You are on page 1of 12

‫فنون الشعر الجاهلي وأغراضه‪ :‬هذا الشعر‪ ،‬الذي قيل فيه إنه ديوان العرب‪ ،‬يعد صورة للبيئة

التي نشأ‬
‫فيها أصحابه قبل اإلسالم في كثير من جوانبها االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والمعرفية‪ ،‬والدينية‪،‬‬
‫كما يعكس ذلك الشعر طائفة من الجوانب النفسية‪ ،‬والمثل األخالقية للعرب‪ ،‬من شجاعة وفروسية وفتوة‪،‬‬
‫صريخ وغير ذلك‪.‬‬ ‫ومن إكرام للضيف وإغاثة لل َّ‬

‫ومن ثم تعددت أغراض الشعر الجاهلي وفنونه‪ ،‬فكان فيه غزل‪ ،‬ومدح‪ ،‬كما كان فيه فخر‪ ،‬ورثاء‪،‬‬
‫وهجاء‪ ،‬فضالً عن الحكمة والوصف‪.‬‬

‫ووجود هذه الفنون واألغراض في الشعر الجاهلي‪ ،‬ال يعني أن القصيدة منه كانت خالصة دائما ً‬
‫لموضوع واحد‪ ،‬وأغراض ال تحيد عنه‪ ،‬فقد تضم غرضين أو أكثر‪ ،‬ولكنها تنسب إلى ما نظمت من أجله‪،‬‬
‫هجاء‪ ،‬أو مدحاً‪ ،‬أو فخراً‪ ،‬وإن تخللتها موضوعات جانبية أخرى‪.‬‬

‫وأما أشهر األغراض والفنون في الشعر الجاهلي فهي‪.‬‬


‫الغزل‪ :‬يكاد الغزل يفوز بالنصيب األوفى بين سائر األغراض األخرى‪ ،‬على تفاوت حظوظ الشعراء‬
‫الجاهليين منه‪ ،‬ذلك أنه أعلق الفنون الشعرية باألفئدة‪ ،‬وأقربها إلى النفوس‪ ،‬لما للمرأة من آثار عميقة في‬
‫حياة الرجل‪ ،‬وتغذية عواطفه وأحاسيسه‪ ،‬ومرافقته في حله وترحاله‪ ،‬وفي حربه وسلمه‪ ،‬وزيارته ألحبته‬
‫وذوي قرباه‪ ،‬ووقوفه على أطاللهم بعد الرحيل والفراق‪.‬‬

‫وفي موضوع الغزل‪ ،‬تتردد عند النقاد والدارسين‪ ،‬من قدماء ومعاصرين‪ ،‬أربعة ألفاظ تتقارب في‬
‫مفهومها‪ ،‬وتتشابك في دالالتها‪ ،‬وهي‪ :‬الغزل‪ ،‬والتغزل‪ ،‬والنسيب‪ ،‬والتشبيب‪.‬‬

‫وقد حاول بعضهم أن يبين الفروق المعنوية بينها‪ ،‬ولكنهم لم يصلوا إلى القول الفصل في ذلك‪.‬‬

‫ومن أبرز سمات الغزل عند الجاهليين‪ ،‬ظاهرة التعلق بالمرأة والسعي إلى مودتها‪ ،‬ووصف مفاتنها‬
‫الجسدية‪ .‬وإمام الشعراء في ذلك هو امرؤ القيس‪ ،‬الذي قضى شبابه في اللهو والشراب‪ ،‬وأصاب من‬
‫الغزل والمرأة ما جعله السابق المجلّي في هذا المضمار‪ .‬وأشعاره‪ ،‬والسيما معلقته‪ُ ،‬‬
‫ص َو ٌر وحكايات لما‬
‫كان بينه وبين النساء‪.‬‬

‫وكذلك ثمة جانب من هذا المذهب الحسي‪ ،‬في الحديث إلى المرأة وفي وصفها عند شعراء آخرين‬
‫كاألعشى والنابغة الذبياني‪ .‬ويمكن الخروج من قراءة أشعارهم الغزلية إلى جملة من المقاييس التي كانوا‬
‫يعتدون بها في تقويم الجمال‪ ،‬والمفاتن الجسدية‪ :‬فالمرأة تشبه بالدرة الصدفية حيناً‪ ،‬والدمية المرمرية حينا ً‬
‫آخر‪ .‬وأصابعها لينة كالعَنَم‪ ،‬ولونها المفضل هو البياض‪ ،‬وخصرها ضامر نحيل‪ ،‬بخالف ردفها الذي‬
‫يستحسن أن يكون ثقيالً مكتنزا ً وساقيها اللتين يستحب أن تكونا ممتلئتين‪ ،‬والشعر طويل فاحم‪ ،‬واألسنان‬
‫بيضاء نقية‪ ،‬والمشية هينة مترسلة‪.‬‬

‫وقد ينصرف الشاعر في غزله إلى التغني بفضائل المرأة وذكر مناقبها وكريم سجاياها‪ ،‬وعفتها‪ ،‬وال‬
‫سيما عند وقوفه على األطالل توخيا ً لتهيئة األذهان وشد األسماع قبل الوصول إلى غرضه األساسي‪.‬‬

‫أما تصوير الشاعر الغزل لما يقاسيه من تباريح الصبابة‪ ،‬وما يعانيه من عذاب مقيم‪ ،‬وآالم مبرحة‪،‬‬
‫وهيام طاغ‪ ،‬فهذا كله منبث في أشعار المتيمين من الجاهليين الذين قضوا حياتهم يعانون ألم النوى‪،‬‬
‫ويقضون الليل ساهرين أرقين ويشكون من تجني المحبوبة‪ ،‬حتى تنحدر دموعهم‪ ،‬وتتقرح أكبادهم‪.‬‬
‫والشعراء‪ ،‬الذين سلكوا هذا المذهب‪ ،‬معظمهم من العشاق الذين عرفوا بالعفة والبعد عن األوصاف‬
‫الحسية للجسد‪ ،‬ومعاناة األشواق الالذعة‪ ،‬ويمكن أن يعد غزلهم النواة األولى للغزل العذري الذي عرف‬
‫في العصر األموي‪ ،‬ذلك أن كل واحد منهم اقترن اسمه بصاحبته التي اشتهر بها‪ ،‬ومنهم عنترة صاحب‬
‫سعدي و َميْالء‪ ،‬وعبد هللا بن العَجْالن وهند‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫عبلة‪ ،‬ومثال المخبَّل ال َّ‬

‫المديح‪ :‬كانت للناس في العصر الجاهلي مثل عليا‪ ،‬ومعايير خلقية تعارفوا عليها‪ ،‬وورثوها عن‬
‫أجدادهم‪ ،‬كالشجاعة والكرم‪ ،‬وحماية الجار‪ ،‬وإغاثة الملهوف وعراقة النسب‪ .‬وجاء شعر المديح ليشهد‬
‫بهذه السجايا وما هو منها بسبب‪ :‬كالعقل‪ ،‬والعفة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والرأي السديد‪ .‬وقد يستدعي المقام والمناسبة‬
‫ذكر مناقب أخرى تأتي في ساعتها‪ :‬من جميل يؤثر‪ ،‬وصنيع يقدم‪ ،‬وأسير يطلق سراحه‪ ،‬فيكون االعتراف‬
‫بذلك الجميل‪ ،‬والشكر لذاك الصنيع‪.‬‬

‫وهكذا قام المديح مقام السجل الشعري في رسمه لنواح كثيرة من حياة األعالم‪ ،‬ملوكاً‪ ،‬وسادة‪،‬‬
‫وأجواداً‪ ،‬وبذلك أغنى التاريخ وكان رديفا ً له ومتمماً‪ ،‬وإن كان يمتزج غالبا ً باإلسراف والمبالغة‪ ،‬ويختلط‬
‫فيه الواقع بالخيال‪ ،‬والعقل بالعاطفة والحق بالباطل‪ .‬ولذلك ينبغي أن يقف الباحث من شعر المدح موقف‬
‫الحذر والنقد والتمحيص‪ ،‬وأال يأخذه على أنه صدق ال كذب فيه‪ ،‬أو حقيقة ال يشوبها الشك‪.‬‬

‫وقد سلك الشعراء المدَّاحون في العصر الجاهلي طريقين‪ ،‬أحدهما أو كليهما‪ ،‬األول هو طريق التكسب‬
‫واالحتراف‪ ،‬وميدانه قصور الملوك‪ ،‬ومجالس األمراء‪ ،‬وأفنية األشراف واألعيان‪ .‬وقد انحرف الشعر إلى‬
‫هذا الميدان على يد النابغة الذبياني‪ ،‬الذي سن للشعراء سنة المديح الرسمي ‪ -‬في تنقله بين قصور المناذرة‬
‫والغساسنة ‪ -‬ومدح ملوكهم‪ ،‬كما سخر شعره لكل من يجود عليه أو يرعاه في كنفه‪ ،‬وكان هذا أول‬
‫االحتراف في المديح والتكسب به‪ .‬وقد حظي النعمان بن المنذر بنصيب وافر من ذلك‪.‬‬

‫وجاء األعشى ليسير على سنن النابغة في المديح‪ ،‬بل إنه أسرف في المسألة والتكسب‪ ،‬فأصبح يمدح‬
‫كل من أعطى‪ ،‬ويشكر بشعره ك َّل من أكرم‪ ،‬حتى يخرج عن حدود التصديق‪ ،‬كما في مديحه لألسود بن‬
‫المنذر اللخمي ‪ -‬شقيق ملك الحيرة ‪ -‬ولهوذة الحنفي‪.‬‬

‫ومن هؤالء الشعراء المتكسبين أيضاً‪ :‬حسان ابن ثابت‪ ،‬والمسيب بن علس‪ ،‬والمنخل اليشكري‪،‬‬
‫والممزق العبدي‪ ،‬والحارث بن ظالم‪ ،‬وعلباء بن أرقم‪.‬‬

‫أما الطريق الثاني‪ :‬فهو طريق اإلعجاب والشعور الصادق‪ .‬والشعر هنا يصدر ‪ -‬فيما يقول ‪ -‬عن حب‬
‫عميق‪ ،‬وإحساس نقي‪ ،‬ال تملق فيهما وال تزلف‪ .‬وحامل لواء هذا الشعر هو زهير ابن أبي سلمى‪ ،‬الذي‬
‫سخر شعره لكل من قام بإصالح ذات البين‪ ،‬أو صنع مأثرة كريمة‪ ،‬نائيا ً بأشعاره المدحية عن المبالغة‬
‫والشطط‪.‬‬

‫ومن ممدوحيه‪ :‬هرم بن سنان‪ ،‬والحارث بن عوف‪ ،‬اللذان أصلحا بين عبس وذبيان‪ ،‬في حرب داحس‬
‫والغبراء‪ ،‬وبذال من أموالهما ديات القتلى حقنا ً للدماء‪ ،‬ونشرا ً للسالم بين المتحاربين‪.‬‬

‫الفخر‪ :‬وهذا فن شعري تربطه بالمدح صالت وشيجة‪ ،‬فالمعاني التي تتردد في المدح‪ ،‬هي نفسها مما‬
‫يتغنى به الشعراء مفتخرين‪ .‬ذلك أن الحياة العربية في العصر الجاهلي قامت على مواجهة المخاطر‪،‬‬
‫والمزاحمة على الماء والكأل‪ ،‬والشجاعة في القتال‪ ،‬وما يتصل من ذلك كله بسبب‪ :‬كالتغني بالبطوالت‬
‫وشن الغارات‪ ،‬وتمجيد االنتصارات‪ ،‬وكثرة العدد والعدة‪ ،‬ومنازلة األقران‪ ،‬ونجدة الصريخ‪ ،‬والحفاظ‬
‫على الشرف والجار‪ ،‬وهذه األمور جميعا ً أذكت قرائح الشعراء‪ ،‬ووفرت لهم أسباب التفاخر والتباهي‪،‬‬
‫منفردين ومجتمعين‪ ،‬فانطلقت ألسنتهم بأشعار زاخرة بالعاطفة القوية‪ ،‬واالنفعال العميق‪ ،‬تبرز فيها‬
‫الحقائق التاريخية مجلببة بجلباب الخيال والمغاالة‪.‬‬
‫وهذا الفخر يكون قبليا ً تارة تسيطر عليه روح حماسية جارفة‪ ،‬وهذا شأنه دائما ً في مواطن الكر والفر‪،‬‬
‫واألخذ بالثأر وتضييق الخناق على األعداء‪ ،‬واستطابة الموت عند الحرب‪ ،‬إذ ينطوي شعر الفخر على‬
‫دفقات قوية من الحماسة‪ ،‬ويكون من ذلك مزيج متالزم‪ .‬ومن خير ما يمثل هذا الفخر القبلي الحماسي‬
‫معلقة عمر بن كلثوم التغلبي‪ ،‬التي سجل فيها انتصارات قبيلته‪ ،‬ومنعتها‪ ،‬وما يتحلى به أفرادها من‬
‫شجاعة وإقدام‪ ،‬وسطوة وهيبة وأنفة وإباء‪.‬‬

‫وهذه الحماسة المزهوة ال تحول دون إنصاف الشاعر ألعدائه‪ ،‬واإلقرار بقوتهم وشجاعتهم‪ ،‬وعرفت‬
‫في الشعر الجاهلي قصائد من هذا القبيل سميت «المنصفات» ومن أصحابها‪ :‬العباس ابن مرداس‪،‬‬
‫وعوف بن األحوص‪ ،‬وخداش بن زهير‪.‬‬

‫ويكون الفخر تارة أخرى ذاتيا ً ينبعث من نفوس تهوى العزة والمجد‪ ،‬وتحرص على بناء المكارم‪،‬‬
‫والتباهي بمآثرها الفردية‪ ،‬ويبدو هذا الفخر الذاتي لدى طائفة من الشعراء الفرسان واألجواد‪ ،‬كعنترة‪،‬‬
‫وحاتم الطائي‪ ،‬وعمرو بن اإلطنابة‪ ،‬والشعراء الصعاليك كالشنفرى‪ ،‬وتأبط شراً‪ ،‬وهنا يحلو للشاعر أن‬
‫يتحدث عن نفسه وخصاله‪ ،‬وعراقة أصله‪ ،‬وطيب منبته‪ ،‬ومايتحلى به من كرم ومروءة وحماية للجار‪،‬‬
‫وغير ذلك من الفضائل الخلقية‪ .‬وفي معلقات طرفة بن العبد‪ ،‬ولبيد بن ربيعة‪ ،‬وعنترة بن شداد‪ ،‬صور‬
‫كثيرة من هذا الفخر الفردي‪ ،‬تتالقى على صعيد واحد‪ ،‬وقد وشحها أولئك الشعراء بذكر القصف واللهو‪،‬‬
‫والفخر بشرب الخمرة في معرض الحديث عن الكرم واإلكرام‪.‬‬

‫الرثاء‪ :‬يلتقي الرثاء والمديح في أنهما كليهما إشادة بالمرء وإعالء شأنه‪ ،‬لكن األول إشادة بالميت‬
‫وخصاله‪ ،‬والثاني إشادة بالحي وتمديد لمآثره وسجاياه‪ .‬ويمتاز الرثاء أيضا ً بأنه فن شعري ثابت المعاني‬
‫والهدف‪ ،‬ألنه يعبر في معظم أحواله عن انفعال وجداني‪ ،‬وشعور عميق بالحزن واأللم‪ ،‬حين تفقد األسرة‬
‫أو القبيلة‪ ،‬عزيزا ً فيغمرهم الحزن وتتحرك الشاعرية لتعبر عن األسى المشترك‪ ،‬والخسارة الفادحة‬
‫والمجد الذي انهد ركنه‪ ،‬والشمائل التي حكم بها الموت للقبر والتراب‪ .‬وقد يصحب تعداد شمائل الميت‪،‬‬
‫والبكاء عليه‪ ،‬أخذ بأسباب العزاء فيه‪ ،‬ودعوة إلى الصبر على حدثان الدهر‪ ،‬والتأسي بمن طوتهم المنون‬
‫من قبل‪ ،‬ألن الدنيا دار فراق وزوال‪ ،‬ال دار خلود وبقاء‪ ،‬وليس أمام اإلنسان سوى االستسالم لألقدار‪،‬‬
‫والقبول بالقضاء‪.‬‬

‫هذه المعاني واألفكار‪ ،‬في جملتها تتردد في أشعار الرثاء عند الجاهليين‪ ،‬وقد يطغى جانب منها في‬
‫القصيدة على آخر‪ ،‬أو تتفرع عنها معان جرئية‪ ،‬ولكن تظل المناحي األساسية بارزة في تلك األشعار‪.‬‬

‫وإذا كان المرثي ذا منزلة رفيعة لجأ الشاعر إلى المبالغة وتهويل الخطب وإشراك الطبيعة في‬
‫استعظام المصاب‪.‬‬

‫وقد اشتهر عدد من الشعراء أجادوا الرثاء في العصر الجاهلي‪ ،‬منهم‪ :‬المهلهل بن ربيعة‪ ،‬ودريد بن‬
‫الصمة‪ ،‬وأعشى باهلة‪ ،‬ولبيد‪ ،‬وطفيل الغنوي‪ ،‬وأوس بن حجر‪ ،‬وأبو دواد اإليادي‪ .‬كما عرف كثير من‬
‫النساء بإجادة هذا الفن الشعري والنبوغ فيه‪ ،‬كالخنساء‪ ،‬وجليلة زوجة كليب‪ ،‬وسعدى بنت الشمردل‪.‬‬

‫والرثاء عند هؤالء الشعراء والشواعر‪ ،‬منه ما يكون في األقرباء األدنين‪ :‬كما في رثاء المهلهل ألخيه‬
‫كليب‪ ،‬والخنساء ألخويها صخر ومعاوية‪ ،‬ولبيد ألخيه أربد‪ .‬ومنه ما يكون في أناس آخرين‪ ،‬من ذوي‬
‫المكانة والشأن في قبيلة الشاعر‪ ،‬أو في غيرها من القبائل‪ ،‬ممن تقربهم إلى الشاعر صالت وثيقة‪ .‬ومن‬
‫ذلك قصيدة أوس بن حجر‪ ،‬التي رثى فيها فضالة األسدي‪ ،‬وتعد من عيون المراثي في العصر الجاهلي‪:‬‬
‫ومطلعها‪:‬‬

‫أيتهــا النفــــس أجملــي جـــزعا‬ ‫إن الـــذي تحـــذرين قــد وقعــا‬


‫وقصيدة أبي دواد اإليادي‪ ،‬التي رثى فيها من طواهم الردى من شباب قبيلته وكهولها‪ ،‬وذكر ما لهم من‬
‫صفات ومفاخر ومجد‪ ،‬وأشاد بما كان لهم من بأس وسخاء في أوقات الشدة والجدب‪ ،‬وما تحلوا به من‬
‫عقول راجحة وآراء سديدة‪ .‬وأول هذه القصيدة‪:‬‬

‫منـــع النـــوم‪ ،‬مـــاوي‪ ،‬التهمام‬ ‫وجـــدير بالهـــم مـن ال ينــــام‬

‫والرثاء عند الجاهليين يكثر فيه ترداد ألفاظ معينة‪ ،‬كالجملة الدعائية‪« :‬ال تبعد» أو «ال تبعدن» كما‬
‫يكثر الدعاء بالسقيا لقبر الميت‪« :‬سقيا لقبرك» «سقاك الغيث» وذلك ليبقى ما حول القبر خصبا ً ممرعا‪ً.‬‬

‫الهجاء‪ :‬حظ هذا الفن في الشعر الجاهلي قليل؛ إذا قيس إلى الفخر أو الغزل مثالً؛ ولكن أثره كبير في‬
‫النفوس‪ ،‬ووقعه أليم في األفئدة‪ ،‬ألنه يقوم على إذالل المهجو‪ ،‬وتجريده من الفضائل والمثل التي يفتخر بها‬
‫القوم‪ ،‬أو التي بها يمدحون‪ .‬ومن ثم الفخر‪ ،‬والمدح‪ ،‬والهجاء‪ ،‬تجمع ثالثتها جملة من الفضائل وأضدادها‪،‬‬
‫فالكرم‪ ،‬مثالً‪ ،‬فضيلة لديهم‪ ،‬وفي مقابله تكون نقيصة البخل والشح‪ ،‬والشجاعة ضدّها ال ُجبن‪ .‬وهكذا‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬فإن الهجاء في الشعر الجاهلي هو انتقاص للخصم‪ ،‬وتعيير له بجملة من المخازي‬
‫والمساوئ التي يستهجنها مجتمعه‪ ،‬فمنها ما هو في مجال الحروب والغزوات التي حفلت بها حياتهم‪:‬‬
‫كالجبن‪ ،‬والفرار عند اللقاء‪ ،‬والوقوع في األسر‪ ،‬ودفع الفدية‪ ،‬ومنها ما هو في حيز العالقات االجتماعية‪،‬‬
‫والنقائص النفسية‪ :‬كالبخل‪ ،‬واالعتداء على الجار‪ ،‬واللؤم‪ ،‬والغدر‪ ،‬والقعود عن المكارم‪ ،‬وما يتفرع عن‬
‫ذلك كله من المعايب والسقطات التي يعدها العربي عارا ً يبرأ منه‪ ،‬أو يحذر الوقوع فيه‪ ،‬لئال يصيب منه‬
‫الشاعر مقتالً‪ .‬فضالً عما تحرص عليه القبيلة في أفرادها كافة من كرم األحساب‪ ،‬ونقاء األنساب‪ ،‬لئال‬
‫تتحطم سمعتهم‪ ،‬أو ينهار بناء أحسابهم وأنسابهم‪ ،‬فيكونوا نصبا ً للهجاء‪.‬‬

‫والهجاء عندهم على ضربين‪ :‬هجاء فردي‪ ،‬وآخر جماعي يتجه إلى القبيلة نفسها وقد يجمع الشاعر‬
‫بينهما‪.‬‬

‫وهجاء الجاهليين عامة يسلك مسلك الجد‪ .‬وال يدخله اإلفحاش وال الشتيمة الصريحة‪ ،‬ولكن ربما داخله‬
‫شيء من السخرية والتعريض والتلميح الموجع‪ ،‬بدالً من الهجاء المباشر‪.‬‬

‫الحكمة‪ :‬الحكمة قديمة في أشعار الجاهليين‪ ،‬ألننا نعثر عليها عند أوائلهم‪ ،‬كامرئ القيس وعبيد بن‬
‫األبرص‪ ،‬كما حفلت بها قصائد الشعراء اآلخرين على مر السنين‪ .‬وحكمهم مستمدة من بيئتهم التي عاشوا‬
‫في كنفها‪ ،‬حربا ً وسلماً‪ ،‬وعالقات وعادات‪ ،‬وأخالقا ً وسجايا‪ ..‬وهذه الحكم صدى لصفاء الفطرة‪ ،‬ودقة‬
‫اإلحساس‪ ،‬وغنى التجارب‪ ،‬والقدرة على استخالص العبرة من الحوادث‪ ،‬وال تخلو‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬من‬
‫قيمة تاريخية‪ ،‬وداللة اجتماعية‪ ،‬ونواح أخالقية‪ ،‬وفلسفة عملية تختلف من زمن إلى زمن‪ ،‬ومن إنسان إلى‬
‫آخر‪ ،‬ألنها تعبر عن آراء أصحابها‪ ،‬ومواقفهم من الحياة والناس‪ ،‬وتفكيرهم في تقلبات األيام‪ .‬وتحمل في‬
‫طياتها نظرات ثاقبة‪ ،‬وبصيرة واعية‪ ،‬إزاء قضايا الناس والحياة‪ ،‬ويسوقها الشاعر في مطاوي القصيدة أو‬
‫في نهايتها‪.‬‬

‫وتعد المعلقات أوضح األمثلة للقصائد التي تحفل بالحكم‪ ،‬على تنوع موضوعاتها وأغراضها‪ ،‬كمعلقة‬
‫زهير‪ ،‬التي أرسل فيها نحو العشرين بيتاً‪ ،‬وبدا في سردها هادئ النفس‪ ،‬رصين التأمل‪ ،‬واقعي التناول‬
‫لقضايا الحرب والسلم‪ ،‬والحياة والموت‪ ،‬وخفايا النفس اإلنسانية‪.‬‬

‫وأما طرفة‪ ،‬الشاعر الشاب‪ ،‬فإن حكمه في معلقته تنبع من شخصيته العابثة‪ ،‬التي تريد أن تستبق‬
‫اللذات قبل أن يفاجئها الموت‪ ،‬ألن الحياة أشبه بكنز يتناقص شيئا ً فشيئاً‪ ،‬والموت سيأتي على كل حي‪ ،‬وال‬
‫راد لما يأخذ‪.‬‬
‫وتنبث الحكم في قصائد الشعراء اآلخرين‪ :‬كلبيد‪ ،‬وعبيد بن األبرص‪ ،‬وحاتم الطائي‪ ،‬وأوس ابن حجر‬
‫وعلقمة بن عبدة‪ ،‬واألفوه األودي‪ .‬وانفرد منهم أمية بن الصلت باإلكثار من الحكم التي تعتمد على أخبار‬
‫األديان واألمم الغابرة‪ ،‬وقراءة الكتب‪ ،‬ولذلك اجتمعت فيها روافد التجربة والثقافة معاً‪ .‬وكان طابعها دينيا ً‬
‫ممزوجا ً بالكالم على زوال الحياة وتحكم حوادث الدهر في الناس‪.‬‬

‫الوصف‪ :‬الوصف يغلب على أبواب الشعر جميعاً‪ ،‬فهو باب واسع‪ ،‬يشمل كل ما يقع تحت الحواس من‬
‫ظواهر طبيعية‪ ،‬حية وصامتة‪ .‬وهكذا كان عند شعراء العصر الجاهلي الذين عايشوا الصحراء في حلهم‬
‫وترحالهم‪ ،‬وألفوا القفار الموحشة‪ ،‬وما فيها من جبال ووديان ومياه وحيوانات أليفة وغير أليفة‪ ،‬فوصفوا‬
‫ذلك كله ألنه وثيق الصلة بحياتهم وتقلباتهم‪.‬‬

‫وكانت الناقة صاحبة الشاعر في جوبه لتلك الفيافي والمفاوز‪ ،‬وعليها اعتماده في كثير من أحواله‪،‬‬
‫لذلك أكثر فيها القول‪ ،‬وافتن في وصف أجزاء جسمها‪ ،‬وصور كل أحوالها في سيرها وسرعتها‪،‬‬
‫وصبرها على مشاق السفر‪ ،‬حتى كادت الناقة تستأثر بنصيب وافر في طول القصائد التي نظمها أصحاب‬
‫المعلقات وغيرهم‪ ،‬كبشامة بن الغدير‪ ،‬والمثقب العبدي‪ ،‬والمسيب بن علس‪ ،‬وأوس بن حجر‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫والفرس هو الحيوان الثاني الذي يرافق الشاعر الجاهلي‪ ،‬ويقاسمه العيش‪ ،‬ويتحمل معه التعب والعناء‪،‬‬
‫والسير والسرى‪ ،‬والسيما في خروجه إلى الصيد‪ ،‬وخوضه الحروب‪ .‬وقد عني العرب بالخيول األصيلة‪،‬‬
‫واتخذوا لها أسماء خاصة‪ ،‬وحفظوا أنسابها أيضاً‪ ،‬فال غرابة أن يصفها شعراؤهم في قصائدهم‪ ،‬ولكل‬
‫واحد من هؤالء الشعراء طريقته الخاصة في وصف فرسه‪ ،‬سواء أكان ذلك في مجال الصيد واللهو‪،‬‬
‫والمزرد‪ ،‬أم كان وصفا ً عاما ً للفرس‪ ،‬على أنه‬
‫َّ‬ ‫كامرئ القيس‪ ،‬أم كان في ميادين الحرب والقتال‪ :‬كعنترة‬
‫مجلى النظر وموضع الفخر‪ ،‬كما هو الشأن عند طفيل الغنوي وأبي دواد‪.‬‬

‫ولم يكتف الشعراء بوصف الناقة والفرس‪ ،‬وإنما وصفوا ضروب الحيوان األخرى في بيئتهم والسيما‬
‫الثور الوحشي‪ ،‬والبقرة الوحشية‪ ،‬وجعلوا وصفهم لهذين الحيوانين ذريعة إلى وصف الناقة بالسرعة‬
‫والخفة عن طريق تشبيهها بأحدهما‪ ،‬وتخيل معركة ضارية بين الثور‪ ،‬أو البقرة من جهة‪ ،‬وكالب الصيد‬
‫من جهة أخرى‪ .‬وتنتهي هذه المعركة غالبا ً بنجاة الحيوان الوحشي‪ ،‬وتغلبه على الكالب‪ ،‬أو طعنه أحدها‬
‫بقرنه‪.‬‬

‫كما يرد في قصائد الشعراء أوصاف لحيوانات أخرى‪ :‬كالهر‪ ،‬والديك‪ ،‬والحية‪ ،‬والذئب‪،‬والنعامة‪،‬‬
‫والغراب‪ .‬وهذه األوصاف كلها تأتي في ثنايا القصائد الطويلة‪ ،‬أما مطالع تلك القصائد فقد استأثر بها‬
‫وصف األطالل والرسوم الدارسة‪ ،‬التي تؤلف ركنا ً قويا ً ثابتا ً في أول القصيدة الطويلة‪ ،‬كالمعلقات‬
‫وغيرها‪ ،‬إذ يقف الشاعر على تلك األطالل ويصفها ويناجيها‪ ،‬ويذكر ما فعلته فيها الرياح واألمطار‬
‫مشبها ً إياها بآثار الكتابة أو الوشم‪.‬‬

‫وكذلك وصف الشعراء الجاهليون مظاهر الطبيعة حولهم كالليل‪ ،‬والسحاب‪ ،‬والرعد‪ ،‬والبرق‪،‬ووصفوا‬
‫كذلك الخمر ومجالس الشرب واللهو والحرب وأسلحتها المختلفة‪ .‬وهذا كله يدل على عناية أولئك الشعراء‬
‫وغيرهم بوصف كل ما يحيط بهم وصفا ً دقيقاً‪ ،‬في بساطة وجمال‪ ،‬وصدق في التعبير عن المشاعر‬
‫واإلحساسات‪ ،‬وتعاطف مع الحيوان عامة‪ ،‬بوساوسه وحذره وجرأته‪ .‬معتمدين على القالب القصصي في‬
‫كثير من األحيان‪ ،‬وعلى التشبيه وسيلة لألداء والتصوير‪.‬‬

‫خصائص الشعر الجاهلي‪ :‬هذا الشعر الذي وسم بأنه «ديوان العرب» وسجل حياتهم وعاداتهم‪ ،‬قد‬
‫صور البيئة التي نشأ فيها أصحابه أصدق تصوير‪ ،‬في واقعية وبساطة ووضوح‪ ،‬ال غلو فيها وال تعقيد‪،‬‬
‫إال بما يتفق ومهمة الشعر‪ ،‬من حيث كونه فنا ً جماليا ً ال يلتزم الحقيقة والواقع التزاما ً علميا ً دقيقاً‪ ،‬وإنما‬
‫يهدف إلى اإلمتاع واإلثارة والتشويق‪ .‬ومن شأنه في هذه الحالة أن يتجاوز الواقع أحياناً‪ ،‬أويعتمد على‬
‫الخيال والتصوير الحسي المستمد في الوقت نفسه من البادية ومعطياتها‪ ،‬منتقالً بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬في‬
‫نقل الصور والمشاهد‪ ،‬أو التعبير عن األفكار والمشاعر‪ ،‬في إيجاز حيناً‪ ،‬وإطالة حينا ً آخر بحسب المقام‬
‫والغرض‪.‬‬

‫ويالحظ في الشعر الجاهلي كثرة ذكر األماكن والمياه والوديان‪ ،‬والسيما في مطالع القصائد‪ ،‬وصفا ً أو‬
‫مناجاة‪ ،‬ألنها تحفل بالذكريات الحية‪ :‬فهي مواطن األحبة ومسارح الصبا وميادين الحروب واالنتصارات‪.‬‬

‫والطابع القصصي يغلب على الكثير من المواقف‪ ،‬في جاذبية وجمال‪ ،‬ولكنه يميل إلى السرعة‬
‫واإليجاز‪ ،‬كما في وصفهم للحيوان الوحشي‪ ،‬ووصف الصعاليك لمغامراتهم وغزواتهم الفردية‪ ،‬وغزل‬
‫بعض الشعراء كالمنخل اليشكري‪ ،‬والمرقشين‪ :‬األصغر واألكبر‪ .‬ويبدو ذلك أيضا ً في أبيات أوس بن‬
‫حجر التي وصف فيها قصة القوس وحفظ الراعي لها في رأس جبل عال‪ ،‬حتى حظي بها امرؤٌ استخدمها‬
‫في الرمي‪ ،‬بعد أن أعدها صانعها وتأنق فيها‪.‬‬

‫وقد يتشابه الشعراء الجاهليون‪ ،‬في بعض المعاني‪ ،‬والصور حتى في األلفاظ أيضاً‪ ،‬وهذا ظاهر في‬
‫أوصافهم للناقة والفرس‪ ،‬والمرأة‪ ،‬وأدوات الحرب‪ ،‬والوقوف بالديار‪ ،‬حتى ضاق عنترة ذرعا ً بذلك فقال‪:‬‬
‫هل غادر الشعراء من متردم؟‪ ،‬ومثله زهير في قوله‪:‬‬

‫مـــا أرانـــا نقـــول إال معـــارا‬ ‫أو معـــادا مــن قـــولنا مــكرورا‬

‫وسبب ذلك ضيق الحياة في ذلك العصر‪ ،‬واقتصار البيئة على معطيات واحدة‪ ،‬وشدة تطبع العربي بتلك‬
‫البيئة التي ترعرع فيها‪ ،‬ونشأ على أعرافها وتقاليدها‪ .‬واقتفاء الشاعر خطا من سبقوه من الشعراء وتأثره‬
‫بهم‪ .‬ولكن هذه الظاهرة لم تحل دون بروز شخصية الشاعر الفنية‪ ،‬وأدواته الخاصة في التعبير‬
‫والتصوير‪ ،‬واالبتكار والتوليد‪ ،‬والنفوذ إلى دقائق كثيرة‪ ،‬يجلوها أتم جالء‪ ،‬ويكشف عنها ببراعة ومهارة‪.‬‬

‫ومما يلفت النظر‪ ،‬في طول القصائد الجاهليات‪ ،‬فقدان وحدة الموضوع منها‪ .‬ويخضع ذلك لما دعاه‬
‫النقاد بمنهج القصيدة‪ ،‬أو هيكلها‪.‬‬

‫وقد استمر ذلك إلى العصر العباسي‪ ،‬وتمسك به كثير من الشعراء والنقاد المحافظين‪ ،‬وتحدث عنه ابن‬
‫قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» وعلل مراحل االنتقال من موضوع إلى آخر ضمن القصيدة المدحية‪،‬‬
‫راويا ً عن بعض أهل األدب‪« :‬أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن واآلثار‪ ،‬فبكى وشكى‪،‬‬
‫وخاطب الربع‪ ،‬واستوقف الرفيق‪ ،‬ليجعل ذلك سببا ً لذكر أهلها الظاعنين عنها‪ ..‬ثم وصل ذلك النسيب‪،‬‬
‫وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب‪ ،‬ويصرف إليه الوجوه‪ ..‬فإذا‬ ‫فشكا شدة الوجد‪ ،‬وألم الفراق‪ْ ،‬‬
‫علم أنه قد استوثق من اإلصغاء إليه‪ ،‬واالستماع له عقب بإيجاب الحقوق‪ ،‬فرحل في شعره‪ ،‬وشكا النصب‬
‫والسهر‪ ،‬وسرى الليل فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء‪ ..‬بدأ في المديح فبعثه على المكافأة‪،‬‬
‫وهزه للسماح‪ ،‬وفضله على األشباه‪ ،‬وصغر في قدره الجزيل»‪.‬‬

‫ويعقب ابن قتيبة على ذلك قائالً‪« :‬فالشاعر المجيد من سلك هذه األساليب‪ ،‬وعدل بين هذه األقسام‪ ،‬فلم‬
‫يجعل واحدا ً منها أغلب على الشعر‪ ،‬ولم يطل فيمل السامعين‪ ،‬ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد»‪.‬‬

‫ويمكن تعليل تعدد الموضوعات في طوال القصائد بأن الشاعر كان يخضع ألصول فنية متوارثة‬
‫تأصلت على مرور الزمن والتزمها الشعراء فغدا الهيكل العام للقصيدة يؤلف وحدة فنية داخلية بديلة عن‬
‫الوحدة الموضوعية‪.‬‬
‫ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضا ً أن هذا الشعر قد وصل إلينا باللغة التي غلبت في العصر الجاهلي‬
‫قبيل اإلسالم‪ ،‬وهي اللغة األدبية المشتركة بين الشعراء والكتاب والخطباء‪ ،‬وإن كان هؤالء ينتمون إلى‬
‫قبائل مختلفة‪ .‬وقد وصل إلينا هذا الشعر كامل الصياغة‪ ،‬ناضج اللغة‪ ،‬موحد القوالب‪ ،‬ذا قوة وجزالة‪،‬‬
‫ومتانة في العبارة‪ ،‬وإذا وجد قارئه شيئا ً من األلفاظ الغريبة فيه‪ ،‬فإنما هي كذلك بحسب ما نعرفه نحن‬
‫اليوم من تلك األلفاظ التي بعد العهد بها‪ ،‬وندر استعمالها بين الشعراء والكتاب‪ ،‬لكنها لدى الجاهليين‬
‫أنفسهم كانت مألوفة ومعروفة‪.‬‬

‫النثر الجاهلي‬
‫بنى العرب مجدهم األدبي‪ ،‬في العصر الجاهلي‪ ،‬على الشعر‪ .‬ومع أن الكتابة كانت معروفة لهم ‪ -‬فإن‬
‫ما وصل إلينا من نثرهم قليل جداً‪ .‬وكانت الكتابة تقتصر على جوانب تتصل بحياتهم السياسية‬
‫وا الجتماعية والتجارية‪ ،‬من رسائل‪ ،‬وعقود ووصايا ومواثيق‪ .‬وفي القرآن الكريم إشارات إلى كتابة‬
‫الديون‪ ،‬وحديث عن رحلتي قريش‪ ..‬ومثل هذه الرحالت التجارية تستدعي الكتابة والتسجيل‪.‬‬

‫وليس المراد بالنثر الجاهلي هنا ذلك النثر العادي الذي يتخاطب به الناس‪ ،‬وإنما المراد به النثر األدبي‬
‫أو الفني الذي يعنى صاحبه بتجويده‪ ،‬وإتقانه لينال إعجاب القارئ‪ ،‬من حكمة تقال‪ ،‬أو قصة تروى‪ ،‬أو‬
‫مثل يضرب‪ ،‬أو خطبة تلقى‪ ،‬أو رسالة تدبَّج‪ ،‬أو وصية بليغة تنقل‪.‬‬

‫مثل هذا النثر الفني قليل الوجود بين أيدينا بلفظه األصلي الذي صدر عن أصحابه ألن حفظ النثر‬
‫أصعب من حفظ الشعر‪ ،‬لكن الذاكرة األدبية للرواة اكتسبت على مر العصور أصالة ومراناً‪ ،‬مما أتاح لهم‬
‫أن يحتفظوا بنصوص من ذلك النثر‪ ،‬في صورتها األصلية‪ ،‬وبأخرى ليست موافقة ألصلها كل الموافقة‪،‬‬
‫ولكنها صورة قريبة منه‪ ،‬يمكن من خاللها تحديد خصائصه الفكرية والفنية‪ .‬وهذه النصوص النثرية‬
‫الجاهلية‪ ،‬األصلية والقريبة من األصل‪ ،‬وردت في طائفة من المصادر األدبية والتاريخية القديمة‪ .‬وكان‬
‫في تلك النصوص فنون أدبية نثرية‪ ،‬تأتي في مقدمتها‪ :‬الخطابة ‪ -‬ويلحق بها المنافرات‪ ،‬وسجع الكهان ‪-‬‬
‫ثم الحكم واألمثال ‪ -‬ويلحق بها الوصايا والنصائح ‪ -‬ثم القصص‪ ،‬فالرسائل‪.‬‬

‫فنون النثر الجاهلي وأغراضه‬


‫الخطابة‪ :‬ازدهرت الخطابة عند العرب متأخرة في الزمن‪ ،‬ألن الشعر كان متفوقا ً عليها‪ ،‬فلما أصبح‬
‫الشعر مطية للتكسب صارت منزلة الخطيب هي المقدَّمة‪ .‬واشتهر في العصر الجاهلي خطباء كثيرون‪،‬‬
‫الظرب العدواني‪ ،‬وعمرو بن كلثوم‬ ‫مثل‪ :‬قس بن ساعدة اإليادي‪ ،‬وهانئ بن قبيصة الشيباني وعامر بن َّ‬
‫التغلبي‪ ،‬وأكثم بن صيفي وعمرو بن األهتم التميميان‪ ،‬وهاشم بن عبد مناف القرشي‪.‬‬

‫وقد تعددت أغراض الخطابة وأنواعها‪ ،‬إزاء هذا االزدهار‪ ،‬فكانت وسيلة للتحريض على القتال‪ ،‬أو‬
‫لألخذ بالثأر‪ ،‬وربما كانت في الوقت نفسه سبيالً إلى إصالح ذات البين أو إرساء قواعد السلم‪ .‬وقد تكون‬
‫في إشاعة المفاخر‪ ،‬واإلشادة باألنساب أمام الملوك وزعماء القبائل‪ ،‬واألمراء‪.‬‬

‫وقد تلقى الخطب في مناسبات الزواج‪ ،‬والمصاهرات بين ذوي األحساب واألنساب‪ ،‬فيتكلم خطيب من‬
‫كل جانب‪ .‬قال الجاحظ‪« :‬كانت خطبة قريش في الجاهلية‪ ،‬يعني خطبة النساء‪ :‬باسمك اللهم ذكرت فالنة‪،‬‬
‫وفالن بها مشغوف‪ .‬باسمك اللهم‪ ،‬لك ما سألت‪ ،‬ولنا ما أعطيت»‪.‬‬
‫وكانت للخطباء سنن وتقاليد يتبعونها عند إلقاء خطبهم‪ ،‬كأن يقف الخطيب على مرتفع من األرض‪،‬‬
‫معتمدا ً على قوسه‪ ،‬أو ممسكا ً بعصا يشير بها‪ ،‬وقد يخطب راكبا ً على ناقته‪ ،‬وبيده الرمح‪ ،‬وقد الث‬
‫العمامة على رأسه‪.‬‬

‫ومما يمدح به الخطيب عندهم‪ :‬حضور البديهة‪ ،‬وقلة التلفت‪ ،‬وقوة الجنان‪ ،‬وظهور الحجة‪ ،‬مع جهارة‬
‫الصوت‪ .‬وفي مقابل ذلك كانوا يعيبون على الخطيب التنحنح‪ ،‬واالنقطاع‪ ،‬واالضطراب‪ ،‬والتعثر في‬
‫الكالم‪ .‬وقد استقرت للخطابة في العصر الجاهلي مجموعة من الخصائص الفنية‪ ،‬كان الخطباء يحرصون‬
‫عليها في خطبهم‪ ،‬منها مراعاة السجع في مقامات الفخر خاصة‪ .‬أما في خطب المحافل وإصالح ذات‬
‫البين‪ ،‬مثالً‪ ،‬فكانوا يستخدمون األسلوب المرسل الذي ال يغفل صاحبه ‪ -‬في الوقت نفسه ‪ -‬تجويده‬
‫وتنقيحه‪ ،‬والتروي فيه‪ ،‬سعيا ً إلى إثارة السامعين واستمالتهم‪ .‬وهذا ما جعلهم يؤثرون قصر العبارة في‬
‫خطبهم‪ ،‬وتوشيحها ببعض الحكم واألمثال‪ ،‬أما الخطبة نفسها فقد تطول‪ ،‬وقد تقصر‪ ،‬ولكل منهما مقام‬
‫وموضع وقدر من العناية‪.‬‬

‫المنافرات‪ :‬وهي مفاخرات كانت تحدث بين اثنين أو أكثر من سادة العرب وأشرافهم‪ ،‬وفيها يشيد كل‬
‫من المتفاخرين بحسبه ونسبه ومجده وسجاياه‪ ،‬أمام حكم من أشراف العرب أو كهانهم‪ ،‬ليكون له القول‬
‫الفصل في تفضيل أحد الطرفين على اآلخر‪ .‬ولكن الحكم يسعى في كثير من األحيان إلى الصلح بين‬
‫المتنافرين‪ ،‬تفاديا ً للشر‪ ،‬ويتحاشى الحكم ألحدهما على اآلخر‪ ،‬ويلقي عليهم كالما ً بليغا ً يدعوهما فيه إلى‬
‫السالم والصفاء‪ .‬ومن ذلك ما كان من هرم ابن قطبة الفزاري‪ ،‬حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن‬
‫عالثة بعد أن اشتد النزاع بينهما‪ ،‬فجعل هرم يطاولهما‪ ،‬ويمهد للصلح بينهما‪ ،‬حتى قال لهما أخيراً‪« :‬أنتما‬
‫كركبتي البعير‪ ،‬تقعان إلى األرض معا ً وتقومان معا ً»‪ .‬فرضيا بقوله وانصرف كل منهما إلى قومه‪.‬‬
‫واشتهر من هؤالء الحكام أيضاً‪ :‬ربيعة بن حذار‪ ،‬واألقرع ابن حابس‪ ،‬ونفيل بن عبد العزى‪ ،‬وهاشم بن‬
‫عبد مناف‪.‬‬

‫وربما جرت المنافرة بين قبيلتين‪ :‬كربيعة ومضر‪ ،‬أو قيس وتميم‪ .‬وهذا ما يحيل المنافرة إلى صورة‬
‫من صور الخطابة‪ ،‬إذ يقف كل سيد ليعدد مآثر قومه أمام الحكم‪ ،‬بحضور سادة القبائل وأشرافها ويحاول‬
‫التأثير في السامعين ليحوز اإلعجاب والحكم له بالغلبة على خصمه‪.‬‬

‫وإذا فصل الحكم بين المتنافرين‪ ،‬سجع في كالمه حيناً‪ ،‬وأرسله حينا ً آخر‪ .‬وهو يحرص على السجع‬
‫والقسم والسيما إذا كان من الكهان‪.‬‬

‫سجع الكهان‪ :‬والك ّهان عند العرب طائفة ذات قداسة دينية‪ ،‬وسلطان كبير لدى القبائل‪ ،‬شأنهم شأن‬
‫الحكام في المنافرات‪ .‬وكانوا يزعمون االطالع على الغيب‪ ،‬وأن لكل منهم رئيّا ً ‪ -‬أي صاحبا ً من الجن ‪-‬‬
‫يعرف الكاهن عن طريقه ما سيكون من أمور‪ .‬وكان الناس يتوافدون على هؤالء ال ُك ّهان من مختلف‬
‫الجهات فيحكمونهم في منازعاتهم‪ ،‬ويستشيرونهم في أمورهم الخاصة وما يزمعونه من أعمال‪ ،‬أو ما‬
‫يرونه في منامهم من أحالم‪ .‬وكانوا يستخدمون في أحكامهم وأقوالهم ضربا ً من النثر المسجوع عرفوا به‪.‬‬

‫وقد ظهر في العرب عدد من هؤالء الكهان‪ ،‬وفيهم من كانوا حكاما ً في المنافرات أيضاً‪ .‬ومنهم‪ :‬سطيح‬
‫ع ّزى سلمة‪ ،‬وعوف األسدي‪. ،‬بل كان فيهم‬ ‫الذئبي‪ ،‬وشق األنماري‪ ،‬وسلمة ابن أبي حيّة‪ ،‬المشهور باسم ُ‬
‫نساء كاهنات أيضاً‪ ،‬من أمثال‪ :‬فاطمة الخثعمية‪ ،‬وطريفة اليمينية‪ ،‬وزبراء‪.‬‬

‫ويالحظ في نصوص الكهان أنها تحمل طابع التكلف الشديد في سجعها ولهذا ال يطمأن إليها كلها‪،‬‬
‫فربما شاب بعضها الوضع والنحل‪ ،‬وربما كان بعضها محفوظا ً صحيحاً‪ ،‬لقصره وإيجازه‪.‬‬
‫ومن خصائص أسجاع الكهان أنها ‪ -‬في جملتها ‪ -‬كالم عام‪ ،‬ال يرشد السامع إلى حقائق جلية‪ ،‬وإنما‬
‫يضعه في الغموض واإلبهام‪ ،‬باصطناع السجع‪ ،‬واإليماء‪ ،‬وقصر الجمل إللهاء السامع عن تتبع ما يلقى‬
‫إليه من األخبار العربية‪ ،‬وجعله في حالة نفسية مضطربة تساعد الكاهن على الوصول إلى ما يريد‪ ،‬بكل‬
‫سهولة ويسر‪ ،‬ويكون المخاطب‪ ،‬بتلك اإلشارات الغامضة‪ ،‬واأللفاظ المبهمة‪ ،‬واألقسام المؤكدة‪،‬‬
‫واألسجاع المنمقة‪ ،‬مستعدا ً لقبول كل ما يقال له‪ ،‬بال جدال أو اعتراض‪ ،‬وتأويل ما يسمعه بحسب حالته‬
‫ومدى فهمه‪.‬‬

‫الحكم واألمثال‪ :‬وربما كانت وحدها التي وصلت إلينا كلها كما نطق بها أصحابها‪ ،‬بال تغيير أو‬
‫تحريف‪ ،‬وال زيادة أو نقص‪ ،‬لما تمتاز به من تركيز بالغ‪ ،‬وإيجاز شديد‪ ،‬وقبول للحفظ والشيوع على‬
‫األلسنة في كل مناسبة‪ ،‬وبذلك تكون أصح ما بقي من النصوص الجاهلية‪ ،‬وأقربها إلى أصولها األولى‪،‬‬
‫وإن كانت ال تقدم صورة كاملة عن النثر الجاهلي‪.‬‬

‫الحكم واألمثال جمل قصيرة بليغة‪ ،‬خالية من الحشو‪ ،‬أوحت بها تجارب الحكماء والمعمرين في الحياة‬
‫والعالقات بين الناس‪ ،‬وهي ثمار ناضجة من ثمرات االختبار الطويل‪ ،‬والرأي المحكم‪ .‬وقد اشتهر عند‬
‫العرب في العصر الجاهلي طائفة من أولئك الحكماء‪ ،‬مثل‪ :‬لقمان عاد وهو غير لقمان الحكيم‪ ،‬المذكور‬
‫في القرآن الكريم‪ ،‬وأكثم بن صيفي‪ ،‬وعامر بن الظرب‪ ،‬وأكثم بن عامر‪ ،‬وهرم بن قطبة‪ ،‬ولبيد بن ربيعة‪.‬‬
‫وبعض هؤالء يُعدون في الخطباء‪ ،‬وحكام المنافرات أيضاً‪ .‬وال يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد‪ ،‬أو‬
‫شريف‪ ،‬أو خطيب مشهور إال أضيفت إليه جملة من الحكم واألمثال‪.‬‬

‫والفرق بين الحكمة والمثل‪ ،‬أن الحكمة قول موجز جميل‪ ،‬يتضمن حكما ً صحيحا ً مسلما ً به‪ .‬ألنه نابع‬
‫من الواقع ومعاناة التجارب في الحياة‪ ،‬مثل‪« :‬آخر الدواء الكي‪ ،‬وأول الشجرة النواة‪ ،‬وإنك ال تجني من‬
‫الشوك العنب‪ ،‬وإن العوان ال تعلم الخمرة‪.»...‬‬

‫وأما المثل فهو ‪ -‬في أصله ‪ -‬قول يقترن بقصة أدت إليه‪ ،‬ويدري به اللسان أول مرة‪ ،‬ثم يدخل في‬
‫نطاق األمثال حين يستشهد به في مقامات مماثلة‪ ،‬وفي حاالت مشابهة للحالة األولى التي ورد ذلك القول‬
‫فيها‪ .‬ولذلك تحكى األمثال بألفاظها األصلية‪ ،‬بال تغيير وال تصرف‪ ،‬مهما كان وضع المخاطب أو نسق‬
‫الكالم‪.‬‬

‫وقد دون العرب حكمهم وأمثالهم منذ أوائل العصر األموي‪ ،‬وهذا مما ساعد على حفظها وتواترها‬
‫على األلسنة‪.‬‬

‫وأكثر تلك الحكم واألمثال ال يعرف أصحابها أو قائلوها‪ ،‬وقد سيقت بأسلوب سهل‪ ،‬ال أثر للصنعة‬
‫اإلنشائية فيه‪ ،‬وبعضها بل أكثرها‪ ،‬يعد من اإلنشاء الرفيع‪ ،‬والسبك الجيد‪ .‬وكثير منها أشطار موزونة‪،‬‬
‫ربما كانت مقتطعة من أبيات كاملة‪ ،‬مثل‪« :‬رضيت من الغنيمة باإلياب» وهو عجز بيت المرئ القيس‪،‬‬
‫و«خال لك الجو فبيضي واصفري» وهو أيضا ً عجز بيت لطرفة‪« .‬والبس لكل حالة لبوسها» وهو رجز‬
‫قديم‪ ،‬ال تعرف تتمته وال صاحبه‪.‬‬

‫وال تخلو صياغة بعض الحكم واألمثال أحياناً‪ ،‬من خروج على النظام اللغوي‪ .‬كقولهم‪« :‬مكره أخاك‪،‬‬
‫ال بطل» و«أعط القوس باريها» و«أجناؤها أبناؤها» والقياس‪« :‬جناتها بناتها» ألن «فاعالً» ال يجمع‬
‫على «أفعال»‪.‬‬

‫وهذه الحكم أو األمثال هي ‪ -‬على كل حال ‪ -‬صورة لحياة العرب في الجاهلية‪ ،‬وألساليبهم ولهجاتهم‪،‬‬
‫وجانب من نثرهم‪ ،‬فيها البساطة والسهولة التي ال تخلو أحيانا ً من السجع واالحتفال بتوازن الكلمات‬
‫وجمال الصنعة والتصوير‪.‬‬
‫الوصايا‪ :‬يمكن إلحاق الوصايا بالحكم واألمثال لتضمنها كثيرا ً من تلك األقوال الموجزة النابعة من‬
‫التجربة‪ ،‬حتى لكأن الوصايا أحيانا ً قائمة على جملة من الحكم واألقوال المأثورة‪.‬‬

‫وتروى هذه الوصايا عادة على ألسنة طوائف من الحكماء والمعمرين‪ ،‬الذين عرفوا بكثرة تجاربهم‬
‫وخبرتهم في الحياة‪ ،‬من أمثال‪ :‬ذي اإلصبع العدواني‪ ،‬وزهير بن جناب الكلبي‪ ،‬وعامر بن الظرب‬
‫العدواني‪ ،‬وحصن بن حذيفة الفزاري‪ .‬ومن النساء‪ :‬أمامة بنت الحارث‪ .‬ويغلب على الظن أن هذه الوصايا‬
‫جميعا ً رويت بالمعنى‪ ،‬ولكنها ال تخلو من بعض العبارات األصلية المحفوظة‪ ،‬والسيما في الوصايا‬
‫القصيرة‪ .‬وهي ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬تقدم صورة عن هذا الفن النثري‪ ،‬ألن من رووها أو حفظوها قد راعوا أصوله‬
‫وتقاليده‪.‬‬

‫وما وصل إلينا من تلك الوصايا بعضه موجه إلى األبناء والبنات‪ ،‬وبعضه اآلخر موجه إلى أفراد من‬
‫القبيلة‪ .‬أما من حيث الموضوع والمضمون؛ فيمكن تقسيم الوصايا إلى نوعين‪:‬‬

‫وصايا اجتماعية‪ :‬كالوصايا المتعلقة بالزواج‪ ،‬والمال‪ ،‬والصداقة‪ ،‬والعناية بالخيل وإكرامها‪ ،‬ومكارم‬
‫األخالق كتهذيب اللسان‪ ،‬وتربية النفس‪ ،‬والحث على الصدق‪ ،‬والبذل والجود‪ ...‬ومن شواهدها وصية ذي‬
‫اإلصبع العدواني ‪ -‬لما احتضر ‪ -‬البنه أسيد‪.‬‬

‫وصايا سياسية‪ :‬تكون بين الراعي والرعية‪ ،‬والدعوة إلى الحرب‪ ،‬والدعوة إلى السلم والتحذير من‬
‫التنازع‪ .‬والطابع العام للوصايا هو األسلوب المرسل‪ ،‬الذي يترك فيه الموصى نفسه على سجيتها‪ ،‬من‬
‫دون تنميق أو زخرفة‪ ،‬مؤثرا ً وضوح العبارات‪ ،‬ورشاقة التراكيب‪ ،‬وقصر الجمل بما يحقق المناسبة بين‬
‫المعنى واللفظ وطبيعة المقام الذي تقال فيه الوصية‪.‬‬

‫القصص‪ :‬ومن فنون النثر الجاهلي القصص وما يتصل منها بسبب‪ ،‬كاألسمار‪ ،‬والحكايات‪،‬‬
‫واألساطير‪ ،‬التي تتناثر في كتب األدب والتاريخ واألمثال‪ ،‬والتفسير‪ ،‬وكتب الشواهد النحوية والبالغية‪،‬‬
‫الشراح مما يؤلف ذخيرة قصصية غزيرة‪ ،‬تمثل في مضمونها جوانب من المجتمع العربي في‬ ‫َّ‬ ‫ومؤلفات‬
‫العصر الجاهلي‪ ،‬أو ما هو قريب منه‪ ،‬إذا صحت نسبتها إلى ذلك العصر‪.‬‬

‫وقد بقي الناس يتداولون هذه القصص عن طريق الرواية الشفوية‪ ،‬حتى بدأ تدوين بعضها في العصر‬
‫األموي‪ ،‬ولكن لم يصل إلينا شيء منه‪ ،‬بل وصل ما د َُّون في أوائل العصر العباسي‪ ،‬وما بعد ذلك‪ ،‬بعد أن‬
‫تنقلت روايته في المجالس‪ ،‬وزيد فيه‪ ،‬ونقص منه‪ ،‬وال يعرف مدونه وال راويه‪ ،‬وإن حمل بعضه على‬
‫األصمعي وغيره‪ ،‬سواء في ذلك ما كان فيه إطالة وتفصيل‪ ،‬أو قصر وإيجاز‪ .‬وقد كانت هذه القصص‬
‫الجاهلية المتداولة نواة للقصص الشعبي الذي ازدهر في العصرين‪ :‬العباسي والمملوكي‪.‬‬

‫ولهذا كله‪ ،‬يقع الشك في صحة نصوص القصص التي ترفع إلى العصر الجاهلي‪ ،‬من حيث الصياغة‬
‫على األقل‪ .‬ذلك أنها لم تدون في ذلك العصر قط‪ ،‬وال فيما هو قريب منه‪ ،‬بل صيغت بأساليب العباسيين‪،‬‬
‫ومن بعدهم‪ ،‬الذين تصرفوا فيها صيغة ومضموناً‪ ،‬والسيما الطويلة منها‪ .‬وتكفي اإلشارة إلى أن أيام‬
‫العرب ومالمحهم الحربية تؤلف ينبوعا ً قويا ً لتلك القصص‪ ،‬وقد دونها أبو عبيدة في شرحه لنقائض جرير‬
‫والفرزدق‪ .‬ومن هذا التراث القصصي أيضا ً ما يتصل بملوك المناذرة والغساسنة والدولة الحميرية‪،‬‬
‫وغيرهم ممن سبقوهم أو عاصروهم‪ ،‬كالزباء أو زنوبية‪ .‬ومنه أيضا ً قصص العشاق وأخبارهم‪ ،‬وبعض‬
‫األساطير عن الحيوانات كقصة الحية والفأس في خبر المثل‪« :‬كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟»‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬إلى قصص أخرى متناثرة في كتاب األغاني وغيره عن عمرو بن كلثوم وربيعة بن مكدم‪ ،‬وعبد‬
‫هللا بن جدعان‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وكل ذلك من موروثنا النثري‪ ،‬ولكنه ال يمثل أسلوب الجاهليين وال صياغتهم‪.‬‬
‫الرسائل‪ :‬وآخر أنماط النثر الجاهلي وفنونه الرسائل‪ ،‬التي تعد أقل فنون النثر شيوعاً‪ ،‬ولكنها أكثرها‬
‫حاجة إلى التدوين الستخدام الجاهليين إياها في األمور التجارية والسياسية والقبلية‪ ،‬وفي السفارة بينهم‬
‫وبين األكاسرة وملوك المناذرة والغساسنة‪ .‬ومما يثبت ذلك أن لقيط بن يعمر اإليادي‪ .‬مثالً‪ ،‬كان يحسن‬
‫الفارسية‪ ،‬وكان من مقدمي تراجمة كسرى سابور‪ ،‬وكذلك كان عدي بن زيد العبادي وإخوته من كتاب‬
‫األكاسرة والمترجمين عندهم‪.‬‬

‫وما وصل إلينا من نصوص الرسائل الجاهلية قليل جداً‪ ،‬منها ما هو ذو طابع سياسي كرسالة النعمان‬
‫بن المنذر إلى كسرى‪ ،‬حين جهز إليه وفدا ً ضم وجوه العرب من قبائل مختلفة‪ ،‬ليتكلم كل منهم أمام‬
‫كسرى بما يحضره عن مآثر العرب ومفاخرهم إذا صح هذا الخبر‪.‬‬

‫ومن تلك الرسائل ما يكون في القبائل‪ ،‬من عهود ومحالفات تقتصر على أغراض ضيقة جداً‪ ،‬ويمكن‬
‫أن تعد وثائق تاريخية‪ .‬ومثالها كتاب التحالف بين عبد المطلب بن هاشم‪ ،‬وقبيلة خزاعة على التناصر‬
‫والتعاون مدى األيام في جمل مرسلة معبرة‪ ،‬تطول وتقصر‪ ،‬مع قوة وإحكام‪.‬‬

‫خصائص النثر الجاهلي‪ :‬هذا العرض السريع لفنون النثر الجاهلي‪ ،‬واألعالم الذين اشتهروا في كل‬
‫فن‪ ،‬يمكن أن يخرج منه بجملة من خصائص النثر الجاهلي‪ ،‬الذي تناول ‪ -‬في مضمونه ‪ -‬قضايا تهم الفرد‬
‫والجماعة معاً‪ ،‬في تلك المجتمعات القبلية التي تتحكم فيها عادات وأعراف موروثة‪ ،‬وتنشد أخالقا ً وشمائل‬
‫وغايات ال تكاد تحيد عنها‪ .‬فكان ذلك النثر‪ ،‬بفنونه كلها متمما ً للشعر الجاهلي أيضا ً في تصوير جوانب‬
‫أخرى من الحياة العربية‪ ،‬تصويرا ً أقرب إلى الحقيقة والواقع‪ ،‬بما في تلك الحياة من مفارقات‬
‫ومتناقضات‪ .‬فبينما تالحظ تو ُّجه القوم إلى نواح خلقية وتهذيبية‪ ،‬وميلهم إلى الخير واإلصالح في‬
‫وصاياهم‪ ،‬وبعض خطبهم وحكمهم‪ ،‬إذ بك تؤنس منهم ارتدادا ً إلى الغضب والتهور‪ ،‬وإشادة باألحساب‬
‫واألنساب‪ ،‬وإشاعة للعصبيات والمفاخر القبلية‪ ،‬والمصالح الخاصة‪ ،‬في المنافرات وبعض الخطب‬
‫والحكم األخرى‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى إشعال نار الحرب‪.‬‬

‫إن تصوير النثر الجاهلي لذلك كله هو تصوير أقرب إلى الحقيقة والواقع‪ ،‬ألن واضعي بعض تلك‬
‫النصوص‪ ،‬أو صائغيها‪ ،‬قد حاولوا‪ ،‬بقوة مالحظتهم ومزيد عنايتهم أن يجعلوها محاكية ألصولها األولى‪،‬‬
‫مستهدين في ذلك بقرائن مختلفة‪ .‬ولهذا فإن تلك النصوص النثرية ‪ -‬مع ما اعترى معظمها من تغيير أو‬
‫زيادة أو نقص ‪ -‬هي في روحها وبنائها مقاربة ألصولها الجاهلية‪ ،‬حتى يمكن أن يكون الحديث عن‬
‫خصائص النثر الجاهلي مقاربا ً للحقيقة‪.‬‬

‫فهذا النثر‪ ،‬بفنونه المختلفة تغلب عليه العناية والتجويد‪ ،‬والبعد‪ ،‬ما أمكن‪ ،‬عن الهلهلة والضعف‪ .‬فيأتي‬
‫مرسالً طبيعيا ً تارة‪ ،‬ومتكلفا ً محلى بالسجع والتصوير البياني تارة أخرى‪ ،‬بحسب الفن النثري من جهة‪،‬‬
‫وبحسب الحال والمقام من جهة ثانية‪ ،‬رغبة في تحقيق اإلمتاع‪ ،‬أو التأثير واإلقناع لدى السامع‪ ،‬والنفوذ‬
‫إلى مكامن نفسه‪ .‬ومعنى ذلك أنهم كانوا يتخيرون الكالم ويحرصون على القوة والجزالة‪ ،‬والتنغيم‬
‫الموسيقي بين الجمل إذا احتاجوا إلى ذلك‪ ،‬كما في سجع الكهان والمنافرات‪.‬‬

‫ومن مراعاتهم للمقام‪ ،‬أن نصوصهم تترجح بين الطول والقصر‪ ،‬ولكل منها موضع يحسن فيه‪.‬‬
‫فالخطبة نفسها قد تطول وقد تقصر‪ ،‬وكذلك الوصية‪ ،‬أما الحكم واألمثال وأسجاع الكهان فال تخرج عن‬
‫القصر واإليجاز‪.‬‬

‫ويغلب على ذلك النثر الوضوح والسهولة في ألفاظه وتراكيبه‪ ،‬إال ما نجده في سجع الكهان من غرابة‬
‫في األداء‪ ،‬وغموض في التعبير‪ ،‬إمعانا ً منهم في اإليهام واإلبهام‪ ،‬وكذلك ما قد نجده من ألفاظ تبدو لنا‬
‫اليوم غريبة‪ ،‬في طائفة من وصاياهم ومنافراتهم وبعض خطبهم‪ ،‬وما هي بغريبة عندهم‪.‬‬

You might also like