Professional Documents
Culture Documents
1
لكمة الأس تاذ محمد التوجيري
األستاذ الدكتور عبد الرحيم عمران أحد المؤسسين األوائل للدراسات السيكولوجية في المغرب
و المعروف لديكم من خالل احتكاكه الدائم بكم .و هو كما يعرف الجميع أستاذ ومؤ طر وباحث يقوم بمهامه
على أحسن وجه و بكفاءة علمية و منهجية متميزة يشهد له بها الجميع .و هو شيء يشرفنا جميعا :طلبة و
أساتذة و شعبة و كلية .و قبل أن يشرع في إلقاء درسه االفتتاحي هذا ليبين لنا مدى أهمية علم النفس و دوره
في تطوير وتنمية المجتمع ،فإنه ال محالة و كما عهدته في مداخالته العلمية ،سيمدنا برؤية و مقاربة علمية
متميزة .وقبل أن أعطي الكلمة إلى األستاذ عبد الرحيم عمران ،فإنني أعطي الكلمة إلى األستاذ المصطفى
حدية ،وكما تعلمون أن األستاذ المصطفى حدية هو كذلك أحد المؤسسين األوائل للدراسات السيكولوجية في
المغرب وهو معروف بأبحاثه الميدانية سواء كمؤطر أو كباحث.
2
المجال وأتمنى لألستاذ عبد الرحيم التوفيق في درسه االفتتاحي هذا وشكرا واسمحولي إن كنت قد أطلت
عليكم.
وحتى ال أطيل عليكم في هذا الجانب التقديمي ،سأنتقل مباشرة للتساؤل حول الرؤية المعرفية التي من
خاللها سأطرح و سأقارب بها مجموعة من القضايا الكبرى الشاغلة للمجتمع المغربي ،وعن دور مساهمة علم
النفس بالمغرب في دراستها وإنتاج المعرفة السيكولوجية الجامعية حولها .ويبقى تساؤلي المعرفي هنا هو
كيف سأقاربها ؟ بأية رؤية؟ وبأية طروحات؟ انطالقا من مسائلتي المعرفية اإلبستيمولوجية لمهام علم النفس
بالمغرب ولمكانته الجامعية على مستوى البحث العلمي و التأهيلي والمهني -الممارساتي؟
ومن هنا سأبدأ مداخلتي باستحضار الوضعية الحالية لعلم النفس بالمغرب ،بمرجعية Jean Piaget
ودراساته الرائدة عن الطفل وكفاءاته المعرفية ،فيما يخص "الكأس النصف المليء"" ،و النصف الفارغ".
مفضال النظر إليه من خالل النصف المليء وبالتالي التركيز في البداية على العديد من الجوانب االيجابية
التي نعاينها حاليا على مستوى علم النفس بالجامعة المغربية ،تاركا الكأس النصف الفارغ إلى مناسبة أخرى.
3
ومن هنا تأتي مسائلتي التالية حول ما هي مهام علم النفس بالمغرب؟ ما هي مكانته؟ ما هي أدواره؟ و بأية
قضايا مجتمعية شاغلة ؟
وبالتالي هل علم النفس بالمغرب هو مجرد تخصص أكاديمي مؤسساتي ،مرتبط بظروف نشأة هذا
الحقل المعرفي داخل كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط ،خالل بداية السبعينيات من القرن الماضي؟ أم أنه
في نهاية األمر ،هو مرجعية علمية ومهنية أساسية نابعة ومرتبطة بمرجعية اإلنسان المغربي وتنظيماته
المجتمعية و دينامية جماعاته وأفراده ،المنتظمة والفاعلة بالمحددات و النواظم السيكولوجية األساسية لإلنسان
ومجتمعاته ،بمرجعياتها الكونية والمحلية؟ .ومن هنا وبهذه الرؤية والمقاربة المعرفية القائلة بكون علم النفس
تخصص مالزم لإلنسان ولمجتمعاته ،تأتي مسائلتي عن ما هي خصائص ومواصفات سيكولوجية المجتمع
المغربي في تطوره وكذلك في تحوالته وتوازناته واختالالته وانسجامه ومعاناته ،الفردية منها والجماعية
والمؤسساتية.
بطبيعة الحال لن أطيل عليكم فيما يخص هذا المدخل االبستيمولوجي لمداخلتي هذه ،ألمر مباشرة إلى
طرح وجهة نظري المعرفية فيما يخص مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي ،بمؤسساته وجماعاته
األنثروبولوجية أوال مرورا إلى مواصفات سيكولوجيته السوسيولوجية كمجتمع متعدد ومتنوع ومركب
المؤسسات والجماعات والعالقات والروابط ،وصوال إلى مواصفات سيكولوجيته النفسية االجتماعية بمرجعية
شخصية الفرد الفاعل ،و دينامية جماعاته المتعددة والفاعلة ،باستقاللية نسبية عن مؤسساته وضوابطها
وأنسقتها الناظمة والمتحكمة في ظواهره المؤسساتية منها والجماعية والفردية ،و التي تمنح لعلم النفس و
لتخصصاته الفرعية و لممارساته المهنية،المكانة العلمية الجامعية والمكانة المجتمعية الالئقة به .
ومن هنا يبدأ طرحي حول مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي األنثربولوجي ،في بنياته
األساسية وثقافته المرجعية وفي ممارساته وتعاقداته وتنشئته االجتماعية المتجانسة النواظم والمحددات ،التي
ظلت ناظمة له في مؤسساته وعالقاته وروابطه وقيمه ،إلى حدود أوائل السبعينات من القرن الماضي .لننتقل
بكيفية متميزة ودالة بنيويا ومؤسساتيا وتنظيميا و عالئقيا ،إلى مجتمع أكثر تعقيدا وتمايزا وتركيبا ،متصفا
بمواصفات المجتمعات السوسيولوجية ،إن على مستوى المؤسسات أو على مستوى البنيات أو على مستوى
التعاقدات ،أو على مستوى ديناميات ظواهره المجتمعية المركبة المحددات والمواصفات و الديناميات .لننتقل
الحقا مع نهاية القرن العشرين إلى مجتمع نفسي اجتماعي النواظم والروابط والعالقات و الفاعليات
والديناميكيات ،المتميز أكثر فأكثر بمواصفات مرجعية الفرد الفاعل والجماعات ذات مواصفات وتنظيمات
االستقالل والتنظيم والتدبير الذاتي ،بخصوصيات سيكوسوسيولوجية "المشروع" وسيكولوجية "السعادة"
والتمايز والتنوع ،و سيكوسوسيولوجية التعاقد والرغبة في إثبات الذات .وهذا ما يجعلني أستحضر جامعيا
وعلى مستوى محاضراتي ،طروحاتي القائلة بأن المجتمع المغربي تحول اليوم ،على مستوى تمثالته و
سلوكاته ومشاريعه وممارساته إلى مواصفات "المجتمع السيكولوجي" ،وهو ما نعاينه اليوم من طلب قوي
ومتزايد جدا على عل م النفس سواء على مستوى الصحف ،أو على مستوى وسائل اإلعالم السمعية والبصرية
أو على مستوى المؤسسات التربوية واإلدارة والمقاولة ،وعلى مستوى مختلف مؤسسات الدولة وجمعيات
المجتمع المدني .فإلى ماذا يعود هذا الطلب المتزايد وأحيانا بنوع من اإلفراط و المبالغة ؟.
جوابي :وهو أن المجتمع المغربي اآلن يتموقع وينتظم بنيويا وتنظيماتيا ،على المستوى الجماعي
والفردي ،ضمن نسقية ما أذهب إلى تسميته "بالمجتمع السيكولوجي" ،نظرا لوفرة الطلب المتزايد على علم
النفس ووفرة وتنوع االنتظارات الفردية منها والجماعية والمؤسساتية.
4
بعد هذا الطرح وهذه الرؤية السيكولوجية لمواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي في ارتباطها
بسيكولوجية أفراده كفاعلين ،وسيكولوجية جماعاته وتنظيماته ،والقضايا الشاغلة على مختلف هذه
المستويات ،يأتي تساؤلي اإلبستيمولوجي حول النظرة المعرفية التي من خاللها سأعمل على التعريف بعلم
النفس وبالقضايا الكبرى الشاغلة له؟ .حتى أكون واضحا معكم ،فيما يخص هذا الجانب الخاص بهوية علم
النفس و بموضوعه العلمي و بممارساته المهنية ،فإن علم النفس كتخصص وبحث وممارسة يظل تخصصا
قائم الهوية والشرعية ،ببراديغماته التنظيرية وبمناهجه وتقنياته الخاصة به ،وبمؤسسات ومجموعات البحث
العلمي وبممارساته التدخلية والعالجية ،سواء أكانت موجودة لدينا في المغرب أو لم تكن موجودة على
أرضية الواقع والمؤسسات والممارسات .انطالقا من أن علم النفس كتخصص معرفي علمي ومهني ،هو
مجموعة من البراديغمات النظرية والمناهج العلمية ومجموعة من التقنيات ووسائل التدخل والممارسة ،سواء
على مستوى اإلرشاد والتوجيه أو على مستوى الوقاية والعالج ،المرتبطة باإلنتاج العلمي لمختبراته
ومجموعات بحثه وممارساته المهنية .وهذه المواصفات لهويته العلمية والمهنية تظل قائمة الشرعية
والتخصص دوليا ،سواء أكان لعلم النفس بالمغرب حضورا علميا ومهنيا ومجتمعيا متميزا أم لم يكن .وبالتالي
وجب علينا في النقاش الدائر حول علم النفس في المغرب ومكانته ومهامه ،أن نميز بين المستويين الدولي
والوطني .ومن هنا يأتي تعريفي وتقديمي لعلم النفس في هذا الدرس االفتتاحي ،برؤية نسقية شمولية كما هو
عليه اآلن دوليا بمرجعيته العلمية والمهنية من خالل براديغماته المرجعية األربعة .وبالتالي لن أعود بكم
للتعريف بعلم النفس إلى القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين أو نهايته ،فهذه ليست مقاربتي لعلم النفس
وليست منهجيتي في التعريف بمواصفات موضوعه وخصوصية هويته ،انطالقا من كوني أعتبر علم النفس
أكثر التخصصات والميادين المعرفية وضوحا ،سواء فيما يخص موضوعه ومقارباته وممارساته ،انطالقا
من أن علم النفس يتموقع اليوم بأربع مرجعيات براديغماتية أساسية ال يبتعد عنها في كل ما يبلوره وينتجه
علميا ومنهجيا وتقنيا ومهنيا ،أال وهي :البراديغم المعرفي و البراديغم النفسي -التحليلي و البراديغم التفاعلي
النسقي و البراديغم السلوكي.
-1البراديغم المعرفي ،Le paradigme cognitivisteوهو براديغم ناظم لعم النفس اليوم ،فيما
يخص مدارسه ومناهجه وتقنياته وممارساته .والدليل على ذلك البحث والعالج المعرفي
)(la recherche et la thérapie cognitiviste
-3ثم لدينا كذلك المقاربة التفاعلية -النسقية .Le paradigme systémique interactionel
وهو البراديغم النفسي االجتماعي ،بمختلف نظرياته ومقارباته ومناهجه وتقنياته وممارساته،
سواء على مستوى البحث العلمي األساسي أو البحث العلمي التدخلي أو على مستوى العالج
النفسي -االجتماعي.
-4ثم يبقى لدينا البراديغم التاريخي المرجعي الذي أسس لعلمية علم النفس ،تنظيرا ومنهجا وهو
البراديغم السلوكي .Le paradigme béhavioriste
5
هذه المرجعيات البراديغماتية األربعة ،تفيدنا في ماذا؟ تفيدنا في معرفة موضوع علم النفس ،والرؤى
والمقاربات المعرفية التنظ يرية التي من خاللها سيتموقع علم النفس بموضوعه القابل للدراسة والتحليل والفهم
والتفسير والتدخل ،كما فعلت من قبله السوسيولوجيا عندما أرادت تحديد موضوع دراستها العلمي بالدراسة
الموضوعية للمجتمع في تنظيماته ومؤسساته ،سواء مع Auguste Comteأو مع Durkheimأو مع
Max Weberأو مع غيرهم ،حينما جعلوا من المجتمع موضوعا للسوسيولوجيا ،قابال للدراسة العلمية
السوسيولوجية.
وهذا ما جعل من علم النفس ،كما هو عليه األمر بالنسبة للسوسيولوجيا التي حددت و عرفت
موضوعها بالدراسة العلمية للمجتمع ،يهتم بالدراسة العلمية "لإلنسان" في أبعاده السيكولوجية األربعة السالفة
الذكر .بحيث نجد أن علم النفس قد نهج نفس المنحنى ،لكي يحدد لنفسه موضوعا قابال للدراسة العلمية .وهذا
ما قامت به فعال المدرسة السلوكية موضوعا ومنهجا ،والعمل على إبعاده كلية عن كل ما هو ذاتي وما هو
استبطاني وما هو حدسي؛ لتعطي لعلم النفس موضوعه العلمي المركزي باعتباره :علم دراسة "السلوك"
وقولها بأهمية وأولوية "المنهج التجريبي" كمنهج مركزي إلنتاج المعرفة العلمية داخل علم النفس ،بإدخالها
إلشكالية السلوك إلى المختبرات وإخضاعه إلى التنظير ،معتمدة في ذلك أساسا على "نظرية التعلم" من خالل
وجهة نظرها المعرفية القائلة بأن أهم ما يؤسس لسيكولوجية اإلنسان ،هي سيكولوجية التعلم ،وأخضعت
بالتالي هذا الموضوع المرجعي وإشكالياته للمنهج العلمي التجريبي ،وألزمت علم النفس بضرورة االحتكام
إلى مواصفات المعرفة العلمية إن على مستوى النظريات أو على مستوى المفاهيم أو على مستوى الفرضيات
وعلى مستوى منهجية التحقق باعتمادها المنهج التجريبي كالمنهج األساسي الذي يؤسس لعلمية علم النفس .
يبقى تساؤلي االبستمولوجي المعرفي هنا ،من خالل هذا التقديم لعلمية علم النفس ،التي أسس لها
البراديغم السلوكي،هو الوقوف على امتداد هذه الرؤية والمقاربة المعرفية المنهجية لبراديغم المدرسة
السلوكية إلى مختلف البراديغمات األخرى الحقا.
إن هذه الرؤيا وهذا المنحى الذي نهجه علم النفس ،تنظيريا ومنهجيا بتحديده لموضوع علم النفس
بدراسة السلوكات واعتماده منهجيا على المقاربة التحليلية التجريبية ،أعطت ماذا؟ أعطتنا تنظيريا ،باراديغما
علميا متميزا ،أال وهو براديغم "المدرسة السلوكية" التي جعلت من "نظرية التعلم" المرجعية األساسية
لطروحاتها المعرفية ولمفاهيمها اإلجرائية ولفرضياتها العامة منها واإلجرائية ،وجعلت من المنهج التجريبي
المنهج األساس للتحقق منها بإدخالها إلى مختبرات علم النفس التجريبي ،إلنتاج المعرفة العلمية حولها
ولتحويلها إلى قوانين علمية تفسيرية وتوقعية تنبؤية استشرافية.
إن هذا المنحنى الذي ستنهجه المدرسة السلوكية ،تنظيريا ومنهجا وتجريبيا ،سيشكل تحوال معرفيا
إبستيمولوجيا جديدا ،وسيجعل علم النفس ب هذه المواصفات ،يتبوأ المكانة العلمية التي كان يفتقدها بين العلوم
اإلنسانية واالجتماعية والبيولوجية آنذاك .وهو ما سينعكس إيجابا على مختلف الميادين والمجاالت األخرى
لعلم النفس ،وسيجعلها أكثر ثقة بنفسها ،لتتموقع بدورها داخل مرجعيات ومواصفات المعرفة السيكولوجية
العلمية ،بعملها على صياغة براديغماتها المرجعية التنظيرية منها والمنهجية ،باحتكامها إلى المقاربة التحليلية
التجريبية .أي أنني أذهب إلى أن البراديغم السلوكي بالمواصفات السالفة الذكر ،قام بطمأنة حقل علم النفس
في شموليته ،مما جعل علم النفس االجتماعي وعلم النفس المعرفي وعلم النفس الوجداني التحليلي ،أكثر ميال
إلى التنظير وإلى التحليل المنهجي ،بمعارف أكثر دقة ومصداقية .بمعنى أن علم النفس السلوكي شكل
إبستيمولوجيا ،النموذج والقدوة المرجعية لعلمية علم النفس واستقالليته ،بحيث سنجد أن علم النفس االجتماعي
يتبع نفس النهج التنظيري والمنهجي التجريبي مع كل من Aschو K.Lewinعلى سبيل المثال؛ كما سنجد
6
علم النفس المعرفي مع Jean Piagetينهج نفس المنحنى تنظيريا ومفاهيميا وتجريبيا؛ وهو ما سنعاينه كذلك
بالنسبة للدراسات والمقاربات والمناهج في علم النفس اإلكلينيكي التحليلي الحقا ،و خاصة مع "نظرية
التعلق" Théorie de l’attachementودراساتها الميدانية اإلكلينيكية و التجريبية مع .Harlowمما
سيجعل علم النفس في وضعية تسمح له بأن يتبنى إبستيمولوجيته الداخلية ،Epistémologie interneأوال
بالنسبة للمدرسة السلوكية من خالل نظرياتها ،ومفاهيمها ،وطروحاتها الخاصة ،وبنتاجها العلمي وبتقنياتها
على مستوى التدخل والممارسة ،وصوال إلى العالج النفسي السلوكي .وهو ما سنعاينه كذلك على مستوى علم
النفس المعرفي التكويني لدى J.Piagetومدرسته النمائية التكوينية ،وعلى مستوى علم النفس االجتماعي
التفاعلي النسقي لدى ،Kurt Lewinوعلى مستوى علم النفس الوجداني التحليلي عند .Freudوهذا ما
سيجعل علم النفس ،كحقل علمي متخصص ،ينتظم بأربع براديغمات مرجعية أساسية بنفس مواصفات الدقة
العلمية ،إن على المستوى التنظيري أو على المستوى االفتراضي وعلى المستوى المنهجي ،أو فيما يخص
دقة ومصداقية إنتاجاته العلمية ،أوعلى مستوى دقة و نجاعة ممارساته المهنية .وهو ما سيجعله يمتلك
إبستيمولوجية علمية داخلية خاصة به ،كحقل معرفي ومهني متميز الموضوع والطروحات والنظريات
والمناهج والتقنيات والممارسات .لدراسة ماذا؟ هل لدراسة السلوكات ومحدداتها كما ذهبت إلى ذلك المدرسة
السلوكية؟ أم لدراسة المحددات األربعة السالفة الذكر ،بمنظور ومقاربة إبستيمولوجية نسقية مغايرة؟ وذلك
بجعلها من "اإلنسان" ،في أبعاده السيكولوجية األربعة :السلوكية منها والمعرفية والعالئقية والوجدانية،
الموضوع األساس لعلم النفس وليس السلوك فقط .وهو ما سينقلنا إبستيمولوجيا من المرجعيات الجهوية لعلم
النفس ،إلى المرجعية الشمولية النسقية لموضوع علم النفس ،باعتباره الدراسة العلمية لإلنسان في أبعاده
السيكولوجية األربعة السالفة الذكر المحددة لهويته السيكولوجية والمالزمة له ،منذ المرحلة الجنينية المتأخرة
إلى نهاية حياته.
من هنا تساؤلي عن كيف أصبح علم النفس حاليا يعرف موضوعه؟ :باعتباره الدراسة العلمية
لإلنسان في أبعاده السيكولوجية األساسية .وبالعودة إلى البراديغمات المرجعية األربعة السالفة الذكر ،ندرك
أن اإلنسان سيكولوجيا يتم دراسته اليوم من خالل أربع رؤى ومرجعيات أساسية ،أال وهي :
.1مرجعية ومقاربة البراديغم المعرفي ،الذي ينظر إلى اإلنسان سيكولوجيا" ،ككائن معرفي"
المرجعية والبنية والتكوين والنمو.باعتباره بعدا مالزما له بيولوجيا على مستوى الجهاز
العصبي،وذهنيا معرفيا على مستوى المعالجة والفهم والتنظيم وحل المشكالت .وهو ما يبوئه
مكانة متميزة من بين الكائنات الحية األخرى ،من خالل قدراته وكفاءاته و إستراتيجيته المعرفية
التحليلية و االستشرافية والتنظيمية ،تجعله أكثر قدرة على حل المشكالت وتدبير المخاطر
والصعوبات ،والتخطيط لحياته بكيفية أكثر تنظيما وتدبيرا وحكامة .وهو ما يجعل من
"المعرفية" بعدا مالزما لسيكولوجيته وحياته الداخلية والخارجية الفردية منها والجماعية.
.2بجانب هذا البعد المعرفي المالزم لإلنسان ،لدينا كذلك بعدا آخرا مالزما لسيكولوجيته المرجعية،
أال وهو البعد الوجداني-المشاعري ،والمتمثل في مجموع المشاعر والروابط الوجدانية وتعلقاتها
وأحاسيسها ،من متعة وانشراح وطمأنينة ،...ومن ألم ومعاناة ومخاوف وقلق .و هو البعد الذي
سنجد ه حاضرا بكيفية متميزة لدى كل من نظرية التحليل النفسي في البداية ،ثم الحقا لدى نظرية
التعلق La théorie d’attachement؛ لتبين لنا بأن البعد الوجداني هو بعد مالزم لسيكولوجية
اإلنسان .و بالتالي عندما يكون هناك خصاص ومعاناة على هذا المستوى .نعاين ماذا؟ نعاين،
وكما يبين لنا ذلك علم النفس المرضي ،وجود اضطرابات واختالالت حادة على مستوى سمات
7
الشخصية في أبعادها الوجدانية .ليس فقط على المستوى الفردي بل وكذلك في أبعادها التفاعلية
والجماعية ،و الذي يحيلنا على هذا المستوى إلى "البعد الوجداني المجتمعي" الجماعي منه
والمؤسساتي ،فيما يخص المشاعر والروابط الوجدانية المتقاسمة والناظمة لها بكيفية مشتركة
( )Les sentiments partagésمن مشاعر االنتماء ،ومشاعر الهوية ،ومشاعر الفرح
والسعادة من ناحية ،ومن مشاعر المعاناة والقلق واإلحباط والكراهية والتنافر والغربة من ناحية
أخرى .وهذا ما يجعل من البعد الوجداني بعدا أوليا بيولوجيا وسيكولوجيا واجتماعيا مالزما
لإلنسان ولشخصيته ولعالقاته وتفاعالته .من هنا ندرك أهمية علم النفس المرضي على هذا
المستوى ،أي فيما يخص أوضاع المعاناة والخصاص الوجداني ،التي تبقى لها انعكاسات بنيوية
على شخصية اإلنسان وعلى سيكولوجيته الفردية منها والجماعية ،بشكل عام.
-3بعد هذا البعد المعرفي و هذا البعد الوجداني ،ما هي األبعاد السيكولوجية األخرى الناظمة
لإلنسان؟ من أهمها ،البعد السيكو-التفاعلي -التواصلي ،أي البعد النفسي االجتماعي .باعتبار
اإلنسان كائنا اجتماعيا يتقاسم مع اآلخرين مجموعة من العالقات و الروابط والتفاعالت منذ
والدته ،بل وحتى أثناء المرحلة الجنينية المتأخرة قبل والدته.و هذا ما يجعل منه ،بهذه
المواصفات ،كائنا نفسيا اجتماعيا على مستوى التكوين والنمو والصيرورة .و هو ما يتم مقاربته
تنظيريا و مفاهيميا ومنهجيا من خالل البراديغم النفسي االجتماعي التفاعلي النسقي.
-4و أخيرا يبقى لنا البعد السيكو-سلوكي لإلنسان ،أي ما يفعله ويتعلمه و ينجزه منذ والدته إلى نهاية
مشوار حياته ،باعتباره كائنا سلوكيا إنجازيا كما عرفته ونظرت له المدرسة السلوكية من خالل
براديغمها المرجعي منذ واطسن و سكينر إلى اآلن.
من خالل هذا التقديم المركز ،نستحضر أهم مستجدات المعرفة العلمية السيكولوجية و مرجعياتها
األساسية ،التي من خاللها تشكل وانتظم موضوع علم النفس ،أي "اإلنسان" في أبعاده السيكولوجية األربعة
السالفة الذكر .دون أن ننسى فضل المدرسة السلوكية تاريخا وتأسيسا ،فيما يخص علمية علم النفس من خالل
حصرها لموضوعه في دراسة السلوكات ،باعتمادها – باراديغماتيا -على نظرية التعلم ،ومنهجيا على المنهج
التجريبي ،كمنهج مؤسس لعلميتها و لدقة معارفها .و من هنا يمكن اعتبار المدرسة السلوكية بالباراديغم
المرجعي الذي مهد تاريخيا لعلمية الباراديغمات األخرى :المعرفية منها والنفسية االجتماعية والتحليلية
الوجدانية .وهو ما سنعاينه بالملموس مع الباراديغم المعرفي النمائي مع Jean Piagetأوال ،تنظيريا
وتجريبيا ،باعتبار الطفل البشري كائنا معرفيا فاعال Acteurفي بناء معارفه و كفاءاته ،و على مستوى
صيرورات التنظيم والتدبير الذاتي .لتتطور هذه الرؤية الحقا إلى اعتبار الطفل معرفيا ،كائن الكفاءات
والقدرات واالستعدادات المعر فية منذ والدته ،على خالف ما كان سائدا من معارف علمية ومن تمثالت حول
الطفل البشري ،باعتباره طفل الخصاص وعدم النضج وعدم الكفاءة وقلة الفاعلية عند والدته .و هو ما
سيجعل علم النفس المعرفي من خالل اكتشافاته العلمية الالحقة وخاصة في السبعينيات من القرن الماضي،
يقدم لنا صورة مغايرة للطفل البشري منذ والدته ،ككائن معرفي ذو الكفاءات واالستراتيجيات و الذكاءات
المتعددة ،في تفاعله وتواصله مع اآلخرين ومع محيطه الخارجي و موضوعاته .و هو ما ستثبثه العديد من
الدراسات العلمية الدقيقة و في مقدمتها دراسات Brazeltonو Mountagnerوغيرهما ،و التي بينت
جميعها بأن الطفل البشري منذ والدته يمتلك كفاءات متعددة المرجعيات و االستراتيجيات والذكاءات ،يوظفها
بكفاءة فارقية ومتباينة حسب مواصفات وخصوصيات األفراد المتفاعلين معه .مما يجعله ،على سبيل المثال،
8
يتفاعل مع أمه باستراتيجيات وكفاءات وإ يقاعات معينة ،و يتفاعل مع أبيه بكفاءات و إيقاعات مختلفة عنها.
جعلتنا ندرك علميا ،بأن الطفل البشري يظل كائنا معرفيا متعدد القدرات واالستراتيجيات و الذكاءات ،وكائنا
استشرافيا توقعيا.وهو ما أبعدنا نهائيا عن تلك النظرة السلبية للطفل و عن طروحات التبعية و المسايرة
والخضوع و المواءمة ،وعن طروحات الحتمية السيكولوجية األحادية البعد والمحددات والمواصفات.
وأعطتنا كبديل ما نسميه اآلن بالمواطن الفاعل Le citoyen acteurمنذ الطفولة .و هو ما حرر علم النفس
علميا و ابستمولوجيا من مفهوم الحتمية بالمفهوم السببي أي أن الشيء يتغير خارج منظومة الحتمية
ومحدداتها والتي تفقد اإلنسان إمكانية التدخل عليها لتليينها أو لتغيير مجرياتها أو إلبطال فاعليتها عليه .وإذا
كان علم النفس المعرفي جعلنا ندرك الطفل علميا ،ككائن الكفاءات واالستراتيجيات والذكاءات المتعددة ،فإن
علم النفس المرضي خاصة عند نهاية الحرب العالمية الثانية،سيوجه اهتمامنا العلمي إلى ،مجاالت المعاناة
واالضطرابات النفسية فيما يخص العديد من الفئات االجتماعية والعمرية التي كانت موضوع هذا الخصاص
الوجداني و ال عالئقي واالجتماعي ،بسبب مخلفات ومآسي الحرب العالمية الثانية .وهو ما سيصاحب بطلب
مجتمعي و مؤسساتي ،متزايد على علم النفس ،علميا و مهنيا ،بالنسبة للعديد من الفئات والشرائح المجتمعية
ذات االحتياجات الخاصة ،كاألطفال اليتامى والمتخلى عنهم وذوي اإلعاقات الجسمية والعقلية المختلفة.و
األشخاص والجماعات ذات المعاناة النفسية المتعددة المواصفات و السمات ،من جراء آفات و معاناة الحرب.
و هذا ما جعل من باراديغم سيكولوجية ما بعد الحرب العالمية الثانية ،يركز أساسا على أولويات و مظاهر و
أوضاع "المعاناة النفسية" في أبعادها الفردية والجماعية والمؤسساتية والمجتمعية ،باعتبار أنني أذهب ،أن ما
انتظم لدينا من معارف علمية سيكولوجية متخصصة ومن ممارسات مهنية ،ظلت و إلى نهاية القرن
العشرين ،مهيكلة وموجهة علميا و مهنيا و مجتمعيا "بسيكولوجية" معاناة الحرب العالمية الثانية .و هو ما
يجعلنا ندرك كيف أن علم النفس المرضي و علم النفس اإلكلينيكي أخذا شرعيتهما المجتمعية والعلمية
والمهنية ،و كيف تبوآ مكانة الصدارة داخل حقول علم النفس إلى حدود الستينيات .لكن ونحن بصدد الحديث
عن أسس تاريخانية علم النفس العلمي ،يبقى من األهمية بمكان أن ألج معكم هنا،باراديغما سيكولوجيا آخرا
مجددا في حقول علم النفس ،علميا ومنهجيا و ممارسة ،أال وهو حقل علم النفس االجتماعي .و كما يليق لي
أن أذكر بذلك مرارا ،مع طلبة علم النفس االجتماعي ،من خالل تذكيرهم بأهمية الدراسات و األبحاث العلمية
و الممارسات التطبيقية المهنية ،التي عرفها علم النفس االجتماعي مع بداية األربعينيات ونهاية الحرب
العالمية الثانية ،و أذكر منها على وجه الخصوص ،أبحاث ودراسات Kurt Lewinالرائدة ومجموعته
الجامعية ،والتي ظلت جميعها موجهة بقضايا و انشغاالت مخلفات ومآسي ظواهر الحرب العالمية الثانية،
كتساؤلهم مثال :ما العمل للتخلص تنظيماتيا وتدبيريا و عالئقيا ،من األسلوب والمنهج السلطوي في ارتباطها
بالمآسي التي خلفها هتلر ومنظومته السلطوية على مستوى العالقات المجتمعية ،و على مستوى األوضاع
السياسية وعلى مستوى الحياة اليومية .على اعتبار أن مثل هذه القضايا شكلت الشغل الشاغل لعلماء االجتماع
وعلماء النفس آنذاك ،سواء على مستوى التساؤالت العلمية المعرفية ،أو على مستوى التنظير و الرؤية و
الطروحات ،أو على مستوى أشكال التدخل ومناهجها وتقنياتها .إذ يبقى علينا أال ننسى بأن علم النفس دائما
كان علما تدخليا ممارسا .وبهذه االنشغاالت المجتمعية والمؤسساتية والجماعية والفردية سنجد Kurt Lewin
و مجموعته العلمية يبذلون كل ما في وسعهم لينظروا ويجددوا على مستوى أبحاث ومناهج و تقنيات علم
النفس االجتماعي ،أذكر هنا على سبيل المثال نظرية المجال و نظرية دينامية الجماعة ومنهجية المقاربة
التشاركية و تغيير السلوكات و قضايا أشكال الحكامة السلطوية والديمقراطية والالمعيارية ،و لجوئه أساسا
إلى استعمال المنهج التجريبي إلنتاج المعارف العلمية مختبريا حول هذه القضايا الشاغلة مجتمعيا ،ليعمل
الحقا على بلورة مناهج و تقنيات التدخل و التكوين النفسي االجتماعي التأهيلي على هذا المستوى .و هذا ما
9
سنعاينه بالملموس في ما يخص استثمار و توظيف النتائج العلمية والمناهج التكوينية التطبيقية ل Kurt
Lewinو مجموعته النفسية االجتماعية ،على مستوى مختلف التنظيمات و أساليب حكامتها التدبيرية ،سواء
على مستوى األسرة أو المدرسة أو اإلدارة أو المقاولة أو األحزاب وجمعيات المجتمع المدني وغيرها.
انطالقا من أن أهم انشغاالت Kurt Lewinالمجتمعية العلمية آنذاك ،هو كيفية إنتاج معرفة علمية متحقق
من مصداقيتها وتحويلها الحقا إلى مناهج وتقنيات تكوينية تأهيلية كفيلة بدمقرطة أساليب الحكامة والتدبير
والتسيير ،تمكننا من ا لتخلص من سلبيات الدكتاتورية والسلطوية وأساليب تحكمها وقهرها .وهو ما نسميه
حاليا بالتنمية البشرية Développement humainوحكامتها التشاركية الديمقراطية؛ أي كيف سنتمكن
عن طريق المقاربة التشاركية ومنهجية دينامية الجماعة ،من تقوية القدرات والكفاءات واستراتيجيات
األسلوب الديمقراطي للتخلص من أسلوب الحكامة السلطوية و منهجيتها و كفاءاتها واستراتيجياتها التحكمية
وسلبياتها؟
إذن تدركون معي ،كيف أن علم النفس االجتماعي فيما يخص نظرياته الكبرى و قضاياه المجتمعية والعلمية
الشاغلة ،ظل ملتزما باألسس التنظيرية العلمية و المنهجية التجريبية كما حددتها المدرسة السلوكية ،من خالل
االحتكام إلى مرجعية التنظير و المنهج التجريبي و دراساته المختبرية أو الميدانية .و هذا ما جعلK.Lewin
يعرف علم النفس االجتماعي بعلم العالقات اإلنسانية Science des Relations Humaines :
وأنا بصدد الحديث هنا عن أهم منظري براديغم علم النفس االجتماعي النسقي ، Systémiqueال يفوتني
التذكير بأحد أهم أقطاب علم النفس االجتماعي التجريبي ،الذي اهتم بدوره بإحدى أهم القضايا الشاغلة
مجتمعيا و علميا في ارتباطها بمخلفات الحرب العالمية الثانية ،و هو الباحث النفسي االجتماعي ،Milgram
فيما يخص الخضوع لمنظومة السلطة و سيروراتها ،بالنسبة لمصادر تعليماتها والخضوع لها ،بغض النظر
عن أضرارها و مخلفاتها .متسائال عن ،ما الذي يجعل اإلنسان العادي ينزع للخضوع بيكفية شبه عمياء إلى
تعليمات مصادر السلطة الفعلية أو الرمزية ،رغم نوعية األضرار واألذى التي قد تحدثها باآلخرين ،داخل
المؤسسات و التنظيمات التي تتواجد داخلها .
وبنفس االهتمامات ،و ضمن نفس سياق مخلفات الحرب العالمية الثانية في ارتباطها باألنظمة الدكتاتورية
التحكمية النازية منها والفاشية والستالينية ،نجد كذلك Carl Rogersيتساءل عن دور و أهمية المنهجية
التواصلية الديمقراطية المفتوحة ،من خالل تنظيره و توظيفه لمنهجية المقابلة الغير موجهة بهدف تحرير
اإلنسان على المستوى الفردي والمؤسساتي والمجتمعي ،من األقنعة العالقة أو الملتصقة بشخصيته الفعلية
"األصيلة" غير المقنعة و غير المستترة معياريا ،تحت أقنعة القيم واألدوار الثقافية والمؤسساتية المعيارية
المحافظة .أي بتساؤل إبستمولوجي منهجي :ما العمل لتحرير اإلنسان وهويته األصيلة األولية بمواصفات
الحرية ..و الحرية ..والحرية .جاعال من منهجية و مبدأ :أتركه يعبر ...أتركه يعبر ...أتركه يعبر ،وسترى و
سترى ..و سترى ما يفاجئك ويدهشك من سمات و مواصفات إنسانية أصيلة ،باعتبارها جوهر سيكولوجية
اإلنسان األصيل أي اإلنسان الحر ،أهم أسس نظريته و طروحاتها ،و منهجيته المفتوحة األسلوب و الحوار
و التعاقد.
إذن ترون معي ،كيف أن أقطاب علم النفس المعاصر ،بمرجعياتهم البراديغماتية التنظيرية اهتموا
بمجموعة من القضايا المجتمعية الشاغلة إلنتاج المعرفة العلمية المتخصصة حولها ،متبوعة بمجموعة من
المناهج و التقنيات للتدخل عليها إما بهدف الحد من سلبياتها أو بهدف العمل على تفعيل الجوانب اإليجابية
فيها والتدخل عليها لتحسين جودة الحياة الفردية منها و الجماعية و المؤسساتية .و هي كما ترون نفس
القضايا الشاغلة اآلن للمجتمع المغربي و لسيكولوجيته الفردية منها و الجماعية و التنظيماتية .بنفس
10
االهتمامات التنظيرية و االنشغاالت المنهجية التدخلية العالجية منها و الوقائية .و هو ما يجعلنا ندرك أهمية و
دور علم النفس في تحرير "اإلنسان المواطن" من سلبيات السلطة و أساليب حكامتها التحكمية ،و من ثقل
التنشئة االجتماعية المعيارية و من أشكال التفاعالت الضاغطة ،المانعة لمختلف أشكال الفاعلية و المبادرة و
المشاركة الفردية منها و الجماعية .و ندرك كذلك أهمية المناهج و التقنيات النفسية -و النفسية االجتماعية في
تكوين و تحرير اإلنسان كما رأينا ذلك من خالل منهجية دينامية الجماعة و مقاربتها التشاركية مع Kurt
، Lewinو مع منهجية المقابلة غير الموجهة ل Carl Rogersباعتبارها منهجية و تقنية لتحرير اإلنسان
من المعيارية المجتمعية المؤسساتية ومن أساليب تنشئتها االجتماعية المقننة و المنمطة لشخصيته األصيلة منذ
مرحلة الطفولة المبكرة ،حتى يمتلك من جديد حرية الكلمة و التعبير،بشخصيته األصيلة و بنزعته
السيكولوجية إلى الحرية و المبادرة ،من خالل كفاءاته و تلقائيته و مبادراته و تفاعالته "اإلنسانية النزعة"
والمكونات.لننتقل إلى إنسان اإلبداع والمبادرة و إلى مجتمع الحرية و العالقات اإلنسانية األصيلة.
و هذا ما يجعلني دائما ،أستحضر مع طلبتي أسس علم النفس العلمية و المهنية و المجتمعية بمرجعيتين
متالزمتين:
-1مرجعية المعاناة و االختالالت و االضطرابات النفسية الوجدانية منها و والعالئقية و السلوكية ،و المتمثلة
في ظواهر الخصاص و الحرمان كما هو عليه األمر مثال بالنسبة لألطفال في وضعية صعبة ،أو بالنسبة
لظواهر و سلوكات العنف األسري أو العنف في المدرسة أو في الجامعة أو في المالعب كما عليه األمر
حاليا داخل المجتمع المغربي.
-2و مرجعية المودة و االنسجام و كفاءات الحوار و التواصل و التفاو و التعاقد،باعتبارها مرجعيات و
كفاءات مالزمة لإلنسان و لمختلف عالقاته و روابطه .و هو ما أصبحنا نصطلح على تسميته بمجتمع
الديمقراطية و المواطنة ليس على مستوى الشعارات و الخطابات و إنما على مستوى الكفاءات و
الممارسات و السلوكات .و هو ما أصبحنا نعاين حضوره باهتمام متزايد داخل المجتمع المغربي عبر
مؤسساته اإلدارية منها والمقاوالتية و السياسية و المدنية و التعليمية و األسرية ،لكون علم النفس كان
دائما و الزال ،يقوم في إحدى أسسه و دعائمه على الجمع بين مرجعياته التنظيرية و مناهجه و تقنياته
التدخلية ،فيما يخص القضايا الشاغلة للمجتمع و التي عنونتها في مداخلتي هذه بالقضايا الكبرى لعلم
النفس بالمغرب.
إذن ترون معي كيف أن علم النفس في أسسه العلمية و انشغاالته المجتمعية ،انتظم بهاتين المرجعيتين
التنظيرية البراديغماتية منها و المنهجية التقنية -التدخلية و المهنية -الممارساتية .بحيث نجد أن علم النفس
المعرفي على سبيل المثال ،ينظر لإلنسان ،و منذ والدته بل و حتى قبل ذلك بشهور ،بطروحات الكائن
المعرفي ذو الكفاءات المتعددة و الفاعلية ،و بمنظور كائن المشروع .و هذا ما أصبحنا نعاينه بالملموس اليوم
داخل المجتمع المغربي ،باعتباره "مجتمع المشروع" ،من خالل مشاريع أفراده و جماعاته و مؤسساته .و
هو ما أصبح يشكل في نظري ،كباحث في علم النفس االجتماعي و من خالل طروحاتي المعرفية ،تحوال
نوعيا لسيكولوجية المجتمع المغربي و لسيكولوجية اإلنسان المغربي كذلك ،بمواصفات إنسان المشروع و
القدرة على التخطيط و التوقع و الرغبة في إثبات الذات بفاعلية وشخصية إرادية .و هي المواصفات
والسمات التي وجدتها حاضرة من خالل دراساتي الميدانية الجامعية ،على مستوى األسرة المغربية فيما
يخص مشروع حياتها و كفاءات و استراتيجيات التخطيط و التوقع و االختيار و اتخاذ القرار ،و هي السمات
و المواصفات النفسية – و النفسية االجتماعية التي نجدها حاضرة كذلك داخل المدرسة و داخل اإلدارة و
المقاولة اآلن بالمغرب ،بمستويات متفاوتة الحضور و األجرأة .ولن أبالغ ،و من خالل هذه المواصفات
11
والخصائص المميزة اليوم لإلنسان المغربي و لسيكولوجيته و كذلك سيكوسوسيولوجية المجتمع المغربي ،بأن
أدرجه ضمن مجتمعات العولمة و الثورة الرقمية ،التي نجدها اآلن تكتسح كل من األسرة و المدرسة و
مختلف فضاءات و مجاالت الحياة اليومية .تجعلنا ،جميعها ،ندرك بأن المجتمع المغربي يتموقع اليوم بكيفية
بنيوي ة داخل دينامية التغييرات الجذرية و البنيوية و مجتمعات الثورة الرقمية ،التي ستفرز لنا ال محالة،
ظواهر و عالقات و تفاعالت و سلوكات و طموحات و مشاريع ،لم نألفها من قبل لدى اإلنسان المغربي و
جماعاته و تنظيماته .
و هذا ما سيقربنا ال محالة من إعادة النظر في مسألة إصالح منظومة التعليم ببالدنا ،برؤية و بمشروع
تربوي و مجتمعي مغاير تماما عن الرؤى و المقاربات ،التي من خاللها تم وضع مشاريع اإلصالح و
البرامج و المناهج لمنظومة التربية و التعليم ببالدنا منذ االستقالل حتى اآلن .كيف ذلك ؟ و لماذا؟
إن إجابتي هنا و كما سبق و أن ذكرت ذلك في محاضرتي هذه ،تقوم على مستجدات المعرفة العلمية في
مجال علم النفس و سيكولوجية الطفل على الخصوص باعتباره العنصر األساس ألي إصالح تربوي تعليمي
ببالدنا ،مستحضرا في ذلك مواصفات الطفل المغربي سيكولوجيا في أبعاده و مكوناته السيكولوجية األربعة
السالفة الذكر" المعرفية منها والوجدانية والعالئقية و السلوكية" و باعتبار الطفل سيكولوجيا و كما رأينا يظل
طفال فاعال ،بمواصفات و مرجعيات الكفاءات و الذكاءات المتعددة ،بمواصفات و مرجعيات التنظيم و التدبير
الذاتي و المبادرة .مما يجعل منه طفال كفؤا و مبدعا ومنصهرا من خالل مواصفاته و سماته السيكولوجية
المرجعية كما تبرهن على ذلك مختلف الدراسات و األبحاث العلمية منذ السبعينيات إلى اليوم.
و حتى ال أطيل عليكم فيما يخص هذا الدرس االفتتاحي ،ال يفوتني إال أن أستحضر أهم األفكار و
الطروحات التي أطرت مداخلتي هذه ،في مقدمتها :أهمية النظرة الشمولية النسقية في علم النفس ،وأهمية
موضوعه العلمي المتمثل في دراسة اإلنسان سيكولوجيا في أبعاده األساسية األربعة المعرفية منها و
الوجدانية والعالئقية و السلوكية ،وأهمية استحضار براديغماته التنظيرية األربعة المؤسسة لعلميته منذ
المدرسة السلوكية حتى المدرسة المعرفية حاليا؛ و مستحضرا كذلك ما وصلت إليه شعبتنا الفتية على مستوى
التخصص والتأطير و التكوين العلمي و المهني ،من خالل تأطيرها حاليا لثالث تخصصات مستقلة في ماستر
علم النفس ،بداية بماستر علم النفس اإلكلينيكي و المرضي و علم النفس االجتماعي و علم النفس الشغل .و
هذا يعني ماذا؟ يعني أن علم النفس بالجامعة المغربية قد ابتعد نهائيا عن مهام التدريس وشواهده الجامعية،
لينتظم اليوم بمرجعية و مواصفات التأهيل العلمي و المهني و الممارساتي ،كما هو عليه األمر داخل أعرق
الجامعات دوليا فيما يخص شعبة علم النفس .دون أن يفوتني التذكير من جديد بأصول علم النفس العلمية
والمهنية ،التي ارتبطت وكما رأينا ذلك ،مع نهاية الحرب العالمية الثانية ،بالقضايا الكبرى للمجتمع اإلنساني،
لينتج حولها معارف علمية وممارسات مهنية متخصصة تستجيب لحاجيات المجتمع و طلباته المؤسساتية و
الجماعي ة و الفردية،والتي الزمت علم النفس حتى اليوم .مستحضرا كذلك أهمية مجموعات و مختبرات
البحث العلمي الجامعي و تكويناته الفارقية المتخصصة و ممارساتها المهنية .و هو ما ظلت شعبة علم النفس
في المغرب تفتقد إليه زمنا ليس باليسير الرتباطها العضوي ،عند نشأتها ،بشعبة الفلسفة و مهامها التدريسية
أساسا.
12
و هو ما جعل من علم النفس الحلقة و التخصص األضعف داخل حقل العلوم اإلنسانية و االجتماعية بالجامعة
المغربية ،مقارنة األنتروبولوجيا و علم االجتماع و التاريخ و الجغرافيا و اللسانيات و غيرها ...لنجده و مع
نهاية القرن العشرين يتبوأ ،مجتمعيا و إعالميا و جامعيا ،المكانة الالئقة به علميا و ممارسة ،مواكبا في ذلك
التحوالت التي عرفها المجتمع المغربي و تنظيماته المرجعية و مستجدات تطلعات و مشاريع و معاناة
اإلنسان المغربي في أبعاده السيكولوجية األربعة السالفة الذكر.
و السالم
13
الثمن 10دراهم
14