Professional Documents
Culture Documents
1
تعريف علم االجرام
يرى بعض الفقهاء أن علم االجرام هو العلم الذي يبحث في اسباب الجريمة و مكوناتها وسياقها و
نتائجها ،ويرى رمسيس بهنام أنه العلم الذي يدرس الجريمة كحقيقة واقعية و يدرس اسبابها و بواعثها
العضوية والبيئية من أجل عالجها والوقاية منها و هكذا يرى الدكتور عبد المنعم العوضي حيث يقول
هو العلم الذي يهدف إلى الوقوف على اسباب الظاهرة االجرامية تمهيدا لعالجها .
نالحظ أن أغلب التعريفات ربطت بين علم االجرام ودراسة أسباب الجريمة والدوافع من ورائها ولم
تتطرق إلى طبيعة الفعل االجرامي هل هو ضار بالمجتمع أم نافع ؟ والواقع أنه مهما تعددت االتجاهات
في وضع تعريف للجريمة فإنها لن تصل إلى تحديد مفهوم الجريمة نظرا لطبيعتها المركبة واستحالة
جمع عناصر ثابتة وشاملة تسمح بهكذا تعريف ،وألن العمل االجرامي هو عمل نسبي ال يخضع
لتقنيات التحديد بكيفية مطلقة فإن تعريف الجريمة يتأرجح بين المفهومين االجتماعي والقانوني ،المفهوم
القانوني مدرسته االتجاه االوروبي والمفهوم االجتماعي منبته االتجاه االمريكي.
والعتبارات عملية يؤخذ باالتجاه األوروبي أي بالمفهوم القانوني الذي يساعد على تحديد الجريمة وهو
ال يهتم كثيرا بكل االنحرافات االجتماعية بقدر ما يهتم بتلك التي ينص عليها القانون الجنائي وهو ما
ذهب اليه دوكريف حين قال " إني أمتنع عن إعطاء تعريف للجريمة إذ يتوجب علينا اعتماد التعريف
القانوني المعطى لها ألن هذا التعريف ليس إال وصفا دقيقا لواقع موجود قبل القانون وهذا الواقع هو
االجرام " لكن بصفة عامة التحديد القانوني للجريمة ال يزيل عنها صفتها االجتماعية التي تظل مالزمة
لها فهي لصيقة كل مجتمع بشري مما يجعلها ظاهرة اجتماعية .
لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا ،ما هي الدوافع التي تدفع االنسان الرتكاب سلوك إجرامي ؟ رغم
وجود قواعد قانونية و مبادئ أخالقية ،هل ألن الجريمة نتيجة حتمية في االنسان أم أنها نتيجة ظروف
اجتماعية أم نتيجة اختالالت وراثية ؟ أم هي اختالالت نفسية وعقلية معينة ؟ تؤثر على االنسان فتشوه
لديه القيم األخالقية ،تتعدد السبل لكن النتيجة واحدة ،الجريمة .
نشير أوال إلى أن الجريمة هي ظاهرة صحية ومفيدة لتطر األخالق والقانون في المجتمع ،و قد نتفق
جميعنا في طرح السؤال حول لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا لكن الجواب يختلف باختالف علماء
االجرام والفقه الجنائي ،فقد نجد االجابة في عدة علوم كعلم النفس وعلم االجتماع وعلم الطب اعتبار أن
علم االجرام ال يقتصر على القوانين والحقوق في تفسير الظاهرة االجرامية ألنه الجريمة لها عالقة
باإلنسان وتكوينه النفسي والبيولوجي وهذا ال يمنع رجال القانون من دراسة الظاهرة االجرامية وتأملها
ولو اعتمادا على أبحاث أجيال سابقة واالستفادة من مجهوداتهم في بحثهم عن السلوك االجرامي لإلنسان
وألن علم النفس يهم االنسان وسلوكه فهو يختلف عن باقي فروع القانون كالقانون المدني مثال الذي ال
يمس االنسان في تكوينه وسلوكه بل يمس ذمته المالية ،و لعل السبب الذي يدفع رجال القانون للبحث
في علم االجرام هو أنه يمس وينصب على دراسة السلوك االجرامي لإلنسان والعوامل التي تؤدي إلى
قيامه بالسلوك االجرامي .
القانون الجنائي الخاص والعام يستنبطان من القاعدة القانونية بخالف علم االجرام الذي يستنبط انطالقا
من األبحاث والدراسات والعلوم االنسانية االخرى ،وال يجب على رجل القانون أن يغفل على معرفة
2
هذه االبحاث والدراسات والعلوم التي تفسر الظاهرة االجرامية فالقاضي الجنائي مثال ال يستطيع تطبيق
القاعدة القانونية تطبيقا سليما دون األخذ بعلم االجرام ،ابرز مثال على ذلك هو تكييف الحكم حسب
الحالة والتوفيق بين الحد االدنى والحد االقصى للعقوبة ،واألحداث ال يمكن معاملتهم كالبالغين ،
فالمشرع عندما يريد تفريد العقوبة فهو ال يسوي بين االسوياء وبين فاقدي االرادة ،على عكس
المدرسة الكالسيكية التي تقول بـ " جريمة واحدة عقوبة واحدة " ،فقديما كان القاضي مجرد آلة ينطق
بالحكم فكان ناطقا باسم القانون والسلطة القضائية كانت تتبع أهواء السلطة التنفيذية والمجرم يأتي
للمحكمة وهو ال يدري أي عقوبة ستنزل عليه ،بعد ذلك ظهر مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية أي "ال
عقوبة وال جريمة إال بنص" أي منع التعسف واقرار مبدأ المساواة ،أي المساواة تعني جريمة واحدة
عقوبة واحدة وال تفريق بين االشخاص ،لكن تبين بعد ذلك أن المساواة الحقيقية هي أن لكل جريمة
عقوبات مختلفة فظهرت الحاجة الى اعطاء القاضي سلطة تقديرية في اختيار العقوبة المناسبة لكل
جريمة طبقا لمعايير خطورة الفعل االجرامي وخطورة السلوك االجرامي ،القاضي كانت لديه سابقا
عقوبة واحدة االن له عقوبات متراوحة بين الحد االدنى واالقصى وقد يعطيه الحق في اختيار العقوبة
المناسبة له ،فـبعد ظهور علم االجرام اصبح الحكم تتدخل فيه الحالة النفسية والبيولوجية والدوافع
الخارجية التي تؤثر على االنسان و تدفعه الرتكاب الجريمة فظهرت قاعدة الحد األدنى والحد االقصى ،
فالعقوبة تختلف من شخص آلخر ولو كانت نفس الجريمة انطالقا من الفصل " 141للقاضي السلطة
التقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحد األدنى واألقصى مراعيا خطورة الجريمة من ناحية
وشخصية المجرم من ناحية أخرى "
تحديد الحكم حسب خطورة الفعل االجرامي وخطورة الفاعل أي المجرم من بين المستجدات التي أتى
بها علم االجرام ،وله يرجع الفضل في إعطاء العقوبة المناسبة حسب الفرد ولو تشابهت الجريمة
والقاضي لن يكون مصيبا في الحكم إذا لم يكن ملما بعلم االجرام عارفا بالظروف االجتماعية والنفسية
والبيولوجية التي تؤثر على الجاني .
وهناك مثال ما يسمى بالسجل العدلي فالشخص الذي له سجل عدلي نظيف تختلف عقوبته عن مرتكب
الجريمة الذي سبق له أن ارتكب جريمة ،فتحضر ظروف التخفيف و تحضر ظروف التشديد .
خطورة الفعل و خطورة الفاعل مستجدات أتى بها علم االجرام والقاضي ال يستطيع تطبيق القانون
الجنائي تطبيقا سليما إن لم يكن ملما بالفاعل نفسيا واجتماعيا و مطلعا على سجله العدلي وتبقى خطورة
الفعل وخطورة الفاعل من أبحاث علم االجرام وغالبا لن يكون رجل القانون ملما بالتكوين العضوي
والنفسي للجاني كما يكون ملما بذلك الطبيب وعالم النفس وعالم االجتماع لكنه يستطيع أن يستفيد من
كل ما يدلي به هؤالء ويطابقه على الواقع ثم يكون له رأيه في النهاية ،فدراسة علم االجرام من االهمية
بمكان ألنها تقدم بعدا ثالثا لرجل القانون .
3
إن أهم ما قدمه علم االجرام هو تفريد الجزاء أو العقوبة الجنائية ونتحدث هنا عن تفريد تشريعي و
تفريد قضائي وتفريد تنفيذي ،والتفريد هو اختيار العقوبة المالئمة والمناسبة للمتهم والمشرع عندما
يضع النص الجنائي يجب عليه أن يضع في اعتباره التطبيق المرن لهذا النص وال يجب أن يساوي بين
العاقل وفاقد العقل واالرادة ،بين الكامل االهلية والقاصر ،ألن المسؤولية الجنائية تتدرج حسب
المراحل العمرية لإلنسان وإن الشخص قبل سن 11سنة يكون منعدم األهلية و في سن 11يكون ناقص
األهلية وفي سن 11يكون مكتمل األهلية ويتحمل مسؤولية تصرفاته ،بخالف المدرسة الكالسيكية التي
ال تفرق بين قاصر وكامل األهلية ،بين عاقل و مجنون ،فتقول جريمة واحدة عقوبة واحدة ،هكذا
فرق المشرع المغربي مثال بين مرتكب جريمة القتل مع سبق االصرار والترصد وبين مرتكب نفس
الجريمة تحت تأثير االستفزاز ،و طبق تشديدا في االولى نظرا لتواجد خطورة إجرامية وتخفيفا في
الثانية النعدام النية االجرامية والخطورة الجرمية ،لذلك عمل المشرع على تفريد الجزاء الجنائي
ووضع جزاءات مختلفة لنفس الجريمة ،وعلم االجرام هو من يساعد المشرع على هذه المغايرة و
التفريد التشريعي للجزاءات الجنائية ،فعلم االجرام إذن يقدم أهمية كبيرة للمشرع فيما يتعلق بالتفريد
التشريعي للجزاءات الجنائية ،وال يمكن للمشرع أن يعمل على إخراج نصوص جنائية فعالة دون
االستفادة من االبحاث في علم االجرام .
أما بالنسبة للقضاء فيمكن لعلم االجرام أن يخدمه كالتالي:
أوال :التمييز بين التفريد التشريعي والتفريد القضائي :التفريد التشريعي يكون أثناء تشريع القوانين
أو النصوص الجنائية أما التفريد القضائي فيكون عند تطبيق هذه القواعد القانونية ،التفريد التشريعي
يقوم به المشرع مثال عندما يشرع قوانين أو نصوص تفرق بين العقوبة الموجهة أو المطبقة على كامل
االهلية وناقص االهلية و بين من لديه نية اجرامية وبين من ليس لديه نية اجرامية أو خطورة اجرامية ،
فيقوم به عند سن القوانين فتكون هناك مغايرة واختالف في تحديد العقوبة لنفس الجرم ،لكن التفريد
القضائي يقوم به القاضي نفسه عند تطبيق النص القانوني الجنائي تحت معيار الحد االدنى واالقصى
وحسب دراسته لنوع الجريمة والشخصية االجرامية ،ففي القديم في فترة سميت بالفترة السوداء كان
القاضي مثل االلة وقد سلبت منه السلطة القضائية فالسلطة التنفيذية هي من تصدر له االحكام فينطق
القاضي بالحكم حسب مكانة الجاني في المجتمع وحسب لونه وعرقه ولغته فيحكم عليه بما شاء وكيفما
شاء حيث انعدمت قاعدة ال عقوبة وال جريمة إال بنص ،بل وحتى تنفيذ الحكم كان يختلف من شخص
آلخر ،لكن بعد الثورة على االستبداد انتزعت السلطة القضائية من يد السلطة التنفيذية و طبقت قاعدة ال
جريمة وال عقوبة إال بنص وأصبح للمجتمع دور في تحديد العقوبة التي يجب أن يتقيد بها لكن تبين بعد
ذلك أن هناك عقوبة جريمة واحدة عقوبة واحدة تخل بمبدأ المساواة ،فكيف يمكن أن تكون هناك عقوبة
واحدة لجريمة واحدة في إطار نية إجرامية مختلفة ،فظهرت الحاجة إلى إعادة صياغة تلك المبادئ ،
فظهر ما يسمى بمبدأ التفريد القضائي ،فأعطيت للقاضي صالحيات جديدة وسلطة تقديرية محصورة
بين الحد االدنى واالقصى ،ثم ظهر أن هذا ال يكفي فجاء ما يسمى بالنزول عن الحد االدنى فيمكن
للقاضي النزول عن الحد االدنى للعقوبة إذا ظهر له أن العقوبة مبالغ فيها ،لكن يجب أن يكون هذا
النزول معلال بأسباب يقبلها القانون ،فيكون الحكم على الشكل اآلتي " نظرا للظروف االجتماعية
والنفسية قررت المحكمة منح المتهم ظروف التخفيف و نزول العقوبة " وفي بعض االحيان ينطق
القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها " حكم سنة موقوف التنفيذ " ويمكن للقاضي مع المشروع الجديد أن
يخاطب المتهم ويقول له " ما رأيك أن تقضي العقوبة حبسية أو تشتري عقوبتك ،كل يوم مدفوع األجر
1222درهم مثال عن كل يوم ،أو ما يسمى بالغرامة اليومية لكن فقط في الجرائم البسيطة كالمخالفات
أو الجنح أما الجنايات فال يمكن ذلك وحتى الغرامة المالية تخضع لمبدأ التفريد فالغني يمكن أن يشتري
4
عقوبته بسعر أكبر من الفقير ،وقد يحكم ال بالغرامة وال بالحبس بل باألشغال الشاقة ،فيمكن الحكم
على طالب أو موظف مثال ارتكب جريمة مثال بأن يعمل خدمة أو عمال لفائدة مؤسسة دون أجر كعقوبة
بديلة ،ألن ال طالب لو أودعناه السجن ربما يتعلم فنونا أخرى للجريمة لم يكن يعرفها فمن األحسن أن
يعمل عمال لفائدة المجتمع يكون عقوبة له ،كل ذلك في إطار السلطات التقديرية التي منحت للقاضي
التي وصلت إليها السياسة الجنائية المعاصرة التي رجعت إلى األصل و هو النظام االسالمي حيث أن
القاضي في التشريع االسالمي له سلطة تقديرية واسعة حسب ظروف الجاني قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم " أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم " أي من لهم قدر في المجتمع وشهد لهم بالصالح إن زلت لهم
قدم فاألحسن هو الستر و العفو وجبر عثرات الكرام ،حيث أن االسالم يراعي الدوافع النفسية
واالجتماعية التي دفعت الشخص إلى ارتكاب جريمة والحكم بالعفو بينما من يستحق العقوبة هو من
ثبتت في حقه الخطورة االجرامية ،وللقاضي في االسالم الصالحية في الحكم ابتداء من التوبيخ وانتهاء
باإلعدام ،حسب الفعل الجرمي و خطورة الفاعل .
بالنسبة للمؤسسات السجنية :أو المكلفة بتنفيذ العقوبة ،السجن ظهر بمثابة مكان لتنفيذ العقوبة
واالنتقام والزجر والردع من أجل أال يعاود المجرم سلوكه االجرامي وإلعطاء المجتمع رسالة مفادها
بأن الشخص الذي يرتكب جريمة يستحق العقوبة و كل من حاول ارتكاب الجريمة فالسجن هو مكانه
الطبيعي ،من أجل إعادة التأهيل واالصالح واالدماج ،فالسجن بمثابة طبيب نفسي أو مستشفى للمجرم
فالمجرم شخص مريض يحتاج إلى مستشفى وهو السجن ،فيدخله ليتكيف من جديد مع قيم المجتمع
والتقاليد التي سلبت منه فيعاود تأهيله وجعله إنسانا صالحا ومصلحا في المجتمع ،هذا هو الوضع
الحديث للسجون وعلم االجرام له فضل كبير في تحويل أو تغيير الهدف السجني ،فعلم االجرام وأبحاثه
ساهمت بشكل كبير في خدمة المؤسسات السجنية عن طريق الفحص والتصنيف من قبل إدارة السجون
،فهي تفحصه نفسيا وعضويا ثم تصنفه فالنساء لديهم مؤسسات خاصة واالطفال كذلك والرجال أيضا
والمعتقلين االحتياطيين والمجانين ،ثم يتم التصنيف أيضا داخل كل صنف حسب درجة الخطورة
والسن والعقل والجنس ،فعلم االجرام هو المتدخل من أجل ضبط هذه التصنيفات والفحوصات .
أيضا ظهر في علم االجرام بأن السجين إذا تم الحكم عليه بـ 12سنوات وانضبط حاله خالل 5سنوات
وتعلم حرفة جيدة يفرج عنه " قاضي تطبيق العقوبات " إفراجا شرطيا أو يعفو عنه بالمرة .
االجرام ظاهرة اجتماعية كونية
أثبت كل الباحثين في علم االجرام أن الجريمة تنبثق من المجتمع وتالزمه ،و هي ظاهرة طبيعية في
كل مجتمع لذلك نعطيها صفة الكونية اي أنها ال تقتصر على مجتمع دون آخر ،فهي ال تستلزم زمانا أو
مكانا محددا ،والظاهرة االجرامية رغم كونيتها فإنها تخضع لترتيب زمني متسلسل ومتالحق تعرفه كل
المجتمعات ،وإلثبات كونية الظاهرة االجرامية سنقف على االوقات الثالثة للجريمة ثم نقف على ترابط
وتداخل هذه االوقات التي ال غنى عنها لوجود الجريمة والسلوك االجرامي يعرف ثالثة مراحل لدراسته
واستجالء معناه .
المرحلة االولى :وضع القواعد الجنائية ،حيث تصيغ الجماعة النمط االجتماعي وتفرضه على
أفرادها وتضع قواعد زاجرة في مواجهة كل من يخالفه ،هذا ونشير إلى أن النمط االجتماعي يتغير
باستمرار وبالتالي تتغير القوانين الجنائية ،واالنسان في صراع داخل الجماعة وبالتالي كان خرق
القاعدة القانونية أمرا واردا بقوة .
5
المرحلة الثانية :عدم احترام القاعدة القانونية ،قد يحدث انتهاك للقواعد االساسية للسوك االجتماعي
وهذا االنتهاك يعتبر إجراما يستوجب العقوبة .
المرحلة الثالثة :رد الفعل االجتماعي ،ذلك أن المجتمع يحمي كيانه وطمأنينته فيلجأ إلى فرض
السلوك االجتماعي الذي يبغيه ،ويفرض عقوبات زجرية على كل مخالف ،و رد الفعل االجتماعي
الزجري هو مقابل للسلوك االجرامي ،وهذا الحق في العقاب يملكه المجتمع وتبرره ضرورة الحفاظ
على التضامن االجتماعي وطمأنينة واستقرار المجتمع .
هذه االوقات الثالثة للجريمة ال يمكن استيعابها منفردة ،بل هي حلقة واحدة تعمل كل واحدة على خلق
أخرى فال تتصور جريمة بدون قاعدة سلوكية وال رد فعل اجتماعي في غياب جريمة ،وهذا الترابط
ي زداد قوة كلما تقدم المجتمع في خلق وتطوير مبادئ سلوكية معتمدة لديه ومعاقب عليها .فنلمس حلقية
الجريمة و نالحظ االوقات الثالثة للجريمة فالقاعدة الجنائية قابلة للخرق وهو ما يؤدي للعقاب ثم للتفكير
في وضع قاعدة قانونية جديدة فنجد أنفسنا أمام دائرة حلقية .
نشأة علم االجرام وتطوره
الجريمة ظاهرة طبيعية في المجتمع تالزمه خالل سيره وتطوره تقتضيها ضرورة الحياة المشتركة
فيمكننا القول أن الجريمة ال توجد اذا انتفت العالقة بين االفراد ،لذلك تاريخ علم االجرام طويل منذ
االنسان البدائي الذي اعتبر الجريمة مخالفة ألوامر تمليها القبيلة والعشيرة ،أما االنسان اليوناني فاعتبر
االنسان المجرم شقي اصابته لعنة االلهة و والجريمة قدر االهي أما السفسطائيون فيعتبرون االنسان
المجرم مخفيا لضعفه يعوضه نظرا لطبيعته البشرية ذات المجموعة من الغرائز الحيوانية ،لكن سقراط
آمن بالفعل البشري وقدرته على مقاومة االهواء الشهوات الحيوانية و ربط الفضيلة بالمعرفة واعتبر
االنسان الجاهل وحده من يرتكب الجريمة ،أما أفالطون فاعتبر االلهة غير مسؤولة عن خطإ االنسان
واالنسان المجرم ال يقوم بجرمه إال لنقص في عقله أو عوامل خبيثة تتحكم فيه فال تترك له حرية اختيار
الفضيلة وهو يعتبره مريضا يحتاج إلى دواء والعقاب هو الدواء بل وعزله عن المجتمع حتى ال ينتشر
مرضه ،وعلى العموم سادت فكرة الخير والشر بين الفالسفة اليونان لكن المجرم لم تبدأ دراسته العلمية
بالمعنى الصحيح إال سنة 1181مع الطبيب االيطالي لومبروزو في كتابه "االنسان المجرم" وأستاذ
القانون الجنائي االيطالي كاروفالو صاحب كتاب علم االجرام وااليطالي الثالث اينريكو فيري صاحب
كتاب السوسيولوجيا الجنائية .لومبروزو كان أستاذا للطب الشرعي واالمراض العقلية قد اتاحت له
مهنته و تعامله مع المجرمين والقتلة والمرضى العقليين حيث الحظ عيوبا في تكوينهم الجسمي
العضوي الذي اعتبره حصيلة الوراثة االجرامية .أما أنريكو فيرري فقد اعتمد الخط العلمي الذي
وضعه لومبروزو لكنه اختلف معه في اسباب الجريمة واضاف إلى أسباب لومبروزو العامل االجتماعي
والطبيعي والجغرافي وقال بأن الجريمة نتيجة لتداخل عدة عوامل داخلية وخارجية في المجرم طبيعية
واجتماعية و كان إدخال العامل االجتماعي ثورة على القانون الجنائي .أما كاروفالو فقد انتقد االتجاه
البيولوجي عند لومبروزو وابتعد تماما عن دراسة التكوين العضوي للمجرم ونادى بدراسة مضمون
السلوك االجرامي دراسة دقيقة حتى يمكن تقويم المجرم واصالحه ،وبعد تأسيس علم االجرام من
طرف هؤالء الثالثة تتابعت المحاولة العلمية الفلسفية لتفسير السلوك االجرامي وتوالت الدراسات
والكتب أهمها كتاب علم الجريمة للهوالنديبونجير سنة 1025و كتاب التكوين الجرمي لـ دي توليو سنة
1010و كتاب مقدمة في علم االجرام للبلجيكي دو غريف سنة 1040و كتاب القيم علم االجرام
للفرنسي بينتيل سنة ، 1011إضافة إلى ذلك تتوالى الدراسات والنشرات واالبحاث المتعلقة بعلم
6
االجرام تصدر عن عدة مؤسسات دولية ووطنية ،كما أن مؤتمرات األمم المتحدة حول الجريمة
والوقاية منها اصبحت مرجعا أساسيا قانونيا وفقهيا تهتدي به الدول وتستفيد منه .
مفهوم علم االجرام إو إشكالية مفهوم علم االجرام
علم االجرام من العلوم التي يستحيل إيجاد تعريف محدد ومعين لها يعطي ماهية علم االجرام ،وذلك
راجع الختالف المدارس واالبحاث والباحثين الذين حاول كل واحد منهم على حدة أن يعطي تفسيرا
دقيقا لهذا العلم ،مما ساهم في تعدد اآلراء واالنتقادات لكل مدرسة منهم ،فهم اجتهدوا انطالقا من
الفترة التي عاشوها ،فتنوعت اآلراء وتعقدت النفسيات واالجابات والبحوث لكن المالحظ أن أول
جريمة ارتكبت من قبل قابيل ضد هابيل وقعت قبل ظهور الظروف االجتماعية واالقتصادية والعلمية
والنفسية وغاب عنهم جميع االضطرابات النفسية والعقلية والبيولوجية ،أيضا مع آدم و حواء توفرت
لهم جنة هللا في السماء ومع ذلك خرقوا القاعدة القانونية االالهية وأكلوا من الشجرة ،فأخرجهما هللا من
الجنة عقابا لهما ،ومع ذلك جعل هللا االستغفار وهللا يحب التوابين ولو لم يذنب البشر ألتى هللا بقوم
يخطؤون ويستغفرون ،فالجريمة إذن متأصلة في االنسان والذنب والخطأ من صفات البشر ،فهي
ظاهرة طبيعية فيه ،و توجد في كل المجتمعات بال استثناء وفي كل المستويات االجتماعية لكن تبقى
القاعدة " إنه من الصحي أن ترتكب الجرائم لكن يجب أال يرتفع معدل الجريمة في مجتمع ما على
سقف معين ،وال يجب أن ينخفض على مستوى معين ،ألنه انخفاض غير طبيعي وهو أمر ال يفرح
العدالة الجنائية بل ينذر باألسوأ القادم .
علم االجرام يستحيل معرفة مفهومه نظرا لحداثته ،فكيف يمكن للقاضي والمشرع والمؤسسة السجنية
أن تعتمد على علم حديث لم ينضج بعد ولو يصل إلى مرحلة النضج العلمي ،لكننا ننسى أننا بصدد علم
يدخل ضمن العلوم االنسانية وليس العلوم التطبيقية أو الطبيعية فال يمكن باي حال من األحوال ا
لوصول إلى خالصات ثابتة ومطلقة .
ظهر علم االجرام في القرن 10على يد لومبروزو الذي استخدم المالحظة والتجربة من أجل البحث
عن اسباب الجريمة ليشعل بذلك ثورة علمية لم تهدأ نيرانها إلى اليوم ،فألول مرة في تاريخ البشرية تم
إخضاع الظاهرة االجرامية للمنهج العلمي ،فاستخدم العلم لدراسة الظاهرة االجرامية ،وما يحسب لـ
لومبروزو أنه كان من السباقين في هذا العلم نظرا لحداثة هذا العلم وتعدد نطاقاته وموضوعاته
وارتباطه بالعلوم االخرى .
لكننا سنقف حول اتجاهين لعلم االجرام ،االتجاه األول موسع والثاني ضيق .
االتجاه الموسع :بعض العلماء في علم االجرام اشاروا على أنه يمكن اعطاء تفسير لعلم االجرام دون
استخدام فكرة االنحراف أي السلوك االجتماعي المغاير للمجتمع سواء شكل هذا السلوك جريمة أو ال ،
ألن االنحراف مفهوم أوسع وأشمل من مفهوم الجريمة ،فكل جريمة انحراف وليس كل انحراف جريمة
فمحاولة االنتحار مثال ليست جريمة في القانون الجنائي وهو ال يعاقب عليها لكنه يبقى سلوكا منحرفا
ويدل على انحراف في سلوك االنسان ،فقيام طالب بسلوك منحرف قد ال يعتبر جريمة لكن اذا ارتبط
بنص جنائي كان جريمة ،وأن تكذب على صديقك ليس جريمة بل سلوك منحرف لكن الكذب أمام
القاضي يعتبر شهادة زور وهو جريمة وليس مجرد سلوك منحرف ،واالنحراف هو موضوع دراسة
علم االجرام الذي يقول أننا ال يجب أن نقف فقط على مفهوم الجريمة مفهوما قانونيا لكن يجب دراسة
االنحراف سواء كان جريمة أو لم يكن جريمة ودراسة االنحراف يجب أن يكون بمفهومه الواسع
والشامل ،لكن كانتقاد لهذه الفكرة إذا اهتم علم االجرام بهذا النطاق الواسع من االنحراف و دراسة كل
7
انحراف على حدة سيتوسع نطاق علم االجرام فكل فرد ال بد أن ينحرف يوما ما لكن انحرافه ليس
بالضرورة يؤدي إلى ارتكاب جريمة .االنحراف هو فعل صحي لكن السلوك المنحرف هو الشيء غير
الصحي .االنحراف سلوك مضاد للمجتمع والسلوك الالاجتماعي مضاد لقيم وأخالق المجتمع وكل
سلوك مخالف لقيم المجتمع هو انحراف لكن ليس كل انحراف جريمة .
علم االجرام حسب االتجاه الموسع هو العلم الذي يهتم بدراسة الجريمة واالنحراف معا ،بغية الوصول
إلى اسبابه وطرق عالجه .و قد أعطى تعريفا موسعا لعلم االجرام " هو العلم الذي يهتم بدراسة السلوك
الالجتماعي بهدف الوصول الى أسبابه وسبل عالجه " ،نالحظ أن مصطلح السلوك الالجتماعي
مصطلح فضفاض فال نستطيع احصاءه فهو يتغير حسب االزمنة والمجتمعات ،فهو السلوك المنحرف
المضاد للمجتمع دائما ،ويمكن القول أننا ال نستطيع الوصول الى اعطاء تفسير للظاهرة االجرامية دون
المرور عبر تفسير السلوك المنحرف ،انتشر هذا الرأي في الفقه االمريكي حيث قال ادوين أن علم
االجرام يجب أن يضم 1فروع مترابطة هي علم االجتماع القانوني و علم العقاب و علم اسباب الجريمة
هذا التوسع في تعريف علم االجرام أمر ال مبرر له حيث أنه يؤدي الى ادخال علوم اخرى تحت جناح
علم االجرام مما يجعل من دراسة الظاهرة االجرامية فكرة متشعبة ال تمكن باحثيها من التوصل الى
نتائج محددة و دقيقة ألن االنحراف مفهوم واسع شاسع ويختلف من مجتمع آلخر ،بل وهناك من جعل
علم االجرام كل دراسة كل سلوك مضاد للمجتمع مما يفقد علم االجرام ذاتيته واستقالليته ويجعله علم
سلوك فحسب ويخلطه بعلم االجتماع .
االتجاه الموسع يضم شقين كبيرين يوصل أحدهما الى االخر ،الشق السببي التفسيري فيقول أن علم
االجرام هو علم من العلوم السببية التفسيرية فهو يهتم بدراسة أسباب و عوامل الجريمة ،ثم شق الوقاية
والعالج بمعنى أنه يهتم بالوسائل العلمية التي يجب أن تكون أنجع الطرق لمكافحة الجريمة .
االتجاه الضيق :أغلب علماء االجرام خاصة من يتبنون المفهوم القانوني لتفسير الجريمة يقفون على
الشق األول فقط أي الشق السببي التفسيري فيقولون بأن علم االجرام يجب أن تتحد موضوعاته في
البحث عن سبب الظاهرة االجرامية ولماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا دون دراسة سبل مواجهتها
فأصحاب هذا االتجاه يقولون بأن علم االجرام يجب أن يهتم بدراسة وتفسير الظاهرة االجرامية واسبابها
دون الشق الوقائ ي العالجي ألن هذا الشق الثاني يعتبرونه ليس مهمة علم االجرام بل مهمة علم السياسة
الجنائية وعلم العقاب ،فمهمة علم االجرام واحدة هي البحث لماذا يجرم االنسان أما سبل الوقاية
والعالج فيجب أن تتكلف بها فروع قانونية و اجتماعية أخرى كعلم السياسة الجنائية والعقاب والوقاية
العامة من الجريمة ،هذا االتجاه يعرف علم االجرام كالتالي وهو التعريف االقرب للصواب " علم
االجرام هو العلم الذي يدرس ويبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة المجتمع و حياة الفرد من
أجل الكشف عن اسبابها وتحديد العوامل الدافعة الرتكابها "
االتجاه ا لضيق يضم شكلين ،علم االجرام التطبيقي أو االكلينيكي فهو ينظر الى الجريمة على أنها
ظاهرة فردية تتنوع اسبابها وعواملها حسب كل حالة ،ثم علم االجرام العام وهو يختص بدراسة
عالقات السببية العامة التي تربط بين ظروف ووقائع معينة وبين حجم وشكل الظاهرة االجرامية .
بقي ان نشي إلى أمر مهم وهو أن الجريمة بدأت دراستها منذ األزل ،لكن في عهد لومبروزو انتقلت
من ظاهرة مجردة إلى دراسة علمية ،وبما أن علم االجرام أصبح دراسة علمية فال بد م استعمال مناهج
البحث العلمي واساليب الدراسة العلمية .
8
مناهج وأساليب دراسة الظاهرة االجرامية
هناك نوعين من المناهج في دراسة الظاهرة االجرامية مناهج اجتماعية ومناهج فردية
المناهج االجتماعية :تهدف إلى تقصي حقائق الظاهرة االجرامية باعتبارها ظاهرة حتمية وثابتة في
حياة أي مجتمع ،وما يسمى بالدراسة االحصائية وأسلوب االحصاء الجنائي وهو التعبير عن ظاهرة
معينة باألرقام ،واسلوب االحصاء الجنائي ظهر في النصف األول من القرن 10حينما أصدرت وزارة
العدل الفرنسية إحصاء حول عدد الجرائم في فرنسا ،ولهذااالسلوب فوائد ومزايا متعددة ،فهويفيدنا في
معرفة عدد الجرائم المرتكبة وتفسير الظاهرة االجرامية من حيث الزمان والمكان وفي كونها توجه
السياسة الجنائية التي تعتمد على ما يتوصل إليه علماء علم االجرام وبحوثهم فتأخذ ببحوثهم وعلمهم و
تعرضه على المشرع الذي يسن القوانين والفصول الجنائية ،وتقترح الوسائل الكفيلة بمحاربة الظاهرة
االجرامية والوقاية منها ،لكن رغم الفوائد التي جاء بها هذااالتجاه أي االتجاه االحصائي إالأنه توجه له
انتقادات كثيرة بسبب اتسامه بالسطحية بقدر كبير وال يعطي حجم االجرام الفعلي للمجتمع وذلك راجع
ألسباب خفية عن أعين العدالة ،وبقدر ما نجح هذااالسلوب في إعطاء نظرة عن حجم ونسبة االجرام
في المجتمع لكنه لم يعط الحجم الحقيقي الفعلي للجريمة داخل المجتمع فاإلجرام الفعلي يشمل جميع
الجرائم المرتكبة في فترة زمنية محددة بغض وصلت إلى يد الشرطة أم ال ،إذن يستحيل أن نعرف
االجرام الفعلي في مجتمع معين ،إذن سوف نبحث عن احصائيات حول االجرام الظاهر الذي وصل
إلى علم الشرطة من أجل تحديد نسبة و حجم االجرام الظاهر في مجتمع معين ،لكن رغم أن هذه
االحصائيات ال نستطيع االعتماد عليها ك مؤشر ثابت لكنها تبقى مؤشرا نسبيا يفرض على الباحث
التعامل معه بحيطة وحذر كبيرين ألن االحصائيات مجرد تسجيل لنشاط الشرطة وليس تعبيرا حقيقيا
عن حجم ونسبة الظاهرة االجرامية في المجتمع .فيمكن القول أن احصائيات الشرطة هي احصائيات
خداعة ألمرين اثنين :األمر األول مرتبط بالتبليغ أو العلم بالواقعة االجرامية والثاني اعادة بناءة
الموضوع .
عوائق وصول الجريمة إلى مصالح الشرطة :العلم بالواقعة االجرامية مرتبط بأمرين اثنين أيضا وهو
قابلية الجرم للبروز واالحالة ،فهناك جرائم قابلة للبروك كالقتل والسرقة فهي تصل إلى أدي الشرطة
وبالتالي الوصول إلى العدالة ألنها تثير سخط وغضب الجماعة فيستحيل التستر عليها من قبل المجتمع
بالمقابل جرائ م االختالس داخل الشركات أو التهرب الضريبي هي جرائم ليست قابلية البروز وقلما
تصل إلى يد الشرطة و العدالة الجنائية .،
االحالة وجود جرائم دون ضحايا مباشرين كالتهرب الضريبي مثال وكذلك وجود مسالك للضبط الذاتي
لحل المنازعات غير طريق أجهزة العدالة الجنائية مثال السرقة من مرجان ،فمسألة اإلحالة أو التبليغ
إلى العدالة الجنائية مسالة مرتبطة بنظرة الجماعة والضحية ونظرتهما للعدالة الجنائية والثقة في قدرتها
على حل المنازعات وفاعليتها في إعادة األمور إلى مجراها الطبيعي ففي الدول المتقدمة مثال الجمهور
له ثقة في أجهزة العدالة وقدرتها على حل النزاع وإرجاع الحق إلى اصحابه .
مسالة عدم االحالة أو التبليغ تستر العديد من الجرائم وتحول بينها وبين الوصول إلى العدالة الجنائية
وبالتالي هذا ال يساعدنا على معرفة حجم االجرام الفعلي في المجتمع
ظروف ومالبسات اركاب الجريمة :ارتكاب الجرائم أمام أعين الناس في مكان مكتظ بالسكان يستحيل
التكتم عنها فقابلية الجرائم للبروز والتبليغ عنها و وصولها إلى جهاز العدالة مرتبط بظروف ومالبسات
الجريمة.
9
مسألة االحالة أو التبليغ إلى أجهزة العدالة الجنائية مرتبط بأمرين اساسيين أولهما ظروف موضوعية
تتعلق بشخصية الجاني ثم وجود ضحايا مباشرين .
اعادة بناء الموضوع :حجم الجرائم المعلن عنه باإلحصائيات الرسمية مثال وزارة العدل أصدرت
عددا بالجرائم ،لكن ذلك الحجم ليس كل الجرائم التي أحيلت الى العدالة الجنائية بل يشمل فقط الجرائم
التي تمت اعادة بنائها أي خضعت لعملية التصفية والغربلة في سائر مراحل عمل الشرطة أو العدالة
الجنائية .
مثال في مجتمع معين عدد الجرائم فيه 122جريمة ،قد يصل إلى الشرطة 52جريمة فقط تبليغا أو
تربصا أو وشاية ،وليس كلها تحال إلى النيابة العامة فما يصل فقط 12جريمة والنيابة ال تحيل جميع
الجرائم إل ى للمحكمة وتقوم في غالب االحسان بحفظ الملف ألن لديها سلطة المالئمة فيحفظ الملف نظرا
لعدم كفاية االدلة أو أن الضرر الواقع ال يستحق إجراء محاكمة أو عدم االختصاص فيكون نوع القضية
مدنيا وليس جنائيا ،إذن 12جريمة فقط تصل إلى المحكمة ألن من مهام النيابة العامة غربلة و تصفية
القضايا المعروضة عليها فيستحيل إحالة جميع القضايا إلى القاضي وليس جميع القضايا التي تعرض
على المحكمة يتم الحكم فيها بالسجن فتحصل البراءة وربما عقوبات مخففة ربما فقط 12جرائم قد يصل
بها األمر إلى السجن ،خالصة القول يستحيل معرفة معدل الجريمة الفعلي داخل مجتمع ما فجميع
االحصائيات تبقى خداعة .
التمييز بين االجرام الظاهر واالجرام الشرعي :
االجرام الشرعي :هو حجم االجرام الصادر عن المحاكم الجنائية
االجرام الفعلي :هو عدد الجرائم الحقيقية داخل مجتمع ما
االجرام الظاهر :هو االحصاء الصادر عن مراكز الشرطة
سميناه شرعيا ألنه يعتمد على مبدأ الشرعية أي ال عقوبة وال جريمة إال بنص ،لكن ال يمكن االعتماد
كما قلنا على إحصاء المحاكم ألنه ال يمثل االجرام الفعلي داخل المجتمع لذلك يذهب الباحثون الى
االحصائيات الصادرة عن مراكز الشرطة ألنها تكون أكقر دقة وأحسن وسيلة لحساب حجم االجرام
الظاهر .
الرقم الرمادي = االجرام الشرعي – االجرام الظاهر
الرقم ا السود = االجرام الظاهر – االجرام الفعلي
من خالل هذه المقاربة يتضح أن هناك عملية تصفية وغربلة تقوم بها أجهزة العدالة الجنائية ابتداء من
مصالح الشرطة إلى مراكز السجون ،وكخالصة يمكن القول أن االحصائيات الجنائية بمختلف
مستوياتها سواء كانت صادرة عن مصالح الشرطة أو النيابة العامة أو المحاكم أو السجون ال يمكن
االعتماد عليها كمؤشر إحصائي سليم باستطاعته أن يدلنا عن حجم االجرام الفعلي داخل مجتمع ما ألن
هناك جرائم كثيرة يتم التستر عليها المتناع االفراد عن التبليغ عنها
الرقم االسود أو المظلم هو حجم هذه الجرائم المستترة الخفية وهو الفارق بين االجرام الحقيقي واالجرام
المعلن عنه ،وال يوجد لحد الساعة أي معيار حقيقي يمكن الرجوع إليه لمعرفة حجم االجرام الفعلي
للمجتمع ،فهناك جرائم العار كاالغتصاب و زنى المحارم واالجهاض و جرائم المسؤولين السامين
10
والرشوة واالختالس ،كل هاته الجرائم يستتر عنها وتقع بشكل يومي ومستمر وال تصل إلى علم العدالة
بل وهناك من الجرائم ما يصل إلى يد العدالة لكنها تتقاعس عنها لعدم كفاية االدلة أو لنقص في
االمكانيات والشرطة دائما تتستر عن الحجم الحقيقي للجرائم كي يشعر الناس باالمان وتظهر بمظهر
المسيطر على الوضع وال تسود حالة الخوف في المجتمع ،لكن يمكن القول أن االحصائيات الرسمية
هي احصائيات خداعة ال يمكن االعتماد عليها وال يمكن االعتماد عليها الستخراج خالصات حتمية ،
فيستحيل على الباحث في علم االجرام االعتماد عليها لكنه يستأنس بها فقط وال يمكنه بأي حال من
االحوال أن يستخرج منها قواعد أو قوانين ونتائج دقيقة .
هل يمكن أن نتحدث عن مفهوم واحد أم أن كل علم يحافظ على استقالله ،نورد هنا رأي فيري الذي
يعتبر القانون الجنائي ال يمكن أن يكون مستقال وال فائدة منه خارج نطاق علم االجرام ،فالنسبة إليه
دراسة الجريمة من أجل حماية المجتمع ال يمكن أن يقوم بها القانون الجنائي وإنما يحققه علم االجرام
الذي يعمد إلى تحديد الجريمة تحديدا اجتماعيا يحافظ على الواقع الطبيعي للجريمة ويدرسها انطالقا من
مفهومها االجتماعي وهو ما دعا فيري إلى إلغاء القانون الجنائي وتعويضه بعلم االجرام لذلك يوصف
فيري بأنه أعطى مفهوما امبرياليا لعلم االجرام
12
لكن الحقيقة أن علم االجرام متميز عن القانون الجنائي ويختلف عنه اختالفا واضحا ،فالقانون النائي
يعتبر ضابطا معياريا يضم المبادئ السلوكية العامة ويحددها في شكل جرائم ويضع لها عقوبات محددة
تكون على شكل أمر أو نهي ،أما علم االجرام فيعالج الظاهرة االجرامية ،ورغم التخصص الذي
فرضته الضرورة لكنهما يلتقيان في موضوع دراسة الجريمة ويلتقيان ايضا في تحديد وشرح الظاهرة
االجرامية لكنهما يختلفان في طريقة التعامل مع المجرم والجريمة ،فالقانون الجنائي يصيغ قواعده آخذا
بعي ن االعتبار المعطى العلمي الذي يقدمه علم االجرام ،لكنه يعاقب على الجريمة بطريقة مجردة دون
اي اعتبار لشخصية المجرم ومحيطه االجتماعي ،لهذا يمكن القول أن علم االجرام يعتبر مصدرا من
مصادر القانون الجنائي كما أن القانون الجنائي هو مصدر من مصادر علم االجرام ألن ميدان علم
االجرام محدد باالطار الذي يرسمه القانون الجنائي لذلك يقال أن الجريمة ليست حقيقية في الواقع بل
هي حقيقة في القانون .
يمكن أن نقول أن ما يجمع بين علم االجرام والقانون الجنائي هي السياسة الجنائية باعتبارها فنا وعلما
موضوعها صياغة أحسن للقاعدة القانونية على ضوء علم االجرام .
أما علم االدلة الجنائية فله عالقة كبيرة بعلم االجرام ،ذلك أن علم االدلة الجنائية هو علم الدعوى
الجنائية ويهتم بالوسائل العلمية والفنية التي تساعد على معرفة المجرم والجريمة وظروف ارتكابها
واعطاء درجة الخطورة بينما علم االجرام يهتم بدراسة الجريمة كظاهرة اجتماعية انطالقا من شخصية
المجرم و معرفة اسباب ودوافع ارتكاب الجريمة
أخيرا نتطرق لعالقة علم االجرام بعلم العقاب الذي يقوم على حق الدولة في العقاب و يهتم بنتائج
وأهداف و وظائف العقوبة من ردع أو اصالح أو إعادة تأهيل و إدماج في المجتمع وهو في كل هذا ال
بد له من االستعانة بعلم االجرام ،أما علم االجرام فيتخذ من تطبيق العقوبة اساسا إلجراء الدراسات
المفيدة حول شخصية المجرم و معرفة أفضل للسلوك االجرامي .
ثانيا :علم االجرام والعلوم االنسانية
علم االجرام ال بد له أن يمارس دراسته للمجرم و الجريمة على ضوء علم النفس وعلم االجتماع بل
مستعينا حتى العلوم االنسانية االخرى دون أن تكون لهذه العلوم صفة االنفرادية في تفسير الظاهرة
االجرامية .ال بد أن نشير هنا إلى علم الحياة الجنائي أو البيولوجيا الجنائية التي تدرس التركيب
العضوي للمجرم والوظائف الجينية لديه ثم علم النفس الجنائي الذي يدرس الذكاء والطبع و االستعداد
االجتماعي للمجرم كما يدرس شخصية المجرم وتأثرها بالمحيط االجتماعي ومدى تأثير ذلك على
السلوك االجرامي ،أما علم االجتماعي الجنائي فقد تكفل بدراسة السلوك االجرامي في مفهومه
االجتماعي مركزا على العوامل االجتماعية والتفاعل الحاصل بينها وبين ما ينتج عنها من سلوك
منحرف .
المحور الثاني :تفسير الظاهرة االجرامية أو التفسير السلوك االجرامي
المحور الثالث :دراسة عوامل الظاهرة االجرامية
علم االجرام يدور حول سؤال جوهري مهم " لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا ؟ " وكل النظريات
التي تحدثت في هذا االمر لم تشف الغليل ولم تجب عن السؤال ،ما هو السبب ؟ ما هي العلة وراء
السلوك االجرامي ؟ و سوف يتهم هذا العالم بأنه غير ناضج وما زال في مرحلة التكوين ألننا لسنا في
خضم علم من العلوم الطبيعية ، 1=1+1بل نحن بصدد علم إنساني يبحث في االنسان ،واالنسان
13
مزيج من العقد النفسية ،تؤثر على سلوكاته ،فالجريمة إذن علم متراكم وأغلب االجرام يدرسون
الجريمة كونها ظاهرة عامة لكن ينسون أن الجريمة أنواع وليست واحدة فالجرائم الجنسية تختلف عن
الجرائم المالية أو جرائم العنف ،ووضع الجريمة كيفما كانت تحت قاعدة عامة خطأ كبير ،فيجب
دراسة كل جريمة على حدة ألن لكل جريمة اسبابها الخاصة ،فالتخصص مما يساعد في تطور العلوم ،
فالطب لوال تخصصه لما وصل إلى ما هو عليه من النجاح فيجب دراسة كل جريمة على حدة لكي
نصل إلى نتيجة حتمية وعالج فعال لكل جريمة .
لماذا إن يسلك االنسان مسلكا إجراميا ؟
الجريمة هي المجهول الذي يرتبط بالباطن والجانب الخفي من االنسان ،فيستحيل معرفة باطن االنسان
و يستحيل توقع سلوكاته ،وعلماء االجرام أنفسهم انقسموا إلى 1اتجاهات مختلفة في إعطائهم التفاسير
لظاهرة االجرامية ،فهناك االتجاه التكويني :ويرجع اسباب الجريمة إلى اسباب عضوية أو نفسية وقد
ظهر في أوروبا أو ما يعرف بالمدرسة االوروبية ،ثم هناك االتجاه االجتماعي :وهو اتجاه أمريكي
ظهر في أمريكا بعد فشل االتجاه االوروبي وقال بأن الجريمة ال ترجع الى التكوين الجسمي الطبيعي
لإلنسان بل ترجع إلى محيطه االجتماعي والعوامل االجتماعية ومن الخطأ اعتبار الجريمة ناتجة عن
العوامل البيولوجية النفسية وإنما هي نتيجة العوامل االجتماعية فعندما يتظافر الفقر مع البطالة مع القمع
تنتج لنا إنسانا مجرما ،ثم االتجاه التكاملي :الذي جمع بين المدرستين التكوينية واالجتماعية وقال أن
الجريمة ما هي إال نتائج لعوامل بيولوجية نفسية واجتماعية في نفس الوقت أي هي خليط مركب .
االتجاه التكويني :هذه النظريات أجمعت على أن السلوك االجرامي سببه أسباب داخلية ترتبط
بالشخصية االجرامية اي بالتكوين العضوي أو النفسي للمجرم .
اهتم الفكر االنساني على مر العصور بالجريمة وحاول جاهدا أن يجد لها شروحات مناسبة كما حاول
أن يحد منها بالعقاب من منطلقات أخالقية وفلسفية متعددة ،لكنها بقيت في إطار العقاب دون أن تبحث
عن الدوافع لتعالجها فالجريمة كانت دائما تهدد أمن المجتمع وبالتالي كان العقاب ضروريا لذلك لم
تظهر دراسة اسباب ما وراء الظاهرة االجرامية اال في القرن . 10أما في القرنين 18و 11فقد ذهب
أغلب الشارحين للسلوك االجرامي إلى اعتبار العوامل البيولوجية ،وهي محاولة تقترب من فراسة
االنسان القديم الذي ربط بين المجرم و مالمح جسدية ظاهرة في جسمه ،حيث قام االطباء بتشريحات
لجسم المجرم ثم ذهبوا إلى فراسة جديدة عرفت بفراسة الدماغ التي جعلت من قياسات جماجم المجرمين
وسيلة لمعرفة المجرم ،فانطلق أطباء أوروبا باحثين عن االوصاف الجسمية خاصة المتعلقة بالجمجمة
والذراع ليربطوا بها سلوكات معينة أو يجدوا لها نماذج لها نموذجا بشريا إجراميا يفسرون به سبب
الجريمة .
عهد لومبروزو
أهمها نظرية لمبروزو في تفسير الظاهرة االجرامية فهو األول الذي انتقل من دراستها نظريا إلى
دراستها علميا فعلم االجرام الحديث يدين لهذا العالم االيطالي بالفضل الكبير ألنه أول من وضع االسس
14
العلمية في مجال دراسة الظاهرة االجرامية ويعتبر حجر الزاوية لمعظم المذاهب البيولوجية التي عملت
على إعطاء تفسير للسلوك االجرامي وهي عصب الفلسفة الوضعية .
ولد المبروزو في ايطاليا 1020-1111من أبوين يهوديين ،درس الطب في عدد من الجامعات
االيطالية ثم عمل أستاذا للطب الشرعي والعقلي في الجامعة وعمل طبيبا لألمراض العقلية في السجون
االيطالية وعمل سنوات في الجيش االيطالي فـكون بذلك تجربة كبيرة عن الجريمة واالنسان المجرم له
عدة أعمال حول الجريمة وأسبابها ،المرأة المجرمة ،الدعارة ،والفكرة االساسية له هي أن هناك
أشخاصا يتميزون بمظاهر جسمانية خلقية ومالمح عضوية وسمات خلقية معينة ينقادون إلى ارتكاب
الجريمة تحت تأثير عوامل وراثية ويقدمون على الجريمة بحكم تكوينهم البيولوجي ،وأن سلوكهم
االجرامي يحكمه مبدأ الحتمية البيولوجية ،وإذا كان البعض اعتبر االنسان مخيرا فإن المبروزو اعتبره
غير مخير وإنما مسيرا وأنه يولد من بطن أمه مجرما بسبب اختالالت وراثية وسمات خلقية شاذة ترجع
إلى سمات االنسان البدائي يتوارثها جيل عن جيل ،هذه االختالالت تبدو على شكل مالمح عضوية
سماها سمات االرتداد فعندما نالحظ أن شخصا ما لديه سمات خلقية معينة شاذة نقول هذا مشروع مجرم
قادم ال محالة وقد خلص المبروزو إلى هذه النتائج انطالقا من دراسة ميدانية في السجون والجيش
وخرج بمجموعة من الخالصات ،وتتمثل هذه السمات حسب المبروزو في الخصائص الجسمانية التي
إذا ما توفرت في انسان ما يكون ختما مجرما .
ولومبروزو يعتمد في نظريته على فرضيتين رئيسيتين استقاهما من علم االجناس وعلم االمراض
العقلية ،فالمجرم ال مطبوع بالوالدة في نظره يخلق مجرما نتيجة ردة أو نكسة عكسية وراثية فهو يتميز
عن االنسان العادي بأنه توقف نموه الطبيعي في رحم أمه وبقي في حالة بدائية تشبه حالة االنسان
المتوحش العاجز عن إدراك القوانين التي تنظم المجتمع ،فهو يستجيب لغرائزه الحيوانية والفرضية
الثانية أن إجرام المجرم يأتي نتيجة مرض الصرع الذي يفقد المجرم الذاكرة ويجعله يرتكب أفعاال
فظيعة ،وهو في كال الحالتين مجرم بالوراثة مدفوع بحتمية بيولوجية .
وقد أجرى لومبروزو تجارب على حوالي 1222مجرم وقارنها مع االنسان العادي فحصل على نتائج
أكدت صحة فرضياته وهي أن المجرم يختلف عن االنسان العادي بحاالت شاذة في شكل جمجمته تشكل
انحطاطا في الجنس البشري وهبوطا نحو مستوى الحيوانية ،وهكذا يتميز المجرم بفقدان الشعور
بالعطف واأللم كما يظهر شعوره بالميل الجنسي مبكرا و انعدام الرادع االخالقي هكذا يعتبر إجرامه
ال مف ر منه ونتيجة حتمية وقد أعطى أوصافا محددة لهذا المجرم ففي االغتصاب الجنسي مثال يتميز بـ
الفك الضخم والجبهة الضيقة واالذنين المندفعتين بعيدا عن الرأس و وجنتين بارزتين وانخساف في
الدماغ وتقارب بين العينين ،أما في جرائم السرقة فيتميز بكثافة وانخفاض الحاجبين وصغر العينين
وتحركهما المستمر .
هكذا خلص لومبروزو إلى مصطلح االنسان المجرم المثقل بالجريمة والمطبوع على ارتكابها ،لكن
لومبروزو تراجع نسبيا عن فكرة المجرم بالفطرة بعد كثرة االنتقادات له وعوض الفكرة بالمجرم
العاطفي والمجرم المختل عقليا ،الشيء الذي يوحي أنه بدأ يؤمن بالمؤثرات النفسية والخارجية
وتأثيرها على السلوك االنساني و تحدث عن ذلك أواخر عمره .
يبقى أن لومبروزو كان له الفضل في االنتقال من المدرسة الكالسيكية والفلسفية و أعطى لعلم االجرام
نكهة علمية كانت سببا في ظهور المدرسة االيطالية التي دشنت عهدا جديدا في علم االجرام ورغم
المغاالة في العامل البيولوجي أو االنحطاطية البيولوجية فهو يرجع إليه الفضل في استعمال منهجية
15
علمية لدراسة الظاهرة االجرامية وكان أول من استعمل المنهجية المقارنة أو طريقة المغايرة التي تعتمد
على إجراء دراسات وفحوص على جماعة من المجرمين و مقارنتها مع جماعة من غير المجرمين
للتوصل إلى نموذج للمجرم ،ومع ذلك وجهت انتقادات كثيرة إلى لومبروزو ذلك أن العالم االنجليزي
غورنغ أثبت أنه ال فروق واضحة بين المجرمين وغير المجرمين من الناحية العضوية مما يفند نظرية
المجرم بالفطرة كما أثبت ذلك العالم االمريكي هوتن ،كما أن نظرية االنسان بالفطرة اصبحت ال
تناسب االفكار الحديثة التي تؤمن بالمساواة بين جميع البشر ،أوال فكرة توقف النمو فكرة لم يتفق معه
فيها الكثير وهي فكرة غير مستساغة فال يمكن أن يعود االنسان 12مليون سنة إلى الوراء ليجد نفسه
حيوانا ،ثانيا هناك فروق كثيرة بين االنسان والحيوان فاالنسان هو االنسان وال يوجد انسان متوحش
متخلف زمنيا عن زمانه متوقف عن التطور واتهموا لومبروزو بالعنصرية .
سمات االرتداد عند المروزو :
المجرم هو نوع من البشر لكن ما يميزه عن البشر هو تميزه بمظاهر جسمانية شاذة إذا ما توفرت في
انسان فإنه يكون مجرما ،هذه السمات شبيهة باإلنسان البدائي المتوحش وقال أن هناك 12سمات
أساسية هي التي يرتد بها إلى مواصفات االنسان البدائي وال بد أن تتوفر 5صفات على األقل في
االنسان ليصبح مجرما بالفطرة ال محالة وأن عالمة واحدة أو اثنتين ال تكفي بل ال بد من وجود 5
صفات على األقل ليكون لديه ميل إجرامي ويرتكب الجريمة عندما تسنح الفرصة وهي :انحدار و
-1غزارة في شعر الجلد والرأس -1عدم انتظام االسنان -4ضخامة الفكين -5 ضيق في الجبهة
طول مفرط في الذراعين -1قلة شعر اللحية -8شذوذ في حجم االذنين واالنف -1بروز عظام
الوجنتين -0ضيق تجويف عظام الرأس – 12البلوغ الجنسي المبكر .
هذه السمات تشبه االنسان البدائي الذي يميل نحو االنسان الحيواني بطبيعته فكل من لديه هذه الصفات
فهذ ه الصفات تعود به إلى طباع االنسان البدائي في سلوكاته ،ومن التجارب التي اعتمد عليها
المبروزو في أبحاثه أنه قام بتشريح جثة قاطع طريق فاكتشف أنه لديهتجويف في مؤخرة الجمجمة شبيه
بتجويف الحيوانات المتوحشة والقردة ،واستخلص أن المجرم يتمتع بشذوذ جسماني خاص يرتد به إلى
خصائص االنسان البدائي فيرتكب الجريمة دون وعي أو أنه ينقاد إلى ارتكابها بشكل حتمي .
ثم أنه تناول حالة مجرم خطير قتل 12من النساء ثم شوه جثتهم وشرب دماءهم ثم دفنهم وعند موته قام
المبروزو بتشريح جثته فاكتشف بأن لديه صفات االنسان البدائي ال من حيث االسنان وال من حيث
الجمجمة والفكين وما إلى ذلك .
ثم قام بتشريح 111جثة لمجرمين كانوا متهمين بجرائم عنف و اكتشف أن هناك تجويفات تشبه
الحيوانات المتوحشة ،فيقول المبروزو أن هناك سمات ارتداد .
المبروزو لم يقف عند هذا الحد إنما قرر من واقع بحوث الحقة أن هناك عالقة وثيقة بين السلوك
االجرامي والصرع أو التشنجات العصبية اي المجرم المجنون انطالقا من تجربة جندي كان طبيعيا في
الجيش االيطالي وكان معروفا بانتظامه وأخالقه الحسنة وحسن سلوكه لكن فجأة تعرض إلى إهانة من
أحد الجنود ألنه قدم من مقاطعة فقيرة فدخل هذا الجندي في حالة هستيرية و قتل 1من زمالئه وختم
برؤسائه في الجيش ،من هنا ربط السلوك االجرامي بالتشنجات العصبية أو الصرع .
16
مرحلة ما بعد لومبروزو
اختلف كثير من أتباع لومبروزو معه في تفسير الجريمة وتحديد أسبابها ،فلم يتقيدوا بتفسيره وأضافوا
إلى نظريته بعض الشروح ليلطفوا من طغيان العامل البيولوجي فيها ،فقال فيري بوجود عوامل
خارجية أو داخلية للمجرم طبيعية أو اجتماعية تؤثر في سلوكه فاتخذ مجرى سوسيولوجيا ،أما
كاروفارو فالحظ أن العامل البيولوجي ليس وحده السبب بل هناك عوامل اجتماعية تساعد على ارتكابها
واعتبر الضمير االخالقي معيارا لتحديد الشعور العام بالرفق واالستقامة ،وتظهر محدودية التقسيم
الثنائي للجرائم إلى طبيعية واعتبارية ،فلو سلمنا بها في حالة القتل فال يمكن التسليم بها في الجرائم
التي تتطور مع المجتمع فال يمكن للمجرم أن يتنبأ بها في بطن أمه وال أن يتدرب عليها في رحمها بل
يعيشها و يتدرب عليها في المجتمع ،فالمجرم إذن ال يخلق مجرما بالفطرة ،بل يولد كسائر الناس و
يأخذ إجرامه من المجتمع ،هكذا استطاع كاروفارو أن ينتقد استاذه لومبروزو ويوجه االهتمام إلى
عوامل أخرى نفسية واجتماعية وانتقل علم االجرام من طوره البيولوجي إلى مرحلة الدراسات
السوسيولوجية لشرح الظاهرة االجرامية
تقييم نظرية المبروزو :
المبروزو هو أول من تقدم لدراسة شخصية المجرم بدل الجريمة حيث كانت جميع الدراسات السابقة
تنصب على دراسة الجريمة دون ربطها بالشخصية االجرامية للمجرم و قال أن الخطورة ال تكمن في
الجريمة بل في شخصية المجرم ،أي التحول من دراسة الجريمة إلى دراسة المجرم ورغم أن أبحاثه
لم تكن مرضية لكن يكفيه أنه كان السباق إلى إخضاع الدراسة االجرامية للمنهج العلمي القائم على
المالحظة والتجربة بعدما أخرجها من إطار الدراسة النظرية ،ثم أنه أنشأ علما جديدا حديثا يسمى بعلم
االنطروبولوجيا أو علم طبائع المجرم ،وهو أول من وضع تصورا للمجرم حسب الخصائص
البيولوجية والعضوية والنفسية .
انتقادات هذه النظرية :
-وقع في خطأ منهجي من خالل تعميم نتائج البحث الفردية على جميع المجرمين ليخلص إلى نتيجة
عامة تفتقد إلى الموضوعية والمنهج العلمي السليم
-لم يقارن عينات من االشخاص العاديين ويقارنهم بعينات من المجرمين
-اعتماده على فكرة المجرم بالفطرة وهوما يتناقض مع فكرة أن الجريمة هي ظاهرة احتمالية لكنه
يقول أنها ظاهرة حتمية وما يؤكد خطأ نظريته أن هناك أشخاص توفرت فيهم العيوب التي ذكرها ولم
يسلكوا مسلكا إجراميا وبالمقابل هناك أشخاص مجرمون ولم تتوفر فيهم العيوب التي ذكرها
-إنكاره للعوامل االجتماعية كمحرك للجريمة ومبالغته في إظهار الخصائص البيولوجية والسمات
الخلقية الشاذة
-ربط سلوكات المجرمين بسلوك االنسان البدائي رغم عدم توفره على معلومات دقيقة عن االنسان
البدائي وهل كان فعال متوحشا ألن هناك دراسة تظهر أن االنسان البدائي كان اقل وحشية من االنسان
المعاصر وأن الجريمة تتالشي كلما عدنا إلى الوراء و تزيد كلما زاد التطور بمعنى أن االنسان كان
يعيش حياة بسيطة وكانت الجريمة بمعدالت أقل من الحاضر ،فالمبروزو اعتمد على منطق افتراضي
خيالي ليس له اي أسس علمية
-لم يستطع أن يفسر الجريمة تفسيرا علميا وكيف يمكن لنا أن نربط بين التكوين البيولوجي للمجرم
والسلوك االجرامي فما هو الدليل العلمي على أن هناك صلة ما وعالقة تربطهما .
17
ثانيا :االتجاه النفسي
النظرية البيولوجية أخفقت إخفاقا ظاهرا في اعطائها إجابة واضحة عن الظاهرة االجرامية ،ظهر
االت جاه النفسي السيكولوجي الذي اتفق مع النظرية البيولوجية في أن العلة هي داخل االنسان أي
الشخصية االجرامية اال أنه ربط السلوك االجرامي باالضطرابات النفسية وعدم استواء الشخصية وأن
المجرم هو شخص مريض وال يستحق العقوبة بقدر ما يستحق العالج فال يجب أن نسلب حريته بل
يجب أن نعالجه ،وهو اتجاه من أكبر االتجاهات التي تبحث في الظاهرة االجرامية وتبحث في الجانب
الخفي من االنسان تلك المنطقة الباطنية غير الملموسة التي تتبرمج في سلوكاته ،هذا االتجاه حاول
كشف الحجاب عن ذلك المستور المجهول الخفي المسمى بمنطقة الالشعور .
من اب رز علماء هذا االتجاه فرويد وهو عالم في علم النفس وهو المؤسس الحقيقي والفعلي لعلم النفس
الحديث ،وقد حاول تفسير الجريمة تفسيرا نفسيا خالصا ،وكان الهدف من وراء أبحاثه هو إظهار
التأثيرات أو اضطرابات الجهاز النفسي على سلوك االنسان عامة ومن ضمنه السلوك االجرامي ،ولقد
أثارت نظريته الكثير من الجدل وردود الفعل كالتي أثارتها نظرية المبروزو ،لكن فرويد اختار
الطريق الصعب كونه اهتم بالصعب وهو الجزء الخفي ومنطقة الالشعور منطقة المجهول في االنسان .
قال فرويد بأن كل إنسان لديه ثالثة مناطق اساسية في نفسيته
الهو أو الذات الدنيا ثم األنا االعلى ثم األنا
الهو أو الذات الدنيا :هي مجموع النزوات أو الغرائز الفطرية في االنسان أو الشهوات التي ال يقبلها
المجتمع وكل إنسان كيف ما كان مستواه إال ولديه ميوالت فطرية غريزية ال يقبلها المجتمع مثال ذلك
حب الجنس والمال والبقاء ،والهو هو مستودع الشهوات وينساق وراء إشباع اللذة والشهوات دون إقامة
االعتبار لقيود المجتمع والدين والقيم األخالقية المتعارف عليها ،نعم هناك غرائز لكن بالمقابل هناك
قيود اجتماعية فالجميع لديه غرائز جنسية لكن هل المجتمع يسمح بممارسة الجنس دون ضوابط أخالقية
و دينية كالزواج مثال ؟ فإذا اراد االنسان أن يعيش محترما و متوازنا في المجتمع فعليه أن يكبح هذه
الغريزة وأن يعبر عنها بأسلوب شرعي مقبول اجتماعيا غير اسلوب الحيوانات التي تنساق وراء
شهواتها دون ضوابط ،لكن االنسان تفرض عليه قيود اجتماعية تفرض عليه أن يخضع لها ،هذا الهو
الذي هو مركز الشهوات ال يضع أي قيود في طريق ممارسة شهواته و غرائزه وال يحترم أي ضابط ،
مثال ذلك أن الجميع يريد المال لكن المجتمع يفرض عليك أن تجني المال بطريقة شرعية عن طريق
العمل وليس عن طريق السرقة والجريمة هي أن ينساق االنسان وراء الهو فينفذ كل شهواته و ملذاته
بطريقة حيوانية دون أدنى اعتبار لقيود المجتمع وقيمه االخالقية .
إذن الهو هو ذلك الجانب الشرير في االنسان أو النفس االمارة بالسوء
االنا األعلى :ويسمى بالذات االنسانية وهو الجانب المثالي أو المظهر الروحي لإلنسان ،ويضم المبادئ
االخالقية والمثالية المستقاة من المبادئ والقيم االخالقية والدينية والقوانين التي تحكم المجتمع ،وظيفته
هي القوة الرادعة لنزوات و شهوات الهو لنقل هي النفس اللوامة ،وهي ال تتوفر في كل إنسان فمن
الناس من تعمل لديه االنا االعلى كلما خرج عن نطاق القواعد االخالقية و زل سلوكه ومن الناس من ال
تتحرك لديه االنا األعلى حتى ولو ارتكب الجرائم .
18
األنا أو الذات الشعورية والعقل :و هي مجموع الملكات الفطرية أو الفكرية المستمدة من رغبات النفس
بعد تهذيبها بما ينطبق ومقتضيات الحياة االجتماعية والقيم األخالقية ،وهي محاولة توفيق بين متطلبات
األنا األعلى و متطلبات الهو .
لكن كيف فسر فرويد السلوك االجرامي اعتمادا على االنا االعلى واالنا والهو ؟
قال فرويد إن السلوك االجرامي ما هو إال نتيجة للصراع الداخلي القائم بين نزواته من جهة وبين القيم
واالخالق والعقائد من جهة أخرى ،يعني الصراع بين الهو وغرائزه ونزواته وبين األنا األعلى وقيمه
االخالقية واالجتماعية وبين ضغوط العقل التمي يمارسها من أجل التوفيق بين االنا األعلى و بين الهو ،
فغذا حدث خلل في عملية الكبت وإذا ما أخفق العقل في كبت النزوات في منطقة الهو فاإلنسان يرتكب
جريمة ،فهناك إذن صراع بين االنا االعلى والهو ودور االنا هو التوفيق بينهما فإذا انفلت الهو من كل
رقابة أو قيد وانطلق يشبع رغباته سيرتكب الجرائم ال محالة .
يرى فرويد أن متراكمات الالشعور قد تتحول إلى عقد نفسية تدفع الشخص إلى التعبير عنها في صورة
سلوك إجرامي ،واالنسان عندما يعجز عن الكبت فإن هذا الكبت يصبح عقدة و عندما تحين الفرصة
تخرج العقدة على شكل جريمة من أجل إفراغ الغرائز المكبوتة و هو ما سماه فرويد أنماط العقد .
أنماط العقد عند فرويد :
زنى المحارم :هناك نوعان ،عقدة إلكترا ،وهي تعلق البنت بأبيها جنسيا و يكون هذا التعلق
الجنسي مصحوبا بغيرة من أمها وكراهية لها ألنها تراها منافسة لها في ابيها لكن تبقى البنت
حائرة عندما ترى حنان أمها عليها وتقع الجريمة حين يدفع الهو البنت إلى قتل أمها أو تتمرد
عليها وال تقع الجريمة حين تكبت البنت هذا الشعور وتدعه في منطقة الالشعور ،النوع الثاني
هو عقدة أوديب وهي تعلق الولد بأمه جنسيا .
عقدة الذنب :األنا األعلى توجه لومها إلى الهو ألنه ارتكب جريمة مما يدفعه إلى ارتكاب
جريمة ثانية ليتم القبض عليه وتوقيع العقوبة عليه فيتخلص من الشعور بالذنب ويتخلص من
عقدة الذنب .
عقدة النقص :تنشأ نتيجة الصراع الكامن في منطقة الالشعور نتيجة شعور االنسان بالنقص في
أحد أعضائه الخارجية أو مظهره أو أعضائه الداخلية أو االحساس بخيبة أمل أو فشل اجتماعي
تمنعه من الوصول إلى طموحاته فيدفعه االحساس بالنقص إلى ارتكاب الجريمة كتعبير عن
شعوره بالنقص .
تقييم نظرية فرويد :
-أول عيب تميزت به نظرية فرويد هو سقوطها في الخطأ المنهجي ثم صعوبة المصطلحات التي
استعملها فرويد ،هذه المصطلحات ال تستند إلى أي دراسة علمية بل هي مجرد تخمينات من
فرويد ويستحيل التأكد من صحتها فمصطلحات كالهو واالنا األعلى واالنا كيف يمكن قياسها
علميا وكيف يمكن إخضاع هذه المصطلحات للتجربة والمالحظة للتأكد من مصداقيتها بل ومن
وجودها أصال فهي تبقى مفاهيم غامضة ولم يأتي بها أي عالم غير فرويد .
-مبالغة هذه النظرية في إظهار العيوب النفسية والعقد واالختالالت العقلية و االضطرابات
العاطفية التي تدفع للجريمة وإغفالها للظروف االجتماعية والطبيعية التي تساهم بدورها في
الدفع إلى ارتكاب الجريمة .
19
-الخلل النفسي ال يمكنه لوحده أن يدفع إلى ارتكاب الجريمة فكل الناس تعاني من مشاكل نفسية
وال يقدمون على ارتكاب الجرائم .
-هذه النظرية تنظر إلى السلوك االجرامي نظرة أحادية الجانب اي النفسي و تستبعد الظروف
االخرى .
االتجاه االجتماعي
يعطي هذا االتجاه للعوامل االجتماعية األهمية القصوى والمطلقة في خلق الجريمة وكل افكاره
ونظرياته متقاربة سنتناولها من زاويتين أساسيتين ،نظرية التركيب االجتماعي أو الهيكل االجتماعي
ويندرج تحت نظرية الهيكل اإلجتماعي خمسة نظريات هي :1-نظرية الصراع -1 ،نظرية الالنظام،
-1النظرية اإلقتصادية -4 ،النظريه البيئية -5 ،النظرية العرقية ،ثم نظرية الكيفية االجتماعية تعنى
ببيان الميكاتيزم الذي يصير من خالله الشخص مجرما ،ومن أهم النظريات التي قيل بها في هذا
الشأن :نظرية التقليد و نظرية االختالط الفارق .
نظرية التركيب االجتماعي سيلين :أو الهيكل االجتماعي ،تحاول الربط بين السلوك االجرامي وبين
هيكل وتنظيم المجتمع أو التركيب المجتمعي و سنتحدث هنا عن صراع الثقافات وهو وجود تعارض
وتناقض بين قيم ومبادئ وثقافات معينة تسود مجتمعين وهذا األمر يتخذ صورتين :
التنازل االصلي الخارجي :يحصل عند تصادم ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع مع ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع
آخر ،أي مجتمعين منفصلين مختلفين .مثال ذلك مهاجر عربي في الغرب قام بجريمة للدفاع عن
شرف ابنته ظنا منه أن هذه الجريمة ستلقى قبوال من المجتمع الغربي بحكم ثقافته العربية لكن الواقع أن
ثقافة المجتمع الغربي تتقبل الحرية الجنسية ،وكذلك في حالة سب الرسول صلى هللا عليه وسلم فهي
بالنسبة إليه جريمة وهي بالنسبة إلى المجتمع الغربي حرية تعبير .يقول سيلين إن سبب الجرائم هو
تعارض وتضارب الثقافات لمجتمعات مختلفة الستحالة الجمع واالندماج والتعايش بين مجتمعين
مختلفين .
التنازع الثانوي الداخلي :حين يحصل التصادم بين ثقافتين مختلفتين داخل مجتمع واحد ،المجتمع
األمريكي نموذجا ،أو اللبناني ،حيث يسود تناقض بين ثقافات متعددة ألن المجتمع األمريكي هو خليط
بين ثقافات متعددة يؤدي إلى اضطراب اجتماعي ويؤدي إلى عدم التعايش بين الفئتين مما يؤدي إلى
ارتكاب الجريمة لتمسك كل فئة بثقافتها وترفض ثقافة اآلخر .
تقييم نظرية سيلين :
قد اصابت جزءا من الحقيقة لكن في نفس الوقت أخفقت وفشلت فشال ذريعا في إعطاء تفسير للظاهرة
االجرامية حيث ركزت على العنصر االجتماعي فقط وعلى نوع الجرائم التي تقع بسبب تنازع الثقافات
مثل الجرائم ضد االجانب لكنها لم تفسر لنا باقي الجرائم األخرى كالسرقة والقتل حيث ال يوجد أن
تنازع بين الثقافات .
نظرية التركيب االجتماعي تعتمد في شرحها وتفسيرها للظاهرة االجرامية على تركيبة أو هيكل
المجتمع ،هذا االتجاه يرفض ربط الظاهرة االجرامية بالذات سواء من الجانب البيولوجي أو النفسي
20
ويعتقد أن الجريمة تك من في اسباب خارجية بعوامل اجتماعية مختلفة ،وصعب على هذا االتجاه أن
يجد السبب الحقيقي المحض الذي يدفع االنسان للجريمة لتعدد االسباب االجتماعية
نظرية الالنظام :دوركهايم
هو عالم اجتماع خلص إلى العديد من النتائج ،يقول أن الجريمة هي ظاهرة حتمية في مجتمع معين
وهي ظاهرة اجتماعية ولم يقل لها اسباب بيولوجية أو نفسين أو عقلية وإنما اجتماعية حيث يقول أنه ال
يوجد مجتمع يخلو من الجريمة وأن كل مجتمع كيفما كان نوعه ومستواه الدراسي والعلمي والثقافي لديه
إجرام وأنه من المستحيل وجود مجتمع بال جريمة ،فيستحيل أن يكون جميع الناس أخيارا صالحين فمن
الضروري أن يتواجد أناس اشرار ،فالجريمة إذه حسب دوركهايم هي ظاهرة عادية طبيعية عادية
ترتبط بوجود نظام مجتمعي ،فالجريمة تساوي المجتمع والمجتمع يساوي الجريمة ،وبما أنها ظاهرة
طبيعية فال يجب أن نبحث عن اسباب الجريمة في التكوين النفسي والعقلي أو البيولوجي ورفض ربط
السلوك االجرامي بتكوين المجرم بل قال أن الجريمة سلوك يكتسبه االنسان من المجتمع الذي يعيش فيه
باعتباره كائنا اجتماعيا فيه فالمجتمع هو الذي يصنع الجريمة من خالل ما يجرمه من افعال وسلوكات ،
وقال بأن الجريمة هي ظاهرة طبيعية وصحية إلحداث التغيير االجتماعي وبدون جريمة سيصاب
المجتمع بالركود فالجريمة حسب دوركهايم ظاهرة مفيدة لتطور القانون واألخالق في المجتمع وهي
أمارة من أمارات تطور وتقدم المجتمع ،ثم قال إن الجريمة هي دليل على الحرية الموجودة في هذا
المجتمع ،ثم يؤكد أن القانون الجنائي هو انعكاس لنوع النظام السائد في المجتمع ونعرف ذلك من خالل
نوع العقوبات كتواجد العقوبات البديلة ومراكز االصالح والتأهيل واالدماج ،فالمجتمعات البدائية مثال
كان قا نونها الجنائي صارما وحشيا دمويا ال يعرف هذه العقوبات الحضارية وال يعرف ثقافة إصالح
وإدماج المجرم بل يفكر فقط كيف يعاقب .
إذن حسب دوركهايم الجريمة ظاهرة مفيدة في المجتمع تساعد على تغير المجتمع وتطوره وتطور
قوانينه ،فإذا قلت الجريمة في مجتمع ما فإن هذا المجتمع في خطر والخطر القادم أكبر من خطر وقوع
الجريمة ،فيجب أن تسيل الدماء ليتكلم المجتمع ويقوم المشرع بتشريع القوانين والقضاء بتطبيقها
وتدور الدائرة ،والفائدة األخرى أن المجتمع يتغير حينما تظهر الجريمة ويتغير النظام أيضا ،فيمكن
القول أن دوركهايم أعطى للجريمة أبعادا أخرى ونظرة جديدة حيث اعتبر الجريمة ظاهرة مفيدة صحية
وضرورية لتغيير المجتمع والنظام السائد .
كل النظريات في علم االجرام التي سبقت دوركهايم كـ لمبروزو ،فرويد ،سيلين ،فسروا الجريمة
كأنها ظاهرة غير صحية وتعبر عن مرض أو خلل ما ،لكن دوركهايم اعتبر الظاهرة طبيعية عادية
صحية بل واعتبرها مفيدة للمجتمع من أجل تطوره قانونيا وأخالقيا وقال بأنه ت فاجأ من دراسته ولم
يكن يعلم أنه سيصل إلى هاته النتيجة ،وهو يجزم أن الجريمة مهما تنوع المجتمع ستبقى موجودة ألنه
من المستحيل أن يتماثل الجميع للنظام فمن الطبيعي أن يخرج البعض عن النظام والتركيبة االجتماعية .
الالنظام أو الالقانون عند دوركهايم :يقول دوركهايم بأن أهم تركيبات المجتمع تكمن في تماسكه
ونظامه االجتماعي بين أعضائه وهو ما يشكل الضمير الجماعي للمجتمع وخلص إلى أن هناك نوعين
من التضامن آلي و عضوي .
التضامن اآللي :كان يسود المجتمعات البدائية حيث كان يسود ضمير اجتماعي آلي متماسك متضامن
اجتماعيا تحكمه القواعد القانونية السائدة ،وكان المجتمع يفرض جزاء ماديا إذا تم االخالل بهذه
القواعد ،ومن شأن هذا الجزاء تهذيب السلوك وضمان احترام التضامن االجتماعي في المجتمع ،ويبدو
21
أن فكرة دوركهايم عن المجتمعات البدائية كانت تقوم على التضامن حيث كانت مجتمعات زراعية ،
وهو عكس المبروزو الذي ينظر إليها على أنها مجتمعات متوحشة وأن االنسان البدائي إنسان متوحش
فـ دوركهايم يعتقد أن المجتمعات البدائية كانت مجتمعات متماسكة متضامنة يسود بينها ضمير متحد
متماسك ،سماه التضامن اآللي االجتماعي ،وهذا التضامن يسوغه ذلك المجتمع على شكل قواعد
قانونية ويفرض جزاء على من يخالف هذه القواعد و يكون جزاء رادعا ،إذن هي مجتمعات بدائية
متضامنة تقل فيها معدالت الجريمة ويسود فيها نوع من الوحدة .
التضامن العضوي :يسود المجتمعات الحديثة ،القائمة على تقسيم العمل ،فهي مجتمعات صناعية حيث
تضعف فيها عوامل التضامن االجتماعي التي كانت تعرفه المجتمعات الزراعية البدائية ،هذه العوامل
آثرت على القانون الجنائي وعلى قيم المجتمع وعوامل التجانس والتعاون ،هذه االختالالت في تكوين
المجتمع سوف تؤثر على فلسفة القانون الجنائي حيث انتقل من مركز االهتمام من الضمير الجماعي إلى
الضمير الفردي ،واصبح القانون الجنائي يهتم بتعويض المجني عليه أكثر من اهتمامه بإلحاق العقوبة
بـ الجاني ،فالقانون البدائي كان كل همه إلحاق العقوبة بالجاني بينما القانون الجنائي المعاصر تغلب
عليه صفة تعويض المضرور ،وهو ما أدى إلى تراجع العواطف وإحساس الفرد بالعزلة المعنوية
واالجتماعية الشيء الذي خلق الالنظام أو الالقانون ،اي تحول المجتمع من مجتمع تضامني إلى مجتمع
النظامي ،من مجتمع قانوني إلى مجتمع القانون ،والفرد في مجتمع الالنظام والالقانون يحس بالتمرد
على هذه القيم الجديدة ألنه يحس على أنها ال تلبي حاجياته األساسية مما يخلق لديه حالة من الالنظام أو
الالقانون ،هذه الوضعية يسهل فيها ارتكاب الجريمة ،هكذا تزداد الجريمة كلما انتقلنا من مجتمع
زراعي متضامن إلى مجتمع صناعي .
حاول دوركهيم أن يجعل من الموضوعية والعلموية والتجربة أهم مكونات نظريته السوسيولوجية بعيدا
عن كل خطاب تاريخي أو فلسفي ،فآمن أن العلم هو مقياس كل شيء وال جدوى للفلسفة في تفسير
الواقع االجتماعي ذي الطبيعة المركبة ،لهذا فقد أراد دوركهيم أن يؤسس علما جديدا هو السوسيولوجيا
التي أرادها أن تكون على شاكلة العلوم االخرى كالطب والفيزياء وقد واجه عقبات منهجية في معالجة
الجريمة و دوافعها .
كان أول عمل تميز به دوركهايم هو تحقيق القطيعة مع النزعة الفردية التي سيطرت على االعمال
الفكرية في القرن 11وقد تميزت بكونها قطيعة معرفية ( ايبيستيمولوجية ) تنصرف الى دراسة
الظواهر االجتماعية ومدى تأثيرها في أفكار الفرد ،فهو لم يسلم بأن الفرد هو أساس تقييم االشياء كما
لم يسلم بأن المجتمع ال يتكون إال من مجموع االفراد ،وخلص إلى وجود شيء آخر أطلق عليه الشيء
االجتماع ي الذي يختلف عن سمات و مكونات كل فرد ،واعتقد بقوته التي تفوق مجموع قوات افراده
وعبر عن ذلك بالضمير الجماعي ،وهو ما جعل دوركهايم يعتقد أن المجتمع وجد قبل الفرد وله
االولوية واالسبقية ،لذلك فتأثيره قوي على الفرد ،بل ويمارس نوعا من القهر وااللزام على االفراد ،
و يوجب عليهم أن يضعوا سلوكهم في قالب معين ،هكذا يشعر الفرد بقوة رادعة إذا ما أراد الخروج
عن العرف االجتماعي فيضطر للخضوع للقهر االجتماعي وقد وضع دوركهايم مجموعة قواعد رأها
أساسية في هذا العلم وهي :
-1تحديد موضع علم االجتماع تحديدا ال يجعل هذا العلم يختلط بأية دراسة علمية أخرى واعتبار
الظواهر على أنها مجرد أشياء .أي ان نالحظ الظواهر االجتماعية بتجرد و موضوعية
ونكتشفها معرفة علمية مثلما نكتشف الظواهر الطبيعية دون تحيز .
22
-1أن يكون موضوع علم االجتماع من الم وضوعات التي يمكن مالحظتها وتفسيرها بالطرق
العلمية
-1الدراسة العلمية للفعل االنساني ال يجب أن تقوم على أي حكم مسبق
-4يجب على الباحث أن يعمل للوصول الى صور متطابقة للحقائق متجنبا في ذلك كل تشويه ناتج
عن ميوالته وأهوائه الخاصة .
واعتقد دوركهايم بأن الجريمة حالة طبيعية وضرورية لكل مجتمع متفاعل و يجب أن نعترف بها
كمتالزمة للمجتمع الذي ينشد التطور والبناء ،وفسرها بأنها مرض اجتماعي يقابله ظواهر سليمة و
يجب قبول الجريمة على أنها تعبير له وظيفته االجتماعية وهو ظاهرة عادية طبيعية لعدة أسباب :
وقوع الجريمة في المجتمعات ظاهرة مرضية عادية وتالزم اي مجتمع كيفما كان -1
تصبح غير عادية حين ترفتفع فوق المعدل المقرر لها -1
انخفاض الجريمة عن المتوسط يعتبر ظاهرة غير سوية وهو يدل على حالة قمع وقهر وخنق -1
للتطور واالبداع واالبتكار
ال يمكن اعتبار الجريمة مرضية حينما ال تؤثر سلبيا في المهام الوظيفية للمجتمع حيث أنها من -4
صفات المجتمع وتركيبته .
كما تحدث دوركهايم على مفهوم االنومية أو الالمعيارية واعتبرها سببا لالنحراف االجتماعي و تعني
حالة الالقانون أو الالنظام الذي يجد الفرد نفسه فيها ويجد الفرد نفسه عاجزا عن تحقيق الرغبات
الطبيعية التي بدونها ال يمكن للحياة أن تستقيم أي الحد االدنى من الرغبات الضرورية أي أن المجتمع
ال يستطيع توفير الحاجيات والرغبات الضرورية للفرد فيدفعه للبحث عن هذه الرغبات عن طريق
الجريمة نتيجة غياب معيار أو قاعدة يستند إليها في سلوكه السوي داخل المجتمع .
تجدر االشارة إلى أن دوركهايم لم يدافع عن الجريمة لضرورة وقوعها في المجتمع وإنما نادى
بضرورة الحفاظ على الحالة العادية والسوية في المجتمع ،وعلل ارتكاب الجريمة طبقا لما تقتضيه
المؤسساتية وماتلزمنا به الحياة االجتماعية وال يرى أي مانع من توقيع العقاب على المجرم الذي يمس
الضمير الجماعي ويمكن أن يكون مجرد لوم في حالة مس خفيف به ،هكذا أسس دوركهايم مدرسته
السوسيولوجية التي ستعرف امتدادات وتأثيرات تجاوزت حدود فرنسا إلى العالم الجديد .
انتقاد نظرية دوركهايم
رغم أهمية هذه النظرية إال أنها تعرضت لعدة انتقادات حيث اتهم دوركهايم بتشجيع الجريمة ،كما أن
الربط بين استمرارية الجريمة وكونها ظاهرة طبيعية أمرين غير متالزمين فاستمرارية الجريمة ال
تعني أنها ظاهرة طبيعية ،وتساءل البعض إذا كانت الجريمة ظاهرة طبيعية لماذا أجهد دوركهايم نفسه
في البحث عن اسبابها ،ثم أن نظريته ربطت بين الجريمة وتنظيم المجتمع ولم توضح لنا الكيفية التي
يصبح بها الفرد مجرما ،وإذا كانت تركيبة المجتمع تجعل بعض االفراد مجرمين فلماذا ال يرتكب
البعض اآلخر الجرائم .
نظرية روبرت ميرتون
هو عالم أمريكي ،تأثر كثيرا بنظرية دوركهايم ،لكن ما يميزه هو محاولته االجابة عن ما لم يجب عنه
دوركهايم ،لماذا يركتب البعض الجريمة وال يرتكبها البعض اآلخر ،رغم وجودهم تحت نفس
الظروف االجتماعية ونفس التركيبة االجتماعية .
23
شكلت قفزة نوعية في الفهم العلمي لمشكلة السلوك المنحرف ،حيث تجاوز ميرتون العوامل المنعزلة
واالهتمام بالبنية االجتماعية وتناقضاتها ،واعتمد على نظرة متكاملة للمجتمع االمريكي ،لذلك انطلق
من تحليل بنية المجتمع االمريكي ومحاولة معرفة االسباب الحقيقية التي تدفع إلى الجريمة ،لذلك نجد
ميرتون يصب كامل مجهوداته على البنية االجتماعية و يحلل عناصرها ويدرس التفاعل الذي يحصل
بين هذه العناصر وقد يؤدي إلى سلوكات متنوعة إما متمردة أو جانحة أو استسالمية ،وتوصل إلى
حصر هذه االنماط السلوكية اعتمادا على مفهوم الالمعيارية الذي يجعل المجتمع بدون معيار يعتمد
الناس عليه لتحقيق رغباتهم فيضطرون إلى االجرام .
لكن مفهوم األنومية أو الالمعيارية عند ميرتون تختلف عن تلك التي عند دوركهايم ،حيث أنه يرجع
سبب الجريمة إلى ردود فعل الفرد وتكيفه مع التناقضات التي تفرزها ثقافة المجتمع والمفاهيم المنبثقة
عن بنية التنظيم االجتماعي ،وحين فسر دوركهايم بأن الالمعيارية هي عدم استجابة المجتمع لنزوات
االفراد ورغباتهم الطبيعية فإن ميرتون ذهب إلى أن أغلب هذه الرغبات والغرائز ليست بالضرورة
طبيعية وإنما مجموعة من االغراءات التي ينتجها المجتمع وتكرسها الثقافة السائدة وعدم توفير
االمكانيات واتاحة الفرص للجميع لتحقيقها وجعلها متاحة للبعض وصعبة المنال للبعض االخر و
محاولة الفئة المحرومة من تحقيق طموحاتها بالطريقة غير الشرعية بعدما حرمت ذلك بالطرق
الشرعية .
والوسائل العلمية التي يعتمد عليها ميرتون لدراسة كل بنية اجتماعية تنحصر في أمرين :
االهداف :فالمجتمع يحدد مجموعة من االهداف التي يسعى جميع افراده لتحقيقها وتكون مرتبة وقف
سلم من القيم متفاوتة األهمية .
المعايير :وهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى هذه االهداف ،
والمجتمع هو الذي يسهر على ضبط هذه الوسائل والطرق لكل صنف حسب قيمته االجتماعية فهناك
طرق مثلى وطرق مستحسنة وطرق ممنوعة .
وعلى ضوء هذين العنصرين يحدد المجتمع القواعد السلوكية ،و سلوك االنسان مرتبط بمدى تالزم
هذين العنصرين و ترابط العالقة بينهما ،فكلما كانت الصلة متوازنة كانت السلوكات متوازنة ،لكن إذا
حصل تأكيد على األهداف مع تراخي في المعايير أي الوسائل هنا تصبح كل الوسائل صالحة للوصول
الى الهدف فنكون أمام بنية مجتمعية غير متكاملة ومصابة بالخلل ،أما حين يحصل التوازن فنحن أمام
سلوكات طقسية أما حين تعطي بنية المجتمع وزنا أكبر لألهداف على حساب المعايير تصبح النقود
معيار كل شيء فتشجع الوصول الى االهداف بطرق غير مشروعة فيتعرض المجتمع لحالة عدم
انتظام ويحصل االنحراف بدل العدالة االجتماعية وهي حالة المجتمع االمريكي وقد نتج عن حالة
الالمعيارية ظهور بعض االفكار والنظريات التي حاولت أن تغطي النقص في شرح ظاهرة االنحراف
مثل نظرية الصراع الثقافي عند تورتسين التي تشرح السلوك غير السوي .
يقول ميرتون أن كل مجتمع له خاصيتين اساسيتين :
الخاصية : 1التركيبة االجتماعية لكل مجتمع تتبنى أهدافا يطمح الجميع إلى بلوغها ،ففي المجتمع
األمريكي يطمح الجميع أن يصبح رئيسا للواليات المتحدة ،فهو مشروع الجميع ،ربما قاضيا ،وزيرا
رجل أعمال ،كلها أهداف يضعها المجتمع األمريكي .
24
الخاصية : 1المجتمع يضع وسيلة لبلوغ هاته االهداف ،فالقاضي يجب أن يدرس في كلية الحقوق ،
إذن التركيبة االجتماعية ترسم أهدافا وتضع لها وسائل مشروعة .
-1التطابق :حين يقبل الفرد الغاية والوسيلة التي وضعها المجتمع لبلوغ الهدف ،هنا الشخص تالئم
اجتماعيا حيث تطابق سلوكه مع القواعد التي ينظمها المجتمع ،فهو شخص ال يتمرد على االهداف وال
على الوسائل ،هو شخص مثالي ال يخرق القانون وال يمكن أن يجرم .
-1تحديد :وهي حالة قبول الهدف ورفض الوسائل ،وهي حالة المجتمع حين يضع األهداف ويضع
الوسائل لكنها تكون في صالح الطبقة العليا وليست في صالح الطبقة الدنيا مما يدفع افراد هذه الطبقة إلى
ارتكاب الجريمة ،فنقابة المحامون مثال تضع شرط 12ماليين سنتيم تدفع لنقابة المحامين لكي يحصل
الناجح في مباراة المحاماة على تزكية النقابة ويستطيع ممارسة المهنة .
-1التعلق بالطقوس :الشخص يرفض الهدف ويقبل بالوسائل لكنه يكون في حالة عدم شعور بالطموح
والرغبة في التغيير ونيل ما هو أحسن ،هي الطبقة الوسطى في المجتمع ،يقبلون بأوضاعهم غالبا
ويرضون وال يكون لديهم أي طموح ،يعيش عاديا ويموت عاديا المهم عنده أن يأكل الخبز ويعيش بسالم
وال يدخل في صراع مع المجتمع أو النظام ،فهو ال هدف له وال طموح وال يتصور أن يخرق القانون .
-4التراجع :يقبل بالهدف وبالوسيلة المؤدية إليه لكنه يفشل في الوصول إلى أهدافه بالطرق المشروعة
وفي نفس الوقت ال يستطيع أن يلجأ إلى أهدافه بالطرق غير المشروعة ،يحدث هذا في الطبقة المنبوذة
اجتماعيا ،المتشردون ،المنبوذون ،المتسولون ،مدمنو المخدرات ،هذا النوع من الفئات ال يرتكبون
الجرائم .
-5التمرد :رفض األهداف والوسائل ومحاولة إقامة نظام اجتماعي جديد مغاير ،هم الثوار ،هذه الفئة
حسب ميرتون ترتكب الجرائم في سبيل الوصول إلى االهداف .
االنتقادات الموجهة لنظرية ميرتون :
نظرية ذات طابع نظري محض ،ولم تعتمد على تجارب وأبحاث علمية للتأكد من صحة فرضياته وهو
يضع 5فرضيات لنظريته لكنه لم يقم أبدا بأي تجربة علمية أو بحث علمي للتأكد من صحتها ،رغم أن
زمن النظريات الفكرية قد انتهي مع عهد المبروزو وكل نظرية ال تعتمد على أبحاث علمية وتجارب
للتأكد من صحتها تبقى مجرد نظرية ال مكان لها من الصحة .
التحليل االقتصادي
رائدها ماركس و إنجل ،عرفت اتجاها جديدا لشرح االجرام الذي أصبح مرتبطا بالعالم االقتصادي ،
فتبعا للنظرية االشتراكية فإن الواقع االقتصادي والمادي هو الذي يحدد افكار االنسان وبالتالي ميوالته
االجتماعية والثقافية ،وبعبارة ادق فالنظام الرأسمالي هو السبب في انتشار الجريمة ،ويفترض أن
المجتمع االشتراكي تنعدم فيه الجريمة .
سوف نقوم بتحليل السلوك االجرامي انطالقا من تحليل أو مقارنة نظامين اقتصاديين أو سياسيين هما
النظام االشتراكي والرأسمالي ،و ربط الظاهرة االجرامية بمختلف األوضاع االقتصادية و اعطاء
25
الجريمة تفسيرا اقتصاديا ،هذا التصور تطور على يد كارل ماركس و فريدريك على اثر اعالن البيان
الشيوعي الصادر سنة . 1041
النظرية االشتراكية حاولت اعطاء تفسير للظاهرة االجرامية من خالل ربط السلوك االجرامي
يميكانزمات الرأس مال واهمها الملكية الخاصة والمنافسة الحرة و العرض والطلب ،مبدأ الحتمية
االقتصادية يخلق الجريمة ،بل هو العنصر الوحيد الذي يخلق الجريمة حسب نظر االشتراكيين ،
والنظام الرأسمالي هو الشيطان الوحيد في هذا العالم وهو منبع كل الشرور بما فيه الجريمة ،ففي نظر
ماركس الملكية الفكرية والمنافسة الحرة و العرض والطلب وتقسيم المجتمع الى طبقة عاملة فقيرة تزداد
فقرا وطبقة غنية تزداد غنى و تتحكم في االقتصاد .
يقول كارل ماركس إن الجريمة تتولد من زاوتين :
الزاوية االولى :رغبة الطبقة الرأسمالية في تحقيق اقصى ربح يدفعها الى ارتكاب جرائم من قبيل
الرشوة والتهرب الضريبي والجمركي و تهريب االموال والغش وعدم الحرص على حماية المستهلك ،
فم ن أجل تحقيق الربح يتم التعسف على جميع القوانين بصفة عامة والقانون الجنائي بصفة خاصة
فيصير القانون في خدمتهم ،ألن رجال األعمال يتدخلون في صياغة القوانين وتشريعها مثال قانون
حماية المستهلك في المغرب ظل 12سنة ال تستطيع الدولة تمريره لوجود صعوبات تتمثل في ضغط
رجال االعمال على المشرع كي ال يتم تفعيل هذا القانون ،كما أن القانون يتعامل بانتقائية كبيرة فرجل
األعمال الذي يرتكب جريمة يحكم عليه بعقوبة بسيطة بينما الفقير يحكم عليه بعقوبات مشددة ،فليست
هناك معاملة بالمثل ،لذلك يقال من يملك المال يملك القانون .
الزاوية الثانية :اقدام الطبقة الكادحة على ارتكاب الجرائم للحصول على المال وقضاء حوائجهم
اليومية من أجل العيش وأحيانا انتقاما من الطبقة الغنية االستغاللية ،فالشعور بالحرمان واالقصاء وعدم
تكافؤ الفرص كلها تدفع الى ارتكاب الجريمة .
تقييم هذه النظرية
ال أحد ينكر أن هذه النظرية المست زوايا حقيقية وأن الظروف االقتصادية تؤثر بشكل واضح على
االفراد وتدفعهم الى ارتكاب الجريمة من حيث الكيف والكم وأن انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إلى
مجتمع صناعي ساهم أيضا في انتقال الجريمة من جريمة تعتمد على القوة العضلية إلى جريمة تعتمد
على الذكاء و الحيل ،كجرائم الشركات والبورصة والتهرب الضريبي والتزوير والجرائم االلكترونية ،
هذه الجرائم تبقى غير قابلة للبروز وهي جرائم اقتصادية جرائم اقتصادية لكنها تدخل ايضا في المجال
السياسي والقوانين دائما ما تقوم بحماية أصحاب هذه الجرائم .
يعاب على هذه النظرية أن العامل االقتصادي ال يصلح وحده لتفسير الجريمة ولو اصاب جزءا من
الحقيقة ولو كان العامل االقتصادي وحده الذي خلق الجريمة لما أجرم الناس في المجتمعات االشتراكية
وظلت الجريمة قاصرة على المجتمعات الراسمالية ،بالمقابل هناك الكثير من الناس في مجتمعات
راسمالية وال يرتكبون الجرائم رغم ظروفهم االقتصادية الصعبة ،لذلك يمكن القول أن نظرية ماركس
هي نظرية خاطئة ألنها اقتصرت على العامل االقتصادي وحده في تفسير الظاهرة االجرامية ،
خصوصا أن ليس كل الجرائم دافعها اقتصادي ،فجرائم االغتصاب والقتل واالعتداء والجرائم االخالقية
ال يلعب فيها االقتصاد أي دور .
26
النظرية البيئية :
هذه النظرية تقوم على ربط الجريمة بالبيئة المحيطة باالنسان فقد قام بيير شو بدراسة على وسط مدينة
شيكاغو والحظ أن الجريمة تقل كلما ابتعدنا عن وسط المدينة ،والحظ أن أعلى معدالت الجريمة
تحدث في االماكن المكتظة بالناس والواقعة بالقرب من مراكز االعمال والمفككة اجتماعيا ،شيكاغو
كانت مدينة اقتصادية وكان الكثير يهاجر إليها من أجل العمل فجمعت العديد من المهاجرين من شتى
المناطق ،فحدث اختالل اجتماعي ،واختالف ثقافي و عرقي مما أحدث تفككا اجتماعيا ،هذا الخليط
غير المتجانس نتج عنه صراعات اجتماعية ،كما الحظ أن معدل الجريمة يرتفع في االماكن المهجورة
التي هجرها سكانها االصليون وحل محلهم سكان هامشيون مثل االفارقة األمر الذي يدفع للجريمة .
تقييم هذه النظرية :
اعتمد شو في دراسته على منهج علمي وهو االسلوب االحصائي و ركز على المناطق التي يكثر فيها
الناس واالعمال الجريمة قد تحدث حتى في االماكن التي يعيش سكانها في رغد من العيش ،لذلك قال
بعض المفكرون أنه يجب إخراج الطبقات الفقيرة و المهاجرة من المدن الكبرى لمناطق هامشية بعيدا
عن مراكز المال واالعمال حتى ال تحدث الجريمة ،مثال ذلك االحياء التي يسكنها االفارقة في طنجة ،
لكن يبقى طلبا غريبا من علماء القانون الجنائي وال يمكن أن تستجيب له السياسة الجنائية ،ثم أن شو
قال بأن الجريمة تحدث في مراكز المال واالعمال والمراكز التجارية الكبرى وكلما ابتعدنا عنها قلت
الجريمة ،لكن هل هذا صحيح ؟ فربما يكون نشاط الشرطة في هذه المدن كثيفا أكثر من المدن الهامشية
فتظهر الجرائم وتضع الشرطة يدها عليها بينما يتعذر ذلك في المدن الصغرى وال تصل إلى يد الشرطة
يعاب أيضا على هذه النظرية أنها لم تعط تفسيرا متكامال لكل أنماط الجرائم وإنما اقتصرت على نمط
إجرامي معين .
النظرية العرقية :
سيلين هو عالم أمريكي ،وعموما جميع علماء التركيب االجتماعي هم أمريكيون ،درسوا الجريمة
انطالقا من المجتمع األمريكي الذي يعتبر خليطا من العديد من الثقافات ،لذلك فتفسير الجريمة في
المجتمع األمريكي يختلف عن التفسير في المجتمع االوروبي أو المغربي .
النظرة العرقية حاولت ربط السلوك االجرامي بالجنس والعرق واللون ،وحاولت إقناعنا بأن بعض
االعراق أقرب الى الجريمة من األعراق األخرى ،فالسود مثال ترتفع لديهم معدالت الجريمة وبالمقابل
يقل مستوى الجريمة في الصين واليابان وفسروا ذلك أن هذه المجتمعات تتميز بنظام متماسك وأخالق
وتركيبة اجتماعية محصنة قوية ومتماسكة في المقابل هناك هشاشة في التركيبة االجتماعية لدى طائفة
السود .
انتقادات لهذه النظرية :
في العصر الحديث ال يمكن لعنصر معين أن يكون السبب في الجريمة ،ويمكن اعتبار هذه النظرية
قاصرة واقتصرت على الزنوج وال يمكن تعميم النتيجة ،فاالنسان االبيض ايضا يرتكب الجرائم ويمكن
القول أنها نظرية عنصرية أغفلت جانبا مهما وهو أن نظام العدالة الجنائية في الواليات المتحدة يشجع
السود على ارتكاب الجرائم حيث يعانون الفقر والبطالة والتفكك االجتماعي والعنصرية كما أن ظروفهم
االقتصادية صعبة ويعانون من الحيف في تطبيق العقوبة الجنائية فالرجل األبيض تبقى له امتيازات
جنائية ،ثم أن نشاط الشرطة يزداد في مناطق السود أكثر من مناطق البيض والقضاة دائما يكونون من
27
السكان البيض مما يجعل احتمالية التعسف في الحكم قائمة ،فعندما يكون االبيض مجرما يتم التعامل
معه بمحاباة بينما يتم توقيع أقسى العقوبات على المجرم االسود .
نظريات التركيب االجتماعي على الرغم من أهميتها تبقى دراستها منطلقة من تركيبة ونظام المجتمع
بعيدا عن التفسيرات البيولوجية والنفسية ،ومع ذلك تبقى قاصرة عن اعطاء تفسير موحد للظاهرة
االجرامية ،فليس هناك تالزم بين الجريمة والمعيشة في ظل تركيبة اجتماعية معينة ،بمعنى أن
نظريات التركيب االجتماعي قد فشلت فشال ذريعا في االجابة عن السؤال الجوهري واالساسي " لماذا
يرتكب االنسان الجريمة في نظام اجتماعي معين دون آخر .
نظرية الكيفية االجتماعية :
هذه النظرية تبحث في الطريقة التي تصير بها االنسان مجرما ،وهي تنقسم إلى العديد من النظريات
سنقف فقط عند نظرتين االولى نظرية التقليد عند كابرييل طارد والثانية نظرية االختالط الفارق لــ
ساندرالند .
نظرية التقليد عند كبلاير طارد :
كبلاير طارد هو قاض وعالم اجتماع فرنسي وهو أستاذ لعلم االجتماع ،عاش ما بين ، 1024-1114
الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها نظريته هي أن الجريمة ليست سلوكا موروثا وإنما هي سلوك مكتسب
وأن االنسان ال يولد مجرما وإنما يكتسب السلوك االجرامي ،وهو ما يشكل نقيضا لنظرية المبروزو
واالتجاه البيولوجي عموما ،فهو يقول اي كبلاير كارل أن االنسان يندفع إلى ارتكاب الجريمة تحت
تأثير عوامل اجتماعية أهمها التقليد ،حيث يتم تقليد المجرمين في سلوكاتهم ،هذه النظرية قد تكون
أجابت عن جانب من الحقيقة ألن هناك بعض االشخاص في المجتمع ارتكبوا جرائم ألنهم تمثلوا نموذجا
اجتماعيا سيئا ،لكن ما يعاب على هذه النظرية أنها أحادية الجانب ،فهي ال تستطيع أن تفسر لنا كل
أنماط الجريمة ،ثم إغفالها للعوامل النفسية والبيولوجية والعقلية التي تدفع االنسان نحو السلوك
االجرامي .
كابرييل طارد هو النقيض لدوركهايم في مدرسة المحيط االجتماعي حين يتعلق األمر بشرح أسباب
الظاهرة االجرامية ،فهو يختلف معه في االصل وفي التكوين وفي الفلسفة .
ألف كتبا أهمها االجرام المقارن و الفلسفة العقابية و قوانين التقليد و دراسات جنائية واجتماعية ،ويبقى
كتابه الفلسفة العقابية متميزا نظرا ألهميته المنهجية حيث عمد فيه طارد إلى التصدي لمزاعم المدرسة
الوضعية خاصة العضوية وفند حججها بالدليل والتحليل العلمي ،هكذا صفى حساباته مع المدرسة
العضوية علميا ومنهجيا ثم هيأ االرض لنشر افكاره العلمية حول الجريمة بعيدا عن فكرة المجرم
بالوالدة .
يتوقف طارد عند المحيط االجتماعي ويعتبره سببا مهما في تحديد سلوك المجرم ،ويلفت االنتباه إلى أن
أغلب المجرمين عاشوا بطفولة تعسة وعانوا من الحرمان العاطفي ورقابة االسرة مما جعلهم يلجأون
لالجرام من أجل العيش ،كما أن المدنية تجعل الجريمة تعتمد أكثر على الدهاء والغدر والخبث ،
ويعطي طارد وصفا دقيقا للمجرم فيقول عنه بأنه شخص عود نفسه منذ صغره على الكراهية والحقد
والحسد وأغلق على نفسه باب الرحمة والعطف ،كما أنه تمرس على تقبل الصدمات وتخزينها وتحمل
الشدائد والصعاب ومختلف أشكال المعاناة ،حتى تبلد الحس والشفقة لديه مما أفقده كل مشاعر الرحمة
نحو االخرين وكنتيجة لهذا التكوين النفسي االجتماعي ينمو هذا الفرد متحفزا الرتكاب الجريمة
28
والشرور والعنف ويكون محظوظا إلى لم يرتكب جريمة قتل في حياته ،هكذا يقول طارد بأن احتراف
الجريمة يتطلب تدريبا مثلها مثل أي حرفة من الحرف مع فارق بسيط هو ان المجرم يتربى في بيئة
إجرامية تساعد على انخراطه في عالم الجريمة .
ويالحظ أن طارد بقي متشبثا بقانونه االخالقي الذي ربطه بالجريمة واعتبر أن مستوى االجرام هو
المؤشر الحقيقي لألخالق في مجتمع معين وهذا التالزم بين االخالق والجريمة يعكس اعتقاده الراسخ أن
دائرة االخالق ودائرة القانون هما متماسكتان ال تقوم الواحدة دون االخرى .
وقد اعتمد طارد على فكرة التقليد وجعل لها قوانين تحكمها لتشرح ميكانيزمات الجريمة ،وهذه
المقومات تنبع من مقومات علم النفس االجتماعي الذي يكشف عن استعداد االفراد للمحاكاة وتقليد
بع ضهم بعضا في السلوك االجرامي ،هكذا يرى طارد أن قانون التقليد مسؤول عن انتاج مجرمين ،
هذا القانون يتكون من 1قواعد ،االولى تقتضي أن التقليد يذهب من الداخل للخارج أي أن الطفل يقلد
االنسان القريب أسبق من تقليده لالنسان البعيد فالطفل يقلد االقربين ويصبح مجرما ،القاعدة الثاني فتفيد
أن التقليد يأخذ طريقه من القوي إلى الضعيف أي أن االفراد ذوو المكانة المرموقة يؤثرون في أصحاب
المكانة االجتماعية العادية فيقلد المجرم رؤساءه في العصابة ،أما القاعدة الثالثة فترتكز على وجود
موضات داخل فكرة التقليد نفسها بالضبط كما يوجد موضة في المالبس ،فالموضة الجديدة تطرد
الموضة القديمة وتأخذ مكانها فاالجرام يتطور ويفرض نفسه على المجرم بالوسائل الجديدة كخطف
الطائرات .
نظرية االختالط الفارق لـ ساندرالند :هو عالم اجتماع أمريكي واستاذ بالجامعة األمريكية ،صاغ
نظريته سنة ، 1010وأكملها فيما بعد سنة 1052دونالد كريستي ،حيث قالت النظرية بأن الشخص
ال يولد مجرما وإنما يكتسب االجرام ،فالسلوك االجرامي سلوك مكتسب وليس موروثا ،وهو يتم عن
طريق التدرب والتعلم فهي صنعة يتم احترافها بعد تعلمها ،فالجريمة ال تقع بصفة تلقائية اعتباطية
وإنما هي م كتسبة بعد االختالط بمجتمع الفاسدين واالحتكاك بالمجرمين والتعلم منهم والتدرب على يدهم
واقتباس سلوكاتهم االجرامية ،والفرد يصبح مجرما بعد أن يتغلب لديه التفسير المخالف للقانون على
التفسير المطابق للقانون ،و حينما يختلط مع جماعة تحرص على احترام القانون تقوى لدى هذا
الشخص المناعة
وعندما يختلط الشخص مع نماذج المجرمين واالشرار في المجتمع فسلوك الجريمة ينتقل إليه بالتعلم
والتدرب شيئا فشيئا وهو ما سماه ساندرالند باالختالط الفارق ،ألن هناك فرقا بين من يختلط مع
جماعة الفاسدين وبين من يختلط مع جماعة الصالحين ،حيث تقوى مناعته ضد الجريمة ،ويتعلم
االخالق واالنضباط
صاغ ساندرالند نظريته الجديدة ثم أضاف إليها صنفا جديدا من الجرائم سماها جرائم أصحاب الياقات
البيضاء ،ح يث يتبوؤون مراكز اجتماعية راقية كالوزراء والمسؤولين والبرلمانيين وقد الحظ أن علم
االجرام يركز دائما على الطبقة الضعيفة وال يتطرق لجرائم هؤالء النخبة وربما كانت جرائمهم أكثر
تأثيرا من جرائم سرقة قطعة خبز ،فالجرائم الوزراء والبرلمانيين تعتبر ذات تأثير قوي على المجتمع
و يتأثر بها آالف الناس أو ربما ماليين ،لذلك يرى ساندرالند أن جرائم أصحاب الياقات البيضاء أخطر
من جرائم المجرمين البسطاء ،وقال أن إجرام أصحاب الياقات البيضاء هو إجرام خفي مستتر ال يظهر
وال يثير اضطرابا اجتماعيا كجريمة القتل في الشارع مثال ،واستحالة االحالة أو البروز ،وقال أن
29
أصحاب الياقات البيضاء يتصرفون و كأنهم فوق القانون وغير ملزمين به وال يطبق عليهم ،وأنهم
جديرون باالحترام بخالف المجرم البسيط الذي يحس أنه تحت مظلة القانون ،كما أن مجرمي الياقات
البيضاء يبحثون عن الثغرات وربما هم من يصنعونها عند التشريع خدمة لمصالحهم الشخصية ،حيث
أن مكانتهم تسمح لهم بالتدخل في القرار السياسي أو التشريعي وسن القوانين ويملكون زمام السلطة
التشريعية وقد قيل " من يملك االقتصاد يملك القانون " حتى القانون الجنائي جاء ليحمي مصالحهم ،أما
جرائمهم فترتكب غالبا بعيدا عن أعين الناس في مكاتب مغلقة و تحت الكواليس و يصعب إحالتها إلى
أجهزة العدالة بل وربما كانت أجهزة العدالة متواطئة معهم شأنها في ذلك شأن باقي أجهزة الدولة التي
يتحكمون فيها وفي أجهزتها السياسية والتشريعية .
قال ساندرالند إن االتجاه البيولوجي والنفسي عجز عن تفسير هذا النوع من اإلجرام فأصحاب الياقات
البيضاء ليست لديهم عيوب خلقية بل تجدهم في أحسن صحة و رغد عيش ويتمتعون بلباقة و حسن
مظهر وال تظهر عليهم اي عيوب خلقية عضوية ،والغاية من جرائمهم ليست بسبب العيوب العضوية
أو النفسية بل بسبب الطمع في الربح والثراء الفاحش فهم يرتكبون جرائمهم من أجل الحفاظ على
السلطة التي بدورها تخول لهم الحفاظ على مصالحهم االقتصادية و تعطيهم فرصة للتهرب الضريبي
واستغالل السلطة من أجل تمرير القوانين التي تخدم القطاعات االقتصادية التي ينشطون فيها ،فكل
همهم هو الحفاظ على مراكزهم و مناصبهم و تحقيق أكبر قدر من الربح .
يعتبر سوزرالند أول من حاول تمثيل المدرسة االمريكية لعلم االجرام ،وهو يرى أن السلوك االجرامي
ال يعود فقط للعوامل االجتماعية أو النفسية أو الفقر بل حتى االغنياء يسرقون ويقتلون فالسلوك
االجرامي يتعلمه االغنياء والفقراء على حد سواء ،بطريقة واحدة وبعمليات متشابهة ،وقد حاول أن
يجد النظرية العامة اعتمادا على الدراسات المنطقية وآليات التوجه نحو االنحراف واالنخراط فيه ،
وتقوم نظرية االختالط الفارق التي توصل إليها على محاولة شرح السلوك االجرامي المتعلق أو الملقن
أو المكتسب الذي يظهر نتيجة صراع بين معايير الثقافات المختلفة التي تكون منها المجتمع االمريكي ،
هذا السلوك المنحرف يظهر حينما تطغى المعايير الجانحة في جماعة على المعايير المتكيفة التي تحكم
المجتمع الكلي ،و مراحل هذه العملية ضمنها سوزرالند في كتابه مبادئ في علم االجرام وهي :
أول انتقاد لهذه النظرية هو عجزها عن تفسير السلوك االجرامي للطبقة العليا الذين ال يخالطون
المجرمين ،ثم عجزها عن كشف حقيقة الجرائم التي تحدث جراء االنفعال أو مرحلة الطفولة اي قبل أن
يخالط االنسان من هو أكبر منه ليتعلم منه ،ألنه قال أن االختالط الفارق هو السبب في ارتكاب الجرائم
وإذا كان االختالط الفارق هو السبب في تعليم السلوك االجرامي فكيف نفسر سلوك المجرم األول فمن
علمه فن ارتكاب الجريمة ؟ ولماذا بعض الناس رغم اختالطهم بالمجرمين ال يقدمون على ارتكاب
الجريمة ،والعكس صحيح فبعض الناس يتربون في بيئة سليمة ويعاشرون الصالحين ومع ذلك قد
30
يرتكبون الجرائم ،ولماذا ال يصبح المسؤولون عن إدارة السجون وعائالت المجرمين مجرمين أيضا
فهم أكثر احتكاكا بالمجرمين ؟ والقول إن الجرائم ُتتعلم منطق غير سليم فجرائم القتل والسرقة
واالغتصاب ال تحتاج أي تعليم ،يمكن القول أن هذه النظرية غير قادرة على اعطاء تفسير شامل
للظاهرة االجرامية .
اتضح لنا من خالل دراسة االتجاه االجتماعي بنظرياته المتعددة أنه يربط الظاهرة االجرامية بعامل
واحد بعينه فكل نظرية ركزت اهتمامها على عامل واحد وأغفلت باقي العوامل فكانت نظريات أحادية
النظرة أهملت العوامل االخرى وكانت تعطي تفسيرا جزئيا لنمط معين من الجرائم ،لكن كلهم اتفقوا
على الحتمية االجرامية ،هذه العوامل ساعدت في نشوء اتجاه جديد هو االتجاه التكاملي في تفسير
الظاهرة االجرامية ،من أجل الخروج من مأزق أن كل اتجاه ينظر إلى السلوك االجرامي من زاويته
األحادية فعالم االجتماع ينظر للجريمة من منظور المجتمع ،واالقتصادي ينظر للجريمة من زاوية
االقتصاد ،والطبيب ينظر للجريمة من زاوية العيوب البيولوجية وعالم النفس ينظر إليها من جانب
النفسية ،كل عامل من هؤالء ينظر للجريمة من زاويته ويغفل العوامل االخرى .
-1عوامل أنطربولوجية :هي المتعلقة بالجوانب البيولوجية والنفسية أو تلك المتعلقة بالشخصية
كالمهنة والحالة العائلية .
-1عوامل طبيعية :كالجغرافيا و نوع التربة و حرارة الجو ،فجرائم العنف تقع في المناطق الحارة
بينما جرائم السرقة تقع في المناطق الباردة .
-1عوامل اجتماعية :المحيط ،البيئة االجتماعية ،تركيبة السكان ،المعتقدات الدينية ،االنتاج
الصناعي ،مستوى التعليم ،النظام االقتصادي والسياسي .
هذه العوامل إذا ما تفاعلت أي العوامل الطبيعية والجغرافية و االجتماعية نتج عنها عدد معين من
الجرائم ال يزيد وال ينقص ،وفي بعض االحيان يقع حدث عارض كالحروب أو الزالزل أو الثورة
السياسية فتزيد فرص الجرائم ويرتفع معدل الجريمة عن حجمه الطبيعي وحالما تزول هذه العوارض
تعود الجريمة إلى معدالتها الطبيعية .
أول ما يحسب لنظريته هو نظرتها الشمولية في تفسير السلوك االجرامي ،لذلك كانت ضمن االتجاه
التكاملي ،عكس النظريات اال حادية التي رأيناها ،ولعل ما ميزها بكونها نظرة تكاملية هو أنها تتفاعل
وتتكامل فيها العديد من العوامل المتنوعة والمختلفة .هذا االتجاه جاء بتحول جذري في السياسة الجنائية
المعاصرة لمواجهة الظاهرة االجرامية ،حيث يجب االعتماد على سياسة وقائية اجتماعية ثقافية
اقتصادية لمحاربة الجريمة ،ففي طريق مظلم ترتفع نسبة الجريمة وعوض زيادة عدد الشرطة لم ال
31
نفكر في إضاءة هذه الطريق عوض أن تبقى مظلمة فتقل نسبة الجريمة فيها ،و نعالج المشكل من
جذوره ،وكأن فيري يتسائل من يصنع الجريمة ؟ هل هي وزارة العدل ؟ الداخلية ؟ أم هي مسؤولية
باقي السياسات العمومية ؟ ثم يقول إن الجريمة هي مسؤولية المجتمع بأسره ،وكل السياسات العمومية
في كل القطاعات كالتعليم والصحة و التشغيل هي مسؤولة عن ارتكاب الجريمة ،حسن تتقاعس عن
أداء وظيفتها ،كل ذلك ينعكس على معدالت الجريمة بشكل مباشر ،يقول فيري إن الحل ليس في
القانون الجنائي وفي الزجر بل في اعتماد سياسات وقائية تمس كل القطاعات العمومية في الدولة من
أجل مواجهة الجريمة .
فطن فيري إلى تركيبية السلوك االجرامي فخالف أستاذه لومبروزو في فكرته باالنحطاط الوراثي
والعامل العضوي فذهب فيري إلى االعتماد على نظريات لم تكن موجودة في عهد لومبروزو ،ومن
هذا المنطلق المعتمد على تظافر الكثير من النظريات حاول فيري أن يقيم أسس نظريته السوسيولوجية
في الجريمة في كتابه " علم االجتماع الجنائي " الذي شرح فيه أن الجرائم ترتكب إما بواسطة التكوين
الفردي لإلنسان وإما بتأثير من العوامل الخارجية سواء انت اجتماعية أو طبيعية ،وقد ذكر من بين
العوامل توزيع االراضي والمناخ واختالف العقول وما يتبع ذلك من اختالف في عدد السكان والهجرة
والتقاليد االجتماعية والدينية ومستوى التعليم والصحة وطبيعة كيان المجتمع العائلي والسياسي
واالقتصادي ،هكذا لم يقتصر فيري على شخص المجرم كما فعل لومبوروزو .
خلص فيري من خالل دراسته إلى ظاهرة التشبع االجرامي بمعنى أن بيئة اجتماعية في ظروف صحية
معينة ال تحتمل أكثر من درجة معينة من االجرام وأن نسبة االجرام ترتفع حتى تصل إلى درجة
معلومة ال يمكن أن تتعداها ،وقال بضرورة الوصول إلى درجة التشبع االجرامي باقل خسارة وأسرع
ما يمكن معلال ذلك بالطريق المظلم الذي يساعد على الجريمة بينما لو كان هناك مصباح يستبعد وقوع
الجريمة هناك ،وهي حيلة أكثر ذكاء من إنشاء سجن كبير ،والهدف هو الحماية أفضل من العالج ،
وتحسين مستوى المعيشة أجدى من السجن وأفضل من المشنقة ،و يرى فيري أن التشبع االجرامي هو
وليد العوامل الطبيعية التي تقوم الحياة االجتماعية عليها ،ونسبة الجريمة تتأثر بهذه العناصر الطبيعية
سلبا أو إيجابا ،واشار فيري أن درجة التشبع االجرامي يمكن تجاوزها في حالة الحروب أو الكوارث
أو الفوضى االجتماعية وعبر عنه بقانون ما فوق التشبع االجرامي ،هكذا حاول فيري ن يعطي شرحا
علميا وافيا للجريمة وأن يربطها بجذورها االجتماعية ويكون بذلك قد أسس للمدرسة السوسيولوجية في
علم االجرام التي عرفت صيتا ذائعا ،هكذا يكون لومبروزو قد أسس لالنطروبولوجية الجنائية بينما
تكلف فيري بإنشاء اسس علم االجتماع الجنائي .
انتقادات نظرية فيري :
ما يعاب على نظريته هو تبنيه فكرة الحتمية االجرامية باعتبارها فكرة ثقيلة على علم االجرام ال تتفق
مع كون علم االجرام من العلوم االنسانية التي تتميز بالنسبية وليس من العلوم التطبيقية الطبيعية
القطعية .كما أن النظرية التكاملية لـ فيري تشوه صورة البحث العلمي ألن منطق هذه النظرية يلزم
الباحث في علم االجرام على القيام بإعداد االسباب والعوامل والمقدمات التي تدفع إلى السلوك االجرامي
دون أن تعطي لنا العامل الحاسم الفعال الرئيسي لالندفاع نحو السلوك االجرامي ،فيري قال أن السلوك
االجرامي سببه خليط من العوامل النفسية والبيولوجية و االجتماعية واالقتصادية والطبيعية دون تحديد
السبب الحاسم ،فيجب أن نعطي السبب الحقيقي بما أنه علم وبحث علمي أما أن نقول انها مجموعة
عوامل فهو أمر يشوه صورة البحث العلمي ويعتبر مجرد تجميع للعلوم االخرى .
32
نظرية االستعداد اإلجرامي عند دي توليو :
هو طبيب ايطالي ،صاغ نظريته في مؤلفه المشهور األنطربولوجية الجنائية ،أي علم طبائع المجرم
سنة ، 1854عرفت هذه النظرية بنظرية االستعداد االجرامي ،وتعتبر من أشهر النظريات التكاملية
في تفسير الظاهرة االجرامية ،حيث قال أن كل الناس لديهم غرائز طبيعية اساسية فطرية كحب البقاء
و حب التملك وحب المال و الجنس ،سماها العوامل الدافعة للجريمة فالغرائز الجنسية تؤدي إلى
جرائم االغتصاب مثال والزنى و غريزة التملك تؤدي إلى جرائم السرقة وغريزة البقاء تؤدي الى جرائم
القتل ،فأي غريزة معينة هي سبب الرتكاب جريمة معينة هذه الغرائز تتهذب بفضل عناصر مكتسبة
منذ الطفولة عن طريق التعليم والثقافة واكتساب القيم االخالقية والعقائد الدينية فيؤدي ذلك الى نشوء
غرائز اساسية ثانوية ثانية سماها دي توليو العوامل المانعة من الجريمة أو القوى المانعة من الجريمة .
فأنت ايها االنسان لديك غرائز أي عوامل دافعة لالجرام لكن تلك الغرائز بفضل التربية والثقافة والتعليم
والقيم االخالقية والدينية تقوم بتهذيب تلك الغرائز األساسية فينشأ ما يسمى بالقيم األخالقية أي الغرائز
الثانوية الثانية سماها بالقوى المانعة من االجرام .
كل ا لبشر لديه استعداد إجرامي معين فإذا انفلتت الغرائز األساسية الطبيعية على الغرائز الثانوية أو
القوى المانعة فإن االنسان يقدم على ارتكاب الجريمة ،وهذا ما يحيلنا على سؤال آخر لماذا ال يقدم
البعض على ارتكاب الجريمة بينما البعض اآلخر ال يقدم عليها وهم في نفس المجتمع .
االستعداد اإلجرامي لدى دي توليو نوعان :استعداد إجرامي اصيل و استعداد إجرامي عارض
االستعداد االجرامي األصيل هو ما يدفع إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ،ويتميز بالثبات واالستمرار
ويكشف عن ميل فطري غريزي طبيعي نحو الجريمة نظرا الختالالت وراثية أخالقية مرتبطة بالتكوين
البيولوجي النفسي للمجرم ،فاالختالل التكويني العضوي والنفسي هنا أصيل وليس مكتسبا فهو فطري
يولد مع االنسان ويدفعه نحو الجريمة .
االستعداد االجرامي العارض يتكون لدى المجرم بالصدفة أو يكون مجرما عاطفيا يرتكب الجريمة تحت
تأثير المتغيرات االجتماعية أو الظروف البيئية وهي استعدادات إجرامية مكتسبة وليست فطرية وغالبا
ما ترتبط بالهجرة أو الغيرة أو الحب أو الفقر أو الحقد ،هذه االستعدادات تقلل من قدرة الشخص على
ضبط مشاعره وهي سلوكات تؤثر على القيم االخالقية لديه وتقلل من قدرته على ضبط مشاعره
وغرائزه فيندفع نحو ارتكاب الجريمة .
تعبر الجريمة عند دي توليو عن وجود نوع من عدم التوافق االجتماعي ،ناشئ عن وجود حالة استعداد
خاص للجريمة كامنة في شخص المجرم ولم تخرج إلى النور إال بسب وجود خلل عضوي ونفسي
يضعف من قدرة الشخص على التحكم في نزعاته وميوله الفطرية (قوى الدفع للجريمة) ،ويجعل
الشخص أكثر استجابة للمؤثرات الخارجية المحفزة أو المفجرة للسلوك اإلجرامي .
فالسلوك اإلجرامي عند دي توليو شأنه شأن المرض ،فكما أن الناس يتعرضون جميعهم ألنواع عدة
من الميكروبات ورغم ذلك ال يصابون جميعهم باألمراض ،بل ال يصاب بها إال من ضعفت مقاومته
في التصدي لهذه العوارض الخارجية ،وكذلك السلوك اإلجرامي ،فلدى الكل استعداد إجرامي نحو
الجريمة غير أن البعض فقط هو الذي يدخل إلى طور التنفيذ نتيجة وجود خلل في تكوينهم العضوي
33
والنفسي يجعلهم أقل قدرة على التكيف مع متطلبات الحياة االجتماعية وأقل قدرة على كبح جماح
غرائزهم الفطرية ،وفي ذات الوقت تقل أو تنعدم لديهم القوى المانعة من الجريمة أو ما يسمى بالغرائز
السامية.
فلدى الكافة غرائز أساسية فطرية ،مثل الغريزة الجنسية وغريزة التملك وغريزة االقتتال والدفاع ،
وهذه الغرائز تكون تعبيرا عن "القوة الدافعة للجريمة" .غير أن تلك الغرائز تتهذب بفعل عناصر
مكتسبة منذ مرحلة الطفولة على أثر التعليم والثقافة وتلقين القيم الدينية واألخالقية .ويؤدي هذا التهذيب
إلى نشوء غرائز ثانوية سامية ،يطلق عليها تعبير "القوة المانعة من الجريمة".
فإذا التقى االستعداد اإلجرامي بمثير خارجي ،نشأ صراع بين نوعي الغرائز ،فإذا تغلبت الغرائز
األساسية (القوة الدافعة للجريمة) على الغرائز السامية (القوة المانعة للجريمة) أقدم الشخص على
ارتكاب السلوك اإلجرامي ،والعكس بالعكس .األمر الذي يفسر لنا علة ارتكاب البعض دون البعض
األخر للسلوك اإلجرامي رغم وحدة الظروف البيئية.
إن الكشف عن وجود هذا االستعداد يستلزم حتما فحص الشخصية اإلجرامية من ثالث نواحي :
أ -الفحص الخارجي :وذلك بفحص أعضاء الجسم الخارجية للشخص للوقوف على ما إذا كانت ذات
تكوين طبيعي واستكشاف ما بها من شذوذ.
ب -الفحص الداخلي :يشمل أجهزة الجسم المختلفة .كما يدخل في هذا الجانب فحص الجهاز الغددي
(خاصة الغدة الدرقية) ،فلقد ثبت أن الخلل في افرازات الغدد بالنقص أو بالزيادة يؤثر على الحالة
النفسية للفرد وبالتالي على مسلكه الشخصي العام .
ج -الفحص النفسي :يهدف الفحص النفسي إلى الكشف عن الحالة النفسية للمجرم والكشف عما يصيب
غرائز الفرد وميوله من خلل أو اضطراب.
و قد قسم دي توليو المجرمين إلى طوائف ثالثة كبرى :المجرم ذي التكوين اإلجرامي ،والمجرم
المجنون ،والمجرم العرضي .
تقييم نظرية دي توليو :
لقد كان له الفضل في توجيه دراسة سلوك السلوك اإلجرامي دراسة تكاملية باعتبارها نتائج عوامل
فردية واجتماعية فتجنبت نظريته النظرة االحادية أو التفسير األحادي للظاهرة االجرامية وجهت له
انتقادات عديدة تدور حول فكرة االستعداد اإلجرامي فهو يقول إن العوامل اإلجتماعية ال يمكن أن تحدث
أثرا إجراميا إال إذا سبقها استعداد إجرامي ،وهذا خطأ كبير ألن بعض الجرائم تقع وإن لم يسبقها
استعداد إجرامي مثل جرائم عدم التبليغ عن الجريمة بسبب االهمال ،هذه النظرية ال تصدق إال على
الجرائم الطبيعية التي تتعارض مع القيم االجتماعية والمبادئ األخالقية الراسخة في الوجدان االنساني
أما الجرائم االصطناعية فال يمكن تفسيرها بفكرة االستعداد االجرامي ألن الجرائم االصطناعية هي
مخلوق قانوني من صنع المشرع تتغير في الزمان والمكان لذلك ال يمكن القول بأن هناك استعداد قبلي
في الجرائم الطبيعية كالقتل والسرقة واالغتصاب .
بالتوفيق
34