You are on page 1of 57

1

‫ملف العدد‬ ‫الفهرس‬


‫ماليزيا‪ ..‬تنوع يخلق نهضة‬
‫‪6‬‬

‫‪9‬‬ ‫ماليزيا واحدة‪ ..‬شعار توفيقي‬


‫يف بلد التمييز والتمايز‬

‫سالنغور‪ ..‬النجاح بالجمع بين‬


‫الصناعة والسياحة‬ ‫‪13‬‬

‫‪17‬‬ ‫انفجار تعليمي نوعي غيّر‬


‫وجه ماليزيا‬

‫املسجد األزرق‪ ..‬أيقونة تزاوج‬


‫الثقافات املعمارية‬ ‫‪21‬‬

‫‪25‬‬ ‫األسواق الليلية‪ ..‬مالذ‬


‫الفقراء والدخل املرتفع‬

‫العالجات التقليدية‪ ..‬ثقافات‬


‫الشرق تجتمع بماليزيا‬ ‫‪29‬‬

‫‪33‬‬ ‫«ديبافالي» الهندوسي‪..‬‬


‫انحسار الطقس الديني أمام‬
‫االحتفالي‬
‫تقارير منوعة‬ ‫الفهرس‬

‫حدت ىلع االستعمار‬


‫العرائش‪ّ ..‬‬
‫بـ «ال ُب َ‬
‫لغة» السوداء‬ ‫‪38‬‬

‫‪43‬‬
‫أكياس اإلسمنت لوحات فنية‬
‫يف أصيلة املغربية‬

‫جمهورية الشيخة حسينة‪ ..‬أرض‬


‫الخصب والفقر والعسكر‬ ‫‪47‬‬

‫‪53‬‬ ‫التايمز‪ ..‬ذلك «األرشيف‬


‫السائل”‬

‫مراسلو العدد‬ ‫إعداد وتحرير‬


‫وصال الشيخ‪-‬العرائش (املغرب)‬ ‫علي صبري‬

‫اعتماد بلعيد ‪ -‬أصيلة‬


‫سيد أحمد الخضر ‪-‬دكا‬ ‫تصميم وإخراج‬
‫عثمان بوشيخي‪-‬لندن‬ ‫عماد قطوش‬
‫استثمار‬
‫التنوع‬ ‫محمد املختار الخليل‬
‫مدير تحرير الجزيرة نت‬

‫من املسلمين املاالويين‪ ،‬إلى‬ ‫رغم مرور عقود ىلع تجربة النهضة‬
‫جانب ‪ %11‬من السكان األصليين غير‬ ‫املاليزية‪ ،‬وانتقالها من مجتمع زراعي‬
‫املسلمين‪ ،‬و‪ %23.7‬من أصول صينية‪،‬‬ ‫إلى دولة صناعية‪ ،‬ال يزال الباحثون‬
‫و‪ %7‬من أصول هندية‪ ،‬وقوميات أخرى‬ ‫واملهتمون يقرؤون تفاصيل التجربة‬
‫قليلة‪.‬‬ ‫والرؤية التي وقفت خلفها‪ ،‬مشروع‬
‫نهضة متكامل قاده رئيس الوزراء‬
‫هذه التوليفة هي ما يسميها‬ ‫السابق مهاتير محمد‪ ،‬قبل أن يتنحى‬
‫املاليزيون «ماليزيا واحدة»‪ ،‬وهو شعار‬ ‫عن السلطة طواعية عام ‪.2003‬‬
‫رفعه التحالف الحاكم‪ ،‬وإن كانت بعض‬
‫أحزاب املعارضة تشكك يف واقعيته‬ ‫ماليزيا تحولت من دولة زراعية تعتمد‬
‫بسبب التمييز اإليجابي الذي منحه‬ ‫ىلع إنتاج وتصدير املواد األولية إلى‬
‫الدستور للعرقية املاالوية اقتصاديا‬ ‫دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعي‬
‫وسياسيا‪ ،‬وهو ما انعكس ىلع انكفاء‬ ‫الصناعة والخدمات فيها بنحو ‪%90‬‬
‫من الناتج املحلي اإلجمالي‪ ،‬وتبلغ‬
‫داخل كل عرقية أو دين ىلع صعيد‬
‫نسبة صادرات السلع املصنعة ‪%85‬‬
‫العادات والتقاليد والتعليم والتزاوج‪.‬‬
‫من إجمالي الصادرات‪ ،‬وتنتج ‪ %80‬من‬
‫لكن التنوع العرقي والديني املتعايش‬ ‫السيارات التي تسير يف شوارعها‪.‬‬
‫يف ماليزيا منح البالد خصوصيات‬ ‫هذه القفزة الواسعة أسستها ماليزيا‬
‫ثقافية واجتماعية أكثر من محيطها‬ ‫ىلع قاعدة طفرة كمية ونوعية يف‬
‫اآلسيوي‪ ،‬وهو ما يمكن تلمسه‬ ‫قطاع التعليم والبحث العلمي‪ ،‬عززها‬
‫من خالل املعالم البارزة واملعابد‬ ‫ِسلم اجتماعي وتعايش سياسي منح‬
‫والعطالت الرسمية وحتى املطاعم‬ ‫البالد استقرارا كبيرا‪ ،‬استفادت منه‬
‫والفعاليات االجتماعية‪.‬‬ ‫ومن املقومات الطبيعية يف خلق‬
‫قصة ماليزيا بتنوعها هذا‪ ،‬تستحق‬ ‫سياحة جاذبة ىلع مستوى العالم‪.‬‬
‫تسليط الضوء ىلع زوايا وظواهر البالد‪،‬‬ ‫ونجحت ماليزيا إلى حد كبير يف‬
‫وهي كثيرة‪ ،‬لكن نكتفي يف هذا العدد‬ ‫توليف معادلة اجتماعية مستقرة‬
‫بإطاللة ىلع بعض هذه الزوايا من‬ ‫بين مكونات املجتمع املتعدد عرقيا‬
‫املجتمع املاليزي‪.‬‬ ‫ودينيا‪ ،‬فأكثر من ‪ %50‬من املاليزيين‬

‫‪4‬‬
‫ماليزيا‬
‫واحدة‬

‫يف كثير من األحيان يخلق التنوع العرقي‬


‫والديني أزمات وصراعات‪ ،‬إال أن ماليزيا‬
‫استثمرت طيفها االجتماعي يف خلق‬
‫نهضة شاملة‪ ،‬باتت محل دراسة وبحث‬
‫ىلع نطاق واسع‪ ،‬الختبار واقعية شعار‬
‫«ماليزيا واحدة»‪ ،‬يف ظل التمييز اإليجابي‬
‫للماالويين سياسيا واقتصاديا‪.‬‬

‫مراسلة مجلة الجزيرة رميساء خالبي‬ ‫رميساء خالبي‪-‬كواالملبور‬


‫تقصت بعض صور التنوع الثقايف والديني‬
‫وانعكاساته ىلع الحياة العامة يف‬
‫املجتمع املاليزي‪ ،‬وخرجت بهذا امللف‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫ماليزيا‪ ..‬تنوع يخلق نهضة‬

‫الشرقي أو ماليزيا الشرقية كما يصطلح عليه‪،‬‬


‫ال يسكنه سوى ثمانية ماليين‪ ،‬فيما يتركز‬ ‫إلى الظروف السياسية واملوارد‬ ‫بالنظر‬
‫الباقون يف الجزء الغربي من البالد‪ ،‬لظروف‬ ‫البشرية‪ ،‬فإن بلدا كماليزيا لم يكن مهيأ لنهضة‬
‫اقتصادية محضة‪.‬‬ ‫تنقله من حالة تبعية كاملة للمستعمر‬
‫البريطاني إلى االكتفاء الذاتي‪ ،‬ثم حلم اللحاق‬
‫وعن التوزيع الديني للسكان فإن الغالبية‬ ‫إلى صف الدول املتقدمة‪ ،‬ولو بعد حين‪.‬‬
‫للمسلمين بنسبة ‪ ،%61,3‬يليهم البوذيون‬
‫‪ %19,8‬ثم املسيحيون ‪ %9,2‬فالهندوس ‪،%6,3‬‬ ‫كان األمر يحتاج إلى إرادة وإدارة قويتين ىلع‬
‫وتبقى أعداد قليلة من ديانات أخرى‪.‬‬ ‫حد سواء‪ ،‬فالبلد لم يكن يعاني الفقر واألمية‬
‫فقط‪ ،‬بل كان مثقال بإرث طويل من الحروب‪.‬‬
‫حتى إقامة دولة ماليزيا سنة ‪ 1965‬بحدودها‬
‫الجغرافية التي نعرفها اآلن‪ ،‬كان اقتصادها‬ ‫ماليزيا‪ ،‬االسم الذي أُطلق مطلع ستينيات‬
‫يعتمد باألساس ىلع ثرواتها الطبيعية‪ ،‬إذ‬ ‫القرن املاضي ىلع دولة تتكون باألساس‬
‫إن أكثر من ثلثي مساحة البالد كانت تغطيها‬ ‫من جزيرتين متباعدتين جغرافيا‪ ،‬تسكنهما‬
‫الغابات الكثيفة‪ ،‬الغنية بأشجار املطاط‬ ‫شعوب عدة ومتنوعة عرقيا وثقافيا يزيد‬
‫والقصدير وزيت النخيل‪ ،‬وهي أبرز صادرات البلد‬ ‫عددهم عن ‪ 31‬مليون نسمة‪.‬‬
‫لعقود طويلة‪ .‬ناهيك عن النحاس والبترول‬
‫والغاز الطبيعي‪.‬‬ ‫شعب «املااليو» هم السكان األصليون ملاليزيا‪،‬‬
‫وهم يشكلون نصف عدد السكان‪ ،‬يليهم‬
‫وقد تم التنقيب عن خيرات البالد الطبيعية‬ ‫الصينيون بنسبة ‪ ،%22,6‬ثم الهنود ‪،%6,7‬‬
‫يف املناجم بمطلع القرن املاضي‪ ،‬باالستعانة‬ ‫أما السكان األصليون من غير املاالويين الذين‬
‫بعبيد جلبهم االحتالل البريطاني من جنوب‬ ‫يستوطنون باألساس الجزء الشرقي من البالد‬
‫الهند والصين للعمل‪ ،‬إذ لم يكن سكان البالد‬ ‫فيبلغون ‪ ،%11,8‬وهم يحافظون ىلع عاداتهم‬
‫املاليو يتقنون سوى الزراعة والصيد‪ ،‬ويعتقد‬ ‫وتقاليدهم القديمة غير آبهين باالندماج‬
‫أن جزءا كبيرا من هنود وصينيي البلد اليوم‬
‫باملجتمع املتنوع‪ .‬فضال عن ثالثة ماليين‬
‫هم الجيل الخامس من عمال مناجم القرن‬
‫أجنبي مقيم‪ ،‬وهو باألساس عمال من الدول‬
‫املاضي‪.‬‬
‫املجاورة‪.‬‬
‫وبالعودة إلى فترة ما بعد االستقالل‪ ،‬نجد أن‬
‫وبالنظر إلى التوزيع السكاني‪ ،‬سنجد أن الجزء‬

‫‪6‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫مسيرة طويلة نجحت فيها ماليزيا رغم كل التحديات يف تحقيق قفزة‬


‫نوعية مكنتها من االنضمام للنمور اآلسيوية السبعة‪ ،‬فضال ىلع انضمامها‬
‫لقائمة الدول النامية‪،‬‬

‫وقد اعتمد عليهم يف أمور اقتصادية كثيرة‪،‬‬ ‫ماليزيا وجدت نفسها فجأة أمام مشاكل كثيرة‬
‫وشجعت الحكومة املاالويين ىلع االنتقال‬ ‫قد تقودها إلى الهاوية‪ ،‬فمن ناحية كانت‬
‫من القرى إلى املدن‪ ،‬ألن زمن الزراعة قد ولى‪،‬‬ ‫املشكلة العرقية تهدد أمن واستقرار البلد‪،‬‬
‫ودخلت البالد حقبة التصنيع‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى كانت دول الجوار من الجهة‬
‫الشرقية تفاوض حول حدود جزيرة «بورنيو»‪،‬‬
‫مسيرة طويلة نجحت فيها ماليزيا رغم كل‬
‫التي تتقاسمها اليوم ثالث دول‪ ،‬هي‬
‫التحديات يف تحقيق قفزة نوعية مكنتها من‬ ‫إندونيسيا وسلطنة بروناي وماليزيا‪ ،‬وإن كان‬
‫االنضمام للنمور اآلسيوية السبعة‪ ،‬فضال ىلع‬ ‫الحديث حولها ما زال قائما‪ ،‬تماما كالحديث‬
‫انضمامها لقائمة الدول النامية‪ ،‬وهي تتطلع‬ ‫عن املساواة بين أعراق البلد الواحد يف كل‬
‫اليوم إلى تسجيل اسمها دولة متقدمة سنة‬ ‫الحقوق والواجبات‪ ،‬بدل محاباة العرق املاالوي‪،‬‬
‫‪.2020‬‬ ‫بذريعة أنه عانى التهميش واالضطهاد إبان‬
‫وكانت الركيزة األولى يف نهضة ماليزيا يف‬ ‫االحتالل أكثر من غيره‪ ،‬أو حتى لكونه مالك‬
‫بناء جيل جديد متعلم «احرث تعليما جيدا‪،‬‬ ‫هذه األرض‪.‬‬
‫تحصد اقتصادا جيدا»‪ ،‬هكذا قال مهاتير‬ ‫كانت الخيارات أمام ماليزيا محدودة جدا‪ ،‬فإما‬
‫محمد‪ ،‬باني نهضة ماليزيا الحديثة‪ ،‬الذي آمن‬ ‫أن تنقاد إلى فتنة طائفية‪ ،‬أو أن تجد معادلة‬
‫بأن تقدم بلده لن يتحقق إال بثورة تعليمية‬ ‫ترضي إلى حد ما كل األطراف وتخدم يف‬
‫شاملة‪.‬‬ ‫الوقت نفسه مصلحة هذا البلد‪.‬‬
‫وهكذا كان‪ ،‬فاليوم ال تكاد تخلو أي مدينة من‬ ‫كان الصينيون والهنود أصحاب خبرة بال شك‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫سكانها‪ ،‬حتى مطلع سبعينيات القرن املاضي‪.‬‬ ‫جامعة واحدة ىلع األقل‪ ،‬أما نسبة األمية‬
‫يف البلد فال تتعدى ‪ ،%2‬وهو رقم تنافس به‬
‫ال شك أن قطاع التعليم كان له انعكاس جيد‬
‫ماليزيا باقي الدول املتقدمة‪.‬‬
‫ىلع باقي القطاعات‪ ،‬فماليزيا اليوم تستقبل‬
‫ولعل ثمار رؤية مهاتير محمد لم تكن محصورة‬
‫ماليين السياح كل سنة‪ .‬كما أن شركات‬
‫يف تمكين املواطنين من الوصول إلى التعليم‬
‫متعددة الجنسيات ومستثمرين أجانب أقاموا‬
‫فحسب‪ ،‬وال أدل ىلع ذلك من الرخاء واالزدهار‬
‫مشاريعهم العمالقة هنا‪ ،‬مستفيدين من‬ ‫والسالم الذي تنعم به البلد‪ ،‬فاليوم ‪ %3‬فقط‬
‫الوضع األمني املستقر‪ ،‬ومساهمين بشكل غير‬ ‫من سكان ماليزيا يعيشون تحت عتبة الفقر‪،‬‬
‫مباشر يف تقدم هذا البلد‪.‬‬ ‫يف الوقت الذي كان فيه الفقراء هم أغلبية‬

‫‪8‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫ماليزيا واحدة‪ ..‬شعار توفيقي يف‬


‫بلد التمييز والتمايز‬

‫محليين أو مقيمين‪ ،‬وهي الصورة التي تغيب‬


‫يف مساجد ماليزيا الجميلة‪ ،‬وإن كانت ُت ّ‬
‫عد‬ ‫«جايانتي تاميل سيلفام» املاليزية‬ ‫دعتني‬
‫وجهات سياحية‪ ،‬ألن قانون زيارتها يمنع‬ ‫من أصول هندية‪ ،‬إلى زيارة «باتو كيفز» بوالية‬
‫ىلع غير املسلمين ارتيادها‪.‬‬ ‫سيالنغور‪ ،‬وهو من أقدم املعابد الهندوسية يف‬
‫ماليزيا التي تستقبل الحجاج الهندوس من داخل‬
‫يف ماليزيا‪ ،‬يشكل الهندوس حوالي ‪ %7‬من‬ ‫البالد وخارجها ىلع حد سواء‪.‬‬
‫مجموع سكانها‪ .‬بينما يشكل املسلمون ‪،%60‬‬
‫ورغم ذهابنا فجرًا لتفادي الزحام الذي‬
‫وحوالي ‪ %9‬مسيحيون‪ ،‬والبوذيون ‪،%20‬‬
‫يعرفه املعبد طيلة أيام األسبوع‪ ،‬ناهيك‬
‫و‪ %1,7‬أتباع ديانات صينية قديمة كالطاوية‬
‫عن املناسبات واألعياد الدينية الهندوسية‪،‬‬
‫والكنفوشيسية و‪ %2,3‬الباقية موزعة بين‬
‫تفاجأنا بوجود أعداد غير قليلة قد سبقتنا‬
‫أتباع الديانات البدائية والالدينيين‪.‬‬
‫لتأدية الشعائر‪.‬‬
‫ويقضي القانون املاليزي باحترام جميع‬
‫خلعت حذائي عند مدخل قاعة تأدية‬
‫األديان‪ ،‬بحيث يحق ألتباع أي ديانة ممارسة‬ ‫القداس‪ ،‬والتحقت بطابور طويل من‬
‫الطقوس الدينية الخاصة بهم‪ ،‬وفتح دور‬ ‫ُ‬
‫اقتربت‬ ‫املنتظرين للكهنة‪ ،‬وعندما حل دوري‬
‫عبادة‪ .‬كما تعتبر األعياد الدينية مناسبات‬ ‫مد لي زهرتي أقحوان‪،‬‬‫من أحدهم وقد ّ‬
‫وطنية تغلق فيها جميع املؤسسات‬ ‫وباركني مرددا تعاويذ باللغة السنسكريتية‬
‫الحكومية أبوابها‪.‬‬ ‫التي ال يتحدث بها اليوم يف ماليزيا سوى‬
‫لكن يبقى اإلسالم يف ماليزيا هو الدين‬ ‫قلة من الهنود‪ .‬بعد ذلك طبع خاتم تأدية‬
‫الرسمي‪ ،‬كما هو حال اللغة املاليزية (بهاسا‬ ‫الصالة ىلع جبيني وىلع عنقي‪ ،‬والخاتم‬
‫ماليزيا)‪ ،‬فمع أن القانون يسمح لألقليات‬ ‫عبارة عن بودرة يختلف لونها باختالف‬
‫العرقية بتدريس املناهج الدراسية باللغات‬ ‫الطقس الديني‪ ،‬فهي بيضاء اللون للمصلين‪،‬‬
‫الخاصة بها مثال‪ ،‬فإنه يفرض عليها تدريس‬ ‫وحمراء للمتزوجين‪ ،‬وصفراء لعلماء الدين‪.‬‬
‫اللغة املاليزية للتالميذ باملوازاة‪ .‬ونجد نفس‬ ‫يف الساحة الكبيرة أمام تمثال اإلله‬
‫املشهد يف بطاقات الهوية التي تميز بين‬ ‫الهندوسي «مورغن»‪ ،‬كان عدد كبير من‬
‫املسلمين وغيرهم‪.‬‬ ‫الزوار قد بدؤوا بالتوافد‪ ،‬لم يكونوا هندوسًا‬
‫«سارجيت كوار» سيدة ماليزية من أصول‬ ‫وال حتى سياحًا فقط‪ ،‬بل كانوا مسلمين‬

‫‪9‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫الذين كانوا يعملون باألساس يف حقول‬ ‫هندية‪ ،‬تعيش منذ ثالثة عقود يف‬
‫املطاط ويف املناجم التابعة للبريطانيين‪.‬‬ ‫نيوزيلندا‪ ،‬وجاءت إلى ماليزيا لرؤية أهلها‪.‬‬
‫تقول لي إن القوانين أيام دراستها كانت‬
‫لكن أسباب تحقيق تلك املعادلة من أجل‬
‫سيئة جدا‪ ،‬فرغم حصولها ىلع الرتبة ‪ 15‬من‬
‫صالح البلد قد ُرفعت اآلن‪ ،‬فالواقع يشهد أن‬
‫أصل ‪ 60‬طالبا معها يف الصف‪ ،‬لم تتمكن من‬
‫املالوين يعتلون سدة الحكم‪ ،‬وأن الصينيين‬
‫الحصول ىلع مقعد يف الجامعة‪ ،‬فحظوظ‬
‫يسيطرون ىلع اقتصاد البلد‪ ،‬كما يهيمن جزء‬
‫املالويين يف التعليم الحكومي كانت أكثر‬
‫كبير من الهنود ىلع القطاع الصحي والقضاء‪.‬‬ ‫من غيرهم‪ ،‬كما هو حالهم مع الوظائف‪،‬‬
‫ولعل هذا ما جعل بعض األصوات تعلو من‬ ‫وامتالك األراضي‪ ،‬وغيرها من القوانين التي‬
‫الداخل قبل الخارج منددة بسياسة التمييز‬ ‫تميز بينهم وبين باقي األعراق‪.‬‬
‫وعدم املساواة التي تمارسها الدولة يف حق‬
‫األقليات‪ ،‬مثل منتدى «هندراف»‪ ،‬وهو تجمع‬ ‫بعد استقالل ماليزيا‪ ،‬حاولت الحكومات‬
‫لثالثين منظمة هندية غير حكومية‪ ،‬فكرته‬ ‫املتعاقبة أن توفق بين حقوق العرقيات‬
‫الدفاع ىلع حقوق الهندوس‪ .‬وقد كان سباقا‬ ‫املختلفة لسكان هذه الجزر تجنبًا للوقوع‬
‫للخروج يف مظاهرات ومسيرات ضد سياسات‬ ‫يف أي فتنة طائفية‪ ،‬وللنهوض بهذا البلد‬
‫الذي عانى طويال من ويالت االستعمار‪ .‬وقد‬
‫النظام الحاكم منذ عام ‪.2008‬‬
‫كانت املعادلة األمثل أن يتيح النظام الحاكم‬
‫ورغم وجود أحزاب هندية وصينية ضمن‬ ‫للعرق املالوي فرصة جيدة للتعلم للوصول‬
‫االئتالف الحكومي‪ ،‬مثل حزب «املؤتمر الهندي‬ ‫إلى املراكز اإلدارية والسياسية‪ ،‬وأن يتم دمج‬
‫املاليزي» ممثال األقلية الهندية‪ ،‬وحزب‬ ‫الصينيين من خالل االعتراف بهم كمواطنين‬
‫«الجمعية الوطنية الصينية املاليزية»‪ ،‬وهو‬ ‫ماليزيين‪ ،‬وذلك من أجل االستفادة من قوتهم‬
‫ثاني أكبر حزب يف البالد بعد حزب منظمة‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة للهنود‬

‫‪10‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫يف عيد ديبافالي الهندوسي األخير‪ ،‬كان رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق‬ ‫تمثال اإلله‬

‫يشارك يف مراسم االحتفال به‪ ،‬الصورة التي اعتبرها البعض ال تجسد‬ ‫الهندوسي‬
‫أورغن يف‬
‫الواقع إطالقا‪.‬‬ ‫معبد باتو كيف‬

‫الديانة السيخية‪ -‬أنها اصطحبت صديقة‬ ‫اتحاد املاليو الذي يمسك بزمام السلطة‪ ،‬فإن‬
‫مسيحية إلى معبد «غوردراوا صاحب البوان»‬ ‫حراك أحزاب املعارضة التي تمثل األقليات‪،‬‬
‫بوالية البوان لتأدية مراسم عزاء قريب لها‪،‬‬ ‫ومنظمات غير حكومية مدافعة عنهم‪ ،‬كشف‬
‫وعندما أتى الطعام رفضت صديقتها االقتراب‬ ‫املحظور‪ ،‬وهو توتر عرقي دفين ملجتمع أراد‬
‫منه‪ ،‬متحججة بأن إلهها لن يكون راضيًا ىلع‬ ‫النظام الحاكم أن يظهره بصورة أكثر وردية‪،‬‬
‫وتشرح لي أن‬
‫ُ‬ ‫أكلها من قربان معبود غيره‪.‬‬ ‫متجاهال االضطرابات الحقيقية التي لم تنفع‬
‫هذه الواقعة ليست استثناء‪ ،‬بل إن أتباع كل‬ ‫معادلة تفضيل املالويين مع الحفاظ ىلع‬
‫ديانة هنا متشبثون بتقاليدهم وعاداتهم‬ ‫حقوق األقليات كمواطنين فقط؛ يف تهدئة‬
‫الخاصة بهم‪ ،‬وإنه نادرًا ما يشارك البوذيون‬ ‫خواطر الجميع‪ ،‬فالهنود والصينيون يتهمون‬
‫ال املسلمين أعيادهم الدينية‪ ،‬واملسلمون‬ ‫مث ً‬
‫أحزابهم التي تمثلهم يف الحكومة بالضلوع‬
‫السيخيين أعيادهم‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫يف الفساد وعدم االستجابة ملطالبهم‪،‬‬
‫يقول املحاضر بكلية اللغة العربية يف جامعة‬ ‫واملالويون يحذرون من انقالب األوضاع ضدهم‪.‬‬
‫الشرق األوسط املاليزية الدكتور محمد الطيب‬
‫يف عيد ديبافالي الهندوسي األخير‪ ،‬كان‬
‫«لقد حاول الرئيس املاليزي محمد نجيب عبد‬
‫رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق يشارك يف‬
‫الرزاق بطرحه نظرية ماليزيا واحدة‪ ،‬أن يسكت‬
‫مراسم االحتفال به‪ ،‬الصورة التي اعتبرها‬
‫األصوات املطالبة باستقالته‪ ،‬نتيجة الغضب‬
‫البعض ال تجسد الواقع إطالقا‪.‬‬
‫الشعبي العارم الذي حل باختفاء وسقوط‬
‫الطائرات‪ ،‬ومؤخرًا بسبب تحويالت بقيمة‬ ‫تخبرني «سارجيت كوار» ‪-‬وهي من أتباع‬

‫‪11‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫ُ‬
‫التقيت به يف منزل والدته‬ ‫السينمائية‪،‬‬ ‫سبعمئة مليون دوالر إلى حسابه الشخصي‪،‬‬
‫«إيمي كوان» أثناء زيارته لها‪ ،‬فهو يقيم يف‬ ‫يف الوقت الذي يعاني فيه الصندوق‬
‫كندا مع أسرته الصغيرة منذ عشر سنوات‪.‬‬ ‫الحكومي الذي يرأس هيئته االستشارية‬
‫بمديونية تقدر بأكثر من ‪ 11‬مليار دوالر»‪.‬‬
‫يقول كوان «ما زال التعامل مع الرأي اآلخر‬
‫احتجاجات من هذا النوع لم تطل أي رئيس‬
‫غير مقبول يف ماليزيا‪ ،‬فالحكومة تقمع‬ ‫سابق منذ استقالل البالد عام ‪ ،1957‬وقد‬
‫املتظاهرين وتزج بهم يف السجن‪ ..‬إنها تدعي‬ ‫تم التعامل معها بما وصفه البعض بالقمع‪،‬‬
‫أن ذلك من أجل الحفاظ ىلع مصلحة الوطن‪،‬‬ ‫إذ تم حجب املوقع الرسمي مث ً‬
‫ال لتحالف‬
‫وأنه يجدر باملعارضين العمل يف إطار أحزاب‬ ‫«بيرسيه»‪ ،‬وهو تحالف غير حكومي تترأسه‬
‫املعارضة‪ ،‬لكن هذا غير صحيح‪ ،‬فحتى أحزاب‬ ‫يدعي أنه‬
‫الناشطة النسوية ماريا عبد اهلل‪ّ ،‬‬
‫املعارضة ال تستطيع قول ما تريد»‪.‬‬ ‫تأسس من أجل انتخابات نظيفة ونزيهة‪ ،‬وقد‬
‫شارك يف إحدى مظاهراته الرئيس األسبق‬
‫ويضيف «أعتقد أن اإلشكال ليس يف وضعنا‬ ‫مهاتير محمد أيضًا‪ ،‬تنديدًا بسياسة الرئيس‬
‫للنظريات واملفاهيم‪ ،‬بل يف سبل تطبيقها‬ ‫الحالي عبد الرزاق‪.‬‬
‫ىلع أرض الواقع‪ ،‬فشعار ماليزيا واحدة ال‬ ‫«أوغست كوان» فنان ماليزي من أصول صينية‪،‬‬
‫يعكس ما عليه نحن اليوم‪ ،‬كما أن رؤية‬ ‫له عشرة ألبومات موسيقية وشارك يف‬
‫الحكومة الحالية ال تخدمه البتة»‪.‬‬ ‫العديد من املسلسالت التلفزيونية واألفالم‬

‫يرتاد هذا‬
‫املعبد‬
‫الهندوسي‬
‫حراك أحزاب املعارضة التي تمثل األقليات‪ ،‬ومنظمات غير حكومية مدافعة‬
‫كافة املاليزيين‬ ‫عنهم‪ ،‬كشف املحظور‪ ،‬وهو توتر عرقي دفين ملجتمع أراد النظام الحاكم أن‬
‫ىلع اختالف‬
‫دياناتهم‬ ‫يظهره بصورة أكثر وردية‬

‫‪12‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫سالنغور‪ ..‬النجاح بالجمع بين‬


‫الصناعة والسياحة‬

‫وجه الخصوص‪ ،‬فمنازلهم عبارة عن فلل ذات‬


‫حدائق خلفية‪ ،‬وهي صورة تكاد تغيب يف‬ ‫تجد أجانب‪:‬‬
‫وليت وجهك هنا ْ‬ ‫أينما‬
‫واليات صناعية أخرى بالدولة‪.‬‬ ‫نيباليين‪ ،‬هنود‪ ،‬بنغاليين‪ ،‬بورميين‪،‬‬
‫إندونيسيين‪ ،‬وصينيين‪ ..‬أسأل «عارف يبانوغ»‬
‫وتعتبر دار اإلحسان‪-‬سالنغور أكثر واليات‬ ‫وهو شاب ماليزي من أصول إندونيسية‪،‬‬
‫ماليزيا تطورًا وتقدمًا‪ ،‬وأغناها من حيث الناتج‬ ‫يعمل منذ تسع سنوات يف مدينة شاه علم‬
‫ال عن املوارد البشرية‬‫اإلجمالي املحلي‪ .‬ففض ً‬ ‫عاصمة دار اإلحسان‪-‬سالنغور‪ ،‬فيخبرني أنهم‬
‫العالية نسبيا بسكان يزيدون عن ستة ماليين‬ ‫باألساس عمال مقيمون‪.‬‬
‫نسمة‪ ،‬هي تتمتع ببنية تحتية متطورة‪،‬‬
‫وتعتبر ميناء الدخول الرئيسي للبالد‪ ،‬ناهيك‬ ‫يعمل عارف يف إحدى الشركات املاليزية‬
‫عن موقعها اإلستراتيجي املهم‪ ،‬حيث تقع‬ ‫كوسيط بينها وبين الراغبين يف القدوم‬
‫إلى البالد للعمل‪ ،‬ويقول إن غالبية العمال‬
‫ىلع الحدود مع العاصمة كواالملبور‪.‬‬
‫يفضلون املجيء إلى هذه الوالية‪ ،‬فخيارات‬
‫تساهم سالنغور اليوم بنحو ‪ %22.7‬من‬ ‫العمل فيها متوفرة بكثرة لتركز أكبر عدد‬
‫اقتصاد ماليزيا‪ ،‬تليها العاصمة كواالملبور‬ ‫ال عن قطاع‬‫من الشركات واملصانع فيها‪ ،‬فض ً‬
‫بنسبة ‪ .%15.3‬وبذلك تكون دار اإلحسان‬ ‫الخدمات الذي تعتمد عليه الوالية بدرجة‬
‫أكثر الواليات املاليزية إسهامًا يف القطاع‬ ‫ثانية‪.‬‬
‫االقتصادي‪.‬‬
‫ويضيف «قبل تسع سنوات كان العثور ىلع‬
‫وبالعودة إلى اإلحصائيات املتوفرة ىلع‬ ‫سكن يف شاه علم أمرًا صعبًا‪ ،‬خصوصا‬
‫املوقع اإللكتروني للوالية‪ ،‬نجد أن معدل‬ ‫ألصحاب الدخل املنخفض‪ .‬أما اآلن فهناك‬
‫النمو االقتصادي فيها يبلغ ‪ %4.8‬بمشاركة ‪3.3‬‬ ‫الكثير من الخيارات بسبب تدفق العمالة‬
‫ماليين عامل‪ ،‬وهو ما يعادل أكثر من نصف‬ ‫األجنبية‪ ،‬وهذا أمر جيد»‪.‬‬
‫سكانها‪ .‬أما نسبة معدل األمية حسب املوقع‬
‫ال تتعدى تلك الخيارات التي يتحدث عنها‬
‫فهو ‪ %1.3‬فقط‪ ،‬بينما يصل عدد املتخرجين‬
‫عارف شققا مشتركة‪ ،‬إذ تنتشر أحياء بأكملها‬
‫كل سنة إلى أربعين ألف طالب عن ‪150‬‬ ‫توفر غرفًا صغيرة لإليجار بأسعار معقولة‪،‬‬
‫مؤسسة للدراسات العليا‪.‬‬ ‫غالبًا ما يتكدس بداخلها عمال أجانب‪ .‬أما‬
‫ويرى املحاضر بكلية اللغة العربي يف جامعة‬ ‫أصحاب الدخل الجيد‪ ،‬وسكان البلد ىلع‬

‫‪13‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫‪ %80‬من السيارات يف شوارع ماليزيا هي سيارات محلية الصنع باسم «بروتون‬


‫ساجا» التي قامت شركة بروتون املاليزية ‪-‬ومقرها شاه علم عاصمة والية‬
‫سالنغور‪ -‬بتصنيع أول دفعة منها مطلع ثمانينيات القرن املاضي‬

‫وعروضا استثنائية لتشجيع السكان ىلع‬ ‫الشرق األوسط املاليزية الدكتور محمد‬
‫شراء سياراتها «ثمن سيارتي ‪ 37.8‬ألف رنغت‬ ‫الطيب أن أسبابا كثيرة ساعدت يف تطور دار‬
‫(‪ 9000‬دوالر)‪ ،‬وهذا مبلغ ال يمكنني توفيره‬ ‫اإلحسان‪-‬سالنغور وجعلها وجهة لالستثمار‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬لهذا أنا أدفع للشركة نحو ‪115‬‬ ‫الخارجي واملحلي ىلع حد سواء‪ .‬فهناك «‪13‬‬
‫دوالرا شهريا فقط‪ ،‬وهو عرض ال يمكنني‬ ‫شركة متعددة الجنسيات وجدت يف والية‬
‫إيجاده عند شركات أخرى»‪.‬‬ ‫سالنغور املكان األمثل لالستثمار‪ ،‬وأعتقد‬
‫«أفضل استعمال السيارة ىلع وسائل‬‫ّ‬ ‫ويضيف‬ ‫أن وجود ميناء كالنغ ومطاري كواالملبور‬
‫النقل العمومي التي ال تغطي كل املناطق‪،‬‬ ‫الدولي ومطار سلطان عبد العزيز شاه؛ من‬
‫كما أنها غير مجدية يف التنقل بين الواليات‬ ‫أهم األسباب التي ساعدت يف تسريع عملية‬
‫رفقة األهل واألصدقاء»‪.‬‬ ‫تطور الوالية‪ ،‬باإلضافة إلى كونها يف مأمن‬
‫من الكوارث الطبيعية»‪.‬‬
‫وتعتبر ماليزيا من أنجح البلدان غير الغربية‬
‫التي حققت نقلة اقتصادية نوعية ىلع‬ ‫‪ %80‬من السيارات يف شوارع ماليزيا هي‬
‫مدى القرن املاضي‪ .‬ومنذ أواخر القرن التاسع‬ ‫سيارات محلية الصنع باسم «بروتون ساجا»‬
‫عشر كانت موردًا أساسيًا للمنتجات األولية‬ ‫التي قامت شركة بروتون املاليزية ‪-‬ومقرها‬
‫للبلدان الصناعية كالقصدير وزيت النخيل‬ ‫شاه علم عاصمة والية سالنغور‪ -‬بتصنيع أول‬
‫واملطاط والنفط والغاز الطبيعي‪.‬‬ ‫دفعة منها مطلع ثمانينيات القرن املاضي‪.‬‬
‫يقول الطيب «ساعد ماليزيا موقعها‬ ‫يقول عارف إن شركة بروتون تقدم تسهيالت‬

‫‪14‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫تعتبر ماليزيا من أنجح البلدان غير الغربية التي حققت نقلة اقتصادية نوعية ىلع‬
‫مدى القرن املاضي وكانت موردًا أساسيًا للمنتجات األولية للبلدان الصناعية كالقصدير‬
‫وزيت النخيل واملطاط والنفط والغاز الطبيعي‬

‫الهولندية‪ ،‬وقد سهلوا الطريق بذلك لبريطانيا‬ ‫اإلستراتيجي‪ ،‬تماما كما ساعد دار اإلحسان‬
‫من أجل توسيع سيطرتها يف شبه جزيرة‬ ‫ىلع وجه الخصوص يف نهضتها‪ ،‬فقد كان‬
‫املاليو أواخر القرن الثامن عشر‪.‬‬ ‫التجار العرب والهنود والصينيون يأتون إلى‬
‫كان االعتماد حينها ىلع القطاع الزراعي‬ ‫هذه الجزر املالوية بانتظام‪ ،‬لكونها ملتقى‬
‫بالدرجة األولى‪ ،‬واالستفادة من الثروة‬ ‫طرق التجارة البحرية من املحيط الهندي إلى‬
‫الطبيعية لسالنغور التي كانت غابات املطاط‬ ‫شرق آسيا‪.‬‬
‫والقصدير تغطيها بالكامل‪ .‬لكن بعد استقالل‬ ‫وكان البلد معروفا بتجارة الذهب والقصدير‬
‫البلد‪ ،‬غيرت ماليزيا من خطتها موجهة‬ ‫وريش الطيور والغابات العطرية‪ ،‬وكانت‬
‫اهتمامها نحو التعدين‪ ،‬وقد كانت الوالية أهم‬ ‫موانئها مركزا مهما لتنسيق التجارة املحلية‬
‫مراكز هذه الصناعة‪.‬‬ ‫والدولية ىلع حد سواء‪ ،‬ويعتبر ميناء كيالنغ‬
‫ومع بدايات سبعينيات القرن املاضي نجحت‬ ‫يف سيالنغور أقدمها ىلع اإلطالق‪ ،‬أما اليوم‬
‫والية سالنغور يف تصدير بعض السلع‬ ‫فتبلغ سبعة موانئ»‪.‬‬
‫الكهربائية واإللكترونية‪ ،‬وبفضل الحكومة‬ ‫ويشرح الطيب أن األمور تغيرت يف أواخر‬
‫التي أعطت دورًا مركزيا لالستثمار األجنبي‬ ‫القرن السادس عشر‪ ،‬حيث احتلت املنطقة‬
‫واملشاريع الخاصة والعمل من أجل زيادة‬ ‫من طرف البرتغاليين ثم شركة الهند‬

‫‪15‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫املشاركة‪ ،‬كان البلد يف غضون عقدين قد استوفى إلى حد كبير معايير بلد حديث التصنيع‪،‬‬
‫فقد بلغت نسبة الصادرات التي تتألف من سلع مصنعة ‪ %30‬مطلع التسعينيات‪ ،‬أما النسبة‬
‫اليوم فتكاد تصل إلى ‪.%90‬‬
‫شاه علم قد ال تشبه باقي املدن الصناعية يف كثير من مناطق العالم‪ ،‬إذ تتميز بطبيعة‬
‫خالبة‪ ،‬ومرافق هادئة لالستجمام‪ ،‬فضال عن مراكز تسوق ومدن مالهي‪ ،‬وأماكن عبادة‪،‬‬
‫ومتاحف ومنتجعات صحية‪ ،‬وهذا ما جعلها وجهة سياحية بامتياز‪ ،‬قبل أن تكون وجهة‬
‫للمستثمرين ومرفأ أمل للعمال‪ ،‬حيث استقبلت عام ‪ 2015‬وحده أكثر من سبعة ماليين سائح‬
‫من أصل ‪ 26‬مليونًا دخلوا البالد‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫انفجار تعليمي نوعي غيّر وجه‬


‫ماليزيا‬
‫رويترز‬

‫خطة وزير التعليم سنة ‪« ،1996‬تان سري‬


‫داتو وان» من أجل تطوير املدرسين ورفع‬ ‫إقبال بن نور الدين للذهاب‬ ‫يستعد‬
‫املستوى املعريف للطالب‪ ،‬وتمكينهم من‬ ‫إلى ثانوية «سيري هارماتاس» بالعاصمة‬
‫الوصول إلى مصادر التعلم املباشرة‪ ،‬وذلك‬ ‫كواالملبور‪ ،‬وهو مدرس لغة إنجليزية؛ أي أنه‬
‫أفاد مما يعرف هنا باملدارس الذكية أثناء‬
‫لتخريج جيل منتج ذي مهارات عالية‪.‬‬
‫تعليمه‪ ،‬وطبعا خضع لتدريب خاص بوسائل‬
‫وبالفعل‪ ،‬نجحت خطة الوزير تان سري‪ ،‬وإن‬ ‫التقنية والتكنولوجيا قبل أن يشرف ىلع‬
‫كانت يف بداياتها مقتصرة ىلع بضع مدارس‬ ‫تدريس تالميذه‪.‬‬
‫فقط‪ ،‬ففي سنة ‪ 1999‬كانت شبكة اإلنترنت‬
‫فال يسمح لخريجي كلية التعليم االلتحاق‬
‫تصل إلى أكثر من ‪ %90‬من املدارس‪ .‬والنتيجة‬
‫بوظائفهم بال تدريب خاص‪ ،‬يقوم قسم‬
‫ارتفاع عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة‬ ‫إعداد املعلمين يف وزارة التربية باإلشراف‬
‫إلى ‪ %93.8‬سنة ‪ 2000‬من جملة السكان‪ ،‬يف‬ ‫عليه يف كليات خاصة‪ ،‬وتتراوح مدة التدريب‬
‫حين كانت النسبة ال تتعدى ‪ %53‬عام ‪.1970‬‬ ‫بين سنتين وثالث سنوات‪ .‬تشمل برامج يف‬
‫ويرى إقبال أن استثمار التكنولوجيا يف‬ ‫اإلعداد الذاتي وهي تطبيق عملي بحت‪،‬‬
‫التعليم كان من أهم األسباب يف محاربة‬ ‫وأخرى يف علم النفس التربوي‪ ،‬وتكنولوجيا‬
‫األمية‪ ،‬ورفع مستوى الوعي‪ ،‬وااللتحاق بركب‬ ‫التدريس‪ ،‬وشؤون الخدمة العامة يف التعليم‪،‬‬
‫الدول املتقدمة‪« .‬الثورة الرقمية أحدثت‬ ‫باإلضافة للتدريب ىلع املواد الدراسية‪.‬‬
‫طفرة يف العالم‪ ،‬وقد كان من املفيد‬ ‫يقول إقبال إنهم تدربوا طيلة فصل دراسي‬
‫اعتمادها يف التعليم‪ ،‬فقد الحظنا إقبال‬ ‫كامل ىلع األنشطة التي ترافق البرنامج‬
‫الطلبة ىلع املناهج الدراسية‪ ،‬وسهولة‬ ‫الدراسي‪ ،‬وتعد جزءا هاما من برنامج تأهيل‬
‫تحصيلهم العلمي‪ ،‬وشغفهم باملعرفة»‪.‬‬ ‫«طلب منا املشاركة بفاعلية يف‬ ‫األساتذة ُ‬
‫ويضيف «أعتقد أنه علينا االستفادة ما أمكن‬ ‫تلك األنشطة‪ ،‬فهي معيار قدرتنا ىلع اإلدارة‬
‫من تقنيات ووسائل العصر الذي نعيش فيه‪،‬‬ ‫والتنظيم والتدريب والقيادة‪ ،‬التي يتوجب‬
‫إذ ال يمكننا االعتماد ىلع الكتب وحدها يف‬ ‫ىلع كل معلم منا أن تتوفر فيه بنسبة‬
‫القرن الحادي والعشرين‪ ،‬الذي أحدث فارقا‬ ‫عالية‪ ،‬قبل خوضه تجربة التدريس»‪.‬‬
‫شاسعا بالثورة الرقمية‪ ،‬وهذا ما يحدث شرخا‬ ‫وعن املدارس الذكية يقول إقبال إنها كانت‬

‫‪17‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫«العمل الفاعل والسريع»‪ ،‬كان هذا هو شعار وزارة التعليم املاليزية التي تتطلع‬
‫إلى أن تصبح البلد إحدى الدول املتقدمة يف التعليم سنة ‪2020‬‬

‫متخرجة يف قسم اللغة العربية ولغات‬ ‫كبيرا بين طالب العالم املتقدم وطالب الدول‬
‫الشرق األوسط بكلية اللغات واللسانيات‬ ‫غير النامية‪ ،‬فلغة التواصل بينهما مختلفة‪،‬‬
‫بجامعة ماليا‪ .‬تقول إن استعمال التكنولوجيا‬ ‫ناهيك عن حجم املعرفة»‪.‬‬
‫كان سببا يف تعلمها للغة بطريقة سريعة‪،‬‬
‫«العمل الفاعل والسريع»‪ ،‬كان هذا هو شعار‬
‫إذ إن طريقة تدريسهم تعتمد ىلع‬
‫وزارة التعليم املاليزية التي تتطلع إلى أن‬
‫التطبيقات والبرامج اإللكترونية‪ ،‬سواء داخل‬
‫الحصة أو يف مكتبات الجامعة‪ ،‬التي توفر‬ ‫تصبح البلد إحدى الدول املتقدمة يف‬
‫كتبها بنسخة إلكترونية منزلة ىلع حواسيب‬ ‫التعليم سنة ‪ .2020‬وذلك من خالل خطة‬
‫موصولة باإلنترنت‪.‬‬ ‫شاملة للنهوض بهذا القطاع‪ ،‬الذي كان أول‬
‫املهتمين به رئيس الوزراء األسبق مهاتير‬
‫يعاقب القانون املاليزي اآلباء الذين امتنعوا‬ ‫محمد‪ ،‬عندما قال «ازرع تعليما تحصد‬
‫عن إرسال أبنائهم إلى املدارس‪ ،‬فالتعليم‬ ‫اقتصادا»‪ ،‬يف وقت كانت فيه ماليزيا مجرد‬
‫هنا إجباري ومجاني‪ .‬يضمن للتلميذ امللتحق‬ ‫مستعمرة زراعية‪ ،‬استفاد الغزاة من خيراتها‬
‫نقله آليا للصف املوالي طيلة تسع سنوات‬
‫البشرية والطبيعية ىلع مر التاريخ‪ ،‬لكنها‬
‫من تعليمه‪ ،‬ست سنوات للمرحلة االبتدائية‪،‬‬
‫اليوم يف مقدمة دول جنوب شرق آسيا ىلع‬
‫وثالث سنوات للمرحلة الثانوية األولى‪،‬‬
‫املستوى االقتصادي‪ ،‬وال تتعدى فيها نسبة‬
‫حسب التسمية هنا‪ .‬وتقدم الحكومة لآلباء‬
‫األمية ‪.%2‬‬
‫قروضا بال فوائد لتمكينهم من إرسال بناتهم‬
‫‪-‬ىلع وجه الخصوص‪ -‬إلى املدارس وتوفير‬ ‫«نور العائشة بنت محمد البشير» طالبة‬

‫‪18‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫أسست جامعة املااليا كأول جامعة يف البالد‬ ‫مستلزمات املدرسة كما تمنح لألسر الفقيرة‬
‫سنة ‪ 1949‬يف سنغافورة حين كانت والية‬ ‫مساعدات مجانية‪.‬‬
‫ماليزية‪ ،‬قبل انفصالها سنة ‪ .1965‬وعنها‬ ‫وبالعودة إلى إحصاءات وزارة التعليم‪ ،‬فإن‬
‫يقول الطيب «هناك العشرات من الجامعات‬ ‫نسبة الفتيات يف املدارس االبتدائية‬
‫الحكومية وفروع للجامعات األجنبية‪ ،‬وتتبع‬ ‫والثانويات والجامعات عامة أىلع من نسبة‬
‫كل الجامعات املعايير العاملية يف التدريس‪،‬‬ ‫الذكور الذين ترتفع نسبتهم فقط يف‬
‫وتحديد التخصصات واملناهج الدراسية‪،‬‬ ‫املدارس الفنية‪.‬‬
‫وتشجيع الروابط بين الجامعات املحلية‬
‫والجامعات العاملية الشهيرة‪ ،‬الكتساب الخبرة‬ ‫يف كلية اللسانيات بالجامعة اإلسالمية‬
‫والتطوير»‪.‬‬ ‫العاملية‪ ،‬كان موعدي مع الدكتور «محمد‬
‫الطيب» يف مكتبه للحديث عن نهضة‬
‫ويف هذا الصدد يؤكد إقبال بن نور الدين أن‬ ‫التعليم التي عرفتها بالده يف العقود‬
‫وزارة التعليم تهدف من خالل تزويد مراكز‬ ‫األخيرة‪.‬‬
‫التعليم باألجهزة التقنية وإمدادها باإلنترنت‬
‫إلى صناعة جسر تواصل بين الطالب املاليزي‬ ‫فقال إن لغة التدريس األولى يف جميع‬
‫املؤسسات التعليمية الحكومية هي‬
‫والعالم من حوله‪ ،‬وأن عددا من البرامج تتم‬
‫«املاالوية»‪ ،‬وإنها ُتفرض ً‬
‫لغة للتعلم يف‬
‫باملراسلة مع طلبة أميركا وأستراليا‪ ،‬حيث‬
‫املدارس الخاصة‪ ،‬التابعة إما لألقليات‬
‫كان للدولتين األسبقية يف فكرة إنشاء‬
‫املوجودة هنا‪ ،‬التي تفضل تدريس املناهج‬
‫املدارس الذكية‪.‬‬
‫الحكومية للطلبة بلغاتها األم‪ ،‬أو للمدارس‬
‫ويقول الطيب عن تجربة دمج التكنولوجيا‬ ‫األجنبية «األمر ال يخص الجامعات واملعاهد‬
‫يف الفصول الدراسية فيقول «ال يمكنني‬ ‫الخاصة طبعا‪ ،‬فهي تعتمد ىلع اللغة‬
‫إنكار أنها ساهمت يف تسريع عملية التعلم‬ ‫اإلنجليزية يف التدريس‪ ،‬وأعتقد أن الهدف‬
‫لطلبة اللغة العربية‪ ،‬خصوصا يف مواد‬ ‫من فرض اللغة املاالوية كان توحيد أقليات‬
‫االستماع والتحدث‪ ،‬ففي السابق كنا نبذل‬ ‫مجتمعنا ىلع لغة وطنية واحدة‪ ،‬حتى تكون‬
‫جهودا مضاعفة يف سبيل ذلك‪ ،‬لكنها يف‬ ‫فرص التحاقهم بالتعليم العالي متكافئة»‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫يبلغ عدد جامعات ماليزيا الحكومية اليوم أربعين جامعة‪ ،‬وأربعين مثلها من‬
‫الجامعات الخاصة‪ ،‬و‪ 31‬كلية خاصة‪ ،‬باإلضافة إلى تسع جامعات أجنبية‬

‫أمام الطلبة الراغبين يف االنتساب املطور‪،‬‬ ‫الوقت نفسه قللت من التواصل بيننا وبين‬
‫إلى ‪ %70‬بحلول سنة ‪ .2025‬ما يعني مدارس‬ ‫طلبتنا بشكل كاف»‪.‬‬
‫ذكية وافتراضية يف الوقت نفسه‪.‬‬ ‫يبلغ عدد جامعات ماليزيا الحكومية اليوم‬
‫أربعين جامعة‪ ،‬وأربعين مثلها من الجامعات‬
‫العصر عصر السرعة‪ ،‬والتكيف معه أمر ضروري‪،‬‬
‫الخاصة‪ ،‬و‪ 31‬كلية خاصة‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫هكذا أنهى الطيب حديثنا املطول‪ ،‬وأوضح‬ ‫تسع جامعات أجنبية‪ .‬وهكذا يكون مجموع‬
‫ذلك بقوله «النتائج هي ما يهمنا يف‬ ‫مؤسسات التعليم العالي هنا ‪ 120‬مؤسسة‪،‬‬
‫النهاية‪ ،‬وهي إيجابية جدا‪ ،‬فعدد خريجي‬ ‫يف حين كان العدد ال يتجاوز ‪ 55‬جامعة حتى‬
‫الجامعات عام ‪ 2015‬ىلع سبيل املثال‬ ‫عام ‪.2000‬‬
‫كان مئتي ألف‪ ،‬وهذا رقم قياسي‪ ،‬مقارنة‬ ‫تطمح ماليزيا اليوم إلى أن تصل نسبة‬
‫بأعدادهم قبل حلول األلفية الثانية»‪.‬‬ ‫الجامعات التي توفر التعليم عن بعد كخيار‬

‫األستاذ إقبال مع طالبه يف رحلة مدرسية‬


‫‪20‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫املسجد األزرق‪ ..‬أيقونة تزاوج‬


‫الثقافات املعمارية‬

‫املستقلة ذات الحدائق الخلفية؛ ىلع‬


‫الشقق والسكن يف العمارات املزدحمة‪،‬‬ ‫من ثالث جهات ببحيرة جميلة‪،‬‬ ‫محاطًا‬
‫كما هو الحال يف كواالملبور‪ .‬وجاء مسجد‬ ‫يتربع أكبر مسجد يف ماليزيا‪ ،‬وواحد من‬
‫صالح الدين ليمثل أيقونة هذه العمارة‪،‬‬ ‫أجمل املساجد يف العالم‪ .‬مسجد صالح‬
‫بتصميمه الحديث‪ ،‬وموقعه الجغرايف‬ ‫الدين عبد العزيز‪ ،‬ىلع اسم حاكم والية‬
‫الطبيعي‪ ،‬حيث يطل ىلع هكتارات من‬ ‫سالنغور‪ ،‬وقد كان نفسه رئيس اللجنة التي‬
‫املساحات الخضراء تابعة لحديقة الفنون‬ ‫أشرفت ىلع بناء هذه املعلم الالفت‪.‬‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وكذا البحيرة‪.‬‬ ‫ىلع خالف املواقع التي يمكن زيارتها يف‬
‫تحقق حلم السلطان بالفعل‪ ،‬ففي أقل من‬ ‫الوالية‪ ،‬كان العثور ىلع موقف للسيارة‬
‫تم االنتهاء من أعمال ثاني أكبر‬
‫ست سنوات ّ‬ ‫أمرًا سهال‪ ،‬لكن كان علينا طبعًا زيارته ‪-‬أنا‬
‫مسجد يف جنوب شرق آسيا بعد مسجد‬ ‫واألختان كاميريا وسلمى بنت طالب‪ -‬يف‬
‫االستقالل يف العاصمة اإلندونيسية جاكرتا‪،‬‬ ‫يوم غير يوم الجمعة الذي يحتشد فيه‬
‫تعتليه أكبر قبة ملسجد يف العالم بعد‬ ‫املصلون باآلالف كما أكد لي الدكتور محمد‬
‫قبة مسجد «إديبالي» يف مدينة بورصة‬ ‫الطيب‪ ،‬ويصعب أن يجد املرء مكانًا له‪،‬‬
‫ال عن موقف لسيارته‪ ،‬رغم املساحة‬ ‫فض ً‬
‫التركية‪ ،‬وتنتصب ىلع أطرافه أىلع مآذن‬
‫يف العالم مجتمعة‪.‬‬ ‫الكبيرة للمسجد‪.‬‬

‫يقول الطيب «كان عمال هائال لم يسبق‬ ‫يخبرني الدكتور محمد الطيب ‪-‬وهو محاضر‬
‫للبالد أن شهدت مثله من قبل‪ ،‬وال أعني‬ ‫بكلية اللغة العربية يف جامعة الشرق‬
‫بذلك كبر مساحته‪ ،‬واألرقام القياسية التي‬ ‫األوسط املاليزية‪ -‬أن السلطان صالح الدين‬
‫سجلها يف موسوعة غينيس عن مجموعة‬ ‫عبد العزيز كان يطمح إلى بناء شيء مبهر‬
‫مآذنه وقبته‪ ،‬ولكن من الناحية العمرانية‬ ‫يميز والية سالنغور عن باقي واليات البالد‬
‫أيضا»‪ .‬ويضيف «عمارة املساجد هنا‪ ،‬تكاد‬ ‫الثماني‪ ،‬وذلك بعد استقاللها عن كواالملبور‬
‫تكون بال هوية محددة‪ ،‬فأحيانا ُيعتمد يف‬ ‫وإعالن مدينة شاه علم عاصمة لها عام ‪.1974‬‬
‫بناء املسجد الواحد ىلع طرز مختلفة‪ ،‬كما‬ ‫تشكل والية سالنغور نموذجا لتزاوج‬
‫هو الحال يف مسجد االستقالل مثال يف‬ ‫التقاليد بالحداثة‪ ،‬وتبدو العمارة إحدى أوجه‬
‫العاصمة»‪.‬‬ ‫هذا التزاوج‪ ،‬إذ ما زال الناس يفضلون املنازل‬

‫‪21‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫العمارة املاليزية اليوم مزيج يعكس ثقافات الشعوب التي تشكل البلد‪،‬‬
‫فاملسجد الجامع يف العاصمة ‪-‬الذي بني قبل أكثر من قرن‪ -‬نسخة مصغرة‬
‫لقباب تاج محل يف الهند‬

‫ويرى الطيب أنه تصعب نسبة العمارة‬ ‫ويواصل الطيب حديثه بالقول إن مسجد‬
‫املاليزية الحالية إلى العمارة التي عرفها‬ ‫«نيغارا» يف العاصمة صمم ىلع شاكلة‬
‫املاليو ‪-‬سكان البالد األوائل‪ -‬يف بيوتهم‬ ‫املساجد املغربية من الواجهات الداخلية‬
‫ومساجدهم‪ ،‬ولعل مسجد «ترغكانغو» الذي‬ ‫له‪ ،‬لكن تصميمه الخارجي من حيث األقواس‬
‫كان تابعا للسلطان زين العابدين الثاني أواخر‬ ‫والقباب كان ىلع النمط املغولي‪ .‬وكال‬
‫القرن السابع عشر؛ يعكس جانبًا منها‪ ،‬متمثال‬ ‫الطرازين أتى مع فترة االستعمار البريطاني‪،‬‬
‫يف بساطة أشكاله الهندسية ونوافذه‬ ‫حيث عرفت ماليزيا قفزة نوعية يف العمران‬
‫الكبيرة ولونه األبيض‪.‬‬ ‫أخرجتها من النمط املحلي التقليدي‬
‫ويف هذا الصدد يقول الدكتور الطيب‬ ‫وجعلتها أكثر انفتاحًا وتقبال ألشكال العمارة‬
‫«أعتقد أن العمارة املاليزية اليوم مزيج‬ ‫اإلسالمية املتنوعة‪.‬‬
‫يعكس ثقافات الشعوب التي تشكل البلد‪،‬‬ ‫ويبدو هذه القفزة العمرانية جلية يف مسجد‬
‫فاملسجد الجامع يف العاصمة ‪-‬الذي بني‬ ‫املنطقة االتحادية الذي شيد عام ‪2000‬‬
‫قبل أكثر من قرن‪ -‬نسخة مصغرة لقباب تاج‬ ‫ىلع الطراز العثماني‪ ،‬يف حين أن مسجد‬
‫محل يف الهند‪ ،‬ويعكس بالتالي تأثر الثقافة‬ ‫صالح الدين عبد العزيز ‪-‬أو املسجد األزرق‬
‫املالوية بقرينتها الهندية بسبب الهجرة‬ ‫كما بدأ يطلق عليه مؤخرًا من طرف السياح‬
‫الكبيرة التي عرفها سكان جنوب الهند إلينا‪،‬‬ ‫واألجانب‪ -‬كان نموذجًا للعمارة املالوية‬
‫ال املسجد العظيم فهو ىلع الطراز‬ ‫ولديك مث ً‬ ‫العصرية‪ ،‬القالب الذي أراد السلطان صالح‬
‫الصيني‪ ،‬وهكذا»‪.‬‬ ‫الدين أن تتفرد به واليته سالنغور‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫القفزة العمرانية جلية يف مسجد املنطقة االتحادية الذي شيد عام ‪2000‬‬
‫ىلع الطراز العثماني‪ ،‬يف حين أن مسجد صالح الدين عبد العزيز كان نموذجًا‬
‫للعمارة املالوية العصرية‬

‫القسم املخصص ألداء الصالة يف املسجد‪.‬‬ ‫تتخيل وأنت تقف أمام املسجد أن قبته‬
‫ال‪ ،‬تكتشف فضاء‬‫ففي الطابق األرضي مث ً‬ ‫الضخمة تساويه مساحة وتكبره ارتفاعا‪ ،‬أما‬
‫جديدا يكاد يكون مؤسسة تعليمية متكاملة‬ ‫مآذنه األربع فتختفي يف سماء شاه علم‬
‫بها مكتب إداري‪ ،‬وقاعة محاضرات‪ ،‬ومكتبة‬ ‫ترقب يوم مشمس‬ ‫ُ‬ ‫الضبابية‪ ،‬لهذا كان علينا‬
‫كبيرة مخصصة لكل الفئات العمرية‪ ،‬وقاعة‬ ‫لنتمكن من التقاط الصور‪.‬‬
‫للمؤتمرات‪ ،‬وأقسام مخصصة ألخذ الدروس‬ ‫األرضيات الرخامية‪ ،‬واألروقة الفسيحة‪،‬‬
‫الدينية‪ ،‬وهناك مكتب استقبال قرب بيت‬ ‫واألعمدة الشاهقة‪ ،‬واأللوان الهادئة‪ ،‬والزجاج‬
‫اإلمام ملن رغب يف لقائه‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫األزرق الذي يعكس ضوء الشمس بلطف‪،‬‬
‫املطعم الذي يرحب بضيوف اهلل ويوفر لهم‬ ‫والزرابي التي تغطي أرضية الطابق األول‬
‫وجبات محلية مجانا‪.‬‬ ‫املخصص للرجال‪ ،‬وكذا الطابق الثاني حيث‬
‫وقد أخبرتني األختان سلمى وكاميريا أن‬ ‫تصلي النساء‪ ..‬كل هذا لم يكن يشكل سوى‬

‫‪23‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫أول باب‪ ،‬وتسجل يف مكتب مخصص لهذا‬ ‫أنشطة أخرى تقام يف املسجد باملوازاة‬
‫الغرض‪ ،‬كما ُيمنع التجول يف املسجد‬ ‫كما هو الحال يف كل مساجد البالد‪ ،‬مثل‬
‫وأروقته والصاالت امللحقة بها‪ .‬لكن الالفت‬ ‫عقود الزواج‪ ،‬وموائد اإلفطار خالل شهر‬
‫للنظر هو تسامح القانون هنا مع التقاط‬ ‫رمضان الفضيل‪.‬‬
‫الصور‪ ،‬بل فوق ذلك توفر املساجد الكبرى يف‬ ‫ال يستطيع السياح غير املسلمين الدخول‬
‫البلد ‪-‬التي تبلغ عشرين مسجدًا‪ -‬ملرتاديها‬ ‫إلى مساجد ماليزيا‪ ،‬كما تمنع النساء غير‬
‫الوصول إلى الشبكة العنكبوتية مجانا‪.‬‬ ‫املحجبات من االقتراب‪ُ .‬تترك النعال عند‬

‫‪24‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫«ديبافالي» الهندوسي‪ ..‬انحسار‬


‫الطقس الديني أمام االحتفالي‬

‫التقليد الديني الهندوسي من مسحوق‬


‫الرز األبيض‪ ،‬لكن جيا تخبرني أن عادة‬ ‫اليوم مع «جيانتي تاميل‬ ‫سأذهب‬
‫الرسم بمسحوق الرز بدأت باالندثار هنا‪،‬‬ ‫سيلفام» املعروفة اختصارا بـ»جيا» إلى‬
‫وحل محل الرز الرسم بالرمل‪ ،‬أو بالنباتات‬ ‫القرية التي تقيم فيها أسرتها الكبيرة‬
‫املصنعة‪ ،‬وكذلك بمسحوق الدقيق أو الرز‬ ‫لالحتفال بعيد «ديبافالي»‪ ،‬إذ إن املكوث‬
‫امللون واملصنع‪ ،‬ومتوفر شراؤه يف كثير من‬ ‫يف كواالملبور غير مجد يف مناسبات دينية‬
‫املحالت التجارية‪.‬‬ ‫احتفالية كهذه‪.‬‬
‫ىلع أرضية البهو شرعت شانتولي ترسم‬ ‫تقول جيا ‪-‬من العرقية الهندية‪ -‬إنه يصعب‬
‫باملساحيق امللونة لوحتها‪ ،‬تقول إنها من‬ ‫عليها أن تستشعر أجواء العيد من دون ملة‬
‫األشكال املعروفة عندهم‪ ،‬وإنها تعلمتها عن‬ ‫العائلة الكبيرة ومباركة اآلباء واألجداد‪ .‬وعندما‬
‫والدتها‪ ،‬إذ إن النساء وحدهن املطالبات بالقيام‬ ‫سألتها عن أصوات األلعاب النارية التي لم‬
‫بهذا النوع من الرسم‪« .‬هناك أشكال معروفة‬ ‫تهدأ منذ أسبوع هنا ليال ونهارًا‪ ،‬قالت إنها‬
‫عندنا مستمدة من تراثنا الديني‪ ،‬كالطاووس‬ ‫ال تخص عيدهم فقط‪ ،‬بل هو رمز من رموز‬
‫والفيل وباقي الحيوانات‪ ،‬وكذلك الزهور‬ ‫االحتفال بأي عيد كان يف ماليزيا‪.‬‬
‫املقدسة‪ ،‬لكن بإمكاننا أن نبدع أشكالنا الخاصة‪،‬‬ ‫بعد اجتيازنا الباب الحديدي للمنزل الكبير‪،‬‬
‫إذ الغرض من هذا الرسم ىلع األرض هو جو‬ ‫كانت أخت جيا الكبرى «شانتولي»‪ ،‬أول من‬
‫البهجة والفرح الذي يمثله ديبافالي لنا»‪.‬‬ ‫استقبلنا‪ .‬كانت منشغلة بتحضير األدوات‬
‫استغرق األمر منها بضع ساعات لتنهي‬ ‫الالزمة من أجل «الرانغولي» الذي سترسمه‬
‫لوحتها الجميلة‪ ،‬قبل أن تقول إنه يجب‬ ‫قبل حلول يوم الغد‪ ،‬والذي يعد آخر أيام‬
‫االنتهاء من الرانغولي قبل صبيحة العيد‪ ،‬وإنه‬ ‫الديبافالي بالنسبة لألسر التي تحتفل به‬
‫ال يجوز رسمه سوى ىلع سطح األرض‪.‬‬ ‫طبقا للمعتقدات الهندوسية‪ ،‬لكن االحتفال‬
‫به أصبح مقتصرًا ىلع يوم وحيد بالنسبة‬
‫الديبافالي يوم واحد هنا بالنسبة للعاملين‪،‬‬
‫للغالبية العظمى من الهندوس هنا‪ ،‬كما‬
‫وأسبوع كامل لتالميذ املدارس وطالب‬
‫ُ‬
‫فهمت الحقا‪.‬‬
‫الجامعات‪ ،‬لكن األلعاب النارية واملفرقعات‬
‫وأصوات الطبول واملزامير تبدأ قبل ذلك‬ ‫وعن الرانغولي تقول جيا إنه مصطلح يطلق‬
‫بكثير‪.‬‬ ‫ىلع الرسومات األرضية التي تحضر يف‬

‫‪25‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫عيد ديبافالي هو للقاء األقارب‪ ،‬والذهاب للمعبد من أجل الصالة وتقديم القرابين‬
‫لألموات‪ ،‬واالستمتاع باملأكوالت الهندية التقليدية‪ .‬فاالحتفاالت الدينية هنا‬
‫خرجت عن مقصدها التعبدي‪ ،‬وأصبحت فرصة لصلة األرحام‬

‫هذا اليوم هو للقاء األقارب‪ ،‬والذهاب للمعبد‬ ‫جدة جايا السبعينية تستقبلنا عند الباب‬
‫من أجل الصالة وتقديم القرابين لألموات‪،‬‬ ‫وترش رؤوسنا بزيت السمسم‪ ،‬وتطلب منا‬
‫واالستمتاع باملأكوالت الهندية التقليدية‪.‬‬ ‫أن نغسل رؤوسنا بعد نصف ساعة‪ .‬سألت‬
‫حسب جيا‪ ،‬التي ترى أن االحتفاالت الدينية‬ ‫جايا عن هذا التقليد‪ ،‬فأخبرتني أنه قبل‬
‫هنا خرجت عن مقصدها التعبدي‪ ،‬وأصبحت‬ ‫سنوات كانت جدتها تضع ىلع رأسها عجينا‬
‫فرصة لصلة األرحام‪.‬‬ ‫يسمى «شيكاكاي» ‪-‬وهو عبارة عن مسحوق‬
‫وتواصل حديثها بالقول «عندما زرت مومباي‬ ‫مستخلص من نبات آكاسيا كونسينا واملاء‪-‬‬
‫قبل سنتين للقاء صديقي تفاجأت بالجو‬ ‫بدل الزيت كما هو التقليد الهندوسي املتبع‪،‬‬
‫الديني الصارم هناك‪ ،‬إذ كان االحتفال‬ ‫لكنها اليوم غير قادرة ىلع االلتزام بذلك‪.‬‬
‫بديبافالي ملدة سبعة أيام يف كل األماكن‪،‬‬ ‫وتضيف جايا «يصعب إزالة املسحوق‬
‫وكانت األمهات يمتنعن عن طبخ اللحوم‬ ‫وتنظيفه‪ ،‬نفضل الزيت والقليل منها ما‬
‫واألسماك طيلة أيام العيد‪ ،‬بينما يف بلدي‬ ‫أمكن‪ ،‬ويف التقليد الديني علينا أن نستحم‬
‫نقضي أيام األسبوع يف العمل ونضطر لألكل‬ ‫بزيت السمسم‪ ،‬لكن قليال من الهنود اليوم‬
‫خارجا يف املطاعم‪ ،‬وال نحس بأجواء العيد إال‬ ‫من يلتزم بعاداتنا وتقاليدنا‪ ،‬أعتقد أن عامل‬
‫إذا اجتمعت األسرة الكبيرة»‪.‬‬ ‫الوقت يلعب دورا‪ ،‬فطقوس عيدنا تستمر‬
‫تعمل جايا يف شركة أسفار يف العاصمة‬ ‫ألسبوع‪ ،‬بينما إجازتي مثال كانت ليوم واحد‬
‫كواالملبور‪ ،‬وتسكن وحدها‪ ،‬بينما عائلتها يف‬ ‫فقط»‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫تعد «موروكي» أشهر الوجبات الخفيفة التي تتوفر يف كل مكان أيام‬


‫ديبافالي‪ ،‬وهي عبارة عن عجين مشكل مقلي يف الزيت‪ ،‬يعتقد أتباع الديانة‬
‫الهندوسية أنها رمز للكرم والسخاء‬

‫يقول أحد الباعة يف الهند الصغيرة «يقبل‬ ‫والية «جهور باهرو» القريبة من سنغافورة‪،‬‬
‫ىلع منتجاتنا قبيل االحتفاالت الدينية‬ ‫وتقول إن معظم العائالت الهندوسية يف‬
‫والوطنية الكثير من الزبائن‪ ،‬فبضاعتنا‬ ‫الواليات البعيدة‪ ،‬يعمل أبناؤهم يف العاصمة‬
‫نستوردها من الهند كالتوابل واملجوهرات‬ ‫أو قريبا منها‪ ،‬وترى أن هذا من األسباب التي‬
‫واملالبس التقليدية‪ ،‬أشعر أننا نلبي حاجة‬ ‫جعلت التمسك بطقوس األعياد الدينية أمرا‬
‫الهنود بالخصوص وإن كان غيرهم يقبل ىلع‬ ‫صعبا‪.‬‬
‫محالتنا أيضا»‪.‬‬
‫لكن الصورة تختلف كثيرا يف حي «الهند‬
‫تعد «موروكي» أشهر الوجبات الخفيفة التي‬ ‫الصغيرة»‪ ،‬الذي يتميز بأسواقه ومحالته‬
‫تتوفر يف كل مكان أيام ديبافالي‪ ،‬وهي عبارة‬ ‫ومطاعمه الهندية األصيلة‪ .‬فقبل أسبوع‬
‫عن عجين مشكل مقلي يف الزيت‪ ،‬يعتقد أتباع‬ ‫الديبافالي تبدأ االستعدادات فيه‪ ،‬من خالل‬
‫الديانة الهندوسية أنها رمز للكرم والسخاء‪.‬‬ ‫تزيينه باملصابيح ذات األلوان الدافئة‪،‬‬
‫يف عشية يوم االحتفال‪ ،‬كانت العائلة‬ ‫والشرائط الحريرية املعلقة‪ ،‬ولوحات‬
‫مجتمعة ىلع سفرة هندية أصيلة‪ ،‬رغائف‬ ‫البانغولي التي توجد عند مدخل كل متجر‬
‫الدوسا املقرمشة‪ ،‬املعدة من دقيق العدس‬ ‫تقترب منه‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫بديبافالي بين الرهبان وبقية أتباع الديانة‬ ‫األسود‪ ،‬ولحم الضأن املتبل بالكاري‪ ،‬وطبعا‬
‫من املؤمنين‪ ،‬فأخبرتني أن «القرابين يقدمها‬ ‫البرياني بالخضار والزعفران والفواكه الجافة‪.‬‬
‫املصلون‪ ،‬وهي يف التقليد فواكه وحليب‬
‫جوز الهند‪ ،‬أما نحن فنقوم بخدمة التنظيف‬ ‫كانت النساء يرتدين لباس الساري والشلوار‬
‫التي تسبق أسبوع االحتفال‪ ،‬ونزين معابدنا‬ ‫البنجابي‪ ،‬وعنه تقول جايا إن الهنود هنا‬
‫بالزهور واملصابيح امللونة»‪.‬‬ ‫يرتدون اللباس الهندي التقليدي بغض النظر‬
‫عن اإلثنية التي يمثلها‪ ،‬فهم ينتسبون إلى‬
‫يف صباح اليوم املوالي استيقظت ىلع‬ ‫الهند بكل تنوعها‪ .‬وقبل أن يجلس الجدان‬
‫أصوات األلعاب النارية بعدما اعتقدت أن‬ ‫ويأذنا لنا بتناول الطعام‪ ،‬كانت الجدة «كانامي‬
‫ضجيجها سينتهي بانتهاء االحتفال‪ .‬قال لي‬ ‫رامو» قد قدمت الطعام لجاراتها‪ ،‬وعلمت فيما‬
‫األصدقاء إن مناطق كثيرة يف ماليزيا تستمر‬ ‫بعد أن هذا أحد طقوس االحتفال‪ ،‬وإن كان‬
‫يف احتفاالتها طيلة السنة‪ ،‬إذ يجد الشباب‬ ‫قد استحال إلى عادة تتكرر عند كل العرقيات‬
‫العاطل واملراهقون متعة يف ممارسة بعض‬ ‫هنا أثناء احتفاالتها الخاصة‪ ،‬أو حتى يف‬
‫الفوضى‪ ،‬التي ال يستنكرها أحد‪.‬‬ ‫املناسبات الوطنية‪.‬‬
‫خارج البيت‪ ،‬كان الشارع مكسوا باللون الوردي‪،‬‬ ‫إحدى راهبات معبد «سري مهاميريامان»‬
‫شاهدا ىلع ضجة ديبافالي مهما قالت عنه‬ ‫القريب من «الحي الصيني» هنا‪ ،‬سألتها‬
‫صديقتي جايا‪ ،‬إنه احتفال هادئ وبسيط‪.‬‬ ‫عن مظاهر االختالف يف طريقة االحتفال‬

‫‪28‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫العالجات التقليدية‪ ..‬ثقافات‬


‫الشرق تجتمع بماليزيا‬

‫الباهظة‪ ،‬كما أنه يوجد أكثر من عشر جامعات‬


‫متخصصة يف الطب البديل‪.‬‬ ‫القصة الرائجة هنا إن سكان الجزر‬ ‫تقول‬
‫األصليين «شعب املااليو»‪ ،‬كما يطلق عليهم‪،‬‬
‫بالعودة للحكاية‪ ،‬نجد أنه قبل قرنين من‬ ‫طوروا أساليب يف العالج من أمراض عدة‪،‬‬
‫الزمن وصل إلى ماليزيا رهبان من جزيرة‬ ‫مستفيدين بدرجة أساسية من خيرات الحزام‬
‫«هينانان» جنوبي الصين‪ ،‬اختاروا أكثر‬ ‫األخضر‪ ،‬الذي كان يغطي كل مساحة ماليزيا‬
‫التالل ارتفاعًا يف منطقة «جالن كالن ملا»‬ ‫تقريبًا‪ ،‬وبدرجة أقل من خالل التجار القادمين‬
‫بالعاصمة كواالملبور‪ ،‬وبنوا عليها أكبر معبد‬
‫من إندونيسيا والهند والصين والشرق‬
‫يف دول جنوب شرق آسيا‪ ،‬وهو أقدمها‬
‫األوسط‪.‬‬
‫وأكثرها شهرة إلى اليوم‪.‬‬
‫وألن االعتماد كان ىلع ما توفره الطبيعة‪،‬‬
‫خصص الرهبان الهينانيون املعبد يف البداية‬
‫فقد استعمل شعب املااليو نباتات متنوعة‬
‫إللهة البحر «ميزو»‪ ،‬التي وفقتهم لعبور البحر‬
‫الصيني بأمان‪ ،‬وهو البحر الفاصل بين ماليزيا‬ ‫يف العالج‪ ،‬أهمها «كيمبانغ باغي» للمشاكل‬
‫والصين‪ .‬لكن مع مرور الوقت أصبح للمعبد‬ ‫الجلدية‪ ،‬وهو نوع من نبتة «اليربا» غير‬
‫مكان آللهة أخرى‪ ،‬وزوار من أتباع مذاهب‬ ‫املوجودة يف الوطن العربي‪ ،‬ونبتة «بونغا‬
‫ال عن خدمات وأنشطة‬ ‫وديانات أخرى أيضًا‪ ،‬فض ً‬ ‫تاهي آيام»‪ ،‬وهو نوع من املخمليات الذي‬
‫ال تستقطب بالضرورة فئة املتدينين‪.‬‬ ‫يستعمل ملعالجة الدوران‪ ،‬ونباتات أخرى مثل‬
‫«ماس كوتيك» و»سيرابات أنغين» و»تيلينكا‬
‫بعد رحلة نصف ساعة بالسيارة من «جايا‬ ‫بيروغ»‪ ،‬التي ال تزال تستخدم إلى اليوم من‬
‫ُ‬
‫وصلت إلى معبد «ثيان‬ ‫ُ‬
‫حيث أقيم‪،‬‬ ‫أنغاسانا»‬ ‫قبل املعالجين التقليديين املاالويين‪.‬‬
‫هوو» ألتعرف ىلع العالجات البديلة التي‬
‫كنت قد قرأت ىلع مواقع إلكترونية‬ ‫يقدمها‪ُ .‬‬ ‫يف غابات ماليزيا التي باتت تشكل نصف‬
‫عن وجود حديقة لألعشاب الصينية‬ ‫مساحة البلد فقط‪ ،‬يوجد اليوم أكثر من‬
‫ُ‬
‫فقررت أن أبدأ بها‬ ‫العالجية داخل املعبد‪،‬‬ ‫‪ 1200‬نبتة من أصل ‪ 12‬ألفا ُيعتقد أنها‬
‫زيارتي‪ .‬لكن تفاجأت باملساحة الصغيرة‬ ‫صالحة لالستعمال الطبي‪ .‬تحاول كثير من‬
‫لها‪ ،‬مقارنة باملساحة املخصصة للمتاجر‬ ‫مراكز العالج التكميلي هنا الترويج لها‪ ،‬وإن‬
‫يف الطابق األرضي للمعبد واملطعم الكبير‬ ‫كانت الدراسات ال تزال تجرى يف املختبرات‬
‫وقاعة عقد القران‪.‬‬ ‫الرسمية‪ ،‬أو متوقفة بسبب التكاليف‬

‫‪29‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫يف غابات ماليزيا التي باتت تشكل نصف مساحة البلد فقط‪ ،‬يوجد اليوم‬
‫أكثر من ‪ 1200‬نبتة من أصل ‪ 12‬ألفا ُيعتقد أنها صالحة لالستعمال الطبي‬

‫أشغال ترميم وتماثيل آلهة جديدة بانتظار أن‬ ‫ُ‬


‫استفسرت عن األمر فقيل لي إنهم قاموا‬
‫تصبغ وتزين لتنقل إلى تلك القاعات السرية‪.‬‬ ‫مؤخرًا بزيادة عدد محالت التسوق يف‬
‫الطابق األرضي‪ .‬جزء ال بأس به منها يعرض‬
‫ال يوجد دليل سياحي داخل ثيان هوو‪ ،‬لكن‬
‫منتجات صينية تقليدية للعالج‪ ،‬وشرحوا لي‬
‫ىلع يمين ويسار قاعة الصالة توجد مكاتب‬
‫أن غالبية السياح يقبل ىلع هذه املنتجات‬
‫مخصصة يف األصل لجمع أموال املحسنين‪،‬‬
‫الطبيعية والجاهزة لالستعمال أكثر من‬
‫أو تسجيل أسماء الراغبين يف تأدية صلوات‬
‫ُ‬ ‫األعشاب الورقية‪ ،‬التي تحتاج لكثير من‬
‫وجدت فيها‬ ‫خاصة‪ ،‬لكني كأي عابرة من هنا‪،‬‬
‫العناية واملعرفة من طرف املستهلك‪.‬‬
‫ضالتي لطلب بعض التوضيحات‪.‬‬
‫رغبت يف صعود الطابق األىلع لزيارة‬‫ُ‬ ‫عندما‬
‫تحكي لي املوظفة باملكتب أن املعبد‬
‫ُ‬
‫قاعات الصالة‪ ،‬تفاجأت مرة أخرى أن قاعة‬
‫كان له دور كبير يف نقل التداوي باألعشاب‬ ‫ٌ‬
‫متاحة للمؤمنين‬ ‫واحدة فقط بالطابق الرابع‬
‫الصينية للشعب املاالوي‪ ،‬وتقول إن «الطب‬
‫والزوار ىلع حد السواء‪ .‬أما باقي املساحة‬
‫الصيني عمومًا كان له السبق يف اكتشاف‬
‫فهي مخصصة للرهبان والكهنة والطالب‬
‫الكثير من األساليب العالجية‪ ،‬وأنه قد أثر‬
‫الناسكين واملشرفين ىلع املكان‪ .‬وهي‬
‫ىلع الطب الشرقي بفضل توسعه وانتشاره»‪.‬‬
‫أماكن مقدسة جدًا ُتفتح أبوابها يف األعياد‬
‫وتضيف «نعتمد هنا ىلع النباتات الصينية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الحظت‬ ‫الدينية فقط لعموم الناس‪ .‬وقد‬
‫مثل القتاد أو األستراغالوس الذي يقوي الجهاز‬ ‫أتجول يف الباحة الخلفية للمعبد‬‫ّ‬ ‫الحقًا وأنا‬

‫‪30‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫هناك عالجات شعبية أخرى تنتشر يف ماليزيا‪ ،‬مثل الحجامة‪ ،‬ولسعات النحل‪،‬‬
‫والوخز باإلبر الصينية‪ .‬ومراكز صحية تعالج بأسلوب «الباتشاكرما» و»السلكيام»‬

‫ورغم أن الطب التقليدي هنا يخضع للرقابة‪،‬‬ ‫املناعي ويحسن من األداء البدني‪ ،‬وكذلك‬
‫إذ يتعين ىلع كل معالج أن يحصل ىلع‬ ‫نبتة توت الكوجي التي يقبل عليها كبار‬
‫إذن من وزارة الصحة قبل ممارسة مهنته‪،‬‬ ‫السن‪ ،‬فهي تحفز الديستوماز الفائق املعروف‬
‫فإن محالت بيع األعشاب‪ ،‬ومراكز التدليك‪،‬‬ ‫بأنزيم الشباب»‪.‬‬
‫واملعابد التي تقوم باستقبال الراغبين‬ ‫وتؤكد «لدينا أيضًا ثمر الشزندرة‪ ،‬الذي يكفي‬
‫يف تجربة العالجات الشعبية‪ ،‬ال تخضع ألي‬ ‫أكله ملئة يوم إلعادة الجسم إلى حالة توازنه‪،‬‬
‫مساءلة قانونية‪.‬‬ ‫ونحن ننصح به مرضى الكبد خصوصًا‪ .‬يقبل‬
‫كما أن هناك عالجات شعبية أخرى تنتشر‬ ‫علينا الرجال الراغبون يف زيادة خصوبتهم‪،‬‬
‫يف أنحاء البلد‪ ،‬مثل الحجامة‪ ،‬ولسعات‬ ‫لنقدم لهم نباتًا يدعى هيشو هوو‪ .‬أما‬
‫النحل‪ ،‬والوخز باإلبر الصينية‪ .‬ومراكز صحية‬ ‫السياح األجانب فيرغبون عادة يف املنتجات‬
‫تعالج بأسلوب «الباتشاكرما» و»السلكيام»‪،‬‬ ‫التجميلية الطبيعية‪ ،‬فيما يقبل املواطنون‬
‫وهي طرق يعتمد عليها الطب الهندي‬ ‫املحليون ىلع األعشاب بغرض االستطباب»‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫مع االحتالل الياباني منتصف أربعينيات القرن‬ ‫الشعبي‪ ،‬كما أن هناك مراكز للعالج‬
‫املاضي‪ ،‬أما العالج باإلبر والتأمل واألعشاب‬ ‫«بالشياتسو»‪ ،‬وهو أسلوب ياباني تقليدي‬
‫فكان مع وصول الصينيين واستقرارهم بشكل‬ ‫يدعي أنه يعالج كل أمراض الجسد باللمس‪.‬‬
‫نهائي هنا قبل قرن من الزمن ىلع األقل‪.‬‬ ‫إيمي كوان سيدة ثمانينية تعالج بلسعات‬
‫إيمي كوان التي تعلمت العالج بلسعات‬ ‫ُ‬
‫انتقلت مؤخرًا لإلقامة معها يف‬ ‫النحل‪،‬‬
‫النحل باملمارسة‪ ،‬تعترف بأنه لم يعد سه ً‬
‫ال‬ ‫منزلها بالعاصمة كواالملبور‪ .‬تخبرني أن تنوع‬
‫عليها كسب املال من خالل عملها التقليدي‬ ‫طرق العالجات الشعبية هو نتيجة للتحوالت‬
‫كما يف السابق‪ .‬ويرجع السبب إلى احتكار‬ ‫التاريخية التي عرفتها البالد‪ .‬فالعالجات‬
‫عيادات الطب التكميلي للسوق يف العقد‬ ‫األيروفيدية أتت مع وصول شعوب الهند‬
‫األخير‪ ،‬خصوصًا من طرف السياح‪.‬‬ ‫الجنوبية‪ ،‬والعالج باليدين أو الشياتسو جاء‬

‫‪32‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫األسواق الليلية‪ ..‬مالذ الفقراء‬


‫والدخل املرتفع‬

‫تخبرني إيمي أن األسواق الليلية يف‬


‫كواالملبور وحدها عشرون سوقا من هذا‬ ‫شهر من التجول يف شوارع ماليزيا‪،‬‬ ‫بعد‬
‫النوع‪ .‬كما أن أسواقا ليلية كثيرة تنتشر يف‬ ‫ومعاناتي من مشاكل يف معدتي حتى لم‬
‫باقي الواليات‪ .‬وقالت إن أسواق العاصمة‬ ‫أعد أقوى ىلع أكل شيء غير وجبة الشوفان‪،‬‬
‫تغلق أبوابها منتصف الليل عادة‪ ،‬وتفتح مرة‬ ‫اقترحت علي «إيمي وان» (‪ 74‬عاما)‪ ،‬التي‬
‫كل أسبوع‪ .‬بينما أسواق يف واليات أخرى‬ ‫أقيم منذ فترة معها يف حي «أنغاسانا»‪،‬‬
‫تعمل طيلة أيام األسبوع‪ ،‬وإلى غاية ساعات‬ ‫وهي ماليزية من أصول صينية تدرس اليوغا‪،‬‬
‫الصباح األولى‪ .‬آبتاون الذي أتينا إليه‪ ،‬كان‬ ‫أن تأخذني إلى آبتاون‪ .‬أحد األسواق الليلية‬
‫واحدا من بينهم‪.‬‬ ‫الشهيرة يف مدينة «شاه علم» عاصمة‬
‫والية «سيالنغور» املتاخمة للعاصمة‪ ،‬لشراء‬
‫سألت إيمي عن سبب هذا التباين‪ ،‬خصوصا‬ ‫ُ‬
‫أعشاب تنظف املعدة‪ ،‬وأقنعتني أنه قد حان‬
‫أن العاصمة هي أكثر املدن حيوية‪ ،‬فقالت‬ ‫الوقت ألبدأ نظاما غذائيا نباتيا‪.‬‬
‫إن خيارات التسوق يف العاصمة كثيرة‬
‫متنوعة‪ ،‬وتغطي كل أحيائها‪ .‬بينما يف‬ ‫كان علينا االنتظار حتى الساعة العاشرة ليال‪،‬‬
‫شاه علم مثال التي تقيم فيها أكبر نسبة‬ ‫موعد فتح السوق الليلي أبوابه‪ .‬أخبرتني‬
‫من العمالة‪ ،‬فإن األسواق الليلية تعد أحد‬ ‫إيمي أن أنتبه لحقيبة الظهر‪ ،‬ألن بعضا من‬
‫الخيارات املحدودة أمام هذه الشريحة من‬ ‫مرتادي السوق متسكعون ومتسولون‪ ،‬فضال‬
‫املجتمع «العمال يعملون بدوام كلي يف‬ ‫عن اكتظاظه الشديد يوم ذهابنا‪ ،‬وقد كان‬
‫املصانع عادة‪ ،‬ولهذا يصعب عليهم توفير‬ ‫يوم نهاية األسبوع‪.‬‬
‫احتياجاتهم من الشراء خالل اليوم‪ ،‬فضال‬ ‫بمشقة بالغة وجدنا مكانا إليقاف السيارة‬
‫عن رغبتهم يف الترويح عن النفس بأقل‬ ‫قريبا من السوق‪ ،‬كان مختلفا عما شاهدته‬
‫املصاريف‪ ،‬ما أمكن»‪.‬‬ ‫يف كمبوديا‪ ،‬أو ربما أكثر تطورا‪ .‬إذ لم‬
‫لفت انتباهي ونحن نتجول يف أروقة السوق‬ ‫يكن مجرد خيمات مفتوحة لعرض السلع‬
‫تنوع البائعين‪ ،‬من حيث العرقية والجنس‬ ‫والبضائع‪ ،‬بل متاجر ودكاكين ومحالت‬
‫أيضا‪ ،‬لكن أغلب السلع كانت صينية‪ ،‬حتى‬ ‫مسقوفة‪ ،‬تتوسطها ساحة مربعة الشكل‬
‫تلك التي يستعملها املسلمون دون غيرهم‬ ‫لفرقة موسيقية محلية‪ ،‬ظلت تغني حتى‬
‫مثل «الصارون» أو اإلزار‪ ،‬وكذلك أغطية الرأس‬ ‫الساعة الثالثة صباحا‪ ،‬موعد إغالق السوق‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫ال تفرض الحكومة املاليزية إلى اليوم أي ضرائب ىلع الباعة يف هذه‬
‫األسواق‪ ،‬لهذا فإنها تعد فرصة ثمينة ألبناء الطبقة الكادحة والعاطلين‬
‫عن العمل‪ ،‬لفتح مشاريعهم الخاصة برأس مال زهيد جدا‬

‫فأجابتني «األمر ليس بتلك البساطة‪ ،‬فالتجارة‬ ‫للنساء‪ ،‬والسبحة والسجاد‪ .‬باإلضافة إلى‬
‫تتطلب كثيرا من الصبر‪ .‬صديقتي مثال‪،‬‬ ‫املالبس املاالوية التقليدية‪ ،‬مثل «الباجو‬
‫لم يكن لديها خيار آخر غير البدء يف هذا‬ ‫كورونغ»‪ ،‬وهو فستان تقليدي من قطعتين‪،‬‬
‫املشروع‪ ،‬وقد تطلب األمر منها بضع سنوات‬ ‫ترتديه املسلمات املاالويات‪.‬‬
‫لتصل إلى وضع مالي مريح»‪.‬‬ ‫تنتشر يف هذا السوق الليلي بشكل أساسي‬
‫ال تفرض الحكومة املاليزية إلى اليوم أي‬ ‫املطاعم الشعبية‪ ،‬التي تقدم األكل املاليزي‬
‫ضرائب ىلع الباعة يف هذه األسواق‪ ،‬لهذا‬ ‫بأثمنة مناسبة‪ ،‬إذ يمكنك الحصول ىلع‬
‫فإنها تعد فرصة ثمينة ألبناء الطبقة الكادحة‬ ‫وجبة دسمة بأقل من دوالرين‪ ،‬كما أن هناك‬
‫والعاطلين عن العمل‪ ،‬لفتح مشاريعهم‬ ‫عربات متنقلة لبيع املشروبات املثلجة بربع‬
‫الخاصة برأس مال زهيد جدا‪.‬‬ ‫دوالر فقط‪.‬‬
‫ورغم محاولة ماليزيا‪ ،‬منذ استقاللها‪ ،‬االعتماد‬ ‫تعرفني إيمي ىلع صديقة لها تبيع‬
‫ىلع القطاع العام يف خطة للحد من نسبة‬ ‫الحلويات املنزلية منذ خمس سنوات يف‬
‫البطالة‪ ،‬ال يزال القطاع الخاص يشكل أكثر من‬ ‫هذا السوق‪ ،‬وتقول إن باستطاعتها أن تدخل‬
‫‪ %11‬من سوق العمل‪ %55 ،‬منهم ىلع األقل‪،‬‬ ‫أكثر من ‪ 5000‬دوالر شهريا‪ .‬سألتها إن كانت‬
‫يعملون لحسابهم الشخصي‪ ،‬ويشكل باعة‬ ‫قد فكرت يف ترك تدريس اليوغا واالنتقال‬
‫الطعام املتنقلون وحدهم أكثر من ‪ .%20‬جزء‬ ‫إلى العمل يف إحدى األسواق الليلية‬

‫‪34‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫تنتشر يف السوق الليلي بشكل أساسي املطاعم الشعبية‪ ،‬التي تقدم‬


‫األكل املاليزي بأثمنة مناسبة‪ ،‬إذ يمكنك الحصول ىلع وجبة دسمة بأقل‬
‫من دوالرين‬

‫بالليل‪ .‬إضافة إلى التنافس الشديد‪« ،‬الناس‬ ‫كبير منهم يستغل األسواق الليلية من أجل‬
‫تفضل أن تتسوق بالليل‪ ،‬ألن الطقس ال يكون‬ ‫دخل أساسي أو إضايف‪.‬‬
‫مساعدا خالل النهار‪ ،‬وهناك عشرة باعة‬ ‫لين هوي‪ ،‬يبيع سمكا طازجا هنا‪ .‬ويقول‬
‫سمك غيري ىلع األقل يف تشو كيت ماركت‪،‬‬ ‫إنه يعمل يف تشو كيت ماركت يف اليوم‬
‫بينما يحصل أن أكون وحدي بآبتاون»‪.‬‬ ‫بالعاصمة‪ ،‬وبعد الخامسة مساء يعود للبيت‬
‫سألت إيمي عن قصة األسواق الليلية يف‬ ‫وينام‪ ،‬ثم يأتي بسيارته إلى سوق آبتاون‬
‫ماليزيا‪ ،‬فأخبرتني أن التجار الصينيين الذين‬ ‫الليلي‪ ،‬بعد منتصف الليل‪ .‬وعندما سألته عن‬
‫استقروا بتايلند وكمبوديا وتايوان وماليزيا‪،‬‬ ‫نسبة ما يربحه خالل سويعات عمله يف‬
‫هم أول من سن التسوق الليلي‪ .‬وشرحت لي‬ ‫السوق الليلي‪ ،‬فاجأني بأن نسبة ما يجنيه‬
‫كيف أن هؤالء التجار كانوا يف حقيقة األمر‬ ‫هنا أكثر بضعفين ىلع األقل عما يحصل‬
‫مجرد هاربين من العقوبات التي كانت تفرض‬ ‫عليه خالل عمله ليوم كامل يف كواالملبور‪،‬‬
‫عليهم يف الصين‪ ،‬بسبب أنشطتهم التجارية‬ ‫وأن ذلك يرجع لقلة الزبائن نهارًا‪ ،‬مقارنة‬

‫‪35‬‬
‫ملف العدد ‪ -‬ماليزيا واحدة‬

‫الروتي الشعبي اللذيذ‪ ،‬مثلي مثل كثير من‬ ‫الليلية غير الرسمية‪ .‬إذ إن األسواق الليلية‬
‫املاليزيين الذين يرتادون األسواق الليلية‪،‬‬ ‫يف الصين كانت تتركز يف الضواحي البعيدة‬
‫ما أمكن عن أعين السلطة‪ ،‬كما أن جزء كبيرا‬
‫فقط من أجل األطعمة اللذيذة وغير املكلفة‪.‬‬
‫من اقتصادها كان قائما ىلع الدعارة‪.‬‬
‫إذ إن الذهاب ليال رفقة األصدقاء والعائلة من‬
‫أكثر من األعشاب التي ذهبت إلى آبتاون‬
‫أجل األكل يعد مناسبة رائعة بعد يوم شاق‬ ‫من أجل اقتنائها‪ ،‬استمتعت بأكل رغيف‬
‫من العمل يف مدن ال تتوقف عن العمل‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫تقاريـر منوعــة‬

‫حدت ىلع االستعمار بـ «ال ُب َ‬


‫لغة» السوداء‬ ‫العرائش‪ّ ..‬‬

‫أكياس اإلسمنت لوحات فنية يف أصيلة املغربية‬

‫جمهورية الشيخة حسينة‪ ..‬أرض الخصب والفقر والعسكر‬

‫التايمز‪ ..‬ذلك «األرشيف السائل”‬

‫‪37‬‬
‫حدت ىلع االستعمار‬
‫العرائش‪ّ ..‬‬
‫بـ «ال ُب َ‬
‫لغة» السوداء‬

‫املغرب يف القرن الـعشرين‪.‬‬


‫كان ميناؤها القديم ىلع نهر اللوكوس‬
‫طريقا رئيسيا لتجارة الذهب وامللح‪ ،‬يربط بين‬ ‫وصال الشيخ–العرائش (املغرب)‬
‫جنوب الصحراء بأوروبا‪ ،‬خاصة إسبانيا التي‬
‫احتاجت القتصاد قوي لدعم مستعمراتها‬
‫يف أميركا الالتينية‪ ،‬وقامت من أجله معارك‬ ‫زار األسير العاشق جان جينيه‬ ‫عندما‬
‫طاحنة قتل فيها اآلالف‪ ،‬وال يزال هذا امليناء‬ ‫مدينة العرائش املغربية كان يقف متأمال‬
‫الفريد قائما‪ ،‬وتساق إليه املراكب الصدئة‬ ‫املحيط األطلسي من مقبرة الجنود اإلسبان‪،‬‬
‫واملعطلة للتصليح‪.‬‬ ‫فاختار أن يبني منزال لصديقه محمد‬
‫تبدو املدينة بمالمح باهتة‪ ،‬ذابلة‪ ،‬لكن‬ ‫القطراني ىلع مقربة منها‪ ،‬وبعد إصابته‬
‫جماال قويا حاضرا فيها‪ .‬عندما يهبط الزائر‬ ‫بسرطان الحنجرة أوصى أن يرتاح بالعرائش‬
‫بد أن يم ّر‬
‫بمحطة سيارة األجرة الرئيسية‪ ،‬ال ّ‬ ‫ويدفن فيه غريبا عن فرنسا‪.‬‬
‫بمسار تغيرت مالمحه وأسماؤه بعد استقالل‬ ‫ترك يف العرائش منزال ومكتبة‪ ،‬وقبرا دون‬
‫مالمح وال عالمات‪ .‬وىلع أهمية طنجة التي‬
‫املغرب‪.‬‬
‫زارها وقابل فيها محمد شكري‪ ،‬فإ ّنه ّ‬
‫فضل‬
‫بداية مع شارع «الحسن الثاني» أو‬ ‫املدينة الوادعة املطلة ىلع نهر قديم‬
‫«كاناليخاس مينديس»؛ وهو شارع رئيسي‬ ‫يصب يف‬‫ّ‬ ‫وأسطوري‪ ،‬نهر اللوكوس الذي‬
‫وحيوي أحدثته إسبانيا عام ‪ ،1911‬وبنوا مساكن‬
‫ّ‬ ‫املحيط األطلسي «بحر الظلمات»‪.‬‬
‫املوريسكي أو‬
‫ّ‬ ‫ىلع جانبيه وفق النمط‬ ‫يعيش يف العرائش نحو ‪ 125‬ألف نسمة‬
‫«العربي الجديد» للمهندسين العسكريين‬ ‫وفق إحصائيات عام ‪ ،2014‬بعد هجرة‬
‫اإلسبان‪ ،‬الذين أقاموا باملدينة عام ‪،1914‬‬ ‫الكثيرين نحو بريطانيا وبلجيكا أو طنجة‬
‫واحتوى ىلع مقا ٍه وقاعة سينما ومسرح‬ ‫يف املغرب بحثا عن عمل‪ ،‬بعد أن فقدت‬
‫وحوال لبنايات سكنية حديثة‪ ،‬فضال عن‬‫ّ‬ ‫ُهدما‬ ‫املدينة مكانتها اإلستراتيجية واالستثمارية‪،‬‬
‫مكتبات بعضها ما زال مفتوحا‪ ،‬مثل مكتبة‬ ‫فقد كانت مطمعا لألوروبيين خاصة البرتغال‬
‫«األمل» ومكتبة «كري ماديس» التي حافظت‬ ‫وإسبانيا منذ القرن الخامس عشر امليالدي‪،‬‬
‫ىلع اسمها باإلسبانية وتميزت بكتبها‪.‬‬ ‫حتى عهد الحماية اإلسبانية ىلع شمال‬

‫‪38‬‬
‫مر القرون‪.‬‬
‫بنيت املدينة العتيقة مطلة ىلع املحيط األطلسي وهو ما جعلها مطمعًا ىلع ِّ‬

‫املدينة الحديثة اإلسبانية لخلق نسيج‬ ‫ومع انفتاح العرائش ىلع أوروبا عبر‬
‫مألوف بين املدينتين‪ ،‬من حيث شكل‬ ‫اإلسبانيين‪ ،‬أصبح الشارع ملجأ للنخبة‬
‫األقواس والزخرفات وشكل املعمار‪.‬‬ ‫اإلسبانية املثقفة والعسكرية أيضا‪ ،‬إضافة‬
‫يقول األنجري لـلجزيرة نت «تميزت ساحة‬ ‫للمغاربة‪ ،‬لك ّنه اليوم يعيش حالة مغايرة‬
‫العرائش عن باقي الساحات التي بناها‬ ‫تحول إلى شارع تجاري عادي‪ ،‬يتبضع‬ ‫بعد أن ّ‬
‫لكن الحنين ملاضيه ّ‬
‫ظل‬ ‫منه أهل املدينة‪ّ ،‬‬
‫اإلسبان بأ ّنها عكست معمار املدن األندلسية‬
‫القرطبي والغرناطي‪ ،‬إضافة للديكور‬ ‫يسكن قلوب وافديه‪.‬‬
‫اإلسباني»‪.‬‬ ‫يف هبوطنا تجاه «ساحة التحرير» أو‬
‫ورغم التغيرات امللحوظة التي شهدتها‬ ‫«ساحة إسبانيا» (اسمها السابق) التي بناها‬
‫الساحة‪ ،‬مثل تدمير الحديقة ذات االثنتي‬ ‫مهندس إسباني (‪ ،)1928-1924‬قابلنا رئيس‬
‫عشرة شجرة نخيل التي استخدمها الناس‬ ‫مؤسسة «القصبة للنهوض بالتراث الثقايف‬
‫ّ‬
‫الظل‪ ،‬وافتتاح مقهى‬ ‫ملعرفة الوقت عبر‬ ‫للمدينة العتيقة» محمد شكيب األنجري‪.‬‬
‫«العلمي» ىلع أحد جوانبها؛ فإنها «خط‬ ‫كان رجال غارقا باملعلومات‪ ،‬حافظا لتاريخ‬
‫أحمر بالنسبة للعرائشيين‪ ،‬ال يمكن العبث‬ ‫مدينته ومحافظا عليه‪ ،‬وعندما سألناه عن‬
‫وإل ارتفعت األصوات الوجدانية عندهم»‪،‬‬‫بها ّ‬ ‫بأن «األرشيف‬‫اسم مهندس الساحة أجاب ّ‬
‫ُ‬
‫املعماري يف عهد الحماية اإلسبانية أتلف‬
‫كما يقول األنجري‪.‬‬
‫حرقا يف غابة قريبة عام ‪ ،»1989‬يف حين‬
‫شيدت إدارة الحماية اإلسبانية جزءا من‬
‫توجد نتف دراسات تاريخية يف متاحف‬
‫املدينة الحديثة فوق باب العرائش وأسوارها‬
‫ومكتبات مدريد ولشبونة‪.‬‬
‫القائمة منذ القرن السابع عشر دون مراعاة‬
‫لذلك التاريخ‪.‬‬ ‫تعتبر الساحة التي تتوسطها نافورة رابطا‬
‫ولكن من بنى العرائش يف ذلك الزمان؟‬ ‫بين معمارين‪ :‬اإلسالمي الذي م ّيز املدينة‬
‫يجيب األنجري بأنه «ال توجد مصادر موثوقة‬ ‫العتيقة‪ ،‬واملعمار الكالسيكي املمزوج‬
‫معمريها األولين‪ ،‬لكن بعضها‬
‫تدل ىلع ّ‬ ‫باألندلسي الذي طغى ىلع هندسة‬

‫‪39‬‬
‫تميزت ساحة العرائش عن باقي الساحات التي بناها اإلسبان‬
‫بأ ّنها عكست معمار املدن األندلسية القرطبي والغرناطي‪ ،‬إضافة‬
‫للديكور اإلسباني‬

‫يمتلك محمد الخلفي مح ً‬


‫ال صغير املساحة‬

‫مواقع تواصل اجتماعي‬ ‫‪40‬‬ ‫لحياكة الجالبة الصوفية‬


‫يبدو زمن العرائش ال يشبه زمن مدن أخرى‪،‬‬ ‫يرجح أنها تعود للعهد اإلدريسي‪ ،‬وبنيت‬
‫لقد ظ ّلت مطمعا عسكريا قبل التاريخ وبعده‪،‬‬ ‫فوق ثمانية هكتارات‪ ،‬ويف العهد الوطاسي‬
‫فمن مقهى «البوينتي» من برج الفتح يظهر‬ ‫حصنت املدينة بأسوار وباب ما زال قائما‪،‬‬‫ّ‬
‫املوقع األثري ليكسوس الفينيقي قائما ىلع‬ ‫ويخضع للترميم بطابع أندلسي بعد أن طمع‬
‫الضفة اليمنى لنهر «اللوكوس»‪ ،‬وقد شهد‬ ‫البرتغاليون باإلقامة فيها»‪.‬‬
‫قتاال بين هرقل الذي ذهب لقطف التفاحات‬
‫الذهبية من حدائق الـ»هيسبيرديس»‪ ،‬وبين‬ ‫شهدت العرائش معركة «وادي املخازن»‬
‫حارسها التنين وفق األسطورة‪.‬‬ ‫الشهيرة عام ‪ 1578‬التي قتل فيها ثالثة‬
‫ملوك‪ :‬املتوكل ىلع اهلل واملعتصم باهلل‬
‫وقبل الهبوط إلى املرفأ القديم‪ ،‬صادفنا‬ ‫ثم عاد‬
‫الشاب؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫وسيبستيان ملك البرتغال‬
‫محمد الخلفي يفتح محله الصغير يوم‬ ‫اإلسبان واحت ّلوها مدة ‪ 82‬عاما وحكمها‬
‫العطلة ويحيك الجالبة الصوفية‪ .‬كان‬ ‫وحولوها إلى‬ ‫‪ 18‬حاكما إسبانيا متعاقبين‪،‬‬
‫ّ‬
‫صوت الدرازة باستخدام «املنوال» الخشبي‬
‫مدينة مسيحية‪ ،‬وارتدى املغاربة «ال ُبلغة»‬
‫التقليدي يسمع يف زقاق العابرين‪ .‬عمل‬
‫السوداء حدادا‪ .‬لكن بقوة جيش السلطان‬
‫صياد وبائع عصير برتقال يف الصيف‪،‬‬
‫ً‬ ‫الخلفي‬
‫موالي إسماعيل عادت املدينة‪ ،‬وعاد الناس‬
‫لكن الحياكة طابت له حتى ترأس جمعية‬ ‫ّ‬
‫الرتداء «البلغة» ذات اللون األصفر‪ ،‬ونشأ ىلع‬
‫«الصانع التقليدي يف املدينة العتيقة»‬
‫ضفاف املدينة الحقا أسطول بحري وصل‬
‫عمن‬
‫يحارب الخلفي من أجل صناعته‪ ،‬ويبحث ّ‬ ‫إلى ثالثمئة سفينة‪ ،‬نتيجة «الجهاد البحري»‬
‫يتكاتف معه يف املدينة القديمة‪ ،‬وجد ابنه‬ ‫الستعادة الثغور الساحلية بعد توحيد‬
‫الصغير وبدأ بتعلميه الحياكة‪ ،‬كما يخطط‬ ‫املغرب يف عهد السلطان إسماعيل وبزوغ‬
‫ملعرض جماعي مستقبال‪.‬‬ ‫حركة العلويين‪.‬‬
‫يقول الخلفي «أخذ البحر أهل العرائش»‪،‬‬ ‫وبنى السلطان إسماعيل مسجد األنوار وسوق‬
‫داللة ىلع عملهم يف الصيد‪ .‬لم يعد العمل‬
‫وحمام وف ّران‪ ،‬وال تزال جميع أبوابها‬
‫ّ‬ ‫فريد‬
‫يف الطرز مجديا‪ ،‬فهو يتطلب صبرا ووقتا‬
‫مفتوحة حتى يومنا‪ ،‬وسمح ابنه السلطان‬
‫حتى أصبح مهنة منقرضة يف العرائش‪،‬‬
‫محمد من بعده لـ‪ 12‬قنصلية أوروبية بالوجود‬
‫لكن الخلفي ‪-‬الذي اكتسبها يف ّ‬
‫سن الثانية‬ ‫ّ‬
‫يف العرائش رغبة باالنفتاح واالزدهار‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫زمن العرائش ال يشبه زمن مدن أخرى‪ ،‬لقد ظّلت مطمعا عسكريا قبل‬
‫التاريخ وبعده‪ ،‬فمن مقهى «البوينتي» من برج الفتح يظهر املوقع‬
‫األثري ليكسوس الفينيقي قائما ىلع الضفة اليمنى لنهر «اللوكوس»‬

‫ّ‬
‫والفن واإلبداع‪ ،‬وقد «ارتداها الصوفيون واألولياء»‪،‬‬ ‫عشرة‪ -‬وجد فيها استقالليته والحكمة‬
‫كما يقول‪.‬‬
‫يف املرفأ القديم الذي يفتح دفة من بابه‪ ،‬كان الصيادون يتمددون فوق شباكهم‬
‫ويحضرونها من أجل االنطالق ليال إلى عرض البحر‪ُ .‬يقال ّ‬
‫إن سمك العرائش لذيذ ويأتيه‬
‫املشترون من مدن أخرى‪.‬‬
‫وصلنا إلى املرفأ القديم‪ ،‬كان عدد من العمال يصبغون مراكب قديمة‪ .‬توقفوا عن عملهم‬
‫فضوال لرؤيتنا وتفحصنا‪ .‬قال األنجري «يعتبر امليناء الوحيد ىلع نهر يف املغرب‪ ،‬ويصلح‬
‫السفن»‪ .‬كانت مراكب هادرة تستعد للمغادرة‪ ،‬ونحنا غادرنا وصوال إلى أبراج الفتح‪.‬‬
‫التقطنا صورا للمدينة بلونيها األبيض واألزرق ىلع غرار أصيلة وشفشاون‪ ،‬ثم تناولنا شايا‬
‫يف مقهى «البوينتي»‪ ،‬وىلع بعد خطوات كانت مقهى باسم «جان جينيه» مفتوحا‬
‫يقابله رسم للرمز غيفارا‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫سور املدينة القديم وقد كتب عليه بالقشتالية‬
‫أكياس اإلسمنت لوحات فنية‬
‫يف أصيلة املغربية‬

‫بعدما كانت مجرد كيس إسمنت فارغ أُلقي‬


‫اعتماد بلعيد‪-‬أصيلة‬
‫يف مكبات النفايات‪.‬‬
‫معلومة ما إن يفشيها حفيظ مرفقا إياها‬
‫بابتسامة واثقة كساحر يكشف أسرار سحره‬
‫املكين‪ ،‬حتى يتغير تجاهل من يصغي إليه‬ ‫ساحة عبد اهلل كنون يف مدينة‬ ‫تبدو‬
‫أصيلة املغربية خالية من الزوار واألجانب‬
‫ويتحول الهتمام وإعجاب‪ ،‬ينتهي بشراء لوحة‬
‫ّ‬
‫يف منتصف ديسمبر‪/‬كانون األول ىلع غير‬
‫منه أو أكثر‪.‬‬
‫عادتها‪ ،‬فالساحة املحاذية للقصبة تعتبر‬
‫بدأت القصة عندما كان مصطفى شقيق‬ ‫القلب النابض لهذه املدينة الساحلية‪ ،‬التي‬
‫حفيظ األكبر يرسم ىلع أكياس الكرتون‬ ‫تتحول إلى وجهة مفضلة للزوار والسياح‬
‫الصغيرة التي كان يلف فيها بقال الحي‬ ‫الوافدين من كل صوب يف فصل الصيف‪ ،‬قبل‬
‫مشترياته‪ .‬لكن مع توقفها واالستعاضة عنها‬ ‫أن يهدأ صخبها مع انقضاء الصيف‪.‬‬
‫باألكياس البالستيكية‪ ،‬اكتشف أن أكياس‬
‫رغم ذلك‪ ،‬يواصل حفيظ املرابط تجواله‬
‫اإلسمنت قد تصلح بدورها‪ ،‬ما دامت هي‬
‫اليومي يف الساحة متأبطا عكازين طبيين‬
‫األخرى عبارة عن «كاغيط» (ورق متين) ال‬
‫وحامال يف جيب سترته لفافات من األوراق‬
‫يخلو من ليونة‪.‬‬
‫الداكنة اللون‪ ،‬يطارد السياح ىلع قلتهم يف‬
‫مصطفى وحفيظ اعتمدا هذه األكياس حامال‬ ‫هذا الوقت من العام‪ ،‬ال يتردد يف الحديث‬
‫لرسوماتهما‪ ،‬وبحسب مصطفى فإنهما ال‬ ‫معهم‪ ،‬أو اقتحام جلسة املستريحين منهم‬
‫يتركان ورشة للبناء إال ويذهبان إليها بحثا‬ ‫يف مقهى «املدينة» القريب‪ ،‬بعد أن يتأكد‬
‫عن أكياس اإلسمنت الفارغة‪ ،‬بل إن جيرانهم‬ ‫أنهم غرباء‪ ،‬فهو الذي يم ّيز بدربة وحذاقة‬
‫وسكان الحي أصبحوا هم اآلخرين يبحثون‬ ‫أهل أصيلة عن زوارها والعابرين منها‪.‬‬
‫عن هذه األكياس وسط أكوام النفايات‬
‫يبدأ بإلقاء التحية أوال‪ ،‬ثم يعرض اللفافات‬
‫ويحضرونها لهما ىلع سبيل املساعدة‪.‬‬
‫التي يحملها وهو يشرح لجلسائه أو‬
‫يقول مصطفى للجزيرة نت إن «ثالثمئة كيس‬ ‫مستمعيه‪ ،‬غير املكترثين يف كثير من‬
‫تنتهي يف شهرين اثنين فقط‪ ،‬خصوصا وأنها‬ ‫األحيان‪ ،‬كيف أصبحت هذه اللوحات الفنية‬
‫تشكل مادة أساسية بالنسبة لعملنا الفني‪،‬‬ ‫الصغيرة التي بين يديه ىلع ما هي عليه‬

‫‪43‬‬
‫يستخرجان من تلك املواد ألوانا مختلفة تصبغ‬ ‫ولذلك ينبغي أن يتوفر لدينا دائما مخزون‬
‫رسوماتهما‪ ،‬التي تتمحور غالبا حول شخصيات‬ ‫منها»‪ .‬أما حفيظ فيقول «هذه األكياس تكون‬
‫تراثية وموسيقية أو تيمات املرأة واملاء‬ ‫ميتة‪ ،‬ونحن نمنحها حياة أخرى»‪.‬‬
‫والطبيعة‪ ،‬وأيضا مدينة أصيلة‪ ،‬التي يقول عنها‬ ‫اللوحات الفنية التي يرسمها الشقيقان‬
‫حفيظ العائد لالستقرار فيها بعدما أتعبته‬ ‫حفيظ ومصطفى يصفانها بـ»اإليكولوجية»‪،‬‬
‫الغربة يف إسبانيا التي قضى فيها قرابة عقد‪،‬‬ ‫ليس الستعمالهما أكياس اإلسمنت فقط‪ ،‬بل‬
‫«أصيلة يف حد ذاتها لوحة فنية كبيرة»‪.‬‬ ‫ألنهما يرسمان أيضا باستعمال مواد طبيعية‬
‫وتختلف أحجام اللوحات التي يرسمانها من‬ ‫يصنعانها من الزعفران والحناء وقرون‬
‫لوحة ألخرى‪ ،‬وإن كانت يف الغالب ذات حجم‬ ‫األكباش‪ ،‬والنيلة التي تصبغ بها معظم‬
‫صغير‪ .‬لكن سبق ملصطفى أن رسم لوحة‬ ‫جدران أصيلة‪ ،‬باإلضافة إلى قلم من القصب‬
‫عمالقة تجاوز قياسها األربعة أمتار واستعمل‬ ‫يصنع يدويا ليحل محل الريشة‪.‬‬

‫غيرها‪ ،‬مؤكدا أن «للمشتري حرية التصرف يف‬ ‫لرسمها ثمانية أكياس إسمنت كاملة‪ ،‬وقد‬
‫عرضها كما يشاء يف بيته سواء يف إطار‬ ‫كانت بطلب من زبون يقطن بمدينة أصيلة‪،‬‬
‫زجاجي أو من دونه»‪.‬‬ ‫حسب قوله‪.‬‬
‫وبينما يستطيع الشقيقان أن يرسما هذه‬ ‫ويرى حفيظ أنه وشقيقه قادا ثورة ضد‬
‫اللوحات‪ ،‬فإن مهمة بيعها وتسويقها تبقى‬ ‫الشكل التقليدي املتعارف عليه للوحات‬
‫من اختصاص حفيظ وحده‪ .‬وبفخر جلي يؤكد‬ ‫الفنية‪ ،‬والذي غالبا ما يكون عبارة عن مربع‬
‫أنه يستطيع أن يبيع عشرات اللوحات يوميا‪.‬‬ ‫أو مستطيل‪ ،‬وذلك من خالل اعتمادها يف‬
‫تساعده ىلع ذلك لباقته يف الحديث وقدرته‬ ‫لوحاتهما شكال عشوائيا‪ ،‬حيث يتم قصها‬
‫ىلع إقناع السياح باألسعار التي يقترحها‪،‬‬ ‫يدويا وقد تتخذ أشكاال متعددة بيضاوية أو‬

‫‪44‬‬
‫اللوحات الفنية التي يرسمها الشقيقان حفيظ ومصطفى يصفانها‬
‫بـ»اإليكولوجية»‪ ،‬ليس الستعمالهما أكياس اإلسمنت فقط‪ ،‬بل ألنهما‬
‫يرسمان أيضا باستعمال مواد طبيعية يصنعانها من الزعفران والحناء‬
‫وقرون األكباش‬

‫مواقع تواصل اجتماعي‬ ‫‪45‬‬


‫تقديرا لعملنا الفني واملجهود املبذول فيه‪،‬‬ ‫معتمدا ىلع إجادته ثماني لغات أجنبية‪،‬‬
‫كما أن األجانب يقدرون بشكل أكبر أعمالنا‬ ‫بينها اإلسبانية واإلنجليزية والفرنسية وغيرها‪.‬‬
‫الفنية اإليكولوجية»‪.‬‬ ‫بل إنه بدأ يتعلم حتى اللغة الصينية‪ ،‬بعدما‬
‫الحظ مؤخرا إقبال العديد من السياح الصينيين‬
‫ويؤكد يف الوقت نفسه أن أسعار لوحاتهما‬
‫ىلع زيارة املدينة‪.‬‬
‫تبقى مناسبة سواء تعلق األمر بسائح مغربي‬
‫أو أجنبي‪ ،‬وغالبا ما يتراوح ثمنها بين ‪ 15‬و‪40‬‬ ‫عملية املفاصلة مع الزبائن للتراضي ىلع‬
‫دوالرا‪ ،‬لكن حفيظ الذي يفتخر ببيع اللوحات‬ ‫سعر اللوحة قد تقود حفيظ إلى اصطحابهم‬
‫التي تحمل جميعها توقيعا مشتركا يتكون‬ ‫إلى ورشة الرسم التي يعمل فيها رفقة‬
‫من اسمه واسم شقيقه لسياح من القارات‬ ‫شقيقه‪ ،‬وهي عبارة عن غرفة صغيرة يف‬
‫الخمس‪ ،‬يشدد ىلع أن «الفن ال ثمن له»‪.‬‬ ‫الطابق العلوي من منزلهما القريب من ساحة‬
‫وهي جملة يكررها كلما رفض مشتر السعر‬ ‫عبد اهلل كنون‪ ،‬ويعلق حفيظ ىلع ذلك‬
‫الذي اقترحه‪.‬‬ ‫بالقول «زيارة الزبون لورشتنا تجعله أكثر‬

‫‪46‬‬
‫جمهورية الشيخة حسينة‪ ..‬أرض‬
‫الخصب والفقر والعسكر‬

‫بنغالديش ليلة حالكة‪ .‬وعندما تمدد الضوء‬


‫يف األفق‪ ،‬علم املواطنون أن الدماء غمرت‬
‫القصر‪ ،‬وأن حقبة مهمة من تاريخ الجمهورية‬
‫ُقبرت يف مكان مجهول‪.‬‬ ‫سيد أحمد الخضر‪-‬دكا‬
‫أعدم الضباط رئيس البالد وبطلها ومهندس‬
‫انفصالها عن باكستان «الشيخ مجيب‬ ‫أبلغت االستشاري وفاء الكمالي‬ ‫عندما‬
‫الرحمن»‪ ،‬ثم قتلوا حرمه وجميع أبنائه وبناته‬ ‫بن ّيتي السفر إلى بنغالديش ورغبتي يف‬
‫إال «حسينة» و»ريحانة» اللتين كانتا يف رحلة‬ ‫تلقي تطعيمات ضد مجموعة من األمراض‪،‬‬
‫إلى أملانيا‪.‬‬ ‫رد علي باسما «قل يا سيدي إنك راحل إلى‬
‫تال العسكر بيانهم األول‪ ،‬ثم ما لبثوا أن‬ ‫الشيخة حسينة واجد»‪.‬‬
‫تنازعوا السلطة وبغى بعضهم ىلع بعض‪،‬‬ ‫يف اليوم التالي‪ ،‬استقبلتني الشيخة‬
‫فتحولت بنغالديش إلى أفشل دولة وأفقرها‪،‬‬ ‫حسينة بمطار «حضرة شاه جالل الدولي»‬
‫وأقلها استقرارا يف القرن العشرين‪ .‬ولم تتوان‬ ‫يف العاصمة دكا‪ ،‬ومن ثم قابلتها يف املدن‬
‫الشيخة حسينة عن املواجهة واالنتقام‪،‬‬ ‫والبلدات والقرى‪ ،‬ورافقتني يف رحالتي‬
‫وسرعان ما قررت أن ترث أباها وتثأر له يف‬ ‫إلى صعيد القيامة ىلع الحدود مع ميانمار‪.‬‬
‫الوقت نفسه‪.‬‬ ‫«أم‬
‫علمت أن السبعينية البنغالية هي ّ‬ ‫ُ‬ ‫وهناك‬
‫يف عام ‪ 1981‬ان ُتخبت رئيسة لحزب «رابطة‬ ‫اإلنسانية»‪ ،‬وبطلة السالم العاملي‪ ،‬ومع ّلمة‬
‫عوامي» الذي كان يقوده والدها‪ .‬ويف عام‬ ‫األجيال‪ ،‬ومنقذة الوطن من الضياع‪.‬‬
‫‪ 1996‬ورثت سلطته بفوزها يف االنتخابات‪،‬‬ ‫تقول الالفتات والشاشات العمالقة إن رئيسة‬
‫وتولت قيادة الحكومة يف يوم مشهود‪.‬‬ ‫وزراء بنغالديش الشيخة حسينة تجسد سخاء‬
‫والحقا‪ ،‬جلبت الضباط إلى القضاء وساقتهم‬ ‫السماء تجاه األرض‪ ،‬ويرافقها يف الصورة رجل‬
‫مكبلين إلى املوت‪ ،‬فابتهجت الجماهير‬ ‫وقور خط الشيب رأسه‪ ،‬ويبدو كأنه يتوجس‬
‫للقصاص من قتلة الشيخ مجيب الرحمن‪.‬‬ ‫من الخيانة والغدر‪.‬‬
‫يف عام ‪ 2001‬فقدت الشيخة حسينة السلطة‬ ‫رحلة الغياب والعودة‬
‫بخسارة االنتخابات‪ ،‬وتعرضت يف ‪2004‬‬ ‫يف منتصف أغسطس‪/‬آب ‪ 1975‬عاشت‬

‫‪47‬‬
‫الحاضر واعتبارات التاريخ‪ ،‬فيطيعها الناس‬ ‫ملحاولة اغتيال سالت فيها دماء كثيرة‪ .‬ويف‬
‫رهبة ورغبة‪ ،‬وتبدو منهمكة يف نشاط‬ ‫‪ 2008‬أعادتها االنتخابات إلى قمرة القيادة‪ ،‬ومن‬
‫محموم يعكس أنها ال تفكر أبدا يف التقاعد‪.‬‬ ‫ثم هيمنت ىلع املشهد وأحكمت قبضتها‬
‫القطب الثاني باملشهد البنغالي هو الحزب‬ ‫ىلع الجيش والقضاء وكل املؤسسات‪.‬‬
‫الوطني‪ ،‬الذي تقوده «خالدة ضياء»‪ ،‬وهي‬ ‫سألت مرافقي عن سر غياب أنشطة‬‫ُ‬ ‫وعندما‬
‫سيدة أخرى سبق أن ترأست الحكومة لواليتين‬ ‫رئيس الجمهورية عن الصحافة املحلية‪ ،‬قال‬
‫وتمد إلى السلطة بسببي املظلومية واإلرث‬
‫ّ‬ ‫إنه «ينام جيدا بالليل ويف الصباح يقدمون‬
‫التاريخي‪ ،‬فهي أرملة الرئيس الجنرال ضياء‬ ‫له أوراقا يوقعها دون تردد‪ ،‬نشاهده ىلع‬
‫الرحمن الذي اغتيل عام ‪.1981‬‬ ‫التلفزيون يف صالتي الفطر واألضحى»‪.‬‬
‫أما القوة السياسية الثالثة فيمثلها «حزب‬ ‫تحكم الشيخة حسينة بنغالديش بأدوات‬

‫مخيم لالجئين الروهينغيين يف كوكس بازار الحدودية ‪ -‬رويترز‬

‫بر الرفاه‪ ،‬بعدما أثمرت سياساتها انتعاشا‬ ‫الجماعة اإلسالمية»‪ ،‬األكثر تعرضا للقمع‬
‫اقتصاديا ال يختلف حوله الناس‪.‬‬ ‫نظرا العتبارات عديدة‪ ،‬بينها نهجه الديني‪،‬‬
‫وعالقته التاريخية بباكستان‪.‬‬
‫دولة املفارقات‬
‫الكثير من البنغاليين يصفون الشيخة‬
‫تقع بنغالديش جنوبي شرقي آسيا‪ ،‬وتغص‬ ‫حسينة بالقمعية واملتسلطة‪ ،‬ويقولون‬
‫ببشر يبلغ تعدادهم ‪ 163‬مليونا‪ ،‬يزدحمون يف‬ ‫إنه ليس بإمكان أي سياسي معارضتها‪ ،‬إال‬
‫مساحة ال تتجاوز ‪ 147‬ألف كيلومتر مربع فقط‪.‬‬ ‫أحب إليه من السكوت‪ .‬لكن‬‫إذا كان السجن ّ‬
‫ويستلقي الشطر الجنوبي من بنغالديش ىلع‬ ‫كثيرين أيضا يؤيدون العجوز الصارمة‪ ،‬ويرون‬
‫خليج البنغال‪ ،‬وتتزين ضفافه بحقول األرز ومزارع‬ ‫فيها صلتهم باملاضي املجيد‪ ،‬وأملهم إلى‬

‫‪48‬‬
‫الكثير من البنغاليين يصفون الشيخة حسينة بالقمعية واملتسلطة‪،‬‬
‫أحب‬
‫ويقولون إنه ليس بإمكان أي سياسي معارضتها‪ ،‬إال إذا كان السجن ّ‬
‫إليه من السكوت‬

‫رويترز‬
‫مواقع تواصل اجتماعي‬ ‫‪49‬‬
‫رويترز‬

‫لكنها منكوبة يف الوقت ذاته‪ ،‬فالطبيعي أن‬ ‫املوز وجوز الهند وأشجار السوباري والبامبو‪.‬‬
‫يلتحق هؤالء باملدارس والجامعات‪.‬‬ ‫وبينما تقربها وشائج الدين من باكستان‪ ،‬تربطها‬
‫يشكل املسلمون نحو ‪ %90‬من السكان‪ ،‬يليهم‬ ‫السياسة والجغرافيا بالهند‪ ،‬التي تطوقها من‬
‫الهندوس بنسبة ‪ ،%8‬بينما تتوزع النسبة‬ ‫كل الجهات سوى نافذة خصام‪ ،‬بأقصى الجنوب‬
‫الباقية ىلع املسيحيين والبوذيين وديانات‬ ‫الشرقي‪ ،‬تطل منها ىلع ميانمار‪.‬‬
‫أخرى‪ .‬وال يخفي الشارع البنغالي حنقه من‬
‫يتحرش موج الخليج العنيف باملباني‬
‫بطش البوذيين باملسلمين الروهينغا يف‬
‫واملنشآت يف تكناف وكوكس بازار والعديد من‬
‫ميانمار املجاورة‪ ،‬ولكن السلطات واألحزاب‬
‫القرى والبلدات‪ ،‬وتستقطب شواطئه السياح‬
‫والهيئات املسلمة تعمل ىلع تجنيب البالد‬
‫من مختلف أنحاء العالم يف الفترة من أكتوبر‪/‬‬
‫خطر االقتتال الديني‪.‬‬
‫تشرين األول وحتى مارس‪/‬آذار من كل عام‪.‬‬
‫حضرت احتفاالت سلمية وهادئة نظمها‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫عندما زرنا بنغالديش كان املطر يغسلها‬
‫البوذيون يف بنغالديش بمناسبة عيد‬
‫مرتين يف اليوم‪ ،‬فتفيض األنهار لتغمر املياه‬
‫«اكتمال القمر»‪ ،‬لتخليد «ذكرى عودة بوذا إلى‬
‫مساكن القرويين وحظائرهم ومزارعهم‪ .‬فمنذ‬
‫األرض بعد أن أمضى ثالثة أشهر مع والدته‬
‫زمن بعيد‪ ،‬تستوطن يف هذا البلد مفارقة‬
‫يف الجنة»‪ .‬وأثناء تجولي بقرية نيال البوذية‬
‫الخصب والفقر‪ .‬فبينما تجود السماء بالغيث‬
‫ىلع الحدود مع ميانمار‪ ،‬سألت الطفل بابو‬
‫وتنبت األرض من كل الطيبات‪ ،‬يستق ّر البؤس‬
‫«هل تشعر بالخوف يف هذه األيام؟» فكان‬
‫يف املدن والقرى‪ ،‬ويخوض الناس كفاحا مريرا‬
‫رده «هذا الرجل يحميني»‪.‬‬
‫لتأمين القوت‪.‬‬
‫قبضة قوية‬
‫تقول األرقام الدولية إن بنغالديش تنمو‬
‫وهذا الرجل هو الضابط البنغالي «حسين‬ ‫اقتصاديا بشكل مذهل بفعل أداء مصانع‬
‫عريف» املرابط برجاله يف القرية لضمان أمن‬ ‫القطن والنسيج‪ ،‬لكن الناس هنا يشكون‬
‫سكانها وتمكينهم من أداء شعائرهم يف‬ ‫البطالة والغالء‪ ،‬ويبعثون أبناءهم للتسول‬
‫معبد فخم ينتصب ىلع الشارع العام‪ ،‬وتسدد‬ ‫يف الشوارع أو العمل بأجر زهيد‪ .‬فالشوارع‬
‫السلطات تكاليف استهالكه للمياه والكهرباء‪.‬‬ ‫واألسواق تزدحم باألطفال وبالشباب األقل من‬
‫عشرين عاما‪ ،‬مما يوحي بأنك يف دولة فتية‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫و»التوم توم» عربة ثالثية العجالت مكشوفة‬ ‫هجمات التطرف نادرة يف بنغالديش‪ ،‬إنها‬
‫الخصر خضراء اللون أنيقة املظهر‪ ،‬تتسع‬ ‫تختلف عن باكستان من حيث السالم الديني‬
‫ألربعة أشخاص‪ ،‬وقودها الغاز أو الكهرباء‪،‬‬ ‫والثقايف‪ .‬هنا تتجاور املساجد والكنائس‬
‫يصنعها جيرانهم يف الهند وال يتجاوز سعرها‬ ‫واملعابد‪ ،‬وتسير السافرات واملتبرجات‬
‫ألف دوالر‪.‬‬ ‫يف السبيل ذاته الذي تسلكه املنتقبات‬
‫يف ‪ ،2010‬زرت إندونيسيا لكتابة تقارير‬ ‫واملحجبات‪.‬‬
‫عن آثار تسونامي‪ ،‬واستغربت أن األرز مكون‬ ‫البنى التحتية هشة حتى يف املدن‬
‫رئيسي ملوائدهم حتى يف إفطار الصباح‪.‬‬ ‫السياحية‪ ،‬واالزدحام املروري يخنق الشوارع‬
‫لكن األطباق الناصعة البياض تبدو أكثر أهمية‬ ‫طوال اليوم‪ ،‬بينما يمثل «التوم توم» وسيلة‬
‫هنا يف بنغالديش‪ ،‬فهم يتناولونها يف كل‬ ‫النقل األكثر راحة واألقل تكلفة‪ ،‬إذ تق ّلك‬
‫حين‪ ،‬وتعني لهم الحاضر واملستقبل أيضا‪.‬‬ ‫منفردا داخل املدينة بـ‪ 60‬تاكا (‪ 0.7‬دوالر)‪.‬‬

‫مصانع املالبس الجاهزة األجنبية وفرت فرص عمل للبنغاليين ‪ -‬رويترز‬

‫املخيمات ويسهل عمل موظفي اإلغاثة‬ ‫وقد قرأت تقريرا بصدر صحيفة «ديلي ستار»‬
‫والصحفيين‪ .‬لكنك تالحظ يف الوقت ذاته‬ ‫املحلية عنوانه «حقول األرز الجديدة تعني‬
‫غضب الضباط وتأهبهم للحرب مع ميانمار‬ ‫أماال كبيرة»‪.‬‬
‫التي تستفزهم يوميا‪ ،‬وتتقوى بعالقاتها‬
‫العسكرية بالصين والهند‪ ،‬بينما ال يمكن‬ ‫البنغال يف مالمحهم أشبه بالهنود‪ ،‬لكنهم‬
‫لبنغالديش االستنجاد بباكستان نظرا لضغائن‬ ‫يف طباعهم وأمزجتهم أقرب إلى الباكستانيين‪،‬‬
‫التاريخ وإكراهات الجغرافيا‪.‬‬ ‫وربما أكثر منهم حدة واعتدادا بالنفس‪.‬‬
‫التحالفات اإلقليمية تضع بنغالديش يف وضع‬ ‫يبدو الجيش البنغالي منضبطا وإنسانيا يف‬
‫صعب لو دخلت يف حرب مع ميانمار‪ ،‬ولن‬ ‫تعاطيه مع أزمة الروهينغا‪ ،‬حيث يحمي‬

‫‪51‬‬
‫رويترز‬

‫يروي فضل الرحمن أنه كان قائدا لحرس‬ ‫جديا إال من الرئيس التركي‬
‫تتلقى دعما عسكريا ّ‬
‫الحدود‪ ،‬وشن حربا ىلع ميانمار عند الثانية‬ ‫رجب طيب أردوغان‪ ،‬كما يتوقع املواطنون‬
‫ظهرا يف يناير‪/‬كانون الثاني ‪ 2000‬فقتل‬ ‫العاديون‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ال يساور البنغاليين أدنى‬
‫ستمئة من جنودها خالل ثالثة أيام‪ ،‬وبعدها‬ ‫شك يف قدرة جيشهم ىلع اجتياح ميانمار‬
‫جنحت للسلم وطالبت بالتسوية عبر الحوار‪.‬‬ ‫خالل ساعات معدودة‪ ،‬عندما تأذن القيادة‬
‫السياسة للجنراالت يف شن الحرب‪.‬‬
‫لم يسعفني الوقت لتدوين الكثير عن‬
‫بنغالديش‪ ،‬فقد كانت مهمتي نقل محنة‬ ‫طبعا‪ ،‬القيادة السياسة تعني الشيخة حسينة‪،‬‬
‫الروهينغا الذين نشؤوا ىلع أن املسلمين‬ ‫فقد حذرت الضباط قبل أيام من االنجرار وراء‬
‫كالبنيان املرصوص يشد بعضهم بعضا‪،‬‬ ‫استفزازات الجيران‪ ،‬وأمرتهم بالبقاء ىلع أهبة‬
‫وعندما ُنكبوا ُخذلوا استضافهم الجوع‬ ‫االستعداد يف انتظار أوامرها‪.‬‬
‫واملرض وافترستهم السباع والضباع وسط‬ ‫ُيسهب البنغال يف تمجيد بطوالتهم‬
‫املستنقعات‪.‬‬ ‫وعشقهم للمواجهة وكرههم للغدر‪ ،‬ويروون‬
‫وبعدما أنجزت سلسلة تقارير عن قوارب‬ ‫قصصا كثيرة عن بسالة مقاتليهم عندما ينفد‬
‫الفجيعة وطوابير الهوان ونزل القيامة‬ ‫صبرهم‪ .‬هذه املعاني يجسدها مقال ملحمي‬
‫وسردية النزوح والرصاص‪ ،‬حزمت حقائب‬ ‫كتبه اللواء “علم فضل الرحمن” ونشرته وزارة‬
‫العودة وودعتني الشيخة حسينة يف مطار‬ ‫الدفاع البنغالية ىلع صفحتها ىلع فيسبوك‪.‬‬
‫«حضرة شاه جالل الدولي»‪.‬‬ ‫يقول إن الجيش البنغالي تغاضى كثيرا عن‬
‫حينها انتبهت إلى أن االستشاري العراقي‬ ‫خطايا ميانمار ىلع ضفاف نهر «ناف» يف‬
‫أتحفني بعنوان‪ ،‬وكتبت لكم جانبا من بالد‬ ‫تسعينيات القرن املاضي‪ ،‬وعندما طفح به‬
‫األرز والقطن والزحام‪ ،‬وعن املسنة الصماء‬ ‫الكيل وبلغ السيل الزبى قرر مواجهتها يف‬
‫التي يخافها الساسة والقضاة والجنراالت‪.‬‬ ‫وضح النهار‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫التايمز‪ ..‬ذلك «األرشيف‬
‫السائل”‬

‫رويترز‬

‫له ذكر‪ ،‬ففي عام ‪ 1957‬أعلن متحف التاريخ‬


‫الطبيعي التايمز نهرا ميتًا‪ ،‬بسبب استحالة‬ ‫عثمان بوشيخي ‪-‬لندن‬
‫عيش الكائنات الحية فيه‪ ،‬وكان حينئذ‬
‫يوصف بأنه مجرد مجرى واسع لتصريف املياه‬ ‫قادما من «كيمبل» ومارا ىلع مدينتي‬
‫لعقود مجرد مكان تتجمع فيه‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫فظل‬ ‫العفنة‪.‬‬ ‫«ريدينغ» و»أوكسفورد» ومتدفقا ىلع لندن‬
‫املواد البالستيكية‪ ،‬بل حتى األسماك لم تكن‬ ‫ليقسمها شطرين‪ ،‬ثم ليصب يف بحر الشمال‪،‬‬
‫تقدر ىلع العيش فيه‪.‬‬ ‫قاطعا‪ ‬مسافة ‪ 346‬كيلومترا‪ .‬إنه التايمز‪ ،‬أطول‬
‫نهر يف إنجلترا‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬فقد أصبح موطنا لحيوانات مثل‬
‫الفقمة وخنازير البحر‪ ،‬وأكدت جمعية علوم‬ ‫وقد‪ ‬لعب هذا النهر دورا يف تاريخ الجزر‬
‫الحيوان بلندن يف مسح استمر من عام ‪2004‬‬ ‫البريطانية‪ ،‬إذ كان طريقا مائيا وركيزة‬
‫إلى ‪ ،2014‬أن النهر قد غدا موطنا ألكثر من‬ ‫اقتصادية وموطنا للصيد ومصدرا للشرب‪ ،‬قبل‬
‫‪ 2000‬فقمة‪.‬‬ ‫أن يتحول يف السنوات املاضية إلى رمز من‬
‫رموز السياحة والترفيه يف البالد‪.‬‬
‫ومن بين الكائنات التي تعيش ىلع جانبيه‬
‫وتقليد يعود‬
‫ٌ‬ ‫طيور البجع التي سرى ٌ‬
‫عرف‬ ‫وورد ذكره عند العرب قديما يف كتاب‬
‫ألكثر من تسعمئة سنة يقضي بإحصائها‪،‬‬ ‫الشريف االدريسي املسمى «نزهة املشتاق‬
‫ينذر‪ ‬فريق من املتخصصين خمسة أيام‬ ‫إذ ُ‬ ‫يف اختراق اآلفاق»‪ .‬‬
‫للسفر مسافة مئة كيلومتر تقريبا ىلع طول‬ ‫لندن ِهبة التايمز‬
‫التايمز إلحصاء هذه الطيور املوجودة فيه‬
‫سكن اإلنسان ىلع ضفافه قبل حوالي تسعة‬
‫ومراقبة حالتها‪ .‬‬
‫آالف عام‪ ،‬إذ عثر‪ ‬علماء اآلثار عام ‪ 2013‬بالقرب‬
‫فعاليات ىلع ضفاف النهر‬ ‫منه ىلع عشرات القطع من حجر الصوان يف‬
‫عادة ما يحتضن التايمز فعاليات كبيرة وال‬ ‫ورشة لتصنيع األدوات تعود للعصر الحجري‬
‫سيما بالتزامن مع املناسبات التي تشهدها‬ ‫األوسط‪ ،‬ويعد هذا دليال ىلع عودة البشر‬
‫لندن‪ ،‬وآخر هذه املناسبات كان يف ‪2012‬‬ ‫إلى بريطانيا‪ ،‬وباألخص هذا النهر‪ ،‬بعد حقبة‬
‫عندما احتفلت بريطانيا باليوبيل املاسي‬ ‫طويلة فاصلة خالل العصر الجليدي‪.‬‬
‫العتالء امللكة إليزابيث الثانية عرش اململكة‪،‬‬ ‫وقد مر حين من الدهر ىلع هذا النهر لم يكن‬

‫‪53‬‬
‫سكن اإلنسان ىلع ضفافه قبل حوالي تسعة آالف عام‪ ،‬إذ عثر‪ ‬علماء‬
‫اآلثار عام ‪ 2013‬بالقرب منه ىلع عشرات القطع من حجر الصوان يف‬
‫ورشة لتصنيع األدوات تعود للعصر الحجري األوسط‬

‫‪54‬‬
‫رويترز‬

‫وقد دق جرسها أول مرة عام ‪ 1859‬ليتوقف‬ ‫إذ مر موكب امللكة البحري الضخم عبر النهر‪.‬‬
‫أكثر من مرة آخرها كانت يف أغسطس‪/‬‬ ‫ويف عام ‪ 2015‬وبالتزامن مع احتفال بريطانيا‬
‫آب املاضي‪ ،‬وسيمتد هذا التوقف حتى عام‬ ‫بمرور ثمانمئة سنة ىلع توقيع وثيقة «ماغنا‬
‫‪ 2021‬بغية إجراء أعمال ترميم وصيانة وضمان‬ ‫كارتا» ُس ِّي َرت قوارب عبر النهر ركبها ‪ 23‬شخصا‬
‫بقائها مع «برج إليزابيث» لفترة أطول‪،‬‬ ‫وهم يحملون نسخة من الوثيقة‪ ،‬ويقرأون‬
‫ىلع أن تعمل يف مناسبات استثنائية مثل‬ ‫منها ىلع العامة ويسردون حكايتها‪.‬‬
‫احتفاالت العام امليالدي‪ .‬وكانت آخر صيانة‬
‫مهمة للبرج قد جرت ما بين ‪ 1983‬و‪.1985‬‬ ‫وتعد هذه الوثيقة من أهم الوثائق البريطانية‪،‬‬
‫إذ وقع عليها امللك جون عام ‪ُ 1215‬مقرا‬
‫ومن بين معالم النهر األخرى «جسر‬ ‫بموجبها بأنه يخضع للقانون وال يمكنه تجاوزه‪.‬‬
‫وسينتشر» الذي صممه املعماري الشهير‬
‫توماس بيج عام ‪ 1862‬كطريق للمركبات‬ ‫ومن بين الفعاليات التي اعتاد النهر ىلع‬
‫وطلي باألخضر‪ ،‬وهو اللون نفسه‬‫واملشاة‪ُ ،‬‬ ‫احتضانها سباق الزوارق الذي يجتذب عددا‬
‫الذي ُطليت به املقاعد الجلدية يف مجلس‬ ‫متزايدا من املتسابقين كل عام‪ ‬يبلغ مئات‬
‫العموم‪ ،‬الذي يقع بالقرب قصر وستمنستر‬ ‫الزوارق والقوارب‪ ‬من مختلف األنواع واألحجام‪.‬‬
‫الذي يقع بدوره قرب النهر ذاته‪ .‬‬ ‫ويعد ركوب قارب يف التايمز أمرا ممتعا‪ ،‬إذ‬
‫ويرتبط ذكر النهر بنفق التايمز الذي ُبني‬ ‫تمر هذه الرحلة النهرية بطرق عدة بدءا من‬
‫تحته بين سنوات ‪ 1825‬و‪ ،1843‬وهو أول نفق‬ ‫منطقة «وستمنستر» مرورا بعدة معالم تشمل‬
‫ُعرف بنجاح بنائه تحت املاء‪ ،‬وعندما افتتح‬ ‫برج الجسر وعين لندن باإلضافة إلى غرينيتش‪.‬‬
‫كان حينئذ األعجوبة الثامنة يف العالم‪ ،‬إذ‬ ‫معالم ىلع النهر‪ ‬‬
‫جاء الناس من كل حدب وصوب لرؤيته‪.‬‬
‫من بين معالم النهر ساعة «بيغ بن» الشهيرة‬
‫ويف اآلونة األخيرة طرحت مجموعة من‬ ‫التي تعد من رموز بريطانيا‪ ،‬إذ أكد استطالع‬
‫الشركات يف لندن خطة طموحة لتحويل‬ ‫أجري يف عام ‪ 2008‬وشمل ألفي شخص أن‬
‫جزء من التايمز إلى طريق خاص بالدراجات‬ ‫هذه الساعة هي املعلم األكثر شعبية يف‬
‫فقط يبلغ طوله نحو ثمانية أميال‪ ،‬وذلك‬ ‫اململكة املتحدة‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫رويترز‬

‫االنجليزي «جيروم كالبكا جيروم» كان‬ ‫يف خطوة تهدف إلى تخفيض املخاطر‬
‫موضوعها الرئيسي عن رحلة بقارب ىلع‬ ‫الدائمة نتيجة حوادث االصطدام بين‬
‫هذا النهر بين «كينزينتون» و»أوكسفورد»‪،‬‬ ‫الدراجات والشاحنات ىلع طرقات املدينة‬
‫وقد حازت ىلع شهرة منقطعة النظير‬ ‫التي تكاد تختنق بحركة املرور‪.‬‬
‫لطابعها الفكاهي الصرف‪.‬‬
‫عندما يغضب النهر‬
‫كما ألف «تشارلز ديكنز»‪ ،‬وهو أعظم الروائيين‬
‫اإلنجليز يف العصر الفيكتوري‪ ،‬رواية بعنوان‬ ‫شهد النهر عدة فيضانات كان من أشهرها‬
‫«صديقنا املشترك» وهي تعد من أكثر‬ ‫فيضان ‪ 1928‬الذي أودى بحياة ‪ 14‬شخصا وشرد‬
‫أعماله تعقيدا‪ ،‬وتحدث يف شطر منها عن‬ ‫اآلالف ودمر العديد من املنازل يف وسط لندن‪.‬‬
‫التايمز بالتحديد ‪.‬‬ ‫لكن يبقى فيضان مارس‪/‬آذار ‪ 1947‬أسوأ‬
‫أما موسيقيا‪ ،‬فيرتبط ذكر النهر بمعزوفة‬ ‫فيضان شهده النهر يف القرن العشرين‪ ،‬وقد‬
‫«موسيقى املاء» التي ألفها املوسيقار‬ ‫جاء يف أعقاب شتاء قارس أعقبه هطل‬
‫اإلنجليزي «جورج فريديرك هاندل»‪ ،‬وأداها‬ ‫شديد لألمطار وندف للثلوج‪.‬‬
‫أكثر من خمسين عازفا ىلع متن زورق قرب‬ ‫أما يف ‪ 1953‬فقد اضطر أكثر من ‪ 13‬ألف‬
‫السفينة امللكية بالتايمز لجورج األول يف‬ ‫شخص إلخالء منازلهم هربا من فيضان‬
‫‪ ،1717‬وقد أعجب بها امللك لدرجة طلبه من‬ ‫التايمز‪ ،‬الذي تزامن مع فيضان بحر الشمال‬
‫املوسيقيين املتعبين إعادتها ثالث مرات‬
‫بسبب عاصفة شديدة‪.‬‬
‫من فرط استمتاعه بها‪.‬‬
‫أعمال َّ‬
‫خلدت النهر‬
‫كما غنت املطربة اإلنجليزية «جيسي‬
‫ماثيوس» قطعة عن التايمز بعنوان «نهري»‬ ‫كان التايمز حديث األدب اإلنجليزي كثيرا‪،‬‬
‫يف فيلم «اإلبحار وحيدة» يف عام ‪.1938‬‬ ‫فرواية «ثالثة رجال يف قارب» لكاتبها‬

‫‪56‬‬
‫من بين معالم النهر ساعة «بيغ بن» الشهيرة التي تعد من رموز بريطانيا‪ ،‬إذ‬
‫أكد استطالع أجري يف عام ‪ 2008‬وشمل ألفي شخص أن هذه الساعة هي‬
‫املعلم األكثر شعبية يف اململكة املتحدة‬

‫وكان النهر أيضا باعثا ىلع اإللهام لدى كثير من الرسامين‪ ،‬من أشهرهم اإليطالي «كاناليتو» والفنان‬
‫الرومانسي االنجليزي «تيرنر» باإلضافة لرائد املدرسة االنطباعية الفرنسي كلود مونيه‪.‬‬
‫ويف ‪ 2015‬جلست الفنانة املقعدة البريطانية «ليز كرو» أياما طويلة ىلع ضفافه لتستخدم طينه‬
‫يف صناعة تماثيل صغيرة عددها ‪ 650‬مجسما بعدد أعضاء البرملان البريطاني‪.‬‬
‫سيصوتون عليهم‬
‫ّ‬ ‫وكان الهدف من وراء هذا هو حث البريطانيين ىلع التفكير باألشخاص الذين‬
‫يف انتخابات تلك السنة‪.‬‬

‫رويترز‬
‫‪57‬‬

You might also like