Professional Documents
Culture Documents
التي نشأ
فيها أصحابه قبل اإلسالم في كثير من جوانبها االجتماعية ،والسياسية ،واالقتصادية ،والمعرفية ،والدينية،
كما يعكس ذلك الشعر طائفة من الجوانب النفسية ،والمثل األخالقية للعرب ،من شجاعة وفروسية وفتوة،
صريخ وغير ذلك. ومن إكرام للضيف وإغاثة لل َّ
ومن ثم تعددت أغراض الشعر الجاهلي وفنونه ،فكان فيه غزل ،ومدح ،كما كان فيه فخر ،ورثاء،
وهجاء ،فضالً عن الحكمة والوصف.
ووجود هذه الفنون واألغراض في الشعر الجاهلي ،ال يعني أن القصيدة منه كانت خالصة دائما ً
لموضوع واحد ،وأغراض ال تحيد عنه ،فقد تضم غرضين أو أكثر ،ولكنها تنسب إلى ما نظمت من أجله،
هجاء ،أو مدحاً ،أو فخراً ،وإن تخللتها موضوعات جانبية أخرى.
وفي موضوع الغزل ،تتردد عند النقاد والدارسين ،من قدماء ومعاصرين ،أربعة ألفاظ تتقارب في
مفهومها ،وتتشابك في دالالتها ،وهي :الغزل ،والتغزل ،والنسيب ،والتشبيب.
وقد حاول بعضهم أن يبين الفروق المعنوية بينها ،ولكنهم لم يصلوا إلى القول الفصل في ذلك.
ومن أبرز سمات الغزل عند الجاهليين ،ظاهرة التعلق بالمرأة والسعي إلى مودتها ،ووصف مفاتنها
الجسدية .وإمام الشعراء في ذلك هو امرؤ القيس ،الذي قضى شبابه في اللهو والشراب ،وأصاب من
الغزل والمرأة ما جعله السابق المجلّي في هذا المضمار .وأشعاره ،والسيما معلقتهُ ،
ص َو ٌر وحكايات لما
كان بينه وبين النساء.
وكذلك ثمة جانب من هذا المذهب الحسي ،في الحديث إلى المرأة وفي وصفها عند شعراء آخرين
كاألعشى والنابغة الذبياني .ويمكن الخروج من قراءة أشعارهم الغزلية إلى جملة من المقاييس التي كانوا
يعتدون بها في تقويم الجمال ،والمفاتن الجسدية :فالمرأة تشبه بالدرة الصدفية حيناً ،والدمية المرمرية حينا ً
آخر .وأصابعها لينة كالعَنَم ،ولونها المفضل هو البياض ،وخصرها ضامر نحيل ،بخالف ردفها الذي
يستحسن أن يكون ثقيالً مكتنزا ً وساقيها اللتين يستحب أن تكونا ممتلئتين ،والشعر طويل فاحم ،واألسنان
بيضاء نقية ،والمشية هينة مترسلة.
وقد ينصرف الشاعر في غزله إلى التغني بفضائل المرأة وذكر مناقبها وكريم سجاياها ،وعفتها ،وال
سيما عند وقوفه على األطالل توخيا ً لتهيئة األذهان وشد األسماع قبل الوصول إلى غرضه األساسي.
أما تصوير الشاعر الغزل لما يقاسيه من تباريح الصبابة ،وما يعانيه من عذاب مقيم ،وآالم مبرحة،
وهيام طاغ ،فهذا كله منبث في أشعار المتيمين من الجاهليين الذين قضوا حياتهم يعانون ألم النوى،
ويقضون الليل ساهرين أرقين ويشكون من تجني المحبوبة ،حتى تنحدر دموعهم ،وتتقرح أكبادهم.
والشعراء ،الذين سلكوا هذا المذهب ،معظمهم من العشاق الذين عرفوا بالعفة والبعد عن األوصاف
الحسية للجسد ،ومعاناة األشواق الالذعة ،ويمكن أن يعد غزلهم النواة األولى للغزل العذري الذي عرف
في العصر األموي ،ذلك أن كل واحد منهم اقترن اسمه بصاحبته التي اشتهر بها ،ومنهم عنترة صاحب
سعدي و َميْالء ،وعبد هللا بن العَجْالن وهند ،وغيرهم.
عبلة ،ومثال المخبَّل ال َّ
المديح :كانت للناس في العصر الجاهلي مثل عليا ،ومعايير خلقية تعارفوا عليها ،وورثوها عن
أجدادهم ،كالشجاعة والكرم ،وحماية الجار ،وإغاثة الملهوف وعراقة النسب .وجاء شعر المديح ليشهد
بهذه السجايا وما هو منها بسبب :كالعقل ،والعفة ،والعدل ،والرأي السديد .وقد يستدعي المقام والمناسبة
ذكر مناقب أخرى تأتي في ساعتها :من جميل يؤثر ،وصنيع يقدم ،وأسير يطلق سراحه ،فيكون االعتراف
بذلك الجميل ،والشكر لذاك الصنيع.
وهكذا قام المديح مقام السجل الشعري في رسمه لنواح كثيرة من حياة األعالم ،ملوكاً ،وسادة،
وأجواداً ،وبذلك أغنى التاريخ وكان رديفا ً له ومتمماً ،وإن كان يمتزج غالبا ً باإلسراف والمبالغة ،ويختلط
فيه الواقع بالخيال ،والعقل بالعاطفة والحق بالباطل .ولذلك ينبغي أن يقف الباحث من شعر المدح موقف
الحذر والنقد والتمحيص ،وأال يأخذه على أنه صدق ال كذب فيه ،أو حقيقة ال يشوبها الشك.
وقد سلك الشعراء المدَّاحون في العصر الجاهلي طريقين ،أحدهما أو كليهما ،األول هو طريق التكسب
واالحتراف ،وميدانه قصور الملوك ،ومجالس األمراء ،وأفنية األشراف واألعيان .وقد انحرف الشعر إلى
هذا الميدان على يد النابغة الذبياني ،الذي سن للشعراء سنة المديح الرسمي -في تنقله بين قصور المناذرة
والغساسنة -ومدح ملوكهم ،كما سخر شعره لكل من يجود عليه أو يرعاه في كنفه ،وكان هذا أول
االحتراف في المديح والتكسب به .وقد حظي النعمان بن المنذر بنصيب وافر من ذلك.
وجاء األعشى ليسير على سنن النابغة في المديح ،بل إنه أسرف في المسألة والتكسب ،فأصبح يمدح
كل من أعطى ،ويشكر بشعره ك َّل من أكرم ،حتى يخرج عن حدود التصديق ،كما في مديحه لألسود بن
المنذر اللخمي -شقيق ملك الحيرة -ولهوذة الحنفي.
ومن هؤالء الشعراء المتكسبين أيضاً :حسان ابن ثابت ،والمسيب بن علس ،والمنخل اليشكري،
والممزق العبدي ،والحارث بن ظالم ،وعلباء بن أرقم.
أما الطريق الثاني :فهو طريق اإلعجاب والشعور الصادق .والشعر هنا يصدر -فيما يقول -عن حب
عميق ،وإحساس نقي ،ال تملق فيهما وال تزلف .وحامل لواء هذا الشعر هو زهير ابن أبي سلمى ،الذي
سخر شعره لكل من قام بإصالح ذات البين ،أو صنع مأثرة كريمة ،نائيا ً بأشعاره المدحية عن المبالغة
والشطط.
ومن ممدوحيه :هرم بن سنان ،والحارث بن عوف ،اللذان أصلحا بين عبس وذبيان ،في حرب داحس
والغبراء ،وبذال من أموالهما ديات القتلى حقنا ً للدماء ،ونشرا ً للسالم بين المتحاربين.
الفخر :وهذا فن شعري تربطه بالمدح صالت وشيجة ،فالمعاني التي تتردد في المدح ،هي نفسها مما
يتغنى به الشعراء مفتخرين .ذلك أن الحياة العربية في العصر الجاهلي قامت على مواجهة المخاطر،
والمزاحمة على الماء والكأل ،والشجاعة في القتال ،وما يتصل من ذلك كله بسبب :كالتغني بالبطوالت
وشن الغارات ،وتمجيد االنتصارات ،وكثرة العدد والعدة ،ومنازلة األقران ،ونجدة الصريخ ،والحفاظ
على الشرف والجار ،وهذه األمور جميعا ً أذكت قرائح الشعراء ،ووفرت لهم أسباب التفاخر والتباهي،
منفردين ومجتمعين ،فانطلقت ألسنتهم بأشعار زاخرة بالعاطفة القوية ،واالنفعال العميق ،تبرز فيها
الحقائق التاريخية مجلببة بجلباب الخيال والمغاالة.
وهذا الفخر يكون قبليا ً تارة تسيطر عليه روح حماسية جارفة ،وهذا شأنه دائما ً في مواطن الكر والفر،
واألخذ بالثأر وتضييق الخناق على األعداء ،واستطابة الموت عند الحرب ،إذ ينطوي شعر الفخر على
دفقات قوية من الحماسة ،ويكون من ذلك مزيج متالزم .ومن خير ما يمثل هذا الفخر القبلي الحماسي
معلقة عمر بن كلثوم التغلبي ،التي سجل فيها انتصارات قبيلته ،ومنعتها ،وما يتحلى به أفرادها من
شجاعة وإقدام ،وسطوة وهيبة وأنفة وإباء.
وهذه الحماسة المزهوة ال تحول دون إنصاف الشاعر ألعدائه ،واإلقرار بقوتهم وشجاعتهم ،وعرفت
في الشعر الجاهلي قصائد من هذا القبيل سميت «المنصفات» ومن أصحابها :العباس ابن مرداس،
وعوف بن األحوص ،وخداش بن زهير.
ويكون الفخر تارة أخرى ذاتيا ً ينبعث من نفوس تهوى العزة والمجد ،وتحرص على بناء المكارم،
والتباهي بمآثرها الفردية ،ويبدو هذا الفخر الذاتي لدى طائفة من الشعراء الفرسان واألجواد ،كعنترة،
وحاتم الطائي ،وعمرو بن اإلطنابة ،والشعراء الصعاليك كالشنفرى ،وتأبط شراً ،وهنا يحلو للشاعر أن
يتحدث عن نفسه وخصاله ،وعراقة أصله ،وطيب منبته ،ومايتحلى به من كرم ومروءة وحماية للجار،
وغير ذلك من الفضائل الخلقية .وفي معلقات طرفة بن العبد ،ولبيد بن ربيعة ،وعنترة بن شداد ،صور
كثيرة من هذا الفخر الفردي ،تتالقى على صعيد واحد ،وقد وشحها أولئك الشعراء بذكر القصف واللهو،
والفخر بشرب الخمرة في معرض الحديث عن الكرم واإلكرام.
الرثاء :يلتقي الرثاء والمديح في أنهما كليهما إشادة بالمرء وإعالء شأنه ،لكن األول إشادة بالميت
وخصاله ،والثاني إشادة بالحي وتمديد لمآثره وسجاياه .ويمتاز الرثاء أيضا ً بأنه فن شعري ثابت المعاني
والهدف ،ألنه يعبر في معظم أحواله عن انفعال وجداني ،وشعور عميق بالحزن واأللم ،حين تفقد األسرة
أو القبيلة ،عزيزا ً فيغمرهم الحزن وتتحرك الشاعرية لتعبر عن األسى المشترك ،والخسارة الفادحة
والمجد الذي انهد ركنه ،والشمائل التي حكم بها الموت للقبر والتراب .وقد يصحب تعداد شمائل الميت،
والبكاء عليه ،أخذ بأسباب العزاء فيه ،ودعوة إلى الصبر على حدثان الدهر ،والتأسي بمن طوتهم المنون
من قبل ،ألن الدنيا دار فراق وزوال ،ال دار خلود وبقاء ،وليس أمام اإلنسان سوى االستسالم لألقدار،
والقبول بالقضاء.
هذه المعاني واألفكار ،في جملتها تتردد في أشعار الرثاء عند الجاهليين ،وقد يطغى جانب منها في
القصيدة على آخر ،أو تتفرع عنها معان جرئية ،ولكن تظل المناحي األساسية بارزة في تلك األشعار.
وإذا كان المرثي ذا منزلة رفيعة لجأ الشاعر إلى المبالغة وتهويل الخطب وإشراك الطبيعة في
استعظام المصاب.
وقد اشتهر عدد من الشعراء أجادوا الرثاء في العصر الجاهلي ،منهم :المهلهل بن ربيعة ،ودريد بن
الصمة ،وأعشى باهلة ،ولبيد ،وطفيل الغنوي ،وأوس بن حجر ،وأبو دواد اإليادي .كما عرف كثير من
النساء بإجادة هذا الفن الشعري والنبوغ فيه ،كالخنساء ،وجليلة زوجة كليب ،وسعدى بنت الشمردل.
والرثاء عند هؤالء الشعراء والشواعر ،منه ما يكون في األقرباء األدنين :كما في رثاء المهلهل ألخيه
كليب ،والخنساء ألخويها صخر ومعاوية ،ولبيد ألخيه أربد .ومنه ما يكون في أناس آخرين ،من ذوي
المكانة والشأن في قبيلة الشاعر ،أو في غيرها من القبائل ،ممن تقربهم إلى الشاعر صالت وثيقة .ومن
ذلك قصيدة أوس بن حجر ،التي رثى فيها فضالة األسدي ،وتعد من عيون المراثي في العصر الجاهلي:
ومطلعها:
والرثاء عند الجاهليين يكثر فيه ترداد ألفاظ معينة ،كالجملة الدعائية« :ال تبعد» أو «ال تبعدن» كما
يكثر الدعاء بالسقيا لقبر الميت« :سقيا لقبرك» «سقاك الغيث» وذلك ليبقى ما حول القبر خصبا ً ممرعاً.
الهجاء :حظ هذا الفن في الشعر الجاهلي قليل؛ إذا قيس إلى الفخر أو الغزل مثالً؛ ولكن أثره كبير في
النفوس ،ووقعه أليم في األفئدة ،ألنه يقوم على إذالل المهجو ،وتجريده من الفضائل والمثل التي يفتخر بها
القوم ،أو التي بها يمدحون .ومن ثم الفخر ،والمدح ،والهجاء ،تجمع ثالثتها جملة من الفضائل وأضدادها،
فالكرم ،مثالً ،فضيلة لديهم ،وفي مقابله تكون نقيصة البخل والشح ،والشجاعة ضدّها ال ُجبن .وهكذا.
وعلى هذا ،فإن الهجاء في الشعر الجاهلي هو انتقاص للخصم ،وتعيير له بجملة من المخازي
والمساوئ التي يستهجنها مجتمعه ،فمنها ما هو في مجال الحروب والغزوات التي حفلت بها حياتهم:
كالجبن ،والفرار عند اللقاء ،والوقوع في األسر ،ودفع الفدية ،ومنها ما هو في حيز العالقات االجتماعية،
والنقائص النفسية :كالبخل ،واالعتداء على الجار ،واللؤم ،والغدر ،والقعود عن المكارم ،وما يتفرع عن
ذلك كله من المعايب والسقطات التي يعدها العربي عارا ً يبرأ منه ،أو يحذر الوقوع فيه ،لئال يصيب منه
الشاعر مقتالً .فضالً عما تحرص عليه القبيلة في أفرادها كافة من كرم األحساب ،ونقاء األنساب ،لئال
تتحطم سمعتهم ،أو ينهار بناء أحسابهم وأنسابهم ،فيكونوا نصبا ً للهجاء.
والهجاء عندهم على ضربين :هجاء فردي ،وآخر جماعي يتجه إلى القبيلة نفسها وقد يجمع الشاعر
بينهما.
وهجاء الجاهليين عامة يسلك مسلك الجد .وال يدخله اإلفحاش وال الشتيمة الصريحة ،ولكن ربما داخله
شيء من السخرية والتعريض والتلميح الموجع ،بدالً من الهجاء المباشر.
الحكمة :الحكمة قديمة في أشعار الجاهليين ،ألننا نعثر عليها عند أوائلهم ،كامرئ القيس وعبيد بن
األبرص ،كما حفلت بها قصائد الشعراء اآلخرين على مر السنين .وحكمهم مستمدة من بيئتهم التي عاشوا
في كنفها ،حربا ً وسلماً ،وعالقات وعادات ،وأخالقا ً وسجايا ..وهذه الحكم صدى لصفاء الفطرة ،ودقة
اإلحساس ،وغنى التجارب ،والقدرة على استخالص العبرة من الحوادث ،وال تخلو ،في الوقت نفسه ،من
قيمة تاريخية ،وداللة اجتماعية ،ونواح أخالقية ،وفلسفة عملية تختلف من زمن إلى زمن ،ومن إنسان إلى
آخر ،ألنها تعبر عن آراء أصحابها ،ومواقفهم من الحياة والناس ،وتفكيرهم في تقلبات األيام .وتحمل في
طياتها نظرات ثاقبة ،وبصيرة واعية ،إزاء قضايا الناس والحياة ،ويسوقها الشاعر في مطاوي القصيدة أو
في نهايتها.
وتعد المعلقات أوضح األمثلة للقصائد التي تحفل بالحكم ،على تنوع موضوعاتها وأغراضها ،كمعلقة
زهير ،التي أرسل فيها نحو العشرين بيتاً ،وبدا في سردها هادئ النفس ،رصين التأمل ،واقعي التناول
لقضايا الحرب والسلم ،والحياة والموت ،وخفايا النفس اإلنسانية.
وأما طرفة ،الشاعر الشاب ،فإن حكمه في معلقته تنبع من شخصيته العابثة ،التي تريد أن تستبق
اللذات قبل أن يفاجئها الموت ،ألن الحياة أشبه بكنز يتناقص شيئا ً فشيئاً ،والموت سيأتي على كل حي ،وال
راد لما يأخذ.
وتنبث الحكم في قصائد الشعراء اآلخرين :كلبيد ،وعبيد بن األبرص ،وحاتم الطائي ،وأوس ابن حجر
وعلقمة بن عبدة ،واألفوه األودي .وانفرد منهم أمية بن الصلت باإلكثار من الحكم التي تعتمد على أخبار
األديان واألمم الغابرة ،وقراءة الكتب ،ولذلك اجتمعت فيها روافد التجربة والثقافة معاً .وكان طابعها دينيا ً
ممزوجا ً بالكالم على زوال الحياة وتحكم حوادث الدهر في الناس.
الوصف :الوصف يغلب على أبواب الشعر جميعاً ،فهو باب واسع ،يشمل كل ما يقع تحت الحواس من
ظواهر طبيعية ،حية وصامتة .وهكذا كان عند شعراء العصر الجاهلي الذين عايشوا الصحراء في حلهم
وترحالهم ،وألفوا القفار الموحشة ،وما فيها من جبال ووديان ومياه وحيوانات أليفة وغير أليفة ،فوصفوا
ذلك كله ألنه وثيق الصلة بحياتهم وتقلباتهم.
وكانت الناقة صاحبة الشاعر في جوبه لتلك الفيافي والمفاوز ،وعليها اعتماده في كثير من أحواله،
لذلك أكثر فيها القول ،وافتن في وصف أجزاء جسمها ،وصور كل أحوالها في سيرها وسرعتها،
وصبرها على مشاق السفر ،حتى كادت الناقة تستأثر بنصيب وافر في طول القصائد التي نظمها أصحاب
المعلقات وغيرهم ،كبشامة بن الغدير ،والمثقب العبدي ،والمسيب بن علس ،وأوس بن حجر ،وغيرهم.
والفرس هو الحيوان الثاني الذي يرافق الشاعر الجاهلي ،ويقاسمه العيش ،ويتحمل معه التعب والعناء،
والسير والسرى ،والسيما في خروجه إلى الصيد ،وخوضه الحروب .وقد عني العرب بالخيول األصيلة،
واتخذوا لها أسماء خاصة ،وحفظوا أنسابها أيضاً ،فال غرابة أن يصفها شعراؤهم في قصائدهم ،ولكل
واحد من هؤالء الشعراء طريقته الخاصة في وصف فرسه ،سواء أكان ذلك في مجال الصيد واللهو،
والمزرد ،أم كان وصفا ً عاما ً للفرس ،على أنه
َّ كامرئ القيس ،أم كان في ميادين الحرب والقتال :كعنترة
مجلى النظر وموضع الفخر ،كما هو الشأن عند طفيل الغنوي وأبي دواد.
ولم يكتف الشعراء بوصف الناقة والفرس ،وإنما وصفوا ضروب الحيوان األخرى في بيئتهم والسيما
الثور الوحشي ،والبقرة الوحشية ،وجعلوا وصفهم لهذين الحيوانين ذريعة إلى وصف الناقة بالسرعة
والخفة عن طريق تشبيهها بأحدهما ،وتخيل معركة ضارية بين الثور ،أو البقرة من جهة ،وكالب الصيد
من جهة أخرى .وتنتهي هذه المعركة غالبا ً بنجاة الحيوان الوحشي ،وتغلبه على الكالب ،أو طعنه أحدها
بقرنه.
كما يرد في قصائد الشعراء أوصاف لحيوانات أخرى :كالهر ،والديك ،والحية ،والذئب،والنعامة،
والغراب .وهذه األوصاف كلها تأتي في ثنايا القصائد الطويلة ،أما مطالع تلك القصائد فقد استأثر بها
وصف األطالل والرسوم الدارسة ،التي تؤلف ركنا ً قويا ً ثابتا ً في أول القصيدة الطويلة ،كالمعلقات
وغيرها ،إذ يقف الشاعر على تلك األطالل ويصفها ويناجيها ،ويذكر ما فعلته فيها الرياح واألمطار
مشبها ً إياها بآثار الكتابة أو الوشم.
وكذلك وصف الشعراء الجاهليون مظاهر الطبيعة حولهم كالليل ،والسحاب ،والرعد ،والبرق،ووصفوا
كذلك الخمر ومجالس الشرب واللهو والحرب وأسلحتها المختلفة .وهذا كله يدل على عناية أولئك الشعراء
وغيرهم بوصف كل ما يحيط بهم وصفا ً دقيقاً ،في بساطة وجمال ،وصدق في التعبير عن المشاعر
واإلحساسات ،وتعاطف مع الحيوان عامة ،بوساوسه وحذره وجرأته .معتمدين على القالب القصصي في
كثير من األحيان ،وعلى التشبيه وسيلة لألداء والتصوير.
خصائص الشعر الجاهلي :هذا الشعر الذي وسم بأنه «ديوان العرب» وسجل حياتهم وعاداتهم ،قد
صور البيئة التي نشأ فيها أصحابه أصدق تصوير ،في واقعية وبساطة ووضوح ،ال غلو فيها وال تعقيد،
إال بما يتفق ومهمة الشعر ،من حيث كونه فنا ً جماليا ً ال يلتزم الحقيقة والواقع التزاما ً علميا ً دقيقاً ،وإنما
يهدف إلى اإلمتاع واإلثارة والتشويق .ومن شأنه في هذه الحالة أن يتجاوز الواقع أحياناً ،أويعتمد على
الخيال والتصوير الحسي المستمد في الوقت نفسه من البادية ومعطياتها ،منتقالً بين الحقيقة والمجاز ،في
نقل الصور والمشاهد ،أو التعبير عن األفكار والمشاعر ،في إيجاز حيناً ،وإطالة حينا ً آخر بحسب المقام
والغرض.
ويالحظ في الشعر الجاهلي كثرة ذكر األماكن والمياه والوديان ،والسيما في مطالع القصائد ،وصفا ً أو
مناجاة ،ألنها تحفل بالذكريات الحية :فهي مواطن األحبة ومسارح الصبا وميادين الحروب واالنتصارات.
والطابع القصصي يغلب على الكثير من المواقف ،في جاذبية وجمال ،ولكنه يميل إلى السرعة
واإليجاز ،كما في وصفهم للحيوان الوحشي ،ووصف الصعاليك لمغامراتهم وغزواتهم الفردية ،وغزل
بعض الشعراء كالمنخل اليشكري ،والمرقشين :األصغر واألكبر .ويبدو ذلك أيضا ً في أبيات أوس بن
حجر التي وصف فيها قصة القوس وحفظ الراعي لها في رأس جبل عال ،حتى حظي بها امرؤٌ استخدمها
في الرمي ،بعد أن أعدها صانعها وتأنق فيها.
وقد يتشابه الشعراء الجاهليون ،في بعض المعاني ،والصور حتى في األلفاظ أيضاً ،وهذا ظاهر في
أوصافهم للناقة والفرس ،والمرأة ،وأدوات الحرب ،والوقوف بالديار ،حتى ضاق عنترة ذرعا ً بذلك فقال:
هل غادر الشعراء من متردم؟ ،ومثله زهير في قوله:
مـــا أرانـــا نقـــول إال معـــارا أو معـــادا مــن قـــولنا مــكرورا
وسبب ذلك ضيق الحياة في ذلك العصر ،واقتصار البيئة على معطيات واحدة ،وشدة تطبع العربي بتلك
البيئة التي ترعرع فيها ،ونشأ على أعرافها وتقاليدها .واقتفاء الشاعر خطا من سبقوه من الشعراء وتأثره
بهم .ولكن هذه الظاهرة لم تحل دون بروز شخصية الشاعر الفنية ،وأدواته الخاصة في التعبير
والتصوير ،واالبتكار والتوليد ،والنفوذ إلى دقائق كثيرة ،يجلوها أتم جالء ،ويكشف عنها ببراعة ومهارة.
ومما يلفت النظر ،في طول القصائد الجاهليات ،فقدان وحدة الموضوع منها .ويخضع ذلك لما دعاه
النقاد بمنهج القصيدة ،أو هيكلها.
وقد استمر ذلك إلى العصر العباسي ،وتمسك به كثير من الشعراء والنقاد المحافظين ،وتحدث عنه ابن
قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» وعلل مراحل االنتقال من موضوع إلى آخر ضمن القصيدة المدحية،
راويا ً عن بعض أهل األدب« :أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن واآلثار ،فبكى وشكى،
وخاطب الربع ،واستوقف الرفيق ،ليجعل ذلك سببا ً لذكر أهلها الظاعنين عنها ..ثم وصل ذلك النسيب،
وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ،ويصرف إليه الوجوه ..فإذا فشكا شدة الوجد ،وألم الفراقْ ،
علم أنه قد استوثق من اإلصغاء إليه ،واالستماع له عقب بإيجاب الحقوق ،فرحل في شعره ،وشكا النصب
والسهر ،وسرى الليل فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء ..بدأ في المديح فبعثه على المكافأة،
وهزه للسماح ،وفضله على األشباه ،وصغر في قدره الجزيل».
ويعقب ابن قتيبة على ذلك قائالً« :فالشاعر المجيد من سلك هذه األساليب ،وعدل بين هذه األقسام ،فلم
يجعل واحدا ً منها أغلب على الشعر ،ولم يطل فيمل السامعين ،ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد».
ويمكن تعليل تعدد الموضوعات في طوال القصائد بأن الشاعر كان يخضع ألصول فنية متوارثة
تأصلت على مرور الزمن والتزمها الشعراء فغدا الهيكل العام للقصيدة يؤلف وحدة فنية داخلية بديلة عن
الوحدة الموضوعية.
ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضا ً أن هذا الشعر قد وصل إلينا باللغة التي غلبت في العصر الجاهلي
قبيل اإلسالم ،وهي اللغة األدبية المشتركة بين الشعراء والكتاب والخطباء ،وإن كان هؤالء ينتمون إلى
قبائل مختلفة .وقد وصل إلينا هذا الشعر كامل الصياغة ،ناضج اللغة ،موحد القوالب ،ذا قوة وجزالة،
ومتانة في العبارة ،وإذا وجد قارئه شيئا ً من األلفاظ الغريبة فيه ،فإنما هي كذلك بحسب ما نعرفه نحن
اليوم من تلك األلفاظ التي بعد العهد بها ،وندر استعمالها بين الشعراء والكتاب ،لكنها لدى الجاهليين
أنفسهم كانت مألوفة ومعروفة.
النثر الجاهلي
بنى العرب مجدهم األدبي ،في العصر الجاهلي ،على الشعر .ومع أن الكتابة كانت معروفة لهم -فإن
ما وصل إلينا من نثرهم قليل جداً .وكانت الكتابة تقتصر على جوانب تتصل بحياتهم السياسية
وا الجتماعية والتجارية ،من رسائل ،وعقود ووصايا ومواثيق .وفي القرآن الكريم إشارات إلى كتابة
الديون ،وحديث عن رحلتي قريش ..ومثل هذه الرحالت التجارية تستدعي الكتابة والتسجيل.
وليس المراد بالنثر الجاهلي هنا ذلك النثر العادي الذي يتخاطب به الناس ،وإنما المراد به النثر األدبي
أو الفني الذي يعنى صاحبه بتجويده ،وإتقانه لينال إعجاب القارئ ،من حكمة تقال ،أو قصة تروى ،أو
مثل يضرب ،أو خطبة تلقى ،أو رسالة تدبَّج ،أو وصية بليغة تنقل.
مثل هذا النثر الفني قليل الوجود بين أيدينا بلفظه األصلي الذي صدر عن أصحابه ألن حفظ النثر
أصعب من حفظ الشعر ،لكن الذاكرة األدبية للرواة اكتسبت على مر العصور أصالة ومراناً ،مما أتاح لهم
أن يحتفظوا بنصوص من ذلك النثر ،في صورتها األصلية ،وبأخرى ليست موافقة ألصلها كل الموافقة،
ولكنها صورة قريبة منه ،يمكن من خاللها تحديد خصائصه الفكرية والفنية .وهذه النصوص النثرية
الجاهلية ،األصلية والقريبة من األصل ،وردت في طائفة من المصادر األدبية والتاريخية القديمة .وكان
في تلك النصوص فنون أدبية نثرية ،تأتي في مقدمتها :الخطابة -ويلحق بها المنافرات ،وسجع الكهان -
ثم الحكم واألمثال -ويلحق بها الوصايا والنصائح -ثم القصص ،فالرسائل.
وقد تعددت أغراض الخطابة وأنواعها ،إزاء هذا االزدهار ،فكانت وسيلة للتحريض على القتال ،أو
لألخذ بالثأر ،وربما كانت في الوقت نفسه سبيالً إلى إصالح ذات البين أو إرساء قواعد السلم .وقد تكون
في إشاعة المفاخر ،واإلشادة باألنساب أمام الملوك وزعماء القبائل ،واألمراء.
وقد تلقى الخطب في مناسبات الزواج ،والمصاهرات بين ذوي األحساب واألنساب ،فيتكلم خطيب من
كل جانب .قال الجاحظ« :كانت خطبة قريش في الجاهلية ،يعني خطبة النساء :باسمك اللهم ذكرت فالنة،
وفالن بها مشغوف .باسمك اللهم ،لك ما سألت ،ولنا ما أعطيت».
وكانت للخطباء سنن وتقاليد يتبعونها عند إلقاء خطبهم ،كأن يقف الخطيب على مرتفع من األرض،
معتمدا ً على قوسه ،أو ممسكا ً بعصا يشير بها ،وقد يخطب راكبا ً على ناقته ،وبيده الرمح ،وقد الث
العمامة على رأسه.
ومما يمدح به الخطيب عندهم :حضور البديهة ،وقلة التلفت ،وقوة الجنان ،وظهور الحجة ،مع جهارة
الصوت .وفي مقابل ذلك كانوا يعيبون على الخطيب التنحنح ،واالنقطاع ،واالضطراب ،والتعثر في
الكالم .وقد استقرت للخطابة في العصر الجاهلي مجموعة من الخصائص الفنية ،كان الخطباء يحرصون
عليها في خطبهم ،منها مراعاة السجع في مقامات الفخر خاصة .أما في خطب المحافل وإصالح ذات
البين ،مثالً ،فكانوا يستخدمون األسلوب المرسل الذي ال يغفل صاحبه -في الوقت نفسه -تجويده
وتنقيحه ،والتروي فيه ،سعيا ً إلى إثارة السامعين واستمالتهم .وهذا ما جعلهم يؤثرون قصر العبارة في
خطبهم ،وتوشيحها ببعض الحكم واألمثال ،أما الخطبة نفسها فقد تطول ،وقد تقصر ،ولكل منهما مقام
وموضع وقدر من العناية.
المنافرات :وهي مفاخرات كانت تحدث بين اثنين أو أكثر من سادة العرب وأشرافهم ،وفيها يشيد كل
من المتفاخرين بحسبه ونسبه ومجده وسجاياه ،أمام حكم من أشراف العرب أو كهانهم ،ليكون له القول
الفصل في تفضيل أحد الطرفين على اآلخر .ولكن الحكم يسعى في كثير من األحيان إلى الصلح بين
المتنافرين ،تفاديا ً للشر ،ويتحاشى الحكم ألحدهما على اآلخر ،ويلقي عليهم كالما ً بليغا ً يدعوهما فيه إلى
السالم والصفاء .ومن ذلك ما كان من هرم ابن قطبة الفزاري ،حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن
عالثة بعد أن اشتد النزاع بينهما ،فجعل هرم يطاولهما ،ويمهد للصلح بينهما ،حتى قال لهما أخيراً« :أنتما
كركبتي البعير ،تقعان إلى األرض معا ً وتقومان معا ً» .فرضيا بقوله وانصرف كل منهما إلى قومه.
واشتهر من هؤالء الحكام أيضاً :ربيعة بن حذار ،واألقرع ابن حابس ،ونفيل بن عبد العزى ،وهاشم بن
عبد مناف.
وربما جرت المنافرة بين قبيلتين :كربيعة ومضر ،أو قيس وتميم .وهذا ما يحيل المنافرة إلى صورة
من صور الخطابة ،إذ يقف كل سيد ليعدد مآثر قومه أمام الحكم ،بحضور سادة القبائل وأشرافها ويحاول
التأثير في السامعين ليحوز اإلعجاب والحكم له بالغلبة على خصمه.
وإذا فصل الحكم بين المتنافرين ،سجع في كالمه حيناً ،وأرسله حينا ً آخر .وهو يحرص على السجع
والقسم والسيما إذا كان من الكهان.
سجع الكهان :والك ّهان عند العرب طائفة ذات قداسة دينية ،وسلطان كبير لدى القبائل ،شأنهم شأن
الحكام في المنافرات .وكانوا يزعمون االطالع على الغيب ،وأن لكل منهم رئيّا ً -أي صاحبا ً من الجن -
يعرف الكاهن عن طريقه ما سيكون من أمور .وكان الناس يتوافدون على هؤالء ال ُك ّهان من مختلف
الجهات فيحكمونهم في منازعاتهم ،ويستشيرونهم في أمورهم الخاصة وما يزمعونه من أعمال ،أو ما
يرونه في منامهم من أحالم .وكانوا يستخدمون في أحكامهم وأقوالهم ضربا ً من النثر المسجوع عرفوا به.
وقد ظهر في العرب عدد من هؤالء الكهان ،وفيهم من كانوا حكاما ً في المنافرات أيضاً .ومنهم :سطيح
ع ّزى سلمة ،وعوف األسدي. ،بل كان فيهم الذئبي ،وشق األنماري ،وسلمة ابن أبي حيّة ،المشهور باسم ُ
نساء كاهنات أيضاً ،من أمثال :فاطمة الخثعمية ،وطريفة اليمينية ،وزبراء.
ويالحظ في نصوص الكهان أنها تحمل طابع التكلف الشديد في سجعها ولهذا ال يطمأن إليها كلها،
فربما شاب بعضها الوضع والنحل ،وربما كان بعضها محفوظا ً صحيحاً ،لقصره وإيجازه.
ومن خصائص أسجاع الكهان أنها -في جملتها -كالم عام ،ال يرشد السامع إلى حقائق جلية ،وإنما
يضعه في الغموض واإلبهام ،باصطناع السجع ،واإليماء ،وقصر الجمل إللهاء السامع عن تتبع ما يلقى
إليه من األخبار العربية ،وجعله في حالة نفسية مضطربة تساعد الكاهن على الوصول إلى ما يريد ،بكل
سهولة ويسر ،ويكون المخاطب ،بتلك اإلشارات الغامضة ،واأللفاظ المبهمة ،واألقسام المؤكدة،
واألسجاع المنمقة ،مستعدا ً لقبول كل ما يقال له ،بال جدال أو اعتراض ،وتأويل ما يسمعه بحسب حالته
ومدى فهمه.
الحكم واألمثال :وربما كانت وحدها التي وصلت إلينا كلها كما نطق بها أصحابها ،بال تغيير أو
تحريف ،وال زيادة أو نقص ،لما تمتاز به من تركيز بالغ ،وإيجاز شديد ،وقبول للحفظ والشيوع على
األلسنة في كل مناسبة ،وبذلك تكون أصح ما بقي من النصوص الجاهلية ،وأقربها إلى أصولها األولى،
وإن كانت ال تقدم صورة كاملة عن النثر الجاهلي.
الحكم واألمثال جمل قصيرة بليغة ،خالية من الحشو ،أوحت بها تجارب الحكماء والمعمرين في الحياة
والعالقات بين الناس ،وهي ثمار ناضجة من ثمرات االختبار الطويل ،والرأي المحكم .وقد اشتهر عند
العرب في العصر الجاهلي طائفة من أولئك الحكماء ،مثل :لقمان عاد وهو غير لقمان الحكيم ،المذكور
في القرآن الكريم ،وأكثم بن صيفي ،وعامر بن الظرب ،وأكثم بن عامر ،وهرم بن قطبة ،ولبيد بن ربيعة.
وبعض هؤالء يُعدون في الخطباء ،وحكام المنافرات أيضاً .وال يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد ،أو
شريف ،أو خطيب مشهور إال أضيفت إليه جملة من الحكم واألمثال.
والفرق بين الحكمة والمثل ،أن الحكمة قول موجز جميل ،يتضمن حكما ً صحيحا ً مسلما ً به .ألنه نابع
من الواقع ومعاناة التجارب في الحياة ،مثل« :آخر الدواء الكي ،وأول الشجرة النواة ،وإنك ال تجني من
الشوك العنب ،وإن العوان ال تعلم الخمرة.»...
وأما المثل فهو -في أصله -قول يقترن بقصة أدت إليه ،ويدري به اللسان أول مرة ،ثم يدخل في
نطاق األمثال حين يستشهد به في مقامات مماثلة ،وفي حاالت مشابهة للحالة األولى التي ورد ذلك القول
فيها .ولذلك تحكى األمثال بألفاظها األصلية ،بال تغيير وال تصرف ،مهما كان وضع المخاطب أو نسق
الكالم.
وقد دون العرب حكمهم وأمثالهم منذ أوائل العصر األموي ،وهذا مما ساعد على حفظها وتواترها
على األلسنة.
وأكثر تلك الحكم واألمثال ال يعرف أصحابها أو قائلوها ،وقد سيقت بأسلوب سهل ،ال أثر للصنعة
اإلنشائية فيه ،وبعضها بل أكثرها ،يعد من اإلنشاء الرفيع ،والسبك الجيد .وكثير منها أشطار موزونة،
ربما كانت مقتطعة من أبيات كاملة ،مثل« :رضيت من الغنيمة باإلياب» وهو عجز بيت المرئ القيس،
و«خال لك الجو فبيضي واصفري» وهو أيضا ً عجز بيت لطرفة« .والبس لكل حالة لبوسها» وهو رجز
قديم ،ال تعرف تتمته وال صاحبه.
وال تخلو صياغة بعض الحكم واألمثال أحياناً ،من خروج على النظام اللغوي .كقولهم« :مكره أخاك،
ال بطل» و«أعط القوس باريها» و«أجناؤها أبناؤها» والقياس« :جناتها بناتها» ألن «فاعالً» ال يجمع
على «أفعال».
وهذه الحكم أو األمثال هي -على كل حال -صورة لحياة العرب في الجاهلية ،وألساليبهم ولهجاتهم،
وجانب من نثرهم ،فيها البساطة والسهولة التي ال تخلو أحيانا ً من السجع واالحتفال بتوازن الكلمات
وجمال الصنعة والتصوير.
الوصايا :يمكن إلحاق الوصايا بالحكم واألمثال لتضمنها كثيرا ً من تلك األقوال الموجزة النابعة من
التجربة ،حتى لكأن الوصايا أحيانا ً قائمة على جملة من الحكم واألقوال المأثورة.
وتروى هذه الوصايا عادة على ألسنة طوائف من الحكماء والمعمرين ،الذين عرفوا بكثرة تجاربهم
وخبرتهم في الحياة ،من أمثال :ذي اإلصبع العدواني ،وزهير بن جناب الكلبي ،وعامر بن الظرب
العدواني ،وحصن بن حذيفة الفزاري .ومن النساء :أمامة بنت الحارث .ويغلب على الظن أن هذه الوصايا
جميعا ً رويت بالمعنى ،ولكنها ال تخلو من بعض العبارات األصلية المحفوظة ،والسيما في الوصايا
القصيرة .وهي -مع ذلك -تقدم صورة عن هذا الفن النثري ،ألن من رووها أو حفظوها قد راعوا أصوله
وتقاليده.
وما وصل إلينا من تلك الوصايا بعضه موجه إلى األبناء والبنات ،وبعضه اآلخر موجه إلى أفراد من
القبيلة .أما من حيث الموضوع والمضمون؛ فيمكن تقسيم الوصايا إلى نوعين:
وصايا اجتماعية :كالوصايا المتعلقة بالزواج ،والمال ،والصداقة ،والعناية بالخيل وإكرامها ،ومكارم
األخالق كتهذيب اللسان ،وتربية النفس ،والحث على الصدق ،والبذل والجود ...ومن شواهدها وصية ذي
اإلصبع العدواني -لما احتضر -البنه أسيد.
وصايا سياسية :تكون بين الراعي والرعية ،والدعوة إلى الحرب ،والدعوة إلى السلم والتحذير من
التنازع .والطابع العام للوصايا هو األسلوب المرسل ،الذي يترك فيه الموصى نفسه على سجيتها ،من
دون تنميق أو زخرفة ،مؤثرا ً وضوح العبارات ،ورشاقة التراكيب ،وقصر الجمل بما يحقق المناسبة بين
المعنى واللفظ وطبيعة المقام الذي تقال فيه الوصية.
القصص :ومن فنون النثر الجاهلي القصص وما يتصل منها بسبب ،كاألسمار ،والحكايات،
واألساطير ،التي تتناثر في كتب األدب والتاريخ واألمثال ،والتفسير ،وكتب الشواهد النحوية والبالغية،
الشراح مما يؤلف ذخيرة قصصية غزيرة ،تمثل في مضمونها جوانب من المجتمع العربي في َّ ومؤلفات
العصر الجاهلي ،أو ما هو قريب منه ،إذا صحت نسبتها إلى ذلك العصر.
وقد بقي الناس يتداولون هذه القصص عن طريق الرواية الشفوية ،حتى بدأ تدوين بعضها في العصر
األموي ،ولكن لم يصل إلينا شيء منه ،بل وصل ما د َُّون في أوائل العصر العباسي ،وما بعد ذلك ،بعد أن
تنقلت روايته في المجالس ،وزيد فيه ،ونقص منه ،وال يعرف مدونه وال راويه ،وإن حمل بعضه على
األصمعي وغيره ،سواء في ذلك ما كان فيه إطالة وتفصيل ،أو قصر وإيجاز .وقد كانت هذه القصص
الجاهلية المتداولة نواة للقصص الشعبي الذي ازدهر في العصرين :العباسي والمملوكي.
ولهذا كله ،يقع الشك في صحة نصوص القصص التي ترفع إلى العصر الجاهلي ،من حيث الصياغة
على األقل .ذلك أنها لم تدون في ذلك العصر قط ،وال فيما هو قريب منه ،بل صيغت بأساليب العباسيين،
ومن بعدهم ،الذين تصرفوا فيها صيغة ومضموناً ،والسيما الطويلة منها .وتكفي اإلشارة إلى أن أيام
العرب ومالمحهم الحربية تؤلف ينبوعا ً قويا ً لتلك القصص ،وقد دونها أبو عبيدة في شرحه لنقائض جرير
والفرزدق .ومن هذا التراث القصصي أيضا ً ما يتصل بملوك المناذرة والغساسنة والدولة الحميرية،
وغيرهم ممن سبقوهم أو عاصروهم ،كالزباء أو زنوبية .ومنه أيضا ً قصص العشاق وأخبارهم ،وبعض
األساطير عن الحيوانات كقصة الحية والفأس في خبر المثل« :كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟».
هذا ،إلى قصص أخرى متناثرة في كتاب األغاني وغيره عن عمرو بن كلثوم وربيعة بن مكدم ،وعبد
هللا بن جدعان ،وغيرهم .وكل ذلك من موروثنا النثري ،ولكنه ال يمثل أسلوب الجاهليين وال صياغتهم.
الرسائل :وآخر أنماط النثر الجاهلي وفنونه الرسائل ،التي تعد أقل فنون النثر شيوعاً ،ولكنها أكثرها
حاجة إلى التدوين الستخدام الجاهليين إياها في األمور التجارية والسياسية والقبلية ،وفي السفارة بينهم
وبين األكاسرة وملوك المناذرة والغساسنة .ومما يثبت ذلك أن لقيط بن يعمر اإليادي .مثالً ،كان يحسن
الفارسية ،وكان من مقدمي تراجمة كسرى سابور ،وكذلك كان عدي بن زيد العبادي وإخوته من كتاب
األكاسرة والمترجمين عندهم.
وما وصل إلينا من نصوص الرسائل الجاهلية قليل جداً ،منها ما هو ذو طابع سياسي كرسالة النعمان
بن المنذر إلى كسرى ،حين جهز إليه وفدا ً ضم وجوه العرب من قبائل مختلفة ،ليتكلم كل منهم أمام
كسرى بما يحضره عن مآثر العرب ومفاخرهم إذا صح هذا الخبر.
ومن تلك الرسائل ما يكون في القبائل ،من عهود ومحالفات تقتصر على أغراض ضيقة جداً ،ويمكن
أن تعد وثائق تاريخية .ومثالها كتاب التحالف بين عبد المطلب بن هاشم ،وقبيلة خزاعة على التناصر
والتعاون مدى األيام في جمل مرسلة معبرة ،تطول وتقصر ،مع قوة وإحكام.
خصائص النثر الجاهلي :هذا العرض السريع لفنون النثر الجاهلي ،واألعالم الذين اشتهروا في كل
فن ،يمكن أن يخرج منه بجملة من خصائص النثر الجاهلي ،الذي تناول -في مضمونه -قضايا تهم الفرد
والجماعة معاً ،في تلك المجتمعات القبلية التي تتحكم فيها عادات وأعراف موروثة ،وتنشد أخالقا ً وشمائل
وغايات ال تكاد تحيد عنها .فكان ذلك النثر ،بفنونه كلها متمما ً للشعر الجاهلي أيضا ً في تصوير جوانب
أخرى من الحياة العربية ،تصويرا ً أقرب إلى الحقيقة والواقع ،بما في تلك الحياة من مفارقات
ومتناقضات .فبينما تالحظ تو ُّجه القوم إلى نواح خلقية وتهذيبية ،وميلهم إلى الخير واإلصالح في
وصاياهم ،وبعض خطبهم وحكمهم ،إذ بك تؤنس منهم ارتدادا ً إلى الغضب والتهور ،وإشادة باألحساب
واألنساب ،وإشاعة للعصبيات والمفاخر القبلية ،والمصالح الخاصة ،في المنافرات وبعض الخطب
والحكم األخرى ،ولو أدى ذلك إلى إشعال نار الحرب.
إن تصوير النثر الجاهلي لذلك كله هو تصوير أقرب إلى الحقيقة والواقع ،ألن واضعي بعض تلك
النصوص ،أو صائغيها ،قد حاولوا ،بقوة مالحظتهم ومزيد عنايتهم أن يجعلوها محاكية ألصولها األولى،
مستهدين في ذلك بقرائن مختلفة .ولهذا فإن تلك النصوص النثرية -مع ما اعترى معظمها من تغيير أو
زيادة أو نقص -هي في روحها وبنائها مقاربة ألصولها الجاهلية ،حتى يمكن أن يكون الحديث عن
خصائص النثر الجاهلي مقاربا ً للحقيقة.
فهذا النثر ،بفنونه المختلفة تغلب عليه العناية والتجويد ،والبعد ،ما أمكن ،عن الهلهلة والضعف .فيأتي
مرسالً طبيعيا ً تارة ،ومتكلفا ً محلى بالسجع والتصوير البياني تارة أخرى ،بحسب الفن النثري من جهة،
وبحسب الحال والمقام من جهة ثانية ،رغبة في تحقيق اإلمتاع ،أو التأثير واإلقناع لدى السامع ،والنفوذ
إلى مكامن نفسه .ومعنى ذلك أنهم كانوا يتخيرون الكالم ويحرصون على القوة والجزالة ،والتنغيم
الموسيقي بين الجمل إذا احتاجوا إلى ذلك ،كما في سجع الكهان والمنافرات.
ومن مراعاتهم للمقام ،أن نصوصهم تترجح بين الطول والقصر ،ولكل منها موضع يحسن فيه.
فالخطبة نفسها قد تطول وقد تقصر ،وكذلك الوصية ،أما الحكم واألمثال وأسجاع الكهان فال تخرج عن
القصر واإليجاز.
ويغلب على ذلك النثر الوضوح والسهولة في ألفاظه وتراكيبه ،إال ما نجده في سجع الكهان من غرابة
في األداء ،وغموض في التعبير ،إمعانا ً منهم في اإليهام واإلبهام ،وكذلك ما قد نجده من ألفاظ تبدو لنا
اليوم غريبة ،في طائفة من وصاياهم ومنافراتهم وبعض خطبهم ،وما هي بغريبة عندهم.