Professional Documents
Culture Documents
النوازل الفقهية - نور الدين ابو لحية
النوازل الفقهية - نور الدين ابو لحية
الطبعة الثانية
5162 – 6341
6 المقدمة
9 التمهيد
9 مفهوم فقه النوازل وأهميته
9 أوال ـ مفهوم فقه النوازل:
01 ثانيا ـ مصطلحات أخرى:
01 الفتاوى:
00 المسائل ،أو األسئلة:
00 ثالثا ـ أهمية فقه النوازل:
01 المبحث األول
01 المنهج االستداللي
01 أوال ـ أعالمه:
66 ثانيا ـ أدلته:
61 الدليل األول:
62 الدليل الثاني:
01 الدليل الثالث:
00 الدليل الرابع:
01 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
09 المبحث الثاني
09 المنهج المذهبي
2
26 أوال ـ أعالمه:
26 ثانيا ـ أدلته:
21 الدليل األول:
29 الدليل الثاني:
10 الدليل الثالث:
10 الدليل الرابع:
10 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
61 المبحث الثالث
61 المنهج المذاهبي
61 أوال ـ أعالمه:
66 ثانيا ـ أدلته:
60 الدليل األول:
66 الدليل الثاني:
61 الدليل الثالث:
16 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
16 المبحث الرابع
16 منهج التيسير
16 أوال ـ أعالمه:
11 األصل األول :جواز تتبع الرخص
22 األصل الثاني :جواز التلفيق بين المذاهب
21 األصل الثالث :جواز الحيل الفقهية
3
91 ثانيا ـ أدلته:
91 الدليل األول:
96 الدليل الثاني:
92 الدليل الثالث:
91 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
91 الفريق األول:
91 الفريق الثاني:
99 المبحث الخامس
99 منهج التشديد
99 أوال ـ أعالمه:
99 األصل األول :ترجيح العزيمة على الرخصة
012 األصل الثاني :القول بسد الذرائع
011 األصل الثالث :مراعاة الخالف
001 ثانيا ـ أدلته:
000 الدليل األول:
006 الدليل الثاني:
000 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
001 المبحث السادس
001 المنهج المقاصدي
001 أوال ـ أعالمه:
002 الصنف األول:
4
060 الصنف الثاني:
062 ثانيا ـ أدلته:
062 الدليل األول:
061 الدليل الثاني:
066 ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
066 المنهج األول:
062 المنهج الثاني:
006 خاتمة
006 أوال :النتائج:
002 ثانيا :التوصيات:
001 قائمة المصادر والمراجع
5
المقدمة
يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي ،لدوره الكبير في بيان أحكام
الشريعة اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها ،فدوره هو تنزيل أحكام
الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها ،ويجري عليه أحكامها.
وهو لذلك المحك الذي تعرف من خالله واقعية الشريعة اإلسالمية ومدى
مراعاتها ألحوال المكلفين ،ومدى انسجامها مع طبيعة البيئة الزمانية والمكانية الحادثة.
ويعتبر كذلك ،وبدرجة أهم ،هو المنهج الذي من خالله يستطيع الفقيه أن يجعل
الشريعة هي الحاكم في كل شؤون الحياة ،بالبحث عن األحكام والبدائل المتناسبة مع
القيم التي جاءت الشريعة لتحقيقها ،ولذلك ال يقف فقيه النوازل منتظرا أن يستفتى فيفتي،
بل يبادر فيبحث عن األحكام ،ويبحث في نفس الوقت عن البدائل الشرعية في حال
الحاجة إليها.
ولهذه األهمية الكبيرة ،فإن تحصيل ملكة االجتهاد فيه يتطلب – قبل كل شيء -
معرفة منهج البحث فيه خطوة خطوة ،حتى ال يقع الباحث فيما حذر منه القرآن الكريم
﴿و َال َت ُقو ُلوا
من الفتوى بغير علم ،أو الكذب على الله وعلى رسوله ،كما قال تعالىَ :
ِ ِ ِ ِ ِ لِما ت َِص ُ ِ
ف َأ ْلسنَ ُت ُك ُم ا ْلكَذ َب َه َذا َح َال ٌل َو َه َذا َح َرا ٌم ل َت ْفت َُروا َع َلى ال َّله ا ْلكَذ َب إِ َّن ا َّلذ َ
ين َ
ون َع َلى ال َّل ِه ا ْلك َِذ َب َال ُي ْفلِ ُحون﴾
َ ()0 َي ْفت َُر َ
وقال ( :إن الله ال يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ،ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء ،حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهاال ،فسئلوا فأفتوا بغير علم،
6
()0
فضلوا وأضلوا)
وقد حصل في الواقع بعض ما ذكره رسول الله من تصدي بعض من لم تتوفر
فيهم القدرات العلمية الكافية على الفتوى في مسائل خطيرة ،بناء على اجتهادات لم
تستكمل أدواتها ،فشوهوا بذلك شريعة الله السمحة ،المبنية على العلم والحكمة والعدل
والرحمة.
وقد أتاحت تلك الفتاوى الشاذة الفرصة للعلمانيين والالدينيين للسخرية من
الشريعة الربانية ،واستعمال هذه الفتاوى ذريعة لذلك ،دون تفريق بين ما هو رباني في
الشريعة ،وبين ما هو اجتهاد بشري يقبل الخطأ والصواب.
وقد رأينا أن السبب األكبر فيما نراه في واقع الفتوى هو المنهج الذي يعتمده
الفقهاء والمفتون على الساحة اإلسالمية ،فالمنهج هو األصل الذي يعتمد عليه المفتي،
وال يمكن أن نرقى بالفتوى في النوازل ما لم نتعرف على المنهج الصحيح الذي طلبت
الشريعة التزامه.
انطالقا من هذا ،حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل ،وقد رأينا
أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج:
( )0رواه البخاري في كتاب العلم ،باب كيف يقبض العلم رقم ( ( )011انظر :صحيح
البخاري ،محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ،تحقيق :محمد زهير بن ناصر الناصر ،دار
طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) ،الطبعة :األولى0266 ،هـ،
ج ،0ص)00
ورواه مسلم في كتاب العلم ،باب رفع العلم وقبضه ،وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان رقم
( ( )6610صحيح مسلم ،مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري ،تحقيق :محمد فؤاد عبد
الباقي ،دار إحياء التراث العربي – بيروت ،ج 2ص )6112
7
0ــ المنهج االستداللي.
6ــ المنهج المذهبي.
0ــ المنهج المذاهبي.
2ــ منهج التيسير.
1ــ منهج التشديد.
6ــ المنهج المقاصدي.
وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين -باختصار -الخصائص التي يتميز بها كل
منهج ،مع األعالم الذين تبنوه ،واآلليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع.
وقد قسمنا الدراسة إلى ستة مباحث ،باإلضافة إلى تمهيد وخاتمة ،وهي على
الشكل التالي:
التمهيد :تناولنا فيه مفهوم فقه النوازل وأهميته.
المبحث األول :تناولنا فيه المنهج االستداللي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الثاني :تناولنا فيه المنهج المذهبي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الثالث :تناولنا فيه المنهج المذاهبي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الرابع :تناولنا فيه منهج التيسير وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الخامس :تناولنا فيه منهج التشديد وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث السادس :تناولنا فيه المنهج المقاصدي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى
فيه.
8
التمهيد
مفهوم فقه النوازل وأهميته
أوال ـ مفهوم فقه النوازل:
لغة :النوازل على وزن فواعــل من :نزل ينزل نزوال فهي نازلة ،جاء في لسان
العرب :نزل :النزول :الحلول ،وقد نزلهم ،ونزل عليهم ،ونزل بهم ،ينزل نزوالً و َمن َْزالً
( )0لسان العرب ،ابن منظور ،دار صادر – بيروت ،ج ،00ص.612
( )6معجم لغة الفقهاء ،محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي ،دار النفائس للطباعة والنشر
والتوزيع ،ط 0212 ،6هـ ،ص.210
( )0بكر أبو زيد ،فقه النوازل ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ص.2
9
أو أنها سميت نازلة لمالحظة معنى الحلول ،فهي مسألة نازلة يجهل حكمها تحل
بالفرد أو الجماعة (.)0
(
الفتاوى:
وهي أشهر المصطلحات وأقدمها وأفضلها ،فقد ذكر في القرآن الكريم في مواضع
()6 َك فِي النِّس ِ
اء ُق ِل ال َّل ُه ُي ْفتِي ُك ْم فِ ِيه َّن﴾ ﴿و َي ْس َت ْفتُون َ
َ مختلفة منها قوله تعالىَ :
وقد عرفه الحطاب من المالكية بقـوله( :هي اإلخبار بحكم شـرعي ال على وجه
()0
اإللـزام)
وعرفه القرافي عند بيانه الفـرق بين الفتوى وبين الحكم فقال( :فأما الفتـوى فهـي
ّ
()2
إخبـار عـن الله تعالى وبيان ذلك أن المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي)
والعالقة بينها وبين فقه النوازل عالقة عموم وخصوص ،فالفتوى أعم من فقه
النوازل ،ذلك أن المفتي يتعرض لكل المسائل سواء ما كان منها حادثا أو ما لم يكن،
ولهذا نجد من أهم مصادر فقه النوازل الكتب المختصة بالفتاوى كفتاوى ابن تيمية،
والفتاوى الهندية ،وفتاوى ابن حجر الهيثمي ،وفتاوى الشيخ عليش ،وغيرها كثير.
( )0سبل االستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة ،الدكتور عبد الله
الشيخ المحفوظ بن بيه ،مجلة مجمع الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة المؤتمر اإلسالمي بجدة ،ع 00ج6
ص.100
( )6سورة النساء.061 :
( )0مواهب الجليل ،الحطاب ،دار الفكر ،ط ،0996 ،0ج ،0ص.06
( )2الفروق ،القرافي ،بيروت ،عالم الكتب ،ج ،2ص.29
01
المسائل ،أو األسئلة:
وهي مثل الفتاوى ،وقد ذكرت في القرآن الكريم كذلك كثيرا كقوله تعالى﴿ :
()0 يت لِلن ِ
َّاس َوا ْل َح ِّج﴾ َي ْس َأ ُلون ََك َع ِن ْاألَ ِه َّل ِة ُق ْل ِه َي َم َو ِاق ُ
وسميت بذلك ألنها أسئلة يطرحها المستفتون على المفتين ،ومن المؤلفات في
هذا :مسائل القاضي أبي الوليد بن رشد.
وقد سميت كذلك في مراجع أخرى باألجوبة ،أو الجوابات ،وهي تسمية لبعض
علماء األندلس ألنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس.
00
- 6بيان ما يمتاز به الفقه اإلسالمي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة،
وتنوعه الشامل ،وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب االهتمام به علما
وعمال ،دراسة وتطبيقا.
- 0بحثها يعطي إمكانية االطالع على الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من
العصور اإلسالمية والتي واجهت كل طارئ وجديد ،وكيف أن الفقه اإلسالمي نجح في
مواجهة تلك اإلشكاالت الواقعية ،الميدانية ،في حياة الناس اليومية ،وأنه لم يقف يوما
جامدا عاجز ًا عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
- 2أن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا
صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية واالجتماعية
والسياسية واالقتصادية والتاريخية واألدبية(:)0
فمن الناحية الفكرية :يعرفنا فقه النوازل بالعالقة بين المذاهب الفقهية ،ويظهر
ذلك من خالل المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء المذاهب في
أثناء التعرض لنازلة من النوازل.
ومن الناحية االجتماعية :تقدم النوازل الكثير من اإلشارات إلى أحوال المجتمع
اإلسالمي في منطقة النازلة ،األمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم االجتماع مثلما
هو للفقيه والعالم.
لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها
واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية ،ومن هؤالء المستشرق
( )0انظر هذه الفوائد وغيرها في :د.عبد الحق بن أحمد حميش ،مدخل إلى فقه النوازل ،دت،
دط ،ص ،01فما بعدها.
02
الفرنسي جاك بارك الذي اعتنى بنوازل المازوني -الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل
إلبراز جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل.
ومن الناحية األدبية :فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة ،فقد تحتوي األسئلة واألجوبة
عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به ،كما أنها تحافظ لنا على
لغة الفقه والفقهاء األدبية الرائعة.
ومن الناحية السياسية :تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس
ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في
دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان.
ومن الناحية االقتصادية :تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة االقتصادية التي
تمر بها البالد اإلسالمية ،وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من
خالل تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع االقتصادية ،كطغيان البنوك الربوية
على واقع المسلمين اليوم وكثرة األسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر
الذي يتخبط فيه الجانب االقتصادي في المجتمعات المسلمة ،ومشكلة الديون التي
تتعب كاهل الدول اإلسالمية وغيرها من المواضيع االقتصادية التي تحتاج إلى فقه
واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة.
ومن الناحية التاريخية :تقدم النوازل أحداثا تاريخية وقعت لألمة اإلسالمية ونزلت
بها وتم الجواب عنها ،وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم
غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام واألمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في
أفغانستان من تقاتل بين الفصائل األفغانية ،أو مثل الحرب العراقية اإليرانية التي وقعت
في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار ،وما حدث
ويحدث إلخواننا المسلمين في يوغسالفيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من
03
فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل باألمة اإلسالمية في عصورها
المتتالية.
- 1ومن فوائد فقه النوازل ذلك األثر العلمي الذي تخلفه هذه اإلجابات ألنها
تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجال للفتوى والقضاء ومرجعا مهما
للمهتمين بها من أهل االختصاص ال يمكن االستغناء عنها بحال.
- 6كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء المعة من العلماء المجتهدين المفتيين،
الذين تصدوا لهذه النوازل ،وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم
الشرعي وذلك باتباع أصول االجتهاد دون تعصب أو هوى.
04
المبحث األول
المنهج االستداللي
يمكن تعريف المنهج االستداللي بما عرف به العلماء الفقه نفسه ،وهو أنه (العلم
باألحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية ،أو هو مجموعة من األحكام
()0
الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية)
ففي هذا التعريف نالحظ أن األحكام الشرعية تستنبط من األدلة التفصيلية ،وهي
األدلة المستنبطة من المصادر الكبرى للتشريع اإلسالمي من الكتاب والسنة واإلجماع
والقياس وغيرها.
يقول الدهلوي( :حقيقة االجتهاد -على ما يفهم من كالم العلماء -استفراغ
الجهد في إدراك األحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة
أقسام الكتاب والسنة واإلجماع والقياس ويفهم من هذا أنه أعم من أن يكون استفراغا
في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أو ال وافقهم في ذلك أو خالف
()6
)
ولذلك فإن هذا المنهج يعتمد أصحابه في استنباط األحكام الشرعية على تلك
المصادر األصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من الفقهاء من
أصحاب المذاهب أو غيرهم ،بل يعتبرون التقيد بأقوال الفقهاء وااللتزام بها من غير نظر
( )0علم أصول الفقه وخالصة تاريخ التشريع ،عبد الوهاب خالف ،مطبعة المدني ،المؤسسة
السعودية بمصر ،ص.00
( )6عقد الجيد في أحكام االجتهاد والتقليد ،أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «الشاه ولي الله
الدهلوي» ،تحقيق :محب الدين الخطيب ،المطبعة السلفية -القاهرة (ص.)0 :
05
في األدلة بدعة حادثة في الملة ال يستحق صاحبها أن يوصف بالمجتهد وال الفقيه ،وال
يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب اإلفتاء إال على سبيل النقل لقول غيره.
وأصحاب هذا المنهج إذا عرضت لهم حادثة يبدؤون أوال بالنظر فيما ورد حولها
في المصدرين األساسيين للدين من الكتاب والسنة.
وربما يكون هذا هو موضع االتفاق الوحيد بينهم( ،)0ذلك أن لكل منهم بعد ذلك
مصادره الخاصة به ،والتي يؤسس عليها رؤيته لالستنباط من مصادر الشريعة.
ويبدأ الخالف من اعتبار اإلجماع أو عدم اعتباره ،وفي حال اعتباره يحصل
الخالف الطويل أيضا في كون المسألة التي ادعي فيها االجماع مجمع عليها حقيقة أم ال،
فال يهم أصحاب هذا المنهج أن يقفوا مع جماهير الفقهاء أو يخالفوهم ،ألن العبرة
عندهم بالدليل ،ال بكثرة الفقهاء أو قلتهم (. )6
ثم يتسلسل الخالف بعد ذلك في اعتبار ما يطلق عليه باألدلة المختلف فيها
كاالستحسان وشرع من قبلنا ،وغيرها ،فإن أداهم االجتهاد إلى صحة شيء منها أفتوا به،
وإن تعارضت عندهم األدلة فإنهم يفتون بما يترجح لديهم منها.
( )0بل هم يختلفون أيضا في هذا من حيث آليات االستنباط كما هو معروف في مظانه من كتب
أصول الفقه ،وكما ذكر العلماء ذلك بتفصيل في الكتب التي بينت أسباب خالف الفقهاء ،ومن أهمها:
أسباب اختالف الفقهاء ،د .عبد الله بن عبد المحسن التركي ،تقديم :حسن بن عبد الله آل الشيخ وعبد
الرزاق عفيفي ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،ط 0200 ،0هـ 6101 /م.
( )6انظر تفاصيل الخالفات الواردة حول اإلجماع في كتب أصول الفقه ،وكمثال على ذلك:
أصول الفقه ،محمد بن مفلح ،أبو عبد الله الصالحي الحنبلي (المتوفى160 :هـ) ،حققه وعلق عليه
السدَ َحان ،مكتبة العبيكان ،ط 0261 ،0هـ 0999 -م ،ج ،6ص،066
وقدم له :الدكتور فهد بن محمد َّ
فما بعدها.
06
وهذا المنهج ينتقد بشدة سائر المناهج ،وخاصة المناهج التي تعتمد التقليد ،أو
تعتمد الرأي المجرد ،أو تعتمد أحوال المكلفين من التيسير والتشديد ومراعاة المصالح
ونحو ذلك ،ألنها تعتبر أن األصل في الفتوى هو اإلخبار عن مراد الله من عباده ،وهذا
المراد ال يمكن التعرف عليه إال من المصادر األصلية أو ما انبنى عليها.
انطالقا من هذه الخالصة المختصرة للرؤية العامة ألصحاب هذا المنهج ،نحاول
هنا باختصار أن نتعرف على كبار ممثليه من أعالم الفقهاء ،ثم على األدلة التي يعتمدون
عليها في التأسيس لمنهجهم ،ثم على اآلليات العملية التي يعتمدونها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
ليس من الصعب التعرف على العلماء الذين يتبنون هذا المنهج ،ذلك أنهم جميعا
كتبوا أو صرحوا بما يدل على ضرورة العودة إلى االجتهاد وعدم غلق بابه ،وعلى النهي
عن التقليد وخاصة إذا تعارض التقليد مع النص ،ولكنا مع ذلك نذكر كبار من يتبنون هذا
المنهج ابتداء من العصر األول إلى عصرنا:
أوال ـ أعالم القرون الفاضلة األولى من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة
المذاهب الفقهية وغيرهم من الفقهاء الذين لم يكن لهم من التالميذ من ينشر آراءهم
()0
ومذاهبهم ،فأبو حنيفة كان يقول( :إذا صح الحديث فهو مذهبي)
واإلمام أحمد كان يقول( :ال تقلدني وال تقلد مالكا وال الثوري وال األوزاعي
( )0ابن عابدين ،رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير األبصار في فقه مذهب اإلمام
األعظم أبي حنيفة النعمان ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،ج0ص.62
07
()0
وخذ من حيث أخذوا)
والشافعي كان يقول( :إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط ،وإذا رأيت
الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي)(.)6
وقال المزني صاحب الشافعي في أول مختصره( :اختصرت هذا من علم
الشافعي ،ومن معنى قوله ،ألقربه على من أراده ،مع إعالمية نهيه عن تقليده وتقليد غيره
()0
،لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه)
أما ابن حزم ،وهو من أكبر أعالم المذهب الظاهري ،فقد كان من كبار المتشددين
على المقلدين ،وخاصة مقلدي المذاهب األربعة ،وحصلت بينه وبينهم مناظرات ،بل
حصلت له بسبب ذلك محنة(.)2
( )0محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية ،إعالم الموقعين عن رب
العالمين ،تحقيق :طه عبد الرؤوف سعد ،دار الجيل -بيروت ،0910 ،ج ،6ص.610
( )6المرجع السابق ،ج ،6ص .260
( )0نقال عن :الدرر السنية في األجوبة النجدية ،علماء نجد األعالم ،تحقيق :عبد الرحمن بن
محمد بن قاسم ،ط0201 ،6هـ0996/م ،ج ،1ص .691
( )2يقول ابن حيان واصفا المحنة التي تعرض لها ابن حزم( :استهدف إلى فقهاء وقته ،فتأ ّلبوا
ّ
وحذروا سالطينهم من فتنته ،ونهوا على بغضه ،ور ّد قوله ،وأجمعوا على تضليله ،وشنّعوا عليه،
الدنو إليه ،واألخذ عنه ،فطفق الملوك يقصونه عن قربهم ،ويس ّيرونه عن بالدهم ،إلى أن
ّ أعوامهم عن
انتهوا به ،منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة ،وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا ،به ّ
يبث علمه فيمن
يحسون فيه المالمة بحداثتهم ،ويف ّقههم
ينتابه بباديته من عا ّمة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين ال ّ
ويدرسهم ،وال يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف واإلكثار من التصنيف حتى كمل من
مصنّفاته في فنون العلم وقر بعير ،حتى ألحرق بعضها بإشبيلية) (انظر :اإلحاطة في أخبار غرناطة،
08
وقد عاتب في كتابه (اإلحكام في أصول األحكام) المقلدين ألئمة المذاهب عتابا
شديدا ،وعندما وصلت نوبة الحديث إلى الظاهرية ،قال ( :وأما أصحاب الظاهر فهم
أبعد الناس من التقليد ،فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم ،ولم يعصم أحد
من الخطأ ،وإنما يالم من اتبع قوال ال حجة عنده به ،وألوم من هذا من اتبع قوال وضح
البرهان على بطالنه ،فتمادى ولج في غيه ،وبالله تعالى التوفيق ،وألوم من هذين وأعظم
جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام ،وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد
حرام ،ويتركون أوامر النبي ويقرون أنها صحاح ،وأنها حق ،فمن أضل من هؤالء،
()0
نعوذ بالله من الخذالن ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده ال إله إال هو)
ثانيا -بعض أتباع المذاهب األربعة وغيرهم من الذين لم يمنعهم انتماؤهم في
الظاهر لمذاهبهم عن التشدد مع المقلدين ،ذلك أن اتباعهم للمذاهب ليس على سبيل
التقليد ،وإنما على سبيل االتباع.
ومن األمثلة على ذلك ابن عبد البر المالكي (ت 062ه) ،وهو من كبار المتشددين
على المقلدين ،وإن كان مالكي المذهب ،وقد ضمن رأيه في التقليد قصيدة في كتابه
(جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) جاء فيها:
خذ عني الجواب بفهم لب حاضــر يــا ســـــائـلـي عـن مــوضـــع التقليــد
واحــفــظ عــلــي بــوادري ونــوادري واصـــل إلـى قـولي ودن بنصـــيحتي
محمد بن عبد الله الغرناطي األندلس ،أبو عبد الله ،الشهير بلسان الدين ابن الخطيب ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،الطبعة :األولى 0262 ،هـ ،ج ،2ص .90
( )0اإلحكام في أصول األحكام ،أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ألندلسي القرطبي
الظاهري ،تحقيق :الشيخ أحمد محمد شاكر ،دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،ج ،6ص .061
09
تـنـقــاد بـيـن جـن ـادل ودعــاثــر()0 ال فــرق بــيــن مــقــلــد وبــهــيــمــة
ومنهم العز بن عبد السالم ،والذي كان شافعي المذهب ،ومع ذلك كان يتعجب
من المقلدين الذين يعرضون عن األدلة ،ويكتفون بما ذهب إليه أئمتهم ،ومن تصريحاته
في ذلك قوله( :ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف
مأخذ إمامه بحيث ال يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه ،ويترك من الكتاب والسنة
واألقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه ،بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب
والسنة ،ويتأولهما بالتأويالت البعيدة الباطلة نضاال عن مقلده ،وقد رأيناهم يجتمعون
في المجالس فإذا ذكر ألحدهم في خالف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من
استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه
()6
أولى من تعجبه من مذهب غيره)
ثم ذكر حال الفقهاء في عصره وغيره ،فقال( :فالبحث مع هؤالء ضائع مفض إلى
التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها ،وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له
الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده ،فاألولى ترك البحث مع هؤالء الذين
إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال :لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه
ولم أهتد إليه ،ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل
الواضح والبرهان الالئح ،فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على
( )0جامع بيان العلم وفضله ،أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي ،تحقيق :أبي األشبال
الزهيري ،دار ابن الجوزي ،المملكة العربية السعودية ،ط 0202 ،0هـ 0992 -م ،ج ،6ص.922
( )6قواعد األحكام في مصالح األنام ،أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم ،راجعه
وعلق عليه :طه عبد الرؤوف سعد ،مكتبة الكليات األزهرية -القاهرة 0202 ،هـ 0990 -م ،ج،6
ص.019
21
()0
مثل ما ذكر ،وفقنا الله التباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر)
ثم قارن ذلك الوضع بما كان عليه السلف الصالح ،فقال ( :وأين هذا من مناظرة
السلف ومشاورتهم في األحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم،
وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال :ما ناظرت أحدا إال قلت اللهم أجر الحق على
()6
قلبه ولسانه ،فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته)
ثالثا -ظهر في العصور التي ترسخ فيها التقليد بعض األعالم الكبار الذين دعوا
إلى العودة إلى الدليل وترك التقليد ،وقد كان من كبار هؤالء ابن تيمية ،فقد ألف الكتب
والرسائل الكثيرة في الرد على التقليد ،بل كانت له اجتهاداته الكثيرة في الفتوى ،والتي
جعلته يواجه الكثير من فقهاء المذاهب بسببها.
وقد ذكر في الفتاوى الكبرى بعض الجهد الذي بذله في ذلك ،واألقوال التي انفرد
بها عن أهل عصره ،فحصل له بسببها من المحنة ما حصل( :ومن أقواله المعروفة
المشهورة التي جرى بسبب اإلفتاء بها محن وقالقل قوله :بالتكفير في الحلف بالطالق،
وأن الطالق الثالث ال يقع إال واحدة ،وأن الطالق المحرم ال يقع ،وله في ذلك مصنفات
ومؤلفات .منها قاعدة كبيرة سماها( :تحقيق الفرقان بين التطليق واأليمان) .نحو أربعين
كراسة .وقاعدة سماها( :الفرق بين الطالق واليمين) .بقدر نصف ذلك .وقاعدة في (أن
جميع أيمان المسلمين مكفرة) مجلد لطيف .وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطالق من
األيمان حقيقة .وقاعدة سماها( :التفصيل بين التكفير والتحليل) .وقاعدة سماها:
20
()0
(اللمعة) ،وغير ذلك من القواعد واألجوبة في ذلك ال تنحصر وال تنضبط)
وقريب منه الشاطبي (ت )191الذي لم يمنعه انتماؤه للمذهب المالكي من
التصريح بضرورة العودة إلى الدليل وترك التقليد ألئمة المذاهب ،يقول في (االعتصام):
(والرابع :رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ،بحيث يأنفون أن
تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم ،وحتى إذا جاءهم من بلل درجة االجتهاد
وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير ،وفوقوا إليه سهام النقد ،وعدوه
من الخارجين عن الجادة ،والمفارقين للجماعة ،من غير استدالل منهم بدليل ،بل بمجرد
()6
االعتياد العامي)
وضرب مثاال لذلك بما حصل لبقي بن مخلد ،فقال( :ولقد لقي اإلمام بقي بن
مخلد حين دخل األندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف األمرين ،حتى أصاروه مهجور
الفناء ،مهتضم الجانب ،ألنه من العلم بما ال يدي لهم به ،إذ لقي بالمشرق اإلمام أحمد
بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ،ولقي أيضا غيره ،حتى صنف المسند المصنف
الذي لم يصنف في اإلسالم مثله ،وكان هؤالء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك،
بحيث أنكروا ما عداه ،وهذا تحكيم الرجال على الحق ،والغلو في محبة المذهب ،وعين
اإلنصاف ترى أن الجميع أئمة فضالء ،فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلل
درجة االجتهاد فال يضره مخالفة غير إمامه إلمامه ،ألن الجميع سالك على الطريق
( )0الفتاوى الكبرى ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ،دار الكتب العلمية،
ط0212 ،0هـ 0921 -م ،ج ،2ص.060
( )6االعتصام ،إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي ،تحقيق :سليم
بن عيد الهاللي ،دار ابن عفان ،السعودية ،ط0206 ،0هـ 0996 -م.ج6ص.261
22
()0
المكلف به ،فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره)
رابعا -ظهر في القرون المتأخرة بعد ابن تيمية بعض األعالم الكبار الذين أحيوا
الدعوة إلى فقه الدليل ،وكتبوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ،وتعرضوا لبعض المحن بسبب
ذلك.
ومن كبار هذه الطبقة الشوكاني صاحب المؤلفات الكثيرة في نصرة فقه
االستدالل بدل فقه التقليد ،ومن تصريحاته في هذا الباب قوله بعد إيراده الخالف في
(قول الصحابي هل هو حجة أم ال)( :والحق :أنه ليس بحجة ( ،)6فإن الله سبحانه لم
يبعث إلى هذه األمة إال نبينا محمدا ،وليس لنا إال رسول واحد ،وكتاب واحد،
وجميع األمة مأمورة باتباع كتابه ،وسنة نبيه ،وال فرق بين الصحابة وبين من بعدهم ،في
23
ذلك ،فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية ،وباتباع الكتاب والسنة ،فمن قال :إنها تقوم
الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله ،وسنة رسوله ،وما يرجع إليهما ،فقد قال في
دين الله بمالم يثبت ،وأثبت في هذه الشريعة اإلسالمية شرعا لم يأمر الله به ،وهذا أمر
عظيم ،وتقول بالل ،فمن حكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله ،أو أقوالهم حجة على
المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى ،مما ال يدان
الله عز وجل به ،وال يحل لمسلم الركون إليه ،وال العمل عليه ،فإن هذا المقام لم يكن
إال لرسل الله ،الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده ال لغيرهم ،وإن بلل في العلم والدين
()0
عظم المنزلة أي مبلل)
ثم ختم قوله( :فاعرف هذا ،واحرص عليه ،فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه
األمة رسوال إال محمدا ،ولم يأمرك باتباع غيره ،وال شرع لك على لسان سواه من
()6
أمته حرفا واحدا ،وال جعل شيئا من الحجة عليك في قول غيره ،كائنا من كان)
باإلضافة إلى الشوكاني ،فقد ذكر السيوطي في كتابه المهم (الرد على من أخلد
()0
الكثير من أقوال الفقهاء إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض)
المتأخرين الذين دعوا إلى فتح باب االجتهاد والرجوع إلى المصادر األصلية مباشرة،
وأنه في اإلمكان أن يظهر المجتهدون في العصور المختلفة.
( )0إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ،محمد بن علي الشوكاني اليمني،
تحقيق :الشيخ أحمد عزو ،دار الكتاب العربي ،ط0209 ،0هـ 0999 -م ،ج ،6ص.022
( )6المرجع السابق ،ج ،6ص.029
( .)0طبع في دار الكتب لعلمية سنة 0210هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس) ،وأهمية هذه
الرسالة تكمن في تتبع السيوطي لكل أقوال العلماء الذين أيدوا هذا المنهج ،وقد ذكر أقوالهم ،وبعض
المصادر التي اعتمد عليها مفقودة.
24
ومن العلماء الذين ذكرهم(:)0
( - 0الماوردي) في أول كتابه (الحاوي)
-6و(الروياني) في أول (البحر)
-0والقاضي (حسين) في (تعليقه)
-2و(الزبيري) في كتاب (المسكت)
-1و(ابن سراقة) في كتاب (األعداد)
-6و(إمام الحرمين) في كتاب السير من (النهاية)
-1و(الشهرستاني) في (الملل والنحل)
-2و(البغوي) في أوائل (التهذيب)
-9و(الغزالي) في (البسيط) ،و(الوسيط)
-01و(ابن الصالح) في (أدب الفتيا)
-00و(النووي) في (شرح المهذب) و(شرح مسلم)
-06والشيخ (عز الدين بن عبد السالم) في (مختصر النهاية)
-00و(ابن الرفعة) في (المطلب)
-02و(الزركشي) في كتاب (القواعد) ،و(البحر)
وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي (عبد الوهاب) في (المقدمات)،
و(ابن القصار) في كتابه في أصول الفقه ،ونقله عن مذهب (مالك) وجمهور العلماء،
و(القرافي) في (التنقيح) ،و(ابن عبد السالم) في (شرح مختصر ابن الحاجب) ،و(أبو
( )0انظر كتاب :الرد على من أخلد إلى األرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض،
تحقيق(:خليل الميس ،دار الكتب لعلمية 0210 ،هـ من (ص )62إلى (ص.)96
25
محمد بن ستاري) في (المسائل المنثورة) و(ابن عرفة) في كتابه (المبسوط) في الفقه.
خامسا – نتيجة للدعوات السابقة إلى فقه الدليل ،فإن المنهج الغالب على الكثير
من الباحثين والفقهاء في عصرنا الحاضر هو هذا المنهج ،وإن كانوا يختلفون في امتالك
اآلليات التي تتيح لهم ممارسته.
ثانيا ـ أدلته:
أفرد أصحاب هذا المنهج أو الدعاة له الكثير من المؤلفات في نصرته ،والرد على
المخالفين لهم ،وخصوصا من أصحاب المنهج المذهبي أو المذاهبي ،ومن أهم تلك
المؤلفات (المختصر المؤمل في الرد إلى األمر األول) ألبي شامة المقدسي ،و(شرح
قول المطلبي ،إذا صح الحديث فهو مذهبي) للسبكي ،و(جزء التمسك بالسنن) للذهبي،
و(االتباع) البن أبي العز ،و(فيض الشعاع ،الكاشف للقناع ،عن أركان االبتداع) للحسن
بن أحمد الجالل اليماني ،و(الوجه الحسن ،المذهب للحزن ،لمن طلب السنة ومشى
على السنن) إلسحاق بن يوسف الصنعاني ،و(إرشاد النقاد إلى تيسير االجتهاد) لألمير
الصنعاني ،و(إيقاظ همم أولى األبصار لالقتداء بسيد المهاجرين واألنصار) لصالح
ال ُفالَّني ،و(إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) لمحمد بن علي السنوسي
(مالكي) ،و(القول المفيد في أدلة االجتهاد والتقليد) و(أدب الطلب ،ومنتهى األرب)
كالهما للشوكاني ،و(كشف الغمة عن سبب اختالف األمة) و(االكتناف ألحكام
االختالف) لألمير صديق حسن خان القنوجي ،و(القول السديد في أدلة االجتهاد
والتقليد) ألبي النصر علي بن حسن خان القنوجي ،و(الطريقة المثلى في ترك التقليد
واتباع ما هو األولى) ألبي الخير نور الحسن بن حسن خان القنوجي ،وغيرهم كثير.
وبما أن استيعاب كل ما ذكروه يحتاج إلى مجلدات ضحمة ،فسنقتصر هنا على
مجامع األدلة دون تفاصيلها:
26
الدليل األول:
ما ورد في النصوص الداعية إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة مطلقا أو في حال
النزع ،وهي كثيرة جدا نقتصر منها على ما يلي:
من القرآن الكريم :وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو إلى العودة المباشرة
ِ ِ ِ
ول الر ُس َ إلى الكتاب والسنة ،منها قوله تعالىَ ﴿ :يا َأ ُّي َها ا َّلذي َن آ َمنُوا َأطي ُعوا ال َّل َه َو َأطي ُعوا َّ
ون بِال َّل ِه َو ُأولِي ْاألَم ِر ِمنْ ُكم َفإِ ْن َتن ََاز ْع ُتم فِي َشي ٍء َفر ُّدو ُه إِ َلى ال َّل ِه َوالرس ِ
ول إِ ْن ُكنْ ُت ْم ُت ْؤ ِمنُ َ َّ ُ ْ ُ ْ ْ ْ
َوا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِر َذل ِ َك َخ ْي ٌر َو َأ ْح َس ُن َت ْأ ِو ًيال﴾
()0
27
()0
المؤمن كالجمل األنف حيثما انقيد انقاد)
الدليل الثاني:
ما ورد من األدلة الكثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واآلثار عن الصحابة
والتابعين على حرمة التقليد ،وقد جمع ابن عبد البر الكثير منها كتابه (جامع بيان العلم
وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) في (باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد
واالتباع)( ،)6ومن األدلة التي أوردها:
- 0ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من القرآن الكريم ،كقوله تعالى:
اه ِه ْم ت النَّصارى ا ْلم ِسيح ابن ال َّل ِه َذل ِ َك َقو ُلهم بِ َأ ْفو ِ ت ا ْليهود ُع َزير ابن ال َّل ِه و َقا َل ِ ﴿و َقا َل ِ
ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َُ ُ ٌْ ْ ُ َ
َّخ ُذوا َأ ْح َب َار ُه ْم ون ( )01ات َ ين َك َف ُروا ِم ْن َق ْب ُل َقا َت َل ُه ُم ال َّل ُه َأنَّى ُي ْؤ َف ُك َ ِ
ون َق ْو َل ا َّلذ َ
ي َض ِ
اه ُئ َ ُ
ون ال َّل ِه وا ْلم ِسيح ابن مريم وما ُأ ِمروا إِ َّال لِيعبدُ وا إِ َلها و ِ
احدً ا َال إِ َل َه إِ َّال ورهبانَهم َأربابا ِمن د ِ
ً َ َُْ َ َ َ ْ َ ََْ َ َ َ ُ َُ َْ ُ ْ َْ ً ْ ُ
ُه َو ُس ْب َحا َن ُه َع َّما ُي ْش ِر ُك َ
ون ( ،)0(﴾ )00وقد ورد في تفسير هذه اآلية عن عدي بن حاتم:
أتيت رسول الله وفي عنقي صليب فقال لي :يا عدي بن حاتم ،ألق هذا الوثن من
َّخ ُذوا َأ ْح َب َار ُه ْم
عنقك) ،وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه اآلية ﴿ات َ
ون ال َّل ِه﴾( )2قال :قلت :يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا ،قال( : ورهبانَهم َأربابا ِمن د ِ
َُ َْ ُ ْ َْ ً ْ ُ
بلى ،أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ،ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم
( )0مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ،تحقيق :شعيب
األرنؤوط وعادل مرشد ،وآخرون ،إشراف :د عبد الله بن عبد المحسن التركي ،مؤسسة الرسالة ،ط،0
0260هـ 6110 -م ،ج ،62ص.061
( )6جامع بيان العلم وفضله ،ج ،6ص.911
( )0سورة التوبة.00 ،01 :
( )2سورة التوبة.00 :
28
()0
فتحرمونه؟) ،فقلت :بلى ،قال( :تلك عبادتهم)
ٍ ِ ِ ِ ِ ِ
وها ﴿وك ََذل َك َما َأ ْر َس ْلنَا م ْن َق ْبلِ َك في َق ْر َية م ْن نَذ ٍير إِ َّال َق َال ُمت َْر ُف َ
– 6قوله تعالىَ :
ون (َ )60ق َال َأ َو َل ْو ِج ْئ ُت ُك ْم بِ َأ ْهدَ ى ِم َّماإِنَّا َو َجدْ نَا آ َبا َءنَا َع َلى ُأ َّم ٍة َوإِنَّا َع َلى آ َث ِار ِه ْم ُم ْقتَدُ َ
َو َجدْ ُت ْم َع َل ْي ِه آ َبا َء ُك ْم َقا ُلوا إِنَّا بِ َما ُأ ْر ِس ْل ُت ْم بِ ِه كَافِ ُر َ
ون ( ،)6(﴾)62فمنعهم االقتداء بآبائهم
من قبول االهتداء فقالوا :إنا بما أرسلتم به كافرون.
ِ ِ ِ
اب َو َت َق َّط َع ْت بِ ِه ُم ين اتُّبِ ُعوا م َن ا َّلذ َ
ين ا َّت َب ُعوا َو َر َأ ُوا ا ْل َع َذ َ – 0قوله تعالى﴿ :إِ ْذ َت َب َّر َأ ا َّلذ َ
اب (َ )066و َق َال ا َّل ِذي َن ا َّت َب ُعوا َل ْو َأ َّن َلنَا ك ََّر ًة َفنَ َتبَ َّر َأ ِمن ُْه ْم ك ََما َت َب َّر ُءوا ِمنَّا ك ََذل ِ َك ُي ِر ِيه ُم
ْاألَ ْس َب ُ
َّاس ُك ُلوا ِم َّما فِي ِ ٍ
ال َّل ُه َأ ْع َما َل ُه ْم َح َس َرات َع َل ْي ِه ْم َو َما ُه ْم بِ َخ ِار ِجي َن م َن الن َِّار (َ )061يا َأ ُّي َها الن ُ
ان إِ َّن ُه َل ُك ْم عَدُ ٌّو ُمبِي ٌن (﴾)062 الشي َط ِ ِ
()0
ض َح َال ًال َط ِّي ًبا َو َال َتتَّبِ ُعوا ُخ ُط َوات َّ ْ ْاألَ ْر ِ
وقد علق ابن عبد البر على هذه اآليات وغيرها بقوله( :وقد احتج العلماء بهذه
اآليات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة االحتجاج بها؛ ألن التشبيه لم
يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان اآلخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد
كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ،كان كل
واحد ملوما على التقليد بغير حجة؛ ألن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت
( )0المعجم الكبير ،سليمان بن أحمد ،أبو القاسم الطبراني ،تحقيق :حمدي بن عبد المجيد
السلفي ،مكتبة ابن تيمية – القاهرة ،ط ،6ج ،01ص.96
وانظر :سنن الترمذي ،محمد بن عيسى بن َس ْورة ،الترمذي ،أبو عيسى ،تحقيق وتعليق :أحمد
محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي ،شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ،ط0091 ، 6
هـ 0911 -م ،ج ،1ص.612
( )6سورة الزخرف.62 ،60 :
( )0سورة البقرة.062 - 066 :
29
َان ال َّل ُه لِيُ ِض َّل َق ْو ًما َب ْعدَ إِ ْذ َهدَ ُاه ْم َحتَّى ُي َب ِّي َن َل ُه ْم َما
﴿و َما ك َ
اآلثام فيه ،وقال الله عز وجلَ :
ون إِ َّن ال َّل َه بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم ﴾( ،)0وقد ثبت االحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي َي َّت ُق َ
ثبوته إبطال التقليد أيضا ،فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم لألصول التي
()6
يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك)
الدليل الثالث:
االستدالالت العقلية ،وكثير منها صيل بشكل مناظرات وحوارات مع المخالفين
من القائلين بالتقليد معاملة لهم بالمناهج التي يعتمدون عليها في االستدالل ،ومن األمثلة
على ذلك ما نقله الزركشي وغيره عن المزني من قوله( :يقال لمن حكم بالتقليد :هل لك
من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال :نعم أبطل التقليد؛ ألن الحجة أوجبت ذلك عنده ال
التقليد ،وإن قال :حكمت فيه بغير حجة قيل له :فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت
األموال وقد حرم الله ذلك إال بحجة؟ قال الله عز وجل ﴿ :إِ ْن ِعنْدَ ُكم ِمن س ْل َط ٍ
ان ْ ْ ُ
بِ َه َذا﴾( )0أي من حجة بهذا ،فإن قال :أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ ألني
قلدت كبيرا من العلماء وهو ال يقول إال بحجة خفيت علي ،قيل له :إذا جاز تقليد معلمك
ألنه ال يقول إال بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى؛ ألنه ال يقول إال بحجة
خفيت على معلمك ،كما لم يقل معلمك إال بحجة خفيت عليك ،فإن قال :نعم ترك تقليد
معلم معلمه ،وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي إلى أصحاب رسول الله ،وإن أبى ذلك
نقض قوله وقيل له :كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما وال يجوز تقليد من هو
31
أكبر وأكثر علما وهذا يتناقض ،فإن قال :ألن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من
هو فوقه إلى علمه ،فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له :وكذلك من تعلم من معلمك
فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه؛ فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك،
وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ ألنك جمعت علم معلمك وعلم من هو
فوقه إلى علمك ،فإن فاد قوله جعل األصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد
من أصحاب رسول الله وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع ،والتابع من دونه
()0
في قياس قوله واألعلى األدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا)
ومثل ذلك ما روي عن سحنون ،قال :كان مالك بن أنس ،وعبد العزيز بن أبي
سلمة ،ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ،وكان إذا سأله مالك
وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لم يجبهم ،فتعرض له ابن دينار يوما فقال
له :يا أبا بكر لم تستحل مني ما ال يحل لك؟ قال له :يا ابن أخي وما ذاك؟ قال :يسألك
مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فال تجيبنا؟ فقال ( :أوقع ذلك يا ابن أخي
في قلبك؟) قال :نعم ،قال :إني قد كبر سني ورق عظمي ،وأنا أخاف أن يكون خالطني
في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ،ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني
حقا قباله ،وإذا سمعا مني خطأ تركاه ،وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه ،قال محمد بن
حارث :هذا والله هو الدين الكامل والعقل الراجح ال كمن يأتي بالهذيان ،ويريد أن ينزل
()6
من القلوب منزلة القرآن )
( )0نقال عن :البحر المحيط في أصول الفقه ،أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر
الزركشي ،دار الكتبي ،ط0202 ،0هـ 0992 -م ،ج ،2ص ،069وانظر :جامع بيان العلم وفضله ج،6
ص ،996وانظر :إعالم الموقعين عن رب العالمين ج ،6ص .006
( )6إعالم الموقعين عن رب العالمين ،ج ،6ص .001
30
ومثل ذلك هذه المناظرة االفتراضية التي صاغها ابن عبد البر بقوله( :يقال لمن
قال بالتقليد :لم قلت به وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا فإن قال :قلدت؛ ألن
كتاب الله عز وجل ال علم لي بتأويله ،وسنة رسوله لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك
فقلدت من هو أعلم مني قيل له :أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو
حكاية سنة عن رسول الله أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق ال شك فيه ،ولكن
قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض ،فما حجتك في تقليد بعض دون بعض،
وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه ،فإن قال :قلدته
ألني علمت أنه صواب قيل له :علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ،فإن قال:
نعم ،فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال :قلدته ألنه أعلم مني ،قيل
له :فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا وال يحصى من قلدته إذ
علتك فيه أنه أعلم منك وتجدهم في أكثر ما ينزل بهم من السؤال مختلفين فلم قلدت
أحدهم؟ فإن قال :قلدته ألنه أعلم الناس قيل له :فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول
مثل هذا قبحا وإن قال :إنما قلدت بعض الصحابة قيل له :فما حجتك في ترك من لم تقلد
منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أعلم وأفضل ممن أخذت بقوله على أن القول ال يصح
()0
لفضل قائله وإنما يصح بداللة الدليل عليه)
وكثيرا ما نرى أصحاب هذا المنهج يحاجون المخالفين لهم من المقلدين بما
ذكره أئمتهم الذين يقتدون بهم ،فاألئمة األربعة ،قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما
يقولونه كما رأينا ذلك سابقا.
بل يذكر ابن القيم أن غير المقلدين أكثر احتراما للعلماء من المقلدين ،فيقول في
32
فصل بعنوان (الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها)( :فمن
عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر
أقوالهم ،ولم يهضم جانبهم ،بل اقتدى بهم ،فإنهم كلهم أمروا بذلك ،فمتبعهم حقا من
امتثل ما أوصوا به ،ال من خالفهم ،فخالفهم في القول الذي جاء النص بخالفه أسهل من
مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ،ومن
هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين االستعانة بفهمه واالستضاءة بنور
علمه ،فاألول يأخذ قوله من غير نظر فيه ،وال طلب لدليله من الكتاب والسنة ،بل يجعل
ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ،ولذلك سمي تقليدا بخالف ما استعان بفهمه
واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسالمه عليه ،فإنه يجعلهم
بمنزلة الدليل إلى الدليل األول ،فإذا وصل إليه استغنى بداللته عن االستدالل بغيره ،فمن
()0
استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق الستدالله بالنجم معنى)
الدليل الرابع:
الرد على ما استند إليه المخالفون من أدلة ،وأشهر ما انصب عليه اهتمامهم ما
يستدل به المخالفون من أصحاب المناهج المذهبية أو المذاهبية كثيرا ،وهو حديث
(اختالف أمتي رحمة)( ،)6فقد جعل أصحاب المنهج المذهبي هذا الحديث شعارهم
( )0الروح في الكالم على أرواح األموات واألحياء بالدالئل من الكتاب والسنة ،محمد بن أبي
بكر بن ابن قيم الجوزية ،دار الكتب العلمية – بيروت ،ص.662
( )6باعتبار هذا الحديث محل خالف بين المناهج ،فسنتحدث عنه بتفصيل هنا ،وفي محال
أخرى من هذه الدراسة.
33
وقاعدتهم التي يحتمون بها( ،)0وقد رد هؤالء على هذا الحديث – أوال – ببيان وضعه(،)6
و– ثانيا – بمعارضته الواضحة لما ورد في النصوص القطعية من القرآن والسنة من ذم
ِ ِ ِ
يما َفاتَّبِ ُعو ُه َو َال َتتَّبِ ُعوا ُّ
الس ُب َل َف َت َف َّر َق ﴿و َأ َّن َه َذا ص َراطي ُم ْستَق ً االختالف ،كقوله تعالىَ :
ب﴿و َال َتن ََاز ُعوا َف َت ْف َش ُلوا َوت َْذ َه َ
ون﴾( ،)0وقولهَ : بِ ُك ْم َع ْن َسبِيلِ ِه َذل ِ ُك ْم َو َّصا ُك ْم بِ ِه َل َع َّل ُك ْم َتتَّ ُق َ
()1
يح ُك ْم﴾( ،)2وقوله ( : ال ترجعوا بعدي كفارا ،يضرب بعضكم رقاب بعض ) ِر ُ
ومن السابقين من أصحاب هذا المنهج الذين اشتدوا في رد هذا الحديث ابن
حزم ،فقد قال بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث( :وهذا من أفسد قول يكون ،ألنه لو كان
االختالف رحمة لكان االتفاق سخطا ،وهذا ما ال يقوله مسلم ،ألنه ليس إال اتفاق أو
()6
اختالف ،وليس إال رحمة أو سخط)...
ومن الذين اشتدوا في بيان وضعه ،ونشر ذلك بين الناس الشيخ األلباني ،ومن
ردوده عليه ما ذكره في تعليقه على هذا الحديث في الضعيفة( :ال أصل له ،ولقد جهد
( )0نظر على سبيل المثال :شرح النووي على صحيح مسلم ،النووي ،دار إحياء التراث العربي،
بيروت ،ط0096 ،6هـ ،ج 00ص ،90وفيض القدير ،المناوي ،المكتبة التجارية الكبرى ،مصر،
،0016ج 0ص .601
( )6من المراجع التي حققت في بيان وضعه :سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها
السيئ في األمة ،أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين األلباني ،دار المعارف ،الرياض ،الممكلة العربية
السعودية ،الطبعة :األولى 0206 ،هـ 0996 /م ،ج ،0ص ،020وصفة صالة النبي ،األلباني،
السعودية مكتبة المعارف ،د ت : ،ص.29 :
( )0سورة األنعام.010 :
( )2سورة األنفال.26 :
( )1صحيح مسلم ()20 /0
( )6اإلحكام في أصول األحكام ،ج ،1ص.62
34
()0
المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا)
ثم ذكر اآلثار السيئة لهذا الحديث ،فقال( :وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن
كثيرا من المسلمين يقرون بسببه االختالف الشديد الواقع بين المذاهب األربعة ،وال
يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة كما أمرهم بذلك أئمتهم ،بل إن
أولئك ليرون مذاهب هؤالء األئمة إنما هي كشرائع متعددة يقولون هذا مع علمهم بما
بينها من اختالف وتعارض ال يمكن التوفيق بينها إال برد بعضها المخالف للدليل ،وقبول
البعض اآلخر الموافق له ،وهذا ماال يفعلونه ،وبذلك نسبوا إلى الشريعة التناقض ،وهو
وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن
اختِ َال ًفا كَثِ ًيرا﴾( ،)6فاآلية
َان ِم ْن ِعن ِْد َغ ْي ِر ال َّل ِه َل َو َجدُ وا فِ ِيه ْ
آن َو َل ْو ك َ ﴿ َأ َف َال َيتَدَ َّب ُر َ
ون ا ْل ُق ْر َ
صريحة في أن االختالف ليس من الله ،فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة ،ورحمة
()0
منزلة؟)
35
األول :هو النظر في النصوص واالجتهاد في فهمها أو استنباط الحكم الشرعي
من خالل منطوقها أو مفهومها ،أو من خالل القياس عليها ،ونحو ذلك ،ويستدلون لهذا:
0ـ بما ورد في الحديث المشهور أن النبي قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن( :،
كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟) ،قال :أقضي بما في كتاب الله .قال( :فإن لم يكن في
كتاب الله؟) قال :فبسنة رسول الله ،قال( :فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال:
أجتهد رأيي ،ال آلو .قال :فضرب رسول الله صدري ،ثم قال( :الحمد لله الذي وفق
()0
رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)
6ـ بما ورد عن الصحابة من منهجهم في الفتوى ،ومن ذلك ما روي عن حريث
بن ظهير -قال :أحسب -أن عبد الله قال :قد أتى علينا زمان وما نسأل ،وما نحن هناك،
وإن الله قدر أن بلغت ما ترون ،فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله ،فإن لم تجدوه
في كتاب الله ففي سنة رسول الله ،فإن لم تجدوه في سنة رسول الله فما أجمع
( )0مسند أحمد ،ج ،06ص ،000قال محققه :إسناده ضعيف إلبهام أصحاب معاذ وجهالة
الحارث بن عمرو ،لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين من أهل العلم ،منهم أبو بكر
الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية.
وقال ابن القيم( :حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فال يضره ذلك؛ ألنه يدل
على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ال واحد منهم،
وهذا أبلل في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي ،كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين
والفضل والصدق بالمحل الذي ال يخفى؟ وال يعرف في أصحابه متهم وال كذاب وال مجروح ،بل
أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ،ال يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ،كيف وشعبة حامل لواء
هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث :إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به) (إعالم
الموقعين عن رب العالمين ،ج ،0ص .011
36
عليه المسلمون فإن لم يكن فيما أجمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك وال تقل :إني أخاف
وأخشى ،فإن الحالل بين والحرام بين ،وبين ذلك أمور مشتبهة ،فدع ما يريبك إلى ما ال
()0
يريبك)
ومثله ما روي عن شريح ،أن عمر بن الخطاب كتب إليه( :إن جاءك شيء في كتاب
الله ،فاقض به وال تلفتك عنه الرجال ،فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول
الله ،فاقض بها ،فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله ،
فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ،فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة
رسول الله ،ولم يتكلم فيه أحد قبلك ،فاختر أي األمرين شئت :إن شئت أن تجتهد
()6
برأيك ثم تقدم فتقدم ،وإن شئت أن تتأخر ،فتأخر ،وال أرى التأخر إال خيرا لك)
الثاني :هو االستفادة من اجتهادات المجتهدين من الفقهاء من أصحاب المذاهب
وغيرهم من غير تقليد لها ،ولهذا فإن هذا المنهج ال ينكر التمذهب مطلقا ،بل ينكر ترك
الدليل ألجل المذهب ،كما جاء في الدرر السنية( :ونحن أيضا في الفروع ،على مذهب
اإلمام أحمد بن حنبل ،وال ننكر على من قلد أحد األئمة األربعة ،دون غيرهم ،لعدم ضبط
مذاهب الغير ،الرافضة ،والزيدية ،واإلمامية ،ونحوهم ،وال نقرهم ظاهرا على شيء من
مذاهبهم الفاسدة ،بل نجبرهم على تقليد أحد األئمة األربعة ..وال نستحق مرتبة االجتهاد
المطلق ،وال أحد لدينا يدعيها ،إال أننا في بعض المسائل ،إذا صح لنا نص جلي ،من
كتاب ،أو سنة غير منسوخ ،وال مخصص ،وال معارض بأقوى منه ،وقال به أحد األئمة
( )0مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي ،أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي،
التميمي السمرقندي ،تحقيق :نبيل هاشم الغمري ،دار البشائر (بيروت) ،ط0202 ،0هـ 6100 -م،
ص .006
( )6المرجع السابق ،ص.001
37
األربعة :أخذنا به ،وتركنا المذهب ،كإرث الجد واإلخوة ،فإنا نقدم الجد باإلرث ،وإن
خالف مذهب الحنابلة ..وال نفتش على أحد في مذهبه ،وال نعترض عليه ،إال إذا اطلعنا
على نص جلي ،مخالف لمذهب أحد األئمة ،وكانت المسألة مما يحصل بها شعار
ظاهر ،كإمام الصالة ،فنأمر الحنفي ،والمالكي مثال ،بالمحافظة على نحو الطمأنينة في
االعتدال ،والجلوس بين السجدتين ،لوضوح دليل ذلك ،بخالف جهر اإلمام الشافعي
بالبسملة ،فال نأمره باإلسرار ،وشتان ما بين المسألتين ،فإذا قوي الدليل أرشدناهم
بالنص ،وإن خالف المذهب ،وذلك يكون نادرا جدا .وال مانع من االجتهاد في بعض
المسائل دون بعض ،فال مناقضة لعدم دعوى االجتهاد ،وقد سبق جمع من أئمة المذاهب
األربعة ،إلى اختيارات لهم في بعض المسائل ،مخالفين للمذهب ،الملتزمين تقليد
()0
صاحبه)
38
المبحث الثاني
المنهج المذهبي
يراد بالمنهج المذهبي( )0في الفتوى المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد
المذهبي لألئمة األربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجاالت من كتب
التفسير وشروح الحديث ،إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها ،باإلضافة إلى ما كتب
في خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل.
وهذا المنهج بدأ متقدما على المذاهب األربعة ،فقد كان لكل إمام من أئمة الفقه
من يتبعه ويذهب مذهبه في الفتوى ،كما قال ابن عبد البر( :وقد كان العلماء قديم ًا وحديث ًا
يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة
والصرف ،ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم
( )0يطلق المذهب في اللغة :على الطريق ومكان الذهاب ،يقال ذهب القوم مذاهب شتى إذا
ساروا طرائق مختلفة ،قال الزبيدي( :المذهب :المعتقد الذي يذهب إليه ..والمذهب الطريقة ،يقال :
ذهب فالن مذهب ًا حسن ًا ،أي طريقة حسنة) (انظر :تاج العروس ،الزبيدي ،دار الرشاد ،الدار البيضاء،
ج0ص ،116وانظر :لسان العـرب)0120/6 ،
ويطلق في االصطالح :على ما ذهب إليه إمام من األئمة في األحكام االجتهادية ،ويطلق عند
المتأخرين على ما به الفتوى ،فيقولون المذهب في المسألة كـذا من باب إطالق الشيء على جزئه
األهم ،كإطالق الصالة على الفاتحة ،والحج عرفة ،وبهذا فإن (المذهب المالكي :هو الطريق الذي
سلكه مالك في استنباط األحكام االجتهادية .انظر :مواهب الجليل لشـرح مختصر خليـل ،الحطاب،
دار الفكـر ،ط.)62/0 ،0996 ،6:
39
()0
في النبيذ الشديد ،ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء)
ولكنه بعد ذلك وألسباب كثيرة ،سنذكر هنا بعضها ،اقتصرت داللته على أتباع
المذاهب األربعة ،والتي سرى إليها الخالف هي أيضا ،فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار
الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية في العالم اإلسالمية قرونا طويلة.
وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم االلتزام بهذه المذاهب بين متشدد
ومتساهل:
فمن أمثال المتشددين ما عبر عنه صاحب (الفواكه الدواني) ،وهو مالكي
المذهب ،بقوله( :وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من األئمة
األربع :أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم،
وإنما حرم تقليد غير هؤالء األربعة من المجتهدين ،مع أن الجميع على هدى لعدم حفظ
مذاهبهم لموت أصحابهم وعدم تدوينها ،ولذا قال بعض المحققين :المعتمد أنه يجوز
تقليد األربعة ،وكذا من عداهم ممن يحفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت
شروطه وسائر معتبراته ،فاإلجماع الذي نقله غير واحد كابن الصالح وإمام الحرمين
()6
والقرافي على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد منه شرط من ذلك)
وقال الحطاب في (مواهب الجليل) معلال سبب االقتصار على المذاهب األربعة
دون غيرها( :قال القرافي :ورأيت للشيخ تقي الدين بن الصالح ما معناه أن التقليد يتعين
( )0التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد ،أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن
عاصم النمري القرطبي ،تحقيق :مصطفى بن أحمد العلوي ،محمد عبد الكبير البكري ،وزارة عموم
األوقاف والشؤون اإلسالمية – المغرب 0021 ،هـ ،ج ،01ص.001
( )6الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ،أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن
مهنا ،شهاب الدين النفراوي األزهري المالكي ،دار الفكر ،دط0201 ،هـ 0991 -م ،ج ، 6ص .016
41
لهذه األئمة األربعة دون غيرهم؛ ألن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد
مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكمال في
موضع آخر ،وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة فلعل لها مكمال أو مقيدا أو مخصصا
لو انضبط كالم قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة ،بخالف هؤالء األربعة قال:
وهذا توجيه حسن فيه ما ليس في كالم إمام الحرمين) (.)0
أما المتساهلون فهم الذين لم يحكموا بوجوب التزام هذه المذاهب ،ولم يحكموا
بوجوب االقتصار عليها ،كما ورد في (البحر الرائق) وهو من كتب الحنفية المعتبرة:
(فصل :يجوز تقليد من شاء من المجتهدين ،وإن دونت المذاهب كاليوم وله االنتقال من
()6
مذهبه ،لكن ال يتبع الرخص فإن تتبعها من المذاهب فهل يفسق وجهان)
وقال النووي ،وهو شافعي المذهب( :الذي يقتضيه الدليل أنه ال يلزمه التمذهب
بمذهب ،بل يستفتي من شاء ،أو م ِن اتَّفق من غير تل ُّق ٍ
ط للرخص ،ولعل َمن َمنَ َعه لم يثق َ َ
()0
بعدم تلقطه)
ونقل ابن عابدين في حاشيته عن الشرنباللي قوله( :ليس على اإلنسان التزا ُم
غير إمامه
مذهب معين ،وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدً ا فيه َ
مستجم ًعا شروطه ،ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين ال تعلق لواحدة منهما باألخرى،
وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ ألن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي ال
( )0مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل ،ج ، 0ص .99
( )6البحر الرائق شرح كنز الدقائق ،زين الدين بن إبراهيم بن محمد ،المعروف بابن نجيم
المصري ،دار الكتاب اإلسالمي ،ط ،6ج ،6ص.696
( )0روضة الطالبين وعمدة المفتين ،محيي الدين النووي ،المكتب اإلسالمي ،بيروت ،الطبعة
الثانية0211 ،هـ ،ج ،00ص.001
40
()0
ُين َقض)
وهكذا نجد المتساهلين والمتشددين في كل مذهب من المذاهب ،والمتساهلون
عادة يقتربون من المنهج السابق ،أو ربما يميلون إلى المناهج األخرى التي سنعرض لها
في المباحث الالحقة.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحث
السابق من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه ،وأدلتهم ،والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي
يعتمدون عليها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
ليس من الصعوبة التعرف على أعالم هذا المنهج ،والذين مثلوه طيلة التاريخ
اإلسالمي ،ذلك أنهم يكادون يمثلون أكثر فقهاء هذه األمة ،وتمثل كتبهم كثيرا من التراث
الفقهي الضخم الذي وصل إلينا.
وهذا األمر غير مستغرب ،ذلك أن الذين اعتمدوا فقه الدليل كانوا من النخبة ،وهي
محدودة عادة ،بخالف الذين انتهجوا هذا المنهج فهم في أحسن أحوالهم مجتهدون في
إطار المذهب ال يخرجون عنه.
وقد ساعد على هذه الوفرة في األعالم والمشايخ الفقهاء أنهم رأوا أن مذاهبهم
هي التي تمثل الشريعة ،وبالتالي فإن نصرتها أو التعصب لها نصرة للشريعة نفسها ،ومن
السبكي الشافعي(ت
األمثلة على ذلك – ولسنا ندري مدى دقته -ما ذكره تاج الدين ُ
قرن2 :هـ) عن الحافظ عبد الله األنصاري الهروي الحنبلي(ت 220هـ ) من شدة تمسكه
( )0رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ،محمد أمين عابدين ،دار إحياء التراث
العربي (بيروت) ،الطبعة الثانية 0211هـ0921 ،م ،ج ،0ص.10
42
بالمذهب الحنبلي إلى درجة أنه كان ينشد على المنبر:
مت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
حييت وإن ُ
ُ أنا حنبلي ما
حتى أنه أيضا ترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعريا (.)0
ولم يكن أمر العلماء أو طلبة العلم قاصرا على تمسكهم بمذاهبهم أو تعصبهم لها
فقط ،وإنما برز بنوع من العداوة للمخالفين لهم ،وقد ساهم ذلك في تعميق هذا المنهج،
ليصبح كل مذهب وكأنه شريعة من الشرائع مستقال عن غيره.
ومن األمثلة على هذا الفقيه الحنفي أبو عبد الله محمد البالساغوني التركي(ت
116ه) ،والذي كان شديد التعصب للمذهب الحنفي ،وشديد العداوة لمخالفيه،
وخصوصا من المذهب الشافعي ،وقد حكي عنه – ولسنا ندري مدى دقة ذلك -أنه كان
()6
ألخذت الجزية من الشافعية)
ُ يقول( :لو كان لي والية
ومن األمثلة الفقيه الشافعي أبو المظفر محمد بن محمد البروي (ت 161ه ) ،وقد
لوضعت على
ُ كان متعصبا للشافعي مناوئا للحنابلة ،وكان يقول عنهم( :لو أن لي أمر
الحنابلة الجزية ) ،وقد حصل له بسبب هذا أن دس له بعض الحنابلة من أهدى له شيئا
فمات (. )0
( )0طبقات الشافعية الكبرى ،السبكي ،حققه محمد الطناجي ،ط ،6الجيزة ،دار هجر،0996 ،
ج ،6ص ..210
( )6معجم البلدان ،شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي ،دار صادر،
بيروت ،ط 0991 ،6م ج ،0ص.216
( )0طبقات الفقهاء الشافعيين ،أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم
الدمشقي ،تحقيق :د أحمد عمر هاشم ،د محمد زينهم محمد عزب ،مكتبة الثقافة الدينية 0200 ،هـ ،ج
، 6ص .610
43
وهكذا ،فإن التعصب الشديد ألصحاب المذاهب جعل فقهاء كل المذاهب
يتنافسون في تكثير سواد التالميذ وطلبة العلم على األسس التي تمسكوا بها ،ليتمكنوا
من نشر المذهب والحفاظ على وجوده ،وقد استخدموا ألجل هذا صنفين من الناس:
0ـ الساسة والحكام :باعتبارهم من أولي األمر الذين تجب طاعتهم ،وبالتالي فإن
الوصول إلى هؤالء يضمن للمذهب االنتشار الواسع.
وكمثال على ذلك دولة المرابطين (120-210ه) التي استطاعت أن تطبع
المغرب العربي بطابع المذهب المالكي( ،)0في مقابل دولة الموحدين (662-220ه)
التي حاربت التمذهب عامة ،واشتدت على ُخصومها من المرابطين ،فك ّفرتهم
واستباحت دماءهم(.)6
باإلضافة إلى ما لهؤالء الحكام من قدرة على بناء المدارس والمساجد التي ترسخ
االنتماء المذهبي ،وكمثال على ذلك الملك قطب الدين محمد بن الملك صاحب
سنجار الزنكي(ت بعد192:ه) الذي كان حنفيا مناوئا للشافعية ،وقد بنى ألجل هذا
مدرسة للحنفية بمدينة سنجار ،وجعل النظر فيها للحنفية ،بل اشترط أن يكون بواب
( )0العبر ،الذهبي ،حققه صالح الدين المنجد ،ط ،6الكويت ،مطبعة حكومة الكويت،
،0922ج 2ص ،61 :ومما رواه في هذا ما حصل للفقيه المالكي محمد بن زرقون (ت 666ه) ،ذلك
أنه لما أمر السلطان الموحدي يوسف بن يعقوب بعدم قراءة ُكتب الفروع عامة والمالكية خاصة ،استمر
درس الفقه ُأخذ للقتل صبرا
ابن زرقون في تدريس الفقه المالكي متحديا ألمر السلطان ،فلما ُظفر به ُي ّ
(نحو سنة190ه) ،ثم ُسجن ولم ُيقتل ،فطال سجنه وأحرقت كتبه (س ّير أعالم النبالء ،الذهبي ،حققه
بشار عواد ،بيروت ،مؤسسة الرسالة ج 66ص) 000 :
( )6االستقصاء ألخبار دول المغرب األقصى ،الناصري احمد بن خالد ،الدار البيضاء ،دار
الكتاب ،ط 0991 ،0ج 0ص.061 :
44
المدرسة وفراشها على المذهب الحنفي(.)0
وألجل هذا انتشرت المدارس والمساجد المرتبطة بالمذاهب المختلفة ،والتي ال
يمكن ذكرها هنا لكثرتها( ،)6وقد كان لها دور كبير في إمداد المذاهب الفقهية بالكثير من
العلماء وطلبة العلم ،وهذا ما كان سببا في كثرتهم وكثرة مصنفاتهم.
باإلضافة إلى هذا فقد كان الجهاز القضائي في الدولة بيد أصحاب المذاهب ،وقد
كان لذلك دوره الكبير في انتشار هذه المذاهب.
البندقداري ،ولي بمصر
ّ يقول المقريزي( :فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس
فاستمر ذلك من سنة خمس
ّ وحنبلي.
ّ حنفي
ومالكي و ّ
ّ شافعي
ّ والقاهرة أربعة قضاة ،وهم
وستين وستمائة ،حتى لم يبق في مجموع أمصار اإلسالم مذهب يعرف من مذاهب أهل
األشعري ،وعملت ألهلها المدارس
ّ اإلسالم سوى هذه المذاهب األربعة ،وعقيدة
والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك اإلسالم ،وعودي من تمذهب بغيرها ،وأنكر
عليه ،ولم ّ
يول قاض وال قبلت شهادة أحد وال قدّ م للخطابة واإلمامة والتدريس أحد ما
لم يكن مقلدا ألحد هذه المذاهب ،وأفتى فقهاء هذه األمصار في طول هذه المدّ ة
()0
بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ،والعمل على هذا إلى اليوم)
وقد أشار الشوكاني إلى الدور الذي يمارسه القضاة في ترسيخ المذاهب ،فقال:
(وقد امتحن الله تلك الديار بقضاة من المالكية يتجرؤون على سفك الدماء ،بما ال يحل
( )0وفيات األعيان ،ابن خلكان ،حققه إحسان عباس ،دار الثقافة .0962 ،ج 6ص.000 :
( )6للتوسع في ذلك انظر :الدارس في تاريخ المدارس ،عبد القادر النعيمي ،حققه جعفر
الحسيني ،دمشق ،المجمع العلمي.0910 ،
( )0المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار ،أحمد بن علي ،تقي الدين المقريزي ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،ط 0202 ،0هـ ،ج 0ص .091
45
به أدنى تعزير ،فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم جهالة وضاللة وجرأة على الله،
ومخالفة لشريعة رسول الله ،وتالعبا بدينه ،بمجرد ُنصوص فقهية ،واستنباطات فروعية
()0
ليس عليها أثارة من علم ،فإنا لله وإنا إليه راجعون)
6ـ العامة والدهماء :والذين انتشر التعصب المذهبي بينهم ،فجعلهم ال يهتمون
وال يستفتون إال من يرون فيه ما رسخ فيهم من تمسك بالمذهب وتعصب له ،بل وصل
األمر بهم إلى إيذاء المخالفين ،وحصلت بسبب ذلك الفتن بين أتباع المذاهب المختلفة.
ومن األمثلة على هذا ما ذكره المؤرخون في أحداث سنة 221هجرية حيث
حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد ،كان من أسبابها جهر الشافعية بالبسملة في
الصالة ،فانقسمت العامة بين مؤيد ومخالف لهم ،ثم انحازت كل طائفة إلى الطرف الذي
مالت إليه ،ثم توجه الحنابلة إلى أحد مساجد الشافعية ،ونهوا إمامه عن الجهر بالبسملة،
ثم تطور النزاع إلى االقتتال ،فتقوى جانب الحنابلة وتقهقر جانب الشافعية ،حتى ُألزموا
البيوت ،و لم يقدروا على حضور صالة الجمعة وال الجماعات ،خوفا من الحنابلة(.)6
واألمثلة على هذا أكثر من أن تحصر ،وقد ساهمت جميعا في ترسيخ المذاهب،
واالهتمام بتكوين الفقهاء فيها ،حتى يتقوى كل طرف على األطراف األخرى.
ثانيا ـ أدلته:
يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي:
( )0البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ،محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني
اليمني ،دار المعرفة -بيروت ،ج ،0ص..60
( )6أرخت الكثير من المراجع التاريخية ألمثال هذه األحداث ،منها على سبيل المثال :الكامل
في التاريخ ،ابن األثير ،حققه عبد الله القاضي ،ط ،6بيروت ،دار الكتب العلمية ،0991 ،ج 2ص:
.10
46
الدليل األول:
صعوبة االجتهاد ،بل استحالته على العامة وطلبة العلم ،بل ال يصل إلى االجتهاد
بحسب الشروط التي قرروها إال الثلة القليلة من العلماء ،والذين ال يعدون في تصورهم
أصحاب المذاهب األربعة ونظراؤهم.
وقد أجاب الشيخ عليش في فتاواه عن سؤال قال صاحبه( :ما قولكم فيمن كان
مقلدا ألحد األئمة األربعة م وترك ذلك زاعما أنه يأخذ األحكام من القرآن واألحاديث
الصحيحة تاركا لكتب الفقه مائال لقول أحمد بن إدريس بذلك قائال :إن كتب الفقه ال
تخلو من الخطأ ،وفيها أحكام كثيرة مخالفة لألحاديث الصحيحة ،وكيف تترك اآليات
واألحاديث الصحيحة وتقلد األئمة في اجتهادهم المحتمل للخطأ ،وقائال أيضا لمن
تمسك بكالم األئمة ومقلديهم أنا أقول لكم :قال الله أو قال رسول الله وأنتم تقولون
قال مالك أو ابن القاسم أو خليل ،فتقابلون كالم الشارع المعصوم من الخطأ بكالم من
()0
يجوز عليهم الخطأ)
فكتب في الجواب ..( :ال يجوز لعامي أن يترك تقليد األئمة األربعة ويأخذ
األحكام من القرآن واألحاديث؛ ألن ذلك له شروط كثيرة مبينة في األصول ال توجد في
أغلب العلماء وال سيما في آخر الزمان الذي عاد اإلسالم فيه غريبا كما بدأ غريبا ،وألن
كثيرا من القرآن واألحاديث ما ظاهره صريح الكفر وال يعلم تأويله إال الله تعالى
()6
والراسخون في العلم)
( )0فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك ،محمد بن أحمد بن محمد عليش،
أبو عبد الله المالكي (المتوفى0699 :هـ) ،دار المعرفة ،ج ، 0ص .21
( )6فتح العلي المالك ،ج ،0ص.91
47
واستدل لهذا بما ورد عن السلف من خطورة الرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما
من غير استناد إلى رؤية المجتهدين من الفقهاء ،فنقل عن ابن عيينه قوله( :الحديث مضلة
إال للفقهاء) ،وعلق عليه بقوله ( :يريد أن غيرهم قد يحمل الشيء على ظاهره وله تأويل
من حديث غيره أو دليل يخفى عليه أو متروك أوجب تركه غير شيء مما ال يقوم به إال
()0
من استبحر وتفقه)
ونقل عن عبد الرحمن بن مهدي قوله( :السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير
من الحديث)
ونقل عن النخعي قوله( :لو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين لتوضأت
كذلك وأنا أقرؤها إلى المرافق ؛وذلك ألنهم ال يتهمون في ترك السنن وهم أرباب العلم
وأحرص خلق الله على اتباع رسول الله وال يظن ذلك بهم أحد إال ذو ريبة في دينه)
()6
وقد رد أصحاب المنهج االستداللي على هذا ببيان سهولة االجتهاد ،وأنه ليس
بالصعوبة التي يعتقدها المقلدون ،ومن الردود المفصلة في هذا ما رد به ابن الوزير (ت:
221هـ) في كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) ،فقد ذكر اآلثار
الكثيرة عن السلف ،والتي تدل على أن االجتهاد ال يحتاج إلى كل التعقيدات التي وضعها
ِ
الظاه َر من المذهبيون ،يقول في ذلك( :إن اجتها َد أولئك َيدُ ُّل على ُسهو َل ِة االجتهاد ،ألن
أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم ِمثْ َل اشتغال المتأخرين ،وال قريب ًا منه ،وكان الواحدُ منهم
ٍ
تعليق وال غير درس لِما َس ِم َع ُه ،والبي ِ من ِ ِ ِ
َي ْح َف ُظ م َن ُّ
السنة ما اتفق أنَّه َسم َعه من الن ِّ
ِ
حدوث الحادثة عن مبالغة في طلب النصوص ِمن سائر أصحابه ،وإنما كانوا يبحثون عندَ ٍ
48
بكر ما درى كَم ن َِصيب الجدَّ ِة من الميراث ،وأدنى ِ
طلبة العل ِم في زماننا األدلة ،فهذا أبو ٍ
ُ َ ْ
أن َل َها ُّ
السدُ َس حتى قا َم فيهم وسألهم ،ولو أن رج ً
ال ممن َيدَّ عي االجتها َد ال يخفي عليه َّ
وع َّظ ُموا هذا عليه.. نصيب الجدة ،لكثَّر عليه ُ
أهل التعسير لالجتهادَ ، َ ففي زماننا ما َع َر َ
وتوريث المرأه من ِدية زوجها ِ النصوص في ِد َي ِة األصابع،
َ فوكذلك ُع َمر ما كان َي ْع ِر ُ
الم ْت َع َة ابن عباس قال :ال ربا إِالُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص ،وكذلك ما َع َر َ
ف أن ُ وكذلك ُ
()0
منسوخ ٌة)
ثم تتبع كل الشروط التي وضعها المذهبيون شرطا شرطا ،وبين أنها ليست
بالصورة التي وضعوها ،وأن قصدهم من ذلك ليس إال غلق باب االجتهاد.
الدليل الثاني:
أن وجود األدلة وعدمها سواء بالنسبة للعامة ،وغير من توفرت فيهم ملكة
اس َأ ُلوا َأ ْه َل
االجتهاد ،ولذلك ال مفر لهم من التقليد ،وقد استدلوا لذلك بقوله تعالىَ ﴿ :ف ْ
الذك ِْر إِ ْن ُكنْتُ ْم َال َت ْع َل ُم َ
ون ﴾( ،)6يقول الشاطبي مبينا وجه االستدالل باآلية على جواز ِّ
التقليد ،بل وجوبه( :والدليل عليه أن وجود األدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛
إذ كانوا ال يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في األدلة واالستنباط من شأنهم ،وال يجوز
الذك ِْر إِ ْن ُكنْتُ ْم َال َت ْع َل ُم َ
ون ﴾( ،)0والمقلد اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ
ذلك لهم ألبتة وقد قال تعالىَ ﴿ :ف ْ
غير عالم؛ فال يصح له إال سؤال أهل الذكر ،وإليهم مرجعه في أحكام الدين على
( )0العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم ،ابن الوزير ،محمد بن إبراهيم ،تحقيق:
شعيب األرنؤوط ،مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،ط 0201 ،0هـ 0992 -م ،ج،6
ص .61
( )6سورة النحل.20 :
( )0سورة النحل.20 :
49
()0
اإلطالق ،فهم إذن القائمون له مقام الشارع ،وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع)
ويبين الشيخ محمد حسنين مخلوف أن أقوال المجتهدين ليست سوى ترجمة
للمصادر الشرعية ،ولذلك فإن التلقي منها هو تلق من المصادر مباشرة ،يقول في ذلك:
(وقد اعتبر األصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كاألدلة
الشرعية في حق المجتهدين ،ال ألن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها األحكام
الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصالة والسالم فإن ذلك ال يقول به أحد؛ بل ألنها مستندة
إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دالئلها مع عدالتهم وسعة
اطالعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها ،ولذلك شرطوا
في المستثمر لألدلة المستنبط لألحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية ال
تنتج إال ظنا -أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص
األدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونا ألحكام الدين عن الخطأ بقدر
()6
المستطاع)
ومن هذا المنطلق بين أن التقليد على العوام واجب ،كما أن االجتهاد على غيرهم
ممن توفرت فيهم أدوات االجتهاد واجب ،يقول في ذلك( :وكما أمر الله تعالى ورسوله
المستعدِّ ين لالجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى،
أمر القاصرين عن رتبة االجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم
لبلوغ هذا المنصب الشريف ،أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم ،وأمر
( )0الموافقات ،إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي ،تحقيق :أبو
عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ،دار ابن عفان ،ط0201 ،0هـ0991 /م ،ج ،1ص .001
( )6بلوغ السول في مدخل علم األصول ،محمد حسنين محلوف ،مطبعة مصطفى الحلبي،
ص .01
51
العا َّمة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء واألخذ بأقوالهم كما قال تعالى:
الذك ِْر إِ ْن ُكنْ ُت ْم َال َت ْع َل ُم َ
ون ﴾( ،)0أي :بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ
﴿ َف ْ
من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله ،أو قول رسوله ،أو مجردا عنه ،فإن ذكر الدليل
لـمن لم يعلم حكم الله في النازلة غير الزم
من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة َ
مـمن ال يفهم وجه الداللة كأكثر عا َّمة األمة ،أو كان الدليل ذا مقدمات
خصوصا إذا كان َّ
ً
()6
يتوقف فهمها وتقريب االستدالل بها على أمور ليس للعامي إلمام بها)
الدليل الثالث:
أن هناك مصالح كثيرة ال تتحقق إال باتباع المذاهب األربعة خصوصا ،يقول
يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها األفها ُم ،وزلت
ُ الدهلوي( :مما
ِ
اجتمعت األم ُة أو من األقدام ،وطغت األقالم منها َّ
أن هذه المذاهب األربعة المدونة قد
يعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى بومنا هذا وفي ذلك من المصالح ما ال يخفى ال سيما
كل ذي رأيوأعجب ُّ النفوس الهوى، ِ
الهمم،وأشربت في هذه األيام التي قصرت فيها
َ ُ
()0
برأيه)
الدليل الرابع:
ما ورد من األدلة على أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد ،قال الزركشي ذاكرا
50
هذا ،ومن قال بها من العلماء( :يجوز خلو العصر عن المجتهد عند األكثرين وجزم به
في المحصول ،وقال الرافعي :الخلق كالمتفقين على أنه ال مجتهد اليوم ولعله أخذه من
اإلمام الرازي ،أو من قول الغزالي في الوسيط :قد خال العصر عن المجتهد المستقل
ونقل االتفاق فيه عجيب ،والمسألة خالفية بيننا وبين الحنابلة ،وساعدهم بعض أئمتنا،
()0
والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي ،ال الناقل فقط)
وقد أوردوا األدلة الكثيرة على هذا ،وردوا بشدة على من زعم لنفسه القدرة على
االجتهاد من أمثال السيوطي وبقي بن مخلد وابن حزم وغيرهم.
ولهذا نرى عالما كالسيوطي يحاول بكل الوسائل أن يبرهن ألهل عصره أنه قد
بلل مرتبة االجتهاد ،وأن دعوى غلق باب االجتهاد غير صحيحة ،يقول في رسالته
بلغت ولله الحمد والمنةُ ،رتبة االجتهاد المطلق في األحكام
ُ (التحدث بنعمة الله)( :فقد
()6
الشرعية وفي الحديث النبوي ،وفي العربية)
بل إنه فوق ذلك ُيصرح بأن ُه مجدد المائة التاسعة ،يقول( :فإن ثم من ينفخ أشداق ُه
ويدعي مناظرتي ،وينكر علي دعوى االجتهاد والتفرد بالعلم على رأس ِ
هذه المئة ،ويزعم ّ ُ
واحد ونفخت عليهم ٍ وهم في صعيد علي بمن لو اجتمع هو ُ عارضني ويستجيش ّ أن ُه ُي ُ
()0
نفخة صاروا هباء ًا منثور ًا)
وألجل هذا كتب كتابه المعروف (الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن
52
()0
االجتهاد في كل عصر فرض)
وألجله أيضا كثرت كتبه ورسائله ،ألنه كان يكتب في كل مسألة يختلف فيها مع
المخالفين كتابا أو رسالة ،مثل( :طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة)،
ِ
بالواحد القهار) ،و(الكاوي في تاريخ السخاوي) و(االستنصار
(وخالفت أهل عصري في خمسين مسألة،
ُ وقد نقل عنه بعض تالميذه قوله:
()6
فألفت في ُك ِل مسألة مؤلف ًا ُ
أثبت فيه وجه الحق) ُ
( )0طبع في دار الكتب لعلمية ،0210هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس)
الصغرى ،عبد الوهاب الشعراني ،تحقيق:عبدالقادراحمد عطا ،مكتبة القاهرة،
( )6الطبقات ُ
مصر0911 ،م ،ص.61
( )0معنى التخريج في االصطالح الفقهي :بناء فرع على أصل بجامع مشترك ،وله طريقان:
األول يكون من القواعد الكلية ،والثاني :يسمى التخريج بالنقل ،بأن يجعل نص اإلمام أصال ،ويقاس
عليه.انظـر :نوار بن الشلي ،التخريج المذهبي أصـوله ومناهجـه ،الرباط ،0991،ص.16
53
()0
المذهب ،ويطلق عليه (مجتهد الترجيح)
وأدنى منه (مجتهد الفتـوى)( ،)6وهو من كانت له القدرة على فهـم فقه مـذهبه مـع
حفـظه له ،أو ألكثره وفهمه لضـوابطه وتخريجـات أصحابه ،ويستطيع الرجـوع إلى
مصادر هذا المذهب؛ غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحـرير أقيستـه(.)0
وهذا التقسيم نجده عند جميع أتباع المذاهب األربعة ،وإن اختلفت عباراتهم في
ذلك.
ومن األمثلة على ذلك هذا التقسيم الذي ذكره القرافي في كتابه (أنوار البروق في
أنواء الفروق) تحت عنوان( :الفرق بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من ال
يجوز له أن يفتي)( )2فقد قسم األحوال التي يكون عليها طلبة الفقه المالكي وعلماؤه إلى
األحوال التالية:
الحالة األولى :وهي من يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة
في غيره وعمومات مخصوصة في غيره
والحكم في هذه الحالة -كما يقرر القرافي -هو أنه (متى كان الكتاب المعين
( )0انظر :يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين ،التخريج عند الفقهاء واألصوليين ،الرياض،
مكتبة الرشاد0202،هـ ،ص.000
( )6الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض ،السيوطي ،تحقيق:
خليل الميس ،دار الكتب لعلمية 0210هـ ،ص.006
( )0أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى واالستفتاء ،ابن
الصالح الشهر زوري ،تحقيق :فوزي عبد المطلب ،القاهرة ،مكتبة الخانجي ،ط ،.0996 ،0ص..21
( )2أنوار البروق في أنواء الفروق ،أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن
المالكي الشهير بالقرافي ،عالم الكتب ،ج ،6ص.011
54
حفظه وفهمه كذلك ،أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده
حفظا وفهما إال في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد ،وأنها ال تحتاج إلى معنى آخر
من كتاب آخر ،فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة وال نقصان،
وتكون هي عين الواقعة المسئول عنها ال أنها تشبهها وال تخرج عليها بل هي هي حرفا
بحرف ألنه قد يكون هنالك فروق تمنع من اإللحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا
()0
بالمحفوظ فيجب الوقف)
الحالة الثانية :أن يتسع تحصيل الطالب في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل
الشروحات والمطوالت على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات ،ولكنه مع ذلك لم
يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا ،بل سمعها من حيث الجملة من
أفواه الطلبة والمشايخ.
والحكم في هذه الحالة كما يقرر القرافي ،هو أنه (يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله
ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا ،ولكنه إذا وقعت له واقعة
ليست في حفظه ال يخرجها على محفوظاته ،وال يقول هذه تشبه المسألة الفالنية ألن
ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة
ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية ،وهل هي من باب المصالح
الضرورية أو الحاجية أو التتميمية ،وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع
الحكم أو جنسه في جنس الحكم ،وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى
رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع باالعتبار أو هي من باب قياس
الشبه أو المناسب أو قياس الداللة أو قياس اإلحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك
55
()0
من تفاصيل األقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين)
ثم علل هذه المحدودية بما ذكرناه عن أصحاب هذا المنهج من أنهم يعتبرون
أقوال األئمة أصال يمكن أن يتعامل معه الفقيه كما يتعامل مع المصادر األصلية نفسها،
يقول( :وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه
وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه ،والتخريج على مقاصده ،فكما
أن إمامه ال يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق ألن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل
ال يجوز االعتماد عليه ،فكذلك هو أيضا ال يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا
على فرع نص عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما لكن الفروق إنما تنشأ عن رتب العلل
وتفاصيل أحوال األقيسة فإذا كان إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع
الحكم ال يجوز له هو أن يخرج على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل
ما شهد جنسه لجنس الحكم فإن النوع على النوع مقدم على الجنس في النوع وال يلزم
()6
من اعتبار األقوى اعتبار األضعف)
الحالة الثالثة :وهي أن يتحقق طالب العلم بالتمكن من المذهب أصوله وفروعه،
وحكم هذا كما يذكر القرافي هو أنه (يجوز له أن يفتي في مذهبه نقال وتخريجا ويعتمد
()0
على ما يقوله في جميع ذلك)
وقد نقل ابن فرحـون عن المـازري :أن الـذي يتصـدى للفتوى ،أقـل مراتبه أن
يكــون قد استبحر في االطــالع على روايات الــمذهب ،وتأويل األشياخ لــها،
56
وتوجيههم لما وقـع من االختـالف فيهـا وتشبيههـم مسائــل بمسائل سبق إلى الذهن
تباعدها ،وتفريـعهم بين مسائــل يقــع فـي النـفـس تقــاربهــا(.)0
وبهذا فإن الفتيا في هذا المنهج ال تعتمد المصادر األصلية إال على سبيل التبعية،
فالنص عندهم هو الذي ينقاد للمذهب ،ال المذهب ينقاد للنص ،كما هو عليه الحال في
المنهج السابق.
وبناء على هذا ألفت التفاسير وشروح الحديث الكثيرة ،والتي تختلف الفهوم فيها
باختالف المذاهب التي يتبعها أصحاب تلك الكتب ،وقد برز التعصب المذهبي وآثاره
على تلك المصنفات ،حيث أصبحت اآليات تفسر على قواعد المذهب في استنباط
األحكام ،وأخرجت للناس تفاسير ال نكاد نجد بينها وبين أمهات كتب الفقه كبير فارق،
ً ()6
وخالط بعضها تعصب للمذهب مذموم ،وجاء بعضها اآلخر محمودا
ومن األمثلة على ذلك الفقيه المالكي ابن العربي صاحب (حكام القرآن) الذي
يقول عنه محمد حسين الذهبي ( :إن الكتاب يعتبر مرجع ًا مهم ًا للتفسير الفقهى عند
المالكية ،وذلك ألن مؤلفه مالكى تأثر بمذهبه ،فظهرت عليه فى تفسيره روح التعصب
له ،والدفاع عنه ،غير أنه لم يشتط فى تعصبه إلى الدرجة التي يتغاضى فيها عن كل َز َّلة
علمية تصدر من مجتهد مالكي ،ولم يبلل به التعسف إلى الحد الذى يجعله يفند كالم
مخالفه إذا كان وجيه ًا ومقبوالً ،والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح اإلنصاف
لمخالفيه أحيان ًا ،ما يلمس منه روح التعصب المذهبي التي تستولى على صاحبها فتجعله
( )0تبصرة الحكام ،ابن فرحون ،مكتبة الكليات األزهرية ،القاهرة ،ط ،0926 ،0ج ،0ص.16
( )6انظر :اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر ،د .فهد الرومي ،طبع بإشراف إدارة البحوث
العلمية ،الرياض ،الطبعة األولى ،0211،ج ،6ص.102
57
أحيان ًا كثيرة يرمى مخالفه وإن كان إمام ًا له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة الالذعة ،تارة
بالتصريح ،وتارة بالتلويح .ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر ،مع تسلط روح
التعصب عليه ،فأحيان ًا يتغلب العقل على التعصب ،فيصدر حكمه عادالً ال تكدره شائبة
التعصب ،وأحيان ًا -وهو الغالب -تتغلب العصبية المذهبية على العقل ،فيصدر حكمه
()0
مشوب ًا بالتعسف ،بعيد ًا عن اإلنصاف)
وقد خصص أصحاب هذا المنهج للمتغيرات الحاصلة في كل عصر ما يسمونه
بكتب (النوازل) ،والمؤلفات فيها كثيرة جدا ،ومعظمها ال يكاد يخرج عن المذهب الذي
اعتمده.
ومن األمثلة على ذلك في المذهب الحنفي الفتاوى العالمكيرية ،المشهورة باسم
(الفتاوى الهندية) ،وهي منسوبة إلى الملك محمد أورنك زيب ،ويلقب بعالمكير ،أي
فاتح العالم ،وقد بسط سلطانه على الهند من سنة [ 0169إلى 0009هـ -0612 /
0111م] وقد جمع هذا الملك لتأليف هذا الكتاب فقهاء الحنفية في عصره ،برئاسة
الشيخ (نظام الدين) وأجرى عليهم النفقات ،ثم انتخبوا من جمع كتب المذهب الحنفي
أصح ما قيل فيها من األحكام وصاغوها في هذا المؤ َلف مع عزو كل حكم إلى مصدره،
فاحتوى على ما ال يوجد في سواه ،طبعت هذه الفتاوى ألول مـرة سنة 0626هـ بمصـر
في ستة مجلـدات ضخمـة(.)6
ومن أهمها في المذهب الشافعي (فتاوى اإلمام النووي) ،واسمه (المنثورات
( )0التفسير والمفسرون ،الدكتور محمد السيد حسين الذهبي ،مكتبة وهبة ،القاهرة ج ،6ص
.000
( )6المدخل الفقهي العام ،مصطفى أحمد الزرقا ،دار الفكر ،دمشق ،ط ،0992 ،9ج،0
ص.091
58
وعيون المسائل المهمات) درسه وحققه ،أحمد عطاء وطبعه بمؤسسة الكتب الثقافية في
جزء واحد فقط ،يقول النووي في المقدمة( :وال ألتزم فيها ترتيبا ،لكونها حسب الوقائع
فإن كملت يرجى ترتيبها ..وألتزم فيها اإليضاح وتقريبها إلى أفهام المبتدئين ممن ال
()0
اختالط لهم بالفقهاء ،لتكون أعم نفعا)
ومنها الحاوي للفتاوى للسيوطي ،وفتاوى شيخ اإلسالم زكريا األنصاري
الشافعي ،والفتاوى الكبرى البن حجر الهيثمي(.)6
وفي الفقه الحنبلي نجد (فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية)( :وقد طبعت عدة مرات
وآخرها تلك المجموعة التي استلها جامعها من مختلف المكتبات والكتب ،وطبعها
()0
بالمملكة السعودية في سبعة وثالثين مجلدا ،المجلدان األخيران فهارس للفتاوى)
أما في الفقه المالكي ،فهي كثيرة جدا ،وأهمها( :المعيار المعرب والجامع
المغرب عن فتاوى علماء إفريقية واألندلس والمغرب) ألبي العباس الونشريسي ،وقد
جمع فيه فتاوى المتقدمين والمتأخرين من علماء المغرب واألندلس ،وزاد فيه فتاويه
الخاصة.
( )0الفتاوى ،النــووي ،تحقيق:عبد القـادر أحمد عطاء ،لبنان ،مـؤسسة الكتب الثقافية ،ط،6
،0922ص.01
( )6تاريخ الفقه اإلسالمي ،عمر سليمان األشقر ،الجزائر ،قصر الكتاب ،0991 ،ص.001
( )0ابن تيمية ،أبو زهرة ،مصر ،دار الفكر العربي ،0990 ،ص 200وما بعدها.
59
المبحث الثالث
المنهج المذاهبي
نريد بالمنهج المذاهبي المنهج الذي يتميز أصحابه بثالث خصائص:
األولى :أنهم ال يرون ضرورة االلتزام بالمذهب الواحد ،على عكس أصحاب
المنهج المذهبي.
الثانية :أنهم يرون صعوبة االجتهاد أو سد بابه ،ولهذا ال يرون ضرورة العودة إلى
النصوص مباشرة الستنباط األحكام منها ،على خالف المنهج االستداللي.
الثالثة :وهي التي على أساسها اكتسبوا هذا الوصف ،وهي أنهم يرون أن كل ما
كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب األربعة أو غيرهم ،يمكن االعتماد عليه
والرجوع إليه ،إما العتبارهم أن كل مجتهد في الفروع مصيب ،أو أن المصيب واحد
ولكن ال نستطيع أن نعينه.
وبناء على هذا فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي
عن المسألة التي سئل عنها ،ويورد األقوال فيها ليترك للمستفتي حرية االختيار بينها.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحثين
السابقين من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي
يعتمدون عليها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
على عكس ما ذكرنا في المنهج السابق ،فإن عدد المتبنين لهذا المنهج في الواقع
اإلسالمي ،طيلة التاريخ اإلسالمي محدود جدا ،ألنه ال ينطبق إال على القائلين بأن كل
مجتهد في الفروع مصيب ،وعدد هؤالء محدود جدا.
61
وقد ذكر السيوطي في رسالته التي وضعها لنصرة هذا المنهج ،والتي أسماها بـ
(جزيل المواهب في اختالف المذاهب) أن (ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب ،وأن
حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد ،هو أحد القولين لألئمة األربعة ،ورجحه
القاضي أبو بكر ،وقال في (التقريب) :األظهر من كالم الشافعي ،واألشبه بمذهبه
ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب ،وقال به من أصحابنا :ابن سريج،
والقاضي أبو حامد ،والداركي ،وأكثر العراقيين ،ومن الحنفية :أبو يوسف ،ومحمد بن
()0
الحسن ،وأبو زيد الدبوسي ،ونقله عن علمائهم جميع ًا)
ولكن مع ذلك ،وفي الفروع الفقهية المختلفة يمكن أن نجد الكثير من الفقهاء
المتبنين لهذا المنهج:
فالشيخ عبد الوهاب الشعراني -مثال – مع كونه شافعي المذهب ،يمكن اعتباره
من أعالم هذا المنهج ،فقد سلك مسلكا في إرجاع مسائل الخالف الفقهي إلى الوفاق،
بأن حمل كل قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلفين ،وقد بنى كتابه
(الميزان) على هذا المبدأ الذي عبر عنه بقوله( :إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث
االمر والنهي :على مرتبتين :تخفيف وتشديد ،ال على مرتبة واحدة ،كما يظنه غالب
الناس ،ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف ،فمن قوي منهم خوطب
بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا ،أو المستنبط منها في مذهبه أو غيره ،ومن
ضعف منهم :خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا أو مستنبطا منها في
مذهبه أو غيره .فال يؤمر القوي بالنزول إلى مرتبة الرخصة ،مع قدرته على فعل العزيمة،
( )0جزيل المواهب فى اختالف المذاهب ،عبد الرحمن بن أبي بكر ،جالل الدين السيوطي،
تحقيق :عبد القيوم محمد شفيع البستوي ،دار االعتصام ،ص.01
60
وال يكلف الضعيف بالصعود إلى مرتبة العزيمة ،مع عجزه عنها ،فالمرتبتان على الترتيب
()0
الوجودي ،ال على التخيير)
ومثله ابن القيم ،فمع كونه من علماء ،بل من أعيان المنهج االستداللي إال أنه في
بعض المسائل يميل إلى هذا المنهج ،وقد أشار إلى هذا ،بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة
اعتبار أن كل مجتهد مصيب ـ عند بيانه لمخارج الطالق ،فقد عقد فصوال مهمة للمخارج
من الوقوع في التحليل ،قال في مقدمتها(:أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة
رسول الله كان أعذر عند الله ورسوله ومالئكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن
()6
عليه ومباءته باللعنة)
ثم ذكر مصدره الذي اعتمده الستنباط هذه المخارج ،فقال( :فإن هذه المخارج
التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة بحيث ال
يعرف عنهم فيه خالف ،أو أفتى به بعضهم ،أو هو خارج عن أقوالهم ،أو هو قول جمهور
األمة أو بعضهم أو إمام من األئمة األربعة ،أو أتباعهم أو غيرهم من علماء اإلسالم ،وال
تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك ،فال يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة
جميعها إال في أندر النادر ،وال ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه ،ونصح نفسه
()0
ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل)
ثانيا ـ أدلته:
( )0كتاب الميزان ،أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني ،تحقيق :الدكتور عبد الرحمن
عميره ،عالم الكتب ،ط0219 ،0هـ 0929 -م ،ص.2
( )6إعالم الموقعين.21/2 :
( )0إعالم الموقعين.21/2 :
62
يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي:
الدليل األول:
اعتبار أن الخالف الفقهي الحاصل في األمة خالف رحمة وتوسعة على عكس ما
يرى أصحاب المنهج األول ،يقول السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختالف
المذاهب)( :اعلم أن اختالف المذاهب في الملة نعمة كبيرة ،وفضيلة عظيمة ،وله سر
لطيف أدركه العالمون ،وعمي عنه الجاهلون ،حتى سمعت بعض الجهال يقول :النبي
جاء بشرع واحد ،فمن أين مذاهب أربعة؟ ! ومن العجب أيض ًا من يأخذ في تفضيل
بعض المذاهب على بعض تفضيالً يؤدي ،إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه ،وربما
أدى إلى الخصام بين السفهاء ،صارت عصبية وحمية الجاهلية ،والعلماء منزهون عن
ذلك .وقد وقع االختالف في الفروع بين الصحابة (رضى الله عنهم وأرضاهم) ،وهم
خير األمة ،فما خاصم أحد منهم أحد ًا ،وال عادى أحد أحد ًا ،وال نسب أحد أحد ًا إلى
()0
خطأ وال قصور)
ولهذا نرى أعيان هذا المنهج– على عكس المنهج األول – يدافعون عن حديث
(اختالف أمتي رحمة)( ،)6وقد نقل النووي عن الخطابي قوله( :وقد اعترض على
حديث :اختالف أمتي رحمة رجالن :أحدهما مغموض عليه في دينه ،وهو عمر بن بحر
الجاحظ ،واآلخر معروف بالسخف والخالعة ،وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي؛ فإنه
لما وضع كتابه في األغاني ،وأمكن في تلك األباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى
63
صدر كتابه بذم أصحاب الحديث ،وزعم أنهم يروون ما ال يدرون ،وقال هو والجاحظ:
لو كان االختالف رحمة لكان االتفاق عذابا ،ثم زعم أنه إنما كان اختالف األمة رحمة
في زمن النبي خاصة؛ فإذا اختلفوا سألوه ،فبين لهم والجواب عن هذا االعتراض
الفاسد :أنه ال يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذابا ،وال يلتزم هذا ويذكره إال
﴿و ِم ْن َر ْح َمتِ ِه َج َع َل َل ُك ُم ال َّل ْي َل َوالن ََّه َار لِت َْس ُكنُوا
جاهل أو متجاهل .وقد قال الله تعالىَ :
ون ﴾( ، )0فسمى الليل رحمة ،ولم يلزم من ذلك أن فِ ِيه َول ِ َت ْب َت ُغوا ِم ْن َف ْضلِ ِه َو َل َع َّل ُك ْم ت َْش ُك ُر َ
يكون النهار عذابا ،وهو ظاهر ال شك فيه .قال الخطابي :واالختالف في الدين ثالثة
أقسام :أحدها :في إثبات الصانع ووحدانيته ،وإنكار ذلك كفر ،والثاني :في صفاته
ومشيئته ،وإنكارها بدعة ،والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها ،فهذا جعله الله
()6
تعالى رحمة وكرامة للعلماء ،وهو المراد بحديث :اختالف أمتي رحمة)
ومثل ذلك ما استدل به السيوطي في رسالته (جزيل المواهب) بقوله( :روى
البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس ،- -قال :قال رسول الله ( :مهما أوتيتم
ٍ
ألحد في تركه ،فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، عذر
من كتاب الله تعالى ،فالعمل به ال َ
فسنة مني ماضية ،فإن لم يكن سنة مني ،فما قال أصحابي .إن أصحابي بمنزلة النجوم في
()0
السماء ،فأيما أخذتم به اهتديتم ،واختالف أصحابي لكم رحمة)
ثم علق عليه بقوله( :في هذا الحديث فوائد :إخباره باختالف المذاهب بعده
في الفروع ،وذلك من معجزاته؛ ألنه من اإلخبار بالمغيبات ،ورضاه بذلك ،وتقريره عليه،
64
ومدحه له حيث جعله رحمة ،والتخيير للمكلف في األخذ بأيها شاء من غير تعيين
ألحدها ،واستنبط منه أن كل المجتهدين على هدي ،فكلهم على حق ،فال لوم على أحد
منهم ،وال ينسب إلى أحد منهم تخطئة ،لقوله( :فأيما أخذتم به اهتديتم ) ،فلو كان
المصيب واحد ًا ،والباقي خطأ ،لم تحصل الهداية باألخذ بالخطأ)
()0
وذكر في موضع آخر بعض وجوه الرحمة في الخالف الفقهي الحاصل في األمة،
فقال( :فعرف بذلك أن اختالف المذاهب في هذه األمة خصيصة فاضلة لهذه األمة،
وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة ،فكانت األنبياء قبل النبي يبعث أحدهم
بشرع واحد ،وحكم واحد ،حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من
الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا؛ كتحريم القصاص في شريعة اليهود ،وتحتم
الدية في شريعة النصارى ،ومن ضيقها أيض ًا :لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ ليعمل
بهما مع ًا في هذه الملة في الجملة ،فكأنه عمل فيها بالشرعين مع ًا ،ووقع فيها التخيير بين
أمرين شرع كل منهما في ملة ،كالقصاص والدية ،فكأنها جمعت الشرعين مع ًا ،وزادت
حسن ًا بشرع ثالث ،وهو التخيير الذي لم يكن في أحد الشريعتين .ومن ذلك :مشروعية
االختالف بينهم في الفروع .فكانت المذاهب على اختالفها كشرائع متعددة ،كل مأمور
بها في هذه الشريعة ،فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي بجميعها.
وفي ذلك توسعة زائدة لها ،وفخامة عظيمة لقدر النبي ،وخصوصية له على سائر
األنبياء ،حيث بعث كل منهم بحكم واحد ،وبعث هو في األمر الواحد بأحكام
()6
متنوعة ،يحكم بكل منها وين ّفذ ،ويصوب قائله ،ويؤجر عليه ،ويهدي به)
65
الدليل الثاني:
ما ورد من اآلثار من اعتبار الخالف توسعة ورحمة ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن
عبد البر عن رجاء بن جميل قال :اجتمع عمر بن عبد العزيز ،والقاسم بن محمد ،فجعال
يتذاكران الحديث ،قال :فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم قال :وجعل ذلك
يشق على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر( :ال تفعل فما يسرني أن لي باختالفهم حمر
()0
النعم)
وروى عن عبد الرحمن بن القاسم ،عن أبيه ،أنه قال :لقد أعجبني قول عمر بن
عبد العزيز ( :ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ ألنه لو كان قوال واحدا
()6
كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ،ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة)
وروى عن أسامة بن زيد قال :سألت القاسم بن محمد ،عن القراءة خلف اإلمام
فيما لم يجهر فيه فقال( :إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة حسنة،
()0
وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة حسنة)
وروى عن يحيى بن سعيد قال( :ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم
هذا ،فال يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله ،وال يرى المحلل أن المحرم هلك
()2
لتحريمه)
ونحب -من باب األمانة العلمية -أن ننبه هنا إلى أن ابن عبد البر مع روايته لهذه
66
اآلثار إال أنه رجح خالفها ،باعتباره كان يدعو الى المنهج االستداللي ،فقد قال تعقيبا
عليها بعد روايته لها ( :هذا مذهب القاسم بن محمد ومن تابعه وقال به قوم ،وأما مالك
والشافعي ا ،ومن سلك سبيلهما من أصحابهما وهو قول الليث بن سعد ،واألوزاعي،
وأبي ثور وجماعة أهل النظر أن االختالف إذا تدافع فهو خطأ وصواب ،والواجب عند
اختالف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة واإلجماع والقياس على األصول على
الصواب منها وذلك ال يعدم ،فإن استوت األدلة وجب الميل مع األشبه بما ذكرنا
بالكتاب والسنة ،فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إال بيقين ،فإن اضطر
أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد
واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام األدلة على كل قول بما يعضده قوله :
()0
(البر ما اطمأنت إليه النفس واإلثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما ال يريبك)
هذا حال من ال ينعم النظر وال يحسنه وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها
وأفتاها بذلك علماؤها ،وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله ألحد أن يفتي
وال يقضي إال حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو اإلجماع أو ما كان في
()6
معنى هذه األوجه)
الدليل الثالث:
هو ما ذكره القائلون بأن كل مجتهد مصيب من أدلة ،وقد بسط الغزالي القول فيها،
وأجاب عن الشبهات التي أوردها المخالفون ،وقد قال بعد ذكره للخالف في المسألة:
(والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات
67
()0
مصيب ،وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى)
وقد أجاب على ما يورده المخالفون من أصحاب المناهج األخرى من (أن هذا
المذهب في نفسه محال ،ألنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين ،وهو أن يكون قليل النبيذ
مثال حالال حراما والنكاح بال ولي صحيحا باطال ،والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا
إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب)( )6بالتنبيه إلى نوع
الخطاب بالحكم الشرعي ،فهو ليس -كما يعتقده الكثير من الناس -من أنه يتعلق
باألعيان ،بل إن الشرع علقه بأفعال المكلفين ،فلذلك ال يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم
على عمرو ،فالمرأة تحل للزوج وتحرم على األجنبي ،والميتة تحل للمضطر دون
المختار ،والصالة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض.
والتناقض الحقيقي ليس في هذا ،وإنما هو أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة
واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد ،فإذا تطرق التعدد واالنفصال إلى
شيء من هذه الجملة انتفى التناقض ،فالصالة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة
واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه ،فاختالف األحوال ينفي التناقض.
وهذا عام في األحوال المختلفة واألسباب المختلفة ،وال فرق بين أن يكون
اختالف األحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن،
فالصالة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا.
وبناء على هذا نص الغزالي على وجه الورع في التزام األقوال ،فليس الورع فيها
( )0المستصفى في علم األصول ،أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي ،تحقيق :محمد
بن سليمان األشقر ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى0201 ،هـ0991/م ،ص.016
( )6المستصفى.011/0 :
68
بمراعاة أعيانها ،وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها ،والتي تختلف باختالف
األحوال ،يقول الغزالي( :ولو قال الشارع :يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه
السالمة ،ويحرم على من غلب على ظنه الهالك ،فغلب على ظن الجبان الهالك ،وعلى
ظن الجسور السالمة حرم على الجبان وحل للجسور الختالف حالهما ،وكذلك لو
صرح الشارع وقال :من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ،ومن غلب
()0
على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض)
وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتبار األحوال المختلفة التي ال يجدي
معها التعصب لقول بعينه.
ثم إن الغزالي -بأسلوبه الجدلي على طريقة المتكلمين -سلم للمخالفين ما
أوردوه من اعتبار الحل والحرمة وصفا لألعيان ،ورد بأن القول بذلك أيضا ال يتناقض
مع ما ذكره ،ألنه يكون من األوصاف اإلضافية ،فال يتناقض عقال أن يكون الشخص
الواحد أبا ابنا لكن لشخصين ،وأن يكون الشيء مجهوال ومعلوما لكن الثنين ،وتكون
المرأة حالال حراما لرجلين ،كالمنكوحة حرام لألجنبي ،حالل للزوج ،والميتة حرام
للمختار ،حالل للمضطر.
وعلى هذا المنوال نجد السيوطي يدافع عن هذه المقولة في كتبه ورسائله
المختلفة ،بل إنه قرر أنه من الناحية العملية ،ولو مع عدم القول بهذا ،فقد نص كثير من
العلماء على أنه ال اإلنكار في المسائل المختلف فيها ،فال يصح اإلنكار على من أخذ
بقول من األقوال ألي قناعة من القناعات.
وقد نقل عن الزركشي قوله في المسألة(:اإلنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع
69
عليه ،فأما المختلف فيه فال إنكار فيه ،ألن كل مجتهد مصيب ،أو المصيب واحد وال
نعلمه ،ولم يزل الخالف بين السلف في الفروع وال ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه،
()0
وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا)
ومثلهما ابن عليش الذي لم يكتف باألدلة العقلية أو النقلية ،بل راح – بمنهجه
الصوفي -يذكر عن بعض الصوفية كالشعراني وغيره ما يؤيد هذا القول عن طريق
المكاشفة ،فقال( :وسمعت()6بعض أهل الكشف يقول :إنما يعبد الله تعالى المجتهدون
باالجتهاد ليحصل لهم نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه القدم الراسخة فال يتقدم عليهم
في اآلخرة سوى نبيهم محمد فيحشر علماء هذه األمة وحفاظ أدلة الشريعة المطهرة
العارفون بمعانيها في صفوف األنبياء والرسل ال في صفوف األمم ،فما من نبي أو رسول
إال وبجانبه عالم من علماء هذه األمة أو اثنان أو ثالثة أو أكثر وكل عالم نهم له درجة
األستاذية في علم األحكام واألحوال والمقامات والمنزالت إلى ختام الدنيا ..ومن هنا
يعلم أن جميع المجتهدين تابعون للشارع في التخفيف والتشديد ،فيا سعادة من أطلعه
الله تعالى على عين الشريعة األولى كما أطلعنا ،ورأى أن كل مجتهد مصيب ويا فوزه
وكثرة سروره إذا رآه جميع العلماء يوم القيامة وأخذوا بيده وتبسموا في وجهه ،وصار
كل واحد يبادر إلى الشفاعة فيه ويزاحم غيره على ذلك ويقول ما يشفع فيه إال أنا ويا
ندامة من قال المصيب واحد والباقي مخطئ فإن جميع من خطأهم يعبسون في وجهه
()0
لتخطئته لهم وتجريحهم بالجهل وسوء األدب وفهمه السقيم)
( )0المنثور في القواعد الفقهية ،أبو عبد الله بدر الدين الزركشي ،وزارة األوقاف الكويتية،
ط0211 ،6هـ 0921 -م :ج ،6ص.021
( )6هو ينقل الكالم هنا عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني.
( )0فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام ،مالك ،ج ،0ص .91
71
ثم رد على ما يورده المخالفون من االستدالل بقوله ( :إذا حكم الحاكم
فاجتهد ثم أصاب ،فله أجران ،وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ ،فله أجر )( )0بقوله( :الجواب
أن المراد بالخطأ هنا هو خطأ المجتهد في عدم مصادفة الدليل في تلك المسألة ال الخطأ
الذي يخرج به عن الشريعة؛ ألنه إذا خرج عن الشريعة فال أجر له لقوله ( :من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)( ،)6وقد أثبت الشارع له األجر فما بقي إال أن معنى
الحديث أن الحاكم إذا اجتهد وصادف نفس الدليل الوارد في ذلك عن الشارع فله
أجران :أجر التتبع وأجر مصادفة الدليل ،وإن لم يصادف عين الدليل ،وإنما صادف
حكمه ،فله أجر واحد وهو أجر التتبع ،فالمراد بالخطأ هنا الخطأ اإلضافي ،ال الخطأ
()0
المطلق)
ثم ختم فتواه فيها ببيان المنطلقات العقدية التي ينطلق منها أصحاب هذا المنهج،
فقال – ناقال عن الشعراوي ( :-فإن اعتقادنا أن سائر أمة المسلمين على هدى من ربهم
في جميع أقوالهم ،وما ثم إال قريب من عين الشريعة وأقرب وبعيد عنها وأبعد بحسب
طول السند وقصره ،وكما يجب علينا اإليمان بصحة جميع شرائع األنبياء قبل نسخها مع
اختالفها ومخالفة أشياء فيها لظاهر شريعتنا ،فكذلك يجب على المقلدين اعتقاد صحة
جميع مذاهب المجتهدين وإن خالف كالمهم ظاهر كالم إمامهم ،فإن اإلنسان كلما بعد
عن شعاع نور الشريعة خفي مدركه ونوره وظن غيره أن كالمه خارج عن الشريعة ،وليس
كذلك ،ولعل ذلك سبب تضعيف العلماء كالم بعضهم بعضا في سائر األدوار إلى عصرنا
( )0صحيح البخاري ،ج ،9ص ،012صحيح مسلم ،ج ،0ص َ .0026
( )6صحيح البخاري ،ج ،0ص ،022صحيح مسلم ،ج ،0ص .0020
( )0فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك ،ج ،0ص .92
70
هذا فتجد أهل كل دور يطعن في صحة قول بعض األدوار التي قبله وأين من يخرق بصره
في هذا الزمان جميع األدوار التي مضت قبله حتى يصل إلى شهود اتصالها بعين الشريعة
األولى التي هي كالم رسول الله ممن هو محجوب عن ذلك ،فإن بين المقلدين اآلن
()0
وبين الدور األول من الصحابة نحو خمسة عشر دورا من العلماء فاعلم ذلك)
( )0فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك ،ج ،0ص .92
72
عن المحلوف عليه ،فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة ،فكيف والمتأول مطيع
()0
لله مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟)
ثانيهما :ذكر األقوال للمستفتي ليختار ما يتناسب مع حاجته ،أو ليختارها جميعا
إن كان يمكن الجمع بينها ،ومن ذلك ما روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم ،قال :أدرك
مسروق وجندب ركعة من المغرب ،فلما سلم اإلمام قام مسروق فأضاف إليها ركعة ،ثم
جلس وقام جندب فيهما جميعا ،ثم جلس في آخرها فذكر ذلك لعبد الله ،فقال :كالهما
قد أحسن وأفعل كما فعل مسروق أحب إلي(.)6
وكما أشرنا سابقا ،فإن أصحاب هذا المنهج ال يكتفون بالمذاهب األربعة ،بل
يرجعون إلى أقوال غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ،ولو لم يقل بها إمام من
أئمة المذاهب األربعة ،وذلك خالفا لمنهج المذهبيين الذين يتعاملون مع المذاهب
األربعة فقط ،وكأن اتفاقها إجماع يحرم خرقه ،ويعتبر شاذا من ال يقول به ،ثم ينتقون من
أقوال هذه المذاهب ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل ،ويعتبرون ما عداه ضعيفا
أو مهجورا مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره ،أو يضعف مع شخص ليقوى مع
غيره.
وقد عقد ابن القيم لهذا فصال في اإلعالم قال فيه (:فصل :القول في جواز الفتوى
باآلثار السلفية والفتاوي الصحابية ،وأنها أولى باألخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم،
وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول وأن فتاوى الصحابة
73
أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين ،وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين،
وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب ،وهذا حكم بحسب
الجنس ال بحسب كل فرد فرد من المسائل ،كما أن عصر التابعين ،وإن كان أفضل من
عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس ال بحسب كل شخص شخص ،ولكن المفضلون
في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر ،وهكذا الصواب في أقوالهم
أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم ; فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين
()0
كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين)
ثم بين خطأ االقتصار في الفتوى على مذاهب المتأخرين وهجر أقوال المتقدمين
مع كونها أقرب لزمن الوحي ،فقال(:ولعله ال يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي
ويحكم بقول فالن وفالن من المتأخرين من مقلدي األئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك
الفتوى والحكم بقول البخاري ،وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر
المروزي ،وأمثالهم ،بل يترك قول ابن المبارك واألوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن
عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ،وأمثالهم ،بل ال يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب
والزهري والليث بن سعد ،وأمثالهم ،بل ال يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم
وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح ،وأبي وائل وجعفر بن محمد ،وأضرابهم
مما يسوغ األخذ به ،بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر
الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت ،وأبي
موسى األشعري ،وأضرابهم ،فال يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك
74
وفتاويهم ،وأقوال هؤالء وفتاويهم ،فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين األخذ بها
حكما ،وإفتاء ،ومنع األخذ بقول الصحابة ،واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها،
()0
وشهد عليه بالبدعة والضاللة ومخالفة أهل العلم)
75
المبحث الرابع
منهج التيسير
وهو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو
يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته ،وييسر عليه تنفيذ التكاليف ،ولو بأدنى
مراتبها.
وهذا المنهج يتبنى المنهج السابق من حيث اعتقاده بإمكانية االستفادة من جميع
التراث الفقهي ،ويضيف إليه بعد التيسير ،العتقاده أن التيسير على المكلفين مقصد من
مقاصد الشريعة ال يصح تجاوزه.
إال أن هذا المنهج ،ومن خالل الواقع ،نراه ينشئ في المتبنين له ،وخاصة في
أوساط العامة ،نوعا من التحرر من أحكام الشريعة ،وذلك عبر بعض الظواهر التي
تحدث عنها الفقهاء ،واختلفوا في مواقفهم منها ،وهي :ظاهرة التلفيق ،وظاهرة تتبع
الرخص ،وظاهرة الحيل الشرعية ،والتي سنتحدث عنها هنا في هذا المبحث.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار– لمثل ما عرضنا إليه في المباحث السابقة
من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي يعتمدون
عليها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
ليس من السهولة أن نجد أعالما خاصين بهذا المنهج ال يتجاوزونه أو ال يخالفونه
مطلقا ،ولكنا ومن خالل تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التيسير ورفع ثقل
التكاليف عن المستفتي نجد ثالثة أصول كبرى من اعتقدها جميعا ،أو اعتقد ببعضها،
يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب هذا المنهج ،وهذه األصول هي:
76
األصل األول :جواز تتبع الرخص.
األصل الثاني :جواز التلفيق بين المذاهب.
األصل الثالث :جواز الحيل الفقهية.
وسنتحدث عن هذه األصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب.
( )0من التعاريف التي عرفت بها الرخص المتفق على جواز األخذ بها( :الحكم الثابت على
خالف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المعذور) (البحر المحيط في أصول الفقه ،ج ،6ص
)06
( )6من التعاريف التي عرفت بها العزيمة :أنها (عبارة عن الحكم األصلي السالم موجبه عن
المعارض) ،كالصلوات الخمس من العبادات ،ومشروعية البيع وغيرها من التكاليف( .انظر :البحر
المحيط في أصول الفقه ،ج ،6ص )01
( )0البحر المحيط :ج ،6ص.061
( )2قرارات وتوصيات مجمع الفقه اإلسالمي الدولي ،)061-019( :قرار رقم (.)11
77
ومع كون أكثر الفقهاء ينكرون تتبع الرخص ،إال أنه ظهر وال يزال يظهر من الفقهاء
من ال يرى حرجا في تتبع الرخص ،ويفتي على أساسها ،وقد ذكر الشاطبي مدى انتشار
ذلك في زمانه ،فقال (:وقد زاد هذا األمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخالف في
المسائل معدودا في حجج اإلباحة ،ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان االعتماد في جواز
الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ،ال بمعنى مراعاة الخالف()0؛ فإن له نظرا آخر،
بل في غير ذلك ،فربما وقع اإلفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال :لم تمنع والمسألة مختلف
فيها ،فيجعل الخالف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ،ال لدليل يدل على
صحة مذهب الجواز ،وال لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ،وهو عين الخطأ
()6
على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا ،وما ليس بحجة حجة)
وقد اعتبر الشاطبي هذا من تتبع الهوى ،ومتنافيا مع االستقامة والتقوى التي أمرت
بها الشريعة ،فقال( :والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ،ويجعل القول الموافق
حجة له ويدرأ بها عن نفسه ،فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ،ال وسيلة إلى تقواه،
وذلك أبعد له من أن يكون ممتثال ألمر الشارع ،وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه
()0
هواه)
واألمر األخطر في هذا الباب هو ما أشار إليه الشاطبي من قيام بعض المفتين
باالنتقاء في الفتوى ،فيفتي لكل شخص بحسبه في المسألة الواحدة ،ال مراعاة لحاله،
وإنما مراعاة ألمور أخرى عبر عنها بقوله( :وقد أدى إغفال هذا األصل إلى أن صار كثير
78
من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما ال يفتي به غيره من األقوال؛ اتباعا لغرضه
وشهوته ،أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ..ولقد وجد هذا في األزمنة السالفة
()0
فضال عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة)
وقد أشار إلى هذا أيضا ابن حزم ،فقد وصف بعض الفقهاء في زمانه ،فقال( :قد
يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من ال خير فيه ،ومن ال علم عنده ،ومن
غيره أعلم منه ،وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن ال يحل
لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ،وال يجوز قبول شهادتهم ،وقد رأيت أنا بعضهم ،وكان
ال يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا ،وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض
لحافا ،ويتخذ في منزله الصور ذوات األوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه،
ويفتي بالهوى للصديق فتيا ،وعلى العدو فتيا ضدها ،وال يستحي من اختالف فتاويه على
قدر ميله إلى من أفتى ،وانحرافه عليه ،شاهدنا نحن هذا منه عيانا ،وعليه جمهور أهل
()6
بلدنا ،إلى قبائح مستفيضة ال نستجيز ذكرها؛ ألننا لم نشاهدها)
وأشار الشاطبي إلى أمر أخطر من الفتوى ،وهو القضاء ،حيث ذكر أن بعض
القضاة يتخير في الفتوى ما يتناسب مع هواه في الحكم بين الخصوم ،مع أن (القصد من
نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه ال يلحق فيه أحد الخصمين ضرر ،مع
()0
عدم تطرق التهمة للحاكم ،وهذا النوع من التخيير في األقوال مضاد لهذا كله)
ونقل في هذا عن ابن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير االتباع ليحيى
79
بن يحيى ،ال يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء ،فوقعت قضية تفرد فيها يحيى
وخالف جميع أهل الشورى؛ فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم ،وردفته
قضية أخرى كتب بها إلى يحيى ،فصرف يحيى رسوله ،وقال له :ال أشير عليه بشيء؛ إذ
توقف على القضاء لفالن بما أشرت عليه .فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه،
وركب من فوره إلى يحيى وقال له :لم أظن أن األمر وقع منك هذا الموقع ،وسوف أقضي
له غدا إن شاء الله .فقال له يحيى :وتفعل ذلك صدقا؟ قال :نعم .قال له :فاآلن هيجت
غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في األقوال ،فأما
إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف؛ فال خير فيما تجيء به ،وال في إن
رضيته منك ،فاستعف من ذلك فإنه أستر لك ،وإال رفعت في عزلك) ،فرفع يستعفي
فعزل(.)0
وذكر حادثة أخرى عن بعضهم أنه (اكترى جزءا من أرض على اإلشاعة ،ثم إن
رجال آخر اكترى باقي األرض ،فأراد المكتري األول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد،
فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن ال شفعة في اإلجارات ،قال لي:
فوردت من سفري ،فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصالح في
الدين -عن مسألتي؛ فقالوا :ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية
()6
أشهب عن مالك بالشفعة فيها .فأفتاني جميعهم بالشفعة ،فقضي لي بها)
بل وصل األمر ببعضهم – كما يذكر الشاطبي -إلى الى أن يعتبر ذلك من حقوق
الصداقة ،قال( :أخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا المصنف مشهور بالحفظ والتقدم
81
أنه كان يقول معلنا غير مستتر :إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه
()0
بالرواية التي توافقه)
ثم ذكر الشاطبي مدى انتشار هذه الظاهرة في عصره ،وموقفه منها ،فقال( :وكثيرا
ما يسألني من تقع له مسألة من األيمان ونحوها :لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟
وهم يرون أن هذا من األمور الشائعة الجائزة ،ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل
هذا لما طولبوا به وال طلبوه مني وال من سواي ،وهذا مما ال خالف بين المسلمين ممن
يعتد به في اإلجماع أنه ال يجوز وال يسوغ وال يحل ألحد أن يفتي في دين الله إال بالحق
الذي يعتقد أنه حق ،رضي بذلك من رضيه ،وسخطه من سخطه ،وإنما المفتي مخبر عن
الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إال بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ،والله تعالى يقول
ِ
اح ُك ْم َب ْين َُه ْم بِ َما َأن َْز َل ال َّل ُه َو َال َتتَّبِ ْع َأ ْه َوا َء ُه ْم َو ْ
اح َذ ْر ُه ْم لنبيه عليه الصالة والسالمَ ﴿ :و َأن ْ
ضاع َل ْم َأن ََّما ُي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن ُي ِصي َب ُه ْم بِ َب ْع ِض َما َأن َْز َل ال َّل ُه إِ َليْ َك َفإِ ْن ت ََو َّل ْوا َف ْ َأ ْن َي ْفتِنُ َ
وك َع ْن َب ْع ِ
ون﴾ ؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، اس ُق َ َّاس َل َف ِ
ُذ ُنوبِ ِه ْم َوإِ َّن كَثِ ًيرا ِم َن الن ِ
أو يفتي زيدا بما ال يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من األغراض؟ وإنما
يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق ،فيجتهد في طلبه،
ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه ،وكيف له بالخالص مع كونه من أهل العلم واالجتهاد إال
()0
بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!)
ولكن مع هذا نجد من العلماء من أباح هذا وبرره ،وذكر أن للمق ِّلد أن يختار ما
80
شاء مما يجد فيه سهولة ويسر ًا على نفسه من التكاليف الشرعية ،ألن ذلك من متطلبات
تشهي ًا من
الشريعة ،مشددين على أن ال يكون في ذلك تهرب ًا من التكليفات الشرعية أو ّ
()0
المكلف ،أو عود ًة منه عن تقليد التزمه في المسألة)
ويقول العطار في حاشيته ( :يجوز اتباع رخص المذاهب ،وال يمنع منه مانع
()6
ال وشرع ًا)
شرعي ...ال أدري ما يمنع منه عق ً
ولعل أكثر من اهتم بتتبع الرخص ،وحاول أن يسوغها شرعا بعض علماء المذهب
الحنفي ،وهذا ما رجحه الكمال بن الهمام في (فتح القدير) ،حيث يقول ( :وأنا ال أدري
ما يمنع هذا؟ النقل أو العقل؟ وكون اإلنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد
()0
مسوغ له االجتهاد ،ما علمت من الشرع ذم ًة عليه ،وكان يحب ما خفف عن أمته)
بل روي أن من الفقهاء من صنف في هذا ،قال إسماعيل القاضي :دخلت على
المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به
كل منهم ،فقلت :مصنف هذا زنديق ،فقال :لم تصح هذه األحاديث؟ قلت :األحاديث
على ما رويت ،ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ،ومن أباح المتعة لم يبح المسكر،
وما من عالم إال وله زلة ،ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ،فأمر المعتضد
( )0انظر :موقع دار اإلفتاء المصرية على االنترنت ،الموضوع ( ،) 0010التلفيق للتقليد فى
مسألة واحدة باطل ،منشور بتاريخ 0912 / 6 /01 :م ،جواب للشيخ حسنين محمد مخلوف على
الرابط التالي)www.dar-alifta.com( :
( )6حاشية العطار على شرح الجالل المحلي على جمع الجوامع ،حسن بن محمد بن محمود
العطار الشافعي ،دار الكتب العلمية ،ج ،6ص .226
( )0فتح القدير ،كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام ،دار الفكر،
ج ،1ص.612
82
بإحراق ذلك الكتاب(.)0
ونحب أن ننبه هنا إلى أنه ليس كل تتبع للرخص أنكره الفقهاء الكبار ،فمنه ما
جوزوه ،بل دعوا إليه ،كما ذكرنا ذلك في المنهج السابق.
ومن ذلك ما روي أن اإلمام أحمد سئل عن مسألة في الطالق فقال ( :إن فعل
حنث) فقال السائل ( :إن أفتاني إنسان :ال أحنث ) فقال ( :تعرف حلقة المدنيين؟ ) قلت:
( فإن أفتوني ّ
حل ) ،قال ( نعم ) ،وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة
فدله على إنسان ،هل علي شيء؟ قال ( :إن كان متبع ًا أو معين ًا فال بأس ،وال يعجبني رأي
()6
أحد)
وقال ابن عقيل :يستحب إعالم المستفتي بمذهب غيره إن كان أهال للرخصة.
كطالب التخلص من الربا ،فيدله على من يرى التحيل للخالص منه ،والخلع بعدم وقوع
الطالق(.)0
وذكر القاضي أبو الحسين في فروعه في كتاب الطهارة عن أحمد :أنهم جاءوه
بفتوى ،فلم تكن على مذهبه .فقال :عليكم بحلقة المدنيين( ،ففي هذا دليل على أن
المفتي إذا جاءه المستفتي ،ولم يكن عنده رخصة له أن يدله على مذهب من له فيه
()2
رخصة)
83
األصل الثاني :جواز التلفيق بين المذاهب
بناء على االعتبارين اللذين يراعيهما أصحاب هذا المنهج بشدة ،وهما:
.0جواز األخذ من أي مذهب من المذاهب الفقهية وغيرها ،بل والتنقل بينها
بحرية.
.6أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة ،وال حرج في استعماله في أي موضع.
فقد ظهر في الواقع اإلسالمي ما يسمى بالتلفيق ،أو تلفيق المقلد( ،)0ويقصدون
به (أخذ صحة الفعل من مذهبين مع ًا بعد الحكم ببطالنه على كل واحد منهما بمفرده
()0
)( )6أو هو (اإلتيان بكيفية ال يقول بها المجتهد)
ومعنى هذا أن الفقيه أو المفتي أو طالب العلم الذي ترسخت لديه المفاهيم
السابقة يأخذ من كل مذهب ما يتناسب مع مصالحه ،ولو أدى ذلك إلى أن يقوم بعمل
يحكم الجميع بحرمته.
ومن األمثلة التي يذكرها الفقهاء لهذا في أبواب العبادات (متوضئ َل َم َس امرأة
( )0ويقابله التلفيق في االجتهاد ،ويسمى :االجتهاد المركب :هو أن يجتهد اثنان أو أكثر في
موضوع ،فيكون لهم فيه قوالن ،ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه ،ويؤدي اجتهاده إلى
األخذ من كل قول ببعضه ،ويكون مجموع ذلك مذهبه في الموضوع ،فيكون اجتهاده هذا اجتهادا مركبا
بالنظر إلى ما سبقه من اجتهاد ،انظر :التلفيق ورأي الفقهاء فيه ،مصطفى كمال التارزي ،مجلة مجمع
الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة المؤتمر اإلسالمي بجدة ،منظمة المؤتمر االسالمي بجدة ،ع ،2ض.611
( )6انظر :أصول الفقه اإلسالمي ،محمد سالم مدكور ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،ط ،0ص
. 010
( )0الرخصة الشرعية في األصول والقواعد الفقهية ،د .عمر عبد الله الكامل ،دار ابن حزم
للطباعة والنشر ،بيروت ،ط0999 (0م ).ص .606 – 601
84
أجنبية بال حائل ،وخرجت منه نجاسة – كالدم – من غير السبيلين ،فإن هذا الوضوء باطل
باللمس عند الشافعية ،وباطل بخروج الدم عند الحنفية ،وال ينتقض بخروج الدم من غير
السبيلين عند الشافعية ،وال ينقض كذلك بلمس المرأة عند الحنفية ،فإذا صلى بهذا
الوضوء فإن صحة صالته ملفقة بين المذهبين مع ًا)
ومن األمثلة في باب النكاح (أن يتزوج الرجل امرأة بال ولي وال صداق وال شهود،
مقلد ًا كل مذهب يقول بواحدة من هذه لوحدها ،كتقليد أبي حنيفة في عدم اشتراط الولي،
()0
وبعدم اشتراط الشهود مقلد ًا المالكية ..وهكذا)
أو (أن يطلق زوجته ثالث ًا ،ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل ،مقلد ًا في
زواجها في صحة النكاح عند الشافعي ،فأصابها ،ثم طلقها مقلد ًا في صحة الطالق وعدم
()6
العدة لإلمام أحمد ،ليجوز لزوجها األول العقد عليها تلفيق ًا بين هذا المذهب وذاك)
والمسألة – كما نرى – ترجع إلى ما طرحه المتشددون من أصحاب المنهج
المذهبي من ضرورة االلتزام بالمذاهب ،وعدم الخروج عنها ،وبالتالي فإن من يرى هذا
يرى حرمة التلفيق ،ومن يرى جواز التنقل بين المذاهب ،ولو في القضية الواحدة ،يرى
جواز التلفيق.
وقد أشار إلى هذا ،والخالف الوارد فيه ،الزركشي ،فقال( :فلو التزم مذهبا معينا،
كمالك والشافعي ،واعتقد رجحانه من حيث اإلجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في
بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب( :أحدها) :المنع ،وبه جزم
( )0الفتاوى الكبرى ،أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي ،منشورات المكتبة
اإلسالمية ،ج ،0ص . 629
( )6أصول الفقه اإلسالمي ،د .وهبة الزحيلي ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت ،
الطبعة األولى ( 0926م) ج ،6ص .0026
85
الجيلي في اإلعجاز ،ألن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع ،فال ضرورة إلى االنتقال إال
التشهي ،ولما فيه من اتباع الترخص والتالعب بالدين .و(الثاني) يجوز ،وهو األصح في
الرافعي ،ألن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين ،ألن السبب -وهو أهلية
المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله ،وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب
()0
ووجوب االقتصار على مفت واحد بخالف سيرة األولين)
ثم ذكر الزركشي صورتين لجواز التلفيق:
(إحداهما) :إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطالق الثالث
على فعل شيء ،ثم فعله ناسيا أو جاهال ،وكان مذهب مقلده عدم الحنث فخرج منه لقول
من أوقع الطالق ،فإنه يستحب له األخذ باالحتياط والتزام الحنث قطعا ،ولهذا قال
الشافعي :إن القصر في سفر جاوز ثالثة أيام أفضل من اإلتمام.
و(الثانية) :إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليال صحيحا ولم يجد في
مذهب إمامه دليال قويا عنه وال معارضا راجحا عليه ،فال وجه لمنعه من التقليد حينئذ
محافظة على العمل بظاهر الدليل(.)6
ونقل العطار الشافعي أقوال عدد من العلماء أجازوا التلفيق لغرض األخذ
بالرخصة واأليسر ،فقال( :نقل الشرنباللي الحنفي عن السيد أمير باد شاه في شرح
التجريد :يجوز اتباع رخص المذاهب ،وال يمنع منه مانع شرعي ،إذ لإلنسان أن يسلك
المسلك األخف عليه من مذهب إلى مذهب ،إذا كان له إليه سبيل ،بأن لم يكن عمل
بقول آخر مخالف لذلك األخف ..وقال ابن أمير الحاج إن مثل هذه التشديدات التي
86
ذكروها في المتنقل من مذهب إلى مذهب إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص،
وإال فأخذ العامي بكل مسألة بقول مجتهد يكون قوله أخف عليه فال أدري ما يمنع منه
()0
ال وشرع ًا)
عق ً
ونحب أن ننبه هنا فقط إلى أن التلفيق الذي أجازه هؤالء العلماء ال عالقة له بما
ذكره بعض المتحللين من أحكام الشريعة المتالعبين بها ،والذين عبر ابن الرومي عنهم،
فقال:
وقال الحرامان المدامة والســـكر أبــاح الــعــراقــي الــنــبــيــذ وشـــــربــه
فـحلــت لنــا من بين اختالفهمــا وقــال الحجــازي :الشـــرابــان واحــد
ـــــــــــــــر)
الوازرـ الوزر(6 ـــــــــــــــم
ـــــــــــــــخـفارق
وأشربها ال الـ ســـــآخــذ مـن قـولـيـهـمــا طــرفيهمــا
األصل الثالث :جواز الحيل الفقهية
ومعناها – كما يذكر ابن القيم( -سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى
حصول غرضه ،بحيث ال يتفطن له إال بنوع من الذكاء والفطنة ..وأخص من هذا
استعمالها في التوصل إلى الغرض الممــنوع منه شرع ًا أو عق ً
ال أو عادةً ،فهذا هو الغالب
()0
عليها في عرف الناس)
وقد ذكر ابن تيمية بداية نشوء هذه الظاهرة ،فقال( :أما اإلفتاء بها وتعليمها للناس
وإنفاذها في الحكم ،واعتقاد جوازها فأول ما حدث في اإلسالم في أواخر عصر صغار
( )0حاشية العطار على شرح الجالل المحلي ،حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي،
دار الكتب العلمية – بيروت ،ج ،6ص 226
( )6محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ،أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف
بالراغب األصفهاني ،شركة دار األرقم بن أبي األرقم – بيروت ،ط 0261 ، ،0هـ ،ج ،0ص.169
( )0عالم الموقعين ،ج ،1ص.022
87
التابعين بعد المئة األولى بسنين كثيرة ،وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تؤثر عن
أصحاب رسول الله ،بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا ُسئلوا عن فعل شيء
()0
من ذلك أعظموا وزجروا عنه)
ومن المشهور في تاريخ التشريع اإلسالمي أن الحنفية من أكثر من اهتم بهذا
الجانب ،وأن لهم فيها مؤلفات ،منها (المخارج في الحيل) لإلمام محمد بن الحسن
الشيباني الحنفي ،وقد حصل خالف في نسبة الكتاب إليه ،ومنها (الحيل والمخارج)
للخصاف الحنفي ،وغيرها.
وتروى عن أبي حنيفة الكثير من القصص في هذا ،منها ما رواه محمد بن الحسن،
قال :دخل على رجل اللصوص ،فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطالق ثالثا أن ال يعلم
أحدا ،قال :فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه ،وليس يقدر يتكلم من أجل
يمينه ،فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة ،فقال له أبو حنيفة( :أحضرني إمام حيك والمؤذن
والمستورين منهم) ،فأحضرهم إياه ،فقال لهم أبو حنيفة( :هل تحبون أن يرد الله على
هذا متاعه؟) قالوا :نعم ،قال( :فاجمعوا كل داعر وكل متهم فأدخلوهم في دار ،أو في
مسجد ،ثم أخرجوهم واحدا واحدا ،فقولوا له :هذا لصك ،فإن كان ليس بلصه قال :ال،
وإن كان لصه ،فليسكت ،فإذا سكت فاقبضوا عليه) ،ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة ،فرد
الله عليه جميع ما سرق منه(. )6
ومنها ما رواه عن وكيع قال :كان لنا جار من خيار الناس ،وكان من الحفاظ
( )0بيان الدليل على بطالن التحليل ،ابن تيمية ،تحقيق :حمدي عبد المجيد السلفي ،المكتب
اإلسالمي ،ص.060
( )6الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ،ج ،6ص .200
88
للحديث ،فوقع بينه وبين امرأته شيء وكان بها معجبا ،فقال لها :أنت طالق إن سألتيني
الطالق الليلة ،إن لم أطلقك الليلة ثالثا ،فقالت المرأة :عبيدها أحرار ،وكل مال لها صدقة
إن لم أسألك الطالق الليلة ،فجاءني هو والمرأة في الليل ،فقالت المرأة :إني بليت بكذا،
وقال الرجل :إني بليت بكذا ،فقلت ما عندي في هذا شيء ،ولكنا نصير إلى الشيخ أبي
حنيفة فإني أرجو أن يكون لنا عنده فرج ،وكان الرجل يكثر الوقيعة في أبي حنيفة وبلغه
ذلك عنه ،فقال :أستحيي منه ،فقلت :امض بنا إليه ،فأبى ،فمضيت معه إلى ابن أبي ليلى
وسفيان ،فقاال :ما عندنا في هذا شيء ،فمضينا إلى أبي حنيفة ،فدخلنا عليه ،وقصصنا
عليه القصة وأخبرته أنا مضينا إلى سفيان وابن أبي ليلى ،فعزب الجواب عنهما ،فقال:
إني والله ما أجد الفرض إال جوابك ،وإن كنت لي عدوا ،فسأل الرجل :كيف حلف؟
وسأل المرأة :كيف حلفت؟ وقال :وأنتما تريدان الخالص من الله في أيمانكما وال
تحبان الفرقة ،فقالت :نعم ،وقال الرجل :نعم ،قال :سليه أن يطلقك ،فقالت :طلقني،
فقال للرجل :قل لها أنت طالق ثالثا إن شئت ،فقال لها ذلك ،فقال للمرأة قولي :ال أشاء،
فقالت :ال أشاء ،فقال :قد بررتما وخرجتما من طلبة الله لكما ،فقال للرجل :تب إلى الله
من الوقيعة في كل من حمل إليك شيئا من العلم " قال وكيع :فكان الرجل بعد ذلك يدعو
ألبي حنيفة في دبر الصلوات ،وأخبرني أن المرأة تدعو له كلما صلت(.)0
ولكن هذا وإن اشتهر به الحنفية ،فليس خاصا بهم ،حيث نجد من فقهاء المذاهب
األخرى من أخذ بهذا األصل أيضا.
يقول النووي( :ومن التساهل أن تحمله األغراض الفاسدة على تتبع الحيل
المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلب ًا للترخيص لمن يروم نفعه ،أو التغليظ على
ّ
89
صح قصده فاحتسب في طلب حيلة ال شبهة فيها لتخليص من
ضره وأما من ّ
من يريد ّ
ورطة يمين ونحوها ،فذلك حسن جميل ،وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو
()0
هذا كقول سفيان( :إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ،فأما التشديد فيحسنه كل أحد)
ثانيا ـ أدلته:
ال يمكن استيعاب األدلة التي يستند إليها أصحاب هذا المنهج ،ولكن يمكن أن
نجمعها في المجامع التالية:
الدليل األول:
ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من بيان سماحة الشريعة اإلسالمية
ويسرها ،وأن من مقاصد الشرع الحكيم التيسير والتخفيف على المكلفين ،كقوله تعالى
تعقي ًبا على أحكام الصيامُ ﴿ :ي ِريدُ ال َّل ُه بِ ُك ُم ا ْل ُي ْس َر َو َال ُي ِريدُ بِ ُك ُم ا ْل ُع ْس َر﴾( ،)2وقوله تعالى:
﴿ َما ُي ِريدُ ال َّل ُه ل ِ َي ْج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِم ْن َح َرجٍ َو َلكِ ْن ُي ِريدُ ل ِ ُي َط ِّه َر ُك ْم َول ِ ُيتِ َّم نِ ْع َم َت ُه َع َل ْي ُك ْم َل َع َّل ُك ْم
()4
ان َض ِعي ًفا ﴾ اإلن َْس ُ ف َعنْ ُك ْم َو ُخلِ َق ْ ِ ون﴾( ،)3وقولهُ ﴿ :ي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن ُي َخ ِّف َ ت َْش ُك ُر َ
ومن الحديث قوله ( :إن الدين يسر ،ولن يشاد هذا الدين أحد إال غلبه،
()5
فسددوا ،وقاربوا ،وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
وقوله ( :يا أيها الناس ،خذوا من األعمال ما تطيقون ،فإن الله ال يمل حتى
( )0المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي) ،أبو زكريا محيي الدين يحيى بن
شرف النووي ،دار الفكر ،ج ،0ص .26
( )6سورة البقرة.021 :
( )0سورة المائدة.6 :
( )2سورة النساء.62 :
( )1صحيح البخاري ،ج ،0ص .06
91
()1
تملوا .وإن أحب األعمال إلى الله أدومها وإن قل)
()2
وقوله ( :أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)
ولذا أوصى الرسول معاذ بن جبل وأبا موسى األشعري حين بعثهما إلى اليمن
()3
فقالَ ( :ي ّسرا وال ُت َع ّسرا ،و َب ِّشرا وال ُتنَ ّفرا)
ولهذا ،فإن أصحاب هذا المنهج يرون في التشديد مخالفة لما ورد في هذه
النصوص وغيرها من األمر بمراعاة التيسير.
وقد استنبط الفقهاء –بمختلف مناهجهم -من تلك النصوص وغيرها الكثير من
القواعد الشرعية التي استنبطوها من النصوص وغيرها ،والتي تدل على أن التيسير غرض
شرعي محترم ال جناح على الفقيه أن يعتمده ،بل يجب عليه أن يعتمده في فتاواه.
90
()1
ُو ْس َع َها ﴾
6ـ قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي مستنبطة من قوله تعالىَ ﴿ :ف َم ِن
ِ ف ِِ
اض ُطر فِي م ْخمص ٍة َغير متَجانِ ٍ
إل ْث ٍم َفإِ َّن ال َّل َه َغ ُف ٌ
()2
يم ﴾
ور َرح ٌ َ َ َ َْ ُ َ ْ َّ
0ـ قاعدة (كلما ضاق األمر اتسع) وهي مستنبطة من قوله تعالىُ ﴿ :ي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن
ان َض ِعي ًفا﴾()3وقولهَ ﴿ :س َي ْج َع ُل ال َّل ُه َب ْعدَ ُع ْس ٍر ُي ْس ًرا﴾(،)4 ف َعنْ ُك ْم َو ُخلِ َق ْ ِ
اإلن َْس ُ ُي َخ ِّف َ
()5
وقولهَ ﴿ :فإِ َّن َم َع ا ْل ُع ْس ِر ُي ْس ًرا ( )1إِ َّن َم َع ا ْل ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (﴾ )6
2ـ قاعدة (الميسور ال يسقط بالمعسور) المستنبطة من قوله تعالىَ ﴿ :ر َّبنَا َو َال
َاها﴾( ،)7وقوله﴿ : ُت َح ِّم ْلنَا َما َال َطا َق َة َلنَا بِ ِه﴾( ،)6وقولهَ ﴿ :ال ُي َك ِّل ُ
ف ال َّل ُه َن ْف ًسا إِ َّال َما َآت َ
َت َع َل ْي ِه ْم﴾( ،)8وقولهَ ﴿ :ل ْي َس َع َلى ْاألَ ْع َمى َح َر ٌج َو َي َض ُع َعن ُْه ْم إِ ْص َر ُه ْم َو ْاألَ ْغ َال َل ا َّلتِي كَان ْ
()9 َو َال َع َلى ْاألَ ْع َر ِج َح َر ٌج َو َال َع َلى ا ْل َم ِر ِ
يض َح َر ٌج ﴾
الدليل الثاني:
أنه كان من سنة رسول الله وهو المفتي األول في اإلسالم مراعاة التيسير،
92
والنهي عن التشدد ،ولذلك فإن الفقيه الذي يميل إلى التيسير إنما يطبق سنة رسول الله
في الفتوى.
ففي الحديث عن عائشة أنها قالت ( :ما خير رسول الله بين أمرين إال أخذ
إثما ،فإن كان إثما كان أبعد الناس منه .وما انتقم رسول الله لنفسه
أيسرهما ما لم يكن ً
()1
إال أن تنتهك حرمة الله ،فينتقم لله بها)
وعن عمار بن ياسر قال :بعثنا رسول الله في حاجة فأجن ْبت فلم أجد ما ًء،
تمرغ الدابة ،ثم أتيت النبي فأخبرته فقال « :إنما كان يكفيك
فمرغت في الصعيد كما ّ
أن تقول بيديك هكذا » ثم ضرب بيديه األرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين
وظاهر كفيه ووجهه(.)3
أشق على أمتي ألمرتهم بالسواك
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال( :لوال أن ّ
()4
مع كل صالة)
وكان ال يشق على أصحابه في أمر حتى في أوقات تعليمهم ،فقد روى ابن
()5
مسعود أنه قال( :كان النبي يتخولنا بالموعظة في األيام كراهة السآمة علينا)
وعن أنس ،قال ( :ما صليت وراء إمام قط أخف صالة وال أتم من النبي ،وإن
93
()1
كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)
وهكذا كان الصحابة المنتجبون ،وهم أدرى الناس بسنة رسول الله ،فقد
حدث عمر بن إسحاق( :لما أدركت من أصحاب رسول الله أكثر ممن سبقني منهم؛
فما رأيت قوم ًا أيسر سيرة وال ّ
أقل تشديد ًا منهم)
()2
الدليل الثالث:
ما ورد من النصوص في النهي عن التشدد في الدين ،وهي كثيرة جدا ،منها ما
حدث به ابن مسعود أن النبي قال( :هلك المتنطعون) (قالها ثال ًثا) وفي رواية ( :أال
هلك المتنطعون)( ،)0والمتنطعون هم المتعمقون والمتشددون في غير موضع التشديد.
وفي الحديث عن عائشة :أن النبي دخل عليها وعندها امرأة ،فقال :من هذه؟
قالت :فالنة تذكر من صالتها ،فقال ( : مه عليكم بما تطيقون ! فوالله ال يمل الله حتى
()4
تملوا ،وكان أحب الدين إلى الله ما دوام عليه صاحبه)
وعن أبي هريرة ،قال :قام أعرابي فبال في المسجد ،فتناوله الناس ،فقال لهم النبي
( :دعوه وهريقوا على بوله سجال من ماء ،أو ذنوبا من ماء ،فإنما بعثتم ميسرين ،ولم
()5
تبعثوا معسرين)
94
ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
يمكن تقسيم الفقهاء الذين اعتمدوا هذا المنهج إلى فريقين:
الفريق األول:
وهم الذين اعتبروا التيسير مقصدا شرعيا مطلقا غير منضبط بالضوابط األخرى،
ولهذا أجازا تتبع الرخص مطلقا ،بل أجازوا ما يسمونه بالحيل الفقهية على اعتبار أنها
تحقق مقصد التيسير.
وقد ذكر من كتبوا في الرد على الحيل كابن تيمية وابن القيم الكثير من المناهج
التي يعتمدها هؤالء في مراعاة حاجات وأهواء المستفتين ،ومن ذلك ما ورد في الحيل
المرتبطة بالتهرب من الزكاة وهي كثيرة جدا ،وتصطدم مع ما ورد في الشرع من مقاصد
الزكاة.
ومن األمثلة التي ذكرها ابن القيم ،وهي لألسف منتشرة بين الناس :أن يكون على
من وجبت عليه الزكاة على رجل مال ،وقد أفلس غريمه وأيس من أخذه منه ،وأراد أن
يحسبه من الزكاة ،فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه ،ومن ثم يطالبه بالوفاء ،فإذا أوفاه برئ
وسقطت الزكاة عن الدافع ،وقد ذكر ابن القيم هذه الحيلة ،وقال( :وهذه حيلة باطلة،
سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من
()0
دينه فكل هذا ليسقط عنه الزكاة وال يعد مخرج ًا لها شرع ًا وال عرف ًا)
الدين الذي
ُ ومن الحيل المنتشرة في هذا الباب إسقاط الدين على المعسر قائالً:
لي عليك هو لك ،ويحسبه من الزكاة ،وقد سئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – عن
هذه المسألة فأجاب بقوله( :هذا ال يجوز؛ ألن الله تعالى قالُ ﴿:خ ْذ ِم ْن َأ ْم َوال ِ ِه ْم َصدَ َق ًة
95
ُت َط ِّه ُر ُه ْم﴾( ، )0واألخذ ال بد أن يكون ببذل من المأخوذ منه ،وقال النبي ( :أعلمهم
أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد)( ،)6فقال( :تؤخذ من أغنيائهم
فترد) ،فالبد من أخذ ورد ،واإلسقاط ال يوجد فيه ذلك؛ وألن اإلنسان إذا أسقط الدين
عن زكاة العين التي في يده ،فكأنما أخرج الرديء عن الطيب ،ألن قيمة الدين في النفس
ليست كقيمة العين ،فإن العين ملكه وفي يده ،والدين في ذمة اآلخرين قد يأتي وقد ال
يأتي ،فصار الدين دون العين ،وإذا كان دونها فال يصح أن يخرج زكاة عنها لنقصه ،وقد
ضات َما ك ََس ْب ُت ْم َو ِم َّما َأ ْخ َر ْجنَا َل ُك ْم ِم َن ْاألَ ْر ِقال تعالى ﴿ :يا َأيها ا َّل ِذين آمنُوا َأن ِْف ُقوا ِمن َطيب ِ
ْ ِّ َ َ َ َ ُّ َ
اع َل ُموا َأ َّن ال َّل َه َغن ِ ٌّي
آخ ِذ ِيه إِ َّال َأ ْن ُت ْغ ِم ُضوا فِ ِيه َو ْون و َلستُم بِ ِ ِ وال َتيمموا ا ْل َخبِ َ ِ
يث منْ ُه ُتنْف ُق َ َ ْ ْ َ َ َّ ُ
()0
َح ِميدٌ ﴾
وهكذا أفتى ابن القيم فيمن (كان له على رجل مال ،وقد أفلس غريمه ،وأيس من
أخذه منه ،وأراد أن يحسبه من الزكاة ،فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه ،ومن ثم يطالبه
بالوفاء ،فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع)
فقد أجاب على هذا بقوله( :وهذه حيلة باطلة ،سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من
التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه فكل هذا ل يسقط عنه الزكاة
()2
وال يعد مخرج ًا لها شرع ًا وال عرف ًا)
وهكذا نجد العلماء المحققين يشتدون على هذا النوع من الحيل ،باعتباره تملصا
من الشريعة ،وال يختلف عما فعله أصحاب السبت من بني إسرائيل ،يقول الشاطبي:
96
(وقد أذكر في هذا المعني جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم
ذكره في تضاعيف المسألة كاالنسالخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخالف،
وكاالستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا االعتبار سياالً ال ينضبط ،وكترك ما هو معلوم إلى ما
ليس بمعلوم ..وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك االنضباط إلى أمر معروف،
وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد
()0
التي يكثر تعدادها)
وقال ابن القيم( :وقد استقرت سنة الله في خلقه شرع ًا وقدر ًا على معاقبة العبد
المط َّلقة في مرض الموت ،وكذلك الفار
ث ُ وور َ ُ
القاتل الميراثَّ ، بنقيض قصده ،كما ُح ِر َم
ُ
ويسقط مقصو ُد مقصو ُده
فيتم ُ
من الزكاة ال يسقطها عنه فراره وال يعان على قصده الباطل ُ
تحيل على بلوغ غرضه ويبطلالم ُ ِ
الرب تعالى ،وكذلك عامة الحيل إنما ُيساعدُ فيها ُ
()6
غرض الشارع)
الفريق الثاني:
وهم الذين احترموا ما ورد في النصوص من اعتبار التيسير والتسهيل على
المكلفين ،ولهذا راعوا رفع الحرج في التكاليف من غير أن يصطدموا مع مقاصد الشرع
التي راعاها في التكاليف المختلفة ،وهذا المنهج يقبل الرخص الفقهية ،وقد يتبعها،
ولكن بشرط عدم أدائها لتساهل المكلف في أحكام الشريعة.
يقول الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) في باب التمحل في الفتوى
ذاكرا هذا النوع من التيسيرات التي يحتاج المفتي إلى مراعاتها (:متى وجد المفتي
97
للسائل مخرج ًا في مسألته ،وطريق ًا يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه ،كرجل حلف أن ال
ينفق على زوجته وال يطعمها شهر ًا ،أو شبه هذا ،فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها ،أو دين
لها عليه ،أو يقرضها ثمن بيوتها ،أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن ،وقد قال الله تعالى
اض ِر ْب بِ ِه َو َال
أليوب عليه السالم لما حلف أن يضرب زوجته مئة ﴿ َو ُخ ْذ بِ َي ِد َك ِض ْغ ًثا َف ْ
()6
َحن َْث﴾ )
0
ت ْ
ثم ساق الخطيب آثار ًا كثيرة في هذا المعنى ،منها ما رواه عن علي :في رجل
حلف ،فقال :امرأته طالق ثالثا إن لم يطأها في شهر رمضان نهارا ،قال( :يسافر بها ثم
()0
ليجامعها نهارا)
ومنها ما رواه عن حماد قال :قلت إلبراهيم :أمر على العاشر فيستحلفني بالمشي
()2
إلى بيت الله ،قال( :احلف له ،وانو مسجد حيك)
98
المبحث الخامس
منهج التشديد
وهو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو
يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف ،أو يختار له أشدها وأكثرها
احتياطا.
وهذا المنهج يرى إمكانية االستفادة من جميع التراث الفقهي ،ويضيف إليه ُبعد
التشديد واالحتياط والورع ،العتقاده أن التشديد واالحتياط مقصد من مقاصد الشريعة
ال يصح تجاوزه.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المباحث
السابقة من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه ،وأدلتهم ،والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي
يعتمدون عليها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
من خالل تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التشديد على المستفتين نجد ثالثة
أصول كبرى من اعتقدها جميعا ،أو اعتقد بأحدها ،يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب
هذا المنهج ،وهذه األصول هي:
األصل األول :ترجيح العزيمة على الرخصة
األصل الثاني :القول بسد الذرائع
األصل الثالث :مراعاة الخالف
وسنتحدث عن هذه األصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب.
99
أو ما يسمى في األصول بمبحث االحتياط( ،)0أو األخذ باألحوط ،أو التحرز ،أو
التحري ( ،)6أو التوقف ( ،)0أو التورع(.)2
وهو منهج اعتمده الكثير من العلماء مقابل المنهج السابق ،يقول ابن تيمية:
(وسلك كثير من الفقهاء دليل االحتياط في كثير من األحكام بناء على هذا ،وأما االحتياط
()1
في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقالء في الجملة)
ومثله صرح الشاطبي بأن الشريعة (مبنية على االحتياط واألخذ باألحزم ،والتحرز
مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ،فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ،فليس
( )0عرفه الجرجاني بأنه (حفظ النفس عن الوقوع في المآثم) (كتاب التعريفات ،علي بن محمد
بن علي الزين الشريف الجرجاني ،دار الكتب العلمية بيروت –لبنان ،ط0210 ،0هـ 0920-م ،
ص ،)06وعرفه ابن عبد البر بأنه (الكف عن إيجاب ما لم يأذن الله بإيجابه)( التمهيد لما في الموطأ من
المعاني واألسانيد ،ج ،6ص ،)60وعرفه ابن تيمية بأنه (اتقاء ما يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب
عند عدم المعارض الراجح) (مجموع الفتاوى ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ،
تحقيق :عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ،المدينة النبوية،
المملكة العربية السعودية0206 ،هـ0991/م ،ج ،61ص.002
( . )6عرفه السرخسي بأنه (عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على
حقيقته)( المبسوط ،محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ،دار المعرفة – بيروت،
0202هـ 0990 -م ،ج ،01ص)021
( )0عرفته الموسوعة الكويتية بأنه (عدم إبداء قول في المسألة االجتهاد ّية لعدم ظهور وجه
الصواب فيها للمجتهد) (الموسوعة الفقهية الكويتية ،وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية – الكويت،
ّ
دارالسالسل -الكويت 0261 - 0212 ،هـ ،ج ،02ص)016
( )2عرف بأنه (اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات) (التعريفات ،ص )026
( )1مجموع الفتاوى ،ج ،61ص.666
011
()0
العمل عليه ببدع في الشريعة ،بل هو أصل من أصولها)
ومثلهما ابن العربي الذي ذكر أن (للشريعة طرفين :أحدهما :طرف التخفيف في
التكليف ،واآلخر :طرف االحتياط في العبادات ،فمن احتاط استوفى الكل ،ومن خفف
()6
أخذ بالبعض)
ومثلهم جميعا العز بن عبد السالم الذي اعتبر االحتياط أصال من األصول المهمة
التي ال يمكن تحقق مقاصد الشريعة من دونها.
وقد قسمه إلى قسمين(:)0
االحتياط المندوب :وهو المعبر عنه بالورع ،ومثل له بأمثلة كثيرة منها :غسل
اليدين ثالثا إذا قام من النوم قبل إدخالهما اإلناء ،وكالخروج من خالف العلماء عند
تقارب المأخذ ،وكإصالح الحكام بين الخصوم في مسائل الخالف ،وكاجتناب كل
مفسدة موهمة ،وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك في عقد من العقود ،أو في شرط من
شروطه ،أو في ركن من أركانه ،فليعده بشروطه وأركانه ،وكذلك من فرغ من عبادة ،ثم
شك في شيء من أركانها ،أو شرائطها بعد زمن طويل ،فالورع أن يعيدها.
االحتياط الواجب :لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه ،فإذا دارت
المصلحة بين اإليجاب والندب ،واالحتياط ،حملها على اإليجاب؛ لما في ذلك من
تحقق براءة الذمة ،فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها ،وإن كانت مندوبة فقد
010
حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب ،فإن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت
له حسنة ،وإذا دارت المفسدة بين الكراهة والتحريم فاالحتياط حملها على التحريم ،فإن
كانت مفسدة التحريم محققة ،فقد فاز باجتنابها ،وإن كانت منفية فقد اندفعت مفسدة
المكروهة ،وأثيب على قصد اجتناب المحرم ،فإن اجتناب المحرم أفضل من اجتناب
المكروه ،كما أن فعل الواجب أفضل من فعل المندوب(.)0
وكما كان الحنفية من أكثر المذاهب ميال إلى منهج التيسير في الفتوى ،فإن الذهب
المالكي من أكثرها ميال إلى منهج التشديد مراعاة لالحتياط ،يقول ابن عبد البر عن اإلمام
()6
مالك( :وكان رحمه الله متحفظا كثير االحتياط للدين)
ويقول ابن العربي( :فإن اللفظ إذا كان غريبا لم يخرج عند مالك أو كان احتياطا
()0
لم يعدل عنه)
وقال الحطاب( :ومذهبه (أي مالك) مبني على سد الذرائع واتقاء الشبهات ،فهو
()2
أبعد المذاهب عن الشبه)
وهذا ال يعني أن سائر الفقهاء لم يأخذوا به ،ولكن درجاتهم أخذهم به كانت أخف
من درجة أخذ المالكية به.
012
يقول السرخسي عن أصول المذهب الحنفي( :األخذ باالحتياط في العبادات
()0
أصل)
ويقول الزركشي( :فإن الشافعي يرى تقديم األحوط ،ألنه أقرب إلى مقصود
()6
الشارع)
ولعل من أكبر المغالين في األخذ به بعض الصوفية ،كما ذكر ذلك السيوطي
والشعراني والمناوي وغيرهم.
فهم يرون أن (يؤخذ من كل مذهب باألشد واألحوط واألورع ،فإذا كان في
مذهب الشافعي -مثال -الجواز في مسألة ،والتحريم في أخرى ،ومذهب غيره بالعكس،
يأخذون بالتحريم احتياطا ،وإذا كان مذهبه الوجوب في مسألة ،واالستحباب في أخرى،
ومذهب غيره بالعكس ،يأخذون بالوجوب في المسألتين احتياطا ،فيقولون بنقض
الوضوء بلمس النساء ،ومس الفرج ،وبالقيء ،والدم السائل ،ويقولون بوجوب النية في
()0
الوضوء ،ومسح كل الرأس ،ووجوب الوتر ،إلى غير ذلك)
وقد خرج التشدد ببعضهم إلى الوقوع في الحرج المنهي عنه شرعا ،وقد ذكر
هؤالء ابن القيم ،فقال( :وقد بلل الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل اآلخرة،
وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو ،وهم يحسبون أنهم
( )0أصول السرخسي ،محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ،دار المعرفة –
بيروت ،ج ،0ص.16
( )6البحر المحيط ،ج ،6ص.011
( )0جزيل المواهب ،السيوطي ،ص.06
013
()0
يحسنون صنعا)
وبين الفرق بين الورع المستحسن شرعا والوسوسة التي هي نتاج المبالغة في
االحتياط بعيد عن فهم مقاصد الشارع ،فقال( :والفرق بين االحتياط والوسوسة أن
االحتياط االستقصاء والمبالغة في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله وأصحابه من
غير غلو ومجاوزة وال تقصير وال تفريط ،فهذا هو االحتياط الذي يرضاه الله ورسوله.
وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ،ولم يفعله رسول الله وال أحد من
الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل
أعضاءه في الوضوء فوق الثالثة ،فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله ،ويصرح
بالتلفظ بنية الصالة مرارا أو مرة واحدة ،ويغسل ثيابه مما ال يتيقن نجاسته احتياطا،
ويرغب عن الصالة في نعله احتياطا إلى أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا،
وزعموا أنه احتياط ،وقد كان االحتياط باتباع هدى رسول الله وما كان عليه أولى
بهم ،فإنه االحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق االحتياط وعدل عن سواء الصراط.
واالحتياط كل االحتياط الخروج عن خالف السنة ،ولو خالفت أكثر أهل األرض ،بل
()6
كلهم)
( )0إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ،محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية ،تحقيق:
محمد حامد الفقي ،مكتبة المعارف ،الرياض ،المملكة العربية السعودية ،ج ،0ص.001
( )6الروح ،البن القيم ،ص .629
014
()0
الناس تأصيال ،وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيال)
ثم حرر معناه عند المالكية ،ومواضع الخالف بينهم فيه ،فقال( :حرر موضع
الخالف فقال :اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعا أو
ال ،واألول ليس من هذا الباب ،بل من باب ما ال خالص من الحرام إال باجتنابه ففعله
حرام من باب ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب .والذي ال يلزم إما أن يفضي إلى
المحظور غالبا أو ينفك عنه غالبا أو يتساوى األمران وهو المسمى ب (الذرائع) عندنا:
فاألول ال بد من مراعاته ،والثاني والثالث اختلف األصحاب فيه ،فمنهم من يراعيه،
()6
ومنهم من ال يراعيه ،وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة)
كره بعض المندوبات لئال يعتقد في وجوبها
وألجل مبالغة مالك في سد الذرائع ّ
أو سننها ،وذلك شأنه في كراهة ُك ّل النَّوافل التي تتخذ على طريقة الورد في أيام
الستة أيام من شهر شوال ،لئال يعتقد العا ّمة أنَّها كصيام
معلومات ،ومن ذلك أنَّه كره صيام ِّ
َان ك ِ ان ُثم َأ ْت َب َع ُه ِستًّا ِم ْن َش َّو ٍ
ال ،ك َ
َص َيا ِم وأول الحديثَ ( :م ْن َصا َم َر َم َض َ َّ
رمضان واجبة(َّ ،)0
السـنة أي ما يقابل رمضان ،فاستحب صيام الدَّ ْه ِر)( ،)2على َّ
أن المقصود بشوال طول َّ
السـنة ،قال مالك في الموطأ( :ما رأيت أحد ًا من
النَّافلة دون تحديد يوم أو أ ّيام مع ّينة من َّ
( )0نقال عن :البحر المحيط في أصول الفقه ،ج ،2ص .91
( )6المرجع السابق ،ج ،2ص .91
( )0يقول الشاطبي في االعتصام مبررا رأي مالك في هذه المسألة( :فكالم مالك هنا ليس فيه
دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم ،بل لعل كالمه مشعر بأنه يعلمه ،لكنه لم ير العمل
عليه وإن كان مستحبا في األصل؛ لئال يكون ذريعة لما قال ،كما فعل الصحابة في األضحية ،وعثمان
في اإلتمام في السفر) (االعتصام ،ج ،6ص )296
( )2صحيح مسلم ،6 ،ص .266
015
الس َلفَّ ،
وإن أهل العلم يكرهون ذلك أهل العلم والفقه يصومها ،ولم يبلغني عن أحد من َّ
مخافة بدعتهْ ،
وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك
()0
رخصة عند أهل العلم أو هم يعلمون ذلك)
على خالف هذا نجد الشافعي يؤكد استحباب صومها ،فيقول( :هذا الحديث
السـنَّة فال ُتترك لترك بعض النَّاس أو أكثرهم أو ُك ّلهم لها،
الصريح ،إذا ثبتت ُّ
الصحيح َّ
َّ
()6
الصوم المندوب)
وقوله :قد يظن وجوبها ،ينتقص يوم عرفة وعاشوراء ،وغيرهما من َّ
ومن األمثلة على هذا أيضا موقف اإلمام مالك من مجموعة من بيوع اآلجال سدا
لذريعة الربا ،ففي الموطأ( :قال مالك في الذي يشتري الطعام ف َي ْكتَا ُله ،ثم يأتيه من يشتريه
منه ،فيخبر الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه ،فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله:
( )0الموطأ ،مالك بن أنس بن مالك بن عامر األصبحي المدني ،تحقيق :محمد مصطفى
األعظمي ،مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان لألعمال الخيرية واإلنسانية -أبو ظبي – اإلمارات ،ط،0
0261هـ 6112 -م ،ج ،0ص.221
َّووي ،ج ،2ص.16
( )6شرح مسلم للن ّ
( )0موطأ مالك ج ،2ص .912
016
سمعت رسول الله يقول (:ال تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها) .فقال
بالل بن عبد الله :والله لنمنعهن .قال :فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه
()0
مثله قط ،وقال :أخبرك عن رسول الله وتقول والله لنمنعهن)
وهذا القول لم يبق قول بالل بن عبد الله وحده ،بل صار قوال فقهيا له جمهوره
العريض ،قال الشوكاني(:وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه
نظر ألنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل األمن عليها وال سيما إذا كان ذلك
()6
بالليل)
017
()0
آخر)
ومن األمثلة على ذلك ما جاء في الموطأ في (مسألة في افتتاح الصالة) ،حيث ورد
فيه :سئل مالك عن رجل دخل مع اإلمام ،فنسي تكبيرة االفتتاح ،وتكبيرة الركوع ،حتى
صلى ركعة ،ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة االفتتاح ،وال عند الركوع ،وكبر في الركعة
الثانية ،فقال :يبتدئ صالته أحب إلي ،ولو نسيها مع اإلمام عند تكبيرة االفتتاح وكبر في
()6
الركوع األول ،رأيت ذلك مجزيا عنه ،إذا نوى بها تكبيرة االفتتاح)
ومن األمثلة على ذلك إعمال المالكية دليل المخالفين لهم القائل بعدم فسخ نكاح
الشغار في الزم مدلوله الذي هو ثبوت اإلرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار فيما إذا
مات أحدهما .فالمدلول هو عدم الفسخ وأعمل مالك في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر
فمذهب مالك وجوب الفسخ وثبوت اإلرث إذا مات أحدهما(.)0
وقد أخذ بهذا األصل أيضا أصحاب هذا المنهج من أتباع المذاهب األخرى،
وخصوصا المذهب الشافعي ،كالشعراني والسيوطي وغيرهما ،كما عرفنا سابقا.
وقد ذكر العز بن عبد السالم تقسيما جيدا لكيفية مراعاة الخالف في المسائل
المختلفة ،قدم له بقوله( :وقد أطلق بعض أكابر أصحاب الشافعي -رحمه الله -أن
الخروج من الخالف حيث وقع أفضل من التورط فيه وليس كما أطلق ،بل الخالف على
( )0شرح حدود ابن عرفة ،تحقيق محمد أبو األجفان والطاهر المعموري .دار الغرب
اإلسالمي ،الطبعة األولى0990 ،م ،ج ،0ص.660
( )6موطأ مالك ،ج ،6ص .011
( )0الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة ،حسن مشاط ،دراسة وتحقيق د عبد الوهاب بن
إبراهيم أبو سليمان .دار الغرب اإلسالمي ،ط ،0ص.601 :
018
()0
أقسام)
ثم ذكر هذه األقسام ،ونذكرها هنا باختصار:
القسم األول :أن يكون الخالف في التحريم والجواز فالخروج من االختالف
باالجتناب أفضل.
القسم الثاني :أن يكون الخالف في االستحباب أو اإليجاب ،فالفعل أفضل.
القسم الثالث :أن يكون الخالف في الشرعية ،كقراءة البسملة في الفاتحة ،فإنها
مكروهة عند مالك ،واجبة عند الشافعي ،فالفعل أفضل ،،وكذلك رفع اليدين في
التكبيرات فإن أبا حنيفة ال يراه من السنن ،وكذلك مالك في إحدى الروايتين عنه ،وهو
عند الشافعي سنة لالتفاق على صحة األحاديث وكثرتها فيه ،وصالة الكسوف على الهيئة
المنقولة عن رسول الله فإنها سنة عند الشافعي ،وأبو حنيفة ال يراها ،والسنة أن يفعل
ما خالف فيه أبو حنيفة وغيره من ذلك وأمثاله.
ثم ذكر الضابط لهذا ،فقال( :والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية
الضعف والبعد من الصواب فال نظر إليه ..وال سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم
بمثله ،وإن تقاربت األدلة في سائر الخالف بحيث ال يبعد قول المخالف كل البعد فهذا
مما يستحب الخروج من الخالف فيه ،حذرا من كون الصواب مع الخصم ،والشرع
()6
يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات ،كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات)
وذكر زكريا بن غالم قادر الباكستاني أن مراعاة الخالف معتبر عند أهل الحديث،
019
فقد ذكر تحت عنوان (القاعدة السادسة :الخروج من الخالف مستحب)( :األدلة متكاثرة
في االعتصام وعدم التفرق واالتفاق على كلمة واحدة فهي دالة على استحباب الخروج
()0
من الخالف)
لكنه قيد ذلك بشرطين:
الشرط األول :أن ال يكون في ذلك طرح لدليل من األدلة.
()6
الشرط الثاني :أن ال يوقع الخروج من ذلك الخالف في الوقوع في خالف آخر)
ويدل لهذا قول ابن تيمية في (شرح عمدة الفقه)( :أما الخروج من اختالف
العلماء ،فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق ،ألن من اتقى الشبهات
استبرأ لعرضه ودينه ،فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة ،فال معنى لمطلب الخروج من
الخالف ،ولهذا كان اإليتار بثالث مفصولة أولى من الموصولة ،مع الخالف في
جوازهما من غير عكس ،والعقيقة مستحبة أو واجبة مع الخالف في كراهتها ،وإشعار
الهدي سنة مع الخالف في كراهته ،واإلجماع على جواز تركه ،وفسخ الحج إلى العمرة
لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا ألمر رسول الله مع الخالف الشائع في
()0
جواز ذلك)
ثانيا ـ أدلته:
ال يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا ،ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع
( )0من أصول الفقه على منهج أهل الحديث ،زكريا بن غالم قادر الباكستاني ،دار الخراز،
الطبعة االولى 0260هـ6116-م ،ص.026
( )6المرجع السابق ،ص..026
( )0شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج) ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم
ابن تيمية ،تحقيق :د .سعود صالح العطيشان ،مكتبة العبيكان – الرياض ،ط ،0200 ،0ج ،0ص.201
001
التالية:
الدليل األول:
ما ورد من النصوص الدالة على وجوب االحتياط والورع ،ومنها قوله :
(الحالل بين والحرام بين ،وبينهما مشبهات ال يعلمها كثير من الناس ،فمن اتقى
المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى ،يوشك
أن يواقعه .أال وإن لكل ملك حمى ،أال إن حمى الله فى أرضه محارمه ،أال وإن فى
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله .أال وهى
()0
القلب)
()6
وقوله ( :دع ما يريبك إلى ما ال يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة)
وقوله ( :ال يبلل العبد أن يكون من المتقين حتى َيدَ ع ما ال بأس به حذر ًا لما به
()0
بأس)
(البر حسن الخلق ،واإلثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه
وقوله ُّ ( :
()2
الناس)
وقد استخرج العلماء من هذه النصوص وغيرها الكثير من القواعد الفقهية ،ومنها:
( )0صحيح البخاري ،ج ،0ص ،10وصحيح مسلم ،ج ،0ص .0660
( )6سنن الترمذي ،محمد بن عيسى بن َس ْورة الترمذي ،تحقيق وتعليق :إبراهيم عطوة شركة
مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ،ط 0091 ، 6هـ 0911 -م ،ج ،2ص .662
( )0سنن ابن ماجه ،ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ،تحقيق :شعيب األرنؤوط
محمد كامل قره بللي -عَبد ال ّلطيف حرز الله ،دار الرسالة العالمية ،ط 0201 ،0هـ -
-عادل مرشد َّ -
6119م ،ج ،1ص .692
( )2مسند أحمد ،ج ،69ص .162
000
-درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
-الخروج من الخالف مستحب.
-إذ اجتمع المانع والمقتضي ُغلب المانع.
-األخذ بأقل ما قيل.
-الشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما ُيبني على االحتياط.
الدليل الثاني:
ما جاء في الشريعة من األمر بالوقوف مع مقتضى األمر والنهي مجر ًدا ،والصبر
على حلوه ومره ،وإن انتقض موجب الرخصة ،ومن ذلك قوله تعالى ﴿ :ا َّل ِذي َن َق َال َل ُه ُم
اخ َش ْو ُه ْم ﴾( ،)0فهذا مظنة التخفيف ،فأقاموا على الصبر َّاس إِ َّن الن َ
َّاس َقدْ َج َم ُعوا َل ُك ْم َف ْ الن ُ
يمانًا َو َقا ُلوا َح ْسبُنَا ال َّل ُه َونِ ْع َم ا ْل َوكِ ُيل
والرجوع إلى الله ،فأثنى عليهم بقولهَ ﴿ :ف َزا َد ُه ْم إِ َ
()6
﴾
ت ْاألَ ْب َص ُار اغ ِ
ومنه قوله تعالى ﴿ :إِ ْذ َجا ُءو ُك ْم ِم ْن َف ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن َأ ْس َف َل ِمنْ ُك ْم َوإِ ْذ َز َ
وب ا ْل َحن ِ ِ
َاج َر﴾( ،)0وبعد أن ذكر المشهد كامالً مدح الصابرين على هذا كله َو َب َل َغت ا ْل ُق ُل ُ
اهدُ وا ال َّل َه َع َل ْي ِه َف ِمن ُْه ْم َم ْن َق َضى ن َْح َب ُه َو ِمن ُْه ْم َم ْن َينْتَظِ ُر
بقوله تعالىِ ﴿ :ر َج ٌال َصدَ ُقوا َما َع َ
()2
َو َما َبدَّ ُلوا َت ْب ِد ًيال ﴾
وقد علق الشاطبي على هذه اآليات بقوله ( :فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال
002
الشديد واألحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر ،وقد عرض النبي على
أصحابه أن يعطوا األحزاب من ثمار المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم األمر؛ فأبوا
()0
من ذلك ،وتعززوا بالله وباإلسالم؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم)
وضرب األمثلة الكثيرة على ذلك من فعل الصحابة ،ومن ذلك تطبيق الصحابة
لقوله ( :ألن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره ،خير له من أن يسأل أحدا ،فيعطيه أو
()6
يمنعه)
وقد علق الشاطبي على هذا الحديث بقوله( :فحمله الصحابة --على عمومه،
()0
وال بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة ،ولم يأخذوه إال على عمومه)
003
خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا او مستنبطا منها في مذهبه او غيره
.فال يؤمر القوي بالنزول الي مرتبة الرخصة ،مع قدرته علي فعل العزيمة .وال يكلف
الضعيف بالصعود الي مرتبة العزيمة ،مع عجزه عنها .فالمرتبتان علي الترتيب الوجودي،
()0
ال علي التخيير)
ثانيا ـ مراعاة سد الذريعة ،فلهذا نرى أصحاب هذا المنهج ال يكتفون بما ورد من
النصوص أو أقوال الفقهاء ،بل ينظرون أيضا في إمكانية تحايل المكلفين على األحكام
الشرعية ،فلهذا يعتبرون نياتهم ويسدونها على خالف المنهج السابق.
الشارع إلى النَّظر في مآالت اطبي أن قاعدة سدّ َّ
الذرائع على قصد َّ الش ّوقد ذكر َّ
األفعال سواء أكانت موافقة أو مخالفة؛ َّ
ألن المجتهد ال يحكم على فعل من األفعال
الصادرة عن المك ّلفين باإلقدام أو اإلحجام إالَّ بعد النَّظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل،
َّ
فقد يكون مشروع ًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة ُتدرأ ،ولكن له مآل على خالف ما
قصد فيه .وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ،ولكن له مآل على
004
المبحث السادس
المنهج المقاصدي
وهو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في األحكام التفصيلية،
باعتبار أن األحكام الشرعية ليست تعبدية محضة ،بل هي مفهومة المعنى ،يقول الشيخ
ِ
والحكم الملحوظة مح َّمد الطاهر ابن عاشور( :مقاصد التشريع ال َعا َّمة هي :المعاني
َ
تختص مالحظتها بالكون في نوع
ُّ للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ،بحيث ال
أوصاف الشريعة وغايتها ال َعا َّمة والمعاني ُ خاص من أحكام الشريعة ..فيدخل في َه َذا ٍّ
الحكم ليستمعان من ِ ٍ التي ال يخلو التشريع عن مالحظتها .ويدخل في َه َذا َأ ً
يضا
()0
ملحوظة في سائر أنواع األحكام َو َلكِن ََّها ملحوظة في أنواع كثيرة منها)
وقد عرفها بعض المحدثين ،فقال( :هي القيم العليا التي تكمن وراء الصيل
()6
والنصوص يستهدفها التشريع كليات وجزئيات)
بناء على هذا التعريف سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في
المباحث السابقة من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات
التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
أوال ـ أعالمه:
يتفق جميع أعالم األمة – من الناحية النظرية -على أن الشريعة اإلسالمية مبنية
مح َّمد الطاهر ابن عاشور ،الشركة التونسية للتوزيع ،تـونس، ِ ( )0مقاصد الشريعة ِ
اإلسالَم َّيةَ ،
ط ،0ص.10
( )6هو الدكتور فتحي الدريني .في كتابه خصائص التشريع اإلسالمي ،مؤسسة الرسالة ،بيروت
،ط 0202 ، 6هـ 6100 -م ،ص.092
005
على مقاصد واضحة البد على الفقيه والمفتي أن يالحظها في فتاواه.
يقول ابن القيم( :إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في
المعاش والمعاد وهي عدل كلها ،ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة
خرجت عن العدل إلى الجور ،وعن الرحمة إلى ضررها وعن المصلحة إلى المفسدة،
()0
وعن الحكمة إلى العبث فهي ليست من الشريعة)
ولهذا فإن الشاطبي – بناء على أهمية المقاصد -ال يرى حصول درجة االجتهاد
إال (لمن اتصف بوصفين :الوصف األول :فهم مقاصد الشريعة على كمالها .ألن اإلنسان
إذا بلل مبلغ ًا فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ،وفي كل باب من
أبوابها؛ فقد حصل له وصف ين َّزله منزلة الخليفة للنبي في التعليم وال ُفتيا والحكم بما
أراه الله ..والوصف الثاني :التمكّن من االستنباط بنا ًء على فهمه فيها ،بواسطة معارف
()6
محتاج إليها في فهم الشريعة أوالً ،وفي استنباط األحكام ثاني ًا)
محتاج إلى معرفة المقاصد
ٌ ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور َّ
أن المجتهد
وفهمها في كل األنحاء التي يقع بها تصرفهم في الشريعة ،سوا ٌء في فهم أقوال الشريعة
واستفادة مدلوالت تلك األقوال بحسب الوضع ال ُّلغوي واالستعمال الشرعي ،أو في
عما يعارض األدلة فيما يلوح للمجتهد وقد استكمل نظره في استفادة مدلوالتها
البحث ّ
ليستيقن سالمة تلك األدلة مما يبطل داللتها ،أو عند قياس ما لم يرد حكمه في أقوال
الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه على ضوء العلل ،أو عند تل ّقي األحكام التع ُّبدية التي
ال يعرف عللها وال حكمة الشارع فيها متهم ًا نفسه بالقصور عن إدراك الحكمة فيها ،وغير
006
يتصرف المجتهد بفقهه في الشريعة(.)0
ّ ذلك مما
ويبين عبد الوهاب خالف ضرورة التعرف على المقاصد ودورها في حل
اإلشكاالت التي قد يقع فيها المجتهد ،فيقول( :ومعرفة المقصد العام من التشريع من
أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها ،وتطبيقها على الوقائع ،واستنباط الحكم
فيما ال نص فيه ،ألن داللة األلفاظ والعبارات على المعاني ،قد تحتمل عدة وجوه،
والذي يرجح واحد ًا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع ،ألن بعض
النصوص قد تتعارض ظواهرها ،والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها
هو الوقوف على مقصد الشارع .ألن كثير ًا من الوقائع التي تحدث ربما ال تتناولها
عبارات النصوص ،وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من األدلة الشرعية
بنصوصه وروحه ومعقوله .وكذلك نصوص األحكام التشريعية ال تفهم على وجهها
الصحيح إال إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع األحكام ،وعرفت الوقائع الجزئية
()6
التي من أجلها نزلت األحكام القرآنية ،أو وردت السنة القولية أو الفعلية)
ولكنهم – من الناحية التطبيقية – يختلفون اختالفا شديدا ،وبناء على هذا ،فإنا
نريد بأتباع هذا المنهج هنا ليس من يصرح فقط بكونه يقبل بأن للشريعة مقاصد وغايات،
وإنما من يعتبرها في الفتوى ،وخاصة في المتغيرات الحادثة في الواقع.
وبناء على هذا يمكننا أن نتتبع الفتاوى لنجد من يراعي هذا ،ومن يقصر فيه ،وال
يهمنا تنظيره للمقاصد أو اعتقاده بها ،ألن كل مسلم يعتقد بأن الشريعة – كما يذكر ابن
007
()0 القيم – (عدل كلها ،ورحمة كلهاِ ،
وحكمة كلها)
وبناء على هذا ،ومن خالل النظر في واقع الفتوى نجد صنفين ممن يمكن
اعتبارهم من أعالم هذا المنهج:
الصنف األول:
ويمثلهم الكثير من الفقهاء من المدارس السابقة ،حتى المدارس التي تؤمن
بالتمذهب ،حيث نجد لها في فقه النوازل أحيانا ما تراعى فيه مقاصد الشريعة.
ومن األمثلة على ذلك:
المثال األول :استفتي الشاطبي عن (بيع األشياء التي منع العلماء بيعها من أهل
الحرب كالسالح وغيره ،لكون أهل األندلس محتاجين إلى النصـارى في أشياء أخـرى
يتنزل منـزلة ما ُذكِر سابقا في
كاألكـل واللبـاس وغيـرها...وسؤاله عن الشمـع ،وهل ّ
بيعـه...؟ وهل هناك فرق بين أهل األندلس وغيرهم من أرض اإلسالم في بيع مثل هذه
()6
األشياء؟)
فأجاب بالمنع ولم يلتفت إلى الضرورة التي تع ّلل بها المستفتي؛ ألنه رأى أن
حماية المسلمين من العدو وما تقتضيه تلك الحماية من عدم تمكينه بما يعينه على أمر
أهل األندلس ،وهذا أولى من حاجة بعض الناس إلى الطعام ..وبيع السـالح والطعـام
إلى أهـل الحـرب داخـل فيما يكون أداؤه إلى المفسـدة كثيـرا ال نـادرا ،ورأى أنه ليس
هناك موجب لتسويل البيع منهم مستدال بقوله تعالى ﴿ :إِن ََّما ا ْل ُم ْش ِر ُك َ
ون ن ََج ٌس َف َال َي ْق َر ُبوا
008
ا ْل َم ْس ِجدَ ا ْل َح َرا َم َب ْعدَ َع ِام ِه ْم َه َذا ﴾(( ،)0فاآلية ن ّبهت على ّ
أن الحاجة إليهم في جلب
ترخص لهم في انتهاك حرمة الحرم ،فكذلك األمر هنا :ال ُ
تـرخص في الطعام إلى مكة ال ّ
()6
استـباحة اإلضـرار بالمسلمين)
وبين أنه سار في هذا على خطى سلفه الفقيه المـازري المالكي الذي منـع بيع كل
ما يكـون ألهل الحرب به قوة على المسلمين كالطعام والسالح وحتى الشمع؛ ألنهم –
كما ب ّين الشاطبي – يستعينون به في اإلضرار بالمسلمين.
قال الشاطبي( :و أما صنع الشمع للنصارى فإن كان ألنهم يستعينون به علينا فـ ُيمنع
كما ُذكر في بيعه من النصارى ،وأما ما يعلم أنهم يصنعونه آللهتهم فينبغي أال يصنع لهم،
وال يباع منهم نظير ما قاله ابن القاسم في بيع الشاة منهم مع العلم بأنهم يذبحونها
()0
كرهه كراهية تنـزيه وأن البيع إن وقع لم يفسخ وهو في العتبية)
ألعيادهم ،فإنه ُي ِّ
المثال الثاني :ذكر الشيخ ابن عاشور أمثلة كثيرة عن رعاية المفتين في النوازل
خصوصا لمقاصد الشريعة ،ولو بمخالفة مذاهبهم التي يقلدونها ،وذلك عند ذكره
للضرورة العامة المؤقتة ،كأن يعرض االضطرار لألمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي
اإلقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سالمة األمة أو إبقاء قوتها أو نحو
ذلك.
وال شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة
()2
تغييرا لألحكام الشرعية المقررة لألحوال التي طرأت عليها تلك
الخاصة وأنها تقتضي ً
009
الضرورة .ومن األمثلة التي ذكرها لهذا:
الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع :لما تحتاجه
األرض من قوة الخدمة ،ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس
والبناء ،لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها ،والمتناع الغارس أو الباني من أن
يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في األرض.
في مثل هذه الحالة جرت فتوى البن السراج وابن منظور من علماء األندلس في
أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد ،واعتبروا هذا الكراء المؤبد ال غرر فيه،
ألن األرض باقية غير زائلة ،وألن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من
وفرة إنتاجها ،وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط اآلماد الطويلة من خطر( .)0وكراء
أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي إلى ما شاء الله من السنين .وقد جرى العمل
بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبالد التونسية ،وهو المعروف
باإلنزال في تونس في اصطالح المالكية ،والكردار في اصطالح الحنفية.
الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيالً للمنفعة من وجه آخر،
وقد ذكره الونشريسي في المعيار()6فقال :أما مسألة دار الوضوء ،فإن بطلت منفعتها،
وتعذر إصالحها ،ولم ترج عودتها في المستقبل ،وجاز أن تتخذ فند ًقا .ولذلك جاز
للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين.
وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غالت الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق
بها مصلحة أخرى مشابهة .ويعتبر هذا العمل من اإلقدام على الفعل الممنوع ضرورة،
021
لتحقيق مقصد شرعي فيه سالمة األمة.
وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال األحباس على المساجد ،إذا كانت
زائدة على الحاجة ،في بعض وجوه البر كالتدريس ،وإعانة طلبة العلم ،وتحفيظ القرآن
العظيم ،لنفس الرخصة المتقدمة ،ولنفس الضرورة.
وأجازوا أيضا بيع العقار الحبس وتعويضه بآخر .وجاء في المعيار للونشريسي:
دارا جوار مسجد ليوسع بها،
وفي نوازل سحنون :لم يجز أصحابنا بيع الحبس ،إال ً
()0
دورا كانت محبسة)
حبسا .وقد أدخل في مسجده ً
ويشترى بثمنها دارا مثلها تكون ً
الصنف الثاني:
ويمثلهم بعض من المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية ،أو تأثروا بها ،ولم
يدرسوا الشريعة أو يتفقهوا فيها ،وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار حديثة يستطيعون أن
يحددوا مقاصد الشارع ،ويستطيعوا من خاللها أن يفتوا على أساسها.
ومع أنه ال يمكن اعتبار هؤالء من الفقهاء ،ولكن مع ذلك نجد أن هناك من يقوم
بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد واإلصالح ونحو ذلك.
الطوفي (ت106 :هـ) مثاال لهم في
ُّ القوي
ِّ وربما يكون نجم الدين سليمان بن عبد
فقهائنا القدامى( ،)6فقد بالل في مراعاة المصلحة ،إذ اعتبرها َدلِي ً
ال شرع ًّيا مستق ًّ
ال عن
020
النص واإلجماع من باب
ِّ النصوص ،بل اعتبرها أقوى َأ ِد َّلة الشرع ،وقدَّ مها َع َلى
التخصيص والبيان( ،)0ال من باب اإلبطال لهما وعدم اعتبارهما.
وقد رد ابن تيمية على هذا المنهج في مواضع كثيرة من كتبه ،منها قوله في معرض
بحجة أن رجوع الزوجين لبعضهما عمل صالح ُيثاب
رده على من أجاز نكاح التحليل ّ
عليه المحلل ( :وقولهم إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه من المنفعة ،قلنا هذه
مناسبة شهد الشارع لها باإللغاء واإلهدار ،ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحلل
الحرام ويحرم الحالل ،والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا
اعتبرت فهي مراغمة َب ّينة للشرع مصدرها عدم مالحظة حكمة التحريم ،وموردها عدم
مقابلته بالرضا والتسليم ،وهي في الحقيقة ال تكون مصالح وإن ظنّها الناس مصالح ،وال
تكون مناسبة للحكم وإن اعتقدها معتقد مناسبة ،بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من
على التفصيل (انظر :رسالة في رعاية المصلحة ،نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي ،تحقيق:
أحمد عبد الرحيم السايح ،الدار المصرية اللبنانية ،ط0200 ،0هـ 0990 /م)
( )0وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى خالف هذا ،فحمل كالم الطوفي على جادة
عموم األصوليين في الموضوع كالباحث أيمن جبريل األيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في
بعضه إلى بعض فجعله ال يخرج عن المنهجية
تخصيص النص بالمصلحة)؛ حيث جمع كالم الطوفي َ
األصولية ،غير أنه في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملتبسة ما دفع بأكثرية
المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كالمه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها
على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذ ًا عن الطريق األصولي ،ومن هؤالء -على سبيل
المثال -مصطفى زيد في المصلحة في التشريع اإلسالمي ونجم الدين الطوفي ،ومحمد سعيد رمضان
البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة االسالمية ،وأحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند االمام
الشاطبي ،حسين حامد حسان في نظرية المصلحة في الفقه اإلسالمي ،وغيرهم كثير( .انظر :مع نظرية
المصلحة عند نجم الدين الطوفي ،د .فهد بن صالح العجالن ،مجلة البيان ،العدد ) 691 :
022
خلقه خالف ما رآه هذا القاصد في نظره؛ ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله
ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر ،وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه؛
()0
فإن خير الدنيا واآلخرة وصالح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله)
وقال في موضع آخر( :القول الجامع :أن الشريعة ال تهمل مصلحة قط ،بل الله
تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة ،فما من شيء يقرب إلى الجنة إال حدثنا به النبي
،وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها ال يزيل عنها بعده إال هالك ،لكن ما اعتقده العقل
مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين الزم له :إما أن الشرع دل عليه من حيث
لم يعلم هذا الناظر ،أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة ،ألن المصلحة هي المنفعة
الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه
منفعة مرجوحة بالمضرة ،كما قال تعالىُ ﴿ :ق ْل فِ ِيه َما إِ ْث ٌم كَبِ ٌير َو َمنَافِ ُع لِلن ِ
َّاس َوإِ ْث ُم ُه َما
َأ ْك َب ُر ِم ْن َن ْف ِع ِه َما ﴾( )6وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد واألعمال من بدع أهل الكالم
وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك ،حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا
وليس كذلك فإذا كان اإلنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصالحه قد
()0
يكون من هذا الباب)
ومثله قال الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي – بعد أن عرف المصلحة ثم
ذكر أقسامها وحصر الخالف في المصلحة المرسلة ( -والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء
األحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط ،بل ال بد أن يكون الشارع اعتبر جنس
( )0بيان الدليل على بطالن التحليل ،ابن تيمية ،تحقيق :حمدي عبد المجيد السلفي ،المكتب
اإلسالمي ، 0992 - 0202 ،ص . 611
( )6سورة البقرة.609 :
( )0مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيم ّية ،ج ،00ص .026
023
هذه المصالح فال يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم ال يستطيعون ذلك
استقالال دون سند من شرع الله ،ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد
ثم يبنون عليها األحكام وتكون تشريعا في حقهم ألجزنا لهم وضع التشريعات ،ثم إن
القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت
األدلة القاطعة على إكمال الله للدين ،وحفظه من التغيير والتبديل ،وعليه فإذا كان جنس
المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها،
وال يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق ،وكثير من األمور
المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والواليات العامة والخاصة واألنظمة كل هذه
قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات
()0
التصرف)
ثانيا ـ أدلته:
ال يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا ،ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع
التالية:
الدليل األول:
ما جاء في الشريعة من النصوص الكثيرة الدالة على أن أحكام الشريعة اإلسالمية
– في جملتها – معلله كما ذكرنا بعض األمثلة على ذلك سابقا.
باإلضافة إلى أن أن خلو الشريعة من المقاصد يثير شبهة العبث الذي تنزه عنه
البارئ سبحانه وتعالى ،يقول ابن القيم( :إنه سبحانه حكيم ال يفعل شيئ ًا عبث ًا وال لغير
( )0أصول مذهب اإلمام أحمد ،د .عبد الله بن عبد المحسن التركي ،مؤسسة الرسالة0201 ،
هـ ،ص ،269وما بعدها.
024
معنى ومصلحة وحكمة ،هي الغاية المقصودة بالفعل ،بل أفعاله سبحانه صادرة عن
حكمة بالغة ألجلها فعل ،كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل ،وقد دل كالمه وكالم رسوله
()0
على هذا ،وهذا في مواضع ال تكاد تحصى وال سبيل إلى استيعاب أفرادها)
وقال ابن تيمية( :إن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعال ال لحكمة ،فهو َأولى
بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة ،ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب
كونها فيه .فكيف يجوز أن يقال فعله ِ
لحكْمة تستلزم النقص وفعله ال لحكمة ال نقص
()6
فيه)
الدليل الثاني:
أنه ال يمكن للفقيه أن ينزل أحكام الشريعة للواقع والمتغيرات الحاصلة فيه إال
من خالل فهمه لمقاصد الشريعة ،وإال تخلفت الشريعة عن الواقع ،وألجل هذا يرى
أصحاب هذا المنهج أنه ال تحصل درجة االجتهاد إال لمن اتصف بوصفين(:)0
األول :فهم مقاصد الشريعة على كمالها ألن اإلنسان إذا بلل مبلغ ًا فهم عن الشارع
قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ،وفي كل باب من أبوابها؛ فقد حصل له وصف
ين َّزله منزلة الخليفة للنبي في التعليم وال ُفتيا والحكم بما أراه الله .
والثاني :التمكّن من االستنباط بنا ًء على فهمه فيها ،بواسطة معارف محتاج إليها
في فهم الشريعة أوالً ،وفي استنباط األحكام ثاني ًا.
( )0شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ،محمد بن أبي بكر بن أيوب بن
سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ،تحقيق :دار المعرفة ،بيروت ،لبنان0092 ،هـ0912/م ،ص.091
( )6شرح العقيدة األصفهانية ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم ابن
تيمية ،تحقيق :محمد بن رياض األحمد ،المكتبة العصرية – بيروت ،ط0261 ،0هـ ،ص.066
( )0الموافقات ،ج ،1ص .20
025
ثالثا ـ منهجه في الفتوى:
بناء على التصنيف السابق ألعالم هذا المنهج ،فإنه يمكن أن نرى منهجين للفتوى
قد يتفقان في بعض الغايات ،ولكن يختلفان اختالفا شديدا في آليات التنفيذ:
المنهج األول:
وهو يعتمد على اعتبار الدليل الشرعي هو األساس في التعرف على مقاصد
الشريعة – أوال -ثم يطبق هذا المبدأ على الفروع المختلفة ،مع مراعاة ما ورد فيها من
النصوص الخاصة.
ولهذا ،فإن أول ما ينطلق منه أصحاب هذا المنهج لتحديد المقاصد الشرعية
والوسائل المحققة لها هي المصادر األصلية من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
يقول الشاطبي( :نصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هي أول ما يتلقى منه فهم
()0
المقاصد الشرعية)
ويقول الدكتور محمد سعد اليوبي( :إذا كان من المعلوم أن القرآن هو أساس
الشريعة اإلسالمية وأصلها ،فإنه من الضروري للباحث عن مقاصدها ،الطالب ألهدافها
()6
أن يبحث عن المقاصد التي اشتمل عليها أصلها ،وتضمنها ينبوعها أال وهو كتاب الله)
وقد ذكر في كتابه (مقاصد الشريعة وعالقتها باألدلة الشرعية) بعض األمثلة على
المقاصد الواردة في القرآن الكريم نذكر بعضها هنا ( )0من باب المثال:
026
فقد ذكر الله تعالى مقاصد الصالة ،فقال﴿ ::إِ َّن َّ
الص َال َة َتن َْهى َع ِن ا ْل َف ْح َشاء
()0
َوا ْل ُمنك َِر﴾
وذكر مقاصد الزكاة ،فقالُ ﴿ :خ ْذ ِم ْن َأ ْم َوال ِ ِه ْم َصدَ َق ًة ُت َط ِّه ُر ُه ْم َو ُت َزك ِ
ِّيهم بِ َها َو َص ِّل
()6
َن َّل ُه ْم ﴾ َع َل ْي ِه ْم إِ َّن َص َ
الت َ
َك َسك ٌ
وك ِر َج ًاال َو َع َلى ُك ِّل َض ِام ٍر وذكر مقاصد الحج ،فقالَ ﴿ :و َأ ِّذن فِي الن ِ
َّاس بِا ْل َح ِّج َي ْأ ُت َ
ات َع َلى َما ي ْأتِين ِمن ُك ِّل َفج َع ِم ٍيق لِي ْشهدُ وا منَافِع َلهم وي ْذ ُكروا اسم ال َّل ِه فِي َأيا ٍم مع ُلوم ٍ
َّ َّ ْ َ َ َ ُ ْ ََ ُ ْ َ َ َ ٍّ َ َ
ِ ()0
يم ِة األَ ْن َعام ﴾ َر َز َق ُهم ِّمن َب ِه َ
ِ ِ ِ
ب الص َيا ُم ك ََما ُكت َ ب َع َل ْي ُك ُم ِّ ين آ َمنُو ْا ُكت َ وذكر مقاصد الصيام ،فقالَ ﴿:يا َأ ُّي َها ا َّلذ َ
ين ِمن َق ْبلِ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم َتتَّقون ﴾
ُ َ ()2 ِ
َع َلى ا َّلذ َ
وذكر مقاصد الوضوء ،فقالَ ﴿:ما ُي ِريدُ ال ّل ُه ل ِ َي ْج َع َل َع َل ْي ُكم ِّم ْن َح َر ٍج َو َلـكِن ُي ِريدُ
ل ِ ُي َط َّه َر ُك ْم َول ِ ُيتِ َّم نِ ْع َم َت ُه َع َل ْي ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ت َْش ُك ُرون ﴾
َ ()1
027
ِ ِ
ك ََس َبا َنكَاالً ِّم َن ال َّله َوال َّل ُه َع ِز ٌيز َحك ٌ
()0
يم ﴾
وهكذا وضحت السنة المطهرة مقاصد الشريعة اإلسالمية ،كما قال الشاطبي:
(وإذا نظرنا إلى السنّة وجدناها ال تزيد على تقرير هذه األمور فالكتاب أتى بها أصوالً
يرجع إليها ،والسنّة أتت بها تفريع ًا على الكتاب وبيان ًا لما فيه منها فال تجد في السنّة إال
تفصلت في
تأصلت في الكتاب ّ
ما هو راجع إلى تلك األقسام فالضروريات الخمس كما ّ
()6
السنّة)
المنهج الثاني:
وهو يعتمد على ما يتصوره أو يتوهمه من المصالح ،ثم يحاول أن يفسر الشريعة
على أساسها ،فيقدم المصلحة المتوهمة على النص القطعي.
بل إن بعض الفقهاء تصوروا أن لهم مطلق الحرية في ابتداع الوسائل التي تحقق
المقاصد التي يرون شرعيتها ،حتى لو خالفت الظاهر من النصوص.
ومن األمثلة المشهورة على ذلك ما فعله يحيى بن يحيى الليثي عميد الفقهاء
المالكية باألندلس ،الذي أفتى األمير عبد الرحمن بن الحكم بما يخالف النص ،بل بما
يخالف مذهبه أيضا(.)0
028
وقد ذكر المقري وقائع النازلة قائالً( :جمع األمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء
في عصره ،وكان وقع على جارية يحبها في رمضان ،ثم ندم أشد الندم ،فسألهم عن التوبة
والكفارة ،فقال يحيى :تك ِّفر بصوم شهرين متتابعين ،فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت
الفقهاء حتى خرجوا ،قال بعضهم لـه :ل ِ َم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير؟ ،فقال :لو
فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ،ولكن حملته على أصعب
()0
األمور لئال يعود)
فقد رأي يحيى إلزام األمير عبد الرحمن بصيام شهرين متتابعين ،فخالف مالكا في
التخيير ،وآثر تقديم ما توهمه من مصلحة الزجر والردع ،إال أن المصلحة التي تركها،
والتي دل عليها النص أولى باالعتبار والنظر؛ ذلك أن المصلحة المترتبة إذا ما أفطر األمير
وأعتق كل يوم رقبة ،أعظم من صومه بكثير ،فمن مقاصد الشريعة العناية بالحرية ،وقد
جعل لذلك العتق أحد الوسائل لتحقيقها ،ومثله اعتنى بإطعام المساكين ،ولو بشق تمرة،
فإطعام ستين مسكين ًا مصلحة أعظم في ميزان الشرع من صومه ..هذا إن صامه.
وقد وصف الحجوي فتوى يحيى بأنها شاذة؛ ألخذه بالمصلحة في مقابل النص،
(وذلك ال يجوز؛ ألنه يؤدي إلى تغيير حدود الشريعة بتغير األحـوال ،فتنحل رابطة الدين
مترفها سافر من المجاورة للبحر في سفينة أمينة
ً أميرا
وتنفصم العـرى في معناه من أفتى ً
بعدم قصر الصالة لعدم المشقة ،وليس بصحيح؛ ألن الشرع ع َّلق القصر على السفر،
فيكفي أنه مظنة المشقة وهي غير منضبطة ،ومثل ذلك السفر في السكة الحديدية والسيارة
( )0نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب ،وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب ،شهاب
الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني ،تحقيق :إحسان عباس ،دار صادر -بيروت – لبنان ،ج،6
ص.00
029
فيسن القصر في مسافته ولو قطعها في جزء يوم وأدركته الصالة وهو
ُّ والمناطيد الجوية،
()0
في السفر)
ومن األمثلة على ذلك أيضا ما نقله ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال:
(جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم ،وال يخلو من القول
به إمام ،فقال الشافعي :ال سياسة إال ما وافق الشرع ..فقال ابن عقيل :السياسة ما كان
فعال يكون معه الناس أقرب إلى الصالح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول .فإن
أردت بقولك إال ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ،وإن أردت ال
سياس ة إال ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ،فقد جرى من الخلفاء الراشدين من
القتل والتمثيل ما ال يجحده عالم بالسنن ،ولو لم يكن إال تحريق عثمان المصاحف ،فإنه
كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة األمة(.)6
ونرى أن هذا قد يفتح المجال واسعا نحو مضاهاة الشارع ،ولهذا نحتاج إلى
التشدد فيه ،ألن هناك من صار يعمد إلى بعض المقاصد الشرعية المعتبرة ،لكنه يخترع
لها من الوسائل ما يناقض به مقاصد شرعية أخرى ،وكمثال على ذلك مخالفة بعض
الباحثين لما ورد في النصوص القطعية من ضرورة الوحدة اإلسالمية ،ويخالفون ما يظهر
في الواقع من دور األحزاب السياسية في تقطيعها ،ونشر الفرقة ،ليقولوا بشرعية التعددية
السياسية في اإلسالم تأثرا بما يرونه في الغرب ،ال انفعاال لما ورد في النصوص الشرعية،
وكمثال على ذلك يقول الدكتور صالح الصاوي( :أصبح من الصعب التعرف على من
031
يجب مشاورتهم ،ومن هم أهل لذلك ،ومتى وكيف تتم عملية مشاورتهم ،كما أصبح من
الصعب قيام معارضة منظمة وجادة وقادرة وهادفة ،بدون تنظيمات سياسية لها من
اإلمكانيات والوسائل ما تقدر به على التعبير عن الرأي ونشره وحمايته والدفاع عنه،
األمر الذي ال يتوافر حديث ًا إال في صورة األحزاب السياسية ،المفيدة في أهدافها ومبادئها
()0
بأصول الشريعة اإلسالمية المتفق عليها)
( )0التعددية السياسية في الدولة اإلسالمية ،صالح الصاوي ،دار اإلعالم الدولي ،ط،0
،0996ص.610
030
خاتمة
نختم هذه الدراسة بتلخيص ألهم النتائج التي وصلنا إليها ،مع بعض التوصيات
التي نرى الحاجة إلى تحقيقها في واقع الفتوى.
أوال :النتائج:
.0يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي ،لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة
اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها ،فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة
على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها ،ويجري عليه أحكامها.
.6من خالل استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل ،رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى
ستة مناهج :المنهج االستداللي ،والمنهج المذهبي ،والمنهج المذاهبي ،ومنهج
التيسير ،ومنهج التشديد ،والمنهج المقاصدي.
.0المنهج االستداللي هو المنهج الذي يعتمد أصحابه في استنباط األحكام الشرعية
على المصادر األصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من
الفقهاء من أصحاب المذاهب أو غيرهم ،وهم يرون أن التقيد بأقوال الفقهاء
وااللتزام بها من غير نظر في األدلة بدعة حادثة في الملة ال يستحق صاحبها أن
يوصف بالمجتهد وال الفقيه ،وال يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب اإلفتاء إال على
سبيل النقل لقول غيره.
.2المنهج المذهبي في الفتوى هو المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد المذهبي
لألئمة األربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجاالت من كتب التفسير
وشروح الحديث ،إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها ،باإلضافة إلى ما كتب في
خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل.
032
.1اقتصر المنهج المذهبي على أتباع المذاهب األربعة ،والتي سرى إليها الخالف هي
أيضا ،فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية
في العالم اإلسالمية قرونا طويلة ،وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم االلتزام
بهذه المذاهب بين متشدد ومتساهل.
.6المنهج المذاهبي هو المنهج الذي يتميز أصحابه بكونهم ال يرون ضرورة االلتزام
بالمذهب الواحد ،وكونهم يرون أن كل ما كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب
األربعة أو غيرهم ،يمكن االعتماد عليه والرجوع إليه ،إما العتبارهم أن كل مجتهد
في الفروع مصيب ،أو أن المصيب واحد ولكن ال نستطيع أن نعينه ،وبناء على هذا
فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي عن المسألة التي
سئل عنها ،ويورد األقوال فيها ليترك للمستفتي حرية االختيار بينها.
.1منهج التيسير هو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال
الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته ،وييسر عليه تنفيذ
التكاليف ،ولو بأدنى مراتبها.
.2وقعت بعض االنحرافات في منهج التيسير ،وخاصة في أوساط العامة ،ألنه أنشأ نوعا
من التحرر من أحكام الشريعة ،وذلك عبر بعض الظواهر التي تحدث عنها الفقهاء،
واختلفوا في مواقفهم منها ،وهي :ظاهرة التلفيق ،وظاهرة تتبع الرخص ،وظاهرة
الحيل الشرعية.
.9منهج التشديد هو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال
الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف ،أو يختار له
أشدها وأكثرها احتياطا.
.01المنهج المقاصدي هو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في األحكام
033
التفصيلية ،باعتبار أن األحكام الشرعية ليست تعبدية محضة ،بل هي مفهومة المعنى.
.00استغل بعض المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية ،أو تأثروا بها ،ولم يدرسوا
الشريعة أو يتفقهوا فيها المنهج المقاصدي ،وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار
حديثة يستطيعون أن يحددوا مقاصد الشارع ،ويستطيعوا من خاللها أن يفتوا على
أساسها ،ومع أنه ال يمكن اعتبار هؤالء من الفقهاء ،ولكن مع ذلك نجد أن هناك من
يقوم بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد واإلصالح ونحو ذلك.
ثانيا :التوصيات:
.0من خالل الكثير من المشاكل الواقعية التي تحدثها بعض الفتاوى غير المسؤولة،
والتي ال تستند إلى علم ،وال إلى حكمة ،ندعو إلى حجر الفتوى في القضايا الخطيرة
إال على الجهات المكلفة بذلك ،ووضع القوانين التي تحول بين غير المهيئين،
وممارسة هذه الوظيفة الخطيرة.
.6ضرورة مراجعة الفتاوى الموجودة ،والتي لها تأثير في الواقع اإلسالمي ،وبيان
الحكم الشرعي الصحيح ،حتى ال يقع العوام ضحية للفتاوى الخاطئة.
.0ضرورة تشجيع المجامع العلمية ،واعتبارها الهيئات الوحيدة التي يحق لها الفتوى
في النوازل المعاصرة.
.2ضرورة العودة إلى المصادر األصلية باعتبارها هي أصل التشريع اإلسالمي،
ومحاولة تنزيل ما ورد فيها على الواقع ،مع عدم إهمال ما ورد في التراث الفقهي
اإلسالمي ،ولكن ال ينبغي أن نقدمه على المصادر األصلية.
.1ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية ،ومحاولة تحقيقها في الواقع ،وتوضيح المفتي
لتلك المقاصد أثناء تبليغه للفتوى ،ليراعي المكلف الحكم الشرعي مع مقاصده.
034
قائمة المصادر والمراجع
رتبت المراجع والمصادر التي اعتمدت عليها في هذا البحث ترتيبا ألفبائيا بحسب
عنوان الكتاب:
القرآن الكريم
.0ابن تيمية ،أبو زهرة ،دار الفكر العربي ،مصر.0990 ،
.6الفتاوى ،النــووي ،تحقيق :عبد القـادر أحمد عطاء ،لبنان ،مـؤسسة الكتب
الثقافية ،ط.6
.0المدخل الفقهي العام ،مصطفى أحمد الزرقا ،دار الفكر ،دمشق ،ط.0992 ،9
.2تاريخ الفقه اإلسالمي ،عمر سليمان األشقر ،الجزائر ،قصر الكتاب.0991 ،
.1محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ،أبو القاسم الحسين بن محمد
المعروف بالراغب األصفهاني ،شركة دار األرقم بن أبي األرقم – بيروت ،ط،0
0261 ،هـ.
.6أصول الفقه اإلسالمي ،د .وهبة الزحيلي ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع –
بيروت ،الطبعة األولى ( 0926م).
.1اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر ،د .فهد الرومي ،طبع بإشراف إدارة
البحوث العلمية ،الرياض ،الطبعة األولى.0211،
.2اإلحاطة في أخبار غرناطة ،محمد بن عبد الله الغرناطي األندلس ،أبو عبد الله،
الشهير بلسان الدين ابن الخطيب ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،الطبعة :األولى،
0262هـ.
.9أحكام القرآن ،القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري االشبيلي
المالكي ،تحقيق :محمد عبد القادر عطا ،دار الكتب العلمية ،بيروت – لبنان،
035
ط 0262 ،6هـ 6110 -م.
.01اإلحكام في أصول األحكام ،أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
ألندلسي القرطبي الظاهري ،تحقيق :الشيخ أحمد محمد شاكر ،دار اآلفاق
الجديدة ،بيروت.
.00أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى
واالستفتاء ،ابن الصالح الشهر زوري ،تحقيق :فوزي عبد المطلب ،القاهرة،
مكتبة الخانجي ،ط.0996 ،0
.06أسباب اختالف الفقهاء ،د .عبد الله بن عبد المحسن التركي ،تقديم :حسن
بن عبد الله آل الشيخ و عبد الرزاق عفيفي ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،ط ، 0
0200هـ 6101 /م.
.00االستذكار ،أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري
القرطبي ،تحقيق :سالم محمد عطا ،محمد علي معوض ،دار الكتب العلمية –
بيروت ،ط.6111 – 0260 ،0
.02االستقصاء ألخبار دول المغرب األقصى ،الناصري احمد بن خالد ،الدار
البيضاء ،دار الكتاب ،ط.0991 ،0
.01أصول السرخسي ،محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ،دار
المعرفة – بيروت.
.06أصول الفقه اإلسالمي ،محمد سالم مدكور ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،ط.0
.01أصول الفقه ،محمد أبو زهرة ،دار الفكر العربي.
.02أصول الفقه ،محمد بن مفلح ،أبو عبد الله الصالحي الحنبلي ،حققه وعلق
السدَ َحان ،مكتبة العبيكان ،ط 0261 ،0هـ
عليه وقدم له :الدكتور فهد بن محمد َّ
036
0999 -م.
.09أصول مذهب اإلمام أحمد ،د .عبد الله بن عبد المحسن التركي ،مؤسسة
الرسالة 0201 ،هـ.
.61االعتصام ،إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي،
تحقيق :سليم بن عيد الهاللي ،دار ابن عفان ،السعودية ،ط0206 ،0هـ -
0996م.
.60إعالم الموقعين عن رب العالمين ،محمد بن أبي بكر أيوب ابن القيم الجوزية،
تحقيق :طه عبد الرؤوف سعد ،دار الجيل -بيروت.0910 ،
.66إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ،محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم
الجوزية ،تحقيق :محمد حامد الفقي ،مكتبة المعارف ،الرياض ،المملكة
العربية السعودية.
.60أنوار البروق في أنواء الفروق ،أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن
عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي ،عالم الكتب.
.62إيضاح المسالك إلى قواعد اإلمام مالك ،أبو العباس الونشريسي ،تحقيق:
الصادق الغرياني ،دار ابن حزم 0261 ،هـ.
.61البحر الرائق شرح كنز الدقائق ،زين الدين بن إبراهيم بن محمد ،المعروف بابن
نجيم المصري ،دار الكتاب اإلسالمي ،ط.6
.66البحر المحيط في أصول الفقه ،أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن
بهادر الزركشي ،دار الكتبي ،ط0202 ،0هـ 0992 -م.
.61البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ،محمد بن علي بن محمد بن عبد
الله الشوكاني اليمني ،دار المعرفة – بيروت.
037
.62بكر أبو زيد ،فقه النوازل ،بيروت :مؤسسة الرسالة.
.69بلوغ السول في مدخل علم األصول ،محمد حسنين محلوف ،مطبعة مصطفى
الحلبي.
.01بيان الدليل على بطالن التحليل ،ابن تيمية ،تحقيق :حمدي عبد المجيد
السلفي ،المكتب اإلسالمي.
.00بيان الدليل على بطالن التحليل ،ابن تيمية ،تحقيق :حمدي عبد المجيد
السلفي ،المكتب اإلسالمي.0992 – 0202 ،
.06تاج العروس ،الزبيدي ،دار الرشاد ،الدار البيضاء.
.00تبصرة الحكام ،ابن فرحون ،مكتبة الكليات األزهرية ،القاهرة ،ط.0926 ،0
.02التحدث بنعمة الله ،السيوطي ،تحقيق:إليزابيث ماري سارتين ،المطبعة العربية
الحديثة ،مصر0916 ،م.
.01التعددية السياسية في الدولة اإلسالمية ،صالح الصاوي ،دار اإلعالم الدولي،
ط.0996 ،0
.06التفسير والمفسرون ،الدكتور محمد السيد حسين الذهبي ،مكتبة وهبة،
القاهرة.
.01التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد ،أبو عمر يوسف بن عبد الله بن
عبد البر بن عاصم النمري القرطبي ،تحقيق :مصطفى بن أحمد العلوي ،محمد
عبد الكبير البكري ،وزارة عموم األوقاف والشؤون اإلسالمية – المغرب،
0021هـ.
.02جامع بيان العلم وفضله ،أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي ،تحقيق:
أبي األشبال الزهيري ،دار ابن الجوزي ،المملكة العربية السعودية ،ط0202 ،0
038
هـ 0992 -م.
.09جزيل المواهب فى اختالف المذاهب ،عبد الرحمن بن أبي بكر ،جالل الدين
السيوطي ،تحقيق :عبد القيوم محمد شفيع البستوي ،دار االعتصام.
.21الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة ،حسن مشاط ،دراسة وتحقيق د عبد
الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان .دار الغرب اإلسالمي ،ط.0
.20حاشية العطار على شرح الجالل المحلي على جمع الجوامع ،حسن بن محمد
بن محمود العطار الشافعي ،دار الكتب العلمية.
.26حاشية العطار على شرح الجالل المحلي ،حسن بن محمد بن محمود العطار
الشافعي ،دار الكتب العلمية – بيروت.
.20حجة الله البالغة ،أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «الشاه ولي الله الدهلوي،
تحقيق :السيد سابق ،دار الجيل ،بيروت – لبنان ،ط 0266 ،0هـ 6111 -م.
.22خصائص التشريع اإلسالمي ،فتحي الدريني ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،ط 6
0202 ،هـ 6100 -م.
.21الدارس في تاريخ المدارس ،عبد القادر النعيمي ،حققه جعفر الحسيني،
دمشق ،المجمع العلمي.0910 ،
.26الدرر السنية في األجوبة النجدية ،علماء نجد األعالم ،تحقيق :عبد الرحمن
بن محمد بن قاسم ،ط0201 ،6هـ0996/م.
.21الرخصة الشرعية في األصول والقواعد الفقهية ،د .عمر عبد الله الكامل ،دار
ابن حزم للطباعة والنشر ،بيروت ،ط0999 ،0م.
.22رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير األبصار في فقه مذهب اإلمام األعظم
أبي حنيفة النعمان ،ابن عابدين ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت.
039
.29الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض،
السيوطي ،تحقيق :خليل الميس ،دار الكتب لعلمية 0210هـ.
.11روضة الطالبين وعمدة المفتين ،محيي الدين النووي ،المكتب اإلسالمي،
بيروت ،الطبعة الثانية0211 ،هـ
.10سبل االستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة ،الدكتور
عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه ،مجلة مجمع الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة
المؤتمر اإلسالمي بجدة ،ع.00
.16سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في األمة ،أبو عبد
الرحمن محمد ناصر الدين األلباني ،دار المعارف ،الرياض ،المملكة العربية
السعودية ،ط 0206 ،0هـ 0996 /م.
.10سنن ابن ماجه ،ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ،تحقيق :شعيب
محمد كامل قره بللي َ -عبد ال ّلطيف حرز الله ،دار
األرنؤوط -عادل مرشد َّ -
الرسالة العالمية ،ط 0201 ،0هـ 6119 -م.
.12سنن الترمذي ،محمد بن عيسى بن َس ْورة الترمذي ،تحقيق وتعليق :إبراهيم
عطوة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ،ط 0091 ، 6هـ -
0911م .،
.11س ّير أعالم النبالء ،الذهبي ،حققه بشار عواد ،بيروت ،مؤسسة الرسالة.
.16شرح العقيدة األصفهانية ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد
السالم ابن تيمية ،تحقيق :محمد بن رياض األحمد ،المكتبة العصرية – بيروت،
ط0261 ،0هـ.
.11شرح الكوكب المنير ،تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد المعروف بابن
041
النجار الحنبلي ،تحقيق :محمد الزحيلي ونزيه حماد ،مكتبة العبيكان ،ط،6
0202هـ 0991 -م.
.12شرح النووي على صحيح مسلم ،النووي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت،
ط0096 ،6هـ .
.19شرح حدود ابن عرفة ،تحقيق محمد أبو األجفان والطاهر المعموري .دار
الغرب اإلسالمي ،الطبعة األولى0990 ،م.
.61شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج) ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن
عبد الحليم ابن تيمية ،تحقيق :د .سعود صالح العطيشان ،مكتبة العبيكان –
الرياض ،ط.0200 ،0
.60شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ،محمد بن أبي بكر
بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ،تحقيق :دار المعرفة ،بيروت،
لبنان0092 ،هـ0912/م.
.66صحيح البخاري ،محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ،تحقيق:
محمد زهير بن ناصر الناصر ،دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة
ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) ،الطبعة :األولى0266 ،هـ.
.60صحيح مسلم ،مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري ،تحقيق:
محمد فؤاد عبد الباقي ،دار إحياء التراث العربي – بيروت.
.62صفة صالة النبي ،ناصر الدين األلباني ،مكتبة المعارف ،السعودية ،د ت.
.61الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية ،مجموعة من
الباحثين ،بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)،
والمنعقد بتاريخ 6100/2/09في الجامعة اإلسالمية – غزة ،دت ،دط.
040
.66طبقات الشافعية الكبرى ،السبكي ،حققه محمد الطناجي ،ط ،6الجيزة ،دار
هجر.0996 ،
الصغرى ،عبد الوهاب الشعراني ،تحقيق :عبد القادر أحمد عطا،
.61الطبقات ُ
مكتبة القاهرة ،مصر0911 ،م.
.62طبقات الفقهاء الشافعيين ،أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي
البصري ثم الدمشقي ،تحقيق :د أحمد عمر هاشم ،د محمد زينهم محمد عزب،
مكتبة الثقافة الدينية 0200 ،هـ.
.69الطرق الحكمية ،محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية ،مكتبة دار البيان.
.11العبر ،الذهبي ،حققه صالح الدين المنجد ،الكويت ،مطبعة حكومة الكويت،
ط.0922 ،6
.10عقد الجيد في أحكام االجتهاد والتقليد ،أحمد بن عبد الرحيم المعروف
بـالشاه ولي الله الدهلوي ،تحقيق :محب الدين الخطيب ،المطبعة السلفية -
القاهرة.
.16علم أصول الفقه وخالصة تاريخ التشريع ،عبد الوهاب خالف ،مطبعة المدني
،المؤسسة السعودية بمصر.
.10العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم ،ابن الوزير ،محمد بن
إبراهيم ،تحقيق :شعيب األرنؤوط ،مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع،
بيروت ،ط 0201 ،0هـ 0992 -م.
.12الفتاوى الكبرى ،أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي،
منشورات المكتبة اإلسالمية ،ج ،0ص . 629
.11الفتاوى الكبرى ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ،دار
042
الكتب العلمية ،ط0212 ،0هـ 0921 -م.
.16الفتاوى ،الشاطبي ،تحقيق :محمد أبو األجفان ،مطبعة االتحاد العام التـونسي
،تونس ،ط.0922 ،0
.11فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك ،محمد بن أحمد بن
محمد عليش ،أبو عبد الله المالكي ،دار المعرفة.
.12فتح القدير ،كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن
الهمام ،دار الفكر.
.19الفروق ،القرافي ،بيروت ،عالم الكتب.
العربي الفاسي،
ّ .21الفكر السامي في تاريخ الفقه اإلسالمي ،محمد بن الحسن بن
دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان ،ط0206 ،0هـ0991 -م.
.20الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ،أحمد بن غانم (أو غنيم) بن
سالم ابن مهنا ،شهاب الدين النفراوي األزهري المالكي ،دار الفكر ،دط،
0201هـ 0991 -م.
.26فيض القدير ،المناوي ،المكتبة التجارية الكبرى ،مصر.0016 ،
.20قواعد األحكام في مصالح األنام ،أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد
السالم ،راجعه وعلق عليه :طه عبد الرؤوف سعد ،مكتبة الكليات األزهرية -
القاهرة 0202 ،هـ 0990 -م .
.22الكافي في فقه أهل المدينة ،أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر
بن عاصم النمري القرطبي ،تحقيق :محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني،
مكتبة الرياض الحديثة ،الرياض ،المملكة العربية السعودية ،ط،6
0211هـ0921/م.
043
.21الكامل في التاريخ ،ابن األثير ،حققه عبد الله القاضي ،ط ،6بيروت ،دار
الكتب العلمية.0991 ،
.26كتاب التعريفات ،علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني ،دار الكتب
العلمية بيروت –لبنان ،ط0210 ،0هـ 0920-م.
.21الكتاب المصنف في األحاديث واآلثار ،أبو بكر بن أبي شيبة ،تحقيق :كمال
يوسف الحوت ،مكتبة الرشد – الرياض ،ط.0219 ،0
.22كتاب الميزان ،أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني ،تحقيق :الدكتور
عبد الرحمن عميره ،عالم الكتب ،ط0219 ،0هـ 0929 -م.
.29الكشف عن مجاوزة ِ
هذه األمة األلف ،مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي ،جالل
الدين عبد الرحمن السيوطي ،دار الفكر ،بيروت.
.91لسان العرب ،ابن منظور ،دار صادر – بيروت.
.90المبسوط ،محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ،دار المعرفة
– بيروت0202 ،هـ 0990 -م.
.96مجموع الفتاوى ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ،
تحقيق :عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف
الشريف ،المدينة النبوية ،المملكة العربية السعودية0206 ،هـ0991/م.
.90المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي) ،أبو زكريا محيي
الدين يحيى بن شرف النووي ،دار الفكر.
.92المستصفى في علم األصول ،أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي،
تحقيق :محمد بن سليمان األشقر ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،لبنان ،الطبعة
األولى0201 ،هـ0991/م.
044
.91مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ،تحقيق:
شعيب األرنؤوط -عادل مرشد ،وآخرون ،إشراف :د عبد الله بن عبد المحسن
التركي ،مؤسسة الرسالة ،ط 0260 ،0هـ 6110 -م.
.96مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي ،أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن
الدارمي ،التميمي السمرقندي ،تحقيق :نبيل هاشم الغمري ،دار البشائر
(بيروت) ،ط0202 ،0هـ 6100 -م.
.91معجم البلدان ،شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي،
دار صادر ،بيروت ،ط 0991 ،6م.
.92المعجم الكبير ،سليمان بن أحمد ،أبو القاسم الطبراني ،تحقيق :حمدي بن
عبد المجيد السلفي ،مكتبة ابن تيمية – القاهرة ،ط.6
.99معجم لغة الفقهاء ،محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي ،دار النفائس
للطباعة والنشر والتوزيع ،ط 0212 ،6هـ.
.011من أصول الفقه على منهج أهل الحديث ،زكريا بن غالم قادر الباكستاني ،دار
الخراز ،الطبعة االولى 0260هـ6116-م.
.010المنثور في القواعد الفقهية ،أبو عبد الله بدر الدين الزركشي ،وزارة األوقاف
الكويتية ،ط0211 ،6هـ 0921 -م.
.016المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار ،أحمد بن علي ،تقي الدين
المقريزي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط 0202 ،0هـ.
.010الموافقات ،إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي،
تحقيق :أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ،دار ابن عفان ،ط0201 ،0هـ/
0991م.
045
.012مواهب الجليل ،الحطاب ،دار الفكر ،ط.0996 ،0
.011الموسوعة الفقهية الكويتية ،وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية – الكويت،
دارالسالسل -الكويت 0261 - 0212 ،هـ.
.016الموطأ ،مالك بن أنس بن مالك بن عامر األصبحي المدني ،تحقيق :محمد
مصطفى األعظمي ،مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان لألعمال الخيرية
واإلنسانية -أبو ظبي – اإلمارات ،ط 0261 ،0هـ 6112 -م.
.011نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب ،وذكر وزيرها لسان الدين بن
الخطيب ،شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني ،تحقيق :إحسان
عباس ،دار صادر -بيروت – لبنان.
.012التخريج المذهبي أصـوله ومناهجـه ،نوار بن الشلي ،الرباط0991،
.019نيل األوطار ،محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ،تحقيق:
عصام الدين الصبابطي ،دار الحديث ،مصر ،ط0200 ،0هـ 0990 -م.
.001سنن الترمذي ،محمد بن عيسى بن َس ْورة ،الترمذي ،أبو عيسى ،تحقيق
وتعليق :أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي ،شركة مكتبة ومطبعة
مصطفى البابي الحلبي ،مصر ،ط 0091 ، 6هـ 0911 -م.
.000وفيات األعيان ،ابن خلكان ،حققه إحسان عباس ،دار الثقافة.0962 ،
.006يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين ،التخريج عند الفقهاء واألصوليين،
الرياض ،مكتبة الرشاد0202،هـ.
046
هذا الكتاب
يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي ،لدوره الكبير في بيان أحكام
الشريعة اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها ،فدوره هو تنزيل أحكام
الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها ،ويجري عليه أحكامها.
انطالقا من هذا ،حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل ،وقد رأينا
أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج:
0ــ المنهج االستداللي.
6ــ المنهج المذهبي.
0ــ المنهج المذاهبي.
2ــ منهج التيسير.
1ــ منهج التشديد.
6ــ المنهج المقاصدي.
وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين -باختصار -الخصائص التي يتميز بها كل
منهج ،مع األعالم الذين تبنوه ،واآلليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع.
047