Professional Documents
Culture Documents
أ.حسـن العايب.
علم اللسانيات الحديث :إن اللسانيات علم ميتلك كل اخلصوصيات املعرفية اليت متيزه عن سواه من العلوم اإلنسانية
األخرى من حيث األسس الفلسفية واملنهج واملفاهيم واالصطالحات.
غري أن ما تقتضيه الضرورة العلمية هو أنه البد لكل علم من موضوع يعد مادته اليت توضع إلجراءاته
التطبيقية ،وموضوع اللسانيات هو اللسان.
ومن البديهي كما هو شائع يف التصور العلمي للفكر اإلنساين أن حيدد العلم موضوعه حتديدا دقيقا يف إطاره
الت ارخيي ،واملعريف ،قبل أن حيدد نفسه ،وما كان ذلك إال ألن موضوع العلم سابق للعلم يف الوجود ،إذ لوال وجود
الظاهرة ما كان العلم هبا .ومن هنا يتقدم –إلزاما -تعريف العلم ملوضوعه على تعريفه لنفسه .ولذلك جيدر بنا حنن يف
نعرف اللسانيات.
نعرف اللسان قبل أن ّ
هذا املقام أن ّ
-1اللسان في االصطالح :إذا ما نظرنا نظرة عجلى إىل الرتاث الفكري العريب جند أغلب الدارسني يستعملون
مصطلح اللسان ،ويعنون به النظام التواصلي املشرتك بني أفراد اجملتمع يف البيئة اللغوية املتجانسة ،وهم إذا استعملوا
أحيانا مصطلح /اللغة /فيعنون به هلجة معينة ،أو حالة نطقية خمصوصة( .)1فاللسان يف الفكر العريب هو موضوع
الدرس اللغوي وجند ذلك جليا عند اللغويني الدارسني القدماء نذكر منهم:
أ -الفارابي( :ت 333هـ) إذ يقول يف هذا الشأن" :علم اللسان ضربان :أحدمها حفظ األلفاظ الدالة عند أمة ما،
وعلى ما يدل عليه شيء منها ،والثاين قوانني تلك األلفاظ ( ،)...إن األلفاظ الدالة يف لسان كل أمة ضربان مفردة
ومركبة ( )...وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى :علم األلفاظ املفردة ،وعلم األلفاظ املركبة ،وعلم
قوانني األلفاظ عندما تكون مفردة ،وقوانني األلفاظ عندما تركب ،وقوانني تصحيح الكتابة ،وقوانني تصحيح القراءة،
وقوانني تصحيح األشعار"(.)2
يستشف من خالل هذا الطرح أن الفارايب كان على دراية عميقة بطبيعة اللسان باعتباره املوضوع الوحيد
ألي دراسة تسعى إىل استكشاف القوانني الضمنية اليت تتحكم يف بنية الظاهرة اللغوية.
إن مصطلح اللسان ( )langueيدل على نظام تواصلي قائم بذاته ،وهذا النظام ميتلكه كل فرد
متكلم/مستمع ينتمي إىل جمتمع له خصوصيات ثقافية ،وحضارية متجانسة ،ويشارك أفراد يف عملية االتصال .وهلذا
النظام أبعاده الصوتية ،والرتكيبية ،والداللية ،وهو من ههنا الذاكرة التواصلية املشرتكة بني أفراد اجملتمع ،وهي الذاكرة
اليت ميكن هلا أن توصف بالعربية ،أو الفرنسية ،أو اإلجنليزية ،فيقال اللسان العريب ،واللسان الفرنسي ،واللسان
اإلجنليزي.
وحينما ينجز هذا املخزون املشرتك يف الواقع الفعلي ،أي حينما يتحول من املوجود بالقوة إىل املوجود بالفعل
يصبح كالما ( )paroleأي اإلجناز الفعلي للسان يف الواقع.
فاللسان يف جوهره أصوات ،واألصوات عالمات ترتابط منسجمة يف تكامل حبيث تشكل بنية هي البنية الصوتية اليت
تقرتن مبدلوهلا لتحقيق العملية اإلبالغية عن طريق البنية الرتكيبية.
-2مصطلح اللسانيات :ظهر مصطلح اللسانيات أول ما ظهر يف أملانيا ( ،)linguistikمث استعمل يف فرنسا
ابتداء من سنة 6281م ،مث يف إجنلرتا ابتداء من سنة 6211م.
اللسانيات هي الدراسة العلمية ،واملوضوعية للسان البشري ،من خالل األلسنة اخلاصة بكل جمتمع ،فهي
دراسة للسان البشري ،وتتميز بالعلمية ،واملوضوعية وسنقف عند هاتني امليزتني:
أ -العلمية :نسبة إىل العلم ،وهو يوجه بوجه عام املعرفة وإدراك الشيء على ما هو عليه.
وبوجه خاص ،دراسته ذات موضوع حمدد ،وطريقة ثابتة ،وتنتهي عند جمموعة من القوانني:
والعلم ضربان:
ونعين بالدراسة العلمية البحث الذي يستخدم األسلوب العلمي املعتمد على املقاييس التالية:
-3الغاية المتوخاة من البحث اللساني :ميكن لنا حصر األهداف اليت تسعى الدراسة اللسانية إىل حتقيقها فيما
يلي:
-6تسعى اللسانيات إىل معرفة أسرار اللسان من حيث هو ظاهرة إنسانية عامة يف الوجود البشري.
-3البحث عن السمات الصوتية ،والرتكيبية ،والداللية اخلاصة للوصول إىل وضع قواعد كلية.
-4حتديد خصائص العملية التلفظية ،وحصر العوائق العضوية ،والنفسية ،واالجتماعية اليت تعوق سبيلها(.)2
-4مستويات التحليل اللساني :مما ال ريب فيه أن طريقة اإلجراء الوصفي والتحليل ختضع منهجيا إىل طبيعة
املوضوع الذي يشكل مادة البحث ،ويتجلى موضوع اللسانيات يف ثالثة مظاهر (أصوات ،تركيب ،دالالت) ،ومن
ههنا فإن التحليل اللساين يظهر يف ثالثة مستويات أيضا ،وهي:
- 1مباحث يف اللسانيات العامة ،أمحد حساين ،ص 41 :ومناهج علم اللغة من هرمان باول حىت ناعوم تشومسكي ،برجييته بارتشت ،ترمجة :سعيد حسن
حبريي ،مؤسسة املختار ،مصر ،1001ص.111 :
- 2مباحث يف اللسانيات ،أمحد حساين ،ص.41 :
][3
-جانب فيزيولوجي :يتعلق باجلانب النطقي (جهاز النطق) ،واجلانب السمعي (جهاز السمع).
-جانب فيزيائي :يتعلق باألصوات يف مظهرها الفيزيائي ،أي حينما تتحول الذبذبات الصوتية إىل أمواج عرب األثري.
ب -لغوي :يتعلق باألصوات اللغوية بوصفها احلامل املادي لألفكار ،والدالالت أثناء اإلنتاج الفعلي للكالم يف
الواقع اللغوي.
يف رحاب هذا التصنيف ظهر علمان فرعيان يتناوالن اجلانبني املشار إليهما أعاله:
-8علم األصوات الوظيفي )phonologie( :يدرس األصوات اللغوية من حيث هي عناصر وظيفية.
-2-4المستوى الداللي :يتعلق بالدالالت اللغوية يف لسان ما ،وله علم خاص ينعت بـ "علم الداللة"
(.)sémantique
-3-4المستوى التركيبي :يرتبط بالعالئق الوظيفية للبنية الرتكيبية يف لسان ما ،وله علم فرعي ينعت بعلم الرتكيب
(.)syntax
إن أقل الناس إملام بالتحول املرحلي للنظرية اللسانية يف الفكر اإلنساين املعاصر يدرك ال حمالة أن اللسانيات
أصبحت مركزا استقطاب بال منازع ،فكل العلوم أصبحت تلتجئ إليها سواء كان ذلك يف مناهج حبثهما ،أم يف
تقدير حصيلتها املعرفية ،فإذا هي قطب الرحى يف احلركة التأسيسية لكثري من مرتكزات الفكر اإلنساين املعاصر ،ال
من حيث تأصيل املنهج ،وتطوير طرائق إخصابه فحسب ،بل من حيث أهنا تتخذ اللسان البشري مادة له،
وموضوعا ،األمر الذي أضفى على اللسانيات طابع الشمولية واالتساع ،وما كان ذلك إال ألن اللغة عنصر ثابت
ومشرتك بني مجيع العلوم اإلنسانية ،ولذلك فإن اللسانيات تتقاطع منهجيا مع معارف إنسانية متعددة ،نتج عن هذا
التقاطع ظهور فروع خارجية للسانيات من هذه الفروع ما يلي:
-5لسانيات دوسوسير :إن النظرية اللسانية املعاصرة أخذت خصوصياهتا املميزة منذ أن ظهرت إىل الوجود األفكار
العلمية اليت جاء هبا دوسوسري يف جمال البحث اللساين ،ومن ههنا يعد دوسوسري مؤسس اللسانيات يف الثقافة
اإلنسانية املعاصرة دون سواه ،فمن هو دوسوسري؟
ولد دوسوسري سنة 6211جبنيف ،من أسرة عريقة اشتهر أفرادها بالتنوع يف العلوم الطبيعية ،والدقيقة.
وعرف عن دوسوسري ول وعه الشديد بالدراسات اللغوية األمر الذي جعله يهتم بدراسة اللغتني اليونانية،
والسنسكريتية ،فضال عن إتقانه للغة الفرنسية ،واإلجنليزية ،واألملانية ،والالتينية.
][4
ويف سنة 6212أهنى مشروع البحث الذي حيمل عنوان :مذكرة يف النظام البدائي للصوائت يف اللغات
اهلندو أوروبية mémoire sue le système primitif des voyelles dans les langue Indo-
،Européennesوقد حقق له هذا البحث –وهو ال يتجاوز 86سنة -شهرة عاملية رافقته حىت وفاته ،بل ظلت
حاضرة يف الثقافة اللسانية بعد وفاته .وكان هبذا العمل قد حدد نظرية النحو املقارن حبيث عاجل أصعب مشكلة من
مشكالهتا ،معتمدا على العالقات الداخلية أو الوظيفية ومبتعدا عن الوصف الصويت الذي كان مسيطرا على كل
الدراسات املتعلقة بأصوات اللغة.
ويف سنة 6221تقدم بأطروحته اليت كان موضوعها :استعمال املضاف املطلق يف اللغة السنسكريتية
( )l'emploi du génitif absolu en sanscriteوهو حبث حتصل فيه على درجة الدكتوراه بدرجة ممتاز من
جامعة اليبسيك .وبعد وفاته سنة ،6363تكفل اثنان من تالمذته ومها شارل بايل ( )C. Ballyوسيشهاي
( )Sechehayeفجمع األمايل اليت كانت مدونة عند تالمذته من سنة 6313إىل سنة .6366ومجعت يف كتاب
ظهر إىل اإلنسانية سنة 6361بعنوان دروس يف اللسانيات العامة (.)cours de linguistique générale
لقد أثار هذا الكتاب الكثري من االهتمام لدى املفكرين ،والدارسني آنذاك ،على الرغم من الظروف غري
املواتية بسبب الدمار الفكري ،واحلضاري الذي أحدثته احلرب العاملية األوىل(.)1
وما أن ظهرت الطبعة األوىل للكتاب ( )6361حىت بدأ ينتشر يف الثقافات اإلنسانية املختلفة ،وقد ترجم إىل العربية
يف بداية الثمانينيات يف ترمجات متعددة.
-6وصف كل األلسنة ،والتأريخ هلا يف القيام بالتأريخ للعائالت اللغوية ،وإعادة بناء أصول كل عائلة.
-8البحث عن القوى الفاعلة بشكل دائم يف كل ألسنة ،واستنباط القوانني العامة اليت ميكن لنا أن نربر هبا كل
ظواهر التاريخ اخلاصة.
هم دوسوسري بوضع معامل نظريته اللسانية اصطدم ببعض املصطلحات اليت تتعلق -1-5لسان /كالم :حينما ّ
حبقيقة اللغة البشرية ،فتوجب عليه حتديد مفاهيمها ،والفصل بني مدلوالهتا ،وهذه املصطلحات هي:
- 1مناهج علم اللغة ،برجييته بارتيشت ،ص ،68 :ومباحث يف اللسانيات ،أمحد حساين ،ص.14:
][5
أ -اللغة ( :)langueملكة متيز اإلنسان عن غريه من الكائنات احلية ،وهي يف كليتها ظاهرة معقدة ،ومتجلية يف
عدة أشكال ،وغري متجانسة ،حبيث تندرج ضمن عدة جماالت فيزيائية ،وفيزيولوجية ونفسية( ،)1األمر الذي جيعل
البحث فيها صعبا بل مستحيال.
ب -اللسان ( :)langueهو النظام التواصلي الذي ميتلكه كل فرد متكلم /مستمع ينتمي إىل جمتمع لغوي ذي
(.)2
ثقافة ،وحضارة متميزة
وهبذا االعتبار فهو اجلزء االجتماعي من اللغة ،ألنه خيرج من نطاق األفراد ،فال يقوون على تعديله ،أو
حتريفه ،إذ هو موجود مبقتضى عقد اجتماعي ضمين بينهم ،لذلك مل يرتبط اللسان بالفرد ألنه متجاوز له(.)3
يأخذ الفرد اللسان قسرا عن اجلماعة اليت ينتمي إليها ،يقول سوسري" :ليس اللسان من وظائف الفرد ،بل
هو أثر يسجله بكيفية سلبية"(.)4
يتكلم الفرد لسان قومه دون أن يكون له دخل يف اختياره ،كما يتعلمه بطريقة سلبية فهو مفروض عليه
اجتماعيا.
ويتميز اللسان بأنه قار ال يتغري ،وإذا تغري فإنه يتغري ببطء شديد ،مما يؤهله أن يكون موضوعا للبحث اللساين عكس
اللغة ،والكالم.
جـ -الكالم :الكالم هو اإلجناز الفعلي الفردي للسان ،فهو قائم على إرادة الفرد ،ومرتبط بذكائه ألنه يقوم بإنتاج
تراكيب وفق ما يوفره اللسان من إمكانات التعبري عن األفكار ،واألغراض.
وهو خيتلف من فرد آلخر ،إذ لكل واحد من األفراد طريقته اخلاصة يف أداء اللسان ،وال يتحكم اجملتمع يف الكالم
الفردي ،إمنا يراقب فقط ما هو عام ،ومشرتك من قواعد النظام اللساين ،وكل فرد خيرج عن النظام اللساين للمجتمع
يعرضه جلملة من الصعوبات اليت حتول دون اندماجه يف البنية االجتماعية العامة(.)5
ومييز دوسوسري بني اللسان والكالم فيقول" :إننا إذ نفصل [اللسان] عن [الكالم] نفصل يف اآلن نفسه:
عما هو فردي ،ثانيا ،ما هو جوهري عما هو ثانوي وعرضي بدرجة من الدرجات".
أوال ما هو اجتماعي ّ
-1اللسانيات البنيوية ،منهجيات واجتاهات ،مصطفى غلفان ،ط ،4دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت ،1041ص.411 :
-2مباحث يف اللسانيات ،أمحد حساين ،ص.11 :
-3اللسانيات وأسسها املعرفية ،عبد السالم املسدي( ،د،ط) ،الدار التونسية للنشر ،تونس ،4968ص.400 :
-4دروس يف األلسنية العامة ،دوسوسري – ترمجة :صاحل الرقمادي وآخرون ،ط ،4الدار العربية للكتاب ،تونس ،4961ص.11 :
-5يف اللسانيات العامة ،تارخيها ،طبيعتها ،موضوعها ،مفاهيمها ،مصطفى غلفان ،ط ،4دار الكتاب اجلديد املتحدة ،املغرب ،1040ص.110 :
-دروس يف األلسنة العامة ،دوسوسري ،ترمجة :صاحل القرمادي وآخرين ،ط ،4دار الكتاب اجلديد املتحدة ،املغرب ،1040ص.110 :
][6
وخلّص متام حسان املقابلة بني اللسان ،والكالم يف النقاط اآلتية:
-الكالم يدرك بالسمع نطقا ،وبالبصر كتابة ،واللسان يدرك بالتأمل يف الكالم ،فالكالم هو املنطوق ،واملكتوب،
واللسان هو املخزون يف املتون اللغوية ،الكالم فردي ،واللسان عمل اجتماعي(.)1
وتعرض موقف دوسوسري من ثنائية لسان /كالم /إىل نقد كثري من الدارسني منهم ميخائيل باختني الذي
ّ
ذكر أن تعارض اللسان مع الكالم ،من وجهة نظر دوسوسري ،كما يتعارض اجملتمعي مع الفردي هو نواة الوهم عند
هذا األخري(.)2
-2-5تاريخي /آني :إن اللسان يف نظر دوسوسري هو واقع قائم بذاته من جهة ،وتطور تارخيي من جهة أخرى،
يف ظل هذا التصور للسان ،ميكن لنا التمييز بني النظام اللساين اآلين ،أي اللسان يف حالة زمنية حمددة ،وبني تاريخ
هذا النظام.
األمر الذي جعل دوسوسري مييز بني منهجني يف التعامل مع الظاهرة اللغوية.
-املنهج األول هو املنهج التارخيي ،الذي يهتم بالتحول املرحلي للسان عرب احلقب الزمنية املختلفة.
-املنهج الثاين ،هو املنهج الوصفي ،الذي يتناول الظاهرة كما هي يف الواقع اللغوي.
أ -لسانيات تاريخية ،تطورية ( )diachroniqueوهي الدراسة القائمة على التعقب التطوري للمسار التحويل للغة
عرب التاريخ.
ب -لسانيات سكونية ،آلية ( ، )synchroniqueوهي الدراسة اليت هتتم بالنظام اللساين يف ذاته ،ومن أجل ذاته
يف حالة لغة مبعزل عن التاريخ.
][7
مث رغبة منه يف توصيل حقيقة هذه الثنائية ،ميثل لذلك بالدراسة التشرحيية للنبات ،فهو يرى أننا إذا قطعنا
نبتة ما قطعا طوليا (عموديا) فإننا نالحظ منو األلياف يف حالة تطورية فقط ،أما إذا قطعناها قطعا أفقيا ،فإننا يف هذه
احلالة نتمكن من مالحظة مجيع األلياف يف جتمعها ،على سطح معني وحصر العالقات القائمة بينها ،ومن ههنا فإن
هذه احلقائق ال نستطيع إدراكها من القطع العمودي.
-3-5دال /مدلول :إن طبيعة املنهج العلمي الذي تبناه دوسوسري يف جمال البحث اللساين ،أفرز رؤية تعاملية متيل
إىل الشيء احملدد ،واملتجانس يف ذاته ،فكانت فكرة النظام اللساين ( )système linguistiqueالذي يتكون من
وحدات أساسية متوافقة فيما بينها ،تسمى هذه الوحدات بالعالمات اللسانية ( )signesومن ههنا فإن العالمة
اللسانية يف نظر دوسوسري هي وحدة النظام فهي العنصر اللساين الذي يتكون من صورة مسعية ( image
)linguistiqueومفهوم ( )conceptأي الفكرة اليت تقرتن بالصورة السمعية ،فمثال كلمة رجل هي عالمة لسانية
مكونة من صورة مسعية ،وهو اإلدراك النفسي لتتابع (ر-ج-ل) ومفهوم ،وهو جمموع السمات الداللية (حي-
ناطق -عاقل -إنسان).
فإن التتابع الصويت إذا أخذ على حدة فإنه سوف ال يكون له عالمة لسانية مستقلة ،فما هو ترتيب ألصوات جمردة
ليس إال .كما أن السمات الداللية اليت تكون مفهوم الرجل ال تشكل عالمة لسانية مبفردها ،فهذا يقتضي االحتاد
التام بني الصورة السمعية ،واملفهوم لتكوين العالمة اللسانية.
فيسمى عالمة لسانية هذا املركب املتكون من املفهوم ،والصورة السمعية ،وميكن لنا متثيله بالشكل التايل:
مفهوم
صورة سمعية
مث يصرح دوسوسري باإلبقاء على مصطلح العالمة للداللة على الكل وتعويض /مفهوم /و/صورة مسعية /بلفظيت دال
ومدلول ( ،)signifiant/ signifiéويرى دوسوسري أن أفضلية هاذين اللفظني أهنما يدالن على املواجهة اليت
تفصلها سواء فيما بينهما ،أو من الكل الذي جيمعهما.
إن العالمة اللسانية – انطالقا من هذا التصور -هي مركب يتكون من وجهتني دال ،ومدلول يستحيل الفصل
بينهما ،ألهنما يرتبطان بعالقة تواضعية ،ويرى دوسوسري أن هذه العالقة اليت تربط بني الدال ،واملدلول هي عالقة
اعتباطية ( ،)arbitraireأي أن الرباط الذي جيمع بني الدال ،واملدلول ملن نوع اعتباطي ،أي هو من قبيل التواطؤ،
واإلصطالح بني الناس ،وهذا ما أقر به معظم الفالسفة القدامى ،لكن اجلديد هو أن طبيعة الدليل بكامله هو بدورها
اعتباطية أو تعسفية عند دوسوسري ،ويطلق على الدليل اجملموع الناتج من اشرتاك:
وكالمها اعتباطي ألن األول يفرضه اجملتمع على املتكلمني بصفة تعسفية ،أو باملواضعة ،والثاين راجع إىل التجربة
اللغوية ،وإىل اإلدراك احلسي.
فمثال فكرة "أخت" ( )sœurال تربطها أي عالقة داخلية جبموع األصوات التالية أخت ،sœur ،واليت تلعب دور
الدال فقط ،حبيث ميكن متثيلها ،والتعبري عنها بأية لغة أخرى كرمز احلداد ،مثال :فهو أسود يف أوروبا ،وأبيض يف
الصني ،والدليل على ذلك هو وجود اختالفات يف هذه التسمية بني اللغات.
لكن ماذا يقصد دوسوسري بكلمة ،arbitraireففي نظره ،أهنا تعين أن الدليل غري معلل ( )immotivéأي أنه
اعتباطي بالنسبة إىل الدال الذي ال ميت إليه بصلة تستند إىل الواقع ،فاالستعمال وحده هو الذي حيدد ذلك وليس
الواقع ،وال حىت املتكلم الذي ال ميكنه تغيري العالمات الثابتة أو التابعة جلماعة لغوية ما.
وهناك من اعرتض على ما جاء به دوسوسري من مفاهيم (بنفنيسنت) يف كتابه ( problèmes de
)linguistique généraleمفسرا ،وناقدا ومن القضايا اليت استقطبت اهتمامه العالمة ومفهومها ،كما يتصوره
دوسوسري.
يرى ب نفينيست أن احلكم الذي تبناه دوسوسري خاطئ بالرغم من أنه يركز على النطاق النفسي لتوحد الدال
واملدلول ،فإنه ضمنيا يوجد طرف ثالث أساسي يف هذا التوحد ،فيالحظ بنفينيست أن هناك تناقضا يف تصور
دوسوسري للعالمة ،ألنه يف تعريفه للعالمة ،يؤكد أن العالمة ال تربط بني شيء واسم ،بل بني مفهوم وصورة مسعية ،أو
دال ،ومدلول ،وأن العالقة اليت تربط بني الدال ،واملدلول هي عالقة اعتباطية ،فاالعتباطية يف نظر بنفنيست ليست
بني الدال ،واملدلول وإمنا بني الدال ،والشيء املوجود يف الواقع اخلارجي.
خيلص بنفينيست من ذلك أن الرابط اجلوهري بني الدال ،واملدلول ليس اعتباطيا بل العالقة هنا عالقة
تالزمية أي أن أحدمها سبب وجود اآلخر ،ما هو اعتباطي هو وقوع دال معني على شيء ما يف الواقع اخلارجي،
فاالعتباطية حينئذ ليست بني الدال ،واملدلول ،بل بني الدال ،والشيء الذي حتيل إليه العالمة أي املرجع(.)1
-4-5محور ركني /محور استبدالي :ترتبط هذه الثنائية بالعالقات الذهنية بني الوحدات اليت تكون احلدث
اللساين عند املتكلم/املستمع للغة ،وهي تتفرع إىل فرعني:
/6العالقات االستبدالية ( )rapports paradigmatiquesواليت كانت يف املباحث األولية لدى دوسوسري بـ
العالقات الرتتيبية (.)rapports associatifs
-6السيميائية عند دوسوسير :ليس غريبا ،وال بدعة إن قلنا يف حق دوسوسري أنه أول من نبه على إنشاء هذا
العلم اجلديد ،ولقد فعل ذلك حني خصص فصال صغريا ملكانة اللغة بني احلوادث اإلنسانية ،ومساها السيميولوجيا
( )sémiologieولئن اقتبس املصطلح من الكلمة اإلغريقية semeionاليت تدل على العالمة فإن تفكريه حول
اللغة أدى به إىل استنتاجني هامني:
-أوهلما" :إن اللغة ما هي إال نظام عالمات تعرب عن أفكار ،ومن مثة فإن هذا النظام يشبه األنظمة األخرى مثل
الكتابة ،ولغة الصم ،والبكم ،والشعائر الرمزية ،وعبارات اجملاملة ،واإلشارات البحرية ..اخل ،أما أمهية اللغة اإلنسانية
فإهنا راجعة إىل كثرة شيوعها ،واستعماهلا بني الناس.
-وثانيهما" :أن اللسانيات -اليت هي دراسة اللغة اإلنسانية مبعناها العادي -ليست سوى جزء من هذا العلم العام
"الذي خيتص بدراسة كل أنظمة العالمات :اللسانية وغري اللسانية" ،حبيث أن القوانني اليت قد تكشف عنها
السيميولوجيا أو تتوصل إليها هي صاحلة ،وقابلة للتطبيق على اللغة نفسها.
لكن دو سوسري مل يذهب إىل أبعد من هذا ،أي أنه مل يتجاوز حتديد موضوع علم السيميولوجيا اجلديد،
وعالقته باللسان يات عالقة احتواء لنظام خاص يف نظام عام ،والسبب يف ذلك راجع إىل اهتمامه األصلي بتعريف
اللسانيات العامة وضبط ميادين حبثها.
ومما ال ريب فيه أن هذه اإلرهاصات السوسورية األوىل هي اليت سوف تفتح أبواب البحث ،وآفاق التفكري يف كل ما
يتعلق بالسيميولوجيا ،وبأنظمة العالمات على اختالف أنواعها ،وسوف ينشأ عنها اجتاهان سيميولوجيان:
ومبعىن أخر ،فإن السيميولوجيا هتتم باحلوادث املرتبطة حباالت الوعي لدى املستقبل واملرسل معا.
وانطالقا من وجوب فكرة االتصال بني املرسل ،واملرسل إليه ،فقد مت التوصل إىل التمييز بني الوحدات املبنية
على أساس االتصال وتسمى العالمات ( )signesوالوحدات اخلالية منها تسمى املؤشرات.
-والثاين هو اجتاه سيميولوجية الداللة ( )sémiologie de significationويتزعمه روالن بارث بأحباث قيمة
نشرت يف كتب عديدة منها "درجة الصفر يف الكتابة" (.)6318
خالف االجتاه األول فإن االجتاه الثاين يوسع من مفهوم السيميولوجيا حبيث ال مييز أصحابه بني الـ signe
والـ indiceمن جهة ويأخذون بعني االعتبار يف كل دراسة لنظام العالمات ظاهرة الداللة السياقية
( )connotationsمن جهة أخرى.
فإذا ما رأينا -مثال -عامال حيمل قبعة معينة فهذا يعين أن تلك القبعة هي مؤشر كحالة اجتماعية معينة ،لكن قد
حيملها الربجوازي ليبلغ شيئا ما ،ونفس األمر يتعلق بالكلمات أيضا ،إذ هي حتمل دالالت أكثر مما منحتها
القواميس ،واجلماعات اللغوية معا .وخري مثال على ذلك هي كلمة ،indigèneفتعريفها يف القواميس الفرنسية يعين
كل ما هو "أهلي" أو "بلدي" مث حلقت هبا ،مع جميء االستعمار دالالت ذات الصيغة العنصرية حىت صار الفرنسي
املتوسط ال يقبل بتاتا أن ينعت هبذه الصفة .نتيجة هذا كله أن املعىن املمنوح من طرف املعاجم اللغوية ليس هو املعىن
الوحيد بل إنه خيضع دائما للتحول طبقا للعامل االجتماعي بواسطة العالمات اللسانية اليت هي اجتماعية بالطبع.
تصنف العالقات حسب نوع العالقة القائمة بني مضموهنا وشكلها ،ما يفضي إىل ثالثة أسر كبرية من العالمات
وهي :األيقون ،والرمز ،واملؤشر.
][11
-1-7األيقون ( :)icôneعالمة تتسم بوجود عالقة تشابه بني الفكرة اليت تتضمنهاـ والشكل املقرتن هبذه
الفكرة ،وهكذا فإن صورة عود الثقاب الذي يف رأسه هليب املتضمن يف إشارات املرور ،هي صورة أيقونية ألن
املضمون الذي حتمله الصورة "احلذر من النار" اليت قد يتسبب يف إشعاهلا بقايا سجائر ألحد السائقني ،قد أشري إليها
يف الشكل وهو اللهيب يف رأس عود الثقاب.
-2-7الرمز :عالمة ال نتعرف فيها على رابط منطقي بديهي بني املضمون ،والشكل ،وتع ّد ّ
جل كلمات اللغة
رموزا النعدام الرابط املنطقي بينهما ،وبني ما حتيل إليه من مسميات مثل كلمة "قط" اليت تنعدم فيها أية عالقة تشابه
بينها وبني احليوان الذي يسمى "قط" ،لذلك اختلف اسم هذا احليوان من لغة ألخرى فهو يف اإلجنليزية " "catويف
اإلسبانية " ،"gatoويف الروسية "."koska
-3-7المؤشر :عالمة نتعرف فيها على "رابط جتاور" بني مضموهنا ،وشكلها ،ويؤدي املؤشر وظيفة العالمة ألن
وجوده املادي يف بيئتنا يشري إىل فكرة مرتبطة هبذا الوجود املادي ،وهبذا الشكل مثل :أثر أمحر الشفاه على حافة
كوب يدل على أن سيدة قد شربت على األرجح من هذا الكوب .ومثل جيوب بنية حتت عيين زميل تدل على أنه
أمضى ليلة بكاملها يف العمل( ،)1فأمحر الشفاه ،واجليوب يع ّدان من العالمات املؤشرة.
-1املعجمية -،علم الداللة املعجمي ، -آالن بولغري ،ترمجة :هدى مقنص ،مركز الدراسات العربية للرتمجة ،ص.11 :
][12