You are on page 1of 79

‫‪ 

‬‬

‫الكاشف الصغير‬
‫عن‬
‫مواقع الغلط في كتب الفيلسوف ابن رشد‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫وهو ملخص في الرد على ابن رشد وفيه بيان أهدافه وغاياته من الهجوم‬
‫على األشاعرة‪ ،‬وطرقه في نصرة فلسفة أرسطو‪ .‬ويحتوي أيضا ً على لفت‬
‫أنظار الناظرين إلى أساليبه الملتوية في تحقيق ما يريد‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫كتبه‬
‫سعيد فودة‬
‫وليس لنا إلى غير هللا تعالى حاجة وال مذهب‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫‪ ‬‬
‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على سيدنا حممد أفضل األنبياء واملرسلني‪:‬‬

‫أما بعد ‪،،،‬‬

‫‪ ‬‬

‫فهذه تعليقات عاجلة وخمتصرة على بعض ما كتبه ابن رشد احلفيد الفيلسوف‪ ،‬وخاصة ما أودعه‬
‫يف كتبه التالية‪:‬‬

‫أوال‪ :‬فصل املقال فيما بني احلكمة والشريعة من االتصال واالنفصال‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬ضميمة يف العلم اإلهلي(‪.)]1[1‬‬

‫ثالثا‪ :‬مناهج األدلة(‪.)]2[2‬‬

‫وسوف نوجه جهدنا إىل إبراز بعض املواضع اليت خالف فيها ما هو معلوم من املناهج الشرعية‬
‫والقوانني النقلية والعقلية‪ ،‬ونشري إىل بعض ما وقع فيه من مغالطات يف االستدالل وخاصة يف مناقشته‬
‫لألشاعرة ومن يوافقهم من املتكلمني يف املباحث اليت تكلم فيها ‪.‬‬

‫وسنقسم هذه املقالة إىل ثالثة أقسام حبسب الكتب الثالثة املذكورة سابقاً ‪ .‬وكل قسم إىل‬
‫مسائل حبسب املسألة اليت سنتكلم عليها‪ ،‬وسوف منهد لذلك كله بتمهيد نبني فيه باختصار حقيقة‬
‫ابن رشد وهدفه الذي يسعى إليه ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ )]1[(1‬هذا الكتاب والكتاب الذي قبله‪ ،‬سوف نعتمد فيهما على الطبعة اليت أصدرها األستاذ حممد‬
‫عمارة‪ ،‬حتت سلسلة ذخائر العرب رقم ‪ ،47‬دار املعارف‪1969 ،‬م ‪.‬‬

‫‪ )]2[(2‬سوف نعتمد يف هذا الكتاب على طبعة دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1402‬هـ‪1982-‬م‪.‬‬
‫التمهيد‬

‫في بيان حقيقة فلسفة ابن رشد‬

‫‪ ‬‬

‫أبو الوليد ابن رشد فيلسوف معروف ‪ ،‬بل هو من أشهر الفالسفة اإلسالميني‪ ،‬فال نريد‬
‫التحدث هنا عن حياته‪ ،‬بل نريد إمجال حقيقة أهدافه من فلسفته كما نعتقده حنن ‪.‬‬

‫وحقيقة األمر فإن اهلدف األكرب الذي يسعى إليه ابن رشد هو نشر فلسفة أرسطو‬
‫الفيلسوف اليوناين املعروف ونصرهتا ‪ ،‬وإن كلفه األمر حماولة إثبات أهنا ال تعارض ال يف جزئي وال‬
‫كلي الشريعة اإلسالمية‪ ،‬واألساس عنده هو احلكمة أي الفلسفة ال الشريعة‪ ،‬وليس األساس عنده هو‬
‫احلكمة مطلقاً‪ ،‬بل حكمة أرسطو على التحديد‪ ،‬فإنه يوجد فالسفة آخرون غري أرسطو سواء كانوا‬
‫من اليونان أو من غريهم‪ ،‬ولكن ابن رشد ال يهتم على اخلصوص إال بأرسطو‪ ،‬فهو مغرمـ به‪ ،‬وحمب‬
‫فلسفته وناصر هلا ومعتقد مبا فيها‪ .‬نعم له بعض اإلضافات والتعديالت ولكنها ال تذكر إذا قورنت‬
‫مبا وافقه فيه ‪.‬‬

‫ولكن نصرة فلسفة أرسطو أمر ال خيلو من يريد حتقيقه من االحتماالت التالية‪:‬‬

‫‪    ·              ‬إما أن يتحقق عنده أن فلسفته توافق متاماً الشريعة اإلسالمية وأقوال علماء‬
‫اإلسالم الذين هم أوىل الناس بفهم الشريعة‪ ،‬وحينذاك فإن هذه احلالة تكون غاية املراد بال‬
‫تكلف وال توفيق ‪ ،‬ألنه حاصل أصلي ‪.‬‬

‫‪    ·              ‬وإما أن يالحظ أن فلسفة أرسطو ختالف الشريعة يف بعض األمور‪ ،‬وحينذاك‪،‬‬
‫فال خيلو احلال‪ :‬إما أن حيكم بغلط الفلسفة وصواب الشريعة‪ ،‬أو العكس أو يتوقف بينهما ‪.‬‬

‫وميكن أن يلجأ إىل نوع آخر من التوفيق وهو التأويل‪ ،‬أي حماولة تفسري أحد األمرين على خالف ما‬
‫يظهر منه ألول نظرة‪ ،‬وحينذاك إما أن يقع التأويل على فلسفة أرسطو أو على الشريعة ‪.‬‬

‫فهذه االحتماالت ال غري هي الواقعة يف نفس األمر ‪.‬‬


‫وأما بالفعل فإن التوافق التام بني احلكمة األرسطية والشريعة اإلسالمية غري حاصل ‪.‬‬

‫واحلكم بغلط الشريعة هكذا بصراحة مل يقع من ابن رشد‪ ،‬وكذلك احلكم بغلط أرسطو مل‬
‫يقع كذلك ‪.‬‬

‫فالباقي من ذلك كله هو التأويل‪ ،‬والتأويل إما أن يقع على الشريعة أو احلكمة أو عليهما‬
‫معاً ‪.‬‬

‫واحلاصل بالفعل من ذلك كله‪ ،‬هو أن أكثر التأويالت اليت فعلها ابن رشد إمنا هي تأوالت‬
‫للشريعة‪ ،‬وتفسري نصوصها بطريقة ختالف ما فهمه منها علماء الشريعة أنفسهم ‪.‬‬

‫وقد كانت تأوالت الشريعة عند ابن رشد بطريقة حاصلها أن علماء الشريعة مل يفهموا‬
‫حقيقة مراد الشريعة‪ ،‬وما نسبوه إليها من أفهام وأحكام يف هذه املطالب إمنا هي تقوالت عليها‪،‬‬
‫وكذب وتشويه حلقيقتها ‪.‬‬

‫وأما وصف الشريعة على ما هي عليه يف نفس األمر‪ ،‬فإنه يدعي يف هذه الكتب أنه هو من‬
‫استطاع أن يقدمه‪ ،‬وأن سائر الناس غريه احنرفوا عنه إما بسبب أو بال سبب ‪.‬‬

‫ووقع من ابن رشد بعض تأوالت لفلسفة أرسطو ولكن من حيث أن ما اشتهر من املعاين‬
‫عند بعض شراح أرسطو كابن سينا وغريه من الفالسفة إمنا هو أمر غلط‪ ،‬ألهنم مل يفهموا حقيقة‬
‫مراده يف أقواله‪ ،‬ويشرع بعد ذلك يف تقدمي توضيحاته وتأويالته هو لكالم ومعاين أرسطو‪ ،‬ويدعي‬
‫أهنا هي احملاكية املخلصة ألرسطو !!‬

‫فابن رشد يف احلاصل يضع فلسفة أرسطو مقابلة للشريعة‪ ،‬ومن نفس جنسها‪ ،‬أي يف نفس‬
‫مرتبتها‪ ،‬ألن ما يوضع مقابالً ألمر فيجب أن يكون من نفس رتبته ‪ -‬ال أقول من نفس املصدر ‪-‬‬
‫ورده على من شرحها‬ ‫ويعترب أن الشريعة مل يفهمها أكثر من اتبعها‪ ،‬ولذلك فإنه بالغ يف تأويالته هلا‪ِّ ،‬‬
‫من علماء الشريعة‪ ،‬وأما فلسفة أرسطو فإنه يعترب نفسه املبلغ األعظم حلقائقها ومعانيها‪ ،‬وبالتايل فإن‬
‫ما يقوله عنها فإنه احلق يف ذاته يف شرحها‪ ،‬وأما ما يقوله غريه فاألصل أن ال يعرب به إال عن صاحبه‬
‫وال ينسب إىل أرسطو ‪.‬‬

‫هذا كان عرضاً جممالً لطريقة ابن رشد يف هذه الكتب‪ ،‬وفيه تلخيص هلدفه ‪.‬‬
‫وفيما يلي سوف حناول أن نتعقبه يف بعض املسائل اليت تكلم فيها يف هذه الكتب‪ ،‬ونبني‬
‫وجوه الغلط اليت وقع فيها‪ ،‬وندعو اهلل تعاىل أن ييسر لنا من الوقت والفراغ ما فيه نتمكن من التوسع‬
‫يف هذا الباب ألمهيته ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫القسم األول‬

‫كتاب‬
‫الكشف عن مناهج األدلة في عقائد الملة‬

‫وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل‬

‫من الشبه المزيفة والبدع المضلة‬


‫‪ ‬‬

‫المسألة األولى‪:‬الشريعة لها ظاهر ومؤول‬

‫‪ ‬‬

‫قال ابن رشد يف ص‪ 45‬وهي أول صفحة من الكتاب‪((:‬ـ إن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول‪،‬‬
‫وإن الظاهر منها فرض الجمهور‪ ،‬وأن المؤول هو فرض العلماء )) ‪.‬‬

‫هذا هو األسلوب العام والطريقة الشاملة اليت بىن عليها ابن رشد نقده ملناهج األدلة اليت‬
‫اتبعها املتكلمون وعلماء الشريعة يف شرحها‪ ،‬فالشريعة عنده قسمان‪ ،‬األول ظاهر وهو فرض‬
‫اجلمهور‪ ،‬والثاين مؤول وهو فرض العلماء ‪.‬‬

‫مث قال‪ (( :‬وأما الجمهور ففرضهم‪ /‬فيه حمله على ظاهره وترك تأويله‪ ،‬وأنه ال يحل للعلماء أن‬
‫يفصحوا بتأويله للجمهور‪ ،‬كما قال علي رضي اهلل عنه‪ :‬حدثوا الناس بما يفهمون‪ ،‬أتريدون أن يكذب اهلل‬
‫ورسوله )) ‪.‬‬

‫إذن فاجلمهور جيب عليهم األخذ بالظاهر وحيرم عليهم أن يعرفوا املؤول من الشريعة‪،‬‬
‫ويعتمد ابن رشد يف ذلك على القول الذي أورد عن اإلمام علي كرم اهلل وجهه ‪.‬‬

‫وليس البن رشد دليل يف هذه الكلمة املروية عن اإلمام علي رضي اهلل عنه‪ ،‬كما سرتى‪،‬‬
‫فإن هلا مفهوماً آخر عرب عنه املتكلمون باختالف الناس يف فهمهم من حيث التفصيل واإلمجال‪ ،‬ال‬
‫كما قال ابن رشد ‪.‬‬
‫واعلم أن هذا الذي يقوله ابن رشد يف غاية اخلطورة على الشريعة‪ ،‬وإن كان هو يقول به‬
‫ويدعي أنه لنصرة الشريعة‪ ،‬فإنه ال جيوز أن نقول إن الشريعة تأمرنا أن نقول للعامة مثال إن اهلل تعاىل‬
‫جسم أو إن علمه حادث‪ ،‬أو إن إرادته حادثة‪ ،‬بينما تأمرنا أن نقول للخاصة عكس ذلك باملرة ‪،‬‬
‫فإن هذا بعيد عن احلكمة ‪.‬‬

‫وأما كون الناس على مراتب يف الفهم‪ ،‬فهذا أمر ال يستنكر‪ ،‬ولكنهم على كل األحوال‬
‫مفهوم‬
‫ٌ‬ ‫ت‬
‫جيب أن يلقى إليهم نفس املفهوم ولكن خيتلف هذا اإللقاء باإلمجال والتفصيل‪ ،‬أما أن يُثْبَ َ‬
‫ما للبعض وينفى عند البعض‪ ،‬فإن هذا لعمري غريب !!‬

‫وأما املتكلمون فإهنم يقولون بالتأويل والتفويض‪ ،‬كمرتبتني للناس‪ ،‬ولكنهم ال يقولون إن‬
‫الناس بناء على التفويض جيب أن يعتقدوا اجلسمية‪ ،‬وبناءاً على التأويل جيب أن ينفوها‪ ،‬بل اجلسمية‬
‫تنفى بناءاً على الطريقتني‪ ،‬ولكن االختالف إمنا يكون من حيث اإلمجال والتفصيل ‪.‬‬

‫ففرق كبري بني طريقة ابن رشد‪ ،‬وبني طريقتهم ‪ ،‬وطريقة ابن رشد ال يوجد له دليل عليها‪،‬‬
‫أما طريقة املتكلمني فإهنا املوافقة للكتاب والسنة واللغة‪ ،‬كما هو بنِّي ٌ بنفسه ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قول ابن رشد يف ص‪(( :45‬ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بحسب الجهد واالستطاعة )) اهـ فإنه غري مسلم‪ ،‬وغري ظاهر‪ ،‬فإن مقصده – أي ابن رشد – إمنا هو‬
‫ما وضحناه سابقاً‪ ،‬وهو حتصيل التوافق بني الشريعة وفلسفة أرسطو ولو بتأويل الشريعة على النحو‬
‫الباطل الذي قررناه ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المسألة الثانية‪ :‬مسألة حدوث العالم‬

‫‪ ‬‬

‫أما يف مسألة حدوث العامل‪ ،‬فإن ابن رشد يتخبط ويغالط مغالطات عديدة‪ ،‬وذلك كله يف‬
‫سبيل الوصول إىل طريقة خيدش فيها ما قاله املتكلمون من أن العامل حادث واهلل تعاىل قدمي ‪ ،‬وسوف‬
‫نشري حنن إىل بعض مغالطاته يف ذلك ‪.‬‬
‫أما ما حاوله من نقض القول بأن الفاعل قدمي واملفعول حادث‪ ،‬وهو األمر الذي يقول به‬
‫األشاعرة‪ ،‬فهو ال قيمة له ‪.‬‬

‫وقوله يف ص‪ 48‬واصفاً ما قال األشاعرة من حدوث العامل عن حمدث قدمي‪(( :‬ومع ذلك‬
‫فهي طريقة غير برهانية وال مفضية بيقين إلى وجود الباري‪ ،‬وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم كما‬
‫يقولون أن يكون له وال بد من فاعل محدث )) اهـ ‪ ،‬فهذا الكالم ال يعدو أن يكون تشغيباً عليهم‪،‬‬
‫رد عليها املتكلمون املتقدمون واملتأخرون‬
‫فطريقتهم يقينية‪ ،‬ومجيع الشكوك اليت أوردها ابن رشد فقد َّ‬
‫‪.‬‬

‫وقد تعلق ابن رشد بالشك املشهور وهو أن احلادث ال بد أن يكون قد حدث بفعل‬
‫حادث‪ ،‬للزوم حدوثه عن إرادة حادثة !! وغاية ما يتعلق به هؤالء أنه ال يتعقل إرادة قدمية‪ ،‬يرتتب‬
‫عليها فعل حادث !!‬

‫وهذا كله عبارة عن استبعاد قائم على نظر سطحي وظاهري‪،‬ـ وليس مبنياً على أدلة عقلية‪،‬‬
‫بل على جمرد مبالغات خطابية ‪.‬‬

‫وغاية ما يريده ابن رشد من ذلك هو إثبات حدوث احلادث عن فعل حادث‪ ،‬وأن هذا‬
‫الفعل احلادث مرتتب على فعل قدمي بوسائط ال متناهية‪ ،‬ويف هناية األمر فهذا الفعل القدمي صادر عن‬
‫الواجب الوجود أصالة ‪.‬‬

‫فهذه هي الطريقة الوحيدة اليت يتعقل فيها ابن رشد صدور الفعل احلادث عن فاعل قدمي‪،‬‬
‫وأن حاصل ما يقوله هو أن الفعل احلادث ال يصدر عن الفاعل القدمي إال بالواسطة‪ ،‬أي بواسطة‬
‫مفعوالت عديدة بعضها حادث بالزمان وبعضها قدمي بالزمان ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويف أثناء تعلق ابن رشد مبثل هذه األقاويل الضعيفة‪ ،‬وقع يف مغالطات كما قلنا‪ ،‬فمنها ما‬
‫قاله يف ص‪ ((:49‬وأيضاً فهذه اإلرادة القديمة يجب أن تتعلق بعد الحادث دهرا ال نهاية له‪ ،‬إذا كان‬
‫الحادث معدوما‪ /‬دهرا ال نهاية له‪ ،‬فهي ال تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إال بعد انقضاء دهر‬
‫ال نهاية له‪ ،‬وما ال نهاية له ال ينقضي‪ ،‬فيجب أن ال يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر ال نهاية له‪،‬‬
‫وذلك ممتنع )) اهـ ‪.‬‬
‫أقول‪ :‬هذا القول جمرد مغالطة واضحة‪ ،‬فإن األشاعرة القائلني باإلرادة القدمية‪ ،‬ال يقولون‬
‫بالدهر القدمي‪ ،‬فضالً عن قوهلم بكون هذه اإلرادة يف هذا الدهر القدمي‪ ،‬وإلزام ابن رشد ال يتم إال‬
‫بينت‬
‫بعد التسليم هباتني املقدمتني‪ ،‬وهم ال يسلمون هبما‪ ،‬بل نصوا على انتفائهما يف كتبهم كما ُ‬
‫ذلك يف تعليقايت على رد اإلمخيمي على ابن تيمية يف مسألة التسلسل ‪.‬‬

‫فالقائل بالدهر القدمي ال يريد منه إال القدمي بالفرض‪،‬ـ أي لكي ميكن تقريب ما يقول‬
‫للسامع‪ ،‬أما يف نفس األمر‪ ،‬فهو ينفيه‪.‬‬

‫وهذا الدهر الذي يفرتض ابن رشد وجوده على مذهب األشاعرة‪ ،‬كيف يوجد يف حال‬
‫عدم وجود شيء إال اهلل تعاىل‪ ،‬والدهر كما يعلم حتى األطفال في العلوم إنما هو عبارة عن‬
‫تجريد مشتق من وجود المتغيرات‪ ،‬وهم قد نفوا كون اهلل تعاىل متغرياً‪ ،‬فكيف باهلل يلزمهم ابن‬
‫رشد مبثل هذا اإللزام الفاسد يف نفسه !!‬

‫وابن رشد ال شك أنه يعلم أهنم ينفون هذا الدهر القدمي لشهرة ذلك عنهم‪ ،‬وأقرب من ذكر‬
‫ابن رشد خصماً للغزايل مع أنه وقع يف أثناء‬
‫نصب ُ‬ ‫ذلك اإلمام الغزايل يف كتابه التهافت‪ ،‬وقد َّ‬
‫خصومته لتهافتات عديدة ال يقع فيها إال جمسم أو حاقد ‪.‬‬

‫ونفس هذا اإليراد الذي صاح به ابن رشد‪ ،‬فقد اعتمد عليه ابن تيمية اجملسم الكبري ‪ ،‬بل‬
‫شيخ اجملسمة على التحقيق‪ ،‬وقد أخذه هذا لتعصبه وانعدام بصريته من ابن رشد‪ ،‬ووجهه على‬
‫األشاعرة أيضاً ‪.‬‬

‫وهذا يثبت ما ذكرناه يف أكثر من حمل من أن ابن تيمية إمنا يعتمد على ابن رشد يف رده‬
‫على األشاعرة‪ ،‬وكما وقع ابن رشد يف مغالطات فإن ابن تيمية قد سبح يف حبر منها‪ ،‬وزاد عليه‬
‫أقواالً كثرية قريبة من الكذب على أئمة الدين‪ ،‬وكلٌّ منهما هدفه خمتلف‪ ،‬فهدف ابن تيمية هو‬
‫ترويج مذهب اجملسمة‪ ،‬وهدف ابن رشد هو ترويج مذهب أرسطو‪ ،‬واحلائل الوحيد الذي يقف أما‬
‫هذين املذهبني هو مذهب أهل السنة األشاعرة‪ ،‬فلذلك ترى كال من ابن تيمية وابن رشد قد بذل‬
‫عمره يف سبيل نقض مذهبهم ‪ ،‬وأىن هلما ولغريمها أن يستطيعوا ذلك ‪.‬‬

‫ال غري ‪.‬‬ ‫بل كان كل ما قدموه من أقوال متهافتة دليالً على قوة مذهب األشاعرة‪،‬‬

‫‪ ‬‬
‫وأما كالمه على اجلوهر الفرد‪ ،‬هل هو ثابت أو غري ثابت‪ ،‬ومدخليته يف إثبات حدوث‬
‫العامل‪ ،‬فقد قال يف ذلك ص‪ (( : 50‬وجود جوهر فرد غير منقسم ليس معروفاً بنفسه‪ ،‬وفي وجوده‬
‫أقاويل متضادة شديدة التعاند‪ ،‬وليس في قوة صناعة الكالم تخليص الحق منها‪ ،‬وإنما ذلك لصناعة البرهان‬
‫)) اهـ ‪.‬‬

‫فنقول‪ :‬مل يد ِ‬
‫َّع أحد من املتكلمني أن وجود جوهر فرد معلوم بنفسه‪ ،‬ومعىن هذه العبارة أنه‬
‫معلوم بالبديهة‪ ،‬بل إهنم ادعوا أنه معلوم بالربهان ‪ ،‬وأقروا أن االستدالل عليه صعب‪ ،‬وال يوجد يف‬
‫ذلك خالف ‪.‬‬

‫وأما ادعاء ابن رشد أن إثبات اجلوهر الفرد ال تطيقه صناعة الكالم‪ ،‬فإمنا هذا من اغرتاره‬
‫بالفلسفة‪ ،‬وعدم معرفته لعلم الكالم‪ ،‬فعلم الكالم مل يقل أحد أنه خمتص فقط باألدلة اخلطابية‪ ،‬أو‬
‫اجلدلية حىت يقال هذا الكالم‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫أكــد حمققو املتكلمني أن الكالم يستعمل الرباهني ‪.‬‬

‫واحلاصل أنه يوجد فريقان يصران على أن الكالم ال يستعمل إال األدلة اخلطابية فما دوهنا يف‬
‫اإلفادة‪ ،‬األول الفالسفة مثل ابن رشد ‪ ،‬والثاين اجملسمة مثل ابن تيمية ‪ ،‬وكل منهما له هدف معلوم‬
‫من ذلك ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما اعرتاضه على املتكلمني يف إثبات اجلوهر الفرد ص‪ 50‬بعد أن ذكر حجة االنقسام‬
‫املشهورة‪ ،‬وإن ذكرها بأسلوب غري مشهور‪ ،‬مث قال‪((:‬وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية‬
‫المنفصلة بالمتصلة‪ ،‬فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬الصحيح أنه إن أراد بكالمه السابق اللزوم بالفعل‪ ،‬فقد يصح‪ ،‬مع ما يرد عليه من‬
‫اعرتاضات‪ ،‬ولكن قد يكون له وجه يصحح النظر فيه‪ ،‬أما إن أراد اللزوم مطلقاً‪ ،‬فكالمه باطل‪ ،‬ألنه‬
‫يكفي يف برهان اجلوهر الفرد اللزوم ولو باإلمكان‪ ،‬وهو مقطوع فيه هنا ‪ ،‬فكالمه جمرد اغرتار‬
‫وحتامل ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قوله يف نفس الصفحة‪((:‬وعلى هذا تكون األشياء كلها أعداداً‪ ،‬وال يكون هنالك ِعظَ ٌم‬
‫متصل أبدا‪ ،‬فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها )) اهـ ‪.‬‬
‫أقول‪ :‬هذا كالم باطل‪ ،‬فلو ثبت اجلوهر الفرد‪ ،‬فإن صناعة اهلندسة ال تبطل كما يشري هنا‪،‬‬
‫وال تصبح هي بعينها صناعة العدد‪ ،‬وذلك ألنه على فرض ثبوت اجلوهر الفرد‪ ،‬فإن الكمية املتصلة‬
‫اليت يقوم عليها اهلندسة‪ ،‬تكون من باب اإلضافيات‪ ،‬وهذا الكو ُن ٍ‬
‫كاف يف إقامة علم اهلندسة عليه‪،‬‬
‫الكم املتصل حقيقياً ‪ ،‬أي له وجود يف اخلارج‪ ،‬حىت تصح اهلندسة ‪.‬‬
‫وال يلزم أن يكون ّ‬
‫وكذلك يقال يف عدم وجود العظم املتصل‪ ،‬فهذا هو غاية الالزم‪ ،‬أما انتفاء العظم نفسه‪،‬‬
‫فكيف يلزم ؟!‬

‫وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن كالمه غري دقيق من حيث التعبري‪ ،‬فإن الصحيح أن يقول‪ ( :‬وعلى‬
‫هذا تكون األشياء كلها معدودات ) ال أعداداً ‪ ،‬كما قال‪ ،‬ملا يعلمه املبتدئ يف علوم العقليات أن‬
‫العدد هو من املعقوالت الثانية‪ ،‬وهذا ال يلزم املتكلمني من جمرد إثبات اجلوهر الفرد‪ ،‬بل يلزمهم كون‬
‫كل شيء معدوداً ‪.‬‬

‫نقول‪ :‬وإن لزم ذلك فأين وجه بطالنه‪ ،‬بل ميكن أن يقال هنا إن بطالن ذلك غري معلوم‬
‫بنفسه‪ ،‬كما قال سابقاً‪ ،‬وإثباته ينبين على مقوالت غري مسلمة كإثبات عدم وجود اجلوهر الفرد !!‬

‫فهذا كالم يف مقابل كالمه‪ ،‬وهو متساو معه يف الدرجة ‪ ،‬فكيف يدعي أن ما قاله كاف‬
‫إلبطال كالم املتكلمني‪ ،‬بل الصحيح الظاهر أن كالمه ما هو إال جمرد اهتام ال أساس عليه‪ ،‬وهتويل ال‬
‫يلتفت إليه ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأيضاً فإن قوله يف ص‪ (( :51‬ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يُسألوا إذا حدث الجزء‬
‫الذي ال يتجزأ‪ ،‬ما القابل لنفس الحدوث‪ ،‬فإن من أصولهم أن األعراض ال تفارق الجواهر‪ ،‬فيضطرهم األمر‬
‫أن يضعوا الحدوث من موجود‪ /‬ما ولِموجود‪ /‬ما )) اهـ ‪.‬‬

‫واحلقيقة أن هذا السؤال قد يكون معتاصاً عند املغفلني‪ ،‬ولكنه يضحك منه من حتقق عنده‬
‫أدىن علم من مبادئ علم الكالم ‪ ،‬فالحدوث صحيح أنه عرض‪ ،‬ولكنه من األعراض الثانية‪ ،‬أي‬
‫اليت ال حتقق هلا إال بالنسبة إىل حالتني‪ ،‬وليس من الكرب مثالً‪ ،‬أو مثل اللون‪ ،‬كمثال أوضح‪ ،‬فاحلدوث‬
‫هو أمر يصف به العقل املوجود الذي حيدث بعد أن مل يكن حادثا‪ ،‬وليس هو أمرا يقوم بأمر‪ ،‬حىت‬
‫يسأل ما القابل له‪ ،‬ومن وقع فيه من املتكلمني فليس حبجة على غريهم ‪.‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬تظهر لنا مدى جديته يف معرفة احلق‪ ،‬فإنه ال‬
‫ومثل هذه اإلشكاالت اليت يثريها ُ‬
‫يتجاوز التشكيك باألمور‪ ،‬وال يقوم على املعتمد عند املتكلمني من قواعد وأصول‪ ،‬كما ستالحظ‬
‫بوضوح أكثر‪ ،‬مث إن حاصل تشكيكاته هواء ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قوله يف ص‪((: 51‬وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع األعراض محدثة فهي مقدمة‪/‬‬
‫مشكوك فيها‪ ،‬وخفاء هذا المعنى فيها لخفائه في الجسم )) اهـ ‪.‬‬

‫يقصد من ذلك أن حدوث اجلسم معرفته خفية‪ ،‬مبعىن أنه لكي يصدق به جيب أن يتوسل‬
‫إليه بأدلة‪ ،‬فليس بديهياً‪ ،‬أو رمبا يقصد أن اجلسم ال ميكن أن يتوصل إىل معرفة حدوثه ‪.‬‬

‫فإن قصد المعنى األول‪ ،‬فنقول‪ :‬ما أتى به املتكلمون من أدلة فقد بسطوها وسهلوها حىت‬
‫صارت قريبة إىل العامة من الناس ‪ ،‬وهذه هي إحدى ميزاهتم‪ ،‬ورمبا هذا هو ما يدفع مثل ابن رشد‬
‫إىل التعدي على األشاعرة‪ ،‬واالستهانة بأدلتهم ورمبا يتصور أن الصياغة القريبة إىل العامة اليت يراها يف‬
‫بعض كتبهم للمبتدئني هي تفصيل دليلهم على ذلك‪ ،‬فيتجرأ عليهم كما حيصل للكثري من املتسرعني‬
‫‪ ،‬ويكون الواجب على من تعرض ملثل هذا أن يتوجه مباشرة إىل الكتب املطولة يف علم الكالم ليجد‬
‫حتقيق املرام يف مثل هذه املطالب‪ ،‬ومن احملال أن تكون املعلومات املذكورة للمبتدئي هي عني‬
‫املعلومات املذكورة للمنتهني يف التفصيل واإلمجال ‪.‬‬

‫ب‬ ‫ِ‬
‫وإن قصد املعىن الثاين فإنه يكون قد اعرتف بقدم األجسام‪ ،‬وهو عني القول بأن اهلل موج ٌ‬
‫ال خمتار !!‬

‫‪ ‬‬

‫ويتهافت مرة أخرى يف نفس الباب فيقول يف حماولته لتصوير ضعف دليل املتكلمني ص‪:52‬‬
‫(( وأيضاً فإن الزمان من األعراض‪ ،‬ويعسر تصور حدوثه‪ ،‬وذلك أن كل حادث يجب أن يتقدمه‪ /‬العدم‬
‫بالزمان‪ ،‬فإن تقدم عدم الشيء على الشيء ال يتصور إال من قبل الزمان )) اهـ ‪.‬‬

‫وهذا الكالم باطل وحماولة سخيفة منه للتشكيك يف دليل احلدوث‪ ،‬ومن قال بأن تقدم العدم‬
‫على العامل يكون بالزمان ؟!‬
‫أال يعلم ابن رشد أن املتكلمني قالوا بأن هذا التقدم إمنا يسمى تقدماً بالذات‪ ،‬وليس تقدماً‬
‫بالزمان‪ ،‬ملا يلزم على هذا من التسلسل يف ِ‬
‫الق َدم بالنسبة إىل الزمان ‪.‬‬

‫وأما كون الزمان من األعراض‪ ،‬فإنه من األعراض غري املوجودة بذاته بل من األعراض‬
‫النسبية‪ ،‬اليت تكون من قبيل حكم العقل على الشيء بعد مالحظة التغري فيه‪ ،‬وهذا النوع من‬
‫األعراض ال يشرتط لكي يقال به‪ ،‬أن حيدث أوالً مث حيدث الذي يقوم هو به‪ ،‬كما يعتقد ابن رشد‬
‫أو كما يوحي به إىل القراء ‪.‬‬

‫وقد سبق أن أشرنا إىل ذلك‪ ،‬ولذلك صرح األشاعرة بأن الزمان غري موجود بذاته‪ ،‬وإمنا‬
‫يكون نتيجة حكم عقلي للتغري احلاصل للشيء ومقارنة ذلك بغريه من التغريات املوجودة أو‬
‫املوهومة‪ ،‬كما بينوه يف موضعه ‪ ،‬وقالوا بأن الزمان الزم للحوادث‪ ،‬وليس شرطاً لها‪ ،‬وفرق كبري‬
‫بني العبارتني كما هو ظاهر للنبيه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأيضاً فقد هتافت ابن رشد مرة أخرى يف كالمه عن املكان يف نفس الصفحة وبناء على‬
‫نفس األساس فقال‪ (( :‬وأيضاً فإن المكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون بالمكان سابق له‬
‫يعسر تصور حدوثه أيضاً )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬ومن قال إن املكان شرط حلصول احلادث‪ ،‬بل التحقيق الذي صرح به أئمة األشاعرة‬
‫من املتكلمني أن املكان الزم من لوازم احلوادث املشاهدة‪ ،‬وليس شرطاً لوجودها كما يتومهه ويومهه‬
‫ابن رشد‪ .‬فاملكان مبا أنه الزم للحادث‪ ،‬فهو غري مفارق له‪ ،‬من حيث الوجود‪ ،‬وميكن مفارقته له من‬
‫حيث التصور‪ ،‬بأن تتصور املكان بدون حادث‪ ،‬ولكن العكس مستحيل‪ ،‬فافهم ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد ذكر ابن رشد بعض الشكوك األخرى‪،‬ـ مث قال‪((:‬وهذه كلها شكوك عويصة )) اهـ ‪.‬‬

‫قلت‪ :‬كذا يتوهم ابن رشد‪ ،‬وكذا يريد للقارئ أن يعتقد‪ ،‬ولكن َمن شذا حنواً من الكالم‬
‫ُ‬
‫يعرف أن هذا الكالم ليس بكالم ‪.‬‬
‫واحلقيقة أن كالمه كله يف هذا الكتاب عبارة عن هتويالت غري مبنية على حتقيق يليق‬
‫بالسمعة اليت اكتسبها ابن رشد عند أهل هذا العصر لغفلة منهم عن غريه وجلهلهم حبقيقة أقوال أهل‬
‫السنة من علماء الكالم‪ .‬فتأمل وال تغرت ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قوله ص‪ (( :53‬وأما المقدمة الثالثة‪ ،‬وهي أن ما ال يخلو من الحوادث فهو حادث‪ ،‬فهي‬
‫مشتركة االسم )) اهـ ‪.‬‬

‫يريد بذلك أهنا حمتملة ألن يكون املراد منها ما ال خيلو عن جنس احلوادث‪ ،‬أو عن حادث‬
‫معني‪ ،‬فإن كان الثاين فهو يسلم حبدوثه‪ ،‬وأما األول فال يسلم حبدوثه‪ ،‬بل يقول بوجوب قدمه ‪.‬‬

‫ووجوب قدم هذا النوع عند ابن رشد قائم على القول بقدم العامل الذي يعرتف هو به وال‬
‫ينكره‪ ،‬ومعىن قدم العامل وجوب وجوده‪ ،‬ولكنه يقول بأن العامل موجود شيئاً بعد شيء‪ ،‬ومل مير‬
‫زمان منذ األزل مل يكن فيه العامل موجوداً‪ ،‬أو بعض مراحل تكون العامل‪ ،‬وهذا القول منه مبين على‬
‫القول جبواز التسلسل يف ِ‬
‫القدم‪ ،‬بل وجوبه ‪.‬‬

‫وأنت ترى أن هذا هو عني كالم ابن تيمية اجملسم احلراين الذي مأل الدنيا بصراخه القبيح‬
‫مبذهبه املتهافت‪ ،‬وقد انقاد ابن تيمية البن رشد انقياداً تاماً كما نرى‪ ،‬ولكن كل منهما يبين نفس‬
‫األساس إلقامة بناء خمتلف‪ ،‬فهذا يبين مذهب التجسيم‪ ،‬وذلك يبين مذهب أرسطو !!‬

‫رد علماء الكالم على هذا التهافت ببيان أن التسلسل باطل مجلة وتفصيالً‪ ،‬وبينوا ذلك‬
‫وقد َّ‬
‫بعدة أدلة تنتج وجوب انقطاع السلسلة‪ ،‬وليس هذا موضع بياهنا ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويف كالم ابن رشد على هذه املقدمة وقع يف مغالطات عديدة نذكر لك بعضها هنا متثيالً ‪.‬‬

‫فتأمل مثالً كيف وضح املثال الذي ضربه املتكلمون على انتفاء التسلسل وهو مثال الدرهم‪،‬‬
‫فقد قال يف ص‪ (( :54‬ومثلوا ذلك برجل قال لرجل ال أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير ال‬
‫نهاية لها‪ ،‬فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً )) اهـ ‪.‬‬

‫هذه هي الطريقة اليت وضح هبا ابن رشد مثال املتكلمني ‪.‬‬
‫مث شرع يف نقده قائالً‪ (( :‬وهذا التمثيل ليس بصحيح‪ ،‬ألن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية‬
‫ووضع ما بينهما غير متناه‪ ،‬ألن قوله وقع في زمان محدود‪ ،‬وإعطاءه الدينار يقع أيضاً في زمن محدود‪،‬‬
‫فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين الزمان الذي تكلم فيه أزمنة ال نهاية لها‪ ،‬وهي التي‬
‫يعطيه فيها دنانير ال نهاية لها‪ ،‬وذلك مستحيل‪ ،‬فهذا التمثيل بيِّ ٌن من أمره أنه ال يشبه المسألة الممثل بها ))‬
‫اهـ ‪.‬‬

‫كذا قال ابن رشد‪ ،‬ويف احلقيقة فإن توضيحه للمثال ليس صحيحاً‪ ،‬وأيضاً فإن طريقة نقده‬
‫هلذا التوضيح ليست صحيحة ‪ ،‬وحنن هنا ال نريد التفصيل يف بيان غلطه يف ذلك‪ ،‬فإن الظاهر من‬
‫كالمه هو التكلف ‪ ،‬ولكن ما نريد توضيحه هنا هو املثال الذي ضربه املتكلمون حقيقة من‬
‫كالمهم‪ ،‬ليفهم الفرق بني ما قال وبني ما ذكروه‪ ،‬فيكون هذا مغنياً عن بيان ناحية الغلط يف كالمه‬
‫‪.‬‬

‫فاإلمام اجلويين يف كتاب اإلرشاد قد ذكر هذا املثال وهاحنن نورد لك نص كالمه‪ ،‬فقد قال‬
‫رمحه اهلل يف ص‪ (( :26‬وضرب المحصلون مثالين في الوجهين‪ ،‬فقالوا مثال إثبات حوادث ال‬
‫أول لها‪ ،‬قول القائل لمن يخاطبه‪ :‬ال أعطيك درهما إال وأعطيك قبله دينارا‪ ،‬وال أعطيك دينارا‬
‫إال وأعطيك قبله درهما‪ ،‬فال يتصور أن يعطى على حكم شرطه ال دينارا وال درهما…الخ ))‬
‫اهـ ‪.‬‬

‫فهذا التوضيح يظهر منه خمالفته للطريقة اليت بينها ابن رشد كما ترى‪ ،‬واخلالف جوهري‪،‬‬
‫ألن كالم اجلويين ال يوجد فيه حصر ملا ال هناية له بني حمدودين‪ ،‬خالفاً لكالم ابن رشد ‪.‬‬

‫واملثال الذي ذكره اجلويين صحيح فإن حاصله‪ ،‬أن يقول القائل‪ :‬ال أعطيك درمهاً إال بعد‬
‫أن أكون قد أعطيتك ديناراً ‪ ،‬وال أعطي هذا الدينار‪ ،‬إال بعد أن أكون قد أعطيتك درمها قبله‪ ،‬وال‬
‫أعطيك هذا الدرهم إال بعد أن أكون قد أعطيتك ديناراً‪ ،‬وهكذا ال إىل بداية !!‬

‫فإن حاصل هذا الكالم أنه ال أعطيك ال درمها وال دينارا‪ ،‬ألن هذه القبلية ال بداية هلا‪ ،‬بل‬
‫إهنا ال تتناهى يف األزل املفروض‪ ،‬فيكون هذا من قبيل اشرتاط وقوع شروط ال هناية هلا حلصول أمر‬
‫من األمور‪ ،‬ومعلوم أن انقضاء ما ال هناية له باطل متاماً‪ ،‬فيكون احلاصل عدم حصول أي أمر من‬
‫األمور املشروطة بذلك ‪.‬‬

‫وهذا هو ما يعرب عنه العلماء بأن التسلسل يف القدم يلزم عنه فراغ العامل ‪.‬‬
‫ومن هذا الكالم تعلم أن ابن رشد قد ابتعد ونأى عن طريقة املثال‪ ،‬واستلزم عليها ما ال‬
‫يلزمهم‪ ،‬من التناقض‪ ،‬وهذا تشويه للكالم ال جيوز صدوره ممن يدعي أنه يبني حقيقة معاين الشريعة‬
‫!!‬

‫وقد اعرتض اجملسم الغايل يف التعصب ولكن بصورة االجتهاد وعدم التقليد‪ ،‬وهو ابن أيب‬
‫العز املنتسب إىل األحناف خداعاً للمغفلة من الناس‪ ،‬اعرتض على هذا املثال الذي ذكره اجلويين فقال‬
‫كما يف شرحه على العقيدة الطحاوية ص‪ (( :136‬وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار‬
‫على التسلسل في الماضي‪ ،‬فقالوا إنك لو قلت ال أعطيك درهما إال أعطيك بعده درهما‪ ،‬كان هذا ممكنا‪،‬‬
‫ولو قلت ال أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما كان هذا ممتنعا‪ .‬وهذا التمثيل الموازنة غير صحيحة بل‬
‫الموازنة الصحيحة أن تقول ما أعطيتك درهما إال أعطيتك قبله درهما‪ ،‬فتجعل ماضيا قبل ماض‪ ،‬كما جعلت‬
‫هناك مستقبال بعد مستقبل‪ ،‬وأما قول القائل ال أعطيك حتى أعطيك قبله‪ ،‬فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في‬
‫المستقبل‪ ،‬ويكون قبله‪ ،‬فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل‪ ،‬وهذا ممتنع‪ ،‬أما نفي الماضي حتى يكون‬
‫قبله ماض‪ ،‬فإن هذا ممكن‪ ،‬والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل‪ ،‬والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء ال‬
‫يكون قبله ما ال نهاية له‪ ،‬فإن ما ال نهاية فيما يتناهى ممتنع )) اهـ ‪.‬‬

‫هذا هو كالمه‪ ،‬وهو يدل على هتافت عقله‪ ،‬ويرد عليه أمور‪:‬‬

‫أولها‪ :‬أن ما نسبه إىل اإلمام اجلويين ليس كما نسبه بل كما ذكرناه لك سابقاً عنه‪ ،‬فإن‬
‫اإلمام اجلويين قال كما مضى‪ (( :‬ال أعطيك درهما إال وأعطيك قبله ديناراً‪ ،‬وال أعطيك ديناراً‬
‫إال وأعطيك قبله درهماً )) ‪ ،‬فهذا حاصله أين ال أعطيك درمها حىت أكون قد أعطيتك ديناراً‪ ،‬كما‬
‫وضحناه‪ ،‬وليس كما قاله هذا الشارح‪ .‬وبناءا على ما قلنا فال يرتتب على كالم اجلويين ومثاله نفي‬
‫املستقبل حىت حيصل يف املستقبل ويكون قبله كما ادعى الشارح ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثانيها‪ :‬قوله‪ (( :‬أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض‪ ،‬فإن هذا ممكن )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬هذا هو حمل النزاع‪ ،‬فحكمه عليه باإلمكان مصادرة على المطلوب‪ ،‬فال جيوز ادعاء‬
‫اجلواز فيه من غري جتريد دليل أو توضيح مثال لتقريب اجلواز‪ ،‬ومل يفعل الشارح من ذلك شيئاً ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫ثالثاً‪ :‬قوله‪ (( :‬أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض )) ‪.‬‬

‫يريد به أما نفي املاضي بشرط أن يكون قبله ماض‪ ،‬قاصدا جتويز التسلسل ولكن تعبريه عن‬
‫ذلك خمتل‪ ،‬والصواب ما ذكرته ‪.‬‬

‫ولكن يشكل عليه أن حمل االتفاق هو أن اهلل تعاىل فاعل‪ ،‬والفعل الواحد ‪-‬اتفاقاً بيننا وبني‬
‫اجملسمة ‪ -‬له ابتداء‪ ،‬معىن أ ّن له ابتداءاً أي أن اهلل تعاىل سابق عليه‪ ،‬وإمنا اخلالف وقع يف جنس‬
‫يتصورن أحد أن اخلالف قد وقع يف جنس الفعل ‪ ،‬مبعىن أن الفعل كان مستحيالً مث‬ ‫َّ‬ ‫املفعوالت‪ ،‬وال‬
‫صار جائزاً كما يومهه ابن تيمية يف كثري من كتبه‪ ،‬بل اخلالف إمنا هو يف أن جنس املفعوالت هل له‬
‫ابتداء أم ليس له ابتداء ؟‬

‫فاجملسمة قالوا‪ :‬ال ابتداء له‪ ،‬ومل تزل املفعوالت توجد واحداً وقبلها واحد ال إىل بداية وال‬
‫إىل االنتهاء إىل أول للمفعوالت‪،‬ـ وهم يف هذا املوضع بالتحديد قد خالفوا أهل السنة األشاعرة‬
‫واملتكلمني‪ ،‬وخالفوا الفالسفة أيضاً‪ ،‬ألن الفالسفة اعرتفوا بأنه يوجد خملوق أول حبيث ال يوجد قبله‬
‫خملوق‪ ،‬وغاية خالفنا معهم إمنا هو يف أن هذا املوجود هل هو قدمي بالزمان أو ال ؟ وهذا مبين يف‬
‫التحقيق على أن اهلل تعاىل هل هو فاعل باإلجياب أم ال ؟ ومل يقل الفالسفة بالتسلسل بالطريقة اليت‬
‫قال هبا ابن تيمية‪ ،‬الستحالتها عقالً ونقالً كما بيناه يف موضعه‪ ،‬فيكون احلاصل أن اجملسمة قد‬
‫خالفوا الفريقني يف هذا املوضع ‪.‬‬

‫ويلزمهم بناءاً عليه ما لزم الفالسفة من كون اهلل تعاىل موجباً بالذات‪ ،‬بل يلزمهم أكثر من‬
‫ذلك كما أوضحناه يف التعليق على اإلمخيمي ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫رابعاً‪ :‬أما قوله‪ (( :‬والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء ال يكون قبله ما ال نهاية له‪ ،‬فإن ما ال نهاية‬
‫فيما يتناهى ممتنع )) ‪ ،‬فهو ال حيتمل إال أحد معنيني‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن حصر ما ال هناية له بني حمدودين ليس جائزاً‪ ،‬وعند ذاك يعود إىل اعرتض ابن‬
‫رشد‪ ،‬ولكنا قد بينا أن هذا ال يفهم من كالم اجلويين وال من كالم غريه‪ ،‬فبطل أصل كالمه ‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن أصل اإلعطاء ال بد أن يكون له بداية‪ ،‬واإلعطاء ال يكون إال مبُعطَى‪ ،‬واملعطى ال‬
‫بد أن يكون له بداية‪ ،‬وما كان كذلك فال ميكن أن يكون قبله ال هناية له‪ ،‬لتعارض ذلك مع أول‬
‫الكالم‪ .‬هذا احتمال آخر لكالمه‪ ،‬وهو قد يبدو أظهر من بعض اجلوانب‪ ،‬ولكن لو كان هذا ما‬
‫قصده‪ ،‬لعاد على أصل كالمه ومقصدهـ باإلبطال‪ ،‬وهو إثبات أصل التسلسل يف ِ‬
‫الق َدم ‪.‬‬

‫ورمبا كان هذا هو احلاصل‪ ،‬وال نستغرب حنن هذا التناقض لشيوع ذلك عند اجملسمة‬
‫خصوصاً يف مباحث العقليات لعدم متكنهم من فهمها فكيف حيققون احلق فيها ‪.‬‬

‫وما كان قصدنا من إيراد كالم ابن أيب العز احلنفي شارح الطحاوية بل جارحها‪ ،‬إال‬
‫اإلشارة إىل أن هذا الكالم ‪ -‬الذي أصله من كالم ابن تيمية ‪ -‬اعتمد فيه على كالم ابن رشد‬
‫الفيلسوف ناصر فلسفة أرسطو‪ .‬فاحلاصل أن هؤالء قد اجتمعوا على حماولة هدم كالم األشاعرة ال‬
‫لبطالنه‪ ،‬بل ملخالفته ملا يقولون‪ ،‬ولذلك نراهم يقعون يف هتافتات وتناقضات ال يستسيغها العاقل ‪.‬‬

‫ولنرجع اآلن إىل كالم ابن رشد ‪.‬‬

‫قال ابن رشد يف ص‪ (( :54‬وأما قولهم إن ما يوجد بعد وجود أشياء ال نهاية لها ال يمكن‬
‫وجوده فليس صادقا في جميع الوجوه‪ ،‬وذلك أن األشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين‪ ،‬إما على‬
‫جهة الدور‪ ،‬وإما على جهة االستقامة‪ ،‬فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إال أن‬
‫يعرض عليها ما ينهيها… )) ثم قال‪ …(( :‬وأما التي توجد على االستقامة‪ /‬مثل كون اإلنسان من اإلنسان‪،‬‬
‫وذلك اإلنسان من إنسان آخر‪ ،‬فإن هذا إن كان بالذات‪ ،‬لم يصح أن يمر إلى غير نهاية‪ ،‬ألنه إذا لم يوجد‬
‫األول من األسباب لم يوجد األخير‪ ،‬وإن كان بالعرض مثل أن يكون اإلنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير‬
‫اإلنسان الذي هو األب وهو المصور له‪ ،‬ويكون األب إنما منزلته منزلة اآللة من الصانع فليس يمتنع إن وجد‬
‫ذلك الفاعل يفعل‪ /‬فعال ال نهاية له أن يفعل بآالت متبدلة أشخاصا ال نهاية لهم ‪ ،‬وهذا كله ليس يظهر في هذا‬
‫الموضع )) اهـ ‪.‬‬

‫هذا الكالم منه حماولة لتربير قول الفالسفة بقدم العامل‪ ،‬فلجأوا إىل هذا التفريق‪ ،‬وسنبني‬
‫ضعف قوهلم هذا ‪.‬‬

‫فانظر أوالً إىل قوله‪ (( :‬فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية ))‬
‫لتعرف أن مقصده هو تربير القول بقدم العامل‪ ،‬مث كيف يقول إن الواجب فيها أن تكون غري متناهية‪،‬‬
‫واملفهومـ من هذا القول هو القول بقدمها أوالً‪ ،‬مث القول بوجوهبا على اهلل تعاىل‪ ،‬ومعلوم أن القول‬
‫بالواجبات على اهلل تعاىل باطل‪ ،‬خصوصاً إذا كان ابتداء فعل من األفعال‪ ،‬فقد يتصور أن خيلق األمر‬
‫على سبيل اجلواز‪ ،‬مث يطرأ أمر واجب على هذا األمر‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ولكن أن يقال‪ :‬إن أمراً ما جيب أن‬
‫يكون غري متناه فإنه يساوي القول بوجوب أن خيلق اهلل تعاىل هذا الفعل‪ ،‬وهو شنيع جداً ‪ ،‬ورغم‬
‫شناعة هذا القول فقد قال به ابن تيمية كما بيناه يف تعليقاتنا على رسالة اإلمخيمي‪ ،‬وبينا هناك بعض‬
‫لوازمه الفاسدة ‪.‬‬

‫وأما قول ابن رشد هنا بأن ما على سبيل الدور فيجب أن يكون غري متناه‪ ،‬فيفهم منه أصالة‬
‫أنه جيب أن يكون قدمياً‪ ،‬ولكن قد يعدم لطارئ يعرض عليه فيما ال يزال ‪.‬‬

‫ويفهم منه أن كونه على سبيل الدور علة لوجوب عدم تناهيه‪ ،‬أي قدمه‪ ،‬وهذا باطل‪،‬‬
‫فاألمر سواءا كان على سبيل الدور أو على سبيل االستقامة فإنه يكون ممكنا‪ ،‬ما دام غري اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وإذا سلم ابن رشد أنه ممكن فيستحيل أن يكون واجب الوجود ‪ ،‬ومن مث فيستحيل أن يكون قدمياً ‪.‬‬

‫أما إذا قال ابن رشد بأن هذا األمر واجب أصالة على اهلل تعاىل‪ ،‬فهذا قول باطل بنفسه‪،‬‬
‫كما أشرنا إليك وكما هو معلوم من مباحث أصول الدين ‪.‬‬

‫وأما قوله بعد ذلك‪ …(( :‬وأما التي توجد على االستقامة مثل كون اإلنسان )) فهو قول ال‬
‫معىن له‪ ،‬وال معىن للتفريق بني األمرين‪ ،‬إال أن يريد بأن األول الدوري مادته واحدة‪ ،‬وصورته‬
‫متغرية‪ ،‬وأما اآلخر فإن كانت مادته واحدة رجع إىل الدوري‪،‬ـ وإال فال فرق بينه وبني الدوري إال يف‬
‫حصول املادة والصورة‪،‬ـ ولكن كل من املادة والصورة‪ ،‬أمر مكن‪ ،‬فال جيوز أن يكون ما هو ممكن‬
‫علة يف أمر واجب‪ ،‬بل إن هذا تناقض ‪ ،‬ولذلك قال ابن رشد يف هناية كالمه‪ (( :‬فليس يمتنع إن وجد‬
‫ذلك الفاعل يفعل‪ /‬فعال ال نهاية له أن يفعل بآالت متبدلة أشخاصاً ال نهاية لهم )) ‪ ،‬فإن هذا قول منه‬
‫بتجويز القول بالتسلسل بالصورة‪ ،‬ولكن بشرط عدم التسلسل باملادة أيضاً‪ ،‬أي بالقول بقدم املادة‪،‬‬
‫ولكن قد أشرنا إىل أنه ال فرق بني املادة والصورة يف ذلك ‪.‬‬

‫وبناءاً على هذا نتبين أن ابن تيمية قد خالف في قوله بالتسلسل النوعي للحوادث‬
‫بمعنى أن المادة والصورة كال منهما حادثة‪ ،‬قول ابن رشد أيضاً‪ ،‬وال يشابه إال قول بعض‬
‫المتقدمين من الفالسفة اليونان ‪.‬‬

‫وقد يُفهم من كالم ابن رشد أن املادة والصورة إن كانتا حادثتني كلتامها‪ ،‬فيجوز التسلسل‬
‫يف القدم فيهما معاً‪ ،‬وذلك مطابق لقول ابن تيمية‪ ،‬وهذا هو األظهر يف تفسري كالم ابن رشد كما‬
‫كنا ذكرناه يف تعليقاتنا على اإلمخيمي أن ابن رشد يفهم من كالمه القول بذلك أيضاً يف بعض‬
‫املواضع ‪.‬‬
‫ولكن احلق من حيث النظر العقلي أنه ال فرق بني التسلسل الدوري والتسلسل الذي على‬
‫االستقامة‪ ،‬فإن كان أحدمها ممتنعاً فاآلخر ممتنع‪ ،‬ومل يبني ابن رشد علة االمتناع هنا ‪.‬‬

‫فإذا قال قائل‪ :‬إنه بني ذلك بأن التسلسل على االستقامة يلزم عليه التسلسل يف العلل وهو‬
‫باطل ‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬والتسلسل الدوري يلزم عليه التسلسل يف الشروط وهو باطل‪ ،‬والشرط جزء من العلة‬
‫كما هو معلوم ‪.‬‬

‫جهة أخرى‪،‬ـ لتحققنا عدم ووجد فرق حقيقي يستحق أن‬‫وأيضاً لو نظرنا إىل هذه احلالة من ٍ‬
‫يكون علة للفرق يف األحكام املرتتبة على هاتني احلالتني‪ ،‬نقصد بذلك ما كان على الدور وما كان‬
‫على االستقامة ‪.‬‬

‫فاملثال الذي أوضحه ابن رشد للدور‪ ،‬هو مثال الغيوم واملطر‪ ،‬وكون املياه صاعدة من‬
‫األرض‪ ،‬أو احلركة الدورية‪ ،‬وما مثل به على االستقامة فهو تولد االبن من والده‪ ،‬فلو نظرنا إىل‬
‫هذين األمرين لرأينا أنه حىت تولد الولد من الوالد فإنه مياثل تولد األمطار من األرض‪ ،‬فإن مادة الولد‬
‫من الوالد‪ ،‬ومادة الوالد من والده‪ ،‬ومادة اجلميع من األرض‪ ،‬وكذلك فإن األمطار من األرض‪،‬‬
‫والغيوم متكونة من جتمعات هلذه التبخرات املائية احلاصلة على سطح األرض‪ ،‬مث حني تسقط من‬
‫الغيوم فإهنا ترجع إىل األرض‪ ،‬وكذلك فإن الولد يأكل من األرض‪ ،‬وعندما ميوت فإن مواده تتحلل‬
‫وتنتشر يف سطح األرض‪ ،‬مث يعود التولد اإلنساين مرة أخرى ‪.‬‬

‫إذن فإن ما صوره ابن رشد على أنه يكون على االستقامة فإنه يف احلقيقة يرجع إىل نفس‬
‫باب ما كان على الدور‪ ،‬وبالتايل فإنه ال جيوز التفريق بينهما يف احلكم‪ ،‬بأن يقال‪ :‬هذا الدوري جيوز‬
‫كونه ال بداية له‪ ،‬وما كان على االستقامة ال جيوز !!‬

‫ولو قلنا باستحالة ما كان على االستقامة‪ ،‬وهو حمال‪ ،‬فإن علة االستحالة ليست هي كونه‬
‫على االستقامة‪ ،‬بل علتها هي لزوم انقضاء عدد ال هناية له للوصول إىل الفرد احلاصل يف هذا اآلن‪،‬‬
‫وهذه العلة بعينها متوفرة يف ما كان على سبيل الدور‪ ،‬فلم الفرق بينهما ؟!‬

‫فإن قيل‪ :‬إن الفرق يف أن الدوري مادته واحدة‪ ،‬وما كان على االستقامة‪ ،‬مادته خمتلفة ‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬قد بينا أن هذا الفرق موهوم ‪.‬‬


‫ولو كان اجملال يتسع ملناقشة هذه الفكرة الرشدية األرسطية اليونانية التيمية‪ ،‬ألتينا فيها مبا‬
‫يعجب الناظر‪ ،‬ولكننا نقتصر على إشارات هنا ‪ ،‬واهلل املوفق ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد وقع ابن رشد أيضاً يف هتافتات عديدة أثناء مناقشته لطريقة اإلمام اجلويين لالستدالل‬
‫على حدوث العامل‪ ،‬وال أظن اجملال مناسباً لذكر ما يرد عليه هنا‪ ،‬ولكن ما منعه من جواز كل العامل‬
‫بسائر أجزائه‪ ،‬هو نفسه يف حيز املنع‪ ،‬فاجلائز يبقى جائزاً حىت بعد وجوده‪ ،‬هذا بالنظر لذات اجلائز‬
‫من غري التفات إىل ما يعرض عليه من خارج‪ ،‬وأما مع ذلك فقد يكون الزماً‪ ،‬وحمل كالم اجلويين هو‬
‫األول ال الثاين‪ ،‬أي ال جيوز أن نقول‪ :‬إن مراد اهلل حال إرادته له جائز الوجود بل هو واجب‬
‫الوجود‪ ،‬ولكنه بالنظر إىل ذاته ويف نفسه األمر‪ ،‬فهو جائز الوجود ‪.‬‬

‫وهذا هو ما بىن عليه اجلويين دليله‪ ،‬فالذي ال يسلم له هذا الدليل قد يقع يف القول بوجوب‬
‫ابتداء اخللق على اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا يستلزم كون اهلل تعاىل موجباً بالذات ال فاعالً باالختيار ‪.‬‬

‫وأما قوله يف ص‪ (( : 57‬نقول فأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث‪ ،‬فهي مقدمة غير‬
‫بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء‪ ،‬فأجاز أفالطون أن يكون شيء جائز أزليا‪ ،‬ومنعه أرسطو‪ ،‬وهو مطلب‬
‫عويص‪ ،‬ولن نبين حقيقته إال ألهل صناعة البرهان )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬ما دام األمر عويصاً فكيف جتيز لنفسك أن تتخذه حمالً للتشنيع على من قال بأحد‬
‫طرفيه ؟!‬

‫ذكرت وكما هو مشهور‪ ،‬فكيف جتيز لنفسك أن تشنع‬ ‫َ‬ ‫وما دام األمر فيه خالف قوي كما‬
‫على األشاعرة الذين صح عندهم أحد الرأيني وأقاموا األدلة عليه ‪.‬‬

‫إنه ال جيوز التشنيع إال بناءاً على ادعاء البداهة‪ ،‬ومل يدعوا فيها البداهة‪ ،‬أو حىت إذا ادعوها‬
‫فإهنم أقاموا على ذلك األدلة‪ ،‬فإن البداهة هبذا املعىن تكون عبارة عن شدة وضوح القضية‪ ،‬و ال شك‬
‫أن األقرب إىل العقول أن اجلائز ال بد أن يكون حادثاً‪ ،‬واملخالف لذلك هو الذي يلزمه اإلتيان‬
‫باألدلة القوية‪ ،‬وهو الذي يستحق التشنيع‪ ،‬وأما املتكلمون فإهنم قالوا حبدوث املمكن‪ ،‬فكيف‬
‫يستحقون ذلك ؟!!‬
‫مث إن قول أفالطون جبواز قدم بعض اجلائزات‪ ،‬يقصد به املثُ َل ‪ ،‬وقوله مردود عليه وال دليل‬
‫ُ‬
‫قوياً أقامه على هذا املطلب ‪ ،‬فكيف جيوز أن يكون جمرد هذا اخلالف الذي هو يف احلقيقة ضعيف‬
‫وليس قوياً ‪ ،‬لرجحان أحد طرفيه رجحاناً بيِّناً‪ ،‬كيف جيوز أن يكون ذلك احلال قاعدة للتشنيع كما‬
‫فعل ابن رشد؟!‬

‫ويف أثناء كالم ابن رشد على الدليل الذي انتهجه اإلمام اجلويين يف رسالته النظامية وقع يف‬
‫هتافتات عديدة وفاضحة‪ ،‬نبينها هنا ألمهيتها ‪ ،‬فإن أبا املعايل اعتمد على هذه املقدمة املذكورة آنفاً‪،‬‬
‫نعم أقام عليها األدلة فلم جيعلها مسلمة كما أشرنا فيما قبل‪ ،‬وقد سبق أن تكلمنا على ما خيص ذلك‬
‫‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مث قال ابن رشد يف أثناء توضيحه لكالم اجلويين ص‪ (( :57‬ثم أضاف إلى هذه أن العالم‬
‫مماثل‪ ،‬كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه‪ ،‬يريد الخالء‪ ،‬لكونه في غير ذلك الموضع‬
‫من ذلك الخالء‪ ،‬فنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة‪ .‬والمقدمة‪ /‬القائلة إن اإلرادة هي التي تخص أحد‬
‫المماثلين صحيحة‪ ،‬والقائلة إن العالم في خالء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها‪ .‬ويلزم عن وضعه هذا‬
‫الخالء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما‪ ،‬ألنه إن كان محدثا احتاج إلى خالء )) اهـ ‪.‬‬

‫واحلق أ ّن فيه خلالً عجيباً وهتافتاً مريعاً‪ ،‬ال يلتفت إليه إال من دقق النظر فيه ‪.‬‬
‫كذا كالمه‪ُّ ،‬‬

‫وقد اغرت ابن تيمية أيضاً هبذا الكالم ‪ ،‬وأقام عليه قوله باجلهة احلقيقية واملكان العدمي‬
‫خارج العامل‪ ،‬وظن نفسه أنه يناقض املتكلمني ‪.‬‬

‫وال بد لنا قبل الشروع يف هذه املسألة من أن نبني حقيقة كالم املتكلمني فيها‪ ،‬مث نذكر‬
‫كالم اجلويين‪ ،‬ونكمل تعليقنا بعد ذلك على ما قاله هذا الفيلسوف ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫قال العالمة الشريف الجرجاني يف شرحه على المواقف ص‪ 227‬من املطبوعة يف جملد‬
‫واحد‪ ،‬وذلك أثناء بيانه لألقوال يف معىن املكان‪ ( (( :‬االحتمال الثالث ) في المكان (أنه البعد المفروض‪/‬‬
‫وهو الخالء‪ ،‬وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث ال يتماسان وليس ) أيضاً ( بينهما ما يماسهما ) فيكون ما‬
‫بينهما بعداً موهوماً ممتداً في الجهات‪ ،‬صالحاً ألن يشغله جسم ثالث لكنه اآلن خال عن الشاغل ( وجوزه‬
‫المتكلمون ومنعه الحكماء ) القائلون بأن المكان هو السطح‪ ،‬وأما القائلون بأنه البعد الموجود فهم أيضاً‬
‫يمنعون الخالء بالتفسير المذكور‪ ،‬أعني البعد المفروض فيما بين األجسام‪ ،‬لكنهم اختلفوا‪ :‬فمنهم من لم‬
‫يجوز خلو البعد الموجود عن جسم شاغل له‪ ،‬ومنهم من جوزه‪ ،‬فهؤالء المجوزون وافقوا المتكلمين في‬
‫جواز المكان الخالي عن الشاغل‪ ،‬وخالفوهم في أن ذلك المكان بعد موهوم‪ ،‬فالحكماء كلهم متفقون على‬
‫مر من التقدر ) فإن ما بين الجسمين اللذين ال يتماسان قابل‬
‫امتناع المكان بمعنى البعد المفروض ( لما َّ‬
‫للتقدر بالتنصيف وغيره‪ ،‬ومتصف بالتفاوت مقيسا إلى ما بين جسمين آخرين ال يتماسان كما عرفته وال شيء‬
‫من المعدوم كذلك‪ ،‬فما بين الجسمين المذكورين أمر موجود‪ /،‬إما جسم كما هو رأي القائل بالسطح‪ ،‬وإما‬
‫بعد مجرد كما هو رأي القائل به‪ ،‬وهذا الخالف إنما هو في الخالء داخل العالم بناءاً على كونه متقدراً قطعاً‬
‫وأن تقدره هل يقتضي وجوده في الخارج أو ال ‪.‬‬

‫( وأما ) الخالء ( خارج العالم فمتفق عليه ) إذ ال تقدر هناك بحسب نفس األمر ( فالنزاع ) فيما‬
‫وراء العالم إنما هو ( في التسمية بالبعد فإنه عند الحكماء عدم محض ) ونفي صرف ( يثبته الوهم )‬
‫خالءا أيضاً‪.‬‬
‫ويقدره من عند نفسه‪ ،‬وال عبرة بتقديره الذي ال يطابق نفس األمر‪ ،‬فحقه أن ال يسمى بعداً وال ً‬
‫( وعند المتكلمين ) هو ( بعد ) موهوم كالمرفوض‪ /‬فيما بين األجسام على رأيهم )) اهـ ‪.‬‬

‫وقال العالمة التهانوي يف الكشاف(‪ (( :)1/289‬وقيل حاصله‪ /‬أن المكان عند المتكلمين‬
‫قريب من معناه اللغوي‪ ،‬ومعناه ما يعتمد عليه المتمكن‪ ،‬فإن ضمير هو راجع إلى المفهوم اللغوي بدليل أن‬
‫المكان عندهم بعد موهوم ال أمر موجود‪ /،‬كاألرض للسرير‪ ،‬وأن الحيِّز غير المكان عندهم‪ ،‬فالحيز هو‬
‫الفراغ المتوهم مع غير اعتبار حصول الجسم فيه أو عدمه‪ /‬كما قال الشارح الحرزباني‪ ،‬والمكان هو الفراغ‬
‫المتوهم مع اعتبار حصول الجسم فيه‪ ،‬والخالء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغوالً‬
‫بالمتحيز‪،‬انتهى‪ ،‬يعني أن الخالء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغوال واآلن خال عن الشاغل‪،‬‬
‫على ما هو رأي المتكلمين‪ ،‬وإال يصير الخالء مرادفاً للحيز‪ ،‬ولذا قيل إن الخالء عندهم أخص من الحيز‪،‬‬
‫ألن الخالء هو الفراغ الموهوم مع اعتبار أن ال يحصل فيه جسم‪ ،‬والحيز هو الفراغ الموهوم من غير اعتبار‬
‫حصول الجسم فيه أو عدم حصوله )) اهـ ‪.‬‬

‫ولو تأملنا يف العبارة األخرية فقط لكفى بيان الفرق بني احليز واملكان وتبني بالضبط ما الذي‬
‫يريده املتكلمون باحليز ‪.‬‬

‫وقد اضطررنا للنقل وإن كان طويالً ألن كثرياً من الناس ال يعرفون بالضبط أقوال‬
‫املتكلمني‪ ،‬ولندلل بعد ذلك باالعتماد على كالم منقول وليس فقط معقوالً أو خمرجاً‪ ،‬حقيقة‬
‫مذاهبهم ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫ولنرجع اآلن إلى نقد كالم ابن رشد ‪ ،‬فأما القسم األول من كالمه فال شيء فيه‪ ،‬وال‬
‫خالف لنا معه ‪.‬‬

‫وأما قوله عن املقدمة الثانية‪ (( :‬القائلة إن العالم في خالء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ))‬
‫اهـ فإن هذا الكالم غري صحيح باملرة‪ ،‬بل إنه عرض خبيث لكالمهم‪ ،‬ومن الغريب إنه يعتمد على‬
‫جمرد هذا العرض الساذج ملا قاله اإلمام اجلويين‪ ،‬مث يشرع بإلزامهم مبثل هذه اإللزامات العريضة‬
‫اخلطرية !!‬

‫واملفروضـ والالئق مبثل هذه املباحث أن يستقصي املرء عن حقيقة مذاهبهم قبل أن يتعرض‬
‫هلم بكلمة‪ ،‬ولكن هذه هي الطريقة اليت اتبعها ابن رشد يف كتابه كله كما رأينا حىت اآلن وكما‬
‫سنرى فيما يلي ‪.‬‬

‫فإن قوهلم باحليز ال يريدون به احليز الوجودي‪ ،‬أي الفراغ املوجود‪ ،‬بل الفراغ المتوهم ال‬
‫مع حصول جسم فيه‪ ،‬فلو تأمل يف هذا القيد األخري‪ ،‬فإنه نص صريح يف أهنم يتكلمون عن احليز‬
‫املتوهم يف العقول‪ ،‬كما لو تكلموا عن احلركة للشمس من الغرب إىل الشرق‪ ،‬فإن هذه احلركة يف‬
‫احلقيقة غري موجودة‪،‬ـ بل متومهة ولكنهم جيعلوهنا من اجلائزات ‪.‬‬

‫وهكذا فإهنم عندما يتكلمون عن أن العامل ميكن أن يوجد يف حيز آخر غري هذا الذي وجد‬
‫فيه‪ ،‬فإهنم يتكلمون عن حيز مفروض متوهم ال أمر موجود يف نفسه ‪.‬‬

‫فمن هذه املالحظة السريعة بعد ما نقلناه‪ ،‬يتبني لك مدى هتافت ابن رشد يف هذا املوضع ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قوله بعد ذلك‪ (( :‬ويلزم عن وضعه‪ /‬هذا الخالء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديماً ))‬
‫فهو جمرد استمرار يف املغالطة السابقة‪ ،‬فلما عرفنا حنن أهنم ال يريدون باخلالء الفراغ املوجود‪ ،‬فكيف‬
‫يلزمهم هذا الالزم الشنيع ؟!‬

‫العجائيب فيقول يف مقام الكالم على اإلرادة يف‬


‫ّ‬ ‫ابن رشد يف مثل هذا النقد! الغرائيب‬
‫ويستمر ُ‬
‫بعد أن يعرتض على قوهلم بأن اإلرادة قدمية‪ ،‬ص‪ (( :58‬فإذا لو وضع المتكلمون أن اإلرادة حادثة‪،‬‬
‫لوجب أن يكون المراد محدثا وال بدَّ‪ ،‬والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور‪ ،‬ولذلك لم‬
‫يصرح ال بإرادة قديمة وال حادثة )) اهـ ‪.‬‬
‫فابن رشد ينفي إذن أن يكون مث دليل شرعي على قدم اإلرادة اإلهلية‪ ،‬وهو مييل إىل القول‬
‫بأهنا حادثة فقال‪ (( :‬بل صرح بما األظهر منه أن اإلرادة موجدة موجودات‪ /‬حادثة )) اهـ وكأنه كان يريد‬
‫أن يقول‪ :‬إن الشرع صرح حبدوث اإلرادة‪ ،‬ولكنه غري عبارته !!‬

‫مث قال‪ (L‬بل الحق أن الشرع لم يصرح في اإلرادة ال بحدوث وال بقدم‪ ،‬لكون هذا من‬
‫المتشابهات في حق األكثر‪ ،‬وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود‬
‫قديم )) اهـ ‪.‬‬

‫واحلق أن هذا الكالم كله‪ ،‬ساقط ال قيمة له‪ ،‬فكون الشرع مل يصرح بذلك ال يعين أن هذا‬
‫الذي قاله املتكلمون ليس حبق‪ ،‬فكثري من أصول الدين قد استنبطها املتكلمون بإشارة القرآن وليس‬
‫بنصه الصريح ‪.‬‬

‫مر‬
‫وأما قوله إنه ال يوجد لديهم دليل قطعي على ذلك‪ ،‬فهو باطل‪ ،‬بل هو جمرد ادعاء‪ ،‬وقد َّ‬
‫الكالم على بعض ما يتعلق بذلك عند الكالم على أن ما ال خيلو عن احلوادث فهو حادث‪ ،‬وسيأيت‬
‫بتوفيق اهلل تعاىل بقيته عند الكالم تفصيالً على صفات اهلل تعاىل ومنها اإلرادة ‪.‬‬

‫وتأمل إىل ابن رشد كيف مييل إىل أن اهلل تعاىل متصف بإرادة حادثة‪ ،‬أو ‪ -‬على األقل‪ -‬إن‬
‫إرادة اهلل تعاىل حادثة حىت من دون لفت النظر إىل كوهنا صفة له أو غري ذلك ‪.‬‬

‫وهذا األمر الذي يسعى إليه هذا الرجل من أصول مذهبه‪ ،‬ألنه إذا سلم للمتكلمني أن إرادة‬
‫اهلل تعاىل قدمية‪ ،‬ومع ذلك يصدر عنها أمر حمدث‪ ،‬اهندم مجيع مذهبه ومذهب أرسطو‪ ،‬كما أشرنا‬
‫غري مرة‪ ،‬ولذلك تراه يصرح أن القول باإلرادة احلادثة أمر حادث ‪.‬‬

‫واعلم أن ابن تيمية قد اغرت هبذا القول بل وتابعه عليه‪ ،‬وصرح بأن القول باإلرادة احلادثة‬
‫أمر مبتدع ‪.‬‬

‫والفرق بينهما أن ابن تيمية يصرح بالقول بأن إرادة اهلل تعاىل حادثة وقائمة فيه‪ ،‬فهي حادثة‬
‫بالشخص وقدمية بالنوع عنده بناءاً على قاعدته املشهورة‪ ،‬وأما ابن رشد فإنه كما رأينا خيتبئ وراء‬
‫األلفاظ ‪.‬‬

‫وابن تيمية عندما يقول بذلك فإنه متوافق متاماً مع مذهبه يف التجسيم أي مع القول بأن اهلل‬
‫تعاىل جسم جمسم‪ ،‬ومتصف بالصفات احلادثة الطارئة واملتجددة‪ ،‬وأما ابن رشد فإنه متوافق متاماً مع‬
‫مذهبه بأن للشريعة ظاهراً ومؤوالً‪ ،‬وأن املؤول مغاير للظاهر‪ ،‬وأن الظاهر مالئم للعوام واملؤول مالئم‬
‫للخواص !! وهذا كله حمض حتكم ‪.‬‬

‫وأما المتكلمون فإنهم كما وضحنا مذهبهم أوالً‪ ،‬يرون أن الشريعة نزلت على مراتب‬
‫في التفصيل واإلجمال‪ ،‬ال على مراتب ظاهرة وباطنة‪ ،‬فالمعنى بين المجمل والمبين واحد‪،‬‬
‫واالختالف عارض من حيث حذق اإلنسان له ال غير‪ .‬ومن هنا كان مذهب األشاعرة أعدل‬
‫المذاهب ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهبذا نكون قد انتهينا من الكالم على املسألة األوىل من املسائل اليت تكلم عليها ابن رشد يف‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬ونكون قد أوضحنا أصوالً كبرية يف طريقته‪ ،‬ويتضح للقارئ العادل مدى املغالطة اليت‬
‫تلبس هبا يف كالمه ‪.‬‬

‫وحنن يف املسائل الالحقة سوف نزيد من بيان هذا األصل من خالل مناقشتنا لكالمه فقرة‬
‫فقرة‪.‬‬

‫وسوف لن نتكلم على أدلته اليت أوردها كبديل عن أدلة املتكلمني‪ ،‬وذلك ألن هدفنا من‬
‫هذا النقد املختصر إمنا هو بيان مدى جتنيه على األشاعرة خاصة‪ ،‬وأما هذا املطلب فسوف خنصص له‬
‫حمالً الئقاً مع تفصيل ملا هنا إن يسر اهلل لنا الزمان الكايف لذلك بفضله ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫المسألة الثالثة‪:‬الوحدانية‬

‫‪ ‬‬

‫وقد تكلم ابن رشد على دليل الوحدانية كما يراه‪ ،‬ووجهه على حسب ما يريده‪ ،‬وحنن هنا‬
‫ال نريد توجيه مهنا إىل نقد نفس أدلة ابن رشد‪ ،‬ولكن مرادنا بيان ما وقع فيه من مغالطات أثناء نقده‬
‫لكالم األشاعرة ‪.‬‬

‫مث شرع بعد ذلك يف مقصوده من نقد دليل املمانعة املشهور الذي اعتمده األشاعرة‪ ،‬يريد‬
‫حماولة بيان عدم برهانيته‪.‬‬

‫فقال يف ص‪ (( :67‬ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياساً على‬
‫المريدين في الشاهد‪ ،‬يجوز أن يتفقا‪ /،‬وهو أليق باآللهة من الخالف‪ ،‬وإذا اتفقا على صناعة العالم‪ ،‬كانا مثل‬
‫صانعين اتفقا على صنع مصنوع )) اهـ ‪.‬‬

‫يريد أنه كما جيوز خالفهما جيوز أيضاً وفاقهما‪ ،‬والوفاق يتحقق هنا يف صور‪ ،‬وهي أن‬
‫يتفقا على أن خيلق كل واحد منهما قسماً من العامل‪ ،‬أو أن يتفقا على أن يكون واحد منهما آمراً‬
‫واآلخر ناهياً مثالً‪ ،‬أو غري ذلك من الصور ‪.‬‬

‫وحاصلها يعود إىل أن اإلله الواحد خيصص من عموم تعلقات إرادته وقدرته يف بعض‬
‫املوجودات دون البعض‪ ،‬وحاصل ذلك أن يكون الواحد منهما مطيعاً لآلخر يف ناحية من النواحي‪،‬‬
‫هذا هو حاصل االعرتاض الذي أورده ابن رشد هنا ‪.‬‬

‫ابن رشد أنه يف الصفحة السابقة عندما كان يقرر دليله هو على الوحدانية‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقد نسي ُ‬
‫(( وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان‪ ،‬كل واحد منهما فعله فعل صاحبه‪ ،‬فإنه ليس يمكن أن‬
‫يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة‪ ،‬ألنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إ ْن‬
‫فعال معاً فعالً واحداً أن تفسد المدينة الواحدة‪ ،‬إال أن يكون أحدهما يفعل وينهى اآلخر‪ ،‬وذلك منتف في‬
‫صفة اآللهة‪ ،‬فإنه متى اجتمع فعالن من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة )) اهـ‪ ،‬فإن هذا‬
‫الكالم يناقض ما ذكره يف االعرتاض السابق‪ ،‬كما تراه بعينك‪ ،‬فإنه هناك أجاز االتفاق‪ ،‬وهنا قال إن‬
‫االتفاق ال يليق بصفات اإلهلية !!‬
‫ولك أن تتعجب من هذا التناقض ما شئت‪ ،‬ولكنه كما أراه متفق مع طريقة وأهداف‬
‫ابن رشد في هذا الكتاب‪ ،‬كما وضحناه لك أكثر من مرة ‪.‬‬

‫مث إن ابن رشد قد نسي أن اإلله ال جيوز عليه التخصيص‪ ،‬سواء كان هو املخصص لنفسه أو‬
‫كان غريه هو املخصص له أو لصفة من صفاته‪ ،‬وهو يف اعرتاضه السابق أجاز أن خيصص اإلله إرادته‬
‫ليتفق مع اإلله اآلخر‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬ألن التخصيص عالمة اإلمكان‪ ،‬كما هو ظاهر‪ ،‬واإلمكان واإلهلية‬
‫ال جيتمعان ‪.‬‬

‫وقد أشار العديد من العلماء إىل احتمال أن يتفقا وأتوا باألدلة على انتفاء أن يقدح ذلك‬
‫االحتمال يف دليل الوحدانية وعدم تأثريه‪ ،‬واستحالته يف نفسه‪ ،‬وذكروا ذلك بطرق عديدة‪ ،‬منها ما‬
‫أورده اإلمام العالمة التفتازاني يف شرحه على النسفية فقال يف ص‪ ( (( :86‬الواحد ) يعني أن‬
‫صانع العالم واحد‪ ،‬وال يمكن أن يصدق مفهوم‪ /‬واجب الوجود إال على ذات واحدة‪ ،‬والمشهور في ذلك بين‬
‫المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى‪ (( :‬لو كان فيهما آلهة إال اهلل لفسدتا )‪ ،‬وتقريره أنه لو‬
‫أمكن إلهان ألمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد واآلخر سكونه‪ /،‬ألن كال منهما في نفسه أمر‬
‫ممكن‪ ،‬وكذا تعلق اإلرادة بكل منهما‪ ،‬إذ ال تضاد بين اإلرادتين بل بين المرادين‪ ،‬وحينئذ إما أن يحصل‬
‫األمران فيجتمع الضدان‪ ،‬أو ال فيلزم عجزهما‪ ،‬أو يحصل أحدهما فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة الحدوث‬
‫واإلمكان لما فيه من شائبة االحتياج‪ .‬فالتعدد مستلزم إلمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محاالً‪.‬‬

‫وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة اآلخر‪ ،‬لزم عجزه وإن قدر لزم عجز‬
‫اآلخر‪ .‬وبما ذكرنا يندفع أنه يجوز أن يتفقا‪ /‬من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة‬
‫الستلزامها المحال أو أن يمتنع اجتماع اإلرادتين إرادة الواحد حركة زيد وسكونه مثالً )) اهـ ‪.‬‬

‫ابن رشد مهه إىل تضعيفه وإيراد الشكوك عليه‪ ،‬وتأمل كيف هدم‬
‫وجه ُ‬
‫فهذا هو الدليل الذي َّ‬
‫التفتازاني الشك الذي اعتمد ابن رشد عليه وبني هتافته بكل يسر وسهولة ‪.‬‬

‫وقد نص على اهندام هذا اإليراد والتشكيك يف نفسه اإلمام العالمة الشيخ الدردير يف‬
‫شرحه على خريدته في علم التوحيد يف ص ‪ (( :24‬فالتعدد مستلزم إلمكان التمانع المستلزم للمحال‬
‫فيكون التعدد محاال‪ ،‬وبما ذكر اندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا‪ /‬من غير تمانع‪ ،‬وحاصل الدفع أن اإلمكان‬
‫محال وإن لم يقع تمانع بالفعل‪ )) /‬اهـ ‪.‬‬

‫أي إنه يكفي يف قيام الدليل على الوحدانية أن يستلزم فرض إله آخر إمكان احملال وهو‬
‫إمكان التمانع‪ ،‬وال جيب لصحة داللته أن يكون داالً على وقوع التمانع بالفعل‪ ،‬فافهم ‪.‬‬
‫ذكرت يف تهذيب شرح السنوسية خالصة هذا الدليل على صورة حسنة واضحة وها‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫أنا أنقلها إليك اآلن‪:‬‬

‫(( لو كان معه مماثل في األلوهية للزم عجزهما سواءاً اتفقا أو اختلفا أو اقتسما‪ ،‬فكل من هذه‬
‫األقسام‪ ،‬إماأن يكون اضطرارياً أو اختيارياً‪ ،‬فإن كان اضطرارياً لزم قهرهما وعجزهما فينتفي العالم‪ ،‬ونفي‬
‫العالم محال ‪.‬‬

‫وإن اتفقا اختياراً فيتعرض‪ /‬لهما جوهر فرد فإن أوجداه معا لزم انقسام ما ال ينقسم وهو محال‪ ،‬ألن‬
‫الجوهر الفرد ال يقبل االنقسام ‪.‬‬

‫وإن أوجد أحدهما عين ما أوجده اآلخر لزم تحصيل الحاصل وهو محال ‪.‬‬

‫وإن أوجده أحدهما وعجز اآلخر‪ ،‬فاآلخر ليس بإله ألنه عجز واإلله ليس بعاجز‪ ،‬والذي قدر على‬
‫فعله أيضاً ليس بإله ألن الفرض أنه مثل لآلخر‪ ،‬ومثل العاجز عاجز‪.‬‬

‫وإن عجز االثنان فهما ليسا بإلهين‪ ،‬وإذا لزم عجزهما عن إيجاد هذا الجوهر لزم عجزهما عن سائر‬
‫الممكنات ألنه ال فرق بين ممكن وممكن ‪.‬‬

‫وإن اختلفا بأن يريد أحدهما حركة جسم في زمان واحد ويريد اآلخر سكونه في ذلك الزمان بعينه‪،‬‬
‫فال يصح أن يحصل مرادهما لما فيه من الجمع بين الضدين وال يصح عدم مرادهما لما فيه من ارتفاع‬
‫الضدين مع قبول الجسم لهما‪ ،‬وال يصح أن يحصل مراد أحدهما دون اآلخر ألن عجز أحدهما دليل على‬
‫عجز اآلخر ألنه مثله ‪.‬‬

‫وإن اقتسما اختياراً لزم عجز كل واحد منهما مما عند صاحبه ألن شرط اإلله يجب أن تكون قدرته‬
‫عامة التعلق بجميع الممكنات ‪.‬‬

‫ومن هذا البرهان تعلم أن اإلله واحد )) اهـ ‪.‬‬

‫ومن هنا تعلم أن املبالغة اليت قام هبا ابن رشد يف سبيل التشكيك يف هذا الدليل‪ ،‬مل تكن‬
‫مبنية على أسس عقلية حسنة‪ ،‬بل على دوافع أخرى سبق أن أشرنا إليها‪ ،‬فتأمل !!‬

‫‪ ‬‬
‫مث قال ابن رشد يف ص‪ (( :68‬فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله تعالى‪ (( :‬ولعال بعضهم على‬
‫بعض )) من جهة اختالف األفعال فقط‪ ،‬بل ومن جهة اتفاقهما‪ ،‬فإن األفعال المتفقة تتعاون في ورودها على‬
‫المحل الواحد )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬إن املتكلمني وضحوا كما ذكرنا أن دليل التمانع جيري يف حال التوافق ويف حال‬
‫التمانع‪ ،‬وكالم ابن رشد هذا إمنا خرج منه عندما جهل ما الذي قرره املتكلمون‪ ،‬وقد أوضحناه حنن‬
‫لك سابقاً‪ ،‬فيبني لك هتافته هنا ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فائدة‪ /:‬ولئال يعتقد أحد مغرتاً بكالم ابن رشد أن األشاعرة الذين عرفوا وجه الرد على حالة‬
‫االتفاق املفرتضة هم املتأخرون فقط‪ ،‬فإننا نورد لك اآلن بعض ما قاله املتقدمون يف إبطال حالة‬
‫التوافق املفرتضة هذه ‪.‬‬

‫قال اإلمام الباقالني يف كتاب اإلنصاف ص‪ 50‬بعد أن أورد دليل التمانع‪ (( :‬فإن قيل‪:‬‬
‫فيجوز أن ال خيتلفا يف اإلرادة ‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬هذا القول يؤدي إىل أحد أمرين‪ :‬إما أن يكون ذلك لقول أحدمها آلخر ال تُِر ْد إال ما‬
‫أريد‪ ،‬فيصري أحدمها آمراً واآلخر مأموراً‪ ،‬واملأمور ال يكون إهلاً‪ ،‬واآلمر على احلقيقة هو اإلله ‪.‬‬

‫أو يكون كل واحد منهما ال يقدر أن يريد إال ما أراده اآلخر ولو كان كذلك دل على‬
‫عجزمها‪ ،‬إذ مل يتم مراد واحد منهما إال بإرادة اآلخر معه ‪.‬‬

‫وإذا ثبت هذا بطل أن يكون اإلله إال واحداً على ما قررناه )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وكذلك فقد قرر امتناع التعدد بناءاً على جتويز التوافق يف اإلرادة اإلمام الجويني أيضاً يف‬
‫كتاب اإلرشاد‪ ،‬فقال يف ص‪ (( :53‬فإن قيل‪ :‬رتبتم هذه الداللة على اختالف إراديت القدميني‪ ،‬فبم‬
‫تنكرون على من يعتقد قدميني يريد كل واحد منهما ما يريده اآلخر؟‬

‫قلنا‪ :‬هذه الداللة مطردة على تقدير االختالف كما قررناه‪ ،‬وهي مطردة أيضاً على تقدير‬
‫االتفاق‪ ،‬فإن إرادة حتريك اجلسم من أحدمها مع إرادة الثاين تسكينه ممكنة غري مستحيلة‪ ،‬وكل ما دل‬
‫وقوعه على العجز واالتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله‪ ،‬والدليل عليه أن من اعتقد جواز‬
‫قيام احلوادث بالقدمي‪ ،‬ملتزماً ما يفضي إىل احلكم حبدثه‪ ،‬نازل منزلة من يعتقد قيام احلوادث به وقوعا‬
‫وحتققاً‪ ،‬واجلاري من أحد احملدثني يف تنفيذ إرادته املتصدي ألن مينع عرضة للنقص‪ ،‬كاملصدود عما‬
‫يريده حقا بتسوية بني من جيوز ضده وبني من اتفق رده )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأيضاً فقد رد ذلك االحتمال اإلمام الغزالي يف كتابه االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬فقال يف ص‬
‫‪107‬وذلك بعد أن أبطل احتمال أن يقتسم اإلهلان الكون فيوجد واحد منهما قسماً ويوجد الثاين‬
‫القسم اآلخر‪ (( :‬فإن قيل‪ :‬مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده اآلخر على العرض‪ ،‬وكذا‬
‫بالعكس ‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬هذه املساعدة هل هي واجبة ال يتصور يف العقل خالفها فإن أوجبتموها فهو حتكم بل‬
‫هو أيضاً مبطل للقدرة‪ ،‬فإن خلق اجلوهر واحد كأنه يضطر اآلخر إىل خلق العرض‪ ،‬وكذا بالعكس‬
‫فال تكون له قدرة على الرتك وال تتحقق القدرة مع هذا ‪.‬‬

‫وعلى اجلملة فرتك املساعدة إن كان ممكناً فقد تعذر العقل وبطل معىن القدرة‪ ،‬واملساعدة إن‬
‫كانت واجبة صار الذي ال بد له من مساعدة مضطراً ال قدرة له )) اهـ ‪.‬‬

‫وكذلك فقد رد على ذلك اإلمام الشهرستاني يف كتابه نهاية اإلقدام ‪.‬‬

‫فهذه نصوص صرحية تدل على أن األئمة املتقدمني كاملتأخرين تنبهوا إىل هذا االحتمال‬
‫وردوه‪ ،‬كل واحد منهم رده بأسلوبه اخلاص‪ ،‬وأدلتهم على ذلك قطعية للمتأمل‪ ،‬وللقارئ بعد ذلك‬
‫أن يتعجب من ابن رشد كيف يدعي أن األشاعرة مل ينتبهوا إىل ذلك االحتمال‪ ،‬أو إهنم مل يستطيعوا‬
‫الرد عليه‪ ،‬فهل هذا إال مقارب للكذب والتدليس عليهم ؟!‬
‫َّ‬

‫واعلم أن املتكلمني قد فهموا من اآلية ( لو كان فيهما آلهة ‪)..‬ـ دليلني وليس دليالً‬
‫واحداً على التوحيد‪ ،‬األول من اإلشارة‪ ،‬والثاين من العبارة ‪.‬‬

‫فالذي من اإلشارة هو دليل التمانع‪ ،‬وهو الذي سبق أن وضحناه لك‪ ،‬وأما الذي من‬
‫اإلشارة‪ ،‬فهو يعتمد على أن اآلهلة املتعددة جيب عادة أن ختتلف‪ ،‬واختالفها جيب أن ينتج عنه فساد‬
‫العامل ولو بعد وجوده ‪.‬‬
‫وقد أشار العالمة الدسوقي يف حاشيته على شرح أم البراهين إىل هذين الدليلني‪ ،‬فوضح‬
‫أن الدليل لو أقيم على أساس انتفاء العامل وفساده ولو بعد وجوده‪ ،‬كان دليالً إقناعياً‪ ،‬أما لو أقيم‬
‫بناءاً على أن التعدد ينتج عنه عدم وجود العامل أصالً فإنه يكون قطعياً ال خطابياً‪ ،‬فقال يف ص‪:163‬‬
‫(( وهذا البرهان هو المشار إليه بقوله تعالى‪ (( :‬لو كان فيهما آلهة إال اهلل لفسدتا )) وهو دليل قطعي ال‬
‫إقناعي خالفا للسعد‪ ،‬حيث قال‪ :‬إنه إقناعي‪ ،‬وهو مبني على أن المراد بالفساد اختالل نظامهما‪ ،‬وأما لو قلنا‬
‫إن المراد بالفساد عدم الوجود أصال كان الدليل إقناعيا )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما قول ابن رشد يف ص‪ (( :68‬وقد يدل على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من اآلية ليس‬
‫هو الدليل الذي تضمنت اآلية‪ ،‬أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل‬
‫المذكور في اآلية )) اهـ ‪.‬‬

‫كذا قال‪ ،‬واحلقيقة الواضحة أن املتكلمني قد فهموا دليلني كما وضحناه له سابقاً‪ ،‬واحملال‬
‫الالزم من الدليل املذكور من اآلية هو فساد العامل‪ ،‬وفساد العامل يصدق بعدم وجوده أصالً‪ ،‬أو‬
‫بفساده واختالل أركانه ولو بعد وجوده‪ ،‬وهذان الالزمان يلمان عن دليلي املتكلمني ‪.‬‬

‫واحلقيقة البينة بعد النظر يف اآلية أن اآلية ناظرة إىل العامل يف هذا اآلن‪ ،‬ومالحظة وجوده‪،‬‬
‫وانتظامه‪ ،‬مث وبعد استحضار هذه احلالة‪ ،‬تفرض أنه يوجد إهلان‪ ،‬فاحلاصل بعد هذا الفرض يف تلك‬
‫احلالة‪ ،‬هو فساد العامل‪ ،‬وفساد العامل يف تلك الظروف واألحوال‪ ،‬حيتمل كال من الالزمني احملالني‪،‬‬
‫ومها اختالل أركان النظام يف العامل‪ ،‬والثاين انعدامه أصال‪ .‬وأنت تعلم اآلن أن الالزم الثاين هو احملال‬
‫الالزم من دليل التمانع املأخوذ باإلشارة‪ ،‬والالزم األول هو احملال الالزم من الدليل املأخوذ من‬
‫العبارة‪ ،‬وكل هذا قد وضحه املتكلمون ومل حيم حوله ابن رشد وال غريه ‪.‬‬

‫وقد أودع ابن رشد يف هذه املسألة كثرياً من مغالطاته اليت قد ختفى على كثري من الناظرين‬
‫يف كتابه هذا‪ ،‬ولكننا اكتفينا بإبراز هذه األمور السابقة‪ ،‬لتكون تنبيهاً للنبيه‪ ،‬وكاشفة لغريها من‬
‫املفاسد املودعة فيه ‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪:‬يف الصفات‬

‫‪ ‬‬

‫أوال ‪:‬العلم‬

‫‪ ‬‬

‫أنت تعلم أن املتكلمني من األشاعرة قد قالوا بأن اهلل تعاىل يعلم األمور كلها بعلم واحد‪،‬‬
‫فالعلم من حيث هو صفة قائمة باهلل تعاىل واحد‪ ،‬ولكن تعلقاته ال هناية هلا‪ ،‬فعلمه تعاىل قدمي مطلقاً ‪.‬‬

‫وابن رشد له كالم غريب يف ذلك‪ ،‬فإنه يقر بأن العلم قدمي ولكنه يقول يف ص‪ (( :70‬لكن‬
‫ليس ينبغي أن يتعمق في هذا فيقال ما يعول عليه المتكلمون أنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم‪،‬‬
‫فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت عدمه‪ ،‬وفي وقت وجوده واحداً وهذا أمر غير معقول‬
‫)) اهـ ‪.‬‬

‫وادعاؤه بأن ذلك غري معقول ادعاء باطل‪ ،‬فإن العلم من حيث هو صفة أمر واحد ال تعدد‬
‫فيه‪ ،‬ولكن تعلقات العلم متعددة‪ ،‬فالعلم يتعلق باألمر قبل وجوده تعلقاً معيناً‪ ،‬ويتعلق باألمر بعد‬
‫وجوده تعلقاً ثانياً‪ ،‬فالعلم واحد والتعلقات متعددة ‪.‬‬

‫فالقول بأن كون العلم واحداً قبل وبعد احملدث غري معقول هو عينه غري معقول ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولنتأمل اآلن يف السبب الذي من أجله قال ابن رشد بأن ذلك غري معقول‪،‬ـ فقد قال كما يف‬
‫ص‪ 71‬مباشرة بعد كالمه السابق‪ (( :‬إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعاً للموجود‪ /،‬ولما كان الموجود‪/‬‬
‫تارةً يوجد فعالً وتارة يوجد قوةً‪ ،‬وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً إذا كان وقت وجوده بالقوة غير‬
‫وقت وجوده بالفعل )) اهـ ‪.‬‬

‫ابن رشد أن العلم نفسه جيب أن يتغري بعد وجود احملدث املعلوم وقبل وجوده‪،‬‬ ‫قص َد ُ‬
‫فإ ْن َ‬
‫فهو أمر باطل وقد بينا أنه ال جيب أن يتغري كما مر ألن التعلقات هي اليت تتعدد وليس العلم ‪.‬‬
‫قص َد إن العلم باحملدث قبل وجوده ال ميكن أن يكون عني العلم به بعد وجوده‪،‬‬
‫وإ ْن َ‬
‫فمسلم‪ ،‬ولكن من قال إهنما أمر واحد ؟!‬

‫ونقصد بعدم الوحدة هنا عدم وحدة التعلقات بعد وجود احملدث وقبل وجوده‪ ،‬أما العلم‬
‫الذي هو صفة فواحدة ال تتعدد وال تتغري ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتأمل كيف يبالغ ابن رشد يف الغلط يف قوله بعد ذلك‪ (( :‬وهذا شيء لم يصرح به الشرع‪ ،‬بل‬
‫الذي صرح به خالفه‪ ،‬وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى‪ (( :‬وما تسقط من ورقة إال‬
‫يعلمها وال حبة في ظلمات األرض وال يابس إال في كتاب مبين )) اهـ ‪.‬‬

‫كذا ادعى ابن رشد‪ ،‬ولكن املتأمل يف اآلية الكرمية يعرف متاماً أهنا ال تدل على أن علم اهلل‬
‫تعاىل يكون حني سقوط الورقة‪ ،‬أي إهنا ال تدل على أنه تعاىل ال يعلم السقوط لورقة قبل سقوطها‪،‬‬
‫فاهلل تعاىل يعلم مىت تسقط كل ورقة فيما ال يزال منذ األزل‪ ،‬وحاصل ما يف اآلية أهنا تقول إن اهلل‬
‫تعاىل يعلمها‪ ،‬والفعل املضارع ليس نصاً يف املستقبل وال يف احلاضر‪ ،‬بل هو يدل على مطلق ثبوت‬
‫الفعل‪ ،‬خاصة يف هذه اآلية‪ ،‬أي إن املعىن يكون‪ :‬إن اهلل تعاىل يعلم ذلك‪ ،‬وعلمه تعاىل بذلك ليس‬
‫مقيداً بكونه عاملاً بذلك اآلن فقط أو إنه كان منذ األزل عاملاً بذلك وال يزال‪ ،‬واألكمل أن حيمل‬
‫الفعل املضارع على االستمرار والدوام‪ ،‬كما هو ظاهر ‪.‬‬

‫وما دام األمر كذلك فكيف جيرؤ ابن رشد على القول بأن اهلل تعاىل يعلم الشيء ال منذ‬
‫األزل بل حني حدوثه ؟!‬

‫أليس هذا جمرد تعنت للوصول إىل خمالفة األشاعرة ؟‬

‫مث تأمل يف قوله تعاىل‪ (( :‬إال في كتاب مبين )) لتعلم أنه أراد جل شأنه أن يبني أن ذلك‬
‫كله كان اهلل تعاىل عاملاً‪ ،‬وعرب عن ذلك بقوله‪ (( :‬في كتاب مبين ))‪،‬ـ وهو اللوح احملفوظ‪ ،‬أو علمه‬
‫األزيل ‪.‬‬

‫والكتاب يف أصل اللغة اجملموع‪ ،‬فدل ذلك على أن علمه تعاىل بذلك جمموع منذ األزل‬
‫وليس متفرقاً يأيت شيئاً بعد شيء ‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫وأما ادعاؤه بعد ذلك أن املتكلمني ما قالوا بذلك إال ألهنم يعتقدون بامتناع حلول احلوادث‬
‫يف اهلل تعاىل‪ ،‬ألن ما ال ينفك عن احلوادث فهو حادث‪ ،‬قال‪ (( :‬وقد بينا نحن كذب هذه المقدمة ))‬
‫اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬إنه يف احلقيقة مل يبني إال بعض التشكيكات السخيفة اليت ال يهتم هبا إال املبتدئون يف‬
‫هذا العلم‪ ،‬وحنن قد تكلمنا على هذه املسألة أثناء مناقشته يف حدوث العامل ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مث بالغ يف هذا الكالم وقال‪ (( :‬وال يقال إنه يعلم حدوث المحدثات وفساد الفاسدات ال بعلم‬
‫محدث وال بعلم قديم‪ ،‬فإن هذه بدعة في اإلسالم )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬هذا جمرد هتافت من ابن رشد‪ ،‬فإنه إذا أثبت أن هلل تعاىل علماً‪ ،‬فإنه جيب عليه أن‬
‫يبني فيما إذا كان يعتقد قدمه أو حدوثه‪ ،‬فإن األمر ال ينفك عن أن يكون إما حادثاً أو قدمياً‪ ،‬أما أن‬
‫يقال ال جيوز التصريح بأي منهما‪ ،‬فذلك الكالم باطل ال أساس له ‪.‬‬

‫فلنفرض أحد املتشككني سأل عن علم اهلل تعاىل هل هو قدمي أو حادث ؟ هل ترى أن من‬
‫احلكمة أن نقول له‪ :‬ال قدمي وال حادث‪ ،‬أو إن نسكت وال جنيبه بأي من هذين االحتمالني ؟‬

‫إن هذا التصرف يف مثل هذه احلال ال يكون إال دليالً على الضعف واجلهل ‪.‬‬

‫وال جيوز البن رشد أن يدعي إن السكوت هنا إمنا هو جمرد موقف يقفه العلماء إذا سأهلم‬
‫العامة عن ذلك‪ ،‬ألن الكالم إمنا هو عن األمر يف نفسه‪ ،‬فال بد أن يكون إما قدمياً أو حادثاً‪ ،‬ومسألة‬
‫الظاهر والباطن للشريعة أو الظاهر واملؤول فإمنا هي كالم فارغ ال قيمة له يف نفس األمر‪ ،‬كما بينا‬
‫يف املسألة األوىل ‪.‬‬

‫وأما قوله إن اجلواب بأحد األمرين بدعة‪ ،‬فهو كالم مردود‪ ،‬فالبدعة إمنا هي األمر الذي‬
‫خيالف قواعد اإلسالم‪ ،‬ومعانيه اليت بينها‪ ،‬وأما القول بأن علم اهلل تعال قدمي وليس حبادث‪ ،‬فكيف‬
‫خيالف ذلك‪ ،‬بل هو مبني حلقيقة معاين الدين‪ ،‬فقوله‪ :‬إنه بدعة هو البدعة ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫ثانياً‪ :‬الحياة‬

‫‪ ‬‬

‫مل خيالف ابن رشد املتكلمني يف إثبات صفة احلياة ويف كوهنا شرطاً لصحة االتصاف بالعلم‪،‬‬
‫ووافقهم يف القاعدة اليت قرروها وهي أن الشرط جيب أن ينتقل فيه احلكم من الشاهد إىل الغائب ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإلرادة‬

‫‪ ‬‬

‫يسلم ابن رشد بأصل اإلرادة‪ ،‬أما أن تكون اإلرادة قدمية‪ ،‬فإنه يقول‪ :‬إن هذا القول بدعة‪،‬‬
‫ومقصودهـ بالبدعة هو األمر الذي خيالف الدين‪ ،‬وليس األمر الذي مل ينطق به السلف‪ ،‬وشتان بني‬
‫املفهومني ‪.‬‬

‫ويدعي أن كون اإلرادة قدمية ((شيء ال يعقله‪ /‬العلماء وال يقنع الجمهور )) كما يف ص‪!! 72‬‬

‫واقرتح البديل بأنه ((ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في‬
‫غير وقت كونه )) اهـ ‪.‬‬

‫احملد ِ‬
‫ث‪ ،‬ال قبل ذلك ‪.‬‬ ‫وكالمه يعين أن إرادة اهلل تعاىل حادثة يف وقت حدوث َ‬

‫وجيب على القارئ أن يتنبه أن ابن رشد ال يقول هو حبلول احلوادث من مثل اإلرادة والعلم‬
‫وغري ذلك يف الذات اإلهلية‪ ،‬وغاية ما يقول به أن املتكلمني ال ميلكون دليالً على نفي ذلك‪ ،‬بل إنه‬
‫يقول‪ :‬إن هذا املعىن جيب أن يلقى على العوام‪ ،‬ألهنم ال يقدرون على خالفه‪ ،‬وأما العلم القدمي‬
‫واإلرادة القدمية‪ ،‬فإنه يكتفي مبجرد االعرتاض عليهما‪ ،‬ويدعي أن الشريعة جاءت على خالف ذلك‪،‬‬
‫وأن اجلمهور ال يفهم ذلك ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫رابعاً‪ :‬الكالم‬

‫‪ ‬‬

‫وأما رأي ابن رشد يف الكالم‪ ،‬فقد أكثر فيه من الغرابة‪ ،‬فإن أصل الكالم عنده كما قال‪(( :‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فصفة الكالم له من أين تثبت له ؟ قلنا‪ :‬ثبتت له من قيام صفة‪ /‬العلم به وصفة القدرة على االختراع‪،‬‬
‫فإن الكالم ليس شيئاً أكثر من أن يفعل‪ /‬المتكلم فعالً يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه‪ ،‬أو يصير‬
‫المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه‪ ،‬وذلك من جملة أفعال الفاعل )) اهـ ‪.‬‬

‫هكذا يوضح ابن رشد هذه املسألة اخلطرية‪ ،‬فإنه يبدأ بالكالم على أمر مساه صفة‪ ،‬ثم يجيب‬
‫السائل بجواب فيه كالم على أمر هو في الحقيقة وصف وليس صفة‪ ،‬فالفعل ليس عبارة عن‬
‫ني‪ ،‬وال يقال على‬ ‫ِ‬ ‫معىن قائم يف الفاعل‪ ،‬بل هو عبارة عن َ ٍ‬
‫حمدث قائم يف نفسه أو يف غريه من املفعول َ‬
‫الفعل إنه صفة‪ ،‬بل يقال على املعىن القائم يف الذات إنه صفة‪ ،‬وأما الفعل‪ ،‬فإن العقل اإلنساين إذا‬
‫الحظ صدوره عن الفاعل‪ ،‬فإنه يشتق للفاعل وصفاً اعتبارياً يسميه فعالً‪ ،‬وهذا الفعل يف احلقيقة ليس‬
‫قائماً يف الفاعل‪ ،‬بل هو عبارة عن إضافة بني الفاعل واملفعول‪،‬ـ أي ليس أمراً موجوداً بنفسه ‪.‬‬

‫وهكذا فابن رشد عندما قال إن الكالم عبارة عن فعل‪ ،‬وأجاب بذلك عن سؤال السائل عن‬
‫صفة الكالم‪ ،‬فإنه يكون قد وقع يف مغالطة صرحية‪ ،‬أساسها الذي بينَّاه سابقاً ‪.‬‬

‫مث إن قوله‪ :‬إن الكالم ثبت هلل تعاىل من قيام صفة العلم به والقدرة‪ ،‬معناه أن الكالم إمنا‬
‫ينسب إىل اهلل تعاىل عندما يفعل بقدرته فعالً داالً على علمه القائم بنفسه‪ ،‬فالكالم من حيث وجوده‬
‫صادر أصالة عن القدرة‪ ،‬ال عن العلم‪ ،‬وهو من حيث النظر إىل داللته معرب عن العلم ال عن القدرة‪،‬‬
‫فافهم ذلك وال تغرت بكالمه هنا فإنه متهافت ‪.‬‬

‫مث قوله بعد ذلك يف ص‪ (( :73‬واألشاعرة قد نفوا أن يكون المتكلم فاعالً للكالم )) اهـ ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬هذا الكالم خطأ هكذا‪ ،‬بل إن األشاعرة بعد أن نظروا نظراً عقلياً‪ ،‬عرفوا نوعني من‬
‫أنواع الكالم‪ :‬األول كالم قائم يف النفس‪ ،‬وهذا الزم للنفس مبجرد كوهنا عاملة حية‪ ،‬وهذا الكالم‬
‫هو الصفة القائمة يف الذات‪ ،‬والثاني كالم هو يف احلقيقة فعل للذات‪ ،‬تدل به الذات غريها على‬
‫الكالم القائم فيها‪ ،‬وهذا الكالم ليس صفة بل هو فعل للذات‪.‬‬
‫مث قالوا‪ :‬الكالم النفسي الذي هو صفة هلل تعاىل ال يكون حادثاً‪ ،‬والكالم الذي هو فعل هلل‬
‫تعاىل ٌّ‬
‫دال على كالمه النفسي‪ ،‬ال يكون إال حادثاً ‪.‬‬

‫فاحلاصل أن األشاعرة قد قالوا بأن اهلل تعاىل فاعل للكالم الذي هو فعل دال على كالمه‬
‫النفسي‪ ،‬وليس فاعالً للكالم النفسي القائم بذاته‪ ،‬ألن صفاته ال تكون مفعولة‪ ،‬وبذلك يتبني لك أن‬
‫ما صرح به ابن رشد غلط حمض ‪.‬‬

‫((‬ ‫وقد قال ابن رشد عن كالم النفس الذي قالت به األشاعرة يف ص‪:74‬‬
‫واألشعرية تتمسك بأن من شرطه –أي الكالم(‪ -)]3[3‬أن يقوم بالمتكلم )) اهـ ‪.‬‬

‫أي إن من شرط الكالم مطلقاً أن يقوم باملتكلم‪ ،‬ويدخل يف ضمن توضيح ابن رشد – على‬
‫زعمه – ملذهب األشاعرة كلٌّ من نوعي الكالم‪ ،‬أعين النفسي واللفظي‪ ،‬ولذلك أكمل ابن رشد‬
‫قائالً‪ (( :‬وهذا صحيح في الشاهد في الكالمين معاً‪ ،‬أعني كالم النفس واللفظ الدال عليه‪ .‬وأما في الخالق‪،‬‬
‫فكالم النفس هو الذي قام به‪ ،‬فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه )) اهـ ‪.‬‬

‫فإن كان هذا الكالم تكملة لتوضيح كالم األشاعرة من ابن رشد‪ ،‬فهو صحيح مطلقاً‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا الكالم تعليقاً من ابن رشد على كالم األشاعرة‪ ،‬فهو اعرتاض عليهم‪ ،‬ومعىن ذلك أنه‬
‫خيالفهم فيه‪ ،‬أي إنه ال يقول به‪ ،‬أو ببعضه ‪.‬‬

‫ولنعرف جهة خمالفته هلم‪ ،‬نكمل لك كالمه‪ ،‬فقد قال‪ (( :‬فاألشعرية لما شرطت أن يكون‬
‫الكالم بإطالق قائماً بالمتكلم‪ ،‬أنكرت أن يكون المتكلم فاعالً للكالم بإطالق‪ ،‬والمعتزلة لما شرطت أن‬
‫يكون فاعال للكالم بإطالق‪ ،‬أنكرت كالم النفس‪ ،‬وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء‬
‫من الباطل على ما الح لك من قولنا )) اهـ ‪.‬‬

‫يعين من هذا الكالم كله‪ ،‬أن األشاعرة أخطأت عندما نفت كون املتكلم فاعالً للكالم‬
‫بإطالق‪ ،‬فاحلق إذن عند ابن رشد أن املتكلم فاعل للكالم بإطالق‪ ،‬ومعىن بإطالق أن كل ما هو‬
‫كالم فاملتكلم يفعله‪ ،‬أي إنه فعل للمتكلم ‪.‬‬

‫هذا هو حاصل قول ابن رشد‪ ،‬ولكننا نعلم أن هذا الكالم باطل‪ ،‬وذلك للفرق بني الكالم‬
‫النفسي وبني الكالم اللفظي الفعلي ‪.‬‬

‫‪ )]3[(3‬هذه زيادة مين لتوضيح كالم ابن رشد‪.‬‬


‫وأما املعتزلة عند ابن رشد فإهنم قد أخطأوا أيضاً عندما أنكروا الكالم النفسي‪ ،‬على‬
‫اإلطالق‪ ،‬ومعىن ذلك عند ابن رشد أنه ال جيوز إنكار الكالم النفسي على اإلطالق‪ ،‬ولكننا نعلم أن‬
‫احلقيقة أن كالم ابن رشد هو نسخة تامة من كالم املعتزلة‪ ،‬ال يفرتق عنهم بشيء‪ ،‬فاعرتاضه عليهم‬
‫إمنا هو اعرتاض بارد‪ ،‬ال قيمة له ‪.‬‬

‫وابن رشد يريد أن يقول من هذه العبارة األخرية أنه ال ينفي الكالم النفسي‪ ،‬ولكن الصحيح‬
‫أنه ينفيه بإطالق‪ ،‬وذلك ألنه قد عرف الكالم كما سبق بأنه فعل الفاعل‪ ،‬والكالم النفسي ليس فعالً‬
‫أصالً‪ ،‬فكيف يكون قائالً به ‪.‬‬

‫وأما الذي قال به ابن رشد فهو العلم القائم بذات اهلل تعاىل‪ ،‬والعلم ليس هو الكالم كما‬
‫تعلم للفرق الواضح بعد قليل من النظر بني العلم والكالم‪ ،‬وإذا أوهم ابن رشد بأن العلم القائم‬
‫بالذات هو عني الكالم النفسي فإن هذا يكون هتافتاً وتدليساً منه على اجلمهور‪ ،‬وهذا كله واضح ‪.‬‬

‫وبعد ذلك كله يتبني لك مدى املغالطات اليت وقع فيها ابن رشد‪ ،‬ولعله ملا رأى قوة كالم‬
‫األشاعرة يف إثبات الكالم النفسي‪ ،‬مل يستطع أن خيالفه متاماً‪ ،‬وملا رأى قوة كالم املعتزلة يف الكالم‬
‫اللفظي‪ ،‬مل يستطع أن خيالفهم‪ ،‬ومل حيقق احلق يف هذه املسألة‪ ،‬فدار حول الرأيني‪ ،‬ومل جيزم بأحدمها‬
‫فوقع يف هذه املغالطات والسقطات الشنيعة ‪.‬‬

‫واحلق الذي أوضحه العلماء يف علم الكالم‪ ،‬أن الكالم النفسي ثابت‪ ،‬وأن الذي قال به‬
‫املعتزلة من حدوث الكالم اللفظي حق‪ ،‬ال جيوز أن خيالفه أحد‪ ،‬وقد قال به األشاعرة ‪.‬‬

‫ولكن الكالم النفسي الذي نفته املعتزلة ال جيوز أن يُتابَعوا عليه‪ ،‬بل إهنم – أي األشاعرة ‪-‬‬
‫قد خالفوا املعتزلة يف النفي وزادوا عليهم يف اإلثبات‪ ،‬فاعلم ذلك وال تشرد خبيالك ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫خامساً‪ :‬السمع والبصر‬

‫‪ ‬‬

‫ويف كالم ابن رشد على السمع والبصر أرجع هاتني الصفتني إىل صفة العلم‪ ،‬ومع أن هذا‬
‫خمالف لظاهر الشريعة إال إنه قال به‪ ،‬وجحد الظاهر‪ ،‬وادعى أن األمر على الصورة اليت ادعاها هي‬
‫اليت جيب إلقاؤها إىل اجلمهور‪ ،‬فقال ملا تكلم على السمع والبصر يف ص‪ (( :74‬وجب أن يكون له‬
‫هذان اإلدراكان‪ ،‬فواجب أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع‪ ،‬وجب أن يكون له هذان‬
‫اإلدراكان‪ ،‬فواجب أن يكون عالماً بمدركات البصر‪ ،‬وعالماً بمدركات السمع‪ ،‬إذ هي‬
‫مصنوعات له )) اهـ ‪.‬‬

‫فأرجع السمع والبصر كما ترى إىل العلم‪ ،‬وهذا مع أنه خمالف لظاهر الشريعة إال أنه قال به‬
‫مث قال يف هناية كالمه على هذه املسألة‪ (( :‬فهذا القدر مما يوصف به اهلل سبحانه ويسمى به هو القدر‬
‫الذي نص الشرع أن يعلمه الجمهور ال غير ذلك )) اهـ ‪.‬‬

‫وهذه مغالطة خطرية وحتكم حمض من ابن رشد‪ ،‬ال جيوز أن يقع فيها من هو دونه يف‬
‫املنزلة‪ ،‬وال يالئم هذا خطورة املهمة اليت نصب نفسه هلا ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬ما وجه االعرتاض على ابن رشد عندما أرجع السمع والبصر إىل العلم‪،‬‬
‫وقد نقل هذا القول عن األشعري‪،‬ـ وعن غريه من العلماء ؟‬

‫فالجواب‪ :‬إن األشعري أرجع هاتني إىل العلم حتقيقاً بعد البحث عن حقيقة كل منهما يف‬
‫الشاهد‪ ،‬وملا وجد أهنما يف الشاهد ال تغايران العلم‪ ،‬قال بذلك‪ ،‬ولكن ابن رشد ملا بىن كالمه يف‬
‫هذا الكتاب ويف غريه‪ ،‬على أن األصل االقتصار على الظاهر من الشريعة‪ ،‬وعدم التعمق فيها‪ ،‬وأصر‬
‫على منع إلقاء ما خيالف الظاهر إىل اجلمهور‪ ،‬حىت وإن كان هو احلق‪ ،‬ولكنه هنا خالف الظاهر‪ ،‬فإنه‬
‫يكون قد خالف القاعدة اليت ألزم نفسه هبا‪ ،‬ومل يلتزم هبا‪ ،‬وهذا غاية السفسطة ‪.‬‬

‫ومن هذا فقد بان الفرق الكبري بني الكالم الذي نقل عن األشعري‪ ،‬وبني الكالم الذي تفوه‬
‫به ابن رشد ‪.‬‬
‫مث إن األشعري مل يقل إن كل ما يظهر للعامة فإنه جيب القول به‪ ،‬بل صرح بأن بعض ما‬
‫يظهر للعامة‪ ،‬ال جيوز القول به‪ ،‬بل وجيب هنر العامة عن االعتقاد به‪ ،‬كما يتوهم العامة اجلهة من‬
‫بعض النصوص‪ ،‬فهل يقول األشعري إهنم جيب أن يؤمنوا باجلهة هلل تعاىل ؟! بل إنه صرح بامتناع‬
‫ذلك‪ ،‬يف حقهم كما يف حق اخلاصة من العلماء ‪.‬‬

‫رأيت حىت اآلن‪،‬‬


‫وأما ابن رشد‪ ،‬فقد غالط نفسه وغالط الشريعة كما سرتى الحقاً وكما َ‬
‫فادعى أن الظاهر للجمهور جيب االمتناع عن إلقاء ما خيالفه هلم !!!‬

‫وهذا كالم باطل‪ ،‬وعكس للموازين‪ ،‬فإن العامة جيب أن يتبعوا العلماء ال العكس ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫سادساً‪ :‬الصفات هل هي زائدة عن الذات ؟‬

‫‪ ‬‬

‫انتقد ابن رشد مذهب األشاعرة يف الصفات املعنوية بأنه يؤدي إىل القول بأن اهلل تعاىل‬
‫جسم‪ ،‬وعلل ذلك بقوله يف ص‪ (( :75‬ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً‪ ،‬ألنه يكون هنالك‬
‫صفة وموصوف‪ /،‬وحامل ومحمول‪ ،‬وهذه هي حال الجسم )) اهـ ‪.‬‬

‫واحلقيقة أن اجلسم ليس كذلك‪ ،‬فاجلسم هو ما جاز فيه ثالثة أبعاد عندهم‪ ،‬واجلسم عند‬
‫األشاعرة هو املمتد ولو يف بعد واحد‪ ،‬واجلسم عند الفالسفة هو املركب من اهليوىل والصورة‪،‬‬
‫وليست حال الصفات مع الذات مثل هذه االحتماالت‪ ،‬كما هو ظاهر للمتأمل ‪.‬‬

‫فالصفات ال يقال عنها غري الذات‪ ،‬حىت يكون قيامها بالذات مثل قيام الصورة باهليوىل‪،‬‬
‫وليست هي جوهراً قائماً بذاته أيضاً‪ ،‬وليست الذات جنساً للصفات وال العكس‪ ،‬حىت يلزم‬
‫الرتكيب املستلزم للجسمية‪ ،‬ولو من جهة العقل ‪.‬‬

‫فاحلاصل أن كالم ابن رشد هنا ال قيمة له‪ ،‬وجمرد هتافت ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫وأما مقارنته بني قول األشاعرة والنصارى يف هذا القول فهو اشتداد يف التشنيع عليهم مبا ال‬
‫وجه حق فيه‪ ،‬كما ترى‪ ،‬وذلك ألن النصارى وإن قالوا بالصفات الثالثة فإهنم قالوا بانفكاكها عن‬
‫الذات‪ ،‬ومل يقل األشاعرة بذلك‪ ،‬وقال النصارى مبا يلزم عنه كون الصفات جواهر قائمة بذاهتا‪ ،‬ومل‬
‫يقل بذلك األشاعرة ‪.‬‬

‫ومذهب النصارى هذا قد نقله ابن رشد عنهم يف نفس هذا املوضع‪ ،‬ومع ذلك فقد ادعى‬
‫أن األشاعرة يقولون به‪ ،‬وهذا كذب حمض عليهم ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبعد أن يصرح ابن رشد أنه ال جيوز أن يلقى مثل هذا الكالم على اجلمهور‪ ،‬لبعدهم عن‬
‫األدلة التحقيقية والربهانية‪ ،‬فإنه مل يقل ما هو الرأي الصحيح من هذه اآلراء‪ ،‬وذلك أنه انتقد‬
‫األشاعرة واملعتزلة‪ ،‬ومل يبني رأيه !!‬

‫واحلق أن جمرد أن هذا الكالم – أي كالم األشاعرة ‪ -‬وإن سلمنا أنه ال يناسب اجلمهور‪،‬‬
‫ولكننا ال نسلم أنه ليس حبق يف ذاته ‪.‬‬

‫ومع أن ابن رشد يكثر من االهتمام بالنقد من جهة أن هذا الرأي يناسب اجلمهور أو ال‬
‫يناسبهم‪ ،‬إال أن هذا األسلوب أسلوب سفسطي حمض‪ ،‬وذلك ألن كالم املتكلمني ليس على ما‬
‫يناسب أو ال يناسب‪ ،‬بل على ما هو احلق يف نفسه‪ ،‬مث إن ناسب مع كونه حقاً‪ ،‬أن يلقى إىل‬
‫اجلمهور أل َقوه‪،‬ـ وإال منعوه عنهم ومنعوهم عنه‪ ،‬واكتفوا بتعليمه للخاصة‪ ،‬وأمجلوه إمجاالً للجمهور‬
‫!!‬

‫وال جيوز عند العقالء أن يكون األمر حقاً يف نفسه مث إذا أردت أن تتكلم مع اجلمهور‬
‫وتعلمه هلم أوحيت إليهم مبا خيالف هذا األمر‪ ،‬بل مبا يناقضه‪،‬ـ فأين احلكمة يف ذلك ؟! أين احلكمة يف‬
‫الكذب حينما ال تلجئ الضرورة إليه ؟!‬

‫‪ ‬‬
‫المسألة الخامسة‪:‬في معرفة التنـزيه‬

‫‪ ‬‬

‫ويف هذا الفصل أغرب ابن رشد غاية اإلغراب‪ ،‬وخالف حىت نفسه يف سبيل الرد على‬
‫األشاعرة‪ ،‬وخالف البديهي يف العقول حىت يصل إىل تلك الغاية ‪.‬‬

‫وأىن لواحد يتبع تلك السبل أن يصل إىل بيان احلق من الباطل كما يزعم ‪.‬‬

‫وما أشبه طريقة ومنهاج ابن رشد بطريقة ومنهاج ابن تيمية‪ ،‬وكيف ال يتبعان نفس السبيل‬
‫وهدفهما واحد‪ ،‬وهو هدم مذهب األشاعرة‪ ،‬وال يتوصل إليه إال هبدم البديهيات واملغالطات‬
‫املكشوفة ؟!‬

‫ويف هذا الفصل سيتكلم ابن رشد على مسألة تنزيه اهلل تعاىل‪ ،‬ما هي الطرق اليت اتبعها‬
‫املتكلمون وما هي الطرق اليت أجازها الشرع للوصول إىل هذا اهلدف ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫قال ابن رشد يف ص‪ (( :77‬من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون إما على غير‬
‫صفة الذي ال يخلق شيئا‪ ،‬وإال كان من يخلق ليس بخالق )) اهـ ‪.‬‬

‫يشرتك اجملسمة وابن رشد يف االستدالل بشيء يسمونه بالفطرة‪،‬ـ وهذه الفطرة إما أن يريدوا‬
‫هبا معلومات موجودة يف النفس اإلنسانية‪ ،‬منذ والدهتا‪ ،‬وإما املعلومات البديهية‪:‬‬

‫‪    ·   ‬فإن قصد األمر األول‪ ،‬فهو ليس بشيء يف احلقيقة ألن النفس عند والدهتا ال يكون فيها أي‬
‫شيء من املعلومات اليت يتكلم عنها هؤالء ‪.‬‬

‫‪    ·   ‬وإن قصد الثاين فاخلالف بني املشبهة وغريهم ليس يف األمور اليت يعرف مجيع الناس أهنا‬
‫بديهيات‪ ،‬كما سنوضحه لك فيما يلي ‪.‬‬

‫وابن رشد وابن تيمية يكثرون من االستشهاد بالفطرة على ما يريدون إثباته من التجسيم‪،‬‬
‫ولكن ابن تيمية‪ ،‬يثبت التجسيم باطناً وظاهراً‪ ،‬وابن رشد يثبت التجسيم هلل تعاىل ظاهراً فقط‪،‬‬
‫وينفيه باطناً ‪.‬‬
‫وكثري من الناس يلجؤون إىل الفطرة للوصول إىل أهدافهم‪ ،‬والتحقيق أنه ال توجد معلومات‬
‫خملوقة مع اإلنسان كتلك اليت يسميها هؤالء بالفطرة ‪.‬‬

‫وأما إن قصدوا بالفطرة جمموعة الغرائز وامليوالت النفسية واألهواء اليت يتصف هبا اإلنسان‪،‬‬
‫فإننا نعلم أن هذه ال يقال عنها لذاهتا إهنا حق أو باطل‪ ،‬ألهنا ميكن عبارة عن أدوات‪ ،‬وميكن أن‬
‫يستعملها اإلنسان يف احلق‪ ،‬وميكن أن يستعملها يف الباطل ‪.‬‬

‫وكائنا ما أراد هؤالء بالفطرة فال جيوز أن حيتجوا هبا على أمر دقيق كهذا األمر الذي نتكلم‬
‫حنن عليه ‪.‬‬

‫أما من حيث اإلمجال فإن اخلالق غري املخلوق‪ ،‬ولكن الغريية اليت نتكلم عنها يف هذا احملل‪،‬‬
‫ما حقيقتها ؟ وما معناها بالتفصيل ؟‬

‫هل إذا أثبتنا إهلاً جسماً ولكن من طبيعة أخرى من األجسام وذا صورة أخرى خمالفة جلميع‬
‫الصور اليت للمخلوقات‪ ،‬هل نكون هبذا قد حققنا أمر التغاير الذي نقول إنه فطري أو بديهي ؟!‬

‫إن العاقل يعلم على سبيل القطع‪ ،‬أن هذا الكالم باطل‪ ،‬ال ريب يف بطالنه‪.‬‬

‫واج َهنا اجملسم بقوله‪ :‬إن يف فطريت أن اهلل تعاىل إذا مل يكن جسماً جمسماً‬
‫وماذا نقول إذا َ‬
‫وحمدوداً ويف جهة ويتحرك ويقوم ويقعد …اخل‪ ،‬فإنه ال ميكن أن يكون إهلاً‪ ،‬وال ميكن أن يكون‬
‫موجوداً !!‬

‫ترى‪ ،‬هل يسلم ابن رشد هلذا القائل بأن فطرته توحي له هبذه األفكار اخلطرية ؟ ولو سلمنا‬
‫أن فطرته تقول له ذلك‪ ،‬فهل ننزل حتت حكم فطرته‪ ،‬ونسلم له أن اهلل تعاىل هكذا ؟!‬

‫ما هو املعيار الدقيق ملا يسمونه بالفطرة ؟ هل هو عبارة عن أدلة عقلية ميكن إقامة احلجة هبا‬
‫على الغري‪ ،‬أم هي عبارة عن جمموعة أحاسيس نفسية‪ ،‬ميكن اجلزم أن اآلخرين حيسون هبا ؟‬

‫إن الفطرة إذا كانت مقاييس عقلية‪ ،‬فإهنا ال خترج عن العقل إذن‪ ،‬ولكن الواضح أهنم ال‬
‫يريدون هبا هذا املعىن ‪.‬‬
‫فهل هي عندهم جمموعة أحاسيس ومشاعر تدهلم على عقائدهم ؟! أهنم إذا كانوا يسلمون‬
‫أنفسهم يف الدنيا واآلخرة ملثل تلك األحاسيس واملشاعر‪ ،‬فال ريب أهنم يتبعون غيَّا‪ ،‬وال ريب أهنم‬
‫مغرقون يف الضاللة واالحنراف عن سبيل اهلدى واجلادة الصحيحة ‪.‬‬

‫فإن هذه األحاسيس واملشاعر ال منلك حنن وال ميلك صاحبها أن جيعلها دليالً إال على من‬
‫حيس هبا‪ ،‬ويعرتف أنه حيس هبا‪ ،‬مث قبل ذلك جيب أن نتأكد أن ما يعرب لنا عنه من مشاعر فإهنا‬
‫مطابقة ملا حنس به حنن ونعرب عنه بنفس األلفاظ !!‬

‫الحاصل من هذا الكالم السريع كله أن االعتماد على أمر يسمى بالفطرة يشابه ترك‬
‫الدليل الجلي واالعتماد على الدليل الخفي‪ ،‬واالعتماد على الدليل الذي ال يسلم الخصم داللته‬
‫أصالً‪ ،‬والدليل الذي ال يمكن ضبطه أصال ضبطا دقيقا ليكون ميزانا توزن به األمور ‪.‬‬

‫ومعلوم أن من يفعل ذلك فإنه يستحق عن جدارة أن يكون ضحكة األولني واآلخرين ‪.‬‬

‫ومن املعلوم أن بعض الصفات اليت تعرض للمخلوقني ال ميكن نسبتها هلل تعاىل‪ ،‬وهذه‬
‫الصفات هي الصفات اليت ال يشك واحد فيها بأهنا صفة نقص‪ ،‬وذلك كاجلهل والنوم والغفلة‬
‫وغريها‪ ،‬فهذه معلوم نفيها ببداهة العقول‪ ،‬وباألدلة اليت تثبت هلل تعاىل ما ينايف هذه الصفات‪ ،‬وهي‬
‫األدلة النظرية اليت تثبت أن اهلل تعاىل عامل حي قيوم‪ ،‬فما كان كذلك ال يكون متصفاً بصفات‬
‫النقص تلك ‪.‬‬

‫وقد تكلم ابن رشد عن هذه الصفات‪ ،‬ومل خيالف يف بطالن نسبتها إىل اهلل تعاىل‪ ،‬ال ظاهراً‬
‫وال باطناً‪ ،‬وال خالف يف هذه الصفات إال من قِبَ ِل اجملسمة الذين اختذوا إهلهم هواهم‪ ،‬وهواهم‬
‫إهلهم‪ ،‬فاعتقدوا أنه يثبت هلل تعاىل نسيان يليق بذاته‪ ،‬ونوم يليق بذاته‪ ،‬وقد تكلمت مع بعضهم يف‬
‫هذا الزمان‪ ،‬وهم بعض الناس الذين يتبعون اجملسم الكبري ابن تيمية‪ ،‬وهؤالء عبارة عن جمموعة من‬
‫احلمقى ال يلتفت إليهم إال على سبيل التنبيه إىل خطرهم وسوء معتقدهم ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أوالً‪ :‬الكالم على الجسمية‬

‫‪ ‬‬
‫مث بعد ذلك شرع ابن رشد يف الكالم على صفة اجلسمية‪ ،‬وهي من األوصاف اليت أثبتها‬
‫البعض من املنتسبني إىل الدين اإلسالمي هلل تعاىل‪ ،‬ونفاها األكثرون من الطوائف اإلسالمية ‪.‬‬

‫ومعلوم أن األشاعرة من أكثر الناس الذي بذلوا جهوداً يف نفي تلك الصفة عن اهلل تعاىل‪،‬‬
‫موقف ابن رشد من هذه املسألة ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َفْلَنَر اآل َن‬

‫فقال يف ص ‪ (( :79‬فإن قيل‪ :‬فما تقول في صفة‪ /‬الجسمية هل هي من الصفات التي صرح‬
‫الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها ؟‬

‫فنقول‪ :‬إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها‪ ،‬وهي إلى التصريح بإثباتها في‬
‫الشرع أقرب منها إلى نفيها‪ ،‬وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين )) اهـ ‪.‬‬

‫واحلقيقة أن هذا القول خطري جداً‪ ،‬وفيه افرتاءات على الشريعة وعلى علماء الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وعلى مثل هذه النصوص الشاذة اعتمد ابن تيمية يف بناء مذهبه يف التجسيم كما وضحته‬
‫يف كتاب (( الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية )) ‪.‬‬

‫وبعض اجلهلة يف هذا الزمان يعتربون نصوص ابن رشد كأهنا نصوص ال يأتيها الباطل من‬
‫بني يديها وال من خلفها‪ ،‬وهذا منهم دليل على ضعف عقوهلم وقلة معارفهم الدينية والعقلية ‪.‬‬

‫فأول ما ادعاه ابن رشد يف هذا النص أن صفة اجلسمية من الصفات اليت سكت عنها‬
‫الشرع‪ ،‬وهذا يف حد ذاته‪ ،‬قريب من الكذب‪ ،‬ألن اهلل تعاىل يقول‪ (( :‬ولم يكن له كفواً أحد)) ‪،‬‬
‫ويقول‪ (( :‬ليس كمثله شيء ))‪،‬ـ أليست هذه النصوص صرحية يف نفي املماثلة يف الذات بني اهلل‬
‫تعاىل وخلقه‪ ،‬وأال ينفي هذا أن يكون اهلل تعاىل جسماً ‪.‬‬

‫إن ابن رشد يعرف هذا متاماً‪ ،‬ولكنه يغالط يف هذه احلقيقة ليتقرب إىل الوصول إىل مقصوده‬
‫األساسي وهو هدم مذهب وطريقة األشاعرة‪ ،‬ملا أهنم هم الواقفون سداً منيعاً أمام سيل فلسفة‬
‫أرسطو وغريه ‪.‬‬

‫وتأمل كيف جعل ابن رشد سكوت الشريعة عن نفي اجلسمية أمراً بيناً بنفسه‪ ،‬مث قال‪ :‬إن‬
‫الشريعة أقرب إىل اإلثبات منها إىل النفي‪ ،‬فكيف يكون السكوت بيناً‪ ،‬يف حال كون اإلثبات أقرب‬
‫يف منظار الشريعة ؟!!!ـ أال يدل ذلك على أن ابن رشد يلقي كالمه إلقاءاً ‪.‬‬
‫مث ما حجة ابن رشد يف أن الشريعة أقرب إىل اإلثبات منها إىل النفي للجسمية ؟ إنه يقول‬
‫إن الدليل على ذلك هو أن الشريعة صرحت بالوجه واليدين ‪.‬‬

‫وتوجد هنا أيضاً مغالطات‪ ،‬فإن الشريعة مل تصرح بالوجه ومل تصرح باليدين ولو صرحت‬
‫هبما لكفر من نفامها‪ ،‬وكفر من أوهلما عن حقيقتهما اليت يريدها ابن رشد‪ ،‬وهي اجلوارح واألركان‬
‫املعروفة لإلنسان وغريه ‪.‬‬

‫ولكن الشريعة ساقت لفظ الوجه واليدين سياق اجملاز يف اللغة العربية‪ ،‬وهلذا فإن داللة‬
‫الشريعة على إثبات الوجه على احلقيقة اللغوية املتعارفة ليست داللة أكيدة‪ ،‬وال جيوز أن يقال عنها‬
‫إهنا نص يف ذلك ‪.‬‬

‫عرفت أن ابن رشد أراد اليد والوجه اللذين مها جوارح ‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقد يقول قائل‪ :‬كيف‬

‫قلنا‪ :‬ألنه اعترب جمرد إيراد الشريعة للوجه واليد دليالً على اجلسمية‪ ،‬وال يكون األمر كذلك‬
‫إال إذا كان الوجه واليد جارحتني وعضوين ‪.‬‬

‫وهنا فإننا نسأل‪ :‬هل صحيح أن الشريعة قد أثبتت الوجه واليد اجلارحتني على سبيل النص‬
‫والتأكيد كما يوحي ابن رشد إىل قرائه ؟!‬

‫أقول‪ :‬ال أحد من العقالء يستطيع أن يدعي مثل هذا االدعاء ويقوى على اإلتيان بأدلة عليه‬
‫‪.‬‬

‫وأما ابن رشد فإمنا يدفعه إىل مثل هذا السقوط جمرد هدفه الذي نصبه لنفسه‪ ،‬وقد ذكرناه‬
‫لك مراراً ‪.‬‬

‫إن كثرياً من علماء اإلسالم قالوا‪ :‬إن الوجه واليدين صفتان هلل تعاىل ليستا جبارحتني‪ ،‬فهل‬
‫هؤالء العلماء يصنفون عند ابن رشد من ضمن اجملسمة ؟‬

‫‪ ‬‬

‫قد يقول قائل‪ :‬إن ابن رشد قد سبق له أن اعترب أن التجسيم يكفي فيه جمرد إثبات صفة‬
‫زائدة على الذات‪ ،‬سواءا كانت عضواً أو صفة معىن‪ ،‬فلم مل تعترب أنه أراد هنا الوجه واليد اللذين مها‬
‫صفتان معنويتان قائمتان بالذات كقيام العلم والقدرة‪ ،‬وعند ذاك يرجع كالمه إىل كالم كثري من‬
‫قلت ؟‬
‫العلماء على ما َ‬

‫نقول‪ :‬إن هذا الفهم غري موافق للمعاين اليت ينطق هبا ابن رشد‪ ،‬فإنه ملا تكلم سابقاً على‬
‫كون الصفات زائدة على الذات‪ ،‬وألزم املتكلمني القائلني بذلك باجلسمية بناءاً على املعىن املشار‬
‫إليه‪ ،‬وحنن قد بينا أن إلزامه ال يلزمهم يف موضعه‪،‬ـ وتكلم هنا على صفة اجلسمية بالتحديد‪ ،‬فإننا‬
‫عرفنا أن مراده هناك باجلسمية جمرد قيام صفة زائدة يف الذات‪ ،‬وعرفنا هنا أن مراده باجلسمية هو‬
‫اجلسمية باملعىن املعهود عند سائر العلماء‪ ،‬وهو وجود أبعاد ثالثة للذات‪ ،‬وهلذا أطلق اجلسمية هنا‪،‬‬
‫وقيدها بقيام صفة يف الذات ووجود حامل وحممول هناك‪ ،‬وهذا يبني للذكي صحة ما قلناه ‪.‬‬

‫وحينئذ فإن التعجب يزداد منه كيف ينص على أن الشرع صرح على إثبات هذه الصفة ‪.‬‬

‫وما هو أشنع من ذلك يف كالمه هو أنه يقول‪ :‬إن كثرياً من علماء الشريعة قد نصوا على‬
‫القول باجلسمية !!!‬

‫فكيف يقول ذلك وحنن نعلم أن القائل بذلك إمنا هم فرقة الكرامية واجملسمة من احلنابلة‪،‬‬
‫وأما سائر العلماء من الفرق اإلسالمية كافة فإهنم شنعوا على هؤالء لتعديهم على الذات اإلهلية‬
‫ونسبة هذا العيب هلا ‪.‬‬

‫فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فكيف يتجرأ ابن رشد عل القول يف نفس الصفحة‪(( :‬ولهذا صار‬
‫كثير من أهل اإلسالم إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم ال يشبه سائر األجسام‪ ،‬وعلى هذا الحنابلة وكثير‬
‫ممن اتبعهم )) اهـ ‪.‬‬

‫فإن هذا الكالم فيه مغالطات عديدة‪ ،‬منها أنه يعترب كافة احلنابلة قائلني باجلسمية‪ ،‬وحنن نعلم‬
‫يقيناً أن الفضالء وأئمة احلنابلة املقتدى هبم يف املذهب ال يثبتون ذلك‪ ،‬بل يصرحون أن هذا اإلثبات‬
‫من الشنائع اليت جيب الفرار منها‪ ،‬وهذا كله مبني يف حمله‪ ،‬وأما من صرح منهم بذلك فإنه قليل جداً‪،‬‬
‫وأما من قال منهم مبا يلزم منه قوله باجلسمية فهم أكثر من املصرحني‪ ،‬ولكن على كل األحوال‪ ،‬فال‬
‫جيوز البن رشد أن يدعي أن احلنابلة قائلني بذلك‪ ،‬ألنك إذا واجهتهم بصفة اجلسمية فروا منها‪،‬‬
‫ونفوها عن أنفسهم‪ ،‬صحيح أن هذا يلزمهم ولكن يوجد فرق بني التصريح وبني اللزوم‪ ،‬واملصرحني‬
‫بذلك منهم معدودون ال يقال عنهم أهنم كثري ‪.‬‬
‫أقرب أسلوب ابن رشد إىل‬
‫فقد تبني لك أن حاصل هذه العبارة جمرد هتويل ال قيمة له‪ ،‬وما َ‬
‫أسلوب ابن تيمية‪ ،‬بل ما أقرب أسلوب ابن تيمية إىل أسلوب ابن رشد؟! فتأمل ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقال ابن رشد بعد ذلك يف ص‪ (( :79‬والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على‬
‫منهاج الشرع‪ ،‬فال يصرح فيها بنفي وال إثبات )) اهـ ‪.‬‬

‫كذا قال‪ ،‬واحلقيقة أن منهاج الشرع كما ادعاه هو القرب من إثباهتا‪ ،‬ال جمرد عدم النفي‬
‫واإلثبات‪ ،‬فهل يقول ابن رشد بذلك ؟!‬

‫ولكن املتأمل بعد كل ذلك مبا ذكرناه قبل‪ ،‬جيد أن كالمه جمرد مغالطة ال دليل عليها‪،‬‬
‫فكيف يتصور أن الشريعة تساوي بني اإلثبات والنفي أو أهنا ترجح جانب إثبات اجلسمية على نفيها‬
‫عن اهلل تعاىل !!‬

‫أي إننا نقول بوضوح أكثر‪ ،‬إذا كان االتفاق حاصالً بني ابن رشد وبني املتكلمني عامة على‬
‫أن اهلل تعاىل ليس جبسم‪ ،‬فلماذا يصر هو على أن ظاهر الشريعة يرجح أن اهلل تعاىل جسم‪ ،‬أال يرتتب‬
‫على ذلك أن الشريعة وما تريد أن تقوله للناس يف الظاهر باطل‪ ،‬وليس مطابقاً لألمر يف نفسه ؟!‬
‫وهل يريد العقالء أُسلوبا يف االستخفاف بالشريعة أكرب من هذا‪ ،‬وأصرح !!!ـ‬

‫‪ ‬‬

‫ال يجوز أن يقول قائل‪ :‬إن املتكلمني أيضاً يقعون يف تأويل ظاهر الشريعة‪ ،‬فلم االعرتاض‬
‫على ابن رشد فقط ؟‬

‫والجواب‪ :‬إن املتكلمني ال يقولون إن الشريعة أرادت أن تفهم الناس أمراً يف الظاهر هو‬
‫خمالف للحقيقة‪ ،‬بل إهنم يقولون إن الناس فهموا بظاهر فهمهم معاين ال تريد الشريعة إثباهتا‪ ،‬وكان‬
‫األصل أن يرجع العامة يف ذلك إىل العلماء لينحل اإلشكال ‪.‬‬

‫الناس أمراً هو على‬ ‫ِ‬


‫وأما ابن رشد فيخالفهم يف ذلك كله‪ ،‬ويصرح بأن الشريعة أ ْف َه َمت َ‬
‫خالف الواقع‪ ،‬وأرادت منهم أن يعتقدوا به‪ .‬وهذا ال ميت إىل رأي املتكلمني بصلة أصالً‪ ،‬فتأمل يف‬
‫ذلك لتعرف البعد الكبري بني القولني واملذهبني ‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫واحتج ابن رشد على قوله هذا بثالثة أمور‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن اجلمهور من الناس ال ميكنهم أن يعرفوا هذه الرباهني اليت أقامها املتكلمون على‬
‫نفي اجلسمية ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن اجلمهور من الناي يرون أن املوجود هو املتخيل واحملسوس‪ ،‬وأن ما ليس مبتخيل‬
‫وال مبحسوس فهو عدم ‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬الشكوك اليت تعرض على الشريعة عند نفي اجلسمية ‪.‬‬

‫فهذه األمور الثالثة خالص ما احتج به ابن رشد لقوله‪ ،‬وأنت ترى أن األول ال قيمة له‪،‬‬
‫ألنه ال يطالب اجلمهور من الناس باملعرفة التفصيلية لألدلة‪ ،‬ومل يطلب منهم ذلك أحد من أهل‬
‫السنة‪ ،‬بل غاية ما يطلب منهم هو األدلة اإلمجالية‪ ،‬واألدلة اإلمجالية على هذه املطالب مقدور عليها‬
‫عند بذل أقل جهد‪ ،‬وقد بني العلماء ذلك كله يف كتب التوحيد ‪.‬‬

‫وأما األمر الثاين‪ :‬فال نسلم أن اجلمهور على هذا الرأي‪ ،‬بل منهم من يقول بذلك ومنهم من‬
‫ال يقول به‪ ،‬بل جيوز أن يوجد موجود ال حيس به وال يتخيله الوهم‪ ،‬وحىت من صدق عليه حكم ابن‬
‫رشد‪ ،‬فال ينبغي أن تنزل الشريعة على رأيه‪ ،‬بل هو املطلوب منه أن ينزل على حكم الشريعة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الشريعة تقول‪ :‬إن اهلل تعاىل ليس جبسم‪ ،‬وفرضنا واحداً من الناس يقول بأنه ال يوجد إال ما‬
‫هو جسم‪ ،‬فإن هذا ينبغي أن يفهم أن كالمه غلط‪ ،‬وأنه إن مل يقدر على تصور ما تقوله الشريعة‪،‬‬
‫فإنه جيب أن يفوض ذلك وينزل على حكمها‪ ،‬وال حيكم هو عليها مبجرد رأيه العاطل وقوله الباطل‪،‬‬
‫بل عليه أن يقيس قياساً بديهياً‪ ،‬وهو أن يقول‪ :‬إن العلماء املشهود هلم حبسن العقل وجودة الفكر‪،‬‬
‫قد علموا أن اهلل تعاىل ليس جبسم‪ ،‬ونفوا اجلسمية عنه جل شأنه‪ ،‬وال جيوز أن يكون هؤالء قد ضلوا‬
‫الطريق وأصاهبا هو‪ ،‬ال سيما إذا اعرتف أنه ال حيسن ما يعلمونه من علوم كثرية نافعة‪ ،‬ويعرتف‬
‫جبودة ذهنهم‪ ،‬وصدقهم وإخالصهم يف خدمة الدين ‪.‬‬

‫وبعد ذلك كله‪ ،‬فأن يقول اإلنسان رأياً وال ميلك عليه دليالً‪ ،‬فإن هذا مبجرده كاف عند‬
‫لرد رأيه‪ ،‬وهذا القياس يعرفة العامة كما يعرفه اخلاصة‪ ،‬فافهم ذلك‪ ،‬يتبني لك‬
‫العقالء ببداهة العقول ِّ‬
‫ضعف قول ابن رشد ‪.‬‬
‫وأما األمر الثالث الذي اعتمد عليه ابن رشد‪ ،‬فهو باطل وال حجة به‪ ،‬وذلك يتبني إذا عرفنا‬
‫أن الشكوك اليت أثارها ابن رشد واعتربها كافية لرد القول بنفي اجلسمية ليست هي يف نفسها‬
‫صحيحة‪ ،‬وال تقوى على الوقوف أمام األدلة اليت أحضرها النفاة للجسمية عن اهلل تعاىل‪ ،‬وهم‬
‫مجهور العقالء ‪.‬‬

‫وسوف يزداد لك بيان بطالن ذلك من خالل األحباث التالية ‪.‬‬

‫وذكر ابن رشد بعد ذلك أن نفي اجلسمية يؤدي إىل إشكاالت يف مبحث الرؤية‪ ،‬وهو قد‬
‫عقد مبحثاً خاصاً لتلك املسألة‪ ،‬وسوف نرى هند مناقشتنا له فيه ما هي هذه اإلشكاالت‪ ،‬لتعرف‬
‫أهنا عبارة عن متحالت ‪.‬‬

‫وذكر أن نفي اجلسمية يستلزم نفي اجلهة واحلركة وأن ذلك يؤدي إىل إشكاالت يف‬
‫الشريعة‪ ،‬واحلق أن ذلك ال يؤدي إىل إشكاالت‪ ،‬بل إن الشريعة تظل مفهومة حىت مع نفي كل‬
‫ذلك‪ ،‬ألن باب التأويل القريب املطرد مع قواعد اللغة مفتوح‪ ،‬وألن كثرياً من النصوص اليت يتومهها‬
‫مشكلة كإتيان الرب يوم القيامة قد بينت يف أحاديث ونصوص أخرى بأن ذلك كناية عن إتيان‬
‫املالئكة أو إتيان موعد احلساب‪ ،‬وكذلك نزول الرب يف الثلث األخري من الليل‪ ،‬معناه أن اهلل تعاىل‬
‫يأمر ملكاً يف ذلك الوقت فينزل‪ ،‬وامللك هو الذي ينادي يف الناس أال من داع فيستجاب له‪ ،‬أال من‬
‫مستغفر ُفي ْغ َفُر له ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فالحقيقة أنني كلما تمعنت في قراءة كتاب ابن رشد هذا ازددت استصغاراً له لما يتبعه‬
‫من أساليب وطرق نازلة للوصول إلى أهدافه المعلومة‪ ،‬هذا مع ما يظهر في هذه األساليب من‬
‫مغالطات وسفسطة بينة‪ ،‬ومع أنه يقول فيها ما ال يعتقده‪ ،‬ويوهم الناس أن للشريعة ظاهراً‬
‫يخالف ياطنها وذلك من دون أدلة كافية وال مقنعة ‪.‬‬

‫وسوف يزداد تفهم القارئ لكالمنا هذا كلما قرأ أكثر من هذه التعليقات ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫قال ابن رشد يف ص‪ (( :81‬ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور الكتفى بذلك‬
‫الخليل صلى اهلل عليه وسلم في محاجة الكافر حين قال له‪ ( :‬ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت )‬
‫اآلية‪ ،‬ألنه كان يكتفي بأن يقول له أنت جسم واهلل ليس بجسم‪ ،‬وألن كل جسم محدث كما تقول األشعرية‪/‬‬
‫)) اهـ ‪.‬‬

‫فتأمل رمحك اهلل تعاىل يف هذا الكالم لتعرف مدى وعظم املغالطات اليت يعتمد عليها ابن‬
‫رشد يف كالمه ‪.‬‬

‫فإن سيدنا إبراهيم عليه السالم‪ ،‬مل يكن ليقول لواحد يدعي عن نفسه أنه الرب مناقشا إياه‬
‫الرب ليس جبسم‪ ،‬ألن هذا ال يفيد يف تلك احلال‪ ،‬وبيان ذلك كما يلي‪:‬‬

‫إن الكافر ملا ادعى الربوبية لنفسه‪ ،‬علم سيدنا إبراهيم أنه ال يعتقد بأن الرب جيب أن يكون‬
‫غري مشابه للناس‪ ،‬وعلم أنه ال يعتقد أن الرب جيب أن ال يكون مولوداً‪ ،‬وعلم منه أنه ال يعتقد أن‬
‫الرب جيب أن ال يكون حمتاجاً إىل غريه من اجلنود والسحرة واملعاونني‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬فلما كانت هذه‬
‫هي حال ذلك الكافر مل يكن من املناسب إلبراهيم أن ينكر عليه باستعمال ما ال يسلم هو به‪ ،‬مع أن‬
‫ذلك كله منفي عن اإلله باتفاق اجلميع‪ ،‬ومن ضمن ما هو منفي عن اإلله كونه جسماً‪ ،‬ولكن‬
‫املوضع موضع مناظرة‪ ،‬واملناظرة يستعمل فيها إلفحام اخلصم املقدمات اليت يسلم هبا‪ ،‬ال املقدمات‬
‫اليت ينكرها‪ ،‬ولذلك فقد استعمل إبراهيم املقدمة اليت يسلم هبا هذا الكافر‪ ،‬وهذه املقدمة هي القدرة‬
‫على اخللق كاإلحياء واإلماتة‪ ،‬فلذلك قال له إبراهيم‪ :‬ريب الذي حييي ومييت‪ ،‬فقال له ذلك الكافر‪:‬‬
‫أنا أحيي وأميت‪ ،‬وهذا االدعاء من الكافر ال يتم له إال إذا كان يدعي القدرة على مطلق اخللق‪ ،‬ألن‬
‫القادر على اإلحياء واإلماتة‪ ،‬قادر على مجيع األفعال األخرى‪ ،‬ألهنا من جنس واحد‪ ،‬فلما عرف منه‬
‫إبراهيم ذلك االدعاء‪ ،‬استعمله ضده فقال‪ :‬فإن اهلل يأيت بالشمس من املشرق فأت هبا من املغرب‪،‬‬
‫وذلك ألن األفعال واحدة والقادر على فعل جيب أن يقدر على ما هو من جنسه‪ ،‬فلذلك هبت الذي‬
‫كفر‪ ،‬والبهت هو أشد أنواع اإلفحام يف املناظرات‪ ،‬وذلك ألن إبراهيم استعمل مقدمة اعتمد عليها‬
‫اخلصم يف معارضته يف مذهبه الذي يذهب إليه‪.‬‬

‫هذا هو أصل مناظرة إبراهيم عليه السالم للكافر‪ ،‬وهكذا جيب أن تفهم‪ ،‬ال كما ادعى ابن‬
‫رشد وتابعه فيه ابن تيمية ‪.‬‬

‫ولو كان اجملال مناسباً لطولنا لك يف شرح أصول مناظرة إبراهيم معليه السالم واستخرجنا‬
‫لك منها قواعد التوحيد ‪.‬‬
‫ومن ذلك تعرف األسلوب املاكر الغريب الذي يعتمد عليه ابن رشد يف بناء أقواله‪ ،‬وهذا‬
‫األسلوب ال خيلو صاحبه من أحد أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن يكون جاهالً باحلقيقة ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن يكون عارفاً هبا ولكن يستخدم هذه املغالطات عن قصد وتدبري ‪.‬‬

‫وكل من احلالني أسوأ من صاحبتها وتؤدي بصاحبها إىل السقوط الشديد من مراتب النظر‬
‫والفكر ‪.‬‬

‫وكذلك وبناءاً على نفس األصول‪ ،‬ينهدم قول ابن رشد يف توجيه إرشاد النيب عليه الصالة‬
‫والسالم ألمته يف أمر الدجال‪ ،‬وحنن قد َبيَّـنَّا شيئا من ذلك يف حاشيتنا على تهذيب شرح السنوسية‬
‫‪.‬‬

‫وهكذا فأنت ترى أن طريقة ابن رشد يف تفسري الشريعة موغلة يف التأويل مع أنه يوهم‬
‫القارئ أنه جيري فيها على ظاهرها‪ ،‬ولكن أين هذا االدعاء من القول بأن ظاهر الشريعة دال على‬
‫معاين ليس صحيحة يف نفس األمر‪ ،‬بل هي غلط حمض‪ ،‬وأن الشريعة أرادت من العلماء أن يعتقدوا‬
‫ما بطن منها‪ ،‬وأرادت من اجلمهور أن يعتقدوا ما ظهر منها !!‬

‫وهكذا يصبح الناس إذا التزموا مذهب ابن رشد فريقني كل منهما يعارض اآلخر يف‬
‫معتقده‪ ،‬وكل منهما يقطع أن ما يعتقد به هو احلق يف نفسه ‪.‬‬

‫فأين هذا احلال من الطريقة اليت بينها املتكلمون واليت ينتهي األمر هبا إىل أن يكون العامة‬
‫واخلاصة يتمسكون بنفس األمر واألحكام‪ ،‬وال تفاضل بينهما إال من جهة العلم التفصيلي والعلم‬
‫اإلمجايل‪ ،‬وبالتايل يكون التوافق التام حاصالً بني مجيع الناس‪ ،‬وبذلك ال يستطيع فريق منهما أن يبدع‬
‫وال أن يفسق فضالً عن أن حيكم بتكفري الفريق الثاين ‪.‬‬

‫إن العاقل مبجرد علمه هبذه النتيجة يقطع جزما أن طريقة ابن رشد طريقة متهاوية فاسدة ال‬
‫قيمة حتتها إال كثرة التشغيب والسفسطة املغالية ‪.‬‬
‫وابن رشد ملا اختار أن ال ينفي اجلسمية عن اهلل تعاىل وال يثبتها‪ ،‬لزمه أن يتعرض لإلشكال‬
‫ُ‬
‫الالزم على طريقته‪ ،‬وهو إذا كان اهلل ال يقال فيه‪ :‬إنه جسم‪ ،‬وال يقال فيه‪ :‬إنه ليس جبسم‪ ،‬فما‬
‫اجلواب على من سأل ما هو ؟‬

‫وسنبني فيما يلي كيف يتصدى ابن رشد للجواب بناءا على طريقته وكيف يقع يف‬
‫مغالطات وهتافتات عديدة‪ ،‬وهذا كله الزم ملقدماته ‪.‬‬

‫إن ابن رشد قال يف اجلواب على القول ما هو اهلل ‪ (( :‬فيقال لهم‪:‬إنه نور‪ ،‬فإنه الوصف الذي‬
‫وصف اهلل به نفسه في كتابه العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته فقال تعالى‪( :‬اهلل نور‬
‫السموات واألرض) )) اهـ اخل كالمه ‪.‬‬

‫إن هذا اجلواب قد اختاره ابن رشد ليتخلص من اإلشكال الذي أشرنا إليه سابقاً‪ ،‬ولكن هل‬
‫فعالً ينجو هبذا األمر؟!‬

‫إنه يدعي أن وصف اهلل تعاىل بالنور يف اآلية إمنا جاء على جهة ما يوصف الشيء بالصفة‬
‫اليت هي ذاته‪ ،‬وهذا باطل قطعاً‪ ،‬فإن اآلية مل تصف اهلل تعاىل بالنور‪ ،‬بل أخربت عنه بأنه نور‬
‫السموات‪ ،‬ومل تقل اآلية إنه نور مطلقاً‪ ،‬وفرق بني أن تقول‪ :‬إن اهلل نور‪ ،‬وبني أن تقول‪ :‬اهلل نور‬
‫السموات واألرض‪ ،‬فمعىن اآلية يكون أننا إذا اعتربنا السموات واألرض أي نظرنا إليهما نظراً عقلياً‪،‬‬
‫والحظنا نسبتهما إىل اهلل تعاىل‪ ،‬لوجدنا أن اهلل تعاىل بالنسبة هلما كالنور‪ ،‬ومها كاملتنور باهلل تعاىل‪،‬‬
‫والنور معناه اإلضاءة والوضوح يف الوجود والتجلي‪ ،‬واهلل تعاىل هو الذي يوجد السموات واألرض‬
‫وخيرجهما من ظلمة العدم إىل نور الوجود‪ .‬فاهلل تعاىل كالنور بالنسبة إىل السموات واألرض‪ ،‬وليس‬
‫هو ذاته نوراً‪ ،‬فإطالق النور عليه تعاىل يف اآلية إطالق جمازي وكنائي‪ ،‬ال خيالف يف هذا إال مغالط‬
‫كابن رشد ‪.‬‬

‫ومما يشري إىل ذلك أنه أخرب عن كونه نوراً بقيد اإلضافة إىل السموات واألرض‪ ،‬وهذا معناه‬
‫أنه ال يطلق عليه أنه نور إال مبعىن إضايف‪ ،‬وما هو معىن إضايف ال يقال عنه إنه أطلق على اهلل تعاىل‬
‫على جهة ما يوصف الشيء بالصفة اليت هي ذاته‪ ،‬فإن هذا ادعاء بعيد عن احلقيقة‪ ،‬فإن الذات ليست‬
‫أمراً إضافياً‪ ،‬وإطالق النور على الذات إمنا جاء ملعىن إضايف‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬إن النور أطلق على الذات‬
‫لبيان حقيقتها ‪.‬‬
‫وهلذا فقد قال العلماء يف هذه اآلية إن معناها إن اهلل ُمَن ِّو ُر السموات واألرض خبلقه هلما‬
‫وإجياده‪ ،‬ومل يقولوا بناءاً عليها إنه نور بالفعل ‪.‬‬

‫إذن فإن ما فعله ابن رشد هنا هو أمر شنيع جداً‪ ،‬وهو مغالطة حمضة انبنت على معارضته‬
‫لألشاعرة‪ ،‬وهو قريب جداً من أن يكون حتريفاً للقرآن للوصول إىل أهدافه ؟!‬

‫ونفس ما قلناه على النور يف هذه اآلية يقال أيضاً على قول النيب عليه السالم ملا سألوه يف‬
‫اإلسراء هل رأيت ربك‪ (( :‬نور أنَّى أراه ))‪ ،‬أي هو كالنور الشديد اإلضاءة وال يستطيع أحد أن‬
‫يتحمل رؤية مثل هذا النور‪ ،‬فكذلك ال أستطيع أن أرى ذات اهلل تعاىل‪ ،‬ومل يقصد النيب عليه السالم‬
‫إنه نور على احلقيقة ‪.‬‬

‫وكذلك احلديث القائل بأن هلل تعاىل حجاباً من نور‪ ،‬فإنه حيمل على نفس املعىن ‪.‬‬

‫وكما ترى فإن هذه املعاين مجيعها بعيدة عما اقرتحه ابن رشد‪ ،‬بل ومعارضة له يف النهاية ‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الكالم على الجهة‬

‫‪ ‬‬

‫وبعد ذلك شرع ابن رشد يف الكالم على اجلهة‪ ،‬فقال يف ص‪ (( :83‬وأما هذه الصفة فلم‬
‫يزل أهل الشريعة من أول األمر يثبتونها هلل سبحانه‪ ،‬حتى نفتها المعتزلة‪ ،‬ثم تبعهم على نفيها متأخرو األشعرية‬
‫كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله‪ ،‬وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة )) اهـ ‪.‬‬

‫هبذه العبارة اخلطرية استهل ابن رشد كالمه يف اجلهة‪ ،‬وبكل جرأة أطلق هذا االدعاء‬
‫العجيب‪ ،‬وهذا تسرع كبري من واحد مثل ابن رشد‪ ،‬وسوف يؤدي به إىل الوقوع يف مغالطات‬
‫وسفسطات كثرية نبينها هنا إن شاء اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫ومعىن كالمه هذا أن مجيع األشاعرة واملعتزلة والشيعة واإلباضية والزيدية وغريهم من الفرق‬
‫الذين نفوا اجلهة‪ ،‬هؤالء كلهم خمالفون ألصول الشريعة‪ ،‬وخمالفون للسلف الصاحل‪ ،‬الذين يزعم ابن‬
‫رشد أهنم كانوا يثبتون اجلهة هلل تعاىل ‪.‬‬

‫والثابت يف كتب الفرق اإلسالمية أن الذين كانوا يثبتون اجلهة هلل تعاىل هم فقط اجملسمة‬
‫واحلنابلة الذين تبعوهم‪ ،‬فاجملسمة واحلنابلة عند ابن رشد وهم القائلون باجلهة هلل تعاىل يدعي أهنم هم‬
‫املمثلون والعارفون مبعاين الشريعة ‪.‬‬

‫مع أن املطلعني على علم التوحيد يعلمون جيداً أن القائلني باجلهة هلل تعاىل هم أبعد الناس‬
‫عن معاين الشريعة‪ ،‬ولو كان هذا األمر من األسس واألصول الكبرية اليت كما يدعي ابن رشد واليت‬
‫صرح هبا الشرع هبذا الوضوح ملا جاز عقالً أن حيصل فيها مثل هذه املخالفة من أكثر الفرق‬
‫اإلسالمية ‪.‬‬

‫وهذا األسلوب من االستدالل على األصول الدينية اليت يدعي فيها صاحبها أنه مصرح هبا‬
‫يف الشريعة‪ ،‬أسلوب صحيح‪ ،‬وهو أيضاً ميكن أن يستعمل يف مناقشة الشيعة يف قوهلم أن النيب عليه‬
‫الصالة والسالم قد أوصى لعلي بن أيب طالب باإلمامة الكربى‪ ،‬وأن هذا النص كان معروفاً مث أعدمه‬
‫الصحابة ومل ينشروه ومل يعملوا مبقتضاه‪ ،‬بل خالفوه‪ ،‬ومل ينكر عليهم أحد هذا الفعل‪ ،‬فلو نظرنا يف‬
‫هذا األمر لرأيناه جمرد ادعاء من الشيعة يف أن هذا النص كان موجوداً‪ ،‬واحلقيقة أن هذا النص‬
‫موجود فقط يف أذهاهنم ‪.‬‬
‫وكذلك يقال يف مسألة ابن رشد‪ ،‬فإنه يدعي أن اجلهة كانت مصرحاً هبا يف نصوص‬
‫الشريعة‪ ،‬وأن سائر السلف كانوا يعتقدون هبا‪ ،‬حىت جاء املعتزلة واألشاعرة فأنكروها‪ ،‬ولو انتبهنا إىل‬
‫أن املعتزلة واألشاعرة إمنا ظهروا بعد زمان ليس أقل من مائة عام‪ ،‬لكان مفهوم كالم ابن رشد أنه‬
‫خالل هذه املائة عام كان أهل الشريعة ينصون على إثبات اجلهة هلل تعاىل‪ ،‬وحيتجون على ذلك‬
‫بالنصوص الصرحية الدالة على ذلك‪ ،‬وال أحد منهم يعارض ذلك اإلثبات‪ ،‬حىت جاء هؤالء فأنكروا‬
‫إثبات اجلهة ‪.‬‬

‫ولو علمنا أن سائر املسلمني بعد ذلك سلموا لألشاعرة واملعتزلة وغريهم من الفرق‬
‫اإلسالمية يف هذا النفي‪ ،‬وأن األقل فقط بقوا على إثباهتم للجهة يف حقه تعاىل‪ ،‬لكانت هذه احلال‬
‫توافق كما لو أن الشريعة قد حرفت عن قصد على أيدي هذا اجلم الغفري من الناس ‪.‬‬

‫فيصبح الناتج أن مجيع هؤالء الناس قد قصدوا حتريف الشريعة‪ ،‬ووافقهم على ذلك اجلمهور‬
‫ومشوا معهم !!‬

‫وهذا الفرض الذي يطلب منا ابن رشد متابعته فيه صعب القبول‪ ،‬ويناقض املعقول واملعلوم‬
‫من التاريخ اإلسالمي ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسوف نشرع اآلن يف نقد كالم ابن رشد بالرتتيب الذي سار هو عليه يف مناقشته هلذه‬
‫املسألة‪ ،‬ولن هنتم مبناقشة النصوص الشرعية اليت استدل هبا على ما يريد‪ ،‬فإن هذا إمنا يكون أليق عند‬
‫مناقشة اجملسمة‪ ،‬وذلك لعلمنا أن ابن رشد وأمثاله ال يستدلون أساسا بالنصوص ملا أهنم يؤمنون مبا‬
‫جاء هبا‪ ،‬وال ألهنم يعتقدون أهنا تدل داللة أكيدة ظاهراً وباطنا على ما يدعون‪ ،‬وذلك خالفا‬
‫للمجسمة ‪.‬‬

‫وهلذا فقد رأينا أن ال نتكلم مع ابن رشد إال على ما يورده من وجوه يعتقد أهنا عقلية‪ ،‬فإننا‬
‫نبني عند ذلك عدم عقليتها ‪.‬‬

‫وسوف نورد أوال أهم ما قاله ابن رشد يف هذه املسألة‪ ،‬مث نشرع يف مناقشته ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫قال ابن رشد يف ص‪ (( :84‬وجميع الحكماء اتفقوا على أن اهلل والمالئكة في السماء‬
‫كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك )) اهـ ‪.‬‬

‫وقد علل ابن رشد نفي املتكلمني للجهة فقال يف ص‪ (( :84‬والشبهة التي قادت نفاة الجهة‬
‫إلى نفيها‪ ،‬هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان‪ ،‬وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية‪،‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬إن هذا كله غير الزم‪ ،‬فإن الجهة غير المكان‪ ،‬وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه‬
‫المحيطة به وهي ستة‪ ،‬وبهذا نقول للحيوان فوق وأسفل ويمينا وشماال وأما وخلف‪ ،‬وإما سطوح جسم‬
‫آخر‪ ،‬محيط بالجسم ذي الجهات الست ‪.‬‬

‫فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصالً‪ ،‬وأما سطوح‬
‫األجسام المحيطة به فهي له مكان‪ ،‬مثل سطوح الهواء المحيطة باإلنسان‪ ،‬وسطوح الفلك المحيطة بسطوح‬
‫الهواء هي أيضاً مكان للهواء وهكذا األفالك بعضها محيطة ببعض‪ ،‬ومكان له ‪.‬‬

‫وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم‪ ،‬ألنه لو كان ذلك كذلك‪ ،‬لوجب أن‬
‫يكون خارجه جسم آخر‪ ،‬ويمر إلى غير نهاية‪ ،‬فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصال‪ ،‬إذ ليس يمكن‬
‫أن يوجد فيه جسم‪ ،‬ألن كل ما هو مكان يمكن أن يقوم فيه جسم‪ ،‬فإذا إن قام البرهان على وجود موجود‪/‬‬
‫في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم‪ ،‬فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه وهو موجود‪ /‬هو‬
‫جسم ال موجود‪ /‬ليس بجسم )) اهـ ‪.‬‬

‫مث قال بعد كالم له يف ص‪ (( :85‬فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل‬
‫)) اهـ ‪.‬‬

‫هذا هو حاصل ما اعتمد عليه ابن رشد يف مسألة اجلهة‪ ،‬وحنن هنا سوف نوضح حقيقة هذه‬
‫املسألة‪ ،‬ونتبع يف ذلك اخلطوات التالية‪:‬‬

‫أوال‪:‬بيان معىن اجلهة واحليز عند املتكلمني ‪.‬‬

‫ثانياً‪:‬معىن احليز واجلهة عند الفالسفة ‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬بيان معىن كون اهلل تعاىل ليس يف جهة كما هو مذهب املتكلمني ‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬الشروع يف نقد كالم ابن رشد وبيان مدى التهافت الذي وقع فيه ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫أوالً في بيان معنى الحيز والجهة عند المتكلمين على وجه مختصر‬

‫‪ ‬‬

‫احليز عند املتكلمني‪ :‬هو البعد املوهوم الذي يشغلُه اجلسم وتنفذ فيه أبعاده ‪.‬‬

‫ومسوه موهوماً ألنه ال يوجد وحده إال يف الذهن‪ ،‬وحقيقته أن الذهن عندما يالحظ اجلسم‪،‬‬
‫فإنه يعلم فيه صفة االمتداد يف األبعاد‪ ،‬ولو يف بعد واحد على األقل‪ ،‬والعقل عنده القدرة على التفريق‬
‫بني ما يالحظه غري مفرتق يف اخلارج‪ ،‬وهذا يسمى عند البعض بالتجريد العقلي‪ ،‬أي إن العقل جيرد‬
‫بعض املعاين عن البعض‪ ،‬وذلك ملالحظته أمراً خاصاً يف هذه دون تلك‪ ،‬وملا يرتتب عليها من‬
‫أحكام‪ ،‬ال تكون األخرى شروطاً فيها ‪.‬‬

‫فاجلسم مثال لكونه متحيزاً فيجب أن يكون حمدوداً‪ ،‬وذلك بغض النظر عن كون اجلسم‬
‫متألفاً من جواهر فردة أو متألفاً من هيوىل وصورة‪،‬ـ أو من غريمها مما قد يقول به البعض كالطاقة‬
‫واألمواج مثالً‪ ،‬فاحلكم على اجلسم بأنه حمدود تابع لكونه متحيزاً‪ ،‬وغري تابع لكونه من أحد األمور‬
‫السابقة ‪.‬‬

‫وهلذا فإن العقل جيرد هذا املعىن الذي هو التحيز والتابع للجسم‪ ،‬أو الذي هو جزء من‬
‫حقيقته‪ ،‬أو هو متام حقيقته يف الواقع‪ ،‬ويرتب عليه األحكام املرتتبة ومن دون مالحظة حقيقة اجلسم‬
‫يف نفسه ‪.‬‬

‫فاملتكلمون يالحظون يف األمر جمرد كونه متحيزاً‪ ،‬مث حيكمون عليه باحملدودية‪ ،‬بغض النظر‬
‫عن األصل الذي يتألف منه‪ ،‬وحيكمون عليه باالفتقار‪ ،‬ألن أصل التحيز يلزم عنه االفتقار مطلقاً كما‬
‫بينوه يف كتب علم الكالم ‪.‬‬

‫ولذلك يقول البعض منهم‪ :‬إن احليز هو من املعقوالت الثانية أي اليت ال يالحظها العقل‬
‫وحدها يف اخلارج مباشرة‪ ،‬بل إنه جيردها مما هو مالحظ لذاته وهو اجلسم ‪.‬‬

‫فاحليز بناءاً على هذا التفسري وهو التفسري املعتمد عند األشاعرة‪ ،‬هو من األعراض الذاتية‪،‬‬
‫وهو غري موجود يف نفسه ‪.‬‬
‫وأما الجهة فإهنا من األعراض النسبية اإلضافية‪ ،‬أي اليت ال ميكن للعقل أن يفهمها إال‬
‫مبالحظة أمرين ال أمر واحد كما يف احليز ‪.‬‬

‫وبيان ذلك أن اجلهة هي يف التعريف مقصد املتحرك من حركته‪ ،‬فاملتحرك إذا حترك فإنه‬
‫يقصد حيزاً معيناً أو حداً معيناً حليز‪ ،‬ال فرق يف احلقيقة‪ ،‬فإن املتحرك نفسه له حيز‪ ،‬وينتقل من حيز‬
‫إىل حيز‪ ،‬وال يوجد متحرك غري متحيز ‪.‬‬

‫وهلذا فإن اجلهة ال توجد يف اخلارج وحدها ملا أهنا إضافية باملعىن السابق ‪.‬‬

‫فاملتحيز ( =اجلسم ) املتحرك يقصد االنتهاء يف حركته إىل حد جلسم آخر‪ ،‬فالبعد الذي‬
‫املنتهى إليه هو اجلهة يف حق هذا املتحيز ‪.‬‬
‫يقطعه ينتهي منه إىل حد آخر هو اجلهة املقصودة‪،‬ـ فاحلد َ‬

‫واعلم أنه يكفي إلطالق اجلهة على احملدود إمكان احلركة إليه وليس حصوهلا بالفعل‪ ،‬وقد‬
‫يكفي يف ذلك إمكان تصورها ولو بالوهم‪ ،‬وهذا قوي ‪.‬‬

‫وهكذا فإننا نعلم أن اجلهة واحليز واحلد واحلركة أمور متالزمة ال ينفك واحد منها عن‬
‫اآلخر‪ ،‬إذا توفرت شروطها ‪.‬‬

‫ومن هاهنا فإن احليوان ملا أمكنه أن يتحرك إىل ستة جهات‪ ،‬وهي األسفل واألعلى واليمني‬
‫والشمال واألمام واخللف‪ ،‬صارت له هذه األمور جهات‪ ،‬فصار يقال له ست جهات‪ ،‬وصار البعض‬
‫يطلق على هذه اجلهات اجلهات احليوانية ‪.‬‬

‫وأما األجسام الطبيعية فإهنا إذا تركت وحدها فإهنا إما أن تتحرك إىل أسفل وإما أن تتحرك‬
‫إىل األعلى‪ ،‬وهذه احلركة مشروطة يف احلقيقة مبا يسمى باجلاذبية أو بالرتكيب الكوين الزمكاين‪ ،‬أو‬
‫حبسب اختالف املادة الكونية شدة وضعفاً‪ ،‬واختالف تركيزها‪ ،‬على أي حال ‪.‬‬

‫وبناء على أي من هذه األقوال فإن اجلسم الطبيعي أقصد غري املتحرك بإرادته كاحلجر‪ ،‬ال‬
‫يتحرك إذا ترك وحده إال إىل أسفل أو إىل أعلى‪ ،‬هذا إن مل ميانعه مانع‪ ،‬فلما كان للحجر والنار مثالً‬
‫واهلواء والرتاب واملعادن وغري ذلك من األجسام الطبيعية هذان االحتماالن‪ ،‬صار يقال إن اجلهات‬
‫الطبيعية هي فقط العلو والسفل‪ ،‬ويقصد من ذلك أن هذه اجلهات الزمة للموجودات الطبيعية غري‬
‫املتحركة باإلرادة ‪.‬‬
‫وعند التحقيق يتبني لك أن مجيع اجلهات إضافية وليست الزمة للموجودات ‪.‬‬

‫وابن تيمية توهم أن هاتني اجلهتني ومها العلو والسفل الزمتان ألصل الوجود‪ ،‬وأن الوجود‬
‫يف نفسه ال ينفك عنهما‪ ،‬فسمامها جهتني الزمتني‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬إن اهلل تعاىل ملا كان موجوداً‪ ،‬فإنه‬
‫يلزم أن يوجد يف جهة‪ ،‬فهذه اجلهة إما أن تكون العلو وإما أن تكون التحت‪ ،‬فاختار لربه جهة العلو‬
‫!!‬

‫وهذا الكالم مبين من ابن تيمية على قياس الغائب على الشاهد‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ومن أخربه حىت‬
‫على التسليم بأن كل ما شاهدنا وجوده فإنه ال ينفك عن اجلهتني‪ ،‬أن اهلل تعاىل مبا أنه موجود فهو‬
‫كذلك ال ينفك عن واحدة منهما؟! ال مصدر لديه يف ذلك إال قياس الغائب على الشاهد ‪.‬‬

‫وحنن قد فصلنا يف قول ابن تيمية هذا وبينا أصوله اليت يبين مذهبه عليها يف كتابنا الكاشف‬
‫الصغري عن عقائد ابن تيمية ‪.‬‬

‫واعلم أن احليز أعم من املكان عند املتكلمني وقد سبقت اإلشارة إىل ذلك‪ ،‬وذلك ألهنم‬
‫قالوا‪ :‬إن اجلوهر الفرد يف حيز وليس يف مكان‪ ،‬ولكن يف هذا احملل لن حنتاج إىل مثل هذا التفريق‪،‬‬
‫وسوف نفرض التساوي يف املفهومني‪،‬ـ مع مالحظة أن املعتزلة قالوا‪ :‬إن اجلسم ال يكون إال من ثالثة‬
‫أبعاد‪ ،‬وأما األشاعرة فإهنم قالوا إن املمتد ولو يف بعد واحد يسمى جسماً ‪.‬‬

‫وهذا البيان حلقيقة اجلهة واحليز عند املتكلمني كاف ملقصدنا هنا ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثانياً‪ :‬بيان معنى الجهة والحيز عند الفالسفة‬

‫‪ ‬‬

‫فاعلم أن املعىن السابق للجهة كما أوضحناه عند املتكلمني ال خيالفه الفالسفة إال من نواحي‬
‫معينة‪ ،‬وأما يف املعىن العام فإهنما متساوقان ‪.‬‬

‫وسوف نورد إليك فيما يلي بعض األقوال الشارحة حلقيقة مذهب الفالسفة يف اجلهة ‪.‬‬
‫قال اإلمام الرازي يف شرحه على عيون احلكمة (‪ (( :)2/65‬الجهة شيء موجود‪ ،‬بدليل أنه‬
‫مقصد للمتحرك أو متعلق اإلشارة الحسية‪ ،‬وكل ما كان كذلك فهو موجود‪ /،‬ثم نقول‪ :‬وهي من الموجودات‪/‬‬
‫المحسوسة بدليل أنها متعلق اإلشارة الحسية‪ ،‬ثم نقول أيضاً‪ :‬وهي حد غير منقسم‪ ،‬إذ لو انقسم لكان‬
‫المتحرك إذا وصل إلى نصف ذلك المنقسم ثم بقي متحركا فإن قلنا إنه متحرك بعد إلى الجهة‪ ،‬فالجهة وراء‬
‫المنقسم‪ ،‬وإن قلنا إنه يتحرك عن الجهة فالجهة هي ذلك المنقسم‪ ،‬وما وراءه خارج عن الجهة )) اهـ ‪.‬‬

‫وقال ابن سينا يف عيون احلكمة‪ (( :‬كل جهة فهي نهاية وغاية ويستحيل أن تذهب الجهة في غير‬
‫النهاية‪ ،‬إذ ال بعد غير متناه‪ ،‬وإذ لو لم يكن إليها إشارة لما كان لها وجود‪ ،‬وإذا كان لها إشارة فهي حد‪،‬‬
‫ليست وراء ذلك‪ ،‬ولو كان حد ما أمعنت إليه الجهة‪ ،‬لم يحصل‪ ،‬لم تكن الجهة موجودة لشيء )) اهـ ‪.‬‬

‫وفسر اإلمام الرازي هذه العبارة بقوله يف (‪ (( :)266‬إن الجهة تكون مقصد المتحرك‪ ،‬بمعنى‬
‫أن المتحرك يطلب الوصول إليه والحصول فيه‪ ،‬ولو كانت الجهة غير متناهية‪ ،‬المتنع كونها كذلك‪ ،‬ألن‬
‫الوصول إلى غير المتناهي واالنتهاء إليه محال‪ ،‬وهذا هو المراد من قوله لو كان حد ما أمعنت إليه الجهة لو‬
‫لم يحصل له حد ونهاية لم يكن الوصول إليه مطلوباً بالحركة‪ ،‬فلم يكن مقصداً للمتحرك‪ ،‬فلم يكن الوصول‬
‫إليه مطلوباً للحركة‪ ،‬فلم يكن مقصدا للمتحرك‪ ،‬فلم تكن الجهة موجودة لشيء‪ .‬وهذا هو تفسير هذه‬
‫األلفاظ بقدر اإلمكان )) اهـ ‪.‬‬

‫وقال هبمنيار يف التحصيل ص‪ (( :606‬إنه قد سلف حيث تكلمنا في التناهي وغير التناهي أن‬
‫ترك وقص ٌد‪ ،‬وحيث‬
‫الجهة متحددة‪ ،‬وأنه إذا تحدد السفل تحدد العلو‪ ،‬فكلما وجدت حركة مستقيمة تعيَّ َن ٌ‬
‫تعين ترك وقصد يتعين مبدء ومنتهى‪ ،‬فكلما وجدت الحركة المستقيمة وجب أن يكون مبدء ومنتهى‪ ،‬ونحن‬
‫نسمي ذلك جهة ‪.‬‬

‫وال يصح أن يتحرك شيء من جهة إلى جهات كثيرة وإال لم يكن الحركة طبيعية‪ ،‬فيجب أن تكون‬
‫الجهة اثنين‪ ،‬فإحداهما يسمى فوقا واألخرى يسمى أسفل ‪.‬‬

‫ثم ال يصح أن يكون المبدأ والمنتهى أمرين معقولين لما ستعرفه‪ /‬من بعد‪ ،‬فبقي أن يكونا أمرين‬
‫ذو ْي وضع‪ .‬وحيث تعين أحدهما تعين اآلخر‪ ،‬فلهذا يجب أن يكون البعد من شرط تحدد‬
‫مشارا إليهما‪َ ،‬‬
‫الجهة‪ ،‬ويجب أن يكون كل واحد منهما من اآلخر في نهاية البعد‪ .‬فيجب أن تكون الجهة ذات وضع غير‬
‫منقسمة )) اهـ ‪.‬‬

‫مث قال‪ (( :‬وال يخلو إما أن يكون تحدد الجهة بجسم واحد أو أكثر من جسم واحد‪ ،‬فإن كان‬
‫أكثر من جسم واحد فإما أن يكون بجسمين أو بأكثر منهما‪ ،‬فإن كان بجسم واحد فإما أن يكون مستديرا‬
‫أو غير مستدير‪ ،‬فإن كان مستديرا فإما أن يكون على سبيل اإلحاطة أو على سبيل المركز‪ ،‬فإن كان على‬
‫سبيل المركز تحدد إحدى الجهتين ولم يتحدد األخرى‪ ،‬فبقي أن يكون على سبيل اإلحاطة ‪.‬‬

‫وذلك إما أن يكون بافتراض حدين في سطحه الخارج أو في سطحه الداخل‪ ،‬ولو كان يتحدد‬
‫الجهتان بافتراض حدين في سطح واحد لكان اختالف الجهتين الختالف أمرين متفقين في النوع مختلفين‬
‫في العدد‪ ،‬والتالي محال‪ ،‬فإذن إنما يصح أن يحدد الجسم المستدير الموجود على سبيل اإلحاطة الجهتين‬
‫بأن يتحدد إحدى الجهتين به واألخرى بمحويِِّه‪ ،‬وهذا هو المركز أو ما هو في حكم المركز )) اهـ ‪.‬‬

‫ِّد هو جسم واحد يحدد الجهتين على سبيل اإلحاطة والمركز‬


‫ثم قال في ص‪ (( :610‬فإذن المحد ُ‬
‫ال غير‪ ،‬فقد با َن أن الجهات يتحدد على سبيل اإلحاطة فقد تعينت اإلحاطة‪ ،‬وإذا تعينت اإلحاطة تعين ألجلها‬
‫المركز‪ ،‬وال جهة إال فوق وأسفل ‪.‬‬

‫ولنجمل هذا الكالم فنقول‪ :‬إن التحديد إما أن يكون بجسم مستدير أو أجسام مستديرة‪ ،‬ألن‬
‫المحدد يجب أن يكون جسما طبيعيا‪ ،‬ولو كان المحدد جسمين أو أكثر لزم أن يكون قد تحددت الجهة من‬
‫قبل الجسمين أو األجسام‪ ،‬وأن يكون تلك األجسام يصح عليها مفارقة أمكنتها‪ ،‬ومحدد الجهات ال يصح‬
‫عليه مفارقة مكانه‪ /.‬ولو كان المحدد جسما واحدا مستديرا وتحدد منه سطح القرب وسطح البعد‪ ،‬لزم أن‬
‫يكون الشيء الواحد مطلوباً ومهروباً عنه‪ ،‬فيجب أن يكون المستدير المحدد يحدد على سبيل اإلحاطة‬
‫والمركز‪ ،‬فيجب أن يكون هذا الجسم متقدما‪ /‬على سائر األجسام التي يتحرك على سبيل االستقامة‪ /‬حتى‬
‫يصح وجود الحركة المستقيمة ‪.‬‬

‫وأما سائر الجهات أعني قدام وخلف ويمين ويسار فلألجسام بما هي حيوانات ‪.‬‬

‫وهذا الجسم ال يصح عليه االنتقال بالحركة المستقيمة‪ ،‬ألنه ال يخلو إما أن يقتضي طباعه الكون‬
‫في تلك الجهة أو ال يقتضي‪ ،‬فإن لم يقتض فكيف يتحدد به الجهة ‪ ،‬وجائز أن ال يكون هناك‪ ،‬وإن اقتضى‬
‫طبعه الكون في تلك الجهة وكان مع ذلك جائزاً أن يعرض له أن ال يكون في تلك الجهة‪ ،‬وهو بالطبع‬
‫يطلبها‪ ،‬وجب أن يكون تلك الجهة حاصلة‪ /‬حتى يطلبها هذا الجسم بكليته وأجزائه‪ ،‬فال يكون الجهة‬
‫متحددة الذات بهذا الجسم بل بشيء آخر‪ ،‬وقد فرضت متحددة بهذا الجسم‪ ،‬وهذا الجسم يجب أن يكون‬
‫ُم ْب َد َعاً )) اهـ ‪.‬‬

‫فهذا بعض ما قاله هبمنيار تلميذ ابن سينا يف معىن اجلهة‪ ،‬وأما املكان فقد قال يف ص‪378‬‬
‫من نفس الكتاب‪ (( :‬والمكان قد يُعنَى به ما يكون محيطا بالجسم‪ ،‬وقد يعنى به ما يستقر عليه الجسم‪،‬‬
‫والمطلوب في هذا المكان هو األول‪ ،‬وهو حال للمتمكن‪ ،‬مفارق له عند الحركة مسا ٍو له‪ ،‬ألن الشرط أن‬
‫ال يوجد جسمان في مكان واحد‪ ،‬والمكان يفارق المتمكن عند الحركة‪ ،‬والهيولى والصورة ال يفارقان‬
‫المتمكن عند الحركة‪ ،‬فالمكان ليس بهيولى وال صورة‪ ،‬وأيضاً فإن المكان يكون الحركة فيه‪ ،‬والصورة‬
‫والهيولى تكون الحركة معهما‪ ،‬فبين أن المكان ليس بهيولى وال صورة ‪.‬‬

‫والمعتقد في المكان مذاهب‪:‬‬

‫فمنها أن يقال إنها أبعاد مفطورة بين األجسام من األجسام‪ ،‬والقائلون بهذا على قولين‪ ،‬فمنهم من‬
‫قال إن هذا البعد ال يوجد خالياً عن متمكن‪ ،‬ومنهم من قال إنه قد يوجد خالياً‪ ،‬وهؤالء هم القائلون بالخالء‪،‬‬
‫ومنهم من قال إنه الهيولى والصورة‪ ،‬ومنهم من قال إنه السطح من الجسم الحاوي المماس للمحوي‪ ،‬وقد‬
‫أبطلنا مذهب من قال إن المكان هيولى أو صورة‪ ،‬وحجة القائلين باألبعاد تقرأ من كتاب الشفاء‪ ،‬وسنورد في‬
‫خالل ما نتكلم فيه جمال منها )) اهـ ‪.‬‬

‫مث قال يف ص‪ 391‬وذلك بعد أن ناقش األقوال األخرى‪ (( :‬فإذن قد اتضح لك أن المكان‬
‫ليس هو هيولى الشيء وال صورته وال خالءا وال بعدا‪ ،‬فال بد من أن يكون شيئا من الجسم‪ ،‬فإما أن يكون‬
‫على سبيل التداخل وإما أن يكون على سبيل اإلحاطة‪ ،‬وقد بان لك امتناع التداخل فإذن يكون على سبيل‬
‫اإلحاطة ‪.‬‬

‫وإذا قيل‪ :‬إن المكان مسا ٍو للمتمكن‪ ،‬فليس يُعنَى به جسم المتمكن‪ ،‬بل يعنى به سطح المتمكن‪،‬‬
‫ومساوي السطح سطح‪ ،‬فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن‪ ،‬وهو نهاية الحاوي المماسة لنهاية‬
‫المحوي‪ ،‬وقد عرفت من هذا أن المكان سطح ال مقدار آخر‪ ،‬والخط والسطح والنقطة لما كان انتقالها‬
‫بالعرض مع الجسم‪ ،‬لم يكن في مكان بالذات‪ ،‬وإنما المكان لما يتحرك بالذات ‪.‬‬

‫والمكان وإن كان ال غنى عنه في الحركة‪ ،‬فليست علة فاعلية للحركة‪ ،‬ألن العلة الفاعلية للحركة‬
‫القسرية معلومة‪ ،‬وكذلك علة الحركة اإلرادية‪ ،‬وهما غير المكان‪ ،‬وليس كل ما ال يستغنى عنه علة فاعلية‪.‬‬
‫فإن العلة أيضاً ال بد لها من المعلول‪ /،‬وليس المعلول‪ /‬بعلة للعلة‪ ،‬بل العلة هي التي ال بد منها‪ ،‬وهي لذاتها ال‬
‫لغيرها أقدم من المعلول‪ /‬في الوجود‪ ،‬وسبب لوجود المعلول‪ /‬على ما نبنيه )) اهـ ‪.‬‬

‫مث قال‪ (( :‬فالمكان أمر الزم لموضوع‪ /‬الحركة‪ ،‬فإن موضوع الحركة من حيث هو جائز عليه‬
‫التحرك وهو في مكان ال محالة )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثالثاً في بيان معنى كون اهلل تعالى ليس في جهة عند المتكلمين‬

‫‪ ‬‬
‫اجلهة عند املتكلمني كما بيناه هي عبارة عن نسبة بني جسمني‪ ،‬واألجسام هي املتحيزة‬
‫بذاهتا وكل جسم حمدود‪ ،‬فكأن املتكلمني أرجعوا اجلهة إىل نسب بني أي جسمني‪ ،‬ومل يرجعوا‬
‫اجلهات كلها إىل جسم واحد فقط‪ ،‬وهلذا فإن اجلهات عندهم إضافية ليست ثابتة‪ ،‬خالفا للفالسفة ‪.‬‬

‫ولو تأملنا يف نفس األمر‪ ،‬لوجدنا قوهلم أصح مما قاله الفالسفة‪ ،‬فال معىن لوجود جهة عامة‬
‫أو كلية‪ ،‬تتحدد جبسم حيوي مجيع األجسام ‪.‬‬

‫وأما كون اهلل تعاىل ليس يف جهة فمعناه عند املتكلمني أن اهلل تعاىل ال يوجد بينه وبني أي‬
‫جسم مناسبة وال بعد‪ ،‬وهذا راجع إىل كون اهلل تعاىل ليس حمدوداً‪ ،‬ملا رأينا ‪.‬‬

‫مث إن أصل القول باجلهة هو القول بوجود حمدود وحمدِّد‪ ،‬وبالنسبة هلل تعاىل ملا مل يكن‬
‫متحيزاً فإنه استحال عليه أن يكون يف جهة وأن يكون يف مكان‪ ،‬وال معىن للقول بأنه يف جهة وأنه‬
‫ليس يف مكان‪ ،‬وهذا بناءاً على قول املتكلمني ‪.‬‬

‫وأما الفالسفة‪ ،‬فإن املكان عندهم هو السطح الباطن من احلاوي املماس للسطح الظاهر من‬
‫احملوي‪ ،‬فلو فرضنا اهلل تعاىل يف جهة عندهم‪ ،‬كما يدعي ابن رشد‪ ،‬باعتبار أنه يف السماء أي فوق‬
‫الفلك األعلى‪ ،‬لكان ال حمالة حمدوداً‪ ،‬كما سنوضحه يف مناقشتنا له‪ ،‬وأما أن يكون يف مكان‪ ،‬فهذا‬
‫ليس بالزم على رأيهم‪ ،‬وأما لو اعتربنا تعريف املكان عند املتكلمني الذي ينفيه أيضاً عن اهلل تعاىل‬
‫الفالسفةُ‪ ،‬فإن اهلل تعاىل ليس يف مكان أيضاً ‪.‬‬

‫أي إن احلاصل أن اهلل ليس يف مكان وال يف حيز بناءاً على معىن املكان واحليز عند‬
‫املتكلمني‪ ،‬وأما بناءا على رأي الفالسفة فهو ليس أيضاً يف مكان‪ ،‬وكذلك بناءاً على رأي ابن رشد‪،‬‬
‫وأما اجلهة فإن اهلل تعاىل ليس يف جهة بناءا على رأي املتكلمني‪ ،‬وأما على رأي الفالسفة فهو ليس يف‬
‫جهة أيضاً لتالزمها مع احملدودية‪ ،‬وهم قد نفوا كون اهلل تعاىل حمدوداً‪ ،‬وأما على رأي ابن رشد فهو‬
‫يف جهة؟! وهذا هو حمل االستغراب ‪.‬‬

‫وسوف نبني كيفية غرابته وسبب قوله به فيما يلي ‪.‬‬

‫هذا هو حاصل هذه املسألة العويصة‪ ،‬قد بيناها لك بصورة مل يوضحها أحد من السابقني‪،‬‬
‫أقصد بيان هتافت رأي ابن رشد‪ ،‬وسوف يزداد ذلك لك وضوحاً فيما يلي ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫رابعاً الشروع في نقد كالم ابن رشد‬

‫‪ ‬‬

‫أما قول ابن رشد‪ (( :‬والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها‪ ،‬هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة‬
‫يوجب إثبات المكان‪ ،‬وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية‪ ،‬ونحن نقول أن هذا كله غير الزم ))‪ ،‬فهو‬
‫ضعيف جداً‪ ،‬فإنه يدعي هنا أن إثبات اجلهة ال يستلزم إثبات املكان‪ ،‬وإثبات املكان ال يستلزم إثبات‬
‫اجلسمية‪ ،‬وهذا باطل ‪.‬‬

‫أما بيان التالزم بني اجلهة واملكان‪ ،‬فهذا يتضح على رأي املتكلمني‪ ،‬فإنه يقولون إن احليز هو‬
‫املكان‪ ،‬واملكان هو الفراغ املوهوم الذي يشغله اجلسم وتنفذ فيه أبعاده‪ ،‬وأما اجلهة فهي نسبة يف‬
‫األين بني جسمني أو حمدودين‪ ،‬ولذلك فهي إضافية‪ ،‬فبناءاً على ذلك فإنه ال ميكن أن يتعقل الواحد‬
‫جهة إال حملدود‪ ،‬وهذا الكالم صحيح حىت على رأي الفالسفة‪ ،‬كما سبق بيانه ‪.‬‬

‫فلو قلنا‪ :‬إن اهلل تعاىل يف جهة‪ ،‬فإنه يلزم منه مباشرة إنه حمدود‪ ،‬على األقل من جانب‪ ،‬وهذا‬
‫التالزم بني اجلهة واحملدودية أمهل ابن رشد ذكره هنا ألنه لو صرح به فإنه يعود على رأيه بالبطالن‪،‬‬
‫ويهدم كالمه هدماً‪ ،‬مع وضوحه‪ ،‬فكل من قال بأن اهلل تعاىل يف جهة فإنه يلمه القول بأنه حمدود ‪.‬‬

‫وابن رشد ال جيرؤ على القول بأن اهلل تعاىل حمدود ‪.‬‬

‫وقد أدرك ابن تيمية هذا التالزم بني اجلهة واحلد‪ ،‬فاعرتف أنه يلزمه بناءاً على مذهبه يف‬
‫إثبات اجلهة أن يثبت احلد أيضاً‪ ،‬فأثبت احلد واجلهة ‪.‬‬

‫وملا كان إثبات احلد ولو من جانب يلزم عنه إثبات احلد من مجيع اجلوانب‪ ،‬ملا ذكرناه من‬
‫انتفاء األبعاد الالهنائية‪ ،‬فإنه يلزم من قال بإثبات احلد هلل تعاىل أن يقول بأنه حمدود من مجيع اجلوانب‪،‬‬
‫أما أن يقول إنه حمدود من جانب دون جانب‪ ،‬فهو قول متهافت‪ ،‬كما ترى ‪.‬‬

‫وهلذا أيضاً فإن ابن تيمية قد قال بإثبات كون اهلل تعاىل حمدوداً من مجيع اجلهات الست‪،‬‬
‫وقد بينا ذلك يف موضعهـ ‪.‬‬
‫وأما ابن رشد فلما رأيناه كيف يفر من ذكر احلد هلل تعاىل‪ ،‬مقتصراً على إثبات اجلهة فقط‪،‬‬
‫وهذه مغالطة حمضة‪ ،‬وهدفه من إثبات اجلهة هلل تعاىل هو جمرد خمالفته لألشاعرة ومناقضتهم لكي يتيح‬
‫الفرصة أمام فلسفة أرسطو للدخول يف الفكر اإلسالمي ‪.‬‬

‫على كل حال فإنه ملا اعرتف بلزوم القول باجلهة‪ ،‬فإنه يلزمه على مجيع األقوال حىت على‬
‫قول الفالسفة أن يثبت َّ‬
‫احلد هلل تعاىل من مجيع اجلهات‪ ،‬وإثبات اجلهة هلل تعاىل مع إثبات احلد له من‬
‫مجيع اجلهات‪ ،‬يلزم عنه إثبات الوضع‪ ،‬أي كونه يف وضع بالنسبة إىل غريه من املتحيزات‪ ،‬وهذا‬
‫الالزم بني ال يستطيع أن ينفك عنه ابن رشد وال غري ابن رشد ‪.‬‬

‫فهل بعد ذلك كله‪ ،‬يستطيع أن يقول‪ :‬إن إثبات اجلهة هلل تعاىل ال يلزم عنه إثبات اجلسمية‬
‫له تعاىل ؟!!‬

‫إن جمرد إثبات اجلهة والفرار من إثبات اجلسمية واحلد‪ ،‬مغالطة سخيفة؟ ال تصدر إال من‬
‫فكر بارد ‪.‬‬

‫فظهر بذلك أنه ال وجه لصحة استعاده للتالزم الذي قال به املتكلمون بني اجلهة واجلسمية ‪.‬‬

‫وقد حاول هو الفرار من هذا التالزم بأن قال‪ :‬إن اجلسم هو املتمكن‪ ،‬أي احلال يف مكان‪.‬‬
‫وعرف املكان بناءاً على رأي الفالسفة من أنه السطح الباطن املماس للظاهر من احملوي‪ ،‬وبناءاً على‬
‫ذلك فقط‪ ،‬أمكنه ادعاء أن اهلل تعاىل يف جهة وليس يف مكان‪ ،‬الستحالة القول بأنه حموي يف غريه ‪.‬‬

‫ولكن هذا التربير والتخريج ليس بصحيح ملا قلناه من التالزم بني اجلهة واحلد واملكان‪،‬‬
‫باملعىن الذي قاله املتكلمون ‪.‬‬

‫وأما املكان باملعىن الذي قاله الفالسفة‪ ،‬فإنه الزم للقول باحلركة‪ ،‬واحلركة إما وضعية‪ ،‬وإما‬
‫أينية‪ ،‬فالوضعية عند الفالسفة ممكنة ملا كان يف مكان‪ ،‬وأما ما ال يكون يف مكان‪ ،‬فإن احلركة‬
‫الوضعية وهي دوران الشيء على مركزه جائزة يف حقه ‪.‬‬

‫فابن رشد يف إثباته للجهة يف حق اهلل تعاىل يكون قد أثبت الوضع له‪ ،‬فوجب عليه أن جييز‬
‫عليه احلركة الوضعية‪ ،‬وهذا يف غاية الشناعة ‪.‬‬
‫مث لو أكملنا تعقل التالزم بني اجلهة واحلد وبني احلد والوضع‪ ،‬مث انتبهنا إىل أن احملدود من‬
‫جهة جيب أن يكون حمدودا من سائر اجلهات‪ ،‬فإن التالزم يصري واضحاً بني اجلهة واجلسمية كما‬
‫ترى ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫تنبيه‪ :‬الحظ أن الفالسفة قالوا‪ ،‬إن حمدد اجلهات جيب أن يكون جسماً‪ ،‬فلو قال ابن رشد‪:‬‬
‫إن اهلل تعاىل فوق الفلك األعلى‪ ،‬وأن اهلل تعاىل يف جهة من هذا الفلك‪ ،‬لصار الفلك يف جهة من اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬وأصبح اهلل تعاىل هو احملدد للجهات كلها وليس الفلك األول‪ ،‬ويلزم على هذا حىت على رأي‬
‫الفالسفة أن يكون اهلل تعاىل جسماً ‪.‬‬

‫واعلم كما سبق أن نقلناه لك أن احملدد للجهات ال يكون إال جسما‪ ،‬أو حداً جلسم‪ ،‬وما‬
‫كان يف جهة فقد وجب أن يكون جسما أو حداً جلسم ‪.‬‬

‫وعلى أقل تقدير‪ ،‬فإن احملدود عند الفالسفة جيب أن يكون ممكناً يف ذاته‪ ،‬وكل ما هو يف‬
‫جهة فإنه جيب أن يكون حمدودا‪ ،‬فيلزم ابن رشد أن يكون اهلل تعاىل ممكناً يف ذاته‪ ،‬ألنه يف جهة عنده‬
‫‪.‬‬

‫وملا قال الفالسفة‪ :‬إن حمدد اجلهات كلها هو سطح الفلك األعلى‪ ،‬وجب أن ال يكون مث‬
‫جهة فوق هذا احملدد‪ ،‬وإال بطل أن يكون حمدِّداً للجهات‪ ،‬وكالم ابن رشد يناقض هذا الكالم‪ ،‬فإنه‬
‫يقول مبا قاله الفالسفة من احملدد‪ ،‬ومع ذلك يقول بأن اهلل تعاىل يف جهة‪ ،‬فيلزمه إما أن يكون اهلل‬
‫تعاىل داخل الفلك األعلى‪ ،‬أو أن الفلك األعلى ليس هو احملدد للجهات‪ ،‬وحينذاك فقد أثبت‬
‫الفالسفة على رأيهم أن احملدد جيب أن يكون سطحاً واحداً‪ ،‬وجيب أن يكون كروياً‪ ،‬فيلزمه عند‬
‫ذاك أن يكون اهلل تعاىل كروياً وأن يكون هو حمدد اجلهات‪ ،‬وهذا كله شنيع ال يقول به عاقل‪ ،‬وأنا‬
‫أقول إنه األقرب إىل مذهب ابن رشد ‪.‬‬

‫ويلزم ابن رشد كثري من اللوازم الباطلة‪ ،‬ولكننا ال ميكن أن نذكرها هنا ملا أن احملل ال يليق‬
‫به التفصيل ‪.‬‬

‫ونأمل يف قوله‪ (( :‬ألن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم ))اهـ ‪.‬‬
‫يريد أن يقول ومبا أن ما فوق الفلك ليس مبكان‪ ،‬فاملوجود الذي هناك ليس جبسم‪ ،‬كذا‬
‫قال‪ ،‬وهو قد نسي أن اجلسم إذا كان حميطاً هو الذي يلزم عنه وجود املكان على قول الفالسفة‪ ،‬وال‬
‫جيوز أن يقال ما دام هناك ليس مكاناً‪ ،‬إذن فاملوجود فيه ليس جسما‪ ،‬ألن هذا كالم ال معىن له‪،‬‬
‫فهناك ليس مبكان وال جبهة أصالً‪ ،‬فال يقال‪ :‬إن املوجود هناك يف جهة وال يقال إنه يف مكان‪ ،‬بل‬
‫ليس هناك شيء يشار إليه إشارة حسية أصالً ‪.‬‬

‫فكلمة هناك تستعمل عادة يف اإلشارة احلسية‪ ،‬وحنن استعملناها هنا يف اإلشارة الذهنية‪ ،‬وهو‬
‫استعمال جائز ولكن خيتلط األمر على من مل ميعن النظر ‪.‬‬

‫وتأمل يف املغالطة الكبرية اليت وقع فيها ابن رشد‪ ،‬فهو قد نفى أن يكون احمليط باجلميع‬
‫جسماً‪ ،‬حبجة إنه ليس يف مكان‪ ،‬أي ليس يوجد شيء حييط به‪ ،‬بل هو يثبت له أنه يف جهة فقط‪،‬‬
‫وهذا سقوط منه‪ ،‬ألن اجلسمية أمر الزم للشيء وذايت له‪ ،‬وأما املكان فهو إضايف‪ ،‬وميكن أن يكون‬
‫الشيء جسماً وليس يف مكان أصالً‪ ،‬كما يف هذه احلال ‪.‬‬

‫فالفالسفة قالوا إن احملدد جسم بسيط كروي الشكل‪ ،‬وأما ابن رشد‪ ،‬فيدعي أن ما فوق‬
‫العامل أو الفلك احمليط باألشياء ليس جبسم أصالً‪ ،‬وحجته يف ذلك أنه ال حييط به غريه‪ ،‬وهذا هتافت‬
‫شنيع منه‪ ،‬بينَّا لك سببها ‪.‬‬

‫فالالزم الذي يلزمه أن يقوله إذن بناءاً على نفس قياسه‪ ،‬هو مبا أنه ثبت وجود موجود‬
‫هناك‪ ،‬وأنه يف جهة وثبت أنه ال حييط به غريه‪ ،‬فقد ثبت أنه جسم ليس يف مكان‪ ،‬وال جيوز أن يقول‬
‫إن الثابت أنه موجود ليس جبسم‪ ،‬فتأمل يف هذه فإهنا نفيسة‪ ،‬وتكشف لك عن مغالطاته الفاسدة ‪.‬‬

‫وهو يصر بعد ذلك كله يف ص‪ 85‬على أن ما وراء الفلك األعلى ليس مبكان وليس له‬
‫زمان فقال‪ (( :‬وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان‪ ،‬وال يحويه زمان‪ ،‬وذلك أن كل ما يحويه الزمان‬
‫والمكان فاسد )) اهـ ‪.‬‬

‫فانظر رمحك اهلل تعاىل كيف يشري إىل ما فوق الفلك األعلى بأنه موضع‪ ،‬وهذا يثبت لك أنه‬
‫يقول بأن اهلل تعاىل ذو وضع كما أفهمناك سابقاً‪ ،‬مث يقول إن ذلك املوضع ليس مبكان‪،‬وال يف زمان‪،‬‬
‫وجمرد هذا عنده أجاز وصحح أن يكون اهلل تعاىل فيه؟! تعاىل وتقدس عن هذا املذهب الفاسد ‪.‬‬

‫واحلاصل أن يف كالم ابن رشد هتافتات كثرية ومتتالية‪ ،‬وال نستطيع أن نعددها لك كلها‬
‫هنا‪ ،‬ولكننا اقتصرنا على لفت نظرك إىل بعضها‪ ،‬واهلل املوفق ‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫وتأمل هنا زيادة على ما ذكرناه لك قوله يف ص‪ (( :84‬وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن‬
‫أنه ليس خارجه جسم‪ ،‬ألنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر‪ ،‬ويمر األمر‬
‫إلى غير نهاية )) اهـ ‪.‬‬

‫فإن هذا الكالم ليس بالزم وال حىت على مذهب الفالسفة‪ ،‬ألنه ال يشرتط يف الشيء لكي‬
‫يكون جسماً أن يكون حماطاً جبسم آخر‪ ،‬أو بسطح حيدده‪ ،‬وبالتايل فما ادعاه ابن رشد من استحالة‬
‫كون اخلارج عن العامل الذي يف جهة جسماً‪ ،‬جمرد ادعاء ساذج‪ ،‬فلو كان هناك شيء موجوداً‬
‫وحمدداً ومتموضعاً‪ ،‬ويف جهة لكان جسماً قطعاً وإن مل مثة جسم آخر حييط به ‪.‬‬

‫(( ولكنه‬ ‫وتأمل يف كالمه التايل الذي استشهد به على أن اهلل تعاىل يف السماء ص‪:85‬‬
‫قيل في اآلراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون اهلل‬
‫والمالئكة )) اهـ ‪.‬‬

‫فتأمل رمحك اهلل كيف يستشهد ابن رشد هبذه العبارة وهبذه املعتقدات الفاسدة الوثنية‪،‬‬
‫وذلك كله جملرد معارضة األشاعرة وحتريك االعتقاد هبم من نفوس الناس‪ ،‬فهو يقول‪ :‬إن ما وراء‬
‫الفلك اخلارج هو موضع‪ ،‬وذلك املوضع هو مسكن الروحانيني‪ ،‬والروحانيون هم اهلل واملالئكة‪،‬‬
‫فجعل اهلل ساكناً يف مسكن هو ما وراء الفلك اخلارج من العامل‪ ،‬وهذه هي نفس عقائد الوثنيني كما‬
‫هو معلوم ‪.‬‬

‫واملوضع ال ميكن أن يكون إال مكاناً‪ ،‬ومع ذلك تراه بكل جرأة ينفي أن يكون مذهبه مؤدياً‬
‫إىل إثبات املكان هلل تعاىل‪ ،‬وهذه هي العقيدة اليت يريد ابن رشد من العامة أن يؤمنوا هبا ‪.‬‬

‫وأما اخلاصة فإنه يدعي بكل وقاحة أن عليهم أن ينفوا كون اهلل تعاىل حمدوداً ويف مكان‪،‬‬
‫فمذهبه يؤدي إىل أن يصبح العامة معتقدين بعقيدة ختالف عقيدة اخلاصة‪ ،‬وهذا مذهب مرذول!!‬

‫وبعد ذلك كله كيف يتجرأ ابن رشد على القول يف ص‪ (( 85‬فقد ظهر لك من هذا أن إثبات‬
‫الجهة واجب بالشرع والعقل )) اهـ ‪ ،‬وكأن ابن رشد لشدة كرهه يف مذهب األشاعرة واملتكلمني َف َق َد‬
‫ُر ْش َدهُ‪ ،‬فكيف يقول فيلسوف بإثبات اجلهة هلل تعاىل ؟! وكيف يدعي أن ذلك موافق للعقل ؟!‬
‫وبعد‪ ،‬فقد تبني لك أن اجلهة اليت ينفيها املتكلمون هي اجلهة الالزمة للحيز واملكان‪ ،‬وأن‬
‫ُ‬
‫هذين الزمان لألجسام‪ ،‬ال يعارض يف ذلك إال مغالط‪ ،‬وأما ابن رشد فإنه يأيت مبعىن جديد يسميه‬
‫جهة‪ ،‬ويدعي أنه ال يلزم على إثباته إثبات املكان‪ ،‬وال يشري إىل احلد‪ ،‬ولكنه يعرتف بأنه موضع‪،‬‬
‫وهذا لعمري تعارض يف كالمه ألن املكان واملوضع واحد‪ ،‬إال إذا كان يقول بأن املوضع ليس مبكان‬
‫؟! وهو هتافت ‪.‬‬

‫وأما ابن تيمية فإنه اعتمد على جمرد قول ابن رشد بأن الفالسفة يثبتون اجلهة‪ ،‬واعترب ذلك‬
‫كافياً لإلخبار الصحيح عن عقائد هؤالء‪ ،‬ومل يهمه على أي معىن يثبت ابن رشد اجلهة‪ ،‬وهل ما‬
‫نسبه ابن رشد إليهم صحيح أو باطل؟!‬

‫ابن رشد يف مذهبه وأثبت املكان هلل تعاىل صراحة وأثبت‬


‫ابن تيمية َ‬
‫ومع ذلك فقد خالف ُ‬
‫احليز هلل تعاىل صراحة وأثبت احلدود هلل تعاىل صراحة‪ ،‬ومل يغالط نفسه مع أنه وقع يف مغالطات‬
‫َ‬
‫كبرية للشريعة واملعقوالتـ ‪.‬‬

‫ولكن العاقل يعرف مع ذلك كله أن احتجاج ابن تيمية يف إثبات اجلهة على رأيه بقول ابن‬
‫رشد‪ ،‬هو احتجاج فاسد‪ ،‬وذلك ألن اجلهة على رأي ابن رشد خيالف مفهومهاـ معىن اجلهة على رأي‬
‫ابن تيمية كما رأينا‪ ،‬فاالشرتاك فقط يف األمساء‪ ،‬وابن تيمية يعرف ذلك ومل يشر إىل ذلك ُّ‬
‫قط ‪.‬‬

‫وكثري من الناس الغافلني يظنون أن ابن رشد موافق البن تيمية يف ذلك‪ ،‬وأن ذلك بالفعل‬
‫عقيدة الفالسفة‪ ،‬وهذا إمنا يدل على جهلهم وسذاجتهم الفكرية‪ .‬فاألمر كما ترى أعقد من أن‬
‫يكفي لنشره وبيانه جمرد كلمات جوفاء خترج من فم إنسان يشهد على نفسه باجلهل املطبق لكالم‬
‫هؤالء ‪.‬‬

‫وأما كالم ابن رشد بعد ذلك يف أصل اخلالف يف أمة اإلسالم فمعظمه هتافت وال نريد هنا‬
‫أن نتعقبه لئال تطول هذه املقالة ‪.‬‬

‫ولكن من يقرأ كالمه ويفهم معانيه‪ ،‬يعلم قطعاً أن مراده إمنا هو الرد على املتكلمني أصالة‬
‫ورد مقاالهتم‪ ،‬وذلك بغض النظر عن صحتها يف نفس األمر أو ال‪ ،‬وذلك كله متوافق مع مذهبه‬
‫وطريقته كما وضحناها لك يف أول هذه املقالة ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫فائدة وسوف نورد لك هنا بعض ما ذكرناه في معنى الحيز والمكان في كتابنا شرح‬
‫مقوالت السجاعي الذي جمعنا فيه حواشي العطار وزدنا فيه فوائد عديدة ‪.‬‬

‫قلت يف ص‪ 60‬من الكتاب املشار إليه‪:‬‬

‫(( فصل‪ :‬ويكون الجسم حاصالً في المكان أي في الحيز الذي يخصه ويكون مملوءاً‬
‫به‪ ،‬ويسمى هذا أيناً حقيقياً ‪.‬‬

‫والحيز والمكان مترادفان عند الحكماء على ما صرح به منال زادة في شرح الهداية‪،‬‬
‫ونقله القاضي مير عن الطوسي في شرح اإلشارات‪ ،‬لكنه تعقبه بأن المفهوم من كالم الشيخ في‬
‫الشفاء أن الحيز أعم من المكان ‪.‬‬

‫وأما عند المتكلمين فعن الطوسي في شرح اإلشارات كما نقله عنه القاضي مير أيضاً‬
‫أن المكان غير الحيز‪ ،‬ألن المكان عندهم قريب من مفهومه‪ /‬اللغوي‪ ،‬وهو ما يعتمد عليه‬
‫المتمكن كاألرض للسرير‪ ،‬وأما الحيز فهو عندهم الفراغ المتوهم المشغول بالمتحيز الذي لو‬
‫خالءا‪ ،‬كداخل الكوز للماء ‪.‬‬
‫لم يشغله لكان ً‬

‫وعرفوا األين أيضاً بأنه هيئة تحصل للجسم بالنسبة إلى المكان‪ ،‬وليس هو نفس النسبة‬
‫إلى المكان‪ ،‬بل النسبة إليه من لوازمه‪ ،‬إذ كون الشيء في مكان أي حصوله فيه يلزمه‪ /‬النسبة‬
‫إلى المكان‪ ،‬كما ذكره في شرح التجريد ‪.‬‬

‫قال في شرح الطوالع‪ :‬األين هو حصول الجسم في المكان‪ ،‬ومفهومه‪ /‬إنما يتم بنسبة‬
‫الجسم إلى المكان الذي هو فيه‪ ،‬فإن نسبته إلى المكان من لوازمه ال أنه نفس النسبة إلى‬
‫المكان اهـ هذه العبارة أوضح من عبارة شرح التجريد )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ويف ص ‪ 77‬من نفس كتاب شرح مقوالت السجاعي ُ‬

‫(( فصل‪ :‬اعلم أن المكان لغة موضع كون الشيء‪ ،‬وهو حصوله‪ .‬واختلفوا في حقيقته‬
‫على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫فقيل هو السطح الباطن للحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي‪ ،‬وهو قول‬
‫ف بلزوم‬
‫ض ِّع َ‬
‫أرسططاليس‪ ،‬وتبعه المتأخرون من الحكماء‪ ،‬وجرى عليه الفارابي وابن سينا‪ ،‬و ُ‬
‫التسلسل ألن كل جسم له حيز‪ ،‬وحيزه هو السطح الباطن لحاويه المماس للسطح الظاهر له‪،‬‬
‫وهلم جرا‪ .‬وحاصل الجواب منع لزوم التسلسل ألنه مبني على أن كل جسم له مكان‪ ،‬والقائل‬
‫بأن المكان هو السطح يقول بأن األجسام تنتهي إلى جسم ليس له حيز‪ ،‬وله وضع‪ ،‬فما تنتهي‬
‫إليه كرة العالم وهو الفلك األطلس المسمى بالمحدد‪ ،‬ليس وراءه جسم يحويه‪ ،‬وله وضع‬
‫بالقياس إلى ما يحويه مما دخل فيه من األجسام ‪.‬‬

‫والسطح عندهم عرض حال في الجسم متعلق بأطرافه ونهاياته دون أعماقه‪ ،‬فليس‬
‫حاالً فيها ‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬هو بعد أي امتداد موجود ينفذ فيه الجسم بنفوذ بعده القائم به في ذلك البعد‬
‫بحيث ينطبق عليه ‪ .‬وقائل هذا القول أفالطون‪ ،‬ويسمى بعداً مفطوراً‪ ،‬بمعنى أنه مقهور مفطور‬
‫عليه بالبديهة‪ ،‬وهو ضعيف أيضاً ألنه لو حصل جسم في بعد مجرد موجود لزم تداخل البعدين‬
‫واتحادهما ألن اإلشارة إلى أحدهما حينئذ عين اإلشارة إلى اآلخر‪ ،‬وتداخل األبعاد باطل‪ ،‬ألنه‬
‫يفضي إلى جواز تداخل العالم في حيز خردلة‪ ،‬وهو محال بضرورة العقل ‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬هو بعد مفروض‪ /‬موهوم‪ ،‬وهذا القول للمتكلمين أي إن المكان على هذا عدم‬
‫محض ونفي صرف يمكن أن ال يشغله شاغل‪ ،‬وهو المراد بالفراغ الموهوم )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫موهوم‪ ،‬أو السطح‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫ويف ص‪ 79‬قلت ((قال العالمة العطار‪ :‬المكان إما بُع ٌد موجو ٌد‪ ،‬أو‬
‫وهذا هو حاصل المذاهب كما تقدم )) اهـ ‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫ثالثاً‪ :‬الكالم على الرؤية‬

‫‪ ‬‬

‫هذه املسألة من أشهر املسائل الكالمية بني الفرق اإلسالمية‪ ،‬وقد كثر فيها النقاش وتفننوا يف‬
‫إيراد األدلة على ما يقولون ‪.‬‬

‫وقد اشتهر األشاعرة بقوهلم يف إثبات الرؤية مع نفيهم للجسمية واجلهة‪ ،‬واختالف املسلمني‬
‫إمنا هو منصب على أن من أثبت اجلهة فقد سهل عليه أن يثبت الرؤية‪ ،‬لقوله باجلسمية ولو باملعىن‪،‬‬
‫وأما من نفى اجلهة فقد نفى الرؤية الدعائه للتالزم احلاصل بني اجلهة واجلسمية والرؤية ‪.‬‬

‫وأما األشاعرة فقد خرجوا من هذا املضيق وقالوا بنفي اجلهة وإثبات الرؤية‪ ،‬موافقني يف‬
‫ذلك للشريعة ومطردين مع األصول العقلية ‪.‬‬

‫وقد احتار ابن رشد كيف يغالط األشاعرة يف هذه املسألة‪ ،‬وما هي األساليب اليت يتبعها يف‬
‫ذلك‪ ،‬واحلقيقة كما ستعرفها أيها القارئ أنه وبعد اجلهة الكبري مل يستطع أن يستند إىل أمر يكون‬
‫صحيحاً يف نفسه وثابتا حبيث يستطيع االعتماد عليه يف معارضة األشاعرة ‪.‬‬

‫وسوف نبني لك بعض ما وقع فيه هذا الرجل باختصار هنا‪ ،‬فقد قال يف ص‪ 91‬وذلك‬
‫بعدما أورد رأي املعتزلة يف نفيهم للرؤية‪ (( :‬وأما األشعرية فراموا الجمع بين االعتقادين أعني بين انتفاء‬
‫الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس‪ ،‬فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج‬
‫سوفسطائية متوهمة‪ ،‬أعني الحجج التي توهم أنها صحيحة وهي كاذبة )) اهـ ‪.‬‬

‫هبذا الكالم استهل ابن رشد نقده لألشاعرة‪ ،‬ومع أن هذا أول كالمه‪ ،‬إال إنه وقع فيه يف‬
‫مغالطات وأكذوبات عليهم ‪.‬‬

‫فهو يتهمهم هنا بالقول حبجج سوفسطائية متومهة‪ ،‬واملفروضـ عند العاقل أن ال يلجأ إىل مثل‬
‫هذه االهتامات خصوصاً مع العقالء إال إذا كان إثباته ملا يقول يعتمد على أدلة واضحة جلية ال‬
‫يستطيع أحد أن يعارضها‪ ،‬وسوف نرى فيما يلي الطريقة اليت يتبعها ابن رشد يف ذلك‪ ،‬ويتبني‬
‫للقارئ الكرمي هل األدلة اليت يعتمد عليها قوية إىل تلك الدرجة اليت تؤهله للتصريح مبثل هذا االهتام‬
‫؟!‬
‫وأول املغالطات اليت وقع فيها ابن رشد هي ادعاؤه أن األشاعرة (( فراموا الجمع بين‬
‫االعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس )) ‪.‬‬

‫فهل فعل األشاعرة ذلك‪ ،‬وهل هذا الذي ذكره ابن رشد كان يريده األشاعرة بالفعل‪،‬‬
‫وعلى أي صورة أراده األشاعرة وما هي الصورة اليت يفهم ابن رشد فيها قوهلم؟! هذه أسئلة جيب‬
‫على الباحث املنصف أن جييب عليها قبل الشرع يف حبثه ‪.‬‬

‫إن قول ابن رشد بأهنم راموا اجلمع بني انتفاء اجلسمية وبني جواز الرؤية ملا ليس جبسم‬
‫باحلس‪ ،‬هذا القول فيه مغالطة واضحة ملن يتأمل‪ ،‬وحنن سنبني قول األشاعرة من كالمهم وذلك قبل‬
‫الشروع يف نقد عبارة ابن رشد ‪.‬‬

‫قال اإلمام الغزايل يف كتاب االقتصاد ص‪ (( :95‬المسلك الثاني وهو الوصف البالغ أن‬
‫تقول إنما أنكر الخصم الرؤية ألنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق‬
‫وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرائي عند النظر إلى األجسام واأللوان‪،‬‬
‫وهيهات فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق اهلل سبحانه )) اهـ ‪.‬‬

‫إذن فإن الغزايل وهو من هو عند األشاعرة‪ ،‬يصرح بواضح العبارة بأن املراد من رؤية اهلل‬
‫ليس هو نفس املعىن املراد من رؤية األجسام‪ ،‬واحلالة اليت حتدث عند إدراك األول ورؤيته‪ ،‬ليست هي‬
‫نفس احلالة اليت حتصل عند رؤية اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫وقد رأيت أن ابن رشد يدعي أن األشاعرة راموا إثبات رؤية اهلل تعاىل باحلواس‪ ،‬وهذا يظهر‬
‫منه أنه ينسب إليهم القول بتساوي هاتني احلالتني‪ ،‬وهذا باطل كما تبينته من كالم الغزايل ‪.‬‬

‫مث قال اإلمام الغزالي‪ (( :‬ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق‬
‫ونسكبه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق اهلل سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى‬
‫رؤية حقيقية أثبتناه في حق اهلل تسبحانه‪ ،‬وقضينا بأنه مرئي حقيقة وإن لم يكن إطالق اسم‬
‫الرؤية عليه إال بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع‪ ،‬واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل ‪.‬‬

‫وتحصيله أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين‪ ،‬وله متعلق وهو اللون والقدر‬
‫والجسم وسائر المرئيات‪ ،‬فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله‪ /‬وإلى متعلقه‪ /‬ولنتأمل أن الركن من‬
‫جملتها في إطالق هذا االسم ما هو ‪.‬‬
‫فنقول أما المحل‪ ،‬فليس بركن في صحة هذه التسمية فإن الحالة التي تدركها بالعين‬
‫من المرئي لو أدركناها بالقلب أو الجبهة مثال لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق‬
‫كالمنا فإن العين محل وآلة ال تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة فحيث حلت الحالة تمت‬
‫الحقيقة وصح االسم ‪.‬‬

‫ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا أن أدركنا الشيء بالقلب أو بالدماغ أنا أدركنا‬
‫الشيء بالدماغ وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين ‪.‬‬

‫وأما المتعلَّق بعينه فليس ركنا في إطالق هذا االسم وثبوت هذه الحقيقة‪ .‬فإن الرؤية لو‬
‫كانت لتعلقها‪ /‬بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية‪ ،‬ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق‬
‫بالحركة رؤية‪ ،‬ولو كان لتعليقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية‪ .‬فدل أن خصوص‬
‫صفات المتعلق ليس ركنا لوجود هذه الحقيقة وإطالق هذا االسم‪ ،‬بل الركن فيه من حيث إنه‬
‫صفة متعلقة‪ /‬أن يكون لها متعلق موجود‪ ،‬أي موجود كان وأي ذات كان ‪.‬‬

‫فإذا الركن الذي االسم طلق عليه هو األمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات‬
‫إلى محله ومتعلقه‪ ،‬فلنبحث عن الحقيقة ما هي؟‬

‫وال حقيقة لها إال إنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف باإلضافة إلى التخيل‪ ،‬فإننا‬
‫نرى الصديق مثال ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل‬
‫والتصور‪ ،‬ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته‪ ،‬وال ترجع تلك التفرقة‪ /‬إلى إدراك صورة أخرى‬
‫مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق‪ ،‬وليس بينهما‬
‫افتراق إال أن هذه الحالة الثانية كاالستكمال لحالة التخيل وكالكشف لها‪ ،‬فتحدث فيها صورة‬
‫الصديق عند فتح البصر حدوثا أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال والحادثة في‬
‫البصر بعينيها تطابق بيان الصورة في الخيال‪.‬‬

‫فإذا التخيل نوع إدراك أعلى رتبة‪ ،‬ووراءه رتبة أخرى هي أتم في الوضوح والكشف‬
‫بل هي كالتكميل له فتسمى هذا االستكمال باإلضافة إلى الخيال رؤية وإبصارا‪ ،‬وكذا من‬
‫األشياء ما نعلمه وال نتخيله‪ ،‬وهو ذات اهلل سبحانه وتعالى وصفاته وكل ما ال صورة له أي ال‬
‫لون له وال قدر مثل القدرة والعلم والعشق واإلبصار والخيال‪ .‬فإن هذه أمور نعلمها وال‬
‫نتخيلها والعلم بها نوع إدراك ‪.‬‬
‫فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا اإلرداك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة اإلبصار‬
‫إلى التخيل‪ ،‬فإن كان ذلك ممكنا سمينا ذلك الكشف واالستكمال باإلضافة إلى العلم رؤية‬
‫كما سمينا ذلك الكشف واالستكمال بالنسبة إلى التخيل رؤية‪ .‬ومعلوم‪ /‬أن تقدير هذا‬
‫االستكمال في االستيضاح واالستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة‪ /‬التي ليست‬
‫متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما‪ .‬وكذا في ذات اهلل سبحانه وصفاته‪ ،‬بل تكاد تدرك ضرورة‬
‫من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات اهلل وصفاته وفي ذوات هذه المعاني‬
‫المعلومات كلها ‪.‬‬

‫فنحن نقول‪ :‬إن ذلك غير محال‪ ،‬فإنه ال ُمحيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على‬
‫استدعاء الطبع له‪ .‬إال أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم‪ ،‬والنفس في شغل‬
‫البدن وكدورة صفاته‪ ،‬فهو محجوب عنه‪ .‬وكما ال يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما‬
‫في العين سببا بحكم اطراد العادة المتناع اإلبصار للمتخيالت‪ ،‬فال يبعد أن تكون كدورة‬
‫النفس وتراكم حجب األشغال بحكم اطراد العادة مانعا من إبصار المعلومات‪ ،‬فإذا بعثر ما في‬
‫القبور‪ ،‬وحصل ما في الصدور‪ ،‬وزكيت القلوب بالشراب الطهور‪ ،‬وصفيت بأنواع التصفية‬
‫والتنقية‪ ،‬لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات اهلل سبحانه‪ ،‬أو في‬
‫سائر المعلومات يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة اإلبصار عن التخيل‪،‬‬
‫فيعبر عن هذا بلقاء اهلل تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات‪ ،‬فال‬
‫مشاحة فيها بعد إيضاح المعاني ‪.‬‬

‫وإذا كان ذلك ممكناً بأن خلقت هذه الحالة في العين كان اسم الرؤية بحكم وضع‬
‫اللغة عليه أصدق وخلقه‪ /‬في العين غير مستحيل‪ ،‬فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من‬
‫الرؤية‪ ،‬علم أن العقل ال يحيله بل يوجبه‪ ،‬وأن الشرع قد شهد له‪ ،‬فال يبقى للمنازعة وجه إال‬
‫على سبيل العناد أو المشاحة في إطالق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة‬
‫التي ذكرناها‪ ،‬ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر )) اهـ ‪.‬‬

‫هذا هو كالم اإلمام الغزايل بكماله‪ ،‬من قرأه عرف بالضبط ما الذي يريده األشاعرة من‬
‫معىن الرؤية ‪.‬‬

‫واملفروضـ يف واحد مثل ابن رشد أن يكون قد قرأ ما كتبه اإلمام الغزايل خصوصاً أنه قد‬
‫نصب نفسه للرد على كثري مما كتبه ‪.‬‬
‫وتعمدنا أن يكون النقل من كالم‬
‫وقد أحببنا أن نورد هذا النص على طوله‪ ،‬لكبري فائدته‪َّ ،‬‬
‫اإلمام الغزايل ألن ابن رشد جيب أن يكون من أعرف الناس به‪ ،‬فما بالك بعد ذلك إذا رأيت ابن‬
‫رشد ينفي هذه املعاين اليت قررها الغزايل أن تكون مرادة لألشاعرة‪ ،‬بل ال يقتصر على ذلك فإنه‬
‫ينسب حتقيق املعىن يف الرؤية وحقيقتها كما ذكره اإلمام الغزايل إىل نفسه !؟ وسوف ندلل حنن على‬
‫مجيع ذلك خالل مناقشتنا لكالمه ‪.‬‬
 

You might also like