Professional Documents
Culture Documents
ضوابط العمل بمقاصد الشريعة في الممارسات الاجتهادية
ضوابط العمل بمقاصد الشريعة في الممارسات الاجتهادية
1
د .عبد الرءوف محمد أمين
مستخلص البحث
1
()حماضر أول بكلية الرتبية وشؤون التدريس جامعة عالء الدين اإلسالمية احلكومية مكاسر-
إندونيسيا دكتوراه يف أصول الفقه جامعة األزهر بالقاهرة-
ضوابط العمل
توطئة
ينبغي اإلش ارة –يف البداي ة -إش ارة س ريعة إىل مفه وم االجته اد املقاص دي
رغم وضوح املفهوم نتيجة لوفرة الكتابات املقاصدية يف األوساط الثقافة اإلسالمية.
أقص د باالجته اد املقاص دي ه و أن يلتفت اجملته د إىل مقاص د الش ريعة واعتباره ا،
والعمل هبا يف ممارساهتم االجتهادية سواء على مستوى تفسري النصوص واألحكام
أو على مس توى تطبيقه ا( ،)1وه ذا نتيج ة لنظري ة فقهي ة إن املمارس ة االجتهادي ة ىف
جماالهتا املختلف ة س واء ك ان فقه ا أو فت وى أو قض اء أو حكم ا ينبغى أن تستحض ر
األم ور الثالث ة النص أو النص وص املتعلق ة باملوض وع ومقاص د الش ريعة يف ذل ك
املوضوع والواقع الذي يالبس ذلك املوضوع .بناء على هذا فإن االجتهاد الذى ال
يستحضر يف ذهنه هذه األمور يكاد خيالف شريعة اهلل.
()يراجع نور الدين اخلادمي ،االجتهاد املقاصديجـ 1ص 21كتاب األمة ،قطر1998 :م. 1
()أمحد الريس وين ،الفك ر املقاص دي :قواع ده وفوائ ده ص 81ط.دار اهلادي-ب ريوت، 2
ط.أوىل200،م.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 2
مستخلص البحث
فاملقاص د بأسس ها ومراميه ا ،وبكلياهتا ،م ع جزئياهتا ،وبأقس امها ومراتبه ا،
ومبس الكها ووس ائلها ،تش كل منهج ا متم يزا للفك ر والنظ ر ،والتحلي ل والتق ومي،
واالستنتاج والرتكيب.
وت ربز أمهي ة التفك ري واملنهج املقاص دي أيض ا يف أن املقاص د تزي ل الكل ل
وتس دد العم ل .فاإلنس ان عن دما يع رف م ا يقص د إلي ه ،يه ون علي ه م ا جيد.
وبالعكس ،حني يقدم اإلنسان على عمل وهو ال يدري ملاذا هذا العمل ،وال يدري
النتائج اليت يسعى إىل بلوغها والفوائد اليت يعمل جلنيها وحتصيلها ،وال يدري قيمة
ما هو فيه وجدوى ما هو بصدده ،هذا اإلنسان عادة ما يصاب يف عمله وسعيه
بتحري واضطراب ،أو بكلل وملل ،أو بضجر وانقطاع.
قي ود وض وابط وقواع د وش روط ،ألن ع دم تقيي ده ي رتتب علي ه خماطر ،والتوغ ل يف
التوسع فيه يؤدي حتما إىل حماذير ونتائج غري مرجوة.
ومن املخاطر اليت قد تصاحب االجتهاد املقاصدي حالة عدم ربطه بضوابط
منهجية الزمة وثوابت شرعية أنه قد يشكل منزلقا خطريا ينتهي بصاحبه إىل التحلل
من أحك ام الش ريعة ،أو تعطي ل أحكامه ا باس م املص احل ،وحماص رة النص وص باس م
املصاحل ،واختالط مفهوم املصاحل مبفهوم الضرورات ،يف حماولة إلباحة احملظورات،
فُتوّق ف األحكام الشرعية تارة باسم الضرورة ،وتارة باسم حتقيق املصلحة ،وتارة
حتت عن وان ال نزوع إىل تط بيق روح الش ريعة لتحقي ق املص لحة ،فيس تباح احلرام،
وُتَو َّه ُن القيم ،وتغري األحكام وتعطل ،ويبدأ االجتهاد من خارج النصوص ،ومن مث
ي ربز التفسري املتعسف للنصوص من هذا االجته اد اخلارجي ،وهبذا تصبح نصوص
الكت اب والس نة ال يت م ا ش رعت إال لتحقي ق املص احل ،وال يت ك انت ال دليل والس بيل
لبن اء االجته اد املقاص دي ،عقب ة أم ام حتقيـق املص احل ،ل ذلك ال ب د من إيقافه ا
واخلروج عليه ا يف حماول ة لفص ل العق ل عن مرجعي ة ال وحي ،واس تقالله بتق دير
املصاحل واملفاسد ،والتحسني والتقبيح ،حبيث يصبح مقابال للوحي ،بدل أن يكون
قسيما له ،مهتديا به ،منطلقا منه(.)1
()عم ر عبي د حس نة ،مق االت يف التفك ري املقص دي ص ،32ط.املكتب اإلس المي-ب ريوت، 1
ط.أوىل1999 ،م.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 4
مستخلص البحث
ن وع من اإلف راط والتفري ط ال جمال هلم ا عقال وش رعا وبالت ايل ال ميكن أي ي أيت
بنتائج مرجوة يف جمال احلياة والدين والتدين (.)1
() يراجع :املصدر السابق ،ص 33؛ورقية طه جابر ،أثر العرف يف فهم النصوص،ص 275 1
ولعل أول من أشار إىل قضية ضبط االجتهاد املقاصدي بشكل خمتصر هو
اإلمام ابن عاشور يف كتابه "مقاصد الشريعة"( ،)1مث تبعه بشكل بارز د.نور الدين
اخلادمي يف كتاب ه " االجته اد املقاص دي :حجيت ه ،وض وابطه ،وجماالت ه"( .)2مث ج اء
بع ده د.أمحد الريس وين ليق وم ببل ورة القض ية بش كل أوض ح ممن س بقه يف كتاب ه "
الفك ر املقاص دي :قواع ده وفوائ ده"( ،)3وفعلت مثل ه د .رقي ة ط ه ج ابر العل واين يف
كتاهبا :أثر العرف يف فهم النصوص(.)4
يف ضوء ما سبق ،فإن استدعاء الضوابط والمعايير في التوجه المقاصدي
يمكن أن يس //هم في إح //داث نقل //ة منهجي //ة ،يتم من خالله //ا التح //ول من مرحل //ة
التأص//يل والترك//يز على أهمي//ة المقاص//د ودوره//ا في االجته//اد إلى مرحل//ة بن//اء
وتك//وين ض//وابط القب//ول وال//رفض ألي تأوي//ل أو اجته//اد ي//روم استحض//ار النهج
المقاصدي.
()ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،ص ،271ط .دار النفائس-األردن -ط .ثانية ،ط2001 . 1
األوقاف والشؤون اإلسالمية ،قطر-كتاب األمة عدد 65،66ط .أوىل . .1998إال أننا
نالح ظ من حماول ة اخلادمي لض بط االجته اد املقاص دي أهنا م ا زالت يف اإلط ار التقلي دي،
حيث إن ه أرج ع ض وابط االجته اد املقاص دي إىل ض وابط األدل ة التبعي ة من مص لحة وع رف
وحنومها على اعتبار أن املقاصد ليست بدليل مستقل بذاته بل هي تابعة لغريها .وهذا يبدو
أن ه ال جيد م ا ي ربره ويقوي ه ،خاص ة إذا الحظن ا املي ول املقاص دية الواس عة يف خمتل ف القض ايا
املطروحة .وعلى الرغم من وجود نوع من الوجاهة يف حماولة اخلادمي إال أنه ال ميكن حبال
من األحوال القول بأن ضوابط االجتهاد املقاصدي هي نفس الضوابط اليت يتقيد هبا األدلة
التبعي ة كاملص لحة مثال خاص ة إذا أخ ذنا يف االعتب ار أن ش رعية املص لحة أن تك ون يف إط ار
وهدي املقاصد.
()الريسوين ،الفكر املقاصدي :قواعده وفوائدهص ،74-33مرجع سابق. 3
() رقية طه جابر العلواين ،أثر العرف يف فهم النصوص ص ،270مرجع سابق. 4
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 6
مستخلص البحث
وبناء على ذلك سأتناول هذا املوضوع سائال اهلل التوفيق والسداد فأقول:
الفك ر املقاص دي بص فة عام ة ه و منط يف الفهم والتص ور لألم ور ،ومنهج يف النظ ر
والتفكري يأيت كنتيجة حِل صيلة معرفية متكاملة تشبع هبا يف فهم الشريعة وأهدافها
ومراميها وتزود بثروة من اِحلَك ِم واملقاصد العامة واخلاصة ،الكلية واجلزئية للشريعة
اإلسالمية .واالجتهاد املقاصدي ال خيتلف كثريا عن الفكر املقاصدي ،إذ إنه بكل
إجياز واختص ار يعت رب عمال مبقاص د الش ريعة التفات ا إليه ا ،واعت دادا هبا يف عملي ة
االجتهاد الفقهي وممارسة االستنباط(.)1
ضبط اإلمام ابن عاشور املقاصد ضبطا دقيقا مل يسمح مبرور املقاصد غري
اخلاضعة لتلك الضوابط ،فقال-:
() يراج ع:الريس وين ،الفكر املقاص دي :قواع ده وفوائده ،ص ،33مرجع س ابق؛واخلادمي، 1
إذن ،الضوابط اليت تضبط املقاصد الشرعية حبيث ال يستحق معىن من املعاين
أن يك ون مقص دا ش رعيا إال إذا ك ان منض بطا هبا أربع ة وهي :أن يك ون املقص د
ثابتا ،وأن يكون ظاهرا ،وأن يكون منضبطا ،وأن يكون مطردا( .)4وفيما يلى بيان
لتلك الضوابط بإجياز:
-1الثبوت :وفسر اإلمام ابن عاشور ذلك بقوله(( :أن تكون تلك املعاين
جمزوم ا بتحققه ا أو مظنون ا ظن ا قريب ا من اجلزم)) ( .)5وه ذا يفي د أن املقاص د كلم ا
حتقق ما يناسبها من األحكام جيب تأكد حصوهلا وال يقبل ختلفها إال لضرورة ،ألن
كثرة التخلف جتعل املقصد بعيدا عن صفة الثبات وبالتايل ال ميكن اجلزم به وال بناء
األحكام عليه .فاملقصد من تشريع القصاص مثال هو حفظ مهج اخللق من الضياع
()المع //اني الحقيقي //ة :هي ال يت هلا َحَتُّق ٌق يف نفس ها حبيث ت درك العق ول الس ليمة مالءمته ا 1
للمصلحة أو منافرهتا هلا ...إدراكا مستقال عن التوقف على معرفة عادة أو قانون ،كإدراك
كون العدل نافعا وكون االعتداء على النفوس ضارا (.ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،مرجع
سابق ،ص .)251
()المع//اني العرفي//ة العام//ة :هي اجملرب ات ال يت ألفته ا نف وس اجلم اهري واستحس نتها استحس انا 2
ناشئا عن جتربة مالءمتها لصالح اجلمهور كإدراك كون عقوبة اجلاين رادعة إياه عن العود
إىل مثل جنايته ورادعة غريه عن اإلجرام (املصدر السابق ص .)252
()ابن عاشور ،مقاصد الشريعة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص .251 3
()جتدر اإلش ارة إىل أن الض وابط ال يت وض عها ابن عاش ور ش املة للمقاص د العام ة واخلاص ة. 4
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 8
مستخلص البحث
وأج زاء أجس ادهم من التل ف .فكلم ا التزمن ا بتط بيق القص اص عن د ح دوث م ا
يقتضيه كلما حصلنا على املقصد الثابت يف ذلك الذي قلناه(.)1
-2الظه//ور :أن يك ون املقص د واض حا حيث ال ختتل ف أنظ ار اجملته دين يف
االجتاه إليه وتشخيصه بعيدا عن كل التباس أو مشاهبة ،مثل اتفاقهم على أن تشريع
القصاص حلفظ النفوس ،وتشريع قطع يد السارق حلفظ األموال ،وكذلك تشريع
النكاح مبواصفات معينة وشروط حمَّد َدة حلفظ النسب ،وحىت ال خيتلط هذا مبعىن
احلفظ احلاصل باملخادنة واإلالطة وهي إلصاق املرأة الَبِغِّي احلمل الذي تعلقه برجل
معني ممن ضاجعوها(.)2
()يراج ع :ابن زغيب ة ،مقاص د الش ريعة ص ،88ط .دار الص فوة-الق اهرة ط .أوىل ،ط. 1
1996م
()ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،مرجع سابق ،ص .253 2
()يراج ع :ابن عاش ور ،مقاص د الش ريعة ،مرج ع س ابق ،ص ،253ابن زغيب ة ،مقاص د 3
-4االطراد :قال اإلمام ابن عاشور يف بيان وتوضيح هذا الضابط(( :أن ال
يك ون املع ىن خمتلف ا ب اختالف أح وال األقط ار والقبائ ل واألعص ار ،مث ل وص ف
اإلسالم والقدرة على اإلنفاق يف حتقيق مقصد املالءمة للمعاشرة املسماة بــ"الكفاءة"
املش روطة يف النك اح يف ق ول مال ك ومجاع ة من الفقه اء خبالف التماث ل يف اإلث راء
والقبلية.
وقد ترتدد معان بني كوهنا صالحا تارة وفسادا مرة أخرى ،أي بأن اختل
منها وصف االطراد .فهذه ال تصلح العتبارها مقاصد شرعية على اإلطالق أوعدم
اعتباره ا ،ب ل املقص د الش رعي فيه ا أن توك ل إىل نظ ر علم اء األم ة ووالة أموره ا
األمن اء على مص احلها من أه ل احلل والعق د ليعين وا هلا الوص ف اجلدير باالعتب ار يف
أح د األح وال دون غ ريه .وذل ك مث ل القت ال واجملادل ة .فق د يك ون ض ررا إذا ك ان
لشق عصا األمة ،وقد يكون نفعا إذا كان للذب عن احلوزة ودفع العدو ،أال ترى
أن اهلل تع اىل ق ال :
،)1(فجع ل قت اهلم-
وهو احلرابة-موجبا للعقاب ألهنا فساد ،وقال تعاىل
،)2(فأعلمن ا أن ه ذا
التقاتل ضرر ،فلذلك أمر البقية باإلصالح بينهما النتهاء القتال .مث قال تعاىل :
()املائدة ،جزء اآلية.33 : 1
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 10
مستخلص البحث
هذه الضوابط سيؤدي االلتزام هبا والعمل يف إطارها-كما أشار إليه اإلمام
ابن عاش ور-إىل حتص يل املقاص د الش رعية احلقيقي ة ،وبالت ايل إىل اس تبعاد الوق وع يف
األوه ام والتخيالت ال يت ق د ت زين للب احث عن املقاص د مقاص د ال يعت د هبا يف
الش ريعة .وأت رك اإلم ام ليع رض علين ا مث الني خلط ورة األوه ام والتخيالت يف جمال
البحث عن املقاصد ،قال:
مثاله :النهي عن غسل الشهيد يف اجلهاد ،لقول رسول اهلل يف الشهيد:
«إنه يبعث يوم القيامة ودمه يثعب ،اللون لون الدم والريح ريح املسك»( ،)4فيتوهم
كثري من الناس أن علة ترك غسله هي بقاء دمه يف جروحه يبعث هبا يوم القيامة.
وليس كذلك ،ألنه لو غسل جهال أو نسيانا أو عمدا ملا بطلت تلك املزية ،وجلعل
اهلل ل ه يف جرح ه دم ا يثعب ش هادة ل ه بني أه ل احملش ر .ولكن عل ة النهي هي أن
()أخرجه البخاري يف صحيحه ،كتاب :اجلهاد والسري ،باب :من خيرح يف سبيل اهلل ،رقم: 4
،2649ومس لم يف ص حيحه ،كت اب :اإلم ارة ،ب اب :فض ل اجله اد واخلروج يف س بيل اهلل،
رقم ،1876 :ومالك يف املوطأ كتاب :اجلهاد ،باب :الشهداء يف سبيل اهلل ،رقم.984 :
ويثعب معناه :يسيل وينهمر أو ينفجر.
الناس يف شغل عن التفرغ لغسل موتى اجلهاد فلما علم اهلل ما حيصل من انكسار
خواطر أهل الصف حني إصابتهم باجلراح من بقاء جراحتهم ومن دفنهم على تلك
احلالة ،وعلم انكسار خواطر أهليهم وذويهم عوضهم اهلل تلك املزية اجلليلة))....
(.)1
فالش ريعة باس تقراء نصوص ها وأحكامه ا ومقاص دها ت رفض مجي ع أش كال
الومهي ات وتطلب من املكلفني اجتناهبا إال إذا اقتض ت الض رورة ذل ك ش ريطة أن ال
يصح بناء األحكام على تلك الضرورة .قال ابن عاشور يف توضيح هذه املسألة:
ه ذا ،وعلى ال رغم من أمهي ة ه ذه الض وابط ال يت أسس ها ابن عاش ور إال أن
قض ية ض بط االجته اد املقاص دي-يف تق دير الب احث-م ازالت حباج ة إىل التوس ع،
()ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،مرجع سابق ،ص ،257-256ويراجع أمثلة الومهيات أثناء 1
()أخرج ه البخ اري فس ص حيحه ،كت اب :الزك اة ،ب اب :الرج ل يش رتي ص دقته ،رقم: 3
.1419
()ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،مرجع سابق ،ص .258 4
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 12
مستخلص البحث
علما بأن الضوابط العاشورية ميكننا القول بأهنا ال تعدو أن تكون ضوابط مقاصدية
أي ضبط املعاىن اليت يتوصل إليها الباحث عن املقاصد حىت تكون مقاصد معتربة أو
غ ري معت ربة ،أم ا حنن فبص دد احلديث عن ض بط االجته اد أو الفك ر املقاص دي.
وبعبارة أخرى أن ابن عاشور كان يعاجل الضبط النظري لالجتهاد املقاصدي وحنن
يف إط ار معاجلة الض بط التط بيقي للممارس ة االجتهادي ة املقاص دية .والف رق بني
األمرين أنه قد يكون معىن من املعاين مقصدا معتربا بالشروط اليت تتوفر فيه إال أنه
يف حالة من األحوال ال يلجأ إليه وال يؤثر يف قضية فقهية -جمال البحث -بسبب
من األسباب الىت ترجع إىل الضوابط والقواعد املقاصدية املقررة ،شأن األمرين شأن
فهم النص وص وتطبيقه ا .األم ر ال ذي جيع ل الب احث ي دعو إىل زي ادة االهتم ام هبذه
القض ية وتك ثيف اجله ود فيه ا ،وهي قض ية ال نكون مب الغني إذا اعتربناها من أكثر
مث ار اجلدل واخلالف الواس ع يف الفك ر اإلس المي بش كل ع ام ويف جمال الفق ه
اإلسالمي املعاصر بصورة خاصة.
تأسيس ا على ذل ك ،ح اول بعض الب احثني املعاص رين إع ادة النظ ر يف قض ية
ضبط االجتهاد املقاصدي رغم ضآلة حجم حماوالهتم وجهودهم بسبب ما ذكرناه
من حداثة املوضوع املقاصدي.
ولع ل أول من ب ادر إىل إع ادة النظ ر يف القض ية يف حبث مس تقل -حس ب
اطالعي وتتبعي -ه و ال دكتور ن ور ال دين اخلادمي يف كتاب ه "االجته اد املقاص دي:
حجيت ه ،ض وابطه جماالت ه .ه ذه احملاول ة رغم ِعْلِم َّيِتَه ا وص الحيتها يؤخ ذ عليه ا أهنا
حماول ة تقليدي ة ،حيث إن اخلادمي ُيْر ِج ع ض وابط االجته اد املقاص دي إىل ض وابط
األدلة التبعية من مصلحة مرسلة وعرف إضافة إىل ضوابط التعليل .وهذا عنده يعود
إىل أن املقاص د الش رعية ال تس تقل عن تل ك األدل ة ب ل تس تفاد منه ا وتس تمد منه ا
شرعيتها ،وبالتايل فإن األمر طبيعي أن تكون املقاصد منضبطة مبا تنضبط به تلك
األدلة.
وض// /وابط ه// /ذه األدل// /ة التبعي// /ة :أن ال تع ارض نصوص ا قطعي ة الثب وت
والداللة واإلمجاع القطعي( )1وأن ال تعارض قياسا ،وأن ال ُتَفِّو ت مصلحة أهم منها
أو مس اوية هلا( ،)2وهي-بص فة عام ة-ض وابط أي ن وع من االجته اد املص لحي أو
النظر املصلحي.
تعقيب:
إن ض بط االجته اد املقاص دي بالش روط الس ابقة وإن ك ان ل ه مربرات ه ومس وغاته
العلمية واملنهجية اليت منها أن االجتهاد املقاصدي يكون يف جزء كبري منه اجتهادا
مصلحيا ،حيث إن املصلحة متثل ركيزة حمورية يف نظرية املقاصد على غرار ما سبق
عرض ه يف نظري ة املص لحة واملفس دة ،إال أن الض وابط هبذه الص ورة فيه ا ن وع من
حتجيم قض ية املقاص د م ع أنن ا على دراية تام ة ب أن نظري ة املقاصد أك رب حجم ا من
نظرية املصلحة ،ال سيما إذا أخذنا بعني االعتبار وجوب تأطري املصلحة برجوعها
إىل حفظ مقاصد الشريعة وبالتايل تستحق أن تطلق عليها مصلحة شـرعيـة .إضـافة
إىل أن تطبيق النصوص حىت ولو كانت قطعية الداللة والثبوت جيب أن يكون وفق
()اإلمجاع ق د يك ون قطعي ا وق د يك ون ظني ا .واإلمجاع القطعي ه و اإلمجاع الق ائم على 1
مدلوالت النص وص القطعية يف داللته ا وثبوهتا وعلى مصاحل دائم ة كاإلمجاع على العب ادات
واملقدرات وغريها كاإلمجاع على حترمي اجلدة كاألم ،وحترمي اجلمع بني املرأة وخالتها ،وحترمي
ش حم اخلنزير وت وريث اجلدة لألب م ع اجلدة لألم وغ ري ذل ك من املس ائل ال يت حتق ق فيه ا
اإلمجاع القطعي .أم ا االمجاع الظ ين فه و م ا يق وم على أحك ام متغ رية بتغ ري الزم ان واملك ان
تثبت أبديتها وبقاؤها ،فإنه خاضع واحلال ،ويكون مبنيا على مصاحل ظرفية مل
للتع ديل والتغي ري مبوجب املص لحة احلادث ة .يراج ع :اخلادمي ،االجته اد املقاص دي ،مرج ع
سابق ،ص .41 -40
()يراجع :املصدر السابق ص .56-33 2
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 14
مستخلص البحث
ما قلناه فيما سبق بالتطبيق املقاصدي للنصوص .وهذا ال يعىن حبال من األحوال أن
املقاص د جيب أن تتحل ل من النص وص حال ة التط بيق ب ل معن اه ال يع دو أن يك ون
تطبيقها منسقا مع املقاصد .فضابطية النصوص هبذا الشكل وهبذه البساطة قد حيتاج
إىل الضبط أكثر مما صنعه اخلادمي.
وأب رز إش كالية تكمن يف الض وابط اخلادمي ة ه و وض عه القي اَس كمعي ار
لشرعية االجتهاد املقاصدي .هذه قضية منهجية إن مل تكن غري مشروعة فهي قضية
غ ري جاري ة على تص رفات بعض األص وليني .ومن مث أص بحت قض ية خالفي ة.
ولتوض يح األم ر أت رك ردود فع ل بعض الب احثني على ال دكتور س عيد رمض ان
البوطي-عندما وضع موافقة القياس شرطا لشرعية املصلحة املرسلة-الذي أعتقد أن
اخلادمى قد استلهم فكرته عنه ،أو قرأ ما عند البوطي يف كتابه" ضوابط املصلحة "
على األقل.
يقول د .حممد بلتاجي(( :إن استقراء فقه مالك يدل على أنه كان أحيانا
ي راعي املص لحة وإن عارض ت القي اس ،ومن مث ال أواف ق على ض رورة الض ابط
الراب ع-أي ش رط موافق ة املص لحة القي اَس -فيم ا ذكره الب وطي .وأرى أن م ا ذكره
الش اطيب ص حيح يف أن مقتض ى عم ل مال ك باالستحس ان رجوع ه إىل تق دمي
االستدالل املرسل على القياس ،حينما يكون إجراء القياس يف مسألة ما مؤديا إىل
فوت مصلحة أو جلب مفسدة ،أو مؤديا إىل احلرج بالناس ،فيستثين موضع احلرج
من أصل العمل بالقياس.
وليس هناك مقرر شرعي أو أمر متفق علي ه حيول دون الرجوع للمصلحة
وترك القياس ،إذ ليست مراعاة القياس-كمصدر تشريعي مستقل-أوىل من مراعاة
املص لحة املندرج ة يف مقاص د الش ارع ومقررات ه العام ة ،وخباص ة حني ي ؤدي اتب اع
القي اس إىل نقيض ذل ك .وليس ت األقيس ة الفقهي ة ال يت ختط ر على ذهن الفقي ه أم را
مَنّز ال منصوصا عليه كالقرآن والسنة حبيث تصبح هلا هذه األسبقية املطلقة يف جمال
تع ارض األدل ة؛ إذ ليس القي اس يف هناي ة األم ر إال نتيج ة جله ود الفقي ه واجته اده يف
املسألة ،وهكذا شأن املصلحة املرسلة أيضا ،فليس للقياس إذن هذه األسبقية املطلقة
اليت للنصوص.
أم ا الق ول ب أن القي اس الص حيح ال ميكن أن يع ارض املص لحة املرس لة
الص حيحة فه و ق ول نظ ري غ ري مقب ول؛ إذ إن االعتب ارات التش ريعية الناجتة عن
االجتهاد كثريا ما تتعارض يف نظر الفقيه يف صورة وجهات نظر متعددة ومتعارضة
حيت وى ك ل منه ا على م ا يؤي د األخ ذ ب ه ،إال أن ه ينتهي ت رجيح أح دها ب النظر إىل
أمور معينة يراعيها.
هذه احملاولة اليت دافع من خالهلا د .البوطي عن حتمية ترك املصلحة املرسلة
يف حالة معارضتها للقياس عقب عليها د .البلتاجي بقوله:
() يراجع :رمضان البوطي ،ضوابط املصلحة ،ص ،207ط .مؤسسة الرسالة-بريوت ،-ط. 1
سادسة 1992م.
() املصدر السابق ص .211 2
()حمم د بلت اجي ،من اهج التش ريع اإلس المي يف الق رن الث اين اهلج ري ،ص ،459-458ط. 3
بع د ه ذه العب ارات الواض حة ،واالس تدالل املنطقي ال ذي بني من خالل ه د.
بلت اجي نظريت ه ،أعتق د أن ين ال أحت اج إىل زي ادة يف توض يح ع دم حتمي ة األخ ذ
بالقي اس إذا أدى التمس ك ب ه إىل ض ياع مص لحة ش رعية معت ربة أو جلب مفس دة
وضرر .كما ال أحتاج إىل زيادة يف بيان أن الضوابط اخلادمية كانت تصاغ بصورة
غري مركزة ،األمر الذي يدعو إىل ضرورة تكثيف اجلهود يف سبيل إثراء قضية ضبط
االجتهاد املقاصدي.
هبذه املناسبة ،قد أضطر إىل تكرار منهج االجتهاد الذي تبناه اإلمام الشافعي
حسب نقل إمام احلرمني اجلويين عنه يف الربهان .هذا املنهج هو اآلخر يؤكد على
أن االلتفات إىل مقاصد الشريعة اليت أطلق عليها اإلمام الشافعي (كليات الشرع)
أوىل من األخ ذ بالقي اس ،حيث يلتفت اجملته د يف ممارس تة االجتهادي ة إىل مقاص د
الشريعة-وفق ما عليه اإلمام الشافعي-أوال قبل اخلوض يف عامل القياس(.)2
() يراج ع :اإلم ام اجلوي ىن ،الربه ان ىف أص ول الفق ه ،جـ 2ص ،875-874ط .دار الوف اء 2
املنصورة ،ط .ثالثة ط1992 .م ،ت :د .عبد العظيم حممود الديب.
ه ذه ض وابط املص لحة املرس لة ال يت أرج ع إليه ا اخلادمي ض وابط االجته اد
املقاص دي .أم ا ض وابط الع رف والتعلي ل فهي ال تق ل غموض ا عن نظريمها ،ب ل رمبا
أكثر غموضا وبساطة بالنسبة إىل ضوابط العرف.
في ض //وء م //ا س //بق عرض //ه ،ف إنين أَو ُّد أن أش ري إىل بعض األط ر العام ة أو
القواعد اليت ينبغي أن يلتزم هبا االجتهاد املقاصدي حىت ال يقع يف مستنقع اإلفراط
والتفريط .وهذه القواعد نتيجة الستنتاج ما كتب يف جمال املقاصد.
أرى أن هذه قض ية مركزي ة ينبغي أن تبذل فيه ا اجله ود املكثف ة يف الس احة
الفقهية بوجه خاص يف سبيل جتلية أبعادها إلثراء االجتهاد املقاصدي وضبطه ،هذا
يعود إىل إشكالية منهجية تكمن يف أن املمارسة االجتهادية اليت يقوم هبا اجملتهد قد
تصل يف قضية معينة-مناط البحث-إىل أنه جيب أن يراعى فيها معىن التعبد مع أن
الالئق هو إحلاق معىن التعليل هبا ،والعكس صحيح.
ومنشأ هذا كما أعتقد هو التقسيم الثنائي ملعىن االجتهاد املقاصدي .ألن
االجتهاد املقاصدي له معنيان:
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 18
مستخلص البحث
المع//نى الث//اني :البحث عن أس رار التص رفات التش ريعية وحكمه ا ومعانيه ا
يف بعض القض ايا احلكمي ة دون العم ل على تعدي ة تل ك املع اين إىل قض ايا أخ رى
مشاهبة اكتفاء باألشكال واحلدود اليت حددها الشارع.
فمهم ة "االجته اد املقاص دي" األساس ية هي البحث عن األس رار واملع اين
واحلكم التشريعية اعتمادا على قاعدة مقاصدية معتمدة وهي أن مجيع ما يف الشريعة
معلل بعلة وحبكمة عرفها َمْن عرفها وخفيْت على من خفيت عليه .ففي املعىن الثاين
لالجته اد املقاص دي ليس هن اك جمال ملع ىن التعب د (ع دم معقولي ة املع ىن) ،ألن من
ضرورات معىن التعبد يف الشريعة بطالن القاعدة املقررة السابقة .وبالتايل فإن عدم
وجدان بعض الفقهاء أو العلماء حكمة بعض األحكام سواء كانت يف العبادات أو
املعامالت ليس مربرا شرعيا هلدم القاعدة .فاليقني بأن مجيع ما يف الشريعة له حكمة
معين ة من قواع د االجته اد املقاص دي املعت ربة ،نص علي ه نص وص كث رية من الق رآن
والسنة.
هذه هي الوظيف ة الرئيسة لالجتهاد املقاصدي مبعنييه .ويف هذه النقطة ،ال
نكاد جند مشكلة منهجية ،حيث يكاد جيمع اجلميع على هذا املعىن(.)1
بع د تقري ر ه ذه املهم ة األساس ية لالجته اد املقاص دي ج اءت املش كلة يف
املهمة الثانوية له أال وهي:
()أحس ن م ا كتب يف االجته اد املقاص دي هبذا املع ىن حس ب تق ديري ه و م ا كتب ه ال دكتور 1
أمحد الريسوين يف :الفكر املقاصدي :قواعده وفوائده ،حيث إنه انتهى فيه إىل أن األصل يف
مجي ع م ا يف الش ريعة-عب ادات ومع امالت وع ادات ومناكح ات وعقوب ات-معل ل بعل ة ول ه
حكمته ومقصده .هلذا فال أساس ملا قالته د .رقية من أن الشاطيب ميز بني أحكام العبادات
واملعامالت ،فاألصل يف أحكام املعامالت التعليل ،كما أن األصل يف أحكام العبادات التعبد
وع دم االلتف ات إىل التعلي ل ،وتبع ه يف ذل ك مجي ع من تط رق لدراس ة املقاص د يف العص ر
احلديث .يراجع :د.رقية طه جابر ،أثر العرف يف فهم النصوص ،مرجع سابق ،ص .276
.1تعدي//ة المع//اني والِح َك م واألس//رار المعث//ور عليه//ا في قض//ية معين//ة إلى قض//ايا
أخرى مشابهة من حيث المعنى والحكمة لتأخذ حكمها بس/بب اتحادهم/ا
في هذا المعنى وتلك الحكمة.
.2إدارة األحكام الش/رعية م//ع مقاص/دها وحكمه/ا وج/ودا وع/دما وإج/راء ه/ذه
القاع//دة كم//ا س//بق في العب//ادات والمع//امالت .هن//ا نج//د مش//كلة منهجي//ة
ضخمة ما زالت هي محل اهتمام الباحثين اإلسالميين من جميع األوس//اط
والخلفيات.
إن املشكلة األساسية يف هذه النقطة هي :ما هو املعيار أواألصل املتعامل به
يف النظر إىل أحكام الشريعة؟ هل األصل هو التعبد أو التعليل؟ .أو بعبارة أخرى:
إذا أراد جمته د م ا أن حيكم يف قض ية م ا ،فم ا هي املع ايري ال يت جيب أن حيتكم إليه ا
واليت تتحكم يف أن هذه القضية املبحوث فيها جيب فيها التعبد أو التعليل؟(.)1
()ومن أحسن ما كتب يف هذه القضية تعليل األحكام/د.حممد مصطفى شليب ،ط.دار النهضة 1
العربية ،والتعليل باملصلحة عند األصوليني/أستاذنا الدكتور رمضان عبد الودود عبد التواب ،
ط .دار الكتاب اجلامعي.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 20
مستخلص البحث
أقول :إن معاجلة هذه اإلشكالية تعتمد بشكل أساسي على تقسيم الشريعة
إىل عبادات ومعامالت:
أم ا الـعـبـادات :فاألص ول منه ا جيب أن نتعام ل معه ا مبنهجي ة موح دة مبع ىن
أهنا حقوق الشارع ،خاصة به ،وبالتايل فإن الطريقة الوحيدة ملعرفة هذه احلقوق
َكًّم ا وَك ْيًف ا وزمانا ومكانا هي ما رمسه وحدده الشارع نفسه للعباد ،وبالتايل فإن
وجد شيء من ذلك جيب الوقوف عنده دون تعدية وال قياس .وهذا يعود إىل أن
هذه املنهجية أساس الدين وإىل أن الشارع كان قصده من العبادات مجلة وتفصيال
االمتث ال وال دخل العتبار املص احل الظاهرة فيه ا وإن كان فيها مص احل غري ظاهرة
مجلة ( .)1ويلحق هبا املقدرات والكفارات والكيفيات.
أما فروع العبادات فاألمر فيها تابع لعلماء األمة وفقهائها وجمتهديها .فإذا
ك انت طبيع ة الف روع تقتض ي القي اس والتعدي ة ك ان هبا وإال ف الوقوف عن ده الزم
اس تنادا إىل أن بعض الفقه اء أج ازوا القي اس يف ف روع العب ادات .كتج ويز اجلمهور
قي اس الص الة باإلمياء -س واء أك ان ذل ك باحلاجب ملن عج ز عن القي ام والقع ود
واإلمياء ب الرأس أم ك ان اإلمياء ب الرأس ملن عج ز عن القي ام والقع ود-على ج واز
الص الة قاع دا ملن عج ز عن القي ام جبامع العج ز يف ك ل( .)2أم ا أص ول العب ادات
فيمكن أن منثل هلا بعدم جواز إثبات صالة سادسة ملن أراد أن يستكثر من ذكر اهلل
ع ز وج ل اعتم ادا على أن مقص د الش ارع من الص الة ه و ذك ر اهلل مص داقا لقول ه
تع اىل :
،)3(وع دم ج واز ت رك الص الة ملن أدى الص لوات ومل
()يراجع :حممد مصطفى شليب ،تعليل األحكام ،مرجع سابق ،ص .297 1
() يراج ع :ال رازي ،احملص ول ىف علم األص ول ،جـ 2ص ،423ط .دار الكتب العلمي ة- 2
ب ريوت ،ط .أوىل ،ط1988 .م .؛رمض ان عب د ال ودود عب د الت واب ،دراس ات أص ولية يف
حجية القياس وأقسامه ص ،201-200ط .دار اهلدى للطباعة ،القاهرة ط.1985 .
()طه ،جزء اآلية.14 : 3
يس تطع أن ينتهي معه ا من الفحش اء واملنك ر ،حيث إن مقص د الص الة ال ذي أش ار
إليه قوله عز وجل
)1( ه و هني املص لى عن ارتك اب الفحش اء واملنك ر مل يع د
يتحق ق من أدائه ا .فالص الة هي أص ل للص الة قائم ا والص الة قاع دا ،والص الة إمياء
سواء أ كان باحلاجب أو بالرأس.
ه ذه املنهجي ة ال يت نتعام ل هبا م ع أص ول العب ادات هبذه الص ورة ختتل ف عن
اليت نتعامل هبا مع املعامالت .لكن قبل بيان هذه املنهجية يف املعامالت أوّد أن أشري
إىل نقطة مهمة تتعلق بالنظام الذي نتعامل به مع مجيع جماالت الشريعة ،أال وهي:
أنن ا ال ميكن أن نفهم من وج ود التعليالت يف بعض العب ادات ويف كث ري من
املعامالت نفي التعبد عنها مطلقا .وعلى هذا قال العلماء :إن حق اهلل ال خيلو منه
حكم من األحكام الشرعية ،مبعىن أن جانب التعبد ال خيلو منه حكم شرعي ،سواء
ما اختص بالعبادات أو ما اختص باملعامالت(.)2
()الشاطيب ،املوافقات ىف أصول الشريعة ،مرجع سابق ،جـ 2ص .316 2
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 22
مستخلص البحث
إذن ،استحض ار أص الة التعب د فيم ا اتس مت ب ه أحك ام الش ريعة اإلس المية،
ومراعاته ميكن أن يسهم يف ضبط االجتهاد املقاصدي .فالنزعة املقاصدية يف الفهم
والتأوي ل والفك ر واالجته اد ال تع ين تض ييق مفه وم العب ادة ،واألحك ام املتعلق ة هبا،
والتوس ع غ ري املنض بط يف جمال أحك ام املع امالت على اعتب ار بنيته ا على التعلي ل
وااللتفات إىل املصاحل مطلقا-كما سيتبني بعد قليل ،-وإال فإن التوغل يف إضفاء
التعلي ل باملقاص د يف دائ رة أحك ام املع امالت س يؤدي حتم ا إىل اعتب ار ص فة التب دل
والتغري يف مجيع ما عدا العبادات ،وهذا قد حصل فعال من بعض املعاصرين ،ومن مث
أصبح االجتهاد املقاصدي يسفر عن نتائج غري إجيابية .وعلى الرغم من ذلك فإن
مراعاة التعبد يف خمتلف النواحي ال تعين اجلمود على النصوص يف جمال املعامالت.
ألن النص وص املعامالتي ة ج اءت يف الغ الب جممل ة ،حمددة ألسس ها العام ة وأطره ا
الب ارزة ،والبحث يف تفاص يلها وجزئياهتا مف وض إىل اجملته دين وف ق م ا تقتض يه
املصاحل واألحوال(.)1
بعد هذا ،أبدأ يف توضيح قضية مراعاة االجتهاد املقاصدي للتعبد والتعليل
يف جمال املعامالت ،فأقول :إن املبدأ الذي ينبغي أن يرجع إليه اجملتهد ويلتزم به أثن اء
إج راء االجته اد املقاص دي يف جمال املع امالت ه و أن ه ذا اجملال جمال تك ون الع ربة
فيه ا أوال هي "جلب املص احل ودرء املفاس د" وبعب ارة أدق :إن اجملته د جيب علي ه-
وهو بصدد البحث عن حكم يف هذا اجملال-أن يسعى إىل معرفة املصلحة اليت تبعث
الشارع على تشريع احلكم مث يسعى-بعد املعرفة-إىل حتصيلها بأي طريقة كانت،
وحينئ ذ يواج ه أم رين حمتملني :إم ا أن يك ون احلكم املنص وص علي ه وتطبيق ه على
الواقع قادرا على حتصيل تلك املصلحة أو ال .فإن كان فإنه يف هذه احلالة جيب عليه
أن ميش ي م ع احلكم ويبقي ه كم ا ه و وبالت ايل ال جيوز ل ه أن يعم ل مبص لحة أخ رى
موهوم ة فيغ ري هلا احلكم .وإم ا إن يك ون احلكم ال حيق ق املص لحة ال يت ش رع من
()يراج ع :رقي ة ط ه ج ابر العل واين ،أث ر الع رف يف فهم النص وص ،مرج ع س ابق ص -279 1
.280
أجلها فحينئذ يغري إىل حكم آخر ميكن أن يوقع تلك املصلحة يف الواقع( )2اعتمادا
على القاعدة اليت جيب أن يستحضرها دائما وهي أن املصلحة اليت وجدها وحتقق
منها هي املؤثرة يف تلك القضية اليت أمامها وال يلتفت إىل احتمال أن تكون هناك
مصاحل أخرى-حالة عدم عثوره عليها -تؤثر دون املصلحة اليت انتهي إليها ،اعتبارا
بأن ما يقع التكليف به هو املصلحة املتحققة دون املصاحل احملتملة .واعتمادا كذلك
على أن ح ق اآلدمي يف جمال املع امالت ه و الغ الب م ع وج ود ح ق اهلل في ه ،وأن
وجود حق اهلل فيه ال حيول دون التعدية والقياس كما ذهب إليه بعض العلماء(.)2
هذه املنهجية من شأهنا حتقيق الوئام والتناغم بني النصوص واملصلحة ،وهبا
أيض ا نس تطيع ف ّك إش كالية م ا يت وهم من حص ول ن وع من التع ارض والتن اقض
بينهم ا ،وق د أش رت عن د كالمي عن قض ية املص لحة واملفس دة إىل ه ذه القض ية
وأمثلتها فال أحتاج إىل تكرارها .وهبذه املنهجية أيضا يستطيع اجملتهد ومن يف معناه
من فقيه وقاض ومفت أن يضبط اجتهاده املقاصدي فيكيف هبا جمال املعامالت من
()ال يش كل ه ذا الس لوك املنهجي جتاس را على النص وص وإمنا ه و حتقي ق م ا تقص د إلي ه 1
النصوص ،وال يقال أيضا إن هذا التصرف يتعارض مع مبدأ التعبد الذي يف جمال املعامالت،
ألن التعب د إذا ك ان معن اه حف ظ ح ق اهلل في ه ف إن معن اه اآلخ ر يف ه ذا اجملال ه و االمتث ال ملا
كلفنا اهلل به ،والتكليف هنا هو السعي إىل حتصيل ما يقصد إليه الشارع الذي ما هو إال
جلب املصلحة ودرء املفسدة وهو ما ينبغي أن يكون "األصل" كما أمجع عليه اجلميع.
() هبذه املناسبة جتدر اإلشارة إىل أن التعبد له معنيان ،املعىن األول :يطلق التعبد ويعىن به ما ال 2
يعقل معناه على اخلصوص ،وإن فهمت حكمته إمجاال .واملعىن الثاين :يطلق التعبد ويراد به
ما يكون فيه حق هلل إذا قصده املكلف بالفعل أثيب عليه ويستحق العقاب على تركه ،وهذا
يس تفاد من جمرد ورود الطلب من الش ارع أم را ك ان أو هني ا ،وه ذا املع ىن ال ين ايف القي اس
والتعدية .والذين منعوا التعدية والقياس يف بعض أحكام املعامالت الحظوا معىن التعبد الذي
يكون فيه حق اهلل ،وليس معىن التعبد ب املعىن األول ،ألهنم أنفسهم معرتفون بأن األصل يف
املعامالت هو التعليل .يراجع :شليب ،تعليل األحكام ،مرجع سابق ،ص .299
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 24
مستخلص البحث
تعبد إىل تعليل .وهبا أيضا يستطيع اجملتهد أن يقلل من جماالت التعبد كما أشار إليه
اإلمام ابن عاشور من قبل.
أعتقد أن هذه القضية قضية يف غاية األمهية ينبغي أن تتضافر اجلهود العلمية
يف س بيل جتليته ا ،إذ من ش أهنا أن تس هم يف بل ورة ض وابط االجته اد املقاص دي(.)1
وق د أش رت إىل ه ذه القض ية فيم ا س بق بش يء من التفص يل ،وال أحت اج إىل إع ادة
البحث فيها إال بشيء من زيادة بيانات مهمة ،فأقول:
إذا ك انت قض ية املقاص د-س واء أ ك انت مقاص د الش ارع أم مقاص د
املكلفني-معت ربة حبيث إن املعرف ة التام ة هبا مهم ة وض رورية يف مجي ع جماالت
االجته اد وعلى وج ه اخلص وص يف عملي ة تنزي ل األحك ام على الواق ع ،ف إن البحث
عن أحس ن الوس ائل ال يت حتق ق تل ك املقاص د وال يت حتدد م ا إذا ك انت مقاص د
املكلفني يف تص رفاهتم متوافق ة م ع مقاص د الش ارع أو خمالف ة هلا ،ال يق ل أمهي ة
وض رورة عن املعرف ة املقاص دية .وبالت ايل ف إن اجلم ود على وس ائل بعينه ا ح ىت ول و
أدت إىل إبطال املقاصد يؤدي بدوره إىل خمالفة مقاصد الشارع .وبناء على هذا،
فإن الوسائل غري مطلوبة بشكل دائم بل يكون طلب اإلتيان هبا وعدمه متوقفا على
ما يؤول إليه أداؤها من حتقيق مقاصدها أو عدم حتقيقها .مث إن اإلصرار على وسيلة
معينة توهم حتقيق مقاصد معينة واالنصراف عن وسيلة منصوصة متحققة هو أيضا
() أدرج ال دكتور أمحد الريس وين ه ذه القض ية ض من ض وابط االجته اد املقاص دي .يراج ع: 1
ن وع من خمالف ة مقاص د الش ارع .من هن ا تكمن أمهي ة التمي يز املنهجي بني املقاص د
والوسائل.
ولبيان الفرق بني املقاصد والوسائل يف اخلطاب الشرعي أوّد تـقدمي مثال أال
وهـو قـوله تعاىل :
.)1(فاهلل تعاىل أمر هنا بإعداد ما ميكن من القوة ومن رباط اخليل ،وليس أحد
منهم ا مقص ودا لذات ه ،وإمنا املأمور ب ه األول وه و (الق وة) وس يلة واملأمور ب ه الث اين
وهو (رباط اخليل) وسيلة الوسيلة .واملقصود هو ما عللت به اآلية األمرين معا وه و
إرهاب العدو .مبعىن أن يكون للمسلمني-مبا أعدوه وتزودوا به من قوة ومن وسائل
القوة-هيبة ورهبة يف نفوس أعدائهم ،حىت ال يتجرأوا عليهم بغزو أو عدوان فهذه
هي العل ة واحلكم ة ،وه ذا ه و املقص د ،ووس يلته التمكن من الق وة ،ووس يلة إع داد
القوة املذكورة هي اخليل ورباط اخليل.)2(.
ولع ل من املناس ب مبك ان أن أؤك د على م ا س بقت اإلش ارة إلي ه يف قض ية
املقاص د والوس ائل؛ أوال :أن أحك ام الش رع منه ا م ا ه و مقص ود ومنه ا م ا ه و
وسيلة .ثانيا :أمهية التمييز بني ما هو مقصود بذاته يف الشريعة وما هو وسيلة إىل
املقص ود .ثالث ا :أن الوس يلة نفس ها ق د تتوق ف على وس يلة أخ رى ،وهي وس يلة
الوسيلة ،ويف هذه احلالة تصبح الوسيلة املتوقفة على وسيلة غريها مقصودا بالنسبة
إىل وسيلتها ،فمثل هذه الوسائل هي مقاصد ووسائل يف آن واحد؛ مقاصد بالنسبة
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 26
مستخلص البحث
إىل الوس ائل ال يت دوهنا وقبله ا ،ووس ائل بالنس بة إىل م ا بع دها مما ه و مطل وب هبا.
وميكن تسميتها باملقاصد الوسطية(.)1
وهلذا وجب الق ول بأولوي ة املقاص د على الوس ائل ،حبيث تك ون العناي ة
باملقاصد أكثر منها بالوسائل ،ويكون التساهل واملرونة يف الوسائل أكثر مما ميكن
أن يك ون يف املقاص د .ويك ون التغي ري واالس تبدال يف الوس ائل ال يف املقاص د.
فاملقاصد ثابتة والوسائل قابلة للتغيري والتكييف.
من أمثلة ذلك :زكاة الفطر اليت أمر هبا النيب ،عن أيب سعيد اخلدري
ق ال :ف رض رس ول اهلل ص دقة الفط ر ص اعا من طع ام ،أو ص اعا من ش عري ،أو
صاعا من متر ،أو صاعا من أقط.
هذا النص يثري تساؤال منهجيا يف قضية االجتهاد املقاصدي وهو هل حتديد
هذه األصناف أمر تعبدي مطلوب لذاته؟ أي هل طلب هذه األصناف طلب الغاية
أو املقصد؟ أم أهنا مطلوبة طلب الوسيلة؟ ما املقصود من زكاة الفطر؟ ومعروف أن
املقصد إذا حتدد ظهر أن ما سواه وسائل.
ق ال ابن عب اس يف حتدي د مقص د زك اة الفط ر :ف رض رس ول اهلل
زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ،وطعمة للمساكني(.)2
()أخرجه أبو داود ،كتاب :الزكاة ،باب :زكاة الفطر ،رقم.1609 : 2
يالح ظ-كم ا ي داللنص-أن الزك اة هلا مقص دان :مقص د للم زكي وه و
تطه ريه وتزكي ة نفس ه .ومقص د آلخ ذ الزك اة-الفق ري-وه و س ّد خل ة املس اكني
والفقراء يوم العيد.
وقد أشار إىل هذا التعليل والتقصيد أيضا اإلمام الشوكاين يف نيل األوطار
فق ال(( :والعل ة ال يت ش رعت هلا الفط رة يف الغ ين والفق ري-وهي التطه ر من اللغ و
وال رفث واعتب ار كون ه واج دا لق وت ي وم وليل ة -أم ر ال ب د من ه ألن املقص ود من
شرع الفطرة إغناء الفقراء يف ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطين عن ابن
عمر قال :فرض رسول اهلل زكاة الفطر وقال أغنوهم يف هذا اليوم ،ويف رواية
للبيهقي أغنوهم عن طواف هذا اليوم)) (.)1
()اإلمام الشوكاين ،نيل األوطارجـ 4ص ،258ط .دار اجليل-بريوت ،ط1973.م. 1
()اإلم ام ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب الع املني ،مرج ع س ابق ،جـ 3ص ،12دار اجلي ل- 3
يعترب تقعيد املقاصد بقواعد حمددة ومن مث مراعاة االجتهاد املقاصدي تلك
القواعد أثن اء إجراءات ه االجتهادي ة من الوس ائل ال يت ميكن أن تس هم يف ض بط ذل ك
الن وع من االجته اد وتوجيه ه .ذل ك أن االلتف ات إىل جزئي ات مبع ثرة يف املقاص د
() ملزيد من التفاصيل يراجع :الريسوين ،الفكر املقاصدي ،مرجع سابق ،ص ،72-64 1
()إن ض رورية القواع د املقاص دية بالنس بة لالجته اد املقاص دي أم ر ط بيعي ألن االجته اد 2
املقاصدي حالة خمالفته تلك القواعد ال يعىن إال خمالفته للمقاصد نفسها .شأنه يف ذلك شأن
الفتوى اليت ختالف القواعد الفقهية أو القواعد األصولية ،فكال األمرين ال يصح.
()يالح ظ أن اإلم ام الش اطيب ق د ق ام بتقعي د املقاص د يف مواض ع مبع ثرة يف املوافق ات ،وق ام 3
بتنظيمه ا الريس وين يف مبحث من مب احث "نظري ة املقاص د عن د الش اطيب" ل ه ص -280
،284مث قام الكيالين بإفراد هذه القواعد يف حبث مستقل لنيل درجة دكتوراه حتت عنوان:
قواعد املقاصد عند اإلمام الشاطيب :عرضا ودراسة وحتليال ،ط .دار الفكر للطباعة والتوزيع
والنشر-سوريا -واملعهد العاملي للفكر اإلسالمي .ط .أوىل ،ط2000 .م..
إذن ،أمهية هذه القواعد املقصدية يف عملية ضبط االجتهاد املقاصدي تكمن
يف أهنا تض بط اجلزئي ات والف روع املندرج ة حتته ا .ألن استحض ار الكلي ات
واس تدعاءها عن د دراس ة اجلزئي ات من األم ور املنهجي ة الض رورية ،فال يص ح فص ل
اجلزئي عن الكلي ،ألن اجلزئيات حمكومة بالكليات :قال الشاطيب(( :فمن الواجب
اعتب ار تل ك اجلزئي ات هبذه الكلي ات عن د إج راء األدل ة اخلاص ة من الكت اب والس نة
واإلمجاع والقي اس ،إذ حمال أن تك ون اجلزئي ات مس تغنية عن كلياهتا .فمن أخ ذ
بنص مثال ىف جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ .وكما أن من أخذ باجلزئي معرضا
عن كليه فهو خمطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه(.)1
يف ضوء ما سبق ،نستطيع القول بأن تقعيد املقاصد والتوجه حنو تطبيق تلك
القواعد لالستفادة منها يف التأويل واالستنباط واالجتهاد ميكن أن يسهم يف ضبط
التوج ه املقاص دي يف جمال فهم النص وص وتأويله ا وتطبيقه ا وف ق مقاص ديتها ،وأن
القواع د املقاص دية من الض وابط املهم ة ال يت ينبغي مراعاهتا يف االجته اد املقاص دي
()الش اطيب ،املوافق ات يف أص ول الش ريعة ،مرج ع س ابق،جـ 3ص ، 8ويراج ع ملزي د من 1
التفص يل ح ول مكان ة القواع د املقاص دية يف التش ريع :الكيالين ،قواع د املقاص د ص -102
.122
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 30
مستخلص البحث
اليت ميكن أن يسوق إغفاهلا وإمهال البحث فيها إىل اإلفراط أو التفريط يف هذا اجملال
املهم.
يق ول ابن عب د الس الم ((واملص احل واملفاس د يف رتب متفاوت ة .وعلى رتب
املص احل ت رتتب الفض ائل يف ال دنيا واألج ور يف العق ىب .وعلى رتب املفاس د ت رتتب
الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا واآلخرة)) (.)1
وق د أش ار أيض ا اإلم ام الق رايف إىل أن الق رآن الك رمي ق د أش ار إىل التمي يز
الرتتييب بني املصاحل واملفاسد .فقال (( :وقد ورد الكتاب العزيز باإلشارة إىل الفرق
يف قول ه تع اىل:
.)2(فجع ل للمعص ية رتب ا ثالث ا :كف را،
وفسوقا وهو الكبرية ،وعصيانا وهي الصغرية .ولو كان املعىن واحدا لكان اللفظ
يف اآلية متكررا ال مبعىن مستأنف وهو خالف األصل)) (.)3
()اإلمام العز بن عبد السالم ،قواعد األحكام يف مصاحل األنام جـ 1ص ،29ط .دار الكتب 1
وإذا ما تصفحنا القرآن الكرمي والسنة النبوية سنجد أن هناك نصوصا كثرية
تشري إىل تفاضل املصاحل وتفاوت املفاسد ،كقـوله تعاىل :
ه )1( وقول
)2( ففي ه اتني
اآليتني قرر القرآن الكرمي التفاضل مث أرشد إىل ترجيح ما هو أفضل .وإىل املفاضلة
بني املص احل أش ار قول ه تع اىل:
)3(وقوله
.)4(
أم ا إش ارة الس نة النبوي ة إىل ه ذا فعلى س بيل املث ال قول ه «:أال أخ ربكم
بأفضل درجة من درجة الصيام والصالة والصدقة؟ قالوا :بلى يا رسول اهلل ،قال:
إصالح ذات البني ،فإن فساد ذات البني هي احلالقة»( .)5ومثله كثري.
() أخرج ه أب و داود ،كت اب :األدب ،ب اب :إص الح ذات ال بني ،رقم احلديث.4919 : 5
واحلالقة أي اخلصلة اليت من شأهنا أن حتلق الدين وتستأصله كما استأصل املوسى الشعر.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 32
مستخلص البحث
أم ا بالنس بة إىل ج انب املفاس د وال رتتيب بينه ا حس ب درج ة فس ادها
وض ررها وخطره ا فاآلي ات القرآني ة ال ىت تنص على ذل ك كث رية مث ل قول ه تع اىل:
.)2()1(ومن األح اديث النبوي ة
الواردة يف هذا الشأن قوله « :اتقوا السبع املوبقات :اإلشراك باهلل ،والسحر،
وقت ل النفس ،وأك ل الرب ا ،وأك ل أم وال الي تيم ،والت ويل ي وم الزح ف ،وق ذف
احملصنات الغافالت املؤمنات»(.)3
() فسر اإلمام ابن عاشور هذه اآلية بطريقة تؤكد على تفاضل املفاسد .فقال(( :وقد دلت 2
إض افة (كب ائر) إىل (م ا تنه ون عن ه) على أن املنهي ات قس مان :كب ائر ،ودوهنا ،وهي ال يت
تسمى الصغائر-وصفا بطريق املقابلة-وقد مسيت هنـا سيئـات...وقـال يف آية النجم32 ،
فس مى الكب ائر ف واحش
ومسى مقابله ا اللمم .فثبت ب ذلك أن املعاص ي عن د اهلل قس مان :مع اص كب رية فاحش ة،
ومع اص دون ذل ك ...مث ق ال ((ومن الس لف من ق ال :ال ذنوب كله ا س واء إن ك انت عن
عمد .وعن أيب إسحاق اإلسفراييين أن الذنوب كلها سواء ،مطلقا ،ونفى الصغائر .وهذان
قوالن واهيان ،ألن األدلة شاهدة بتقسيم الذنوب إىل قسمني ،وألن ما تشتمل عليه الذنوب
من املفاس د متف اوت أيض ا .وىف األح اديث الص حيحة إثب ات ن وع الكب ائر ،وأك رب
الكبائر...فمن العجائب أن يقول قائل :إن اهلل مل مييز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجرا
للن اس عن اإلق دام على ك ل ذنب)) ابن عاش ور ،التحري ر والتن وير /جـ ،5/26،27ط .دار
سحنون للنشر والتوزيع -تونس ،د.ت.
() أخرج ه البخ اري يف ص حيحه ،كت اب :احلدود ،ب اب :رمي احملص نات ،رقم6465 : 3
ومسلم يف صحيحه ،كتاب :اإلميان ،باب :بيان الكبائر وأكربها ،رقم. 89 :
بناء على هذا التأصيل القرآين والنبوي لرتاتب املصاحل واملفاسد وتفاضلها
انطلق عامة العلماء يف نظرهم إىل أحكام الشرع وأوامره ونواهيه على أهنا ليست
يف منزلة واحدة كما أهنا ليست ذات أمهية واحدة.
ويف فق ه الفقه اء وتقس يمات األص وليني جند ه ذا املنهج الرتتي يب-ص رحيا أو
ضمنيا -وجند خصوصية الرؤية ووضوح التعبري عند علماء املقاصد .فيعربون عن
هذه املراتب مبراتب املصاحل واملفاسد.
قال اإلمام الشاطيب مثال(( :الفعل يعترب شرعا مبا يكون عنه من املصاحل أو
املفاسد .وقد بني الشرع ذلك ومّي ز بني ما يعظم من األفعال مصلحته فجعله ركنا
أو مفس دته فجعل ه كب رية ،وبني م ا ليس ك ذلك فس ماه ىف املص احل إحس انا وىف
املفاس د ص غرية .هبذه الطريق ة يتم يز م ا ه و من أرك ان ال دين وأص وله وم ا ه و من
فروعه وفصوله ،ويعرف ما هو من الذنوب كبائر وما هو منها صغائر ،فما عظمه
الش رع ىف املأمورات فه و من أص ول ال دين وم ا جعل ه دون ذل ك فمن فروع ه
وتكميالته ،وما عظم أمره ىف املنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهو من
الصغائر وذلك على مقدار املصلحة أو املفسدة))(.)1
وقد أشار اإلمام العز أيضا إىل املعىن بنفس الوضوح فقال(( :مفسدة فوات
األعض اء واألرواح أعظم من مفس دة ف وات األبض اع .ومفس دة ف وات األبض اع
أعظم من مفسدة فوات األموال ،ومفسدة فوات األموال النفيسة أعظم من مفسدة
فوات األموال اخلسيسة ،ومفسدة هالك اإلنسان أعظم من مفسدة هالك احليوان))
(.)2
وتفاضل املص احل وتنازعها ي ّربران النظرية القائلة :بأنه إذا كانت املصاحل-
بأي وجه كانت -معتربًة من حيث النظرية ،فإنه ليس كل مصلحة تراعى ويؤخذ
()الشاطيب ،املوافقات ىف أصول الشريعة ،مرجع سابق ،جـ 1ص. 213 1
()اإلمام العز بن عبد السالم ،قواعد األحكام ىف مصاحل األنام ،مرجع سابق،جـ 1ص .74 2
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 34
مستخلص البحث
هبا ويلتفت إليه ا من حيث التط بيق .ألن املص احل ق د ت تزاحم وعندئ ذ نلج أ إىل
ال رتجيح وه و يقتض ي أن نأخ ذ بالفاض ل ون رتك املفض ول .من هن ا ن درك أمهي ة
وض رورة ت رتيب املص احل واملفاس د ،ومن مث ال تزام اجملته د هبذا ال رتتيب ،وإن انته اك
هذا الرتتيب يعترب خمالفة لضوابط االجتهاد املقاصدي .هذا ومن مقتضيات ترتيب
املصاحل واملفاسد حسب قيمتها ومصلحتها أن نسعى إىل حتصيل األصلح بتفويت
املصاحل وأن ندرأ األفسد بارتكاب املفاسد .وأن ال يكون حتصيل مصلحة ما يرتتب
علي ه تف ويت مص لحة أك رب .وه ذا ه و نفس م ا أك د علي ه اخلادمي ورمض ان
البوطي(.)1
الخاتمة
ه ذه هي قواعد االجته اد املقاص دي وض وابطه ال ىت يك ون إمهاهلا والعبث
هبا وس يلة توص ل إىل اإلف راط والتفري ط يف فهم وتفس ري النص وص وف ق مقاص ديتها
ويف االجتهاد حسب املقاصد .وينبغي اإلشارة إىل أن هذه الضوابط اليت وضعناها
هي نتيجة تتبع وتقٍّص حملاوالت مبعثرة من علماء املقاصد يف مؤلفاهتم ،وال أعتقد
أن هذه احملاولة تناقش موضوعا جديدا خارجا عن ما عند علمائنا األفذاذ ،وما هي
إال توضيح ما طرأ عليه غبار عرب التاريخ .وىف اخلتام أود أن أسجل أهم ما توصلنا
إليه يف البحث وهو كما يلى :
-1إن اعتب ار مقاص د الش ريعة يف املمارس ات االجتهادي ة ب ل يف التفك ري اإلس المي
ليس مهما فقط بل أصبح ضرورة منهجية لتحقيق االجتهاد الذى أراده الشارع ىف
تنزيله األحكام على الوقائع والنوازل واألحداث.
-2وىف س بيل حتقي ق مهم ة االجته اد املقاص دي كم ا أراده اهلل ينبغى أن يلتفت
وينضبط بالضوابط كي يتخلص من االفراط والتفريط .ومن أمهها أن يفهم جيدا مث
()يراج ع :اخلادمي ،االجته اد املقاص دي ،مرج ع س ابق ،ص ،44س عيد رمض ان الب وطي، 1
متي يز بني اجملالني من األحك ام ومها جمال التعب د والتعلي ل كم ا ه و مش ار إلي ه يف
البحث.
-3إن الكتابات املعاصرة حول موضوع الضوابط والقواعد يف االجتهاد املقاصدي
مازالت نادرة ومازلنا ىف أمس احلاجة إىل اجلهود الزائدة وعليه فإن اجلهود ينبغى أن
تتضافر إلثراء هذه القضية وأقرتح أن يكون من أوليات الدراسات األكادميية على
مستوى أطروحات الدكتوراه واملاجستري.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 36
مستخلص البحث
رمض ان عب د ال ودود عب د الت واب ،دراس ات أص ولية يف حجي ة القي اس وأقس امه ،ط .دار اهلدى
للطباعة ،القاهرة ط.1985 .
الشاطيب ،املوافقات ىف أصول الشريعة ، ،ط .دار املعرفة-بريوت -ت :الشيخ عبد اهلل دراز.
عبد الرمحن الكيالين،قواعد املقاصد عند اإلمام الشاطيب :عرضا ودراسة وحتليال ،ط .دار الفكر
للطباعة والتوزيع والنشر-سوريا -واملعهد العاملي للفكر اإلسالمي .ط .أوىل ،ط2000 .م.
عم ر عبي د حس نة ،مق االت يف التفك ري املقص دي ،ط.املكتب اإلس المي-ب ريوت ،ط.أوىل،
1999م.
حمم د بلت اجي ،من اهج التش ريع اإلس المي يف الق رن الث اين اهلج ري ،ط .دار الس الم ط .أوىل ،ط.
2004م.
حممد مصطفى شليب،تعليل األحكام ، ،ط.دار النهضة العربية،
نور الدين اخلادمي ،االجتهاد املقاصدي ،كتاب األمة ،قطر1998 :م.
][Type text
JICSA Volume 03- Number 02, Dec 2014 38