You are on page 1of 149

‫النوازل الفقهية‬

‫ومناهج الفقهاء في التعامل معها‬


‫دراسة علمية لمناهج الفتوى في التراث والواقع اإلسالمي‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪5162 – 6341‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬

‫‪6‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪9‬‬ ‫التمهيد‬
‫‪9‬‬ ‫مفهوم فقه النوازل وأهميته‬
‫‪9‬‬ ‫أوال ـ مفهوم فقه النوازل‪:‬‬
‫‪01‬‬ ‫ثانيا ـ مصطلحات أخرى‪:‬‬
‫‪01‬‬ ‫الفتاوى‪:‬‬
‫‪00‬‬ ‫المسائل‪ ،‬أو األسئلة‪:‬‬
‫‪00‬‬ ‫ثالثا ـ أهمية فقه النوازل‪:‬‬
‫‪01‬‬ ‫المبحث األول‬
‫‪01‬‬ ‫المنهج االستداللي‬
‫‪01‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪66‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪61‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪62‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪01‬‬ ‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫‪00‬‬ ‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫‪01‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪09‬‬ ‫المبحث الثاني‬
‫‪09‬‬ ‫المنهج المذهبي‬

‫‪2‬‬
‫‪26‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪26‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪21‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪29‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪10‬‬ ‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫‪10‬‬ ‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫‪10‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪61‬‬ ‫المبحث الثالث‬
‫‪61‬‬ ‫المنهج المذاهبي‬
‫‪61‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪66‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪60‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪66‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪61‬‬ ‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫‪16‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪16‬‬ ‫المبحث الرابع‬
‫‪16‬‬ ‫منهج التيسير‬
‫‪16‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪11‬‬ ‫األصل األول‪ :‬جواز تتبع الرخص‬
‫‪22‬‬ ‫األصل الثاني‪ :‬جواز التلفيق بين المذاهب‬
‫‪21‬‬ ‫األصل الثالث‪ :‬جواز الحيل الفقهية‬

‫‪3‬‬
‫‪91‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪96‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪92‬‬ ‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫الفريق األول‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫الفريق الثاني‪:‬‬
‫‪99‬‬ ‫المبحث الخامس‬
‫‪99‬‬ ‫منهج التشديد‬
‫‪99‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪99‬‬ ‫األصل األول‪ :‬ترجيح العزيمة على الرخصة‬
‫‪012‬‬ ‫األصل الثاني‪ :‬القول بسد الذرائع‬
‫‪011‬‬ ‫األصل الثالث‪ :‬مراعاة الخالف‬
‫‪001‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪000‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪006‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪000‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪001‬‬ ‫المبحث السادس‬
‫‪001‬‬ ‫المنهج المقاصدي‬
‫‪001‬‬ ‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫‪002‬‬ ‫الصنف األول‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪060‬‬ ‫الصنف الثاني‪:‬‬
‫‪062‬‬ ‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫‪062‬‬ ‫الدليل األول‪:‬‬
‫‪061‬‬ ‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫‪066‬‬ ‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫‪066‬‬ ‫المنهج األول‪:‬‬
‫‪062‬‬ ‫المنهج الثاني‪:‬‬
‫‪006‬‬ ‫خاتمة‬
‫‪006‬‬ ‫أوال‪ :‬النتائج‪:‬‬
‫‪002‬‬ ‫ثانيا‪ :‬التوصيات‪:‬‬
‫‪001‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪5‬‬
‫المقدمة‬
‫يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي‪ ،‬لدوره الكبير في بيان أحكام‬
‫الشريعة اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها‪ ،‬فدوره هو تنزيل أحكام‬
‫الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها‪ ،‬ويجري عليه أحكامها‪.‬‬
‫وهو لذلك المحك الذي تعرف من خالله واقعية الشريعة اإلسالمية ومدى‬
‫مراعاتها ألحوال المكلفين‪ ،‬ومدى انسجامها مع طبيعة البيئة الزمانية والمكانية الحادثة‪.‬‬
‫ويعتبر كذلك‪ ،‬وبدرجة أهم‪ ،‬هو المنهج الذي من خالله يستطيع الفقيه أن يجعل‬
‫الشريعة هي الحاكم في كل شؤون الحياة‪ ،‬بالبحث عن األحكام والبدائل المتناسبة مع‬
‫القيم التي جاءت الشريعة لتحقيقها‪ ،‬ولذلك ال يقف فقيه النوازل منتظرا أن يستفتى فيفتي‪،‬‬
‫بل يبادر فيبحث عن األحكام‪ ،‬ويبحث في نفس الوقت عن البدائل الشرعية في حال‬
‫الحاجة إليها‪.‬‬
‫ولهذه األهمية الكبيرة‪ ،‬فإن تحصيل ملكة االجتهاد فيه يتطلب – قبل كل شيء ‪-‬‬
‫معرفة منهج البحث فيه خطوة خطوة‪ ،‬حتى ال يقع الباحث فيما حذر منه القرآن الكريم‬
‫﴿و َال َت ُقو ُلوا‬
‫من الفتوى بغير علم‪ ،‬أو الكذب على الله وعلى رسوله ‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لِما ت َِص ُ ِ‬
‫ف َأ ْلسنَ ُت ُك ُم ا ْلكَذ َب َه َذا َح َال ٌل َو َه َذا َح َرا ٌم ل َت ْفت َُروا َع َلى ال َّله ا ْلكَذ َب إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬
‫ون َع َلى ال َّل ِه ا ْلك َِذ َب َال ُي ْفلِ ُحون﴾‬
‫َ (‪)0‬‬ ‫َي ْفت َُر َ‬
‫وقال ‪( :‬إن الله ال يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد‪ ،‬ولكن يقبض العلم‬
‫بقبض العلماء‪ ،‬حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهاال‪ ،‬فسئلوا فأفتوا بغير علم‪،‬‬

‫(‪ )0‬سورة النحل‪.006 :‬‬

‫‪6‬‬
‫(‪)0‬‬
‫فضلوا وأضلوا)‬
‫وقد حصل في الواقع بعض ما ذكره رسول الله ‪ ‬من تصدي بعض من لم تتوفر‬
‫فيهم القدرات العلمية الكافية على الفتوى في مسائل خطيرة‪ ،‬بناء على اجتهادات لم‬
‫تستكمل أدواتها‪ ،‬فشوهوا بذلك شريعة الله السمحة‪ ،‬المبنية على العلم والحكمة والعدل‬
‫والرحمة‪.‬‬
‫وقد أتاحت تلك الفتاوى الشاذة الفرصة للعلمانيين والالدينيين للسخرية من‬
‫الشريعة الربانية‪ ،‬واستعمال هذه الفتاوى ذريعة لذلك‪ ،‬دون تفريق بين ما هو رباني في‬
‫الشريعة‪ ،‬وبين ما هو اجتهاد بشري يقبل الخطأ والصواب‪.‬‬
‫وقد رأينا أن السبب األكبر فيما نراه في واقع الفتوى هو المنهج الذي يعتمده‬
‫الفقهاء والمفتون على الساحة اإلسالمية‪ ،‬فالمنهج هو األصل الذي يعتمد عليه المفتي‪،‬‬
‫وال يمكن أن نرقى بالفتوى في النوازل ما لم نتعرف على المنهج الصحيح الذي طلبت‬
‫الشريعة التزامه‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل‪ ،‬وقد رأينا‬
‫أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج‪:‬‬

‫(‪ )0‬رواه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب كيف يقبض العلم رقم ( ‪( )011‬انظر‪ :‬صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد زهير بن ناصر الناصر‪ ،‬دار‬
‫طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪0266 ،‬هـ‪،‬‬
‫ج‪ ،0‬ص‪)00‬‬
‫ورواه مسلم في كتاب العلم‪ ،‬باب رفع العلم وقبضه‪ ،‬وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان رقم‬
‫( ‪ ( )6610‬صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد‬
‫الباقي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪ ،‬ج‪ 2‬ص ‪)6112‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ 0‬ــ المنهج االستداللي‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ المنهج المذهبي‪.‬‬
‫‪ 0‬ــ المنهج المذاهبي‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ منهج التيسير‪.‬‬
‫‪ 1‬ــ منهج التشديد‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ المنهج المقاصدي‪.‬‬
‫وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين ‪ -‬باختصار‪ -‬الخصائص التي يتميز بها كل‬
‫منهج‪ ،‬مع األعالم الذين تبنوه‪ ،‬واآلليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع‪.‬‬
‫وقد قسمنا الدراسة إلى ستة مباحث‪ ،‬باإلضافة إلى تمهيد وخاتمة‪ ،‬وهي على‬
‫الشكل التالي‪:‬‬
‫التمهيد‪ :‬تناولنا فيه مفهوم فقه النوازل وأهميته‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬تناولنا فيه المنهج االستداللي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تناولنا فيه المنهج المذهبي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬تناولنا فيه المنهج المذاهبي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬تناولنا فيه منهج التيسير وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬تناولنا فيه منهج التشديد وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى فيه‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬تناولنا فيه المنهج المقاصدي وأعالمه وأدلته ومنهج الفتوى‬
‫فيه‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫التمهيد‬
‫مفهوم فقه النوازل وأهميته‬
‫أوال ـ مفهوم فقه النوازل‪:‬‬
‫لغة‪ :‬النوازل على وزن فواعــل من‪ :‬نزل ينزل نزوال فهي نازلة‪ ،‬جاء في لسان‬
‫العرب‪ :‬نزل‪ :‬النزول‪ :‬الحلول‪ ،‬وقد نزلهم‪ ،‬ونزل عليهم‪ ،‬ونزل بهم‪ ،‬ينزل نزوالً و َمن َْزالً‬

‫و َمن ِْزالً‪ ،‬والنازلة‪ :‬الشديدة تنزل بالقوم‪ ،‬وجمعها النوازل(‪.)0‬‬


‫اصطالحا‪ :‬بما أن فقه النوازل لم يكن بابا من أبواب الفقه المعتمدة‪ ،‬وإنما كان‬
‫ضمن المباحث الفقهية المختلفة‪ ،‬ولهذا ال نجد له في تراثنا الفقهي تعريفا خاصا دقيقا‬
‫مثلما نجد ذلك في سائر المسائل واألبواب‪ ،‬ولهذا نذكر هنا بعض ما ذكره العلماء مما‬
‫يمكن أن يستنتج من خالله تصورهم له‪:‬‬
‫فقد عرفه معجم لغة الفقهاء بأنه‪( :‬الحادثة التي تحتاج إلى حكم شرعي)(‪.)6‬‬
‫وعرفه الشيخ بكر أبو زيد بأنه (الوقائع والمسائل المستجدة‪ ،‬والحادثة المشهورة‬
‫(‪)0‬‬
‫بلسان العصر باسم النظريات والظواهر)‬
‫ولعل إطالق النازلة على المسألة الواقعة يرجع إما لمالحظة معنى الشدة لما يعانيه‬
‫الفقيه في استخراج حكم هذه النازلة‪ ،‬ولذا كان السلف يتحرجون من الفتوى ويسألون‬
‫هل نزلت؟‬

‫(‪ )0‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر – بيروت‪ ،‬ج‪ ،00‬ص‪.612‬‬
‫(‪ )6‬معجم لغة الفقهاء‪ ،‬محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي‪ ،‬دار النفائس للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪ 0212 ،6‬هـ‪ ،‬ص‪.210‬‬
‫(‪ )0‬بكر أبو زيد‪ ،‬فقه النوازل‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ص‪.2‬‬

‫‪9‬‬
‫أو أنها سميت نازلة لمالحظة معنى الحلول‪ ،‬فهي مسألة نازلة يجهل حكمها تحل‬
‫بالفرد أو الجماعة (‪.)0‬‬
‫(‬

‫ثانيا ـ مصطلحات أخرى‪:‬‬


‫من المصطلحات التي تطلق على هذا النوع من األحكام الفقهية‪:‬‬

‫الفتاوى‪:‬‬
‫وهي أشهر المصطلحات وأقدمها وأفضلها‪ ،‬فقد ذكر في القرآن الكريم في مواضع‬
‫(‪)6‬‬ ‫َك فِي النِّس ِ‬
‫اء ُق ِل ال َّل ُه ُي ْفتِي ُك ْم فِ ِيه َّن﴾‬ ‫﴿و َي ْس َت ْفتُون َ‬
‫َ‬ ‫مختلفة منها قوله تعالى‪َ :‬‬
‫وقد عرفه الحطاب من المالكية بقـوله‪( :‬هي اإلخبار بحكم شـرعي ال على وجه‬
‫(‪)0‬‬
‫اإللـزام)‬
‫وعرفه القرافي عند بيانه الفـرق بين الفتوى وبين الحكم فقال‪( :‬فأما الفتـوى فهـي‬
‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫إخبـار عـن الله تعالى وبيان ذلك أن المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي)‬
‫والعالقة بينها وبين فقه النوازل عالقة عموم وخصوص‪ ،‬فالفتوى أعم من فقه‬
‫النوازل‪ ،‬ذلك أن المفتي يتعرض لكل المسائل سواء ما كان منها حادثا أو ما لم يكن‪،‬‬
‫ولهذا نجد من أهم مصادر فقه النوازل الكتب المختصة بالفتاوى كفتاوى ابن تيمية‪،‬‬
‫والفتاوى الهندية‪ ،‬وفتاوى ابن حجر الهيثمي‪ ،‬وفتاوى الشيخ عليش‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬

‫(‪ )0‬سبل االستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة‪ ،‬الدكتور عبد الله‬
‫الشيخ المحفوظ بن بيه‪ ،‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة المؤتمر اإلسالمي بجدة‪ ،‬ع‪ 00‬ج‪6‬‬
‫ص‪.100‬‬
‫(‪ )6‬سورة النساء‪.061 :‬‬
‫(‪ )0‬مواهب الجليل‪ ،‬الحطاب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،0996 ،0‬ج ‪ ،0‬ص‪.06‬‬
‫(‪ )2‬الفروق‪ ،‬القرافي‪ ،‬بيروت‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص‪.29‬‬

‫‪01‬‬
‫المسائل‪ ،‬أو األسئلة‪:‬‬
‫وهي مثل الفتاوى‪ ،‬وقد ذكرت في القرآن الكريم كذلك كثيرا كقوله تعالى‪﴿ :‬‬
‫(‪)0‬‬ ‫يت لِلن ِ‬
‫َّاس َوا ْل َح ِّج﴾‬ ‫َي ْس َأ ُلون ََك َع ِن ْاألَ ِه َّل ِة ُق ْل ِه َي َم َو ِاق ُ‬
‫وسميت بذلك ألنها أسئلة يطرحها المستفتون على المفتين‪ ،‬ومن المؤلفات في‬
‫هذا‪ :‬مسائل القاضي أبي الوليد بن رشد‪.‬‬
‫وقد سميت كذلك في مراجع أخرى باألجوبة‪ ،‬أو الجوابات‪ ،‬وهي تسمية لبعض‬
‫علماء األندلس ألنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس‪.‬‬

‫ثالثا ـ أهمية فقه النوازل‪:‬‬


‫الشك في اعتبار فقه النوازل من أهم الفروع الفقهية وأشدها صعوبة‪ ،‬ذلك أنها‬
‫محاولة لتطبيق الشريعة اإلسالمية في حياة الناس‪ ،‬واإلجابة على اإلشكاالت التي‬
‫تعرض لهم‪ ،‬بل هو فوق ذلك محاولة للبحث عن البدائل المناسبة لتيسير ممارسة الحياة‬
‫وفق الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد ذكر الباحثون في هذا الباب الكثير من الفوائد المبينة ألهمية هذا الجانب‪،‬‬
‫نذكر منها(‪:)6‬‬
‫‪ - 0‬البحث فيها يبرهن على صدق اإلسالم وخلوده وصالحيته للقيادة والريادة‬
‫في هذه الحياة‪.‬‬

‫(‪ )0‬سورة البقرة‪.029 :‬‬


‫(‪ )6‬انظر‪ :‬الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية‪ ،‬مجموعة من الباحثين‪،‬‬
‫بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)‪ ،‬والمنعقد بتاريخ ‪ 6100/2/09‬في‬
‫الجامعة اإلسالمية – غزة‪ ،‬دت‪ ،‬دط‪ ،‬ص‪ ،1‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪00‬‬
‫‪ - 6‬بيان ما يمتاز به الفقه اإلسالمي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة‪،‬‬
‫وتنوعه الشامل‪ ،‬وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب االهتمام به علما‬
‫وعمال‪ ،‬دراسة وتطبيقا‪.‬‬
‫‪ - 0‬بحثها يعطي إمكانية االطالع على الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من‬
‫العصور اإلسالمية والتي واجهت كل طارئ وجديد‪ ،‬وكيف أن الفقه اإلسالمي نجح في‬
‫مواجهة تلك اإلشكاالت الواقعية‪ ،‬الميدانية‪ ،‬في حياة الناس اليومية‪ ،‬وأنه لم يقف يوما‬
‫جامدا عاجز ًا عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا‬
‫صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية واالجتماعية‬
‫والسياسية واالقتصادية والتاريخية واألدبية(‪:)0‬‬
‫فمن الناحية الفكرية‪ :‬يعرفنا فقه النوازل بالعالقة بين المذاهب الفقهية‪ ،‬ويظهر‬
‫ذلك من خالل المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء المذاهب في‬
‫أثناء التعرض لنازلة من النوازل‪.‬‬
‫ومن الناحية االجتماعية‪ :‬تقدم النوازل الكثير من اإلشارات إلى أحوال المجتمع‬
‫اإلسالمي في منطقة النازلة‪ ،‬األمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم االجتماع مثلما‬
‫هو للفقيه والعالم‪.‬‬
‫لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها‬
‫واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية‪ ،‬ومن هؤالء المستشرق‬

‫(‪ )0‬انظر هذه الفوائد وغيرها في‪ :‬د‪.‬عبد الحق بن أحمد حميش‪ ،‬مدخل إلى فقه النوازل‪ ،‬دت‪،‬‬
‫دط‪ ،‬ص‪ ،01‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪02‬‬
‫الفرنسي جاك بارك الذي اعتنى بنوازل المازوني‪ -‬الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل‬
‫إلبراز جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل‪.‬‬
‫ومن الناحية األدبية‪ :‬فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة‪ ،‬فقد تحتوي األسئلة واألجوبة‬
‫عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به‪ ،‬كما أنها تحافظ لنا على‬
‫لغة الفقه والفقهاء األدبية الرائعة‪.‬‬
‫ومن الناحية السياسية‪ :‬تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس‬
‫ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في‬
‫دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان‪.‬‬
‫ومن الناحية االقتصادية‪ :‬تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة االقتصادية التي‬
‫تمر بها البالد اإلسالمية‪ ،‬وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من‬
‫خالل تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع االقتصادية‪ ،‬كطغيان البنوك الربوية‬
‫على واقع المسلمين اليوم وكثرة األسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر‬
‫الذي يتخبط فيه الجانب االقتصادي في المجتمعات المسلمة‪ ،‬ومشكلة الديون التي‬
‫تتعب كاهل الدول اإلسالمية وغيرها من المواضيع االقتصادية التي تحتاج إلى فقه‬
‫واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة‪.‬‬
‫ومن الناحية التاريخية‪ :‬تقدم النوازل أحداثا تاريخية وقعت لألمة اإلسالمية ونزلت‬
‫بها وتم الجواب عنها‪ ،‬وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم‬
‫غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام واألمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في‬
‫أفغانستان من تقاتل بين الفصائل األفغانية‪ ،‬أو مثل الحرب العراقية اإليرانية التي وقعت‬
‫في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار‪ ،‬وما حدث‬
‫ويحدث إلخواننا المسلمين في يوغسالفيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من‬

‫‪03‬‬
‫فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل باألمة اإلسالمية في عصورها‬
‫المتتالية‪.‬‬
‫‪ - 1‬ومن فوائد فقه النوازل ذلك األثر العلمي الذي تخلفه هذه اإلجابات ألنها‬
‫تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجال للفتوى والقضاء ومرجعا مهما‬
‫للمهتمين بها من أهل االختصاص ال يمكن االستغناء عنها بحال‪.‬‬
‫‪ - 6‬كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء المعة من العلماء المجتهدين المفتيين‪،‬‬
‫الذين تصدوا لهذه النوازل‪ ،‬وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم‬
‫الشرعي وذلك باتباع أصول االجتهاد دون تعصب أو هوى‪.‬‬

‫‪04‬‬
‫المبحث األول‬
‫المنهج االستداللي‬
‫يمكن تعريف المنهج االستداللي بما عرف به العلماء الفقه نفسه‪ ،‬وهو أنه (العلم‬
‫باألحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية‪ ،‬أو هو مجموعة من األحكام‬
‫(‪)0‬‬
‫الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية)‬
‫ففي هذا التعريف نالحظ أن األحكام الشرعية تستنبط من األدلة التفصيلية‪ ،‬وهي‬
‫األدلة المستنبطة من المصادر الكبرى للتشريع اإلسالمي من الكتاب والسنة واإلجماع‬
‫والقياس وغيرها‪.‬‬
‫يقول الدهلوي‪( :‬حقيقة االجتهاد ‪ -‬على ما يفهم من كالم العلماء ‪ -‬استفراغ‬
‫الجهد في إدراك األحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة‬
‫أقسام الكتاب والسنة واإلجماع والقياس ويفهم من هذا أنه أعم من أن يكون استفراغا‬
‫في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أو ال وافقهم في ذلك أو خالف‬
‫(‪)6‬‬
‫)‬
‫ولذلك فإن هذا المنهج يعتمد أصحابه في استنباط األحكام الشرعية على تلك‬
‫المصادر األصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من الفقهاء من‬
‫أصحاب المذاهب أو غيرهم‪ ،‬بل يعتبرون التقيد بأقوال الفقهاء وااللتزام بها من غير نظر‬

‫(‪ )0‬علم أصول الفقه وخالصة تاريخ التشريع‪ ،‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬المؤسسة‬
‫السعودية بمصر‪ ،‬ص‪.00‬‬
‫(‪ )6‬عقد الجيد في أحكام االجتهاد والتقليد‪ ،‬أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «الشاه ولي الله‬
‫الدهلوي»‪ ،‬تحقيق‪ :‬محب الدين الخطيب‪ ،‬المطبعة السلفية ‪ -‬القاهرة (ص‪.)0 :‬‬

‫‪05‬‬
‫في األدلة بدعة حادثة في الملة ال يستحق صاحبها أن يوصف بالمجتهد وال الفقيه‪ ،‬وال‬
‫يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب اإلفتاء إال على سبيل النقل لقول غيره‪.‬‬
‫وأصحاب هذا المنهج إذا عرضت لهم حادثة يبدؤون أوال بالنظر فيما ورد حولها‬
‫في المصدرين األساسيين للدين من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وربما يكون هذا هو موضع االتفاق الوحيد بينهم(‪ ،)0‬ذلك أن لكل منهم بعد ذلك‬
‫مصادره الخاصة به‪ ،‬والتي يؤسس عليها رؤيته لالستنباط من مصادر الشريعة‪.‬‬
‫ويبدأ الخالف من اعتبار اإلجماع أو عدم اعتباره‪ ،‬وفي حال اعتباره يحصل‬
‫الخالف الطويل أيضا في كون المسألة التي ادعي فيها االجماع مجمع عليها حقيقة أم ال‪،‬‬
‫فال يهم أصحاب هذا المنهج أن يقفوا مع جماهير الفقهاء أو يخالفوهم‪ ،‬ألن العبرة‬
‫عندهم بالدليل‪ ،‬ال بكثرة الفقهاء أو قلتهم (‪. )6‬‬
‫ثم يتسلسل الخالف بعد ذلك في اعتبار ما يطلق عليه باألدلة المختلف فيها‬
‫كاالستحسان وشرع من قبلنا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬فإن أداهم االجتهاد إلى صحة شيء منها أفتوا به‪،‬‬
‫وإن تعارضت عندهم األدلة فإنهم يفتون بما يترجح لديهم منها‪.‬‬

‫(‪ )0‬بل هم يختلفون أيضا في هذا من حيث آليات االستنباط كما هو معروف في مظانه من كتب‬
‫أصول الفقه‪ ،‬وكما ذكر العلماء ذلك بتفصيل في الكتب التي بينت أسباب خالف الفقهاء‪ ،‬ومن أهمها‪:‬‬
‫أسباب اختالف الفقهاء‪ ،‬د‪ .‬عبد الله بن عبد المحسن التركي‪ ،‬تقديم ‪ :‬حسن بن عبد الله آل الشيخ وعبد‬
‫الرزاق عفيفي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 0200 ،0‬هـ ‪ 6101 /‬م‪.‬‬
‫(‪ )6‬انظر تفاصيل الخالفات الواردة حول اإلجماع في كتب أصول الفقه‪ ،‬وكمثال على ذلك‪:‬‬
‫أصول الفقه‪ ،‬محمد بن مفلح‪ ،‬أبو عبد الله الصالحي الحنبلي (المتوفى‪160 :‬هـ)‪ ،‬حققه وعلق عليه‬
‫السدَ َحان‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪ 0261 ،0‬هـ ‪ 0999 -‬م‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪،066‬‬
‫وقدم له‪ :‬الدكتور فهد بن محمد َّ‬
‫فما بعدها‪.‬‬

‫‪06‬‬
‫وهذا المنهج ينتقد بشدة سائر المناهج‪ ،‬وخاصة المناهج التي تعتمد التقليد‪ ،‬أو‬
‫تعتمد الرأي المجرد‪ ،‬أو تعتمد أحوال المكلفين من التيسير والتشديد ومراعاة المصالح‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ألنها تعتبر أن األصل في الفتوى هو اإلخبار عن مراد الله من عباده‪ ،‬وهذا‬
‫المراد ال يمكن التعرف عليه إال من المصادر األصلية أو ما انبنى عليها‪.‬‬
‫انطالقا من هذه الخالصة المختصرة للرؤية العامة ألصحاب هذا المنهج‪ ،‬نحاول‬
‫هنا باختصار أن نتعرف على كبار ممثليه من أعالم الفقهاء‪ ،‬ثم على األدلة التي يعتمدون‬
‫عليها في التأسيس لمنهجهم‪ ،‬ثم على اآلليات العملية التي يعتمدونها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫ليس من الصعب التعرف على العلماء الذين يتبنون هذا المنهج‪ ،‬ذلك أنهم جميعا‬
‫كتبوا أو صرحوا بما يدل على ضرورة العودة إلى االجتهاد وعدم غلق بابه‪ ،‬وعلى النهي‬
‫عن التقليد وخاصة إذا تعارض التقليد مع النص‪ ،‬ولكنا مع ذلك نذكر كبار من يتبنون هذا‬
‫المنهج ابتداء من العصر األول إلى عصرنا‪:‬‬
‫أوال ـ أعالم القرون الفاضلة األولى من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة‬
‫المذاهب الفقهية وغيرهم من الفقهاء الذين لم يكن لهم من التالميذ من ينشر آراءهم‬
‫(‪)0‬‬
‫ومذاهبهم‪ ،‬فأبو حنيفة كان يقول‪( :‬إذا صح الحديث فهو مذهبي)‬
‫واإلمام أحمد كان يقول‪( :‬ال تقلدني وال تقلد مالكا وال الثوري وال األوزاعي‬

‫(‪ )0‬ابن عابدين‪ ،‬رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير األبصار في فقه مذهب اإلمام‬
‫األعظم أبي حنيفة النعمان‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪0‬ص‪.62‬‬

‫‪07‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وخذ من حيث أخذوا)‬
‫والشافعي كان يقول‪( :‬إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط‪ ،‬وإذا رأيت‬
‫الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي)(‪.)6‬‬
‫وقال المزني صاحب الشافعي في أول مختصره‪( :‬اختصرت هذا من علم‬
‫الشافعي‪ ،‬ومن معنى قوله‪ ،‬ألقربه على من أراده‪ ،‬مع إعالمية نهيه عن تقليده وتقليد غيره‬
‫(‪)0‬‬
‫‪،‬لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه)‬
‫أما ابن حزم‪ ،‬وهو من أكبر أعالم المذهب الظاهري‪ ،‬فقد كان من كبار المتشددين‬
‫على المقلدين‪ ،‬وخاصة مقلدي المذاهب األربعة‪ ،‬وحصلت بينه وبينهم مناظرات‪ ،‬بل‬
‫حصلت له بسبب ذلك محنة(‪.)2‬‬

‫(‪ )0‬محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية‪ ،‬إعالم الموقعين عن رب‬
‫العالمين‪ ،‬تحقيق ‪ :‬طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬دار الجيل ‪ -‬بيروت‪ ،0910 ،‬ج‪ ،6‬ص‪.610‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.260‬‬
‫(‪ )0‬نقال عن‪ :‬الدرر السنية في األجوبة النجدية‪ ،‬علماء نجد األعالم‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن‬
‫محمد بن قاسم‪ ،‬ط‪0201 ،6‬هـ‪0996/‬م‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.691‬‬
‫(‪ )2‬يقول ابن حيان واصفا المحنة التي تعرض لها ابن حزم‪( :‬استهدف إلى فقهاء وقته‪ ،‬فتأ ّلبوا‬
‫ّ‬
‫وحذروا سالطينهم من فتنته‪ ،‬ونهوا‬ ‫على بغضه‪ ،‬ور ّد قوله‪ ،‬وأجمعوا على تضليله‪ ،‬وشنّعوا عليه‪،‬‬
‫الدنو إليه‪ ،‬واألخذ عنه‪ ،‬فطفق الملوك يقصونه عن قربهم‪ ،‬ويس ّيرونه عن بالدهم‪ ،‬إلى أن‬
‫ّ‬ ‫أعوامهم عن‬
‫انتهوا به‪ ،‬منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة‪ ،‬وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا‪ ،‬به ّ‬
‫يبث علمه فيمن‬
‫يحسون فيه المالمة بحداثتهم‪ ،‬ويف ّقههم‬
‫ينتابه بباديته من عا ّمة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين ال ّ‬
‫ويدرسهم‪ ،‬وال يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف واإلكثار من التصنيف حتى كمل من‬
‫مصنّفاته في فنون العلم وقر بعير‪ ،‬حتى ألحرق بعضها بإشبيلية) (انظر‪ :‬اإلحاطة في أخبار غرناطة‪،‬‬

‫‪08‬‬
‫وقد عاتب في كتابه (اإلحكام في أصول األحكام) المقلدين ألئمة المذاهب عتابا‬
‫شديدا‪ ،‬وعندما وصلت نوبة الحديث إلى الظاهرية‪ ،‬قال‪ ( :‬وأما أصحاب الظاهر فهم‬
‫أبعد الناس من التقليد‪ ،‬فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم‪ ،‬ولم يعصم أحد‬
‫من الخطأ‪ ،‬وإنما يالم من اتبع قوال ال حجة عنده به‪ ،‬وألوم من هذا من اتبع قوال وضح‬
‫البرهان على بطالنه‪ ،‬فتمادى ولج في غيه‪ ،‬وبالله تعالى التوفيق‪ ،‬وألوم من هذين وأعظم‬
‫جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام‪ ،‬وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد‬
‫حرام‪ ،‬ويتركون أوامر النبي ‪ ‬ويقرون أنها صحاح‪ ،‬وأنها حق‪ ،‬فمن أضل من هؤالء‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫نعوذ بالله من الخذالن ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده ال إله إال هو)‬
‫ثانيا ‪ -‬بعض أتباع المذاهب األربعة وغيرهم من الذين لم يمنعهم انتماؤهم في‬
‫الظاهر لمذاهبهم عن التشدد مع المقلدين‪ ،‬ذلك أن اتباعهم للمذاهب ليس على سبيل‬
‫التقليد‪ ،‬وإنما على سبيل االتباع‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ابن عبد البر المالكي (ت ‪062‬ه)‪ ،‬وهو من كبار المتشددين‬
‫على المقلدين‪ ،‬وإن كان مالكي المذهب‪ ،‬وقد ضمن رأيه في التقليد قصيدة في كتابه‬
‫(جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) جاء فيها‪:‬‬
‫خذ عني الجواب بفهم لب حاضــر‬ ‫يــا ســـــائـلـي عـن مــوضـــع التقليــد‬
‫واحــفــظ عــلــي بــوادري ونــوادري‬ ‫واصـــل إلـى قـولي ودن بنصـــيحتي‬

‫محمد بن عبد الله الغرناطي األندلس‪ ،‬أبو عبد الله‪ ،‬الشهير بلسان الدين ابن الخطيب‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪ 0262 ،‬هـ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.90‬‬
‫(‪ )0‬اإلحكام في أصول األحكام‪ ،‬أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ألندلسي القرطبي‬
‫الظاهري‪ ،‬تحقيق‪ :‬الشيخ أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.061‬‬

‫‪09‬‬
‫تـنـقــاد بـيـن جـن ـادل ودعــاثــر(‪)0‬‬ ‫ال فــرق بــيــن مــقــلــد وبــهــيــمــة‬
‫ومنهم العز بن عبد السالم‪ ،‬والذي كان شافعي المذهب‪ ،‬ومع ذلك كان يتعجب‬
‫من المقلدين الذين يعرضون عن األدلة‪ ،‬ويكتفون بما ذهب إليه أئمتهم‪ ،‬ومن تصريحاته‬
‫في ذلك قوله‪( :‬ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف‬
‫مأخذ إمامه بحيث ال يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه‪ ،‬ويترك من الكتاب والسنة‬
‫واألقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه‪ ،‬بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ويتأولهما بالتأويالت البعيدة الباطلة نضاال عن مقلده‪ ،‬وقد رأيناهم يجتمعون‬
‫في المجالس فإذا ذكر ألحدهم في خالف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من‬
‫استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه‬
‫(‪)6‬‬
‫أولى من تعجبه من مذهب غيره)‬
‫ثم ذكر حال الفقهاء في عصره وغيره‪ ،‬فقال‪( :‬فالبحث مع هؤالء ضائع مفض إلى‬
‫التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها‪ ،‬وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له‬
‫الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده‪ ،‬فاألولى ترك البحث مع هؤالء الذين‬
‫إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال‪ :‬لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه‬
‫ولم أهتد إليه‪ ،‬ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل‬
‫الواضح والبرهان الالئح‪ ،‬فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على‬

‫(‪ )0‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبي األشبال‬
‫الزهيري‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬ط‪ 0202 ،0‬هـ ‪ 0992 -‬م‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.922‬‬
‫(‪ )6‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم‪ ،‬راجعه‬
‫وعلق عليه‪ :‬طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية ‪ -‬القاهرة‪ 0202 ،‬هـ ‪ 0990 -‬م‪ ،‬ج‪،6‬‬
‫ص‪.019‬‬

‫‪21‬‬
‫(‪)0‬‬
‫مثل ما ذكر‪ ،‬وفقنا الله التباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر)‬
‫ثم قارن ذلك الوضع بما كان عليه السلف الصالح‪ ،‬فقال‪ ( :‬وأين هذا من مناظرة‬
‫السلف ومشاورتهم في األحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم‪،‬‬
‫وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال‪ :‬ما ناظرت أحدا إال قلت اللهم أجر الحق على‬
‫(‪)6‬‬
‫قلبه ولسانه‪ ،‬فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته)‬
‫ثالثا ‪ -‬ظهر في العصور التي ترسخ فيها التقليد بعض األعالم الكبار الذين دعوا‬
‫إلى العودة إلى الدليل وترك التقليد‪ ،‬وقد كان من كبار هؤالء ابن تيمية‪ ،‬فقد ألف الكتب‬
‫والرسائل الكثيرة في الرد على التقليد‪ ،‬بل كانت له اجتهاداته الكثيرة في الفتوى‪ ،‬والتي‬
‫جعلته يواجه الكثير من فقهاء المذاهب بسببها‪.‬‬
‫وقد ذكر في الفتاوى الكبرى بعض الجهد الذي بذله في ذلك‪ ،‬واألقوال التي انفرد‬
‫بها عن أهل عصره‪ ،‬فحصل له بسببها من المحنة ما حصل‪( :‬ومن أقواله المعروفة‬
‫المشهورة التي جرى بسبب اإلفتاء بها محن وقالقل قوله‪ :‬بالتكفير في الحلف بالطالق‪،‬‬
‫وأن الطالق الثالث ال يقع إال واحدة‪ ،‬وأن الطالق المحرم ال يقع‪ ،‬وله في ذلك مصنفات‬
‫ومؤلفات‪ .‬منها قاعدة كبيرة سماها‪( :‬تحقيق الفرقان بين التطليق واأليمان)‪ .‬نحو أربعين‬
‫كراسة‪ .‬وقاعدة سماها‪( :‬الفرق بين الطالق واليمين)‪ .‬بقدر نصف ذلك‪ .‬وقاعدة في (أن‬
‫جميع أيمان المسلمين مكفرة) مجلد لطيف‪ .‬وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطالق من‬
‫األيمان حقيقة‪ .‬وقاعدة سماها‪( :‬التفصيل بين التكفير والتحليل)‪ .‬وقاعدة سماها‪:‬‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،،‬ج‪ ،6‬ص‪.019‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،،‬ج‪ ،6‬ص‪.019‬‬

‫‪20‬‬
‫(‪)0‬‬
‫(اللمعة)‪ ،‬وغير ذلك من القواعد واألجوبة في ذلك ال تنحصر وال تنضبط)‬
‫وقريب منه الشاطبي (ت ‪ )191‬الذي لم يمنعه انتماؤه للمذهب المالكي من‬
‫التصريح بضرورة العودة إلى الدليل وترك التقليد ألئمة المذاهب‪ ،‬يقول في (االعتصام)‪:‬‬
‫(والرابع‪ :‬رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة‪ ،‬بحيث يأنفون أن‬
‫تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم‪ ،‬وحتى إذا جاءهم من بلل درجة االجتهاد‬
‫وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير‪ ،‬وفوقوا إليه سهام النقد‪ ،‬وعدوه‬
‫من الخارجين عن الجادة‪ ،‬والمفارقين للجماعة‪ ،‬من غير استدالل منهم بدليل‪ ،‬بل بمجرد‬
‫(‪)6‬‬
‫االعتياد العامي)‬
‫وضرب مثاال لذلك بما حصل لبقي بن مخلد‪ ،‬فقال‪( :‬ولقد لقي اإلمام بقي بن‬
‫مخلد حين دخل األندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف األمرين‪ ،‬حتى أصاروه مهجور‬
‫الفناء‪ ،‬مهتضم الجانب‪ ،‬ألنه من العلم بما ال يدي لهم به‪ ،‬إذ لقي بالمشرق اإلمام أحمد‬
‫بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه‪ ،‬ولقي أيضا غيره‪ ،‬حتى صنف المسند المصنف‬
‫الذي لم يصنف في اإلسالم مثله‪ ،‬وكان هؤالء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك‪،‬‬
‫بحيث أنكروا ما عداه‪ ،‬وهذا تحكيم الرجال على الحق‪ ،‬والغلو في محبة المذهب‪ ،‬وعين‬
‫اإلنصاف ترى أن الجميع أئمة فضالء‪ ،‬فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلل‬
‫درجة االجتهاد فال يضره مخالفة غير إمامه إلمامه‪ ،‬ألن الجميع سالك على الطريق‬

‫(‪ )0‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫ط‪0212 ،0‬هـ ‪0921 -‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.060‬‬
‫(‪ )6‬االعتصام‪ ،‬إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬سليم‬
‫بن عيد الهاللي‪ ،‬دار ابن عفان‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪0206 ،0‬هـ ‪0996 -‬م‪.‬ج‪6‬ص‪.261‬‬

‫‪22‬‬
‫(‪)0‬‬
‫المكلف به‪ ،‬فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره)‬
‫رابعا ‪ -‬ظهر في القرون المتأخرة بعد ابن تيمية بعض األعالم الكبار الذين أحيوا‬
‫الدعوة إلى فقه الدليل‪ ،‬وكتبوا في ذلك المؤلفات الكثيرة‪ ،‬وتعرضوا لبعض المحن بسبب‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومن كبار هذه الطبقة الشوكاني صاحب المؤلفات الكثيرة في نصرة فقه‬
‫االستدالل بدل فقه التقليد‪ ،‬ومن تصريحاته في هذا الباب قوله بعد إيراده الخالف في‬
‫(قول الصحابي هل هو حجة أم ال)‪( :‬والحق‪ :‬أنه ليس بحجة (‪ ،)6‬فإن الله سبحانه لم‬
‫يبعث إلى هذه األمة إال نبينا محمدا ‪ ،‬وليس لنا إال رسول واحد‪ ،‬وكتاب واحد‪،‬‬
‫وجميع األمة مأمورة باتباع كتابه‪ ،‬وسنة نبيه‪ ،‬وال فرق بين الصحابة وبين من بعدهم‪ ،‬في‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪..261‬‬


‫(‪ )6‬رد أبو زهرة بشدة على الشوكاني في هذه المسألة بقوله‪ ( :‬وال َّ‬
‫شك أن هذه مغاالة في ر ِّد‬
‫أقوال الصحابة‪ ،‬ومن الواجب علينا أن نقول ‪َّ :‬‬
‫إن األئمة األعالم عندما اتبعوا أقوال الصحابة لم يجعلوا‬
‫حج ًة في غير الكتاب والسنَّة‪ ،‬فهم مع اقتباسهم من أقوال الصحابة‬
‫رسال ًة لغير محمد ‪ ، ‬ولم يعتبروا َّ‬
‫والكتاب واحدٌ ‪ ،‬ولكنهم وجدوا أن هؤالء‬
‫َ‬ ‫مستمسكون أشدَّ االستمساك بأن النبي واحدٌ ‪ ،‬والسنَّ َة واحدةٌ‪،‬‬
‫الصحابة هم الذين استحفظوا على كتاب الله سبحانه وتعالى‪ ،‬ونقلوا أقوال محمد ‪ ‬إلى من بعدهم‪،‬‬
‫فكانوا أعرف الناس بشرعه‪ ،‬وأقربهم إلى هديه‪ ،‬وأقوالهم قبس ٌة نبوي ٌة‪ ،‬وليست بدع ًا ابتدعوه‪ ،‬وال اختراع ًا‬
‫أعرف الناس بمصادرها ومواردها‪ ،‬فمن‬ ‫ُ‬ ‫تلم ٌس للشرع اإلسالمي من ينابيعه‪ ،‬وهم‬ ‫اخترعوه‪ ،‬ولكنها ُّ‬
‫ار َوا َّل ِذي َن‬
‫ين َو ْاألَن َْص ِ‬ ‫اج ِر َ‬ ‫ون ْاألَ َّو ُلو َن ِم َن ا ْلم َه ِ‬
‫ُ‬ ‫السابِ ُق َ‬
‫اتبعهم فهو من الذين قال الله تعالى فيهم ‪َ { :‬و َّ‬
‫يها َأ َبدً ا َذل ِ َك ا ْل َف ْوزُ ا ْل َعظِي ُم‬ ‫َّات تَج ِري تَحتَها ْاألَنْهار َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ان ور ُضوا َعنْه و َأ َعدَّ َلهم جن ٍ‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫ٍ‬
‫وه ْم بِإِ ْح َس َ َ‬
‫ا َّت َب ُع ُ‬
‫(‪[ } )011‬التوبة‪ ( ]011:‬أصول الفقه‪ ،‬محمد أبو زهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ص ‪ ،)602‬ونحب أن ننبه‬
‫هنا بأن الشوكاني أيد القول بحجية الصحابي في كتابه (التقليد واإلفتاء واالستفتاء)(انظر‪ :‬التقليد‬
‫واإلفتاء واالستفتاء (ج ‪ / 0‬ص ‪ )10‬فما بعدها)‬

‫‪23‬‬
‫ذلك‪ ،‬فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية‪ ،‬وباتباع الكتاب والسنة‪ ،‬فمن قال‪ :‬إنها تقوم‬
‫الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬وما يرجع إليهما‪ ،‬فقد قال في‬
‫دين الله بمالم يثبت‪ ،‬وأثبت في هذه الشريعة اإلسالمية شرعا لم يأمر الله به‪ ،‬وهذا أمر‬
‫عظيم‪ ،‬وتقول بالل‪ ،‬فمن حكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله‪ ،‬أو أقوالهم حجة على‬
‫المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى‪ ،‬مما ال يدان‬
‫الله عز وجل به‪ ،‬وال يحل لمسلم الركون إليه‪ ،‬وال العمل عليه‪ ،‬فإن هذا المقام لم يكن‬
‫إال لرسل الله‪ ،‬الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده ال لغيرهم‪ ،‬وإن بلل في العلم والدين‬
‫(‪)0‬‬
‫عظم المنزلة أي مبلل)‬
‫ثم ختم قوله‪( :‬فاعرف هذا‪ ،‬واحرص عليه‪ ،‬فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه‬
‫األمة رسوال إال محمدا ‪ ،‬ولم يأمرك باتباع غيره‪ ،‬وال شرع لك على لسان سواه من‬
‫(‪)6‬‬
‫أمته حرفا واحدا‪ ،‬وال جعل شيئا من الحجة عليك في قول غيره‪ ،‬كائنا من كان)‬
‫باإلضافة إلى الشوكاني‪ ،‬فقد ذكر السيوطي في كتابه المهم (الرد على من أخلد‬
‫(‪)0‬‬
‫الكثير من أقوال الفقهاء‬ ‫إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض)‬
‫المتأخرين الذين دعوا إلى فتح باب االجتهاد والرجوع إلى المصادر األصلية مباشرة‪،‬‬
‫وأنه في اإلمكان أن يظهر المجتهدون في العصور المختلفة‪.‬‬

‫(‪ )0‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول‪ ،‬محمد بن علي الشوكاني اليمني‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬الشيخ أحمد عزو‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪0209 ،0‬هـ ‪0999 -‬م‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.022‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.029‬‬
‫(‪ .)0‬طبع في دار الكتب لعلمية سنة ‪ 0210‬هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس)‪ ،‬وأهمية هذه‬
‫الرسالة تكمن في تتبع السيوطي لكل أقوال العلماء الذين أيدوا هذا المنهج‪ ،‬وقد ذكر أقوالهم‪ ،‬وبعض‬
‫المصادر التي اعتمد عليها مفقودة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ومن العلماء الذين ذكرهم(‪:)0‬‬
‫‪( - 0‬الماوردي) في أول كتابه (الحاوي)‬
‫‪ -6‬و(الروياني) في أول (البحر)‬
‫‪ -0‬والقاضي (حسين) في (تعليقه)‬
‫‪ -2‬و(الزبيري) في كتاب (المسكت)‬
‫‪ -1‬و(ابن سراقة) في كتاب (األعداد)‬
‫‪ -6‬و(إمام الحرمين) في كتاب السير من (النهاية)‬
‫‪ -1‬و(الشهرستاني) في (الملل والنحل)‬
‫‪ -2‬و(البغوي) في أوائل (التهذيب)‬
‫‪ -9‬و(الغزالي) في (البسيط)‪ ،‬و(الوسيط)‬
‫‪ -01‬و(ابن الصالح) في (أدب الفتيا)‬
‫‪ -00‬و(النووي) في (شرح المهذب) و(شرح مسلم)‬
‫‪ -06‬والشيخ (عز الدين بن عبد السالم) في (مختصر النهاية)‬
‫‪ -00‬و(ابن الرفعة) في (المطلب)‬
‫‪ -02‬و(الزركشي) في كتاب (القواعد)‪ ،‬و(البحر)‬
‫وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي (عبد الوهاب) في (المقدمات)‪،‬‬
‫و(ابن القصار) في كتابه في أصول الفقه‪ ،‬ونقله عن مذهب (مالك) وجمهور العلماء‪،‬‬
‫و(القرافي) في (التنقيح)‪ ،‬و(ابن عبد السالم) في (شرح مختصر ابن الحاجب)‪ ،‬و(أبو‬

‫(‪ )0‬انظر كتاب‪ :‬الرد على من أخلد إلى األرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض‪،‬‬
‫تحقيق‪(:‬خليل الميس‪ ،‬دار الكتب لعلمية‪ 0210 ،‬هـ من (ص‪ )62‬إلى (ص‪.)96‬‬

‫‪25‬‬
‫محمد بن ستاري) في (المسائل المنثورة) و(ابن عرفة) في كتابه (المبسوط) في الفقه‪.‬‬
‫خامسا – نتيجة للدعوات السابقة إلى فقه الدليل‪ ،‬فإن المنهج الغالب على الكثير‬
‫من الباحثين والفقهاء في عصرنا الحاضر هو هذا المنهج‪ ،‬وإن كانوا يختلفون في امتالك‬
‫اآلليات التي تتيح لهم ممارسته‪.‬‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫أفرد أصحاب هذا المنهج أو الدعاة له الكثير من المؤلفات في نصرته‪ ،‬والرد على‬
‫المخالفين لهم‪ ،‬وخصوصا من أصحاب المنهج المذهبي أو المذاهبي‪ ،‬ومن أهم تلك‬
‫المؤلفات (المختصر المؤمل في الرد إلى األمر األول) ألبي شامة المقدسي‪ ،‬و(شرح‬
‫قول المطلبي‪ ،‬إذا صح الحديث فهو مذهبي) للسبكي‪ ،‬و(جزء التمسك بالسنن) للذهبي‪،‬‬
‫و(االتباع) البن أبي العز‪ ،‬و(فيض الشعاع‪ ،‬الكاشف للقناع‪ ،‬عن أركان االبتداع) للحسن‬
‫بن أحمد الجالل اليماني‪ ،‬و(الوجه الحسن‪ ،‬المذهب للحزن‪ ،‬لمن طلب السنة ومشى‬
‫على السنن) إلسحاق بن يوسف الصنعاني‪ ،‬و(إرشاد النقاد إلى تيسير االجتهاد) لألمير‬
‫الصنعاني‪ ،‬و(إيقاظ همم أولى األبصار لالقتداء بسيد المهاجرين واألنصار) لصالح‬
‫ال ُفالَّني‪ ،‬و(إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) لمحمد بن علي السنوسي‬
‫(مالكي)‪ ،‬و(القول المفيد في أدلة االجتهاد والتقليد) و(أدب الطلب‪ ،‬ومنتهى األرب)‬
‫كالهما للشوكاني‪ ،‬و(كشف الغمة عن سبب اختالف األمة) و(االكتناف ألحكام‬
‫االختالف) لألمير صديق حسن خان القنوجي‪ ،‬و(القول السديد في أدلة االجتهاد‬
‫والتقليد) ألبي النصر علي بن حسن خان القنوجي‪ ،‬و(الطريقة المثلى في ترك التقليد‬
‫واتباع ما هو األولى) ألبي الخير نور الحسن بن حسن خان القنوجي‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬
‫وبما أن استيعاب كل ما ذكروه يحتاج إلى مجلدات ضحمة‪ ،‬فسنقتصر هنا على‬
‫مجامع األدلة دون تفاصيلها‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫الدليل األول‪:‬‬
‫ما ورد في النصوص الداعية إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة مطلقا أو في حال‬
‫النزع‪ ،‬وهي كثيرة جدا نقتصر منها على ما يلي‪:‬‬
‫من القرآن الكريم‪ :‬وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو إلى العودة المباشرة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول‬ ‫الر ُس َ‬ ‫إلى الكتاب والسنة‪ ،‬منها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّلذي َن آ َمنُوا َأطي ُعوا ال َّل َه َو َأطي ُعوا َّ‬
‫ون بِال َّل ِه‬ ‫َو ُأولِي ْاألَم ِر ِمنْ ُكم َفإِ ْن َتن ََاز ْع ُتم فِي َشي ٍء َفر ُّدو ُه إِ َلى ال َّل ِه َوالرس ِ‬
‫ول إِ ْن ُكنْ ُت ْم ُت ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َوا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِر َذل ِ َك َخ ْي ٌر َو َأ ْح َس ُن َت ْأ ِو ًيال﴾‬
‫(‪)0‬‬

‫اح َذ ُروا َفإِ ْن ت ََو َّل ْيتُ ْم َف ْ‬


‫اع َل ُموا َأن ََّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َو ْ‬ ‫﴿و َأطي ُعوا ال َّل َه َو َأطي ُعوا َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫(‪)6‬‬
‫َع َلى َر ُسولِنَا ا ْل َب َال ُغ ا ْل ُمبِي ُن ﴾‬
‫ول َو َال ُت ْبطِ ُلوا‬ ‫الر ُس َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّلذي َن آ َمنُوا َأطي ُعوا ال َّل َه َو َأطي ُعوا َّ‬
‫(‪)0‬‬
‫َأ ْع َما َل ُك ْم﴾‬
‫من الحديث الشريف‪ :‬وردت أحاديث كثيرة في الحث على العودة المباشرة إلى‬
‫المصادر األصلية منها ما حدث به العرباض بن سارية‪ ،‬قال‪ :‬وعظنا رسول الله ‪ ‬موعظة‬
‫ذرفت منها العيون‪ ،‬ووجلت منها القلوب‪ ،‬قلنا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن هذه لموعظة مودع‪،‬‬
‫فماذا تعهد إلينا؟ قال‪( :‬قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ال يزيل عنها بعدي إال‬
‫هالك‪ ،‬ومن يعش منكم‪ ،‬فسيرى اختالفا كثيرا‪ ،‬فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء‬
‫الراشدين المهديين‪ ،‬وعليكم بالطاعة‪ ،‬وإن عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬فإنما‬

‫(‪ )0‬سورة النساء‪.19 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة المائدة‪..96 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة محمد‪.00 :‬‬

‫‪27‬‬
‫(‪)0‬‬
‫المؤمن كالجمل األنف حيثما انقيد انقاد)‬

‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫ما ورد من األدلة الكثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واآلثار عن الصحابة‬
‫والتابعين على حرمة التقليد‪ ،‬وقد جمع ابن عبد البر الكثير منها كتابه (جامع بيان العلم‬
‫وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) في (باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد‬
‫واالتباع)(‪ ،)6‬ومن األدلة التي أوردها‪:‬‬
‫‪ - 0‬ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من القرآن الكريم‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫اه ِه ْم‬ ‫ت النَّصارى ا ْلم ِسيح ابن ال َّل ِه َذل ِ َك َقو ُلهم بِ َأ ْفو ِ‬ ‫ت ا ْليهود ُع َزير ابن ال َّل ِه و َقا َل ِ‬ ‫﴿و َقا َل ِ‬
‫ْ ُ ْ َ‬ ‫َ ُ ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ ٌْ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫َّخ ُذوا َأ ْح َب َار ُه ْم‬ ‫ون (‪ )01‬ات َ‬ ‫ين َك َف ُروا ِم ْن َق ْب ُل َقا َت َل ُه ُم ال َّل ُه َأنَّى ُي ْؤ َف ُك َ‬ ‫ِ‬
‫ون َق ْو َل ا َّلذ َ‬
‫ي َض ِ‬
‫اه ُئ َ‬ ‫ُ‬
‫ون ال َّل ِه وا ْلم ِسيح ابن مريم وما ُأ ِمروا إِ َّال لِيعبدُ وا إِ َلها و ِ‬
‫احدً ا َال إِ َل َه إِ َّال‬ ‫ورهبانَهم َأربابا ِمن د ِ‬
‫ً َ‬ ‫َُْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ََْ َ َ َ ُ‬ ‫َُ َْ ُ ْ َْ ً ْ ُ‬
‫ُه َو ُس ْب َحا َن ُه َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون (‪ ،)0(﴾ )00‬وقد ورد في تفسير هذه اآلية عن عدي بن حاتم‪:‬‬
‫أتيت رسول الله ‪ ‬وفي عنقي صليب فقال لي‪ :‬يا عدي بن حاتم‪ ،‬ألق هذا الوثن من‬
‫َّخ ُذوا َأ ْح َب َار ُه ْم‬
‫عنقك)‪ ،‬وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه اآلية ﴿ات َ‬
‫ون ال َّل ِه﴾(‪ )2‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا‪ ،‬قال‪( :‬‬ ‫ورهبانَهم َأربابا ِمن د ِ‬
‫َُ َْ ُ ْ َْ ً ْ ُ‬
‫بلى‪ ،‬أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه‪ ،‬ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم‬

‫(‪ )0‬مسند اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب‬
‫األرنؤوط وعادل مرشد‪ ،‬وآخرون‪ ،‬إشراف‪ :‬د عبد الله بن عبد المحسن التركي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ 0260‬هـ ‪ 6110 -‬م‪ ،‬ج‪ ،62‬ص‪.061‬‬
‫(‪ )6‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.911‬‬
‫(‪ )0‬سورة التوبة‪.00 ،01 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة التوبة‪.00 :‬‬

‫‪28‬‬
‫(‪)0‬‬
‫فتحرمونه؟)‪ ،‬فقلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪( :‬تلك عبادتهم)‬
‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وها‬ ‫﴿وك ََذل َك َما َأ ْر َس ْلنَا م ْن َق ْبلِ َك في َق ْر َية م ْن نَذ ٍير إِ َّال َق َال ُمت َْر ُف َ‬
‫‪ – 6‬قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ون (‪َ )60‬ق َال َأ َو َل ْو ِج ْئ ُت ُك ْم بِ َأ ْهدَ ى ِم َّما‬‫إِنَّا َو َجدْ نَا آ َبا َءنَا َع َلى ُأ َّم ٍة َوإِنَّا َع َلى آ َث ِار ِه ْم ُم ْقتَدُ َ‬
‫َو َجدْ ُت ْم َع َل ْي ِه آ َبا َء ُك ْم َقا ُلوا إِنَّا بِ َما ُأ ْر ِس ْل ُت ْم بِ ِه كَافِ ُر َ‬
‫ون (‪ ،)6(﴾)62‬فمنعهم االقتداء بآبائهم‬
‫من قبول االهتداء فقالوا‪ :‬إنا بما أرسلتم به كافرون‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َو َت َق َّط َع ْت بِ ِه ُم‬ ‫ين اتُّبِ ُعوا م َن ا َّلذ َ‬
‫ين ا َّت َب ُعوا َو َر َأ ُوا ا ْل َع َذ َ‬ ‫‪ – 0‬قوله تعالى‪﴿ :‬إِ ْذ َت َب َّر َأ ا َّلذ َ‬
‫اب (‪َ )066‬و َق َال ا َّل ِذي َن ا َّت َب ُعوا َل ْو َأ َّن َلنَا ك ََّر ًة َفنَ َتبَ َّر َأ ِمن ُْه ْم ك ََما َت َب َّر ُءوا ِمنَّا ك ََذل ِ َك ُي ِر ِيه ُم‬
‫ْاألَ ْس َب ُ‬
‫َّاس ُك ُلوا ِم َّما فِي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ال َّل ُه َأ ْع َما َل ُه ْم َح َس َرات َع َل ْي ِه ْم َو َما ُه ْم بِ َخ ِار ِجي َن م َن الن َِّار (‪َ )061‬يا َأ ُّي َها الن ُ‬
‫ان إِ َّن ُه َل ُك ْم عَدُ ٌّو ُمبِي ٌن (‪﴾)062‬‬ ‫الشي َط ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪)0‬‬
‫ض َح َال ًال َط ِّي ًبا َو َال َتتَّبِ ُعوا ُخ ُط َوات َّ ْ‬ ‫ْاألَ ْر ِ‬

‫وقد علق ابن عبد البر على هذه اآليات وغيرها بقوله‪( :‬وقد احتج العلماء بهذه‬
‫اآليات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة االحتجاج بها؛ ألن التشبيه لم‬
‫يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان اآلخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد‬
‫كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها‪ ،‬كان كل‬
‫واحد ملوما على التقليد بغير حجة؛ ألن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت‬

‫(‪ )0‬المعجم الكبير‪ ،‬سليمان بن أحمد ‪ ،‬أبو القاسم الطبراني‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي بن عبد المجيد‬
‫السلفي‪ ،‬مكتبة ابن تيمية – القاهرة‪ ،‬ط‪ ،6‬ج‪ ،01‬ص‪.96‬‬
‫وانظر‪ :‬سنن الترمذي‪ ،‬محمد بن عيسى بن َس ْورة ‪ ،‬الترمذي‪ ،‬أبو عيسى‪ ،‬تحقيق وتعليق‪ :‬أحمد‬
‫محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر‪ ،‬ط‪0091 ، 6‬‬
‫هـ ‪ 0911 -‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.612‬‬
‫(‪ )6‬سورة الزخرف‪.62 ،60 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة البقرة‪.062 - 066 :‬‬

‫‪29‬‬
‫َان ال َّل ُه لِيُ ِض َّل َق ْو ًما َب ْعدَ إِ ْذ َهدَ ُاه ْم َحتَّى ُي َب ِّي َن َل ُه ْم َما‬
‫﴿و َما ك َ‬
‫اآلثام فيه‪ ،‬وقال الله عز وجل‪َ :‬‬
‫ون إِ َّن ال َّل َه بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم ﴾(‪ ،)0‬وقد ثبت االحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي‬ ‫َي َّت ُق َ‬
‫ثبوته إبطال التقليد أيضا‪ ،‬فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم لألصول التي‬
‫(‪)6‬‬
‫يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك)‬

‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫االستدالالت العقلية‪ ،‬وكثير منها صيل بشكل مناظرات وحوارات مع المخالفين‬
‫من القائلين بالتقليد معاملة لهم بالمناهج التي يعتمدون عليها في االستدالل‪ ،‬ومن األمثلة‬
‫على ذلك ما نقله الزركشي وغيره عن المزني من قوله‪( :‬يقال لمن حكم بالتقليد‪ :‬هل لك‬
‫من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال‪ :‬نعم أبطل التقليد؛ ألن الحجة أوجبت ذلك عنده ال‬
‫التقليد‪ ،‬وإن قال‪ :‬حكمت فيه بغير حجة قيل له‪ :‬فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت‬
‫األموال وقد حرم الله ذلك إال بحجة؟ قال الله عز وجل‪ ﴿ :‬إِ ْن ِعنْدَ ُكم ِمن س ْل َط ٍ‬
‫ان‬ ‫ْ ْ ُ‬
‫بِ َه َذا﴾(‪ )0‬أي من حجة بهذا‪ ،‬فإن قال‪ :‬أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ ألني‬
‫قلدت كبيرا من العلماء وهو ال يقول إال بحجة خفيت علي‪ ،‬قيل له‪ :‬إذا جاز تقليد معلمك‬
‫ألنه ال يقول إال بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى؛ ألنه ال يقول إال بحجة‬
‫خفيت على معلمك‪ ،‬كما لم يقل معلمك إال بحجة خفيت عليك‪ ،‬فإن قال‪ :‬نعم ترك تقليد‬
‫معلم معلمه‪ ،‬وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي إلى أصحاب رسول الله ‪ ،‬وإن أبى ذلك‬
‫نقض قوله وقيل له‪ :‬كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما وال يجوز تقليد من هو‬

‫(‪ )0‬سورة التوبة‪.001 :‬‬


‫(‪ )6‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.911‬‬
‫(‪ )0‬سورة يونس‪.62 :‬‬

‫‪31‬‬
‫أكبر وأكثر علما وهذا يتناقض‪ ،‬فإن قال‪ :‬ألن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من‬
‫هو فوقه إلى علمه‪ ،‬فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له‪ :‬وكذلك من تعلم من معلمك‬
‫فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه؛ فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك‪،‬‬
‫وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ ألنك جمعت علم معلمك وعلم من هو‬
‫فوقه إلى علمك‪ ،‬فإن فاد قوله جعل األصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد‬
‫من أصحاب رسول الله ‪ ‬وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع‪ ،‬والتابع من دونه‬
‫(‪)0‬‬
‫في قياس قوله واألعلى األدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا)‬
‫ومثل ذلك ما روي عن سحنون‪ ،‬قال‪ :‬كان مالك بن أنس‪ ،‬وعبد العزيز بن أبي‬
‫سلمة‪ ،‬ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز‪ ،‬وكان إذا سأله مالك‬
‫وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لم يجبهم‪ ،‬فتعرض له ابن دينار يوما فقال‬
‫له‪ :‬يا أبا بكر لم تستحل مني ما ال يحل لك؟ قال له‪ :‬يا ابن أخي وما ذاك؟ قال‪ :‬يسألك‬
‫مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فال تجيبنا؟ فقال‪ ( :‬أوقع ذلك يا ابن أخي‬
‫في قلبك؟) قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إني قد كبر سني ورق عظمي‪ ،‬وأنا أخاف أن يكون خالطني‬
‫في عقلي مثل الذي خالطني في بدني‪ ،‬ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني‬
‫حقا قباله‪ ،‬وإذا سمعا مني خطأ تركاه‪ ،‬وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه‪ ،‬قال محمد بن‬
‫حارث‪ :‬هذا والله هو الدين الكامل والعقل الراجح ال كمن يأتي بالهذيان‪ ،‬ويريد أن ينزل‬
‫(‪)6‬‬
‫من القلوب منزلة القرآن )‬

‫(‪ )0‬نقال عن‪ :‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر‬
‫الزركشي‪ ،‬دار الكتبي‪ ،‬ط‪0202 ،0‬هـ ‪0992 -‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،069‬وانظر‪ :‬جامع بيان العلم وفضله ج‪،6‬‬
‫ص ‪ ،996‬وانظر‪ :‬إعالم الموقعين عن رب العالمين ج‪ ،6‬ص ‪.006‬‬
‫(‪ )6‬إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.001‬‬

‫‪30‬‬
‫ومثل ذلك هذه المناظرة االفتراضية التي صاغها ابن عبد البر بقوله‪( :‬يقال لمن‬
‫قال بالتقليد‪ :‬لم قلت به وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا فإن قال‪ :‬قلدت؛ ألن‬
‫كتاب الله عز وجل ال علم لي بتأويله‪ ،‬وسنة رسوله لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك‬
‫فقلدت من هو أعلم مني قيل له‪ :‬أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو‬
‫حكاية سنة عن رسول الله ‪ ‬أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق ال شك فيه‪ ،‬ولكن‬
‫قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض‪ ،‬فما حجتك في تقليد بعض دون بعض‪،‬‬
‫وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه‪ ،‬فإن قال‪ :‬قلدته‬
‫ألني علمت أنه صواب قيل له‪ :‬علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع‪ ،‬فإن قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال‪ :‬قلدته ألنه أعلم مني‪ ،‬قيل‬
‫له‪ :‬فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا وال يحصى من قلدته إذ‬
‫علتك فيه أنه أعلم منك وتجدهم في أكثر ما ينزل بهم من السؤال مختلفين فلم قلدت‬
‫أحدهم؟ فإن قال‪ :‬قلدته ألنه أعلم الناس قيل له‪ :‬فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول‬
‫مثل هذا قبحا وإن قال‪ :‬إنما قلدت بعض الصحابة قيل له‪ :‬فما حجتك في ترك من لم تقلد‬
‫منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أعلم وأفضل ممن أخذت بقوله على أن القول ال يصح‬
‫(‪)0‬‬
‫لفضل قائله وإنما يصح بداللة الدليل عليه)‬
‫وكثيرا ما نرى أصحاب هذا المنهج يحاجون المخالفين لهم من المقلدين بما‬
‫ذكره أئمتهم الذين يقتدون بهم‪ ،‬فاألئمة األربعة‪ ،‬قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما‬
‫يقولونه كما رأينا ذلك سابقا‪.‬‬
‫بل يذكر ابن القيم أن غير المقلدين أكثر احتراما للعلماء من المقلدين‪ ،‬فيقول في‬

‫(‪ )0‬جامع بيان العلم وفضله‪ :‬ج‪ ،6‬ص ‪.992‬‬

‫‪32‬‬
‫فصل بعنوان (الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها)‪( :‬فمن‬
‫عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر‬
‫أقوالهم‪ ،‬ولم يهضم جانبهم‪ ،‬بل اقتدى بهم‪ ،‬فإنهم كلهم أمروا بذلك‪ ،‬فمتبعهم حقا من‬
‫امتثل ما أوصوا به‪ ،‬ال من خالفهم‪ ،‬فخالفهم في القول الذي جاء النص بخالفه أسهل من‬
‫مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم‪ ،‬ومن‬
‫هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين االستعانة بفهمه واالستضاءة بنور‬
‫علمه‪ ،‬فاألول يأخذ قوله من غير نظر فيه‪ ،‬وال طلب لدليله من الكتاب والسنة‪ ،‬بل يجعل‬
‫ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به‪ ،‬ولذلك سمي تقليدا بخالف ما استعان بفهمه‬
‫واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسالمه عليه‪ ،‬فإنه يجعلهم‬
‫بمنزلة الدليل إلى الدليل األول‪ ،‬فإذا وصل إليه استغنى بداللته عن االستدالل بغيره‪ ،‬فمن‬
‫(‪)0‬‬
‫استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق الستدالله بالنجم معنى)‬

‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫الرد على ما استند إليه المخالفون من أدلة‪ ،‬وأشهر ما انصب عليه اهتمامهم ما‬
‫يستدل به المخالفون من أصحاب المناهج المذهبية أو المذاهبية كثيرا‪ ،‬وهو حديث‬
‫(اختالف أمتي رحمة)(‪ ،)6‬فقد جعل أصحاب المنهج المذهبي هذا الحديث شعارهم‬

‫(‪ )0‬الروح في الكالم على أرواح األموات واألحياء بالدالئل من الكتاب والسنة‪ ،‬محمد بن أبي‬
‫بكر بن ابن قيم الجوزية‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪ ،‬ص‪.662‬‬
‫(‪ )6‬باعتبار هذا الحديث محل خالف بين المناهج‪ ،‬فسنتحدث عنه بتفصيل هنا‪ ،‬وفي محال‬
‫أخرى من هذه الدراسة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫وقاعدتهم التي يحتمون بها(‪ ،)0‬وقد رد هؤالء على هذا الحديث – أوال – ببيان وضعه(‪،)6‬‬
‫و– ثانيا – بمعارضته الواضحة لما ورد في النصوص القطعية من القرآن والسنة من ذم‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يما َفاتَّبِ ُعو ُه َو َال َتتَّبِ ُعوا ُّ‬
‫الس ُب َل َف َت َف َّر َق‬ ‫﴿و َأ َّن َه َذا ص َراطي ُم ْستَق ً‬ ‫االختالف‪ ،‬كقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ب‬‫﴿و َال َتن ََاز ُعوا َف َت ْف َش ُلوا َوت َْذ َه َ‬
‫ون﴾(‪ ،)0‬وقوله‪َ :‬‬ ‫بِ ُك ْم َع ْن َسبِيلِ ِه َذل ِ ُك ْم َو َّصا ُك ْم بِ ِه َل َع َّل ُك ْم َتتَّ ُق َ‬
‫(‪)1‬‬
‫يح ُك ْم﴾(‪ ،)2‬وقوله ‪( : ‬ال ترجعوا بعدي كفارا‪ ،‬يضرب بعضكم رقاب بعض )‬ ‫ِر ُ‬
‫ومن السابقين من أصحاب هذا المنهج الذين اشتدوا في رد هذا الحديث ابن‬
‫حزم‪ ،‬فقد قال بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث‪( :‬وهذا من أفسد قول يكون‪ ،‬ألنه لو كان‬
‫االختالف رحمة لكان االتفاق سخطا‪ ،‬وهذا ما ال يقوله مسلم‪ ،‬ألنه ليس إال اتفاق أو‬
‫(‪)6‬‬
‫اختالف‪ ،‬وليس إال رحمة أو سخط‪)...‬‬
‫ومن الذين اشتدوا في بيان وضعه‪ ،‬ونشر ذلك بين الناس الشيخ األلباني‪ ،‬ومن‬
‫ردوده عليه ما ذكره في تعليقه على هذا الحديث في الضعيفة‪( :‬ال أصل له‪ ،‬ولقد جهد‬

‫(‪ )0‬نظر على سبيل المثال‪ :‬شرح النووي على صحيح مسلم‪ ،‬النووي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪0096 ،6‬هـ ‪ ،‬ج ‪ 00‬ص ‪ ،90‬وفيض القدير‪ ،‬المناوي‪ ،‬المكتبة التجارية الكبرى‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪ ،0016‬ج ‪ 0‬ص ‪.601‬‬
‫(‪ )6‬من المراجع التي حققت في بيان وضعه‪ :‬سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها‬
‫السيئ في األمة‪ ،‬أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين األلباني‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬الرياض‪ ،‬الممكلة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪ 0206 ،‬هـ ‪ 0996 /‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪ ،020‬وصفة صالة النبي ‪ ،‬األلباني‪،‬‬
‫السعودية مكتبة المعارف‪ ،‬د ت‪ : ،‬ص‪.29 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة األنعام‪.010 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة األنفال‪.26 :‬‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪)20 /0‬‬
‫(‪ )6‬اإلحكام في أصول األحكام‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬

‫‪34‬‬
‫(‪)0‬‬
‫المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا)‬
‫ثم ذكر اآلثار السيئة لهذا الحديث‪ ،‬فقال‪( :‬وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن‬
‫كثيرا من المسلمين يقرون بسببه االختالف الشديد الواقع بين المذاهب األربعة‪ ،‬وال‬
‫يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة كما أمرهم بذلك أئمتهم ‪ ،‬بل إن‬
‫أولئك ليرون مذاهب هؤالء األئمة إنما هي كشرائع متعددة يقولون هذا مع علمهم بما‬
‫بينها من اختالف وتعارض ال يمكن التوفيق بينها إال برد بعضها المخالف للدليل‪ ،‬وقبول‬
‫البعض اآلخر الموافق له‪ ،‬وهذا ماال يفعلونه‪ ،‬وبذلك نسبوا إلى الشريعة التناقض‪ ،‬وهو‬
‫وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن‬
‫اختِ َال ًفا كَثِ ًيرا﴾(‪ ،)6‬فاآلية‬
‫َان ِم ْن ِعن ِْد َغ ْي ِر ال َّل ِه َل َو َجدُ وا فِ ِيه ْ‬
‫آن َو َل ْو ك َ‬ ‫﴿ َأ َف َال َيتَدَ َّب ُر َ‬
‫ون ا ْل ُق ْر َ‬
‫صريحة في أن االختالف ليس من الله‪ ،‬فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة‪ ،‬ورحمة‬
‫(‪)0‬‬
‫منزلة؟)‬

‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬


‫كما عرفنا سابقا فإن هذا المنهج ينطلق من الدليل في أي مسألة يبحث فيها‪ ،‬وهذا‬
‫ال يعني عدم استفادته من آراء الفقهاء السابقين‪ ،‬بل هو يستفيد منها‪ ،‬بل قد ينطلق منها في‬
‫بحثه عن الجواب الشرعي في المسائل الحادثة أو غير الحادثة‪ ،‬ولكنه ال يكتفي بذلك‬
‫كما يفعل المقلدون‪ ،‬بل يعرض تلك الفتاوى على المصادر األصلية أو التبعية للدين‪.‬‬
‫وبذلك فإن هذا المنهج يعتمد على مصدرين كبيرين‪:‬‬

‫(‪ )0‬سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.020‬‬


‫(‪ )6‬سورة النساء‪.26 :‬‬
‫(‪ )0‬سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.026‬‬

‫‪35‬‬
‫األول‪ :‬هو النظر في النصوص واالجتهاد في فهمها أو استنباط الحكم الشرعي‬
‫من خالل منطوقها أو مفهومها‪ ،‬أو من خالل القياس عليها‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويستدلون لهذا‪:‬‬
‫‪ 0‬ـ بما ورد في الحديث المشهور أن النبي ‪ ‬قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن‪( :،‬‬
‫كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟)‪ ،‬قال‪ :‬أقضي بما في كتاب الله‪ .‬قال‪( :‬فإن لم يكن في‬
‫كتاب الله؟) قال‪ :‬فبسنة رسول الله ‪ ،‬قال‪( :‬فإن لم يكن في سنة رسول الله ‪‬؟ قال‪:‬‬
‫أجتهد رأيي‪ ،‬ال آلو‪ .‬قال‪ :‬فضرب رسول الله ‪ ‬صدري‪ ،‬ثم قال‪( :‬الحمد لله الذي وفق‬
‫(‪)0‬‬
‫رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)‬
‫‪ 6‬ـ بما ورد عن الصحابة من منهجهم في الفتوى‪ ،‬ومن ذلك ما روي عن حريث‬
‫بن ظهير‪ -‬قال‪ :‬أحسب‪ -‬أن عبد الله قال‪ :‬قد أتى علينا زمان وما نسأل‪ ،‬وما نحن هناك‪،‬‬
‫وإن الله قدر أن بلغت ما ترون‪ ،‬فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله‪ ،‬فإن لم تجدوه‬
‫في كتاب الله ففي سنة رسول الله ‪ ،‬فإن لم تجدوه في سنة رسول الله ‪ ‬فما أجمع‬

‫(‪ )0‬مسند أحمد‪ ،‬ج‪ ،06‬ص ‪ ،000‬قال محققه‪ :‬إسناده ضعيف إلبهام أصحاب معاذ وجهالة‬
‫الحارث بن عمرو‪ ،‬لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين من أهل العلم‪ ،‬منهم أبو بكر‬
‫الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪( :‬حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فال يضره ذلك؛ ألنه يدل‬
‫على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ال واحد منهم‪،‬‬
‫وهذا أبلل في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي‪ ،‬كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين‬
‫والفضل والصدق بالمحل الذي ال يخفى؟ وال يعرف في أصحابه متهم وال كذاب وال مجروح‪ ،‬بل‬
‫أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم‪ ،‬ال يشك أهل العلم بالنقل في ذلك‪ ،‬كيف وشعبة حامل لواء‬
‫هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث‪ :‬إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به) (إعالم‬
‫الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.011‬‬

‫‪36‬‬
‫عليه المسلمون فإن لم يكن فيما أجمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك وال تقل‪ :‬إني أخاف‬
‫وأخشى‪ ،‬فإن الحالل بين والحرام بين‪ ،‬وبين ذلك أمور مشتبهة‪ ،‬فدع ما يريبك إلى ما ال‬
‫(‪)0‬‬
‫يريبك)‬
‫ومثله ما روي عن شريح‪ ،‬أن عمر بن الخطاب كتب إليه‪( :‬إن جاءك شيء في كتاب‬
‫الله‪ ،‬فاقض به وال تلفتك عنه الرجال‪ ،‬فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول‬
‫الله ‪ ،‬فاقض بها‪ ،‬فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله ‪،‬‬
‫فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به‪ ،‬فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة‬
‫رسول الله ‪ ،‬ولم يتكلم فيه أحد قبلك‪ ،‬فاختر أي األمرين شئت‪ :‬إن شئت أن تجتهد‬
‫(‪)6‬‬
‫برأيك ثم تقدم فتقدم‪ ،‬وإن شئت أن تتأخر‪ ،‬فتأخر‪ ،‬وال أرى التأخر إال خيرا لك)‬
‫الثاني‪ :‬هو االستفادة من اجتهادات المجتهدين من الفقهاء من أصحاب المذاهب‬
‫وغيرهم من غير تقليد لها‪ ،‬ولهذا فإن هذا المنهج ال ينكر التمذهب مطلقا‪ ،‬بل ينكر ترك‬
‫الدليل ألجل المذهب‪ ،‬كما جاء في الدرر السنية‪( :‬ونحن أيضا في الفروع‪ ،‬على مذهب‬
‫اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬وال ننكر على من قلد أحد األئمة األربعة‪ ،‬دون غيرهم‪ ،‬لعدم ضبط‬
‫مذاهب الغير‪ ،‬الرافضة‪ ،‬والزيدية‪ ،‬واإلمامية‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬وال نقرهم ظاهرا على شيء من‬
‫مذاهبهم الفاسدة‪ ،‬بل نجبرهم على تقليد أحد األئمة األربعة‪ ..‬وال نستحق مرتبة االجتهاد‬
‫المطلق‪ ،‬وال أحد لدينا يدعيها‪ ،‬إال أننا في بعض المسائل‪ ،‬إذا صح لنا نص جلي‪ ،‬من‬
‫كتاب‪ ،‬أو سنة غير منسوخ‪ ،‬وال مخصص‪ ،‬وال معارض بأقوى منه‪ ،‬وقال به أحد األئمة‬

‫(‪ )0‬مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي‪،‬‬
‫التميمي السمرقندي‪ ،‬تحقيق‪ :‬نبيل هاشم الغمري‪ ،‬دار البشائر (بيروت)‪ ،‬ط‪0202 ،0‬هـ ‪6100 -‬م‪،‬‬
‫ص ‪.006‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.001‬‬

‫‪37‬‬
‫األربعة‪ :‬أخذنا به‪ ،‬وتركنا المذهب‪ ،‬كإرث الجد واإلخوة‪ ،‬فإنا نقدم الجد باإلرث‪ ،‬وإن‬
‫خالف مذهب الحنابلة‪ ..‬وال نفتش على أحد في مذهبه‪ ،‬وال نعترض عليه‪ ،‬إال إذا اطلعنا‬
‫على نص جلي‪ ،‬مخالف لمذهب أحد األئمة‪ ،‬وكانت المسألة مما يحصل بها شعار‬
‫ظاهر‪ ،‬كإمام الصالة‪ ،‬فنأمر الحنفي‪ ،‬والمالكي مثال‪ ،‬بالمحافظة على نحو الطمأنينة في‬
‫االعتدال‪ ،‬والجلوس بين السجدتين‪ ،‬لوضوح دليل ذلك‪ ،‬بخالف جهر اإلمام الشافعي‬
‫بالبسملة‪ ،‬فال نأمره باإلسرار‪ ،‬وشتان ما بين المسألتين‪ ،‬فإذا قوي الدليل أرشدناهم‬
‫بالنص‪ ،‬وإن خالف المذهب‪ ،‬وذلك يكون نادرا جدا‪ .‬وال مانع من االجتهاد في بعض‬
‫المسائل دون بعض‪ ،‬فال مناقضة لعدم دعوى االجتهاد‪ ،‬وقد سبق جمع من أئمة المذاهب‬
‫األربعة‪ ،‬إلى اختيارات لهم في بعض المسائل‪ ،‬مخالفين للمذهب‪ ،‬الملتزمين تقليد‬
‫(‪)0‬‬
‫صاحبه)‬

‫(‪ )0‬الدرر السنية في األجوبة النجدية‪ ،‬ج ‪ ، 0‬ص ‪.661‬‬

‫‪38‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫المنهج المذهبي‬
‫يراد بالمنهج المذهبي(‪ )0‬في الفتوى المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد‬
‫المذهبي لألئمة األربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجاالت من كتب‬
‫التفسير وشروح الحديث‪ ،‬إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها‪ ،‬باإلضافة إلى ما كتب‬
‫في خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل‪.‬‬
‫وهذا المنهج بدأ متقدما على المذاهب األربعة‪ ،‬فقد كان لكل إمام من أئمة الفقه‬
‫من يتبعه ويذهب مذهبه في الفتوى‪ ،‬كما قال ابن عبد البر‪( :‬وقد كان العلماء قديم ًا وحديث ًا‬
‫يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة‬
‫والصرف‪ ،‬ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم‬

‫(‪ )0‬يطلق المذهب في اللغة‪ :‬على الطريق ومكان الذهاب‪ ،‬يقال ذهب القوم مذاهب شتى إذا‬
‫ساروا طرائق مختلفة‪ ،‬قال الزبيدي‪( :‬المذهب ‪ :‬المعتقد الذي يذهب إليه ‪ ..‬والمذهب الطريقة‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫ذهب فالن مذهب ًا حسن ًا‪ ،‬أي طريقة حسنة) (انظر‪ :‬تاج العروس‪ ،‬الزبيدي‪ ،‬دار الرشاد‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫ج‪0‬ص‪ ،116‬وانظر‪ :‬لسان العـرب‪)0120/6 ،‬‬
‫ويطلق في االصطالح‪ :‬على ما ذهب إليه إمام من األئمة في األحكام االجتهادية‪ ،‬ويطلق عند‬
‫المتأخرين على ما به الفتوى‪ ،‬فيقولون المذهب في المسألة كـذا من باب إطالق الشيء على جزئه‬
‫األهم‪ ،‬كإطالق الصالة على الفاتحة‪ ،‬والحج عرفة‪ ،‬وبهذا فإن (المذهب المالكي‪ :‬هو الطريق الذي‬
‫سلكه مالك في استنباط األحكام االجتهادية‪ .‬انظر‪ :‬مواهب الجليل لشـرح مختصر خليـل‪ ،‬الحطاب‪،‬‬
‫دار الفكـر‪ ،‬ط‪.)62/0 ،0996 ،6:‬‬

‫‪39‬‬
‫(‪)0‬‬
‫في النبيذ الشديد‪ ،‬ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء)‬
‫ولكنه بعد ذلك وألسباب كثيرة‪ ،‬سنذكر هنا بعضها‪ ،‬اقتصرت داللته على أتباع‬
‫المذاهب األربعة‪ ،‬والتي سرى إليها الخالف هي أيضا‪ ،‬فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار‬
‫الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية في العالم اإلسالمية قرونا طويلة‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم االلتزام بهذه المذاهب بين متشدد‬
‫ومتساهل‪:‬‬
‫فمن أمثال المتشددين ما عبر عنه صاحب (الفواكه الدواني)‪ ،‬وهو مالكي‬
‫المذهب‪ ،‬بقوله‪( :‬وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من األئمة‬
‫األربع‪ :‬أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم‪،‬‬
‫وإنما حرم تقليد غير هؤالء األربعة من المجتهدين‪ ،‬مع أن الجميع على هدى لعدم حفظ‬
‫مذاهبهم لموت أصحابهم وعدم تدوينها‪ ،‬ولذا قال بعض المحققين‪ :‬المعتمد أنه يجوز‬
‫تقليد األربعة‪ ،‬وكذا من عداهم ممن يحفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت‬
‫شروطه وسائر معتبراته‪ ،‬فاإلجماع الذي نقله غير واحد كابن الصالح وإمام الحرمين‬
‫(‪)6‬‬
‫والقرافي على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد منه شرط من ذلك)‬
‫وقال الحطاب في (مواهب الجليل) معلال سبب االقتصار على المذاهب األربعة‬
‫دون غيرها‪( :‬قال القرافي‪ :‬ورأيت للشيخ تقي الدين بن الصالح ما معناه أن التقليد يتعين‬

‫(‪ )0‬التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد‪ ،‬أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن‬
‫عاصم النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصطفى بن أحمد العلوي ‪ ،‬محمد عبد الكبير البكري‪ ،‬وزارة عموم‬
‫األوقاف والشؤون اإلسالمية – المغرب‪ 0021 ،‬هـ‪ ،‬ج‪ ،01‬ص‪.001‬‬
‫(‪ )6‬الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني‪ ،‬أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن‬
‫مهنا‪ ،‬شهاب الدين النفراوي األزهري المالكي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دط‪0201 ،‬هـ ‪0991 -‬م‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪.016‬‬

‫‪41‬‬
‫لهذه األئمة األربعة دون غيرهم؛ ألن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد‬
‫مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكمال في‬
‫موضع آخر ‪،‬وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة فلعل لها مكمال أو مقيدا أو مخصصا‬
‫لو انضبط كالم قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة‪ ،‬بخالف هؤالء األربعة قال‪:‬‬
‫وهذا توجيه حسن فيه ما ليس في كالم إمام الحرمين) (‪.)0‬‬
‫أما المتساهلون فهم الذين لم يحكموا بوجوب التزام هذه المذاهب‪ ،‬ولم يحكموا‬
‫بوجوب االقتصار عليها‪ ،‬كما ورد في (البحر الرائق) وهو من كتب الحنفية المعتبرة‪:‬‬
‫(فصل‪ :‬يجوز تقليد من شاء من المجتهدين‪ ،‬وإن دونت المذاهب كاليوم وله االنتقال من‬
‫(‪)6‬‬
‫مذهبه‪ ،‬لكن ال يتبع الرخص فإن تتبعها من المذاهب فهل يفسق وجهان)‬
‫وقال النووي‪ ،‬وهو شافعي المذهب‪( :‬الذي يقتضيه الدليل أنه ال يلزمه التمذهب‬
‫بمذهب‪ ،‬بل يستفتي من شاء‪ ،‬أو م ِن اتَّفق من غير تل ُّق ٍ‬
‫ط للرخص‪ ،‬ولعل َمن َمنَ َعه لم يثق‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(‪)0‬‬
‫بعدم تلقطه)‬
‫ونقل ابن عابدين في حاشيته عن الشرنباللي قوله‪( :‬ليس على اإلنسان التزا ُم‬
‫غير إمامه‬
‫مذهب معين‪ ،‬وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدً ا فيه َ‬
‫مستجم ًعا شروطه‪ ،‬ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين ال تعلق لواحدة منهما باألخرى‪،‬‬
‫وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ ألن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي ال‬

‫(‪ )0‬مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل ‪ ،‬ج ‪ ، 0‬ص ‪.99‬‬
‫(‪ )6‬البحر الرائق شرح كنز الدقائق‪ ،‬زين الدين بن إبراهيم بن محمد‪ ،‬المعروف بابن نجيم‬
‫المصري‪ ،‬دار الكتاب اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،6‬ج‪ ،6‬ص‪.696‬‬
‫(‪ )0‬روضة الطالبين وعمدة المفتين‪ ،‬محيي الدين النووي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪0211 ،‬هـ‪ ،‬ج‪ ،00‬ص‪.001‬‬

‫‪40‬‬
‫(‪)0‬‬
‫ُين َقض)‬
‫وهكذا نجد المتساهلين والمتشددين في كل مذهب من المذاهب‪ ،‬والمتساهلون‬
‫عادة يقتربون من المنهج السابق‪ ،‬أو ربما يميلون إلى المناهج األخرى التي سنعرض لها‬
‫في المباحث الالحقة‪.‬‬
‫بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحث‬
‫السابق من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه‪ ،‬وأدلتهم‪ ،‬والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي‬
‫يعتمدون عليها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫ليس من الصعوبة التعرف على أعالم هذا المنهج‪ ،‬والذين مثلوه طيلة التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ذلك أنهم يكادون يمثلون أكثر فقهاء هذه األمة‪ ،‬وتمثل كتبهم كثيرا من التراث‬
‫الفقهي الضخم الذي وصل إلينا‪.‬‬
‫وهذا األمر غير مستغرب‪ ،‬ذلك أن الذين اعتمدوا فقه الدليل كانوا من النخبة‪ ،‬وهي‬
‫محدودة عادة‪ ،‬بخالف الذين انتهجوا هذا المنهج فهم في أحسن أحوالهم مجتهدون في‬
‫إطار المذهب ال يخرجون عنه‪.‬‬
‫وقد ساعد على هذه الوفرة في األعالم والمشايخ الفقهاء أنهم رأوا أن مذاهبهم‬
‫هي التي تمثل الشريعة‪ ،‬وبالتالي فإن نصرتها أو التعصب لها نصرة للشريعة نفسها‪ ،‬ومن‬
‫السبكي الشافعي(ت‬
‫األمثلة على ذلك – ولسنا ندري مدى دقته ‪ -‬ما ذكره تاج الدين ُ‬
‫قرن‪2 :‬هـ) عن الحافظ عبد الله األنصاري الهروي الحنبلي(ت ‪ 220‬هـ ) من شدة تمسكه‬

‫(‪ )0‬رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)‪ ،‬محمد أمين عابدين‪ ،‬دار إحياء التراث‬
‫العربي (بيروت)‪ ،‬الطبعة الثانية ‪0211‬هـ‪0921 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.10‬‬

‫‪42‬‬
‫بالمذهب الحنبلي إلى درجة أنه كان ينشد على المنبر‪:‬‬
‫مت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا‬
‫حييت وإن ُ‬
‫ُ‬ ‫أنا حنبلي ما‬
‫حتى أنه أيضا ترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعريا (‪.)0‬‬
‫ولم يكن أمر العلماء أو طلبة العلم قاصرا على تمسكهم بمذاهبهم أو تعصبهم لها‬
‫فقط‪ ،‬وإنما برز بنوع من العداوة للمخالفين لهم‪ ،‬وقد ساهم ذلك في تعميق هذا المنهج‪،‬‬
‫ليصبح كل مذهب وكأنه شريعة من الشرائع مستقال عن غيره‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذا الفقيه الحنفي أبو عبد الله محمد البالساغوني التركي(ت‬
‫‪116‬ه)‪ ،‬والذي كان شديد التعصب للمذهب الحنفي‪ ،‬وشديد العداوة لمخالفيه‪،‬‬
‫وخصوصا من المذهب الشافعي‪ ،‬وقد حكي عنه – ولسنا ندري مدى دقة ذلك‪ -‬أنه كان‬
‫(‪)6‬‬
‫ألخذت الجزية من الشافعية)‬
‫ُ‬ ‫يقول‪( :‬لو كان لي والية‬
‫ومن األمثلة الفقيه الشافعي أبو المظفر محمد بن محمد البروي (ت ‪161‬ه )‪ ،‬وقد‬
‫لوضعت على‬
‫ُ‬ ‫كان متعصبا للشافعي مناوئا للحنابلة‪ ،‬وكان يقول عنهم‪( :‬لو أن لي أمر‬
‫الحنابلة الجزية )‪ ،‬وقد حصل له بسبب هذا أن دس له بعض الحنابلة من أهدى له شيئا‬
‫فمات (‪. )0‬‬

‫(‪ )0‬طبقات الشافعية الكبرى‪ ،‬السبكي‪ ،‬حققه محمد الطناجي‪ ،‬ط ‪ ،6‬الجيزة‪ ،‬دار هجر‪،0996 ،‬‬
‫ج ‪ ،6‬ص ‪..210‬‬
‫(‪ )6‬معجم البلدان‪ ،‬شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي‪ ،‬دار صادر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪ 0991 ،6‬م ج ‪ ،0‬ص‪.216‬‬
‫(‪ )0‬طبقات الفقهاء الشافعيين‪ ،‬أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم‬
‫الدمشقي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د أحمد عمر هاشم‪ ،‬د محمد زينهم محمد عزب‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ 0200 ،‬هـ‪ ،‬ج‬
‫‪ ، 6‬ص ‪.610‬‬

‫‪43‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن التعصب الشديد ألصحاب المذاهب جعل فقهاء كل المذاهب‬
‫يتنافسون في تكثير سواد التالميذ وطلبة العلم على األسس التي تمسكوا بها‪ ،‬ليتمكنوا‬
‫من نشر المذهب والحفاظ على وجوده‪ ،‬وقد استخدموا ألجل هذا صنفين من الناس‪:‬‬
‫‪ 0‬ـ الساسة والحكام‪ :‬باعتبارهم من أولي األمر الذين تجب طاعتهم‪ ،‬وبالتالي فإن‬
‫الوصول إلى هؤالء يضمن للمذهب االنتشار الواسع‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك دولة المرابطين (‪120-210‬ه) التي استطاعت أن تطبع‬
‫المغرب العربي بطابع المذهب المالكي(‪ ،)0‬في مقابل دولة الموحدين (‪662-220‬ه)‬
‫التي حاربت التمذهب عامة‪ ،‬واشتدت على ُخصومها من المرابطين‪ ،‬فك ّفرتهم‬
‫واستباحت دماءهم(‪.)6‬‬
‫باإلضافة إلى ما لهؤالء الحكام من قدرة على بناء المدارس والمساجد التي ترسخ‬
‫االنتماء المذهبي‪ ،‬وكمثال على ذلك الملك قطب الدين محمد بن الملك صاحب‬
‫سنجار الزنكي(ت بعد‪192:‬ه) الذي كان حنفيا مناوئا للشافعية‪ ،‬وقد بنى ألجل هذا‬
‫مدرسة للحنفية بمدينة سنجار‪ ،‬وجعل النظر فيها للحنفية‪ ،‬بل اشترط أن يكون بواب‬

‫(‪ )0‬العبر‪ ،‬الذهبي‪ ،‬حققه صالح الدين المنجد‪ ،‬ط‪ ،6‬الكويت‪ ،‬مطبعة حكومة الكويت‪،‬‬
‫‪ ،0922‬ج ‪ 2‬ص‪ ،61 :‬ومما رواه في هذا ما حصل للفقيه المالكي محمد بن زرقون (ت ‪666‬ه)‪ ،‬ذلك‬
‫أنه لما أمر السلطان الموحدي يوسف بن يعقوب بعدم قراءة ُكتب الفروع عامة والمالكية خاصة‪ ،‬استمر‬
‫درس الفقه ُأخذ للقتل صبرا‬
‫ابن زرقون في تدريس الفقه المالكي متحديا ألمر السلطان‪ ،‬فلما ُظفر به ُي ّ‬
‫(نحو سنة‪190‬ه)‪ ،‬ثم ُسجن ولم ُيقتل‪ ،‬فطال سجنه وأحرقت كتبه (س ّير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬حققه‬
‫بشار عواد‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة الرسالة ج ‪ 66‬ص‪) 000 :‬‬
‫(‪ )6‬االستقصاء ألخبار دول المغرب األقصى‪ ،‬الناصري احمد بن خالد‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار‬
‫الكتاب‪ ،‬ط‪ 0991 ،0‬ج ‪ 0‬ص‪.061 :‬‬

‫‪44‬‬
‫المدرسة وفراشها على المذهب الحنفي(‪.)0‬‬
‫وألجل هذا انتشرت المدارس والمساجد المرتبطة بالمذاهب المختلفة‪ ،‬والتي ال‬
‫يمكن ذكرها هنا لكثرتها(‪ ،)6‬وقد كان لها دور كبير في إمداد المذاهب الفقهية بالكثير من‬
‫العلماء وطلبة العلم‪ ،‬وهذا ما كان سببا في كثرتهم وكثرة مصنفاتهم‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا فقد كان الجهاز القضائي في الدولة بيد أصحاب المذاهب‪ ،‬وقد‬
‫كان لذلك دوره الكبير في انتشار هذه المذاهب‪.‬‬
‫البندقداري‪ ،‬ولي بمصر‬
‫ّ‬ ‫يقول المقريزي‪( :‬فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس‬
‫فاستمر ذلك من سنة خمس‬
‫ّ‬ ‫وحنبلي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حنفي‬
‫ومالكي و ّ‬
‫ّ‬ ‫شافعي‬
‫ّ‬ ‫والقاهرة أربعة قضاة‪ ،‬وهم‬
‫وستين وستمائة‪ ،‬حتى لم يبق في مجموع أمصار اإلسالم مذهب يعرف من مذاهب أهل‬
‫األشعري‪ ،‬وعملت ألهلها المدارس‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم سوى هذه المذاهب األربعة‪ ،‬وعقيدة‬
‫والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك اإلسالم‪ ،‬وعودي من تمذهب بغيرها‪ ،‬وأنكر‬
‫عليه‪ ،‬ولم ّ‬
‫يول قاض وال قبلت شهادة أحد وال قدّ م للخطابة واإلمامة والتدريس أحد ما‬
‫لم يكن مقلدا ألحد هذه المذاهب‪ ،‬وأفتى فقهاء هذه األمصار في طول هذه المدّ ة‬
‫(‪)0‬‬
‫بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها‪ ،‬والعمل على هذا إلى اليوم)‬
‫وقد أشار الشوكاني إلى الدور الذي يمارسه القضاة في ترسيخ المذاهب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(وقد امتحن الله تلك الديار بقضاة من المالكية يتجرؤون على سفك الدماء‪ ،‬بما ال يحل‬

‫(‪ )0‬وفيات األعيان‪ ،‬ابن خلكان‪ ،‬حققه إحسان عباس‪ ،‬دار الثقافة‪ .0962 ،‬ج ‪ 6‬ص‪.000 :‬‬
‫(‪ )6‬للتوسع في ذلك انظر ‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس‪ ،‬عبد القادر النعيمي‪ ،‬حققه جعفر‬
‫الحسيني‪ ،‬دمشق‪ ،‬المجمع العلمي‪.0910 ،‬‬
‫(‪ )0‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار‪ ،‬أحمد بن علي‪ ،‬تقي الدين المقريزي‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 0202 ،0‬هـ‪ ،‬ج ‪ 0‬ص ‪.091‬‬

‫‪45‬‬
‫به أدنى تعزير‪ ،‬فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم جهالة وضاللة وجرأة على الله‪،‬‬
‫ومخالفة لشريعة رسول الله‪ ،‬وتالعبا بدينه‪ ،‬بمجرد ُنصوص فقهية‪ ،‬واستنباطات فروعية‬
‫(‪)0‬‬
‫ليس عليها أثارة من علم‪ ،‬فإنا لله وإنا إليه راجعون)‬
‫‪ 6‬ـ العامة والدهماء‪ :‬والذين انتشر التعصب المذهبي بينهم‪ ،‬فجعلهم ال يهتمون‬
‫وال يستفتون إال من يرون فيه ما رسخ فيهم من تمسك بالمذهب وتعصب له‪ ،‬بل وصل‬
‫األمر بهم إلى إيذاء المخالفين‪ ،‬وحصلت بسبب ذلك الفتن بين أتباع المذاهب المختلفة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذا ما ذكره المؤرخون في أحداث سنة ‪ 221‬هجرية حيث‬
‫حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد‪ ،‬كان من أسبابها جهر الشافعية بالبسملة في‬
‫الصالة‪ ،‬فانقسمت العامة بين مؤيد ومخالف لهم‪ ،‬ثم انحازت كل طائفة إلى الطرف الذي‬
‫مالت إليه‪ ،‬ثم توجه الحنابلة إلى أحد مساجد الشافعية‪ ،‬ونهوا إمامه عن الجهر بالبسملة‪،‬‬
‫ثم تطور النزاع إلى االقتتال‪ ،‬فتقوى جانب الحنابلة وتقهقر جانب الشافعية‪ ،‬حتى ُألزموا‬
‫البيوت ‪،‬و لم يقدروا على حضور صالة الجمعة وال الجماعات‪ ،‬خوفا من الحنابلة(‪.)6‬‬
‫واألمثلة على هذا أكثر من أن تحصر‪ ،‬وقد ساهمت جميعا في ترسيخ المذاهب‪،‬‬
‫واالهتمام بتكوين الفقهاء فيها‪ ،‬حتى يتقوى كل طرف على األطراف األخرى‪.‬‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي‪:‬‬

‫(‪ )0‬البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‪ ،‬محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني‬
‫اليمني‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪..60‬‬
‫(‪ )6‬أرخت الكثير من المراجع التاريخية ألمثال هذه األحداث‪ ،‬منها على سبيل المثال‪ :‬الكامل‬
‫في التاريخ‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬حققه عبد الله القاضي‪ ،‬ط‪ ،6‬بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،0991 ،‬ج ‪ 2‬ص‪:‬‬
‫‪.10‬‬

‫‪46‬‬
‫الدليل األول‪:‬‬
‫صعوبة االجتهاد‪ ،‬بل استحالته على العامة وطلبة العلم‪ ،‬بل ال يصل إلى االجتهاد‬
‫بحسب الشروط التي قرروها إال الثلة القليلة من العلماء‪ ،‬والذين ال يعدون في تصورهم‬
‫أصحاب المذاهب األربعة ونظراؤهم‪.‬‬
‫وقد أجاب الشيخ عليش في فتاواه عن سؤال قال صاحبه‪( :‬ما قولكم فيمن كان‬
‫مقلدا ألحد األئمة األربعة م وترك ذلك زاعما أنه يأخذ األحكام من القرآن واألحاديث‬
‫الصحيحة تاركا لكتب الفقه مائال لقول أحمد بن إدريس بذلك قائال‪ :‬إن كتب الفقه ال‬
‫تخلو من الخطأ‪ ،‬وفيها أحكام كثيرة مخالفة لألحاديث الصحيحة‪ ،‬وكيف تترك اآليات‬
‫واألحاديث الصحيحة وتقلد األئمة في اجتهادهم المحتمل للخطأ‪ ،‬وقائال أيضا لمن‬
‫تمسك بكالم األئمة ومقلديهم أنا أقول لكم‪ :‬قال الله أو قال رسول الله ‪ ‬وأنتم تقولون‬
‫قال مالك أو ابن القاسم أو خليل‪ ،‬فتقابلون كالم الشارع المعصوم من الخطأ بكالم من‬
‫(‪)0‬‬
‫يجوز عليهم الخطأ)‬
‫فكتب في الجواب‪ ..( :‬ال يجوز لعامي أن يترك تقليد األئمة األربعة ويأخذ‬
‫األحكام من القرآن واألحاديث؛ ألن ذلك له شروط كثيرة مبينة في األصول ال توجد في‬
‫أغلب العلماء وال سيما في آخر الزمان الذي عاد اإلسالم فيه غريبا كما بدأ غريبا‪ ،‬وألن‬
‫كثيرا من القرآن واألحاديث ما ظاهره صريح الكفر وال يعلم تأويله إال الله تعالى‬
‫(‪)6‬‬
‫والراسخون في العلم)‬

‫(‪ )0‬فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك‪ ،‬محمد بن أحمد بن محمد عليش‪،‬‬
‫أبو عبد الله المالكي (المتوفى‪0699 :‬هـ)‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬ج ‪ ، 0‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )6‬فتح العلي المالك‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.91‬‬

‫‪47‬‬
‫واستدل لهذا بما ورد عن السلف من خطورة الرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما‬
‫من غير استناد إلى رؤية المجتهدين من الفقهاء‪ ،‬فنقل عن ابن عيينه قوله‪( :‬الحديث مضلة‬
‫إال للفقهاء)‪ ،‬وعلق عليه بقوله‪ ( :‬يريد أن غيرهم قد يحمل الشيء على ظاهره وله تأويل‬
‫من حديث غيره أو دليل يخفى عليه أو متروك أوجب تركه غير شيء مما ال يقوم به إال‬
‫(‪)0‬‬
‫من استبحر وتفقه)‬
‫ونقل عن عبد الرحمن بن مهدي قوله‪( :‬السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير‬
‫من الحديث)‬
‫ونقل عن النخعي قوله‪( :‬لو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين لتوضأت‬
‫كذلك وأنا أقرؤها إلى المرافق ؛وذلك ألنهم ال يتهمون في ترك السنن وهم أرباب العلم‬
‫وأحرص خلق الله على اتباع رسول الله ‪ ‬وال يظن ذلك بهم أحد إال ذو ريبة في دينه)‬
‫(‪)6‬‬

‫وقد رد أصحاب المنهج االستداللي على هذا ببيان سهولة االجتهاد‪ ،‬وأنه ليس‬
‫بالصعوبة التي يعتقدها المقلدون‪ ،‬ومن الردود المفصلة في هذا ما رد به ابن الوزير (ت‪:‬‬
‫‪221‬هـ) في كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)‪ ،‬فقد ذكر اآلثار‬
‫الكثيرة عن السلف‪ ،‬والتي تدل على أن االجتهاد ال يحتاج إلى كل التعقيدات التي وضعها‬
‫ِ‬
‫الظاه َر من‬ ‫المذهبيون‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬إن اجتها َد أولئك َيدُ ُّل على ُسهو َل ِة االجتهاد‪ ،‬ألن‬
‫أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم ِمثْ َل اشتغال المتأخرين‪ ،‬وال قريب ًا منه‪ ،‬وكان الواحدُ منهم‬
‫ٍ‬
‫تعليق وال‬ ‫غير درس لِما َس ِم َع ُه‪ ،‬وال‬‫بي ‪ِ ‬من ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ْح َف ُظ م َن ُّ‬
‫السنة ما اتفق أنَّه َسم َعه من الن ِّ‬
‫ِ‬
‫حدوث الحادثة عن‬ ‫مبالغة في طلب النصوص ِمن سائر أصحابه‪ ،‬وإنما كانوا يبحثون عندَ‬ ‫ٍ‬

‫(‪ )0‬فتح العلي المالك‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.91‬‬


‫(‪ )6‬فتح العلي المالك‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.91‬‬

‫‪48‬‬
‫بكر ما درى كَم ن َِصيب الجدَّ ِة من الميراث‪ ،‬وأدنى ِ‬
‫طلبة العل ِم في زماننا‬ ‫األدلة‪ ،‬فهذا أبو ٍ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫أن َل َها ُّ‬
‫السدُ َس حتى قا َم فيهم وسألهم‪ ،‬ولو أن رج ً‬
‫ال ممن َيدَّ عي االجتها َد‬ ‫ال يخفي عليه َّ‬
‫وع َّظ ُموا هذا عليه‪..‬‬ ‫نصيب الجدة‪ ،‬لكثَّر عليه ُ‬
‫أهل التعسير لالجتهاد‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫في زماننا ما َع َر َ‬
‫وتوريث المرأه من ِدية زوجها‬ ‫ِ‬ ‫النصوص في ِد َي ِة األصابع‪،‬‬
‫َ‬ ‫ف‬‫وكذلك ُع َمر ما كان َي ْع ِر ُ‬
‫الم ْت َع َة‬ ‫ابن عباس قال‪ :‬ال ربا إِالُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص‪ ،‬وكذلك ما َع َر َ‬
‫ف أن ُ‬ ‫وكذلك ُ‬
‫(‪)0‬‬
‫منسوخ ٌة)‬
‫ثم تتبع كل الشروط التي وضعها المذهبيون شرطا شرطا‪ ،‬وبين أنها ليست‬
‫بالصورة التي وضعوها‪ ،‬وأن قصدهم من ذلك ليس إال غلق باب االجتهاد‪.‬‬

‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫أن وجود األدلة وعدمها سواء بالنسبة للعامة‪ ،‬وغير من توفرت فيهم ملكة‬
‫اس َأ ُلوا َأ ْه َل‬
‫االجتهاد‪ ،‬ولذلك ال مفر لهم من التقليد‪ ،‬وقد استدلوا لذلك بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫الذك ِْر إِ ْن ُكنْتُ ْم َال َت ْع َل ُم َ‬
‫ون ﴾(‪ ،)6‬يقول الشاطبي مبينا وجه االستدالل باآلية على جواز‬ ‫ِّ‬
‫التقليد‪ ،‬بل وجوبه‪( :‬والدليل عليه أن وجود األدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛‬
‫إذ كانوا ال يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في األدلة واالستنباط من شأنهم‪ ،‬وال يجوز‬
‫الذك ِْر إِ ْن ُكنْتُ ْم َال َت ْع َل ُم َ‬
‫ون ﴾(‪ ،)0‬والمقلد‬ ‫اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ‬
‫ذلك لهم ألبتة وقد قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫غير عالم؛ فال يصح له إال سؤال أهل الذكر‪ ،‬وإليهم مرجعه في أحكام الدين على‬

‫(‪ )0‬العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم‪ ،‬ابن الوزير‪ ،‬محمد بن إبراهيم‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫شعيب األرنؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 0201 ،0‬هـ ‪ 0992 -‬م‪ ،‬ج‪،6‬‬
‫ص ‪.61‬‬
‫(‪ )6‬سورة النحل‪.20 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة النحل‪.20 :‬‬

‫‪49‬‬
‫(‪)0‬‬
‫اإلطالق‪ ،‬فهم إذن القائمون له مقام الشارع‪ ،‬وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع)‬
‫ويبين الشيخ محمد حسنين مخلوف أن أقوال المجتهدين ليست سوى ترجمة‬
‫للمصادر الشرعية‪ ،‬ولذلك فإن التلقي منها هو تلق من المصادر مباشرة‪ ،‬يقول في ذلك‪:‬‬
‫(وقد اعتبر األصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كاألدلة‬
‫الشرعية في حق المجتهدين‪ ،‬ال ألن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها األحكام‬
‫الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصالة والسالم فإن ذلك ال يقول به أحد؛ بل ألنها مستندة‬
‫إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دالئلها مع عدالتهم وسعة‬
‫اطالعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها‪ ،‬ولذلك شرطوا‬
‫في المستثمر لألدلة المستنبط لألحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ‪ -‬لكونها ظنية ال‬
‫تنتج إال ظنا ‪ -‬أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص‬
‫األدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونا ألحكام الدين عن الخطأ بقدر‬
‫(‪)6‬‬
‫المستطاع)‬
‫ومن هذا المنطلق بين أن التقليد على العوام واجب‪ ،‬كما أن االجتهاد على غيرهم‬
‫ممن توفرت فيهم أدوات االجتهاد واجب‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬وكما أمر الله تعالى ورسوله‬
‫المستعدِّ ين لالجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى‪،‬‬
‫أمر القاصرين عن رتبة االجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم‬
‫لبلوغ هذا المنصب الشريف‪ ،‬أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم‪ ،‬وأمر‬

‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبو‬
‫عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان‪ ،‬دار ابن عفان‪ ،‬ط‪0201 ،0‬هـ‪0991 /‬م ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.001‬‬
‫(‪ )6‬بلوغ السول في مدخل علم األصول‪ ،‬محمد حسنين محلوف‪ ،‬مطبعة مصطفى الحلبي‪،‬‬
‫ص ‪.01‬‬

‫‪51‬‬
‫العا َّمة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء واألخذ بأقوالهم كما قال تعالى‪:‬‬
‫الذك ِْر إِ ْن ُكنْ ُت ْم َال َت ْع َل ُم َ‬
‫ون ﴾(‪ ،)0‬أي‪ :‬بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه‬ ‫اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ‬
‫﴿ َف ْ‬
‫من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله‪ ،‬أو قول رسوله‪ ،‬أو مجردا عنه‪ ،‬فإن ذكر الدليل‬
‫لـمن لم يعلم حكم الله في النازلة غير الزم‬
‫من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة َ‬
‫مـمن ال يفهم وجه الداللة كأكثر عا َّمة األمة‪ ،‬أو كان الدليل ذا مقدمات‬
‫خصوصا إذا كان َّ‬
‫ً‬
‫(‪)6‬‬
‫يتوقف فهمها وتقريب االستدالل بها على أمور ليس للعامي إلمام بها)‬

‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫أن هناك مصالح كثيرة ال تتحقق إال باتباع المذاهب األربعة خصوصا‪ ،‬يقول‬
‫يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها األفها ُم ‪،‬وزلت‬
‫ُ‬ ‫الدهلوي‪( :‬مما‬
‫ِ‬
‫اجتمعت األم ُة أو من‬ ‫األقدام‪ ،‬وطغت األقالم منها َّ‬
‫أن هذه المذاهب األربعة المدونة قد‬
‫يعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى بومنا هذا وفي ذلك من المصالح ما ال يخفى ال سيما‬
‫كل ذي رأي‬‫وأعجب ُّ‬ ‫النفوس الهوى‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الهمم‪،‬وأشربت‬ ‫في هذه األيام التي قصرت فيها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫(‪)0‬‬
‫برأيه)‬

‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫ما ورد من األدلة على أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد‪ ،‬قال الزركشي ذاكرا‬

‫(‪ )0‬سورة النحل‪.20 :‬‬


‫(‪ )6‬بلوغ السول في مدخل علم األصول‪ ،‬محمد حسنين محلوف‪ ،‬مطبعة مصطفى الحلبي‪،‬‬
‫ص ‪.01‬‬
‫(‪ )0‬حجة الله البالغة‪ ،‬أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «الشاه ولي الله الدهلوي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫السيد سابق‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ط‪ 0266 ،0‬هـ ‪6111 -‬م‪ .‬ج ‪ ،0‬ص ‪.660‬‬

‫‪50‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن قال بها من العلماء‪( :‬يجوز خلو العصر عن المجتهد عند األكثرين وجزم به‬
‫في المحصول‪ ،‬وقال الرافعي‪ :‬الخلق كالمتفقين على أنه ال مجتهد اليوم ولعله أخذه من‬
‫اإلمام الرازي‪ ،‬أو من قول الغزالي في الوسيط‪ :‬قد خال العصر عن المجتهد المستقل‬
‫ونقل االتفاق فيه عجيب‪ ،‬والمسألة خالفية بيننا وبين الحنابلة‪ ،‬وساعدهم بعض أئمتنا‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي‪ ،‬ال الناقل فقط)‬
‫وقد أوردوا األدلة الكثيرة على هذا‪ ،‬وردوا بشدة على من زعم لنفسه القدرة على‬
‫االجتهاد من أمثال السيوطي وبقي بن مخلد وابن حزم وغيرهم‪.‬‬
‫ولهذا نرى عالما كالسيوطي يحاول بكل الوسائل أن يبرهن ألهل عصره أنه قد‬
‫بلل مرتبة االجتهاد‪ ،‬وأن دعوى غلق باب االجتهاد غير صحيحة‪ ،‬يقول في رسالته‬
‫بلغت ولله الحمد والمنة‪ُ ،‬رتبة االجتهاد المطلق في األحكام‬
‫ُ‬ ‫(التحدث بنعمة الله)‪( :‬فقد‬
‫(‪)6‬‬
‫الشرعية وفي الحديث النبوي‪ ،‬وفي العربية)‬
‫بل إنه فوق ذلك ُيصرح بأن ُه مجدد المائة التاسعة‪ ،‬يقول‪( :‬فإن ثم من ينفخ أشداق ُه‬
‫ويدعي مناظرتي‪ ،‬وينكر علي دعوى االجتهاد والتفرد بالعلم على رأس ِ‬
‫هذه المئة‪ ،‬ويزعم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫واحد ونفخت عليهم‬ ‫ٍ‬ ‫وهم في صعيد‬ ‫علي بمن لو اجتمع هو ُ‬ ‫عارضني ويستجيش ّ‬ ‫أن ُه ُي ُ‬
‫(‪)0‬‬
‫نفخة صاروا هباء ًا منثور ًا)‬
‫وألجل هذا كتب كتابه المعروف (الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن‬

‫(‪ )0‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬ج ‪ / 2‬ص ‪.621‬‬


‫(‪ )6‬التحدث بنعمة الله‪ ،‬السيوطي‪ ،‬تحقيق‪:‬إليزابيث ماري سارتين‪ ،‬المطبعة العربية الحديثة‪،‬‬
‫مصر‪0916 ،‬م‪ ،‬ص‪.611‬‬
‫(‪ )0‬الكشف عن مجاوزة ِ‬
‫هذه األمة األلف‪ ،‬مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي‪ ،‬جالل الدين عبد‬
‫الرحمن السيوطي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص‪.26‬‬

‫‪52‬‬
‫(‪)0‬‬
‫االجتهاد في كل عصر فرض)‬
‫وألجله أيضا كثرت كتبه ورسائله‪ ،‬ألنه كان يكتب في كل مسألة يختلف فيها مع‬
‫المخالفين كتابا أو رسالة‪ ،‬مثل‪( :‬طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة)‪،‬‬
‫ِ‬
‫بالواحد القهار)‪ ،‬و(الكاوي في تاريخ السخاوي)‬ ‫و(االستنصار‬
‫(وخالفت أهل عصري في خمسين مسألة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقد نقل عنه بعض تالميذه قوله‪:‬‬
‫(‪)6‬‬
‫فألفت في ُك ِل مسألة مؤلف ًا ُ‬
‫أثبت فيه وجه الحق)‬ ‫ُ‬

‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬


‫بناء على ما ذكرنا سابقا من كثرة أعالم هذا المنهج‪ ،‬وكثرة تصانيفهم في جميع‬
‫العلوم الشرعية‪ ،‬فإنه ليس من الصعوبة التعرف على منهج الفتوى عندهم‪ ،‬فهم ينطلقون‬
‫من اآلراء التي اختارها أئمة مذاهبهم أو أتباعهم الكبار باعتبارها أصال يبنى عليه‪ ،‬وتفسر‬
‫جميع النصوص على أساسه‪ ،‬بل وصل األمر إلى أن تصبح كالمصادر األصلية نفسها‬
‫يقاس عليها ويستنبط منها‪ ،‬وهذا ما يسمى عندهم بمجتهد المذهب‪ ،‬أو مجتهد‬
‫التخريج(‪.)0‬‬
‫وأدنى منه من كانت له القدرة على الترجيح بين أقوال إمامه المذكورة في‬

‫(‪ )0‬طبع في دار الكتب لعلمية ‪ ،0210‬هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس)‬
‫الصغرى‪ ،‬عبد الوهاب الشعراني‪ ،‬تحقيق‪:‬عبدالقادراحمد عطا‪ ،‬مكتبة القاهرة‪،‬‬
‫(‪ )6‬الطبقات ُ‬
‫مصر‪0911 ،‬م‪ ،‬ص‪.61‬‬
‫(‪ )0‬معنى التخريج في االصطالح الفقهي‪ :‬بناء فرع على أصل بجامع مشترك‪ ،‬وله طريقان‪:‬‬
‫األول يكون من القواعد الكلية‪ ،‬والثاني‪ :‬يسمى التخريج بالنقل‪ ،‬بأن يجعل نص اإلمام أصال‪ ،‬ويقاس‬
‫عليه‪.‬انظـر‪ :‬نوار بن الشلي‪ ،‬التخريج المذهبي أصـوله ومناهجـه‪ ،‬الرباط‪ ،0991،‬ص‪.16‬‬

‫‪53‬‬
‫(‪)0‬‬
‫المذهب‪ ،‬ويطلق عليه (مجتهد الترجيح)‬
‫وأدنى منه (مجتهد الفتـوى)(‪ ،)6‬وهو من كانت له القدرة على فهـم فقه مـذهبه مـع‬
‫حفـظه له‪ ،‬أو ألكثره وفهمه لضـوابطه وتخريجـات أصحابه‪ ،‬ويستطيع الرجـوع إلى‬
‫مصادر هذا المذهب؛ غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحـرير أقيستـه(‪.)0‬‬
‫وهذا التقسيم نجده عند جميع أتباع المذاهب األربعة‪ ،‬وإن اختلفت عباراتهم في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك هذا التقسيم الذي ذكره القرافي في كتابه (أنوار البروق في‬
‫أنواء الفروق) تحت عنوان‪( :‬الفرق بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من ال‬
‫يجوز له أن يفتي)(‪ )2‬فقد قسم األحوال التي يكون عليها طلبة الفقه المالكي وعلماؤه إلى‬
‫األحوال التالية‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬وهي من يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة‬
‫في غيره وعمومات مخصوصة في غيره‬
‫والحكم في هذه الحالة ‪ -‬كما يقرر القرافي ‪ -‬هو أنه (متى كان الكتاب المعين‬

‫(‪ )0‬انظر‪ :‬يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين‪ ،‬التخريج عند الفقهاء واألصوليين‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫مكتبة الرشاد‪0202،‬هـ‪ ،‬ص‪.000‬‬
‫(‪ )6‬الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض‪ ،‬السيوطي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫خليل الميس‪ ،‬دار الكتب لعلمية ‪ 0210‬هـ‪ ،‬ص‪.006‬‬
‫(‪ )0‬أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى واالستفتاء‪ ،‬ابن‬
‫الصالح الشهر زوري‪ ،‬تحقيق‪ :‬فوزي عبد المطلب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬ط‪ ،.0996 ،0‬ص‪..21‬‬
‫(‪ )2‬أنوار البروق في أنواء الفروق‪ ،‬أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن‬
‫المالكي الشهير بالقرافي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.011‬‬

‫‪54‬‬
‫حفظه وفهمه كذلك‪ ،‬أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده‬
‫حفظا وفهما إال في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد‪ ،‬وأنها ال تحتاج إلى معنى آخر‬
‫من كتاب آخر‪ ،‬فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة وال نقصان‪،‬‬
‫وتكون هي عين الواقعة المسئول عنها ال أنها تشبهها وال تخرج عليها بل هي هي حرفا‬
‫بحرف ألنه قد يكون هنالك فروق تمنع من اإللحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا‬
‫(‪)0‬‬
‫بالمحفوظ فيجب الوقف)‬
‫الحالة الثانية‪ :‬أن يتسع تحصيل الطالب في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل‬
‫الشروحات والمطوالت على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات‪ ،‬ولكنه مع ذلك لم‬
‫يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا‪ ،‬بل سمعها من حيث الجملة من‬
‫أفواه الطلبة والمشايخ‪.‬‬
‫والحكم في هذه الحالة كما يقرر القرافي‪ ،‬هو أنه (يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله‬
‫ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا‪ ،‬ولكنه إذا وقعت له واقعة‬
‫ليست في حفظه ال يخرجها على محفوظاته‪ ،‬وال يقول هذه تشبه المسألة الفالنية ألن‬
‫ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة‬
‫ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية‪ ،‬وهل هي من باب المصالح‬
‫الضرورية أو الحاجية أو التتميمية‪ ،‬وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع‬
‫الحكم أو جنسه في جنس الحكم‪ ،‬وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى‬
‫رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع باالعتبار أو هي من باب قياس‬
‫الشبه أو المناسب أو قياس الداللة أو قياس اإلحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.011‬‬

‫‪55‬‬
‫(‪)0‬‬
‫من تفاصيل األقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين)‬
‫ثم علل هذه المحدودية بما ذكرناه عن أصحاب هذا المنهج من أنهم يعتبرون‬
‫أقوال األئمة أصال يمكن أن يتعامل معه الفقيه كما يتعامل مع المصادر األصلية نفسها‪،‬‬
‫يقول‪( :‬وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه‬
‫وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه‪ ،‬والتخريج على مقاصده‪ ،‬فكما‬
‫أن إمامه ال يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق ألن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل‬
‫ال يجوز االعتماد عليه‪ ،‬فكذلك هو أيضا ال يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا‬
‫على فرع نص عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما لكن الفروق إنما تنشأ عن رتب العلل‬
‫وتفاصيل أحوال األقيسة فإذا كان إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع‬
‫الحكم ال يجوز له هو أن يخرج على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل‬
‫ما شهد جنسه لجنس الحكم فإن النوع على النوع مقدم على الجنس في النوع وال يلزم‬
‫(‪)6‬‬
‫من اعتبار األقوى اعتبار األضعف)‬
‫الحالة الثالثة‪ :‬وهي أن يتحقق طالب العلم بالتمكن من المذهب أصوله وفروعه‪،‬‬
‫وحكم هذا كما يذكر القرافي هو أنه (يجوز له أن يفتي في مذهبه نقال وتخريجا ويعتمد‬
‫(‪)0‬‬
‫على ما يقوله في جميع ذلك)‬
‫وقد نقل ابن فرحـون عن المـازري‪ :‬أن الـذي يتصـدى للفتوى‪ ،‬أقـل مراتبه أن‬
‫يكــون قد استبحر في االطــالع على روايات الــمذهب‪ ،‬وتأويل األشياخ لــها‪،‬‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.011‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.012‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.001‬‬

‫‪56‬‬
‫وتوجيههم لما وقـع من االختـالف فيهـا وتشبيههـم مسائــل بمسائل سبق إلى الذهن‬
‫تباعدها‪ ،‬وتفريـعهم بين مسائــل يقــع فـي النـفـس تقــاربهــا(‪.)0‬‬
‫وبهذا فإن الفتيا في هذا المنهج ال تعتمد المصادر األصلية إال على سبيل التبعية‪،‬‬
‫فالنص عندهم هو الذي ينقاد للمذهب‪ ،‬ال المذهب ينقاد للنص‪ ،‬كما هو عليه الحال في‬
‫المنهج السابق‪.‬‬
‫وبناء على هذا ألفت التفاسير وشروح الحديث الكثيرة‪ ،‬والتي تختلف الفهوم فيها‬
‫باختالف المذاهب التي يتبعها أصحاب تلك الكتب‪ ،‬وقد برز التعصب المذهبي وآثاره‬
‫على تلك المصنفات‪ ،‬حيث أصبحت اآليات تفسر على قواعد المذهب في استنباط‬
‫األحكام‪ ،‬وأخرجت للناس تفاسير ال نكاد نجد بينها وبين أمهات كتب الفقه كبير فارق‪،‬‬
‫ً (‪)6‬‬
‫وخالط بعضها تعصب للمذهب مذموم‪ ،‬وجاء بعضها اآلخر محمودا‬
‫ومن األمثلة على ذلك الفقيه المالكي ابن العربي صاحب (حكام القرآن) الذي‬
‫يقول عنه محمد حسين الذهبي‪ ( :‬إن الكتاب يعتبر مرجع ًا مهم ًا للتفسير الفقهى عند‬
‫المالكية‪ ،‬وذلك ألن مؤلفه مالكى تأثر بمذهبه‪ ،‬فظهرت عليه فى تفسيره روح التعصب‬
‫له‪ ،‬والدفاع عنه‪ ،‬غير أنه لم يشتط فى تعصبه إلى الدرجة التي يتغاضى فيها عن كل َز َّلة‬
‫علمية تصدر من مجتهد مالكي‪ ،‬ولم يبلل به التعسف إلى الحد الذى يجعله يفند كالم‬
‫مخالفه إذا كان وجيه ًا ومقبوالً‪ ،‬والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح اإلنصاف‬
‫لمخالفيه أحيان ًا‪ ،‬ما يلمس منه روح التعصب المذهبي التي تستولى على صاحبها فتجعله‬

‫(‪ )0‬تبصرة الحكام‪ ،‬ابن فرحون‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0926 ،0‬ج‪ ،0‬ص‪.16‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪ :‬اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر‪ ،‬د‪ .‬فهد الرومي‪ ،‬طبع بإشراف إدارة البحوث‬
‫العلمية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،0211،‬ج‪ ،6‬ص‪.102‬‬

‫‪57‬‬
‫أحيان ًا كثيرة يرمى مخالفه وإن كان إمام ًا له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة الالذعة‪ ،‬تارة‬
‫بالتصريح‪ ،‬وتارة بالتلويح‪ .‬ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر‪ ،‬مع تسلط روح‬
‫التعصب عليه‪ ،‬فأحيان ًا يتغلب العقل على التعصب‪ ،‬فيصدر حكمه عادالً ال تكدره شائبة‬
‫التعصب‪ ،‬وأحيان ًا ‪ -‬وهو الغالب ‪ -‬تتغلب العصبية المذهبية على العقل‪ ،‬فيصدر حكمه‬
‫(‪)0‬‬
‫مشوب ًا بالتعسف‪ ،‬بعيد ًا عن اإلنصاف)‬
‫وقد خصص أصحاب هذا المنهج للمتغيرات الحاصلة في كل عصر ما يسمونه‬
‫بكتب (النوازل) ‪ ،‬والمؤلفات فيها كثيرة جدا‪ ،‬ومعظمها ال يكاد يخرج عن المذهب الذي‬
‫اعتمده‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك في المذهب الحنفي الفتاوى العالمكيرية‪ ،‬المشهورة باسم‬
‫(الفتاوى الهندية)‪ ،‬وهي منسوبة إلى الملك محمد أورنك زيب‪ ،‬ويلقب بعالمكير‪ ،‬أي‬
‫فاتح العالم‪ ،‬وقد بسط سلطانه على الهند من سنة [‪ 0169‬إلى ‪0009‬هـ ‪-0612 /‬‬
‫‪0111‬م] وقد جمع هذا الملك لتأليف هذا الكتاب فقهاء الحنفية في عصره‪ ،‬برئاسة‬
‫الشيخ (نظام الدين) وأجرى عليهم النفقات‪ ،‬ثم انتخبوا من جمع كتب المذهب الحنفي‬
‫أصح ما قيل فيها من األحكام وصاغوها في هذا المؤ َلف مع عزو كل حكم إلى مصدره‪،‬‬
‫فاحتوى على ما ال يوجد في سواه‪ ،‬طبعت هذه الفتاوى ألول مـرة سنة ‪0626‬هـ بمصـر‬
‫في ستة مجلـدات ضخمـة(‪.)6‬‬
‫ومن أهمها في المذهب الشافعي (فتاوى اإلمام النووي)‪ ،‬واسمه (المنثورات‬

‫(‪ )0‬التفسير والمفسرون‪ ،‬الدكتور محمد السيد حسين الذهبي‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة ج‪ ،6‬ص‬
‫‪.000‬‬
‫(‪ )6‬المدخل الفقهي العام‪ ،‬مصطفى أحمد الزرقا‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،0992 ،9‬ج‪،0‬‬
‫ص‪.091‬‬

‫‪58‬‬
‫وعيون المسائل المهمات) درسه وحققه‪ ،‬أحمد عطاء وطبعه بمؤسسة الكتب الثقافية في‬
‫جزء واحد فقط‪ ،‬يقول النووي في المقدمة‪( :‬وال ألتزم فيها ترتيبا‪ ،‬لكونها حسب الوقائع‬
‫فإن كملت يرجى ترتيبها‪ ..‬وألتزم فيها اإليضاح وتقريبها إلى أفهام المبتدئين ممن ال‬
‫(‪)0‬‬
‫اختالط لهم بالفقهاء‪ ،‬لتكون أعم نفعا)‬
‫ومنها الحاوي للفتاوى للسيوطي‪ ،‬وفتاوى شيخ اإلسالم زكريا األنصاري‬
‫الشافعي‪ ،‬والفتاوى الكبرى البن حجر الهيثمي(‪.)6‬‬
‫وفي الفقه الحنبلي نجد (فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية)‪( :‬وقد طبعت عدة مرات‬
‫وآخرها تلك المجموعة التي استلها جامعها من مختلف المكتبات والكتب‪ ،‬وطبعها‬
‫(‪)0‬‬
‫بالمملكة السعودية في سبعة وثالثين مجلدا‪ ،‬المجلدان األخيران فهارس للفتاوى)‬
‫أما في الفقه المالكي‪ ،‬فهي كثيرة جدا‪ ،‬وأهمها‪( :‬المعيار المعرب والجامع‬
‫المغرب عن فتاوى علماء إفريقية واألندلس والمغرب) ألبي العباس الونشريسي‪ ،‬وقد‬
‫جمع فيه فتاوى المتقدمين والمتأخرين من علماء المغرب واألندلس‪ ،‬وزاد فيه فتاويه‬
‫الخاصة‪.‬‬

‫(‪ )0‬الفتاوى‪ ،‬النــووي‪ ،‬تحقيق‪:‬عبد القـادر أحمد عطاء‪ ،‬لبنان‪ ،‬مـؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬ط‪،6‬‬
‫‪ ،0922‬ص‪.01‬‬
‫(‪ )6‬تاريخ الفقه اإلسالمي‪ ،‬عمر سليمان األشقر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬قصر الكتاب‪ ،0991 ،‬ص‪.001‬‬
‫(‪ )0‬ابن تيمية‪ ،‬أبو زهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،0990 ،‬ص‪ 200‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫المنهج المذاهبي‬
‫نريد بالمنهج المذاهبي المنهج الذي يتميز أصحابه بثالث خصائص‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أنهم ال يرون ضرورة االلتزام بالمذهب الواحد‪ ،‬على عكس أصحاب‬
‫المنهج المذهبي‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أنهم يرون صعوبة االجتهاد أو سد بابه‪ ،‬ولهذا ال يرون ضرورة العودة إلى‬
‫النصوص مباشرة الستنباط األحكام منها‪ ،‬على خالف المنهج االستداللي‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬وهي التي على أساسها اكتسبوا هذا الوصف‪ ،‬وهي أنهم يرون أن كل ما‬
‫كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب األربعة أو غيرهم‪ ،‬يمكن االعتماد عليه‬
‫والرجوع إليه‪ ،‬إما العتبارهم أن كل مجتهد في الفروع مصيب‪ ،‬أو أن المصيب واحد‬
‫ولكن ال نستطيع أن نعينه‪.‬‬
‫وبناء على هذا فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي‬
‫عن المسألة التي سئل عنها‪ ،‬ويورد األقوال فيها ليترك للمستفتي حرية االختيار بينها‪.‬‬
‫بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحثين‬
‫السابقين من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي‬
‫يعتمدون عليها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫على عكس ما ذكرنا في المنهج السابق‪ ،‬فإن عدد المتبنين لهذا المنهج في الواقع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬طيلة التاريخ اإلسالمي محدود جدا‪ ،‬ألنه ال ينطبق إال على القائلين بأن كل‬
‫مجتهد في الفروع مصيب‪ ،‬وعدد هؤالء محدود جدا‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫وقد ذكر السيوطي في رسالته التي وضعها لنصرة هذا المنهج‪ ،‬والتي أسماها بـ‬
‫(جزيل المواهب في اختالف المذاهب) أن (ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب‪ ،‬وأن‬
‫حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد‪ ،‬هو أحد القولين لألئمة األربعة‪ ،‬ورجحه‬
‫القاضي أبو بكر‪ ،‬وقال في (التقريب)‪ :‬األظهر من كالم الشافعي‪ ،‬واألشبه بمذهبه‬
‫ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب‪ ،‬وقال به من أصحابنا‪ :‬ابن سريج‪،‬‬
‫والقاضي أبو حامد‪ ،‬والداركي‪ ،‬وأكثر العراقيين‪ ،‬ومن الحنفية‪ :‬أبو يوسف‪ ،‬ومحمد بن‬
‫(‪)0‬‬
‫الحسن‪ ،‬وأبو زيد الدبوسي‪ ،‬ونقله عن علمائهم جميع ًا)‬
‫ولكن مع ذلك‪ ،‬وفي الفروع الفقهية المختلفة يمكن أن نجد الكثير من الفقهاء‬
‫المتبنين لهذا المنهج‪:‬‬
‫فالشيخ عبد الوهاب الشعراني ‪ -‬مثال – مع كونه شافعي المذهب‪ ،‬يمكن اعتباره‬
‫من أعالم هذا المنهج‪ ،‬فقد سلك مسلكا في إرجاع مسائل الخالف الفقهي إلى الوفاق‪،‬‬
‫بأن حمل كل قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلفين‪ ،‬وقد بنى كتابه‬
‫(الميزان) على هذا المبدأ الذي عبر عنه بقوله‪( :‬إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث‬
‫االمر والنهي‪ :‬على مرتبتين‪ :‬تخفيف وتشديد‪ ،‬ال على مرتبة واحدة‪ ،‬كما يظنه غالب‬
‫الناس‪ ،‬ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف‪ ،‬فمن قوي منهم خوطب‬
‫بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا‪ ،‬أو المستنبط منها في مذهبه أو غيره‪ ،‬ومن‬
‫ضعف منهم‪ :‬خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا أو مستنبطا منها في‬
‫مذهبه أو غيره ‪ .‬فال يؤمر القوي بالنزول إلى مرتبة الرخصة‪ ،‬مع قدرته على فعل العزيمة‪،‬‬

‫(‪ )0‬جزيل المواهب فى اختالف المذاهب‪ ،‬عبد الرحمن بن أبي بكر‪ ،‬جالل الدين السيوطي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبد القيوم محمد شفيع البستوي‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬ص‪.01‬‬

‫‪60‬‬
‫وال يكلف الضعيف بالصعود إلى مرتبة العزيمة‪ ،‬مع عجزه عنها‪ ،‬فالمرتبتان على الترتيب‬
‫(‪)0‬‬
‫الوجودي‪ ،‬ال على التخيير)‬
‫ومثله ابن القيم‪ ،‬فمع كونه من علماء‪ ،‬بل من أعيان المنهج االستداللي إال أنه في‬
‫بعض المسائل يميل إلى هذا المنهج‪ ،‬وقد أشار إلى هذا‪ ،‬بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة‬
‫اعتبار أن كل مجتهد مصيب ـ عند بيانه لمخارج الطالق‪ ،‬فقد عقد فصوال مهمة للمخارج‬
‫من الوقوع في التحليل‪ ،‬قال في مقدمتها‪(:‬أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة‬
‫رسول الله ‪ ‬كان أعذر عند الله ورسوله ومالئكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن‬
‫(‪)6‬‬
‫عليه ومباءته باللعنة)‬
‫ثم ذكر مصدره الذي اعتمده الستنباط هذه المخارج‪ ،‬فقال‪( :‬فإن هذه المخارج‬
‫التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة بحيث ال‬
‫يعرف عنهم فيه خالف‪ ،‬أو أفتى به بعضهم‪ ،‬أو هو خارج عن أقوالهم‪ ،‬أو هو قول جمهور‬
‫األمة أو بعضهم أو إمام من األئمة األربعة‪ ،‬أو أتباعهم أو غيرهم من علماء اإلسالم‪ ،‬وال‬
‫تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك‪ ،‬فال يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة‬
‫جميعها إال في أندر النادر‪ ،‬وال ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه‪ ،‬ونصح نفسه‬
‫(‪)0‬‬
‫ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل)‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬

‫(‪ )0‬كتاب الميزان‪ ،‬أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني‪ ،‬تحقيق‪ :‬الدكتور عبد الرحمن‬
‫عميره‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ط‪0219 ،0‬هـ ‪0929 -‬م‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫(‪ )6‬إعالم الموقعين‪.21/2 :‬‬
‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪.21/2 :‬‬

‫‪62‬‬
‫يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي‪:‬‬

‫الدليل األول‪:‬‬
‫اعتبار أن الخالف الفقهي الحاصل في األمة خالف رحمة وتوسعة على عكس ما‬
‫يرى أصحاب المنهج األول‪ ،‬يقول السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختالف‬
‫المذاهب)‪( :‬اعلم أن اختالف المذاهب في الملة نعمة كبيرة‪ ،‬وفضيلة عظيمة‪ ،‬وله سر‬
‫لطيف أدركه العالمون‪ ،‬وعمي عنه الجاهلون‪ ،‬حتى سمعت بعض الجهال يقول‪ :‬النبي‬
‫‪ ‬جاء بشرع واحد‪ ،‬فمن أين مذاهب أربعة؟ ! ومن العجب أيض ًا من يأخذ في تفضيل‬
‫بعض المذاهب على بعض تفضيالً يؤدي‪ ،‬إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه‪ ،‬وربما‬
‫أدى إلى الخصام بين السفهاء‪ ،‬صارت عصبية وحمية الجاهلية‪ ،‬والعلماء منزهون عن‬
‫ذلك‪ .‬وقد وقع االختالف في الفروع بين الصحابة (رضى الله عنهم وأرضاهم)‪ ،‬وهم‬
‫خير األمة‪ ،‬فما خاصم أحد منهم أحد ًا‪ ،‬وال عادى أحد أحد ًا‪ ،‬وال نسب أحد أحد ًا إلى‬
‫(‪)0‬‬
‫خطأ وال قصور)‬
‫ولهذا نرى أعيان هذا المنهج– على عكس المنهج األول – يدافعون عن حديث‬
‫(اختالف أمتي رحمة)(‪ ،)6‬وقد نقل النووي عن الخطابي قوله‪( :‬وقد اعترض على‬
‫حديث‪ :‬اختالف أمتي رحمة رجالن‪ :‬أحدهما مغموض عليه في دينه‪ ،‬وهو عمر بن بحر‬
‫الجاحظ‪ ،‬واآلخر معروف بالسخف والخالعة‪ ،‬وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي؛ فإنه‬
‫لما وضع كتابه في األغاني‪ ،‬وأمكن في تلك األباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى‬

‫(‪ )0‬جزيل المواهب في اختالف المذاهب‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫(‪ )6‬انظر على سبيل المثال‪ :‬فيض القدير‪ ،‬المناوي‪ ،‬مصر‪ ،‬المكتبة التجارية الكبرى‪ ،0016 ،‬ج‬
‫‪ 0‬ص‪.601 :‬‬

‫‪63‬‬
‫صدر كتابه بذم أصحاب الحديث‪ ،‬وزعم أنهم يروون ما ال يدرون‪ ،‬وقال هو والجاحظ‪:‬‬
‫لو كان االختالف رحمة لكان االتفاق عذابا‪ ،‬ثم زعم أنه إنما كان اختالف األمة رحمة‬
‫في زمن النبي ‪ ‬خاصة؛ فإذا اختلفوا سألوه‪ ،‬فبين لهم والجواب عن هذا االعتراض‬
‫الفاسد‪ :‬أنه ال يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذابا‪ ،‬وال يلتزم هذا ويذكره إال‬
‫﴿و ِم ْن َر ْح َمتِ ِه َج َع َل َل ُك ُم ال َّل ْي َل َوالن ََّه َار لِت َْس ُكنُوا‬
‫جاهل أو متجاهل ‪ .‬وقد قال الله تعالى‪َ :‬‬
‫ون ﴾(‪ ، )0‬فسمى الليل رحمة‪ ،‬ولم يلزم من ذلك أن‬ ‫فِ ِيه َول ِ َت ْب َت ُغوا ِم ْن َف ْضلِ ِه َو َل َع َّل ُك ْم ت َْش ُك ُر َ‬
‫يكون النهار عذابا‪ ،‬وهو ظاهر ال شك فيه ‪ .‬قال الخطابي‪ :‬واالختالف في الدين ثالثة‬
‫أقسام‪ :‬أحدها‪ :‬في إثبات الصانع ووحدانيته‪ ،‬وإنكار ذلك كفر‪ ،‬والثاني‪ :‬في صفاته‬
‫ومشيئته‪ ،‬وإنكارها بدعة‪ ،‬والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها‪ ،‬فهذا جعله الله‬
‫(‪)6‬‬
‫تعالى رحمة وكرامة للعلماء‪ ،‬وهو المراد بحديث‪ :‬اختالف أمتي رحمة)‬
‫ومثل ذلك ما استدل به السيوطي في رسالته (جزيل المواهب) بقوله‪( :‬روى‬
‫البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس ‪ ،- -‬قال‪ :‬قال رسول الله ‪( :‬مهما أوتيتم‬
‫ٍ‬
‫ألحد في تركه‪ ،‬فإن لم يكن في كتاب الله تعالى‪،‬‬ ‫عذر‬
‫من كتاب الله تعالى‪ ،‬فالعمل به ال َ‬
‫فسنة مني ماضية‪ ،‬فإن لم يكن سنة مني‪ ،‬فما قال أصحابي‪ .‬إن أصحابي بمنزلة النجوم في‬
‫(‪)0‬‬
‫السماء‪ ،‬فأيما أخذتم به اهتديتم‪ ،‬واختالف أصحابي لكم رحمة)‬
‫ثم علق عليه بقوله‪( :‬في هذا الحديث فوائد‪ :‬إخباره ‪ ‬باختالف المذاهب بعده‬
‫في الفروع‪ ،‬وذلك من معجزاته؛ ألنه من اإلخبار بالمغيبات‪ ،‬ورضاه بذلك‪ ،‬وتقريره عليه‪،‬‬

‫(‪ )0‬سورة القصص‪.10 :‬‬


‫(‪ )6‬شرح النووي على صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.612‬‬
‫(‪ )0‬جزيل المواهب‪ ،‬ص‪.09‬‬

‫‪64‬‬
‫ومدحه له حيث جعله رحمة‪ ،‬والتخيير للمكلف في األخذ بأيها شاء من غير تعيين‬
‫ألحدها‪ ،‬واستنبط منه أن كل المجتهدين على هدي‪ ،‬فكلهم على حق‪ ،‬فال لوم على أحد‬
‫منهم‪ ،‬وال ينسب إلى أحد منهم تخطئة‪ ،‬لقوله‪( :‬فأيما أخذتم به اهتديتم )‪ ،‬فلو كان‬
‫المصيب واحد ًا‪ ،‬والباقي خطأ‪ ،‬لم تحصل الهداية باألخذ بالخطأ)‬
‫(‪)0‬‬

‫وذكر في موضع آخر بعض وجوه الرحمة في الخالف الفقهي الحاصل في األمة‪،‬‬
‫فقال‪( :‬فعرف بذلك أن اختالف المذاهب في هذه األمة خصيصة فاضلة لهذه األمة‪،‬‬
‫وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة‪ ،‬فكانت األنبياء قبل النبي ‪ ‬يبعث أحدهم‬
‫بشرع واحد‪ ،‬وحكم واحد‪ ،‬حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من‬
‫الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا؛ كتحريم القصاص في شريعة اليهود‪ ،‬وتحتم‬
‫الدية في شريعة النصارى‪ ،‬ومن ضيقها أيض ًا‪ :‬لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ ليعمل‬
‫بهما مع ًا في هذه الملة في الجملة‪ ،‬فكأنه عمل فيها بالشرعين مع ًا‪ ،‬ووقع فيها التخيير بين‬
‫أمرين شرع كل منهما في ملة‪ ،‬كالقصاص والدية‪ ،‬فكأنها جمعت الشرعين مع ًا‪ ،‬وزادت‬
‫حسن ًا بشرع ثالث‪ ،‬وهو التخيير الذي لم يكن في أحد الشريعتين‪ .‬ومن ذلك‪ :‬مشروعية‬
‫االختالف بينهم في الفروع‪ .‬فكانت المذاهب على اختالفها كشرائع متعددة‪ ،‬كل مأمور‬
‫بها في هذه الشريعة‪ ،‬فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي ‪ ‬بجميعها‪.‬‬
‫وفي ذلك توسعة زائدة لها‪ ،‬وفخامة عظيمة لقدر النبي ‪ ،‬وخصوصية له على سائر‬
‫األنبياء‪ ،‬حيث بعث كل منهم بحكم واحد‪ ،‬وبعث هو ‪ ‬في األمر الواحد بأحكام‬
‫(‪)6‬‬
‫متنوعة‪ ،‬يحكم بكل منها وين ّفذ‪ ،‬ويصوب قائله‪ ،‬ويؤجر عليه‪ ،‬ويهدي به)‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.61‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.62‬‬

‫‪65‬‬
‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫ما ورد من اآلثار من اعتبار الخالف توسعة ورحمة ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن‬
‫عبد البر عن رجاء بن جميل قال‪ :‬اجتمع عمر بن عبد العزيز‪ ،‬والقاسم بن محمد‪ ،‬فجعال‬
‫يتذاكران الحديث‪ ،‬قال‪ :‬فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم قال‪ :‬وجعل ذلك‬
‫يشق على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر‪( :‬ال تفعل فما يسرني أن لي باختالفهم حمر‬
‫(‪)0‬‬
‫النعم)‬
‫وروى عن عبد الرحمن بن القاسم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أنه قال‪ :‬لقد أعجبني قول عمر بن‬
‫عبد العزيز ‪( :‬ما أحب أن أصحاب رسول الله ‪ ‬لم يختلفوا؛ ألنه لو كان قوال واحدا‬
‫(‪)6‬‬
‫كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم‪ ،‬ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة)‬
‫وروى عن أسامة بن زيد قال‪ :‬سألت القاسم بن محمد‪ ،‬عن القراءة خلف اإلمام‬
‫فيما لم يجهر فيه فقال‪( :‬إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله ‪ ‬أسوة حسنة‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله ‪ ‬أسوة حسنة)‬
‫وروى عن يحيى بن سعيد قال‪( :‬ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم‬
‫هذا‪ ،‬فال يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله‪ ،‬وال يرى المحلل أن المحرم هلك‬
‫(‪)2‬‬
‫لتحريمه)‬
‫ونحب ‪ -‬من باب األمانة العلمية ‪ -‬أن ننبه هنا إلى أن ابن عبد البر مع روايته لهذه‬

‫(‪ )0‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.910‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.916‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.916‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.916‬‬

‫‪66‬‬
‫اآلثار إال أنه رجح خالفها‪ ،‬باعتباره كان يدعو الى المنهج االستداللي‪ ،‬فقد قال تعقيبا‬
‫عليها بعد روايته لها‪ ( :‬هذا مذهب القاسم بن محمد ومن تابعه وقال به قوم‪ ،‬وأما مالك‬
‫والشافعي ا‪ ،‬ومن سلك سبيلهما من أصحابهما وهو قول الليث بن سعد‪ ،‬واألوزاعي‪،‬‬
‫وأبي ثور وجماعة أهل النظر أن االختالف إذا تدافع فهو خطأ وصواب‪ ،‬والواجب عند‬
‫اختالف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة واإلجماع والقياس على األصول على‬
‫الصواب منها وذلك ال يعدم‪ ،‬فإن استوت األدلة وجب الميل مع األشبه بما ذكرنا‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إال بيقين‪ ،‬فإن اضطر‬
‫أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد‬
‫واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام األدلة على كل قول بما يعضده قوله ‪:‬‬
‫(‪)0‬‬
‫(البر ما اطمأنت إليه النفس واإلثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما ال يريبك)‬
‫هذا حال من ال ينعم النظر وال يحسنه وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها‬
‫وأفتاها بذلك علماؤها‪ ،‬وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله ألحد أن يفتي‬
‫وال يقضي إال حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو اإلجماع أو ما كان في‬
‫(‪)6‬‬
‫معنى هذه األوجه)‬

‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫هو ما ذكره القائلون بأن كل مجتهد مصيب من أدلة‪ ،‬وقد بسط الغزالي القول فيها‪،‬‬
‫وأجاب عن الشبهات التي أوردها المخالفون‪ ،‬وقد قال بعد ذكره للخالف في المسألة‪:‬‬
‫(والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات‬

‫(‪ )0‬مسند أحمد‪ ،‬ج‪ ،69‬ص ‪.100‬‬


‫(‪ )6‬جامع بيان العلم ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.916‬‬

‫‪67‬‬
‫(‪)0‬‬
‫مصيب‪ ،‬وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى)‬
‫وقد أجاب على ما يورده المخالفون من أصحاب المناهج األخرى من (أن هذا‬
‫المذهب في نفسه محال‪ ،‬ألنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين‪ ،‬وهو أن يكون قليل النبيذ‬
‫مثال حالال حراما والنكاح بال ولي صحيحا باطال‪ ،‬والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا‬
‫إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب)(‪ )6‬بالتنبيه إلى نوع‬
‫الخطاب بالحكم الشرعي‪ ،‬فهو ليس ‪ -‬كما يعتقده الكثير من الناس ‪ -‬من أنه يتعلق‬
‫باألعيان‪ ،‬بل إن الشرع علقه بأفعال المكلفين‪ ،‬فلذلك ال يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم‬
‫على عمرو‪ ،‬فالمرأة تحل للزوج وتحرم على األجنبي‪ ،‬والميتة تحل للمضطر دون‬
‫المختار‪ ،‬والصالة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض‪.‬‬
‫والتناقض الحقيقي ليس في هذا‪ ،‬وإنما هو أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة‬
‫واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد‪ ،‬فإذا تطرق التعدد واالنفصال إلى‬
‫شيء من هذه الجملة انتفى التناقض‪ ،‬فالصالة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة‬
‫واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه‪ ،‬فاختالف األحوال ينفي التناقض‪.‬‬
‫وهذا عام في األحوال المختلفة واألسباب المختلفة‪ ،‬وال فرق بين أن يكون‬
‫اختالف األحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن‪،‬‬
‫فالصالة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا‪.‬‬
‫وبناء على هذا نص الغزالي على وجه الورع في التزام األقوال‪ ،‬فليس الورع فيها‬

‫(‪ )0‬المستصفى في علم األصول‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد‬
‫بن سليمان األشقر‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪0201 ،‬هـ‪0991/‬م‪ ،‬ص‪.016‬‬
‫(‪ )6‬المستصفى‪.011/0 :‬‬

‫‪68‬‬
‫بمراعاة أعيانها‪ ،‬وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها‪ ،‬والتي تختلف باختالف‬
‫األحوال‪ ،‬يقول الغزالي‪( :‬ولو قال الشارع‪ :‬يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه‬
‫السالمة‪ ،‬ويحرم على من غلب على ظنه الهالك‪ ،‬فغلب على ظن الجبان الهالك‪ ،‬وعلى‬
‫ظن الجسور السالمة حرم على الجبان وحل للجسور الختالف حالهما‪ ،‬وكذلك لو‬
‫صرح الشارع وقال‪ :‬من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه‪ ،‬ومن غلب‬
‫(‪)0‬‬
‫على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض)‬
‫وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتبار األحوال المختلفة التي ال يجدي‬
‫معها التعصب لقول بعينه‪.‬‬
‫ثم إن الغزالي ‪ -‬بأسلوبه الجدلي على طريقة المتكلمين ‪ -‬سلم للمخالفين ما‬
‫أوردوه من اعتبار الحل والحرمة وصفا لألعيان‪ ،‬ورد بأن القول بذلك أيضا ال يتناقض‬
‫مع ما ذكره‪ ،‬ألنه يكون من األوصاف اإلضافية‪ ،‬فال يتناقض عقال أن يكون الشخص‬
‫الواحد أبا ابنا لكن لشخصين‪ ،‬وأن يكون الشيء مجهوال ومعلوما لكن الثنين‪ ،‬وتكون‬
‫المرأة حالال حراما لرجلين‪ ،‬كالمنكوحة حرام لألجنبي‪ ،‬حالل للزوج‪ ،‬والميتة حرام‬
‫للمختار‪ ،‬حالل للمضطر‪.‬‬
‫وعلى هذا المنوال نجد السيوطي يدافع عن هذه المقولة في كتبه ورسائله‬
‫المختلفة‪ ،‬بل إنه قرر أنه من الناحية العملية‪ ،‬ولو مع عدم القول بهذا‪ ،‬فقد نص كثير من‬
‫العلماء على أنه ال اإلنكار في المسائل المختلف فيها‪ ،‬فال يصح اإلنكار على من أخذ‬
‫بقول من األقوال ألي قناعة من القناعات‪.‬‬
‫وقد نقل عن الزركشي قوله في المسألة‪(:‬اإلنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع‬

‫(‪ )0‬المستصفى‪.011/0 :‬‬

‫‪69‬‬
‫عليه‪ ،‬فأما المختلف فيه فال إنكار فيه‪ ،‬ألن كل مجتهد مصيب‪ ،‬أو المصيب واحد وال‬
‫نعلمه‪ ،‬ولم يزل الخالف بين السلف في الفروع وال ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا)‬
‫ومثلهما ابن عليش الذي لم يكتف باألدلة العقلية أو النقلية‪ ،‬بل راح – بمنهجه‬
‫الصوفي‪ -‬يذكر عن بعض الصوفية كالشعراني وغيره ما يؤيد هذا القول عن طريق‬
‫المكاشفة‪ ،‬فقال‪( :‬وسمعت(‪)6‬بعض أهل الكشف يقول‪ :‬إنما يعبد الله تعالى المجتهدون‬
‫باالجتهاد ليحصل لهم نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه القدم الراسخة فال يتقدم عليهم‬
‫في اآلخرة سوى نبيهم محمد ‪ ‬فيحشر علماء هذه األمة وحفاظ أدلة الشريعة المطهرة‬
‫العارفون بمعانيها في صفوف األنبياء والرسل ال في صفوف األمم‪ ،‬فما من نبي أو رسول‬
‫إال وبجانبه عالم من علماء هذه األمة أو اثنان أو ثالثة أو أكثر وكل عالم نهم له درجة‬
‫األستاذية في علم األحكام واألحوال والمقامات والمنزالت إلى ختام الدنيا ‪ ..‬ومن هنا‬
‫يعلم أن جميع المجتهدين تابعون للشارع في التخفيف والتشديد‪ ،‬فيا سعادة من أطلعه‬
‫الله تعالى على عين الشريعة األولى كما أطلعنا‪ ،‬ورأى أن كل مجتهد مصيب ويا فوزه‬
‫وكثرة سروره إذا رآه جميع العلماء يوم القيامة وأخذوا بيده وتبسموا في وجهه‪ ،‬وصار‬
‫كل واحد يبادر إلى الشفاعة فيه ويزاحم غيره على ذلك ويقول ما يشفع فيه إال أنا ويا‬
‫ندامة من قال المصيب واحد والباقي مخطئ فإن جميع من خطأهم يعبسون في وجهه‬
‫(‪)0‬‬
‫لتخطئته لهم وتجريحهم بالجهل وسوء األدب وفهمه السقيم)‬

‫(‪ )0‬المنثور في القواعد الفقهية‪ ،‬أبو عبد الله بدر الدين الزركشي‪ ،‬وزارة األوقاف الكويتية‪،‬‬
‫ط‪0211 ،6‬هـ ‪0921 -‬م‪ :‬ج ‪ ،6‬ص‪.021‬‬
‫(‪ )6‬هو ينقل الكالم هنا عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني‪.‬‬
‫(‪ )0‬فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام ‪ ،‬مالك ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.91‬‬

‫‪71‬‬
‫ثم رد على ما يورده المخالفون من االستدالل بقوله ‪( :‬إذا حكم الحاكم‬
‫فاجتهد ثم أصاب‪ ،‬فله أجران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ‪ ،‬فله أجر )(‪ )0‬بقوله‪( :‬الجواب‬
‫أن المراد بالخطأ هنا هو خطأ المجتهد في عدم مصادفة الدليل في تلك المسألة ال الخطأ‬
‫الذي يخرج به عن الشريعة؛ ألنه إذا خرج عن الشريعة فال أجر له لقوله ‪( :‬من أحدث‬
‫في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)(‪ ،)6‬وقد أثبت الشارع له األجر فما بقي إال أن معنى‬
‫الحديث أن الحاكم إذا اجتهد وصادف نفس الدليل الوارد في ذلك عن الشارع فله‬
‫أجران‪ :‬أجر التتبع وأجر مصادفة الدليل‪ ،‬وإن لم يصادف عين الدليل‪ ،‬وإنما صادف‬
‫حكمه‪ ،‬فله أجر واحد وهو أجر التتبع‪ ،‬فالمراد بالخطأ هنا الخطأ اإلضافي‪ ،‬ال الخطأ‬
‫(‪)0‬‬
‫المطلق)‬
‫ثم ختم فتواه فيها ببيان المنطلقات العقدية التي ينطلق منها أصحاب هذا المنهج‪،‬‬
‫فقال – ناقال عن الشعراوي ‪( :-‬فإن اعتقادنا أن سائر أمة المسلمين على هدى من ربهم‬
‫في جميع أقوالهم‪ ،‬وما ثم إال قريب من عين الشريعة وأقرب وبعيد عنها وأبعد بحسب‬
‫طول السند وقصره‪ ،‬وكما يجب علينا اإليمان بصحة جميع شرائع األنبياء قبل نسخها مع‬
‫اختالفها ومخالفة أشياء فيها لظاهر شريعتنا‪ ،‬فكذلك يجب على المقلدين اعتقاد صحة‬
‫جميع مذاهب المجتهدين وإن خالف كالمهم ظاهر كالم إمامهم‪ ،‬فإن اإلنسان كلما بعد‬
‫عن شعاع نور الشريعة خفي مدركه ونوره وظن غيره أن كالمه خارج عن الشريعة‪ ،‬وليس‬
‫كذلك‪ ،‬ولعل ذلك سبب تضعيف العلماء كالم بعضهم بعضا في سائر األدوار إلى عصرنا‬

‫(‪ )0‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،9‬ص ‪ ،012‬صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪َ .0026‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪ ،022‬صحيح مسلم ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.0020‬‬
‫(‪ )0‬فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.92‬‬

‫‪70‬‬
‫هذا فتجد أهل كل دور يطعن في صحة قول بعض األدوار التي قبله وأين من يخرق بصره‬
‫في هذا الزمان جميع األدوار التي مضت قبله حتى يصل إلى شهود اتصالها بعين الشريعة‬
‫األولى التي هي كالم رسول الله ‪ ‬ممن هو محجوب عن ذلك‪ ،‬فإن بين المقلدين اآلن‬
‫(‪)0‬‬
‫وبين الدور األول من الصحابة نحو خمسة عشر دورا من العلماء فاعلم ذلك)‬

‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬


‫يعتمد أصحاب هذا المنهج على النظر في التراث الفقهي لكل المذاهب‪،‬‬
‫لغرضين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬انتقاء ما يرونه مناسبا من األقوال للحادثة التي يستفتون فيها‪ ،‬وكمثال على‬
‫ذلك ما فعله ابن القيم عند ذكره لمخارج الطالق‪ ،‬فقد حاول أن يستفيد من كل الخالفات‬
‫الموجودة ليسد باب الطالق‪ ،‬وقد نص على أنه إذا حلف بالطالق أال يكلم فالنا أو ال‬
‫يدخل داره‪ ،‬فأفتاه مفت بعدم وقوع الطالق في هذه اليمين‪ ،‬اعتقادا لقول علي وطاوس‬
‫وشريح‪ ،‬أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة االلتزام دون صيغة الشرط‪ ،‬أو‬
‫اعتقادا لقول أشهب أنه إذا علق الطالق بفعل الزوجة أنه لم يحنث بفعلها‪ ،‬أو اعتقادا لقول‬
‫أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطالق المعلق ال يصح كما ال يصح‬
‫النكاح والبيع والوقف المعلق‪ ،‬وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬لم يحنث في ذلك كله‪ ،‬ولم يقع الطالق‪ ،‬ولو فرض فساد هذه‬
‫األقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأوال مقلدا ظانا أنه ال يحنث به‪ ،‬فهو أولى‬
‫بعدم الحنث من الجاهل والناسي‪ ،‬وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص‪،‬‬
‫ولم يسأل غير من أفتاه‪ ،‬وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث‪ ،‬ولم يسأل‬

‫(‪ )0‬فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.92‬‬

‫‪72‬‬
‫عن المحلوف عليه‪ ،‬فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة‪ ،‬فكيف والمتأول مطيع‬
‫(‪)0‬‬
‫لله مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟)‬
‫ثانيهما‪ :‬ذكر األقوال للمستفتي ليختار ما يتناسب مع حاجته‪ ،‬أو ليختارها جميعا‬
‫إن كان يمكن الجمع بينها‪ ،‬ومن ذلك ما روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬أدرك‬
‫مسروق وجندب ركعة من المغرب‪ ،‬فلما سلم اإلمام قام مسروق فأضاف إليها ركعة‪ ،‬ثم‬
‫جلس وقام جندب فيهما جميعا‪ ،‬ثم جلس في آخرها فذكر ذلك لعبد الله‪ ،‬فقال‪ :‬كالهما‬
‫قد أحسن وأفعل كما فعل مسروق أحب إلي(‪.)6‬‬
‫وكما أشرنا سابقا‪ ،‬فإن أصحاب هذا المنهج ال يكتفون بالمذاهب األربعة‪ ،‬بل‬
‫يرجعون إلى أقوال غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم‪ ،‬ولو لم يقل بها إمام من‬
‫أئمة المذاهب األربعة‪ ،‬وذلك خالفا لمنهج المذهبيين الذين يتعاملون مع المذاهب‬
‫األربعة فقط‪ ،‬وكأن اتفاقها إجماع يحرم خرقه‪ ،‬ويعتبر شاذا من ال يقول به‪ ،‬ثم ينتقون من‬
‫أقوال هذه المذاهب ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل‪ ،‬ويعتبرون ما عداه ضعيفا‬
‫أو مهجورا مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره‪ ،‬أو يضعف مع شخص ليقوى مع‬
‫غيره‪.‬‬
‫وقد عقد ابن القيم لهذا فصال في اإلعالم قال فيه ‪(:‬فصل‪ :‬القول في جواز الفتوى‬
‫باآلثار السلفية والفتاوي الصحابية‪ ،‬وأنها أولى باألخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم‪،‬‬
‫وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول ‪ ‬وأن فتاوى الصحابة‬

‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪ :‬ج ‪ ،2‬ص‪.29‬‬


‫(‪ )6‬الكتاب المصنف في األحاديث واآلثار‪ ،‬أبو بكر بن أبي شيبة‪ ،‬تحقيق‪ :‬كمال يوسف‬
‫الحوت‪ ،‬مكتبة الرشد – الرياض‪ ،‬ط‪ ،0219 ،0‬ج‪ ،6‬ص‪.602‬‬

‫‪73‬‬
‫أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين‪ ،‬وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين‪،‬‬
‫وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب‪ ،‬وهذا حكم بحسب‬
‫الجنس ال بحسب كل فرد فرد من المسائل‪ ،‬كما أن عصر التابعين‪ ،‬وإن كان أفضل من‬
‫عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس ال بحسب كل شخص شخص‪ ،‬ولكن المفضلون‬
‫في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر‪ ،‬وهكذا الصواب في أقوالهم‬
‫أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم ; فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين‬
‫(‪)0‬‬
‫كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين)‬
‫ثم بين خطأ االقتصار في الفتوى على مذاهب المتأخرين وهجر أقوال المتقدمين‬
‫مع كونها أقرب لزمن الوحي‪ ،‬فقال‪(:‬ولعله ال يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي‬
‫ويحكم بقول فالن وفالن من المتأخرين من مقلدي األئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك‬
‫الفتوى والحكم بقول البخاري‪ ،‬وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر‬
‫المروزي‪ ،‬وأمثالهم‪ ،‬بل يترك قول ابن المبارك واألوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن‬
‫عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة‪ ،‬وأمثالهم‪ ،‬بل ال يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب‬
‫والزهري والليث بن سعد‪ ،‬وأمثالهم‪ ،‬بل ال يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم‬
‫وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح‪ ،‬وأبي وائل وجعفر بن محمد‪ ،‬وأضرابهم‬
‫مما يسوغ األخذ به‪ ،‬بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر‬
‫الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت‬
‫وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت‪ ،‬وأبي‬
‫موسى األشعري‪ ،‬وأضرابهم‪ ،‬فال يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك‬

‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪.002/2 :‬‬

‫‪74‬‬
‫وفتاويهم‪ ،‬وأقوال هؤالء وفتاويهم‪ ،‬فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين األخذ بها‬
‫حكما‪ ،‬وإفتاء‪ ،‬ومنع األخذ بقول الصحابة‪ ،‬واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وشهد عليه بالبدعة والضاللة ومخالفة أهل العلم)‬

‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.002‬‬

‫‪75‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫منهج التيسير‬
‫وهو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو‬
‫يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته‪ ،‬وييسر عليه تنفيذ التكاليف‪ ،‬ولو بأدنى‬
‫مراتبها‪.‬‬
‫وهذا المنهج يتبنى المنهج السابق من حيث اعتقاده بإمكانية االستفادة من جميع‬
‫التراث الفقهي‪ ،‬ويضيف إليه بعد التيسير‪ ،‬العتقاده أن التيسير على المكلفين مقصد من‬
‫مقاصد الشريعة ال يصح تجاوزه‪.‬‬
‫إال أن هذا المنهج‪ ،‬ومن خالل الواقع‪ ،‬نراه ينشئ في المتبنين له‪ ،‬وخاصة في‬
‫أوساط العامة‪ ،‬نوعا من التحرر من أحكام الشريعة‪ ،‬وذلك عبر بعض الظواهر التي‬
‫تحدث عنها الفقهاء‪ ،‬واختلفوا في مواقفهم منها‪ ،‬وهي‪ :‬ظاهرة التلفيق‪ ،‬وظاهرة تتبع‬
‫الرخص‪ ،‬وظاهرة الحيل الشرعية‪ ،‬والتي سنتحدث عنها هنا في هذا المبحث‪.‬‬
‫بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار– لمثل ما عرضنا إليه في المباحث السابقة‬
‫من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي يعتمدون‬
‫عليها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫ليس من السهولة أن نجد أعالما خاصين بهذا المنهج ال يتجاوزونه أو ال يخالفونه‬
‫مطلقا‪ ،‬ولكنا ومن خالل تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التيسير ورفع ثقل‬
‫التكاليف عن المستفتي نجد ثالثة أصول كبرى من اعتقدها جميعا‪ ،‬أو اعتقد ببعضها‪،‬‬
‫يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب هذا المنهج‪ ،‬وهذه األصول هي‪:‬‬

‫‪76‬‬
‫األصل األول‪ :‬جواز تتبع الرخص‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬جواز التلفيق بين المذاهب‪.‬‬
‫األصل الثالث‪ :‬جواز الحيل الفقهية‪.‬‬
‫وسنتحدث عن هذه األصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب‪.‬‬

‫األصل األول‪ :‬جواز تتبع الرخص‬


‫هنا ما يقابل العزيمة(‪ ،)6‬باعتبار أن كليهما من أقسام‬ ‫(‪)0‬‬
‫ليس المراد بالرخص‬
‫الحكم الشرعي‪ ،‬ألنه ال خالف بأن هذا النوع من الرخص مشروع بالكتاب والسنة‪،‬‬
‫ومعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬وال حرج على من أخذ به‪ .‬وإنما المراد به رخص المذاهب‬
‫الفقهية‪ ،‬فكل مذهب قد ييسر في محل‪ ،‬ويشدد في محل آخر‪.‬‬
‫ركشي‬
‫ُّ‬ ‫الز‬
‫بدر الدِّ ين َّ‬
‫وقد عرف هذا النوع من الرخص تعريفات كثيرة منها تعريف ُ‬
‫(‪)0‬‬ ‫(اختيار المرء من ِّ‬
‫كل مذهب ما هو األهون عليه)‬ ‫ُ‬ ‫افعي بأنَّها‬ ‫َّ‬
‫الش ُّ‬
‫مبيحا ألمر‬
‫ولي بأنَّه‪( :‬ما جاء من االجتهادات المذهب َّية ً‬
‫الفقهي الدَّ ُّ‬
‫ُّ‬ ‫وعرفه المجمع‬
‫(‪)2‬‬
‫في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره)‬

‫(‪ )0‬من التعاريف التي عرفت بها الرخص المتفق على جواز األخذ بها‪( :‬الحكم الثابت على‬
‫خالف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المعذور) (البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‬
‫‪)06‬‬
‫(‪ )6‬من التعاريف التي عرفت بها العزيمة‪ :‬أنها (عبارة عن الحكم األصلي السالم موجبه عن‬
‫المعارض)‪ ،‬كالصلوات الخمس من العبادات‪ ،‬ومشروعية البيع وغيرها من التكاليف‪( .‬انظر‪ :‬البحر‬
‫المحيط في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪)01‬‬
‫(‪ )0‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،6‬ص‪.061‬‬
‫(‪ )2‬قرارات وتوصيات مجمع الفقه اإلسالمي الدولي‪ ،)061-019( :‬قرار رقم (‪.)11‬‬

‫‪77‬‬
‫ومع كون أكثر الفقهاء ينكرون تتبع الرخص‪ ،‬إال أنه ظهر وال يزال يظهر من الفقهاء‬
‫من ال يرى حرجا في تتبع الرخص‪ ،‬ويفتي على أساسها‪ ،‬وقد ذكر الشاطبي مدى انتشار‬
‫ذلك في زمانه‪ ،‬فقال‪ (:‬وقد زاد هذا األمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخالف في‬
‫المسائل معدودا في حجج اإلباحة‪ ،‬ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان االعتماد في جواز‬
‫الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم‪ ،‬ال بمعنى مراعاة الخالف(‪)0‬؛ فإن له نظرا آخر‪،‬‬
‫بل في غير ذلك‪ ،‬فربما وقع اإلفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال‪ :‬لم تمنع والمسألة مختلف‬
‫فيها‪ ،‬فيجعل الخالف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها‪ ،‬ال لدليل يدل على‬
‫صحة مذهب الجواز‪ ،‬وال لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع‪ ،‬وهو عين الخطأ‬
‫(‪)6‬‬
‫على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا‪ ،‬وما ليس بحجة حجة)‬
‫وقد اعتبر الشاطبي هذا من تتبع الهوى‪ ،‬ومتنافيا مع االستقامة والتقوى التي أمرت‬
‫بها الشريعة‪ ،‬فقال‪( :‬والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه‪ ،‬ويجعل القول الموافق‬
‫حجة له ويدرأ بها عن نفسه‪ ،‬فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه‪ ،‬ال وسيلة إلى تقواه‪،‬‬
‫وذلك أبعد له من أن يكون ممتثال ألمر الشارع‪ ،‬وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه‬
‫(‪)0‬‬
‫هواه)‬
‫واألمر األخطر في هذا الباب هو ما أشار إليه الشاطبي من قيام بعض المفتين‬
‫باالنتقاء في الفتوى‪ ،‬فيفتي لكل شخص بحسبه في المسألة الواحدة‪ ،‬ال مراعاة لحاله‪،‬‬
‫وإنما مراعاة ألمور أخرى عبر عنها بقوله‪( :‬وقد أدى إغفال هذا األصل إلى أن صار كثير‬

‫(‪ )0‬سنتحدث عنه في منهج التشديد‪.‬‬


‫(‪ )6‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.96‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.96‬‬

‫‪78‬‬
‫من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما ال يفتي به غيره من األقوال؛ اتباعا لغرضه‬
‫وشهوته‪ ،‬أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق‪ ..‬ولقد وجد هذا في األزمنة السالفة‬
‫(‪)0‬‬
‫فضال عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة)‬
‫وقد أشار إلى هذا أيضا ابن حزم‪ ،‬فقد وصف بعض الفقهاء في زمانه‪ ،‬فقال‪( :‬قد‬
‫يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من ال خير فيه‪ ،‬ومن ال علم عنده‪ ،‬ومن‬
‫غيره أعلم منه‪ ،‬وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن ال يحل‬
‫لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة‪ ،‬وال يجوز قبول شهادتهم‪ ،‬وقد رأيت أنا بعضهم‪ ،‬وكان‬
‫ال يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا‪ ،‬وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض‬
‫لحافا‪ ،‬ويتخذ في منزله الصور ذوات األوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه‪،‬‬
‫ويفتي بالهوى للصديق فتيا‪ ،‬وعلى العدو فتيا ضدها‪ ،‬وال يستحي من اختالف فتاويه على‬
‫قدر ميله إلى من أفتى‪ ،‬وانحرافه عليه‪ ،‬شاهدنا نحن هذا منه عيانا‪ ،‬وعليه جمهور أهل‬
‫(‪)6‬‬
‫بلدنا‪ ،‬إلى قبائح مستفيضة ال نستجيز ذكرها؛ ألننا لم نشاهدها)‬
‫وأشار الشاطبي إلى أمر أخطر من الفتوى‪ ،‬وهو القضاء‪ ،‬حيث ذكر أن بعض‬
‫القضاة يتخير في الفتوى ما يتناسب مع هواه في الحكم بين الخصوم‪ ،‬مع أن (القصد من‬
‫نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه ال يلحق فيه أحد الخصمين ضرر‪ ،‬مع‬
‫(‪)0‬‬
‫عدم تطرق التهمة للحاكم‪ ،‬وهذا النوع من التخيير في األقوال مضاد لهذا كله)‬
‫ونقل في هذا عن ابن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير االتباع ليحيى‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.22‬‬


‫(‪ )6‬اإلحكام في أصول األحكام البن حزم‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.061‬‬
‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.26‬‬

‫‪79‬‬
‫بن يحيى‪ ،‬ال يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء‪ ،‬فوقعت قضية تفرد فيها يحيى‬
‫وخالف جميع أهل الشورى؛ فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم‪ ،‬وردفته‬
‫قضية أخرى كتب بها إلى يحيى‪ ،‬فصرف يحيى رسوله‪ ،‬وقال له‪ :‬ال أشير عليه بشيء؛ إذ‬
‫توقف على القضاء لفالن بما أشرت عليه‪ .‬فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه‪،‬‬
‫وركب من فوره إلى يحيى وقال له‪ :‬لم أظن أن األمر وقع منك هذا الموقع‪ ،‬وسوف أقضي‬
‫له غدا إن شاء الله‪ .‬فقال له يحيى‪ :‬وتفعل ذلك صدقا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال له‪ :‬فاآلن هيجت‬
‫غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في األقوال‪ ،‬فأما‬
‫إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف؛ فال خير فيما تجيء به‪ ،‬وال في إن‬
‫رضيته منك‪ ،‬فاستعف من ذلك فإنه أستر لك‪ ،‬وإال رفعت في عزلك)‪ ،‬فرفع يستعفي‬
‫فعزل(‪.)0‬‬
‫وذكر حادثة أخرى عن بعضهم أنه (اكترى جزءا من أرض على اإلشاعة‪ ،‬ثم إن‬
‫رجال آخر اكترى باقي األرض‪ ،‬فأراد المكتري األول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد‪،‬‬
‫فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن ال شفعة في اإلجارات‪ ،‬قال لي‪:‬‬
‫فوردت من سفري‪ ،‬فسألت أولئك الفقهاء ‪-‬وهم أهل حفظ في المسائل وصالح في‬
‫الدين‪ -‬عن مسألتي؛ فقالوا‪ :‬ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية‬
‫(‪)6‬‬
‫أشهب عن مالك بالشفعة فيها‪ .‬فأفتاني جميعهم بالشفعة‪ ،‬فقضي لي بها)‬
‫بل وصل األمر ببعضهم – كما يذكر الشاطبي‪ -‬إلى الى أن يعتبر ذلك من حقوق‬
‫الصداقة‪ ،‬قال‪( :‬أخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا المصنف مشهور بالحفظ والتقدم‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.26‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.91‬‬

‫‪81‬‬
‫أنه كان يقول معلنا غير مستتر‪ :‬إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه‬
‫(‪)0‬‬
‫بالرواية التي توافقه)‬
‫ثم ذكر الشاطبي مدى انتشار هذه الظاهرة في عصره‪ ،‬وموقفه منها‪ ،‬فقال‪( :‬وكثيرا‬
‫ما يسألني من تقع له مسألة من األيمان ونحوها‪ :‬لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟‬
‫وهم يرون أن هذا من األمور الشائعة الجائزة‪ ،‬ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل‬
‫هذا لما طولبوا به وال طلبوه مني وال من سواي‪ ،‬وهذا مما ال خالف بين المسلمين ممن‬
‫يعتد به في اإلجماع أنه ال يجوز وال يسوغ وال يحل ألحد أن يفتي في دين الله إال بالحق‬
‫الذي يعتقد أنه حق‪ ،‬رضي بذلك من رضيه‪ ،‬وسخطه من سخطه‪ ،‬وإنما المفتي مخبر عن‬
‫الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إال بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه‪ ،‬والله تعالى يقول‬
‫ِ‬
‫اح ُك ْم َب ْين َُه ْم بِ َما َأن َْز َل ال َّل ُه َو َال َتتَّبِ ْع َأ ْه َوا َء ُه ْم َو ْ‬
‫اح َذ ْر ُه ْم‬ ‫لنبيه عليه الصالة والسالم‪َ ﴿ :‬و َأن ْ‬
‫ض‬‫اع َل ْم َأن ََّما ُي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن ُي ِصي َب ُه ْم بِ َب ْع ِ‬‫ض َما َأن َْز َل ال َّل ُه إِ َليْ َك َفإِ ْن ت ََو َّل ْوا َف ْ‬ ‫َأ ْن َي ْفتِنُ َ‬
‫وك َع ْن َب ْع ِ‬

‫ون﴾ ؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي‪،‬‬ ‫اس ُق َ‬ ‫َّاس َل َف ِ‬
‫ُذ ُنوبِ ِه ْم َوإِ َّن كَثِ ًيرا ِم َن الن ِ‬

‫أو يفتي زيدا بما ال يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من األغراض؟ وإنما‬
‫يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق‪ ،‬فيجتهد في طلبه‪،‬‬
‫ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه‪ ،‬وكيف له بالخالص مع كونه من أهل العلم واالجتهاد إال‬
‫(‪)0‬‬
‫بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!)‬
‫ولكن مع هذا نجد من العلماء من أباح هذا وبرره‪ ،‬وذكر أن للمق ِّلد أن يختار ما‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.91‬‬


‫(‪ )6‬سورة المائدة‪.29 :‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.90‬‬

‫‪80‬‬
‫شاء مما يجد فيه سهولة ويسر ًا على نفسه من التكاليف الشرعية‪ ،‬ألن ذلك من متطلبات‬
‫تشهي ًا من‬
‫الشريعة‪ ،‬مشددين على أن ال يكون في ذلك تهرب ًا من التكليفات الشرعية أو ّ‬
‫(‪)0‬‬
‫المكلف‪ ،‬أو عود ًة منه عن تقليد التزمه في المسألة)‬
‫ويقول العطار في حاشيته‪ ( :‬يجوز اتباع رخص المذاهب‪ ،‬وال يمنع منه مانع‬
‫(‪)6‬‬
‫ال وشرع ًا)‬
‫شرعي‪ ...‬ال أدري ما يمنع منه عق ً‬
‫ولعل أكثر من اهتم بتتبع الرخص‪ ،‬وحاول أن يسوغها شرعا بعض علماء المذهب‬
‫الحنفي‪ ،‬وهذا ما رجحه الكمال بن الهمام في (فتح القدير)‪ ،‬حيث يقول‪ ( :‬وأنا ال أدري‬
‫ما يمنع هذا؟ النقل أو العقل؟ وكون اإلنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد‬
‫(‪)0‬‬
‫مسوغ له االجتهاد‪ ،‬ما علمت من الشرع ذم ًة عليه‪ ،‬وكان ‪ ‬يحب ما خفف عن أمته)‬
‫بل روي أن من الفقهاء من صنف في هذا‪ ،‬قال إسماعيل القاضي‪ :‬دخلت على‬
‫المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به‬
‫كل منهم‪ ،‬فقلت‪ :‬مصنف هذا زنديق‪ ،‬فقال‪ :‬لم تصح هذه األحاديث؟ قلت‪ :‬األحاديث‬
‫على ما رويت‪ ،‬ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة‪ ،‬ومن أباح المتعة لم يبح المسكر‪،‬‬
‫وما من عالم إال وله زلة‪ ،‬ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه‪ ،‬فأمر المعتضد‬

‫(‪ )0‬انظر ‪ :‬موقع دار اإلفتاء المصرية على االنترنت‪ ،‬الموضوع ( ‪ ،) 0010‬التلفيق للتقليد فى‬
‫مسألة واحدة باطل‪ ،‬منشور بتاريخ ‪0912 / 6 /01 :‬م‪ ،‬جواب للشيخ حسنين محمد مخلوف على‬
‫الرابط التالي‪)www.dar-alifta.com( :‬‬
‫(‪ )6‬حاشية العطار على شرح الجالل المحلي على جمع الجوامع‪ ،‬حسن بن محمد بن محمود‬
‫العطار الشافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.226‬‬
‫(‪ )0‬فتح القدير‪ ،‬كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫ج‪ ،1‬ص‪.612‬‬

‫‪82‬‬
‫بإحراق ذلك الكتاب(‪.)0‬‬
‫ونحب أن ننبه هنا إلى أنه ليس كل تتبع للرخص أنكره الفقهاء الكبار‪ ،‬فمنه ما‬
‫جوزوه‪ ،‬بل دعوا إليه‪ ،‬كما ذكرنا ذلك في المنهج السابق‪.‬‬
‫ومن ذلك ما روي أن اإلمام أحمد سئل عن مسألة في الطالق فقال‪ ( :‬إن فعل‬
‫حنث) فقال السائل‪ ( :‬إن أفتاني إنسان‪ :‬ال أحنث ) فقال‪ ( :‬تعرف حلقة المدنيين؟ ) قلت‪:‬‬
‫( فإن أفتوني ّ‬
‫حل )‪ ،‬قال ( نعم )‪ ،‬وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة‬
‫فدله على إنسان‪ ،‬هل علي شيء؟ قال‪ ( :‬إن كان متبع ًا أو معين ًا فال بأس‪ ،‬وال يعجبني رأي‬
‫(‪)6‬‬
‫أحد)‬
‫وقال ابن عقيل‪ :‬يستحب إعالم المستفتي بمذهب غيره إن كان أهال للرخصة‪.‬‬
‫كطالب التخلص من الربا‪ ،‬فيدله على من يرى التحيل للخالص منه‪ ،‬والخلع بعدم وقوع‬
‫الطالق(‪.)0‬‬
‫وذكر القاضي أبو الحسين في فروعه في كتاب الطهارة عن أحمد‪ :‬أنهم جاءوه‬
‫بفتوى‪ ،‬فلم تكن على مذهبه‪ .‬فقال‪ :‬عليكم بحلقة المدنيين‪( ،‬ففي هذا دليل على أن‬
‫المفتي إذا جاءه المستفتي‪ ،‬ولم يكن عنده رخصة له أن يدله على مذهب من له فيه‬
‫(‪)2‬‬
‫رخصة)‬

‫(‪ )0‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.020‬‬


‫(‪ )6‬انظر ‪ :‬شرح الكوكب المنير‪ ،‬تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد المعروف بابن النجار‬
‫الحنبلي ‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد الزحيلي ونزيه حماد‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪0202 ،6‬هـ ‪ 0991 -‬مـ‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫ص‪.129‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.129‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.129‬‬

‫‪83‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬جواز التلفيق بين المذاهب‬
‫بناء على االعتبارين اللذين يراعيهما أصحاب هذا المنهج بشدة‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫‪ .0‬جواز األخذ من أي مذهب من المذاهب الفقهية وغيرها‪ ،‬بل والتنقل بينها‬
‫بحرية‪.‬‬
‫‪ .6‬أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة‪ ،‬وال حرج في استعماله في أي موضع‪.‬‬
‫فقد ظهر في الواقع اإلسالمي ما يسمى بالتلفيق‪ ،‬أو تلفيق المقلد(‪ ،)0‬ويقصدون‬
‫به (أخذ صحة الفعل من مذهبين مع ًا بعد الحكم ببطالنه على كل واحد منهما بمفرده‬
‫(‪)0‬‬
‫)(‪ )6‬أو هو (اإلتيان بكيفية ال يقول بها المجتهد)‬
‫ومعنى هذا أن الفقيه أو المفتي أو طالب العلم الذي ترسخت لديه المفاهيم‬
‫السابقة يأخذ من كل مذهب ما يتناسب مع مصالحه‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى أن يقوم بعمل‬
‫يحكم الجميع بحرمته‪.‬‬
‫ومن األمثلة التي يذكرها الفقهاء لهذا في أبواب العبادات (متوضئ َل َم َس امرأة‬

‫(‪ )0‬ويقابله التلفيق في االجتهاد‪ ،‬ويسمى‪ :‬االجتهاد المركب‪ :‬هو أن يجتهد اثنان أو أكثر في‬
‫موضوع‪ ،‬فيكون لهم فيه قوالن‪ ،‬ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه‪ ،‬ويؤدي اجتهاده إلى‬
‫األخذ من كل قول ببعضه‪ ،‬ويكون مجموع ذلك مذهبه في الموضوع‪ ،‬فيكون اجتهاده هذا اجتهادا مركبا‬
‫بالنظر إلى ما سبقه من اجتهاد‪ ،‬انظر‪ :‬التلفيق ورأي الفقهاء فيه‪ ،‬مصطفى كمال التارزي‪ ،‬مجلة مجمع‬
‫الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة المؤتمر اإلسالمي بجدة‪ ،‬منظمة المؤتمر االسالمي بجدة‪ ،‬ع‪ ،2‬ض‪.611‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي‪ ،‬محمد سالم مدكور‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0‬ص‬
‫‪. 010‬‬
‫(‪ )0‬الرخصة الشرعية في األصول والقواعد الفقهية‪ ،‬د‪ .‬عمر عبد الله الكامل‪ ،‬دار ابن حزم‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪0999 (0‬م )‪.‬ص ‪.606 – 601‬‬

‫‪84‬‬
‫أجنبية بال حائل‪ ،‬وخرجت منه نجاسة – كالدم – من غير السبيلين‪ ،‬فإن هذا الوضوء باطل‬
‫باللمس عند الشافعية‪ ،‬وباطل بخروج الدم عند الحنفية‪ ،‬وال ينتقض بخروج الدم من غير‬
‫السبيلين عند الشافعية‪ ،‬وال ينقض كذلك بلمس المرأة عند الحنفية‪ ،‬فإذا صلى بهذا‬
‫الوضوء فإن صحة صالته ملفقة بين المذهبين مع ًا)‬
‫ومن األمثلة في باب النكاح (أن يتزوج الرجل امرأة بال ولي وال صداق وال شهود‪،‬‬
‫مقلد ًا كل مذهب يقول بواحدة من هذه لوحدها‪ ،‬كتقليد أبي حنيفة في عدم اشتراط الولي‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وبعدم اشتراط الشهود مقلد ًا المالكية‪ ..‬وهكذا)‬
‫أو (أن يطلق زوجته ثالث ًا‪ ،‬ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل‪ ،‬مقلد ًا في‬
‫زواجها في صحة النكاح عند الشافعي‪ ،‬فأصابها‪ ،‬ثم طلقها مقلد ًا في صحة الطالق وعدم‬
‫(‪)6‬‬
‫العدة لإلمام أحمد‪ ،‬ليجوز لزوجها األول العقد عليها تلفيق ًا بين هذا المذهب وذاك)‬
‫والمسألة – كما نرى – ترجع إلى ما طرحه المتشددون من أصحاب المنهج‬
‫المذهبي من ضرورة االلتزام بالمذاهب‪ ،‬وعدم الخروج عنها‪ ،‬وبالتالي فإن من يرى هذا‬
‫يرى حرمة التلفيق‪ ،‬ومن يرى جواز التنقل بين المذاهب‪ ،‬ولو في القضية الواحدة‪ ،‬يرى‬
‫جواز التلفيق‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا‪ ،‬والخالف الوارد فيه‪ ،‬الزركشي‪ ،‬فقال‪( :‬فلو التزم مذهبا معينا‪،‬‬
‫كمالك والشافعي‪ ،‬واعتقد رجحانه من حيث اإلجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في‬
‫بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب‪( :‬أحدها)‪ :‬المنع‪ ،‬وبه جزم‬

‫(‪ )0‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي‪ ،‬منشورات المكتبة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ‪. 629‬‬
‫(‪ )6‬أصول الفقه اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت ‪،‬‬
‫الطبعة األولى ( ‪ 0926‬م) ج ‪ ،6‬ص ‪.0026‬‬

‫‪85‬‬
‫الجيلي في اإلعجاز‪ ،‬ألن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع‪ ،‬فال ضرورة إلى االنتقال إال‬
‫التشهي‪ ،‬ولما فيه من اتباع الترخص والتالعب بالدين‪ .‬و(الثاني) يجوز‪ ،‬وهو األصح في‬
‫الرافعي‪ ،‬ألن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين‪ ،‬ألن السبب ‪ -‬وهو أهلية‬
‫المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله‪ ،‬وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب‬
‫(‪)0‬‬
‫ووجوب االقتصار على مفت واحد بخالف سيرة األولين)‬
‫ثم ذكر الزركشي صورتين لجواز التلفيق‪:‬‬
‫(إحداهما)‪ :‬إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطالق الثالث‬
‫على فعل شيء‪ ،‬ثم فعله ناسيا أو جاهال‪ ،‬وكان مذهب مقلده عدم الحنث فخرج منه لقول‬
‫من أوقع الطالق‪ ،‬فإنه يستحب له األخذ باالحتياط والتزام الحنث قطعا‪ ،‬ولهذا قال‬
‫الشافعي‪ :‬إن القصر في سفر جاوز ثالثة أيام أفضل من اإلتمام‪.‬‬
‫و(الثانية)‪ :‬إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليال صحيحا ولم يجد في‬
‫مذهب إمامه دليال قويا عنه وال معارضا راجحا عليه‪ ،‬فال وجه لمنعه من التقليد حينئذ‬
‫محافظة على العمل بظاهر الدليل(‪.)6‬‬
‫ونقل العطار الشافعي أقوال عدد من العلماء أجازوا التلفيق لغرض األخذ‬
‫بالرخصة واأليسر‪ ،‬فقال‪( :‬نقل الشرنباللي الحنفي عن السيد أمير باد شاه في شرح‬
‫التجريد‪ :‬يجوز اتباع رخص المذاهب‪ ،‬وال يمنع منه مانع شرعي‪ ،‬إذ لإلنسان أن يسلك‬
‫المسلك األخف عليه من مذهب إلى مذهب‪ ،‬إذا كان له إليه سبيل‪ ،‬بأن لم يكن عمل‬
‫بقول آخر مخالف لذلك األخف‪ ..‬وقال ابن أمير الحاج إن مثل هذه التشديدات التي‬

‫(‪ )0‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،2 ،‬ص ‪.011‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.016‬‬

‫‪86‬‬
‫ذكروها في المتنقل من مذهب إلى مذهب إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص‪،‬‬
‫وإال فأخذ العامي بكل مسألة بقول مجتهد يكون قوله أخف عليه فال أدري ما يمنع منه‬
‫(‪)0‬‬
‫ال وشرع ًا)‬
‫عق ً‬
‫ونحب أن ننبه هنا فقط إلى أن التلفيق الذي أجازه هؤالء العلماء ال عالقة له بما‬
‫ذكره بعض المتحللين من أحكام الشريعة المتالعبين بها‪ ،‬والذين عبر ابن الرومي عنهم‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫وقال الحرامان المدامة والســـكر‬ ‫أبــاح الــعــراقــي الــنــبــيــذ وشـــــربــه‬
‫فـحلــت لنــا من بين اختالفهمــا‬ ‫وقــال الحجــازي‪ :‬الشـــرابــان واحــد‬
‫ـــــــــــــــر)‬
‫الوازرـ الوزر(‪6‬‬ ‫ـــــــــــــــم‬
‫ـــــــــــــــخـفارق‬
‫وأشربها ال‬ ‫الـ‬ ‫ســـــآخــذ مـن قـولـيـهـمــا طــرفيهمــا‬
‫األصل الثالث‪ :‬جواز الحيل الفقهية‬
‫ومعناها – كما يذكر ابن القيم‪( -‬سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى‬
‫حصول غرضه‪ ،‬بحيث ال يتفطن له إال بنوع من الذكاء والفطنة ‪ ..‬وأخص من هذا‬
‫استعمالها في التوصل إلى الغرض الممــنوع منه شرع ًا أو عق ً‬
‫ال أو عادةً‪ ،‬فهذا هو الغالب‬
‫(‪)0‬‬
‫عليها في عرف الناس)‬
‫وقد ذكر ابن تيمية بداية نشوء هذه الظاهرة‪ ،‬فقال‪( :‬أما اإلفتاء بها وتعليمها للناس‬
‫وإنفاذها في الحكم‪ ،‬واعتقاد جوازها فأول ما حدث في اإلسالم في أواخر عصر صغار‬

‫(‪ )0‬حاشية العطار على شرح الجالل المحلي‪ ،‬حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي‪،‬‬
‫دار الكتب العلمية – بيروت‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪226‬‬
‫(‪ )6‬محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء‪ ،‬أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف‬
‫بالراغب األصفهاني‪ ،‬شركة دار األرقم بن أبي األرقم – بيروت‪ ،‬ط‪ 0261 ، ،0‬هـ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.169‬‬
‫(‪ )0‬عالم الموقعين‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.022‬‬

‫‪87‬‬
‫التابعين بعد المئة األولى بسنين كثيرة‪ ،‬وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تؤثر عن‬
‫أصحاب رسول الله ‪ ،‬بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا ُسئلوا عن فعل شيء‬
‫(‪)0‬‬
‫من ذلك أعظموا وزجروا عنه)‬
‫ومن المشهور في تاريخ التشريع اإلسالمي أن الحنفية من أكثر من اهتم بهذا‬
‫الجانب‪ ،‬وأن لهم فيها مؤلفات‪ ،‬منها (المخارج في الحيل) لإلمام محمد بن الحسن‬
‫الشيباني الحنفي‪ ،‬وقد حصل خالف في نسبة الكتاب إليه‪ ،‬ومنها (الحيل والمخارج)‬
‫للخصاف الحنفي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وتروى عن أبي حنيفة الكثير من القصص في هذا‪ ،‬منها ما رواه محمد بن الحسن‪،‬‬
‫قال‪ :‬دخل على رجل اللصوص‪ ،‬فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطالق ثالثا أن ال يعلم‬
‫أحدا‪ ،‬قال‪ :‬فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه‪ ،‬وليس يقدر يتكلم من أجل‬
‫يمينه‪ ،‬فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة‪ ،‬فقال له أبو حنيفة‪( :‬أحضرني إمام حيك والمؤذن‬
‫والمستورين منهم)‪ ،‬فأحضرهم إياه‪ ،‬فقال لهم أبو حنيفة‪( :‬هل تحبون أن يرد الله على‬
‫هذا متاعه؟) قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬فاجمعوا كل داعر وكل متهم فأدخلوهم في دار‪ ،‬أو في‬
‫مسجد‪ ،‬ثم أخرجوهم واحدا واحدا‪ ،‬فقولوا له‪ :‬هذا لصك‪ ،‬فإن كان ليس بلصه قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫وإن كان لصه‪ ،‬فليسكت‪ ،‬فإذا سكت فاقبضوا عليه)‪ ،‬ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة‪ ،‬فرد‬
‫الله عليه جميع ما سرق منه(‪. )6‬‬
‫ومنها ما رواه عن وكيع قال‪ :‬كان لنا جار من خيار الناس‪ ،‬وكان من الحفاظ‬

‫(‪ )0‬بيان الدليل على بطالن التحليل‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي عبد المجيد السلفي‪ ،‬المكتب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ص‪.060‬‬
‫(‪ )6‬الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.200‬‬

‫‪88‬‬
‫للحديث‪ ،‬فوقع بينه وبين امرأته شيء وكان بها معجبا‪ ،‬فقال لها‪ :‬أنت طالق إن سألتيني‬
‫الطالق الليلة‪ ،‬إن لم أطلقك الليلة ثالثا‪ ،‬فقالت المرأة‪ :‬عبيدها أحرار‪ ،‬وكل مال لها صدقة‬
‫إن لم أسألك الطالق الليلة‪ ،‬فجاءني هو والمرأة في الليل‪ ،‬فقالت المرأة‪ :‬إني بليت بكذا‪،‬‬
‫وقال الرجل‪ :‬إني بليت بكذا‪ ،‬فقلت ما عندي في هذا شيء‪ ،‬ولكنا نصير إلى الشيخ أبي‬
‫حنيفة فإني أرجو أن يكون لنا عنده فرج‪ ،‬وكان الرجل يكثر الوقيعة في أبي حنيفة وبلغه‬
‫ذلك عنه‪ ،‬فقال‪ :‬أستحيي منه‪ ،‬فقلت‪ :‬امض بنا إليه‪ ،‬فأبى‪ ،‬فمضيت معه إلى ابن أبي ليلى‬
‫وسفيان‪ ،‬فقاال‪ :‬ما عندنا في هذا شيء‪ ،‬فمضينا إلى أبي حنيفة‪ ،‬فدخلنا عليه‪ ،‬وقصصنا‬
‫عليه القصة وأخبرته أنا مضينا إلى سفيان وابن أبي ليلى‪ ،‬فعزب الجواب عنهما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إني والله ما أجد الفرض إال جوابك‪ ،‬وإن كنت لي عدوا‪ ،‬فسأل الرجل‪ :‬كيف حلف؟‬
‫وسأل المرأة‪ :‬كيف حلفت؟ وقال‪ :‬وأنتما تريدان الخالص من الله في أيمانكما وال‬
‫تحبان الفرقة‪ ،‬فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬وقال الرجل‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬سليه أن يطلقك‪ ،‬فقالت‪ :‬طلقني‪،‬‬
‫فقال للرجل‪ :‬قل لها أنت طالق ثالثا إن شئت‪ ،‬فقال لها ذلك‪ ،‬فقال للمرأة قولي‪ :‬ال أشاء‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬ال أشاء‪ ،‬فقال‪ :‬قد بررتما وخرجتما من طلبة الله لكما‪ ،‬فقال للرجل‪ :‬تب إلى الله‬
‫من الوقيعة في كل من حمل إليك شيئا من العلم " قال وكيع‪ :‬فكان الرجل بعد ذلك يدعو‬
‫ألبي حنيفة في دبر الصلوات‪ ،‬وأخبرني أن المرأة تدعو له كلما صلت(‪.)0‬‬
‫ولكن هذا وإن اشتهر به الحنفية‪ ،‬فليس خاصا بهم‪ ،‬حيث نجد من فقهاء المذاهب‬
‫األخرى من أخذ بهذا األصل أيضا‪.‬‬
‫يقول النووي‪( :‬ومن التساهل أن تحمله األغراض الفاسدة على تتبع الحيل‬
‫المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلب ًا للترخيص لمن يروم نفعه‪ ،‬أو التغليظ على‬
‫ّ‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.200‬‬

‫‪89‬‬
‫صح قصده فاحتسب في طلب حيلة ال شبهة فيها لتخليص من‬
‫ضره وأما من ّ‬
‫من يريد ّ‬
‫ورطة يمين ونحوها‪ ،‬فذلك حسن جميل‪ ،‬وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو‬
‫(‪)0‬‬
‫هذا كقول سفيان‪( :‬إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة‪ ،‬فأما التشديد فيحسنه كل أحد)‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫ال يمكن استيعاب األدلة التي يستند إليها أصحاب هذا المنهج‪ ،‬ولكن يمكن أن‬
‫نجمعها في المجامع التالية‪:‬‬

‫الدليل األول‪:‬‬
‫ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من بيان سماحة الشريعة اإلسالمية‬
‫ويسرها‪ ،‬وأن من مقاصد الشرع الحكيم التيسير والتخفيف على المكلفين‪ ،‬كقوله تعالى‬
‫تعقي ًبا على أحكام الصيام‪ُ ﴿ :‬ي ِريدُ ال َّل ُه بِ ُك ُم ا ْل ُي ْس َر َو َال ُي ِريدُ بِ ُك ُم ا ْل ُع ْس َر﴾(‪ ،)2‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫﴿ َما ُي ِريدُ ال َّل ُه ل ِ َي ْج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِم ْن َح َرجٍ َو َلكِ ْن ُي ِريدُ ل ِ ُي َط ِّه َر ُك ْم َول ِ ُيتِ َّم نِ ْع َم َت ُه َع َل ْي ُك ْم َل َع َّل ُك ْم‬
‫(‪)4‬‬
‫ان َض ِعي ًفا ﴾‬ ‫اإلن َْس ُ‬ ‫ف َعنْ ُك ْم َو ُخلِ َق ْ ِ‬ ‫ون﴾(‪ ،)3‬وقوله‪ُ ﴿ :‬ي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن ُي َخ ِّف َ‬ ‫ت َْش ُك ُر َ‬
‫ومن الحديث قوله ‪ ( :‬إن الدين يسر‪ ،‬ولن يشاد هذا الدين أحد إال غلبه‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫فسددوا‪ ،‬وقاربوا‪ ،‬وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)‬
‫وقوله ‪( :‬يا أيها الناس‪ ،‬خذوا من األعمال ما تطيقون‪ ،‬فإن الله ال يمل حتى‬

‫(‪ )0‬المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)‪ ،‬أبو زكريا محيي الدين يحيى بن‬
‫شرف النووي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )6‬سورة البقرة‪.021 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة المائدة‪.6 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة النساء‪.62 :‬‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.06‬‬

‫‪91‬‬
‫(‪)1‬‬
‫تملوا ‪ .‬وإن أحب األعمال إلى الله أدومها وإن قل)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقوله ‪( :‬أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)‬
‫ولذا أوصى الرسول ‪ ‬معاذ بن جبل وأبا موسى األشعري حين بعثهما إلى اليمن‬
‫(‪)3‬‬
‫فقال‪َ ( :‬ي ّسرا وال ُت َع ّسرا‪ ،‬و َب ِّشرا وال ُتنَ ّفرا)‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أصحاب هذا المنهج يرون في التشديد مخالفة لما ورد في هذه‬
‫النصوص وغيرها من األمر بمراعاة التيسير‪.‬‬
‫وقد استنبط الفقهاء –بمختلف مناهجهم ‪-‬من تلك النصوص وغيرها الكثير من‬
‫القواعد الشرعية التي استنبطوها من النصوص وغيرها‪ ،‬والتي تدل على أن التيسير غرض‬
‫شرعي محترم ال جناح على الفقيه أن يعتمده‪ ،‬بل يجب عليه أن يعتمده في فتاواه‪.‬‬

‫ومن هذه القواعد‪:‬‬


‫‪ 0‬ـ قاعدة‪( :‬المشقة تجلب التيسير) المستنبطة من قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ي ِريدُ ال َّل ُه بِ ُك ُم‬

‫ا ْل ُي ْس َر َو َال ُي ِريدُ بِ ُك ُم ا ْل ُع ْس َر ﴾(‪ ،)4‬وقوله‪َ ﴿ :‬ما ُي ِريدُ ال َّل ُه ل ِ َي ْج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِم ْن َح َرجٍ ﴾(‪،)5‬‬

‫ين ِم ْن َح َرجٍ ﴾(‪ ،)6‬وقوله‪َ ﴿:‬ال ُي َك ِّل ُ‬


‫ف ال َّل ُه َن ْف ًسا إِ َّال‬ ‫وقوله‪َ ﴿:‬و َما َج َع َل َع َل ْي ُك ْم فِي الدِّ ِ‬

‫(‪ )0‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪..01‬‬


‫(‪ )6‬صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ‪.06‬‬
‫(‪ )0‬صحيح البخاري ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )2‬سورة البقرة‪.021 :‬‬
‫(‪ )1‬سورة المائدة‪.6 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة الحج‪.12 :‬‬

‫‪90‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ُو ْس َع َها ﴾‬
‫‪ 6‬ـ قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي مستنبطة من قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َم ِن‬
‫ِ‬ ‫ف ِِ‬
‫اض ُطر فِي م ْخمص ٍة َغير متَجانِ ٍ‬
‫إل ْث ٍم َفإِ َّن ال َّل َه َغ ُف ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫يم ﴾‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َ َ َ َْ ُ َ‬ ‫ْ َّ‬
‫‪ 0‬ـ قاعدة (كلما ضاق األمر اتسع) وهي مستنبطة من قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ي ِريدُ ال َّل ُه َأ ْن‬
‫ان َض ِعي ًفا﴾(‪)3‬وقوله‪َ ﴿ :‬س َي ْج َع ُل ال َّل ُه َب ْعدَ ُع ْس ٍر ُي ْس ًرا﴾(‪،)4‬‬ ‫ف َعنْ ُك ْم َو ُخلِ َق ْ ِ‬
‫اإلن َْس ُ‬ ‫ُي َخ ِّف َ‬
‫(‪)5‬‬
‫وقوله‪َ ﴿ :‬فإِ َّن َم َع ا ْل ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (‪ )1‬إِ َّن َم َع ا ْل ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (‪﴾ )6‬‬
‫‪ 2‬ـ قاعدة (الميسور ال يسقط بالمعسور) المستنبطة من قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ر َّبنَا َو َال‬
‫َاها﴾(‪ ،)7‬وقوله‪﴿ :‬‬ ‫ُت َح ِّم ْلنَا َما َال َطا َق َة َلنَا بِ ِه﴾(‪ ،)6‬وقوله‪َ ﴿ :‬ال ُي َك ِّل ُ‬
‫ف ال َّل ُه َن ْف ًسا إِ َّال َما َآت َ‬
‫َت َع َل ْي ِه ْم﴾(‪ ،)8‬وقوله‪َ ﴿ :‬ل ْي َس َع َلى ْاألَ ْع َمى َح َر ٌج‬ ‫َو َي َض ُع َعن ُْه ْم إِ ْص َر ُه ْم َو ْاألَ ْغ َال َل ا َّلتِي كَان ْ‬
‫(‪)9‬‬ ‫َو َال َع َلى ْاألَ ْع َر ِج َح َر ٌج َو َال َع َلى ا ْل َم ِر ِ‬
‫يض َح َر ٌج ﴾‬

‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫أنه كان من سنة رسول الله ‪ ‬وهو المفتي األول في اإلسالم مراعاة التيسير‪،‬‬

‫(‪ )0‬سورة البقرة‪.626 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة المائدة‪.0 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة النساء‪.62 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة الطالق‪.1 :‬‬
‫(‪ )1‬سورة االنشراح‪.6 -1 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة البقرة‪.626 :‬‬
‫(‪ )1‬سورة الطالق‪.1 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة األعراف‪.011 :‬‬
‫(‪ )9‬سورة النور‪.60 :‬‬

‫‪92‬‬
‫والنهي عن التشدد‪ ،‬ولذلك فإن الفقيه الذي يميل إلى التيسير إنما يطبق سنة رسول الله‬
‫‪ ‬في الفتوى‪.‬‬
‫ففي الحديث عن عائشة أنها قالت‪ ( :‬ما خير رسول الله ‪ ‬بين أمرين إال أخذ‬
‫إثما‪ ،‬فإن كان إثما كان أبعد الناس منه‪ .‬وما انتقم رسول الله ‪ ‬لنفسه‬
‫أيسرهما ما لم يكن ً‬
‫(‪)1‬‬
‫إال أن تنتهك حرمة الله‪ ،‬فينتقم لله بها)‬

‫وعنها قالت‪ :‬كان رسول الله ‪ ( :‬إذا َأ َم َر ُهم َأ َم َر ُهم من األَ َ‬


‫عمال بما ُيطي ُقون)‬
‫(‪)2‬‬

‫وعن عمار بن ياسر قال‪ :‬بعثنا رسول الله ‪ ‬في حاجة فأجن ْبت فلم أجد ما ًء‪،‬‬
‫تمرغ الدابة‪ ،‬ثم أتيت النبي ‪ ‬فأخبرته فقال‪ « :‬إنما كان يكفيك‬
‫فمرغت في الصعيد كما ّ‬
‫أن تقول بيديك هكذا » ثم ضرب بيديه األرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين‬
‫وظاهر كفيه ووجهه(‪.)3‬‬
‫أشق على أمتي ألمرتهم بالسواك‬
‫وعن أبي هريرة أن رسول الله ‪ ‬قال‪( :‬لوال أن ّ‬
‫(‪)4‬‬
‫مع كل صالة)‬
‫وكان ‪ ‬ال يشق على أصحابه في أمر حتى في أوقات تعليمهم‪ ،‬فقد روى ابن‬
‫(‪)5‬‬
‫مسعود أنه قال‪( :‬كان النبي ‪ ‬يتخولنا بالموعظة في األيام كراهة السآمة علينا)‬
‫وعن أنس‪ ،‬قال‪ ( :‬ما صليت وراء إمام قط أخف صالة وال أتم من النبي ‪ ،‬وإن‬

‫(‪ )0‬صحيح البخاري (‪)029 /2‬‬


‫(‪ )6‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪ ،00‬صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.121‬‬
‫(‪ )0‬صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ‪ ،11‬وصحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.621‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.2‬‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري ج ‪ ،2‬ص ‪.22‬‬

‫‪93‬‬
‫(‪)1‬‬
‫كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)‬
‫وهكذا كان الصحابة المنتجبون‪ ،‬وهم أدرى الناس بسنة رسول الله ‪ ،‬فقد‬
‫حدث عمر بن إسحاق‪( :‬لما أدركت من أصحاب رسول الله ‪ ‬أكثر ممن سبقني منهم؛‬
‫فما رأيت قوم ًا أيسر سيرة وال ّ‬
‫أقل تشديد ًا منهم)‬
‫(‪)2‬‬

‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫ما ورد من النصوص في النهي عن التشدد في الدين‪ ،‬وهي كثيرة جدا‪ ،‬منها ما‬
‫حدث به ابن مسعود أن النبي ‪ ‬قال‪( :‬هلك المتنطعون) (قالها ثال ًثا) وفي رواية‪ ( :‬أال‬
‫هلك المتنطعون)(‪ ،)0‬والمتنطعون هم المتعمقون والمتشددون في غير موضع التشديد‪.‬‬
‫وفي الحديث عن عائشة‪ :‬أن النبي ‪ ‬دخل عليها وعندها امرأة‪ ،‬فقال‪ :‬من هذه؟‬
‫قالت‪ :‬فالنة تذكر من صالتها‪ ،‬فقال ‪( : ‬مه عليكم بما تطيقون ! فوالله ال يمل الله حتى‬
‫(‪)4‬‬
‫تملوا‪ ،‬وكان أحب الدين إلى الله ما دوام عليه صاحبه)‬
‫وعن أبي هريرة ‪ ،‬قال‪ :‬قام أعرابي فبال في المسجد‪ ،‬فتناوله الناس‪ ،‬فقال لهم النبي‬
‫‪( :‬دعوه وهريقوا على بوله سجال من ماء‪ ،‬أو ذنوبا من ماء‪ ،‬فإنما بعثتم ميسرين‪ ،‬ولم‬
‫(‪)5‬‬
‫تبعثوا معسرين)‬

‫(‪ )0‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.020‬‬


‫(‪ )6‬مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد الله الدارمي‪ ،‬التميمي السمرقندي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬نبيل هاشم الغمري‪ ،‬دار البشائر (بيروت)‬
‫ط‪0202 ،0‬هـ ‪6100 -‬م‪ ،‬ص‪.062‬‬
‫(‪ )0‬صحيح مسلم ج‪ ،2‬ص ‪.6111‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪ ،12‬وصحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.121‬‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.12‬‬

‫‪94‬‬
‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫يمكن تقسيم الفقهاء الذين اعتمدوا هذا المنهج إلى فريقين‪:‬‬

‫الفريق األول‪:‬‬
‫وهم الذين اعتبروا التيسير مقصدا شرعيا مطلقا غير منضبط بالضوابط األخرى‪،‬‬
‫ولهذا أجازا تتبع الرخص مطلقا‪ ،‬بل أجازوا ما يسمونه بالحيل الفقهية على اعتبار أنها‬
‫تحقق مقصد التيسير‪.‬‬
‫وقد ذكر من كتبوا في الرد على الحيل كابن تيمية وابن القيم الكثير من المناهج‬
‫التي يعتمدها هؤالء في مراعاة حاجات وأهواء المستفتين‪ ،‬ومن ذلك ما ورد في الحيل‬
‫المرتبطة بالتهرب من الزكاة وهي كثيرة جدا‪ ،‬وتصطدم مع ما ورد في الشرع من مقاصد‬
‫الزكاة‪.‬‬
‫ومن األمثلة التي ذكرها ابن القيم‪ ،‬وهي لألسف منتشرة بين الناس‪ :‬أن يكون على‬
‫من وجبت عليه الزكاة على رجل مال‪ ،‬وقد أفلس غريمه وأيس من أخذه منه‪ ،‬وأراد أن‬
‫يحسبه من الزكاة‪ ،‬فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه‪ ،‬ومن ثم يطالبه بالوفاء‪ ،‬فإذا أوفاه برئ‬
‫وسقطت الزكاة عن الدافع‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم هذه الحيلة‪ ،‬وقال‪( :‬وهذه حيلة باطلة‪،‬‬
‫سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من‬
‫(‪)0‬‬
‫دينه فكل هذا ليسقط عنه الزكاة وال يعد مخرج ًا لها شرع ًا وال عرف ًا)‬
‫الدين الذي‬
‫ُ‬ ‫ومن الحيل المنتشرة في هذا الباب إسقاط الدين على المعسر قائالً‪:‬‬
‫لي عليك هو لك‪ ،‬ويحسبه من الزكاة‪ ،‬وقد سئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – عن‬
‫هذه المسألة فأجاب بقوله‪( :‬هذا ال يجوز؛ ألن الله تعالى قال‪ُ ﴿:‬خ ْذ ِم ْن َأ ْم َوال ِ ِه ْم َصدَ َق ًة‬

‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص‪.621‬‬

‫‪95‬‬
‫ُت َط ِّه ُر ُه ْم﴾(‪ ، )0‬واألخذ ال بد أن يكون ببذل من المأخوذ منه‪ ،‬وقال النبي ‪( :‬أعلمهم‬
‫أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد)(‪ ،)6‬فقال‪( :‬تؤخذ من أغنيائهم‬
‫فترد)‪ ،‬فالبد من أخذ ورد‪ ،‬واإلسقاط ال يوجد فيه ذلك؛ وألن اإلنسان إذا أسقط الدين‬
‫عن زكاة العين التي في يده‪ ،‬فكأنما أخرج الرديء عن الطيب‪ ،‬ألن قيمة الدين في النفس‬
‫ليست كقيمة العين‪ ،‬فإن العين ملكه وفي يده‪ ،‬والدين في ذمة اآلخرين قد يأتي وقد ال‬
‫يأتي‪ ،‬فصار الدين دون العين‪ ،‬وإذا كان دونها فال يصح أن يخرج زكاة عنها لنقصه‪ ،‬وقد‬
‫ض‬‫ات َما ك ََس ْب ُت ْم َو ِم َّما َأ ْخ َر ْجنَا َل ُك ْم ِم َن ْاألَ ْر ِ‬‫قال تعالى‪ ﴿ :‬يا َأيها ا َّل ِذين آمنُوا َأن ِْف ُقوا ِمن َطيب ِ‬
‫ْ ِّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُّ َ‬
‫اع َل ُموا َأ َّن ال َّل َه َغن ِ ٌّي‬
‫آخ ِذ ِيه إِ َّال َأ ْن ُت ْغ ِم ُضوا فِ ِيه َو ْ‬‫ون و َلستُم بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وال َتيمموا ا ْل َخبِ َ ِ‬
‫يث منْ ُه ُتنْف ُق َ َ ْ ْ‬ ‫َ َ َّ ُ‬
‫(‪)0‬‬
‫َح ِميدٌ ﴾‬
‫وهكذا أفتى ابن القيم فيمن (كان له على رجل مال‪ ،‬وقد أفلس غريمه‪ ،‬وأيس من‬
‫أخذه منه‪ ،‬وأراد أن يحسبه من الزكاة‪ ،‬فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه‪ ،‬ومن ثم يطالبه‬
‫بالوفاء‪ ،‬فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع)‬
‫فقد أجاب على هذا بقوله‪( :‬وهذه حيلة باطلة‪ ،‬سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من‬
‫التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه فكل هذا ل يسقط عنه الزكاة‬
‫(‪)2‬‬
‫وال يعد مخرج ًا لها شرع ًا وال عرف ًا)‬
‫وهكذا نجد العلماء المحققين يشتدون على هذا النوع من الحيل‪ ،‬باعتباره تملصا‬
‫من الشريعة‪ ،‬وال يختلف عما فعله أصحاب السبت من بني إسرائيل‪ ،‬يقول الشاطبي‪:‬‬

‫(‪ )0‬سورة التوبة‪ :‬من اآلية‪.010‬‬


‫(‪ )6‬صحيح البخاري ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪ ،012‬صحيح مسلم ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )0‬سورة البقرة‪.661:‬‬
‫(‪ )2‬إعالم الموقعين‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص‪.621‬‬

‫‪96‬‬
‫(وقد أذكر في هذا المعني جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم‬
‫ذكره في تضاعيف المسألة كاالنسالخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخالف‪،‬‬
‫وكاالستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا االعتبار سياالً ال ينضبط‪ ،‬وكترك ما هو معلوم إلى ما‬
‫ليس بمعلوم‪ ..‬وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك االنضباط إلى أمر معروف‪،‬‬
‫وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد‬
‫(‪)0‬‬
‫التي يكثر تعدادها)‬
‫وقال ابن القيم‪( :‬وقد استقرت سنة الله في خلقه شرع ًا وقدر ًا على معاقبة العبد‬
‫المط َّلقة في مرض الموت‪ ،‬وكذلك الفار‬
‫ث ُ‬ ‫وور َ‬ ‫ُ‬
‫القاتل الميراث‪َّ ،‬‬ ‫بنقيض قصده‪ ،‬كما ُح ِر َم‬
‫ُ‬
‫ويسقط مقصو ُد‬ ‫مقصو ُده‬
‫فيتم ُ‬
‫من الزكاة ال يسقطها عنه فراره وال يعان على قصده الباطل ُ‬
‫تحيل على بلوغ غرضه ويبطل‬‫الم ُ‬ ‫ِ‬
‫الرب تعالى‪ ،‬وكذلك عامة الحيل إنما ُيساعدُ فيها ُ‬
‫(‪)6‬‬
‫غرض الشارع)‬

‫الفريق الثاني‪:‬‬
‫وهم الذين احترموا ما ورد في النصوص من اعتبار التيسير والتسهيل على‬
‫المكلفين‪ ،‬ولهذا راعوا رفع الحرج في التكاليف من غير أن يصطدموا مع مقاصد الشرع‬
‫التي راعاها في التكاليف المختلفة‪ ،‬وهذا المنهج يقبل الرخص الفقهية‪ ،‬وقد يتبعها‪،‬‬
‫ولكن بشرط عدم أدائها لتساهل المكلف في أحكام الشريعة‪.‬‬
‫يقول الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) في باب التمحل في الفتوى‬
‫ذاكرا هذا النوع من التيسيرات التي يحتاج المفتي إلى مراعاتها‪ (:‬متى وجد المفتي‬

‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.016‬‬


‫(‪ )6‬إعالم الموقعين ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.090‬‬

‫‪97‬‬
‫للسائل مخرج ًا في مسألته‪ ،‬وطريق ًا يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه‪ ،‬كرجل حلف أن ال‬
‫ينفق على زوجته وال يطعمها شهر ًا‪ ،‬أو شبه هذا‪ ،‬فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها‪ ،‬أو دين‬
‫لها عليه‪ ،‬أو يقرضها ثمن بيوتها‪ ،‬أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن‪ ،‬وقد قال الله تعالى‬
‫اض ِر ْب بِ ِه َو َال‬
‫أليوب عليه السالم لما حلف أن يضرب زوجته مئة ﴿ َو ُخ ْذ بِ َي ِد َك ِض ْغ ًثا َف ْ‬
‫(‪)6‬‬
‫َحن َْث﴾ )‬
‫‪0‬‬
‫ت ْ‬
‫ثم ساق الخطيب آثار ًا كثيرة في هذا المعنى‪ ،‬منها ما رواه عن علي‪ :‬في رجل‬
‫حلف‪ ،‬فقال‪ :‬امرأته طالق ثالثا إن لم يطأها في شهر رمضان نهارا‪ ،‬قال‪( :‬يسافر بها ثم‬
‫(‪)0‬‬
‫ليجامعها نهارا)‬
‫ومنها ما رواه عن حماد قال‪ :‬قلت إلبراهيم‪ :‬أمر على العاشر فيستحلفني بالمشي‬
‫(‪)2‬‬
‫إلى بيت الله‪ ،‬قال‪( :‬احلف له‪ ،‬وانو مسجد حيك)‬

‫(‪ )0‬سورة ص‪.22 :‬‬


‫(‪ )6‬الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.200‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.200‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.206‬‬

‫‪98‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫منهج التشديد‬
‫وهو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو‬
‫يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف‪ ،‬أو يختار له أشدها وأكثرها‬
‫احتياطا‪.‬‬
‫وهذا المنهج يرى إمكانية االستفادة من جميع التراث الفقهي‪ ،‬ويضيف إليه ُبعد‬
‫التشديد واالحتياط والورع‪ ،‬العتقاده أن التشديد واالحتياط مقصد من مقاصد الشريعة‬
‫ال يصح تجاوزه‪.‬‬
‫بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المباحث‬
‫السابقة من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه‪ ،‬وأدلتهم‪ ،‬والمنهج أو اآلليات التنفيذية التي‬
‫يعتمدون عليها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫من خالل تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التشديد على المستفتين نجد ثالثة‬
‫أصول كبرى من اعتقدها جميعا‪ ،‬أو اعتقد بأحدها‪ ،‬يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب‬
‫هذا المنهج‪ ،‬وهذه األصول هي‪:‬‬
‫األصل األول‪ :‬ترجيح العزيمة على الرخصة‬
‫األصل الثاني‪ :‬القول بسد الذرائع‬
‫األصل الثالث‪ :‬مراعاة الخالف‬
‫وسنتحدث عن هذه األصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب‪.‬‬

‫األصل األول‪ :‬ترجيح العزيمة على الرخصة‬

‫‪99‬‬
‫أو ما يسمى في األصول بمبحث االحتياط(‪ ،)0‬أو األخذ باألحوط‪ ،‬أو التحرز‪ ،‬أو‬
‫التحري (‪ ،)6‬أو التوقف (‪ ،)0‬أو التورع(‪.)2‬‬
‫وهو منهج اعتمده الكثير من العلماء مقابل المنهج السابق‪ ،‬يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫(وسلك كثير من الفقهاء دليل االحتياط في كثير من األحكام بناء على هذا‪ ،‬وأما االحتياط‬
‫(‪)1‬‬
‫في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقالء في الجملة)‬
‫ومثله صرح الشاطبي بأن الشريعة (مبنية على االحتياط واألخذ باألحزم‪ ،‬والتحرز‬
‫مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة‪ ،‬فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل‪ ،‬فليس‬

‫(‪ )0‬عرفه الجرجاني بأنه (حفظ النفس عن الوقوع في المآثم) (كتاب التعريفات‪ ،‬علي بن محمد‬
‫بن علي الزين الشريف الجرجاني‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت –لبنان‪ ،‬ط‪0210 ،0‬هـ ‪0920-‬م ‪،‬‬
‫ص‪ ،)06‬وعرفه ابن عبد البر بأنه (الكف عن إيجاب ما لم يأذن الله بإيجابه)( التمهيد لما في الموطأ من‬
‫المعاني واألسانيد‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،)60‬وعرفه ابن تيمية بأنه (اتقاء ما يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب‬
‫عند عدم المعارض الراجح) (مجموع الفتاوى‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن محمد بن قاسم‪ ،‬مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف‪ ،‬المدينة النبوية‪،‬‬
‫المملكة العربية السعودية‪0206 ،‬هـ‪0991/‬م ‪ ،‬ج ‪ ،61‬ص‪.002‬‬
‫(‪ . )6‬عرفه السرخسي بأنه (عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على‬
‫حقيقته)( المبسوط‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪،‬‬
‫‪0202‬هـ ‪0990 -‬م ‪ ،‬ج‪ ،01‬ص‪)021‬‬
‫(‪ )0‬عرفته الموسوعة الكويتية بأنه (عدم إبداء قول في المسألة االجتهاد ّية لعدم ظهور وجه‬
‫الصواب فيها للمجتهد) (الموسوعة الفقهية الكويتية‪ ،‬وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية – الكويت‪،‬‬
‫ّ‬
‫دارالسالسل ‪ -‬الكويت ‪ 0261 - 0212 ،‬هـ‪ ،‬ج‪ ،02‬ص‪)016‬‬
‫(‪ )2‬عرف بأنه (اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات) (التعريفات‪ ،‬ص ‪)026‬‬
‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ج ‪ ،61‬ص‪.666‬‬

‫‪011‬‬
‫(‪)0‬‬
‫العمل عليه ببدع في الشريعة‪ ،‬بل هو أصل من أصولها)‬
‫ومثلهما ابن العربي الذي ذكر أن (للشريعة طرفين‪ :‬أحدهما‪ :‬طرف التخفيف في‬
‫التكليف‪ ،‬واآلخر‪ :‬طرف االحتياط في العبادات‪ ،‬فمن احتاط استوفى الكل‪ ،‬ومن خفف‬
‫(‪)6‬‬
‫أخذ بالبعض)‬
‫ومثلهم جميعا العز بن عبد السالم الذي اعتبر االحتياط أصال من األصول المهمة‬
‫التي ال يمكن تحقق مقاصد الشريعة من دونها‪.‬‬
‫وقد قسمه إلى قسمين(‪:)0‬‬
‫االحتياط المندوب‪ :‬وهو المعبر عنه بالورع‪ ،‬ومثل له بأمثلة كثيرة منها‪ :‬غسل‬
‫اليدين ثالثا إذا قام من النوم قبل إدخالهما اإلناء‪ ،‬وكالخروج من خالف العلماء عند‬
‫تقارب المأخذ‪ ،‬وكإصالح الحكام بين الخصوم في مسائل الخالف‪ ،‬وكاجتناب كل‬
‫مفسدة موهمة‪ ،‬وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك في عقد من العقود‪ ،‬أو في شرط من‬
‫شروطه‪ ،‬أو في ركن من أركانه‪ ،‬فليعده بشروطه وأركانه‪ ،‬وكذلك من فرغ من عبادة‪ ،‬ثم‬
‫شك في شيء من أركانها‪ ،‬أو شرائطها بعد زمن طويل‪ ،‬فالورع أن يعيدها‪.‬‬
‫االحتياط الواجب‪ :‬لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه‪ ،‬فإذا دارت‬
‫المصلحة بين اإليجاب والندب‪ ،‬واالحتياط‪ ،‬حملها على اإليجاب؛ لما في ذلك من‬
‫تحقق براءة الذمة‪ ،‬فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها‪ ،‬وإن كانت مندوبة فقد‬

‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.21‬‬


‫(‪ )6‬أحكام القرآن‪ ،‬القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري االشبيلي المالكي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ط‪ 0262 ،6‬هـ ‪ 6110 -‬م ‪ ،‬ج‪،6‬‬
‫ص‪.60‬‬
‫(‪ )0‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.02‬‬

‫‪010‬‬
‫حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب‪ ،‬فإن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت‬
‫له حسنة‪ ،‬وإذا دارت المفسدة بين الكراهة والتحريم فاالحتياط حملها على التحريم‪ ،‬فإن‬
‫كانت مفسدة التحريم محققة‪ ،‬فقد فاز باجتنابها‪ ،‬وإن كانت منفية فقد اندفعت مفسدة‬
‫المكروهة‪ ،‬وأثيب على قصد اجتناب المحرم‪ ،‬فإن اجتناب المحرم أفضل من اجتناب‬
‫المكروه‪ ،‬كما أن فعل الواجب أفضل من فعل المندوب(‪.)0‬‬
‫وكما كان الحنفية من أكثر المذاهب ميال إلى منهج التيسير في الفتوى‪ ،‬فإن الذهب‬
‫المالكي من أكثرها ميال إلى منهج التشديد مراعاة لالحتياط‪ ،‬يقول ابن عبد البر عن اإلمام‬
‫(‪)6‬‬
‫مالك‪( :‬وكان رحمه الله متحفظا كثير االحتياط للدين)‬
‫ويقول ابن العربي‪( :‬فإن اللفظ إذا كان غريبا لم يخرج عند مالك أو كان احتياطا‬
‫(‪)0‬‬
‫لم يعدل عنه)‬
‫وقال الحطاب‪( :‬ومذهبه (أي مالك) مبني على سد الذرائع واتقاء الشبهات‪ ،‬فهو‬
‫(‪)2‬‬
‫أبعد المذاهب عن الشبه)‬
‫وهذا ال يعني أن سائر الفقهاء لم يأخذوا به‪ ،‬ولكن درجاتهم أخذهم به كانت أخف‬
‫من درجة أخذ المالكية به‪.‬‬

‫(‪ )0‬قواعد األحكام في مصالح األنام ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.61‬‬


‫‪.‬‬
‫(‪ )6‬االستذكار‪ ،‬أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي ‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬سالم محمد عطا‪ ،‬محمد علي معوض‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪ ،‬ط‪،6111 – 0260 ،0‬‬
‫ج‪ ،0‬ص‪.021‬‬
‫(‪ )0‬أحكام القرآن‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.112‬‬
‫(‪ )2‬مواهب الجليل‪ ،‬للحطاب‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.01‬‬

‫‪012‬‬
‫يقول السرخسي عن أصول المذهب الحنفي‪( :‬األخذ باالحتياط في العبادات‬
‫(‪)0‬‬
‫أصل)‬
‫ويقول الزركشي‪( :‬فإن الشافعي يرى تقديم األحوط‪ ،‬ألنه أقرب إلى مقصود‬
‫(‪)6‬‬
‫الشارع)‬
‫ولعل من أكبر المغالين في األخذ به بعض الصوفية‪ ،‬كما ذكر ذلك السيوطي‬
‫والشعراني والمناوي وغيرهم‪.‬‬
‫فهم يرون أن (يؤخذ من كل مذهب باألشد واألحوط واألورع‪ ،‬فإذا كان في‬
‫مذهب الشافعي ‪ -‬مثال ‪ -‬الجواز في مسألة‪ ،‬والتحريم في أخرى‪ ،‬ومذهب غيره بالعكس‪،‬‬
‫يأخذون بالتحريم احتياطا‪ ،‬وإذا كان مذهبه الوجوب في مسألة‪ ،‬واالستحباب في أخرى‪،‬‬
‫ومذهب غيره بالعكس‪ ،‬يأخذون بالوجوب في المسألتين احتياطا‪ ،‬فيقولون بنقض‬
‫الوضوء بلمس النساء‪ ،‬ومس الفرج‪ ،‬وبالقيء‪ ،‬والدم السائل‪ ،‬ويقولون بوجوب النية في‬
‫(‪)0‬‬
‫الوضوء‪ ،‬ومسح كل الرأس‪ ،‬ووجوب الوتر‪ ،‬إلى غير ذلك)‬
‫وقد خرج التشدد ببعضهم إلى الوقوع في الحرج المنهي عنه شرعا‪ ،‬وقد ذكر‬
‫هؤالء ابن القيم‪ ،‬فقال‪( :‬وقد بلل الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل اآلخرة‪،‬‬
‫وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو‪ ،‬وهم يحسبون أنهم‬

‫(‪ )0‬أصول السرخسي‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي‪ ،‬دار المعرفة –‬
‫بيروت‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.16‬‬
‫(‪ )6‬البحر المحيط‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص‪.011‬‬
‫(‪ )0‬جزيل المواهب‪ ،‬السيوطي‪ ،‬ص‪.06‬‬

‫‪013‬‬
‫(‪)0‬‬
‫يحسنون صنعا)‬
‫وبين الفرق بين الورع المستحسن شرعا والوسوسة التي هي نتاج المبالغة في‬
‫االحتياط بعيد عن فهم مقاصد الشارع‪ ،‬فقال‪( :‬والفرق بين االحتياط والوسوسة أن‬
‫االحتياط االستقصاء والمبالغة في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله ‪ ‬وأصحابه من‬
‫غير غلو ومجاوزة وال تقصير وال تفريط‪ ،‬فهذا هو االحتياط الذي يرضاه الله ورسوله‪.‬‬
‫وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة‪ ،‬ولم يفعله رسول الله ‪ ‬وال أحد من‬
‫الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل‬
‫أعضاءه في الوضوء فوق الثالثة‪ ،‬فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله‪ ،‬ويصرح‬
‫بالتلفظ بنية الصالة مرارا أو مرة واحدة‪ ،‬ويغسل ثيابه مما ال يتيقن نجاسته احتياطا‪،‬‬
‫ويرغب عن الصالة في نعله احتياطا إلى أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا‪،‬‬
‫وزعموا أنه احتياط‪ ،‬وقد كان االحتياط باتباع هدى رسول الله ‪ ‬وما كان عليه أولى‬
‫بهم‪ ،‬فإنه االحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق االحتياط وعدل عن سواء الصراط‪.‬‬
‫واالحتياط كل االحتياط الخروج عن خالف السنة‪ ،‬ولو خالفت أكثر أهل األرض‪ ،‬بل‬
‫(‪)6‬‬
‫كلهم)‬

‫األصل الثاني‪ :‬القول بسد الذرائع‬


‫بما أن المذهب المالكي هو أميل المذاهب إلى هذا المنهج‪ ،‬فقد كان من أكثرها‬
‫عمال بسد الذرائع‪ ،‬قال القرطبي‪( :‬وسد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر‬

‫(‪ )0‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد حامد الفقي‪ ،‬مكتبة المعارف‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.001‬‬
‫(‪ )6‬الروح‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ص ‪.629‬‬

‫‪014‬‬
‫(‪)0‬‬
‫الناس تأصيال‪ ،‬وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيال)‬
‫ثم حرر معناه عند المالكية‪ ،‬ومواضع الخالف بينهم فيه‪ ،‬فقال‪( :‬حرر موضع‬
‫الخالف فقال‪ :‬اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعا أو‬
‫ال‪ ،‬واألول ليس من هذا الباب‪ ،‬بل من باب ما ال خالص من الحرام إال باجتنابه ففعله‬
‫حرام من باب ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪ .‬والذي ال يلزم إما أن يفضي إلى‬
‫المحظور غالبا أو ينفك عنه غالبا أو يتساوى األمران وهو المسمى ب (الذرائع) عندنا‪:‬‬
‫فاألول ال بد من مراعاته‪ ،‬والثاني والثالث اختلف األصحاب فيه‪ ،‬فمنهم من يراعيه‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ومنهم من ال يراعيه‪ ،‬وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة)‬
‫كره بعض المندوبات لئال يعتقد في وجوبها‬
‫وألجل مبالغة مالك في سد الذرائع ّ‬
‫أو سننها‪ ،‬وذلك شأنه في كراهة ُك ّل النَّوافل التي تتخذ على طريقة الورد في أيام‬
‫الستة أيام من شهر شوال‪ ،‬لئال يعتقد العا ّمة أنَّها كصيام‬
‫معلومات‪ ،‬ومن ذلك أنَّه كره صيام ِّ‬
‫َان ك ِ‬ ‫ان ُثم َأ ْت َب َع ُه ِستًّا ِم ْن َش َّو ٍ‬
‫ال‪ ،‬ك َ‬
‫َص َيا ِم‬ ‫وأول الحديث‪َ ( :‬م ْن َصا َم َر َم َض َ َّ‬
‫رمضان واجبة(‪َّ ،)0‬‬
‫السـنة أي ما يقابل رمضان‪ ،‬فاستحب صيام‬ ‫الدَّ ْه ِر)(‪ ،)2‬على َّ‬
‫أن المقصود بشوال طول َّ‬
‫السـنة‪ ،‬قال مالك في الموطأ‪( :‬ما رأيت أحد ًا من‬
‫النَّافلة دون تحديد يوم أو أ ّيام مع ّينة من َّ‬

‫(‪ )0‬نقال عن‪ :‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.91‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.91‬‬
‫(‪ )0‬يقول الشاطبي في االعتصام مبررا رأي مالك في هذه المسألة‪( :‬فكالم مالك هنا ليس فيه‬
‫دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم‪ ،‬بل لعل كالمه مشعر بأنه يعلمه‪ ،‬لكنه لم ير العمل‬
‫عليه وإن كان مستحبا في األصل؛ لئال يكون ذريعة لما قال‪ ،‬كما فعل الصحابة في األضحية‪ ،‬وعثمان‬
‫في اإلتمام في السفر) (االعتصام‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪)296‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ ،6 ،‬ص ‪.266‬‬

‫‪015‬‬
‫الس َلف‪َّ ،‬‬
‫وإن أهل العلم يكرهون ذلك‬ ‫أهل العلم والفقه يصومها‪ ،‬ولم يبلغني عن أحد من َّ‬
‫مخافة بدعته‪ْ ،‬‬
‫وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك‬
‫(‪)0‬‬
‫رخصة عند أهل العلم أو هم يعلمون ذلك)‬
‫على خالف هذا نجد الشافعي يؤكد استحباب صومها‪ ،‬فيقول‪( :‬هذا الحديث‬
‫السـنَّة فال ُتترك لترك بعض النَّاس أو أكثرهم أو ُك ّلهم لها‪،‬‬
‫الصريح‪ ،‬إذا ثبتت ُّ‬
‫الصحيح َّ‬
‫َّ‬
‫(‪)6‬‬
‫الصوم المندوب)‬
‫وقوله‪ :‬قد يظن وجوبها‪ ،‬ينتقص يوم عرفة وعاشوراء‪ ،‬وغيرهما من َّ‬
‫ومن األمثلة على هذا أيضا موقف اإلمام مالك من مجموعة من بيوع اآلجال سدا‬
‫لذريعة الربا‪ ،‬ففي الموطأ‪( :‬قال مالك في الذي يشتري الطعام ف َي ْكتَا ُله‪ ،‬ثم يأتيه من يشتريه‬
‫منه‪ ،‬فيخبر الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه‪ ،‬فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله‪:‬‬

‫يع على هذه الصفة بنقد‪ ،‬فال بأس به‪ ،‬وما بِ َ‬


‫يع على هذه الصفة إلى أجل‪ ،‬فإنه مكروه‬ ‫إن ما بِ َ‬
‫حتى يكتاله المشتري اآلخر لنفسه‪ ،‬وإنما كره الذي إلى أجل‪ ،‬ألنه ذريعة إلى الربا‪،‬‬
‫وتخوف أن يدار ذلك على هذا الوجه بغير كيل وال وزن‪ ،‬فإن كان إلى أجل‪ ،‬فهو مكروه‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وال اختالف فيه عندنا)‬
‫لكن المبالغة في هذا األصل جعلت بعض الفقهاء يقابلون النص بسد الذرائع‪،‬‬
‫وهو ما لقي النكير الشديد من أصحاب المنهج األول‪ ،‬وقد بدأت هذه الظاهرة في العصر‬
‫األول‪ ،‬وتصدى لها الصحابة ‪ ،‬وكمثال على ذلك ما روي أن عبد الله بن عمر قال‪:‬‬

‫(‪ )0‬الموطأ‪ ،‬مالك بن أنس بن مالك بن عامر األصبحي المدني‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد مصطفى‬
‫األعظمي‪ ،‬مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان لألعمال الخيرية واإلنسانية ‪ -‬أبو ظبي – اإلمارات‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ 0261‬هـ ‪ 6112 -‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.221‬‬
‫َّووي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.16‬‬
‫(‪ )6‬شرح مسلم للن ّ‬
‫(‪ )0‬موطأ مالك ج‪ ،2‬ص ‪.912‬‬

‫‪016‬‬
‫سمعت رسول الله ‪ ‬يقول ‪ (:‬ال تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها) ‪ .‬فقال‬
‫بالل بن عبد الله‪ :‬والله لنمنعهن ‪ .‬قال‪ :‬فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه‬
‫(‪)0‬‬
‫مثله قط‪ ،‬وقال‪ :‬أخبرك عن رسول الله ‪ ‬وتقول والله لنمنعهن)‬
‫وهذا القول لم يبق قول بالل بن عبد الله وحده‪ ،‬بل صار قوال فقهيا له جمهوره‬
‫العريض‪ ،‬قال الشوكاني‪(:‬وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه‬
‫نظر ألنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل األمن عليها وال سيما إذا كان ذلك‬
‫(‪)6‬‬
‫بالليل)‬

‫األصل الثالث‪ :‬مراعاة الخالف‬


‫وهو من األصول الكبرى التي اعتبرها أصحاب هذا المنهج‪ ،‬وخصوصا المالكية‬
‫منهم(‪ ،)0‬وقد عرفه ابن عرفة بأنه (إعمال دليل في الزم مدلول الذي أعمل في نقيضه دليل‬

‫(‪ )0‬مسند أحمد ج‪ ،2‬ص ‪ ،226‬صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.061‬‬


‫(‪ )6‬نيل األوطار‪ ،‬محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني‪ ،‬تحقيق‪ :‬عصام الدين‬
‫الصبابطي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪0200 ،0‬هـ ‪0990 -‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.011‬‬
‫(‪ )0‬هناك خالف في اعتبار المالكية لهذا األصل‪ ،‬قال الونشريسي‪( :‬إن مراعاة الخالف قد عابه‬
‫جماعة من الفقهاء منهم اللخمي وعياض وغيرهما من المحققين‪ ،‬حتى قال عياض‪( :‬القول بمراعاة‬
‫الخالف ال يعضده القياس‪ ،‬وكيف يترك العالم مذهبه الصحيح عنده ويفتي بمذهب غيره المخالف‬
‫لمذهب هذا ال يسوغ إال عند الترجيح وفوت فوات النازلة فيسوغ له التقليد ويسقط عنه التكليف في‬
‫تلك الحادثة)( إيضاح المسالك إلى قواعد اإلمام مالك‪ ،‬أبو العباس الونشريسي‪ ،‬تحقيق‪ :‬الصادق‬
‫الغرياني‪ ،‬دار ابن حزم‪ 0261 ،‬هـ ‪ ،‬ص‪.061 :‬‬

‫‪017‬‬
‫(‪)0‬‬
‫آخر)‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما جاء في الموطأ في (مسألة في افتتاح الصالة)‪ ،‬حيث ورد‬
‫فيه‪ :‬سئل مالك عن رجل دخل مع اإلمام‪ ،‬فنسي تكبيرة االفتتاح‪ ،‬وتكبيرة الركوع‪ ،‬حتى‬
‫صلى ركعة‪ ،‬ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة االفتتاح‪ ،‬وال عند الركوع‪ ،‬وكبر في الركعة‬
‫الثانية‪ ،‬فقال‪ :‬يبتدئ صالته أحب إلي‪ ،‬ولو نسيها مع اإلمام عند تكبيرة االفتتاح وكبر في‬
‫(‪)6‬‬
‫الركوع األول‪ ،‬رأيت ذلك مجزيا عنه‪ ،‬إذا نوى بها تكبيرة االفتتاح)‬
‫ومن األمثلة على ذلك إعمال المالكية دليل المخالفين لهم القائل بعدم فسخ نكاح‬
‫الشغار في الزم مدلوله الذي هو ثبوت اإلرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار فيما إذا‬
‫مات أحدهما‪ .‬فالمدلول هو عدم الفسخ وأعمل مالك في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر‬
‫فمذهب مالك وجوب الفسخ وثبوت اإلرث إذا مات أحدهما(‪.)0‬‬
‫وقد أخذ بهذا األصل أيضا أصحاب هذا المنهج من أتباع المذاهب األخرى‪،‬‬
‫وخصوصا المذهب الشافعي‪ ،‬كالشعراني والسيوطي وغيرهما‪ ،‬كما عرفنا سابقا‪.‬‬
‫وقد ذكر العز بن عبد السالم تقسيما جيدا لكيفية مراعاة الخالف في المسائل‬
‫المختلفة‪ ،‬قدم له بقوله‪( :‬وقد أطلق بعض أكابر أصحاب الشافعي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬أن‬
‫الخروج من الخالف حيث وقع أفضل من التورط فيه وليس كما أطلق‪ ،‬بل الخالف على‬

‫(‪ )0‬شرح حدود ابن عرفة‪ ،‬تحقيق محمد أبو األجفان والطاهر المعموري‪ .‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األولى‪0990 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.660‬‬
‫(‪ )6‬موطأ مالك‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.011‬‬
‫(‪ )0‬الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة‪ ،‬حسن مشاط‪ ،‬دراسة وتحقيق د عبد الوهاب بن‬
‫إبراهيم أبو سليمان‪ .‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،0‬ص‪.601 :‬‬

‫‪018‬‬
‫(‪)0‬‬
‫أقسام)‬
‫ثم ذكر هذه األقسام‪ ،‬ونذكرها هنا باختصار‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬أن يكون الخالف في التحريم والجواز فالخروج من االختالف‬
‫باالجتناب أفضل‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أن يكون الخالف في االستحباب أو اإليجاب‪ ،‬فالفعل أفضل‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬أن يكون الخالف في الشرعية‪ ،‬كقراءة البسملة في الفاتحة‪ ،‬فإنها‬
‫مكروهة عند مالك‪ ،‬واجبة عند الشافعي‪ ،‬فالفعل أفضل‪ ،،‬وكذلك رفع اليدين في‬
‫التكبيرات فإن أبا حنيفة ال يراه من السنن‪ ،‬وكذلك مالك في إحدى الروايتين عنه‪ ،‬وهو‬
‫عند الشافعي سنة لالتفاق على صحة األحاديث وكثرتها فيه‪ ،‬وصالة الكسوف على الهيئة‬
‫المنقولة عن رسول الله ‪ ‬فإنها سنة عند الشافعي‪ ،‬وأبو حنيفة ال يراها‪ ،‬والسنة أن يفعل‬
‫ما خالف فيه أبو حنيفة وغيره من ذلك وأمثاله‪.‬‬
‫ثم ذكر الضابط لهذا‪ ،‬فقال‪( :‬والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية‬
‫الضعف والبعد من الصواب فال نظر إليه‪ ..‬وال سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم‬
‫بمثله‪ ،‬وإن تقاربت األدلة في سائر الخالف بحيث ال يبعد قول المخالف كل البعد فهذا‬
‫مما يستحب الخروج من الخالف فيه‪ ،‬حذرا من كون الصواب مع الخصم‪ ،‬والشرع‬
‫(‪)6‬‬
‫يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات‪ ،‬كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات)‬
‫وذكر زكريا بن غالم قادر الباكستاني أن مراعاة الخالف معتبر عند أهل الحديث‪،‬‬

‫(‪ )0‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.610‬‬


‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.610‬‬
‫‪.‬‬

‫‪019‬‬
‫فقد ذكر تحت عنوان (القاعدة السادسة‪ :‬الخروج من الخالف مستحب)‪( :‬األدلة متكاثرة‬
‫في االعتصام وعدم التفرق واالتفاق على كلمة واحدة فهي دالة على استحباب الخروج‬
‫(‪)0‬‬
‫من الخالف)‬
‫لكنه قيد ذلك بشرطين‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬أن ال يكون في ذلك طرح لدليل من األدلة‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن ال يوقع الخروج من ذلك الخالف في الوقوع في خالف آخر)‬
‫ويدل لهذا قول ابن تيمية في (شرح عمدة الفقه)‪( :‬أما الخروج من اختالف‬
‫العلماء‪ ،‬فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق‪ ،‬ألن من اتقى الشبهات‬
‫استبرأ لعرضه ودينه‪ ،‬فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة‪ ،‬فال معنى لمطلب الخروج من‬
‫الخالف‪ ،‬ولهذا كان اإليتار بثالث مفصولة أولى من الموصولة‪ ،‬مع الخالف في‬
‫جوازهما من غير عكس‪ ،‬والعقيقة مستحبة أو واجبة مع الخالف في كراهتها‪ ،‬وإشعار‬
‫الهدي سنة مع الخالف في كراهته‪ ،‬واإلجماع على جواز تركه‪ ،‬وفسخ الحج إلى العمرة‬
‫لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا ألمر رسول الله ‪ ‬مع الخالف الشائع في‬
‫(‪)0‬‬
‫جواز ذلك)‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫ال يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا‪ ،‬ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع‬

‫(‪ )0‬من أصول الفقه على منهج أهل الحديث‪ ،‬زكريا بن غالم قادر الباكستاني‪ ،‬دار الخراز‪،‬‬
‫الطبعة االولى ‪0260‬هـ‪6116-‬م‪ ،‬ص‪.026‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪..026‬‬
‫(‪ )0‬شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج)‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم‬
‫ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬سعود صالح العطيشان‪ ،‬مكتبة العبيكان – الرياض‪ ،‬ط‪ ،0200 ،0‬ج‪ ،0‬ص‪.201‬‬

‫‪001‬‬
‫التالية‪:‬‬

‫الدليل األول‪:‬‬
‫ما ورد من النصوص الدالة على وجوب االحتياط والورع‪ ،‬ومنها قوله ‪:‬‬
‫(الحالل بين والحرام بين‪ ،‬وبينهما مشبهات ال يعلمها كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى‬
‫المشبهات استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى‪ ،‬يوشك‬
‫أن يواقعه ‪ .‬أال وإن لكل ملك حمى‪ ،‬أال إن حمى الله فى أرضه محارمه‪ ،‬أال وإن فى‬
‫الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله ‪ .‬أال وهى‬
‫(‪)0‬‬
‫القلب)‬
‫(‪)6‬‬
‫وقوله ‪( :‬دع ما يريبك إلى ما ال يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة)‬
‫وقوله ‪( :‬ال يبلل العبد أن يكون من المتقين حتى َيدَ ع ما ال بأس به حذر ًا لما به‬
‫(‪)0‬‬
‫بأس)‬
‫(البر حسن الخلق‪ ،‬واإلثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه‬
‫وقوله ‪ُّ ( :‬‬
‫(‪)2‬‬
‫الناس)‬
‫وقد استخرج العلماء من هذه النصوص وغيرها الكثير من القواعد الفقهية‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫(‪ )0‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪ ،10‬وصحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.0660‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي ‪ ،‬محمد بن عيسى بن َس ْورة الترمذي‪ ،‬تحقيق وتعليق‪ :‬إبراهيم عطوة شركة‬
‫مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر‪ ،‬ط‪ 0091 ، 6‬هـ ‪ 0911 -‬م ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.662‬‬
‫(‪ )0‬سنن ابن ماجه‪ ،‬ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب األرنؤوط‬
‫محمد كامل قره بللي ‪ -‬عَبد ال ّلطيف حرز الله‪ ،‬دار الرسالة العالمية‪ ،‬ط‪ 0201 ،0‬هـ ‪-‬‬
‫‪ -‬عادل مرشد ‪َّ -‬‬
‫‪ 6119‬م ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.692‬‬
‫(‪ )2‬مسند أحمد‪ ،‬ج‪ ،69‬ص ‪.162‬‬

‫‪000‬‬
‫‪ -‬درء المفاسد مقدم على جلب المصالح‪.‬‬
‫‪ -‬الخروج من الخالف مستحب‪.‬‬
‫‪ -‬إذ اجتمع المانع والمقتضي ُغلب المانع‪.‬‬
‫‪ -‬األخذ بأقل ما قيل‪.‬‬
‫‪ -‬الشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما ُيبني على االحتياط‪.‬‬

‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫ما جاء في الشريعة من األمر بالوقوف مع مقتضى األمر والنهي مجر ًدا‪ ،‬والصبر‬
‫على حلوه ومره‪ ،‬وإن انتقض موجب الرخصة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬ا َّل ِذي َن َق َال َل ُه ُم‬
‫اخ َش ْو ُه ْم ﴾(‪ ،)0‬فهذا مظنة التخفيف‪ ،‬فأقاموا على الصبر‬ ‫َّاس إِ َّن الن َ‬
‫َّاس َقدْ َج َم ُعوا َل ُك ْم َف ْ‬ ‫الن ُ‬
‫يمانًا َو َقا ُلوا َح ْسبُنَا ال َّل ُه َونِ ْع َم ا ْل َوكِ ُيل‬
‫والرجوع إلى الله‪ ،‬فأثنى عليهم بقوله‪َ ﴿ :‬ف َزا َد ُه ْم إِ َ‬
‫(‪)6‬‬
‫﴾‬
‫ت ْاألَ ْب َص ُار‬ ‫اغ ِ‬
‫ومنه قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ ْذ َجا ُءو ُك ْم ِم ْن َف ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن َأ ْس َف َل ِمنْ ُك ْم َوإِ ْذ َز َ‬
‫وب ا ْل َحن ِ‬ ‫ِ‬
‫َاج َر﴾(‪ ،)0‬وبعد أن ذكر المشهد كامالً مدح الصابرين على هذا كله‬ ‫َو َب َل َغت ا ْل ُق ُل ُ‬
‫اهدُ وا ال َّل َه َع َل ْي ِه َف ِمن ُْه ْم َم ْن َق َضى ن َْح َب ُه َو ِمن ُْه ْم َم ْن َينْتَظِ ُر‬
‫بقوله تعالى‪ِ ﴿ :‬ر َج ٌال َصدَ ُقوا َما َع َ‬
‫(‪)2‬‬
‫َو َما َبدَّ ُلوا َت ْب ِد ًيال ﴾‬
‫وقد علق الشاطبي على هذه اآليات بقوله‪ ( :‬فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال‬

‫(‪ )0‬سورة آل عمران‪.010 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة آل عمران‪.010 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة األحزاب‪.01 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة األحزاب‪.60 :‬‬

‫‪002‬‬
‫الشديد واألحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر‪ ،‬وقد عرض النبي ‪ ‬على‬
‫أصحابه أن يعطوا األحزاب من ثمار المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم األمر؛ فأبوا‬
‫(‪)0‬‬
‫من ذلك‪ ،‬وتعززوا بالله وباإلسالم؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم)‬
‫وضرب األمثلة الكثيرة على ذلك من فعل الصحابة ‪ ،‬ومن ذلك تطبيق الصحابة‬
‫لقوله ‪( :‬ألن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره‪ ،‬خير له من أن يسأل أحدا‪ ،‬فيعطيه أو‬
‫(‪)6‬‬
‫يمنعه)‬
‫وقد علق الشاطبي على هذا الحديث بقوله‪( :‬فحمله الصحابة ‪ --‬على عمومه‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وال بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة‪ ،‬ولم يأخذوه إال على عمومه)‬

‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬


‫بناء على ما سبق‪ ،‬فإن المنهج المتبع للفتوى لدى هذا الفريق يعتمد على ما يلي‪:‬‬
‫أوال – مراعاة الخالف الفقهي‪ :‬ولهذا فإنه يمكن اعتبارهم من هذه الناحية من‬
‫المذاهبيين‪ ،‬أي أنهم ال يلتزمون مذهبا بعينه‪ ،‬بل يتخيرون من أقوال الفقهاء أشدها‪،‬‬
‫وأكثرها احتياطا‪ ،‬وقد بنى الشيخ عبد الوهاب الشعراني كتابه الميزان على هذا المبدأ‬
‫الذي عبر عنه بقوله‪( :‬إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث االمر والنهي‪ :‬علي‬
‫مرتبتين‪ :‬تخفيف وتشديد‪ ،‬ال علي مرتبة واحدة‪ ،‬كما يظنه غالب الناس ‪ .‬ولكل من‬
‫المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف‪ ،‬فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد‬
‫الوارد في الشريعة صريحا‪ ،‬او المستنبط منها في مذهبه او غيره‪ ،‬ومن ضغف منهم‪:‬‬

‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.299‬‬


‫(‪ )6‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.110‬‬

‫‪003‬‬
‫خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا او مستنبطا منها في مذهبه او غيره‬
‫‪ .‬فال يؤمر القوي بالنزول الي مرتبة الرخصة‪ ،‬مع قدرته علي فعل العزيمة ‪ .‬وال يكلف‬
‫الضعيف بالصعود الي مرتبة العزيمة‪ ،‬مع عجزه عنها ‪ .‬فالمرتبتان علي الترتيب الوجودي‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫ال علي التخيير)‬
‫ثانيا ـ مراعاة سد الذريعة‪ ،‬فلهذا نرى أصحاب هذا المنهج ال يكتفون بما ورد من‬
‫النصوص أو أقوال الفقهاء‪ ،‬بل ينظرون أيضا في إمكانية تحايل المكلفين على األحكام‬
‫الشرعية‪ ،‬فلهذا يعتبرون نياتهم ويسدونها على خالف المنهج السابق‪.‬‬
‫الشارع إلى النَّظر في مآالت‬ ‫اطبي أن قاعدة سدّ َّ‬
‫الذرائع على قصد َّ‬ ‫الش ّ‬‫وقد ذكر َّ‬
‫األفعال سواء أكانت موافقة أو مخالفة؛ َّ‬
‫ألن المجتهد ال يحكم على فعل من األفعال‬
‫الصادرة عن المك ّلفين باإلقدام أو اإلحجام إالَّ بعد النَّظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪،‬‬
‫َّ‬
‫فقد يكون مشروع ًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة ُتدرأ‪ ،‬ولكن له مآل على خالف ما‬
‫قصد فيه‪ .‬وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به‪ ،‬ولكن له مآل على‬

‫فإن ُأطلق القول في َّ‬


‫األول بالمشروع ّية فربما أ َّدى استجالب المصلحة فيه‬ ‫خالف ذلك‪ْ .‬‬
‫إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها‪ ،‬فيكون هذا مانع ًا من إطالق القول‬
‫بالمشروع ّية‪ ،‬وكذلك إذا أطلق القول في ال َّثاني بعدم المشروع ّية وهو مجال للمجتهد‬
‫الشريعة(‪.)6‬‬ ‫صعب المورد إالَّ أنَّه عذب المذاق‪ ،‬محمود الغيب‪ٍ ،‬‬
‫جار على مقاصد َّ‬

‫(‪ )0‬كتاب الميزان للشعراني‪ ،‬ص‪.2‬‬


‫(‪ )6‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.091‬‬

‫‪004‬‬
‫المبحث السادس‬
‫المنهج المقاصدي‬
‫وهو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في األحكام التفصيلية‪،‬‬
‫باعتبار أن األحكام الشرعية ليست تعبدية محضة‪ ،‬بل هي مفهومة المعنى‪ ،‬يقول الشيخ‬
‫ِ‬
‫والحكم الملحوظة‬ ‫مح َّمد الطاهر ابن عاشور‪( :‬مقاصد التشريع ال َعا َّمة هي‪ :‬المعاني‬
‫َ‬
‫تختص مالحظتها بالكون في نوع‬
‫ُّ‬ ‫للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها‪ ،‬بحيث ال‬
‫أوصاف الشريعة وغايتها ال َعا َّمة والمعاني‬ ‫ُ‬ ‫خاص من أحكام الشريعة ‪ ..‬فيدخل في َه َذا‬ ‫ٍّ‬
‫الحكم ليست‬‫معان من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫التي ال يخلو التشريع عن مالحظتها‪ .‬ويدخل في َه َذا َأ ً‬
‫يضا‬
‫(‪)0‬‬
‫ملحوظة في سائر أنواع األحكام َو َلكِن ََّها ملحوظة في أنواع كثيرة منها)‬
‫وقد عرفها بعض المحدثين‪ ،‬فقال‪( :‬هي القيم العليا التي تكمن وراء الصيل‬
‫(‪)6‬‬
‫والنصوص يستهدفها التشريع كليات وجزئيات)‬
‫بناء على هذا التعريف سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في‬
‫المباحث السابقة من أعالم هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو اآلليات‬
‫التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى‪.‬‬

‫أوال ـ أعالمه‪:‬‬
‫يتفق جميع أعالم األمة – من الناحية النظرية ‪ -‬على أن الشريعة اإلسالمية مبنية‬

‫مح َّمد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬الشركة التونسية للتوزيع‪ ،‬تـونس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )0‬مقاصد الشريعة ِ‬
‫اإلسالَم َّية‪َ ،‬‬
‫ط‪ ،0‬ص‪.10‬‬
‫(‪ )6‬هو الدكتور فتحي الدريني‪ .‬في كتابه خصائص التشريع اإلسالمي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‬
‫‪ ،‬ط ‪ 0202 ، 6‬هـ ‪ 6100 -‬م‪ ،‬ص‪.092‬‬

‫‪005‬‬
‫على مقاصد واضحة البد على الفقيه والمفتي أن يالحظها في فتاواه‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪( :‬إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في‬
‫المعاش والمعاد وهي عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة‬
‫خرجت عن العدل إلى الجور‪ ،‬وعن الرحمة إلى ضررها وعن المصلحة إلى المفسدة‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫وعن الحكمة إلى العبث فهي ليست من الشريعة)‬
‫ولهذا فإن الشاطبي – بناء على أهمية المقاصد‪ -‬ال يرى حصول درجة االجتهاد‬
‫إال (لمن اتصف بوصفين‪ :‬الوصف األول‪ :‬فهم مقاصد الشريعة على كمالها‪ .‬ألن اإلنسان‬
‫إذا بلل مبلغ ًا فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة‪ ،‬وفي كل باب من‬
‫أبوابها؛ فقد حصل له وصف ين َّزله منزلة الخليفة للنبي ‪ ‬في التعليم وال ُفتيا والحكم بما‬
‫أراه الله‪ ..‬والوصف الثاني‪ :‬التمكّن من االستنباط بنا ًء على فهمه فيها‪ ،‬بواسطة معارف‬
‫(‪)6‬‬
‫محتاج إليها في فهم الشريعة أوالً‪ ،‬وفي استنباط األحكام ثاني ًا)‬
‫محتاج إلى معرفة المقاصد‬
‫ٌ‬ ‫ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور َّ‬
‫أن المجتهد‬
‫وفهمها في كل األنحاء التي يقع بها تصرفهم في الشريعة‪ ،‬سوا ٌء في فهم أقوال الشريعة‬
‫واستفادة مدلوالت تلك األقوال بحسب الوضع ال ُّلغوي واالستعمال الشرعي‪ ،‬أو في‬
‫عما يعارض األدلة فيما يلوح للمجتهد وقد استكمل نظره في استفادة مدلوالتها‬
‫البحث ّ‬
‫ليستيقن سالمة تلك األدلة مما يبطل داللتها‪ ،‬أو عند قياس ما لم يرد حكمه في أقوال‬
‫الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه على ضوء العلل‪ ،‬أو عند تل ّقي األحكام التع ُّبدية التي‬
‫ال يعرف عللها وال حكمة الشارع فيها متهم ًا نفسه بالقصور عن إدراك الحكمة فيها‪ ،‬وغير‬

‫(‪ )0‬إعالم الموقعين‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص‪.0‬‬


‫(‪ )6‬الموافقات ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.20‬‬

‫‪006‬‬
‫يتصرف المجتهد بفقهه في الشريعة(‪.)0‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك مما‬
‫ويبين عبد الوهاب خالف ضرورة التعرف على المقاصد ودورها في حل‬
‫اإلشكاالت التي قد يقع فيها المجتهد‪ ،‬فيقول‪( :‬ومعرفة المقصد العام من التشريع من‬
‫أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها‪ ،‬وتطبيقها على الوقائع‪ ،‬واستنباط الحكم‬
‫فيما ال نص فيه‪ ،‬ألن داللة األلفاظ والعبارات على المعاني‪ ،‬قد تحتمل عدة وجوه‪،‬‬
‫والذي يرجح واحد ًا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع‪ ،‬ألن بعض‬
‫النصوص قد تتعارض ظواهرها‪ ،‬والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها‬
‫هو الوقوف على مقصد الشارع‪ .‬ألن كثير ًا من الوقائع التي تحدث ربما ال تتناولها‬
‫عبارات النصوص‪ ،‬وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من األدلة الشرعية‬
‫بنصوصه وروحه ومعقوله‪ .‬وكذلك نصوص األحكام التشريعية ال تفهم على وجهها‬
‫الصحيح إال إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع األحكام‪ ،‬وعرفت الوقائع الجزئية‬
‫(‪)6‬‬
‫التي من أجلها نزلت األحكام القرآنية‪ ،‬أو وردت السنة القولية أو الفعلية)‬
‫ولكنهم – من الناحية التطبيقية – يختلفون اختالفا شديدا‪ ،‬وبناء على هذا‪ ،‬فإنا‬
‫نريد بأتباع هذا المنهج هنا ليس من يصرح فقط بكونه يقبل بأن للشريعة مقاصد وغايات‪،‬‬
‫وإنما من يعتبرها في الفتوى‪ ،‬وخاصة في المتغيرات الحادثة في الواقع‪.‬‬
‫وبناء على هذا يمكننا أن نتتبع الفتاوى لنجد من يراعي هذا‪ ،‬ومن يقصر فيه‪ ،‬وال‬
‫يهمنا تنظيره للمقاصد أو اعتقاده بها‪ ،‬ألن كل مسلم يعتقد بأن الشريعة – كما يذكر ابن‬

‫(‪ )0‬مقاصد الشريعة اإلسالمية البن عاشور‪ ،‬ص ‪.01 –01‬‬


‫(‪ )6‬علم أصول الفقه‪ ،‬ص‪.091‬‬

‫‪007‬‬
‫(‪)0‬‬ ‫القيم – (عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ِ ،‬‬
‫وحكمة كلها)‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬ومن خالل النظر في واقع الفتوى نجد صنفين ممن يمكن‬
‫اعتبارهم من أعالم هذا المنهج‪:‬‬

‫الصنف األول‪:‬‬
‫ويمثلهم الكثير من الفقهاء من المدارس السابقة‪ ،‬حتى المدارس التي تؤمن‬
‫بالتمذهب‪ ،‬حيث نجد لها في فقه النوازل أحيانا ما تراعى فيه مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪:‬‬
‫المثال األول‪ :‬استفتي الشاطبي عن (بيع األشياء التي منع العلماء بيعها من أهل‬
‫الحرب كالسالح وغيره‪ ،‬لكون أهل األندلس محتاجين إلى النصـارى في أشياء أخـرى‬
‫يتنزل منـزلة ما ُذكِر سابقا في‬
‫كاألكـل واللبـاس وغيـرها‪...‬وسؤاله عن الشمـع‪ ،‬وهل ّ‬
‫بيعـه‪...‬؟ وهل هناك فرق بين أهل األندلس وغيرهم من أرض اإلسالم في بيع مثل هذه‬
‫(‪)6‬‬
‫األشياء؟)‬
‫فأجاب بالمنع ولم يلتفت إلى الضرورة التي تع ّلل بها المستفتي؛ ألنه رأى أن‬
‫حماية المسلمين من العدو وما تقتضيه تلك الحماية من عدم تمكينه بما يعينه على أمر‬
‫أهل األندلس‪ ،‬وهذا أولى من حاجة بعض الناس إلى الطعام‪ ..‬وبيع السـالح والطعـام‬
‫إلى أهـل الحـرب داخـل فيما يكون أداؤه إلى المفسـدة كثيـرا ال نـادرا‪ ،‬ورأى أنه ليس‬
‫هناك موجب لتسويل البيع منهم مستدال بقوله تعالى‪ ﴿ :‬إِن ََّما ا ْل ُم ْش ِر ُك َ‬
‫ون ن ََج ٌس َف َال َي ْق َر ُبوا‬

‫((‪ ) )0‬إعالم الموقعين‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.0‬‬


‫(‪ )6‬الفتاوى‪ ،‬الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو األجفان‪ ،‬مطبعة االتحاد العام التـونسي ‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫ط‪.0922 ،0‬ص ‪.021 ،022‬‬

‫‪008‬‬
‫ا ْل َم ْس ِجدَ ا ْل َح َرا َم َب ْعدَ َع ِام ِه ْم َه َذا ﴾(‪( ،)0‬فاآلية ن ّبهت على ّ‬
‫أن الحاجة إليهم في جلب‬
‫ترخص لهم في انتهاك حرمة الحرم‪ ،‬فكذلك األمر هنا‪ :‬ال ُ‬
‫تـرخص في‬ ‫الطعام إلى مكة ال ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫استـباحة اإلضـرار بالمسلمين)‬
‫وبين أنه سار في هذا على خطى سلفه الفقيه المـازري المالكي الذي منـع بيع كل‬
‫ما يكـون ألهل الحرب به قوة على المسلمين كالطعام والسالح وحتى الشمع؛ ألنهم –‬
‫كما ب ّين الشاطبي – يستعينون به في اإلضرار بالمسلمين‪.‬‬
‫قال الشاطبي‪( :‬و أما صنع الشمع للنصارى فإن كان ألنهم يستعينون به علينا فـ ُيمنع‬
‫كما ُذكر في بيعه من النصارى‪ ،‬وأما ما يعلم أنهم يصنعونه آللهتهم فينبغي أال يصنع لهم‪،‬‬
‫وال يباع منهم نظير ما قاله ابن القاسم في بيع الشاة منهم مع العلم بأنهم يذبحونها‬
‫(‪)0‬‬
‫كرهه كراهية تنـزيه وأن البيع إن وقع لم يفسخ وهو في العتبية)‬
‫ألعيادهم‪ ،‬فإنه ُي ِّ‬
‫المثال الثاني‪ :‬ذكر الشيخ ابن عاشور أمثلة كثيرة عن رعاية المفتين في النوازل‬
‫خصوصا لمقاصد الشريعة‪ ،‬ولو بمخالفة مذاهبهم التي يقلدونها‪ ،‬وذلك عند ذكره‬
‫للضرورة العامة المؤقتة‪ ،‬كأن يعرض االضطرار لألمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي‬
‫اإلقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سالمة األمة أو إبقاء قوتها أو نحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وال شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة‬
‫(‪)2‬‬
‫تغييرا لألحكام الشرعية المقررة لألحوال التي طرأت عليها تلك‬
‫الخاصة وأنها تقتضي ً‬

‫(‪ )0‬سورة التوبة‪.62 :‬‬


‫(‪ )6‬الفتاوى‪ ،‬ص ‪.021‬‬
‫(‪ )0‬الفتاوى‪ ،‬ص ‪.026‬‬
‫(‪ )2‬مقاصد الشريعة‪ :‬ص ‪.000‬‬

‫‪009‬‬
‫الضرورة‪ .‬ومن األمثلة التي ذكرها لهذا‪:‬‬
‫الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع‪ :‬لما تحتاجه‬
‫األرض من قوة الخدمة‪ ،‬ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس‬
‫والبناء‪ ،‬لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها‪ ،‬والمتناع الغارس أو الباني من أن‬
‫يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في األرض‪.‬‬
‫في مثل هذه الحالة جرت فتوى البن السراج وابن منظور من علماء األندلس في‬
‫أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد‪ ،‬واعتبروا هذا الكراء المؤبد ال غرر فيه‪،‬‬
‫ألن األرض باقية غير زائلة‪ ،‬وألن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من‬
‫وفرة إنتاجها‪ ،‬وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط اآلماد الطويلة من خطر(‪ .)0‬وكراء‬
‫أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي إلى ما شاء الله من السنين‪ .‬وقد جرى العمل‬
‫بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبالد التونسية‪ ،‬وهو المعروف‬
‫باإلنزال في تونس في اصطالح المالكية‪ ،‬والكردار في اصطالح الحنفية‪.‬‬
‫الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيالً للمنفعة من وجه آخر‪،‬‬
‫وقد ذكره الونشريسي في المعيار(‪)6‬فقال‪ :‬أما مسألة دار الوضوء‪ ،‬فإن بطلت منفعتها‪،‬‬
‫وتعذر إصالحها‪ ،‬ولم ترج عودتها في المستقبل‪ ،‬وجاز أن تتخذ فند ًقا‪ .‬ولذلك جاز‬
‫للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين‪.‬‬
‫وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غالت الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق‬
‫بها مصلحة أخرى مشابهة‪ .‬ويعتبر هذا العمل من اإلقدام على الفعل الممنوع ضرورة‪،‬‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.002‬‬


‫(‪ )6‬المعيار المعرب‪ ،‬الونشريسي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي ‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪.029‬‬

‫‪021‬‬
‫لتحقيق مقصد شرعي فيه سالمة األمة‪.‬‬
‫وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال األحباس على المساجد‪ ،‬إذا كانت‬
‫زائدة على الحاجة‪ ،‬في بعض وجوه البر كالتدريس‪ ،‬وإعانة طلبة العلم‪ ،‬وتحفيظ القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬لنفس الرخصة المتقدمة‪ ،‬ولنفس الضرورة‪.‬‬
‫وأجازوا أيضا بيع العقار الحبس وتعويضه بآخر‪ .‬وجاء في المعيار للونشريسي‪:‬‬
‫دارا جوار مسجد ليوسع بها‪،‬‬
‫وفي نوازل سحنون‪ :‬لم يجز أصحابنا بيع الحبس‪ ،‬إال ً‬
‫(‪)0‬‬
‫دورا كانت محبسة)‬
‫حبسا‪ .‬وقد أدخل في مسجده ‪ً ‬‬
‫ويشترى بثمنها دارا مثلها تكون ً‬
‫الصنف الثاني‪:‬‬
‫ويمثلهم بعض من المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية‪ ،‬أو تأثروا بها‪ ،‬ولم‬
‫يدرسوا الشريعة أو يتفقهوا فيها‪ ،‬وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار حديثة يستطيعون أن‬
‫يحددوا مقاصد الشارع‪ ،‬ويستطيعوا من خاللها أن يفتوا على أساسها‪.‬‬
‫ومع أنه ال يمكن اعتبار هؤالء من الفقهاء‪ ،‬ولكن مع ذلك نجد أن هناك من يقوم‬
‫بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد واإلصالح ونحو ذلك‪.‬‬
‫الطوفي (ت‪106 :‬هـ) مثاال لهم في‬
‫ُّ‬ ‫القوي‬
‫ِّ‬ ‫وربما يكون نجم الدين سليمان بن عبد‬
‫فقهائنا القدامى(‪ ،)6‬فقد بالل في مراعاة المصلحة‪ ،‬إذ اعتبرها َدلِي ً‬
‫ال شرع ًّيا مستق ًّ‬
‫ال عن‬

‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ، 0‬ص ‪.621‬‬


‫(‪ )6‬نسبت له رسالة في شرح األربعين النووية تكلم في أثنائها على حديث‪( :‬ال ضرر وال‬
‫ضرار)‪ ،‬وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من‬
‫أحكام المعامالت أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها‪ ،‬ال أن يكون من أحكام العبادات أو‬
‫المقدرات ونحوها‪ ،‬ألن العبادات حق للشارع خاص به‪ ،‬وال يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا‬
‫إال من جهته فيأتي به العبد بما رسم له‪ ،‬فأحكام العبادات والمقدرات ال مجال للعقل في فهم معانيها‬

‫‪020‬‬
‫النص واإلجماع من باب‬
‫ِّ‬ ‫النصوص‪ ،‬بل اعتبرها أقوى َأ ِد َّلة الشرع ‪ ،‬وقدَّ مها َع َلى‬
‫التخصيص والبيان(‪ ،)0‬ال من باب اإلبطال لهما وعدم اعتبارهما‪.‬‬
‫وقد رد ابن تيمية على هذا المنهج في مواضع كثيرة من كتبه‪ ،‬منها قوله في معرض‬
‫بحجة أن رجوع الزوجين لبعضهما عمل صالح ُيثاب‬
‫رده على من أجاز نكاح التحليل ّ‬
‫عليه المحلل‪ ( :‬وقولهم إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه من المنفعة‪ ،‬قلنا هذه‬
‫مناسبة شهد الشارع لها باإللغاء واإلهدار‪ ،‬ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحلل‬
‫الحرام ويحرم الحالل‪ ،‬والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا‬
‫اعتبرت فهي مراغمة َب ّينة للشرع مصدرها عدم مالحظة حكمة التحريم‪ ،‬وموردها عدم‬
‫مقابلته بالرضا والتسليم‪ ،‬وهي في الحقيقة ال تكون مصالح وإن ظنّها الناس مصالح‪ ،‬وال‬
‫تكون مناسبة للحكم وإن اعتقدها معتقد مناسبة‪ ،‬بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من‬

‫على التفصيل (انظر‪ :‬رسالة في رعاية المصلحة‪ ،‬نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫أحمد عبد الرحيم السايح‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬ط‪0200 ،0‬هـ ‪0990 /‬م)‬
‫(‪ )0‬وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى خالف هذا‪ ،‬فحمل كالم الطوفي على جادة‬
‫عموم األصوليين في الموضوع كالباحث أيمن جبريل األيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في‬
‫بعضه إلى بعض فجعله ال يخرج عن المنهجية‬
‫تخصيص النص بالمصلحة)؛ حيث جمع كالم الطوفي َ‬
‫األصولية‪ ،‬غير أنه في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملتبسة ما دفع بأكثرية‬
‫المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كالمه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها‬
‫على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذ ًا عن الطريق األصولي‪ ،‬ومن هؤالء ‪ -‬على سبيل‬
‫المثال ‪ -‬مصطفى زيد في المصلحة في التشريع اإلسالمي ونجم الدين الطوفي‪ ،‬ومحمد سعيد رمضان‬
‫البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة االسالمية‪ ،‬وأحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند االمام‬
‫الشاطبي‪ ،‬حسين حامد حسان في نظرية المصلحة في الفقه اإلسالمي‪ ،‬وغيرهم كثير‪( .‬انظر‪ :‬مع نظرية‬
‫المصلحة عند نجم الدين الطوفي‪ ،‬د‪ .‬فهد بن صالح العجالن‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬العدد ‪) 691 :‬‬

‫‪022‬‬
‫خلقه خالف ما رآه هذا القاصد في نظره؛ ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله‬
‫ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر‪ ،‬وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه؛‬
‫(‪)0‬‬
‫فإن خير الدنيا واآلخرة وصالح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله)‬
‫وقال في موضع آخر‪( :‬القول الجامع‪ :‬أن الشريعة ال تهمل مصلحة قط‪ ،‬بل الله‬
‫تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة‪ ،‬فما من شيء يقرب إلى الجنة إال حدثنا به النبي‬
‫‪ ،‬وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها ال يزيل عنها بعده إال هالك‪ ،‬لكن ما اعتقده العقل‬
‫مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين الزم له‪ :‬إما أن الشرع دل عليه من حيث‬
‫لم يعلم هذا الناظر‪ ،‬أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة‪ ،‬ألن المصلحة هي المنفعة‬
‫الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه‬
‫منفعة مرجوحة بالمضرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ْل فِ ِيه َما إِ ْث ٌم كَبِ ٌير َو َمنَافِ ُع لِلن ِ‬
‫َّاس َوإِ ْث ُم ُه َما‬
‫َأ ْك َب ُر ِم ْن َن ْف ِع ِه َما ﴾(‪ )6‬وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد واألعمال من بدع أهل الكالم‬
‫وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك‪ ،‬حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا‬
‫وليس كذلك فإذا كان اإلنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصالحه قد‬
‫(‪)0‬‬
‫يكون من هذا الباب)‬
‫ومثله قال الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي – بعد أن عرف المصلحة ثم‬
‫ذكر أقسامها وحصر الخالف في المصلحة المرسلة ‪( -‬والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء‬
‫األحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط‪ ،‬بل ال بد أن يكون الشارع اعتبر جنس‬

‫(‪ )0‬بيان الدليل على بطالن التحليل‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي عبد المجيد السلفي‪ ،‬المكتب‬
‫اإلسالمي‪ ، 0992 - 0202 ،‬ص ‪. 611‬‬
‫(‪ )6‬سورة البقرة‪.609 :‬‬
‫(‪ )0‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيم ّية‪ ،‬ج‪ ،00‬ص ‪.026‬‬

‫‪023‬‬
‫هذه المصالح فال يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم ال يستطيعون ذلك‬
‫استقالال دون سند من شرع الله‪ ،‬ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد‬
‫ثم يبنون عليها األحكام وتكون تشريعا في حقهم ألجزنا لهم وضع التشريعات‪ ،‬ثم إن‬
‫القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت‬
‫األدلة القاطعة على إكمال الله للدين‪ ،‬وحفظه من التغيير والتبديل‪ ،‬وعليه فإذا كان جنس‬
‫المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها‪،‬‬
‫وال يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق‪ ،‬وكثير من األمور‬
‫المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والواليات العامة والخاصة واألنظمة كل هذه‬
‫قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات‬
‫(‪)0‬‬
‫التصرف)‬

‫ثانيا ـ أدلته‪:‬‬
‫ال يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا‪ ،‬ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع‬
‫التالية‪:‬‬

‫الدليل األول‪:‬‬
‫ما جاء في الشريعة من النصوص الكثيرة الدالة على أن أحكام الشريعة اإلسالمية‬
‫– في جملتها – معلله كما ذكرنا بعض األمثلة على ذلك سابقا‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن أن خلو الشريعة من المقاصد يثير شبهة العبث الذي تنزه عنه‬
‫البارئ سبحانه وتعالى‪ ،‬يقول ابن القيم‪( :‬إنه سبحانه حكيم ال يفعل شيئ ًا عبث ًا وال لغير‬

‫(‪ )0‬أصول مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬د‪ .‬عبد الله بن عبد المحسن التركي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪0201 ،‬‬
‫هـ ‪ ،‬ص‪ ،269‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪024‬‬
‫معنى ومصلحة وحكمة‪ ،‬هي الغاية المقصودة بالفعل‪ ،‬بل أفعاله سبحانه صادرة عن‬
‫حكمة بالغة ألجلها فعل‪ ،‬كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل‪ ،‬وقد دل كالمه وكالم رسوله‬
‫(‪)0‬‬
‫على هذا‪ ،‬وهذا في مواضع ال تكاد تحصى وال سبيل إلى استيعاب أفرادها)‬
‫وقال ابن تيمية‪( :‬إن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعال ال لحكمة‪ ،‬فهو َأولى‬
‫بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة‪ ،‬ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب‬
‫كونها فيه ‪ .‬فكيف يجوز أن يقال فعله ِ‬
‫لحكْمة تستلزم النقص وفعله ال لحكمة ال نقص‬
‫(‪)6‬‬
‫فيه)‬

‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫أنه ال يمكن للفقيه أن ينزل أحكام الشريعة للواقع والمتغيرات الحاصلة فيه إال‬
‫من خالل فهمه لمقاصد الشريعة‪ ،‬وإال تخلفت الشريعة عن الواقع‪ ،‬وألجل هذا يرى‬
‫أصحاب هذا المنهج أنه ال تحصل درجة االجتهاد إال لمن اتصف بوصفين(‪:)0‬‬
‫األول‪ :‬فهم مقاصد الشريعة على كمالها ألن اإلنسان إذا بلل مبلغ ًا فهم عن الشارع‬
‫قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة‪ ،‬وفي كل باب من أبوابها؛ فقد حصل له وصف‬
‫ين َّزله منزلة الخليفة للنبي ‪ ‬في التعليم وال ُفتيا والحكم بما أراه الله ‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬التمكّن من االستنباط بنا ًء على فهمه فيها‪ ،‬بواسطة معارف محتاج إليها‬
‫في فهم الشريعة أوالً‪ ،‬وفي استنباط األحكام ثاني ًا‪.‬‬

‫(‪ )0‬شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب بن‬
‫سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية‪ ،‬تحقيق‪ :‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪0092 ،‬هـ‪0912/‬م‪ ،‬ص‪.091‬‬
‫(‪ )6‬شرح العقيدة األصفهانية‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم ابن‬
‫تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن رياض األحمد‪ ،‬المكتبة العصرية – بيروت‪ ،‬ط‪0261 ،0‬هـ‪ ،‬ص‪.066‬‬
‫(‪ )0‬الموافقات ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.20‬‬

‫‪025‬‬
‫ثالثا ـ منهجه في الفتوى‪:‬‬
‫بناء على التصنيف السابق ألعالم هذا المنهج‪ ،‬فإنه يمكن أن نرى منهجين للفتوى‬
‫قد يتفقان في بعض الغايات‪ ،‬ولكن يختلفان اختالفا شديدا في آليات التنفيذ‪:‬‬

‫المنهج األول‪:‬‬
‫وهو يعتمد على اعتبار الدليل الشرعي هو األساس في التعرف على مقاصد‬
‫الشريعة – أوال ‪ -‬ثم يطبق هذا المبدأ على الفروع المختلفة‪ ،‬مع مراعاة ما ورد فيها من‬
‫النصوص الخاصة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أول ما ينطلق منه أصحاب هذا المنهج لتحديد المقاصد الشرعية‬
‫والوسائل المحققة لها هي المصادر األصلية من القرآن الكريم والسنة المطهرة‪.‬‬
‫يقول الشاطبي‪( :‬نصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هي أول ما يتلقى منه فهم‬
‫(‪)0‬‬
‫المقاصد الشرعية)‬
‫ويقول الدكتور محمد سعد اليوبي‪( :‬إذا كان من المعلوم أن القرآن هو أساس‬
‫الشريعة اإلسالمية وأصلها‪ ،‬فإنه من الضروري للباحث عن مقاصدها‪ ،‬الطالب ألهدافها‬
‫(‪)6‬‬
‫أن يبحث عن المقاصد التي اشتمل عليها أصلها‪ ،‬وتضمنها ينبوعها أال وهو كتاب الله)‬
‫وقد ذكر في كتابه (مقاصد الشريعة وعالقتها باألدلة الشرعية) بعض األمثلة على‬
‫المقاصد الواردة في القرآن الكريم نذكر بعضها هنا (‪ )0‬من باب المثال‪:‬‬

‫(‪ )0‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.061‬‬


‫(‪ )6‬مقاصد الشريعة اإلسالمية وعالقتها باألدلة الشرعية‪ ،‬محمد سعد بن أحمد بن مسعود‬
‫اليوبي‪ ،‬دار الهجرة‪ ،‬ط‪ ،0992 – 0202 ،0‬ص‪.201‬‬
‫(‪ )0‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.262‬‬

‫‪026‬‬
‫فقد ذكر الله تعالى مقاصد الصالة‪ ،‬فقال‪﴿ ::‬إِ َّن َّ‬
‫الص َال َة َتن َْهى َع ِن ا ْل َف ْح َشاء‬
‫(‪)0‬‬
‫َوا ْل ُمنك َِر﴾‬
‫وذكر مقاصد الزكاة‪ ،‬فقال‪ُ ﴿ :‬خ ْذ ِم ْن َأ ْم َوال ِ ِه ْم َصدَ َق ًة ُت َط ِّه ُر ُه ْم َو ُت َزك ِ‬
‫ِّيهم بِ َها َو َص ِّل‬
‫(‪)6‬‬
‫َن َّل ُه ْم ﴾‬ ‫َع َل ْي ِه ْم إِ َّن َص َ‬
‫الت َ‬
‫َك َسك ٌ‬
‫وك ِر َج ًاال َو َع َلى ُك ِّل َض ِام ٍر‬ ‫وذكر مقاصد الحج‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َأ ِّذن فِي الن ِ‬
‫َّاس بِا ْل َح ِّج َي ْأ ُت َ‬
‫ات َع َلى َما‬ ‫ي ْأتِين ِمن ُك ِّل َفج َع ِم ٍيق لِي ْشهدُ وا منَافِع َلهم وي ْذ ُكروا اسم ال َّل ِه فِي َأيا ٍم مع ُلوم ٍ‬
‫َّ َّ ْ َ‬ ‫َ َ ُ ْ ََ ُ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ َ‬
‫ِ (‪)0‬‬
‫يم ِة األَ ْن َعام ﴾‬ ‫َر َز َق ُهم ِّمن َب ِه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫الص َيا ُم ك ََما ُكت َ‬ ‫ب َع َل ْي ُك ُم ِّ‬ ‫ين آ َمنُو ْا ُكت َ‬ ‫وذكر مقاصد الصيام‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬يا َأ ُّي َها ا َّلذ َ‬
‫ين ِمن َق ْبلِ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم َتتَّقون ﴾‬
‫ُ َ (‪)2‬‬ ‫ِ‬
‫َع َلى ا َّلذ َ‬
‫وذكر مقاصد الوضوء‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬ما ُي ِريدُ ال ّل ُه ل ِ َي ْج َع َل َع َل ْي ُكم ِّم ْن َح َر ٍج َو َلـكِن ُي ِريدُ‬
‫ل ِ ُي َط َّه َر ُك ْم َول ِ ُيتِ َّم نِ ْع َم َت ُه َع َل ْي ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ت َْش ُك ُرون ﴾‬
‫َ (‪)1‬‬

‫اص َح َيا ٌة َي ْا ُأول ِ ْي األَ ْل َب ِ‬


‫اب َل َع َّل ُك ْم‬ ‫وذكر مقاصد القصاص‪ ،‬فقال‪َ ﴿ ::‬و َل ُك ْم فِي ا ْل ِق َص ِ‬
‫(‪)6‬‬ ‫َت َّت ُق َ‬
‫ون ﴾‬
‫الس ِار َق ُة َفا ْق َط ُعو ْا َأ ْي ِد َي ُه َما َج َزاء بِ َما‬
‫الس ِار ُق َو َّ‬
‫وذكر مقاصد حد السرقة‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َّ‬

‫(‪ )0‬سورة العنكبوت‪.21 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة التوبة‪.010 :‬‬
‫(‪ )0‬سورة الحج‪.62 ،61 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة البقرة‪.020 :‬‬
‫(‪ )1‬سورة المائدة‪.6 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة البقرة‪.019 :‬‬

‫‪027‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ََس َبا َنكَاالً ِّم َن ال َّله َوال َّل ُه َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫(‪)0‬‬
‫يم ﴾‬
‫وهكذا وضحت السنة المطهرة مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬كما قال الشاطبي‪:‬‬
‫(وإذا نظرنا إلى السنّة وجدناها ال تزيد على تقرير هذه األمور فالكتاب أتى بها أصوالً‬
‫يرجع إليها‪ ،‬والسنّة أتت بها تفريع ًا على الكتاب وبيان ًا لما فيه منها فال تجد في السنّة إال‬
‫تفصلت في‬
‫تأصلت في الكتاب ّ‬
‫ما هو راجع إلى تلك األقسام فالضروريات الخمس كما ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫السنّة)‬

‫المنهج الثاني‪:‬‬
‫وهو يعتمد على ما يتصوره أو يتوهمه من المصالح‪ ،‬ثم يحاول أن يفسر الشريعة‬
‫على أساسها‪ ،‬فيقدم المصلحة المتوهمة على النص القطعي‪.‬‬
‫بل إن بعض الفقهاء تصوروا أن لهم مطلق الحرية في ابتداع الوسائل التي تحقق‬
‫المقاصد التي يرون شرعيتها‪ ،‬حتى لو خالفت الظاهر من النصوص‪.‬‬
‫ومن األمثلة المشهورة على ذلك ما فعله يحيى بن يحيى الليثي عميد الفقهاء‬
‫المالكية باألندلس‪ ،‬الذي أفتى األمير عبد الرحمن بن الحكم بما يخالف النص‪ ،‬بل بما‬
‫يخالف مذهبه أيضا(‪.)0‬‬

‫(‪ )0‬سورة المائدة‪.02 :‬‬


‫(‪ )6‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.026‬‬
‫(‪ )0‬مذهب مالك في كفارة من أفطر متعمدا في رمضان على التخيير بين العتق وصوم شهرين‬
‫متتابعين وإطعام ستين مسكين ًا‪ ،‬واستحب مالك اإلطعام (الكافي في فقه أهل المدينة‪ ،‬أبو عمر يوسف‬
‫بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محمد أحيد ولد ماديك‬
‫الموريتاني‪ ،‬مكتبة الرياض الحديثة‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬ط‪0211 ،6‬هـ‪0921/‬م ‪،‬‬
‫ج‪ ،0‬ص‪).026‬‬

‫‪028‬‬
‫وقد ذكر المقري وقائع النازلة قائالً‪( :‬جمع األمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء‬
‫في عصره‪ ،‬وكان وقع على جارية يحبها في رمضان‪ ،‬ثم ندم أشد الندم‪ ،‬فسألهم عن التوبة‬
‫والكفارة‪ ،‬فقال يحيى‪ :‬تك ِّفر بصوم شهرين متتابعين‪ ،‬فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت‬
‫الفقهاء حتى خرجوا‪ ،‬قال بعضهم لـه‪ :‬ل ِ َم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير؟‪ ،‬فقال‪ :‬لو‬
‫فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة‪ ،‬ولكن حملته على أصعب‬
‫(‪)0‬‬
‫األمور لئال يعود)‬
‫فقد رأي يحيى إلزام األمير عبد الرحمن بصيام شهرين متتابعين‪ ،‬فخالف مالكا في‬
‫التخيير‪ ،‬وآثر تقديم ما توهمه من مصلحة الزجر والردع‪ ،‬إال أن المصلحة التي تركها‪،‬‬
‫والتي دل عليها النص أولى باالعتبار والنظر؛ ذلك أن المصلحة المترتبة إذا ما أفطر األمير‬
‫وأعتق كل يوم رقبة‪ ،‬أعظم من صومه بكثير‪ ،‬فمن مقاصد الشريعة العناية بالحرية‪ ،‬وقد‬
‫جعل لذلك العتق أحد الوسائل لتحقيقها‪ ،‬ومثله اعتنى بإطعام المساكين‪ ،‬ولو بشق تمرة‪،‬‬
‫فإطعام ستين مسكين ًا مصلحة أعظم في ميزان الشرع من صومه‪ ..‬هذا إن صامه‪.‬‬
‫وقد وصف الحجوي فتوى يحيى بأنها شاذة؛ ألخذه بالمصلحة في مقابل النص‪،‬‬
‫(وذلك ال يجوز؛ ألنه يؤدي إلى تغيير حدود الشريعة بتغير األحـوال‪ ،‬فتنحل رابطة الدين‬
‫مترفها سافر من المجاورة للبحر في سفينة أمينة‬
‫ً‬ ‫أميرا‬
‫وتنفصم العـرى في معناه من أفتى ً‬
‫بعدم قصر الصالة لعدم المشقة‪ ،‬وليس بصحيح؛ ألن الشرع ع َّلق القصر على السفر‪،‬‬
‫فيكفي أنه مظنة المشقة وهي غير منضبطة‪ ،‬ومثل ذلك السفر في السكة الحديدية والسيارة‬

‫(‪ )0‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪ ،‬وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب‪ ،‬شهاب‬
‫الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬دار صادر‪ -‬بيروت – لبنان‪ ،‬ج‪،6‬‬
‫ص‪.00‬‬

‫‪029‬‬
‫فيسن القصر في مسافته ولو قطعها في جزء يوم وأدركته الصالة وهو‬
‫ُّ‬ ‫والمناطيد الجوية‪،‬‬
‫(‪)0‬‬
‫في السفر)‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا ما نقله ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال‪:‬‬
‫(جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم‪ ،‬وال يخلو من القول‬
‫به إمام‪ ،‬فقال الشافعي‪ :‬ال سياسة إال ما وافق الشرع‪ ..‬فقال ابن عقيل‪ :‬السياسة ما كان‬
‫فعال يكون معه الناس أقرب إلى الصالح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول‪ .‬فإن‬
‫أردت بقولك إال ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح‪ ،‬وإن أردت ال‬
‫سياس ة إال ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة‪ ،‬فقد جرى من الخلفاء الراشدين من‬
‫القتل والتمثيل ما ال يجحده عالم بالسنن‪ ،‬ولو لم يكن إال تحريق عثمان المصاحف‪ ،‬فإنه‬
‫كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة األمة(‪.)6‬‬
‫ونرى أن هذا قد يفتح المجال واسعا نحو مضاهاة الشارع‪ ،‬ولهذا نحتاج إلى‬
‫التشدد فيه‪ ،‬ألن هناك من صار يعمد إلى بعض المقاصد الشرعية المعتبرة‪ ،‬لكنه يخترع‬
‫لها من الوسائل ما يناقض به مقاصد شرعية أخرى‪ ،‬وكمثال على ذلك مخالفة بعض‬
‫الباحثين لما ورد في النصوص القطعية من ضرورة الوحدة اإلسالمية‪ ،‬ويخالفون ما يظهر‬
‫في الواقع من دور األحزاب السياسية في تقطيعها‪ ،‬ونشر الفرقة‪ ،‬ليقولوا بشرعية التعددية‬
‫السياسية في اإلسالم تأثرا بما يرونه في الغرب‪ ،‬ال انفعاال لما ورد في النصوص الشرعية‪،‬‬
‫وكمثال على ذلك يقول الدكتور صالح الصاوي‪( :‬أصبح من الصعب التعرف على من‬

‫العربي الفاسي‪ ،‬دار الكتب‬


‫ّ‬ ‫(‪ )0‬الفكر السامي في تاريخ الفقه اإلسالمي‪ ،‬محمد بن الحسن بن‬
‫العلمية ‪-‬بيروت‪-‬لبنان‪ ،‬ط‪0206 ،0‬هـ‪0991 -‬م‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.019‬‬
‫(‪ )6‬الطرق الحكمية‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية‪ ،‬مكتبة‬
‫دار البيان‪ ،‬ص‪.00‬‬

‫‪031‬‬
‫يجب مشاورتهم‪ ،‬ومن هم أهل لذلك‪ ،‬ومتى وكيف تتم عملية مشاورتهم‪ ،‬كما أصبح من‬
‫الصعب قيام معارضة منظمة وجادة وقادرة وهادفة‪ ،‬بدون تنظيمات سياسية لها من‬
‫اإلمكانيات والوسائل ما تقدر به على التعبير عن الرأي ونشره وحمايته والدفاع عنه‪،‬‬
‫األمر الذي ال يتوافر حديث ًا إال في صورة األحزاب السياسية‪ ،‬المفيدة في أهدافها ومبادئها‬
‫(‪)0‬‬
‫بأصول الشريعة اإلسالمية المتفق عليها)‬

‫(‪ )0‬التعددية السياسية في الدولة اإلسالمية‪ ،‬صالح الصاوي‪ ،‬دار اإلعالم الدولي‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ ،0996‬ص‪.610‬‬

‫‪030‬‬
‫خاتمة‬
‫نختم هذه الدراسة بتلخيص ألهم النتائج التي وصلنا إليها‪ ،‬مع بعض التوصيات‬
‫التي نرى الحاجة إلى تحقيقها في واقع الفتوى‪.‬‬

‫أوال‪ :‬النتائج‪:‬‬
‫‪ .0‬يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي‪ ،‬لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة‬
‫اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها‪ ،‬فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة‬
‫على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها‪ ،‬ويجري عليه أحكامها‪.‬‬
‫‪ .6‬من خالل استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل‪ ،‬رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى‬
‫ستة مناهج‪ :‬المنهج االستداللي‪ ،‬والمنهج المذهبي‪ ،‬والمنهج المذاهبي‪ ،‬ومنهج‬
‫التيسير ‪ ،‬ومنهج التشديد‪ ،‬والمنهج المقاصدي‪.‬‬
‫‪ .0‬المنهج االستداللي هو المنهج الذي يعتمد أصحابه في استنباط األحكام الشرعية‬
‫على المصادر األصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من‬
‫الفقهاء من أصحاب المذاهب أو غيرهم‪ ،‬وهم يرون أن التقيد بأقوال الفقهاء‬
‫وااللتزام بها من غير نظر في األدلة بدعة حادثة في الملة ال يستحق صاحبها أن‬
‫يوصف بالمجتهد وال الفقيه‪ ،‬وال يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب اإلفتاء إال على‬
‫سبيل النقل لقول غيره‪.‬‬
‫‪ .2‬المنهج المذهبي في الفتوى هو المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد المذهبي‬
‫لألئمة األربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجاالت من كتب التفسير‬
‫وشروح الحديث‪ ،‬إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها‪ ،‬باإلضافة إلى ما كتب في‬
‫خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل‪.‬‬

‫‪032‬‬
‫‪ .1‬اقتصر المنهج المذهبي على أتباع المذاهب األربعة‪ ،‬والتي سرى إليها الخالف هي‬
‫أيضا‪ ،‬فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية‬
‫في العالم اإلسالمية قرونا طويلة‪ ،‬وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم االلتزام‬
‫بهذه المذاهب بين متشدد ومتساهل‪.‬‬
‫‪ .6‬المنهج المذاهبي هو المنهج الذي يتميز أصحابه بكونهم ال يرون ضرورة االلتزام‬
‫بالمذهب الواحد‪ ،‬وكونهم يرون أن كل ما كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب‬
‫األربعة أو غيرهم‪ ،‬يمكن االعتماد عليه والرجوع إليه‪ ،‬إما العتبارهم أن كل مجتهد‬
‫في الفروع مصيب‪ ،‬أو أن المصيب واحد ولكن ال نستطيع أن نعينه‪ ،‬وبناء على هذا‬
‫فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي عن المسألة التي‬
‫سئل عنها‪ ،‬ويورد األقوال فيها ليترك للمستفتي حرية االختيار بينها‪.‬‬
‫‪ .1‬منهج التيسير هو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال‬
‫الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته‪ ،‬وييسر عليه تنفيذ‬
‫التكاليف‪ ،‬ولو بأدنى مراتبها‪.‬‬
‫‪ .2‬وقعت بعض االنحرافات في منهج التيسير‪ ،‬وخاصة في أوساط العامة‪ ،‬ألنه أنشأ نوعا‬
‫من التحرر من أحكام الشريعة‪ ،‬وذلك عبر بعض الظواهر التي تحدث عنها الفقهاء‪،‬‬
‫واختلفوا في مواقفهم منها‪ ،‬وهي‪ :‬ظاهرة التلفيق‪ ،‬وظاهرة تتبع الرخص‪ ،‬وظاهرة‬
‫الحيل الشرعية‪.‬‬
‫‪ .9‬منهج التشديد هو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال‬
‫الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف‪ ،‬أو يختار له‬
‫أشدها وأكثرها احتياطا‪.‬‬
‫‪ .01‬المنهج المقاصدي هو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في األحكام‬

‫‪033‬‬
‫التفصيلية‪ ،‬باعتبار أن األحكام الشرعية ليست تعبدية محضة‪ ،‬بل هي مفهومة المعنى‪.‬‬
‫‪ .00‬استغل بعض المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية‪ ،‬أو تأثروا بها‪ ،‬ولم يدرسوا‬
‫الشريعة أو يتفقهوا فيها المنهج المقاصدي‪ ،‬وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار‬
‫حديثة يستطيعون أن يحددوا مقاصد الشارع‪ ،‬ويستطيعوا من خاللها أن يفتوا على‬
‫أساسها‪ ،‬ومع أنه ال يمكن اعتبار هؤالء من الفقهاء‪ ،‬ولكن مع ذلك نجد أن هناك من‬
‫يقوم بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد واإلصالح ونحو ذلك‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬التوصيات‪:‬‬
‫‪ .0‬من خالل الكثير من المشاكل الواقعية التي تحدثها بعض الفتاوى غير المسؤولة‪،‬‬
‫والتي ال تستند إلى علم‪ ،‬وال إلى حكمة‪ ،‬ندعو إلى حجر الفتوى في القضايا الخطيرة‬
‫إال على الجهات المكلفة بذلك‪ ،‬ووضع القوانين التي تحول بين غير المهيئين‪،‬‬
‫وممارسة هذه الوظيفة الخطيرة‪.‬‬
‫‪ .6‬ضرورة مراجعة الفتاوى الموجودة‪ ،‬والتي لها تأثير في الواقع اإلسالمي‪ ،‬وبيان‬
‫الحكم الشرعي الصحيح‪ ،‬حتى ال يقع العوام ضحية للفتاوى الخاطئة‪.‬‬
‫‪ .0‬ضرورة تشجيع المجامع العلمية‪ ،‬واعتبارها الهيئات الوحيدة التي يحق لها الفتوى‬
‫في النوازل المعاصرة‪.‬‬
‫‪ .2‬ضرورة العودة إلى المصادر األصلية باعتبارها هي أصل التشريع اإلسالمي‪،‬‬
‫ومحاولة تنزيل ما ورد فيها على الواقع‪ ،‬مع عدم إهمال ما ورد في التراث الفقهي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن نقدمه على المصادر األصلية‪.‬‬
‫‪ .1‬ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية‪ ،‬ومحاولة تحقيقها في الواقع‪ ،‬وتوضيح المفتي‬
‫لتلك المقاصد أثناء تبليغه للفتوى‪ ،‬ليراعي المكلف الحكم الشرعي مع مقاصده‪.‬‬

‫‪034‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬
‫رتبت المراجع والمصادر التي اعتمدت عليها في هذا البحث ترتيبا ألفبائيا بحسب‬
‫عنوان الكتاب‪:‬‬
‫القرآن الكريم‬
‫‪ .0‬ابن تيمية‪ ،‬أبو زهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬مصر‪.0990 ،‬‬
‫‪ .6‬الفتاوى‪ ،‬النــووي‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القـادر أحمد عطاء‪ ،‬لبنان‪ ،‬مـؤسسة الكتب‬
‫الثقافية‪ ،‬ط‪.6‬‬
‫‪ .0‬المدخل الفقهي العام‪ ،‬مصطفى أحمد الزرقا‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.0992 ،9‬‬
‫‪ .2‬تاريخ الفقه اإلسالمي‪ ،‬عمر سليمان األشقر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬قصر الكتاب‪.0991 ،‬‬
‫‪ .1‬محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء‪ ،‬أبو القاسم الحسين بن محمد‬
‫المعروف بالراغب األصفهاني‪ ،‬شركة دار األرقم بن أبي األرقم – بيروت‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ 0261 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .6‬أصول الفقه اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع –‬
‫بيروت ‪ ،‬الطبعة األولى ( ‪ 0926‬م)‪.‬‬
‫‪ .1‬اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر‪ ،‬د‪ .‬فهد الرومي‪ ،‬طبع بإشراف إدارة‬
‫البحوث العلمية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪.0211،‬‬
‫‪ .2‬اإلحاطة في أخبار غرناطة‪ ،‬محمد بن عبد الله الغرناطي األندلس‪ ،‬أبو عبد الله‪،‬‬
‫الشهير بلسان الدين ابن الخطيب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪،‬‬
‫‪ 0262‬هـ‪.‬‬
‫‪ .9‬أحكام القرآن‪ ،‬القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري االشبيلي‬
‫المالكي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت – لبنان‪،‬‬

‫‪035‬‬
‫ط‪ 0262 ،6‬هـ ‪ 6110 -‬م‪.‬‬
‫‪ .01‬اإلحكام في أصول األحكام‪ ،‬أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم‬
‫ألندلسي القرطبي الظاهري‪ ،‬تحقيق‪ :‬الشيخ أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار اآلفاق‬
‫الجديدة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ .00‬أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى‬
‫واالستفتاء‪ ،‬ابن الصالح الشهر زوري‪ ،‬تحقيق‪ :‬فوزي عبد المطلب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مكتبة الخانجي‪ ،‬ط‪.0996 ،0‬‬
‫‪ .06‬أسباب اختالف الفقهاء‪ ،‬د‪ .‬عبد الله بن عبد المحسن التركي ‪ ،‬تقديم‪ :‬حسن‬
‫بن عبد الله آل الشيخ و عبد الرزاق عفيفي ‪ ،‬مؤسسة الرسالة ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ‪، 0‬‬
‫‪ 0200‬هـ ‪ 6101 /‬م‪.‬‬
‫‪ .00‬االستذكار‪ ،‬أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري‬
‫القرطبي ‪ ،‬تحقيق‪ :‬سالم محمد عطا‪ ،‬محمد علي معوض‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.6111 – 0260 ،0‬‬
‫‪ .02‬االستقصاء ألخبار دول المغرب األقصى‪ ،‬الناصري احمد بن خالد‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬دار الكتاب‪ ،‬ط‪.0991 ،0‬‬
‫‪ .01‬أصول السرخسي‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي‪ ،‬دار‬
‫المعرفة – بيروت‪.‬‬
‫‪ .06‬أصول الفقه اإلسالمي‪ ،‬محمد سالم مدكور‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0‬‬
‫‪ .01‬أصول الفقه‪ ،‬محمد أبو زهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪.‬‬
‫‪ .02‬أصول الفقه‪ ،‬محمد بن مفلح ‪ ،‬أبو عبد الله الصالحي الحنبلي ‪ ،‬حققه وعلق‬
‫السدَ َحان‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪ 0261 ،0‬هـ‬
‫عليه وقدم له‪ :‬الدكتور فهد بن محمد َّ‬

‫‪036‬‬
‫‪ 0999 -‬م‪.‬‬
‫‪ .09‬أصول مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬د‪ .‬عبد الله بن عبد المحسن التركي‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ 0201 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .61‬االعتصام‪ ،‬إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬سليم بن عيد الهاللي‪ ،‬دار ابن عفان‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪0206 ،0‬هـ ‪-‬‬
‫‪0996‬م‪.‬‬
‫‪ .60‬إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬محمد بن أبي بكر أيوب ابن القيم الجوزية‪،‬‬
‫تحقيق ‪ :‬طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬دار الجيل ‪ -‬بيروت‪.0910 ،‬‬
‫‪ .66‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم‬
‫الجوزية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد حامد الفقي‪ ،‬مكتبة المعارف‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة‬
‫العربية السعودية‪.‬‬
‫‪ .60‬أنوار البروق في أنواء الفروق‪ ،‬أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن‬
‫عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي‪ ،‬عالم الكتب‪.‬‬
‫‪ .62‬إيضاح المسالك إلى قواعد اإلمام مالك‪ ،‬أبو العباس الونشريسي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫الصادق الغرياني‪ ،‬دار ابن حزم‪ 0261 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .61‬البحر الرائق شرح كنز الدقائق‪ ،‬زين الدين بن إبراهيم بن محمد‪ ،‬المعروف بابن‬
‫نجيم المصري‪ ،‬دار الكتاب اإلسالمي‪ ،‬ط‪.6‬‬
‫‪ .66‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن‬
‫بهادر الزركشي‪ ،‬دار الكتبي‪ ،‬ط‪0202 ،0‬هـ ‪0992 -‬م‪.‬‬
‫‪ .61‬البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‪ ،‬محمد بن علي بن محمد بن عبد‬
‫الله الشوكاني اليمني‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬

‫‪037‬‬
‫‪ .62‬بكر أبو زيد‪ ،‬فقه النوازل‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪.‬‬
‫‪ .69‬بلوغ السول في مدخل علم األصول‪ ،‬محمد حسنين محلوف‪ ،‬مطبعة مصطفى‬
‫الحلبي‪.‬‬
‫‪ .01‬بيان الدليل على بطالن التحليل‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي عبد المجيد‬
‫السلفي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ .00‬بيان الدليل على بطالن التحليل‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي عبد المجيد‬
‫السلفي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪.0992 – 0202 ،‬‬
‫‪ .06‬تاج العروس‪ ،‬الزبيدي‪ ،‬دار الرشاد‪ ،‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ .00‬تبصرة الحكام‪ ،‬ابن فرحون‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0926 ،0‬‬
‫‪ .02‬التحدث بنعمة الله‪ ،‬السيوطي‪ ،‬تحقيق‪:‬إليزابيث ماري سارتين‪ ،‬المطبعة العربية‬
‫الحديثة‪ ،‬مصر‪0916 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .01‬التعددية السياسية في الدولة اإلسالمية‪ ،‬صالح الصاوي‪ ،‬دار اإلعالم الدولي‪،‬‬
‫ط‪.0996 ،0‬‬
‫‪ .06‬التفسير والمفسرون‪ ،‬الدكتور محمد السيد حسين الذهبي‪ ،‬مكتبة وهبة‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ .01‬التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد‪ ،‬أبو عمر يوسف بن عبد الله بن‬
‫عبد البر بن عاصم النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصطفى بن أحمد العلوي ‪ ،‬محمد‬
‫عبد الكبير البكري‪ ،‬وزارة عموم األوقاف والشؤون اإلسالمية – المغرب‪،‬‬
‫‪ 0021‬هـ‪.‬‬
‫‪ .02‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫أبي األشبال الزهيري‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬ط‪0202 ،0‬‬

‫‪038‬‬
‫هـ ‪ 0992 -‬م‪.‬‬
‫‪ .09‬جزيل المواهب فى اختالف المذاهب‪ ،‬عبد الرحمن بن أبي بكر‪ ،‬جالل الدين‬
‫السيوطي‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القيوم محمد شفيع البستوي‪ ،‬دار االعتصام‪.‬‬
‫‪ .21‬الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة‪ ،‬حسن مشاط‪ ،‬دراسة وتحقيق د عبد‬
‫الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان‪ .‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬ط‪.0‬‬
‫‪ .20‬حاشية العطار على شرح الجالل المحلي على جمع الجوامع‪ ،‬حسن بن محمد‬
‫بن محمود العطار الشافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ .26‬حاشية العطار على شرح الجالل المحلي‪ ،‬حسن بن محمد بن محمود العطار‬
‫الشافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬
‫‪ .20‬حجة الله البالغة‪ ،‬أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «الشاه ولي الله الدهلوي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬السيد سابق‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ط‪ 0266 ،0‬هـ ‪6111 -‬م‪.‬‬
‫‪ .22‬خصائص التشريع اإلسالمي‪ ،‬فتحي الدريني‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ‪6‬‬
‫‪ 0202 ،‬هـ ‪ 6100 -‬م‪.‬‬
‫‪ .21‬الدارس في تاريخ المدارس‪ ،‬عبد القادر النعيمي‪ ،‬حققه جعفر الحسيني‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬المجمع العلمي‪.0910 ،‬‬
‫‪ .26‬الدرر السنية في األجوبة النجدية‪ ،‬علماء نجد األعالم‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن‬
‫بن محمد بن قاسم‪ ،‬ط‪0201 ،6‬هـ‪0996/‬م‪.‬‬
‫‪ .21‬الرخصة الشرعية في األصول والقواعد الفقهية‪ ،‬د‪ .‬عمر عبد الله الكامل‪ ،‬دار‬
‫ابن حزم للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪0999 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .22‬رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير األبصار في فقه مذهب اإلمام األعظم‬
‫أبي حنيفة النعمان‪ ،‬ابن عابدين‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫‪039‬‬
‫‪ .29‬الرد على من أخلد إلى االرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض‪،‬‬
‫السيوطي‪ ،‬تحقيق‪ :‬خليل الميس‪ ،‬دار الكتب لعلمية ‪ 0210‬هـ‪.‬‬
‫‪ .11‬روضة الطالبين وعمدة المفتين‪ ،‬محيي الدين النووي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪0211 ،‬هـ‬
‫‪ .10‬سبل االستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة‪ ،‬الدكتور‬
‫عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه‪ ،‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي التابع لمنظمة‬
‫المؤتمر اإلسالمي بجدة‪ ،‬ع‪.00‬‬
‫‪ .16‬سلسلة األحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في األمة‪ ،‬أبو عبد‬
‫الرحمن محمد ناصر الدين األلباني‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬ط‪ 0206 ،0‬هـ ‪ 0996 /‬م‪.‬‬
‫‪ .10‬سنن ابن ماجه‪ ،‬ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب‬
‫محمد كامل قره بللي ‪َ -‬عبد ال ّلطيف حرز الله‪ ،‬دار‬
‫األرنؤوط ‪ -‬عادل مرشد ‪َّ -‬‬
‫الرسالة العالمية‪ ،‬ط‪ 0201 ،0‬هـ ‪ 6119 -‬م‪.‬‬
‫‪ .12‬سنن الترمذي ‪ ،‬محمد بن عيسى بن َس ْورة الترمذي‪ ،‬تحقيق وتعليق‪ :‬إبراهيم‬
‫عطوة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر‪ ،‬ط‪ 0091 ، 6‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 0911‬م ‪.،‬‬
‫‪ .11‬س ّير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬حققه بشار عواد‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪.‬‬
‫‪ .16‬شرح العقيدة األصفهانية‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد‬
‫السالم ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن رياض األحمد‪ ،‬المكتبة العصرية – بيروت‪،‬‬
‫ط‪0261 ،0‬هـ‪.‬‬
‫‪ .11‬شرح الكوكب المنير‪ ،‬تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد المعروف بابن‬

‫‪041‬‬
‫النجار الحنبلي ‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد الزحيلي ونزيه حماد‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪،6‬‬
‫‪0202‬هـ ‪ 0991 -‬م‪.‬‬
‫‪ .12‬شرح النووي على صحيح مسلم‪ ،‬النووي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪0096 ،6‬هـ ‪.‬‬
‫‪ .19‬شرح حدود ابن عرفة‪ ،‬تحقيق محمد أبو األجفان والطاهر المعموري‪ .‬دار‬
‫الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األولى‪0990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .61‬شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج)‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن‬
‫عبد الحليم ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬سعود صالح العطيشان‪ ،‬مكتبة العبيكان –‬
‫الرياض‪ ،‬ط‪.0200 ،0‬‬
‫‪ .60‬شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل‪ ،‬محمد بن أبي بكر‬
‫بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية‪ ،‬تحقيق‪ :‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫لبنان‪0092 ،‬هـ‪0912/‬م‪.‬‬
‫‪ .66‬صحيح البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد زهير بن ناصر الناصر‪ ،‬دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة‬
‫ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪0266 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .60‬صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري ‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪.‬‬
‫‪ .62‬صفة صالة النبي‪ ،‬ناصر الدين األلباني‪ ،‬مكتبة المعارف‪ ،‬السعودية ‪ ،‬د ت‪.‬‬
‫‪ .61‬الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية‪ ،‬مجموعة من‬
‫الباحثين‪ ،‬بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)‪،‬‬
‫والمنعقد بتاريخ ‪ 6100/2/09‬في الجامعة اإلسالمية – غزة‪ ،‬دت‪ ،‬دط‪.‬‬

‫‪040‬‬
‫‪ .66‬طبقات الشافعية الكبرى‪ ،‬السبكي‪ ،‬حققه محمد الطناجي‪ ،‬ط ‪ ،6‬الجيزة‪ ،‬دار‬
‫هجر‪.0996 ،‬‬
‫الصغرى‪ ،‬عبد الوهاب الشعراني‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر أحمد عطا‪،‬‬
‫‪ .61‬الطبقات ُ‬
‫مكتبة القاهرة‪ ،‬مصر‪0911 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .62‬طبقات الفقهاء الشافعيين‪ ،‬أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي‬
‫البصري ثم الدمشقي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د أحمد عمر هاشم‪ ،‬د محمد زينهم محمد عزب‪،‬‬
‫مكتبة الثقافة الدينية‪ 0200 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .69‬الطرق الحكمية‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية‪ ،‬مكتبة دار البيان‪.‬‬
‫‪ .11‬العبر‪ ،‬الذهبي‪ ،‬حققه صالح الدين المنجد‪ ،‬الكويت‪ ،‬مطبعة حكومة الكويت‪،‬‬
‫ط‪.0922 ،6‬‬
‫‪ .10‬عقد الجيد في أحكام االجتهاد والتقليد‪ ،‬أحمد بن عبد الرحيم المعروف‬
‫بـالشاه ولي الله الدهلوي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محب الدين الخطيب‪ ،‬المطبعة السلفية ‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ .16‬علم أصول الفقه وخالصة تاريخ التشريع‪ ،‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬مطبعة المدني‬
‫‪ ،‬المؤسسة السعودية بمصر‪.‬‬
‫‪ .10‬العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم‪ ،‬ابن الوزير‪ ،‬محمد بن‬
‫إبراهيم‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب األرنؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪ 0201 ،0‬هـ ‪ 0992 -‬م‪.‬‬
‫‪ .12‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي‪،‬‬
‫منشورات المكتبة اإلسالمية‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ‪. 629‬‬
‫‪ .11‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية‪ ،‬دار‬

‫‪042‬‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬ط‪0212 ،0‬هـ ‪0921 -‬م‪.‬‬
‫‪ .16‬الفتاوى‪ ،‬الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو األجفان‪ ،‬مطبعة االتحاد العام التـونسي‬
‫‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪.0922 ،0‬‬
‫‪ .11‬فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب اإلمام مالك‪ ،‬محمد بن أحمد بن‬
‫محمد عليش‪ ،‬أبو عبد الله المالكي‪ ،‬دار المعرفة‪.‬‬
‫‪ .12‬فتح القدير‪ ،‬كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن‬
‫الهمام‪ ،‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .19‬الفروق‪ ،‬القرافي‪ ،‬بيروت‪ ،‬عالم الكتب‪.‬‬
‫العربي الفاسي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .21‬الفكر السامي في تاريخ الفقه اإلسالمي‪ ،‬محمد بن الحسن بن‬
‫دار الكتب العلمية ‪-‬بيروت‪-‬لبنان‪ ،‬ط‪0206 ،0‬هـ‪0991 -‬م‪.‬‬
‫‪ .20‬الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني‪ ،‬أحمد بن غانم (أو غنيم) بن‬
‫سالم ابن مهنا‪ ،‬شهاب الدين النفراوي األزهري المالكي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دط‪،‬‬
‫‪0201‬هـ ‪0991 -‬م‪.‬‬
‫‪ .26‬فيض القدير‪ ،‬المناوي‪ ،‬المكتبة التجارية الكبرى‪ ،‬مصر‪.0016 ،‬‬
‫‪ .20‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد‬
‫السالم‪ ،‬راجعه وعلق عليه‪ :‬طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية ‪-‬‬
‫القاهرة‪ 0202 ،‬هـ ‪ 0990 -‬م ‪.‬‬
‫‪ .22‬الكافي في فقه أهل المدينة‪ ،‬أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر‬
‫بن عاصم النمري القرطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني‪،‬‬
‫مكتبة الرياض الحديثة‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬ط‪،6‬‬
‫‪0211‬هـ‪0921/‬م‪.‬‬

‫‪043‬‬
‫‪ .21‬الكامل في التاريخ‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬حققه عبد الله القاضي‪ ،‬ط‪ ،6‬بيروت‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪.0991 ،‬‬
‫‪ .26‬كتاب التعريفات‪ ،‬علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية بيروت –لبنان‪ ،‬ط‪0210 ،0‬هـ ‪0920-‬م‪.‬‬
‫‪ .21‬الكتاب المصنف في األحاديث واآلثار‪ ،‬أبو بكر بن أبي شيبة‪ ،‬تحقيق‪ :‬كمال‬
‫يوسف الحوت‪ ،‬مكتبة الرشد – الرياض‪ ،‬ط‪.0219 ،0‬‬
‫‪ .22‬كتاب الميزان‪ ،‬أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني‪ ،‬تحقيق‪ :‬الدكتور‬
‫عبد الرحمن عميره‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ط‪0219 ،0‬هـ ‪0929 -‬م‪.‬‬
‫‪ .29‬الكشف عن مجاوزة ِ‬
‫هذه األمة األلف‪ ،‬مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي‪ ،‬جالل‬
‫الدين عبد الرحمن السيوطي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ .91‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬
‫‪ .90‬المبسوط‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس األئمة السرخسي ‪ ،‬دار المعرفة‬
‫– بيروت‪0202 ،‬هـ ‪0990 -‬م‪.‬‬
‫‪ .96‬مجموع الفتاوى‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن محمد بن قاسم‪ ،‬مجمع الملك فهد لطباعة المصحف‬
‫الشريف‪ ،‬المدينة النبوية‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪0206 ،‬هـ‪0991/‬م‪.‬‬
‫‪ .90‬المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)‪ ،‬أبو زكريا محيي‬
‫الدين يحيى بن شرف النووي‪ ،‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .92‬المستصفى في علم األصول‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد بن سليمان األشقر‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪0201 ،‬هـ‪0991/‬م‪.‬‬

‫‪044‬‬
‫‪ .91‬مسند اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫شعيب األرنؤوط ‪ -‬عادل مرشد‪ ،‬وآخرون‪ ،‬إشراف‪ :‬د عبد الله بن عبد المحسن‬
‫التركي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪ 0260 ،0‬هـ ‪ 6110 -‬م‪.‬‬
‫‪ .96‬مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن‬
‫الدارمي‪ ،‬التميمي السمرقندي‪ ،‬تحقيق‪ :‬نبيل هاشم الغمري‪ ،‬دار البشائر‬
‫(بيروت)‪ ،‬ط‪0202 ،0‬هـ ‪6100 -‬م‪.‬‬
‫‪ .91‬معجم البلدان‪ ،‬شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي‪،‬‬
‫دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 0991 ،6‬م‪.‬‬
‫‪ .92‬المعجم الكبير‪ ،‬سليمان بن أحمد ‪ ،‬أبو القاسم الطبراني‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمدي بن‬
‫عبد المجيد السلفي‪ ،‬مكتبة ابن تيمية – القاهرة‪ ،‬ط‪.6‬‬
‫‪ .99‬معجم لغة الفقهاء‪ ،‬محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي‪ ،‬دار النفائس‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ 0212 ،6‬هـ‪.‬‬
‫‪ .011‬من أصول الفقه على منهج أهل الحديث‪ ،‬زكريا بن غالم قادر الباكستاني‪ ،‬دار‬
‫الخراز‪ ،‬الطبعة االولى ‪0260‬هـ‪6116-‬م‪.‬‬
‫‪ .010‬المنثور في القواعد الفقهية‪ ،‬أبو عبد الله بدر الدين الزركشي‪ ،‬وزارة األوقاف‬
‫الكويتية‪ ،‬ط‪0211 ،6‬هـ ‪0921 -‬م‪.‬‬
‫‪ .016‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار‪ ،‬أحمد بن علي‪ ،‬تقي الدين‬
‫المقريزي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 0202 ،0‬هـ‪.‬‬
‫‪ .010‬الموافقات‪ ،‬إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان‪ ،‬دار ابن عفان‪ ،‬ط‪0201 ،0‬هـ‪/‬‬
‫‪0991‬م‪.‬‬

‫‪045‬‬
‫‪ .012‬مواهب الجليل‪ ،‬الحطاب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪.0996 ،0‬‬
‫‪ .011‬الموسوعة الفقهية الكويتية‪ ،‬وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية – الكويت‪،‬‬
‫دارالسالسل ‪ -‬الكويت ‪ 0261 - 0212 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .016‬الموطأ‪ ،‬مالك بن أنس بن مالك بن عامر األصبحي المدني‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد‬
‫مصطفى األعظمي‪ ،‬مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان لألعمال الخيرية‬
‫واإلنسانية ‪ -‬أبو ظبي – اإلمارات‪ ،‬ط‪ 0261 ،0‬هـ ‪ 6112 -‬م‪.‬‬
‫‪ .011‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪ ،‬وذكر وزيرها لسان الدين بن‬
‫الخطيب‪ ،‬شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان‬
‫عباس‪ ،‬دار صادر‪ -‬بيروت – لبنان‪.‬‬
‫‪ .012‬التخريج المذهبي أصـوله ومناهجـه‪ ،‬نوار بن الشلي‪ ،‬الرباط‪0991،‬‬
‫‪ .019‬نيل األوطار‪ ،‬محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫عصام الدين الصبابطي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪0200 ،0‬هـ ‪0990 -‬م‪.‬‬
‫‪ .001‬سنن الترمذي‪ ،‬محمد بن عيسى بن َس ْورة ‪ ،‬الترمذي‪ ،‬أبو عيسى‪ ،‬تحقيق‬
‫وتعليق‪ :‬أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬شركة مكتبة ومطبعة‬
‫مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ 0091 ، 6‬هـ ‪ 0911 -‬م‪.‬‬
‫‪ .000‬وفيات األعيان‪ ،‬ابن خلكان‪ ،‬حققه إحسان عباس‪ ،‬دار الثقافة‪.0962 ،‬‬
‫‪ .006‬يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين‪ ،‬التخريج عند الفقهاء واألصوليين‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬مكتبة الرشاد‪0202،‬هـ‪.‬‬

‫‪046‬‬
‫هذا الكتاب‬

‫يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه اإلسالمي‪ ،‬لدوره الكبير في بيان أحكام‬
‫الشريعة اإلسالمية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجاالتها‪ ،‬فدوره هو تنزيل أحكام‬
‫الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها‪ ،‬ويجري عليه أحكامها‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل‪ ،‬وقد رأينا‬
‫أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج‪:‬‬
‫‪ 0‬ــ المنهج االستداللي‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ المنهج المذهبي‪.‬‬
‫‪ 0‬ــ المنهج المذاهبي‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ منهج التيسير‪.‬‬
‫‪ 1‬ــ منهج التشديد‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ المنهج المقاصدي‪.‬‬
‫وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين ‪ -‬باختصار‪ -‬الخصائص التي يتميز بها كل‬
‫منهج‪ ،‬مع األعالم الذين تبنوه‪ ،‬واآلليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع‪.‬‬

‫‪047‬‬

You might also like