Professional Documents
Culture Documents
اإلعداد
كمال لطفي
(2021.03.1786)
2023
املبحث األول:
الكف عنه .جاء يف مجهرة اللغة :هَنيت الرجل عن األمر َنياً ،والنَّهى من العقل وهو مجع هَنية أيضاً؛ ألنه
النّهي :هو ض ّد األمر وخالفه ،وطلب االمتناع عن الشيء و ّ
ينهى عن اجلهل والتَّنهية ،واجلمع تناه .كذلك جاء يف جممل اللغة" :النهي خالف األمر ،والنُّهية العقل ،واجلمع َنى؛ ألنه ينهى عن القبيح ،ويف خمتار الصحاح:
"النّهي ضد األمر ،وَناه عن
كف ،و (تناهوا) عن املنكر أيَ :نى بعضهم بعضاً .ويف لسان العرب :النّهي خالف األمر َ ،ناه ينهاه َنياً ،فانتهى وتناهى كذا ينهاه َنياً ،وانتهى عنه ،وتناهى أي َّ
ِ
ُّهى [ :٥٤طه] .وجاء هذا املعىن يف حديث الرسول ﷺ( :ليلين منكم أولو هوِل الن ه كف ،والنَّهى العقل ،يكون واحداً ومجعاً ،ويف التنزيل العزيز( :إِ َّن ِيف هذل ه
ك هألهيْت هأل ِ َّ
الكف والزجر.
األحالم والنه ى) فقوله ( :والنهى) بضم النون أي :العقول .فيكون النهي خالف األمر مبعىن املنع وطلب ّ
من املعلوم أ ّن لكل علم اصطالح يف اللغة ،واصطالح خيتص به يذكره علماؤه ،يزيد عما يف اللغة أو ينقص أو يطابقه ،حبسب ما يس ّد حاجة ذلك العلم ،ولذلك
ذكر األصوليون تعريفات عدة للنّهي ،سنذكر مجلة منها ،مث نقف على بعض القيود الواردة فيها :
عرف القاضي أبو بكر الباقالين (٤٠٣ه ) النّهي أبنَّه" :القول املقتضى به ترك الفعل مث جاء بعده أبو احلسني البصري (٤٣٦ه ) فغايره إبضافة قيد (االستعالء) و
(كراهية (الفعل) فقال يف تعريفه :قول القائل لغريه ال تفعل على جهة االستعالء إذا كان كارهاً للفعل ،وغرضه أال يفعل مث بعد ذلك جاء أبو إسحاق الشريازي
(٤٧٦ه ) حيث استعمل طريقة أخرى ص ّدر تعريفه ابالستدعاء ،ومل يشرتط االستعالء كأيب احلسني البصري ،بل اشرتط أن يصدر ممن هو دونه فقال يف تعريفه:
"استدعاء الرتك ابلقول ممن هو دونه .ومثله أبو املظفر السمعاين (٤۸۹ه ) حيث ص ّدر تعريفه ابالستدعاء واشرتط أن يكون ممن هو دونه وخالفه بقوله ( :ترك
(الفعل) بدل (ترك القول) فقال هو :استدعاء ترك الفعل ابلقول ممن هو دونه" .مث جاء يف بداية القرن السادس أبو الوفاء ابن عقيل ( ٥١٠ه ) فلم خيالف من
سبقه بقيد االستدعاء وابشرتاط العلو كالشريازي
والسمعاين ،فقال يف تعريفه للنهي هو :استدعاء األعلى الرتك من الدون ،أو ممن هو دونه.
مث جاء بعده عالء الدين السمرقندي ( ٥٢٩ه ) فبدأ تعريفه ابلدعاء بدل االستدعاء واشرتط االستعالء بدل العلو ،فقال النهي هو :الدعاء إىل االمتناع عن الفعل
على طريق االستعالء قوالً.
وقد اشتملت تعريفات األصوليني السابقة للنهي على مجلة من القيود وهي :القيد األول :قوهلم( :القول) أو (قول القائل) :خيرج بذلك اإلشارة والكتابة .القيد
الثاين :قوهلم( :اقتضاء) أو (املقتضى) أو (استدعاء) أو (الدعاء) :جنس يف الطلب ،ويشمل طلب الفعل وهو األمر ،وطلب الرتك وهو النهي ،والقيود اليت بعدها
هي اليت خترج األمر ،وممن ذكر ذلك الباقالين والشريازي وابن عقيل والسمرقندي وابن احلاجب والطويف .القيد الثالث :قوهلم :ترك) (الفعل) أو (الرتك) أو (االمتناع
(كف) ،فهذه القيود خترج األمر من جنس الطلب ،فتقيد التعريف ابلنهي .القيد الرابع :قوهلم( :االستعالء)
عن (الفعل) أو (طلب (االمتناع) أو (قول ال تفعل) أو َّ
أو ممن (دونه) أو (الدون) ،وممن قال بذلك البصري والسمرقندي وابن احلاجب والساعايت والطويف .ومن قال( :ممن) (دونه أو (الدون) أراد معىن (العلو) ،وممن قال
بذلك الشريازي والسمعاين وابن عقيل.
املطلب الثاين :تعريف األثر لغة واصطالحا .نتناول يف هذا املبحث معىن األثر لغةً واصطالحاً يف فرعني .الفرع األول :تعريف األثر لغة.
جاء يف جممل اللغة البن فارس أن األثر هو " :ما بقي من رسم الشيء ،وسنن النيب :آاثره ،ويقال لضربة السيف :أثرة .ويف لسان العرب "األثر :بقية الشيء،
واجلمع آاثر ،وخرجت يف إثره ويف أثره أي بعده ،واألثر ابلتحريك :ما بقي من رسم الشيء والتأثري :إبقاء األثر يف الشيء .وأثر يف الشيء :ترك فيه أثراً .والاثر :
األعالم .ويف القاموس احمليط" :األثر العالمة ،وملعان السيف وأثر الشيء بقيته ،ويتضح مما سبق أن األثر يف اللغة هو :بقية الشيء وأثره فيه.
ال خيرج استعمال علماء األصول ملصطلح األثر عن االستعمال اللغوي ،ويتضح ذلك من خالل استخدامهم يف كثري من املواضع منها :فإ ّن أثر النهي ليس إال يف
عّبون مبعناه كقوهلم( :النهي
التحرمي ،ومنها أثر النهي يف العبادات عدم براءة الذمة ،وأثره يف املعامالت عدم إفادة امللك ،ويف األكثر ال يصرحون مبصطلح األثر بل يه ّ
يقتضي التحرمي) أي :أن أثر النهي هو التحرمي و (النهي يفيد التكرار) ،أي أن أثر النهي أنه يفيد التكرار ،فالنهي له أثر يف حكم ما بعده من حكم تكليفي أو
وضعي من كراهية وحترمي أو صحة وفساد فهو النتيجة املرتتبة على التصرف ،ويطلق عليه بعض الفقهاء األحكام ،فيقولون :أحكام النكاح مثالً ،يريدون آاثره،
نالحظ إذاً أن املعىن االصطالحي ال خيرج عن املعىن اللغوي.
ال شك أن لكل علم طريقة ميتاز فيها عن غريه من العلوم يف البحث والكتابة ،ومن تلك العلوم علم األصول ،فله منهج متميز عن غريه فيما يتضمنه من مباحث
ومنها مبحث النهي ،لذلك سنعرض منهج بعض األصوليني يف كتابة مبحث النهي ملعرفة موضع النهي يف علم األصول وكيف تناولوه؟ وما املسائل اليت حبثوها؟
"فأحق ما
ه ( )1تناول السرخسي (٤٩٠ه ) النهي يف كتابه املعروف أبصول السرخسي أبن افتتح السرخسي احلنفي كتابه بباب األمر مث النهي فقال يف مقدمة كتابه:
يهبدأ به يف البيان األمر والنّهى؛ ألن معظم االبتالء هبما ،ومبعرفتهما تتم معرفة األحكام ،ويتميّز احلالل من احلرام ،فذكر يف ابب النهي موجب النهي شرعاً ومقتضاه،
مث تطرق إىل صفة القبح يف املنهي عنه فذكر أقسامه وما يرتتب عليه من آاثر مث تطرق إىل العديد من الصور الفرعية ملسألة اقتضاء النهي للفساد ،وآخر مسائل النهي
يبني أنه مل يهدرج النهي من
اليت ذكرها هي حكم النهي يف ضده ،وأَنى بذلك ابب النهي ،وبعد ذلك ذكر أسباب الشرائع ،مث األدلة وبعدها اخلاص والعام ،مما ّ
ضمن اخلاص ،وع ّد النهي من طرق االستنباط ،أي من الدالالت.
( )٢أما الغزاِل ( ٥٠٥ه ) يف كتابه "املستصفى" فقد قسم كتابه حبسب تعبريه إىل أربعة أقطاب ،تناول يف القطب األول :وهو الثمرة (احلكم) وذكر فيه األحكام
التكليفية ،واحلاكم واحملكوم عليه وفيه ،وذكر مسألة واحدة هنا للنهي وهي النهي العائد إىل وصف هل يفسد األصل أم ال؟ مث القطب الثاين :املثمر ذكر فيه أدلة
تطرق إىل مبحث األمر والنهي ،غري أنَّه عرف النهي بعد تعريفه لألمر
األحكام ،مث القطب الثالث :يف طرق استثمار األحكام من األدلة فذكر عدداً من املسائل ،مث ّ
أي يف ابب األمر ،أما يف ابب النهي فقال يف مقدمته :اعلم أن ما ذكرانه من مسائل األوامر تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس
فال حاجة إىل التكرار ،ولكنّا نتعرض ملسائل ال بد من إفرادها ابلكالم ،مث تطرق ملسألة واحدة من مسائل النهي وهي :النهي واقتضاؤه للفساد ،ومن املالحظ أنه
جعل مبحث األمر والنهي قبل مبحث العموم واخلصوص ونلحظ أيضاً أن الغزاِل ذكر مسألة هل النهي العائد إىل وصف يفسد األصل أم ال؟ يف القطب األول وهو
(احلكم) ،أما بقية مسائل النهي فكل ها يف كيفية استثمار األحكام من األدلة ،أي يف القطب الثالث .وجعل القطب الرابع :يف املستثمر (اجملتهد).
-١إ ّن النّهي ال يفرتق يف حبثه عن مبحث األمر ؛ ذلك أن األمر والنهي كالمها من أقسام الكالم املندرجان يف الطلب ،فلذلك جند االقرتان بني هذين املبحثني -
يف كتب األصول.
-٣يكتفي أكثر األصوليني مبا ذكره يف مبحث األمر من توطئة وتعريف ومسائل ،فإذا جاء إىل مبحث النهي هُييل إىل ما ذكره يف ابب األمر ،وعلى سبيل املثال
ال احلصر ،الباقالين إذ قال :اعلموا رمح كم هللا إن أكثر ما ذكرانه يف أحكام األمر يدل إذا أتمل على أحكام نقيضه من النهي ،فيجب التنبه عليه من أبواب األمر،
وأيضاً ذكره الغزاِل بقوله :اعلم أن ما ذكرانه من مسائل األوامر تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس فال حاجة إىل التكرار ،ولكنا
نتعرض ملسائل ال ب ّد من إفرادها ابلكالم ،وغريمها من األصوليني ،وهذا سبب عدم ذكر بعضهم لتعريف النهي واقتصارهم على بعض املسائل.
ّ
-٤عدد مسائل النهي اليت تهذكر يف كل كتاب خمتلفة عن الكتاب الخر ،فمثالً ذكر الغزاِل يف ابب النهي مسألة واحدة وهي مسألة اقتضاء النهي للفساد ،بينما
ذكر ابن مفلح مخس مسائل ،وهي اقتضاء النهي للفور والتكرار ،والنهي بعد اإلجياب ،واقتضاؤه للفساد ،والنهي إذا ورد للتخيري ،وهكذا هي بقية الكتب بني مكثر
،ومقل ،ولعل السبب يف ذلك أن منهم من نظر إىل مثرة املسألة فذكر أكثر املسائل اليت هلا مثرة يف الفروع ،ومنهم من اقتصر على ما ذكره يف األمر ،ومنهم من
اقتصر على بعض املسائل ؛ ألنه يكتفي يف ترجيح ما يقارهبا ،مثال من رجح يف اقتضاء النهي الفور ،اكتفى عن ذكر مسألة اقتضاء النهي للتكرار ،ومنهم من
يذكرها لتمام الفائدة وهكذا.
-٥اختلف األصوليون يف موضع النهي هل هو مندرج حتت اخلاص أم ال؟ السرخسي ،والغزاِل ،والكلوذاين ،والرازي ،وابن مفلح ،والشوكاين ،مل يدرجوا النهي ضمن
اخلاص ،بينما الكاكي وصاحب األصل وهو النسفي أدرجا النهي ضمن اخلاص ،فمن أخرج النهي من اخلاص كان؛ بسبب منهجه يف أن اخلاص من فوائد النهي،
ومن أدرج النهي يف اخلاص كان؛ بسبب أن النهي نوع من اخلاص.
إن العبادة هللا تعاىل ال تتحقق إال إبتباع أوامره واجتناب نواهيه ،فاألمر والنهي مها ركنا التكليف ،ومن هنا تتضح أمهية النهي يف الشريعة؛ إذ ال ميكن أن تتحقق
مطلق العبود ية لعبد ما مل يرتك ما َني عنه "لذلك أخذ السلف الصاحل أنفسهم ابالجتهاد يف العبادة ،والتحري يف األخذ ابلعزائم ،وقهروها حتت مشقات التعبد ؛
فإَنم فهموا أن األوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة األمر والناهي ،ومما يظهر أمهية النهي يف الشرع أيضاً عدد الايت واألحاديث اليت يرد فيها النهي صرُياً أو
ضمناً ،ومنها ما جاء يف قوله ( :دعوين ما تركتكم ،إمنا هلك من كان قبلكم بسؤاهلم واختالفهم على أنبيائهم ،فإذا َنيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم أبمر فأتوا
صرح بعض العلماء كما نقل ذلك ابن رجب (٧٩٥ه ) أن النهي بقوله:
منه ما استطعتم) والشاهد قوله( :فإذا َنيتكم) فيظهر منه عنايته جبانب املنهيات ،لذلك ّ
"قال بعض العلماء :هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من األمر ؛ ألن النهي مل يرخص يف ارتكاب شيء منه ،وقريب من ذلك ما قاله أمحد ابن حنبل (٢٤١ه ) " :ما
أمر به النيب عندي أسهل مما َنى عنه" ،وتظهر أمهية النهي أيضاً؛ ألن يف اجتنابه حتقق ملصاحل العباد كما يقول الصحايب رافع بن خديجَ" :ناان رسول هللا ﷺ عن
أمر كان لنا انفعاً ،وطواعية هللا ورسوله أنفع لنا" .وكما ّبني اجلويين هذا املعىن ومن مل يتفطن لوقوع املقاصد يف األوامر والنواهي فليس على بصرية يف وضع الشريعة،
وكذلك صاحب املوافقات بقوله" :فقد قام الدليل على اعتبار املصاحل شرعاً ،وأن األوامر والنواهي مشتملة عليها.
فمن هذا املنطلق كان اهتمام علماء األصول مبسائل النهي ،فإذا نظران إىل مصنفاهتم فسنجد أَنم يذكرون أن األحكام التكليفية مخسة ،وللنهي تعلّق ابثنتني منهما
ومها الكراهة والتحرمي ،فيذكرون صورمها وأقسامهما ،ومن مث يفصلون ما يندرج حتتهما من مسائل ،وبعد ذلك يفردون النهي يف ابب مستقل ،وما ذلك إال ؛ ألمهيته
يف علم األصول ،ومن ذلك أيضاً أنه أفردت مصنفات خاصة للنهي ،مثال ذلك ما صنفه احلافظ العالئي (٧٦١ه ) (حتقيق املراد يف أن النهي يقتضي الفساد) ،وغري
ذلك من املسائل يف بطون الكتب والرسائل العلمية ،كل ذلك وغريه يظهر أمهية مسائل النهي.
املبحث الثاين:
نتناول يف هذا املبحث النهي اجملرد وخالف العلماء فيه ،وأثر االختالف يف التطبيقات الفقهية ،ومن مث مسألة صوارف النهي وتطبيقاهتا يف األحوال الشخصية.
وعليه فقد قسمنا املبحث إىل مطلبني املطلب األول :النّهي اجملرد وتطبيقاته يف األحوال الشخصية .واملطلب الثاين :صوارف النّهي وتطبيقاهتا يف األحوال الشخصية.
نتناول يف هذا املطلب صورة النهي اجملرد ،وحتق يق أقوال العلماء يف داللته ،وبيان الراجح من ذلك يف الفرع األول ،وبعد ذلك نعرض تطبيقات النهي اجملرد يف
األحوال الشخصية يف الفرع الثاين.
للنهي أثر على ما بعده من أحكام ،فالنهي له داللة تدل على مراده ،فإذا اقرتن مع صيغة النهي ما يدل على أن املراد من النهي هو التحرمي ،فال إشكال أن أثر
الز هَن إِنَّهه هكا هن فه ِح هشةً هو هساءه هسبِيال [ :٣٢اإلسراء] ،فقوله( :وال تقربوا) َني ،وقوله( :فاحشةً وساء سبيال) قرينة على
﴿وهال ته ْقربهوا ِّ
النهي هو التحرمي مثل قوله تعاىل :ه ه
التحرمي ،وإذا اقرتن مع صيغة النهي ما يدل على أن املراد من النهي هو الكراهة فال إشكال أن أثر النهي هو الكراهة ،مثل قول أم عطية رضي هللا عنهاَ( :-نينا عن
اتباع اجلنائز ،ومل يهعزم علينا ) ،فقوهلا َ( :نينا) ظاهر يف النهي ،وقوهلا ( :ومل يهعزم علينا) قرينة على أن املراد الكراهة ال التحرمي وهو قول اجلمهور ،فصورة املسألة أن
ترد صيغة النهي جمردةً عن القرائن اليت تدل على أي داللة ،لذلك اختلف العلماء على ماذا يدل هذا النهي اجملرد ،وقد أشار الغزاِل (٥٠٥ه ) إىل أن اخلالف ال
جيري يف كل صيغة بل اجملردة عن القرائن وأما صيغة النهي ،وهو قوله :ال تفعل فقد تكون للتحرمي وللكراهية .وقد ذهب العلماء يف داللة صيغة النهي اجملردة إىل
مخسة آراء:
الرأي الثالث :التوقف يف النهي اجملرد حىت ترد القرينة الدالة على املراد ،وممن قال بذلك الواقفة من األشاعرة ،قال الشريازي (٤٧٦ه ) " :وقالت األشعرية :ال
يقتضي لتحرمي وال غريه إال بدليل" ،وقال السمعاين (٤٨٩ه )" :وقال أبو احلسن ومن تبعه ال يدل عليه وال على غريه إال بدليل" .وقال الزركشي (٧٩٤ه ) :
"ونهسب لألشعري أنه موقوف ال يقتضي التحرمي وغريه إال بدليل".
إن لكل عل ٍم مثرة ،ومثرة أصول الفقه هي األحكام الشرعية اليت تهستنبط من قواعده ،كما ذكر القرايف (٦٨٤ه )" :أصول الفقه يثمر األحكام الشرعية ،فإَنا منه
َّ
تؤخذ ،فالشريعة من أوهلا إىل آخرها مبنية على أصول الفقه" ،واألصول إمنا تبىن على الفروع ،فاخلالف يف األصول له أثر يتبعه يف الفروع ،واستخراج الفروع من
األصول هو املقصود من علم أصول الفقه ،كما أشار إىل ذلك اإلسنوي (۷۷۲ه ) يف مقدمة كتابه التمهيد ،وهو من كتب ختريج الفروع على األصول فقال:
"استخرت هللا تعاىل يف أتليف كتاب يشتمل على غالب مسائله وعلى املقصود منه وهو كيفية استخراج الفروع" .لذلك نبني يف هذا الفرع بعض التطبيقات الفقهية
يف األحوال الشخصية ،اليت بهنيت غالباً على مسألة النهي اجملرد ،وكيف َّ
أن خالفهم يف األصل له أثر يف اختالفهم يف الفرع .مع التأكيد على أنه قد ال يكون هو
سبب االختالف الوحيد ،فقد يرجع االختالف إىل بعض األدلة التفصيل ية اليت تبحث يف ابهبا ،سواء كانت يف التفسري أم احلديث أم الفقه وغريها ،ولكن االختالف
األصوِل بال شك من األسباب الرئيسة يف االختالف الفقهي.
النص يف هذه املسألة هو قول النيب (:ال يبع الرجل على بيع أخيه ،وال خيطب على خطبة أخيه ،إال أن أيذن له) .وللحديث رواايت عدة أبلفاظ ،خمتلفة ،وصيغة
النهي ظاهرة يف احلديث وهي قوله( :وال خيطب) وهي من الصيغ اجملردة عن القرائن اليت مل أيت ما يدل على املراد منها أهو التحرمي أم الكراهة ،فلم أيت لفظ آخر
يف احلديث يرجح معىن على معىن .ونذكر هنا ما هو خارج موضع النزاع:
-أنَّه ُيرم على اخلاطب الثاين التقدم للخطبة إن علم أن اخلاطب األول قد أجيب ابلقبول "واإلمجاع قائم على حترميه بعد اإلجابة" ،فالنهي هنا للتحرمي.
-أنَّه إذا وقع التصريح ابلرد وعلم اخلاطب الثاين ،فال ُيرم عليه التقدم "فلو وقع التصريح ابلرد فال حترمي" .أي إذا رفضت املرأة من تقدم خلطبتها.
-أن اخلاطب الثاين إذا مل يكن يعلم عن خطبة األول فال شيء عليه ،يقول الشافعي" :ومن قلت له ال جيوز له أن خيطبها ،فإمنا أقوله إذا علم أَنا هخطبت" .فمحل
النزاع هو يف حال أن اخلاطب األول مل يتلق جواابً ابلرفض ،أو القبول من املخطوبة ،وأن اخلاطب الثاين يعلم أَنا خمطوبة ،فقد اختلف العلماء على قولني يف املسألة:
إن النهي َني تنزيه ،وعّب عنه بعضهم ابلتأديب ،أي َّ
أن سبب النهي هو التأديب ،وممن قال بذلك اخلطايب ،وأكثر الشافعية ،وبعض احلنابلة .واستدلوا القول األولَّ :
حبديث فاطمة بنت قيس أَنا جاءت للنيب " :قالت له أن معاوية ابن أيب سفيان ،وأاب جهم خطباين ،فقال رسول هللا ﷺ :أما أبو جهم ،فال يضع عصاه عن
عاتقه ،وأما معاوية فصعلوك ال مال له ،انكحي أسامة بن زيد فكرهته ،مث قال :انكحي أسامة فنكحته ،فجعل هللا فيه خرياً" ،وإن كان استدالهلم هبذا احلديث
حمل اعرتاض.
إن النهي للتحرمي ،وممن قال بذلك اجلمهور .واستدلوا بنص احلديث (ال خيطب) وأجابوا عن حديث فاطمة بنت قيس ،أَنا مل تركن إىل و ٍ
احد منهما، القول الثاينَّ :
لذلك جاز خطبة الغري "وأما حديث فاطمة فال حجة هلم فيه ،فإن فيه ما يدل على أَنا مل تركن إىل واحد منهما" ،فاحلديث خارج حمل النزاع.
والراجح هو قول اجلمهور القائل أبن النهي هُيمل على التحرمي ال التنزيه؛ ألن األصل يف حال الرتدد أن ُيمل النهي على األصل وهو التحرمي .ولفظ (ال ُيل) يف
رواية أخرى أصرح يف الداللة أن املراد التحرمي ال الكراهة ،وهي قوله ( :ال ُيل ألمرئ مسلم خيطب على خطبة أخيه) ،قال ابن تيمية (۷۲۸ه ) " :وهذا َني حترمي؛
ألنه قال مصرحاً ال ُيل ملؤمن" ،وملا يهفضي إليه يف الغالب وهو الشحناء والبغضاء ،ولورود االحتمال على حادثة فاطمة بنت قيس -رضي هللا عنها -وهو عدم علم
اخلاطبني.
نتناول يف هذا املطلب صوارف النهي من حكم التحرمي إىل حكم الكراهة يف الفرع األول ،ومن مث نذكر التطبيقات الفقهية يف األحوال الشخصية يف الفرع الثاين.
. ٢صرف النهي من التحرمي إىل الكراهة بفعل النيب صلى هللا عليه وسلم.
. ٣صرف النهي من التحرمي إىل الكراهة إبقرار النيب صلى هللا عليه وسلم.
. ٤صرف النهي من التحرمي إىل الكراهة بتعليل يشعر بعدم التحرمي.
. ٥صرف النهي من التحرمي إىل الكراهة ابلنظر إىل املقصد من معناه.
العزل هو" :أن جيامع فإذا قارب اإلنزال نزع وأنزل خارج الفرج" ،والنص يف ذلك قول النيب ﷺ عندما سئل عن العزل فقال ( :ذلك الوأد اخلفي)،
والوأد :دفن البنت وهي حية وكانت العرب تفعله ،ومسي العزل ابلوأد اخلفي؛ "ألنه قطع طريق الوالدة كما يقتل املولود ابلوأد" ،لكن الفرق بينهما أن
الوأد ظاهر ابملباشرة اجتمع فيه القصد والفعل ،أما العزل فيتعلق ابلقصد فقط فلذلك وصفه بكونه خفيا ،واحلديث فيه داللة على التحرمي؛ إذ شبهه مبا
هو معلوم التحرمي وهو الوأد ،لذلك اختلف العلماء يف حكم العزل حبسب الصارف املؤثر على ثالثة أقوال.
القول األول :حترمي العزل بكل األحوال ،وممن قال بذلك بعض الشافعية ،وبعض احلنابلة.
ُيرم إال إذا أذنت الزوجة وهو قول اجلمهور ،فقالوا أبنه ُيرم بغري إذَنا ؛ ألن هلا حق يف احلصول على الولد ،وابلعزل يفوت الولد وهذا
القول الثاينّ :
منع من حقها ،وألَنا زوجة حرة فلها احلق يف كمال االستمتاع ،واستدلوا إبقرار الرسول ﷺ للصحابة على ذلك ،كما جاء يف حديث جابر كنا نعزل
على عهد النيب ﷺ والقرآن ينزل) ،وأجيز يف حال إذَنا؛ ألَنا رضيت بفوات حقها ،واستدلوا أيضاً بقوله عندما سئل عن العزل يف إحدى الغزوات
فقال( :ال عليكم أن ال تفعلوا ما كتب هللا خلق نسمة هي كائنة إىل يوم القيامة إال ستكون ) ،ومعناه "ما عليكم ضرر يف ترك العزل؛ ألن كل نفس
قدر هللا تعاىل خلقها البد أن خيلقها سواء عزلتم أم ال".
القول الثالث :إنه مكروه وال يشرتط إذن الزوجة وهو قول عند الشافعية ،وقول عند احلنابلة ،واستدلوا ابألدلة السابقة الدالة على جواز العزل وأبن حق
الزوجة الوطء فقط ال اإلنزال يف الفرج ،وال دليل على إذن املرأة ،وأنه جبمع كافة األحاديث يظهر أن األمر فقط للكراهة.
والراجح أن العزل غري حمرم بل يكره ويشرتط فيه إذن املرأة ،وذلك للمرجحات التية:
-والقول بكراهة العزل قول للعديد من الصحابة كأيب بكر عمر وعلي وابن مسعود.
-أن يف ذلك مجع بني األحاديث ،فإعمال الدليلني أوىل من إمهال أحدمها.
-وإذن املرأة ملا هلا من حق يف اإلجناب وكذلك يف االستمتاع فكل ذلك من مقاصد الزواج ،يقول ابن عبد الّب (٤٦٣ه )" :وقد روي يف هذا الباب
حديث مرفوع يف إسناده ضعف ولكن إمجاع احلجة على القول مبعناه يقضي بصحته".
اخلامتة
-٢التعريف املختار لألثر هو :النتيجة املرتتبة على التصرف ،ويطلق عليه بعض الفقهاء األحكام ،فيقولون :أحكام النكاح مثالً ،يريدون آاثره.
-٣تبني من خالل العرض والتحليل أن لعلماء األصول مناهج متعددة يف الكتابة عن النهي وما يتضمنه من مسائل.
-٤القول الراجح يف داللة النهي اجملرد ،هو قول اجلمهور القائل :أبن النهي اجملرد يفيد التحرمي.
-٥للنهي اجملرد تطبيقات يف األحوال الشخصية ،كاخلطبة على اخلطبة ،وصوم الزوجة تطوعاً بغري إذن زوجها ،وقد تبني أن لالختالف األصوِل أثراً يف
االختالف الفقهي.
-٦للنهي صوارف عن داللته األصلية ،قد تكون من ذات السياق وقد تكون من سياق آخر ،سواء من فعل النيب ﷺ وإقراره ،أم ابلنظر إىل املقصد
من خالل املعىن.
-٧ولصوارف النهي تطبيقات يف األحوال الشخصية ،كحكم العزل يف حق الزوجة ،وخروج املعتدة.