You are on page 1of 320

‫شرح‬

‫كتاب التوحيد‬
‫من صحيح البخاري‬
‫تأليف‬
‫الشيخ عبد ال بن ممد الغنيمان‬
‫رئيس قسم الدراسات العليا‬
‫بالامعة السلمية بالدينة النورة‬

‫الزء الول‬

‫‪1‬‬
‫المقدمة‬
‫أحمهد ال الحهد الصهمد‪ ،‬الذي لم يلد ولم يولد‪ ،‬ولم يكهن له كفوا أحهد‪ ،‬وأشههد أن ل إله إل ال‬
‫وحده ل شريك له في ألوهيته وربوبيته‪ ،‬ول ند له في أسمائه وصفاته‪.‬‬
‫وأش هد أن محمدا عبده ور سوله‪ ،‬أر سله بالهدى‪ ،‬ود ين ال حق‪ ،‬فد عا إلى توح يد ال الخالص من‬
‫كل شائ بة شرك‪ ،‬في ح قه‪ ،‬أو فعله‪ ،‬أو أ سمائه و صفاته‪ ،‬وجا هد في هذا ال سبيل ح تى و ضح ال حق‪،‬‬
‫وا ستبان وك مل به الد ين‪ ،‬وت مت النع مة‪ ،‬فترك ال مة على البيضاء‪ ،‬ليل ها كنهار ها‪ ،‬ل يز يغ عن ها إل‬
‫هالك‪.‬‬
‫وسار على نهجه صحابته‪ ،‬فلم يغيروا‪ ،‬أو يبدلوا‪ ،‬بل بذلوا جهدهم في دعوة الخلق إلى عبادة ال‬
‫وحده‪ ،‬حتى مضوا لسبيلهم‪.‬‬
‫فصلة ال وسلمه على عبده ورسوله محمد بن عبد ال‪ ،‬إمام الحنفاء وسيد الصفياء‪ ،‬ورضي‬
‫ال عن صحابته أجمعين‪ ،‬وعمن سلك نهجهم إلى يوم الدين‪.‬‬

‫كمال الهداية وتمام النعمة على هذه المة‬


‫أ ما ب عد‪ ،‬ف قد علم أن ال – تعالى – ب عث ر سوله محمدا ‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – على ح ين‬
‫فترة من الر سل " و في جاهل ية ل تعرف من ال حق ر سما‪ ،‬ول تق يم به في مقا طع الحقوق حكما "(‪،)1‬‬
‫وإنما ينتحلون ما تهواه نفوسهم‪ ،‬وما تزينه لهم شياطينهم‪ ،‬وما وجدوا عليه آباءهم‪ ،‬فجاهدهم وجادلهم‬
‫بالل ين والحك مة‪ ،‬وقارع هم بال سنان والح جة‪ ،‬ل من كابر وعا ند‪ ،‬وكان ن صر ال حلي فه‪ ،‬فا ستقام أمره‪،‬‬
‫وانتصر على عدو ال‪ ،‬وظهر دينه‪ ،‬فجاء نصر ال ودخل الناس في دين ال أفواجا‪ ،‬وبعد تمام نعمة‬
‫ال – تعالى – عليه وعلى أمته‪ ،‬وظهور ما جاء به من ال حق‪ ،‬ووضوح الطريق‪ ،‬توفاه ال إليه‪ ،‬فقام‬
‫بعده صحابته بأمره خ ير قيام‪ ،‬فجاهدوا في ال القر يب والبع يد‪ ،‬ح تى تح قق ما أ خبر به ر سولهم –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ -‬فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن ثوبان‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –‬
‫ص‪6‬‬
‫صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬إن ال زوى(‪ )2‬لي الرض فرأيهت مشارقهها‪ ،‬ومغاربهها‪ ،‬وإن أمتهي‬
‫سيبلغ ملكها ما زوى لي منها‪ ،‬وأعطيت الكنزين‪ ،‬الحمر‪ ،‬والبيض(‪ ،)3‬وأني سألت ربي لمتي أن ل‬
‫يهلكها بسنة عامة‪ ،‬وأن ل يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم‪ ،‬فيستبيح بيضتهم(‪ ،)4‬وإن ربي قال‪ :‬يا‬
‫مح مد‪ ،‬إ ني إذا قض يت قضاء فإ نه ل يرد‪ ،‬وإ ني أعطي تك لم تك أن ل أهلك هم ب سنة عا مة(‪ ،)5‬وأن ل‬
‫‪ )(1‬انتزاعًا من خطبة " العتصام" للشاطبي (ص ‪.)2‬‬
‫‪ )(2‬معناه ‪ :‬جمعها لي فرأيت أقصاها من الشرق ومن الغرب ‪.‬‬
‫‪ )(3‬المقصود بالكنزين ‪ :‬كنز الفرس ‪ ،‬والروم ‪ ،‬الحمر‪ :‬الذهب ‪ ،‬و البيض‪ :‬الفضة ‪.‬‬
‫‪ )(4‬أي ‪ :‬يهلكهم جميعاً ‪ ،‬ويستولي على بلدهم ‪ ،‬وذراريهم ‪ ،‬وأموالهم ‪.‬‬
‫‪ )(5‬أي‪ :‬ل أرسل عليهم عذابًا يعمهم ‪ ،‬ويستأصلهم‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أ سلط علي هم عدوا من سوى أنف سهم‪ ،‬ي ستبيح بيضت هم‪ ،‬ولو اجت مع علي هم من بأقطار ها‪ ،‬ح تى يكون‬
‫بعضهم يهلك بعضا‪ ،‬ويسبي بعضهم بعضا"(‪.)6‬‬
‫ففتحهت بلد الروم وفارس فهي عههد الخليفهة الثانهي‪ ،‬وأنفقهت كنوزهها فهي سهبيل ال – تعالى‪-‬‬
‫وواصهلت جحافهل التوحيهد إلى مشارق الرض ومغاربهها‪ ،‬تفتهح القلوب إلى معرفهة ال وتوحيده قبهل‬
‫البلد‪ ،‬ح تى ت مت نع مة ال على أك ثر أ هل الرض‪ ،‬فاتجهوا إلى عبادة ال وحده‪ ،‬بعد ما كانوا يعبدون‬
‫كل شيء‪ ،‬وكانت تستعبدهم شياطين الجن والنس‪.‬‬
‫ولكن كثيرا من الناس ل يعجبهم ذلك‪ ،‬بل يسوؤهم ويحزنهم‪.‬‬
‫ومن حكمة ال ‪-‬تعالى – أن جعل للباطل جنودا يناصرونه‪ ،‬ويدافعون الحق ويردونه‪ ،‬كما جعل‬
‫للحق أنصارا يتفانون في الذياد عنه‪ ،‬والدعوة إليه‪.‬‬
‫وقد كان ذلك منذ باء إبليس اللعين بالطرد عن رحمة ال‪ ،‬والبعد عن كل خير‪ ،‬فأقسم بعزة ال‬
‫ُمه‬
‫ِكه لغْ ِو َي ّنه ْ‬
‫ليغويهن بنهى آدم أجمعيهن‪ ،‬إل عباد ال المخلصهين‪ ،‬كمها قال ال تعالى عنهه‪{ :‬قَالَ َفبِ ِع ّزت َ‬
‫عبَا َدكَ ِم ْن ُهمُ ا ْل ُمخْلَصِينَ} (‪.)7‬‬
‫ج َمعِينَ {‪ِ }82‬إلّ ِ‬
‫َأ ْ‬
‫و من المعلوم أن ال – تعالى – لم يق بض نبيه محمدا – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ح تى أك مل له‬
‫دينه‪ ،‬وأظهره على من عاداه بالحجج والبراهين‪ ،‬وبقوة القتال لمن وقف في وجهه وعاند الحق‪ ،‬كما‬
‫قال – تعالى – في آخر ما أنزله ال عليه‪{ :‬ا ْليَ ْو َم َأ ْكمَلْتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي‬
‫ص‪6‬‬
‫لمَ دِينًا} (‪ ،)8‬فإذا كان ال قد أكمل لهم دينهم‪ ،‬فل بد من أنه وضحه لهم بحيث‬
‫َورَضِيتُ َلكُمُ الِسْ َ‬
‫ل يبقى فيه أي التباس أو اشتباه‪ ،‬ول بد من أنهم فهموه واعتقدوه على ما أريد منهم وعملوا به‪ ،‬ول بد‬
‫من ال ستغناء به عن كل ما سواه‪ ،‬فل يحتاجون م عه إلى غيره‪ ،‬وأع ظم ما يحتاجو نه وأشر فه هو‬
‫معرفتهم ربهم بأسمائه وصفاته‪ ،‬وما يجب له ويستحقه‪ ،‬ويحمد ويمجد به‪ ،‬ويثنى به عليه؛ لن هذا من‬
‫سنَى فَادْعُو ُه بِهَا َو َذرُو ْا اّلذِي نَ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫أفضل العبادة التي أوجبها ال علي هم‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَلِلّ ِه الَ ْ‬
‫ن مَا كَانُو ْا َي ْعمَلُونَ} (‪.)9‬‬
‫جزَوْ َ‬
‫سيُ ْ‬
‫سمَآئِ ِه َ‬
‫ن فِي َأ ْ‬
‫حدُو َ‬
‫يُ ْل ِ‬

‫قد أوضح ال ورسوله العقيدة وضوحا جليا‬


‫فل بد من إيضاح الوا جب ل – تعالى – والممت نع عل يه‪ ،‬والجائز عل يه‪ ،‬ح تى يكونوا على بي نة‬
‫من دين هم‪ ،‬ومعبود هم‪ ،‬ل نه ل سبيل إلى معر فة ذلك إل من الو حي‪ ،‬إذ هو من الغ يب‪ ،‬الذي ل يعلم‬
‫بالقياس‪ ،‬ول بالعقل‪.‬‬

‫‪" )(6‬صحيح مسلم" (‪ )4/2215‬رقم (‪.)2889‬‬


‫‪ )(7‬اليتان ‪ 83 ،82‬من سورة ص‪.‬‬
‫‪ )(8‬الية ‪ 3‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(9‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫و قد ب ين ال لنها طري قة ال نبياء التهي كانوا يدعون ب ها أممههم‪ ،‬ك ما قص ال تعالى عن هم فهي‬
‫القرآن‪ ،‬ف قد اتف قت طريقت هم في الدعوة إلى توح يد ال وعباد ته وحده‪ ،‬وخاتم هم جاء مقتفيا أثر هم في‬
‫ذلك‪ ،‬فد عا أم ته إلى ما د عت إل يه الر سل قبله‪ ،‬من توح يد ال ومعرف ته‪ ،‬فلم يفارق هم ح تى و ضح ل هم‬
‫الطريق‪ ،‬واستبان الحق من الباطل‪.‬‬
‫روى ا بن ما جه عن أ بي الدرداء‪ ،‬قال‪ :‬خرج علي نا ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ون حن‬
‫نذ كر الف قر ونتخو فه‪ ،‬فقال‪ " :‬آلف قر تخافون؟ والذي نف سي بيده لت صبن علي كم الدن يا ح تى ل يز يغ قلب‬
‫أحدكم إل هيه‪ ،‬وايم ال لقد تركتكم على مثل البيضاء‪ ،‬ليلها ونهارها سواء"‪.‬‬
‫قال أ بو الدرداء‪ :‬صدق وال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬ترك نا على م ثل البيضاء‪،‬‬
‫ليلها ونهارها سواء"(‪.)10‬‬
‫ص‪8‬‬
‫ُسهِلمِينَ} (‪،)11‬‬
‫شرَى لِ ْلم ْ‬
‫حمَةً َو ُب ْ‬
‫شيْءٍ وَ ُهدًى َو َر ْ‬
‫َابه ِت ْبيَانًا ّلكُلّ َ‬
‫ْكه ا ْل ِكت َ‬
‫وقال ال تعالى‪َ { :‬ونَزّلْنَا عََلي َ‬
‫حمَةً لّقَوْ مٍ ُي ْؤ ِمنُو نَ} (‪،)12‬‬
‫ختَلَفُو ْا فِي هِ وَ ُهدًى َو َر ْ‬
‫ب ِإلّ ِل ُت َبيّ نَ َلهُ ُم اّلذِي ا ْ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ومَا أَنزَ ْلنَا عََليْ كَ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ن لِلنّاسِ مَا ُنزّلَ إَِل ْي ِهمْ وََلعَّل ُهمْ َيتَ َف ّكرُونَ} (‪.)13‬‬
‫ك ال ّذكْرَ ِل ُت َبيّ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وَأَنزَلْنَا إَِل ْي َ‬
‫فاليمان بال وأسمائه وصفاته أعظم الشياء‪ ،‬وكذلك عبادته‪ ،‬فل بد أن يبين الكتاب – الذي هو‬
‫تبيان لكل شيء – ذلك أوضح البيان‪.‬‬
‫ول بد أن يدل على أع ظم الهدى الذي هو معر فة ال – تعالى – بأ سمائه و صفاته‪ ،‬ك ما أن من‬
‫أعظم ما وقع فيه الخلف في المة هو في هذا الباب‪ ،‬فل بد أن يكون قد بينه‪ ،‬لنه تعالى أخبرنا أنه‬
‫نزله ليبين لنا ما اختلفنا فيه‪ ،‬ول بد أن نجد فيه ما يزيل كل شك ولبس؛ لنه هدى ورحمة‪ ،‬لكن ليس‬
‫لكل أحد بل للمؤمنين فقط‪.‬‬
‫وأعظم ما أنزل إلينا هو اليمان بال‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬وقد أخبرنا تعالى أنه أنزل الكتاب ليبين للناس‬
‫ما نزل إليهم‪ ،‬فكيف يترك أعظم الشياء المنزلة إلينا بدون بيان؟‬
‫فعلم بهذا ونحوه أن ال – تعالى – بين على لسان رسوله – صلى ال عليه وسلم‪ -‬للمة كل ما‬
‫تحتاج إليه في دينها‪ ،‬ومعرفة ربها‪ ،‬ولم يكل ذلك إلى عقولهم‪ ،‬أو قياساتهم‪.‬‬

‫‪" )(10‬سنن ابن ماجه" (‪ )1/4‬رقم (‪.)5‬‬


‫‪ )(11‬الية ‪ 89‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ )(12‬الية ‪ 64‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ )(13‬الية ‪ 44‬من سورة النحل ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ت َلكُ مْ دِي َنكُ مْ وََأ ْت َممْ تُ عََل ْيكُ مْ ِن ْعمَتِي َورَضِي تُ َلكُ مُ‬
‫قال ا بن عباس في قوله تعالى‪{ :‬ا ْليَوْ َم َأ ْكمَلْ ُ‬
‫الِ سْلَمَ دِينًا} (‪ " :)14‬أخبر ال نبيه والمؤمنين‪ ،‬أنه أكمل لهم اليمان‪ ،‬فل يحتاجون إلى زيادة أبدا‪ ،‬وقد‬
‫أتمه ال فل ينقصه أبدا‪ ،‬وقد رضيه ال فل يسخطه أبدا"(‪.)15‬‬
‫ص‪9‬‬
‫فإذا كان ال – تعالى – قد أكمل لهم اليمان‪ ،‬فكل ما لم يقله رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫في باب اليمان ولم يأمر به ويبينه للمة فهو باطل‪ ،‬وليس من الدين الكامل الذي جاء به‪.‬‬
‫وأصل الدين وأساسه‪ :‬معرفة ال تعالى بأسمائه وصفاته‪ ،‬ومعرفة ما يجب له على عباده‪.‬‬
‫ول يجوز لمسلم يؤمن بال ورسوله واليوم الخر أن يظن برسول ال –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫أنه لم يبين ما يعتقده العبد في ربه؛ لن هذا هو الذي أمر بتبليغه‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬من المحال في العقل والدين أن يكون الرسول الذي أخرج ال به الناس من‬
‫الظلمات إلى النور‪ ،‬وأنزل عليهه الكتاب ليحكهم بيهن الناس فيمها اختلفوا فيهه‪ ،‬أن يكون قهد ترك باب‬
‫اليمان بال والعلم به ملتبسا مشتبها‪ ،‬ولم يميز بين ما يجب ل‪ ،‬من السماء الحسنى والصفات العليا‪،‬‬
‫و ما يجوز عل يه‪ ،‬و ما يمت نع عل يه‪ ،‬فإن معر فة هذا أ صل الد ين‪ ،‬وأف ضل العمال‪ ،‬فك يف يكون القرآن‬
‫والرسول والصحابة – وهم أفضل الخلق بعد النبيين – لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولً؟"‪.‬‬
‫ومحال أن يعلم النبي –صلى ال عليه وسلم – أمته أدب الكل والشرب‪ ،‬وقضاء الحاجة‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬ويترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم‪ ،‬وما يعتقدونه في قلوبهم‪ ،‬في ربهم ومعبودهم‪ ،‬مع كون ذلك‬
‫غاية المعارف‪ ،‬وأشرف المقاصد‪ ،‬والوصول إليه غاية المطالب‪ ،‬مع قوله –صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما‬
‫ب عث ال من نبي إل كان حقا عل يه أن يدل أم ته على خ ير ما يعل مه ل هم‪ ،‬وينها هم عن شر ما يعل مه‬
‫لهم"(‪.)16‬‬
‫ومحال أن يكون الذين كان فيهم رسول ال – صلى ال عليه وسلم‪ -‬والذين يلونهم غير عالمين‬
‫للحق في باب معرفة ال‪ ،‬وغير قائلين به‪.‬‬
‫ومعلوم أن من في قلبه حياة ومحبة للعبادة‪ ،‬أنه يحرص أشد الحرص على معرفة ذلك‪.‬‬
‫ص ‪10‬‬
‫و قد صح ع نه – صلى ال عل يه و سلم – أ نه قال‪ ")17( :‬خ ير الناس قر ني‪ ،‬ثم الذ ين يلون هم‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه‪ ،‬ويمينه شهادته"(‪.)18‬‬

‫‪ )(14‬الية ‪ 3‬من سورة المائدة ‪.‬‬


‫‪ )(15‬رواه ابن جرير بسنده ‪ ،‬انظر " تفسيره" (‪ )9/518‬ط المعارف ‪.‬‬
‫‪ )(16‬انظر "صحيح مسلم" (‪ )12/233‬شرح النووي‪ ،‬في المارة ‪ ،‬باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الول‬
‫فالول ‪ ،‬وابن ماجه في الفتن ‪ ،‬انظر (‪ )2/1306‬رقم (‪ ، )3956‬والنسائي في البيعة (‪.)7/153‬‬
‫‪ )(17‬البخاري ‪ ،‬انظر "الفتح" (‪ )7/2‬و (‪.)543، 11/244‬‬
‫‪ )(18‬الفتوى الحموية ‪ ،‬ملخصًا ‪ ،‬انظر "مجموع الفتاوى" (‪.)5/706‬‬

‫‪5‬‬
‫بدء النحراف‬
‫لما سيطر حكم السلم على أكثر البلد‪ ،‬في آ سيا‪ ،‬وأفريق يا‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬دخل ت حت حكمه أمم‬
‫كثيرة‪ ،‬رغبة ورهبة‪ ،‬وكان لها أديان مختلفة‪ ،‬من يهودية‪ ،‬ومجوسية‪ ،‬ونصرانية‪ ،‬ووثنية‪ ،‬وغير ذلك‪،‬‬
‫وقد كان لكثير من هذه المم سلطان كبير‪ ،‬مثل المجوس‪ ،‬والرومان‪ ،‬فسلبهم المسلمون ذلك‪ ،‬وكان عند‬
‫هؤلء من الكبر والستعلء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين‪ ،‬ول سيما وقد كانوا‬
‫يرون العرب مهن أحقهر المهم‪ ،‬وأقلهها شأنا‪ ،‬كمها أن اليهود واجهوا السهلم ورسهوله مهن أول أمره‬
‫بالعداء‪ ،‬وحاولوا القضاء عليه بأنواع من المكائد‪ ،‬والمؤامرات‪ ،‬ولما يئس هؤلء جميعا من قدرتهم في‬
‫مجاب هة ال سلم بالقوة وجها لو جه ان صرف جهد هم وكيد هم إلى الد سائس‪ ،‬والمؤامرات‪ ،‬والغتيالت‬
‫لرجاله العظام‪.‬‬
‫ودخل في السلم ظاهرا من هؤلء من قصده إفساده‪ ،‬وتمزيق وحدة أهله‪ ،‬ول بد أن يكون ذلك‬
‫عهن دراسهة‪ ،‬وإعمال فكهر وتخطيهط‪ .‬وربمها يكون هناك جمعيات متعاونهة‪ ،‬مهن المجوس واليهود‪،‬‬
‫والنصارى والهنود‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لفساد عقائد المسلمين؛ لتيقنهم أنه‬
‫ل يمكهن هزيمهة المسهلمين‪ ،‬إل بإفسهاد عقيدتههم‪ ،‬فبدأت آثار تلك المؤامرات تظههر‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬فقتهل‬
‫الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية‪ ،‬وربما بمؤامرة مجوسية يهودية‪.‬‬
‫ثم قتل الخليفة بعده‪ ،‬بأيد مشبوهة‪ ،‬من غوغاء‪ ،‬يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس‪.‬‬
‫ثم ظهر القول بنفي القدر‪ ،‬وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له‪ :‬سيسويه‪ ،‬من الساورة‪،‬‬
‫وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به‬
‫ص ‪11‬‬
‫معبد الجهني(‪.)19‬‬
‫ثم أوقدت نار الفتنة بين المسلمين‪ ،‬وقتال بعضهم بعضا‪.‬‬
‫ثم خرجت الخوارج بجهلهم‪ ،‬وعتوهم‪ ،‬وتكفيرهم المسلمين‪ ،‬وقتلهم إياهم‪.‬‬
‫ثم نجم التشيع الشنيع‪ ،‬من قبل يهود ومجوس يوقدون ناره‪ ،‬وأظهروا القول بأن للرسول –صلى‬
‫ال عل يه و سلم‪ -‬وصيا‪ ،‬هو علي بن أ بي طالب‪ ،‬ولكن ال صحابة تمالؤوا على ظل مه‪ ،‬وكتمان الو صية‬
‫على حد زعمهم الكاذب‪.‬‬
‫ولم يزل التش يع يتطور بتطر فه‪ ،‬وتشع به‪ ،‬ح تى صار مل جأ ل كل من ير يد أن يحارب ال سلم‬
‫والمسهلمين‪ ،‬وظههر فيهه القول بأن القرآن مبدل ومحرف‪ ،‬ومزيهد فيهه‪ ،‬ومنقوص منهه‪ ،‬وأن أعظهم‬
‫الصحابة ارتدوا بعد إسلمهم إن لم يكونوا كلهم‪ ،‬ما عدا علي بن أبي طالب ونفرا قليلً معه‪.‬‬

‫‪ )(19‬معبد الجهني البصري‪ :‬تابعي‪ ،‬كان داعية في ضلل ‪ ،‬قال الدارقطني ‪ :‬حديثه صالح ومذهبه رديء‪.‬‬
‫تكلم فيه كثير من السلف من أجل قوله بنفي القدر ‪ ،‬قتله عبد الملك سنة ثمانين‪ .‬انظر " تهذيب التهذيب" (‬
‫‪.)10/225‬‬

‫‪6‬‬
‫و قد ي صل الضلل ببعض هم والجرأة على ال – تعالى – إلى أن يقول بخيا نة جبر يل للر سالة‪،‬‬
‫وأنه أرسل إلى علي فعدل بها إلى محمد‪.‬‬
‫ولم يزل الرفض يبتعد أهله عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫ثم ظ هر القول بإنكار ال صفات ل – تعالى ‪ ،-‬وأ نه ل ي حب أحدا من عباده ول يح به أ حد‪ ،‬ول‬
‫يتكلم‪ ،‬وليس له يد‪ ،‬ول وجه‪ ،‬ول شيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله‪.‬‬
‫وكان أول من عرف بذلك‪ ،‬رجل يقال له‪ :‬الجعد بن درهم(‪.)20‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬أصل مقالة تعطيل الصفات‪ ،‬مأخوذ عن تلمذة اليهود والمشركين‪ ،‬وضلل‬
‫الصابئين‪ ،‬فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في‬
‫ص ‪12‬‬
‫ال سلم – أع ني أن ال ل يس على العرش حقي قة‪ ،‬وأن ال ستواء بمع نى ال ستيلء‪ ،‬ون حو ذلك –‬
‫هو الجعد بن درهم‪ ،‬وأخذها عنه الجهم بن صفوان‪ ،‬وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه‪.‬‬
‫و قد ق يل‪ :‬إن الج عد أ خذ مقال ته عن أبان بن سمعان‪ ،‬وأخذ ها عن طالوت ا بن أ خت لب يد بن‬
‫الع صم‪ ،‬وأخذ ها طالوت عن لب يد بن الع صم اليهودي ال ساحر‪ ،‬الذي سحر ال نبي – صلى ال عل يه‬
‫وسلم –"(‪.)21‬‬
‫وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة السلم‪.‬‬
‫وقال البخاري‪ " :‬حدثنا قتيبة‪ ،‬حدثني القاسم بن محمد‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيبة‪،‬‬
‫عن أب يه‪ ،‬عن جده‪ ،‬قال‪ :‬شهدت خالد بن ع بد ال الق سري بوا سط في يوم أض حى… وقال‪ :‬ارجعوا‬
‫فضحوا تق بل ال من كم‪ ،‬فإ ني م ضح بالج عد بن در هم‪ ،‬ز عم أن ال لم يت خذ إبراه يم خليلً‪ ،‬ولم يكلم‬
‫موسى تكليما‪ ،‬تعالى ال علوا كبيرا عما يقول ابن درهم‪ ،‬ثم نزل فذبحه"‪.‬‬
‫قال أبو عبدال‪ :‬قال قتيبة‪ " :‬بلغني أن جهما كان يأخذ الكلم من الجعد بن درهم"(‪.)22‬‬
‫ف تبين أن هذا اللحاد جاء من ق بل اليهود الذ ين أرادوا إف ساد د ين ال سلم‪ ،‬ك ما أن الر فض أول‬
‫من عرف من دعا ته يهودي ما كر حا قد‪ ،‬و هو ا بن سبأ‪ ،‬يقال له‪ :‬ا بن ال سوداء‪ ،‬وا سمه‪ :‬ع بد ال بن‬
‫و هب بن سبأ‪ ،‬من يهود صنعاء‪ ،‬ول بد أن هؤلء الفراد الذ ين شهروا بدعوات هم المنحر فة‪ ،‬وراء هم‬
‫من يدعمهم‪ ،‬ويخطط لهم‪ ،‬وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة فاحصة‪ ،‬تبين المر بوضوح‪ ،‬وهذا الذي‬
‫أشرت إليه تدل عليه كثير من الوقائع‪ ،‬والثار عن السلف‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪ )(20‬عداده في التابعين ‪ ،‬قتله خالد بن عبدال القسري على الزندقة ‪ ،‬يذكر أنه جعل في قارورة ماء‬
‫وتراباً ‪ ،‬فاستحال دوداً ‪ ،‬فقال‪ :‬أنا خلقته ‪ .‬وهو فارسي ‪ ،‬قتل سنة ‪ ،124‬انظر " البداية والنهاية" (‬
‫‪.)9/394‬‬
‫‪ " )(21‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/20‬‬
‫‪" )(22‬خلق أفعال العباد" (ص ‪ )30-29‬ورواه عثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص ‪.)25‬‬

‫‪7‬‬
‫فكان هذا هو سبب التفرق الحقي قي‪ ،‬إذ هو تفرق في العتقاد‪ ،‬و هو من شأ الخلفات‪ ،‬والحروب‬
‫الكلمية الممزقة‪ ،‬التي لم تزل تنخر في كيان المسلمين إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫ص ‪13‬‬
‫وقهد ينضهم إلى ذلك عوامهل جديدة فهي كهل فترة زمنيهة‪ ،‬مهن أنواع اللحاد ومحاربهة السهلم‬
‫بأسهاليب شتهى وأسهلحة مختلفهة‪ ،‬مقروءة ومرئيهة ومسهموعة‪ ،‬ولول أن ال – تعالى – تكفهل ببقاء هذا‬
‫الدين إلى آخر وقت من الدنيا‪ ،‬لقضي عليه منذ زمن بعيد‪ ،‬وهذا بالضافة إلى ما هو كامن في طباع‬
‫البشر مما يبعدهم عن الحق‪ ،‬مثل التقليد‪ ،‬واتباع المألوفات‪ ،‬وما يكون عليه رؤساء القوم وعظماؤهم‪،‬‬
‫كما ذكر ال تعالى عن المم السابقة مع أنبيائهم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ج ْدنَا آبَاءنَا عَلَى ُأمّةٍ وَِإنّا عَلَى‬
‫ل قَالُوا ِإنّا َو َ‬
‫ن {‪ }21‬بَ ْ‬
‫سكُو َ‬
‫{أَ مْ آ َت ْينَاهُ مْ ِكتَابًا مّن َقبْلِ هِ َفهُم بِ ِه مُ سْ َت ْم ِ‬
‫جدْنَا آبَاءنَا‬
‫ك فِي قَ ْريَ ٍة مّ ن ّنذِيرٍ ِإلّ قَالَ ُم ْترَفُوهَا ِإنّ ا َو َ‬
‫آثَارِهِم ّم ْه َتدُو نَ {‪َ }22‬و َكذَلِ كَ مَا َأرْ سَ ْلنَا مِن َقبْلِ َ‬
‫ج ْئتُكُم ِبأَ ْهدَى ِممّ ا َوجَدتّ مْ عََليْ ِه آبَاءكُ مْ قَالُوا ِإنّ ا بِمَا‬
‫ل أَوََلوْ ِ‬
‫ن {‪}23‬قَا َ‬
‫عَلَى ُأمّةٍ وَِإنّ ا عَلَى آثَارِهِم مّ ْق َتدُو َ‬
‫ُأرْسِ ْلتُم بِ ِه كَافِرُونَ} (‪.)23‬‬
‫فهذا يدل على أن النسان يصعب عليه ترك المألوف له‪ ،‬كما أن شيخه ومن يعظمه قد يسيطر‬
‫على توجي هه إلى ما يعتقده‪ ،‬ك ما هي طري قة المتكلم ين ح يث يأخذون بآراء شيوخ هم ومعظمي هم‪ ،‬مع‬
‫مخالفتها لكتاب ال وسنة رسوله‪.‬‬
‫ومهن ذلك الجههل‪ ،‬واتباع الهوى‪ ،‬كمها ههو حال أكثهر الخوارج‪ ،‬فإنههم جهلوا معانهي الكتاب‪،‬‬
‫وأرادوا من عموم المة أن ل يكون لهم ذنوب‪ ،‬وإل أصبح عندهم كافرا مخلدا في النار‪.‬‬
‫خذَ إَِل َههُ َهوَاهُ} (‪.)24‬‬
‫ت مَنِ ا ّت َ‬
‫و أما الهوى فبابه واسع‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪َ{ :‬أ َفرَأَيْ َ‬
‫(‪)25‬‬
‫ن ا ّتبَعَ َهوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مّنَ اللّهِ}‬
‫ن َأضَلّ ِممّ ِ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫إلى غير ذلك من الدوافع نحو النحراف‪ ،‬وسأذكر شيئا مما ذكره أهل العلم يؤيد ما ذكر هنا‪:‬‬
‫ص ‪14‬‬
‫قال شيهخ السهلم – رحمهه ال تعالى ‪ " :-‬وقهد روي أن أول مهن ابتدع {القول بنفهي القدر}‬
‫بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له‪ :‬سيسويه‪ ،‬من أبناء المجوس‪ ،‬وتلقاه عنه معبد الجهني"(‪.)26‬‬
‫وقال المام ابهن حزم‪ " :‬الصهل فهي أكثهر خروج هذه الطوائف عهن ديانهة السهلم‪ :‬أن الفرس‬
‫كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع المم‪ ،‬وجللة الخطر في أنفسهم‪ ،‬حتى إنهم يسمون أنفسهم‪:‬‬

‫‪ )(23‬اليات ‪ 24-20‬من سورة الزخرف ‪.‬‬


‫‪ )(24‬الية ‪ 23‬من سورة الجاثية ‪.‬‬
‫‪ )(25‬الية ‪ 50‬من سورة القصص ‪.‬‬
‫‪" )(26‬مجموع الفتاوى" (‪ ،)7/384‬وذكره المقريزي في "الخطط" (‪ ، )3/360‬وسيأتي ‪ ،‬وأما ما ذكره أبو‬
‫لبابه حسين في كتابه "موقف المعتزلة من السنة" أن معبداً أخذ مقالته عن نصراني من أهل العراق أسلم‬
‫ثم تنصر‪ ،‬نقلً عن أدب المعتزلة ‪ ،‬ففيه نظر ‪ ،‬إذ هو خلف المشهور‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫الحرار‪ ،‬والبناء‪ ،‬وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا ل هم‪ ،‬فل ما امتحنوا بزوال الدولة عن هم‪ ،‬على أيدي‬
‫العرب‪ ،‬وكانهت العرب أقهل المهم عنهد الفرس خطرا‪ ،‬تعاظمههم المهر‪ ،‬وتضاعفهت لديههم المصهيبة‪،‬‬
‫وراموا ك يد ال سلم بالمحار بة‪ ،‬في أوقات ش تى‪ ،‬ف في كل ذلك يظ هر ال – سبحانه وتعالى – ال حق‪،‬‬
‫وكان من قائمتهم "منقاذ" و"المقنع" و"استابين"‪ ،‬و"دبابك"(‪)27‬وغيرهم‪ ،‬وقبل هؤلء رام ذلك عمار الملقب‬
‫"خداشا"‪ ،‬و"أبو مسلم السراج"‪.‬‬
‫فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع‪ ،‬فأظهر قوم منهم السلم‪ ،‬واستمالوا أهل التشيع بإظهار مح بة‬
‫أ هل ب يت ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬وا ستشناع ظلم(‪)28‬علي‪ -‬ر ضي ال ع نه‪ -‬ثم سلكوا ب هم‬
‫مسهالك شتهى‪ ،‬حتهى أخرجوههم عهن السهلم‪ ،‬فقوم منههم أدخلوههم إلى القول بأن رجلً ينتظهر يدعهى‬
‫المهدي‪ ،‬عنده حقيقة الدين‪ ،‬إذ ل يجوز أن يؤخذ من هؤلء الكفار‪.‬‬
‫وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة‪.‬‬
‫ص ‪15‬‬
‫وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا‪ ،‬من القول بالحلول‪ ،‬وسقوط الشرائع‪ .‬وآخرون تلعبوا بهم‪،‬‬
‫فأوجبوا عليهم خمسين صلة في كل يوم وليلة‪.‬‬
‫وآخرون قالوا‪ :‬بل هي سبع عشرة صلة‪ ،‬في كل صلة خمس عشرة ركعة‪.‬‬
‫وهذا قول عبدال بن عمرو بن الحارث الكندي‪ :‬قبل أن يصير خارجيا صفريا(‪.)29‬‬
‫و قد سلك هذا الم سلك أيضا عبدال بن سبأ الحميري اليهودي(‪ ،)30‬فإ نه لع نه ال‪ ،‬أظ هر ال سلم‬
‫ليكيهد أهله‪ ،‬فههو كان أصهل إثارة الناس على عثمان – رضهي ال عنهه‪ -‬وحرق علي بهن أبهي طالب‬
‫طوائف أعلنوا بإلهيته‪.‬‬
‫ومهن هذه الصهول الملعونهة‪ ،‬حدثهت السهماعيلية‪ ،‬والقرامطهة‪ ،‬وهمها طائفتان مجاهرتان بترك‬
‫السلم جملة‪ ،‬قائلتان بالمجوسية المحضة‪ ،‬ثم مذهب مزدك الموبذ‪ ،‬الذي كان على عهد أنو شروان بن‬
‫قباذ‪ ،‬ملك الفرس‪ ،‬وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء‪ ،‬والموال‪.‬‬

‫‪ )(27‬هذه السماء فيها اختلف بين النسختين من "الفصل" المحققة والمطبوعة سابقاً ‪ ،‬ففي القديمة‬
‫"ستقادة" و "استاسيس" والملقب بـ " خداش" و "أبو مسلم السراج" ولم يشر المحققان إلى هذا الختلف‬
‫‪.‬‬
‫() لم يقع على علي بن أبي طالب ظلم من الصحابة كما زعمته الرافضة ‪ ،‬وإنما هو شيء اختلق للتشنيع‬ ‫‪28‬‬

‫والوصول إلى المقصد الخبيث‪.‬‬


‫‪ )(29‬يجوز أن يكون عبدال هذا يهودياً ‪ ،‬لم يشف حقده ما فعله من إفساده دين من أفسد دينه ‪ ،‬فدخل في‬
‫الخوارج ليروي ظمأ حقده بدماء المسلمين ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫‪ )(30‬إن فعل هذين الرجلين يدلنا على أن هناك منظمات تتعاون على حرب السلم من اليهود والمجوس‬
‫وغيرهم‪ ،‬كما أشرت إليه قبل ذلك‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫قال أبو محمد‪ " :‬فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن السلم كيف شاؤوا إذ هذا هو‬
‫غرضهم فقط"(‪.)31‬‬
‫وهذا الذي ذكره أ بو مح مد ا بن حزم – رح مه ال – ظا هر في أ نه كان هناك جمعيات تنظيم ية‬
‫تخطط لهدم عقيدة المسلمين‪ ،‬بشتى الوسائل‪.‬‬
‫قال البخاري – رحمهه ال تعالى ‪ " :-‬حدثنها محمهد بهن عبدال – أبهو جعفهر البغدادي‪ -‬قال‪:‬‬
‫سمعت أبا زكريا‪ ،‬يحيى بن يوسف الزمي‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند عبدال ابن إدريس‪ ،‬فجاءه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا‬
‫محمد‪ ،‬ما تقول في قوم يقولون‪ :‬القرآن مخلوق؟ فقال‪ :‬أمن اليهود؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فمن النصارى؟ قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬قال‪ :‬فمن المجوس؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬من أهل التوحيد‪ ،‬قال‪ :‬ليس هؤلء من أهل التوحيد‪ ،‬هؤلء‬
‫ص ‪16‬‬
‫الزنادقهة مهن زعهم أن القرآن مخلوق‪ ،‬فقهد زعهم أن ال مخلوق‪ ،‬يقول ال – تعالى‪ :-‬بسهم ال‬
‫الرحمن الرحيم‪ ،‬فال ل يكون مخلوقا‪ ،‬والرحمن ل يكون مخلوقا‪ ،‬والرحيم ل يكون مخلوقا‪.‬‬
‫وهذا أصل الزندقة‪ ،‬من قال هذا فعليه لعنة ال‪ ،‬ل تجالسوهم‪ ،‬ول تناكحوهم"(‪.)32‬‬
‫وقال أبو سعيد الدارمي – رحمه ال تعالى ‪ ":-‬لم يزل {أهل الباطل} مقموعين أذلة‪ ،‬مدحورين‪،‬‬
‫حتى كان الن بآخرة‪ ،‬حيث قلت الفقهاء‪ ،‬وقبض العلماء‪ ،‬ودعا إلى البدع دعاة الضلل‪ ،‬فشد ذلك طمع‬
‫كل متعوذ في السلم من أبناء اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬وأنباط العراق‪ ،‬ووجدوا فرصة للكلم‪ ،‬فجدوا في‬
‫هدم السهلم‪ ،‬وتعطيهل ذي الجلل والكرام‪،‬وإنكار صهفاته وتكذيهب رسهله‪ ،‬وإبطال وحيهه‪ ،‬إذ وجدوا‬
‫فرصتهم‪ ،‬وأحسوا من الرعاع جهلً‪ ،‬ومن العلماء قلة‪ ،‬فنصبوا عندها الكفر للناس إماما‪ ،‬بدعوتهم إليه‪،‬‬
‫وأظهروا لههم أغلوطات مهن المسهائل‪ ،‬وعمايات مهن الكلم‪ ،‬يغالطون بهها أههل السهلم‪ ،‬ليوقعوا فهي‬
‫قلوبهم الشك‪ ،‬ويلبسوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم‪ ،‬مقتدين بأئمتهم القدمين"(‪.)33‬‬
‫وقال البخاري‪ " :‬حدث ني أ بو جع فر‪ ،‬حد ثن يح يى بن أيوب‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أ با نع يم البل خي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫كان ر جل من أ هل "مرو" صديقا للج هم‪ ،‬ثم قط عه وجفاه‪ ،‬فق يل له‪ :‬لم جفو ته؟ فقال‪ :‬جاء م نه ما ل‬
‫يحتمل‪ ،‬قرأت يوما آية كذا وكذا – نسيها يحيى‪ -‬فقال‪ :‬ما كان أظرف محمدا‪ ،‬فاحتملتها‪ ،‬ثم قرأ سورة‬
‫ستَوَى} (‪ ،)34‬قال‪ :‬أما وال لو وجدت سبيلً إلى حكها لحككتها من‬
‫طه‪ ،‬فلما قال‪{ :‬ال ّرحْمَنُ عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫المصحف‪ ،‬فاحتملتها‪ ،‬ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى‪ ،‬قال‪ :‬ما هذا؟ ذكر قصته في‬
‫موضع فلم يتمها‪ ،‬ثم ذكرها هاهنا فلم يتمها‪ ،‬ثم رمى المصحف من حجره برجليه‪ ،‬فوثبت عليه"(‪.)35‬‬
‫ص ‪17‬‬

‫‪" )(31‬الفصل" (‪ )116-2/115‬وانظر "المحققة" (‪.)274-2/273‬‬


‫‪" )(32‬خلق أفعال العباد" (ص ‪.)30‬‬
‫‪" )(33‬الرد على الجهمية" (ص ‪" )259‬عقائد السلف" ‪.‬‬
‫‪ )(34‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪" )(35‬خلق أفعال العباد" (ص ‪ ،)46‬وانظر ‪" :‬عقائد السلف" (‪.)129-128‬‬

‫‪10‬‬
‫فهذه الوقائع – ومثلها كثير جدا – تدل على حقد دفين على هذا الدين‪ ،‬وأنه د خل في الم سلمين‬
‫الدخ يل ذو القلب الموتور‪ ،‬وال صدر الموغور‪ ،‬والن فس ال تي تأكل ها نار عداوة ال سلم‪ ،‬و نبي ال سلم‪،‬‬
‫وأن هؤلء يحاولون اجتثاث السهلم مهن قلوب الناس‪ ،‬بالتشكيهك فهي أصهوله‪ ،‬وأن كثيرا مهن علماء‬
‫السهلف علموههم‪ ،‬وعرفوا أن مرادههم صهد الناس عهن السهلم‪ ،‬وإفسهاد عقائدههم‪ :‬وأن تعاونا يهوديا‪،‬‬
‫ومجو سيا‪ ،‬ون صرانيا‪ ،‬وإلحاديا لم يزل ينت هز الفرص‪ ،‬جاهدا في إطفاء نور ال‪ ،‬ويأ بى ال إل أن ي تم‬
‫نوره‪.‬‬
‫ول شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم‪ ،‬وأنه ل يخلو زمان ول مجتمع من ذلك‪ ،‬وأن ال‬
‫– تعالى – جعل للباطل هواة ومحبين‪ ،‬ينفقون أموالهم ويبذلون نفوسهم في الدفاع عنه‪ ،‬كما جعل للحق‬
‫ن كَ َفرُو ْا يُقَاتِلُو نَ فِي‬
‫سبِيلِ اللّ هِ وَاّلذِي َ‬
‫ن فِي َ‬
‫أنصارا‪ ،‬وهذا أمر ظاهر‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬اّلذِي نَ آ َمنُواْ يُقَاتِلُو َ‬
‫ضعِيفًا} (‪.)36‬‬
‫ن َ‬
‫ش ْيطَانِ كَا َ‬
‫ش ْيطَانِ ِإنّ َك ْيدَ ال ّ‬
‫ت فَقَاتِلُواْ َأوِْليَاء ال ّ‬
‫سبِيلِ الطّاغُو ِ‬
‫َ‬
‫و إذا كان الن سان متظاهرا بم ساندة البا طل ون صرته‪ ،‬فأمره أ سهل م من يخ في ذلك‪ ،‬ويتظا هر‬
‫بالخير واليمان‪ ،‬وهو من أبعد الناس عنه‪ ،‬وأشدهم عداوة له‪ ،‬وإنما مقصده معرفة مواطن الضعف من‬
‫السلم وأهله‪ ،‬والمداخل التي تنفذ سمومه منها فيهم‪ ،‬ثم يرميهم بكل ما يستطيع‪.‬‬
‫ورب ما يكون هناك تنظيمات تل بس لباس العلم والمعر فة‪ ،‬وال صلح‪ ،‬والتجد يد‪ ،‬والمق صود من ها‬
‫القضاء على الديهن‪ ،‬وههم ينوعون أسهاليبهم فهي كهل وقهت بمها يناسهبه‪ ،‬وإن مصهائب السهلم بهؤلء‬
‫وأمثالههم‪ ،‬مهن فجره إلى يومنها هذا تتوالى‪ ،‬وقهد وصهف ذلك المقريزي‪ -‬رحمهه ال – وصهفا مفيدا‬
‫ألخصه فيما يلي‪:‬‬
‫قال‪ " :‬لما بعث ال محمدا –صلى ال عليه وسلم‪ -‬إلى الناس‪ ،‬وصف لهم ربهم بما وصف به‬
‫نف سه‪ ،‬فلم ي سأله أ حد من العرب بأ سرهم‪ ،‬قروي هم وبدوي هم‪ ،‬عن مع نى ش يء من ذلك‪ ،‬ك ما كانوا‬
‫يسألونه عن أمر الصلة‪ ،‬وشرائع السلم‪ ،‬إذ لو سأله أحد منهم عن شيء من الصفات لنقل‪ ،‬كما نقلت‬
‫أحاديث الحكام وغيرها‪.‬‬
‫ص ‪18‬‬
‫و من أم عن الن ظر في دواو ين الحد يث والثار عن ال سلف‪ ،‬علم أ نه لم يرد قط ل من طر يق‬
‫صحيح ول سقيم عن أحد من الصحابة على اختلف طبقاتهم‪ ،‬وكثرة عددهم‪ ،‬أنه سأل النبي‪-‬صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬عن معنى شيء(‪ ،)37‬مما وصف الرب‪ -‬سبحانه‪ -‬به نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه‪ ،‬بل‬
‫كل هم فهموا مع نى ذلك و سكتوا سكوت فا هم مقت نع‪ ،‬ولم يفرقوا ب ين صفة وأخرى‪ ،‬ولم يتعرض أ حد‬

‫‪ )(36‬الية ‪ 76‬من سورة النساء ‪.‬‬


‫‪ )(37‬مقصوده‪ :‬أنهم لم يسألوا عن مثل اليدين والوجه والنزول والستواء ونحو ذلك‪ ،‬مما يدل على أنهم‬
‫فهموا أن هذه الصفات على ظاهرها المفهوم من لغتهم ‪ ،‬مع علمهم انتفاء المماثلة فيها لصفات الخلق‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫منهم إلى تأويل شيء منها‪ ،‬بل أجروا الصفات كما ودرت بأجمعهم‪ ،‬ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل‬
‫به سوى كتاب ال وسنة رسوله‪.‬‬
‫ومضى عصرهم – رضي ال عنهم‪ -‬على هذا‪ ،‬وحدث القول بنفي القدر في عهد آخرهم‪.‬‬
‫وكان أول من فاه بذلك معبد الجهني‪ ،‬أخذه عن رجل من الساورة‪ ،‬يقال له‪ :‬أبو يونس سيسويه‪،‬‬
‫ويعرف بال سواري‪ ،‬و تبرأ من هذه المقالة ال صحابة‪ .‬ثم خر جت الخوارج‪ ،‬وكفروا بالذنوب‪ ،‬فقاتل هم‬
‫أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫وحدث التشيع لعلي‪ ،‬وغل فيه طائفة بدعوة ابن سبأ اليهودي‪ ،‬فحرقهم في النار‪ ،‬كما أحدث ابن‬
‫سبأ القول بالوصية لعلي بالمامة من بعد الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬والقول بالرجعية‪ ،‬أي رجعة‬
‫علي بعد موته‪ ،‬وأن فيه جزءا من اللهية‪.‬‬
‫و من دعوة هذا اليهودي تشع بت الغلة من الراف ضة‪ ،‬كالمام ية الث نى عشر ية‪ ،‬وال سماعيلية‪،‬‬
‫والقرامطة‪ ،‬والنصيرية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان حتى قتل‪ ،‬ولم يزل‬
‫مذهب الرفض يستفحل حتى مل الدنيا فسادا‪.‬‬
‫ثم حدث مذهب الجهمية‪ ،‬وتعطيل الرب‪ -‬تعالى – عن صفاته‪ ،‬والقول بخلق القرآن‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من العظائم‪ ،‬وعربت كتب الفلسفة في عهد المأمون‪ ،‬فعظمت الفتنة والضلل‪.‬‬
‫ثم ظهر الشعري‪ ،‬وكان أخذ عن الجبائي العتزال‪ ،‬ولز مه دهرا طويلً‪ ،‬ثم سلك طر يق ا بن‬
‫كلب في الصفات‪ ،‬والقدر‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ص ‪19‬‬
‫وسهلك طريقهه جماعهة مهن العلماء‪ ،‬مثهل الباقلنهي‪ ،‬وابهن فورك‪ ،‬والسهفراييني‪ ،‬والشيرازي‪،‬‬
‫والغزالي‪ ،‬والشهرسهتاني‪ ،‬والرازي وغيرههم‪ ،‬ملوا الدنيها بت صانيفهم‪ ،‬يحتجون‪ ،‬ويدعون أن طريقتههم‬
‫هي طري قة أ هل ال سنة والجما عة‪ ،‬فانت شر هذا المذ هب في البلد ال سلمية‪ ،‬وجاءت دولة ب ني أيوب‪،‬‬
‫وكانوا على هذا المذههب‪ ،‬ثهم مواليههم التراك‪ ،‬وأخذه ابهن تومرت إلى المغرب‪ ،‬ونشره هناك‪ ،‬فصهار‬
‫هذا المذهب هو المعروف في المصار‪ ،‬بحيث نسى ما عداه من المذاهب‪ ،‬أو جهل‪ ،‬حتى لم يبق اليوم‬
‫مذهب يخالفه‪ ،‬إل أن يكون مذهب الحنابلة‪.‬‬
‫ح تى جاء ت قي الد ين –أ بو العباس ا بن تيم ية‪ ،-‬فت صدى للنت صار لمذ هب ال سلف‪ ،‬ورد على‬
‫الشاعرة‪ ،‬والرافضهة‪ ،‬والصهوفية‪ ،‬فافترق الناس فيهه فريقان‪ :‬فريهق يقتدي بهه‪ ،‬ويعول على أقواله‪،‬‬
‫ويرى أنه شيخ السلم حقا‪ ،‬ومن أجل حفاظ أهل الملة السلمية‪.‬‬
‫وآخر يبدعه‪ ،‬ويضلله‪ ،‬ويزري عليه إثبات الصفات وغيرها"‪.‬‬
‫ثم قال المقريزي‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫"فهذا‪ -‬أعزك ال‪ -‬بيان ما كانت عليه عقائد المة من ابتداء المر إلى وقتنا‪ ،‬قد فصلت فيه ما‬
‫أجمله أهل الخبار‪ ،‬وأجملت ما فصلوا‪ ،‬فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي‪ ،‬وأطلت بسببه‬
‫(‪)38‬‬
‫سهري وكدي‪ ،‬في تصفح دواوين السلم‪ ،‬وكتب الخبار فقد وصل إليك صفوا"‪.‬‬
‫وقال أح مد أم ين في كل مه على ا بن سبأ‪" :‬والذي يؤ خذ من تاري خه‪ ،‬أ نه و ضع تعاليهم لهدم‬
‫(‪)39‬‬
‫السلم‪ ،‬وألف جمعية سرية لبث تعاليمه‪ ،‬واتخذ السلم ستارا يستر به نياته"‪.‬‬
‫وذكر الطبري‪" :‬أن ابن السوداء لما وصل إلى الشام لقي أبا ذر – رضي ال عنه – فقال له‪ :‬يا‬
‫أ با ذر‪ ،‬أل تع جب لمعاو ية‪ ،‬يقول‪ :‬المال مال ال‪ ،‬أل إن كل شئ ل‪ ،‬ير يد أن يحتج به دون الم سلمين‪،‬‬
‫فذههب أبهو ذر إلى معاويهة وقال له‪ :‬مها يدعوك إلى أن تسهمي مال المسهلمين مال ال؟"‪ .‬ثهم أتهى ابهن‬
‫السوداء أبا الدرداء‪ ،‬فقال له أبو‬
‫ص ‪20‬‬
‫الدرداء‪ :‬من أنت؟ أظنك – وال – يهوديا‪ .‬وأتى عبادة بن الصامت فأخذه عبادة‪ ،‬وذهب به إلى‬
‫(‪)40‬‬
‫معاوية‪ ،‬وقال له‪ :‬هذا وال الذي بعث عليك أبا ذر"‪.‬‬
‫فإذا كان هذا اليهودي قد طمع بالصحابة‪ ،‬فكيف بغيرهم؟‬
‫ومن استقرأ التاريخ يرى أن أعداء السلم لم يدخروا وسعا في محاولة القضاء عليه‪ ،‬إلى يومنا‬
‫هذا‪.‬‬

‫كبريات الفرق السلمية‬


‫كان من نتائج التآمر على عقيدة المسلمين من جهات متعددة‪ ،‬كما سبقت الشارة إليه‪ ،‬أن انشطر‬
‫من ال مة السلمية عدة فرق‪ ،‬انحرفت عن الطر يق ال صحيح‪ ،‬الذي ر سمه لها نبي ها‪ -‬صلى ال عل يه‬
‫وسهلم – وأخذت بنيات الطريهق‪ ،‬كمها سهبق فهي حكهم ال القدري الكونهي‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وََلوْ شَاء َربّك َه‬
‫ت كَِلمَةُ َربّ كَ‬
‫ك خَلَ َقهُ مْ َو َتمّ ْ‬
‫ل مَن ّرحِ مَ َربّ كَ وَِلذَلِ َ‬
‫ختَلِفِي نَ {‪ِ }118‬إ ّ‬
‫ل َيزَالُو نَ ُم ْ‬
‫حدَةً َو َ‬
‫جعَلَ النّا سَ ُأمّةً وَا ِ‬
‫َل َ‬
‫(‪)41‬‬
‫ج َمعِينَ}‪.‬‬
‫جنّةِ وَالنّاسِ َأ ْ‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫ج َه ّنمَ مِ َ‬
‫لمْلنّ َ‬
‫َ‬
‫روى ابن جرير عن الحسن"قال‪:‬الناس مختلفون على أديان شتى‪ ،‬إل من رحم ربك‪ ،‬فمن رحم‬
‫غير مختلفين"‪.‬‬
‫(‪)42‬‬
‫وروي عن مجاهد‪ :‬قال‪" :‬ول يزالون مختلفين" أهل الباطل‪" ،‬إل من رحم ربك"أهل الحق"‪.‬‬

‫‪")(38‬الخطط" للمقريزي ملخصاً (‪.)314-3/309‬‬


‫‪")(39‬فجر السلم" (ص ‪.)269‬‬
‫‪")(40‬تاريخ الطبري"(‪.)4/283‬‬
‫‪)(41‬اليتان ‪ 118،119‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪")(42‬تفسير الطبري" (‪ )15/534‬ط المعارف‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وقال‪":‬معنهى ذلك‪ :‬ول يزال الناس مختلفيهن فهي أديانههم‪ ،‬وأهوائههم‪ ،‬على أديان وملل‪ ،‬وأهواء‬
‫ش تى‪ ،‬إل من ر حم ر بك‪ ،‬فآ من و صدق ر سله‪ ،‬فإن هم ل يختلفون في توحيد ال‪ ،‬وت صديق ر سله‪ ،‬و ما‬
‫(‪)43‬‬
‫جاءهم من عند ال"‪.‬‬
‫ص ‪21‬‬
‫وقال ابن كثير‪":‬يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة‪ ،‬من إيمان أو كفران‪ ،‬كما‬
‫(‪)44‬‬
‫جمِيعًا}‪.‬‬
‫لرْضِ كُّل ُهمْ َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬وََلوْ شَاء َربّكَ ل َمنَ مَن فِي ا َ‬
‫وقوله‪ ":‬ول يزالون مختلفيهن إل مهن رحهم ربهك" أي‪ :‬ول يزال الخلف بيهن الناس فهي أديانههم‪،‬‬
‫واعتقاداتهم في مللهم ونحلهم‪ ،‬ومذاهبهم‪ ،‬وآرائهم‪ ،‬إل المرحومين من أتباع الرسل‪ ،‬الذين تمسكوا بما‬
‫أمروا بهه مهن الديهن الذي جاءت بهه رسهل ال إليههم‪ ،‬ففازوا بسهعادة الدنيها والخرة‪ ،‬لنههم الفرقهة‬
‫(‪)45‬‬
‫الناجية"‪.‬‬
‫وقد أخبر النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – بوقوع هذا الختلف‪ ،‬محذرا منه‪ ،‬فروى أبو داود‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين‬
‫فرقهة‪ ،‬وتفرقهت النصهارى على إحدى أو اثنتيهن وسهبعين فرقهة‪ ،‬وتفرقهت أمتهي على ثلث وسهبعين‬
‫(‪)46‬‬
‫فرقة"‪.‬‬
‫ورواه أيضا من حديث معاوية بن أبي سفيان‪ -‬رضي ال عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال رسول ال‪ -‬صلى‬
‫ال عل يه و سلم ‪" :-‬أل إن من قبل كم من أ هل الكتاب‪ ،‬افترقوا على اثنت ين و سبعين ملة‪ ،‬وإن هذه الملة‬
‫ستفترق على ثلث وسبعين‪ ،‬اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة‪ ،‬وهي الجماعة"‪.‬‬
‫(‪)47‬‬

‫(‪)48‬‬
‫قال ابن كثير‪" :‬روي هذا الحديث في "السنن" و"المسانيد" من طرق يشد بعضها بعضا"‪.‬‬
‫وأ صل الفرق الذي تر جع إل يه أر بع ك ما قال طائ فة من ال سلف‪ ،‬و هم الروا فض‪ ،‬والخوارج‪،‬‬
‫والقدرية{المعتزلة}‪ ،‬والمرجئة‪ ،‬وبعض العلماء يجعلها خمسا ويدخل أهل السنة‪ ،‬كما قال أبو محمد بن‬
‫حزم‪" :‬فرق المقرين بملة السلم‬
‫ص ‪22‬‬

‫‪)(43‬المصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)534‬‬


‫‪)(44‬الية ‪ 99‬من سور يونس‪.‬‬
‫‪")(45‬تفسير ابن كثير" (‪ )291-4/290‬ملخصاً‪ ،‬ط الشعب‪.‬‬
‫‪")(46‬السنن" (‪ )5/4‬رقم (‪ ،)4596‬ورواه الترمذي ‪" ،‬التحفة" (‪ ،)7/397‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وابن ماجه‬
‫(‪ )2/1321‬رقم (‪.)3991‬‬
‫‪")(47‬السنن" (‪ ،)5/5‬والترمذي من حديث عبد ال بن عمرو مع بعض الختلف في اللفظ‪ ،‬وقال‪ :‬حديث‬
‫حسن مفسر‪ ،‬انظر "تحفة الحوذي" (‪.)7/399‬‬
‫‪")(48‬تفسير ابن كثير" (‪.)4/291‬‬

‫‪14‬‬
‫خ مس‪ ،‬و هم‪ :‬أ هل ال سنة‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والشي عة‪ ،‬والخوارج‪ ،‬والمرجئة‪ ،‬ثم افتر قت كل فر قة من‬
‫(‪)49‬‬
‫هذه على فرق"‪.‬‬
‫ومراده‪ :‬غير أهل السنة‪ ،‬فإنهم فرقة واحدة‪ ،‬وهم الذين تمسكوا بكتاب ال واتبعوا سنة رسوله‪-‬‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪.-‬‬
‫وقال الطرطوشهي‪":‬اعلم أن علماءنها قالوا‪ :‬أصهول البدع أربعهة‪ ،‬وسهائر الصهناف الثنتيهن‬
‫والسبعين فرقة عن هؤلء تفرقوا‪ ،‬وتشعبوا‪ .‬وهم‪ :‬الخوارج‪ :‬وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي‬
‫(‪)50‬‬
‫طالب‪ ،‬والروافض‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والمرجئة"‪.‬‬
‫ومن هذه الفرق تشعبت سائر الفرق‪ ،‬وقد ألف فيها وفي بيان نحلها مؤلفات قديما وحديثا‪.‬‬
‫وكان من أول هذه الفرق الشي عة‪ ،‬فإن ها حد ثت في آ خر ع صر ال صحابة‪ ،‬ثم تطور التشن يع إلى‬
‫الرفض‪ ،‬ومبدأه من ابن سبأ اليهودي‪ ،‬وغيره من المجوس ممن دخل في السلم ظاهرا وفي الباطن‬
‫هم إما يهود ماكرون‪ ،‬أو مجوس موتورون‪ ،‬قصدهم إفساد الدين السلمي‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫فكان الر فض في أوله ي سمى التش يع‪ ،‬فاشتهروا بالشي عة‪-‬أي شي عة علي بن أ بي طالب‪ -‬وكانوا‬
‫في زمنه ثلث فرق‪:‬‬
‫فرقة تقول‪ :‬إنه إله‪ ،‬وقد صرحوا له بذلك‪ ،‬فحرق الذين تمكن منهم بالنار‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬الذين يسبون أبا بكر وعمر‪ -‬رضي ال عنهما‪ -‬وقد توعد علي – رضي ال عنه‪ -‬من‬
‫فعل ذلك بأن يقيم عليه الحد‪ -‬قيل‪ :‬إنه القتل‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬المفضلة‪ ،‬الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر‪ ،‬وبقية الصحابة‪ ،‬وقد روي عنه أنه‬
‫(‪)51‬‬
‫قال‪":‬ل أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إل جلدته الحد"‪.‬‬
‫ص ‪23‬‬
‫ولما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية‪ ،‬سأله الشيعة عن أبي بكر وع مر‪،‬‬
‫فترضى عنهما‪ ،‬وبين أنه يتولهما‪ ،‬تبرأ منه عند ذلك أكثرهم‪ ،‬فقال‪ :‬رفضتموني‪ .‬فسموا‪ :‬الرافضة‪،‬‬
‫والذين اتبعوه سموا زيدية‪.‬‬
‫وأ ما القدر ية‪ :‬فأ صلهم‪-‬في ما يبدو‪ ،‬وال أعلم‪ -‬من المجو سية المتعاو نة مع اليهود ية والن صرانية‬
‫على حرب السلم‪.‬‬
‫وحدثت هذه الضللة أيضا في آخر عهد الصحابة‪ -‬رضي ال عنهم‪ -‬ثم تطورت إلى العتزال‪.‬‬
‫وقهد أغتهر بهذا المبدأ كثيهر مهن الناس‪ ،‬الذيهن عجزت عقولههم عهن اسهتيعاب اليمان بقدر ال‪،‬‬
‫وأمره ونهيهه‪ ،‬ووعده ووعيده‪ ،‬وظنوا امتناع الجمهع بيهن ذلك‪ ،‬فنفوا علم ال بالمسهتقبل‪ ،‬لظنههم أنهه ل‬

‫‪")(49‬الفصل"(‪.)2/265‬‬
‫‪")(50‬الحوادث والبدع"(ص ‪.)31‬‬
‫‪)(51‬انظر‪":‬فضائل الصحابة" للمام أحمد(‪.)1/83‬‬

‫‪15‬‬
‫يحسن أن يأمر من يعلم أنه يعصي أمره ثم يعذبه على ذلك‪ ،‬حيث جعلوا هذا ظلما ل يجوز‪ ،‬فقابلتهم‬
‫الجبرية‪ ،‬الذين هم صنو منهم‪ ،‬ثم تطورت إلى التجهم‪ ،‬والتعطيل‪ ،‬بتغذية اليهودية المفسدة في الرض‪.‬‬
‫وأما الخوارج‪ :‬فهم الذين خرجوا عن الحق من جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‪ ،‬وهم‬
‫كذلك كان ظهورهم في آخر عهد الصحابة رضي ال عنهم‪ .‬وهم إنما أتوا من سوء فهمهم للنصوص‪،‬‬
‫ولم يق صدوا مخال فة القرآن‪ ،‬ول كن فهم هم أدا هم إلى ما لم يدل عل يه القرآن‪ ،‬و هو تكف ير أ هل الذنوب‪،‬‬
‫والقول بخلودهم في النار‪ ،‬ولبد أنه اندس في صفوفهم من يضللهم من منظمات الموتورين‪ ،‬والحاقدين‬
‫على دين ال وعباده المؤمنين‪.‬‬
‫وأمها الرجاء‪ :‬فإ نه وإن كان أخهف هذه البدع‪ ،‬ومعتنقوه من أقربههم إلى أ هل ال سنة‪ ،‬ففيهه من‬
‫الضلل والمخالفة لشرع ال تعالى ما هو معروف في مواطنه‪.‬‬

‫الشعرية‬
‫من نتائج الفتراق والتش تت‪ ،‬برزت الشعر ية‪ ،‬و هي عبارة عن خل يط من مذا هب عدة فرق‪،‬‬
‫كالمعتزلة‪ ،‬والكلبيهة‪ ،‬والجهميهة‪ ،‬وقهد كان إمام هذه النحلة‪-‬أبهو الحسهن الشعري‪ -‬تلميذا لبهي علي‬
‫الجبائي‪ ،‬قرأ عليهه أصهول المعتزلة‪ ،‬ولزمهه مها يقرب مهن أربعيهن عاما‪ ،‬ولهذا كان خهبيرا بمذاههب‬
‫المعتزلة‪ ،‬ثم انتقل إلى طريقة‬
‫ص ‪24‬‬
‫عبد ال بن سعيد بن كلب‪ ،‬وهي أقرب إلى مذهب أهل السنة من طريقة المعتزلة‪ ،‬وجعل يبين‬
‫ف ساد مذ هب العتزال ويرد علي هم‪ ،‬ويو ضح ف ساد أ صولهم‪ ،‬وتناقض هم‪ ،‬وبعد هم عن ال حق‪ ،‬ومثل هم‬
‫الرافضة والفلسفة‪ ،‬ولهذا صار له ذكر حسن وقدر عند المسلمين‪.‬‬
‫والذين ينتسبون إليه من المتأخرين ليسوا على طريقته‪ ،‬مع أنه لم يكن من أهل السنة المحضة‪،‬‬
‫إذ لم يستطيع أن يتخلص من بعض مسائل أهل الكلم‪.‬‬
‫قال شيهخ السهلم‪" :‬ل ريهب أن الشعريهة إنمها تعلموا الكتاب والسهنة مهن أتباع المام أحمهد‪،‬‬
‫ونحوه‪ ،‬ولهذا يو جد أك ثر ألفا ظه ال تي يذكر ها عن أ هل ال سنة والحد يث‪ ،‬إ ما ألفاظ زكر يا بن يح يي‬
‫ال ساجي‪ ،‬ال تي و صف ب ها مذ هب أ هل ال سنة‪ ،‬أو ألفاظ أ صحاب المام أح مد‪ ،‬و ما ين قل عن أح مد في‬
‫ر سائله الجام عة في ال سنة‪ ،‬وإل فالشعري لم ي كن له خبرة بمذ هب أ هل ال سنة‪ ،‬وأ صحاب الحد يث‪،‬‬
‫وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة‪ ،‬ل يعرف تفاصيل أقوالهم‪ ،‬وأقوال أئمتهم‪ ،‬وقد تصرف فيما نقله‬
‫عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير‪.‬‬
‫وأما خبرته بمقالت أهل الكلم فكانت تامة على سبيل التفصيل‪.‬‬
‫ولهذا لم يذ كر عن أ هل ال سنة في كتاب "مقالت ال سلميين" إل جملة مقالت هم‪ ،‬مع أن ل هم في‬
‫تفاصيل تلك ما ليس لهل الكلم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ول ريب أن للشعري في الرد على أهل البدع كلما حسنا‪ ،‬هو من الكلم المقبول‪ ،‬الذي يحمد‬
‫قائله إذا أخلص فيه النية‪.‬‬
‫وله أيضا كلم خالف به بعض السنة هو من الكلم المردود‪ ،‬الذي يذم قائله إذا أصر عليه بعد‬
‫وال يغفر لنا وله‪.‬‬ ‫قيام الحجة"‬
‫(‪)52‬‬

‫وقد انتسب إلى الشعري أكثر العالم السلمي اليوم من أتباع المذاهب الرب عة‪ ،‬وهم يعتمدون‬
‫ل بعيدا جدا‪ ،‬وقهد‬
‫ل يصهل أحيانا إلى التحريهف‪ ،‬وأحيانا يكون تأوي ً‬
‫على تأويهل نصهوص الصهفات تأوي ً‬
‫أمتلت الدنيا بكتب هذا المذهب‪ ،‬وادعى أصحابها أنهم أهل السنة‪ ،‬ونسبوا من آمن بالنصوص على‬
‫ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم‪.‬‬
‫ص ‪25‬‬
‫هذا ول بد لعلماء ال سلم‪-‬ور ثة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم – من مقاو مة هذه التيارات‬
‫الجارفهة‪ ،‬على حسهب مها تقتضيهه الحال‪ ،‬مهن مناظرات‪ ،‬أو بالتأليهف‪ ،‬وبيان الحهق بالبراهيهن العقليهة‬
‫والنقلية‪ ،‬وقد يصل المر أحيانا إلى شهر السلح‪.‬‬
‫وقهد أكثهر علماء السهنة مهن التأليهف فهي الرد على أههل الهواء والنحراف‪ ،‬كمها ظههر بعهض‬
‫الطوائف المقابلة لتلك البدع كالسالمية والكلبية‪ ،‬الذين تولوا أيضا الرد على أهل تلك النحرافات‪ ،‬غير‬
‫أن هم كثيرا ما يردون البدع ببدع مماثلة ل ما يرد أو قريبا من ها‪ ،‬يزداد من أ جل ذلك التباس ال حق على‬
‫كثير من الناس‪ ،‬بخلف ما إذا كان الرد بما دل عليه كتاب ال‪ -‬تعالى‪ -‬وسنة رسوله‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم – كما هو نهج أهل السنة‪ ،‬بالضافة إلى المعقول الصريح‪.‬‬
‫ومن كبار علماء السنة الذين ردوا على أهل البدع‪ ،‬المام البخاري‪-‬رحمه ال تعالى – في كتاب‬
‫أفرد لذلك سماه "خلق أفعال العباد"‪ ،‬ولم يقتصر فيه على ما يفهم من ال سم‪ ،‬بل رد فيه على الجهم ية‬
‫والقدر ية وغير هم‪ ،‬ك ما رد على المرجئة في كتاب اليمان من "الجا مع ال صحيح"‪ ،‬ورد على الجهم ية‬
‫والمعتزلة و من سلك طريق هم في كتاب "التوح يد"‪ ،‬الذي خ تم به كتا به "الجا مع ال صحيح"‪ ،‬و سلك ف يه‬
‫طريقا واضحا فهي الرد‪ ،‬إذ اقتصهر على ذكهر النصهوص‪ ،‬من الكتاب وال سنة‪ ،‬التهي فيهها بيان بطلن‬
‫مذاهب هؤلء المشار إليهم‪ ،‬فكأنه يقول‪ :‬هذا كتاب ربنا الذي أنزله علينا وأمرنا باتباعه‪ ،‬وحضنا على‬
‫تدبره وفه مه‪ ،‬وجعله هدى ونورا وشفا ًء للمؤمن ين به‪ ،‬وهذه سنة نبي نا الذي كلف نا بطاع ته‪ ،‬ومتابع ته‪،‬‬
‫وفيه ما الع صمة عن الخ طأ‪ ،‬وه ما صريحان في بيان ال حق‪ ،‬الذي ضل ع نه هؤلء المبتد عة‪ ،‬ففيه ما‬
‫تكفل برد ما جاؤوا به‪ ،‬فل ي سع الم سلم إل ال خذ به ما‪ ،‬ورد ما خالفه ما‪ ،‬ففيه ما الهدى والنور‪ ،‬و في‬
‫ل بين لنا كل ما نحتاج‬
‫تركهما الضلل والهلك‪ ،‬وال‪-‬تعالى‪ -‬لم يكلنا إلى عقولنا‪ ،‬بل أرسل إلينا رسو ً‬
‫إليه من أمور ديننا‪ ،‬وأنزل عليه كتابه‪ ،‬فيه تبيان لكل شيء فرق فيه بين الحق والباطل‪ ،‬فلسنا نحتاج‬

‫‪")(52‬التسعينية" (‪)287-5/286‬من الفتاوى المصرية‪ ،‬ملخصاً‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫م عه إلى غيره‪ ،‬فإن تم سكنا به أو صلنا إلى ال من أقرب طر يق وأهداه‪ ،‬وإن أعرض نا ع نه تخطفت نا‬
‫الشياطين من كل‬
‫ص ‪26‬‬
‫ن{‬
‫ش ْيطَانًا فَهُ َو لَ ُه َقرِي ٌ‬
‫ن نُ َقيّ ضْ َل هُ َ‬
‫حمَ ِ‬
‫جا نب‪ ،‬ك ما قال ال –تعالى‪ {:-‬وَمَن َيعْ شُ عَن ِذكْرِ ال ّر ْ‬
‫ت َب ْينِي َو َب ْينَ كَ‬
‫حتّى ِإذَا جَاءنَا قَالَ يَا َليْ َ‬
‫ن َأ ّنهُم ّم ْه َتدُو نَ {‪َ }37‬‬
‫سبُو َ‬
‫سبِيلِ َو َيحْ َ‬
‫صدّو َنهُمْ عَ نِ ال ّ‬
‫‪}36‬وَِإ ّنهُ ْم َليَ ُ‬
‫(‪)53‬‬
‫ُب ْعدَ ا ْل َمشْ ِر َقيْنِ َف ِبئْسَ الْ َقرِينُ}‪.‬‬

‫‪)(53‬اليات ‪38-36‬من سورة الزخرف‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ص ‪27‬‬

‫المام البخاري‬
‫(‪)54‬‬
‫هو أبو عبد ال‪ ،‬محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه‪.‬‬
‫قال النووي‪":‬اتفهق العلماء على أنهه ولد بعهد صهلة الجمعهة‪ ،‬لثلث عشرة ليلة خلت مهن شوال‪،‬‬
‫سهنة أربهع وتسهعين ومائة‪ ،‬وتوفهي ليلة السهبت‪ ،‬عنهد صهلة العشاء ليلة الفطهر‪ ،‬سهنة سهت وخمسهين‬
‫ومائتين‪ ،‬ودفن يوم الفطر بعد الظهر"‪.‬‬
‫(‪)55‬‬

‫طلب العلم من صغره‪ ،‬و تبينت نجاب ته‪ ،‬وذكاؤه‪،‬وفطن ته‪،‬وحف ظه‪ ،‬ونبله من صغره‪ ،‬و قد طوف‬
‫البلد مرارا لطلب الحديث‪ ،‬وأخباره مشهورة‪ ،‬واتفق العلماء على جللته‪ ،‬وإمامته في الحديث‪ ،‬وفقهه‪،‬‬
‫وتميز بذلك عن غيره‪ ،‬وقد كتب في ترجمته كثيرا‪ ،‬في كتب الرجال‪ ،‬والشروح‪ ،‬وأفرد لذكر فضائله‬
‫وشمائله كتب خاصة‪ ،‬فل نطيل في ذلك‪.‬‬
‫وأمها كتابهه "الجامهع الصهحيح"فقال النووي‪-‬رحمهه ال‪" :-‬اتفهق العلماء على أن أصهح الكتهب‬
‫المصهنفة‪:‬صهحيحا البخاري ومسهلم‪ ،‬واتفهق الجمهور على أن "صهحيح البخاري" أصهحهما صهحيحا‪،‬‬
‫وأكثرهم فوائد"‪.‬‬
‫(‪)56‬‬

‫قلت‪ :‬هو كتاب عظيم ونافع جدا لمن قرأه‪ ،‬وتدبره‪ ،‬وقد أودعه من التراجم التي تعين على الفهم‬
‫الشيء الكثير‪ ،‬وهي تدل على عظيم فقهه في الحديث‪ ،‬ودقة استنباطه‪ ،‬وقد بلغت ثلثة آلف وثمانمائة‬
‫واثنتين وثمانين ترجمة‪ ،‬وتزيد على ذلك في بعض النسخ‪.‬‬
‫ص ‪28‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد اعتنى به العلماء عناية فائقة‪ ،‬قراءة‪ ،‬وحفظا‪،‬وتدريسا‪،‬وشرحا‪.‬‬
‫فحظي بشروح كثيرة جدا‪،‬فذكر في "كشف الظنون" ما يقرب من ثمانين شرحا للبخاري(‪ ،)57‬وله‬
‫أكثر من ذلك بكثير‪.‬‬
‫ومهع هذا‪ ،‬فإن كتاب التوحيهد منهه بحاجهة إلى شرح يهبين مقاصهد البخاري‪-‬رحمهه ال تعالى –‬
‫ووجه الرد منه على أهل البدع‪ ،‬لن غالب من قام بشرحه‪ ،‬على المذهب الشعري‪ ،‬ول سيما الشروح‬
‫المتداولة اليوم‪ ،‬ولهذا تجد أحدهم يوجه الكلم من النصوص‪ ،‬ليتفق مع ما يعتقده‪ ،‬ولو بالتعسف‪.‬‬
‫وكث ير من ال صفات ال تي يثبت ها البخاري‪ ،‬م ستدلً علي ها ب نص من كتاب ال‪ ،‬أو عن ر سوله‪،‬‬
‫يحاولون ردها‪ ،‬إما بالتحريف الذي يسمونه تأويلً‪ ،‬أو بدعوى الجماع على خلفها‪ ،‬كما ذكر الحافظ‪-‬‬
‫رحمه ال تعالى‪ -‬عن ابن بطال‪ ،‬في قوله‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬ل شخص أغير من ال"‪.‬‬

‫‪")(54‬هدي الساري" (‪ ،)2/250‬و" تاريخ بغداد" (‪.)2/4‬‬


‫‪ ")(55‬شرح النووي"للبخاري(ص ‪.)4‬‬
‫‪")(56‬شرح النووي"للبخاري(ص ‪.)7‬‬
‫‪ )(57‬انظر‪" :‬كشف الظنون"(‪.)1/545‬‬

‫‪19‬‬
‫(‪)58‬‬
‫قال‪" :‬أجمعت المة على أن ال‪-‬تعالى‪ -‬ل يجوز أن يوصف بأنه شخص"‪.‬‬
‫وذكر عن الخطابي‪ :‬أنه رد وصف الرب –تبارك وتعالى‪ -‬بالصابع‪ ،‬كما في حديث عبد ال بن‬
‫م سعود في ذ كر ال حبر الذي سأل ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – ون سب ذلك إلى تخل يط اليهود‪،‬‬
‫وتشبيههم‪ ،‬وقال في قوله في الحديث‪" :‬فضحك رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم – تصديقا لقوله" إنه‬
‫ظن من ا بن م سعود‪،‬وح سبان‪ ،‬وحاول ع كس ال مر‪ ،‬وأن الض حك من جرأة اليهود على الت شبيه(‪،)59‬‬
‫وأمثال ذلك كثير‪ ،‬مما هو خلف ما أراد إثباته مؤلف الكتاب‪.‬‬
‫ولذلك أرى من الواجب أن يتولى شرح هذا الكتاب العظيم‪ ،‬الذي ألفه ذلك الرجل السلفي الفاهم‬
‫للحهق تمام الفههم‪ ،‬مهن ههو على نههج المؤلف فهي العقيدة‪ ،‬ويفههم مقصهده‪ ،‬وماذا يريهد مهن إيراده‬
‫للنصوص‪.‬‬
‫ولمها أعوزنهي وجود شرح على هذا الوصهف‪ ،‬ولم يسهعفني مهن طلبهت منهه القيام بذلك مهن‬
‫مشائخنا‪ ،‬تطفلت على كتب العلماء‪ ،‬وقمت بجمع ما أراه مناسبا لشرح‬
‫ص ‪29‬‬
‫مها أورده البخاري‪-‬رحمهه ال تعالى‪ -‬وأرجهو مهن ال المداد بالعون والسهداد‪ ،‬فإنهه ل يخيهب‬
‫سائله‪ ،‬ول يحرم آمله‪ ،‬ول ست أز عم أن ني أف هم من كتاب البخاري‪-‬رح مه ال‪ -‬ما ل يفه مه شارحوه‪،‬‬
‫أمثال ابن حجر والعيني والخطابي وابن بطال والقسطلني وغير هم‪ ،‬ولكن لكل منهم نهجه الخاص‪،‬‬
‫وعقيدته التي تملي عليه مسلكا معينا‪.‬‬
‫وطريقتي فيه أني‪:‬‬
‫‪-1‬أذكر نص الحديث بسنده‪ ،‬ثم أتبعه بترجمه لراويه من الصحابة موجزة جدا‪.‬‬
‫‪-2‬أحاول بيان مراد البخاري‪-‬رح مه ال‪ -‬من إيراده ال نص‪،‬وبيان و جه ا ستدلله بذلك‪،‬‬
‫حسب المستطاع‪.‬‬
‫‪-3‬أعزو الكلم إلى قائله‪ ،‬مبينا مكانه من المصدر‪ ،‬بالجزء والصفحة‪ ،‬واذكر رقم الية‬
‫واسم السورة‪ ،‬ومكان الحديث في المصدر‪ ،‬وأما"صحيح البخاري" فغالبا أعزو ما فيه‬
‫إلى "الفتح"‪.‬‬
‫‪-4‬ل أتطرق إلى الكلم على رجال السند‪ ،‬إذ هو أمر مفروغ منه‪ ،‬فكل ما في البخاري‬
‫ثابت‪ ،‬عن المصطفى‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪ ،-‬وقد تلقته المة بالقبول‪ ،‬فل يطعن فيه‬
‫إل من كان له غرض‪ ،‬أو في قلبه مرض‪ ،‬خل بعض المعلقات‪ ،‬وقد تولى الحافظ –‬
‫رحمه ال‪ -‬وصل أسانيده‪ ،‬والجابة عما قيل فيها في كتابه‪" :‬تغليق التعليق"‪.‬‬

‫‪ )(58‬انظر‪" :‬الفتح" (‪ )13/400‬وسيأتي‪-‬إن شاء ال‪ -‬الكلم عليه وذكر من رواه‪.‬‬


‫‪ )(59‬انظر‪" :‬الفتح" (‪ . )13/398‬وسيأتي‪-‬إن شاء ال – ذكر ذلك في موضعه‪ ،‬وإبطاله بالبراهين المعتمدة‬
‫على الحق اليقيني‪ ،‬ل ظنون المتكلمين وشكوكهم‪ ،‬وال المستعان‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪-5‬أحاول جهدي بيان مذههب السهلف‪ ،‬فهي أسهامي ال –تعالى‪ ،-‬وأوصهافه‪ ،‬ومدى‬
‫تم سكهم بالكتاب وال سنة‪ ،‬م ستعينا على ذلك بن قل ما تي سر لي من كلم هم على سبيل‬
‫اليجاز‪.‬‬
‫‪-6‬أحاول رد القول الباطل‪ ،‬أو الضعيف‪ ،‬الذي تؤيده النصوص‪ ،‬إذ إن مبنى أوصاف ال‬
‫–تعالى‪ -‬على ثبوت النص في ذلك‪ ،‬ول دخل لقياس وعقل في ذلك‪ ،‬وكل ذلك حسب‬
‫المستطاع‪.‬‬
‫ص ‪30‬‬
‫قال البخاري ‪ -‬رحمه ال تعالى‪:-‬‬
‫"باب ما جاء في دعاء النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬أمته إلى توحيد ال‪-‬تبارك وتعالى‪"-‬‬
‫مقصده بهذا أن يبين أن النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬قد أوضح ما يجب على المسلم أن يعتقده‬
‫فهي حهق ال‪-‬تعالى‪ -‬نفيا وإثباتا‪ ،‬وأوضهح مها يجهب ل على عباده‪ ،‬مهن توحيهد القصهد والنيهة‪ ،‬لن‬
‫قوله‪":‬توح يد ال" ي عم أنواع التوح يد‪ ،‬فلم يترك ال مر مشتبها‪ ،‬بل بي نه‪ ،‬في جب أن يت بع بيا نه في ذلك‪،‬‬
‫فل يصار إلى رأي متكلم‪ ،‬أو عقل متفلسف‪ ،‬أو قول مؤول‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬دعاء النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – أمته" أي الدعوة التي كلفه ال بها وأمره بإبلغها‪.‬‬
‫يع ني‪ :‬أن هذا مق صود الر سالة‪ ،‬فل بد أن يبينه‪ ،‬ويبل غه أم ته‪ ،‬البلغ ال مبين‪ ،‬بح يث ل يب قى ف يه‬
‫التباس‪ ،‬أو اشتباه‪.‬‬
‫و قد قام‪ -‬صلوات ال و سلمه عليه‪ -‬بهذا الوا جب خ ير قيام‪ ،‬فأوض حه غا ية اليضاح‪ ،‬فل عذر‬
‫لمن انحرف عنه‪ ،‬وتلقى توحيده من الفلسفة والمتكلمين الذين كثر في هذا الباب اضطرابهم‪ ،‬وغلظ‬
‫(‪)60‬‬
‫عن معرفة ال‪-‬تعالى‪ -‬حجابهم‪.‬‬
‫وبهذا يبين أن معرفة التوحيد‪ ،‬الذي جاء به رسول ال –صلى ال عليه وسلم – ودعا أمته إليه‪،‬‬
‫ل يمكن الوصول إليها إل بما جاء به –صلى ال عليه وسلم – من كتاب ال‪ -‬تعالى‪ ،-‬وسنته التي‬
‫هي شارحة ومبينة لكتاب ال‪ -‬تعالى‪.-‬‬
‫والمة هنا يقصد بها‪ :‬المة المطلقة‪ ،‬أي أمة الدعوة‪.‬‬
‫ص ‪31‬‬
‫‪"-1‬حدث نا أ بو عا صم‪ ،‬حدث نا زكر يا بن إ سحاق‪ ،‬عن يح يى بن ع بد ال بن صيفي‪ ،‬عن أ بي‬
‫معبد‪ ،‬عن ابن عباس‪ -‬رضي ال عنهما‪ -‬أن النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – بعث معاذا إلى‬
‫اليمن"‪.‬‬
‫‪-2‬وحدثني عبد ال بن أبي السود‪ ،‬حدثنا الفضل بن العلء‪ ،‬حدثنا إسماعيل ابن أمية‪ ،‬عن‬
‫يحيى بن عبد ال بن صيفي‪ ،‬أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول‪ :‬سمعت ابن عباس‬

‫‪)(60‬اقتباس مكن كلم شيخ السلم في أول الحموية‪ ،‬انظر (ص ‪ )5‬بتعليقات محمد عبد الرزاق حمزة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫يقول‪ ":‬لما بعث النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – معاذا إلى نحو أهل اليمن‪ ،‬قال له‪ :‬إنك تقدم‬
‫على قوم مهن أههل الكتاب‪ ،‬فليكهن أول مها تدعوههم‪ ،‬إلى أن يوحدوا ال تعالى‪ ،‬فإذا عرفوا‬
‫ذلك‪ ،‬فأخبرهم أن ال فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم‪ ،‬فإذا صلوا فاخبرهم‬
‫أن ال افترض علي هم زكاة أموال هم‪ ،‬تؤ خذ من غني هم فترد على فقير هم‪ ،‬فإذا أقروا بذلك‪،‬‬
‫فخذ منهم‪ ،‬وتوق كرائم أموال الناس"‪.‬‬
‫ع بد ال بن العباس بن ع بد المطلب‪ ،‬الهاش مي‪ ،‬ا بن عم ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم ‪،-‬‬
‫و حبر هذه ال مة‪ ،‬من المكثر ين عن ال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم ‪ ،-‬و جل ما يرو يه بوا سطة أ حد‬
‫ال صحابة‪ ،‬د عا له ال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – بأن يفق هه ال في الد ين‪ ،‬ويعل مه التأو يل‪ ،‬فظهرت‬
‫عليه آثار دعوته‪-‬صلى ال عليه وسلم – حتى عرف بأنه ترجمان القرآن‪.‬‬
‫توفي النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – وهو ابن خمس عشر سنة‪ ،‬على الراجح‪.‬‬
‫(‪)61‬‬
‫وقد توفي سنة ثمان وستين في الطائف‪.‬‬
‫ومعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس‪ ،‬النصاري‪ ،‬الخزرجي‪ ،‬من علماء الصحابة وساداتهم‪ ،‬قال له‬
‫ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – في ما رواه أ بو داود والن سائي بإ سناد صحيح‪" :‬وال يا معاذ إ ني‬
‫أحبك"(‪.)62‬‬
‫وقال ابن مسعود‪" :‬إن معاذا كان أمة قانتا ل حنيفا‪ ،‬ولم يكن من المشركين‪ ،‬إنا كنا لنشبه معاذا‬
‫(‪)63‬‬
‫بإبراهيم‪ ،‬عليه السلم"‪.‬‬
‫ص ‪32‬‬
‫ش هد العق بة‪ ،‬والمشا هد كل ها مع ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – تو في في الشام بطاعون‬
‫(‪)64‬‬
‫عمواس‪ ،‬سنة ثماني عشرة‪ ،‬وكان عمره ثمان وثلثون سنة‪.‬‬
‫قوله‪" :‬بعث معاذا إلى اليمن" أي أرسله مبلغا عنه‪ ،‬وداعيا إلى عبادة ال وتوحيده‪.‬‬
‫"وأصل البعث‪ :‬إثارة الشيء‪ ،‬وتوجيهه‪ .‬ويختلف باختلف ما علق به‪.‬‬
‫أي يخرجهم من‬ ‫(‪)65‬‬
‫فبعثت البعير‪ :‬أثرته من مبركه‪ ،‬وسيرته‪،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَا ْلمَ ْوتَى َي ْب َع ُث ُهمُ اللّهُ}‬
‫الرض أحياء‪ ،‬ويسيرهم إلى المحشر‪.‬‬

‫‪)(61‬انظر‪" :‬الصابة" (‪" ،)4/141‬تذكرة الحفاظ" (‪" ،)1/37‬أسد الغابة" (‪" ،)3/290‬أسير أعلم النبلء"‬
‫(‪ ،)3/331‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫‪")(62‬السنن" (‪ ،)2/180‬الحديث رقم (‪ ،)1522‬وانظر‪" :‬المجتبى" (‪.)3/53‬‬
‫‪)(63‬انظر‪" :‬الصابة" (‪.)6/137‬‬
‫‪")(64‬سير أعلم النبلء" (‪" ،)1/443‬أسد الغابة" (‪" ،)5/194‬الصابة" (‪.)6/136‬‬
‫‪)(65‬الية ‪ 36‬من سورة النعام‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬وَلَهكِن َكرِ هَ الّل ُه ان ِبعَاثَهُ مْ}(‪ )66‬أي‪ :‬توجه هم‪ ،‬ومضي هم م عك‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬ف َبعَ ثَ‬
‫لرْضِ } (‪ )67‬أي‪ :‬قيضه لذلك‪.‬‬
‫غرَابًا َي ْبحَثُ فِي ا َ‬
‫اللّهُ ُ‬
‫أي‪ :‬أرسهلناهم لدعوة قومههم إلى ال تعالى‪،‬‬ ‫(‪)68‬‬
‫ل ُأمّ ٍة رّسهُولً}‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬وََل َقدْ َب َعثْن َا ف ِي كُ ّ‬
‫فالبعث ضربان‪ :‬أحدهما‪ :‬يتعلق بفعل المخلوق‪ ،‬كبعث البعير‪ ،‬وبعث النسان في حاجة‪.‬‬
‫والثاني‪:‬إلهي‪ ،‬وهو قسمان‪:‬‬
‫الول‪ :‬إيجاد العيان‪ ،‬والجناس‪ ،‬والنواع‪ ،‬مهن العدم‪ ،‬على غيهر مثال سهابق‪ ،‬وهذا خاص بال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إحياء الموتى‪ ،‬وهذا قد أعطى‪،‬جل وعل‪ -‬بعض من يشاء من عباده شيئا منه‪ ،‬كعيسى‪-‬‬
‫ول يقع ذلك إل بإذن ال تعالى وإرادته‪.‬‬ ‫(‪)69‬‬
‫عليه السلم‪ -‬ليكون آية على صدقه"‬
‫ص ‪33‬‬
‫و"اليمن" اسم البلد المعروفة الواقعة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب‪.‬‬
‫قال في "القاموس"‪" :‬اليمن ما كان عن يم ين القبلة من بلد الغور"(‪ ،)70‬وفي "المراصد"‪" :‬سميت‬
‫اليمن لتيامنهم إليها‪ ،‬لما تفرقت العرب من مكة‪ ،‬كما سميت الشام لخذهم الشمال"‪.‬‬
‫(‪)71‬‬

‫قلت‪ :‬وفيه نظر‪ ،‬وذلك أن اليمن قديم‪ ،‬قبل وجود مكة على يدي إبراهيم وابنه إسماعيل‪-‬عليهما‬
‫السلم‪-‬إل أن تكون التسمية حادثة‪ .‬وقال قطرب‪" :‬سمى اليمن ليمنه"‪.‬‬
‫(‪)72‬‬

‫قال الحافظ‪" :‬كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر‪،‬قبل حجة الوداع"(‪ ،)73‬وعند أهل المغازي‪ ،‬أن‬
‫ذلك في رب يع ال خر‪ ،‬من سنة ت سع‪ ،‬وال صحيح ما قاله الحا فظ‪ ،‬و قد أشار البخاري‪-‬رح مه ال‪ -‬إلى‬
‫(‪)74‬‬
‫ذلك بقوله‪:‬باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع"‪.‬‬
‫وق يل‪ :‬كان ذلك في أوا خر سنة ت سع‪ ،‬ع ند من صرفه‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – من تبوك‪ ،‬رواه‬
‫فال أعلم‪.‬‬ ‫(‪)75‬‬
‫الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك‪ ،‬وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الخر سنة عشر"‬
‫قوله‪" :‬إ نك تقدم على قوم من أ هل الكتاب"‪ .‬تقدم‪-‬بف تح الدال‪-‬لن ماض يه ثل ثي مك سور الع ين‪،‬‬
‫ومصدره قدوما‪ ،‬لنه يدل على معالجة‪.‬‬

‫‪)(66‬الية ‪ 46‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪)(67‬الية ‪ 31‬من سورة المائدة‪.‬‬
‫‪)(68‬الية ‪ 36‬من سورة النحل‪.‬‬
‫‪")(69‬المفردات"للراغب‪ ،‬بتصرف (ص ‪.)52‬‬
‫‪ ")(70‬القاموس" (‪.)4/279‬‬
‫‪")(71‬المراصد" ‪.)03/1483‬‬
‫‪")(72‬تاج العروس" (‪.)9/371‬‬
‫‪")(73‬الفتح" (‪.)3/358‬‬
‫‪)(74‬انظر‪" :‬البخاري" (‪.)5/204‬‬
‫‪)(75‬انظر‪":‬الفتح" (‪. )3/358‬‬

‫‪23‬‬
‫"القوم" الجماعة من الرجال والنساء‪ ،‬أو من الرجال خاصة‪ ،‬وتدخل النساء على التبعية‪ .‬قاله في‬
‫(‪)76‬‬
‫"القاموس"‪.‬‬
‫ص ‪34‬‬
‫"وأهل الكتاب" هم اليهود والنصارى‪" ،‬والمقصود هنا اليهود‪ ،‬وكان ابتداء دخولهم اليمن في زمن‬
‫"أسعد ذي كرب" تبع الصغر‪ ،‬كما ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة"(‪.)77‬‬
‫والمقصود بالكتاب‪ :‬الجنس‪ ،‬والمراد‪ :‬التوراة‪ ،‬والنجيل‪.‬‬
‫وسمى اليهود‪ ،‬والنصارى‪:‬أهل الكتاب‪ ،‬لن ال تعالى أنزل عليهم التوراة والنجيل‪ ،‬فيهما أوامر‬
‫ال‪ ،‬ونواهيه‪ ،‬ليعملوا بهما‪ ،‬وهدى من ال ونور يخرجهم من ظلمات الغي والشهوات‪ ،‬قال ال تعالى‪:‬‬
‫{وَأَنزَلَ التّ ْورَاةَ وَالِنجِيلَ {‪ }3‬م ِن َقبْلُ ُهدًى لّلنّاسهِ} (‪ .)78‬فتوارثوه جيهل عهن جيهل‪ ،‬ثهم إنههم حرفوه‪،‬‬
‫وغيروا فيه وزادوا ونقصوا‪ ،‬فاختلط حقه في باطلهم‪ ،‬ثم نسخه ال تعالى بالقرآن الذي أنزله على خاتم‬
‫الرسل‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪.-‬‬
‫قال الحا فظ‪":‬قوله‪" :‬إ نك تقدم" الخ‪ ،‬كالتوطئة للو صية‪ ،‬لت ستجمع هم ته علي ها‪ ،‬لكون أ هل الكتاب‬
‫علم في الجملة‪ ،‬فل تكون مخاطبت هم كمخاط بة أ هل الج هل من عبدة الوثان"(‪ .)79‬ول يدل على أن كل‬
‫من يقدم عليهم من أهل الكتاب‪ ،‬بل أغلبهم من عبدة الوثان‪ ،‬كما هو معلوم‪.‬‬
‫قوله‪" :‬فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا ال تعالى" اللم لل مر‪ ،‬وإذا اقترنت بالفاء أو الواو‬
‫فهي ساكنة في الغالب الكثر‪.‬‬
‫وقوله‪":‬إلى أن يوحدوا ال تعالى" ذكره فهي الزكاة بلفهظ‪ ":‬ادعههم إلى شهادة أن ل إله إل ال‪،‬‬
‫وأني رسول ال"(‪.)80‬‬
‫وفي رواية" "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة ال‪ ،‬فإذا عرفوا ال فأخبرهم…" الخ(‪.)81‬‬
‫ص ‪35‬‬
‫وفي أخرى‪ " :‬فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال"(‪.)82‬‬
‫و في روا ية لم سلم‪" :‬فلي كن أول ما تدعو هم إل يه عبادة ال‪ -‬عز و جل‪ -‬فإذا عرفوا ال فأ خبرهم‬
‫…"الخ(‪.)83‬‬
‫وهذه الروايات متفقة في المعنى‪.‬‬

‫‪)(76‬انظر‪" :‬القاموس" (‪.)4/168‬‬


‫‪")(77‬فتح الباري" (‪.)13/348‬‬
‫‪)(78‬اليات ‪ 4-3‬من سورة آل عمران‪.‬‬
‫‪")(79‬الفتح" (‪.)3/358‬‬
‫‪)(80‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)3/261‬‬
‫‪)(81‬المصدر نفسه (ص ‪.)322‬‬
‫‪)(82‬المصدر السابق‪( ،‬ص ‪" )8/64( ،)357‬الفتح" ‪.‬‬
‫‪)(83‬انظر‪" :‬مسلم بشرح النووي" (‪. )1/199‬‬

‫‪24‬‬
‫فمع نى شهادة أن ل إله إل ال‪ :‬توح يد ال بالعبادة‪ ،‬والب عد عن عبادة ما سواه‪ ،‬وهذا هو الك فر‬
‫سكَ‬
‫اسهَتمْ َ‬
‫ّهه فَ َقدِ ْ‬
‫ُوته َويُؤْمِن بِالل ِ‬
‫َنه َيكْ ُف ْر بِالطّاغ ِ‬
‫بالطاغوت‪ ،‬واليمان بال‪ ،‬الذي قال ال تعالى فيهه" { َفم ْ‬
‫ل ان ِفصَامَ َلهَا} (‪.)84‬‬
‫بِا ْلعُرْ َوةِ ا ْل ُوثْ َقىَ َ‬
‫والطاغوت‪ :‬كل ما عبد من دون ال‪ -‬كما قال مالك رحمه ال‪ )85(-‬سواء كان من البشر‪ ،‬أو من‬
‫الحجر‪ ،‬أو الشجر‪ ،‬أو الحيوان‪ ،‬أو الضرحة والعتبات‪.‬‬
‫والك فر به‪ :‬البتعاد عن عبادته‪ ،‬التي هي طلب البركات م نه‪ ،‬أو الشفاعات‪ ،‬أو دفع البليات‪ ،‬أو‬
‫إنالة الحاجات‪ ،‬أو التوجه إليه بالدعاء‪ ،‬ولبد من بغضه وعداوته‪ ،‬وعداوة عابديه ومقاطعتهم‪ ،‬والتبري‬
‫ن حَادّ اللّ هَ َورَسُوَلهُ وَلَ ْو كَانُوا‬
‫ن مَ ْ‬
‫ن بِاللّ هِ وَا ْليَوْ ِم الخِرِ ُيوَادّو َ‬
‫جدُ قَ ْومًا ُي ْؤ ِمنُو َ‬
‫منهم؛ لقول ال تعالى‪ {:‬ل َت ِ‬
‫عشِيرَ َت ُهمْ} (‪.)86‬‬
‫خوَا َنهُمْ َأوْ َ‬
‫آبَاء ُهمْ َأوْ َأ ْبنَاء ُهمْ َأوْ ِإ ْ‬
‫واليمان بال‪-‬تعالى‪ -‬ههو‪ :‬إفراده بالعبادة‪ ،‬التهي تتضمهن غايهة الحهب ومنتهاه مهع غايهة الذل‬
‫وأقصاه‪ ،‬والنقياد لمره والتسليم له‪.‬‬
‫ص ‪36‬‬
‫وهذا ههو حقيقهة شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬كمها قال ‪ -‬صهلى ال عليهه وسهلم – لوفهد عبهد‬
‫القيس‪":‬آمركم باليمان بال وحده‪ ،‬أتدرون ما اليمان بال وحده؟" قالوا‪ :‬ال ورسوله اعلم‪ ،‬قال‪" :‬شهادة‬
‫أن ل إله إل ال …" الخ(‪.)87‬‬
‫س َتغْ ِفرْ ِلذَنبِ كَ وَلِ ْل ُم ْؤ ِمنِي نَ} (‪ ،)88‬أ خذ البخاري‪ -‬رح مه‬
‫وقال‪-‬تعالى‪{ :-‬فَاعْلَ مْ َأنّ ُه ل إَِل َه ِإلّ اللّ هُ وَا ْ‬
‫ال‪ -‬من هذه الية وجوب العلم قبل العمل‪ ،‬فقال‪ :‬باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول ال تعالى‪{ :‬فَاعْلَ مْ‬
‫ل اللّهُ} (‪.)89‬‬
‫َأنّ ُه ل إَِلهَ ِإ ّ‬
‫فالعلم بمعنى هذه الشهادة التي لبد لكل داخل في دين السلم أن يشهد بها هو اليمان المطلوب‬
‫من العباد‪ ،‬وهو معرفة حق ال على عباده‪ ،‬الذي ل يجوز الخلل بشيء منه‪ ،‬وإل استحقوا عذابه‪.‬‬
‫و أما معنى شهادة أن محمدا رسول ال‪ ،‬فهو‪ :‬العلم اليقيني بأنه رسول من ال كلفه إبلغ العباد‬
‫أوامر ال ونواهيه‪ ،‬وطاعته في كل ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما نهاهم عنه‪ ،‬وأن ل يعبد ال إل بما جاء به‪،‬‬
‫وأن كل من سلك طريقا غير سنته فمصيره إلى النار‪ ،‬وأنه بلغ العباد ما أرسل به‪ ،‬وبين لهم دينهم أتم‬
‫بيان‪ ،‬وأنه عبد ال أكرمه بالرسالة‪ ،‬وليس له من العبادة شيء‪ ،‬بل العبادة كلها ل تعالى‪.‬‬

‫‪)(84‬الية ‪256‬من سورة البقرة‪.‬‬


‫‪)(85‬قال ابن جرير‪ " :‬الطاغوت‪ :‬كل ذي طغيان على ال لمن عبده من دونه‪ ،‬إما بقهره لمن عبده أو‬
‫بطاعة من العباد له‪ ،‬إنساناً كان ذلك المعبود‪ ،‬أو شيطاناً‪ ،‬أو وثناً‪ ،‬أو صنماً‪ ،‬أو كائنًا ما كان من أي شيء"‬
‫انظر "تفسير الطبري" (‪ )5/419‬تحقيق ‪ :‬أحمد ومحمود شاكر‪.‬‬
‫‪)(86‬الية ‪ 22‬من سورة المجادلة‪.‬‬
‫‪ )(87‬انظر‪" :‬الفتح" (‪ ،)1/129‬و"مسلم بشرح النووي" (‪.)1/188‬‬
‫‪ )(88‬الية ‪19‬من سورة محمد‪.‬‬
‫‪ )(89‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)1/159‬‬

‫‪25‬‬
‫وهاتان الشهادتان متلزمتان‪ ،‬ل تقبهل إحداهمها دون الخرى‪ ،‬فمهن شههد أن ل إله إل ال‪ ،‬ولم‬
‫يشرك به شيئا‪ ،‬ولم يش هد أن محمدا ر سول ال‪ ،‬ف هو كا فر بال وخالد في النار‪ ،‬وإن جاء بعبادة أ هل‬
‫الرض‪.‬‬
‫ومن شهد أن محمدا رسول ال‪ ،‬وأشرك بال شيئا شركا كبيرا‪ ،‬فهو كافر خالد في النار‪ ،‬فل بد‬
‫من اجتماع هاتين الشهادتين في العبد حتى يكون موحدا‪.‬‬
‫و أ ما مجرد الن طق بشهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا ر سول ال‪ ،‬مع عبادة غ ير ال‪ ،‬وتعلق‬
‫القلب بمن يعتقدهم أولياء‪ ،‬وطلب الحاجات منهم التي ل يقدر عليها إل ال‪ ،‬ومع مخالفة أوامر رسول‬
‫ال – صلى ال عليه وسلم‪ -‬وارتكاب ما نهى عنه‪ ،‬فإن ذلك ل يفيد شيئا‪ ،‬ول يكون النسان به مسلما‪.‬‬
‫ص ‪37‬‬
‫قال النووي‪ -‬رحمه ال‪" :-‬واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء‪ ،‬والمتكلمين على أن المؤمن‬
‫الذي يح كم بأ نه من أ هل القبلة‪ ،‬ول يخلد في النار‪ ،‬ل يكون إل من اعت قد بقل به د ين ال سلم‪ ،‬اعتقادا‬
‫جازما خاليا من الشكوك‪ ،‬ون طق مع ذلك بالشهادت ين‪ ،‬فإن اقت صر على أحده ما لم ي كن من أ هل القبلة‬
‫أصلً‪ ،‬بل يخلد في النار‪ ،‬إل أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه"(‪.)90‬‬
‫وهذه الشهادة أيضا تتضمن اليمان بأسماء ال وصفاته؛ لن ذلك من عبادة ال التي تعبد الخلق‬
‫بها‪.‬‬
‫وهذا الحد يث دل يل ظا هر على أن التوح يد الذي هو إخلص العبادة ل وحده‪ ،‬والب عد عن عبادة‬
‫ما سواه‪ ،‬واليمان بأسمائه وصفاته‪ ،‬كما جاء في وحيه إلى رسله‪ ،‬هو أول واجب على العباد‪.‬‬
‫ل كما يقول أهل الكلم‪ ،‬من المعتزلة‪ ،‬والشعرية‪ ،‬وغيرهم‪ :‬إن أول ما يجب على العبد‪ :‬النظر‬
‫فهي الدلة العقليهة على وجود ال تعالى‪ ،‬أو القصهد إلى النظهر أو الشهك‪ ،‬فهذا الحديهث وأمثاله مهن‬
‫نصوص الكتاب والسنة يبطل هذا الزعم الخاطيء‪.‬‬
‫"وذلك أن أصهل العلم اللههي ومبدأه‪ ،‬ههو اليمان بال ورسهوله‪ ،‬والهتداء بوحيهه‪ ،‬كمها قال –‬
‫سمِيعٌ‬
‫ت فَِإ ّنمَا َأضِلّ عَلَى نَفْ سِي وَِإ نِ ا ْه َت َديْ تُ َف ِبمَا يُوحِي إَِليّ َربّي ِإنّ هُ َ‬
‫تعالى ‪ُ { :-‬يعِي ُد {‪}49‬قُلْ إِن ضَلَلْ ُ‬
‫حيْنَا إَِليْ كَ رُوحًا مّ نْ َأ ْمرِنَا مَا كُن تَ َت ْدرِي مَا ا ْل ِكتَا بُ وَل‬
‫قَرِي بٌ} (‪ .)91‬وق هال تعال هى ‪َ { :-‬و َكذَلِ كَ َأ ْو َ‬
‫(‪)92‬‬
‫عبَا ِدنَا}‬
‫ن ّنشَاء مِنْ ِ‬
‫جعَ ْلنَا ُه نُورًا ّن ْهدِي بِ ِه مَ ْ‬
‫الِيمَانُ وََلكِن َ‬

‫‪" )(90‬شرح النووي للبخاري" (ص ‪ ،)113‬ول بد مع اعتقاد القلب ‪ ،‬ونطق اللسان ‪ ،‬من العمل مع‬
‫التمكن ‪ ،‬فلبد من إقام الصلة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬وحج البيت لمن استطاع ‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من الواجبات‪.‬‬
‫‪ )(91‬الية ‪ 50‬من سورة سبأ ‪.‬‬
‫‪ )(92‬الية ‪ 52‬من سورة الشورى ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ص ‪38‬‬
‫وقال‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬أمرت أن أقاتل الناس‪ ،‬حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدا‬
‫رسول ال‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم‪ ،‬إل بحقها"‪.‬‬
‫(‪)93‬‬

‫ولهذا ابتدأ البخاري – رحمهه ال تعالى – "صهحيحه" ببدء الوحهي ونزوله‪ ،‬الذي يحصهل بهه‬
‫الهدى‪ ،‬والنور‪ ،‬ثم أتب عه بكتاب اليمان‪ ،‬الذي هو القرار بالو حي والنقياد له‪ ،‬ثم اتب عه كتاب العل هم‬
‫الذي هو معرفة ما جاء به الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وفقهه‪ ،‬فهذا هو الترتيب الحقيقي‪.‬‬
‫والمطلع على أقوال أ هل الكلم يع جب م ما جعلوه أ صل الد ين ال سلمي‪ ،‬وبنوا عل يه أن من لم‬
‫يعرفه فليس بمسلم‪.‬‬
‫قال القرطبي‪ ":‬لو لم يكن في الكلم إل مسألتان‪ ،‬هما من مبادئه‪ ،‬لكان حقيقا بالذم‪.‬‬
‫إحداهما‪ :‬قول بعضهم‪ :‬إن أول واجب‪ :‬الشك إذ هو اللزم لوجوب النظر‪ ،‬أو القصد إلى النظر‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬قول جماعة منهم‪ :‬من لم يعرف ال بالطرق التي رتبها أهل الكلم‪ ،‬لم يصح إيمانه‪.‬‬
‫والقائل بهات ين الم سألتين كا فر؛ لجعله ال شك في ال – تعالى – واجبا‪ ،‬ومع ظم الم سلمين كفارا‪،‬‬
‫ح تى يد خل في عموم كل مه ال سلف ال صالح‪ ،‬من ال صحابة والتابع ين‪ ،‬وهذا معلوم الف ساد من الد ين‬
‫بالضرورة‪ ،‬وإل فل يوجد في الشرعيات ضروري"(‪.)94‬‬
‫وقال الغزالي‪ ":‬أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين‪ ،‬وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية‬
‫بالدلة التي حرروها فهو كافر‪ ،‬فضيقوا رحمة ال الواسعة‪ ،‬وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من‬
‫المتكلمين"(‪.)95‬‬
‫ص ‪39‬‬
‫وقوله‪ " :‬فإذا عرفوا ذلك‪ ،‬فأخبرهم أن ال فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم"‪.‬‬
‫أي إذا عرفوا توح يد ال‪ ،‬وعملوا به‪ ،‬بأن أخل صوا عبادت هم ل وحده‪ ،‬واجتنبوا عبادة كل معبود‬
‫سهواه‪ ،‬عنهد ذلك يخهبرون بفرائض السهلم‪ ،‬ويؤمرون بهها‪ ،‬وأعظمهها – بعهد التوحيهد – الصهلوات‬
‫الخمس‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على أنه ل يجب على العبد من الصلة غير الخمس المذكورة‪.‬‬
‫ومعلوم أن بعث معاذ إلى اليمن في آخر حياة الرسول – صلى ال عليه وسلم‪ -‬كما سبق‪.‬‬

‫‪ )(93‬رواه البخاري ومسلم من حديث عبد ال بن عمر ‪" ،‬الفتح" (‪ ، )1/75‬وانظر‪" :‬مسلم بشرح النووي"‬
‫(‪ ،)1/212‬وروى من حديث جماعة من الصحابة في "الصحيحين" وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(94‬من " الفتح" (‪ )13/350‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(95‬نفس المصدر ‪ )13/349( ،‬بتصرف أيضاً ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ك ما ف يه‪ :‬أ نه ي جب على إمام الم سلمين ب عث الدعاة إلى توح يد ال تعالى‪ ،‬وتعل يم الناس شرائع‬
‫السلم‪ ،‬وأمرهم بالتزامها‪ ،‬وجباية الزكاة‪ ،‬ودفعها إلى مستحقيها‪ ،‬الذين ذكرهم ال تعالى بقوله‪ِ{ :‬إ ّنمَا‬
‫الصّ َدقَاتُ لِلْ ُف َقرَاء وَا ْل َمسَاكِينِ} الية (‪.)96‬‬
‫وفيه‪ :‬أن النسان ل يصير مسلما إل إذا وحد ال ‪-‬تعالى – بالعبادة‪ ،‬بأن ل يقصد بعبادته غير‬
‫ال‪ ،‬بهل تكون عبادتهه كلهها ل وحده‪ ،‬وهذا ههو معنهى شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬وأمها معنهى شهادة أن‬
‫محمدا رسول ال هو‪ :‬أن يعبد ال بما جاء به الرسول‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬واليمان بأن ال أوحى‬
‫إليه أوامره‪ ،‬ونواهيه‪ ،‬وكلفه إبلغ الثقلين ذلك‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬أن أي تعبد يتعبد به العبد غير معتبر‪ ،‬ول معتد به بدون التوحيد‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬أن أخذ خيار المال في الزكاة ظلم يجب اجتنابه‪.‬‬
‫وق صد البخاري – رح مه ال – بيان أن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قد ب ين للناس التوح يد‬
‫بأنواعه‪ ،‬وأنه أول واجب‪ ،‬وأول ما يدعى إليه‪ ،‬فل حاجة بعد بيانه إلى بيان أحد من الناس‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ ":‬وقد علم بالضطرار من دين الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬واتفقت عليه‬
‫المة‪ ،‬أن أصل السلم‪ ،‬وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال‪ ،‬فبذلك‬
‫يصير الكافر مسلما‪ ،‬والعدو وليا‪ ،‬والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال‪ ،‬ثم إن كان ذلك من قلبه فقد‬
‫دخل في اليمان‪.‬‬
‫ص ‪40‬‬
‫والبخاري – رح مه‬ ‫(‪97‬‬
‫و إن قال بل سانه دون قل به‪ ،‬ف هو في ظا هر ال سلم‪ ،‬دون با طن اليمان "‬
‫ال – فهي بدئه كتاب التوح يد بهذا الحد يث‪ ،‬يشيهر إلى الرد على المتكلم ين الذ ين جعلوا عمدت هم‪ ،‬في‬
‫إثبات ما يثبتون‪ ،‬ونفي ما ينفون‪ :‬العقل‪.‬‬
‫فهذا الحديث دل على أن أول ما يجب على العبد‪ :‬عبادة ربه تعالى بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب ما‬
‫نههى عنهه‪ ،‬وأن المقصهود مهن الدعوة‪ :‬وصهول العباد إلى مها خلقوا بهه‪ ،‬مهن عبادة ال تعالى وحده ل‬
‫شريك له‪.‬‬
‫ول سبيل إلى ذلك إل باتباع الوحي الذي جاء به محمد –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فيجب أن يتبع‪،‬‬
‫وأن يكون هو ال صل المعول عل يه فهي معر فة عبادة ال‪ ،‬واليمان به‪ ،‬وبر سله‪ ،‬وملئك ته‪ ،‬وكت به‪،‬‬
‫واليوم ال خر‪ ،‬واليمان بأ سمائه و صفاته وعباد ته ب ها‪ ،‬خلفا لطري قة المتكلم ين‪ ،‬الذ ين جعلوا عمدت هم‬
‫عقولهم في إثبات وجود ال تعالى‪ ،‬بناء على حدوث الكون‪ ،‬ثم إثبات صفاته نفيا وإثباتا بالقياس العقلي‪،‬‬
‫ثم إثبات النبوات‪ ،‬ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات‪.‬‬

‫‪ )(96‬الية ‪ 60‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫ل من "تيسير العزيز الحميد" (ص ‪.)101‬‬
‫‪ )(97‬نق ً‬

‫‪28‬‬
‫وهذه طريقة المعتزلة‪ ،‬والكرامية‪ ،‬والكلبية‪ ،‬والشعرية‪ ،‬غير أن الشعرية سلكوا هذه الطريقة‬
‫في الصول العتقادية العلمية‪ ،‬دون العملية‪.‬‬
‫و أمها المعتزلة فلم يفرقوا بيهن العقيدة والعمهل فهي القياس العقلي‪ ،‬حتهى إنههم ينظرون إلى القدر‬
‫المشترك في الفعال بين الرب والعباد‪ ،‬فما كان حسنا من العباد في نظرهم‪ ،‬فهو عندهم حسن من ال‬
‫تعالى‪ ،‬و ما كان قبيحا من هم‪ ،‬ف هو من ال تعالى قب يح‪ ،‬ولهذا سماهم أ هل ال سنة‪ :‬مشب هة الفعال‪ ،‬نفاة‬
‫الصفات‪.‬‬
‫ص ‪41‬‬
‫‪"-3‬حدثنا محمد بن بشار‪ ،‬حدثنا غندر‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن أبي حصين‪ ،‬والشعث بن سليم‪ ،‬سمعا‬
‫السود بن هلل‪ ،‬عن معاذ بن جبل – رضي ال عنه – قال‪ :‬قال رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪" :-‬‬
‫يا معاذ‪ ،‬أتدري ما حق ال على العباد؟" قال‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ " :‬أن يعبدوه‪ ،‬ول يشركوا به شيئا‬
‫أتدري ما حقهم عليه؟" قال‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ ":‬أن ل يعذبهم "‪.‬‬
‫جاء بصيغة الستفهام ليكون أوقع في النفس‪ ،‬وأبلغ في التعليم؛ لن النسان إذا سئل عن شيء‬
‫ل يعلمه‪ ،‬ثم أخبر به بعد المتحان بالسؤال صار ذلك أدعى لفهمه وحفظه‪.‬‬
‫وهذا من ح سن تعلي مه‪ ،‬وإرشاده – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬وهذا ال سلوب ورد ع نه – صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬كثيرا‪.‬‬
‫يقال‪ :‬درى يدري دراية‪ :‬إذا عرف‪ ،‬فالدراية هي المعرفة‪.‬‬
‫و"ال حق"‪ :‬كل موجود متح قق‪ ،‬أو ما سيوجد ل محالة‪ ،‬ويقال للكلم ال صدق‪ :‬حق؛ لن وقو عه‬
‫متحقق‪ ،‬ل تردد فيه‪ ،‬ولنه مطابق للواقع‪ ،‬وكذا المستحق على الغير‪ ،‬إذا كان ل تردد فيه‪ ،‬فهو حق‪.‬‬
‫والمراد هنها " مها يسهتحقه ال تعالى على عباده‪ ،‬ممها جعله متحتما عليههم‪ ،‬وألزمههم إياه‬
‫بخطابه"(‪.)98‬‬
‫فحقهه تعالى على عباده‪ :‬أن يعبدوه‪ ،‬مخلصهين له العبادة‪ ،‬ممتثليهن مها أمرههم بهه وأوجبهه‬
‫علي هم‪،‬وأعظ مه التوح يد‪ ،‬ومجت نبين ما نها هم ع نه‪ ،‬وحر مه علي هم‪ ،‬وأعظ مه الشرك‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك‪،‬‬
‫فحقهم عليه أن يغفر لهم‪ ،‬ول يعذبهم‪ ،‬وأن يدخلهم الجنة‪ ،‬وقد وعدهم ذلك‪ ،‬ووعده حق ل يخلف‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ال ور سوله أعلم" يؤ خذ م نه ح سن الدب في التعلم‪ ،‬وأ نه ل ينب غي ل من سئل ع ما ل‬
‫يعلمه أن يتكلف الجواب بدون يقين‪ ،‬ولكن يكل العلم إلى عالمه‪.‬‬
‫" ذكر يعقوب بن سفيان بإسناده‪ ،‬عن ربيعة قال‪ :‬قال ابن خلدة‪ :‬إذا جاءك الرجل يسألك‪ ،‬فل‬
‫يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه‪ ،‬وليكن همك أن تتخلص مما‬
‫ص ‪42‬‬

‫‪" )(98‬فتح الباري" (‪.)11/339‬‬

‫‪29‬‬
‫سألك عنه"(‪.)99‬‬
‫قوله‪ " :‬أن يعبدوه‪ ،‬ول يشركوا به شيئا " المراد بالعبادة‪ :‬فعل الطاعات‪ ،‬واجتناب المعاصي‪.‬‬
‫والعبادة في اللغة هي‪ :‬الذل‪ ،‬والخضوع‪.‬‬
‫قال الزهري‪ " :‬معنى العبادة في اللغة‪ :‬الطاعة مع الخضوع‪ ،‬يقال‪ :‬طريق معبد‪ ،‬إذا كان مذللً‬
‫بكثرة الوطء وبعير معبد إذا كان مطليا بالقطران"(‪.)100‬‬
‫وقال الجوهري‪ " :‬أصل العبودية‪ :‬الخضوع والذلة‪ ،‬والتعبيد‪ :‬التذليل‪ ،‬والعبادة‪ :‬الطاعة‪ ،‬والتعبد‪:‬‬
‫النسك"(‪.)101‬‬
‫وأ ما العبادة الشرع ية ف قد قال ش يخ ال سلم ا بن تيم ية‪ ":‬العبادة‪ :‬ا سم جا مع ل كل ما يح به ال‬
‫ويرضاه‪ ،‬من القوال والعمال الباطنة والظاهرة"(‪.)102‬‬
‫وقيهل‪ :‬ههي كمال الحهب مهع كمال الخضوع؛ لن الحهب الكامهل مهع الذل التام يتضمهن طاعهة‬
‫المحبوب‪ ،‬والنقياد له‪ ،‬فالعبد هو الذي ذل الحب والخضوع لمحبوبه‪ ،‬فطاعة العبد لربه تكون بحسب‬
‫محبته وذله له‪.‬‬
‫وعطف على العبادة عدم الشرك؛ لن العبادة ل تنفع عند ال ول تعتبر إل إذا كانت خالصة من‬
‫الشرك‪.‬‬
‫والمشركون كانوا يعبدون ال‪ ،‬ويعبدون معهه غيره‪ ،‬ولهذا اشترط نفهي الشرك‪ .‬والجملة حاليهة‪،‬‬
‫والتقدير‪ :‬يعبدونه في حال عدم الشراك به‪.‬‬
‫قال ابن حبان‪ :‬عبادة ال‪ :‬إقرار باللسان‪ ،‬وتصديق بالقلب‪ ،‬وعمل بالجوارح‪.‬‬
‫ولهذا قال في الجواب‪ ":‬فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل‪ ،‬ولم يعبر بالقول"(‪.)103‬‬
‫ص ‪43‬‬
‫قوله‪ " :‬أتدري ما حقهم عليه؟" فسره بقوله‪ ":‬أن ل يعذبهم"‪.‬‬
‫وفي الرواية الخرى‪ ":‬أن ل يعذب من ل يشرك به شيئا"(‪ ،)104‬والتقدير‪ :‬أن ل يعذب من يعبده‪،‬‬
‫ول يشرك به شيئا؛ لن عدم الشرك مع عدم العبادة ل ينفع‪ ،‬وهذا معلوم من نصوص الشرع‪.‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬اقتصهر على نفهي الشرك؛ لنهه يسهتدعي التوحيهد بالقتضاء‪ ،‬ويسهتدعي إثبات‬
‫الرسهالة باللزوم‪ ،‬إذ مهن كذب رسهول ال فقهد كذب ال‪ ،‬ومهن كذب ال فههو مشرك‪ ،‬أو ههو مثهل قول‬

‫‪" )(99‬تهذيب التهذيب" (‪.)7/443‬‬


‫‪ " )(100‬تهذيب اللغة" (‪.)2/234‬‬
‫‪" )(101‬الصحاح" (‪ ، )2/503‬هذا متفق عليه كتب اللغة ‪.‬‬
‫‪ )(102‬انظر أول فقرة من رسالة العبودية ‪.‬‬
‫‪" )(103‬فتح الباري" (‪.)11/339‬‬
‫‪ )(104‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)6/58‬‬

‫‪30‬‬
‫القائل‪ :‬من توضأ صحت صلته‪ ،‬أي مع سائر الشروط‪ ،‬فالمراد‪ :‬من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما‬
‫يجب اليمان به"(‪.)105‬‬
‫وحهق العباد على ال تعالى ههو مهن فضله وكرمهه‪ ،‬وليهس اسهتحقاق عوض وجزاء‪ ،‬كمها تقول‬
‫المعتزلة‪.‬‬
‫والناس في هذه المسألة ثلث فرق‪:‬‬
‫منهم " من يقول‪ :‬للمخلوق على ال حق يعلم بالعقل‪.‬‬
‫فهم يقيسون الخالق تعالى على المخلوق – كما تقدمت الشارة إليه ‪.-‬‬
‫ومنههم مهن يقول‪ :‬ل حهق للمخلوق على ال تعالى بحال‪ ،‬ولكهن يعلم مها يفعله بعبده بحكهم وعده‬
‫وخبره‪.‬وهذا قول أتباع جهم‪ ،‬وبعض من ينتسب إلى السنة‪.‬‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬بل أوجب ال تعالى على نفسه حقا لعباده المؤمنين‪ ،‬كما حرم الظلم على نفسه‪،‬‬
‫ولم يوجب ذلك عليه مخلوق‪.‬‬
‫ص ‪44‬‬
‫ول يقاس بمخلوقا ته تعالى‪ ،‬بل هو برحم ته‪ ،‬وحكم ته‪ ،‬وعدله‪ ،‬ك تب على نف سه الرح مة‪ ،‬وحرم‬
‫" يا عبادي‪ ،‬إ ني حر مت الظلم‬ ‫(‪)106‬‬
‫على نف سه الظلم‪ ،‬ك ما في الحد يث الذي في " صحيح م سلم" وغيره‬
‫على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرما‪ ،‬فل تظالموا"‪.‬‬
‫صرُ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي نَ}‬
‫ن حَقّا عََل ْينَا نَ ْ‬
‫ب َربّكُمْ عَلَى نَفْسِ ِه ال ّرحْمَةَ} (‪ ،)107‬وقال تعالى‪َ { :‬وكَا َ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬كتَ َ‬
‫(‪.)108‬‬
‫فمهن قال‪ :‬ليهس للمخلوق على ربهه حهق‪ ،‬فههو صهحيح‪ ،‬إذا أراد أنهه ليهس عليهه حهق بالعتبار‬
‫والقياس على خلقهه‪ ،‬كمها يجهب للمخلوق على مثله‪ ،‬وكمها يظهن جهال العباد أن لههم على ال حقا‬
‫بعبادت هم؛ لن النفوس الجاهلة تتخيل أن الن سان بعباد ته وعل مه ي صير له على ال حق‪ ،‬من جنس ما‬
‫ي صير للمخلوق على المخلوق(‪ ،)109‬ك من يط يع سيده ورئي سه فيجل به له منف عة‪ ،‬أو يد فع ع نه مضرة‪،‬‬
‫ويبقى يتقاضى العوض‪ ،‬والمجازاة على ذلك‪ ،‬ويقول عند الجفاء والعراض‪ :‬ألم أفعل كذا؟ يمن عليه‬
‫ب ما ف عل م عه‪ ،‬وإن لم يقله بل سانه‪ ،‬كان ذلك في قل به‪ ،‬وتخ يل م ثل هذا في حق ال من ج هل الن سان‬
‫وظلمه‪.‬‬

‫‪" )(105‬فتح الباري" (‪.)1/228‬‬


‫‪ )(106‬انظر ‪ " :‬صحيح مسلم" (‪ )4/1994‬الحديث رقم (‪.)2577‬‬
‫‪ )(107‬الية ‪ 54‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(108‬الية ‪ 47‬من سورة الروم ‪.‬‬
‫‪ )(109‬ولهذا نجد الجهال وأنصاف المتعلمين يلهجون إلى ال تعالى بسؤاله بحق فلن وفلن ‪ ،‬ويعتقدون أن‬
‫هذا أقرب إلى حصول مطلوبهم ‪ ،‬وهو من جهل النسان بربه ‪ ،‬وعدم تقديره حق قدره ‪ ،‬وأكثر ما يقع‬
‫الشرك في المسلمين من هذا الباب ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ولهذا بين ال تعالى أن عمل النسان يعود نفعه عليه‪ ،‬وأن ال غني عن الخلق‪.‬‬
‫(‪)110‬‬
‫ي كَرِيمٌ}‬
‫غ ِن ّ‬
‫ش ُكرُ ِلنَ ْفسِهِ َومَن كَ َفرَ َفإِنّ َربّي َ‬
‫ش َكرَ َفإِ ّنمَا َي ْ‬
‫قال – تعالى ‪َ { :-‬ومَن َ‬
‫ص ‪45‬‬
‫لمٍ لّ ْل َعبِيدِ} (‪.)111‬‬
‫ن َأسَاء َفعََل ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَ ّ‬
‫ل صَالِحًا فَِلنَ ْفسِهِ َومَ ْ‬
‫عمِ َ‬
‫وقال –تعالى‪{ :-‬مَنْ َ‬
‫ومن قال‪ :‬للمخلوق على ال حق‪ ،‬فهو صحيح‪ ،‬إذا أراد به الحق الذي أخبر ال بوقوعه‪ ،‬فإن ال‬
‫ل يخلف الميعاد‪ ،‬وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته"(‪.)112‬‬
‫وهذا القول‪ :‬هو ال حق الذي دلت عل يه ن صوص الكتاب وال سنة‪ ،‬وأ ما القول الول ف هو ضلل‬
‫بين‪ ،‬حيث لم يفرق قائله بين ما يجب على الخالق – تعالى – وما يجب على المخلوق‪.‬‬
‫"والفروق بين الخالق والمخلوق ل تخفى إل على من عميت بصيرته"‬
‫منهها‪ :‬أن الرب‪ -‬تعالى – غنهى بنفسهه عهن كهل مها سهواه‪ ،‬ويمتنهع أن يكون محتاجا إلى غيره‪،‬‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬وأما الخلق فسادتهم وملوكهم ومن دونهم محتاجون إلى غيرهم‪ ،‬حاجة ضرورية‪.‬‬
‫ومن ها‪ :‬أن الرب – تعالى – وإن كان ي حب العمال ال صالحة‪ ،‬ويفرح بتو بة التائب ين‪ ،‬ف هو الذي‬
‫يخلق ذلك‪ ،‬وييسره‪ ،‬فل يحصل ما يحبه ويرضاه إل بقدرته ومشيئته‪ ،‬والمخلوق كثيرا ما يحصل له ما‬
‫يحبه بغير فعله بل بفعل غيره‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرب‪ -‬تعالى – أمر العباد بما يصلحهم‪ ،‬ونهاهم عما يفسدهم‪.‬‬
‫قال قتادة‪ " :‬إن ال لم يأ مر العباد ب ما أمر هم به لحاج ته إلي هم‪ ،‬ول نها هم ع ما نها هم ع نه بخلً‬
‫عليهم‪ ،‬بل أمر بما ينفعهم‪ ،‬ونهاهم عما يضرهم" بخلف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه هو‪،‬‬
‫وينهاه بخلً عليه‪.‬‬
‫ومن ها‪ :‬أ نه – سبحانه – هو المن عم بإر سال الر سل‪ ،‬وإنزال الك تب‪ ،‬و هو المن عم بإيجاد القدرة‬
‫والحواس‪ ،‬وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح‪ ،‬وهو الهادي لعباده‪ ،‬والمخلوق ل يقدر على‬
‫شيء من ذلك‪.‬‬
‫ص ‪46‬‬
‫ومنها‪ :‬أن نعمه – تعالى – على عباده أعظم من أن تحصى‪ ،‬فلو قدر أن العبادة جزاء لنعمه لم‬
‫نقم بشكر قليل منها‪ ،‬فكيف والعبادة من نعمه؟‬

‫‪ )(110‬الية ‪ 40‬من سورة النمل ‪.‬‬


‫‪ )(111‬الية ‪ 46‬من سورة فصلت ‪.‬‬
‫‪" )(112‬مجموع الفتاوى" (‪ )1/213‬بتصرف ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ومن ها‪ :‬أن العباد ل يزالون مق صرين في ح قه‪ ،‬محتاج ين إلى عفوه‪ ،‬ومغفر ته‪ ،‬فلن يد خل أ حد‬
‫خ ُذ اللّ ُه النّا سَ بِمَا‬
‫الج نة بعمله(‪ ،)113‬و ما من أ حد إل وله ذنوب يحتاج في ها إلى مغفرة ر به‪{ ،‬وَلَ ْو يُؤَا ِ‬
‫ظهْرِهَا مِن دَابّةٍ} (‪.)114‬‬
‫سبُوا مَا َت َركَ عَلَى َ‬
‫َك َ‬
‫فمن ظن أنه قائم بما يجب عليه‪ ،‬وأنه غير محتاج إلى مغفرة ربه وعفوه وهدايته وتوفيقه‪ ،‬فهو‬
‫ضال"(‪.)115‬‬
‫والمق صود من الحد يث ه نا‪ :‬بيان أن حق ال على عباده هو عباد ته – تعالى – الخال صة من‬
‫الشرك‪ ،‬وهي‪ :‬طاعته بفعل ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما نهى عنه‪ ،‬فل يخالف ما جاء عن ال‪ ،‬أو جاء عن‬
‫رسوله‪ ،‬لغرض أو منفعة عاجلة أو آجلة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ومن ذلك – يعني حق ال على عباده‪ :-‬اتباع ما وصف ال به نفسه‪ ،‬أو وصفه به رسوله من‬
‫غير تحريف‪ ،‬ول إلحاد فيه‪ ،‬ولهذا ترجم على هذا الحديث في كتاب الرقاق بقوله‪ :‬باب من جاهد نفسه‬
‫في طاعة ال‪.‬‬
‫ومراده‪ :‬أن الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قد ب ين ما ي جب ل على عباده من عباد ته باتباع‬
‫أمره‪ ،‬واجتناب نهيه‪ ،‬وعبادته بأسمائه وصفاته‪ ،‬وتنزيهه عن مشابهة المخلوق‪ ،‬وما يستحقه من فعل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ص ‪47‬‬
‫‪"-4‬حدثنا إسماعيل‪ ،‬حدثني مالك‪ ،‬عن عبدالرحمن بن عبدال بن عبدالرحمن ابن أبي صعصعة‪،‬‬
‫حدٌ} يرددها‪ ،‬فلما أصبح جاء‬
‫عن أبيه‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري‪ ":‬أن رجلً سمع رجلً يقرأ {قُلْ ُهوَ اللّهُ َأ َ‬
‫إلى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فذكر له ذلك‪ ،‬وكأن الرجل يتقالها‪ ،‬فقال رسول ال –صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ":-‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إنها لتعدل ثلث القرآن "‪.‬‬
‫زاد إسماعيل بن جعفر‪ ،‬عن مالك‪ ،‬عن عبدالرحمن‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي سعيد‪ :‬أخبرني أخي قتادة‬
‫بن النعمان‪ ،‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫أبو سعيد الخدري هو‪ :‬سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن البجر –وهو خدرة‪ -‬الذي ينسب‬
‫إليه‪ ،‬أنصاري خزرجي‪ ،‬بايع تحت الشجرة‪ ،‬وغزا مع رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬غزوات عدة‪،‬‬
‫وكان أبوه من شهداء أحد‪ .‬وأبو سعيد من علماء الصحابة وفقهائهم‪ ،‬والمكثرين الحديث عن رسول ال‬
‫–صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬

‫‪ )(113‬في" صحيح مسلم" عن جابر‪ ،‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬ل يدخل أحداً منكم عمله‬
‫الجنة ول يجيره من النار ‪ ،‬ول أنا ‪ ،‬إل برحمة من ال" (‪ )4/2171‬رقم الحديث (‪ .)2817‬وأخرجه‬
‫البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" من حديث أبي هريرة وعائشة‪ .‬انظر ‪" :‬الفتح" (‪.)11/294‬‬
‫‪ )(114‬الية ‪ 45‬من سورة فاطر ‪.‬‬
‫‪" )(115‬مجموع الفتاوى" (‪.)1/216‬‬

‫‪33‬‬
‫توفي رضي ال عنه سنة أربع وسبعين(‪.)116‬‬
‫قوله‪ " :‬أن رجلً سمع رجلً" السامع هو أبو سعيد راوي الحديث‪ ،‬والقاريء هو قتادة‪ ،‬كما بينه‬
‫البخاري بقوله‪" :‬زاد إسماعيل" الخ‪ .‬وقد جاء مصرحا به في مسند أحمد‪ ،‬ولفظه‪:‬‬
‫حدٌ} فذكهر ذلك للنهبي‪-‬صهلى ال عليهه‬
‫ّهه َأ َ‬
‫"بات قتادة بهن النعمان يقرأ مهن الليهل كله {قُلْ ُهوَ الل ُ‬
‫وسلم‪ ،-‬فقال‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬والذي نفسي بيده‪ :‬لتعدل نصف القرآن أو ثلثه"(‪.)117‬‬
‫(‪)118‬‬
‫"وقتادة هو أخو أبي سعيد لمه‪ ،‬وكانا متجاورين في السكن"‬
‫قوله‪ " :‬وكأن الر جل يتقال ها" بتشد يد اللم‪ ،‬أي‪ :‬يعد ها قليلة بالن سبة إلى غير ها من سور القرآن‬
‫"يقال"‪ :‬تقلل الشيهء واسهتقله وقاله‪ :‬إذا رآه قليلً‪ .‬والمراد أنهه رآهها قليلة فهي العمهل‪ ،‬ل أنهه عدهها‬
‫ناقصة"(‪.)119‬‬
‫ص ‪48‬‬
‫قوله‪ " :‬والذي نف سي بيده" كان‪ -‬صلى ال عل يه و سلم‪ -‬كثيرا ما يحلف بهذه ال صيغة‪ ،‬و قد ذ كر‬
‫البخاري‪ -‬رح مه ال – في اليمان والنذور في باب‪ :‬ك يف كا نت يم ين ال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫عدة أحاديث بهذا اللفظ‪.‬‬
‫وقد روى الطبراني‪ ،‬وابن ماجة‪ ،‬عن رفاعة بن عرابة‪ ":‬كان النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬إذا‬
‫حلف قال‪ :‬والذي نفسي بيده"‪.‬‬
‫وروى ابن أبي شيبة‪ ،‬عن أبي سعيد‪ :‬كان النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬إذا اجتهد في اليمين قال‪:‬‬
‫" ل والذي نفس أبي القاسم بيده"‪ .‬ورواه ابن ماجه من وجه آخر‪ ،‬بلفظ‪" :‬كانت يمين رسول ال التي‬
‫يحلف بها – أشهد عند ال‪ -‬والذي نفسي بيده"(‪.)120‬‬
‫قلت‪ :‬وحديث أبي سعيد رواه أبو داود في "السنن"(‪.)121‬‬
‫فقوله‪ " :‬والذي نف سي بيده" أي رو حي‪ ،‬وحيا تي ومو تي‪ ،‬يت صرف في ك يف يشاء‪ .‬و سيأتي‪ ،‬إن‬
‫شاء ال تعالى – الكلم على صفة اليد‪ ،‬وأنها من صفات ال الثابتة قطعا‪ ،‬وأنها يد حقيقية تليق بعظمة‬
‫الرب وقدره‪ ،‬تعالى وتقدس عن مشاب هة الخلق‪ ،‬و عن الظنون ال سيئة ال تي أوج بت ل صحابها تعط يل‬
‫ال‪ -‬تعالى‪ -‬عن صفاته‪ ،‬ودعتهم إلى اللحاد في أسمائه وصفاته‪.‬‬

‫‪" )(116‬الصابة" (‪" ، )3/78‬أسد الغابة" (‪.)2/365‬‬


‫‪" )(117‬المسند" (‪ ، )3/15‬وانظر‪" :‬الفتح الرباني" (‪.)18/346‬‬
‫‪" )(118‬فتح الباري" (‪.)9/61‬‬
‫‪" )(119‬المنهل العذب المورود" (‪.)8/113‬‬
‫‪" )(120‬فتح الباري" (‪.)11/526‬‬
‫‪ )(121‬انظر‪ :‬الحديث رقم (‪.)3264‬‬

‫‪34‬‬
‫قوله‪ " :‬إنها لتعدل ثلث القرآن " عدل الشيء بفتح العين‪ :‬ما عادله من غير جنسه‪ ،‬والعدل بكسر‬
‫الع ين‪ :‬الم ثل‪ ،‬تقول‪ :‬عندي عدل شا تك‪ ،‬أو عدل مالك‪ ،‬إذا كان عندك شاة م ثل شاة من تخاط به‪ ،‬ومال‬
‫(‪)122‬‬
‫مثل ماله‪ ،‬فإن أردت ما يعادل ذلك من غير جنسه فتحت العين‪ ،‬ذكر ذلك بعض أهل اللغة‪.‬‬
‫ومعنهى كونهها تعدل ثلث القرآن‪ :‬أن القرآن أنزل على ثلثهة أقسهام‪ :‬ثلث منهه الحكام وبيان‬
‫الحلل من الحرام‪.‬‬
‫وثلث منه الوعد والوعيد‪ ،‬والجزاء‪ ،‬وما وقع بمن كذب ال ورسله‪ ،‬وما سيقع بهم في الخرة‪،‬‬
‫وكذا من أطاعه‪.‬‬
‫ص ‪49‬‬
‫وثلث م نه في أ سماء ال تعالى و صفاته‪ .‬وهذه ال سورة خال صة في ال سماء وال صفات‪ ،‬قاله أ بو‬
‫العباس ابن سريج‪ ،‬وغيره من السلف‪.‬‬
‫واعتراض ابهن عبدالبر على هذا‪ :‬بأن فهي القرآن آيات كثيرة اشتملت على أكثهر ممها فهي هذه‬
‫السورة من التوحيد‪ ،‬كآية الكرسي‪ ،‬وآخر سورة الحشر‪ ،‬وأول سورة الحديد‪ ،‬قد أجاب عنه القرطبي‬
‫في شرحه لمسلم‪ :‬بأن سورة الخلص قد اشتملت على اسمين من أسماء ال متضمنين جميع أوصاف‬
‫الكمال‪ ،‬ولم يوجدا في غيرها من السور‪ ،‬وهما "الحد" و"الصمد"‪.‬‬
‫" والقرآن باعتبار معان يه ثل ثة أق سام‪ :‬توح يد‪ ،‬وق صص‪ ،‬وأ مر ون هي‪ ،‬وكله كلم ال تعالى‪،‬‬
‫والكلم إما إنشاء‪ ،‬وإما إخبار‪.‬‬
‫فالنشاء‪ :‬هو المر والنهي‪ ،‬وما يتبع ذلك كالباحة‪.‬‬
‫والخبار‪ :‬أ ما عن الخالق – تعالى ‪ ،-‬أو عن المخلوق‪ ،‬فالخبار عن الخالق هو التوح يد و ما‬
‫يتضمنه من أسماء ال وصفاته‪.‬‬
‫والخبار عن المخلوق‪ ،‬هو القصص‪ ،‬وهو الخبر عما كان‪ ،‬وما يكون‪.‬‬
‫حدٌ} هي صفة الرحمن خالصة لذلك‪ ،‬وبهذا العتبار عدلت ثلث القرآن؛ لما فيها‬
‫و{قُلْ هُ َو اللّ هُ َأ َ‬
‫من التوحيد‪ ،‬الذي هو ثلث معاني القرآن‪ ،‬وليس معنى ذلك أنه يكتفي بها عن سائر القرآن‪ ،‬بمعنى أن‬
‫من قرأها ثلثا كفاه عن قراءة القرآن؛ لن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ ":‬إنها تعدل ثلث القرآن‬
‫"‪.‬‬
‫ل ذَلِ كَ‬
‫عدْ ُ‬
‫وقد تقدم أن عدل الشيء‪ -‬بالفتح‪ -‬يطلق على ما ليس من جنسه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬أَو َ‬
‫صيَامًا} فجعل الصيام عدل الكفارة‪ ،‬وهما جنسان‪.‬‬
‫ِ‬
‫حدٌ} وإن كان يعدل ثواب قراءة ثلث القرآن فههي القدر‪ ،‬فليلزم أن‬
‫فثواب قراءة {قُلْ ُهوَ اللّهههُ َأ َ‬
‫يكون مثله فهي النوع والصهفة؛ لنهها ل تغنهي عمها اشتمهل عليهه القرآن مهن المهر والنههي‪ ،‬والوعهد‬

‫‪ )(122‬انظر ‪ " :‬ترتيب اللسان" (‪.)3/707‬‬

‫‪35‬‬
‫والوعيد‪ ،‬وسائر ما يحتاج إليه العباد‪ .‬فالناس محتاجون إلى جميع القرآن‪ ،‬ومنتفعون به ل تغني عنها‬
‫سورة الخلص‪ ،‬وإن كانت تعدل ثلث القرآن "(‪.)123‬‬
‫ص ‪50‬‬
‫وفهي هذا الحديهث دللة ظاهرة على تفاضهل كلم ال – تعالى ‪ ،-‬وصهافته‪ ،‬وههو المأثور عهن‬
‫السلف‪ ،‬وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك‪.‬‬
‫فأ خبر‪ -‬تعالى –‬ ‫(‪)124‬‬
‫خ ْيرٍ ّمنْهَا أَ ْو ِمثْلِهَا}‬
‫سهَا َنأْ تِ ِب َ‬
‫ن آيَ ٍة َأوْ نُن ِ‬
‫قال ال – تعالى –‪ {:‬مَا نَن سَخْ مِ ْ‬
‫أ نه يأ تي بخ ير من ها أو مثل ها‪ ،‬فدل على أن اليات تتما ثل مرة‪ ،‬وتتفا ضل أخرى‪ ،‬والتوراة‪ ،‬والنج يل‬
‫والقران كلهها كلم ال – تعالى – وقهد أجمهع المسهلمون على أن القرآن أفضلهها‪ ،‬كمها قال – تعالى –‬
‫ن َي َديْ هِ ِم نَ ا ْل ِكتَا بِ َو ُم َه ْيمِنًا عََليْ هِ} (‪)125‬أي هو المؤت من‪،‬‬
‫صدّقًا لّمَا َبيْ َ‬
‫{وَأَنزَلْنَا إَِليْ كَ ا ْل ِكتَا بَ بِا ْلحَقّ مُ َ‬
‫والشاهد‪ ،‬والحاكم‪ ،‬على ما سبقه من الكتب‪.‬‬
‫و أما الحاديث فكثيرة‪ ،‬من جملتها هذا الحديث‪ ،‬ومن تأمل كلم السلف‪ ،‬ومن سار على نهجهم‪،‬‬
‫علم أن هذا من المور المستقرة في نفوسهم‪ ،‬ولم يعرف من السلف من قال‪ :‬ل يكون كلم ال بعضه‬
‫أشرف من بعض؛ لنه كله من صفات ال‪ ،‬وإنما حدث ذلك لما ظهرت البدع من المعتزلة‪ ،‬والجهمية‪،‬‬
‫ومن سلك طريقهم‪ ،‬الذين اختلفوا في القرآن‪ ،‬وجعلوه عضين‪.‬‬
‫وتفاضل الكلم من جهة المتكلم فيه – سواء كان خبرا أو إنشاء – أمر معلوم بالفطرة‪ ،‬والشرع‪،‬‬
‫فليس الخبر المتضمن حمد ال والثناء عليه بأسمائه الحسنى‪ ،‬كالخبر المتضمن لذكر إبليس‪ ،‬وفرعون‬
‫وأبى لهب‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬وإن كان الكل كلما عظيما تكلم ال به‪.‬‬
‫وكذلك ل يس ال مر بالتوح يد‪ ،‬واليمان بال ور سله‪ ،‬والن هي عن الشرك وق تل الن فس بغ ير حق‪،‬‬
‫والزنا‪ ،‬وغير ذلك مما أمرت به الشرائع كلها‪ ،‬أو حرمته‪ ،‬كالمر بأخذ الزينة عند كل مسجد‪ ،‬أو المر‬
‫بالنفاق على الحامل‪ ،‬والنهي عن قول‪" :‬راعنا" وإن كان لكل واجبا‪.‬‬
‫وليس تفاضل الكلم باعتبار نسبته إلى المتكلم به‪ ،‬فإنه سبحانه واحد‪ ،‬ولكن باعتبار معانيه التي‬
‫يتكلم بها‪ ،‬وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه‪.‬‬
‫ص ‪51‬‬
‫قال ش يخ السلم‪ ":‬الكلم له ن سبتان‪ :‬ن سبة إلى المتكلم به‪ ،‬ون سبة إلى المتكلم ف يه‪ ،‬ف هو يتفاضل‬
‫حدٌ} و{ َتبّ تْ َيدَا َأبِي َلهَ بٍ َوتَبّ} كلهما كلم‬
‫باعتبار النسبتين‪ ،‬وباعتبار نفسه أيضا‪ ،‬فه {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫ال – تعالى ‪ ،-‬وهما مشتركان من هذه الجهة‪ ،‬ولكنهما متفاضلن من جهة المتكلم فيه‪ ،‬المخبر عنه‪،‬‬

‫‪" )(123‬مجموع الفتاوى" (‪ )208-17/207‬بتصرف ‪.‬‬


‫‪ )(124‬الية ‪ 106‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(125‬الية ‪ 48‬من سورة المائدة ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫حدٌ} كلم ال وخبره الذي يخبر عن نفسه‪ ،‬وصفته التي يصف بها نفسه‪ ،‬وكلمه الذي‬
‫فه{قُلْ ُه َو اللّهُ َأ َ‬
‫يتكلم به عن نفسه‪.‬‬
‫ت َيدَا َأبِي َلهَ بٍ َوتَبّ} كلم ال الذي يتكلم به عن بعض خلقه‪ ،‬ويصف به حاله‪ ،‬فهما من‬
‫و { َتبّ ْ‬
‫هذه الجهة متفاضلن"(‪.)126‬‬
‫ول يلزم من كثرة الحروف أفضل ية ذلك‪ ،‬ك ما توه مه ب عض العلماء؛ لن الف ضل يت بع تفا ضل‬
‫المعاني‪.‬‬
‫فحروف الفاتحة لقارئها بكل حرف حسنة أعظم من حسنات { َتبّتْ َيدَا َأبِي َلهَبٍ َوتَبّ}‬
‫فل يلزم من مماثلة الشيء مساواته في الفضل‪ ،‬كما أخبر النبي –صلى ال عليه وسلم‪" -‬أنه لو‬
‫أنفق من جاء بعد السابقين مثل أحد ذهبا‪ ،‬ما بلغ مد أحد السابقين إلى السلم‪ ،‬ول نصيفه"(‪.)127‬‬
‫حدٌ} ح صل له من الثواب بقدر ثلث القرآن‪،‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪ " :‬فإذا قرأ الن سان {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫لكن ل يلزم أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل بقراءة ثلث القرآن؛ لن النسان يحتاج إلى ما‬
‫حدٌ} ل ت سد م سد ذلك‪ ،‬ول‬
‫يح صل له من ثواب ال مر والن هي والق صص‪ ،‬وغ ير ذلك‪ ،‬و{قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫تقوم مقا مه‪ ،‬مع أن ف ضل القراءة والذ كر والدعاء وغ ير ذلك‪ ،‬يختلف باختلف حال الن سان‪ ،‬فالقراءة‬
‫بتدبر أفضل من القراءة بل تدبر‪ ،‬والصلة بخشوع وحضور‬
‫ص ‪52‬‬
‫حدٌ} يعدل ثوابها ثواب ثلث القرآن‪،‬‬
‫قلب‪ ،‬أفضل من الصلة بدون ذلك‪ ،‬فإذا كانت {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫فل بد من اعتبار التماثل في سائر الصفات‪ ،‬وإل فقراءة غيرها مع التدبر والخشوع أفضل من قراءتها‬
‫مع الغفلة والجهل‪.‬‬
‫والناس متفاضلون في ف هم هذه ال سورة‪ ،‬و ما اشتملت عل يه‪ ،‬ك ما هم متفاضلون في ف هم سائر‬
‫القرآن"(‪.)128‬‬
‫وهذا الحد يث يدل أيضا على تعدد صفات الرب تعالى‪ ،‬وتفاضل ها؛ لن القرآن كله‪ ،‬وكل مه من‬
‫صفاته‪.‬‬
‫والتفاضل إنما يقع بين شيئين فصاعدا‪ ،‬إذ الواحد ل يعقل فيه شيء أفضل من شيء‪ ،‬وقد دلت‬
‫النصهوص الكثيرة على تعدد أسهمائه تعالى وصهفاته‪ ،‬وأن لهها معانهي متعددة‪ ،‬وهذا المعنهى ههو الذي‬
‫قصهده البخاري بهذا الحديهث‪ ،‬فيمها ظههر لي‪ ،‬ول شهك أن فضهل هذه السهورة لمها اشتملت عليهه مهن‬

‫‪ " )(126‬مجموع الفتاوى" (‪.)17/57‬‬


‫‪ )(127‬رواه البخاري في "فضائل الصحابة" ولفظه ‪ " :‬ل تسبوا أصحابي‪ ،‬فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً‬
‫ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه" انظر‪ " :‬الفتح" (‪ ، )7/21‬ورواه مسلم في "الفضائل" (‪.)4/1967‬‬
‫‪ " )(128‬مجموع الفتاوى" (‪ )140-17/138‬بتلخيص وتصرف ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ن َأيّا مّا‬
‫حمَه َ‬
‫أوصاف ال تعالى‪ ،‬ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقوله تعالى‪{ :‬قُلِ ا ْدعُو ْا اللّ َه أَ ِو ادْعُو ْا ال ّر ْ‬
‫سنَى} (‪.)129‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫َتدْعُو ْا فَلَهُ ا َ‬
‫وقال الحافهظ‪ " :‬مراده مها فيهه مهن التصهريح بلفهظ الحديهة فهي وصهفه تعالى‪ ،‬كمها فهي الذي‬
‫بعده"(‪.)130‬‬
‫وقول ابن بطال‪ " :‬ومذهب الشعري‪ ،‬وأبي بكر بن الطيب الباقلني‪ ،‬وابن أبي زيد‪ ،‬والداودي‪،‬‬
‫وأبهى الحسهن القابسهي‪ ،‬وجماعهة علماء السهنة‪ :‬أن القرآن ل يفضهل بعضهه بعضا‪ ،‬إذ كله كلم ال‬
‫وصفته‪ ،‬وهو غير مخلوق‪ ،‬ول يجوز التفاضل إل في المخلوقات "‪.‬‬
‫ص ‪53‬‬
‫ومثله قول ا بن الدراج‪" :‬أج مع أ هل ال سنة على أن ما ورد م ما ظاهره المفاضلة ب ين آي القرآن‬
‫وسوره‪ ،‬ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض‪ ،‬إذ هو كله كلم ال‪ ،‬وصفة من صفاته"(‪.)131‬‬
‫فهذا الن قل ع من ذكر هم‪ ،‬والز عم بأن هذا مج مع عل يه من أ هل ال سنة هو بح سب ظن هؤلء‪-‬‬
‫يع ني ا بن بطال و من يقول ذلك – لن هم ظنوا‪ :‬أن هذا القول الذي هو عدم المفاضلة لزم ل من يقول‪:‬‬
‫إن القرآن كلم ال‪ ،‬فههو مهن صهفاته‪ ،‬والتفاضهل ل يكون إل فهي المخلوقات‪ ،‬والقرآن عندههم غيهر‬
‫مخلوق‪.‬‬
‫وهو ظن خطأ‪ ،‬فلم ينقل عن أحد من السلف أنه نفى المفاضلة بين آيات القرآن وسوره‪ ،‬ونحن‬
‫نطالب مدعي الجماع على نفي ذلك بالدليل‪ ،‬ولن يجد ذلك‪ ،‬والنصوص من الكتاب والسنة تبطل هذه‬
‫الدعوى ك ما تقد مت الشارة إلى ذلك‪ ،‬وا بن بطال –ع فا ال ع نا وع نه‪ -‬كثيرا ما يد عي الجماع على‬
‫مسائل‪ ،‬الحق خلفها‪ ،‬كما ستأتي الشارة إلى بعضها‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ص ‪54‬‬
‫‪" -5‬حدثنا محمد‪ ،‬حدثنا أحمد بن صالح‪ ،‬حدثنا ابن وهب‪ ،‬حدثنا عمرو‪ ،‬عن ابن أبي هلل‪ ،‬أن‬
‫أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه‪ ،‬عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن‪ -‬وكانت في حجر عائشة‬
‫زوج النبي –صلى ال عليه وسلم – عن عائشة‪ " :‬أن النبي –صلى ال عليه وسلم – بعث رجلً على‬
‫حدٌ}‪ ،‬فل ما رجعوا ذكروا ذلك لل نبي‪-‬‬
‫سرية‪ ،‬وكان يقرأ ل صحابه في صلته‪ ،‬فيخ تم ب ه {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم – فقال‪" :‬سلوه لي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه‪ ،‬فقال‪ :‬لنها صفة الرحمن‪ ،‬وأنا‬
‫أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – "أخبروه أن ال يحبه"‪.‬‬
‫عائشة بنت أبي بكر الصديق‪ ،‬وزوجة رسول ال –صلى ال عليه وسلم – وحبيبته‪ ،‬كانت فقيهة‬
‫ربانية‪ ،‬وعالمة بأشعار العرب وأنسابهم‪ ،‬وأيامهم‪.‬‬

‫‪ )(129‬الية ‪ 110‬من سورة السراء ‪.‬‬


‫‪" )(130‬الفتح" (‪ )13/355‬بالمعنى ‪.‬‬
‫‪)(131‬انظر"مجموع الفتاوى" (‪.)17/73‬‬

‫‪38‬‬
‫أكثرت عن رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم – الرواية‪ ،‬فلذلك صارت مرجعا للصحابة في كثير‬
‫من أمور الدين‪ ،‬فهي من حفاظ الصحابة وعلمائهم‪.‬‬
‫روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين‪.‬‬
‫ولدت‪-‬رضي ال عنها‪ -‬سنة أربع من البعثة النبوية‪ ،‬وتزجها رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم –‬
‫ب عد موت خدي جة‪-‬ر ضي ال عن ها‪ -‬بثلث سنوات‪ ،‬ود خل ب ها في المدي نة‪ ،‬و هي أب نة ت سع سنوات‪،‬‬
‫وتو في عن ها ول ها من الع مر ثما ني عشرة سنة‪ ،‬ومات‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – و هي حاضن ته على‬
‫صدرها‪.‬‬
‫مناقبها كثيرة‪ ،‬توف يت في المدي نة سنة سبع‪-‬أو ست‪ -‬وخم سين‪ ،‬وق يل‪ :‬ثمان وخم سين‪ ،‬وصلى‬
‫عليها أبو هريرة‪ ،‬ودفنت في البقيع‪- ،‬رضي ال عنها‪.)132(-‬‬
‫قوله‪" :‬ب عث رجلً على سرية" هذا غ ير الر جل المتقدم ذكره في باب الج مع ب ين ال سورتين في‬
‫ركعة واحدة؛ للفروق الواضحة بين القصتين‪.‬‬
‫والسرية قطعة من الجيش‪ ،‬يقال‪ :‬خير السرايا أربعمائة رجل‪ ،‬وفي "اللسان" "ما بين خمسة أنفس‬
‫ل في خفية؛ لئل ينذر بهم فيحذر العداء ويمتنعوا"(‪.)133‬‬
‫إلى ثلثمائة‪ ،‬سميت سرية؛ لنها تسري لي ً‬
‫ص ‪55‬‬
‫حدٌ}قال ابن دقيق العيد‪ :‬يدل على أنه كان يقرأ بغيرها‪ ،‬والظاهر‬
‫قوله‪" :‬فيختم به {قُلْ هُ َو اللّ ُه َأ َ‬
‫حدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة‪ ،‬ويختم بها في تلك الركعة‪ ،‬وإن كان اللفظ‬
‫أنه كان يقرأ‪{ :‬قُلْ هُ َو اللّهُ َأ َ‬
‫يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة"(‪.)134‬‬
‫وقوله‪ ":‬لنها صفة الرحمن" قال ابن دقيق العيد‪" :‬يحتمل أن يراد‪ :‬أن فيها ذكر صفة الرحمن‪،‬‬
‫كما إذا ذكر وصف‪ ،‬فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف‪ ،‬وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف‪ ،‬ويحتمل‬
‫حدٌ} ولعل ها خ صت بذلك لخت صاصها‬
‫أن يراد به غ ير ذلك‪ ،‬إل أ نه ل يخ تص ذلك ب ه {قُلْ هُ َو اللّ ُه َأ َ‬
‫بصفات الرب‪-‬تعالى‪ -‬دون غيرها"(‪.)135‬‬
‫قلت‪ :‬يريد بيان قول الصحابي لها بما ذكر‪ ،‬أنها خالصة لذكر وصف الرحمن تعال وتقدس‪.‬‬
‫حدٌ}‪ .‬يعني أن أوصاف الرحمن‪-‬تعالى‪ -‬موجودة‬
‫وقوله‪ :‬إل أنه ل يختص ذلك به {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫في آيات كثيرة من القرآن‪.‬‬

‫‪)(132‬انظر‪" :‬الحلة" (‪" ،)2/43‬أسد الغابة" (‪" ،)7/188‬الستيعاب" (‪" ،)4/1881‬الصابة" (‪،)4/359‬‬
‫"سير أعلم النبلء" (‪.)2/135‬‬
‫‪")(133‬ترتيب اللسان" (‪.)2/141‬‬
‫‪")(134‬شرح العمدة" (‪.)1/246‬‬
‫‪)(135‬المصدر نفسه(‪.)1/247‬‬

‫‪39‬‬
‫وهذه ال سورة و سائر سور القرآن هي صفة الرح من؛لن ها كل مه‪ ،‬وكل مه من صفاته‪ ،‬ول كن‬
‫تميزت هذه السورة بأنها خالصة لذكر أوصاف الرحمن‪-‬تعالى‪ -‬وهذ هو المتبادر إلى الفهم من مراد‬
‫الصحابي‪-‬رضي ال عنه‪ -‬أي أنها خالصة لوصف الرحمن‪-‬تعالى‪ -‬دون غيره‪.‬‬
‫"قال ابن التين‪ :‬إنما قال‪ :‬لنها صفة الرحمن؛ لن فيها أسماؤه مشتقة من صفاته‪ .‬وقال غيره‪:‬‬
‫يحتمل أن الصحابي قال ذلك مستندا إلى شيء سمعه من النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – إما بالنص‪ ،‬أو‬
‫بال ستنباط‪ .‬وروى البيه قي في ال سماء وال صفات‪ ،‬عن ا بن عباس‪-‬ر ضي ال عنه ما‪ -‬أن اليهود أتوا‬
‫النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – فقالوا‪ :‬صف لنا ربك؟‬
‫ص ‪56‬‬
‫(‪)136‬‬
‫حدٌ} إلى آخرها‪ ،‬فقال‪" :‬هذه صفة ربي‪-‬عز وجل‪"-‬‬
‫فأنزل ال‪-‬عز وجل‪{ -‬قُلْ هُ َو اللّ ُه َأ َ‬
‫وفي الحديث حجة لمن أثبت أن ل صفات‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬وشذ ابن حزم فقال‪ " :‬هذه لفظة‬
‫اصطلح عليها أهل الكلم‪ ،‬من المعتزلة‪ ،‬ومن تبعهم‪ ،‬ولم يثبت عن النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – ول‬
‫عن أحد من أصحابه‪ ،‬فإن اعترضوا بحديث الباب‪ ،‬فهو من أفراد سعيد بن أبي هلل‪ ،‬وفيه ضعف‪،‬‬
‫حدٌ} صفة الرحمن‪ ،‬كما في هذا الحديث‪ ،‬ول يزاد عليه‪ ،‬بخلف‬
‫وعلى تقدير صحته فه {قُلْ ُهوَ اللّ ُه َأ َ‬
‫الصفة التي يطلقونها‪ ،‬فإنها في لغة العرب ل تطلق إل على جوهر‪ ،‬أو عرض"(‪.)137‬‬
‫و سعيد مت فق على الحتجاج به‪ ،‬فل يلت فت إلى تضعي فه‪ ،‬وكل مه الخ ير مردود‪ ،‬باتفاق الجم يع‬
‫سنَى فَادْعُو هُ ِبهَا} (‪ ،)138‬وقال تعالى‪{ :‬لَ هُ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫على إثبات السماء الحسنى‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وَلِّل هِ الَ ْ‬
‫سنَى} (‪ ،)139‬والسماء المذكورة فيها صفات‪ ،‬ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته"(‪.)140‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫اَ‬
‫قلت‪ :‬كلم ابن حزم – رحمه ال – باطل‪ ،‬ول حجة له فيما ذ كر‪ ،‬لن الصفة‪ :‬مصدر وصفت‬
‫الشيء أصفه وصفا‪ ،‬وصفة‪ ،‬مثل‪ :‬وعد‪ ،‬وعدا‪ ،‬وعدة‪.‬‬
‫فإذا ق يل‪ :‬إن ال ب كل ش يء عل يم‪ ،‬و هو رح من رح يم‪ ،‬وعلى كل ش يء قد ير‪ ،‬فالمعا ني القائ مة‬
‫بالرب – تعالى – التهي دل عليهها هذا الكلم‪ ،‬مهن العلم‪ ،‬والرحمهة والقدرة‪ ،‬ههي الصهفات المقصهودة‪،‬‬
‫وإنكار ذلك مكابرة‪ ،‬أو عناد وضلل‪ ،‬وإلحاد‪.‬‬
‫و قد دلت ن صوص كتاب ال –تعالى – و سنة ر سوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬والفطرة والع قل‬
‫ن ِبشَيْ ٍء مّنْ عِ ْلمِهِ} (‪.)141‬‬
‫على ذلك‪ ،‬قال ال تعالى‪َ { :‬ولَ ُيحِيطُو َ‬

‫‪)(136‬انظر" السماء والصفات" للبيهقي(ص ‪ ،)279‬وفيه تسمية بعضهم‪ ،‬وقد ذكر عدة أحاديث بمعناه‪.‬‬
‫‪)(137‬انظر‪" :‬الفصل" (‪ ،)2/284‬وقد أطال الكلم على هذا المعنى‪ ،‬واحتج بأشياء ل تدل على مراده‪.‬‬
‫‪ )(138‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪.‬‬
‫‪ )(139‬الية ‪ 8‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪" )(140‬فتح الباري" (‪.)357-13/356‬‬
‫‪ )(141‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وقال – تعالى ‪{ :-‬أَنزَلَ هُ ِبعِ ْلمِ هِ} (‪ ،)142‬وقال –تعالى‪{ :-‬إِنّ اللّ َه هُ َو الرّزّا قُ ذُو ا ْلقُوّةِ ا ْل َمتِي نُ} (‪.)143‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وَلِلّ ِه ا ْل ِعزّةُ وَِل َرسُولِهِ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} (‪.)144‬‬
‫ل شَيْ ٍء ّرحْمَ ًة وَعِ ْلمًا} (‪.)145‬‬
‫سعْتَ كُ ّ‬
‫وقال – تعالى‪َ { :-‬ربّنَا َو ِ‬
‫وفي الحديث الصحيح‪ " :‬اللهم إني أستخيرك بعلمك‪ ،‬وأستقدرك بقدرتك"(‪.)146‬‬
‫وفي حديث عمار بن ياسر‪ ،‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على‬
‫الخلق"(‪.)147‬‬
‫وفي "صحيح البخاري" في قصة أيوب‪ ":‬قال‪ :‬بلى وعزتك‪ ،‬ولكن ل غنى بي عن بركتك"(‪.)148‬‬
‫وقال البخاري‪ ":‬باب الحلف بعزة ال وصفاته‪ ،‬وكلماته"‪ ،‬وقال ابن عباس‪ :‬كان النبي –صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬يقول‪ :‬أعوذ بعزتك‪ ،‬وقال أبو هريرة‪ :‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬يبقى رجل بين‬
‫الجنة والنار‪ ،‬فيقول‪ :‬يارب‪ ،‬اصرف وجهي عن النار‪ ،‬ل وعزتك‬
‫ص ‪58‬‬
‫ل أ سألك غير ها‪ .‬ثم ذ كر حد يث أ نس‪ " :‬ل تزال جه نم تقول‪ :‬هل من مز يد؟ ح تى ي ضع رب‬
‫(‪)149‬‬
‫العزة فيها قدمه‪ ،‬فتقول‪ :‬قط قط‪ ،‬وعزتك"‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلم عليه‪ ":‬لنها صفة الرحمن"‪.‬‬
‫وهذا من إضا فة المو صوف‬ ‫(‪)150‬‬
‫عمّ ا يَ صِفُونَ}‬
‫ك رَبّ ا ْل ِعزّةِ َ‬
‫ن َربّ َ‬
‫سبْحَا َ‬
‫وقال ال – تعالى ‪ُ { :-‬‬
‫إلى صفته‪.‬‬
‫فثبت بهذه النصوص‪ ،‬وغيرها كثير‪ ،‬أن ل صفات‪ ،‬وأن كل اسم تسمى ال به يدل على الصفة؛‬
‫لن السماء مشتقة من الصفات‪.‬‬
‫وبهذا يتهبين بطلن قول المعتزلة‪ ،‬الذيهن ينفون أن يكون ل علم وقدرة ومشيئة‪ ،‬ويجعلون هذه‬
‫الصفة هي الخرى‪ ،‬أو الصفة هي الموصوف‪ ،‬كما يتبين بهذا أيضا الفرق بين السماء والصفات‪.‬‬
‫‪-1‬فالسهماء تدل على الذات‪ ،‬والصهفات تدل على معان قائمهة بالذات‪ ،‬وهذه المعانهي‬
‫القائمة بالذات هي الصفات‪.‬‬

‫‪ )(142‬الية ‪ 166‬من سورة النساء ‪.‬‬


‫‪ )(143‬الية ‪ 58‬من سورة الذاريات‪.‬‬
‫‪ )(144‬الية ‪ 8‬من سورة المنافقون ‪.‬‬
‫‪ )(145‬الية ‪ 7‬من سورة غافر ‪.‬‬
‫‪ )(146‬هو حديث جابر ‪ ،‬انظر "البخاري" (‪ )2/50‬وسنن " أبي داود" رقم (‪ ، )1538‬والترمذي رقم (‬
‫‪ ، )480‬وسيأتي ‪.‬‬
‫‪ )(147‬انظر ‪ " :‬سنن النسائي" (‪ )55، 3/54‬في السهو في باب نوع آخر من الدعاء ‪.‬‬
‫‪" )(148‬صحيح البخاري" كتاب التهجد ‪ ،‬باب (‪ )1/54( ، )20‬وفي مواضع أخرى ‪ ،‬وسيأتي ‪.‬‬
‫‪" )(149‬الصحيح" ‪ ،‬كتاب اليمان والنذور ‪ ،‬باب (‪ ، )8/114( ،)12‬وسيأتي ذلك ‪.‬‬
‫‪ )(150‬الية ‪ 180‬من سورة الصافات ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪-2‬وتقدم أن السماء مشتقة من الصفات‪.‬‬
‫وقوله‪ ":‬أ خبروه أن ال يح به" قد يكون سبب مح بة ال له‪ :‬محب ته لهذه ال سورة‪ ،‬أو لمحب ته ذ كر‬
‫صفات الرب – عز وجل ‪ ،-‬وحسن فهمه وعقيدته‪.‬في ذلك‪ ،‬أو لمجموع المرين‪ ،‬وهو الولى‪.‬‬
‫وف يه ثبوت مح بة ال – تعالى – ل هل طاع ته من عباده‪ ،‬والدلة عل يه كثيرة جدا‪ ،‬فلذلك صار‬
‫إنكاره ضللً بينا‪.‬‬
‫قال المازري‪ ،‬ومن تبعه‪ :‬محبة ال لعباده‪ :‬إرادته ثوابهم‪ ،‬وتنعيمهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هي نفس الثابة‪ ،‬والتنعيم‪.‬‬
‫ومحبتهم له‪ ،‬ل يبعد فيها الميل منهم إليه‪ ،‬وهو مقدس عن الميل‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬محبتهم له‪ :‬استقامتهم على طاعته‪.‬‬
‫والتحقيق‪ :‬أن الستقامة ثمرة المحبة‪.‬‬
‫وحقيقة المحبة له‪ :‬ميلهم إليه؛ لستحقاقه سبحانه المحبة من جميع الوجوه‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬وفيه نظر‪ ،‬لما فيه من الطلق في موضع التقييد"(‪.)151‬‬
‫ومقصده من الطلق‪ ،‬قوله‪ ":‬لستحقاقه‪ -‬سبحانه – المحبة من جميع الوجوه" لنه قد يدخل فيه‬
‫الحب المتضمن للشهوة‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وقول المازري‪ :‬إن محبهة ال لعباده‪ :‬إرادتهه ثوابههم‪ ،‬وتنعيمههم‪ ،‬أو ههي نفهس الثواب والنعيهم‪،‬‬
‫ظا هر البطلن‪ ،‬والن صوص ف يه ل تق بل هذا التأو يل؛ لكثرت ها‪ ،‬وتواطئ ها على أن ال حب في ها هو ما‬
‫يفهمه المخاطب الذي لم تفسد فطرته بالعقائد المنحرفة عن الحق‪.‬‬
‫وهذه طريقهة أههل التأويهل فهي صهفات ال – تعالى – المسهتلزمة للثواب أو العقاب؛ إمها أن‬
‫يجعلوها إرادة الثواب أو العقاب‪ ،‬أو هي نفس الثواب والعقاب‪.‬‬
‫ومعلوم أن الثواب والعقاب ونحوهما مخلوق‪.‬‬
‫والرادة ال تي يرجعون المح بة والرح مة ونحوه ما من صفات ال –تعالى‪ -‬إلي ها‪ ،‬يلزم هم في ها‬
‫نظيهر مها فروا منهه فهي المحبهة والرحمهة‪ ،‬حيهث قالوا‪ :‬إن المحبهة ههي‪ :‬الميهل إلى المحبوب‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫والرادة هي‪ :‬ميل المريد إلى ما يوافقه في إرادته‪.‬‬
‫وأمها تفسهيرها بالثواب والعقاب‪ ،‬فيلزم منهه أن تكون صهفته –تعالى‪ -‬مخلوقهة‪ ،‬ثهم نقول‪ :‬لسهنا‬
‫بحاجة إلى مثل هذا التأويل السخيف البارد؛ لن ال – تعالى‪ -‬ليس كمثله شيء في صفاته‪ ،‬كما أنه ل‬
‫مثل له في ذاته‪.‬‬
‫ومحبته – تبارك وتعالى – لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه‪ ،‬وإحسانه‪ ،‬وعطائه‪ ،‬وإثابته‪ ،‬فإن هذا‬
‫أ ثر المح بة وموجب ها‪ ،‬أ ما هي فأع ظم من ذلك‪ ،‬و هي ال تي يت سابق إلي ها أ نبياؤه وملئك ته وأولياؤه‪،‬‬
‫وعباده ال صالحون‪ ،‬و كم في كتاب ال و سنة ر سوله – من نص صريح بأ نه ي حب عباده المؤمن ين‬

‫‪" )(151‬الفتح" (‪.)13/357‬‬

‫‪42‬‬
‫ح ِببْكُ مُ اللّ هُ َو َيغْ ِفرْ َلكُ مْ ُذنُو َبكُ مْ} (‪،)152‬‬
‫حبّو نَ الّل َه فَا ّت ِبعُونِي ُي ْ‬
‫ويحبو نه‪ ،‬كقوله – تعالى –{ قُلْ إِن كُنتُ مْ ُت ِ‬
‫ط ّهرِينَ} (‪{ ،)153‬بَلَى مَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْدِ ِه وَاتّقَى َفإِنّ الّلهَ ُيحِبّ‬
‫ب ا ْل ُمتَ َ‬
‫ب التّوّابِينَ َو ُيحِ ّ‬
‫وقوله –تعالى‪{ -‬الّلهَ ُيحِ ّ‬
‫ص ‪60‬‬
‫ا ْل ُمتّقِينهَ} (‪{ ،)154‬وَاللّهُه ُيحِبّ ا ْل ُمحْس ِهنِينَ} (‪{ ،)155‬إِنّ اللّه َه ُيحِبّ ا ْل ُمتَ َوكّلِينهَ} (‪ ،)156‬واليات فهي هذا‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫و أ ما الحاد يث عن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ال تي ت نص على أن ال ي حب عباده‬
‫المؤمن ين فإح صاؤها ع سير‪ ،‬كقوله – صلى ال عل يه وسهلم‪ ":-‬لعط ين الرايهة غدا رجلً يحبهه ال‬
‫ور سوله‪ ،‬وي حب ال ور سوله"(‪ ،)157‬وقوله – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬إن ال ي حب الع بد الت قي الغ ني‬
‫الخفي"(‪.)158‬‬
‫وأمها محبهة العباد لربههم فعجيهب إنكارهها‪ ،‬إذ ههي مهن الضروريات الثابتهة بالشرع‪ ،‬والعقهل‪،‬‬
‫والفطرة‪ ،‬وإنكارها إنكار للواقع المحسوس‪.‬‬
‫ك ما أن تأو يل المحرف ين بأن ها ال ستقامة على الطا عة‪ ،‬ك ما ذكره المازري‪ ،‬أو أن ها إرادت هم أن‬
‫ينفعهم‪ ،‬كما نقله الحافظ عن ابن التين(‪ ،)159‬مخالف للشرع‪ ،‬والعقل‪ ،‬والواقع المحسوس‪ ،‬بل قد يؤول‬
‫ذلك إلى إنكار أصل دين السلم؛ لن مبنى دين السلم على شهادة ل إله إل ال‪.‬‬
‫ومعنى الله‪ :‬المحبوب الذي تألهه القلوب‪ ،‬وتحبه‪ ،‬وتعظمه‪ ،‬وتجله‪ ،‬وتقصده بالنابة والخضوع‬
‫والذل‪ ،‬والفتقار إليه‪ ،‬والخوف منه‪ ،‬ورجائه‪.‬‬
‫ف من أن كر م يل القلوب إل يه تعالى بال حب والتأله‪ ،‬ف قد أن كر حقي قة ال سلم‪ ،‬و هل الشرك‪ -‬الذي‬
‫حرمت الجنة على صاحبه – إل أن يجعل للمخلوق نصيبا مع ال –تعالى‪ -‬في هذا الحب؟ كما قال –‬
‫حبّا لّلّهِ} (‪.)160‬‬
‫شدّ ُ‬
‫ن آ َمنُو ْا َأ َ‬
‫ب اللّهِ وَاّلذِي َ‬
‫حبّو َن ُهمْ َكحُ ّ‬
‫س مَن َي ّتخِذُ مِن دُونِ الّل ِه أَندَادا ُي ِ‬
‫تعالى‪َ { :-‬ومِنَ النّا ِ‬
‫ص ‪61‬‬
‫فبين – تعالى‪ -‬أن الذي ي حب المخلوق ك حب ال أ نه مشرك قد ات خذ ل ندا‪ ،‬وأ خبر – تعالى‪-‬‬
‫عن هؤلء أنهم سيقولون لندادهم وهم في النار‪{:‬تَاللّ ِه إِن ُكنّا لَفِي ضَللٍ ّمبِي نٍ {‪ِ }97‬إ ْذ نُ سَوّيكُم ِبرَبّ‬

‫‪ )(152‬الية ‪ 31‬من سورة آل عمران ‪.‬‬


‫‪ )(153‬الية ‪ 222‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(154‬الية ‪ 76‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(155‬الية ‪ ،148 ،134‬من سورة آل عمران ‪ ،‬و الية ‪ 93‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(156‬الية ‪ 159‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(157‬رواه صاحبا "الصحيحين" ‪ ،‬انظر ‪" :‬الفتح" (‪ )6/111‬وأماكن أخرى‪ ،‬و "مسلم" (‪،4/1871‬‬
‫‪.)1872‬‬
‫‪ )(158‬رواه مسلم في "الزهد" (‪ )4/2277‬رقم (‪.)2965‬‬
‫‪ )(159‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)13/357‬‬
‫‪ )(160‬الية ‪ 165‬من سورة البقرة ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ا ْلعَاَلمِي نَ} (‪ ،)161‬ول يجوز أن تكون ت سويتهم ل هم برب العالم ين إل في ال حب؛ ل نه ل يم كن أن يقول‬
‫عاقل إن أحدا من الخلق يساوي ال –تعالى‪ -‬في الفعل والتصرف‪.‬‬
‫من‬ ‫(‪)162‬‬
‫وقول ا بن الت ين الذي نقله الحا فظ‪ " :‬إن مع نى مح بة المخلوق ين ل‪ :‬إرادت هم أن ينفع هم"‬
‫أبطل الكلم المخالف للواقع وللشرع والعقل ولول أن هذا مسجل في الكتب المتداولة بين المسلمين‪ ،‬لم‬
‫يجز ذكره‪ ،‬وهل يوجد أحد من الخلق ل يريد أن ينفعه ال‪ ،‬حتى إبليس‪ ،‬ومن دونه من دعائم الكفر‬
‫واللحاد‪ ،‬من الوليهن والخريهن؟ بهل كلههم يريهد أن ينفعههم ال‪ ،‬فههل يقال‪ :‬إنههم يحبون ال المحبهة‬
‫المأمور بهها شرعا؟ ول شهك أن مثهل هذا القول نتيجهة نقهص العلم بكلم ال وكلم رسهوله‪ ،‬ونقهص‬
‫اليمان بذلك‪.‬‬
‫"وإل فإن من تيقن أن ال أصدق القائلين‪ ،‬وأن قوله الحق الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه‪ ،‬ول‬
‫من خل فه‪ ،‬وأن قوله الف صل‪ ،‬ل يس بالهزل‪ ،‬وأ نه الهدى‪ ،‬والنور‪ ،‬والشفاء ل ما في ال صدور من الج هل‬
‫والشكوك‪ ،‬وأنه –تعالى‪ -‬أعلم بنفسه وبغيره من خلقه‪.‬‬
‫وعلم أن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أعلم الخلق بالحق‪ ،‬وأفصح الخلق في النطق والبيان‪،‬‬
‫وأ نه أن صح الخلق للخلق‪ -‬من علم ذلك تي قن أ نه قد اجت مع له كمال العلم بال حق‪ ،‬وكمال القدرة على‬
‫بيانه‪ ،‬وكمال الرادة له‪ ،‬ومع كمال العلم والقدرة والرادة‪ ،‬يجب وجود المطلوب على أكمل وجه‪.‬‬
‫فيجب أن يعلم أن كلم ال ورسوله‪ ،‬أبلغ ما يمكن‪ ،‬وأتم ما يكون وأعظمه بيانا لمور الدين‪ ،‬من‬
‫حقوق ال وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ف من و قر هذا فهي قل به لم يجرؤ على تحريهف الن صوص بم ثل هذه التأويلت التهي إذا تدبرهها‬
‫العاقل المنصف‪ ،‬وجدها أبعد شيء عن كتاب ال‪ ،‬وعن صفات الرسول‬
‫ص ‪62‬‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص في علمه‪ ،‬وإيمانه بكلم‬
‫ال‪ ،‬وكلم رسوله –صلى ال عليه وسلم‪.)163(-‬‬
‫وقد علم المؤمنون أن محبة العباد لربهم هي حياة القلوب‪ ،‬ونعيم الروح‪ ،‬بل هي أعلى نعيم في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وهي فوق كل محبة تفترض‪ ،‬ول نسبة لسائر المحاب إليها‪ ،‬وهي حقيقة ل إله إل ال‪،‬‬
‫وبتمام ها وكمال ها تتفاوت منازل العباد ع ند ال في الدن يا والخرة‪ ،‬و قد جاء في الحد يث ع نه – صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪ ":‬أحبوا ال من كل قلوبكم"(‪ .)164‬يعني‪ :‬ل يبقى في القلب موضع لغير محبة‬
‫ال تعالى‪.‬‬

‫‪ )(161‬الية ‪ 98-97‬من سورة الشعراء ‪.‬‬


‫‪" )(162‬الفتح" (‪.)13/357‬‬
‫‪" )(163‬مجموع الفتاوى" (‪ )17/129‬بتصرف وزيادة ‪.‬‬
‫‪ )(164‬رواه ابن إسحاق في "السيرة" مختصرها لبن هشام (‪.)2/147‬‬

‫‪44‬‬
‫وفي "الصحيحين"‪ :‬مرفوعا‪" :‬ثلث من كن فيه‪ ،‬وجد بهن حلوة اليمان‪ ،‬أن يكون ال ورسوله‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل ل‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه ال‬
‫منه‪ ،‬كما يكره أن يقذف في النار"(‪.)165‬‬
‫و أصل التأله‪ :‬التعبد‪ ،‬والتعبد هو آخر مراتب الحب‪ ،‬يقال‪ :‬عبده الحب وتيمه‪ :‬إذا ملكه‪ ،‬وذللهه‬
‫لمحبوبه‪.‬‬
‫فالمحبة هي حقيقة العبودية‪ ،‬ول يمكن وجود العبادة التي يريدها ال ويأمر بها عباده بدونها أبدا‪،‬‬
‫بهل ل يوجهد أي نوع مهن أنواع العبادة المطلوبهة شرعا بدونهها‪ ،‬مثهل النابهة‪ ،‬والخشيهة‪ ،‬والخوف‪،‬‬
‫والرجاء‪ ،‬والحمد‪ ،‬والشكر‪ ،‬والصبر‪ ،‬والدعاء‪ ،‬والستغاثة‪ ،‬والستعانة‪ ،‬وغير ذلك من أنواع العبادة‪،‬‬
‫فمنكر المحبة في الحقيقة منكر لجميع مقامات اليمان والحسان‪ ،‬وهؤلء المحرفون مثل هذا النص‬
‫في المح بة‪ ،‬يغالطون أنف سهم‪ .‬وهذا الحد يث يدل على ح سن ف هم ال صحابة لمعا ني القرآن‪ ،‬ح يث قالوا‬
‫عن سورة الصمد‪ :‬أنها صفة الرحمن‪ ،‬ووجه ذلك‪ :‬أن هذه السورة تضمنت أنواع التزيه ل – تعالى‪-‬‬
‫والتحميد‪ ،‬ونفي النقائص كلها‪ ،‬وإثبات الكمال جميعه‪ ،‬ولهذا عدلت ثلث القرآن – كما تقدمت الشارة‬
‫إليه‪.‬‬
‫ص ‪63‬‬

‫‪ )(165‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪ )10/463( ، )1/72‬و "مسلم" (‪.)1/66‬‬

‫‪45‬‬
‫(الكلم على معنى أحد وصمد)‬
‫فالصمدية تثبت الكمال المنافي لكل نقص وعيب‪ ،‬والحدية تثبت النفراد بذلك الكمال‪ ،‬فهي تدل‬
‫على أنه – تعالى‪ -‬أحد‪ ،‬ليس من جنس شيء من المخلوقات‪ " ،‬وأنه صمد ليس من مادة‪ ،‬بل هو صمد‬
‫لم يلد ولم يولد‪ ،‬وإذا نفهى عنهه أن يكون مولودا مهن مادة الوالد؛ فلن ينفهي عنهه أن يكون مهن سهائر‬
‫المواد أولى وأحرى‪ ،‬فإن المولود من نظير مادته أكمل من المولود من مادة أخرى "(‪.)166‬‬
‫وقال شيخ السلم‪ ":‬وقد فسر السلف الصمد بأنه‪ :‬الذي ل جوف له‪ ،‬كما فسروه‪ :‬بأنه السيد الذي‬
‫ي صمه إل يه في الحوائج؛ والول قول أك ثر ال سلف‪ ،‬من ال صحابة والتابع ين وطوائف من أ هل الل غة‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬قول جمهور أهل اللغة‪ ،‬وطوائف من السلف والخلف‪.‬‬
‫قال الجوهري‪ :‬صمده يصمده صمدا إذا قصده‪ ،‬والصمد بالتحريك‪ :‬السيد؛ لنه يصمد إليه في‬
‫الحوائج(‪.)167‬‬
‫ص َمدُ} (‪)168‬أد خل اللم في "ال صّمَد" ولم يدخل ها في‬
‫حدٌ {‪}1‬اللّ ُه ال ّ‬
‫وقوله – تعالى ‪{ :-‬قُلْ ُه َو اللّ هُ َأ َ‬
‫"أحد" لنه ليس في الموجودات ما يسمى أحدا في الثبات مفردا غير مضاف إل ال –تعالى‪ ،-‬بخلف‬
‫النفي وما في معناه‪ ،‬كالشرط‪ ،‬والستفهام‪.‬‬
‫قال أهل اللغة‪ :‬تقول‪ :‬ل أحد في الدار‪ ،‬ول تقول‪ :‬فيها أحد‪.‬‬
‫ص ‪64‬‬
‫صمَد" فأدخل عليه اللف واللم‪ ،‬ليبين أنه المستحق لن يكون هو الصمد دون ما سواه‪،‬‬
‫و أما "ال ّ‬
‫فإنه المستوجب لغايته على الكمال‪.‬‬
‫فالمخلوق وإن كان قد يطلق عليه بأنه صمد‪ ،‬فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه‪ ،‬فإنه يقبل التجزئة‪،‬‬
‫(‪)169‬‬
‫وهو محتاج إلى غيره‪ ،‬فإن كل ما سوى ال فقير محتاج إلى ال‪ ،‬وليس أحد يصمد كل شيء إليه‬
‫وههو ل يصهمد إلى شيهء إل ال –تعالى‪ .-‬وليهس فهي المخلوقات شيهء إل ويقبهل التجزئة‪ ،‬ويتفرق‪،‬‬
‫وينف صل بع ضه من ب عض؛ وال سبحانه هو ال صمد‪ ،‬الذي ل يجوز عل يه ش يء من ذلك‪ ،‬بل حقي قة‬
‫الصمدية وكمالها له وحده واجبة ولزمة‪ ،‬ل يمكن عدمها بوجه من الوجوه‪ ،‬كما ل يمكن تثنية أحديته‬
‫بوجه من الوجوه؛ فهو أحد ل يماثله شيء من الشياء بوجه من الوجوه"(‪.)170‬‬
‫فقوله –تعالى‪ ":-‬أحد" مع قوله‪ " :‬لم يكن له كفوا أحد" ينفي المماثلة‪ ،‬والمشاركة‪.‬‬

‫‪" )(166‬مجموع الفتاوى" (‪. )17/452‬‬


‫‪ )(167‬انظر ‪ ":‬الصحاح" (‪ )2/499‬وتمامه ‪ ":‬قال‪:‬‬
‫علوته بحسام ثم قلت له ‪ :‬خذها حذيف فأنت السيد الصمد‬
‫وبيت مصمد –بالتشديد – أي ‪ :‬مقصود "‪.‬‬
‫‪ )(168‬اليتان ‪ 2-1‬من سورة الخلص ‪.‬‬
‫‪ )(169‬الصمود هنا هو ‪ :‬الطلب والقصد والتوجه إلى المصمود إليه بالحاجة ‪.‬‬
‫‪" )(170‬مجموع الفتاوى" (‪ )17/237‬ملخصاً‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وقوله –تعالى‪":-‬الصهمد" يتضمهن إثبات جميهع صهفات الكمال‪ ،‬فالنقائص منتفيهة عهن ال‪-‬‬
‫تعالى‪ ،-‬وكل ما يختص له المخلوق فهو من النقائص التي تنزه ربنا عنها – جل وعل‪.-‬‬
‫و أما ما يوصف به العبد من بعض الكمالت‪ ،‬مثل العلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والرحمة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فالذي‬
‫يثبت ل –تعالى‪ -‬من هذه المعاني يكون على وجه ل يقاربه فيه أحد من الخلق‪ ،‬فضلً عن أن يماثله‬
‫فيه‪.‬‬
‫وقد ثبت أن ما خلقه ال في الجنة من المآكل وغيرها‪ ،‬ل يماثل ما خلقه في الدنيا‪ ،‬وإن اتفقا في‬
‫السم‪ ،‬مع أن كليهما مخلوق‪ ،‬فالخالق‪ -‬تعالى وتقدس‪ ،-‬أبعد عن مماثلة المخلوقات‪.‬‬
‫والمعنى الصحيح الذي هو نفي المثل‪ ،‬والشريك‪ ،‬والند‪ ،‬قد دل عليه قوله‪ -‬سبحانه‪{ :-‬وَلَ مْ َيكُن‬
‫حدٌ} (‪.)172‬‬
‫ل هُ َو اللّ ُه َأ َ‬
‫حدٌ} (‪ ،)171‬وقوله‪{ :‬قُ ْ‬
‫لّ ُه كُفُوًا َأ َ‬
‫ص ‪65‬‬
‫سه ِميّا} (‪ ،)173‬وأمثال ذلك‪ ،‬فالمعانهي الصهحيحة لصهفات ال نفيا‬
‫َهه َ‬
‫َمه ل ُ‬
‫ل َتعْل ُ‬
‫وقوله‪-‬تعالى‪{ :-‬هَ ْ‬
‫وإثباتا‪ ،‬ثاب تة بالكتاب وال سنة‪ ،‬والع قل يدل على ذلك‪ .‬وقول ب عض أ هل الكلم‪ :‬ال حد‪ ،‬وال صمد‪ ،‬هو‬
‫الذي ل ينقسم‪ ،‬ول يتفرق‪ ،‬أو ليس بمركب‪ ،‬ونحو ذلك من العبارات‪ ،‬إن عني بها أنه ل يقبل التفرق‬
‫والنق سام ف هو حق‪ ،‬وإن ع ني ب ها أ نه ل يشار إل يه بحال‪ ،‬فهذا يمت نع وجوده‪ ،‬وإن ما يقدر وجوده في‬
‫الذهن تقديرا‪.‬‬
‫وقد علمنا أن العرب حين أطلقوا لفظ الواحد والحد‪ ،‬نفيا وإثباتا‪ ،‬لم يريدوا هذا المعنى‪.‬‬
‫ولهذا ل ما قالوا الذ ين جادلوا المام أح مد‪ ،‬في ن في ال صفات‪-‬م ستدلين با سم الوا حد‪ :-‬ل تكونون‬
‫موحدين أبدا حتى تقولوا‪ :‬كان ال ول شيء‪.‬‬
‫قال أحمد‪" :‬قلنا‪ :‬نحن نقول‪ :‬كان ال ول شيء‪ ،‬ولكن إذا قلنا‪ :‬إن ال لم يزل بصفاته كلها‪ ،‬أليس‬
‫إنما نصف إلها واحدا؟‬
‫وضربنها لههم فهي ذلك مثلً‪ ،‬فقلنها‪ :‬أخبرونها عهن هذه النخلة‪ ،‬أليهس لهها جذع‪ ،‬وكرب‪ ،‬وليهف‪،‬‬
‫وسهعف‪ ،‬وخوص‪ ،‬وجمار؟ واسهمها شيهء واحهد؟ سهميت نخلة بجميهع صهفاتها؟ فكذلك ال‪-‬وله المثهل‬
‫العلى‪ -‬بجميع صفاته إله واحد‪.‬‬
‫ول نقول‪ :‬إ نه كان في و قت من الوقات ول قدرة له‪ ،‬ح تى خلق لنف سه قدرة‪ ،‬أو كان ول علم‬
‫له‪ ،‬حتى خلق له علما‪ ،‬ولكن نقول‪ :‬لم يزل عالما‪ ،‬قادرا‪ ،‬مالكا‪ ،‬ل متى‪ ،‬ول كيف" انتهى(‪.)174‬‬

‫‪ )(171‬الية ‪ 4‬من سورة الخلص ‪.‬‬


‫‪ )(172‬الية ‪ 1‬من سورة الخلص ‪.‬‬
‫‪)(173‬الية ‪ 65‬من سورة مريم‪.‬‬
‫‪")(174‬مجموع الفتاوى" (‪،)17/449‬وانظر‪ :‬رد المام أحمد‪ ،‬في "مجموع عقائد السلف" (ص ‪.)91‬‬

‫‪47‬‬
‫ص َمدُ} (‪)175‬على أ نه لم يلد‪ ،‬ولم يولد‪،‬‬
‫حدٌ {‪}1‬اللّ هُ ال ّ‬
‫وقال أيضا‪" :‬ودل قوله‪-‬تعالى‪{ :-‬قُلْ هُ َو اللّ هُ َأ َ‬
‫ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬ولهذا فسر الصمد بأنه الذي لم يلد‪ ،‬ولم يولد‪.‬‬
‫ص ‪66‬‬
‫فإن ال صمد‪ :‬هو الذي ل جوف له‪ ،‬ول أحشاء‪ ،‬فل يد خل ف يه ش يء؛ فل يأ كل ول يشرب‪ ،‬ك ما‬
‫طعَمُ} (‪ ،)176‬وفي قراءة بفتح الياء الخيرة"‪.‬‬
‫قال –تعالى‪{ :-‬وَهُ َو ُيطْ ِعمُ َولَ ُي ْ‬
‫وفسر بعض السلف "الصمد" بأنه الذي ل يخرج منه شيء‪ ،‬وليس مرادهم أنه ل يتكلم‪ ،‬فإنه يقال‬
‫في الكلم‪ :‬خرج منه‪ ،‬كما في الحديث‪":‬ما تقرب العباد إلى ال بشيء أفضل مما خرج منه" انتهى(‪.)177‬‬
‫ودل الحديهث على اسهتحباب قراءة اليات التهي تشتمهل على صهفات ال تعالى‪ ،‬خلفا للمبتدعهة‬
‫الذين يكرهون آيات الصفات عند العامة‪ ،‬وفيه التصريح بأن ال يحب ذلك ويحب من يحبه‪.‬‬
‫ص ‪67‬‬

‫‪ )(175‬اليتان ‪2-1‬من سورة الخلص‪.‬‬


‫‪)(176‬الية ‪14‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪)(177‬المصدر السابق‪ ،‬والحديث خرجه الترمذي (‪ ،)4/249‬وعبد ال ابن المام أحمد في "السنة" (ص‬
‫‪.)20‬‬

‫‪48‬‬
‫سنَى} (‪.")178‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫حمَهنَ َأيّا مّا َتدْعُو ْا فَلَهُ ا َ‬
‫"باب قوله –تعالى‪{ :-‬قُلِ ا ْدعُو ْا اللّ َه أَ ِو ادْعُواْ ال ّر ْ‬
‫قال الطهبري‪-‬رحمهه ال تعالى‪" :-‬يقول –تعالى ذكره‪ -‬لنهبيه‪:‬قهل يها محمهد لمشركهي قومهك‬
‫َسهمَاء‬
‫َهه ال ْ‬
‫ن َأيّاه مّاه َتدْعُواْ فَل ُ‬
‫حمَهه َ‬
‫المنكريهن دعاء الرحمهن‪{ :‬ادْعُواْ اللّههَ} أيهها القوم‪{ ،‬أَ ِو ادْعُو ْا ال ّر ْ‬
‫سنَى} بأي أ سمائه‪ -‬جل جلله‪ -‬تدعون رب كم فإن ما تدعون واحدا‪ ،‬وله ال سماء الح سنى‪ ،‬وإن ما ق يل‬
‫ا ْلحُ ْ‬
‫ذلك له‪-‬صلى ال عليه وسلم – لن المشركين‪،‬فيما ذكر‪ -‬سمعوا النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – يدعو‬
‫ر به‪ :‬يا رب نا ال‪ ،‬و يا رب نا الرح من‪ ،‬فظنوا أ نه يد عو إله ين‪ ،‬فأنزل ال ال ية‪ ،‬ثم روي ذلك عن ا بن‬
‫عباس‪ ،‬وعن مكحول"(‪.)179‬‬
‫قال ا بن ح جر‪" :‬كأ نه ل مح في هذه الترج مة بهذه ال ية إلى ما ورد في سبب نزول ها‪ ،‬و هو ما‬
‫أخر جه ا بن مردو يه ب سند ضع يف‪ ،‬عن ا بن عباس‪ :‬أن المشرك ين سمعوا ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه‬
‫وسلم – يدعو‪ :‬يا ال‪ ،‬يا رحمن‪ ،‬فقالوا‪ :‬كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد‪ ،‬وهو يدعو إلهين‪ .‬فنزلت‪،‬‬
‫وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه"(‪.)180‬‬
‫قلت‪ :‬يظههر لي أن مقصهود البخاري‪-‬رحمهه ال‪ -‬بالترجمهة بهذه اليهة‪ ،‬بيان اختصهاص ال‪-‬‬
‫تبارك وتعالى‪ -‬بالسماء الحسنى‪ ،‬وأن أسماءه كاملة المعاني‪ ،‬ل يلحقها نقص‪ ،‬أو عيب‪ ،‬وأن اتصاف‬
‫المخلوق ببعهض مها يتصهف الرب تعالى بهه مهن المعانهي‪ ،‬ل يلزم منهه نقهص أو عيهب فهي أسهمائه‬
‫و صفاته‪-‬تعالى‪ -‬لن ها ح سنى كاملة تنا سب عظم ته‪ ،‬فل يتو هم أن في ذلك ت شبيها ك ما يتزع مه أ هل‬
‫البدع الذين ظنوا أن مجرد المشاركة في السم أو المعاني يفيد الت شبيه‪ ،‬فنفوا صفات ال‪-‬تعالى‪ -‬من‬
‫أجل ذلك‪.‬‬
‫وأ ما المخلوق فأ سماؤه و صفاته لي ست ح سنى‪ ،‬ول كاملة‪ ،‬ف هي تنا سب ضع فه وعجزه‪ ،‬والذي‬
‫يو ضح مراد البخاري بذلك الحديثان اللذان ذكره ما"ل ير حم من ل ير حم الناس"‪ ،‬و في ال خر "إن ما‬
‫يرحهم ال مهن عباده الرحماء"‪ ،‬فإذا كان المخلوق يرحهم‪ ،‬ويسهمى رحيما‪ ،‬وال‪-‬تعالى‪ -‬يرحهم ويسهمى‬
‫رحيما‪ ،‬فليس ما‬
‫ص ‪68‬‬
‫يخهص ال‪ -‬تعالى‪ -‬مهن هذا السهم أو الفعهل مماثلً أو مقاربا لمها يخهص المخلوق‪ ،‬فل يجوز‬
‫تأو يل أو ن في رح مة ال‪-‬تعالى‪ -‬وغير ها من صفاته‪ ،‬من أ جل تو هم أن مجرد المشار كة في المع نى‬
‫يلزم منها التشبيه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪" :‬أسماؤه‪-‬تعالى‪ -‬كلها مدح وثناء وتمجيد‪ ،‬ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات‬
‫كمال"(‪.)181‬‬
‫‪)(178‬الية ‪110‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪")(179‬تفسير الطبري" (‪.)15/182‬‬
‫‪")(180‬الفتح" (‪.)13/360‬‬
‫‪" )(181‬مدارج السالكين" (‪.)1/125‬‬

‫‪49‬‬
‫و ما ذكره ب عض الشراح‪ :‬مم أن البخاري ذ كر هذا الباب ليكون كال صل ل ما بعده من البواب‪،‬‬
‫وما بعده كالفرع عليه‪ ،‬وقال‪ :‬إنه قصد السمين المذكورين في الية‪ ،‬وهما "ال"‪" ،‬والرحمن"؛ لنهما‬
‫خاصان بال‪-‬تعالى‪ ،-‬فليس بظاهر‪ ،‬وهذان السمان جاء ذكرهما كثيرا فيما بعد‪ ،‬والظاهر لي – وال‬
‫أعلم‪ -‬مها أشرت إليهه فيمها سهبق قبهل قليهل‪ ،‬يوضهح ذلك مها جاء فهي سهبب النزول كمها قال الحافهظ‪،‬‬
‫"والرحمن" يأتي تابعا "ل" كغيره من السماء الحسنى‪.‬‬
‫ه ا ْلبَا ِرئُ‬
‫ه ا ْلخَالِق ُ‬
‫فههو أراد بهذا الباب مها دلت عليهه اليات الخرى كقوله‪-‬تعالى‪ُ { :-‬هوَ اللّه ُ‬
‫سنَى فَادْعُو ُه ِبهَا} (‪ ،)183‬وقوله‪{ :‬اللّ ُه ل إِلَهَ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫سنَى} (‪ ،)182‬وقوله‪{ :‬وَلِلّ ِه الَ ْ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫ا ْلمُصَ ّورُ لَ ُه الَ ْ‬
‫سنَى} (‪.)184‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫ِإلّ ُهوَ َلهُ ا َ‬

‫‪)(182‬الية ‪ 24‬من سورة الحشر‪.‬‬


‫‪)(183‬الية ‪ 180‬من سورة العراف‪.‬‬
‫‪)(184‬الية ‪ 8‬من سورة طه‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ص ‪69‬‬
‫‪ -6‬قال‪" :‬حدثنا محمد‪ ،‬أخبرنا أبو معاوية‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن زيد بن وهب‪ ،‬وأبي ظبيان‪ ،‬عن‬
‫جرير بن عبد ال‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬ل يرحم ال من ل يرحم الناس"‪.‬‬
‫جرير هو‪ :‬أبو عمرو‪ ،‬جرير بن عبد ال بن جابر البجلي‪ ،‬الحمسي‪ ،‬وأحمس بطن من بجيلة‪،‬‬
‫وبجيلة وخثعم أخوان‪ ،‬وهما من قحطان‪ ،‬وقيل‪ :‬من ربيعة بن نزار‪.‬‬
‫قدم جر ير على ال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم – في آ خر حيا ته‪ ،‬فب شر به أ صحابه‪ ،‬وب سط له‬
‫رداءه‪.‬‬
‫وكان –رضي ال عنه‪ -‬صادق اليمان‪ ،‬صادعا بالحق‪ ،‬ل تأخذه في ال لومة لئم‪ ،‬وكان يقول‬
‫كما في "الصحيحين"‪ ،‬وغيرهما‪" :‬بايعت النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – على إقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫والنصح لكل مسلم"(‪.)185‬‬
‫وبعثه النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – لهدم ذي الخلصة‪ ،‬وهو صنم كبير كان لدوس‪ ،‬فهدمه‪.‬‬
‫ودعا له النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – ولخيل أحمس ورجالها‪.‬‬
‫وكان حسهن الوجهه‪ ،‬حيهث كان يقال له‪ :‬يوسهف هذه المهة‪ ،‬وكان طويلً إذا ركهب الفرس تكاد‬
‫تخط رجله في الرض‪.‬‬
‫ل إلى معاوية‪ ،‬ثم اعتزل الحروب بينهما وتحول إلى جزيرة ابن‬
‫نزل الكوفة‪ ،‬فأرسله علي رسو ً‬
‫عمر‪ ،‬توفى بقرقيسيا سنة إحدى وخمسين‪ ،‬وقيل‪ :‬بعدها‪- ،‬رضي ال عنه‪.)186(-‬‬
‫"قوله‪" :‬ل يرحم ال من ل يرحم الناس" في رواية لمسلم‪" :‬من ل يرحم الناس‪ ،‬ل يرحمه ال"‪.‬‬
‫وعند الطبراني‪" :‬من ل يرحم من في الرض‪ ،‬ل يرحمه من في السماء" ورواته ثقات‪.‬‬
‫ولبي داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والحاكم‪" :‬ارحموا من في الرض يرحمكم من في السماء"‪.‬‬
‫وفي الطبري‪" :‬من ل يرحم المسلمين لم يرحمه ال"(‪.)187‬‬
‫ص ‪70‬‬
‫قلت‪ :‬ومعنى هذه الروايات واحد‪ ،‬ففي هذه الحاديث وأمثالها كثير‪ ،‬دليل على أن الرحمة صفة‬
‫تقوم بمن يشاء ال من عباده‪ ،‬الذين يريد‪-‬جل وعل‪ -‬رحمتهم‪ ،‬وتتخلف عن الشقياء‪ ،‬الذين ل يرحمهم‬
‫ال –تعالى‪.-‬‬
‫وقد روى البخاري في " الدب المفرد"‪ ،‬من حديث أبي هريرة‪ ،‬أن النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم –‬
‫قال‪ " :‬ل تنزع الرحمة إل من شقي"(‪.)188‬‬

‫‪)(185‬انظر" الفتح" (‪ )1/137‬وغيره‪ ،‬و"مسلم" (‪ )1/75‬في "اليمان" رقم (‪.)56‬‬


‫‪)(186‬انظر‪" :‬أسد الغابة" (‪ ،)333/‬و"الستيعاب" (‪ ،)1/236‬و"الصابة" (‪ ،)1/475‬و"سير أعلم‬
‫النبلء" (‪.)2/530‬‬
‫‪")(187‬الفتح" (‪.)10/440‬‬

‫‪51‬‬
‫وقهد علم مهن ديهن الرسهل‪ ،‬وكتهب ال تعالى‪ ،‬أن ال متصهف بالرحمهة‪ ،‬وليسهت رحمتهه ثوابهه‬
‫وجزاءه‪ ،‬كما يقوله أهل التحريف والمؤولة‪ ،‬من الشعرية وغيرهم‪.‬‬
‫ج َمعُونَ} (‪.)189‬‬
‫خ ْيرٌ ّممّا َي ْ‬
‫ح َمتِهِ َف ِبذَِلكَ فَلْيَ ْف َرحُو ْا هُ َو َ‬
‫ل اللّهِ َو ِب َر ْ‬
‫وقد قال ال‪-‬تعالى‪{ :-‬قُلْ بِ َفضْ ِ‬
‫فع طف الرح مة على الف ضل يدل على المغايرة‪ ،‬وف ضل ال‪-‬تعالى‪ -‬الذي هو الثواب والجزاء‪-‬‬
‫مخلوق‪ ،‬ليس من صفات ال – تعالى‪ -‬القائمة به‪ ،‬وإن كان الفضل في الية غير متعين إرادة الثواب‬
‫به‪ ،‬بل يجوز أن يراد به التفضل الذي هو فعل ال –تعالى‪.-‬‬
‫وإذا كان الجماع حاصهلً بيهن المهة‪ ،‬بأن ال ‪ -‬تبارك وتعالى‪ -‬ليهس كمثله شيهء فهي ذاتهه‬
‫المقدسة‪ ،‬فيجب أن تكون صفاته كصفات خلقه؛ لن الصفة تتبع الموصوف‪ ،‬فصفات ال‪-‬تعالى‪ -‬من‬
‫الرحمة‪ ،‬والرضا‪ ،‬والغضب‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬تليق بعظمته‪ ،‬وتناسبه‪ ،‬وصفة المخلوق من ذلك وغيره تليق‬
‫بضعفه‪ ،‬وعجزه وفقره‪.‬‬
‫و إن من الضلل‪ ،‬والبعد عن كتاب ال‪ ،‬وهدي رسوله‪ ،‬وسبيل المؤمنين حقا‪ ،‬نفي صفات ال –‬
‫تعالى‪ -‬وتعطيله منها اعتللً بأنها تفيد التشبيه؛ لن المخلوق‬
‫ص ‪71‬‬
‫يوصف بتلك الصفات‪ ،‬وهل هذا إل مثل من يقول‪ :‬أنا ل أقر بوجود ال‪ -‬تعالى‪ -‬لن المخلوق‬
‫موجود؟‬
‫وقد تقدمت الشارة إلى أن مجرد الشتراك في السم أو في المعاني العامة ل يقتضي تشبيها‪،‬‬
‫وسيأتي لذلك مزيد إن شاء ال‪ -‬تعالى‪.-‬‬

‫‪)(188‬انظر‪" :‬الدب المفرد" (ص ‪ ،)136‬قال محققه ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ،)25‬كتاب البر والصلة (‪)16‬‬
‫بابك ما جاء في رحمة المسلمين‪ ،‬و أبو داود‪ ،‬كتاب الدب(‪ ،)58‬باب في الرحمة‪ ،‬و أحمد في " المسند"‬
‫رقم(‪ )1064 ،9946 ،9941 ،9700 ،7988‬وغيرهم‪ ،‬وسنده صحيح‪.‬‬
‫‪)(189‬الية ‪58‬من سورة يونس‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ص ‪72‬‬
‫‪ -7‬قال‪ :‬حدث نا أ بو النعمان‪ ،‬حدث نا حماد بن ز يد‪ ،‬عن عا صم الحول‪ ،‬عن أ بي عثمان النهدي‪،‬‬
‫عن أسامة بن زيد‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند النبي –صلى ال عليه وسلم – إذ جاءه رسول إحدى بناته تدعوه إلى‬
‫ابنها في الموت‪ ،‬فقال النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬ارجع فأخبرها‪ ،‬أن ل أخذ‪ ،‬وله ما أعطى‪ ،‬وكل‬
‫شيء عنده بأجل مسمى‪ ،‬فمرها فلتصبر‪ ،‬ولتحتسب"‪.‬‬
‫فأعادت إليه الرسول‪ ،‬أنها أقسمت لتأتينها‪ ،‬فقال النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – وقام معه سعد بن‬
‫عبادة‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬فدفع الصبي إليه‪ ،‬ونفسه تقعقع كأنها في شن‪ ،‬ففاضت عيناه‪ ،‬فقال له سعد‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬ما هذا؟ قال‪" :‬هذه رحمة جعلها ال في قلوب عباده‪ ،‬وإنما يرحم ال من عباده الرحماء"‪.‬‬
‫أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل‪ ،‬الكلبي‪،‬حب رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم – وابن حبه‬
‫وموله‪ ،‬وابن مولته أم أيمن‪.‬‬
‫أمره رسول ال‪-‬صلى ال عل يه وسلم – على جيش فيه كبار المهاجر ين‪ ،‬والنصار‪ ،‬من هم أبو‬
‫بكر وعمر‪ ،‬وقال فيه –صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬وايم ال إن كان لخليقا للمارة"(‪.)190‬‬
‫وفهي البخاري‪ ،‬وغيره أنهه –صهلى ال عليهه وسهلم – قال له‪ ،‬وللحسهن‪" :‬اللههم إنهي أحبهمها‪،‬‬
‫فأحبهما"(‪.)191‬‬
‫وزوجه فاطمة بنت قيس‪ -‬وهو ابن خمس عشرة سنة‪ ،‬وتوفي رسول ال – صلى ال عليه وسلم‬
‫– و هو ابن ت سع عشرة سنة‪ ،‬وفضله ع مر‪ -‬ر ضي ال عنه ما‪ -‬في العطاء على اب نه عبد ال‪ ،‬وح ين‬
‫راجعه قال له‪ :‬إنه أحب إلى رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم – منك‪.‬‬
‫واعتزل الحروب ب ين أ هل الشام وأ هل العراق‪ ،‬ومات بوادي القرى سنة أر بع وخم سين‪ ،‬وق يل‬
‫غير ذلك(‪.)192‬‬
‫قوله‪" :‬إحدى بناته" قال الحافظ‪" :‬هي زينب‪ ،‬كما جاء في "مصنف ابن أبي شيبة"(‪.)193‬‬
‫ص ‪73‬‬
‫قلت‪ :‬يشير إلى ما رواه ابهن أبي شيبة بالسند المذكور هنا‪ ،‬قال‪" :‬دمعت عين رسول ال‪-‬صلى‬
‫ال عليه وسلم – حين أتي بابنة زينب‪ ،‬ونفسها تقعقع كأنهها في شن‪ ،‬قال‪ :‬فبكى‪ ،‬قال‪ :‬فقال له رجل‪:‬‬
‫تبكي وقد نهيت عن البكاء…" فذكر بقية الحديث كما ذكره البخاري(‪.)194‬‬

‫‪)(190‬أخرجه البخاري في مواضع من "الصحيح"‪ ،‬انظر‪" :‬الفتح" (‪ )86، 7/498‬و (‪.)11/521‬‬


‫‪)(191‬انظر‪" :‬الفتح" ‪ )94، 7/88‬و (‪.)10/434‬‬
‫‪)(192‬انظر‪" :‬الصابة" (‪ )1/49‬تحقيق البجاوي‪ ،‬و"سير أعلم النبلء" (‪ )2/496‬وغيرها‪.‬‬
‫‪)(193‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)3/156‬‬
‫‪)(194‬انظر‪" :‬مصنف ابن أبي شيبة" (‪.)3/392‬‬

‫‪53‬‬
‫ثم قال الحافظ‪" :‬ووجدت في الن ساب للبلذري‪ ،‬أن عبد ال بن عثمان بن عفان من رق ية ب نت‬
‫النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – لما مات‪ ،‬وضعه النبي –صلى ال عليه وسلم – في حجره وقال‪" :‬إنما‬
‫يرحم ال من عباده الرحماء"‪.‬‬
‫وفي "مسند البزار"‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬ثقل ابن فاطمة‪ ،‬فبعث إلى النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ … -‬فذكر نحو الحديث المذكور هنا‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬فالبن هو محسن بن على بن أبي طالب‪ ،‬وقد اتفق‬
‫أ هل العلم بالخبار أ نه مات صغيرا‪ ،‬في حياة ال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم ‪ ،-‬فهذا أولى أن يف سر به‬
‫البن‪ ،‬لكن الصواب أن المرسلة؛ زينب‪ ،‬وأن الولد صبية‪ ،‬كما ثبت في "مسند أحمد" بالسند المذكور‪،‬‬
‫ولفظه‪" :‬أتي النبي‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬بأمامة بنت زينب‪ ،‬ونفسها تقعقع كأنها في شن …" وذكر‬
‫بقية الحديث(‪.)195‬ومثله في "معجم الطبراني"‪ ،‬وقد شفاها ال‪ -‬تعالى‪ -‬فعاشت زمنا بعد وفاة رسول ال‬
‫– صلى ال عليه وسلم – وتزوجها على ابن أبي طالب‪ ،‬بعد وفاة فاطمة‪ ،‬وقتل وهي عنده‪- ،‬رضي‬
‫ال عنهم‪ -‬جميعا"(‪.)196‬‬
‫قوله‪" :‬إن ل ما أخذ‪ ،‬وله ما أعطى"‪ ،‬قال النووي‪-‬رحمه ال‪" :-‬هذا أحسن ما يعزى به" ثم قال‪":‬‬
‫وهذا الحديهث مهن أعظهم قواعهد السهلم؛ لشتماله على مهمات كثيرة مهن أصهول الديهن‪ ،‬وفروعهه‪،‬‬
‫والداب‪ ،‬وال صبر على النوازل كل ها‪ ،‬والهموم‪ ،‬وال سقام وغ ير ذلك‪ ،‬ومع نى قوله‪" :‬إن ل ما أ خذ" أن‬
‫العالم كله ملك ل –تعالى‪ ،-‬فلم يأخذ ما هو لكم‪ ،‬بل أخذ ما هو له عندكم‪ ،‬في معنى العارية‪.‬‬
‫ومع نى‪" :‬وله ما أع طى" أن ما وهبه ل كم ليس خارجا عن مل كه‪ ،‬بل هو له يف عل ف يه ما يشاء‪،‬‬
‫وكل شيء عنده بأجل مسمى‪ ،‬فل تجزعوا فإن من قبض فقد‬
‫ص ‪74‬‬
‫انق ضى أجله الم سمى‪ ،‬فمحال تأخره أو تقد مه ع نه‪ ،‬فاعلموا ذلك‪ ،‬وا صبروا‪ ،‬واحت سبوا ما نزل‬
‫بكم"(‪.)197‬‬
‫وقوله‪" :‬وكل شيء عنده بأجل مسمى" من فقد محبوب‪ ،‬أو حصول مرغوب‪ ،‬وتصرف في هذا‬
‫الكون الذي هو بأسه ملك ل يفعل فيه ما يريد‪ ،‬وأجل المسمى‪ :‬هو المقدر بوقت معين ل يتأخر عنه‪،‬‬
‫ول يتقدم‪.‬‬
‫و في هذه الجملة من الحد يث دل يل وا ضح على أن ال تعالى قدر كل ش يء وكت به‪ ،‬وعلم وق ته‬
‫وحاله‪ ،‬وأن الحوادث كلها تقع على تقدير دقيق‪ ،‬ل تتأخر عن ذلك لحظة ول تتقدم‪ ،‬وهذا أصل عظيم‬
‫من أ صول الد ين ال سلمي‪ ،‬ي جب أن يعلم‪ .‬واليمان به من أركان الد ين ل بد م نه‪ ،‬والدلة عل يه من‬
‫الكتاب والسنة كثيرة‪.‬‬

‫‪)(195‬انظر‪" :‬المسند " (‪.)5/204‬‬


‫‪")(196‬الفتح" (‪.)3/156‬‬
‫‪)(197‬انظر‪" :‬الذكار" (ص ‪.)213-212‬‬

‫‪54‬‬
‫قوله‪" :‬فلت صبر‪ ،‬ولتحت سب" ال صبر‪ :‬ح بس الن فس عن الجزع‪ ،‬والت سخط‪ ،‬وح بس الجوارح ع ما‬
‫ن هى ع نه الشرع من شق الثياب‪ ،‬وخ مش الوجوه ولطم ها‪ ،‬والكلم الذي ينا في الت سليم لرب العالم ين‪،‬‬
‫وما أشبه ذلك مما يدل على تسخط القدار‪ ،‬والعتراض على القضاء الذي قضاه ال قبل وجود الخلق‪.‬‬
‫والحتسهاب‪ :‬ههو نيهة طلب الثواب مهن ال على اليمان بالقدر‪ ،‬والتسهليم لمهر ال –تعالى‪،-‬‬
‫واليمان بوعد ال –تعالى‪ ،-‬فإنه وعد على الصبر الجزاء‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪" :‬حقيقة الصبر‪ :‬أنه خلق فاضل من أخلق النفس يمتنع به من فعل ما ل يحسن‪،‬‬
‫ول يجمل"(‪.)198‬‬
‫قوله‪" :‬فأعادت إل يه الر سول‪ ،‬أن ها أق سمت لتأتين ها" جاء في ب عض الروايات أن ها راجع ته ثلث‬
‫مرات‪ ،‬وإنما ذهب إليها بعد الثالثة‪.‬‬
‫والحامل لها ما علمت من أن حضور النبي –صلى ال عليه وسلم – فيه الخير والبركة‪ ،‬وأنه‬
‫يتوقع أن يرفع ال ببركة دعائه وحضوره ما هي فيه وابنتها من ألم وتوجع‪ ،‬وقد حقق ال – تعالى –‬
‫أملها ورغبتها‪ ،‬فشفا مريضها كما سبق‪.‬‬
‫ص ‪75‬‬
‫ول يعترض على هذا أن القدر لبد من وقوعه‪ ،‬فكيف يتخلف من أجل الدعاء أو غيره‪ ،‬فإن ال‬
‫تعالى جعل لكل شيء سببا‪ ،‬ورتب المسببات على أسبابها‪ ،‬فقدر أن هذا الشيء يقع في وقت معين مع‬
‫سهببه‪ ،‬فالدعاء المأمور بهه ل يلزم أن يكون قدرا مكتوبا‪ ،‬بهل إذا أمهر ال عباده بالدعاء‪ ،‬فمنههم مهن‬
‫يطي عه في ستجيب له دعاءه إن شاء ال أو ي من عل يه ب ما طل به‪ ،‬فيدل ذلك على أن المعلوم ل –تعالى‪-‬‬
‫المقدر له هو الدعاء والجابة‪.‬‬
‫ومنههم مهن يعصهي أمهر ال تعالى فل يدعهو‪ ،‬فل يحصهل مها علق على الدعاء‪ ،‬فيدل على أن‬
‫المعلوم ل‪ -‬تعالى – المقدر‪ :‬عدم الدعاء وما رتب عليه من الجابة‪.‬‬
‫فما يحصل بالدعاء قدر ال حصوله بالدعاء ل بدونه‪ ،‬وهو‪-‬جل وعل‪ -‬يبتلي خلقه بالمصائب‪،‬‬
‫تأديبا لهم‪ ،‬وتكفيرا لذنوبهم‪ ،‬رحمة منه بهم‪.‬‬
‫قوله‪" :‬ونفسه تقعقع كأنها في شن" القعقعة‪ :‬صوت الشيء اليابس الجاف الخفيف إذا حرك‪ ،‬يعني‬
‫بذلك‪ :‬صوت نفسه عند صعوده ونزوله في صدره من شدة اللم‪.‬‬
‫والشن‪ :‬بفتح الشين وتشديد النون‪ :‬القربة الخلقة اليابسة‪.‬‬
‫قوله‪" :‬ففا ضت عيناه"أي ذر فت عي نا ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم – بالدموع رح مة لهذا‬
‫الضعيف‪ ،‬وتوجعا لما نزل به من ألم شديد‪.‬‬
‫"فقال سعد‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ما هذا؟" كان –صلى ال عليه وسلم – ينهى عن البكاء على الميت‪،‬‬
‫ف ظن سعد‪-‬ر ضي ال ع نه‪ -‬وغيره أن الن هي يد خل ف يه د مع الع ين‪ ،‬وحزن القلب‪ ،‬فبين ل هم ال نبي –‬

‫‪")(198‬عدة الصابرين" (ص ‪.)12‬‬

‫‪55‬‬
‫صلى ال عليه وسلم – أن المنهي عنه هو التسخط من المقدور‪ ،‬ودعوى الجاهلية من العويل والنوح‪،‬‬
‫وتعداد محا سن الم يت‪ ،‬و ما أش به ذلك من ل طم الو جه و شق الثياب ونحوه‪ ،‬م ما يدل على ال سخط من‬
‫الواقع‪ ،‬وعدم الصبر‪.‬‬
‫وأما دمع العين وحزن القلب‪ ،‬فهو من الرحمة للضعفاء التي هي سبب رحمة أرحم الراحمين‪-‬‬
‫جل وعل‪.-‬‬
‫قوله‪" :‬هذه رحمة جعلها ال في قلوب عباده" أي " الدمع الذي رأيته من أثر الرحمة التي جعلها‬
‫ال – تعالى – في قلوب عباده‪ ،‬الذين أراد ‪-‬تعالى –رحمتهم؛ لن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬والضافة‬
‫هنها خاصهة‪ ،‬أي الذيهن عبدوه باتباع أمره‪ ،‬واجتناب نهيهه‪ ،‬وقهد تكون عامهة‪ ،‬فإن الكافهر قهد يرحهم‬
‫الصغير‪ ،‬فيبكي عليه رحمة‪.‬‬
‫ص ‪76‬‬
‫قوله‪" :‬إنما يرحم ال من عباده الرحماء" أي‪ :‬رحمة ال‪-‬تعالى‪ -‬للمحسنين إلى عباده برحمت هم‪،‬‬
‫والرحماء من صيغ المبالغة‪ ،‬ولهذا قال بعض الشراح‪" :‬المعنى‪ :‬أن ال –تعالى‪ -‬ل يرحم من عباده إل‬
‫كثير الرحمة‪ ،‬فالرحماء جمع رحيم‪ ،‬وهو من صيغ المبالغة"(‪.)199‬‬
‫قلت‪ :‬هذا الحصهر ل ينبغهي‪ ،‬وإن كان التركيهب فهي الحديهث يفيده‪ ،‬ولكهن فيمها يظههر لي‪-‬وال‬
‫أعلم‪ -‬أنه غير مقصود؛ للدلة على أن رحمة ال وسعت كل شيء‪ ،‬وإنما المقصود هنا رحمة خاصة‬
‫بمن هذه صفتهم‪.‬‬
‫وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق الحديث من أجله‪ ،‬مع قوله "هذه رحمة جعلها‬
‫ال في قلوب عباده" وذلك أن القدر المشترك بين أسماء ال –تعالى‪ -‬وصفاته‪ ،‬وبين أسماء المخلوقين‬
‫وصفاتهم في اللفظ والمعنى ل يقتضي المشابهة؛ لن أسماء ال –تعالى‪ -‬حسنى‪ ،‬ل يلحقها نقص‪ ،‬ول‬
‫عيهب‪ ،‬بخلف أسهماء المخلوقيهن‪-‬و إن كان منهها الحسهن‪ -‬فليسهت بحسهنى‪ ،‬ولن الصهفات تابعهة‬
‫للموصوف‪ ،‬وكذلك السماء‪ ،‬فالرحمة اسمه‪-‬تعالى‪ ،-‬والرحمة صفته‪ ،‬والمخلوق يتصف بالرحمة التي‬
‫ير حم ب ها‪ ،‬و هي تاب عة له في الخلق والمع نى‪ ،‬ف هي مخلو قة ف يه؛ ل نه مخلوق ف صفاته مخلو قة‪ ،‬و هو‬
‫ضع يف فق ير محتاج‪ ،‬و صفاته تنا سبه في ذلك مع أ نه ي سمى "رحيما" و"راحما" وال‪-‬تعالى مو صوف‬
‫بالرحمهة ويسهمى "رحيما"‪ ،‬ول يكون فهي ذلك تشهبيه؛ لن المخلوق اسهمه وصهفته يختهص بهه‪ ،‬وال‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬ا سمه وصفته يخت صان به‪ ،‬فرح مة ال صفه له عل يا‪ ،‬صفة الكمال‪ ،‬و سالمة من كل ن قص أو‬
‫عيهب يمكهن أن يلحهق المخلوق‪ ،‬فليسهت رحمتهه‪-‬تعالى‪ -‬عهن ضعهف أو عجهز‪ ،‬بهل عهن كمال فضله‬
‫وإحسانه‪ ،‬ول يجوز أن تؤول بالثواب أو العطاء‪ ،‬أو إرادة ذلك‪ ،‬وما أشبهه مما يقوله أهل التأويل‪ ،‬كما‬

‫‪")(199‬المنهل العذب المورود" (‪.)8/277‬‬

‫‪56‬‬
‫ذ كر الحا فظ ا بن ح جر عن شراح البخاري وغير هم‪ ،‬كقول ا بن بطال‪":‬إن المراد برحم ته‪ :‬إراد ته ت قع‬
‫لمن سبق في علمه أنه ينفعه‪ ،‬وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده‪ ،‬فهي من صفات الفعل(‪=)200‬‬
‫ص ‪77‬‬
‫و صفها بأ نه خلق ها في قلوب عباده‪ ،‬و هي ر قة على المرحوم‪ ،‬و هو سبحانه منزه عن الو صف‬
‫بذلك‪ ،‬فتتأول بما يليق به"(‪.)201‬‬
‫وذ كر من هذا النوع أشياء تخالف ن صوص كتاب ال‪ ،‬ون صوص سنة ر سوله‪ ،‬صلى ال عل يه‬
‫و سلم – ك ما هي عاد ته؛ ل نه‪ -‬ع فا ال ع نا وع نه‪ -‬على المذ هب الشعري الذي يعت مد على تأو يل‬
‫صفات رب العالم ين‪ ،‬وإن كان أحيانا يذ كر مذ هب ال سلف في ما ينقله‪ ،‬ولك نه ل يتبناه‪ ،‬بل يخلط بي نه‬
‫وبين ما يخالفه‪.‬‬
‫وهذا المذ هب‪ -‬أع ني مذ هب الشعر ية الذي عل يه أك ثر المتأخر ين‪ -‬مخالف ل ما عل يه ر سل ال‬
‫صلى ال علي هم و سلم‪ ،‬ومخالف لكت به‪ ،‬ول ما عل يه أتباع الر سل‪ ،‬ك ما أعترف بذلك ب عض كبار علماء‬
‫هذا المذ هب‪ ،‬كالف خر الرازي‪ ،‬والجوي ني‪ ،‬والغزالي‪ ،‬والشهر ستاني‪ ،‬وغير هم‪ ،‬ك ما يأ تي ذ كر ذلك‪ ،‬إن‬
‫شاء ال‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫وهكذا تبرر الشعر ية تأو يل صفات رب العالم ين ب ما تعر فه من صفات المخلوق ين‪ ،‬فكأن هم لم‬
‫يعرفوا من الرح مة إل أن ها الع طف والر قة على المرحوم‪ ،‬ول من الغ ضب إل أ نه غليان دم القلب ثم‬
‫همونه تأويلً‪ ،‬وجعلوه واجبا‬
‫هأوا إلى التحريهف الذي يسه‬
‫ها أشبهه ذلك‪ ،‬ولهذا لجهه‬
‫طلب النتقام‪ ،‬ومه‬
‫ضروريا‪ ،‬حتى ل يلزم التشبيه‪ ،‬فيسلم المسلم من التشبيه والتجسيم على ما زعموا‪.‬‬
‫هذا مع أنهم ينكرون على الفلسفة تأويلهم نصوص المعاد‪ ،‬وعلى الباطنية تأويلهم الشرائع أشد‬
‫النكار‪ ،‬فما الذي سوغ لهم تأويل نصوص الصفات مع كثرتها ووضوحها؟ وما ادعوه أن العقل يوجب‬
‫ذلك‪ ،‬بإمكان كل مبطل أن يدعيه‪.‬‬
‫فليس هناك عاصم من الضلل‪ ،‬إل الوقوف مع نصوص كتاب ال وسنة رسوله‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،-‬وقد تقدمت الشارة إلى ذلك في المقدمة‪.‬‬
‫قال أ بو ع بد ال مح مد بن إبراه يم بن على بن المرت ضى اليما ني‪-‬رح مه ال تعالى‪":-‬ال مر‬
‫الثا ني‪ :‬و هو الن قص في الد ين‪ ،‬برد الن صوص والظوا هر‪ ،‬ورد حقائق ها إلى المجاز‪ ،‬من غ ير ح جة‬
‫قاطعة‪ ،‬تدل على ثبوت الموجب للتأويل‪ ،‬إل مجرد التقليد لبعض أهل الكلم في قواعد لم يتفقوا عليها‪،‬‬
‫وأف حش ذلك مذ هب القرام طة الباطن ية في تأو يل ال سماء الح سنى كل ها‪ ،‬وفي ها عن ال‪-‬تعالى‪ ،-‬على‬
‫سبيل التنزيه‬

‫‪)(200‬صفات الفعل عند الشعرية‪ :‬ما فعله‪-‬تعالى‪ -‬منفصلً عنه‪ -‬يعني مخلوقاته التي وجدت بصفة الخلق‪-‬‬
‫وليس هناك اشتباه بين ما يسميه ابن بطال صفات فعل‪ ،‬وبين صفات ال‪ ،‬حتى يلزم ما ذكره‪.‬‬
‫‪")(201‬الفتح" (‪.)13/358‬‬

‫‪57‬‬
‫ص ‪78‬‬
‫له عن ها‪ ،‬وتحق يق التوح يد بذلك‪ ،‬ودعوى أن إطلق ها يقت ضي الت شبيه‪ ،‬ح تى قالوا‪ :‬ل يقال" إ نه‬
‫موجود‪ ،‬ول معدوم‪.‬‬
‫فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح‪ ،‬فكذلك المحدث الذي طالت مطالعته للثار‪ ،‬وقد يعلم‬
‫أن تأويل بعض المتكلمين مثل ذلك‪.‬‬
‫و من الضروري ورود أ سماء ال الح سنى في كتا به على سبيل التمدح ب ها والثناء العظ يم عل يه‬
‫بهها‪ ،‬أل ترى‪-‬مثلً‪ -‬أن الرحمهن الرحيهم متلوان فهي جميهع الصهلوات‪ ،‬مذكوران فهي أكثهر محافهل‬
‫المسلمين‪ ،‬مجمعين على أنهما أحسن الثناء على ال‪ -‬تعالى‪ -‬متقربين إلى ال‪-‬تعالى‪ -‬بمدحه بهما؟‬
‫وكرر‪-‬تعالى‪ -‬التمدح بالرح مة في كتا به أك ثر من خم سمائة مرة‪ ،‬با سم الرح من أك ثر من مائة‬
‫وستين مرة‪ ،‬وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة‪ ،‬وجمعهما مائة وستين مرة‪ .‬وجاء الرحيم مقترنا مع‬
‫التواب مرارا‪ ،‬ومرارا مع الرؤوف‪ ،‬والرأفة أشد الرحمة‪ ،‬مرارا مع الغفور‪ ،‬وهي كثيرة‪ ،‬عرفت منها‬
‫سبعة وستين موضعا‪.‬‬
‫وقد فطر ال العقول على معرفة رحمة ال‪ ،‬وسعة علمه‪ ،‬وكمال قدرته‪.‬‬
‫فما هو المانع من إثبات صفة الرحمة ونحوها مما أثبته ال ورسوله‪ ،‬مع نفي النقائص المتعلقة‬
‫بصفات المخلوقين في حياتهم‪ ،‬وكذلك كل صفة يتصف بها الرب‪-‬تعالى‪ -‬ويوصف بها العبد‪ .‬فإنه –‬
‫جل وعل‪ -‬يوصف بها على أكمل وجه‪ ،‬خالية عن جميع النقائص‪ ،‬والعبد يوصف بها على ما يناسبه‪،‬‬
‫من نقص وضعف‪ ،‬وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه‪ ،‬ولم يفسروه بنفي الصفات كما فعل المعطلة‪.‬‬
‫ومما يدل على بطلن التأويل‪ :‬كون المعتزلة ي سخرون من تأويل الشعرية للحكيم‪ ،‬والشعرية‬
‫ت سخر من تأو يل ب عض المعتزلة لل سميع الب صير‪ ،‬وأ هل ال سنة ي سخرون من تأو يل الفريق ين للرح من‬
‫الرحيم‪ ،‬وما أشبههما‪ ،‬والكل يسخر من تأويل القرامطة‪ .‬فيجب إثبات ما وصف ال به ذاته الكريمة‪،‬‬
‫من غير تأويل‪ ،‬ول تعطيل‪.‬‬
‫ول يجوز القول بأن ظاهر هذه السماء كفر‪ ،‬وضلل‪ ،‬وأن الصحابة والسلف الصالح لم يفهموا‬
‫ذلك‪ ،‬أو أنهم فهموه ولم يقوموا بالواجب من نصح المسلمين وبيان التأويل الحق؛ لمرين‪:‬‬
‫ص ‪79‬‬
‫الول‪ :‬قاطهع ضروري‪ ،‬وههو أن العادة توجهب أن مها كان كذلك أن يظههر التحذيهر منهه‪ ،‬مهن‬
‫رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم – ومن أصحابه‪ ،‬ويتواتر أعظم من تحذيرهم من الدجال الكذاب‪ ،‬ول‬
‫يجوز‪ -‬مع كمال عقول هم وأديان هم‪ -‬أن يتركوا صبيانهم ون ساءهم وعامت هم ي سمعون ما ظاهره ك فر‪،‬‬
‫منسوبا إلى ال‪ -‬تعالى‪ -‬ورسوله ويسكتون عليه‪ ،‬مع بلدة الكثرين‪.‬‬
‫ولو تركوا بيان ذلك‪ ،‬ثقهة بنظهر العقول الدقيهق‪ ،‬لتركوا التحذيهر مهن فتنهة الدجال‪ ،‬فإن بطلن‬
‫ربوبي ته أظ هر في العقول من ذلك‪ ،‬أل ترى أن المتكلم ين ل ما اعتقدوا ق بح هذه الظوا هر‪ ،‬توا تر عن هم‬

‫‪58‬‬
‫التحذيهر عنهها‪ ،‬وتأويلهها‪ ،‬فصهنفوا فهي ذلك‪ ،‬وأيقظوا الغافليهن‪ ،‬وعلموا الجاهليهن‪ ،‬وكفروا المخالفيهن‪،‬‬
‫وأشاعوا ذلك ب ين الم سلمين‪ ،‬بل ب ين العالم ين‪ ،‬فكان أ حق من هم بذلك سيد المر سلين وقدماء ال سابقين‪،‬‬
‫وأنصار الدين‪ ،‬لو كان ذلك حقا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه ثبت تحريم الزيادة في الدين‪ ،‬فل يصح سكوت الشرع عن النص على ما يحتاج إليه‪،‬‬
‫من مهمات الدين‪ ،‬فالسلم متبع‪ ،‬ل مخترع‪ ،‬ولذلك كفر من أنكر شيئا من أركان الدين؛ لنها معلومة‬
‫ضرورة‪ ،‬فأولى وأحرى أن ل يج يء الشرع بالبا طل منطوقا متكررا من غ ير ت نبيه على ذلك‪ ،‬ل سيما‬
‫إذا كان ما سموه باطلً‪ ،‬هو المعروف في جميع كتب ال‪ ،‬ولم يأت ما يعارضه من طريق شرعي‪ ،‬ول‬
‫عقلي‪ ،‬حتى يجب التأويل‪.‬‬
‫وكثير منهم يزعم أنه ما جاء التصريح بالحق في آية واحدة تكون هي المحكمة التي رد إليها‬
‫جميع المتشابه‪ ،‬وال‪-‬تعالى‪ -‬ذكر أنه أنزل في كتابه آيات محكمات‪ ،‬ترد إليها المتشابهات‪ ،‬ولم يذكر‬
‫أن جميع كتابه متشابه‪ ،‬فبطل ما يقولون‪.‬‬
‫و قد اعترف الرازي‪ -‬في كتا به "الربع ين"(‪ -)202‬و هو من أ كبر خ صوم أ هل ال سنة‪ -‬أن جم يع‬
‫الك تب ال سماوية جاءت ب صفات ال –تعالى‪ -‬ولم ي نص ال‪-‬تعالى‪ -‬في آ ية واحدة على أ نه منزه عن‬
‫الوصهف بالرحمهة والحلم والحكمهة‪ ،‬ومها أشبهه ذلك‪ .‬والمهر ظاههر وإن لم يعترف بهه‪ ،‬وهذه الكتهب‬
‫السماوية موجودة‪.‬‬
‫ص ‪80‬‬
‫(‪)203‬‬
‫أيعمى العالمون عن الضياء"‬ ‫وهبك تقول‪ :‬هذا الصبح ليل‬
‫قلت‪ :‬دعوى المجاز فهي اسهمه –تعالى‪" -‬الرحمهن" وغيره مهن السهماء الحسهنى‪ ،‬مهن أبطهل‬
‫الدعاوى؛ لن ذلك يتضمهن إنكار حقيقهة صهفة الرحمهة‪ ،‬وههو أعظهم مهن إنكار الكفار لسهمه تعالى‬
‫ت مِن َقبِْلهَا‬
‫ك فِي ُأمّةٍ َقدْ خَلَ ْ‬
‫"الرحمن"‪ ،‬كما ذكر ال –تعالى‪ -‬عنهم ذلك‪ ،‬قال –تعالى‪َ { :-‬كذَلِ كَ َأرْ سَ ْلنَا َ‬
‫ن قُلْ ُهوَ َربّ ي ل إِلَ ه َه ِإلّ ُهوَ عََليْ ِه تَ َوكّلْ تُ‬
‫حمَ ه ِ‬
‫حيْنَا إَِليْ كَ وَهُ مْ َيكْ ُفرُو نَ بِال ّر ْ‬
‫ُأمَ مٌ ّل َتتْلُوَ عََل ْيهِ مُ اّلذِ يَ أَ ْو َ‬
‫وَإَِل ْيهِ َمتَابِ} (‪.)204‬‬
‫ن قَالُوا َومَا ال ّرحْمَنُ} (‪.)205‬‬
‫حمَ ِ‬
‫جدُوا لِل ّر ْ‬
‫سُ‬‫وقال –تعالى‪{ :-‬وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ْ‬
‫فهؤلء الذين كفروا بالرحمن‪ ،‬وأنكروه‪ ،‬لم يكفروا بذاته‪-‬تعالى‪ -‬وربوبيته‪ ،‬ولم ينكروا ما يدعيه‬
‫المؤولة أن معنى اسمه الرحمن هو الحسان والنعام إلى خلقه‪ ،‬وإنما أنكروا اسمه‪-‬تعالى‪" -‬الرحمن"‬
‫أن يسمى به‪.‬‬

‫‪)(202‬كتاب "الربعين في أصول الدين في علم الكلم" ‪.‬‬


‫‪ ")(203‬إيثار الحق على الخلق"‪ ،‬بتلخيص وتصرف (ص ‪.)139-129‬‬
‫‪)(204‬الية ‪ 30‬من سورة الرعد‪.‬‬
‫‪)(205‬الية ‪ 60‬من سورة الفرقان‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫وإنكار صفة الرح مة أع ظم من إنكار ال سم‪ ،‬و هو من أع ظم اللحاد في أ سمائه –تعالى‪-‬؛ لن‬
‫وضع السم مقصود به الدللة على المعنى المراد منه‪ ،‬وهو الرحمة‪ ،‬كما هو معلوم في جميع أسمائه‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وتعليلهم لنفي الرحمة عن ال‪-‬تعالى‪ -‬بأنها رقة القلب التي تحمل الميل إلى المرحوم‪.‬‬
‫جوابهه‪ :‬أن هذه رحمهة المخلوق‪ ،‬ووصهفه‪ ،‬وأمها رب العالميهن‪ ،‬فليهس كمثله شيهء فهي ذاتهه‬
‫وصفاته‪ ،‬فليست رحمته‪-‬تعالى‪ -‬من جنس رحمة خلقه‪-‬جل وعل‪.-‬‬
‫يجعلون الرحمهة بالنسهبة للمخلوق حقيقهة‪ ،‬وبالنسهبة ل‪-‬‬ ‫(‪)206‬‬
‫وممها يعجهب منهه أن أههل التأويهل‬
‫تعالى‪ -‬مجازا‪ ،‬فك يف تكون رح مة أر حم الراحم ين ال تي و سعت كل ش يء مجازا‪ ،‬ورح مة المخلوق‬
‫الضعيف حقيقة؟‬
‫ص ‪81‬‬
‫و كل العقلء يدركون آثار رح مة ال –تعالى‪ -‬في الخلق‪ ،‬ك ما يدركون آثار ربوبي ته أو أع ظم‪،‬‬
‫وهذا من أظهر الشياء وأوضحها‪.‬‬
‫ومعلوم أن ال سماء ال تي ت سمى الرب –تعالى‪ -‬ب ها –و هي كل ها ح سنى‪ -‬ل ها معان ي ستدل ب ها‬
‫عليها؛ لنها مشتقة من تلك المعاني‪ ،‬وهذه المعاني هي الصفات‪ ،‬وليست أسماؤه تعالى مجرد أعلم‪،‬‬
‫فالرحمهن يدل على الرحمهة‪ ،‬والعليهم يدل على العلم‪ ،‬والحكيهم يدل على الحكمهة‪ ،‬وهكذا جميهع أسهمائه‬
‫تعالى‪.‬‬

‫‪)(206‬أقصد الذين يؤولون الصفات كما هي طريقة أكثر الشعرية‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ص ‪82‬‬
‫قال‪ :‬باب قول ال‪-‬تعالى‪( :-‬أنا الرزاق ذو القوة المتين)‪.‬‬
‫‪" -8‬حدث نا عبدان‪ ،‬عن أ بي حمزة‪ ،‬عن الع مش‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن أ بي ع بد الرح من‬
‫السلمي‪ ،‬عن أبي موسى الشعري‪ ،‬قال‪ :‬قال النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬ما أحد أصبر على أذى‬
‫سمعه من ال‪ ،‬يدعون له الولد‪ ،‬ثم يعافيهم‪ ،‬ويرزقهم"‪.‬‬
‫أبو موسى الشعري‪ :‬هو عبد ال بن قيس بن سليم الشعري‪.‬‬
‫وأمه ظبية بنت وهب بن عك‪ ،‬هاجر إلى الحبشة قديما‪ ،‬ثم قدم على النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‬
‫– في خيبر‪ ،‬مع جعفر وأصحابه‪ ،‬وهو من سادات الصحابة وعلمائهم‪ ،‬عرف بالشجاعة والجتهاد في‬
‫طلب الخير‪ ،‬وكان قارئا حسن الصوت‪ ،‬حتى قال فيه النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم ‪":-‬لقد أعطي مزمارا‬
‫(‪)207‬‬
‫من مزامير آل داود"‬
‫توفي –رضي ال عنه‪ -‬بمكة‪ ،‬وقيل‪ :‬بالكوفة‪ ،‬سنة اثنتين‪ ،‬أو أربع وأربعين‪ ،‬عن ثلث وستين‬
‫سنة(‪.)208‬‬
‫أما الية فهكذا قرأها ابن مسعود‪ ،‬وقال‪ :‬إنه أقرأه إياها رسول ال –صلى ال عليه وسلم – كما‬
‫رواه المام أحمد بسند صحيح(‪ ،)209‬وأبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح(‪.)210‬‬
‫ت ا ْلجِنّ وَالِن سَ ِإلّ‬
‫وهذه ال ية مرتب طة بال ية قبل ها في المع نى‪ ،‬و هي قوله‪-‬تعالى‪{ :-‬وَمَا خَلَقْ ُ‬
‫ط ِعمُو نِ {‪}57‬إِنّ اللّ َه هُ َو الرّزّا قُ ذُو الْ ُقوّ ِة ا ْل َمتِي نُ}‬
‫ِل َي ْعبُدُو نِ {‪}56‬مَا ُأرِيدُ ِم ْنهُم مّن رّزْ قٍ َومَا ُأرِي ُد أَن يُ ْ‬
‫(‪ ،)211‬والمع نى‪ :‬أ نه –تعالى‪ -‬خلق العباد ليعبدوه‪ ،‬ول يشركوا به شيئا‪ ،‬ف من أطا عه في ذلك جازاه أ تم‬
‫الجزاء وأحسنه‪ ،‬ومن أبى وعصاه عذبه أشد العذاب‪.‬‬
‫ص ‪83‬‬
‫وأخبر أنه غير محتاج إليهم‪ ،‬بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم‪ ،‬فهو خالقهم ورازقهم"(‪.)212‬‬
‫فهو‪-‬جل وعل‪ -‬لم يخلقهم ليستعين بهم أو ليقوى بهم‪ ،‬كما يقصد السادة من عبيدهم‪.‬‬
‫قوله‪{ :‬إِنّ اللّ َه هُ َو الرّزّا قُ ذُو الْ ُقوّ ِة ا ْل َمتِي نُ} هذه القراءة المج مع علي ها‪ ،‬المتواترة‪ ،‬وقراءة ا بن‬
‫مسعود تتفق معها في المعنى‪.‬‬

‫‪)(207‬انظر‪" :‬البخاري" (‪" )6/161‬فضائل القرآن"‪.‬‬


‫‪)(208‬انظر‪" :‬الستيعاب" (‪" ،)3/979‬أسد الغابة" (‪" ،)3/367‬الصابة" (‪. )6/194‬‬
‫‪)(209‬انظر‪" :‬السند" (‪.)1/394‬‬
‫‪")(210‬تفسير ابن كثير" (‪ ،)7/402‬وانظر‪" :‬سنن أبي داود" (‪ )4/291‬وفيه ‪" :‬إني أنا الرزاق" الخ‪ ،‬ومثله‬
‫في الترمذي(‪.)4/262‬‬
‫‪)(211‬اليات ‪ 58-56‬من سورة الذاريات‪.‬‬
‫‪")(212‬تفسير ابن كثير" (‪.)1/402‬‬

‫‪61‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن ال –تعالى‪ -‬هو المتكفل بأرزاق الخلق وحاجاتهم؛ وأكد الجملة به "إن" والضمير؛‬
‫لقطع توهم من يعتمد على قوته‪ ،‬أو علمه وصنعته‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬في أمور الرزق‪،‬؛ ليصرف اعتمادهم‬
‫إلى ال وحده‪.‬‬
‫{ذُو الْ ُقوّةِ} أي القوة العظيمهة التهي ل تضاههي‪ ،‬ول تقاس بقوة خلقهة مهمها بلغهت قوتههم‪ ،‬فههو‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬على كل شيء قدير‪ ،‬ل يمتنع عليه شيء‪.‬‬
‫و{ا ْل َمتِي نُ} الشد يد القوة‪ ،‬الذي ل يطرأ عل يه ع جز أو ض عف‪ ،‬تعالى وتقدس‪ ،‬وهذا المروي عن‬
‫ابن عباس كما ذكره الطبري(‪.)213‬‬
‫قال ابن الجوزي‪" :‬والمتين‪ :‬الشديد القوة الذي ل تنقطع قوته‪ ،‬ول يلحقه في أفعاله مشقة"(‪.)214‬‬
‫ورفع "المتين" على أنه وصف "الرزاق" أو لذو‪ ،‬أو خبر مبتدأ محذوف‪ ،‬أو خبر بعد خبر‪ ،‬وهذه‬
‫قراءة الجمهور‪ ،‬وقرأ يحيى بن وثاب والعمش بجر "المتين" على أنه صفة للقوة‪.‬‬
‫وهذه اليهة ونظائرهها تدل بوضوح على أن ال –تعالى‪ -‬موصهوف بالصهفات العليها‪ ،‬كمها أنهه‬
‫م سمى بال سماء الح سنى‪ ،‬فالقوة صفته‪ ،‬والرزاق ا سمه‪ ،‬وتقدم أن كل ا سم ل بد أن يتض من ال صفة‪،‬‬
‫وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات‪ ،‬كما سبقت الشارة إليه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ص ‪84‬‬
‫وأمها معنهى الحديهث‪ :‬فقال النووي‪" :‬قال العلماء‪ :‬معناه‪ :‬أن ال –تعالى‪ -‬واسهع الحلم حتهى على‬
‫الكافهر الذي ينسهب إليهه الولد والنهد‪ ،‬قال المازري‪ :‬حقيقهة الصهبر‪ :‬منهع النفهس مهن النتقام أو غيره‪،‬‬
‫فالصبر نتيجة المتناع‪ ،‬فأطلق اسم الصبر على المتناع في حق ال –تعالى‪.-‬‬
‫قلت‪ :‬هذا الكلم فيه نظر فقد جاء في أسمائه تعالى‪ :‬الصبور‪ ،‬وفي هذا الحديث‪ ":‬ما أحد أصبر‬
‫على أذى سمعه من ال – تعالى – "‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬والصبور من أسماء ال – تعالى ‪ ،-‬وهو‪ :‬الذي ل يعاجل العصاة بالنتقام‪ ،‬وهو‬
‫بمعنى الحليم في أسمائه – سبحانه وتعالى ‪ ،-‬والحليم‪ :‬هو الصفوح مع القدرة على النتقام"(‪.)215‬‬
‫قلت‪ :‬قول المازري‪ ":‬فأطلق اسم الصبر على المتناع في حق ال –تعالى‪."-‬‬
‫فيه نظر‪ ،‬وذلك أن رسوله –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أطلق على ربه الصبر‪ ،‬وأنه ما أحد أصبر‬
‫م نه‪ ،‬و هو – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أعلم الخلق بال – تعالى – وأخشا هم له‪ ،‬وأقدر هم على البيان عن‬
‫الحق‪ ،‬وأنصحهم للخلق‪ ،‬فل استدراك عليه‪ ،‬فيجب أن يبقى ما أطلقه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬على ال‬
‫– تعالى – بدون تأو يل‪ ،‬إل إذا كان ير يد بذلك تف سير مع نى ال صبر‪ ،‬ول كن الولى أن يب قى ك ما قال؛‬
‫لنه واضح ليس بحاجة إلى تفسير‪.‬‬

‫‪)(213‬انظر‪" :‬تفسير الطبري" (‪.)27/13‬‬


‫‪")(214‬تفسير ابن الجوزي" (‪.)8/44‬‬
‫‪" )(215‬شرح النووي على مسلم" (‪.)17/146‬‬

‫‪62‬‬
‫قوله في الحد يث‪ " :‬ا صبر" أف عل تفض يل من ال صبر‪ ،‬و من أ سمائه الح سنى "ال صبور"‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫الذي ل يعاجل العصاة بالعقوبة‪ ،‬وهو قريب من معنى الحليم‪ ،‬والحليم أبلغ في السلمة من العقوبة(‪.)216‬‬
‫وقال الزجاج‪ ":‬أصهل الصهبر فهي الكلم‪ :‬الحبهس‪ ،‬يقال‪ :‬صهبرته على كذا صهبرا‪ :‬إذا حبسهته‪،‬‬
‫ومعنى الصبر والصبور في اسم ال – تعالى – قريب من معنى الحلم"(‪.)217‬‬
‫وقال ا بن الث ير‪ ":‬ال صبور‪ :‬هو الذي ل يعا جل الع صاة بالنتقام من هم‪ ،‬بل يؤ خر ذلك إلى أ جل‬
‫مسمى‪ ،‬فمعنى الصبور في صفة ال – تعالى – قريب من معنى‬
‫ص ‪85‬‬
‫الحليم‪ ،‬إل أن الفرق بين المرين أنهم ل يأمنون العقوبة في صفة الصبور‪ ،‬كما يأمنون منها في‬
‫صفة الحليم"(‪.)218‬‬
‫يقصد أن صفة الحلم أكثر رجاء ورحمة وأوسع لعباده‪ ،‬من صفة الصبور‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قوله‪" :‬على أذى سمعه من ال" لفظ الذى في اللغة هو لما خف أمره‪ ،‬وضعف أثره من الشر‬
‫والمكروه‪ ،‬وذكره الخطا بي‪ ،‬قال ش يخ ال سلم‪" :‬وهو كما قال‪ ،‬بخلف الضرر‪ ،‬ف قد أخبر ‪ -‬سبحانه‪-‬‬
‫شيْئا}‬
‫ضرّواْ الّل َه َ‬
‫ن فِي ا ْلكُ ْف ِر ِإ ّنهُمْ لَن َي ُ‬
‫ن ُيسَارِعُو َ‬
‫ل َيحْزُنكَ اّلذِي َ‬
‫أن العباد ل يضرونه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫(‪ ،)219‬فبين أن الخلق ل يضرونه‪ ،‬لكن يؤذونه"(‪.)220‬‬
‫فا بن آدم يؤذي ال ‪ -‬تعالى‪ -‬وي سبه‪ ،‬بإضا فة ما يتعالى ويتقدس ع نه‪ ،‬م ثل ن سبة الولد إل يه –‬
‫تعالى‪ -‬وال ند‪ ،‬والشر يك في العبادة‪ ،‬ال تي ي جب أن تكون خال صة له وحده‪ ،‬وم ثل إ سناده نع مه وأفعاله‬
‫إلى غيره‪ ،‬من الد هر‪ ،‬والطبي عة‪ ،‬والكون والمخلوقات‪ ،‬وغ ير ذلك‪ ،‬ثم ي سبون ما أ سندوا تلك الحوادث‬
‫إل يه‪ ،‬فيقولون‪ :‬أ صابتهم قوارع الد هر‪ ،‬وأبادت هم حواد ثه‪ ،‬وأهلكت هم كوارث الطبي عة‪ ،‬و يا خي بة الد هر‪،‬‬
‫وهذا زمان سوء‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫و في "ال صحيحين" عن أ بي هريرة‪-‬ر ضي ال ع نه‪ -‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم ‪:-‬‬
‫"يقول ال‪-‬تعالى‪ :‬يؤذيني ابن آدم‪ ،‬يسب الدهر‪ ،‬وأنا الدهر‪ ،‬أقلب ليله ونهاره"(‪.)221‬‬
‫وأذيهة ال‪-‬تعالى‪ -‬بنسهبة الحوادث‪ ،‬والكوارث إلى الدههر‪ ،‬أو الطبيعهة‪ ،‬وتوجيهه اللوم والقدح‬
‫والسب إلى ذلك كثيرة في كلم أهل الدب وغيرهم‪ ،‬مع أن ذلك‬
‫ص ‪86‬‬

‫‪" )(216‬فتح الباري" (‪.)13/361‬‬


‫‪ " )(217‬تفسير أسماء ال الحسنى" (ص ‪.)65‬‬
‫‪" )(218‬جامع الصول" (‪.)4/183‬‬
‫‪ )1(219‬الية ‪ 176‬من سورة آل عمران‪.‬‬
‫‪")(220‬تيسير العزيز الحميد" (ص ‪.)542‬‬
‫‪)(221‬انظر‪" :‬البخاري" (‪ )6/166‬وتفسير سورة الجاثية (‪ ،)8/574‬و (‪)10/564‬الدب‪ ،‬و(‪)9/179‬‬
‫التوحيد‪ ،‬و"مسلم"‪ ،‬الدب (‪.)7/45‬‬

‫‪63‬‬
‫صنع ال وفعله‪ ،‬ولذلك يرجع السبب إليه‪ ،‬تعالى عن قولهم علوا كبيرا‪ ،‬كقول ابن المعتز‪:‬‬
‫وأنت والد سوء تأكل الولدا‬ ‫يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا‬
‫وقال أبي الطيب المتنبي‪:‬‬
‫وجه له من كل قبح بهرقع‬
‫(‪)222‬‬
‫قبحا لوجهك يا زمان فإنهههه‬
‫وقول الطرفي‪:‬‬
‫عليك دهر لهل الفضل قد خانا‬ ‫إن تبتلى بلئام الناس يرفعهههم‬
‫وقول التهامي‪:‬‬
‫خلق الزمان عداوة الحههرار‬ ‫ليس الزمان وإن حرصت مسالما‬
‫وقول الخر‪:‬‬
‫ينظر لما بي من العليا ول حسبي‬ ‫وغاض رزقي وعاداني الزمان ولم‬
‫وقول الحريري‪:‬‬
‫ول تأمههن الدهههر الخؤون ومكره فكههم عالم أخنههى عليههه ونابههه‬

‫وقوله أيضا‪:‬‬
‫ول ما تعا مى الد هر و هو أ بو الردى عن الر شد‪ ،‬في إيجا به ومقا صهده‬

‫تعام يت ح تى ق يل‪ :‬إ ني أ خو ع مى ول غرو أن يحذو الفتهى حذو والده‬

‫وقوله أيضا‪:‬‬
‫هة‬
‫هل النقيصه‬
‫هم أهه‬
‫ها ملك الحكه‬
‫هه لمه‬
‫هي حكمه‬
‫هر فه‬
‫هف الدهه‬
‫ولو أنصه‬

‫وقول موفق الدين‪ ،‬عبدال بن عمر النصاري‪ ،‬في تخميسه مقصورة ابن دريد‪:‬‬
‫يههها زمنهههي ماذا العمهههى فوقهت لي مهن الرزايها أسههما …‬
‫(‪)223‬‬
‫هههههههن ………‬
‫ههم هذي الحقود و الحه‬
‫ههر كه‬
‫هها دهه‬
‫يه‬

‫ص ‪87‬‬
‫وقال تميم بن المعتز‪:‬‬
‫هفا‬
‫ها أقلك منصه‬
‫هك ومه‬
‫هي حالتيه‬
‫يها دههر مها أقسهاك مهن متلون فه‬

‫هيفا مرهفا‬
‫هب سه‬
‫هر اللبيه‬
‫ههههس الجهول ممهدا وعلى الحه‬
‫أتروح للنكه‬

‫و إذا صهفوت كدرت شيمهة باخهل و إذا وفيهت نقضهت أسهباب الوفها‬

‫هي أدري بأنههك ل تدوم على الصههفا‬


‫هت لننه‬
‫هك وإن كرمه‬
‫ل أرتضيه‬

‫‪")(222‬ديوان المتنبي" (ص ‪.)393‬‬


‫‪ )(223‬انظر ‪ " :‬تخميس مقصورة ابن دريد" (ص ‪.)42‬‬

‫‪64‬‬
‫هترد عطاءه و إذا اسهههتقام بدا له فتحرفههها‬
‫هى اسه‬
‫هن إذا أعطه‬
‫زمه‬

‫هها زمان بشره أولى بنها مها قهل منهك ومها كفهى‬
‫هها قام خيرك يه‬
‫مه‬

‫وقال عبد الرحيم السطنبولي‪:‬‬


‫أرى الدههههر يسهههعف جهاله وأوفههر حههظ بههه الجاهههل‬

‫ومثل هذا كثير جدا في أشعار أهل الدب قديما وحديثا‪ ،‬وهو ل يجوز؛ لما دل عليه هذا الحديث‬
‫الذي ن حن ب صدد شر حه‪ ،‬وللحاد يث الخرى ال صحيحة ال صريحة في الن هي عن ذلك‪ ،‬كحد يث أ بي‬
‫هريرة التي‪ :‬يقول ال تعالى‪" :‬يؤذيني ابن آدم‪ ،‬يسب الدهر‪ ،‬وأنا الدهر‪ ،‬اقلب ليله ونهاره"(‪.)224‬‬
‫يعنهي‪ :‬أن الدههر‪-‬الذي ههو الليهل والنهار‪ -‬مخلوق ل مسهخر‪ ،‬وههو مؤتمهر بأمهر ال –تعالى‪-‬‬
‫مطيع له‪ ،‬فإذا سبه الساب‪ ،‬فإن السب يعود إلى فاعل الدهر وخالقه‪.‬‬
‫ومعلوم أن توجيهه الخطاب والملم إلى اليام والليالي لنهها ظرف لوقوع الحوادث‪ ،‬ومها يؤلم‪،‬‬
‫فوجهه اللوم إلى الدههر لذلك‪ ،‬وإل فغالب هؤلء‪ ،‬إن لم يكهن كلههم‪ ،‬ل يعتقدون أن الليهل والنهار ههو‬
‫الم صرف المدبر‪ ،‬والمو جد ل ما ي قع ف يه‪ ،‬فر جع اللوم في الحقي قة إلى تلك الحوادث الواق عة في الل يل‬
‫والنهار‪ ،‬فبذلك يعلم أن اللوم والسهب يعود إلى مقدرهها وموجدهها‪ ،‬وههو ال‪-‬تعالى‪ -‬خالق كهل شيهء‪،‬‬
‫فليحذر الم سلم من مجاراة هؤلء الذ ين سلكوا طر يق أ هل الج هل من الكفار‪ ،‬وغير هم‪ ،‬في القدح في‬
‫أفعال ال –تعالى‪ ،-‬وسخط أقداره وتدبيراته‪.‬‬
‫ص ‪88‬‬
‫قال ابهن الجوزي –رحمهه ال تعالى‪" :-‬مها رأت عينهي مصهيبة نزلت بالخلق أعظهم مهن سهبهم‬
‫للزمان‪ ،‬وعيبهم للدهر‪ ،‬وقد كان هذا في الجاهلية‪ ،‬ثم نهى رسول ال –صلى ال عليه وسلم – عنه‪،‬‬
‫فقال‪" :‬ل تسبوا الدهر‪ ،‬فإن ال هو الدهر"(‪.)225‬‬
‫ومعناه‪ :‬أن تم ت سبون من فرق شمل كم‪ ،‬وأمات أهلي كم‪ ،‬وتن سبونه إلى الد هر‪ ،‬وال –تعالى‪ -‬هو‬
‫الفاعل لذلك‪.‬‬
‫وهؤلء إن أرادوا بالدههر‪ ،‬مرور الزمان‪ ،‬فذلك ل اختيار له‪ ،‬ول مراد‪ ،‬ول يعرف رشدا مهن‬
‫ضلل‪ ،‬ول ينبغهي أن يلم‪ ،‬فإنهه زمان مدبر‪ ،‬ول يعقهل أن يكون ذم هؤلء يقصهد بهه الزمان الذي ل‬
‫ت صرف له‪ ،‬فلم ي بق إل أن القوم خرجوا عن رب قة ال سلم‪ ،‬ون سبوا القبائح إلى ال –تعالى‪ -‬فاعتقدوا‬
‫ق صور حكم ته‪ ،‬وأ نه يف عل ما ل ي صلح ك ما اعتقده إبل يس في تفض يل آدم‪ ،‬وهؤلء ل ينفع هم مع هذا‬
‫الزيغ اعتقاد إسلم‪ ،‬ول فعل صلة‪ ،‬بل هم شر من الكفار"(‪.)226‬‬

‫‪)(224‬سيأتي هذا الباب في قول ال "يريدون أن يبدلوا كلم ال"‪.‬‬


‫‪)(225‬رواه مسلم في اللفاظ من الدب وغيره (‪ )4/1762‬رقم الحديث (‪ )2246‬وله عدة طرق عنده‪.‬‬
‫‪")(226‬صيد الخاطر" (ص ‪ )490‬باختصار وتصرف يسير‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫قلت‪ :‬أكثهر هؤلء مهن الشعراء والدباء ل يقصهدون نسهبة القبائح إلى ال –تعالى‪ -‬مهن الجور‬
‫والظلم‪ ،‬وإنما ساروا في ذلك على سبيل المتابعة لهل الجاهلية والتقليد‪ ،‬بدون تبصر لذلك‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وكذلك يؤذي ابن آدم ربه بمخالفته أوامره –تعالى‪ -‬وارتكابه نهيه‪ ،‬والصرار على ذلك‪ ،‬وأذية‬
‫رسله‪ ،‬وعباده الصالحين‪ ،‬بعيبهم‪ ،‬وتنقصهم‪ ،‬كما في "مسند المام أحمد"‪ ،‬من حديث عبد ال بن مغفل‬
‫المز ني –ر ضي ال ع نه‪ -‬قال‪ :‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم ‪" :-‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬في أ صحابي‪ ،‬ل‬
‫تتخذو هم غرضا بعدي‪ ،‬ف من أحب هم‪ ،‬ف من أحب هم‪ ،‬و من أبغض هم فببغ ضي أبغض هم‪ ،‬و من آذا هم ف قد‬
‫آذاني‪ ،‬ومن آذاني فقد آذى ال‪ ،‬ومن آذى ال يوشك أن يأخذه"(‪.)227‬‬
‫ص ‪89‬‬
‫عدّ َلهُ مْ‬
‫وقد قههال ال –تعالى‪{ :-‬إِنّ اّلذِي نَ يُ ْؤذُو نَ اللّ هَ َورَ سُولَ ُه َل َع َنهُ مُ اللّ هُ فِي ال ّد ْنيَا وَالخِرَةِ وََأ َ‬
‫عذَابًا ّمهِينًا} (‪.)228‬‬
‫َ‬
‫قال ا بن جر ير –رح مه ال تعالى‪" :-‬أي الذ ين يؤذون رب هم بمع صيتهم إياه‪ ،‬وركوب هم ما حرم‬
‫عليهم"(‪.)229‬‬
‫و في قوله‪ " :‬ما أ حد أ صبر على أذى سمعه من ال" دل يل وا ضح على ت سميته –تعالى‪ -‬بذلك‪،‬‬
‫أعني "الصبور"‪ ،‬كما جاء في حديث السماء الحسنى‪.‬‬
‫قال ا بن الق يم –رح مه ال تعالى‪" :-‬ف قد أطلق عل يه –تعالى‪ -‬أعرف الخلق به‪ ،‬وأعظم هم تنزيها‬
‫له‪ ،‬هذه الصهفة‪" :‬ومها أحهد أصهبر على أذى سهمعه مهن ال "‪ ،‬كمها أن مها ورد فهي السهماء الحسهنى‬
‫"الصبور" من أمثلة المبالغة‪ ،‬فهو أبلغ من "الصابر" والصبار‪ .‬ومعنى الصبر معلوم في اللغة‪ ،‬والشرع‪،‬‬
‫والعرف‪ ،‬فلسنا بحاجة إلى تأويلت المتكلمين‪ ،‬التي تبعد عن المعنى المقصود من الخطاب‪.‬‬
‫وصبر ال –تعالى‪ -‬ل يماثل صبر المخلوق‪ ،‬بل يختلف عنه من وجوه‪:‬‬
‫منها‪ :‬أنه عن قدرة تامة‪ .‬ومنها‪ :‬أنه ل يخاف الفوت‪ ،‬والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫أنهه –تعالى‪ -‬ل يلحقهه بصهبره ألم‪ ،‬ول حزن‪ ،‬ول نقهص بوجهه مهن الوجوه‪ .‬وظهور أثهر هذا السهم‬
‫الكريم مشهود في العالم بالعيان‪ ،‬كظهور اسمه –تعالى‪ -‬الحليم‪ .‬والفرق بين الصبر والحلم‪ :‬أن الصبر‬
‫ثمرة الحلم‪ ،‬وموجبه‪ ،‬والحلم في صفاته –تعالى‪ -‬أوسع من الصبر‪ ،‬ولهذا جاء في القرآن في مواضع‬
‫حكِيمًا} (‪ ،230‬وقوله –تعالى‪:-‬‬
‫ن اللّ هُ عَلِيمًا َ‬
‫كثيرة‪ ،‬وجاء مقرونا مع ا سمه العل يم‪ ،‬كقوله –تعالى‪َ { :‬وكَا َ‬
‫{وَالّلهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (‪ ،)232( )231‬وحلمه –تعالى‪ -‬من لوازم ذاته‪.‬‬
‫ص ‪90‬‬

‫‪")(227‬المسند" (‪.)4/87‬‬
‫‪)(228‬الية ‪ 57‬من سورة الحزاب‪.‬‬
‫‪")(229‬تفسير الطبري" (‪.)21/44‬‬
‫‪)(230‬الية ‪ 51‬من سورة الحزاب‪.‬‬
‫‪)(231‬الية ‪ 12‬من سورة النساء‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وأمها صهبره –تعالى‪ -‬فمتعلق بكفهر عباده‪ ،‬وشركههم‪ ،‬ومسهبتهم له –تعالى وتقدس‪ -‬وسهائر‬
‫معاصهيهم‪ ،‬وفجورههم‪ ،‬فل يدعوه ذلك إلى تعجيهل عذابههم‪ ،‬بهل يصهبر عليههم ويمهلههم‪ ،‬ويرفهق بههم‪،‬‬
‫ويستصلحهم بحلمه وصبره ونعمه‪ ،‬حتى إذا لم يبق فيهم موضع للصنيعة ول يصلحون على المهال‪،‬‬
‫ولم ينيبوا إل يه‪ ،‬ل من باب الح سان والن عم‪ ،‬ول من باب البلء والن قم‪ ،‬أخذ هم أ خذ عز يز مقتدر‪ ،‬بعد‬
‫غاية العذار إليهم‪ ،‬وبذل النصيحة لهم‪ ،‬ودعائهم من كل باب‪.‬‬
‫وهذا كله من موجبات صفة حلمه‪ ،‬وهي صفة ذاتية له ل تزول‪.‬‬
‫وأمها الصهبر فإذا زال متعلقهه كان كسهائر الفعال التهي توجهد لوجود الحكمهة وتزول بزوالهها‪،‬‬
‫فتأمله‪ ،‬فإنه فرق لطيف قل من تنبه له‪.‬‬
‫و قد أش كل على كث ير من العلماء مج يء هذا ال سم في أ سماء ال الح سنى‪ ،‬وقالوا‪ :‬لم يأت في‬
‫القرآن‪ ،‬فأعرضوا عن الشتغال به‪.‬‬
‫ولو أن هم أعطوه ح قه لعلموا أن الرب –تعالى‪ -‬أ حق به من جم يع خل قه‪ ،‬ك ما هو أ حق با سم‬
‫العليهم‪ ،‬والرحيهم‪ ،‬والقديهر‪ ،‬وال سميع‪ ،‬و سائر أ سمائه الحسهنى من المخلوقيهن‪ ،‬وأن التفاوت الذي بيهن‬
‫صبره –تعالى‪ -‬وب ين صبرهم‪ ،‬كالتفاوت الذي ب ين حيا ته وحيات هم‪ ،‬وعل مه وعلم هم‪ ،‬وهذا في سائر‬
‫صفاته –تعالى‪ ،-‬ولهذا قال أعرف خل قه به‪ " :‬ل أ حد أ صبر على أذى سمعه من ال" –تعالى‪ -‬فعلم‬
‫أرباب البصائر بصبره –سبحانه‪ -‬كعلمهم برحمته وعفوه وستره‪ ،‬مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة‪،‬‬
‫وعظمة وعزة‪ ،‬وهو صبر على أعظم مصبور عليه‪ ،‬فإن مقابلة أعظم العظماء‪ ،‬وملك الملوك‪ ،‬وأكرم‬
‫الكرم ين‪ ،‬و من إح سانه فوق كل إح سان بغا ية الق بح‪ ،‬وأع ظم الفجور‪ ،‬واف حش الفوا حش‪ ،‬ون سبته –‬
‫تعالى‪ -‬إلى كل ما ل يل يق به‪ ،‬والقدح في كماله‪ ،‬و في أ سمائه و صفاته‪ ،‬واللحاد في آيا ته‪ ،‬وتكذ يب‬
‫ر سله –علي هم ال سلم‪ -‬ومقابلت هم بال سب والش تم والذى‪ ،‬وتحر يق أوليائه‪ ،‬وقتل هم وإهانت هم‪ -‬أ مر ل‬
‫ي صبر عل يه إل ال صبور الذي ل أ حد أ صبر م نه‪ ،‬ول ن سبة ل صبر جم يع الخلق من أول هم إلى آخر هم‬
‫إلى صبره –سبحانه وتعالى‪.-‬‬
‫وم ما يع ين على معر فة صبره –تعالى‪ -‬وحل مه‪ ،‬والفرق بينه ما‪ :‬تأ مل قوله –تعالى‪{ :-‬إِنّ اللّ هَ‬
‫ن حَلِيمًا غَفُورًا}‬
‫حدٍ مّن َبعْدِ ِه ِإنّ ُه كَا َ‬
‫ن َأ َ‬
‫س َك ُهمَا مِ ْ‬
‫ض أَن َتزُول وََلئِن زَاَلتَا ِإ نْ َأمْ َ‬
‫ت وَالَرْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ُيمْ سِكُ ال ّ‬
‫(‪،)233‬‬
‫ص ‪91‬‬

‫‪)(232‬وقد جاء اقترانه باسمه الغفور في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى‪{ :‬ولقد عفا ال عنهم إن ال‬
‫غفور حليم] {سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.]155‬‬
‫‪)(233‬الية ‪ 41‬من سورة فاطر‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ْهه‬
‫ْنه ِمن ُ‬
‫ت َيتَ َفطّر َ‬
‫السهمَاوَا ُ‬
‫ش ْيئًا ِإدّا {‪َ }89‬تكَادُ ّ‬
‫ُمه َ‬
‫ج ْئت ْ‬
‫َنه وََلدًا {‪ }88‬لَ َقدْ ِ‬
‫حم ُ‬‫خذَ ال ّر ْ‬
‫وقوله –تعالى‪{ :-‬ا ّت َ‬
‫ن َم ْكرُهُ مْ‬
‫حمَ نِ وََلدًا} (‪)234‬وقوله –تعالى‪{ :-‬وَإِن كَا َ‬
‫عوْا لِل ّر ْ‬
‫جبَالُ َهدّا {‪ }90‬أَن دَ َ‬
‫خرّ ا ْل ِ‬
‫لرْ ضُ َو َت ِ‬
‫َوتَنشَقّ ا َ‬
‫جبَالُ} (‪ ،)235‬على قراءة فتح اللم‪.‬‬
‫ِل َتزُولَ ِمنْ ُه ا ْل ِ‬
‫فأخبر –تعالى‪ -‬أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السماوات والرض‪ ،‬فالحلم وإمساكهما أن تزول‬
‫هو الصبر‪ ،‬فبحلمه صبر عن معاجلة أعدائه‪.‬‬
‫وفهي اليهة إشعار بأن السهماوات والرض تههم وتسهتأذن بالزوال؛ لعظهم مها يأتهي بهه العباد‪،‬‬
‫فيمسكهما بحلمه‪ ،‬ومغفرته‪ ،‬وذلك حبس عقوبته عنهم‪ ،‬وهو حقيقة صبره –تعالى‪.-‬‬
‫فالذي صدر عنه المساك‪ ،‬هو صفة الحلم‪ ،‬والمساك هو الصبر‪ ،‬وهو حبس العقوبة‪ ،‬ففرق بين‬
‫حبس العقوبة‪ ،‬وبين ما صدر عنه حبسها‪ ،‬فتأمله"(‪.)236‬‬
‫قال ابن المنير‪" :‬وجه مطاب قة الحديث لل ية(‪ :)237‬اشتماله على صفتي الرزق‪ ،‬والقوة الدالة على‬
‫القدرة‪ ،‬أمها الرزق‪ ،‬فوا ضح من قوله‪" :‬ويرزقههم"‪ ،‬وأمها القوة ف من قوله‪" :‬أ صبر" فإن ف يه إشارة إلى‬
‫القدرة على الح سان إلي هم‪ ،‬مع إساءتهم‪ ،‬بخلف طبع الب شر‪ ،‬فإنه ل يقدر على الح سان إلى المسيء‬
‫إل من جهة تكلفه ذلك شرعا‪ ،‬وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة‪،‬‬
‫وال –سبحانه‪ -‬قادر على ذلك حالً‪ ،‬ومآلً‪ ،‬ل يعجزه شيء ول يفوته"(‪.)238‬‬
‫قلت‪ :‬ل يس ع جز الن سان عن ال صبر من أ جل خوف الفوت ف قط‪ ،‬بل ول نه ل ي ستطيعه ول‬
‫يتحمله‪ ،‬لن ذلك يضره في نفسه‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫ص ‪92‬‬
‫والذي يظهر أن ما أراده البخاري –رحمه ال‪ -‬من الحديث‪ ،‬هو البيان بأن ال –تعالى‪ -‬مسمى‬
‫بالسماء الحسنى‪ ،‬ومتصف بالصفات العليا‪ ،‬حقيقة على ما يليق به‪-‬تعالى‪ ،-‬وعلى ما يفهم من اللفظ‬
‫الموضوع للمعنهى المتعارف عليهه مهن ظاههر اللغهة‪ ،‬الذي أطل قه –تعالى‪ -‬على نفسهه أو أطلقهه عل يه‬
‫ر سوله‪ ،‬دون تكلف تأو يل‪ ،‬أو رجوع إلى ا صطلح متكلم‪ ،‬أو متفل سف‪ ،‬ك ما ب ين ذلك قوله‪ " :‬ما أ حد‬
‫أصبر على أذى سمعه من ال‪ ،‬يدعون له الولد‪ ،‬ثم يعافيهم ويرزقهم" فهذا هو حقيقة الصبر المعروف‬
‫فهي اللغهة‪ ،‬ونصهوص الشرع‪ ،‬فل يجوز العدول عهن ذلك بالتأويلت التهي تبعهد المعنهى عهن مقصهود‬
‫المتكلم من الل فظ‪ ،‬ودل قوله‪ " :‬ثم يعافي هم‪ ،‬ويرزق هم" على فضله على عباده بالعاف ية والرزق‪ ،‬وأن كل‬
‫ما يقع بأيديهم من رزقه‪ ،‬فهو الذي هيأ أسبابه ويسر طرقه‪.‬‬

‫‪)(234‬اليات ‪91-88‬من سورة مريم‪.‬‬


‫‪)(235‬الية ‪ 46‬من سورة إبراهيم ‪.‬‬
‫‪")(236‬عدة الصابرين" (ص ‪.)237-236‬‬
‫‪)(237‬في "الفتح"‪( :‬مطابقة الية للحديث) والمناسب ما أثبته‪.‬‬
‫‪")(238‬فتح الباري" (‪.)13/361‬‬

‫‪68‬‬
‫وقوله‪" :‬ثهم يعافيههم ويرزقههم" أي أنهه –تعالى‪ -‬يقابهل إسهاءتهم بالحسهان‪ ،‬فههم يسهيئون إل يه –‬
‫تعالى‪ -‬بالعيب والسب‪ ،‬ودعوى ما يتعالى عنه ويتقدس‪ ،‬وتكذيب رسله ومخالفة أمره‪ ،‬وفعل ما نهاهم‬
‫عنه فعله‪ ،‬وهو يحسن إليهم بصحة أبدانهم‪ ،‬وشفائهم من أسقامهم‪ ،‬وكلءتهم بالليل والنهار مما يعرض‬
‫لهم‪ ،‬ويرزقهم بتسخير ما في السماوات والرض لهم‪ ،‬وهذا غاية الصبر والحلم والحسان‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ص ‪93‬‬
‫حدًا} (‪{ ،)239‬إِنّ اللّ هَ عِندَ هُ عِلْ مُ‬
‫غ ْي ِب هِ َأ َ‬
‫ظهِرُ عَلَى َ‬
‫قال‪" :‬باب قول ال –تعالى‪{ :-‬عَالِ ُم ا ْل َغيْ بِ فَل ُي ْ‬
‫ن أُنثَى وَل تَضَ ُع ِإلّ ِبعِ ْلمِ هِ} (‪ ،)242‬و{إَِليْ ِه ُي َردّ عِلْ مُ‬
‫حمِلُ مِ ْ‬
‫ال سّاعَةِ} (‪ ،)240‬و{أَنزَلَ ُه ِبعِ ْلمِ هِ} (‪ ،)241‬و{وَمَا َت ْ‬
‫السّاعَةِ} (‪.)243‬‬
‫قال يحيي‪ :‬الظاهر على كل شيء علما‪ ،‬والباطن على كل شيء علما"‪.‬‬
‫هه‬
‫هن لوازم نفسه‬
‫هه –تعالى‪ -‬مه‬
‫هه ال‪ -‬بيان ثبوت علم ال –تعالى‪ -‬وعلمه‬
‫أراد البخاري –رحمه‬
‫المقدسة‪ ،‬وبراهين علمه –تعالى‪ -‬ظاهرة مشاهدة في خلقه‪ ،‬وشرعه‪ ،‬ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق‬
‫خبِيرُ}‬
‫يستلزم الرادة‪ ،‬ولبد للرادة من العلم بالمراد‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬أَل َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ ُهوَ الّلطِيفُ ا ْل َ‬
‫(‪.)244‬‬
‫والخالق هو‪ :‬المبدع بتقد ير سابق الوجود في الخارج‪ ،‬وهذا يتض من تقد ير المخلوقات في العلم‬
‫ق بل إيجاد ها في الخارج‪ ،‬و هو أيضا ي ستلزم الرادة والمشيئة‪ ،‬والرادة م ستلزمة ت صور المراد والعلم‬
‫به‪.‬‬
‫ووصف نفسه ‪ -‬تعالى‪ -‬في هذه الية بأنه (لطيف) يدرك الدقيق‪( ،‬خبير) يدرك الخفي‪.‬‬
‫والدلة على وصف ال بالعلم كثيرة‪ ،‬ول ينكرها إل ضال أو معاند مكابر‪.‬‬
‫و في هذه اليات ال تي ذكر ها البخاري مدح ال‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬في ها نف سه بأ نه عالم الغ يب‪،‬‬
‫ل على أنه ل يعلم الغيب سواه‪ ،‬فعلمه –تعالى‪ -‬وسع كل شيء‬
‫وأنه استأثر به دون خلقه‪ ،‬فكان ذلك دلي ً‬
‫في الماضي‪ ،‬والمستقبل‪ ،‬والحال‪ .‬وفي الية الولى استثنى –تعالى‪ -‬من ارتضاه من رسله‪ ،‬فأطلعهم‬
‫على ما يشاء من غي به‪ ،‬عن طر يق الو حي إلي هم‪ ،‬وإعلم هم به‪ ،‬وج عل ذلك معجزة ل هم‪ ،‬ودليلً على‬
‫نبوتهم وصدقهم‪.‬‬
‫ص ‪94‬‬
‫وليس المنجم والكاهن‪ ،‬ومن ضاهاهما‪ ،‬كالضارب بالحصى‪ ،‬والناظر في الكتب والكف‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك‪ ،‬ممن أرتضاه ال من الرسل‪ ،‬حتى يطلعهم على ما يشاء من الغيوب‪ ،‬بل هم مفترون على‬
‫ال‪ ،‬يصطادون أموال الجهلة من الناس بالتلبيس والحدس والتخمين الكاذب والدعاء الفارغ‪.‬‬

‫‪)(239‬الية ‪ 26‬من سورة الجن‪.‬‬


‫‪)(240‬الية ‪ 34‬من سورة لقمان‪.‬‬
‫‪)(241‬الية ‪ 166‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪)(242‬الية ‪ 11‬من سورة فاطر‪ ،‬والية ‪ 47‬من سورة فصلت‪.‬‬
‫‪)(243‬الية ‪ 47‬من سورة فصلت‪.‬‬
‫‪)(244‬الية ‪ 14‬من سورة الملك‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ن ا ْلغَائِبِينَ} (‪ ،)245‬واستعمل‬
‫"والغيب" مصدر غاب‪ ،‬إذا استتر عن العين‪ ،‬قال –تعالى‪{ :-‬أَمْ كَانَ مِ َ‬
‫سمَاء‬
‫في كل غائب عن الحا سة‪ ،‬وع ما يغ يب عن علم الن سان‪ ،‬قال –تعالى‪{ :-‬وَمَا مِ نْ غَا ِئبَ ٍة فِي ال ّ‬
‫ل فِي ِكتَابٍ ّمبِينٍ} (‪ ،)246‬ويقال للشيء‪ :‬غيب‪ ،‬وغائب‪ ،‬باعتبار تعلقه بالناس‪.‬‬
‫لرْضِ ِإ ّ‬
‫وَا َ‬
‫شهَادَةِ} (‪ ،)247‬أي‪ :‬ما‬
‫أما ال –تعالى‪ -‬فإنه ل يغيب عنه شيء‪ .‬وقوله –تعالى‪{ :-‬عَالِ مُ ا ْل َغيْ بِ وَال ّ‬
‫يغيب عنكم‪ ،‬وما تشهدونه‪ .‬والغيب في قوله –تعالى‪ُ { :-‬ي ْؤ ِمنُونَ بِا ْل َغيْبِ} (‪ :)248‬ما ل يقع تحت الحواس‪،‬‬
‫ول يقتضيه بدائه العقول‪ ،‬وإنما يعلم بخبر النبياء عليهم السلم"(‪.)249‬‬
‫وقوله‪{ :‬عَالِ ُم ا ْل َغيْ بِ} قال الحلي مي‪" :‬معناه أ نه يدرك الشياء على ما هي عل يه‪ ،‬وإن ما و جب أن‬
‫يوصف –عز اسمه‪ -‬بالعالم؛ لنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له‪ ،‬وأنه ل يمكن فعل إل‬
‫باختيار وإرادة‪ ،‬والفعل على هذا الوجه ل يظهر إل من عالم‪ ،‬كما ل يظهر إل من حي"(‪.)250‬‬
‫فقوله‪{ :‬عَاِلمُ ا ْل َغيْبِ} أي المختص بعلم الغيب‪ ،‬فل يشاركه فيه أحد‪.‬‬
‫حدًا} فيعلمه أو‬
‫غ ْيبِ هِ َأ َ‬
‫ظ ِهرُ عَلَى َ‬
‫قال ابن جرير‪ :‬عالم ما غاب عن أبصار خلقه‪ ،‬فلم يروه {فَل ُي ْ‬
‫ن ا ْرتَضَى مِن ّرسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك(‪.)251‬‬
‫يريه إياه {ِإلّ مَ ِ‬
‫ص ‪95‬‬
‫وقال الق سطلني‪" :‬عالم الغ يب فل يطلع على غي به أحدا من خل قه إل من ارت ضى من ر سول‬
‫لطلعه على بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزة له"(‪.)252‬‬
‫عةِ} الواو ليست من الية‪ ،‬إنما جاء بها للعطف‪.‬‬
‫ن اللّهَ عِندَهُ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫وقوله‪ :‬و{إِ ّ‬
‫والمعنى‪ :‬أن علم وقت مجيء الساعة – الذي هو النفخ في الصور‪ -‬ل يعلمه إل ال –تعالى‪-‬‬
‫وحده‪ ،‬فهو خاص به –تعالى‪ -‬ل يشاركه فيه أحد‪.‬‬
‫قال الخازن‪" :‬ومعنى الية‪ :‬أن ال عنده علم الساعة‪ ،‬فل يدري أحد من الناس متى تقوم‪ ،‬في أي‬
‫سنة‪ ،‬أو أي شهر أو أي يوم‪ ،‬ليلً أو نهارا"(‪.)253‬‬
‫وقوله‪{ :‬أَنزَلَ ُه ِبعِ ْلمِ هِ} أي‪ :‬أنزل القرآن‪ ،‬عالما ب ما يتر تب على إنزاله من الخ ير والفلح وغ ير‬
‫ذلك‪ ،‬وعالما بمن يؤمن به ويقبله‪ ،‬ويسعد بذلك‪ ،‬ومن يكفر به ويرده ويشقى بذلك‪.‬‬

‫‪)(245‬الية ‪ 20‬من سورة النمل‪.‬‬


‫‪)(246‬الية ‪75‬من سورة النمل‪.‬‬
‫‪)(247‬الية ‪ 22‬من سورة الحشر‪.‬‬
‫‪)(248‬الية ‪ 3‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫‪")(249‬المفردات" للراغب (ص ‪.)366‬‬
‫‪")(250‬المناهج" (‪.)1/191‬‬
‫‪" )(251‬تفسير الطبري" (‪.)29/121‬‬
‫‪" )(252‬إرشاد الساري" (‪.)10/363‬‬
‫‪")(253‬تفسير الخازن" (‪.)5/220‬‬

‫‪71‬‬
‫أو المعنى‪ :‬أنزله فيه علمه الذي أراد أن يطلع عليه من يشاء من عباه‪ ،‬من اليمان به‪ ،‬ومعرفته‬
‫–تعالى‪ -‬بأ سمائه و صفاته‪ ،‬و ما ر تب على ذلك من الجزاء في الدن يا والخرة‪ ،‬ومعر فة ح قه‪ ،‬وأمره‬
‫ونهيه‪ ،‬والية تدل على كل المعنيين‪.‬‬
‫وقال ابن الجوزي‪" :‬فيه ثلثة أقوال‪ :‬أحدها‪ :‬أنزله وفيه علمه‪ ،‬قال الزجاج‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنزله من علمه‪ ،‬ذكره أبو سليمان الدمشقي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه‪ ،‬قال ابن جرير"(‪.)254‬‬
‫وقال الخازن‪" :‬يعني أنه –تعالى‪ -‬لما قال‪ :‬لكن ال يشهد بما أنزل إليك‪ ،‬بين صفة ذلك النزال‪،‬‬
‫وهو أنه –تعالى‪ -‬أنزله بعلم تام‪ ،‬وحكمة بالغة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬معناه‪ :‬أنزله وهو عالم بأنك أهل لنزاله عليك‪ ،‬وأنك مبلغه إلى عباده"(‪.)255‬‬
‫ص ‪96‬‬
‫وقال ابن كثير‪{ :‬أَنزَلَ ُه ِبعِ ْلمِ هِ} أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه‪ ،‬من البينات والهدى‬
‫والفرقان‪ ،‬وما يحبه ويرضاه‪ ،‬وما يكرهه ويأباه‪ ،‬وما فيه من العلم بالغيوب‪ ،‬من الماضي والمستقبل‪،‬‬
‫وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي ل يعلمها نبي مرسل‪ ،‬ول ملك مقرب‪ ،‬إل أن يعلمه ال به‪،‬‬
‫ن ِبشَيْ ٍء مّ نْ عِ ْل ِم ِه ِإلّ ِبمَا شَاء} (‪ ،)256‬وقال –تعالى‪{ :-‬وَل ُيحِيطُو نَ ِب هِ‬
‫ل ُيحِيطُو َ‬
‫كما قال –تعالى‪َ { :-‬و َ‬
‫عِ ْلمًا} (‪.)258( )257‬‬
‫حمِلُ مِن ْه أُنثَى وَل َتضَع ُه ِإلّ ِبعِ ْلمِههِ} (‪)259‬اقتصهر البخاري‪-‬رحمهه ال تعالى‪ -‬على‬
‫قوله‪{ :‬وَمَا َت ْ‬
‫محل الشاهد من الية والية بتمامها‪:‬‬
‫ن أُنثَى وَل َتضَعُ ِإلّ ِبعِ ْلمِهِ َومَا‬
‫ل مِ ْ‬
‫حمِ ُ‬
‫جعََلكُمْ َأزْوَاجًا َومَا َت ْ‬
‫{وَاللّهُ خَلَ َقكُم مّن ُترَابٍ ُثمّ مِن ّنطْفَ ٍة ُثمّ َ‬
‫ن ذَِلكَ عَلَى اللّ ِه َيسِيرٌ} (‪.)260‬‬
‫ب إِ ّ‬
‫ل فِي ِكتَا ٍ‬
‫ع ُمرِهِ ِإ ّ‬
‫ص مِنْ ُ‬
‫ُي َعمّرُ مِن ّم َع ّمرٍ وَل يُنقَ ُ‬
‫يخبر –تعالى‪ -‬العباد بأنه ابتدأ خلقهم بخلق أبيهم آدم من تراب‪ ،‬ثم جعل خلق ذريته من نطفة –‬
‫من ماء مهين‪ -‬وجعلهم أزواجا‪ ،‬أي ذكرا وأنثى‪ ،‬رحمة منه تعالى ولطفا‪ ،‬ثم أخبر –تعالى‪ -‬أنه عالم‬
‫بأطوار خلقههم‪ ،‬ل يخفهى عليهه شيهء مهن مبتدئه‪ ،‬ووضعهه‪ ،‬ونوعهه‪ ،‬وعمره‪ ،‬وعمله‪ ،‬وزيادة عمره‪،‬‬
‫خبِيرُ} (‪،)261‬‬
‫ن خَلَقَ وَ ُهوَ الّلطِيفُ ا ْل َ‬
‫ونقصانه‪ ،‬وأن ذلك عنده في كتاب‪ ،‬وهو سهل عليه يسير {أَل َيعْلَمُ مَ ْ‬

‫‪")(254‬زاد المسير" (‪ ،)2/257‬وانظر "تفسير الطبري" (‪.)6/31‬‬


‫‪")(255‬تفسير الخازن" (‪.)1/625‬‬
‫‪)(256‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫‪)(257‬الية ‪ 110‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪")(258‬تفسير ابن كثير" (‪.)2/428‬‬
‫‪)(259‬الية ‪ 11‬من سورة فاطر‪.‬‬
‫‪)(260‬وقال –تعالى‪*{ :-‬إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من انثى ول‬
‫تضع إل بعلمه] {سورة فصلت‪ :‬آية ‪.]47‬‬
‫‪)(261‬الية ‪ 14‬من سورة الملك‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ففي هذه الية بيان شمول علمه –تعالى‪ -‬لكل شيء‪ ،‬فل تكون حياة‪ ،‬ول موت‪ ،‬ول حركة‪ ،‬ول سكون‬
‫إل بعلمه وتصريفه ومشيئته‪.‬‬
‫عةِ} أي هو تعالى المختص بعلم الساعة أي وقت مجيئها‪.‬‬
‫قوله‪*{ :‬إَِليْ ِه ُي َردّ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫ص ‪97‬‬
‫قال ا بن جر ير –رح مه ال تعالى‪" :-‬إلى ال يرد العالمون به علم ال ساعة‪ ،‬فإ نه ل يعلم قيام ها‬
‫غيره"(‪.)262‬‬
‫ففهي هذه اليات ونحوهها دللة ظاهرة على ثبوت صهفة العلم ل‪ ،‬بحيهث ل ينكهر ذلك إل معانهد‬
‫مكابر يجادل بالباطل‪ ،‬ليدحض به الحق‪ ،‬أو جاهل قد تناهى جهله‪ ،‬ومن أوجه البيان في ذلك أنه تعالى‬
‫أضاف العلم إلى نف سه الكري مة‪ ،‬إضا فة حقيق ية‪ ،‬والمضاف إلى ال –تعالى‪ -‬إ ما أن يكون أعيانا قائ مة‬
‫بنف سها‪ ،‬كبيت ال‪ ،‬ونا قة ال‪ ،‬ور سول ال‪ ،‬وعرش الرح من‪ ،‬و ما أش به ذلك وهذا النوع من إضا فة‬
‫المخلوق إلى خالقه؛ لتفضيلها على غيرها من المخلوقات‪.‬‬
‫وإمها إضافهة معان‪ ،‬كعلم ال وقدرة ال‪ ،‬وحياة ال‪ ،‬وسهمع ال وبصهره‪ ،‬ومها أشبهه ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫النوع ل يكون إل إضافة صفة إلى من تقوم به؛ لنها ل تقوم بنفسها كما هو معلوم‪.‬‬
‫ومراد البخاري‪-‬رحمهه ال‪ -‬فهي إيراده هذه اليات إثبات هذه الصهفة ل –تعالى ‪ ،-‬والرد على‬
‫من ينكرها من المعتزلة‪ ،‬ونحوهم ممن عميت بصائرهم‪ ،‬فابتعدوا عن الحق‪ ،‬مغترين بعقولهم‪.‬‬
‫قوله‪" :‬قال يحيي‪ :‬الظاهر على كل شيء علما‪ ،‬والباطن على كل شيء علما"‪.‬‬
‫قال الحافهظ‪" :‬يحيهي ههو ابهن زياد الفراء النحوي المشهور‪ ،‬ذكهر ذلك فهي كتاب "معانهي القرآن‬
‫له"(‪.)263‬‬
‫قلت‪ :‬هو يح يي بن زياد بن ع بد ال‪ ،‬بن مروان الديل مي‪ ،‬أ بو زكر يا‪ ،‬المعروف بالفراء‪ ،‬إمام‬
‫العرب ية‪ ،‬و صفه مترجموه بأ نه كان متدينا ورعا‪ ،‬وكان ث قة‪ ،‬له م صنفات كثيرة‪ ،‬ضاع أكثر ها‪ ،‬تو في‬
‫سنة ‪ 207‬سبع ومائتين‪.‬‬
‫وقول الفراء هذا‪ ،‬جزء مهن معنهى هذيهن السهمين الكريميهن‪ ،‬وقهد كان مهن عادة السهلف أنههم‬
‫يف سرون الش يء بجزء من معناه‪ ،‬وإل ف هو –تعالى‪ -‬الظا هر على كل ش يء ذاتا‪ ،‬وقوة وقهرا‪ ،‬وعلما‬
‫وحكما‪ ،‬والباطن على كل شيء إحاطة وقربا‬
‫ص ‪98‬‬
‫وعلما‪ ،‬وقد صح عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم – كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي‬
‫هريرة –ر ضي ال ع نه – عن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم – أ نه كان يقول‪" :‬الل هم أ نت الول فل يس‬

‫‪")(262‬تفسير الطبري" (‪.)25/2‬‬


‫‪")(263‬فتح الباري" (‪ ،)13/362‬وانظر‪" :‬معاني القرآن" للفراء (‪.)3/132‬‬

‫‪73‬‬
‫قبلك شيء‪ ،‬وأنت الخر فليس بعدك شيء‪ ،‬وأنت الظاهر فليس فوقك شيء‪ ،‬وأنت الباطن فليس دونك‬
‫شيء"(‪.)264‬‬
‫فهذا أحسن ما يفسر به هذه السماء‪ ،‬وأوضحه‪ ،‬وأقربه إلى معنى الكلم‪ ،‬مع كونه من المعصوم‬
‫الذي ل ينطق عن الهوى‪ ،‬فل ينبغي العدول عنه إلى كلم الناس‪ ،‬الذي هو عرضة للخطأ‪.‬‬

‫‪)(264‬انظر‪" :‬مسلم" (‪ )4/2084‬رقم (‪.)61‬‬

‫‪74‬‬
‫ص ‪99‬‬
‫‪ -9‬قوله‪" :‬حدثنا خالد بن مخلد‪ ،‬حدثنا سليمان بن بلل‪ ،‬حدثني عبد ال بن دينار‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫–رضي ال عنهما‪ -‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم – قال‪" :‬مفاتيح الغيب خمس ل يعلمها إل ال‪ ،‬ل‬
‫يعلم ما تغيض الرحام إل ال‪ ،‬ول يعلم ما في غد إل ال‪ ،‬ول يعلم متى يأتي المطر إل ال‪ ،‬ول تدري‬
‫نفس بأي أرض تموت إل ال‪ ،‬ول يعلم متى تقوم الساعة إل ال ‪-‬تعالى‪."-‬‬
‫ابن عمر‪ :‬هو أبو عبد الرحمن‪ ،‬عبد ال بن عمر بن الخطاب بن نفيل‪ ،‬القرشي‪ ،‬العدوي‪ .،‬وأمه‪:‬‬
‫زي نب ب نت مظعون الجمح ية‪ ،‬ولد سنة ثلث من البع ثة النبو ية‪ ،‬وها جر إلى المدي نة و هو ا بن ع شر‬
‫سهنين‪ ،‬وأول مشاهده مهع رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬الخندق‪ ،‬وكان مهن سهادات الصهحابة‪،‬‬
‫وعباد هم المجد ين‪ ،‬و هو من المكثر ين في الحد يث عن ر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم ‪ ،-‬عرف‬
‫بالعزوف عن الدنيا‪ ،‬والستعداد للخرة‪ ،‬كما عرف بشدة تمسكه بسنة رسول ال –صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ ،-‬وتتبع آثاره‪ ،‬له في "الصحيحين" مائتان وثمانون حديثا‪ ،‬توفي سنة ثلث وسبعين في مكة‪ ،‬وقد بلغ‬
‫من العمر سبعا وثمانين سنة‪- ،‬رضي ال عنه‪.)265(-‬‬
‫"قوله‪ :‬مفاتيح الغيب" ذكر البخاري ذلك الحديث في الستسقاء بلفظ "مفتاح" وفي بعض النسخ‬
‫"مفاتح" وفي تفسير سورة النعام وسورة الرعد بلفظ "مفاتح" وفي بعض النسخ "مفاتيح"‪.‬‬
‫والمفاتح جمع مفتح‪ ،‬بكسر الميم‪ ،‬اسم اللة التي يفتح بها‪ ،‬مثل منجل‪ ،‬ومناجل‪ ،‬وهي لغة قليلة‪،‬‬
‫والمشهور‪ :‬مفتاح‪ ،‬وجم عه "مفات يح"‪ ،‬و قد قرأ ب ها ا بن ال سميفع‪ ،‬ويطلق المفتاح على ما كان مح سوسا‬
‫م ما ي حل غلقا‪ ،‬كالق فل‪ ،‬وعلى ما كان معنويا‪ ،‬ك ما جاء في الحد يث الذي صححه ا بن حبان‪":‬إن من‬
‫الناس مفاتيح للخير" الخ(‪.)266‬‬
‫قوله‪" :‬مفاتيح الغيب خمس‪ ،‬ل يعلمها إل ال"‪ ،‬قد بين هذه الخمس‪ ،‬بأنها‪ :‬ما يغيض من الرحام‬
‫– أي ما ينقص‪ ،-‬وما يكون في الغد من الحوادث والعمال وغيرها‪ ،‬ومجيء المطر‪ ،‬والمكان الذي‬
‫يموت به النسان‪ ،‬ووقت مجيء الساعة‪.‬‬
‫ص ‪100‬‬
‫وعبر عن هذه المور الخمسة بالمفاتيح‪ ،‬لتقريب المر من السامع=؛ لن كل شيء جعل بينك‬
‫وبينه حجاب‪ ،‬فقد غيب عنك‪ ،‬والتوصل إلى معرفته في العادة من باب الحجاب‪ ،‬فإذا كان المفتاح الذي‬
‫ل يمكن الوصول إلى ما في داخل الحجاب إل بمعرفته ل يعلم‪ ،‬فكيف بما في داخل الحجاب؟‬
‫ودل الحديهث على أن هذه المور ليسهت ههي الغيهب‪ ،‬وإنمها ههي منهه؛ وأن علم الغيهب مهن‬
‫خصائص ال تعالى‪.‬‬

‫‪" )(265‬الصابة" (‪ )4/181‬والرياض النضرة (ص ‪.)194‬‬


‫‪" )(266‬فتح الباري" (‪.)8/291‬‬

‫‪75‬‬
‫وأما ما جاء عن النبياء من الخبار ببعض المغيبات‪ ،‬كإخبار الرسول –صلى ال عليه وسلم –‬
‫بما يقع بعده من الفتن؛ والفتوح على أمته؛ وبعض أشراط الساعة‪ ،‬وكإخبار عيسى –عليه السلم‪ -‬بما‬
‫يأكله ب نو إ سرائيل‪ ،‬و ما يدخرو نه في بيوت هم‪ ،‬ون حو ذلك‪ ،‬فإن هذا م ما ا ستثناه ال تعالى بقوله‪{ :‬عَالِ مُ‬
‫ن َيدَيْ هِ َومِ نْ خَلْ ِف هِ‬
‫ل َفِإنّ ُه يَ سُْلكُ مِن َبيْ ِ‬
‫ن ا ْرتَضَى مِن رّ سُو ٍ‬
‫ل مَ ِ‬
‫حدًا {‪ِ }26‬إ ّ‬
‫غ ْيبِ هِ َأ َ‬
‫ب فَل ُيظْ ِهرُ عَلَى َ‬
‫ا ْل َغيْ ِ‬
‫صدًا {‪ِ }27‬ل َيعَْلمَ أَن قَدْ َأبَْلغُوا ِرسَالتِ َر ّبهِمْ} (‪ ،)267‬وهو من معجزاتهم التي تدل على صدقهم‪.‬‬
‫رَ َ‬
‫وبهذا وغيره ي تبين ضلل الذ ين يزعمون أن فريقا من الناس‪ -‬م من يدعون ل هم الول ية‪ -‬أن هم‬
‫يعلمون الغيب‪ ،‬وكذا الذين يدعون ذلك لرسول ال‪ -‬صلى ال عليه وسلم – فإنه ل يعلم الغيب إل ال‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫–تعالى‪ ،-‬و قد أمره ال أن يعلم الناس أ نه ل يعلم الغ يب‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬قُل لّ َيعْلَ مُ مَن فِي ال ّ‬
‫ن َأيّا نَ ُي ْب َعثُو نَ} (‪ ،)268‬فنفى –تعالى‪ -‬علم الغيب عن الخلق عموما‪،‬‬
‫ش ُعرُو َ‬
‫ب ِإلّ اللّ هُ َومَا َي ْ‬
‫لرْ ضِ ا ْل َغيْ َ‬
‫وَا َ‬
‫من في السماوات كالملئكة‪ ،‬ومن في الرض كالنبياء‪ ،‬فكيف يدعى علم ذلك لغيرهم؟‬
‫وأ ما أ صحاب الد جل والتمو يه‪ ،‬الذ ين يحتالون على أ كل أموال الناس بالبا طل‪ ،‬كالذ ين يزعمون‬
‫معرفهة مها فهي المسهتقبل‪ ،‬بواسهطة النجوم‪ ،‬أو بقراءة الكهف‪ ،‬أو فنجان القهوة‪ ،‬ونحهو ذلك‪ ،‬فهؤلء ل‬
‫يخفى ضللهم وكذبهم إل على أجهل الناس‪ ،‬والمغفلين منهم‪.‬‬
‫وأ ما الخبار عما ي سمى "بالط قس" أحوال ال جو من أمطار‪ ،‬أو رياح أو غيوم أو صحو أو غير‬
‫ذلك‪ ،‬فهي توقعات مبنية على مقدمات مستفادة من مراصد‬
‫ص ‪101‬‬
‫الحوال الجويهة التهي تتأثهر بالرطوبهة واليبوسهة ونحهو ذلك‪ ،‬ولهذا كثيرا مها يكون المهر على‬
‫خلف ما قالوا‪.‬‬
‫"وأراد بالغيب في الحديث المذكور‪ :‬الغيب الحقيقي؛ إذ لبعض الغيوب علمات ومقدمات يستدل‬
‫بها على شيء من ذلك‪ ،‬وهذا ليس غيبا حقيقيا؛ فالغيب الحقيقي ل يعلمه إل ال –تعالى‪.-‬‬
‫ثم الغيب نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬ما يتعلق بذات ال –تعالى‪ -‬وحقائق صفاته‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬يتعلق بمخلوقاته‪ ،‬وهي كلها لديه معلومة‪ ،‬وقد قال –تعالى‪َ { :-‬ومَا تَ سْ ُقطُ مِن َورَقَ ٍة ِإلّ‬
‫ل يَابِسٍ ِإلّ فِي ِكتَابٍ ّمبِينٍ} (‪.)269‬‬
‫لرْضِ َولَ َرطْبٍ َو َ‬
‫حبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ ا َ‬
‫َيعَْل ُمهَا َولَ َ‬
‫فلما كان كل شيء محصى في كتاب كتبه ال –تعالى‪ -‬عنده‪ ،‬وعلمه محيط وسابق كل شيء‪،‬‬
‫شبهه الرسهول‪ -‬صهلى ال عليهه وسهلم – ذلك بالمخازن التهي لهها أبواب‪ ،‬والباب له مفتاح‪ ،‬فإذا كان‬
‫المفتاح ل يعلمه أحد ول يصل إليه‪ ،‬فكيف بما وراءه؟‬

‫‪)(267‬اليات ‪ 28-26‬من سورة الجن‪.‬‬


‫‪)(268‬الية ‪ 65‬من سورة النمل‪.‬‬
‫‪)(269‬الية ‪ 59‬من سورة النعام‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ل بِ َق َدرٍ ّمعْلُو مٍ} (‪ ،)270‬وحصر –‬
‫خزَا ِئنُ هُ َومَا ُن َنزّلُ هُ ِإ ّ‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِن َدنَا َ‬
‫وقد قال –تعالى‪{ :-‬وَإِن مّن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم – مفاتيح الغيب بالخمس لنها تشمل العوامل كلها‪.‬‬
‫فقوله‪" :‬ما تغيض الرحام" إشارة إلى ما يزيد في النفوس‪ ،‬وما ينقص منها؛ وذكر الرحام؛ لن‬
‫للناس عليهها عوائد يعرفونهها؛ وتجارب أدركوهها‪ ،‬وقهد قرر عليهها أحكام شرعيهة‪ ،‬ومهع ذلك ل يعلم‬
‫حقيقتها‪ ،‬ومتى تزيد ومتى تنقص إل ال –تعالى‪ ،-‬فغيرها مما هو أخفى أولى بأن ل يعلمه الخلق‪.‬‬
‫وأشار بقوله‪" :‬ول يعلم م تى يأ تي الم طر أ حد إل ال تعالى" إلى أمور العالم العلوي‪ ،‬فذ كر م نه‬
‫المطر؛ لن له مقدمات‪ ،‬وعلمات يستدل بها عليه عادة‪ ،‬أجراها ال –تعالى‪ ،-‬ومع ذلك ل يعلم حقيقة‬
‫الحال إل ال –تعالى‪ ،-‬فكيهف بمها وراء ذلك ممها فهي السهماوات ومها بينهمها‪ ،‬ومها يجهد هناك مهن‬
‫المخلوقات‪ ،‬والحوادث‪ ،‬والوامر التي يريدها ال –تعالى‪ ،-‬ويأمر بها؟‬
‫ص ‪102‬‬
‫وأشار بقوله‪{ :‬وَمَا َت ْدرِي َنفْ سٌ ِبأَيّ َأرْ ضٍ َتمُو تُ (‪ ،)271‬إلى الحوادث الرض ية‪ ،‬وذ كر مو ضع‬
‫الموت من الرض‪ ،‬مع أن العادة قد جرت في الغالب أن النسان يموت في الرض التي يستقر فيها؛‬
‫ومع ذلك ل أحد يتيقن أنه يموت في مكانه الذي يعيش فيه‪ ،‬ول يدري أين موضعه الذي يوارى فيه‪.‬‬
‫فإذا كان المهر فهي مثهل هذا غيهر معلوم‪ ،‬فكيهف بالمور الخرى التهي ل علمات لهها‪ ،‬ول‬
‫مقدمات يستدل بها عليها؟‬
‫وأشار بقوله‪" :‬ول يعلم مها فهي غهد إل ال" إلى أنواع الزمان‪ ،‬ومها فيهه مهن الحوادث والتقلبات‬
‫الطارئة‪ ،‬وخص م نه غدا؛ ل نه أقرب الزم نة من المخا طب‪ ،‬فإذا خ في ما ف يه ف ما بعده أخ فى‪ ،‬وأبعد‬
‫عن معرفته‪.‬‬
‫وأشار بقوله‪ " :‬ول يعلم متهى تقوم السهاعة إل ال" إلى أمور الدار الخرة‪ ،‬وذكهر منهها يوم‬
‫القيا مة؛ ل نه أول ها إلى الدن يا‪ ،‬ول يعلم و قت مجيئه إل ال‪ ،‬ف ما بعده أولى بأن ل يعلم‪ ،‬فهذا من أبدع‬
‫الكلم‪ ،‬وأبلغه‪ ،‬فقد حصر فيه جميع أنواع الغيوب‪ ،‬وأبطل جميع الدعاوى الفاسدة"(‪.)272‬‬
‫ويقصهد بالدعاوى الفاسهدة‪ :‬كهل مهن يدعهي شيئا فهي علم الغيهب‪ ،‬وهذا الحديهث إيضاح لقوله –‬
‫غدًا‬
‫لرْحَا مِ َومَا َتدْرِي نَفْسٌ مّاذَا َتكْسِبُ َ‬
‫عةِ َو ُي َنزّلُ ا ْل َغيْ ثَ َو َيعْلَمُ مَا فِي ا َ‬
‫تعالى‪ِ{ :-‬إنّ اللّ هَ عِندَ هُ عِلْمُ ال سّا َ‬
‫خبِيرٌ} (‪.)273‬‬
‫ن اللّهَ عَلِيمٌ َ‬
‫ت إِ ّ‬
‫ض َتمُو ُ‬
‫س ِبأَيّ َأرْ ٍ‬
‫َومَا َت ْدرِي نَفْ ٌ‬

‫‪ )(270‬الية ‪ 21‬من سورة الحجر‪.‬‬


‫‪ )(271‬الية ‪ 34‬من سورة لقمان‪.‬‬
‫‪)(272‬انتهى ملخصاً من "بهجة النفوس" (‪.)4/272‬‬
‫‪)(273‬الية ‪ 34‬من سورة لقمان‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ص ‪103‬‬
‫‪" -10‬حدث نا مح مد بن يو سف‪ ،‬حدث نا سفيان‪ ،‬عن إ سماعيل‪ ،‬عن الش عبي‪ ،‬عن م سروق‪ ،‬عن‬
‫عائ شة –ر ضي ال عن ها‪ -‬قالت‪ :‬من حد ثك أن محمدا – صلى ال عل يه و سلم – رأى ر به ف قد كذب‪،‬‬
‫ب ِإلّ‬
‫لبْ صَارُ} ومن حد ثك أ نه يعلم الغيب ف قد كذب‪ ،‬وهو يقول‪( :‬لّ َيعْلَ مُ ا ْل َغيْ َ‬
‫وهو يقول‪{ :‬لّ ُت ْد ِركُ هُ ا َ‬
‫اللّهُ)‪.‬‬
‫"كأن سبب هذا القول من عائشة –رضي ال عنها‪ -‬ما أخرجه عبد الرزاق في هذا الحديث من‬
‫طر يق مجالد عن الش عبي‪ ،‬قال‪ :‬ل قي ا بن عباس كعبا‪ ،‬فقال ا بن عباس‪ :‬إ نا ب نو ها شم نقول‪ :‬إن محمدا‬
‫رأى ربه مرتين‪ ،‬فكبّر كعب‪ ،‬وقال‪ :‬إن ال قسم رؤيته وكلمه بين موسى ومحمد‪ ،‬فكلم موسى مرتين‪،‬‬
‫ورآه محمد مرتين‪ ،‬قال مسروق‪ :‬فدخلت على عائشة‪ ،‬فقلت‪ :‬هل رأى محمد ربه؟" فذكر الحديث‪.‬‬
‫قال النووي‪-‬تبعا لغيره‪ :-‬لم ت نف عائ شة وقوع الرؤ ية بحد يث مرفوع‪ ،‬ولو كان مع ها لذكر ته‪،‬‬
‫وإنما اعتمدت الستنباط على ما ذكرته من ظاهر الية‪ ،‬وقد خالفها غيرها من الصحابة‪ ،‬والصحابي‬
‫إذا قال قولً‪ ،‬وخالفه غيره منهم‪ ،‬لم يكن ذلك حجة اتفاقا‪.‬‬
‫والمراد بالدراك‪ :‬الحاطة‪ ،‬وهو ل ينافي الرؤية‪.‬‬
‫وهذا عج يب من النووي –رح مه ال‪ -‬فإن في " صحيح م سلم" الذي شر حه هو‪" :‬قال م سروق‪:‬‬
‫خرَى} (‪.)274‬‬
‫وكنت متكئا فجلست‪ ،‬فقلت‪ :‬ألم يقل ال‪{ :‬وََل َقدْ رَآ ُه َنزْلَةً ُأ ْ‬
‫فقالت‪ :‬أ نا أول هذه ال مة سأل ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم – عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إن ما هو‬
‫جبريل"‪.‬‬
‫وأخر جه ا بن مردو يه ب سند مسلم‪ ،‬فقال‪" :‬أنا أول من سأل ر سول ال –صلى ال عل يه و سلم –‬
‫عن هذا‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هل رأيت ربك؟ فقال‪" :‬ل‪ ،‬إنما رأيت جبريل منهبطا"(‪.)275‬‬
‫ص ‪104‬‬
‫قلت‪ :‬أع جب من كلم النووي ما قاله ا بن خزي مة –رح مه ال‪ -‬فإ نه ذ كر هذا الحد يث بعي نه –‬
‫أعني قول عائشة‪" :-‬أنا سألت رسول ال –صلى ال عليه وسلم – عن هذا‪ ،‬قال‪" :‬رأيت جبريل نزل‬
‫في الفق‪ ،‬على خلقه‪ ،‬وهيئته‪ ،‬سادا ما بين الفق" ثم بعد أسطر قال‪" :‬إن عائشة لم تحك أن النبي –‬
‫صلى ال عليه وسلم – أخبرها أنه لم ير ربه"(‪.)276‬‬
‫فهذا ونحوه هو ما غر النووي –رح مه ال‪ -‬ودعاه إلى رد قول عائ شة من غ ير تأ مل للدلة؛‬
‫وال المستعان‪.‬‬

‫‪)(274‬الية ‪ 13‬من سورة النجم‪.‬‬


‫‪")(275‬الفتح" (‪.)8/607‬‬
‫‪)(276‬انظر‪ :‬كتاب"التوحيد"‪ ،‬لبن خزيمة (ص ‪.)226‬‬

‫‪78‬‬
‫وكث ير من العلماء يذكر الخلف في أن النبي –صلى ال عل يه وسلم – رأى ر به ليلة المعراج‪،‬‬
‫"وليس في الدلة ما يقضي بأنه رآه بعينه‪ ،‬ول ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحا‪ ،‬ول في الكتاب‬
‫والسنة ما يدل على ذلك‪ ،‬بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل‪ ،‬كما في "صحيح مسلم"‪ ،‬عن أبي ذر‪،‬‬
‫قال‪ :‬سألت رسول ال –صلى ال عليه وسلم – هل رأيت ربك؟ فقال‪" :‬نور أنى أراه"(‪.)277‬‬
‫لقْ صَى اّلذِي‬
‫جدِ ا َ‬
‫حرَا مِ إِلَى ا ْلمَ سْ ِ‬
‫جدِ ا ْل َ‬
‫سِ‬‫ن ا ْلمَ ْ‬
‫سرَى ِب َعبْدِ ِه َليْلً مّ َ‬
‫س ْبحَانَ اّلذِي أَ ْ‬
‫وقد قال –تعالى‪ُ { :-‬‬
‫ن آيَاتِنَا} (‪ ،)278‬ولو كان قد رأى ر به بعي نه لكان ذ كر ذلك أولى‪ ،‬وكذلك قوله –‬
‫بَا َركْنَا حَوَْل هُ ِل ُن ِريَ ُه مِ ْ‬
‫ت َربّ ِه ا ْل ُك ْبرَى} (‪ ،)279‬ولو كان رآه ل كن ذ كر ذلك أولى‪ .‬و في "ال صحيحين"‬
‫ن آيَا ِ‬
‫تعالى‪{ :-‬لَ َق ْد رَأَى مِ ْ‬
‫جرَةَ ا ْلمَ ْلعُونَةَ فِي‬
‫شَ‬‫ل ِفتْنَ ًة لّلنّا سِ وَال ّ‬
‫جعَ ْلنَا الرّؤيَا اّلتِي َأ َر ْينَا كَ ِإ ّ‬
‫عن ابن عباس‪ ،‬في قوله –تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬
‫ال ُقرْآنِ} (‪ ،)280‬قال‪ :‬هي رؤيا عين‪ ،‬أريها رسول ال –صلى ال عليه وسلم – ليلة أسرى به‪ ،‬وهذه رؤيا‬
‫اليات؛ لنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج‪ ،‬فكان ذلك فتنة لهم‪ ،‬حيث صدقه قوم‪ ،‬وكذبه قوم‪،‬‬
‫ولم يخبرهم بأ نه رأى ربه بعي نه‪ ،‬وليس في شيء من أحاد يث المعراج الثابتة ذ كر ذلك‪ ،‬ولو كان قد‬
‫وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" ا‪.‬هه(‪.)281‬‬
‫ص ‪105‬‬
‫وبهذا تهبين أن قول عائشهة –رضهي ال عنهها‪ -‬ههو الراجهح‪ ،‬الذي تؤيده الدلة –وال أعلم‪،-‬‬
‫وظاهره أن مرادها أنه –تعالى‪ -‬ل يرى في الدنيا‪.‬‬
‫خبِيرُ} استدلت عائشة‬
‫لبْ صَارَ وَهُ َو الّلطِي فُ ا ْل َ‬
‫لبْ صَارُ وَهُ َو ُيدْرِ كُ ا َ‬
‫قوله‪" :‬وهو يقول‪{ :‬لّ ُت ْدرِكُ ُه ا َ‬
‫– ر ضي ال عن ها ‪ -‬بظا هر ال ية على ن في الرؤ ية‪ ،‬و قد قال بذلك ب عض المف سرين‪ ،‬ك ما رواه ا بن‬
‫جرير بسنده‪ ،‬عن السدي‪ ،‬قال‪" :‬ل يراه شيء وهو يرى الخلئق"(‪.)282‬‬
‫وذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى إسماعيل ابن علية أنه قال‪" :‬هذا في الدنيا‪ ،‬وعن‬
‫هشام بن عبيد ال نحوه"(‪.)283‬‬
‫وذكهر السهيوطي‪ :‬أن الحسهن قال مثهل ذلك‪ ،‬قال‪ :‬أخرجهه أبهو الشيهخ‪ ،‬والبيهقهي فهي كتاب‪:‬‬
‫الرؤية(‪.)284‬‬

‫‪)(277‬انظر‪" :‬صحيح مسلم" (‪ )3/12‬بشرح النووي‪.‬‬


‫‪ )(278‬الية ‪ 1‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪ )(279‬الية ‪ 18‬من سورة النجم‪.‬‬
‫‪ )(280‬الية ‪ 60‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪" )(281‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/580‬‬
‫‪)(282‬انظر‪" :‬تفسير الطبري" (‪ )7/301‬قال السيوطي‪ :‬أخرجه ابن أبي حاتم‪" ،‬الدر المنثور" (‪.)3/335‬‬
‫‪ )(283‬انظر‪" :‬تفسير ابن كثير" (‪.)3/303‬‬
‫‪")(284‬الدر المنثور" (‪.)3/335‬‬

‫‪79‬‬
‫وبهذه ال ية تعلق المعتزلة في ن في رؤ ية ال –تعالى‪ -‬في الخرة‪ ،‬وو جه ذلك أ نه ج عل متعلق‬
‫الدراك الب صر‪ ،‬فل ما نفاه ع نه كان ظا هر ذلك ن في الرؤ ية‪ .‬وال حق ثبوت رؤ ية المؤمن ين ل –تعالى‪-‬‬
‫في الخرة‪ ،‬كما تواترت النصوص في ذلك‪.‬‬
‫والجواب عما استدلوا به‪ :‬أن الرؤية ثبتت في آيات أخر‪ ،‬كقوله‪-‬تعالى‪ُ { :-‬وجُو ٌه يَ ْو َم ِئذٍ نّاضِرَ ٌة {‬
‫حجُوبُو نَ} (‪ ،)286‬والخبار بذلك ثاب تة‬
‫‪ }22‬إِلَى َربّهَا نَاظِرَةٌ} (‪ ،)285‬وقوله‪{ :‬كَلّ ِإ ّنهُ مْ عَن ّربّهِ مْ يَ ْو َم ِئذٍ ّل َم ْ‬
‫عن رسول ال – صلى ال عليه وسلم – بل متواترة‪ ،‬كما سيأتي‪ ،‬إن شاء ال –تعالى‪.-‬‬
‫فيتع ين أن المراد بالدراك المن في في ال ية هو الحا طة‪ ،‬وبذلك ف سره ا بن عباس –ر ضي ال‬
‫عنهما‪ -‬وغيره من السلف‪.‬‬
‫ص ‪106‬‬
‫قوله‪" :‬و من حد ثك أ نه يعلم الغ يب ف قد كذب‪ ،‬و هو يقول‪" :‬ول يعلم الغ يب إل ال" الضم ير في‬
‫قوله‪" :‬إ نه يعلم" يعود على مح مد – صلى ال عل يه و سلم – أي‪ :‬من ز عم أن محمدا – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ -‬يعلم الغيب‪ ،‬فقد كذب‪ ،‬لن علم الغيب يختص بال –تعالى‪ ،-‬كما قال –تعالى‪ -‬مخاطبا نبيه –‬
‫خزَآئِ نُ الّل هِ وَل أَعْلَ مُ ا ْل َغيْ بَ} (‪،)287‬‬
‫ل َأقُولُ َلكُ مْ عِندِي َ‬
‫صلى ال عل يه و سلم – وأمرا له أن يقول‪{ :‬قُل ّ‬
‫واليات في هذا كثيرة‪.‬‬
‫وعلم الغيب من خصائص الرب –تعالى‪ -‬التي بعث رسله وأنزله كتبه لبيانها‪ ،‬ونفي ذلك عمن‬
‫سواه –تعالى‪.-‬‬
‫ن ا ْرتَضَى مِن رّ سُولٍ)‬
‫ل مَ ِ‬
‫حدًا {‪ِ }26‬إ ّ‬
‫غ ْيبِ هِ َأ َ‬
‫ظ ِهرُ عَلَى َ‬
‫وأ ما قول –تعالى‪{ :-‬عَالِ مُ ا ْل َغيْ بِ فَل ُي ْ‬
‫شيْءٍ مّ نْ عِ ْلمِ هِ} (‪ ،)289‬ف هي تبين أن ال –تعالى يطلع من‬
‫(‪ ،)288‬ف هي كقوله –تعالى‪َ { :-‬ولَ ُيحِيطُو نَ ِب َ‬
‫يشاء مهن رسهله على مها يشاء مهن المغيبات‪ ،‬وذلك بوحيهه إليههم‪ ،‬مثهل إخباره عمها جرى مهن المهم‬
‫ب نُوحِيهَا إَِليْ كَ مَا‬
‫الماضية‪ ،‬وما أصيبوا به من العذاب وغيره‪ ،‬كما قال –تعالى‪{ :-‬تِلْ كَ مِ نْ أَنبَاء ا ْل َغيْ ِ‬
‫ل قَ ْومُكَه مِن َقبْلِ هَههذَا} (‪ ،)290‬وكذلك الخبار عهن المسهتقبل مهن المعاد‪ ،‬والجنهة‬
‫كُنتَه َتعَْلمُهَا أَنتَه َو َ‬
‫والنار‪ ،‬التهي أطلع ال عليهها رسهوله فآمهن بهها المؤمنون‪ ،‬وعرفوهها مهن كتاب ال تعالى‪ ،‬ومهن سهنة‬
‫رسوله –صلى ال عليه وسلم – إجمالً‪.‬‬

‫‪ )(285‬الية ‪23-22‬من سورة القيامة‪.‬‬


‫‪ )(286‬الية ‪ 15‬من سورة المطففين‪.‬‬
‫‪)(287‬الية ‪ 50‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪)(288‬اليتان ‪ 27-26‬من سورة الجن‪.‬‬
‫‪)(289‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫‪)(290‬الية ‪ 49‬من سورة هود‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫وأمها الحاطهة بالمعلومات كلياتهها وجزئياتهها مها كان منهها‪ ،‬ومها يكون‪ ،‬فهذا إلى ال وحده ل‬
‫يضاف إلى غيره من الخلق‪ ،‬فمن ادعى شيئا من ذلك لغير ال –تعالى‪ ،-‬فقد أعظم الفرية على ال –‬
‫تعالى‪ ،-‬وعلى رسوله –صلى ال عليه وسلم ‪.-‬‬
‫"فعلم الغيب ل وحده‪ ،‬ول يقال لغيره‪ :‬عالم الغيب‪ ،‬ومن أطلع على شيء منه بواسطة الوحي أو‬
‫غيره‪ ،‬يقال" أطلعه ال عليه‪ ،‬كالخبار عن حال البرزخ‪ ،‬والحساب‪ ،‬والجنة والنار‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وما‬
‫يدعيهه المتصهوفة فهي مشايخههم ههو مهن تلعهب الشيطان بههم‪ ،‬وكذا مها يسهمونه الكشوف ل أصهل‬
‫له"ا‪.‬هه(‪.)291‬‬
‫ص ‪107‬‬
‫"وقول الداودي‪ ( :‬ما أ ظن قوله‪ " :‬من حد ثك أن محمدا يعلم الغ يب" محفوظا‪ ،‬و ما أ حد يد عي أن‬
‫ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم – يعلم من الغ يب إل ما عل مه ال تعالى) متع قب بأن ب عض من لم‬
‫يرسخ إيمانه يظن ذلك‪ ،‬حتى ظن بعضهم أن صحة النبوة تستلزم إطلع النبي –صلى ال عليه وسلم‬
‫– على جم يع المغيبات‪ ،‬ك ما في مغازي ا بن إ سحاق‪ ،‬أن نا قة ال نبي – صلى ال عل يه و سلم – ضلت‪،‬‬
‫فقال ابن الصليب‪ :‬يزعم محمد أنه نبي‪ ،‬ويخبركم عن خبر السماء‪ ،‬وهو ل يدري أين ناقته‪ ،‬فقال النبي‬
‫–صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬إن رجلً يقول‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬إني وال ل أعلم إل ما علمني ال‪ ،‬وقد دلني ال‬
‫عليها‪ ،‬وهي في شعب كذا‪ ،‬قد حبستها شجرة‪ ،‬فذهبوا فجاؤوا بها " فأخبر –صلى ال عليه وسلم – أنه‬
‫ل يعلم من الغيب إل ما علمه ال"(‪.)292‬‬
‫قلت‪ :‬قهد ادعهى كثيهر مهن المتصهوفة والغلة أن مشايخههم ومعبوديههم مهن دون ال –تعالى‪،-‬‬
‫يعلمون الغيوب‪ ،‬وكتبههم مشحونهة بذلك‪ ،‬مثهل الطبقات الكهبرى للشعرانهي‪ ،‬وجامهع الولياء للنبهانهي‪،‬‬
‫وغيرهما من الكتب الخرافية‪.‬‬

‫‪")(291‬غاية الماني" بتصرف‪.)1/34( ،‬‬


‫‪)(292‬القسطلني‪ ،‬ببعض التصرف (‪.)10/365‬‬

‫‪81‬‬
‫ص ‪108‬‬
‫قال‪ :‬باب قول ال –تعالى‪{ :-‬السّلمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنُ} (‪.)293‬‬
‫أي أن ذلك من أ سماء ال –تعالى‪ -‬التي سمي ب ها نف سه‪ ،‬ومعناه‪ :‬السالم من كل ن قص وع يب‪.‬‬
‫وسيأتي بيان ذلك‪.‬‬
‫"قال ا بن بطال‪ :‬غر ضه بهذا الباب‪ :‬إثبات ا سمان من أ سماء ال –تعالى‪ ،-‬قال الحا فظ‪ :‬وفي ما‬
‫دون‬ ‫(‪)294‬‬
‫ذكره نظهر‪ ،‬ولو سهلم له ذلك‪ ،‬فإن وظيفهة الشارح بيان وجهه تخصهيص هذه السهماء بالذكهر‬
‫غير ها‪ ،‬وإفراد ها بالترج مة‪ ،‬ويم كن أ نه أراد بهذا القدر جم يع اليات الثلث‪ ،‬في آ خر سورة الح شر‪،‬‬
‫سنَى}و قد قال في سورة العراف‪{ :‬وَلِلّ هِ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫فإن ها خت مت بقوله تعالى‪{ :‬اللّ ُه ل إَِل َه ِإلّ ُهوَ َل ُه الَ ْ‬
‫سنَى فَادْعُو هُ بِهَا} (‪ ،)295‬وكأ نه رح مه ال –تعالى‪ -‬ب عد إثبات القدرة‪ ،‬والقوة‪ ،‬والعلم‪ ،‬أشار‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫الَ ْ‬
‫إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في عدد معين‪ ،‬بدليل الية المذكورة‪.)296( .‬‬
‫أو أراد الشارة إلى ذكر السماء التي تسمى ال –تعالى‪ -‬بها‪ ،‬وأطلق بعد ذلك على المخلوقين‪،‬‬
‫والسلم ثبت في القرآن(‪ ،)297‬وفي الحديث "أنه من أسماء ال –تعالى"‪.‬‬
‫وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين‪.‬‬
‫والمؤ من يطلق على من ات صف باليمان‪ ،‬و قد وق عا معا من غ ير تخلل بينه ما في ال ية المشار‬
‫إليها‪ ،‬فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة "(‪)298‬ا‪.‬هه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما ذكره من أن السلم أطلق على المخلوقين‪ ،‬كالتحية الواقعة بين المؤمنين‪ ،‬غير ظاهر؛‬
‫لن ال سلم الذي ج عل تح ية للمؤمن ين ا سم من أ سماء ال –تعالى‪ ،-‬ك ما رواه البخاري –رح مه ال‬
‫تعالى‪ -‬في "الدب المفرد"‪ ،‬من حديث أنس‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬إن السلم‬
‫اسم من أسماء ال –تعالى‪ ،-‬وضعه ال‬
‫ص ‪109‬‬
‫في الرض‪ ،‬فأفشوا السلم بينكم"(‪ ،)299‬وإسناده صحيح‪ ،‬وترجم به البخاري في الصحيح فقال‪:‬‬
‫(‪)300‬‬
‫{باب‪ :‬السلم اسم من أسماء ال –تعالى‪} -‬‬

‫‪)(293‬الية ‪ 23‬من سورة الحشر‪.‬‬


‫‪)(294‬يعني أنه قصر في بيان وجه إيراد البخاري هذين السمين من بين السماء الخرى‪.‬‬
‫‪)(295‬الية ‪ 180‬من سورة العراف‪.‬‬
‫حسْنَى فَادْعُوهُ] {سورة العراف‪ :‬آية ‪.]180‬‬
‫سمَاء ا ْل ُ‬‫لْ‬‫‪)(296‬هي قوله تعالى‪َ { :‬ولِّ ا َ‬
‫‪ )(297‬كما في الية المترجم بها‪.‬‬
‫‪" )(298‬فتح الباري" (‪.)13/366‬‬
‫‪")(299‬الدب المفرد" (ص ‪.)343‬‬
‫‪)(300‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)11/13‬‬

‫‪82‬‬
‫و في حد يث ع بد ال بن م سعود المت فق عل يه‪" :‬إن ال هو ال سلم‪ ،‬فإذا جلس أحد كم في ال صلة‬
‫فلي قل‪ :‬التحيات ل…" و سيذكره في الباب‪ .‬وقال ا بن عباس‪" :‬ال سلم ا سم ال‪ ،‬و هو تح ية أ هل الج نة"‬
‫أخرجه البيهقي في "الشعب"(‪.)301‬‬
‫ويدل على ذلك حديث المهاجر بن قنفذ‪ ،‬لما سلم على النبي –صلى ال عليه وسلم – لم يرد حتى‬
‫توضأ‪ ،‬وقال‪ " :‬إني أن أذكر ال إل على طهر" رواه أبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن ماجه(‪.)302‬‬
‫قال الحافظ‪ :‬صححه ابن خزيمة وغيره(‪.)303‬‬
‫قال الخطابي‪" :‬وفيه دليل على أن السلم الذي يحيي به الناس بعضهم بعضا اسم من أسماء ال‬
‫–تعالى‪.)304("-‬‬
‫وقد اختلف في معناه‪ ،‬فنقل عياض أن معناه‪ :‬اسم ال‪ ،‬أي‪ :‬كلءته عليك وحفظه‪ ،‬كما يقال‪ :‬ال‬
‫معك ومصاحبك‪.‬‬
‫وقيهل‪ :‬معناه‪ :‬أن اسهم ال يذكهر على العمال‪ ،‬توقعا لجتماع معانهي الخيرات فيهها‪ ،‬وانتفاء‬
‫عوارض الفساد‪.‬‬
‫صحَابِ ا ْل َيمِي نِ}‪305‬أن المسلم أعلم من سلم‬
‫وقيل‪ :‬معناه‪ :‬السلمة‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬فَسَلمٌ لّكَ ِمنْ أَ ْ‬
‫عليه أنه سالم منه‪ ،‬وأل خوف عليه منه(‪.)306‬‬
‫ص ‪110‬‬
‫قلت‪ :‬هذه المعا ني متلز مة؛ ل نه إذا ح صل ح فظ ال لعبده وكلء ته‪ ،‬وكان م عه‪ ،‬ف قد ح صل له‬
‫الخير والبركة والسلمة‪.‬‬
‫قال ابن دقيق العيد‪ " :‬السلم يطلق على معان‪ ،‬منها السلمة‪ ،‬ومنها التحية‪ ،‬ومنها أنه اسم من‬
‫أ سماء ال –تعالى‪ ،-‬قال‪ :‬و قد يأ تي بمع نى التح ية محضا‪ ،‬و قد يأ تي بمع نى ال سلمة محضا و قد يأ تي‬
‫مترددا بيهن المعنييهن‪ ،‬كقوله –تعالى‪( ..-‬ول تقولوا لمهن ألقهى إليكهم السهلم) (‪ ،)307‬فإنهه يحتمهل التحيهة‬
‫ا‪.‬هه‪.‬‬ ‫(‪)309( )308‬‬
‫ب رّحِيمٍ}‬
‫والسلمة‪ ،‬وقوله –تعالى‪{ :-‬وََلهُم مّا َيدّعُونَ {‪}57‬سَلمٌ قَ ْولً مِن رّ ّ‬

‫‪)(301‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)11/12‬‬


‫‪)(302‬انظر‪" :‬سنن أبي داود" (‪ )1/23‬الحديث السابع عشر‪ ،‬النسائي (‪ ،)1/37‬ابن ماجه رقم (‪.)350‬‬
‫‪)(303‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)11/13‬‬
‫‪")(304‬معالم السنن على هامش السنن" (‪.)1/23‬‬
‫‪)(305‬الية ‪ 91‬من سورة الواقعة‪.‬‬
‫‪")(306‬الفتح" (‪.)11/13‬‬
‫‪)(307‬في الية قراءتان‪ ،‬في إحداهما ‪ :‬السلم‪ ،‬بمعنى الستسلم والنقياد‪ ،‬أي استسلم وانقاد لطاعة ال‬
‫وتوحيده‪ ،‬والخرى‪ :‬السلم‪ ،‬وفسرت بالتحية بأن يقول ‪ :‬السلم عليكم‪.‬‬
‫‪)(308‬اليتان ‪ 58-57‬من سورة يس‪.‬‬
‫‪" )(309‬الفتح" (‪.)11/13‬‬

‫‪83‬‬
‫قلت‪ :‬يمكن إرجاع هذه الطلقات إلى معنى واحد‪ ،‬إذ كلها في الحقيقة تدور على طلب السلمة‪،‬‬
‫والخلص من الشر والذى‪ ،‬وهذا ما تضمنته التحية المشروعة بين المسلمين‪.‬‬
‫فال صواب‪ :‬أن ال سلم أ سم من أ سماء ال –تعالى‪ -‬ك ما تقدم‪ ،‬و قد أ مر الم سلمون أن يفشوه في ما‬
‫بين هم‪ ،‬فعند ما يل قي الم سلم على أخ يه ذلك‪ ،‬فإ نه يذ كر ال –تعالى‪ ،-‬طالبا م نه ال سلمة‪ ،‬متو سلً إل يه‬
‫بذ كر ا سمه‪ -‬تعالى‪ -‬المنا سب لطل به‪ ،‬فكأ نه يقول‪ :‬أ نا م سالم لك أي ها الخ م حب‪ ،‬وداع لك‪ ،‬وطالب‬
‫ح صول البر كة والخ ير‪ ،‬وال سلمة من كل مؤذ‪ ،‬م من يملك ذلك‪ ،‬متوسلً إليه في ح صول ذلك با سمه‬
‫السلم‪.‬‬
‫فتضمن ذلك ثلثة أشياء‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ذكر اسم ال –تعالى‪.-‬‬
‫الثاني‪ :‬إعلم المسلم عليه‪ :‬أنه مسالم له ل يناله منه أذى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬طلب السهلمة والخيهر له‪ ،‬وبهذا يظههر أن قول مهن قال‪ :‬إنهه يطلق على التحيهة بيهن‬
‫المخلوق ين‪ ،‬أ نه ل يخالف كو نه ا سما من أ سماء ال‪ ،‬أي أ نه ل يس ق سيما له‪ ،‬بل التح ية الواق عة ب ين‬
‫المؤمن ين هي ذ كر ا سم ال –تعالى‪ ،-‬المطلوب به ح صول ال سلمة‪ ،‬وذلك أن ال سائل ي سأل في كل‬
‫مطلوب من ال بالسم المناسب لمطلوبه‪،‬‬
‫ص ‪111‬‬
‫كما يعلم ذلك عند تأمل الدعية الواردة في كتهاب ال –تعالى‪ ،-‬وفي أحاديهث رسوله –صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،-‬وال أعلم‪.‬‬
‫والصواب‪ :‬أن مراد البخاري‪ -‬رحمه ال تعالى‪ -‬بهذه الترجمة‪ :‬تنزيه ال –تعالى‪ -‬عن مشابهة‬
‫المخلوق‪ ،‬وأن اشتراكهه – تعالى‪ -‬مهع المخلوق فهي السهم‪ ،‬أو فهي معنهى مهن المعانهي‪ ،‬ل يكون فيهه‬
‫تشبيه‪ ،‬نحو اليد‪ ،‬والرجل‪ ،‬والستواء‪ ،‬والمجيء‪ ،‬والضحك‪ ،‬والسخط‪ ،‬والعلم‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬وغير‬
‫ذلك م ما أثب ته –تعالى‪ -‬لنف سه‪ ،‬وأثب ته له ر سوله‪ :‬ل نه –تعالى – ال سلم‪ ،‬أي‪ :‬ال سالم من كل ع يب‬
‫ونقص يلحق المخلوق‪.‬‬
‫"قال ابن قتيبة‪ :‬سمى نفسه سلماَ؛ لسلمته مما يلحق المخلوق من العيب والنقص والفناء‪ ،‬وقال‬
‫الخطابي‪ :‬معناه ذو السلم‪ ،‬والسلم في صفة ال تعالى هو‪ :‬الذي سلم من كل عيب‪ ،‬وبرأ من كل آفة‬
‫ونقص يلحق المخلوقين‪ ،‬وقد قيل‪ :‬هو الذي سلم الخلق من ظلمه"ا‪.‬هه(‪.)310‬‬
‫قلت‪ :‬هذا القول الخير ل يخالف الذي قبله‪ ،‬بل كلهما يدخل في اسمه تعالى‪ :‬السلم‪ .‬قال ابن‬
‫كثير‪" :‬السلم من جميع العيوب والنقائص‪ ،‬بكماله في ذاته وصفاته وفي أفعاله"(‪.)311‬‬

‫‪")(310‬زاد المسير" (‪.)8/225‬‬


‫‪")(311‬تفسير ابن كثير" (‪.)8/105‬‬

‫‪84‬‬
‫فال سلم من الكلمات الجام عة‪ ،‬وحقيق ته‪ :‬البراءة الخلص والنجاة من ال شر والعيوب‪ ،‬وعلى هذا‬
‫المعنى تدور تصاريف هذا اللفظ‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬سلمك ال‪ ،‬وسلم فلن من الشر‪ ،‬ومنه دعاء الرسل على‬
‫الصراط‪" :‬اللهم سلم سلم" وسلم الشيء لفلن‪ ،‬أي‪ :‬خلص له وحده من ضرر الشركة فيه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ش َركَاء ُم َتشَاكِ سُونَ َو َرجُلً سََلمًا ّل َرجُلٍ}(‪)312‬أي‪ :‬خال صا له وحده ل يمل كه‬
‫{ضَرَ بَ اللّ ُه َمثَلً ّرجُلً فِي ِه ُ‬
‫جنَح ْه لَهَا} (‪)313‬؛ لن كهل واحهد مهن‬
‫هْمِ فَا ْ‬
‫ج َنحُو ْا لِلسّل‬
‫معهه غيره‪ .‬والسهلم ضهد الحرب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَإِن َ‬
‫المتحاربين يسلم من أذى الخر ويخلص منه‪ ،‬والقلب السليم هو‪:‬‬
‫ص ‪112‬‬
‫الن قي من ال غل والد غل‪ ،‬الذي قد سلم ل وحده‪ ،‬فخلص من د غل الشرك وغله‪ ،‬ود غل الذنوب‬
‫والمخالفات‪ ،‬فاستقام على حب ال وحسن معاملته‪ ،‬ولذلك ضمن له النجاة من عذابه‪ ،‬والفوز بكرامته‪.‬‬
‫وال سلم أ خذ من هذا المع نى‪ ،‬فإ نه‪ :‬ال ستسلم ل والنقياد له‪ ،‬والتخلص من شوائب الشرك‪،‬‬
‫والبدع المضلة‪.‬‬
‫والج نة دار ال سلم‪ ،‬أي‪ :‬دار ال سلمة من كل آ فة ون قص و شر‪ ،‬فإطلق ال سلم على ال تعالى‬
‫اسما من أسمائه‪ ،‬أولى من هذا كله‪ ،‬وهو أحق بهذا السم من كل مسمى به؛ لسلمته تعالى من كل‬
‫عيب ونقص من كل وجه‪ ،‬فهو –تعالى‪ -‬السلم الحق بكل اعتبار‪ ،‬سلم في ذاته عن كل عيب ونقص‬
‫يتخيله وهم‪.‬‬
‫وسلم في صفاته من كل عيب ونقص‪ ،‬وسلم في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل‬
‫واقع على غير وجه الحكمة‪ ،‬فهو السلم الحق من كل وجه وبكل اعتبار‪ ،‬وهذا هو حقيقة التنزيه الذي‬
‫نزه به نفسه‪ ،‬ونزهه به رسوله‪ ،‬فهو السلم من الصاحبة والولد‪ ،‬والسلم من النظير والكفء والسمي‬
‫والمماثل‪ ،‬والسلم من الشريك‪.‬‬
‫ولهذا إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلما مما يضاد كمالها‪.‬‬
‫فحيا ته –تعالى‪ -‬سلم من الموت وال سنة والنوم‪ ،‬وقيومي ته وقدر ته سلم من الحا جة والت عب‬
‫واللغوب‪ ،‬وعلمه سلم من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر أو تفكر‪ ،‬وإرادته‬
‫–تعالى‪ -‬سهلم مهن خروجهها عهن الحكمهة والمصهلحة‪ ،‬وكلماتهه –تعالى‪ -‬سهلم مهن الكذب والخلف‬
‫والظلم‪ ،‬بل ت مت كلما ته صدقا وعدلً‪ ،‬وغناه – تعالى – سلم من الحا جة إلى غيره في و جه من‬
‫الوجوه‪ ،‬بل كل ما سواه فقير إليه محتاج‪ ،‬وملكه – تعالى – سلم من منازع فيه أو مشارك‪ ،‬أو معاون‬
‫مظاهر‪ ،‬أو شافع عنده بدون إذنه‪ ،‬وإلهيته – تعالى – سلم من مشارك له فيها‪ ،‬بل هو ال الذي ل إله‬
‫إل ههو‪ ،‬وحلمهه‪ ،‬وعفوه‪ ،‬وصهفحه‪ ،‬ومغفرتهه‪ ،‬وتجاوزه‪ ،‬سهلم مهن أن تكون عهن حاجهة‪ ،‬أو ذل‪ ،‬أو‬
‫مصانعة‪ ،‬كما يكون من غيره‪ ،‬بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه‪.‬‬

‫‪ )(312‬الية ‪ 29‬من سورة الزمر‪.‬‬


‫‪ )(313‬الية ‪ 61‬من سورة النفال‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ص ‪113‬‬
‫وكذلك عذابهه‪ ،‬وانتقامهه‪ ،‬وشده بطشهه‪ ،‬وسهرعة عقابهه‪ ،‬سهلم مهن أن يكون ظلما‪ ،‬أو تشفيا‪ ،‬أو‬
‫غل ظة أو ق سوة‪ ،‬بل هو م حض حكم ته وعدله‪ ،‬ووض عه الشياء مواضع ها‪ ،‬ف هو ي ستحق عل يه الح مد‬
‫والثناء‪ ،‬كما يستحق على إحسانه ونعمه‪.‬‬
‫وقدره وقضاؤه سلم من العبث والجور والظلم‪.‬‬
‫وشرعه ودينه سلم من التناقض والختلف والضطراب وعدم مصلحة العباد ورحمتهم"(‪.)314‬‬
‫وهكذا جميع صفاته وأفعاله سلم من كل ما يتوهمه معطل أو يتخيله مشبه‪ ،‬تعالى ربنا السلم‬
‫عما يضاد كماله‪.‬‬
‫و أما ذكره "المؤمن" مع السلم فلبيان أن ما تسمى ال به‪ ،‬وأطلق على غيره من خلقه‪ ،‬فإنه ل‬
‫يكون بينه وبين من أطلق عليه مشابهة‪ ،‬فال – تعالى – سمى نفسه‪ :‬المؤمن‪ ،‬ومن اتصف باليمان من‬
‫عباده يسمى‪ :‬مؤمنا‪ ،‬ولكن ال – تعالى – سالم من النقائص والعيوب التي تلزم الخلق؛ لنه – تعالى –‬
‫هو السلم‪.‬‬
‫وهكذا كل ما يطلق على غيره –تعالى‪ -‬مما سمى به نفسه أو اتصف به‪ ،‬نحو العزيز‪ ،‬والكريم‪،‬‬
‫والرؤوف‪ ،‬والرحيم‪ ،‬والسميع‪ ،‬والبصير‪ ،‬والعليم‪ .‬وهو كثير‪.‬‬
‫فلله‪ -‬تعالى‪ -‬ما يليق به من المعاني الكاملة السالمة من النقائص والعيوب‪ ،‬وللمخلوق ما يناسبه‬
‫ويليق بضعفه‪ ،‬فهو محل كل عيب ونقص‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫المؤمن من أسمائه – تعالى‪ -‬وهو على أحد التفسيرين‪ :‬المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم‬
‫ل هم من شوا هد صدقهم‪ ،‬ف هو الذي صدق ر سله وأ نبياءه في ما بلغوا ع نه‪ ،‬وش هد ل هم بأن هم صادقون‬
‫للدلئل التهي دل بهها على صهدقهم – قضاء وخلقا – فإنهه – سهبحانه‪ -‬أخهبر‪ -‬وخهبره الصهدق وقوله‬
‫الحق‪ ،‬أنه لبد أن يري عباده من اليات الفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق‪،‬‬
‫حقّ َأوَلَ مْ َيكْ فِ ِب َربّ كَ َأنّ هُ‬
‫حتّى َي َت َبيّ نَ َلهُ ْم َأنّ هُ ا ْل َ‬
‫س ِهمْ َ‬
‫س ُنرِي ِهمْ آيَا ِتنَا فِي الفَا قِ َوفِي أَنفُ ِ‬
‫كما قال –تعالى‪َ { :-‬‬
‫شهِيدٌ} (‪ )315‬فشههد لرسهوله أن مها جاء بهه حهق‪ ،‬ووعده أن يري العباد مهن آياتهه الفعليهة‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ل َ‬
‫عَلَى كُ ّ‬
‫والخلقية‪ :‬ما يش هد بذلك أيضا‪ ،‬ثم ذ كر ما هو أعظم من ذلك وأجل‪ ،‬وهو شهادته‪ -‬تعالى‪ -‬على كل‬
‫شيء‪ ،‬فإن من‬
‫ص ‪114‬‬

‫‪" )(314‬بدائع الفوائد" ملخصاً (‪)136-2/132‬‬


‫‪ )(315‬الية ‪ 53‬من سورة فصلت‬

‫‪86‬‬
‫أسهمائه "الشهيهد"‪ :‬الذي ل يغيهب عنهه شيهء‪ ،‬ول يعزب عنهه مثقال ذرة فهي الرض ول فهي‬
‫السماء‪ ،‬بل هو مطلع على كل شيء وشاهد له‪ ،‬عليم بتفاصيله‪ ،‬وهذا استدلل بأسمائه وصفاته‪ ،‬والول‬
‫استدلل بقوله وكلماته‪ ،‬والستدلل باليات الفقية والنفسية استدلل بأفعاله ومخلوقاته "(‪.)316‬‬
‫وقال ابن الجوزي‪" :‬فأما المؤمن ففيه ستة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه الذي أمن الناس ظلمه‪ ،‬وأمن من آمن به عذابه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه المجيب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه‪.‬‬
‫ل هُوَ} (‪.)317‬‬
‫ل إِلَههَ ِإ ّ‬
‫الرابع‪ :‬أنه الذي وحد نفسه؛ لقوله –تعالى‪{ :-‬شَ ِهدَ الّلهُ َأنّهُ َ‬
‫الخامس‪ :‬أنه الذي يصدق عباده وعده‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أنه الذي يصدق ظنون عباده المؤمنين؛ ول يخيب آمالهم"أ‪.‬هه(‪.)318‬‬
‫قلت‪ :‬هذه القوال كل ها حهق‪ ،‬ويدل عليهها ا سمه –تعالى‪" -‬المؤمهن" ف هو الم صدق الذي يصهدق‬
‫رسله بما يقيمه من الدلئل التي تدل على صدقهم فيما جاؤوا به وبلغوه عنه –تعالى‪ ،-‬ويصدقهم وعده‬
‫بنصره إياهم على عدوهم‪ ،‬وبصدق عباده ما أخبرهم به من توفيتهم ما يستحقونه جزاء أعمالهم‪ ،‬ول‬
‫يضيع أجر أحد منهم ويؤمنهم من الظلم‪ ،‬فل يخافون ظلما ول هضما‪ ،‬فهو الذي يجير عباده وينجيهم‬
‫من المهالك والمخاوف‪ ،‬وهو الذي شهد لنفسه بأنه ل إله إل هو العزيز الحكيم‪.‬‬
‫‪ -11‬قال‪ ":‬حدثنا أحمد بن يونس‪ ،‬حدثنا زهير‪ ،‬حدثنا مغيرة‪ ،‬حدثنا شفيق بن سلمة قال‪ :‬قال عبد‬
‫ال‪ :‬كنا نصلي خلف النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فنقول‪:‬السلم على ال‪ ،‬فقال النبي‪-‬صلى ال عليه‬
‫و سلم‪ ":-‬إن ال هو ال سلم‪ ،‬ول كن قولوا‪ :‬التحيات ل‪ ،‬وال صلوات والطيبات‪ ،‬ال سلم عل يك أي ها ال نبي‪،‬‬
‫ورحمة ال وبركاته‪ ،‬السلم علينا‪ ،‬وعلى عباد ال الصالحين‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ال‪ ،‬وأشهد أن محمدا‬
‫عبده ورسوله‪.‬‬
‫ص ‪115‬‬
‫عبدال‪ ،‬هو عبدال بن مسعود بن غافل‪ ،‬الهذلي‪ ،‬من أهل السوابق‪ ،‬هاجر قديما إلى الحبشة‪ ،‬وقد‬
‫ش هد مع ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬جم يع غزوا ته‪ ،‬ولز مه‪ ،‬وخد مه‪ ،‬فكان يقال له‪ :‬صاحب‬
‫السواك‪ ،‬والنعل؛ لنه كان يحمل سواك رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ونعله‪.‬‬
‫و في "ال صحيحين" أن أ با مو سى قال‪ ":‬قد مت أ نا وأ خي من الي من‪ ،‬فمكث نا حينا و ما نرى ا بن‬
‫م سعود وأ مه إل من أ هل ب يت ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪-‬؛ ل ما نرى من كثرة دخول هم على‬
‫رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ولزومهم له"‪.‬‬

‫‪" )(316‬مدارج السالكين" (‪.)3/466‬‬


‫‪ )(317‬الية ‪ 18‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪" )(318‬زاد المسير" (‪.)8/225‬‬

‫‪87‬‬
‫ل وهديا بر سول ال‪ -‬صلى ال عل يه و سلم‪ -‬من ع بد‬
‫وقال حذي فة‪ ":‬ما نعلم أحدا أقرب سمتا ود ً‬
‫ال بن مسعود‪ ،‬ولقد علم المحظوظون من أصحاب رسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬أن ابن أم عبد‬
‫أقربهم إلى ال وسيلة"‪.‬‬
‫وهو من علماء الصحابة‪ ،‬وفقائهم‪ ،‬توفي في الكوفة‪ ،‬وقيل‪ :‬في المدينة‪ ،‬سنة اثنتين‪ -‬أو ثلث –‬
‫(‪)319‬‬
‫وثلثين‪ ،‬وله بضع وستون وسنة ا‪.‬هه‪.‬‬
‫قوله‪" :‬فنقول‪ :‬السلم على ال"‪ ،‬كأنهم رأوا السلم من قبيل الحمد‪ ،‬والشكر‪ ،‬فجوزوا ثبوته ل –‬
‫تعالى ‪ ،-‬وهو تعالى السلم‪ ،‬والسلم منه بدأ وإليه يعود‪ ،‬إذ هو –تعالى‪ -‬واهب السلم لعباده‪ ،‬الذي به‬
‫ي سلمون من شرور أنفسهم‪ ،‬وشرور أعدائ هم من ال جن وال نس‪ ،‬و هو –تعالى‪ -‬السالم من كل ما ف يه‬
‫نقص أو شين‪ ،‬فل يطلب له السلم‪ ،‬ولهذا قال معلم الهدى‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬إن ال هو السلم"‬
‫أي السهالم مهن أن يلحقهه حاجهة‪ ،‬أو يناله تغيهر أو آفهة‪ ،‬بهل ههو الكامهل فهي أوصهافه العليها‪ ،‬وأسهمائه‬
‫الحسنى‪ ،‬وهو الغني بذاته عن كل ما سواه‪.‬‬
‫وهذا الجزء من الحد يث هو م حل الشا هد الذي سيق من أجله؛ ل نه يدل على أن ال –تعالى‪-‬‬
‫سالم من جميع العيوب والنواقص التي تلحق الخلق‪ ،‬فإذا سمى نفسه باسم قد يتسمى به بعض خلقه‪ ،‬أو‬
‫و صف نف سه ب صفة قد يت صف ب ها ب عض خل قه‪ ،‬فالمعا ني ال تي يدل علي ها ا سمه أو صفته تخ صه‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬ل يشاركه فيها المخلوق‪.‬‬
‫ص ‪116‬‬
‫وكل نقص في المخلوق فهو –تعالى‪ -‬سالم منه‪ ،‬ومتنزه عنه‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬فهو السلم المؤمن‪.‬‬
‫قوله‪ ":‬التحيات ل‪ ،‬قال فهي "اللسهان"‪ ":‬التحيات ل" معناه" البقاء ل‪ ،‬والسهلمة مهن الفات كلهها‬
‫التي تلحق العباد من العناء‪ ،‬وأسباب الفناء"(‪.)320‬‬
‫وكذا قال غيره من أهل اللغة‪.‬‬
‫وجيهء بلفهظ الجمهع ليدل على أن ال –تعالى‪ -‬يسهتحق جميهع الكمالت‪ ،‬مهن العظمهة‪ ،‬والبقاء‪،‬‬
‫والملك‪ ،‬والسلمة من الفات والنقص‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫قال الخطابي‪ ":‬لم يكن في تحياتهم شيء يصلح به الثناء على ال –تعالى‪ ،-‬فلهذا أبهمت ألفاظها‪،‬‬
‫(‪)321‬‬
‫واستعمل منها معنى التعظيم‪ ،‬فقال‪ ":‬قولوا‪ :‬التحيات ل" أي‪ :‬أنواع التعظيم له" ا‪.‬هه‪.‬‬

‫‪" )(319‬الرياض المستطابة" ملخصاً ‪ ،‬وانظر‪ ":‬الصابة" (‪ ، )4/233‬و "تهذيب التهذيب" (‪ ، )6/27‬و‬
‫"سير أعلم النبلء" (‪.)1/461‬‬
‫‪" )(320‬لسان العرب" (‪ )1/775‬المرتب‪.‬‬
‫‪" )(321‬فتح الباري" (‪ )2/313‬ولفظ الخطابي لما ذكر ألفاظ تحياتهم لمعظميهم قال‪ ":‬وهذه اللفاظ ونحوها‬
‫مما يتحيا به الناس فيما بينهم ل يصلح شيء منها للثناء على ال‪ -‬عز وجل‪ ، -‬فتركت أعيان تلك اللفاظ‪،‬‬
‫واستعمل منها معنى التعظيم ‪ ،‬فقيل‪ :‬قولوا ‪ :‬التحيات ل‪ ،‬أي الثناء على ال والتحميد وأنواع التعظيم له‬
‫كما يستحقه ويجب له" ‪" .‬أعلم الحديث" (‪.)2/545‬‬

‫‪88‬‬
‫وقوله‪ " :‬ل" يفيهد وجوب الخلص فهي العبادة‪ ،‬أي أن ذلك ل يجوز أن يكون لغيهر ال منهه‬
‫شيء‪.‬‬
‫"وال صلوات" أي جم يع العبادات له ا ستحقاقا بمقت ضى الع قل‪ ،‬وبالشرع‪ ،‬وذلك م ثل الركوع‪،‬‬
‫والسجود‪ ،‬والقيام‪ ،‬والدعاء‪ ،‬وأنواع العبادة له وحده ل شريك له في ذلك‪.‬‬
‫"والطيبات" أي العمال الطيبات له – تعالى‪ -‬يتو سل ب ها إل يه‪ ،‬و هو –تعالى‪ -‬ل يق بل إل طيبا‪،‬‬
‫"وما طاب من الكلم وحسن أن يثنى به على ال‪ ،‬دون ما ل يليق بصفاته"(‪ ،)322‬والوصف بالطيب يفيد‬
‫خلوصها من الشرك‪ ،‬وشوائبه‪ ،‬وسلمتها من البدع‪.‬‬
‫ص ‪117‬‬
‫"ال سلم" ا سم ال –تعالى‪ -‬الدال على سلمته من كل ن قص وع يب‪ ،‬فيد عى ال –تعالى‪ -‬به؛‬
‫ليسلم من ذكر عليه هذا السم الشريف‪ ،‬من المكاره والمخاوف‪.‬‬
‫"عليك أيها النبي" أمرهم أن يفردوه بالسلم‪ ،‬ويقدموه على أنفسهم‪ ،‬لوجوب حقه عليهم‪ ،‬ووجوب‬
‫محبته التي يجب أن تكون مقدمة على النفس‪ ،‬وما دونها‪.‬‬
‫والحاديهث متقفهة على لفهظ الخطاب‪ ،‬وذكهر حرف النداء "عليهك أيهها النهبي" وقهد عدل بعهض‬
‫ال صحابة ب عد وفا ته – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إلى ل فظ خطاب الغائب فقالوا‪" :‬ال سلم على ال نبي" ك ما‬
‫ذكره البخاري في الستئذان(‪ ،)323‬وابو عوانة في مسنده(‪ ،)324‬وغيرهما‪.‬‬
‫وقال عبدالرزاق‪ ":‬عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء‪ :‬أن أصحاب النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كانوا‬
‫ي سلمون وال نبي‪ -‬صلى ال عل يه و سلم‪ -‬حي‪ :‬ال سلم عل يك أي ها ال نبي ورح مة ال وبركا ته‪ ،‬فل ما مات‬
‫قالوا‪ :‬السلم على النبي ورحمة ال وبركاته"(‪.)325‬‬
‫وبهذا ال سند أيضا‪ ":‬سمعت ا بن عباس‪ ،‬وا بن الزب ير‪ ،‬يقولن في التش هد في ال صلة‪ :‬التحيات‬
‫المباركات ل‪ ،‬الصلوات الطيبات ل‪ ،‬السلم على النبي ورحمة ال وبركاته"(‪.)326‬‬
‫و الولى‪ :‬اتباع لفظ الحديث كما عليه الجمهور من الصحابة‪ ،‬ومن بعدهم من أهل العلم‪ ،‬وكما‬
‫أنه ل فرق بين الحاضر معه في وقت حياته‪ ،‬وبين من كان غائبا‪ ،‬فكذلك بعد وفاته‪.‬‬
‫والنداء لطلب استحضار المنادي في القلب‪ ،‬فيخاطبه كأنه شاهد في قلبه‪ ،‬ومثل هذا معروف في‬
‫كلم العرب‪ ،‬وأشعار هم‪ ،‬يخا طب أحد هم من يت صوره في نف سه‪ ،‬وإن لم ي كن في الخارج من ي سمع‬
‫خطابه‪ ،‬قال حسان بن ثابت‪ -‬رضي ال عنه‪ -‬في رثائه لرسول ال‪-‬صلى ال عليه وسلم‪:-‬‬
‫ص ‪118‬‬

‫‪ )(322‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ )(323‬انظر‪" :‬الفتح" (‪.)11/56‬‬
‫‪ )(324‬انظر‪ " :‬مسند أبي عوانة" (ص ‪.)229‬‬
‫‪ )(325‬انظر‪ " :‬المصنف" (‪.)2/204‬‬
‫‪ )(326‬المصدر نفسه ‪( ،‬ص ‪.)203‬‬

‫‪89‬‬
‫مههها بال عينهههك ل تنام كأنهههها كحلت مآقيهههها بكحهههل الرمهههد‬

‫جزعا على المهدي أصههههههبح ثاويا يها خيهر مهن وطيهء الحصهى ل تبعهد‬

‫وجههههي يقيهههك لهفهههي ليتنهههي غيبههت قبلك فههي بقيههع الغرقههد‬


‫(‪)327‬‬
‫هود‬
‫هم السه‬
‫هبحت سه‬
‫هي صه‬
‫ها ليتنه‬
‫هههم بعدك بالمدينهههة بينههههم يه‬
‫أأقيه‬

‫وقال امرؤ القيس‪:‬‬


‫(‪)328‬‬
‫يهها أيههها السههاعي ليدرك مجدنهها ثكلتهههك أمهههك ههههل ترد قتيلً‬

‫وقالت الخنساء في أخيها صخر‪:‬‬


‫أل يهها صههخر إن أبكيههت عيههن لقههههد أضحكتنههههي دهرا طويلً‬

‫هههاء معولت وكنهههت أحهههق مهههن أبدى العويل‬


‫هههي نسه‬
‫هههك فه‬ ‫ي‬
‫بكيته‬

‫دفعههت بههك الجليههل وأنههت حههي فمهههن ذا يدفهههع الخطهههب الجليل‬


‫(‪)329‬‬
‫إذا قبهههههح البكاء على قتيهههههل رأيهههت بكاءك الحسهههن الجميل‬

‫وهذا كثيهر جدا‪ ،‬ول يحتاج إلى ذكهر الشواههد عليهه؛ لشهرتهه‪ ،‬وبهذا وأمثاله يتهبين ضلل‬
‫المغرور ين الذ ين ي ستغيثون بالنهبياء‪ ،‬والولياء‪ ،‬ويتعلقون بش به واهيهة‪ ،‬م ثل ا ستدللهم بلفهظ النداء‪،‬‬
‫والخطاب المذكور في هذا الحد يث‪ ،‬على حضور ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ع ند كل من يناد يه‪،‬‬
‫ويخاطبه؛ ولذلك جوزوا التوجه إليه‪ ،‬ومناداته‪ ،‬في كل ملمة‪ ،‬فضلوا بذلك وأضلوا كثيرا‪.‬‬
‫مع أن هذه الصيغة هي التي كان النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقولها في تشهده والمة تبع له‪،‬‬
‫تقول م ثل ما كان يقول‪ ،‬ك ما في شرح ال ثر للطحاوي ب سنده إلى عبدال بن الزب ير‪ ،‬قال‪ ":‬إن تش هد‬
‫رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬الذي كان يتشههد بهه‪ :‬بسهم ال‪ ،‬وبال‪،‬خيهر السهماء‪ ،‬التحيات‪،‬‬
‫الطيبات‪ ،‬الصهلوات ل‪ ،‬أشههد أن ل إله إل ال وحده‪ ،‬ل شريهك‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسهوله‪ ،‬أرسهله‬
‫بالحق بشيرا‪ ،‬ونذيرا‪ ،‬وأن‬
‫ص ‪119‬‬
‫الساعة آتية ل ريب فيها‪ ،‬السلم عليك أيها النبي‪ ،‬ورحمة ال وبركاته‪ ،‬السلم علينا وعلى عباد‬
‫(‪)330‬‬
‫ال الصالحين‪ ،‬اللهم اغفر لي واهدني" ا‪.‬هه‪.‬‬
‫وهو أيضا عند البزار(‪.)331‬‬

‫‪ )(327‬انظر ‪ ":‬ديوان حسان" (ص ‪.)97‬‬


‫‪ )(328‬انظر ‪ ":‬ديوان امرؤ القيس" (ص ‪.)178‬‬
‫‪ )(329‬انظر ‪ ":‬ديوان الخنساء" (ص ‪)120‬‬
‫‪" )(330‬شرح معاني الثار" (‪.)1/265‬‬
‫‪ )(331‬انظر ‪ ":‬كشف الستار" (‪.)1/272‬‬

‫‪90‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬فإن قيهل‪ :‬لم عدل عهن الوصهف بالرسهالة إلى الوصهف بالنبوة‪ ،‬مهع أن الوصهف‬
‫بالرسالة أعم في حق البشر؟‬
‫أجاب بعضهم‪ :‬بأن الحكمة فيه أن يجمع له الوصفين؛ لنه وصفه بالرسالة في آخر التشهد‪ ،‬وإن‬
‫كانت الرسالة تستلزم النبوة‪ ،‬لكن الجمع بينهما أبلغ"(‪ ،)332‬ولنها وجدت في الخارج مقدمة على الرسالة‬
‫في الوحي كما في قوله –تعالى‪{ :-‬ا ْقرَأْ بِاسْ ِم رَ ّبكَ اّلذِي خََلقَ} (‪.)333‬‬
‫ص ‪120‬‬
‫قال‪" :‬باب قول ال –تعالى‪{ :-‬مَِلكِ النّاسِ} فيه ابن عمر عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪." -‬‬
‫الملك هو‪ :‬المتصرف بالشياء حسب إرادته‪ ،‬ومشيئته‪ ،‬ل راد لمره‪ ،‬ول معقب لحكمه‪.‬‬
‫وخهص الناس؛ لنههم الذيهن يملكون بعهض الشياء‪ ،‬وفيههم ملوك فههو‪ -‬تعالى‪ -‬ملك مهن يملك‪،‬‬
‫وملك الملوك‪ ،‬فدخل غيرهم في المعنى‪ ،‬وملكه – تعالى – دائم ل يزول‪.‬‬
‫قال الطبري‪ :‬أخبر أنه ملك الناس "وهو ملك جميع الخلق‪ ،‬إنسهم وجنهم وغير ذلك‪ ،‬إعلما منه‬
‫بذلك من كان يع ظم الناس تعظ يم المؤمن ين رب هم‪ ،‬أ نه ملك من يعظ مه‪ ،‬وأن ذلك في مل كه و سلطانه‪،‬‬
‫(‪)334‬‬
‫تجري عليه قدرته‪ ،‬وأنه أولى بالتعظيم‪ ،‬وأحق بالتعبد له ممن يعظمه‪ ،‬وتعبد له من الناس" ا‪.‬هه‪.‬‬
‫قال الراغب‪ " :‬الملك هو‪ :‬المتصرف بالمر والنهي"(‪.)335‬‬
‫وقال الزجاج‪ " :‬قال أصحاب المعاني‪ :‬الملك‪ :‬النافذ المر في ملكه‪ ،‬إذ ليس كل مالك ينفذ أمره‬
‫وتصرفه فيما يملكه‪ ،‬فالملك أعم من المالك‪ ،‬وال –تعالى‪ -‬مالك المالكين كلهم‪ ،‬إنما استفادوا التصرف‬
‫في أملكهم من جهته –تعالى‪.)336("-‬‬
‫وقال ال طبري‪ " :‬ول خلف ب ين جم يع أ هل المعر فة بلغات العرب أن الملك من الملك مش تق؛‬
‫وأن المالك من الملك(‪)337‬مأخوذ‪ ،‬فتأويل قراءة من قرأ "مالك يوم الدين" أن ل الملك يوم الدين خالصا؛‬
‫دون جميهع خل قه الذيهن كانوا قبهل ذلك فهي الدنيها ملوكا جبابرة‪ ،‬ينازعونهه الملك‪ ،‬ويدافعو نه النفراد‬
‫بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية‪ ،‬فأيقنوا بلقاء ال يوم الدين أنهم الصغرة الذلة‪ ،‬وأن له – دونهم‬
‫ودون غيرهم – الملك والكبرياء‪ ،‬والعزة والبهاء‪ ،‬كما قال‪ -‬جل ذكره‬
‫ص ‪121‬‬

‫‪ )(332‬انظر ‪ ":‬الفتح" (‪.)2/314‬‬


‫‪ )(333‬الية ‪ 1‬من سورة العلق‪.‬‬
‫‪" )(334‬تفسير الطبري" (‪.)30/354‬‬
‫‪" )(335‬المفردات" (ص ‪.)472‬‬
‫‪" )(336‬تفسير السماء الحسنى" (ص ‪.)30‬‬
‫‪ )(337‬الول بضم اليم والثاني بكسرها ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫حدِ‬
‫ك ا ْليَوْ َم لِلّ هِ ا ْلوَا ِ‬
‫ن ا ْلمُلْ ُ‬
‫شيْ ٌء ّلمَ ِ‬
‫ن ل َيخْفَى عَلَى اللّ هِ ِم ْنهُ مْ َ‬
‫وتقدست أسماؤه ‪{ :-‬يَوْ مَ هُم بَارِزُو َ‬
‫الْ َقهّارِ} (‪ ،)338‬فأخهبر – تعالى ذكره‪ -‬أنهه المنفرد يومئذ بالملك‪ ،‬دون ملوك الدنيها‪ ،‬الذيهن صهاروا يوم‬
‫الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار‪ ،‬ومن دنياهم في معادهم إلى خسار"(‪.)339‬‬
‫قوله‪ " :‬فيه ابن عمر" أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر‪ ،‬وهو كحديث أبي هريرة المذكور‬
‫في هذا الباب سواء‪ ،‬وسيأتي إن شاء ال – تعالى‪.-‬‬
‫ص ‪122‬‬
‫‪-12‬قال‪ " :‬حدثنا أحمد بن صالح‪ ،‬حدثنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني يونس‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن سعيد‪-‬‬
‫هو ابن المسيب‪ -‬عن أبي هريرة – رضي ال عنه‪ -‬عن النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ ":‬يقبض ال‬
‫الرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين ملوك الرض؟"‪.‬‬
‫أبو هريرة عرف بكنيته‪ ،‬واختلف في اسمه واسم أبيه اختلفا كثيرا‪ ،‬وصحح البخاري والنووي‬
‫وغيرهما من الحفاظ أن اسمه عبد الرحمن بن صخر‪.‬‬
‫قدم على النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬مسلما وهو يقسم غنائم خيبر‪ ،‬ثم لزم رسول ال‪-‬صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬حضرا وسفرا‪ ،‬فلم يشغله عن ملزمته أهل ول مال‪.‬‬
‫وهو أحفظ الصحابة‪ ،‬بل أحفظ المة‪ ،‬ولهذا صار هدفا لهل اللحاد بسبب كثرة ما يغضبهم من‬
‫مروياته‪.‬‬
‫(‪)340‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬أبو هريرة أحفظ من روى الحديث دهرا‪.‬‬
‫جاء في "صحيح مسلم" في قصة إسلم أمه‪ ،‬أنه قال‪ ":‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ادع ال أن يحببني ال‬
‫أنا وأمي إلى عباده المؤمنين‪ ،‬ويحببهم إلينا؟ فقال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬اللهم حبب عبدك هذا‬
‫وأمه إلى عبادك المؤمنين‪ ،‬وحبب إليهما المؤمنين"‪.‬‬
‫قال أبو هريرة‪ " :‬فما خلق ال مؤمنا يسمع بي‪ ،‬ول يراني‪ ،‬إل أحبني"(‪.)341‬‬
‫ولهذا صار حبه علمة اليمان‪ ،‬وبغضه علمة النفاق والكفر‪.‬‬
‫توفي‪ -‬رضي ال عنه‪ -‬في المدي نة‪ ،‬وقيل‪ :‬بالعقيق‪ ،‬سنة سبع‪ -‬أو تسع – وخم سين عن ثمان‬
‫(‪)342‬‬
‫وسبعين سنة‪.‬‬

‫‪ )(338‬الية ‪ 16‬من سورة غافر ‪.‬‬


‫‪" )(339‬تفسير الطبري" (‪.)149-1/148‬‬
‫‪ )(340‬انظر ‪ ":‬تهذيب السماء واللغات" (‪.)1/270‬‬
‫‪" )(341‬صحيح مسلم" (‪.)4/1939‬‬
‫‪ )(342‬انظر ‪ " :‬الصابة" (‪" ، )7/425‬سير أعلم النبلء" (‪" ،)2/578‬الستيعاب" (‪" ، )4/1768‬أسد‬
‫الغابة" (‪ )6/318‬وغيرها ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫قوله‪ " :‬يق بض ال الرض يوم القيا مة‪ ،‬ويطوي ال سماء بيمي نه"‪ ،‬الق بض هو‪ :‬أ خذ الش يء بال يد‬
‫وجمعه‪ ،‬والطي هو ملقاة الشيء بعضه على بعض‪ ،‬وجمعه – ولفه‪ -‬وهو قريب من القبض‪ ،‬وهذا‬
‫من صفات ال –تعالى‪ -‬الفعلية – التي تتعلق‬
‫ص ‪123‬‬
‫بمشيئ ته وإراد ته‪ ،‬و هي ثاب تة بآيات كثيرة وأحاد يث صحيحة عن ر سول ال – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ ،-‬وهي مما يجب اليمان به؛ لن ذلك داخل في اليمان بال – تعالى‪ ،-‬ويحرم تأويلها المخرج‬
‫لمعانيها عن ظاهرها‪ ،‬وقد دل على ثبوتها ل –تعالى – العقل أيضا‪ ،‬فإنه ل يمكن لمن نفاها إثبات أن‬
‫ال هو الخالق لهذا الكون المشا هد‪ ،‬لن الف عل ل بد له من فا عل‪ ،‬والفا عل ل بد له من ف عل‪ ،‬ول يس‬
‫هناك ف عل معقول إل ما قام بالفا عل‪ ،‬سواءً كان لزما كالنزول والمج يء‪ ،‬أو متعديا كالق بض وال طي‪،‬‬
‫فحدوث ما يحدثه – تعالى – من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الختيارية القائمة به – تعالى ‪.-‬‬
‫و هو –تعالى‪ -‬حي قيوم‪ ،‬فعال ل ما ير يد‪ ،‬ف من أن كر قيام الفعال الختيار ية به – تعالى‪343(-‬فإن‬
‫مع نى ذلك أ نه ين كر خل قه لهذا العالم المشا هد‪ ،‬وغ ير المشا هد‪ ،‬وين كر قوله‪ :‬إ نه على كل ش يء قد ير‪،‬‬
‫(‪)344‬‬
‫فالعقل دل على ما جاء به الشرع‪.‬‬
‫وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي‪ ،‬قد جاء صريحا أيضا في كتاب ال ‪-‬تعالى‪،-‬‬
‫ت َمطْ ِويّا تٌ‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ الْ ِقيَامَةِ وَال سّماوَا ُ‬
‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫لرْ ضُ َ‬
‫حقّ َق ْدرِ هِ وَا َ‬
‫كما قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ومَا َق َدرُوا اللّ هَ َ‬
‫(‪)345‬‬
‫شرِكُونَ}‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫س ْبحَانَ ُه َو َتعَالَى َ‬
‫ِب َيمِينِ ِه ُ‬
‫والحاد يث والثار عن ال سلف في صريح ال ية‪ ،‬والحد يث المذكور في الباب‪ ،‬كثيرة وظاهرة‬
‫ل ول تحتاج إلى تف سير‪ ،‬ولهذا صار تأويل ها تحريفا وإلحادا في ها‪ ،‬و سيأتي – إن‬
‫جل ية‪ ،‬ل تحت مل تأوي ً‬
‫شاء ال تعالى – ذكر ما تيسر من ذلك في باب قوله – تعالى‪ِ{ :-‬لمَا خَلَقْتُ ِب َي َديّ}‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين ملوك الرض؟" أي‪ :‬أنه –تعالى‪ -‬ينفرد بالملك‪ ،‬فهو الملك حقا‬
‫الذي ل منازع له‪ ،‬ول معاون‪ ،‬ول ظهيهر‪ ،‬ول شريهك‪ ،‬وفهي ذلك اليوم‪ ،‬عندمها يقبهض الرض بيده‪،‬‬
‫ويطوي السماوات بيمينه‪ ،‬ويصبح كل شيء في قبضته‪ ،‬ينادي الذين كانوا ينازعونه في الدنيا ملكه‪،‬‬
‫ويتعدون على سهلطانه‪ ،‬مهن المتكهبرين‪ ،‬والمتجهبرين‪ ،‬مهن ملوك الدنيها‪ ،‬وقهد انفرد مالك الملك الواحهد‬
‫القهار‪ ،‬ذي‬
‫ص ‪124‬‬

‫‪ )(343‬قلنا ‪ :‬الختيارية ؛ لنها تقع باختياره –تعالى‪ -‬وإرادته ومشيئته ‪.‬‬


‫‪ )(344‬أنصح القارئ بالرجوع في هذه المسألة العظيمة ‪ :‬إلى كتب شيخ السلم ابن تيمية ‪ ،‬كدرء تعارض‬
‫العقل والنقل والرسالة الكمالية ‪ ،‬وغيرهما من كتبه ‪.‬‬
‫‪ )(345‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫السلطان – وهو منفرد به في كل آن‪ ،‬غير أنه في ذلك اليوم ينكشف جليا – فيناديهم بما يتضمن‬
‫توبيخهم وتهديدهم‪ :‬أين ملوك الدنيا؟ فهل يستطيعون منعا أو ردا؟ وهل لديهم قوة أو حيلة أو فدى؟ لقد‬
‫ذهب منهم كل شيء‪ ،‬وبقيت التبعات والذل والحسرات‪.‬‬
‫ِكه النّاسهِ} داخهل فهي معنهى التحيات ل‪ ،‬أي‪ :‬الملك ل‪،‬‬
‫قال بعهض شراح البخاري‪ ":‬قوله‪{ :‬مَل ِ‬
‫وكأنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أمرهم بأن يقولوا التحيات‪ ،‬امتثالً لمر {قُلْ أَعُوذُ ِبرَبّ النّاس {‪ }1‬مَلِ كِ‬
‫النّاسِ}"‪.‬‬
‫ثم قال‪ " :‬و في الحد يث إثبات اليم ين صفة ل – تعالى ‪ ،-‬من صفات الذات‪ ،‬ولي ست جار حة‬
‫خلفا للمجسمة"(‪.)346‬‬
‫قلت‪ :‬قوله‪ " :‬وليست جارحة" من كلم أهل البدع‪ ،‬الذين عدلوا عما جاء في الكتاب والسنة من‬
‫اللفاظ إلى ما ابتدعوه من اللفاظ الموهمة للنقص –تعالى ال‪ ،-‬توهما منهم أن تلك اللفاظ الواردة في‬
‫كتاب ال‪ ،‬و سنة ر سوله‪ ،‬يتض من ظاهر ها الت شبيه ل صفات الخلق‪ ،‬وهذا من ظن ال سوء بال وبكتا به‬
‫وبرسوله‪ ،‬الذي أرداهم فضلوا سواء السبيل‪ ،‬وأضلوا كثيرا من عباد ال‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬خلفا للمجسمة" يقال له‪ :‬من هم المجسمة الذين تقصدهم؟ وهل تستطيع أن تعين طائفة‬
‫فهؤلء ل وجود ل هم‪،‬‬ ‫(‪)347‬‬
‫تؤ من بكتاب ال و سنة ر سوله تقول‪ :‬إن يم ين ال جار حة؟ أو أن ال ج سم؟‬
‫ول كن مراده‪ :‬الذ ين آمنوا بم ثل هذا ال نص على ظاهره‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن ل يد ين حقيقت ين بدون تأو يل‪ ،‬ك ما‬
‫هو الواجب على الم سلم؛ لنه صريح الن صوص‪ ،‬وأيقنوا أن تأويل اليد واليمين‪ ،‬ونحوها من صفات‬
‫ال‪ ،‬بالقوة‪ ،‬أو القدرة‪ ،‬أو النعمهة‪ ،‬أو مها أشبهه ذلك‪ ،‬تحريهف كتحريهف اليهود الذيهن حرفوا الكلم عهن‬
‫مواضعه‪.‬‬
‫ص ‪125‬‬
‫فهذا الشارح ومهن على نهجهه إلى اليوم يسهمون هؤلء مجسهمة‪ ،‬ظنا منههم أن مهن أثبهت هذه‬
‫ال صفات على ظاهر ها‪ ،‬لز مه أن يكون مج سما لر به‪ ،‬ومشبها له بأج سام الخلق‪ ،‬تعالى ال أن يكون له‬
‫مثل أو شبيه‪.‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪" :‬ول يس هناك من أطلق ل فظ الج سم‪ ،‬ل كن نفاة ال صفات ي سمون كل من أثبت ها‬
‫مجسهما‪ ،‬بطر يق اللزوم‪ ،‬إذ كانوا يقولون‪ :‬إن ال صفات ل تقوم إل بالج سم‪ ،‬وذلك أن هم ا صطلحوا في‬
‫معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة‪ ،‬فإن الجسم في اللغة هو البدن‪ ،‬وهم يسمون كل ما‬

‫‪" )(346‬فتح الباري" (‪.)13/368‬‬


‫‪ )(347‬الذين نسبوا إلى التجسيم وذكرهم أصحاب المقالت بأسمائهم ‪ :‬هشام بن الحكم ‪ ،‬وهشام ابن سالم‬
‫الجواليقي ‪ ،‬ومقاتل بن سليمان ‪ ،‬وداود الجواربي ‪ ،‬وكلهم رافضة ‪ ،‬ما عدا مقاتل بن سليمان فإنه لم يثبت‬
‫أنه قال بالتجسيم ‪ ،‬وليس هو من الرافضة ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫يشار إل يه ج سما‪ ،‬فيلزم على قول هم أن كل ما جاء به الكتاب وال سنة و ما ف طر ال عل يه عباده‪ ،‬و ما‬
‫{عليه} سلف المة‪ ،‬وأئمتها‪ ،‬تجسيما‪ ،‬فهم يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة‪ ،‬على أتباع السلف"(‪.)348‬‬
‫وقال‪ " :‬لفهظ الجسهم لم يتكلم بهه أحهد مهن الئمهة والسهلف‪ ،‬فهي حهق ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ل نفيا ول‬
‫إثباتا‪ ،‬ول ذموا أحدا ول مدحوه بهذا ال سم‪ ،‬ول ذموا مذهبا ول مدحوه بهذا ال سم‪ ،‬وإن ما توا تر عن هم‬
‫ذم الجهمية‪ ،‬الذين ينفون الصفات‪ ،‬وذموا طوائف منهم‪ ،‬مثل المشبهة‪ ،‬وبينوا مرادهم بالمشبهة"(‪.)349‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬الذي يظ هر لي أ نه أشار {بهذه الترج مة} إلى ما قاله شي خه نع يم بن حماد‪ ":‬يقال‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ} فل يجيبه‬
‫ن ا ْلمُلْ كُ ا ْليَوْ َم لِلّ ِه الْوَا ِ‬
‫للجهمية‪ :‬أخبرونا عن قول ال ‪-‬تعالى‪ -‬بعد فناء خلقه‪ّ{ ،‬لمَ ِ‬
‫(‪)350‬‬
‫حدِ الْ َقهّارِ} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم‪ ،‬أفهذا مخلوق؟"‬
‫أحد‪ ،‬فيرد على نفسه‪{ :‬لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫قلت‪ :‬يظ هر لي أن مراده بهذا الباب كالباب الذي قبله‪ ،‬أن هذا ال سم الكر يم (الملك) من أ سماء‬
‫ال الحسنى‪ ،‬وقد أطلق على بعض خلقه‪ ،‬ولم يكن في ذلك‬
‫ص ‪126‬‬
‫ت شبيه‪ ،‬إذ المع نى الذي يخ تص به ال ‪-‬تعالى‪ -‬ل يشار كه ف يه أ حد من خل قه‪ ،‬ف هو مالك الملك‪،‬‬
‫وله الملك التام المطلق‪ ،‬وهو الذي يهب للمخلوق الملك‪ ،‬مع أن ملك المخلوق ناقص يناسب نقصه‪ ،‬قال‬
‫ك تُ ْؤتِي ا ْلمُلْكَ مَن َتشَاء َوتَنزِعُ ا ْلمُلْكَ ِممّن َتشَاء َو ُت ِعزّ مَن َتشَاء َو ُتذِلّ مَن‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬قُلِ الّل ُهمّ مَالِكَ ا ْلمُلْ ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ} (‪.)351‬‬
‫ل َ‬
‫خيْ ُر ِإ ّنكَ عََلىَ كُ ّ‬
‫َتشَاء ِب َي ِدكَ ا ْل َ‬
‫وأما التوفيق بين الحديث‪ ،‬والترجمة فظاهر‪ ،‬وهو أن الناس الذين يوجد منهم الملوك والجبابرة‪،‬‬
‫والذين يذل لهم ويخضع بعض العباد‪ ،‬وقد يصرفون لهم ما هو خالص حق ال من العبادة‪ ،‬هؤلء ملك‬
‫له‪ ،‬تحت قهره‪ ،‬آخذ بنواصيهم‪ ،‬يتصرف فيهم كيف يشاء‪ ،‬ويظهر ذلك جليا لكل أحد‪ ،‬يوم يقبض ال‬
‫الرض ويطوي ال سماوات بيمي نه‪ ،‬ويقول‪ :‬أ نا الملك‪ ،‬أ ين ملوك الرض؟ فيعرف قدر هم وقدر ملك هم‬
‫الذي أورثهم الذل والصغار‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪" )(348‬بيان تلبيس الجهمية" (‪.)1/626‬‬


‫‪ )(349‬نفس المصدر (‪ ، )1/47‬ومراد السلف بالمشبهة‪ :‬الذين يمثلون صفاته تعالى بصفات خلقه ‪ ،‬نحو اليد‬
‫والوجه ‪ ،‬فيجعلون يده تعالى كيد المخلوق ‪ ،‬ووجهه كوجه المخلوق ‪ ،‬تعالى ال عن ذلك ‪.‬‬
‫‪" )(350‬الفتح" (‪.)13/368‬‬
‫‪ )(351‬الية ‪ 26‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ص ‪127‬‬
‫عمّا يَصِفُونَ}‬
‫س ْبحَانَ َربّكَ رَبّ ا ْل ِعزّةِ َ‬
‫حكِيمُ} (‪ُ { ،)352‬‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَهُ َو ا ْل َعزِيزُ ا ْل َ‬
‫(‪{ ،)353‬وَلِلّ ِه ا ْل ِعزّةُ وَِلرَسُوِلهِ} (‪ ،)354‬ومن حلف بعزة ال‪ ،‬وصفاته"‪.‬‬
‫{العزيز} هو الذي له العزة التامة‪ ،‬والقوة الكاملة‪ ،‬فل يعجزه شيء‪ ،‬القاهر لكل شيء فل يمتنع‬
‫من قوته شيء‪ ،‬المنيع الذي ل ينال ول يغالب‪.‬‬
‫"فالعزة تتضمهن القوة‪ ،‬ول القوة جميعا‪ ،‬يقال‪ :‬عهز يعهز – بفتهح العيهن‪ -‬إذا اشتهد وقوى‪ ،‬ومنهه‬
‫الرض العزاز – ال صلبة الشديدة – وي عز ي عز – بك سر الع ين‪ -‬إذا امت نع م من يرو مه‪ ،‬وي عز ي عز –‬
‫بضم العين – إذا غلب وقهر‪.‬‬
‫فأعطوا أقوى الحركات – وهي الضمة‪ -‬لقوى المعاني‪ ،‬وهو الغلبة والقهر للغير‪ ،‬وأضعفها –‬
‫وهي الفتحة – لضعف هذه المعاني‪ ،‬وهو كون الشيء في نفسه صلبا‪ ،‬والحركة المتوسطة – وهي‬
‫الكسرة – للمعنى المتوسط‪ ،‬وهو القوي الممتنع عن غيره‪ ،‬ول يلزم منه أن يقهر غيره‪ ،‬ويغلبه‪.‬‬
‫وال عز ضد الذل‪ ،‬والذل أ صله الض عف والع جز‪ ،‬فال عز يقت ضي كمال القدرة‪ ،‬ولهذا يو صف به‬
‫المؤمن‪ ،‬ول يكون ذما له‪ ،‬بخلف الكبر‪.‬‬
‫قال رجل للحسن البصري‪ :‬إنك متكبر‪ ،‬فقال‪ ":‬لست بمتكبر‪ ،‬ولكني عزيز"‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وَلِلّهِ ا ْل ِعزّةُ وَِل َرسُوِلهِ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} (‪.)355‬‬
‫وقال ابن مسعود‪ ":‬ما زلنا أعزة‪ ،‬منذ أسلم عمر"(‪.)356‬‬
‫ص ‪128‬‬
‫وقال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ " -‬اللهم أعز السلم بأحد هذين الرجلين‪ ،‬عمر بن الخطاب‪،‬‬
‫أو أبي جهل بن هشام"(‪.)357‬‬
‫وفي بعض الثار‪ ":‬إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك‪ ،‬ول يجدونها إل في طاعة ال –‬
‫عز وجل – "‪.‬‬
‫وفي الحديث‪ ":‬اللهم أعزنا بطاعتك‪ ،‬ول تذلنا بمعصيتك"‪.‬‬

‫‪ )(352‬الية ‪ 4‬من سورة إبراهيم ‪ ،‬و الية ‪ 60‬من سورة النحل ‪ ،‬و الية ‪ 42، 26‬من سورة العنكبوت أيضاً‬
‫‪ ،‬و الية ‪ 27‬من سورة الروم ‪ ،‬و الية ‪ 9‬من سورة لقمان ‪ ،‬و الية الثانية من سورة فاطر ‪ ،‬و الية‬
‫الولى من سورة الحديد ‪ ،‬و الية الولى من سورة الحشر ‪ ،‬و الخيرة منها ‪ ،‬و الية الولى من سورة‬
‫الصف ‪ ،‬و الية الثالثة من سورة الجمعة ‪.‬‬
‫‪ )(353‬الية ‪ 180‬من سورة الصافات ‪.‬‬
‫‪ )(354‬الية ‪ 8‬من سورة المنافقون ‪.‬‬
‫‪ )(355‬الية ‪ 8‬من سورة المنافقون ‪.‬‬
‫‪ )(356‬رواه البخاري وغيره ‪ ،‬انظر ‪ ":‬الفتح" (‪.)7/41‬‬
‫‪ )(357‬قال الهيثمي‪ :‬رواه الطبراني في "الكبير" و "الوسط" ‪ ،‬انظر ‪" :‬مجمع الزوائد" (‪.)9/61‬‬

‫‪96‬‬
‫وقال بعضههم‪ ":‬مهن أراد عزا بل سهلطان‪ ،‬وكثرة بل عشيرة‪ ،‬وغنهى بل مال‪ ،‬فلينتقهل مهن ذل‬
‫المعصية إلى عز الطاعة"‪.‬‬
‫فالعزة من جنس القوة" اهه(‪.)358‬‬
‫قال الحا فظ‪ ":‬العز يز الذي يق هر ول يق هر‪ ،‬فإن العزة ال تي ل –تعالى‪ -‬هي الدائ مة الباق ية و هي‬
‫العزة الحقيقية الممدوحة‪ ،‬وقد تستعار العزة للحمية والنفة‪ ،‬فيوصف بها الكافر والفاسق‪ ،‬وهي صفة‬
‫ن ُيرِيدُ ا ْل ِعزّ َة فَلِلّ هِ ا ْل ِعزّةُ‬
‫مذمو مة‪ ،‬وم نه قوله –تعالى‪{ :-‬أخذ ته العزة بال ثم} (‪ ،)359‬وأ ما قوله‪{ :‬مَن كَا َ‬
‫جمِيعًا} (‪ ،)360‬فمعناه‪ :‬من كان يريد أن يعز‪ ،‬فليكتسب العزة من ال‪ ،‬فإنها ل تنال إل بطاعته‪ ،‬ومن ثم‬
‫َ‬
‫أثبتها لرسوله وللمؤمنين‪ ،‬فقال –تعالى‪{ :-‬وَلِلّ هِ ا ْل ِعزّةُ وَِلرَ سُوِلهِ} (‪ ،)361‬وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة‪،‬‬
‫خطَا بِ} (‪ ،)363‬وبمعنى‬
‫عزّنِي فِي ا ْل ِ‬
‫ع ِنتّ مْ} (‪ ،)362‬وبمعنى الغلبة ومنه { َو َ‬
‫عزِيزٌ عََليْ ِه مَا َ‬
‫كقوله –تعالى‪َ { :-‬‬
‫القلة‪ :‬كقولهم‪ :‬شاة عزوز‪ ،‬إذا قل لبنها‪ ،‬وبمعنى المتناع‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬أرض عزاز‪ ،‬بفتح أوله مخففا"‬
‫ا‪.‬هه(‪.)364‬‬
‫ص ‪129‬‬
‫{الحكيم} هو الذي يضع الشياء مواضعها التي يحسن أن توضع فيها‪ ،‬ول يدخل تدبيره خلل ول‬
‫زلل‪ ،‬وهذا من أسمائه ‪-‬تعالى‪ -‬الحسنى التي كثر ذكرها‪ ،‬في القرآن‪ ،‬وما جاء عن رسول ال –صلى‬
‫ال عل يه و سلم‪ -‬و هو ‪-‬تعالى‪ -‬مو صوف بالحك مة‪ ،‬و قد دل على ذلك شر عه ‪-‬تعالى‪ -‬وخل قه‪ ،‬ف من‬
‫الضلل إنكار ذلك‪ ،‬وك فى بالمرء ضللً أن ين في عن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ما و صف به نف سه‪ ،‬وو صفه به‬
‫رسله‪.‬‬
‫ن َربّ كَ} " أ صل الت سبيح ع ند العرب‪ :‬التنز يه ل عن إضا فة ما ل يس من صفاته إل يه‪،‬‬
‫سبْحَا َ‬
‫{ ُ‬
‫والتبري من ذلك‪ ،‬كما قال أعشى بني ثعلبة‪:‬‬
‫أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر‬
‫أي‪ :‬سبحان ال من فخر علقمة‪ ،‬أي تنزيها ل مما أتي علقمة من الفتخار على وجه التكبر منه‬
‫لذلك"(‪.)365‬‬

‫‪" )(358‬طريق الهجرتين" (ص ‪)109‬‬


‫‪ )(359‬الية ‪ 206‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(360‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر ‪.‬‬
‫‪ )(361‬الية ‪ 8‬من سورة المنافقين ‪.‬‬
‫‪ )(362‬الية ‪ 128‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ )(363‬الية ‪ 23‬من سورة ص‪.‬‬
‫‪" )(364‬الفتح" (‪ )13/369‬وذكر أن هذا كلم الراغب ‪ ،‬ولكن الحافظ تصرف فيه وغير وزاد ونقص‪،‬‬
‫ولهذا أضفته إليه ‪.‬‬
‫‪ )(365‬ابن جرير الطبري في "تفسيره" (‪.)1/211‬‬

‫‪97‬‬
‫وقال أيضا‪ ":‬وسبحان‪ :‬اسم مصدر‪ ،‬ل تصرف له‪ ،‬ومعناه‪ :‬نسبحك"(‪.)366‬‬
‫و في "تاج العروس"‪ " :‬و سبحانه‪ :‬تنزي ها ل عن كل ما ل ينب غي أن يو صف به‪ ،‬قال الزجاج‪:‬‬
‫سبحان في اللغة‪ :‬تنزيها ل – عز وجل – عن السوء"(‪.)367‬‬
‫فالتسبيح‪ :‬تنزيه ال – تعالى‪ -‬عما ل يليق بعظمته‪ ،‬مأخوذ من السبح‪ ،‬وهو البعاد والسرعة في‬
‫ال سير‪ ،‬يقال‪ :‬فرس سبوح‪ ،‬إذا كا نت ت سرع في ال سبح الذي هو ال سير والجري‪ ،‬وم نه قوله ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫س ْبحًا} فسرت بالخيل‪ ،‬وبالسفن‪ ،‬وبالنجوم‪ ،‬وكلها تسبح وتبعد في سبحها‪.‬‬
‫{وَالسّا ِبحَاتِ َ‬
‫س ْبحَانَ َربّ كَ رَبّ ا ْلعِزّةِ} أي ذي العزة وصاحبها‪ ،‬فرب هنا بمعنى ذي وصاحب‪ ،‬والعزة‬
‫وقوله { ُ‬
‫صفته‪ ،‬فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة‪ ،‬وأخذ اسمه تعالى "العزيز" منها‪.‬‬
‫هفُونَ} أي‪ :‬تنزيهها وتقديسها لذي العزة التهي ل ترام‪ ،‬عهن الذي يصهفه بهه‬
‫عمّاه يَص ِ‬
‫وقوله‪َ { :‬‬
‫المشركون‪ ،‬من أن له صاحبة أو ولدا‪ ،‬أو شريكا‪ ،‬أو وليا من الذل‪ ،‬أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه‪،‬‬
‫أو أن أحدا يتصرف في ملكه بدون إرادته ومشيئته‪.‬‬
‫ص ‪130‬‬
‫وتنزيها لذي العزة التهي غلب بهها كهل شيهء عمها يقوله المعطلون لصهفاته‪ ،‬حيهث أنكروهها أو‬
‫أولوهها تأويلً يؤول إلى إنكارهها‪ ،‬وتنزيها له ‪-‬تعالى‪ -‬عمها يقوله المحرفون الملحدون فهي صهفاته‬
‫الظانون بال ظن السوء‪ ،‬حيث توهموا أن اتصافه ‪-‬تعالى‪ -‬بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله –‬
‫صلى ال عليه وسلم – يقتضي التشبيه‪ ،‬فحرفوا صفاته عما أراده بناء على أوهامهم الباطلة‪.‬‬
‫وقوله‪{ :‬وَلِلّ ِه ا ْل ِعزّةُ وَِلرَسُوِلهِ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} أي‪ :‬ل القوة والغلبة والقهر‪.‬‬
‫والعزة من صفات ذا ته –تعالى‪ -‬ال تي ل تن فك ع نه‪ ،‬بعز ته وق هر ب ها كل ش يء‪ ،‬و كل عزة‬
‫حصلت لخلقه فهي منه‪ ،‬وكل من كان إليه أقرب وله أطوع كانت عزته أتم وأكمل من غيره‪ ،‬ولهذا‬
‫قال تعالى‪{ :‬وَلِلّ ِه ا ْل ِعزّةُ وَِلرَ سُوِلهِ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِي نَ} و سبب نزول هذه ال ية الكري مة قول رأس المنافق ين ع بد‬
‫لذَلّ} (‪ ،)368‬كما‬
‫عزّ ِم ْنهَا ا َ‬
‫ال بن أبي بن سلول الذي ذكره ال عنه‪َ{ :‬لئِن ّرجَ ْعنَا إِلَى ا ْل َمدِينَ ِة َل ُيخْ ِرجَنّ الَ َ‬
‫ث بت في "ال صحيحين" وغيرهما(‪ ،)369‬يق صد بال عز‪ :‬نف سه وذو يه‪ ،‬وبالذل‪ :‬ر سول ال صلى ال عل يه‬
‫وسلم – وأصحابه‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬و من حلف بعزة ال و صفاته"‪ .‬و صفاته‪ :‬من ع طف العام على الخاص‪ ،‬ومراده‪ :‬أ نه قد‬
‫ثبتت النصوص بالحلف بعزة ال وبصفاته‪ ،‬نحو كلماته‪ ،‬وقد تقرر في دين السلم‪ ،‬أنه ل يحلف بغير‬

‫‪ )(366‬المصدر نفسه (‪.)1/221‬‬


‫‪" )(367‬تاج العروس" (‪.)2/156‬‬
‫‪)(368‬الية ‪ 8‬من سورة المنافقون‪.‬‬
‫‪ )(369‬انظر‪ :‬البخاري مع"الفتح" (‪ ،)8/644‬و"مسلم" (‪.)4/1998‬‬

‫‪98‬‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬وأن الحلف بغيره شرك ك ما صح عن الر سول – صلى ال عل يه و سلم – أ نه قال‪ " :‬من‬
‫وعند أبي داود‪" ،‬من حلف بغير ال فقد أشرك"(‪.)371‬‬ ‫حلف بغير ال‪ ،‬فقد كفر أو أشرك"‬
‫(‪)370‬‬

‫وعنده أيضا عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬ل تحلفوا بآبائكم ول‬
‫بأمهاتكم‪ ،‬ول بالنداد‪ ،‬ول تحلفوا إل بال‪ ،‬ول تحلفوا بال إل وأنتم صادقون"(‪.)372‬‬
‫ص ‪131‬‬
‫وفي"الصحيحين" عن عبد ال بن عمر‪ ،‬أن رسول ال –صلى ال عليه وسلم – أدرك عمر بن‬
‫الخطاب و هو ي سير في ر كب‪ ،‬يحلف بأب يه‪ ،‬فقال‪" :‬أل إن ال ينها كم أن تحلفوا بآبائ كم‪ ،‬من كان حالفا‬
‫بال أو ليصمت"(‪.)373‬‬
‫وبهذا يتهبين أن الحلف بقدرة ال وعزتهه وسهائر صهفاته‪ ،‬أنهه كالحلف بهه‪-‬تعالى‪ ،-‬وأن صهفاته‬
‫ليست مخلوقة؛ لنه ل يجوز الحلف بالمخلوق‪ ،‬ول منفصلة عنه‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫وبهذا يظهر مراد البخاري –رحمه ال‪ -‬بهذا الباب وهو إثبات الصفات ل –تعالى‪ ،-‬والرد على‬
‫من أنكرها كالمعتزلة‪ ،‬ومن تابعهم‪ ،‬وقد تقدم الكلم في ذلك‪.‬‬
‫قال الحا فظ‪" :‬والذي يظ هر أن مراد البخاري بالترج مة‪ :‬إثبات العزة ل‪ ،‬رادا على من قال‪ :‬إ نه‬
‫عزيز بل عزة‪ ،‬كما قالوا‪ :‬العليم بل علم"(‪.)374‬‬
‫قلت‪ :‬ل يقصد إثبات العزة بخصوصها‪ ،‬بل مع سائر الصفات كما هو ظاهر‪.‬‬
‫قوله‪" :‬وقال أنس‪ :‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬تقول جهنم‪ :‬قط قط وعزتك"‪.‬‬
‫وقال أبو هريرة‪ :‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم ‪ :-‬يبقى رجل بين الجنة والنار‪ ،‬وهو آخر‬
‫أهل النار دخولً الجنة‪ ،‬فيقول‪ :‬رب أصرف وجهي عن النار‪ ،‬ل أسألك غيرها"‪.‬‬
‫قال أبهو سهعيد‪ :‬إن رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم – قال‪" :‬قال ال –عهز وجهل‪" :-‬لك ذلك‬
‫وعشرة أمثاله"‪.‬‬
‫وقال أيوب‪" :‬وعزتك‪ ،‬ل غنى بي عن بركتك"‪.‬‬
‫هذه المعلقات قد روا ها مو صولة‪ ،‬فحد يث أ نس سيذكره في هذا الباب مو صولً‪ ،‬وحد يث أ بي‬
‫هريرة يأ تي كذلك‪ ،‬و قد تقدم أيضا في الرقاق‪ ،‬وقول أيوب عل يه ال سلم قد رواه في الوضوء‪ ،‬و في‬
‫أحاديث النبياء‪.‬‬

‫‪)(370‬رواه الترمذي وقال‪ :‬حسن‪ ،‬انظر‪ :‬الترمذي مع "تحفة الحوذي" (‪.)2/371‬‬


‫‪")(371‬السنن" (‪ ،)3/570‬ورواه أحمد في "مسنده" (‪.)2/34‬‬
‫‪")(372‬السنن" (‪.)3/569‬‬
‫‪)(373‬انظر‪" :‬البخاري مع الفتح" (‪ ،)11/530‬و"مسلم" (‪.)4/1239‬‬
‫‪")(374‬الفتح" (‪.)13/370‬‬

‫‪99‬‬
‫والمراد مهن هذه الحاديهث هنها ظاههر‪ ،‬إذ فيهها الحلف بعزة ال‪-‬تعالى‪ -‬ول يحلف إل بال أو‬
‫بصفاته‪ ،‬ولكن حديث أبي هريرة لم يذكر محل الشاهد منه‪ ،‬وإنما أشار إليه‪ ،‬وهو قول الرجل يخاطب‬
‫رب العالمين‪" :‬وعزتك‪ ،‬ل أسألك غيرها"‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ص ‪132‬‬
‫‪ -13‬قال‪":‬حدثنا أبو معمر‪ ،‬حدثنا عبد الوارث‪ ،‬حدثنا حسين المعلم‪ ،‬حدثني عبد ال بن بريدة‪،‬‬
‫عن يحيي بن يعمر‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أن النبي –صلى ال عليه وسلم – كان يقول‪ ":‬أعوذ بعزتك‪ ،‬الذي‬
‫ل إله إل أنت‪ ،‬الذي ل يموت‪ ،‬والجن والنس يموتون"‪.‬‬
‫قوله‪" :‬كان يقول" يدل على أنه سمع ذلك من النبي –صلى ال عليه وسلم – مرارا‪ ،‬لما يفهم من‬
‫لفظة "كان"‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬أعوذ بعزتك" أعوذ‪ :‬هو اللتجاء والعتصام‪ ،‬وحقيقته‪ :‬الهرب من المخوف إلى المجير‬
‫العاصم‪ ،‬فالعائذ بال ‪-‬تعالى‪ -‬قد هرب مما يخا فه ويؤذيه‪ ،‬أو يهلكه‪ ،‬إلى ر به ومالكه العزيز الذي ل‬
‫يغالب‪ ،‬يعز من يشاء‪ ،‬ويذل من يشاء‪ ،‬ويجير من احتمى به‪.‬‬
‫فالسهتعاذة ههي‪ :‬اللتجاء إلى ال‪ ،‬والحتماء مهن شهر كهل ذي شهر‪ ،‬والعوذ يكون لدفهع الشهر‪،‬‬
‫واللوذ يكون لطلب الخير‪ ،‬كما قال بعض الشعراء‪:‬‬
‫يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره‬
‫وعزة ال ‪-‬تعالى‪ -‬صفته‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬فالنبي –صلى ال عليه وسلم وهو أعلم الخلق بال وأتقاهم‬
‫له –يتعوذ ب صفاته تعالى؛ لن ذلك من عبادة ال‪ ،‬بل هو من أفضل ها‪ ،‬امتثالً لقوله –تعالى‪{ :-‬وَلِّل هِ‬
‫سنَى فَادْعُوهُ ِبهَا}‪ .‬ومثل الستعاذة بصفات ال –تعالى‪ -‬الحلف بها‪ ،‬كما مر قريبا‪.‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫اَ‬
‫وقوله‪" :‬الذي ل إله إل أنت" أي أنت الله الحق‪ ،‬الذي تجب عبادته على عباده‪ ،‬وكل تأله لغيره‬
‫ف هو ضلل‪ ،‬يو جب الشقاء البدي‪ ،‬والخلود في النار‪ ،‬فلذلك ل أتو جه بتأل هي إل إل يك يا رب‪ ،‬فل إله‬
‫لي غيرك‪ ،‬فبك أعوذ‪ ،‬وإليك ألوذ‪.‬‬
‫"الذي ل يموت" أي فأنت –يا إلهي‪ -‬الحي القيوم‪ ،‬الذي ل تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬ل مبدأ لوجودك‬
‫ول منت هى لبقائك‪ ،‬وأ نت الغ ني بذا تك عن كل ما سواك‪ ،‬والخلق كل هم فقراء إل يك‪ ،‬وكانوا عد ما ق بل‬
‫إيجادك إياهم‪ ،‬وهم عرضة للمراض‪ ،‬والفات والتغيرات والفناء‪ ،‬وأنت يا رب الباقي وحدك‪ ،‬والخلق‬
‫كلهم يموتون‪ ،‬فل رب سواك يتصرف بالخلق كيف يشاء‪ ،‬ويغير ول يتغير‪- ،‬جل وعل‪.-‬‬
‫قوله‪" :‬وال جن وال نس يموتون" المق صود بذ كر ال جن وال نس‪ :‬ج نس الخلق‪ ،‬والمع نى‪ :‬أن الخلق‬
‫كلهم يموتون‪ ،‬ول يبقى إل الحي القيوم‪ ،‬كما قال‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫ص ‪133‬‬
‫َامه } (‪ ،)375‬وسهمى الجهن جنا‬
‫ل ْكر ِ‬
‫ّكه ذُو ا ْلجَللِ وَا ِ‬
‫ْهه َرب َ‬
‫َانه {‪َ }26‬و َيبْق َى َوج ُ‬
‫َنه عََليْه َا ف ٍ‬
‫{ كُلّ م ْ‬
‫ث لَ َترَ ْو َنهُ مْ }‬
‫حيْ ُ‬
‫لستتارهم عن أعين الناس‪ ،‬من الجتنان‪ ،‬كما قال‪-‬تعالى‪َ { :-‬يرَاكُ ْم هُوَ َو َقبِيلُ هُ ِم نْ َ‬
‫(‪ ،)376‬وأما النس فسموا بذلك لن بعضهم يأنس ببعض غالبا‪ ،‬أو أنهم يرون ويأنسون‪ ،‬أي يحس بهم‬

‫‪)(375‬اليتان ‪27، 26‬من سورة الرحمن‪.‬‬


‫‪)(376‬الية ‪ 27‬من سورة العراف‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ويشاهدون‪ ،‬وذكر الجن والنس ل ينفي عن الملئكة الموت؛ لن هذا خاص قصد به الجن والنس‪،‬‬
‫أو على ما تقدم ذكر الجنس‪ ،‬والمقصود عموم الخلق‪ .‬وقد جاء ما يدل على هلك عموم الخلق كقوله‪-‬‬
‫جهَهُ} (‪.)377‬‬
‫ل شَيْ ٍء هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ‬
‫تعالى‪{ :-‬كُ ّ‬
‫وقد قيل‪ :‬إن الملئكة يدخلون في الجن؛ لجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪)(377‬الية الخيرة من سورة القصص‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ص ‪134‬‬
‫‪ -14‬قال‪" :‬حدثنا ابن أبي السود‪ ،‬حدثنا حرمي‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن قتادة عن أنس‪ ،‬عن النبي –‬
‫صلى ال عليه وسلم – قال‪" :‬يلقى في النار …" ح‬
‫وقال لي خليفة‪ :‬حدثنا يزيد بن زريع‪ ،‬حدثنا سعيد‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أنس‪ ،‬ح‪.‬‬
‫وعن معتمر‪ ،‬سمعت أبي‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أنس‪ ،‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم – قال‪ :‬ل يزال‬
‫يل قى في ها‪ ،‬وتقول‪ :‬هل من مز يد؟ ح تى ي ضع في ها رب العالم ين قد مه فينزوي بعض ها إلى ب عض‪ ،‬ثم‬
‫تقول‪ :‬قد قد‪ ،‬بعزتك وكرمك‪ ،‬ول تزال الجنة تفضل حتى ينشئ ال لها خلقا‪ ،‬فيسكنهم فضل الجنة"‪.‬‬
‫أنس هو ابن مالك بن النضير بن ضمضم‪ ،‬النصاري‪ ،‬الخزرجي‪ ،‬خادم رسول ال –صلى ال‬
‫عل يه و سلم – وأ حد المكثر ين من الروا ية ع نه؛ قدم ال نبي – صلى ال عل يه و سلم – المدي نة و هو ا بن‬
‫عشر سنين‪ ،‬فأتت به أمه إلى رسول ال –صلى ال عليه وسلم – وعرضت عليه أن يخدمه‪ ،‬فقبل ذلك‬
‫النبي‪-‬صلى ال عليه وسلم – فلزم النبي في السفر والحضر عشر سنين‪ ،‬ودعا له رسول ال –صلى‬
‫ال عليه وسلم – بأن يكثر ماله وولده‪ ،‬وأن يدخل الجنة‪ ،‬قال أنس‪" :‬قد رأيت أثنين‪ ،‬وأنا أرجو الثالثة"‪.‬‬
‫توفي في البصرة سنة ثلث وتسعين‪ ،‬وله مائة وثلث سنوات‪ ،‬وهو آخر من مات في البصرة‬
‫من الصحابة‪.)378( .‬‬
‫قوله‪" :‬ل يزال يل قى في ها" الضم ير "في ها" يعود إلى جه نم‪ ،‬والمع نى أ نه ي ستمر إلقاء من ي ستحق‬
‫ل ا ْمتَلْتِه َوتَقُولُ َهلْ مِن‬
‫ج َهنّمَه هَ ِ‬
‫ل ِل َ‬
‫النار فيهها‪ ،‬وههي تطلب الزيادة منههم‪ ،‬قال ال‪-‬تعالى‪{ :-‬يَوْمَه نَقُو ُ‬
‫ّمزِيدٍ} (‪.)379‬‬
‫قال ابن كث ير‪" :‬ي خبر –تعالى‪ -‬أ نه يقول لجه نم‪ :‬هل امتلت؟ وذلك أ نه وعد ها أن سيملؤها من‬
‫الجنة والناس أجمعين‪ ،‬فهو –سبحانه‪ -‬يأمر بمن يأمر به إليها‪ ،‬ويلقى {فيها} وهي تقول‪ :‬هل من مزيد؟‬
‫أي‪ :‬هل بقي شيء تزيدني؟ هذا هو الظاهر من سياق الية‪ ،‬وعليه تدل الحاديث"(‪.)380‬‬
‫يق صد بالحاد يث م ثل هذا الحد يث‪ ،‬فإن ظاهره أن ال ستفهام لطلب الزيادة‪ ،‬و هو ال صحيح الذي‬
‫يدل على ظاهر القرآن‪ ،‬والحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫ص ‪135‬‬
‫قوله‪" :‬حتى يضع فيها رب العالمين قدمه"‪ ،‬في رواية‪" :‬حتى يضع رب العزة فيها قدمه" وهذه‬
‫الروا ية هي المنا سبة لهذا الباب‪ ،‬ول كن البخاري اكت فى بالشارة إلي ها على عاد ته‪ ،‬و في روا ية أ بي‬
‫هريرة‪" :‬يقال لجهنم‪ :‬هل امتلت؟ وتقول‪ :‬هل من مزيد؟ فيضع الرب –تبارك وتعالى‪ -‬قدمه علي ها"‪،‬‬

‫‪")(378‬الصابة" (‪.)1/127‬‬
‫‪ )(379‬الية ‪ 30‬من سورة ق‪.‬‬
‫‪")(380‬تفسير ابن كثير" (‪.)7/381‬‬

‫‪103‬‬
‫و في روا ية‪" :‬ح تى ي ضع في ها قد مه فتمتلئ"‪ ،‬و في أخرى‪" :‬ح تى ي ضع رجله‪ ،‬فتقول‪ :‬قط قط" وهذه‬
‫الروايات كلها في البخاري‪ ،‬واتفق معه مسلم عليها(‪.)381‬‬
‫وع ند الدارقط ني في "ال صفات"‪" :‬فأ ما النار فيل قى في ها‪ ،‬وتقول‪ :‬هل من مز يد؟ –ثلث مرات‪-‬‬
‫حتى يأتيها –تبارك وتعالى‪ -‬فيضع قدمه عليها‪ ،‬فتنزوي‪ ،‬وتقول‪ :‬قدني قدني"(‪.)382‬‬
‫وفهي روايهة‪" :‬ل تزال جهنهم يلقهى فيهها‪ ،‬وتقول‪ :‬ههل مهن مزيهد؟ حتهى يضهع الجبار –تبارك‬
‫وتعالى‪ -‬فيها قدمه‪ ،‬فهناك تنزوي"(‪.)383‬‬
‫وأخرج حديث أنس هذا أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ‪" :‬حتى يضع ال فيها قدمه"(‪.384‬‬
‫ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والر جل‪-‬وكلهما عبارة عن ش يء واحد –‬
‫صفة ل‪ -‬تعالى‪ -‬حقيقة على ما يليق بعظمته‪.‬‬
‫كمها فيهها إبطال تأويهل المؤولة‪ ،‬نحهو قولههم‪" :‬إن القدم‪ :‬عبارة عهن إذلل جهنهم إذا بلغهت فهي‬
‫الطغيان‪ ،‬وقولهم‪ :‬إن المراد بالقدم‪ :‬الفرط السابق من المعذبين‪ ،‬أي يضع ال فيها ما قدمه لها من أهل‬
‫العذاب‪ ،‬وقولههم‪ :‬المراد بالقدم‪ :‬قدم بعهض المخلوقيهن‪ ،‬وقولههم‪ :‬يجوز أن يكون مخلوقا اسهمه القدم‪،‬‬
‫وقولهم‪ :‬المراد بالقدم‪ :‬الخير من أهل النار‪ ،‬وقولهم‪ :‬إنه اسم مكان عصي ال فيه‪ ،‬فيلقى في النار‪.‬‬
‫ص ‪136‬‬
‫وقول الداودي‪ :‬إن المراد بالقدم‪ :‬قدم صدق‪ ،‬وهو محمد –صلى ال عليه وسلم – والشارة بذلك‬
‫إلى شفاعته‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن المراد بالقدم‪ :‬قدم إبليس‪ ،‬إلى غير ذلك من السخافات المضحكة‪ ،‬الدالة‬
‫على ضلل قائليها‪.‬‬
‫وزعم ابن الجوزي‪ ،‬وابن فورك‪ :‬أن لفظ الرجل محرف من بعض الرواة عن القدم‪ ،‬وذهب مرة‬
‫إلى تحريهف المسهمى بالتأويهل‪ ،‬فقال‪ :‬يحتمهل أن يراد بالرجهل‪ :‬الجماعهة"(‪ ،)385‬فهذه التأويلت الباردة‬
‫يكفي العاقل المنصف مجرد ذكرها عن تكلف ردها بالدليل لظهور بطلنها‪ ،‬فهي في الحقيقة تحريف‬
‫للكلم الواضهح البيهن‪ ،‬كتحريهف اليهود حينمها قيهل لههم‪" :‬ادخلوا الباب سهجدا وقولوا حطهة" فدخلوا‬
‫يزحفون على أعجازهم وقالوا‪ :‬حبة حنطة‪.‬‬
‫فبطلن قول هؤلء المعطلة –الذيهن جعلوا صهفات ال‪-‬تعالى‪ -‬نوعا مهن المخلوقات‪ ،‬وحاولوا‬
‫إبطالها بالتأويلت البعيدة السخيفة‪-‬واضح وظاهر‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬
‫"الول‪ :‬أن النبي –صلى ال عليه وسلم – قال‪ :‬حتى يضع‪ ،‬ولم يقل‪ :‬حتى يلقى {فيها} كما في‬
‫قوله‪" :‬ل يزال يلقى في النار"‪.‬‬

‫‪ )(381‬انظر"مسلم" (‪.)2188، 4/2187‬‬


‫‪" )(382‬الصفات" (ص ‪.)17، 14‬‬
‫‪")(383‬الصفات" للدارقطني (ص ‪)15‬‬
‫‪")(384‬الفتح" (‪.)13/370‬‬
‫‪ )(385‬انظر‪" :‬الفتح"‪ ،‬فقد ذكر جميع هذه التأويلت‪ ،‬وسكت عليها (‪.)8/596‬‬

‫‪104‬‬
‫الثانهي‪ :‬أن قوله‪" :‬قدمهه" ل يفههم منهه هذا {الذي قالوه} ل حقيقهة‪ ،‬ول مجازا‪ ،‬كمها تدل عليهه‬
‫الضافة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن أولئك المؤخرين‪ ،‬إن كانوا من الصاغر المعذبين‪ ،‬فل وجه لنزوائها واكتفائها بهم‪،‬‬
‫فإن ذلك إن ما يكون بأ مر عظ يم‪ ،‬وإن كانوا من الكابر المجرم ين‪ ،‬ف هم في الدرك ال سفل من النار‪،‬‬
‫وفي أول المعذبين‪ ،‬ل في أواخرهم‪.‬‬
‫الرابع‪:‬أن قوله‪" :‬فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها فتضيق بهم‪ ،‬من‬
‫دون أن يلقى فيها شيء‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن قوله‪" :‬ل يزال يلقى فيها وتقول‪ :‬هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه" جعل وضع‬
‫القدم الغا ية ال تي إلي ها ينت هي اللقاء‪ ،‬ويكون ع ند ذلك النزواء‪ ،‬فيقت ضي أن تكون الغا ية أع ظم م ما‬
‫قبل ها‪ ،‬ول يس في قول {هؤلء} المعطلة مع نى لل فظ {قد مه} إل و قد اشترك ف يه الول وال خر‪ ،‬والول‬
‫أحق به من الخر"(‪.)386‬‬
‫ص ‪137‬‬
‫يضاف إلى ذلك‪ :‬أن هذا الكلم الواضهح البيهن الذي إذا سهمعه السهامع لم يتبادر إلى ذهنهه إل‬
‫ظاهره اللئق بجلل ال‪-‬تعالى‪-‬؛ فلو كان ظاهره غيهر مراد للمتكلم‪ ،‬وأن المراد منهه مها ذكره هؤلء‬
‫المحرفون‪ ،‬لصار إلى اللغاز والتعمية أقرب‪ ،‬ول يكون المتكلم بذلك قد أدى ما وجب عليه من البلغ‬
‫والبيان؛ وهذا من أبطل الباطل‪.‬‬
‫وقد علم أن المتكلم بهذا الكلم أفصح الناس وأقدرهم على اليضاح والبيان لما يريد‪ ،‬وهو أيضا‬
‫أنصحهم لمته‪ ،‬وأعلمهم بال وبما يجب له‪ ،‬وما يمتنع عليه‪ ،‬وهو أيضا أحرصهم على إيصال الخير‬
‫والن فع إلى الخلق‪ ،‬ود فع ال شر عن هم‪ ،‬في ستحيل مع هذه المور أن يكون ظا هر كل مه باطلً يدل على‬
‫ن ِإلّ َك ِذبًا} (‪،)387‬‬
‫ن َأفْوَا ِههِ مْ إِن يَقُولُو َ‬
‫خرُ جُ مِ ْ‬
‫الكفر والتشبيه –كما زعم المعطلة المؤولة { َك ُبرَ تْ كَِلمَ ًة َت ْ‬
‫فظهر بذلك بطلن قول المعطلة‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬
‫قال أ بو سعيد الدار مي‪" :‬و ما دعوى المع طل بأن القدم‪ :‬أ هل الشقوة الذ ين تقدم في علم ال أن هم‬
‫شرِ اّلذِي نَ آ َمنُواْ َأنّ َلهُ مْ َقدَ مَ‬
‫يلقون في جهنم‪ ،‬واستدلله بما روي عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َب ّ‬
‫قال‪ :‬ما قدموا من أعمالهم‪.‬‬ ‫(‪)388‬‬
‫صِ ْدقٍ عِندَ َربّ ِهمْ}‬
‫فيقال‪ :‬من المشهور عن ا بن عباس‪ ،‬أ نه قال‪" :‬الكر سي مو ضع القدم ين‪ ،‬والعرش ل يقدر قدره‬
‫إل ال"‪ ،‬وهذا صحيح مشهور عن ا بن عباس(‪ ،)389‬ودعوى المع طل أن ها ل تمتلئ ح تى يل قى ال في ها‬

‫‪" )(386‬مختصر الفتاوى المصرية" (ص ‪.)647‬‬


‫‪)(387‬الية ‪ 5‬من سورة الكهف‪.‬‬
‫‪)(388‬الية الثانية من سورة يونس‪.‬‬
‫‪)(389‬رواه أبو سعيد الدارمي في "الرد على المريسي" (ص ‪" ،)425‬مجموع عقائد السلف"‪ ،‬والحاكم في‬
‫"المستدرك"‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ووافقه الذهبي (‪ ،)2/282‬وابن جرير في "التفسير" (‬

‫‪105‬‬
‫الشقياء‪ ،‬الذين هم قدم الجبار‪-‬عند أهل التأويل‪ -‬دعوى باطلة‪ ،‬وهل استزادت إل بعد مصير الشقياء‬
‫إليها؟ أفيلقيهم فيها ثانية؟ أو أنه –تعالى‪ -‬حبس عنها الشقياء‪ ،‬وألقى فيها السعداء‪ ،‬فلما استزادت ألقى‬
‫فيها أهل الشقوة؟‬
‫ص ‪138‬‬
‫ج َمعِي نَ} (‪ ،)390‬قالوا‪:‬‬
‫ج َهنّ مَ مِن كَ َو ِممّن َت ِبعَ كَ ِم ْنهُ مْ َأ ْ‬
‫لمْلَنّ َ‬
‫وأما ردهم الحديث بقوله – تعالى‪َ { :‬‬
‫إن جهنم ل تمتلئ بغير الجن والنس‪ ،‬ومن زعم غير ذلك فقد كفر‪.‬‬
‫ل مِن ّمزِيدٍ} (‪،)391‬‬
‫ل هَ ْ‬
‫ْته َوتَقُو ُ‬
‫ّمه هَلِ ا ْمتَل ِ‬
‫ج َهن َ‬
‫ْمه نَقُولُ ِل َ‬
‫فيقال‪ :‬إن هذه اليهة ل تخالف قوله‪{ :‬يَو َ‬
‫ويصهح فهي الكلم أن يقال للممتلئ‪ :‬اسهتزاد‪ ،‬كمها يمتلئ الرجهل مهن الطعام‪ ،‬والشراب‪ ،‬وههو يقدر أن‬
‫يستزيد‪ ،‬ويقال‪ :‬امتل المسجد من الناس‪ ،‬وفيه فضل وسعة‪ ،‬وامتل الوادي ماء‪ ،‬وهو يحتمل أكثر مما‬
‫فيهه‪ ،‬وكمها فهي الحديهث‪" :‬يخرج المهدي‪ ،‬فيمل الرض قسهطا وعدلً‪ ،‬كمها ملئت جورا وظلما" وفهي‬
‫الرض سعة لكثر من ذلك‪ ،‬فكذلك جهنم تمتلئ بما يلقى فيها من الجن والنس‪ ،‬وتقول هل من مزيد؟‬
‫لفضل فيها‪ ،‬غضبا ل‪-‬تعالى‪ -‬على الكفار‪ ،‬حتى يفعل الجبار بها ما أخبر به رسوله‪ ،‬من وضعه قدمه‬
‫فيها كما يشاء‪ ،‬وكما عنى رسول ال‪ ،‬فحينئذ تقول‪ :‬حسبي حسبي‪ ،‬ولها خزنة يدخلونها غير معذبين‬
‫بها‪ ،‬وفيها حيات‪ ،‬وعقارب‪.‬‬
‫ع ّدتَهُ مْ ِإلّ ِف ْتنَةً‬
‫جعَ ْلنَا ِ‬
‫ب النّا ِر ِإلّ مَل ِئكَةً َومَا َ‬
‫صحَا َ‬
‫جعَ ْلنَا أَ ْ‬
‫شرَ {‪َ }30‬ومَا َ‬
‫عَ‬‫وقال‪-‬تعالى‪ { :-‬عََل ْيهَا تِ سْعَةَ َ‬
‫لّّلذِينَ كَ َفرُوا } (‪.)392‬‬
‫ج َمعِي نَ} (‪ ،)393‬ل يخالف هذه ال ية‪ ،‬ك ما أ نه ل‬
‫جنّةِ وَالنّا سِ َأ ْ‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫ج َهنّ مَ مِ َ‬
‫لمْلنّ َ‬
‫فقوله‪-‬تعالى‪َ { :-‬‬
‫يخالف قول الر سول – صلى ال عل يه و سلم ‪" :-‬ي ضع الجبار في ها قد مه"‪ ،‬وإذا كا نت جه نم ل ت ضر‬
‫الخزنة الذين يدخلونها‪ ،‬ويقومون عليها‪ ،‬فكيف يستنكر وضع رب العالمين عليها قدمه؟" (‪.)394‬‬
‫وقد جاءت الحاديث عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم – تدل على أن كلمها حقي قة‪ ،‬فل‬
‫وجه للعدول عن ذلك‪ ،‬كقوله –صلى ال عليه وسلم ‪" :-‬تحاجت الجنة والنار‪ ،‬فقالت الجنة‪ :‬ما لي‬
‫ص ‪139‬‬
‫ل يدخلنهي إل الضعفاء؟ وقالت النار‪ :‬مها لي يدخلنهي الجبارون‪ ،‬والمتكهبرون؟" (‪)395‬أخرجاه فهي‬
‫"الصحيحين"‪.‬‬

‫‪.)5/398‬‬
‫‪)(390‬الية ‪ 119‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪)(391‬الية ‪ 30‬من سورة ق‪.‬‬
‫‪)(392‬اليتان ‪30‬و ‪31‬من سورة المدثر‪.‬‬
‫‪)(393‬الية ‪ 119‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(394‬رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي‪ ،‬ملخصًا بتصرف‪.‬‬
‫‪)(395‬انظر‪" :‬البخاري مع الفتح" (‪ ،)8/595( ،)13/434‬و"مسلم" (‪.)4/2186‬‬

‫‪106‬‬
‫وفي "مسند المام أحمد" بسند فيه عطية العوفي‪ -‬وهو ضعيف‪ -‬عن أبي سعيد عن النبي –صلى‬
‫ال عليه وسلم –أنه قال‪" :‬يخرج عنق من النار يتكلم يقول‪ :‬وكلت اليوم بثلثة‪ ،‬بكل جبار‪ ،‬وبمن جعل‬
‫مع ال إلها آخر‪ ،‬وبمن قتل نفسا بغير نفس‪ ،‬فينطوي عليهم‪ ،‬فيقذفهم في غمرات جهنم"(‪.)396‬‬
‫وفيه أيضا من طريق ابن لهيعة –وفيه كلم معروف‪ -‬عن عائشة‪ -‬رضي ال عنها‪ -‬عن النبي‬
‫– صلى ال عل يه و سلم – أ نه قال‪" :‬يخرج ع نق من النار‪ ،‬فينطوي علي هم‪ ،‬ويتغ يظ علي هم‪ ،‬ويقول ذلك‬
‫العنق‪ :‬وكلت بثلثة‪ ،‬وكلت بمن دعا مع ال إلها آخر‪ ،‬ووكلت بمن ل يؤمن بيوم الحساب‪ ،‬ووكلت بكل‬
‫جبار عنيد‪ ،‬فتنطوي عليهم‪ ،‬وتطرحهم في غمرات جهنم"(‪.)397‬‬
‫وقد ذكر ابن رجب أحاديث بهذا المعنى(‪ ،)398‬وقد صح عن النبي –صلى ال عليه وسلم – أن‬
‫حجرا كان يسهلم عليهه(‪ ،)399‬كمها صهح أن الصهحابة كانوا يسهمعون تسهبيح الطعام وههم يأكلون‪ ،‬ومهن‬
‫المشهور حنين الجذع الذي كان النبي –صلى ال عليه وسلم – يخطب عليه حين تركه‪ ،‬فكيف يستنكر‬
‫كلم جهنم؟‬
‫قوله‪" :‬فينزوي بعضهها إلى بعهض" أي يلتئم بعضهها على بعهض‪ ،‬وتتضايهق على مهن فيهها‪ ،‬فل‬
‫يبقى فيها متسع لغير من فيها‪.‬‬
‫قوله‪" :‬وتقول‪ :‬قد قد" بفتح القاف‪ ،‬وسكون الدال‪ ،‬وفي رواية‪" :‬قط قط" وهو اسم فعل‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫حسبي وكفاني ما ألقي في‪ ،‬فل متسع لغيرهم‪ ،‬أي قد امتلئت‪.‬‬
‫ص ‪140‬‬
‫قوله‪" :‬بعزتك وكرمك" هذا محل الشاهد من الحديث لما ترجم به‪ ،‬وهو قسم من النار بعزة ال‬
‫وكر مه‪ ،‬أن ها قد امتلت‪ ،‬وأ صبحت ل يس في ها مت سع‪ ،‬و قد تقرر ع ند الم سلمين أن الق سم بغ ير ال ل‬
‫يجوز‪.‬‬
‫قوله‪" :‬ل يزال يلقى فيها‪ ،‬وتقول" هذا القول من جهنم حقيقة‪ ،‬فال‪-‬تعالى‪ -‬ينطقها بكلم مسموع‬
‫منها‪ ،‬كما ينطق‪-‬جل وعل‪ -‬الجوارح وغيرها‪ ،‬وال على كل شيء قدير‪ ،‬وأمور الخرة أعظمها على‬
‫خلف ما يعر فه الناس في الدن يا‪ ،‬والق سم بأ سماء ال و صفاته ق سم به‪-‬تعالى‪-‬والمق صود أن ال تعالى‬
‫مت صف بال صفات‪ ،‬فأراد أن يبين ذلك ب ما ث بت من ها في كتاب ال‪-‬تعالى‪ -‬ومن ها العزة‪ ،‬وبالحاد يث‬
‫التي تبين ذلك وتوضحه‪ ،‬وقد تقدم البحث فيها في الباب الول‪.‬‬
‫قال الحافظ‪" :‬يؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم ال‪ ،‬كما شرع الحلف بعزة ال"(‪.)400‬‬
‫قوله‪" :‬ول تزال الجنة تفضل‪ ،‬حتى ينشئ ال لها خلقا‪ ،‬فيسكنهم فضل الجنة"‪.‬‬

‫‪")(396‬المسند" (‪.)3/40‬‬
‫‪")(397‬المسند" (‪.)6/110‬‬
‫‪)(398‬انظر‪" :‬التخويف من النار" (ص ‪.)130‬‬
‫‪)(399‬انظر‪" :‬فتح الباري" (‪.)13/371‬‬
‫‪" )(400‬الفتح" (‪.)13/371‬‬

‫‪107‬‬
‫أي أن أهل الجنة الذين يدخلونها ينتهون‪ ،‬وفيها فضل مساكن لم يصبها أحد؛ لعظم سعتها‪ ،‬قال‬
‫ت لِ ْل ُمتّقِي نَ} (‪،)401‬‬
‫عدّ ْ‬
‫لرْ ضُ أُ ِ‬
‫سمَاوَاتُ وَا َ‬
‫ع ْرضُهَا ال ّ‬
‫جنّةٍ َ‬
‫ال‪-‬تعالى‪{ :-‬وَ سَارِعُواْ إِلَى َمغْ ِفرَةٍ مّ ن ّر ّبكُ مْ َو َ‬
‫ن آ َمنُوا‬
‫عدّتْ لِّلذِي َ‬
‫لرْضِ ُأ ِ‬
‫سمَاء وَا َ‬
‫ع ْرضُهَا َك َعرْضِ ال ّ‬
‫جنّةٍ َ‬
‫وقال‪-‬تعالى‪{ :-‬سَابِقُوا إِلَى َمغْ ِفرَ ٍة مّن ّر ّبكُمْ َو َ‬
‫بِاللّهِ َو ُرسُلِهِ} (‪.)402‬‬
‫وقد وعد ال ‪-‬تعالى‪ -‬الجنة والنار أن يملؤهما من الجنة والناس‪ ،‬ومما يشاء‪ ،‬فأما النار‪ :‬فإن ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬ل يد خل في ها إل من ي ستحقها‪ ،‬ول يظلم أحدا‪ ،‬ول سعتها أيضا يتن هي أهل ها دخولً في ها مع‬
‫كثرت هم‪ ،‬و هي تطلب الزيادة‪ ،‬وت سأل ال وعده‪ ،‬فع ند ذلك ي ضع علي ها ‪-‬تعالى‪ -‬قد مه‪ ،‬فتتضا يق على‬
‫أهلها‪ ،‬فينزوي بعضها إلى بعض –أي تجتمع‪ -‬فتصبح ليس فيها موضع لحد‪ ،‬فيحصل بذلك ملؤها‪.‬‬
‫ص ‪141‬‬
‫وأمها الج نة‪ :‬فإن ال ‪-‬تعالى‪ -‬يخلق ل ها خلقا جديدا فيسهكنهم فضلهها‪ ،‬أي المسهاكن ال تي فضلت‬
‫عمن دخلها‪ ،‬وذلك فضل ال يؤتيه من يشاء‪ ،‬ل راد لفضله‪ ،‬ول مانع لعطائه‪.‬‬

‫‪)(401‬الية ‪ 133‬من سورة آل عمران ‪.‬‬


‫‪ )(402‬الية ‪ 21‬من سورة الحديد‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ص ‪142‬‬
‫(‪)403‬‬
‫حقّ}‬
‫لرْضَ بِا ْل َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫قال‪" :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَ ُهوَ اّلذِي خََلقَ ال ّ‬
‫قال القرطبي‪" :‬بالحق‪-‬أي بكلمة الحق‪ -‬يعني‪ :‬قوله‪ :‬كن"(‪.)404‬‬
‫ومثله قال القسهطلني‪ ،‬ثهم قال‪ ":‬وقال ابهن عادل فهي لبابهه‪ :‬قيهل‪ :‬الباء بمعنهى اللم‪ ،‬أي إظهارا‬
‫ت هَذا بَاطِلً} (‪.)405‬‬
‫للحق؛ لنه جعل صنعه دليلً على وحدانيته‪ ،‬فهو نظير قوله – تعالى ‪{ :-‬مَا خَلَقْ َ‬
‫وقال الخازن‪ ":‬يعنهي إظهارا للحهق‪ ،‬فعلى هذا تكون الباء بمعنهى اللم‪ ،‬لنهه جعهل صهنعه دليلً‬
‫على وحدانيته‪ ،‬وقيل‪ :‬خلقها بكمال قدرته‪ ،‬وشمول علمه‪ ،‬وإتقان صنعه‪ ،‬وكل ذلك حق‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬خلقها بكلمه الحق‪ ،‬وهو قول "كن" وفيه دليل على أن كلم ال – تعالى‪ -‬ليس بمخلوق؛‬
‫لنه ل يخلق مخلوق بمخلوق"(‪.)406‬‬
‫وقال ابن الجوزي‪ " :‬فيه أربعة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬خلقهما للحق‪ .‬والثاني‪ :‬خلقهما حقا‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬خلقهما بكلمه‪ ،‬وهو الحق‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬خلقهما بالحكمة"(‪.)407‬‬
‫قلت‪ :‬هذه القوال ل يس في ها اختلف‪ ،‬و هي داخلة في مع نى ال ية‪ ،‬إل أن ال طبري ج عل القول‬
‫الثاني والرابع قولً واحدا‪ ،‬كما سيأتي‪ ،‬وهو الظهر‪.‬‬
‫وقال ابن جرير‪ ":‬واختلف أهل التأويل في قوله‪ ":‬بالحق"‪ :‬فقال بعضهم‪ :‬معنى ذلك‪ :‬وهو الذي‬
‫لرْ ضَ‬
‫سمَاء وَا َ‬
‫خلق ال سماوات والرض حقا و صوابا‪ ،‬ل باطلً وخ طأ‪ ،‬ك ما قال تعالى‪{ :‬وَمَا خَلَقْنَا ال ّ‬
‫َومَا َب ْي َن ُهمَا بَاطِلً} (‪ ،)408‬وأدخلت الباء واللف‪ ،‬كما في‬
‫ص ‪143‬‬
‫قولك‪ :‬فلن يقول بال حق‪ ،‬يع ني أ نه يقول ال حق‪ ،‬أي ي صيب في قوله‪ ،‬فال حق صفة للقول‪ ،‬فخلق‬
‫السماوات والرض حكمة من حكم ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وال موصوف بالحكمة في خلقهما‪ ،‬وخلق ما سواهما‬
‫من سائر الخلق‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬معنى ذلك‪ :‬خلق السماوات والرض بكل مه‪ ،‬وقوله لهما‪ِ{ :‬ا ْئتِيَا طَوْعًا َأوْ َكرْهًا}‬
‫(‪)409‬فالحق في هذا الموضع معنى به كلمه‪.‬‬

‫‪)(403‬الية ‪ 73‬من سورة النعام‪.‬‬


‫‪" )(404‬تفسير القرطبي" (‪.)6/19‬‬
‫‪ )(405‬الية ‪ 191‬من سورة آل عمران ‪" ،‬هدي الساري" (‪. )10/369‬‬
‫‪" )(406‬تفسير الخازن" (‪.)2/147‬‬
‫‪" )(407‬زاد المسير" (‪.)3/67‬‬
‫‪ )(408‬الية ‪ 27‬من سورة ص‪.‬‬
‫‪ )(409‬الية ‪ 11‬من سورة فصلت ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ن قَوْلُ ُه ا ْلحَقّ} (‪ ،)410‬فال حق هو قوله وكل مه‪ ،‬فال‬
‫وا ستشهد لذلك بقوله‪َ { :‬ويَوْ مَ يَقُولُ كُن َفيَكُو ُ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬خلق الشياء بكل مه وقوله‪ ،‬فمها خلق به الشياء ف هو غير ها‪ ،‬فكلم ال ‪-‬تعالى‪ -‬الذي خلق‬
‫الخلق غير مخلوق"(‪.)411‬‬
‫قلت‪ :‬وبهذا يظ هر مراد البخاري – رح مه ال تعالى – فقول ال ‪-‬تعالى‪ -‬حق‪ ،‬و هو صفة له‪،‬‬
‫و ما و جد بقوله ف هو غ ير القول‪ ،‬بل هو المفعول المخلوق‪ ،‬فقوله ‪-‬تعالى‪ -‬الذي خلق به الشياء‪ ،‬ل‬
‫يجوز أن يكون مماثلً ل ها‪ ،‬فل بد من التفر يق ب ين قوله الذي هو صفته‪ ،‬وب ين مفعول ته ال تي وجدت‬
‫بقوله‪ ،‬كمها سهيأتي – إن شاء ال تعالى – فهي باب‪ :‬مها جاء فهي تخليهق السهماوات والرض وههو‬
‫سمَاء‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬خلق السماوات والرض وغيرهما بقوله لها‪ :‬كوني‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪ُ { :‬ثمّ ا ْ‬
‫لرْضِ ِا ْئ ِتيَا طَ ْوعًا َأوْ َكرْهًا قَاَلتَا َأ َت ْينَا طَا ِئعِينَ} (‪.)412‬‬
‫ن فَقَالَ َلهَا وَلِ َ‬
‫وَ ِهيَ ُدخَا ٌ‬
‫قال الحافظ‪ ":‬كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الية‪ ،‬أن معنى قوله‪{ :‬بالحق}‬
‫أي بكل مة ال حق‪ ،‬و هو قوله‪ {:‬كن} ويدل عل يه ما في أول الحد يث‪" ،‬وقولك ال حق" فكأ نه أشار إلى أن‬
‫القول {في الحديث} الكلمة‪ ،‬وهي "كن" وال أعلم"(‪.)413‬‬
‫ص ‪144‬‬
‫وقال ابن المرتضى‪ " :‬هذا إشارة من البخاري إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة"(‪.)414‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ل ينا في ما ذكر نا‪ ،‬فيجوز أن يق صد المعني ين‪ ،‬ولك نه في الول أظ هر وأل يق بمراد‬
‫البخاري؛ لن القول بنفي الحكمة في خلق ال وفعله‪ ،‬ظاهر البطلن‪.‬‬
‫ه‬
‫قال البخاري‪ " :‬الفعهل إنمها ههو إحداث الشيهء‪ ،‬والمفعول ههو الحدث؛ لقوله تعالى‪{ :‬خَلْق ُ‬
‫لرْضِ} (‪.)415‬‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫قلت‪ :‬يريد بذلك التفريق بين ما هو صفة ل تعالى‪ ،‬وبين ما هو مفعول له مخلوق‪.‬‬
‫وقال الرا غب‪ ":‬أ صل ال حق‪ :‬المطاب قة والمواف قة‪ ،‬كمطاب قة ر جل الباب في ح قه لدورا نه على‬
‫استقامة‪ ،‬والحق يقال على أوجه‪:‬‬
‫الول‪ :‬يقال لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة‪ ،‬ولهذا قيل في ال ‪-‬تعالى‪ -‬هو الحق‪ ،‬قال‬
‫ل الضّلَلُ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬ثُمّ رُدّو ْا إِلَى الّل هِ َم ْولَهُ مُ ا ْلحَقّ} (‪َ { ،)416‬فذَِلكُ مُ الّل هُ َر ّبكُ مُ ا ْلحَقّ َفمَاذَا َب ْعدَ ا ْلحَقّ ِإ ّ‬
‫صرَفُونَ} (‪.)417‬‬
‫َفأَنّى ُت ْ‬

‫‪ )(410‬الية ‪ 73‬من سورة النعام ‪.‬‬


‫‪" )(411‬تفسير الطبري" (‪ )459-11/458‬تحقيق‪ :‬محمود شاكر ‪ ،‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪ )(412‬الية ‪ 11‬من سورة فصلت ‪.‬‬
‫‪" )(413‬الفتح" (‪.)13/371‬‬
‫‪" )(414‬إيثار الحق على الخلق" (ص ‪.)205‬‬
‫‪" )(415‬خلق أفعال العباد" (ص ‪ )210‬ضمن "العقائد السلفية" ‪.‬‬
‫‪ )(416‬الية ‪ 62‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(417‬الية ‪ 32‬من سورة يونس ‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫الثا ني‪ :‬يقال ل ما و جد بمقت ضى الحك مة‪ ،‬ولهذا يقال‪ :‬ف عل ال ‪-‬تعالى‪ -‬كله حق‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫ب مَا خََلقَ اللّهُ ذَِلكَ‬
‫سنِينَ وَا ْلحِسَا َ‬
‫ع َددَ ال ّ‬
‫ل ِل َتعَْلمُواْ َ‬
‫شمْسَ ضِيَاء وَالْ َق َمرَ نُورًا َو َق ّدرَ ُه َمنَازِ َ‬
‫جعَلَ ال ّ‬
‫{هُ َو اّلذِي َ‬
‫حقّ} (‪.)418‬‬
‫ِإلّ بِا ْل َ‬
‫الثالث‪ :‬العتقاد المطا بق ل ما عل يه الش يء في نف سه‪ ،‬ك ما في الحد يث‪ " :‬ووعدك حق‪ ،‬ولقاؤك‬
‫ختَلَفُواْ فِي هِ‬
‫ن آ َمنُو ْا ِلمَا ا ْ‬
‫حق‪ ،‬والجنة حق‪ ،‬والنار حق‪ ،‬والساعة حق"‪ ،‬قال ال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬هدَى الّل ُه اّلذِي َ‬
‫ق ِبإِ ْذنِهِ} (‪.)419‬‬
‫ن ا ْلحَ ّ‬
‫مِ َ‬
‫ص ‪145‬‬
‫الرابع‪ :‬الفعل والقول الوا قع بحسب ما ي جب‪ ،‬وبقدر ما ي جب‪ ،‬وفي الو قت الذي ي جب‪ ،‬قال ال‬
‫ت َر ّبكَ} (‪.)420‬‬
‫ك حَقّتْ كَِلمَ ُ‬
‫‪-‬تعالى‪َ { :-‬كذَلِ َ‬
‫حقّ‬
‫قلت‪ :‬يأتي أيضا موصوفا به دين ال وشرعه‪ ،‬وأمره‪ ،‬كما في قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ويَسْتَن ِبئُو َنكَ َأ َ‬
‫جزِينهَ} (‪)421‬أي‪ :‬وعده أن يبعثكهم ويجازيكهم‪ .‬وقال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫هُ َو قُلْ إِي َو َربّيه ِإنّهُه َلحَقّ وَمَا أَنتُم ْه ِب ُم ْع ِ‬
‫حقّ مِن ّر ّبكَ} (‪.424‬‬
‫حقّ مِن رّبّك} (‪{ ،)423‬وَِإنّ ُه لَ ْل َ‬
‫حقّ} (‪{ ،)422‬بِا ْل َ‬
‫ن ا ْل َ‬
‫{ َو َت ْك ُتمُو َ‬
‫قال الحليمي‪ ":‬الحق" ما ل يسمع إنكاره‪ ،‬ويلزم إثباته والعتراف به‪.‬‬
‫ووجود الباري ‪-‬تعالى‪ -‬أول ما يجب العتراف به‪ ،‬ول يسع جحده‪ ،‬إذ ل مثبت تظاهرت عليه‬
‫الدلئل البينة مثل ما تظاهرت على وجود الباري – جل جلله‪.)425( "-‬‬
‫وقال أيضا‪ " :‬ال حق في ال سماء الح سنى معناه – ك ما قال ا بن برجان‪ :‬الوا جب الوجود بالبقاء‬
‫الدائم‪ ،‬الجامع للخير والمجد‪ ،‬والمحامد كلها‪ ،‬والثناء الحسن‪ ،‬والسماء الحسنى والصفات العليا‪.‬‬
‫ومعنى واجب الوجود‪ :‬أنه اضطر جميع الموجودات إلى معرفة وجوده‪ ،‬وهو الذي أوجدها‪ ،‬قال‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ} (‪ .)426‬ولما أظهر جملة‬
‫ل َ‬
‫حيِي ا ْلمَ ْوتَى وََأنّ هُ عَلَى كُ ّ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬ذَلِ كَ ِبأَنّ اللّ هَ ُه َو ا ْلحَقّ وََأنّ ُه ُي ْ‬
‫ض بِا ْلحَقّ} (‪.)427‬‬
‫لرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫المخلوقات التي خلقها بالحق وللحق قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬خََلقَ ال ّ‬
‫ص ‪146‬‬

‫‪ )(418‬الية ‪ 5‬من سورة يونس ‪.‬‬


‫‪ )(419‬الية ‪ 213‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(420‬الية ‪ 13‬من سورة السجدة ‪" ،‬المفردات" (ص ‪ )125‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(421‬الية ‪ 53‬من سورة يونس ‪.‬‬
‫‪ )(422‬الية ‪ 71‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(423‬الية ‪ 147‬من سورة البقرة ‪ ،‬و الية ‪ 60‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(424‬الية ‪ 149‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(425‬المنهاج" (‪.)1/188‬‬
‫‪ )(426‬الية ‪ 6‬من سورة الحج ‪.‬‬
‫‪ )(427‬الية ‪ 44‬من سورة العنكبوت ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫فال ‪-‬تعالى‪ -‬هو ال حق ال مبين‪ ،‬ووجوده ال حق‪ ،‬وقوله ال حق‪ ،‬و صفاته ال حق‪ ،‬وأ سماؤه ال حق"‬
‫(‪)428‬‬
‫ا‪.‬هه‪.‬‬
‫ص ‪147‬‬
‫‪ -15‬قال‪ ":‬حدث نا قبي صة؛ حدث نا سفيان‪ ،‬عن ا بن جر يج‪ ،‬عن سليمان‪ ،‬عن طاوس‪ ،‬عن ا بن‬
‫عباس‪ ،‬قال‪ :‬كان النبي – صلى ال عليه وسلم – يدعو من الليل‪ :‬اللهم لك الحمد أنت رب السماوات‬
‫والرض‪ ،‬لك الحمد أنت قيم السماوات والرض ومن فيهن‪ ،‬لك الحمد أنت نور السماوات والرض‪،‬‬
‫قولك ال حق‪ ،‬ووعدك ال حق‪ ،‬ولقاؤك حق‪ ،‬والج نة حق‪ ،‬والنار حق‪ ،‬وال ساعة حق‪ ،‬الل هم لك أ سلمت‪،‬‬
‫و بك آم نت‪ ،‬وعل يك توكلت‪ ،‬وإل يك أن بت‪ ،‬و بك خا صمت‪ ،‬وإل يك حاك مت‪ ،‬فاغ فر لي ما قد مت و ما‬
‫أخرت‪ ،‬وأسررت‪ ،‬وأعلنت‪ ،‬أنت إلهي‪ ،‬ل إله لي غيرك"‪.‬‬
‫حدثنا ثابت بن محمد‪ ،‬حدثنا سفيان بهذا وقال‪ " :‬أنت الحق‪ ،‬وقولك الحق"‪.‬‬
‫كان النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقول هذا الدعاء بعد أن يكبر تكبيرة الحرام في تهجده‪ ،‬كما‬
‫بينه ابن خزيمة‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫"باب ذكر الدليل على أن النبي – صلى ال عليه وسلم‪ -‬كان يحمد بهذا التحميد بعد أن يكبر" ثم‬
‫ساق بال سند إلى ا بن عباس‪ ،‬قال‪ :‬كان ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إذا قام للته جد قال ب عد ما‬
‫(‪)429‬‬
‫يكبر‪ :‬اللهم لك الحمد " الخ‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الل هم لك الح مد " الح مد هو الثناء بالقول على المحمود ب صفاته اللز مة والمتعد ية‪ ،‬و"ال"‬
‫ف يه لل ستغراق‪ ،‬وال ستقصاء‪ ،‬أي جم يع الح مد وا جب وم ستحق ل تعالى‪ ،‬ف هو المحمود على صفاته‪،‬‬
‫وأ سمائه‪ ،‬وعلى نع مه‪ ،‬وأياد يه‪ ،‬وعلى خل قه وأفعاله‪ ،‬وعلى أمره وحك مه‪ ،‬و هو المحمود أولً وآخرا‪،‬‬
‫وظاهرا وباطنا‪.‬‬
‫و أما الشكر‪ :‬فل يكون إل على الصفات المتعدية‪ ،‬ويكون بالقلب واللسان والجوارح‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫شكْرًا} (‪.)430‬‬
‫ل دَاوُودَ ُ‬
‫عمَلُوا آ َ‬
‫{ا ْ‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫أفادتكم النعماء مني ثلثة يدي ولساني والضمير المحجبا‬
‫قوله‪ " :‬أنت رب السماوات والرض " أي‪ :‬أنت مالكهما ومن فيهما‪ ،‬والمتصرف بهما بمشيئتك‪،‬‬
‫وأنت موجدهما من العدم‪ ،‬فالملك لك‪ ،‬وليس لحد معك اشتراك أو تدبير‪ ،‬تباركت وتعاليت‪.‬‬
‫ص ‪148‬‬

‫‪" )(428‬المنهاج" (‪.)1/369‬‬


‫‪" )(429‬صحيح ابن خزيمة" (‪.)2/184‬‬
‫‪ )(430‬الية ‪ 13‬من سورة سبأ ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قوله‪ ":‬لك الحمهد أنهت قيهم السهماوات والرض ومهن فيههن" أي‪ :‬أنهت الذي أقمتهمها مهن العدم‪،‬‬
‫والقائم عليهما بما يصلحهما ويقيمهما‪ ،‬فأنت الخالق الرازق‪ ،‬المالك المدبر‪ ،‬المحيي المميت‪ ،‬الغني عن‬
‫كل شيء‪ ،‬وكل من سواك فقير إليك‪ ،‬ومصيره إليك كما أنك أنت الذي أوجدته‪ ،‬فلك الحمد‪.‬‬
‫وفي رواية "قيام" وفي أخرى "قيوم"‪ ،‬وكلها من أبنية المبالغة‪.‬‬
‫"والقيم معناه‪ :‬القائم بأمور الخلق‪ ،‬ومدبرهم‪ ،‬ومدبر العالم في جميع أحواله‪.‬‬
‫والقيوم‪ :‬هو القائم بنف سه مطلقا‪ ،‬ل بغيره‪ ،‬ويقوم به كل موجود‪ ،‬ح تى ل يت صور وجود الش يء‬
‫ول دوام وجوده إل به‪.‬‬
‫وقال النوربش تي‪ :‬معناه‪ :‬أ نت الذي تقوم بحفظه ما‪ ،‬وح فظ من أحاط تا به واشتمل تا عل يه‪ ،‬وقال "‬
‫من" تغليبا للعقلء على غيرهم" اهه(‪.)431‬‬
‫قوله‪ " :‬لك الحمهد أنهت نور السهماوات والرض " قال الحافهظ‪ :‬أي منورهمها‪ ،‬وبهك يهتدي مهن‬
‫فيهما"(‪.)432‬‬
‫وقال القاضي عياض‪ " :‬معناه‪ :‬ذو النور‪ ،‬أي خالقه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬منور الدنيا بالشمس والقمر والنجوم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬منور قلوب عباده المؤمنين بالهداية والمعرفة "(‪.)433‬‬
‫قلت‪ :‬هذا تأويل باطل كما سيأتي بيان بطلنه‪.‬‬
‫قال شيخ السلم في جواب من قال‪ :‬إنه يجب تأويل قوله‪ ":‬ال نور السماوات والرض " قطعا‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل نسلم أنه يجب تأويله‪ ،‬ول نسلم أن ذلك لو وجب قطعي‪ ،‬بل جماهير المسلمين ل يتأولون هذا‬
‫ال سم‪ ،‬وهذا مذهب ال سلفية وجمهور ال صفاتية من أ هل الكلم والفقهاء وال صوفية وغير هم‪ ،‬و هو قول‬
‫أبي سعيد ابن كلب‪ ،‬ورد على الجهمية تأويلهم " اسم النور" وكذا الشعري" ا‪.‬هه(‪.)434‬‬
‫و قد نص ال –تعالى‪ -‬في كتا به أ نه نور ال سماوات والرض‪ ،‬وزاد ذلك ر سول ال _ صلى ال‬
‫عليه وسلم_إيضاحا وبيانا‪ ،‬كما في هذا الحديث وغيره‪.‬‬
‫ص ‪149‬‬
‫وقد أخبر ‪-‬تعالى‪ :-‬أن الرض يوم القيامة تشرق بنوره‪ ،‬وصحت النصوص عن رسول ال –‬
‫صلى ال عل يه و سلم‪ -‬بأ نه يحت جب بالنور‪ ،‬فإذا كا نت الرض تشرق من نوره‪ ،‬ف هو – جل وعل‪-‬‬
‫نور‪ ،‬كما قاله رسوله‪ " :‬أنت نور السماوات والرض"‪.‬‬

‫‪ )(431‬من القسطلني (‪.)10/369‬‬


‫‪" )(432‬الفتح" (‪.)3/4‬‬
‫‪" )(433‬المشارق" (‪.)2/31‬‬
‫‪" )(434‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/379‬‬

‫‪113‬‬
‫ْضه ِبنُورِ‬
‫لر ُ‬‫َته ا َ‬
‫شرَق ِ‬
‫لرْضهِ} (‪)435‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وََأ ْ‬
‫السهمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ّهه نُو ُر ّ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬الل ُ‬
‫َربّهَا} (‪.)436‬‬
‫وفي الحديث الذي رواه ابن إسحاق في السيرة عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أنه قال‬
‫في دعائه‪ " :‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا والخرة "(‪.)437‬‬
‫وقال ابن مسعود‪ ":‬إن ربكم ليس عنده ليل ول نهار‪ ،‬نور العرش من نور وجهه"(‪.)438‬‬
‫وفي حديث أبي ذر في "صحيح مسلم" قال‪ :‬سألت رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬هل رأيت‬
‫ربك؟ قال‪ :‬نور أنّى أراه" وفي رواية "رأيت نورا"(‪.)439‬‬
‫وفي حديث أبي موسى في "صحيح مسلم" قال‪ :‬قام فينا رسول ال بخمس كلمات‪ ،‬فقال‪" :‬إن ال‬
‫ل ينام‪ ،‬ول ينب غي له أن ينام‪ ،‬يخ فض الق سط ويرف عه‪ ،‬ير فع إل يه ع مل الل يل ق بل النهار‪ ،‬وع مل النهار‬
‫قبل الليل‪ ،‬حجابه النور‪ ،‬لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(‪.)440‬‬
‫السبحات هي‪ :‬نوره وبهاؤه وجلله‪.‬‬
‫ص ‪150‬‬
‫فأ خبر – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أ نه ‪-‬تعالى‪ -‬احت جب عن المخلوقات بحجا به النور‪ ،‬وأ نه لو‬
‫ك شف ذلك الحجاب لحر قت سبحات وج هه ما أدر كه ب صره من خل قه‪ ،‬ومعلوم أن ب صره ل يفو ته‬
‫شيء‪ ،‬ول يستره ساتر‪ ،‬ول يحول دونه حائل‪.‬‬
‫وفي الترمذي عن عبد ال بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " -‬إن ال خلق‬
‫خلقه في ظلمة‪ ،‬وألقى عليهم من نوره‪ ،‬فمن أصابه من ذلك النور اهتدى‪ ،‬ومن أخطأه ضل"(‪.)441‬‬
‫فقهد جاءت النصهوص "بتسهمية الرب نورا‪ ،‬وبأن له نورا مضافا إليهه‪ ،‬وبأنهه نور السهماوات‬
‫والرض‪ ،‬وبأن حجابه النور‪ ،‬فهذه أربعة أنواع‪:‬‬
‫فالول‪ :‬يطلق عليه ‪-‬تعالى‪ -‬اسما له‪ ،‬فإنه النور الهادي‪.‬‬

‫‪ )(435‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬


‫‪ )(436‬الية ‪ 69‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫‪ )(437‬انظر ‪" :‬مختصر السيرة" لبن هشام (‪ ، )1/420‬وقال شيخ السلم ‪ :‬رواه الطبراني وغيره ‪،‬‬
‫انظر‪" :‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/387‬‬
‫‪ )(438‬رواه الدارمي في "الرد على بشر" (ص ‪ ، )449‬وابن منده في "الرد على الجهمية" (ص ‪ ،)99‬قال‬
‫ابن القيم ‪:‬رواه الطبراني في "المعجم" وفي "السنة" ‪ .‬انظر ‪" :‬اجتماع الجيوش" (ص ‪.)6‬‬
‫‪ )(439‬انظر ‪" :‬مسلم" (‪.)1/161‬‬
‫‪" )(440‬مسلم" (‪.)1/162‬‬
‫‪ )(441‬انظر ‪ " :‬تحفة الحوذي‪ )7/401( :‬وقال ‪ :‬حسن ‪ ،‬ورواه أحمد بسند صحيح ‪ ،‬انظر‪" :‬المسند" (‬
‫‪ ، )2/176‬وانظر ‪ :‬تحقيق أحمد شاكر (‪ ، )10/127‬وأخرجه الحاكم وصححه الذهبي‪ .‬انظر ‪:‬‬
‫"المستدرك" (‪ ، )1/10‬وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (‪. )1/107‬‬

‫‪114‬‬
‫والثا ني‪ :‬يضاف إل يه ك ما تضاف إل يه حيا ته‪ ،‬و سمعه وب صره‪ ،‬وعز ته وقدر ته وعل مه‪ ،‬ومرة‬
‫يضاف إل يه وج هه الكر يم‪ ،‬وأخرى يضاف إلى ذا ته المقد سة‪ :‬فإضاف ته إلى وج هه ‪-‬تعالى‪ -‬كقوله –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬أعوذ بنور وجهك " وقوله‪" :‬نور السماوات والرض من نور وجهه"‪.‬‬
‫ض ِبنُورِ َر ّبهَا} (‪.)442‬‬
‫لرْ ُ‬
‫شرَقَتِ ا َ‬
‫وإضافته إلى ذاته المقدسة كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وََأ ْ‬
‫وكمها فهي حديهث عبهد ال بهن عمرو‪ ":‬أن ال خلق خلقهه فهي ظلمهة ثهم ألقهى عليههم مهن نوره"‬
‫الحديث‪.‬‬
‫لرْضِ} (‪.)443‬‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ويضاف نوره ‪-‬تعالى‪ -‬إلى السماوات والرض‪ ،‬كقوله‪{ :‬اللّ ُه نُورُ ال ّ‬
‫وقوله فهي هذا الحديهث‪ " :‬أنهت نور السهماوات والرض "‪ .‬وكذا حجابهه النور كقوله‪ " :‬حجابهه‬
‫(‪)444‬‬
‫النور – أو النار‪ "-‬كما في حديث أبي موسى" اهه‪.‬‬
‫ص ‪151‬‬
‫على القول بأن الضميهر يعود إلى ال‬ ‫(‪)445‬‬
‫هبَاحٌ}‬
‫شكَا ٍة فِيهَها مِص ْ‬
‫ه َك ِم ْ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬مثَلُ نُورِه ِ‬
‫‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫قال ابن القيم‪ " :‬إضافة النور إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬على أحد وجهين‪:‬‬
‫إضافة صفة إلى موصوفها‪ ،‬وإضافة مفعول إلى فاعله‪.‬‬
‫لرْ ضُ ِبنُورِ َر ّبهَا} (‪)446‬فهذا يكون يوم القيا مة‪ ،‬تشرق‬
‫ش َرقَ تِ ا َ‬
‫فالول‪ :‬كقوله – عز و جل ‪{ :-‬وََأ ْ‬
‫بنوره ‪-‬تعالى‪ -‬إذا جاء لفصل القضاء بين عباده‪.‬‬
‫ومنه قوله في الدعاء المشهور‪ " :‬أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني‪ ،‬ل إله إل أنت"(‪.)447‬‬
‫وفي الثر الخر‪ " :‬أعوذ بنور وجهك‪ ،‬الذي أشرقت له الظلمات "(‪.)448‬‬
‫فأخهبر –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬أن الظلمات أشرقهت لنور وجههه‪ ،‬كمها أخهبر ال ‪-‬تعالى‪ -‬أن‬
‫الرض تشرق يوم القيامة بنوره‪.‬‬
‫صبَاحٌ} (‪ ،)449‬وقد اختلف على‬
‫الوجه الثاني‪ :‬ما ذكر في قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬مثَلُ نُورِ ِه َك ِمشْكَا ٍة فِيهَا مِ ْ‬
‫من يعود الضمير في {نوره}‪ ،‬فقيل‪ :‬على محمد –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وقيل‪ :‬على المؤمن‪ ،‬والصحيح‬
‫عوده على ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬

‫‪ )(442‬الية ‪ 69‬من سورة الزمر ‪.‬‬


‫‪ )(443‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬
‫‪ )(444‬من "الصواعق" ملخصاً (‪.)359‬‬
‫‪ )(445‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬
‫‪ )(446‬الية ‪ 69‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫‪ )(447‬هو الحديث المتقدم ذكره ‪ ،‬قال في " الفتح الكبير" ‪ :‬خرجه الطبراني ‪ .‬انظر لفظه فيه (‪.)1/235‬‬
‫‪ )(448‬تقدم تخريجه قبل قليل ‪.‬‬
‫‪ )(449‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫والمعنى‪ :‬مثل نور ال في قلب عبده المؤمن‪ ،‬وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫فهذا النور يضاف إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬على أن معط يه لعبده‪ ،‬وواه به‪ ،‬ك ما يضاف إلى الع بد؛ ل نه‬
‫محله وقابله" اهه(‪.)450‬‬
‫ص ‪152‬‬
‫فال ‪-‬تعالى‪ -‬سمى نف سه نورا‪ ،‬وج عل كتا به نورا‪ ،‬ور سوله نورا‪ ،‬ودي نه نورا‪ ،‬واحت جب عن‬
‫لرْ ضِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫خل قه بالنور‪ ،‬وج عل دار أوليائه في الخرة نورا يتلل‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬اللّ ُه نُو ُر ال ّ‬
‫جرَةٍ‬
‫شَ‬‫َبه ُدرّيّ يُو َقدُ مِن َ‬
‫ِصهبَاحُ فِي ُزجَاجَ ٍة ال ّزجَاجَ ُة َكَأنّهَا كَ ْوك ٌ‬
‫ِصهبَاحٌ ا ْلم ْ‬
‫شكَا ٍة فِيهَا م ْ‬
‫ِهه َكمِ ْ‬
‫َمثَلُ نُور ِ‬
‫ّهه‬
‫ْسهسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَى نُورٍ َي ْهدِي الل ُ‬
‫َمه َتم َ‬
‫غ ْر ِبيّةٍ َيكَادُ َز ْيتُه َا ُيضِيءُ وَلَ ْو ل ْ‬
‫شرْ ِقيّةٍ وَل َ‬
‫ل َ‬
‫ّمبَا َركَ ٍة َزيْتُو ِنةٍ ّ‬
‫شيْءٍ عَلِي مٌ} (‪ ،)451‬قال أ بي بن ك عب‪ " :‬بدأ ال‬
‫ل ْمثَالَ لِلنّا سِ وَاللّ ُه ِبكُلّ َ‬
‫ضرِ بُ اللّ ُه ا َ‬
‫ِلنُورِ ِه مَن َيشَاء َو َي ْ‬
‫بنور نفسه‪ ،‬ثم ذكر نور المؤمن"(‪.)452‬‬
‫وفسر بكونه منور السماوات والرض‪ ،‬وبأنه هادي أهل السماوات والرض‪ ،‬وهذا ل يمنع أنه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬في نف سه نور‪ ،‬فإن من عادة ال سلف في تف سيرهم أن يذكروا ب عض صفات المف سر – بف تح‬
‫السين – من السماء‪ ،‬أو بعض أنواع ذلك المفسر‪ ،‬ول ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات له‪.‬‬
‫فبنوره اهتدى أهل السماوات والرض‪ ،‬وهذا إنما هو فعله‪ ،‬وأما النور الذي هو وصفه فهو قائم‬
‫به‪ ،‬ومنه اشتق له اسم النور‪ ،‬الذي هو أحد السماء الحسنى‪ ،‬كما دلت على ذلك النصوص‪ ،‬فل يجوز‬
‫تحريف ذلك بالتأويلت الباطلة‪.‬‬
‫و أ ما النوار القائ مة بأعيان مشاهدة قائ مة بأنف سها‪ ،‬فلم تأت إضافت ها إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬أبدا‪ ،‬فل‬
‫يقال لنوار المصابيح‪ ،‬أو نور الشمس أو القمر أو الكواكب‪ ،‬إنها نور ال‪.‬‬
‫والحديث تضمن ثلثة أمور شاملة عامة للسماوات والرض‪:‬‬
‫وهي‪ :‬ربوبيتهما‪ ،‬وقيوميتهما‪ ،‬ونورهما‪.‬‬
‫فكونه – سبحانه – ربا لهما‪ ،‬وقيوما لهما‪ ،‬ونورا لهما‪ ،‬أوصاف له ‪-‬تعالى‪ ،-‬وآثار هذه المور‬
‫الثلثة قائمة بهما‪.‬‬
‫ص ‪153‬‬
‫فأثهر الربوبيهة‪ :‬الخلق واليجاد‪ ،‬وأثهر القيوميهة‪ :‬صهلحهما‪ ،‬وانتظامهمها‪ ،‬وأثهر نوره ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫استنارة السماوات‪ ،‬وإشراق الرض بنوره يوم القيامة‪.‬‬

‫‪" )(450‬اجتماع الجيوش" بتلخيص وتصرف (ص ‪.)6‬‬


‫‪ )(451‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬
‫‪ )(452‬رواه ابن جرير في "تفسيره" (‪.)18/135‬‬

‫‪116‬‬
‫و أما صفة الربوبية والقيومية‪ ،‬والنور‪ ،‬فهي قائمة به – تعالى – كما أن صفة الرحمة‪ ،‬والقدرة‪،‬‬
‫والرادة‪ ،‬والر ضا‪ ،‬والغ ضب‪ ،‬قائ مة به ‪-‬تعالى‪ -‬والرح مة الموجودة في العالم‪ ،‬والح سان‪ ،‬والخ ير‪،‬‬
‫والنعمة‪ ،‬والعقوبة‪ ،‬آثار تلك الصفات‪.‬‬
‫وهكذا عل مه ‪-‬تعالى‪ -‬القائم به هو صفته‪ ،‬وأ ما علوم عباده ف من آثار عل مه‪ ،‬وقدرت هم من آثار‬
‫قدرته‪.‬‬
‫وبذلك يعلم أن قول المعطلة‪ " :‬كل عا قل يعلم بالبدي هة أ نه ال – سبحانه – ل يس هو هذا النور‬
‫الفائض من جرم الش مس والق مر والم صابيح‪ ،‬فل بد من ح مل قوله‪ " :‬أ نت نور ال سماوات والرض"‬
‫على معنى أنه منور السماوات والرض‪ ،‬أو هادي أهل السماوات والرض " يعلم أنه باطل من جنس‬
‫تحريفاتهم لسائر صفات ال‪ ،‬كما هو نهجهم‪.‬‬
‫ونحن نقول لهم أيضا‪ :‬أسأتم الظن بكلم ال‪ ،‬وكلم رسوله –صلى ال عليه وسلم‪ -‬حيث فهمتم‬
‫أن حقيقته ومدلوله أنه سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وهذا الفهم الفاسد هو الذي‬
‫أوجب لكم إنكار حقيقة نوره – تعالى – وجحده‪.‬‬
‫فجمعتم بين الفهم الفاسد‪ ،‬وإنكار المعنى الحق‪.‬‬
‫وليس ما ذكرتم هو نور الرب ‪-‬تعالى‪ -‬القائم به‪ ،‬الذي هو صفته‪ ،‬وإنما هو مخلوق له منفصل‬
‫ع نه‪ ،‬فإن هذه النوار المخلو قة‪ ،‬تكون في م حل دون م حل‪ ،‬فنور الش مس والق مر ينور ب عض الرض‬
‫ل جملتها‪ ،‬ول ينور السماوات‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ف من اد عى أن نور الش مس والق مر ونحوه ما‪ ،‬هو المراد بقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬اللّ ُه نُورُ ال ّ‬
‫لرْ ضِ} (‪)453‬وقول الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬أنت نور السماوات والرض " فقد كذب على‬
‫وَا َ‬
‫ال ورسوله(‪.)454‬‬
‫ص ‪154‬‬
‫قوله‪ " :‬وقولك الحق " أي أنت قلته حقا‪ ،‬فهو صفتك‪ .‬وما قاله ال ‪-‬تعالى‪ -‬فهو صدق وحق‪ ،‬ل‬
‫يأتيه الباطل من بين يديه‪ ،‬ول من خلفه‪ ،‬ل في خبره‪ ،‬ول في حكمه وتشريعه‪ ،‬ول في وعده ووعيده‪.‬‬
‫وهذه الجملة هي محل الشاهد من الحديث‪ ،‬حيث وصف قوله ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه الحق‪ ،‬فل يجوز أن‬
‫يكون مخلوقا‪ ،‬كما تزعم الفرق الضالة من المعتزلة وغيرهم‪.‬‬
‫قال سفيان في "تفسيره"‪ " :‬إن كل شيء مخلوق‪ ،‬والقرآن ليس بمخلوق‪ ،‬وكلمه أعظم من خلقه؛‬
‫لنه يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬فل يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق‪ ،‬والقرآن كلم ال"(‪.)455‬‬

‫‪ )(453‬الية ‪ 35‬من سورة النور ‪.‬‬


‫‪ )(454‬هذا مقتبس من كلم شيخ السلم ‪ .‬انظر ‪ ":‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/374‬‬
‫‪" )(455‬خلق أفعال العباد " للبخاري (ص ‪" ، )124‬مجموع عقائد السلف" ‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫وقال أ بو ذر – ر ضي ال ع نه ‪ :-‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬قال ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫عطائي كلم‪ ،‬وعذابي كلم‪ ،‬وإذا أردت شيئا فإنما أقوله له‪ :‬كن‪ ،‬فيكون"(‪.)456‬‬
‫والذيهن أراد البخاري – رحمهه ال – الرد عليههم مهن الجهميهة والمعتزلة ونحوههم‪ ،‬ينكرون أن‬
‫يكون ل ‪-‬تعالى‪ -‬كلم تكلم به يكون صفة له؛ لن هذا – بزعم هم – يقت ضي أن يكون ج سما حادثا؛‬
‫لن الكلم – زعموا – مهن الصهفات الدالة على حدوث مهن قام بهه؛ لمها فيهه مهن الترتيهب‪ ،‬والتقديهم‬
‫والتأخيهر‪ ،‬والتعاقهب‪ .‬ولمها رأوا اتفاق الرسهل على إثبات الكلم ل –تعالى‪ -‬وأن القرآن مملوء بذلك‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬إن ال متكلم‪ ،‬بمعنى أنه خالق الكلم‪.‬‬
‫ثهم جاءت الشعريهة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن كلم ال ههو المعنهى القائم بنفسهه‪ ،‬وليهس ل كلم منطوق بهه‪،‬‬
‫مسموع منه‪ ،‬كما سيأتي – إن شاء ال – تفصيل ذلك في أبواب الكلم‪.‬‬
‫وهم بذلك يتفقون مع المعتزلة على إنكار ثبوت الكلم ل حقيقة‪ ،‬كما أنهم يوافقونهم في المعنى‬
‫على أنه مخلوق‪ ،‬وعلى هؤلء جميعا اتجه الرد فيما قصده البخاري وغيره من أهل السنة‪.‬‬
‫ص ‪155‬‬
‫ومعلوم "أن‪ :‬اليمان الذي جاءت به الر سل عن ال ‪-‬تعالى‪ -‬وجاء به خاتم هم م صدقا ل ما ب ين‬
‫يديه من الكتاب‪ ،‬هو أن كلم ال صفة له غير مخلوق‪ ،‬وأن القرآن‪ ،‬والتوارة‪ ،‬والنجيل‪ ،‬وغيرها من‬
‫كتب ال‪ ،‬هي كلمه‪.‬‬
‫وكلم ال ل يكون مخلوقا منف صلً ع نه‪ ،‬ك ما ل يكون كلم المتكلم منف صلً ع نه‪ ،‬فإن من أن كر‬
‫ذلك فقد جحد كلم ال الذي هو رسالته‪ ،‬وأنكر حقيقة ما أخبرت به الرسل‪ ،‬وعلمته أممها‪ ،‬وألحد في‬
‫أ سماء ال وآيا ته‪ ،‬ومثله بالمعدوم‪ ،‬والم يت‪ ،‬فإن الحياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والكلم‪ ،‬ون حو ذلك‪ ،‬صفات‬
‫كمال‪ ،‬وال ‪-‬تعالى‪ -‬أ حق ب كل كمال‪ ،‬فيمت نع أن يث بت للمخلوق كمال إل والخالق أ حق به‪ ،‬ك ما يمت نع‬
‫أن يتنزه المخلوق عن نقص إل والخالق أحق بتنزهه منه؛ لنه هو الذي أعطى الكمال للكاملين‪.‬‬
‫و من لم يت صف ب صفات الكمال‪ ،‬من الحياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬وال سمع‪ ،‬والب صر‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والكلم‪ ،‬وغ ير‬
‫ذلك‪:‬‬
‫فإما أن يكون قابلً للتصاف بذلك ولم يتصف به‪.‬‬
‫أو غير قابل للتصاف به‪.‬‬
‫فإن قبله ولم يت صف به‪ ،‬كان مو صوفا ب صفات الن قص‪ ،‬كالموت‪ ،‬والج هل‪ ،‬والع مى‪ ،‬وال صمم‪،‬‬
‫والعجز‪ ،‬والبكم‪.‬‬
‫فإن لم يقبل التصاف بهذه الصفات‪ ،‬كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها‪.‬‬

‫‪ )(456‬نفس المصدر (ص ‪.)131‬‬

‫‪118‬‬
‫فالحيوان الذي يكون تارة سميعا‪ ،‬وتارة أ صم‪ ،‬وتارة ب صيرا‪ ،‬وتارة أع مى‪ ،‬وتارة متكلما‪ ،‬وتارة‬
‫أخرس‪ ،‬أك مل من الجماد الذي ل يق بل ل هذا‪ ،‬ول هذا‪ ،‬ف من لم ي صف ال ‪-‬تعالى‪ -‬ب صفات الكمال‪،‬‬
‫لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص‪ ،‬أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص (‪.)457‬‬
‫قوله‪" :‬ووعدك الحق" أي‪ :‬ل بد من وقوعه‪ ،‬على ما وعدت‪ ،‬فل خلف فيه ول تبديل‪.‬‬
‫ص ‪156‬‬
‫"ولقاؤك حق" أي‪ :‬ل بد للميعاد من ملقا تك‪ ،‬فتجازي هم على أعمال هم‪ ،‬واللقاء يتض من الرؤ ية‪،‬‬
‫والمعاينة‪ ،‬كما سيأتي – إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫"والجنة حق‪ ،‬والنار حق" أي‪ :‬ثابتتان‪ ،‬موجودتان‪ ،‬كما أخبرت بذلك أنهما معدتان لهلهما‪ ،‬فهما‬
‫دار البقاء‪ ،‬وإليهما مصير العباد‪.‬‬
‫"والساعة حق" أي مجيء يوم القيامة حق ل مرية فيه‪ ،‬فهو ثابت ل بد منه‪ ،‬وهي نهاية الدنيا‪،‬‬
‫ومبدأ الخرة‪ ،‬وفي ضمن هذه الخبار‪ :‬الخبار عن إيمانه بما ذكر‪ ،‬إيمانا ل يتزعزع‪ ،‬والساعة يعبر‬
‫بها عن البعث‪ ،‬أي الساعة التي يبعث ال فيها الموتى من قبورهم أحياء‪ ،‬فيجمعهم بعد تفرق أجزائهم‬
‫وتشتتها‪ ،‬بل واستحالتها ترابا‪ ،‬وهباء‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫فيجمعهم‪ ،‬ويحييهم‪ ،‬كما كانوا في الدنيا‪ ،‬ويجازيهم بعد حسابهم‪ ،‬وحشرهم‪ .‬وأدخلت اللف واللم‬
‫في الساعة؛ لنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها‪ ،‬وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت‪،‬‬
‫قاله الطبري(‪.)458‬‬
‫"اللهم لك أسلمت" أي‪ :‬أذعنت لمرك‪ ،‬وانقدت له‪ ،‬وخضعت لحكمك‪.‬‬
‫" وبك آمنت" أي‪ :‬صدقت‪ ،‬وعملت بمقتضى ذلك‪ ،‬بعد تحققي باليمان بك‪.‬‬
‫"وعليك توكلت" أي‪ :‬اعتمدت عليك‪ ،‬ووكلت أموري إليك‪ ،‬راضيا بما قضيته لي‪ ،‬بعد أن فعلت‬
‫السباب التي جعلتها إليّ‪ ،‬دينية كانت‪ ،‬أو دنيوية‪.‬‬
‫فالتو كل‪ :‬هو العتماد على ال ‪-‬تعالى‪ -‬والث قة به‪ ،‬وف عل ال سباب ال تي رت بت علي ها الشياء‪،‬‬
‫والتي يستطيع العبد فعلها‪ ،‬وهو من أفضل العبادة‪ ،‬بل جاء ما يدل على أنه شرط في حصول اليمان‪،‬‬
‫كما في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَعَلَى اللّهِ َفتَ َوكّلُو ْا إِن كُنتُم مّ ْؤ ِمنِينَ} (‪".)459‬و إليك أنبت" أي‪ :‬رجعت إليك طائعا‬
‫منقادا‪ ،‬مذعنا‪ ،‬خاضعا لك في جميع أموري‪.‬‬
‫ص ‪157‬‬

‫‪" )(457‬مجموع الفتاوى" (‪.)12/355‬‬


‫‪ )(458‬انظر ‪" :‬تفسيره" (‪ ، )11/324‬ولكثرة ما أخبروا بها ووصفت لها ‪ ،‬وخوفوا بقربها صارت معلومة‬
‫لهم‪ ،‬فأدخلت عليها اللف واللم لذلك ‪.‬‬
‫‪ )(459‬الية ‪ 23‬من سورة المائدة ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫"و إليك حاكمت" أي‪ :‬كل من أبى قبول الحق‪ ،‬أو جحده‪ ،‬حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه‬
‫مجانبا بذلك ح كم كل طاغوت‪ ،‬من قانون وض عي‪ ،‬أو كا هن أو غيره‪ ،‬م ما يتحا كم إل يه الب شر‪ ،‬من‬
‫الوضاع الباطلة شرعا‪.‬‬
‫وقدم صلت هذه الفعال كلها لرادة التخصيص والحصر‪ ،‬أي‪ :‬أخصك – يا رب‪ -‬وحدك فيما‬
‫ذكر‪ ،‬ول أعدو ذلك بحال من الحوال‪.‬‬
‫في هذا الحديث قدم الثناء على ال ‪-‬تعالى‪ -‬بأن له الحمد‪ ،‬وبما ذكر من صفاته‪ ،‬ثم توس إليه‪،‬‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬بإيمانه بأن قوله حق‪ ،‬ووعده حق‪ ،‬إلى آخر ما ذكر‪ ،‬وأنه مذعن لمره‪ ،‬منقاد لطاعته‪ ،‬وأنه‬
‫معتمد عليه‪ ،‬وبه يخاصم وإليه يحاكم‪ ،‬ثم بعد ذلك سأل حاجته‪ ،‬وهي أن يغفر له ما قدم من خطأ‪ ،‬أو‬
‫تقصير‪ ،‬وما أخر‪ ،‬وما أسر‪ ،‬وما أعلن‪.‬‬
‫ثهم ختهم ذلك بأنهه ل مفزع‪ ،‬ول ملجهأ له‪ ،‬غيهر ربهه ‪-‬تعالى‪ -‬فههو إلههه الذي يعبده بمها ذكهر‪،‬‬
‫ويخاف عقابه – ويؤمل فضله ونواله‪ ،‬فقال‪ " :‬أنت إلهي ل إله لي غيرك" فل أتوجه إلى سواك‪ ،‬إذ كل‬
‫مألوه غيرك باطهل ودعوتهه ضلل ووبال‪ ،‬وهذا ههو التوحيهد الذي جاءت بهه رسهل ال‪ ،‬وفرضهه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬على عباده‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فاغفر لي ما قدمت‪ ،‬وما أخرت‪ ،‬وأسررت‪ ،‬وأعلنت"‪.‬‬
‫أصل الغفر‪ :‬الستر مع الوقاية‪ ،‬ومنه المغفر؛ لنه يستر الرأس ويقيه من السلح‪.‬‬
‫"ما قدمت" أي‪ :‬قبل وقتي هذا‪.‬‬
‫"وما أخرت" أي‪ :‬بعد وقتي هذا‪.‬‬
‫أي‪ :‬اغ فر لي ما عملت من الذنوب‪ ،‬و ما سأعمله‪ ،‬و ما ظ هر من ها ل حد من خل قك‪ ،‬و ما خ في‬
‫عنهم‪ ،‬ولم يعلمه غيرك‪.‬‬
‫وقوله في الرواية الخرى‪ " :‬أنت الحق‪ ،‬وقولك الحق‪ " ،‬فيها البيان بأن اسم الحق يقع على ذات‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬اسما‪ ،‬كما سبق بيانه‪ ،‬ويقع على صفاته‪ ،‬كما في قوله‪ " :‬وقولك الحق"‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث وأمثاله دليل على وقوع الذنوب من النبياء‪ ،‬إذ لو لم يكن له ذنب كيف يسأل‬
‫المغفرة؟ وقد قص ال –تعالى‪ -‬ما وقع لبعض الرسل من‬
‫ص ‪158‬‬
‫المخالفات‪ ،‬وهذه مسألة مشهورة عند العلماء‪ ،‬وقد ألف فيها مؤلفات خاصة‪ ،‬وقد اتفق أهل السنة‬
‫على أن ما يبلغونه من أمر ال وشرعه أنهم معصومون فيه من الخطأ‪ ،‬وأما وقوع الذنوب منهم ففيه‬
‫الخلف‪ ،‬وقد بالغ بعض الناس‪ ،‬وكفر من قال بوقوع الذنب منهم‪ ،‬وهذا جهل من قائله‪.‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪ ":‬ات فق الم سلمون على أن هم مع صومون في ما يبلغون عن ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وبهذا‬
‫يحصل المقصود من البعثة‪ ،‬ولو لم تقع منهم الذنوب لفاتهم ما في التوبة من محبة ال وفرحه‪ ،‬ورفع‬
‫درجة التائب‪ ،‬وكون التائب بعد التوبة أفضل منه قبلها‪ ،‬مع ما في القول بأن الذنوب ل تقع منهم من‬

‫‪120‬‬
‫تكذيب لكتاب ال‪ ،‬وأخبار رسوله‪ ،‬أو تحريف لها‪ ،‬ومن اعتقد أن كل من لم يكفر‪ ،‬ولم يذنب‪ ،‬أفضل‬
‫من كل من آمن بعد كفره‪ ،‬أو تاب بعد الذنب‪ ،‬فهو مخالف لما علم بالضطرار من دين السلم‪ ،‬فإن‬
‫من المعلوم أن الصحابة أفضل من أبنائهم الذين ولدوا في السلم‪.‬‬
‫ك اللّ هُ مَا تَ َقدّ مَ مِن ذَنبِ كَ َومَا َتَأخّرَ} لما نزلت قال‬
‫وقد قال ‪-‬تعالى‪ -‬في أفضل الرسل‪ِ{ :‬ل َيغْ ِفرَ لَ َ‬
‫سكِينَ َة فِي قُلُو بِ‬
‫ال صحابة‪ :‬يا ر سول ال‪ ،‬هذا لك‪ ،‬ف ما ل نا؟ فأنزل – عز و جل ‪{ :-‬هُ َو اّلذِي أَنزَلَ ال ّ‬
‫ن ِليَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مّ َع إِيمَانِ ِهمْ}‪.‬‬
‫ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫وتوبة النبياء واستغفارهم أدلته كثيرة‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬إنه لم يكن لهم ما يوجب التوبة والستغفار‪،‬‬
‫ول تف ضل ال علي هم بمحب ته‪ ،‬وفر حه بتوبت هم‪ ،‬ومغفر ته ل هم ورحم ته‪ ،‬واعتراف جل يل القدر ب ما هو‬
‫عل يه من الحا جة إلى التو بة وال ستغفار دل يل على صدقه‪ ،‬ورفع ته‪ ،‬وتواض عه‪ ،‬وعبودي ته ل تعالى –‬
‫والغ نى عن الحا جة من خ صائص الربوب ية و قد قال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬الل هم اغ فر خطئي‬
‫وجهلي‪ ،‬وإ سرافي في أمري‪ ،‬و ما أ نت أعلم به م ني‪ ،‬الل هم اغ فر لي هزلي وجدي‪ ،‬وخطئي وعمدي‪،‬‬
‫وكل ذلك عندي"(‪.)460‬‬

‫‪ )(460‬انظر ‪ " :‬منهاج السنة" (‪ )228-1/227‬ملخصاً ‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ص ‪159‬‬
‫(‪)461‬‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا}"‬
‫ن اللّ ُه َ‬
‫قال‪ " :‬باب‪َ { :‬وكَا َ‬
‫يريهد بهذه الترجمهة بيان أن هاتيهن الصهفتين – السهمع والبصهر‪ -‬ثابتتان ل بالكتاب والسهنة‪،‬‬
‫وإجماع أتباع الرسهل‪ ،‬وبالعقهل‪ ،‬والفطرة‪ ،‬وبيان أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬لم يزل بصهفاته‪ ،‬وبيان أن المنكهر‬
‫لهاتين الصفتين قد ضل عن كتاب ال‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬واتبع غير سبيل المؤمنين أتباع الرسل‪.‬‬
‫قال القسطلني‪ ":‬وقد علم بالضرورة من الدين‪ ،‬وثبت في الكتاب والسنة‪ ،‬بحيث ل يمكن إنكاره‬
‫ول تأويله‪ ،‬أن الباري ‪-‬تعالى‪ -‬حهي سهميع بصهير‪ ،‬وانعقهد إجماع أههل الديان – بهل جميهع العقلء‪-‬‬
‫على ذلك"(‪.)462‬‬
‫"فالسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والحياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والكلم‪ ،‬ونحوها‪ ،‬صفات كمال ل نقص فيها‪ ،‬فمن‬
‫اتصهف بهها أكمهل ممهن ل يتصهف بهها‪ ،‬والنقهص فهي انتفائهها ل فهي ثبوتهها بإجماع العقلء‪ ،‬والقابهل‬
‫للتصاف بها كالحيوان أكمل‪ ،‬ممن ل يقبل التصاف بها كالجماد"‬
‫(‪)463‬‬

‫قلت‪ :‬الحامل على إنكار ذلك هو الجهل بال ‪-‬تعالى‪ -‬والقياس الفاسد؛ حيث قاسوا ذلك على ما‬
‫يعرفون من أنفسهم بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى عصب الصماخ‪ ،‬والبصر عبارة عن وقوع‬
‫أشعة البصار على جسم مقابل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬هذا ل يكون إل من جوارح وأجسام‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬هذه صفة أسماعكم وأبصاركم‪ ،‬أما رب العالمين فصفاته تابعة لذاته‪ ،‬وذاته ليس لها‬
‫نظير أو شبيه‪ ،‬فكذلك صفاته تعالى‪.‬‬
‫وكيفية صفاته ‪-‬تعالى‪ -‬مجهولة للخلق‪ ،‬ويكفينا أن نعلم أنه ‪-‬تعالى‪ -‬متصف بما وصف به نفسه‬
‫سمِيعُ‬
‫شيْءٌ وَهُ َو ال ّ‬
‫ووصفته به رسله حقيقة‪ ،‬وأنه في ذلك ليس له مثل‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪َ{ :-‬ليْسَ َك ِمثْلِهِ َ‬
‫ال َبصِيرُ}‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬قال ابن بطال‪ :‬غرض البخاري في هذا الباب الرد على‬
‫ص ‪160‬‬
‫من قال‪ :‬إن معنى "سميع بصير" عليم‪ ،‬قال‪ :‬ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالعمى الذي يعلم أن‬
‫ال سماء خضراء‪ ،‬ول يرا ها‪ ،‬وال صم الذي يعلم أن في الناس أ صواتا‪ ،‬ول ي سمعها‪ ،‬ول شك أن من‬
‫سمع وأبصر‪ ،‬أدخل في صفة الكمال‪ ،‬ممن انفرد بأحدهما دون الخر‪.‬‬
‫فصح أن كونه سميعا بصيرا‪ ،‬يفيد قدرا زائدا على كونه عليما‪.‬‬

‫‪ )(461‬الية ‪ 134‬من سورة النساء ‪.‬‬


‫‪" )(462‬إرشاد الساري" (‪.)10/370‬‬
‫‪" )(463‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/88‬‬

‫‪122‬‬
‫وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع‪ ،‬ويبصر ببصر‪ ،‬كما تضمن كونه عليما أنه يعلم‬
‫بعلم‪ ،‬ول فرق بيهن إثبات كونهه سهميعا بصهيرا‪ ،‬وبيهن كونهه ذا سهمع وبصهر‪ ،‬وهذا قول أههل السهنة‬
‫(‪)464‬‬
‫قاطبة"‬
‫وقال البيهقهي‪ " :‬السهميع من له سهمع يدرك به الم سموعات‪ ،‬والب صير من له بصهر يدرك به‬
‫المرئيات‪ ،‬وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته"(‪.)465‬‬
‫وقد تكاثرت الدلة من كتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬ومن سنة رسوله –صلى ال عليه وسلم‪ -‬على إثبات‬
‫السمع والبصر صفتين ل ‪-‬تعالى‪ -‬حقيقتين على ما يليق بعظمته ‪-‬تعالى‪ -‬قال ال ‪-‬تعالى‪ {:-‬إِنّ الّل هَ‬
‫ج الّليْلَ فِي ال ّنهَارِ َويُوِل جُ‬
‫سمِيعًا بَ صِيرًا} (‪ { ،)467‬ذَلِ كَ ِبأَنّ اللّ َه يُوِل ُ‬
‫ن اللّ هُ َ‬
‫سمِيعًا بَ صِيرًا } (‪َ { ،)466‬وكَا َ‬
‫ن َ‬
‫كَا َ‬
‫سمِيعٌ بَ صِيرٌ }‬
‫سمِي ُع ا ْلبَ صِيرُ } (‪ِ { ،)469‬إنّ اللّ هَ َ‬
‫سمِيعٌ بَ صِيرٌ } (‪ِ { ،)468‬إنّ ُه هُ َو ال ّ‬
‫ال ّنهَارَ فِي الّليْلِ وََأنّ اللّ هَ َ‬
‫سمِيعُ ا ْل َبصِيرُ } (‪َ{ ،)471‬ليْسَ َك ِمثْلِ ِه شَيْ ٌء‬
‫ن اللّ َه هُ َو ال ّ‬
‫(‪ { ،)470‬إِ ّ‬
‫ص ‪161‬‬
‫ل الّتِي‬
‫سمِعَ اللّ ُه قَوْ َ‬
‫سمِيعُ ا ْلبَ صِيرُ} (‪َ { ،)473‬قدْ َ‬
‫سمِيعُ البَ صِيرُ} (‪{ ،)472‬فَا سْ َت ِعذْ بِاللّ هِ ِإنّ ُه هُ َو ال ّ‬
‫وَهُ َو ال ّ‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ} (‪.)474‬‬
‫ن اللّ َه َ‬
‫سمَعُ َتحَا ُو َر ُكمَا إِ ّ‬
‫شتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ َي ْ‬
‫جهَا َو َت ْ‬
‫ُتجَادُِلكَ فِي زَ ْو ِ‬
‫في آيات كثيرة قد ذ كر ال ‪-‬تعالى‪ -‬في القرآن السمع والبصر‪ ،‬واصفا بهما نفسه‪ ،‬فيما يقرب‬
‫من مائة آية‪ ،‬مرة يجمع بين السمع والبصر‪ ،‬ومرة بين السمع والعلم‪ ،‬ومرة يذكر البصر وحده متعلقا‬
‫ن بَصِيرٌ} (‪{ ،)475‬وَاللّ ُه بَصِيرٌ بِا ْل ِعبَادِ} (‪.476‬‬
‫بعمل العباد‪ ،‬كقوله‪{ :‬وَاللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬
‫و قد تقرر في الف طر والعقول‪ ،‬أن عدم ال سمع والب صر‪ ،‬والر جل واليدي‪ ،‬ن قص وع يب يمت نع‬
‫م عه دعوة الفا قد لذلك؛ لمتناع كو نه إلها‪ ،‬إذ الله ي جب أن يكون سميعا ب صيرا حيا قادرا‪ ،‬كاملً‪ ،‬ل‬
‫س َتجِيبُواْ‬
‫عبَادٌ َأ ْمثَالُكُ مْ فَادْعُوهُ مْ فَ ْليَ ْ‬
‫ن مِن دُو نِ الّل هِ ِ‬
‫ن َتدْعُو َ‬
‫نقص فيه‪ ،‬ول عيب‪ ،‬قال –تعالى‪{ :-‬إِنّ اّلذِي َ‬

‫‪" )(464‬الفتح" (‪.)13/373‬‬


‫‪" )(465‬العتقاد" (ص ‪.)58‬‬
‫‪ )(466‬الية ‪ 58‬من سورة النساء ‪.‬‬
‫‪ )(467‬الية ‪ 134‬من سورة النساء ‪.‬‬
‫‪ )(468‬الية ‪ 61‬من سورة الحج ‪.‬‬
‫‪ )(469‬الية ‪ 1‬من سورة السراء ‪.‬‬
‫‪ )(470‬الية ‪ 75‬من سورة الحج ‪.‬‬
‫‪ )(471‬الية ‪ 20‬من سورة غافر ‪.‬‬
‫‪ )(472‬الية ‪ 11‬من سورة الشورى ‪.‬‬
‫‪ )(473‬الية ‪ 56‬من سورة غافر ‪.‬‬
‫‪ )(474‬الية ‪ 1‬من سورة المجادلة ‪.‬‬
‫‪ )(475‬الية ‪ 265‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(476‬الية ‪ 20‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫ن ُي ْبصِرُونَ ِبهَا َأمْ‬
‫عيُ ٌ‬
‫ن {‪ }194‬أََل ُهمْ َأ ْرجُلٌ َي ْمشُونَ ِبهَا َأ ْم َل ُهمْ َأ ْيدٍ َي ْبطِشُونَ ِبهَا َأ ْم َل ُهمْ أَ ْ‬
‫َل ُكمْ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِي َ‬
‫سمَعُونَ ِبهَا} (‪.)477‬‬
‫ن َي ْ‬
‫َل ُهمْ آذَا ٌ‬
‫سمَعُ‬
‫ت لِ مَ َت ْع ُبدُ مَا ل يَ ْ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪ -‬عن خليله إبراهيم في دعوته أبيه إلى ال ‪-‬تعالى‪{ -‬يَا َأبَ ِ‬
‫ش ْيئًا} (‪.)478‬‬
‫صرُ وَل ُي ْغنِي عَنكَ َ‬
‫وَل ُيبْ ِ‬
‫ص ‪162‬‬
‫و أ ما سنة ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ف قد جاءت مواف قة ل ما في كتاب ال ومبي نة له‪،‬‬
‫وهي كثيرة جدا‪ ،‬نكتفي بذكر يسير منها بالضافة إلى ما ذكره البخاري في الباب‪.‬‬
‫ف من ذلك ما رواه أ بو داود ب سنده على شرط م سلم‪ ،‬عن أ بي هريرة أ نه قرأ قول ال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫فوضع إبهامه على أذنه‪ ،‬والتي تليها على عينه‪ ،‬وقال‪ ":‬رأيت رسول‬ ‫(‪)479‬‬
‫سمِيعًا بَ صِيرًا}‬
‫{ َوكَا نَ الّل ُه َ‬
‫ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقرأ ويضع إصبعيه"(‪ .)480‬قال البيهقي عقب روايته لهذا الحديث‪ " :‬والمراد‬
‫بالشارة في هذا ال خبر‪ :‬تحق يق الو صف ل – عز و جل – بال سمع والب صر‪ ،‬فأشار إلى م حل ال سمع‬
‫والبصهر منها لثبات صهفة السهمع والبصهر ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬وأفاد هذا الخهبر أ نه سهميع بصهير‪ ،‬له سهمع‬
‫وبصر‪ ،‬ل على معنى أنه عليم‪ ،‬إذ لو كان بمعنى العلم لشار في تحقيقه إلى القلب؛ لنه محل العلوم‬
‫منا"(‪.)481‬‬
‫ثم ذكر البيهقي لحديث أبي هريرة هذا شاهدا‪ ،‬من حديث عقبة بن عامر‪ ،‬سمعت رسول ال –‬
‫قال الحافظ‪:‬‬ ‫(‪)482‬‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقول على المنبر‪ ":‬إن ربنا سميع بصير‪ ،‬وأشار بيده إلى عينيه"‬
‫ع ُي ِننَا} فأشار بيده إلى‬
‫جرِي ِبأَ ْ‬
‫سنده حسن(‪ ،)483‬وروى الللكائي عن ابن عباس أنه قرأ قوله –تعالى‪َ { :-‬ت ْ‬
‫عينيه(‪.)484‬‬
‫قال ابن خزيمة‪ " :‬نحن نقول‪ :‬لربنا عينان يبصر بهما ما تحت الثرى‪ ،‬وتحت الرض السابعة‬
‫السفلى‪ ،‬وما في السماوات‪ ،‬وما بينهما من صغير وكبير‪ ،‬ل يخفى‬
‫ص ‪163‬‬
‫عل يه خاف ية‪ ،‬ف هو تعالى يرى ما في جوف البحار ولجج ها‪ ،‬ك ما يرى عر شه الذي هو م ستو‬
‫عليه"(‪.)485‬‬

‫‪ )(477‬اليتان ‪ 195 ،194‬من سورة العراف ‪.‬‬


‫‪ )(478‬الية ‪ 42‬من سورة مريم ‪.‬‬
‫‪ )(479‬الية ‪ 134‬من سورة النساء ‪.‬‬
‫‪ )(480‬انظر ‪ " :‬سنن أبي داود" (‪.)5/97‬‬
‫‪" )(481‬السماء والصفات" (ص ‪ )179‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪ )(482‬هذا الحديث لم أجده في "الصفات" المطبوع ‪ ،‬فيكون في النسخة التي نقل منها الحافظ‪.‬‬
‫‪" )(483‬الفتح" (‪.)13/373‬‬
‫‪" )(484‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (‪.)2/411‬‬
‫‪ )(485‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)50‬‬

‫‪124‬‬
‫فالسمع والبصر من الصفات الثابتة ل ‪-‬تعالى‪ -‬بقوله عن نفسه‪ ،‬ويقول رسوله –صلى ال عليه‬
‫و سلم‪ ،-‬وبالع قل‪ ،‬والفطرة‪ ،‬وإجماع أ هل العلم واليمان‪ ،‬ولم ين كر ذلك إل شواذ الطوائف المار قة من‬
‫الحق‪ ،‬كالجهمية‪ ،‬وإخوانهم من بعض المعتزلة‪ ،‬وليس معهم على ذلك إل التحذلق‪ ،‬والكلم الفارغ من‬
‫ال حق والمع نى ال صحيح‪ ،‬أو التو هم بأن إثبات ال صفات يقت ضي الت شبيه‪ ،‬ح يث توهموا أن صفات ال‬
‫كصفات خلقه‪ ،‬تعالى ال‪.‬‬
‫سهمِيعًا بَصهِيرًا}‪" ،‬كان" هنها تدل على الدوام والسهتمرار الذي يعهم‬
‫ّهه َ‬
‫َانه الل ُ‬
‫قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬وك َ‬
‫جميهع الوقات‪ ،‬كمها قال علماء النحهو‪ ":‬إن "كان" تسهتعمل بمعنهى‪ :‬بقهي على حاله‪ ،‬واسهتمر شأنهه‪،‬‬
‫وسيستمر من غير انقطاع‪ ،‬ول تقيد بزمن‪ ،‬نحو‪ :‬كان ال غفورا رحيما"(‪.)486‬‬
‫قال ابن جرير‪ ":‬إن ال لم يزل {سميعا} بما تقولون‪ ،‬وتنطقون‪ ،‬وهو سميع لذلك منك إذا حكمتم‬
‫بين الناس‪ ،‬ولما تحاورونهم به‪.‬‬
‫{ب صيرا} ب ما تفعلون في ما ائتمن تم عل يه من حقوق رعيت كم وأموال هم‪ ،‬و ما تقضون به بين هم من‬
‫أحكامكم‪ ،‬بعدل تحكمون أو جور‪ ،‬ل يخفى عليه شيء من ذلك‪ ،‬حافظ ذلك كله‪ ،‬حتى يجازي محسنكم‬
‫(‪)487‬‬
‫بإحسانه‪ ،‬ومسيئكم بإساءته‪ ،‬أو يعفو بفضله"‬
‫ص ‪164‬‬
‫قوله‪ " :‬قال العمهش‪ ،‬عهن تميهم‪ ،‬عهن عروة‪ ،‬عهن عائشهة‪ ،‬قالت‪ :‬الحمهد ل الذي وسهع سهمعه‬
‫سمِعَ اللّ ُه قَوْلَ اّلتِي ُتجَادِلُكَ فِي‬
‫الصوات‪ ،‬فأنزل ال ‪-‬تعالى‪ -‬على النبي –صلى ال عليه وسلم‪{ :-‬قَدْ َ‬
‫جهَا}"‪.‬‬
‫زَ ْو ِ‬
‫هذا الحد يث رواه أح مد في "الم سند" مو صولً(‪ ،)488‬وا بن ما جه في "ال سنن"(‪ ،)489‬والن سائي(‪،)490‬‬
‫وكلهم بأتم مما ذكر البخاري‪.‬‬
‫ولفظ هم‪ " :‬أن ها قالت‪ :‬الح مد ل الذي و سع سمعه ال صوات‪ ،‬ل قد جاءت المجادلة – وللن سائي‪-‬‬
‫خولة – إلى ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬وأ نا في ناح ية الب يت‪ ،‬و ما أ سمع ما تقول‪ ،‬فأنزل ال‪َ { :‬قدْ‬
‫جهَا} إلى آخر الية‪.‬‬
‫ل اّلتِي ُتجَادُِلكَ فِي زَ ْو ِ‬
‫سمِعَ اللّ ُه قَوْ َ‬
‫َ‬
‫ورواه ابن ماجه في كتاب الظهار من "السنن" بأتم مما هنا(‪.)491‬‬
‫قال ابن عبد البر‪ " :‬روينا من وجوه عن عمر بن الخطاب‪ ،‬أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز‪،‬‬
‫فا ستوقفته‪ ،‬فج عل يحدث ها وتحد ثه‪ ،‬فقال له ر جل‪ :‬يا أم ير المؤمن ين‪ ،‬حب ست الناس على هذه العجوز‪،‬‬

‫‪" )(486‬النحو الواضح" (‪ ، )1/549‬وانظر " " المقتضب للمبرد" (‪.)4/119‬‬


‫‪" )(487‬تفسير الطبري" (‪ )8/494‬بتحقيق محمود شاكر ‪.‬‬
‫‪ )(488‬انظر ‪ " :‬المسند" (‪ ، )6/46‬وانظر ‪ " :‬الفتح الرباني " (‪. )18/298‬‬
‫‪ )(489‬انظر ‪ " :‬سنن ابن ماجه " (‪.)1/67‬‬
‫‪" )(490‬المجتبى " (‪.)6/168‬‬
‫‪ )(491‬انظر ‪ " :‬سنن ابن ماجه" (‪.)1/666‬‬

‫‪125‬‬
‫فقال‪ :‬ويلك! أتدري من هذه؟ هذه امرأة سمع ال شكواها من فوق سبع سماوات‪ ،‬هذه خولة بنت ثعلبة‬
‫ش َتكِي إِلَى اللّهِ} وال لو أنهها وقفهت‬
‫جهَا َو َت ْ‬
‫ل اّلتِي ُتجَادِلُكَ فِي زَ ْو ِ‬
‫سمِعَ اللّ ُه قَوْ َ‬
‫التي أنزل ال فيها‪َ { :‬قدْ َ‬
‫إلى الليل ما فارقتها إل لصلة‪ ،‬ثم أرجع إليها "(‪.)492‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬ورواه ابن أبي حاتم‪ ،‬وساقه بسنده(‪.)493‬‬
‫قوله‪ " :‬و سع سمعه ال صوات" أي‪ :‬ا ستوعبها وأدرك ها فل يفو ته من ها ش يء وإن خ في‪ ،‬فحين ما‬
‫ذكرت المرأة قصتها لرسول ال – صلى ال عليه وسلم‪ -‬وقال لها‪ ":‬قد حر مت عليه" جعلت تقول –‬
‫بصوت منخفض يخفى على عائشة مع قربها منها‪ :-‬بعدما‬
‫ص ‪165‬‬
‫كبرت سني ظا هر م ني؟ إلى ال أش كو حال صبية إن ضممت هم إليّ جاعوا‪ ،‬وإن تركت هم عنده‬
‫سمِعَ‬
‫ضاعوا‪ .‬فهذه مجادلتها لرسول ال – صلى ال عليه وسلم‪ -‬التي ذكرها ال –تعالى‪ -‬بقوله‪َ { :‬قدْ َ‬
‫اللّ ُه قَوْلَ الّتِي ُتجَادِلُ كَ فِي زَ ْوجِهَا َو َتشْتَكِي إِلَى اللّ هِ} وهذا من أبلغ الدلة على ات صاف ال –تعالى‪-‬‬
‫بالسمع‪ ،‬وهو أمر معلوم بالضرورة من الدين‪ ،‬ل ينكره إل من ضل عن الهدى‪.‬‬
‫وقول عائشة هذا يدل على أن الصحابة – رضي ال عنهم‪ ،‬آمنوا بالنصوص على ظاهرها الذي‬
‫يتبادر إلى الف هم‪ ،‬وأن هذا هو الذي أراده ال من هم و من غير هم من المكلف ين ور سوله‪ ،‬إذ لو كان هذا‬
‫الذي آمنوا به واعتقدوه خ طأ لم يقروا عل يه ولب ين ل هم ال صواب‪ ،‬ولم يأت عن أ حد من هم تأو يل هذه‬
‫النصوص عن ظواهرها‪ ،‬ل من طريق صحيح ول ضعيف‪ ،‬مع توافر الدواعي على نقل ذلك مما يبين‬
‫قطعا أن الذي أر يد من هم‪ ،‬و من كل مؤ من‪ ،‬هو ظا هر الخطاب‪ ،‬وهذا وا ضح ل من تأ مل الن صوص‪،‬‬
‫وعرف حال الصحابة‪.‬‬
‫وبهذا يتبين بطلن التأويل‪ ،‬وأنه سلوك غير سبيل الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وصحابته‪،‬‬
‫والتابعين لهم‪ ،‬إلى نهاية الدنيا‪.‬‬

‫‪" )(492‬الستيعاب" (‪ )4/1831‬بتحقيق البجاوي ‪.‬‬


‫‪ )(493‬انظر ‪ " :‬تفسير ابن كثير" (‪ )8/60‬مطبعة الشعب ‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫ص ‪166‬‬
‫‪-16‬قال‪ " :‬حدثنا سليمان بن حرب‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن أبي عثمان‪ ،‬عن أبي‬
‫موسى‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في سفر‪ ،‬فكنا إذا علونا كبرنا‪ ،‬فقال‪ " :‬اربعوا على‬
‫أنفسكم‪ ،‬فإنكم ل تدعون أصم ول غائبا‪ ،‬تدعون سميعا بصيرا قريبا" ثم أتى علىّ‪ ،‬وأنا أقول في نفسي‪:‬‬
‫ل حول ول قوة إل بال‪ ،‬فقال‪ ":‬يا عبد ال ابن قيس‪ ،‬قل‪ :‬ل حول ول قوة إل بال‪ ،‬فإنها كنز من كنوز‬
‫الجنة" أو قال‪ ":‬أل أدلك به"‪.‬‬
‫قوله‪ ":‬كنا مع النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في سفر‪ ،‬فكنا إذا علونا كبرنا" هذا مما كان النبي –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ -‬يفعله‪ ،‬فكان يكبر إذا عل نشزا‪ ،‬ويسبح إذا هبط في منخفض من الرض‪ ،‬وقد‬
‫بوب البخاري –رحمه ال – على المرين في الجهاد والدعوات من "صحيحه"‪ ،‬فقال‪ :‬باب التسبيح إذا‬
‫هبط واديا‪ ،‬وبعده‪ :‬باب التكبير إذا عل شرفا‪.‬‬
‫قال المهلب‪ ":‬تكبيره –صلى ال عليه وسلم‪ -‬عند الرتفاع‪ ،‬استشعار لكبرياء ال – عزوجل ‪،-‬‬
‫وعندما تقع عليه العين من عظيم خلق ال أنه – أكبر من كل شيء‪.‬‬
‫والتسبيح في الماكن المنخفضة استشعار بتنزيهه –تعالى – عن صفة السفل والنخفاض"(‪.)494‬‬
‫وفيه دليل على علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬فوق كل شيء‪ ،‬وأنه ل يجوز أن يكون شيء من خلقه فوقه‪،‬‬
‫تعالى وتقدس‪ ،‬وسيأتي البحث فيه إن شاء ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬فقال‪ " :‬اربعوا على أنفسهكم" أي‪ :‬ارفقوا بأنفسهكم‪ ،‬فل تكلفوهها برفهع أصهواتكم‪ ،‬فإنهه ل‬
‫حاجة إلى ذلك‪ ،‬فإن من تكبرونه وتسبحونه سميع بصير‪ ،‬يسمع الصوات الخفية كما يسمع الجهرية‪،‬‬
‫ويرى الشياء وإن دقت‪ ،‬فل يخفى عليه شيء‪.‬‬
‫قوله‪ ":‬فإنكهم ل تدعون أصهم‪ ،‬ول غائبا" قال صهاحب "القاموس"‪" :‬الصهمم‪ :‬انسهداد الذن‪ ،‬وثقهل‬
‫السمع‪ ،‬بحيث ل يسمع الصوات إل إذا كانت مرتفعة عالية"(‪.)495‬‬
‫ص ‪167‬‬
‫وقيل‪ :‬هو انسداد الذن‪ ،‬وذهاب سمعها‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬غائبا" أي‪ :‬ليس بعيدا ومستور الرؤية والسمع عنكم‪ ،‬فيحتاج إلى المناداة ورفع الصوات‬
‫س َتجِيبُواْ لِي‬
‫عوَ َة الدّا عِ ِإذَا دَعَا نِ فَ ْليَ ْ‬
‫عنّ ي َفِإنّ ي َقرِي بٌ ُأجِي بُ دَ ْ‬
‫عبَادِي َ‬
‫سأََلكَ ِ‬
‫ك ما قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَِإذَا َ‬
‫ن } (‪.)496‬‬
‫شدُو َ‬
‫وَ ْل ُي ْؤ ِمنُواْ بِي َلعَّل ُهمْ َي ْر ُ‬
‫ولهذا قال‪ " :‬تدعون سميعا بصيرا قريبا" وهذه صيغ مبالغة ل؛ لن له –تعالى‪ -‬تمام الكمال من‬
‫هذه الصفات‪ ،‬فل يفوت سمعه أي حركة وإن خفيت‪ ،‬فيسمع دبيب النملة على الصفاة الصماء في ظلمة‬

‫‪" )(494‬فتح الباري" (‪.)6/136‬‬


‫‪ )(495‬انظر " القاموس" (‪.)4/140‬‬
‫‪ )(496‬الية ‪ 186‬من سورة البقرة ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫الل يل‪ ،‬وأخ فى من ذلك‪ ،‬ك ما أ نه –تعالى‪ -‬ل يح جب ب صره ش يء من الحوائل‪ ،‬ف هو ي سمع نغمات كم‬
‫وأصوات أنفاسكم وجميع ما تتلفظون به من كلمات‪ ،‬ويبصر حركاتكم‪ ،‬وهو معكم قريب من داعيه‪،‬‬
‫و هو أيضا مع جم يع خل قه باطل عه وإحاط ته‪ ،‬و هم في قبض ته‪ ،‬و مع ذلك هو على عر شه عال فوق‬
‫جميع مخلوقاته‪ ،‬ول يخفى عليه خافية في جميع مخلوقاته مهما كانت‪ ،‬وسيأتي بيان ذلك إن شاء ال –‬
‫في مكانه‪.‬‬
‫قوله‪ ":‬قهل‪ :‬ل حول ول قوة إل بال‪ ،‬فإنهها كنهز مهن كنوز الجنهة" الكنهز ههو‪ :‬المال النفيهس‬
‫المحفوظ‪ ،‬والجمع والدخار يسمى‪ :‬كنزا‪.‬‬
‫وكنز الجنة‪ :‬العمال الصالحة الفضيلة‪ ،‬التي يقبلها ال ويرضاها‪ ،‬فيحفظها ويدخرها لصاحبها‪،‬‬
‫فيكون سببا في دخوله الج نة ور فع منزل ته في ها‪ ،‬و هو دل يل على تفا ضل العمال‪ ،‬والدلة على ذلك‬
‫كثيرة جدا‪.‬‬
‫ومعنهى هذه الكلمهة‪ :‬ل تحول مهن حالة إلى أخرى‪ ،‬ول انتقال مهن أمهر إلى آخهر‪ ،‬ول قوة على‬
‫ذلك‪ ،‬ول قدرة إل بال‪ ،‬ف هو المع ين عل يه والمه يئ ل سبابه والمو جد ل ها‪ ،‬ف هي ا ستسلم ل‪ ،‬وإذعان‬
‫لقدرته وإرادته‪ ،‬وإقرار بأنه ل يقع حركة أو سكون إل بمشيئته – جل وعل‪.-‬‬

‫‪128‬‬
‫ص ‪168‬‬
‫‪-17‬قال‪ " :‬حدث نا يح يى بن سليمان‪ ،‬حدث ني ا بن و هب‪ ،‬أ خبرني عمرو‪ ،‬عن يز يد‪ ،‬عن أ بي‬
‫الخ ير‪ ،‬سمع ع بد ال بن عمرو‪ ،‬أن أ با ب كر ال صديق – ر ضي ال ع نه – قال لل نبي – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ :-‬يا رسول ال‪ ،‬علمني دعاء أدعو به في صلتي؟ قال‪ :‬اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا‪ ،‬ول‬
‫يغفر الذنوب إل أنت‪ ،‬فاغفر لي من عندك مغفرة‪ ،‬إنك أنت الغفور الرحيم "‪.‬‬
‫عبهد ال بهن عمرو بهن العاص بهن وائل القرشهي‪ ،‬السههمي‪ ،‬أبهو محمهد‪ ،‬أسهلم قديما‪ ،‬وكان مهن‬
‫أفاضل الصحابة وعبادهم‪ ،‬ومن العلماء المكثرين عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬فقد ثبت عن‬
‫حافظ المة أبي هريرة – رضي ال عنه – قوله‪ ":‬ما كان أحد أكثر مني حديثا عن رسول ال –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬إل عبد ال بن عمرو‪ ،‬فإنه كان يكتب ول أكتب"(‪.)497‬‬
‫ومع ذلك فالمروي عنه أقل بكثير من المروي عن أبي هريرة‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن السبب في ذلك أن‬
‫عبد ال سكن مصر‪ ،‬والوارد إليها من الناس قليل‪ ،‬وأبو هريرة سكن المدينة‪ ،‬وهي مجمع الناس‪.‬‬
‫ق يل‪ :‬إ نه تو في في م صر‪ ،‬وق يل‪ :‬في الطائف‪ ،‬وق يل‪ :‬في م كة‪ ،‬وق يل‪ :‬في فل سطين‪ ،‬سنة ثلث‬
‫و ستين؛ أو خ مس و ستين‪ ،‬عن اثنت ين و سبعين سنة‪ - ،‬ر ضي ال ع نه‪ ،-‬و عن صحابة ر سول ال –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ -‬أجمعين‪.‬‬
‫و أما أبو بكر فهو‪ :‬عبد ال بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة‪،‬‬
‫القر شي‪ ،‬كان أب يض نحيفا خف يف العارض ين‪ ،‬و هو أف ضل من صحب ر سول ال – صلى ال عل يه‬
‫وسهلم‪ ،-‬وههو أعلم الصهحابة بال ورسهوله‪ ،‬وههو أول مهن أسهلم مهن الرجال‪ ،‬ولسهرعته إلى تصهديق‬
‫الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وشدة قبوله لقوله سمي‪ :‬الصديق‪ ،‬وهو رفيق رسول ال –صلى ال‬
‫حبِهِ‬
‫ل لِصَا ِ‬
‫عليه وسلم‪ -‬في الهجرة‪ ،‬وصاحبه في الغار‪ ،‬كما قال ال ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬إذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ ِإ ْذ يَقُو ُ‬
‫حزَنْ ِإنّ الّلهَ َم َعنَا} (‪ ،)498‬وقد أخبر النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أنه أمن الناس عليه‪ ،‬وأنه لو اتخذ‬
‫لَ َت ْ‬
‫من الناس خليلً لت خذ أ با ب كر خليلً‪ ،‬ك ما ث بت في "ال صحيحين"‪ ،‬وأ خبر أ نه أ حب الناس إل يه من‬
‫الرجال‪ ،‬وأن ابنته عائشة زوج رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أحب الناس إليه من النساء‪.‬‬
‫ص ‪169‬‬
‫أمره ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أن يؤم الناس في مرض مو ته‪ ،‬ول ما رو جع في ذلك‬
‫غضب‪ ،‬وقال‪ :‬مروا أبا بكر فليصل بالناس‪.‬‬
‫وفضائله كثيرة‪ ،‬وقد كتب فيه مؤلفات‪ ،‬توفي – رضي ال عنه – سنة ثلث عشرة من الهجرة‪،‬‬
‫ودفن جوار رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪.)499( -‬‬

‫‪ )(497‬رواه البخاري ‪ ،‬انظر "الفتح" (‪.)1/206‬‬


‫‪ )(498‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة‪.‬‬
‫‪" )(499‬أسد الغابة" (‪.)3/309‬‬

‫‪129‬‬
‫قوله‪ " :‬إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا" الظلم هو‪ :‬وضع الشيء في غير موضعه‪.‬‬
‫"وهذا يدل على أن النسان ل ينفك عن الذنوب‪ ،‬والتقصير في حقوق ال‪ ،‬كما في الحديث‪ " :‬كل‬
‫بني آدم خطاء وخير الخطائ ين التوابون"(‪)500‬؛ لنه أطلق هذا الظلم ولم يقيده‪ ،‬أو يخصصه بز من دون‬
‫آخر‪ ،‬أو بحالة دون حالة‪ ،‬فلو كان هناك حالة أو زمن من عمر النسان ل يكون فيه ظلم ما صح هذا‬
‫الطلق‪ ،‬ول صار مطابقا للواقع"(‪.)501‬‬
‫قوله‪ " :‬ول يغ فر الذنوب إل أ نت " تقدم مع نى الغ فر في الل غة‪ ،‬والمق صود م حو الذنوب ووقا ية‬
‫تبعاتها‪ ،‬وهذا لجوء إلى التوحيد‪ ،‬وأنه ل مفر ول ملجأ يفزع إليه في غفران الذنوب‪ ،‬ووقاية شرها إل‬
‫ال وحده‪ ،‬ول طر يق ي سلك لذلك إل النطراح ب ين يدي رب العالم ين‪ ،‬والفتقار إل يه‪ ،‬والتو جه بكل ية‬
‫الع بد إل يه‪ ،‬وإخلص الدعاء له وحده‪ ،‬رغ بة وره بة‪ ،‬ك ما قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَاّلذِي نَ ِإذَا فَعَلُو ْا فَاحِشَ ًة أَوْ‬
‫ل اللّ هُ وَلَ مْ يُ صِرّواْ عَلَى مَا َفعَلُواْ وَهُ مْ‬
‫س َتغْ َفرُواْ ِل ُذنُو ِبهِ مْ َومَن َيغْ ِفرُ ال ّذنُو بَ ِإ ّ‬
‫سهُ ْم َذكَرُو ْا اللّ هَ فَا ْ‬
‫ظََلمُواْ َأنْفُ َ‬
‫ن } (‪.)502‬‬
‫َيعَْلمُو َ‬
‫فعلم الع بد بأ نه ل يغ فر الذنوب إل ال يضطره إلى اللجوء إل يه ‪-‬تعالى‪ -‬والخلص له‪ ،‬ول يس‬
‫هناك طريهق للنجاة إل هذا الطريهق‪ ،‬ولهذا قيهل‪ ":‬إن التوحيهد مفزع أولياء ال‪ ،‬وأعدائه" أمها أولياء ال‬
‫فأمرهم ظاهر‪ ،‬وأما أعداؤه‪ :‬فكانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء ل وحده‪ ،‬كما ذكر ال عنهم‬
‫في القرآن‪ ،‬ونظر العقل يؤدي إلى هذا دائما‪.‬‬
‫ص ‪170‬‬
‫قوله‪ " :‬فاغفر لي من عندك مغفرة" أي أنه ل حيلة لي ول خلص إل بأن تمن علي أنت وحدك‬
‫بالمغفرة‪ ،‬فتستر ذنوبي‪ ،‬وتعفو عني‪ ،‬وتقيني ما يترتب عليها من تبعات وشرور‪.‬‬
‫وقال‪ " :‬مهن عندك" ليهبين الختصهاص‪ ،‬أي أن المغفرة منهك وحدك تفضهل بهها عليهّ‪ ،‬بدون‬
‫استحقاق‪ ،‬بل هي محض جودك وكرمك‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬إنهك أنهت الغفور الرحيهم" ختهم هذا الدعاء‪ ،‬بهذيهن السهمين الكريميهن‪ ،‬لمناسهبتهما‬
‫للمطلوب‪ ،‬فالغفور يناسب طلب المغفرة‪.‬‬
‫والرحيم يناسب طلب التفضل والجود‪ ،‬وهو قريب من الول‪ ،‬وهذا من معاني دعاء ال بأسمائه‬
‫الحسنى‪.‬‬

‫‪ )(500‬رواه ابن ماجه في "السنن" ‪" ،‬الزهد" (‪ )2/1420‬الحديث (‪ ، )4251‬والترمذي (‪ ، )4/70‬و أحمد‬
‫في "المسند" (‪.)3/98‬‬
‫‪" )(501‬شرح العمدة" لبن دقيق العيد (‪.)2/78‬‬
‫‪ )(502‬الية ‪ 135‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫" و قد ج مع في هذا الدعاء الشر يف العظ يم القدر ب ين العتراف بحاله والتو سل إلى ر به – عز‬
‫وجل – بفضله وجوده‪ ،‬وأنه المنفرد بغفران الذنوب‪ ،‬ثم سأل حاجته بعد التوسل بالمرين معا‪ ،‬وهكذا‬
‫أدب الدعاء‪ ،‬وأدب العبودية"(‪.)503‬‬
‫والمق صود من الحد يث في هذا الباب أن المد عو ل بد أن يكون سميعا ي سمع دعوة الدا عي إذا‬
‫دعاه‪ ،‬بصهيرا بحاله فيوصهل إليهه مها طلب بقدرتهه‪ ،‬وإل تكون دعوتهه ضلل وسهدى‪ ،‬ففهي الدعاء‬
‫واسهتجابة ال‪-،‬تعالى‪ -‬لعبده الداعهي برهان على أنهه سهميع‪ ،‬بصهير‪ ،‬قادر‪ ،‬حهي‪ ،‬عليهم‪ ،‬وقهد قال ال‬
‫ب لَ هُ‬
‫س َتجِي ُ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬فيمن يدعو من ل يسمع ول يبصر‪َ { :‬ومَ نْ َأضَلّ ِممّن َيدْعُو مِن دُو نِ اللّ ِه مَن لّ يَ ْ‬
‫ِمه‬
‫عدَاء َوكَانُوا ِب ِعبَا َدتِه ْ‬
‫ُمه َأ ْ‬
‫ّاسه كَانُوا َله ْ‬
‫حشِرَ الن ُ‬
‫ُونه {‪ }5‬وَِإذَا ُ‬
‫ِمه غَافِل َ‬
‫ُمه ع َن دُعَا ِئه ْ‬
‫َومه الْ ِقيَامَةِ وَه ْ‬
‫إِلَى ي ِ‬
‫(‪)504‬‬
‫كَا ِفرِينَ }‬
‫صرُ وَل‬
‫سمَعُ وَل ُيبْ ِ‬
‫وقهال ‪-‬تعالى‪ -‬عن خليله إبراهيم في دعوته لبيه‪ { :‬يَا َأبَتِ لِمَ َت ْع ُبدُ مَا ل يَ ْ‬
‫ش ْيئًا } (‪.)505‬‬
‫ُي ْغنِي عَنكَ َ‬
‫" وقد قال ابن عقيل‪ :‬قد ندب ال ‪-‬تعالى‪ -‬إلى الدعاء‪ ،‬وفي ذلك معان‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬الوجود‪ ،‬فإن من ليس بموجود ل يدعى‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الغنى‪ ،‬فإن الفقير ل يدعى‪.‬‬
‫ص ‪171‬‬
‫الثالث‪ :‬السمع‪ ،‬فإن الصم ل يدعى‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الكرم‪ ،‬فإن البخيل ل يدعى‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الرحمة‪ ،‬فإن القاسي ل يدعى‪.‬‬
‫السادس‪ :‬القدرة‪ ،‬فإن العاجز ل يدعى‪.‬‬
‫ومن يقول بالطبائع‪ ،‬يعلم أن النار‪ ،‬ل يقال لها‪ :‬كفي‪ ،‬ول النجم يقال له‪ :‬أصلح مزاجي‪ ،‬لن هذه‬
‫عندهم مؤثرة طبعا ل اختيارا‪ ،‬فشرع الدعاء‪ ،‬وصلة الستسقاء‪ ،‬ليبين كذب أهل الطبائع"(‪.)506‬‬
‫و "فعل السمع يراد به أربعة معان‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬سمع إدراك‪ ،‬ومتعلقه الصوات‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سمع فهم‪ ،‬وعقل‪ ،‬ومتعلقه المعاني‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬سمع إجابة وإعطاء ما سئل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬سمع قبول‪ ،‬وانقياد‪.‬‬

‫‪" )(503‬الوابل الصيب" (ص ‪.)118‬‬


‫‪ )(504‬اليتان ‪ 6 ،5‬من سورة الحقاف ‪.‬‬
‫‪ )(505‬الية ‪ 42‬من سورة مريم ‪.‬‬
‫‪" )(506‬شرح الطحاوية" (ص ‪ )457‬الطبعة الثالثة ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫جهَا}‪ ،‬و{لقد سمع ال قول الذين قالوا إن ال‬
‫ل اّلتِي ُتجَادِلُ كَ فِي زَ ْو ِ‬
‫سمِعَ اللّ هُ قَوْ َ‬
‫فمن الول‪َ { :‬قدْ َ‬
‫فقير ونحن أغنياء} (‪.)507‬‬
‫س َمعُوا} (‪ ،)508‬أي‪ :‬سمع‬
‫عنَا َوقُولُو ْا انظُ ْرنَا وَا ْ‬
‫ل تَقُولُواْ رَا ِ‬
‫ومن الثاني‪ :‬قوله‪{ :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي نَ آ َمنُواْ َ‬
‫ن لِ ْل َكذِ بِ} أي‪ :‬قابلون له‪،‬‬
‫سمّاعُو َ‬
‫ف هم وع قل‪ ،‬و من الثالث‪ :‬سمع ال ل من حمده‪ ،‬و من الرا بع‪ :‬قوله‪َ { :‬‬
‫ومنقادون‪ ،‬فسمع الدراك يتعدى بنفسه‪ ،‬وسمع القبول يتعدى باللم‪ ،‬وبمن‪ ،‬ولجابته بمن"(‪.)509‬‬
‫ص ‪172‬‬
‫‪ -18‬قال‪ " :‬حدثنا عبد ال بن يوسف‪ ،‬أخبرنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني يونس‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬حدثني‬
‫عروة – أن عائشة – رضي ال عنها – حدثته‪ ،‬قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬إن جبريل – عليه‬
‫السلم – ناداني‪ ،‬قال‪ " :‬إن ال قد سمع قول قومك‪ ،‬وما ردوا عليك"‪.‬‬
‫اختصر البخاري هذا الحديث هنا – فذكر الشاهد منه‪ ،‬وقد ذكره بتمامه في بدء الخلق‪ ،‬ولفظه‪":‬‬
‫قالت للنبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟‬
‫قال‪ ":‬لقد لقيت من قومك ما لقيت‪ ،‬وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة‪ ،‬إذ عرضت نفسي على‬
‫ابن عبد ياليل بن عبد كلل‪ ،‬فلم يجبني إلى ما أردت‪ ،‬فانطلقت – وأنا مهموم‪ -‬على وجهي‪ ،‬فلم أستفق‬
‫إل وأ نا بقرن الثعالب‪ ،‬فرف عت رأ سي‪ ،‬فإذا أ نا ب سحابة قد أظلت ني‪ ،‬فنظرت‪ ،‬فإذا في ها جبر يل فنادا ني‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إن ال قد سمع قول قومك لك‪ ،‬وما ردوا عليك‪ ،‬وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‪،‬‬
‫فنادانهي ملك الجبال فسهلم علي‪ ،‬ثهم قال‪ :‬يها محمهد‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك فيمها شئت‪ ،‬إن شئت أطبقهت عليههم‬
‫الخشبين‪ ،‬فقال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬بل أرجو أن يخرج ال من أصلبهم من يعبد ال وحده‪،‬‬
‫ول يشرك به شيئا"(‪.510‬‬
‫ففهي هذا الحديهث البيان الواضهح فهي أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬يسهمع أقوال عباده‪ ،‬وأنهه ل يخفهى عليهه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬من ذلك شيء‪.‬‬
‫و صفة ال سمع والب صر من ال صفات اللز مة ل ‪-‬تعالى‪ -‬و قد‪-‬تعالى‪ -‬تقدم بيان ثبوت ذلك له‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬عقلً‪ ،‬وشرعا‪ ،‬وفطرة‪ ،‬وأن مهن أنكهر ذلك عرف بهه وأعلم إن كان جاهلً‪ ،‬وإل حكهم عليهه‬
‫بالك فر؛ لنكاره ال حق الوا ضح‪ ،‬الوا جب اعتقاده واليمان به؛ ل نه أن كر ما ث بت‪ ،‬وتواترت عل يه ك تب‬
‫ال‪ ،‬وجاءت به جميع رسله‪ ،‬فهو أمر ضروري‪.‬‬

‫‪ )(507‬الية ‪ 181‬من سورة آل عمران ‪.‬‬


‫‪ )(508‬الية ‪ 104‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(509‬بدائع الفوائد" (‪.)2/75‬‬
‫‪ )(510‬انظر ‪ " :‬البخاري مع الفتح" (‪.)6/312‬‬

‫‪132‬‬
‫ص ‪173‬‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬قُلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ} (‪.")511‬‬
‫هذا الخطاب الكريم‪ ،‬وأمثاله كثير في كتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬عام شامل‪ ،‬يجب أن يفهم على عمومه‪،‬‬
‫كما يجب أن يفهم مراد ال ‪-‬تعالى‪ -‬فيه‪ ،‬وفي غيره من خطاباته ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫"وقهد اتفهق المسهلمون وسهائر أههل الملل على أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬على كهل شيهء قديهر‪ ،‬كمها فهي‬
‫ن صوص القرآن الكر يم‪ ،‬وغيره من ك تب ال ‪-‬تعالى‪ -‬و ما و جد من أفراد م سائل و قع الخلف في ها‪،‬‬
‫فهو بسبب عدم فهم النصوص‪ ،‬كقول من يدخل في هذا العموم‪ ،‬الممتنع لذاته‪ ،‬مثل الجمع بين الضدين‪،‬‬
‫ككون الش خص ميتا حيا في آن وا حد‪ ،‬والج مع ب ين الحر كة وال سكون‪ ،‬وال سواد والبياض‪ ،‬و ما أش به‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وكذا من ل يدخل ذلك في هذا العموم‪ ،‬فل يكون ذلك داخلً عندهم في عموم القدرة‪.‬‬
‫والحهق أن الممتنهع لذاتهه ليهس شيئا‪ ،‬ول وجود له فهي الخارج‪ ،‬بهل ل يتصهوره الفكهر ثابتا فهي‬
‫خارج الذهن‪ ،‬ويمتنع تحققه في العيان وتصوره في الذهان‪ ،‬إل على وجه التمثيل‪ ،‬فهو ليس بشيء‪،‬‬
‫ل في العيان‪ ،‬ول في الذهان‪ ،‬فل يصلح أن يقال‪ :‬إنه خارج من هذا العموم‪ ،‬أو داخل فيه؛ لن هذا‬
‫ل شَيْ ٍء قَدِيرٌ}‬
‫يج عل له وجودا ولو في الفرض‪ ،‬فيو قع في الش به والشكوك‪ ،‬بل يقال‪{ :‬إِنّ اللّ هَ عَلَى كُ ّ‬
‫وهذا ليس بشيء‪.‬‬
‫و أما المعدوم‪ ،‬فليس بشيء أيضا في الوجود الخارج‪ ،‬ولكنه شيء في التصور والذهن‪ ،‬وما علم‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬أنه سيكون‪ ،‬فهو شيء في التقدير‪ ،‬والعلم والكتاب‪ ،‬وإن لم يكن شيئا في الخارج كما قال‬
‫ن فَ َيكُونُ} (‪.)512‬‬
‫ل لَ ُه كُ ْ‬
‫ش ْيئًا َأنْ َيقُو َ‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬إ ّنمَا َأ ْمرُهُ ِإذَا َأرَادَ َ‬
‫فلفظ الشيء في الية يتناول ما وجد‪ ،‬وما يتصوره الذهن موجودا‪ ،‬ول يستثنى من ذلك شيء‪،‬‬
‫ل أفعال العباد‪ ،‬ول أفعاله ‪-‬تعالى‪ ،-‬سواء المتعدية‪ ،‬أو اللزمة‪،‬‬
‫ص ‪174‬‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْ شِ}‬
‫ستّ ِة َأيّا مٍ ثُمّ ا ْ‬
‫ض فِي ِ‬
‫لرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ك ما قال ‪-‬تعالى‪ُ { :-‬هوَ اّلذِي خَلَ قَ ال ّ‬
‫(‪.)513‬‬
‫فجمع في الية بين النوعين من الفعال‪ ،‬المتعدية واللزمة‪.‬‬
‫والقدرة تتعلق بكهل مها تتعلق بهه المشيئة‪ ،‬فإن مها شاء ال كان‪ ،‬ول يكون شيهء إل بقدرتهه‬
‫(‪)515‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ}‬
‫ج ْم ِع ِهمْ ِإذَا َيشَاء َقدِيرٌ} (‪{.)514‬وَهُوَ عَلَى كُلّ َ‬
‫‪-‬تعالى‪ :-‬ولهذا قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَهُوَ عَلَى َ‬

‫‪ )(511‬الية ‪ 65‬من سورة النعام ‪.‬‬


‫‪ )(512‬الية ‪ 82‬من سورة يس‪.‬‬
‫‪ )(513‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد ‪ ،‬انتهى من "مجموع الفتاوى" ملخصاً (‪.)11-8/7‬‬
‫‪ )(514‬الية ‪ 29‬من سورة الشورى ‪.‬‬
‫‪ )(515‬الية ‪ 120‬من سورة المائدة‪ ،‬المصدر السابق (ص ‪.)383‬‬

‫‪133‬‬
‫والش يء في ال صل‪ ،‬م صدر شاء‪ ،‬يشاء‪ ،‬شيئا‪ ،‬كنال‪ ،‬ينال‪ ،‬نيلً‪ ،‬ثم وضعوا الم صدر مو ضع‬
‫المفعول‪ ،‬ف سموا "المشاء" شيئا‪ ،‬ك ما سموا المنال‪ :‬نيلً‪ ،‬فقالوا‪ :‬ن يل المعدن‪ ،‬ك ما ي سمى المقدور‪ :‬قدرة‪،‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ} أي‪ :‬على كل ما يشاء‪ ،‬فم نه ما قد شاءه فو جد‪،‬‬
‫والمخلوق‪ :‬خلقا‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬عَلَى كُلّ َ‬
‫ومنه ما لم يشأه {فلم يوجد} وهو شيء في العلم‪ ،‬بمعنى أنه قابل لن يشاءه‪.‬‬
‫فهذا العموم يتناول ما كان شيئا في الخارج‪ ،‬والعلم‪ ،‬وما كان في العلم فقط‪ ،‬بخلف ما ل يجوز‬
‫أن تتناوله المشيئة‪ ،‬وهو الحق ‪-‬تعالى‪ -‬وصفاته‪ ،‬أو الممتنع لنفسه‪ ،‬فإنه غير داخل في العموم‪ ،‬ولهذا‬
‫اتفق الناس على أن الممتنع لنفس ليس بشيء" اهه(‪.)516‬‬

‫‪ )(516‬المصدر السابق (ص ‪.)383‬‬

‫‪134‬‬
‫ص ‪175‬‬
‫‪ -19‬قال‪ " :‬حدث ني إبراه يم بن المنذر‪ ،‬حدث نا م عن بن عي سى‪ ،‬حدث ني ع بد الرح من ا بن أ بي‬
‫الموالي‪ ،‬قال‪ :‬سمعت مح مد بن المنكدر يحدث ع بد ال بن الح سن‪ ،‬يقول‪ :‬أ خبرني جابر بن ع بد ال‪،‬‬
‫ال سلمي‪ ،‬قال‪ :‬كان ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬يعلم أ صحابه ال ستخارة في المور كل ها‪ ،‬ك ما‬
‫يعلم هم ال سورة من القرآن‪ ،‬يقول‪ :‬إذا هم أحد كم بال مر فلير كع ركعت ين من غ ير الفري ضة‪ ،‬ثم لي قل‪:‬‬
‫الل هم إ ني أ ستخيرك بعل مك‪ ،‬وأ ستقدرك بقدر تك‪ ،‬وأ سألك من فضلك‪ ،‬فإ نك تقدر ول أقدر‪ ،‬وتعلم ول‬
‫أعلم‪ ،‬وأ نت علم الغيوب‪ ،‬الل هم فإن ك نت تعلم هذا ال مر – ثم ت سميه بعي نه – خيرا لي‪ ،‬في عا جل‬
‫أمري وآجله – قال‪ :‬أو‪ :‬في دي ني ومعا شي‪ ،‬وعاق بة أمري‪ -‬فاقدره لي وي سره لي‪ ،‬ثم بارك لي ف يه‪،‬‬
‫الل هم إن ك نت تعلم أ نه شر لي في دي ني ومعا شي وعاق بة أمري – أو قال‪ :‬في عا جل أمري وآجله –‬
‫فاصرفني عنه‪ ،‬واقدر لي الخير حيث كان‪ ،‬ثم رضني به"‪.‬‬
‫جابر بهن عبهد ال بهن عمرو بهن حرام‪ ،‬النصهاري الخزرجهي‪ ،‬مهن أكابر علماء الصهحابة‪،‬‬
‫والحريصين على تحصيل العلم‪ ،‬فقد ذكر له عدة رحلت في طلب الحديث‪ ،‬منها‪ :‬أنه رحل من المدينة‬
‫إلى مصهر مهن أجهل حديهث واحهد‪ ،‬كمها ذكره البخاري فهي "صهحيحه" معلقا‪ ،‬وكان حافظا مكثرا عهن‬
‫رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وهو مفتي المدينة في زمانه‪ ،‬له مناقب كثيرة‪.‬‬
‫قال الواقدي‪ :‬توفي سنة ثمان وسبعين‪ ،‬وقال صاحب الحلية‪ :‬سنة سبع وسبعين‪ .‬قيل‪ :‬إنه عاش‬
‫أربعا وتسعين سنة‪ - ،‬رضي ال عنه – وعن سائر صحابة رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪.)517(-‬‬
‫قوله‪ " :‬يعلمنا الستخارة" أي‪ :‬صلتها ودعاءها‪ ،‬وهذا من تمام شفقته على أمته‪ ،‬وحرصه على‬
‫حصول الخير لهم‪ ،‬ودفع كل شر عنهم‪ ،‬وبمثل هذا يعلم أنه – صلى ال عليه وسلم – ما كان ليترك‬
‫باب ما يعتقدونه في ربهم‪ ،‬من اليمان بأسمائه وصفاته‪ ،‬وما يجب له‪ ،‬وما يمتنع عليه‪ ،‬ما كان ليترك‬
‫ذلك بدون إيضاح وبيان ل يح صل م عه أي التباس أو اشتباه‪ ،‬وهذا وا ضح جلي من دعوة الر سول –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬ومن حاله‪ ،‬وهو موجب الرسالة‪ ،‬ومن حالة أصحابه أيضا‪.‬‬
‫ص ‪176‬‬
‫الستخارة‪ :‬طلب الخير من أحد المرين‪ ،‬الفعل لما هم به‪ ،‬أو الترك‪ ،‬وهي مشروعة في عامة‬
‫المور‪ ،‬كمها يدل عليهه هذا الحديهث‪ ،‬ل يخرج مهن عموم ذلك إل الواجهب‪ ،‬والمحرم‪ ،‬أمها المسهتحب‬
‫والمكروه‪ ،‬ففيهما تفصيل‪ ،‬يذكر في كتب الداب الشرعية‪ ،‬وكتب الفروع‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬كمها يعلمنها السهورة مهن القرآن " بيان لشدة الهتمام بهها والعتناء‪ ،‬وهذا مهن محاسهن‬
‫السلم الظاهرة لكل عاقل‪ ،‬وقد كان العرب قبل ذلك إذا هم أحدهم بالمر ذهب يستقسم بالزلم‪ ،‬أو‬
‫ذ هب يز جر الط ير لي ستدل بطيرا نه أو نعا به على ما سيحصل له في الم ستقبل‪ ،‬أو ذ هب إل يه الكه نة‬

‫‪ )(517‬انظر ‪ " :‬سير أعلم النبلء" (‪ ، )3/189‬و "الصابة" (‪ ، )1/213‬و "أسد الغابة" (‪ )1/256‬و‬
‫"الستيعاب" (‪.)1/219‬‬

‫‪135‬‬
‫وإخوان الشياط ين‪ ،‬وهذا كله ر جم بالغ يب‪ ،‬وشرك بال‪ ،‬فعو ضه السلم عن ذلك بالفزع إلى من بيده‬
‫أز مة المور كل ها‪ ،‬و من يملك الخ ير وال شر‪ ،‬فيقدمون ب ين يدي ذلك ركعت ين‪ ،‬لتكو نا و سيلة ب ين يدي‬
‫الطلب‪ ،‬ثم يتوجهون إلى رب هم بهذا الدعاء‪ ،‬الذي ف يه التو سل إل يه ‪-‬تعالى‪ -‬بأ سمائه و صفاته‪ ،‬وتوح يد‬
‫الطلب والنية والقصد‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬ليركع" أمر بالركوع‪ ،‬ويحمل على الندب؛ للدلة الدالة على عدم الوجوب‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬من غير الفريضة" يدل على عدم حصول سنة الستخارة بالدعاء عقب صلة الفرض‪،‬‬
‫بل لبد أن تكون بركعتين غير الفريضة‪ ،‬ثم يدعو بهذا الدعاء‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬اللهم إني أستخيرك" أي‪ :‬أطلب منك بيان وتيسير ما هو خير لي‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬بعلمك" أي‪ :‬أسألك وأتوسل إليك بصفتك‪ ،‬صفة العلم‪ ،‬أن ترشدني إلى الخير فيما أريد‪،‬‬
‫فإنك عالم به ل يخفى عليك شيء‪.‬‬
‫وهذا صريح في إثبات صفة العلم ل ‪-‬تعالى‪ -‬ودعائه به‪ ،‬والدلة عليه ل حصر لها‪ ،‬كما سبقت‬
‫الشارة إليه‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬وأستقدرك" أي‪ :‬أسألك أن تجعلني قادرا على فعل ما أريد‪ ،‬وتهيء أسباب ذلك لي‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬بقدرتك" وهذا سؤال ل ‪-‬تعالى‪ -‬بصفته التي هي القدرة‪ ،‬أي‪ :‬أنت القادر الذي ل يعجزه‬
‫شيء‪ ،‬فأسألك بهذه القدرة العظيمة أن تنيلني ما أريد‪ ،‬وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب‪ ،‬كما هو‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫ص ‪177‬‬
‫ثم عاد إلى التو سل بهات ين ال صفتين‪ ،‬بقوله‪ " :‬فإ نك تقدر ول أقدر" الخ‪ ،‬يع ني‪ :‬لك القدرة الكاملة‬
‫الشاملة‪ ،‬فأ سألك ب ها‪ ،‬ك ما أ ني أ سألك بفقري إل يك وعجزي‪ ،‬فل يس لي قدرة على ش يء ح تى تجعل ني‬
‫قادرا عليه‪ ،‬وتيسر لي أسبابه‪ ،‬وأنت تعلم عواقب المور‪ ،‬وما تؤول إليه‪ ،‬بل ل يخفى عليك شيء في‬
‫الماضي‪ ،‬والحاضر‪ ،‬والمستقبل‪ ،‬فعلمك شامل لكل شيء‪ ،‬ول علم لي بشيء من ذلك إل ما علمتني‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬وأنت علم الغيوب" أي‪ :‬ذلك خاص بك‪ ،‬ل يعلمه سواك‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ثم يسميه بعي نه" ظاهر في أنه يتل فظ به معينا له باسمه؛ ليكون بذلك أقوى على اجتماع‬
‫العزم على طلبه‪.‬‬
‫"في عاجل أمري وآجله" أي‪ :‬في دنياي وآخرتي‪.‬‬
‫"أو في دي ني‪ ،‬ومعا شي‪ ،‬وعاق بة أمري" شك من الراوي‪ :‬هل قال الول أو الثا ني؟ والمع نى‬
‫واحد‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬فاقدره لي‪ ،‬وي سره لي" ا قض به لي‪ ،‬واجعل ني قادرا على الح صول عل يه‪ ،‬و سهل لي‬
‫أسبابه بحيث أناله بل مشقة وكلفة‪ ،‬وفي هذا‪ :‬أنه ل يحصل شيء إل بسبب‪.‬‬
‫"ثم بارك لي فيه " اجعل فيه بركة تنميه وتزيده‪ ،‬وفيما يترتب عليه‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫"الل هم إن ك نت تعلم أ نه شر لي‪ ،‬في دي ني‪ ،‬ومعا شي‪ ،‬وعاق بة أمري‪ -‬أو قال‪ :‬عا جل أمري‬
‫وآجله‪ -‬فاصرفني عنه" أي‪ :‬هيئ السباب التي تصرف قلبي وتثني عزمي عن فعله‪.‬‬
‫"واقدر لي الخير حيث كان" أي‪ :‬قدر لي فعل ما فيه خير لديني ودنياي‪ ،‬في أي مكان‪ ،‬وفي أي‬
‫وقت‪.‬‬
‫"ثم رضني به" أي‪ :‬اجعلني رضيا به‪ ،‬قانعا‪ ،‬ناعم البال‪ ،‬مستغنيا عن خلقك‪ ،‬مستعينا به على‬
‫طاعتك‪ ،‬وشاكرا لك منقادا لمرك‪.‬‬
‫ومراد البخاري‪ :‬إثبات صهفة القدرة ل ‪-‬تعالى‪ -‬وأن قدرتهه ‪-‬تعالى‪ -‬عامهة لكهل مقدور‪ ،‬والرد‬
‫على القدر ية نفاة القدر من المعتزلة وغير هم‪ ،‬الذ ين يقيدون قدرة ال ‪-‬تعالى‪ -‬ب ما اخترعوه من ع ند‬
‫أنفسهم‪ ،‬ولهذا اقتصر على هذا القدر من الية‪ ،‬أي القادر على كل شيء‪.‬‬
‫ص ‪178‬‬
‫فال ‪-‬تعالى‪ -‬يفعل ما يشاء‪ ،‬ويحكم ما يريد‪ ،‬ل مانع له‪ ،‬ول يقدر غيره أن يمنعه مراده " فهو‬
‫قادر على كل مقدور"‪.‬‬
‫وكل ممكن يكون مقدورا له‪ ،‬فما من ممكن في نفسه إل وال قادر عليه‪.‬‬
‫و أما الممتنع لنفسه‪ ،‬فإنه ليس بشيء عند جميع العقلء‪ ،‬إن تنازعوا في المعدوم الممكن مثل‬
‫إيمان الكافر‪ :‬هل هو شيء أو ل؟ فأما الممتنع لنفسه‪ :‬فلم يقل أحد إنه شيء في الخارج‪ ،‬والممتنع هو‪:‬‬
‫ما ل يم كن وجوده في خارج الذ هن‪ ،‬م ثل كون الش يء موجودا معدوما(‪ ،)518‬فإ نه ل يع قل ثبوت ذلك‪،‬‬
‫وكذا كون الش يء أ سود كله وأب يض كله‪ ،‬وكون الج سم الوا حد بعي نه في الو قت الوا حد في مكان ين‪،‬‬
‫والممتنع يراد به الممتنع لنفسه مثل هذه المور‪ ،‬ويراد به الممتنع لغيره مثل ما علم ال أنه ل يكون‪،‬‬
‫وأ خبر أ نه ل يكون‪ ،‬وك تب ذلك‪ ،‬فهذا ممت نع‪ ،‬ل نه لو كان للزم أن يكون علم ال متخلفا عن معلو مه‪،‬‬
‫وخبره بخلف الواقع‪ ،‬تعالى عن ذلك‪ ،‬ولكن هو ممكن بنفسه وال قادر عليه‪ ،‬كما قال –تعالى‪{ :-‬بَلَى‬
‫قَا ِدرِي نَ عَلَى أَن نّسَ ّويَ َبنَانَ هُ} (‪ ،)519‬وقال –تعالى‪ {:-‬وَِإنّا عَلَى ذَهَابٍ ِب ِه لَقَا ِدرُو نَ} (‪ ،)520‬وقال –تعالى‪:-‬‬
‫حدَةً} (‪.)522‬‬
‫جعَلَ النّاسَ ُأمّةً وَا ِ‬
‫س ُهدَاهَا} (‪{ ،)521‬وَلَ ْو شَاء َر ّبكَ َل َ‬
‫ش ْئنَا ل َت ْينَا كُلّ نَفْ ٍ‬
‫{وََلوْ ِ‬

‫‪ )(518‬ومن ذلك قول بعض الملحدة ‪ :‬هل يقدر ال أن يخلق مثل نفسه ؟ فهذا ممتنع لنفسه ‪ ،‬و إنما يورده‬
‫جاهل ل يتصور ما يقول ‪ ،‬أو ملبس معاند يريد إفساد عقائد عوام المؤمنين ‪ ،‬أو التشكيك في قدرة ال –‬
‫تعالى‪. -‬‬
‫‪ )(519‬الية ‪ 4‬من سورة القيامة ‪.‬‬
‫‪ )(520‬الية ‪ 18‬من سورة المؤمنون‪.‬‬
‫‪ )(521‬الية ‪ 13‬من سورة السجدة ‪.‬‬
‫‪ )(522‬الية ‪ 118‬من سورة هود عليه السلم ‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫وأمثال ذلك م ما ي خبر ‪-‬تعالى‪ -‬أ نه لو شاء لفعله‪ ،‬فإن هذه المور ال تي أ خبر أ نه لو شاء لفعل ها‬
‫يلزم أنها ممكنة مقدورة له‪ ،‬فإيمان من علم ال أنه ل يؤمن مقدور له ممكن‪ ،‬لكنه ل يقع‪ ،‬وقد علم ال‬
‫أنه ل يؤمن‪ ،‬مع كونه مستطيع اليمان‪ ،‬كمن علم أنه ل يحج مع استطاعته الحج‪.‬‬
‫(‪)523‬‬
‫ع ْنهُ وَِإ ّن ُهمْ َلكَاذِبُونَ}‬
‫قال ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلَ ْو ُردّواْ َلعَادُو ْا ِلمَا ُنهُواْ َ‬
‫ص ‪179‬‬
‫وحقيقة المر هو ما أخبر ال به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير‪ ،‬وهذا هو ما‬
‫يعتقده أهل السنة المثبتون للقدر"(‪.)524‬‬
‫"فعند أهل السنة أن ال على كل شيء قدير‪ ،‬وكل ممكن فهو مندرج في هذا‪ ،‬وأما المحال لذاته‬
‫مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما‪ ،‬فهذا ل حقيقة له‪ ،‬ول يتصور وجوده‪ ،‬ول يسمى شيئا باتفاق‬
‫العقلء‪ ،‬ومن هذا الباب خلق مثل نفسه‪ ،‬وأمثال ذلك"(‪.)525‬‬

‫‪ )(523‬الية ‪ 28‬من سورة النعام‪.‬‬


‫‪" )(524‬منهاج السنة" (‪ )122-2/118‬ملخصاً ببعض التصرف ‪.‬‬
‫‪ )(525‬المصدر السابق (‪.)1/213‬‬

‫‪138‬‬
‫ص ‪180‬‬
‫قال‪ " :‬باب مقلب القلوب" وقول ال تعالى‪َ { :‬ونُقَلّبُ َأ ْف ِئ َدتَ ُهمْ وََأ ْبصَارَ ُهمْ} (‪.)526‬‬
‫قال الراغب‪ " :‬تقليب الشيء‪ :‬تغييره من حال إلى حال‪ ،‬والتقليب‪ :‬التصرف‪ ،‬وتقليب ال القلوب‬
‫والبصائر‪ :‬صرفها من رأي إلى رأي "(‪.)527‬‬
‫قال ابن عباس‪ " :‬لما جحد المشركون ما أنزل ال‪ ،‬لم تثبت قلوبهم على شيء‪ ،‬وردت عن كل‬
‫أمر "(‪.)528‬‬
‫وقال مجاهد‪" :‬ونحول بينهم وبين اليمان‪ ،‬ولو جاءتهم كل آية‪ ،‬فل يؤمنون‪ ،‬كما حلنا بينهم وبين‬
‫اليمان أول مرة"(‪.)529‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬المراد بتقليب القلوب‪ :‬تقليب أعراضها‪ ،‬وأحوالها‪ ،‬ل تقليب ذات القلب"(‪.530‬‬
‫أخبر ‪-‬تعالى‪ -‬أنه يعاقب من ل يقبل الحق‪ ،‬أو يرده أول ما يبلغه بتقليب القلب‪ ،‬وتركه يعمه في‬
‫ضلله وغ يه‪ ،‬ك ما في هذه ال ية المذكورة في الباب‪ ،‬وك ما في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬فََلمّ ا زَاغُوا َأزَا غَ اللّ هُ‬
‫قُلُو َب ُهمْ} (‪ ،)531‬وفي هذا بيان أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬إذا منع فضله النسان‪ ،‬بالهداية‪ ،‬أنه يكون منحرفا ضالً‪.‬‬
‫ومراد البخاري – رحمه ال – وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه المنفرد بالتصرف في خلقه حتى قلوب‬
‫العباد التي تنطوي على آرائهم‪ ،‬ونياتهم‪ ،‬وما يخططون لمستقبلهم‪ ،‬حيث يرى كثير منهم أو أكثرهم في‬
‫الظاهر أنهم أحرار في أفكار هم‪ ،‬وما يريدونه‪ ،‬والواقع أن ال ‪ -‬تعالى‪ -‬هو الذي يصرفهم في ذلك‪،‬‬
‫فل قدرة لهم إل بعد مشيئته‪،‬‬
‫ص ‪181‬‬
‫وبهذا يشير البخاري – رحمه ال – إلى تمام قدرة ال التي سبق ذكرها في الباب قبل هذا‪ ،‬حيث‬
‫بيهن بهذا أن ال ههو المتصهرف بالقلوب‪ ،‬فإن شاء جعلهها مريدة للخيهر‪ ،‬وإن شاء جعلهها مريدة للشهر‬
‫وبذلك يعلم أنه ل قدرة لحد على شيء إل بعد أن يجعله ال قادرا عليه‪ ،‬خلفا لما يقوله الضالون عن‬
‫الحق‪ ،‬من أهل البدع والنحراف‪.‬‬

‫‪ )(526‬الية ‪ 110‬من سورة النعام‪.‬‬


‫‪" )(527‬المفردات" (ص ‪.)411‬‬
‫‪ )(528‬رواه الطبري ‪ ،‬انظر ‪ ":‬التفسير" (‪.)12/43،41‬‬
‫‪ )(529‬المصدر نفسه (‪.)12/44‬‬
‫‪" )(530‬الفتح" (‪.)11/527‬‬
‫‪ )(531‬الية ‪ 5‬من سورة الصف ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ص ‪182‬‬
‫‪-20‬قال‪ " :‬حدثنا سعيد بن سليمان‪ ،‬عن ابن المبارك‪ ،‬عن موسى بن عقبة‪ ،‬عن سالم‪ ،‬عن عبد‬
‫ال‪ ،‬قال‪ " :‬أكثر ما كان النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يحلف‪ :‬ل‪ ،‬ومقلب القلوب"‪.‬‬
‫ذكر البخاري – رحمه ال – هذا الحديث في كتاب القدر‪ ،‬بلفظ‪ " :‬كثيرا ما كان النبي‪-‬صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬يحلف" ل‪ ،‬ومقلب القلوب"(‪.)532‬‬
‫وذكهر عهن ابهن عمهر – أيضا ‪ " :-‬كانهت يميهن النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬ل‪ ،‬ومقلب‬
‫القلوب"(‪.)533‬‬
‫و في روا ية ا بن ما جه‪ " :‬كان أك ثر أيمان ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ :-‬ل‪ ،‬وم صرف‬
‫القلوب"(‪.)534‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬فهي هذا الحديهث دليهل على أن أعمال القلب‪ ،‬مهن الرادات والدواعهي وسهائر‬
‫العراض‪ ،‬بخلق ال ‪-‬تعالى‪ -‬وف يه جواز ت سمية ال ‪-‬تعالى‪ -‬ب ما ث بت من صفاته على الو جه الذي‬
‫يليق به"(‪.)535‬‬
‫ففهي هذا الحديهث‪ ،‬ومها ههو نحوه مهن الدلئل‪ ،‬أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ههو الذي يتولى قلوب العباد‬
‫يصرفها كيف يشاء‪ ،‬وهذا من تمام ملكه‪ ،‬فل ينازعه أحد في التدبير والتصرف‪ ،‬ول يقع في الوجود‬
‫إل ما أراده‪ ،‬وبهذا يعلم مدى حا جة الع بد إلى ر به‪ ،‬وأ نه ل غ نى له ع نه طر فة ع ين‪ ،‬فل بد له من‬
‫هدايته وتوفيقه‪ ،‬وإل ضل وتاه في مهامه نهايتها الهلك‪ ،‬والعذاب المؤبد‪ ،‬وهذا ل ينافي تكليف العباد‬
‫بالعمال التي يترتب عليها الجزاء‪ ،‬كما سيأتي –إن شاء ال تعالى – في موضعه‪.‬‬
‫وفي " صحيح مسلم" عن عبد ال بن عمرو‪ ،‬أنه سمع رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقول‪:‬‬
‫" إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين‪ ،‬من أصابع الرحمن‪ ،‬كقلب واحد‪ ،‬يصرفه‬
‫ص ‪183‬‬
‫ك يف يشاء" ثم قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ ":-‬الل هم م صرف القلوب‪ ،‬صرف قلوب نا‬
‫على طاعتك"(‪.)536‬‬

‫‪ )(532‬انظر ‪ ":‬البخاري مع الفتح" (‪.)11/513‬‬


‫‪ )(533‬انظر ‪ :‬المرجع السابق (ص ‪.)523‬‬
‫‪ )(534‬انظر ‪ " :‬سنن ابن ماجه" (‪ )1/677‬رقم (‪.)2092‬‬
‫‪" )(535‬فتح الباري" (‪.)11/527‬‬
‫‪ )(536‬انظر ‪ " :‬مسلم" ‪ ،‬كتاب القدر ‪ )4/2045( ،‬رقم الحديث (‪.)2654‬‬

‫‪140‬‬
‫ص ‪184‬‬
‫قال‪ " :‬باب إن ل مائة اسم إل واحدة "‪.‬‬
‫مراده بهذا الباب‪ :‬وجوب إثبات أ سماء ال ‪-‬تعالى‪ -‬على ما ورد في كتاب ال‪ ،‬و عن ر سوله‪،‬‬
‫وأن ذلك من التوح يد الذي بي نه الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ود عا أم ته إلى اليمان به‪ ،‬ووجوب‬
‫جزَوْنَ‬
‫س ُي ْ‬
‫سمَآئِهِ َ‬
‫حدُونَ فِي أَ ْ‬
‫سنَى فَادْعُو ُه ِبهَا َو َذرُو ْا اّلذِينَ يُ ْل ِ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫اعتقاده‪ ،‬قال ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلِلّ ِه الَ ْ‬
‫َهه‬
‫حمَههنَ َأيّاه مّاه َتدْعُو ْا فَل ُ‬
‫ّهه أَ ِو ادْعُواْ ال ّر ْ‬
‫ل ادْعُو ْا الل َ‬
‫مَا كَانُو ْا َي ْعمَلُونهَ} (‪ ،)537‬وقال – جهل وعل – {قُ ِ‬
‫ئ ا ْلمُ صَ ّو ُر لَ ُه الَ سْمَاء ا ْلحُ سْنَى}‬
‫سنَى} (‪ ،)538‬وقال – تبارك وتعالى‪ُ { :-‬هوَ اللّ هُ ا ْلخَالِ قُ ا ْلبَارِ ُ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫الَ ْ‬
‫(‪.)539‬‬
‫فهذه اليات وغيرهها ممها فهي معناهها‪ ،‬تدل على وجوب اليمان بمها ل ‪-‬تعالى‪ -‬مهن السهماء‬
‫الحسنى‪ ،‬الدالة على عظيم جلله‪ ،‬وسمعة أوصافه‪ ،‬فكل اسم من أسمائه دال على كمال عظمته‪ ،‬وبذلك‬
‫كانت حسنى‪ ،‬أما السماء التي ل تدل على صفات الكمال‪ ،‬فليست بحسنى‪ ،‬وكذلك إذا اشتركت دللتها‬
‫بين الكمال والن قص‪ ،‬أو دلت على مجرد علم محض‪ ،‬مثل إبراه يم‪ ،‬وزيد‪ ،‬فل تكون حسنى حتى تدل‬
‫على كمال ال صفة ال تي اش تق من ها ال سم‪ ،‬م ثل "العل يم" فإ نه يدل على أن له علما عاما محيطا بجم يع‬
‫الشياء‪ ،‬ل يخرج عنهه مثقال ذرة فهي السهماوات والرض‪ ،‬ومثهل "القديهر" الدال على قدرتهه التهي ل‬
‫يعجزها شيء‪ ،‬و"الرحيم" الدال على رحمته العظيمة التي وسعت كل شيء‪.‬‬
‫وهكذا كل أ سمائه – جل وعل – وهذا تف صيل وبيان للباب الثا ني من الكتاب‪ ،‬ولكون ها ح سنى‬
‫أوجب على عباده دعاءه بها‪ ،‬كما يأتي في الباب بعد هذا‪ ،‬وتوعد الملحدين بها‪.‬‬
‫فيد عى ب كل مطلوب ب ما ينا سبه من ها‪ ،‬فقال‪ :‬الل هم اغ فر لي وارحم ني إ نك أ نت الغفور الرح يم‪،‬‬
‫وتب عليّ إنك عفو كريم‪ ،‬والطف بي يا لطيف‪ ،‬وارزقني يا رزاق‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ص ‪185‬‬
‫"قوله‪ " :‬إن ل مائة اسم إل واحدة" التأنيث في لفظة "واحد" نظرا إلى التسمية أو الكلمة‪ ،‬كما‬
‫يقول النجاة‪ " :‬الكلمة اسم أو فعل أو حرف"‪.‬‬
‫وقال ابن مالك‪ " :‬أنت باعتبار معنى التسمية‪ ،‬أو الصفة‪ ،‬أو الكلمة"(‪.)540‬‬
‫وفي بعض روايته‪ " :‬إل واحدا"‪.‬‬
‫قال ابن عباس‪{ :‬ذو الجلل}‪ :‬العظمة‪{ ،‬البر}‪ :‬اللطيف"‪.‬‬
‫في روا ية‪ " :‬ذو الجلل‪ :‬العظ يم"‪ ،‬فيكون "العظ يم" تف سيرا ل ه" ذو"‪ ،‬وعلى الولى تف سيرا ل ه"‬
‫الجلل"‪.‬‬
‫‪ )(537‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪.‬‬
‫‪ )(538‬الية ‪ 110‬من سورة السراء ‪.‬‬
‫‪ )(539‬الية ‪ 24‬من سورة الحشر ‪.‬‬
‫‪" )(540‬فتح الباري" (‪.)11/219‬‬

‫‪141‬‬
‫فذو الجلل‪ :‬صاحب العظمة‪ ،‬الذي ل تقاس عظمته بشيء من خلقه – جل وعل‪.-‬‬
‫و أ ما "البر" ف هو‪ :‬المح سن غا ية الح سان إلى خل قه‪ ،‬من غ ير ا ستحقاق ول مقا بل‪ ،‬ف هو بل يغ‬
‫الحسان إلى خلقه‪ ،‬وإحسانه شامل لهم‪.‬‬
‫و أما " اللطيف" فهو‪ :‬العالم بالخفيات‪ ،‬ودقائق المور‪ ،‬وغوامضها‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال الزجاج‪ ":‬اللطيف"‪ :‬المحسن إلى عباده في خفاء وستر‪ ،‬من حيث ل يعلمون"(‪.)541‬‬

‫‪" )(541‬تفسير السماء الحسنى" (ص ‪.)44‬‬

‫‪142‬‬
‫ص ‪186‬‬
‫‪-21‬قال‪ " :‬حدثنا أبو اليمان‪ ،‬أخبرنا شعيب‪ ،‬حدثنا أبو الزناد‪ ،‬عن العرج‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬أن‬
‫رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬إن ل تسعة وتسعين اسما‪ ،‬مائة إل واحدا‪ ،‬من أحصاها دخل‬
‫الجنة"‪.‬‬
‫{أحصيناه} حفظناه‪.‬‬
‫" قال جماعة من العلماء‪ :‬الحكمة في قوله‪ " :‬مائة إل واحدا" بعد قوله‪ " :‬تسعة وتسعين" أن يقرر‬
‫(‪)542‬‬
‫ذلك في نفس السامع‪ ،‬جمعا بين جهتي الجمال والتفصيل‪ ،‬أو دفعا للتصحيف الخطي‪ ،‬أو اللفظي"‬
‫قوله‪ " :‬إن ل تسهعة وتسهعين اسهما" هذا ل يقصهد بهه حصهر أسهماء ال ‪-‬تعالى‪ -‬فهي هذا العدد‬
‫المذكور‪ ،‬وإنما قصد الخبار عما يترتب على إحصائها وجزائه‪ ،‬كما تقول‪ :‬عندي مائة كتاب أعددتها‬
‫للعارة‪ ،‬فل ين في أن يكون عندك ك تب غير ها‪ ،‬فالتقي يد بهذا العدد عائد إلى ال سماء المو صوفة بهذه‬
‫ال صفة‪ ،‬و هي قوله‪ " :‬من أح صاها د خل الج نة" فهذه الجملة محل ها الن صب صفة " لت سعة وت سعين"‪،‬‬
‫ويجوز أن تكون في محل رفع على البتداء‪ ،‬والمعنى " إن ل أسماء بقدر هذا العدد‪ ،‬من أحصاها دخل‬
‫الجنة"‪.‬‬
‫فأ سماء ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ل تد خل ت حت ح صر‪ ،‬ول ت حد بعدد‪ ،‬بدل يل ما رواه المام أح مد في "‬
‫المسند"‪ ،‬حدثنا يزيد‪ ،‬أنبأنا ابن مرزوق‪ ،‬حدثنا أبو سلمة الجهني(‪ ،)543‬عن القاسم بن عبد الرحمن‪ ،‬عن‬
‫أبيه‪ ،‬عن عبد ال‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬ما أصاب أحدا قط هم‪ ،‬ول حزن‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك‪ ،‬ناصيتي بيدك‪ ،‬ماض في حكمك‪ ،‬عدل في قضاؤك‪ ،‬أسألك‬
‫بكل اسم سميت به نفسك‪ ،‬أو علمته أحدا من خلقك‪ ،‬أو أنزلته في كتابك‪ ،‬أو استأثرت به في علم الغيب‬
‫عندك‪ ،‬أن تج عل القرآن رب يع قل بي‪ ،‬ونور صدري‪ ،‬وجلء حز ني‪ ،‬وذهاب ه مي‪ ،‬إل أذ هب ال ه مه‬
‫سنده صحيح‪.‬‬ ‫(‪)544‬‬
‫وحزنه‪ ،‬وأبدله مكانه فرحا"‬
‫ص ‪187‬‬
‫قال ابن كثير‪ ":‬أخرجه المام أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" بمثله"(‪.)545‬‬
‫فهذا يدل على أن ل أسماء غير التسع والتسعين‪.‬‬
‫وقوله في الحد يث‪ " :‬أو ا ستأثرت به في علم الغ يب عندك" معناه‪ :‬انفردت بعل مه فلم تطلع عل يه‬
‫أحدا‪ ،‬ل ملكا مقربا‪ ،‬ول نبيا مرسلً‪.‬‬
‫وقسم أسماء ال ‪-‬تعالى‪ -‬في هذا الحديث ثلثة أقسام‪:‬‬

‫‪ " )(542‬الفتح" (‪.)11/219‬‬


‫‪ )(543‬يزيد هو ‪ :‬ابن هارون ‪ ،‬إمام حافظ مشهور ‪ .‬وابن مرزوق هو ‪ :‬فضيل بن مرزوق الغر الرقاشي‬
‫الكوفي‪ ،‬من رجال مسلم ‪ ،‬و أبو مسلمة و أبو سلمة هو موسى بن عبد ال أو ابن عبد الرحمن ‪.‬‬
‫‪" )(544‬المسند" (‪ ، )452 ،1/391‬وانظر ‪ " :‬الفتح الرباني" (‪.)14/262‬‬
‫‪ )(545‬انظر ‪ " :‬تفسير ابن كثير" (‪ )3/517‬ط الشعب ‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫أحدها‪ :‬ما سمى به نفسه‪ ،‬فأظهره لمن شاء‪ ،‬من ملئكته أو غيرهم‪ ،‬ولم ينزله في كتبه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنزله في كتبه‪ ،‬أو في بعضها‪ ،‬فتعرف به إلى عباده‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬استأثر به في علم الغيب عنده‪ ،‬فلم يطلع عليه أحدا من خلقه‪ ،‬ولهذا قال‪" :‬أو استأثرت‬
‫به في علم الغيب عندك " أي‪ :‬جعلته من الغيب الذي ل يعلمه غيرك‪ ،‬وليس المراد أنه ‪-‬تعالى‪ -‬انفرد‬
‫بالت سمي به؛ لن هذا النفراد ثا بت في ال سماء ال تي أنزل ها في كت به‪ ،‬و هو ثبوت ما دلت عل يه من‬
‫المعاني اللئقة بعظمته‪ ،‬ل مجرد التسمية‪.‬‬
‫و من الدلة على عدم ح صرها في ما ذ كر‪ :‬قوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬في حد يث الشفا عة‪" :‬‬
‫فيف تح عل يّ من محامده ما ل أح سنه الن" وتلك المحا مد‪ ،‬هي الثناء عل يه ‪-‬تعالى‪ -‬ب ما له من أ سماء‬
‫حسنى وصفات عليا‪.‬‬
‫و من الدلة أيضا قوله – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬ل أح صي ثناء عل يك‪ ،‬أ نت ك ما أثن يت على‬
‫نفسك"(‪546‬و أحسن الثناء ما كان بأسمائه الحسنى وصفاته العلية‪.‬‬
‫وبهذا ي تبين أن ال سماء الح سنى غ ير مح صورة في العدد المذكور‪ ،‬وإن ما خص ذ كر هذا العدد‬
‫ل ما ر تب عل يه من الح كم‪ ،‬و هو‪ " :‬من أح صاها د خل الج نة "‪ ،‬فل يس في الحد يث ح صر أ سماء ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬ول يدل على أنه ليس ل اسم غير هذه التسع والتسعين‪ ،‬وإنما أريد به الخبار بدخول الجنة‬
‫لمن أحصاها‪ ،‬ل الخبار بحصرها‪،‬‬
‫ص ‪188‬‬
‫و إلى هذا ذهب جمهور العلماء‪ ،‬كما ذكره الحافظ‪ ،‬ونقل النووي التفاق على ذلك‪.547‬‬
‫قال شيهخ السهلم‪ " :‬والصهواب الذي عليهه جمهور العلماء‪ :‬أن قول النهبي –صهلى ال عليهه‬
‫وسلم‪ ":-‬إن ل تسعة وتسعين اسما‪ ،‬من أحصها دخل الجنة " معناه‪ :‬أن من أحصى التسعة والتسعين‬
‫من أسمائه دخل الجنة‪ ،‬ليس مراده أنه ليس له إل ت سعة وتسعون اسما‪ ،‬فإن في الحديث الخر الذي‬
‫رواه أحمد وأبو حاتم في "صحيحه"‪ " :‬أسألك بكل اسم هو لك" الحديث‪ ،‬وفي "الصحيحين"‪ " :‬ل أحصي‬
‫ثناء عل يك" ولو أح صى جم يع أ سمائه‪ ،‬لح صى صفاته‪ ،‬فكان يح صي الثناء عل يه؛ لن صفاته ي عبر‬
‫عنها بأسمائه"(‪.)548‬‬
‫قوله‪ " :‬من أح صاها د خل الج نة" اختلف في المق صود من الح صاء‪ ،‬ورب ما ف هم من صنيع‬
‫البخاري أنه يرى أن إحصاءها هو حفظ ألفاظها‪ ،‬كما فهم من ذلك الحافظ ابن حجر‪ ،‬وعندي فيه نظر‪،‬‬
‫وذلك أن عادة البخاري التي سار عليها في كتابه هذا‪ ،‬أنه إذا جاء لفظ في الحديث‪ ،‬وفي القرآن لفظ‬
‫يوافقه في اللفظ والشتقاق‪ ،‬أنه يذكره وإن كان ل يوافقه في المعنى‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة‪:‬‬

‫‪ )(546‬رواه "مسلم" في كتاب الصلة (‪ ، )1/352‬و "أبو داود" في الوتر (‪ )2/134‬وغيرهما‪.‬‬


‫‪ )(547‬انظر ‪ " :‬فتح الباري" (‪.)11/220‬‬
‫‪" )(548‬درء تعارض العقل والنقل" (‪.)3/332‬‬

‫‪144‬‬
‫َامه‬
‫ْصهيْنَا ُه ف ِي ِإم ٍ‬
‫شيْءٍ أح َ‬
‫فههو فهي قوله‪ " :‬أحصهيناه‪ :‬حفظناه" يشيهر إلى قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬وكُلّ َ‬
‫ُمبِي نٍ}‪ ،‬قال الصيلي‪ " :‬إحصاؤها‪ :‬العمل بها‪ ،‬ل عدها وحفظها؛ لن ذلك قد يقع للكافر والمنافق‪ ،‬كما‬
‫في حديث الخوارج‪ " :‬يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم"(‪.)549‬‬
‫وذكر العلمة ابن القيم – رحمه ال تعالى – لحصائها ثلث مراتب‪:‬‬
‫"الولى‪ :‬إحصاء ألفاظها‪ ،‬وعددها‪ .‬والثاني‪ :‬فهم معانيها ومدلولها‪.‬‬
‫حسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا}‪.‬‬
‫لسْمَاء ا ْل ُ‬
‫الثالثة‪ :‬دعاؤه ‪-‬تعالى‪ -‬بها‪ ،‬كما قال‪{ :‬وَلِلّ ِه ا َ‬
‫والدعاء نوعان‪:‬‬
‫‪-1‬دعاء ثناء وعبادة‪.‬‬
‫ص ‪189‬‬
‫‪-2‬ودعاء مسألة وطلب‪ ،‬وكل النوعين ورد بهما القرآن بكثرة‪.‬‬
‫فل يثنى عليه ‪-‬تعالى‪ -‬إل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا‪ ،‬كما ل يسأل إل بها‪ ،‬ويسأل بها في‬
‫كل مطلوب بما ينا سبه ويقتضيه من السماء الحسنى‪ ،‬وال صفات العلية الكري مة‪ ،‬كما تقد مت الشارة‬
‫إليه‪.‬‬
‫وهذا من أعظم الوسائل إلى ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وأنفعها‪ ،‬ولهذا جاءت أدعية الرسل مطابقة لذلك"(‪.)550‬‬
‫وبهذا ي تبين أن إح صاءها الموعود عل يه دخول الج نة‪ ،‬يتض من حفظ ها وفهم ها‪ ،‬ودعاء ال ب ها‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫قال أبو عمر الطلمنكي‪ " :‬من تمام المعرفة بأسماء ال ‪-‬تعالى‪ -‬وصفاته التي يستحق بها الداعي‬
‫والحا فظ ما قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬المعر فة بال سماء وال صفات‪ ،‬و ما تتضم نه من‬
‫الفوائد‪ ،‬وتدل عليه من الحقائق‪ ،‬ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالما لمعاني السماء ول مستفيدا بذكرها ما‬
‫تدل عليه من المعاني"(‪.)551‬‬

‫‪" )(549‬فتح الباري" (‪.)11/226‬‬


‫‪ )(550‬انظر ‪ " :‬بدائع الفوائد" (‪.)1/164‬‬
‫‪" )(551‬فتح الباري" (‪.)11/226‬‬

‫‪145‬‬
‫ص ‪190‬‬
‫قال‪ " :‬باب‪ :‬السؤال بأسماء ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬والستعاذة بها"‪.‬‬
‫السؤال‪ :‬هو الطلب بذل وخضوع وافتقار‪ ،‬والستعاذة هي‪ :‬العوذ والحتماء بمن يدفع المكروه‪،‬‬
‫وير فع البلء ب عد نزوله‪ ،‬وه ما من أف ضل أنواع العبادة‪ ،‬فالبخاري – رح مه ال‪ -‬أراد بهذا الباب أن‬
‫يبين معنى دعاء ال ‪-‬تعالى‪ -‬بأسمائه الذي أمر ال به‪ ،‬وأن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قد بينه‪.‬‬
‫قال ا بن بطال‪ " :‬مق صود بهذه الترج مة‪ :‬ت صحيح القول بأن ال سم هو الم سمى‪ ،‬فلذلك صحت‬
‫الستعاذة بالسم‪ ،‬كما تصح بالذات"(‪.)552‬‬
‫قلت‪ :‬هذا بعيد عن مقصود البخاري‪ ،‬وإنما مقصوده بيان كيفية دعاء ال وعبادته بأسمائه التي‬
‫سنَى فَادْعُوهُ ِبهَا} وبين ذلك الرسول –صلى‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫لْ‬‫أمر أن يدعى بها ويعبد‪ ،‬بقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلِلّهِ ا َ‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬بفعله‪ ،‬وأمره‪ ،‬كما في الحاديث التي ذكرت في هذا الباب وغيرها‪.‬‬
‫وأ ما م سألة‪ :‬هل ال سم هو الم سمى‪ ،‬أو غيره؟ ف هي من بدع الكلم‪ ،‬ال تي حد ثت ب عد القرون‬
‫المفضلة‪ ،‬والتي اختلط فيها الحق بالباطل‪.‬‬
‫والبخاري – رحمه ال – من أبعد الناس عن مثل ذلك‪.‬‬
‫قال ابن جرير الطبري – رحمه ال ‪ ":-‬وأما القول في السم‪ :‬أهو المسمى أم هو غيره؟ فإنه‬
‫من الحماقات الحادثة‪ ،‬التي ل أثر فيها فيتبع‪ ،‬ول قول من إمام فيستمع‪ ،‬فالخوض فيه شين‪ ،‬والصمت‬
‫عنه زين‪ ،‬وحسب امرئ من العلم به والقول أن ينتهي إلى قوله – جل ثناؤه‪ -‬الصادق‪ ،‬وهو قوله –‬
‫سمَاء‬
‫سنَى} (‪)553‬وقوله‪{ :‬ولِ الَ ْ‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫ن َأيّا مّا َتدْعُواْ فَلَ ُه الَ ْ‬
‫حمَه َ‬
‫تعالى‪{ :-‬قُلِ ادْعُو ْا اللّ َه أَ ِو ادْعُو ْا ال ّر ْ‬
‫سنَى} (‪.)554‬‬
‫حْ‬‫ا ْل ُ‬
‫"وكان سبب حدوث هذه الم سألة‪ ،‬أن الجهم ية قالوا‪ :‬إن ال سم غ ير الم سمى‪ ،‬وأ سماء ال غيره‪،‬‬
‫و ما كان غيره ف هو مخلوق؛ لن ال –تعالى‪ -‬وحده هو الخالق‪ ،‬و ما سواه مخلوق‪ ،‬فإذا كا نت أ سماؤه‬
‫غيره‪ ،‬فهي مخلوقة‪ .‬فرد عليهم السلف‪ ،‬واشتد‬
‫ص ‪191‬‬
‫نكير هم علي هم؛ لن أ سماء ال من كل مه‪ ،‬وكلم ال غ ير مخلوق‪ ،‬ف هو الذي سمى نف سه بهذه‬
‫السماء‪.‬‬
‫فكان مراد الذين يقولون‪ :‬السم غير المسمى {من أهل السنة} هو هذا‪.‬‬
‫ولهذا روي عن الشافعي‪ ،‬والصمعي‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬أنهم قالوا‪ :‬إذا سمعت الرجل يقول‪ :‬السم غير‬
‫المسمى‪ ،‬فاشهد عليه بالزندقة"(‪.)555‬‬
‫‪" )(552‬الفتح" (‪.)13/379‬‬
‫‪ )(553‬الية ‪ 110‬من سورة السراء ‪.‬‬
‫‪ )(554‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪ " ،‬عقيدة الطبري" (ص ‪.)12‬‬
‫‪" )(555‬مجموع الفتاوى" (‪.)6/187‬‬

‫‪146‬‬
‫وللناس في هذه المسألة ثلثة أقوال‪:‬‬
‫أحد ها‪ :‬ما ذكره ا بن بطال‪ ،‬وإل يه ذ هب كث ير من المنت سبين إلى ال سنة كأ بي القا سم ال طبري‬
‫الللكائي‪ ،‬والبغوي‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫سمُهُ‬
‫شرُ كَ ِبغُل مٍ ا ْ‬
‫قال البغوي‪ " :‬وال سم هو الم سمى‪ ،‬وعي نه‪ ،‬وذا ته‪ ،‬قال ال ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬إنّ ا ُن َب ّ‬
‫حيَى} (‪.)556‬‬
‫َي ْ‬
‫خ ِذ ا ْل ِكتَابَ بِقُوّةٍ} (‪ .)557‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬مَا‬
‫حيَى ُ‬
‫فأخبر أن اسمه يحيى‪ ،‬ثم نادى السم‪ ،‬فقال‪{ :‬يَا َي ْ‬
‫س ّم ْي ُتمُوهَا} (‪ ،)558‬وأراد الشخاص المعبودة؛ لنهم كانوا يعبدون المسميات‪.‬‬
‫سمَاء َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫َت ْعبُدُونَ مِن دُونِهِ ِإ ّ‬
‫ل ْكرَام}‪.‬‬
‫سمُ َر ّبكَ ذِي ا ْلجَللِ وَا ِ‬
‫سمَ َر ّبكَ الَعْلَى} وقال‪َ { :‬تبَارَكَ ا ْ‬
‫سبّحِ ا ْ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬أن السم غير المسمى‪.‬‬
‫سمَاء‬
‫والثالث‪ :‬أن ال سم للم سمى‪ ،‬وهذا القول دل عل يه الكتاب وال سنة‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلِّل ِه الَ ْ‬
‫سمَاء‬
‫ن َأيّا مّا َتدْعُواْ فَلَ هُ الَ ْ‬
‫حمَه َ‬
‫سنَى فَادْعُو هُ ِبهَا} (‪ ،)559‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬قُلِ ادْعُواْ الّل َه أَ ِو ادْعُواْ ال ّر ْ‬
‫ا ْلحُ ْ‬
‫سمَاء ا ْلحُ سْنَى} (‪ ،)561‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬هُ َو اللّ هُ‬
‫ل هُ َو لَ ُه الَ ْ‬
‫سنَى} (‪،)560‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬اللّ هُ ل إِلَ هَ ِإ ّ‬
‫ا ْلحُ ْ‬
‫سنَى} (‪.)562‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫ق ا ْلبَا ِرئُ ا ْل ُمصَ ّورُ َلهُ ا َ‬
‫ا ْلخَالِ ُ‬
‫ومن السنة هذا الحديث‪ " :‬إن ل تسعة وتسعين اسما"‪.‬‬
‫وقوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬إن لي خمسة أسماء‪ ،‬أنا مح مد‪ ،‬وأحمد‪ ،‬والما حي‪ ،‬والحاشر‪،‬‬
‫والعاقب"(‪.)563‬‬
‫هذا مذهب أكثر أهل السنة‪.‬‬
‫فل يطلقون بأنه المسمى‪ ،‬ول غيره‪ ،‬بل يفصلون‪ ،‬حتى يزول اللبس‪.‬‬
‫فإذا قيل لهم‪ :‬أهو المسمى أم غيره؟ قالوا‪ :‬ليس هو نفس المسمى‪ ،‬ولكن يراد به المسمى‪.‬‬
‫وإن أر يد بأ نه غيره‪ :‬كو نه بائنا ع نه‪ ،‬ف هو با طل؛ لن أ سماء ال من كل مه‪ ،‬وكل مه صفة له‪،‬‬
‫قائمة به‪ ،‬ل تكون غيره‪.‬‬

‫‪ )(556‬الية ‪ 7‬من سورة مريم ‪.‬‬


‫‪ )(557‬الية ‪ 12‬من سورة مريم‪.‬‬
‫‪ )(558‬الية ‪ 40‬من سورة يوسف ‪.‬‬
‫‪ )(559‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪.‬‬
‫‪ )(560‬الية ‪ 110‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪ )(561‬الية ‪ 8‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(562‬الية ‪ 24‬من سورة الحشر ‪.‬‬
‫‪ )(563‬رواه البخاري ‪ ،‬انظره مع "الفتح في التفسير" (‪ ، )8/640‬وفي "المناقب" (‪ ، )6/544‬ومسلم في‬
‫"الفضائل" (‪ )4/1828‬رقم (‪ )2354‬ورقم (‪.)2355‬‬

‫‪147‬‬
‫واسم ال ‪-‬تعالى‪ -‬في مثل إذا قيل‪ ":‬الحمد ل" أو "بسم ال" يتناول ذاته وصفاته‪ ،‬ل ذاتا مجردة‬
‫عن الصفات‪ ،‬ول صفات مجردة عن الذات‪ .‬وقد نص الئمة على أن صفاته‪ ،‬داخلة في مسمى أسمائه‪،‬‬
‫فل يقال‪ :‬إن علمه وقدرته زائدة عليه‪.‬‬
‫و من قال من أ هل ال سنة‪ :‬إن ال صفات‪ ،‬زائدة على الذات‪ ،‬فمراده‪ :‬أن ها زائدة على ما أثب ته أ هل‬
‫التعطيل‪ ،‬الذين أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات؛ لنه ليس في الوجود ذات مجردة عن الصفات‪ ،‬كما ل‬
‫يمكن وجود صفات بل ذات‪ ،‬تقوم بها‪ ،‬فتخيل وجود أحدهما دون الخر من الهوس‪.‬‬
‫ثم إن الذين قالوا‪ :‬إن السم هو المسمى‪ ،‬ليس مرادهم أن مجرد اللفظ هو الذات‪ ،‬التي وضع لها‬
‫هذا السم‪ ،‬فإن هذا ل يقوله عاقل‪.‬‬
‫ص ‪193‬‬
‫كمها أن الذيهن قالوا أن السهم غيهر المسهمى‪ ،‬لم يريدوا أن مجرد اللفهظ غيهر الذات‪ ،‬فإن هذا ل‬
‫جدال فيه‪.‬‬
‫وما ذكره البغوي – رحمه ال – محتجا به على أن السم هو المسمى‪ ،‬فهو ل يدل على ما قاله‪.‬‬
‫خذِ ا ْل ِكتَابَ ِبقُوّةٍ} فاللفظ الذي هو‬
‫حيَى ُ‬
‫حيَى} ثم قال {يَا َي ْ‬
‫سمُهُ َي ْ‬
‫شرُكَ ِبغُلمٍ ا ْ‬
‫فقوله ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬إنّا ُنبَ ّ‬
‫"الياء والحاء والياء" ليس هو ذات المسمى به‪ ،‬فمن زعم ذلك فقد كابر‪.‬‬
‫فالمقصود نداء المسمى ل نداء اللفظ‪ ،‬والمتكلم ل يمكنه نداء من يريد مناداته إل بذكر اسمه‪ ،‬إل‬
‫أن يكون ذلك بالشارة‪.‬‬
‫س ّم ْي ُتمُوهَا} (‪.)564‬‬
‫سمَاء َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫و أما قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬مَا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِهِ ِإ ّ‬
‫فليس المراد‪ :‬أنكم تعبدون الوثان المسماة‪ ،‬فهم معترفون بذلك‪.‬‬
‫بل المراد‪ :‬نفي ما كانوا يعتقدونه فيها من اللهية‪ ،‬والواقع أنه ليس فيها شيء من ذلك‪.‬‬
‫فإذا عبدوها معتقد ين ثبوت إلهيت ها‪ ،‬م سمينها آل هة‪ ،‬لم يكونوا في حقي قة ال مر عبدوا إل أسماء‬
‫ابتدعوها‪ ،‬ما أنزل ال بها من سلطان‪ ،‬وليس فيها من معنى اللهية شيء‪ ،‬فعبادتهم لما تصوروه في‬
‫أنفسهم من معنى اللهية وعبروا عنه بألسنتهم‪.‬‬
‫وهذا التصهور خيالي‪ ،‬ل حقيقهة له‪ ،‬فههم لم يعبدوا فهي الحقيقهة إل ذلك الخيال الفاسهد‪ ،‬الذي‬
‫تصوروه‪ ،‬وسموه إلها‪ ،‬فكان مجرد تسمية فقط‪ ،‬ليس له من معنى اللهية شيء‪.‬‬
‫سمَ َربّكَ الَعْلَى} فالمراد به‪ ،‬تسبيحه ‪-‬تعالى‪ -‬وتنزيهه عما ل يليق‬
‫حاْ‬
‫و أما قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬سَبّ ِ‬
‫به‪ ،‬معتقدا ذلك بقل به‪ ،‬متلفظا با سمه بل سانه‪ ،‬قائلً‪ ":‬سبحان ر بي العلى" والمراد الم سمى بهذا ال سم‪،‬‬
‫فتسبيح السم هو تسبيح المسمى‪.‬‬
‫ص ‪194‬‬

‫‪ )(564‬الية ‪ 40‬من سورة يوسف ‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ومن قال‪ :‬المراد بتسبيح السم‪ ،‬أنك ل تسمي به غير ال‪ ،‬ول تلحد في أسمائه‪ ،‬فهذا المعنى مما‬
‫يستحقه اسم ال ‪-‬تعالى‪ -‬وهو داخل في المراد بالية‪ ،‬ولكن المقصود المعنى الول‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سمُ َر ّبكَ} فالمعنى‪ :‬أن البركة تكتسب‪ ،‬وتنال بذكر اسمه‪.‬‬
‫و أما قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬تبَا َركَ ا ْ‬
‫ولو كان لفظ السم يراد به المسمى‪ ،‬لكفى قوله‪ :‬تبارك ربك؛ لن نفس السم عندهم هو الرب‪،‬‬
‫فيكون بذكر السم تكرار‪.‬‬
‫وبهذا يتبين أن الشبه التي دعت كثيرا من العلماء إلى القول بأن السم هو المسمى أنها باطلة‪،‬‬
‫وههي‪ :‬أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬وحده ههو الخالق‪ ،‬ومها سهواه مخلوق‪ ،‬فإذا قيهل‪ :‬إن أسهماء ال غيره‪ ،‬لزم أن‬
‫تكون مخلوقة(‪.)565‬‬

‫‪ )(565‬هذا البحث من منتصف صفحة (‪ )193‬كله مقتبس من رسالة شيخ السلم في الموضوع المثبتة في‬
‫المجلد السادس من "الفتاوى" انظر ‪( :‬ص ‪.)185‬‬

‫‪149‬‬
‫ص ‪195‬‬
‫‪ -22‬قال‪ " :‬حدثنا عبد العزيز بن عبد ال‪ ،‬حدثني مالك‪ ،‬عن سعيد بن أبي سعيد المقبري‪ ،‬عن‬
‫أبهي هريرة – رضهي ال عنهه – عهن النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬قال‪ " :‬إذا جاء أحدكهم فراشهه‪،‬‬
‫فلينفضه بصنفة ثوبه ثلث مرات‪ ،‬وليقل باسمك ربي وضعت جنبي‪ ،‬وبك أرفعه‪ ،‬إن أمسكت نفسي‬
‫فاغفر لها‪ ،‬وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"‪.‬‬
‫العبد الصادق العبودية‪ ،‬ل ينفك عن عبادة ربه‪ ،‬في أمور حياته كلها‪ ،‬في خروجه من بيته‪ ،‬وفي‬
‫دخوله‪ ،‬وفهي أكله وشربهه‪ ،‬وفهي نومهه ويقظتهه‪ ،‬وفهي مقارفتهه لهله‪ ،‬ومعاملتهه للناس‪ ،‬ولذلك أرشهد‬
‫الرسهول –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬إلى هذا النوع مهن العبادة‪ ،‬فهي هذا الحديهث وغيره‪ ،‬عنهد النوم‪،‬‬
‫والستيقاظ منه‪ ،‬وهو من عبادة ال ودعائه بأسمائه‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فلينف ضه ب صنفة ثو به ثلث مرات" صنفة الثوب‪ :‬طر فه من الدا خل‪ ،‬ل ما في الروا ية‬
‫الخرى‪ " :‬داخلة إزاره" ولو ف عل ذلك بغ ير طرف ثو به ح صل المق صود‪ ،‬والحك مة في ذلك إزالة ما‬
‫لعله يكون فيهه ممها يؤذيهه‪ ،‬وأمهر بأن يكون ذلك ثلث مرات‪ ،‬للمبالغهة‪ ،‬وليكون ذلك وترا‪ ،‬إذ الوتهر‬
‫معتبر في الشرع‪.‬‬
‫"وليقل‪ :‬باسمك ربي وضعت جنبي‪ ،‬وبك أرفعه" لما كان النوم نوعا من الموت‪ ،‬وقد يموت فيه‬
‫ل به المغفرة‪ ،‬و هي ستر الذنوب‪ ،‬والع فو‬
‫حقي قة‪ ،‬ل جأ إلى ر به بذ كر ا سمه‪ ،‬داعيا وم تبركا به‪ ،‬و سائ ً‬
‫عنها‪ ،‬إن أمسك نفسه – أي قبضها في النوم – فلم يردها إلى بدنها‪.‬‬
‫سكُ اّلتِي قَضَى عََل ْيهَا‬
‫ت فِي َمنَا ِمهَا َف ُيمْ ِ‬
‫قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬اللّ ُه َيتَ َوفّى الَنفُسَ حِينَ َم ْو ِتهَا وَاّلتِي لَمْ َتمُ ْ‬
‫ن فِي ذَِلكَ ليَاتٍ لّ َق ْومٍ َيتَ َف ّكرُونَ} (‪.)566‬‬
‫سمّى إِ ّ‬
‫خرَى إِلَى َأجَلٍ ُم َ‬
‫لْ‬‫ا ْلمَوْتَ َو ُي ْرسِلُ ا ُ‬
‫"وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " أي‪ :‬إن رددتها إلى بدنها‪ ،‬فاحفظها من‬
‫الشياط ين‪ ،‬والضلل‪ ،‬والمؤذيات‪ ،‬بحف ظك وحماي تك‪ ،‬ال تي تح مي ب ها أولياءك الذ ين تتولى حفظ هم من‬
‫كل مضر ومؤذ‪.‬‬
‫ص ‪196‬‬
‫ففي هذا الحديث مشروعية ذكر ال ‪-‬تعالى‪ -‬عند النوم؛ ليكون موته الصغر على اسمه‪ ،‬فيدخل‬
‫ب ا ْلعَاَلمِينَ} (‪.)567‬‬
‫حيَايَ َو َممَاتِي لِّلهِ رَ ّ‬
‫ن صَلَتِي َو ُنسُكِي َو َم ْ‬
‫ل إِ ّ‬
‫بذلك في العمل بقوله تعالى‪{ :‬قُ ْ‬
‫وف يه ال ستسلم ل‪ ،‬والفتقار إل يه‪ ،‬و سؤاله ما ل غ نى له ع نه‪ ،‬وهذا كله من عبادة ال تعالى‬
‫سنَى فَادْعُو هُ بِهَا} (‪ ،)568‬وهذا هو و جه‬
‫سمَاء ا ْلحُ ْ‬
‫ودعائه بأ سمائه‪ ،‬ف هو تف سير لقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلِلّ ِه الَ ْ‬
‫ذكر البخاري له‪ ،‬ولما يأتي من الحاديث‪.‬‬

‫‪ )(566‬الية ‪ 42‬من سورة الزمر ‪.‬‬


‫‪ )(567‬الية ‪ 162‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(568‬الية ‪ 180‬من سورة العراف ‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫ص ‪197‬‬
‫‪-23‬قال‪ " :‬حدثنا مسلم‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن عبد الملك‪ ،‬عن ربعي‪ ،‬عن حذيفة – رضي ال عنه‬
‫‪ " :-‬كان ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إذا أوى إلى فرا شه‪ ،‬قال‪ " :‬الل هم با سمك أح يا وأموت‪ ،‬وإذا‬
‫أصبح قال‪ :‬الحمد ل الذي أحيانا بعد ما أماتنا‪ ،‬وإليه النشور"‪.‬‬
‫حذيفة هو ابن اليمان‪ ،‬واسم اليمان‪ :‬حسل‪ ،‬أو حسيل‪ ،‬وهو عبسي‪.‬‬
‫كان من كبار أ صحاب ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬و من الفقهاء النجباء أ هل الفتوى‪،‬‬
‫وصح عنه أنه قال‪ " :‬كان الناس يسألون رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬عن الخير‪ ،‬وكنت أسأله‬
‫عن الشر‪ ،‬مخافة أن أقع فيه" ولهذا اختص بمعرفة الفتن‪ ،‬كما أنه عرف بصاحب السر‪ ،‬حيث أسر إليه‬
‫رسول ال – صلى ال عل يه وسلم‪ -‬أ سماء المنافق ين‪ ،‬وأمره أن يك تم ذلك‪ ،‬وسأله ر جل عن أ شد الف تن‬
‫فقال‪ " :‬أن يعرض عل يك الخ ير وال شر فل تدري أيه ما تختار" تو في – ر ضي ال ع نه – سنة ست‬
‫وثلثين(‪.)569‬‬
‫" إذا آوى إلى فراشه" أي‪ :‬رجع إليه بعد عمل النهار‪.‬‬
‫"الل هم با سمك أح يا وأموت" أي ذاكرا ا سمك في حيا تي‪ ،‬مطمئنا به قل بي‪ ،‬إذ ل را حة لي ول‬
‫اطمئنان إل بذكر اسمك‪ ،‬ول حياة نافعة إل بذلك‪ .‬وعلى ذكر اسمك يا رب أموت‪ ،‬متوسلً به إليك أن‬
‫تتولني‪ ،‬وتحفظني في جميع أحوالي‪.‬‬
‫" وإذا أصبح قال‪ " :‬الحمد ل الذي أحيانا بعد ما أماتنا‪ ،‬وإليه النشور"‪.‬‬
‫النوم نوع مهن الموت‪ ،‬واليقظهة حياة‪ ،‬وههو نعمهة مهن ال على عباده حتهى ترتاح أبدانههم‪،‬‬
‫وأفكار هم‪ ،‬و قد ينام الن سان فل تر جع إل يه رو حه‪ ،‬فإذا ا ستيقظ سالما‪ ،‬قد ر جع إل يه نشا طه وقو ته‪،‬‬
‫ا ستوجب ذلك ش كر ال ‪-‬تعالى‪ -‬والثناء عل يه‪ ،‬فنا سب قوله ب عد يقظ ته‪ " :‬الح مد ل الذي أحيا نا بعد ما‬
‫أماتنا" أي‪ :‬أرجع إلينا أرواحنا بفضله ومنته‪.‬‬
‫والنشور‪ :‬هو الب عث ب عد المو تة ال كبرى‪ ،‬فم صيرنا إلى رب نا‪ ،‬ح تى يجازي نا على أعمال نا ك ما‬
‫وعدنا‪.‬‬
‫ففي هذا الحديث كالذي قبله‪ ،‬ذكر اسم ال ‪-‬تعالى‪ -‬عند النوم‪ ،‬والتوسل به‪ ،‬والثناء عليه بأن له‬
‫الحمد‪ ،‬وهذا من الدعاء بأسماء ال الحسنى‪.‬‬

‫‪ )(569‬انظر ‪ ":‬الستيعاب" (‪" ، )1/334‬الرياضي المستطابة" (ص ‪.)49‬‬

‫‪151‬‬
‫ص ‪198‬‬
‫‪-24‬قال‪ " :‬حدثنا سعد بن حفص‪ ،‬حدثنا شيبان‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن ربعي بن حراش‪ ،‬عن خرشة‬
‫بن الحر‪ ،‬عن أبي ذر – رضي ال عنه – قال‪ :‬كان النبي –صلى ال عل يه وسلم‪ -‬إذا أخذ مضج عه‬
‫مهن الليهل قال‪ :‬باسهمك نموت ونحيها‪ ،‬فإذا اسهتيقظ قال‪ :‬الحمهد ل‪ ،‬الذي أحيانها بعهد مها أماتنها‪ ،‬وإليهه‬
‫النشور"‪.‬‬
‫أ بو ذر الغفاري‪ :‬اختلف في ا سمه‪ ،‬وا سم أب يه‪ ،‬و صحح الحفاظ أ نه جندب بن جنادة‪ ،‬كان من‬
‫السابقين الولين إلى السلم‪ ،‬غير أنه ذهب إلى قومه فتأخرت هجرته‪ ،‬ففاتته غزوات الرسول –صلى‬
‫ال عليه و سلم‪ -‬الولى‪ ،‬وكان عازفا عن الدنيا‪ ،‬راغبا بما عند ال‪ ،‬وقصة إ سلمه في "الصحيحين"‪،‬‬
‫وكان من الحنفاء قبل أن يسلم‪ ،‬له أخبار كثيرة‪ ،‬ومناقب شهيرة‪ ،‬توفي في الربذة سنة اثنتين وثلثين‪،‬‬
‫‪-‬رضي ال عنه‪.)570(-‬‬
‫هذا الحد يث ل يس ف يه زيادة على الذي قبله‪ ،‬إل قوله‪ " :‬من الل يل"‪ ،‬والول يد خل ف يه نوم الل يل‬
‫والنهار‪.‬‬

‫‪ )(570‬انظر ‪ " :‬الستيعاب" (‪ ، )1/252‬و "الرياض المستطابة" (ص ‪.)272‬‬

‫‪152‬‬
‫ص ‪199‬‬
‫‪-25‬قال‪ " :‬حدث نا قتي بة بن سعيد‪ ،‬حدث نا جر ير‪ ،‬عن من صور‪ ،‬عن سالم‪ ،‬عن كر يب‪ ،‬عن ا بن‬
‫عباس – ر ضي ال عنه ما‪ -‬قال‪ :‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ ":-‬لو أن أحد كم إذا أراد أن‬
‫يأتي أهله‪ ،‬فقال‪ :‬باسم ال‪ ،‬اللهم جنبنا الشيطان‪ ،‬وجنب الشيطان ما رزقتنا‪ ،‬فإنه إن يقدر بينهما ولد في‬
‫ذلك لم يضره شيطان أبدا"‪.‬‬
‫هذا نوع آخر من الدعاء بأسماء ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫"باسم ال" أي‪ :‬أفعل ذلك‪ ،‬ذاكرا اسم ال‪ ،‬عابدا ربي بهذا الذكر‪ ،‬ومتبركا به‪.‬‬
‫"اللهم جنبنا الشيطان" أي‪ :‬أبعدنا عنه‪ ،‬فل يشاركنا‪ ،‬ول يحضرنا‪.‬‬
‫"وج نب الشيطان ما رزقت نا" أي‪ :‬أب عد الشيطان عن الرزق الذي تقدره ل نا من الولد‪ ،‬في هذا‬
‫التصال‪.‬‬
‫ول بد من ال صدق في ذلك من القلب‪ ،‬والرغ بة‪ ،‬واليمان‪ ،‬والث قة ب ما قاله الر سول – صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬حتى يحصل الموعود‪ ،‬وهو عدم مضرة الشيطان للمولود‪.‬‬
‫والمق صود‪ ،‬ذ كر ال ‪-‬تعالى‪ -‬ع ند مقار بة الزو جة‪ ،‬وال ستعاذة به من الشيطان‪ ،‬أن يشار كه أو‬
‫يحضره‪ ،‬أو يضر المولود بحال من الحوال‪.‬‬
‫سنَى فَادْعُوهُ ِبهَا}‪.‬‬
‫حْ‬‫سمَاء ا ْل ُ‬
‫لْ‬‫وهذا كما تقدم من بيان معنى قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَلِلّ ِه ا َ‬

‫‪153‬‬
‫ص ‪200‬‬
‫‪-26‬قال‪ " :‬حدثنا عبد ال بن مسلمة‪ ،‬حدثنا فضيل‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن همام‪ ،‬عن‬
‫عدي بهن حاتهم – رضهي ال عنهه – قال‪ :‬سهألت النهبي‪-‬صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬قلت‪ :‬أرسهل كلبهي‬
‫المعلمهة؟ قال‪ " :‬إذا أرسهلت كلبهك المعلمهة وذكرت اسهم ال‪ ،‬فأمسهكن فكهل‪ ،‬وإذا رميهت بالمعراض‬
‫فخزق فكل"‪.‬‬
‫عدي بن حاتم هو‪ :‬أبو طريف‪ ،‬الجواد بن الجواد‪ ،‬قدم على رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫في شعبان سنة ت سع‪ ،‬ب سبب كثرة كتا بة أخ ته‪ ،‬فأ سلم‪ ،‬و قد فرح ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫بإسلمه‪ ،‬وهو ممن ثبت ال قومه على السلم – حين ارتد الناس – بسببه‪ ،‬شهد فتوح العراق‪ ،‬وساهم‬
‫فيها‪.‬‬
‫عليه وقهت صهلة إل وأنها‬
‫ّ‬ ‫وكان شريفا فاضلً‪ ،‬جوادا عابدا‪ ،‬روي عنهه أنهه يقول‪ " :‬مها دخهل‬
‫مشتاق إليهها " ومهن أقواله‪ " :‬كثرة الكلم أوضهع شيهء لمقاديهر الرجال‪ ،‬وأمضهى الشياء عندي رد‬
‫السؤال بغير نوال"‪ ،‬له أخبار كثيرة وفضائل‪ ،‬توفي في الكوفة سنة ثمان وستين‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬وكان‬
‫عمر طويلً‪ ،‬قيل‪ :‬كان عمره لما مات مائة وعشرون سنة‪ - ،‬رضي ال عنه‪.)571(-‬‬
‫و أمها الحديهث‪ ،‬فيدل على نوع آخهر مهن أنواع عبادة ال ‪-‬تعالى‪ -‬بذكهر اسهمه على الصهيد‪،‬‬
‫والكلب المعل مة هي‪ :‬ال تي تق بل التعل يم‪ ،‬فإذا أمرت فعلت‪ ،‬وإذا نه يت انت هت‪ ،‬فإذا أر سلها صاحبها‬
‫أمسكت الصيد له‪ ،‬وليس لنفسها‪ ،‬فل تأكل منه‪.‬‬
‫ومفهوم الحديث‪ :‬أنه إذا لم يذكر اسم ال ‪-‬تعالى‪ -‬عند الرسال أنه ل يأكل مما أمسكت الكلب‬
‫المعلمهة‪ ،‬وكذا إذا لم يخزق المعراض – وههو السههم – أي لم يجرح‪ ،‬ولم يصهب الصهيد بحده‪ ،‬بأن‬
‫أصابه بعرضه‪ ،‬فإنه ل يأكل؛ لن الصيد حينئذ يكون وقيذة‪.‬‬

‫‪" )(571‬الستيعاب" (‪ ، )3/1057‬و "أسد الغابة" (‪ ، )3/392‬و "الصابة" (‪.)2/468‬‬

‫‪154‬‬
‫ص ‪201‬‬
‫‪ -27‬قال‪ " :‬حدثنها يوسهف بهن موسهى‪ ،‬حدثنها أبهو خالد الحمهر‪ ،‬قال‪ :‬سهمعت هشام بهن عروة‬
‫يحدث‪ :‬عن أب يه‪ ،‬عن عائ شة – ر ضي ال عن ها – قالت‪ :‬قالوا‪ :‬يا ر سول ال‪ ،‬إن ه نا أقواما حديثا‬
‫عهدهم بشرك‪ ،‬يأتونا بلحمان‪ ،‬ل ندري يذكرون اسم ال عليها أم ل؟ قال‪" :‬اذكروا أنتم اسم ال وكلوا"‪.‬‬
‫في هذا الحد يث أن ذ كر ا سم ال على الذبي حة شرط في حل ال كل من ها‪ ،‬وأ نه إذا كان ظا هر‬
‫الذابح السلم‪ ،‬ل يلتفت إلى الحتمال بأنه ذبحها على غير اسم ال‪ ،‬أو أنه ل يعرف الحكم‪ ،‬وما أشبه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقوله – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬اذكروا ا سم ال وكلوا" ل يس معناه أن ذ كر ا سم ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫ع ند ال كل يجعل ها حللً إذا كا نت قد ذب حت على غ ير ا سم ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ول كن أمر هم بذ كر ا سم ال‬
‫عند الكل؛ لنه الذي يلزمهم‪ ،‬ومطيبا بذلك قلوبهم‪ ،‬ومشيرا بذلك إلى إطراح الشك‪ ،‬إذ الصل خلفه‪،‬‬
‫وهو أن ظاهر الذابح السلم‪.‬‬
‫وهذا الحديث يدل على نوع آخر من عبادة ال ‪-‬تعالى‪ -‬بذكر اسمه على الذبيحة‪ ،‬وعلى الكل‪،‬‬
‫فهو من جنس ما تقدم‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫ص ‪202‬‬
‫‪-28‬قال‪ " :‬حدث نا ح فص بن ع مر‪ ،‬حدث نا هشام‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أ نس – ر ضي ال ع نه‪ -‬قال‪":‬‬
‫ضحى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بكبشين‪ ،‬يسمي ويكبر"‪.‬‬
‫الضحية هي‪ :‬النسك الذي يذبح تقربا إلى ال‪ - ،‬في الوقت المحدد له‪.‬‬
‫والكبش‪ :‬هو الذكر من الضأن‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬ي سمي وي كبر " يع ني ع ند الذ بح‪ ،‬يقول‪ :‬ب سم ال‪ ،‬وال أ كبر‪ ،‬أي‪ :‬أذ بح ب سم ال متقربا‬
‫إليه عبادة له‪.‬‬
‫فهذا – أيضا – مهن عبادة ال ‪-‬تعالى‪ -‬ودعائه بذكهر اسهمه ‪-‬تعالى‪ -‬فهي النسهك الذي ههو مهن‬
‫أفضل القرب إلى ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬

‫‪156‬‬
‫ص ‪203‬‬
‫‪-29‬قال‪ " :‬حدثنا حفص بن عمر‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن السود بن قيس‪ ،‬عن جندب‪ ،‬أنه شهد النبي‬
‫– صلى ال عل يه و سلم‪ -‬يوم الن حر‪ ،‬صلى ثم خ طب‪ ،‬فقال‪ ":‬من ذ بح ق بل أن ي صلي‪ ،‬فليذ بح مكان ها‬
‫أخرى‪ ،‬ومن لم يذبح فليذبح باسم ال "‪.‬‬
‫جندب هو‪ :‬جندب بن عبد ال بن سفيان البجلي العلقي‪ ،‬نسبة إلى علقة بن عبقر بن أنمار‪ ،‬سكن‬
‫الكوفة‪ ،‬ثم البصرة‪ ،‬وتوفي بعد الستين‪ - ،‬رضي ال عنه‪.)572(-‬‬
‫والمراد من الحديهث قوله‪ " :‬فليذبهح باسهم ال" أي‪ :‬ذاكرا اسهم ال على الذبيحهة‪ ،‬عبادة له بذكهر‬
‫اسهمه وبالذبهح له‪ ،‬متقربا إليهه بذلك‪ ،‬كمها أمهر ال ‪-‬تعالى‪ -‬عباده بأن يخلصهوا ذلك له وحده {قُلْ إِنّ‬
‫ل شَرِيكَ َلهُ َو ِبذَِلكَ ُأ ِمرْتُ} (‪.)573‬‬
‫حيَايَ َو َممَاتِي لِّل ِه رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ {‪َ }162‬‬
‫سكِي َو َم ْ‬
‫صَلَتِي َو ُن ُ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬فَصَلّ ِل َر ّبكَ وَا ْنحَرْ} (‪.)574‬‬

‫‪ )(572‬انظر ‪ " :‬الستيعاب" (‪ ، )1/256‬و "الرياض المستطابة" (ص ‪.)46‬‬


‫‪ )(573‬اليتان ‪ ،163 ،162‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(574‬الية ‪ 2‬من سورة الكوثر ‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ص ‪204‬‬
‫‪-30‬قال‪ " :‬حدث نا أ بو نع يم‪ ،‬حدث نا ورقاء‪ ،‬عن عبدال بن دينار‪ ،‬عن ا بن ع مر – ر ضي ال‬
‫عنهما – قال‪ :‬قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ ":-‬ل تحلفوا بآبائكم‪ ،‬ومن كان حالفا فليحلف بال"‪.‬‬
‫المقصود بالحلف‪ :‬تأكيد الخبر بذكر اسم ال العظيم‪ ،‬يوقع بالكاذب العقوبة‪ ،‬ففي ضمن ذلك‪ :‬أن‬
‫المحلوف به مطلع على حقي قة ال مر‪ ،‬ولذلك صار الحلف بغ ير ال شركا؛ ل ما في الحد يث الذي رواه‬
‫(‪)575‬‬
‫الترمذي‪ " :‬من حلف بغير ال فقد كفر أو أشرك"‬

‫‪ )(575‬انظر ‪ " :‬سنن الترمذي" (‪ ، )3/45‬وقال بعد ذكره ‪ :‬هذا حديث حسن ‪ ،‬وفيه أن ابن عمر سمع رجلً‬
‫يحلف بالكعبة ‪ ،‬فقال‪ :‬ل يحلف بغير ال … ثم ذكره ‪.‬‬
‫ورواه أحمد في "المسند" (‪ )2/125‬وهو صحيح ‪.‬‬
‫ورواه الحاكم في " المستدرك" (‪ ، )4/297‬وقال‪ :‬حديث صحيح على شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه ‪.‬‬
‫ورمز له في حاشية الذهبي (خ م ) يعني عند البخاري ومسلم ‪ ،‬وليس كذلك ‪.‬‬
‫ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (‪.)10/29‬‬

‫‪158‬‬
‫ص ‪205‬‬
‫قال‪ " :‬باب‪ :‬ما يذ كر في الذات‪ ،‬والنعوت‪ ،‬وأ سامي ال – عز و جل‪ " -‬وقال خبيب‪ :‬وذلك في‬
‫ذات الله‪ .‬فذكر الذات باسمه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫قال الحا فظ‪" :‬أي‪ :‬ما يذ كر في ذات ال ونعو ته‪ ،‬من تجو يز إطلق ذلك عل يه‪ ،‬كإطلق أ سمائه‬
‫عليه‪ ،‬أو منعه‪ ،‬لعدم ورود النص"(‪.)576‬‬
‫وقال عياض‪ " :‬ذات الشيهء‪ :‬حقيقتهه‪ ،‬وقهد اسهتعمل أههل الكلم الذات‪ ،‬باللف واللم‪ ،‬وغلطههم‬
‫أكثر النحاة‪ ،‬وجوزه بعضهم‪ ،‬لنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء‪ ،‬واستعمال البخاري لها على أنها‬
‫حقيقهة الشيهء على مها اسهتعملها المتكلمون فهي حهق ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولهذا قال‪ :‬مها جاء فهي الذات‬
‫والنعوت‪ ،‬ففرق بينهما على طريقة المتكلمين"(‪.)577‬‬
‫وقال الراغهب‪ ":‬ذات تأنيهث "ذو"‪ ،‬وههي كلمهة يتوصهل بهها إلى الوصهف بأسهماء الجناس‪،‬‬
‫والنواع‪ ،‬ول ي ستعمل ش يء من ها إل مضافا‪ ،‬و قد ا ستعاروا الذات‪ ،‬فجعلو ها عبارة عن ع ين الش يء‪،‬‬
‫جوهرا كان أو عرضا‪ ،‬واسهتعملوها مفردة‪ ،‬ومضافهة {وأدخلوا عليهها} اللف واللم‪ ،‬وأجروا مجرى‬
‫النفس‪ ،‬والخاصة‪ ،‬وليس ذلك من كلم العرب"(‪.)578‬‬
‫وقال ابن برهان‪ " :‬إطلق المتكلمين الذات في حق ال ‪-‬تعالى‪ -‬من جهلهم؛ لن ذات تأنيث ذو‪،‬‬
‫وهو – جلت عظمته – ل يصلح له إلحاق تاء التأنيث‪ .‬وقولهم‪ :‬الصفات الذاتية‪ ،‬جهل منهم أيضا؛ لن‬
‫النسب إلى ذات‪ :‬ذوى"(‪.)579‬‬
‫وقال الكندي‪ " :‬ذات بمع نى‪ :‬صاحبة‪ ،‬تأن يث ذو‪ ،‬ول يس ل ها في الل غة مدلول غ ير ذلك‪ ،‬وإطلق‬
‫المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين"(‪.)580‬‬
‫ص ‪206‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬وتع قب بأن الممت نع‪ :‬ا ستعمالها بمع نى صاحبة‪ ،‬أ ما إذا قط عت عن هذا المع نى‪،‬‬
‫صدُورِ} (‪)581‬أي بن فس‬
‫وا ستعملت بمع نى ال سمية‪ ،‬فل محذور؛ لقوله –تعالى‪{ :-‬إِنّ اللّ هَ عَلِي مٌ ِبذَا تِ ال ّ‬
‫الصدور‪.‬‬
‫وقد حكى المطرزي‪ :‬كل ذات شيء‪ ،‬وليس كل شيء ذات‪ ،‬وأنشد ابن فارس‪ :‬فنعم ابن عم القوم‬
‫في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر‬
‫(‪)582‬‬

‫‪" )(576‬الفتح" (‪.)13/381‬‬


‫‪" )(577‬مشارق النوار" (‪ )1/273‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪" )(578‬المفردات" (ص ‪ )182‬بتصرف‪.‬‬
‫‪" )(579‬الفتح" (‪.)13/382‬‬
‫‪ )(580‬نفس المرجع‪.‬‬
‫‪ )(581‬المرجع المذكور ‪.‬‬
‫‪" )(582‬الفتح" (‪.)13/382‬‬

‫‪159‬‬
‫وقال النووي‪ " :‬مرادههم بالذات‪ :‬الحقيقهة‪ ،‬وهذا اصهطلح للمتكلميهن‪ ،‬وقهد أنكره بعهض الدباء‬
‫عليهم‪ ،‬وقال‪ :‬ل يعرف ذات‪ ،‬لي لغة العرب‪ ،‬بمعنى حقيقة‪ ،‬وإنما ذات‪ ،‬بمعنى صاحبة‪ ،‬وهذا النكار‬
‫من كر‪ ،‬بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح‪ ،‬و قد قال المام أ بو الح سن الواحدي‪ ،‬في أول سورة‬
‫ت ِب ْي ِنكُمْ} (‪.)583‬‬
‫النفال في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬فَاتّقُواْ الّلهَ وََأصِْلحُواْ ذَا َ‬
‫ت ِب ْي ِنكُمْ} أي‪ :‬الحالة التي بينكم‪ ،‬فالتأنيث عنده للحالة‪،‬‬
‫قال أبو العباس أحمد بن يحيى‪ ،‬ثعلب‪{ :‬ذَا َ‬
‫وهو قول الكوفيين‪.‬‬
‫ت ِب ْينِ ُكمْ} حقيقة وصلكم‪ ،‬والبين‪ :‬الوصل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقال الزجاج‪ :‬معنى {ذَا َ‬
‫قال الواحدي‪ :‬فذات عنده بمعنى النفس‪ ،‬كما يقال‪ " :‬ذات الشيء ونفسه"(‪.)584‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الذي ذكره النووي هو ما يق صده البخاري – رح مه ال – ولهذا قال‪ " :‬فذ كر الذات‬
‫باسمه ‪-‬تعالى‪ " -‬أي‪ :‬أقام الذات مقام اسمه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬واسهتعمال البخاري لهها‪ ،‬دال على أن المراد بهها‪ :‬نفهس الشيهء – على طريقهة‬
‫المتكلمين – في حق ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ففرق بين النعوت‪ ،‬والذات"(‪.)585‬‬
‫ص ‪207‬‬
‫وقال ش يخ ال سلم‪ " :‬ل فظ ذات تأن يث ذو‪ ،‬وذلك ل ي ستعمل إل في ما كان مضافا إلى غيره‪ ،‬ف هم‬
‫يقولون‪ :‬فلن ذو علم‪ ،‬وذو قدرة‪ ،‬ون فس ذات علم وقدرة‪ ،‬وح يث جاء في القرآن أو ل غة العرب‪ ،‬ل فظ‬
‫ت ِب ْينِكُم}‪،‬‬
‫"ذو"‪ ،‬ول فظ "ذات" لم يج يء إل مقرونا بالضا فة‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬فَاتّقُو ْا اللّ هَ وَأَ صِْلحُو ْا ذَا َ‬
‫صدُورِ} وقول خبيب‪ ":‬وذلك في ذات الله" ونحو ذلك‪.‬‬
‫وقوله‪{ :‬عَلِيمٌ ِبذَاتِ ال ّ‬
‫لكهن لمها صهار النظار‪ ،‬يتكلمون فهي هذا الباب‪ ،‬قالوا‪ :‬إنهه يقال‪ :‬إنهها ذات علم وقدرة‪ ،‬ثهم إنههم‬
‫قطعوا هذا اللفهظ عهن الضافهة‪ ،‬وعرفوه‪ ،‬فقالوا‪ " :‬الذات" – وههو لفهظ مولد – ليهس مهن لفهظ العرب‬
‫العرباء‪ ،‬ولهذا أنكره طائ فة من أ هل العلم‪ ،‬كأ بي الف تح ا بن برهان‪ ،‬وا بن الدهان‪ ،‬وغيره ما‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫ليست هذه اللفظة عربية‪.‬‬
‫ورد عليهم آخرون‪ ،‬كالقاضي‪ ،‬وابن عقيل‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫وفصهل الخطاب‪ :‬أنهها ليسهت مهن العربيهة العرباء‪ ،‬بهل مهن المولد‪ ،‬كلفهظ الموجود‪ ،‬والماهيهة‪،‬‬
‫والكيفية‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات‪ ،‬تضاف الذات إليها‪ ،‬فيقال‪ :‬ذات علم‪ ،‬وذات قدرة‪ ،‬وذات كلم‪،‬‬
‫فإنه ل يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج‪ ،‬ل يتصف بصفة ثبوتية أصلً"(‪.)586‬‬

‫‪ )(583‬الية الولى من سورة النفال‪.‬‬


‫‪" )(584‬تهذيب السماء واللغات" (‪ )2/113‬القسم الثاني ‪.‬‬
‫‪" )(585‬الفتح" (‪.)13/382‬‬
‫‪" )(586‬مجموع الفتاوى" (‪.)99-6/98‬‬

‫‪160‬‬
‫وقال ا بن الق يم‪ " :‬وأ صل هذه اللف ظة‪ ،‬هو تأن يث "ذو"‪ ،‬بمع نى صاحب‪ ،‬فذات كذا‪ :‬صاحبة كذا‪،‬‬
‫في الصل‪.‬‬
‫ولهذا ل يقال‪ :‬ذات الشيهء‪ ،‬إل لمها له صهفات‪ ،‬ونعوت تضاف إليهه‪ ،‬فكأنهه يقول‪ :‬صهاحبة هذه‬
‫الصفات‪ ،‬والنعوت‪.‬‬
‫ولهذا أنكهر جماعهة مهن النحاة على الصهوليين قولههم‪ ":‬الذات"‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل مدخهل لللف واللم‬
‫هنا‪ ،‬كما ل يقال‪":‬الذو"‪ ،‬في ذو‪ .‬وهذا إنكار صحيح‪.‬‬
‫والعتذار عنهم‪ :‬أن لفظة الذات في اصطلحهم‪ ،‬قد صارت عبارة عن نفس الشيء‪ ،‬وحقيقته‪،‬‬
‫وعينه‪.‬‬
‫فل ما ا ستعملوها ا ستعمال الن فس‪ ،‬والحقي قة‪ ،‬عرفو ها باللم‪ ،‬وجردو ها من الضا فة‪ ،‬وهذا أ مر‬
‫اصطلحي‪ ،‬ل لغوي‪.‬‬
‫ص ‪208‬‬
‫فإن هذا اللفظ يقال لما هو منسوب إليه‪ ،‬أو من جهته‪ ،‬كجنب الشيء‪.‬‬
‫فإذا قالوا‪ :‬هذا في ج نب ال‪ ،‬ل يريدون إل ما ين سب إل يه‪ ،‬و في سبيله‪ ،‬ومرضا ته وطاع ته‪ ،‬ل‬
‫يريدون غير هذا‪.‬‬
‫فلمها اصهطلح المتكلمون على إطلق الذات‪ ،‬على النفهس‪ ،‬والحقيقهة‪ ،‬ظهن مهن ظهن أن هذا ههو‬
‫المراد بمثل قوله‪ " :‬ثلث كذبات في ذات ال‪ ،‬وقوله‪ " :‬وذلك في ذات الله"‪ ،‬وهذا غلط‪ ،‬بل الذات هنا‬
‫ب اللّ ِه }‪ ،‬أل ترى أنه ل يحسن أن يقال‪ :‬فرطت‬
‫ت فِي جَن ِ‬
‫سرَتَى علَى مَا َفرّط ُ‬
‫حْ‬‫كالجنب‪ ،‬في قوله‪ { :‬يَا َ‬
‫في نفس ال وحقيقته‪ ،‬ويحسن أن يقال‪ :‬فرط في ذات ال‪ ،‬كما يقال‪ :‬قتل في ذات ال‪ ،‬وصبر في ذات‬
‫ال؟" (‪.)587‬‬
‫وبهذا يتبين أن هذا الستعمال صحيح ل ينكر؛ لنه أمر اصطلحي على معنى مفهوم معين‪.‬‬
‫وبعهض الناس يظهن أن إطلق الذات على ال ‪-‬تعالى‪ -‬كإطلق الصهفات‪ ،‬أي أنهه وصهف له‪،‬‬
‫فينكهر ذلك بناء على هذا الظهن‪ ،‬ويقول‪ :‬هذا مها ورد‪ .‬وليهس المهر كذلك‪ ،‬وإنمها المراد التفرقهة بيهن‬
‫الصفة‪ ،‬والموصوف‪.‬‬
‫وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ‪ ،‬أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته‪ ،‬فل إنكار عليهم‬
‫في ذلك‪ ،‬كما وضحه كلم شيخ السلم‪ ،‬وتلميذه ابن القيم‪.‬‬
‫قال القسهطلني‪" :‬والظاههر جواز إطلق لفهظ "ذات"‪ ،‬ل بالمعنهى الذي أحدثهه المتكلمون‪ ،‬ولكنهه‬
‫غير مردود‪ ،‬إذا عرف أن المراد النفس؛ لثبوت لفظ النفس في القرآن "(‪.)588‬‬

‫‪" )(587‬بدائع الفوائد" (‪ )2/7‬ببعض التصرف‪.‬‬


‫‪" )(588‬إرشاد الساري" (‪.)10/379‬‬

‫‪161‬‬
‫و أ ما "النعوت" ف هو ج مع ن عت‪ ،‬و هو الو صف‪ ،‬يقال‪ :‬ن عت فلنا نعتا‪ ،‬أي و صفه و صفا‪ ،‬وز نه‬
‫ومعناه واحد‪ ،‬ومنه الحديث‪ " :‬ل تباشر المرأة المرأة‪ ،‬فتنعتها لزوجها‪ ،‬كأنه يراها"(‪.)589‬‬
‫ص ‪209‬‬
‫و أما السامي‪ ،‬فهي جمع اسم‪ ،‬وتجمع أيضا على أسماء‪.‬‬
‫قوله‪ ":‬فذكهر الذات باسهمه ‪-‬تعالى‪ -‬أي‪ :‬ذكهر ال بلفهظ الذات‪ ،‬وسهمعه النهبي –صهلى ال عليهه‬
‫وسلم‪ -‬فلم ينكره‪ ،‬فصار دليلً على جواز ذلك‪.‬‬
‫واعترض على ا ستدلل البخاري بذلك؛ لن خبيبا لم يرد الحقي قة‪ ،‬والن فس‪ ،‬وإن ما يع ني بقوله‪":‬‬
‫وذلك في ذات الله" أي‪ :‬في سبيله وطاعته‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن إطلق لفهظ الذات على ال ‪-‬تعالى‪ -‬جائز فهي الجملة؛ لورود الثار‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫أ صلً للجواز‪ ،‬ف في الحد يث ال صحيح المت فق عل يه‪ ":‬أن إبراه يم لم يكذب إل ثلث كذبات‪ ،‬اثنت ين في‬
‫ذات ال"(‪.)590‬‬
‫وفي حديث ابن عباس‪ ":‬تفكروا في كل شيء‪ ،‬ول تفكروا في ذات ال"(‪.)591‬‬
‫قال الحافظ‪ :‬سنده جيد‪.‬‬
‫وقال أبو الدرداء‪ " :‬ل تفقه كل الفقه‪ ،‬حتى تمقت الناس في ذات ال "‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ :‬إسناده ثقات‪ ،‬إل أنه منقطع"(‪.)592‬‬
‫وقد تقدمت الشارة إلى الفرق بين السماء والصفات في الباب الول‪.‬‬
‫و قد ذ كر البخاري – رح مه ال – ق صة خبيب وأ صحابه‪ ،‬في كتاب المغازي‪ ،‬و هي مشهورة‪،‬‬
‫فنكتفي بنص ما ذكره البخاري هنا‪.‬‬

‫‪ )(589‬رواه البخاري في كتاب النكاح ‪ ،‬انظر "البخاري مع الفتح" (‪.)9/338‬‬


‫‪ )(590‬رواه البخاري ‪ ،‬انظره مع "الفتح" (‪ ، )5/246( ، )4/410‬ومواضع أخر عدة ‪ ،‬ومسلم في‬
‫"الفضائل"‪.‬‬
‫‪ )(591‬قال في "كشف الخفا" ‪ :‬رواه أبو نعيم في "الحلية" ‪ ،‬وابن أبي شيبة في "العرش" (ص ‪( )311‬‬
‫‪.)4/1840‬‬
‫‪" )(592‬الفتح" (‪.)13/383‬‬

‫‪162‬‬
‫ص ‪210‬‬
‫‪ -31‬قال‪ " :‬حدث نا أ بو اليمان‪ ،‬أخبر نا شع يب‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬أ خبرني عمرو بن أ بي سفيان بن‬
‫أسيد بن جارية‪ ،‬الثقفي – حليف لبني زهرة‪ ،‬وكان من أصحاب أبي هريرة‪ -‬أن أبا هريرة قال‪ :‬بعث‬
‫ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬عشرة‪ ،‬من هم خبيب الن صاري فأ خبرني عب يد ال بن عياض‪ ،‬أن‬
‫ابنهة الحارث أخهبرته‪ ،‬أنههم حيهن اجتمعوا‪ ،‬اسهتعار منهها موسهى يسهتحد بهها‪ ،‬فلمها خرجوا مهن الحرم‬
‫ليقتلوه‪ ،‬قال خبيب النصاري‪:‬‬
‫هلما على أي شههق كان ل فههي مصههرعي‬
‫هل مسه‬
‫هن أقته‬
‫هت أبالي حيه‬
‫ولسه‬

‫وذلك فهههي ذات الله وإن يشهههأ يبارك على أوصهههههههال شلو ممزع‬

‫فقتله ابن الحارث‪ ،‬فأخبر النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أصحابه خبرهم يوم أصيبوا"‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫ص ‪211‬‬
‫حذّ ُركُ مُ اللّ ُه نَفْ سَهُ} (‪)593‬وقوله – جل ذكره –‪َ { :‬تعْلَ مُ مَا فِي نَفْ سِي‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال تعالى‪َ { :‬و ُي َ‬
‫سكَ} (‪.")594‬‬
‫ل أَعَْلمُ مَا فِي نَ ْف ِ‬
‫َو َ‬
‫المراد بالنفس في هذا‪ :‬ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬المتصف بصفاته‪ ،‬ول يقصد بذلك ذاتا منفكة عن الصفات‪،‬‬
‫كما ل يراد به صفة الذات كما قاله بعض الناس‪ ،‬وسيأتي بيان ذلك من كلم السلف‪.‬‬
‫سهُ} أن ت سخطوها علي كم بركوب كم ما‬
‫ح ّذرُكُ مُ الّل هُ نَفْ َ‬
‫قال ا بن جر ير – رح مه ال تعالى ‪َ { :-‬و ُي َ‬
‫ت مِن سُوَ ٍء تَ َودّ َلوْ َأنّ‬
‫عمِلَ ْ‬
‫ضرًا َومَا َ‬
‫خ ْيرٍ ّمحْ َ‬
‫ن َ‬
‫ت مِ ْ‬
‫عمِلَ ْ‬
‫جدُ كُلّ نَفْسٍ مّا َ‬
‫يسخطه عليكم‪ ،‬فتوافونه {يَوْ َم َت ِ‬
‫َب ْي َنهَا َو َب ْينَ ُه َأ َمدًا َبعِيدًا} وهو عليكم ساخط‪ ،‬فينالكم من أليم عقابه ما ل قبل لكم به "(‪.)595‬‬
‫وقال‪ " :‬ويخوفكهم ال مهن نفسهه‪ ،‬أن تركبوا معاصهيه‪ ،‬أو توالوا أعداءه‪ ،‬فإن إلى ال مرجعكهم‪،‬‬
‫فاتقوه واحذروا أن ينالكم عقابه‪ ،‬فإنه شديد العقاب"(‪.)596‬‬
‫وقال ا بن خزي مة‪" :‬أول ما نبدأ به من ذ كر صفات خالق نا‪ :‬ذ كر نف سه‪ ،‬جل رب نا عن أن تكون‬
‫نفسه‪ ،‬كنفس خلقه‪ ،‬وعز عن أن يكون عدما ل نفس له "(‪.)597‬‬
‫ْسه ِه ال ّرحْمَةَ} وقوله‬
‫ُمه عَلَى نَف ِ‬
‫َبه َربّك ْ‬
‫ثهم ذكهر بعهض النصهوص فهي ذلك كقوله ‪-‬تعالى‪َ { -‬كت َ‬
‫ك ِلنَفْ سِي} ثم ذكر ما رواه البخاري في هذا الباب‪ ،‬وحديث ابن عباس‪" :‬أن النبي‬
‫ط َن ْعتُ َ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬وَا صْ َ‬
‫– صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ح ين خرج إلى صلة ال صبح وجوير ية جال سة في الم سجد ر جع ح ين تعالى‬
‫النهار‪ ،‬قال‪ ":‬لم تزالي جالسة بعدي؟"‬
‫ص ‪212‬‬
‫قالت‪ :‬ن عم‪.‬قال‪ " :‬ل قد قلت بعدك أر بع كلمات‪ ،‬لو وز نت ب هن لوزنت هن(‪ :)598‬سبحان ال العظ يم‬
‫وبحمده‪ .‬عدد خلقه‪ ،‬ومداد كلماته‪ ،‬ورضا نفسه‪ ،‬وزنة عرشه"(‪.)599‬‬
‫وذكر أيضا حديث محاجة موسى لدم‪ ،‬وفيه‪":‬قال آدم لموسى‪ :‬أنت الذي اصطفاك ال برسالته‪،‬‬
‫واصطنعك لنفسه…"(‪ )600‬ثم قال‪" :‬فال – جل وعل‪ -‬أثبت في آي من كتابه أن له نفسا‪ ،‬وكذلك قد بين‬
‫على لسان نبيه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أن له نفسا"(‪.)601‬‬

‫‪ )(593‬الية ‪ 28‬من سورة آل عمران ‪.‬‬


‫‪ )(594‬الية ‪ 116‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪" )(595‬تفسير الطبري" (‪ )6/321‬بتحقيق‪ :‬محمود شاكر ‪.‬‬
‫‪ )(596‬المرجع المذكور (‪.)6/317‬‬
‫‪ )(597‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)5‬‬
‫‪ )(598‬يعني ‪ :‬لو وزنت هذه الربع بما قلتيه منذ فارقتك لوزنتهن‪ .‬رواه مسلم في كتاب الذكر‪.‬‬
‫‪ )(599‬كتاب "التوحيد" (ص ‪ )7‬رواه مسلم ‪ ،‬كتاب "الذكر" رقم (‪.)4/2090( )2726‬‬
‫‪ )(600‬كتاب "التوحيد" (ص ‪ )9‬وهو في "الصحيحين" ‪ ،‬انظر ‪" :‬الفتح (‪ ، )6/441‬و (‪ ، )8/434‬و (‬
‫‪ ، )11/505‬ومسلم (‪.)2044 ،4/2043‬‬
‫‪ )(601‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)8‬‬

‫‪164‬‬
‫و في " صحيح م سلم" في حد يث أ بي ذر الطو يل‪ " :‬يا عبادي‪ ،‬إ ني حر مت الظلم على نف سي‪،‬‬
‫وجعلته بينكم محرما‪ ،‬فل تظالموا"(‪.)602‬‬
‫وفي "السنن" عن علي – رضي ال عنه – أن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كان يقول في‬
‫آخر وتره‪ ":‬اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك‪ ،‬وبمعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وأعوذ بك منك‪ ،‬ل أحصي‬
‫ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك"(‪.)603‬‬
‫وتقدم ذكر حديث ابن مسعود في "المسند" مرفوعا‪" :‬أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك‪ ،‬أو‬
‫أنزلته في كتابك"(‪.)604‬‬
‫فهذه النصوص واضحة في أن المراد بالنفس هو ال ‪-‬تعالى‪ -‬كما قلنا‪.‬‬
‫ول يخالف ذلك ما قاله ابن خزيمة والئمة؛ لن مقصودهم إثبات ما أثبته ال من غير تعرض‬
‫له بتأو يل أو تمث يل‪ ،‬تعالى ال عن المثال والنداد‪ ،‬والتم سك بالن صوص ال تي قال ها ال ور سوله‪ ،‬مع‬
‫العراض عما يقوله أهل التأويل‪ ،‬وأصحاب‬
‫ص ‪213‬‬
‫الوسهاوس الشيطانيهة‪ ،‬التهي تعود على النصهوص بالبطال‪ ،‬وحسهب المسهلم أن يسهعه مها وسهع‬
‫السلف الصالح من الصحابة‪ ،‬ومن سلك طريقهم‪.‬‬
‫وليس معنى ذلك العراض عن معاني النصوص‪ ،‬كما يتوهمه بعض الناس من مذهب السلف‪،‬‬
‫ويعبرون عنه بالتفويض‪.‬‬
‫بل المق صود إثبات ما أثب ته ال لنف سه‪ ،‬أو أثب ته له ر سوله‪ ،‬مع ف قه المع نى اللئق بعظ مة ال‬
‫سمِيعُ البَصِيرُ} ونحوها من‬
‫شيْءٌ وَهُ َو ال ّ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬وفهمه‪ ،‬على ما دل عليه قوله ‪-‬تعالى‪َ{ :-‬ليْسَ َك ِمثْلِ ِه َ‬
‫اليات المحكمات‪ ،‬والمر في هذا واضح لمن تمسك بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫روى ابن جرير‪ ،‬عن مجاهد‪ ،‬في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (‪.)605‬‬
‫قال‪ :‬من نفسي‪ .‬وأصله عن ابن عباس‪.‬‬
‫وروي عن أبي صالح‪{ :‬أكاد أخفيها} قال‪ :‬يخفيها من نفسه‪.‬‬
‫وعن قتادة‪{ :‬أكاد أخفيها} – وهي في بعض القراءات‪ ":‬أخفيها من نفسي" (‪" :-)606‬لقد أخفاها ال‬
‫من الملئكة المقربين‪ ،‬ومن النبياء المرسلين"(‪.)607‬‬

‫‪" )(602‬صحيح مسلم" (‪.)4/1994‬‬


‫‪" )(603‬سنن أبي داود" (‪ ، )2/134‬والترمذي (‪ )5/187‬رقم (‪ ، )3562‬والنسائي (‪ ، )3/249‬وابن ماجه (‬
‫‪ )1/373‬رقم (‪ ، )1179‬ورواه مسلم في "صحيحه" (‪ )1/352‬رقم (‪. )222‬‬
‫‪" )(604‬المسند" (‪ )6/153( ، )5/267‬تحقيق ‪ :‬أحمد شاكر‪.‬‬
‫‪ )(605‬الية ‪ 15‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(606‬هي قراءة ابن مسعود ‪ ،‬كما سيأتي عن ابن كثير وابن عباس ‪.‬‬
‫‪" )(607‬تفسير ابن جرير" (‪ )16/149‬طبعة الحلبي‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وقال ا بن كث ير‪ ":‬أكاد أخفي ها" قال الضحاك‪ :‬عن ا بن عباس أ نه كان يقرؤ ها‪" :‬أكاد أخفي ها من‬
‫نفسي"‪ ،‬يقول‪ :‬لنها ل تخفى من نفس ال أبدا‪ ،‬وقال سعيد بن جبير‪ :‬عن ابن عباس‪" ،‬من نفسه"‪ ،‬وكذا‬
‫قال مجاهد وأبو صالح‪ ،‬ويحيى بن رافع‪.‬‬
‫وقال السدي‪ :‬ليس أحد من أهل السماوات والرض‪ ،‬إل وقد أخفى ال عنه علم الساعة‪ ،‬وهي‬
‫في قراءة ابن مسعود‪ ":‬إني أكاد أخفيها من نفسي"(‪.)608‬‬
‫سكَ}‪ ،‬يقول‪ :‬إنك يا رب‬
‫وقال ابن جرير في قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬تعْلَ ُم مَا فِي نَفْسِي َولَ أَعَْلمُ مَا فِي نَ ْف ِ‬
‫ل يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما ل أنطق به ولم أظهره بجوارحي‪ ،‬فكيف بما نطقت به وأظهرته‬
‫بجوارحي‪ ،‬لو كنت قد قلت للناس‪:‬‬
‫ص ‪214‬‬
‫خذُونِي وَُأمّ يَ إِلَه َهيْنِ مِن دُو نِ الّل هِ} كنت قد علمته‪ ،‬لنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق‬
‫{ا ّت ِ‬
‫سكَ} يقول‪ :‬ول أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه‪،‬‬
‫ل أَعْلَ مُ مَا فِي نَفْ ِ‬
‫به‪ ،‬فكيف بما نطقت به؟ { َو َ‬
‫لني إنما أعلم من الشياء ما علمتنيه"(‪.)609‬‬
‫ط َن ْع ُتكَ ِلنَفْ سِي} " أنع مت عليك – يا موسى – هذه النعم‪ ،‬ومن نت‬
‫وقال في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَا صْ َ‬
‫عليك هذه المنن‪ ،‬اجتباء مني لك‪ ،‬واختبارا لرسالتي‪ ،‬والبلغ عني‪ ،‬والقيام بأمري ونهيي"(‪.)610‬‬
‫ل لنفسي‪ ،‬أي كما أريد وأشاء"(‪.)611‬‬
‫وقال ابن كثير‪" :‬أي‪ :‬اصطفيتك واجتبيتك رسو ً‬
‫وقال ا بن سعيد الدار مي‪" :‬واد عى المعارض‪ :‬أن ال ل يو صف بالضم ير‪ ،‬والضم ير من في عن‬
‫ال‪ ،‬وهي كلمة خبيثة قديمة‪ ،‬من كلم جهم‪ ،‬عارض بها جهم قول ال تعالى‪َ { :‬تعْلَ مُ مَا فِي نَفْ سِي َولَ‬
‫سكَ}‪ ،‬يدفع بذلك أن يكون ال ‪-‬تعالى‪ -‬سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن‬
‫أَعْلَمُ مَا فِي نَفْ ِ‬
‫يخلقهم‪.‬‬
‫فرد عليه بعض العلماء‪ ،‬وقالوا‪ :‬كفرت بها من ثلثة أوجه‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنك نفيت عن ال العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنك استجهلت المسيح ابن مريم – عليه السلم – بأنه وصف ربه بأن له خفايا علم في‬
‫سكَ }‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬إذ يقول‪َ { :‬ولَ َأعَْلمُ مَا فِي نَ ْف ِ‬
‫الثالث‪ :‬أنك طعنت به على محمد –صلى ال عليه وسلم‪ -‬إذ جاء به مصدقا لعيسى‪..‬‬
‫قال أ بو سعيد‪" :‬وقول ج هم هذا أ صل كبير في تعط يل الن فس والعلم ال سابق‪ ،‬ويرد عل يه بقوله‪:‬‬
‫سكَ }‪ ،‬فذكر المسيح أن ل علما سابقا في نفسه‪ ،‬يعلمه ال‪ ،‬ول‬
‫{ َتعْلَ مُ مَا فِي نَفْ سِي َولَ َأعْلَ ُم مَا فِي نَفْ ِ‬
‫يعلمه هو"‪.‬‬
‫‪" )(608‬تفسير ابن كثير" (‪ )5/272‬طبعة الشعب‪.‬‬
‫‪" )(609‬تفسير ابن جرير الطبري" (‪ )11/238‬تحقيق‪ :‬محمود شاكر ‪.‬‬
‫‪" )(610‬تفسير الطبري" (‪ )16/168‬مطبعة الحلبي‪.‬‬
‫‪" )(611‬تفسير ابن كثير" (‪ )4/287‬طبعة الشعب ‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫ثم روى عن أبي البحتري أنه قال‪ " :‬ل يقولن أحدكم‪ :‬اللهم أدخلني مستقر رحمتك‪ ،‬فإن مستقر‬
‫رحمته نفسه"(‪.)612‬‬
‫ص ‪215‬‬
‫وقال الرا غب‪ ":‬نف سه‪ :‬ذا ته‪ ،‬وهذا وإن كان قد ح صل – من ح يث الل فظ – مضاف‪ ،‬ومضاف‬
‫إليه‪ ،‬يقتضي المغايرة‪ ،‬وإثبات شيئين من حيث العبارة‪ ،‬فل شيء من حيث المعنى سواه‪ ،‬سبحانه عن‬
‫(‪)613‬‬
‫الثنوية من كل وجه"‬
‫قال الحافظ‪ :‬قال البيهقي‪ :‬والنفس في كلم العرب على أوجه‪:‬‬
‫منها‪ :‬الحقيقة‪ ،‬كما يقولون في نفس المر‪ ،‬وليس للمر نفس منفوسة‪.‬‬
‫سكَ} إن معناه‪:‬‬
‫ومنها‪ :‬الذات‪ ،‬قال‪ :‬وقد قيل في قوله تعالى‪َ { :‬تعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي َولَ َأعْلَمُ مَا فِي نَفْ ِ‬
‫تعلم ما أك نه‪ ،‬و ما أ سره‪ ،‬ول أعلم ما ت سره ع ني"(‪" ،)614‬وقال أ بو إ سحاق الزجاج في قوله ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫حذّ ُر ُكمُ اللّ ُه نَ ْفسَ ُه } أي‪ :‬إياه‪.‬‬
‫{ َو ُي َ‬
‫سكَ } ثلثة أقوال‪:‬‬
‫وحكى صاحب "المطالع" في قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ولَ َأعَْلمُ مَا فِي نَ ْف ِ‬
‫أحدها‪ :‬ل أعلم ذاتك‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬ل أعلم ما في غيبك‪.‬‬
‫ثالث ها‪ :‬ل أعلم ما عندك‪ ،‬و هو بمع نى قول غيره‪ :‬ل أعلم معلو مك أو إراد تك‪ ،‬أو سرك‪ ،‬أو ما‬
‫يكون منك"(‪.)615‬‬
‫"قال ابهن بطال‪ :‬فهي هذه اليات والحاديهث‪ ،‬إثبات النفهس ل ‪-‬تعالى‪ -‬وللنفهس معان‪ ،‬والمراد‬
‫بنفس ال ‪-‬تعالى‪ -‬ذاته‪ ،‬وليس بأمر مزيد عليه‪ ،‬فوجب أن يكون هو"(‪.)616‬‬
‫وقال شيخ السلم‪" :‬ونفسه هي ذاته المقدسة"(‪.)617‬‬
‫ص ‪216‬‬
‫وقال أيضا‪" :‬ويراد بن فس الش يء‪ :‬ذا ته‪ ،‬وعي نه‪ ،‬ك ما يقال‪ :‬رأ يت زيدا نف سه‪ ،‬وعي نه‪ ،‬و قد قال‬
‫ب َربّكُ مْ عَلَى نَفْ سِ ِه ال ّرحْمَةَ} وقال‪:‬‬
‫سكَ}‪ ،‬وقال‪َ { :‬كتَ َ‬
‫‪-‬تعالى‪َ { :-‬تعْلَ مُ مَا فِي َنفْ سِي َولَ َأعْلَ مُ مَا فِي نَفْ ِ‬
‫{ويحذركم ال نفسه}‪.‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬سبحان ال رضا نفسه"‪ ،‬وفي الخر‪ " :‬إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي"‪.‬‬

‫‪ )(612‬نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي ‪( ،‬ص ‪" )550‬عقائد السلف" ‪ ،‬ملخصًا بتصرف‪.‬‬
‫‪" )(613‬المفردات" (ص ‪.)511‬‬
‫‪" )(614‬الفتح" (‪ . )13/384‬ذكر الحافظ كلم البيهقي بالمعنى ‪ ،‬فصار أحسن من كلم البيهقي ‪ ،‬ولهذا‬
‫آثرته ‪ ،‬وهو في "السماء والصفات" (ص ‪.)286‬‬
‫‪" )(615‬الفتح" (‪.)13/384‬‬
‫‪ )(616‬المرجع نفسه ‪.‬‬
‫‪" )(617‬مجموع الفتاوى" (‪.)14/196‬‬

‫‪167‬‬
‫فهذه الموا ضع المراد في ها بل فظ الن فس ع ند جمهور العلماء‪ :‬ال نف سه ال تي هي ذا ته‪ ،‬المت صفة‬
‫بصفاته‪ ،‬ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات‪ ،‬ول المراد بها صفة للذات‪.‬‬
‫وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات‪.‬‬
‫كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات‪ ،‬وكل القولين خطأ"(‪.)618‬‬

‫‪" )(618‬مجموع الفتاوى" (‪ ، )293-9/292‬باختصار قليل‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫ص ‪217‬‬
‫‪ -32‬قال‪ " :‬حدث نا ع مر بن ح فص بن غياث‪ ،‬حدث نا أ بي حدث نا الع مش‪ ،‬عن شق يق‪ ،‬عن ع بد‬
‫ال‪ ،‬عن النبي – صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬ما من أحد أغير من ال‪ ،‬من أجل ذلك حرم الفواحش‪،‬‬
‫وما أحد أحب إليه المدح من ال "‪.‬‬
‫هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع متعددة‪ ،‬فتقدم في تفسير سورة النعام‪ ،‬وفيه‪" :‬ول شيء‬
‫أحب إليه المدح من ال‪ ،‬ولذلك مدح نفسه"(‪" .)619‬فذكر النفس ثابت في هذا الحديث‪ ،‬وإن كان لم يقع في‬
‫هذه الطريق‪ ،‬لكنه أشار إليه‪ ،‬كعادته‪ ،‬فإنه – رحمه ال ‪ -‬كثيرا ما يترجم ببعض ما ورد في طرق‬
‫الحديث الذي يورده"(‪.)620‬‬
‫قلت‪ :‬وهذه الجملة من الحديث المذكورة في التفسير هي محل الشاهد‪ ،‬فهو يشير إليها‪.‬‬
‫وسيأتي الكلم – إن شاء ال – في الغيرة بعد أربعة أبواب غير هذا‪ ،‬وتقدم الكلم في النفس ما‬
‫فيه الكفاية‪.‬‬
‫قوله‪" :‬من أجل ذلك حرم الفواحش " الحرام هو‪:‬الممنوع‪ ،‬وتحريم ال ‪-‬تعالى‪ -‬للشيء‪ ،‬هو منعه‬
‫منه شرعا‪ ،‬أو قدرا‪ ،‬فالشرع نحو ما في هذا الحديث‪ ،‬وهو كثير جدا‪ ،‬أي أمثلته‪.‬‬
‫جعُونهَ} (‪ ،)621‬وقوله‪:‬‬
‫ه ل َي ْر ِ‬
‫ه عَلَى َق ْريَةٍ أَهَْل ْكنَاهَها َأ ّنهُم ْ‬
‫حرَام ٌ‬
‫و أمها القدر فكقوله – تعالى ‪َ { :-‬و َ‬
‫ح ّر ْمنَا عََليْ ِه ا ْل َمرَاضِعَ مِن َقبْلُ} (‪.)622‬‬
‫{ َو َ‬
‫والفواحش‪ :‬جمع فاحشة‪ ،‬وهي‪ :‬ما عظم قبحه من الفعال والقوال‪ ،‬في الشرع‪ ،‬أو في العقل‪،‬‬
‫أو في العرف‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬و ما أ حد أ حب إل يه المدح من ال " كل مة "أ حد" ل يو صف ب ها في الثبات ش يء من‬
‫العيان إل ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولكنها تستعمل في غير ال‪ ،‬في النفي وما في معناه‪ ،‬كالشرط‪ ،‬والستفهام‪،‬‬
‫وتستعمل في أول العدد‪ ،‬كأحد اثنين وأحد‬
‫ص ‪218‬‬
‫ع شر‪ ،‬ولهذا لم يج يء في القرآن ا ستعمالها لغ ير ال‪ ،‬إل في غ ير المو جب‪ ،‬أو في الضا فة‪،‬‬
‫ح َدكُم ِب َورِ ِق ُكمْ }‬
‫كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬فَا ْب َعثُوا َأ َ‬
‫قال أهل اللغة‪ " :‬تقول‪ :‬ل أحد في الدار‪ ،‬ول تقل‪ :‬فيها أحد"(‪.)623‬‬

‫‪ )(619‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)8/295‬‬


‫‪" )(620‬الفتح" (‪.)13/385‬‬
‫‪ )(621‬الية ‪ 95‬من سورة النبياء‪.‬‬
‫‪ )(622‬الية ‪ 12‬من سورة القصص‪.‬‬
‫‪" )(623‬مجموع الفتاوى" (‪.)17/137‬‬

‫‪169‬‬
‫والمدح‪ :‬هو الثناء الح سن‪ ،‬قال الجوهري‪" :‬المدح‪ :‬الثناء الح سن‪ ،‬و قد مد حه وامتد حه‪ ،‬بمع نى‪،‬‬
‫وكذلك المدحة‪ ،‬والمديح‪ ،‬والمدوحة"(‪.)624‬‬
‫وفي كليات أبي البقاء‪ ،‬بعدما ذكر قول الجوهري قال‪ ":‬وقيل‪ :‬المدح‪ :‬الثناء باللسان على الجميل‬
‫مطلقا‪ ،‬سواء كان من الفواضل‪ ،‬أو من الفضائل‪ ،‬وسواء كان اختياريا‪ ،‬أو غير اختياري‪ ،‬ول يكون إل‬
‫قبل النعمة"(‪.)625‬‬
‫فالمدح‪ " :‬ذكهر محاسهن الممدوح‪ ،‬والخبار عنهها على سهبيل الثناء والتعظيهم بذلك‪ ،‬فإن اقترن‬
‫بال حب والرادة‪ ،‬ف هو ح مد؛ لن الح مد هو‪ :‬ذ كر محا سن المحمود‪ ،‬والخبار عن ها‪ ،‬مع ح به وإجلله‪،‬‬
‫وتعظيمه‪ ،‬فهو خبر يتضمن النشاء"(‪.)626‬‬
‫ومدح النسان نفسه نقص يلم عليه‪ ،‬وكذلك طلبه من الناس‪ ،‬وتكلفه لذلك يدل على نقصه‪ ،‬وقد‬
‫جاءت الحاديث الصحيحة بالنهي عن المدح ول سيما في الوجه؛ لن ذلك مظنة الفتنة والغترار‪ ،‬وقد‬
‫يكون المدح بالكذب‪ ،‬وربما حمله المدح على ظلم من لم يمدحه‪.‬‬
‫و في " صحيح م سلم" عن همام بن الحارث أن رجلً ج عل يمدح عثمان‪ ،‬فع مد المقداد فج ثا على‬
‫ركبت يه – وكان رجلً ضخما – فج عل يح ثو في وج هه الح صباء‪ ،‬فقال له عثمان‪ :‬ما شأ نك؟ فقال‪ :‬إن‬
‫رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"(‪.)627‬‬
‫وروى ابهن ماجهه عهن معاويهة قال‪ :‬سهمعت رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬يقول‪" :‬إياكهم‬
‫والتمادح فإنه الذبح"(‪)628‬وسنده حسن‪ ،‬وفي ذلك أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫ص ‪219‬‬
‫ل على الجواز – أي جواز‬
‫قال النووي‪ " :‬قال العلماء‪ :‬الجمهع بيهن هذه الحاديهث ومها جاء دا ً‬
‫المدح – أن الن هي محمول على المجاز فة في المدح‪ ،‬والزيادة في الو صاف‪ ،‬أو على من يخاف عل يه‬
‫الفت نة‪ ،‬من إعجاب ونحوه‪ ،‬إذا سمع المدح‪ ،‬وأ ما من ل يخاف عل يه ذلك؛ لكمال تقواه‪ ،‬ور سوخ عقله‪،‬‬
‫ومعرفته‪ ،‬فل نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة"(‪.)629‬‬
‫أما ال ‪-‬تعالى‪ -‬فلكماله المطلق مدح نفسه؛ لنه أهل المدح والثناء‪ ،‬ولن الخلق ل يقدرون على‬
‫مدحه بما يستحق‪ ،‬كما قال الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬ل أحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت‬
‫على نفسك"(‪.)630‬‬

‫‪ )(624‬انظر ‪" :‬الصحاح" (‪.)1/403‬‬


‫‪" )(625‬الكليات" (‪.)4/277‬‬
‫‪" )(626‬بدائع الفوائد" (‪.)2/93‬‬
‫‪" )(627‬مسلم" (‪ ، )4/1297‬و "ابن ماجه" (‪ )2/1232‬رقم (‪.)3742‬‬
‫‪" )(628‬السنن" (‪ )2/1232‬رقم (‪.)3743‬‬
‫‪" )(629‬شرح مسلم" (‪.)18/126‬‬
‫‪ )(630‬سبق تخريجه قريباً‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫قال النووي‪ " :‬حقيقهة مدح العباد ل ‪-‬تعالى‪ -‬ههو مصهلحة للعباد؛ لنههم يثنون عليهه سهبحانه‬
‫فيثيبهم‪ ،‬فينتفعون‪ ،‬وهو سبحانه غني عن العالمين‪ ،‬ل ينفعه مدحهم‪ ،‬ول يضره تركهم ذلك‪ ،‬وفيه تنبيه‬
‫على فضل الثناء عليه سبحانه وتسبيحه‪ ،‬وتهليله‪ ،‬وتحميده‪ ،‬وتكبيره‪ ،‬وسائر الذكار"(‪.)631‬‬
‫ص ‪220‬‬
‫‪-33‬قال‪ " :‬حدثنا عبدان‪ ،‬عن أبي حمزة‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن‬
‫النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬لما خلق ال الخلق‪ ،‬كتب في كتابه – وهو يكتب على نفسه‪ ،‬وهو‬
‫وضع عنده على العرش – إن رحمتي تغلب غضبي"‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬لما خلق الخلق " يجوز أن يكون المراد تقدير ذلك وكتابته قبل وجوده وظهوره‪ ،‬ويجوز‬
‫أن يكون المراد جنس الخلق‪ ،‬فيكون المراد وجوده مخلوقا‪.‬‬
‫قوله‪" :‬ك تب في كتا به" يجوز أن يكون المع نى‪ :‬أمر القلم أن يك تب‪ ،‬كما قال الحا فظ‪ .‬ويجوز أن‬
‫يكون على ظاهره بأن كتهب ‪-‬تعالى‪ -‬بدون واسهطة‪ ،‬ويجوز أن يكون قال‪ ":‬كهن" فكانهت الكتابهة‪ ،‬ول‬
‫محذور في ذلك كله‪ ،‬وقد ثبت في "سنن الترمذي " و"ابن ماجه" في هذا الحديث‪ " :‬إن ال – عز وجل‬
‫– لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي"(‪.)632‬‬
‫ّهه لَغِْلبَنّ أَن َا‬
‫َبه الل ُ‬
‫ول يصهح أن يراد بالكتابهة‪ :‬الحكهم الذي قضاه‪ ،‬نظيهر قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬كت َ‬
‫َو ُرسُلِي}؛ لقوله‪ " :‬فهو عنده فوق العرش"‪.‬‬
‫وكتابتهه –تعالى‪ -‬ذلك؛ لتأكيهد هذا الحكهم‪ ،‬وإخبار عباده بهه؛ حتهى يؤمنوا بهه ويعملوا على‬
‫مقتضاه‪ ،‬أو لحكمة ال أعلم بها‪ ،‬وليس خوفا من النسيان –تعالى ال ‪.-‬‬
‫قوله‪" :‬و هو يك تب على نف سه " جملة حال ية يق صد ب ها بيان أن كتاب ته ‪-‬تعالى‪ -‬لم يحمله علي ها‬
‫أ حد‪ ،‬وإنما وق عت بم حض إراد ته‪ ،‬تفضلً م نه‪ ،‬وجودا على خل قه كت به على نف سه‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫حمَةَ}‪.‬‬
‫{ َكتَبَ َر ّبكُمْ عَلَى نَ ْفسِ ِه ال ّر ْ‬
‫وقوله‪" :‬و هو و ضع عنده على العرش" و ضع‪ :‬بف تح الواو‪ ،‬و سكون الضاد‪ ،‬أي موضوع‪ ،‬وكذا‬
‫جاء في‪ :‬الجمع بين "الصحيحين"‪ ،‬للحميدي(‪ ،)633‬وضبط أيضا بفتح الضاد‪ ،‬على أنه فعل ماض‪ ،‬وبضم‬
‫الضاد أيضا‪ ،‬والول أظههر وأشههر‪ .‬وقوله‪" :‬عنده على العرش" أي أنهه ‪-‬تعالى‪ -‬وضهع الكتاب عنده‬
‫فوق عرشه‪،‬‬
‫ص ‪221‬‬
‫ع ْرشُ هُ عَلَى ا ْلمَاء} بهذا الل فظ‪" :‬عنده فوق عر شه"‪ .‬وذلك للهتمام به‪،‬‬
‫و سيأتي في باب‪َ { :‬وكَا نَ َ‬
‫حيث وضعه على عرشه الذي استوى عليه‪.‬‬

‫‪" )(631‬شرح مسلم" (‪.)15/77‬‬


‫‪ )(632‬انظر ‪ " :‬سنن الترمذي" (‪ ، )5/210‬و "ابن ماجه" (‪ )2/1435‬الحديث رقم (‪.)4295‬‬
‫‪ )(633‬قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (‪.)13/385‬‬

‫‪171‬‬
‫ك ما يدل على أن ال على العرش‪ ،‬م ستو عل يه‪ ،‬ك ما قال ‪-‬تعالى‪ -‬عن نف سه في موا ضع كثيرة‬
‫من كتا به‪ ،‬وأ خبرت به ر سله‪ ،‬ويدل على علوه ‪-‬تعالى‪ ،-‬و سيأتي ذ كر ذلك م ستوفى –إن شاء ال –‬
‫في موضعه‪.‬‬
‫و ما نقله الحا فظ – ع فا ال ع نا وع نه – عن شراح كتاب البخاري من تأو يل هات ين اللفظت ين‬
‫بالتأويلت الباطلة‪ ،‬المبنية على فساد العقيدة‪ ،‬سيأتي ردها – إن شاء ال – هناك بالبراهين‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬إن رحم تي تغلب غ ضبي" الرح مة والغ ضب كله ما من أو صاف ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ول كن‬
‫الرح مة أو سع وأش مل‪ ،‬فرحم ته تعالى و سعت كل ش يء‪ ،‬ك ما قال عن حملة العرش‪ ،‬و من حوله من‬
‫حمَةً َوعِلْم ًا} (‪ ،)634‬وقال‬
‫شيْ ٍء رّ ْ‬
‫َسهعْتَ كُلّ َ‬
‫الملئكهة فهي دعوتههم للمؤمنيهن‪ ،‬أنههم يقولون‪{ :‬رَبّن َا و ِ‬
‫ل شَيْءٍ} (‪)635‬وهذه هو معنى غلبها للغضب‪.‬‬
‫سعَتْ كُ ّ‬
‫ح َمتِي َو ِ‬
‫‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َر ْ‬
‫و في هذه الن صوص ونحو ها كث ير أبلغ دل يل على ثبوت صفة الرح مة ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬وكذا صفة‬
‫الغضب‪ ،‬وبذلك يتبين بطلن قول أهل التأويل في هذه الصفة الكريمة من صفات ربنا – تبارك وتعالى‬
‫‪ ،-‬وقولهم‪ " :‬إن الرحمة‪ :‬رقة القلب‪ ،‬وهي تدل على الضعف والخور في طبيعة الراحم‪ ،‬وتألمه على‬
‫المرحوم" وهذا قول باطل بالنسبة إلى صفة ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وبيان ذلك على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن هذا وصف رحمة بعض المخلوقين من النساء ونحوهن‪.‬‬
‫و قد علم التفاوت العظ يم ب ين الخالق ‪-‬تعالى‪ -‬والمخلوق؛ بالشرع والع قل‪ ،‬والجماع‪ ،‬و قد تقرر‬
‫أن الصفة تتبع الموصوف في الكمال‪ ،‬وضده‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫الثانهي‪ :‬أن الضعهف والخور مذموم‪ ،‬وههو نقهص‪ ،‬وأمها الرحمهة فممدوحهة‪ ،‬كمها قال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫حمَةِ} (‪ ،)636‬مع نهيه ‪-‬تعالى‪ -‬عباده عن‬
‫صبْرِ َوتَوَاصَوْا بِا ْلمَ ْر َ‬
‫{ َوتَوَاصَوْا بِال ّ‬
‫ص ‪222‬‬
‫ح َزنُوا} (‪ ،)637‬وحثهم على الرحمة‪ ،‬وقد تقدم ذكر‬
‫ل َت ِهنُوا َولَ َت ْ‬
‫الوهن‪ ،‬والحزن‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َ‬
‫ب عض الحاد يث في ذلك‪ ،‬كقوله – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬من ل ير حم ل ير حم"‪ ،‬وقوله‪ " :‬ل تنزع‬
‫الرحمة إل من شقي"‪ ،‬وقوله‪ " :‬الراحمون يرحمهم الرحمن‪ ،‬ارحموا من في الرض يرحمكم من في‬
‫السماء"‪.‬‬
‫ومستحيل أن يقول‪ :‬ل ينزع الضعف والخور إل من شقي‪.‬‬
‫ولما كانت الرحمة في حق كثير من الناس‪ ،‬تقارن الضعف والخور‪ ،‬ظن من غلط في ذلك أنها‬
‫كذلك مطلقا‪.‬‬

‫‪ )(634‬الية ‪ 7‬من سورة غافر ‪.‬‬


‫‪ )(635‬الية ‪ 156‬من سورة العراف ‪.‬‬
‫‪ )(636‬الية ‪ 17‬من سورة البلد ‪.‬‬
‫‪ )(637‬الية ‪ 139‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫الثالث‪ :‬أن أ سماء ال ‪-‬تعالى‪ -‬ح سنى‪ ،‬ل يلحق ها ن قص بو جه من الوجوه‪ ،‬و صفاته عل يا عن‬
‫الن قص أيضا‪ ،‬وال ‪-‬تعالى‪ -‬قد تمدح بهذه ال سماء وال صفات‪ ،‬لن ها تدل على الكمال‪ ،‬ف من المحال أن‬
‫يلحقها ما يلحق رحمة المخلوق‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫ص ‪223‬‬
‫‪ -34‬قال‪ " :‬حدث نا ع مر بن ح فص‪ ،‬حدث نا أ بي‪ ،‬حدث نا الع مش‪ ،‬سمعت أ با صالح‪ ،‬عن أ بي‬
‫هريرة – رضي ال عنه – قال‪ :‬قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬يقول ال ‪-‬تعالى‪ " :-‬أنا عند ظن‬
‫عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا ذكرني‪ ،‬فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬وإن ذكرني في مل ذكرته في‬
‫مل خ ير من من هم‪ ،‬وإن تقرب إلىّ ب شبر تقر بت إل يه ذراعا‪ ،‬وإن تقرب إليّ ذراعا تقر بت إل يه باعا‪،‬‬
‫وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"‪.‬‬
‫هذا الحديث من الحاديث القدسية‪ ،‬وهي‪ :‬ما يذكره الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬مضافا إلى‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬أنه قاله‪ ،‬ولكنه غير متعبد بتلوته‪ ،‬ول هو معجز متحدى به كالقرآن‪.‬‬
‫ظنّو نَ َأنّهُم مّلَقُو رَ ّبهِ مْ وََأ ّنهُ مْ إَِل ْي هِ‬
‫وال ظن يأ تي بمع نى العلم واليق ين‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬اّلذِي نَ َي ُ‬
‫رَاجِعُونَ} (‪.)638‬‬
‫ظنّوا َأ ّنهُ مْ‬
‫ويأ تي وا سطههة ب ين ال شك والعلم‪ ،‬أو بمع نى ال شك‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ -‬عن الكفار { َو َ‬
‫جعُونَ} (‪ .)639‬والقرائن تبين ذلك وتحدده‪.‬‬
‫إَِل ْينَا ل ُي ْر َ‬
‫فقوله‪ " :‬أنها عنهد ظهن عبدي بهي "‪ ،‬قال صهاحب "المرعاة"‪" :‬يجوز أن يكون على ظاهره‪،‬‬
‫والمعنى‪ :‬أنا أعامله على حسب ظنه بي‪ ،‬وأفعل به ما يتوقعه مني‪ ،‬من خير أو شر‪ ،‬والمراد‪ :‬الحث‬
‫على تغل يب الرجاء على الخوف‪ ،‬وح سن ال ظن بال ‪-‬تعالى‪ -‬على ما دل عل يه قوله – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ " :-‬ل يموتن أحدكم إل وهو يحسن الظن بال"‪.‬‬
‫ويجوز أن يكون المراد بالظهن‪ :‬العلم الموقهن‪ ،‬ويكون المعنهى‪ :‬أنها عنهد علمهه بهي ويقينهه بأن‬
‫مصيره إل يّ‪ ،‬وحسابه عليّ‪ ،‬وأن ما قضيت به له أو عليه‪ ،‬من خير أو شر‪ ،‬ل مرد له‪ ،‬ل معطي لما‬
‫منعت‪ ،‬ول مانع لما أعطيت"(‪.)640‬‬
‫وقال الحا فظ‪ " :‬أ نا ع ند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أع مل به ما ظن أن أعامله به‪ ،‬وقال‬
‫الكرماني‪ :‬وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على‬
‫ص ‪224‬‬
‫الخوف‪ ،‬وكأ نه أخذه من أن العا قل يختار لنف سه وقوع الخ ير‪ ،‬و هو مق يد بالمحت ضر‪ ،‬ل ما في‬
‫الحديث‪ " :‬ل يموتن أحدكم إل وهو يحسن الظن بال"(‪.)641‬‬
‫قلت‪ :‬قول الحافظ هذا خلف ظاهر الحديث‪ ،‬إذ هو خبر عن ال ‪-‬تعالى‪ -‬أنه عند ظن عبده به‪،‬‬
‫يعني أنه ‪-‬تعالى‪ -‬يفعل بعبده ما ظنه العبد أنه يفعله به‪ ،‬وقد جاءت أحاديث مصرحة بذلك‪ ،‬كما في‬
‫"المسند" من حديث واثلة بن السقع‪ ،‬سمعت رسول ال –صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬قال ال‪ :‬أنا عند‬
‫‪ )(638‬الية ‪ 46‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(639‬المرعاة" (‪ )2/414‬الطبعة الحجرية ‪.‬‬
‫‪" )(640‬المرعاة" (‪ )2/414‬الطبعة الحجرية ‪.‬‬
‫‪" )(641‬فتح الباري" (‪.)386-13/385‬‬

‫‪174‬‬
‫ظهن عبدي بهي‪ ،‬إن ظهن خيرا فله‪ ،‬وإن ظهن شرا فله"(‪ ،)642‬ورواه ابهن حبان‪ ،‬وهذا لفظهه‪ ،‬وفهي هذا‬
‫أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫وقال في "المفهم"‪" :‬معنى‪" :‬أنا عند ظن عبدي بي" ظن الجابة عند الدعاء‪ ،‬والقبول عند التوبة‪،‬‬
‫والمغفرة عند الستغفار‪ ،‬والثابة على العمل‪ ،‬إيمانا بوعده ‪-‬تعالى‪-‬؛ لما في الحديث "ادعوا ال‪ ،‬وأنتم‬
‫موقنون بالجابة"(‪.)643‬‬
‫ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في العمل‪ ،‬موقنا بأن ال يقبله‪ ،‬ويغفر له؛ لنه وعد بذلك‪ ،‬وهو ل‬
‫يخلف وعده‪.‬‬
‫هذا إذا أتى بالعبادة بشروطها‪ ،‬فإن اعتقد أن ال ل يقبلها‪ ،‬وأنها ل تنفعه‪ ،‬فهذا هو اليأس‪ ،‬وهو‬
‫(‪)644‬‬
‫من الكبائر‪ ،‬وأما ظن المغفرة مع الصرار على الذنوب‪ ،‬فهو محض الجهل‪ ،‬والغرور‪.‬‬
‫والحد يث معناه وا ضح ك ما تقدم‪ ،‬و ما ذكره صاحب المف هم من معناه‪ ،‬ووراء ذلك مع نى أدق‪،‬‬
‫وهو قرب ال من عبده المنيب إليه‪ ،‬وخير ما يفسر به كلم الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كلمه‪،‬‬
‫ولكن ل يعارض النصوص الكثيرة المحذرة من عذاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬وعقابه‪ ،‬فالمر كما قال ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫عذَابِي هُ َو ا ْل َعذَا بُ الَلِي مَ} (‪ ،)645‬وحسن الظن يكون مع‬
‫عبَادِي َأنّي َأنَا ا ْلغَفُورُ ال ّرحِي مُ {‪َ }49‬و أَنّ َ‬
‫{ َنبّىءْ ِ‬
‫حسن العمل‪،‬‬
‫ص ‪225‬‬
‫وقد تشعر الضافة في قوله‪ " :‬عبدي" بحسن العمل‪ ،‬أي أنه عبد ال‪ ،‬وليس للشيطان أو للدنيا أو‬
‫غيرهما‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وأ نا م عه إذا ذكر ني" أي‪ :‬م عه بالجا بة‪ ،‬والتوف يق‪ ،‬وب سماع كل مه‪ ،‬وإثاب ته عل يه‪ ،‬أو‬
‫بحسب ما قصد في ذكره‪ ،‬ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم‪ ،‬فهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في‬
‫سمَعُ وََأرَى} (‪.)646‬‬
‫مثل قوله ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬إ ّننِي َم َع ُكمَا َأ ْ‬
‫ومعية ال ‪-‬تعالى‪ -‬بالنسبة لعباده نوعان‪:‬‬
‫خمْ سَةٍ‬
‫ن مِن ّنجْوَى ثَلثَ ٍة ِإلّ ُهوَ رَا ِب ُعهُ مْ وَل َ‬
‫معية عامة للخلق كلهم‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬مَا َيكُو ُ‬
‫ن مَا كَانُوا} (‪.)647‬‬
‫ِإلّ ُهوَ سَا ِدسُ ُهمْ وَل َأ ْدنَى مِن ذَِلكَ وَل َأ ْك َثرَ ِإلّ ُهوَ َم َع ُهمْ َأيْ َ‬

‫‪ )(642‬انظر ‪ " :‬المسند" (‪ )3/491‬و (‪ ، )4/106‬وانظر ‪ " :‬موارد الظمآن" (ص ‪.)184‬‬


‫‪ )(643‬رواه الترمذي ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا حديث غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه‪ .‬انظر "السنن" (‪ )5/180‬قلت‪:‬‬
‫هو ضعيف ؛ لن في سنده صالح المري‪.‬‬
‫‪ )(644‬من "الفتح" (‪.)386-13/385‬‬
‫‪ )(645‬اليتان ‪ 50 ،49‬من سورة الحجر ‪.‬‬
‫‪ )(646‬الية ‪ 46‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(647‬الية ‪ 7‬من سورة المجادلة ‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫ج فِيهَا‬
‫سمَاء َومَا َيعْرُ ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫خرُ جُ ِم ْنهَا َومَا يَنزِلُ مِ َ‬
‫لرْ ضِ َومَا َي ْ‬
‫ج فِي ا َ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬يعْلَ مُ مَا يَلِ ُ‬
‫ن مَا كُنتُمْ} (‪ ،)648‬ومن مقتضى هذه المعية‪ :‬اطلعه ‪-‬تعالى‪ -‬وعلمه بكل شيء‪ ،‬ومراقبته‪،‬‬
‫وَ ُهوَ َم َعكُمْ َأيْ َ‬
‫وشهوده أفعال عباده‪ ،‬فتفيد الخوف منه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫والنوع الثا ني‪ :‬المع ية الخا صة‪ ،‬و هي المذكورة في هذا الحد يث‪ ،‬ونحوه‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إِنّ‬
‫ن إِنّ اللّ َه َمعَنَا} (‪،)650‬‬
‫ل َتحْزَ ْ‬
‫حبِهِ َ‬
‫ل لِ صَا ِ‬
‫سنُونَ} (‪ ،)649‬وقوله‪ِ{ :‬إذْ يَقُو ُ‬
‫ن هُم ّمحْ ِ‬
‫ن اتّقَواْ وّاّلذِي َ‬
‫اللّ َه مَ عَ اّلذِي َ‬
‫ومن مقتضى هذه المعية‪ :‬النصر والتأييد والهداية والحماية‪.‬‬
‫و "معي ته ‪-‬تعالى‪ -‬لخل قه‪ ،‬ل تخالف علوه‪ ،‬وا ستواءه على عر شه‪ ،‬ف كل ذلك حق على ظاهره‪،‬‬
‫وذلك أن ال معنا حقيقة‪ ،‬وهو فوق عرشه حقيقة‪ ،‬كما جمع بينهما في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬هُ َو اّلذِي خَلَ قَ‬
‫خرُ جُ ِم ْنهَا َومَا‬
‫لرْ ضِ َومَا َي ْ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْ شِ َيعْلَ مُ مَا يَِل جُ فِي ا َ‬
‫ستّةِ َأيّا مٍ ُثمّ ا ْ‬
‫لرْ ضَ فِي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫سمَاء َومَا َي ْعرُجُ فِيهَا وَ ُه َو َم َعكُمْ َأ ْينَ مَا‬
‫ل مِنَ ال ّ‬
‫يَنزِ ُ‬
‫ص ‪225‬‬
‫كُنتُ مْ وَاللّ هُ ِبمَا َت ْعمَلُو نَ بَ صِيرٌ} (‪ .)651‬فأخبر ‪-‬تعالى‪ -‬أنه فوق العرش يعلم كل شيء‪ ،‬وهو معنا‬
‫أينما كنا‪ ،‬كما قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في حديث الوعال‪" :‬وال فوق العرش‪ ،‬وهو يعلم ما‬
‫أنتم عليه"(‪.)652‬‬
‫وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت‪ ،‬فليس ظاهرها في اللغة إل المقارنة المطلقة‪ ،‬من غير‬
‫وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال‪.‬‬
‫فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬ما زلنا نسير والقمر‬
‫معنا‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك‪ ،‬وإن كان فوق رأسك‪.‬‬
‫فال مع خلقه حقيقة‪ ،‬وهو فوق عرشه حقيقة‪.‬‬
‫ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد‪ ،‬فقوله‪{ :‬وَهُ َو َم َعكُ ْم َأيْ نَ مَا كُنتُ مْ} (‪ ،)653‬دل ظاهر‬
‫الخطاب أن حكم هذه المعية ومقتضاها‪ :‬أنه مطلع عليكم‪ ،‬شهيد عليكم‪ ،‬ومهيمن عالم بكم‪ ،‬وهذا معنى‬
‫قول السلف أنه معهم بعلمه‪ ،‬وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته‪.‬‬

‫‪ )(648‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬


‫‪ )(649‬الية ‪ 128‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ )(650‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ )(651‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬
‫‪ )(652‬رواه أبو داود في باب في الجهمية (‪ ، )5/53‬والترمذي (‪ ،)5/97‬وابن ماجه (‪ )1/69‬الحديث رقم (‬
‫‪ ، )193‬وقد صححه ابن القيم ‪ ،‬وأبطل حجج المضعفين له ‪ ،‬انظر ‪ " :‬تهذيب السنن" (‪.)7/91‬‬
‫‪ )(653‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫حزَن ْه إِنّ اللّه َه َمعَنَا} (‪)654‬حهق على ظاهره‪ ،‬ودلت الحال على أن حكهم هذه المعيهة‪:‬‬
‫وقوله‪{ :‬لَ َت ْ‬
‫سمَعُ وََأرَى} (‪ ،)655‬وقوله‪{ :‬إِنّ اللّ َه مَ عَ اّلذِي نَ‬
‫الطلع والن صر والتأي يد‪ ،‬وم ثل ذلك قوله {ِإنّنِي َم َعكُمَا أَ ْ‬
‫سنُونَ} (‪ ،)657(")656‬وسيأتي لذلك بقية‪.‬‬
‫حِ‬‫ن هُم ّم ْ‬
‫اتّقَواْ وّاّلذِي َ‬
‫ص ‪227‬‬
‫قوله‪" :‬فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي‪ :‬إن ذكر ربه سرا في نفسه‪ ،‬فإن ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫يذكره سرا في نفسه‪ ،‬من غير اطلع أحد من خلقه على ذلك‪.‬‬
‫وهذا هو محل الشاهد من الحديث‪ ،‬حيث أثبت النفس ل ‪-‬تعالى‪ -‬على ما سبق توضيحه‪.‬‬
‫قوله‪" :‬وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منهم" المل‪ :‬الجماعة‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن العبد إذا ذكر‬
‫ربه ظاهرا في جماعة يسمعون ذكره لربه‪ ،‬فإن ال ‪-‬تعالى‪ -‬يذكره ويثني عليه في جماعة أفضل من‬
‫الجماعة الذين ذكر العبد ربه فيهم؛ لن الذين يذكر ال عبده فيهم في المل العلى عباد مكرمون‪ ،‬ل‬
‫يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‪.‬‬
‫وهذا مهن أقوى أدلة القائليهن بتفضيهل الملئكهة على صهالحي بنهي آدم‪ ،‬وههي مسهألة مشهورة‪،‬‬
‫والراجح فيها‪ :‬أن النبياء والصديقين والشهداء والصالحين أفضل من الملئكة‪ ،‬وتفضيل فرد من النوع‬
‫ل يلزم منه تفضيل النوع كله على الخر‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وإن تقرب إليّ ب شبر تقر بت إل يه ذراعا‪ ،‬وإن تقرب إليّ ذراعا تقر بت إل يه باعا‪ ،‬وإن‬
‫أتاني يمشي أتيته هرولة"‪.‬‬
‫عبَادِي‬
‫سأََلكَ ِ‬
‫قرب ال ‪-‬تعالى‪ -‬من عابده وداعيه‪ ،‬ثبت في نصوص كثيرة‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬وَِإذَا َ‬
‫ع ِإذَا دَعَانِ} (‪.)658‬‬
‫ب دَعْ َوةَ الدّا ِ‬
‫عنّي َفِإنّي قَرِيبٌ ُأجِي ُ‬
‫َ‬
‫وقوله – صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"(‪.)659‬‬
‫فالع بد إذا قرب إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬بالتو جه والمح بة‪ ،‬وإخلص الع مل‪ ،‬وال صدق في ذلك‪ ،‬فإن ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬يقرب إليه أكثر من قربه‪ ،‬فكلما زاد قرب العبد إلى ربه بالطاعة والنابة والحب والخلص‪،‬‬
‫زاد قرب ال إل يه‪ ،‬ح تى يكون قلب الع بد ب ين يدي ر به‪ ،‬كأ نه يشاهده بعين يه‪ ،‬و هو – جل وعل‪ -‬على‬
‫عرشه‪.‬‬
‫ص ‪228‬‬

‫‪ )(654‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪ )(655‬الية ‪ 46‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(656‬الية ‪ 128‬من سورة النحل‪.‬‬
‫‪" )(657‬مجموع الفتاوى" (‪ )104-5/102‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪ )(658‬الية ‪ 186‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(659‬رواه مسلم ‪ ، )1/350( : ،‬و أبو داود (‪ ، )1/545‬والنسائي (‪.)2/226‬‬

‫‪177‬‬
‫قال شيهخ السهلم‪ " :‬فكلمها تقرب العبهد باختياره قدر شهبر‪ ،‬زاده الرب قربا إليهه‪ ،‬حتهى يكون‬
‫كالمتقرب إل يه بذراع‪ ،‬فكذلك قرب الرب من قلب العا بد‪ ،‬و هو ما يح صل في قلب الع بد من معر فة‬
‫الرب‪ ،‬واليمان به‪ ،‬وهو المثل العلى"(‪.)660‬‬
‫وبهذا يتبين أن معنى قوله‪ " :‬إذا تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا" أن العبد إذا تقرب إلى ربه‬
‫بطاع ته والقبال عل يه‪ ،‬أن الرب تعالى يزيده قربا إل يه‪ ،‬جزاءً من ج نس عمله‪ ،‬وأك ثر من قرب الع بد‬
‫الذي حصل باختياره‪.‬‬
‫وقال‪" :‬فإذا قرب العبد من ربه بالنابة إليه‪ ،‬قرب الرب إليه‪ ،‬فيدنو قلبه من ربه‪ ،‬وإن كان بدنه‬
‫على الرض‪ ،‬ومتى قرب أحد الشيئين من الخر‪ ،‬صار الخر إليه قريبا بالضرورة‪ ،‬وإن قدر أنه لم‬
‫يصدر من الخر تحرك بذاته‪ ،‬كما أن من قرب من مكة‪ ،‬قربت مكة إليه"(‪.)661‬‬
‫وقال أيضا‪" :‬ومن الناس من غلط فظن أن قربه ‪-‬تعالى‪ -‬من جنس حركة بدن النسان إذا مال‬
‫إلى جهة انصرف عن الخرى‪.‬‬
‫والنسان يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه‪ ،‬فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس‪ ،‬من‬
‫غير أن ينصرف عمن هي قريبة منه‪ ،‬وكذلك يجد نفسه تبعد بعيدا عن بعض النفوس بعدا غير ما يقوم‬
‫بالبدن"(‪.)662‬‬
‫وقال أيضا‪ ":‬وليس بين الرب والعبد إل محض العبودية‪ ،‬فكلما كمل العبد عبودية ربه قرب إليه‬
‫‪-‬تعالى‪-‬؛ ل نه – سبحانه – بر‪ ،‬جواد‪ ،‬مح سن‪ ،‬يع طى الع بد ما ينا سبه‪ ،‬فكل ما ع ظم فقره إل يه‪ ،‬كان‬
‫أغنهى له‪ ،‬وكلمها عظهم ذله له‪ ،‬كان أعهز له‪ ،‬فإن النفهس‪ -‬لمها فيهها مهن أهوائهها المتنوعهة‪ ،‬وتسهويل‬
‫الشيطان لها – تبعد عن ال –تعالى‪ -‬حتى تصير ملعونة بعيدة عن الرحمة‪ ،‬واللعنة هي‪ :‬البعد عن ال‬
‫ورحمته‪.‬‬
‫ومن أعظم ذنوب العبد‪ :‬علوه في الرض‪ ،‬ونسيانه ربه‪ ،‬ولهذا لما كان السجود هو غاية سفول‬
‫النفهس‪ ،‬صهار أقرب مها يكون العبهد مهن ربهه وههو سهاجد‪ ،‬وكذلك الذكهر المتضمهن للقبال على ال‪،‬‬
‫والخضوع له "(‪.)663‬‬
‫ص ‪229‬‬
‫"وقوله‪ :‬من تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا…" إلخ‪ ،‬هذا قربه ‪-‬تعالى‪ -‬من عابده‪ ،‬وأما قربه‬
‫ب دَعْ َو َة الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ} (‪ ،)664‬وقربه‬
‫عنّي َفِإنّي قَرِيبٌ ُأجِي ُ‬
‫عبَادِي َ‬
‫سأََلكَ ِ‬
‫من داعيه فكما في الية‪{ :‬وَِإذَا َ‬

‫‪" )(660‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/510‬‬


‫‪" )(661‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/509‬‬
‫‪ )(662‬المرجع المذكور ببعض التصرف (ص ‪.)247‬‬
‫‪ )(663‬المرجع المذكور بتصرف (ص ‪.)238‬‬
‫‪ )(664‬الية ‪ 186‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫تعالى مهن عابده وداعيهه قرب خاص‪ ،‬أخهص مهن قرب النابهة وقرب الجابهة‪ ،‬الذي لم يثبهت أكثهر‬
‫المتكلمين سواه"(‪.)665‬‬
‫"فالداعهي والسهاجد تتوجهه روحهه إلى ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬والروح لهها عروج يناسهبها فتقرب من ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬بل ريب‪ ،‬بحسب تخلصها من الشوائب‪ ،‬فيكون ال – عز وجل – منها قريبا‪ ،‬قربا يلزم منه‬
‫قربها‪.‬‬
‫ويكون منه قرب آخر‪ ،‬كقربه عشية عرفة‪ ،‬وفي جوف الليل‪ ،‬وإلى من تقرب منه شبرا‪ ،‬تقرب‬
‫منه ذراعا"(‪.)666‬‬
‫قلت‪ :‬وبهذا يتبين أن قربه ‪-‬تعالى‪ -‬من عباده نوعان‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬قربه ‪-‬تعالى‪ -‬من قلوب المؤمنين‪ ،‬وقرب قلوبهم منه‪ ،‬وهذا أمر معروف ل يجهل‪ ،‬فإن‬
‫القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من اليمان والمعرفة به تعالى‪ ،‬وذكره‪ ،‬وخشيته‪ ،‬والتوكل عليه‪،‬‬
‫وهذا متفق عليه بين الناس‪ ،‬لم ينكره منهم أحد‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما دل عليه هذا الحديث – الذي نحن بصدد شرحه – ونحوه‪ ،‬مثل قربه عشية عرفة‪،‬‬
‫وقربهه آخهر الليهل‪ ،‬كمها ثبتهت بذلك النصهوص‪ ،‬وهذا القرب ينكره أكثهر المتكلميهن‪ ،‬مهن الجهميهة‪،‬‬
‫والمعتزلة‪ ،‬والشعرية‪ ،‬وإنكاره منكر‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪" :‬وقربه – سبحانه – ودنوه من بعض مخلوقاته‪ ،‬ل يستلزم أن تخلو ذاته من‬
‫فوق العرش‪ ،‬بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء‪ ،‬كما قال ذلك من قاله من السلف‪ ،‬وهذا‬
‫جيّا}‬
‫ل ْيمَ نِ َو َق ّر ْبنَاهُ َن ِ‬
‫ب الطّورِ ا َ‬
‫كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ونَا َد ْينَاهُ مِن جَانِ ِ‬
‫(‪.)667‬‬
‫والذيهن يثبتون تقريبهه العباد إلى ذاتهه‪ ،‬وههو القول المعروف للسهلف‪ ،‬والئمهة‪ ،‬وههو قول‬
‫الشعري‪ ،‬وغيره من الكلبية‪ ،‬فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته‪ ،‬وأما‬
‫ص ‪230‬‬
‫دنوه نف سه‪ ،‬وتقر به من ب عض عباده‪ ،‬فهذا يثب ته من يث بت قيام الفعال الختيار ية بنف سه‪ ،‬و هو‬
‫مذهب أئمة السلف‪ ،‬وأئمة السلم المشهورين‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬والنقل عنهم بذلك متواتر"(‪.)668‬‬
‫وقوله‪" :‬وإن أتا ني يم شي أتي ته هرولة" الهرولة‪ :‬ال سرعة في الم شي‪ ،‬ب ين الم شي والعدو‪ ،‬و هو‬
‫تمثيل لكرم ال وجوده على عبده‪ ،‬وأنه إذا أقبل إليه‪ ،‬فهو – سبحانه – أسرع إقبالً وتفضلً على عبده‪،‬‬
‫من غير مقابل يناله من العبد‪ ،‬بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه‪ ،‬وكل ما سواه فقير إليه‪ ،‬ويؤخذ من‬
‫الحديث‪ :‬عظم فضل ال وكرمه‪ ،‬وعظم فضل الذكر‪.‬‬
‫‪" )(665‬بدائع الفوائد" (‪ )3/8‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪" )(666‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/241‬‬
‫‪ )(667‬الية ‪ 52‬من سورة مريم ‪.‬‬
‫‪" )(668‬مجموع الفتاوى" باختصار (‪.)466-5/460‬‬

‫‪179‬‬
‫ص ‪231‬‬
‫جعُونَ} (‪.)669‬‬
‫ح ْكمُ وَإَِليْ ِه تُ ْر َ‬
‫ج َههُ َلهُ ا ْل ُ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ‬
‫قال‪" :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬كُلّ َ‬
‫أراد البخاري بهذا الباب؟إثبات صهفة الوجهه ل –تعالى‪ -‬وههو ثابهت ل –تعالى‪ -‬فهي آيات‬
‫وأحاديث كثيرة‪ ،‬سيأتي ذكر شيء منها‪.‬‬
‫جهَههُ} إخبار بأنهه الدائم الباقهي‪ ،‬الحهي القيوم الذي تموت‬
‫ِكه ِإلّ َو ْ‬
‫شيْ ٍء هَال ٌ‬
‫قال ابهن كثيهر‪{ :‬كُلّ َ‬
‫ل ْكرَا مِ} ف عبر‬
‫الخلئق ول يموت‪ ،‬ك ما قال‪{ :‬كُلّ مَ نْ عََليْهَا فَا نٍ {‪َ }26‬و َيبْقَى َوجْ هُ َربّ كَ ذُو ا ْلجَللِ وَا ِ‬
‫جهَهُ} أي‪ :‬إل إياه"(‪.)670‬‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫شيْءٍ هَاِل ٌ‬
‫بالوجه عن الذات‪ ،‬وهكذا قوله ها هنا‪{ :‬كُلّ َ‬
‫قلت‪ :‬قوله‪ " :‬فعبر بالوجه عن الذات" ل يقصد نفي صفة الوجه عن ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وإنما مراده‪:‬‬
‫أن الذات تابعة للوجه‪ ،‬فاكتفى بذلك‪.‬‬
‫وقد ذكر البخاري – رحمه ال – هذه الية في التفسير‪ ،‬وأعقبها بقوله‪ " :‬إل ملكه‪ ،‬ويقال‪ :‬إل‪:‬‬
‫ما أر يد به وج هه"(‪ .)671‬ولم يذ كر غ ير هذا‪ ،‬ف قد يقال‪ :‬إن هذا تأو يل سلك البخاري ف يه طر يق أ هل‬
‫التأويل‪ ،‬وليس المر كذلك‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬في رواية النسفي(‪ :)672‬وقال معمر … فذكره‪ ،‬ومعمر هذا هو أبو عبيدة {معمر}‬
‫بهن المثنهى‪ ،‬وهذا كلمهه فهي مجاز القرآن‪ ،‬لكنهه بلفهظ‪ :‬إل ههو‪ ،‬وكذا نقله الطهبري عهن بعهض أههل‬
‫العربية‪ ،‬وكذا ذكره الفراء"(‪.)673‬‬
‫قلت‪ :‬الذي فهي كتاب "مجاز القرآن" ل بي عبيده‪ ،‬يخالف ما ذكره البخاري‪ ،‬وز عم الحا فظ أ نه‬
‫ج َه هُ} مجازه‪ :‬إل هو‪ ،‬و ما ا ستثنوه من جم يع ف هو‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫ل شَيْ ٍء هَالِ ٌ‬
‫كل مه‪ .‬فإ نه قال على ال ية‪{ :‬كُ ّ‬
‫جهَ هُ} إل هو‪،‬‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫شيْءٍ هَالِ ٌ‬
‫من صوب"(‪ ،)674‬وكذا ما ذكره الفراء في "معا ني القرآن" فإ نه قال‪{ :‬كُلّ َ‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫ص ‪232‬‬
‫أستغفر ال ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل‬
‫أي‪ " :‬إليه أوجه عملي"(‪.)675‬‬
‫وبهذا يتبين أن المر ليس كما قال الحافظ؛ لن ما ذكره البخاري يختلف عما ذكره الفراء وأبو‬
‫عبيدة‪ ،‬لفظا ومعنىً‪.‬‬

‫‪ )(669‬الية ‪ 88‬من سورة القصص‪.‬‬


‫‪" )(670‬تفسير ابن كثير " (‪.)6/272‬‬
‫‪ )(671‬انظر ‪ " :‬الفتح " (‪.)8/505‬‬
‫‪ )(672‬النسفي من رواة الصحيح عن البخاري‪.‬‬
‫‪" )(673‬الفتح" (‪.)8/505‬‬
‫‪" )(674‬مجاز القرآن" (‪.)2/112‬‬
‫‪" )(675‬معاني القرآن" (‪.)2/314‬‬

‫‪180‬‬
‫جهَ هُ} إل جلله‪ ،‬وق يل‪ :‬إل إياه‪ ،‬تقول‪ :‬أكرم‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬قال ا بن الت ين‪ :‬قال أ بو عبيدة‪ِ{ :‬إلّ َو ْ‬
‫ال وجهك‪ ،‬أي‪ :‬أكرمك ال"‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ويقال‪ " :‬إل مها أريهد بهه وجههه" نقله الطهبري – أيضا – عهن بعهض أههل العربههية‪،‬‬
‫ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف‪ ،‬عن مجاهد مثله‪ ،‬ومن طههريق سفيان الثوري قال‪ :‬إل ما‬
‫ابتغي به وجه ال من العمال الصالحة" اهه(‪.)676‬‬
‫ج َه هُ} إل ما‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫ل شَيْ ٍء هَالِ ٌ‬
‫وفي "الدر المنثور"‪ " :‬وأخرج عبد بن حميد‪ ،‬عن ابن عباس‪{ :‬كُ ّ‬
‫أريد به وجهه‪.‬‬
‫جهَهُ} قال‪ :‬إل ما أريد به وجهه‪.‬‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ‬
‫ل َ‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم‪ ،‬عن مجاهد‪{ :‬كُ ّ‬
‫جهَ هُ} قال‪ :‬إل ما أريد به‬
‫شيْءٍ هَالِ كٌ ِإلّ َو ْ‬
‫وأخرج البيهقي في "شعب اليمان" عن سفيان‪{ :‬كُلّ َ‬
‫وجهه من العمال الصالحة "(‪.)677‬‬
‫حمَةً‬
‫ت َترْجُو أَن يُلْقَى إَِليْ كَ ا ْل ِكتَا بُ ِإلّ َر ْ‬
‫جهَ هُ} ب عد قوله‪ { :‬وَمَا كُن َ‬
‫شيْءٍ هَالِ كٌ ِإلّ َو ْ‬
‫ل َ‬
‫"قوله‪{ :‬كُ ّ‬
‫ت إَِليْكَ وَادْعُ إِلَى َربّكَ‬
‫ت اللّ ِه َبعْ َد ِإذْ أُنزِلَ ْ‬
‫ن آيَا ِ‬
‫عْ‬‫ص ّد ّنكَ َ‬
‫ظهِيرًا لّ ْلكَا ِفرِينَ {‪ }86‬وَل يَ ُ‬
‫مّن ّربّكَ فَل َتكُونَنّ َ‬
‫ج َه هُ َل هُ‬
‫شيْءٍ هَالِ كٌ ِإلّ َو ْ‬
‫خ َر ل إِلَ َه ِإلّ ُه َو كُلّ َ‬
‫ش ِركِي نَ {‪ }87‬وَل َتدْ عُ مَ عَ اللّ هِ إِلَهًا آ َ‬
‫وَل َتكُونَنّ مِ نَ ا ْل ُم ْ‬
‫ن } (‪.)678‬‬
‫جعُو َ‬
‫ح ْكمُ وَإَِليْ ِه ُت ْر َ‬
‫ا ْل ُ‬
‫ص ‪233‬‬
‫فإن ذ كر ذلك ب عد نه يه عن الشراك‪ ،‬وأن يد عو م عه إلها آ خر‪ ،‬وقوله‪{ :‬ل إِلَ َه ِإلّ ُهوَ} يقت ضي‬
‫في أظهر الوجهين‪ ،‬وهو أن كل شيء هالك إل ما كان لوجهه من العيان‪ ،‬والعمال‪.‬‬
‫روي عن أبي العالية قال‪ :‬إل ما أريد به وجهه‪.‬‬
‫وعن جعفر الصادق‪ :‬إل دينه‪ ،‬ومعناهما واحد"(‪.)679‬‬
‫جهَ هُ} أي‪ :‬إل ما أريد به‬
‫شيْءٍ هَالِ كٌ ِإلّ َو ْ‬
‫ل َ‬
‫قال ابن كثير‪" :‬وقال مجاهد والثوري " في قوله‪{ :‬كُ ّ‬
‫وجهه‪ ،‬وحكاه البخاري في "صحيحه" كالمقرر له‪.‬‬
‫وهذا القول ل ينافي القول الول‪ ،‬فإن هذا إخبار عن كل العمال بأنها باطلة إل ما أريد به وجه‬
‫ال – عز وجل – من العمال الصالحة‪ ،‬المطابقة لما جاء به الرسول –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫والقول الول مقتضاه‪ :‬أن كهل الذوات فانيهة وهالكهة وزائلة إل ذاتهه ‪-‬تعالى‪ ،-‬فإنهه الول‪،‬‬
‫والخر‪ ،‬الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء"(‪.)680‬‬
‫والقول الول هو ما ذكرناه عنه في أول الباب‪.‬‬

‫‪" )(676‬الفتح" (‪.)8/505‬‬


‫‪" )(677‬الدر المنثور" (‪.)6/447‬‬
‫‪ )(678‬اليات ‪ 88 -86‬من سورة القصص‪.‬‬
‫‪" )(679‬مجموع الفتاوى" (‪.)2/427‬‬
‫‪" )(680‬تفسير ابن كثير" (‪.)6/272‬‬

‫‪181‬‬
‫فعلى هذا ل يكون قوله‪ " :‬ما أر يد به وج هه" تأويلً للو جه الذي هو صفة ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬بل هو‬
‫صدّ ّنكَ عَ نْ‬
‫من المعا ني الم ستنبطة من ال ية‪ ،‬ك ما يش ير إل يه سياق ال ية‪ ،‬فإ نه ‪-‬تعالى‪ -‬يقول‪{ :‬وَل يَ ُ‬
‫خرَ‬
‫ن {‪ }87‬وَل َتدْ عُ مَ َع اللّ هِ إَِلهًا آ َ‬
‫ن ا ْل ُمشْ ِركِي َ‬
‫ت اللّ هِ َب ْعدَ ِإ ْذ أُنزِلَ تْ إَِليْ كَ وَادْ عُ إِلَى رَبّ كَ وَل َتكُونَنّ ِم َ‬
‫آيَا ِ‬
‫جعُونَ} (‪.)681‬‬
‫ح ْكمُ وَإَِليْ ِه ُترْ َ‬
‫جهَهُ َلهُ ا ْل ُ‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫شيْءٍ هَاِل ٌ‬
‫ل هُ َو كُلّ َ‬
‫ل إَِلهَ ِإ ّ‬
‫و أ ما قوله‪ " :‬إل مل كه" فهذا تأو يل بع يد‪ ،‬و هو مخالف ل صنعه ه نا‪ ،‬ح يث ذ كر ال ية ثم أتبع ها‬
‫بحديث جابر‪ ،‬وفيه قوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬أعوذ بوجهك"‪ .‬فهذا ظاهر جدا في أنه أراد إثبات‬
‫الوجه صفة ل ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫ص ‪234‬‬
‫وممها يدل على بطلن ذلك‪ :‬أن الشياء كلهها ملك ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬فههل يجوز أن يقال‪ :‬كهل شيهء‬
‫هالك إل كل شيء؟ بخلف قوله‪ :‬إل ما أريد به وجهه‪ ،‬فإن هذا مما تدل عليه الية عن طريق المفهوم‬
‫– مع بقائها نصا – في إثبات الوجه ل –تعالى‪ -‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪ )(681‬اليتان ‪ 88 ،87‬من سورة القصص‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫ص ‪235‬‬
‫‪-35‬قال‪ " :‬حدثنا قتيبة بن سعيد‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن جابر بن عبدال‪ ،‬قال‪ :‬لما‬
‫عذَابًا مّن فَ ْو ِقكُ مْ} (‪ ،)682‬قال النبي –صلى ال عليه‬
‫نزلت هذه الية‪{ :‬قُلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَى أَن َي ْبعَ ثَ عََل ْيكُ مْ َ‬
‫وسهلم‪ " -‬أعوذ بوجههك"‪ ،‬فقال‪َ{ :‬أوْ مِن َتحْت ِه َأ ْرجُِلكُمهْ} فقال النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬أعوذ‬
‫شيَعا } فقال النبي –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬هذا أيسر"‪.‬‬
‫بوجهك"‪ ،‬قال { أَ ْو يَ ْل ِبسَ ُكمْ ِ‬
‫يخوف ال ‪-‬تعالى‪ -‬عباده إن لم يطيعوه‪ ،‬ويعبدوه وحده ل شريك له‪ ،‬ويتبعوا ر سوله‪ ،‬بأ نه قادر‬
‫على أن يرسل عليهم عذابا من السماء‪ ،‬كما أرسل على قوم لوط وقوم شعيب‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬أو نوعا آخر‬
‫مما يشاء‪.‬‬
‫وهو كذلك قادر بأن يبعث العذاب من تحتهم‪ ،‬إما بخسف أو زلزل‪ ،‬وبراكين‪ ،‬أو غير ذلك مما‬
‫ي َتمُورُ {‪ }16‬أَ مْ َأمِنتُم‬
‫سفَ ِبكُ ُم الَرْ ضَ َفِإذَا هِ َ‬
‫سمَاء أَن َيخْ ِ‬
‫يشاء‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫ن َكيْ فَ َنذِيرِ} (‪ ،)683‬وعندما سمع الرسول –صلى ال‬
‫س َتعَْلمُو َ‬
‫صبًا فَ َ‬
‫سمَاء أَن ُيرْ سِلَ عََل ْيكُ مْ حَا ِ‬
‫مّن فِي ال ّ‬
‫عليه وسلم‪ -‬هذا التهديد من ال ‪-‬تعالى‪ -‬عاذ بوجه ربه الكريم أن يكون ذلك‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬وقد روى ابن مردويه‪ ،‬من حديث ابن عباس‪ ،‬ما يفسر به حديث جابر‪ ،‬ولفظه‪" :‬‬
‫عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬دعوت ال أن يرفع عن أمتي أربعا‪ ،‬فرفع عنهم اثنتين‪ ،‬وأبى‬
‫أن ير فع عن هم اثنت ين‪ ،‬دعوت ال أن ير فع عن هم الر جم من ال سماء‪ ،‬والخ سف من الرض‪ ،‬وأن ل‬
‫يلبسههم شيعا‪ ،‬ول يذيهق بعضههم بأس بعهض‪ ،‬فرفهع عنههم الخسهف والرجهم‪ ،‬وأبهي أن يرفهع عنههم‬
‫الخريين"‪.‬‬
‫ت َأ ْرجُلِكُ مْ "‪ ،‬وي ستأنس له بقوله‬
‫في ستفاد من هذه الروا ية‪ :‬المراد بقوله‪ " :‬مّ ن فَ ْو ِقكُ مْ‪َ ،‬أوْ مِن َتحْ ِ‬
‫صبًا} (‪ .)684‬وقد وقع أصرح من ذلك‪،‬‬
‫سفَ ِبكُ مْ جَانِ بَ ا ْل َبرّ َأوْ ُيرْ سِلَ عََل ْيكُ مْ حَا ِ‬
‫‪-‬تعالى‪َ{ :-‬أفََأمِنتُ مْ أَن َيخْ ِ‬
‫عذَابًا مّن فَ ْو ِقكُمْ} قال‪ :‬الرجم‪َ{ ،‬أوْ‬
‫عند ابن مردويه‪ ،‬من حديث أبي بن كعب‪ ،‬قال‪ :‬في قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬‬
‫مِن َتحْتِ َأ ْرجُِلكُمْ} قال‪ :‬الخسف‪.‬‬
‫ص ‪236‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم‪ ،‬من طريق السدي‪ ،‬عن شيوخه‪ :‬أن المراد العذاب من فوق‪ :‬الرجم‪ ،‬ومن‬
‫تحت‪ :‬الخسف‪.‬‬
‫وأخرج ابن عباس‪ " :‬أن المراد بالفوق‪ :‬أئمة السوء‪ ،‬وبالتحت‪ :‬خدام السوء " انتهى(‪.)685‬‬
‫وذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الية أحاديث وآثارا كثيرة‪.‬‬

‫‪ )(682‬الية ‪ 65‬من سورة النعام ‪.‬‬


‫‪ )(683‬اليتان ‪ 17 ، 16‬من سورة الملك‪.‬‬
‫‪ )(684‬الية ‪ 68‬من سورة السراء ‪.‬‬
‫‪" )(685‬الفتح" (‪.)8/292‬‬

‫‪183‬‬
‫قلت‪ :‬في هذه ال ية الكري مة ال تي تر جم ب ها البخاري‪ ،‬والحد يث الذي ذكره‪ ،‬دل يل وا ضح على‬
‫وجوب اليمان بوجه ال الكريم‪ ،‬وقد جاءت نصوص كثيرة من كتاب ال وسنة رسوله تثبت ذلك‪ ،‬ولم‬
‫يزل أهل العلم واليمان يسألون ربهم بوجهه الكريم‪ ،‬ويدعونه بأن يرزقهم النظر إليه في الجنة‪.‬‬
‫ولم ينكر ذلك إل الجهمية‪ ،‬ومن شايعهم على مذهبهم الفاسد‪.‬‬
‫ل ْكرَامِ} (‪.)686‬‬
‫ن {‪َ }26‬و َيبْقَى َوجْ ُه َر ّبكَ ذُو ا ْلجَللِ وَا ِ‬
‫ل مَنْ عََل ْيهَا فَا ٍ‬
‫قال ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬كُ ّ‬
‫و "ذو" في الية‪ :‬وصف للوجه‪ ،‬فوصف ‪-‬تعالى‪ -‬وجهه الكريم بأنه ذو الجلل والكرام‪ ،‬وهذا‬
‫يبطل دعوى أن المراد بالوجه‪ :‬الذات‪ ،‬كما يبطل دعوى كونه زائدا في الكلم‪.‬‬
‫وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى الشعري‪ ،‬قال‪ :‬قام فينا رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫بخ مس كلمات‪ ،‬فقال‪ " :‬إن ال ل ينام‪ ،‬ول ينب غي له أن ينام‪ ،‬يخ فض الق سط ويرف عه‪ ،‬ير فع إل يه ع مل‬
‫الليل قبل النهار‪ ،‬وعمل النهار قبل الليل‪ ،‬حجابه النور‪ ،‬لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه‬
‫سبحات وجهه هي‪ :‬نوره‪ ،‬وبهاؤه‪ ،‬وجلله‪.‬‬ ‫(‪)687‬‬
‫بصره من خلقه"‬
‫وقال أبو سعيد الدارمي – رحمه ال ‪ " :-‬حدثنا سليمان بن حرب‪ ،‬عن حماد بن زيد‪ ،‬عن عطاء‬
‫بن السائب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عمار بن ياسر‪ ،‬أن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كان يدعو‪ " :‬اللهم‬
‫إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم"‪.‬‬
‫ص ‪237‬‬
‫حدثنا موسى بن إسماعيل‪ ،‬وغيره‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ ،‬عن ثابت البناني‪ ،‬عن عبد الرحمن بن‬
‫أبي ليلى‪ ،‬عن صهيب‪ ،‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ :-‬للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال‪ :‬النظر‬
‫إلى وجه ال ‪-‬تعالى‪.)688( -‬‬
‫حدثنا أحمد بن يونس‪ ،‬عن أبي شهاب الحناط‪ ،‬عن خالد بن دينار‪ ،‬عن حماد بن جعفر‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر‪ ،‬رفعه إلى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ " -‬أن أهل الجنة إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ‪ ،‬وظنوا أن‬
‫ل نع يم أف ضل م نه‪ ،‬تجلى ل هم الرب‪ ،‬فنظروا إلى و جه الرح من‪ ،‬فن سوا كل نع يم عاينوه‪ ،‬ح ين نظروا‬
‫إلى وجه الرحمن"‪.‬‬
‫ل – فيهه‪ " :‬أعوذ بوجههك الكريهم الذي أشرقهت له‬
‫وذكهر ابهن إسهحاق فهي "السهيرة" حديثا طوي ً‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وكشفت به الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الولين والخرين"(‪.)689‬‬
‫وذكهر‬ ‫(‪)690‬‬
‫قال أبهو سهعيد‪" :‬وعلى تصهديق هذه الثار‪ ،‬واليمان بهها‪ ،‬أدركنها أههل الفقهه والعلم"‬
‫أحاديث في ذلك‪.‬‬

‫‪ )(686‬اليتان ‪ 27 ، 26‬من سورة الرحمن‪.‬‬


‫‪ )(687‬انظر ‪ " :‬مسلم" (‪ )1/162‬رقم (‪.)293‬‬
‫‪ )(688‬رواه مسلم في "صحيحه" بلفظ ‪ " :‬النظر إلى ال تعالى " ‪ ،‬انظر ‪ )1/163( :‬الحديث رقم (‪.)180‬‬
‫‪ )(689‬ذكره ابن كثير في "تاريخه" (‪.)3/196‬‬
‫‪ )(690‬الرد على بشر المريسي (ص ‪ " )518‬عقائد السلف"‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫وقد تكاثرت الحاديث عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بالستعاذة بوجه ال ‪-‬تعالى‪ -‬كما‬
‫في هذا الحديث الذي ذكره البخاري‪ ،‬وكما في " المو طأ"‪ ،‬و"م سند أح مد" أنه –صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫كان يقول‪ " :‬أعوذ بوجه ال الكريم وبكلمات ال التامات"(‪)691‬وفي هذا أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫وكذلك صح عنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬سؤاله لذة النظر إلى وجه ال الكريم‪ ،‬كما في الحديث‬
‫السابق وغيره‪.‬‬
‫وبذهها يتهبين أن إثبات الوجهه واليمان بهه متعيهن‪ ،‬وأنهه داخهل فهي اليمان بال ‪-‬تعالى‪ -‬وههو‬
‫كسائر صفات ال الثابتة‪ ،‬يجب معرفتها واليمان بها بدون تأويل‪ ،‬أو تشبيه‪ ،‬بل على ما يجب ل من‬
‫الجلل والتعظيم‪ ،‬ليس كمثله شيء ل في ذاته ول في أسمائه وصفاته‪ ،‬ول في أفعاله – تعالى وتقدس‬
‫– عن ظنون أهل النحراف والزيغ‬
‫ص ‪238‬‬
‫من المؤولين والمعطلين الذين جعلوا أنفسهم هي الصل‪ ،‬فقاسوا عليها ما أخبر ال به عن نفسه‪،‬‬
‫وأخبر عنه رسوله‪ ،‬فحرفوا وعطلوا‪.‬‬

‫‪ " )(691‬الموطأ" (‪ )951 -2/950‬مرسل ‪ ،‬و "المسند" (‪ )2/419‬وهو حسن ‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ص ‪239‬‬
‫عيْنِهي} (‪ -)692‬تغذى‪ -‬وقوله – جهل ذكره‪:-‬‬
‫ُصهنَعَ عَلَى َ‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال –تعهههالى‪{ -‬وَِلت ْ‬
‫ع ُي ِننَا} (‪.")693‬‬
‫{ َتجْرِي ِبأَ ْ‬
‫ق قد دل كتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬و سنة ر سوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬صراحة‪ ،‬وإجماع أ هل العلم‬
‫بال واليمان به‪ ،‬على أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬موصوف بأن له عينين‪ ،‬حقيقة على ما يليق بجلله وعظمته‪.‬‬
‫وقهد جاء ذكهر العيهن وصهفا ل ‪-‬تعالى‪ -‬فهي القرآن مفردة‪ ،‬مضافهة إلى الضميهر المفرد‪ ،‬كمها‬
‫جاءت مجمو عة‪ ،‬مضا فة إلى ضم ير الج مع‪ ،‬ك ما في هات ين اليت ين اللت ين ذكره ما البخاري‪ .‬ولم يأت‬
‫ذكر العين وصفا ل ‪-‬تعالى‪ -‬في القرآن مثناة‪ ،‬ولكن جاء ذلك في الحديث عن رسول ال –صلى ال‬
‫عل يه و سلم‪ ،-‬والحد يث إذا صح عن الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬و جب اليمان ب ما دل عل يه‪،‬‬
‫والعمل به‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ " :‬ذكر العين مفردة‪ ،‬ل يدل على أنها عين واحدة‪ ،‬ليس إل كقولك‪ :‬افعل هذا على‬
‫عيني‪ ،‬ل يريد له أن له عينا واحدة‪.‬‬
‫ولمها أضيفهت العيهن إلى اسهم الجمهع‪ ،‬ظاهرا أو مضمرا‪ ،‬حسهن جمعهها مشاكلة للفهظ‪ ،‬كقوله‬
‫ع ُينِن َا} (‪)695‬وهذا نظيهر لفهظ اليهد‬
‫ْكه ِبأَ ْ‬
‫َاصهنَعِ الْفُل َ‬
‫ع ُينِن َا} (‪ ،)694‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ -‬و ْ‬
‫‪-‬تعالى‪َ { :-‬تجْرِي ِبأَ ْ‬
‫خ ْيرُ} (‪ ،)697‬ول ما أضي فت إلى ضم ير الج مع‬
‫المضا فة إلي المفرد‪ ،‬كقوله‪ِ { :‬ب َيدِ هِ ا ْلمُلْ كُ} (‪ ،)696‬و{ ِبيَدِ كَ ا ْل َ‬
‫ت َأ ْيدِينَا َأ ْنعَامًا} (‪.)698‬‬
‫عمِلَ ْ‬
‫جمعت‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬أَوََل ْم يَرَوْا َأنّا خَلَ ْقنَا َل ُهمْ ِممّا َ‬
‫وقد جاء في كتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬وسنة رسوله –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ذكر العين مضافة إلى ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬مفردة‪ ،‬ومجموعة‪.‬‬
‫ص ‪240‬‬
‫وجاءت السنة بإضافتها إليه ‪-‬تعالى‪ -‬مثناة‪ ،‬كما قال عطاء‪ :‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :-‬إن العبد إذا قام في الصلة‪ ،‬قام بين عيني الرحمن‪ ،‬فإذا التفت قال له ربه‪ :‬إلى من‬
‫تلتفت؟ إلى خير لك مني "‪.‬‬
‫وقوله –صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬إن ربكهم ليهس بأعور" صهريح بأنهه ليهس المراد إثبات عيهن‬
‫واحدة‪ ،‬فإن ذلك عور ظاهر‪ ،‬تعالى ال عنه‪.‬‬

‫‪ )(692‬جزء من الية ‪ 39‬من سورة طه ‪.‬‬


‫‪ )(693‬جزء من الية ‪ 14‬من سورة القمر ‪.‬‬
‫‪ )(694‬جزء من الية ‪ 14‬من سورة القمر ‪.‬‬
‫‪ )(695‬جزء من الية ‪ 37‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(696‬جزء من الية مفتتح سورة الملك ‪.‬‬
‫‪ )(697‬جزء من الية ‪ 26‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(698‬الية ‪ 71‬من سورة يس ‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫وهل يفهم من قول الداعي‪ " :‬اللهم احرسنا بعينك التي ل تنام" أنها عين واحدة ليس إل‪ ،‬إل ذهن‬
‫أقلف‪ ،‬وقلب أغلف؟‬
‫ع ُي ِننَا} وممن‬
‫وقد استدل السلف على إثبات العينين ل –تعالى‪ -‬بقوله ‪ -‬جل وعل – { َتجْرِي ِبأَ ْ‬
‫صرح بذلك أبو الحسن الشعري في البانة‪ ،‬والموجز‪ ،‬والمقالت"(‪.)699‬‬
‫عيْنِي} ف سر البخاري "ت صنع" بتغذى‪ ،‬من التغذ ية‪ ،‬يقال‪ :‬صنعت‬
‫صنَعَ عَلَى َ‬
‫قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَِلتُ ْ‬
‫الفرس‪ ،‬إذا أحسنت القيام عليه(‪.)700‬‬
‫عيْنِي} قال أ بو عمران الجو ني‪ :‬تر بى بع ين ال ‪-‬تعالى‪ -‬وقال‬
‫صنَعَ عَلَى َ‬
‫قال ا بن كث ير‪{ :‬وَِلتُ ْ‬
‫قتادة‪ :‬تغذى على عيني‪.‬‬
‫ع ْينِي} بحيث أرى‪.‬‬
‫وقال معمر بن المثنى‪{ :‬وَِلُتصْنَعَ عَلَى َ‬
‫وقال ع بد الرح من بن ز يد بن أ سلم‪" :‬يع ني‪ :‬أجعله في ب يت الملك‪ ،‬ين عم ويترف‪ ،‬غذاؤه عند هم‬
‫غذاء الملك‪ ،‬فتلك الصنعة"(‪.)701‬‬
‫وأسند ابن جرير هذه القوال‪ ،‬وروى عن ابن جريج‪ :‬أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت‪ ،‬ثم‬
‫في البحر‪ .‬واختار قول قتادة‪.‬‬
‫ع ْينِي} بمرأى مني‪ ،‬ومحبة‪ ،‬وإرادة"(‪.)702‬‬
‫وقال‪ " :‬وعنى بقوله‪{ :‬عَلَى َ‬
‫ع ُينِنَا}‪ ،‬قال ا بن جريهر‪ " :‬يقول – جل ثناؤه‪ :-‬تجري ال سفينة ال تي حملنها نوح‬
‫قوله‪َ { :‬تجْرِي ِبأَ ْ‬
‫فيها‪ ،‬بمرأى منا‪ ،‬ومنظر"(‪.)703‬‬
‫قلت‪ :‬وكذا قال غيره من المفسرين‪ ،‬ومن لزم الرؤية والنظر وجود العين‪ ،‬ففي هاتين اليتين‪،‬‬
‫وغيرهما من نصوص كتاب ال وحديث رسوله كثير‪ ،‬إثبات العينين‬
‫ص ‪241‬‬
‫ل ‪-‬تعالى‪ -‬اللتيهن ينظهر بهمها إلى مها يريهد‪ ،‬ول يحجهب نظره حاجهب‪ ،‬وقهد تقدم و جه الجمهع‬
‫والفراد في ذلك‪.‬‬
‫ع ُينِنَا} قال أصهحاب النقهل والخهذ بالثهر‪ :‬العيهن‪ :‬يريهد بهه‬
‫وقال الزهري‪{ :‬وَاص ْهنَعِ الْفُلْكَه ِبأَ ْ‬
‫العين‪،‬قال‪ :‬وعين ال ل تفسر بأكثر من ظاهرها‪ ،‬ول يسع أحدا أن يقول‪ :‬كيف هي‪ ،‬أو ما صفتها؟ ‪-‬‬
‫ذكره عن ابن النباري‪.)704("-‬‬

‫‪ " )(699‬مختصر الصواعق" (ص ‪ )24‬ط المام ‪.‬‬


‫‪ " )(700‬الفتح" (‪.)13/389‬‬
‫‪" )(701‬تفسير ابن كثير" (‪ )5/278‬ط الشعب ‪.‬‬
‫‪" )(702‬تفسير الطبري" (‪ )163-16/162‬ط الحلبي‪.‬‬
‫‪ )(703‬المرجع السابق (‪.)27/64‬‬
‫‪ )(704‬انظر ‪ " :‬تهذيب اللغة" (‪.)3/205‬‬

‫‪187‬‬
‫ص ‪242‬‬
‫‪ -36‬قال‪ " :‬حدثنا موسى بن إسماعيل‪ ،‬حدثنا جويرية‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن عبد ال‪ ،‬قال‪ :‬ذكر الدجال‬
‫عند النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال‪ " :‬إن ال ل يخفى عليكم‪ ،‬إن ال ليس بأعور – وأشار بيده إلى‬
‫عينه – وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى‪ ،‬كأن عينه عنبة طافية"‪.‬‬
‫الدجال‪ :‬الكذاب‪ ،‬ودجله‪ :‬سحره وكذ به؛ ل نه يد جل ال حق بالبا طل‪ ،‬أي‪ :‬يغط يه‪ ،‬و هو ر جل من‬
‫اليهود‪ ،‬يخرج في آخر هذه المة‪ ،‬كما جاءت الحاديث بذلك عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫قال أ بو علي القالي‪ :‬عن ا بن در يد‪ " :‬كل ش يء غطي ته ف قد دجل ته‪ ،‬وم نه اشتقاق دجلة‪ ،‬كأن ها‬
‫غطت الرض إذا فاضت عليها "‪.‬‬
‫والدجال من هذا الشتقاق؛ لنه يغطي الحق بالباطل‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬سمي بذلك لنه يغطي الرض بكثرة جموعه‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ " :‬يغطي على الناس بكفره"(‪.)705‬‬
‫وقال الحافهظ‪ :‬الدجال‪ :‬فعال‪ ،‬بفتهح أوله‪ ،‬والتشديهد‪ ،‬مهن الدجهل‪ ،‬وههو التغطيهة‪ ،‬وسهمي الكذاب‬
‫دجالً‪ ،‬لنه يغطي الحق بباطله‪.‬‬
‫وقال ثعلب‪ " :‬الدجال‪ :‬المموه"(‪.)706‬‬
‫قوله‪ " :‬إن ال ل يخفى عليكم" المؤمن بال وبأوصافه التي تعرف بها إلى عباده‪ ،‬ل يخفى عليه‬
‫سمِيعُ البَصِيرُ}‪ ،‬ليس له كفؤ ول ند‪ ،‬فل يمكن أن‬
‫س َك ِمثْلِ ِه شَيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫رب العالمين‪ ،‬فهو ‪-‬تعالى‪َ{ -‬ليْ َ‬
‫يشابه المخلوق الضعيف‪ ،‬المحتاج الناقص‪ ،‬وكل مخلوق له صفة الضعف والحاجة والنقصان‪ ،‬ول بد‪،‬‬
‫تعالى عن مشابهة خلقه علوا كبيرا‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬إن ال ليس بأعور" هذه الجملة هي المقصودة من الحديث وفي هذا الباب‪ ،‬فهذا يدل على‬
‫أن ل عينين حقيقة؛ لن العور فقد أحد العينين‪ ،‬أو ذهاب نورها‪.‬‬
‫ص ‪243‬‬
‫قال فهي " القاموس"‪ " :‬العور‪ :‬ذهاب حهس إحدى العينيهن …… والرديهء مهن كهل شيهء‪،‬‬
‫والضعيف الجبان البليد الذي ل يدل‪ ،‬ول يندل‪ ،‬ول خير فيه "(‪.)707‬‬
‫وعلى كهل‪ :‬العور نقهص وعيهب فهي التفاق‪ ،‬والمقصهود أنهه فهي اللغهة ههو ذهاب ضوء إحدى‬
‫العينين‪.‬‬

‫‪" )(705‬البارع" (ص ‪.)35‬‬


‫‪" )(706‬الفتح" (‪.)13/91‬‬
‫‪" )(707‬القاموس" (‪.)2/97‬‬

‫‪188‬‬
‫ولهذا صهار هذا الحديهث مهن الدلة الواضحهة على إثبات تثنيهة العيهن ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬ويزيهد ذلك‬
‫وضوحا إشارته –صلى ال عليه وسلم‪ -‬إلى عينه لتحقيق الوصف‪ ،‬يعني أن ل عينين سالمتين من كل‬
‫عيب كاملتين‪ ،‬بخلف الدجال الفاقد لحدى عينيه‪ ،‬وذلك من أعظم الدلة على كذبه‪.‬‬
‫وقال ابن المنير‪ " :‬وجه دللة الحديث على إثبات العين ل‪ ،‬من حديث الدجال من قوله‪ ":‬إن ال‬
‫ليس بأعور" من جهة أن العور عرفا‪ :‬عدم العين‪ ،‬وضد العور ثبوت العين‪ ،‬فلما نزعت هذه النقيصة‬
‫لزم ثبوت الكمال بضدها‪ ،‬وهو وجود العين"(‪.)708‬‬
‫قلت‪ :‬الحديث فيه إثبات العينين ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬ل عين واحدة‪ ،‬كما قد يتوهمه كلمه‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬عرفا " بل هو لغة قبل العرف‪.‬‬
‫"وقال شهاب الد ين ال سهروردي في كتاب العقيدة له‪ :‬أ خبر ال في كتا به وث بت عن ر سوله‪،‬‬
‫ال ستواء‪ ،‬والنزول‪ ،‬والن فس‪ ،‬وال يد‪ ،‬والع ين‪ ،‬فل يت صرف في ها بت شبيه‪ ،‬ول تعط يل‪ ،‬إذ لول إخبار ال‬
‫ورسوله‪ ،‬ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى"‪.‬‬
‫" قال الطيبي‪ :‬هذا هو المذهب المعتمد‪ ،‬وبه يقول السلف الصالح "‪.‬‬
‫وقال غيره‪ :‬لم ين قل عن النبي –صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬ول عن أحد من أصحابه‪ ،‬من طر يق‬
‫صحيح‪ ،‬التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك‪ ،‬ول المنع من ذكره‪.‬‬
‫ت َلكُ مْ دِي َنكُ مْ‬
‫ومن المحال أن يأمر ال نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه‪ ،‬وينزل عليه {ا ْليَوْ مَ َأ ْكمَلْ ُ‬
‫لسْلَمَ دِينًا} ثم يترك هذا‬
‫ت َل ُكمُ ا ِ‬
‫وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي َورَضِي ُ‬
‫ص ‪244‬‬
‫الباب‪ ،‬فل يميهز مها يجوز نسهبته إليهه ممها ل يجوز‪ ،‬مهع حضهه على التبليهغ عنهه بقوله‪" :‬ليبلغ‬
‫الشاهد الغائب" حتى نقلوا أقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وأحواله‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وما فعل بحضرته‪.‬‬
‫فدل على أنهم اتفقوا على اليمان بها‪ ،‬على الوجه الذي أراده ال منها‪.‬‬
‫سمِيعُ البَ صِيرُ}‬
‫شيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫س َك ِمثْلِ هِ َ‬
‫ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات‪ ،‬بقوله ‪-‬تعالى‪َ{ :-‬ليْ َ‬
‫فمن أوجب خلف ذلك بعدهم‪ ،‬فقد خالف سبيلهم‪ ،‬وبال التوفيق" انتهى(‪.)709‬‬
‫قال المام ابن خزيمة‪ " :‬بين النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أن ل عينين‪ ،‬فكان بيانه موافقا لبيان‬
‫محكم التنزيل"‪.‬‬
‫سمِيعًا‬
‫ن َ‬
‫ظكُم بِ ِه إِنّ اللّ َه كَا َ‬
‫ثم ذكر بسنده حديث أبي هريرة‪ ،‬وقرأ قوله ‪-‬تعالى‪{ -‬إِنّ اللّ َه ِن ِعمّا َيعِ ُ‬
‫بَ صِيرًا} " رأ يت ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬يضع إبها مه على أذ نه‪ ،‬وإصبعه التي تلي ها على‬
‫عينه"(‪.)710‬‬

‫‪" )(708‬الفتح" (‪.)13/390‬‬


‫‪ )(709‬المرجع المذكور ‪.‬‬
‫‪ )(710‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)43، 42‬‬

‫‪189‬‬
‫قوله‪ " :‬كأن عينه عنبة طافية " أي‪ :‬قد ذهب ماؤها‪ ،‬فهي ضامرة ملتوية؛ ولهذا جاءت الحاديث‬
‫بوصفه بأنه ممسوح العين‪ ،‬كما في "سنن أبي داود" عن عبادة بن الصامت‪ ،‬أن رسول ال –صلى ال‬
‫عل يه و سلم‪ -‬قال‪ " :‬إ ني قد حدثت كم عن الدجال‪ ،‬ح تى خش يت أن ل تعقلوا‪ ،‬إن الم سيح الدجال ر جل‬
‫قصير‪ ،‬أفحج‪ ،‬جعد‪ ،‬أعور‪ ،‬مطموس العين‪ ،‬ليست بناتئة‪ ،‬وجحراء‪ ،‬فإن لبس عليكم فاعلموا أن ربكم‬
‫ليس بأعور"(‪.)711‬‬
‫في هذا بيان أن عي نه – قب حه ال – قد ذ هب ماؤ ها‪ ،‬فضمرت‪ ،‬وبق يت سادة مكان ها‪ ،‬لم ت كن‬
‫غائرة‪ ،‬ول ناتئة مرتفعة‪ ،‬وهذا هو وصف العنبة إذا ذهب ماؤها‪.‬‬

‫‪" )(711‬سنن أبي داود" (‪.)4/496‬‬

‫‪190‬‬
‫ص ‪245‬‬
‫‪-37‬قال‪ " :‬حدثنا حفص بن عمر‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬أخبرنا قتادة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أنسا – رضي ال عنه‬
‫– عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬ما من نبي إل أنذر قومه العور الكذاب‪ ،‬إنه أعور‪ ،‬وإن‬
‫ربكم ليس بأعور‪ ،‬مكتوب بين عينيه‪:‬كافر"‪.‬‬
‫النذار‪ :‬هو الخبار مع التخو يف‪ ،‬و في قوله‪ " :‬ما من نبي " عموم يش مل جم يع ال نبيين‪ ،‬و هو‬
‫يدل على عظم فتنته وخطره‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬العور الكذاب" تقدم أن العور‪ :‬من عميت إحدى عينيه بآفة‪ ،‬فأصبح ل يرى إل بعين‬
‫واحدة‪.‬‬
‫ووصف بأنه الكذاب؛ لعظم كذبه‪ ،‬حيث يزعم أنه رب الناس‪ ،‬مع ظهور كذبه‪ ،‬وهو يتدرج في‬
‫كذبه‪ ،‬فأول‪ :‬يدعي أنه مصلح‪ ،‬ثم يدعي أنه نبي‪ ،‬ثم يدعي أنه إله‪ ،‬وهذا أعظم الكذب‪ ،‬وأبينه‪.‬‬
‫وقد عين رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬عينه العوراء‪ ،‬أنها اليمنى‪ ،‬كما في حديث عبدال‬
‫ابن عمر‪ ،‬الذي قبل هذا وغيره‪.‬‬
‫واعلم أن المتكلمين من المعتزلة‪ ،‬والشعرية‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬يزعمون أن من أثبت ل عينين‪ ،‬ويدين‪،‬‬
‫ووجها‪ ،‬ونحو ذلك مما جاءت به النصوص‪ ،‬من أثبت ذلك على ظاهر اللفظ‪ ،‬أنه يثبت جوارح‪ ،‬تشبه‬
‫جوارح الخلق على حد زعم هم‪ ،‬تعالى ال وتقدس عن زعمهم‪ ،‬وظنهم السيء في ال ورسوله‪ ،‬حيث‬
‫ظنوا أن ظاهر وصف ال نفسه‪ ،‬وظاهر وصف رسوله إياه يقتضي التشبيه‪ ،‬ولهذا تجد الذين تلقوا هذا‬
‫الفكر‪ ،‬وتأثروا به‪ ،‬من الذين يشتغلون بالحديث‪ ،‬إذا جاء ذكر ذلك قالوا‪ :‬مثلً‪ :‬إثبات صفة اليد ل من‬
‫ح يث الجار حة‪ ،‬إثبات صفة الو جه ل من ح يث الجار حة‪ ،‬ون حو ذلك ك ما يقوله البيه قي في كتا به "‬
‫ال سماء وال صفات" و سائر شراح الحد يث الذ ين ل يجرؤون على رد الن صوص‪ ،‬ف هم عند ما يتكلمون‬
‫على مثل هذه النصوص يبادرون إلى نفي الجارحة‪ ،‬كما قال بعض زعمائهم ما يلي‪:‬‬
‫ص ‪246‬‬
‫"ز عم قوم‪ ،‬أن ل عي نا‪ ،‬يريدون‪ :‬كجار حة الع ين من الن سان‪ ،‬وأرادوا الترك يب‪ ،‬واحتجوا بقوله‬
‫ع ُي ِننَا}‬
‫حكْ مِ َربّ كَ َفِإنّ كَ ِبأَ ْ‬
‫صبِ ْر ِل ُ‬
‫ع ُي ِننَا} (‪ ،)713‬و{وَا ْ‬
‫ك ِبأَ ْ‬
‫ع ْينِي} (‪ ،)712‬و{ا صْنَعِ ا ْلفُلْ َ‬
‫صنَعَ عَلَى َ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬وَِلتُ ْ‬
‫(‪.)714‬‬
‫قال أبو سعيد الدارمي – رح مه ال تعالى – في الرد عل يه‪ " :‬أما ما ادع يت أن قوما يزعمون‬
‫أن ل عينا‪ ،‬فإنا نقوله؛ لن ال –تعالى‪ -‬قاله‪ ،‬ورسوله‪.‬‬

‫‪ )(712‬جزء من الية ‪ 39‬من سورة طه ‪.‬‬


‫‪ )(713‬جزء من الية ‪ 37‬من سورة هود ‪.‬‬
‫‪ )(714‬الية ‪ 48‬من سورة الطور ‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫و أما زعمك أنهم يثبتون جارحة كجارحة العين من النسان‪ ،‬على التركيب‪ ،‬فهذا كذب‪ ،‬ادعيته‬
‫علينا عمدا‪ ،‬وأنت تعلم أن أحدا لم يقله‪ ،‬ولكنك تريد التشنيع‪ ،‬ليكون هنالك مقبولً لدى الجهال‪ ،‬والكذب‬
‫ل يصلح منه جد ول هزل‪ ،‬فمن الذي قال‪ :‬إنها جارحة مركبة؟ اذكره‪ ،‬فإن قائله كافر‪.‬‬
‫وكهم تشنهع بمها تقرر مهن قولك‪ :‬جسهم مركهب‪ ،‬وجوارح‪ ،‬وأجزاء‪ ،‬وأبعاض‪ ،‬تريهد أن يكهف‬
‫المؤمنون‪ ،‬عن وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬بما وصف به نفسه في كتابه‪ ،‬وما وصف به رسوله‪.‬‬
‫ونحن لم نصف ال بجسم كأجسام المخلوقين‪ ،‬ول بعضو‪ ،‬ول بجارحة‪ ،‬لكنا نصفه بما يغيظك‬
‫من هذه الصفات‪ ،‬التي أنت ودعاتك لها منكرون‪ ،‬فنقول‪ :‬إنه الواحد الحد‪ ،‬الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم يلد‬
‫ولم يولد‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬ذو الوجه الكريم‪ ،‬والسمع السميع‪ ،‬والبصر البصير"(‪.)715‬‬
‫وقوله‪ " :‬إنهه أعور‪ ،‬وإن ربكهم ليهس بأعور" اشتملت هذه الجملة على تأكيهد وصهف الدجال‬
‫الكذاب‪ ،‬بأ نه أعور الع ين‪ ،‬أي أ نه نا قص‪ ،‬مع يب‪ ،‬قد لح قه ال ضر لف قد إحدى عين يه‪ ،‬فمثله محال أن‬
‫يكون إلها‪ ،‬لنه فقير محتاج إلى غيره‪ ،‬بالضافة إلى النقص والعيب الذي فيه‪ ،‬وقد جاء بأعظم الكذب‬
‫والبهتان‪ ،‬حيث ادعى أنه إله‪ ،‬يتوجه إليه‪ ،‬بطلب السعاد‪ ،‬وصرف الشقاء‪.‬‬
‫ص ‪247‬‬
‫كما اشتملت هذه الجملة من الحديث على وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬بكمال العينين‪ ،‬ولهذا قال –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :-‬وإن ربكم ليس بأعور"‪.‬‬
‫فهذا بيان واضح بوصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬بأن له عينين كاملتين‪ ،‬على ما يليق بعظمته‪.‬‬
‫قال النووي‪ " :‬هذه علمهة بينهة تدل على كذب الدجال‪ ،‬دللة قطعيهة‪ ،‬بديهيهة‪ ،‬يدركهها كهل‬
‫أحد"(‪.)716‬‬
‫قوله‪ " :‬مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية‪ " :‬يقرأه كل مؤمن‪ ،‬كاتب‪ ،‬وغير كاتب"‪.‬‬
‫قال النووي‪ " :‬والصحيح الذي عليه المحققون‪ :‬أن هذه الكتابة على ظاهرها‪ ،‬وأنها كتابة حقيقية‪،‬‬
‫جعل ها ال آ ية‪ ،‬وعل مة من جملة العلمات القاط عة بكفره‪ ،‬وكذ به وإبطاله‪ ،‬يظهر ها ال ‪-‬تعالى‪ -‬ل كل‬
‫مسلم كاتب‪ ،‬وغير كاتب‪ ،‬ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته‪ ،‬ول امتناع في ذلك "(‪.)717‬‬
‫وهذا من رحمة ال بعباده‪ ،‬حيث أظهر علمات كذبه‪ ،‬إظهارا ل يخفى إل على من أريد فتنته‪،‬‬
‫وعمي قلبه‪ ،‬وأشرب بحب الباطل‪ ،‬نسأل ال العافية في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫‪ )(715‬نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي ‪ ،‬بتصرف (ص ‪ " )546-545‬عقائد السلف" ‪.‬‬
‫‪" )(716‬شرح مسلم " (‪.)18/60‬‬
‫‪" )(717‬شرح مسلم " (‪.)18/60‬‬

‫‪192‬‬
‫ص ‪248‬‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪ُ { :-‬هوَ اللّهُ ا ْلخَاِلقُ ا ْلبَا ِرئُ ا ْلمُصَ ّورُ} (‪.)718‬‬
‫قال ابهن جريهر‪ " :‬يقول ‪-‬تعالى‪ -‬ذكره‪ :‬ههو المعبود الخالق‪ ،‬الذي ل معبود تصهلح له العبادة‬
‫غيره‪ ،‬ول خالق سهواه‪ ،‬البارئ الذي برأ الخلق فأوجدههم بقدرتهه‪ ،‬المصهور خلقهه كيهف شاء‪ ،‬وكيهف‬
‫يشاء"(‪.)719‬‬
‫ومراد البخاري بهذا‪ :‬بيان أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬متصهف بأنهه الخالق‪ ،‬البارئ‪ ،‬المصهور فهي الزل‪،‬‬
‫وال بد‪ ،‬ف هو الخالق ق بل وجود المخلوق‪ ،‬و هو البارئ ق بل وجود ال مبري‪ ،‬و هو الم صور ق بل وجود‬
‫المصهوّر‪ ،‬فههو ‪-‬تعالى‪ -‬لم يزل بصهفاته ول يزال‪ ،‬كمها يريهد أيضا بيان أن الخلق الذي ههو وصهفه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬غير المخلوق‪ ،‬خلفا لهل البدع الذين يشير بهذا إلى الرد عليهم‪.‬‬
‫قال الزجاج‪ " :‬أصهل الخلق فهي الكلم‪ :‬التقديهر‪ ،‬يقال‪ :‬خلقهت الشيهء خلقا‪ ،‬إذا قدرتهه‪ ،‬كمها قال‬
‫زهير‪:‬‬
‫القوم يخلق ثم ل يفري‬ ‫لنت تفري ما خلقت وبعض‬
‫يعني‪ :‬أنك إذا قدرت المر مضيت في عزمك وفعلته‪ ،‬ولست ممن يقدر المر ثم ل يعزم على‬
‫فعله‪ ،‬بل ينثني عن ذلك‪.‬‬
‫فالخلق في اسم ال ‪-‬تعالى‪ -‬هو‪ :‬ابتداء تقدير النشء‪.‬‬
‫فاله ‪-‬تعالى‪ -‬خالق ها‪ ،‬ومنشئ ها‪ ،‬و هو متمم ها‪ ،‬ومدبر ها‪ ،‬فتبارك ال أح سن الخالق ين‪{ .‬البارئ}‬
‫يقال‪ :‬برأ ال الخلق إذا فطرهم‪.‬‬
‫والبرء‪ :‬خلق على صفة‪ ،‬ف كل مبروء مخلوق‪ ،‬ول يس كل مخلوق مبروءا‪ ،‬لن البرء من تبرئة‬
‫الشيء من الشيء‪ ،‬كما يقال‪ :‬برأت من المرض‪ ،‬ومن الدين‪.‬‬
‫فإذا فصل بعض الخلق من بعض‪ ،‬سمي فاعله بارئا‪.‬‬
‫فهو المعنى الذي به انفصلت الصورة بعضها من بعض‪ ،‬فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو‪،‬‬
‫وصورة حمار مفارقة لصورة فرص‪ ،‬فتبارك ال خالقا بارئا‪.‬‬
‫ص ‪249‬‬
‫{المصور} أي‪ :‬مصههور كل صورة‪ ،‬ل على مثال احتذاه – ول رسم ارتسمه‪- ،‬تعالى‪ -‬عن‬
‫ذلك علوا كبيرا "(‪.)720‬‬
‫أي أنه لم يتقدمه أحد فعل ذلك‪ ،‬ل تقديرا‪ ،‬ول إظهارا وإيجادا‪.‬‬
‫وقال الحافظ‪ " :‬قال الطيبي‪ :‬قيل‪ :‬اللفاظ الثلثة مترادفة‪ ،‬وهو وهم‪.‬‬

‫‪ )(718‬الية ‪ 24‬من سورة الحشر ‪.‬‬


‫‪" )(719‬تفسير الطبري" (‪.)18/56‬‬
‫‪" )(720‬تفسير أسماء ال الحسنى" ببعض التصرف (ص ‪.)27-26‬‬

‫‪193‬‬
‫فإن {الخلق}‪ :‬من الخلق‪ ،‬وأ صله التقد ير الم ستقيم‪ ،‬ويطلق على البداع‪ ،‬و هو إيجاد الش يء على‬
‫لرْ ضِ} وعلى التكوين‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬خَلَ قَ الِنسَانَ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫غير مثال‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬خَلْ قِ ال ّ‬
‫مِن نّطْ َفةٍ} و{البارئ} من البرء‪ ،‬وأصله خلوص الشيء عن غيره‪ ،‬إما على سبيل الخلوص منه‪ ،‬كبرء‬
‫الرجل من مرضه‪ ،‬والمديون من دينه‪.‬‬
‫أو على سبيل النشاء‪ ،‬كبرء ال النسمة‪.‬‬
‫و {المصهور} مبدع صهور المخترعات‪ ،‬ومرتبهها على حسهب مقتضهى الحكمهة‪ ،‬فال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫خالق كل شيء‪ ،‬بمعنى أنه موجده من أصل‪ ،‬ومن غير أصل‪ ،‬وبارئه‪ ،‬بحسب ما تقتضيه الحكمة‪ ،‬من‬
‫غير تفاوت‪ ،‬ول اختلف‪ ،‬ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله‪.‬‬
‫فالتقدير يقع أولً‪ ،‬ثم الحداث على الوجه المقدر يقع ثانيا‪ ،‬ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثا "(‪.)721‬‬
‫وبهذا يتبين الفرق بين هذه السماء الثلثة‪:‬‬
‫فالخالق‪ :‬مبدع الشياء على غير مثال سابق‪.‬‬
‫والبارئ‪ :‬موجد الشياء‪ ،‬ومظهرها إلى الوجود‪ ،‬من أصل ومن غير أصل‪.‬‬
‫والم صور‪ :‬الذي خص كل مخلوق ب ما يميزه عن ال خر‪ ،‬و ما تح صل به م صلحته‪ ،‬ك ما قال‬
‫شيْ ٍء خَلْقَ ُه ُثمّ َهدَى}(‪ .)722‬ويظهر أن "البارئ" أخص من "الخالق" كما تقدم في‬
‫عطَى كُلّ َ‬
‫تعالى‪{ :‬اّلذِي أَ ْ‬
‫كلم الزجاج ما يشير إلى ذلك‪ ،‬وإذا أضيف الخلق إلى النسان‪ ،‬فمعناه التقدير‪ ،‬ويأتي بمعنى الكذب‪.‬‬

‫‪" )(721‬فتح الباري" (‪ )13/391‬ملخصاً‪.‬‬


‫‪ )(722‬الية ‪ 50‬من سورة طه ‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫ص ‪250‬‬
‫‪-38‬قال‪ " :‬حدث نا إ سحاق‪ ،‬حدث نا عفان‪ ،‬حدث نا وه يب‪ ،‬حدث نا مو سى – هو ا بن عق بة‪ -‬حدث ني‬
‫محمد بن يحيى بن حبان‪ ،‬عن ابن محيريز‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬في غزوة بني المصطلق‪ ،‬أنهم‬
‫أصابوا سبايا‪ ،‬فأرادوا أن يستمتعوا بهن‪ ،‬ول يحملن‪ ،‬فسألوا النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬عن العزل‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬ما عليكم أن ل تفعلوا‪ ،‬فإن ال قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"‪ ،‬وقال مجاهد‪ :‬عن قزعة‪،‬‬
‫سمعت أبا سعيد‪ ،‬فقال‪ :‬قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬ليست نفس مخلوقة‪ ،‬إل ال خالقها "‪.‬‬
‫"العزل"‪ :‬هو إنزال الماء خارج فرج المرأة‪ ،‬خوفا أن تحمل‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬هو النزع بعد اليلج لينزل خارج الفرج"(‪.)723‬‬
‫"قوله‪ :‬ما عليكم أن ل تفعلوا " أي‪ :‬ل يضركم عدم العزل؛ لن ما قدره ال –تعالى‪ -‬من الخلق‪،‬‬
‫فل بد من وجوده‪ ،‬عزل النسان أو لم يعزل‪ ،‬يوضحه ما في رواية مسلم فقال‪" :‬ل عليكم أن ل تفعلوا‪،‬‬
‫ما كتب خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إل ستكون"(‪.)724‬‬
‫وفي قصة الرجل الذي سأل عن العزل عن جاريته‪ ،‬فقال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬‬
‫إن ذلك لن يمنع شيئا أراده ال "(‪.)725‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬وفهي روايهة‪ " :‬ل عليكهم أن ل تفعلوا " أي‪ :‬ل حرج عليكهم أن ل تفعلوا العزل‪،‬‬
‫ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل‪ ،‬فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل‪.‬‬
‫ولو أراد نفي الحرج عن العزل لقال‪ " :‬ل عليكم أن تفعلوا "(‪.)726‬‬
‫وفي مسلم لما ذكر هذا الحديث "قال محمد" وقوله‪ " :‬ل عليكم" أقرب إلى النهي" ومحمد هذا هو‬
‫ابن حاتم‪ .‬وفيه أيضا‪ " :‬وقال ابن عون‪ :‬فحدثت به الحسن‪ ،‬فقال‪ :‬وال لكأن هذا زجر"(‪.)727‬‬
‫ص ‪251‬‬
‫قوله‪ " :‬فإن ال قد كتب من هو خالق إلى يوم القيا مة" هذا يبين عدم فائدة العزل؛ لن كل ن فس‬
‫قدر ال –تعالى‪ -‬خلق ها‪ ،‬ل بد أن يخلق ها‪ ،‬عزل تم أم ل‪ ،‬و ما لم ي شأ خلق ها ل ي قع ولو لم يعزلوا‪ ،‬فإن‬
‫كان ال أراد أن يخلق في تلك المقار نة وذلك الو قت‪ ،‬فل بد من وجود ذلك ولو حر صتم كل الحرص‬
‫على عدم النزال في الرحم‪ ،‬فل غالب على أمره‪ ،‬وهو الخالق وحده‪.‬‬
‫وهذا ههو وجهه اسهتدلل البخاري فهي الحديهث‪ ،‬فإن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ههو الخالق البارئ المصهور‬
‫وحده‪ ،‬وأن كل مهن الب والم‪ ،‬ل دخهل لهمها فهي ذلك‪ ،‬بهل ال ‪-‬تعالى‪ -‬ههو الذي يقدر خلق هذا‬

‫‪" )(723‬الفتح" (‪.)9/305‬‬


‫‪" )(724‬مسلم مع النووي" (‪.)10/10‬‬
‫‪" )(725‬مسلم مع النووي" (‪. )10/10‬‬
‫‪" )(726‬الفتح" (‪.)9/307‬‬
‫‪" )(727‬مسلم مع النووي" (‪.)10/11‬‬

‫‪195‬‬
‫المخلوق شاء الناس ذلك أو لم يشاؤوا‪ ،‬وأنهه‪ ،‬ههو بارئ النسهمة مهن الذكهر والنثهى‪ ،‬أو ممها يشاء‪،‬‬
‫والخلق كلهم ل يستطيعون فعل شئ من ذلك‪.‬‬
‫وهو ‪-‬تعالى‪ -‬المصور لهذا النسان السوي من نطفة مت ساوية الجزاء‪ ،‬لو اجتمع عليها أمهر‬
‫الطباء‪ ،‬بكل ما أوتوا من علوم وآلت وإمكانيات‪ ،‬لم يستطيعوا أن يصوروا منها شيئا حيا‪ ،‬فتبارك ال‬
‫أحسن الخالقين‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد يتحكم النسان بالحمل إما بالعقاقير أو بوسائل أخرى‪.‬‬
‫فجوا به‪ :‬أن ذلك من تقد ير ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ول يم كن أن يكون ش يء خارجا عن مشيئ ته وتقديره‪،‬‬
‫وإذا أراد أن يخلق مخلوقا فل بد من وجوده‪ ،‬وإن استعملت الوسائل المانعة لذلك‪.‬‬
‫"قال ابن بطال‪ :‬الخالق في هذا الباب‪ ،‬يراد به‪ :‬المبدع المنشيء لعيان المخلوقين‪ ،‬وهو معنى ل‬
‫يشارك ال فيه أحد "‪.‬‬
‫"وقال الكرمانهي‪ " :‬معنهى قوله‪ :‬إل وههي مخلوقهة‪ ،‬أي مقدرة الخلق‪ ،‬أو معلومهة الخلق عنهد ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬لبد من إبرازها إلى الوجود"(‪.)728‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪ :‬والذي عل يه جماه ير الم سلمين من ال سلف والخلف‪ :‬أن الخلق غ ير المخلوق‪،‬‬
‫فالخلق ف عل الخالق‪ ،‬والمخلوق مفعوله‪ ،‬ولهذا كان ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ي ستعيذ بأفعال الرب‬
‫وصفاته‪ ،‬كما في قوله –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬أعوذ برضاك من سخطك‪،‬‬
‫ص ‪252‬‬
‫فاستعاذ‬ ‫(‪)729‬‬
‫وبمعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وبك منك‪ ،‬ل أحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك"‬
‫بمعافاته كما استعاذ برضاه‪.‬‬
‫و قد ا ستدل أئ مة السهنة كأحمهد وغيره‪ ،‬على أن كلم ال غيهر مخلوق‪ ،‬بأ نه ا ستعاذ به‪ ،‬فكذلك‬
‫معافا ته ورضاه غ ير مخلو قة؛ ل نه ا ستعاذ به ما‪ ،‬والعاف ية القائ مة ببدن الن سان مخلو قة‪ ،‬فإن ها نتي جة‬
‫معافاته "(‪.)730‬‬
‫وسيأتي – إن شاء ال تعالى – بسط ذلك وإيضاحه في محله‪.‬‬

‫‪" )(728‬الفتح" (‪.)13/392‬‬


‫‪ )(729‬تقدم تخريجه ‪.‬‬
‫‪" )(730‬مجموع الفتاوى" (‪.)230-6/229‬‬

‫‪196‬‬
‫ص ‪253‬‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬لمَا خَلَ ْقتُ ِب َي َديّ} (‪.")731‬‬
‫أراد – رحمه ال – بهذه الترجمة بيان ما أثبته ال ‪-‬تعالى‪ -‬لنفسه‪ ،‬من صفة اليدين‪ ،‬وأثبته له‬
‫ر سوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬على ظا هر ما نط قت به الن صوص المتنو عة الدللة في ذلك‪ ،‬ك ما‬
‫سيأتي – إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫طتَانِ‬
‫ت َأ ْيدِيهِ مْ وَُل ِعنُو ْا ِبمَا قَالُو ْا بَلْ َيدَا ُه َمبْ سُو َ‬
‫قال ال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬وقَالَ تِ ا ْل َيهُودُ َيدُ الّل ِه َمغْلُولَةٌ غُلّ ْ‬
‫يُن ِفقُ َك ْيفَ َيشَاء} (‪.)732‬‬
‫ْمه الْ ِقيَامَةِ وَالسهّماوَاتُ‬
‫ُهه َيو َ‬
‫ضت ُ‬‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫ْضه َ‬
‫لر ُ‬‫ِهه وَا َ‬
‫ّهه حَقّ َق ْدر ِ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَمَا َق َدرُوا الل َ‬
‫ش ِركُونَ} (‪.)733‬‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫س ْبحَانَهُ َو َتعَالَى َ‬
‫َمطْ ِويّاتٌ ِب َيمِينِهِ ُ‬
‫شيْءٍ‬
‫ى كُلّ َ‬
‫خ ْيرُ ِإنّ كَ عََل َ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬يدُ اللّ هِ فَوْ قَ َأ ْيدِيهِ مْ} (‪ِ { ،)734‬ب َيدِ ِه ا ْلمُلْ كُ} (‪ِ { ،)735‬ب َيدِ كَ ا ْل َ‬
‫قَدِيرٌ في آيات كثيرة وقد ذكر البخاري في ذلك عدة أحاديث‪.‬‬
‫‪ -39‬قال‪ " :‬حدثني معاذ بن فضالة‪ ،‬حدثنا هشام‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أنس أن النبي –صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال‪ " :‬يجمع ال المؤمنين يوم القيامة‪ ،‬كذلك‪ ،‬فيقولون‪ :‬لو استشفعنا إلى ربنا‪ ،‬حتى يريحنا من‬
‫مكاننا هذا‪.‬‬
‫فيأتون آدم‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا آدم‪ ،‬أما ترى الناس؟ خلقك ال بيده‪ ،‬وأسجد لك ملئكته‪ ،‬وعلمك أسماء‬
‫كل شيء‪ ،‬اشفع لنا إلى ربنا‪ ،‬حتى يريحنا من مكاننا هذا‪ ،‬فيقول‪ :‬لست هناك‪ ،‬ويذكر لهم خطيئته التي‬
‫أصاب‪ ،‬ولكن ائتوا نوحا‪ ،‬فإنه أول رسول بعثه ال إلى أهل الرض فيأتون نوحا‪ ،‬فيقول‪ :‬لست هناكم‪،‬‬
‫ويذكر خطيئته التي أصاب‪ ،‬ولكن ائتوا إبراهيم –خليل الرحمن – فيأتون إبراهيم‪ ،‬فيقول‪ :‬لست‬
‫ص ‪254‬‬
‫هنا كم‪ ،‬ويذ كر خطاياه ال تي أ صابها‪ ،‬ول كن ائتوا مو سى‪ ،‬عبدا آتاه التوراة وكل مه تكليما فيأتون‬
‫مو سى‪ ،‬فيقول‪ :‬ل ست هنا كم‪ ،‬ويذ كر ل هم خطيئ ته ال تي أ صاب‪ -‬ول كن ائتوا عي سى‪ ،‬ع بد ال ور سوله‪،‬‬
‫وكلمته‪ ،‬وروحه‪ ،‬فيأتون عيسى‪ ،‬فيقول‪ :‬لست هناكم‪ ،‬ولكن ائتوا محمد صلى ال عليه وسلم عبدا غفر‬
‫له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪.‬‬
‫فيأتوني‪ ،‬فانطلق‪ ،‬فاستأذن على ربي‪ ،‬فيؤذن لي عليه‪ ،‬فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا‪ ،‬فيدعني‬
‫ما شاء ال أن يدع ني‪ ،‬ثم يقال لي‪ :‬ار فع مح مد‪ ،‬و قل ي سمع‪ ،‬و سل تط عه‪ ،‬واش فع تش فع‪ ،‬فأح مد ر بي‬
‫بمحامد علمنيها‪ ،‬ثم اشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة‪.‬‬

‫‪ )(731‬الية ‪ 75‬من سورة ص‪.‬‬


‫‪ )(732‬الية ‪ 64‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(733‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫‪ )(734‬جزء من الية ‪ 10‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ )(735‬فاتحة سورة الملك‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا‪ ،‬فيدعني ما شاء ال أن يدعني‪ ،‬ثم يقال‪ :‬ارفع محمد‪ ،‬قل‬
‫يسمع‪ ،‬وسل تعطه‪ ،‬واشفع تشفع‪ ،‬فاحمد ربي بمحامد علمنيها‪ ،‬ثم اشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة‪.‬‬
‫ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا‪ ،‬فيدعني ما شاء ال أن يدعني‪ ،‬ثم يقال‪ :‬ارفع محمد‪ ،‬قل‬
‫يسمع‪ ،‬وسل تعطه‪ ،‬واشفع تشفع‪ ،‬فاحمد ربي بمحامد علمنيها‪ ،‬ثم اشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة‪.‬‬
‫ثم أرجع فأقول‪ :‬يا رب‪ ،‬ما بقي في النار إل من حبسه القرآن‪ ،‬ووجب عليه الخلود‪.‬‬
‫قال ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ :-‬يخرج من النار من قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وكان في قل به من‬
‫الخير ما يزن شعيرة‪.‬‬
‫ثم يخرج من النار من قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وكان في قلبه من الخير ما يزن برة‪.‬‬
‫ثم يخرج من النار من قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة"‪.‬‬
‫هذا حديث الشفاعة المشهور‪ ،‬وقد ذكره البخاري في أماكن متعددة من جامعه‪.‬‬
‫والمقصود هنا‪ :‬قوله‪":‬خلقك ال بيده" حيث جعل ذلك ميزة لدم من بين الخلق‪ ،‬فدل على أن اليد‬
‫ه نا على ظاهر ها‪ ،‬يد حقي قة‪ ،‬ولو كا نت ك ما يقول أ هل التأو يل‪ :‬إن ها القدرة‪ ،‬لم ي كن لدم اخت صاص‬
‫بذلك‪ ،‬إذ الخلق كلهم مخلوقون بقدرة ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫ص ‪255‬‬
‫قوله‪ " :‬يجمع ال المؤمنين يوم القيامة كذلك " قال الحافظ‪ " :‬هكذا للجميع‪ ،‬وأظن أول هذه الكلمة‬
‫لم – أي لذلك – والشارة ليوم القيامة – أو لما يذكر بعد‪.‬‬
‫وعند مسلم‪ " :‬يجمع ال المؤمنين‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬فيهتمون لذلك‪ ،‬وفي رواية "يلهمون لذلك"(‪.)736‬‬
‫ومعنى‪ :‬يهتمون ويلهمون متقارب‪ ،‬أي أنهم يعنون بسؤال الشفاعة‪ ،‬وإزالة الكرب الذي هم فيه‪،‬‬
‫أو أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬يلهمهم سؤال ذلك‪ ،‬واللهام‪ :‬أن يلقي ال ‪-‬تعالى‪ -‬في النفس أمرا يحمل على فعل‬
‫الشيء أو تركه"(‪.)737‬‬
‫قوله‪ " :‬فيقولون‪ :‬لو استشفعنا إلى ربنا‪ ،‬حتى يريحنا من مكاننا هذا " هذا هو الذي يهتمون له –‬
‫أو يلهمو نه – أي لو طلب نا م ما هو موجود مع نا من الر سل الذ ين ل هم مقام ع ند ال من يش فع ل نا ع ند‬
‫ربنا! ليريحنا من عناء هذا الموقف وكرباته‪ ،‬فيحاسبنا ربنا‪ ،‬ويجزينا بأعمالنا‪ ،‬وما نستحق‪ ،‬ثم نصير‬
‫إلى منازلنا‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فيأتون آدم" إلى عيسى‪ ،‬وكلهم يعتذر‪ ،‬ويذكر لهم ذنبه‪.‬‬
‫فآدم – عل يه ال سلم – يقول‪ :‬نها ني عن ال كل من الشجرة فع صيته‪ .‬ونوح – عل يه ال سلم –‬
‫يقول‪ :‬دعوت على قومهي‪ ،‬فأغرقوا‪ ،‬وسهألت مها ليهس لي بهه علم‪ .‬وإبراهيهم – عليهه السهلم – يقول‪:‬‬
‫ل َفعَلَ ُه َكبِيرُهُ مْ َهذَا}‪ ،‬وقوله‪ِ{ :‬إنّ ي سَقِيمٌ}‬
‫كذ بت ثلث كذبات‪ ،‬مع أن هن في سبيل ال‪ ،‬و هن‪ :‬قوله‪{ :‬بَ ْ‬

‫‪" )(736‬الفتح" (‪.)13/394‬‬


‫‪" )(737‬شرح النووي على مسلم" (‪.)3/53‬‬

‫‪198‬‬
‫وقوله‪ :‬للظالم العن يد ل ما سأله عن زوج ته‪ ،‬قال‪ " :‬إن ها أخ تي"؛ لن ها أخ ته في ال سلم‪ ،‬ولو قال‪ :‬إن ها‬
‫زوجته‪ ،‬لخذها منه ذلك الظالم‪.‬‬
‫وموسى – عليه السلم – يقول‪ :‬قتلت نفسا بغير حق‪ ،‬ولم يذكر لعيسى عليه السلم ذنبا‪ ،‬وهذا‬
‫كله مع قول عيسى عليه ال سلم‪ " :‬ول كن ائتوا محمدا‪ ،‬عبدا غ فر له ما تقدم من ذن به‪ ،‬وما تأ خر" يدل‬
‫على وقوع الذنوب مهن النهبياء‪ ،‬وهؤلء المذكورون ههم أفضهل النهبياء‪ ،‬وههي مسهألة مشهورة‪ ،‬ول‬
‫خلف أن الك فر ب عد النبوة غ ير وا قع من هم‪ ،‬ك ما أ نه ل خلف في ع صمتهم في ما يبلغو نه عن طر يق‬
‫القول‪ .‬وأما الفعل‪ ،‬فقد يقع منهم السهو أو النسيان‪ ،‬أو الخطأ الذي ل يقرون عليه‪ ،‬كما أنهم محفوظون‬
‫من الذنوب‪ ،‬التي تزري بفاعلها‪ ،‬وتسقط مروءته‪.‬‬
‫ص ‪256‬‬
‫و أما الصغائر فجائز وقوعها منهم‪ ،‬كما دل عليه هذا الحديث في الجملة‪ ،‬وغيره من النصوص‬
‫الكثيرة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد تطرف بعض شراح الكتاب وزعم أن من قال بهذا أنه كافر‪.‬‬
‫ويدل على عظم المر‪ ،‬كيف اعتذر من هم أفضل البشر عن الشفاعة معتلين بذنوب أكثر الخلق‬
‫ل يعدها ذنوبا‪ ،‬وهم قد تابوا منها‪ ،‬واستغفروا ربهم فغفر لهم‪ ،‬وهذا يدل على عظم ال‪ ،‬وعظيم قدره‬
‫في قلوب هم‪ ،‬وعلى صعوبة المو قف ب ين يدي ال وشد ته‪ ،‬ف هل يف هم هذا من يهرع إلى قبور المو تى‬
‫يطلبون منهم ما ل يطلبه أولو العزم من الرسل من ال ‪-‬تعالى‪-‬؟‬
‫وقول كل واحد منهم‪ " :‬لست هناكم" أي‪ :‬لست كما تظنون أني أستطيع أن أشفع لكم‪ ،‬فليس ذلك‬
‫عندي‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فأنطلق‪ ،‬فأ ستأذن على ر بي‪ ،‬فيؤذن لي عل يه " يدل على أ نه – صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫يقصد مكانا معينا‪ ،‬يرى فيه ربه‪ ،‬وسيأتي في باب الرؤية في هذا الحديث " فاستأذن على ربي في داره‬
‫" وقد قيل‪ :‬إن المراد بداره هنا الجنة‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا " صريح في أن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يرى‬
‫ربه عيانا في ذلك الموقت‪ ،‬وسيأتي ذلك – إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬فيدعني ما شاء ال أن يدعني‪ ،‬ثم يقال لي‪ :‬ارفع محمد‪ ،‬وقل يسمع‪ ،‬وسل تعطه‪ ،‬واشفع‬
‫تشفع" أي‪ :‬أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬يمهل له في السجود‪ ،‬فيبقى ساجدا وقتا طويلً‪ ،‬يسبح ربه‪ ،‬ويمجده‪ ،‬ويثني‬
‫عل يه‪ ،‬ويحمده‪ ،‬فل ير فع رأ سه من سجوده ح تى يأمره ال ‪-‬تعالى‪ -‬برف عه‪ ،‬ثم يأذن له ‪-‬تعالى‪ -‬بأن‬
‫يطلب من ربه مراده‪ ،‬وقد علم ال مقصده‪ ،‬ولهذا قال له‪ :‬اشفع تشفع‪ ،‬وهذا كله من رحمته ‪-‬تعالى‪،-‬‬
‫فهو الذي ألهم عباده طلب الشفاعة من النبياء‪ ،‬وهو الذي أذن في الشفاعة وقبلها‪ ،‬وحقيقة المر هو‬
‫إرادة ال ‪-‬تعالى‪ -‬رح مة الخلق وإراحت هم من عناء المو قف‪ ،‬وإظهار كرا مة مح مد – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ -‬للخلق في ذلك الموقف العظيم‪ ،‬وإل فالشفاعة كلها ل‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫قوله‪ " :‬فأح مد ر بي بمحا مد علمني ها " قد تقدم أن هذا يدل على عدم ح صر أ سماء ال الح سنى‪،‬‬
‫في تسع وتسعين؛ لن هذه المحامد بأسمائه الحسنى وصفاته‬
‫ص ‪257‬‬
‫العليا‪ ،‬وقد جاء في الرواية الخرى‪ " :‬فيفتح ال عليّ من المحامد والثناء ما ل أحسنه الن "‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ثم أش فع‪ ،‬في حد لي حدا فأدخل هم الج نة" أي‪ :‬أن ال –تعال هى‪ -‬يع ين له من يش فع في هم‪،‬‬
‫وهذا من الدلة الواضحة على أن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ل يشفع فيمن يريد‪ ،‬بل لمن يأذن‬
‫ال له في الشفا عة في هم‪ ،‬وبذلك ي تبين أن الشفا عة ل جميعا‪ ،‬ك ما صرحت بذلك آيات من كتاب ال –‬
‫عةُ‬
‫ش ْيئًا وَل َيعْقِلُونَ {‪ }43‬قُل لّلّ ِه الشّفَا َ‬
‫ل أَوََلوْ كَانُوا ل َيمِْلكُونَ َ‬
‫ن اللّ ِه شُ َفعَاء قُ ْ‬
‫خذُوا مِن دُو ِ‬
‫تعالى‪{ :-‬أَمِ ا ّت َ‬
‫جعُونَ} (‪.)738‬‬
‫لرْضِ ُثمّ إَِل ْيهِ ُت ْر َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫جمِيعًا لّ ُه مُ ْلكُ ال ّ‬
‫َ‬
‫سمَاوَاتِ وَل فِي‬
‫ل ذَرّ ٍة فِي ال ّ‬
‫ن اللّ ِه ل َيمِْلكُو نَ ِمثْقَا َ‬
‫عمْتُم مّ ن دُو ِ‬
‫ن زَ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬قُلِ ادْعُوا اّلذِي َ‬
‫ل ِلمَ نْ َأذِ نَ َل هُ‬
‫ظهِي ٍر {‪ }22‬وَل تَنفَ ُع الشّفَاعَةُ عِندَ هُ ِإ ّ‬
‫لرْ ضِ َومَا َلهُ مْ فِي ِهمَا مِن شِرْ كٍ َومَا لَ ُه ِم ْنهُم مّن َ‬
‫اَ‬
‫حقّ وَهُ َو ا ْلعَِليّ ا ْل َكبِيرُ} (‪.)739‬‬
‫حتّى ِإذَا ُفزّعَ عَن قُلُو ِب ِهمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ َر ّب ُكمْ قَالُوا ا ْل َ‬
‫َ‬
‫بهذه ال ية ي تبين أن المد عو ي جب أن يكون مالكا ل ما يد عى من أجله‪ ،‬وإل كا نت دعو ته ضللً‬
‫مبينا‪ ،‬فإن لم يكن مالكا يكون مشاركا للمالك‪ ،‬فإن انتفى المران‪ ،‬يكون معاونا وظهيرا مساعدا للمالك‪،‬‬
‫فإن لم يكهن ذلك‪ ،‬فل أقهل مهن أن يكون شافعا مقبول الشفاعهة عنهد مهن يملك المطلوب‪ ،‬فنفهى ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬عن المدعوين من دونه هذه المور الربعة‪ ،‬وبين أن الشفاعة ل تنفع إل بعد إذنه‪ ،‬وهو –‬
‫جل وعل – ل يأذن في الشفا عة إل ل من ر ضي عمله‪ ،‬و هم أ هل الخلص‪ ،‬ومتاب عة الر سول و هو‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬ل يرضى عن المشرك‪ ،‬الذي يدعو غير ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫فيجب على العاقل الذي تعز عليه نفسه أن ل يغتر بما اغتر به كثير من الناس الذين يعتمدون‬
‫على الشفاعة‪ ،‬مع ما هم فيهم من المعاصي‪ ،‬فأفضل الشفعاء يحد ال له حدا‪ ،‬يقول‪ :‬هؤلء أشفع فيهم‪.‬‬
‫ص ‪258‬‬
‫قوله‪ " :‬فأقول‪ :‬يا رب‪ ،‬ما بقي إل من حبسه القرآن‪ ،‬ووجب عليه الخلود" أي‪ :‬أن أهل التوحيد‬
‫الذ ين ا ستحقوا دخول النار بذنوب هم قد خرجوا من ها بالشفا عة ال تي حقيقت ها رح مة ال إيا هم‪ ،‬بوا سطة‬
‫الشفاعة؛ ليظهر كرامة الشافع كما تقدم‪ ،‬وبقى من نص القرآن على أنه من أهل النار‪ ،‬الذين ل تنالهم‬
‫شفاعة الشافعين‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬يخرج من النار من قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة …" إلى‬
‫قوله‪ " :‬مها يزن برة" يدل على أن مجرد قول‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬مهن دون أن يقوم فهي القلب شيهء مهن‬
‫اليمان‪ ،‬ل ينفع‪ ،‬ول يخرج من النار‪ ،‬فالمقصود بالخير‪ :‬اليمان الذي يقوم في القلب‪ ،‬وإن قل‪.‬‬

‫‪ )(738‬اليتان ‪ 43‬و ‪ 44‬من سورة الزمر ‪.‬‬


‫‪ )(739‬اليتان ‪ 22‬و ‪ 23‬من سورة سبأ ‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ك ما أ نه يدل دللة واض حة على تفاوت اليمان وتفاضله‪ ،‬وأن أ هل الكبائر من المؤمن ين يد خل‬
‫من يدخل منهم النار ثم يخرجون منها‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ص ‪259‬‬
‫‪ -40‬قال‪ " :‬حدثنا أبو اليمان‪ ،‬أخبرنا شعيب‪ ،‬حدثنا أبو الزناد‪ ،‬عن العرج‪ ،‬عن أبي هريرة –‬
‫ر ضي ال ع نه‪ -‬أن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال‪ " :‬يد ال ملى‪ ،‬ل يغيض ها نف قة‪ ،‬سحاء‬
‫الليل والنهار" وقال‪ " :‬أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والرض؟ فإنه لم يغض ما في يده"‪ .‬وقال‪" :‬‬
‫عرشه على الماء‪ ،‬وبيده الخرى الميزان‪ ،‬يخفض‪ ،‬ويرفع"‪.‬‬
‫جاء في أول هذا الحديث في تفسير سورة هود‪ " :‬أنفق أنفق عليك"(‪ .)740‬وسيأتي كذلك‪ ،‬في باب‬
‫قوله ‪-‬تعالى‪ُ { :-‬يرِيدُونَ أَن ُي َبدّلُوا كَلمَ اللّهِ}‪.‬‬
‫وههو عنهد مسهلم بلفهظ‪ " :‬إن ال قال لي‪ :‬أنفهق أنفهق عليهك" وقال رسهول ال –صهلى ال عليهه‬
‫وسلم‪ " :-‬يمين ال ملى" إلى آخره(‪.)741‬‬
‫ع ْرشُ هُ عَلَى ا ْلمَاء " بلفظ‪ " :‬إن يمين ال ملى‪ ،‬ل يغيضها نفقة‪ ،‬سحاء‬
‫وسيأتي في باب " َوكَا نَ َ‬
‫الليل والنهار‪ ،‬أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه‪ ،‬وعرشه عل‬
‫الماء‪ ،‬وبيده الخرى الفيض – أو الق بض – يرفع ويخ فض" و هو أبلغ في الدللة على إثبات اليد ين ل‬
‫–تعالى‪ -‬مما ها هنا‪.‬‬
‫وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطرابا يدل على أنهم على باطل‪.‬‬
‫والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه ابن حجر في شرحه لهذا الباب‪ ،‬فإنه ذكر بعض أقوال‬
‫أئمهة الشعريهة‪ ،‬ثهم قال‪ " :‬واليهد فهي اللغهة تطلق لمعان كثيرة‪ ،‬اجتمهع لنها منهها خمسهة وعشرون‬
‫(‪)742‬‬
‫ومعنى"‬
‫والنصوص في هذا الباب جاءت معينة معنى واحدا ل غير‪ ،‬هو يدا ال الكريمتان‪ ،‬وما عدا ذلك‬
‫فهو بهتان عظيم‪.‬‬
‫ص ‪260‬‬
‫قوله‪ " :‬يد ال ملى" ذكرنا أنها عند مسلم‪ ،‬وعند البخاري في مواضع غير هذا‪ ،‬بلفظ "يمين ال‬
‫" بدل‪ " :‬يد ال"‪ ،‬قال الحافظ‪ " :‬يتعقب بهذه الرواية على من فسر اليد بالنعمة‪ ،‬وأبعد منه من فسرها‬
‫بالخزائن "(‪.)743‬‬
‫قلت‪ :‬هذا التف سير با طل‪ ،‬ول ي صح أن ي سمى تف سيرا‪ ،‬وإن ما هو تحر يف للكلم عن مواض عه‪،‬‬
‫كفعل اليهود‪ ،‬كما سيأتي بيان ذلك – إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫و"ملى" بفتح الميم‪ ،‬وسكون اللم‪ ،‬وهمزة‪ ،‬مع القصر‪ ،‬أي أنها‪ :‬شديدة المتلء بالخير‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ل يغيضها " أي‪ :‬ل ينقصها‪ ،‬يقال‪ :‬غاض الماء يغيض‪ ،‬إذا نقص‪.‬‬
‫‪ )(740‬انظره مع الفتح (‪.)8/352‬‬
‫‪ )(741‬انظر ‪ " :‬مسلم" (‪ )2/691‬الحديث رقم (‪ ، )37‬و (ص ‪ )690‬الحديث رقم (‪.)36‬‬
‫‪ )(742‬انظر " فتح الباري" (‪.)13/394‬‬
‫‪" )(743‬الفتح" (‪.)13/395‬‬

‫‪202‬‬
‫قوله‪ " :‬سحاء" بفتح السين والحاء المشددة‪ ،‬ممدودا‪ ،‬أي دائمة الصب‪.‬‬
‫"الليل والنهار" منصوبان على الظرفية‪ ،‬أي‪ :‬يد ال دائمة السح في الليل والنهار‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬أرأيتهم مها أنفهق منهذ خلق السهماوات والرض؟" اسهتدلل‪ ،‬وإيضاح لكثرة نفقتهه تعالى‪،‬‬
‫وتنبيه لمن له بصيرة إلى ذلك‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فإ نه لم يغض ما في يده" أي‪ :‬هذا النفاق الهائل‪ ،‬المستمر الدائم بدون توقف‪ ،‬لم ين قص‬
‫ما في يده ‪-‬تعالى‪-‬؛ لن بيده الخير كله ل مانع لما أعطى‪ ،‬ول معطي لمن منعه‪ ،‬وإذا أراد شيئا قال‬
‫له‪ :‬كن‪ ،‬فيكون‪.‬‬
‫قوله‪" :‬وعرشه على الماء" قال الحافظ‪ " :‬مناسبة ذكر العرش هنا‪ :‬أن السامع يتطلع من قوله‪" :‬‬
‫منذ خلق السماوات والرض " ماذا كان قبل ذلك؟ فذكر أن عرشه قبل خلق السماوات والرض‪ ،‬كان‬
‫على الماء "(‪.)744‬‬
‫قوله‪ " :‬وبيده الخرى‪ ،‬الميزان‪ ،‬يخ فض وير فع" الميزان‪ :‬العدل‪ ،‬الذي به ير فع من يكون أهلً‬
‫لن ير فع‪ ،‬و من هو مو ضع له‪ ،‬فيتف ضل عل يه برف عه باليمان وقبول ال حق‪ ،‬بأن يح بب إل يه اليمان‪،‬‬
‫ويزي نه في قل به‪ ،‬ويكره إل يه الك فر والف سوق‪ ،‬والع صيان‪ ،‬ويجعله من الراشد ين‪ ،‬وهذا أع ظم الر فع‪.‬‬
‫ل‬
‫ويخفض من ليس أه ً‬
‫ص ‪261‬‬
‫لذلك‪ ،‬بأن يم نع فضله ع نه‪ ،‬ويكله إلى نف سه‪ ،‬في ضل‪ ،‬ويتوله عدوه في صبح خا سرا‪ ،‬وهذا أع ظم‬
‫الخفض؛ لنه يصير إلى أسفل سافلين‪ ،‬في جهنم – نعوذ بوجه ال منها – وأمور الدنيا تبع لذلك‪.‬‬
‫"قال الطيهبي‪ :‬يجوز أن يكون "ملى" و"ل يغيضهها" و"سهحاء" و"أرأيتهم" أخبار مترادفهة ليهد ال‪،‬‬
‫ويجوز أن تكون الثل ثة أوصافا "لملى" ويجوز أن يكون "أرأيتم" استئنافا فيه معنى الترقي‪ ،‬كأنه لما‬
‫ق يل‪" :‬ملى" {خ شي} إيهام جواز النق صان‪ ،‬فأز يل بقوله‪ " :‬ل يغيض ها" و قد يمتلئ الش يء ول يغ يض‪،‬‬
‫فقيل‪" :‬سحاء" إشارة إلى الفيض – وهو كثرة العطاء – وقرنه بما يدل على الستمرار‪ ،‬من ذكر الليل‬
‫والنهار‪ ،‬ثم أتب عه ب ما يدل على أن ذلك ظا هر غ ير خاف على ذي ب صر وب صيرة‪ ،‬بقوله‪ " :‬أرأي تم ما‬
‫أن فق م نذ خلق ال سماوات والرض" وهذا الكلم إذا أخذ ته بجمل ته أبان عن زيادة الغ نى‪ ،‬وكمال ال سعة‬
‫والجود‪ ،‬والبسط في العطاء"(‪.)745‬‬
‫قلت‪ :‬ال ستدلل بهذا الحد يث على ثبوت اليد ين ل ‪-‬تعالى‪ -‬حقي قة‪ ،‬ظا هر جدا‪ ،‬و سيأتي تقر ير‬
‫ذلك – إن شاء ال – في آخر الباب‪.‬‬

‫‪ )(744‬المصدر المذكور ‪.‬‬


‫‪" )(745‬الفتح" (‪.)13/395‬‬

‫‪203‬‬
‫ص ‪262‬‬
‫‪-41‬قال‪ " :‬حدثنا مقدم بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬حدثني عمي‪ ،‬القاسم بن يحيى‪ ،‬عن عبيد ال‪ ،‬عن نافع‪،‬‬
‫عن ابن عمر – رضي ال عنهما – عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪ " :‬إن ال يقبض‬
‫يوم القيامة الرض‪ ،‬وتكون السماوات بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك" رواه سعيد عن مالك‪.‬‬
‫القبض‪ " :‬إمساك الشيء بجميع كف اليد‪ ،‬فقبض اليد على الشيء‪ :‬جمعها بعد تناوله"(‪ ،)746‬فقبض‬
‫الشيء هو‪ :‬جمعه في الكف‪.‬‬
‫فقوله‪ " :‬إن ال يقبهض يوم القيامهة الرض" أي يجمعهها بيده‪ ،‬فتكون فهي قبضتهه‪ ،‬كمها قال‬
‫ضتُ ُه يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ}‪.‬‬
‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫لرْضُ َ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬وَا َ‬
‫وقوله‪ " :‬وتكون السهماوات بيمينهه‪ ،‬ثهم يقول‪ :‬أنها الملك" أي أنهه ‪-‬تعالى‪ -‬يطوي السهماوات بيده‬
‫اليمنى‪ ،‬والرض مقبوضة بيده الخرى‪ ،‬وأنه يهزهن ثم يقول – يعظم نفسه‪ :-‬أنا الملك – أي‪ :‬الذي‬
‫يتصرف في كل شيء كيف يشاء‪ ،‬ول يشاركه في ذلك أحد‪ ،‬ولهذا جاء فيه‪ :‬أنه ‪-‬تعالى‪ -‬إذا قبضهن‪،‬‬
‫يهزهن‪ ،‬ويقول‪ " :‬أنا الملك‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬أين ملوك الدنيا؟"‪.‬‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ‬
‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫ض َ‬
‫لرْ ُ‬
‫وهذا الحد يث مطا بق لقوله –تعالى‪{ :-‬وَمَا َقدَرُوا اللّ هَ حَقّ َقدْرِ هِ وَا َ‬
‫ش ِركُونَ} (‪.)747‬‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫س ْبحَانَهُ َو َتعَالَى َ‬
‫ت َمطْ ِويّاتٌ ِب َيمِينِهِ ُ‬
‫الْ ِقيَامَةِ وَالسّماوَا ُ‬
‫وف يه الدل يل الوا ضح على ثبوت اليد ين ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬و هو نص ل يق بل تأويلً‪ ،‬ولهذا صارت‬
‫تأويلت المعطلين ليدي رب العالمين‪ ،‬شبه اللعب في كلم ال وكلم رسوله‪ ،‬الذي يترفع عنه العقلء‪،‬‬
‫فضلً عن أهل التقى‪.‬‬

‫‪ )(746‬انظر ‪ " :‬المفردات" للراغب (ص ‪.)391‬‬


‫‪ )(747‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر ‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫ص ‪263‬‬
‫‪-42‬قال‪ " :‬وقال أبو اليمان‪ :‬أخبرنا شعيب‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬أخبرني أبو سلمة‪ ،‬أن أبا هريرة قال‪:‬‬
‫قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬يقبض ال الرض "‪.‬‬
‫ك النّاسِ}‪.‬‬
‫تقدم تفسير القبض‪ ،‬وهذا الحديث مر في باب قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬مَِل ِ‬
‫ص ‪264‬‬
‫‪-43‬قال‪ " :‬حدث نا م سدد‪ ،‬سمع يح يى بن سعيد‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬حدث ني من صور‪ ،‬و سليمان‪ ،‬عن‬
‫إبراهيم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن عبدال‪ ،‬أن يهوديا جاء إلى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬إن‬
‫ال يمسك السماوات على إصبع‪ ،‬والرضيين على إصبع‪ ،‬والجبال على إصبع‪ ،‬والشجر على إصبع‪،‬‬
‫والخلئق على إصهبع‪ ،‬ثهم يقول‪ :‬أنها الملك‪ ،‬فضحهك رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬حتهى بدت‬
‫حقّ َقدْرِهِ} (‪.")748‬‬
‫نواجذه‪ ،‬ثم قرأ‪َ { :‬ومَا َقدَرُوا اللّ َه َ‬
‫وقال يحيى بن سعيد‪ ،‬وزاد فيه فضيل بن عياض‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن‬
‫عبدال‪ " :‬فضحك رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬تعجبا وتصديقا له"‪.‬‬
‫‪-44‬قال‪ " :‬حدثنا عمر بن حفص عن غياث‪ ،‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا الع مش‪ ،‬سمعت إبراهيم قال‪:‬‬
‫سمعت علقمة يقول‪ :‬قال عبد ال‪ :‬جاء رجل إلى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬من أهل الكتاب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يها أبها القاسهم‪ ،‬إن ال يمسهك السهموات على إصهبع‪ ،‬والرضييهن على إصهبع‪ ،‬والشجهر والثرى على‬
‫إ صبع‪ ،‬والخلئق على إ صبع‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أن الملك‪ ،‬أ نا الملك‪ ،‬فرأ يت ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫حقّ َقدْرِهِ}"‪.‬‬
‫ضحك حتى بدت نواجذه‪ ،‬ثم قرأ‪َ { :‬ومَا َقدَرُوا اللّ َه َ‬
‫هذا الحديث يدل على عظمة ال ‪-‬تعالى‪ -‬حيث يضع السماوات كلها على إصبع من أصابع يده‬
‫الكري مة العظي مة‪ ،‬وعدد المخلوقات المعرو فة للخلق بال كبر والعظ مة‪ ،‬وأ خبر أن كل نوع من ها يض عه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬على إصبع‪ ،‬لو أراد تعالى – لوضع السماوات والرضيين ومن فيهن على إصبع واحدة من‬
‫أصابع يده – جل وعل‪.-‬‬
‫وهذا من العلم الموروث عن النبياء المتلقى عن الوحي من ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولهذا صدقه رسول‬
‫ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بل وأعجبه ذلك وسر به‪ ،‬ولهذا ضحك حتى بدت نواجذه‪ ،‬تصديقا له‪ ،‬كما‬
‫قال عبهد ال بهن مسهعود‪ ،‬ول التفات إلى قول مهن تبنهى التعطيهل‪ ،‬وصهار نصهيبه مهن معرفهة هذه‬
‫الوصاف الكريمة العظيمة – التي تعرف ال بها إلى عباده – هو ما يعرفونه من أنفسهم‪ ،‬فحملهم ذلك‬
‫على تعط يل ال ‪-‬تعالى‪ -‬من هذه الو صاف‪ ،‬مرة برد هذه الن صوص والط عن في روات ها بل ح جة‬
‫سوى‬
‫ص ‪265‬‬

‫‪ )(748‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫روايتهم لها‪ ،‬ومرة بتأويلها التأويل الباطل الذي يخرجها عن مراد المتكلم بها {قل ءأنتم أعلم أم‬
‫ال}‪.‬‬
‫هذا و قد تنو عت الن صوص من كتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬و سنة ر سوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬على‬
‫إثبات اليدين ل ‪-‬تعالى‪ -‬وإثبات الصابع لهما‪ ،‬وإثبات القبض بهما وتثنيتهما‪ ،‬وأن إحداهما يمين‪ ،‬كما‬
‫مر‪ ،‬وفي نصوص كثيرة‪ ،‬والخرى شمال كما في "صحيح مسلم"(‪ ،)749‬وأنه ‪-‬تعالى‪ -‬يبسط يده بالليل‬
‫ليتوب مسيء النهار‪ ،‬وبالنهار ليتوب مسيء الليل(‪ ،)750‬وأنه ‪-‬تعالى‪ -‬يتقبل الصدقة من الكسب الطيب‬
‫بيمينهه فيربيهها لصهاحبها(‪ ،)751‬وأن المقسهطين على منابر مهن نور عهن يميهن الرحمهن‪ ،‬وكلتها يديهه‬
‫يم ين(‪ ،)752‬وغ ير ذلك م ما هو ثا بت عن ال ور سوله‪ ،‬و سأذكر شيئا ي سيرا من ذلك – إن شاء ال –‬
‫وبعضه يكفي المؤمن المريد للحق‪.‬‬
‫وهذا الذي أشرت إل يه كله يم نع تأو يل اليد ين بالنع مة‪ ،‬أو القوة‪ ،‬أو الخزائن‪ ،‬أو القدرة‪ ،‬أو غ ير‬
‫ذلك‪ ،‬ويجعل التأويل في حكم التحريف‪ ،‬بل هو تحريف‪.‬‬
‫وقهد آمهن المسهلمون بهذه النصهوص‪ ،‬على ظاهرهها‪ ،‬وقبلوهها‪ ،‬ولم يتعرضوا لهها بتأويهل تبعا‬
‫لر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬و صحابته‪ ،‬وأئ مة الهدى‪ ،‬بل و كل من ق بل ما جاءت به الر سل‪،‬‬
‫وآمن به‪.‬‬
‫قال المام ابن خزيمة معلقا على هذا الحديث‪ " :‬معناه أن ال – جل وعل – يمسك ما ذكر في‬
‫الخبر على أصابعه‪ ،‬على ما في الخير سواء‪ ،‬قبل تبديل ال الرض غير الرض؛ لن المساك على‬
‫الصابع غير القبض على الش يء‪ ،‬وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها؛ لن المساك على الش يء‬
‫بالصابع‪ ،‬غير القبض على الشيء"(‪.)753‬‬
‫ص ‪266‬‬
‫قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث‪ " :‬زاد ابن خزيمة‪ ،‬عن محمد بن خلد‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‬
‫القطان‪ ،‬عن الع مش‪ ،‬فذ كر الحد يث‪ ،‬قال مح مد‪ :‬عد ها علينا يح يى بأ صابعه‪ .‬وكذا أخر جه أح مد في‬
‫السنة‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬وقال‪ :‬وجعل يحيى يشير بأصبعه يضع إصبعا على إصبع‪ ،‬حتى أتى على‬
‫آخرها‪ ،‬قال‪ :‬ورواه الخلل في كتاب السنة‪ ،‬عن أبي بكر المروزي‪ ،‬عن أحمد‪ ،‬وقال‪ :‬ورأيت أبا عبد‬
‫ال يشير بإصبع إصبع"(‪.)754‬‬

‫‪ )(749‬سيأتي ذكره بعد قليل ‪.‬‬


‫‪ )(750‬سيأتي تخريجه ‪.‬‬
‫‪ )(751‬سيأتي ذكره بعد قليل ‪.‬‬
‫‪ )(752‬سيأتي ذكره في هذا الباب‬
‫‪ )(753‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)79‬‬
‫‪" )(754‬فتح الباري" (‪.)13/397‬‬

‫‪206‬‬
‫قلت‪ :‬تبعوا في ذلك ما وقع من الحبر الذي حدث رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬حيث كان‬
‫يشير بأصابعه‪ ،‬ولم ينكر عليه رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بل أقره‪ ،‬وصدقه‪.‬‬
‫فهذه النقول عن هؤلء المذكورين من السلف‪ ،‬تدل على أنهم فهموها على ظاهرها‪ ،‬وأنها أصابع‬
‫حقيقة‪.‬‬
‫قال عبد ال ابن المام أحمد‪ " :‬قال أبي‪ :‬قال يحيى‪ :‬قال‪ :‬فضيل بن عياض … فضحك رسول‬
‫ال تعجبا وتصديقا‪ ،‬سمعت أبي يقول‪ :‬حدثني يحيى بن سعيد‪ ،‬بحديث سفيان‪ ،‬عن العمش‪ ،‬ومنصور‪،‬‬
‫عن إبراه يم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن عبدال‪ ،‬عن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬إن ال يم سك ال سماوات‬
‫على إصبع"‪.‬‬
‫قال أبي‪ :‬وجعل يحيى يشير بأصابعه‪ ،‬وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه‪ ،‬يضع إصبعا‬
‫إصبعا حتى أتى على آخرها"(‪.)755‬‬
‫وفي الترمذي عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ " :‬مر يهودي بالنبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال له النبي –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :-‬يا يهودي‪ ،‬حدثنا‪ ،‬فقال‪ :‬كيف تقول يا أبا القاسم‪ ،‬إذا وضع السماوات على ذه‪،‬‬
‫والراضيهن على ذه‪ ،‬والماء على ذه‪ ،‬والجبال على ذه‪ ،‬وسهائر الخلق على ذه؟ – وأشار محمهد بهن‬
‫حقّ َق ْدرِهِ}‬
‫الصلت – أبو جعفر – بخنصره أولً‪ ،‬ثم تابع حتى بلغ البهام – فأنزل ال‪َ { :‬ومَا َق َدرُوا اللّهَ َ‬
‫وقال‪ :‬هذا حديث حسن غريب صحيح"(‪.)756‬‬
‫ص ‪267‬‬
‫ورواه ابن جرير في "تفسيره"‪ ،‬وسنده حسن(‪.)757‬‬
‫وقال عبدال ابن المام أحمد‪ " :‬حدثني أبي‪ ،‬حدثنا حسين بن حسن‪ ،‬حدثنا أبو كريبة‪ ،‬عن عطاء‬
‫عن أ بي الض حى‪ ،‬عن ا بن عباس‪ ،‬قال‪ :‬مر يهودي برسول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬و هو جالس‪،‬‬
‫قال‪ :‬كيف تقول يا أبا القاسم‪ ،‬يوم يجعل ال السماء على ذه – وأشار بالسبابة – والرضيين على ذه‪،‬‬
‫والماء على ذه‪ ،‬والجبال على ذه‪ ،‬و سائر الخلئق على ذه‪ -‬وج عل يش ير بأ صابعه –؟ فأنزل ال‪{ :‬وَمَا‬
‫حقّ قَ ْدرِهِ }‪.‬‬
‫قَ َدرُوا اللّ َه َ‬
‫حدثني عبد ال بن عمر‪ ،‬حدثنا عمران بن عيينة‪ ،‬عن عطاء بن السائب‪ ،‬عن أبي الضحى‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬مر يهودي على النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال له النبي –صلى ال عليه وسلم‪:-‬‬
‫يها يهودي خوفنها‪ ،‬فقال‪ :‬يها أبها القاسهم‪ ،‬كيهف بيوم تكون الرضون على هذه‪ ،‬والسهماوات على هذه‪،‬‬
‫والماء على هذه‪ ،‬والخلق على هذه؟ – يعنهي أصهابعه – ثهم قرأ رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪:-‬‬
‫ت ِب َيمِينِهِ} (‪.)758‬‬
‫ضتُ ُه يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ وَالسّماوَاتُ َمطْ ِويّا ٌ‬
‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫لرْضُ َ‬
‫{وَا َ‬
‫‪ )(755‬كتاب "السنة" (ص ‪.)54‬‬
‫‪" )(756‬سنن الترمذي" (‪.)5/49‬‬
‫‪ )(757‬انظر ‪ " :‬تفسير الطبري" (‪.)24/26‬‬
‫‪ )(758‬كتاب "السنة" (لعبدال ابن المام أحمد (ص ‪.)55‬‬

‫‪207‬‬
‫فم ثل هذه الحاد يث هى م ستند ال سلف في الشارة بال صابع‪ ،‬تحقيقا لثبات أ صابع الرح من –‬
‫جل وعل – وقدوتهم رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫وهذه النصوص التي فيها ذكر الصابع تدل دللة قاطعة – عند المؤمنين الذين يحكمون الشرع‬
‫– على ثبوت اليد ين ل – تعالى ‪ ،-‬و قد تنو عت الدلئل على ذلك – ك ما أشر نا إل يه آن فا – من ذ كر‬
‫الصابع‪ ،‬والقبض‪ ،‬والبسط‪ ،‬والتثنية‪ ،‬وذكر اليمين والشمال‪.‬‬
‫ف في "المو طأ" و"الترمذي" و" سنن أ بي داود "‪ :‬أن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال‪ " :‬إن‬
‫ورواه أحمد‪.‬‬ ‫‪759‬‬
‫ال – تبارك وتعالى – خلق آدم‪ ،‬ثم مسح ظهره بيمينه‪ ،‬فاستخرج منه ذريته"‬
‫ص ‪268‬‬
‫وفي "الترمذي" و"سنن أبى داود" مرفوعا‪ " :‬أن ال – تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة‪ ،‬قبضها‬
‫(‪)760‬‬
‫من جميع الرض "‬
‫وفيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا‪ ،‬في حديث طويل في خلق آدم‪ ،‬وفيه‪ " :‬فقال ال له‪:‬‬
‫ويداه مقبوضتان‪ ،‬اختر أيهما شئت‪ ،‬قال‪ :‬اخترت يمين ربي‪ ،‬وكلتا يدي ربي يمين‪ ،‬مباركة‪ ،‬ثم بسطها‪،‬‬
‫فإذا فيها ذريته "(‪.)761‬‬
‫وفي "صحيح مسلم" عن عبدال بن عمر‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬يطوي‬
‫ال – عز و جل – ال سموات يوم القيا مة‪ ،‬ثم يأخذ هن بيده اليم نى‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أ نا الملك‪ ،‬أ ين الجبارون؟‬
‫أين المتكبرون؟ ثم يطوي الرضين بشماله‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "(‪.)762‬‬
‫وفيه أيضا عنه مرفوعا‪" ،‬قال‪ :‬يأخذ ال – عز وجل – سماواته‪ ،‬وأرضيه‪ ،‬بيديه‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ال‬
‫– ويقبض أصابعه‪ ،‬ويبسطها – أنا الملك‪ ،‬حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه‪ ،‬حتى‬
‫ورواه أحمد‪.‬‬ ‫(‪)763‬‬
‫إني لقول‪ :‬أساقط هو برسول ال – صلى ال عليه وسلم –؟"‬
‫وفيهه أيضا مهن حديهث عبدال بهن عمرو قال‪ :‬قال رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬إن‬
‫المقسطين عند ال؛ على منابر من نور‪ ،‬عن يمين الرحمن‪ ،‬وكلتا يديه يمين‪ ،‬الذين يعدلون في حكمهم‪،‬‬
‫وأهليهم‪ ،‬وما ولوا "(‪.)764‬‬

‫‪" )(759‬الموطأ" (‪ ، )899 -2/898‬و "الترمذي" في التفسير رقم (‪ ، )3077‬و "سنن أبي داود" في السنة‬
‫رقم (‪ ، )4703‬و "المسند" (‪.)1/324‬‬
‫‪" )(760‬الترمذي" رقم (‪ )2948‬في التفسير ‪ ،‬و "أبو داود" في السنة ‪ ،‬في القدر ‪ ،‬رقم (‪.)4693‬‬
‫‪" )(761‬سنن الترمذي" في التفسير في باب ‪ :‬من سورة المعوذتين ‪ ،‬رقم (‪ ، )3365‬وابن خزيمة في‬
‫"التوحيد" (ص ‪.)67‬‬
‫‪" )(762‬مسلم" (‪ )4/2148‬رقم (‪.)2788‬‬
‫‪" )(763‬صحيح مسلم" الموضع المذكور ‪ ،‬وانظر ‪ " :‬المسند" (‪.)88 ،87 ،2/72‬‬
‫‪" )(764‬مسلم" (‪ )3/1458‬رقم (‪.)1827‬‬

‫‪208‬‬
‫وفيه أيضا من حديث أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬وما تصدق أحد‬
‫بصدقة‪ ،‬من طيب‪ ،‬ول يقبل ال إل الطيب‪ ،‬إل أخذها الرحمن بيمينه‪ ،‬وإن كانت تمرة‪ ،‬فتربو في كف‬
‫الرحمن‪ ،‬حتى تكون أعظم من الجبل‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه‪ ،‬أو فصيله"(‪.)765‬‬
‫ص ‪269‬‬
‫و في "ال صحيحين" من حد يث أ بي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬من‬
‫تصهدق بعدل تمرة‪ ،‬مهن كسهب طيهب‪ ،‬ول يقبهل ال إل الطيهب‪ ،‬فإن ال يتقبلهها بيمينهه‪ ،‬ثهم يربيهها‬
‫لصاحبها‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه‪ ،‬حتى تكون مثل الجبل"(‪.)766‬‬
‫وفي " صحيح مسلم" من حد يث أبي هريرة‪ ،‬قال ر سول ال – صلى ال عل يه وسلم‪" :-‬ينزل ال‬
‫في ال سماء الدن يا‪ ،‬لش طر الل يل‪ ،‬أو لثلث الل يل ال خر‪ ،‬فيقول‪ :‬من يدعو ني فأ ستجيب له؟ أو ي سألني‬
‫فأعطيه؟ ثم يبسط يديه – تبارك وتعالى – يقول‪ :‬من يقرض غير عدوم‪ ،‬ول ظلوم "(‪.)767‬‬
‫وف يه من حد يث المغيرة بن شع بة في سؤال مو سى ر به عن أد نى أ هل الج نة منزلة‪" ،‬رب‪،‬‬
‫فأعلهم منزلة؟ قال‪ :‬أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي‪ ،‬وختمت عليها‪ ،‬فلم تر عين‪ ،‬ولم تسمع‬
‫أذن"(‪.)768‬‬
‫و في "ال صحيحين" مرفوعا من حد يث أ بي سعيد الخدري‪ ،‬قال ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪":-‬‬
‫تكون الرض يوم القيا مة خبزة واحدة‪ ،‬يتكفؤ ها الجبار بيده ك ما يتك فأ أحد كم خبز ته في ال سفر‪ ،‬نزلً‬
‫لهل الجنة"(‪ .)769‬وفيهما من حديث أبي هريرة‪ ،‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬واحتج آدم‬
‫وموسى فقال موسى‪ :‬يا آدم أنت أبونا‪ ،‬خيبتنا‪ ،‬وأخرجتنا من الجنة‪ .‬فقال آدم‪ :‬أنت موسى‪ ،‬اصطفاك‬
‫ال بكلمه‪ ،‬وخط لك بيده‪ ،‬أتلومني على أمر قدره ال علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟" (‪.)770‬‬
‫وفي رواية لمسلم‪ " :‬احتج آدم وموسى عند ربهما‪ ،‬فحج آدم موسى‪ ،‬قال موسى‪ :‬أنت آدم الذي‬
‫خلقك ال بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك ملئكته…"(‪.)771‬‬
‫ص ‪270‬‬
‫وروى البيهقي في " السماء والصفات" بسنده‪ :‬أن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬لما خلق‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬آدم وذريتهه‪ ،‬قالت الملئكهة‪ :‬يها رب‪ ،‬خلقتههم يأكلون ويشربون‪ ،‬وينكحون‪ ،‬ويركبون‪،‬‬

‫‪" )(765‬مسلم" (‪ )2/702‬رقم (‪.)1014‬‬


‫‪ )(766‬انظر ‪ " :‬البخاري مع الفتح" (‪ )3/278‬و (‪ ، )13/415‬و "مسلم" (‪ ، )2/702‬وابن خزيمة في‬
‫"التوحيد" (ص ‪.)63-61‬‬
‫‪" )(767‬مسلم" (‪ ، )1/176‬وابن خزيمة في "التوحيد" عن عبدال بن مسعود (ص ‪.)58‬‬
‫‪" )(768‬مسلم" (‪ ، )1/176‬وابن خزيمة في "التوحيد" (ص ‪.)70-69‬‬
‫‪" )(769‬البخاري مع الفتح " (‪ ، )11/372‬و "مسلم" (‪ )4/2151‬رقم (‪.)2792‬‬
‫‪" )(770‬البخاري مع الفتح" (‪ ، )11/505‬و "مسلم" (‪.)4/2042‬‬
‫‪" )(771‬مسلم " (‪.)4/2043‬‬

‫‪209‬‬
‫فاج عل ل هم الدن يا ول نا الخرة‪ ،‬فقال ال ‪-‬تعالى‪ :-‬ل أج عل من خلق ته بيدي‪ ،‬ونف خت ف يه من رو حي‪،‬‬
‫كمن قلت له‪ :‬كن‪ ،‬فيكون"(‪.)772‬‬
‫وروى بسند حسن‪ ،‬عن أنس‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬خلق ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫جنة عدن‪ ،‬وغرس أشجارها بيده‪ ،‬فقال لها‪ :‬تكلمي‪ ،‬فقالت‪ :‬قد أفلح المؤمنون"(‪.)773‬‬
‫ورواه ابن جرير موقوفا(‪ ،)774‬وذكره الحافظ ابن كثير‪ ،‬عن ابن أبي الدنيا مرفوعا(‪.)775‬‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ الْ ِقيَامَ ِة } يقول ‪-‬تعالى‪ -‬ذكره‬
‫جمِيعًا قَ ْب َ‬
‫لرْ ضُ َ‬
‫وقال ابن جرير في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَا َ‬
‫‪ :-‬والرض كل ها قبض ته في يوم القيا مة {وال سماوات } كل ها { َمطْ ِويّا تٌ ِب َيمِينِ ِه } ثم روى عن ا بن‬
‫عباس‪ ،‬قال‪ " :‬ما السموات السبع‪ ،‬والرضون السبع في يد ال إل كخردلة في يد أحدكم"‪.‬‬
‫ّاته‬
‫ت َمطْ ِوي ٌ‬
‫ْمه الْ ِقيَامَةِ وَالسهّماوَا ُ‬
‫ُهه َيو َ‬
‫ضت ُ‬‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫ْضه َ‬
‫لر ُ‬‫وروى عهن ربيعهة الجرشهي قال‪{ :‬وَا َ‬
‫ِب َيمِينِهِ} قال‪ " :‬ويده الخرى خلو ليس فيها شيء"‪.‬‬
‫ضتُ هُ} يقول‪ :‬قد ق بض الرض ين وال سموات جميعا‬
‫جمِيعًا َقبْ َ‬
‫لرْ ضُ َ‬
‫و عن ا بن عباس‪ ،‬قوله‪{ :‬وَا َ‬
‫بيمي نه‪ ،‬ألم ت سمع أ نه قال‪َ { :‬مطْ ِويّا تٌ ِب َيمِينِ هِ} يع ني‪ :‬الرض وال سماوات جميعا؟ قال ا بن عباس‪ :‬وإن ما‬
‫يستعين بشماله المشغولة يمينه‪.‬‬
‫ضتُهُ يَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ} قال‪ " :‬كأنها جوزة بقضها وقضيضها"‪.‬‬
‫جمِيعًا َق ْب َ‬
‫ض َ‬
‫لرْ ُ‬
‫وعن الحسن‪{ :‬وَا َ‬
‫حدثنا الربيع‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا ابن وهب‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني أسامة بن زيد‪ ،‬عن أبي حازم‪ ،‬عن عبدال بن‬
‫عمر‪ ،‬أنه رأى رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬على المنبر – يخطب الناس‪،‬‬
‫ص ‪271‬‬
‫ضتُ ُه يَوْ َم الْ ِقيَامَةِ} فقال رسول ال –‬
‫جمِيعًا َق ْب َ‬
‫لرْضُ َ‬
‫حقّ َق ْدرِهِ وَا َ‬
‫فمر بهذه الية‪َ { :‬ومَا َق َدرُوا اللّ َه َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬يأخذ السموات‪ ،‬والرضين السبع فيجعلها في كفه‪ ،‬ثم يقول بهما – كما يقول‬
‫الغلم بالكرة ‪ :-‬أنا ال الواحد‪ ،‬أنا ال العزيز" حتى لقد رأينا المنبر‪ ،‬وإنه ليكاد أن يسقط به(‪.)776‬‬
‫وذكر أحاديث وآثارا في هذا‪.‬‬
‫والحاديث والثار عن السلف في ذلك كثيرة‪.‬‬
‫وروى ا بن ما جه – قال في "الزوائد"‪ :‬و سنده صحيح‪ ،‬والمام أح مد‪ ،‬عن النواس بن سمعان‪،‬‬
‫قال‪ :‬سهمعت رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬يقول‪ " :‬مها مهن قلب إل بيهن إصهبعين مهن أصهابع‬
‫الرحمن‪ ،‬إن شاء أقامه‪ ،‬وإن شاء أزاغه"(‪.)777‬‬

‫‪ " )(772‬السماء والصفات " (ص ‪.)317‬‬


‫‪ )(773‬المصدر المذكور (ص ‪.)318‬‬
‫‪" )(774‬تفسير الطبري " ‪ ،‬مفتتح الجزء (‪.)18‬‬
‫‪" )(775‬تفسير ابن كثير" (‪ )5/455‬ط الشعب ‪.‬‬
‫‪" )(776‬تفسير الطبري" (‪.)28-24/27‬‬

‫‪210‬‬
‫وبهذا – وغيره كثير لم نذكره – يعلم خطأ الخطابي‪ ،‬وفريق أهل التأويل‪ ،‬قطعا‪ ،‬حيث يقول‪" :‬لم‬
‫يقع ذكر الصبع في القرآن‪ ،‬ول في حديث مقطوع به‪ ،‬وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة‪ ،‬حتى يتوهم‬
‫من ثبوتها ثبوت الصابع‪ ،‬بل هو توقيف أطلقه الشارع‪ ،‬فل يكيف‪ ،‬ول يشبه‪ ،‬ولعل ذكر الصابع من‬
‫تخليط اليهودي‪ ،‬وأما ضحكه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬من قول الحبر‪ ،‬فيحتمل الرضا والنكار‪ ،‬وأما‬
‫قول الراوي‪" :‬تصديقا له" فظن منه وحسبان"(‪.)778‬‬
‫ون حن نجيبه بما أجاب به عبدال بن م سعود‪ ،‬لما ق يل له‪ :‬إن المنع من تعل يق التميمة ليس في‬
‫كتاب ال‪.‬‬
‫ُمه‬
‫فنقول‪ :‬بلى‪ ،‬إن ذكهر الصهابع قهد وقهع فهي القرآن؛ لن ال –تعالى‪ -‬يقول فيهه‪{ :‬وَم َا آتَاك ُ‬
‫خذُوه}‪ ،‬وقهد أتانها – صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬بذكهر الصهابع‪ ،‬وذكهر الكهف‪ ،‬وذكهر اليميهن‪،‬‬
‫الرّسهُولُ َف ُ‬
‫والشمال‪ ،‬واليدين‪ ،‬مرة مثناة‪ ،‬ومرة منصوص على أنها واحدة‪ ،‬وأنه‬
‫ص ‪272‬‬
‫يفعل بها كذا وكذا‪ ،‬وأن الخرى فيها كذا‪ ،‬كما تقدمت النصوص بذلك‪ ،‬وهو تبع لهل الكلم –‬
‫المذموم‪ -‬ينكهر وصهف ال ‪-‬تعالى‪ -‬باليديهن حقيقهة‪ ،‬مهع أن القرآن قهد جاء بذلك صهراحة‪ ،‬كمها قال‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ الْ ِقيَامَةِ‬
‫جمِيعًا قَ ْب َ‬
‫جدَ لِمَا خَلَقْ تُ ِب َيدَيّ} (‪{ ،)779‬وَالَرْ ضُ َ‬
‫سُ‬‫س مَا َم َنعَ كَ أَن تَ ْ‬
‫‪-‬تعالى‪{ -‬يَا ِإبْلِي ُ‬
‫وَال سّماوَاتُ َمطْ ِويّا تٌ ِب َيمِينِ هِ} (‪{ ،)780‬بَلْ َيدَا هُ َمبْ سُوطَتَانِ} (‪ .)781‬و هو مع ذلك ل يقبله؛ ل نه على خلف‬
‫تلقاه عن أهل البدع‪ ،‬ولهذا نراه – عفا ال عنا وعنه – يحاول رد النصوص بدون حجة‪ ،‬وكل ما يمكن‬
‫أن يعت مد عل يه هو – و كل من سلك م سلكه من أ هل التأو يل – ادعاؤ هم أن الع قل بخلف ذلك‪ ،‬وأ نه‬
‫محال في العقل‪ ،‬وهو أمر غير منضبط‪ ،‬كما سنشير إليه – إن شاء ال – ودعوى بدون برهان‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ول حديهث مقطوع بهه "‪ ،‬هذا عجيهب مهن الخطابهي‪ ،‬الذي كثهر اشتغاله بالحديهث تأليفا‪،‬‬
‫ورواية‪ ،‬وشرحا لمتونه‪ ،‬وأسانيده‪ ،‬ثم يقول هذا القول‪ ،‬الذي هو عنوان لهل البدع‪ ،‬فهم كلما ألجأتهم‬
‫الحجج إلى المضائق رموها بهذه الدعوى " أنها أدلة غير مقطوع بها"‪.‬‬
‫فإذا كانت أحاديث الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬مع ثبوت أسانيدها غير مقطوع بها‪ ،‬فما هي‬
‫الحجج المقطوع بها في نظر هؤلء؟ هل هي أقوال أقوام متهمين على الدين السلمي‪ ،‬وتحوم حولهم‬
‫شكوك كثيرة؟ كالجعد بن درهم‪ ،‬وجهم بن صفوان‪ ،‬وبشر المريسي‪ ،‬وأحمد بن أبي دؤاد‪ ،‬وابن الثلجي‬
‫ونحوهم‪ ،‬فإن هؤلء هم سلف متأخري الشعرية في تأويلتهم‪.‬‬

‫‪" )(777‬سنن ابن ماجه" (‪ )1/72‬رقم (‪ ، )199‬و "المسند" (‪ ، )4/182‬والجري في الشريعة (ص‬
‫‪ ، )317‬والحاكم (‪ ، )4/321‬وابن أبي عاصم في "السنة" (‪ ، )1/98‬وذكر عدداً من الحاديث بهذا اللفظ‪.‬‬
‫‪ )(778‬من "الفتح" (‪.)13/398‬‬
‫‪ )(779‬الية ‪ 75‬من سورة ص‪.‬‬
‫‪ )(780‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫‪ )(781‬الية ‪ 64‬من سورة المائدة ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫وإننا نربأ بالخطابي أن يسلك هذا المسلك المنحرف عن الهدى‪.‬‬
‫وهذا دليل على ضعف مسلك التأويل في هذه النصوص‪ ،‬وأنه غير مقنع‪.‬‬
‫ص ‪273‬‬
‫ثم هو يقصد بقوله‪ :‬غير مقطوع به‪ ،‬عدم التواتر؛ لنه ل يقبل من الحديث في باب الصفات إل‬
‫ما كان في القرآن‪ ،‬أو تواتر عن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كما ذكر ذلك عنه شيخ السلم ابن‬
‫تيمية‪ ،‬وقد علم أن القرآن جاء بصفة اليدين ل صراحة‬
‫ومعلوم أن الصحابة ومن سلك نهجهم لم يفرقوا بين أصول الدين وفروعه في الثبوت‪ ،‬ومعظم‬
‫الدين السلمي ثبت بأخبار الحاد‬
‫وهذه ال صفات ال تي ينكر ها هؤلء‪ ،‬قد ثب تت في أحاد يث مقطوع ب صحتها ع ند أ هل العلم‪ ،‬وإذا‬
‫صح الحديث وجب قبوله‪ ،‬والعمل به‪ ،‬واليمان بما دل عليه‪ ،‬وحرمت مخالفته‬
‫ول فرق بين كونها في العمليات‪ ،‬أو العتقادات‪ ،‬خلفا لهل البدع الذين يفرقون بين ذلك‬
‫ومعلوم أن الذي جاء بهذه النصوص – في الصفات – هو الذي جاء بالمر بعبادة ال‪ ،‬وتحريم‬
‫هباء الزكاة‪ ،‬وبيان واجبات كثيرة‪ ،‬ومحرمات‬
‫هس‪ ،‬وأنصه‬
‫هلوات الخمه‬
‫الشرك‪ ،‬وبيان عدد ركعات الصه‬
‫كثيرة‪ ،‬لم يأت تفصيلها في القرآن‪ ،‬ول في أخبار متواترة‪ ،‬فلماذا يقبل هذا‪ ،‬ويرد ذاك؟ إن هذا التفريق‬
‫فعل الذين جعلوا دينهم شيعا‪ ،‬وآمنوا ببعض‪ ،‬وكفروا ببعض‪ ،‬وقد تقدم ما فيه كفاية لمن قصده الحق‬
‫من ذكر النصوص في هذه المسألة‪ ،‬وغيرها من مسائل الصفات نظيرها‪ ،‬وقد يكون أوضح منها دليلً‬
‫كما سيأتي بعض ذلك‬
‫وقوله‪ " :‬و قد تقرر أن ال يد لي ست بجار حة‪ ،‬ح تى يتو هم من ثبوت ها ثبوت ال صابع" حقي قة هذا‬
‫الكلم‪ :‬أن اليد ليست يدا‪ ،‬حتى يلزم ثبوت الصابع‪ ،‬ومعلوم أن ال –تعالهى‪ -‬خاطبنا باللغة العربية‪،‬‬
‫وبألفاظ معلو مة المعا ني للمخا طبين‪ ،‬فالمخاطبون بهذه الن صوص‪ ،‬علموا أن المراد ب ها ما دلت عل يه‬
‫بظاهرها‬
‫وكذلك المخاطهب أراد منههم ذلك‪ ،‬ولهذا لم يأت عنهه –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬ول مهن طريهق‬
‫ضعيف‪ ،‬أنه قال‪ :‬ل تعتقدوا ظاهرها‪ ،‬ول سيما وظاهرها عند الخطابي وفريقه كفر وتشبيه فهل يعقل‬
‫أن ال ورسوله يخاطبان العباد بما ظاهره الكفر‪ ،‬ثم ل يبين ذلك لهم‪ ،‬ويحذرهم من اعتقاده؟ ولو كان‬
‫لهذه النصوص معنى عند رسول ال غير ظاهرها لبينه؛ لنه واجب عليه بمقتضى الرسالة‬
‫ص ‪274‬‬
‫والصحابة سمعوا هذه النصوص‪ ،‬ورووها‪ ،‬ولم يسألوا عن معان لها غير ظاهرها‪ ،‬فلما سكتوا‬
‫دل ذلك على أن هم علموا أن المراد ب ها هو الظا هر‪ ،‬فو جب علي نا أن ن سكت ح يث سكتوا‪ ،‬وأن نق بل‬
‫ن المسلمين الذين يعتد بقولهم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ن مِ َ‬
‫ونسلم كما قبلوا وسلموا لها بدون تأويل ونحن نسأل هؤلء‪ :‬مَ ْ‬

‫‪212‬‬
‫إن يهد ال جارحهة؟ وههل جاء ذلك‪ ،‬ولو بحديهث ضعيهف؟ إن هذا ل وجود له‪ ،‬ولكنهها الوهام‪،‬‬
‫والتجاهات الفاسدة‪ ،‬وإرادة التشنيع على أتباع الرسل‬
‫ون حن – بح مد ال وله الم نة – و كل من تل قى عن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬بالقبول‬
‫والتسليم‪ ،‬وفهم المراد – نعتقد مطمئنين أن ل يدين حقيقتين لهما أصابع يضع عليها السموات والرض‬
‫ومها شاء يوم القيامهة‪ ،‬وإن زعمهت أنوف الشعريهة‪ ،‬وإمامنها فهي ذلك رسهولنا محمهد بهن عبهد ال –‬
‫صلوات ال وسلمه عليه – وأصحابه‪ ،‬وأتباعه إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو معلم الخير والهدى‬
‫قال المام أحمهد‪ " :‬الحديهث عندنها على ظاهره‪ ،‬كمها جاء عهن النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪-‬‬
‫(‪)782‬‬
‫والكلم فيه بدعة‪ ،‬ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره"‬
‫ويق صد بالكلم ف يه‪ :‬التأو يل الذي يخر جه عن ظاهره وقال البربهاري(‪ " :)783‬إذا سمعت الر جل‬
‫يطعن على الثار‪ ،‬ول يقبلها‪ ،‬أو ينكر شيئا من أخبار رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فاتهمه على‬
‫(‪)784‬‬
‫السلم‪ ،‬لنا إنما عرفنا ال ورسوله‪ ،‬وعرفنا القرآن‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬بالثار"‬
‫وقال‪ " :‬واعلم أن ها لم ت كن زند قة‪ ،‬ول ك فر‪ ،‬ول شكوك‪ ،‬ول بد عة‪ ،‬ول ضللة‪ ،‬ول حيرة في‬
‫الدين‪ ،‬إل من الكلم وأهل الكلم‪ ،‬والجدل‪ ،‬والمراء‪،‬‬
‫ص ‪275‬‬
‫والخ صومة وك يف يجترئ الر جل على المراء‪ ،‬والخ صومة‪ ،‬والجدال‪ ،‬وال يقول‪ { :‬مَا ُيجَادِلُ‬
‫ل اّلذِينَ كَ َفرُوا } (‪")785‬‬
‫ت اللّهِ ِإ ّ‬
‫فِي آيَا ِ‬
‫وقال أيضا‪ " :‬واعلم إنما جاء هلك الجهمية‪ ،‬من أنهم فكروا في الرب – عز وجل – فأدخلوا‪:‬‬
‫لم‪ ،‬وك يف‪ ،‬وتركوا ال ثر‪ ،‬ووضعوا القياس‪ ،‬وقا سوا الد ين على رأي هم‪ ،‬فجاؤوا بالك فر عيا نا‪ ،‬ل يخ فى‬
‫(‪)786‬‬
‫أنهم كفروا‪ ،‬وكفروا الخلق‪ ،‬واضطرهم المر إلى أن قالوا بالتعطيل"‬
‫وقال‪ " :‬إذا سمعت الر جل يط عن على الثار‪ ،‬أو يرد ها‪ ،‬وير يد غير ها‪ ،‬فاته مه على ال سلم‪،‬‬
‫وقال القا ضي‪ ،‬أ بو الح سين مح مد بن أ بي يعلي‪" :‬قرأت على‬ ‫(‪)787‬‬
‫ول ت شك أ نه صاحب هوى مبتدع"‬
‫المبارك‪ ،‬عن علي بن عمر البرمكي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أحمد بن عبد ال المالكي‪ ،‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا محمد‬
‫بن إبراهيم بن عبد ال بن يعقوب ابن زوران – لفظا – حدثنا أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب‬
‫بن عبدال الفارسي‪ ،‬الصطخري‪ ،‬قال‪ :‬قال أبو عبدال‪ ،‬أحمد بن محمد بن حنبل – وذكر العقيدة إلى‬

‫‪" )(782‬طبقات الحنابلة" (‪)1/242‬‬


‫‪ )(783‬هو شيخ الحنابلة في وقته الحسن بن علي بن خلف ‪ ،‬كان شديد النكار على أهل البدع ‪ ،‬وكان حافظاً‬
‫ثقة ‪ ،‬وأصوليًا متقناً ‪ ،‬له تصانيف كثيرة مفقودة ‪ ،‬توفي سنة ‪" 329‬شذرات الذهب" (‪)2/319‬‬
‫‪" )(784‬طبقات الحنابلة" (‪)2/25‬‬
‫‪ )(785‬المرجع المذكور (ص ‪)27‬‬
‫‪ )(786‬المرجع المذكور (ص ‪)30‬‬
‫‪ )(787‬المرجع المذكور (ص ‪)36‬‬

‫‪213‬‬
‫أن قال – "وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن‪ ،‬يقلبها كيف يشاء‪ ،‬ويوعيها ما أراد‪ ،‬وخلق‬
‫آدم بيده‪ ،‬على صهورته‪ ،‬والسهموات والرض يوم القيامهة فهي كفهه‪ ،‬ويضهع قدمهه فهي النار‪ ،‬فتنزوي"‬
‫وذكر عقيدة طويلة جامعة(‪.)788‬‬
‫وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري‪ " :‬وكل ما سمعت من الثار شيئا لم يبلغه عقلك‪ ،‬نحو‬
‫قول ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬قلوب العباد ب ين إ صبعين من أ صابع الرح من" وقوله‪ :‬إن‬
‫ال ينزل إلى سماء الدن يا‪ ،‬وينزل يوم عر فة‪ ،‬وينزل يوم القيا مة‪ ،‬وأن جه نم ل يزال يطرح فيها‪ ،‬ح تى‬
‫يضع عليها قدمه‪ ،‬وقوله للعبد‪ :‬إن مشيت إليّ هرولت إليك‪ ،‬وقوله‪ :‬خلق ال آدم على صورته‪ ،‬وقول‬
‫الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ ":-‬رأ يت ر بي في أح سن صورة"(‪ ،)789‬وأشباه هذه الحاد يث‪ ،‬فعل يك‬
‫بالتسليم‪،‬‬
‫ص ‪276‬‬
‫والرضا‪ ،‬ول تفسر شيئا من هذه بهواك(‪ ،)791‬فإن اليمان بهذا واجب‪،‬‬ ‫(‪)790‬‬
‫والتصديق‪ ،‬والتفويض‬
‫فمن فسر شيئا من هذا بهواه‪ ،‬أو رده‪ ،‬فهو جهمي"(‪.)792‬‬
‫وهذا الذي ذكره المام أح مد‪ ،‬والبربهاري‪ ،‬هو مذ هب ال سلف‪ ،‬الذ ين تلقوا عن الر سول – صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬ولم يزل السلف يوصي بعضهم بعضا بالتمسك به‪ ،‬والتحذير ممن يخالفه؛ لنه الذي‬
‫دلت عليه نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬بل هو توق يف أطل قه الشارع‪ ،‬فل يك يف‪ ،‬ول يش به "‪ ،‬يع ني أن ل فظ ال يد الثا بت بكتاب‬
‫ال‪ ،‬وبالسنة‪ ،‬توقيف أطلقه الشارع‪ ،‬فل يوقف له على معنى‪ ،‬فهو – عنده‪ -‬ل يدل على ما وضعت له‬
‫كلمة "يد" في اللغة‪ ،‬ومضمون ذلك أن آيات الصفات وأحاديثها ل يعلم لها معان تطابق ألفاظها‪ ،‬وتؤخذ‬
‫منهها‪ ،‬ويلزم على هذا أن الشارع خاطهب الناس بمها ظاهره غيهر مقصهود‪ ،‬ول مطلوب منههم اليمان‬
‫بظاهره‪ ،‬بل قد يكون ظاهره باطلً وكفرا‪ ،‬فمعنى قوله‪ " :‬ل يكيف‪ ،‬ول يشبه" أي‪ :‬ل يثبت لها معنى‬
‫مطابقا للفظ ها في و ضع الل غة‪ ،‬فل يو صف ال –تعالى‪ -‬بال يد الحقيق ية ال تي أثبت ها لنف سه‪ ،‬وأثبت ها له‬
‫رسوله –صلى ال عليه وسلم‪-‬؛ لن هذا تشبيه‪ ،‬فهذه النصوص في هذا الباب ونحوه فيها تشبيه ل –‬
‫تعالى‪ -‬عند هؤلء‪ ،‬ولهذا صار تأويلها متعينا‪.‬‬
‫ومؤول‪.‬‬ ‫(‪)793‬‬
‫فضاعت النصوص التي تعرف ال بها إلى عباده بين مردود‬

‫‪" )(788‬طبقات الحنابلة" (‪)29-1/24‬‬


‫‪ )(789‬هذه رؤية منام كما هو مصرح به في الرواية ‪.‬‬
‫‪ )(790‬المقصود بالتفويض‪ :‬تفويض الحقيقة ‪ ،‬والكيف ‪ ،‬فهو يوكل إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬فإن الخلق ل علم لهم‬
‫بذلك‪.‬‬
‫‪ )(791‬مراده التفسير ‪ :‬التأويل ‪ ،‬وتعيين معنى ل يدل عليه اللفظ إل بتكلف أو بغرابة‪.‬‬
‫‪")(792‬طبقات الحنابلة" (‪.)2/23‬‬
‫‪ )(793‬القاعدة عند الخطابي ‪ :‬أن الحاديث الموافقة للقرآن ‪ ،‬أو المتواترة ‪ ،‬هي التي تقبل في الصفات ‪ ،‬أما‬
‫ما عدا ذلك ‪ ،‬فإنه ل يثبت به صفة ل ‪-‬تعالى‪ ، -‬وهذه القاعدة أخذت من كلمه ‪ ،‬كما سبق قوله في‬

‫‪214‬‬
‫وقوله‪ " :‬ولعل ذكر الصابع من تخليط اليهودي"‪ ،‬جوابه‪ :‬أنه قد تقدم من ذكر بعض النصوص‬
‫ال تي تب طل هذا الهراء‪ ،‬والقول الجائر‪ ،‬أن الخطا بي – ع فا ال ع نا وع نه – بهذا القول إن ما يش نع في‬
‫الحقيقة على رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وال المستعان‪.‬‬
‫ص ‪277‬‬
‫وقوله‪ " :‬فإن اليهود مشبهة‪ ،‬وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه‪ ،‬ول تدخل في‬
‫مذاهب المسلمين "‪ ،‬ونحن ل نبرئ اليهود من الباطل‪ ،‬ولكن نقول‪ :‬إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله‪،‬‬
‫سواء كان من اليهود أو من غيرهم‪.‬‬
‫وهو لم يبين هذه اللفاظ التي تدخل في باب التشبيه على حد قوله‪.‬‬
‫ول كن نعلم من طريق ته أن كل من أث بت ل من ال صفات ما ينكره هو و من سلك نه جه‪ ،‬أن هم‬
‫يسهمونه مشبها‪ ،‬ولو كان متمسهكا بالكتاب والسهنة‪ ،‬فعنده مهن أثبهت ل يدا حقيقيهة فههو مشبهه‪ ،‬وكذلك‬
‫الوجه‪ ،‬والرجل‪ ،‬والصابع‪ ،‬والعينين‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وقوله‪ " :‬وأما ضحكه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬من‬
‫قول الحبر‪ ،‬فيحتمل الرضا‪ ،‬والنكار"‪.‬‬
‫فجوابه‪ :‬أن الحق الذي ل نشك فيه أنه ل يحتمل إل الرضا‪ ،‬والموافقة؛ لن الرسول –صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬ل يضحك من الباطل والكفر الذي هو تشبيه رب العالمين بالخلق‪ ،‬كما هو مقتضى مذهب‬
‫الخطابي‪.‬‬
‫ومقتضى اليمان بالرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يمنع من أن يكون ضحكه من أجل التشبيه‬
‫الذي يقوله اليهودي – كما زعم الخطابي – عفا ال عنا وعنه ‪.-‬‬
‫إن ما يقوله هؤلء في الحقي قة قلب للحقائق‪ ،‬ح تى ت سلم عقيدة الشعر ية من معاول الن صوص‪،‬‬
‫التي تأتي على أسسها بالقتلع(‪ ،)794‬ولو استطاع كثير منهم الرد على ال ور سوله لفعلوا‪ ،‬ولكن كما‬
‫(‪)795‬‬
‫ن}‬
‫حقّ عَلَى ا ْلبَاطِلِ َف َي ْد َمغُهُ َفِإذَا هُ َو زَا ِهقٌ وََل ُكمُ ا ْل َويْلُ ِممّا َتصِفُو َ‬
‫يقول ال ‪-‬تعالى‪ { :-‬بَلْ نَ ْق ِذفُ بِا ْل َ‬
‫و أ ما قوله‪ " :‬وأ ما قول الراوي‪ " :‬ت صديقا له‪ ،‬ف ظن وح سبان" يع ني‪ :‬أن عبدال بن م سعود ظن‬
‫ظنا أخطأ الحق‪ ،‬وأبعد عن الصواب‪ ،‬حيث خالف عقيدة أهل الكلم‪ ،‬فيرد قوله‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬أيهما أولى عند ال‪ ،‬وعند المؤمنين‪ ،‬بالفهم عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪:-‬‬
‫صحابته الذين عايشوه‪ ،‬وتربوا بين يديه‪ ،‬ونقلوا لنا ديننا عنه‪ ،‬أم الخطابي وذووه؟‬
‫ص ‪278‬‬

‫الصابع إنه لم يثبت فيه حديث‪.‬‬


‫‪ )(794‬قال ابن خزيمة ‪ ":‬وقد أجل ال قدر نبيه ‪ ،‬عن أن يوصف الباري بحضرته بما ليس من صفاته ‪،‬‬
‫فيسمعه فيضحك عنده ‪ ،‬ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكًا حتى تبدو نواجذه ؛‬
‫وتعجباً لقائله‪ ،‬ل يصف النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته" كتاب "التوحيد"‬
‫(ص ‪.)76‬‬
‫‪ )(795‬الية ‪ 18‬من سورة النبياء‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫ولو سلم ذلك لمكن كل مبطل أن يقول في أي نص جاء عن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫وصحابته كقولك هذا‪ :‬إنه ظن وحسبان‪ ،‬وأن الصواب خلفه‪ ،‬فتبطل الشريعة كلها‪ .‬تقدم ذكر اليات‬
‫الدالة صراحة على وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬باليدين‪.‬‬
‫قال أ بو سعيد الدار مي – رح مه ال ‪ " :-‬حدث نا أح مد بن يو نس‪ ،‬عن فض يل بن عياض‪ ،‬عن‬
‫من صور‪ ،‬عن إبراه يم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن عبدال‪ ،‬أ نه قال‪ " :‬ض حك من قول ال حبر‪ ،‬تعجبا ل ما قال‪،‬‬
‫وتصديقا له"(‪.)796‬‬
‫"وقهد تواتهر فهي السهنة مجيهء اليهد – وصهفا ‪ -‬ل‪-‬تعالى‪ -‬فعلم مهن ذلك أن ل ‪-‬تعالى‪ -‬يديهن‬
‫مختصتين به‪ ،‬ذاتيتين له‪ ،‬كما يليق بجلله‪ ،‬وأنه ‪-‬تعالى‪ -‬خلق آدم بيده دون الملئكة وإبليس‪ ،‬وأنه –‬
‫طتَانِ} (‪.)797‬‬
‫ل َيدَاهُ َم ْبسُو َ‬
‫سبحانه – يقبض الرض‪ ،‬ويطوي السموات بيده اليمنى‪ ،‬وأن {بَ ْ‬
‫ومعنهى بسهطهما‪ :‬بذل الجود‪ ،‬وسهعة العطاء‪ ،‬لن العطاء والجود فهي الغالب يكون ببسهط اليهد‬
‫ومدها‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬هو مبسوط اليد‪ ،‬فهم منه يد حقيقة‪ ،‬وكان ظاهره الجود والبذل‪.‬‬
‫و قد اعت مد أ هل التأو يل‪ ،‬في تأويل هم ال يد‪ ،‬أن ها النع مة والعط ية‪ ،‬ت سمية للش يء با سم سببه‪ ،‬ك ما‬
‫يسمى المطر والنبات‪ :‬سماء‪ ،‬ومن ذلك قولهم‪ :‬لفلن عندي أياد‪ ،‬وقول أبي طالب لما فقد النبي –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪:-‬‬
‫يا رب رد راكبي محمدا رده عليّ واصطنع عندي يدا‬
‫وقول عروة بن مسعود لبي بكر يوم الحديبية‪ :‬لول يد لك عندي لم أجزك بها لجبتك‪.‬‬
‫وقد تكون اليد بمعنى القدرة‪ ،‬تسمية للشيء باسم مسببه‪ ،‬لن القدرة هي تحرك اليد‪ ،‬يقال‪ :‬فلن‬
‫له يهد فهي كذا وكذا‪ ،‬أي له قدرة‪ ،‬ومنهه قول زياد لمعاويهة‪ " :‬إنهي قهد أمسهكت العراق بإحدى يدي‪،‬‬
‫والخرى فارغة " يريد نصف قدرته‪ .‬وقد يضاف الفعل إلى اليد إضافته إلى الشخص نفسه؛ لن غالب‬
‫الفعال تكون بها‪ ،‬فصار ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه‪ ،‬كما قال –تعالى‪ { :-‬ذَِلكَ ِبمَا َق ّدمَتْ َأ ْيدِي ُكمْ‬
‫} (‪.)798‬‬
‫ص ‪279‬‬
‫وتقول العرب‪ " :‬يداك أوكتا‪ ،‬وفوك نفخ" توبيخا لكل من جر إلى نفسه شرا‪ ،‬لن أول من قيل له‬
‫ذلك‪ ،‬فعل بيديه وفمه‪.‬‬

‫‪ )(796‬الرد على بشر المريسي (ص ‪" )418‬عقائد السلف" ‪ ،‬ورواه ابن خزيمة في "التوحيد" (‪.)2/182‬‬
‫‪ )(797‬الية ‪ 64‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(798‬الية ‪ 182‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫طتَانِ} أي‪ :‬نعم ته في الدن يا الخرة‪ ،‬والل فظ‬
‫ل َيدَا هُ َمبْ سُو َ‬
‫ولذلك قالوا في م ثل قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬بَ ْ‬
‫كنا ية عن ن فس الجود‪ ،‬من غ ير أن يكون هناك يد حقي قة‪ ،‬بل هذه اللف ظة صارت حقي قة في العطاء‬
‫والجود‪.‬‬
‫وقالوا في قوله ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬لمَا خَلَقْتُ ِب َي َديّ} (‪)799‬أي‪ :‬خلقته أنا‪ ،‬وليس هناك يد حقيقية‪ ،‬ونحو هذه‬
‫التأويلت‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أننا ل نن كر لغة العرب التي نزل بها القرآن‪ ،‬وأن ما ذ كر معروف في اللغة‪ ،‬ول كن‬
‫ننكر تحريف الكلم عن مواضعه‪ ،‬واللحاد في أسماء ال وصفاته‪.‬‬
‫فإن لفهظ "اليديهن" بصهيغة التثنيهة‪ ،‬لم يسهتعمل فهي النعمهة‪ ،‬ول فهي القدرة؛ لن مهن لغهة العرب‬
‫خسْرٍ } (‪.)800‬‬
‫ن الِنسَانَ لَفِي ُ‬
‫استعمال الواحد في الجمع‪ ،‬كقوله –تعالى‪ { :-‬إِ ّ‬
‫ن النّاسَ } (‪ ،)801‬والقائل واحد‪.‬‬
‫ولفظ الجمع في الواحد كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬اّلذِينَ قَالَ َل ُه ُم النّاسُ إِ ّ‬
‫ت قُلُو ُب ُكمَا } (‪.)802‬‬
‫ولفظ الجمع في الثنين كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬فَ َقدْ صَغَ ْ‬
‫أما استعمال لفظ الواحد في الثنين‪ ،‬والثنين في الواحد‪ ،‬فل أصل له في اللغة؛ لن هذه اللفاظ‬
‫عدد‪ ،‬وهي نصوص في معناها‪ ،‬ل يتجوز بها‪ ،‬فل يجوز أن تقول‪ :‬عندي رجل‪ ،‬وأنت تريد اثنين‪ ،‬ول‬
‫عندي رجلن‪ ،‬وأ نت تر يد واحدا‪ ،‬ول عندي رجلن‪ ،‬وأ نت تر يد الج نس؛ لن ا سم الوا حد يدل على‬
‫الجنس‪ ،‬والجنس فيه شياع‪ ،‬وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس‪ ،‬والجنس يحصل بحصول الواحد‪.‬‬
‫ْته ِب َيدَي ّ} ل يجوز أن يراد بهه القدرة؛ لن القدرة صهفة واحدة‪ ،‬ول‬
‫فقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬لِم َا خَلَق ُ‬
‫يجوز أن يعبر بالثنين عن الواحد‪.‬‬
‫ص ‪280‬‬
‫ول يجوز أن يراد بهه النعمهة؛ لن نعهم ال ل تحصهى‪ ،‬فل يجوز أن يعهبر عهن النعهم التهي ل‬
‫تحصى بصيغة التثنية‪.‬‬
‫ول يجوز أن يكون ك ما قالوا‪ :‬ل ما خل قت أ نا؛ لن العرب إذا أرادوا ذلك أضافوا الف عل إلى ال يد‪،‬‬
‫فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل‪.‬‬
‫ت َأ ْيدِيكُ مْ } (‪ ،)804‬ومن هذا قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬أَوَلَ مْ‬
‫ت َيدَا كَ } (‪ { ،)803‬ذَلِ كَ ِبمَا َقدّمَ ْ‬
‫كقوله‪ِ { :‬بمَا َقدّمَ ْ‬
‫ت َأ ْيدِينَا َأ ْنعَامًا َف ُهمْ َلهَا مَاِلكُونَ ً} (‪.)805‬‬
‫عمِلَ ْ‬
‫َيرَوْا َأنّا خََل ْقنَا َل ُهمْ ِممّا َ‬

‫‪ )(799‬الية ‪ 75‬من سورة ص‪.‬‬


‫‪ )(800‬الية ‪ 2‬من سورة العصر ‪.‬‬
‫‪ )(801‬الية ‪ 173‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(802‬الية ‪ 4‬من سورة التحريم‪.‬‬
‫‪ )(803‬الية ‪ 10‬من سورة الحج ‪.‬‬
‫‪ )(804‬الية ‪ 182‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(805‬الية ‪ 71‬من سورة يس‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫أما إذا أضيف الفعل إلى الفاعل‪ ،‬وعدى الفعل إلى اليد بحرف الجر كقوله ‪-‬تعالى‪ِ{ :-‬لمَا خَلَقْ تُ‬
‫ِب َيدَيّ} فإنه يكون نصا في أنه فعل ذلك بيديه‪.‬‬
‫ولهذا ل يجوز لمهن تكلم‪ ،‬أو مشهى‪ ،‬أن يقول‪ :‬فعلت ذلك بيدي‪ ،‬ولكهن يقال‪ :‬فعلتهه يداك؛ لن‬
‫مجرد قوله‪ " :‬فعلت" كاف في الضا فة إلى الفا عل‪ ،‬فلو لم يرد أ نه فعله بال يد حقي قة كان قوله‪{ :‬بيدي}‬
‫زيادة ل فائدة فيهها‪ ،‬ول تجهد فهي كلم العرب أن فصهيحا يقول‪ :‬فعلت هذا بيدي‪ ،‬إل وأنهه فعله بيديهه‬
‫حقيقة‪ ،‬ول يجوز أن يقول ذلك وهو ليس له يد"(‪.)806‬‬
‫و أ ما تعليله لنكاره إثبات ال يد ل ‪-‬تعالى‪ -‬وال صابع‪ ،‬بأن ال يد المتعارف علي ها هي الجار حة‪،‬‬
‫وذلك ممتنع على ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن هذا ممت نع لو كا نت ال يد ال تي أثبت ها ال لنف سه من ج نس أيدي المخلوق ين‪ ،‬أ ما إذا‬
‫كانت يدا تناسب ذاته وتليق بعظمته‪ ،‬فما هو المانع من ذلك في العقل والشرع؟ وما هو الموجب لتلك‬
‫التمحلت؟‬
‫وكهل مها يذكهر أههل التأويهل إنمها يدل على امتناع وصهفه –تعالى‪ -‬بمها يسهتحقه المخلوق‪،‬‬
‫وخصائص المخلوقين منفية عنه –تعالى‪ ،-‬وكل ما أثبت ل –تعالى‪ -‬من الصفات فهي كمال‪ ،‬وفقدها‬
‫نقص –تعالى‪ -‬عنه‪.‬‬
‫ص ‪281‬‬
‫ثم هل يجوز مع كثرة ما في كتاب ال‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬من ذكر اليد‪ ،‬دالً على الحقيقة‪ ،‬مثل ذكر‬
‫خلق آدم بيديهه‪ ،‬وأنهمها مبسهوطتان‪ ،‬وأن الرض جميعا قبضتهه يوم القيامهة‪ ،‬وأن السهموات مطويات‬
‫بيمي نه‪ ،‬وأن بيده الملك‪ ،‬و في ال سنة ما ل يح صى إل بمش قة‪ ،‬م ثل ذ كر ال صابع‪ ،‬والق بض‪ ،‬والب سط‪،‬‬
‫واليم ين‪ ،‬والشمال‪ ،‬وأن يد يه كلتاه ما يم ين‪ ،‬ثم ل يبين الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أن هذا غ ير‬
‫مراد منه الظاهر والحقيقة‪ ،‬مع حضه لنا على الفهم؟ وهل يجوز أن يفهم صحابته والتابعون لهم من‬
‫هذه النصوص غير الحق المراد منها‪ ،‬ول يعرف الحق فيها إل جهم بن صفوان – بعد انقراض عهد‬
‫الصحابة – وبشر بن غياث‪ -‬وأشباههما ممن هو مغموص عليه في النفاق؟ مع أن الرسول –صلى ال‬
‫عل يه و سلم‪ -‬قد علم أم ته ك يف يقضون الحا جة‪ ،‬وك يف يأكلون ويشربون‪ ،‬وينامون‪ ،‬ويدخلون بيوت هم‬
‫ويخرجون‪ ،‬ح تى أنزل ال –تعالى‪ -‬عل يه في آ خر ما أنزل‪ { :‬ا ْل َيوْ َم َيئِ سَ اّلذِي نَ كَ َفرُواْ مِن دِي ِنكُ مْ فَلَ‬
‫خشَوْ نِ ا ْل َيوْ مَ َأ ْكمَلْ تُ َلكُ مْ دِي َنكُ مْ وََأ ْت َممْ تُ عََل ْيكُ مْ ِن ْعمَتِي} (‪ ،)807‬والر سول – صلى ال عل يه‬
‫خشَوْهُ مْ وَا ْ‬
‫َت ْ‬
‫وسلم‪ -‬يقول‪ ":‬تركتم على البيضاء ليلها كنهارها ل يزيغ عنها إل هالك"(‪.)808‬‬

‫‪" )(806‬مجموع الفتاوى" (‪.)366-6/363‬‬


‫‪ )(807‬الية ‪ 3‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(808‬تقدم تخريجه‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫ههل يجوز – مهع هذا كله وغيره – أن يترك الكتاب المنزل عليهه‪ ،‬وسهنته الغراء‪ ،‬مملوءان بمها‬
‫يزعهم أههل التأويهل أن ظاهره تشهبيه وتجسهيم‪ ،‬ومهن اعتقهد ظاهره – بزعمههم‪ -‬فههو ضال مشبهه ل‬
‫ومجسم‪ ،‬ثم ل يبين ذلك ول يوضحه‪ ،‬بل يكثر من ذكر ما يؤيد الظاهر بكل صراحة؟ إنه ل يعتقد ذلك‬
‫ويقوله إل ضال في دينه لم يعرف ما أنزل ال على رسوله‪ ،‬ولم يعرف الرسول حق المعرفة‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ " :‬واطراد لفظ اليد في موارد استعمالها‪ ،‬وتنوع ذلك‪ ،‬يوجب أن تكون اليد حقيقة‪،‬‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ‬
‫جمِيعًا قَ ْب َ‬
‫لرْ ضُ َ‬
‫طتَانِ } (‪ { ،)810‬وَا َ‬
‫ل َيدَا ُه َمبْ سُو َ‬
‫كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬لِمَا خَلَقْ تُ ِب َيدَيّ} (‪ { ،)809‬بَ ْ‬
‫ت َمطْ ِويّاتٌ ِب َيمِينِهِ } (‪.)811‬‬
‫الْ ِقيَامَةِ وَالسّماوَا ُ‬
‫ص ‪282‬‬
‫فلو كان المراد‪ :‬القدرة‪ ،‬أو النعمة‪ ،‬لم يستعمل منه لفظ "يمين"‪ ،‬كما في الحديث "المقسطون عند‬
‫ال على منابر مهن نور عهن يميهن الرحمهن‪ ،‬وكلتها يديهه يميهن"(‪ ،)812‬فل يصهح أن تكون يهد القدرة‪،‬‬
‫(‪)813‬‬
‫والنعمة‪ ،‬وقوله‪ " :‬يقبض ال سماوات بيده‪ ،‬والرض باليد الخرى‪ ،‬ثم يهزهن‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك"‬
‫فالهز والقبض‪ ،‬وذكر اليدين‪ ،‬يمنع ذلك‪.‬‬
‫ولما ذكر ذلك رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬جعل يقبض يديه ويبسطهما‪ ،‬تحقيقا للصفة‪ ،‬ل‬
‫(‪)814‬‬
‫سمِيعًا بَ صِيرًا}‬
‫ت شبيها ل ها‪ ،‬ك ما أ نه – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ل ما قرأ قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬وكَا نَ الّل ُه َ‬
‫وضع إصبعه على عينه والخرى على أذنه؛ تحقيقا لصفة السمع والبصر‪.‬‬
‫وقوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬لما خلق ال آدم قبض بيديه‪ ،‬وقال‪ :‬اختر‪ ،‬فقال‪ :‬اخترت يمين‬
‫ربي‪ ،‬وكلتا يديه يمين ففتحها‪ ،‬فإذا فيها أهل اليمين من ذريته"(‪.)815‬‬
‫وقوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار‬
‫ليتوب مسيء الليل"(‪)816‬اهه‪.‬‬
‫وقد تقدمت الشارة إلى بعض النصوص في ذلك‪.‬‬
‫فاقتران الطي والقبض‪ ،‬والمساك باليد‪ ،‬جعل تأويلها بالقدرة والنعمة تحريفا باطلً‪.‬‬
‫قال المام ا بن خزي مة‪ " :‬ن حن نقول‪ :‬ال – جل وعل‪ -‬له يدان‪ ،‬ك ما أعلم نا الباري في مح كم‬
‫تنزيله‪ ،‬وعلى لسان نبيه المصطفي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ونقول‪ :‬كلتا يدي ربنا يمين‪ ،‬على ما أخبر‬

‫‪ )(809‬الية ‪ 75‬من سورة ص‪.‬‬


‫‪ )(810‬الية ‪ 64‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(811‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫‪ )(812‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫‪ )(813‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫‪ )(814‬الية ‪ 134‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪ )(815‬مضى تخريجه‪.‬‬
‫‪" )(816‬مختصر الصواعق" (ص ‪.)337‬‬

‫‪219‬‬
‫النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬ونقول‪ :‬إن ال – عهز وجهل – يقبهض الرض بإحدى يديهه‪ ،‬ويطوي‬
‫السماء بيده الخرى "(‪.)817‬‬
‫ص ‪283‬‬
‫فمن أثبت ل ‪-‬تعالى‪ -‬يدين‪ ،‬وأثبت لهما أصابع‪ ،‬على ما جاء في النصوص الصحيحة‪ ،‬ل يكون‬
‫مشبها‪ ،‬بهل يكون متبعا لكتاب ال وسهنة رسهوله‪ ،‬مطيعا ل ورسهوله فهي ذلك؛ لنهه أثبهت ل مها أثبتهه‬
‫لنفسه‪ ،‬وأثبته له رسوله –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫وال ‪-‬تعالى‪ -‬ليس كمثله شيء ل في ذاته ول في أوصافه؛ لن الوصف تابع للموصوف‪.‬‬
‫وقال البغوي‪ " :‬الصبع المذكورة في الحديث صفة‪ ،‬من صفات ال – عز وجل – وكذلك كل ما‬
‫جاء به الكتاب أو ال سنة من هذا القب يل‪ ،‬في صفات ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬كالن فس‪ ،‬والو جه‪ ،‬والع ين‪ ،‬وال يد‬
‫والرجل‪ ،‬والتيان‪ ،‬والمجيء‪ ،‬والنزول إلى السماء الدنيا‪ ،‬والستواء على العرش‪ ،‬والضحك‪ ،‬والفرح‪.‬‬
‫طنَ ْع ُتكَ ِلنَفْ سِي} (‪ ،)818‬وقال – عز وجل – {ولتصنع على عيني}‬
‫صَ‬‫قال ال ‪-‬تعالى‪ -‬لموسى‪{ :‬وَا ْ‬
‫جهَ هُ} (‪ ،)820‬وقال – عز و جل ‪{ :-‬ويب قى و جه‬
‫ك ِإلّ َو ْ‬
‫شيْءٍ هَالِ ٌ‬
‫(‪ ،819‬وقال – سبحانه وتعالى ‪{ :-‬كُلّ َ‬
‫ربهك ذو الجلل والكرام} (‪ ،)821‬وقال تعالى‪ { :‬بل يداه مبسهوطتان} (‪ ،)822‬وقال – جل وعل‪{ :-‬قَالَ يَا‬
‫ضتُ ُه يَوْ مَ الْ ِقيَامَةِ‬
‫جمِيعًا قَ ْب َ‬
‫ت ِب َيدَيّ} (‪ ،)823‬وقال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَالَرْ ضُ َ‬
‫جدَ ِلمَا خَلَقْ ُ‬
‫سُ‬‫ِإبْلِي سُ مَا َم َنعَ كَ أَن تَ ْ‬
‫ت َمطْ ِويّا تٌ ِب َيمِينِ هِ } (‪ ،)824‬وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬هل ينظرون إل أن يأتيهم ال في ظلل من الغمام}‬
‫وَال سّماوَا ُ‬
‫(‪ ،)825‬وقال – سبحانه وتعالى ‪{ :-‬وجاء ربك والملك صفا صفا} (‪ ،)826‬وقال –‬
‫ص ‪284‬‬
‫حمَنُ‬
‫ش الرّ ْ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْ ِ‬
‫ستَوَى} (‪ ،)827‬وقال ‪-‬تعالى‪ُ { :-‬ثمّ ا ْ‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫تعالى ‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫} (‪.)828‬‬

‫‪)(817‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)83‬‬


‫‪ )(818‬الية ‪ 41‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(819‬الية ‪ 39‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(820‬الية ‪ 88‬من سورة القصص‪.‬‬
‫‪ )(821‬الية ‪ 27‬من سورة الرحمن ‪.‬‬
‫‪ )(822‬الية ‪ 64‬من سورة المائدة ‪.‬‬
‫‪ )(823‬الية ‪ 75‬من سورة ص‪.‬‬
‫‪ )(824‬الية ‪ 67‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫‪ )(825‬الية ‪ 210‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(826‬الية ‪ 22‬من سورة الفجر ‪.‬‬
‫‪ )(827‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(828‬الية ‪ 59‬من سورة الفرقان‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫وقال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث‬
‫الل يل ال خر"(‪ ،)829‬وروى أ نس‪ ،‬عن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال‪ " :‬ل تزال جه نم يل قى في ها‪،‬‬
‫وتقول‪ :‬هل من مز يد؟ ح تى ي ضع رب العزة في ها قد مه"‪ ،‬و في روا ية أ بي هريرة‪ " :‬ح تى ي ضع ال‬
‫رجله"(‪ ،)830‬و في حد يث أ بي هريرة في آ خر من يخرج من النار "فيض حك ال م نه‪ ،‬ثم يأذن له في‬
‫دخول الج نة"(‪ ،)831‬و في حد يث جابر‪ " :‬فيتجلى ل هم يض حك"(‪ ،)832‬و في حد يث أ نس وغيره‪ " :‬ل أفرح‬
‫بتوبة عبده‪ ،‬من أحدكم يسقط على بعيره‪ ،‬وقد أضله في أرض فلة"(‪.)833‬‬

‫فهذه ونظائرها صفات ل ‪-‬تعالى‪ ،-‬ورد بها السمع‪ ،‬يجب اليمان بها‪ ،‬وإمرارها على ظاهرها‪،‬‬
‫معرضا فيهها عهن التأويهل‪ ،‬مجتنبا التشهبيه‪ ،‬معتقدا أن الباري – سهبحانه وتعالى‪ -‬ل يشبهه شيهء مهن‬
‫شيْءٌ وَهُ َو السّهمِيعُ‬
‫صهفاته صهفات خلقهه‪ ،‬كمها ل تشبهه ذاتهه ذوات خلقهه‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪َ{ :-‬ليْسَه َك ِمثْلِهِه َ‬
‫ال َبصِيرُ} (‪.)834‬‬
‫وعلى هذا مضهى سهلف المهة‪ ،‬وعلماء السهنة‪ ،‬تلقوهها جميعا باليمان والقبول‪ ،‬وتجنبوا فيهها‬
‫التمثيل والتأويل‪ ،‬ووكلوا العلم فيها إلى ال – عز وجل ‪.-‬‬
‫قال سفيان بن عيينة‪ " :‬كل ما وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته‪ ،‬والسكوت‬
‫عليه‪ ،‬ليس لحد أن يفسره إل ال ‪-‬تعالى‪ -‬ورسوله "‪.‬‬
‫وقال الزهري‪ " :‬على ال البيان‪ ،‬وعلى الرسول البلغ‪ ،‬وعلينا التسليم"‪.‬‬
‫ص ‪285‬‬
‫وقال بعض السلف‪ " :‬قدم السلم ل تثبت إل على قنطرة التسليم"(‪.)835‬‬
‫ومراده بقوله‪ " :‬ووكلوا العلم في ها إلى ال " علم الكيف ية‪ ،‬وأ ما ما يف هم من ها في الو ضع اللغوي‬
‫في ظاهر ومعلوم‪ ،‬وكذا ما ذكره عن سفيان أنها ل تفسر‪ ،‬أي تؤول وتطلب معرفة كيفيتها‪.‬‬
‫وهذا كثير في أقوال العلماء والسلف من أهل السنة‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪" :‬ورد لفظ اليد في القرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬وكلم الصحابة والتابعين‪ ،‬في أكثر من مائة‬
‫موضهع‪ ،‬ورودا متنوعا‪ ،‬متصهرفا فيهه‪ ،‬مقرونا بمها يدل على أنهها يهد حقيقهة‪ ،‬مهن المسهاك‪ ،‬والطهي‪،‬‬
‫والقبهض‪ ،‬والبسهط‪ ،‬والمصهافحة‪ ،‬والحثيات‪ ،‬والنضهح باليهد‪ ،‬والخلق باليديهن‪ ،‬والمباشرة بهمها‪ ،‬وكتهب‬
‫التوارة بيده‪ ،‬وغرس جنة عدن بيده‪ ،‬وتخمير طينة آدم بيده‪ ،‬ووقوف العبد بين يديه‪ ،‬وكون المقسطين‬

‫‪ )(829‬سيأتي شرحه ‪ ،‬إن شاء ال ‪.‬‬


‫‪ )(830‬تقدم ‪ ،‬وهو في "مسلم" رقم (‪.)2848‬‬
‫‪ )(831‬متفق عليه ‪ ،‬وسيأتي ‪ ،‬إن شاء ال ‪.‬‬
‫‪ )(832‬رواه مسلم في " اليمان " رقم (‪.)191‬‬
‫‪ )(833‬انظره في "مسلم" (‪ )4/2104‬رقم (‪.)2747‬‬
‫‪ )(834‬الية ‪ 11‬من سورة الشورى‪.‬‬
‫‪" )(835‬شرح السنة " (‪.)171-1/168‬‬

‫‪221‬‬
‫عن يمينه‪ ،‬وقيام رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يوم القيامة عن يمينه‪ ،‬وتخيير آدم بين ما في يديه‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬اخترت يمين ربي"‪ ،‬وأخذ الصدقة بيمينه‪ ،‬يربيها لصاحبها‪ ،‬وكتابته بيده على نفسه‪ :‬أن رحمته‬
‫تغلب غضبه‪ ،‬وأنه مسح ظهر آدم بيده‪ ،‬ثم قال له – ويداه مقبوضتان – "اختر"‪ ،‬فقال‪ " :‬اخترت يمين‬
‫ر بي"‪ ،‬وكل تا يد يه يم ين مبار كة‪ ،‬وأن يمي نه ملى ل يغيض ها نف قة سحاء الل يل والنهار‪ ،‬وبيده الخرى‬
‫القسط‪ ،‬يرفع ويخفض‪ ،‬وأنه خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الرض‪ ،‬وأنه يطوي السموات يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ثم يأخذهن بيده اليمنى‪ ،‬ثم يطوى الرض باليد الخرى‪ ،‬وأنه خط اللواح التي كتبها لموسى‬
‫بيده"(‪.)836‬‬

‫‪" )(836‬مختصر الصواعق" (ص ‪.)348‬‬

‫‪222‬‬
‫ص ‪286‬‬
‫قال‪ " :‬باب قول النبي –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬ل شخص أغير من ال"‪.‬‬
‫وقال عبيد ال بن عمرو بن عبد الملك‪ :‬ل شخص أغير من ال‪.‬‬
‫الغيرة – بف تح الغ ين – وإ سكان الياء – و هي في الل غة مأخوذة من التغ ير الحا صل من الن فة‪،‬‬
‫والحمية‪.‬‬
‫والشخص‪ :‬هو ما شخص وبان عن غيره‪.‬‬
‫ومقصد البخاري أن هذين السمين يخبر بهما عن ال ‪-‬تعالى‪ -‬وصفا له؛ لن الرسول –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬أثبتهما ل‪ ،‬وهو أعلم الخلق بال –تعالى‪.-‬‬
‫قال النووي‪ " :‬قال العلماء‪ :‬الغيرة بفتهح الغيهن‪ ،‬وأصهلها المنهع‪ ،‬والرجهل غيور على أهله‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر‪ ،‬أو حديث‪ ،‬أو غيره‪ ،‬والغيرة صفة كمال"(‪.)837‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬و قد ف سر الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬غيرة ال في قوله‪ " :‬إن ال يغار‪،‬‬
‫وغيرة ال أن يأتي المؤمن ما حرم ال "(‪.)838‬‬
‫ومعناه‪ :‬أن ال يغار إذا انتهكهت محارمهه‪ ،‬وليهس انتهاك المحارم ههو غيرة ال؛ لن انتهاك‬
‫المحارم فعل العبد‪ ،‬ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره‪.‬‬
‫وغيرة ال ‪-‬تعالى‪ -‬من ج نس صفاته ال تي يخ تص ب ها‪ ،‬ف هي لي ست مماثلة لغيرة المخلوق‪ ،‬بل‬
‫هي صفة تليق بعظمته‪ ،‬مثل الغضب‪ ،‬والرضا‪ ،‬ونحو ذلك من خصائصه التي ل يشاركه الخلق فيها‪.‬‬
‫و قد تقرر أ نه ‪-‬تعالى‪ -‬ل يس كمثله ش يء في ذا ته‪ ،‬فكذلك في صفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬ول كن ل بد من‬
‫الشتراك فهي ألفاظ السهماء التهي تضاف إلى ال صهفات له‪ ،‬وبيهن ألفاظ السهماء التهي يوصهف بهها‬
‫العباد؛ لنه ل يمكن معرفة ما غاب عنا إل بمعرفة ما شهدناه‪ ،‬فنعتبر بعقولنا الغائب بالشاهد‪.‬‬
‫ص ‪287‬‬
‫فلول أنها نجهد مهن أنفسهنا جوعا‪ ،‬وعطشا‪ ،‬وشبعا‪ ،‬وريا‪ ،‬وحبا‪ ،‬وبغضا‪ ،‬ولذةً‪ ،‬وألما‪ ،‬ورضا‪،‬‬
‫وسخطا‪ ،‬لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا وأخبرنا به عن غيرنا‪.‬‬
‫ولو لم نعلم ما في المشاهد من الحياة‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والكلم‪ ،‬لم نفهم ما نخاطب به من ذلك‬
‫في الغائب‪.‬‬
‫فل بد فيما شهدناه‪ ،‬وما غاب عنا‪ ،‬من قدر مشترك‪ ،‬هو مسمى اللفظ‪.‬‬
‫وقد أخبرنا عن نعيم الخرة‪ ،‬وعذابها مما يؤكل‪ ،‬ويشرب‪ ،‬ويفرح‪ ،‬ويحزن‪ ،‬وينعم‪ ،‬ويؤلم‪ ،‬فلول‬
‫معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا‪ ،‬لم نفهم ما وعدنا به من ذلك‪ ،‬مع علمنا أن حقائق ما في الخرة ليست‬
‫كحقائق ما في الدنيا‪ ،‬كما قال ابن عباس في تفسير قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَُأتُو ْا بِ ِه ُم َتشَابِها}‪ " :‬ليس في الدنيا‬

‫‪" )(837‬شرح مسلم " (‪.)10/132‬‬


‫‪" )(838‬الفتح" (‪.)9/319‬‬

‫‪223‬‬
‫مما في الجنة إل السماء "(‪ ،)839‬ولكن بين ما في الدنيا‪ ،‬وما في الخرة‪ ،‬مشابهة واشتراك من بعض‬
‫الوجوه‪ .‬وبذلك نفههم المراد‪ ،‬فنحهب النعيهم‪ ،‬ونرغهب فيهه‪ ،‬ونكره المؤلم‪ ،‬وننفهر عنهه‪ ،‬فنعرف معنهى‬
‫الع سل‪ ،‬والل بن‪ ،‬والحر ير‪ ،‬والذ هب‪ ،‬ونفرق بينه ما؛ ل ما عرفناه من نظير ها في الشا هد‪ ،‬وإن كا نت‬
‫س مّا ُأخْفِ يَ َلهُم‬
‫حقائقها فيما هي عليه ل يعلمها إل ال –تعالى‪ ،-‬كما قال – جل وعل ‪{ :-‬فَل َتعْلَ مُ نَفْ ٌ‬
‫عيُنٍ} (‪.)840‬‬
‫مّن قُرّ ِة أَ ْ‬
‫فإذا كان هذا في صفات المخلوق‪ ،‬فك يف في صفات الخالق – جل و عز – فإن ها أ شد مباي نة‪،‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬إذا قال نفاة الصهفات‪ :‬النزول‪ ،‬والسهتواء‪ ،‬مهن صهفات الجسهام‪ ،‬فإنهه ل يعقهل إل لجسهم‬
‫مركب‪ ،‬وال منزه عن ذلك‪.‬‬
‫فيقال لهم‪ :‬وكذلك الحياة‪ ،‬والرادة‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والعلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والكلم‪ ،‬هي من صفات‬
‫الجسام‪ ،‬فإنه ل يعقل من يسمع‪ ،‬ويبصر‪ ،‬ويريد‪ ،‬ويعلم‪ ،‬ويقدر‪ ،‬ويتكلم‪ ،‬ويكون حيا‪ ،‬إل الجسم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬سمعه ليس كسمعنا‪ ،‬وعلمه ليس كعلمنا‪ ،‬وبصره ليس كبصرنا‪ ،‬وكذا البقية‪.‬‬
‫ص ‪288‬‬
‫قيل‪ :‬فكذلك نزوله‪ ،‬واستواؤه‪ ،‬وغضبه‪ ،‬وفرحه‪ ،‬وحبه‪ ،‬وغيرته‪ ،‬وسائر صفاته‪ ،‬والذين يؤولون‬
‫النصوص في ذلك‪ ،‬مخالفون لها‪ ،‬ومتناقضون‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وقال عبيد ال بن عمرو‪ ،‬عن عبد الملك‪ ":‬ل شخص أغير من ال" قال الحافظ‪ " :‬يعني‬
‫أن عبيد ال بن عمرو‪ ،‬روى الحديث المذكور‪ ،‬عن عبد الملك‪ ،‬بالسند المذكور فقال‪ " :‬ل شخص" بدل‬
‫كل مة " ل أ حد" و قد و صله الدار مي‪ ،‬ثم ذ كر سنده‪ ،‬و ساقه أ بو عوا نة – يعقوب ال سفرائيني – في‬
‫"صحيحه" عن محمد بن عيسى العطار‪ ،‬عن زكريا بتمامه‪ ،‬وقال في المواضع الثلثة‪ " :‬ل شخص"‪.‬‬
‫قال السماعيلي – بعد أن أخرجه ‪ :-‬من طريق عبيد ال بن عمرو القواريري‪ ،‬وأبي كامل –‬
‫فض يل بن ح سين الجحدري – ومح مد بن ع بد الملك بن أ بي الشوارب‪ ،‬ثلثت هم عن أ بي عوا نة –‬
‫الوضاح الب صري – بالسند الذي أخر جه {به} البخاري‪ ،‬ول كن قال في الموا ضع الثل ثة‪ " :‬ل ش خص"‬
‫بدل " ل أحد"‪.‬‬
‫ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك‪.‬‬
‫فكأن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي عوانة‪ ،‬عن عبد الملك‪ ،‬فلذلك علقها‬
‫عن عبيد ال بن عمرو‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أخرجه مسلم‪ ،‬عن القواريري‪ ،‬وأبى كامل‪ ،‬كذلك" ا‪.‬هه(‪.)841‬‬

‫‪ )(839‬رواه ابن جرير في "تفسيره" انظر (‪ )394-1/393‬بتحقيق ‪ :‬محمود شاكر ‪.‬‬


‫‪ )(840‬الية ‪ 17‬من سورة السجدة‪.‬‬
‫‪" )(841‬الفتح" (‪.)13/400‬‬

‫‪224‬‬
‫ل مع امرأتي لضربته بالسيف‬
‫ولفظ مسلم‪ ،‬بعد ذكر السند‪ " :‬قال سعد بن عبادة‪ :‬لو رأيت رج ً‬
‫غير مصفح عنه‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال‪ " :‬أتعجبون من غيرة سعد؟ فوال‬
‫لنا أغير منه‪ ،‬وال أغير مني‪ ،‬من أجل غيرة ال حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ول شخص‬
‫أغير من ال‪ ،‬ول شخص أحب إليه العذر من ال‪ ،‬من أجل ذلك بعث ال المرسلين مبشرين ومنذرين‪،‬‬
‫ول شخص أحب إليه المدحة من ال‪ ،‬من أجل ذلك وعد ال الجنة"(‪.)842‬‬
‫ورواه المام أحمد في "المسند" بهذا اللفظ(‪ ،)843‬قال عبدال ابن المام أحمد بعد ذكره‪ ،‬قال عبيد‬
‫ال القواريري‪ :‬ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث‪.‬‬
‫ص ‪289‬‬
‫وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله‪ " :‬أجمعت المة على أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ل يجوز أن يوصف‬
‫بأنه شخص‪ ،‬لن التوقيف لم يرد به " ا‪.‬هه ذكره الحافظ(‪.)844‬‬
‫وهذه مجازفة ودعوى عارية من الدليل‪ ،‬فأين هذا الجماع المزعوم؟ ومن قاله؟ سوى المتأثرين‬
‫ببدع أهل الكلم‪ ،‬كالخطابي‪ ،‬وابن فورك‪ ،‬وابن بطال‪ -‬عفا ال عنا وعنهم‪-‬‬
‫وقوله‪ " :‬لن التوقيف لم يرد به " يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول ال –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬بطرق صحيحة ل مطعن فيها‪.‬‬
‫و إذا صح الحد يث عن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬و جب الع مل به‪ ،‬والقول بموج به‬
‫سواء كان في م سائل العتقاد‪ ،‬أو في العمليات‪ ،‬و قد صح ع نه – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إطلق هذا‬
‫السم – أعني الشخص – على ال ‪-‬تعالى‪ -‬خبرا‪ ،‬فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول‬
‫ال‪ ،‬وهو –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه ‪-‬تعالى‪ -‬من غيره من سائر‬
‫البشر‪.‬‬
‫وتقدم أن الشخص في اللغة‪ :‬ما شخص‪ ،‬وارتفع‪ ،‬وظهر‪.‬‬
‫قال في "اللسان"‪ " :‬الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور"(‪.)845‬‬
‫وال ‪-‬تعالى‪ -‬أظهر من كل شيء‪ ،‬وأعظم‪ ،‬وأكبر‪ ،‬وليس في إطلق الشخص عليه محذور على‬
‫أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله ال ورسوله‪.‬‬

‫‪" )(842‬صحيح مسلم " (‪ )2/1136‬رقم (‪.)1499‬‬


‫‪" )(843‬المسند" (‪ )4/248‬ورواه الدارمي في "سننه" (‪)2/73‬‬
‫‪ )(844‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)13/400‬‬
‫‪ )(845‬انظر ‪ " :‬لسان العرب" (‪ )2/281‬المرتب‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫ص ‪290‬‬
‫‪-45‬قال‪ " :‬حدثنا موسى بن إ سماعيل التبوذكي‪ ،‬حدثنا أبو عوانة‪ ،‬حدثنا عبد الملك‪ ،‬عن وراد‬
‫كاتب المغيرة‪ ،‬عن المغيرة‪ ،‬قال‪ :‬قال سعد بن عبادة‪ :‬لو رأيت رجلً مع امرأتي لضربته بالسيف غير‬
‫م صفح‪ ،‬فبلغ ذلك ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬فقال‪ " :‬تعجبون من غيرة سعد‪ ،‬وال ل نا أغ ير‬
‫منه‪ ،‬وال أغير مني‪ ،‬ومن أجل غيرة ال حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ول أحد أحب إليه‬
‫العذر من ال‪ ،‬ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين‪ ،‬ول أحد أحب إليه المدحة من ال‪ ،‬ومن أجل‬
‫ذلك وعد ال الجنة "‪.‬‬
‫نكتفي بما تقدم من كلم على معنى الحديث‪ ،‬ونذكر موجزا من الكلم مما فيه فائدة‪ ،‬وتقدم معنى‬
‫الغيرة‪ ،‬وأن ها صفة كمال‪ ،‬ك ما تقدم أ نا ل يم كن أن نف هم ما خوطب نا به إل بوا سطة المعلوم ل نا في‬
‫الشاهد المشارك له في المعنى في الجملة‪ ،‬وإن كان البون شاسعا‪.‬‬
‫قال النووي‪ " :‬أ خبر – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أن سعدا غيور‪ ،‬وأ نه أغ ير م نه‪ ،‬وأن ال أغ ير‬
‫م نه‪ ،‬وأ نه من أ جل ذلك حرم الفوا حش‪ ،‬فهذا تف سير لمع نى غيرة ال –تعال هى‪ ،-‬أي‪ :‬أن ها من عه –‬
‫سبحانه وتعالى – الناس من الفواحش"(‪.)846‬‬
‫ققلت‪ :‬ل يس هذا هو غيرة ال ‪-‬تعالى‪ -‬ولك نه مقت ضى الغيرة‪ ،‬ك ما يوض حه قوله‪ " :‬و من أ جل‬
‫غيرة ال حرم الفواحش" فبين أن تحريم الفواحش‪ ،‬والمنع منها‪ ،‬ليس هو الغيرة‪ ،‬وإنما هو من آثارها‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬لو رأ يت رجلً مع امرأ تي‪ ،‬لضرب ته بال سيف غير م صفح" أي‪ :‬لضرب ته ب حد السيف ل‬
‫ب صفحه‪ ،‬يع ني‪ :‬لقتله بدون توقف‪ ،‬وقد أقره رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬على ذلك‪ ،‬وأخبر أ نه‬
‫أغير من سعد‪ ،‬وأن ال أغير منه‪ ،‬وأما قول القرطبي وغيره‪ :‬إن قوله‪ " :‬ول أحد أحب إليه العذر من‬
‫ال " إشارة إلى النكار على سعد‪ ،‬فغير صحيح‪ ،‬بل مدلول الحديث خل فه‪ ،‬ول بد من الغيرة‪ ،‬والذي‬
‫ل غيرة له ديوث‪ ،‬والديوث ل يدخل الجنة‪ ،‬كما في "سنن النسائي"(‪)847‬وغيرها‪.‬‬
‫ص ‪291‬‬
‫ولهذا قال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬تعجبون من غيرة سعد‪ ،‬وال ل نا أغ ير م نه‪ ،‬وال أغ ير‬
‫مني" الخ‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ومن أجل غيرة ال حرم الفواحش‪ ،‬ما ظهر منها‪ ،‬وما بطن" أي‪ :‬من أثر غيرة ال‪ :‬منع‬
‫عباده من قربان الفواحش‪ ،‬وهي‪ :‬ما عظم وفحش في النفوس الزاكية والعقول السليمة مثل الزنا‪.‬‬
‫والظاهر‪ :‬يشمل ما فعل علنا‪ ،‬وما باشرته الجوارح وإن كان سرا‪.‬‬
‫والباطن‪ :‬يشمل ما في السر‪ ،‬وما انطوت عليه القلوب‪.‬‬

‫‪" )(846‬شرح مسلم" (‪.)10/132‬‬


‫‪" )(847‬المجتبي" (‪ ، )5/80‬رواه أحمد في "المسند" (‪ )2/134‬وفي سنده عبدال بن يسار ‪ ،‬روى له‬
‫النسائي ‪ ،‬وذكره ابن حبان في "الثقات" ‪ ،‬وبقية رجاله ثقات مشهورون‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫قوله‪ " :‬ول أحد أحب إليه العذر من ال‪ ،‬ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين"‪.‬‬
‫العذر‪ :‬هو طلب الع فو عن ف عل سابق مع العتراف بالذ نب والندم على وقو عه م نه‪ ،‬ويراد به‬
‫العذار‪ ،‬وههو إقامهة البينات‪ ،‬والحجهج‪ ،‬وإيضاح طريهق الخيهر والشهر‪ ،‬وكلهمها يدخهل فيمها ذكهر‪،‬‬
‫والمبشرون والمنذرون هم الرسل‪ ،‬وفي رواية مسلم‪ " :‬بعث المرسلين مبشرين ومنذرين" وفي رواية‬
‫له أيضا‪ " :‬ولذلك أنزل الكتب والرسل"‪.‬‬
‫قال عياض‪ :‬المع نى‪ :‬ب عث المر سلين للعذار والنذار لخل قه‪ ،‬ق بل أخذ هم بالعقو بة‪ ،‬و هو كقوله‬
‫حجّ ٌة َب ْعدَ الرّسُلِ} (‪.)848‬‬
‫ن لِلنّاسِ عَلَى اللّ ِه ُ‬
‫ل َيكُو َ‬
‫شرِينَ َومُن ِذرِينَ ِلئَ ّ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬رّسُلً ّم َب ّ‬
‫قوله‪ " :‬ول أ حد أ حب إل يه المد حة من ال‪ ،‬و من أ جل ذلك و عد ال الج نة" هذا لكماله المطلق‪،‬‬
‫ف هو ‪-‬تعالى‪ -‬ي حب من عباده أن يثنوا عل يه ويمدحوه على فضله وجوده‪ ،‬و من أ جل ذلك جاد علي هم‬
‫بكل نعمة يتمتعون بها‪ ،‬ويرضى عنهم إذا حمدوه عليها‪.‬‬
‫ومهما أثنوا عليه ومدحوه ل يمكن أن يصلوا إلى ما يستحقه من المدح والثناء‪ ،‬ولهذا مدح نفسه‬
‫كمها تقدم‪ ،‬فوعهد الجنهة ليكثهر سهؤاله‪ ،‬والثناء عليهه مهن عباده ومدحهه‪ ،‬ويجهدوا فهي ذلك غايهة مها‬
‫يستطيعون؛ لن الجنة هي منتهى النعام‪.‬‬
‫ص ‪292‬‬
‫شهَاد ًة قُلِ اللّههِ} (‪ " ")849‬فسهمى ال ‪-‬تعالى‪ -‬نفسهه شيئا‪ ،‬وسهمى‬
‫قال‪ " :‬باب {قُلْ أَي ّ شَيْ ٍء َأ ْك َبرُ َ‬
‫شيْ ٍء هَالِكٌه ِإلّ‬
‫النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬القرآن شيئا‪ ،‬وههو صهفة مهن صهفات ال‪ ،‬وقال‪{ :‬كُلّ َ‬
‫جهَهُ} (‪.")850‬‬
‫َو ْ‬
‫ير يد بهذا أن يطلق على ال ‪-‬تعالى‪ -‬أ نه ش يء‪ ،‬وكذلك صفاته‪ ،‬ول يس مع نى ذلك أن "الش يء"‬
‫من أسماء ال الحسنى‪ ،‬ولكن يخبر عنه ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه شيء‪ ،‬وكذا يخبر عن صفاته بأنها شيء؛ لن‬
‫كل موجود يصح أن يقال‪ :‬إنه شيء‪.‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬الش يء ي ساوي الموجود‪ ،‬لغةً‪ ،‬وعرفا‪ ،‬وأ ما قول هم‪ :‬فلن ل يس بش يء ف هو على‬
‫طريق المبالغة في الذم‪ ،‬فلذلك وصف بصفة العدم"(‪.)851‬‬
‫وقال‪ " :‬أي‪ :‬إذا جاءت استفهامية‪ ،‬اقتضى الظاهر أن تسمى باسم ما تضاف إليه‪ ،‬فعلى هذا صح‬
‫الستدلل بها على تسمية ال ‪-‬تعالى‪ -‬شيئا‪.‬‬
‫واسم الجللة خبر مبتدأ محذوف‪ ،‬أي‪ :‬ذلك الشيء هو ال‪.‬‬
‫ويصح أن يكون مبتدأ محذوف الخبر‪ ،‬والتقدير‪ :‬ال أكبر شهادة وال أعلم "(‪.)852‬‬

‫‪ )(848‬من "الفتح" (‪.)13/400‬‬


‫‪ )(849‬الية ‪ 19‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(850‬الية ‪ 88‬من سورة القصص‪.‬‬
‫‪" )(851‬الفتح" (‪.)13/402‬‬
‫‪ )(852‬نفس المصدر‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫جهَ هُ} قال الحافظ‪ " :‬الستدلل بهذه الية للمطلوب‪ ،‬ينبني‬
‫شيْءٍ هَالِ كٌ ِإلّ َو ْ‬
‫وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬كُلّ َ‬
‫على أن الستثناء متصل‪ ،‬فإنه يقتضي اندراج المستثنى في المستثنى منه‪ ،‬وهو الراجح‪ ،‬على أن لفظ‬
‫(‪)853‬‬
‫شيء يطلق على ال –تعالهى‪ -‬وهو الراجح أيضا "‪.‬‬
‫قال المام عبدالعزيز الكناني‪ ،‬في محاجته لبشر المريسي‪ ،‬لما سأله بشر عن القرآن‪ :‬أهو شيء‬
‫أم ليس بشيء؟ قال‪ " :‬فقلت لبشر‪ :‬سألت عن القرآن‪ ،‬هو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تريد أنه شيء‪،‬‬
‫إثباتا للوجود‪ ،‬ونفيا للعدم‪ ،‬فنعم هو شيء‪.‬‬
‫ص ‪293‬‬
‫و إن كنت تريد أن الشيء اسم له‪ ،‬وأنه كالشياء فل‪.‬‬
‫فإن ال أجرى كل مه على ما أجراه على نف سه‪ ،‬إذ كان كل مه من ذا ته‪ ،‬و من صفاته‪ ،‬فلم يت سم‬
‫بالشيء‪ ،‬ولم يحمل الشيء اسما من أسمائه‪ ،‬ولكنه دل على نفسه أنه شيء‪ ،‬وأنه أكبر الشياء‪ ،‬إثباتا‬
‫للوجود‪ ،‬ونفيا للعدم‪ ،‬وتكذيبا للزنادقة‪ ،‬ومن تقدمهم ممن جحد معرفته‪ ،‬وأنكر ربوبيته‪ ،‬من سائر المم‪،‬‬
‫شهِيدٌ ِب ْينِي َو َب ْي َنكُمْ} (‪ ،)854‬فدل على‬
‫شهَاد ًة قُلِ اللّ ِه َ‬
‫شيْ ٍء َأ ْكبَرُ َ‬
‫فقال لنبيه –صلى ال عليه وسلم‪{ :-‬قُلْ َأيّ َ‬
‫نف سه أ نه ش يء‪ ،‬ل كالشياء‪ ،‬وأنزل في ذلك خبرا خا صا مفردا‪ ،‬لعل مه ال سابق أن جهما وبشرا‪ ،‬و من‬
‫قال بقولهمها‪ ،‬سهيلحدون فهي أسهمائه وصهفاته‪ ،‬ويشبهون على خلقهه‪ ،‬ويدخلونهه وكلمهه فهي الشياء‬
‫شيْءٌ وَهُ َو السّهمِيعُ البَصهِيرُ} (‪ ،)855‬فأخرج نفسهه وكلمهه‬
‫المخلوقهة‪ ،‬فقال – عهز وجهل‪َ{ :-‬ليْسَه َك ِمثْلِهِه َ‬
‫و صفاته من الشياء المخلو قة‪ ،‬بهذا ال خبر‪ ،‬تكذيبا ل من أل حد في كتا به‪ ،‬وافترى عل يه‪ ،‬وشب هه بخل قه‪.‬‬
‫وعدد أسماءه في كتابه‪ ،‬ولم يتسم بالشيء‪ ،‬ولم يجعل الشيء اسما من أسمائه"(‪.)856‬‬
‫ونقل الحافظ عن ابن بطال‪ " :‬أن اليات والثار المذكورة في هذا الباب ترد على من زعم أنه‬
‫وغيره‪.‬‬ ‫(‪)857‬‬
‫ل يجوز أن يطلق على ال ‪-‬تعالى‪ -‬أنه شيء‪ ،‬كما صرح به عبدال الناشيء المتكلم‬
‫كما ترد على من ز عم أن المعدوم ش يء‪ ،‬وقد أط بق العقلء على أن لفظ "ش يء" يقتضي إثبات‬
‫موجود‪ ،‬وعلى أن ل فظ " ل شيهء" يقتضهي نفهي موجوده‪ ،‬إل مها تقدم من إطلقههم "ل يس بشيهء" فهي‬
‫الذم"(‪.)858‬‬
‫وهذا الذي ذكره الحافظ عن ابن بطال واضح‪ ،‬وقد تقدم ما يدل عليه‪.‬‬

‫‪ )(853‬نفس المصدر ‪.‬‬


‫‪ )(854‬الية ‪ 19‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪ )(855‬الية ‪ 11‬من سورة الشورى ‪.‬‬
‫‪" )(856‬الحيدة" (ص ‪ )25-24‬مطابع القصيم‪.‬‬
‫‪ )(857‬هو ‪ :‬أبو العباس عبدال بن محمد الناشيء الشاعر المتكلم – يعرف بابن شرشير ‪ ،‬أصله من‬
‫النبار ‪ ،‬وأقام ببغداد مدة طويلة ‪ ،‬ثم خرج إلى مصر ‪ ،‬وتوفي بها سنة ثلث وتسعين ومائتين ‪.‬‬
‫"الشذرات" (‪.)2/214‬‬
‫‪" )(858‬الفتح" (‪.)403-13/402‬‬

‫‪228‬‬
‫ص ‪294‬‬
‫‪-46‬قال‪ " :‬حدثنا عبدال بن يوسف‪ ،‬أخبرنا مالك عن أبي حازم‪ ،‬عن سهل بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ال نبي –صلى ال عل يه و سلم‪ -‬لر جل‪ " :‬أمعك من القرآن ش يء؟ قال‪ :‬ن عم‪ ،‬سورة كذا‪ ،‬و سورة كذا –‬
‫لسور سماها‪."-‬‬
‫سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلب بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الن صاري‪ ،‬من‬
‫مشاهير الصحابة‪ ،‬ذكر ابن حبان أن اسمه حزن‪ ،‬فغير رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬اسمه‪ ،‬توفي‬
‫رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وهو ابن خمس عشرة سنة وعمر طويلً‪ ،‬فكان آخر من مات في‬
‫المدينهة مهن الصهحابة‪ ،‬على أحهد القوال‪ ،‬رضوان ال عليههم أجمعيهن‪ ،‬وله أحاديهث كثيرة فهي كتهب‬
‫الحديث‪ ،‬مات سنة إحدى وتسعين من الهجرة(‪.)859‬‬
‫هذا الحديث مختصر من قصة الواهبة نفسها للنبي – صلى ال عليه وسلم‪ -‬لما قال له رجل من‬
‫أ صحابه‪ :‬إن لم ي كن لك ب ها حا جة‪ ،‬فزوجني ها يا ر سول ال‪ ،‬قال له – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬أم عك‬
‫شيء تعطيها إياه؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬التمس ولو خاتما من حديد‪ ،‬فلما لم يجد‪ ،‬قال له‪ :‬هل معك شيء من‬
‫القرآن؟ ‪ -‬أي‪ :‬هل تح فظ شيئا م نه؟ – قال‪ :‬ن عم سورة كذا‪ ،‬و سورة كذا‪ ،‬ل سور سماها‪ .‬فقال ال نبي –‬
‫صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬زوجتك ها على ما م عك من القرآن" أي يكون تعلي مه ل ها ما م عه من سور‬
‫القرآن صداقا لها‪.‬‬
‫والمق صود ه نا أ نه أطلق الش يء على القرآن‪ ،‬بقوله‪ " :‬أم عك ش يء من القران؟" و هو صفة من‬
‫صفات ال –تعالى‪ -‬والصفة لها حكم الموصوف‪ ،‬فيصح إطلق ذلك على ال –تعالى‪.-‬‬
‫وقد تقم في كلم عبدالعزيز الكناني " أن لفظ الشيء يطلق على القرآن إثباتا لوجوده‪ ،‬وحقيقته‪،‬‬
‫ونفيا لعدمه‪ ،‬وليس لفظ الشيء اسما له‪ ،‬كما أنه يطلق على ال ‪-‬تعالى‪ -‬كذلك‪.‬‬
‫و أن ال أجرى كلمه على ما أجره على نفسه‪ ،‬إذ كان كلمه من ذاته‪ ،‬ومن صفاته‪ ،‬فلم يتسم‬
‫بالشيء‪ ،‬ولم يجعل الشيء اسما من أسمائه‪ ،‬ولكنه دل على نفسه‬
‫ص ‪295‬‬
‫أنه شيء‪ ،‬وأنه أكبر الشياء‪ ،‬إثباتا للوجود‪ ،‬ونفيا للعدم‪ ،‬وتكذيبا للزنادقة ومن تقدمهم‪ ،‬ممن جحد‬
‫معرفته وأنكر ربوبيته من سائر المم"(‪.)860‬‬

‫‪" )(859‬الصابة" (‪" ، )2/87‬الستيعاب" (‪.)2/94‬‬


‫‪ )(860‬انظر ‪ " :‬الحيدة" (ص ‪.)24‬‬

‫‪229‬‬
‫ص ‪296‬‬
‫ش ا ْلعَظِيمِ } (‪.")862‬‬
‫ب ا ْلعَرْ ِ‬
‫عرْشُهُ عَلَى ا ْلمَاء } (‪ { ،)861‬وَ ُهوَ رَ ّ‬
‫قال‪ " :‬باب‪َ { :‬وكَانَ َ‬
‫قال الزهري‪ " :‬العرش في كلم العرب‪ :‬سرير الملك يدل على ذلك سرير ملكة سبأ‪ ،‬سماه ال‬
‫عظِيمٌ } (‪.)863‬‬
‫عرْشٌ َ‬
‫شيْءٍ وََلهَا َ‬
‫ت ا ْمرَأَةً َتمِْل ُك ُهمْ وَأُو ِتيَتْ مِن كُلّ َ‬
‫– جل وعز‪ -‬عرشا‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إنّي َوجَد ّ‬
‫قلت‪ :‬والعرش في كلم العرب – أيضا ‪ :-‬سقف الب يت‪ ،‬وجم عه عروش‪ ،‬وم نه قول ال – جل‬
‫شهَا } (‪.)864‬‬
‫عرُو ِ‬
‫وعز ‪ { :-‬أَ ْو كَاّلذِي َمرّ عَلَى َقرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَا ِويَةٌ عَلَى ُ‬
‫شهَا } على أركانها‪.‬‬
‫عرُو ِ‬
‫قال الكسائي‪ { :‬عَلَى ُ‬
‫وقال غيره من أهل اللغة‪ :‬على سقوفها‪ ،‬أراد أن حيطانها قائمة‪ ،‬وقد تهدمت سقوفها‪ ،‬فصارت‬
‫في قرارها‪ ،‬وانقعرت الحيطان من قواعدها‪ ،‬فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها"(‪.)865‬‬
‫"وقال الليث‪ :‬العرش‪ :‬السرير للملك‪ ،‬والعرش‪ ،‬والعريش‪ :‬ما يستظل به‪.‬‬
‫قال‪ :‬وعرش الرجل‪ :‬قوام أمره‪ ،‬فإذا زال قوام أمره‪ ،‬قيل‪ :‬ثل عرشه"(‪.)866‬‬
‫وقال الجوهري‪ " :‬العرش‪ :‬سرير الملك‪ ،‬وعرش الب يت‪ :‬سقفه‪ ،‬والعرش‪ ،‬والعر يش‪ :‬ما ي ستظل‬
‫به‪ ،‬وعرش القدم‪ :‬ما ن تأ في ظهر ها‪ ،‬وف يه ال صابع‪ ،‬وعرش البئر" طي ها بالخ شب‪ ،‬ب عد أن يطوى‬
‫أسفلها بالحجارة قدر قامة‪ ،‬فذلك الخشب هو العرش‪ ،‬والجمع عروش‪.‬‬
‫وعرش يعرش ويعرش عرشا‪ ،‬أي‪ :‬بنى بناء من خشب"(‪.)867‬‬
‫ص ‪297‬‬
‫ويظ هر م ما ذكره أ هل الل غة‪ :‬أن العرش ا سم لل سرير المرت فع العظ يم‪ ،‬الذي يجلس عل يه الملك‪،‬‬
‫ويطلق على السهقف وعرش الرب – جهل وعل – له المعنيان فههو محهل اسهتوائه تعالى‪ ،‬وههو سهقف‬
‫المخلوقات‪.‬‬
‫ع ْرشُ هُ عَلَى ا ْلمَاء } (‪)868‬قال ا بن جر ير‪ " :‬يقول ‪-‬تعالى‪ :-‬وكان عر شه على الماء‬
‫قوله‪َ { :‬وكَا نَ َ‬
‫قبل أن يخلق السموات والرض‪ ،‬وما فيهن"‪.‬‬
‫ثم روى عن مجاهد‪ :‬وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا‪.‬‬
‫ع ْرشُ هُ عَلَى ا ْلمَاء } ينبئ كم رب كم – تبارك وتعالى‪ -‬ك يف كان‬
‫وروى ب سنده عن قتادة‪َ { :‬وكَا نَ َ‬
‫بدء خلقه‪ ،‬قبل أن يخلق السموات والرض‪.‬‬

‫‪ )(861‬الية ‪ 7‬من سورة هود‪.‬‬


‫‪ )(862‬الية ‪ 129‬من سورة التوبة‪.‬‬
‫‪ )(863‬الية ‪ 23‬من سورة النمل ‪.‬‬
‫‪ )(864‬الية ‪ 259‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(865‬تهذيب اللغة" (‪.)1/413‬‬
‫‪ )(866‬المصدر نفسه (‪.)1/415‬‬
‫‪" )(867‬الصحاح" (‪.)3/1010‬‬
‫‪ )(868‬الية ‪ 7‬من سورة هود‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫ثم روى حد يث أ بي رز ين العقيلي‪ " :‬قلت‪ :‬يا ر سول ال‪ ،‬أ ين كان رب نا‪ ،‬ق بل أن يخلق خل قه؟‬
‫قال‪ " :‬كان في عماء‪ ،‬ما فوقه هواء‪ ،‬وما تحته هواء‪ ،‬ثم خلق عرشه على الماء"‪.‬‬
‫وفي رواية‪ " :‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والرض؟" الخ(‪.)869‬‬
‫ثم روى عن ا بن عباس‪ ،‬أ نه سئل‪ " :‬وكان عر شه على الماء‪ ،‬على أي ش يء كان الماء؟ قال‪:‬‬
‫على متن الريح"(‪.)870‬‬
‫وقال الترمذي‪ " :‬حدثنا أحمد بن منيع‪ ،‬أخبرنا يزيد بن هارون‪ ،‬أخبرنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن يعلى‬
‫بن عطاء‪ ،‬عن وكيع بن حدس(‪ ،)871‬عن عمه أبي رزين‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أين كان ربنا‪ ،‬قبل‬
‫أن يخلق خلقه؟ قال‪ :‬كان في عماء‪ ،‬ما تحته هواء‪،‬‬
‫ص ‪298‬‬
‫ومها فوقهه هواء‪ ،‬وخلق عرشهه على الماء"‪ ،‬قال أحمهد‪ " :‬قال يزيهد‪ :‬العماء‪ ،‬أي ليهس معهه‬
‫شيء"(‪.)872‬‬
‫قال أبو عبيد‪ " :‬العماء في كلم العرب‪ ،‬السحاب البيض"‪ ،‬قال الصمعي وغيره‪ ،‬هو ممدود‪.‬‬
‫وقال الحارث بن حلزة اليشكري‪:‬‬
‫هصم ينجاب عنه العماء‬ ‫وكأن المنون تردي بنا أعهه‬
‫يقول‪ :‬هو في ارتفاعه‪ ،‬قد بلغ السحاب ينشف عنه‪ ،‬يقول‪ :‬نحن في عزنا مثل العصم‪ ،‬فالمنون‬
‫إذا أرادتنا‪ ،‬فكأنما تريد أعصم‪.‬‬
‫و إنمها تأولنها هذا الحديهث‪ ،‬على كلم العرب المعقول عنههم‪ ،‬ول ندري كيهف كان ذلك العماء‪،‬‬
‫وما مبلغه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫و أما العمى في البصر‪ ،‬فإنه مقصور‪ ،‬وليس هو من معنى الحديث في شيء " ا‪.‬هه (‪ ،)873‬نقل‬
‫هذا الكلم الزهري‪ ،‬ثم قال‪" :‬قلت‪ :‬و قد بلغ ني‪ ،‬عن أ بي الهي ثم‪ -‬ولم يعزه لي إلى ث قة – أ نه قال في‬
‫تفسير هذا الحديث‪ ،‬ولفظه‪ :‬أنه كان في عمى مقصور‪ ،‬قال‪ :‬وكل أمر ل تدركه القلوب بالعقول‪ ،‬فهو‬
‫عمى‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنه كان حيث ل تدركه عقول بنى آدم‪ ،‬ول يبلغ كنهه وصف‪.‬‬

‫‪ )(869‬رواه المام أحمد في "المسند" (‪ ، )12، 4/11‬والترمذي في "التفسير" من "سننه" (‪ )4/351‬وقال‪:‬‬


‫هذا حديث حسن ‪ ،‬وابن ماجه في "السنن" (‪ )1/64‬رقم (‪ )182‬والطبري أيضاً في "التاريخ" (‪.)1/19‬‬
‫‪" )(870‬تفسير الطبري" (‪ )249-15/245‬بتحقيق محمود شاكر ‪.‬‬
‫‪ )(871‬قال الترمذي ‪ :‬هكذا يقول حماد بن سلمة ‪ :‬وكيع بن حدس‪.‬‬
‫‪" )(872‬سنن الترمذي" (‪.)4/351‬‬
‫‪" )(873‬الغريب" (‪.)9-2/8‬‬

‫‪231‬‬
‫قلت أنها (‪ :)874‬والقول عندي‪ ،‬مها قاله أبهو عبيهد‪ ،‬أنهه العماء‪ ،‬ممدود‪ ،‬وههو السهحاب‪ ،‬ول يدري‬
‫كيهف ذلك العماء‪ ،‬بصهفة تحصهره‪ ،‬ول نعهت يحده‪ ،‬ويقوى هذا القول قول ال – جهل وعهز ‪{ :-‬ههل‬
‫فالغمام معروف في كلم العرب‪.‬‬ ‫(‪)875‬‬
‫ينظرون إل أن يأتيهم ال في ظلل من الغمام}‬
‫إل أنا ل ندري كيف الغمام الذي يأتي ال – عز وجل – يوم القيامة في ظلل منه‪ ،‬فنحن نؤمن‬
‫به‪ ،‬ول نكيف صفته‪ ،‬وكذلك سائر صفات ال – عز وجل‪ " -‬ا‪.‬هه(‪.)876‬‬
‫ص ‪299‬‬
‫فعلى ما ذكره يزيد بن هارون‪ ،‬وأقره الترمذي‪ ،‬يكون المعنى‪ :‬ليس مع ال شيء‪ ،‬فيدل على أن‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬كان‪ ،‬ولم يكن معه شيء‪ ،‬كما سيأتي في حديث عمران‪ - ،‬إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫وعلى قول مهن فسهر العماء بالسهحاب الرقيهق‪ ،‬ورجحهه الزهري‪ ،‬ل يدل على قول الفلسهفة‬
‫الدهر ية‪ ،‬بقدم العالم‪ ،‬وتب نى مذهب هم الماديون اليوم‪ ،‬وذلك أن ال –تعال هى‪ -‬أخبر نا في كتا به‪ ،‬بابتداء‬
‫الخلق‪ ،‬وإعادته كما قال –تعالى‪{ :-‬وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} (‪ ،)877‬كما أخبر بخلق السماوات‪،‬و‬
‫الرض وما بينهما في ستة أيام‪ ،‬في مواضع كثيرة من كتابه –تعالى‪.)878(-‬‬
‫هبر‬
‫هو أكه‬
‫هو ‪-‬تعالى‪ -‬المالك للعرش‪ ،‬الذي هه‬
‫هم} (‪)879‬أي‪ :‬هه‬
‫هو رب العرش العظيه‬
‫وقوله‪{ :‬وهه‬
‫المخلوقات‪ ،‬وأعظمها‪ ،‬وهو المتصرف فيه‪ ،‬وهو عرشه الذي استوى عليه‪ ،‬فاختاره لذلك‪.‬‬
‫فالضافة تقتضي اختصاصا للعرش من بين المخلوقات‪ ،‬فهو ‪-‬تعالى‪ -‬رب كل مخلوق‪ ،‬فإضافة‬
‫العرش إليهه – تعالى – ووصهفه بأنهه عظيهم‪ ،‬يدل على خصهوصية للعرش‪ ،‬ليسهت لغيره مهن سهائر‬
‫المخلوقات‪ ،‬كما يدل على أنه ‪-‬تعالى‪ -‬مالك لكل ما دون العرش بطريق الولى‪ .‬والمتصرف فيه كيف‬
‫يشاء‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ " :‬وإنما عنى بوصفه – جل ثناؤه – نفسه بأنه " رب العرش العظيم" الخبر عن‬
‫جميع ما دونه‪ ،‬أنهم عبيده‪ ،‬وفي ملكه وسلطانه؛ لن العرش إنما يكون للملوك‪ ،‬فوصف نفسه بأنه ذو‬
‫العرش‪ ،‬دون سائر خلقه‪ ،‬وأنه الملك العظيم‪ ،‬دون غيره‪ ،‬وأن من دونه‪ ،‬في سلطانه وملكه‪ ،‬جار عليه‬
‫حكمه وقضاؤه"(‪.)880‬‬

‫‪ )(874‬القائل هو الزهري ‪.‬‬


‫‪ )(875‬الية ‪ 210‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(876‬تهذيب اللغة" (‪.)3/246‬‬
‫‪ )(877‬الية ‪ 27‬من سورة الروم‪.‬‬
‫‪ )(878‬انظر ‪ " :‬نقض تأسيس الجهمية" (‪.)1/154‬‬
‫‪ )(879‬آخر آية سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪" )(880‬تفسير الطبري" (‪ )14/587‬بتحقيق محمود شاكر‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫وقال ابن كث ير‪ " :‬وهو رب العرش العظ يم" أي‪ :‬هو مالك كل ش يء‪ ،‬وخالقه؛ ل نه رب العرش‬
‫العظ يم‪ ،‬الذي هو سقف المخلوقات‪ ،‬وجم يع المخلوقات‪ ،‬من ال سماوات والرض ين‪ ،‬و ما فيه ما‪ ،‬و ما‬
‫بينهما‪ ،‬تحت العرش‪ ،‬مقهورون بقدرة ال –‬
‫ص ‪300‬‬
‫تعالى ‪ ،-‬وعلمه محيط بكل شيء‪ ،‬وقدره نافذ في كل شيء‪ ،‬وهو على كل شيء وكيل"(‪.)881‬‬
‫"قال – جل وعل‪ { :-‬ذُو ا ْل َعرْ شِ ا ْل َمجِيدُ } (‪ ،)882‬وقال – جلت عظمته‪َ { :-‬و َترَى ا ْلمَل ِئكَةَ حَافّي نَ‬
‫حمِلُ‬
‫ن حَوْلَ هُ} (‪ ،)884‬وقال تعالى‪َ { :‬و َي ْ‬
‫حمِلُو نَ ا ْل َعرْ شَ َومَ ْ‬
‫ش } (‪ ،)883‬وقال تعالى‪ { :‬اّلذِي نَ َي ْ‬
‫ل ا ْلعَرْ ِ‬
‫ن حَوْ ِ‬
‫مِ ْ‬
‫عرْشَ َر ّبكَ فَ ْو َق ُهمْ يَ ْو َم ِئذٍ َثمَا ِنيَةٌ } (‪.)885‬‬
‫َ‬
‫وأقوال أههل التفسهير {متفقهة} على أن العرش ههو السهرير‪ ،‬وأنهه جسهم مجسهم خلقهه ال وأمهر‬
‫ملئكته بحمله‪ ،‬وتعبدهم بتعظيمه‪ ،‬والطواف به‪ ،‬كما خلق في الرض بيتا‪ ،‬وأمر بنى آدم بالطواف به‪،‬‬
‫واستقباله في الصلة‪.‬‬
‫وفي اليات المتقدمة دللة على صحة ما ذهبوا إليه " ا‪.‬هه(‪.)886‬‬
‫والخبار عن ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬وال صحابة‪ ،‬والتابع ين ل هم‪ ،‬في ذ كر العرش‬
‫ووصفه‪ ،‬وأن ال –تعالى‪ -‬مستو عليه‪ ،‬كثيرة جدا‪ ،‬وسيأتي طرف يسير منها‪ - ،‬إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫ففي "الصحيحين" عن جابر بن عبد ال‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬لقد اهتز‬
‫عرش الرحمن لموت سعد"(‪.)887‬‬
‫ْشه } قال‪ :‬العرش على الماء‪ ،‬وال فوق‬
‫اسهتَوَى عَلَى ا ْل َعر ِ‬
‫"وقال ابهن مسهعود فهي قوله‪ { :‬ثُم ّ ْ‬
‫العرش‪ ،‬وهو يعلم ما أنتم عليه"(‪.)888‬‬
‫ص ‪301‬‬
‫وقال سهليمان التيمهي‪ :‬لو سهئلت‪ :‬أيهن ال؟ لقلت‪ :‬فهي السهماء‪ ،‬فإن قال‪ :‬أيهن كان عرشهه قبهل‬
‫السماء؟ لقلت‪ :‬على الماء‪ ،‬فإن قال‪ :‬فأين كان عرشه قبل خلق الماء؟ قلت‪ :‬ل أعلم‪.‬‬

‫‪" )(881‬تفسير ابن كثير" (‪ )180-4/179‬ط الشعب ‪.‬‬


‫‪ )(882‬الية ‪ 15‬من سورة البروج‪.‬‬
‫‪ )(883‬الية ‪ 75‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫‪ )(884‬الية ‪ 7‬من سورة غافر‪.‬‬
‫‪ )(885‬الية ‪ 17‬من سورة الحاقة ‪.‬‬
‫‪ " )(886‬السماء والصفات" للبيهقي (ص ‪ ، )392‬والمفروض أن يقول‪ :‬خلقه ال واستوى عليه و أمر‬
‫ملئكته الخ‪ .‬ولكن أبي عليه المذهب ذلك ‪.‬‬
‫‪" )(887‬البخاري مع الفتح" (‪ ، )7/123‬و"مسلم" (‪.)4/1915‬‬
‫‪" )(888‬خلق أفعال العباد" (ص ‪.)43‬‬

‫‪233‬‬
‫قال البخاري‪ " :‬وذلك لقوله –تعالى‪{ :-‬ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء} يعني‪ :‬إل بما‬
‫بين"(‪.)889‬‬
‫وقال أبهو نصهر السهجزي فهي "البانهة"‪ " :‬وأئمتنها‪ ،‬كسهفيان‪ ،‬ومالك‪ ،‬والحماديهن‪ ،‬وابهن عيينهة‪،‬‬
‫والفض يل‪ ،‬و بن المبارك‪ ،‬وأح مد بن حن بل‪ ،‬وإ سحاق‪ ،‬متفقون على أن ال – سبحانه – فوق العرش‪،‬‬
‫وعلمه بكل مكان‪ ،‬وأنه ينزل إلى سماء الدنيا‪ ،‬وأنه يغضب‪ ،‬ويرضى‪ ،‬ويتكلم بما يشاء"(‪.)890‬‬
‫والنصوص في ذكر العرش‪ ،‬وأن ال ‪-‬تعالى‪ -‬مستو عليه‪ ،‬كثيرة جدا‪.‬‬
‫وآ من ال صحابة وأتباع هم بذلك‪ ،‬على ما دلت الن صوص عل يه ظاهرا‪ ،‬دون تأو يل أو تحر يف‪،‬‬
‫وبل تشبيه ول تمثيل‪ ،‬كما سيأتي بعض ذلك‪ - ،‬إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫سمَاء } ارتفع‪{ ،‬فسواهن} خلقهن وقال مجاهد‪{ :‬استوى}‪:‬‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫قوله‪ " :‬قال أبو العالية‪{ :‬ا ْ‬
‫عل على العرش"‪.‬‬
‫هذا الذي ذكره البخاري عهن أبهي العاليهة‪ ،‬ومجاههد‪ ،‬ههو الذي يقوله ويعتقده عامهة السهلف مهن‬
‫الصحابة وأتباعهم إلى اليوم‪.‬‬
‫وههو الحهق الذي دلت عليهه النصهوص‪ ،‬وجاءت تعهبيراتهم فهي ذلك فهي أربعهة ألفاظ‪ ،‬مها ذكره‬
‫البخاري هنا‪ ،‬وثالثها "صعد"‪ ،‬ورابعها "استقر"‪ ،‬وسوف أذكرها مع أسانيدها إليهم‪:‬‬
‫ص ‪302‬‬
‫قال ابن جرير‪ " :‬حدثت‪ ،‬عن عمار بن الحسن‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عبدال بن أبي جعفر‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫سمَاء } يقول‪ :‬ارتفع إلى السماء"(‪.)891‬‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫الربيع بن أنس‪ُ { :‬ثمّ ا ْ‬
‫وروى الللكائي بسهنده‪ ،‬عهن بشهر بهن عمهر‪ ،‬قال‪ :‬سهمعت غيهر واحهد مهن المفسهرين يقولون‪:‬‬
‫ستَوَى}‪ :‬ارتفع "(‪.)892‬‬
‫شاْ‬
‫{ال ّرحْمَنُ عَلَى ا ْلعَرْ ِ‬
‫قال ابهن عبهد البر‪ " :‬السهتواء‪ :‬السهتقرار فهي العلو‪ ،‬وبهذا خاطبنها ال – عهز وجهل‪ -‬فقال‪:‬‬
‫ت أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ } (‪.)894‬‬
‫ستَ َويْ َ‬
‫ستَوَتْ عَلَى ا ْلجُو ِديّ } (‪ ،)893‬وقال‪َ { :‬فِإذَا ا ْ‬
‫{ وَا ْ‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد خلق النجم اليماني فاستوى‬
‫وهذا ل يجوز أن يتأول فيه أحد‪ :‬استولى؛ لن النجم ل يستولي‪.‬‬

‫‪ )(889‬المصدر نفسه (ص ‪.)37‬‬


‫‪ )(890‬نقلً عن "سير أعلم النبلء" (‪.)17/650‬‬
‫‪" )(891‬تفسير الطبري" (‪ )1/429‬بتحقيق محمود شاكر ‪.‬‬
‫‪" )(892‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (‪.)3/397‬‬
‫‪ )(893‬جزء من الية ‪ 44‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(894‬الية ‪ 28‬من سورة المؤمنون‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫ل في علم الديا نة‪ ،‬والل غة – قال‪" :‬حدث ني‬
‫و قد ذ كر الن ضر بن شم يل –وكان ث قة مأمونا‪ ،‬جلي ً‬
‫الخل يل – وح سبك بالخل يل‪ -‬قال‪ :‬أت يت أ با ربي عة العرا بي‪ ،‬وكان من أعلم من رأ يت‪ ،‬فإذا هو على‬
‫سطح‪ ،‬ف سلمنا‪ ،‬فرد علي نا ال سلم‪ ،‬وقال ل نا‪ :‬ا ستووا‪ ،‬فبقي نا متحير ين‪ ،‬ولم ندر ما قال؟ قال‪ :‬فقال ل نا‬
‫ستَوَى إِلَى‬
‫أعرابي إلى جنبه‪ ،‬إنه أمركم أن ترتفعوا‪ ،‬قال الخليل‪ :‬هو من قول ال – عز وجل ‪ُ { :-‬ثمّ ا ْ‬
‫ي ُدخَا نٌ} (‪ ،)895‬فصعدنا إليه‪ ،‬فقال‪ :‬هل لكم في خبز فطير‪ ،‬ولبن هجير‪ ،‬وماء نمير؟ فقلنا‪:‬‬
‫سمَاء وَهِ َ‬
‫ال ّ‬
‫الساعة فارقناه‪ ،‬فقال‪ :‬سلما‪ ،‬فلم ندر ما قال‪ ،‬فقال العرابي‪ :‬إنه سألكم‬
‫ص ‪303‬‬
‫متاركهة ل خيهر فيهها‪ ،‬ول شهر‪ ،‬قال الخليهل‪ :‬ههو مهن قول ال – عهز وجهل‪{ :-‬وإذا خاطبههم‬
‫"(‪)897‬ا‪.‬هه‪.‬‬ ‫(‪)896‬‬
‫الجاهلون قالوا سلما}‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ } قال الكلبي‪ ،‬ومقاتل‪ :‬استقر‪.‬‬
‫قال البغوي‪ُ { :‬ث ّم ا ْ‬
‫وقال أبو عبيدة‪ :‬صعد"‪.‬‬
‫ثم قال‪ " :‬وأولت المعتزلة الستواء بالستيلء‪ ،‬وأما أهل السنة‪ ،‬فيقولون‪ :‬الستواء على العرش‬
‫صفة ل ‪-‬تعالى‪ -‬بل كيف‪ ،‬يجب على العبد اليمان به‪ ،‬ويكل العلم فيه إلى ال – عز وجل – "(‪.)898‬‬
‫وقال البخاري‪ " :‬حد ثت عن يز يد بن هارون‪ ،‬قال‪ :‬من ز عم أن الرح من على العرش ا ستوى‪،‬‬
‫على خلف ما يقر في قلوب العامة‪ ،‬فهو جهمي"(‪.)899‬‬
‫ومراده‪ :‬أن الستواء من المور الواضحة‪ ،‬التي يفهمها عامة المسلمين إذا كانوا من أهل اللغة‬
‫العربية‪.‬‬
‫كما أن مراد البغوي في قوله‪ " :‬ويكل العلم فيه إلى ال – عز وجل – "‪ :‬علم الكيفية‪ ،‬وأما معناه‬
‫في اللغة‪ ،‬فهو معلوم ظاهر‪ ،‬كما يأتي في كلم المام مالك‪ ،‬وشيخه ربيعة‪ ،‬وأم سلمة‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬الستواء في كلم العرب يأتي على وجوه‪:‬‬
‫منها‪ :‬انتهاء شباب الرجل‪ ،‬وقوته‪ ،‬فيقال إذا صار كذلك‪ :‬قد استوى الرجل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬استقامة ما كان فيه أود‪ ،‬من المور والسباب‪ ،‬يقال منه‪ :‬استوى لفلن أمره‪ ،‬إذا استقام‬
‫بعد أود‪ ،‬ومنه قول الطرماح بن حكيم‪:‬‬
‫طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده‬
‫يعنى استقام به‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬القبال على الشيء‪ ،‬يقال‪ :‬استوى فلن على فلن بما يكرهه ويسؤوه بعد الحسان إليه‪.‬‬

‫‪ )(895‬الية ‪ 11‬من سورة فصلت ‪.‬‬


‫‪ )(896‬الية ‪ 63‬من سورة الفرقان ‪.‬‬
‫‪" )(897‬التمهيد" (‪.)132 ،7/131‬‬
‫‪" )(898‬تفسير البغوي" (‪.)2/237‬‬
‫‪" )(899‬خلق أفعال العباد " (ص ‪ )127‬مجموعة عقائد السلف‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫ص ‪304‬‬
‫ومنها‪ :‬الحتياز‪ ،‬والستيلء‪ ،‬كقولهم‪ :‬استوى على المملكة‪ ،‬بمعنى‪ :‬احتوى عليها‪ ،‬وحازها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬العلو‪ ،‬والرتفاع‪ ،‬كقول القائل‪ :‬استوى فلن على سريره‪ ،‬يعني به‪ :‬علوه عليه"‪.900‬‬
‫قلت‪ :‬قد أنكر أهل اللغة المعنى الثالث‪ ،‬والرابع‪ ،‬مما ذكره ابن جرير في الستواء المعدى بعلى‪.‬‬
‫قال ابهن القيهم‪" :‬ولفهظ السهتواء فهي كلم العرب الذي خاطبنها ال بهه وأنزل بهه كلمهه نوعان‪،‬‬
‫مطلق‪ ،‬ومقيد‪.‬‬
‫فالمطلق‪ :‬مها لم يوصهل معناه بحرف‪ ،‬مثهل قوله‪{ :‬ولمها بلغ أشده واسهتوى}‪ ،‬وهذا معناه‪ :‬كمهل‬
‫وتم‪ ،‬استوى الزرع واستوى الطعام‪.‬‬
‫و أما القيد‪ :‬فثلثة أضرب‪:‬‬
‫سمَاء} (‪ ،)901‬واستوى فلن إلى السطح‪ ،‬وقد ذكر –‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫أحدها‪ :‬مقيد بإلى‪ ،‬كقوله‪ُ { :‬ثمّ ا ْ‬
‫تبارك وتعالى – هذا المعدى بإلى فهي موضعيهن مهن كتابهه‪ ،‬فهي البقرة فهي قوله ‪-‬تعالى‪ُ { :-‬ه َو اّلذِي‬
‫سمَاء}‪ ،‬والثاني في سورة حم السجدة‪ ،‬قوله تعالى‪ُ { :‬ثمّ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫جمِيعا ُثمّ ا ْ‬
‫ض َ‬
‫لرْ ِ‬
‫خَلَقَ َلكُم مّا فِي ا َ‬
‫ن } وهذا بمعنى العلو والرتفاع‪ ،‬بإجماع السلف‪.‬‬
‫سمَاء وَ ِهيَ ُدخَا ٌ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫اْ‬
‫ظهُورِ ِه } (‪ ،)902‬وقوله‪:‬‬
‫ستَوُوا عَلَى ُ‬
‫الثاني‪ :‬مقيد بعلى‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ِ { :-‬ل َت ْ‬
‫َاسهتَوَى عَلَى سهُوقِ ِه } (‪ ،)904‬وهذا معناه – أيضا –‬
‫َاسهتَوَتْ عَلَى ا ْلجُودِيّه } (‪ ،)903‬وقوله‪ { :‬ف ْ‬
‫{و ْ‬
‫العلو والرتفاع والعتدال‪ ،‬بإجماع أهل اللغة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المقرون بواو المع ية‪ ،‬ال تي تعدي الف عل إلى المفعول م عه‪ ،‬ن حو‪ :‬ا ستوى الماء والخش بة‪،‬‬
‫بمعنى‪ :‬ساواها‪.‬‬
‫ص ‪305‬‬
‫فهذه معاني الستواء المعقولة في كلمهم‪ ،‬ليس فيها "استولى" البتة‪ ،‬ول نقله أحد من أئمة اللغة‪،‬‬
‫الذين يعتمد قولهم‪ ،‬وإنما قاله متأخرو النحاة‪ ،‬ممن سلك طريق المعتزلة‪ ،‬والجهمية‪.‬‬
‫والذين قالوه‪ ،‬لم يقولوه نقلً‪ ،‬فإن ذلك مجاهرة بالكذب‪ ،‬ولكن قالوه استنباطا وحملً منهم للفظة "‬
‫استوى" على "استولى" ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنكروه غاية النكار‪.‬‬
‫قال ا بن العرا بي – و قد سئل هل ي صح أن يكون ا ستوى بمع نى ا ستولى؟ – فقال‪ :‬ل تعرف‬
‫العرب ذلك – وهو من أكابر أئمة اللغة‪ "-‬ا‪.‬هه(‪.)905‬‬

‫‪" )(900‬تفسير الطبري" (‪ )1/429‬بتحقيق محمود شاكر‪.‬‬


‫‪ )(901‬الية ‪ 29‬من سورة البقرة ‪ ،‬و الية ‪ 11‬من سورة فصلت‪.‬‬
‫‪ )(902‬الية ‪ 13‬من سورة الزخرف‪.‬‬
‫‪ )(903‬الية ‪ 44‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(904‬الية ‪ 29‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪" )(905‬مختصر الصواعق" (ص ‪ )320‬ببعض التصرف‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫سمَاء فَ سَوّا ُهنّ }‪:‬‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫قال ا بن جر ير‪ " :‬وأولى المعا ني بقول ال – جل ثناؤه‪ { :-‬ثُمّ ا ْ‬
‫عل عليهن‪ ،‬وارتفع‪ ،‬فدبرهن بقدرته‪ ،‬وخلقهن سبع سماوات‪ ،‬والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم‪ ،‬من‬
‫سمَاء } الذي هو بمع نى العلو‪ ،‬والرتفاع‪،‬‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫كلم العرب‪ ،‬في تأو يل قول ال تعالى‪ { :‬ثُمّ ا ْ‬
‫هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه – إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك – أن يكون إنما عل وارتفع بعد‬
‫أن كان تحتها – إلى تأويله بالمجهول‪ ،‬المستكره‪ ،‬ثم لم ينج مما هرب منه‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬زعمت أن تأويل قوله‪ " :‬استوى "‪ :‬أقبل‪ ،‬أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم‬
‫أن ذلك ل يس بإقبال ف عل‪ ،‬ولك نه إقبال تدب ير‪ ،‬ق يل له‪ :‬فكذلك ف قل‪ :‬عل علي ها‪ ،‬علو ملك‪ ،‬و سلطان‪ ،‬ل‬
‫علو انتقال وزوال‪ ،‬ثم لن يقول في شيء من ذلك قولً‪ ،‬إل لزم في الخر مثله"(‪.)906‬‬
‫قوله‪ " :‬فقل‪ :‬عل عليها علو ملك وسلطان‪ ،‬ل علو انتقال وزوال" هو من جنس كلم أهل البدع‪،‬‬
‫فل ينبغي‪ ،‬وهو خلف الظاهر من النصوص‪ ،‬بل هو من التأويل الباطل‪.‬‬
‫قال ا بن الق يم‪ " :‬ن قل مع نى ال ستواء‪ ،‬كن قل لف ظه‪ ،‬بل أبلغ‪ ،‬فإن ال مة كل ها تعلم بالضرورة أن‬
‫الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه‪ ،‬من يحفظ القرآن منهم‪ ،‬ومن‬
‫ل يحفظه‪ ،‬كما قال مالك‪ ،‬وأئمة السنة‪ :‬الستواء معلوم‪ ،‬غير‬
‫ص ‪306‬‬
‫مجهول‪ ،‬كما أن معنى السمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والحياة‪ ،‬والرادة‪ ،‬وسائر ما أخبر به ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫عن نفسه معلوم‪ ،‬وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر‪ ،‬فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية‪ ،‬ولم يرد منهم العلم‬
‫بها‪.‬‬
‫فإخراج ال ستواء عن حقيق ته المعلو مة‪ ،‬كإنكار لف ظه‪ ،‬بل أبلغ‪ ،‬وهذا م ما يعلم أ نه منا قض ل ما‬
‫أخبر ال به ورسوله‪ ،‬فإن فهم معنى اللفظ هو المراد منه‪ ،‬وهو المقصود بالذات‪ ،‬ل اللفظ‪ ،‬فإن اللفظ‬
‫مق صود ق صد الو سائل للتعر يف بالمراد‪ ،‬فإذا انت فى المع نى‪ ،‬وكا نت إراد ته محالً – ك ما زعموا – لم‬
‫يبق لذكر اللفظ فائدة‪ ،‬بل كان تركه أنفع من التيان به‪ ،‬فإن التيان به يحصل منه إيهام التشبيه‪ ،‬ويوقع‬
‫المة في اعتقاد الباطل – على حد زعمهم – ول ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمة أولى‬
‫من مدحه‪ ،‬فيكف يجوز أن ينسب إلى من في كلمه الهدى‪ ،‬والشفاء؟ ومن المتفق عليه أنه ل يجوز أن‬
‫يتكلم ال ورسوله بالشيء ويريد خلف ظاهره"(‪.)907‬‬
‫وقال – أيضا‪ " :-‬وظا هر ال ستواء‪ :‬العلو‪ ،‬والرتفاع‪ ،‬ك ما نص عل يه جم يع أ هل الل غة‪ ،‬وأ هل‬
‫التفسهير المقبول‪ ،‬فل يحتمهل اسهتواء الرب – تبارك وتعالى – على عرشهه المعدى بعلى‪ ،‬المعلق‬

‫‪" )(906‬تفسير الطبري" (‪ )1/430‬بتحقيق محمود شاكر ‪.‬‬


‫‪" )(907‬مختصر الصواعق" (ص ‪.)332-331‬‬

‫‪237‬‬
‫بالعرش‪ ،‬المعرف باللف واللم‪ ،‬المعطوف على خلق السهماوات والرض بثهم مطردا فهي " موارده"‬
‫بهذا السلوب‪ ،‬ل يحتمل إل معنى واحدا‪ ،‬ل معنيين‪ ،‬ول كما يقول صاحب "العواصم والقواصم"(‪:)908‬‬
‫ستَوَى} (‪ ،)909‬ف قل‪ " :‬ا ستوى على العرش" ي ستعمل‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫إذا قال لك المج سم‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫على خمسة عشر وجها‪ ،‬فأيها تريد؟‬
‫فيقال له‪ :‬كل والذي ا ستوى على العرش‪ ،‬ل يحت مل هذا الل فظ معني ين ألب تة‪ ،‬والمد عي للحتمال‬
‫عليه الدليل‪ ،‬والصل عدم الشتراك والمجاز‪ ،‬ولم تذكر على دعواك دليلً‪ ،‬ولم تبين الوجوه المحتملة‪،‬‬
‫مع ذكر الدليل عليه‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن استواء الرب ‪-‬تعالى‪ -‬على عرشه‪ ،‬المختص به‪ ،‬الموصول بأداة "على" نص في‬
‫معناه‪ ،‬ل يحتمل سواه" ا‪.‬هه(‪.)910‬‬
‫ص ‪307‬‬
‫وقال الحا فظ‪ " :‬ن قل أ بو إ سماعيل الهروي‪ ،‬في كتا به‪ :‬الفاروق‪ ،‬ب سنده إلى داود ا بن علي بن‬
‫حمَ نُ‬
‫خلف‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند أبي عبدال بن العرابي – يعني يحيى بن زياد اللغوي‪ -‬فقال له رجل‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫ستَوَى} (‪ ،)911‬فقال‪ :‬هو على العرش‪ ،‬كما أخبر‪ ،‬قال‪ :‬يا أبا عبد ال إنما معناه‪ :‬استولى‪،‬‬
‫عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫فقال‪ :‬اسكت‪ ،‬ل يقال‪ :‬استولى على شيء‪ ،‬إل أن يكون له مضاد‪.‬‬
‫ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الزدي‪ ،‬سمعت ابن العرابي يقول‪ :‬أرادني أحمد بن أبي‬
‫بمع نى ا ستولى‪ ،‬فقلت‪ :‬وال ما‬ ‫(‪)912‬‬
‫ستَوَى}‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْلعَرْ شِ ا ْ‬
‫دؤاد‪ ،‬أن أ جد له في ل غة العرب {ال ّر ْ‬
‫أصبت هذا‪.‬‬
‫وقال غيره‪ :‬لو كان بمعنهى اسهتولى‪ ،‬لم يختهص بالعرش؛ لنهه غالب على جميهع المخلوقات"‬
‫ا‪.‬هه(‪.)913‬‬
‫حمَنُ عَلَى‬
‫وروى الللكائي بسنده من طريق الحسن‪ ،‬عن أمه‪ ،‬عن أم سلمة‪ ،‬في قوله تعالى‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫ستَوَى} (‪ ،)914‬قالت‪ :‬الكيف غير معقول‪ ،‬والستواء غير مجهول‪ ،‬والقرار به إيمان‪ ،‬والجحود‬
‫ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫به كفر‪.‬‬
‫ستَوَى} ك يف‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫وروى عن مالك‪ ،‬جاء إل يه ر جل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أ با ع بد ال‪{ ،‬ال ّر ْ‬
‫ا ستوى؟ قال‪ :‬ف ما رأ يت مالكا و جد من ش يء‪ ،‬كموجد ته من مقال ته‪ ،‬وعله الرح ضا‪ -‬يع نى العرق‪-‬‬

‫‪ )(908‬هو ابن العربي المالكي ‪.‬‬


‫‪ )(909‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪" )(910‬مختصر الصواعق" ملخصاً (ص ‪.)334-332‬‬
‫‪ )(911‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(912‬ورواه الللكائي في "شرح أصول السنة" (‪.)2/399‬‬
‫‪" )(913‬الفتح" (‪ ، )13/406‬وذكر آثارًا كثيرة بهذا المعنى فليراجع‪.‬‬
‫‪" )(914‬شرح أصول السنة" الللكائي (‪.)2/398‬‬

‫‪238‬‬
‫قال‪ :‬وأطرق القوم‪ ،‬وجعلوا ينظرون مها يأتهي منهه فيهه‪ ،‬فسهري عهن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬الكيهف غيهر معقول‪،‬‬
‫وال ستواء م نه غ ير مجهول‪ ،‬واليمان به وا جب‪ ،‬وال سؤال ع نه بد عة‪ ،‬فإ ني أخاف أن تكون ضالً‪،‬‬
‫وأمر به فأخرج‪.‬‬
‫ص ‪308‬‬
‫ستَوَى} (‪)915‬كيف‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫وذكر بسنده عن ابن عيينة‪ ،‬قال‪ :‬سئل ربيعة‪ ،‬عن قوله‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫ا ستوى؟ قال‪ :‬ال ستواء غ ير مجهول‪ ،‬والك يف غ ير معقول‪ ،‬و من ال الر سالة‪ ،‬وعلى الر سول البلغ‪،‬‬
‫وعلينا التصديق"‪.‬‬
‫وذكر البيهقي بسنده‪ ،‬عن الوزاعي‪ ،‬قال‪ " :‬كنا والتابعون متوافرون‪ ،‬نقول‪ :‬إن ال فوق عرشه‪،‬‬
‫ونؤمن بما وردت به السنة‪ ،‬من صفاته"(‪.)916‬‬
‫قال الحافظ‪ :‬سنده جيد(‪.)917‬‬
‫حمَ نُ‬
‫وقال‪ " :‬وأخرج الثعلبي‪ ،‬من وجه آخر‪ ،‬عن الوزاعي‪ ،‬أنه سئل عن قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫ستَوَى} (‪ .)918‬فقال‪ :‬هو كما وصف نفسه"(‪.)919‬‬
‫عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫"قال أبو الثرم‪ ،‬في كتاب "السنة"‪ :‬حدثنا إبراهيم بن الحارث – يعني العبادي‪ -‬حدثني الليث بن‬
‫يحيى‪ ،‬سمعت إبراهيم بن الشعث‪ ،‬قال أبو بكر – هو صاحب الفضيل – سمعت الفضيل بن عياض‪،‬‬
‫حدٌ {‬
‫يقول‪ :‬ل يس ل نا أن نتو هم في ال ك يف وك يف؛ لن ال و صف نف سه فأبلغ‪ ،‬فقال‪ { :‬قُلْ ُه َو اللّ ُه َأ َ‬
‫ح ٌد } (‪)920‬فل صفة أبلغ مما وصف ال – عز‬
‫صمَدُ {‪ }2‬لَ مْ يَِلدْ وَلَ مْ يُوَلدْ {‪ }3‬وَلَ مْ َيكُن لّ هُ كُ ُفوًا َأ َ‬
‫‪}1‬اللّ ُه ال ّ‬
‫وجهل – نفسهه‪ ،‬وكهل هذا النزول‪ ،‬والضحهك‪ ،‬وهذه المباهاة‪ ،‬وهذا الطلع‪ ،‬كمها شاء أن ينزل‪ ،‬وكمها‬
‫شاء أن يباهي‪ ،‬وكما شاء أن يطلع‪ ،‬وكما شاء أن يضحك‪ ،‬فليس لنا أن نتوهم فيه كيف‪ ،‬وكيف‪ ،‬وإذا‬
‫قال لك الجهمي‪ :‬أنا أكفر برب يزول عن مكانه‪ ،‬فقل أنت‪ :‬أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء‪.‬‬
‫وقال الخلل‪ :‬وأنبأ نا مح مد بن علي الوراق‪ :‬حدث نا أ بو ب كر الثرم‪ ،‬حدث ني مح مد بن إبراه يم‬
‫القيسي‪ ،‬قال‪ :‬قلت لحمد بن حنبل‪ :‬يحكى عن ابن المبارك‪ ،‬قيل‬
‫ص ‪309‬‬
‫له‪ :‬كيف نعرف ربنا؟ قال‪ :‬في السماء السابعة على عرشه بحد‪ ،‬فقال أحمد‪ :‬هكذا هو عندنا‪.‬‬
‫وأخبرني حرب بن إ سماعيل‪ ،‬قال‪ :‬قلت لسحاق – يعني ابن إبراهيم – هو على العرش بحد؟‬
‫قال‪ :‬نعم بحد‪.‬‬

‫‪" )(915‬شرح أصول السنة" (‪.)2/398‬‬


‫‪ " )(916‬السماء والصفات " (ص ‪.)408‬‬
‫‪" )(917‬الفتح" (‪.)13/406‬‬
‫‪ )(918‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪" )(919‬الفتح " (‪.)13/406‬‬
‫‪ )(920‬سورة الخلص كاملة‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫وذكر عن ابن المبارك‪ ،‬قال‪ :‬هو على عرشه‪ ،‬بائن من خلقه‪ ،‬بحد‪.‬‬
‫وأخبر نا المروزي‪ ،‬ق ههال‪ :‬قال إ سحاق بن إبراه يم بن راهو يه‪ :‬قال ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال ّرحْمَ نُ‬
‫اسهتَوَى} (‪ ،)921‬إجماع أههل العلم أنهه فوق العرش اسهتوى‪ ،‬ويعلم كهل شيهء‪ ،‬فهي أسهفل‬
‫ْشه ْ‬
‫عَلَى ا ْل َعر ِ‬
‫الرض السابعة‪ ،‬وفي قعور البحار‪ ،‬ورؤوس الكام‪ ،‬وبطون الودية‪ ،‬وفي كل موضع‪ ،‬كما يعلم علم‬
‫ما فوق السماوات السبع‪ ،‬وما فوق العرش‪ ،‬أحاط بكل شيء علما‪ ،‬فل تسقط من ورقة إل يعلمها‪ ،‬ول‬
‫حبة في ظلمات البر والبحر‪ ،‬ول رطب ول يابس‪ ،‬إل قد عرف ذلك كله وأحصاه‪ ،‬فل تعجزه معرفة‬
‫شيء عن معرفة غيره"(‪.)922‬‬
‫ومعنهى قولههم‪" :‬بحهد" أنهه ‪-‬تعالى‪ -‬بائن مهن خلقهه‪ ،‬غيهر حال فيههم‪ ،‬ول مخالط لههم – تعالى‬
‫وتقدس – و قد قيدوا ال حد‪ ،‬بأ نه ل يعل مه إل هو ‪-‬تعالى‪ -‬و هو قر يب من قول المام مالك وغيره‪" :‬‬
‫الستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول"‪ ،‬فبين أن كيفية استوائه ‪-‬تعالى‪ -‬على العرش مجهولة للعباد‪ ،‬ولكنه‬
‫لم ينف ثبوت ذلك في نفس المر‪ ،‬فكذلك قولهم‪ :‬له حد ل يعلمه إل هو‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال المام عثمان بن سعيد الدار مي – رح مه ال تعالى – في رده على ب شر المري سي‪ " :‬وال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬له حد‪ ،‬ل يعل مه غيره‪ ،‬ول يجوز أن يتو هم لحده غا ية في نف سه‪ ،‬ول كن نؤ من بال حد‪ ،‬ون كل‬
‫علم ذلك إلى ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولمكانه حد‪ ،‬وهو على عرشه‪ ،‬فوق سماواته‪ ،‬فهذان حدان"(‪.)923‬‬
‫وقال عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني‪ ،‬صاحب " الحيدة في الرد على الزنادقة والجهمية"‪" :‬‬
‫أنما‬ ‫(‪)924‬‬
‫ستَوَى}‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫زعمت الجهمية في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫ص ‪310‬‬
‫المعنى‪ :‬استوى‪ ،‬كقول العرب‪ :‬استوى فلن على مصر‪ ،‬استوى فلن على الشام‪ ،‬يريد‪ :‬استولى‬
‫عليها‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬هل يكون خلق من خلق ال أتت عليه مدة ليس ال بمستول عليه؟ فإذا قال‪ :‬ل‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬فمن زعم ذلك؟ فمن قوله‪ :‬من زعم ذلك‪ ،‬فهو كافر‪.‬‬
‫يقال له‪ :‬يلز مك أن تقول‪ :‬إن العرش قد أ تت عل يه مدة ل يس ال بم ستول عل يه‪ ،‬وذلك أن ال –‬
‫تبارك وتعالى – أخهبر أنهه خلق العرش قبهل خلق السهماوات والرض‪ ،‬ثهم اسهتوى عليهه بعهد خلق‬
‫السماوات والرض‪.‬‬
‫ع ْرشُهُ عَلَى ا ْلمَاء } (‪،)925‬‬
‫ستّ ِة َأيّامٍ َوكَانَ َ‬
‫ض فِي ِ‬
‫لرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَ ُهوَ اّلذِي خَلَق ال ّ‬
‫السهمَاوَاتِ‬
‫َقه ّ‬‫فأخهبر أن العرش كان على الماء قبهل خلق السهماوات والرض‪ ،‬وقال ‪-‬تعالى‪ { :-‬خَل َ‬

‫‪ )(921‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬


‫‪)(922‬درء تعارض العقل والنقل" (‪.)35-34 ،2/24‬‬
‫‪ )(923‬رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص ‪ " )382‬مجموع عقائد السلف "‬
‫‪ )(924‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(925‬الية ‪ 7‬من سورة هود ‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫سمَاء فَسَوّا ُهنّ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ } (‪ ،)926‬وقال‪ُ { :‬ثمّ ا ْ‬
‫ستّةِ َأيّامٍ ُثمّ ا ْ‬
‫لرْضَ َومَا َب ْي َن ُهمَا فِي ِ‬
‫وَا َ‬
‫} (‪.)927‬‬
‫فأ خبر أ نه ا ستوى على العرش‪ ،‬فيلز مك أن تقول‪ :‬المدة ال تي كان على العرش في ها‪ ،‬ق بل خلق‬
‫السماوات‪ ،‬والرض‪ ،‬ليس ال بمستول عليه‪ ،‬إذ كان‪ :‬استوى على العرش‪ ،‬معناه عندك‪ :‬استولى‪.‬‬
‫فإنما ا ستولى بزعمك في ذلك الوقت ل قبله " ثم ذكر حديث عمران ال تي وحد يث أبي رز ين‬
‫المتقدم‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫" فقال الجهمي‪ :‬أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال‪ :‬استوى فلن على السرير‪،‬‬
‫فيكون السرير قد حوى فلنا وحده إذا كان عليه؛ لنا ل نعقل الشيء على الشيء إل هكذا؟‬
‫فيقال له‪ :‬أ ما قولك‪ :‬ك يف ا ستوى؟ فإن ال ل يجري عل يه ك يف‪ ،‬و قد أخبر نا أ نه ا ستوى على‬
‫العرش‪ ،‬ولم يخبرنها كيهف اسهتوى‪ ،‬فوجهب على المؤمنيهن أن يصهدقوا ربههم‪ ،‬باسهتوائه على العرش‪،‬‬
‫وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؛ لنه لم يخبرهم‬
‫ص ‪311‬‬
‫كيف ذلك‪ ،‬ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت‪ ،‬وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث ل‬
‫يعلمون‪.‬‬
‫فآمنوا بخبره عن الستواء‪ ،‬ثم ردوا علم "كيف استوى" إلى ال‪.‬‬
‫ولكهن يلزمهك – أيهها الجهمهي‪ -‬أن تقول‪ :‬إن ال محدود‪ ،‬وقهد حوتهه الماكهن‪ ،‬إذا زعمهت فهي‬
‫دعواك‪ ،‬أ نه في الما كن‪ ،‬ل نه ل يع قل ش يء في مكان‪ ،‬إل والمكان قد حواه‪ ،‬ك ما تقول العرب‪ :‬فلن‬
‫في البيت‪ ،‬والماء في الجب‪ ،‬فالبيت قد حوى فلنا‪ ،‬والجب قد حوى الماء‪.‬‬
‫ويلزمك اشنع من ذلك؛ لنك قلت أفظع مما قالت به النصارى‪ ،‬وذلك أنهم قالوا‪ :‬إن ال – عز‬
‫و جل – في عي سى‪ ،‬وعي سى بدن إن سان وا حد‪ ،‬وكفروا بذلك‪ ،‬وأن تم تقولون‪ :‬إ نه في كل مكان‪ ،‬و في‬
‫بطون النساء كلهن‪ ،‬و{في} بدن عيسى‪ ،‬وأبدان الناس كلهم‪.‬‬
‫ويلزمك أيضا أن تقول‪ :‬إنه في أجواف الكلب‪ ،‬والخنازير‪ ،‬لنها أماكن‪ ،‬وعندك أن ال في كل‬
‫مكان‪ ،‬تعالى ال عن ذلك علوا كبيرا"(‪.)928‬‬
‫وقال أبو الحسن الشعري في "البانة"‪ " :‬إن قال قائل‪ :‬ما تقولون في الستواء؟ قيل‪ :‬نقول‪ :‬إن‬
‫ستَوَى} (‪ ،)929‬وقال –تعالى‪:-‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫ال – عز و جل – م ستو على عر شه‪ ،‬ك ما قال‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫سمَاء } (‪ ،)930‬فالسموات فوقها العرش‪ ،‬فلما كان العرش فوق السموات قال‪ { :‬أََأمِنتُم‬
‫{ أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬

‫‪ )(926‬الية ‪ 4‬من سورة السجدة ‪.‬‬


‫‪ )(927‬الية ‪ 29‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪" )(928‬درء تعارض العقل والنقل" (‪.)118-6/115‬‬
‫‪ )(929‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(930‬الية ‪ 16‬من سورة الملك ‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫سمَاء} لنه مستو على العرش‪ ،‬الذي فوق السماوات‪ ،‬وكل ما عل فهو سماء‪ ،‬فالعرش أعلى‬
‫مّن فِي ال ّ‬
‫سمَاء } يعني جميع السموات‪ ،‬وإنما أراد العرش‪ ،‬الذي هو‬
‫السماوات‪ ،‬وليس ذا قال‪ { :‬أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫جعَلَ ا ْل َقمَ َر فِيهِنّ نُورًا } (‪،)931‬‬
‫أعلى ال سموات‪ ،‬أل ترى أن ال – عز و جل‪ -‬ذ كر ال سموات فقال‪َ { :‬و َ‬
‫ولم يرد أن القمر يملهن جميعا‪ ،‬وأنه فيهن جميعا‪.‬‬
‫ص ‪312‬‬
‫ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا‪ ،‬نحو السماء‪ ،‬لن ال – عز وجل‪ -‬مستو على‬
‫العرش‪ ،‬الذي هو فوق السماوات‪ ،‬كما ل يحطونها إذا دعوا إلى الرض‪.‬‬
‫ولو كان كما تقوله المعتزلة‪ ،‬والجهمية‪ ،‬أن معناه‪ :‬استولى‪ ،‬وملك‪ ،‬وقهر‪ ،‬لم يكن هناك فرق بين‬
‫العرش‪ ،‬والرض السههابعة‪ ،‬ولكان مسههتويا على العرش‪ ،‬وعلى الرض‪ ،‬وعلى السههماء‪ ،‬وعلى‬
‫الحشوش‪ ،‬والقذار"(‪ ،)932‬تعالى ال عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫وقال الباقل ني – و هو من أئ مة الشاعرة ‪ " :-‬فإن قال قائل‪ :‬أتقولون‪ :‬إ نه في كل مكان؟ ق يل‪:‬‬
‫ستَوَى} (‪،)933‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫معاذ ال‪ ،‬بل هو مستو على عرشه‪ ،‬كما أخبرنا في كتابه‪ ،‬فقال‪{ :‬الرّ ْ‬
‫سفَ‬
‫سمَاء أَن َيخْ ِ‬
‫ح َيرْ َفعُ ُه } (‪ ،)934‬وقال‪ { :‬أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫ل الصّالِ ُ‬
‫صعَدُ ا ْلكَلِ ُم الطّيّبُ وَا ْل َعمَ ُ‬
‫وقال‪ { :‬إَِليْ ِه يَ ْ‬
‫لرْضَ } (‪.)935‬‬
‫ِب ُكمُ ا َ‬
‫ولو كان في كل مكان‪ ،‬لكان في ب طن الن سان‪ ،‬وف مه‪ ،‬و في الحشوش‪ ،‬والموا ضع ال تي نر غب‬
‫عن ذكرها‪ ،‬ولوجب أن يزيد بزيادة المكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه‪ ،‬وينقص بنقصانها إذا بطل‬
‫من ها ما كان‪ ،‬ول صح أن ير غب إل يه إلى ن حو الرض‪ ،‬وإلى خلف نا‪ ،‬وإلى يمين نا‪ ،‬وشمائل نا‪ ،‬وهذا قد‬
‫أجمع المسلمون على خلفه‪ ،‬وتخطئة قائله"(‪.)936‬‬
‫وقال شيخ السلم‪ " :‬وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول‪ :‬إن السموات تقله‪ ،‬أو تظله‪ ،‬لما في‬
‫ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته‪ ،‬فمن قال‪ :‬إنه في استوائه على العرش محتاج إليه‪ ،‬كاحتياج المحمول‪،‬‬
‫إلى حامله‪ ،‬فإنه كافر؛ لن ال غني عن العالمين – حي‪ ،‬قيوم – الغنى المطلق‪ ،‬وما سواه فقير إليه‪.‬‬
‫ص ‪313‬‬
‫مع أن أصل الستواء على العرش‪ ،‬ثابت بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واتفاق سلف المة‪ ،‬وأئمة السنة‪ ،‬بل‬
‫(‪)937‬‬
‫ثابت في كل كتاب‪ ،‬أنزل على كل نبي أرسل"‬

‫‪ )(931‬الية ‪ 16‬من سورة نوح‪.‬‬


‫‪" )(932‬البانة" (ص ‪ )87-85‬ملخصاً ‪.‬‬
‫‪ )(933‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪ )(934‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر ‪.‬‬
‫‪ )(935‬الية ‪ 16‬من سورة الملك ‪.‬‬
‫‪" )(936‬التمهيد" (ص ‪.)260‬‬
‫‪" )(937‬مجموع الفتاوى " (‪.)2/188‬‬

‫‪242‬‬
‫حمَ نُ عَلَى‬
‫وذكر عن أبي عمرو الطلمنكي‪ :‬أنه قهال‪ " :‬قال أهل السنة‪ ،‬في قوله ‪-‬تعالى‪ {:-‬ال ّر ْ‬
‫ستَوَى} (‪ :)938‬أن الستواء من ال على عرشه المجيد‪ ،‬على الحقيقة‪ ،‬ل على المجاز "(‪.)939‬‬
‫ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫وقال ا بن ع بد البر في شرح حد يث النزول‪ " :‬وف يه دل يل على أن ال في ال سماء‪ ،‬على العرش‬
‫من فوق سبع سماوات‪ ،‬كما قالت الجماعة‪ ،‬وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم‪ :‬إن ال في كل‬
‫مكان‪ ،‬وليس على العرش‪.‬‬
‫ستَوَى}‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫و من الدل يل على صحة ما قاله أ هل ال حق‪ ،‬قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫(‪.")940‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬وفي الفقه الكبر‪ ،‬المروي عن المام أبي حنيفة ‪ -‬رحمه ال – قال‪ " :‬من‬
‫َنه عَلَى‬
‫حم ُ‬‫قال‪ :‬ل أعرف ربهي فهي السهماء‪ ،‬أم فهي الرض‪ ،‬فقهد كفهر؛ لن ال –تعالى‪ -‬يقول‪{ :‬الرّ ْ‬
‫ستَوَى} وعرشه فوق سبع سماواته‪.‬‬
‫ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫قلت‪ :‬فإن قال‪ :‬أنهه على العرش اسهتوى‪ ،‬ولكنهه يقول‪ :‬ل أدري‪ ،‬العرش فهي السهماء‪ ،‬أم فهي‬
‫الرض؟ قال‪ :‬هو كافر؛ لنه أنكر أن يكون في السماء؛ لنه –تعالى‪ -‬في أعلى عليين‪ ،‬وأنه يدعى من‬
‫أعلى‪ ،‬ل من أسفل‪.‬‬
‫و في ل فظ‪ :‬سألت أ با حني فة‪ :‬ع من يقول‪ :‬ل أعرف ر بي‪ ،‬في ال سماء‪ ،‬أم في الرض؟ قال‪ :‬قد‬
‫ستَوَى} (‪)941‬وعرشه فوق سبع سماوات‪.‬‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْل َعرْشِ ا ْ‬
‫كفر؛ لن ال –تعالى‪ -‬يقول‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫قال‪ :‬فإ نه يقول‪ :‬على العرش ا ستوى‪ ،‬ول كن ل يدري العرش في الرض‪ ،‬أو في ال سماء؟ قال‪:‬‬
‫إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر"‪.‬‬
‫ص ‪314‬‬
‫ثم قال‪ " :‬ففي هذا الكلم المشهور عن أبي حنيفة‪ ،‬عند أصحابه؛ أنه كفر الواقف الذي يقول‪ :‬ل‬
‫أعرف ربي‪ ،‬في السماء‪ ،‬أم في الرض‪.‬‬
‫فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول‪ :‬ليس في السماء‪ ،‬أو ليس في السماء ول في الرض؟‬
‫ستَوَى}‪ ،‬قال‪ :‬وعرشه فوق سبع سموات‪،‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫واحتج على كفره بقوله تعالى‪{ :‬الرّ ْ‬
‫ستَوَى} يبين أن ال فوق السماوات‪ ،‬فوق العرش‪،‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫وبين بهذا أن قوله –تعالى‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫وأن الستواء على العرش دل على أن ال بنفسه فوق العرش‪.‬‬
‫ثم إ نه أردف ذلك بتكف ير من قال‪ :‬إ نه على العرش ا ستوى‪ ،‬ول كن تو قف في كون العرش في‬
‫السماء‪ ،‬أم في الرض؛ قال‪ :‬لنه أنكر أنه في السماء‪ ،‬لن ال في أعلى عليين‪ ،‬وأنه يدعى من أعلى‪،‬‬
‫ل من أسفل‪.‬‬
‫‪ )(938‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬
‫‪" )(939‬مجموع الفتاوى " (‪.)3/261‬‬
‫‪" )(940‬التمهيد " (‪.)7/129‬‬
‫‪ )(941‬الية ‪ 5‬من سورة طه ‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫وهذا تصريح من أبي حنيفة – رحمه ال – بتكفير من أنكر أن يكون ال في السماء‪.‬‬
‫واح تج على ذلك بأن ال في أعلى علي ين‪ ،‬وأ نه يد عى من أعلى‪ ،‬ل من أ سفل‪ ،‬و كل من هات ين‬
‫الحجتين فطرية عقلية‪ ،‬فإن القلوب مفطورة على القرار بأن ال في العلو‪ ،‬وعلى أنه يدعى من أعلى‪،‬‬
‫ل من أسفل‪.‬‬
‫(‪)942‬‬
‫وقد جاء اللفظ الخر صريحا عنه بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر"‬
‫وكلم العلماء من أ هل السهنة مهن السهلف وأتباعههم فهي هذا الموضوع كثيرة جدا‪ ،‬فنكتفهي بهذا‬
‫الطرف اليسير؛ لن العاقل المنصف‪ ،‬الذي يريد الحق‪ ،‬ويطلبه إذا بان له الدليل‪ ،‬كفاه اليسير‪ ،‬وأما من‬
‫ضل وعاند فل يفيده البيان والكثار من الكلم‪ ،‬وال الهادي‪ ،‬وهو المستعان‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وقال ا بن عباس‪ :‬المج يد‪ :‬الكر يم‪ ،‬والودود‪ :‬ال حبيب‪ .‬يقال‪ :‬حم يد مج يد‪ ،‬كأ نه فع يل من‬
‫ماجد‪ ،‬محمود من حمد "‪.‬‬
‫ص ‪315‬‬
‫قول ا بن عباس انت هى عند قوله‪ :‬يقال‪ .‬قال الحا فظ‪ " :‬وصله ا بن أ بي حا تم من طر يق علي بن‬
‫ستَوَى}‪ ،‬قال‪ :‬المج يد الكر يم‪،‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫أ بي طل حة‪ ،‬عن ا بن عباس‪ ،‬في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫وبه – أي بالسند – عن ابن عباس في قوله تعالى‪ { :‬وَهُ َو ا ْلغَفُو ُر الْ َودُودُ }‪ .‬قال‪ :‬الودود‪ :‬الحبيب"(‪.)943‬‬
‫وذكر السيوطي أنه خرجه ابن جرير‪ ،‬وقال المنذر‪ ،‬والبيهقي في "الصفات" في الموضعين"(‪.)944‬‬
‫قلت‪ :‬يقصهد البخاري – رحمهه ال – أن العرش أضيهف إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬الضافهة الدالة على‬
‫ه ا ْل َمجِيدُ } أي‪ :‬صهاحب العرش‪ ،‬فدل ذلك على‬
‫المصهاحبة‪ ،‬والختصهاص‪ ،‬حيهث قال‪ { :‬ذُو ا ْل َعرْش ِ‬
‫اختصاص العرش المذكور بال ‪-‬تعالى‪ -‬دون سائر المخلوقات‪ ،‬والمجيد قرئ بالرفع صفة لذو‪ ،‬الذي‬
‫هو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وقرئ بالجر صفة للعرش‪.‬‬
‫قال ابن جر ير‪ " :‬قرأ عا مة قراء المدي نة وم كة‪ ،‬وب عض الكوفي ين‪ ،‬بالر فع‪ ،‬ردا على قوله‪ { :‬ذُو‬
‫ا ْل َعرْ شِ }‪ ،‬على أنه صفة ال – تعالى ذكره – وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضا‪ ،‬على أنه من صفة‬
‫العرش‪.‬‬
‫والصواب من القول‪ :‬أنهما قراءتان‪ ،‬معروفتان‪ ،‬فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب"(‪.)945‬‬
‫قال أ بو حيان‪ { :‬ذُو ا ْل َعرْ شِ ا ْل َمجِيدُ } خص العرش بإضا فة نف سه‪ ،‬تشريفا للعرش‪ ،‬وت نبيها على‬
‫أنه أعظم المخلوقات"(‪.)946‬‬

‫‪" )(942‬مجموع الفتاوى" (‪.)49-8/47‬‬


‫‪" )(943‬الفتح" (‪.)13/408‬‬
‫‪" )(944‬الدر المنثور" (‪ ، )8/471‬وانظر ‪ " :‬الطبري" (‪.)139 ،30/138‬‬
‫‪" )(945‬تفسير الطبري" (‪.)30/139‬‬
‫‪" )(946‬البحر المحيط" (‪.)8/452‬‬

‫‪244‬‬
‫و "المجيهد" فسهره ابهن عباس بالكريهم‪ ،‬وقهد جاء فهي القرآن وصهف العرش بأنهه كريهم‪ ،‬قال‬
‫ل هُ َو رَبّ ا ْل َعرْشِ‬
‫حقّ ل إَِلهَ ِإ ّ‬
‫ك ا ْل َ‬
‫‪-‬تعالى‪َ { :-‬ف َتعَالَى اللّهُ ا ْلمَِل ُ‬
‫ص ‪316‬‬
‫ا ْل َكرِي مِ} (‪ ،)947‬فو صف العرش بأ نه كر يم ل سعته وح سنه‪ ،‬و هو في و صف ال‪ :‬الجواد‪ ،‬وا سع‬
‫العطاء‪ ،‬كثير الخير‪ ،‬حميد الصفات‪.‬‬
‫قال في "القاموس"‪{ :‬المجيد} الرفيع العالي‪ ،‬والكريم‪ ،‬والشريف الفعال"(‪.)948‬‬
‫قوله‪{ :‬الودود} ال حبيب‪ ،‬تقدم أن هذا التف سير مروي عن ا بن عباس ب سند مت صل‪ ،‬الود‪ :‬خالص‬
‫الحب وصافيه‪.‬‬
‫وفي القاموس‪ " :‬الودود" كثير الحب‪ ،‬وقد تقدم الكلم في صفة المحبة‪.‬‬
‫" الْ َودُو ُد " فعول من الود‪ ،‬قال ال عن شعيب عليه ال سلم‪ { :‬إِنّ َربّي َرحِي مٌ َودُو ٌد } (‪ ،)949‬وقال‬
‫‪-‬تعالى‪{ :‬وَهُ َو ا ْلغَفُورُ ا ْل َودُودُ} (‪ ،)950‬فقرنه بالرحيم في موضع‪ ،‬وبالغفور في موضع‪.‬‬
‫قال أ بو ب كر بن النباري‪{ :‬الْ َودُود} معناه‪ :‬الم حب لعباده‪ ،‬من قول هم‪ :‬وددت الر جل أوده‪ ،‬ودا‪،‬‬
‫وودا‪ ،‬وودا‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬وددت الرجل‪ ،‬ودادا‪ ،‬وودادا‪ ،‬وودادة‪.‬‬
‫وقال الخطابي‪ :‬هو اسم مأخوذ من الود‪ ،‬وفيه وجهان‪:‬‬
‫ل في محل مفعول‪ ،‬كما قيل‪ :‬رجل هيوب‪ ،‬بمعني مهيب‪ ،‬وفرس ركوب‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون فعو ً‬
‫بمعنى مركوب‪ .‬وال – سبحانه وتعالى – مودود في قلوب أوليائه؛ لما يعرفونه من إحسانه إليهم‪.‬‬
‫والوجه الخر‪ :‬أن يكون بمعنى الود‪ ،‬أي أنه تعالى يود عباده الصالحين‪.‬‬
‫فسرت بأنه يحبهم‪ ،‬ويحببهم إلى عباده‪.‬‬ ‫(‪)951‬‬
‫حمَنُ ُودّا}‬
‫جعَلُ َل ُهمُ ال ّر ْ‬
‫س َي ْ‬
‫قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬‬
‫ص ‪317‬‬
‫ويؤيده الحد يث ال صحيح‪ " :‬إذا أ حب ال عبدا نادى‪ :‬يا جبر يل‪ ،‬أ ني أ حب فلنا‪ ،‬فأح به‪ ،‬فيح به‬
‫جبر يل‪ ،‬ثم ينادي في ال سماء‪ :‬إن ال ي حب فلنا‪ ،‬فأحبوه‪ ،‬فيح به أ هل ال سماء ثم يو ضع له القبول في‬
‫الرض " وسيأتي – إن شاء ال تعالى ‪.-‬‬
‫والكثرون على ما ذكره ابن النباري‪ ،‬أنه فعول بمعنى فاعل‪ ،‬أي هو الواد‪ ،‬كما قرنه بالغفور‪،‬‬
‫الذي يغفر‪ ،‬وبالرحيم هو الذي يرحم(‪.)952‬‬

‫‪ )(947‬الية ‪ 116‬من سورة المؤمنون‪.‬‬


‫‪.)1/336( )(948‬‬
‫‪ )(949‬الية ‪ 90‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(950‬الية ‪ 14‬من سورة البروج ‪.‬‬
‫‪ )(951‬الية ‪ 96‬من سورة مريم‪.‬‬
‫‪" )(952‬النبوات" (ص ‪ )72-71‬ملخصاً‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫وقوله‪ " :‬يقال‪ :‬حميد مجيد‪ ،‬كأنه فعيل من ماجد‪ ،‬محمود من حمد" قال الحافظ‪ " :‬أصل هذا قول‬
‫أبي عبيدة‪ ،‬في مجاز القرآن‪ ،‬في قوله‪ :‬عليكم أهل البيت أي‪ :‬محمود ماجد"(‪.)953‬‬
‫قال الكرماني‪ " :‬غرضه منه‪ ،‬أن مجيدا بمعنى فاعل‪ ،‬كقدير بمعنى قادر‪ ،‬حميدا بمعنى مفعول‪،‬‬
‫فلذلك قال‪ " :‬مجيهد مهن ماجهد‪ ،‬حميهد مهن محمود‪ ،‬قال‪ :‬وفهي بعهض النسهخ‪ :‬محمود مهن حميهد‪ ،‬وفهي‬
‫أخرى‪ :‬من ح مد‪ ،‬مب نى للفا عل‪ ،‬والمفعول أيضا‪ ،‬وذلك لحتمال أن يكون حم يد بمع نى حا مد‪ ،‬ومج يد‬
‫(‪)954‬‬
‫بمعنى ممجد‪ ،‬ثم قال‪ :‬وفي عبارته تعقيد"‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬قلت‪ :‬و هو في قوله‪ " :‬محمود من ح مد" و قد اختل فت الرواة ف يه‪ ،‬والولى ف يه ما‬
‫وجد في أصله‪ ،‬وهو كلم أبي عبيدة "(‪.)955‬‬
‫"فالحم يد الذي له من ال صفات‪ ،‬وأ سباب الح مد‪ ،‬ما يقت ضى أن يكون محمودا‪ ،‬وإن لم يحمده‬
‫غيره‪ ،‬فهو حميد في نفسه‪.‬‬
‫والمحمود‪ :‬مهن تعلق بهه حمهد الحامديهن‪ ،‬والحمهد والمجهد إليهمها يرجهع الكمال كله‪ ،‬فإن الحمهد‬
‫يستلزم الثناء والمحبة للمحمود‪ ،‬فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامدا له‪.‬‬
‫وهذا الثناء والحهب‪ ،‬يتبهع السهباب المقتضيهة له‪ ،‬وههو مها عليهه المحمود مهن صهفات الكمال‪،‬‬
‫ونعوت الجلل‪ ،‬والح سان إلى الغ ير‪ ،‬فإن هذه هي أ سباب المح بة‪ ،‬وكل ما كا نت هذه ال صفات أج مع‬
‫وأكمل‪ ،‬كان الحمد والحب أتم وأعظم‪.‬‬
‫ص ‪318‬‬
‫وال – سبحانه – له الكمال المطلق‪ ،‬الذي ل نقص فيه بوجه‪ ،‬والحسان كله له ومنه‪ ،‬فهو أحق‬
‫ب كل ح مد‪ ،‬وب كل حب‪ ،‬ف هو أ هل أن ي حب لذا ته‪ ،‬ول صفاته‪ ،‬ولفعاله‪ ،‬ول سمائه‪ ،‬ولح سانه‪ ،‬ول كل ما‬
‫صدر منه‪.‬‬
‫والمجد مستلزم للعظمة‪ ،‬والسعة‪ ،‬والجلل‪ ،‬كما يدل عليه موضوعه في اللغة"(‪.)956‬‬
‫يقال‪ :‬استمجد المرخ والعفار؛ لكثرة النار فيهما‪.‬‬
‫قال ا بن الق يم‪ " :‬و من أ سمائه –تعالى‪ -‬ما هو دال على جملة أو صاف عديدة‪ ،‬ل يخ تص ب صفة‬
‫معي نة‪ ،‬بل هو دال على معناه‪ ،‬ل على مع نى مفرد‪ ،‬ن حو المج يد‪ ،‬العظ يم‪ ،‬ال صمد‪ ،‬فإن المج يد‪ :‬من‬
‫اتصهف بصهفات متعددة‪ ،‬مهن صهفات الكمال‪ ،‬ولفظهه يدل على هذا‪ ،‬فإنهه موضوع فهي اللغهة للسهعة‪،‬‬
‫والكثرة‪ ،‬والزيادة‪ ،‬فمنه‪ :‬استمجد المرخ والعفار‪ ،‬وأمجد الناقة علفا‪ ،‬ومنه { ذُو ا ْل َعرْ شِ ا ْل َمجِي ُد } صفة‬
‫للعرش‪ ،‬لسعته وعظمته وشرفه"(‪.)957‬‬

‫‪" )(953‬الفتح" (‪.)13/408‬‬


‫‪" )(954‬شرح الكرماني على البخاري" (‪.)25/129‬‬
‫‪" )(955‬الفتح" (‪.)13/408‬‬
‫‪" )(956‬جلء الفهام" (ص ‪.)187‬‬
‫‪" )(957‬بدائع الفوائد " (‪.)1/160‬‬

‫‪246‬‬
‫ص ‪319‬‬
‫‪-47‬قال‪ " :‬حدث نا عبدان‪ ،‬عن أ بي حمزة‪ ،‬عن الع مش‪ ،‬عن جا مع بن شداد‪ ،‬عن صفوان بن‬
‫محرز‪ ،‬عن عمران بن ح صين‪ ،‬قال‪ " :‬إ ني ع ند ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إذ جاءه قوم من ب ني‬
‫تم يم‪ ،‬فقال‪ " :‬اقبلوا البشرى يا ب نى تم يم" قالوا‪ :‬بشرت نا فأعط نا‪ ،‬فد خل ناس من أ هل الي من‪ ،‬فقال‪" :‬‬
‫اقبلوا البشرى يا أهل اليمن‪ ،‬إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا‪ :‬قبلنا‪ ،‬جئناك لنتفقه في الدين‪ ،‬ولنسألك عن أول‬
‫هذا المهر مها كان؟ قال‪ " :‬كان ال‪ ،‬ولم يكهن شيهء قبله‪ ،‬وكان عرشهه على الماء‪ ،‬ثهم خلق السهموات‬
‫والرض‪ ،‬وك تب فهي الذ كر كهل شيهء" ثم أتانهي رجهل‪ ،‬فقال‪ :‬يا عمران‪ ،‬أدرك ناقتهك‪ ،‬ف قد ذهبهت‪،‬‬
‫فانطلقت أطلبها‪ ،‬فإذا السراب ينقطع دونها‪ ،‬وايم ال لوددت أنها ذهبت ولم أقم"‪.‬‬
‫عمران‪ ،‬هو أ بو نج يد‪ ،‬ب ضم النون وف تح الج يم‪ ،‬ا بن ح صين‪ ،‬الخزا عي‪ ،‬الب صري‪ ،‬أ سلم عام‬
‫خ يبر‪ ،‬سنة سبع‪ ،‬وش هد ما بعد ها من غزوات ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬وكان من فضلء‬
‫الصهحابة‪ ،‬وكانهت الملئكهة تسهلم عليهه مواجههة‪ ،‬وكان مجاب الدعوة‪ ،‬بعثهه عمهر إلى أههل البصهرة‬
‫يفقه هم‪ ،‬وكان الح سن الب صرى يحلف بال ما قدم ها مثله‪ ،‬اعتزل الناس في الفت نة‪ ،‬فلم يش هد شيئا من‬
‫حروبها‪ ،‬مات في البصرة سنة اثنتين وخمسين‪ - ،‬رضي ال عنه ‪.)958(-‬‬
‫قوله‪ :‬إ ني ع ند ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬في الروا ية ال تي ذكر ها في بدء الخلق‪ " :‬دخلت‬
‫على النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وعقلت ناقتي بالباب(‪.)959‬‬
‫ويظ هر أن هذه الواق عة في المدي نة‪ ،‬في آ خر حياة ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬ولهذا ذكر ها‬
‫البخاري في آخر المغازي‪ ،‬في ذكر الوفود على النبي –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬اقبلوا البشرى يا ب ني تم يم" و في روا ية‪ " :‬أبشروا يا ب ني تم يم"‪ ،‬والمراد بهذه البشرى‪:‬‬
‫الخير العظيم الذي يترتب على السلم‪ ،‬والنجاة من العذاب العظيم الذي يترتب على عدم الدخول في‬
‫السلم‪ ،‬وذلك في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ص ‪320‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬والمراد بهذه البشارة‪ :‬أن من أ سلم ن جا من الخلود في النار‪ ،‬ثم ب عد ذلك يتر تب‬
‫جزاؤه على وفق عمله‪ ،‬إل أن يعفو ال"(‪.)960‬‬
‫"وتم يم‪ :‬ا سم ر جل‪ ،‬و هو تم يم بن مر بن إد بن طاب خة – وا سم طاب خة‪ -‬عمرو بن إلياس بن‬
‫مضر‪ ،‬والتميم في اللغة‪ :‬الشريد"(‪ " .)961‬قالوا‪ :‬بشرتنا فأعطنا" يظهر أنهم ما فهموا مقصد الرسول –‬
‫صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ب ما أراده بالبشرى‪ ،‬أو أن رغبت هم في العاجلة‪ ،‬فعلقوا ب ها آمال هم‪ ،‬فقدموا ذلك‬
‫على التفقه في الدين‪ ،‬والقبال على تفهم ما قاله الرسول – صلى ال عليه وسلم ‪ ،-‬ولهذا كره رسول‬
‫‪" )(958‬الرياض المستطابة" (ص ‪.)219‬‬
‫‪ )(959‬انظر ‪ " :‬البخاري مع الفتح" (‪.)6/286‬‬
‫‪" )(960‬الفتح" (‪.)13/409‬‬
‫‪ )(961‬انظر ‪ " :‬نهاية الرب" (ص ‪.)322، 188‬‬

‫‪247‬‬
‫ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قولهم‪ ،‬كما في الرواية الخرى‪ ،‬وغير لون وجهه حيث استشعر قلة فقههم‬
‫في الدين‪ ،‬ورغبتهم في الخرة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫"فدخل ناس من أهل اليمن " تقدم ذكر اليمن‪ ،‬وسبب تسميته في شرح حديث معاذ‪" ،‬فقال‪ :‬اقبلوا‬
‫البشرى يا أ هل الي من‪ ،‬إذ لم يقبلها ب نو تم يم" البشرى‪ :‬ا سم من البش ير‪ ،‬وهي الخبار بما ي سر ويفرح‬
‫غالبا‪ ،‬وسميت بذلك لنه يظهر أثرها على بشرة الوجه‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬أي‪ :‬اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة‪ ،‬إذا أخذتم به"(‪ .)962‬ويؤخذ من هذا‪:‬‬
‫أنهه ينبغهي – بهل يتعيهن – قبول مها جاء عهن ال ورسهوله‪ ،‬بدون توقهف أو اسهتفسار‪ ،‬أو طلب للعلة‬
‫والسبب؛ لن قول بني تميم‪ " :‬بشرتنا فأعطنا" ل يدل بظاهره على أنهم لم يقبلوها‪ ،‬ومع ذلك جعل عدم‬
‫فهمهم للمقصود وطلبهم لمر عاجل‪ ،‬عدم قبول للبشرى‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬جئناك لنتفقه في الدين" الفقه هو الفهم‪ ،‬أي‪ :‬فهم المراد‪ ،‬أي‪ :‬أننا قد آمنا بك‪ ،‬وبما جئت‬
‫به‪ ،‬وأتينا إليك لتفهمنا ديننا الذي جئت به‪ ،‬وتعلمنا ما نعتقده‪ ،‬ونعمل به‪ ،‬وهذا من توفيق ال لعبده؛ أن‬
‫يهتم بالتفقه في دينه‪ ،‬حتى يعبد ربه على علم وبصيرة‪.‬‬
‫قله‪ " :‬ولن سألك عن أول هذا ال مر ما كان "؟ الشارة في قوله‪ " :‬هذا" تعود إلى ش يء مشا هد‪،‬‬
‫حا ضر‪ ،‬موجود‪ ،‬و هو هذا الخلق المرئي‪ ،‬من ال سماوات والرض‪ ،‬و ما بينه ما‪ ،‬و ما فيه ما‪ ،‬والمع نى‪:‬‬
‫جئنا نسأل عن مبدأ خلق هذه المخلوقات المشاهدة‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪.‬‬
‫ص ‪321‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬كأن هم سألوا عن أحوال هذا العالم‪ ،‬و هو الظا هر‪ ،‬ويحت مل أن يكونوا سألوا عن‬
‫أول جنس المخلوقات"(‪.)963‬‬
‫قلت‪ :‬الحتمال الثاني بعيد‪ ،‬بل باطل‪ ،‬كما يأتي بيانه في كلم شيخ السلم‪ ،‬وقوله في الحديث‪" :‬‬
‫عهن أول هذا المهر" برده؛ لن الشارة إلى المخلوقات المشاهدة كمها تقدم‪ ،‬وجوب السهؤال يدل على‬
‫أنهم سألوا عن مبدأ هذا العالم المشاهد‪ ،‬والمر يطلق ويراد به المأمور‪ ،‬ويراد به المصدر‪ ،‬الذي هو‬
‫حكم المر‪ ،‬والول هو المراد هنا قطعا‪.‬‬
‫وقد رد شيخ السلم احتمال كونهم سألوا عن أول جنس المخلوقات من وجوه كثيرة‪ ،‬وبين أن‬
‫ذلك باطل‪ ،‬وذكر أن الحديث روي بثلثة ألفاظ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬المذكور هنا‪ " :‬كان ال ولم يكن شيء قبله"‪.‬‬
‫والثاني‪ " :‬كان ال‪ ،‬ولم يكن شيء معه"‪.‬‬
‫والثالث‪ " :‬كان ال ولم يكن شيء غيره"‪.‬‬

‫‪" )(962‬الفتح" (‪.)6/288‬‬


‫‪" )(963‬الفتح" (‪.)6/288‬‬

‫‪248‬‬
‫ثم قال‪ " :‬ل بد أن يكون الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال أحد ها؛ لن المجلس كان واحدا‪،‬‬
‫وسؤالهم وجوابهم في ذلك المجلس‪ ،‬وعمران الذي روى الحديث لم يبق في المجلس إلى انقضائه‪ ،‬بل‬
‫ذهب لما أخبر بذهاب راحلته‪ ،‬وهو أخبر بلفظ الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ولم يرو هذا الحديث‬
‫غيره‪ ،‬فدل ذلك على أن الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال واحدا من هذه اللفاظ‪ ،‬والخران رو يا‬
‫بالمعنى‪ ،‬فيكون ما قاله‪ :‬هو لفظ "القبل"؛ لما في "صحيح مسلم"‪ ،‬من قوله –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬‬
‫أنت الول فليس قبلك شيء"(‪.)964‬‬
‫و أكثر أهل الحديث يرويه بهذا اللفظ‪ ،‬وهو ذكر الجمل الثلث بالواو‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ "-1‬قوله‪ :‬كان ال‪ ،‬ولم يكن شيء قبله "‪.‬‬
‫‪ "-2‬وكان عرشه على الماء"‪.‬‬
‫‪ "-3‬وكتب في الذكر كل شيء"‪.‬‬
‫ولم يذكر شيئا منها بثم‪ ،‬وإنما جاء ذلك في خلق السماوات والرض‪.‬‬
‫ص ‪322‬‬
‫والواو‪ ،‬ل تفيهد الترتيهب‪ ،‬على الصهحيح‪ ،‬فل يكون فهي ذلك ذكهر أول المخلوقات‪ ،‬بهل ول فيهه‬
‫الخبار بخلق العرش‪ ،‬والماء‪ ،‬وإن كان ذلك كله مخلوقا‪ ،‬ول كن المق صود أن جوا به ل هل الي من‪ ،‬ع ند‬
‫بدء خلق السموات والرض‪ ،‬وما بينهما‪ ،‬وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام‪ ،‬ل ابتداء ما خلقه‬
‫ال قبل ذلك‪.‬‬
‫ويدل على ذلك‪ ،‬أ نه أ خبر عن تلك الشياء ب ما يدل على وجود ها‪ ،‬ولم يتعرض لبتداء خلق ها‪،‬‬
‫وذكر السموات والرض بما يدل على خلقها‪ ،‬سواء قال‪ " :‬خلق السموات والرض" أو قال‪ ":‬وثم خلق‬
‫السموات والرض" فعلى التقديرين‪ ،‬أخبر بخلق ذلك‪ ،‬وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن‪.‬‬
‫ف تبين أ نه لم ي كن مق صوده الخبار عن أول ج نس المخلوقات‪ ،‬بل ول الخبار عن خلق العرش‬
‫والماء‪ ،‬وإن ما مق صوده الخبار عن بدء خلق ال سموات والرض و ما بينه ما‪ ،‬ح ين كان عر شه على‬
‫(‪)965‬‬
‫الماء"‬
‫وقد ثبت في حديث عبدال بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقول‪" :‬‬
‫كتب ال مقادير الخلئق قبل أن يخلق السموات والرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬قال‪ :‬وعرشه على الماء‬
‫"(‪.)966‬‬

‫‪ )(964‬انظر ‪ " :‬صحيح مسلم" (‪ )4/2084‬الحديث رقم (‪.)2713‬‬


‫‪" )(965‬مجموع الفتاوى" (‪ )222-18/216‬بتصرف ‪.‬‬
‫‪" )(966‬صحيح مسلم" (‪ )4/2044‬رقم (‪.)2653‬‬

‫‪249‬‬
‫ولمها كان شيهخ السهلم يقرر هذا‪ ،‬وههو أن ال لم يزل فعالً لمها يريهد‪ ،‬ويرد على مهن يقول‪:‬‬
‫المعنى‪ :‬كان ال ول شيء معه‪ ،‬أي‪ :‬ل مخلوق‪ ،‬ول فعل‪ ،‬ول مفعول‪ ،‬ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم‬
‫يكن يفعل ويخلق‪ ،‬وهذا هو قول الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪.‬‬
‫لمها كان يقرر ذلك‪ ،‬ويرد قول الجهميهة والمعتزلة‪ ،‬ظهن كثيهر ممهن لم يفههم مراده ولم يعرف‬
‫مذههب أههل السهنة فهي هذه المسهألة‪ ،‬زن أنهه يقول بقدم العالم؛ لنهه يقول بحوادث ل أول لهها‪ ،‬لنههم‬
‫يسمون أفعال ال الختيارية التي يفعلها بإرادته‪ :‬حوادث‪.‬‬
‫وما علم هؤلء أن لزم قولهم‪ ،‬أشنع‪ ،‬وأفظع‪ ،‬وهو أن الرب ‪-‬تعالى‪ -‬كان معطلً عن الفعل‪ ،‬ثم‬
‫صار فعالً لفعاله بعد أن لم يكن كذلك‪.‬‬
‫مع أن ما قاله شيخ السلم هو مذهب السلف‪ ،‬مثل المام أحمد والدارمي والبخاري وغيرهم‪.‬‬
‫ص ‪323‬‬
‫قال المام أحمهد فهي رده على الجهميهة‪ " :‬فلمها ظهرت عليهه الحجهة‪ ،‬قال‪ :‬إن ال يتكلم‪ ،‬ولكهن‬
‫كلمه مخلوق‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬وكذا بنو آدم كلمهم مخلوق‪ ،‬فقد شبهتم ال بخلقه‪ ،‬حين زعمتم أن كلمه مخلوق‪.‬‬
‫ف في مذهب كم‪ :‬قد كان في و قت من الوقات ل يتكلم‪ ،‬ح تى خلق التكلم‪ ،‬وكذلك ب نو آدم كانوا ل‬
‫يتكلمون حتى خلق ال لهم كلما‪.‬‬
‫وقد جمعتم بين كفر‪ ،‬وتشبيه‪ ،‬وتعالى ال عن هذه الصفة‪.‬‬
‫بهل نقول‪ :‬إن ال لم يزل متكلما إذا شاء‪ ،‬ول نقول‪ :‬إنهه كان‪ ،‬ول يتكلم حتهى خلق الكلم‪ ،‬ول‬
‫نقول‪ :‬إ نه قد كان ل يعلم‪ ،‬ح تى خلق علما فعلم‪ ،‬ول نقول‪ :‬إ نه قد كان ول قدرة له‪ ،‬ح تى خلق لنف سه‬
‫القدرة‪ ،‬ول نقول‪ :‬إنه كان ول نور له‪ ،‬حتى خلق لنفسه نورا‪ ،‬ول نقول‪ :‬إنه كان ول عظمة له‪ ،‬حتى‬
‫خلق لنفسه عظمة‪.‬‬
‫فقال الجهميهة – لمها وصهفنا ال بهذه الصهفات ‪ :-‬إن زعمتهم أن ال ونوره‪ ،‬وال وقدرتهه‪ ،‬وال‬
‫وعظمته‪ ،‬فقد قلتم بقول النصارى‪ ،‬حين زعموا أن ال لم يزل ونوره‪ ،‬ولم يزل وقدرته‪.‬‬
‫قل نا‪ :‬ل نقول‪ :‬إن ال لم يزل وقدر ته‪ ،‬ولم يزل ونوره‪ ،‬ول كن نقول‪ :‬لم يزل بقدر ته ونوره‪ ،‬م تى‬
‫قدر‪ ،‬ول كيف‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬ل تكونوا موحدين أبدا‪ ،‬حتى تقولوا‪ :‬قد كان ال ول شيء‪.‬‬
‫فقل نا‪ :‬ن حن نقول‪ :‬قد كان ال ول ش يء‪ ،‬ول كن إذا قل نا‪ :‬إن ال لم يزل ب صفاته كل ها‪ ،‬أل يس إن ما‬
‫نصف إلها واحدا بجميع صفاته؟‬
‫وضربنها لههم مثلً فهي ذلك‪ ،‬فقلنها‪ :‬أخبرونها عهن هذه النخلة‪ ،‬أليهس لهها جذع‪ ،‬وكرب‪ ،‬وليهف‪،‬‬
‫و سعف‪ ،‬وخوص‪ ،‬وجمار‪ ،‬وا سمها ا سم ش يء وا حد‪ ،‬و سميت نخلة بجم يع صفاتها‪ ،‬فكذلك ال – وله‬
‫المثل العلى – بجميع صفاته‪ ،‬إله واحد‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫ول نقول‪ :‬إنه كان في وقت من الوقات ول قدرة له حتى خلق له قدرة‪ ،‬والذي ليس له قدرة هو‬
‫عاجز‪.‬‬
‫ص ‪324‬‬
‫ول نقول‪ :‬قهد كان فهي وقهت مهن الوقات ل يعلم حتهى خلق له علما‪ ،‬والذي ل يعلم ههو‬
‫جاهل"(‪.)967‬‬
‫بين المام – رحمه ال تعالى – أنه ‪-‬تعالى‪ -‬لم يزل متكلما‪ ،‬قادرا‪ ،‬فعالً لما يريد‪ ،‬فلم يكن قبل‬
‫وجود الخلق معطلً عن الفعل‪ ،‬كما هو مقتضى قول الذين أنكروا وجود حوادث ل أول لها‪ ،‬وزعموا‬
‫أن هذا قول الفلسفة الدهرية‪ ،‬وفي الواقع هو قول السلف‪ ،‬وهو الذي دلت عليه نصوص الشرع‪ ،‬وأيده‬
‫الع قل‪ ،‬وإن كان كل مفعول مع ين حادث ب عد أن لم ي كن‪ ،‬وأ ما ف عل ال الذي هو صفته فلم يزل‪ ،‬فل‬
‫أول له‪.‬‬
‫فمفعولت ال ‪-‬تعالى‪ -‬باعتبار أعيانها لها مبدأ فهي كائنة بعد العدم‪.‬‬
‫أ ما باعتبار كون الف عل صفة من صفات ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وإن لم ي كن متعلق موجود‪ ،‬ف هو ل أول‬
‫له‪.‬‬
‫قال المام أبو سعيد الدارمي – رحمه ال ‪ " :-‬وال –تعالى وتقدس اسمه – كل أسمائه سواء‪،‬‬
‫لم يزل كذلك‪ ،‬ول يزال‪ ،‬لم تحدث له صفة ول ا سم لم ي كن‪ ،‬كذلك كان خالقا ق بل المخلوق ين‪ ،‬ورازقا‬
‫قبل المرزوقين‪ ،‬وعالما قبل المعلومين‪ ،‬وسميعاٌ قبل أن يسمع أصوات المخلوقين‪ ،‬بصيرا قبل أن يرى‬
‫أعيانهم مخلوقة"(‪.)968‬‬
‫والمق صود أن ال – سبحانه وتعالى – لم يزل فعال ل ما ير يد‪ ،‬وأ نه لم ي كن معطلً عن الف عل‬
‫حتى خلق هذا الكون المشهود‪ ،‬الذي سأل عن مبدئه أهل اليمن‪ ،‬قال شيخ السلم‪:‬‬
‫" ل نزاع بيهن أههل الملل أن ال – سهبحانه – كان قبهل أن يخلق هذه المكنهة والزمنهة‪ ،‬وأن‬
‫وجوده ل يجب أن يقارن هذه الزمنة والمكنة"(‪.)969‬‬
‫قوله‪ " :‬كان ال‪ ،‬ولم يكهن شيهء قبله " تقدم فهي كلم شيهخ السهلم أن هذا اللفهظ ههو الذي قاله‬
‫الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وأن اللفظين الخرين رويا بالمعنى‪ ،‬وهما " لم يكن‬
‫ص ‪325‬‬
‫شيهء غيره " و" لم يكهن شيهء معهه"‪ ،‬وأيهد ذلك بأنهه مهن معنهى قوله – تعالى ‪ { :-‬هُ َو الَوّلُ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } (‪.)970‬‬
‫ل َ‬
‫خرُ وَالظّا ِهرُ وَا ْلبَاطِنُ وَ ُهوَ ِبكُ ّ‬
‫وَال ِ‬

‫‪" )(967‬الرد على الجهمية" (ص ‪ )92-90‬عقائد السلف ‪.‬‬


‫‪ )(968‬نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي ‪.‬‬
‫‪" )(969‬نقض التأسيس" (‪.)1/562‬‬
‫‪ )(970‬الية ‪ 3‬من سورة الحديد ‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫ل } هو الذي ليس قبله شيء‪ ،‬كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي‬
‫فقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬هُ َو الَوّ ُ‬
‫هريرة‪ ،‬عن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أ نه كان يقول‪ " :‬الل هم أ نت الول فل يس قبلك ش يء‪ ،‬وأ نت‬
‫الخر‪ ،‬ليس بعدك شيء‪ ،‬وأنت الظاهر‪ ،‬فليس فوقك شيء‪ ،‬وأنت الباطن فليس دونك شيء"(‪.)971‬‬
‫وأمها قول الحافهظ‪ " :‬قضيهة الجمهع بيهن الروايتيهن‪ ،‬تقتضهي حمهل هذه على روايهة‪" :‬ول شيهء‬
‫(‪)972‬‬
‫غيره"‪ ،‬ل العكس‪ ،‬والجمع يقدم على الترجيح بالتفاق"‬
‫فيقال له‪ :‬هذا لو احتمل أن يكون الحديث صدر منه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في مقامين‪ ،‬أما إذا‬
‫كان في مجلس وا حد‪ ،‬والراوي وا حد‪ ،‬و قد أ خبر أ نه لم ي بق إلى نها ية المجلس‪ ،‬بل قام ل ما سمع هذا‬
‫القول من ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ول حق براحل ته‪ ،‬فل بد أن الل فظ الذي سمعه أ حد هذه اللفاظ‬
‫الثلثة‪ ،‬والخران رويا بالمعنى‪ ،‬فأصبح الجمع ل وجه له‪.‬‬
‫وح مل هذه الروا ية على روا ية " ول ش يء غيره" بل دل يل‪ ،‬ح مل عل يه التع صب للمذ هب‪ ،‬وإل‬
‫فالواجب حملها على المعروف من كلم النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬الموافق لكلم ال ‪-‬تعالى‪ -‬كما‬
‫تقدمت الشارة إليه‪.‬‬
‫و أما قوله‪ :‬إن هذه المسألة من مستشنع ما ينسب لبن تيمية‪ ،‬فقد تقدم أن هذا هو مذهب السلف‪،‬‬
‫وأن ما يريد ترجيحه الحافظ هو مذهب الجهمية والمعتزلة‪ ،‬والشعرية‪ ،‬من أهل البدع‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وكلمة "كان" هنا تفيد الزلية‪ ،‬والزلية هي‪ :‬ما ل بداية له‪.‬‬
‫قال الط يبي‪ " :‬لف ظة كان في الموضع ين – يع ني " كان ال" و"كان عر شه على الماء"‪ -‬بح سب‬
‫حال مدخولها‪ ،‬فالمراد بالول‪ :‬الزلية والقدم‪ ،‬وبالثاني الحدوث بعد العدم"(‪.)973‬‬
‫ص ‪326‬‬
‫"وقال ا بن عباس‪" :‬كان ول يزال" ولم يق يد كو نه بو قت دون و قت‪ ،‬ويمت نع أن يحدث له غيره‪،‬‬
‫صفة‪ ،‬بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره – سبحانه‪ -‬فهو المستحق لغاية الكمال‪ ،‬وذاته هي‬
‫الم ستوجبة لذلك الكمال المطلق‪ ،‬و هو المحمود على ذلك‪ ،‬أزلً وأبدا‪ ،‬ول يح صي الخلق ثناء عل يه بل‬
‫هو كما أثنى على نفسه"(‪.)974‬‬
‫وقال الراغب‪ " :‬كان عبارة عما مضى من الزمان‪ ،‬وفي كثير من وصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬تنبئ عن‬
‫شيْءٍ َقدِيرًا} (‪ ،)976‬و ما‬
‫ن اللّ هُ عَلَى كُلّ َ‬
‫ل شَيْءٍ عَلِيمًا } (‪َ { ،)975‬وكَا َ‬
‫مع نى الزل ية‪ ،‬قال‪َ { :‬وكَا نَ اللّ هُ ِبكُ ّ‬
‫استعمل منه في جنس الشيء متعلقا بوصف له هو موجود فيه‪ ،‬فتنبيه على أن ذلك الوصف لزم له‪،‬‬

‫‪ )(971‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫‪" )(972‬الفتح" (‪.)13/410‬‬
‫‪" )(973‬الفتح" (‪.)13/410‬‬
‫‪" )(974‬مجموع الفتاوى" (‪.)233-18/232‬‬
‫‪ )(975‬الية ‪ 26‬من سورة الفتح ‪ ،‬و الية ‪ 40‬من سورة الحزاب‪.‬‬
‫‪ )(976‬الية ‪ 27‬من سورة الحزاب ‪ ،‬و الية ‪ 21‬من سورة الفتح‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫ن كَفُورًا} (‪ ،)977‬وإذا اسهتعمل فهي الزمان‬
‫لنْسهَا ُ‬
‫َانه ا ِ‬
‫قليهل النفكاك منهه‪ ،‬نحهو قوله فهي النسهان‪َ { :‬وك َ‬
‫الماضي‪ ،‬فقد يجوز أن يكون المستعمل فيه على حالته‪ ،‬ويجوز أن يكون قد تغير‪ ،‬نحو‪ :‬كان فلن كذا‬
‫ثم صار كذا"(‪.)978‬‬
‫ومعنهى قوله‪" :‬كان ال‪ ،‬ولم يكهن شيهء قبله" أنهه ‪-‬تعالى‪ -‬ههو الول قبهل كهل شيهء‪ ،‬الذي ل‬
‫يت صور لولي ته مبدأ‪ ،‬ح تى يم كن أن يت صور قبله ش يء‪ ،‬بل هو الول بل بدا ية‪ ،‬ك ما أ نه ال خر بل‬
‫نها ية‪ ،‬ف ما من غا ية يقدر ها الع قل إل وأزلي ته ‪-‬تعالى‪ -‬قبل ها‪ ،‬بل غا ية محدودة‪ ،‬والزل معناه عدم‬
‫الولية‪ ،‬فليس الزل شيئا محدودا‪ ،‬فلو قدر أن الرض كلها وعاء مملوء ذرات‪ ،‬وبعد مليون سنة تفنى‬
‫ذرة واحدة فقهط‪ ،‬لفنيهت الذرات كلهها‪ ،‬والزل باق‪ ،‬بهل لو فرض أضعاف أضعاف ذلك بالملييهن‪،‬‬
‫والمقصود بذلك التقريب إلى الفهم فقط‪ ،‬وإل فالزل ليس له بداية أبدا‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وكان عرشهه على الماء" أي‪ :‬وقهت خلق السهموات والرض كان عرشهه على الماء‪،‬‬
‫والمراد هنا الخبار بكون العرش على الماء‪ ،‬عند ابتداء خلق السموات والرض‪.‬‬
‫ص ‪327‬‬
‫حكِيما} (‪،)979‬‬
‫قال ا بن خزي مة‪ " :‬مع نى قوله‪" :‬وكان عر شه على الماء" كقوله‪َ { :‬وكَا نَ الّل هُ عَلِيما َ‬
‫يع ني‪ :‬أن "كان" ه نا ل تدل على أن ذلك أ مر قد م ضى‪ ،‬وانق ضى‪ ،‬بل تدل على ثبو ته‪ ،‬ف هو كان‪ ،‬ول‬
‫يزال على ما كان‪ ،‬و"ل يس مع نى ذلك أن شيئا من مفعول ته قد يم م عه‪ ،‬بل هو خالق كل ش يء‪ ،‬ولك‬
‫شيء سواه مخلوق له‪ ،‬وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن‪ ،‬مع أنه ‪-‬تعالى‪ -‬لم يزل بصفاته خالقا‬
‫فعالً لما يريد"‪.‬‬
‫و من المعلوم أن الخلق صفة كمال‪ ،‬ك ما قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬أفَمَن َيخْلُ قُ كَمَن لّ َيخْلُ قُ } (‪ ،)980‬فل‬
‫يجوز أن ينفك عن هذه الصفة‪ ،‬ولكن كل مخلوق محدث‪ ،‬مسبوق بالعدم‪ ،‬وليس مع ال شيء قديم‪ ،‬ول‬
‫ل غير قادر على الفعل‪.‬‬
‫شك أن هذا أبلغ في الكمال‪ ،‬من أن يكون معط ً‬
‫و أما جعل المفعول المعين مقارنا له ‪-‬تعالى‪ -‬أزلً وأبدا‪ ،‬فهو باطل عقلً وشرعا‪ ،‬ول يقوله إل‬
‫جاهل أو معطل‪.‬‬
‫"والدلة على بدء خلق الفلك‪ ،‬وخلق الزمان – الذي ههو مقدار حركهة الفلك – كثيرة‪ ،‬أخهبرت‬
‫بهها الرسهل‪ ،‬كمها أخهبرت أنهها خلقهت مهن مادة موجودة قبلهها‪ ،‬وفهي زمان قبهل هذا الزمان‪ ،‬فإن ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬أخبر أنه خلق السموات والرض وما بينهما في ستة أيام‪ ،‬وسوا ًء قيل‪ :‬إن تلك اليام بمقدار‬
‫هذه اليام المعروفة بطلوع الشمس وغروبها‪ ،‬أو أنها أكبر منها‪ ،‬وأن كل يوم قدره ألف سنة‪.‬‬

‫‪ )(977‬الية ‪ 67‬من سورة السراء‪.‬‬


‫‪" )(978‬المفردات في غريب القرآن " (ص ‪.)444‬‬
‫‪ )(979‬كتاب "التوحيد" (ص ‪.)103‬‬
‫‪ )(980‬الية ‪ 17‬من سورة النحل ‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫والحق أن تلك اليام‪ ،‬التي خلقت فيها السموات والرض غير هذه اليام‪ ،‬وغير الزمان الذي هو‬
‫مقدار حركة هذه الفلك‪ ،‬وأن تلك اليام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والرض‪.‬‬
‫لرْ ضِ ِا ْئ ِتيَا‬
‫ي ُدخَا نٌ فَقَالَ َلهَا وَلِ َ‬
‫سمَاء وَهِ َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫وقد أخبر – سبحانه وتعالى – أنه { ُثمّ ا ْ‬
‫ن } (‪ )981‬فخلقت من الدخان‪.‬‬
‫طَوْعًا أَ ْو َكرْهًا قَاَلتَا َأ َت ْينَا طَا ِئعِي َ‬
‫ص ‪328‬‬
‫وقد جاءت الثار عن السلف‪ ،‬أنها خلقت من بخار الماء‪ ،‬وهو الماء الذي كان العرش عليه‪ ،‬قبل‬
‫ع ْرشُ هُ‬
‫ستّ ِة َأيّا مٍ َوكَا نَ َ‬
‫لرْ ضَ فِي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫وجود هذا الخلق‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَ ُهوَ اّلذِي خَلَق ال ّ‬
‫عَلَى ا ْلمَاء } (‪.)982‬‬
‫فأخبر ‪-‬تعالى‪ -‬أنه خلق السماوات والرض في مدة‪ ،‬ومن مادة‪ ،‬ولم يذكر القرآن أنه خلق شيئا‬
‫ش ْيئًا} (‪)983‬؛ لنه تعالى قد‬
‫من ل شيء‪ ،‬ول يعارض هذا بقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َقدْ خَلَ ْقتُ كَ مِن َقبْلُ وَلَ مْ تَ كُ َ‬
‫أ خبر أ نه خل قه من نط فة"(‪ ،)984‬وخلق أباه من تراب‪ ،‬و قد أ خبر الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أن‬
‫الملئكة خلقت من نور‪ ،‬والجن من النار‪.‬‬
‫وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد‪ ،‬وهو دليل على عظم العرش‪ ،‬وأن له شأنا غير شأن‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وأن وجوده قبل وجودهما‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬ثم خلق ال سماوات والرض " نص في ذلك؛ لن " ثم" تف يد الترت يب مع الترا خي‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ترتيب خلق السماوات والرض على وجود العرش والماء‪.‬‬
‫ول شك أن العرش والماء مخلوقان‪ ،‬ولم يذ كر ال – جل وعل‪ -‬ل نا و قت خلق العرش والماء‪،‬‬
‫كما لم يذكر لنا أن له مخلوقات قبلهما‪ ،‬ولكن النصوص من الوحي‪ ،‬والفطرة والعقل السليم‪ ،‬تدل على‬
‫أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬لم يزل يف عل ما يشاء‪ ،‬ويتكلم ب ما يشاء‪ ،‬وهذا من الكمال الوا جب له‪ ،‬والذي يل يق به‬
‫‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫وما يقوله المتكلمون من المعتزلة‪ ،‬والشاعرة‪ ،‬ومن تبعهم‪ ،‬من أن هذا الكون المشاهد لنا‪ ،‬وما‬
‫يت صل به من ال سموات والرض‪ ،‬وكذلك العرش والماء‪ ،‬هو مبدأ فعله وخل قه‪ ،‬ول يس قبله ش يء من‬
‫مفعولته‪ ،‬يخالف كماله الواجب له ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫فإنه وصفه ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه لم يكن قادرا على الفعل والكلم ونحوهما من صفات الكمال‪ ،‬ثم صار‬
‫قادرا على ذلك‪ ،‬فيه نقص يجب أن ينزه عنه‪ ،‬وقدرته التامة الكاملة التي هي من لوازم ذاته ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫تفيهد خلف هذا القول‪ ،‬وههي مهن أظههر صهفات الكمال‪ ،‬ول يجوز أن تقيهد صهفاته ‪-‬تعالى‪ -‬وأفعاله‬
‫بوقت دون وقت‪.‬‬
‫‪ )(981‬الية ‪ 11‬من سورة فصلت ‪.‬‬
‫‪ )(982‬الية ‪ 7‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(983‬الية ‪ 9‬من سورة مريم ‪.‬‬
‫‪" )(984‬مجموع الفتاوى" (‪ )18/235‬بتصرف ‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫ص ‪329‬‬
‫وباليقين العقلي يمتنع أن يكون قادرا بعد أن لم يكن كذلك‪ ،‬إل بأمر جعله قادرا‪ ،‬ومن المحال أن‬
‫يؤثر فيه شيء غيره‪ ،‬فإذا لم يكن هناك إل العدم المحض استحال كونه قادرا‪ ،‬بعد أن لم يكن كذلك‪.‬‬
‫ك ما يمت نع أن يكون عالما ب عد أن لم ي كن كذلك‪ ،‬وأن يكون سميعا ب صيرا‪ ،‬ب عد أن لم ي كن‪ ،‬أ ما‬
‫المخلوق المفعول‪ ،‬مثل النسان‪ ،‬فإنه كان غير عالم‪ ،‬ول قادر‪ ،‬فجعله ال عالما قادرا‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬وك تب في الذ كر كل ش يء" الكتا بة ه نا أضي فت إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬ول يتع ين م نه أ نه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬باشر الكتابة بنفسه‪ ،‬بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء‪.‬‬
‫وقد جاء الحديث عن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬موضحا ذلك‪ ،‬كما في حديث عبادة بن‬
‫الصامت‪ :‬سمعت رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يقول‪ " :‬إن أول ما خلق ال القلم‪ ،‬فقال له‪ :‬اكتب‪،‬‬
‫قال‪ :‬رب‪ ،‬وما أكتب؟ قال‪ :‬اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(‪.)985‬‬
‫والمقصود بالذكر هنا‪ :‬محل الكتابة‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫"والمراد أ نه ‪-‬تعالى‪ -‬ك تب كل ما أراد إيجاده من تلك ال ساعة ال تي جرت في ها الكتا بة إلى قيام‬
‫الساعة‪.‬‬
‫ولفظة "كل شيء" يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له‪ ،‬كما في قوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَ ُه َو ِبكُلّ‬
‫شيْءٍ }‪.‬‬
‫ل شَيْ ٍء َقدِيرٌ} و{ اللّ ُه خَاِلقُ كُلّ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } و{وَ ُهوَ عَلَى كُ ّ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ } (‪.)986‬‬
‫ل َ‬
‫شيْءٍ } و{ وَأُو ِتيَتْ مِن كُ ّ‬
‫و{ ُت َد ّمرُ كُلّ َ‬
‫وقوله‪ " :‬فإذا السهراب ينقطهع دونهها" أي يشاهدهها مهن خلق السهراب‪ ،‬فههو ينقطهع بينهه وبينهها‬
‫لبعدها‪ ،‬فيراها مرة‪ ،‬وأخرى يكاد يخفيها السراب‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬وايم ال " قيل معناه‪ :‬يمين ال‪ ،‬فهو قسم مشهور عند العرب‪ ،‬وفيه لغات عدة‪.‬‬
‫ص ‪330‬‬
‫وقوله‪ " :‬لوددت أنها ذهبت‪ ،‬ولم أقم" يقول‪ :‬إن رغبتي والحب إليّ أني بقيت في مجلسي عند‬
‫ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬أتعلم م نه اليمان والعلم‪ ،‬ولم أ قم في طلب راحل تي‪ ،‬بل أترك ها‬
‫مؤثرا ما أسمعه من رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬من غذاء القلب والروح‪ ،‬على راحلتي‪ ،‬وهذا‬
‫شأن صحابة ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ور ضي ال عن هم – في حر صهم على التعلم م نه‪،‬‬
‫والبحهث عهن الهدى والخيهر‪ ،‬ولهذا حفظوا كهل مها قاله الرسهول –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬ومها فعله‪،‬‬
‫والبحث عن الهدى والخير‪ ،‬ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول –صلى ال عليه وسلم – وما فعله‪ ،‬حتى‬
‫نقلوا لنا تحرك شعر لحيته وهو يصلي‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فجزاهم ال خيرا‪ ،‬وقاتل من يبغضهم وينتقصهم‪.‬‬

‫‪ )(985‬رواه أبو داود في "السنن" (‪ )5/76‬رقم (‪.)4700‬‬


‫‪" )(986‬مجموع الفتاوى" (‪.)18/233‬‬

‫‪255‬‬
‫ص ‪331‬‬
‫‪-48‬قال‪ " :‬حدثنا علي بن عبدال‪ ،‬حدثنا عبدالرزاق‪ ،‬أخبرنا معمر‪ ،‬عن همام‪ ،‬حدثنا أبو هريرة‬
‫– ر ضي ال ع نه – عن ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قال‪ " :‬إن يم ين ال ملى‪ ،‬ل يغيض ها نف قة‪،‬‬
‫سحاء الليل والنهار‪ ،‬أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه‪ ،‬وعرشه‬
‫على الماء‪ ،‬وبيده الخرى الفيض – أو القبض‪ -‬يرفع‪ ،‬ويخفض"‪.‬‬
‫قد تقدم هذا الحد يث في باب قول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬لِمَا خَلَقْ تُ ِب َيدَيّ}‪ ،‬وتقدم الكلم عل يه‪ ،‬و ما ه نا‬
‫يختلف عن الماضي في سنده‪ ،‬وفي بعض ألفاظه‪ ،‬على عادة المؤلف – رحمه ال‪ -‬إذا كرر الحديث‪،‬‬
‫فل بد أن يأتي بما يغاير السابق‪ ،‬أما في السند والمتن‪ ،‬أو في أحدهما‪ ،‬إل إذا تيسر له ذلك‪ ،‬وهو نادر‪.‬‬
‫والذي تقدم فيه "يد ال ملى" وما هنا " إن يمين ال ملى"‪.‬‬
‫وما تقدم فيه " وقال‪ :‬أرأيتم"‪ ،‬وهنا كلمة "قال" ليست موجودة‪.‬‬
‫وما تقدم فيه " فإنه لم يغض ما في يده"‪ ،‬وما هنا " فإنه لم ينقص ما في يمينه"‬
‫وما تقدم فيه "وقال‪ :‬عرشه على الماء "‪ ،‬وهنا لفظة "قال" غير موجودة‪.‬‬
‫و ما تقدم " وبيده الخرى الميزان"‪ ،‬وه نا "وبيده الخرى الف يض – أو الق بض‪ "-‬هذا في الم تن‪،‬‬
‫وأما السند فهو غير المتقدم‪.‬‬
‫والمقصهود قوله‪ " :‬وعرشهه على الماء" أي أنهه ‪-‬تعالى‪ -‬لمها خلق السهماوات والرض‪ ،‬كان‬
‫عر شه على الماء‪ ،‬فوجود العرش والماء سابق وجود ال سماوات والرض بز من طو يل جدا ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫ال أعلم بمقداره‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫ص ‪332‬‬
‫‪-49‬قال‪ " :‬حدثنا أحمد‪ ،‬حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن‬
‫أ نس‪ ،‬قال‪ :‬جاء ز يد بن حار ثة‪ ،‬يش كو‪ ،‬فجعل ال نبي –صلى ال عل يه و سلم‪ -‬يقول‪ " :‬ا تق ال وأمسك‬
‫عليهك زوجهك" قال(‪ )987‬أنهس‪ :‬لو كان رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬كاتما شيئا لكتهم هذه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فكا نت زي نب تف خر على أزواج ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬تقول‪ :‬زوج كن أهالي كن‪ ،‬وزوج ني ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬من فوق سبع سماوات"‪.‬‬
‫سكَ مَا اللّ هُ ُم ْبدِي هِ َو َتخْشَى النّا سَ نزلت في شأن زي نب وز يد بن‬
‫و عن ثا بت‪َ { :‬و ُتخْفِي فِي نَفْ ِ‬
‫حارثة"‪.‬‬
‫زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي‪ ،‬مولى رسول ال – صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫ذكر الحافظ في "الصابة" نقلً عن الكلبي بسنده‪ ،‬قال‪ " :‬زارت سعدى أم زيد قومها وزيد معها‪،‬‬
‫فأغارت خيل لبني القين بن جسر‪ ،‬على أبيات بني معن‪ ،‬فاحتملوا زيدا وهو غلم يفعة‪ ،‬فأتوا به سوق‬
‫عكاظ‪ ،‬فعرضوه للبيع‪ ،‬فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد‪ ،‬بأربعمائة درهم‪ ،‬فلما تزوجها‬
‫رسول ال –صلى ال عل يه و سلم‪ -‬وهبته له‪ ،‬ثم جاء والده حار ثة‪ ،‬وعمه ك عب‪ ،‬يريدان فداءه‪ ،‬فطل با‬
‫ذلك من رسول ال –صلى ال عليه وسلم فقال لهما رسول ال‪ " :‬ادعوه فخيروه‪ ،‬فإن اختاركم فهو لكم‬
‫بغير فداء‪ ،‬وإن اختارني‪ ،‬فوال ما أنا بالذي أختار على من أختارني " فاختار زيد رسول ال – صلى‬
‫ال عل يه و سلم‪ ،-‬فقال له والده وع مه‪ :‬وي حك يا ز يد‪ ،‬أتختار العبود ية على الحر ية؟ فقال‪ :‬إ ني رأ يت‬
‫من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا‪.‬‬
‫ل ما رأى ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ذلك خرج به إلى المح جر‪ ،‬وقال‪ :‬اشهدوا أن زيدا‬
‫ابني‪ ،‬عند ذلك طابت نفس والده وعمه‪.‬‬
‫وزوجه رسول ال – صلى ال عليه وسلم‪ -‬زينب بنت جحش‪ ،‬وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد‬
‫المطلب‪ ،‬ثم لم يتلءما‪ ،‬فطلقها زيد‪ ،‬فزوجها ال ‪-‬تعالى‪ -‬نبيه؛ لحكمة ذكرها ال –تعالى‪ -‬في القرآن‪.‬‬
‫قال ا بن ع مر‪ " :‬إن ز يد بن حار ثة مولى ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬ما ك نا ندعوه إل‬
‫سطُ عِن َد اللّ ِه } (‪.)988‬‬
‫زيد بن محمد‪ ،‬حتى نزل القرآن‪ { :‬ادْعُو ُهمْ لبَا ِئ ِهمْ هُ َو َأقْ َ‬
‫ص ‪333‬‬
‫كان زيد هو المير في غزوة مؤتة‪ ،‬واستشهد فيها رضي ال عنه"(‪.)989‬‬
‫قوله‪ " :‬جاء زيد بن حارثة يشكو" أي‪ :‬جاء إلى رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يشكو زوجه‬
‫زينب ويستشيره في طلقها؛ لنها كانت تترفع عليه‪ ،‬وتقابله ببعض الكلم غير المناسب؛ لحدة كانت‬

‫‪ )(987‬في بعض نسخ البخاري ‪ :‬قالت عائشة‪.‬‬


‫‪ )(988‬الية ‪ 5‬من سورة الحزاب ‪ ،‬ورواه البخاري ‪ ،‬انظره مع الفتح (‪.)8/517‬‬
‫‪" )(989‬الصابة" (‪.)601-2/599‬‬

‫‪257‬‬
‫فيها‪ ،‬كما روى عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬قال‪ " :‬جاء زيد بن حارثة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن‬
‫زينب اشتد عليّ لسانها‪ ،‬وأنا أريد أن أطلقها؟ فقال له‪ " :‬اتق ال‪ ،‬وأمسك عليك زوجك"(‪.)990‬‬
‫وهذا منقطع‪ ،‬وقد ذكر كثير من المفسرين والمؤرخين آثارا موضوعة‪ ،‬مكذوبة على رسول ال‬
‫–صلى ال عليه وسلم‪ -‬في قصة زواجه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بزينب‪ ،‬وبعضها ضعيف‪ ،‬ل يثبت به‬
‫حكم‪.‬‬
‫ثهم اسهتغل تلك الخبار بعهض أعداء الرسهل‪ ،‬مهن زنادقهة وكفار ملحدة‪ ،‬متقدمون‪ ،‬ومتأخرون‪،‬‬
‫واغتر بذلك كثير من الجهلة‪.‬‬
‫و قد ب ين ال ‪-‬تعالى‪ -‬المق صود من زواج ر سوله – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬بزي نب بقوله‪{ :‬فل ما‬
‫قض ز يد من ها وط ههرا زوجناك ها ل كي ل يكون على المؤمن ين حرج في أزواج أدعيائ هم إذا قضوا‬
‫منهن وطرا وكان أمر ال مفعولً} (‪.)991‬‬
‫المع نى‪ :‬ل ما فرغ ز يد من ها وطا بت نف سه عن ها‪ ،‬وطلق ها‪ ،‬أمرناك بتزوج ها؛ لئل يب قى في قلوب‬
‫المؤمن ين حرج في تزوج زوجات أدعيائ هم‪ ،‬الذ ين تبنو هم‪ ،‬ف صاروا يدعون إلي هم‪ ،‬فيقال‪ :‬ا بن فلن‪،‬‬
‫وليس ابنا له‪ ،‬إذا فارقوهن‪.‬‬
‫وهذا إمعان في إبطال هذا التبني‪ ،‬الذي كان معروفا في الجاهلية الولى كما عرف في الجاهلية‬
‫الحاضرة‪ ،‬ح يث أ مر ال ‪-‬تعالى‪ -‬إمام الم سلمين وقدوت هم بذلك‪ ،‬وكان ز يد بن حار ثة قد تبناه ر سول‬
‫ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كما تقدمت الشارة إليه‪ ،‬فكان يدعى بزيد بن محمد‪ ،‬فأبطل ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫سبِيلَ {‪}4‬‬
‫حقّ وَ ُه َو َيهْدِي ال ّ‬
‫ل ا ْل َ‬
‫عيَاءكُ مْ َأ ْبنَاءكُ مْ ذَِلكُ مْ قَوُْلكُم ِبَأفْوَا ِهكُ مْ وَاللّ ُه يَقُو ُ‬
‫جعَلَ َأ ْد ِ‬
‫ذلك بقوله‪َ { :‬ومَا َ‬
‫جنَاحٌ‬
‫ادْعُوهُ ْم لبَا ِئهِمْ ُهوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ َفإِن لّ ْم َتعَْلمُوا آبَاءهُ ْم فَِإخْوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َومَوَالِيكُمْ وََليْسَ عََل ْيكُ ْم ُ‬
‫ط ْأتُم بِهِ وََلكِن مّا َت َع ّمدَتْ قُلُو ُب ُكمْ َوكَانَ اللّهُ غَفُورًا ّرحِيمًا } (‪.)992‬‬
‫خَ‬‫فِيمَا َأ ْ‬
‫ف هو ‪-‬تعالى‪ -‬يعلم عباده أن أدعياء هم الذ ين هم موالي هم‪ ،‬ودعو هم أبناء ل هم‪ ،‬أن هم لي سوا ل هم‬
‫بأبناء؛ لنهم أبناء رجال آخرين‪.‬‬
‫وقد أوحى ال –تعالى‪ -‬إلى رسوله بأنه سوف يتزوج زينب‪ ،‬أوحى ال بذلك إليه قبل أن يطلقها‬
‫ز يد‪ ،‬فل ما جاء يشكو ها إل يه‪ ،‬وي ستشيره في طلق ها‪ ،‬قال له‪ " :‬ا تق ال يا ز يد‪ ،‬وأم سك عل يك زو جك"‬
‫ل لِّلذِي َأ ْنعَمَه اللّهُه عََليْهِه وََأ ْن َعمْتَه عََليْهِه َأمْسِهكْ عََليْكَه زَ ْوجَكَه وَاتّقِه اللّهَه‬
‫فعاتبهه ال –تعالى‪ { :-‬وَِإ ْذ تَقُو ُ‬
‫طرًا‬
‫خشَاهُه فََلمّاه قَضَى َز ْيدٌ ّمنْهَا َو َ‬
‫َو ُتخْفِي فِي نَفْسِهكَ مَا اللّهُه ُم ْبدِيهِه َو َتخْشَى النّاسَه وَاللّهُه َأحَقّ أَن َت ْ‬
‫جنَاكَهَا} (‪ .)993‬الية‪.‬‬
‫زَ ّو ْ‬

‫‪" )(990‬الفتح" (‪.)8/524‬‬


‫‪ )(991‬الية ‪ 37‬من سورة الحزاب ‪.‬‬
‫‪ )(992‬اليتان ‪ 4‬و ‪ 5‬من سورة الحزاب ‪.‬‬
‫‪ )(993‬الية ‪ 37‬من سورة الحزاب‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫والذي كان –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يخفيه‪ ،‬هو كراهيته لزواجها؛ خوفا من قالة الناس أنه تزوج‬
‫زوجة ابنه‪.‬‬
‫قال ابن ح جر‪ " :‬والحا صل‪ :‬أن الذي كان يخفيه هو إخبار ال إياه أنها ستصير زوج ته‪ ،‬والذي‬
‫كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس‪ :‬تزوج امرأة ابنه‪ ،‬وأراد ال إبطال ما كان الجاهلية عليه‪،‬‬
‫من أحكام التبني‪ ،‬بأمر ل أبلغ في البطال منه‪ ،‬وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا {له}‪ ،‬ووقوع ذلك من‬
‫إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم‪.‬‬
‫و إنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية‪ ،‬وال أعلم "(‪.)994‬‬
‫يشير إلى ما ذكره بعض المفسرين من أقوال باطلة‪ ،‬وقصص موضوعة مكذوبة‪.‬‬
‫قوله‪" :‬قال أنس‪ :‬لو كان رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كاتما شيئا لكتم هذه"‪.‬‬
‫ص ‪335‬‬
‫أي‪ :‬لو قدر على سبيل الفرض الممتنع شرعا كتم شيء من الو حي‪ ،‬لكان في هذه الية‪ ،‬ولكنه‬
‫غير واقع بل ممتنع شرعا‪.‬‬
‫وهذه ال ية من أع ظم الدلة ل من تأمل ها على صدق الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬فال –‬
‫تعالى – يخبر عما وقع في نفسه من خشية الناس‪ ،‬فبلغه كما قال ال ‪-‬تعالى‪ -‬مع ما تضمنه من لومه‪،‬‬
‫بخلف حال الكذاب‪ ،‬فإنه يتجنب كل ما يمكن أن يكون فيه عليه غضاضة‪ ،‬ومثل ذلك قوله ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫عبَسَ َوتَوَلّى } إلى آخر اليات ونظائرها في القرآن‪.‬‬
‫{ َ‬
‫وقوله‪ " :‬فكانت زينب تفخر على أزواج النبي –صلى ال عليه وسلم‪." -‬‬
‫الفخر‪ :‬هو ذكر المحاسن‪ ،‬وعدها‪ ،‬مباهاة بها غيره‪.‬‬
‫قال الجوهري‪ " :‬الفخر‪ :‬الفتخار‪ ،‬وعد القديم"(‪.)995‬‬
‫فزينب – رضي ال عنها – تعتد بأن زواجها برسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬كان بأمر ال‬
‫له بذلك‪ ،‬وأنه من أعظم فضائلها‪ ،‬وأنه ل يساويها في ذلك من أزواجه أحد‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬تقول‪ :‬زوجكن أهاليكن‪ ،‬وزوجني ال – تعالى – من فوق سبع سماوات"‪.‬‬
‫هذا القدر من الحديث هو محل الشاهد‪ ،‬وهو ثبوت علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وتقرره لدى المؤمنين‪ ،‬فهو‬
‫أمهر مسهلم بهه بيهن عموم المسهلمين‪ ،‬بهل بيهن عموم الخلق إل مهن غيرت فطرتهه‪ ،‬لههو مهن الصهفات‬
‫المعلومة بالسمع‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطرة‪ ،‬عند كل من لم تنحرف فطرته‪.‬‬
‫و أما الستواء على العرش فهو من الصفات المعلومة بالسمع‪ ،‬ل بالعقل‪ ،‬كما نبه على ذلك شيخ‬
‫السلم (‪ ،)996‬وغيره من الئمة‪.‬‬

‫‪" )(994‬الفتح" (‪.)8/524‬‬


‫‪" )(995‬الصحاح" (‪.)2/779‬‬
‫‪ )(996‬انظر ‪ " :‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/227‬‬

‫‪259‬‬
‫ومع نى قول ها‪ " :‬وزوج ني ال" أي‪ :‬أ مر ر سوله بأن يتزوج ها بقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬فََلمّ ا قَضَى َز ْيدٌ‬
‫طرًا} وتولى ‪-‬تعالى‪ -‬عقد زواجها عليه‪.‬‬
‫ّم ْنهَا َو َ‬
‫وقوله في الرواية الخرى‪ ":‬نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش"‪.‬‬
‫ص ‪336‬‬
‫ل أَن يُ ْؤذَ نَ َلكُ مْ إِلَى‬
‫ت ال ّن ِبيّ ِإ ّ‬
‫ن آ َمنُوا ل َت ْدخُلُوا ُبيُو َ‬
‫آية الحجاب هي قوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫ث إِنّ ذَِلكُ ْم كَانَ‬
‫حدِي ٍ‬
‫شرُوا وَل مُسْ َت ْأ ِنسِينَ ِل َ‬
‫ط ِع ْمتُمْ فَان َت ِ‬
‫غ ْيرَ نَاظِرِينَ ِإنَاهُ وََلكِنْ ِإذَا دُعِيتُمْ فَا ْدخُلُوا َفِإذَا َ‬
‫طعَامٍ َ‬
‫َ‬
‫حجَابٍ‬
‫ن مِن َورَاء ِ‬
‫سأَلُوهُ ّ‬
‫ن َمتَاعًا فَا ْ‬
‫سأَ ْل ُتمُوهُ ّ‬
‫ن ا ْلحَقّ وَِإذَا َ‬
‫حيِي مِ َ‬
‫س َت ْ‬
‫حيِي مِنكُمْ وَاللّ ُه ل يَ ْ‬
‫س َت ْ‬
‫يُ ْؤذِي ال ّن ِبيّ َفيَ ْ‬
‫(‪)997‬‬
‫ذَِلكُ ْم َأطْ َهرُ لِقُلُو ِب ُكمْ َوقُلُو ِبهِنّ} إلى آخر الية‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما"‪.‬‬
‫أي‪ :‬صنع وليمة لزواجه بها‪ ،‬من الخبز‪ ،‬واللحم‪ ،‬وهذا النوع من الطعام هو أعلى ما يمكن في‬
‫زمنه –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬تقول‪ :‬إن ال أنكحني في السماء"‪.‬‬
‫هو كقولها السابق‪ " :‬وزوجني ال من فوق سبع سماوات "‪ ،‬وكثير ما تأتي "في" بمعنى "على"‬
‫أي‪ :‬إن زواجهي صهدر مهن ال ‪-‬تعالى‪ -‬حيهث أمهر رسهوله بهه‪ ،‬وتولى عقهد نكاحهها عليهه‪ ،‬وال فهي‬
‫السماء‪.‬‬
‫فإمها أن تكون "فهي" بمعنهى على‪ ،‬أو يراد بالسهماء العلو‪ ،‬وكلهمها صهحيح مسهتقيم جاءت بهه‬
‫سبَبٍ إِلَى‬
‫طهُورًا } (‪)998‬وقال ‪-‬تعالى‪ { :-‬فَلْ َي ْم ُددْ بِ َ‬
‫سمَاء مَاء َ‬
‫ن ال ّ‬
‫الن صوص‪ ،‬قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَأَنزَلْنَا ِم َ‬
‫سمَاء } (‪.)999‬‬
‫ال ّ‬
‫ولما كان مستقرا في نفوس المخاطبين أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬هو العلي العلى‪ ،‬وأنه فوق كل شيء‪،‬‬
‫كان المفهوم من قوله‪ " :‬أنه في السماء" أنه في العلو‪ ،‬وأنه فوق كل شيء ولهذا قالت‪ " :‬من فوق سبع‬
‫سماوات "‪.‬‬
‫(‪)1000‬‬
‫وكذلك الجارية‪ ،‬لما قال لها النبي – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬أين ال؟ قالت‪ :‬في السماء"‬
‫إنما أرادت‪ :‬العلو‪ ،‬وإذا قيل‪ :‬العلو‪ ،‬فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها‪ ،‬فما فوقها كلها هو في السماء‪،‬‬
‫ول يقتضهي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيهط بهه‪ ،‬إذ ليهس فوق العالم شيهء موجود إل ال –‬
‫تعالى‪.-‬‬
‫ص ‪337‬‬

‫‪ )(997‬الية ‪ 53‬من سورة الحزاب ‪.‬‬


‫‪ )(998‬جزء من الية ‪ 15‬من سورة الحج ‪.‬‬
‫‪ )(999‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(1000‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫وكذلك إذا قيهل‪ :‬العرش فهي السهماء‪ ،‬فإنهه ل يقتضهي أن يكون العرش فهي شيهء آخهر موجود‬
‫مخلوق‪ ،‬وإن قدر أن السهماء المراد بهها الفلك‪ ،‬وكان المراد أنهه عليهها‪ ،‬كمها قال‪ { :‬فَسهِيحُو ْا ف ِي‬
‫ض } (‪،)1003‬‬
‫لرْ ِ‬
‫ل } (‪ ،)1002‬وقال‪ { :‬فَ سِيرُو ْا فِي ا َ‬
‫جذُو عِ ال ّنخْ ِ‬
‫لرْ ضِ } (‪ ،)1001‬وقال‪ { :‬وَل صَّلبَ ّن ُكمْ فِي ُ‬
‫اَ‬
‫ويقال‪ :‬فلن في الج بل‪ ،‬وفي ال سطح‪ ،‬وإن كان على أعلى ش يء منه‪ ،‬فإن حرف "في" يتعلق بما قبله‪،‬‬
‫وبما بعده‪ ،‬فيكون بحسب المضاف إليه‪.‬‬
‫ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان‪ ،‬وكون الماء في الناء‪ ،‬وكون الوجه في المرآة‪ ،‬وكون‬
‫الكلم في الكتاب‪ ،‬وكون العرش والجنة في السماء‪ ،‬فإن لكل نوع من هذه خاصة يتميز بها عن غيره‪.‬‬

‫‪ )(1001‬الية ‪ 2‬من سورة براءة‪.‬‬


‫‪ )(1002‬جزء من الية ‪ 71‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1003‬الية ‪ 137‬من سورة آل عمران ‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫ص ‪338‬‬
‫‪-50‬قال‪ " :‬حدثنا أبو اليمان‪ ،‬أخبرنا شعيب‪ ،‬حدثنا أبو الزناد؛ عن العرج‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن‬
‫النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬إن ال لما قضى الخلق‪ ،‬كتب عنده فوق عرشه‪ :‬إن رحمتي سبقت‬
‫غضبي"‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬قضهى ال الخلق" قضهي‪ :‬يأتهي بمعنهى حكهم‪ ،‬وأمهر‪ ،‬وقدر‪ ،‬وفرغ‪ ،‬وأمضهى‪ ،‬وأتقهن‪،‬‬
‫ت } أو فرغ من‬
‫سمَاوَا ٍ‬
‫سبْعَ َ‬
‫ومعناها هنا‪ :‬فرغ من خلق المخلوقات‪ ،‬فهو نحو قوله تعالى‪ { :‬فَ َقضَاهُنّ َ‬
‫تقدير الخلق‪ ،‬ويدل لذلك الرواية التية في آخر الكتاب " قبل أن يخلق الخلق"‪.‬‬
‫ح ّذرُكُ مُ اللّ هُ نَفْ سَ ُه } و قد غا ير ب ين سنده ه نا وهناك‪،‬‬
‫وتقدم هذا الحد يث في باب قول ال‪َ { :،‬و ُي َ‬
‫وفهي متنهه بعهض الختلف‪ ،‬ففهي الروايهة المتقدمهة " لمها خلق ال الخلق " وهنها " إن ال لمها قضهى‬
‫الخلق"‪ ،‬وهناك "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه‪ ،‬وهو وضع عنده على العرش‪ ،‬وهنا "كتب عنده‪،‬‬
‫فوق عرشه" وهناك " إن رحمتي تغلب غضبي"‪ ،‬وهنا "سبقت غضبي"‪.‬‬
‫وقد مضى شرحه‪ ،‬والمقصود هنا‪ ،‬قوله‪ " :‬عنده‪ ،‬فوق عرشه‪ " ،‬هذان ظرفان مختصان بالمكان‪،‬‬
‫وقهد أضيفها إلى ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬فل بهد أن هذه الضافهة تقتضهي تخصهيصا للعرش على غيره مهن‬
‫السماوات والرض‪.‬‬
‫عرْشَ َربّكَ فَ ْو َقهُ ْم يَ ْو َم ِئذٍ َثمَا ِنيَةٌ‬
‫"فإضافة العرش إلى ال إضافة مخصوصة‪ ،‬وقد قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬‬
‫} (‪ ،)1004‬فإذا كان العرش مضافا إلى ال في هذه الية ونحوها إضافة اختصاص‪ ،‬فذلك يوجب أن يكون‬
‫بي نه وب ين ال ‪-‬تعالى‪ -‬من الن سبة ما ل يس لغيره‪ ،‬ف ما يذكره الجهم ية من ال ستيلء‪ ،‬والقدرة‪ ،‬وغ ير‬
‫ذلك‪ ،‬أمر مشترك بين العرش‪ ،‬وسائر المخلوقات"(‪.)1005‬‬
‫عرْ شَ َربّ كَ } ينفي‬
‫وما في هذا من قوله‪ " :‬عنده فوق عرشه"‪ ،‬واليات نحو { ذُو ا ْلعَرْ شِ }‪ ،‬و{ َ‬
‫أن يكون الثا بت من الضا فة هو القدر المشترك ب ين سائر المخلوقات‪ ،‬ك ما تقوله الجهم ية وأتباع هم‪،‬‬
‫ويوجب اختصاصا للعرش بال ليس لغيره من سائر‬
‫‪339‬‬
‫المخلوقات‪ ،‬وقد علم المسلمون أنه استوى على عرشه استواء يليق بجلله وعظمته‪ ،‬كما أخبرهم‬
‫ربهم بذلك‪ ،‬ونبيهم –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫و ما نقله الحا فظ عن الخطا بي أن مع نى "فوق العرش" أي‪ " :‬عنده علم ذلك ف هو ل ين ساه‪ ،‬ول‬
‫يبدله" هو من تخبطات أ هل التأو يل‪ ،‬ويقال له‪ :‬و هل علم ال يخ تص بهذا الكتاب‪ ،‬ف هو الذي ل ين ساه‪،‬‬
‫ول يبدله‪ ،‬وأمها سهائر الكون فليهس عنده علمهه أو ينسهاه ويبدله؟ إن الجدى بالخطابهي ومهن يشتغهل‬
‫بالحديث أن يتبع كلم رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ول يحمله على المذاهب الباطلة‪ ،‬بل يجب أن‬

‫‪ )(1004‬الية ‪ 17‬من سورة الحاقة ‪.‬‬


‫‪" )(1005‬نقض التأسيس" (‪.)577-1/570‬‬

‫‪262‬‬
‫يصهونه عهن مثهل هذه التحريفات الباردة‪ .‬والحهق أن قوله‪" :‬عنده فوق عرشهه" على ظاهره‪ ،‬وأن كهل‬
‫تأويل له عن ظاهره‪ ،‬تبديل للمعنى الذي أراده رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬ونحن نؤمن إيمانا‬
‫يقينا قاطعا – وكل المؤمنين‪ -‬أن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أحرص على عقيدة المسلمين‪ ،‬وعلى‬
‫تنزيهه ال –تعالى‪ -‬مهن هؤلء المحرفيهن لكلمهه‪ ،‬وههو كذلك أقدر على البيان واليضاح منههم‪ ،‬وههو‬
‫كذلك أعلم بال‪ ،‬وما يجب له وما يمتنع عليه من هؤلء المتخبطين‪.‬‬
‫فهذا كتاب خاص‪ ،‬وض عه عنده فوق عر شه‪ ،‬مثبتا ف يه ما ذ كر؛ لزيادة الهتمام به‪ ،‬ول ينا في‬
‫ذلك أن يكون مكتوبا أيضا في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫وهو كتاب حقيقة‪ ،‬كتبه ‪-‬تعالى‪ -‬كما ذكر لنا رسولنا –صلى ال عليه وسلم‪ -‬حقيقة‪ ،‬وهو عند‬
‫ال حقي قة‪ ،‬فوق عر شه حقي قة‪ ،‬والمق صود أن ال‪-،‬تعالى‪ -‬م ستو على عر شه على الحقي قة‪ ،‬وعر شه‬
‫فوق مخلوقاته كلها عالٍ عليها‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫ص ‪340‬‬
‫‪-51‬قال‪ :‬حدثنا إبراهيم بن المنذر‪ ،‬حدثني محمد بن فليح‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي‪ ،‬حدثني هلل‪ ،‬عن‬
‫عطاء بن يسار‪ ،‬عن أبي هريرة – ر ضي ال عنه ‪ ،-‬عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬من‬
‫آمن بال ور سوله‪ ،‬وأقام الصلة‪ ،‬وصام رمضان‪ ،‬كان حقا على ال أن يدخله الجنة‪ ،‬هاجر في سبيل‬
‫ال‪ ،‬أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أفل ننبئ الناس بذلك؟ قال‪ :‬إن في الجنة‬
‫مائة درجة‪ ،‬أعدها ال للمجاهدين في سبيله‪ ،‬كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والرض‪ ،‬فإذا سألتم‬
‫ال‪ ،‬فسلوه الفردوس‪ ،‬فإنه أوسط الجنة‪ ،‬وأعلى الجنة‪ ،‬وفوقه عرش الرحمن‪ ،‬ومنه تفجر أنهار الجنة"‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬من آمن بال ورسوله " هذا هو الساس الذي يبنى عليه العمل‪ ،‬فل بد من اليمان بال‬
‫ورسوله أولً قبل العمل‪ ،‬فكل عمل مشروط لصحته أن يكون العامل مؤمنا‪ ،‬قال ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬ومن‬
‫يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} (‪.)1006‬‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فل كفران لسعيه} (‪.)1007‬‬
‫وقد ذكر ال ‪-‬تعالى‪ -‬عن رسله الذين أرسلهم إلى الناس أنهم دعوهم إلى اليمان بال‪ ،‬وعبادته‬
‫وحده‪ ،‬وهو معنى قوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال‪،‬‬
‫وأني ر سول ال " كما سبق‪ ،‬وتقدم حد يث معاذ‪ ،‬ح ين بع ثه النبي –صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إلى الي من‪،‬‬
‫وقال له‪ " :‬فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ل إله إل ال " الخ‪.‬‬
‫و اليمان بال ‪-‬تعالى‪ -‬يد خل ف يه اليمان بأ نه المالك ل كل ش يء‪ ،‬المت صرف ك يف يشاء‪ ،‬وأ نه‬
‫الله الحق‪ ،‬الذي يجب أن يعبد وحده‪ ،‬ل شريك له في ذلك‪ ،‬ل ملك ول نبي‪ ،‬ول أحد من الخلق مهما‬
‫علت منزلته‪ ،‬وحسنت عبادته‪.‬‬
‫ص ‪341‬‬
‫ويد خل ف يه اليمان بأ سماء ال الح سنى‪ ،‬و صفاته العل يا‪ ،‬وأن يث بت له ما أثب ته لنف سه‪ ،‬وأث بت له‬
‫رسله‪ ،‬من غير تحريف ول تمثيل‪ ،‬ول تكييف ول تعطيل‪ ،‬بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وأقام الصلة" إقامة الصلة‪ :‬التيان بها على وفق أمر ال ‪-‬تعالى‪ -‬وأمر رسوله‪ ،‬كاملة‬
‫في أفضل أوقاتها‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬و صام رمضان" ال صيام في الل غة‪ :‬هو الم ساك‪ ،‬و في الشرع‪ :‬إم ساك مخ صوص‪ ،‬عن‬
‫أشياء مخصوصة‪ ،‬من طلوع الفجر‪ ،‬إلى غروب الشمس‪ ،‬تعبدا ل تعالى‪.‬‬

‫‪ )(1006‬الية ‪ 40‬من سورة غافر ‪.‬‬


‫‪ )(1007‬الية ‪ 94‬من سورة النبياء‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫قال الحا فظ‪ :‬و سقط ذ كر ال حج‪ ،‬على أ حد الرواة؛ ل نه قد جاء ذكره في الترمذي‪ ،‬والحد يث لم‬
‫يذكر لبيان الركان‪ ،‬فيجوز أنه اقتصر على ذكر البعض‪ ،‬لنه هو المتكرر غالبا‪ ،‬وأما الزكاة فل تجب‬
‫إل على من له مال‪ ،‬بشرطه‪ ،‬والحج ل يجب إل مرة على التراخي"(‪.)1008‬‬
‫والمقصود من الحديث‪ :‬أن من حصل له اليمان بال‪ ،‬وما يلزم له‪ ،‬من إيمان برسله‪ ،‬وملئكته‪،‬‬
‫وكتبه‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬وبقضاء ال وقدره‪ ،‬مع التزام ما شرعه ال لعباده من المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬وجاهد في‬
‫سبيل ال‪ ،‬مع ما ذكر‪ ،‬استحق دخول الجنة على ال‪ ،‬ول بد أن يوفي ال ‪-‬تعالى‪ -‬بذلك‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬كان حقا على ال أن يدخله الجنهة" قهد تقدم الكلم على حهق العباد على ال‪ ،‬فهي حديهث‬
‫معاذ‪ ،‬في الباب الول‪ ،‬و هو حق أح قه ال ‪-‬تعالى‪ -‬على نف سه ك ما قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬ك تب رب كم على‬
‫نفسه الرحمة} (‪.)1009‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬ل يس مع نى ذلك‪ ،‬أ نه لزم له‪ ،‬ل نه ل آ مر له‪ ،‬ول نا هي يو جب عل يه‪ ،‬ويلز مه‬
‫المطالبة به‪ ،‬وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب‪ ،‬وهو ل يخلف الميعاد"(‪.)1010‬‬
‫ص ‪342‬‬
‫قلت‪ :‬ل يلزم من كونه حقا واجبا‪ ،‬أن يكون له آمر وناه يوجب عليه ذلك‪ ،‬بل هو ‪-‬تعالى‪ -‬الذي‬
‫أوجبه على نفسه‪ ،‬فل بد من وقوعه‪ ،‬كما أخبر ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬ها جر في سبيل ال‪ ،‬أو جلس في أر ضه ال تي ولد في ها" الهجرة في الل غة هي‪ :‬الترك‪،‬‬
‫والمفارقة‪ .‬والمقصود بها هنا‪ :‬النتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد السلم‪ ،‬وهي واجبة على المسلم‬
‫إذا خاف الفتنة في دينه‪ ،‬أو منع من ممارسة شعائر دينه‪ ،‬وإعلنه ظاهرا‪.‬‬
‫وتكون الهجرة بالنية والقصد‪ ،‬وتكون باللسان‪ ،‬وبالبدن‪.‬‬
‫قال الراغب‪ " :‬الهجر‪ ،‬والهجران‪ :‬مفارقة النسان غيره‪ ،‬إما بالبدن‪ ،‬أو باللسان‪ ،‬أو بالقلب‪ ،‬قال‬
‫كناية عن عدم قربهن‪.‬‬ ‫(‪)1011‬‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬و اهجروهن في المضاجع}‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } (‪ ،)1012‬فهذا هجر بالقلب واللسان‪.‬‬
‫وقوله‪{ :‬و اهجرهم هجرا جميلً } (‪)1013‬يحتمل الثلثة‪ ،‬وقوله‪{ :‬والرجز فاهجر} (‪ ،)1014‬حث على‬
‫المفارقة بالوجوه كلها‪.‬‬

‫‪" )(1008‬الفتح" (‪.)6/12‬‬


‫‪ )(1009‬الية ‪ 54‬من سورة النعام ‪.‬‬
‫‪" )(1010‬الفتح" (‪.)13/413‬‬
‫‪ )(1011‬الية ‪ 34‬من سورة النساء ‪.‬‬
‫‪ )(1012‬الية ‪ 30‬من سورة الفرقان ‪.‬‬
‫‪ )(1013‬الية ‪ 10‬من سورة المزمل ‪.‬‬
‫‪ )(1014‬الية ‪ 4‬من سورة المدثر‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫والمهاجرة فهي الصهل‪ :‬مصهارمة الغيهر‪ ،‬ومتاركتهه‪ ،‬مهن قوله عهز وجهل‪{ :‬والذيهن هاجروا‬
‫وجاهدوا} (‪ ،)1015‬وقوله‪{ :‬للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } (‪ ،)1016‬وقوله‪{ :‬ومن‬
‫يخرج من بي ته مهاجرا إلى ال } (‪ ،)1017‬وقوله‪{ :‬فل تتخذوا من هم أولياء ح تى يهاجروا في سبيل ال}‬
‫(‪ ،)1018‬فالظاهر منه‪ :‬الخروج من دار الكفر‪ ،‬إلى دار اليمان‪ ،‬كمن هاجر من مكة إلى المدينة"(‪.)1019‬‬
‫ص ‪343‬‬
‫ويد خل في ذلك هجران المعا صي‪ ،‬والشهوات‪ ،‬والخلق الذمي مة‪ ،‬وجم يع المعا صي ورفض ها‬
‫واجتنابها‪.‬‬
‫قال ابهن القيهم‪ " :‬وللعبهد فهي كهل وقهت هجرتان‪ :‬هجرة إلى ال بالطلب‪ ،‬والمحبهة‪ ،‬والعبوديهة‪،‬‬
‫والتوكل‪ ،‬والنابة‪ ،‬والتسليم والتفويض‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬وصدق اللجاء‪ .‬وهجرة إلى رسوله –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬في حركاته وسكناته‪ ،‬الظاهرة‪ ،‬والباطنة‪ ،‬بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل‬
‫محاب ال‪ ،‬ومرضاته‪ ،‬ول يقبل ال من أحد دينا سواه"(‪.)1020‬‬
‫وسبيل ال‪ :‬طاعته‪ ،‬واتباع أمره‪ ،‬واجتناب نهيه‪ ،‬واتباع رسوله – صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫قوله‪ " :‬أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وفي رواية‪ " :‬في بيته"‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أنه بقي في بلده يعبد ربه‪ ،‬ول يشرك به شيئا‪ ،‬ولم يهاجر إلى المدينة النبوية‪ ،‬وذلك أن‬
‫الهجرة كانهت فرضا على كهل قادر‪ ،‬فلمها فتحهت مكهة‪ ،‬ودخهل الناس فهي ديهن ال أفواجا‪ ،‬وأصهبحت‬
‫جزيرة العرب كلها دار إسلم‪ ،‬إل القليل‪ ،‬نسخت الهجرة لجل ذلك‪ ،‬ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬فيهه تأن يس ل من حرم الجهاد‪ ،‬وأ نه ل يس محروما من ال جر‪ ،‬بل له من اليمان‬
‫والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة‪ ،‬وإن قصر عن درجة المجاهدين"(‪.)1021‬‬
‫قوله‪ " :‬فقالوا‪ :‬يا ر سول ال‪ ،‬أفل ننبئ الناس بذلك؟" رأوا أن هذا فيه بشارة للم سلمين‪ ،‬وت سهيل‬
‫عظ يم علي هم‪ ،‬في عدم لزوم الهجرة‪ ،‬فإن ترك الو طن‪ ،‬وال هل والقارب‪ ،‬والمألوفات‪ ،‬كل ذلك ي شق‬
‫على النفس‪ ،‬ول يقوى عليه كل أحد‪.‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬الذي خاط به بذلك هو معاذ بن ج بل – ك ما في روا ية الترمذي‪ -‬أو أ بو الدرداء‪،‬‬
‫كما وقع عند الطبراني‪ ،‬وأصله في النسائي‪ ،‬لكن فيه‪ :‬فقلنا"(‪.)1022‬‬
‫ص ‪344‬‬

‫‪ )(1015‬الية ‪ 218‬من سورة البقرة ‪.‬‬


‫‪ )(1016‬الية ‪ 8‬من سورة الحشر‪.‬‬
‫‪ )(1017‬الية ‪ 100‬من سورة النساء ‪.‬‬
‫‪ )(1018‬الية ‪ 89‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪" )(1019‬المفردات" (‪.)537-536‬‬
‫‪" )(1020‬طريق الهجرتين" (ص ‪.)7‬‬
‫‪" )(1021‬الفتح" (‪.)6/12‬‬
‫‪" )(1022‬الفتح" (‪.)6/12‬‬

‫‪266‬‬
‫قوله‪ " :‬إن في الجنة مائة درجة " جاء في رواية الترمذي‪ ،‬عن معاذ‪ " ،‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أل‬
‫أخبر الناس؟ قال‪ " :‬ذر الناس يعملون‪ ،‬فإن في الجنة مائة درجة"(‪.)1023‬‬
‫فظهر أن المراد‪ :‬ل تبشر الناس بما ذكر من دخول الجنة‪ ،‬لمن آمن وعمل العمال المفروضة‬
‫عل يه‪ ،‬فيقفوا ع ند ذلك‪ ،‬ول يتجاوزوه إلى ما هو أف ضل م نه من الدرجات ال تي تح صل بالجهاد‪ ،‬وهذه‬
‫هي النكتة في قوله‪ " :‬أعدها ال للمجاهدين"‪ ،‬وفي هذا تعقب على بعض شراح المصابيح‪ ،‬في قوله‪" :‬‬
‫سوى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بين الجهاد في سبيل ال‪ ،‬وبين عدمه‪ ،‬وهو الجلوس في الرض‬
‫التهي ولد فيهها؛ لن التسهوية ليسهت على عمومهها‪ ،‬وإنمها ههي فهي أصهل دخول الجنهة‪ ،‬ل فهي تفاوت‬
‫الدرجات "(‪.)1024‬‬
‫وهذه الدرجات للمجاهديهن فهي سهبيل ال خاصهة‪ ،‬ول ينفهي هذا وجود درجات أخهر لغيهر‬
‫المجاهدين في الجنة‪ ،‬كما جاء في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صححه"‪ :‬يقال لصاحب القرآن‪ " :‬اقرأ‬
‫وعدد آيات القرآن ست‬ ‫(‪)1025‬‬
‫وارتق‪ ،‬ورتل‪ ،‬كما كنت ترتل في الدنيا‪ ،‬فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها"‬
‫وثلثون ومائتان وستة آلف‪ ،‬على اختلف في ذلك‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ " :‬أعدهها ال للمجاهديهن فهي سهبيله‪ ،‬قال ابهن القيهم‪ " :‬يجوز أن تكون هذه المائة مهن‬
‫جملة الدرج‪ ،‬ويجوز أن تكون نهايتها هذه المائة "(‪ ،)1026‬ورجح الول‪.‬‬
‫"الجهاد‪ :‬استفراغ الوسع في مدافعة العدو‪ .‬وهو ثلثة أضرب‪ :‬مجاهدة العدو الظاهر‪ ،‬ومجاهدة‬
‫الشيطان‪ ،‬ومجاهدة النفس"(‪ ،)1027‬وتدخل كلها في الجهاد في سبيل‬
‫ص ‪345‬‬
‫ال‪ ،‬ويشملهها قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إن الذيهن آمنوا والذيهن هاجروا وجاهدوا فهي سهبيل ال أولئك‬
‫يرجون رحمت ال وال غفور رحيم} (‪)1028‬ونحوها من اليات‪.‬‬
‫وقال الحافهظ‪ " :‬الجهاد بكسهر الجيهم‪ :‬أصهله لغهة‪ :‬المشقهة‪ ،‬يقال‪ :‬جهدت جهادا‪ ،‬بلغهت المشقهة‪،‬‬
‫وشرعا‪ :‬بذل الجهد في قتال الكفار‪ ،‬ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق"‪.‬‬
‫فأما مجاهدة النفس‪ ،‬على تعلم أمور الدين‪ ،‬ثم على العمل بها‪ ،‬ثم تعليمها‪.‬‬
‫وأما مجاهدة الشيطان‪ ،‬فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات‪ ،‬وما يزينه من الشهوات‪.‬‬
‫وأما مجاهدة الكفار‪ ،‬فتقع باليد‪ ،‬والمال‪ ،‬واللسان‪ ،‬والقلب‪.‬‬

‫‪ )(1023‬انظر "السنن للترمذي" (‪.)4/82‬‬


‫‪" )(1024‬الفتح" (‪.)6/12‬‬
‫‪ )(1025‬انظر " سنن أبي داود" (‪ ، )2/153‬و "الترمذي" (‪" ، )4/248‬فضائل القرآن " (رقم ‪.)2915‬‬
‫‪" )(1026‬حادي الرواح" (ص ‪.)6‬‬
‫‪" )(1027‬المفردات" (ص ‪.)101‬‬
‫‪ )(1028‬الية ‪ 218‬من سورة البقرة ‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وأما مجاهدة الفساق‪ :‬فباليد‪ ،‬ثم اللسان‪ ،‬ثم القلب"(‪.)1029‬‬
‫قوله‪ " :‬كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والرض " المقصود بالدرجة‪ :‬المنزلة المعدة لمن‬
‫ي ستحقها من أ هل اليمان‪ ،‬والع مل‪ ،‬ودرجات الج نة كثيرة‪ ،‬ك ما تقد مت الشارة إل يه‪ ،‬ول شك أن كل‬
‫درجة تختلف عن التي دونها بما فيها من أنواع النعيم والحسن‪.‬‬
‫وهذا التفاوت العظيهم فهي الدرجات لتفاوت أعمال العامليهن فهي اليمان‪ ،‬والمقاصهد‪ ،‬والخشيهة‪،‬‬
‫والخلص‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والنابة‪ ،‬والجد‪ ،‬وكثرة العمل‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬عند الترمذي‪ :‬ما بين كل درجتين مائة عام‪ ،‬وللطبراني‪ :‬خمسمائة عام‪ ،‬فإن كانتا‬
‫محفوظتيهن‪ ،‬كان اختلف العدد بالنسهبة إلى اختلف السهير‪ ،‬وفهي روايهة للترمذي‪ :‬لو أن العالميهن‬
‫اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم"(‪.)1030‬‬
‫وقال ا بن الق يم‪ :‬ل تنا قض ب ين تقد ير ما ب ين الدرجت ين‪ ،‬لختلف ال سير في ال سرعة‪ ،‬والب طء‪،‬‬
‫والنبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ذكر هذا تقريبا للفهام"(‪.)1031‬‬
‫ص ‪346‬‬
‫قوله‪ " :‬فإذا سهألتم ال‪ ،‬فسهلوه الفردوس"‪ ،‬الفردوس‪ :‬اسهم يطلق على جميهع الجنهة‪ ،‬ويطلق على‬
‫أفضلها وأعلها‪ ،‬كأنه أحق بهذا السم من غيره من الجنات‪.‬‬
‫قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬أولئك هم الوارثون (‪ )10‬الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (‪.)1032‬‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪{ :-‬إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلً} (‪.)1033‬‬
‫و أصهل الفردوس‪ :‬البسهتان‪ ،‬والفراديهس‪ :‬البسهاتين‪ ،‬قال الليهث‪ :‬الفردوس‪ :‬الجنهة ذات الكروم‪،‬‬
‫يقال‪ :‬كرم مفردس‪ ،‬أي معرش‪.‬‬
‫وقال الضحاك‪ :‬هي الج نة الملت فة بالشجار‪ ،‬واختاره ال مبرد‪ ،‬وقال‪ :‬الفردوس في ما سمعت من‬
‫كلم العرب‪ :‬الشجر الملتف‪ ،‬والغلب عليه العنب‪.‬‬
‫وقال مجا هد‪ :‬هو الب ستان بالروم ية واختاره الزجاج‪ ،‬وقال‪ :‬حقيق ته‪ :‬الب ستان الذي يج مع كل ما‬
‫يكون في البساتين"(‪.)1034‬‬
‫و في "الل سان"‪ " :‬الفردوس‪ :‬الب ستان؛ قال الفراء‪ :‬هي عر بي‪ ،‬قال ا بن سيده‪ :‬الفردوس‪ :‬الوادي‬
‫الخصيب عند العرب‪ ،‬وهو بلسان الروم‪ :‬البستان"(‪ ،)1035‬وذكر نحو ما تقدم‪.‬‬

‫‪" )(1029‬الفتح" ج ‪ 6‬فاتحته ‪.‬‬


‫‪ )(1030‬المصدر نفسه (ص ‪.)13-12‬‬
‫‪" )(1031‬حادي الرواح" (ص ‪.)61‬‬
‫‪ )(1032‬اليتان ‪ 10‬و ‪ 11‬من سورة المؤمنون‪.‬‬
‫‪ )(1033‬الية ‪ 107‬من سورة الكهف ‪.‬‬
‫‪" )(1034‬حادي الرواح" (ص ‪.)75-74‬‬
‫‪" )(1035‬لسان العرب" (‪.)2/1069‬‬

‫‪268‬‬
‫قوله‪ " :‬فإ نه أو سط الج نة‪ ،‬وأعلى الج نة" قال الحا فظ‪ " :‬المراد بالو سط ه نا‪ :‬العدل والف ضل‪،‬‬
‫كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وكذلك جعلناكم أمة وسطا} (‪ ،)1036‬فعلى هذا فعطف العلى عليه للتأكيد‪.‬‬
‫وقال الطيبي‪ :‬المراد بأحدهما‪ :‬العلو الحسي‪ ،‬وبالخر‪ :‬العلو المعنوي‪.‬‬
‫وقال ابن حبان‪ :‬المراد بالوسط‪ :‬السعة‪ ،‬وبالعلى‪ :‬الفوقية "(‪.)1037‬‬
‫قلت‪ :‬الظاهر أن المراد أن الفردوس‪ ،‬هو وسط الجنة‪ ،‬وهو أعلها‪ ،‬على ظاهر النص‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫أن الجنان الخرى عن جوانبه‪ ،‬ومن تحته‪ ،‬وهو أعلها‪ ،‬ويدل على‬
‫ص ‪347‬‬
‫ذلك قوله‪ " :‬وفوقه عرش الرحمن " فليس فوق الفردوس إل عرش الرحمن – جل وعل‪ ،-‬كما‬
‫يدل عليه أيضا قوله‪ " :‬ومنه تفجر أنهار الجنة "؛ لن النهار عادة تنبع من العلى‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وفو قه عرش الرح من " هذه الجملة هي المق صود من سياق الحد يث؛ ل نه يدل على أن‬
‫أعلى مخلوق هو العرش‪ ،‬وليس فوق العرش مخلوق‪ ،‬ولكن الرحمن – جل وعل‪ -‬فوقه‪.‬‬
‫قال ا بن خزي مة‪ " :‬فال خبر ي صرح أن عرش رب نا – جل وعل – فوق جن ته‪ ،‬و قد أعلم نا – عز‬
‫ل فوق عرشه‪ ،‬الذي هو فوق جنته"‬
‫(‪)1038‬‬
‫وجل – أنه مست ٍو على عرشه‪ ،‬فخالقنا عا ٍ‬
‫وذكر بسنده‪ ،‬عن عبدال بن مسعود‪ " :‬قال‪ :‬ما بين كل سماء إلى الخرى مسيرة خمسمائة عام‪،‬‬
‫وما بين السماء والرض مسيرة خمسمائة عام‪ ،‬وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة‬
‫عام‪ ،‬و ما ب ين الكر سي إلى الماء م سيرة خم سمائة عام‪ ،‬والعرش على الماء‪ ،‬وال على العرش‪ ،‬ويعلم‬
‫أعمالكم"(‪.)1039‬‬
‫(‪)1040‬‬
‫وذكر له طرقا عدة‪ ،‬وهو صحيح‪ ،‬ورواه البيهقي عن أبي ذر مرفوعا‪ ،‬قريبا من لفظه‪.‬‬
‫وعلو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وا ستواؤه على عر شه‪ ،‬مج مع عل يه ب ين ال صحابة والتابع ين وأئ مة الم سلمين‬
‫ومن تبعهم‪ ،‬ولم يخالف فيه إل من هو منهم على السلم‪ ،‬أو مغرور بالتقليد لمن يحسن به الظن‪.‬‬
‫" وأول من ابتدع بأن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ليس فوق العرش في السلم هو الجعد بن درهم‪ ،‬والجهم بن‬
‫صفوان‪ ،‬وشيعته ما‪ ،‬و هم ع ند أئ مة الم سلمين من شرار أ هل الهواء‪ ،‬و قد أطلق ال سلف من القول‬
‫بتكفير هم ما لم يطلقوه على أ حد‪ ،‬وقالوا‪ :‬نح كي كلم اليهود‪ ،‬والن صارى‪ ،‬ول ن ستطيع أن نح كي كلم‬
‫الجهمية‪ ،‬كما‬
‫ص ‪348‬‬

‫‪ )(1036‬الية ‪ 143‬من سورة البقرة ‪.‬‬


‫‪" )(1037‬الفتح" (‪.)6/13‬‬
‫‪ )(1038‬كتاب " التوحيد" (ص ‪.)104‬‬
‫‪ )(1039‬كتاب " التوحيد" (ص ‪.)105‬‬
‫‪ )(1040‬انظر ‪ " :‬السماء والصفات" (ص ‪.)401‬‬

‫‪269‬‬
‫قال عبدال بن المبارك‪ ،‬وقالوا‪ :‬اتفق المسلمون‪ ،‬واليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬على أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬فوق‬
‫العرش‪ ،‬وقالت الجهمية‪ :‬ليس ال فوق العرش"(‪.)1041‬‬

‫‪" )(1041‬نقض التأسيس" (‪.)1/127‬‬

‫‪270‬‬
‫ص ‪349‬‬
‫‪-52‬قال‪ " :‬حدثنا يحيى بن جعفر‪ ،‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن إبراهيم – هو التيمي –‬
‫عن أبيه‪ ،‬عن أبي ذر‪ ،‬قال‪ " :‬دخلت المسجد‪ ،‬ورسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬جالس؛ فلما غربت‬
‫الشمهس قال‪ :‬يها أبها ذر‪ ،‬ههل تدري أيهن تذههب هذه؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬ال ورسهوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإنهها تذههب‬
‫تستأذن في السجود‪ ،‬فيؤذن لها‪ ،‬وكأنها قد قيل لها‪ :‬ارجعي من حيث جئت‪ ،‬فتطلع من مغربها‪ ،‬ثم قرأ‪:‬‬
‫(ذلك مستقر لها) في قراءة عبد ال"‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬أتدري أيهن تذههب هذه؟" هذا السهلوب مهن التعليهم كان النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪-‬‬
‫ي ستعمله مع أ صحابه‪ ،‬و هو من ال ساليب ال تي تر سخ المعلومات في الذ هن؛ لن الم سئول يب قى بعده‬
‫يتطلع إلى الجواب بإقبال ولهف‪ ،‬فإذا ورد عل يه الجواب وهو بهذه الحال‪ ،‬ثبت في قلبه‪ ،‬ورسخ لديه‪،‬‬
‫وقد سبقت الشارة إلى ذلك‪.‬‬
‫ستَ َقرّ ّلهَا} (‪ ،)1042‬قال ابن‬
‫جرِي ِلمُ ْ‬
‫شمْسُ َت ْ‬
‫قوله‪ " :‬ذلك مستقر لها" هذا تفسير لقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَال ّ‬
‫كثير‪ " :‬فيه قولن‪ :‬أحدهما‪ :‬أن المراد‪ :‬مستقرها المكاني‪ ،‬وهو تحت العرش مما يلي الرض‪ ،‬من ذلك‬
‫الجا نب‪ ،‬و هي أين ما كا نت ف هي ت حت العرش‪ ،‬هي وجم يع المخلوقات؛ ل نه سقفها‪ ،‬ول يس بكرة‪ ،‬ك ما‬
‫يزع مه كث ير من أرباب الهيئة‪ ،‬وإن ما هو ق بة ذات قوائم‪ ،‬تحمله الملئ كة‪ ،‬و هو فوق العالم‪ ،‬م ما يلي‬
‫رؤوس الناس‪ ،‬فالشمس إذا كانت في قبة الفلك‪ ،‬وقت الظهيرة‪ ،‬تكون أقرب ما تكون إلى العرش‪ ،‬فإذا‬
‫ا ستدارت في فلك ها الرا بع‪ ،‬إلى مقابلة هذا المقام‪ ،‬و هو و قت ن صف الل يل‪ ،‬صارت أب عد ما تكون من‬
‫العرش‪ ،‬فحينئذ تسجد‪ ،‬وتستأذن في الطلوع‪ ،‬كما جاءت بذلك الحاديث " ثم ذكر هذا الحديث بطرقه‪،‬‬
‫ثهم قال‪ " :‬والقول الثانهي‪ :‬أن المراد بمسهتقرها" ههو منتههى سهيرها‪ ،‬وههو يوم القيامهة‪ ،‬يبطهل سهيرها‪،‬‬
‫وتسكن حركتها‪ ،‬وتكور‪ ،‬وينتهي هذا العالم إلى غايته‪ ،‬وهذا مستقرها الزماني"(‪.)1043‬‬
‫ص ‪350‬‬
‫قوله‪ " :‬ت ستأذن في ال سجود‪ ،‬فيؤذن ل ها" أي‪ :‬تطلب من ال الذن في موا صلة سيرها في حالة‬
‫سجودها‪ ،‬فيأذن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ل ها إلى الو قت الذي ت ستأذن‪ ،‬ثم ل يؤذن ل ها‪ ،‬فتب قي في مكان ها‪ ،‬ثم يقال‬
‫ل ها‪ :‬ارج عي من ح يث جئت‪ ،‬فينع كس سيرها‪ ،‬ح يث تطلع على الناس من المغرب‪ ،‬ول بد أن تطلع‬
‫على كل الناس من مغربها‪ ،‬وعند ذلك يؤمنون‪ ،‬ولكن ل ينفعهم إيمانهم‪ ،‬كما أخبر ال ‪-‬تعالى‪ -‬بذلك‪،‬‬
‫وهذا إيذان بانقضاء هذه الدار‪.‬‬
‫ِكه تَ ْقدِيرُ‬
‫ُسهتَ َقرّ لّه َا ذَل َ‬
‫جرِي ِلم ْ‬
‫ْسه َت ْ‬
‫شم ُ‬‫قال الكرمانهي‪ " :‬القراءة المشهورة المتواترة ههي‪ { :‬وَال ّ‬
‫ا ْل َعزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } وقراءة عبدال بن مسعود‪ :‬ذلك مستقرها"(‪.)1044‬‬

‫‪ )(1042‬الية ‪ 38‬من سورة يس ‪.‬‬


‫‪" )(1043‬تفسير ابن كثير" (‪.)563-6/562‬‬
‫‪ )(1044‬الكرماني (‪.)25/633‬‬

‫‪271‬‬
‫هكذا قال‪ ،‬والذي في "البخاري"‪ :‬مستقر لها‪ ،‬ولم يقرأ بها أحد من القراء‪.‬‬
‫قال ابن كثير‪ " :‬قرأ ابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪( :‬والشمس تجري ل مستقر لها) أي‪ :‬ل قرار لها‪،‬‬
‫ول سكون‪ ،‬بل هي سائرة ليلً ونهارا‪ ،‬ل تفتر‪ ،‬ول تقف"(‪.)1045‬‬
‫فعلى هذا يكون لبن مسعود فيها قراءتان‪ ،‬وافقه ابن عباس على إحداهما‪ ،‬وهما شاذتان‪.‬‬
‫و قد ذ كر البخاري – رح مه ال – هذا الحد يث في بدء الخلق‪ ،‬وف يه " فإن ها تذ هب ح تى ت سجد‬
‫تحت العرش"‪.‬‬
‫وسيأتي في آخر الباب بعد هذا‪ ،‬وفيه‪ " ،‬قال‪ :‬مستقرها تحت العرش"‪ ،‬وذكر أيضا هذين اللفظين‬
‫في تفسير سورة يس‪ ،‬وبذلك تظهر مناسبة الحديث للباب‪ ،‬فذكره لجل ما فيه من قوله‪ " :‬تذهب حتى‬
‫تسجد تحت العرش"‪ ،‬وقوله‪ " :‬مستقرها تحت العرش" في غير هذه الرواية هنا‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬وأخرجه النسائي بلفظ‪ " :‬تذهب حتى تنتهي تحت العرش‪ ،‬عند ربها"(‪ ،)1046‬وهو‬
‫واضهح فهي أن سهجودها فهي أرفهع مها تكون‪ ،‬وأقرب مها تكون إلى العرش‪ ،‬ومعلوم أنهها دائما تحهت‬
‫العرش‪ ،‬ولكن سجودها في مكان معين من‬
‫ص ‪351‬‬
‫مسيرها‪ ،‬وهو دليل واضح على العرش‪ ،‬وارتفاعه العظيم‪ ،‬وهذا هو مراد البخاري – رحمه ال‬
‫– من الحديث‪ ،‬ومعلوم أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬فوق العرش كما سبق‪.‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬قوله‪ :‬ت حت العرش" ق يل‪ :‬معناه‪ :‬هي ح ين محاذات ها‪ ،‬ول يخالف هذا قوله تعالى‪:‬‬
‫{وجدها تغرب في عين حمئة} (‪ ،)1047‬فإن المراد بها‪ :‬نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب‪ ،‬وسجودها‬
‫تحت العرش إنما هو بعد الغروب"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬و في الحد يث رد على من ز عم أن المراد بم ستقرها‪ :‬غا ية ما تنت هي إل يه في الرتفاع‪،‬‬
‫وذلك أطول يوم في السنة "‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬مستقرها‪ :‬منتهى أمرها‪ ،‬عند انتهاء الدنيا‪.‬‬
‫وقال الخطا بي‪ :‬يحت مل أن يكون المراد با ستقرارها ت حت العرش‪ :‬أن ها ت ستقر تح ته ا ستقرارا ل‬
‫نحيط به نحن‪ ،‬وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق سيرها ودورانها فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وظا هر الحد يث أن المراد بال ستقرار‪ :‬وقو عه في كل ليلة ويوم ع ند سجودها‪ ،‬ومقا بل‬
‫الستقرار‪ :‬المسير المعبر عنه بالجري " انتهى(‪.)1048‬‬
‫وقال أيضا‪ " :‬وظاهر الحديث‪ :‬أن الشمس هي التي تسير‪ ،‬وتجري‪.‬‬

‫‪" )(1045‬تفسير ابن كثير " (‪.)6/563‬‬


‫‪" )(1046‬الفتح" (‪.)8/541‬‬
‫‪ )(1047‬الية ‪ 86‬من سورة الكهف‪.‬‬
‫‪" )(1048‬الفتح" ملخصاً (‪.)8/542‬‬

‫‪272‬‬
‫وقال ا بن العر بي‪ :‬أن كر قوم سجودها‪ ،‬و هو صحيح مم كن‪ ،‬وتأوله قوم على ما هي عل يه من‬
‫التسخير الدائم‪ ،‬ول مانع من أن تخرج عن مجراها‪ ،‬فتسجد ثم ترجع‪.‬‬
‫(‪)1049‬‬
‫قلت‪ :‬إن أراد بالخروج‪ :‬الوقوف‪ ،‬فواضح‪ ،‬وإل فل دليل على الخروج" اهه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكونهها تسهجد تحهت العرش ل يقتضهي مفارقتهها لفلكهها وانتظامهها فهي مسهيرها بالنسهبة‬
‫للرض‪ ،‬فهي دائمة الطلوع على جزء من الرض‪ ،‬والوقات بالنسبة إلى أهل الرض تختلف بمقدار‬
‫سيرها‪.‬‬
‫ص ‪352‬‬
‫ومعلوم أن تعاقب الليل والنهار واختلفهما يترتب على مسيرها‪ ،‬فربما يقول قائل‪ :‬أين سجودها‬
‫تحت العرش؟ ومتى يكون؟ وسيرها مستمر‪ ،‬وبعدها عن الرض ل يختلف في وقت من الوقات كما‬
‫أن سيرها ل يتغير‪ ،‬كما هو مشاهد‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أنها تسجد كل ليلة تحت العرش‪ ،‬كما أخبر به الصادق المصدوق‪ ،‬وهي طالعة على‬
‫جانب من الرض‪ ،‬مع سيرها في فلكها‪ ،‬وهي دائما تحت العرش‪ ،‬في الليل والنهار‪ ،‬بل وكل شيء‬
‫من المخلوقات ت حت العرش‪ ،‬لكن ها في و قت من سيرها‪ ،‬و في مكان مع ين‪ ،‬ي صلح سجودها‪ ،‬الذي ل‬
‫يدركه الخلق‪ ،‬ولكن علم بالوحي‪ ،‬وهو سجود يناسبها على ظاهر النص‪.‬‬
‫أما التسخير‪ :‬فهي ل تنفك عنه أبدا‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪ " :‬فإذا كان ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬قد أ خبر أن ها ت سجد كل ليلة ت حت‬
‫العرش‪ ،‬فقد علم اختلف حالها بالليل والنهار‪ ،‬مع كون سيرها في فلكها من جنس واحد‪ ،‬وأن كونها‬
‫تحت العرش ل يختلف في نفسه‪ ،‬وإنما ذلك اختلف بالنسبة والضافة‪ ،‬علم أن تنوع النسب والضافة‬
‫ل يقدح فيما هو ثبات في نفسه ل مختلف"(‪.)1050‬‬
‫يعني‪ :‬أن اختلف السير يكون بالنسبة لمن في الرض‪ ،‬فهي تطلع على جانب منها وتغرب عن‬
‫جانهب آخهر‪ ،‬مهع أن سهيرها فهي فلكهها ليهس فيهه هذا الختلف‪ ،‬فل يختلف سهجودها باختلف الليهل‬
‫والنهار؛ لن هذا الختلف يكون بالنسبة إلى من في الرض‪ ،‬وبالضافة إليهم‪ ،‬أما هي فسجودها في‬
‫مكان معين من سيرها‪ ،‬وفي وقت معين ل يختلف‪.‬‬
‫ثهم قال –رحمهه ال ‪ " :-‬ومهن هنها يظههر الجواب عمها ذكره ابهن حزم‪ ،‬وغيره فهي حديهث‬
‫النزول(‪ ،)1051‬حيهث قالوا‪ :‬قهد ثبهت أن الليهل يختلف بالنسهبة إلى الناس‪ ،‬فيكون أوله ونصهفه وثلثهه‬
‫بالمشرق قبل أوله‪ ،‬ونصفه وثلثه بالمغرب‪ ،‬قالوا‪ :‬فلو كان‬
‫ص ‪353‬‬
‫‪" )(1049‬الفتح" (‪.)6/299‬‬
‫‪" )(1050‬بيان تلبيس الجهمية" (‪.)2/228‬‬
‫‪ )(1051‬سيأتي شرحه – إن شاء ال تعالى ‪ ، -‬وهذا الكلم محله شرح حديث النزول ‪ ،‬ولكن لشدة ارتباطاه‬
‫بما ذكر في سير الشمس أحببت إثباته هنا ‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫النزول هو النزول المعروف‪ ،‬للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل‪ ،‬إذ ل يزال في الرض ليل‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬أو ل يزال نازلً وصاعدا‪ ،‬وهو جمع بين الضدين‪.‬‬
‫وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله ‪-‬تعالى‪ -‬ما يتخيلونه من نزول أحدهم‪ ،‬وهذا عين التمثيل‪ ،‬ثم‬
‫إن هم ب عد ذلك جعلوه كالوا حد العا جز من هم‪ ،‬الذي ل يمك نه أن يج مع من الفعال ما يع جز غيره عن‬
‫جمعه‪.‬‬
‫وقد جاءت الحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة‪ ،‬كل منهم يراه مخليا به‪ ،‬ويناجيه‪ ،‬ل يرى أنه‬
‫متخليا لغيره‪ ،‬ول مخاطبا لغيره"(‪.)1052‬‬
‫وسيأتي – إن شاء ال تعالى – إيضاح الرد على شبههم هذه وغيرها في شرح الحديث‪.‬‬
‫و في " صحيح م سلم"‪ ،‬عن أ بي ذر – ر ضي ال ع نه – قال‪ :‬سألت ر سول ال – صلى ال عل يه‬
‫ستَ َقرّ ّلهَا } قال‪ " :‬مستقرها تحت العرش"(‪.)1053‬‬
‫جرِي ِل ُم ْ‬
‫شمْسُ َت ْ‬
‫وسلم‪ -‬عن قول ال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَال ّ‬
‫وهذا يعين المقصود بالمستقر‪ ،‬وأنه‪ :‬الموضع الذي تسجد فيه لربها‪ ،‬وتستأذن بمواصلة سيرها‪،‬‬
‫وأن هذا يكون كل ليلة بالنسبة إلينا‪ ،‬ويجوز أن يكون بالنهار بالنسبة لغيرنا كأمريكا مثلً‪.‬‬
‫وقد روى مسلم هذا الحديث مبسوطا مبينا‪ ،‬حيث قال بعد ذكر السند‪ " :‬عن أبي ذر – رضي ال‬
‫عنهه – أن النهبي – صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬قال يوما‪ " :‬أتدرون أيهن تذههب هذه الشمهس؟" قالوا‪ :‬ال‬
‫ور سوله أعلم‪ ،‬قال‪ " :‬إن هذه تجري ح تى تنت هي إلى م ستقرها ت حت العرش‪ ،‬فت خر ساجدة‪ ،‬فل تزال‬
‫كذلك‪ ،‬حتى يقال لها‪ :‬ارتفعي‪ ،‬ارجعي من حيث جئت‪ ،‬فترجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري‬
‫حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش‪ ،‬فتخر ساجدة‪ ،‬ول تزال كذلك‪ ،‬حتى يقال لها‪ :‬ارتفعي‪ ،‬ارجعي‬
‫من حيث جئت‪ ،‬فترجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري ل يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي‬
‫إلى مستقرها تحت العرش‪ ،‬فيقال لها‪ :‬ارتفعي‪ ،‬أصبحي طالعة من‬
‫ص ‪354‬‬
‫مغر بك‪ ،‬فت صبح طال عة من مغرب ها" فقال ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬أتدرون م تى‬
‫ذاكم؟ ذاك حين ل ينفع نفسا إيمانها‪ ،‬لم تكن آمنت من قبل‪ ،‬أو كسبت في إيمانها خيرا"(‪.)1054‬‬
‫جدُ‬
‫وقد ذكر ال ‪-‬تعالى‪ -‬في كتابه أن الشمس والقمر يسجدان له تعالى فقال‪ { :‬أَلَمْ َترَ َأنّ اللّ َه يَسْ ُ‬
‫شمْسُ وَا ْل َق َمرُ} (‪.)1055‬‬
‫لرْضِ وَال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي ا َ‬
‫لَ ُه مَن فِي ال ّ‬

‫‪" )(1052‬بيان تلبيس الجهمية" (‪.)2/228‬‬


‫‪" )(1053‬صحيح مسلم" (‪.)1/39‬‬
‫‪" )(1054‬صحيح مسلم" (‪ ،)1/138‬وانظر ‪ " :‬شرح النووي" (‪.)2/195‬‬
‫‪ )(1055‬الية ‪ 18‬من سورة الحج ‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫ص ‪355‬‬
‫‪-53‬قال‪ " :‬حدثنا موسى‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬حدثنا ابن شهاب‪ ،‬عن عبيد بن السباق‪ ،‬أن زيد بن ثابت‪.‬‬
‫وقال الل يث‪ :‬حدث ني ع بد الرح من بن خالد‪ ،‬عن ا بن شهاب‪ ،‬عن ا بن ال سباق‪ ،‬أن ز يد بن ثا بت‬
‫حدثهه‪ ،‬قال‪ :‬أرسهل إلىّ أبهو بكهر‪ ،‬فتتبعهت القرآن‪ ،‬حتهى وجدت آخهر سهورة التوبهة مهع أبهي خزيمهة‬
‫حتى خاتمة براءة "‪.‬‬ ‫(‪)1056‬‬
‫س ُكمْ }‬
‫ن أَن ُف ِ‬
‫النصاري لم أجدها مع أحد غيره‪ { :‬لَ َق ْد جَاء ُكمْ رَسُولٌ مّ ْ‬
‫زيهد بهن ثابهت بهن الضحاك بهن زيهد بهن لوذان‪ ،‬النجاري‪ ،‬النصهاري‪ ،‬أبهو سهعيد‪ ،‬ويقال‪ :‬أبهو‬
‫خارجة‪ ،‬قدم النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬المدينة‪ ،‬وهو ابن إحدى عشرة سنة‪.‬‬
‫وكان يك تب الو حي‪ ،‬قال الش عبي‪ :‬غلب ز يد الناس على اثنت ين‪ ،‬الفرائض‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وكان أ حد‬
‫أصحاب الفتوى من الصحابة‪.‬‬
‫وقال مسروق‪ " :‬قدمت المدينة‪ ،‬فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"‪ ،‬وفضائله كثيرة‪،‬‬
‫توفي سنة ‪ ،4‬وقيل‪ ،51 :‬وقيل‪ ،55 :‬وقيل غير ذلك"(‪.)1057‬‬
‫ومقصود البخاري – رحمه ال – من هذا الحديث‪ :‬هو ذكر العرش في الية الكريمة‪ ،‬حيث قال‬
‫ت وَهُ َو رَبّ ا ْل َعرْشِ ا ْل َعظِيمِ } (‪.)1058‬‬
‫ل هُوَ عََل ْيهِ تَ َوكّلْ ُ‬
‫س ِبيَ الّلهُ ل إِلَههَ ِإ ّ‬
‫حْ‬‫تعالى‪َ { :‬فإِن تَوَلّوْ ْا فَقُلْ َ‬
‫قال المام ابن جرير – رحمه ال تعالى ‪ " :-‬يقول – تعالى ذكره – فإن تولى‪ ،‬يا محمد‪ ،‬هؤلء‬
‫الذين جئتهم بالحق من عند ربك‪ ،‬من قومك‪ ،‬فأدبروا عنك‪ ،‬ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في‬
‫سبِيَ الّل ُه } يكفي ني ر بي {ل إَِل َه ِإلّ ُهوَ} ل معبود‬
‫ال‪ ،‬و ما دعوت هم إل يه من النور والهدى‪ ،‬ف قل‪ { :‬حَ ْ‬
‫سهواه { عََليْهِه تَ َوكّلْتُه } وبهه وثقهت‪ ،‬وعلى عونهه اتكلت‪ ،‬وإليهه وإلى نصهره اسهتندت‪ ،‬فإنهه ناصهري‪،‬‬
‫ومعيني‪ ،‬على من خالفني وتولى عني ومن غيركم من الناس‪ { ،‬وَ ُهوَ رَبّ ا ْل َعرْشِ ا ْل َعظِيمِ } الذي يملك‬
‫ما دونه‪ ،‬والملوك كلهم مماليكه‪ ،‬وعبيده‪.‬‬
‫ص ‪356‬‬
‫و إنما عنى بوصفه – جل ثناؤه – نفسه بأنه رب العرش العظيم‪ :‬الخبر عن جميع ما دونه أنهم‬
‫عبيده‪ ،‬وفي ملكه‪ ،‬وسلطانه؛ لن العرش العظيم إنما يكون للملوك‪ ،‬فوصف نفسه بأنه ذو العرش‪ ،‬دون‬
‫سهائر خلقهه‪ ،‬وأنهه المالك العظيهم‪ ،‬دون غيره‪ ،‬وأن مهن دونهه فهي سهلطانه‪ ،‬وملكهه‪ ،‬جار عليهه حكمهه‬
‫وقضاؤه"(‪.)1059‬‬
‫وقال ابهن كثيهر‪ " :‬وههو رب العرش العظيهم" أي‪ :‬ههو مالك كهل شيهء‪ ،‬وخالقهه؛ لن العرش‬
‫العظيم‪ ،‬الذي هو سقف المخلوقات‪ ،‬وجميع الخلئق من السماوات والرضيين وما فيهما وما بينهما‪،‬‬

‫‪ )(1056‬الية ‪ 128‬من سورة براءة‪.‬‬


‫‪" )(1057‬تهذيب التهذيب" (‪.)3/399‬‬
‫‪ )(1058‬آخر آية من سورة براءة‪.‬‬
‫‪" )(1059‬تفسير الطبري" (‪ )78-11/77‬بتحقيق محمود شاكر ‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫تحت العرش‪ ،‬مقهورون بقدرة ال –تعالى‪ ،-‬وعلمه محيط بكل شيء‪ ،‬وقدره نافذ في كل شيء‪ ،‬وهو‬
‫على كل شيء وكيل"(‪.)1060‬‬
‫وثبت عن أبي بن كعب – رضي ال عنه – أن هذه الية آخر ما نزل من القرآن (‪.)1061‬‬
‫و قد تقدم أن تخ صيصه ‪-‬تعالى‪ -‬العرش بأ نه ر به‪ ،‬وإضاف ته إل يه ‪-‬تعالى‪ -‬يدل على أ مر زائد‬
‫على ما في المخلوقات غيره من السماوات والرض بأنه ربها‪.‬‬
‫وكذلك وصفه إياه بأنه عظيم وكريم ومجيد‪ ،‬وهذه الوصاف والضافة لم تأت في غير العرش‬
‫من المخلوقات؛ وهذا لنه تعالى اختاره لقربه‪ ،‬واستوائه عليه‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة النصاري‪ ،‬لم أجدها مع أحد غيره" يعني‪:‬‬
‫أنه ما وجدها مكتوبة‪ ،‬مثبتة بالكتابة‪ ،‬إل عند أبي خزيمة‪.‬‬
‫وليس معنى ذلك أنه لم يحفظها إل أبو خزيمة‪ ،‬فإن زيدا وأُبيا‪ ،‬وأبا بكر‪ ،‬وغيرهم من الصحابة‪،‬‬
‫كانوا يحفظون القرآن كله‪ ،‬وهو يريد من كتبها عن الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بدون واسطة‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬قوله‪ :‬لم أجدها مع أحد غيره" أي‪ :‬مكتوبة؛ لما تقدم من أنه كان ل يكتفي بالحفظ‬
‫دون الكتابة‪.‬‬
‫ول يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن ل تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي –صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬وإنما زيد كان يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة‪.‬‬
‫ص ‪357‬‬
‫ولعل هم لما وجدها ز يد عند أبي خزي مة تذكرو ها‪ ،‬كما تذكرها ز يد‪ ،‬وفائدة التت بع‪ :‬المبال غة في‬
‫الستظهار‪ ،‬والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫قال الخطابي‪ :‬هذا مما يخفى معناه‪ ،‬ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الية بخبر الشخص الواحد‪،‬‬
‫وليس كذلك‪ ،‬فقد اجتمع في هذه الية زيد بن ثابت‪ ،‬وأبو خزيمة‪ ،‬وعمر"‪.‬‬
‫ثم علق الحافظ على كلم الخطابي بقوله‪:‬‬
‫"وكأنه ظن أن قولهم‪ :‬ل يثبت القرآن بخبر الوا حد‪ ،‬أي‪ :‬الش خص الوا حد‪ ،‬وليس كما ظن‪ ،‬بل‬
‫المراد بخهبر الواحهد‪ :‬خلف التواتهر‪ ،‬فلو بلغهت رواة الخهبر عددا كثيرا‪ ،‬وفقهد شيئا مهن شروط‬
‫المتواتر(‪ ،)1062‬لم يخرج عن كونه خبرا لواحد‪.‬‬
‫والحق أن المراد بالنفي‪ :‬نفي وجودها مكتوبة‪ ،‬ل نفي كونها محفوظة"(‪.)1063‬‬
‫ثم ذكر أحاديث تؤيد ما قال‪.‬‬

‫‪" )(1060‬تفسير ابن كثير" (‪ )180-4/179‬ط الشعب ‪.‬‬


‫‪ )(1061‬انظر ‪ :‬المصدرين السابقين ‪.‬‬
‫‪ )(1062‬من كون الناقلين عددًا كثيراً ‪ ،‬يمتنع تواطؤهم على الكذب ‪ ،‬من أول السند إلى نهايته‪.‬‬
‫‪" )(1063‬فتح الباري" (‪.)9/15‬‬

‫‪276‬‬
‫وقال في موضع آ خر‪ " :‬والذي يظهر أن الذي أشار إليه أ نه فقده‪ ،‬ف قد وجودها مكتو بة‪ ،‬ل ف قد‬
‫وجودها محفوظة‪ ،‬بل كانت محفوظة عنده‪ ،‬وعند غيره‪ ،‬ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن‪" :‬‬
‫فأخذت أتتبعه‪ ،‬من الرقاع والعسب"‬
‫(‪)1064‬‬

‫وقال أيضا‪ " :‬والرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة – بالكنية‪ -‬والذي وجد‬
‫معه الية من سورة الحزاب خزيمة‪.‬‬
‫وأ بو خزي مة‪ ،‬ق يل‪ :‬هو ا بن أوس بن يز يد بن أحرم‪ ،‬مشهور بكني ته‪ ،‬دون ا سمه‪ ،‬وق يل‪ :‬هو‬
‫الحارث بن خزيمة‪.‬‬
‫(‪)1065‬‬
‫وأما خزيمة‪ ،‬فهو ابن ثابت ذو الشهادتين"‬

‫‪" )(1064‬الفتح" (‪.)8/518‬‬


‫‪" )(1065‬الفتح" (‪.)9/15‬‬

‫‪277‬‬
‫ص ‪358‬‬
‫‪ -54‬قال‪ " :‬حدثنا معلى بن أسد‪ ،‬حدثنا وهيب عن سعيد‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أبي العالية‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس – ر ضي ال عنه ما – قال‪ :‬كان ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬يقول ع ند الكرب‪ " :‬ل إله إل‬
‫ال العل يم الحل يم‪ ،‬ل إله إل ال رب العرش العظ يم‪ ،‬ل إله إل ال رب ال سموات‪ ،‬ورب الرض‪ ،‬ورب‬
‫العرش الكريم "‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬يقول عند الكرب" الكرب – بفتح الكاف‪ ،‬وسكون الراء – قال الزهري‪" :‬هو‪ :‬الغم الذي‬
‫يأخذ النفس‪ ،‬يقال‪ :‬كربه الغم‪ ،‬وإنه لمكروب النفس‪ ،‬والكربة السم‪ ،‬والكريب‪ :‬المكروب"(‪.)1066‬‬
‫وقال الجوهري‪ " :‬الكربهة بالضهم‪ :‬الغهم الذي يأخهذ بالنفهس‪ ،‬وكذلك الكرب‪ ،‬على مثال الضرب‪،‬‬
‫تقول منه‪ :‬كربه الغم‪ ،‬إذا اشتد عليه‪ ،‬والكرائب‪ :‬الشدائد‪ ،‬الواحدة‪ :‬كريبة"(‪.)1067‬‬
‫قوله‪ " :‬كان يقول عند الكرب" كان‪ :‬تدل على كثرة وقوع ذلك منه –صلى ال عليه وسلم‪-‬؛ لن‬
‫لفظة "كان" تدل على الستمرار غالبا‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬ل إله إل ال " الله هو‪ :‬المعبود الذي تأله القلوب‪ ،‬وتذل له‪ ،‬وتحبه‪ ،‬وتعظمه‪ ،‬وتخافه‪،‬‬
‫وترجوه‪ ،‬فالله ههو الذي يقصهد بالخوف والرجاء‪ ،‬مهع الذل والتعظيهم‪ ،‬وكلمها زاد الخوف والرجاء‪،‬‬
‫والذل والتعظيم‪ ،‬صارت العبادة أكمل‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬الله هو‪ :‬الذي يؤله‪ ،‬فيعبد‪ ،‬محبة وإنابة‪ ،‬وإجللً وإكراما"(‪.)1068‬‬
‫فقوله‪ " :‬ل إله إل ال " أي‪ :‬ل أتوجهه بقلبهي عابدا وخاضعا‪ ،‬متذللً‪ ،‬خائفا‪ ،‬راجيا‪ ،‬إل إلى ال‬
‫وحده‪ ،‬فههو إلههي‪ ،‬ومعبودي‪ ،‬الذي يملك نفعهي وضري‪ ،‬وبإخلص التأله له كمال حياتهي‪ ،‬وسهعادتي‪،‬‬
‫وفي عدم ذلك الشقاء والهلك‪.‬‬
‫"فالعبد كلما كان أذل ل‪ ،‬وأعظم افتقارا إل يه‪ ،‬وخضوعا له‪ ،‬كان أقرب إليه وأعز له‪ ،‬وأعظم‬
‫لقدره عنده‪ ،‬فأسعد الخلق أعظمهم عبودية ل تعالى‪ ،‬فأما المخلوق‬
‫ص ‪359‬‬
‫فكما قيل‪ :‬احتج لمن شئت تكن أسيره‪ ،‬واستغن عمن شئت تكن نظيره‪ ،‬وأحسن لمن شئت تكن‬
‫أميره‪.‬‬
‫فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق‪ :‬إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه‪ ،‬فإن أحسنت‬
‫إليهم مع الستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم‪ ،‬ومتى احتجت إليهم ولو بشربة ماء نقص قدرك‬
‫عندهم بقدر حاجتك إليهم‪ ،‬وهذا من حكمة ال ورحمته؛ ليكون الدين كله ل‪ ،‬ل يشرك به شيء‪.‬‬

‫‪" )(1066‬تهذيب اللغة" (‪.)10/205‬‬


‫‪" )(1067‬الصحاح" (‪.)1/211‬‬
‫‪" )(1068‬مجموع الفتاوى" (‪.)1/22‬‬

‫‪278‬‬
‫والرب ‪-‬تعالى‪ -‬أكرم ما تكون عل يه أحوج ما تكون إل يه‪ ،‬وأف قر ما تكون إل يه‪ ،‬و هو ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫يعلم ما يصلح عبده‪ ،‬ويقدر على ذلك‪ ،‬ويريده‪ ،‬رحمة منه وفضلً‪ ،‬وذلك صفته من جهة نفسه‪ ،‬ل شيء‬
‫آ خر جعله مريدا‪ ،‬راحما‪ ،‬بل رحم ته من لوازم نف سه‪ ،‬فإ نه ك تب على نف سه الرح مة‪ ،‬ورحم ته و سعت‬
‫كل شيء"(‪.)1069‬‬
‫قوله‪ " :‬العل يم الحل يم" أي‪ :‬هو تعالى العظ يم ب كل ش يء‪ ،‬فيعلم حالي‪.‬و ما نزل به‪ ،‬ويعلم أ سبابه‪،‬‬
‫وما يترتب عليه‪ ،‬ل يخفى عليه خافية‪ ،‬فعلمه محيط بكل شيء‪.‬‬
‫وهو ‪-‬تعالى‪ -‬حليم ل يعجل بالعقوبة لمن يستحقها‪ ،‬بل يعفو ويتجاوز‪ ،‬وحلمه عن علم وحكمة‪،‬‬
‫ل ْب َتغَوْاْ إِلَى ذِي‬
‫ُونه ِإذًا ّ‬
‫َهه آِل َهةٌ كَم َا يَقُول َ‬
‫َانه َمع ُ‬
‫فله ‪-‬تعالى‪ -‬الكمال المطلق قال ‪-‬تعالى‪ { :-‬ق ُل لّ ْو ك َ‬
‫لرْ ضُ‬
‫سبْعُ وَا َ‬
‫ت ال ّ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫ح لَ ُه ال ّ‬
‫عمّ ا يَقُولُو نَ عُلُوّا َكبِيرًا {‪}43‬تُ سَبّ ُ‬
‫س ْبحَانَهُ َو َتعَالَى َ‬
‫ل {‪ُ }42‬‬
‫سبِي ً‬
‫ا ْل َعرْ شِ َ‬
‫ن حَلِيمًا غَفُورًا} (‪.)1070‬‬
‫ح ُهمْ ِإنّ ُه كَا َ‬
‫سبِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫ح ْمدَهِ وَلَهكِن لّ تَ ْف َقهُو َ‬
‫سبّحُ ِب َ‬
‫َومَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْ ٍء ِإلّ ُي َ‬
‫وكثيرا مها يأتهي وصهفه ‪-‬تعالى‪ -‬بالحلم مقرونا بالمغفرة‪ ،‬ممها يدل على أن الحلم ههو‪ :‬عدم‬
‫المعاجلة لمهن اسهتحق العقوبهة‪ ،‬وأنهه ‪-‬تعالى‪ -‬يحلم على عباده‪ ،‬ويغفهر لههم جرائمههم‪ ،‬ولهذا أخهبر‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬أ نه لو يؤاخهذ الناس بظلمههم ومها كسهبت أيديههم مها ترك على ظههر الرض من دابهة‪ ،‬قال‬
‫(‪)1071‬‬
‫س بِظُ ْل ِمهِم مّا َت َركَ عََل ْيهَا مِن دَآبّةٍ }‬
‫خذُ الّلهُ النّا َ‬
‫‪-‬تعالى‪ { :-‬وَلَ ْو يُؤَا ِ‬
‫ص ‪360‬‬
‫قوله‪ " :‬ل إله إل ال رب العرش العظيم " كرر التوسل بإلهيته تعالى‪ ،‬والتبري من كل ما سواه‬
‫مهن مألوه‪ ،‬وهذا أعظهم الوسهائل إلى ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وههو إخلص العبادة والتوجهه إلى ال بصهدق‪،‬‬
‫ورغبة‪ ،‬ورهبة‪.‬‬
‫ولهذا صار إخلص التأله والدعاء ل وحده‪ ،‬مفزع جميع العقلء من المؤمن ين والكفار‪ ،‬في كل‬
‫كرب وشدة‪ ،‬كما ذكر ال ‪-‬تعالى‪ -‬هذا المعنى عن السابقين من الكفار‪ ،‬وغيرهم من أهل اليمان‪.‬‬
‫ن الشّا ِكرِينَ {‪}63‬قُلِ اللّ ُه ُي َنجّيكُم ّم ْنهَا َومِن كُلّ َكرْبٍ‬
‫ن أَنجَانَا ِمنْ هَهذِ ِه َل َنكُونَنّ مِ َ‬
‫قال تعالى‪ّ { :‬لئِ ْ‬
‫ت َأنّ هُ ل‬
‫حتّى ِإذَا َأ ْد َركَ ُه ا ْل َغرَ قُ قَالَ آمَن ُ‬
‫ن } (‪ ،)1072‬وقال ‪-‬تعالى‪ -‬عن الطاغية الجبار‪َ { :‬‬
‫ُثمّ أَنتُ مْ ُتشْ ِركُو َ‬
‫سرَائِيلَ وََأ َناْ ِم نَ ا ْلمُ سِْلمِينَ } (‪ ،)1073‬وقال ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَِإذَا مَ سّ الِن سَانَ‬
‫ل اّلذِي آ َمنَ تْ ِب هِ بَنُو إِ ْ‬
‫إِلِ ههَ ِإ ّ‬
‫ن إِذ ذّهَ بَ‬
‫ضُرّ دَعَا َربّ هُ ُمنِيبًا إَِل ْي هِ } (‪ ،)1074‬وقال ‪-‬تعالى‪ -‬عن نبيه يو نس عل يه ال سلم‪َ { :‬وذَا النّو ِ‬

‫‪" )(1069‬مجموع الفتاوى" (‪.)40-1/39‬‬


‫‪ )(1070‬اليات من ‪ 44 -42‬من سورة السراء ‪.‬‬
‫‪ )(1071‬الية ‪ 61‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ )(1072‬اليتان ‪ 63‬و ‪ 64‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪ )(1073‬الية ‪ 90‬من سورة يونس ‪.‬‬
‫‪ )(1074‬الية ‪ 8‬من سورة الزمر ‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫ن}‬
‫ن الظّاِلمِي َ‬
‫ت مِ َ‬
‫س ْبحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ‬
‫ضبًا َفظَنّ أَن لّن نّ ْق ِدرَ عََل ْي ِه َفنَادَى فِي الظُّلمَا تِ أَن لّ إَِل َه ِإلّ أَن تَ ُ‬
‫ُمغَا ِ‬
‫(‪ ،)1075‬وهذا كثير في القرآن‪ ،‬وقد تقدمت الشارة إلى شيء من ذلك‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ل إله إل ال رب ال سماوات والرض‪ ،‬ورب العرش الكر يم" هذا تكر ير للتو سل إلى ال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬بألوهيته‪ ،‬وربوبيته‪ ،‬فبدأ بما يدل على إخلص التأله له ‪-‬تعالى‪ ،-‬ثم توسل باسميه الكريمين‪:‬‬
‫العليم والحليم‪ ،‬ثم بأنه رب العرش العظيم‪ ،‬ثم بأنه رب السماوات والرض‪ ،‬ورب العرش الكريم‪.‬‬
‫فاشت مل هذا الدعاء العظ يم على التو جه إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬بأنواع التوح يد الثل ثة‪ :‬توح يد الله ية‪،‬‬
‫وتوحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد السماء والصفات‪.‬‬
‫والربوب ية نوعان‪ :‬عا مة‪ ،‬وخا صة‪ ،‬ف هو ‪-‬تعالى‪ -‬رب كل ش يء وملي كه‪ ،‬المت صرف ف يه ك يف‬
‫شيْءٍ خَلْ َق هُ ثُمّ َهدَى }‪ ،‬و قد ج مع‬
‫ل َ‬
‫يشاء‪ ،‬و هو القائم على كل مخلوق ب ما ي صلحه‪ ،‬ويرب يه‪{ ،‬أَعْطَى كُ ّ‬
‫النوعين في هذا الحديث‪ ،‬فتوسل بأنه رب‬
‫ص ‪361‬‬
‫العرش العظيهم الكريهم‪ ،‬وبأنهه رب السهماوات والرض‪ ،‬والرب ههو‪ :‬المالك المتصهرف‪ ،‬القائم‬
‫على كل مربوب بما يحتاجه من تربية في شؤون حياته كلها‪.‬‬
‫والمقصهود مهن الحديهث‪ :‬قوله‪ " :‬رب العرش العظيهم" وقوله‪ " :‬رب العرش الكريهم" وكلهمها‬
‫و صف للعرش‪ ،‬و صف بأ نه عظ يم‪ ،‬وبأ نه كر يم‪ ،‬والعظ مة تدل على ال كبر‪ ،‬وال سعة‪ ،‬والكرم يدل على‬
‫الحسن‪ ،‬والجمال‪ ،‬والسعة أيضا‪.‬‬
‫قال الكرما ني‪" :‬و صف العرش بالعظ مة‪ ،‬هو من ج هة الكم ية‪ ،‬وبالكرم‪ ،‬أي‪ :‬الح سن من ج هة‬
‫الكيف ية‪ ،‬ف هو ممدوح ذاتا و صفة‪ ،‬و خص بالذ كر ل نه أع ظم أج سام العالم‪ ،‬فيد خل الجم يع تح ته دخول‬
‫الدني تحت العلى‪ ،‬وذكر لفظ " الرب" من بين سائر السماء الحسنى؛ ليناسب كشف الكروب‪ ،‬الذي‬
‫هو مقت ضى الترب ية‪ ،‬ول فظ "الحل يم"؛ لن كرب المؤ من غالبا إن ما هو على نوع تق صير أو غفلة في‬
‫الطاعات"(‪.)1076‬‬
‫وربوبيتهه ‪-‬تعالى‪ -‬للعرش‪ ،‬مهع وصهفه بأنهه عظيهم وكريهم‪ ،‬تفيهد تخصهيصا له عهن غيره مهن‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وذلك لنه قد خصه بقربه‪ ،‬واستوائه ‪-‬تعالى‪ -‬عليه‪ ،‬ذكر شيخ السلم‪ ،‬عن أبي‬
‫عمرو الطلمن كي – و هو من أئ مة أ هل ال سنة – أ نه قال‪ " :‬وأجمعوا – يع ني أ هل ال سنة والجما عة –‬
‫على أن ل عرشا‪ ،‬وعلى أنه مست ٍو على عرشه‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وقدرته‪ ،‬وتدبيره بكل ما خلقه‪.‬‬
‫ن مَا كُنتُ مْ} (‪،)1077‬‬
‫قال‪ :‬فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى‪{ :‬وَ ُهوَ َم َعكُ مْ َأ ْي َ‬
‫ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه‪ ،‬وأن ال فوق السماوات بذاته مستو على عرشه‪ ،‬كيف شاء‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪ )(1075‬الية ‪ 87‬من سورة النبياء‪.‬‬


‫‪" )(1076‬شرح الكرماني على البخاري" (‪.)21/149‬‬
‫‪ )(1077‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫ستَوَى} (‪ :)1078‬الستواء من ال ‪-‬تعالى‪ -‬على عرشه‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫وقال أهل السنة في قوله‪{ :‬ال ّر ْ‬
‫المجيد‪ ،‬على الحقيقة‪ ،‬ل على المجاز‪ .‬واستدلوا بقول ال ‪-‬تعالى‪{ :-‬فإذا استويت أنت ومن معك على‬
‫الفلك} (‪،)1079‬‬
‫ص ‪362‬‬
‫وبقوله‪{ :‬لتستوا على ظهوره} (‪ ،)1080‬وبقوله‪{ :‬واستوت على الجودي} (‪ ،)1081‬إل أن المتكلمين من‬
‫أهل الثبات في هذا على أقوال‪:‬‬
‫فقال مالك – رحمهه ال تعالى ‪ :-‬إن السهتواء معقول‪ ،‬والكيهف مجهول‪ ،‬واليمان بهه واجهب‪،‬‬
‫والسؤال عنه بدعة‪.‬‬
‫وقال عبدال بن المبارك‪ ،‬و من تاب عه من أ هل العلم‪ ،‬وهم كث ير‪ :‬إن مع نى ا ستوى على العرش‪:‬‬
‫استقر‪ .‬وهو قول القتيبي‪.‬‬
‫وقال غير هؤلء‪ :‬استوى‪ ،‬أي‪ :‬ظهر‪.‬‬
‫وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‪ :‬استوى بمعنى‪ :‬عل‪.‬‬
‫وتقول العرب‪ :‬ا ستويت على ظ هر الفرس‪ ،‬بمع نى‪ :‬علوت عل يه‪ ،‬وا ستويت على سقف الب يت‪،‬‬
‫بمعنى‪ :‬علوت عليه‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬استويت على السطح‪ ،‬بمعناه‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪{ :‬استوى على العرش} بمعنى‪ :‬عل على العرش‪.‬‬
‫وقول الح سن(‪ ،)1082‬وقول مالك‪ ،‬من أن بل جواب و قع في هذه الم سألة‪ ،‬وأشده ا ستيعابا‪ ،‬لن ف يه‬
‫نبذ التكييف‪ ،‬وإثبات الستواء المعقول‪ ،‬وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه‪ ،‬واستحسنوه"(‪.)1083‬‬
‫ثم تكلم على فساد قول من تأول استوى بمعنى استولى‪ ،‬وقد مضى ما يغني عن ذكره‪ .‬ثم قال‪" :‬‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْ شِ } يع ني‪ :‬ا ستقر‪ ،‬قال‪ :‬وقال أ بو عبيدة‪:‬‬
‫وقال الثعل بي‪ :‬قال الكل بي‪ ،‬ومقا تل‪ { :‬ثُمّ ا ْ‬
‫صعد‪.‬‬
‫ص ‪363‬‬

‫‪ )(1078‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬


‫‪ )(1079‬الية ‪ 28‬من سورة المؤمنون‪.‬‬
‫‪ )(1080‬الية ‪ 13‬من سورة الزخرف‪.‬‬
‫‪ )(1081‬الية ‪ 44‬من سورة هود‪.‬‬
‫‪ )(1082‬الحسن يقول‪ :‬معنى استوى ‪ :‬ارتفع‪.‬‬
‫‪ )(1083‬إلى هنا ينتهي كلم الطلمنكي‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫وق يل‪ :‬ا ستولى‪ ،‬وق يل‪ :‬ملك‪ ،‬واختار هو (‪ )1084‬ما حكاه عن الفراء وجما عة أن معناه‪ :‬أق بل على‬
‫ي ُدخَا نٌ } (‪1085‬أي‪:‬‬
‫سمَاء وَهِ َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫خلق العرش‪ ،‬وع مد إلى خل قه‪ ،‬قال‪ :‬ويدل عل يه قوله‪ { :‬ثُمّ ا ْ‬
‫عمد إلى خلق السماء‪.‬‬
‫وهذا مهن أضعهف الوجوه(‪ ،)1086‬فإنهه قهد أخهبر أن العرش كان على الماء قبهل خلق السهماوات‪،‬‬
‫والرض‪ ،‬وكما مر في حديث عمران‪ " :‬كان ال‪ ،‬ولم يكن شيء قبله‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪ ،‬وكتب‬
‫في الذكر كل شيء‪ ،‬ثم خلق السماوات والرض "‪.‬‬
‫فإذا كان العرش مخلوقا‪ ،‬ق بل خلق ال سماوات والرض‪ ،‬فك يف يكون مع نى ا ستوائه عل يه‪ ،‬ب عد‬
‫خلق ال سماوات والرض‪ ،‬هو عمده إلى خل قه‪ ،‬مع أ نه ل يعرف في الل غة "ا ستوى" بمع نى‪ :‬ع مد إلى‬
‫فعل كذا‪ ،‬ل حقيقة‪ ،‬ول مجازا‪ ،‬ل في النثر‪ ،‬ول في النظم‪.‬‬
‫ن}‬
‫ي ُدخَا ٌ‬
‫سمَاء وَهِ َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫و من قال‪ :‬ا ستوى‪ ،‬بمع نى ع مد‪ ،‬ذكره في قوله تعالى‪ { :‬ثُمّ ا ْ‬
‫(‪)1087‬؛ لنهه عدى بحرف الغايهة‪ ،‬كمها يقال‪ :‬عمدت إلى كذا‪ ،‬وقصهدت إلى كذا‪ ،‬ول يقال‪ :‬عمدت على‬
‫كذا‪ ،‬ول قصدت عليه‪ ،‬مع أن هذا أيضا غير معروف في اللغة‪ ،‬ول هو قول أحد من مفسري السلف‪،‬‬
‫بل المفسرون من السلف بخلف ذلك‪.‬‬
‫و إنما هذا القول وأمثاله ابتدع في السلم‪ ،‬لما ظهر إنكار أفعال الرب ‪-‬تعالى‪ -‬التي تقوم به‪،‬‬
‫ويفعلها بقدرته‪ ،‬ومشيئته‪ ،‬واختياره‪ ،‬فصار كل يفسر القرآن على ما يوافق قوله‪ ،‬واعتقاده‪.‬‬
‫ص ‪364‬‬
‫و أما السلف فأقوالهم في هذا الباب متفقة‪ ،‬وإن اختلفت عباراتهم‪ ،‬فمقصودهم واحد‪ ،‬وهو إثبات‬
‫علو ال واستوائه على عرشه‪.‬‬
‫فإن قيهل‪ :‬إذا كان ال ل يزال عاليا على المخلوقات‪ ،‬فكيهف يقال‪ :‬ثهم ارتفهع إلى السهماء وههي‬
‫دخان؟ أو يقال‪ :‬ثم عل على العرش؟‬
‫فالجواب‪ :‬أن هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد‪ ،‬وروي‪ " :‬ثم يعرج" وكما أخبر‬
‫أنه يجيء لفصل القضاء بين عباده‪ ،‬وهو سبحانه لم يزل فوق‪ ،‬فإن صعوده من جنس نزوله ومجيئه‪،‬‬
‫وهو –تعالى‪ -‬في نزوله ومجيئه‪ ،‬ل يصير شيء من المخلوقات فوقه‪ ،‬فهو سبحانه يصعد‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫منها شيء فوقه‪.‬‬

‫‪ )(1084‬يعني الثعلبي ‪ ،‬وهذه القوال منقولة من تفسيره ‪ ،‬وهو يجمع فيه بين المتناقضات ‪ ،‬وليس لديه تميز‬
‫لمذهب السلف ‪.‬‬
‫‪ )(1085‬الية ‪ 11‬من سورة حم فصلت ‪.‬‬
‫‪ )(1086‬بل هو باطل مخالف للنصوص الواضحة ‪ ،‬وقد تقدم بيان بطلنه ‪ .‬وهذا الذي اختاره الثعلبي هو‬
‫قول الجهمية والمعتزلة ‪ ،‬ومن تبعهم من الشعرية وغيرهم من أهل البدع‪.‬‬
‫‪ )(1087‬الية ‪ 11‬من سورة حم فصلت ‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والرض في ستة أيام‪ ،‬فقبل‬
‫ذلك‪ :‬هل كان على العرش‪ ،‬أو لم يكن؟‬
‫ق يل‪ :‬ال ستواء علو خاص‪ ،‬ف كل م ست ٍو على ش يء عال عل يه‪ ،‬ول يس كل عال على ش يء م ستو‬
‫عليه‪ ،‬ولهذا ل يقال لكل ما كان عاليا على غيره‪ :‬إنه مستو عليه‪ ،‬ولكن كل ما قيل‪ :‬إنه استوى على‬
‫ل عليه‪.‬‬
‫كذا‪ ،‬فهو عا ٍ‬
‫والذي أ خبر ال ‪-‬تعالى‪ -‬أ نه كان – خلق ال سماوات والرض – ال ستواء‪ ،‬ل مطلق العلو‪ ،‬مع‬
‫أنه يجوز أنه كان مستويا عليه قبل خلق السماوات والرض‪ ،‬لما كان عرشه على الماء‪ ،‬ثم لما خلق‬
‫هذا العالم كان عاليا على العرش‪ ،‬ولم ي كن م ستويا عل يه‪ ،‬ثم ا ستوى عل يه ب عد ذلك‪ .1088‬وال صل أن‬
‫علوه على المخلوقات‪ ،‬وصف لزم له‪ ،‬كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك‪ ،‬وأما الستواء فهو فعل‬
‫يفعله سبحانه بمشيئته وقدرته‪ ،‬ولهذا قال فيه‪ :‬ثم استوى"(‪.)1089‬‬
‫وقال ابن عبد البر‪ " :‬وأما ادعاؤهم المجاز في الستواء‪ ،‬وقولهم في تأويل استوى‪ :‬استولى‪ .‬فل‬
‫معنى له؛ لنه غير ظاهر في اللغة‪ ،‬ومعنى الستيلء في اللغة‪ :‬المغالبة‪ ،‬وال ل يغالبه ول يعلوه أحد‪،‬‬
‫وهو الواحد الصمد‪.‬‬
‫ص ‪365‬‬
‫و من حق الكلم أن يح مل على حقيق ته‪ ،‬ح تى تت فق ال مة أ نه أر يد به المجاز‪ ،‬إذ ل سبيل إلى‬
‫اتباع ما أنزل إلينا من رب نا‪ ،‬إل على ذلك‪ ،‬وإنما يوجه كلم ال – عز وجل – إلى الشهر والظهر‬
‫من وجوهه‪ ،‬ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم‪.‬‬
‫ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع‪ ،‬ما ثبت شيء من العبارات‪ ،‬وجل ال عن أن يخاطب إل بما‬
‫تفهمه العرب في معهود مخاطباتها‪ ،‬وهو العلو والرتفاع على الشيء‪ ،‬والستقرار والتمكن فيه "(‪.)1090‬‬
‫وقد تقدم ذكر بعض ما قاله السلف والئمة في ذلك‪ ،‬في أول الباب‪ ،‬والجواب عما اعتمده أهل‬
‫التأويل‪.‬‬

‫‪ )(1088‬أو يقال ‪ :‬إن الستواء بعد خلق السماوات و الرض ‪ ،‬استواء خاص غير الذي قبل ذلك ‪.‬‬
‫‪" )(1089‬مجموع الفتاوى" (‪ )523-5/519‬ببعض التصرف‪.‬‬
‫‪" )(1090‬التمهيد" (‪.)7/131‬‬

‫‪283‬‬
‫ص ‪366‬‬
‫‪-55‬قال‪ " :‬حدثنا محمد بن يوسف‪ ،‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن عمرو بن يحيى‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي سعيد‬
‫الخدري – رضي ال عنه – عن النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال النبي‪ " :‬يصعقون يوم القيامة فإذا‬
‫أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش"‪.‬‬
‫‪ "-56‬وقال الماحشون‪ :‬عن عبد ال بن الفضل‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي‪-‬‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬فأكون أول من بعث‪ ،‬فإذا موسى آخذ بالعرش"‪.‬‬
‫"الصعق‪ :‬غشي يلحق من سمع صوتا شديدا أو يرى شيئا هائلً مفزعا"(‪.)1091‬‬
‫وفي ال بي‪ " :‬ال صعق‪ ،‬وال صعقة‪ ،‬وال صاعقة‪ ،‬والهلك‪ ،‬والموت‪ ،‬وق يل‪ :‬كل عذاب مهلك‪ ،‬و هو‬
‫أيضا‪ :‬الغشية تعتري من فزع لسماع صوت {مفزع‪ ،‬أو رأى مهولً} (‪ ")1092‬وقد اختلف في هذا الصعق‬
‫المذكور في هذا الحديث‪ :‬أهو نفخة الصور للبعث‪ ،‬أو غيرها؟‬
‫فقيل‪ :‬أنها نفخة البعث؛ لن النفخة الولى‪ ،‬ل يحس بها الموات‪ ،‬وإنما هي لموت من كان حيا‪،‬‬
‫وإنهاء الدنيا‪ ،‬وابتداء الخرة‪.‬‬
‫ول كن يش كل على هذا قوله – صلى ال عل يه و سلم‪ " :-‬فأكون أول من يف يق‪ ،‬فإذا مو سى آ خذ‬
‫بقائمة من قوائم العرش‪ ،‬فل أدري أفاق قبلي‪ ،‬أو حوزي بصعقة الطور" ومعلوم أن موسى عليه السلم‬
‫قهد مات‪ ،‬فل يجوز أن يكون المعنهى‪ " :‬فل أدري‪ :‬ههل موسهى مات‪ ،‬أم جوزي عهن الموت بصهعقة‬
‫الطور"‪.‬‬
‫وقد اختلف في النفخ في الصور‪ :‬هل هو مرتان أو ثلث؟‬
‫(‪)1093‬‬
‫قال المام ابن جرير – رحمه ال – في قوله تعالى‪{ :‬وله الملك يوم ينفخ في الصور}‬
‫اختلف في الصور في هذا الموضع‪.‬‬
‫ص ‪367‬‬
‫فقال بعضهم‪ :‬هو قرن ينفخ فيه نفختان‪ ،‬إحداهما لفناء من كان حيا على الرض‪ ،‬والثانية لنشر‬
‫كل ميت‪ ،‬واعتلوا لقولهم ذلك‪ ،‬بقوله‪{ :‬ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الرض إل‬
‫(‪)1094‬‬
‫من شاء ال ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}‬
‫وقال على قوله تعالى‪{ :‬فإذا نفخ في الصور فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون} (‪.)1095‬‬
‫اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله‪{ :‬فإذا نفخ في الصور} من النفختين‪ ،‬أيهما عنى بها؟ فقال‬
‫بعضهم‪ :‬عنى بها النفخة الولى‪.‬‬

‫‪" )(1091‬الفتح" (‪.)6/444‬‬


‫‪ " )(1092‬شرح البي على مسلم" (‪.)6/167‬‬
‫‪ )(1093‬الية ‪ 73‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪ )(1094‬الية ‪ 68‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫‪" )(1095‬تفسير الطبري" (‪ )11/462‬بتحقيق محمود شاكر‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫ثم ذكر عن ابن عباس‪ :‬قال‪ :‬فذلك في النفخة الولى‪ ،‬فل يبقى على الرض شيء‪ .‬وروي ذلك‬
‫أيضا عن السدي‪.‬‬
‫(‪)1096‬‬
‫ثم ذ كر القول الثا ني‪ :‬أن المراد بذلك النف خة الثان ية‪ ،‬وروي ذلك عن ا بن م سعود وغيره"‬
‫وهذا الذي ذكره الطبري – رحمه ال – يدل على أن النفخ في الصور مرتين‪ ،‬الولى لموت من كان‬
‫حيا على وجه الرض‪ ،‬والثانية لبعث الموتى‪ .‬وعليه يكون الشكال في الحديث ظاهرا‪ ،‬وسيأتي ذكر‬
‫ألفاظ الحديث في "البخاري" و"مسلم"‪.‬‬
‫وقد أجاب القرطبي عن الشكال بقوله‪ " :‬المعنى‪ :‬فل أدري‪ :‬أبعثه ال قبلي؟ تفضيلً له‪ ،‬من هذا‬
‫الوجه‪ ،‬كما فضل بالدنيا بالتكليم‪ ،‬أو كان جزاء له بصعقة الطور قدم بعثه على بعث النبياء‪ ،‬الخرين‪،‬‬
‫بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل؟ "‬
‫(‪)1097‬‬

‫ص ‪368‬‬
‫فعهي هذا يكون المعنهى فهي قوله‪ " :‬أو جوزي بصهعقة الطور" أي قدم بعثهه عليّ جزاء له بمها‬
‫حصل من صعقته في الطور‪ ،‬وهذا غير صحيح؛ لمور عدة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن الحديث على هذا يصبح فيه تكرار ل معنى له‪ ،‬إذ ل يكون المعنى على قول القرطبي‪:‬‬
‫" فل أدري أبعث قبلي؟ أو جوزي ببعثه قبلي بصعقة الطور"‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ظاهر الحديث يرد هذا؛ لن قوله‪ " :‬فل أدري أبعث قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟‬
‫" ظاهره‪ :‬فل أدري أ صعق فب عث قبلي؟ أم أ نه لم ي صعق‪ ،‬وإن ما جوزي عن ال صعق ب صعقة الطور؟‬
‫ولهذا لم يقتنع القرطبي بهذا الجواب‪ ،‬فذكر جوابا آخر – سيأتي‪ -‬ثم قال‪:‬‬
‫وقال شيخنا أحمد بن عمر‪ :‬وظاهر حديث النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يدل على أن ذلك إنما‬
‫هو بعد النفخة الثانية‪ ،‬نفخة البعث‪ ،‬ونص القرآن يقتضي أن ذلك الستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق‪،‬‬
‫ولهذا قال ب عض العلماء‪ :‬يحت مل أن يكون مو سى – عل يه ال سلم – م من لم ي مت من ال نبياء‪ ،‬وهذا‬
‫باطل بما صح من النصوص بذكر موته‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقال القاضهي عياض‪ :‬يحتمهل أن يكون المراد بهذه صهعقة فزع‪ ،‬بعهد النشهر‪ ،‬حيهن تنشهق‬
‫السماوات والرض‪ ،‬قال‪ :‬فتستقل الحاديث واليات‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬قال شيخنا أبو العباس‪ :‬وهذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه السلم حين يخرج من‬
‫قبره يلقى موسى‪ ،‬وهو متعلق بالعرش‪ ،‬وهذا عند نفخة البعث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وسيأتي ما يوضح ذلك في روايات الحديث التي أذكرها‪ - ،‬إن شاء ال ‪.-‬‬

‫‪" )(1096‬تفسير الطبري" (‪ )18/54‬ط الحلبي‪.‬‬


‫‪ )(1097‬التذكرة (‪ ، )1/208‬وهو أخذ هذا عن الحليمي كما في المنهاج ‪ ،‬انظر ‪ :‬الورقة ‪ 214‬من‬
‫المخطوطة‪ ،‬وانظر المطبوع (‪.)1/432‬‬

‫‪285‬‬
‫ثم قال‪ " :‬قال شيخنا أحمد بن عمر‪ :‬والذي يزيح هذا الشكال – إن شاء ال تعالى – أن الموت‬
‫ليس بعدم محض‪ ،‬وإنما هو انتقال من حال إلى حال‪ ،‬ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم‪ ،‬أحياء عند‬
‫ربهم يرزقون‪ ،‬فرحين‪ ،‬مستبشرين‪ ،‬وهذه صفة الحياء في الدنيا‪.‬‬
‫و إذا كان هذا في الشهداء‪ ،‬كان النبياء بذلك أحق‪ ،‬وأولى‪ ،‬فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق‪،‬‬
‫صعق كل من في السماوات والرض‪ ،‬إل من شاء ال‪ ،‬فأما‬
‫ص ‪369‬‬
‫صعق غير النبياء فموت‪ ،‬وأما صعق ال نبياء فالظ هر أ نه غش ية‪ ،‬فإذا ن فخ في ال صور نف خة‬
‫البعث‪ ،‬فمن مات حيي‪ ،‬ومن غشي عليه أفاق"(‪.)1098‬‬
‫قلت‪ :‬وحا صل هذا الجواب‪ :‬أن ال صعقة المذكورة في الحد يث هي الولى‪ ،‬وأن ال صعق يكون‬
‫للرواح‪ ،‬كل ذلك با طل؛ ل نه سيأتي أن الحد يث ي نص على أن ها نف خة الب عث‪ ،‬ومعلوم أن الرواح ل‬
‫تموت‪ ،‬فك يف يكون صعق غ ير ال نبياء موت مع أ نه ز عم أن ال صعق للرواح‪ ،‬و كل ذلك يفت قر إلى‬
‫دليل‪ ،‬والدلة خلفه‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن القيم‪ " :‬وحمل الحديث على هذا ل يصح‪ ،‬لنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬تردد‪ :‬هل‬
‫أفاق موسى قبله‪ ،‬أو لم يصعق‪ ،‬بل جوزي بصعقة الطور؟‬
‫فالمعنى‪ :‬ل أدري‪ :‬أصعق أم لم يصعق؟‬
‫وقد قال في الحديث‪ " :‬فأكون أول من يفيق"‪ ،‬وهذا يدل على أنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يصعق‬
‫فيمن يصعق‪ ،‬وأن التردد حصل في موسى‪ ،‬هل صعق وأفاق قبله من صعقته‪ ،‬أو لم يصعق؟‬
‫ولو كان المراد به‪ :‬الصعقة الولى‪ ،‬وهي صعقة الموت‪ ،‬لكان – صلى ال عليه وسلم‪ -‬قد جزم‬
‫بموتهه‪ ،‬وتردده‪ :‬ههل مات موسهى‪ ،‬أو لم يمهت‪ ،‬وهذا باطهل؛ لوجوه كثيرة‪ ،‬فعلم أنهها صهعقة فزع‪ ،‬ل‬
‫صعقة موت‪ ،‬والية ل تدل على أن الرواح كلها تموت‪ ،‬عند النفخة الولى‪ ،‬وإنما تدل على أن من لم‬
‫يذق الموت قبلها يموت‪ ،‬وأما من مات‪ ،‬أو من لم يكتب عليه الموت‪ ،‬فل يموت "(‪.)1099‬‬
‫وقال السفاريني‪ " :‬وصعق الرواح عند النفخ في الصور‪ ،‬ل يلزم منه موتها‪ .‬ففي "الصحيحين"‪:‬‬
‫" أن الناس يصعقون يوم القيامة‪ ،‬فأكون أول من يفيق‪ ،‬فإذا موسى آخذ بقائمة العرش‪ ،‬فل أدري أفاق‬
‫قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟ "‪.‬‬
‫فهذا صهعق فهي موقهف القيامهة‪ ،‬إذا جاء ال لفصهل القضاء‪ ،‬وأشرقهت الرض بنوره‪ ،‬فحينئذ‪،‬‬
‫يصعق الخلئق كلهم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فذرهم حتى يلقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (‪.)1100‬‬
‫ص ‪370‬‬

‫‪" )(1098‬التذكرة" (‪.)209-1/208‬‬


‫‪" )(1099‬الروح" (ص ‪.)36‬‬
‫‪ )(1100‬الية ‪ 45‬من سورة الطور ‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫(‪)1101‬‬
‫ولو كان هذا الصعق موتا‪ ،‬لكانت موتة أخرى "‬
‫ثم ذكر كلم ابن القيم السابق‪ ،‬وقال ابن القيم بعد ما قرر أن هذا الصعق المذكور‪ ،‬إنما هو في‬
‫الموقف‪ ،‬إذا جاء رب العالمين – جل وعل – لفصل القضاء بين عباده‪.‬‬
‫قال‪ " :‬فإن قيل‪ :‬فكيف تصنعون بقوله في الحديث‪ " :‬إن الناس يصعقون يوم القيامة‪ ،‬فأكون أول‬
‫من تنشق عنه الرض‪ ،‬فأجد موسى باطشا بقائمة العرش"؟ قيل‪ :‬ل ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا‪،‬‬
‫وم نه نشأ الشكال‪ ،‬ولك نه د خل ف يه على الراوي‪ ،‬حد يث في حد يث‪ ،‬فركب ب ين اللفظ ين‪ ،‬فجاء هكذا‪،‬‬
‫والحديثان هكذا أحدهما‪:‬‬
‫" أن الناس يصعقون يوم القيامة‪ ،‬فأكون أول من يفيق"‪.‬‬
‫والثا ني‪ " :‬أ نا أول من تن شق ع نه الرض‪ ،‬يوم القيا مة "‪ ،‬فد خل على الراوي هذا الحد يث في‬
‫الحديث الخر‪ ،‬وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يقول ذلك "(‪.)1102‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا احتمال بعيد جدا‪ ،‬ويحتاج إلى دليل‪ ،‬ول وجود له‪ ،‬إذ ل يجوز تخطئة الراوي بمجرد‬
‫إشكال يعرض للنسان في لفظ الحديث‪ ،‬فما قال ابن القيم – رحمه ال – هنا غير صحيح‪ ،‬وسيتبين‬
‫ذلك عند ذكر روايات الحديث‪.‬‬
‫فلفهظ حديهث أبهي سهعيد فهي "البخاري"‪ " :‬ل تخيروا النهبياء‪ ،‬فإن الناس يصهعقون يوم القيامهة‪،‬‬
‫فأكون أول من تنشق عنه الرض‪ ،‬فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش‪ ،‬فل أدري‪ :‬أكان فيمن‬
‫صعق؟ أم حوسب بصعقته الولى " (‪ )1103‬ثم رواه في أماكن متعددة من "صحيحه" بألفاظ متقاربة‪ ،‬ليس‬
‫فيها‪ " :‬فأكون أول من تنشق عنه الرض" إل في هذا الموضع‪.‬‬
‫ولكن في رواية أبي هريرة‪ :‬أنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬ل تفضلوا بين أولياء ال‪ ،‬فإنه‬
‫ينفخ في الصور‪ ،‬فيصعق من في السماوات‪ ،‬ومن في الرض‪ ،‬إل من شاء ال‪ ،‬ثم‬
‫ص ‪371‬‬
‫ينفخ فيه أخرى‪ ،‬فأكون أول من بعث‪ ،‬فإذا موسى آخذ بالعرش‪ ،‬فل أدري‪ :‬أحوسب بصعقته يوم‬
‫الطور‪ ،‬أم بعث قبلي؟"(‪.)1104‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬وقع في رواية‪ " :‬إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية "‪ ،‬وفي أخرى‪ " :‬إني‬
‫أول من يرفع رأسه بعد النفخة الخيرة"(‪.)1105‬‬

‫‪" )(1101‬لوامع النوار البهية" (‪.)2/38‬‬


‫‪" )(1102‬الروح" (ص ‪.)37‬‬
‫‪ )(1103‬انظر ‪ " :‬البخاري مع الفتح " (‪.)5/70‬‬
‫‪ )(1104‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)6/451‬‬
‫‪" )(1105‬الفتح" (‪.)6/444‬‬

‫‪287‬‬
‫ورواه فهي "التفسهير" بسهند آخهر‪ ،‬مختصهرا‪ ،‬ولفظهه‪ " :‬إنهي أول مهن يرفهع رأسهه‪ ،‬بعهد النفخهة‬
‫ثم ذكره معلقا في‬ ‫(‪)1106‬‬
‫الخيرة‪ ،‬فإذا أنا بموسى‪ ،‬متعلق بالعرش‪ ،‬فل أدري‪ ،‬أكذلك كان‪ ،‬أم بعد النفخة"‬
‫الموضهع نفسهه بلفهظ‪ " :‬فأكون أول مهن بعهث‪ ،‬فإذا موسهى آخهذ بالعرش" ورواه مسهلم‪ ،‬ولفظهه‪ " :‬ل‬
‫تفضلوا بين أنبياء ال‪ ،‬فإنه ين فخ في الصور‪ ،‬فيصعق من في السماوات‪ ،‬ومن في الرض‪ ،‬إل من‬
‫شاء ال – قال‪ -‬ثهم ينفهخ فيهه أخرى‪ ،‬فأكون أول مهن بعهث‪ ،‬أو فهي أول مهن بعهث‪ ،‬فإذا موسهى آخهذ‬
‫بالعرش‪ ،‬فل أدري‪ :‬أحوسب بصعقة يوم الطور‪ ،‬أو بعث قبلي؟"‪.‬‬
‫ثم رواه بسند آخر – وفيه‪ " :‬فإن الناس يصعقون‪ ،‬فأكون أول من يفيق"(‪.)1107‬‬
‫و أما حديث أبي سعيد المتقدم‪ ،‬في ذكر النشقاق‪ ،‬فقد رواه أيضا المام أحمد‪ ،‬فقال‪ :‬حدثنا وكيع‬
‫عن سفيان‪ ،‬عن عمرو بن يح يى‪ ،‬عن أب يه‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪ :‬قال ر سول ال –صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :-‬ل تخيروا بين النبياء‪ ،‬وأنا أول من تنشق عنه الرض يوم القيامة‪ ،‬فأفيق‪ ،‬فأجد موسى‬
‫متعلقا بقائمة من قوائم العرش‪ ،‬فل أدري‪ :‬أجزي بصعقة الطور‪ ،‬أو أفاق قبلي؟"(‪.)1108‬‬
‫وذكر الحافظ أن في رواية محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة – عند ابن مردويه‪" :-‬أنا أول من‬
‫تنشق عنه الرض يوم القيامة‪ ،‬فأنفض التراب عن رأسي‪ ،‬فآتي قائمة‬
‫ص ‪372‬‬
‫العرش فأجد موسى قائما عندها‪ ،‬فل أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي‪ ،‬أو كان ممن استثنى‬
‫ال"(‪.)1109‬‬
‫فهذه الرواية تدل على أن الصعق المذكور هو النفخة الثانية في الصور‪ ،‬فإن قوله في رواية أبي‬
‫هريرة‪ " :‬فإنه ينفخ في الصور‪ ،‬فيصعق من في السماوات ومن في الرض إل من شاء ال‪ ،‬ثم ينفخ‬
‫فيه أخرى‪ ،‬فأكون أول من يفيق‪ ،‬فإذا موسى آخذ بالعرش" وفي الرواية الخرى‪ " :‬إني أول من يرفع‬
‫رأسه بعد النفخة الخرة‪ ،‬فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش"‪ ،‬وفي أخرى‪ " :‬إني أول من يرفع رأسه بعد‬
‫النفخة الثانية "‪.‬‬
‫وفي رواية مسلم‪ " :‬ثم ينفخ فيه أخرى‪ ،‬فأكون أول من بعث"‪.‬‬
‫فهذا وا ضح و صريح في أن المق صود‪ :‬الب عث من الموت الحا صل بن فخ ال صور النف خة الثان ية‪،‬‬
‫وبه ي تبين أن ما قاله القرطبي وغيره مما سبق ذكره‪ ،‬وكذا ما ذهب إليه ا بن الق يم‪ ،‬كله غير صحيح‬
‫ك ما سبق‪ ،‬وكذا قول الحلي مي في "المنهاج"‪" :‬أن ظا هر الحد يث أن هذه صعقة غ شي يوم القيا مة‪ ،‬ل‬
‫مردود بما صرحت به الروايات المذكورة‪.‬‬ ‫(‪)1110‬‬
‫صعقة الموت‪ ،‬الحادث عن نفخ الصور"‬

‫‪" )(1106‬الفتح" (‪.)8/551‬‬


‫‪" )(1107‬مسلم" (‪ )4/1844‬رقم (‪.)2373‬‬
‫‪" )(1108‬المسند" (‪.)3/33‬‬
‫‪" )(1109‬الفتح" (‪.)6/445‬‬
‫‪ )(1110‬انظر ‪ " :‬المنهاج" المخطوط رقم ‪ ،214‬وانظر ‪ :‬المطبوع (‪ )1/432‬وهو كثير التحريف‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫ال صواب ما ن صت عل يه هذه الروايات من أن مو سى عل يه ال سلم يب عث ق بل نبي نا – صلى ال‬
‫عل يه و سلم‪ ،-‬وأ ما تردده‪ :‬أأ صابه ال صعق فب عث قبله‪ ،‬أو كان م من ا ستثنى ال – تعالى‪ ،-‬أو جوزي‬
‫عن الصعق بصعقة الطور‪ ،‬كل ذلك يقتضي أنه بعث قبله‪.‬‬
‫ولكن يبقى الشكال في أن النفخة التي استثنى ال ‪-‬تعالى‪ -‬منها هي الولى‪ ،‬ومعلوم أن موسى‬
‫عليه السلم قد مات قبلها‪ ،‬فكيف يصح استثناؤه منها؟‬
‫فيقال‪ :‬وكذا نبينا –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وسائر النبياء ل ينالهم ذلك‪ ،‬وإنما ينال من كان حيا‬
‫في ذلك الوقت‪ ،‬ويكون القرب ما قاله الحليمي‪ " :‬أن المعنى‪ :‬إذا نفخ في الصور‬
‫ص ‪373‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ك نت أول من ب عث‪ ،‬فأ جد مو سى مبعوثا قبلي‪ ،‬فل أدري‪ :‬أف ضل بذلك على سائر‬
‫الخلق‪ ،‬أو أن ذلك جزاء له بصعقة الطور؟ "(‪.)1111‬‬
‫وهذا بناء على أن الن فخ في ال صور مرتان‪ ،‬وهو الذي تؤيده الدلة ال صحيحة‪ ،‬ك ما مر في هذه‬
‫الروايات السابقة‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬ثبت في "صحيح مسلم" أنهما نفختان‪ ،‬ولفظه في أثناء حديث مرفوع‪ " :‬ثم ينفخ في‬
‫ال صور‪ ،‬فل ي سمعه أ حد إل أ صغى ليتا‪ ،‬ور فع ليتا‪ ،‬ثم ير سل ال مطرا كأ نه ال طل فتن بت م نه أج ساد‬
‫الناس‪ ،‬ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون"‪.‬‬
‫وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه‪ " :‬بين النفختين أربعون"‪ ،‬وفي ذلك دللة على أنهما نفختان‬
‫فقط‪ ،‬والتغاير في كل منهما باعتبار من يسمعهما‪ ،‬فالولى‪ :‬يموت بها كل من كان حيا‪ ،‬ويغشى على‬
‫من لم يمت ممن استثنى ال تعالى‪ ،‬والثانية‪ :‬يعيش بها من مات‪ ،‬ويفيق بها من غشي عليه"(‪.)1112‬‬
‫وقد ذهب إلى أنها ثلث نفخات بعض العلماء‪ ،‬كالحافظ ابن كثير‪ ،‬وحمل قوله تعالى‪{ :‬ونفخ في‬
‫ال صور ف صعق من في ال سماوات و من في الرض } على أن ها نف خة الفزع‪ ،‬وم من ذ هب إلى ذلك‬
‫القرطبي وابن العربي وغيرهما‪ ،‬وعمدتهم في ذلك حديث الصور‪ ،‬حيث صرح فيه أن النفخات ثلث‪،‬‬
‫ولكنه حديث ضعيف مضطرب‪ ،‬كما بينه الحافظ ابن حجر – رحمه ال – فل يعتمد عليه لذلك‪ ،‬وآية‬
‫الزمر واضحة الدللة في أن النفخ في الصور مرتين‪.‬‬
‫و أما قوله تعالى‪{ :‬ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الرض} فالظاهر أنها‬
‫النفخة الولى‪ ،‬ذكرها بمقدمات ها‪ ،‬ومما يدل على أنها نفختان ف قط‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬يوم ترجف الراجفة (‬
‫‪ )6‬تتبعها الرادفة}‪.‬‬
‫ص ‪374‬‬
‫‪ )(1111‬انظر ‪ " :‬المنهاج" الورقة ‪ ،214‬أو المطبوع (‪ )1/432‬وهذا معنى كلمه وليس لفظه‪.‬‬
‫‪ )(1112‬انظر " فتح الباري" (‪ )370-11/369‬و (‪ ، )6/446‬وانظر ‪ :‬الحديث الذي يشير إليه في "صحيح‬
‫مسلم" (‪ )2259 ،4/2258‬رقم (‪ ، )2940‬و انظر ‪ :‬حديث أبي هريرة في "البخاري مع الفتح" (‪،8/551‬‬
‫‪ ، )689‬وفي "مسلم" (‪ )4/2270‬رقم (‪.)2955‬‬

‫‪289‬‬
‫قوله‪ " :‬فإذا مو سى آ خذ بقائ مة من قوائم العرش " و في روا ية أ بي هريرة‪ " :‬آ خذ بالعرش" أي‪:‬‬
‫أنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬يجد موسى عليه السلم بعد ما بعث‪ ،‬ممسكا بأحد قوائم العرش‪ ،‬والمراد‬
‫بالعرش‪ :‬عرش رب العالمين‪.‬‬
‫ففي هذا فضل لموسى عليه السلم‪ ،‬حيث بعث قبل نبينا –صلى ال عليه وسلم‪ -‬وهذه القبلية إما‬
‫مجرد فضيلة خصه ال بها كما خص بالتكليم‪ ،‬وإما جزاء بالصعقة التي أصابته‪ ،‬يوم سأل ربه الرؤية‬
‫عندما تجلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬للجبل‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ومما تقدم من النصوص التي ذكرها البخاري – رحمه ال – هنا وغيرها‪ ،‬يعلم أن ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫خص العرش من ب ين مخلوقا ته‪ ،‬بأ نه ا ستوى عل يه‪ ،‬وأ نه فوق جم يع المخلوقات‪ ،‬وأ نه له حملة‪ ،‬ويوم‬
‫القيامة‪ ،‬وأنه ‪-‬تعالى‪ -‬تعبد من شاء من ملئكته بأن يحفوا به‪ ،‬ويطوفوا به‪ ،‬وأن حملته ومن حوله من‬
‫الملئكهة يسهبحون ال ‪-‬تعالى‪ -‬وي ستغفرون للمؤمنيهن‪ ،‬وأ نه أول المخلوقات المعلو مة لنها‪ ،‬فقهد أخهبر‬
‫تعالى أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والرض‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬وهو الذي خلق‬
‫السماوات والرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} (‪.)1113‬‬
‫و أنه‪ -‬تعالى – كان ولم يكن شيء قبله‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪ ،‬وكتب في الذكر كل شيء‪ ،‬ثم‬
‫خلق السماوات والرض‪.‬‬
‫و قد تقدم ذ كر حد يث عبدال بن عمرو‪ " :‬إن ال قدر مقاد ير الخلئق‪ ،‬ق بل أن يخلق ال سماوات‬
‫والرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬وكان عرشه على الماء" وهو في "صحيح مسلم"‪.‬‬
‫كما في هذه النصوص‪ ،‬وصف العرش بأنه عظيم‪ ،‬وأنه كريم‪ ،‬وأنه مجيد‪.‬‬
‫وكثيرا ما يمدح ال ‪-‬تعالى‪ -‬نفسه بأنه ذو العرش‪ ،‬كما قال ‪-‬تعالى‪{ :-‬قل لو كان معه آلهة كما‬
‫يقولون إذا لبتغوا إلى ذي العرش سبيلً (‪ )42‬سبحانه وتعالى ع ما يقولون علوا كبيرا (‪ )43‬ت سبح له‬
‫ال سموات ال سبع والرض و من في هن وإن من ش يء إل ي سبح بحمده ل كن ل تفقهون ت سبيحهم إ نه كان‬
‫حليما غفورا} (‪.)1114‬‬
‫ص ‪375‬‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬رفِي عُ الدّ َرجَا تِ ذُو ا ْل َعرْ شِ } (‪ ،)1115‬وقال – جل وعل‪ { :-‬وَهُ َو ا ْلغَفُو ُر الْ َودُودُ‬
‫ْهه‬
‫ّهه ل إِلَههَه ِإلّ ُهوَ عََلي ِ‬
‫َسهبِيَ الل ُ‬
‫ْشه ا ْل َمجِيدُ } (‪ ،)1116‬وقال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬فإِن َتوَلّوْ ْا فَقُلْ ح ْ‬
‫{‪ }14‬ذُو ا ْل َعر ِ‬
‫ش ا ْلعَظِيمِ } (‪ ،)1117‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫ب ا ْلعَرْ ِ‬
‫تَ َوكّلْتُ وَ ُهوَ رَ ّ‬

‫‪ )(1113‬الية ‪ 7‬من سورة هود‪.‬‬


‫‪ )(1114‬اليات ‪42‬و ‪43‬و ‪ 44‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪ )(1115‬الية ‪ 15‬من سورة غافر ‪.‬‬
‫‪ )(1116‬اليتان ‪ 14‬و ‪ 15‬من سورة البروج‪.‬‬
‫‪ )(1117‬الية الخيرة من سورة براءة‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫ك ما جاء في الحد يث ال صحيح ما يدل على أ نه أث قل الوزان‪ ،‬ك ما في قوله – صلى ال عل يه‬
‫و سلم‪ -‬لجوير ية‪ " :‬ل قد قلت بعدك أر بع كلمات‪ ،‬ثلث مرات‪ ،‬لو وز نت ب ما قلت م نذ اليوم لوزنت هن‪:‬‬
‫سبحان ال وبحمده‪ ،‬عدد خلقه‪ ،‬ورضا نفسه‪ ،‬وزنة عرشه‪ ،‬ومداد كلماته"(‪.)1118‬‬
‫ك ما في الن صوص المتقد مة أ نه سقف أعلى الجنان‪ ،‬و هي الفردوس‪ ،‬وأن له قوائم‪ ،‬وغ ير ذلك‬
‫مما بين ته الن صوص التي جاءت بها الر سل‪ ،‬وكل ذلك يدل على أن ال فوق العرش م ستوٍ عليه‪ ،‬وقد‬
‫اتفق على هذا النبياء كلهم‪ ،‬وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي‪ ،‬واتفق عليه سلف المة وأئمتها‬
‫من جميع الطوائف‪ ،‬إل من ضل الحق واتبع غير سبيل المؤمن ين من الجهم ية والمعتزلة والشعر ية‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫ح إَِليْ ِه } (‪ ،)1119‬وقوله – جل ذكره‪{ :-‬من‬
‫قال‪ " :‬باب قول ال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬تعْرُ جُ ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّو ُ‬
‫كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب } (‪.)1120‬‬
‫ح إَِليْ ِه }‪ ،‬أي‪ :‬تصعد‪،‬‬
‫قال الزهري‪ :‬في عرج‪ " :‬قال ال – جل وعز ‪َ { :-‬تعْرُجُ ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّو ُ‬
‫يقال‪ :‬عرج‪ ،‬يعرج‪ ،‬عروجا‪.‬‬
‫ص ‪376‬‬
‫ن اللّ ِه ذِي ا ْل َمعَارِ جِ } (‪ ،)1121‬قال قتادة‪ :‬ذي المعارج‪ :‬ذي الفوا ضل‪،‬‬
‫وقوله – جل و عز ‪ { :-‬مّ َ‬
‫والنعم‪ ،‬وقيل‪ :‬معارج الملئكة‪ ،‬وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها‪ ،‬ذكر ذلك أبو إسحاق‪.‬‬
‫وقال الفراء‪ :‬ذي المعارج‪ ،‬من نعت ال؛ لن الملئكة تعرج إلى ال‪ ،‬فوصف نفسه بذلك(‪.)1122‬‬
‫وقال الل يث‪ :‬عرج يعرج‪ ،‬عروجا‪ ،‬ومعروجا‪ ،‬قال‪ :‬والمعرج‪ :‬الم صعد‪ ،‬والمعرج‪ :‬الطر يق الذي‬
‫تصعد فيه الملئكة‪.‬‬
‫قال‪ :‬والمعراج‪ :‬يقال‪ :‬شبه السلم‪ ،‬أو درجة‪ ،‬تعرج فيه الرواح‪ ،‬إذا قبضت"(‪.)1123‬‬
‫وقال الجوهري‪ " :‬عرج في الدرجة‪ ،‬والسلم‪ ،‬يعرج‪ ،‬عروجا‪ :‬إذا ارتقى‪.‬‬
‫والمعراج‪ :‬السلم‪ ،‬ومنه‪ :‬ليلة المعراج‪ ،‬والجمع‪ :‬معارج‪ ،‬ومعاريج"(‪.)1124‬‬

‫‪" )(1118‬صحيح مسلم" (‪.)4/2090‬‬


‫‪ )(1119‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪ )(1120‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر ‪.‬‬
‫‪ )(1121‬الية ‪ 3‬من سورة المعارج ‪.‬‬
‫‪ )(1122‬انظر ‪ " :‬معاني القرآن " للفراء (‪.)3/184‬‬
‫‪" )(1123‬تهذيب اللغة" (‪.)1/355‬‬
‫‪" )(1124‬الصحاح" (‪..)1/328‬‬

‫‪291‬‬
‫ح إَِليْ هِ } (‪{ ،)1125‬فظلوا‬
‫ج ا ْلمَلئِكَ ُة وَالرّو ُ‬
‫وقال الراغب‪ " :‬العروج‪ :‬ذهاب في صعود‪ ،‬قال‪َ { :‬ت ْعرُ ُ‬
‫فيه يعرجون} (‪ ،)1126‬والمعارج‪ :‬المصاعد‪ ،‬قال‪ { :‬مّ نَ اللّ هِ ذِي ا ْل َمعَارِ جِ } (‪ ،)1127‬وليلة المعراج‪ ،‬سميت‬
‫لصعود الدعاء فيها‪ ،‬إشارة إلى قوله‪{ :‬إليه يصعد الكلم الطيب} (‪.")1128‬‬
‫قوله‪ :‬سميت‪ ،‬لصعود الدعاء فيها‪ ،‬يعني‪ :‬المعارج سميت لذلك‪ ،‬ول يعني ليلة المعراج‪.‬‬
‫ص ‪377‬‬
‫وقال الطهبري‪ ،‬فهي قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ولو فتحنها عليههم بابا مهن السهماء} (‪ " :)1129‬وأمها قوله‪:‬‬
‫{يعرجون}‪ ،‬فإن معناه‪ :‬يرقون فيه‪ ،‬ويصعدون‪ ،‬يقال منه‪ :‬عرج يعرج‪ ،‬عروجا‪ :‬إذا رقي وصعد"(‪.)1130‬‬
‫وقال فهي قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ذي المعارج}‪ :‬يعنهي‪ :‬ذا العلو‪ ،‬والدرجات‪ ،‬والفواضهل والنعهم" – ثهم‬
‫روى ذلك عن ابن عباس‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وروى عن مجاهد‪ ،‬قال‪ :‬معارج السماء‪.‬‬
‫ه }‪ :‬يقول –تعالى ذكره‪ -‬تصهعد‬
‫ه إَِليْه ِ‬
‫ه ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّوح ُ‬
‫ثهم قال‪ " :‬وقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ت ْعرُج ُ‬
‫الملئ كة‪ ،‬والروح – و هو جبر يل – عل يه ال سلم {إل يه} يع ني‪ :‬إلى ال – جل و عز‪ -‬والهاء في قوله‪:‬‬
‫{إليه} عائدة على اسم ال "(‪.)1131‬‬
‫قوله‪{ :‬والروح} هو‪ :‬جبر يل هذا هو الظا هر من سياق ال ية‪ ،‬فيكون من ع طف الخاص على‬
‫العام‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬إليه يصعد الكلم الطيب} قال مجاهد‪ " :‬العمل الصالح يرفع الكلم الطيب"‪.‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬و صله الفريا بي من روا ية ا بن نج يح‪ ،‬وأخرج البيه قي من طر يق علي بن أ بي‬
‫طل حة‪ ،‬عن ا بن عباس‪ " :‬الكلم الط يب‪ :‬ذ كر ال‪ ،‬والعمل ال صالح‪ :‬أداء فرائض ال ف من ذ كر ال‪ ،‬ولم‬
‫(‪)1133‬‬
‫ورواه ابن جرير‪.‬‬ ‫يؤد فراضه‪ ،‬رد كلمه"‬
‫(‪)1132‬‬

‫قلت‪ :‬أثهر مجاههد‪ ،‬رواه ابهن جريهر فهي "تفسهيره"‪ ،‬ولفظهه‪ " :‬الكلم الطيهب‪ :‬ذكهر ال‪ ،‬والعمهل‬
‫الصالح‪ :‬أداء فرائضه‪ ،‬فمن ذكر ال في أداء فرائضه‪ ،‬حمل عليه ذكر‬
‫ص ‪378‬‬
‫ال‪ ،‬فصعد به إلى ال‪ ،‬ومن ذكر ال ولم يؤد فرائضه‪ ،‬رد كلمه على عمله‪ ،‬فكان أولى به "‪.‬‬

‫‪ )(1125‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج ‪.‬‬


‫‪ )(1126‬الية ‪ 14‬من سورة الحجر‪.‬‬
‫‪ )(1127‬الية ‪ 3‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪" )(1128‬المفردات" (ص ‪.)329‬‬
‫‪ )(1129‬الية ‪ 14‬من سورة الحجر ‪.‬‬
‫‪" )(1130‬تفسير الطبري" (‪ )14/11‬ط‪ .‬الحلبي‪.‬‬
‫‪" )(1131‬تفسير الطبري" (‪.)29/70‬‬
‫‪" )(1132‬الفتح" (‪.)13/416‬‬
‫‪" )(1133‬تفسير الطبري" (‪ )22/121‬ط‪ .‬الحلبي ‪ ،‬وانظر ‪ " :‬السماء والصفات" (ص ‪.)426‬‬

‫‪292‬‬
‫وقال ابن جرير‪{ :‬إليه يصعد الكلم الطيب} يقول –تعالى ذكره ‪ :-‬إلى ال يصعد ذكر العبد إياه‬
‫(‪)1134‬‬
‫وثناؤه‪ ،‬وأداء فرائضه‪ ،‬والنتهاء إلى ما أمر به "‬
‫ثهم روى عهن ابهن مسهعود أنهه قال‪ " :‬إذا حدثناكهم بحديهث‪ ،‬أتيناكهم بتصهديق ذلك مهن كتاب ال‬
‫‪-‬تعالى‪ ،-‬إن العبد المسلم‪ ،‬إذا قال‪ :‬سبحان ال وبحمده‪ ،‬الحمد ل‪ ،‬ل إله إل ال وال أكبر‪ ،‬تبارك ال‪،‬‬
‫أخذهن ملك‪ ،‬فجعلهن تحت جناحيه‪ ،‬ثم صعد بهن إلى السماء‪ ،‬فل يمر بهن على جمع من الملئكة‪ ،‬إل‬
‫طيّ بُ وَا ْل َعمَلُ‬
‫صعَدُ ا ْلكَلِ مُ ال ّ‬
‫استغفروا لقائلهن‪ ،‬حتى يجيء بهن وجه الرحمن – ثم قرأ عبد ال‪ { :‬إَِليْ هِ يَ ْ‬
‫الصّالِحُ َيرْ َفعُ ُه } (‪.")1135‬‬
‫ل إل‬
‫ثهم روى قول مجاههد الذي ذكره البخاري‪ ،‬وروى عهن الحسهن‪ ،‬وقتادة‪ " :‬ل يقبهل ال قو ً‬
‫بعمل‪ ،‬من قال وأحسن العمل‪ ،‬قبل ال منه"(‪.)1136‬‬
‫ومقصهود البخاري بهذا الباب‪ :‬ذكهر بعهض الدلة على علو ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬وبيان أن ذلك ثابهت‬
‫بكتاب ال ‪-‬تعالى‪ -‬وسنة رسوله –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وبالعقل‪ ،‬والفطرة‪ ،‬فقد فطر ال تعالى العباد‬
‫على اليمان بذلك‪ ،‬وآمن الصحابة به‪ ،‬واتبعهم عليه كل من سلك طريق الرسل‪.‬‬
‫فاليمان بعلو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وفوقيتهه‪ ،‬فطري عقلي شرعهي‪ ،‬ومهن خالف ذلك فقهد انحرف عهن‬
‫طريق الرسل‪ ،‬وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين‪.‬‬
‫ولبيان أن اليمان بذلك فطري‪ ،‬عقلي‪ ،‬ذكر قول أبي ذر‪ ،‬قبل أن يسلم‪ ،‬أنه قال لخيه‪ " :‬أعلم لي‬
‫علم هذا الرجل‪ ،‬الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء " كما يأتي بيانه‪.‬‬
‫ص ‪379‬‬
‫ومعلوم أن الخبر‪ ،‬ل يأتي إل من مخبر‪ ،‬والمخبر الذي يرسل الرسل بأوامره‪ ،‬ونواهيه‪ ،‬هو ال‬
‫– جل وعل – وهو في السماء‪ ،‬أي في العلو‪ ،‬بائن من خلقه‪.‬‬
‫وهذه الم سألة من كبار م سائل العقيدة ال سلمية‪ ،‬و مع ظهور ها‪ ،‬وكثرة الدلة علي ها وتنوع ها‪،‬‬
‫واتفاق الرسهل والكتهب وأتباع الرسهل عليهها‪ ،‬ضهل فيهها طوائف كثيرة كالجهميهة‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬وأكثهر‬
‫الشعرية‪ ،‬ول يزال على الضلل فيها خلق كثير ممن يتبنى مذهب الشعرية‪ ،‬والماتريدية‪ ،‬معتقدين أن‬
‫ذلك الضلل هو ال حق وأ نه مذ هب أ هل ال سنة‪ ،‬وأن أدلة ك تب ال ووح يه إلى ر سله ظوا هر تدل على‬
‫التشبيه بظاهرها‪ ،‬فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر‪.‬‬
‫ويرى هؤلء من اعت قد ما دل عليه القرآن وال سنة بظاهرهما‪ ،‬أنه مش به ومج سم‪ ،‬مع أن الع قل‬
‫والفطر السالمة من النحراف‪ ،‬يتفقان على ما دل عليه وحي ال ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولهذا ترمي الشعرية كل‬
‫من اعتقد علو ال واستواءه على عرشه على الحقيقة‪ ،‬بالتشبيه‪ ،‬والتجسيم‪ ،‬وأحيانا يصرحون بكفرهم‬

‫‪" 1134‬تفسير الطبري" (‪.)22/120‬‬


‫‪ )(1135‬المرجع السابق ‪.‬‬
‫‪" )(1136‬الطبري" (‪.)22/121‬‬

‫‪293‬‬
‫كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم‪ ،‬ومع هذا ترى كثيرا منهم رافعا عقيرته داعيا إلى التفاق والوئام‪،‬‬
‫وهذا لن يكون أبدا ما دام في الرض معتقد للحق؛ لنه ل اتفاق بين الهدى والضلل‪ ،‬والحق والباطل‪،‬‬
‫وكيف يكون اتفاق مع من يرى أن من اعتقد ما دلت عليه النصوص الصريحة‪ ،‬الواضحة الكثيرة‪ ،‬أنه‬
‫ضال ومشبه؟ كما سيأتي بيانه‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬وقال أبو جمرة‪ :‬عن ابن عباس‪ ،‬لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقال‬
‫لخيه‪ :‬أعلم لي علم هذا الرجل‪ ،‬الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء "‪.‬‬
‫هذا التعليق قد تقدم تاما موصولً‪ ،‬في " المناقب"‪ ،‬وفي "الفضائل"(‪.)1137‬‬
‫ومقصهوده مهن ذلك‪ :‬بيان أن علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬على خلقهه‪ ،‬أمهر مفطور عليهه الخلق‪ ،‬ومعلوم‬
‫بالعقل‪ ،‬والوحي جاء مؤيدا لذلك‪ ،‬وموضحا له‪.‬‬

‫‪ )(1137‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪ )6/549‬و (‪.)7/173‬‬

‫‪294‬‬
‫ص ‪380‬‬
‫‪-57‬قال‪ " :‬حدثنا إسماعيل‪ ،‬حدثني مالك‪ ،‬عن أبي الزناد‪ ،‬عن العرج‪ ،‬عن أبي هريرة‪ -‬رضي‬
‫ال عنه – أن رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬قال‪ " :‬يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل‪ ،‬وملئكة بالنهار‪،‬‬
‫ويجتمعون في صلة العصر‪ ،‬وصلة الفجر‪ ،‬ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم‪ ،‬وهو أعلم بهم‪ ،‬كيف‬
‫تركتم عبادي؟ فيقولون‪ :‬تركناهم وهم يصلون‪ ،‬وأتيناهم وهم يصلون"‪.‬‬
‫"يتعاقبون"‪ :‬التعاقب‪ :‬إتيان فريق‪ ،‬عقب فريق‪ ،‬ثم يعود الول‪ ،‬بعد إتيان الثاني‪.‬‬
‫و إن ما يكون التعا قب ب ين طائفت ين‪ ،‬أو رجل ين‪ ،‬وم نه‪ :‬تعق يب الجيوش‪ ،‬بأن ير سل طائ فة من‬
‫الجيش إلى مدة‪ ،‬ثم يرسل مكانهم طائفة أخرى‪ ،‬ويرجع الولون‪.‬‬
‫والضم ير في قوله "في كم" يعود إلى المخا طبين‪ ،‬و هم ال مة الم ستجيبة للر سول – صلى ال عل يه‬
‫وسلم ‪.-‬‬
‫والظ هر أن هؤلء الملئكهة غ ير الحفظهة‪ ،‬ك ما قاله القر طبي‪ ،‬وأيده الحا فظ‪ ،‬بأنهه لم ين قل أن‬
‫(‪)1138‬‬
‫الحفظة يفارقون العبد‪ ،‬ول أن حفظة الليل‪ ،‬غير حفظة النهار‪ ،‬وبغير ذلك‪.‬‬
‫"ويجتمعون في صلة العصر‪ ،‬وصلة الفجر" أي‪ :‬يجتمع في صلة العصر الهابطون ليبيتوا مع‬
‫العباد‪ ،‬والذين كانوا معهم في النهار‪ ،‬فالفريقان يحضران صلة العصر‪ ،‬وصلة الفجر‪ ،‬فيصعد الذين‬
‫صحبوا العباد بالنهار‪ ،‬ع قب صلة الع صر‪ ،‬ويب قى الذ ين يبيتون مع هم ليلً‪ ،‬ثم ب عد اجتماع الفريق ين‬
‫أيضا في صلة الف جر ي صعد الذ ين باتوا مع العباد‪ ،‬ويب قى الذ ين نزلوا في صلة الف جر من ال سماء‪.‬‬
‫وال ‪-‬تعالى‪ -‬ي سأل كل فر يق عن العباد‪ ،‬ك يف ترك تم عبادي‪ ،‬أي‪ :‬على أي حال تركتمو هم؟‪ -‬و هو‬
‫جهل وعل – أعلم مهن الملئكهة المصهاحبين لههم بههم‪ ،‬ولكهن يسهأل –تعالى‪ -‬الملئكهة عنههم؛ لظهار‬
‫كرامتهم‪ ،‬فضلً منه‪ ،‬وإحسانا إليهم‪ ،‬وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلتين في الجماعة‪.‬‬
‫ص ‪381‬‬
‫قوله‪ " :‬ثم يعرج الذين باتوا فيكم‪ ،‬فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون‪ :‬تركناهم‬
‫يصلون‪ ،‬وأتيناهم‪ ،‬وهم يصلون"‪.‬‬
‫تقدم مع نى العروج‪ ،‬وأ نه‪ :‬ال صعود‪ ،‬والرتفاع‪ ،‬والذهاب إلى العلو‪ ،‬وهذا هو م حل الشا هد من‬
‫الحديث؛ لن السؤال حصل بعد صعودهم‪ ،‬حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم‪ ،‬وال –تعالى‪ -‬فوقهم‪،‬‬
‫وهو –تعالى‪ -‬يخاطبهم بذلك‪ ،‬بدون واسطة‪ ،‬كما هو ظاهر النص‪ ،‬ولو كان ذلك بوحي لم يكن هناك‬
‫فرق بين كونهم في السماء‪ ،‬أو في الرض‪.‬‬
‫ح إَِليْهِ } وكأن البخاري‬
‫ج ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّو ُ‬
‫وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ت ْعرُ ُ‬
‫يشير بذلك إلى تفسيرها‪ ،‬وأن عروج الملئكة المذكور في هذا الحديث‪ ،‬داخل في مدلولها‪.‬‬

‫‪ )(1138‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)35-2/34‬‬

‫‪295‬‬
‫ودل قوله‪ " :‬وههم أعلم بههم" أن المقصهود مهن السهؤال‪ :‬إظهار كرامهة المؤمنيهن مهن بنهي آدم‪،‬‬
‫بطاعتهم لربهم‪ ،‬وعبادتهم إياه‪ ،‬والتنويه بفضلهم عند الملئكة الذين في السماء‪ ،‬والملئكة المسؤولون‬
‫فهموا مهن ال‪-‬تعالى‪ -‬مها أرادوه‪ ،‬ولهذا قالوا فهي الجواب‪ " :‬تركناههم وههم يصهلون‪ ،‬وأتيناههم وههم‬
‫يصلون"‪.‬‬
‫و في هذا دل يل على أن من جلس في م صله‪ ،‬يذ كر ال ويدعوه‪ ،‬أ نه في صلة‪ ،‬لن الملئ كة‬
‫يحضرون الصلة معهم‪ ،‬وبعد الفراغ منها يصعدون‪.‬‬
‫قال الحا فظ‪ " :‬وي ستفاد م نه أن ال صلة أعلى العبادات؛ ل نه عن ها و قع ال سؤال والجواب‪ ،‬وف يه‬
‫الشارة إلى عظهم هاتيهن الصهلتين؛ لكونهمها تجتمهع فيهمها الطائفتان‪ ،‬وفهي غيرهمها طائفهة واحدة‪،‬‬
‫والشارة إلى شرف الوقتيهن المذكوريهن‪ ،‬وقهد ورد أن الرزق يقسهم بعهد صهلة الصهبح‪ ،‬وأن العمال‬
‫ترفع آخر النهار‪ ،‬فمن كان حينئذ في طاعة‪ ،‬بورك في رزقه‪ ،‬وفي عمله‪.‬‬
‫ويترتب عليه حكمة المر بالمحافظة عليهما‪ ،‬والهتمام بهما‪.‬‬
‫وفيه تشريف هذه المة على غيرها‪ ،‬ويستلزم تشريف نبيها على غيره‪.‬‬
‫وفيه الخبار بالغيوب‪ ،‬ويترتب عليه زيادة اليمان‪.‬‬
‫وفيه الخبار بما نحن فيه‪ ،‬من ضبط أحوالنا‪ ،‬حتى نتيقظ‪ ،‬ونتحفظ في الوامر والنواهي‪ ،‬ونفرح‬
‫في هذه الوقات بقدوم رسل ربنا‪ ،‬وسؤال ربنا عنا‪.‬‬
‫ص ‪382‬‬
‫وفيه إعلمنا بحب ملئكة ال لنا‪ ،‬لنزداد فيهم حبا‪ ،‬ونتقرب إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬بذلك‪.‬‬
‫وفيه كلم ال ‪-‬تعالى‪ -‬مع الملئكة‪ ،‬وغير ذلك من الفوائد "(‪.)1139‬‬
‫وفيه كثرة الملئكة‪ ،‬وأن لكل منهم وظائف مكلفون بها‪ ،‬وبيان نصحهم لبني آدم‪ ،‬وحبهم الخير‬
‫لهم‪ ،‬وأن استقرارهم في السماء‪ ،‬وإنما ينزلون إلى الرض حسب أوامر ال لهم‪.‬‬

‫‪" )(1139‬الفتح" (‪.)2/37‬‬

‫‪296‬‬
‫ص ‪383‬‬
‫‪-58‬قال‪ " :‬وقال خالد بن مخلد‪ :‬حدث نا سليمان‪ ،‬حدث ني عبدال بن دينار‪ ،‬عن أ بي صالح‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪" :-‬من تصدق بعدل تمرة‪ ،‬من كسب طيب‪ ،‬ول‬
‫يصعد إلى ال إل الطيب‪ ،‬فإن ال يتقبلها بيمينه‪ ،‬ثم يربيها لصاحبها‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه‪ ،‬حتى تكون‬
‫مثل الجبل "‪.‬‬
‫" الصدقة‪ :‬ما يخرجه النسان من ماله‪ ،‬على وجه القربة‪ ،‬كالزكاة‪ ،‬لكن الصدقة –في الصل –‬
‫تقال للمتطوع به‪ ،‬والزكاة للوا جب‪ ،‬و قد ي سمى الوا جب صدقة إذا تحرى صاحبها ال صدق في فعل ها‬
‫"(‪.)1140‬‬
‫وسميت صدقة‪ ،‬من الصدق؛ لنه تدل على صدق إيمان المتصدق غالبا‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬بعدل تمرة" بفتهح العيهن‪ ،‬قال القاضهي عياض‪ " :‬العدل – بالفتهح – المثهل ومها عادل‬
‫الشيء‪ ،‬وكافأه‪ ،‬من غير جنسه‪ ،‬وبالكسر‪ :‬ما عادله من جنسه وكان نظيره‪ ،‬وقيل‪ :‬الفتح والكسر لغتان‬
‫فيها‪ ،‬وهو قول البصريين"(‪.)1141‬‬
‫والمعنى‪ :‬من تصدق بقدر تمرة‪ ،‬أو بقيمتها‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬من كسب طيب " أي‪ :‬تصدق بمال حلل‪ ،‬جيد‪ ،‬وإن كان قليلً‪.‬‬
‫" ول ي صعد إلى ال إل الط يب" تقدم هذا الحد يث في الزكاة ب سند مت صل غ ير هذا‪ ،‬وف يه "ول‬
‫يقبل ال إل الطيب"(‪.)1142‬‬
‫فالذي يقبله ال ‪-‬تعالى‪ -‬يصعد إليه‪ ،‬فيبارك به لصاحبه‪ ،‬وينميه‪.‬‬
‫وهذه الجملة من الحديث هي المقصود منه هنا‪ ،‬حيث دل على علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وأنه فوق‪ ،‬وما‬
‫قبله ال مهن العمال‪ ،‬فإنهه يصهعد إليهه‪ ،‬وقهد تقدم أن الملئكهة تصهعد إلى ال ‪-‬تعالى‪ -‬وتعرج إليهه‪،‬‬
‫والصعود والعروج سواء في المعنى‪ ،‬كما تقدم في كلم ابن جرير‪.‬‬
‫وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب‪ ،‬التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛‬
‫لوضوح الدللة في ذلك على علو ال –تعالى‪ -‬كما أنه نوع‬
‫ص ‪384‬‬
‫الدلة فهي ذلك كمها تقدم لليضاح‪ ،‬وأدلة علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬كثيرة جدا ومتنوعهة‪ ،‬كمها سهتأتي‬
‫الشارة إلى ذلك‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فإن ال يتقبلها بيمينه‪ ،‬ثم يربيها لصاحبها‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه"‪ ،‬أي‪ :‬أن ال ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫يقبلها من صاحبها‪ ،‬فيأخذها بيده اليمنى‪ ،‬وكلتا يديه يمين‪ ،‬فينميها لصاحبها‪ ،‬ويبارك فيها‪ ،‬ويعتني بها‬

‫‪" )(1140‬المفردات " للراغب (ص ‪.)278‬‬


‫‪" )(1141‬المشارق" (‪.)2/69‬‬
‫‪ )(1142‬انظر ‪ " :‬الفتح" (‪.)3/378‬‬

‫‪297‬‬
‫عنا ية بال غة‪ ،‬ك ما يعت ني أحد نا بأغلى ما لد يه من المال‪ ،‬وأنف سه‪ ،‬و هو ولد الفرس‪ ،‬الذي ي عد لمداف عة‬
‫العداء وقتالهم‪ ،‬وحماية العراض‪ ،‬والنفوس‪ ،‬والموال‪ ،‬حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية‬
‫ال تعالى به – مثل الجبل‪.‬‬
‫وقد تخبط شراح الحديث ممن سلك طريق الشاعرة‪ ،‬في شرح هذه الجملة‪ ،‬وجاؤوا بما ليس له‬
‫وجه‪ ،‬مع أن المتكلم به قد أعطي من الفصاحة والبيان والنصح للسامع‪ ،‬والحرص على وصول الخير‬
‫إل يه‪ ،‬ما ل يس عل يه مز يد‪ ،‬في جب أ خذ كل مه على ظاهره‪ ،‬واليمان به‪ ،‬وإح سان ال ظن به‪ ،‬ف هو –‬
‫صلوات ال و سلمه عل يه – أقدر على إيضاح ما ير يد من هؤلء‪ ،‬ك ما أ نه – صلى ال عل يه و سلم‪-‬‬
‫أعلم بال من هم‪ ،‬فل يس كل مه بحا جة إلى تلك التأويلت الباردة(‪ ،)1143‬والتمحلت المتكل فة‪ ،‬كال تي ذ كر‬
‫ابن حجر – عفا ال عنا وعنه ‪.-‬‬

‫‪ )(1143‬انظر ‪ :‬بعض ما قاله هؤلء المؤولة في "فتح الباري" (‪.)3/280‬‬

‫‪298‬‬
‫ص ‪385‬‬
‫‪-59‬ثم ذكر حديث ابن عباس‪ :‬في دعاء الكرب‪.‬‬
‫وقد تقدم في الباب قبل هذا‪ ،‬وفيه اختلف في سنده ومتنه‪ ،‬كما هي عادته‪.‬‬
‫والمقصهود منهه هنها قول‪ " :‬رب العرش العظيهم" وقوله‪ " :‬رب العرش الكريهم"‪ ،‬وقهد تقدم أن‬
‫العرش هو سقف المخلوقات كلها‪ ،‬وليس فوقه مخلوق‪ ،‬وقد وصفه ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه عظيم‪ ،‬وبأنه كريم‪،‬‬
‫وأضافه ‪-‬تعالى‪ -‬إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والرض‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وقد أخبرنا ‪-‬تعالى‪ -‬بأنه استوى عليه فهو من دلئل علوه ‪-‬تعالى‪ -‬فوق خلقه‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫ص ‪386‬‬
‫‪-60‬قال‪ " :‬حدثنا قبيصة‪ ،‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن أبي نعم – أو أبي نعم‪ ،‬شك قبيصة‬
‫‪ ،-‬عن أبي سعيد‪ ،‬قال‪ :‬بعث إلى النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بذهيبة‪ ،‬فقسمها بين أربعة "‪.‬‬
‫وحدثني إسحاق بن نصر‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق‪ ،‬أخبرنا سفيان‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن أبي نعم‪ ،‬عن‬
‫أ بي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪ " :‬ب عث علي‪ ،‬و هو في الي من‪ ،‬إلى ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬بذهي بة في‬
‫تربت ها‪ ،‬فق سمها ب ين القرع بن حا بس الحنظلي‪ ،‬ثم أ حد ب ني مجا شع‪ ،‬وب ين عيي نة بن بدر الفزاري‪،‬‬
‫وب ين علق مة بن عل ثة العامري‪ ،‬ثم أ حد ب ني كلب‪ ،‬وب ين ز يد الخ يل الطائي‪ ،‬ثم أ حد ب ني نبهان‪،‬‬
‫فتغي ظت قر يش‪ ،‬والن صار‪ ،‬فقالوا‪ :‬يعط يه صناديد أ هل ن جد‪ ،‬ويدع نا –؟ قال‪ " :‬إن ما أتألف هم"‪ ،‬فأق بل‬
‫رجل‪ ،‬غائر العينين‪ ،‬ناتيء الجبين‪ ،‬كث اللحية‪ ،‬مشرف الوجنتين‪ ،‬محلوق الرأس‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ :‬اتق‬
‫ال‪ ،‬فقال النبي –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬فمن يطيع ال إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الرض‪ ،‬ول‬
‫تأمنوني؟" فسأل رجل من القوم قتله – أراه خالد بن الوليد – فمنعه النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬فلما‬
‫ولى‪ ،‬قال النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬إن مهن ضئضهئ هذا قوما يقرؤون القرآن‪ ،‬ل يجاوز‬
‫حناجرهم‪ ،‬يمرقون من السلم مروق السهم من الرمية‪ ،‬يقتلون أهل السلم‪ ،‬ويعدون أهل الوثان لئن‬
‫أدركتهم لقتلنهم قتل عاد "‪.‬‬
‫أرسل النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬علي بن أبي طالب إلى اليمن‪ ،‬يدعو ال ‪-‬تعالى‪ -‬ويقبض‬
‫الزكاة من أصحابها‪ ،‬ويقضي في المنازعات‪ ،‬وكان ذلك قبل حجة الوداع‪ ،‬كما ذكره البخاري في آخر‬
‫المغازي‪ ،‬ثم إن عليا وافى رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بمكة‪ ،‬في حجة الوداع راجعا من اليمن‪،‬‬
‫وكان قد أرسل بذهيبة‪ ،‬تصغير ذهبة‪ ،‬أي قطعة من الذهب‪ ،‬فقسمها رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫بين هؤلء الربعة المذكورين رجاء إسلمهم‪ ،‬وكانوا رؤساء قبائلهم‪ ،‬فإذا أسلموا‪ ،‬أسلم تبعا لهم خلق‬
‫كثير‪ ،‬ولهذا أعطاهم النبي –صلى ال عليه وسلم‪ -‬المال ترغيبا لهم في السلم‪ ،‬وتأليفا لقلوبهم عليه‪،‬‬
‫كما بينه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في جوابه للصحابة‪ ،‬الذين قالوا‪ " :‬يعطيه صناديد أهل نجد‪ ،‬ويدعنا"‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬في تربتها" أي‪ :‬أنها لم تخلص من ترابها‪ ،‬فليست ذهبا خالصا؛ لنها مختلطة بالتراب‪.‬‬
‫ص ‪387‬‬
‫قيل‪ :‬أنها من الخمس‪ ،‬واستبعد ابن حجر أن يكون من أصل الغنيمة‪ ،‬ويمكن أن تكون زكاة‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬فتغي ظت قر يش‪ ،‬والن صار " من الغ يظ‪ ،‬أي غاظ ها ذلك‪ ،‬ح يث لم يعط هم من ها‪ ،‬و في‬
‫رواية‪ " :‬فغضبت" من الغضب‪.‬‬
‫"فقالوا‪ :‬يعطيهه صهناديد أههل نجهد‪ ،‬ويدعنها" الصهناديد‪ :‬جمهع صهنديد‪ ،‬وههو‪ :‬الرئيهس‪ ،‬وفهي‬
‫"القاموس"‪ :‬الصهندد {بفتهح الصهاد‪ ،‬وإسهكان النون‪ ،‬وكسهر الدال الولى } (‪ :)1144‬السهيد‪ ،‬الشجاع‪ ،‬أو‬
‫الحليم‪ ،‬أو الجواد‪ ،‬أو الكريم " اهه‪.‬‬

‫‪ )(1144‬ما بين المعقوفتين من حاشية "القاموس" (‪.)1/309‬‬

‫‪300‬‬
‫قوله‪ " :‬إن ما أتألف هم" أي‪ :‬أعطي هم ليألفوا الد ين‪ ،‬ويجتمعوا على ح به‪ ،‬والرغ بة ف يه‪ ،‬فأرغب هم ف يه‬
‫على طريق الحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم‪ ،‬فيحبوه ويرغبوا فيه‪ ،‬أو لجل ما يتحصلون‬
‫عليه من الدنيا‪ ،‬ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء ال وثوابه في الخرة‪.‬‬
‫والتأليف من اللف‪ ،‬وهو الجتماع واللتئام مع الحب‪.‬‬
‫والمع نى‪ :‬إ ني أعطي هم؛ ليكون ذلك داعيا ل هم إلى حب ال سلم‪ ،‬والرغ بة ف يه والجتماع عل يه‪،‬‬
‫حتى يكونوا من أنصاره‪ ،‬ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم‪ ،‬فيحصل بذلك عز السلم‪ ،‬ونصره‪،‬‬
‫فهذا العطاء مما يحبه ال ويثيب عليه‪ ،‬وهو من النفاق في سبيل ال –تعالى‪ -‬بل من أفضله‪.‬‬
‫ووصفه الرجل المعترض على رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬هي أمور اتفقت فيه‪ ،‬وليست‬
‫هذه الوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬فمن يطيع ال إذا عصيته؟" يعني‪ :‬أنه –صلى ال عليه وسلم‪ -‬هو أحق الناس وأولهم‬
‫بطاعة ال –تعالى‪ -‬وتقواه‪.‬‬
‫وهذا هو الضلل؛ أن يت صور الن سان الطا عة مع صية‪ ،‬فهذا الر جل المعترض ت صور أن ف عل‬
‫رسهول ال –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬معصهية‪ ،‬وأنهه مهن الجور‪ ،‬فنصهب نفسهه آمرا بتقوى ال‪ ،‬فقال‬
‫للرسول –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬اتق ال" مع أن فعل رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬هو تقوى‪،‬‬
‫ومن أعظم الطاعات له‪ ،‬فهو يعطي ال‪ ،‬ولنصر دينه‪ ،‬وهداية عباده‪.‬‬
‫ص ‪388‬‬
‫قوله‪ " :‬فيأمننهي على أههل الرض‪ ،‬ول تأمنونهي" أي يأمننهي ال ‪-‬تعالى‪ -‬على الرسهالة التهي‬
‫أرسلني بها إلى الرض‪ ،‬ول تأمنني أنت أيها المعترض‪ ،‬ومن على شاكلتك ممن ضل طريق الرشد‪،‬‬
‫ل تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع‪ ،‬على وفق أمر ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫والرواية التي ذكرها في "المغازي"‪" :‬فقال‪ :‬أل تأمنوني‪ ،‬وأنا أمين من في السماء‪ ،‬يأتيني خبر‬
‫السماء صباحا ومساءً"(‪.)1145‬‬
‫وهذا اللفظ أظهر‪ ،‬وأوضح في المقصود‪ ،‬من الرواية المذكورة هنا‪.‬‬
‫قال الحافهظ‪ " :‬وبهذا تظههر مناسهبة هذا الحديهث للترجمهة‪ ،‬لكنهه جرى على عادتهه فهي إدخال‬
‫الحديث في الباب‪ ،‬للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب‪ ،‬يشير إليها‪ ،‬ويريد بذلك شحذ‬
‫الذهان‪ ،‬والبعث على كثرة الستحضار"(‪.)1146‬‬
‫قلت‪ :‬ول يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود‪ ،‬الذي هو علو ال ‪-‬تعالى‪-‬؛ لن قوله‪" :‬‬
‫فيأمنني على أهل الرض" يدل على أن المن الذي هو ال –تعالى‪ -‬في السماء‪.‬‬

‫‪ )(1145‬انظر "الفتح" (‪.)8/67‬‬


‫‪" )(1146‬الفتح" (‪.)13/418‬‬

‫‪301‬‬
‫ومع نى قوله‪ " :‬من في ال سماء" أي‪ :‬ال الذي في ال سماء‪ ،‬و" في" ه نا بمع نى "على" ك ما ذ كر‬
‫البيه قي‪ ،‬عن أ بي ب كر‪ ،‬أح مد بن إ سحاق الضب عي‪ " :‬أن العرب قد ت ضع " في" بمو ضع "على" قال ال‬
‫ومعناه‪ :‬على‬ ‫(‪)1148‬‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬فسهيحوا فهي الرض} (‪ ،)1147‬وقال‪{ :‬ولصهلبنكم فهي جذوع النخهل}‬
‫الرض‪ ،‬وعلى جذوع النخل‪.‬‬
‫فكذلك قوله‪ " :‬في السماء" أي‪ :‬على العرش‪ ،‬فوق السماء‪ ،‬كما صحت الخبار عن النبي –صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.)1149(" -‬‬
‫ص ‪389‬‬
‫ض فَِإذَا هِ يَ‬
‫لرْ َ‬
‫سمَاء أَن َيخْ سِفَ ِبكُ مُ ا َ‬
‫وهذا الحد يث م ثل قول ال ‪-‬تعالى‪ { :-‬أََأمِنتُم مّ ن فِي ال ّ‬
‫صبًا ً} (‪.)1150‬‬
‫سمَاء أَن ُي ْرسِلَ عََل ْي ُكمْ حَا ِ‬
‫َتمُورُ {‪َ }16‬أمْ َأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫فإ ما أن تكون " في" بمع نى "على" ك ما تقدم‪ ،‬أو يق صد بال سماء‪ :‬العلو‪ ،‬أي‪ :‬أأمن تم من في العلو‪،‬‬
‫وكلهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬ف سأله ر جل من القوم قتله‪ ،‬أراه خالد بن الول يد‪ ،‬فمن عه ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪" -‬‬
‫أي‪ :‬ا ستأذن الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬في ذلك‪ ،‬و قد تقدم في المنا قب أن ال سائل هو ع مر بن‬
‫(‪)1151‬‬
‫الخطاب‪.‬‬
‫قال الحافظ‪ " :‬ل تنافي بين الروايتين‪ ،‬إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما طلب ذلك"(‪.1152‬‬
‫و قد جاء أن سبب من عه من قتله‪ ،‬خوف أن يقال‪ :‬إن محمدا يق تل أ صحابه‪ ،‬في صير بذلك تنفيرا‬
‫عن الدخول في السلم‪.‬‬
‫قوله‪ " :‬إن مهن ضئضهئ هذا‪ ،‬قوم يقرؤون القرآن‪ ،‬ل يجاوز حناجرههم" قال فهي "النهايهة"‪:‬‬
‫(‪)1153‬‬
‫"الضئضئ‪ :‬الصل‪ ،‬يقال‪ :‬ضئضئ صدق‪ ،‬وضؤضؤ صدق‪ ،‬يريد أن يخرج من نسله وعقبه "‬
‫وفي "اللسان"‪" :‬الضئضئ‪ ،‬والضؤضؤ‪ :‬الصل‪ ،‬والمعدن"(‪.)1154‬‬
‫والمقصود‪ ،‬الخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال‪ ،‬قوم يسلكون مسلكه‪ ،‬يقرأون القرآن‪،‬‬
‫ولكن ل يصل إلى قلوبهم‪ ،‬فهم ل يفهمونه على ما أريد‪ ،‬بل يضعونه في غير موضعه؛ لنهم ضالون‪،‬‬
‫وجاهلون‪ ،‬ولهذا يمرقون مهن السهلم مروق السههم مهن الرميهة‪ ،‬أي‪ :‬يخرجون مهن السهلم بسهرعة‬
‫وسهولة‪ ،‬غير متأثرين به‪ ،‬كأنهم لم يدخلوه‪ ،‬وهذا يدل على أنهم دخلوا في السلم‪ ،‬ولكن لم يتمكن‬

‫‪ )(1147‬الية ‪ 2‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪ )(1148‬الية ‪ 71‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ " )(1149‬السماء والصفات " (ص ‪.)421‬‬
‫‪ )(1150‬اليتان ‪ 16‬و ‪ 17‬من سورة الملك ‪.‬‬
‫‪ )(1151‬انظر ‪" :‬الفتح" (‪.)6/618‬‬
‫‪ )(1152‬المرجع السابق (‪.)6/618‬‬
‫‪" )(1153‬النهاية" (‪.)3/69‬‬
‫‪" )(1154‬لسان العرب" (‪ )2/503‬المرتب‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫ص ‪390‬‬
‫اليمان في قلوبهم‪ ،‬ولم يفهموه على وجهه‪ ،‬ولهذا صار من أوصافهم‪ :‬أنهم يقتلون أهل السلم‪،‬‬
‫ويدعون الكفار عباد الوثان‪ ،‬ومن أجل ذلك قال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬لئن أدركتهم‪ ،‬لقتلنهم قتل‬
‫عاد" أي ل أب قي من هم أحدا‪ ،‬يش ير بذلك إلى قوله ‪-‬تعالى‪ -‬في و صف هلك عاد‪{ :‬ف هل ترى ل هم من‬
‫باقية} (‪)1155‬ولم يرد أنه يقتلهم بالشيء الذي قتلت به عاد بعينه‪.‬‬
‫ويحتمهل أن يكون مهن الضافهة إلى الفاعهل‪ ،‬ويراد بهه‪ " :‬القتهل الشديهد القوي‪ ،‬ويكون فهي ذلك‬
‫إشارة إلى وصفه بالشدة والقوة‪ ،‬ويؤيده أنه وقع في طريق أخرى "قتل ثمود"(‪.)1156‬‬

‫‪ )(1155‬الية ‪ 8‬من سورة الحاقة ‪.‬‬


‫‪ )(1156‬قاله الحافظ في "الفتح" (‪.)6/377‬‬

‫‪303‬‬
‫ص ‪391‬‬
‫‪-61‬ثم ذكر حديث أبي ذر الذي تقدم في الباب قبل هذا فقال‪:‬‬
‫"حدثنا عياش بن الوليد‪ ،‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن إبراهيم التيمي‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي ذر‪،‬‬
‫ستَقَ ّر لّهَا ذَلِ كَ تَ ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ‬
‫جرِي ِلمُ ْ‬
‫شمْ سُ َت ْ‬
‫قال‪ :‬سألت ال نبي – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬عن قوله‪ { :‬وَال ّ‬
‫ا ْلعَلِيمِ }؟ قال‪ " ::‬مستقرها تحت العرش"‪.‬‬
‫قد تقدم شرحه والشاهد منه هنا‪ :‬أن الشمس في ارتفاعها‪،‬وأبعد ما تكون عن الرض التي عليها‬
‫المخا طبين آنذاك‪ ،‬تكون ت حت العرش‪ ،‬فالمخلوقات كل ها تح ته‪ ،‬وال –تعالى‪ -‬فوق العرش‪ ،‬ف هو عالٍ‬
‫على خلقه كلهم وفوقهم‪.‬‬
‫فهي هذا الباب والذي قبله قصهد البخاري – رحمهه ال تعالى – إثبات علو ال‪ ،‬واسهتواءه على‬
‫العرش‪ ،‬كما هو ثابت في نفس المر‪ ،‬وتضافرت عليه أدلة الوحي‪ ،‬والعقول والفطر‪ ،‬وكما هو مذهب‬
‫السلف من الصحابة‪ ،‬وأتباعهم إلى اليوم‪.‬‬
‫والن صوص ال تي ذكر ها البخاري ظاهرة الدللة على ذلك‪ ،‬و هي نزر ي سير جدا من الن صوص‬
‫الكثيرة المتنوعة في ذلك‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز‪ " :‬ومن سمع أحاد يث الر سول –صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬وكلم السلف‪ ،‬وجد‬
‫منه في إثبات الفوقية ما ل ينحصر‪.‬‬
‫ول ر يب أن ال – سبحانه – ل ما خلق الخلق‪ ،‬لم يخلق هم في ذا ته المقد سة‪ ،‬فإ نه ال حد ال صمد‪،‬‬
‫فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته‪.‬‬
‫ولو لم يت صف – سبحانه – بفوق ية الذات‪ ،‬مع أ نه قائم بنف سه‪ ،‬غ ير مخالط للخلق؛ لكان مت صفا‬
‫بضهد ذلك؛ لن القابهل للشيهء ل يخلو منهه أو مهن ضده‪ ،‬وضهد الفوقيهة‪ :‬السهفول‪ ،‬وههو مذموم على‬
‫الطلق‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬ل نسلم أنه قابل للفوقية‪ ،‬حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها‪.‬‬
‫قيل‪ :‬لو لم يكن قابلً للعلو‪ ،‬والفوقية‪ ،‬لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها‪ ،‬فمتى أقررتم أنه موجود قائم‬
‫بنفسهه‪ ،‬ليهس وجوده ذهنيا‪ ،‬بهل وجوده خارج الذهان قطعا‪ ،‬يتعيهن أن يكون متميزا عهن خلقهه‪ ،‬عاليا‬
‫عليهم‪.‬‬
‫وقد علم العقلء كلهم بالضرورة‪ ،‬أن ما كان وجوده خارج الذهان‪ ،‬فهو إما أن يكون داخلً في‬
‫الخلق‪ ،‬أو بائنا منهم خارجا عنهم‪.‬‬
‫ص ‪392‬‬
‫وإنكار ذلك إنكار ل ما هو أجلى وأظ هر من المور البديهيات الضرور ية‪ ،‬بل ر يب‪ ،‬فل ي ستدل‬
‫بدليل على وجوده‪ ،‬إل كان العلم بالمباينة أظهر منه‪ ،‬وأوضح وأبين‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫و إذا كانت صفة العلو والفوقية صفة كمال‪ ،‬ل نقص‪ ،‬ول تستلزم نقصا‪ ،‬ول محذور فيها‪ ،‬ول‬
‫تخالف كتابا‪ ،‬ول سنة‪ ،‬ول إجماعا‪ ،‬فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال‪ ،‬الذي ل تأتي به شريعة‬
‫أصلً‪ ،‬فكيف إذا كان ل يمكن القرار بوجوده ‪-‬تعالى‪ ،-‬وتصديق رسله‪ ،‬واليمان بكتابه‪ ،‬وما جاء به‬
‫رسوله‪ ،‬إل بذلك؟‬
‫فكيهف إذا انضهم إلى ذلك شهادة العقول السهليمة‪ ،‬والفطهر المسهتقيمة‪ ،‬والنصهوص الواردة‪،‬‬
‫المتنو عة فهي الدللة‪ ،‬على علو ال –تعالى‪ -‬على خل قه‪ ،‬وكو نه فوق عباده‪ ،‬التهي تقرب من عشر ين‬
‫نوعا‪:‬‬
‫أحد ها‪ :‬التصريح بالفوق ية‪ ،‬مقرونا بأداة "من" المعي نة للفوق ية بالذات‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬يخَافُو نَ‬
‫َربّهُم مّن فَ ْو ِق ِهمْ } (‪.)1157‬‬
‫(‪)1158‬‬
‫عبَادِ ِه }‬
‫الثاني‪ :‬ذكر الفوقية‪ ،‬مجردة عن الداة‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَهُ َو الْقَا ِهرُ فَ ْوقَ ِ‬
‫الثالث‪ :‬التصريح بالعروج إليه‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬ت ْعرُ جُ ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّو حُ إَِل ْي ِه } (‪ ،)1159‬وقوله –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬فيعرج الذين باتوا فيكم‪ ،‬فيسألهم‪ ،‬وهو أعلم" كما تقدم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬التصريح بالصعود إليه‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إليه يصعد الكلم الطيب} (‪.)1160‬‬
‫الخا مس‪ :‬الت صريح برف عه ‪-‬تعالى‪ -‬ب عض خل قه إل يه‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬بَل ّر َفعَ هُ الّل هُ إَِل ْي هِ }‬
‫(‪ ،)1161‬وقوله‪{ :‬إني متوفيك ورافعك} (‪.)1162‬‬
‫ص ‪393‬‬
‫السهادس‪ :‬التصهريح بالعلو المطلق‪ ،‬الدال على جميهع مراتهب العلوم‪ ،‬ذاتا وقدرا‪ ،‬وشرفا‪ ،‬كقوله‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِي مُ }(‪ ،)1163‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :‬وَهُ َو ا ْلعَِليّ ا ْل َكبِيرُ}(‪ ،)1164‬وقوله ‪-‬تعالى‪ِ { :-‬إنّ هُ‬
‫حكِيمٌ}(‪.)1165‬‬
‫عَِليّ َ‬
‫ّهه ا ْل َعزِيزِ‬
‫ِنه الل ِ‬
‫َابه م َ‬
‫السهابع‪ :‬التصهريح بتنزيهل الكتاب منهه‪ ،‬كقولههه ‪-‬تعالى‪ { :-‬تَنزِيلُ ا ْل ِكت ِ‬
‫ن اللّ ِه ا ْل َعزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } (‪ ،)1167‬وهو كثير‪.‬‬
‫حكِيمِ}(‪ ،)1166‬وقوله‪ { :‬تَنزِيلُ ا ْل ِكتَابِ مِ َ‬
‫ا ْل َ‬

‫‪ )(1157‬الية ‪ 50‬من سورة النحل‪.‬‬


‫‪ )(1158‬الية ‪ 18‬و ‪ 61‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪ )(1159‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪ )(1160‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر‪.‬‬
‫‪ )(1161‬الية ‪ 158‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪ )(1162‬الية ‪ 55‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(1163‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة ‪.‬‬
‫‪ )(1164‬الية ‪ 23‬من سورة سبأ‪.‬‬
‫‪ )(1165‬الية ‪ 51‬من سورة الشورى‪.‬‬
‫‪ )(1166‬الية الولى من سورة الزمر‪.‬‬
‫‪ )(1167‬الية ‪ 2‬من سورة غافر‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫الثامن‪ :‬التصريح باختصاص بعض المخلوقات‪ ،‬بأنها عنده‪ ،‬وأن بعضها أقرب إليه من بعض‪،‬‬
‫كقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إن الذ ين ع ند ر بك } (‪ ،)1168‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وله من في ال سموات والرض و من‬
‫عنده} (‪ ،)1169‬ففرق تعالى بين من عنده عموما‪ ،‬وبين من عنده من الملئكة‪ ،‬وقد تقدم قوله –صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :-‬إن ال لما خلق الخلق كتب كتابا‪ ،‬فهو عنده فوق عرشه"‪.‬‬
‫سفَ ِبكُ مُ‬
‫سمَاء أَن َيخْ ِ‬
‫التاسع‪ :‬التصريح بأنه ‪-‬تعالى‪ -‬في السماء‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫لرْ ضَ َفِإذَا هِ يَ َتمُورُ } (‪ ،)1170‬وتقدم أن ذلك‪ ،‬على وجه ين‪ ،‬إ ما أن تكون " في" بمع نى "على" أو يراد‬
‫اَ‬
‫بالسماء العلو‪ ،‬ل يجوز غير ذلك‪.‬‬
‫العاشهر‪ :‬التصهريح برفهع اليدي إلى ال ‪-‬تعالى‪ :-‬كقوله –صهلى ال عليهه وسهلم‪ " :-‬إن ال‬
‫يستحي من عبده‪ ،‬إذا رفع إليه يديه‪ ،‬أن يردهما صفرا"(‪.)1171‬‬
‫ص ‪394‬‬
‫الحادي عشهر‪ :‬التصهريح بالسهتواء‪ ،‬مقرونا بأداة "على" مخصهوصا بالعرش الذي ههو أعلى‬
‫المخلوقات‪.‬‬
‫الثا ني ع شر‪ :‬الت صريح بنزوله ‪-‬تعالى‪ -‬كل ليلة إلى سماء الدن يا‪ ،‬والنزول المعقول ع ند جم يع‬
‫المم إنما يكون من علو إلى أسفل‪.‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬الشارة الحسية إليه في العلو‪ ،‬كما فعل ذلك رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في‬
‫خطبته في حجة الوداع‪ ،‬حيث قال‪ " :‬إنكم مسئولون عني‪ ،‬فماذا أنتم قائلون؟ قالوا‪ :‬نشهد أنك قد بلغت‪،‬‬
‫وأديت‪ ،‬ونصحت‪ ،‬فرفع إصبعه إلى السماء‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم اشهد"(‪.)1172‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬سؤال الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬بلفظ "أين ال؟" وإخباره عمن قال‪ " :‬ال في‬
‫السماء" بأنه مؤمن(‪.)1173‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬اتفاق الكتب المنزلة من ال والرسل على أن ال فوق عباده عال عليهم‪ ،‬كما قال‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬عهن فرعون‪{ :‬وقال فرعون يها هامان ابهن لي صهرحا لعلي أبلغ السهباب (‪ )36‬أسهباب‬
‫ال سموات فأطلع إلى إله مو سى وإني لظ نه كاذبا} (‪)1174‬؛ لن مو سى عل يه السلم أخبر فرعون أن ال‬
‫في السماء‪ ،‬فقال هذا القول ليموه على السذج أتباع كل ناعق بدون بصيرة‪.‬‬

‫‪ )(1168‬آخر آية من سورة العراف‪.‬‬


‫‪ )(1169‬الية ‪ 19‬من سورة النبياء‪.‬‬
‫‪ )(1170‬الية ‪ 16‬من سورة الملك‪.‬‬
‫‪ )(1171‬أخرجه أبو داود في "السنن" (‪ )2/165‬رقم (‪ ، )1488‬والترمذي في الدعوات (‪ ،)5/217‬وابن‬
‫ماجه في "السنن" (‪ )2/1271‬الحديث رقم (‪.)3865‬‬
‫‪ )(1172‬رواه مسلم في "صحيحه" وغيره ‪ ،‬انظر ‪" :‬مسلم" (‪ )2/890‬الحديث رقم (‪ ، )1218‬وهو حديث‬
‫جابر الطويل في صفة الحج‪.‬‬
‫‪ )(1173‬انظر ‪ " :‬صحيح مسلم" (‪ )1/382‬الحديث رقم (‪.)537‬‬
‫‪ )(1174‬اليتان ‪ 36‬و ‪ 37‬من سورة غافر‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫السهادس عشهر‪ :‬عروج النهبي –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬إليهه ‪-‬تعالى‪ -‬وإخباره أنهه تردد بينهه‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬وبين موسى‪ ،‬يطلب التخفيف من عدد الصلوات"(‪.)1175‬‬
‫وقد غلط أكثر المتكلمين في مسمى السماء‪ ،‬حيث ظنوا أن السماء يقصد به مكان معين محاط‪،‬‬
‫فتوهموا أن من قال‪ :‬إن ال في السماء‪ ،‬أن مكانا يحيط به أو يحويه – تعالى وتقدس‪.-‬‬
‫ص ‪395‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬من توهم أن كون ال في السماء أن السماء تحيط به‪ ،‬أو تحويه‪ ،‬فهو كاذب‬
‫أن نقله عن غيره‪ ،‬وضال إن اعتقده في ربه‪.‬‬
‫وما فهم هذا أحد من النصوص‪ ،‬ولم ينقل عن أحد‪ ،‬ولو سئل سائر المسلمين‪ :‬هل تفهمون من‬
‫قول ال ور سوله‪ :‬إن ال في ال سماء‪ ،‬أن ال سماء تحو يه؟ لبادروا إلى القول‪ :‬بأن هذا ش يء ما خ طر‬
‫بالبال‪.‬‬
‫فمن الضلل أن يجعل ظاهر نصوص الكتاب والسنة في ذلك دالة على الباطل والتشبيه‪.‬‬
‫بل عند الناس قولك‪ :‬إن ال في السماء‪ ،‬وقولك‪ :‬ال فوق العرش‪ ،‬سواء‪ ،‬إذ السماء إنما يراد به‬
‫العلو‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أن ال في العلو‪ ،‬ل في السفل‪.‬‬
‫وقد علم المسلمون أن كرسيه – سبحانه وتعالى – وسع ال سموات‪ ،‬والرض‪ ،‬وأن الكرسي في‬
‫العرش كحلقة ملقاة بأرض فلة‪ ،‬وأن العرش خلق من مخلوقات ال‪ ،‬ل نسبة له إلى عظمة ال تعالى‪.‬‬
‫فكيهف يتوههم بعهد هذا أن خلقا يحصهره أو يحويهه؟ وقهد قال –تعالى‪{ :-‬ولصهلبنكم فهي جذوع‬
‫النخهل} (‪ ،)1176‬وقال –تعالى‪{ :-‬فسهيروا فهي الرض} (‪ ،)1177‬بمعنهى‪ :‬على الرض‪ ،‬وههو كلم عربهي‬
‫حقيقة ل مجازا‪ ،‬وهذا يعلمه من عرف حقائق الحروف"(‪.)1178‬‬
‫وعلو ال ‪-‬تعالى‪ -‬ظاههر جدا‪ ،‬وقهد تقدم أن البخاري – رحمهه ال – أشار بمها ذكره فهي هذا‬
‫الباب‪ ،‬إلى أن علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬وفوقيته ثابت بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والجماع‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطر‪.‬‬
‫أما ثبوته بالكتاب والسنة فواضح‪.‬‬
‫و أ ما الجماع‪ :‬فأشار إل يه بق صة زي نب‪ :‬أن ها كا نت تفت خر على أزواج ال نبي – صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ -‬تقول‪ " :‬زوجكن أهاليكن‪ ،‬وزوجني ال من فوق سبع سماوات" فهذا يدل‬
‫ص ‪396‬‬

‫‪" )(1175‬شرح الطحاوية" بتصرف (ص ‪ )260-256‬الطبعة الثالثة‪.‬‬


‫‪ )(1176‬الية ‪ 71‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1177‬الية ‪ 137‬من سورة آل عمران ‪ ،‬و الية ‪ 36‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪" )(1178‬مجموع الفتاوى" (‪.)5/106‬‬

‫‪307‬‬
‫على الجماع؛ لن ذلك متقرر عند هم‪ ،‬ولم ين كر ذلك أ حد‪ ،‬بل يذ كر في كل منا سبة‪ ،‬و من ذلك‬
‫هذا الذي قالتهه زينهب‪ ،‬فالجماع عليهه ظاههر‪ ،‬والجماع ل يكون على خلف المعقول‪ ،‬ومهن أيمان‬
‫العرب قولهم‪ " :‬ل والذي يراني من فوق سبعة أرقعة"(‪.)1179‬‬
‫و أما الفطرة‪ ،‬فأشار إليها بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لخيه‪ ،‬قبل أن يسلم‪ " :‬أعلم لي علم هذا‬
‫الر جل‪ ،‬الذي يأتيه ال خبر من السماء" أي‪ :‬يأت يه الخبر من ال الذي في ال سماء؛ ل نه يقول للناس‪ :‬أنا‬
‫رسول ال إليكم‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬تبين وجوب إثبات العلو ل ‪-‬تعالى‪ -‬من وجوه‪:‬‬
‫أحدهها‪ :‬أن القرآن‪ ،‬والسهنن المسهتفيضة‪ ،‬المتواترة‪ ،‬وغيهر المتواترة‪ ،‬وكلم السهابقين والتابعيهن‬
‫وأهل القرون الثلثة‪ ،‬مملوء بما فيه إثبات العلو ل‪ ،‬وأنه مستوٍ على عرشه‪ ،‬بأنواع من الدللت‪.‬‬
‫فال ‪-‬تعالى‪ -‬يخبرنا تارة‪ ،‬أنه خلق السموات والرض في ستة أيام ثم استوى على العرش‪.‬‬
‫وتارة يخبر بعروج الشياء‪ ،‬وصعودها‪ ،‬وارتفاعها إليه‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬بَل ّر َفعَ ُه اللّ هُ إَِل ْي ِه }‬
‫(‪ِ{ ،)1180‬إنّيه ُمتَ َوفّيكَه َورَافِعُكَه إِلَيّ} (‪َ { ،)1181‬تعْرُجُه ا ْلمَل ِئكَةُ وَالرّوحُه إَِليْهِه } (‪ { ،)1182‬إَِليْهِه يَص ْهعَ ُد ا ْلكَلِمُه‬
‫ل الصّالِحُ َيرْ َفعُهُ} (‪.)1183‬‬
‫طيّبُ وَا ْل َعمَ ُ‬
‫ال ّ‬
‫ن آ َت ْينَاهُ مُ ا ْل ِكتَا بَ َيعَْلمُو نَ َأنّ هُ‬
‫وتارة ي خبر بنزول ها م نه‪ ،‬أو من عنده‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬وَاّلذِي َ‬
‫ق } (‪،)1185‬‬
‫ح الْ ُقدُسِ مِن ّر ّبكَ بِا ْلحَ ّ‬
‫ل مّن ّر ّبكَ } (‪ { ،1184‬قُلْ َنزّلَ ُه رُو ُ‬
‫ُمنَزّ ٌ‬
‫ص ‪397‬‬
‫حكِي مِ }‬
‫ب مِ نَ اللّ ِه ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫ب مِ نَ اللّ ِه ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِي مِ } (‪ { ،)1186‬تَنزِيلُ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫{ حم {‪}1‬تَنزِيلُ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫(‪.)1187‬‬
‫ك الَعْلَى (‪ ،)1188‬وقوله ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫سمَ َربّ َ‬
‫حا ْ‬
‫سبّ ِ‬
‫وتارة ي خبر بأ نه العلي العلى‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪َ :-‬‬
‫وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ (‪.)1189‬‬

‫‪ )(1179‬انظر ‪ ":‬أيمان العرب" للنجيرمي (ص ‪.)15‬‬


‫‪ )(1180‬الية ‪ 158‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪ )(1181‬الية ‪ 55‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(1182‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪ )(1183‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر ‪.‬‬
‫‪ )(1184‬الية ‪ 114‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪ )(1185‬الية ‪ 102‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ )(1186‬فاتحة سورة فصلت‪.‬‬
‫‪ )(1187‬فاتحة سورة الجاثية والحقاف‪.‬‬
‫‪ )(1188‬فاتحة سورة العلى ‪.‬‬
‫‪ )(1189‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة ‪ ،‬و الية ‪ 4‬من سورة الشورى ‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫لرْ ضَ َفِإذَا‬
‫سمَاء أَن َيخْ سِفَ ِبكُ مُ ا َ‬
‫وتارة يخبر بأنه في ال سماء‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪ -‬أََأمِنتُم مّن فِي ال ّ‬
‫صبًا فَ سَ َتعَْلمُونَ َكيْ فَ َنذِيرِ (‪ ،)1190‬فذ كر‬
‫سمَاء أَن ُيرْ سِلَ عََل ْيكُ ْم حَا ِ‬
‫هِ يَ َتمُورُ {‪ }16‬أَ مْ َأمِنتُم مّ ن فِي ال ّ‬
‫السماء دون الرض‪ ،‬وكقوله –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬أل تأمنوني‪ ،‬وأنا أمين من في السماء؟" وقوله‬
‫للجار ية‪ " :‬أ ين ال؟" قالت‪ :‬في ال سماء‪ ،‬قال‪ " :‬اعتق ها‪ ،‬فإن ها مؤم نة" ولم يعلق ذلك بألوه ية أو غير ها‪،‬‬
‫كما في قوله –تعالى‪ -‬وهو الذي في السماء إله وفي الرض إله (‪ ،)1191‬وقوله‪ :‬وهو ال في السماوات‬
‫وفي الرض (‪ ،)1192‬أي‪ :‬هو المألوه المعبود في السموات والرض‪.‬‬
‫وتارة يجعل بعض الخلق عنده‪ ،‬دون بعض‪ ،‬كقوله وله من في السموات والرض ومن عنده ل‬
‫يستكبرون عن عبادته} (‪.)1193‬‬
‫فلو كان موجهب العنديهة معنهى عاما‪ ،‬كدخولههم تحهت قدرتهه‪ ،‬ومشيئتهه‪ ،‬ونحهو ذلك‪ ،‬لكان كهل‬
‫مخلوق عنده‪ ،‬ولم يكن أحد مستكبرا عن عبادته‪.‬‬
‫و أما الحاديث‪ ،‬والثار عن الصحابة‪ ،‬والتابعين فل يحصيها إل ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫ص ‪399‬‬
‫فل يخلو أن يكون مها اتفقهت عليهه هذه النصهوص‪ ،‬مهن إثبات علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬على خلقهه ههو‬
‫الحق‪ ،‬أو الحق نقيضه‪ ،‬إذ الحق ل يخلو عن النقيضين‪.‬‬
‫فإذا كان نفهي العلو ههو الحهق‪ ،‬فمعلوم أن القرآن لم يهبين هذا‪ ،‬ل نصها‪ ،‬ول مفهوما‪ ،‬وكذلك‬
‫الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬ول أ حد من ال صحابة وأتباع هم‪ ،‬ول أ حد من أئ مة الم سلمين‪ ،‬ول‬
‫يم كن أ حد أن ين قل عن وا حد من هم شيئا من ذلك‪ ،‬بل نقي ضه هو الم ستفيض عن هم‪ ،‬ك ما هو الموا فق‬
‫للكتاب والسنة‪.‬‬
‫ويلزم على ذلك أن يكون ال ورسوله والمؤمنون‪ ،‬لم ينطقوا بالحق في هذا الباب‪ ،‬بل تكلموا بما‬
‫يدل على الضلل‪ ،‬إما نصا‪ ،‬أو ظاهرا‪.‬‬
‫فإن قيهل‪ :‬هذه النصهوص مها أريهد بهها إثبات علو ال على خلقهه‪ ،‬وإنمها أريهد بهها علو المكانهة‬
‫والقدر‪.‬‬
‫ق يل‪ :‬فكان ي جب على المتكلم ب ها أن يبين للناس ال حق‪ ،‬الذي ي جب أن يؤ من به ويعت قد‪ ،‬ظاهرا‬
‫وباطنا‪ ،‬وأنه لم يرد بهذا الكلم مفهومه‪ ،‬ومقتضاه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إنه تكلم بالمجاز‪ ،‬المخالف للحقيقة‪.‬‬
‫قيل‪ :‬من المعلوم باتفاق العقلء‪ :‬أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز‪ ،‬فل بد أن يقرن بخطابه ما‬
‫يدل على إرادة المع نى المجازي‪ ،‬فإذا كان الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬الذي ب ين للناس ما نزل‬
‫‪ )(1190‬اليتان ‪ 16‬و ‪ 17‬من سورة الملك ‪.‬‬
‫‪ )(1191‬الية ‪ 84‬من سورة الزخرف‪.‬‬
‫‪ )(1192‬الية ‪ 3‬من سورة النعام‪.‬‬
‫‪ )(1193‬الية ‪ 19‬من سورة النبياء‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫إليهم – يعلم أن المراد بالكلم خلف مقتضاه وظاهره‪ ،‬وجب عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب‬
‫عهن فههم المعنهى الذي لم يرده‪ ،‬ول سهيما إذا كان ذلك المعنهى باطلً‪ ،‬ول يجوز اعتقاده فهي ال‬
‫‪-‬تعالى‪ ،-‬وهذا ي جب ولو لم يخاطب هم ب ما يف هم م نه خلف ال حق‪ ،‬الذي ي جب اعتقاده‪ ،‬إذا كان مخوفا‬
‫عليهم‪ ،‬فكيف إذا كان في كلمه ما يفهم منه خلف الحق"(‪.)1194‬‬
‫فل عذر لمن أنكر علو ال‪ ،‬ونفاة العلو والصفات‪ ،‬يقولون‪ :‬إن هذه النصوص لم يرد بها الحقيقة‬
‫والظاهر المفهوم منها‪ ،‬والقرينة الصارفة عن ذلك هي دللة العقل‪ ،‬فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لنها‬
‫عقلية‪ ،‬عند كل عاقل‪.‬‬
‫ص ‪399‬‬
‫فيقال ل هم‪ :‬إذا كان ما تكلم به ال ور سوله‪ ،‬إن ما يف يد مجرد الضلل‪ ،‬والهدى إن ما ي ستفاد من‬
‫العقول‪ ،‬فلماذا ينزل ال الكتاب‪ ،‬وير سل الر سول؟ للعناء والشقاء؟ فإن ترك هم على جاهليت هم خ ير ل هم‬
‫من أن ينزل عليهم الكتاب‪ ،‬ويرسل إليهم الرسول‪ ،‬هذا هو لزم هذا القول الباطل‪.‬‬
‫ويقال أيضا‪ :‬الرسول جاء بإثبات العلو‪ ،‬والصفات‪ ،‬وذلك أظهر في العقل من قولكم‪.‬‬
‫ثم الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أما أن يتكلم بالهدى‪ ،‬أو بالضلل‪ ،‬أو يسكت عنهما‪.‬‬
‫ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلل‪.‬‬
‫وبذلك يعلم بالع قل‪ ،‬أ نه لم ي سكت عن بيان ال حق‪ ،‬والهدى‪ ،‬والتحذ ير من اعتقاده البا طل‪ ،‬وبذلك‬
‫يتفق ما جاء به الرسول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬مع العقل الصحيح‪ ،‬الذي لم تفسده الشياطين‪ ،‬والهوى‬
‫المضل‪.‬‬
‫فالع قل يوافق ما جاء به الر سول –صلى ال عليه وسلم‪ -‬ل ما يقوله نفاة الصفات‪ ،‬وليس بين‬
‫الع قل ال صريح والن قل ال صحيح تنا قض أ صلً‪ ،‬ك ما ب ين ذلك ش يخ ال سلم ا بن تيم ية في كتا به‪ :‬درء‬
‫تعارض العقل والنقل‪ ،‬وغيره‪.‬‬
‫فقولهم‪ :‬إن القري نة الصارفة عن الظا هر‪ ،‬هي الع قل‪ ،‬خ طأ محض‪ ،‬إذ الع قل يوافقها ل يخالفها‬
‫كمها توهموه‪ ،‬كمها أن إثبات الصهفات ليهس فيهه تشهبيه كمها زعموا‪ ،‬ولكهن الوهام وسهوء الظهن بال‬
‫ورسوله أرداهم‪.‬‬
‫و من حجج هم الباطلة ال تي حملت هم على صرف الن صوص عن ظاهر ها‪ ،‬ورأوا وجوب تأويل ها‬
‫لذلك‪ ،‬هي قاعدتهم في أن جميع الجسام حادثة لملزمتها للعراض التي هي الصفات‪ ،‬فوجب تنزيه‬
‫الرب ‪-‬تعالى‪ -‬عهن كهل صهفة تسهتلزم التركيهب‪ ،‬أو الجسهمية؛ لن العراض ل تكون إل فهي جسهم‪،‬‬
‫والجسهم ل بهد أن يكون مركبا مهن الجواههر – كمها زعموا‪ ،-‬ولهذا قالوا‪ :‬إن السهتواء والعلو‪ ،‬يلزم‬
‫منهما النقلة‪ ،‬والمكان‪ ،‬والحركة‪ ،‬وهذه من صفات الجسام‪.‬‬

‫‪" )(1194‬مجموع الفتاوى" (‪ )168-5/164‬ملخصاً‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫فيقال ل هم‪ :‬الحياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬وال سمع‪ ،‬والب صر – م ما جوز تم لنف سكم أن ت صفوه به‪ -‬ل يع قل أن‬
‫تقوم إل بج سم‪ ،‬مع أنكم ت سمون ال صفات‪ :‬أعراضا‪ ،‬ول فرق ب ين ما أثبتموه و ما نفيتموه في المع نى‪،‬‬
‫أل يجوز لغيركم أن يصف ال ‪-‬تعالى‪ -‬بما وصف‬
‫ص ‪400‬‬
‫ل على خل قه‪ ،‬وبأن له وجها‬
‫به نف سه‪ ،‬وو صفته به ر سله بأ نه ‪-‬تعالى‪ -‬م ستوٍ على عر شه‪ ،‬وعا ٍ‬
‫ويد ين حقي قة‪ ،‬ون حو ذلك م ما ت سمونه‪ :‬أبعاضا‪ ،‬ت ستلزم الترك يب‪ ،‬والج سمية؟ ك ما افتريتموه على رب‬
‫العالمين‪ ،‬ورميتم من وصف ال –تعالى‪ -‬بما وصف به نفسه‪ ،‬بالتشبيه‪ ،‬والتجسيم‪ ،‬مع أنهم أقرب إلى‬
‫المعقول منكم‪ ،‬وقد سلم لهم المنقول بدون تحريف‪.‬‬
‫قال ش يخ ال سلم‪ " :‬ول ر يب أن ال موجود‪ ،‬قائم بنف سه‪ ،‬وتر فع إل يه اليدي ع ند الدعاء‪ ،‬ك ما‬
‫فطر على ذلك جميع عباده‪ ،‬ول ريب أنه تجوز رؤيته في الخرة‪ ،‬كما أخبر بذلك في كتابه‪ ،‬فإذا سموا‬
‫هذه المعاني تجسيما‪ ،‬فل ينبغي لنا أن نترك ما أخبر ال به عن نفسه في كتابه‪ ،‬ونذهب إلى تأويلها‪،‬‬
‫لمجرد هذه التسميات الحادثة المبتدعة"‬
‫(‪)1195‬‬

‫وقال أيضا‪ " :‬ولفهظ الظاههر فيهه إجمال‪ ،‬واشتراك‪ ،‬فإن كان القائل يعتقهد أن ظاهرهها التمثيهل‬
‫بصفات المخلوقين‪ ،‬أو ما هو من خصائصهم‪ ،‬فل ريب أن هذا غير مراد‪.‬‬
‫وال سلف والئ مة لم يكونوا ي سمون هذا ظاهر ها‪ ،‬ول يرتضون أن يكون ظا هر القرآن والحد يث‬
‫كفرا‪ ،‬وباطلً‪.‬‬
‫وال سبحانه – وتعالى – أعلم وأح كم من أن يكون كل مه الذي و صف به نف سه‪ ،‬ل يظ هر م نه‬
‫إل ما هو كفر‪ ،‬أو ضلل‪.‬‬
‫والذين يجعلون ظاهرها ذلك‪ ،‬يغلطون من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنهم جعلوا المعنى الفاسد‪ ،‬هو ظاهر نص كلم ال وكلم رسوله‪ ،‬ولذلك أوجبوا تأويله‪،‬‬
‫ليخالف الظاهر الذي زعموا‪ ،‬وليس المر كذلك‪.‬‬
‫الثا ني‪ :‬أن هم ردوا المع نى ال صحيح الذي هو ظا هر الل فظ؛ لعتقاد هم أ نه با طل‪ ،‬كقول هم في‬
‫الحد يث‪ " :‬قلوب العباد ب ين إ صبعين من أ صابع الرح من "‪ ،‬قالوا‪ :‬ل يجوز أن يراد به الظا هر‪ ،‬فل يس‬
‫في قلوبنا أصابع‪.‬‬
‫ص ‪401‬‬
‫ومعلوم أنه ليس ظاهره أن القلوب متصلة بالصابع‪ ،‬ول مماسة لها‪ ،‬ول أن أصابع الرحمن في‬
‫جوف العبد‪ ،‬ول يفهم من قول القائل‪ :‬هذا بين يدي‪ ،‬ما يقتضي مباشرته ليديه‪.‬‬

‫‪" )(1195‬مجموع الفتاوى" (‪ )45-3/43‬ملخصاً‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫و إذا قيهل‪ :‬إن السهحاب بيهن السهماء والرض‪ ،‬لم يقتهض أن يكون مماسها للسهماء‪ ،‬أو الرض‪،‬‬
‫ونظائر ذلك كثيرة "(‪.)1196‬‬
‫وقال أبهو نصهر السهجزي فهي "البانهة"‪" :‬وأئتمنها‪ ،‬كسهفيان‪ ،‬ومالك‪ ،‬والحماديهن‪ ،‬وابهن عيينهة‪،‬‬
‫والفضيل‪ ،‬وابن المبارك‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬متفقون على أن ال فوق العرش‪ ،‬وعلمه في كل‬
‫مكان‪ ،‬وأنه ينزل إلى السماء الدنيا‪ ،‬وأنه يغضب‪ ،‬ويرضى‪ ،‬ويتكلم بما يشاء"(‪.)1197‬‬
‫وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول‪" :‬وفيه دليل على أن ال – عز وجل – في السماء‬
‫على العرش‪ ،‬من فوق سبع سماوات‪ ،‬كما قالت الجماعة‪ ،‬وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية‪ ،‬في‬
‫قولهم‪ :‬إن ال – عز وجل – في كل مكان‪ ،‬وليس على العرش‪ ،‬والدليل على صحة ما قال أهل الحق‪:‬‬
‫ش مَا َلكُم مّن‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْلعَرْ ِ‬
‫ستَوَى} (‪)1198‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ا ْ‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫قوله – تعالى ‪{ :-‬ال ّر ْ‬
‫ي ُدخَا نٌ } (‪ ،)1200‬وقوله‬
‫سمَاء وَهِ َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫دُونِ ِه مِن وَلِيّ وَل شَفِي ٍع } (‪ ،)1199‬وقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬ثُمّ ا ْ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬إذا لبتغوا إلى ذي العرش سهبيلً} (‪ ،1201‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬إليهه يصهعد الكلم الطيهب} (‪،)1202‬‬
‫سفَ ِبكُ مُ‬
‫سمَاء أَن َيخْ ِ‬
‫جبَلِ } (‪ ،)1203‬وقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬أََأمِنتُم مّ ن فِي ال ّ‬
‫وقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬تجَلّى َربّ هُ لِ ْل َ‬
‫لرْضَ } (‪ ،)1204‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬سبح اسم ربك‬
‫اَ‬
‫ص ‪402‬‬
‫العلى}‪ ،‬وهذا من العلو‪ ،‬وكذلك قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬العلي العظ يم} (‪ ،)1205‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ال كبير‬
‫ن َربّهُم‬
‫المتعال} (‪ ،)1206‬وقوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬رَفِي عُ ال ّد َرجَا تِ ذُو ا ْل َعرْ شِ } (‪ ،)1207‬وقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬يخَافُو َ‬
‫مّن فَ ْوقِ ِهمْ } (‪ ،)1208‬والجهمي يزعم أنه أسفل‪.‬‬

‫‪ )(1196‬المصدر السابق ‪.‬‬


‫‪ )(1197‬ذكره الذهبي في "سير أعلم النبلء" (‪.)17/656‬‬
‫‪ )(1198‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1199‬الية ‪ 4‬من سورة آلم السجدة‪.‬‬
‫‪ )(1200‬الية ‪ 11‬من سورة حم فصلت ‪.‬‬
‫‪ )(1201‬الية ‪ 42‬من سورة السراء‪.‬‬
‫‪ )(1202‬الية ‪ 10‬من سورة فاطر‪.‬‬
‫‪ )(1203‬الية ‪ 143‬من سورة العراف‪.‬‬
‫‪ )(1204‬الية ‪ 16‬من سورة الملك‪.‬‬
‫‪ )(1205‬الية ‪ 255‬من سورة البقرة ‪ ،‬و الية ‪ 4‬من سورة الشورى‪.‬‬
‫‪ )(1206‬الية ‪ 9‬من سورة الرعد‪.‬‬
‫‪ )(1207‬الية ‪ 15‬من سورة غافر‪.‬‬
‫‪ )(1208‬الية ‪ 50‬من سورة النحل‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ه } (‪ ،)1209‬وقال‬
‫ه إَِليْه ِ‬
‫ه ثُمّه َي ْعرُج ُ‬
‫لرْض ِ‬
‫همَاء إِلَى ا َ‬
‫ه الس ّ‬
‫ل ْمرَ مِن َ‬
‫وقال – جهل ذكره ‪ُ { :-‬ي َدبّرُ ا َ‬
‫‪-‬تعالى‪ :-‬تعرج الملئ كة والروح(‪ ،)1210‬وقال ‪-‬تعالى‪ -‬لعي سى‪ِ :‬إنّ ي ُمتَ َوفّي كَ َورَا ِفعُ كَ إِلَيّ (‪ ،)1211‬وقال‬
‫ن َل هُ بِالّليْلِ وَال ّنهَارِ(‪،)1213‬‬
‫س ّبحُو َ‬
‫‪-‬تعالى‪ :-‬بَل ّر َفعَ هُ الّل هُ إَِل ْي هِ (‪ ،)1212‬وقال ‪-‬تعالى‪ :-‬فَاّلذِي نَ عِن َد رَبّ كَ يُ َ‬
‫س لَ ُه دَافِ عٌ‬
‫ن (‪ ،)1214‬وقال تعالى‪َ :‬ليْ َ‬
‫سرُو َ‬
‫س َتحْ ِ‬
‫عبَا َدتِ هِ وَل يَ ْ‬
‫ع نْ ِ‬
‫س َتكْ ِبرُونَ َ‬
‫وقال ‪-‬تعالى‪َ :-‬ومَ نْ عِندَ ُه ل يَ ْ‬
‫ن اللّهِ ذِي ا ْل َمعَارِجِ (‪ ،)1215‬والعروج‪ :‬الصعود‪.‬‬
‫{‪ }2‬مّ َ‬
‫لرْ ضَ } (‪ ،)1216‬فمعناه‪ :‬من على‬
‫سفَ ِبكُ مُ ا َ‬
‫سمَاء أَن َيخْ ِ‬
‫و أ ما قوله ‪-‬تعالى‪ { :-‬أََأمِنتُم مّ ن فِي ال ّ‬
‫السماء‪ ،‬يعني على العرش‪ ،‬وقد يكون "في" بمعنى "على" أل ترى إلى قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَل صَّل َب ّنكُمْ فِي‬
‫جذُوعِ ال ّنخْلِ} (‪ ،)1217‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬فَسِيحُواْ فِي‬
‫ُ‬
‫ص ‪403‬‬
‫شهُرٍ} (‪)1218‬؟ أي‪ :‬على الرض‪ ،‬وهذا كله يعضده قوله –تعالى‪َ { :-‬ت ْعرُجُ ا ْلمَل ِئكَةُ‬
‫لرْضِ َأ ْر َبعَ َة َأ ْ‬
‫اَ‬
‫ح إَِليْهِ} (‪ ،)1219‬وما كان مثله مما تلونا من اليات في هذا الباب"(‪)1220‬ا‪.‬هه‪.‬‬
‫وَالرّو ُ‬
‫ستَوَى (‪،)1221‬‬
‫حمَ نُ عَلَى ا ْل َعرْ شِ ا ْ‬
‫وقال أيضا‪ " :‬و ما روي عن ا بن عباس في قوله –تعالى‪ :-‬ال ّر ْ‬
‫أنه قال على جميع بريته‪ ،‬فل يخلو منه مكان"‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أنهه منكهر‪ ،‬ونقلتهه مجهولون‪ ،‬وضعفاء‪ ،‬وههم ل يقبلون أخبار الحاد العدول‪ ،‬فكيهف‬
‫لرْ ضِ‬
‫سمَاء إِلَ هٌ َوفِي ا َ‬
‫يحتجون بمثل هذا الثر الساقط؟ وأما تعلقهم بقوله –تعالى‪{ :-‬وَهُ َو اّلذِي فِي ال ّ‬
‫ن مِن ّنجْوَى ثَلثَ ٍة ِإلّ ُهوَ رَا ِب ُعهُ مْ} الية (‪ ،)1223‬وزعمهم أنه ال –‬
‫إِلَ هٌ} (‪ ،)1222‬وقوله –تعالى‪{ :-‬مَا َيكُو ُ‬
‫تبارك وتعالى – فهي كهل مكان بنفسهه وذاتهه‪ .‬فيقال لههم‪ :‬أنتهم ل تخالفون بأنهه ليهس فهي الرض دون‬
‫السماء‪ ،‬بذاته‪ ،‬فيجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه‪ ،‬وهو أنه في السماء إله‬
‫معبود من أهل السماء‪ ،‬وفي الرض إله معبود من أهل الرض‪ ،‬وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير‪.‬‬

‫‪ )(1209‬الية ‪ 5‬من سورة آلم السجدة‪.‬‬


‫‪ )(1210‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪ )(1211‬الية ‪ 55‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ )(1212‬الية ‪ 158‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪ )(1213‬الية ‪ 38‬من سورة فصلت ‪.‬‬
‫‪ )(1214‬الية ‪ 19‬من سورة النبياء‪.‬‬
‫‪ )(1215‬اليتان ‪ 2‬و ‪ 3‬من سورة المعارج‪.‬‬
‫‪ )(1216‬الية ‪ 16‬من سورة الملك‪.‬‬
‫‪ )(1217‬الية ‪ 71‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1218‬الية ‪ 2‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ )(1219‬الية ‪ 4‬من سورة المعارج ‪.‬‬
‫‪" )(1220‬التمهيد" (‪.)130-7/129‬‬
‫‪ )(1221‬الية ‪ 5‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1222‬الية ‪ 84‬من سورة الزخرف‪.‬‬
‫‪ )(1223‬الية ‪ 7‬من سورة المجادلة‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫الية‪ ،‬ليس فيها حجة لهم؛ لن‬ ‫(‪)1224‬‬
‫ن مِن ّنجْوَى ثَلثَ ٍة ِإلّ ُهوَ رَا ِب ُعهُ مْ}‬
‫وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬مَا َيكُو ُ‬
‫علماء الصحابة والتابعين‪ ،‬الذين روي عنهم التفسير‪ ،‬قالوا في هذه الية‪ :‬هو على العرش‪ ،‬وعلمه في‬
‫كل مكان‪ .‬ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به‪.‬‬
‫ثم ذ كر عن ا بن م سعود‪ :‬قال‪ " :‬ال فوق العرش‪ ،‬ل يخ فى عل يه ش يء من أعمال كم" وذ كر عن‬
‫الضحاك‪ ،‬وسفيان الثوري مثله"(‪.)1225‬‬
‫ص ‪404‬‬
‫ف تبين ب ما ذكره أن هذه اليات ال تي تعلق ب ها نفاة العلو‪ ،‬تدل على ع كس قول هم‪ ،‬ف هي متف قة مع‬
‫النصوص الصريحة في الدللة على علو ال ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫من الحجج القاطعة أن ال تعالى فوق السماوات على عرشه‪ :‬أن كل داع يدعو ال ‪-‬تعالى‪ -‬يجد‬
‫في نف سه دافعا إلى التجاه إلى ال فو قه‪ ،‬و هو أ مر ضروري وقط عي‪ ،‬فل يم كن لي سائل ي سأل ال‬
‫ويطلب منه إل – رفع – يديه‪ ،‬واتجه بقلبه إلى من يستغيث به‪ ،‬الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته‪،‬‬
‫مستو على عرشه‪ ،‬فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي‪ ،‬ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ ":‬ذكر محمد بن طاهر المقدسي‪ ،‬عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمدا ني‪ ،‬أنه‬
‫ح ضر مجلس أ بي المعالي الجوي ني‪ ،‬و هو يقول‪ :‬كان ال‪ ،‬ول عرش {ول مكان} و هو على ما {كان}‬
‫عليه {قبل خلق المكان}‪ ،‬أو كلم من هذا المعنى‪ ،‬فقال‪ :‬يا شيخ‪ ،‬دعنا من ذكر العرش‪ ،‬أخبرنا عن هذه‬
‫الضرورة التي نجدها في قلوبنا‪ ،‬فإنه ما قال عارف قط‪ :‬يا ال‪ ،‬إل وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو‪،‬‬
‫ول يلتفت يمنة ول يسرة‪ ،‬فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟‪.‬‬
‫فصرخ أبو المعالي‪ ،‬ولطم رأسه‪ ،‬وقال‪ " :‬حيرني الهمداني"(‪.)1226‬‬
‫وقد تعلق نفاة العلو أيضا‪ :‬بأن ال ‪-‬تعالى‪ -‬لو كان في مكان‪ ،‬لشبه المخلوقات؛ لن ما أحاطت‬
‫به المكنة فهو مخلوق‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا نشأ عن القياس الفاسد‪ ،‬والتشبيه المستكن في نفوس هؤلء‪ ،‬إذ لو آمنوا بأن ال على‬
‫كل شيء قدير‪ ،‬وأنه ليس كمثله شيء‪ ،‬ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم‪.‬‬
‫ويقال أيضا‪ :‬ألسهتم تقرون بأن ال ‪-‬تعالى‪ -‬موجود قبهل خلق الكون‪ ،‬فههو ‪-‬تعالى‪ -‬كمها قال‬
‫رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬كان ال‪ ،‬ولم يكن شيء معه"‬
‫(‪)1227‬‬

‫ص ‪405‬‬

‫‪ )(1224‬الية ‪ 7‬من سورة المجادلة‪.‬‬


‫‪" )(1225‬التمهيد" (‪ )139-7/133‬ملخصاً‪.‬‬
‫‪" )(1226‬الستقامة" (‪.)1/167‬‬
‫‪ )(1227‬تقدم هذا الحديث مشروحاً ‪ ،‬وبين أن هذا اللفظ مروي بالمعنى ‪ ،‬و أن الصواب ‪":‬ولم يكن شيء‬
‫قبله"‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫ونحن وأنتم وكل العقلء‪ ،‬ل نعقل وجود أحد منا‪ ،‬إل في مكان‪ ،‬وما ليس في مكان‪ ،‬فهو عدم‪،‬‬
‫وال بخلف ذلك‪ ،‬فل يجوز أن يقاس بخلفه كما فعلتم‪ ،‬قلتم‪ :‬لو كان في مكان لشبه خلقه‪.‬‬
‫فإن زعموا أ نه يلزم من كو نه ‪-‬تعالى‪ -‬في العلو‪ ،‬التغ ير‪ ،‬والنتقال؛ ل نه‪ ،‬كان ول مكان‪ ،‬فل ما‬
‫خلق المكان صار في العلو‪ ،‬فزال عن صفته في الزل وصار في مكان‪.‬‬
‫قيل‪ :‬وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك‪ ،‬وهو زعمكم أنه ‪-‬تعالى‪ -‬كان‪ ،‬ل في مكان‪ ،‬ثم صار في كل‬
‫مكان‪ ،‬ف قد تغ ير عند كم معبود كم‪ ،‬وانت قل من ل مكان‪ ،‬إلى كل مكان‪ ،‬وهذا لزم ل كم‪ ،‬ل انفكاك ل كم‬
‫منه‪.‬‬
‫وقولهم‪ :‬كان ال‪ ،‬ول مكان‪ ،‬وهو الن على ما كان عليه قبل خلق المكان‪ ،‬كلم فاسد‪ ،‬متناقض‪،‬‬
‫وذلك أن النفاة للستواء والعلو‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬على قسمين‪:‬‬
‫قسهم يقول‪ :‬إن ال ل فوق‪ ،‬ول تحهت‪ ،‬ول يميهن‪ ،‬ول شمال‪ ،‬ول أمام‪ ،‬ول خلف‪ ،‬ول داخهل‬
‫العالم‪ ،‬ول خار جه‪ ،‬وهذا ل يف هم م نه إل العدم الم حض‪ ،‬فل يس له وجود فعلي على هذا الو صف‪ ،‬ف هو‬
‫إذا ليس له مكان أصلً‪ ،‬إذ ل وجود له‪.‬‬
‫وق سم يقول‪ :‬إ نه في كل مكان‪ ،‬فيلزم أ نه كان في كل مكان‪ ،‬ق بل خلق المكان‪ ،‬ف هو إذا في هذا‬
‫الكون كله‪ ،‬قبل خلقه له‪ ،‬وهذا قول ظاهر الفساد‪ ،‬إذ معناه‪ :‬كان في المكنة‪ ،‬قبل خلقها‪.‬‬
‫فال حق " أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬ل يس كمثله ش يء‪ ،‬ل في نف سه‪ ،‬ول في فعله‪ ،‬ول في صفاته‪ ،‬ول في‬
‫مفعولته‪ ،‬فإذا رام النسان أن ينفي شيئا مما يستحقه؛ لعدم نظيره في الشاهد المحسوس‪ ،‬صار ما يثبته‬
‫بدل نفيه أبعد عن المعقول‪ ،‬والمشهود"(‪.)1228‬‬
‫ومن الحجج المشهورة على وجوب علو ال ‪-‬تعالى‪ :-‬ما تقدم في كلم ابن أبي العز‪ :‬وهو أن‬
‫يقال‪ :‬ل ما خلق ال الخلق‪ ،‬ل بد أن يكون خل قه بائنا م نه‪ ،‬فل يجوز أن يكون الخالق – جل وعل‪ -‬في‬
‫المخلوق‪ ،‬وأن يكون المخلوق حاويا له‪ ،‬تعالى عن‬
‫ص ‪406‬‬
‫ذلك‪ ،‬فل بهد أن يكون بائنا عنهه‪ ،‬ول يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق –تعالى وتقدس – فل‬
‫بد أن يكون عاليا فوق خلقه‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ ":‬معرفة القلوب‪ ،‬وإقرارها بفطرة ال التي فطرها عليها‪ ،‬أن ربها فوق العالم‪،‬‬
‫ودللة الكتاب والسنة على ذلك‪ ،‬وظهور ذلك في خاصة المة وعامتها‪ ،‬وكلم السلف في ذلك‪ ،‬أعظم‬
‫من كونه ‪-‬تعالى‪ -‬يرى بالبصار يوم القيامة‪ ،‬أو أن رؤيته بالبصار جائزة‪.‬‬
‫ويشهد لهذا أن الجهمية‪ ،‬أول ما ظهروا في السلم‪ ،‬في أوائل المائة الثانية‪ ،‬وكان حقيقة قولهم‬
‫في البا طن‪ :‬تعط يل الرب ‪-‬تعالى‪ -‬من ال صفات كل ها‪ ،‬ول ي صفونه ‪-‬تعالى‪ -‬إل بال سلوب المح ضة‪،‬‬
‫التي ل تنطبق إل على المعدوم‪ ،‬وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى‪ ،‬أو يتكلم‪ ،‬أو أنه فوق العرش‪ ،‬أو‬

‫‪" )(1228‬بيان تلبيس الجهمية" (‪.)1/147‬‬

‫‪315‬‬
‫أن يكون مو صوفا بال صفات ال تي جاءت ب ها ك تب ال‪ ،‬أو دلت علي ها مع ذلك الدلئل العقل ية‪ ،‬ل كن ما‬
‫كانوا يظهرون من قولهم للناس‪ ،‬ما هو ظاهر البطلن‪ ،‬وما ليس فيه شبهة‪ ،‬مثل نفي العلو المعروف‪،‬‬
‫المتي قن من الد ين بالضرورة ع ند العا مة والخا صة‪ ،‬وإن ما يظهرون ما ف يه شب هة‪ ،‬ول هم عل يه ح جة‪،‬‬
‫ويكونون ف يه أ قل مخال فة ل ما يعل مه الناس من الح جج الفطر ية‪ ،‬الشرع ية‪ ،‬وهذا شأن كل من أراد أن‬
‫يظهر خلف ما عليه أمة من المم من الحق‪ ،‬فإنهم ل ينقضون الصول العظيمة الظاهرة ابتداء"(‪.)1229‬‬
‫و من المؤ سف أن ب عض ضللت الذ ين ذكر هم الش يخ‪ ،‬قد ورث ها كث ير من علماء الم سلمين‪،‬‬
‫كالشعر ية الذ ين يزعمون أن هم أعداء ل هم وخ صوم‪ ،‬مع أن هم يتفقون مع هم على إنكار علو ال تعالى‪،‬‬
‫واستوائه على عرشه‪ ،‬ومجيئه لفصل القضاء بين عباده‪ ،‬ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة‪ ،‬كما أخبر‬
‫به رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪.-‬‬
‫ك ما أن هم يؤولون ال صفات إل قليلً‪ ،‬تأويلً يؤول إلى النكار‪ ،‬م ثل اليد ين‪ ،‬والرجل ين‪ ،‬والو جه‪،‬‬
‫والرحمة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والضحك‪ ،‬والرضا‪ ،‬والغضب‪ ،‬والسخط‪ ،‬والمقت‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ويوافقون الجهميهة فهي كون القرآن مخلوقا‪ ،‬فإنههم يجعلون الكلم قسهمين‪ :‬نفسهي‪ ،‬وههو المعنهى‬
‫القائمة بالنفس‪ ،‬وهذا هو الذي يصفون ال به‪ ،‬ولفظي حرفي وهو‬
‫ص ‪407‬‬
‫المكتوب في المصاحف‪ ،‬وهو ليس كلما ل عندهم‪ ،‬بل هو عبارة عن كلم ال‪ ،‬وهو مخلوق‪،‬‬
‫وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬واستواءه على عرشه ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل‬
‫ال‪ ،‬وأ ما العلو ف هو ثا بت بذلك‪ ،‬وبالف طر ال تي علي ها عباده‪ ،‬وبالعقول ال تي لم تنت كس بف عل الشياط ين‪،‬‬
‫وبإجماع أههل العلم واليمان مهن جميهع المهم‪ ،‬كمها تقدمهت الشارة إليهه‪ ،‬ولم يعرف خلف فهي هذه‬
‫المسألة‪ ،‬ونحوها إل بعدما دخل كثير من الزنادقة في السلم نفاقا‪ ،‬وقصدا لفساد الدين‪ ،‬بعد المائة‬
‫الولى للهجرة‪ ،‬وإن كان قد وجد قبل ذلك بعض المفسدين المتطرفين‪ ،‬الذين كان لهم الثر السيء في‬
‫المة‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬افترق الناس‪ ،‬في علو ال واستوائه‪ ،‬أربع فرق‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الجهميهة‪ ،‬النفاة‪ ،‬يقولون‪ :‬ليهس داخهل العالم‪ ،‬ول خارجهه‪ ،‬ول فوق‪ ،‬ول تحهت‪ ،‬وجميهع‬
‫الطوائف‪ ،‬من أهل البدع يتمسكون بنصوص‪ ،‬إل الجهمية‪.‬‬
‫وقسهم ثان منههم يقولون‪ :‬إنهه بذاتهه فهي كهل مكان‪ ،‬ويدخهل فيههم الشاعرة‪ ،‬وهؤلء ههم الفرقهة‬
‫الثانية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬من يقول‪ :‬إنه فوق العرش‪ ،‬وهو في كل مكان‪ ،‬ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص‪.‬‬

‫‪" )(1229‬بيان تلبيس الجهمية" (‪ )79-2/78‬بتصرف‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫الراب عة‪ :‬المتبعون للكتاب‪ ،‬وال سنة‪ ،‬الذ ين أثبتوا ما أثب ته ال ور سوله‪ ،‬من غ ير تحر يف‪ ،‬فآمنوا‬
‫بال فوق سماواته‪ ،‬مستوٍ على عرشه"(‪.)1230‬‬
‫و قد تقدم ذ كر ب عض اليات الدالة على علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬صراحة‪ ،‬وب عض الحاد يث م ما ذكره‬
‫البخاري وغيره‪.‬‬
‫وم ما لم يذكره‪ :‬ق صة معراج الر سول – صلى ال عل يه و سلم‪ -‬إلى ر به فوق ال سماوات كل ها‪،‬‬
‫وهي ثابتة ثبوتا قطعيا بدون ريب‪.‬‬
‫وفي حديث الرقية‪ ":‬ربنا ال الذي في السماء‪ ،‬تقدس اسمك"(‪.)1231‬‬
‫ص ‪408‬‬
‫(‪)1232‬‬
‫وفي حديث الوعال‪ " :‬والعرش فوق ذلك‪ ،‬وال فوق عرشه‪ ،‬وهو يعلم ما أنتم عليه"‬
‫وفي "سنن أبي داود"‪ ،‬عن جبير بن مطعم قال‪ :‬أتى رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ -‬أعرابي‬
‫فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬جهدت النفس‪ ،‬وجاع العيال‪ ،‬وهلك المال‪ ،‬فادع ال لنا‪ ،‬فإنا نستشفع بك على ال‪،‬‬
‫ون ستشفع بال عل يك‪ ،‬ف سبح ر سول ال – صلى ال عل يه و سلم‪ ،-‬ح تى عرف ذلك في وجوه أ صحابه‬
‫وقال‪ ":‬ويحك! أتدري ما ال؟ إن ال ل يستشفع به على أحد من خلقه‪ ،‬شأن ال أعظم من ذلك‪ ،‬إن ال‬
‫على عرشه‪ ،‬وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا‪ ،‬وقال بأصابعه مثل القبة"(‪.)1233‬‬
‫وفي خطبته –صلى ال عليه وسلم‪ -‬في عرفة‪ ،‬في أعظم جمع اجتمع له –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫بعد ما أ مر‪ ،‬ون هى‪ ،‬ج عل يقول‪ " :‬أل هل بل غت؟" فيقولون‪ :‬ن عم‪ ،‬ع ند ذلك ير فع إ صبعه إلى ال سماء‬
‫وينكبها إليهم‪ ،‬ويقول‪ " :‬اللهم اشهد" – غير مرة ‪.)1234(-‬‬
‫والن صوص في ذلك كثيرة جدا‪ ،‬وال حق في هذه الم سألة وا ضح جلي‪ ،‬بل و في كل ما ي جب ل‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬وما يمتنع عليه‪ ،‬ومعلوم أن ال ‪-‬تعالى‪ -‬قد أكمل لهذه المة دينها على لسان رسولها‪ ،‬وأتم‬
‫عليها النعمة بذلك‪ ،‬وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء‪ ،‬ومعرفته ‪-‬تعالى‪ -‬بما له من الوصاف‪ ،‬ومعرفة‬
‫ما يمتنع عليه‪ ،‬هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله‪ ،‬فل بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان‪.‬‬
‫ثم إ نه ل يس ب ين علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬على جم يع خل قه‪ ،‬ومعي ته لخل قه‪ ،‬وقر به من عباده‪ ،‬منافاة‪،‬‬
‫فعلوه ‪-‬تعالى‪ -‬وا ستواؤه على عر شه‪ ،‬ثا بت ثبوتا قطعيا‪ ،‬ك ما و ضح ذلك ‪-‬تعالى‪ -‬في كتا به‪ ،‬وبي نه‬
‫رسهوله –صهلى ال عليهه وسهلم‪ -‬وكذلك معيتهه ‪-‬تعالى‪ -‬لخل قه‪ ،‬قهد وضحهها وبينهها رسهوله‪ ،‬فوجهب‬

‫‪" )(1230‬مجموع الفتاوى" (‪ )231-5/229‬ملخصاً‪.‬‬


‫‪ )(1231‬رواه أبو داود في "السنن" (‪ )4/218‬رقم (‪ ، )3892‬و أحمد في "المسند" (‪.)6/21‬‬
‫‪ )(1232‬رواه أبو داود (‪ )5/93‬والترمذي وقال‪ :‬حسن غريب (‪ )5/424‬رقم (‪ ، )3320‬وابن ماجه (‪)1/69‬‬
‫و أحمد في "المسند" (‪ )207-1/206‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(1233‬أخرجه أبو داود في "السنن" (‪ ، )5/94‬و أبو سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص ‪، )272‬‬
‫وفي الرد على المريسي (ص ‪.)447‬‬
‫‪ )(1234‬تقدم أنه أخرجه مسلم‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫اليمان بذلك‪ ،‬فكما أنه تعالى مست ٍو على عرشه‪ ،‬وعالٍ على خلقه‪ ،‬حقيقة‪ ،‬فهو كذلك موصوف بالقرب‬
‫والمعية على الحقيقة‪.‬‬
‫ص ‪409‬‬
‫قال شيخ السلم‪ " :‬ل يخالف ما ثبت من علو ال‪ ،‬وأنه فوق العرش‪ ،‬معيته لخلقه‪ ،‬الثابت بمثل‬
‫قوله‪{ :‬وَهُ َو َم َعكُمْ َأ ْينَ مَا كُن ُتمْ} (‪.)1235‬‬
‫وقوله – صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬إذا قام أحدكم إلى الصلة‪ ،‬فإن ال قبل وجهه"(‪)1236‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وذلك أن ال معنا حقي قة‪ ،‬وهو فوق عرشه حقيقة‪ ،‬كما جمع ال بينهما في قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬هُوَ‬
‫خرُ جُ‬
‫لرْ ضِ َومَا َي ْ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ َيعْلَمُ مَا يَِلجُ فِي ا َ‬
‫ستّةِ َأيّامٍ ُثمّ ا ْ‬
‫لرْ ضَ فِي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫اّلذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫سمَاء َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَهُ َو َم َعكُمْ َأيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ بَصِيرٌ} (‪ ،)1237‬فأخبر‬
‫ن ال ّ‬
‫ِم ْنهَا َومَا يَنزِلُ ِم َ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬أنه فوق العرش‪ ،‬يعلم كل شيء‪ ،‬وهو معنا أينما كنا‪ ،‬كما قال النبي –صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫في حديث الوعال‪ ":‬وال فوق العرش‪ ،‬وهو يعلم ما أنتم عليه"(‪.)1238‬‬
‫وذلك أن كلمة "مع" في اللغة‪ ،‬إذا أطل قت‪ ،‬لم يكن ظاهر ها‪ ،‬في اللغة إل المقارنة المطل قة‪ ،‬من‬
‫غير وجوب مماسة‪ ،‬أو محاذاة‪ ،‬عن يمين أو شمال‪ ،‬فإذا قيدت بمعنى من المعاني‪ ،‬دلت على المقارنة‬
‫في ذلك المعنى‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬ما زلنا نسير والقمر معنا‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا المتاع معي‪ ،‬لمجامعته لك‪ ،‬وإن كان‬
‫فوق رأسك‪ ،‬فال مع خلقه حقيقة‪ ،‬وهو فوق عرشه حقيقة‪.‬‬
‫ن مَا كُنتُمْ} (‪ )1239‬دل‬
‫ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد‪ ،‬فقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَ ُهوَ َم َع ُكمْ َأيْ َ‬
‫ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية‪ ،‬ومقتضاها‪ :‬أنه مطلع عليكم شهيد عليكم‪ ،‬ومهيمن‪ ،‬عالم بكم‪ ،‬وهذا‬
‫معنى قول السلف‪ :‬إنه معهم بعلمه‪ ،‬وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته‪.‬‬
‫ن اللّ َه َم َعنَا} (‪ ،)1240‬حق على ظاهره‪ ،‬ودلت الحال‬
‫ن إِ ّ‬
‫حزَ ْ‬
‫وقوله‪{ :‬لَ َت ْ‬
‫ص ‪410‬‬
‫على أن ح كم هذه المع ية‪ :‬الطلع‪ ،‬والن صر‪ ،‬والتأي يد‪ ،‬ومثل ها قوله‪ِ{ :‬إنّنِي َم َعكُمَا} (‪ ،)1241‬وقوله‬
‫سنُونَ} (‪)1242‬حق‪ ،‬وحكمها النصر‪ ،‬والتأييد"(‪.)1243‬‬
‫حِ‬‫ن هُم ّم ْ‬
‫ن اتّقَواْ وّاّلذِي َ‬
‫ن اللّ َه مَعَ اّلذِي َ‬
‫‪-‬تعالى‪{ :-‬إِ ّ‬
‫والمعية نوعان‪ :‬عامة وخاصة‪.‬‬

‫‪ )(1235‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬


‫‪ )(1236‬رواه البخاري في الصلة ‪ ،‬باب ‪( 33‬ص ‪ )75‬وفي أماكن متعددة ‪ ،‬ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(1237‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬
‫‪ )(1238‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫‪ )(1239‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬
‫‪ )(1240‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ )(1241‬الية ‪ 46‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1242‬الية ‪ 128‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪" )(1243‬مجموع الفتاوى" (‪.)104-5/102‬‬

‫‪318‬‬
‫ن مَا كُن ُتمْ} (‪.)1244‬‬
‫فالولى‪ :‬هي المذكورة في مثل قوله تعالى‪{ :‬وَهُ َو َم َع ُكمْ َأيْ َ‬
‫سمَعُ وََأرَى} (‪ ،)1245‬فهذه خاصة بأنبيائه‬
‫والثانية‪ :‬هي المذكورة في مثل قوله تعالى‪ِ{ :‬إ ّننِي َم َع ُكمَا أَ ْ‬
‫وأوليائه‪ ،‬وعباده المؤمنين‪ ،‬فهو ‪-‬تعالى‪ -‬معهم دون أعدائهم‪ ،‬ومعهم بسمعه ورؤيته‪ ،‬ونصره وتأييده‪،‬‬
‫كما أنه ‪-‬تعالى‪ -‬معهم بإحاطته وقبضته‪.‬‬
‫والمع ية ل تدل على المخال طة‪ ،‬والمماز جة‪ ،‬وإن ما تدل على الم صاحبة‪ ،‬ك ما قال ر سول ال –‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :-‬اللهم أنت الصاحب في السفر‪ ،‬والخليفة في الهل"(‪.)1246‬‬
‫فهو – سبحانه – مع المسافر في سفره‪ ،‬ومع أهله في وطنه‪ ،‬وهو فوق عرشه‪ ،‬وكل ذلك على‬
‫ظاهره‪ ،‬غ ير محتاج إلى تأو يل‪ ،‬ول يلزم م نه أن تكون ذا ته مختل طة بذوات خل قه –تعالى ال وتقدس‬
‫عن ذلك –؛ وذلك لن المفهوم من المعية في اللغة العربية‪ :‬المصاحبة والمقارنة‪ ،‬حكمها حسب مورد‬
‫أي‪ :‬على اليمان‪ ،‬ل أن ذوات هم حالة‬ ‫(‪)1247‬‬
‫ل اللّ ِه وَاّلذِي نَ َمعَ هُ}‬
‫حمّ ٌد رّ سُو ُ‬
‫الخطاب‪ ،‬فقوله –تعالى‪ّ { :-‬م َ‬
‫في ذا ته‪ ،‬بل هم م صاحبون له ومتبعون له على اليمان‪ ،‬وقوله‪َ { :‬فأُوْلَ ه ِئكَ مَ عَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِي نَ} يدل على‬
‫موافقتهم في اليمان‪ ،‬وموالتهم‪.‬‬
‫فال ‪-‬تعالى‪ -‬مع عباده‪ ،‬يرا هم‪ ،‬ويسمع كلم هم‪ ،‬وهو محيط بهم‪ ،‬وعلمه بهم من لوازم معي ته‬
‫لهم‪ ،‬وليست المعية هي العلم كما يتوهمه بعض الناس‪ ،‬فعلمه –‬
‫ص ‪411‬‬
‫تعالى – محيط بكل شيء ول يختلف أو يتغير‪ ،‬ولذلك صارت المعية إلى خاصة‪ ،‬وعامة‪ ،‬وكل‬
‫واحدة لهها مقتضاهها وحكمهها‪ ،‬فمهن مقتضهى العامهة‪ :‬المراقبهة‪ ،‬والتخويهف‪ ،‬والطلع على جميهع‬
‫التصرفات‪ ،‬وما تكنه الصدور‪.‬‬
‫ومن مقتضى الخاصة‪ :‬النصر‪ ،‬والتأييد‪ ،‬والحفظ‪.‬‬
‫وتفسير من فسرها بالعلم من السلف‪ ،‬يقصد بيان أن ال ليس مختلطا بخلقه أو حالً فيهم‪ ،‬أو أن‬
‫شيئا من مخلوقاته تحويه‪ ،‬أو تظله‪ ،‬أو تقله – تعالى وتقدس‪.-‬‬
‫عنّي َفِإنّي‬
‫عبَادِي َ‬
‫سأََلكَ ِ‬
‫و أما القرب‪ ،‬فقد جاء على صيغتين‪ :‬الفراد‪ ،‬نحو قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وَِإذَا َ‬
‫شدُو نَ} (‪ ،)1248‬وكما في حديث‬
‫س َتجِيبُو ْا لِي وَ ْليُ ْؤ ِمنُو ْا بِي َلعَّلهُ مْ َيرْ ُ‬
‫ن فَ ْليَ ْ‬
‫ب دَعْ َو َة الدّا عِ ِإذَا دَعَا ِ‬
‫قَرِي بٌ ُأجِي ُ‬
‫أبي موسى المتقدم‪ ":‬إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"‪.‬‬
‫و هو ‪-‬تعالى‪ -‬فوق عر شه‪ ،‬ويقرب م من يشاء من خل قه‪ ،‬ك يف يشاء‪ ،‬ك ما قرب من مو سى –‬
‫عليه السلم – حين كلمه‪ ،‬وهو فوق عرشه‪ ،‬فوق السماوات كلها‪ ،‬فل تنافي بين علوه‪ ،‬وقربه ومعيته؛‬

‫‪ )(1244‬الية ‪ 4‬من سورة الحديد‪.‬‬


‫‪ )(1245‬الية ‪ 46‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪ )(1246‬رواه مسلم في "الصحيح" (‪ )2/978‬الحديث رقم (‪ )1342‬ورواه غيره‪.‬‬
‫‪ )(1247‬الية ‪ 29‬من سورة الفتح‪.‬‬
‫‪ )(1248‬الية ‪ 186‬من سورة البقرة ‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫لنه تعالى أكبر من كل شيء‪ ،‬وأعظم من كل شيء‪ ،‬وهو محيط بكل شيء‪ ،‬وهو بكل شيء عليم‪،‬‬
‫وعلى كل شيء قدير‪ ،‬تعالى ال عن ظنون السوء الكاذبة‪.‬‬
‫فعلو ال العلي العظيهم‪ ،‬واسهتواؤه على عرشهه‪ ،‬ومعيتهه وقربهه‪ ،‬كهل ذلك ثابهت له‪ ،‬حهق على‬
‫ظاهره‪ ،‬ك ما أ خبر به ‪-‬تعالى‪ -‬عن نف سه‪ ،‬وأ خبرت به ر سله‪ ،‬فال كل ثا بت ل ‪-‬تعالى‪ -‬في الك تب‬
‫اللهية‪ ،‬وفي نصوص النبياء‪.‬‬
‫و أ هل الفطرة العقل ية ال سليمة‪ ،‬من الول ين والخر ين‪ ،‬يقولون‪ :‬إ نه ‪-‬تعالى‪ -‬فوق عر شه‪ ،‬عالٍ‬
‫على خلقه‪ ،‬وهو معهم‪ ،‬بعلمه ورؤيته‪ ،‬وسمعه وإحاطته‪ ،‬وقبضته وهيمنته عليهم‪ .‬ومع أنبيائه وأوليائه‬
‫بذلك‪ ،‬وبنصره‪ ،‬وتأييده‪ ،‬وحفظه‪ .‬ومعيته ‪-‬تعالى‪ -‬من صفاته الخاصة به‪.‬‬
‫ص ‪412‬‬
‫حبْلِ‬
‫ِنه َ‬
‫ْهه م ْ‬
‫َبه إَِلي ِ‬
‫ْنه َأ ْقر ُ‬
‫و أمها الصهيغة الخرى للقرب‪ :‬صهيغة الجمهع‪ ،‬كقوله ‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َنح ُ‬
‫الْ َورِيدِ} (‪ ،)1249‬وهذا يقصد به لغة العرب‪ :‬الواحد العظيم‪ ،‬الذي له عبيد يطيعونه‪ ،‬ويسارعون في أمره‪،‬‬
‫وإذا وقع الفعل منهم عن أمره قال‪ :‬نحن فعلنا‪ ،‬كما يقول الرئيس‪ :‬نحن أمرنا بكذا‪ ،‬وال ‪-‬تعالى‪ -‬رب‬
‫ُونه مَا‬
‫ُمه َويَ ْفعَل َ‬
‫ّهه مَا َأ َمرَه ْ‬
‫ن الل َ‬
‫الملئكهة‪ ،‬وخالقههم‪ ،‬وخالق أفعالههم‪ ،‬وههم ممتثلون لمره‪{ :‬ل َيعْصهُو َ‬
‫ل وَهُم ِبَأ ْمرِ ِه َي ْعمَلُونَ} (‪ ،)1251‬مع أنه ‪-‬تعالى‪ -‬غني بذاته عن ملئكته‪،‬‬
‫سبِقُونَ ُه بِالْقَوْ ِ‬
‫يُ ْؤ َمرُونَ} (‪{ ،)1250‬ل َي ْ‬
‫وجم يع خل قه‪ ،‬و هو الذي أقدر خل قه على ما يفعلون‪ ،‬وأعطا هم القدرة على ذلك‪ ،‬وإذا شاء سلبهم ذلك‪،‬‬
‫صرُونَ} (‪ ،)1252‬إذا كان المراد الملئكة‪ ،‬كان من‬
‫ل ُتبْ ِ‬
‫فإذا قال ‪-‬تعالى‪َ { :-‬و َنحْ نُ َأ ْقرَ بُ إَِل ْي هِ مِنكُ مْ وََلكِن ّ‬
‫هذا الباب‪.‬‬
‫والمق صود‪ :‬أن علو ال ‪-‬تعالى‪ -‬ثا بت له بالف عل‪ ،‬وأدلة الكتاب‪ ،‬و ما بل غه الر سول – صلى ال‬
‫عليهه وسهلم‪ -‬أمتهه‪ ،‬وثابهت بالضرورة الفطريهة‪ ،‬والدلة عليهه ل تحصهى‪ ،‬ومنكره منكهر للمعلوم‬
‫بالضرورة من الدين‪ ،‬والمعلوم بالضرورة العقلية الفطرية‪ ،‬وليس بين علو ال وا ستوائه على عرشه‪،‬‬
‫وبين معيته لخلقه‪ ،‬ولوليائه وأنبيائه‪ ،‬وقربه منهم تعارض‪.‬‬
‫تم الجزء الول من الشرح ويليه الجزء الثاني وأوله‪:‬‬
‫باب قول ال تعالى‪ُ { :‬وجُو ٌه يَ ْو َم ِئذٍ نّاضِرَ ٌة {‪ }22‬إِلَى َر ّبهَا نَاظِرَةٌ}‬

‫‪ )(1249‬الية ‪ 16‬من سورة ق‪.‬‬


‫‪ )(1250‬الية ‪ 6‬من سورة التحريم‪.‬‬
‫‪ )(1251‬الية ‪ 27‬من سورة النبياء‪.‬‬
‫‪ )(1252‬الية ‪ 85‬من سورة الواقعة‪.‬‬

‫‪320‬‬

You might also like