You are on page 1of 12

‫مسألة اإلرادة‬

‫سأنقل إليك اآلن بعض ما ذكرته عن مسألة اإلرادة كما تم تفريغه من األشرطة في‬
‫شرحي على العقيدة الطحاوية‪ ،‬وهو الشرح المختصر لي على هذه العقيدة المباركة‪.‬‬

‫راجيا من اهلل تعالى أن يكون فيه فائدة‬


‫قلت في شرح الطحاوية‪:‬‬
‫يريد‪ :‬هذه العبارة أدق العبارات الموجودة في هذا المتن‪،‬‬ ‫وال يكون إال ما‬
‫وكثير من الناس يمرون عليها دون أن يعرفوا عظم معناها‪.‬‬
‫هذا األسلوب (ال يكون إال) أسلوب حصر‪.‬‬
‫(يكون) هنا من (كان) التامة‪ ،‬وهي تفيد معنى الوجود والحصول والتحقق‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬ال يوجد إال ما يريده اهلل‪ .‬كل ما هو كائن وموجود وواقع في الوجود فهو‬
‫بإرادة اهلل قد وقع‪.‬‬
‫والباء إما سببية أو للمالبسة‪ :‬إرادة اهلل سبب وجود الموجودات‪ ،‬هذا يستلزم أن كل‬
‫ما أراد اهلل عدم وجوده فإنه ال يمكن أن يوجد‪.‬‬
‫يعبر العلماء عن هذا المعنى‪ :‬يستحيل تخلّف إرادة اهلل سبحانه‪ .‬بمجرد تعلق إرادة‬
‫اهلل بشيء يستحيل أن يتخلف وجوداً‪.‬‬
‫هذا ما يسمى بمفهوم اإلرادة عند علماء أهل السنة‪.‬‬
‫ما هي اإلرادة؟‬
‫اإلرادة عبارة عن صفة يتصف اهلل بها‪ .‬بتوسط هذه الصفة يتم تخصيص الموجودات‬
‫أو الممكنات بما يجوز عليها من الصفات‪.‬‬
‫من قال‪ :‬ممكن أن تتعلق إرادة اهلل بشيء ثم ال يحصل هذا الشيء‪ ،‬فهو ال يفهم عن‬
‫أي شيء يتكلم‪ ،‬وهو بهذا يخالف عقيدة أهل السنة‪.‬‬
‫لم أجد ألحد من أهل السنة خالفاً في هذا المعنى‪.‬‬
‫ولكن أثناء قراءتي لبعض الكتب وجدت بعض الناس يقولون‪ :‬اإلرادة نوعان‪ :‬نوع‬
‫هو ما ذكرناه ويسمونه إرادة تكوينية‪ ،‬ويقولون إنها ال تتخلف‪ ،‬والنوع الثاني‬
‫يسمونه اإلرادة الشرعية‪ ،‬وكان األصح أن يقولوا‪ :‬اإلرادة التشريعية‪.‬‬
‫ابن أبي العز الحنفي شرح قول اإلمام الطحاوي‪" :‬وال يكون إال ما يريد"‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"والمحققون من أهل السنة يقولون" معنى هذا أن اإلمام الطحاوي ليس من المحققين‬
‫ألنه يعترض على الطحاوي‪.‬‬
‫"والمحققون من أهل السنة يقولون‪ :‬اإلرادة في كتاب اهلل نوعان‪ :‬إرادة قدرية كونية‬
‫َخلْقية‪ ،‬وإرادة دينية أمرية شرعية‪ ،‬فاإلرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى"‪.‬‬
‫كيف يُتعقل وكيف يُتصور أن اإلرادة التي هي صفة يتصف اهلل‬
‫بها لها نوعان‪ ،‬ومعروف أن النوعين يختلف أحدهما عن اآلخر‪.‬‬

‫أنا ال أريد أن أدقق في العبارات تدقيقاً كبيراً‪ ،‬ولكن أكتفي باإلشارات‪:‬‬


‫ما معنى "متضمنة"؟‬
‫أي تحتوي على المحبة والرضى‪.‬‬
‫معنى هذا أن النوع األول ال يحتوي على المحبة والرضى‪.‬‬
‫ويعني أيضاً أن النوع الثاني باإلضافة إلى احتوائه على المحبة والرضى يحتوي على‬
‫معنى آخر هو عين المعنى المحتوي في األول‪.‬‬
‫ويصبح حاصل اإلرادة الشرعية األمرية إرادة مركبة ليست إرادة واحدة‪ ،‬بل إرادة‬
‫من معنيين‪ :‬التكوين والمحبة‪ ،‬ومجموع هذين األمرين سموها اإلرادة الشرعية‬
‫األمرية‪.‬‬
‫األصح أن يسموها التكوينية ألنه بها يتم التكوين‪ ،‬وكذلك الشرعية األصح أن يقال‬
‫تشريعية؛ ألنها ليست وصفاً لإلرادة‪ ،‬أي إرادة إليجاد التشريع؛ ألن شرعية يلزم منها‬
‫أن هناك إرادة غير شرعية‪.‬‬
‫ثم قال ابن أبي العز الحنفي‪" :‬والكونية‪ :‬هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات"‪،‬‬
‫بالنسبة لإلرادة الكونية ال خالف عليها وقد ورد في ‪140‬موضعاً في القرآن‬
‫مشتقات اإلرادة‪.‬‬
‫حسب قولهم إن ‪140‬موضعاً تدل على اإلرادة من الموضع األول التي ال تتخلف‬
‫فيه اإلرادة‪ ،‬وهم بهذا يتفقون مع أهل السنة‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما هي النصوص التي استنبطوا منها المعنى الثاني لإلرادة (الشرعية) ؟‬
‫سنورد النصوص التي فهم منها ابن أبي العز هذا النوع من اإلرادة‪:‬‬
‫اآليات التي يستشهدون بها حوالي خمس آيات‪ ،‬ق‬
‫ال ابن أبي العز‪" :‬وأما اإلرادة الشرعية األمرية‪ ،‬فكقوله تعالى‪( :‬يريد اهلل بكم اليسر‬
‫وال يريد بكم العسر) [البقرة‪( ،] :‬يريد اهلل ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم‬
‫ويتوب عليكم واهلل عليم حكيم) [ ]‪( ،‬واهلل يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين‬
‫وخلق اإلنسان‬
‫يتبعون الشهوات أن تميلوا ميالً عظيماً يريد اهلل أن يخفف عنكم ُ‬
‫ضعيفاً) [ ]‪( ،‬ما يريد اهلل ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته‬
‫عليكم) [ ]‪( ،‬إنما يريد اهلل ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)‬
‫[ ]"‪.‬‬
‫ما ذكره من آيات حول اإلرادة التكوينية ال خالف بيننا وبينهم عليها‪.‬‬
‫قبل أن نناقش استداللهم بهذه اآليات سأقرأ لكم نصاً قاله أحد مختصري العقيدة‬
‫الطحاوية اسمه عبد المنعم مصطفى حليمة أبو بصير‪ :‬تكلم عن اإلرادة الشرعية‬
‫فقال‪" :‬وإرادة دينية أمرية شرعية ‪ . . .‬هذا النوع من اإلرادة قضت حكمة اهلل أن‬
‫تتخلف أحياناً ولكن بإذنه وعلمه وإرادته"‪.‬‬
‫اإلنسان السوي الفطرة إذا قرأ هذا الكالم ألول وهلة يستنكره‪.‬‬

‫كيف تكون صفة هلل اسمها اإلرادة تتخلف؟‬


‫أليس هذا نفس مفهوم المعتزلة وهو أن ليس كل ما أراده اهلل يقع ؟‬
‫أال يخالف هذا مفهوم أهل السنة ؟‬
‫أال يخالف كالم الطحاوي نفسه ‪ :‬وال يكون إال ما يريد ؟؟؟‬
‫نناقش اآلن استداللهم بتلك اآليات‪:‬‬
‫(يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر)‪:‬‬
‫هذا السياق سياق تشريع الصيام وغير ذلك‪.‬‬
‫أليس في أحكام الصيام تخفيفات‪.‬‬
‫هل أراد اهلل لهم نفس اإلفطار أم تشريع اإلفطار‪ ،‬فاليسر الذي أراده اهلل هو التشريع‬
‫نفسه‪.‬‬
‫فحاصل اآلية‪ :‬إن اهلل يريد بكم التشريعات اليسيرة وليست الصعبة‪.‬‬
‫يشرع لنا تشريعاً يسيراً هل لم يقع تشريعه هذا أم وقع؟‬
‫اهلل حين أراد أن ّ‬
‫توهم ابن أبي العز أن المقصود باليسر هنا هو فعل اإلنسان لليسر وهو أن يفطر‬
‫اإلنسان‪ ،‬فال مجال للقول بأن هناك تشريعات تخلّفت عن إرادة اهلل‪ ،‬الذي قد ال يقع‬
‫هو التزام الناس بما أمرهم اهلل سبحانه وليس التزام الناس بما أراده اهلل‪ ،‬الذي أراده‬
‫اهلل إنزال الشريعة‪ ،‬وكل ما أراد اهلل إنزاله نزل‪ ،‬ولكن قد يتخلف الناس عن التزام‬
‫هذه الشرائع‪.‬‬
‫اآلية الثانية‪:‬‬
‫(يريد اهلل ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم)‬
‫أين المفعول به؟‬
‫على قول الكوفيين‪( :‬ليبين) الالم بمعنى (أ ْن)‪ :‬يريد اهلل أن يبين ‪..‬‬
‫فالمصدر المؤول مفعول‪ :‬يريد اهلل بيا َن‪..‬‬
‫بناء على هذا القول لم يتخلف مراد اهلل‪.‬‬
‫للجر فال تأتي للنصب‪ ،‬فهي لبيان‬
‫البصريون قالوا‪ :‬الالم ما دامت في أصل اللغة ّ‬
‫الغاية‪ ،‬والمفعول محذوف‪ :‬يريد اهلل هذه التشريعات ليبين لكم ‪..‬‬
‫والبيان وقع ولم يتخلف‪.‬‬
‫(ويتوب عليكم) معطوف على (يبين لكم)‪ ،‬أي‪ :‬ويريد اهلل ليتوب عليكم ‪.‬‬
‫فهل التوبة وقعت أم لم تقع؟‬
‫التوبة في أصل اللغة معناها العودة‪ ،‬قال الفيروزآبادي‪ :‬تاب إلى اهلل توباً ومتاباً وتابة‬
‫وتتوبة‪ :‬رجع عن المعصية‪ ،‬وهو تائب وتواب‪ ،‬وتاب اهلل عليه‪ :‬وفقه للتوبة أو رجع‬
‫به من التشديد إلى التخفيف‪ ،‬أو رجع عليه بفضله وقبوله‪.‬‬
‫حرف الجر الذي ُع ّدي به الفعل (تاب) هو (على)‪ :‬رجع على فالن بالفضل‪ ،‬والفضل‬
‫إما بمعنى القبول أو التشريع‪.‬‬
‫فهل الفضل بهذا المعنى تخلّف؟‬
‫لم يتخلف مطلقاً‪.‬‬
‫اآلية الثالثة‪:‬‬
‫(واهلل يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميالً عظيماً)‪:‬‬
‫نفس معنى اآلية السابقة‪ :‬يرجع عليكم بالفضل أو بقبول أوبتكم ورجعتكم إذا تبتم‬
‫فاهلل يريد القبول‪.‬‬
‫ألم يثبت في الشرع بأن من تاب توبة نصوحاً فاهلل يقبلها؟‬
‫بلى‪.‬‬
‫يمكن أن يكون معنى هذه اآلية أن يكون هذا القسم من اآلية خطاب للطائعين ألن‬
‫ليس جميع الناس يتوبون‪ ،‬حتى ال يقول قائل هناك كفار ال يتوبون‪ .‬وبقية اآلية‪:‬‬
‫(ويريد الذين يتبعون الشهوات) مقابل للقسم األول الذين ال يتبعون الشهوات‪.‬‬
‫اآلية الرابعة‪:‬‬
‫(ما يريد اهلل ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) ما‬
‫يريد اهلل ليجعل عليكم من حرج أي في التشريع‪( .‬ما يريد)‪ ،‬أي‪ :‬دائماً ال يريد‪ ،‬ما‬
‫زال التشريع موجوداً‪.‬‬
‫ثم قال‪( :‬ولكن يريد ليطهركم)‪ ،‬أي‪ :‬يريد بإنزاله هذا التشريع ألن يطهركم‪.‬‬
‫هل المراد التطهير أم التشريع؟‬
‫المراد التشريع‪ ،‬واهلل يطهركم بالتزام هذا التشريع‪ ،‬وهذا لم يتخلف‪ .‬والتطهير يكون‬
‫بشرط االلتزام بالشريعة‪ ،‬فإن لم تحصل الطهارة لبعض الناس ‪ ،‬فهذا لعدم التزامهم‪.‬‬
‫هذا نفس نمط اآلية األخيرة التي احتج بها الشيعة على األئمة‪ ،‬وقد وقعوا في نفس‬
‫اإلشكال‪( :‬إنما يريد اهلل ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)‬
‫فهم الشيعة هذه اآلية بأن قوله‪( :‬إنما يريد) إرادة تكوينية‪ ،‬واإلرادة التكوينية ال‬
‫تطهر ال بد‬
‫تتخلف‪ ،‬واإلرادة تعلقت بالتطهير فال بد أن يكون التطهير واقعاً‪ ،‬إذن َمن ّ‬
‫أن يكون معصوماً‪ ،‬إذن أهل البيت معصومين؛ ألن التطهير واقع عليهم‪.‬‬
‫ولكن هذا االستنتاج خطأ؛ ألن سياق اآلية‪ :‬يريد اهلل بالتزامكم هذه التشريعات‬
‫الخاصة بنساء النبي ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ وأهله‪ ،‬هذه ال تحسبوها أنها تعسير‬
‫عليكم ولكنها لتطهيركم‪ ،‬أهل النبي يجب أن يكونوا بمحل ال تطالهم فيه أي شبهة‪،‬‬
‫فال تنالهم ألسنة الناس بسوء‪ ،‬هذا ليس لمجرد المشقة‪ ،‬ولكن إلبعادهم عن مواطن‬
‫الشبهات‪.‬‬
‫فحصول التطهير متعلق بإرادتهم هم‪ ،‬إذا التزموا حصلت الطهارة‪ ،‬فليس كل آل‬
‫البيت حصلت فيه الطهارة‪ ،‬فبعض آل البيت غير مطهر اللتباسه بما نهى اهلل عنه‪.‬‬
‫هذه خالصة األدلة التي تعلقوا بها للتفريق بين اإلرادة التشريعية والتكوينية‪.‬‬
‫والحاصل أن اإلرادة التشريعية هي إرادة تكوين الشريعة؛ ألن اهلل أراد إنزال الشريعة‬
‫وهذه اإلرادة حصلت لم تتخلف‪ ،‬فإرادة اهلل واحدة ال تتنوع‪ .‬وتفريقهم بين‬
‫اإلرادتين ال وجه له‪.‬‬
‫راجيا من اإلخوة الكرام معذرتي إن وجدت بعض االخطاء المطبعية‪ ،‬فالوقت عندي‬
‫يضيق جدا ن مراجعته‪.‬‬
‫واهلل الموفق‬
‫الجواب‪:‬‬
‫إن األساس الذي يمكن بناء عليه أن نبين الجواب على هذه األسئلة وعلى ما يشابهها‬
‫في هذه المسألة‪ ،‬هو فهم الفرق بين اإلرادة والمحبة والهوى‪.‬‬
‫فأما المحبة والهوى فهما شوق عاطفي نفسي ال يتوقف على اإلرادة‪ ،‬فأنت قد تحب‬
‫من ال تريد محبته‪ ،‬وقد ال تستطيع محبة من تريد محبته‪ ،‬فإن المحبة تابعة لطبيعة‬
‫النفس وهذه ليست تابعة إلرادة اإلنسان بل تابعة لخلق اهلل تعالى‪.‬‬
‫وأما اإلرادة فيجب أن نعلم أن اإلرادة إنما هي مجرد صفة بها يمكن ترجيح أمر‬
‫على أمر من الممكنات‪.‬‬
‫فمثال شرب الكأس ممكن‪ ،‬وعدم شربة ممكن‪ ،‬وسكبه على األرض ممكن‪ ،‬وكسر‬
‫الكأس ممكن‪ ،‬فكيف ترجح أنت فعال من هذه األفعال‪ ،‬أليس بإرادتك‪ ،‬إنك من‬
‫حيث أنت فاعل تفعل بإرادتك‪ ،‬فإرادتك ترجح لك جهة من جهات الفعل تتوجه‬
‫أنت إليها فتكسبها‪ ،‬أو تفعلها‪.‬‬
‫ولماذا قد يخالف اإلنسان شهوته ورغبته فيفعل بعض األفعال التي ال تتماشى مع‬
‫محبته‪ ،‬إنه يفعلها ألنه يرجح فعله على عدم فعله لها ألمر آخر‪ ،‬كأن يرجح قيامه من‬
‫النوم وقت صالة الصبح في يوم مطير على دوام نومه‪ ،‬ألنه يعتقد بوجوب ذلك‬
‫عليه‪ ،‬ولزوم طاعة اهلل تعالى في ذلك‪ ،‬وإن خالف شهوته‪.‬‬
‫وهو يترك النظر إلى النساء الجميالت وال يتعلق بهن التزاما باألحكام الشرعية النازلة‬
‫من عند اهلل تعالى‪ ،‬وذلك مخالفة لطبيعته وشهوته‪ .‬وهكذا‪.‬‬
‫فالفرق بين الهوى والشهوة والمحبة وبين اإلرادة واضح إذن‪.‬‬
‫فأنت تقول أنا أحب ـ وتريد معنى غير المعنى المفهوم من قولك أنا أريد‪.‬‬
‫فاإلرادة أصال غير المحبة‪.‬‬
‫نعم نحن نعرف في اللغة العربية مفهوم االستعارة والمجاز‪ ،‬واستعمال لفظ محل لفظ‬
‫الستجالب الزمة أو هيئة من هيئات معناه‪ ،‬فيمكن في بعض العبارات استعمال لفظ‬
‫المحبة مكان اإلرادة‪ ،‬أو العكس‪ ،‬ولكن كالمنا على أصل المعنى ال على المجاز‪.‬‬
‫واإلرادة يرتبط دائما مع تنفيذها مع القدرة‪ ،‬فمهما قال واحد أنا أريد شيئا ما فإنه إذا‬
‫كان قادرا عليه ولم يمنعه مانع‪ ،‬فهذا الشيء ال بد أن يفعله‪ ،‬إذا تحققت اإلرادة فعال‬
‫فيه‪ ،‬ولكن الواحد قد يقول أن أريد فعال ما‪ ،‬ولم يتحقق في نفسه إال مجرد توجه‬
‫ساذج إلى هذا الفعل‪ ،‬ولم يكتمل إلى اإلرادة‪ ،‬فهذا ال عبرة به‪.‬‬
‫ولذلك فإننا نجد في القرآن الكريم آيات بينات كقوله تعالى (إن اهلل يحكم ما‬
‫يريد)‪ ،‬وقوله تعالى (إن ربك فعال لما يريد) وقوله تعالى (إن اهلل يفعل ما يريد)‪،‬‬
‫وقوله تعالى(ذو العرش المجيد‪ ،‬فعال لما يريد)‪.‬‬
‫ففي هذه اآليات جميعا داللة واضحة على أن إرادة اهلل تعالى ال تتخلف‪ ،‬بمعنى أن ما‬
‫يريد اهلل تعالى وقوعه يقع فعال‪ ،‬وال يمكن أن يقال إن اهلل تعالى أراد أمرا معينا ولم‬
‫يقع ولم يوجد هذا األمر‪.‬‬
‫فالتالزم بين اإلرادة والفعل محتم‪ ،‬غير منفصل مطلقا‪ .‬ولو تأملت آيات القرآن‬
‫جميعها لوجدت صدق ما قلته لك هنا‪.‬‬
‫ولذلك فإننا نقول إن اإلرادة هي صفة هلل تعالى بها يتم ترجيح أمر ممكن على أمر‬
‫ممكن آخر‪.‬‬
‫فإن اإلرادة تتعلق كما تعلم بالممكنات العقلية وال يشذ عنها شيء مطلقا‪ ،‬فكل ما‬
‫هو واقع وموجود فهو واقع بإرادة اهلل تعالى‪.‬‬
‫وأما معنى اإلرادة في اآلية التي سألت أيها األخ عنها وهي قوله تعالى (فمن يرد اهلل‬
‫أن يهديه يشرح صدره لإلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا)‪ ،‬فهو‬
‫معنى اإلرادة السابق ال خالف وال فرق‪ ،‬فمن أراد اهلل تعالى هدايته فهو من علم أنه‬
‫سوف يريد االهتداء‪ ،‬فذلك اإلنسان ييسر له مقدمات اإليمان ويوجدها له في نفسه‬
‫ومن حوله‪ ،‬ومن أراد اهلل تعالى ضالله‪ ،‬فهو من علم أنه سوف يكون من الكافرين‬
‫به‪ ،‬فذك يمهد له من المقدمات ومن األسباب العادية ما يؤدي به إلى ما اختاره‪ .‬فهو‬
‫نفس المعنى السابق‪.‬‬
‫واهلل تعالى خالق كل شيء‪ ،‬فهو الذي خلق سيدنا محمدا عليه الصالة والسالم وخلق‬
‫إبليس لعنه اهلل‪ ،‬وهو خالق الخير والشر‪ ،‬وهو خالق الكفر واإليمان‪( ،‬اهلل خالق كل‬
‫شيء)‪.‬‬
‫وعندما نقول اهلل خالق كل شيء‪ ،‬فإننا ال بد قائلون بأن اهلل تعالى أراد كل ما خلقه‪،‬‬
‫ولو لم يرده لم يقع في الوجود قطعا‪.‬‬
‫ولكن كون اهلل تعالى خالقا للكفر واإليمان في الكافر والمؤمن‪ ،‬ال يستلزم أنه أحب‬
‫الكفر‪ ،‬ألن المحبة عندنا في حق اهلل تعالى هي أمره تعالى الشيء‪،‬‬
‫فما أمر به فقد أحبه‪ ،‬ولم يأمر اهلل تعالى بالكفر‪ ،‬فال يقال إنه أحب الكفر‪.‬‬
‫وكذلك في كل أمر آخر في هذا الوجود‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى (يمحو اهلل ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)‪ ،‬فأنا أنقل لك كالم‬
‫المفسر الكبير ابن عطية من تفسيره المحرر الوجيز‪ ،‬ففيه الكفاية إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫قال في تفسير هذه اآلية من سورة الرعد آية ‪:39‬‬
‫وقوله تعالى (لكل أجل كتاب) لفظ عام في جميع األشياء التي لها آجال‪ ،‬وذلك أنه‬
‫ليس كائن فيها إال وله أجل في بدئه وفي خاتمته وكل أجل مكتوب محصور فأخبر‬
‫اهلل تعالى عن َك ْتبِ ِه اآلجال التي لإلشياء عامة‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫وقوله تعالى (يمحو اهلل ما يشاء ويثبت) قرأن نافع وبن عامر وحمزة والكسائي‬
‫(ويثَبِّت) بتشديد الباء‪ ،‬وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بخفيفها‪.‬‬
‫وقد تخبط الناس في معنى هذه األلفاظ‪ ،‬والذي يتلخص من مسلكها أن األشياء التي‬
‫قدرها اهلل تعالى في األزل وعلمها بحال ما ال يصح فيها محو وال تبديل‪ ،‬وهي التي‬
‫كتبت في أم الكتاب‪ ،‬وسبق بها القضاء‪.‬‬
‫وهذا مروي عن ابن عباس وغيره‪ ،‬من أهل العلم‪.‬‬
‫وأما األشياء التي أخبر اهلل تعالى أنه يبدل فيها وينقل كغفر الذنوب بعد تقريرها‬
‫وكنسخ آية به تالوتها واستقرار حكمها ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده‬
‫الحفظة ونحو ذلك‪،‬‬
‫وأما إذا ُر َّد األمر إلى القضاء والقدر فقد محا اهلل ما محا ‪ ،‬وثبَّت ما ثبَّت‪ ،‬وجاءت‬
‫العبارة مستقبلة لمحي الحوادث وهذه األمور فيما يستأنف من الزمان‪ ،‬فينتظر البشر‬
‫ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم‪.‬‬
‫وقالت فرقة منهم الحسن‪ :‬في في آجال بني آدم وذلك أن اهلل تعالى في ليلة القدر ‪.‬‬

‫وقيل ليلة نصف شعبان يكتب آجال الموتى فيُمحى ناس من ديوان األحياء ويثبَتون‬
‫في ديةان الموتى ‪ ،‬وقال قيس بن ُعباد‪ :‬العاشر من رجب هو يوم يمحو اهلل ما يشاء‬
‫ويثبت‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محد (ابن عطية) رحمه اهلل‪:‬‬
‫وهذا التخصيص في اآلجال وغيرها ال معنى له‪ ،‬وإنما يحسن من األقوال هنا ما كان‬
‫عاما في جميع األشياء‪.‬‬
‫فمن ذلك أن يكون معنى اآلية إن اهلل تعالى يغير األمور عن أحوالها أعني ما من شأنه‬
‫وروي‬
‫أن ُيغَيَّر على ما قدمناه‪ ،‬فيمحو من تلك الحالة ويثبته في تلك التي نقله إليها‪ُ ،‬‬
‫عن عمر وابن مسعود أنهما كانا يقوالن في دعائهما ‪":‬اللهم إن كنت كتبتنا في‬
‫ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة‪ ،‬فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"‪ ،‬وهذا‬
‫دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة الجزع منهما‪ ،‬أي‪ :‬اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك‬
‫وكتبت علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة والطاعة‪،‬‬
‫وفي لفظ عمر رضي اهلل عنه في بعض الروايات بعض من هذا‪ ،‬ولم يكن دعاؤهما‬
‫البتَّة في تبديل سابق القضاء‪ ،‬وال ُيتَاََّول عليهما ذلك‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫وحكى الطبري عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬أنه قال‪ :‬يمحو اهلل ما يشاء ويثبت من‬
‫أمور عباده إال السعادة والشقاوة واآلجال فإنه ال محو فيها‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد (ابن عطية) رحمه اهلل‪:‬‬
‫أصلناه أوال في اآلية‪.‬‬
‫وهذا نحو ما َّ‬
‫وحكي عن فرقة أنها قالت‪ :‬يمحو اهلل ما يشاء ويثبت من كتاب حاشى أم الكتاب‬
‫الذي عنده ال يغير منه شيئا‪ ،‬وقالت فرقة معناه يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما‬
‫أراد‪ ،‬ونحو هذه األقوال التي هي سهلة المعارضة‪.‬‬
‫وأسند الطبري عن إبراهيم النَّ َخعي أن كعبا قال لعمر بن‬
‫الخطاب‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لوال آية في كتاب اهلل ألنبأتك بما‬
‫هو كائن إلى يوم القيامة‪ .‬قال وما هي‪ .‬قال قوله تعالى( يمحو‬
‫اهلل ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)‪.‬‬
‫وذكر أبو المعالي في التلخيص أن عليا رضي اهلل عنه هو الذي قال هذه المقالة‬
‫علي‪".‬اهـ‬
‫المذكورة عن كعب‪ ،‬وذلك عندي ال يصح عن ّ‬
‫وأقول‪ :‬وال تسلك لكعب إن كان قالها‪.‬‬
‫وما ذكره ابن عطية رضي اهلل عنه‪ ،‬كاف في هذا الباب‪.‬‬
‫ويظهر من كالمه رضي اهلل عنه أن المحو واإلثبات إنما هو بحسب ما يخافه اإلنسان‬
‫وتخوفه‪.‬‬
‫يعني‪ :‬أن الواحد من الناس قد يقه في قلبه أنه قد كتب عند اهلل تعالى معذبا‪ ،‬فيدعو‬
‫اهلل تعالى أنه إن كان كذلك أن يمحوه ويكتبه منعما‪ ،‬فإنما الدعاء بذلك بحسب ما‬
‫يقع في وهم اإلنسان‪ ،‬وأما ما في علم اهلل تعالى فال تغير‪.‬‬
‫وأما المحو المذكور في اآلية‪ ،‬فأقرب المعاني فيها هو نفس الفعل الذي يفعله اهلل‬
‫تعالى واألمور التي يغيرها بحسب ما علمه وأثبته منذ األزل‪.‬‬
‫فهي بالنسبة لنا تظهر متغيرة متبدلة‪.‬‬
‫وأما في علم اهلل تعالى‪ ،‬فتغيرها ثابت على ما هو عليه عنده‪.‬‬
‫يعني لو كان زيد مثال في خالل حياته مؤمنا‪ ،‬وبقي عشر سنوات كذلك‪ ،‬ثم كفر بعد‬
‫ذلك‪ ،‬فهذا بحسب علمنا تغير‪ ،‬وأما بحسب علم اهلل تعالى فال تغير أصال‪ ،‬ألنه جل‬
‫شأنه علم أن زيدا سيبقى مؤمنا مدة عشر سنوات‪ ،‬ثم على رأس هذه العشرة سوف‬
‫يكفر‪ ،‬فثبت عنده كفره في زمان كفره‪ ،‬وثبت عنده إيمانه في زمان إيمانه‪ .‬فالتغير‬
‫إنما هو بحسب علمنا ال علمه جل شأنه‪.‬‬
‫وهكذا يقال في المحو واإلثبات ودعاء بعض الصحابة كما نبه عليه ابن عطية‪.‬‬
‫وال عالقة لهذا بتقسيم اإلرادة إلى قسمين كما يظهر وإنما اعتمد من قال بها على‬
‫آيات أخرى تلك التي أشرنا إليها في شرح الطحاوية‪ ،‬ولألسباب التي ذكرناها‪ ،‬خال‬
‫من قال بها من بعض أهل السنة‪ ،‬فإنهم ربما تلقفوها من غيرهم ولم يحققوا معناها‬
‫ومبناها‪.‬‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬
‫واهلل الموفق‪.‬‬
‫__________________‬
‫وليس لنا وراء هللا حاجة وال مذهب‬

You might also like