Professional Documents
Culture Documents
وتعتبر فرنسا من مقدمة الدول التي تعتنق فكرة االزدواج القضائي ،حيث أفردت لإلدارة محاكم
أنشئت خصيصًا لنظر منازعتها وميزتها بقواعد خاصة تخضع لها.
ولقد حذت مصر حذو فرنسا في تطبيق فكرة االزدواج القضائي عندما أنشأت مجلس الدولة
المصري عام 1946الذي نجح في استخالص المبادىء القانونية المغايرة ألحكام القانون المدني
وقام بدور رئيسي في بناء قواعد القانون اإلداري وتأصيل مبادئه وإرساء نظرياته كاشفا بذلك
عن استقالل القضاء اإلداري وتحريره من قيود القانون المدني.
على ما سبق ،سوف نتحدث عن نشأة القانون اإلداري في تلك الدول من خالل مناقشة نشأة القانون اإلداري التاريخية •
في فرنسا ،ومن ثم االنتقال إلى بيان التطور التاريخي للقانون اإلداري في مصر في مبحث آخر ،بينما ننتهي ببيان
التطور التاريخي للقانون اإلداري في المملكة األردنية الهاشمية على النحو التالي:
المبحث األول :نشأة القانون اإلداري في فرنسا. •
المبحث الثاني :نشأة القانون اإلداري في مصر. •
المبحث الثالث :نشأة القانون اإلداري في المملكة األردنية الهاشمية. •
المطلب األول
نشأة القانون اإلداري في فرنسا
تعد فرنسا أول دولة نشأ فيها القانون اإلداري في العصر الحديث ،وعنها أخذت معظم دول العالم الحديث نظام هذا •
القانون؛ فالقانون اإلداري الفرنسي في الواقع قانون حديث ،لم يكن له وجود قبل الثورة الفرنسية عام ،1789لذلك
ال يمكن التحدث عن وجود قانون إداري بالمعنى الدقيق في فرنسا قبل الثورة.
لم تكن ظروف فرنسا في بادئ األمر مواتيًة لظهور القانون اإلداري بالمعنى الفني المتخصص المطلوب ،واستمر •
الحال على ما هو عليه طوال القرون الوسطى التي سيطر عليها نظام اإلقطاع؛ فكانت الدول األوروبية عامًة وفرنسا
خاصًة مجزأًة في تكوينها السياسي مبعثرًة في حكمها ،ولم يكن الملك إال األمير األول في عهد كثر فيه أمراء اإلقطاع
وتسلح كل منهم في إقطاعيته بكل مظاهر السلطة العامة.
وتجاوز اإلقطاعيون المدى ،حيث استقلوا في أقاليمهم عن الملك في كثير من األحيان وفرضوا سلطاتهم في تلك •
األقاليم ،فانحصرت سلطة الملك في نطاق إقطاعيته ،األمر الذي ينفى وجود وحدة سياسية تشيد عليها سلطة إدارية
عامة وقانون إداري مستقل.
ولقد عاق الجهود التي بذلها ملوك فرنسا لتحقيق الوحدة السياسية أيضًا وجود اإلمبراطور "تشارلمان" الذي كان يدعى •
بحق السيادة على ملوك فرنسا وأمرائها من ناحية ،والسلطة الدينية التي كانت تتمتع بموجبها بعظيم من النفوذ في
سلطة الكنيسة الكاثوليكية والباباوات من ناحية أخرى .لذلك فقد كان لملوك فرنسا ضرورة التخلص من تلك العقبات
إن أرادوا إصالحًا ،وتحقيق وحدتهم السياسة الالزمة لشق الطريق لقيام الوحدة اإلدارية ظهور سلطة إدارية وقانون
إداري مستقل.
ولقد تغلب ملوك فرنسا فعال على تلك العقبات بالتدريج وركزوا السلطة في أيديهم ومهدوا السبيل لميالد القانون •
اإلداري .إال أن الَم لكة في فرنسا كانت مطلقة والدولة تختلط بشخصية الملك وتسرى عليها حصانته باعتبارها صاحبة
السيادة المطلقة ولم يستطع األفراد مساءلتها أمام القضاء عن أي تصرف تتخذه بهذه المثابة ،وجميع مظاهر السيادة
من تشريع وتنفيذ وقضاء أصبحت في حوزة الملك ،ألن الملوك كانوا يعتبرون أنفسهم مختارين من قبل اهلل لحكم
الناس ،ومن ثم فإن سلطانهم يكون مستمدا من اإلدارة اإللهية التي ال مرد لحكمها .وكانت مهمة الملكية أساسًا وظيفة
حكم ال وظيفة إدارية ،واتجهت إلى أمهات الشؤون العامة دون التصدي لمباشرة األعمال العادية الجارية التي تتكون
منها الوظيفة اإلدارية فُعنيت بمهام الحكم وال سيما القضاء والدفاع.
بالنتيجة ،لم يترتب على تحقيق الوحدة السياسة في أوائل القرن السادس عشر مزاولة الحكومة للوظيفة •
اإلدارية فورًا ،وبالتالي ظهور المرافق العامة والقانون اإلداري الذي يحكم نشاطها ،وإ نما ظل إسداء الخدمات
العامة للجمهور موكوًال للنشاط الخاص تحت إشراف الحكومة التي ال تباشر إال وظائف الحكم .وبذلك كانت
اإلدارة نشاطًا فرديًا وكنت األيدي التي تتوالها حرة من القيد الُم راقب ،األمر الذي بات معه عدم التفكير
في وجود قانون إداري مستقل عن القانون المدني ،ألن اإلدارة لم تكن وظيفة عامة من ناحية ،وألن
السلطة اإلدارية لم تكن قد تكونت وتميزت من ناحية أخرى .ولم يقتصر األمر على عدم
وجود قانون إداري في ذلك الحين وإ نما لم تخضع األعمال العامة بأسرها ألي قانون ملزم للملك صاحب السلطان •
المطلق ،ألن الدولة واضعة القانون يجب أن تعلو وال تخضع بالتالي لحكامه ،فاختالط شخصية الدولة بشخص الملك
جعلها ال تخضع بصفتها حكومة ألي قانون .فالقانون من صنع يديها وبنات أفكارها وال يصح لها أن تخضع للقانون
الذي صنعته .فلم تكن ما تتضمنه القوانين العامة إال مجموعة تعليمات وأوامر وضعها الحكام لمن يلونهم في المرتبة،
وهؤالء يتولون مهمة الحكم دون مساءلة سواء أمام األفراد أو الرؤساء ،على أن يسأل هؤالء األخيرين أمام الحاكم
الذي ال يسال إال أمام اهلل .فسيادة الملك كانت امتدادًا إلرادة اهلل التي ال ُم عقب عليها.
كون هذا االتجاه في فرنسا عقدية لدى ملوكها ،عبر عنها بعضهم بقوله" :إن سلطة الملوكية مستمدة من تفويض •
الخالق ويكون اهلل بذلك مصدرها وليس الشعب ،وهم مسؤولون أمام اهلل وحده عن كيفية استخدامها" .وهذه العقيدة ما
هي إال ترديد لنظرية قديمة تعرف بنظرية الحق اإللهي المباشر التي تعني أن الحاكم يستمد سلطته من اهلل مباشرة
دون تدخل إرادة أخرى في اختياره ،ومن ثم تكون سلطته ملزمة ،ألنه ليس إال ُم نفذًا إلرادة اهلل ،ومن يخالف هذا
الحاكم يكون قد خالف اإلرادة اإللهية.
وقد سادت هذه النظرية في فرنسا في القرن السابع عشر في عهد لويس الرابع عشر ،الذي كان يستند إليها •
مدعيًا أنه يستمد سلطته من اهلل ،وأنه ليس مسؤوًال إال أمام اهلل ،ثم كانت تلك النظرية سندا للكثير من
الملوك واألباطرة في تأييد سلطانهم المطلق .كما كان يتميز نظام الحكم في فرنسا في ذلك الحين بسيطرة
اإلدارة الملكية ومركزيتها ،وكانت اإلدارة تشكو من سيطرة البرلمانات التي حظيت باختصاصات قضائية
واسعة.
استغلتها للتدخل في شؤون اإلدارة وعرقلة نشاطها .حيث حاربت تلك البرلمانات – وهي تشبه محاكم االستئناف في •
مهمتها -جهود الملوك في توحيد البالد وتركيز حكمها ،فناصبت مراقبي الملك العداء وقاومت سلطتهم القضائية،
وكذلك تحظر على الموظفين الخضوع لسلطة مراقبي الملك القضائية ،مما حدا بالملكية إلى التضييق من نشاطها.
وجاءت الثورة لكي تقضي على هذه األوضاع الفاسدة وما نتج عنها من ظلم وطغيان ،وما إن كتب لها النجاح حتى
عملت على إصالح مختلف األمر التي كانت سائدة في الماضي ،وبدء عهد جديد يرتكز على أسس صالحة في شتى
المجاالت التشريعية واإلدارية والقضائية ،وكان أول ما امتدت إليه يد اإلصالح موضوع السيادة وحظر تركيزها في يد
واحدة .فقررت أن تكون هذه السيادة لألمة كوحدة متضامنة ،أي بحسبانها وحدة مستقلة عن األفراد المكونين لها.
فالسيادة لم تكن ألفراد األمة مستقلين ،ولم يكن كل منهم مالكا لجزء منها ،وإ نما كان لها صاحب واحد ،هو األمة التي
هي شخص جماعي مستقل عن األفراد الذين يتبعونها .والحكام والهيئات التي تمارس مظاهر السيادة في الدولة ،إنما
يمارسونها باسم األمة وبتفويض منها ،ألن األفراد وكالء عنها في ممارسة مختلف مظاهر السيادة.
وعندما أفل نجم نابليون أخذ مبدأ عدم مسئولية الدولة عن أفعالها الضارة في االنحدار وانسلخت عنه قوته ،بفضل •
استخالص المبادىء الجديدة والنظريات المناهضة لما
كان معروفا في عصر نابليون ،وسبب هذا التحول الجريء ما جاء به الفقهاء في فرنسا من المبادئ الحديثة التي •
غطت سماء المبادىء القديمة وقضت عليها.
ولئن جاءت الثورة الفرنسية مؤكدة لمبدأ الفصل بين الملك والسلطة وأصبحت الجماعة صاحبة السلطة ،وظلت فكرة •
السيادة قائمة بما لها من صفات اإلطالق والسمو وعدم التجزئة ،إال أن تيار الحرية الفردية ومبدأ مسئولية الدولة ،قد
عادا بعد ذلك إلى السير بخطى واسعة وجريئة ،كما أن وظيفة الملكية المنتصرة قد تطورت وتشبعت تبعا لتقدم
المدنية ،ولم تعد مقصورة على تبعات الحكم ،بل امتد نشاطها إلى إشباع الحاجات العامة ،التي لم تكن الدولة تتولى
مهمة إشباعها من قبل ،فتعددت هيئات الحكومة وأعمالها ،وبدأت تظهر مالمح قانون إداري جديد يتولى مهمة تنظيم
السلطة اإلدارية والوظيفة اإلدارية الوليدة ،ألن الدولة لم تعد تتولى مسئولية الحكم فحسب ،بل تصدت لمهمة اإلدارة
وإ شباع الحاجات التي كانت تترك للنشاط الفردي واإلدارة الحرة.
وقد طبقت الثورة الفرنسية في أول عهدها مبدأ الفصل بين السلطات .ورتبت عليه أمرين هما: •
الفصل بين الهيئات اإلدارية والهيئات القضائية. •
الفصل بين اإلدارة العاملة واإلدارة القضائية. •
ويتطلب هذا المبدأ وجود ثالث سلطات مستقلة في الدولة ،وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة •
القضائية ،وتتفرع لممارستها على سبيل االستقالل والتخصص.
دون التدخل في شؤون السلطتين األخريين واالعتداء على اختصاصاتها مع وجود قدر من التعاون والرقابة المتبادلة •
بين تلك السلطات.
إال أن الثورة الفرنسية فسرت مبدأ الفصل بين السلطات على أنه يعني الفصل الجامد أو المطلق بين السلطات ،والذي •
يصل إلى حد عدم قيام أية سلطة بالرقابة على أعمال السلطات األخرى ،اعتقادا منها بان تلك الرقابة تعتبر نوع من
التدخل الذي يتعارض مع المبدأ ،وبذلك تنفى كل عالقة أو تدخل بين الهيئات التي تتولى هذه السلطات.
لذلك ،منعت الثورة الفرنسية القضاء العادي ،من النظر في المنازعات التي تنتج عن تصرفات اإلدارة .وجعلت األخيرة •
هي المختصة بالفصل في المنازعات التي تثور بينها وبين األفراد ،فتصبح خصما وحكما ،وهي الصورة المعبرة عنها
بالوزير القاضي أو اإلدارة القضائية .وبهذه المثابة أصبحت اإلدارة تجمع بين صفتين ،فهي إدارة عاملة تباشر نشاطا
إداريا بغية تحقيق الصالح العام ،وإ دارة قاضية تفصل في المنازعات التي تنشأ بينها وبين األفراد ،فقامت اإلدارة في
تلك المرحلة بدور السلطة القضائية إلى جانب قيامها بوظيفتها اإلدارية المعتادة .وأصبح لمن يريد مخاصمة اإلدارة
التوجه إليها بدال من المحاكم القضائية ،ولم يعتبر ذلك اعتداء من اإلدارة العاملة على وظيفة القضاء ،ألن مبدأ الفصل
بين هاتين السلطتين كما فهمه رجال الثورة يهدف إلى منع القضاة بالذات من .
التدخل في أعمال السلطة اإلدارية ال العكس ،فأخرجت الخصومات اإلدارية من اختصاص السلطة القضائية لكي تتوالها •
اإلدارة.
ولكن سرعان ما تحولت الحكومة عن هذه الفكرة وأخذت منذ العام الثامن للثورة بفكرة الفصل بين اإلدارة العامة •
واإلدارة القضائية ،حيث وضع "نابليون" أساس مجلس الدولة بمقتضى دستور السنة الثامنة للفصل في المنازعات
اإلدارية وكانت مهمة المجلس في باكورة نشأته اإلفتاء غير الملزم ،يقترح على القنصل األول "نابليون" الحلول التي
يراها للمنازعات اإلدارية المرفوعة إليه .وقد نصت المادة 52من الدستور المذكور على أن يختص مجلس الدولة
بالعمل تحت إدارة القناصل لحل المشاكل اإلدارية ثم عهد إليه في ذات العام بمهمة الفصل في المنازعات القضائية التي
كان يختص الوزراء بالفصل فيها.
وبعد تطورات كثيرة تعاقبت منذ العام الثامن للثورة أخذ مجلس الدولة يتصدى للمنازعات اإلدارية ،ولكن رغم ذلك •
كانت قراراته خاضعة لتصديق الحكومة ،أي كان اختصاصه من قبل ما يعرف باسم القضاء المقيد Justice
، reternueبعد ذلك لم يتطلب تصديق الحكومة على قرارات المجلس ،فتحول إلى ما يعرف باسم القضاء المفوض
Justice delegueeولم يمض القرن التاسع عشر إال وقد أصبح مجلس الدولة محكمة إدارية ذات اختصاص شامل
واستقالل كامل عن القضاء العادي .وأصبح مجلس الدولة "ال الوزراء" القاضي األصلي في المنازعات اإلدارية ،أي
قاضي القانون العام؛ فيختص.
بداية بكل منازعة إدارية لم تعط لجهات أخرى ،ثم انتزعت منه تلك الصفة وعهد بها إلى المحاكم اإلدارية اإلقليمية، •
التي أصبحت تختص بكل المنازعات التي لم يرد نص على اختصاص مجلس الدولة بها ،وبهذا يكون اكتمل نظام
مجلس الدولة الفرنسي ومعه المحاكم اإلدارية اإلقليمية للفصل في المنازعات اإلدارية وصار القضاء اإلداري مستقًال
عن اإلدارة ويقابل في ذات الوقت القضاء العادي وعلى رأسه محكمة النقض ،وتحقق االزدواج القضائي الذي يتميز
به النظام الفرنسي على عكس القضاء الموحد الذي تتحلى به الدول األنجلوسكسونية .وصاحب هذا االزدواج ازدواج
قانوني حيث ظهرت قواعد جديدة مستقلة عن قواعد الشريعة العامة لتحكم المنازعات اإلدارية.
وهذا القضاء الجديد المستقل ،لم يكن كالقضاء المدني أسير النصوص المدنية الجامدة وإ نما أصبح يسترشد بها •
فحسب مستلهمًا من مبادئها العامة ما يراه مالئما ،واضعا في الحسبان اعتبارات اإلدارة ومقتضيات دوام سير المرافق
العامة .كل ذلك حدا بمجلس الدولة الفرنسي أن يقرر لنفسه الحق في وضع قانونه اإلداري.
بل لقد جاءت هذه األحكام في صالح األفراد ،ودافعت عن حقوقهم ضد عسف السلطات اإلدارية ووصلت إلى حلول لم •
تتطاول إليها أحكام المحاكم العادية التي أنشئت خصيصا للدفاع عن تلك الحقوق لدرجة أن مجلس الدولة الفرنسي قد
ألغى قرارا صادرا من أحد العمد لعدم مشروعيته في الوقت الذي اعتبرته محكمة النقض سليما وال غبار عليه.
وبناًء عليه ،فقد أصبح القانون اإلداري مستقًال عن القانون الخاص بفضل جهود مجلس الدولة الفرنسي ،الرامية إلى •
تحقيق الموافقة بين مصالح األفراد التي تتمثل في حماية حقوقهم من ناحية ،وحاجات اإلدارة التي تتبدى في رعاية
الصالح العام من ناحية أخرى .لذلك يقول هوريو" :إن الفضل في تكوين علم القانون اإلداري إنما يرجع إلى القضاء
اإلداري الفرنسي" .الذي إليه يرد ميالد القانون اإلداري وعن طريقه تتطور نظرياته ،بفضل ما يحويه من نخبة ممتازة
من القضاء الذي يحكمون بروية وعدالة ،لما واتوه من مزية الملكة التي اكتسبوها بالخبرة والمران من التصدي
للمسائل اإلدارية الفنية وهو ميسر في طرق مرافعاته وإ جراءاته وبفضله وجد قضاة ذو كفاءة عالية في المسائل
اإلدارية يسهل لهم تقدير المسئولية تقديرا ذو اثر فعال في سير المرافق العامة بما امتازوا به عن غيرهم من الذين
وقفوا عند حدود النصوص القانونية المدونة .وكان من نتيجة االختالف بين القضائين (المدني المقيد بالنصوص
واإلداري المتحرر من أسرها) أن أحكامه جمعت بين العدالة والمتانة ،ألنها لم تتقيد بنصوص مرسومة ولم تحيد عن
العدالة وتنطق بالحق ،فجاءت حقًا بجالئل النتائج وكبريات النظريات التي تكون منها صرح القانون اإلداري.
المطلب الثاني
نشأة القانون اإلداري في مصر
ال يكاد يختلف الوضع في مصر عنه في فرنسا قبل ظهور القانون اإلداري وبعده ،فالوحدة اإلدارية في •
مصر كانت منعدمة ،إلى أن ألغى محمد على نفوذ المماليك وانفرد بحكم البالد تحت إشراف العثمانيين.
وفيما يتعلق بالفصل بين السلطات والفصل بين الهيئات اإلدارية والهيئات القضائية وخضوع اإلدارة •
للقانون ،نجد أن الوضع في مصر من هذه األمور قبل إنشاء المحاكم المختلطة واألهلية -الوطنية -يشبه ما
كان سائدا في فرنسا قبل تفجير ثورتها عام .1789ومن الطبيعي إزاء تلك األوضاع أن تكون الظروف
غير مواتية لظهور القانون اإلداري.
ولقد تغيرت األوضاع بشكل ملحوظ إثر إنشاء المحاكم المختلطة والمحاكم األهلية؛ حيث تضمنت نصوص •
الئحتي ترتيب المحكمتين ضرورة الفصل بين الهيئة القضائية والهيئة اإلدارية ،وخضوع اإلدارة
للقوانين ،وذلك بتقرير مساءلتها عن تصرفاتها غير المشروعة ،وكانت هذه المبادىء بمثابة اللبنة
األولى في بناء القانون اإلداري في مصر الذي يحتوي على القواعد القانونية المنظمة للنشاط الفردي.
ثم جاء أول دستور حقيقي لمصر عام 1923ونص ألول مرة على مبدأ الفصل بين السلطات وتحديد •
اختصاص كل سلطة ،وعلى حق السلطة التنفيذية في ترتيب المصالح العامة وتنظيم شؤون الموظفين
العموميين وعلى إنشاء هيئات لإلدارة المحلية تتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة .وفي ظل هذه
المبادىء الدستورية نشأ القانون اإلداري المصري .إال أن الخطوة الحاسمة في تكوين القانون اإلداري،
هي صدور القانون رقم 112لعام 1946بإنشاء مجلس الدولة المصري الذي أسس قضاًء إداريا
مستقًال على غرار القضاء اإلداري الفرنسي.
ويعتبر إنشاء مجلس الدولة المصري باكورة إصالحات قضائية وقانونية وإ دارية أجل وأسمى ،فكما •
اعتبر إنشاء المحاكم المختلطة عام 1875والمحاكم األهلية عام 1883فاتحة عهد قضائي جديد في
مصر ،اعتبر قانون إنشاء مجلس الدولة في عام 1946نقطة تحول هامة في هذا العهد سواء في ميدان
القضاء أو في عالم القانون.
وسوف نتعرض لظروف نشأة القانون اإلداري المصري في مرحلتين: •
األول :قبل إنشاء مجلس الدولة. •
الثانية :بعد إنشاء مجلس الدولة. •
الفرع األول
القانون اإلداري قبل عام 1946
لم يكن القانون اإلداري معروفًا في مصر قبل إنشاء المحاكم المختلطة والمحاكم األهلية؛ حيث كانت مصر متخلفة في •
شتى المجاالت ،فلم يكن مبدأ فصل السلطات موجودًا ،وكانت اإلدارة غير خاضعة للقانون في كل تصرفاتها ،إذ كان
نظام الحكم السائد وقتئذ يجعل كلمة الحاكم قانونًا نافذًا ،ولم توجد إدارات قوية تزاول اختصاصات محددة ،فكانت تجمع
بين يديها أيضًا سلطة القضاء ،ومن ثم كانت النظام السائد في مصر في تلك الفترة بوليسيا واستبداديا.
ولقد ترتب على تلك األوضاع السياسية التي خيمت على سماء مصر في ذلك الزمان والتدخل األجنبي في شؤونها، •
ُأنشىء نظام االمتيازات األجنبية بغية عدم خضوع األجانب للنظام المصري من حيث القانون والقضاء ،وإ نما يخضعون
لقوانين بالدهم التي كان يقوم بتطبيقها القناصل األجانب الذين كان يعقد لهم االختصاص بتولي زمام مصر.
وقد استمر هذا الوضع إلى أن تم إنشاء المحاكم المختلطة بناًء على اتفاق بين مصر والدول صاحبة االمتيازات، •
للفصل في المنازعات التي تثور بين المصريين واألجانب أو بين هؤالء األخيرين إذا كان مختلفي الجنسية ،حيث
أرادت مصر أن تخفف بهذه الخطوة من غلواء نظام االمتيازات الذي يستفيد منه رعايا الدول األجنبية ،مطبقًة في ذلك
النظام األوروبي الذي كانت تتزعمه بلجيكا .ويكون المشرع المصري بهذا قد خرج على عادته التي درج عليها من
النقل عن فرنسا ،حيث أن النظام الفرنسي القائم على فصل الهيئات اإلدارية والقضائية ،لم تكن محاسنه قد ظهرت،
وكان يعتبر حتى ذلك الوقت نظامًا لحماية اإلدارة .وبعد فترة قصيرة من قيام المحاكم المختلطة ،أنشئت المحاكم
األهلية للفصل في المنازعات التي تحدث بين المواطنين المصريين .وقد اتخذت تلك المحاكم عام 1937تسمية جديدة
عرفت باسم المحاكم الوطنية.
والواقع أن إنشاء هذه المحاكم يعتبر الخطوة األولى والهامة في بناء القانون اإلداري المصري ،حيث تقرر خضوع •
اإلدارة للقانون ،وفصل بين نشاطها وبين الجهة التي تحكم في المنازعات التي تثور عند مباشرة ذلك النشاط،
وصدرت مجموعات القوانين.
التي تطبقها هذه المحاكم ،وأصبح لهذه األخيرة الحق في أن تحكم على اإلدارة بالتعويض عن تصرفاتها غير •
المشروعة لصالح األفراد.
ويكشف عن هذه الخطوة صدور الئحة ترتيب المحاكم المختلطة التي تعتبر أيضًا أول تنظيم ألعمال السلطة القضائية •
في مصر .وقد تضمنت هذه الالئحة أول قيد قانوني على تصرفات اإلدارة بما يخضعها للرقابة القضائية حمايًة لمصالح
األفراد الخاصة.
فقد نصت المادة الحادية عشرة من تلك الالئحة على أنه يجوز للمحاكم المختلطة في األحوال المنصوص عليها في •
القانون المدني المصري أن تحكم في االعتداءات التي تنشأ عن إجراءات إدارية تقع على حق مكتسب ألحد األجانب،
وفيما عدا ذلك منعت تلك المادة المحاكم المختلطة من أن تحكم في أمالك الحكومة من حيث الملكية وال أن تؤول معنى
أمر يتعلق باإلدارة ،وال أن توقف تنفيذه ،كما حظرت المادة المذكورة على تلك المحاكم أن تحكم في أعمال الحكومة
التي تباشرها بموجب سلطاتها العامة أو التي تتخذ بناًء على قوانين ولوائح اإلدارة العمومية .وتنفيذًا لتلك القوانين
واللوائح ،منعت هذه الالئحة أيضًا المحاكم المختلطة من النظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال السيادة.
وتعني هذه النصوص أوًال أن جميع الدعاوى المتعلقة بأعمال اإلدارة تكون من اختصاص القضاء المختلط ،طالما أن •
رافعها من األجانب ،وفي هذه الحالة يطبق القانون المدني المختلط ،وبذلك يكون هذا القانون منطبقا على الحكومة إذا
دخلت في منازعة مع األفراد ،ولكن ليس معنى ذلك أن الحكومة في عالقاتها مع األفراد تصبح في كله حال كأحدهم،
وإ نها ال تستطيع إجراء أي عمل قانوني عليهم ،ألنه إذا انطبق القانون المدني.
على اإلدارة المصرية ،كما انطبق في انجلترا القانون العام على الحكام االنجليز فال يستفاد من ذلك أن هؤالء قد •
تنازلوا عن السلطة التي في أيديهم وعن امتيازاتها ،وعن حق إصدار األوامر ضد األفراد لضمان سير المرافق العامة،
فالحكومة تصدر نوعين من األعمال ،األول أعمالها بصفتها صاحبة السلطة العامة والثاني أعمالها بصفتها كفرد من
األفراد عندما تدخل في تعامل معهم ،وفي النوع األول تراعي امتيازات الحكومة السياسية وخصائصها االجتماعية التي
تالزمها دائما وهنا يكون طرف هو الحكومة صاحبة السلطة العامة ،وطرف آخر وهو فرد من األفراد تتضاءل مزاعمه
تجاه هذه السلطة .أما النوع الثاني فيتساوى فيه طرفا العقد أو الخصومة.
ثانيا :إذا كانت الحكومة خاضعة ألحكام القانون المدني ،فإن ذلك ال يمنعها من أن تتخذ تصرفات تخالف في طبيعتها •
التصرفات الفردية ،ألن أهداف الحكومة ومقاصدها تختلف عن أهداف ومقاصد األفراد في أعمالهم القانونية.
ثالثا :إن المادة الحادية عشرة المشار إليها ال تنكر على الحكومة المصرية في عالقاتها مع األجانب حق إصدار أوامر •
إدارية ملزمة لجميع األفراد القاطنين بمصر ،تلك األوامر التي يجب أن تحترم من جانب المحاكم طالما أنها متفقة مع
القوانين واللوائح وغير مخالفة لها في نصوصها وروحها ،فسريان القانون المدني والعمل بأحكامه ال يحول دون
خروج الحكومة إلى عالم الوجود بأعمال وتصرفات تختلف عن تلك التي يجريها األفراد.
رابعا :االختصاصان القضائي والتشريعي اللذان جاءت بهما المادة الحادية عشرة من الئحة ترتيب المحاكم المختلطة، •
وساعدا كثيرا القضاء المختلط على التوسع في مبدأ .
مسئولية الحكومة ،لم يكونا من قبيل االمتيازات األجنبية ،ألن سريان القوانين السائدة آنذاك ،على المرافق الحكومية، •
لم يكن قاصرا على األجانب ،وإ نما شمل الوطنيين أيضا.
خامسا :إن المشرع إذا كان قد حول للقضاء الحق في نظر منازعات اإلدارة ،إال أنه قد خصها بميزة فحواها ،امتناع •
القاضي -وهو يفحص مشروعية أعمالها اإلدارة -عن التعرض لهذه األعمال بالتأويل أو إيقاف التنفيذ أو اإللغاء،
ولكن لم تمنع تلك النصوص القاضي من حق فحص مدى مشروعية هذه األعمال والحكم على اإلدارة بالتعويض من
جراء تصرفاتها الضارة باألفراد إذا تبين له عدم مشروعيتها ،وهذا يدل على أن اإلدارة تستطيع أن تصدر أوامر غير
مشروعة وتجبر األفراد على تنفيذها دون أن تملك المحاكم إلغائها أو وقف تنفيذها ،وكل ما تملكه هو الحكم على
اإلدارة بالتعويض.
سادسا :أعلن المشرع في نصوص الئحتي ترتيب المحاكم المختلطة والمحاكم الوطنية وما طرا عليه من تعديالت، •
مبدأين أساسيين.
األول :الفصل بين الهيئة القضائية والهيئة اإلدارية. •
الثاني :خضوع اإلدارة للقانون بتقرير مسئوليتها عن تصرفاتها غير المشروعة والتي تحدث ضررا باألفراد. •
وقد مهد إعالن هذين المبدأين الطريق لظهور القانون اإلداري في مصر. •
ثم جاء أول دستور حقيقي لمصر عام 1923مقررا ألول مرة مبدأ الفصل بين السلطات ،حيث حدد اختصاصات كل •
سلطة ،وحرم عليها االعتداء على غيرها ،كما قرر .
حق السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح ،وهذه القواعد الدستورية باإلضافة إلى النصوص القانونية السابقة تعتبر •
الدائم األساسية في بناء صرح القانون اإلداري.
وقد سلكت المحاكم المختلطة والوطنية في هذا الصدد منهجا حسنا ،فيما ذهبت إليه وقررت بأحكام عدة ما يمكن •
للباحث االعتماد عليه في جمع شتات القانون اإلداري وتكوينه تكوينا يجعله جزا متمما ألحكام القانون المدني.
فالمحاكم المختلطة والوطنية قد اعترفت بوجود قانون إداري في مصر ،وهذا يظهر من االطالع على بعض األحكام •
الصادرة بمعرفة هاتين المحكمتين في هذا الشأن ،حيث سجلت تلك األحكام الكثير من مبادىء القانون اإلداري ،مثل
مبدأ المساواة أمام المرافق العامة ،والذي تقول فيه محكمة االستئناف المختلطة بان " مبدأ المساواة بين المنتفعين
بالمرافق العامة ليس إال تطبيق لمبدأ من مبادىء القانون العام يتطلب مساواة جميع المواطنين أمام التكاليف العامة،
وان هذا المبدأ اقره في مصر القضاء والفقه والغرامات والدستوري المصري.
وقضت محكمة اإلسكندرية المختلطة في حكمها الصادر بتاريخ 29ديسمبر عام .1928أن القانون اإلداري يوجد في •
كل دولة متحضرة ،بمجرد وجود نظام للمرافق العامة بها وما يتطلبه من روابط قانونية يحددها إنشاء هذه المرافق
وتسييرها والشعور بالطبيعة الخاصة لتلك الروابط .وقضت محكمة اإلسكندرية االبتدائية المختلطة" بان عقد.
التزام المرافق العامة يعتبر من عقود القانون العام التي تختلف طبيعتها عن العقود المدنية ،لذلك يجب أن يخضع •
ألحكام خاصة"
وأوضحت محكمة القاهرة المختلطة بان الحكومة عندما تقوم بإبرام بعض عقود االلتزام بمرفق عام ،إنما تعهد بإدارة •
هذا المرفق إلى أحد األفراد ليتولى تسييره بدًال منها ،وبناء على ذلك قررت المحكمة أن هذا العقد يعتبر من عقود
القانون العام.
ولم يتردد الفقه في تأييد مسلك القضاء واالعتراف بوجود قانون إداري في مصر قبل إنشاء مجلس الدولة .حيث ذهب •
الرأي الغالب إلى القول بوجود قانون إداري بالمعنى الضيق في ظل القوانين المختلطة والوطنية التي كانت تخضع
اإلدارة المصرية لنفس القضاء وذات المحاكم التي يخضع لها األفراد ،وقد استند الفقه إلى بعض األحكام الصادرة من
القضاء المختلط والوطني في هذا الصدد ،والى المبادىء التي أرساها دستور 1923ونصوص القوانين واللوائح
المعمول بها في ذلك الحين تؤيد رأى الفقه والقضاء في االعتراف بوجود قانون إداري بمصر قبل إنشاء مجلس
الدولة .فقد أشارت المادة 132من الدستور المذكور إلى القانون العام بقولها " تعتبر المديريات والمدن والقرى فيما
يختص بمباشرة حقوقها أشخاصا معنوية وفقا للقانون العام بالشروط التي يقررها القانون " ونوهت المادة 44من
ذات الدستور إلى حق السلطة التنفيذية في تنظيم المرافق العامة وتنظيم شؤون الموظفين على الوجه المبين
بالقوانين".
وأشارت المادة التاسعة من القانون المدني األهلي إلى أحكام األموال العامة ،بقولها " األمالك الميرية المخصصة •
للمنافع العمومية ال يجوز تملكها بوضع يد الغير عليها المدة المستطيلة وال يجوز حجزها وال بيعها وإ نما للحكومة
دون غيرها التصرف فيها بمقتضى قانون أوامر".
هذا باإلضافة إلى أن المحاكم المختلطة قد خالفت الغرض المقصود من وضع المادة 11من الئحة ترتيب •
المحاكم المختلطة وهو عين النص الوارد بالمادة 7من القانون المدني القديم وقررت أن لها حق الفصل
في جميع األعمال الصادرة من الحكومة على اختالف أنوعها ،فإذا كانت المادة ،11المذكورة لم تجز
للقضاء إال حق النظر في القرار اإلداري لمعرفة ما إذا كان مطابقا للقانون شكال أو مخالفا له ،إال أن
المحاكم المختلطة أجازت لنفسها الدخول في تمحيص العمل اإلداري في ذاته وجعل حق نقد أعمال
موظفي الحكومة من اختصاص القضاء.
الفرع الثاني
القانون اإلداري بعد عام 1946
ارتفعت األصوات في مصر وجارت بالشكوى من إخضاع المنازعات اإلدارية للقضاء العادي ،وطالبت بضرورة إجراء •
اإلصالح القضائي ،بإنشاء قضاء إداري يتولى التصدي القضية اإلدارة طبقا للمبادىء التي إرسالها مجلس الدولة
الفرنسي ،ويعمل على اكتمال بناء القانون اإلداري وتطور قواعده.
وقد استجاب المشرع المصري لتلك الرغبات بإنشاء مجلس الدولة مقتديا إلى حد كبير بالنظام الفرنسي. •
ويرجع التفكير في إنشاء مجلس الدولة في مصر إلى أواخر القرن الماضي ،حيث أنشئ مجلس دولة على نمط مجلس •
الدولة الفرنسي طبقا لألمر العالي الصادر في 23ابريل عام ،1879وكان هذا المجلس يختص باإلفتاء فيما يعرض
عليه من موضوعات وإ بداء الرأي في مشروعات القوانين وصياغة مشروعات القوانين واللوائح التي تطلبها منه
الحكومة وفيما يتعلق بالقضاء ،فقد كانت له والية إلغاء القرارات غير المشروعة والتعويض عنها.
غير أن هذا المجلس لم يقدر له أن يعيش طويال ،بسبب االضطرابات واألزمات التي انتابت مصر سياسيا وماليا في •
ذلك الوقت .لذلك لم يستطع أن يباشر ما عقد له من اختصاص وألغى بعد مدة وجيزة من إنشائه.
ثم عادت فكرة إنشاء مجلس الدولة تراود نفوس المصلحين وأفكار المثقفين وتوالت مشروعات القوانين الحكومية •
واقتراحات بقوانين من جانب أعضاء مجلس البرلمان ،إلى أن تقدمت الحكومة بمشروع قانون بإنشاء مجلس الدولة
حيث وافق عليه مجلسا البرلمان وغدا بعد تصديق الملك القانون رقم 112لعام 1946بإنشاء مجلس الدولة.
وقد منح القانون المذكور مجلس الدولة اختصاصات استشارية وقضائية ،وجعل محكمة القضاء اإلداري الجهة •
المختصة بالفصل قضائيا في المنازعات اإلدارية.
بين أن محكمة القضاء اإلداري لم تكن صاحبة اختصاص عام في المنازعات اإلدارية ،وإ نما كانت ذات اختصاص •
محدد ،ينصب فحسب على المنازعات التي حددها القانون على سبيل الحصر .وظلت المحاكم العامة ذات اختصاص
عام بالنسبة للمنازعات اإلدارية وأصبح القضاء اإلداري مختصًا بجزء من تلك المنازعات.
وعندما أعيد تنظيم مجلس الدولة بالقانون رقم 9لعام 1949امتد اختصاص محكمة القضاء اإلداري إلى الفصل في •
المنازعات الخاصة بعقود االلتزام واألشغال العامة والوريد اإلدارية .ثم أصبح القضاء اإلداري مختصًا بالمناعات
المتعلقة بكافة العقود اإلدارية طبقا للقانون رقم 165لعام ، 1955ورغم أن تلك المنازعات تشكل الجانب األكبر من
المنازعات اإلدارية إال أن القضاء اإلداري ظل صاحب اختصاص محدود ثم ألغى هذا القانون بمقتضى القانون رقم 55
لعام 1959الذي أعاد تنظيم مجلس الدولة بمناسبة قيام الجمهورية العربية المتحدة.
والواقع أن مجلس الدولة المصري منذ إنشائه بالقانون رقم 112لعام 1946وإ عادة تنظيمه بالقوانين المتعاقبة ،قد •
أثبت قدرة فائقة على استيعاب المشاكل اإلدارية وخلق الحلول المالئمة لها ،وتوفير المزيد من ضمانات سيادة القانون،
وإ جبار األفراد على احترامه وتطبيق قواعده تطبيقًا سليما مقتفيا في ذلك اثر القضاء اإلداري الفرنسي والتطور الذي
وصل إليه القانون اإلداري هناك .فعمل بذلك على إنشاء القانون اإلداري وترسيخ مبادئه وتطوير قواعده ،كاشفا عن
استقالل القضاء اإلداري وتحرره من قيود القانون المدني.
وقامت المحكمة اإلدارية العليا بدور رئيسي في بناء قواعد القانون اإلداري وتأصيل مبادئه وإ رساء نظرياته، •
والتنسيق بين حقوق األفراد وسلطة التقدير المتروكة لإلدارة ،وتحديد مفاهيم القانون اإلداري.
ورغم القوانين المتعاقبة الخاصة بمجلس الدولة والتي كانت تعمل على إعادة تنظيمه وتوسيع اختصاص القضاء •
اإلداري ،وقصر االختصاص بنظر الكثير من المنازعات اإلدارية عليه بعد أن كان مشتركا بينه وين القضاء العادي ،إال
أن الوالية العامة في نظر المنازعات اإلدارية كانت معقودة للقضاء العادي ،وكان اختصاص القضاء اإلداري استثناء
من القاعدة العامة المقررة للقضاء العادي .أي أن اختصاص مجلس الدولة ظل حتى قانونه الصادر عام 1959واردا
على سبيل الحصر .وإ ذا كان المجلس قد توسع في تفسير النصوص المقررة الختصاصه بما يخضع المزيد من
التصرفات اإلدارية لرقابته ،إال أنه ظل غير مختص بنظر جميع المنازعات اإلدارية.
لذلك جاء دستور جمهورية مصر العربية عام 1971مقررًا اختصاص مجلس الدولة بكافة المنازعات •
اإلدارية ،حيث نصت المادة 172منه على أن " مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة ،ويختص بالفصل
بالمنازعات اإلدارية والدعاوى التأديبية ،ويحدد القانون اختصاصاته األخرى".
فالدستور الحالي قد حسم موضوعات شغل بال الفقه سنين طوال بإسناد الوالية العامة في نظر •
المنازعات اإلدارية للقضاء اإلداري ،وبذلك يكون التطور طبيعيا وتستقيم األمور وتزول الخالفات بين
جهتي القضاء ويصبح القاضي اإلداري قاضيا للقانون العام.
ثم صدر قانون مجلس الدولة رقم 47من عام 1972حيث قرر في البند الرابع عشر من المادة العاشرة •
منه اختصاص مجلس الدولة دون غيره بالفصل في جميع المنازعات اإلدارية.
وهذا التطور في التشريع من شانه أن يجعل القانون اإلداري متطورا وايجابيا لكي يسد احتياجات اإلدارة •
ويواكب التطورات السريعة والمستجدة في النشاط اإلداري للدولة.
المبحث الثالث
وضع القانون اإلداري في انجلترا
نظرا لما حققه القانون اإلداري الفرنسي من مميزات ،أخذ الفقه يتسائل عن إمكان وجود مثل هذا القانون في انجلترا •
والدول التي نسجت على منوالها في الحكم واإلدارة ،وذلك لما هو معروف من أن نظام الحكم في انجلترا يقوم أساسًا
على احترام الحريات والحقوق الفردية ،والمساواة بين الحكام والمحكومين وإ خضاعهم لشريعة واحدة وقضاء واحد.
فاإلدارة في انجلترا -والدول التي اقتفت أثرها -تخضع في ممارستها لنشاطها لذات القواعد التي يخضع لها النشاط
الخاص ،وتتبع في مباشرة ذلك النشاط نفس األساليب التي يتبعها األفراد ،وتسال عن أفعالها الضارة أسوة باألفراد
بخالف فرنسا والدول التي نهجت نهجا حيث تنفرد اإلدارة بقواعد خاصة ومحاكم مستقلة ،تتميز عن القواعد والمحاكم
التي يخضع لها األفراد في اقضياتهم.
وحيال هذا االختالف بين النظامين ،كان طبيعيا أن يثار الجدل ويكثر الحديث حول إمكان وجود قانون إداري في •
انجلترا .يختلف في أسسه وبنيانه عن القانون اإلداري الفرنسي.
وقد عنى الفقهاء بدراسة هذا الموضوع ،وانقسموا إلى فريقين ،يرى احدهما أن انجلترا ال تعرف القانون اإلداري، •
بينما يذهب الرأي اآلخر إلى القول بوجود قانون إداري في انجلترا والدول التي نهجت نهجها.
وسوف نتعرض فيما يلي لوجهة نظر كل فريق مع بيان األسانيد التي استند إليها كالهما. •
المطلب األول
المنكرون للقانون اإلداري
تعتنق انجلترا نظام القضاء الموحد ،حيث تختص المحاكم العادية بنظر جميع المنازعات ،سواء كانت بين األفراد أو •
بينهم وبين اإلدارة.
بيد أن هذه المحاكم لم تكن مختصة بنظر الدعاوى المقامة ضد التاج .فالمبدأ المقرر في القانون انجليزي ،وهو عدم •
مسئولية اإلدارة عن أعمال موظفيها ،وكان هذا المبدأ يستند إلى قاعدة دستورية قديمة ،هي أن الملك ال يخطئ The
King can do no wrongوأنه بالتالي ال يقر الخطأ .ويخلطون في انجلترا بين التاج والدولة ،وطالما أن التاج ال
يخطئ فالدولة كذلك .وال يمكن بالتالي تقرير مسئوليتها عما يسببه الموظفون من إضرار للغير أثناء أدائهم لوظائفهم.
وبذلك وجدت فئة من الموظفين االنجليز ال تسال الدولة عن أعمالها كرجال القضاء والبوليس وغيرهم .فهذه الفئات ال
يمكن رفع الدعوى قبلها أمام المحاكم فيما يتعلق بالمسئولية التقصيرية .وفي مجال المسئولية التعاقدية ،كان يجوز
مقاضاة الدولة بشرط إتباع طريق الشكوى المعروف في انجلترا . Petition of
rightsوهي عبارة عن عريضة يشكو فيها األفراد إلى التاج عماله ،على أنه يجب للسير في الدعوى أن يأذن التاج •
بالسير فيها.
ويالحظ أن المحاكم العادية تملك في انجلترا سلطات خطيرة في مواجهة موظفي اإلدارة ،فتستطيع أن تحكم عليهم •
بعقوبة جنائية إذا تبين لهما أن تصرفاتهم تشكل جريمة جنائية وتحكم عليهم بالتعويض إذا توافرت في حقهم أركان
المسئولية.
وتملك الحق في توجيه أوامر مكتوبة إليهم أسوة بما يفعله رئيسهم اإلداري ،مما حدا بالبعض إلى نعت اإلدارة في •
انجلترا باإلدارة القضائية ،أي اإلدارة الخاضعة لسلطان القضاء.
فانجلترا حتى عهد ليس ببعيد ،لم تكن تعترف بازدواج القانون والقضاء ،وكان ال يوجد بها قانون إداري ،وال قضاء •
إداري يفصل في المنازعات التي تثور بين اإلدارة واألفراد.
وسبب ذلك أن انجلترا والدول التي اتبعتها في الحكم وإلدارة ،ينظرون إلى الحرية والديمقراطية نظرة خاصة ،حيث •
يرون أن من عناصر الديمقراطية األساسية ،ضرورة خضوع اإلدارة لذات القواعد القانونية التي يخضع لها األفراد
دون أي تمييز تظفر به اإلدارة ،وخضوعها أيضًا لنفس المحاكم العادية التي تفصل في منازعات األفراد .ألن خضوع
اإلدارة لقانون مستقل أو قضاء خاص يعتبر خروجا على مبادىء الحرية والديمقراطية والشرعية .وعلى ذلك لم تفكر
تلك الدول في إنشاء مجلس دولة بها على غرار مجلس الدولة الفرنسي ،للفصل في المنازعات اإلدارية ولم تتح
الفرصة بالتالي لظهور قانون إداري بها ،متحررا من قيود النصوص المدنية ،مستهدفا تحقيق العدالة لألفراد دون
عرقلة ألهداف النشاط اإلداري .وبهذا الشكل تفهم المساواة هناك وتنزل اإلدارة منزلة األفراد من حيث القانون
والقاضي ،واإلجراءات التنفيذية.
ومن ثم يعتبر تمييزا ظالما أن تنفرد اإلدارة بمحاكم إدارية خاصة مما يعرف في فرنسا باسم االمتياز القضائي •
.Privilege du jurisdiction
لذلك فإن انجلترا لم تحذو حذو فرنسا في نظامها اإلداري وظلت متمسكة بأوضاعها وتقاليدها القانونية ،حيث كانت •
ترتاب في النظام الفرنسي في بداية نشأته وتطوره .وفهمته على أنه نظام استبدادي غير مرغوب فيه.
ومن شواهد ذلك ،أن العالم المعروف " دايسي" عندما وضع كتابه المشهور " مقدمة في دراسة القانون الدستوري" •
أخذ بالباب الثاني عشر منه يقارن بين النظام االنجليزي الخاضع لمبدأ " سلطان القانون" وبين نظام القضاء اإلداري
الفرنسي ،وصار يوازن بين الروح التشريعية التي يعمل بها القضاء االنجليزي وروح النظام الفرنسي ،إلى أن قرر أن
النظام القضائي االنجليزي وروح تشريعه أرقى من نظيره في فرنسا حيث يرى أن القانون اإلداري الفرنسي هو
مبادىء وأصول اعتمد عليها في تكوينه وهي تختلف عن اآلراء المقررة والمستفادة من األنظمة الدستورية االنجليزية
وال تتفق مع مشاعر وأحاسيس الشعب االنجليزي في فهم مبدأ سلطان القانون وبيان سموه.
ويعود "دايسي" مرة ثانية -إلى تأكيد هذه المسالة ويقول ليس من الصحيح االدعاء بوجود شيء ما من القانون •
االنجليزي يشبه ولو من بعيد القانون اإلداري الفرنسي ،ألن هذا األخير يرتكز على قاعدتين مخالفتين للقانون
االنجليزي :األولى :أنه ال تسري على العالئق القائمة بين الحكومة واألفراد األحكام المقررة لألفراد وإ نما هناك
مبادىء خاصة بها ،الثانية :ليس للمحاكم العادية الحق في التصدي لمثل هذه العالئق ،بل توجد محاكم أخرى خاصة
بها ،بحيث تراعى جانب السلطة اإلدارية وتوليها عناية خاصة ،األمر الذي ال وجود له في المحاكم العادية.
وبعد أن انتهى " دايسي" من تبيان الخطاء التي وقع فيها الكتاب الفرنسيين ،الذين يتولون مهمة مقارنة الشرائع •
االنجليزية وأنظمتها القانونية ،أخذ يبين للشعب االنجليزي ما وقع فيه أيضًا من خطا عند تقديره للنظام القضائي
اإلداري الفرنسي حيث قال " أما الخطأ الثاني فهو ما ظهر على قلم مشرع انجليزي حينما قرر بن القانون اإلداري لم
يكن فرعا من فروع القانون الذي نفهمه في بالدنا" انجلترا" وإ نما هو توطئة فقط لتعيين المبادىء واألصول التي
تتبعها السلطة التنفيذية عند إجراء أعمالها االستبدادية التي ال رقابة عليها.
بيد أن " دايسي" يلتمس بعض العذر لمن يقول ذلك ،وقد يكون صائبا أحيانا عند إمعان النظر في النظرية •
الفرنسية المعروفة بأعمال السيادة ،ألن اإلدارة في فرنسا تملك امتيازات واسعة ،والكثرة من رجال
القضاء اإلداري الفرنسي يعملون بالحكومة فليس ببعيد أن يستشف المشرع االنجليزي في تكوين
القضاء اإلداري ،أنه لم يكن إال نتيجة لتلك االمتيازات ،كذلك واضح في فرنسا أن المحاكم العادية تمنع
من نظر بعض المنازعات التي تنسب إلى الموظفين .فعندما يرى ذلك مشرع انجليزي يعلم أن المحاكم
االنجليزية هي التي تحد من نطاق اختصاصها ،ال يروقه بعد المقارنة بين النظامين االنجليزي والفرنسي
إال أن يقرر بان الحجز على سلطة المحاكم الفرنسية في تحديد اختصاصها لم يكن إال أثرا من آثار االمتيازات الضخمة •
المخولة لإلدارة.
وما زال "دايسي" يقرر بأنه ال يوجد في انجلترا والدول التي أخذت عنها مدنيتها مثل الواليات المتحدة األمريكية قانون •
إداري .ويقول :إننا ال نعرف ،ونفضل أال يعرف ماذا يمكن أن يكون ذلك القانون.
ويذهب معظم أعالم الفقه في انجلترا مذهب الفقيه "دايسي" في القول بعدم وجود قانون إداري في الدول •
األنجلوسكسونية ،حيث ذكر احدهم أن تسعين في المائة من الطلبة االنجليز يبدؤون دراستهم الدستورية متصورين أن
فرنسا تعيش في ظل نظام استبدادي وتخضع لصورة مصغرة من القيصرية ،كما قيل أيضًا أنه في حين يقرر القانون
الدستوري لألفراد حقوقا ويمنحهم حريات ،يضع القانون اإلداري لهم قيودا يفرض عليهم واجبات.
الدستوري لألفراد حقوقا ويمنحهم حريات ،يضع القانون اإلداري لهم قيودا يفرض عليهم واجبات. •
بل لقد وصل إنكار بعض الفقهاء األنجلوسكسونيين لوجود القانون اإلداري في بالدهم ،أن منهم من اعتبره جزءا من •
القانون الدستوري ،ومنهم ن اعتبره جزءا من القانون المدني.
ولقد جارى معظم الفقهاء الفرنسيين الفقه االنجليزي في القول بعدم وجود قانون إداري في انجلترا ،ويصفون هذه •
األخيرة بأنها دولة ليس بها نظام إداري .Pays sans regime administrative
وقد ذهب بعض الفقهاء في مصر إلى القول بعدم وجود قانون إداري في انجلترا أو الواليات المتحدة األمريكية ،ألن •
هناك ترابطا وثيقا وتالزما تاما بين وجود المحاكم اإلدارية المتخصصة في نظر المنازعات اإلدارية ،ووجود قانون
إداري مستقل عن القانون المدني ،مستهدفا تحقيق العدالة لألفراد ،دون أن يكبت حرية اإلدارة ،أو يعوق النشاط
اإلداري ،وطالما أن المحاكم اإلدارية ال تعرف طريقها إلى الدول األنجلوسكسونية ،وان المحاكم العادية هناك هي التي
تتصدى للفصل في جميع المنازعات ،بما فيها المنازعات اإلدارية طبقا ألحكام الشريعة العامة فإن القانون اإلداري
بالمعنى المعروف في فرنسا ال يتصور وجوده في تلك الدول.
بيد أن الرأي القائل بان انجلترا والواليات المتحدة األمريكية ليس لهما قانون إداري ،ال يعنى أن اإلدارة في كال البلدين •
ال تخضع للقانون فهي مقيدة بأحكام القانون وملزمة بتطبيق مبادئه ،وهي تخضع لذات القانون الذي يخضع له
األفراد ،فالبالد األنجلوسكسونية حذرة جدا من السلطات اإلداري ،التي تعتقد أنها يمكن بطبيعتها أن تهدد حريات
األفراد وتنقلب وباال على نشاطهم ،لذلك ال تحبذ تكوين قانون إداري يختلف عن القانون الذي يحكم عالئق األفراد،
وعلى ذلك يجب أن تخضع اإلدارة في تلك البالد للقانون بذات الشروط التي يخضع بموجبها األفراد له.
المطلب الثاني
ظهور القانون اإلداري
أيقن الفقهاء االنجليز أن مبادىء القانون اإلداري ،إذا كانت تمد اإلدارة بسلطات واسعة ،فإن ذلك بهدف مساعدتها •
على مجابهة اختصاصاتها المتشعبة في تحقيق الصالح العام ،وأنه في الوقت الذي تقرر فيه تلك المبادىء لإلدارة
سلطات استثنائية ،فإنها تكبلها بالقيود التي ينؤ بعبئها األفراد ،وال تستطيع اإلدارة في الحالة األولى أن تجنح في
استعمال سلطاتها أو تتنصل في الحالة الثانية من واجباتها دون تحقيق الصالح العام ،في كلتا الحالتين وعمال بمبدأ
المشروعية تخضع لرقابة قضاء يتالئم مع سلطاتها وهو القضاء اإلداري ،الذي يقوم بمهمته في ابتكار المبادىء
القانونية بغية حسم المسائل المعروضة في ساحته.
لذلك بدا موقف الفقهاء االنجليز يتحول في األعوام األخيرة إلى القانون اإلداري يهدف االستفادة من نظام القضاء •
المزدوج ،بعد أن نجح مجلس الدولة الفرنسي في ابتداع المبادىء الالزمة للمنازعات اإلدارية.
وقد ساهم في هذا التطور الحديث وجود تشريعات كثيرة تمنح اإلدارة امتيازات واسعة ،بل وتعهد إلى بعض أجهزتها •
باختصاصات قضائية منسلخة من اختصاص القضاء المدني .وقد وصل ذلك التطور إلى جد إنشاء محاكم ولجان إدارية
متعددة خاصة بمصالح حكومية ،لكي تتصدى للفصل قضائيا في المنازعات اإلدارية ،وجعل أحكامها نهائية في بعض
األحيان .وقد بدا األمر بإنشاء محاكم إدارية تتخصص في نظر بعض المنازعات التي تقوم بين اإلدارة واألفراد ،ليس
على اعتبار أن تلك المحاكم تشكل قضاء إداريا مستقال ،وإ نما باعتبارها محاكم عادية أو مجرد دوائر متخصصة في
القضايا اإلدارية ،ثم أخذ النظام القضائي في انجلترا يتجه رويدا نحو تحقيق قدر من االستقالل لتلك المحاكم إزاء
القضاء العادي .وقد جاء تنظيم تلك المحاكم واللجان الجديدة بصورة تجعلها متحررة من االلتزام بقواعد القانون
الخاص أو اإلجراءات المتبعة أمام المحاكم العادية ،وذلك على ضوء تزايد نشاط اإلدارة نتيجة لتدخل الدولة في
ممارسة بعض األنشطة التي كانت مزاولتها حكرا على األفراد من قبل.
وهذه المنازعات التي أخرجها المشرع من اختصاص المحاكم العادية ،وان كانت تعدو أن تكون حاالت استثنائية إال •
أنها من الكثرة بحيث تكاد تخيم على سماء المبدأ العام ،وهو اختصاص القضاء العادي بنظر المنازعات اإلدارية،
ويعتبر هذا الموقف من جانب المشرع األنجلوسكسوني باكورة اتجاه جديد نحو األخذ بنظامي القانون والقضاء
اإلداريين على ضوء نجاحهما في التطبيق الفرنسي.
وبذلك ظهرت نواة لقواعد قانونية جديدة تمثل امتيازا لإلدارة الحديثة ومشاكلها المتطورة ،ونواة لقضاء إداري يطبق •
قانونًا مستقًال عن القانون المدني ويتالءم مع أهداف اإلدارة وسائلها المتقدمة.
وقد نظر بعض الفقهاء إلى هذا االتجاه الجديد ،على أنه خطوة نحو إنشاء جهة قضاء إداري مستقلة على وتيرة •
القضاء اإلداري الفرنسي ،مما يعمل على نمو وازدهار القانون اإلداري في الدول األنجلوسكسونية.
لذلك ذهب "وليام روبسون" االنجليزي ،إلى االعتراف بوجود قانون إداري في انجلترا نتيجة التطورات الحديثة التي •
تتميز بطابع تدخل الدولة في شتى الميادين ومباشرة األعمال التي كانت متروكة للنشاط الخاص ،وصدور تشريعات
استثنائية تمد اإلدارة بسلطات واسعة تتالءم مع مطالبها المتجددة ،وإ نشاء محاكم إدارية مستقلة عن القضاء المدني.
ويرى " "Robsonأن نظام المحاكم في انجلترا قد تطور في السنين األخيرة ،حيث اتسمت التشريعات التي صدرت في •
ثنايا تلك الفترة بطابع اشتراكي ،للحد من غلواء المذهب الفردي ،ومواجهة التطورات العالمية ،وان النزعة االشتراكية
التي اتسمت بها التشريعات الحديثة في انجلترا قادت إلى زيادة تدخل الدولة في شتى المجاالت ،وأدت إلى إنشاء
محاكم إدارية مستقلة عن القضاء العادي ،يعهد إليها بالفصل في المسائل اإلدارية المتعلقة بتنفيذ التشريعات
االشتراكية ،دون أن تكون مقيدة في أحكامها بنصوص القانون العادي أو اإلجراءات المعمول بها أمام المحاكم المدنية.
وبذلك أصبح لدى انجلترا قضاء إداري مستقل عن القضاء المدني وقانون إداري متميز عن أحكام الشريعة العامة.
ومن أنصار هذا الرأي في فرنسا " جيز" الذي يقول بوجود قانون إداري في انجلترا وال فريير الذي يرى أن البالد •
المتمدينة سواء كانت السلطة العامة فيها خاضعة للمحاكم العادية أو المحاكم إدارية ،ال يخلو الحال فيها من وجود
منازعات بين الحكام والمحكومين ،مما يتطلب معرفة حدود هذه السلطة ،وكيفية مباشرتها الختصاصاتها ،وفي هذه
الحالة يرجع إلى مبادىء خاصة غير المبادىء المتعلقة باألفراد ،للوصل إلى حل يحمي حقوقهم ويمنع عنهم األضرار
التي تحيق بهم من تصرفات السلطة العامة.
ويذهب الرأي الغالب في الفقه المصري إلى االعتراف بوجود قانون إداري بانجلترا والدول التي حذت حذوها. •
ونحن نرى أنه لمعرفة وجه الحقيقة في هذا المجال يتعين علينا تبيان المقصود بالقانون اإلداري الذي ثار بشأنه •
الجدل في البالد األنجلوسكسونية.
فإذا أردنا القانون اإلدارة بمعناه الواسع فهنا ال تثور أية مشكلة حول وجوده في أية دولة بما فيها الدول •
األنجلوسكسونية ،فحيث توجد الجماعة السياسية المنظمة ،تكون اإلدارة التي تنظم شئونها وتنفذ تشريعاتها وتشبع
حاجات األفراد فيها.
أما إذا أخذنا القانون اإلداري بالمعنى الضيق ،الذي يشمل القواعد التي تحكم نشاط اإلدارة والتي تتميز عن قواعد •
القانون المدني فإنه ال يوجد إال في الدول التي تجعل لمنازعاتها اإلدارية محاكم خاصة ،وقواعد مستقلة عن قواعد
القانون المدني ،أما حيث تخضع اإلدارة لذات المحاكم وتطبق على منازعاتها اإلدارية نفس القواعد التي تطبق على
منازعات األفراد ،فإن القانون اإلداري ،فإن القانون اإلداري بالمعنى الضيق ال يكون موجودًا ،ولهذا نرى أن القانون
اإلداري بهذا المدلول ال وجود له في البالد األنجلوسكسونية ،حيث ال يوجد بتلك البالد إال قانون واحد وهو القانون
الخاص ،وقضاء واحد وهو القضاء العادي الذي يبسط رقابته على الجميع أفرادًا وإ دارة ويطبق على منازعاتهم قانونًا
واحدا.
المبحث الثالث
نشأة القانون اإلداري وتطوره في األردن
كان األردن –كغيره من البالد العربية األخرى -خاضعا للدولة العثمانية خالل فترة طويلة امتدت منذ الربع األول من •
القرن السادس عشر حتى الربع األول من القرن العشرين ،وعلى اثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية
األولى تم تجزئة البالد العربية إلى مناطق نفوذ فأدخلت فلسطين وشرق األردن في منطقة النفوذ البريطاني ،وقد
تأثرت أوضاع األردن نتيجة هذه التبعية بأنظمة الدولة المتبوعة ومن بينها النظام القانوني بشكل عام واإلداري بشكل
خاص.
وسنعرض نشأة وتطور القانون اإلداري في األردن في ثالث مراحل :مرحلة العهد العثماني ،ومرحلة االنتداب •
البريطاني ،ومرحلة ما بعد دستور .1952
المرحلة األولى :في ظل العهد العثماني •
إن الحديث عن النشأة األولى للقانون اإلداري في األردن يرتبط بنشوء ذلك القانون في الدولة العثمانية ،فقد تأثر •
األتراك العثمانيون بالنظام القانوني واإلداري الفرنسي حيث استرشدوا بهذا النظام واقتبسوا منه ،فانعكس ذلك على
أجزاء الدولة العثمانية ومنها األردن.
ومن أهم األنظمة القانونية التي اقتبسها األتراك من النظام الفرنسي :نظام مجلس الدولة الفرنسي الذي اسماه األتراك •
(مجلس شورى الدولة التركي) ،وكان من أهم اختصاصاته الفصل في المنازعات اإلدارية ومحاكمة كبار الموظفين،
ونظام مجالس المحافظات الفرنسي الذي اسماه األتراك (مجالس اإلدارة) وهي مجالس أنشأها األتراك في األلوية
واألقضية في الواليات التابعة لحكمهم ،ومنها ألوية وأقضية شرق األردن ،حيث كانت هذه المجالس تفصل في
المنازعات التي تنشا بين اإلدارة أو األفراد من جهة ،والموظفين من جهة أخرى .وقد ظلت هذه المجالس قائمة قانونًا
في شرق األردن حتى ألغيت فيما بعد.
كما عرفت والية شرق األردن –كغيرها من الواليات التابعة للدولة العثمانية -نظامًا قضائيا يقوم على تشكيل محاكم •
نظامية تمارس حق الفصل في المنازعات الخاصة .
بجميع األشخاص بما في ذلك الدعاوى التي تقيمها الحكومة أو التي تقام عليها ،وهو النظام الذي ورثته إمارة شرق •
األردن فيما بعد ،وأصبح المبدأ العام الذي حكم تشكيل المحاكم النظامية الموجودة حاليًا.
وهكذا يمكن القول –على هدي ما سبق -بوجود قانون إداري وقضاء إداري ولو في جانب منه في الدولة العثمانية •
متأثرة في ذلك بالنظام الذي عرفته فرنسا في ذلك الوقت؛ إال أنه ليس من السهل تقرير ما إذا كانت المحاكم النظامية
التي عرفتها إمارة شرق األردن في العهد العثماني مختصة بالنظر في المنازعات ذات الطبيعة اإلدارية ،وذلك لعدم
وجود مجموعة للمبادىء التي قررتها المحاكم النظامية في ذلك الوقت.
المرحلة الثانية :في ظل االنتداب البريطاني •
تأثرت فلسطين وشرق األردن بالنظام القانوني والقضائي البريطاني الذي حل محل النظام القانوني والقضائي الذي ساد •
فيهما إبان العهد العثماني .إال أن تشكيل النظام القانوني والقضائي في ظل االنتداب البريطاني كان يختلف من حيث
تأثيره في فلسطين عنه في شرق األردن؛ ففي حين عملت بريطانيا على ادخل نظامها القانوني والقضائي وطبقته في
فلسطين لتحل محل األنظمة التي كانت سائدة في العهد العثماني ،فإنها لم تعمل على تغيير األوضاع القانونية
والقضائية في شرق األردن بل أبقت على األنظمة التي كانت سائدة إبان العهد العثماني .مما ترتب عليه تأثر األنظمة
في فلسطين بالنظام القانوني والقضائي البريطاني بشكل اكبر وأسرع تطورا من ذلك الذي وجد في شرق األردن.
ففي فلسطين :أصدرت بريطانيا دستورًا لفلسطين أسمته (مرسوم دستور فلسطين) تبعه صدور مراسيم وقوانين حددت •
طبيعة النظام القضائي واختصاصات محاكمة وأنواع.
المحاكم النظامية ومن ضمنها المحكمة العليا التي تفصل في المنازعات التي تخرج عن اختصاصات أية محكمة أخرى. •
وكان إنشاء هذه المحكمة هو المصدر التاريخي لمحكمة العدل العليا األردنية التي أنشئت فيما بعد في األردن؛
وبموجب هذا النظام القضائي كانت المحاكم النظامية تفصل في منازعات األفراد بما في ذلك الدعاوى التي تقام على
الحكومة .وقد صدر قانون المحكمة العليا الفلسطينية بعد صدور مرسوم دستور فلسطين ،وجعل لها والية القضاء
اإلداري والنظر في المنازعات ذات الطابع اإلداري وذلك بصفتها محكمة عدل عليا ،حتى شملت اختصاصاتها المسائل
المتعلقة باألوامر الموجهة إلى الموظفين العموميين بشان القيام بواجباتهم التي تتطلب القيام ببعض األعمال أو
االمتناع عنها ،إلى جانب اختصاصها بالرقابة اإلدارية ،مستخدمة األوامر القضائية التي تستخدمها المحكمة العليا
االنجليزية في ممارستها لهذه الرقابة.
وفي شرق األردن :استمر تطبيق النظام القانوني والقضائي الذي كان سائدا في عهد الدولة العثمانية إلى أن صدر •
القانون األساسي إلمارة شرق األردن عام ، 1928الذي نظم السلطة القضائية فيها حيث حدد أنواع المحاكم الثالث:
المدنية والدينية والخاصة ،واختصاصاتها التي تشمل المنازعات الخاصة بجميع األشخاص في اإلمارة بما في ذلك
الدعاوى التي تقيمها الحكومة أو تقام عليها وقد تأثر المشرع في إمارة شرق األردن –في مجال مسؤولية اإلدارة-
بالنظام القانوني والقضائي الذي كان سائدا في فلسطين وقتئذ ،فاصدر قانون دعاوى الحكومة عام 1935كأساس
تقوم عليه مسؤولية الدولة في إمارة شرق األردن ،وبقي هذا القانون ساريا ألكثر من عشرين عام رغم إجراء بعض
التعديالت عليه.
هكذا بقي الوضع السائد في فلسطين وشرق األردن على النحو الذي سبق بيانه خالل هذه المرحلة حتى •
تم اندماج الضفتين في دولة واحدة عام ، 1950فبدأت مرحلة جديدة كان من نتائجها وجود نظام قانوني
وقضائي جديد في المملكة ،كان من ابرز مظاهر التطور فيه – في مجال القانون والقضاء اإلداريين –
استحداث محكمة عدل عليا للفصل في المنازعات اإلدارية ،وذلك وفقا للنص الدستوري الذي تضمنه
دستور عام 1952والذي قضى بصدور قانون لتنظيم القضاء في األردن على أن ينص هذا القانون على
إنشاء محكمة عدل عليا؛ وبذلك بدأت المرحلة الثالثة في نشأة وتطور القانون اإلداري في األردن ،وهو
ما نعرض له في هذه المرحلة.
المرحلة الثالثة :في ظل دستور 1952 •
إذا كانت نشأة القانون اإلداري وتطوره مرتبطة في جانب منها بوجود قواعد قانونية تحكم اإلدارة فيما يتعلق بتنظيمها •
ونشاطها ووسائلها وامتيازاتها ،ومرتبطة بالجانب اآلخر بوجود قواعد تحكم المنازعات اإلدارية تطبقها محاكم إدارية
مستقلة ،فان ذلك يقتضي بيان ما إذا كان القانون اإلداري في األردن قد وجد في هذه المرحلة بجانبيه التشريعي
والقضائي.
ففي الجانب التشريعي :تضمن الدستور األردني نصوصا تقررا قواعد أساسية تتعلق بعدد من موضوعات القانون •
اإلداري هي :التنظيم اإلداري المركزي ،واإلدارة المحلية ،والوظيفة العامة ،واألموال العامة ،وامتيازات المرافق
العامة ،والضبط اإلداري ،وكلها قواعد تعتبر أساسا لتشريعات إدارية تنظم هذه الموضوعات.
وفي الجانب القضائي :تضمن الدستور نصا خاصا بتنظيم القضاء اإلداري في األردن حيث عهد إلى المشرع العادي •
بإصدار قانون خاص بإنشاء محكمة العدل العليا عند تنظيم المحاكم النظامية.
واستنادا لهذا النص الدستوري صدرت ثالث تشريعات خاصة بتنظيم القضاء اإلداري في األردن هي: •
قانون تشكيل المحاكم النظامية :حيث حدد هذا القانون أنواع المحاكم النظامية وهي :محاكم الصلح ،ومحاكم البداية، •
ومحاكم االستئناف ،ومحكمة التمييز التي تعتبر المحكمة العليا في التشكيل القضائي للمحاكم ،وذلك من حيث صفتها
واختصاصاتها.
وقد حدد المشرع لمحكمة التمييز ثالث صفات بحسب نوع القضايا التي تنظرها :فيكون لها الصفة الجزائية عندما •
تنظر في األحكام أو القرارات الصادرة من محكمة االستئناف في القضايا الجزائية ،ويكون لها الصفة الحقوقية
(المدنية) عندما تنظر في األحكام والقرارات الصادرة من محكمة االستئناف في الدعاوى الحقوقية ،وأخيرا يكون لها
الصفة اإلدارية عندنا تنظر في المنازعات الخاصة بطلبات إلغاء القرارات اإلدارية بصفة أساسية أو في الطعون
المتعلقة بانتخابات المجالس البلدية والمحلية ،وهي اختصاصات حددها المشرع على سبيل الحصر ،وتقتصر على
قضاء اإللغاء دون قضاء التعويض.
وبالرغم من أن هذا القانون لم يستجب للنص الدستوري الذي يقضي بإنشاء محكمة عدل عليا .نقو بالرغم من ذلك •
فان الواقع العملي يؤكد على أن محكمة التمييز بصفتها محكمة عدل عليا كانت تطبق قواعد القانون اإلداري على
المنازعات اإلدارة التي كانت تعرض عليها ،وان المبادىء التي قررتها في أحكامها الواسعة والتي شملت معظم
موضوعات القانون اإلداري ،ساهمت مساهمة فعالة في نشأة وتطور قواعد القانون اإلداري في األردن خالل هذه
المرحلة.
قانون محكمة العدل العليا المؤقت :نص هذا القانون على إنشاء محكمة عدل عليا كمحكمة قضاء إداري مستقلة •
استقالال تاما عن المحاكم النظامية ،وجاء إنشاء هذه المحكمة تنفيذا للنص الدستوري الذي قضى بإنشائها كمحكمة
مستقلة ،وجعل لها تشكيلها الخاص ،واختصاصاتها المحددة في مجال المنازعات اإلدارية ،مما خفف العبء عن كاهل
محكمة التمييز؛ وبصدور هذا القانون تحقق ازدواج القضاء في األردن بصورة واضحة وصريحة بالرغم من أن
اختصاصات محكمة العدل العليا في ظل هذا القانون جاءت محددة على سبيل الحصر ،وهذا يعني أن هذه االختصاصات
تشكل استثناء على اختصاصات المحاكم النظامية التي لها الوالية العامة في نظر المنازعات اإلدارية األخرى؛ كما أن
صدور هذا القانون الذي أنشأ قضاء إداريا مستقًال فتح آفاقا رحبة أمام القضاء اإلداري في األردن إلرساء قواعد
القانون اإلداري وتكريس مبادئه وحماية حقوق األفراد وحرياتهم في مواجهة اإلدارة ،وبالتالي حماية المصلحة العامة
عن طريق الموازنة بين حقوق األفراد ومتطلبات اإلدارة.
قانون محكمة العدل العليا الحالي :صدر قانون محكمة العدل العليا الجديد في ظل التجربة الديمقراطية الجديدة في •
األردن التي كان من أهم نتائجها انتخاب مجلس نواب جديد بعد فترة انقطاع طويل ،وكان هذا القانون أول قانون اقره
المجلس الجديد؛ ويمثل هذا القانون خطوة رائدة وهامة على طريق تطور القضاء والقانون اإلداريين في األردن
لألسباب التالية:
إن هذا القانون جاء بعد دراسة واسعة ومتأنية ،وبعد تقييم تجربة محكمة العدل العليا في المرحلتين السابقتين ،ولذلك •
راعى المشرع األردني في هذا القانون متطلبات التطور الحديث في مجال تنظيم القضاء اإلداري من جهة وتطور
النشاط اإلداري واتساعه من جهة أخرى ،وحاول االستفادة من تجارب الدول ذات النظام القضائي المزدوج.
إن هذا القانون وسع من اختصاصات محكمة العدل العليا بحيث أصبحت تشمل –وبعكس القانونين السابقين -جميع •
الطعون الخاصة بقرارات الوظيفة العامة ،والطعون الخاصة بانتخابات المجالس البلدية والغرف التجارية والجمعيات،
كما اقر قضاء التعويض إلى جانب قضاء اإللغاء مما جعل اختصاص المحكمة كامال (إلغاء وتعويضًا) ،ومثل هذا
التطور يساهم في تطوير قواعد القانون اإلداري من خال ابتداع المبادىء القضائية التي تحكم المنازعات اإلدارية على
اختالف صورها.
إن هذا القانون ألغى التحصين للقرارات اإلدارية أيا كانت الجهة اإلدارية التي تصدرها ،بعد أن توسع المشرع األردني •
في الفترة السابقة بتحصين القرارات اإلدارية ليجعلها بمنأى عن رقابة القضاء اإلداري ،وترتب على ذلك إعفاء
مصدري القرارات اإلدارية من المسؤولية عنها ،وهذه خطوة رائدة على طريق تطوير القضاء اإلداري األردني نظرا
لخطورة التحصين كاستثناء على الرقابة القضائية على أعمال اإلدارة ،ألنه يمنح اإلدارة الفرصة للتنكر أحيانا لمبدأ
المشروعية ،وبالتالي سلب األفراد أهم ضمانة لحماية حقوقهم وحرياتهم من تعسفها ،وتجاوزت ألحكام القانون.
إال أنه بالرغم من المزايا السابقة لقانون محكمة العدل العليا الجديد فان هذا القانون لم يحقق جميع •
األهداف المؤملة من إصداره .صحيح أن المزايا السابقة التي حققها هذا القانون والتي تمثل األسس التي
يقوم عليها ازدواج القضاء في األردن ،إال أنه في اعتقادنا لم يصل في أحكامه إلى درجة تحقيق األمل
المنشود في إنشاء قضاء إداري مستقل تماما له الوالية العامة في الفصل في جميع المنازعات اإلدارية،
وان هذا األمل لن يتحقق إال إذا اكتمل تنظيم القضاء اإلداري وتشكيله من الناحيتين الفنية والموضوعية
ليأخذ شكل مجلس دولة أردني سواء من حيث تشكيله بأقسام تمارس اختصاصات استشارية في مجال
الفتوى والتشريع ،أو من حيث اختصاصاته بحيث تكون له الوالية العاملة للنظر من خالل محاكمة
المتعددة في جميع المنازعات اإلدارية.
الفصل الثالث
مصادر القانون اإلداري
يقصد بمصادر القانون بوجه عام المنابع أو األصول التي يستقي منها القانون قواعده وأحكامه .والقانون اإلداري – •
كغيره من فروع القوانين األخرى -له مصادر يستمد منها قواعده وأحكامه ،وهذه المصادر هي :التشريع اإلداري،
والقضاء اإلداري ،والعرف اإلداري ،والفقه اإلداري ،والمبادىء العامة للقانون.
واألصل أن بعض هذه المصادر يعتبر مصدرا رسميًا وبعضها اآلخر تفسيريا في فروع القوانين بشكل عام إال أن •
تصنيف هذه المصادر من حيث أهمية كل منها تختلف في القانون اإلداري عن فروع القوانين األخرى ،حيث يمثل
التشريع والقضاء مركزًا متميزا ،وذلك بخالف العرف والفقه ،حيث يعتبران من المصادر التفسيرية للقانون اإلداري
العرف والفقه ،حيث يعتبران من المصادر التفسيرية للقانون اإلداري.
وسنتكلم عن كل مصدر من هذه المصادر في مبحث من المباحث الخمسة التالية: •
المبحث األول :التشريع اإلداري. •
المبحث الثاني :القضاء اإلداري. •
المبحث الثالث :العرف اإلداري. •
المبحث الرابع :الفقه اإلداري. •
المبحث الخامس :المبادىء العامة للقانون. •
المبحث األول
التشريع اإلداري
وقد أطلق المشرع الدستوري األردني على أنظمة الضرورة التي تصدرها السلطة التنفيذية في الظروف االستثنائية •
تعبير (القوانين المؤقتة) وهو تعبير مرادف في مفهومه لمصطلح أنظمة أو لوائح الضرورة .ووضع مجموعة قيود
على إصدار القوانين المؤقتة هي :قيد زمني :يتمثل في عدم إصدار إذا كان مجلس األمة منعقدا ،إذ يعتبر القانون
المؤقت منعدما ألن السلطة التنفيذية تكون قد اعتدت على اختصاص السلطة التشريعية .وقيد الظروف :الذي يتمثل في
حاالت الضرورة التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية ال تحتمل التأخير ،وهي حاالت تقدرها السلطة التنفيذية عند
إصدار القوانين المؤقتة تحت رقابة البرلمان ،وقيد المدى الخاص بالقانون المؤقت :ومعناه التزام القانون المؤقت بما
نص عليه الدستور من مواضيع يجب أن يتناولها القانون المؤقت وهي األمور التي تستدعي اتخاذ تدابير ضرورية.
وقيد العرض على مجلس األمة في أول اجتماع يعقده :وهذا الشرط يقتضي إلزام السلطة التنفيذية بأن تعرض القانون
المؤقت على مجلس األمة في أول اجتماع يعقده ،بحيث إذا أخلت السلطة التنفيذية بهذا االلتزام لم يعد للقانون المؤقت
أية صفة.
ويالحظ أن قضاء محكمة العدل العليا األردنية قد استقر على اعتبار القوانين المؤقتة من قبيل األعمال •
التشريعية ،وبالتالي ال تختص المحكمة بالنظر بطلبات إلغائها أمامها ،وان رقابة القضاء على مثل هذه
القوانين مستبعدة بموجب النص الدستوري الخاص بها ،آخذة في تكييفها للقوانين المؤقتة بالمعيار
الشكلي الذي يقوم على النظر إلى جهة اإلصدار عند التمييز بين القوانين العادية والقرارات اإلدارية،
ولم تأخذ بالمعيار الموضوعي الذي يقوم على النظر إلى طبيعة الموضوع الذي تنصب عليه القاعدة
القانونية ،وليس على جهة إصداره.
المبحث الثاني
القضاء اإلداري
يقوم القاضي اإلداري بدور هام ومميز في مجال القانون اإلداري ،فهو الذي يفسر النصوص القانونية الغامضة ويوفق •
بين النصوص المتعارضة ،وهو بهذا الدور المميز يقوم باستنباط القاعدة التي تتالءم مع طبيعة المنازعة اإلدارية عند
عدم وجود نص تشريعي يسعفه في حلها.
وإ ذا كان دور القاضي المدني ينحصر في تطبيق القواعد القانونية على المنازعات المطروحة أمامه ،فان القاضي •
اإلداري يقوم بدور إنشائي هام ،حيث يقوم بابتداع وابتكار القواعد القانونية والمبادىء التي تتناسب مع طبيعة القانون
اإلداري .كما أنه يقوم باستخالص المبادىء العامة للقانون من روح التشريع ومن األسس العامة التي يقوم عليها
النظام القانوني واالجتماعي والسياسي للدولة ،ومن هنا وصف القضاء اإلداري في دول القضاء المزدوج كفرنسا
ومصر بأنه قضاء إنشائي.
غير أن الدور الذي يضطلع به القضاء اإلداري -كمصدر من مصادر القانون اإلداري -يختلف من دولة إلى أخرى، •
بل أحيانا داخل الدولة الواحدة من زمن إلى آخر ،كما اتضح لنا من خالل استعراضنا لنشأة وتطور القانون اإلداري في
بعض الدول ،ففي الدول التي تأخذ بنظام القضاء المزدوج يزداد دور القاضي اإلداري في ابتداع القواعد والمبادىء
اإلدارية ،وذلك على خالف الدول التي تأخذ بالقضاء الموحد حيث يكون هذا الدور محدودا.
وتتميز القواعد القانونية والمبادىء التي يكون مصدرها القضاء اإلداري بوضوحها ومرونتها ،فهي من •
ناحية تصاغ بأسلوب سهل ال يستعصي على الفهم بالنسبة للقاضي اإلداري الذي يطبقها ،وهي من ناحية
ثانية تصاغ بأسلوب مرن يستجيب للتطور وينمكن من تطبيقها على الحاالت المماثلة في المنازعات
اإلدارية التي تعرض عليه ،وهي من ناحية ثالثة تراعي التوازن بين امتيازات اإلدارة واحتياجاتها
ومتطلباتها ،وبين حقوق األفراد وحرياتهم.
واالتجاه الغالب في الفقه اإلداري المقارن يعترف بالدور اإلنشائي للقضاء اإلداري ويؤكد على أن القضاء اإلداري هو •
المصدر األساسي لغالبية مبادىء القانون اإلداري ،وهو واضع نظريته العامة في أصولها وفروعها ،كما اتضح لنا من
الدور الذي لعبه القضاء اإلداري في فرنسا ،وكيف أن دور القاضي اإلداري تصاعد تدريجيًا في خلق العدد الكبير من
مبادىء القانون اإلداري حتى أصبحت هذه المبادىء مصدرا رسميًا وهاما للقانون اإلداري كما سيتضح لنا عند دراسة
المبادىء القانونية العامة كمصدر للقانون اإلداري .وقد أكد هذا الدور الهام المشرع اإلداري المصري -متأثرا بدور
القضاء اإلداري الفرنسي في تطوير وابتداع قواعد ومبادىء القانون اإلداري -عند تنظيم مجلس الدولة المصري
بالقول :إن القضاء اإلداري يتميز بأنه ليس مجرد قضاء تطبيقي كالقضاء المدني ،بل هو في الغالب قضاء إنشائي
يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشا بين اإلداري -في تسييرها للمرافق العامة -وبين األفراد ،وهي
روابط تختلف بطبيعتها عن روابط القانون الخاص ،ومن ثم ابتدع القضاء اإلداري نظرياته التي استقل بها في هذا
الشأن ،وذلك كله يقتضي من القائمين بأمر القضاء اإلداري مجهودا شاقا ومضنيا في البحث والتمحيص والتأهيل،
ونظرا ثاقبا بصيرا باحتياجات المرافق العامة للمواءمة بين حسن سيرها وبين المصالح الفردية الخاصة.
إال أن هناك اتجاها آخر في الفقه اإلداري المصري ينكر الدور اإلنشائي للقضاء اإلداري في وضع القواعد القانونية •
اإلدارية ،ويقتصر هذا الدور على مجرد استنباط القواعد والمبادىء فقط ،وترتيبا على ذلك فان أنصاره يؤكدون على
أن القواعد والمبادىء التي يبتدعها القضاء اإلداري ال تشكل مصدرا رسميًا للقانون اإلداري إال في خصوصية النزاع
المطروح عليه ،وان القضاء اإلداري يعتبر مصدرا تفسيريا للقانون اإلداري ،فهو ال ينشىء القواعد وإ نما يكون
للسوابق القضائية في موضوع معين قيمة أدبية فقط ملزمة
لألفراد والسلطات العامة على السواء ،خصوصا إذا صدرت مثل هذه السوابق عن المحاكم اإلدارية العليا في الدولة. •
ولقد أخذ دور القضاء اإلداري في التعاظم والنمو في الوقت الذي أصاب التشريع الهرم والجمود والقدم ،وعدم تلبية •
التشريعات اإلدارية لمتطلبات التطور التي تشهدها األجهزة اإلدارية ،األمر الذي أدى بالقضاء اإلداري إلى إقامة بناء
خاص من القواعد القانونية يكمل العمل التشريعي ويثريه ويعدله أحيانا ،وذلك من خالل تلمس القاضي اإلداري أسباب
حكمه من النصوص القانونية أو في المبادىء العامة التي تهيمن على هذه النصوص وتسيطر عليها ،وبغير هذا الدور
المستمر الذي يقوم به القضاء تشيخ القوانين ويلحقها الذبول والجمود.
وأهمية القضاء اإلداري كمصدر من مصادر القانون اإلداري أدت إلى االهتمام بمجموعات األحكام الصادرة عن •
المحاكم اإلدارية التي تعتبر المرجع الهام للقضاة والفقهاء والمحامين والباحثين ،ألنها هي التي تكشف عن جوهر
القواعد اإلدارية وتحدد كيفية تطبيقها في الواقع العملي ،ومن األمثلة على ذلك :مجموعات األحكام التي أصدرتها
محكمة العدل العليا في األردن ،والتي تم جمعها في مجموعات منظمة ومرتبة بطريقة تساعد في الرجوع إلى
المبادىء التي قررتها المحكمة في مختلف موضوعات القانون اإلداري ،وقد استعنا بهذه المجموعات لبيان موقف
القضاء اإلداري األردني في موضوعات إدارية معينة.
المبحث الثاني
القضاء اإلداري
يقوم القاضي اإلداري بدور هام ومميز في مجال القانون اإلداري ،فهو الذي يفسر النصوص القانونية الغامضة ويوفق •
بين النصوص المتعارضة ،وهو بهذا الدور المميز يقوم باستنباط القاعدة التي تتالءم مع طبيعة المنازعة اإلدارية عند
عدم وجود نص تشريعي يسعفه في حلها.
وإ ذا كان دور القاضي المدني ينحصر في تطبيق القواعد القانونية على المنازعات المطروحة أمامه ،فان القاضي •
اإلداري يقوم بدور إنشائي هام ،حيث يقوم بابتداع وابتكار القواعد القانونية والمبادىء التي تتناسب مع طبيعة القانون
اإلداري .كما أنه يقوم باستخالص المبادىء العامة للقانون من روح التشريع ومن األسس العامة التي يقوم عليها
النظام القانوني واالجتماعي والسياسي للدولة ،ومن هنا وصف القضاء اإلداري في دول القضاء المزدوج كفرنسا
ومصر بأنه قضاء إنشائي.
غير أن الدور الذي يضطلع به القضاء اإلداري -كمصدر من مصادر القانون اإلداري -يختلف من دولة إلى أخرى، •
بل أحيانا داخل الدولة الواحدة من زمن إلى آخر ،كما اتضح لنا من خالل استعراضنا لنشأة وتطور القانون اإلداري في
بعض الدول ،ففي الدول التي تأخذ بنظام القضاء المزدوج يزداد دور القاضي اإلداري في ابتداع القواعد والمبادىء
اإلدارية ،وذلك على خالف الدول التي تأخذ بالقضاء الموحد حيث يكون هذا الدور محدودا.
وتتميز القواعد القانونية والمبادىء التي يكون مصدرها القضاء اإلداري بوضوحها ومرونتها ،فهي من ناحية تصاغ •
بأسلوب سهل ال يستعصي على الفهم بالنسبة للقاضي اإلداري الذي يطبقها ،وهي من ناحية ثانية تصاغ بأسلوب مرن
يستجيب للتطور وينمكن من تطبيقها على الحاالت المماثلة في المنازعات اإلدارية التي تعرض عليه ،وهي من ناحية
ثالثة تراعي التوازن بين امتيازات اإلدارة واحتياجاتها ومتطلباتها ،وبين حقوق األفراد وحرياتهم.
واالتجاه الغالب في الفقه اإلداري المقارن يعترف بالدور اإلنشائي للقضاء اإلداري ويؤكد على أن القضاء اإلداري هو •
المصدر األساسي لغالبية مبادىء القانون اإلداري ،وهو واضع نظريته العامة في أصولها وفروعها ،كما اتضح لنا من
الدور الذي لعبه القضاء اإلداري في فرنسا ،وكيف أن دور القاضي اإلداري تصاعد تدريجيًا في خلق العدد الكبير من
مبادىء القانون اإلداري حتى أصبحت هذه المبادىء مصدرا رسميًا وهاما للقانون اإلداري كما سيتضح لنا عند دراسة
المبادىء القانونية العامة كمصدر للقانون اإلداري .وقد أكد هذا الدور الهام المشرع اإلداري المصري -متأثرا بدور
القضاء اإلداري الفرنسي في تطوير وابتداع قواعد ومبادىء القانون اإلداري -عند تنظيم مجلس الدولة المصري
بالقول:
إن القضاء اإلداري يتميز بأنه ليس مجرد قضاء تطبيقي كالقضاء المدني ،بل هو في الغالب قضاء إنشائي يبتدع
الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشا بين اإلداري -في تسييرها للمرافق العامة -وبين األفراد ،وهي روابط
تختلف بطبيعتها عن روابط القانون الخاص ،ومن ثم ابتدع القضاء اإلداري نظرياته التي استقل بها في هذا الشأن،
وذلك كله يقتضي من القائمين بأمر القضاء اإلداري مجهودا شاقا ومضنيا في البحث والتمحيص والتأهيل ،ونظرا ثاقبا
بصيرا باحتياجات المرافق العامة للمواءمة بين حسن سيرها وبين المصالح الفردية الخاصة.
إال أن هناك اتجاها آخر في الفقه اإلداري المصري ينكر الدور اإلنشائي للقضاء اإلداري في وضع القواعد القانونية •
اإلدارية ،ويقتصر هذا الدور على مجرد استنباط القواعد والمبادىء فقط ،وترتيبا على ذلك فان أنصاره يؤكدون على
أن القواعد والمبادىء التي يبتدعها القضاء اإلداري ال تشكل مصدرا رسميًا للقانون اإلداري إال في خصوصية النزاع
المطروح عليه ،وان القضاء اإلداري يعتبر مصدرا تفسيريا للقانون اإلداري ،فهو ال ينشىء القواعد وإ نما يكون
للسوابق القضائية في موضوع معين قيمة أدبية فقط ملزمة
لألفراد والسلطات العامة على السواء ،خصوصا إذا صدرت مثل هذه السوابق عن المحاكم اإلدارية العليا في الدولة. •
ولقد أخذ دور القضاء اإلداري في التعاظم والنمو في الوقت الذي أصاب التشريع الهرم والجمود والقدم ،وعدم تلبية •
التشريعات اإلدارية لمتطلبات التطور التي تشهدها األجهزة اإلدارية ،األمر الذي أدى بالقضاء اإلداري إلى إقامة بناء
خاص من القواعد القانونية يكمل العمل التشريعي ويثريه ويعدله أحيانا ،وذلك من خالل تلمس القاضي اإلداري أسباب
حكمه من النصوص القانونية أو في المبادىء العامة التي تهيمن على هذه النصوص وتسيطر عليها ،وبغير هذا الدور
المستمر الذي يقوم به القضاء تشيخ القوانين ويلحقها الذبول والجمود.
وأهمية القضاء اإلداري كمصدر من مصادر القانون اإلداري أدت إلى االهتمام بمجموعات األحكام الصادرة عن المحاكم
اإلدارية التي تعتبر المرجع الهام للقضاة والفقهاء والمحامين والباحثين ،ألنها هي التي تكشف عن جوهر القواعد
اإلدارية وتحدد كيفية تطبيقها في الواقع العملي ،ومن األمثلة على ذلك :مجموعات األحكام التي أصدرتها محكمة العدل
العليا في األردن ،والتي تم جمعها في مجموعات منظمة ومرتبة بطريقة تساعد في الرجوع إلى المبادىء التي قررتها
المحكمة في مختلف موضوعات القانون اإلداري ،وقد استعنا بهذه المجموعات لبيان موقف القضاء اإلداري األردني
في موضوعات إدارية معينة.
المبحث الثالث
العرف اإلداري
تعتبر القواعد العرفية من أقدم المصادر غير المدونة للقواعد القانونية ،إذ أن الشرائع القديمة قامت في األصل على •
القواعد العرفية وتطورت هذه القواعد حتى أصبحت تلعب دورا بالنسبة لجميع فروع القانون الخاص والعام ،فيما عدا
القانون الجنائي الذي يقوم على المبدأ القائل بأن (ال جريمة وال عقوبة إال بنص) ،األمر الذي يجعل التشريع المصدر
الرسمي الوحيد في مجال العقاب والتجريم.
والعرف اإلداري -كمصدر غير مكتوب من مصادر القانون اإلداري -ينشا وفقا لما استقر عليه الفقه والقضاء نتيجة •
لسير اإلدارة على نمط معين في عملها مع تكرار السير على هذه القاعدة بشكل منتظم ومستمر ،ومع ترسيخ االعتقاد
لدى اإلدارة واألفراد بإلزامها وعدم الخروج عليها ،وهذا يؤدي إلى إيجاد أعراف إدارية ملزمة.
وقد أكدت محكمة العدل العليا األردنية في بعض أحكامها على المعنى السابق للعرف اإلداري بقولها :العرف اإلداري •
هو أن تسير اإلدارة على نحو معين في مواجهة حالة معينة ،بحيث تصبح القاعدة التي تلتزمها مختارة بمثابة القانون
المكتوب ما دام أن اإلدارة سارت على سنن معينة باطراد المدة الكافية والتزمت به دائما وطبقته في جميع الحاالت
الفردية ،وكان هذا العرف غير مخالف ألي نص من نصوص التشريع.
ويتكون العرف اإلداري كغيره من األعراف في فروع القوانين األخرى (العرف المدني ،العرف الدستوري ،العرف •
التجاري ،العرف الدولي) من كنين أساسين يكونان معا قاعدة قانونية جديدة تسمى من اجل ذلك قاعدة عرفية .وهذان
الركنان هما :الركن المادي ،والركن المعنوي:
الركن المادي :ويقصد بالركن المادي للعرف اإلداري اعتياد جهة اإلدارة -سواء فيما بين أجهزتها المختلفة أو بينها •
وبين األفراد -على مسلك معين أو إتباع نشاط معين ،وتكرار إتباعه فترة من الزمن تكفي من جانبها ومن جانب
األفراد لالقتناع بوجوب احترامه ،حتى يصبح قاعدة قانونية إدارية ،ويكون المصدر الرسمي لمثل هذه القاعدة عندئذ
هو العرف اإلداري .وترتيبا على ذلك يشترط لقيام الركن المادي للعرف اإلداري اطراد مسلك اإلدارة في إتباعها
لقاعدة معينة بشكل منتظم دون انقطاع ،ولفترة كافية تؤكد ثباتها واستقرارها ،فإذا كانت اإلدارة تتبع إجراء معينا من
حين آلخر تأخذ به تارة وتتركه تارة أخرى ،فإنه ال يمكن القول بتوافر الركن المادي.
الركن المعنوي :يعني الركن المعنوي للعرف اإلداري :توفر االعتقاد لدى اإلدارة بإلزامية القاعدة التي درجت على •
إتباعها ،بمعنى أن إتباع اإلدارة لقاعدة معينة ولد لديها شعورا بأن القاعدة أصبحت واجبة االحترام وال تجوز مخالفتها
وإ ال تعرض من يخالفها للجزاء ،ولذلك ال يتوفر مثل هذا االعتقاد الملزم لدى اإلدارة إذا كان العمل الذي جرت عليه ال
يعدو أن يكون مجرد رخصة تترخص بها ،إذ أن تكرار استعمال اإلدارة لرخصة معينة منحها إياها المشرع ال يولد
قاعدة عرفية تلتزم بها اإلدارة.
ويالحظ البعض أن درجة العرف في القوة بشكل عام والعرف اإلداري بشكل خاص يمكن استخالصها من الركن •
المعنوي ،وهو ركن االعتقاد القانوني ،فهذا االعتقاد هو الذي يحول االعتياد العادي إلى قاعدة قانونية ،وهو الذي
يحدد قيمة هذه القاعدة في التدرج الهرمي للنظام القانوني في مجموعة ،كما أن االعتقاد القانوني يتأثر بدوره بالقوة
االجتماعية التي فرضت العرف ،وما إذا كانت هذه القوة قادرة على خلق قواعد عرفية عادية أو قواعد عرفية إدارية.
ويشترط العتبار العرف اإلداري ملزما لإلدارة أن يتوافر شرطان: •
أولهما :أن يكون العرف اإلداري عاما ،وان تطبقه اإلدارة بصفة دائمة وصورة منتظمة ،فإذا اغفل هذا الشرط فال •
يرتفع العمل الذي جرت على مقتضاه اإلدارة إلى مستوى العرف الملزم.
وثانيهما :أال يكون العرف قد نشأ مخالفا لنص قائم ،ذلك أن القضاء اإلداري ال يعترف للعرف اإلداري إال بمرتبة تلي •
التشريع ،وبالتالي ال يجوز أن يخالف العرف اإلداري نصا قائما سواء كان هذا النص دستوريا أو تشريعيا أو الئحيًا.
وفي األردن اعترفت محكمة العدل العليا بالعرف اإلداري كمصدر من مصادر القانون اإلداري ،وسلمت في بعض •
أحكامها بقوة العرف اإللزامية ،واعتبرت مخالفة القاعدة العرفية التي جرت عليها اإلدارة والتزمتها واتخذتها منهاجا
لها بمثابة مخالفة قانونية ،فقضت المحكمة في حكم لها في هذا المجال بقولها :لما كان القانون الذي يحكم وضع
المختار يجري وفقا للتعليمات التي يضعها -المحافظ أو متصرف اللواء بموافقة وزير الداخلية -وأنه ثبت عدم صدور
مثل هذه التعليمات النتخاب المختار وإ نما جرت اإلدارة في انتخاب المختار على عرف معين وهو تقديم مضبطة أفراد
العشيرة أو الحي باختيار واحد منهم ليكون مختارا ،وان من المبادىء الفقهية المسلم بها أن العرف اإلداري الذي
جرت اإلدارة على إتباعه ،سواء كان مسطورا أم غير مسطور ،يعتبر بحكم القاعدة القانونية ،ويتحتم على اإلدارة
إتباعه في إجراءاتها ،كما يباح لكل ذي مصلحة أن يتمسك بهذا العرف تمسكه بالقانون.
كما أكدت في بعض أحكامها على أنه ال يجوز مخالفة العرف اإلداري للقواعد القانونية ،ألن القوانين اسمي من كافة •
ما يصدر عن السلطة التنفيذية من تصرفات قانونية ،وان ما يصدر عن هذه السلطة بالمخالفة للقوانين يكون غير
مشروع مهما تواتر العمل به ومهما قدم عليه العهد ،وقد أوضحت المحكمة هذا الشرط الالزم لصحة العرف اإلداري
بالقول :أنه ال عبرة للعرف لإلداري إذا كان مخالفا للنص القانوني ،وأنه ال يجوز أن يحتج بالعرف اإلداري لتعارض
العرف مع النص الصريح في القانون .ولذلك قضت في حكم لها بأن االحتجاج بالعرف اإلداري لتوقيف المستدعين
يخالف المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أنه ال يجوز أن يوقف أحد أو يحبس إال وفق أحكام القانون ،بمعنى
أنه ال يجوز توقيف أحد بمقتضى العرف اإلداري.
وهكذا يتضح لنا أن القواعد العرفية اإلدارية بالمعنى الفني الدقيق ال تتمثل سوى في القواعد القانونية العرفية التي •
تعمل على سد النقص في التشريع ،وتتمتع هذه القواعد القانونية العرفية بمرتبة قانونية أدنى من مرتبة التشريع ،إذ
يشترط بشأنها ،عالوة على عدم وجود نص في موضوعها ،أال يكون هذا العرف قد نشأ مخالفا لنص قائم.
وبالرغم من أن العرف اإلداري يعتبر أحد المصادر الرسمية للقانون اإلداري إال أن أهميته محدودة في الوقت الحاضر •
مقارنة مع أهمية التشريع والقضاء اإلداريين .ويرجع ذلك إلى تعاظم دور التشريع اإلداري كمصدر للقانون اإلداري
وخاصة األنظمة (أو اللوائح) التي أصبحت تحكم معظم موضوعات القانون اإلداري ،وكذلك تعاظم الدور الذي يضطلع
به القضاء اإلداري في ابتداع المبادىء التي تحكم الكثير من موضوعات القانون اإلداري ،ومثل هذا الدور الهام
للتشريع والقضاء اإلداري كان له اثر كبير في ضالة الدور الذي يقوم به العرف اإلداري كمصدر للقانون اإلداري.
يضاف إلى كل ذلك أن القاعدة العرفية – على فرض وجودها -تفتقر في كثير من الحاالت إلى الدقة والتحديد
والوضوح ،ويصعب التحقق من وجودها ،وتاريخ نفاذها ،ومن بقاء حكمها ،كما هو الحال في قواعد التشريع اإلداري.
المبحث الرابع
الفقه اإلداري
يعني الفقه في مجال القانون بشكل عام مجموعة اآلراء التي تصدر عن علماء القانون ،أي الفقهاء في شكل مؤلفات •
أو فتاوى أو تعليقات أو مقاالت أو أبحاث ،أو في شكل شرح للنصوص القانونية القائمة وتفسير الغامض منها أو
نقدها.
وليس للفقه -كمصدر من مصادر القانون -صفة رسمية ،فهو ال يعتبر مصدرا رسميًا للقواعد القانونية وإ نما هو •
مصدر تفسيري يقتصر دوره على شرح قواعد القانون وتفسيرها ،واستخالص اآلراء العلمية المدعمة بالحجج
واألسانيد ،والتي تبين ما ينبغي أن يكون عليه القانون ،فهو بالتالي مجرد مصدر تفسيري يفسر مضمون القاعدة
القانونية وال ينشؤها ،فقوته أدبية تقتصر على اإلقناع وال تتعدى ذلك على اإللزام.
وفي مجال القانون اإلداري يضطلع الفقه اإلداري بدور هام في إبراز النظريات والمبادىء العامة التي تحكم •
موضوعات القانون اإلداري ،وال سيما موضوعاته غير المقننة ،ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على تزايد أهمية
الفقه في مجال القانون اإلداري حداثة التشريعات اإلدارية التي تحكم بعض الموضوعات اإلدارية وما يترتب على ذلك
من غموض أو تعارض في بعض نصوص هذه التشريعات مما يوجب قيام الفقه بما يلزم لسد هذا النقص ،يضاف إلى
ذلك طبيعة موضوعات القانون اإلداري المتطورة باستمرار لمسايرة مقتضيات الحياة اإلدارية مما يلقي على الفقه
اإلداري مهمة العم المستمر من اجل استحداث النظريات والمبادىء التي تتفق مع طبيعة هذا التطور.
وتتعدد إسهامات الفقه اإلداري -كمصدر من مصادر القانون اإلداري -فقد تكون في مجال التشريع اإلداري أو •
القضاء اإلداري ،حيث تتمثل في استخالص المبادىء العامة من القواعد القانونية التفصيلية التي ترد في التشريع أو
في أحكام القضاء.
ففي مجال التشريع اإلداري :يقوم الفقة اإلداري بدور هام من خالل شرح النصوص التي تحكم موضوعات القانون •
اإلداري المتعددة والمتنوعة وتحديد مفهومها ،وتوضيح شروط تطبيقها ،والتنبيه إلى الصعوبات التي تثيرها عند
التطبيق ،كما يقوم الفقة اإلداري بتفسير نصوص التشريعات اإلدارية عندم منها ،وانتقاد بعضها مع اقتراح ما يرى
إدخاله على التشريع القائم من ناحية الصياغة الفنية سواء بالحذف أو باإلضافة ،ومقارنة التشريعات مع نظائرها في
الدول األخرى لكي يصل إلى أفضل الحلول المالئمة ،وذلك الستخالص االتجاه العام للتشريع ،وبيان الطريق الذي
يسلكه المشرع لتطويرها ،وفي كل ذلك يهتدي الفقه اإلداري بالسوابق التاريخية واألعمال التحضيرية التي ساهمت في
إعداد النصوص القانونية والمذكرات التفسيرية ،والتطبيقات القضائية.
وفي مجال القضاء اإلداري :يقوم الفقة اإلداري بدور هام أيضا من خالل دراسته وعرضه لألحكام التي يصدرها •
القضاء لتحليلها والكشف عن مضمونها ،وتحديد االتجاه العام للقضاء في موضوع أو مسالة معينة ،وتتبع التطورات
التي طرأت على هذا االتجاه وتقويمها ونقدها ،لبيان مدى نجاحه في الفصل في المنازعات اإلدارية المعروضة عليه.
وهكذا يتضح أن دور الفقة اإلداري في مجال التشريعات والقضاء اإلداريين ال يقتصر فقط على قراءة القرارات •
واألحكام ،وإ نما يتجاوز هذا الدور إلى الحكم على هذه القرارات واألحكام قبوال أو رفضا ،ألن من واجب الفقيه أن
ينتقد القرار اإلداري أو الحكم الصادر عن المحاكم اإلدارية إذا وجده قائما على غير أساس ،أو قائما على أساس غير
سليم من قواعد القانون ،وبهذا تكون دراسة القرارات اإلدارية واألحكام القضائية النقدية المستندة إلى حكم العقل هي
األساس في تكوين وصقل رجال القانون ،لتمكينهم من المساهمة ،ومن خالل جهدهم الفقهي ،في تطوير قواعد القانون
بشكل عام وقواعد القانون اإلداري على وجه الخصوص ،من خالل تأسيس قواعد وأحكام القانون اإلداري ،وتكوين
نظرياته ،وتدعيم استقالله وإ براز خصائصه ،وكذلك المساهمة في إثراء التشريع والقضاء اإلداريين من خالل
اجتهادات الفقهاء التي أنارت الطريق أمام المشرع والقاضي اإلداري.
ويتميز العمل الفقهي في مجال القانون اإلداري -كغيره من فقه فروع القوانين األخرى -بأنه ليس عمال رسميا، •
وإ نما هو مجرد اجتهاد شخصي يقوم به صاحبه متطوعا ،وتتوقف قيمة هذا العمل الفقهي على مكانة صاحبه العلمية،
ومدى الثقة فيه ،وهذه المكانة والثقة يصل إليها الفقيه نتيجة علمه الذي يظهر فيما صدر عنه من أراء وأفكار قيمة
تفرض نفسها على الغير لسالمتها وقوة منطقها ومدى إقناع الحجج التي يستند إليها.
وتظهر اآلراء الفقهية منشورة في كتب ومجالت علمية ومجموعات أحكام تصدر بشكل مؤلفات ومقاالت وأبحاث •
وتعليقات على األحكام التي يصدرها القضاء اإلداري ،ومثل هذه اآلراء ال تقتصر على االجتهادات الفردية التي تنسب
إلى الفقيه وحده وال تلزم المشرع أو القاضي بشيء ،وإ نما يكملها الجهد الفقهي الرسمي الذي يتمثل في الفتاوى
واآلراء التي تصدرها الهيئات الحكومية االستشارية حيث تعتبر مثل هذه الفتاوى عمال فقهيا له قيمة كبيرة من الناحية
النظرية ،فضال عن أهميته وفائدته العملية ،فهي وان كانت ليست ملزمة قانونًا لإلدارة لكونها مجرد أراء استشارية
تسترشد بها اإلدارة ،فان لها قيمة أدبية.
المبحث الخامس
المبادىء العامة للقانون