You are on page 1of 31

‫الفروض الكفائية‪ :‬تأصيالً وأنواعاً ومنزلةً‬

‫‪.‬كلمات مفتاحية‪ :‬الفرض‪ ،‬الكفاية‪ ،‬التأصيل‪ ،‬النوع‪ ،‬املنزلة‬

‫ملخص عن بحث‪:‬‬
‫الفروض الكفائية‪ &:‬تأصيالً وأنواعاً ومنزلةً‬
‫ه ذه الدراس ة س رتكز على قض ايا مهم ة يف موض وع ف رض الكفاي ة‪ ،‬وب دأت باحلديث عن التأص يل‬
‫الشرعي هلذا النوع من الفرض‪ ،‬كما بينت أنواعه‪ ،‬وسلطت الضوء على موقع هذا الفرض ومنزلته بني‬
‫غريه من األحكام‪ ،‬وأخرياً تناولت اآلثار السلبية املرتتبة على سوء تقدير منزلة هذا الفرض‪ ،‬وتوضيح‬
‫ه ذه املس ائل يفض ي إىل النه وض هبذا الف رض وإخراج ه من الس بات ال ذي ه و في ه‪ ،‬كم ا يفض ي إىل‬
‫حتقيق االستخالف اإلنساين يف األرض على الوجه األكمل واألقوم‪ ،‬واتبع املنهج الوصفي والتحليلي‬
‫يف معاجلة املوضوع‪.‬‬

‫]‪[1‬‬
Fard Kifaya (The Communal Obligatory Act) Its Foundation, Types and Status
This study focuses on important issues of the Fard Kifaya (The Communal Obligatory Act). I
started this study by talking about its foundation and Types in the Islamic Legal System, and
highlighted the Status of Fard Kifaya among the rules of Islamic law. Finally, I addressed - in this
Research paper- the negative effects of misjudging the status of Fard Kifaya.
It is important to say that shedding lights on these issues will help bring out the Fard Kifaya from
the resting place to the level of advancement It should be , as well as lead to the realization of the
human Successorship in the Earth in a most complete and appropriate way.

[2]
‫الفروض الكفائية‪ :‬تأصيالً وأنواعاً ومنزلةً‬
‫نيب بعده‪ ،‬أما بعد؛‬
‫احلمد هلل وحده‪ ،‬والصالة والسالم على من ال ّ‬
‫فالتشريع اإلسالمي تشريع كلما درسته ٍ‬
‫بتأن وروية ازددت إميان اً وقناع ًة بأنّه تشريع‬
‫صاحلٌ لك ّل زمان ومكان‪ ،‬ولك ّل األحوال‪ ،‬وق د يستغرب من مل يتعامل مع ه عن قرب ه ذه‬
‫الص الحية ل ه ع رب الزم ان واملك ان واألح وال‪ ،‬فكي ف يص لح ع رب الزم ان واملك ان واألح وال‬
‫والواقع اإلنساين يتغري بسرعة الربق أو أشد‪ ،‬فما تراه اليوم جديداً يصبح قدمياً يف يوم الغد‪،‬‬
‫وطب ائع اإلنس ان وحاجات ه يف يومن ا ويف ك ّل ي وم ختتل ف عن ي وم قبل ه‪ ،‬ف أىّن لتش ريع هبذه‬
‫املواصفات؟!‬
‫وه ذه الدراس ة ليس ت بص دد ش رح ه ذه النقط ة بال ذات‪ ،‬ولكن بق در م ا يتعل ق‬
‫بعنواهنا باإلمك ان اخلوض في ه‪ ،‬ومما ي دل على جتلي ه ذه الص الحية من خالل الف رض‬
‫الكف ائي ه و أ ّن الش ارع احلكيم تعام ل م ع ك ّل ش يء بق در م ا يش تمل على مص لحة‪ ،‬أو‬
‫مفسدة‪ ،‬وبقدر ثبات واستقرار هذه املصلحة أو املفسدة‪ ،‬وبقدر ما له عالقة باإلنسان فرداً‬
‫أو مجاعة‪ ،‬أو أمة‪ ،‬أو اإلنسانية مجعاء‪ ،‬وبقدر ما هو وسيلة أو غاية‪ ،‬وبقدر ما حيقق من‬
‫كل ذلك له حساب دقيق‪.‬‬ ‫التوازن املطلوب يف اإلنسان وبيئته ودنياه وآخرته‪ّ ،‬‬
‫بكل اإلنسان فرداً‬‫فإذا كان الشيء مشتمالً على مصلحة ثابتة‪ ،‬وحقيقية‪ ،‬وله عالقة ّ‬
‫فرداً ومجاعة ومجاعات‪ ،‬فيأيت خطاب الشارع مبا يضمن حتقيق هذه املصلحة إنشاءً وتثبيت اً‬
‫وتكثرياً‪ ،‬واحلكم الشرعي الذي يناسب هذا النوع من املصلحة هو الواجب (الفرض)‪ ،‬الذي‬
‫ميدح فاعله ويثاب على القيام به‪ ،‬ويذم ويعاقب على تركه‪ّ ،‬أم ا إذا كانت درجة املصلحة‬
‫دون ذل ك من تل ك اجلوانب بعض ها أو غالبه ا أو كله ا‪ ،‬في أيت احلكم الش رعي مبا يتناس ب‬
‫ودرج ة ه ذه املص لحة ق وة وانتش اراً‪ ،‬وه ذا الن وع من احلكم يتجس د يف املن دوب‪ ،‬وك ذلك‬
‫األمر بالنسبة الشتمال الشيء على املفسدة‪ ،‬فالتحرمي للمفاسد الثابتة واحلقيقة واملنتشرة على‬
‫مستوى الفرد واجلماعة‪ ،‬ودون هذه املفسدة يتناسب معها حكم الكراهة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫]‪[3‬‬
‫وبالنسبة للفرض (الواجب) فإ ّن الشارع ال حيكم على شيء بالواجب إالّ الشتماله‬
‫على مص لحة مهمة‪ ،‬وه ذه املص لحة ال ميكن تفويته ا أو التقلي ل من ش أهنا‪ ،‬ومحاي ة ه ذه‬
‫املصلحة على هذه الدرجة من األمهية يناسبها احلكم الذي ميدح فاعله ويثاب عليه‪ ،‬ويذم‬
‫فاعله ويعاقب عليه وهو الفرض (الواجب)‪.‬‬
‫ف ك ّل ش خص بفعل ه والقي ام ب ه‪ ،‬ألمهيت ه‬ ‫وه ذا الن وع من احلكم (الف رض) ق د يُكلَّ ُ‬
‫القصوى‪ ،‬وهو فرض العني‪ ،‬والشارع يقصد حتقيقه من كل فرد‪ ،‬أي من مقاصده النظر إىل‬
‫ف بفعله والقيام به مكلف أو أكثر حسب ما تقتضيه ظروف حتقيقه‬ ‫الفاعل القائم به‪ ،‬وقد يُكلَّ ُ‬
‫دون تكلي ف ك ّل ف رد حبد ذات ه‪ ،‬أي أ ّن الش ارع نظ ر في ه إىل حتقي ق الفع ل بالص ورة املثلى‬
‫بالدرجة األوىل واألساس‪ ،‬ونظر فيه إىل الفاعل تبعاً ال أصالة وبالذات‪ ،‬وهذا النوع من الفرض‬
‫هو ما يسمى بفرض الكفاية أو بالفرض الكفائي‪ ،‬وهو ما ستتحدث عنه هذه الدراسة‪.‬‬
‫وق د ع رف ف رض الكفاي ة األص وليون الق دامى واملعاص رون‪ ،‬من الناحي ة اللغوي ة‬
‫واالص طالحية‪ ،‬وه ذه الدراس ة ال تري د أن تك رر م ا س جله ه ؤالء األص وليون‪ ،‬ويكتفي‬
‫بالتعريف االصطالح هلذا الفرض عند القدامى واملعاصرين من غري خوض يف شرح مفرداته‬
‫وحمرتزات التعريف وذلك للرتكيز على مسائل أخرى أكثر إحلاحاً‪.‬‬
‫وتعريف األصوليِّني لفرض الكفاية يكاد يكون واحداً باملعىن أو متقارب اً جداً‪ ،‬وإن‬
‫ُ‬
‫بعض املكلَّفني‬
‫أن املأمور به جيب القيام به‪ ،‬وإذا قام به ُ‬‫فالكل متفق على َّ‬
‫ُّ‬ ‫اختلفت ألفاظهم‪،‬‬
‫الواجب عن اآلخرين‪ .‬ومن تعريف القدامى تعريف اإلمام ابن السبكي (ت‪771‬هـ)‬ ‫ُ‬ ‫سقط‬
‫قص ُد حصولُه من غري نظ ٍر بال ّذات إىل فاعله"‪.1‬‬
‫مهم يُ َ‬
‫"كل ٍّ‬
‫حيث عرف فرض الكفاية بأنَّه‪ُّ :‬‬
‫ُّنيوي‪ ،‬دون‬
‫ِّيين وال د ّ‬
‫املهم ال د ّ‬
‫وه ذا التعري ف ق د مشل بص يغته "ك ُّل" وهي من ص يغ الع ام؛ َّ‬
‫نوع واحد‪.‬‬
‫االقتصار على ٍ‬

‫‪ 1‬ابن السبكي‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب بن علي‪ ،‬مجع اجلوامع بشرح تشنيف املسامع‪ ،‬حتقيق أيب عمرو احلسيين بن عمر‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪2000 /1420 ،1‬م‪.1/182 ،‬‬

‫]‪[4‬‬
‫الوه اب خالّف (ت‬ ‫ومن العلم اء املعاص رين ال ذين عرف وا ف رض الكفاي ة عب د ّ‬
‫‪1956‬م) فق ال‪" :‬ه و م ا طلب الش ارع فعل ه من جمم وع املكلَّفني‪ ،‬ال من ك ل ف ٍ‬
‫رد منهم‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫حبيث إذا قام به بعض املكلَّفني فقد ّأدى الواجب وسقط اإلمث واحلرج عن الباقني‪ ،‬وإذا مل‬
‫أي ٍ‬
‫فرد من أفراد املكلَّفني أمثوا مجيع اً بإمهال هذا الواجب"‪ ،1‬أو قام به بعض ولكن‬ ‫يقم به ُّ‬
‫مل يكن القيام بقدر الكفاية وس ّد احلاجة؛ أمث اجلميع‪ ،‬وتعرضوا للمسؤولية‪.2.‬‬
‫أهمية الدراسة‪:‬‬
‫تتجلى أمهية الدراسة يف اآليت‪:‬‬
‫‪ .1‬دائ رة الف روض الكفائي ة تتس ع يوم اً بع د ي وم‪ ،‬وذل ك لتط ور احلي اة وتعقي د‬
‫مفرداهتا‪ ،‬وك ثرة متطلباهتا‪ ،‬وتلبي ة حاج ة اجملتم ع تقتض ي توض يح موق ع ه ذه الف روض يف‬
‫املنظومة التشريعية استجابة للمسامهة يف صناعة احلياة وتنميتها وتطويرها وحتسينها‪.‬‬
‫‪ .2‬الفروض الكفاية كفيلة بدفع املكلفني لالخنراط يف صناعة احلياة الكرمية ومتنع‬
‫انسحاهبم منها‪.‬‬
‫‪ .3‬ب الفروض الكفاي ة تتحق ق االكتف اء ال ذايت من خالل إع داد ختصص ات متنوع ة‬
‫تقوم بسد حاجة اجملتمع املسلم‪.‬‬
‫‪ .4‬احلديث عن ه ذه الف روض ينمي ش عور الف رد باملس ئولية‪ ،‬وتعزي ز الش عور‬
‫باملسئولية هو البداية الصحيحة والضرورية للنهوض باجملتمع املسلم وباألمة املسلمة‪.‬‬
‫أسئلة الدراسة‪&:‬‬
‫حتاول الدراسة اإلجابة عن اآليت‪:‬‬
‫ما التأصيل الشرعي هلذا النوع من الفرض؟‬ ‫‪.1‬‬

‫الوهاب‪ ،‬علم أصول الفقه‪ ،‬داراحلديث‪ ،‬القاهرة‪1423/2003 ،‬م‪ ،‬ص‪ ،126‬ومبثله عرفه الدكتور حممد مصطفى الزحيلي‪ ،‬الوجيز يف‬
‫خالّف‪ ،‬عبد ّ‬
‫‪1‬‬

‫أصول الفقه اإلسالمي‪ ،‬دار اخلري‪ ،‬دمشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1427/2006 ،2‬ص‪.324‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬الزملي‪ ،‬مصطفى إبراهيم‪ ،‬أصول الفقه اإلسالمي يف نسيجه اجلديد‪ ،‬مركز عبادي للدراسات والنشر‪ ،‬صنعاء‪ ،‬ط ‪1417/1996 ،1‬م‪ ،‬ص‬
‫‪.192‬‬

‫]‪[5‬‬
‫ما أنواع هذا الفرض؟‬ ‫‪.2‬‬
‫أين موقع هذا الفرض ومنزلته بني غريه من األحكام؟‬ ‫‪.3‬‬
‫هل مثة أثر يف سوء تقدير منزلة هذا الفرض؟‬ ‫‪.4‬‬
‫أسباب اختيار الموضوع‪:‬‬
‫مجلة من األسباب وراء فتح ملف هذا املوضوع‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ .1‬جرى احلديث عن هذا املوضوع من غري تناول أدلة على تأصيله‪.‬‬
‫‪ .2‬اعتق اد بعض الدارس ني وج ود ن وع واح د من الف روض الكفائي ة‪ ،‬األم ر ال ذي‬
‫دفع الباحث إىل تصحيح هذا التصور‪.‬‬
‫‪ .3‬غالب اً ما يسمع املرء مبصطلح "الفرض الكفائي" يتبادر ذهنه إىل عامل األموات‬
‫من كفن امليت والص الة علي ه مث دفن ه وم ا ش ابه ذل ك من القض ايا‪ ،‬بينم ا واق ع ح ال ه ذا‬
‫النوع من الفروض على خالف ذلك‪ ،‬وهذا يتطلب البيان والتوضيح‪.‬‬
‫أهداف الدراسة‪&:‬‬
‫هتدف الدراسة إىل حتقيق اآليت‪:‬‬
‫بيان التأصيل الشرعي لفروض الكفاية‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫توضيح أنواع فروض الكفاية‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫كشف موقع فروض الكفاية ومنزلتها بني سائر األحكام‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫استجالء أثر سوء تقدير فروض الكفاية يف حياة املسلم‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫منهج الدراسة‪&:‬‬
‫تعتم د الدراس ة على املنهج الوص في جلم ع املادة العلمي ة عن املوض وع يف املدونات‬
‫األصولية القدمية واملعاصرة‪ ،‬وكذلك تعتمد املنهج التحليلي لتفكيك ما مت مجعه‪ ،‬مث املنهج‬
‫االستنباطي للخروج بأحكام ونتائج يف املوضوع قيد الدراسة‪.‬‬
‫وبناءً على ما سبق فإ ّن الدراسة جاءت موزعة على أربعة مطالب‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫]‪[6‬‬
‫المطلب األول‪ :‬التأصيل الشرعي لفرض الكفاية‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أنواع فرض الكفاية‬
‫المطلب الثالث‪ :‬منزلة فرض الكفاية‪.‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬أثر سوء تقدير منزلة الفروض الكفائية‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬التأصيل الشرعي لفرض الكفاية‬
‫الشرعي إقامة األدلة الشرعية على املسألة قيد الدراسة والبحث‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫يُقصد بالتأصيل‬
‫النصوص الشرعية اليت ُّ‬
‫تدل على وجود الفروض الكفائية‪ 1‬يف املنظومة التشريعية اإلسالمية ما‬
‫يأيت‪:‬‬
‫ون ِل َين ِف ُروا اَك ف َّ ًة فَلَ ْواَل ن َ َف َر ِمن لُك ِ ّ ِف ْرقَ ٍة ِّمهْن ُ ْم َطاِئ َف ٌة ِل ّ َي َت َفقَّهُ وا يِف‬
‫‪.1‬قول ه تع اىل‪َ ﴿ :‬و َما اَك َن الْ ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون﴾ [سورة التوبة‪.]122:‬‬ ‫ّ ِادل ِين َو ِل ُين ِذ ُروا قَ ْو َمهُ ْم َذا َر َج ُعوا لَهْي ِ ْم لَ َعلَّهُ ْم حَي ْ َذ ُر َ‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫أن اجلهاد ليس فرض اً على األعيان مجيعهم‪ ،‬بل على بعضهم‪ ،‬وأنَّه‬ ‫هذه اآلية تفيد َّ‬
‫ف رض على الكفاي ة‪ ،‬إذ ل و نف ر اجلمي ع وخ رج لض اع من ورائهم التفقُّه والتعلُّم‪ ،‬فلتخ رج‬
‫طائفة‪ 2‬منهم للجهاد‪ ،‬وطائفة يتفقهون يف الدِّين‪ ،‬حىت إذا عاد النافرون أعلمهم املقيمون ما‬
‫الش رع‪ ،‬وم ا جتدَّد نزول ه على رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم خالل‬ ‫تعلَّم وه من أحك ام َّ‬
‫جهادهم‪.‬‬

‫‪ 1‬معلوم أ ّن غالب املصلحات األصولية والفقهية استقر‪ ،‬أو بدأ باالستقرار بعد عصر الرسالة منذ بداية تدوين العلوم الشرعية‪ ،‬فكانت املعاين معهودة‪،‬‬
‫وحتديد مصطلحات علمية إزاءها جاء يف زمن متأخر‪ ،‬وال إشكال يف ذلك ما دام املعىن مستقراً وواضحاً‪.‬‬
‫‪ 2‬الطائفة يف اللغة اجلماعة‪ ،‬وقد تقع على أقل من ذلك حىت تبلغ الرجلني‪ ،‬وقد تطلق ويراد هبا شخص واحد كما يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و ن َطٓاِئ َفتَ ِان ِم َن‬
‫ِإ‬ ‫ٱ‬ ‫ٱ‬ ‫ٱ‬
‫ون خ َْوةٌۭ فََأ ْص ِل ُحو ۟ا بَنْي َ َأخ ََو ْيمُك ْ ﴾ [س ورة احلج رات‪ ،]10:‬فج اء‬‫لْ ُمْؤ ِم ِن َني ْقتَ َتلُو ۟ا فََأ ْص ِل ُحو ۟ا بَيْهَن ُ َما ۖ﴾ [سورة احلجرات‪ ،]9:‬يعين نفسني‪ .‬دليله قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ن َّ َما لْ ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫بلفظ التثنية‪ ،‬والضمري يف "اقتتلوا" وإن كان ضمري مجاعة؛ فأقل اجلماعة اثنان يف أحد القولني للعلماء‪ .‬ينظر‪ :‬الشعراوي‪ ،‬حممد متويل‪ ،‬تفسري الشعراوي‪،‬‬
‫مراجعة وختريج أمحد عمر هاشم‪ ،‬دار األخبار‪ ،‬القاهرة‪1991 ،‬م‪.9/5575 ،‬‬

‫]‪[7‬‬
‫رعي مقام اً رفيع اً‪ ،‬وت وجب على املتص درين ل ه إتق ان ه ذا‬ ‫واآلي ة تُب ِّوءُ للعلم الش ّ‬
‫تفهم ه وتعلُّم ه درج ة التفقُّه‪ ،‬وه و الفهم ال دقيق‬
‫العلم‪ ،‬وإجادت ه والتمكن من ه‪ ،‬إىل أن يبل غ ُّ‬
‫كلي الس طحي ال ذي يض ّر أك ثر من أن ينف ع‪ ،‬ويص طدم‬ ‫والعمي ق ال ذي يتج اوز الفهم الش ّ‬
‫أحايني كثرية مع الضرورات اليت مُت ليها الفطرة والعقل املنضبط بنور اإلميان‪ .‬وحمتوى التفقه‬
‫الفقهي‪ .‬ففي االصطالح‬
‫ّ‬ ‫ومعناه يف االصطالح القرآين أوسع بكثري من التفقه يف االصطالح‬
‫الفقهي يتعلَّق التفقُّه باجلانب التشريعي‪ ،‬بينما يف االصطالح القرآين يشمل اجلوانب الثالثة‬
‫مع اً‪ :‬اجلانب العقدي‪ ،‬واجلانب األخالقي والسلوكي‪ ،‬واجلانب التشريعي والتقنيين‪ ،‬وحبمل‬
‫التفقه على االصطالح القرآين تتحقق الغاية من فرضيته يف ظهور قيوميته وسلطانه‪ ،‬ودوامه‬
‫وامتداده زماناً ومكاناً‪ ،‬وأشخاصاً وأحواالً‪ ،‬وهذا التفقه ينبغي بل جيب أن حيقق أهدافه يف‬
‫األم ة‪ ،‬تفقه اً ل ه الق درة على إح داث تغي ري حقيقي حنو األحس ن واألفض ل املطل وب من‬
‫املكلفني قوالً وعمالً‪ ،‬فيكون إنذاراً ينبه الغافل‪ ،‬ويوقظ النائم‪ ،‬فيتخذ حذره‪ ،‬ويع ّد عدته‪،‬‬
‫وحُي ِكم خطته‪ ،‬ويرصد حركته‪ ،‬وحُي سن فعلته‪ ،‬فيؤدي وظيفته على األرض‪.‬‬
‫وعلى ض وء ذل ك يتم تق ومي حرك ة ك ِّل طائف ة من ك ِّل فرق ة‪ .‬وقب ل الب دء ب النفري‬
‫لطلب العلم‪ ،‬والش روع يف التفق ه؛ يتحتم اعتم اد خط ة حمكم ة‪ ،‬وإحص اء دقي ق واختب ار‬
‫شامل النتداب الشخص املناسب الذي ميلك مؤهالت هذا التخصص‪ ،‬ويُستنبط هذا املعىن‬
‫فإن هذه الكلمة استعملت يف القرآن الكرمي دائم اً يف‬ ‫من كلمة "النفرة" الواردة يف اآلية‪َّ ،‬‬
‫مس ألة اخلروج للجه اد والقت ال ﴿ي َ ٰـَٓأهُّي َا ٱذَّل ِ َين َءا َمنُو ۟ا َما لَمُك ْ َذا ِقي َل لَمُك ُ ٱنف ُِرو ۟ا ىِف َس بِيلِ ٱهَّلل ِ ٱاَّث قَلْمُت ْ ىَل‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫ٱَأْل ْر ِض ۚ َأ َر ِضيمُت ِبٱلْ َح َي ٰو ِة ٱدلُّ نْ َيا ِم َن ٱآل ِخ َر ِة فَ َما َمتَ ٰـ ُع ٱلْ َح َي ٰو ِة ٱدلُّ نْ َيا ىِف خ َرة قَلي ٌل﴾ [سورة التوبة‪.]38:‬‬
‫ِ‬ ‫اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آل‬‫ٱ‬
‫ِإ‬
‫فعملي ة التفقُّه تب دأ مبرحل ة اإلع داد والبن اء ﴿فَلَ ْواَل ن َ َف َر ِمن لُك ِ ّ ِف ْرقَ ٍة ِّمهْن ُ ْم َطاِئ َف ٌة﴾‪ُّ ،‬‬
‫ومتر‬
‫التخص ص ﴿ ِل ّ َي َت َفقَّهُ وا يِف ّ ِادل ِين﴾‪ ،‬فعِلَّة النف ور التفقُّه‪ ،1‬وتص ل إىل اهلدف وتس تمر وال‬ ‫ُّ‬ ‫بتحقُّق‬
‫تتوق ف‪ ،‬واهلدف هن ا عب ارة عن الق درة على العط اء والق درة على الت أثري واإلص الح‬

‫"فقه" و"ف ُق ه"‪ ،‬فاألول قد يكون ملرحلة دون أخرى‪ ،‬أو ملسألة دون غريها‪ ،‬وقد يستحضرها املتلبس به وقد ال يستحضرها‪،‬‬‫‪ 1‬هناك فرق بني مصطلح ِ‬
‫أي موضوع ال يرتدَّد‪ ،‬واملطلوب هنا من النافرين حتقُّق املعىن الثاين‪.‬‬ ‫بينما "ف ُقه" يفيد َّ‬
‫أن املسألة أصبحت ملكة يف الشخص املتلبس به‪ ،‬فساعة تسأله عن ّ‬
‫ينظر‪ :‬الشعراوي‪ ،‬تفسري الشعراوي‪.9/5579 ،‬‬

‫]‪[8‬‬
‫ون﴾‪ ،‬ف إذا جلس للعط اء فق د جلس‬ ‫والتص حيح ﴿ َو ِل ُين ِذ ُروا قَ ْو َمه ُْم َذا َر َج ُع وا لَهْي ِ ْم لَ َعلَّه ُْم حَي ْ َذ ُر َ‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫ملمارس ة وظيفت ه‪ ،‬وحمل ه ذه الوظيف ة مجه ور املس لمني وغ ريهم‪ ،‬وخماطب ة اجلم اهري تتطلب‬
‫امتالك الرس الة اخلطابي ة‪ ،‬وهلذه الرس الة ش روط‪ ،‬منه ا واقعيته ا وص دقها‪ ،‬ووض وحها‪،‬‬
‫ومس تواها‪ .‬وق د يك ون لقض ية واح دة خطاب ان‪ ،‬بس بب اختالف ظ رف القض ية‪ ،‬وتب اين‬
‫سوابقها ولواحقها والنظر يف عواقبها ونتائجها‪ ،‬ومشروعية خطاب ما يتوقف على اعتبار‬
‫ودراسة كل تلك السوابق واللواحق‪ ،‬واملقدمات والنتائج‪ ،‬واملصاحل واملفاسد‪ ،‬فإذا ترجحت‬
‫الس عدي (ت‪ )1376‬يف‬ ‫كف ة الفع ل أق دم علي ه‪ ،‬وإالّ تعني ال رتك واإلحج ام‪ ،‬يق ول الش يخ َّ‬
‫تفسري هذه اآلية‪" :‬ويف هذه اآلية أيض اً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف‪ ،‬لفائدة مهمة‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫العامة من يق وم هبا‪ ،‬وي وفر وقت ه‬
‫لحة من مص احلهم َّ‬ ‫املس لمني ينبغي هلم أن يع ّدوا لك ِّل مص ٍ‬
‫وتتم منافعهم‪ ،‬وتكون وجهة‬ ‫عليها‪ ،‬وجيتهد فيها‪ ،‬وال يلتفت إىل غريها‪ ،‬لتقوم مصاحلهم‪ّ ،‬‬
‫مجيعهم‪ ،‬وهناية ما يقص دون قصداً واحداً‪ ،‬وهو قيام مصلحة دينهم ودني اهم‪ ،‬ولو تف رقت‬
‫الطرق وتعدَّدت املشارب‪ ،‬فاألعمال متباينة‪ ،‬والقصد واحد‪ ،‬وهذه من احلكمة العامة النافعة‬
‫يف مجيع األمور"‪.1‬‬
‫وف َويَهْن َ ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر ۚ‬
‫ون اِب لْ َم ْع ُر ِ‬ ‫‪.2‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْ َت ُكن ِّمنمُك ْ ُأ َّم ٌة يَدْ ع َ‬
‫ُون ىَل الْ َخرْي ِ َويَْأ ُم ُر َ‬
‫ِإ‬
‫ون﴾ [سورة آل عمران‪.]104:‬‬ ‫َوُأولَٰ ِئ َك مُه ُ الْ ُم ْف ِل ُح َ‬
‫معىن اآلية‪ :‬وليكن منكم أيُّها املؤمنون مجاعة إصالحية متصفة باخلري‪ ،‬ومطبقة أوامر‬
‫الشرع‪ ،‬وجمتنبة نواهيه‪ ،‬ومتصدية للدعوة إىل اخلري‪ ،‬ومؤهلة تأهيالً جيداً‪ ،‬يأمرون باملعروف‬
‫وينه ون عن املنك ر‪ .‬وتش كيل ه ذه اجلماع ة للقي ام هبذا ال واجب من ف روض الكفاي ة‪ ،‬ب دليل‬
‫وكل أمر للوجوب إن مل تكن هناك‬ ‫فإن الالم الم األمر‪ ،‬دخل على فعل املضارع‪ّ ،‬‬ ‫"ولتكن"‪َّ ،‬‬
‫"أمة" تأيت مبعىن‬
‫أن كلمة َّ‬‫قرينة صارفة عنه‪ ،‬وال قرينة هنا‪ ،‬و"من" يف "منكم" للتبعيض‪ ،‬كما َّ‬
‫مجاعة‪ ،‬وهذا املعىن هو الغالب من بني معانيها املستعملة يف القرآن الكرمي‪.2‬‬

‫‪ 1‬السعدي‪ ،‬عبد الرمحن بن ناصر‪ ،‬تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان‪ ،‬املطبعة العصرية‪ ،‬بريوت‪1431/2010 ،‬م‪ ،‬ص‪.306‬‬
‫األمة يف القرآن أربعة استعماالت‪:‬‬
‫‪ 2‬استعمل لفظ َّ‬
‫اعب ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾ [سورة األنبياء ‪.]92:‬‬ ‫األمة مبعىن امللّة‪ :‬أي العقيدة كما يف قوله تعاىل‪ِ﴿ :‬إ َّن َهذه َُّأمتُ ُك ْم َُّأمةً َواح َدةً َوَأنَا َربُّ ُك ْم فَ ْ ُ‬
‫ّ‬ ‫‪.1‬‬

‫]‪[9‬‬
‫وال ميكن أن تدعو هذه الطائفة إىل اخلري‪ ،‬وتأمر باملعروف‪ ،‬وتنهى عن املنكر وهي‬
‫ليس ت من أه ل اخلري‪ ،‬وبعي دة عن املع روف‪ ،‬فاالزدواجي ة يف الفك ر واملمارس ة ال ت أيت‬
‫بالثمرة‪ ،‬وإمنا تأيت بنتائج عكسية‪ ،‬ويف القرآن الكرمي آيات ع ّدة تُشدِّد النكري على من يدعو‬
‫ون ٱلنَّ َاس بِٱلْرِب ِّ َوت ََنس ْو َن‬
‫غ ريه إىل ش يء‪ ،‬وه و ي أيت خبالف ه ونقيض ه‪ ،‬ومن ه قول ه تع اىل‪َ﴿ :‬أتَ ْأ ُم ُر َ‬
‫َأن ُفسمُك ْ وَأنمُت تَتلُ ٱ‬
‫ون﴾ [س ورة البق رة‪ ،]44:‬والطَّ َّامة الك ربى يف بعض ال دُّعاة‬ ‫ون ْل ِكتَ ٰـ َب ۚ َأفَاَل تَ ْع ِقلُ َ‬
‫َ َ ْ ْ َ‬
‫والعلم اء وقت إذ يتح َّول عن دهم ال دِّين إىل مهن ة ووظيف ة وص ناعة‪ ،‬وخيرج من حقيقت ه‬
‫بوصفه عقيدةً وشريعة‪ ،‬ونظاماً وحياة‪ ،‬فإهَّن م يأمرون الناس باخلري وهم ال يفعلونه‪ ،‬وينهون‬
‫عن املنك ر وهم يأتون ه‪ ،‬فإن ه الطَّ َّامة الك ربى‪ ،‬وكي ف ال‪ ،‬فه ذا الوض ع املزدوج يبعث على‬
‫التَّشكيك بقيم الدِّين وتعاليمه القيِّمة‪ ،‬وتنزع القدس يَّة عنها‪ ،‬وتسقط هيبتها وسلطاهنا يف‬
‫نف وس املدعوين‪ ،‬ألهَّن م يس معون ق والً مجيالً‪ ،‬ويش هدون فعالً مش يناً‪ ،‬فتتملكهم احلرية بني‬
‫القول والفعل‪.‬‬
‫فهذه الكلمات وقت إذ تتجسد يف الواقع فإهنا تكتسب مقومات بقائها حية‪ ،‬فال‬
‫تلد ميتة‪ ،‬وال تصيبها الشيخوخة‪ ،‬فمن عالمات صدق الكلمة متثلها يف تصرفات حاملها‬
‫وي اآليت‬
‫وناطقه ا‪ ،‬ومن عالم ات وفاهتا انفص اهلا عن حامله ا وناطقه ا‪ ،‬ويف احلديث النب ِّ‬
‫اب‬
‫البي ان ال وايف خلط ورة املوق ف‪« :‬يُ ْؤ تَى بالرج ل ي وم القيام ة‪ ،‬فيُلقى يف الن ار‪ ،‬فتن دلق أقت ُ‬
‫أهل النار‪ ،‬فيقولون‬
‫فيجتمع إليه ُ‬
‫ُ‬ ‫بالر َحى‪،‬‬
‫احلمار َّ‬
‫ُ‬ ‫ور هبا كما يدور‬ ‫بطنه (يعين أمعاءَه)‪ ،‬فيَ ُد ُ‬
‫ي ا فال ُن‪ :‬م ا ل ك أ مل تكن ت أمر ب املعروف وتنهى عن املنك ر؟ فيق ول‪ :‬بلى‪ ،‬ق د كنت آم راً‬
‫باملعروف وال آتيه‪ ،‬وأهنى عن املنكر وآتيه»‪.1‬‬
‫األمة مبعىن اجلماعة من الناس‪ ،‬وهو االستعمال الغالب كما يف قوله تعاىل‪َ﴿ :‬ومِم َّْن َخَلْقَنا َُّأمةٌ َي ْه ُدو َن بِاحْلَ ِّق َوبِِه َي ْع ِدلُو َن﴾ [سورة األعراف‪.]181 :‬‬ ‫ّ‬ ‫‪.2‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َأخرنَا عْنهم الْع َذاب ِإىَل َُّأم ٍة مع ُد ٍ‬ ‫ِئ‬
‫ص ُروفًا‬ ‫ودة لََي ُق ولُ َّن َم ا حَيْب ُس هُ َأاَل َي ْو َم يَْأتيه ْم لَْي َ‬
‫س َم ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫األم ة مبعىن الربهة من الزمن‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ﴿ َولَ ْن َّ ْ َ ُ ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.3‬‬
‫اق هِبِ ْم َما َكانُوا بِِه يَ ْسَت ْه ِزُئو َن﴾ [سورة هود‪.]8:‬‬
‫َعْن ُه ْم َو َح َ‬
‫ِ‬ ‫األمة مبعىن اإلمام املقتدى به‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ﴿ِإ َّن ِإبر ِاهيم َكا َن َُّأمةً قَانِتًا لِلَّ ِه حنِي ًفا ومَل ي ُ ِ‬
‫ني﴾ [سورة النحل‪.]120:‬‬ ‫ك م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َْ َ‬ ‫‪.4‬‬
‫حممد األمني بن خمت ار‪ ،‬أض واء البي ان يف إيض اح الق رآن ب القرآن‪ ،‬ض بط وتص حيح وختريج حمم د عب د العزي ز اخلال دي‪ ،‬دار‬ ‫ينظ ر‪ :‬الش نقيطي‪َّ ،‬‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1432/2011 ،4‬م‪.11-3/10 ،‬‬
‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬أبو احلسني بن احلجاج القشريي‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬حتقيق وتصحيح حممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬كتاب الزهد‬
‫والرقائق‪ ،‬باب عقوبة من يأمر باملعروف وال يفعله‪ ،‬رقم احلديث (‪.4/2290 ،)2989‬‬

‫]‪[10‬‬
‫تكليف ومسؤولية عظيمة إذا‬
‫ٌ‬ ‫والدعوة إىل اخلري واألمر باملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر‬
‫نظرنا إىل اصطدام مضمون األمر والنهي بشهوات الناس ونزواهتم‪ ،‬ومصاحل بعضهم ومنافعهم‪،‬‬
‫وكربي اء بعض هم‪ .‬وفيهم اجلب ار الغاش م‪ ،‬وفيهم احلاكم املتس لط‪ ،‬وفيهم اهلاب ط الس اقط ال ذي‬
‫يك ره الص عود والوق وف ش اخماً‪ ،‬وفيهم املس رتخي ال ذي يك ره االش تداد‪ ،‬وفيهم املنح ل ال ذي‬
‫يكره اجلد‪ ،‬وفيهم الظامل الذي يكره العدل‪ ،‬وفيهم املنحرف الذي يكره االستقامة‪.‬‬
‫فإن قيام هذه اجلماعة اخلرِّي ة ضرورة من ضرورات املنهج اإلهلي ذاته‪ ،‬فهذه‬ ‫وعليه َّ‬
‫اجلماع ة هي الوس ط ال ذي يتنفس في ه ه ذا املنهج الرب اين‪ ،‬ويتحق ق يف ص ورته الواقعي ة‬
‫كل خري وفضيلة وحق‬ ‫والفعلية‪ ،‬وهو الوسط املتكافل املتعاون على اخلري‪ ،‬املعروف فيه هو ّ‬
‫شر ورذيلة وباطل وظلم‪ ،‬وحمسوبية وأنانية‪ ،‬وعمل اخلري فيه‬ ‫كل ٍّ‬‫وعدل‪ ،‬واملنكر فيه هو ّ‬
‫أيس ُر من عم ل الش ر‪ ،‬والفض يلة في ه أق ُّل تكلف ة من الرذيل ة‪ ،‬واحلق في ه أق وى من الباط ل‪،‬‬
‫والع دل في ه أنف ُع من الظلم‪ ،‬وجيد فاع ل اخلري على اخلري أعوان اً ل ه‪ ،‬وجيد ص انع الش ر في ه‬
‫مقاومة‪ ،‬ومن هنا جاءت قيمة هذا التجمع وضرورته‪.1‬‬
‫الرس ايل ويف عه د الص حابة والت ابعني هلم‬
‫وق د ك ان املس لمون يف العص ر ال ذهيب ِّ‬
‫بإحس ان حريص ني على القي ام هبذا ال واجب العاص م للمجتم ع اإلس المي من اإلس راف يف‬
‫مر العصور والدهور‪،‬‬ ‫املنكر والتوغل فيه‪ ،‬ومن اإلقتار يف املع روف والتكاسل فيه‪ ،‬وعلى ّ‬
‫كان هناك إلظهار املنكر ونشره ناشطون‪ ،‬وإلضمار املعروف وإخفائه فاعلون‪ ،‬فالضرورة‬
‫أشد وأعظم‪ ،‬لكثرة اجلهل‪ ،‬وقلَّة العلم‪ ،‬وغفلة الكثري من الناس عن‬ ‫إليه بعد خري القرون ُّ‬
‫ه ذا ال واجب العظيم‪ .‬ويف عص رنا ه ذا ص ار األم ر أش ّد‪ ،‬واخلط ر أعظم‪ ،‬النتش ار الش رور‬
‫والغرور‪ ،‬وكثرة دعاة الباطل‪ ،‬وقلَّة دعاة اخلري يف غالب البالد‪.‬‬
‫ومن أجل هذا أمر اهلل سبحانه وتعاىل به‪ ،‬ورغب فيه‪ ،‬وقدَّمه على اإلميان‪ ،‬كما يف‬
‫ٱ‬
‫وف َوتَهْن َ ْو َن َع ِن لْ ُمن َك ِر َوتُْؤ ِمنُ َ‬
‫ون‬ ‫ون بِٱلْ َم ْع ُر ِ‬ ‫قول ه س بحانه وتع اىل‪ُ ﴿ :‬كنمُت ْ َخرْي َ ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِللنَّ ِاس تَْأ ُم ُر َ‬
‫ٱ‬ ‫ٱ‬ ‫ٱ‬ ‫ٱ‬
‫ون﴾ [س ورة آل عم ران‪:‬‬ ‫ِب هَّلل ِ َولَ ْو َءا َم َن َأ ْه ُل ْل ِكتَ ٰـ ِب لَاَك َن َخرْي ًا لهُم ِّمهْن ُ ُم لْ ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون َوَأ ْكرَث ُ مُه ُ لْ َف ٰـ ِس ُق َ‬

‫ينظر‪ :‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1424/2013 ،40‬م‪.1/444 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫]‪[11‬‬
‫ويعرفه ا مكاهَن ا وقيمتَه ا‬
‫‪ .]110‬فاهلل س بحانه وتع اىل يُع ِّرف األم ة املس لمة بنفس ها‪ِّ ،‬‬
‫وحقيقتَه ا‪ ،‬ويض ع على كاه ل املس لمني يف األرض واجب اً ثقيالً‪ ،‬وي بني هلم واجبهم جتاه‬
‫تفكر يف ذاهتا‪ ،‬وتبحث عن مص احلها فق ط‪،‬‬ ‫األمة م ا خ رجت لنفس ها‪ ،‬كي ِّ‬ ‫الن اس‪ ،‬فه ذه َّ‬
‫وت رتك البش رية‪ ،‬فإهنا َّأمة أخ رجت بق در اهلل وحكمت ه‪ ،‬واهلدف من إخراجه ا واض ح‪ ،‬أم ة‬
‫األمة‬
‫اص‪ ،‬وه ذا م ا ينبغي أن تُدرك ه َّ‬ ‫ذات دور خ اص‪ ،‬هلا مق ام خ اص‪ ،‬وهلا حس اب خ ّ‬
‫لتع رف حقيقته ا وقيمته ا‪ ،‬وال ت رتك القي ادة لغريه ا‪ ،‬فال ب ّد أن تك ون هي الرائ د والق دوة‬
‫والطليع ة‪ ،‬فتعطي‪ ،‬وتق دِّم‪ ،‬تق دم العقي دة‪ ،‬تق دم نظ ام احلي اة‪ ،‬تق دم املعرف ة والعل وم‪ ،‬تق دم‬
‫السياسة الناجحة النظيفة‪ ،‬تقدم االقتصاد‪ ،‬تقدم اخلري‪ ،‬فتعطي أكثر مما تأخذ‪ ،‬وال تكن عالة‬
‫املنفقة‪ ،‬والسفلى‬‫على اآلخر الغريب و«واليد العليا خري من اليد السفلى‪ ،‬فاليد العليا هي ِ‬
‫ٌ‬
‫هي السائلة»‪.1‬‬
‫يقول سيد قطب (يرمحه اهلل)‪" :‬هذا واجبها الذي حيتِّمه عليها مكاهنا‪ ،‬وحتتِّمه عليها‬
‫غاية وجوده ا‪ ،‬واجبه ا أن تكون يف الطليع ة دائم اً‪ ،‬ويف مرك ز القيادة دائم اً‪ ،‬وهلذا املركز‬
‫تبعاته‪ ،‬فهو ال يؤخذ ادعاءً‪ ،‬وال يسلم هلا به إالّ أن تكون هي أهالً له ‪ ...‬وهي بتصورها‬
‫االعتقادي‪ ،‬وبنظامها االجتماعي أهل له‪ ،‬فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي‪ ،‬وبعمارهتا‬
‫أن املنهج الذي تقوم عليه‬ ‫لألرض – قياماً حبق اخلالفة – أهالً له كذلك ‪ ...‬ومن هذا يتبني َّ‬
‫هذه األمة يطالبها بالشيء الكثري‪ ،‬ويدفعها إىل السبق يف كل جمال ‪ ...‬لو أهنا تتبعه وتلتزم به‪،‬‬
‫وتدرك مقتضياته وتكاليفه‪ .‬ويف أول مقتضيات هذا املكان‪ ،‬أن تقوم على صيانة احلياة من‬
‫الشر والفساد ‪ ...‬وأن تكون هلا القوة اليت متكنها من األمر باملعروف والنهي عن املنكر"‪.2‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أنواع فرض الكفاية&‬
‫للعلماء تقسيمات ثالثة للفروض الكفائية‪ ،‬وهي كاآليت‪:‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن إمساعيل‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1985 /1405 ،4‬م‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب ال صدقة إالّ عن ظهر‬
‫غىن‪.2/228 ،‬‬
‫‪ 2‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪.5/447 ،‬‬

‫]‪[12‬‬
‫التقسيم األول‪ :‬تقسيم مجهور العلماء‪ ،‬فإهَّن م قسموها إىل قسمني‪:‬‬
‫‪ .1‬الف&روض الكفائي&&ة الديني&ة‪ &:‬وهي الفرائض املتعلقة بأصول الدِّين وفروعه‪،‬‬
‫مث ل القي ام بإقام ة احلجج القاطع ة وال رباهني اليقيني ة على إثب ات اخلالق‪ ،‬وم ا جيب ل ه من‬
‫الص فات‪ ،‬وم ا يس تحيل علي ه‪ ،‬وإقام ة األدل ة العقلي ة على حاج ة البش رية لل وحي‪ ،‬ورد‬
‫الشُّبهات ومقارعتها باحلجة العقلية الدامغة‪ ،‬واالشتغال بعلوم الشريعة ومقدماهتا من علوم‬
‫اآلل ة؛ من عل وم اللغ ة حنواً وص رفاً‪ ،‬وبيان اً ومع ان‪ ،‬وب ديعاً‪ ،‬ومن آداب البحث واملن اظرة‪،‬‬
‫ومن التفس ري وعلوم ه‪ ،‬واحلديث وعلوم ه‪ ،‬والفق ه وأص وله ومقاص د الش ريعة‪ ،‬والتبح ر يف‬
‫ذل ك‪ .‬واالجته اد واإلفت اء يف القض ايا املعاص رة‪ ،‬وغريه ا مما حيتاج ه املس لمون‪ ،‬واألم ر‬
‫ب املعروف والنهي عن املنك ر‪ ،‬وال دعوة إىل اهلل‪ ،‬وإقام ة اجلماع ة واألذان‪ ،‬وغس ل املوتى‬
‫وتكفينهم‪ ،‬والصالة عليهم ودفنهم‪ ،‬ورد السالم إذا كان املسلَّم عليهم مجاعة وغريها‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ .2‬الفروض الكفائية الدنيوية&‪ :‬كاحلَِرف والصناعات وما به قوام املعاش والشِّراء‬
‫وكل ما تتوقف عليه عمارة األرض‬ ‫ِّ‬
‫واحلراثة والعلوم اإلنسانية والطبيعية وعلوم الطب‪ّ ،‬‬
‫ووظيفة اخلالفة وأدائها على أفضل وجه‪ ،‬إىل الكنس وتنظيف الشوارع‪ ،‬وتنظيم املرور‬
‫عد العلماء احلَِرف والصناعات وأنواع الزراعات من فروض الكفاية؛ ألنَّه ال‬ ‫وغريها‪ .‬وقد َّ‬
‫صل‬ ‫يقوم أمر الدِّين والدُّنيا إالّ هبا‪ ،‬وتركها فيه هالك ومفسدة‪ ،‬ويلزم أن يقوم هبا من حَت ُ‬
‫الكفاية بفعله‪ ،‬وإالّ أمثت األمة‪.‬‬
‫التقسيم الثاني&‪ :‬هذا التقسيم لإلمام الغزايل‪ ،‬فقد قسمها تقسيماً ثالثياً‪:‬‬
‫‪ .1‬قس م يتعل ق مبحض ال دِّين كإقام ة احلج ة العلمي ة وال رباهني القطعي ة على ص دق‬
‫اإلسالم مجلة وتفصيالً‪ ،‬والدفاع عن اإلسالم واملسلمني باجلهاد‪ ،‬وهذا يتعلق بأصل الدين‪،‬‬
‫كل ما يتعلق بفروع الدين وشعاره كإحياء الكعبة باحلج كل سنة‪ ،‬وإشاعة‬ ‫واحملافظة على ّ‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬ورد السالم‪ ،‬وهو من الشعائر وإن مل تتعلق به مصلحة‬
‫كلية‪ ،‬بل مصلحة حسن املعاملة‪.‬‬

‫]‪[13‬‬
‫الض رر عن حماويج املس لمني‪ ،‬وإزال ة‬ ‫‪ .2‬قس م يتعل ق بال دنيا وباملع اش‪ ،‬ك دفع َّ‬
‫ف اقتهم‪ ،‬ف إن بقيت ض رورة بع د تفرق ة الزك وات ك ان إزالته ا من ف رض الكفاي ة‪ ،‬وك ذلك‬
‫حكم البيع والنكاح واحلراثة والزراعة والصناعة‪ ،‬وكل حرفة ال يستغين عنها الناس‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫قوام الدُّنيا هبذه األسباب‪ ،‬وقوام الدِّين موقوف على قوام أمر الدُّنيا ونظامها ال حمالة‪.‬‬
‫الش هادات‪ ،‬وإعان ة‬
‫كتحمل َّ‬ ‫ُّنيوي)؛‬
‫ِّيين وال د ّ‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬ ‫‪ .3‬قس م م ركب من القس مني (ال د ّ‬
‫القضاة على توفية احلقوق‪ ،‬وجتهيز املوتى‪ ،‬ودفنهم وغسلهم‪ ،‬وهذه مصاحل‪ ،‬ولكن يتعلق هبا‬
‫أيضاً إظهار شعائر الدِّين‪.1‬‬
‫التقسيم الثالث‪ :‬تقسيم اإلمام الشاطيب‪:‬‬
‫سلك اإلمام الشاطيب يف تقسيم الفروض الكفائية مسلكاً مغايراً جلمهور األصوليِّني‬
‫الغزايل‪ ،‬كما هو دأبه يف كتابه "املوافقات"‪ ،‬حيث تناول معظم املفردات األصوليَّة‬ ‫ِّ‬ ‫ولإلمام‬
‫الش ارع يف التَّش ريع والتَّكلي ف واخلل ق‪ ،‬فه و مل‬ ‫ولكن ك ان تناول ه متم يزاً وبنفح ة مقاص د َّ‬
‫يقسم هذه الفروض إىل فروض دينيَّة وفروض دنيويَّة‪ .‬ويبدو أنَّه مل ير فص الً وفاص الً بني ما‬
‫ديين إالّ وله ِظلُّه الوارف على مرافق‬
‫واحلق معه‪ ،‬فما من شأن ّ‬ ‫دنيوي‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ديين وما هو‬
‫هو ّ‬
‫احلياة‪ ،‬فالصالة تُبعد املسلم عن ارتكاب املفاسد واملضار باللسان وباليد‪ ،‬وحتث على فعل‬
‫اخلري وما فيه النفع العام‪ ،‬والصوم يكسبه التقوى‪ ،‬والتقوى هو اخلوف من اجلليل‪ ،‬وحيمل‬
‫كل‬
‫كل فع ل خ ري‪ ،‬واجتناب ّ‬ ‫ص احبه على العم ل بالتنزي ل‪ ،‬والعمل به معن اه اإلق دام على ّ‬
‫فعل شر‪ ،‬وبه يغدو العبد عبداً صاحلاً‪ ،‬وعنصراً إجيابياً بناءً يف اجملتمع‪.‬‬
‫وكذلك الزكاة‪ ،‬فهي مد يد املساعدة والعون للفقراء واملساكني‪ ،‬وإشراكهم يف مال‬
‫الغين‪ ،‬وتزكية للمزكي من األنانية والشح‪ ،‬وإعادة اعتبار لآلخر‪ .‬وكذلك ما‬
‫اهلل املتوفر عند ّ‬
‫من شأن دنيوي مقبول إالّ وله دخل يف عمارة األرض والعناية خبلق اهلل‪ ،‬وحتسني ظروف‬

‫حممد تامر‪ ،‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪،2‬‬


‫وحممد ّ‬
‫الغزايل‪ ،‬أبو حامد حممد بن حممد‪ ،‬الوسيط يف املذهب الشافعي‪ ،‬حتقيق أمحد حممود اخلويل ّ‬
‫‪1‬‬

‫‪1420/2000‬م‪.7-7/6 ،‬‬

‫]‪[14‬‬
‫هؤالء العباد املعيشية على وجه أفضل‪ ،‬وهذا يدخل يف صلب الدِّين من حيث هو السبيل‬
‫لتحقيق اخلالفة احلقيقية على أرض اهلل‪.‬‬
‫فنظ ر يف امت داد ه ذه الف روض‪ ،‬ه ل امت دادها وجماهلا ينحص ر يف ب اب من أب واب‬
‫الش ريعة‪ ،‬أم ينتش ر يف مجي ع األب واب دون ب اب بعين ه؟ وتأسيس اً على ه ذا البُع د؛ فق د قس م‬
‫الفروض الكفائية إىل القسمني اآلتيني‪:1‬‬
‫‪ .1‬الف روض الكفائي ة املختص ة بب اب من أب واب الش ريعة‪ :‬وق د مث ل هلذا الن وع‬
‫بالوالي ات العام ة واجله اد وتعلُّم العلم‪ ،‬وإقام ة الص ناعات املهم ة‪ ،‬فه ذه كلُّه ا ف روض‬
‫كفايات قاصرةٌ على باهبا‪.‬‬
‫‪ .2‬الف روض الكفائي ة غ ري املختص ة بب اب من أب واب الش ريعة‪ ،‬فه ذا الن وع من‬
‫ميتد إىل مجيع أبواب الشريعة‪ ،‬وأبواب الش ريعة تتسع جلميع مرافق احلياة‪ ،‬ومثاله‬ ‫الفرض ُّ‬
‫األم ر ب املعروف والنهي عن املنك ر‪ ،‬فإنَّه ي دخل يف مجي ع أب واب احلي اة‪ ،‬فإن ك ت أمر بك ل‬
‫كل ما حتتاجه احلياة‪ ،‬وتنهى عن املنكر أينما كان املنكر وممن صدر‪ ،‬ومهمة‬ ‫معروف يف ّ‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر ترتجم بلغة العصر إىل تقدمي االستشارات املطلوبة إلجناز‬
‫أي عم ٍل متق ٍن مطل وب‪ ،‬وتق ومي األداء وقياس ه يف خمتل ف قطاع ات اجملتم ع وتوجي ه النق د‬
‫ِّ‬
‫البن اء لتص حيح األخط اء اإلداري ة والسياس ية واالجتماعي ة‪ ،‬والتح ذير من إمكاني ة الفش ل‬
‫واإلخفاق‪.2‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬منزلة فرض الكفاية&‬


‫الف روض الكفائي ة ف روض اجتماعيَّة (ح ّق ع ّام) وتض امنيَّة‪ ،‬فهي ف روض اجتماعيَّة‬
‫وكل َّأمة‪،‬‬
‫كل جمتمع‪ّ ،‬‬
‫ومتس األركان اليت هبا قوام ّ‬‫لألمة‪ّ ،‬‬ ‫ألهَّن ا تتعلّق مباشرة باملصاحل العامة َّ‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬الشاطيب‪ ،‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى‪ ،‬املوافقات يف أصول الشريعة‪ ،‬شرح عبد اهلل دراز‪ ،‬ضبط وترمجة حممد عبد اهلل دراز‪ ،‬دار الفكر العريب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1395/1975 ،2‬م‪.3/381 ،‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬عبد الباقي عبد الكبري‪ ،‬إحياء الفروض الكفائية سبيل تنمية اجملتمع‪ ،‬كتاب األمة‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة قطر‪ ،‬العدد ‪،105‬‬
‫‪1426/2005‬م‪ ،‬ص‪.48-47‬‬

‫]‪[15‬‬
‫الديين منه بطريقة مباشرة يف قسم العبادات‬‫وكل دولة‪ ،‬فاإلسالم دين ودولة‪ ،‬فتمثَّل اجلزء ّ‬ ‫ّ‬
‫(الف روض العينيَّة) غالب اً‪ ،‬ومتثّ ل ج زء الدول ة في ه يف الف روض الكفائي ة‪ ،‬وال انفص ام بني‬
‫الش رع احلنيف بدون دولة تعبِّد الطريق أمام‬ ‫األمري ِن‪ :‬الدِّين والدولة‪ ،‬فال تديُّن كما يريده َّ‬
‫ؤمن األج واء املناس بة إلقامته ا‪ ،‬وال تبل غ الدول ة أقص ى درج ات‬ ‫ممارس ة ش عائر ال دِّين‪ ،‬وت ِّ‬
‫العط اء والص الح‪ ،‬ورعاي ة احلق وق وإنص اف املظل وم‪ ،‬وك ذلك ال حتقِّق العدال ة االجتماعيَّة‬
‫بني أبنائه ا إذا مل تتحقَّق العدال ة الداخليَّة لألف راد ابت داءً‪ ،‬وهي عدال ة النَّفس‪ ،‬وه ذه العدال ة‬
‫كماً وكيف اً بعالق ة‬
‫كماً وكيف اً على إتق ان العب ادة واإلخالص هلل تع اىل َّ‬ ‫يتوق ف وجوده ا َّ‬
‫بالس وء فت تزاحم م ع اآلخ رين على‬ ‫األمارة ُّ‬
‫َّفس وتنتق ل من منزل ة َّ‬ ‫طرديَّة‪ ،‬إىل أن تتهي أ الن ُ‬
‫األرض وثرواهتا‪ ،‬إىل منزل ة اللَّوام ة ال يت حتاس ب ذاهتا‪ ،‬وت راقب تص رفاهتا‪ ،‬وتلومه ا إذا‬
‫اعوجت‪ ،‬إىل أن تصل إىل النَّفس املطمئنة اليت تُغلِّب قوة اخلري ومنطق احلق على قوة الشر‬ ‫َّ‬
‫ومنط ق الغلب ة والقه ر‪ ،‬وسياس ة تنحي ة اآلخ ر وتص فيته فك راً وجس داً وروح اً‪ ،‬وق دمياً قي ل‬
‫الدولة تشبه أبناءها‪ ،‬فال يطمع برتقية الدولة إالّ بعد ترقية من يعيش عليها‪.‬‬
‫وفروض تضامنية يشارك يف القيام هبا مجيع أفراد األمة‪ ،‬منهم من ميارسها مباشرة‪،‬‬
‫ومنهم من ميارسها بطريقة غري مباشرة‪ ،‬بالتشجيع واحلث والرتغيب وتذليل العقبات اليت‬
‫حتول دون القي ام هبا‪ .‬وه ذه الف روض ش املة جلمي ع مراف ق احلي اة السياس ية واإلداري ة‬
‫واالقتص ادية والعلمي ة والعس كرية والرتبوي ة‪ ،‬وغريه ا‪ ،‬فهي أداة فاعل ة من أدوات حتري ك‬
‫بفرد من األفراد وهو عنده أهلية التكليف أن يتقاعس عن تقدمي‬ ‫األفراد واألمة‪ ،‬فال تسمح ٍ‬
‫فكل ذي خربة وقدرة‬ ‫كل حسب مؤهالته وخرباته‪ّ ،‬‬ ‫خدمة من اخلدمات العامة للمجتمع‪ّ ،‬‬
‫يقدم ما حيسنه من األعمال إىل جمتمعه وأمته‪ ،‬وعليه سيكون الفرد نشطاً واجتماعي اً‪ ،‬ولكن‬
‫عن دما يتق اعس الف رد‪ ،‬أو األف راد عن القي ام هبذا الن وع من الف روض‪ ،‬فيلج أ إىل االن زواء‬
‫بزوايا البيوت‪ ،‬فيعيش عالة على غريه‪ ،‬أو تنكمش حركته فيجد نفسه وجه اً لوجه مع ذاته‬
‫يبتغيها وسيلة وغاية يف الوقت نفسه‪ ،‬فتأكله األنانية الضيقة‪ ،‬وتضحى سلوكاً معتمداً لديه‪،‬‬
‫وبقدر ما تنتشر ظاهرة األنانيَّة يف هذا الشخص بقدر نفسه أو أكرب تكرب مساحة "األنا"‬

‫]‪[16‬‬
‫وتتوسع‪ ،‬وتتقلص املساحة اجلماعية بوصفها اإلطار العام الناظم لتصرفات الفرد‪ ،‬فالفروض‬
‫العامة يف‬
‫اخلاص ة واملس احة َّ‬
‫احلقيقي إلح داث الت وازن بني املس احة َّ‬ ‫ّ‬ ‫الض مان‬
‫الكفائي ة هي َّ‬
‫الس لوك‪ ،‬بني األن ا واآلخ ر‪ .‬فض الً عن ذل ك ف َّ‬
‫إن إنس انية اإلنس ان يف املنظ ور اإلس المي ال‬
‫تكتمل إالّ بتفاعل إجيايب هلذا اإلنسان املكلف اخلليفة مع اجلماعة وللجماعة‪ ،‬وهكذا تأخذ‬
‫ه ذه الف روض الكفائي ة زم ام املب ادرة الن دماج الف رد يف جمتمع ه وأمت ه واألس رة البش رية‪،‬‬
‫وتقضي على التواكل واالنغالق واالنعزال واملراوحة حول الذات‪.‬‬
‫ولالهتمام بالفروض االجتماعية واالكرتاث حبضورها يف اجملتمع؛ فقد مسيت هذه‬
‫حلق اهلل تعاىل‪،‬‬
‫يعد هدراً ّ‬‫وأي تقاعس عنها ُّ‬ ‫حبق اهلل تعاىل على عباده‪ّ ،‬‬‫الفروض على العباد ّ‬
‫فالواجب ات الش رعية على الف رد هلا بُع ٌد حق وقي لآلخ ر‪ ،‬والقي ام هبا هنوض ب اجملتمع وقي ام‬
‫مبصاحل األمة‪ ،‬ومن مث كان القيام بالواجبات الكفائية قياماً ورعاية حلقوق اهلل‪.‬‬
‫ه ذا وق د ن اقش األص وليون مس ألة أيّهم ا األفض ل‪ :‬ف رض العني‪ ،‬أم ف رض الكفاي ة؟‬
‫وكانت زبدة أجوبتهم على النحو اآليت‪:‬‬
‫الق&&ول األول&‪ :‬يرى أصحاب هذا القول أفضلية الفروض الكفائية وأولويتها على‬
‫الفروض العينية‪ ،‬وكان معتمدهم يف هذا أ ّن القائم بالفرض الكفائي يقوم بالفرض أصالةً‬
‫األمة‪ ،‬بينما الفروض العينيَّة فإ ّن املكلَّف يقوم عن نفسه‪ ،‬وال ينوب‬ ‫عن نفسه‪ ،‬ونياب ةً عن َّ‬
‫فيها عن غريه‪ .‬ومن جهة أخرى؛ فإ ّن املتقاعس عن الف روض العينية يأمث هو فقط‪ ،‬بينما‬
‫األمة مجيعُهم‪ ،‬وم ا ت رتَّب علي ه‬
‫املتق اعس عن الف روض الكفائي ة ي أمث ه و وي أمث مع ه أف راد َّ‬
‫ألن املصلحة املتوخاة من وراء‬‫اإلسقاط العام أفضل ممَّا ترتَّب عليه اإلسقاط اخلاص؛ ذلك َّ‬
‫تش ريع الف روض الكفائي ة متعدِّي ة إىل غ ري الق ائمني هبا‪ ،‬بينم ا املص لحة املتوخ اة من وراء‬
‫وخاص ةٌ ال تتج اوز الق ائمني هبا إىل غ ريهم‪ ،‬وم ا‬
‫َّ‬ ‫تش ريع الف روض العيني ة يف الغ الب واقف ةٌ‬
‫املهمات؛ فهو مقدَّم‬
‫أعم من حيث األفراد‪ ،‬وأمشل من حيث ما يندرج حتته من َّ‬ ‫كان نفعُ ه ّ‬
‫أخص‪ .‬يقول إمام احلرمني (ت‪)478‬يف هذه النقطة‪:‬‬
‫أقل‪ ،‬ومشوله ّ‬
‫حتماً على ما كان نفعُ ه ّ‬
‫"ال ذي أراه َّ‬
‫أن القي ام مبا ه و من ف روض الكفاي ات أح رى ب إحراز ال دَّرجات‪ ،‬وأعلى من‬

‫]‪[17‬‬
‫فنون ال ُق ُربات من فراِئض األعيان‪َّ ،‬‬
‫فإن ما تعنَّي على املتعبّ د املكلَّف لو تركه ومل يقابل أمر‬
‫اختص املأمث به‪ ،‬ولو أقامه فهو املثاب‪ ،‬ولو فرض تعطيل ٍ‬
‫فرض من‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫الش ارع فيه باالرتِسام‬‫َّ‬
‫كاف‬
‫الرتب والدَّرجات‪ ،‬والقائم به ّ‬ ‫لعم املأمث على الكافة على اختالف ُّ‬
‫فروض الكفايات َّ‬
‫حيل حمل‬
‫نفسه وكافة املخاطبني احلرج والعقاب‪ ،‬وآمل أفضل الثَّواب‪ ،‬وال يهون قدر من ُّ‬
‫مهمات الدِّين"‪.1‬‬
‫مبهم من ّ‬
‫املسلمني أمجعني يف القيام ٍّ‬
‫يعم مبا نُقل‬
‫يعم نفعها على ما ال ُّ‬
‫واستأنسوا يف التأصيل لزيادة فضل الفروض اليت ُّ‬
‫الص الة النافلة‪ ،‬وذلك النتشار مصلحة‬ ‫الش افعي َّ‬
‫بأن االشتغال بالعلم أفضل من َّ‬ ‫عن اإلمام َّ‬
‫العلم ومشوله‪ ،2‬وعلّل ابن ُجزي املالكي (ت‪741‬هـ) فضل الفروض الكفائية على العبادات‬
‫باألمور اآلتية‪:‬‬
‫‪ .1‬ورود نصوص شرعيَّة يف تفضيل العامل على العابد‪.‬‬
‫‪ .2‬منفعة العبادة لصاحبها‪ ،‬ومنفعة العلم له ولغريه‪.‬‬
‫‪ .3‬أجر العبادة ينقطع باملوت‪ ،‬وأجر العلم يستمر ملن خلف علماً يُْنتَفع به بعده‪.3‬‬
‫َ‬
‫القول الثاني‪&:‬‬
‫أهم‪ ،‬وهذه‬‫بأن الفرض العيين ّ‬ ‫وهو قول مُج هور األصوليِّني‪ ،‬ويستدلّون على ذلك َّ‬
‫دل على أنّ ه األفض ل‪ ،‬ودلي ل أمهيت ه أنَّه وجب على مجي ع املكلفني ف رداً ف رداً‪ ،‬وال‬‫األمهي ة ت ُّ‬
‫خبارج عنه‪.4‬‬
‫أحد ٍ‬

‫‪1‬‬
‫إمام احلرمني‪ ،‬عبد امللك بن عبد اهلل‪ ،‬غياث األمم يف التياث الظلم‪ ،‬حتقيق ودراسة مصطفى حلمي‪ ،‬فؤاد عبد املنعم‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1979‬م‪ ،‬ص‪.261‬‬
‫‪2‬‬
‫ينظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬حممد بن هبادر‪ ،‬املنثور يف القواعد‪ ،‬حتقيق تيسري فائق أمحد حممود‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪1405 ،2‬ه‪،‬‬
‫‪.421 -420 /2‬‬
‫‪3‬‬
‫ابن جزي‪ ،‬حممد بن أمحد الكليب الغرناطي‪ ،‬القوانني الفقهية‪ ،‬دار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪1982 ،1‬م‪ ،‬ص‪.425‬‬
‫‪4‬‬
‫ينظر‪ :‬ابن بدران‪ ،‬عبد القادر بن بدران الدمشقي‪ ،‬املدخل إىل مذهب اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬حتقيق عبد اهلل بن عبد احملسن الرتكي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪1980 /1401 ،1‬م‪.229 /1 ،‬‬

‫]‪[18‬‬
‫بأن فروض األعيان آكد من فروض الكفايات؛ بدليل َّ‬
‫أن الشَّرع قد‬ ‫وعضدوا قوهلم َّ‬
‫كل فرد بذاته دون الفرض الكفائي‪.‬‬
‫خاطب بالفرض العيين َّ‬
‫ولق د رب ط النَّيب ص لى اهلل علي ه وس لم ِعص مة ال دَّم واملال ِ‬
‫بالقي ام ب الفروض العينيَّة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫ومل يربطها بالقيام بالفروض الكفائيَّة‪ ،‬وذلك من خالل قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ُِ « :‬أم ْرت‬
‫حمم ًدا رس ول اهلل‪ ،‬ويقيم وا الص الة‬‫وأن َّ‬‫أن ُأقات ل النَّاس حىَّت يش هدوا أن ال إل هَ إالَّ اهلل‪َّ ،‬‬
‫عص موا ميِّن دماءهم وأمواهلم إالَّ حِب ِّق اإلسالم‪ ،‬وحساهبم‬ ‫الزكاة‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك َ‬ ‫ويؤتوا َّ‬
‫على اهلل»‪.1‬‬
‫أن الف رض العي ين ال ذي ال يتج اوز الق ائم ب ه ق د يك ون أفض ل من‬ ‫وق الوا أيض اً ب َّ‬
‫الفرض الكفائي الذي يعود نفعه لعامة الناس‪ ،‬ومن ذلك اإلميان‪ ،‬فإ ّن اإلميان من الواجبات‬
‫كل الواجبات الكفائية‪ ،‬وهو أساس مجيع األعمال‪ ،‬وتأصيل هذه‬ ‫العينية‪ ،‬وهو أفضل من ّ‬
‫املس ألة يف احلديث اآليت‪ :‬عن أيب هري رة رض ي اهلل عنه‪ ،‬قق ال‪ُ :‬س ِئ َل النَّيِب ُّ ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم َأي األعمال أفضل؟ قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إميان باهلل ورسوله‪ .‬قيل‪ :‬مثّ ماذا؟‬
‫‪2‬‬
‫العيين "اإلميان"‬
‫ّ‬ ‫الواجب‬ ‫فقدم‬ ‫‪،‬‬ ‫حج مربور»‬
‫قال‪ :‬جهاد يف سبيل اهلل‪ .‬قيل‪ :‬مثّ ماذا؟ قال‪ّ :‬‬
‫الكفائي "اجلهاد يف سبيل اهلل"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على الواجب‬
‫وحاول بعض األصوليِّني اجلمع بني القولني السابقني يف هذه املسألة‪ ،‬حيث رأوا َّ‬
‫أن‬
‫حق شخص‬ ‫تفضيل فرض الكفاية على فرض العني حممول على ما إذا تعارض الفرضان يف ّ‬
‫واحد‪ ،‬وال يكون ذلك إالَّ عند تعيُّنهما‪ ،‬ويف هذه احلالة يكون الفرضان فرض عني‪ ،‬ويُنظر‬
‫أقل‬
‫كل فرض‪ ،‬فيقدم ما حيقق أعظم مصلحة على ما حيقق ّ‬ ‫إىل عظم املصلحة اليت حيققها ّ‬
‫منها‪ .‬وإذا مل يتعارضا‪ ،‬وكان فرض العني متعلِّق اً بشخص‪ ،‬وفرض الكفاية مل يتعنّي عليه‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫أ خرجه البخاري عن ابن عمر ‪ -‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬باب‪ :‬فإن تابوا وأقاموا الصالة وآتوا‬
‫الزكاة فخلوا سبيلهم‪.1/22 ،‬‬
‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب احلج‪ ،‬بباب فضل احلج املربور‪.2/264 ،‬‬

‫]‪[19‬‬
‫ومثة من يق وم ب ه؛ فف رض العني أوىل بالنس بة هلذا الش خص‪ .1‬ومث ال ذل ك‪ :‬م ا إذا ه اجم‬
‫العدو بلداً للمسلمني يف هنار رمضان‪ ،‬وعنّي اإلمام بعض الناس لص ّد ذلك العدوان‪ ،‬ومن‬
‫بينهم شخص أرهقه الصيام فوقع بني اخليارين‪ :‬خيار اإلفطار‪ ،‬وخيار ترك القتال‪ .‬ففي هذه‬
‫احلال ة تع ارض عن ده الفرض ان‪ :‬ص وم رمض ان وه و ف رض عني‪ ،‬واجله اد ال ذي تعني علي ه‬
‫بتكلي ف اإلم ام ل ه بالقت ال‪ ،‬فاجله اد (وه و ف رض كف ائي يف األص ل) يف حقِّه هن ا أوىل من‬
‫ألن مصلحة اجلهاد أكرب من مصلحة الصيام‪.‬‬‫الصيام‪ ،‬فيفطر ليقاتل؛ َّ‬
‫َّأما إذا مل يتعارض الفرضان يف حقِّه‪ ،‬بان مل يقعا على رتبة واحدة‪ ،‬كأن يكون يف‬
‫لصد ذلك العدوان‪ ،‬فاألوىل بالنسبة هلذا الشخص أن يق ّدم‬‫البلد عدد كاف من اجملاهدين ِّ‬
‫فرض العني وهو الصيام على فرض الكفاية وهو اجلهاد؛ إذ مصلحة اجلهاد حتقَّقت بغريه‪.2‬‬
‫أمر حيتاج إىل توقف‪ ،‬كما كان دأب‬‫أن عقد املفاضلة بني الفرضني ٌ‬ ‫والذي يبدو يل َّ‬
‫بعض األصوليني القدامى‪ ،‬فساعة ال يتثبتون يف أم ٍر ما يتوقفون عن إبداء الرأي فيه خمافة‬
‫التقول على اهلل تعاىل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم إىل أن يرتجح لديهم طرف على آخر‪،‬‬
‫ومع هذا التوقف باإلمكان اإلشارة إىل بعض األمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ .1‬الف رض العي ين والكف ائي متس اويان يف اإلجياب واإلل زام‪ ،‬فك ّل واح ٍد منهم ا‬
‫طلب الش ارعُ حص ولَه من املكلَّف بطلب ج ازم‪ ،‬فيث اب على القي ام ب ه‪ ،‬ويس ّ‬
‫تحق الل وم‬
‫والعتاب والعقاب على تركهما‪.‬‬
‫ويفهم من ذلك حرص الشارع على القيام به‪ ،‬وهذا احلرص إن َّ‬
‫دل على شيء فإنّه‬
‫ُّ‬
‫يدل على موقع هذين الفرضني الشرعيني‪ ،‬وأمهيتهما‪.‬‬
‫األمة مجيعه ا إذا تقاع د البعض عن القي ام ب ه هلو خ ري دلي ٍل على أمهي ة‬‫وت أثيم َّ‬
‫الف روض الكفائي ة وموقعه ا يف رؤي ة اإلس الم وتش ريعاته للحي اة‪ ،‬والقي ام بأعبائه ا لتحقي ق‬
‫حممد تامر‪ ،‬دار الكتب العلميَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫حممد َّ‬
‫حممد بن هبادر‪ ،‬البحر احمليط يف أصول الفقه‪ ،‬ضبط وختريج وتعليق َّ‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬بدر الدِّين َّ‬
‫‪1421/2000‬م‪.252 /1 ،‬‬
‫‪ 2‬مشايل‪ ،‬صابر السيد حممد علي‪ ،‬الواجب الكفائي (فرض الكفاية)‪ :‬دراسة أصولية مؤيدة بالنماذج الفقهية‪ ،‬ص ‪.18-16‬‬
‫‪/http://www.alukah.net/Sharia/0/7657‬‬

‫]‪[20‬‬
‫وظيفة االستخالف على أرض اهلل‪ ،‬ولو مل يكن للفرض الكفائي أمهية كبرية ومنزلة خطرية‬
‫ملا طلب الشارع من اجلميع القيام به‪ ،‬وال حتم على الكافة إجياده‪.‬‬
‫حتقيق املصاحل اخلاصة‬
‫ني وغريمها من األحكام الشرعية ُ‬ ‫‪ .2‬اهلدف من تشريع الفرض ِ‬

‫والعام ة‪ ،‬الديني ة والدنيوي ة‪ ،‬العاجل ة واآلجل ة‪ ،‬املادي ة والروحي ة‪ ،‬وإجياد ه ذه املص احل ابت داءً‬
‫وصيانتها وإدامتها انتهاءً‪ ،‬ال يعتمد دوم اً على وسيلة واحدة فقط‪ ،‬أو شخص واحد‪ ،‬بل‬
‫كل واحد من املكلَّفني‪ ،‬أو جمموعة خمصوصة‪ ،‬والشريعة‬ ‫قد يعتمد على شخص واحد‪ ،‬أو ّ‬
‫تتش وف وتتش وق إىل حتقي ق ه ذه املص احل الفعلي ة كلّه ا‪ ،‬وبتحقيقه ا كلّه ا تكتم ل املص احل‬
‫وتتم‪ ،‬ومعىن ذلك وجود عالقة تالزمية وتكاملية بني الفرضني‪ ،‬والرتكيز على حصوهلما‪.‬‬
‫ّأم ا السؤال عن أيّهما أفضل؟ فهذا سؤال يف األفضلية‪ ،‬والسؤال يف األفضلية يُثبت الفضل‬
‫للفرض ني كليهم ا‪ ،‬واإلش كال يف الق در الزائ د‪ ،‬ويف ه ذا تتب ادل األدوار حس ب املكلفني‬
‫واألزمنة واألمكنة ونوع الفرض (حقيقته)‪.‬‬
‫مهمة لكوهنا فروضاً ُمعِ ّدة لشخصية املسلم ومؤهلة له‪،‬‬ ‫‪ .3‬الفروض العينية فروض َّ‬
‫ومن احملتمل أن يكون هذا القائم بالفروض العينية هو القائم بالفرض الكفائي املتناسب مع‬
‫قدراته أيضاً‪ ،‬يف زمن من األزمنة‪ ،‬أو مكان من األمكنة‪ ،‬هو بعينه أو معه آخرون‪ ،‬زد على‬
‫فإن الذين يقومون بالفروض الكفائية هم الذين قاموا بالفروض العينية وسيقومون هبا‪،‬‬ ‫ذلك َّ‬
‫ني‪ ،‬يستند أحدمها على اآلخر بطريقة مباشرة‪ ،‬أو‬ ‫لذلك نرى عالقةً عضوية قويةً بني الفرض ِ‬
‫غري مباشرة‪ ،‬وهذا ما جيعلنا نفهم هذه العالق ة وما يرتتب عليه ا من آث ار وأجر على أهَّن ا‬
‫عالق ة تكاملي ة‪ ،‬كم ا ه و احلال بني املف ردات التش ريعية‪ ،‬فالنس قية والتكاملي ة من املم يزات‬
‫اليت يتميز هبا التشريع اإلسالمي عن غريه من التشريعات الوضعية‪ .‬يقول األستاذ عمر عبيد‬
‫حس نه يف ه ذا الص دد‪" :‬وق د ال نس تغرب أن ي ذهب بعض الفقه اء إىل تق دمي الف روض‬
‫ألن أثر الفرض العيين يقتصر على الفرد بالدرجة‬ ‫الكفائية يف املرتبة على الفروض العينية؛ َّ‬
‫الكفائي فيستوعب مصاحل األمة مجيع اً‪ ،‬وإن كنّ ا ال نرى املقابلة يف هذه‬‫ّ‬ ‫األوىل‪ّ ،‬أما الفرض‬

‫]‪[21‬‬
‫القض ية‪ ،‬واالش تغال بأيّهم ا أفض ل عن الفع ل املطل وب‪ ،‬وإمّن ا األم ر يف نظرن ا ق ائم على‬
‫التّكامل وليس التّقابل"‪.1‬‬
‫أثر يف أمهية فعل من األفعال‪ ،‬أو تصرف من‬ ‫‪ .4‬يكون لعنصر التكرار (االستمرار) ٌ‬
‫التص رفات‪ ،‬وه ذا أم ٌر مس تقرأ من منهج التش ريع يف تقري ر األحك ام الش رعية ودرجاهتا‪،‬‬
‫فالص الة عب ادة تتك َّر ُر يف ك ّل ي وم‪ ،‬والص وم عب ادة يتك َّر ُر ك ّل ع ام‪ ،‬ودف ع الزك اة مرتب ط‬
‫بوج ود م ٍال بل غ النص اب وح ال علي ه احلول‪ ،‬وه ذا يتك ّرر أيض اً‪ ،‬وكلّم ا اعت ىن الش رع‬
‫بسبب (أو علّ ة)‪ُ ،‬وجد بوج وده‪ ،‬وهذا التَّك رار‪ ،‬وه ذا‬‫ٍ‬ ‫بشيء؛ طلبه طلب اً جازم اً‪ ،‬وربط ه‬
‫ٍ‬
‫ملفسدة واقعة‬ ‫قارة ودائمة‪ ،‬ودفعه‬ ‫ٍ‬
‫دى وعبث اً‪ ،‬بل الشتماله على مصلحة ّ‬ ‫االعتناء مل يأت ُس ً‬
‫أو متوقَّعة‪ ،2‬فمعظم الف روض العيني ة ف روض متك ررة‪ ،‬بينم ا بعض الف روض الكفائي ة ق د‬
‫مرة‪ ،‬وال تتكرر مصلحتها بتكررها‪ ،‬فهي مصاحل مؤقتة بزمان‬ ‫حيصل املقصود منها بفعلها ّ‬
‫وحمددة مبك ان‪ ،‬ومثال ه إنق اذ الغري ق‪ ،‬ف إذا أنق ذه أح د؛ فق د حتققت املص لحة‪ ،‬وإذا ن زل يف‬
‫البحر شخص آخر فال مصلحة حمققة من نزوله‪ ،‬النتفاء علّة الوجوب‪.‬‬
‫وهن اك ف روض كفائي ة تتج دد مص احلها بتع دد الق ائمني هبا‪ ،‬كاالش تغال‬
‫ب العلوم الديني ة والطبي ة والطبيعي ة‪ ،‬واألم ر ب املعروف والنهي عن املنك ر (جه از الرقاب ة‬
‫كل زمان ومكان‪ ،‬وتتكرر‬ ‫واحملاسبة)‪ ،‬فهذه الواجبات ترتبط هبا مصاحل الناس املتجددة يف ّ‬
‫حاجة الناس إليها‪.‬‬
‫‪ . 5‬القي ام بف رض الكفاي ة قي ام مبا حيت اج إلي ه اجملتم ع‪ ،‬فمعظم الف روض الكفائي ة‬
‫ب يف دائ رة العم ل املع روف م ع اآلخ رين‪ ،‬وإع انتهم‬ ‫ف روض حتق ق املص احل العام ة‪ ،‬وتص ُّ‬
‫حتث األف راد‬
‫والتع اون معهم‪ ،‬فه و تع اون على ال رب والتق وى‪ ،‬ويف الش ريعة نص وص كث رية ُّ‬
‫على املبادرة واملسارعة يف تقدمي العون واملساعدة لآلخر‪ ،‬وختفيف أعباء احلياة عنه‪ ،‬ومن‬
‫يُقدم على الفعل املعروف مع أخيه وجمتمعه وأمته فقد استحق عوناً من اهلل تعاىل ورمحة منه‬

‫‪ 1‬عمر عبيد حسنة‪ ،‬يف تقدميه لكتاب‪ :‬إحياء الفروض الكفائية سبيل تنمية اجملتمع‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫هني عن الكذب‪ ،‬وأ ّن عدم حتقق مصاحل الناس نفسه‬
‫هني عن الكفر‪ ،‬واألمر بالصدق ٌّ‬
‫هني عن ضده ضمناً‪ ،‬فاألمر باإلميان ّ‬ ‫بناءً على أ ّن‪ :‬األمر بالشيء ٌّ‬
‫‪2‬‬

‫مفسدة‪ ،‬ألنَّه يؤثر يف نوعية احلياة اليت يعيشها‪.‬‬

‫]‪[22‬‬
‫وبركات‪ ،‬ويُعظم له أجراً‪ ،‬ففي القرآن‪َ ﴿ :‬وتَ َع َاون ُو ۟ا عَىَل ٱلْرِب ِّ َوٱلتَّ ْق َو ٰى ۖ َواَل تَ َع َاون ُو ۟ا عَىَل ٱ مْث ِ َوٱلْ ُع دْ َ ٰ‌و ِن‬
‫ِإْل‬
‫ۚ﴾ [سورة املائدة‪ ،]2 :‬ويف احلديث‪« :‬املسلم أخو املسلم‪ ،‬ال يظلمه وال يسلمه‪ ،‬من كان‬
‫يف حاجة أخيه كان اهلل يف حاجته‪ ،‬ومن فرج عن مسلم كربة‪ ،‬فرج اهلل عنه هبا كربة من‬
‫كرب يوم القيامة‪ ،‬ومن سرت مسلماً سرته اهلل يوم القيامة»‪.1‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬أثر سوء تقدير& منزلة الفروض الكفائية‬


‫اإلنس ان ك ائن متح ِّرك‪ ،‬ومتعام ل م ع م ا حول ه من اإلنس ان والنب ات واحلي وان‬
‫واجلم اد‪ ،‬ويتعام ل م ع األرض وم ا فيه ا وم ا عليه ا‪ ،‬وحياول أن يتعام ل م ع الس موات وم ا‬
‫فيه ا‪ ،‬وال يعيش منف رداً منع زالً‪ ،‬وأس اس تعامل ه م ع األش ياء ق ائم على تص وره هلا ابت داءً‪،‬‬
‫وتقديره هلا‪ ،‬فإذا حدد موقعها الص حيح فيتص رف التص رف الس ليم‪ ،‬وإن مل يقدر موقعها‬
‫فيتص رف جتاهه ا التص رف البهيم‪ ،‬فمن خالل تص وره للكت اب وتق ديره ل ه يقت ين كتاب اً‪،‬‬
‫ويُقبِ ل على قراءته‪ ،‬ومن خالل إدراكه للماء وتقديره ألمهيته حُي افظ عليه وال يهدره‪ ،‬ومن‬
‫خالل إدراكه أمهية الوقت‪ ،‬يتعامل معه‪ ،‬فإن كان الوقت ال يعين عنده شيئاً؛ فرتاه مض يِّعاً‬
‫له‪ ،‬وإن كان يعين احلياة‪ ،‬فيُحافظ عليه‪ ،‬وال يسمح ألحد أن يسرق وقته مبا ال ينفع‪ ،‬ومن‬
‫منطل ق معرفت ه وتق ديره للحي اة فس يرتك بص مته فيه ا‪ ،‬وال يرتكه ا كم ا ب دأها‪ ،‬فهن اك من‬
‫الن اس من خيرج من احلي اة كم ا دخله ا الي وم األول ص فر الي دين‪ ،‬فيُنس ى ذك ُره‪ ،‬وال يبقى‬
‫أث ره‪ ،‬أل ّن األث ر الطيب يبقى ملن ق دم عمالً ص احلاً يف ال دنيا ﴿ اَّن حَن ْ ُن حُن ْ يِي الْ َم ْوىَت ٰ َونَ ْك ُت ُب َم ا‬
‫ِإ‬
‫قَدَّ ُموا َوآاَث َرمُه ْ َولُك َّ يَش ْ ٍء َْأح َص ْينَا ُه يِف َما ٍم ُّمبِنيٍ ﴾ [سورة يس‪ .]12:‬عن سهل بن سعد قال‪ :‬كنّ ا‬
‫ِإ‬
‫مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بذي احلُليفة‪ ،‬فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها فقال‪:‬‬

‫مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬كتاب الرب والصلة‪ ،‬باب حترمي الظلم‪ ،‬رقم احلديث (‪.4/1996 ،)2580‬‬ ‫‪1‬‬

‫]‪[23‬‬
‫«أترون هذه هين ةً على صاحبها فو الذي نفسي بيده لَلدنيا أهون على اهلل من هذه على‬
‫جناح بعوضة ما سقى كافراً منها قطرة أبداً»‪.1‬‬
‫صاحبها‪ ،‬ولو كانت الدنيا تَزن عند اهلل َ‬
‫وهكذا‪ ،‬سوء تقدير األمة ملوقع واجباهتا الكفائية نتيجة جهل كث ٍري من أبنائه ا بأمهيَّة‬
‫العامة يف تنمي ة اجملتم ع‪،‬‬‫ه ذه الف روض االجتماعيَّة‪ ،‬وع دم تق ديرهم ملكان ة ه ذه املص احل َّ‬
‫وتقوي ة ش بكة عالقات ه االجتماعي ة‪ ،‬ومتكين ه بع د ذل ك يف األرض‪ ،‬وع دم إدراكهم للعالق ة‬
‫األمة وقوهتا‪ ،‬وبني مس تويات أداء ه ذه الف روض ونوعيَّة أدائه ا؛ أدى‬ ‫الطَّرديَّة بني هنوض َّ‬
‫ألمة احلض ارة وص انعها‪ ،‬أو ّأدى إىل هناي ة حض ارهتا‪ ،‬وت رتب‬ ‫ذل ك إىل ال رتاجع احلض اري َّ‬
‫ين‪،‬‬‫العلمي والتق ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ادي يف قي ادة البش ريَّة يف اجملال‬
‫الري ّ‬
‫على ه ذا الرَّت اج ع ض ياعُ مركزه ا ِّ‬
‫واإلداري وغريها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫واالجتماعي‬
‫ِّ‬ ‫واالقتصادي‬
‫ِّ‬ ‫ياسي‬
‫والس ِّ‬
‫ِّ‬
‫اختالل النِّس ب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومن اإلص ابات ال يت ض ربت عقلي ة ع دد غ ري قلي ل من املس لمني‬
‫الش رعيَّة يف تق دير األم ور واألفك ار واألعم ال وترتيبه ا‪،‬‬ ‫واض طراب املوازين من الوجه ة َّ‬
‫يؤخر‪ ،‬ويف متييز‬ ‫وأي عمل جيب أن َّ‬ ‫وأي عمل جيب أن يقدَّم‪ّ ،‬‬ ‫وتقدمي بعضها على بعض‪ّ ،‬‬
‫الش يخ يوسف القرضاوي‪" :‬فال‬ ‫يس ر‪ .‬يقول َّ‬ ‫أخره‪ ،‬وما ش ّدد فيه وما ّ‬ ‫الش رع وما َّ‬ ‫ما قدَّمه َّ‬
‫األهم‪ ،‬وال املرج وح على ال راجح‪ ،‬وال املفض ول‬ ‫املهم على ّ‬ ‫املهم‪ ،‬وال ِّ‬ ‫املهم على ِّ‬ ‫يُق دَّم غ ري ِّ‬
‫ؤخر م ا ح ّق ه الت أخري‪ ،‬وال يك رب‬ ‫على الفاض ل‪ ،‬أو األفض ل‪ ،‬ب ل يق دَّم م ا ح ّق ه التق دمي‪ ،‬وي َّ‬
‫كل شيء يف موضعه بالقسطاس املستقيم‪ ،‬كما قال‬ ‫الص غري‪ ،‬وال يهون اخلطري‪ ،‬بل يُوضع ُّ‬ ‫َّ‬
‫الس َما َء َرفَ َعهَا َو َوضَ َع الْ ِم َزي َان َأاَّل ت َْطغ َْوا يِف الْ ِم َزي ِان َوَأ ِقمي ُ وا الْ َو ْز َن اِب لْ ِق ْس طِ َواَل خُت ْ رِس ُ وا الْم َ‬
‫ِزي َان﴾‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫[س ورة ال رمحن‪ ،]9-7:‬وأس اس ه ذا َّ‬
‫أن القيم واألحك ام واألعم ال والتك اليف متفاوت ة يف‬
‫نظر الشرع تفاوتاً بليغاً‪ ،‬وليست كلّها يف رتبة واحدة‪ ،‬فمنها الكبري‪ ،‬ومنها الصغري‪ ،‬ومنها‬

‫‪ 1‬ابن ماجه‪ ،‬حممد بن يزيد القزويين‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ ،‬حتقيق شعيب األرنؤوط وعادل مرشد‪ ،‬وآخرين‪ ،‬دار الرسالة العاملية‪ ،‬ط ‪ 1430 ،1‬هـ‪ 2009/‬م‪،‬‬
‫كتاب الزهد‪ ،‬باب مثل الدنيا‪ ،‬رقم احلديث (‪ ،5/230 ،)4110‬وصححه األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين‪ ،‬صحيح سنن ابن ماجه‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1407/1986 ،1‬م‪.2/398 ،‬‬

‫]‪[24‬‬
‫الص لب‪،‬‬
‫املكمالت‪ ،‬ومنها ما موضعه يف ّ‬
‫الفرعي‪ ،‬ومنها األركان‪ ،‬ومنها ِّ‬
‫ّ‬ ‫األصلي‪ ،‬ومنها‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫ومنها ما موضعه يف اهلامش‪ ،‬وفيها األعلى واألدىن‪ ،‬والفاضل واملفضول" ‪.‬‬
‫خي لبن اء مس جد‬‫الس ّ‬
‫ويف أرض الواق ع جتد الكث ري من احملس نني مس تعدين لإلنف اق ّ‬
‫يُض اف إىل مس اجد كث رية يف املدين ة نفس ها‪ ،‬وحيرص ون على تك رار احلج عش رات املرات‬
‫المي حمت ل‪ ،‬وق د‬
‫بينم ا حيجم ون عن الب ذل لنش ر ال دعوة‪ ،‬أو دعم اجله اد لتحري ر بل د إس ّ‬
‫املايل‪ ،‬ويُهمل ون طالب اً يف كلي ة‬ ‫ٍ‬
‫بالرعاي ة وال دَّعم ّ‬
‫رعي ِّ‬
‫جتدهم يتكفل ون ط الب علم ش ّ‬
‫األمة إليهم أق وى‬
‫الزراع ة‪ ،‬وإن ك انت حاج ة َّ‬
‫الص يدلة‪ ،‬أو يف كلي ة العل وم‪ ،‬أو يف كلي ة ِّ‬
‫َّ‬
‫َّرعي‪.‬‬
‫وأش ّد من الطالب الش ّ‬
‫الغزايل ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬م ا حدث ل ه مع أحد املس لمني‬
‫ّ‬ ‫حممد‬
‫الش يخ َّ‬
‫هذا‪ ،‬ويس رد لنا َّ‬
‫للحج يف يد شاب متخرج‬ ‫خصصه ِّ‬ ‫حيج نافلة‪ ،‬فأرشده إىل أن يضع املبلغ الذي َّ‬
‫راغب اً أن َّ‬
‫ختص ص فيه‪ ،‬واملسلمون حباجة إىل‬ ‫من كلية الصيدلة‪ ،‬وهو فقري غري قادر على ممارسة ما َّ‬
‫صيدليات إسالمية‪ ،‬وهذا العمل أنفع للشاب حيث يبدأ به حياة تنفعه وتنفع أمته‪ ،‬وقد‬
‫وُأعني على فتح صيدلية‪ ،‬ما هذا؟ وبدأ‬‫الرجل من كالم الشيخ قائالً‪ََ :‬أدع احلج! ُ‬
‫اندهش َّ‬
‫الش يخ يف توضيح الفكرة أكثر بقوله‪" :‬إذا كان صوم التطوع يُعجز املدرس عن تصحيح‬ ‫َّ‬
‫ورقة إجابة بدقة؛ فال ينبغي له أن يصوم‪ ،‬وكذلك إذا كان شيء من ذلك يعجز الطبيب‬
‫عن إجادة فحص املريض‪ ،‬أو تصوير املوضع املصاب‪ ،‬أو كتابة الدواء الالزم"‪.2‬‬
‫وقد أفصح عن هذا الفقه الرصني فقه املوازين واألولويات قولُه تعاىل‪َ﴿ :‬أ َج َع ْلمُت ْ ِس َقايَ َة‬
‫ون ِعن دَ اهَّلل ِ ۗ َواهَّلل ُ اَل هَي ْ ِدي‬ ‫اج َومِع َ َار َة الْ َم ْس ِ‬
‫جِد الْ َح َرا ِم مَك َ ْن آ َم َن اِب هَّلل ِ َوالْ َي ْو ِم اآْل ِخ ِر َو َجاهَدَ يِف َسبِيلِ اهَّلل ِ ۚ اَل ي َْس َت ُو َ‬ ‫الْ َح ّ ِ‬
‫الْ َق ْو َم ا َّلظا ِل ِم َني اذَّل ِ َين آ َمنُ وا َو َه ا َج ُروا َو َجا َه دُ وا يِف َس بِيلِ اهَّلل ِ بَِأ ْم َوا ِله ِْم َوَأن ُف ِس ه ِْم َأع َْظ ُم د ََر َج ًة ِعن دَ اهَّلل ِ ۚ َوُأولَٰ ِئ َك مُه ُ‬
‫ون﴾ [سورة التوبة‪.]20-19 :‬‬ ‫الْ َفاِئ ُز َ‬
‫ولق د ك ان ه ذا االختالل املتع دد الوج وه يف حي اة املس لمني من أق وى مظ اهر‬
‫احلضاري‪ ،‬وكيف ال‪ ،‬وقد ُأمهلت فروض الكفاية املتعلقة مبجموع األمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التقهقر والرتاجع‬
‫القرضاوي‪ ،‬يوسف عبد اهلل‪ ،‬يف فقه األولويّات‪ :‬دراسة جديدة يف ضوء القرآن والسنة‪ ،‬الوهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1416/1996 ،2‬م‪ ،‬ص‪.9‬‬ ‫‪1‬‬

‫حممد الغزايل‪ ،‬مشكالت يف طريق احلياة اإلسالمية‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالميَّة‪ ،‬قطر‪ ،‬كتاب األمة‪ ،‬ط‪ ،1‬العدد ‪1402 ،1‬هـ‪ ،‬ص‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫]‪[25‬‬
‫ياسي‪ ،‬وهضم احلقوق‪ ،‬وهنب الثروات واحتكارها يف‬ ‫والس ّ‬
‫االجتماعي ِّ‬
‫ّ‬ ‫ومنها مقاومة الظلم‬
‫ؤخر‪ ،‬ويُكرَّب‬
‫عام يف املعايري واألولويات‪ ،‬يُص غّر الكبري فيُ َّ‬
‫يد شرذمة قليلني‪ ،‬ح ّق اً أنَّه اختالل ّ‬
‫يعزز فقه تنظيم األولويات وترتيبها يف الدروس واحملاضرات‪ ،‬وال تطبيق‬ ‫الصغري فيُقدَّم‪ .‬وال َّ‬
‫َّ‬
‫لتق دمي العم ل املتع دي النَّف ع على العم ل القاص ر النف ع‪ ،‬وعلى أس اس مق دار النف ع ومشوله‬
‫احلج‪ ،‬ويف ض وئه ق َّرر مجع من‬ ‫وعموم ه ك ان جنس عم ل اجله اد مق دَّماً على جنس عم ل ِّ‬
‫أن املتفرغ للعبادة ال يُعطى له من مال الّزكاة خبالف املتفرغ للعلم فيجوز صرف‬ ‫الفقهاء َّ‬
‫َّ‬
‫الزكاة إليه‪.‬‬
‫وكذلك ال يُقدَّم العمل األطول نفعاً ومصلح ًة وأثراً على ما كان خبالفه‪ ،‬ومنه جاء فضل‬
‫النيب صلى اهلل عليه‬
‫الصدقة اجلارية على غريه من األعمال‪ .‬فعن أيب هريرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬عن ِّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫وسلم أنَّه قال‪ :‬قال رسول اللَّه صلى اهلل عليه وسلم‪ِ« :‬إ َّن ممَّا يَ ُ‬
‫لحق املؤمن من عمله وحسناته‬
‫ورثه‪ ،‬أو مسجداً بناه‪ ،‬أو بيت اً البن‬
‫بعد موته علم اً علّمه ونشره‪ ،‬وولداً صاحلاً تركه‪ ،‬ومصحفاً ّ‬
‫السبيل بناه‪ ،‬أو هنراً أجراه‪ ،‬أو صدق ًة أخرجها من ماله يف صحته وحياته يَلحقه من بعد موته»‪.1‬‬
‫يقول األستاذ راشد الغنوشي‪" :‬ومن هنا كان لزام اً إعادة النظر يف مستويات وعينا‬
‫األمة ومصاحلها‬
‫واالجتماعي يف ضوء نصوص الدِّين ومقاصده‪ ،‬ويف ضوء ضرورات َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّيين‬
‫الد ِّ‬
‫العليّ ا من أج ل إع ادة برجمة حي اة املس لمني الدِّينيَّة واالجتماعيَّة وف ق خريط ة تت وازن فيه ا‬
‫مطالب الدِّين مرتبة وفق ُسلَّم أولويّات واضحة تستجيب لضرورات َّ‬
‫األمة وحاجاهتا"‪.2‬‬ ‫ُ‬
‫أن ما هو من األفضل يف زمان معنَّي ‪ ،‬أو مكان معنَّي ‪،‬‬‫وينبغي األخذ بعني االعتبار َّ‬
‫أو يف ظرف من الظروف‪ ،‬قد ال يكون هو نفسه األفضل يف زمان آخر‪ ،‬أو مكان آخر‪ ،‬أو‬
‫ظرف آخر حسب حاجة اجملتمع‪ ،‬فما حتتاجه دولة من الدُّول اإلسالميَّة قد ال حتتاجه دولة‬
‫الضروري يف جمتمع من اجملتمعات اإلسالميَّة قد ال يكون ضرورياً يف‬
‫ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬وما هو من‬
‫حمم د فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬بَاب ثواب معلم الناس اخلري‪،1/46 ،‬‬ ‫ابن ماجه‪ ،‬أبو عبد اهلل ّ‬
‫حمم د بن يزيد القزويين‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ ،‬تعليق ّ‬
‫‪1‬‬

‫وحسنه األلباين يف صحيح ابن ماجه‪ ،‬مصدر سابق‪.1/63 ،‬‬


‫‪ 2‬مداخلة الشيخ راشد الغنوشي يف ندوة أصول القرضاوي‪( ،‬الدوحة‪ 17 ،‬صفر ‪1431‬هـ) بعنوان‪ :‬أولويات احلركة اإلسالمية يف ضوء فقه األولويات‬
‫‪http://qaradawi.net/documents/4858.html‬‬ ‫للشيخ القرضاوي‪.‬‬

‫]‪[26‬‬
‫جمتمع آخر‪ ،‬بل قد يكون من احلاجيات‪ ،‬أو من الكماليات‪ ،‬وبناءً على هذه احلاجة يتحدَّد‬
‫م ا ه و املق دَّم من الف روض الكفائي ة‪ ،‬وم ا ه و املق دَّم من األعم ال الدُّنيويَّة‪ .‬ويُالح ظ َّ‬
‫أن‬
‫وموقع ه يف‬
‫َ‬ ‫ف روض الكفاي ات تتف اوت درجاهُت ا ومراتبه ا‪ ،‬وق د حُي دِّد درج ةَ ف رض الكفاي ة‬
‫بكل مالبساهتا‪ ،‬وكذلك ما يتوقف عليه حياة‬ ‫َّ‬
‫ُسلم األولويّات البيئةُ اليت حتيط هبذا الفرض ّ‬
‫األمة يف زمن م ا‪ ،‬أو يف بقع ة جغرافي ة م ا إىل ف رض من ه ذه‬ ‫األمة‪ ،‬فق د تك ون حاج ة َّ‬
‫َّ‬
‫الف روض أش ّد من ف رض كف ائي آخ ر‪ ،‬يف زمن آخ ر‪ ،‬أو مك ان آخ ر‪ ،‬فلك ّل بيئ ٍة متطلباهُت ا‬
‫اخلاصة هبا‪ ،‬واختالف احلاجات كماً وكيفاً يُو ِرث اختالف فروض الكفاية أمهي ةً‬ ‫وحاجاهتا َّ‬
‫وتق دمياً وت أخرياً‪ ،‬فم ا أمجل ه ذه الش ريعة‪ ،‬وم ا أعظم مرونته ا ال يت هبا وبغريه ا أص بحت‬
‫ولكل بشر‪.‬‬
‫لكل زمان ومكان وأحوال‪ّ ،‬‬ ‫شريعة صاحلة ّ‬
‫روض كفائي ة‬
‫روض كفائي ة تص دَّى هلا بعض النّ اس‪ ،‬وف ٌ‬ ‫فثمة ف ٌ‬‫عالو ًة على م ا ذُكِ ر َّ‬
‫أخرى ظلَّت معطَّلة على الرغم من شدة احلاجة إليها‪ ،‬واالشتغال باألخرية أوىل لدفع هذه‬
‫إمهال ه ذا الف رض من االش تغال مبا تص دَّى هلا البعض‪،‬‬
‫احلاج ة‪ ،‬وس ِّد الثغ رة ال يت يرتكه ا ُ‬
‫وهذه األمة ال تؤتى إالّ وقت وجود ثغرة وفراغ‪ ،‬فيأيت اآلخر فيسد الثغرة‪ ،‬وميأل الفراغ‪.‬‬
‫نتائج الدراسة‪:‬‬
‫توصلت الدراسة إىل النتائج اآلتية‪:‬‬
‫دل على وج ود الف روض الكفائي ة يف املنظوم ة‬ ‫‪ .1‬من النص وص الش رعية ال يت ت ُّ‬
‫التش ريعية اإلس المية قول ه تع اىل‪َ ﴿ :‬و َما اَك َن الْ ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِل َين ِف ُروا اَك ف َّ ًة ۚ فَلَ ْواَل ن َ َف َر ِمن لُك ِ ّ ِف ْرقَ ٍة ِّمهْن ُ ْم َطاِئ َف ٌة‬
‫ون﴾ (سورة التوبة‪ ،)122:‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫ِل ّ َي َت َفقَّهُوا يِف ّ ِادل ِين َو ِل ُين ِذ ُروا قَ ْو َمه ُْم َذا َر َج ُعوا لَهْي ِ ْم لَ َعلَّه ُْم حَي ْ َذ ُر َ‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫ون﴾‬ ‫وف َويَهْن َ ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر ۚ َوُأولَٰ ِئ َك مُه ُ الْ ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫ون اِب لْ َم ْع ُر ِ‬ ‫ُون ىَل الْ َخرْي ِ َوي َ ْأ ُم ُر َ‬ ‫﴿ َولْ َت ُكن ِّمنمُك ْ ُأ َّم ٌة ي َ دْ ع َ‬
‫ِإ‬
‫(سورة آل عمران‪.)104:‬‬
‫‪ .2‬للعلم اء تقس يمات ثالث ة للف روض الكفائي ة‪ ،‬فمنهم من قس مها إىل الف روض‬
‫الكفائية الدينية‪ ،‬والفروض الكفائية الدنيوية‪ ،‬ومنهم من قسمها إىل ما يتعلق مبحض الدِّين‪،‬‬
‫ُّنيوي)‪ ،‬وس لك اإلم ام‬ ‫ِّيين وال د ّ‬ ‫َّ‬
‫وم ا يتعل ق مبحض ال دنيا‪ ،‬وقس م م ركب من القس مني (ال د ّ‬
‫]‪[27‬‬
‫ديين وما‬
‫الشاطيب يف تقسيمها مسلكاً مغايراً جلمهور األصوليِّني فهو مل ير فصالً بني ما هو ّ‬
‫وي‪ ،‬فقس مها إىل الف روض الكفائي ة املختص ة بب اب من أب واب الش ريعة‪ ،‬والف روض‬
‫ه و دني ّ‬
‫الكفائية غري املختصة بباب من أبواب الشريعة‪.‬‬
‫عام) وتضامنيَّة‪ ،‬فهي فروض اجتماعيَّة‬
‫(حق ّ‬
‫‪ .3‬الفروض الكفائية فروض اجتماعيَّة ّ‬
‫وكل َّأمة‪،‬‬
‫كل جمتمع‪ّ ،‬‬ ‫ومتس األركان اليت هبا قوام ّ‬
‫لألمة‪ّ ،‬‬ ‫ألهَّن ا تتعلّق مباشرة باملصاحل العامة َّ‬
‫الديين منه بطريقة مباشرة يف قسم العبادات‬
‫وكل دولة‪ ،‬فاإلسالم دين ودولة‪ ،‬فتمثَّل اجلزء ّ‬ ‫ّ‬
‫(الف روض العينيَّة) غالب اً‪ ،‬ومتثّ ل ج زء الدول ة في ه يف الف روض الكفائي ة‪ ،‬وال انفص ام بني‬
‫األمري ِن‪ :‬الدِّين والدولة‪ ،‬فال تديُّن كما يريده َّ‬
‫الش رع احلنيف بدون دولة تعبِّد الطريق أمام‬
‫وتؤمن األجواء املناسبة إلقامتها‪.‬‬
‫ممارسة شعائر الدِّين‪ِّ ،‬‬
‫‪ .4‬الف روض الكفائي ة ف روض تض امنية يش ارك يف القي ام هبا مجي ع أف راد األم ة‪،‬‬
‫وشاملة جلميع مرافق احلياة السياسية واإلدارية واالقتصادية والعلمية والعسكرية والرتبوية‪،‬‬
‫وغريها‪ ،‬فهي أداة فاعلة من أدوات حتريك األفراد واألمة‪ ،‬فال تسمح ٍ‬
‫بفرد من األفراد وهو‬
‫عن ده أهلي ة التكلي ف أن يتق اعس عن تق دمي خدم ة من اخلدمات العام ة للمجتم ع‪ ،‬ك ّل‬
‫حس ب مؤهالت ه وخربات ه‪ ،‬فك ّل ذي خ ربة وق درة يق دم م ا حيس نه من األعم ال إىل جمتمع ه‬
‫وأمته‪.‬‬
‫‪ .5‬الف رض العي ين والكف ائي متس اويان يف اإلجياب واإلل زام‪ ،‬فك ّل واح ٍد منهم ا‬
‫طلب الش ارعُ حص ولَه من املكلَّف بطلب ج ازم‪ ،‬فيث اب على القي ام ب ه‪ ،‬ويس ّ‬
‫تحق الل وم‬
‫والعتاب والعقاب على تركهما‪ ،‬وهذا احلرص من الشارع على القيام هبما دليل على موقع‬
‫هذين الفرضني الشرعيني‪ ،‬وأمهيتهما‪.‬‬
‫‪.6‬توجد عالقة تالزمية وتكاملية بني الفرضني‪ ،‬والرتكيز على حصوهلما‪ .‬والسؤال‬
‫عن أيّهما أفضل سؤال يف األفضلية‪ ،‬والسؤال يف األفضلية يُثبت الفضل للفرضني كليهما‪،‬‬
‫واإلش كال يف الق در الزائ د‪ ،‬ويف ه ذا تتب ادل األدوار حس ب املكلفني واألزمن ة واألمكن ة‬
‫ونوع الفرض (حقيقته)‪.‬‬

‫]‪[28‬‬
‫‪ .7‬سوء تقدير األمة ملوقع واجباهتا الكفائية ّأدى إىل هناية حضارهتا‪ ،‬وترتب على هذا‬
‫والسياس ِّي‬
‫العلمي والتق ِّين‪ِّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ادي يف قي ادة البش ريَّة يف اجملال‬
‫الري ّ‬
‫ياع مركزه ا ِّ‬
‫الرَّت اج ع ض ُ‬
‫واإلداري وغريها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫واالجتماعي‬
‫ِّ‬ ‫واالقتصادي‬
‫ِّ‬
‫‪ .8‬ف روض الكفاي ات تتف اوت درجاهُت ا ومراتبه ا‪ ،‬وق د حُي دِّد درج َة ف رض الكفاي ة‬
‫بكل مالبساهتا‪ ،‬وكذلك ما يتوقف‬ ‫َّ‬
‫وموقع ه يف ُس لم األولويّات البيئ ةُ اليت حتيط هبذا الفرض ّ‬
‫َ‬
‫األمة يف زمن ما‪ ،‬أو يف بقعة جغرافية ما إىل فرض من هذه‬ ‫األمة‪ ،‬فقد تكون حاجة َّ‬ ‫عليه حياة َّ‬
‫الف روض أش ّد من ف رض كف ائي آخ ر‪ ،‬يف زمن آخ ر‪ ،‬أو مك ان آخ ر‪ ،‬فلك ّل بيئ ٍة متطلباهُت ا‬
‫اخلاص ة هبا‪ ،‬واختالف احلاج ات كم اً وكيف اً يُ و ِرث اختالف ف روض الكفاي ة أمهي ًة‬
‫وحاجاهتا َّ‬
‫وتقدمياً وتأخرياً‪.‬‬

‫ثبت المصادر والمراجع‬


‫األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين‪ ،‬صحيح سنن ابن ماجه‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1407/1986 ،1‬م‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫إمام احلرمني‪ ،‬عبد امللك بن عبد اهلل‪ ،‬غياث األمم يف التياث الظلم‪ ،‬حتقيق ودراسة مصطفى حلمي‪ ،‬فؤاد‬ ‫‪‬‬
‫عبد املنعم‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪1979 ،1‬م‪.‬‬
‫البخ اري‪ ،‬أب و عب د اهلل حمم د بن إمساعيل‪ ،‬ص حيح البخ اري‪ ،‬ع امل الكتب‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬ط‪/1405 ،4‬‬ ‫‪‬‬
‫‪1985‬م‪.‬‬
‫ابن بدران‪ ،‬عبد القادر بن بدران الدمشقي‪ ،‬املدخل إىل مذهب اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬حتقيق عبد اهلل بن‬ ‫‪‬‬
‫عبد احملسن الرتكي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1980 /1401 ،1‬م‪.‬‬
‫ابن جزي‪ ،‬حممد بن أمحد الكليب الغرناطي‪ ،‬القوانني الفقهية‪ ،‬دار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الوهاب‪ ،‬علم أصول الفقه‪ ،‬دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪1423/2003 ،‬م‪.‬‬
‫خالّف‪ ،‬عبد ّ‬ ‫‪‬‬
‫حممد‬
‫حممد َّ‬
‫حممد بن هبادر‪ ،‬البح ر احملي ط يف أص ول الفق ه‪ ،‬ض بط وختريج وتعلي ق َّ‬
‫الزركش ي‪ ،‬ب در ال دِّين َّ‬ ‫‪‬‬
‫تامر‪ ،‬دار الكتب العلميَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1421/2000 ،1‬م‪.‬‬
‫الزركشي‪ ،‬حممد بن هبادر‪ ،‬املنثور يف القواعد‪ ،‬حتقيق تيسري فائق أمحد حممود‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون‬ ‫‪‬‬
‫اإلسالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪1405 ،2‬ه‪.‬‬

‫]‪[29‬‬
‫ال زملي‪ ،‬مص طفى إب راهيم‪ ،‬أص ول الفق ه اإلس المي يف نس يجه اجلدي د‪ ،‬مرك ز عب ادي للدراس ات والنش ر‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫صنعاء‪ ،‬ط‪1417/1996 ،1‬م‪.‬‬
‫ابن الس بكي‪ ،‬ت اج ال دين عب د الوه اب بن علي‪ ،‬مجع اجلوام ع بش رح تش نيف املس امع‪ ،‬حتقي ق أيب عم رو‬ ‫‪‬‬
‫احلسيين بن عمر‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2000 /1420 ،1‬م‪.‬‬
‫الس عدي‪ ،‬عب د ال رمحن بن ناص ر‪ ،‬تيس ري الك رمي ال رمحن يف تفس ري كالم املن ان‪ ،‬املطبع ة العص رية‪ ،‬ب ريوت‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫‪1431/2010‬م‪.‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1424/2013 ،40‬م‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الشاطيب‪ ،‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى‪ ،‬املوافقات يف أصول الشريعة‪ ،‬شرح عبد اهلل دراز‪ ،‬ضبط وترمجة‬ ‫‪‬‬
‫حممد عبد اهلل دراز‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1395/1975 ،2‬م‪.‬‬
‫الش عراوي‪ ،‬حمم د مت ويل‪ ،‬تفس ري الش عراوي‪ ،‬مراجع ة وختريج أمحد عم ر هاش م‪ ،‬دار األخب ار‪ ،‬الق اهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫‪1991‬م‪.‬‬
‫حممد األمني بن خمتار‪ ،‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬ضبط وتصحيح وختريج حممد‬
‫الشنقيطي‪َّ ،‬‬ ‫‪‬‬
‫عبد العزيز اخلالدي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1432/2011 ،4‬م‪.‬‬
‫عب د الب اقي عب د الكب ري‪ ،‬إحي اء الف روض الكفائي ة س بيل تنمي ة اجملتم ع‪ ،‬كت اب األم ة‪ ،‬وزارة األوق اف‬ ‫‪‬‬
‫والشؤون اإلسالمية بدولة قطر‪ ،‬العدد ‪1426/2005 ،105‬م‪.‬‬
‫حمم د‬
‫وحمم د ّ‬
‫الغزايل‪ ،‬أبو حامد حممد بن حممد‪ ،‬الوسيط يف املذهب الشافعي‪ ،‬حتقيق أمحد حممود اخلويل ّ‬ ‫‪‬‬
‫تامر‪ ،‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1420/2000 ،2‬م‪.‬‬
‫القرضاوي‪ ،‬يوسف عبد اهلل‪ ،‬يف فقه األولويّات‪ :‬دراسة جديدة يف ضوء القرآن والسنة‪ ،‬الوهبة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ط‪1416/1996 ،2‬م‪.‬‬
‫ابن ماجه‪ ،‬حممد بن يزيد القزويين‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ ،‬حتقيق شعيب األرنؤوط وعادل مرشد‪ ،‬وآخرين‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬
‫الرسالة العاملية‪ ،‬ط‪ 1430 ،1‬هـ‪ 2009/‬م‪.‬‬
‫حمم د الغ زايل‪ ،‬مش كالت يف طري ق احلي اة اإلس المية‪ ،‬وزارة األوق اف والش ؤون اإلس الميَّة‪ ،‬قط ر‪ ،‬كت اب‬ ‫‪‬‬
‫األمة‪ ،‬ط‪ ،1‬العدد ‪1402 ،1‬هـ‪.‬‬
‫حمم د مص طفى ال زحيلي‪ ،‬الوج يز يف أص ول الفق ه اإلس المي‪ ،‬دار اخلري‪ ،‬دمش ق‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.1427/2006‬‬

‫]‪[30‬‬
‫مس لم‪ ،‬أب و احلس ني بن احلج اج القش ريي‪ ،‬ص حيح مس لم‪ ،‬حتقي ق وتص حيح حمم د ف ؤاد عب د الب اقي‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬
‫إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫]‪[31‬‬

You might also like