You are on page 1of 12

‫المحاضـرة الثالثـة في اللسانيات العامة‪ ،‬المجموعة األولى‪ ،‬السنة الثانية‪ ،‬الشعبة األدبية‪.

‬‬

‫أ‪.‬حسـن العايب‪.‬‬

‫علم اللسانيات الحديث‪ :‬إن اللسانيات علم ميتلك كل اخلصوصيات املعرفية اليت متيزه عن سواه من العلوم اإلنسانية‬
‫األخرى من حيث األسس الفلسفية واملنهج واملفاهيم واالصطالحات‪.‬‬

‫غري أن ما تقتضيه الضرورة العلمية هو أنه البد لكل علم من موضوع يعد مادته اليت توضع إلجراءاته‬
‫التطبيقية‪ ،‬وموضوع اللسانيات هو اللسان‪.‬‬

‫ومن البديهي كما هو شائع يف التصور العلمي للفكر اإلنساين أن حيدد العلم موضوعه حتديدا دقيقا يف إطاره‬
‫الت ارخيي‪ ،‬واملعريف‪ ،‬قبل أن حيدد نفسه‪ ،‬وما كان ذلك إال ألن موضوع العلم سابق للعلم يف الوجود‪ ،‬إذ لوال وجود‬
‫الظاهرة ما كان العلم هبا‪ .‬ومن هنا يتقدم –إلزاما‪ -‬تعريف العلم ملوضوعه على تعريفه لنفسه‪ .‬ولذلك جيدر بنا حنن يف‬
‫نعرف اللسانيات‪.‬‬
‫نعرف اللسان قبل أن ّ‬
‫هذا املقام أن ّ‬
‫‪ -1‬اللسان في االصطالح‪ :‬إذا ما نظرنا نظرة عجلى إىل الرتاث الفكري العريب جند أغلب الدارسني يستعملون‬
‫مصطلح اللسان‪ ،‬ويعنون به النظام التواصلي املشرتك بني أفراد اجملتمع يف البيئة اللغوية املتجانسة‪ ،‬وهم إذا استعملوا‬
‫أحيانا مصطلح ‪/‬اللغة‪ /‬فيعنون به هلجة معينة‪ ،‬أو حالة نطقية خمصوصة(‪ .)1‬فاللسان يف الفكر العريب هو موضوع‬
‫الدرس اللغوي وجند ذلك جليا عند اللغويني الدارسني القدماء نذكر منهم‪:‬‬

‫أ‪ -‬الفارابي‪( :‬ت ‪333‬هـ) إذ يقول يف هذا الشأن‪" :‬علم اللسان ضربان‪ :‬أحدمها حفظ األلفاظ الدالة عند أمة ما‪،‬‬
‫وعلى ما يدل عليه شيء منها‪ ،‬والثاين قوانني تلك األلفاظ (‪ ،)...‬إن األلفاظ الدالة يف لسان كل أمة ضربان مفردة‬
‫ومركبة (‪ )...‬وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى‪ :‬علم األلفاظ املفردة‪ ،‬وعلم األلفاظ املركبة‪ ،‬وعلم‬
‫قوانني األلفاظ عندما تكون مفردة‪ ،‬وقوانني األلفاظ عندما تركب‪ ،‬وقوانني تصحيح الكتابة‪ ،‬وقوانني تصحيح القراءة‪،‬‬
‫وقوانني تصحيح األشعار"(‪.)2‬‬

‫يستشف من خالل هذا الطرح أن الفارايب كان على دراية عميقة بطبيعة اللسان باعتباره املوضوع الوحيد‬
‫ألي دراسة تسعى إىل استكشاف القوانني الضمنية اليت تتحكم يف بنية الظاهرة اللغوية‪.‬‬

‫‪ - 1‬أنظر احملاضرة األوىل‪.‬‬


‫‪ - 2‬أنظر مباحث يف اللسانيات‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر ‪ ،4991‬ص‪.41 :‬‬
‫]‪[1‬‬
‫ب‪ -‬ابن خلدون‪ :‬جند مصطلح اللسان كما سبق ذكره(‪ ،)1‬بوصفه موضوعا للدراسة العلمية شائعا‪ ،‬ومألوفا عند ابن‬
‫خلدون إذ أنه أفرد فصال يف مقدمته عنونه بـ "يف علوم اللسان العريب" مث أدرج حتت هذا العنوان‪ :‬علم النحو‪ ،‬علم‬
‫(‪.)2‬‬
‫اللغة‪ ،‬علم البيان‪ ،‬وعلم األدب‬

‫إن مصطلح اللسان (‪ )langue‬يدل على نظام تواصلي قائم بذاته‪ ،‬وهذا النظام ميتلكه كل فرد‬
‫متكلم‪/‬مستمع ينتمي إىل جمتمع له خصوصيات ثقافية‪ ،‬وحضارية متجانسة‪ ،‬ويشارك أفراد يف عملية االتصال‪ .‬وهلذا‬
‫النظام أبعاده الصوتية‪ ،‬والرتكيبية‪ ،‬والداللية‪ ،‬وهو من ههنا الذاكرة التواصلية املشرتكة بني أفراد اجملتمع‪ ،‬وهي الذاكرة‬
‫اليت ميكن هلا أن توصف بالعربية‪ ،‬أو الفرنسية‪ ،‬أو اإلجنليزية‪ ،‬فيقال اللسان العريب‪ ،‬واللسان الفرنسي‪ ،‬واللسان‬
‫اإلجنليزي‪.‬‬

‫وحينما ينجز هذا املخزون املشرتك يف الواقع الفعلي‪ ،‬أي حينما يتحول من املوجود بالقوة إىل املوجود بالفعل‬
‫يصبح كالما (‪ )parole‬أي اإلجناز الفعلي للسان يف الواقع‪.‬‬

‫فاللسان يف جوهره أصوات‪ ،‬واألصوات عالمات ترتابط منسجمة يف تكامل حبيث تشكل بنية هي البنية الصوتية اليت‬
‫تقرتن مبدلوهلا لتحقيق العملية اإلبالغية عن طريق البنية الرتكيبية‪.‬‬

‫‪ -2‬مصطلح اللسانيات‪ :‬ظهر مصطلح اللسانيات أول ما ظهر يف أملانيا (‪ ،)linguistik‬مث استعمل يف فرنسا‬
‫ابتداء من سنة ‪6281‬م‪ ،‬مث يف إجنلرتا ابتداء من سنة ‪6211‬م‪.‬‬

‫اللسانيات هي الدراسة العلمية‪ ،‬واملوضوعية للسان البشري‪ ،‬من خالل األلسنة اخلاصة بكل جمتمع‪ ،‬فهي‬
‫دراسة للسان البشري‪ ،‬وتتميز بالعلمية‪ ،‬واملوضوعية وسنقف عند هاتني امليزتني‪:‬‬

‫أ‪ -‬العلمية‪ :‬نسبة إىل العلم‪ ،‬وهو يوجه بوجه عام املعرفة وإدراك الشيء على ما هو عليه‪.‬‬

‫وبوجه خاص‪ ،‬دراسته ذات موضوع حمدد‪ ،‬وطريقة ثابتة‪ ،‬وتنتهي عند جمموعة من القوانني‪:‬‬

‫والعلم ضربان‪:‬‬

‫‪ -‬نظري‪ :‬حياول تفسري الظواهر‪ ،‬وبيان القوانني اليت حتكمها‪.‬‬

‫‪ -‬تطبيقي‪ :‬يرمي إىل تطبيق القوانني النظرية على احلاالت اجلزئية‪.‬‬

‫‪ - 1‬أنظر احملاضرة األوىل‪.‬‬


‫‪ - 2‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪:‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ب‪ -‬الموضوعية‪ :‬نسبة إىل املوضوعي‪ ،‬وهو مشتق من املوضوع‪ ،‬أي كل ما يوجد يف األعيان‪ ،‬والعامل اخلارجي‪ ،‬يف‬
‫مقابل العامل الداخلي أو الذات‪ ،‬واملوضوعي هو ما تتساوى حاالته عند مجيع الدارسني على الرغم من اختالف‬
‫الزوايا اليت يتناولون من خالهلا املوضوع‪ .‬ومن ههنا وجب أن تكون احلقائق العلمية مستقلة عن قائليها‪ ،‬بعيدة عن‬
‫التأثر بأهوائهم‪ ،‬فتتحقق يف البحث العلمي املوضوعية‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬فاملوضوعية حينئذ هي‪ :‬طريقة العقل الذي يتعامل‬
‫مع األشياء على ما هي عليه فال يشوهها بنظرة ضيقة‪ ،‬أو حتيز ذايت(‪.)1‬‬

‫ونعين بالدراسة العلمية البحث الذي يستخدم األسلوب العلمي املعتمد على املقاييس التالية‪:‬‬

‫‪ -6‬مالحظة الظاهرة‪ ،‬والتجريب‪ ،‬واالستقراء‪.‬‬

‫‪ -8‬االستدالل العقلي‪ ،‬والعمليات االفرتاضية‪ ،‬واالستنتاجية‪.‬‬

‫‪ -3‬استعمال النماذج‪ ،‬والعالئق الرياضية لألنساق اللسانية مع املوضوعية املطلقة‪.‬‬

‫‪ -3‬الغاية المتوخاة من البحث اللساني‪ :‬ميكن لنا حصر األهداف اليت تسعى الدراسة اللسانية إىل حتقيقها فيما‬
‫يلي‪:‬‬

‫‪ -6‬تسعى اللسانيات إىل معرفة أسرار اللسان من حيث هو ظاهرة إنسانية عامة يف الوجود البشري‪.‬‬

‫‪ -8‬استكشاف القوانني الضمنية اليت تتحكم يف بنيته اجلوهرية‪.‬‬

‫‪ -3‬البحث عن السمات الصوتية‪ ،‬والرتكيبية‪ ،‬والداللية اخلاصة للوصول إىل وضع قواعد كلية‪.‬‬

‫‪ -4‬حتديد خصائص العملية التلفظية‪ ،‬وحصر العوائق العضوية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬واالجتماعية اليت تعوق سبيلها(‪.)2‬‬

‫‪ -4‬مستويات التحليل اللساني‪ :‬مما ال ريب فيه أن طريقة اإلجراء الوصفي والتحليل ختضع منهجيا إىل طبيعة‬
‫املوضوع الذي يشكل مادة البحث‪ ،‬ويتجلى موضوع اللسانيات يف ثالثة مظاهر (أصوات‪ ،‬تركيب‪ ،‬دالالت)‪ ،‬ومن‬
‫ههنا فإن التحليل اللساين يظهر يف ثالثة مستويات أيضا‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ -1-4‬المستوى الصوتي‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬

‫أ‪ -‬طبيعي‪ :‬ويتكون من جانبني‪:‬‬

‫‪ - 1‬مباحث يف اللسانيات العامة‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ص‪ 41 :‬ومناهج علم اللغة من هرمان باول حىت ناعوم تشومسكي‪ ،‬برجييته بارتشت‪ ،‬ترمجة‪ :‬سعيد حسن‬
‫حبريي‪ ،‬مؤسسة املختار‪ ،‬مصر ‪ ،1001‬ص‪.111 :‬‬
‫‪ - 2‬مباحث يف اللسانيات‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ص‪.41 :‬‬
‫]‪[3‬‬
‫‪-‬جانب فيزيولوجي‪ :‬يتعلق باجلانب النطقي (جهاز النطق)‪ ،‬واجلانب السمعي (جهاز السمع)‪.‬‬

‫‪ -‬جانب فيزيائي‪ :‬يتعلق باألصوات يف مظهرها الفيزيائي‪ ،‬أي حينما تتحول الذبذبات الصوتية إىل أمواج عرب األثري‪.‬‬

‫ب‪ -‬لغوي‪ :‬يتعلق باألصوات اللغوية بوصفها احلامل املادي لألفكار‪ ،‬والدالالت أثناء اإلنتاج الفعلي للكالم يف‬
‫الواقع اللغوي‪.‬‬

‫يف رحاب هذا التصنيف ظهر علمان فرعيان يتناوالن اجلانبني املشار إليهما أعاله‪:‬‬

‫‪ -6‬علم األصوات العام‪ )phonétique( :‬يدرس اجلانب الفيزيولوجي‪ ،‬والفيزيائي‪.‬‬

‫‪ -8‬علم األصوات الوظيفي‪ )phonologie( :‬يدرس األصوات اللغوية من حيث هي عناصر وظيفية‪.‬‬

‫‪ -2-4‬المستوى الداللي‪ :‬يتعلق بالدالالت اللغوية يف لسان ما‪ ،‬وله علم خاص ينعت بـ "علم الداللة"‬
‫(‪.)sémantique‬‬

‫‪ -3-4‬المستوى التركيبي‪ :‬يرتبط بالعالئق الوظيفية للبنية الرتكيبية يف لسان ما‪ ،‬وله علم فرعي ينعت بعلم الرتكيب‬
‫(‪.)syntax‬‬

‫إن أقل الناس إملام بالتحول املرحلي للنظرية اللسانية يف الفكر اإلنساين املعاصر يدرك ال حمالة أن اللسانيات‬
‫أصبحت مركزا استقطاب بال منازع‪ ،‬فكل العلوم أصبحت تلتجئ إليها سواء كان ذلك يف مناهج حبثهما‪ ،‬أم يف‬
‫تقدير حصيلتها املعرفية‪ ،‬فإذا هي قطب الرحى يف احلركة التأسيسية لكثري من مرتكزات الفكر اإلنساين املعاصر‪ ،‬ال‬
‫من حيث تأصيل املنهج‪ ،‬وتطوير طرائق إخصابه فحسب‪ ،‬بل من حيث أهنا تتخذ اللسان البشري مادة له‪،‬‬
‫وموضوعا‪ ،‬األمر الذي أضفى على اللسانيات طابع الشمولية واالتساع‪ ،‬وما كان ذلك إال ألن اللغة عنصر ثابت‬
‫ومشرتك بني مجيع العلوم اإلنسانية‪ ،‬ولذلك فإن اللسانيات تتقاطع منهجيا مع معارف إنسانية متعددة‪ ،‬نتج عن هذا‬
‫التقاطع ظهور فروع خارجية للسانيات من هذه الفروع ما يلي‪:‬‬

‫‪ -5‬لسانيات دوسوسير‪ :‬إن النظرية اللسانية املعاصرة أخذت خصوصياهتا املميزة منذ أن ظهرت إىل الوجود األفكار‬
‫العلمية اليت جاء هبا دوسوسري يف جمال البحث اللساين‪ ،‬ومن ههنا يعد دوسوسري مؤسس اللسانيات يف الثقافة‬
‫اإلنسانية املعاصرة دون سواه‪ ،‬فمن هو دوسوسري؟‬

‫ولد دوسوسري سنة ‪ 6211‬جبنيف‪ ،‬من أسرة عريقة اشتهر أفرادها بالتنوع يف العلوم الطبيعية‪ ،‬والدقيقة‪.‬‬

‫وعرف عن دوسوسري ول وعه الشديد بالدراسات اللغوية األمر الذي جعله يهتم بدراسة اللغتني اليونانية‪،‬‬
‫والسنسكريتية‪ ،‬فضال عن إتقانه للغة الفرنسية‪ ،‬واإلجنليزية‪ ،‬واألملانية‪ ،‬والالتينية‪.‬‬
‫]‪[4‬‬
‫ويف سنة ‪ 6212‬أهنى مشروع البحث الذي حيمل عنوان‪ :‬مذكرة يف النظام البدائي للصوائت يف اللغات‬
‫اهلندو أوروبية ‪mémoire sue le système primitif des voyelles dans les langue Indo-‬‬
‫‪ ،Européennes‬وقد حقق له هذا البحث –وهو ال يتجاوز ‪ 86‬سنة‪ -‬شهرة عاملية رافقته حىت وفاته‪ ،‬بل ظلت‬
‫حاضرة يف الثقافة اللسانية بعد وفاته‪ .‬وكان هبذا العمل قد حدد نظرية النحو املقارن حبيث عاجل أصعب مشكلة من‬
‫مشكالهتا‪ ،‬معتمدا على العالقات الداخلية أو الوظيفية ومبتعدا عن الوصف الصويت الذي كان مسيطرا على كل‬
‫الدراسات املتعلقة بأصوات اللغة‪.‬‬

‫ويف سنة ‪ 6221‬تقدم بأطروحته اليت كان موضوعها‪ :‬استعمال املضاف املطلق يف اللغة السنسكريتية‬
‫(‪ )l'emploi du génitif absolu en sanscrite‬وهو حبث حتصل فيه على درجة الدكتوراه بدرجة ممتاز من‬
‫جامعة اليبسيك‪ .‬وبعد وفاته سنة ‪ ،6363‬تكفل اثنان من تالمذته ومها شارل بايل (‪ )C. Bally‬وسيشهاي‬
‫(‪ )Sechehaye‬فجمع األمايل اليت كانت مدونة عند تالمذته من سنة ‪ 6313‬إىل سنة ‪ .6366‬ومجعت يف كتاب‬
‫ظهر إىل اإلنسانية سنة ‪ 6361‬بعنوان دروس يف اللسانيات العامة (‪.)cours de linguistique générale‬‬

‫لقد أثار هذا الكتاب الكثري من االهتمام لدى املفكرين‪ ،‬والدارسني آنذاك‪ ،‬على الرغم من الظروف غري‬
‫املواتية بسبب الدمار الفكري‪ ،‬واحلضاري الذي أحدثته احلرب العاملية األوىل(‪.)1‬‬

‫وما أن ظهرت الطبعة األوىل للكتاب (‪ )6361‬حىت بدأ ينتشر يف الثقافات اإلنسانية املختلفة‪ ،‬وقد ترجم إىل العربية‬
‫يف بداية الثمانينيات يف ترمجات متعددة‪.‬‬

‫وتنحصر مهمة اللسانيات يف نظر دوسوسري يف اجملاالت التالية‪:‬‬

‫‪ -6‬وصف كل األلسنة‪ ،‬والتأريخ هلا يف القيام بالتأريخ للعائالت اللغوية‪ ،‬وإعادة بناء أصول كل عائلة‪.‬‬

‫‪ -8‬البحث عن القوى الفاعلة بشكل دائم يف كل ألسنة‪ ،‬واستنباط القوانني العامة اليت ميكن لنا أن نربر هبا كل‬
‫ظواهر التاريخ اخلاصة‪.‬‬

‫‪ -3‬متيز اللسانيات نفسها عن باقي العلوم‪ ،‬وحتديدها لنفسها بنفسها‪.‬‬

‫هم دوسوسري بوضع معامل نظريته اللسانية اصطدم ببعض املصطلحات اليت تتعلق‬‫‪ -1-5‬لسان‪ /‬كالم‪ :‬حينما ّ‬
‫حبقيقة اللغة البشرية‪ ،‬فتوجب عليه حتديد مفاهيمها‪ ،‬والفصل بني مدلوالهتا‪ ،‬وهذه املصطلحات هي‪:‬‬

‫‪ - 1‬مناهج علم اللغة‪ ،‬برجييته بارتيشت‪ ،‬ص‪ ،68 :‬ومباحث يف اللسانيات‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ص‪.14:‬‬
‫]‪[5‬‬
‫أ‪ -‬اللغة (‪ :)langue‬ملكة متيز اإلنسان عن غريه من الكائنات احلية‪ ،‬وهي يف كليتها ظاهرة معقدة‪ ،‬ومتجلية يف‬
‫عدة أشكال‪ ،‬وغري متجانسة‪ ،‬حبيث تندرج ضمن عدة جماالت فيزيائية‪ ،‬وفيزيولوجية ونفسية(‪ ،)1‬األمر الذي جيعل‬
‫البحث فيها صعبا بل مستحيال‪.‬‬

‫ب‪ -‬اللسان (‪ :)langue‬هو النظام التواصلي الذي ميتلكه كل فرد متكلم‪ /‬مستمع ينتمي إىل جمتمع لغوي ذي‬
‫(‪.)2‬‬
‫ثقافة‪ ،‬وحضارة متميزة‬

‫وهبذا االعتبار فهو اجلزء االجتماعي من اللغة‪ ،‬ألنه خيرج من نطاق األفراد‪ ،‬فال يقوون على تعديله‪ ،‬أو‬
‫حتريفه‪ ،‬إذ هو موجود مبقتضى عقد اجتماعي ضمين بينهم‪ ،‬لذلك مل يرتبط اللسان بالفرد ألنه متجاوز له(‪.)3‬‬

‫يأخذ الفرد اللسان قسرا عن اجلماعة اليت ينتمي إليها‪ ،‬يقول سوسري‪" :‬ليس اللسان من وظائف الفرد‪ ،‬بل‬
‫هو أثر يسجله بكيفية سلبية"(‪.)4‬‬

‫يتكلم الفرد لسان قومه دون أن يكون له دخل يف اختياره‪ ،‬كما يتعلمه بطريقة سلبية فهو مفروض عليه‬
‫اجتماعيا‪.‬‬

‫ويتميز اللسان بأنه قار ال يتغري‪ ،‬وإذا تغري فإنه يتغري ببطء شديد‪ ،‬مما يؤهله أن يكون موضوعا للبحث اللساين عكس‬
‫اللغة‪ ،‬والكالم‪.‬‬

‫جـ‪ -‬الكالم‪ :‬الكالم هو اإلجناز الفعلي الفردي للسان‪ ،‬فهو قائم على إرادة الفرد‪ ،‬ومرتبط بذكائه ألنه يقوم بإنتاج‬
‫تراكيب وفق ما يوفره اللسان من إمكانات التعبري عن األفكار‪ ،‬واألغراض‪.‬‬

‫وهو خيتلف من فرد آلخر‪ ،‬إذ لكل واحد من األفراد طريقته اخلاصة يف أداء اللسان‪ ،‬وال يتحكم اجملتمع يف الكالم‬
‫الفردي‪ ،‬إمنا يراقب فقط ما هو عام‪ ،‬ومشرتك من قواعد النظام اللساين‪ ،‬وكل فرد خيرج عن النظام اللساين للمجتمع‬
‫يعرضه جلملة من الصعوبات اليت حتول دون اندماجه يف البنية االجتماعية العامة(‪.)5‬‬

‫ومييز دوسوسري بني اللسان والكالم فيقول‪" :‬إننا إذ نفصل [اللسان] عن [الكالم] نفصل يف اآلن نفسه‪:‬‬
‫عما هو فردي‪ ،‬ثانيا‪ ،‬ما هو جوهري عما هو ثانوي وعرضي بدرجة من الدرجات"‪.‬‬
‫أوال ما هو اجتماعي ّ‬

‫‪ -1‬اللسانيات البنيوية‪ ،‬منهجيات واجتاهات‪ ،‬مصطفى غلفان‪ ،‬ط‪ ،4‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت ‪ ،1041‬ص‪.411 :‬‬
‫‪ -2‬مباحث يف اللسانيات‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ -3‬اللسانيات وأسسها املعرفية‪ ،‬عبد السالم املسدي‪( ،‬د‪،‬ط)‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس ‪ ،4968‬ص‪.400 :‬‬
‫‪ -4‬دروس يف األلسنية العامة‪ ،‬دوسوسري – ترمجة‪ :‬صاحل الرقمادي وآخرون‪ ،‬ط‪ ،4‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬تونس ‪ ،4961‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ -5‬يف اللسانيات العامة‪ ،‬تارخيها‪ ،‬طبيعتها‪ ،‬موضوعها‪ ،‬مفاهيمها‪ ،‬مصطفى غلفان‪ ،‬ط‪ ،4‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬املغرب ‪ ،1040‬ص‪.110 :‬‬
‫‪ -‬دروس يف األلسنة العامة‪ ،‬دوسوسري‪ ،‬ترمجة‪ :‬صاحل القرمادي وآخرين‪ ،‬ط‪ ،4‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬املغرب ‪ ،1040‬ص‪.110 :‬‬
‫]‪[6‬‬
‫وخلّص متام حسان املقابلة بني اللسان‪ ،‬والكالم يف النقاط اآلتية‪:‬‬

‫‪ -‬الكالم عمل‪ ،‬واللسان حدود هذا العمل‪.‬‬

‫‪ -‬الكالم سلوك‪ ،‬واللسان معيار هذا السلوك‪.‬‬

‫‪ -‬الكالم نشاط‪ ،‬واللسان قواعد هذا النشاط‪.‬‬

‫‪ -‬الكالم يدرك بالسمع نطقا‪ ،‬وبالبصر كتابة‪ ،‬واللسان يدرك بالتأمل يف الكالم‪ ،‬فالكالم هو املنطوق‪ ،‬واملكتوب‪،‬‬
‫واللسان هو املخزون يف املتون اللغوية‪ ،‬الكالم فردي‪ ،‬واللسان عمل اجتماعي(‪.)1‬‬

‫وتعرض موقف دوسوسري من ثنائية لسان‪ /‬كالم‪ /‬إىل نقد كثري من الدارسني منهم ميخائيل باختني الذي‬
‫ّ‬
‫ذكر أن تعارض اللسان مع الكالم‪ ،‬من وجهة نظر دوسوسري‪ ،‬كما يتعارض اجملتمعي مع الفردي هو نواة الوهم عند‬
‫هذا األخري(‪.)2‬‬

‫‪ -2-5‬تاريخي‪ /‬آني‪ :‬إن اللسان يف نظر دوسوسري هو واقع قائم بذاته من جهة‪ ،‬وتطور تارخيي من جهة أخرى‪،‬‬
‫يف ظل هذا التصور للسان‪ ،‬ميكن لنا التمييز بني النظام اللساين اآلين‪ ،‬أي اللسان يف حالة زمنية حمددة‪ ،‬وبني تاريخ‬
‫هذا النظام‪.‬‬

‫األمر الذي جعل دوسوسري مييز بني منهجني يف التعامل مع الظاهرة اللغوية‪.‬‬

‫‪ -‬املنهج األول هو املنهج التارخيي‪ ،‬الذي يهتم بالتحول املرحلي للسان عرب احلقب الزمنية املختلفة‪.‬‬

‫‪ -‬املنهج الثاين‪ ،‬هو املنهج الوصفي‪ ،‬الذي يتناول الظاهرة كما هي يف الواقع اللغوي‪.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬فإن اللسانيات – يف نظر دوسوسري‪ -‬تتفرع إىل فرعني‪:‬‬

‫أ‪ -‬لسانيات تاريخية‪ ،‬تطورية (‪ )diachronique‬وهي الدراسة القائمة على التعقب التطوري للمسار التحويل للغة‬
‫عرب التاريخ‪.‬‬

‫ب‪ -‬لسانيات سكونية‪ ،‬آلية (‪ ، )synchronique‬وهي الدراسة اليت هتتم بالنظام اللساين يف ذاته‪ ،‬ومن أجل ذاته‬
‫يف حالة لغة مبعزل عن التاريخ‪.‬‬

‫‪ -1‬العربية مبناها ومعناها‪ ،‬متام حسان‪ ،‬ص‪.11 :‬‬


‫‪ -2‬ميخائيل باختني‪ ،‬املركسية وفلسفة اللغة‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد البكري وميىن العيد‪ ،‬ط‪ ،4‬دار توبقال للنشر‪ ،‬املغرب ‪ ،4968‬ص‪ ،64 :‬وينظر اللغة‪ ،‬واللسان‪،‬‬
‫والعالمة‪ ،‬عند دوسوسري‪ ،‬يف ظل املصادر األصول‪ ،‬مصطفى غلفان ص‪.410 :‬‬

‫]‪[7‬‬
‫مث رغبة منه يف توصيل حقيقة هذه الثنائية‪ ،‬ميثل لذلك بالدراسة التشرحيية للنبات‪ ،‬فهو يرى أننا إذا قطعنا‬
‫نبتة ما قطعا طوليا (عموديا) فإننا نالحظ منو األلياف يف حالة تطورية فقط‪ ،‬أما إذا قطعناها قطعا أفقيا‪ ،‬فإننا يف هذه‬
‫احلالة نتمكن من مالحظة مجيع األلياف يف جتمعها‪ ،‬على سطح معني وحصر العالقات القائمة بينها‪ ،‬ومن ههنا فإن‬
‫هذه احلقائق ال نستطيع إدراكها من القطع العمودي‪.‬‬

‫‪ -3-5‬دال‪ /‬مدلول‪ :‬إن طبيعة املنهج العلمي الذي تبناه دوسوسري يف جمال البحث اللساين‪ ،‬أفرز رؤية تعاملية متيل‬
‫إىل الشيء احملدد‪ ،‬واملتجانس يف ذاته‪ ،‬فكانت فكرة النظام اللساين (‪ )système linguistique‬الذي يتكون من‬
‫وحدات أساسية متوافقة فيما بينها‪ ،‬تسمى هذه الوحدات بالعالمات اللسانية (‪ )signes‬ومن ههنا فإن العالمة‬
‫اللسانية يف نظر دوسوسري هي وحدة النظام فهي العنصر اللساين الذي يتكون من صورة مسعية ( ‪image‬‬
‫‪ )linguistique‬ومفهوم (‪ )concept‬أي الفكرة اليت تقرتن بالصورة السمعية‪ ،‬فمثال كلمة رجل هي عالمة لسانية‬
‫مكونة من صورة مسعية‪ ،‬وهو اإلدراك النفسي لتتابع (ر‪-‬ج‪-‬ل) ومفهوم‪ ،‬وهو جمموع السمات الداللية (حي‪-‬‬
‫ناطق‪ -‬عاقل‪ -‬إنسان)‪.‬‬

‫فإن التتابع الصويت إذا أخذ على حدة فإنه سوف ال يكون له عالمة لسانية مستقلة‪ ،‬فما هو ترتيب ألصوات جمردة‬
‫ليس إال‪ .‬كما أن السمات الداللية اليت تكون مفهوم الرجل ال تشكل عالمة لسانية مبفردها‪ ،‬فهذا يقتضي االحتاد‬
‫التام بني الصورة السمعية‪ ،‬واملفهوم لتكوين العالمة اللسانية‪.‬‬

‫فيسمى عالمة لسانية هذا املركب املتكون من املفهوم‪ ،‬والصورة السمعية‪ ،‬وميكن لنا متثيله بالشكل التايل‪:‬‬

‫مفهوم‬

‫صورة سمعية‬

‫مث يصرح دوسوسري باإلبقاء على مصطلح العالمة للداللة على الكل وتعويض ‪/‬مفهوم‪ /‬و‪/‬صورة مسعية‪ /‬بلفظيت دال‬
‫ومدلول (‪ ،)signifiant/ signifié‬ويرى دوسوسري أن أفضلية هاذين اللفظني أهنما يدالن على املواجهة اليت‬
‫تفصلها سواء فيما بينهما‪ ،‬أو من الكل الذي جيمعهما‪.‬‬

‫إن العالمة اللسانية – انطالقا من هذا التصور‪ -‬هي مركب يتكون من وجهتني دال‪ ،‬ومدلول يستحيل الفصل‬
‫بينهما‪ ،‬ألهنما يرتبطان بعالقة تواضعية‪ ،‬ويرى دوسوسري أن هذه العالقة اليت تربط بني الدال‪ ،‬واملدلول هي عالقة‬
‫اعتباطية (‪ ،)arbitraire‬أي أن الرباط الذي جيمع بني الدال‪ ،‬واملدلول ملن نوع اعتباطي‪ ،‬أي هو من قبيل التواطؤ‪،‬‬
‫واإلصطالح بني الناس‪ ،‬وهذا ما أقر به معظم الفالسفة القدامى‪ ،‬لكن اجلديد هو أن طبيعة الدليل بكامله هو بدورها‬
‫اعتباطية أو تعسفية عند دوسوسري‪ ،‬ويطلق على الدليل اجملموع الناتج من اشرتاك‪:‬‬

‫‪ -‬اللفظ‪ ،‬أو الصورة السمعية‪.‬‬


‫]‪[8‬‬
‫‪ -‬واملعىن‪ ،‬أو التصور الذهين‪.‬‬

‫وكالمها اعتباطي ألن األول يفرضه اجملتمع على املتكلمني بصفة تعسفية‪ ،‬أو باملواضعة‪ ،‬والثاين راجع إىل التجربة‬
‫اللغوية‪ ،‬وإىل اإلدراك احلسي‪.‬‬

‫فمثال فكرة "أخت" (‪ )sœur‬ال تربطها أي عالقة داخلية جبموع األصوات التالية أخت‪ ،sœur ،‬واليت تلعب دور‬
‫الدال فقط‪ ،‬حبيث ميكن متثيلها‪ ،‬والتعبري عنها بأية لغة أخرى كرمز احلداد‪ ،‬مثال‪ :‬فهو أسود يف أوروبا‪ ،‬وأبيض يف‬
‫الصني‪ ،‬والدليل على ذلك هو وجود اختالفات يف هذه التسمية بني اللغات‪.‬‬

‫لكن ماذا يقصد دوسوسري بكلمة ‪ ،arbitraire‬ففي نظره‪ ،‬أهنا تعين أن الدليل غري معلل (‪ )immotivé‬أي أنه‬
‫اعتباطي بالنسبة إىل الدال الذي ال ميت إليه بصلة تستند إىل الواقع‪ ،‬فاالستعمال وحده هو الذي حيدد ذلك وليس‬
‫الواقع‪ ،‬وال حىت املتكلم الذي ال ميكنه تغيري العالمات الثابتة أو التابعة جلماعة لغوية ما‪.‬‬

‫وهناك من اعرتض على ما جاء به دوسوسري من مفاهيم (بنفنيسنت) يف كتابه ( ‪problèmes de‬‬
‫‪ )linguistique générale‬مفسرا‪ ،‬وناقدا ومن القضايا اليت استقطبت اهتمامه العالمة ومفهومها‪ ،‬كما يتصوره‬
‫دوسوسري‪.‬‬

‫يرى ب نفينيست أن احلكم الذي تبناه دوسوسري خاطئ بالرغم من أنه يركز على النطاق النفسي لتوحد الدال‬
‫واملدلول‪ ،‬فإنه ضمنيا يوجد طرف ثالث أساسي يف هذا التوحد‪ ،‬فيالحظ بنفينيست أن هناك تناقضا يف تصور‬
‫دوسوسري للعالمة‪ ،‬ألنه يف تعريفه للعالمة‪ ،‬يؤكد أن العالمة ال تربط بني شيء واسم‪ ،‬بل بني مفهوم وصورة مسعية‪ ،‬أو‬
‫دال‪ ،‬ومدلول‪ ،‬وأن العالقة اليت تربط بني الدال‪ ،‬واملدلول هي عالقة اعتباطية‪ ،‬فاالعتباطية يف نظر بنفنيست ليست‬
‫بني الدال‪ ،‬واملدلول وإمنا بني الدال‪ ،‬والشيء املوجود يف الواقع اخلارجي‪.‬‬

‫خيلص بنفينيست من ذلك أن الرابط اجلوهري بني الدال‪ ،‬واملدلول ليس اعتباطيا بل العالقة هنا عالقة‬
‫تالزمية أي أن أحدمها سبب وجود اآلخر‪ ،‬ما هو اعتباطي هو وقوع دال معني على شيء ما يف الواقع اخلارجي‪،‬‬
‫فاالعتباطية حينئذ ليست بني الدال‪ ،‬واملدلول‪ ،‬بل بني الدال‪ ،‬والشيء الذي حتيل إليه العالمة أي املرجع(‪.)1‬‬

‫‪ -4-5‬محور ركني‪ /‬محور استبدالي‪ :‬ترتبط هذه الثنائية بالعالقات الذهنية بني الوحدات اليت تكون احلدث‬
‫اللساين عند املتكلم‪/‬املستمع للغة‪ ،‬وهي تتفرع إىل فرعني‪:‬‬

‫‪ /6‬العالقات االستبدالية (‪ )rapports paradigmatiques‬واليت كانت يف املباحث األولية لدى دوسوسري بـ‬
‫العالقات الرتتيبية (‪.)rapports associatifs‬‬

‫‪ - 1‬مباحث اللسانيات العامة‪ ،‬أمحد حساين‪ ،‬ص‪.14 :‬‬


‫]‪[9‬‬
‫‪ /8‬العالقات الركنية (‪ ،)rapports syntagmatiques‬مما ال ريب فيه هو أن العناصر اللسانية يف اخلطاب‬
‫املنطوق‪ ،‬أو املكتوب ختضع خضوعا إلزاميا لسلطة الطبيعة اخلطية للغة‪ ،‬فهي إذ ذاك ترتبط فيما بينها بعالقات ركنية‬
‫تقتضيها طبيعة اللسان اقتضاء‪ ،‬مما جيعل العناصر اللسانية أثناء العملية التلفظية‪ ،‬تتواىل‪ ،‬وتتالحق يف نسقية خطية‬
‫لتشكل البنية التسلسلية للخطاب‪ ،‬ويرتد ذلك يف جوهره إىل جمموعة السنن‪ ،‬أو القوانني اليت تعتمد يف اإلجراء‬
‫تكون املتوالية التلفظية‪ ،‬وذلك ما ينعت باحملور الركين (‪)l'axe syntagmatique‬‬
‫التأليفي بني العناصر املتعاقبة اليت ّ‬
‫الذي يتكون من عنصرين لسانيني فأكثر‪ ،‬وأن القيمة الداللية للعنصر اللساين تتحدد باملقابلة بني العناصر اللسانية‬
‫اليت تسبقه أو تلحقه أو هبما معا‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن الكلمات مبعزل عن اإلجناز الفعلي للخطاب‪ ،‬هي يف عالقة‬
‫تكون‬
‫قائمة على التشابه من حيث تركيب وحداهتا يف الذاكرة‪ ،‬وذلك ما يسميه دوسوسري بالعالقات الرتتيبية اليت ّ‬
‫احملور االستبدايل (‪.)l'axe paradigmatiques‬‬

‫‪ -6‬السيميائية عند دوسوسير‪ :‬ليس غريبا‪ ،‬وال بدعة إن قلنا يف حق دوسوسري أنه أول من نبه على إنشاء هذا‬
‫العلم اجلديد‪ ،‬ولقد فعل ذلك حني خصص فصال صغريا ملكانة اللغة بني احلوادث اإلنسانية‪ ،‬ومساها السيميولوجيا‬
‫(‪ )sémiologie‬ولئن اقتبس املصطلح من الكلمة اإلغريقية ‪ semeion‬اليت تدل على العالمة فإن تفكريه حول‬
‫اللغة أدى به إىل استنتاجني هامني‪:‬‬

‫‪ -‬أوهلما‪" :‬إن اللغة ما هي إال نظام عالمات تعرب عن أفكار‪ ،‬ومن مثة فإن هذا النظام يشبه األنظمة األخرى مثل‬
‫الكتابة‪ ،‬ولغة الصم‪ ،‬والبكم‪ ،‬والشعائر الرمزية‪ ،‬وعبارات اجملاملة‪ ،‬واإلشارات البحرية‪ ..‬اخل‪ ،‬أما أمهية اللغة اإلنسانية‬
‫فإهنا راجعة إىل كثرة شيوعها‪ ،‬واستعماهلا بني الناس‪.‬‬

‫‪ -‬وثانيهما‪" :‬أن اللسانيات‪ -‬اليت هي دراسة اللغة اإلنسانية مبعناها العادي‪ -‬ليست سوى جزء من هذا العلم العام‬
‫"الذي خيتص بدراسة كل أنظمة العالمات‪ :‬اللسانية وغري اللسانية"‪ ،‬حبيث أن القوانني اليت قد تكشف عنها‬
‫السيميولوجيا أو تتوصل إليها هي صاحلة‪ ،‬وقابلة للتطبيق على اللغة نفسها‪.‬‬

‫لكن دو سوسري مل يذهب إىل أبعد من هذا‪ ،‬أي أنه مل يتجاوز حتديد موضوع علم السيميولوجيا اجلديد‪،‬‬
‫وعالقته باللسان يات عالقة احتواء لنظام خاص يف نظام عام‪ ،‬والسبب يف ذلك راجع إىل اهتمامه األصلي بتعريف‬
‫اللسانيات العامة وضبط ميادين حبثها‪.‬‬

‫ومما ال ريب فيه أن هذه اإلرهاصات السوسورية األوىل هي اليت سوف تفتح أبواب البحث‪ ،‬وآفاق التفكري يف كل ما‬
‫يتعلق بالسيميولوجيا‪ ،‬وبأنظمة العالمات على اختالف أنواعها‪ ،‬وسوف ينشأ عنها اجتاهان سيميولوجيان‪:‬‬

‫‪ -‬األول هو اجتاه سيميولوجية االتصال (‪ )sémiologie de communication‬ويقوده إيريك بويزنس‬


‫(‪ )Buyssnes‬مبناصرة كل من جورج مونان (‪ )G. Mounin‬ولويس بريتو (‪ ،)Prieto‬فهؤالء كلهم ضيقوا كثريا‬
‫من مفهوم علم السيميولوجيا واشرتطوا يف كل عملية سيميولوجية وجوب اتفاق مسبق بني املرسل‪ ،‬واملرسل إليه‪،‬‬
‫]‪[10‬‬
‫واملستقبل أي ال بد من وجود نية االتصال لدى املتكلم‪ ،‬ونية إدراك الرسالة من طرف السامع أو املستقبل‪ ،‬أما‬
‫الوسائل‪ ،‬والعالمات األخرى فهي ال تدخل يف إطار السيميولوجيا ألهنا تفتقد إىل أهم عنصر أال وهو االتصال‬
‫اللساين‪.‬‬

‫يعرف السيميولوجيا كاآليت‪" :‬ميكن تعريفها كدراسة الوسائل االتصالية‪ ،‬أي‬


‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن بويزنس ّ‬
‫الوسائل املستعملة للتأثري يف الغري‪ ،‬واليت يشعر هبا الغري على أهنا كذلك"‪.‬‬

‫ومبعىن أخر‪ ،‬فإن السيميولوجيا هتتم باحلوادث املرتبطة حباالت الوعي لدى املستقبل واملرسل معا‪.‬‬

‫وانطالقا من وجوب فكرة االتصال بني املرسل‪ ،‬واملرسل إليه‪ ،‬فقد مت التوصل إىل التمييز بني الوحدات املبنية‬
‫على أساس االتصال وتسمى العالمات (‪ )signes‬والوحدات اخلالية منها تسمى املؤشرات‪.‬‬

‫‪ -‬والثاين هو اجتاه سيميولوجية الداللة (‪ )sémiologie de signification‬ويتزعمه روالن بارث بأحباث قيمة‬
‫نشرت يف كتب عديدة منها "درجة الصفر يف الكتابة" (‪.)6318‬‬

‫خالف االجتاه األول فإن االجتاه الثاين يوسع من مفهوم السيميولوجيا حبيث ال مييز أصحابه بني الـ ‪signe‬‬
‫والـ‪ indice‬من جهة ويأخذون بعني االعتبار يف كل دراسة لنظام العالمات ظاهرة الداللة السياقية‬
‫(‪ )connotations‬من جهة أخرى‪.‬‬

‫فإذا ما رأينا ‪-‬مثال‪ -‬عامال حيمل قبعة معينة فهذا يعين أن تلك القبعة هي مؤشر كحالة اجتماعية معينة‪ ،‬لكن قد‬
‫حيملها الربجوازي ليبلغ شيئا ما‪ ،‬ونفس األمر يتعلق بالكلمات أيضا‪ ،‬إذ هي حتمل دالالت أكثر مما منحتها‬
‫القواميس‪ ،‬واجلماعات اللغوية معا‪ .‬وخري مثال على ذلك هي كلمة ‪ ،indigène‬فتعريفها يف القواميس الفرنسية يعين‬
‫كل ما هو "أهلي" أو "بلدي" مث حلقت هبا‪ ،‬مع جميء االستعمار دالالت ذات الصيغة العنصرية حىت صار الفرنسي‬
‫املتوسط ال يقبل بتاتا أن ينعت هبذه الصفة‪ .‬نتيجة هذا كله أن املعىن املمنوح من طرف املعاجم اللغوية ليس هو املعىن‬
‫الوحيد بل إنه خيضع دائما للتحول طبقا للعامل االجتماعي بواسطة العالمات اللسانية اليت هي اجتماعية بالطبع‪.‬‬

‫ومن مثة فإن كل عالمة حتتوي على مستويني‪:‬‬

‫‪ -6‬مستوى املعىن املكتسب أو الداللة املعجمية (‪.)dénotation‬‬


‫‪ -8‬مستوى املعىن اإلضايف أو الداللة السياقية (‪.)connotation‬‬

‫‪ -7‬أنواع العالقات بين المضمون والشكل في العالمات‪:‬‬

‫تصنف العالقات حسب نوع العالقة القائمة بني مضموهنا وشكلها‪ ،‬ما يفضي إىل ثالثة أسر كبرية من العالمات‬
‫وهي‪ :‬األيقون‪ ،‬والرمز‪ ،‬واملؤشر‪.‬‬
‫]‪[11‬‬
‫‪ -1-7‬األيقون (‪ :)icône‬عالمة تتسم بوجود عالقة تشابه بني الفكرة اليت تتضمنهاـ والشكل املقرتن هبذه‬
‫الفكرة‪ ،‬وهكذا فإن صورة عود الثقاب الذي يف رأسه هليب املتضمن يف إشارات املرور‪ ،‬هي صورة أيقونية ألن‬
‫املضمون الذي حتمله الصورة "احلذر من النار" اليت قد يتسبب يف إشعاهلا بقايا سجائر ألحد السائقني‪ ،‬قد أشري إليها‬
‫يف الشكل وهو اللهيب يف رأس عود الثقاب‪.‬‬

‫‪ -2-7‬الرمز‪ :‬عالمة ال نتعرف فيها على رابط منطقي بديهي بني املضمون‪ ،‬والشكل‪ ،‬وتع ّد ّ‬
‫جل كلمات اللغة‬
‫رموزا النعدام الرابط املنطقي بينهما‪ ،‬وبني ما حتيل إليه من مسميات مثل كلمة "قط" اليت تنعدم فيها أية عالقة تشابه‬
‫بينها وبني احليوان الذي يسمى "قط" ‪ ،‬لذلك اختلف اسم هذا احليوان من لغة ألخرى فهو يف اإلجنليزية "‪ "cat‬ويف‬
‫اإلسبانية "‪ ،"gato‬ويف الروسية "‪."koska‬‬

‫‪ -3-7‬المؤشر‪ :‬عالمة نتعرف فيها على "رابط جتاور" بني مضموهنا‪ ،‬وشكلها‪ ،‬ويؤدي املؤشر وظيفة العالمة ألن‬
‫وجوده املادي يف بيئتنا يشري إىل فكرة مرتبطة هبذا الوجود املادي‪ ،‬وهبذا الشكل مثل‪ :‬أثر أمحر الشفاه على حافة‬
‫كوب يدل على أن سيدة قد شربت على األرجح من هذا الكوب‪ .‬ومثل جيوب بنية حتت عيين زميل تدل على أنه‬
‫أمضى ليلة بكاملها يف العمل(‪ ،)1‬فأمحر الشفاه‪ ،‬واجليوب يع ّدان من العالمات املؤشرة‪.‬‬

‫‪ -1‬املعجمية‪ -،‬علم الداللة املعجمي‪ ، -‬آالن بولغري‪ ،‬ترمجة‪ :‬هدى مقنص‪ ،‬مركز الدراسات العربية للرتمجة‪ ،‬ص‪.11 :‬‬
‫]‪[12‬‬

You might also like