You are on page 1of 14

‫شعبة عمل النفس‬

‫‪‬‬

‫ا ألس تاذ‪.‬عبد الرحمي معران‬


‫‪Abderrahim EMRAN‬‬

‫‪1‬‬
‫لكمة الأس تاذ محمد التوجيري‬
‫األستاذ الدكتور عبد الرحيم عمران أحد المؤسسين األوائل للدراسات السيكولوجية في المغرب‬ ‫‪‬‬
‫و المعروف لديكم من خالل احتكاكه الدائم بكم‪ .‬و هو كما يعرف الجميع أستاذ ومؤ طر وباحث يقوم بمهامه‬
‫على أحسن وجه و بكفاءة علمية و منهجية متميزة يشهد له بها الجميع ‪.‬و هو شيء يشرفنا جميعا‪ :‬طلبة و‬
‫أساتذة و شعبة و كلية ‪ .‬و قبل أن يشرع في إلقاء درسه االفتتاحي هذا ليبين لنا مدى أهمية علم النفس و دوره‬
‫في تطوير وتنمية المجتمع‪ ،‬فإنه ال محالة و كما عهدته في مداخالته العلمية‪ ،‬سيمدنا برؤية و مقاربة علمية‬
‫متميزة‪ .‬وقبل أن أعطي الكلمة إلى األستاذ عبد الرحيم عمران‪ ،‬فإنني أعطي الكلمة إلى األستاذ المصطفى‬
‫حدية‪ ،‬وكما تعلمون أن األستاذ المصطفى حدية هو كذلك أحد المؤسسين األوائل للدراسات السيكولوجية في‬
‫المغرب وهو معروف بأبحاثه الميدانية سواء كمؤطر أو كباحث‪.‬‬

‫لكمة الأس تاذ املصطفى حدية‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬يسرني كثيرا أن أحضر لهذا اللقاء العلمي الجميل والذي نتشرف‬ ‫‪‬‬
‫بحضور طلبتنا وزمالءنا األساتذة بمختلف التخصصات‪ .‬األستاذ عبد الرحيم عمران الذي سيلقي لنا هذا‬
‫الدرس االفتتاحي‪ ،‬البد أن أذكر بحقيقة أقولها بصدق وبكل حجج علمية دامغة‪ ،‬أن األستاذ عبد الرحيم عمران‬
‫هو أول من نشر في قسم علم النفس هو واألستاذ محمد التويجري‪ ،‬في بداية الثمانينات أحد المقاالت المهمة‬
‫النفسية بالمغرب في مجلة أقالم‪ ،‬التي كان يشرف عليها األستاذ‬ ‫والمهمة جدا‪،‬تخص وضعية األمرا‬
‫إبراهيم بوعلو‪ .‬و كما تعرفون كذلك فله أبحاث أ خرى مهمة لها أهميتها الكبرى خالل مراحل تطور علم‬
‫النفس بالمغرب في جوانب متعددة‪.‬كما له أبحاث نشرها في كتابيه القيمين عندما كان في كلية اآلداب بفاس‪.‬‬
‫وهذين الكتابين رجعت إليهما واشتغلت عليهما في آخر منشور أصدرته‪ .‬حقيقة أخرى سأظيفها‪ .‬و هي الغيرة‬
‫الكبيرة التي نراها عليه مع طلبتنا في مسلك علم النفس‪ ،‬وهذه سمة يعرفها عنه الطلبة جيدا‪ ،‬حيث يأخذهم‬
‫طالبا طالبا على مستوى التكوين والتأطير و بحماس قل نظيره ؛وهذا شيء يثلج الصدر‪ .‬باإلضافة إلى‬
‫نضاالته الجامعية و النقابية الكبيرة بغيرة وبحب‪.‬و هذا أمر يذهلنا بصراحة و ما أحوجنا لمثل هذه‬
‫األخالقيات‪ .‬وما أحوجنا لبلورة وتطوير علم النفس على مستوى المغرب‪ ،‬وعلى مستوى العالم العربي‪.‬فعلم‬
‫النفس االجتماعي وعلم النفس اإلكلينيكي على مستوى كلية اآلداب بالرباط هو حاضر بمختلف التخصصات‬
‫و األبحاث و المنشورات‪ .‬و في فاس كذلك على مستوى علم النفس المعرفي واللغوي‪ ،‬حاضر بقوة‪ .‬فنحن‬
‫حاضرون في إطار العديد من المنابر في علم النفس‪ ،‬نذكر منها الجمعية المغربية لعلم النفس وكذلك عبر‬
‫وسائل التواصل االجتماعي نحاول أن نبرز دور علم النفس في المغرب‪ .‬كما ال يفوتني أن أخبركم بأننا لن‬
‫نترك أي مناسبة تمر دون أن نرفع من شأن هذا التخصص ونعطيه قيمته‪ .‬لذلك سوف نجعل من السنين‬
‫المقبلة سنين خصبة إنشاء هللا‪ .‬سواء فيما يخص اإلنتاج العلمي أو فيما يخص األخذ بيد طلبتنا ليكونوا خير‬
‫خلف بالنسبة لنا‪.‬و سوف لن ندع هذه األمنية إال بعد أن نجعل من طلبة الدكتوراه باحثين بامتياز في هذا‬

‫‪2‬‬
‫المجال وأتمنى لألستاذ عبد الرحيم التوفيق في درسه االفتتاحي هذا وشكرا واسمحولي إن كنت قد أطلت‬
‫عليكم‪.‬‬

‫لكمة الأس تاذ عبد الرحمي معران‬


‫‪ ‬شكرا‪ ،‬بكل مشاعر الصداقة والمحبة لكل من الصديق األستاذ محمد التويجري والصديق األستاذ المصطفى‬
‫حدية‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬كل ما قيل في حقي من كلمات التقدير والثناء سأتحفظ عليها تواضعا باستثناء مرجعية‬
‫وحيدة‪ ،‬وهي أنني أكبرهم سنا فقط‪ .‬وكبر السن في علم النفس له صفتان إما صفة الشيخوخة‪،‬وإما صفة‬
‫الحكامة‪ ،‬أو هما معا‪ .‬كما ال يفوتني في بداية هذا الدرس االفتتاحي‪ ،‬أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير ألصدقائي‬
‫األساتذة الذين لبوا الطلب وشرفوني بحضورهم معي هنا‪ .‬وبطبيعة الحال حضورهم هذا هو تشريف للجامعة‬
‫المغربية‪ ،‬وتشريف لهذه الكلية‪ ،‬ألنني عندما أعود بذاكرتي الجامعية منذ السبعينيات إلى اآلن أستحضر بأن‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية كانت دائما كلية رائدة على الصعيد الوطني‪ ،‬رائدة بأساتذتها وطلبتها ورائدة‬
‫بطروحاتها‪ ،‬ورائدة بمنتوجها العلمي‪ ،‬بمفهوم التقدم المعرفي و المجتمعي‪ .‬فكانت قضاياها الفكرية والعلمية‬
‫مرتبطة دائما بقضايا المجتمع الشاغلة‪ .‬وهو ما جعل من طروحاتها ومن مؤلفاتها‪ ،‬وكتاباتها‪ ،‬طروحات‬
‫وكتابات ومؤلفات تصب في القضايا الكبرى للمجتمع المغربي‪ .‬وبطبيعة الحال إذا كنا نعتز اليوم بما أنتجته‬
‫هذه الكلية وما أنتجته مواردها البشرية في علم االجتماع و األنتروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس‪ ،‬فهذا يعود‬
‫كذلك إلى هذا التوجه الذي أعتبره نضالي في الظروف التي عملنا فيها ومازلنا كأساتذة باحثين شغوفين‬
‫بالبحث العلمي الجام عي‪ ،‬باعتبار الجامعة هي المؤسسة المجتمعية المسؤولة على إنتاج المعرفة العلمية أوال و‬
‫باعتبارها التنظيم )‪ (organisation‬المجتمعي الساهر على تأهيل وتكوين الموارد البشرية الطالبية في‬
‫أعلى مستوياتها وكفاءاتها‪ .‬لماذا هذا المدخل؟ ألنني قلت مرارا وتكرارا لطلبتي بأن ما يحز في نفسي‪ ،‬هو ما‬
‫أعاينه أحيانا لدى العديد من الطلبة من مواقف الالمباالة وعدم االكتراث‪ ،‬بنزعة اكتئابية أحيانا ‪،‬وغيرها من‬
‫المواصفات السيكولوجية السلبية الفاعلة بحدة وراء ظاهرة الهدر الجامعي وقلة الحافزية وغياب المشروع‬
‫الجامعي الفردي والجماعي لدى العديد منهم‪ ،‬مع العلم بأن ما يجمعنا جامعيا‪ ،‬علميا و تأهيليا‪ ،‬هو عكس ذلك‪.‬‬
‫ولهذا أعتبر هذا الدرس االفتتاحي يندرج في هذه الرؤية والمقاربة الهادفة إلى تفعيل دينامية التشارك‪،‬‬
‫واالهتمام‪ ،‬وتقاسم المعرفة بين األساتذة والطلبة حول القضايا الشاغلة لنا علميا ومجتمعيا في إطار مرجعيتها‬
‫الجامعية‪.‬‬

‫وحتى ال أطيل عليكم في هذا الجانب التقديمي‪ ،‬سأنتقل مباشرة للتساؤل حول الرؤية المعرفية التي من‬
‫خاللها سأطرح و سأقارب بها مجموعة من القضايا الكبرى الشاغلة للمجتمع المغربي‪ ،‬وعن دور مساهمة علم‬
‫النفس بالمغرب في دراستها وإنتاج المعرفة السيكولوجية الجامعية حولها‪ .‬ويبقى تساؤلي المعرفي هنا هو‬
‫كيف سأقاربها ؟ بأية رؤية؟ وبأية طروحات؟ انطالقا من مسائلتي المعرفية اإلبستيمولوجية لمهام علم النفس‬
‫بالمغرب ولمكانته الجامعية على مستوى البحث العلمي و التأهيلي والمهني‪ -‬الممارساتي؟‬

‫ومن هنا سأبدأ مداخلتي باستحضار الوضعية الحالية لعلم النفس بالمغرب‪ ،‬بمرجعية ‪Jean Piaget‬‬
‫ودراساته الرائدة عن الطفل وكفاءاته المعرفية‪ ،‬فيما يخص "الكأس النصف المليء"‪" ،‬و النصف الفارغ"‪.‬‬
‫مفضال النظر إليه من خالل النصف المليء وبالتالي التركيز في البداية على العديد من الجوانب االيجابية‬
‫التي نعاينها حاليا على مستوى علم النفس بالجامعة المغربية‪ ،‬تاركا الكأس النصف الفارغ إلى مناسبة أخرى‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ومن هنا تأتي مسائلتي التالية حول ما هي مهام علم النفس بالمغرب؟ ما هي مكانته؟ ما هي أدواره؟ و بأية‬
‫قضايا مجتمعية شاغلة ؟‬

‫وبالتالي هل علم النفس بالمغرب هو مجرد تخصص أكاديمي مؤسساتي‪ ،‬مرتبط بظروف نشأة هذا‬
‫الحقل المعرفي داخل كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ ،‬خالل بداية السبعينيات من القرن الماضي؟ أم أنه‬
‫في نهاية األمر‪ ،‬هو مرجعية علمية ومهنية أساسية نابعة ومرتبطة بمرجعية اإلنسان المغربي وتنظيماته‬
‫المجتمعية و دينامية جماعاته وأفراده‪ ،‬المنتظمة والفاعلة بالمحددات و النواظم السيكولوجية األساسية لإلنسان‬
‫ومجتمعاته‪ ،‬بمرجعياتها الكونية والمحلية؟‪ .‬ومن هنا وبهذه الرؤية والمقاربة المعرفية القائلة بكون علم النفس‬
‫تخصص مالزم لإلنسان ولمجتمعاته‪ ،‬تأتي مسائلتي عن ما هي خصائص ومواصفات سيكولوجية المجتمع‬
‫المغربي في تطوره وكذلك في تحوالته وتوازناته واختالالته وانسجامه ومعاناته‪ ،‬الفردية منها والجماعية‬
‫والمؤسساتية‪.‬‬

‫بطبيعة الحال لن أطيل عليكم فيما يخص هذا المدخل االبستيمولوجي لمداخلتي هذه‪ ،‬ألمر مباشرة إلى‬
‫طرح وجهة نظري المعرفية فيما يخص مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي‪ ،‬بمؤسساته وجماعاته‬
‫األنثروبولوجية أوال مرورا إلى مواصفات سيكولوجيته السوسيولوجية كمجتمع متعدد ومتنوع ومركب‬
‫المؤسسات والجماعات والعالقات والروابط‪ ،‬وصوال إلى مواصفات سيكولوجيته النفسية االجتماعية بمرجعية‬
‫شخصية الفرد الفاعل‪ ،‬و دينامية جماعاته المتعددة والفاعلة‪ ،‬باستقاللية نسبية عن مؤسساته وضوابطها‬
‫وأنسقتها الناظمة والمتحكمة في ظواهره المؤسساتية منها والجماعية والفردية ‪،‬و التي تمنح لعلم النفس و‬
‫لتخصصاته الفرعية و لممارساته المهنية‪،‬المكانة العلمية الجامعية والمكانة المجتمعية الالئقة به ‪.‬‬

‫ومن هنا يبدأ طرحي حول مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي األنثربولوجي‪ ،‬في بنياته‬
‫األساسية وثقافته المرجعية وفي ممارساته وتعاقداته وتنشئته االجتماعية المتجانسة النواظم والمحددات‪ ،‬التي‬
‫ظلت ناظمة له في مؤسساته وعالقاته وروابطه وقيمه‪ ،‬إلى حدود أوائل السبعينات من القرن الماضي‪ .‬لننتقل‬
‫بكيفية متميزة ودالة بنيويا ومؤسساتيا وتنظيميا و عالئقيا‪ ،‬إلى مجتمع أكثر تعقيدا وتمايزا وتركيبا‪ ،‬متصفا‬
‫بمواصفات المجتمعات السوسيولوجية‪ ،‬إن على مستوى المؤسسات أو على مستوى البنيات أو على مستوى‬
‫التعاقدات‪ ،‬أو على مستوى ديناميات ظواهره المجتمعية المركبة المحددات والمواصفات و الديناميات‪ .‬لننتقل‬
‫الحقا مع نهاية القرن العشرين إلى مجتمع نفسي اجتماعي النواظم والروابط والعالقات و الفاعليات‬
‫والديناميكيات‪ ،‬المتميز أكثر فأكثر بمواصفات مرجعية الفرد الفاعل والجماعات ذات مواصفات وتنظيمات‬
‫االستقالل والتنظيم والتدبير الذاتي‪ ،‬بخصوصيات سيكوسوسيولوجية "المشروع" وسيكولوجية "السعادة"‬
‫والتمايز والتنوع‪ ،‬و سيكوسوسيولوجية التعاقد والرغبة في إثبات الذات‪ .‬وهذا ما يجعلني أستحضر جامعيا‬
‫وعلى مستوى محاضراتي‪ ،‬طروحاتي القائلة بأن المجتمع المغربي تحول اليوم‪ ،‬على مستوى تمثالته و‬
‫سلوكاته ومشاريعه وممارساته إلى مواصفات "المجتمع السيكولوجي"‪ ،‬وهو ما نعاينه اليوم من طلب قوي‬
‫ومتزايد جدا على عل م النفس سواء على مستوى الصحف‪ ،‬أو على مستوى وسائل اإلعالم السمعية والبصرية‬
‫أو على مستوى المؤسسات التربوية واإلدارة والمقاولة‪ ،‬وعلى مستوى مختلف مؤسسات الدولة وجمعيات‬
‫المجتمع المدني‪ .‬فإلى ماذا يعود هذا الطلب المتزايد وأحيانا بنوع من اإلفراط و المبالغة ؟‪.‬‬

‫جوابي‪ :‬وهو أن المجتمع المغربي اآلن يتموقع وينتظم بنيويا وتنظيماتيا‪ ،‬على المستوى الجماعي‬
‫والفردي‪ ،‬ضمن نسقية ما أذهب إلى تسميته "بالمجتمع السيكولوجي"‪ ،‬نظرا لوفرة الطلب المتزايد على علم‬
‫النفس ووفرة وتنوع االنتظارات الفردية منها والجماعية والمؤسساتية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫بعد هذا الطرح وهذه الرؤية السيكولوجية لمواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي في ارتباطها‬
‫بسيكولوجية أفراده كفاعلين‪ ،‬وسيكولوجية جماعاته وتنظيماته‪ ،‬والقضايا الشاغلة على مختلف هذه‬
‫المستويات‪ ،‬يأتي تساؤلي اإلبستيمولوجي حول النظرة المعرفية التي من خاللها سأعمل على التعريف بعلم‬
‫النفس وبالقضايا الكبرى الشاغلة له؟‪ .‬حتى أكون واضحا معكم ‪ ،‬فيما يخص هذا الجانب الخاص بهوية علم‬
‫النفس و بموضوعه العلمي و بممارساته المهنية‪ ،‬فإن علم النفس كتخصص وبحث وممارسة يظل تخصصا‬
‫قائم الهوية والشرعية‪ ،‬ببراديغماته التنظيرية وبمناهجه وتقنياته الخاصة به‪ ،‬وبمؤسسات ومجموعات البحث‬
‫العلمي وبممارساته التدخلية والعالجية‪ ،‬سواء أكانت موجودة لدينا في المغرب أو لم تكن موجودة على‬
‫أرضية الواقع والمؤسسات والممارسات‪ .‬انطالقا من أن علم النفس كتخصص معرفي علمي ومهني‪ ،‬هو‬
‫مجموعة من البراديغمات النظرية والمناهج العلمية ومجموعة من التقنيات ووسائل التدخل والممارسة‪ ،‬سواء‬
‫على مستوى اإلرشاد والتوجيه أو على مستوى الوقاية والعالج‪ ،‬المرتبطة باإلنتاج العلمي لمختبراته‬
‫ومجموعات بحثه وممارساته المهنية‪ .‬وهذه المواصفات لهويته العلمية والمهنية تظل قائمة الشرعية‬
‫والتخصص دوليا‪ ،‬سواء أكان لعلم النفس بالمغرب حضورا علميا ومهنيا ومجتمعيا متميزا أم لم يكن‪ .‬وبالتالي‬
‫وجب علينا في النقاش الدائر حول علم النفس في المغرب ومكانته ومهامه‪ ،‬أن نميز بين المستويين الدولي‬
‫والوطني‪ .‬ومن هنا يأتي تعريفي وتقديمي لعلم النفس في هذا الدرس االفتتاحي‪ ،‬برؤية نسقية شمولية كما هو‬
‫عليه اآلن دوليا بمرجعيته العلمية والمهنية من خالل براديغماته المرجعية األربعة‪ .‬وبالتالي لن أعود بكم‬
‫للتعريف بعلم النفس إلى القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين أو نهايته‪ ،‬فهذه ليست مقاربتي لعلم النفس‬
‫وليست منهجيتي في التعريف بمواصفات موضوعه وخصوصية هويته‪ ،‬انطالقا من كوني أعتبر علم النفس‬
‫أكثر التخصصات والميادين المعرفية وضوحا‪ ،‬سواء فيما يخص موضوعه ومقارباته وممارساته‪ ،‬انطالقا‬
‫من أن علم النفس يتموقع اليوم بأربع مرجعيات براديغماتية أساسية ال يبتعد عنها في كل ما يبلوره وينتجه‬
‫علميا ومنهجيا وتقنيا ومهنيا‪ ،‬أال وهي‪ :‬البراديغم المعرفي و البراديغم النفسي ‪-‬التحليلي و البراديغم التفاعلي‬
‫النسقي و البراديغم السلوكي‪.‬‬

‫‪ -1‬البراديغم المعرفي ‪ ،Le paradigme cognitiviste‬وهو براديغم ناظم لعم النفس اليوم‪ ،‬فيما‬
‫يخص مدارسه ومناهجه وتقنياته وممارساته‪ .‬والدليل على ذلك البحث والعالج المعرفي‬
‫)‪(la recherche et la thérapie cognitiviste‬‬

‫‪ -2‬لدينا كذلك البراديغم النفسي‪-‬التحليلي ‪ Le paradigme psychanalytique‬بنظرياته‬


‫ومقارباته وممارساته‪ ،‬والتي تبتدئ بالمقاربة الوصفية ‪-‬التحليلية ‪-‬اإلكلينيكية لتمتد إلى العالج‬
‫النفسي التحليلي‪.‬‬

‫‪ -3‬ثم لدينا كذلك المقاربة التفاعلية ‪ -‬النسقية ‪.Le paradigme systémique interactionel‬‬
‫وهو البراديغم النفسي االجتماعي‪ ،‬بمختلف نظرياته ومقارباته ومناهجه وتقنياته وممارساته‪،‬‬
‫سواء على مستوى البحث العلمي األساسي أو البحث العلمي التدخلي أو على مستوى العالج‬
‫النفسي ‪ -‬االجتماعي‪.‬‬

‫‪ -4‬ثم يبقى لدينا البراديغم التاريخي المرجعي الذي أسس لعلمية علم النفس‪ ،‬تنظيرا ومنهجا وهو‬
‫البراديغم السلوكي ‪.Le paradigme béhavioriste‬‬

‫‪5‬‬
‫هذه المرجعيات البراديغماتية األربعة‪ ،‬تفيدنا في ماذا؟ تفيدنا في معرفة موضوع علم النفس‪ ،‬والرؤى‬
‫والمقاربات المعرفية التنظ يرية التي من خاللها سيتموقع علم النفس بموضوعه القابل للدراسة والتحليل والفهم‬
‫والتفسير والتدخل‪ ،‬كما فعلت من قبله السوسيولوجيا عندما أرادت تحديد موضوع دراستها العلمي بالدراسة‬
‫الموضوعية للمجتمع في تنظيماته ومؤسساته‪ ،‬سواء مع ‪ Auguste Comte‬أو مع ‪ Durkheim‬أو مع‬
‫‪ Max Weber‬أو مع غيرهم‪ ،‬حينما جعلوا من المجتمع موضوعا للسوسيولوجيا‪ ،‬قابال للدراسة العلمية‬
‫السوسيولوجية‪.‬‬

‫وهذا ما جعل من علم النفس‪ ،‬كما هو عليه األمر بالنسبة للسوسيولوجيا التي حددت و عرفت‬
‫موضوعها بالدراسة العلمية للمجتمع‪ ،‬يهتم بالدراسة العلمية "لإلنسان" في أبعاده السيكولوجية األربعة السالفة‬
‫الذكر‪ .‬بحيث نجد أن علم النفس قد نهج نفس المنحنى‪ ،‬لكي يحدد لنفسه موضوعا قابال للدراسة العلمية‪ .‬وهذا‬
‫ما قامت به فعال المدرسة السلوكية موضوعا ومنهجا‪ ،‬والعمل على إبعاده كلية عن كل ما هو ذاتي وما هو‬
‫استبطاني وما هو حدسي؛ لتعطي لعلم النفس موضوعه العلمي المركزي باعتباره‪ :‬علم دراسة "السلوك"‬
‫وقولها بأهمية وأولوية "المنهج التجريبي" كمنهج مركزي إلنتاج المعرفة العلمية داخل علم النفس‪ ،‬بإدخالها‬
‫إلشكالية السلوك إلى المختبرات وإخضاعه إلى التنظير‪ ،‬معتمدة في ذلك أساسا على "نظرية التعلم" من خالل‬
‫وجهة نظرها المعرفية القائلة بأن أهم ما يؤسس لسيكولوجية اإلنسان‪ ،‬هي سيكولوجية التعلم‪ ،‬وأخضعت‬
‫بالتالي هذا الموضوع المرجعي وإشكالياته للمنهج العلمي التجريبي‪ ،‬وألزمت علم النفس بضرورة االحتكام‬
‫إلى مواصفات المعرفة العلمية إن على مستوى النظريات أو على مستوى المفاهيم أو على مستوى الفرضيات‬
‫وعلى مستوى منهجية التحقق باعتمادها المنهج التجريبي كالمنهج األساسي الذي يؤسس لعلمية علم النفس ‪.‬‬

‫يبقى تساؤلي االبستمولوجي المعرفي هنا‪ ،‬من خالل هذا التقديم لعلمية علم النفس‪ ،‬التي أسس لها‬
‫البراديغم السلوكي‪،‬هو الوقوف على امتداد هذه الرؤية والمقاربة المعرفية المنهجية لبراديغم المدرسة‬
‫السلوكية إلى مختلف البراديغمات األخرى الحقا‪.‬‬

‫إن هذه الرؤيا وهذا المنحى الذي نهجه علم النفس‪ ،‬تنظيريا ومنهجيا بتحديده لموضوع علم النفس‬
‫بدراسة السلوكات واعتماده منهجيا على المقاربة التحليلية التجريبية‪ ،‬أعطت ماذا؟ أعطتنا تنظيريا‪ ،‬باراديغما‬
‫علميا متميزا‪ ،‬أال وهو براديغم "المدرسة السلوكية" التي جعلت من "نظرية التعلم" المرجعية األساسية‬
‫لطروحاتها المعرفية ولمفاهيمها اإلجرائية ولفرضياتها العامة منها واإلجرائية‪ ،‬وجعلت من المنهج التجريبي‬
‫المنهج األساس للتحقق منها بإدخالها إلى مختبرات علم النفس التجريبي‪ ،‬إلنتاج المعرفة العلمية حولها‬
‫ولتحويلها إلى قوانين علمية تفسيرية وتوقعية تنبؤية استشرافية‪.‬‬

‫إن هذا المنحنى الذي ستنهجه المدرسة السلوكية‪ ،‬تنظيريا ومنهجا وتجريبيا‪ ،‬سيشكل تحوال معرفيا‬
‫إبستيمولوجيا جديدا‪ ،‬وسيجعل علم النفس ب هذه المواصفات‪ ،‬يتبوأ المكانة العلمية التي كان يفتقدها بين العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية والبيولوجية آنذاك‪ .‬وهو ما سينعكس إيجابا على مختلف الميادين والمجاالت األخرى‬
‫لعلم النفس‪ ،‬وسيجعلها أكثر ثقة بنفسها‪ ،‬لتتموقع بدورها داخل مرجعيات ومواصفات المعرفة السيكولوجية‬
‫العلمية‪ ،‬بعملها على صياغة براديغماتها المرجعية التنظيرية منها والمنهجية‪ ،‬باحتكامها إلى المقاربة التحليلية‬
‫التجريبية‪ .‬أي أنني أذهب إلى أن البراديغم السلوكي بالمواصفات السالفة الذكر‪ ،‬قام بطمأنة حقل علم النفس‬
‫في شموليته‪ ،‬مما جعل علم النفس االجتماعي وعلم النفس المعرفي وعلم النفس الوجداني التحليلي‪ ،‬أكثر ميال‬
‫إلى التنظير وإلى التحليل المنهجي‪ ،‬بمعارف أكثر دقة ومصداقية‪ .‬بمعنى أن علم النفس السلوكي شكل‬
‫إبستيمولوجيا‪ ،‬النموذج والقدوة المرجعية لعلمية علم النفس واستقالليته‪ ،‬بحيث سنجد أن علم النفس االجتماعي‬
‫يتبع نفس النهج التنظيري والمنهجي التجريبي مع كل من ‪ Asch‬و ‪ K.Lewin‬على سبيل المثال؛ كما سنجد‬

‫‪6‬‬
‫علم النفس المعرفي مع ‪ Jean Piaget‬ينهج نفس المنحنى تنظيريا ومفاهيميا وتجريبيا؛ وهو ما سنعاينه كذلك‬
‫بالنسبة للدراسات والمقاربات والمناهج في علم النفس اإلكلينيكي التحليلي الحقا‪ ،‬و خاصة مع "نظرية‬
‫التعلق" ‪ Théorie de l’attachement‬ودراساتها الميدانية اإلكلينيكية و التجريبية مع ‪ .Harlow‬مما‬
‫سيجعل علم النفس في وضعية تسمح له بأن يتبنى إبستيمولوجيته الداخلية ‪ ،Epistémologie interne‬أوال‬
‫بالنسبة للمدرسة السلوكية من خالل نظرياتها‪ ،‬ومفاهيمها‪ ،‬وطروحاتها الخاصة‪ ،‬وبنتاجها العلمي وبتقنياتها‬
‫على مستوى التدخل والممارسة‪ ،‬وصوال إلى العالج النفسي السلوكي‪ .‬وهو ما سنعاينه كذلك على مستوى علم‬
‫النفس المعرفي التكويني لدى ‪ J.Piaget‬ومدرسته النمائية التكوينية‪ ،‬وعلى مستوى علم النفس االجتماعي‬
‫التفاعلي النسقي لدى ‪،Kurt Lewin‬وعلى مستوى علم النفس الوجداني التحليلي عند ‪ .Freud‬وهذا ما‬
‫سيجعل علم النفس‪ ،‬كحقل علمي متخصص‪ ،‬ينتظم بأربع براديغمات مرجعية أساسية بنفس مواصفات الدقة‬
‫العلمية‪ ،‬إن على المستوى التنظيري أو على المستوى االفتراضي وعلى المستوى المنهجي‪ ،‬أو فيما يخص‬
‫دقة ومصداقية إنتاجاته العلمية‪ ،‬أوعلى مستوى دقة و نجاعة ممارساته المهنية‪ .‬وهو ما سيجعله يمتلك‬
‫إبستيمولوجية علمية داخلية خاصة به‪ ،‬كحقل معرفي ومهني متميز الموضوع والطروحات والنظريات‬
‫والمناهج والتقنيات والممارسات‪ .‬لدراسة ماذا؟ هل لدراسة السلوكات ومحدداتها كما ذهبت إلى ذلك المدرسة‬
‫السلوكية؟ أم لدراسة المحددات األربعة السالفة الذكر‪ ،‬بمنظور ومقاربة إبستيمولوجية نسقية مغايرة؟ وذلك‬
‫بجعلها من "اإلنسان"‪ ،‬في أبعاده السيكولوجية األربعة‪ :‬السلوكية منها والمعرفية والعالئقية والوجدانية‪،‬‬
‫الموضوع األساس لعلم النفس وليس السلوك فقط‪ .‬وهو ما سينقلنا إبستيمولوجيا من المرجعيات الجهوية لعلم‬
‫النفس‪ ،‬إلى المرجعية الشمولية النسقية لموضوع علم النفس‪ ،‬باعتباره الدراسة العلمية لإلنسان في أبعاده‬
‫السيكولوجية األربعة السالفة الذكر المحددة لهويته السيكولوجية والمالزمة له‪ ،‬منذ المرحلة الجنينية المتأخرة‬
‫إلى نهاية حياته‪.‬‬

‫من هنا تساؤلي عن كيف أصبح علم النفس حاليا يعرف موضوعه؟‪ :‬باعتباره الدراسة العلمية‬
‫لإلنسان في أبعاده السيكولوجية األساسية‪ .‬وبالعودة إلى البراديغمات المرجعية األربعة السالفة الذكر‪ ،‬ندرك‬
‫أن اإلنسان سيكولوجيا يتم دراسته اليوم من خالل أربع رؤى ومرجعيات أساسية‪ ،‬أال وهي ‪:‬‬

‫‪ .1‬مرجعية ومقاربة البراديغم المعرفي‪ ،‬الذي ينظر إلى اإلنسان سيكولوجيا‪" ،‬ككائن معرفي"‬
‫المرجعية والبنية والتكوين والنمو‪.‬باعتباره بعدا مالزما له بيولوجيا على مستوى الجهاز‬
‫العصبي‪،‬وذهنيا معرفيا على مستوى المعالجة والفهم والتنظيم وحل المشكالت‪ .‬وهو ما يبوئه‬
‫مكانة متميزة من بين الكائنات الحية األخرى‪ ،‬من خالل قدراته وكفاءاته و إستراتيجيته المعرفية‬
‫التحليلية و االستشرافية والتنظيمية‪ ،‬تجعله أكثر قدرة على حل المشكالت وتدبير المخاطر‬
‫والصعوبات‪ ،‬والتخطيط لحياته بكيفية أكثر تنظيما وتدبيرا وحكامة‪ .‬وهو ما يجعل من‬
‫"المعرفية" بعدا مالزما لسيكولوجيته وحياته الداخلية والخارجية الفردية منها والجماعية‪.‬‬

‫‪ .2‬بجانب هذا البعد المعرفي المالزم لإلنسان‪ ،‬لدينا كذلك بعدا آخرا مالزما لسيكولوجيته المرجعية‪،‬‬
‫أال وهو البعد الوجداني‪-‬المشاعري‪ ،‬والمتمثل في مجموع المشاعر والروابط الوجدانية وتعلقاتها‬
‫وأحاسيسها‪ ،‬من متعة وانشراح وطمأنينة ‪ ،...‬ومن ألم ومعاناة ومخاوف وقلق ‪ .‬و هو البعد الذي‬
‫سنجد ه حاضرا بكيفية متميزة لدى كل من نظرية التحليل النفسي في البداية‪ ،‬ثم الحقا لدى نظرية‬
‫التعلق ‪La théorie d’attachement‬؛ لتبين لنا بأن البعد الوجداني هو بعد مالزم لسيكولوجية‬
‫اإلنسان‪ .‬و بالتالي عندما يكون هناك خصاص ومعاناة على هذا المستوى‪ .‬نعاين ماذا؟ نعاين‪،‬‬
‫وكما يبين لنا ذلك علم النفس المرضي‪ ،‬وجود اضطرابات واختالالت حادة على مستوى سمات‬

‫‪7‬‬
‫الشخصية في أبعادها الوجدانية‪ .‬ليس فقط على المستوى الفردي بل وكذلك في أبعادها التفاعلية‬
‫والجماعية‪ ،‬و الذي يحيلنا على هذا المستوى إلى "البعد الوجداني المجتمعي" الجماعي منه‬
‫والمؤسساتي‪ ،‬فيما يخص المشاعر والروابط الوجدانية المتقاسمة والناظمة لها بكيفية مشتركة‬
‫( ‪ )Les sentiments partagés‬من مشاعر االنتماء‪ ،‬ومشاعر الهوية‪ ،‬ومشاعر الفرح‬
‫والسعادة من ناحية‪ ،‬ومن مشاعر المعاناة والقلق واإلحباط والكراهية والتنافر والغربة من ناحية‬
‫أخرى ‪ .‬وهذا ما يجعل من البعد الوجداني بعدا أوليا بيولوجيا وسيكولوجيا واجتماعيا مالزما‬
‫لإلنسان ولشخصيته ولعالقاته وتفاعالته‪ .‬من هنا ندرك أهمية علم النفس المرضي على هذا‬
‫المستوى‪ ،‬أي فيما يخص أوضاع المعاناة والخصاص الوجداني‪ ،‬التي تبقى لها انعكاسات بنيوية‬
‫على شخصية اإلنسان وعلى سيكولوجيته الفردية منها والجماعية ‪،‬بشكل عام‪.‬‬

‫‪ -3‬بعد هذا البعد المعرفي و هذا البعد الوجداني‪ ،‬ما هي األبعاد السيكولوجية األخرى الناظمة‬
‫لإلنسان؟ من أهمها‪ ،‬البعد السيكو‪-‬التفاعلي ‪ -‬التواصلي‪ ،‬أي البعد النفسي االجتماعي‪ .‬باعتبار‬
‫اإلنسان كائنا اجتماعيا يتقاسم مع اآلخرين مجموعة من العالقات و الروابط والتفاعالت منذ‬
‫والدته‪ ،‬بل وحتى أثناء المرحلة الجنينية المتأخرة قبل والدته‪.‬و هذا ما يجعل منه ‪،‬بهذه‬
‫المواصفات‪ ،‬كائنا نفسيا اجتماعيا على مستوى التكوين والنمو والصيرورة ‪.‬و هو ما يتم مقاربته‬
‫تنظيريا و مفاهيميا ومنهجيا من خالل البراديغم النفسي االجتماعي التفاعلي النسقي‪.‬‬

‫‪ -4‬و أخيرا يبقى لنا البعد السيكو‪-‬سلوكي لإلنسان‪ ،‬أي ما يفعله ويتعلمه و ينجزه منذ والدته إلى نهاية‬
‫مشوار حياته ‪ ،‬باعتباره كائنا سلوكيا إنجازيا كما عرفته ونظرت له المدرسة السلوكية من خالل‬
‫براديغمها المرجعي منذ واطسن و سكينر إلى اآلن‪.‬‬

‫من خالل هذا التقديم المركز‪ ،‬نستحضر أهم مستجدات المعرفة العلمية السيكولوجية و مرجعياتها‬
‫األساسية‪ ،‬التي من خاللها تشكل وانتظم موضوع علم النفس‪ ،‬أي "اإلنسان" في أبعاده السيكولوجية األربعة‬
‫السالفة الذكر‪ .‬دون أن ننسى فضل المدرسة السلوكية تاريخا وتأسيسا‪ ،‬فيما يخص علمية علم النفس من خالل‬
‫حصرها لموضوعه في دراسة السلوكات‪ ،‬باعتمادها – باراديغماتيا‪ -‬على نظرية التعلم‪ ،‬ومنهجيا على المنهج‬
‫التجريبي‪ ،‬كمنهج مؤسس لعلميتها و لدقة معارفها‪ .‬و من هنا يمكن اعتبار المدرسة السلوكية بالباراديغم‬
‫المرجعي الذي مهد تاريخيا لعلمية الباراديغمات األخرى‪ :‬المعرفية منها والنفسية االجتماعية والتحليلية‬
‫الوجدانية‪ .‬وهو ما سنعاينه بالملموس مع الباراديغم المعرفي النمائي مع ‪ Jean Piaget‬أوال‪ ،‬تنظيريا‬
‫وتجريبيا‪ ،‬باعتبار الطفل البشري كائنا معرفيا فاعال ‪ Acteur‬في بناء معارفه و كفاءاته ‪،‬و على مستوى‬
‫صيرورات التنظيم والتدبير الذاتي‪ .‬لتتطور هذه الرؤية الحقا إلى اعتبار الطفل معرفيا‪ ،‬كائن الكفاءات‬
‫والقدرات واالستعدادات المعر فية منذ والدته‪ ،‬على خالف ما كان سائدا من معارف علمية ومن تمثالت حول‬
‫الطفل البشري‪ ،‬باعتباره طفل الخصاص وعدم النضج وعدم الكفاءة وقلة الفاعلية عند والدته‪ .‬و هو ما‬
‫سيجعل علم النفس المعرفي من خالل اكتشافاته العلمية الالحقة وخاصة في السبعينيات من القرن الماضي‪،‬‬
‫يقدم لنا صورة مغايرة للطفل البشري منذ والدته ‪،‬ككائن معرفي ذو الكفاءات واالستراتيجيات و الذكاءات‬
‫المتعددة‪ ،‬في تفاعله وتواصله مع اآلخرين ومع محيطه الخارجي و موضوعاته‪ .‬و هو ما ستثبثه العديد من‬
‫الدراسات العلمية الدقيقة و في مقدمتها دراسات ‪ Brazelton‬و ‪ Mountagner‬وغيرهما‪ ،‬و التي بينت‬
‫جميعها بأن الطفل البشري منذ والدته يمتلك كفاءات متعددة المرجعيات و االستراتيجيات والذكاءات‪ ،‬يوظفها‬
‫بكفاءة فارقية ومتباينة حسب مواصفات وخصوصيات األفراد المتفاعلين معه‪ .‬مما يجعله ‪،‬على سبيل المثال‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫يتفاعل مع أمه باستراتيجيات وكفاءات وإ يقاعات معينة ‪ ،‬و يتفاعل مع أبيه بكفاءات و إيقاعات مختلفة عنها‪.‬‬
‫جعلتنا ندرك علميا ‪،‬بأن الطفل البشري يظل كائنا معرفيا متعدد القدرات واالستراتيجيات و الذكاءات‪ ،‬وكائنا‬
‫استشرافيا توقعيا‪.‬وهو ما أبعدنا نهائيا عن تلك النظرة السلبية للطفل و عن طروحات التبعية و المسايرة‬
‫والخضوع و المواءمة ‪ ،‬وعن طروحات الحتمية السيكولوجية األحادية البعد والمحددات والمواصفات‪.‬‬
‫وأعطتنا كبديل ما نسميه اآلن بالمواطن الفاعل ‪Le citoyen acteur‬منذ الطفولة‪ .‬و هو ما حرر علم النفس‬
‫علميا و ابستمولوجيا من مفهوم الحتمية بالمفهوم السببي أي أن الشيء يتغير خارج منظومة الحتمية‬
‫ومحدداتها والتي تفقد اإلنسان إمكانية التدخل عليها لتليينها أو لتغيير مجرياتها أو إلبطال فاعليتها عليه‪ .‬وإذا‬
‫كان علم النفس المعرفي جعلنا ندرك الطفل علميا‪ ،‬ككائن الكفاءات واالستراتيجيات والذكاءات المتعددة‪ ،‬فإن‬
‫علم النفس المرضي خاصة عند نهاية الحرب العالمية الثانية‪،‬سيوجه اهتمامنا العلمي إلى‪ ،‬مجاالت المعاناة‬
‫واالضطرابات النفسية فيما يخص العديد من الفئات االجتماعية والعمرية التي كانت موضوع هذا الخصاص‬
‫الوجداني و ال عالئقي واالجتماعي‪ ،‬بسبب مخلفات ومآسي الحرب العالمية الثانية ‪ .‬وهو ما سيصاحب بطلب‬
‫مجتمعي و مؤسساتي‪ ،‬متزايد على علم النفس‪ ،‬علميا و مهنيا‪ ،‬بالنسبة للعديد من الفئات والشرائح المجتمعية‬
‫ذات االحتياجات الخاصة ‪ ،‬كاألطفال اليتامى والمتخلى عنهم وذوي اإلعاقات الجسمية والعقلية المختلفة‪.‬و‬
‫األشخاص والجماعات ذات المعاناة النفسية المتعددة المواصفات و السمات‪ ،‬من جراء آفات و معاناة الحرب‪.‬‬

‫و هذا ما جعل من باراديغم سيكولوجية ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬يركز أساسا على أولويات و مظاهر و‬
‫أوضاع "المعاناة النفسية" في أبعادها الفردية والجماعية والمؤسساتية والمجتمعية‪ ،‬باعتبار أنني أذهب‪ ،‬أن ما‬
‫انتظم لدينا من معارف علمية سيكولوجية متخصصة ومن ممارسات مهنية‪ ،‬ظلت و إلى نهاية القرن‬
‫العشرين‪ ،‬مهيكلة وموجهة علميا و مهنيا و مجتمعيا "بسيكولوجية" معاناة الحرب العالمية الثانية‪ .‬و هو ما‬
‫يجعلنا ندرك كيف أن علم النفس المرضي و علم النفس اإلكلينيكي أخذا شرعيتهما المجتمعية والعلمية‬
‫والمهنية‪ ،‬و كيف تبوآ مكانة الصدارة داخل حقول علم النفس إلى حدود الستينيات‪ .‬لكن ونحن بصدد الحديث‬
‫عن أسس تاريخانية علم النفس العلمي‪ ،‬يبقى من األهمية بمكان أن ألج معكم هنا‪،‬باراديغما سيكولوجيا آخرا‬
‫مجددا في حقول علم النفس‪ ،‬علميا ومنهجيا و ممارسة‪ ،‬أال وهو حقل علم النفس االجتماعي ‪ .‬و كما يليق لي‬
‫أن أذكر بذلك مرارا‪ ،‬مع طلبة علم النفس االجتماعي‪ ،‬من خالل تذكيرهم بأهمية الدراسات و األبحاث العلمية‬
‫و الممارسات التطبيقية المهنية‪ ،‬التي عرفها علم النفس االجتماعي مع بداية األربعينيات ونهاية الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬و أذكر منها على وجه الخصوص‪ ،‬أبحاث ودراسات ‪ Kurt Lewin‬الرائدة ومجموعته‬
‫الجامعية‪ ،‬والتي ظلت جميعها موجهة بقضايا و انشغاالت مخلفات ومآسي ظواهر الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫كتساؤلهم مثال‪ :‬ما العمل للتخلص تنظيماتيا وتدبيريا و عالئقيا‪ ،‬من األسلوب والمنهج السلطوي في ارتباطها‬
‫بالمآسي التي خلفها هتلر ومنظومته السلطوية على مستوى العالقات المجتمعية‪ ،‬و على مستوى األوضاع‬
‫السياسية وعلى مستوى الحياة اليومية‪ .‬على اعتبار أن مثل هذه القضايا شكلت الشغل الشاغل لعلماء االجتماع‬
‫وعلماء النفس آنذاك‪ ،‬سواء على مستوى التساؤالت العلمية المعرفية‪ ،‬أو على مستوى التنظير و الرؤية و‬
‫الطروحات‪ ،‬أو على مستوى أشكال التدخل ومناهجها وتقنياتها‪ .‬إذ يبقى علينا أال ننسى بأن علم النفس دائما‬
‫كان علما تدخليا ممارسا‪ .‬وبهذه االنشغاالت المجتمعية والمؤسساتية والجماعية والفردية سنجد ‪Kurt Lewin‬‬
‫و مجموعته العلمية يبذلون كل ما في وسعهم لينظروا ويجددوا على مستوى أبحاث ومناهج و تقنيات علم‬
‫النفس االجتماعي‪ ،‬أذكر هنا على سبيل المثال نظرية المجال و نظرية دينامية الجماعة ومنهجية المقاربة‬
‫التشاركية و تغيير السلوكات و قضايا أشكال الحكامة السلطوية والديمقراطية والالمعيارية‪ ،‬و لجوئه أساسا‬
‫إلى استعمال المنهج التجريبي إلنتاج المعارف العلمية مختبريا حول هذه القضايا الشاغلة مجتمعيا‪ ،‬ليعمل‬
‫الحقا على بلورة مناهج و تقنيات التدخل و التكوين النفسي االجتماعي التأهيلي على هذا المستوى‪ .‬و هذا ما‬

‫‪9‬‬
‫سنعاينه بالملموس في ما يخص استثمار و توظيف النتائج العلمية والمناهج التكوينية التطبيقية ل ‪Kurt‬‬
‫‪ Lewin‬و مجموعته النفسية االجتماعية ‪،‬على مستوى مختلف التنظيمات و أساليب حكامتها التدبيرية‪ ،‬سواء‬
‫على مستوى األسرة أو المدرسة أو اإلدارة أو المقاولة أو األحزاب وجمعيات المجتمع المدني وغيرها‪.‬‬
‫انطالقا من أن أهم انشغاالت ‪ Kurt Lewin‬المجتمعية العلمية آنذاك‪ ،‬هو كيفية إنتاج معرفة علمية متحقق‬
‫من مصداقيتها وتحويلها الحقا إلى مناهج وتقنيات تكوينية تأهيلية كفيلة بدمقرطة أساليب الحكامة والتدبير‬
‫والتسيير‪ ،‬تمكننا من ا لتخلص من سلبيات الدكتاتورية والسلطوية وأساليب تحكمها وقهرها‪ .‬وهو ما نسميه‬
‫حاليا بالتنمية البشرية ‪ Développement humain‬وحكامتها التشاركية الديمقراطية؛ أي كيف سنتمكن‬
‫عن طريق المقاربة التشاركية ومنهجية دينامية الجماعة‪ ،‬من تقوية القدرات والكفاءات واستراتيجيات‬
‫األسلوب الديمقراطي للتخلص من أسلوب الحكامة السلطوية و منهجيتها و كفاءاتها واستراتيجياتها التحكمية‬
‫وسلبياتها؟‬

‫إذن تدركون معي‪ ،‬كيف أن علم النفس االجتماعي فيما يخص نظرياته الكبرى و قضاياه المجتمعية والعلمية‬
‫الشاغلة ‪ ،‬ظل ملتزما باألسس التنظيرية العلمية و المنهجية التجريبية كما حددتها المدرسة السلوكية ‪،‬من خالل‬
‫االحتكام إلى مرجعية التنظير و المنهج التجريبي و دراساته المختبرية أو الميدانية‪ .‬و هذا ما جعل‪K.Lewin‬‬
‫يعرف علم النفس االجتماعي بعلم العالقات اإلنسانية ‪Science des Relations Humaines :‬‬

‫وأنا بصدد الحديث هنا عن أهم منظري براديغم علم النفس االجتماعي النسقي ‪، Systémique‬ال يفوتني‬
‫التذكير بأحد أهم أقطاب علم النفس االجتماعي التجريبي‪ ،‬الذي اهتم بدوره بإحدى أهم القضايا الشاغلة‬
‫مجتمعيا و علميا في ارتباطها بمخلفات الحرب العالمية الثانية‪ ،‬و هو الباحث النفسي االجتماعي ‪،Milgram‬‬
‫فيما يخص الخضوع لمنظومة السلطة و سيروراتها‪ ،‬بالنسبة لمصادر تعليماتها والخضوع لها ‪،‬بغض النظر‬
‫عن أضرارها و مخلفاتها‪ .‬متسائال عن‪ ،‬ما الذي يجعل اإلنسان العادي ينزع للخضوع بيكفية شبه عمياء إلى‬
‫تعليمات مصادر السلطة الفعلية أو الرمزية‪ ،‬رغم نوعية األضرار واألذى التي قد تحدثها باآلخرين‪ ،‬داخل‬
‫المؤسسات و التنظيمات التي تتواجد داخلها ‪.‬‬

‫وبنفس االهتمامات‪ ،‬و ضمن نفس سياق مخلفات الحرب العالمية الثانية في ارتباطها باألنظمة الدكتاتورية‬
‫التحكمية النازية منها والفاشية والستالينية‪ ،‬نجد كذلك ‪ Carl Rogers‬يتساءل عن دور و أهمية المنهجية‬
‫التواصلية الديمقراطية المفتوحة‪ ،‬من خالل تنظيره و توظيفه لمنهجية المقابلة الغير موجهة بهدف تحرير‬
‫اإلنسان على المستوى الفردي والمؤسساتي والمجتمعي‪ ،‬من األقنعة العالقة أو الملتصقة بشخصيته الفعلية‬
‫"األصيلة" غير المقنعة و غير المستترة معياريا‪ ،‬تحت أقنعة القيم واألدوار الثقافية والمؤسساتية المعيارية‬
‫المحافظة‪ .‬أي بتساؤل إبستمولوجي منهجي‪ :‬ما العمل لتحرير اإلنسان وهويته األصيلة األولية بمواصفات‬
‫الحرية‪ ..‬و الحرية‪ ..‬والحرية‪ .‬جاعال من منهجية و مبدأ ‪ :‬أتركه يعبر‪ ...‬أتركه يعبر‪ ...‬أتركه يعبر‪ ،‬وسترى و‬
‫سترى‪ ..‬و سترى ما يفاجئك ويدهشك من سمات و مواصفات إنسانية أصيلة‪ ،‬باعتبارها جوهر سيكولوجية‬
‫اإلنسان األصيل أي اإلنسان الحر ‪ ،‬أهم أسس نظريته و طروحاتها ‪ ،‬و منهجيته المفتوحة األسلوب و الحوار‬
‫و التعاقد‪.‬‬

‫إذن ترون معي‪ ،‬كيف أن أقطاب علم النفس المعاصر‪ ،‬بمرجعياتهم البراديغماتية التنظيرية اهتموا‬
‫بمجموعة من القضايا المجتمعية الشاغلة إلنتاج المعرفة العلمية المتخصصة حولها ‪،‬متبوعة بمجموعة من‬
‫المناهج و التقنيات للتدخل عليها إما بهدف الحد من سلبياتها أو بهدف العمل على تفعيل الجوانب اإليجابية‬
‫فيها والتدخل عليها لتحسين جودة الحياة الفردية منها و الجماعية و المؤسساتية‪ .‬و هي كما ترون نفس‬
‫القضايا الشاغلة اآلن للمجتمع المغربي و لسيكولوجيته الفردية منها و الجماعية و التنظيماتية‪ .‬بنفس‬

‫‪10‬‬
‫االهتمامات التنظيرية و االنشغاالت المنهجية التدخلية العالجية منها و الوقائية‪ .‬و هو ما يجعلنا ندرك أهمية و‬
‫دور علم النفس في تحرير "اإلنسان المواطن" من سلبيات السلطة و أساليب حكامتها التحكمية‪ ،‬و من ثقل‬
‫التنشئة االجتماعية المعيارية و من أشكال التفاعالت الضاغطة ‪،‬المانعة لمختلف أشكال الفاعلية و المبادرة و‬
‫المشاركة الفردية منها و الجماعية ‪ .‬و ندرك كذلك أهمية المناهج و التقنيات النفسية‪ -‬و النفسية االجتماعية في‬
‫تكوين و تحرير اإلنسان كما رأينا ذلك من خالل منهجية دينامية الجماعة و مقاربتها التشاركية مع ‪Kurt‬‬
‫‪، Lewin‬و مع منهجية المقابلة غير الموجهة ل ‪ Carl Rogers‬باعتبارها منهجية و تقنية لتحرير اإلنسان‬
‫من المعيارية المجتمعية المؤسساتية ومن أساليب تنشئتها االجتماعية المقننة و المنمطة لشخصيته األصيلة منذ‬
‫مرحلة الطفولة المبكرة‪ ،‬حتى يمتلك من جديد حرية الكلمة و التعبير‪،‬بشخصيته األصيلة و بنزعته‬
‫السيكولوجية إلى الحرية و المبادرة ‪ ،‬من خالل كفاءاته و تلقائيته و مبادراته و تفاعالته "اإلنسانية النزعة"‬
‫والمكونات‪.‬لننتقل إلى إنسان اإلبداع والمبادرة و إلى مجتمع الحرية و العالقات اإلنسانية األصيلة‪.‬‬

‫و هذا ما يجعلني دائما‪ ،‬أستحضر مع طلبتي أسس علم النفس العلمية و المهنية و المجتمعية بمرجعيتين‬
‫متالزمتين‪:‬‬

‫‪ -1‬مرجعية المعاناة و االختالالت و االضطرابات النفسية الوجدانية منها و والعالئقية و السلوكية‪ ،‬و المتمثلة‬
‫في ظواهر الخصاص و الحرمان كما هو عليه األمر مثال بالنسبة لألطفال في وضعية صعبة‪ ،‬أو بالنسبة‬
‫لظواهر و سلوكات العنف األسري أو العنف في المدرسة أو في الجامعة أو في المالعب كما عليه األمر‬
‫حاليا داخل المجتمع المغربي‪.‬‬
‫‪ -2‬و مرجعية المودة و االنسجام و كفاءات الحوار و التواصل و التفاو و التعاقد‪،‬باعتبارها مرجعيات و‬
‫كفاءات مالزمة لإلنسان و لمختلف عالقاته و روابطه ‪.‬و هو ما أصبحنا نصطلح على تسميته بمجتمع‬
‫الديمقراطية و المواطنة ليس على مستوى الشعارات و الخطابات و إنما على مستوى الكفاءات و‬
‫الممارسات و السلوكات‪ .‬و هو ما أصبحنا نعاين حضوره باهتمام متزايد داخل المجتمع المغربي عبر‬
‫مؤسساته اإلدارية منها والمقاوالتية و السياسية و المدنية و التعليمية و األسرية‪ ،‬لكون علم النفس كان‬
‫دائما و الزال‪ ،‬يقوم في إحدى أسسه و دعائمه على الجمع بين مرجعياته التنظيرية و مناهجه و تقنياته‬
‫التدخلية‪ ،‬فيما يخص القضايا الشاغلة للمجتمع و التي عنونتها في مداخلتي هذه بالقضايا الكبرى لعلم‬
‫النفس بالمغرب‪.‬‬

‫إذن ترون معي كيف أن علم النفس في أسسه العلمية و انشغاالته المجتمعية‪ ،‬انتظم بهاتين المرجعيتين‬
‫التنظيرية البراديغماتية منها و المنهجية التقنية‪ -‬التدخلية و المهنية‪ -‬الممارساتية‪ .‬بحيث نجد أن علم النفس‬
‫المعرفي على سبيل المثال ‪ ،‬ينظر لإلنسان‪ ،‬و منذ والدته بل و حتى قبل ذلك بشهور‪ ،‬بطروحات الكائن‬
‫المعرفي ذو الكفاءات المتعددة و الفاعلية ‪،‬و بمنظور كائن المشروع ‪ .‬و هذا ما أصبحنا نعاينه بالملموس اليوم‬
‫داخل المجتمع المغربي‪ ،‬باعتباره "مجتمع المشروع"‪ ،‬من خالل مشاريع أفراده و جماعاته و مؤسساته‪ .‬و‬
‫هو ما أصبح يشكل في نظري‪ ،‬كباحث في علم النفس االجتماعي و من خالل طروحاتي المعرفية‪ ،‬تحوال‬
‫نوعيا لسيكولوجية المجتمع المغربي و لسيكولوجية اإلنسان المغربي كذلك‪ ،‬بمواصفات إنسان المشروع و‬
‫القدرة على التخطيط و التوقع و الرغبة في إثبات الذات بفاعلية وشخصية إرادية‪ .‬و هي المواصفات‬
‫والسمات التي وجدتها حاضرة من خالل دراساتي الميدانية الجامعية‪ ،‬على مستوى األسرة المغربية فيما‬
‫يخص مشروع حياتها و كفاءات و استراتيجيات التخطيط و التوقع و االختيار و اتخاذ القرار‪ ،‬و هي السمات‬
‫و المواصفات النفسية – و النفسية االجتماعية التي نجدها حاضرة كذلك داخل المدرسة و داخل اإلدارة و‬
‫المقاولة اآلن بالمغرب‪ ،‬بمستويات متفاوتة الحضور و األجرأة‪ .‬ولن أبالغ‪ ،‬و من خالل هذه المواصفات‬

‫‪11‬‬
‫والخصائص المميزة اليوم لإلنسان المغربي و لسيكولوجيته و كذلك سيكوسوسيولوجية المجتمع المغربي‪ ،‬بأن‬
‫أدرجه ضمن مجتمعات العولمة و الثورة الرقمية ‪،‬التي نجدها اآلن تكتسح كل من األسرة و المدرسة و‬
‫مختلف فضاءات و مجاالت الحياة اليومية‪ .‬تجعلنا‪ ،‬جميعها ‪،‬ندرك بأن المجتمع المغربي يتموقع اليوم بكيفية‬
‫بنيوي ة داخل دينامية التغييرات الجذرية و البنيوية و مجتمعات الثورة الرقمية‪ ،‬التي ستفرز لنا ال محالة‪،‬‬
‫ظواهر و عالقات و تفاعالت و سلوكات و طموحات و مشاريع‪ ،‬لم نألفها من قبل لدى اإلنسان المغربي و‬
‫جماعاته و تنظيماته ‪.‬‬

‫و هذا ما سيقربنا ال محالة من إعادة النظر في مسألة إصالح منظومة التعليم ببالدنا‪ ،‬برؤية و بمشروع‬
‫تربوي و مجتمعي مغاير تماما عن الرؤى و المقاربات‪ ،‬التي من خاللها تم وضع مشاريع اإلصالح و‬
‫البرامج و المناهج لمنظومة التربية و التعليم ببالدنا منذ االستقالل حتى اآلن‪ .‬كيف ذلك ؟ و لماذا؟‬

‫إن إجابتي هنا و كما سبق و أن ذكرت ذلك في محاضرتي هذه‪ ،‬تقوم على مستجدات المعرفة العلمية في‬
‫مجال علم النفس و سيكولوجية الطفل على الخصوص باعتباره العنصر األساس ألي إصالح تربوي تعليمي‬
‫ببالدنا‪ ،‬مستحضرا في ذلك مواصفات الطفل المغربي سيكولوجيا في أبعاده و مكوناته السيكولوجية األربعة‬
‫السالفة الذكر" المعرفية منها والوجدانية والعالئقية و السلوكية" و باعتبار الطفل سيكولوجيا و كما رأينا يظل‬
‫طفال فاعال‪ ،‬بمواصفات و مرجعيات الكفاءات و الذكاءات المتعددة‪ ،‬بمواصفات و مرجعيات التنظيم و التدبير‬
‫الذاتي و المبادرة‪ .‬مما يجعل منه طفال كفؤا و مبدعا ومنصهرا من خالل مواصفاته و سماته السيكولوجية‬
‫المرجعية كما تبرهن على ذلك مختلف الدراسات و األبحاث العلمية منذ السبعينيات إلى اليوم‪.‬‬

‫و حتى ال أطيل عليكم فيما يخص هذا الدرس االفتتاحي‪ ،‬ال يفوتني إال أن أستحضر أهم األفكار و‬
‫الطروحات التي أطرت مداخلتي هذه‪ ،‬في مقدمتها‪ :‬أهمية النظرة الشمولية النسقية في علم النفس‪ ،‬وأهمية‬
‫موضوعه العلمي المتمثل في دراسة اإلنسان سيكولوجيا في أبعاده األساسية األربعة المعرفية منها و‬
‫الوجدانية والعالئقية و السلوكية‪ ،‬وأهمية استحضار براديغماته التنظيرية األربعة المؤسسة لعلميته منذ‬
‫المدرسة السلوكية حتى المدرسة المعرفية حاليا؛ و مستحضرا كذلك ما وصلت إليه شعبتنا الفتية على مستوى‬
‫التخصص والتأطير و التكوين العلمي و المهني‪ ،‬من خالل تأطيرها حاليا لثالث تخصصات مستقلة في ماستر‬
‫علم النفس‪ ،‬بداية بماستر علم النفس اإلكلينيكي و المرضي و علم النفس االجتماعي و علم النفس الشغل‪ .‬و‬
‫هذا يعني ماذا؟ يعني أن علم النفس بالجامعة المغربية قد ابتعد نهائيا عن مهام التدريس وشواهده الجامعية‪،‬‬
‫لينتظم اليوم بمرجعية و مواصفات التأهيل العلمي و المهني و الممارساتي‪ ،‬كما هو عليه األمر داخل أعرق‬
‫الجامعات دوليا فيما يخص شعبة علم النفس‪ .‬دون أن يفوتني التذكير من جديد بأصول علم النفس العلمية‬
‫والمهنية ‪،‬التي ارتبطت وكما رأينا ذلك‪ ،‬مع نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬بالقضايا الكبرى للمجتمع اإلنساني‪،‬‬
‫لينتج حولها معارف علمية وممارسات مهنية متخصصة تستجيب لحاجيات المجتمع و طلباته المؤسساتية و‬
‫الجماعي ة و الفردية‪،‬والتي الزمت علم النفس حتى اليوم ‪ .‬مستحضرا كذلك أهمية مجموعات و مختبرات‬
‫البحث العلمي الجامعي و تكويناته الفارقية المتخصصة و ممارساتها المهنية‪ .‬و هو ما ظلت شعبة علم النفس‬
‫في المغرب تفتقد إليه زمنا ليس باليسير الرتباطها العضوي‪ ،‬عند نشأتها‪ ،‬بشعبة الفلسفة و مهامها التدريسية‬
‫أساسا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫و هو ما جعل من علم النفس الحلقة و التخصص األضعف داخل حقل العلوم اإلنسانية و االجتماعية بالجامعة‬
‫المغربية‪ ،‬مقارنة األنتروبولوجيا و علم االجتماع و التاريخ و الجغرافيا و اللسانيات و غيرها‪ ...‬لنجده و مع‬
‫نهاية القرن العشرين يتبوأ‪ ،‬مجتمعيا و إعالميا و جامعيا‪ ،‬المكانة الالئقة به علميا و ممارسة ‪ ،‬مواكبا في ذلك‬
‫التحوالت التي عرفها المجتمع المغربي و تنظيماته المرجعية و مستجدات تطلعات و مشاريع و معاناة‬
‫اإلنسان المغربي في أبعاده السيكولوجية األربعة السالفة الذكر‪.‬‬

‫و في الختام أشكركم من جديد على حضوركم و حسن إنصاتكم‬

‫و السالم‬

‫الخميس ‪ 23‬أكتوبر ‪2014‬‬

‫‪13‬‬
‫الثمن ‪ 10‬دراهم‬

‫‪14‬‬

You might also like