبيل االستقامة /حتى
يصح وجود الحركة المستقيمة .
وأما سائر الجهات أعني قدام وخلف ويمين ويسار فلألجسام بما هي حيوانات .
وهذا الجسم ال يصح عليه االنتقال بالحركة المستقيمة ،ألنه ال يخلو إما أن يقتضي طباعه الكون
في تلك الجهة أو ال يقتضي ،فإن لم يقتض فكيف يتحدد به الجهة ،وجائز أن ال يكون هناك ،وإن اقتضى
طبعه الكون في تلك الجهة وكان مع ذلك جائزاً أن يعرض له أن ال يكون في تلك الجهة ،وهو بالطبع
يطلبها ،وجب أن يكون تلك الجهة حاصلة /حتى يطلبها هذا الجسم بكليته وأجزائه ،فال يكون الجهة
متحددة الذات بهذا الجسم بل بشيء آخر ،وقد فرضت متحددة بهذا الجسم ،وهذا الجسم يجب أن يكون
ُم ْب َد َعاً )) اهـ .
فهذا بعض ما قاله هبمنيار تلميذ ابن سينا يف معىن اجلهة ،وأما املكان فقد قال يف ص378
من نفس الكتاب (( :والمكان قد يُعنَى به ما يكون محيطا بالجسم ،وقد يعنى به ما يستقر عليه الجسم،
والمطلوب في هذا المكان هو األول ،وهو حال للمتمكن ،مفارق له عند الحركة مسا ٍو له ،ألن الشرط أن
ال يوجد جسمان في مكان واحد ،والمكان يفارق المتمكن عند الحركة ،والهيولى والصورة ال يفارقان
المتمكن عند الحركة ،فالمكان ليس بهيولى وال صورة ،وأيضاً فإن المكان يكون الحركة فيه ،والصورة
والهيولى تكون الحركة معهما ،فبين أن المكان ليس بهيولى وال صورة .
فمنها أن يقال إنها أبعاد مفطورة بين األجسام من األجسام ،والقائلون بهذا على قولين ،فمنهم من
قال إن هذا البعد ال يوجد خالياً عن متمكن ،ومنهم من قال إنه قد يوجد خالياً ،وهؤالء هم القائلون بالخالء،
ومنهم من قال إنه الهيولى والصورة ،ومنهم من قال إنه السطح من الجسم الحاوي المماس للمحوي ،وقد
أبطلنا مذهب من قال إن المكان هيولى أو صورة ،وحجة القائلين باألبعاد تقرأ من كتاب الشفاء ،وسنورد في
خالل ما نتكلم فيه جمال منها )) اهـ .
مث قال يف ص 391وذلك بعد أن ناقش األقوال األخرى (( :فإذن قد اتضح لك أن المكان
ليس هو هيولى الشيء وال صورته وال خالءا وال بعدا ،فال بد من أن يكون شيئا من الجسم ،فإما أن يكون
على سبيل التداخل وإما أن يكون على سبيل اإلحاطة ،وقد بان لك امتناع التداخل فإذن يكون على سبيل
اإلحاطة .
وإذا قيل :إن المكان مسا ٍو للمتمكن ،فليس يُعنَى به جسم المتمكن ،بل يعنى به سطح المتمكن،
ومساوي السطح سطح ،فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن ،وهو نهاية الحاوي المماسة لنهاية
المحوي ،وقد عرفت من هذا أن المكان سطح ال مقدار آخر ،والخط والسطح والنقطة لما كان انتقالها
بالعرض مع الجسم ،لم يكن في مكان بالذات ،وإنما المكان لما يتحرك بالذات .
والمكان وإن كان ال غنى عنه في الحركة ،فليست علة فاعلية للحركة ،ألن العلة الفاعلية للحركة
القسرية معلومة ،وكذلك علة الحركة اإلرادية ،وهما غير المكان ،وليس كل ما ال يستغنى عنه علة فاعلية.
فإن العلة أيضاً ال بد لها من المعلول /،وليس المعلول /بعلة للعلة ،بل العلة هي التي ال بد منها ،وهي لذاتها ال
لغيرها أقدم من المعلول /في الوجود ،وسبب لوجود المعلول /على ما نبنيه )) اهـ .
مث قال (( :فالمكان أمر الزم لموضوع /الحركة ،فإن موضوع الحركة من حيث هو جائز عليه
التحرك وهو في مكان ال محالة )) اهـ .
ثالثاً في بيان معنى كون اهلل تعالى ليس في جهة عند المتكلمين
اجلهة عند املتكلمني كما بيناه هي عبارة عن نسبة بني جسمني ،واألجسام هي املتحيزة
بذاهتا وكل جسم حمدود ،فكأن املتكلمني أرجعوا اجلهة إىل نسب بني أي جسمني ،ومل يرجعوا
اجلهات كلها إىل جسم واحد فقط ،وهلذا فإن اجلهات عندهم إضافية ليست ثابتة ،خالفا للفالسفة .
ولو تأملنا يف نفس األمر ،لوجدنا قوهلم أصح مما قاله الفالسفة ،فال معىن لوجود جهة عامة
أو كلية ،تتحدد جبسم حيوي مجيع األجسام .
وأما كون اهلل تعاىل ليس يف جهة فمعناه عند املتكلمني أن اهلل تعاىل ال يوجد بينه وبني أي
جسم مناسبة وال بعد ،وهذا راجع إىل كون اهلل تعاىل ليس حمدوداً ،ملا رأينا .
مث إن أصل القول باجلهة هو القول بوجود حمدود وحمدِّد ،وبالنسبة هلل تعاىل ملا مل يكن
متحيزاً فإنه استحال عليه أن يكون يف جهة وأن يكون يف مكان ،وال معىن للقول بأنه يف جهة وأنه
ليس يف مكان ،وهذا بناءاً على قول املتكلمني .
وأما الفالسفة ،فإن املكان عندهم هو السطح الباطن من احلاوي املماس للسطح الظاهر من
احملوي ،فلو فرضنا اهلل تعاىل يف جهة عندهم ،كما يدعي ابن رشد ،باعتبار أنه يف السماء أي فوق
الفلك األعلى ،لكان ال حمالة حمدوداً ،كما سنوضحه يف مناقشتنا له ،وأما أن يكون يف مكان ،فهذا
ليس بالزم على رأيهم ،وأما لو اعتربنا تعريف املكان عند املتكلمني الذي ينفيه أيضاً عن اهلل تعاىل
الفالسفةُ ،فإن اهلل تعاىل ليس يف مكان أيضاً .
أي إن احلاصل أن اهلل ليس يف مكان وال يف حيز بناءاً على معىن املكان واحليز عند
املتكلمني ،وأما بناءا على رأي الفالسفة فهو ليس أيضاً يف مكان ،وكذلك بناءاً على رأي ابن رشد،
وأما اجلهة فإن اهلل تعاىل ليس يف جهة بناءا على رأي املتكلمني ،وأما على رأي الفالسفة فهو ليس يف
جهة أيضاً لتالزمها مع احملدودية ،وهم قد نفوا كون اهلل تعاىل حمدوداً ،وأما على رأي ابن رشد فهو
يف جهة؟! وهذا هو حمل االستغراب .
هذا هو حاصل هذه املسألة العويصة ،قد بيناها لك بصورة مل يوضحها أحد من السابقني،
أقصد بيان هتافت رأي ابن رشد ،وسوف يزداد ذلك لك وضوحاً فيما يلي .
رابعاً الشروع في نقد كالم ابن رشد
أما قول ابن رشد (( :والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها ،هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة
يوجب إثبات المكان ،وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ،ونحن نقول أن هذا كله غير الزم )) ،فهو
ضعيف جداً ،فإنه يدعي هنا أن إثبات اجلهة ال يستلزم إثبات املكان ،وإثبات املكان ال يستلزم إثبات
اجلسمية ،وهذا باطل .
أما بيان التالزم بني اجلهة واملكان ،فهذا يتضح على رأي املتكلمني ،فإنه يقولون إن احليز هو
املكان ،واملكان هو الفراغ املوهوم الذي يشغله اجلسم وتنفذ فيه أبعاده ،وأما اجلهة فهي نسبة يف
األين بني جسمني أو حمدودين ،ولذلك فهي إضافية ،فبناءاً على ذلك فإنه ال ميكن أن يتعقل الواحد
جهة إال حملدود ،وهذا الكالم صحيح حىت على رأي الفالسفة ،كما سبق بيانه .
فلو قلنا :إن اهلل تعاىل يف جهة ،فإنه يلزم منه مباشرة إنه حمدود ،على األقل من جانب ،وهذا
التالزم بني اجلهة واحملدودية أمهل ابن رشد ذكره هنا ألنه لو صرح به فإنه يعود على رأيه بالبطالن،
ويهدم كالمه هدماً ،مع وضوحه ،فكل من قال بأن اهلل تعاىل يف جهة فإنه يلمه القول بأنه حمدود .
وابن رشد ال جيرؤ على القول بأن اهلل تعاىل حمدود .
وقد أدرك ابن تيمية هذا التالزم بني اجلهة واحلد ،فاعرتف أنه يلزمه بناءاً على مذهبه يف
إثبات اجلهة أن يثبت احلد أيضاً ،فأثبت احلد واجلهة .
وملا كان إثبات احلد ولو من جانب يلزم عنه إثبات احلد من مجيع اجلوانب ،ملا ذكرناه من
انتفاء األبعاد الالهنائية ،فإنه يلزم من قال بإثبات احلد هلل تعاىل أن يقول بأنه حمدود من مجيع اجلوانب،
أما أن يقول إنه حمدود من جانب دون جانب ،فهو قول متهافت ،كما ترى .
وهلذا أيضاً فإن ابن تيمية قد قال بإثبات كون اهلل تعاىل حمدوداً من مجيع اجلهات الست،
وقد بينا ذلك يف موضعهـ .
وأما ابن رشد فلما رأيناه كيف يفر من ذكر احلد هلل تعاىل ،مقتصراً على إثبات اجلهة فقط،
وهذه مغالطة حمضة ،وهدفه من إثبات اجلهة هلل تعاىل هو جمرد خمالفته لألشاعرة ومناقضتهم لكي يتيح
الفرصة أمام فلسفة أرسطو للدخول يف الفكر اإلسالمي .
على كل حال فإنه ملا اعرتف بلزوم القول باجلهة ،فإنه يلزمه على مجيع األقوال حىت على
قول الفالسفة أن يثبت َّ
احلد هلل تعاىل من مجيع اجلهات ،وإثبات اجلهة هلل تعاىل مع إثبات احلد له من
مجيع اجلهات ،يلزم عنه إثبات الوضع ،أي كونه يف وضع بالنسبة إىل غريه من املتحيزات ،وهذا
الالزم بني ال يستطيع أن ينفك عنه ابن رشد وال غري ابن رشد .
فهل بعد ذلك كله ،يستطيع أن يقول :إن إثبات اجلهة هلل تعاىل ال يلزم عنه إثبات اجلسمية
له تعاىل ؟!!
إن جمرد إثبات اجلهة والفرار من إثبات اجلسمية واحلد ،مغالطة سخيفة؟ ال تصدر إال من
فكر بارد .
فظهر بذلك أنه ال وجه لصحة استعاده للتالزم الذي قال به املتكلمون بني اجلهة واجلسمية .
وقد حاول هو الفرار من هذا التالزم بأن قال :إن اجلسم هو املتمكن ،أي احلال يف مكان.
وعرف املكان بناءاً على رأي الفالسفة من أنه السطح الباطن املماس للظاهر من احملوي ،وبناءاً على
ذلك فقط ،أمكنه ادعاء أن اهلل تعاىل يف جهة وليس يف مكان ،الستحالة القول بأنه حموي يف غريه .
ولكن هذا التربير والتخريج ليس بصحيح ملا قلناه من التالزم بني اجلهة واحلد واملكان،
باملعىن الذي قاله املتكلمون .
وأما املكان باملعىن الذي قاله الفالسفة ،فإنه الزم للقول باحلركة ،واحلركة إما وضعية ،وإما
أينية ،فالوضعية عند الفالسفة ممكنة ملا كان يف مكان ،وأما ما ال يكون يف مكان ،فإن احلركة
الوضعية وهي دوران الشيء على مركزه جائزة يف حقه .
فابن رشد يف إثباته للجهة يف حق اهلل تعاىل يكون قد أثبت الوضع له ،فوجب عليه أن جييز
عليه احلركة الوضعية ،وهذا يف غاية الشناعة .
مث لو أكملنا تعقل التالزم بني اجلهة واحلد وبني احلد والوضع ،مث انتبهنا إىل أن احملدود من
جهة جيب أن يكون حمدودا من سائر اجلهات ،فإن التالزم يصري واضحاً بني اجلهة واجلسمية كما
ترى .
تنبيه :الحظ أن الفالسفة قالوا ،إن حمدد اجلهات جيب أن يكون جسماً ،فلو قال ابن رشد:
إن اهلل تعاىل فوق الفلك األعلى ،وأن اهلل تعاىل يف جهة من هذا الفلك ،لصار الفلك يف جهة من اهلل
تعاىل ،وأصبح اهلل تعاىل هو احملدد للجهات كلها وليس الفلك األول ،ويلزم على هذا حىت على رأي
الفالسفة أن يكون اهلل تعاىل جسماً .
واعلم كما سبق أن نقلناه لك أن احملدد للجهات ال يكون إال جسما ،أو حداً جلسم ،وما
كان يف جهة فقد وجب أن يكون جسما أو حداً جلسم .
وعلى أقل تقدير ،فإن احملدود عند الفالسفة جيب أن يكون ممكناً يف ذاته ،وكل ما هو يف
جهة فإنه جيب أن يكون حمدودا ،فيلزم ابن رشد أن يكون اهلل تعاىل ممكناً يف ذاته ،ألنه يف جهة عنده
.
وملا قال الفالسفة :إن حمدد اجلهات كلها هو سطح الفلك األعلى ،وجب أن ال يكون مث
جهة فوق هذا احملدد ،وإال بطل أن يكون حمدِّداً للجهات ،وكالم ابن رشد يناقض هذا الكالم ،فإنه
يقول مبا قاله الفالسفة من احملدد ،ومع ذلك يقول بأن اهلل تعاىل يف جهة ،فيلزمه إما أن يكون اهلل
تعاىل داخل الفلك األعلى ،أو أن الفلك األعلى ليس هو احملدد للجهات ،وحينذاك فقد أثبت
الفالسفة على رأيهم أن احملدد جيب أن يكون سطحاً واحداً ،وجيب أن يكون كروياً ،فيلزمه عند
ذاك أن يكون اهلل تعاىل كروياً وأن يكون هو حمدد اجلهات ،وهذا كله شنيع ال يقول به عاقل ،وأنا
أقول إنه األقرب إىل مذهب ابن رشد .
ويلزم ابن رشد كثري من اللوازم الباطلة ،ولكننا ال ميكن أن نذكرها هنا ملا أن احملل ال يليق
به التفصيل .
ونأمل يف قوله (( :ألن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم ))اهـ .
يريد أن يقول ومبا أن ما فوق الفلك ليس مبكان ،فاملوجود الذي هناك ليس جبسم ،كذا
قال ،وهو قد نسي أن اجلسم إذا كان حميطاً هو الذي يلزم عنه وجود املكان على قول الفالسفة ،وال
جيوز أن يقال ما دام هناك ليس مكاناً ،إذن فاملوجود فيه ليس جسما ،ألن هذا كالم ال معىن له،
فهناك ليس مبكان وال جبهة أصالً ،فال يقال :إن املوجود هناك يف جهة وال يقال إنه يف مكان ،بل
ليس هناك شيء يشار إليه إشارة حسية أصالً .
فكلمة هناك تستعمل عادة يف اإلشارة احلسية ،وحنن استعملناها هنا يف اإلشارة الذهنية ،وهو
استعمال جائز ولكن خيتلط األمر على من مل ميعن النظر .
وتأمل يف املغالطة الكبرية اليت وقع فيها ابن رشد ،فهو قد نفى أن يكون احمليط باجلميع
جسماً ،حبجة إنه ليس يف مكان ،أي ليس يوجد شيء حييط به ،بل هو يثبت له أنه يف جهة فقط،
وهذا سقوط منه ،ألن اجلسمية أمر الزم للشيء وذايت له ،وأما املكان فهو إضايف ،وميكن أن يكون
الشيء جسماً وليس يف مكان أصالً ،كما يف هذه احلال .
فالفالسفة قالوا إن احملدد جسم بسيط كروي الشكل ،وأما ابن رشد ،فيدعي أن ما فوق
العامل أو الفلك احمليط باألشياء ليس جبسم أصالً ،وحجته يف ذلك أنه ال حييط به غريه ،وهذا هتافت
شنيع منه ،بينَّا لك سببها .
فالالزم الذي يلزمه أن يقوله إذن بناءاً على نفس قياسه ،هو مبا أنه ثبت وجود موجود
هناك ،وأنه يف جهة وثبت أنه ال حييط به غريه ،فقد ثبت أنه جسم ليس يف مكان ،وال جيوز أن يقول
إن الثابت أنه موجود ليس جبسم ،فتأمل يف هذه فإهنا نفيسة ،وتكشف لك عن مغالطاته الفاسدة .
وهو يصر بعد ذلك كله يف ص 85على أن ما وراء الفلك األعلى ليس مبكان وليس له
زمان فقال (( :وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان ،وال يحويه زمان ،وذلك أن كل ما يحويه الزمان
والمكان فاسد )) اهـ .
فانظر رمحك اهلل تعاىل كيف يشري إىل ما فوق الفلك األعلى بأنه موضع ،وهذا يثبت لك أنه
يقول بأن اهلل تعاىل ذو وضع كما أفهمناك سابقاً ،مث يقول إن ذلك املوضع ليس مبكان،وال يف زمان،
وجمرد هذا عنده أجاز وصحح أن يكون اهلل تعاىل فيه؟! تعاىل وتقدس عن هذا املذهب الفاسد .
واحلاصل أن يف كالم ابن رشد هتافتات كثرية ومتتالية ،وال نستطيع أن نعددها لك كلها
هنا ،ولكننا اقتصرنا على لفت نظرك إىل بعضها ،واهلل املوفق .
وتأمل هنا زيادة على ما ذكرناه لك قوله يف ص (( :84وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن
أنه ليس خارجه جسم ،ألنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ،ويمر األمر
إلى غير نهاية )) اهـ .
فإن هذا الكالم ليس بالزم وال حىت على مذهب الفالسفة ،ألنه ال يشرتط يف الشيء لكي
يكون جسماً أن يكون حماطاً جبسم آخر ،أو بسطح حيدده ،وبالتايل فما ادعاه ابن رشد من استحالة
كون اخلارج عن العامل الذي يف جهة جسماً ،جمرد ادعاء ساذج ،فلو كان هناك شيء موجوداً
وحمدداً ومتموضعاً ،ويف جهة لكان جسماً قطعاً وإن مل مثة جسم آخر حييط به .
(( ولكنه وتأمل يف كالمه التايل الذي استشهد به على أن اهلل تعاىل يف السماء ص:85
قيل في اآلراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون اهلل
والمالئكة )) اهـ .
فتأمل رمحك اهلل كيف يستشهد ابن رشد هبذه العبارة وهبذه املعتقدات الفاسدة الوثنية،
وذلك كله جملرد معارضة األشاعرة وحتريك االعتقاد هبم من نفوس الناس ،فهو يقول :إن ما وراء
الفلك اخلارج هو موضع ،وذلك املوضع هو مسكن الروحانيني ،والروحانيون هم اهلل واملالئكة،
فجعل اهلل ساكناً يف مسكن هو ما وراء الفلك اخلارج من العامل ،وهذه هي نفس عقائد الوثنيني كما
هو معلوم .
واملوضع ال ميكن أن يكون إال مكاناً ،ومع ذلك تراه بكل جرأة ينفي أن يكون مذهبه مؤدياً
إىل إثبات املكان هلل تعاىل ،وهذه هي العقيدة اليت يريد ابن رشد من العامة أن يؤمنوا هبا .
وأما اخلاصة فإنه يدعي بكل وقاحة أن عليهم أن ينفوا كون اهلل تعاىل حمدوداً ويف مكان،
فمذهبه يؤدي إىل أن يصبح العامة معتقدين بعقيدة ختالف عقيدة اخلاصة ،وهذا مذهب مرذول!!
وبعد ذلك كله كيف يتجرأ ابن رشد على القول يف ص (( 85فقد ظهر لك من هذا أن إثبات
الجهة واجب بالشرع والعقل )) اهـ ،وكأن ابن رشد لشدة كرهه يف مذهب األشاعرة واملتكلمني َف َق َد
ُر ْش َدهُ ،فكيف يقول فيلسوف بإثبات اجلهة هلل تعاىل ؟! وكيف يدعي أن ذلك موافق للعقل ؟!
وبعد ،فقد تبني لك أن اجلهة اليت ينفيها املتكلمون هي اجلهة الالزمة للحيز واملكان ،وأن
ُ
هذين الزمان لألجسام ،ال يعارض يف ذلك إال مغالط ،وأما ابن رشد فإنه يأيت مبعىن جديد يسميه
جهة ،ويدعي أنه ال يلزم على إثباته إثبات املكان ،وال يشري إىل احلد ،ولكنه يعرتف بأنه موضع،
وهذا لعمري تعارض يف كالمه ألن املكان واملوضع واحد ،إال إذا كان يقول بأن املوضع ليس مبكان
؟! وهو هتافت .
وأما ابن تيمية فإنه اعتمد على جمرد قول ابن رشد بأن الفالسفة يثبتون اجلهة ،واعترب ذلك
كافياً لإلخبار الصحيح عن عقائد هؤالء ،ومل يهمه على أي معىن يثبت ابن رشد اجلهة ،وهل ما
نسبه ابن رشد إليهم صحيح أو باطل؟!
ولكن العاقل يعرف مع ذلك كله أن احتجاج ابن تيمية يف إثبات اجلهة على رأيه بقول ابن
رشد ،هو احتجاج فاسد ،وذلك ألن اجلهة على رأي ابن رشد خيالف مفهومهاـ معىن اجلهة على رأي
ابن تيمية كما رأينا ،فاالشرتاك فقط يف األمساء ،وابن تيمية يعرف ذلك ومل يشر إىل ذلك ُّ
قط .
وكثري من الناس الغافلني يظنون أن ابن رشد موافق البن تيمية يف ذلك ،وأن ذلك بالفعل
عقيدة الفالسفة ،وهذا إمنا يدل على جهلهم وسذاجتهم الفكرية .فاألمر كما ترى أعقد من أن
يكفي لنشره وبيانه جمرد كلمات جوفاء خترج من فم إنسان يشهد على نفسه باجلهل املطبق لكالم
هؤالء .
وأما كالم ابن رشد بعد ذلك يف أصل اخلالف يف أمة اإلسالم فمعظمه هتافت وال نريد هنا
أن نتعقبه لئال تطول هذه املقالة .
ولكن من يقرأ كالمه ويفهم معانيه ،يعلم قطعاً أن مراده إمنا هو الرد على املتكلمني أصالة
ورد مقاالهتم ،وذلك بغض النظر عن صحتها يف نفس األمر أو ال ،وذلك كله متوافق مع مذهبه
وطريقته كما وضحناها لك يف أول هذه املقالة .
فائدة وسوف نورد لك هنا بعض ما ذكرناه في معنى الحيز والمكان في كتابنا شرح
مقوالت السجاعي الذي جمعنا فيه حواشي العطار وزدنا فيه فوائد عديدة .
(( فصل :ويكون الجسم حاصالً في المكان أي في الحيز الذي يخصه ويكون مملوءاً
به ،ويسمى هذا أيناً حقيقياً .
والحيز والمكان مترادفان عند الحكماء على ما صرح به منال زادة في شرح الهداية،
ونقله القاضي مير عن الطوسي في شرح اإلشارات ،لكنه تعقبه بأن المفهوم من كالم الشيخ في
الشفاء أن الحيز أعم من المكان .
وأما عند المتكلمين فعن الطوسي في شرح اإلشارات كما نقله عنه القاضي مير أيضاً
أن المكان غير الحيز ،ألن المكان عندهم قريب من مفهومه /اللغوي ،وهو ما يعتمد عليه
المتمكن كاألرض للسرير ،وأما الحيز فهو عندهم الفراغ المتوهم المشغول بالمتحيز الذي لو
خالءا ،كداخل الكوز للماء .
لم يشغله لكان ً
وعرفوا األين أيضاً بأنه هيئة تحصل للجسم بالنسبة إلى المكان ،وليس هو نفس النسبة
إلى المكان ،بل النسبة إليه من لوازمه ،إذ كون الشيء في مكان أي حصوله فيه يلزمه /النسبة
إلى المكان ،كما ذكره في شرح التجريد .
قال في شرح الطوالع :األين هو حصول الجسم في المكان ،ومفهومه /إنما يتم بنسبة
الجسم إلى المكان الذي هو فيه ،فإن نسبته إلى المكان من لوازمه ال أنه نفس النسبة إلى
المكان اهـ هذه العبارة أوضح من عبارة شرح التجريد )) اهـ .
قلت:
ويف ص 77من نفس كتاب شرح مقوالت السجاعي ُ
(( فصل :اعلم أن المكان لغة موضع كون الشيء ،وهو حصوله .واختلفوا في حقيقته
على ثالثة أقوال:
فقيل هو السطح الباطن للحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي ،وهو قول
ف بلزوم
ض ِّع َ
أرسططاليس ،وتبعه المتأخرون من الحكماء ،وجرى عليه الفارابي وابن سينا ،و ُ
التسلسل ألن كل جسم له حيز ،وحيزه هو السطح الباطن لحاويه المماس للسطح الظاهر له،
وهلم جرا .وحاصل الجواب منع لزوم التسلسل ألنه مبني على أن كل جسم له مكان ،والقائل
بأن المكان هو السطح يقول بأن األجسام تنتهي إلى جسم ليس له حيز ،وله وضع ،فما تنتهي
إليه كرة العالم وهو الفلك األطلس المسمى بالمحدد ،ليس وراءه جسم يحويه ،وله وضع
بالقياس إلى ما يحويه مما دخل فيه من األجسام .
والسطح عندهم عرض حال في الجسم متعلق بأطرافه ونهاياته دون أعماقه ،فليس
حاالً فيها .
وقيل :هو بعد أي امتداد موجود ينفذ فيه الجسم بنفوذ بعده القائم به في ذلك البعد
بحيث ينطبق عليه .وقائل هذا القول أفالطون ،ويسمى بعداً مفطوراً ،بمعنى أنه مقهور مفطور
عليه بالبديهة ،وهو ضعيف أيضاً ألنه لو حصل جسم في بعد مجرد موجود لزم تداخل البعدين
واتحادهما ألن اإلشارة إلى أحدهما حينئذ عين اإلشارة إلى اآلخر ،وتداخل األبعاد باطل ،ألنه
يفضي إلى جواز تداخل العالم في حيز خردلة ،وهو محال بضرورة العقل .
وقيل :هو بعد مفروض /موهوم ،وهذا القول للمتكلمين أي إن المكان على هذا عدم
محض ونفي صرف يمكن أن ال يشغله شاغل ،وهو المراد بالفراغ الموهوم )) اهـ .
ثالثاً :الكالم على الرؤية
هذه املسألة من أشهر املسائل الكالمية بني الفرق اإلسالمية ،وقد كثر فيها النقاش وتفننوا يف
إيراد األدلة على ما يقولون .
وقد اشتهر األشاعرة بقوهلم يف إثبات الرؤية مع نفيهم للجسمية واجلهة ،واختالف املسلمني
إمنا هو منصب على أن من أثبت اجلهة فقد سهل عليه أن يثبت الرؤية ،لقوله باجلسمية ولو باملعىن،
وأما من نفى اجلهة فقد نفى الرؤية الدعائه للتالزم احلاصل بني اجلهة واجلسمية والرؤية .
وأما األشاعرة فقد خرجوا من هذا املضيق وقالوا بنفي اجلهة وإثبات الرؤية ،موافقني يف
ذلك للشريعة ومطردين مع األصول العقلية .
وقد احتار ابن رشد كيف يغالط األشاعرة يف هذه املسألة ،وما هي األساليب اليت يتبعها يف
ذلك ،واحلقيقة كما ستعرفها أيها القارئ أنه وبعد اجلهة الكبري مل يستطع أن يستند إىل أمر يكون
صحيحاً يف نفسه وثابتا حبيث يستطيع االعتماد عليه يف معارضة األشاعرة .
وسوف نبني لك بعض ما وقع فيه هذا الرجل باختصار هنا ،فقد قال يف ص 91وذلك
بعدما أورد رأي املعتزلة يف نفيهم للرؤية (( :وأما األشعرية فراموا الجمع بين االعتقادين أعني بين انتفاء
الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس ،فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج
سوفسطائية متوهمة ،أعني الحجج التي توهم أنها صحيحة وهي كاذبة )) اهـ .
هبذا الكالم استهل ابن رشد نقده لألشاعرة ،ومع أن هذا أول كالمه ،إال إنه وقع فيه يف
مغالطات وأكذوبات عليهم .
فهو يتهمهم هنا بالقول حبجج سوفسطائية متومهة ،واملفروضـ عند العاقل أن ال يلجأ إىل مثل
هذه االهتامات خصوصاً مع العقالء إال إذا كان إثباته ملا يقول يعتمد على أدلة واضحة جلية ال
يستطيع أحد أن يعارضها ،وسوف نرى فيما يلي الطريقة اليت يتبعها ابن رشد يف ذلك ،ويتبني
للقارئ الكرمي هل األدلة اليت يعتمد عليها قوية إىل تلك الدرجة اليت تؤهله للتصريح مبثل هذا االهتام
؟!
وأول املغالطات اليت وقع فيها ابن رشد هي ادعاؤه أن األشاعرة (( فراموا الجمع بين
االعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس )) .
فهل فعل األشاعرة ذلك ،وهل هذا الذي ذكره ابن رشد كان يريده األشاعرة بالفعل،
وعلى أي صورة أراده األشاعرة وما هي الصورة اليت يفهم ابن رشد فيها قوهلم؟! هذه أسئلة جيب
على الباحث املنصف أن جييب عليها قبل الشرع يف حبثه .
إن قول ابن رشد بأهنم راموا اجلمع بني انتفاء اجلسمية وبني جواز الرؤية ملا ليس جبسم
باحلس ،هذا القول فيه مغالطة واضحة ملن يتأمل ،وحنن سنبني قول األشاعرة من كالمهم وذلك قبل
الشروع يف نقد عبارة ابن رشد .
قال اإلمام الغزايل يف كتاب االقتصاد ص (( :95المسلك الثاني وهو الوصف البالغ أن
تقول إنما أنكر الخصم الرؤية ألنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق
وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرائي عند النظر إلى األجسام واأللوان،
وهيهات فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق اهلل سبحانه )) اهـ .
إذن فإن الغزايل وهو من هو عند األشاعرة ،يصرح بواضح العبارة بأن املراد من رؤية اهلل
ليس هو نفس املعىن املراد من رؤية األجسام ،واحلالة اليت حتدث عند إدراك األول ورؤيته ،ليست هي
نفس احلالة اليت حتصل عند رؤية اهلل تعاىل .
وقد رأيت أن ابن رشد يدعي أن األشاعرة راموا إثبات رؤية اهلل تعاىل باحلواس ،وهذا يظهر
منه أنه ينسب إليهم القول بتساوي هاتني احلالتني ،وهذا باطل كما تبينته من كالم الغزايل .
مث قال اإلمام الغزالي (( :ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق
ونسكبه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق اهلل سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى
رؤية حقيقية أثبتناه في حق اهلل تسبحانه ،وقضينا بأنه مرئي حقيقة وإن لم يكن إطالق اسم
الرؤية عليه إال بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع ،واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل .
وتحصيله أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين ،وله متعلق وهو اللون والقدر
والجسم وسائر المرئيات ،فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله /وإلى متعلقه /ولنتأمل أن الركن من
جملتها في إطالق هذا االسم ما هو .
فنقول أما المحل ،فليس بركن في صحة هذه التسمية فإن الحالة التي تدركها بالعين
من المرئي لو أدركناها بالقلب أو الجبهة مثال لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق
كالمنا فإن العين محل وآلة ال تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة فحيث حلت الحالة تمت
الحقيقة وصح االسم .
ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا أن أدركنا الشيء بالقلب أو بالدماغ أنا أدركنا
الشيء بالدماغ وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين .
وأما المتعلَّق بعينه فليس ركنا في إطالق هذا االسم وثبوت هذه الحقيقة .فإن الرؤية لو
كانت لتعلقها /بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية ،ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق
بالحركة رؤية ،ولو كان لتعليقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية .فدل أن خصوص
صفات المتعلق ليس ركنا لوجود هذه الحقيقة وإطالق هذا االسم ،بل الركن فيه من حيث إنه
صفة متعلقة /أن يكون لها متعلق موجود ،أي موجود كان وأي ذات كان .
فإذا الركن الذي االسم طلق عليه هو األمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات
إلى محله ومتعلقه ،فلنبحث عن الحقيقة ما هي؟
وال حقيقة لها إال إنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف باإلضافة إلى التخيل ،فإننا
نرى الصديق مثال ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل
والتصور ،ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ،وال ترجع تلك التفرقة /إلى إدراك صورة أخرى
مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق ،وليس بينهما
افتراق إال أن هذه الحالة الثانية كاالستكمال لحالة التخيل وكالكشف لها ،فتحدث فيها صورة
الصديق عند فتح البصر حدوثا أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال والحادثة في
البصر بعينيها تطابق بيان الصورة في الخيال.
فإذا التخيل نوع إدراك أعلى رتبة ،ووراءه رتبة أخرى هي أتم في الوضوح والكشف
بل هي كالتكميل له فتسمى هذا االستكمال باإلضافة إلى الخيال رؤية وإبصارا ،وكذا من
األشياء ما نعلمه وال نتخيله ،وهو ذات اهلل سبحانه وتعالى وصفاته وكل ما ال صورة له أي ال
لون له وال قدر مثل القدرة والعلم والعشق واإلبصار والخيال .فإن هذه أمور نعلمها وال
نتخيلها والعلم بها نوع إدراك .
فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا اإلرداك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة اإلبصار
إلى التخيل ،فإن كان ذلك ممكنا سمينا ذلك الكشف واالستكمال باإلضافة إلى العلم رؤية
كما سمينا ذلك الكشف واالستكمال بالنسبة إلى التخيل رؤية .ومعلوم /أن تقدير هذا
االستكمال في االستيضاح واالستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة /التي ليست
متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما .وكذا في ذات اهلل سبحانه وصفاته ،بل تكاد تدرك ضرورة
من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات اهلل وصفاته وفي ذوات هذه المعاني
المعلومات كلها .
فنحن نقول :إن ذلك غير محال ،فإنه ال ُمحيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على
استدعاء الطبع له .إال أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم ،والنفس في شغل
البدن وكدورة صفاته ،فهو محجوب عنه .وكما ال يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما
في العين سببا بحكم اطراد العادة المتناع اإلبصار للمتخيالت ،فال يبعد أن تكون كدورة
النفس وتراكم حجب األشغال بحكم اطراد العادة مانعا من إبصار المعلومات ،فإذا بعثر ما في
القبور ،وحصل ما في الصدور ،وزكيت القلوب بالشراب الطهور ،وصفيت بأنواع التصفية
والتنقية ،لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات اهلل سبحانه ،أو في
سائر المعلومات يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة اإلبصار عن التخيل،
فيعبر عن هذا بلقاء اهلل تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات ،فال
مشاحة فيها بعد إيضاح المعاني .
وإذا كان ذلك ممكناً بأن خلقت هذه الحالة في العين كان اسم الرؤية بحكم وضع
اللغة عليه أصدق وخلقه /في العين غير مستحيل ،فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من
الرؤية ،علم أن العقل ال يحيله بل يوجبه ،وأن الشرع قد شهد له ،فال يبقى للمنازعة وجه إال
على سبيل العناد أو المشاحة في إطالق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة
التي ذكرناها ،ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر )) اهـ .
هذا هو كالم اإلمام الغزايل بكماله ،من قرأه عرف بالضبط ما الذي يريده األشاعرة من
معىن الرؤية .
واملفروضـ يف واحد مثل ابن رشد أن يكون قد قرأ ما كتبه اإلمام الغزايل خصوصاً أنه قد
نصب نفسه للرد على كثري مما كتبه .
وتعمدنا أن يكون النقل من كالم
وقد أحببنا أن نورد هذا النص على طوله ،لكبري فائدتهَّ ،
اإلمام الغزايل ألن ابن رشد جيب أن يكون من أعرف الناس به ،فما بالك بعد ذلك إذا رأيت ابن
رشد ينفي هذه املعاين اليت قررها الغزايل أن تكون مرادة لألشاعرة ،بل ال يقتصر على ذلك فإنه
ينسب حتقيق املعىن يف الرؤية وحقيقتها كما ذكره اإلمام الغزايل إىل نفسه !؟ وسوف ندلل حنن على
مجيع ذلك خالل مناقشتنا لكالمه .