You are on page 1of 34

‫علم االجرام‬

‫إعداد ‪ :‬فوزي أكريم‬


‫اقتباسا من محاضرات د‪ .‬هشام بوحوص‬
‫كلية الحقوق ‪ ،‬طنجة‬
‫‪1622/21/60‬‬
‫تقديم‬
‫موضوع السلوك االجرامي يعالج عادة ضمن مادة " علم االجرام " ونحن عندما نتحدث على السلوك‬
‫االجرامي وما يمثله من تعقيد في جذوره و من تباين في تجلياته بشكل غير مستقر فنحن غير ملزمين‬
‫بنظريات علم االجرام التي ال حصر لها وإنما غرضنا أن نربط السلوك االجرامي ببعض النظريات‬
‫العلمية التي تراعي العوامل الداخلية للمجرم ‪ ،‬وإذا كان السلوك االجرامي يمثل صراعا نفسيا اجتماعيا‬
‫بل وحتى بيولوجيا أو عضويا لصاحبه فالوصول إلى استجالء هذه العوامل المشابكة والمتفاعلة فيما‬
‫بينها يصبح أمرا صعبا ‪ ،‬هذه الطبيعة المركبة للسلوك االجرامي يجعلنا نركز على جذور السلوك‬
‫االجرامي على ضوء النظريات العلمية التي تساعد بحكم دقتها على االقتراب من فهم السلوك االجرامي‬
‫وبالتالي رسم طرق الوقاية منه ‪.‬‬
‫الفكر االنساني كان دائما يطرح السؤال التالي ما هي الجريمة ولماذا نجرم ؟ والحقيقة أنه ال توجد‬
‫معادلة واحدة تفسر السلوك االجرامي ‪ ،‬بل تتعاضد عدة علوم انسانية وتتدخل لتفسر الظاهرة ‪ ،‬منتهجة‬
‫في سبيل ذلك الكثير من التحاليل البيولوجية األنثروبولوجية واالجتماعية والعقلية و النفسية ‪.‬‬
‫الدراسة الفلسفية المجردة وقفت عاجزة عن تفسير ايجاد حلول للظاهرة االجرامية ألنها كانت نظريات‬
‫افتراضية نظرية فلسفية ال تقوم على اي أسس علمية لذلك فعلم االجرام الحديث قام انطالقا من قواعد‬
‫علمية ثابتة معتمدا على الدراسة والتجربة والمالحظة واستخالص النتائج ‪ ،‬هذا التحول نتج عنه علم‬
‫االجرام وقد اضيف إلى مواد القانون رغم المعارضة الشديدة من بعض المفكرين اعتبارا لكون علم‬
‫االجرام مادة غير قانونية ال يجب أن تدرس في كليات الحقوق فمحتواها خليط من دراسات تنتمي إلى‬
‫علم الطب والنفس واالجتماع فهي دراسات ال عالقة لها بالعلوم القانونية ‪ ،‬لكن رجل القانون ال يمكن أن‬
‫يتحدث عن مادة يكون فيها له دور الرجل الثالث فأستاذ النفس سيتحدث أفضل من استاذ القانون عن‬
‫العوامل النفسية التي تؤدي الى ارتكاب الجريمة والطبيب سيتحدث أفضل من أستاذ القانون عن المشاكل‬
‫العضوية والتكوينية المؤدية الى الجريمة ‪ ،‬هذا القول وإن كان فيه بعض الصحة و رجل القانون بحكم‬
‫تكوينه القانوني قد ال يلم بكثير من الخصائص النفسية والطبية لكن ال ينبغي ذلك أن يحول بينه وبين‬
‫دراسة اسباب الظاهرة االجرامية حتى وإن كان دوره في ذلك دور الرجل الثاني أو الثالث ‪ ،‬فرجل‬
‫القانون يجب أن يكون ملما بعلم االجرام حتى يستطيع تطبيق القاعدة القانونية تطبيقا سليما ‪ ،‬فرجل‬
‫القانون الذي من المفترض أن يطبق القانون يجب أن يكون على دراية بأسباب الجريمة والعوامل التي‬
‫تؤدي لها مطلعا على علم االجرام مفرقا بين أنواع المجرمين حتى يستطيع تنزل القاعدة القانونية‬
‫التنزيل الصحيح ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫تعريف علم االجرام‬

‫يرى بعض الفقهاء أن علم االجرام هو العلم الذي يبحث في اسباب الجريمة و مكوناتها وسياقها و‬
‫نتائجها ‪ ،‬ويرى رمسيس بهنام أنه العلم الذي يدرس الجريمة كحقيقة واقعية و يدرس اسبابها و بواعثها‬
‫العضوية والبيئية من أجل عالجها والوقاية منها و هكذا يرى الدكتور عبد المنعم العوضي حيث يقول‬
‫هو العلم الذي يهدف إلى الوقوف على اسباب الظاهرة االجرامية تمهيدا لعالجها ‪.‬‬
‫نالحظ أن أغلب التعريفات ربطت بين علم االجرام ودراسة أسباب الجريمة والدوافع من ورائها ولم‬
‫تتطرق إلى طبيعة الفعل االجرامي هل هو ضار بالمجتمع أم نافع ؟ والواقع أنه مهما تعددت االتجاهات‬
‫في وضع تعريف للجريمة فإنها لن تصل إلى تحديد مفهوم الجريمة نظرا لطبيعتها المركبة واستحالة‬
‫جمع عناصر ثابتة وشاملة تسمح بهكذا تعريف ‪ ،‬وألن العمل االجرامي هو عمل نسبي ال يخضع‬
‫لتقنيات التحديد بكيفية مطلقة فإن تعريف الجريمة يتأرجح بين المفهومين االجتماعي والقانوني ‪ ،‬المفهوم‬
‫القانوني مدرسته االتجاه االوروبي والمفهوم االجتماعي منبته االتجاه االمريكي‪.‬‬
‫والعتبارات عملية يؤخذ باالتجاه األوروبي أي بالمفهوم القانوني الذي يساعد على تحديد الجريمة وهو‬
‫ال يهتم كثيرا بكل االنحرافات االجتماعية بقدر ما يهتم بتلك التي ينص عليها القانون الجنائي وهو ما‬
‫ذهب اليه دوكريف حين قال " إني أمتنع عن إعطاء تعريف للجريمة إذ يتوجب علينا اعتماد التعريف‬
‫القانوني المعطى لها ألن هذا التعريف ليس إال وصفا دقيقا لواقع موجود قبل القانون وهذا الواقع هو‬
‫االجرام " لكن بصفة عامة التحديد القانوني للجريمة ال يزيل عنها صفتها االجتماعية التي تظل مالزمة‬
‫لها فهي لصيقة كل مجتمع بشري مما يجعلها ظاهرة اجتماعية ‪.‬‬

‫لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا ؟‬

‫لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا ‪ ،‬ما هي الدوافع التي تدفع االنسان الرتكاب سلوك إجرامي ؟ رغم‬
‫وجود قواعد قانونية و مبادئ أخالقية ‪ ،‬هل ألن الجريمة نتيجة حتمية في االنسان أم أنها نتيجة ظروف‬
‫اجتماعية أم نتيجة اختالالت وراثية ؟ أم هي اختالالت نفسية وعقلية معينة ؟ تؤثر على االنسان فتشوه‬
‫لديه القيم األخالقية ‪ ،‬تتعدد السبل لكن النتيجة واحدة ‪ ،‬الجريمة ‪.‬‬
‫نشير أوال إلى أن الجريمة هي ظاهرة صحية ومفيدة لتطر األخالق والقانون في المجتمع ‪ ،‬و قد نتفق‬
‫جميعنا في طرح السؤال حول لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا لكن الجواب يختلف باختالف علماء‬
‫االجرام والفقه الجنائي ‪ ،‬فقد نجد االجابة في عدة علوم كعلم النفس وعلم االجتماع وعلم الطب اعتبار أن‬
‫علم االجرام ال يقتصر على القوانين والحقوق في تفسير الظاهرة االجرامية ألنه الجريمة لها عالقة‬
‫باإلنسان وتكوينه النفسي والبيولوجي وهذا ال يمنع رجال القانون من دراسة الظاهرة االجرامية وتأملها‬
‫ولو اعتمادا على أبحاث أجيال سابقة واالستفادة من مجهوداتهم في بحثهم عن السلوك االجرامي لإلنسان‬
‫وألن علم النفس يهم االنسان وسلوكه فهو يختلف عن باقي فروع القانون كالقانون المدني مثال الذي ال‬
‫يمس االنسان في تكوينه وسلوكه بل يمس ذمته المالية ‪ ،‬و لعل السبب الذي يدفع رجال القانون للبحث‬
‫في علم االجرام هو أنه يمس وينصب على دراسة السلوك االجرامي لإلنسان والعوامل التي تؤدي إلى‬
‫قيامه بالسلوك االجرامي ‪.‬‬
‫القانون الجنائي الخاص والعام يستنبطان من القاعدة القانونية بخالف علم االجرام الذي يستنبط انطالقا‬
‫من األبحاث والدراسات والعلوم االنسانية االخرى ‪ ،‬وال يجب على رجل القانون أن يغفل على معرفة‬
‫‪2‬‬
‫هذه االبحاث والدراسات والعلوم التي تفسر الظاهرة االجرامية فالقاضي الجنائي مثال ال يستطيع تطبيق‬
‫القاعدة القانونية تطبيقا سليما دون األخذ بعلم االجرام ‪ ،‬ابرز مثال على ذلك هو تكييف الحكم حسب‬
‫الحالة والتوفيق بين الحد االدنى والحد االقصى للعقوبة ‪ ،‬واألحداث ال يمكن معاملتهم كالبالغين ‪،‬‬
‫فالمشرع عندما يريد تفريد العقوبة فهو ال يسوي بين االسوياء وبين فاقدي االرادة ‪ ،‬على عكس‬
‫المدرسة الكالسيكية التي تقول بـ " جريمة واحدة عقوبة واحدة " ‪ ،‬فقديما كان القاضي مجرد آلة ينطق‬
‫بالحكم فكان ناطقا باسم القانون والسلطة القضائية كانت تتبع أهواء السلطة التنفيذية والمجرم يأتي‬
‫للمحكمة وهو ال يدري أي عقوبة ستنزل عليه ‪ ،‬بعد ذلك ظهر مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية أي "ال‬
‫عقوبة وال جريمة إال بنص" أي منع التعسف واقرار مبدأ المساواة ‪ ،‬أي المساواة تعني جريمة واحدة‬
‫عقوبة واحدة وال تفريق بين االشخاص ‪ ،‬لكن تبين بعد ذلك أن المساواة الحقيقية هي أن لكل جريمة‬
‫عقوبات مختلفة فظهرت الحاجة الى اعطاء القاضي سلطة تقديرية في اختيار العقوبة المناسبة لكل‬
‫جريمة طبقا لمعايير خطورة الفعل االجرامي وخطورة السلوك االجرامي ‪ ،‬القاضي كانت لديه سابقا‬
‫عقوبة واحدة االن له عقوبات متراوحة بين الحد االدنى واالقصى وقد يعطيه الحق في اختيار العقوبة‬
‫المناسبة له ‪ ،‬فـبعد ظهور علم االجرام اصبح الحكم تتدخل فيه الحالة النفسية والبيولوجية والدوافع‬
‫الخارجية التي تؤثر على االنسان و تدفعه الرتكاب الجريمة فظهرت قاعدة الحد األدنى والحد االقصى ‪،‬‬
‫فالعقوبة تختلف من شخص آلخر ولو كانت نفس الجريمة انطالقا من الفصل ‪ " 141‬للقاضي السلطة‬
‫التقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحد األدنى واألقصى مراعيا خطورة الجريمة من ناحية‬
‫وشخصية المجرم من ناحية أخرى "‬
‫تحديد الحكم حسب خطورة الفعل االجرامي وخطورة الفاعل أي المجرم من بين المستجدات التي أتى‬
‫بها علم االجرام ‪ ،‬وله يرجع الفضل في إعطاء العقوبة المناسبة حسب الفرد ولو تشابهت الجريمة‬
‫والقاضي لن يكون مصيبا في الحكم إذا لم يكن ملما بعلم االجرام عارفا بالظروف االجتماعية والنفسية‬
‫والبيولوجية التي تؤثر على الجاني ‪.‬‬
‫وهناك مثال ما يسمى بالسجل العدلي فالشخص الذي له سجل عدلي نظيف تختلف عقوبته عن مرتكب‬
‫الجريمة الذي سبق له أن ارتكب جريمة ‪ ،‬فتحضر ظروف التخفيف و تحضر ظروف التشديد ‪.‬‬
‫خطورة الفعل و خطورة الفاعل مستجدات أتى بها علم االجرام والقاضي ال يستطيع تطبيق القانون‬
‫الجنائي تطبيقا سليما إن لم يكن ملما بالفاعل نفسيا واجتماعيا و مطلعا على سجله العدلي وتبقى خطورة‬
‫الفعل وخطورة الفاعل من أبحاث علم االجرام وغالبا لن يكون رجل القانون ملما بالتكوين العضوي‬
‫والنفسي للجاني كما يكون ملما بذلك الطبيب وعالم النفس وعالم االجتماع لكنه يستطيع أن يستفيد من‬
‫كل ما يدلي به هؤالء ويطابقه على الواقع ثم يكون له رأيه في النهاية ‪ ،‬فدراسة علم االجرام من االهمية‬
‫بمكان ألنها تقدم بعدا ثالثا لرجل القانون ‪.‬‬

‫ما هي األهمية العلمية لعلم االجرام ؟‬ ‫‪‬‬


‫ماذا يقدم لنا علم االجرام ؟‬ ‫‪‬‬
‫ما هي الفائدة من دراسة علم االجرام ؟‬ ‫‪‬‬
‫لماذا ندرس هذه المادة ؟‬ ‫‪‬‬
‫ماذا يقدم علم االجرام بالنسبة للمشرع ؟‬ ‫‪‬‬
‫ماذا يقدم علم االجرام للقاضي ؟‬ ‫‪‬‬
‫ماذا يقدم علم االجرام للمؤسسات السجنية ؟‬ ‫‪‬‬

‫‪3‬‬
‫إن أهم ما قدمه علم االجرام هو تفريد الجزاء أو العقوبة الجنائية ونتحدث هنا عن تفريد تشريعي و‬
‫تفريد قضائي وتفريد تنفيذي ‪ ،‬والتفريد هو اختيار العقوبة المالئمة والمناسبة للمتهم والمشرع عندما‬
‫يضع النص الجنائي يجب عليه أن يضع في اعتباره التطبيق المرن لهذا النص وال يجب أن يساوي بين‬
‫العاقل وفاقد العقل واالرادة ‪ ،‬بين الكامل االهلية والقاصر ‪ ،‬ألن المسؤولية الجنائية تتدرج حسب‬
‫المراحل العمرية لإلنسان وإن الشخص قبل سن ‪ 11‬سنة يكون منعدم األهلية و في سن ‪ 11‬يكون ناقص‬
‫األهلية وفي سن ‪ 11‬يكون مكتمل األهلية ويتحمل مسؤولية تصرفاته ‪ ،‬بخالف المدرسة الكالسيكية التي‬
‫ال تفرق بين قاصر وكامل األهلية ‪ ،‬بين عاقل و مجنون ‪ ،‬فتقول جريمة واحدة عقوبة واحدة ‪ ،‬هكذا‬
‫فرق المشرع المغربي مثال بين مرتكب جريمة القتل مع سبق االصرار والترصد وبين مرتكب نفس‬
‫الجريمة تحت تأثير االستفزاز ‪ ،‬و طبق تشديدا في االولى نظرا لتواجد خطورة إجرامية وتخفيفا في‬
‫الثانية النعدام النية االجرامية والخطورة الجرمية ‪ ،‬لذلك عمل المشرع على تفريد الجزاء الجنائي‬
‫ووضع جزاءات مختلفة لنفس الجريمة ‪ ،‬وعلم االجرام هو من يساعد المشرع على هذه المغايرة و‬
‫التفريد التشريعي للجزاءات الجنائية ‪ ،‬فعلم االجرام إذن يقدم أهمية كبيرة للمشرع فيما يتعلق بالتفريد‬
‫التشريعي للجزاءات الجنائية ‪ ،‬وال يمكن للمشرع أن يعمل على إخراج نصوص جنائية فعالة دون‬
‫االستفادة من االبحاث في علم االجرام ‪.‬‬
‫أما بالنسبة للقضاء فيمكن لعلم االجرام أن يخدمه كالتالي‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬التمييز بين التفريد التشريعي والتفريد القضائي ‪ :‬التفريد التشريعي يكون أثناء تشريع القوانين‬
‫أو النصوص الجنائية أما التفريد القضائي فيكون عند تطبيق هذه القواعد القانونية ‪ ،‬التفريد التشريعي‬
‫يقوم به المشرع مثال عندما يشرع قوانين أو نصوص تفرق بين العقوبة الموجهة أو المطبقة على كامل‬
‫االهلية وناقص االهلية و بين من لديه نية اجرامية وبين من ليس لديه نية اجرامية أو خطورة اجرامية ‪،‬‬
‫فيقوم به عند سن القوانين فتكون هناك مغايرة واختالف في تحديد العقوبة لنفس الجرم ‪ ،‬لكن التفريد‬
‫القضائي يقوم به القاضي نفسه عند تطبيق النص القانوني الجنائي تحت معيار الحد االدنى واالقصى‬
‫وحسب دراسته لنوع الجريمة والشخصية االجرامية ‪ ،‬ففي القديم في فترة سميت بالفترة السوداء كان‬
‫القاضي مثل االلة وقد سلبت منه السلطة القضائية فالسلطة التنفيذية هي من تصدر له االحكام فينطق‬
‫القاضي بالحكم حسب مكانة الجاني في المجتمع وحسب لونه وعرقه ولغته فيحكم عليه بما شاء وكيفما‬
‫شاء حيث انعدمت قاعدة ال عقوبة وال جريمة إال بنص ‪ ،‬بل وحتى تنفيذ الحكم كان يختلف من شخص‬
‫آلخر ‪ ،‬لكن بعد الثورة على االستبداد انتزعت السلطة القضائية من يد السلطة التنفيذية و طبقت قاعدة ال‬
‫جريمة وال عقوبة إال بنص وأصبح للمجتمع دور في تحديد العقوبة التي يجب أن يتقيد بها لكن تبين بعد‬
‫ذلك أن هناك عقوبة جريمة واحدة عقوبة واحدة تخل بمبدأ المساواة ‪ ،‬فكيف يمكن أن تكون هناك عقوبة‬
‫واحدة لجريمة واحدة في إطار نية إجرامية مختلفة ‪ ،‬فظهرت الحاجة إلى إعادة صياغة تلك المبادئ ‪،‬‬
‫فظهر ما يسمى بمبدأ التفريد القضائي ‪ ،‬فأعطيت للقاضي صالحيات جديدة وسلطة تقديرية محصورة‬
‫بين الحد االدنى واالقصى ‪ ،‬ثم ظهر أن هذا ال يكفي فجاء ما يسمى بالنزول عن الحد االدنى فيمكن‬
‫للقاضي النزول عن الحد االدنى للعقوبة إذا ظهر له أن العقوبة مبالغ فيها ‪ ،‬لكن يجب أن يكون هذا‬
‫النزول معلال بأسباب يقبلها القانون ‪ ،‬فيكون الحكم على الشكل اآلتي " نظرا للظروف االجتماعية‬
‫والنفسية قررت المحكمة منح المتهم ظروف التخفيف و نزول العقوبة " وفي بعض االحيان ينطق‬
‫القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها " حكم سنة موقوف التنفيذ " ويمكن للقاضي مع المشروع الجديد أن‬
‫يخاطب المتهم ويقول له " ما رأيك أن تقضي العقوبة حبسية أو تشتري عقوبتك ‪ ،‬كل يوم مدفوع األجر‬
‫‪ 1222‬درهم مثال عن كل يوم ‪ ،‬أو ما يسمى بالغرامة اليومية لكن فقط في الجرائم البسيطة كالمخالفات‬
‫أو الجنح أما الجنايات فال يمكن ذلك وحتى الغرامة المالية تخضع لمبدأ التفريد فالغني يمكن أن يشتري‬
‫‪4‬‬
‫عقوبته بسعر أكبر من الفقير ‪ ،‬وقد يحكم ال بالغرامة وال بالحبس بل باألشغال الشاقة ‪ ،‬فيمكن الحكم‬
‫على طالب أو موظف مثال ارتكب جريمة مثال بأن يعمل خدمة أو عمال لفائدة مؤسسة دون أجر كعقوبة‬
‫بديلة ‪ ،‬ألن ال طالب لو أودعناه السجن ربما يتعلم فنونا أخرى للجريمة لم يكن يعرفها فمن األحسن أن‬
‫يعمل عمال لفائدة المجتمع يكون عقوبة له ‪ ،‬كل ذلك في إطار السلطات التقديرية التي منحت للقاضي‬
‫التي وصلت إليها السياسة الجنائية المعاصرة التي رجعت إلى األصل و هو النظام االسالمي حيث أن‬
‫القاضي في التشريع االسالمي له سلطة تقديرية واسعة حسب ظروف الجاني قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم " أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم " أي من لهم قدر في المجتمع وشهد لهم بالصالح إن زلت لهم‬
‫قدم فاألحسن هو الستر و العفو وجبر عثرات الكرام ‪ ،‬حيث أن االسالم يراعي الدوافع النفسية‬
‫واالجتماعية التي دفعت الشخص إلى ارتكاب جريمة والحكم بالعفو بينما من يستحق العقوبة هو من‬
‫ثبتت في حقه الخطورة االجرامية ‪ ،‬وللقاضي في االسالم الصالحية في الحكم ابتداء من التوبيخ وانتهاء‬
‫باإلعدام ‪ ،‬حسب الفعل الجرمي و خطورة الفاعل ‪.‬‬
‫بالنسبة للمؤسسات السجنية ‪ :‬أو المكلفة بتنفيذ العقوبة ‪ ،‬السجن ظهر بمثابة مكان لتنفيذ العقوبة‬
‫واالنتقام والزجر والردع من أجل أال يعاود المجرم سلوكه االجرامي وإلعطاء المجتمع رسالة مفادها‬
‫بأن الشخص الذي يرتكب جريمة يستحق العقوبة و كل من حاول ارتكاب الجريمة فالسجن هو مكانه‬
‫الطبيعي ‪ ،‬من أجل إعادة التأهيل واالصالح واالدماج ‪ ،‬فالسجن بمثابة طبيب نفسي أو مستشفى للمجرم‬
‫فالمجرم شخص مريض يحتاج إلى مستشفى وهو السجن ‪ ،‬فيدخله ليتكيف من جديد مع قيم المجتمع‬
‫والتقاليد التي سلبت منه فيعاود تأهيله وجعله إنسانا صالحا ومصلحا في المجتمع ‪ ،‬هذا هو الوضع‬
‫الحديث للسجون وعلم االجرام له فضل كبير في تحويل أو تغيير الهدف السجني ‪ ،‬فعلم االجرام وأبحاثه‬
‫ساهمت بشكل كبير في خدمة المؤسسات السجنية عن طريق الفحص والتصنيف من قبل إدارة السجون‬
‫‪ ،‬فهي تفحصه نفسيا وعضويا ثم تصنفه فالنساء لديهم مؤسسات خاصة واالطفال كذلك والرجال أيضا‬
‫والمعتقلين االحتياطيين والمجانين ‪ ،‬ثم يتم التصنيف أيضا داخل كل صنف حسب درجة الخطورة‬
‫والسن والعقل والجنس ‪ ،‬فعلم االجرام هو المتدخل من أجل ضبط هذه التصنيفات والفحوصات ‪.‬‬

‫أيضا ظهر في علم االجرام بأن السجين إذا تم الحكم عليه بـ ‪ 12‬سنوات وانضبط حاله خالل ‪ 5‬سنوات‬
‫وتعلم حرفة جيدة يفرج عنه " قاضي تطبيق العقوبات " إفراجا شرطيا أو يعفو عنه بالمرة ‪.‬‬
‫االجرام ظاهرة اجتماعية كونية‬
‫أثبت كل الباحثين في علم االجرام أن الجريمة تنبثق من المجتمع وتالزمه ‪ ،‬و هي ظاهرة طبيعية في‬
‫كل مجتمع لذلك نعطيها صفة الكونية اي أنها ال تقتصر على مجتمع دون آخر ‪ ،‬فهي ال تستلزم زمانا أو‬
‫مكانا محددا ‪ ،‬والظاهرة االجرامية رغم كونيتها فإنها تخضع لترتيب زمني متسلسل ومتالحق تعرفه كل‬
‫المجتمعات ‪ ،‬وإلثبات كونية الظاهرة االجرامية سنقف على االوقات الثالثة للجريمة ثم نقف على ترابط‬
‫وتداخل هذه االوقات التي ال غنى عنها لوجود الجريمة والسلوك االجرامي يعرف ثالثة مراحل لدراسته‬
‫واستجالء معناه ‪.‬‬
‫المرحلة االولى ‪ :‬وضع القواعد الجنائية ‪ ،‬حيث تصيغ الجماعة النمط االجتماعي وتفرضه على‬
‫أفرادها وتضع قواعد زاجرة في مواجهة كل من يخالفه ‪ ،‬هذا ونشير إلى أن النمط االجتماعي يتغير‬
‫باستمرار وبالتالي تتغير القوانين الجنائية ‪ ،‬واالنسان في صراع داخل الجماعة وبالتالي كان خرق‬
‫القاعدة القانونية أمرا واردا بقوة ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫المرحلة الثانية ‪ :‬عدم احترام القاعدة القانونية ‪ ،‬قد يحدث انتهاك للقواعد االساسية للسوك االجتماعي‬
‫وهذا االنتهاك يعتبر إجراما يستوجب العقوبة ‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة ‪ :‬رد الفعل االجتماعي ‪ ،‬ذلك أن المجتمع يحمي كيانه وطمأنينته فيلجأ إلى فرض‬
‫السلوك االجتماعي الذي يبغيه ‪ ،‬ويفرض عقوبات زجرية على كل مخالف ‪ ،‬و رد الفعل االجتماعي‬
‫الزجري هو مقابل للسلوك االجرامي ‪ ،‬وهذا الحق في العقاب يملكه المجتمع وتبرره ضرورة الحفاظ‬
‫على التضامن االجتماعي وطمأنينة واستقرار المجتمع ‪.‬‬
‫هذه االوقات الثالثة للجريمة ال يمكن استيعابها منفردة ‪ ،‬بل هي حلقة واحدة تعمل كل واحدة على خلق‬
‫أخرى فال تتصور جريمة بدون قاعدة سلوكية وال رد فعل اجتماعي في غياب جريمة ‪ ،‬وهذا الترابط‬
‫ي زداد قوة كلما تقدم المجتمع في خلق وتطوير مبادئ سلوكية معتمدة لديه ومعاقب عليها ‪ .‬فنلمس حلقية‬
‫الجريمة و نالحظ االوقات الثالثة للجريمة فالقاعدة الجنائية قابلة للخرق وهو ما يؤدي للعقاب ثم للتفكير‬
‫في وضع قاعدة قانونية جديدة فنجد أنفسنا أمام دائرة حلقية ‪.‬‬
‫نشأة علم االجرام وتطوره‬
‫الجريمة ظاهرة طبيعية في المجتمع تالزمه خالل سيره وتطوره تقتضيها ضرورة الحياة المشتركة‬
‫فيمكننا القول أن الجريمة ال توجد اذا انتفت العالقة بين االفراد ‪ ،‬لذلك تاريخ علم االجرام طويل منذ‬
‫االنسان البدائي الذي اعتبر الجريمة مخالفة ألوامر تمليها القبيلة والعشيرة ‪ ،‬أما االنسان اليوناني فاعتبر‬
‫االنسان المجرم شقي اصابته لعنة االلهة و والجريمة قدر االهي أما السفسطائيون فيعتبرون االنسان‬
‫المجرم مخفيا لضعفه يعوضه نظرا لطبيعته البشرية ذات المجموعة من الغرائز الحيوانية ‪ ،‬لكن سقراط‬
‫آمن بالفعل البشري وقدرته على مقاومة االهواء الشهوات الحيوانية و ربط الفضيلة بالمعرفة واعتبر‬
‫االنسان الجاهل وحده من يرتكب الجريمة ‪ ،‬أما أفالطون فاعتبر االلهة غير مسؤولة عن خطإ االنسان‬
‫واالنسان المجرم ال يقوم بجرمه إال لنقص في عقله أو عوامل خبيثة تتحكم فيه فال تترك له حرية اختيار‬
‫الفضيلة وهو يعتبره مريضا يحتاج إلى دواء والعقاب هو الدواء بل وعزله عن المجتمع حتى ال ينتشر‬
‫مرضه ‪ ،‬وعلى العموم سادت فكرة الخير والشر بين الفالسفة اليونان لكن المجرم لم تبدأ دراسته العلمية‬
‫بالمعنى الصحيح إال سنة ‪ 1181‬مع الطبيب االيطالي لومبروزو في كتابه "االنسان المجرم" وأستاذ‬
‫القانون الجنائي االيطالي كاروفالو صاحب كتاب علم االجرام وااليطالي الثالث اينريكو فيري صاحب‬
‫كتاب السوسيولوجيا الجنائية ‪ .‬لومبروزو كان أستاذا للطب الشرعي واالمراض العقلية قد اتاحت له‬
‫مهنته و تعامله مع المجرمين والقتلة والمرضى العقليين حيث الحظ عيوبا في تكوينهم الجسمي‬
‫العضوي الذي اعتبره حصيلة الوراثة االجرامية ‪ .‬أما أنريكو فيرري فقد اعتمد الخط العلمي الذي‬
‫وضعه لومبروزو لكنه اختلف معه في اسباب الجريمة واضاف إلى أسباب لومبروزو العامل االجتماعي‬
‫والطبيعي والجغرافي وقال بأن الجريمة نتيجة لتداخل عدة عوامل داخلية وخارجية في المجرم طبيعية‬
‫واجتماعية و كان إدخال العامل االجتماعي ثورة على القانون الجنائي ‪ .‬أما كاروفالو فقد انتقد االتجاه‬
‫البيولوجي عند لومبروزو وابتعد تماما عن دراسة التكوين العضوي للمجرم ونادى بدراسة مضمون‬
‫السلوك االجرامي دراسة دقيقة حتى يمكن تقويم المجرم واصالحه ‪ ،‬وبعد تأسيس علم االجرام من‬
‫طرف هؤالء الثالثة تتابعت المحاولة العلمية الفلسفية لتفسير السلوك االجرامي وتوالت الدراسات‬
‫والكتب أهمها كتاب علم الجريمة للهوالنديبونجير سنة ‪ 1025‬و كتاب التكوين الجرمي لـ دي توليو سنة‬
‫‪ 1010‬و كتاب مقدمة في علم االجرام للبلجيكي دو غريف سنة ‪ 1040‬و كتاب القيم علم االجرام‬
‫للفرنسي بينتيل سنة ‪ ، 1011‬إضافة إلى ذلك تتوالى الدراسات والنشرات واالبحاث المتعلقة بعلم‬

‫‪6‬‬
‫االجرام تصدر عن عدة مؤسسات دولية ووطنية ‪ ،‬كما أن مؤتمرات األمم المتحدة حول الجريمة‬
‫والوقاية منها اصبحت مرجعا أساسيا قانونيا وفقهيا تهتدي به الدول وتستفيد منه ‪.‬‬
‫مفهوم علم االجرام إو إشكالية مفهوم علم االجرام‬

‫علم االجرام من العلوم التي يستحيل إيجاد تعريف محدد ومعين لها يعطي ماهية علم االجرام ‪ ،‬وذلك‬
‫راجع الختالف المدارس واالبحاث والباحثين الذين حاول كل واحد منهم على حدة أن يعطي تفسيرا‬
‫دقيقا لهذا العلم ‪ ،‬مما ساهم في تعدد اآلراء واالنتقادات لكل مدرسة منهم ‪ ،‬فهم اجتهدوا انطالقا من‬
‫الفترة التي عاشوها ‪ ،‬فتنوعت اآلراء وتعقدت النفسيات واالجابات والبحوث لكن المالحظ أن أول‬
‫جريمة ارتكبت من قبل قابيل ضد هابيل وقعت قبل ظهور الظروف االجتماعية واالقتصادية والعلمية‬
‫والنفسية وغاب عنهم جميع االضطرابات النفسية والعقلية والبيولوجية ‪ ،‬أيضا مع آدم و حواء توفرت‬
‫لهم جنة هللا في السماء ومع ذلك خرقوا القاعدة القانونية االالهية وأكلوا من الشجرة ‪ ،‬فأخرجهما هللا من‬
‫الجنة عقابا لهما ‪ ،‬ومع ذلك جعل هللا االستغفار وهللا يحب التوابين ولو لم يذنب البشر ألتى هللا بقوم‬
‫يخطؤون ويستغفرون ‪ ،‬فالجريمة إذن متأصلة في االنسان والذنب والخطأ من صفات البشر ‪ ،‬فهي‬
‫ظاهرة طبيعية فيه ‪ ،‬و توجد في كل المجتمعات بال استثناء وفي كل المستويات االجتماعية لكن تبقى‬
‫القاعدة " إنه من الصحي أن ترتكب الجرائم لكن يجب أال يرتفع معدل الجريمة في مجتمع ما على‬
‫سقف معين ‪ ،‬وال يجب أن ينخفض على مستوى معين ‪ ،‬ألنه انخفاض غير طبيعي وهو أمر ال يفرح‬
‫العدالة الجنائية بل ينذر باألسوأ القادم ‪.‬‬
‫علم االجرام يستحيل معرفة مفهومه نظرا لحداثته ‪ ،‬فكيف يمكن للقاضي والمشرع والمؤسسة السجنية‬
‫أن تعتمد على علم حديث لم ينضج بعد ولو يصل إلى مرحلة النضج العلمي ‪ ،‬لكننا ننسى أننا بصدد علم‬
‫يدخل ضمن العلوم االنسانية وليس العلوم التطبيقية أو الطبيعية فال يمكن باي حال من األحوال ا‬
‫لوصول إلى خالصات ثابتة ومطلقة ‪.‬‬

‫ظهر علم االجرام في القرن ‪ 10‬على يد لومبروزو الذي استخدم المالحظة والتجربة من أجل البحث‬
‫عن اسباب الجريمة ليشعل بذلك ثورة علمية لم تهدأ نيرانها إلى اليوم ‪ ،‬فألول مرة في تاريخ البشرية تم‬
‫إخضاع الظاهرة االجرامية للمنهج العلمي ‪ ،‬فاستخدم العلم لدراسة الظاهرة االجرامية ‪ ،‬وما يحسب لـ‬
‫لومبروزو أنه كان من السباقين في هذا العلم نظرا لحداثة هذا العلم وتعدد نطاقاته وموضوعاته‬
‫وارتباطه بالعلوم االخرى ‪.‬‬
‫لكننا سنقف حول اتجاهين لعلم االجرام ‪ ،‬االتجاه األول موسع والثاني ضيق ‪.‬‬
‫االتجاه الموسع ‪ :‬بعض العلماء في علم االجرام اشاروا على أنه يمكن اعطاء تفسير لعلم االجرام دون‬
‫استخدام فكرة االنحراف أي السلوك االجتماعي المغاير للمجتمع سواء شكل هذا السلوك جريمة أو ال ‪،‬‬
‫ألن االنحراف مفهوم أوسع وأشمل من مفهوم الجريمة ‪ ،‬فكل جريمة انحراف وليس كل انحراف جريمة‬
‫فمحاولة االنتحار مثال ليست جريمة في القانون الجنائي وهو ال يعاقب عليها لكنه يبقى سلوكا منحرفا‬
‫ويدل على انحراف في سلوك االنسان ‪ ،‬فقيام طالب بسلوك منحرف قد ال يعتبر جريمة لكن اذا ارتبط‬
‫بنص جنائي كان جريمة ‪ ،‬وأن تكذب على صديقك ليس جريمة بل سلوك منحرف لكن الكذب أمام‬
‫القاضي يعتبر شهادة زور وهو جريمة وليس مجرد سلوك منحرف ‪ ،‬واالنحراف هو موضوع دراسة‬
‫علم االجرام الذي يقول أننا ال يجب أن نقف فقط على مفهوم الجريمة مفهوما قانونيا لكن يجب دراسة‬
‫االنحراف سواء كان جريمة أو لم يكن جريمة ودراسة االنحراف يجب أن يكون بمفهومه الواسع‬
‫والشامل ‪ ،‬لكن كانتقاد لهذه الفكرة إذا اهتم علم االجرام بهذا النطاق الواسع من االنحراف و دراسة كل‬
‫‪7‬‬
‫انحراف على حدة سيتوسع نطاق علم االجرام فكل فرد ال بد أن ينحرف يوما ما لكن انحرافه ليس‬
‫بالضرورة يؤدي إلى ارتكاب جريمة ‪ .‬االنحراف هو فعل صحي لكن السلوك المنحرف هو الشيء غير‬
‫الصحي ‪ .‬االنحراف سلوك مضاد للمجتمع والسلوك الالاجتماعي مضاد لقيم وأخالق المجتمع وكل‬
‫سلوك مخالف لقيم المجتمع هو انحراف لكن ليس كل انحراف جريمة ‪.‬‬
‫علم االجرام حسب االتجاه الموسع هو العلم الذي يهتم بدراسة الجريمة واالنحراف معا ‪ ،‬بغية الوصول‬
‫إلى اسبابه وطرق عالجه ‪ .‬و قد أعطى تعريفا موسعا لعلم االجرام " هو العلم الذي يهتم بدراسة السلوك‬
‫الالجتماعي بهدف الوصول الى أسبابه وسبل عالجه " ‪ ،‬نالحظ أن مصطلح السلوك الالجتماعي‬
‫مصطلح فضفاض فال نستطيع احصاءه فهو يتغير حسب االزمنة والمجتمعات ‪ ،‬فهو السلوك المنحرف‬
‫المضاد للمجتمع دائما ‪ ،‬ويمكن القول أننا ال نستطيع الوصول الى اعطاء تفسير للظاهرة االجرامية دون‬
‫المرور عبر تفسير السلوك المنحرف ‪ ،‬انتشر هذا الرأي في الفقه االمريكي حيث قال ادوين أن علم‬
‫االجرام يجب أن يضم ‪ 1‬فروع مترابطة هي علم االجتماع القانوني و علم العقاب و علم اسباب الجريمة‬
‫هذا التوسع في تعريف علم االجرام أمر ال مبرر له حيث أنه يؤدي الى ادخال علوم اخرى تحت جناح‬
‫علم االجرام مما يجعل من دراسة الظاهرة االجرامية فكرة متشعبة ال تمكن باحثيها من التوصل الى‬
‫نتائج محددة و دقيقة ألن االنحراف مفهوم واسع شاسع ويختلف من مجتمع آلخر ‪ ،‬بل وهناك من جعل‬
‫علم االجرام كل دراسة كل سلوك مضاد للمجتمع مما يفقد علم االجرام ذاتيته واستقالليته ويجعله علم‬
‫سلوك فحسب ويخلطه بعلم االجتماع ‪.‬‬
‫االتجاه الموسع يضم شقين كبيرين يوصل أحدهما الى االخر ‪ ،‬الشق السببي التفسيري فيقول أن علم‬
‫االجرام هو علم من العلوم السببية التفسيرية فهو يهتم بدراسة أسباب و عوامل الجريمة ‪ ،‬ثم شق الوقاية‬
‫والعالج بمعنى أنه يهتم بالوسائل العلمية التي يجب أن تكون أنجع الطرق لمكافحة الجريمة ‪.‬‬
‫االتجاه الضيق ‪ :‬أغلب علماء االجرام خاصة من يتبنون المفهوم القانوني لتفسير الجريمة يقفون على‬
‫الشق األول فقط أي الشق السببي التفسيري فيقولون بأن علم االجرام يجب أن تتحد موضوعاته في‬
‫البحث عن سبب الظاهرة االجرامية ولماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا دون دراسة سبل مواجهتها‬
‫فأصحاب هذا االتجاه يقولون بأن علم االجرام يجب أن يهتم بدراسة وتفسير الظاهرة االجرامية واسبابها‬
‫دون الشق الوقائ ي العالجي ألن هذا الشق الثاني يعتبرونه ليس مهمة علم االجرام بل مهمة علم السياسة‬
‫الجنائية وعلم العقاب ‪ ،‬فمهمة علم االجرام واحدة هي البحث لماذا يجرم االنسان أما سبل الوقاية‬
‫والعالج فيجب أن تتكلف بها فروع قانونية و اجتماعية أخرى كعلم السياسة الجنائية والعقاب والوقاية‬
‫العامة من الجريمة ‪ ،‬هذا االتجاه يعرف علم االجرام كالتالي وهو التعريف االقرب للصواب " علم‬
‫االجرام هو العلم الذي يدرس ويبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة المجتمع و حياة الفرد من‬
‫أجل الكشف عن اسبابها وتحديد العوامل الدافعة الرتكابها "‬
‫االتجاه ا لضيق يضم شكلين ‪ ،‬علم االجرام التطبيقي أو االكلينيكي فهو ينظر الى الجريمة على أنها‬
‫ظاهرة فردية تتنوع اسبابها وعواملها حسب كل حالة ‪ ،‬ثم علم االجرام العام وهو يختص بدراسة‬
‫عالقات السببية العامة التي تربط بين ظروف ووقائع معينة وبين حجم وشكل الظاهرة االجرامية ‪.‬‬
‫بقي ان نشي إلى أمر مهم وهو أن الجريمة بدأت دراستها منذ األزل ‪ ،‬لكن في عهد لومبروزو انتقلت‬
‫من ظاهرة مجردة إلى دراسة علمية ‪ ،‬وبما أن علم االجرام أصبح دراسة علمية فال بد م استعمال مناهج‬
‫البحث العلمي واساليب الدراسة العلمية ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫مناهج وأساليب دراسة الظاهرة االجرامية‬

‫هناك نوعين من المناهج في دراسة الظاهرة االجرامية مناهج اجتماعية ومناهج فردية‬
‫المناهج االجتماعية ‪ :‬تهدف إلى تقصي حقائق الظاهرة االجرامية باعتبارها ظاهرة حتمية وثابتة في‬
‫حياة أي مجتمع ‪ ،‬وما يسمى بالدراسة االحصائية وأسلوب االحصاء الجنائي وهو التعبير عن ظاهرة‬
‫معينة باألرقام ‪ ،‬واسلوب االحصاء الجنائي ظهر في النصف األول من القرن ‪ 10‬حينما أصدرت وزارة‬
‫العدل الفرنسية إحصاء حول عدد الجرائم في فرنسا ‪ ،‬ولهذااالسلوب فوائد ومزايا متعددة ‪ ،‬فهويفيدنا في‬
‫معرفة عدد الجرائم المرتكبة وتفسير الظاهرة االجرامية من حيث الزمان والمكان وفي كونها توجه‬
‫السياسة الجنائية التي تعتمد على ما يتوصل إليه علماء علم االجرام وبحوثهم فتأخذ ببحوثهم وعلمهم و‬
‫تعرضه على المشرع الذي يسن القوانين والفصول الجنائية ‪ ،‬وتقترح الوسائل الكفيلة بمحاربة الظاهرة‬
‫االجرامية والوقاية منها ‪ ،‬لكن رغم الفوائد التي جاء بها هذااالتجاه أي االتجاه االحصائي إالأنه توجه له‬
‫انتقادات كثيرة بسبب اتسامه بالسطحية بقدر كبير وال يعطي حجم االجرام الفعلي للمجتمع وذلك راجع‬
‫ألسباب خفية عن أعين العدالة ‪ ،‬وبقدر ما نجح هذااالسلوب في إعطاء نظرة عن حجم ونسبة االجرام‬
‫في المجتمع لكنه لم يعط الحجم الحقيقي الفعلي للجريمة داخل المجتمع فاإلجرام الفعلي يشمل جميع‬
‫الجرائم المرتكبة في فترة زمنية محددة بغض وصلت إلى يد الشرطة أم ال ‪ ،‬إذن يستحيل أن نعرف‬
‫االجرام الفعلي في مجتمع معين ‪ ،‬إذن سوف نبحث عن احصائيات حول االجرام الظاهر الذي وصل‬
‫إلى علم الشرطة من أجل تحديد نسبة و حجم االجرام الظاهر في مجتمع معين ‪ ،‬لكن رغم أن هذه‬
‫االحصائيات ال نستطيع االعتماد عليها ك مؤشر ثابت لكنها تبقى مؤشرا نسبيا يفرض على الباحث‬
‫التعامل معه بحيطة وحذر كبيرين ألن االحصائيات مجرد تسجيل لنشاط الشرطة وليس تعبيرا حقيقيا‬
‫عن حجم ونسبة الظاهرة االجرامية في المجتمع ‪ .‬فيمكن القول أن احصائيات الشرطة هي احصائيات‬
‫خداعة ألمرين اثنين ‪ :‬األمر األول مرتبط بالتبليغ أو العلم بالواقعة االجرامية والثاني اعادة بناءة‬
‫الموضوع ‪.‬‬
‫عوائق وصول الجريمة إلى مصالح الشرطة ‪ :‬العلم بالواقعة االجرامية مرتبط بأمرين اثنين أيضا وهو‬
‫قابلية الجرم للبروز واالحالة ‪ ،‬فهناك جرائم قابلة للبروك كالقتل والسرقة فهي تصل إلى أدي الشرطة‬
‫وبالتالي الوصول إلى العدالة ألنها تثير سخط وغضب الجماعة فيستحيل التستر عليها من قبل المجتمع‬
‫بالمقابل جرائ م االختالس داخل الشركات أو التهرب الضريبي هي جرائم ليست قابلية البروز وقلما‬
‫تصل إلى يد الشرطة و العدالة الجنائية ‪.،‬‬
‫االحالة وجود جرائم دون ضحايا مباشرين كالتهرب الضريبي مثال وكذلك وجود مسالك للضبط الذاتي‬
‫لحل المنازعات غير طريق أجهزة العدالة الجنائية مثال السرقة من مرجان ‪ ،‬فمسألة اإلحالة أو التبليغ‬
‫إلى العدالة الجنائية مسالة مرتبطة بنظرة الجماعة والضحية ونظرتهما للعدالة الجنائية والثقة في قدرتها‬
‫على حل المنازعات وفاعليتها في إعادة األمور إلى مجراها الطبيعي ففي الدول المتقدمة مثال الجمهور‬
‫له ثقة في أجهزة العدالة وقدرتها على حل النزاع وإرجاع الحق إلى اصحابه ‪.‬‬
‫مسالة عدم االحالة أو التبليغ تستر العديد من الجرائم وتحول بينها وبين الوصول إلى العدالة الجنائية‬
‫وبالتالي هذا ال يساعدنا على معرفة حجم االجرام الفعلي في المجتمع‬
‫ظروف ومالبسات اركاب الجريمة ‪ :‬ارتكاب الجرائم أمام أعين الناس في مكان مكتظ بالسكان يستحيل‬
‫التكتم عنها فقابلية الجرائم للبروز والتبليغ عنها و وصولها إلى جهاز العدالة مرتبط بظروف ومالبسات‬
‫الجريمة‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫مسألة االحالة أو التبليغ إلى أجهزة العدالة الجنائية مرتبط بأمرين اساسيين أولهما ظروف موضوعية‬
‫تتعلق بشخصية الجاني ثم وجود ضحايا مباشرين ‪.‬‬
‫اعادة بناء الموضوع ‪ :‬حجم الجرائم المعلن عنه باإلحصائيات الرسمية مثال وزارة العدل أصدرت‬
‫عددا بالجرائم ‪ ،‬لكن ذلك الحجم ليس كل الجرائم التي أحيلت الى العدالة الجنائية بل يشمل فقط الجرائم‬
‫التي تمت اعادة بنائها أي خضعت لعملية التصفية والغربلة في سائر مراحل عمل الشرطة أو العدالة‬
‫الجنائية ‪.‬‬

‫مثال في مجتمع معين عدد الجرائم فيه ‪ 122‬جريمة ‪ ،‬قد يصل إلى الشرطة ‪ 52‬جريمة فقط تبليغا أو‬
‫تربصا أو وشاية ‪ ،‬وليس كلها تحال إلى النيابة العامة فما يصل فقط ‪ 12‬جريمة والنيابة ال تحيل جميع‬
‫الجرائم إل ى للمحكمة وتقوم في غالب االحسان بحفظ الملف ألن لديها سلطة المالئمة فيحفظ الملف نظرا‬
‫لعدم كفاية االدلة أو أن الضرر الواقع ال يستحق إجراء محاكمة أو عدم االختصاص فيكون نوع القضية‬
‫مدنيا وليس جنائيا ‪ ،‬إذن ‪ 12‬جريمة فقط تصل إلى المحكمة ألن من مهام النيابة العامة غربلة و تصفية‬
‫القضايا المعروضة عليها فيستحيل إحالة جميع القضايا إلى القاضي وليس جميع القضايا التي تعرض‬
‫على المحكمة يتم الحكم فيها بالسجن فتحصل البراءة وربما عقوبات مخففة ربما فقط ‪ 12‬جرائم قد يصل‬
‫بها األمر إلى السجن ‪ ،‬خالصة القول يستحيل معرفة معدل الجريمة الفعلي داخل مجتمع ما فجميع‬
‫االحصائيات تبقى خداعة ‪.‬‬
‫التمييز بين االجرام الظاهر واالجرام الشرعي ‪:‬‬
‫االجرام الشرعي ‪ :‬هو حجم االجرام الصادر عن المحاكم الجنائية‬
‫االجرام الفعلي ‪ :‬هو عدد الجرائم الحقيقية داخل مجتمع ما‬
‫االجرام الظاهر ‪ :‬هو االحصاء الصادر عن مراكز الشرطة‬

‫سميناه شرعيا ألنه يعتمد على مبدأ الشرعية أي ال عقوبة وال جريمة إال بنص ‪ ،‬لكن ال يمكن االعتماد‬
‫كما قلنا على إحصاء المحاكم ألنه ال يمثل االجرام الفعلي داخل المجتمع لذلك يذهب الباحثون الى‬
‫االحصائيات الصادرة عن مراكز الشرطة ألنها تكون أكقر دقة وأحسن وسيلة لحساب حجم االجرام‬
‫الظاهر ‪.‬‬
‫الرقم الرمادي = االجرام الشرعي – االجرام الظاهر‬
‫الرقم ا السود = االجرام الظاهر – االجرام الفعلي‬
‫من خالل هذه المقاربة يتضح أن هناك عملية تصفية وغربلة تقوم بها أجهزة العدالة الجنائية ابتداء من‬
‫مصالح الشرطة إلى مراكز السجون ‪ ،‬وكخالصة يمكن القول أن االحصائيات الجنائية بمختلف‬
‫مستوياتها سواء كانت صادرة عن مصالح الشرطة أو النيابة العامة أو المحاكم أو السجون ال يمكن‬
‫االعتماد عليها كمؤشر إحصائي سليم باستطاعته أن يدلنا عن حجم االجرام الفعلي داخل مجتمع ما ألن‬
‫هناك جرائم كثيرة يتم التستر عليها المتناع االفراد عن التبليغ عنها‬
‫الرقم االسود أو المظلم هو حجم هذه الجرائم المستترة الخفية وهو الفارق بين االجرام الحقيقي واالجرام‬
‫المعلن عنه ‪ ،‬وال يوجد لحد الساعة أي معيار حقيقي يمكن الرجوع إليه لمعرفة حجم االجرام الفعلي‬
‫للمجتمع ‪ ،‬فهناك جرائم العار كاالغتصاب و زنى المحارم واالجهاض و جرائم المسؤولين السامين‬

‫‪10‬‬
‫والرشوة واالختالس ‪ ،‬كل هاته الجرائم يستتر عنها وتقع بشكل يومي ومستمر وال تصل إلى علم العدالة‬
‫بل وهناك من الجرائم ما يصل إلى يد العدالة لكنها تتقاعس عنها لعدم كفاية االدلة أو لنقص في‬
‫االمكانيات والشرطة دائما تتستر عن الحجم الحقيقي للجرائم كي يشعر الناس باالمان وتظهر بمظهر‬
‫المسيطر على الوضع وال تسود حالة الخوف في المجتمع ‪ ،‬لكن يمكن القول أن االحصائيات الرسمية‬
‫هي احصائيات خداعة ال يمكن االعتماد عليها وال يمكن االعتماد عليها الستخراج خالصات حتمية ‪،‬‬
‫فيستحيل على الباحث في علم االجرام االعتماد عليها لكنه يستأنس بها فقط وال يمكنه بأي حال من‬
‫االحوال أن يستخرج منها قواعد أو قوانين ونتائج دقيقة ‪.‬‬

‫مناهج البحث في الظاهرة االجرامية‬


‫تنقسم هذه المناهج إلى قسمين اجتماعية وفردية وقد تطرقنا إلى المناهج االجتماعية وأهم أسلوب فيها‬
‫وهو االسلوب االحصائي أو الدراسة االحصائية وقلنا أن علماء االجرام يعتمدون على هذا االسلوب‬
‫االحصائي لدراسة الظاهرة االجرامية وخلصنا إلى خالصة مفادها بأن هذا االسلوب أو الدراسة ال يمكن‬
‫االعتماد عليها إال استئناسا واعتبرناها مؤشرا نسبيا لذلك سننتقل إلى دراسة المناهج الفردية ‪.‬‬

‫مناهج البحث الفردية‬


‫تنقسم إلى قسمين الفحص و دراسة تاريخ المجرم‬
‫الفحص بدوره ينقسم إلى قسمين فحصبيولوجي و فحصنفسي عقلي‬
‫والفحص البيولوجي ينقسم بدوره إلى فحص خارجي وفحص داخلي‬
‫الفحص البيولوجي الخارجي ‪ :‬وهو محاولة للربط بين السمات الخلقية لألفراد وسلوكهم االجرامي‬
‫بمع نى إيجاد الصلة بين العيوب الخلقية العضوية والسلوكات االجرامية ‪ ،‬هذا المذهب بقيادة المبروزو‬
‫والمدرسة الوضعية مثل عدم تناسق أعضاء الجسم عدم انتظام االسنان فهذه العيوب تدل على سلوك‬
‫إجرامي معين ‪ ،‬هذا االتجاه يعتقد أن كل من له عيوب خلقية معينة يكون ذا ميل اجرامي معين يعني أنه‬
‫مشروع مجرم قادم ‪ ،‬فالوشم مثال يدل على قلة أو انعدام االحساس باأللم لكن ليس هناك دليل علمي‬
‫على هذه المقولة ألن تعميمها خطأ محض وأن كل عيب بيولوجي في االنسان يؤثر على سلوكه ويجعل‬
‫لديه ميوال إجرامية ‪.‬‬
‫الفحص البيولوجي الداخلي ‪ :‬محاولة الربط بين االختالالت التي تصيب وظائف االعضاء الداخلية التي‬
‫تصيب االنسان وبين سلوكه االجرامي مثل الجهاز التناسلي أو الهضمي وكل اختالل لألعضاء الداخلية‬
‫لإلنسان يؤثر على سلوكه االجرامي ‪.‬‬
‫الفحص النفسي العقلي ‪ :‬يتم هذا الفحص عن طريق استجواب المجرم ومالحظة انفعاالته وتصرفاته‬
‫حيال ذلك ‪ ،‬والغرض هو محاولة الوقوف على االضطرابات النفسية التي يعاني منها ومدى عالقتها‬
‫بالسلوك االجرامي ‪ ،‬فالباحث يستجوب المجرم وأثناء االستجواب يالحظ االنفعاالت واالضطرابات‬
‫النفسية وا لعقلية فكلما كان الخلل في الغرائز الجنسية كانت الجرائم جنسية وكلما كانت جرائم العنف كان‬
‫لديه خلل في غريزة البقاء وكلما كان لديه خلل في غريزة القناعة كانت جرائم السرقة ‪.‬‬
‫دراسة تاريخ المجرم ‪ :‬عندما يفشل التحليل البيولوجي الداخلي والخارجي و النفسي العقلي في الكشف‬
‫عن اسباب ارتكاب الجريمة يتم اللجوء إلى دراسة تاريخ المجرم منذ بدء تكوينه ووالدته إلى اللحظة‬
‫التي يتم فيها ارتكاب الجريمة انطالقا من قاعدة عامة تقول إن ماضي المجرم يكشف عن حقيقة سلوكه‬
‫‪11‬‬
‫االجرامي أي الربط بين ماضي المجرم وسلوكه االجرامي تحت القاعدة التي تقول " ماضي المجرم‬
‫يكشف حقيقة جريمته " ودراسة تاريخ المجرم تكون عبر مراحل أو ثالثة اساليب ‪ :‬المالحظة ‪،‬‬
‫االستبيان ‪ ،‬المقابلة‬
‫هذه المناهج التي اعتمدها علماء االجرام في تحليل الظاهرة االجرامية انتقلت بنا من عهد النظريات إلى‬
‫عهد الدراسة العلمية أما النظريات القديمة فكانت على غير أساس علمي ‪.‬‬
‫المالحظة ‪ :‬هي أولى مراحل المنهج العلمي وأحد أدوات المنهج االستقرائي وتسبق ارتكاب الفعل‬
‫الجرمي وتقوم على ربط ومراقبة الظاهرة بهدف استخالص القاعدة العامة التي تحكم السلوك االجرامي‬
‫هذه المالحظة تجري من خالل االتصال المباشر بالمجرم بهدف استخالص القوانين والقواعد العامة‬
‫التي تحكم سلوكه وتكون عن طريق رصد المجرم وتتبعه ومراقبته اليومية عن طريق مشاركته حياته‬
‫أو عن طريق جاسوس ليستخلص الدوافع من وراء السلوك االجرامي وهي تكون اقرب إلى المصداقية‬
‫والمالحظة تكون نوعين إما بسيطة فتكون دون وسائل تقنية حديثة أي فقط من خالل المالحظة العادية‬
‫واالستماع إليه وهناك مالحظة مركبة التي يعتمد فيها الباحث على وسائل تقنية حديثة كجهاز كشف‬
‫الكذب أو التسجيل أو الكاميرا وهو طريقة أقرب الى المصداقية للتأكد من مصداقية المعلومات التي‬
‫يجمعها الباحث ‪.‬‬
‫االستبيان ‪ :‬وتكون على شاكلة استمارة تضم عددا من االسئلة توجه إلى األفراد محل البحث وتطلب‬
‫منهم تسجيل إجاباتهم فيها دون حضور الباحث الذي فقط يتولى إعداد االستمارة وغالبا ما تنص على‬
‫أسباب ارتكاب الفعل الجرمي وهي سبعة اسئلة صاغها عالم االجرام على شكل أدوات استفهام " من ؟‬
‫ماذا ؟ لماذا ؟ بماذا ؟ متى ؟ اين ؟ كيف ؟ " االستبيان وسيلة مهمة للباحث لكن لها مساوئ كثيرة منها‬
‫أن المجرمين يرفضون إعطاء االجوبة الصحيحة فيكون جوابهم فيه استهزاء وخداع كما أن الكثير من‬
‫المجرمين يجهلون الكتابة والقراءة ‪.‬‬
‫المقابلة ‪ :‬إذا كان االستبيان يتم في غياب الباحث فإن المقابلة تمكن الباحث من االتصال المباشر‬
‫بالمجرم ويقوم بنفسه باالستجواب فيتعرف على كافة البيانات عن المجرم والمعطيات المتعلقة بالجريمة‬
‫والحالة االجتماعية للمجرم وللمقابلة مزايا متعددة منها أنها ال تتطلب أن يكون المجرم ذا مستوى‬
‫دراسي معين عكس االستبيان ثمأن حضور الباحث في المقابلة يساعده على طرح اسئلة لمتخطر له‬
‫على بال خالل وضع االستمارة فتظهر بمناسبة حالة المجرم النفسية خالل المقابلة كما أن المقابلة تبني‬
‫جسور الثقة بين الباحث والمجرم فتكون االسئلة أكثر واقعية وصدقا‬
‫علم االجرام وعالقته بالعلوم األخرى‬
‫أوال ‪ :‬علم االجرام والعلوم الجنائية‬

‫هل يمكن أن نتحدث عن مفهوم واحد أم أن كل علم يحافظ على استقالله ‪ ،‬نورد هنا رأي فيري الذي‬
‫يعتبر القانون الجنائي ال يمكن أن يكون مستقال وال فائدة منه خارج نطاق علم االجرام ‪ ،‬فالنسبة إليه‬
‫دراسة الجريمة من أجل حماية المجتمع ال يمكن أن يقوم بها القانون الجنائي وإنما يحققه علم االجرام‬
‫الذي يعمد إلى تحديد الجريمة تحديدا اجتماعيا يحافظ على الواقع الطبيعي للجريمة ويدرسها انطالقا من‬
‫مفهومها االجتماعي وهو ما دعا فيري إلى إلغاء القانون الجنائي وتعويضه بعلم االجرام لذلك يوصف‬
‫فيري بأنه أعطى مفهوما امبرياليا لعلم االجرام‬

‫‪12‬‬
‫لكن الحقيقة أن علم االجرام متميز عن القانون الجنائي ويختلف عنه اختالفا واضحا ‪ ،‬فالقانون النائي‬
‫يعتبر ضابطا معياريا يضم المبادئ السلوكية العامة ويحددها في شكل جرائم ويضع لها عقوبات محددة‬
‫تكون على شكل أمر أو نهي ‪ ،‬أما علم االجرام فيعالج الظاهرة االجرامية ‪ ،‬ورغم التخصص الذي‬
‫فرضته الضرورة لكنهما يلتقيان في موضوع دراسة الجريمة ويلتقيان ايضا في تحديد وشرح الظاهرة‬
‫االجرامية لكنهما يختلفان في طريقة التعامل مع المجرم والجريمة ‪ ،‬فالقانون الجنائي يصيغ قواعده آخذا‬
‫بعي ن االعتبار المعطى العلمي الذي يقدمه علم االجرام ‪ ،‬لكنه يعاقب على الجريمة بطريقة مجردة دون‬
‫اي اعتبار لشخصية المجرم ومحيطه االجتماعي ‪ ،‬لهذا يمكن القول أن علم االجرام يعتبر مصدرا من‬
‫مصادر القانون الجنائي كما أن القانون الجنائي هو مصدر من مصادر علم االجرام ألن ميدان علم‬
‫االجرام محدد باالطار الذي يرسمه القانون الجنائي لذلك يقال أن الجريمة ليست حقيقية في الواقع بل‬
‫هي حقيقة في القانون ‪.‬‬
‫يمكن أن نقول أن ما يجمع بين علم االجرام والقانون الجنائي هي السياسة الجنائية باعتبارها فنا وعلما‬
‫موضوعها صياغة أحسن للقاعدة القانونية على ضوء علم االجرام ‪.‬‬
‫أما علم االدلة الجنائية فله عالقة كبيرة بعلم االجرام ‪ ،‬ذلك أن علم االدلة الجنائية هو علم الدعوى‬
‫الجنائية ويهتم بالوسائل العلمية والفنية التي تساعد على معرفة المجرم والجريمة وظروف ارتكابها‬
‫واعطاء درجة الخطورة بينما علم االجرام يهتم بدراسة الجريمة كظاهرة اجتماعية انطالقا من شخصية‬
‫المجرم و معرفة اسباب ودوافع ارتكاب الجريمة‬
‫أخيرا نتطرق لعالقة علم االجرام بعلم العقاب الذي يقوم على حق الدولة في العقاب و يهتم بنتائج‬
‫وأهداف و وظائف العقوبة من ردع أو اصالح أو إعادة تأهيل و إدماج في المجتمع وهو في كل هذا ال‬
‫بد له من االستعانة بعلم االجرام ‪ ،‬أما علم االجرام فيتخذ من تطبيق العقوبة اساسا إلجراء الدراسات‬
‫المفيدة حول شخصية المجرم و معرفة أفضل للسلوك االجرامي ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬علم االجرام والعلوم االنسانية‬
‫علم االجرام ال بد له أن يمارس دراسته للمجرم و الجريمة على ضوء علم النفس وعلم االجتماع بل‬
‫مستعينا حتى العلوم االنسانية االخرى دون أن تكون لهذه العلوم صفة االنفرادية في تفسير الظاهرة‬
‫االجرامية ‪ .‬ال بد أن نشير هنا إلى علم الحياة الجنائي أو البيولوجيا الجنائية التي تدرس التركيب‬
‫العضوي للمجرم والوظائف الجينية لديه ثم علم النفس الجنائي الذي يدرس الذكاء والطبع و االستعداد‬
‫االجتماعي للمجرم كما يدرس شخصية المجرم وتأثرها بالمحيط االجتماعي ومدى تأثير ذلك على‬
‫السلوك االجرامي ‪ ،‬أما علم االجتماعي الجنائي فقد تكفل بدراسة السلوك االجرامي في مفهومه‬
‫االجتماعي مركزا على العوامل االجتماعية والتفاعل الحاصل بينها وبين ما ينتج عنها من سلوك‬
‫منحرف ‪.‬‬
‫المحور الثاني ‪ :‬تفسير الظاهرة االجرامية أو التفسير السلوك االجرامي‬
‫المحور الثالث ‪ :‬دراسة عوامل الظاهرة االجرامية‬
‫علم االجرام يدور حول سؤال جوهري مهم " لماذا يسلك االنسان مسلكا إجراميا ؟ " وكل النظريات‬
‫التي تحدثت في هذا االمر لم تشف الغليل ولم تجب عن السؤال ‪ ،‬ما هو السبب ؟ ما هي العلة وراء‬
‫السلوك االجرامي ؟ و سوف يتهم هذا العالم بأنه غير ناضج وما زال في مرحلة التكوين ألننا لسنا في‬
‫خضم علم من العلوم الطبيعية ‪ ، 1=1+1‬بل نحن بصدد علم إنساني يبحث في االنسان ‪ ،‬واالنسان‬
‫‪13‬‬
‫مزيج من العقد النفسية ‪ ،‬تؤثر على سلوكاته ‪ ،‬فالجريمة إذن علم متراكم وأغلب االجرام يدرسون‬
‫الجريمة كونها ظاهرة عامة لكن ينسون أن الجريمة أنواع وليست واحدة فالجرائم الجنسية تختلف عن‬
‫الجرائم المالية أو جرائم العنف ‪ ،‬ووضع الجريمة كيفما كانت تحت قاعدة عامة خطأ كبير ‪ ،‬فيجب‬
‫دراسة كل جريمة على حدة ألن لكل جريمة اسبابها الخاصة ‪ ،‬فالتخصص مما يساعد في تطور العلوم ‪،‬‬
‫فالطب لوال تخصصه لما وصل إلى ما هو عليه من النجاح فيجب دراسة كل جريمة على حدة لكي‬
‫نصل إلى نتيجة حتمية وعالج فعال لكل جريمة ‪.‬‬
‫لماذا إن يسلك االنسان مسلكا إجراميا ؟‬

‫الجريمة هي المجهول الذي يرتبط بالباطن والجانب الخفي من االنسان ‪ ،‬فيستحيل معرفة باطن االنسان‬
‫و يستحيل توقع سلوكاته ‪ ،‬وعلماء االجرام أنفسهم انقسموا إلى ‪ 1‬اتجاهات مختلفة في إعطائهم التفاسير‬
‫لظاهرة االجرامية ‪ ،‬فهناك االتجاه التكويني ‪ :‬ويرجع اسباب الجريمة إلى اسباب عضوية أو نفسية وقد‬
‫ظهر في أوروبا أو ما يعرف بالمدرسة االوروبية ‪ ،‬ثم هناك االتجاه االجتماعي ‪ :‬وهو اتجاه أمريكي‬
‫ظهر في أمريكا بعد فشل االتجاه االوروبي وقال بأن الجريمة ال ترجع الى التكوين الجسمي الطبيعي‬
‫لإلنسان بل ترجع إلى محيطه االجتماعي والعوامل االجتماعية ومن الخطأ اعتبار الجريمة ناتجة عن‬
‫العوامل البيولوجية النفسية وإنما هي نتيجة العوامل االجتماعية فعندما يتظافر الفقر مع البطالة مع القمع‬
‫تنتج لنا إنسانا مجرما ‪ ،‬ثم االتجاه التكاملي ‪ :‬الذي جمع بين المدرستين التكوينية واالجتماعية وقال أن‬
‫الجريمة ما هي إال نتائج لعوامل بيولوجية نفسية واجتماعية في نفس الوقت أي هي خليط مركب ‪.‬‬

‫االتجاه التكويني ‪ :‬هذه النظريات أجمعت على أن السلوك االجرامي سببه أسباب داخلية ترتبط‬
‫بالشخصية االجرامية اي بالتكوين العضوي أو النفسي للمجرم ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬النظريات البيولوجية‬


‫مرحلة ما قبل لومبروزو‬

‫اهتم الفكر االنساني على مر العصور بالجريمة وحاول جاهدا أن يجد لها شروحات مناسبة كما حاول‬
‫أن يحد منها بالعقاب من منطلقات أخالقية وفلسفية متعددة ‪ ،‬لكنها بقيت في إطار العقاب دون أن تبحث‬
‫عن الدوافع لتعالجها فالجريمة كانت دائما تهدد أمن المجتمع وبالتالي كان العقاب ضروريا لذلك لم‬
‫تظهر دراسة اسباب ما وراء الظاهرة االجرامية اال في القرن ‪ . 10‬أما في القرنين ‪ 18‬و ‪ 11‬فقد ذهب‬
‫أغلب الشارحين للسلوك االجرامي إلى اعتبار العوامل البيولوجية ‪ ،‬وهي محاولة تقترب من فراسة‬
‫االنسان القديم الذي ربط بين المجرم و مالمح جسدية ظاهرة في جسمه ‪ ،‬حيث قام االطباء بتشريحات‬
‫لجسم المجرم ثم ذهبوا إلى فراسة جديدة عرفت بفراسة الدماغ التي جعلت من قياسات جماجم المجرمين‬
‫وسيلة لمعرفة المجرم ‪ ،‬فانطلق أطباء أوروبا باحثين عن االوصاف الجسمية خاصة المتعلقة بالجمجمة‬
‫والذراع ليربطوا بها سلوكات معينة أو يجدوا لها نماذج لها نموذجا بشريا إجراميا يفسرون به سبب‬
‫الجريمة ‪.‬‬
‫عهد لومبروزو‬
‫أهمها نظرية لمبروزو في تفسير الظاهرة االجرامية فهو األول الذي انتقل من دراستها نظريا إلى‬
‫دراستها علميا فعلم االجرام الحديث يدين لهذا العالم االيطالي بالفضل الكبير ألنه أول من وضع االسس‬

‫‪14‬‬
‫العلمية في مجال دراسة الظاهرة االجرامية ويعتبر حجر الزاوية لمعظم المذاهب البيولوجية التي عملت‬
‫على إعطاء تفسير للسلوك االجرامي وهي عصب الفلسفة الوضعية ‪.‬‬

‫ولد المبروزو في ايطاليا ‪ 1020-1111‬من أبوين يهوديين ‪ ،‬درس الطب في عدد من الجامعات‬
‫االيطالية ثم عمل أستاذا للطب الشرعي والعقلي في الجامعة وعمل طبيبا لألمراض العقلية في السجون‬
‫االيطالية وعمل سنوات في الجيش االيطالي فـكون بذلك تجربة كبيرة عن الجريمة واالنسان المجرم له‬
‫عدة أعمال حول الجريمة وأسبابها ‪ ،‬المرأة المجرمة ‪ ،‬الدعارة ‪ ،‬والفكرة االساسية له هي أن هناك‬
‫أشخاصا يتميزون بمظاهر جسمانية خلقية ومالمح عضوية وسمات خلقية معينة ينقادون إلى ارتكاب‬
‫الجريمة تحت تأثير عوامل وراثية ويقدمون على الجريمة بحكم تكوينهم البيولوجي ‪ ،‬وأن سلوكهم‬
‫االجرامي يحكمه مبدأ الحتمية البيولوجية ‪ ،‬وإذا كان البعض اعتبر االنسان مخيرا فإن المبروزو اعتبره‬
‫غير مخير وإنما مسيرا وأنه يولد من بطن أمه مجرما بسبب اختالالت وراثية وسمات خلقية شاذة ترجع‬
‫إلى سمات االنسان البدائي يتوارثها جيل عن جيل ‪ ،‬هذه االختالالت تبدو على شكل مالمح عضوية‬
‫سماها سمات االرتداد فعندما نالحظ أن شخصا ما لديه سمات خلقية معينة شاذة نقول هذا مشروع مجرم‬
‫قادم ال محالة وقد خلص المبروزو إلى هذه النتائج انطالقا من دراسة ميدانية في السجون والجيش‬
‫وخرج بمجموعة من الخالصات ‪ ،‬وتتمثل هذه السمات حسب المبروزو في الخصائص الجسمانية التي‬
‫إذا ما توفرت في انسان ما يكون ختما مجرما ‪.‬‬
‫ولومبروزو يعتمد في نظريته على فرضيتين رئيسيتين استقاهما من علم االجناس وعلم االمراض‬
‫العقلية ‪ ،‬فالمجرم ال مطبوع بالوالدة في نظره يخلق مجرما نتيجة ردة أو نكسة عكسية وراثية فهو يتميز‬
‫عن االنسان العادي بأنه توقف نموه الطبيعي في رحم أمه وبقي في حالة بدائية تشبه حالة االنسان‬
‫المتوحش العاجز عن إدراك القوانين التي تنظم المجتمع ‪ ،‬فهو يستجيب لغرائزه الحيوانية والفرضية‬
‫الثانية أن إجرام المجرم يأتي نتيجة مرض الصرع الذي يفقد المجرم الذاكرة ويجعله يرتكب أفعاال‬
‫فظيعة ‪ ،‬وهو في كال الحالتين مجرم بالوراثة مدفوع بحتمية بيولوجية ‪.‬‬

‫وقد أجرى لومبروزو تجارب على حوالي ‪ 1222‬مجرم وقارنها مع االنسان العادي فحصل على نتائج‬
‫أكدت صحة فرضياته وهي أن المجرم يختلف عن االنسان العادي بحاالت شاذة في شكل جمجمته تشكل‬
‫انحطاطا في الجنس البشري وهبوطا نحو مستوى الحيوانية ‪ ،‬وهكذا يتميز المجرم بفقدان الشعور‬
‫بالعطف واأللم كما يظهر شعوره بالميل الجنسي مبكرا و انعدام الرادع االخالقي هكذا يعتبر إجرامه‬
‫ال مف ر منه ونتيجة حتمية وقد أعطى أوصافا محددة لهذا المجرم ففي االغتصاب الجنسي مثال يتميز بـ‬
‫الفك الضخم والجبهة الضيقة واالذنين المندفعتين بعيدا عن الرأس و وجنتين بارزتين وانخساف في‬
‫الدماغ وتقارب بين العينين ‪ ،‬أما في جرائم السرقة فيتميز بكثافة وانخفاض الحاجبين وصغر العينين‬
‫وتحركهما المستمر ‪.‬‬
‫هكذا خلص لومبروزو إلى مصطلح االنسان المجرم المثقل بالجريمة والمطبوع على ارتكابها ‪ ،‬لكن‬
‫لومبروزو تراجع نسبيا عن فكرة المجرم بالفطرة بعد كثرة االنتقادات له وعوض الفكرة بالمجرم‬
‫العاطفي والمجرم المختل عقليا ‪ ،‬الشيء الذي يوحي أنه بدأ يؤمن بالمؤثرات النفسية والخارجية‬
‫وتأثيرها على السلوك االنساني و تحدث عن ذلك أواخر عمره ‪.‬‬
‫يبقى أن لومبروزو كان له الفضل في االنتقال من المدرسة الكالسيكية والفلسفية و أعطى لعلم االجرام‬
‫نكهة علمية كانت سببا في ظهور المدرسة االيطالية التي دشنت عهدا جديدا في علم االجرام ورغم‬
‫المغاالة في العامل البيولوجي أو االنحطاطية البيولوجية فهو يرجع إليه الفضل في استعمال منهجية‬

‫‪15‬‬
‫علمية لدراسة الظاهرة االجرامية وكان أول من استعمل المنهجية المقارنة أو طريقة المغايرة التي تعتمد‬
‫على إجراء دراسات وفحوص على جماعة من المجرمين و مقارنتها مع جماعة من غير المجرمين‬
‫للتوصل إلى نموذج للمجرم ‪ ،‬ومع ذلك وجهت انتقادات كثيرة إلى لومبروزو ذلك أن العالم االنجليزي‬
‫غورنغ أثبت أنه ال فروق واضحة بين المجرمين وغير المجرمين من الناحية العضوية مما يفند نظرية‬
‫المجرم بالفطرة كما أثبت ذلك العالم االمريكي هوتن ‪ ،‬كما أن نظرية االنسان بالفطرة اصبحت ال‬
‫تناسب االفكار الحديثة التي تؤمن بالمساواة بين جميع البشر ‪ ،‬أوال فكرة توقف النمو فكرة لم يتفق معه‬
‫فيها الكثير وهي فكرة غير مستساغة فال يمكن أن يعود االنسان ‪ 12‬مليون سنة إلى الوراء ليجد نفسه‬
‫حيوانا ‪ ،‬ثانيا هناك فروق كثيرة بين االنسان والحيوان فاالنسان هو االنسان وال يوجد انسان متوحش‬
‫متخلف زمنيا عن زمانه متوقف عن التطور واتهموا لومبروزو بالعنصرية ‪.‬‬
‫سمات االرتداد عند المروزو ‪:‬‬

‫المجرم هو نوع من البشر لكن ما يميزه عن البشر هو تميزه بمظاهر جسمانية شاذة إذا ما توفرت في‬
‫انسان فإنه يكون مجرما ‪ ،‬هذه السمات شبيهة باإلنسان البدائي المتوحش وقال أن هناك ‪ 12‬سمات‬
‫أساسية هي التي يرتد بها إلى مواصفات االنسان البدائي وال بد أن تتوفر ‪ 5‬صفات على األقل في‬
‫االنسان ليصبح مجرما بالفطرة ال محالة وأن عالمة واحدة أو اثنتين ال تكفي بل ال بد من وجود ‪5‬‬
‫صفات على األقل ليكون لديه ميل إجرامي ويرتكب الجريمة عندما تسنح الفرصة وهي ‪ :‬انحدار و‬
‫‪ -1‬غزارة في شعر الجلد والرأس ‪ -1‬عدم انتظام االسنان ‪ -4‬ضخامة الفكين ‪-5‬‬ ‫ضيق في الجبهة‬
‫طول مفرط في الذراعين ‪ -1‬قلة شعر اللحية ‪ -8‬شذوذ في حجم االذنين واالنف ‪ -1‬بروز عظام‬
‫الوجنتين ‪ -0‬ضيق تجويف عظام الرأس ‪ – 12‬البلوغ الجنسي المبكر ‪.‬‬

‫هذه السمات تشبه االنسان البدائي الذي يميل نحو االنسان الحيواني بطبيعته فكل من لديه هذه الصفات‬
‫فهذ ه الصفات تعود به إلى طباع االنسان البدائي في سلوكاته ‪ ،‬ومن التجارب التي اعتمد عليها‬
‫المبروزو في أبحاثه أنه قام بتشريح جثة قاطع طريق فاكتشف أنه لديهتجويف في مؤخرة الجمجمة شبيه‬
‫بتجويف الحيوانات المتوحشة والقردة ‪ ،‬واستخلص أن المجرم يتمتع بشذوذ جسماني خاص يرتد به إلى‬
‫خصائص االنسان البدائي فيرتكب الجريمة دون وعي أو أنه ينقاد إلى ارتكابها بشكل حتمي ‪.‬‬

‫ثم أنه تناول حالة مجرم خطير قتل ‪ 12‬من النساء ثم شوه جثتهم وشرب دماءهم ثم دفنهم وعند موته قام‬
‫المبروزو بتشريح جثته فاكتشف بأن لديه صفات االنسان البدائي ال من حيث االسنان وال من حيث‬
‫الجمجمة والفكين وما إلى ذلك ‪.‬‬

‫ثم قام بتشريح ‪ 111‬جثة لمجرمين كانوا متهمين بجرائم عنف و اكتشف أن هناك تجويفات تشبه‬
‫الحيوانات المتوحشة ‪ ،‬فيقول المبروزو أن هناك سمات ارتداد ‪.‬‬
‫المبروزو لم يقف عند هذا الحد إنما قرر من واقع بحوث الحقة أن هناك عالقة وثيقة بين السلوك‬
‫االجرامي والصرع أو التشنجات العصبية اي المجرم المجنون انطالقا من تجربة جندي كان طبيعيا في‬
‫الجيش االيطالي وكان معروفا بانتظامه وأخالقه الحسنة وحسن سلوكه لكن فجأة تعرض إلى إهانة من‬
‫أحد الجنود ألنه قدم من مقاطعة فقيرة فدخل هذا الجندي في حالة هستيرية و قتل ‪ 1‬من زمالئه وختم‬
‫برؤسائه في الجيش ‪ ،‬من هنا ربط السلوك االجرامي بالتشنجات العصبية أو الصرع ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مرحلة ما بعد لومبروزو‬

‫اختلف كثير من أتباع لومبروزو معه في تفسير الجريمة وتحديد أسبابها ‪ ،‬فلم يتقيدوا بتفسيره وأضافوا‬
‫إلى نظريته بعض الشروح ليلطفوا من طغيان العامل البيولوجي فيها ‪ ،‬فقال فيري بوجود عوامل‬
‫خارجية أو داخلية للمجرم طبيعية أو اجتماعية تؤثر في سلوكه فاتخذ مجرى سوسيولوجيا ‪ ،‬أما‬
‫كاروفارو فالحظ أن العامل البيولوجي ليس وحده السبب بل هناك عوامل اجتماعية تساعد على ارتكابها‬
‫واعتبر الضمير االخالقي معيارا لتحديد الشعور العام بالرفق واالستقامة ‪ ،‬وتظهر محدودية التقسيم‬
‫الثنائي للجرائم إلى طبيعية واعتبارية ‪ ،‬فلو سلمنا بها في حالة القتل فال يمكن التسليم بها في الجرائم‬
‫التي تتطور مع المجتمع فال يمكن للمجرم أن يتنبأ بها في بطن أمه وال أن يتدرب عليها في رحمها بل‬
‫يعيشها و يتدرب عليها في المجتمع ‪ ،‬فالمجرم إذن ال يخلق مجرما بالفطرة ‪ ،‬بل يولد كسائر الناس و‬
‫يأخذ إجرامه من المجتمع ‪ ،‬هكذا استطاع كاروفارو أن ينتقد استاذه لومبروزو ويوجه االهتمام إلى‬
‫عوامل أخرى نفسية واجتماعية وانتقل علم االجرام من طوره البيولوجي إلى مرحلة الدراسات‬
‫السوسيولوجية لشرح الظاهرة االجرامية‬
‫تقييم نظرية المبروزو ‪:‬‬
‫المبروزو هو أول من تقدم لدراسة شخصية المجرم بدل الجريمة حيث كانت جميع الدراسات السابقة‬
‫تنصب على دراسة الجريمة دون ربطها بالشخصية االجرامية للمجرم و قال أن الخطورة ال تكمن في‬
‫الجريمة بل في شخصية المجرم ‪ ،‬أي التحول من دراسة الجريمة إلى دراسة المجرم ورغم أن أبحاثه‬
‫لم تكن مرضية لكن يكفيه أنه كان السباق إلى إخضاع الدراسة االجرامية للمنهج العلمي القائم على‬
‫المالحظة والتجربة بعدما أخرجها من إطار الدراسة النظرية ‪ ،‬ثم أنه أنشأ علما جديدا حديثا يسمى بعلم‬
‫االنطروبولوجيا أو علم طبائع المجرم ‪ ،‬وهو أول من وضع تصورا للمجرم حسب الخصائص‬
‫البيولوجية والعضوية والنفسية ‪.‬‬
‫انتقادات هذه النظرية ‪:‬‬
‫‪ -‬وقع في خطأ منهجي من خالل تعميم نتائج البحث الفردية على جميع المجرمين ليخلص إلى نتيجة‬
‫عامة تفتقد إلى الموضوعية والمنهج العلمي السليم‬
‫‪ -‬لم يقارن عينات من االشخاص العاديين ويقارنهم بعينات من المجرمين‬
‫‪ -‬اعتماده على فكرة المجرم بالفطرة وهوما يتناقض مع فكرة أن الجريمة هي ظاهرة احتمالية لكنه‬
‫يقول أنها ظاهرة حتمية وما يؤكد خطأ نظريته أن هناك أشخاص توفرت فيهم العيوب التي ذكرها ولم‬
‫يسلكوا مسلكا إجراميا وبالمقابل هناك أشخاص مجرمون ولم تتوفر فيهم العيوب التي ذكرها‬
‫‪ -‬إنكاره للعوامل االجتماعية كمحرك للجريمة ومبالغته في إظهار الخصائص البيولوجية والسمات‬
‫الخلقية الشاذة‬
‫‪ -‬ربط سلوكات المجرمين بسلوك االنسان البدائي رغم عدم توفره على معلومات دقيقة عن االنسان‬
‫البدائي وهل كان فعال متوحشا ألن هناك دراسة تظهر أن االنسان البدائي كان اقل وحشية من االنسان‬
‫المعاصر وأن الجريمة تتالشي كلما عدنا إلى الوراء و تزيد كلما زاد التطور بمعنى أن االنسان كان‬
‫يعيش حياة بسيطة وكانت الجريمة بمعدالت أقل من الحاضر ‪ ،‬فالمبروزو اعتمد على منطق افتراضي‬
‫خيالي ليس له اي أسس علمية‬
‫‪ -‬لم يستطع أن يفسر الجريمة تفسيرا علميا وكيف يمكن لنا أن نربط بين التكوين البيولوجي للمجرم‬
‫والسلوك االجرامي فما هو الدليل العلمي على أن هناك صلة ما وعالقة تربطهما ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ثانيا ‪ :‬االتجاه النفسي‬
‫النظرية البيولوجية أخفقت إخفاقا ظاهرا في اعطائها إجابة واضحة عن الظاهرة االجرامية ‪ ،‬ظهر‬
‫االت جاه النفسي السيكولوجي الذي اتفق مع النظرية البيولوجية في أن العلة هي داخل االنسان أي‬
‫الشخصية االجرامية اال أنه ربط السلوك االجرامي باالضطرابات النفسية وعدم استواء الشخصية وأن‬
‫المجرم هو شخص مريض وال يستحق العقوبة بقدر ما يستحق العالج فال يجب أن نسلب حريته بل‬
‫يجب أن نعالجه ‪ ،‬وهو اتجاه من أكبر االتجاهات التي تبحث في الظاهرة االجرامية وتبحث في الجانب‬
‫الخفي من االنسان تلك المنطقة الباطنية غير الملموسة التي تتبرمج في سلوكاته ‪ ،‬هذا االتجاه حاول‬
‫كشف الحجاب عن ذلك المستور المجهول الخفي المسمى بمنطقة الالشعور ‪.‬‬
‫من اب رز علماء هذا االتجاه فرويد وهو عالم في علم النفس وهو المؤسس الحقيقي والفعلي لعلم النفس‬
‫الحديث ‪ ،‬وقد حاول تفسير الجريمة تفسيرا نفسيا خالصا ‪ ،‬وكان الهدف من وراء أبحاثه هو إظهار‬
‫التأثيرات أو اضطرابات الجهاز النفسي على سلوك االنسان عامة ومن ضمنه السلوك االجرامي ‪ ،‬ولقد‬
‫أثارت نظريته الكثير من الجدل وردود الفعل كالتي أثارتها نظرية المبروزو ‪ ،‬لكن فرويد اختار‬
‫الطريق الصعب كونه اهتم بالصعب وهو الجزء الخفي ومنطقة الالشعور منطقة المجهول في االنسان ‪.‬‬
‫قال فرويد بأن كل إنسان لديه ثالثة مناطق اساسية في نفسيته‬
‫الهو أو الذات الدنيا ثم األنا االعلى ثم األنا‬
‫الهو أو الذات الدنيا ‪ :‬هي مجموع النزوات أو الغرائز الفطرية في االنسان أو الشهوات التي ال يقبلها‬
‫المجتمع وكل إنسان كيف ما كان مستواه إال ولديه ميوالت فطرية غريزية ال يقبلها المجتمع مثال ذلك‬
‫حب الجنس والمال والبقاء ‪ ،‬والهو هو مستودع الشهوات وينساق وراء إشباع اللذة والشهوات دون إقامة‬
‫االعتبار لقيود المجتمع والدين والقيم األخالقية المتعارف عليها ‪ ،‬نعم هناك غرائز لكن بالمقابل هناك‬
‫قيود اجتماعية فالجميع لديه غرائز جنسية لكن هل المجتمع يسمح بممارسة الجنس دون ضوابط أخالقية‬
‫و دينية كالزواج مثال ؟ فإذا اراد االنسان أن يعيش محترما و متوازنا في المجتمع فعليه أن يكبح هذه‬
‫الغريزة وأن يعبر عنها بأسلوب شرعي مقبول اجتماعيا غير اسلوب الحيوانات التي تنساق وراء‬
‫شهواتها دون ضوابط ‪ ،‬لكن االنسان تفرض عليه قيود اجتماعية تفرض عليه أن يخضع لها ‪ ،‬هذا الهو‬
‫الذي هو مركز الشهوات ال يضع أي قيود في طريق ممارسة شهواته و غرائزه وال يحترم أي ضابط ‪،‬‬
‫مثال ذلك أن الجميع يريد المال لكن المجتمع يفرض عليك أن تجني المال بطريقة شرعية عن طريق‬
‫العمل وليس عن طريق السرقة والجريمة هي أن ينساق االنسان وراء الهو فينفذ كل شهواته و ملذاته‬
‫بطريقة حيوانية دون أدنى اعتبار لقيود المجتمع وقيمه االخالقية ‪.‬‬
‫إذن الهو هو ذلك الجانب الشرير في االنسان أو النفس االمارة بالسوء‬
‫االنا األعلى ‪ :‬ويسمى بالذات االنسانية وهو الجانب المثالي أو المظهر الروحي لإلنسان ‪ ،‬ويضم المبادئ‬
‫االخالقية والمثالية المستقاة من المبادئ والقيم االخالقية والدينية والقوانين التي تحكم المجتمع ‪ ،‬وظيفته‬
‫هي القوة الرادعة لنزوات و شهوات الهو لنقل هي النفس اللوامة ‪ ،‬وهي ال تتوفر في كل إنسان فمن‬
‫الناس من تعمل لديه االنا االعلى كلما خرج عن نطاق القواعد االخالقية و زل سلوكه ومن الناس من ال‬
‫تتحرك لديه االنا األعلى حتى ولو ارتكب الجرائم ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫األنا أو الذات الشعورية والعقل ‪ :‬و هي مجموع الملكات الفطرية أو الفكرية المستمدة من رغبات النفس‬
‫بعد تهذيبها بما ينطبق ومقتضيات الحياة االجتماعية والقيم األخالقية ‪ ،‬وهي محاولة توفيق بين متطلبات‬
‫األنا األعلى و متطلبات الهو ‪.‬‬
‫لكن كيف فسر فرويد السلوك االجرامي اعتمادا على االنا االعلى واالنا والهو ؟‬
‫قال فرويد إن السلوك االجرامي ما هو إال نتيجة للصراع الداخلي القائم بين نزواته من جهة وبين القيم‬
‫واالخالق والعقائد من جهة أخرى ‪ ،‬يعني الصراع بين الهو وغرائزه ونزواته وبين األنا األعلى وقيمه‬
‫االخالقية واالجتماعية وبين ضغوط العقل التمي يمارسها من أجل التوفيق بين االنا األعلى و بين الهو ‪،‬‬
‫فغذا حدث خلل في عملية الكبت وإذا ما أخفق العقل في كبت النزوات في منطقة الهو فاإلنسان يرتكب‬
‫جريمة ‪ ،‬فهناك إذن صراع بين االنا االعلى والهو ودور االنا هو التوفيق بينهما فإذا انفلت الهو من كل‬
‫رقابة أو قيد وانطلق يشبع رغباته سيرتكب الجرائم ال محالة ‪.‬‬
‫يرى فرويد أن متراكمات الالشعور قد تتحول إلى عقد نفسية تدفع الشخص إلى التعبير عنها في صورة‬
‫سلوك إجرامي ‪ ،‬واالنسان عندما يعجز عن الكبت فإن هذا الكبت يصبح عقدة و عندما تحين الفرصة‬
‫تخرج العقدة على شكل جريمة من أجل إفراغ الغرائز المكبوتة و هو ما سماه فرويد أنماط العقد ‪.‬‬
‫أنماط العقد عند فرويد ‪:‬‬

‫‪ ‬زنى المحارم ‪ :‬هناك نوعان ‪ ،‬عقدة إلكترا ‪ ،‬وهي تعلق البنت بأبيها جنسيا و يكون هذا التعلق‬
‫الجنسي مصحوبا بغيرة من أمها وكراهية لها ألنها تراها منافسة لها في ابيها لكن تبقى البنت‬
‫حائرة عندما ترى حنان أمها عليها وتقع الجريمة حين يدفع الهو البنت إلى قتل أمها أو تتمرد‬
‫عليها وال تقع الجريمة حين تكبت البنت هذا الشعور وتدعه في منطقة الالشعور ‪ ،‬النوع الثاني‬
‫هو عقدة أوديب وهي تعلق الولد بأمه جنسيا ‪.‬‬
‫‪ ‬عقدة الذنب ‪ :‬األنا األعلى توجه لومها إلى الهو ألنه ارتكب جريمة مما يدفعه إلى ارتكاب‬
‫جريمة ثانية ليتم القبض عليه وتوقيع العقوبة عليه فيتخلص من الشعور بالذنب ويتخلص من‬
‫عقدة الذنب ‪.‬‬
‫‪ ‬عقدة النقص ‪ :‬تنشأ نتيجة الصراع الكامن في منطقة الالشعور نتيجة شعور االنسان بالنقص في‬
‫أحد أعضائه الخارجية أو مظهره أو أعضائه الداخلية أو االحساس بخيبة أمل أو فشل اجتماعي‬
‫تمنعه من الوصول إلى طموحاته فيدفعه االحساس بالنقص إلى ارتكاب الجريمة كتعبير عن‬
‫شعوره بالنقص ‪.‬‬
‫تقييم نظرية فرويد ‪:‬‬

‫‪ -‬أول عيب تميزت به نظرية فرويد هو سقوطها في الخطأ المنهجي ثم صعوبة المصطلحات التي‬
‫استعملها فرويد ‪ ،‬هذه المصطلحات ال تستند إلى أي دراسة علمية بل هي مجرد تخمينات من‬
‫فرويد ويستحيل التأكد من صحتها فمصطلحات كالهو واالنا األعلى واالنا كيف يمكن قياسها‬
‫علميا وكيف يمكن إخضاع هذه المصطلحات للتجربة والمالحظة للتأكد من مصداقيتها بل ومن‬
‫وجودها أصال فهي تبقى مفاهيم غامضة ولم يأتي بها أي عالم غير فرويد ‪.‬‬
‫‪ -‬مبالغة هذه النظرية في إظهار العيوب النفسية والعقد واالختالالت العقلية و االضطرابات‬
‫العاطفية التي تدفع للجريمة وإغفالها للظروف االجتماعية والطبيعية التي تساهم بدورها في‬
‫الدفع إلى ارتكاب الجريمة ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬الخلل النفسي ال يمكنه لوحده أن يدفع إلى ارتكاب الجريمة فكل الناس تعاني من مشاكل نفسية‬
‫وال يقدمون على ارتكاب الجرائم ‪.‬‬
‫‪ -‬هذه النظرية تنظر إلى السلوك االجرامي نظرة أحادية الجانب اي النفسي و تستبعد الظروف‬
‫االخرى ‪.‬‬

‫االتجاه االجتماعي‬
‫يعطي هذا االتجاه للعوامل االجتماعية األهمية القصوى والمطلقة في خلق الجريمة وكل افكاره‬
‫ونظرياته متقاربة سنتناولها من زاويتين أساسيتين ‪ ،‬نظرية التركيب االجتماعي أو الهيكل االجتماعي‬
‫ويندرج تحت نظرية الهيكل اإلجتماعي خمسة نظريات هي ‪:1-‬نظرية الصراع ‪ -1 ،‬نظرية الالنظام‪،‬‬
‫‪ -1‬النظرية اإلقتصادية ‪ -4 ،‬النظريه البيئية ‪ -5 ،‬النظرية العرقية ‪ ،‬ثم نظرية الكيفية االجتماعية تعنى‬
‫ببيان الميكاتيزم الذي يصير من خالله الشخص مجرما ‪ ،‬ومن أهم النظريات التي قيل بها في هذا‬
‫الشأن ‪ :‬نظرية التقليد و نظرية االختالط الفارق ‪.‬‬

‫نظرية التركيب االجتماعي سيلين ‪ :‬أو الهيكل االجتماعي ‪ ،‬تحاول الربط بين السلوك االجرامي وبين‬
‫هيكل وتنظيم المجتمع أو التركيب المجتمعي و سنتحدث هنا عن صراع الثقافات وهو وجود تعارض‬
‫وتناقض بين قيم ومبادئ وثقافات معينة تسود مجتمعين وهذا األمر يتخذ صورتين ‪:‬‬
‫التنازل االصلي الخارجي ‪ :‬يحصل عند تصادم ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع مع ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع‬
‫آخر ‪ ،‬أي مجتمعين منفصلين مختلفين ‪ .‬مثال ذلك مهاجر عربي في الغرب قام بجريمة للدفاع عن‬
‫شرف ابنته ظنا منه أن هذه الجريمة ستلقى قبوال من المجتمع الغربي بحكم ثقافته العربية لكن الواقع أن‬
‫ثقافة المجتمع الغربي تتقبل الحرية الجنسية ‪ ،‬وكذلك في حالة سب الرسول صلى هللا عليه وسلم فهي‬
‫بالنسبة إليه جريمة وهي بالنسبة إلى المجتمع الغربي حرية تعبير ‪.‬يقول سيلين إن سبب الجرائم هو‬
‫تعارض وتضارب الثقافات لمجتمعات مختلفة الستحالة الجمع واالندماج والتعايش بين مجتمعين‬
‫مختلفين ‪.‬‬
‫التنازع الثانوي الداخلي ‪ :‬حين يحصل التصادم بين ثقافتين مختلفتين داخل مجتمع واحد ‪ ،‬المجتمع‬
‫األمريكي نموذجا ‪ ،‬أو اللبناني ‪ ،‬حيث يسود تناقض بين ثقافات متعددة ألن المجتمع األمريكي هو خليط‬
‫بين ثقافات متعددة يؤدي إلى اضطراب اجتماعي ويؤدي إلى عدم التعايش بين الفئتين مما يؤدي إلى‬
‫ارتكاب الجريمة لتمسك كل فئة بثقافتها وترفض ثقافة اآلخر ‪.‬‬
‫تقييم نظرية سيلين ‪:‬‬

‫قد اصابت جزءا من الحقيقة لكن في نفس الوقت أخفقت وفشلت فشال ذريعا في إعطاء تفسير للظاهرة‬
‫االجرامية حيث ركزت على العنصر االجتماعي فقط وعلى نوع الجرائم التي تقع بسبب تنازع الثقافات‬
‫مثل الجرائم ضد االجانب لكنها لم تفسر لنا باقي الجرائم األخرى كالسرقة والقتل حيث ال يوجد أن‬
‫تنازع بين الثقافات ‪.‬‬
‫نظرية التركيب االجتماعي تعتمد في شرحها وتفسيرها للظاهرة االجرامية على تركيبة أو هيكل‬
‫المجتمع ‪ ،‬هذا االتجاه يرفض ربط الظاهرة االجرامية بالذات سواء من الجانب البيولوجي أو النفسي‬

‫‪20‬‬
‫ويعتقد أن الجريمة تك من في اسباب خارجية بعوامل اجتماعية مختلفة ‪ ،‬وصعب على هذا االتجاه أن‬
‫يجد السبب الحقيقي المحض الذي يدفع االنسان للجريمة لتعدد االسباب االجتماعية‬
‫نظرية الالنظام ‪ :‬دوركهايم‬

‫هو عالم اجتماع خلص إلى العديد من النتائج ‪ ،‬يقول أن الجريمة هي ظاهرة حتمية في مجتمع معين‬
‫وهي ظاهرة اجتماعية ولم يقل لها اسباب بيولوجية أو نفسين أو عقلية وإنما اجتماعية حيث يقول أنه ال‬
‫يوجد مجتمع يخلو من الجريمة وأن كل مجتمع كيفما كان نوعه ومستواه الدراسي والعلمي والثقافي لديه‬
‫إجرام وأنه من المستحيل وجود مجتمع بال جريمة ‪ ،‬فيستحيل أن يكون جميع الناس أخيارا صالحين فمن‬
‫الضروري أن يتواجد أناس اشرار ‪ ،‬فالجريمة إذه حسب دوركهايم هي ظاهرة عادية طبيعية عادية‬
‫ترتبط بوجود نظام مجتمعي ‪ ،‬فالجريمة تساوي المجتمع والمجتمع يساوي الجريمة ‪ ،‬وبما أنها ظاهرة‬
‫طبيعية فال يجب أن نبحث عن اسباب الجريمة في التكوين النفسي والعقلي أو البيولوجي ورفض ربط‬
‫السلوك االجرامي بتكوين المجرم بل قال أن الجريمة سلوك يكتسبه االنسان من المجتمع الذي يعيش فيه‬
‫باعتباره كائنا اجتماعيا فيه فالمجتمع هو الذي يصنع الجريمة من خالل ما يجرمه من افعال وسلوكات ‪،‬‬
‫وقال بأن الجريمة هي ظاهرة طبيعية وصحية إلحداث التغيير االجتماعي وبدون جريمة سيصاب‬
‫المجتمع بالركود فالجريمة حسب دوركهايم ظاهرة مفيدة لتطور القانون واألخالق في المجتمع وهي‬
‫أمارة من أمارات تطور وتقدم المجتمع ‪ ،‬ثم قال إن الجريمة هي دليل على الحرية الموجودة في هذا‬
‫المجتمع ‪ ،‬ثم يؤكد أن القانون الجنائي هو انعكاس لنوع النظام السائد في المجتمع ونعرف ذلك من خالل‬
‫نوع العقوبات كتواجد العقوبات البديلة ومراكز االصالح والتأهيل واالدماج ‪ ،‬فالمجتمعات البدائية مثال‬
‫كان قا نونها الجنائي صارما وحشيا دمويا ال يعرف هذه العقوبات الحضارية وال يعرف ثقافة إصالح‬
‫وإدماج المجرم بل يفكر فقط كيف يعاقب ‪.‬‬
‫إذن حسب دوركهايم الجريمة ظاهرة مفيدة في المجتمع تساعد على تغير المجتمع وتطوره وتطور‬
‫قوانينه ‪ ،‬فإذا قلت الجريمة في مجتمع ما فإن هذا المجتمع في خطر والخطر القادم أكبر من خطر وقوع‬
‫الجريمة ‪ ،‬فيجب أن تسيل الدماء ليتكلم المجتمع ويقوم المشرع بتشريع القوانين والقضاء بتطبيقها‬
‫وتدور الدائرة ‪ ،‬والفائدة األخرى أن المجتمع يتغير حينما تظهر الجريمة ويتغير النظام أيضا ‪ ،‬فيمكن‬
‫القول أن دوركهايم أعطى للجريمة أبعادا أخرى ونظرة جديدة حيث اعتبر الجريمة ظاهرة مفيدة صحية‬
‫وضرورية لتغيير المجتمع والنظام السائد ‪.‬‬
‫كل النظريات في علم االجرام التي سبقت دوركهايم كـ لمبروزو ‪ ،‬فرويد ‪ ،‬سيلين ‪ ،‬فسروا الجريمة‬
‫كأنها ظاهرة غير صحية وتعبر عن مرض أو خلل ما ‪ ،‬لكن دوركهايم اعتبر الظاهرة طبيعية عادية‬
‫صحية بل واعتبرها مفيدة للمجتمع من أجل تطوره قانونيا وأخالقيا وقال بأنه ت فاجأ من دراسته ولم‬
‫يكن يعلم أنه سيصل إلى هاته النتيجة ‪ ،‬وهو يجزم أن الجريمة مهما تنوع المجتمع ستبقى موجودة ألنه‬
‫من المستحيل أن يتماثل الجميع للنظام فمن الطبيعي أن يخرج البعض عن النظام والتركيبة االجتماعية ‪.‬‬
‫الالنظام أو الالقانون عند دوركهايم ‪ :‬يقول دوركهايم بأن أهم تركيبات المجتمع تكمن في تماسكه‬
‫ونظامه االجتماعي بين أعضائه وهو ما يشكل الضمير الجماعي للمجتمع وخلص إلى أن هناك نوعين‬
‫من التضامن آلي و عضوي ‪.‬‬
‫التضامن اآللي ‪ :‬كان يسود المجتمعات البدائية حيث كان يسود ضمير اجتماعي آلي متماسك متضامن‬
‫اجتماعيا تحكمه القواعد القانونية السائدة ‪ ،‬وكان المجتمع يفرض جزاء ماديا إذا تم االخالل بهذه‬
‫القواعد ‪ ،‬ومن شأن هذا الجزاء تهذيب السلوك وضمان احترام التضامن االجتماعي في المجتمع ‪ ،‬ويبدو‬
‫‪21‬‬
‫أن فكرة دوركهايم عن المجتمعات البدائية كانت تقوم على التضامن حيث كانت مجتمعات زراعية ‪،‬‬
‫وهو عكس المبروزو الذي ينظر إليها على أنها مجتمعات متوحشة وأن االنسان البدائي إنسان متوحش‬
‫فـ دوركهايم يعتقد أن المجتمعات البدائية كانت مجتمعات متماسكة متضامنة يسود بينها ضمير متحد‬
‫متماسك ‪ ،‬سماه التضامن اآللي االجتماعي ‪ ،‬وهذا التضامن يسوغه ذلك المجتمع على شكل قواعد‬
‫قانونية ويفرض جزاء على من يخالف هذه القواعد و يكون جزاء رادعا ‪ ،‬إذن هي مجتمعات بدائية‬
‫متضامنة تقل فيها معدالت الجريمة ويسود فيها نوع من الوحدة ‪.‬‬
‫التضامن العضوي ‪ :‬يسود المجتمعات الحديثة ‪ ،‬القائمة على تقسيم العمل‪ ،‬فهي مجتمعات صناعية حيث‬
‫تضعف فيها عوامل التضامن االجتماعي التي كانت تعرفه المجتمعات الزراعية البدائية ‪ ،‬هذه العوامل‬
‫آثرت على القانون الجنائي وعلى قيم المجتمع وعوامل التجانس والتعاون ‪ ،‬هذه االختالالت في تكوين‬
‫المجتمع سوف تؤثر على فلسفة القانون الجنائي حيث انتقل من مركز االهتمام من الضمير الجماعي إلى‬
‫الضمير الفردي ‪ ،‬واصبح القانون الجنائي يهتم بتعويض المجني عليه أكثر من اهتمامه بإلحاق العقوبة‬
‫بـ الجاني ‪ ،‬فالقانون البدائي كان كل همه إلحاق العقوبة بالجاني بينما القانون الجنائي المعاصر تغلب‬
‫عليه صفة تعويض المضرور ‪ ،‬وهو ما أدى إلى تراجع العواطف وإحساس الفرد بالعزلة المعنوية‬
‫واالجتماعية الشيء الذي خلق الالنظام أو الالقانون ‪ ،‬اي تحول المجتمع من مجتمع تضامني إلى مجتمع‬
‫النظامي ‪ ،‬من مجتمع قانوني إلى مجتمع القانون ‪ ،‬والفرد في مجتمع الالنظام والالقانون يحس بالتمرد‬
‫على هذه القيم الجديدة ألنه يحس على أنها ال تلبي حاجياته األساسية مما يخلق لديه حالة من الالنظام أو‬
‫الالقانون ‪ ،‬هذه الوضعية يسهل فيها ارتكاب الجريمة ‪ ،‬هكذا تزداد الجريمة كلما انتقلنا من مجتمع‬
‫زراعي متضامن إلى مجتمع صناعي ‪.‬‬
‫حاول دوركهيم أن يجعل من الموضوعية والعلموية والتجربة أهم مكونات نظريته السوسيولوجية بعيدا‬
‫عن كل خطاب تاريخي أو فلسفي ‪ ،‬فآمن أن العلم هو مقياس كل شيء وال جدوى للفلسفة في تفسير‬
‫الواقع االجتماعي ذي الطبيعة المركبة ‪ ،‬لهذا فقد أراد دوركهيم أن يؤسس علما جديدا هو السوسيولوجيا‬
‫التي أرادها أن تكون على شاكلة العلوم االخرى كالطب والفيزياء وقد واجه عقبات منهجية في معالجة‬
‫الجريمة و دوافعها ‪.‬‬
‫كان أول عمل تميز به دوركهايم هو تحقيق القطيعة مع النزعة الفردية التي سيطرت على االعمال‬
‫الفكرية في القرن ‪ 11‬وقد تميزت بكونها قطيعة معرفية ( ايبيستيمولوجية ) تنصرف الى دراسة‬
‫الظواهر االجتماعية ومدى تأثيرها في أفكار الفرد ‪ ،‬فهو لم يسلم بأن الفرد هو أساس تقييم االشياء كما‬
‫لم يسلم بأن المجتمع ال يتكون إال من مجموع االفراد ‪ ،‬وخلص إلى وجود شيء آخر أطلق عليه الشيء‬
‫االجتماع ي الذي يختلف عن سمات و مكونات كل فرد ‪ ،‬واعتقد بقوته التي تفوق مجموع قوات افراده‬
‫وعبر عن ذلك بالضمير الجماعي ‪ ،‬وهو ما جعل دوركهايم يعتقد أن المجتمع وجد قبل الفرد وله‬
‫االولوية واالسبقية ‪ ،‬لذلك فتأثيره قوي على الفرد ‪ ،‬بل ويمارس نوعا من القهر وااللزام على االفراد ‪،‬‬
‫و يوجب عليهم أن يضعوا سلوكهم في قالب معين ‪ ،‬هكذا يشعر الفرد بقوة رادعة إذا ما أراد الخروج‬
‫عن العرف االجتماعي فيضطر للخضوع للقهر االجتماعي وقد وضع دوركهايم مجموعة قواعد رأها‬
‫أساسية في هذا العلم وهي ‪:‬‬

‫‪ -1‬تحديد موضع علم االجتماع تحديدا ال يجعل هذا العلم يختلط بأية دراسة علمية أخرى واعتبار‬
‫الظواهر على أنها مجرد أشياء ‪ .‬أي ان نالحظ الظواهر االجتماعية بتجرد و موضوعية‬
‫ونكتشفها معرفة علمية مثلما نكتشف الظواهر الطبيعية دون تحيز ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -1‬أن يكون موضوع علم االجتماع من الم وضوعات التي يمكن مالحظتها وتفسيرها بالطرق‬
‫العلمية‬
‫‪ -1‬الدراسة العلمية للفعل االنساني ال يجب أن تقوم على أي حكم مسبق‬
‫‪ -4‬يجب على الباحث أن يعمل للوصول الى صور متطابقة للحقائق متجنبا في ذلك كل تشويه ناتج‬
‫عن ميوالته وأهوائه الخاصة ‪.‬‬
‫واعتقد دوركهايم بأن الجريمة حالة طبيعية وضرورية لكل مجتمع متفاعل و يجب أن نعترف بها‬
‫كمتالزمة للمجتمع الذي ينشد التطور والبناء ‪ ،‬وفسرها بأنها مرض اجتماعي يقابله ظواهر سليمة و‬
‫يجب قبول الجريمة على أنها تعبير له وظيفته االجتماعية وهو ظاهرة عادية طبيعية لعدة أسباب ‪:‬‬

‫وقوع الجريمة في المجتمعات ظاهرة مرضية عادية وتالزم اي مجتمع كيفما كان‬ ‫‪-1‬‬
‫تصبح غير عادية حين ترفتفع فوق المعدل المقرر لها‬ ‫‪-1‬‬
‫انخفاض الجريمة عن المتوسط يعتبر ظاهرة غير سوية وهو يدل على حالة قمع وقهر وخنق‬ ‫‪-1‬‬
‫للتطور واالبداع واالبتكار‬
‫ال يمكن اعتبار الجريمة مرضية حينما ال تؤثر سلبيا في المهام الوظيفية للمجتمع حيث أنها من‬ ‫‪-4‬‬
‫صفات المجتمع وتركيبته ‪.‬‬
‫كما تحدث دوركهايم على مفهوم االنومية أو الالمعيارية واعتبرها سببا لالنحراف االجتماعي و تعني‬
‫حالة الالقانون أو الالنظام الذي يجد الفرد نفسه فيها ويجد الفرد نفسه عاجزا عن تحقيق الرغبات‬
‫الطبيعية التي بدونها ال يمكن للحياة أن تستقيم أي الحد االدنى من الرغبات الضرورية أي أن المجتمع‬
‫ال يستطيع توفير الحاجيات والرغبات الضرورية للفرد فيدفعه للبحث عن هذه الرغبات عن طريق‬
‫الجريمة نتيجة غياب معيار أو قاعدة يستند إليها في سلوكه السوي داخل المجتمع ‪.‬‬
‫تجدر االشارة إلى أن دوركهايم لم يدافع عن الجريمة لضرورة وقوعها في المجتمع وإنما نادى‬
‫بضرورة الحفاظ على الحالة العادية والسوية في المجتمع ‪ ،‬وعلل ارتكاب الجريمة طبقا لما تقتضيه‬
‫المؤسساتية وماتلزمنا به الحياة االجتماعية وال يرى أي مانع من توقيع العقاب على المجرم الذي يمس‬
‫الضمير الجماعي ويمكن أن يكون مجرد لوم في حالة مس خفيف به ‪ ،‬هكذا أسس دوركهايم مدرسته‬
‫السوسيولوجية التي ستعرف امتدادات وتأثيرات تجاوزت حدود فرنسا إلى العالم الجديد ‪.‬‬
‫انتقاد نظرية دوركهايم‬

‫رغم أهمية هذه النظرية إال أنها تعرضت لعدة انتقادات حيث اتهم دوركهايم بتشجيع الجريمة ‪ ،‬كما أن‬
‫الربط بين استمرارية الجريمة وكونها ظاهرة طبيعية أمرين غير متالزمين فاستمرارية الجريمة ال‬
‫تعني أنها ظاهرة طبيعية ‪ ،‬وتساءل البعض إذا كانت الجريمة ظاهرة طبيعية لماذا أجهد دوركهايم نفسه‬
‫في البحث عن اسبابها ‪ ،‬ثم أن نظريته ربطت بين الجريمة وتنظيم المجتمع ولم توضح لنا الكيفية التي‬
‫يصبح بها الفرد مجرما ‪ ،‬وإذا كانت تركيبة المجتمع تجعل بعض االفراد مجرمين فلماذا ال يرتكب‬
‫البعض اآلخر الجرائم ‪.‬‬
‫نظرية روبرت ميرتون‬
‫هو عالم أمريكي ‪ ،‬تأثر كثيرا بنظرية دوركهايم ‪ ،‬لكن ما يميزه هو محاولته االجابة عن ما لم يجب عنه‬
‫دوركهايم ‪ ،‬لماذا يركتب البعض الجريمة وال يرتكبها البعض اآلخر ‪ ،‬رغم وجودهم تحت نفس‬
‫الظروف االجتماعية ونفس التركيبة االجتماعية ‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫شكلت قفزة نوعية في الفهم العلمي لمشكلة السلوك المنحرف ‪ ،‬حيث تجاوز ميرتون العوامل المنعزلة‬
‫واالهتمام بالبنية االجتماعية وتناقضاتها ‪ ،‬واعتمد على نظرة متكاملة للمجتمع االمريكي ‪ ،‬لذلك انطلق‬
‫من تحليل بنية المجتمع االمريكي ومحاولة معرفة االسباب الحقيقية التي تدفع إلى الجريمة ‪ ،‬لذلك نجد‬
‫ميرتون يصب كامل مجهوداته على البنية االجتماعية و يحلل عناصرها ويدرس التفاعل الذي يحصل‬
‫بين هذه العناصر وقد يؤدي إلى سلوكات متنوعة إما متمردة أو جانحة أو استسالمية ‪ ،‬وتوصل إلى‬
‫حصر هذه االنماط السلوكية اعتمادا على مفهوم الالمعيارية الذي يجعل المجتمع بدون معيار يعتمد‬
‫الناس عليه لتحقيق رغباتهم فيضطرون إلى االجرام ‪.‬‬
‫لكن مفهوم األنومية أو الالمعيارية عند ميرتون تختلف عن تلك التي عند دوركهايم ‪ ،‬حيث أنه يرجع‬
‫سبب الجريمة إلى ردود فعل الفرد وتكيفه مع التناقضات التي تفرزها ثقافة المجتمع والمفاهيم المنبثقة‬
‫عن بنية التنظيم االجتماعي ‪ ،‬وحين فسر دوركهايم بأن الالمعيارية هي عدم استجابة المجتمع لنزوات‬
‫االفراد ورغباتهم الطبيعية فإن ميرتون ذهب إلى أن أغلب هذه الرغبات والغرائز ليست بالضرورة‬
‫طبيعية وإنما مجموعة من االغراءات التي ينتجها المجتمع وتكرسها الثقافة السائدة وعدم توفير‬
‫االمكانيات واتاحة الفرص للجميع لتحقيقها وجعلها متاحة للبعض وصعبة المنال للبعض االخر و‬
‫محاولة الفئة المحرومة من تحقيق طموحاتها بالطريقة غير الشرعية بعدما حرمت ذلك بالطرق‬
‫الشرعية ‪.‬‬
‫والوسائل العلمية التي يعتمد عليها ميرتون لدراسة كل بنية اجتماعية تنحصر في أمرين ‪:‬‬
‫االهداف ‪ :‬فالمجتمع يحدد مجموعة من االهداف التي يسعى جميع افراده لتحقيقها وتكون مرتبة وقف‬
‫سلم من القيم متفاوتة األهمية ‪.‬‬
‫المعايير ‪ :‬وهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى هذه االهداف ‪،‬‬
‫والمجتمع هو الذي يسهر على ضبط هذه الوسائل والطرق لكل صنف حسب قيمته االجتماعية فهناك‬
‫طرق مثلى وطرق مستحسنة وطرق ممنوعة ‪.‬‬
‫وعلى ضوء هذين العنصرين يحدد المجتمع القواعد السلوكية ‪ ،‬و سلوك االنسان مرتبط بمدى تالزم‬
‫هذين العنصرين و ترابط العالقة بينهما ‪ ،‬فكلما كانت الصلة متوازنة كانت السلوكات متوازنة ‪ ،‬لكن إذا‬
‫حصل تأكيد على األهداف مع تراخي في المعايير أي الوسائل هنا تصبح كل الوسائل صالحة للوصول‬
‫الى الهدف فنكون أمام بنية مجتمعية غير متكاملة ومصابة بالخلل ‪ ،‬أما حين يحصل التوازن فنحن أمام‬
‫سلوكات طقسية أما حين تعطي بنية المجتمع وزنا أكبر لألهداف على حساب المعايير تصبح النقود‬
‫معيار كل شيء فتشجع الوصول الى االهداف بطرق غير مشروعة فيتعرض المجتمع لحالة عدم‬
‫انتظام ويحصل االنحراف بدل العدالة االجتماعية وهي حالة المجتمع االمريكي وقد نتج عن حالة‬
‫الالمعيارية ظهور بعض االفكار والنظريات التي حاولت أن تغطي النقص في شرح ظاهرة االنحراف‬
‫مثل نظرية الصراع الثقافي عند تورتسين التي تشرح السلوك غير السوي ‪.‬‬
‫يقول ميرتون أن كل مجتمع له خاصيتين اساسيتين ‪:‬‬

‫الخاصية ‪ : 1‬التركيبة االجتماعية لكل مجتمع تتبنى أهدافا يطمح الجميع إلى بلوغها ‪ ،‬ففي المجتمع‬
‫األمريكي يطمح الجميع أن يصبح رئيسا للواليات المتحدة ‪ ،‬فهو مشروع الجميع ‪ ،‬ربما قاضيا ‪ ،‬وزيرا‬
‫رجل أعمال ‪ ،‬كلها أهداف يضعها المجتمع األمريكي ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الخاصية ‪ : 1‬المجتمع يضع وسيلة لبلوغ هاته االهداف ‪ ،‬فالقاضي يجب أن يدرس في كلية الحقوق ‪،‬‬
‫إذن التركيبة االجتماعية ترسم أهدافا وتضع لها وسائل مشروعة ‪.‬‬

‫يقول مريتون أن هناك ‪ 5‬احتماالت لتعامل الناس مع هذه القاعدة‬

‫‪ -1‬التطابق ‪ :‬حين يقبل الفرد الغاية والوسيلة التي وضعها المجتمع لبلوغ الهدف ‪ ،‬هنا الشخص تالئم‬
‫اجتماعيا حيث تطابق سلوكه مع القواعد التي ينظمها المجتمع ‪ ،‬فهو شخص ال يتمرد على االهداف وال‬
‫على الوسائل ‪ ،‬هو شخص مثالي ال يخرق القانون وال يمكن أن يجرم ‪.‬‬
‫‪ -1‬تحديد ‪ :‬وهي حالة قبول الهدف ورفض الوسائل ‪ ،‬وهي حالة المجتمع حين يضع األهداف ويضع‬
‫الوسائل لكنها تكون في صالح الطبقة العليا وليست في صالح الطبقة الدنيا مما يدفع افراد هذه الطبقة إلى‬
‫ارتكاب الجريمة ‪ ،‬فنقابة المحامون مثال تضع شرط ‪ 12‬ماليين سنتيم تدفع لنقابة المحامين لكي يحصل‬
‫الناجح في مباراة المحاماة على تزكية النقابة ويستطيع ممارسة المهنة ‪.‬‬
‫‪ -1‬التعلق بالطقوس ‪ :‬الشخص يرفض الهدف ويقبل بالوسائل لكنه يكون في حالة عدم شعور بالطموح‬
‫والرغبة في التغيير ونيل ما هو أحسن ‪ ،‬هي الطبقة الوسطى في المجتمع ‪ ،‬يقبلون بأوضاعهم غالبا‬
‫ويرضون وال يكون لديهم أي طموح ‪ ،‬يعيش عاديا ويموت عاديا المهم عنده أن يأكل الخبز ويعيش بسالم‬
‫وال يدخل في صراع مع المجتمع أو النظام ‪ ،‬فهو ال هدف له وال طموح وال يتصور أن يخرق القانون ‪.‬‬
‫‪ -4‬التراجع ‪ :‬يقبل بالهدف وبالوسيلة المؤدية إليه لكنه يفشل في الوصول إلى أهدافه بالطرق المشروعة‬
‫وفي نفس الوقت ال يستطيع أن يلجأ إلى أهدافه بالطرق غير المشروعة ‪ ،‬يحدث هذا في الطبقة المنبوذة‬
‫اجتماعيا ‪ ،‬المتشردون ‪ ،‬المنبوذون ‪ ،‬المتسولون ‪ ،‬مدمنو المخدرات ‪ ،‬هذا النوع من الفئات ال يرتكبون‬
‫الجرائم ‪.‬‬
‫‪ -5‬التمرد ‪ :‬رفض األهداف والوسائل ومحاولة إقامة نظام اجتماعي جديد مغاير ‪ ،‬هم الثوار ‪ ،‬هذه الفئة‬
‫حسب ميرتون ترتكب الجرائم في سبيل الوصول إلى االهداف ‪.‬‬
‫االنتقادات الموجهة لنظرية ميرتون ‪:‬‬
‫نظرية ذات طابع نظري محض ‪ ،‬ولم تعتمد على تجارب وأبحاث علمية للتأكد من صحة فرضياته وهو‬
‫يضع ‪ 5‬فرضيات لنظريته لكنه لم يقم أبدا بأي تجربة علمية أو بحث علمي للتأكد من صحتها ‪ ،‬رغم أن‬
‫زمن النظريات الفكرية قد انتهي مع عهد المبروزو وكل نظرية ال تعتمد على أبحاث علمية وتجارب‬
‫للتأكد من صحتها تبقى مجرد نظرية ال مكان لها من الصحة ‪.‬‬

‫التحليل االقتصادي‬
‫رائدها ماركس و إنجل ‪ ،‬عرفت اتجاها جديدا لشرح االجرام الذي أصبح مرتبطا بالعالم االقتصادي ‪،‬‬
‫فتبعا للنظرية االشتراكية فإن الواقع االقتصادي والمادي هو الذي يحدد افكار االنسان وبالتالي ميوالته‬
‫االجتماعية والثقافية ‪ ،‬وبعبارة ادق فالنظام الرأسمالي هو السبب في انتشار الجريمة ‪ ،‬ويفترض أن‬
‫المجتمع االشتراكي تنعدم فيه الجريمة ‪.‬‬
‫سوف نقوم بتحليل السلوك االجرامي انطالقا من تحليل أو مقارنة نظامين اقتصاديين أو سياسيين هما‬
‫النظام االشتراكي والرأسمالي ‪ ،‬و ربط الظاهرة االجرامية بمختلف األوضاع االقتصادية و اعطاء‬

‫‪25‬‬
‫الجريمة تفسيرا اقتصاديا ‪ ،‬هذا التصور تطور على يد كارل ماركس و فريدريك على اثر اعالن البيان‬
‫الشيوعي الصادر سنة ‪. 1041‬‬

‫النظرية االشتراكية حاولت اعطاء تفسير للظاهرة االجرامية من خالل ربط السلوك االجرامي‬
‫يميكانزمات الرأس مال واهمها الملكية الخاصة والمنافسة الحرة و العرض والطلب ‪ ،‬مبدأ الحتمية‬
‫االقتصادية يخلق الجريمة ‪ ،‬بل هو العنصر الوحيد الذي يخلق الجريمة حسب نظر االشتراكيين ‪،‬‬
‫والنظام الرأسمالي هو الشيطان الوحيد في هذا العالم وهو منبع كل الشرور بما فيه الجريمة ‪ ،‬ففي نظر‬
‫ماركس الملكية الفكرية والمنافسة الحرة و العرض والطلب وتقسيم المجتمع الى طبقة عاملة فقيرة تزداد‬
‫فقرا وطبقة غنية تزداد غنى و تتحكم في االقتصاد ‪.‬‬
‫يقول كارل ماركس إن الجريمة تتولد من زاوتين ‪:‬‬
‫الزاوية االولى ‪ :‬رغبة الطبقة الرأسمالية في تحقيق اقصى ربح يدفعها الى ارتكاب جرائم من قبيل‬
‫الرشوة والتهرب الضريبي والجمركي و تهريب االموال والغش وعدم الحرص على حماية المستهلك ‪،‬‬
‫فم ن أجل تحقيق الربح يتم التعسف على جميع القوانين بصفة عامة والقانون الجنائي بصفة خاصة‬
‫فيصير القانون في خدمتهم ‪ ،‬ألن رجال األعمال يتدخلون في صياغة القوانين وتشريعها مثال قانون‬
‫حماية المستهلك في المغرب ظل ‪ 12‬سنة ال تستطيع الدولة تمريره لوجود صعوبات تتمثل في ضغط‬
‫رجال االعمال على المشرع كي ال يتم تفعيل هذا القانون ‪ ،‬كما أن القانون يتعامل بانتقائية كبيرة فرجل‬
‫األعمال الذي يرتكب جريمة يحكم عليه بعقوبة بسيطة بينما الفقير يحكم عليه بعقوبات مشددة ‪ ،‬فليست‬
‫هناك معاملة بالمثل ‪ ،‬لذلك يقال من يملك المال يملك القانون ‪.‬‬
‫الزاوية الثانية ‪ :‬اقدام الطبقة الكادحة على ارتكاب الجرائم للحصول على المال وقضاء حوائجهم‬
‫اليومية من أجل العيش وأحيانا انتقاما من الطبقة الغنية االستغاللية ‪ ،‬فالشعور بالحرمان واالقصاء وعدم‬
‫تكافؤ الفرص كلها تدفع الى ارتكاب الجريمة ‪.‬‬
‫تقييم هذه النظرية‬
‫ال أحد ينكر أن هذه النظرية المست زوايا حقيقية وأن الظروف االقتصادية تؤثر بشكل واضح على‬
‫االفراد وتدفعهم الى ارتكاب الجريمة من حيث الكيف والكم وأن انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إلى‬
‫مجتمع صناعي ساهم أيضا في انتقال الجريمة من جريمة تعتمد على القوة العضلية إلى جريمة تعتمد‬
‫على الذكاء و الحيل ‪ ،‬كجرائم الشركات والبورصة والتهرب الضريبي والتزوير والجرائم االلكترونية ‪،‬‬
‫هذه الجرائم تبقى غير قابلة للبروز وهي جرائم اقتصادية جرائم اقتصادية لكنها تدخل ايضا في المجال‬
‫السياسي والقوانين دائما ما تقوم بحماية أصحاب هذه الجرائم ‪.‬‬
‫يعاب على هذه النظرية أن العامل االقتصادي ال يصلح وحده لتفسير الجريمة ولو اصاب جزءا من‬
‫الحقيقة ولو كان العامل االقتصادي وحده الذي خلق الجريمة لما أجرم الناس في المجتمعات االشتراكية‬
‫وظلت الجريمة قاصرة على المجتمعات الراسمالية ‪ ،‬بالمقابل هناك الكثير من الناس في مجتمعات‬
‫راسمالية وال يرتكبون الجرائم رغم ظروفهم االقتصادية الصعبة ‪ ،‬لذلك يمكن القول أن نظرية ماركس‬
‫هي نظرية خاطئة ألنها اقتصرت على العامل االقتصادي وحده في تفسير الظاهرة االجرامية ‪،‬‬
‫خصوصا أن ليس كل الجرائم دافعها اقتصادي ‪ ،‬فجرائم االغتصاب والقتل واالعتداء والجرائم االخالقية‬
‫ال يلعب فيها االقتصاد أي دور ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫النظرية البيئية ‪:‬‬

‫هذه النظرية تقوم على ربط الجريمة بالبيئة المحيطة باالنسان فقد قام بيير شو بدراسة على وسط مدينة‬
‫شيكاغو والحظ أن الجريمة تقل كلما ابتعدنا عن وسط المدينة ‪ ،‬والحظ أن أعلى معدالت الجريمة‬
‫تحدث في االماكن المكتظة بالناس والواقعة بالقرب من مراكز االعمال والمفككة اجتماعيا ‪ ،‬شيكاغو‬
‫كانت مدينة اقتصادية وكان الكثير يهاجر إليها من أجل العمل فجمعت العديد من المهاجرين من شتى‬
‫المناطق ‪ ،‬فحدث اختالل اجتماعي ‪ ،‬واختالف ثقافي و عرقي مما أحدث تفككا اجتماعيا ‪ ،‬هذا الخليط‬
‫غير المتجانس نتج عنه صراعات اجتماعية ‪ ،‬كما الحظ أن معدل الجريمة يرتفع في االماكن المهجورة‬
‫التي هجرها سكانها االصليون وحل محلهم سكان هامشيون مثل االفارقة األمر الذي يدفع للجريمة ‪.‬‬
‫تقييم هذه النظرية ‪:‬‬

‫اعتمد شو في دراسته على منهج علمي وهو االسلوب االحصائي و ركز على المناطق التي يكثر فيها‬
‫الناس واالعمال الجريمة قد تحدث حتى في االماكن التي يعيش سكانها في رغد من العيش ‪ ،‬لذلك قال‬
‫بعض المفكرون أنه يجب إخراج الطبقات الفقيرة و المهاجرة من المدن الكبرى لمناطق هامشية بعيدا‬
‫عن مراكز المال واالعمال حتى ال تحدث الجريمة ‪ ،‬مثال ذلك االحياء التي يسكنها االفارقة في طنجة ‪،‬‬
‫لكن يبقى طلبا غريبا من علماء القانون الجنائي وال يمكن أن تستجيب له السياسة الجنائية ‪ ،‬ثم أن شو‬
‫قال بأن الجريمة تحدث في مراكز المال واالعمال والمراكز التجارية الكبرى وكلما ابتعدنا عنها قلت‬
‫الجريمة ‪ ،‬لكن هل هذا صحيح ؟ فربما يكون نشاط الشرطة في هذه المدن كثيفا أكثر من المدن الهامشية‬
‫فتظهر الجرائم وتضع الشرطة يدها عليها بينما يتعذر ذلك في المدن الصغرى وال تصل إلى يد الشرطة‬
‫يعاب أيضا على هذه النظرية أنها لم تعط تفسيرا متكامال لكل أنماط الجرائم وإنما اقتصرت على نمط‬
‫إجرامي معين ‪.‬‬
‫النظرية العرقية ‪:‬‬

‫سيلين هو عالم أمريكي ‪ ،‬وعموما جميع علماء التركيب االجتماعي هم أمريكيون ‪ ،‬درسوا الجريمة‬
‫انطالقا من المجتمع األمريكي الذي يعتبر خليطا من العديد من الثقافات ‪ ،‬لذلك فتفسير الجريمة في‬
‫المجتمع األمريكي يختلف عن التفسير في المجتمع االوروبي أو المغربي ‪.‬‬
‫النظرة العرقية حاولت ربط السلوك االجرامي بالجنس والعرق واللون ‪ ،‬وحاولت إقناعنا بأن بعض‬
‫االعراق أقرب الى الجريمة من األعراق األخرى ‪ ،‬فالسود مثال ترتفع لديهم معدالت الجريمة وبالمقابل‬
‫يقل مستوى الجريمة في الصين واليابان وفسروا ذلك أن هذه المجتمعات تتميز بنظام متماسك وأخالق‬
‫وتركيبة اجتماعية محصنة قوية ومتماسكة في المقابل هناك هشاشة في التركيبة االجتماعية لدى طائفة‬
‫السود ‪.‬‬
‫انتقادات لهذه النظرية ‪:‬‬

‫في العصر الحديث ال يمكن لعنصر معين أن يكون السبب في الجريمة ‪ ،‬ويمكن اعتبار هذه النظرية‬
‫قاصرة واقتصرت على الزنوج وال يمكن تعميم النتيجة ‪ ،‬فاالنسان االبيض ايضا يرتكب الجرائم ويمكن‬
‫القول أنها نظرية عنصرية أغفلت جانبا مهما وهو أن نظام العدالة الجنائية في الواليات المتحدة يشجع‬
‫السود على ارتكاب الجرائم حيث يعانون الفقر والبطالة والتفكك االجتماعي والعنصرية كما أن ظروفهم‬
‫االقتصادية صعبة ويعانون من الحيف في تطبيق العقوبة الجنائية فالرجل األبيض تبقى له امتيازات‬
‫جنائية ‪ ،‬ثم أن نشاط الشرطة يزداد في مناطق السود أكثر من مناطق البيض والقضاة دائما يكونون من‬
‫‪27‬‬
‫السكان البيض مما يجعل احتمالية التعسف في الحكم قائمة ‪ ،‬فعندما يكون االبيض مجرما يتم التعامل‬
‫معه بمحاباة بينما يتم توقيع أقسى العقوبات على المجرم االسود ‪.‬‬
‫نظريات التركيب االجتماعي على الرغم من أهميتها تبقى دراستها منطلقة من تركيبة ونظام المجتمع‬
‫بعيدا عن التفسيرات البيولوجية والنفسية ‪ ،‬ومع ذلك تبقى قاصرة عن اعطاء تفسير موحد للظاهرة‬
‫االجرامية ‪ ،‬فليس هناك تالزم بين الجريمة والمعيشة في ظل تركيبة اجتماعية معينة ‪ ،‬بمعنى أن‬
‫نظريات التركيب االجتماعي قد فشلت فشال ذريعا في االجابة عن السؤال الجوهري واالساسي " لماذا‬
‫يرتكب االنسان الجريمة في نظام اجتماعي معين دون آخر ‪.‬‬
‫نظرية الكيفية االجتماعية ‪:‬‬

‫هذه النظرية تبحث في الطريقة التي تصير بها االنسان مجرما ‪ ،‬وهي تنقسم إلى العديد من النظريات‬
‫سنقف فقط عند نظرتين االولى نظرية التقليد عند كابرييل طارد والثانية نظرية االختالط الفارق لــ‬
‫ساندرالند ‪.‬‬
‫نظرية التقليد عند كبلاير طارد ‪:‬‬

‫كبلاير طارد هو قاض وعالم اجتماع فرنسي وهو أستاذ لعلم االجتماع ‪ ،‬عاش ما بين ‪، 1024-1114‬‬
‫الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها نظريته هي أن الجريمة ليست سلوكا موروثا وإنما هي سلوك مكتسب‬
‫وأن االنسان ال يولد مجرما وإنما يكتسب السلوك االجرامي ‪ ،‬وهو ما يشكل نقيضا لنظرية المبروزو‬
‫واالتجاه البيولوجي عموما ‪ ،‬فهو يقول اي كبلاير كارل أن االنسان يندفع إلى ارتكاب الجريمة تحت‬
‫تأثير عوامل اجتماعية أهمها التقليد ‪ ،‬حيث يتم تقليد المجرمين في سلوكاتهم ‪ ،‬هذه النظرية قد تكون‬
‫أجابت عن جانب من الحقيقة ألن هناك بعض االشخاص في المجتمع ارتكبوا جرائم ألنهم تمثلوا نموذجا‬
‫اجتماعيا سيئا ‪ ،‬لكن ما يعاب على هذه النظرية أنها أحادية الجانب ‪ ،‬فهي ال تستطيع أن تفسر لنا كل‬
‫أنماط الجريمة ‪ ،‬ثم إغفالها للعوامل النفسية والبيولوجية والعقلية التي تدفع االنسان نحو السلوك‬
‫االجرامي ‪.‬‬
‫كابرييل طارد هو النقيض لدوركهايم في مدرسة المحيط االجتماعي حين يتعلق األمر بشرح أسباب‬
‫الظاهرة االجرامية ‪ ،‬فهو يختلف معه في االصل وفي التكوين وفي الفلسفة ‪.‬‬
‫ألف كتبا أهمها االجرام المقارن و الفلسفة العقابية و قوانين التقليد و دراسات جنائية واجتماعية ‪ ،‬ويبقى‬
‫كتابه الفلسفة العقابية متميزا نظرا ألهميته المنهجية حيث عمد فيه طارد إلى التصدي لمزاعم المدرسة‬
‫الوضعية خاصة العضوية وفند حججها بالدليل والتحليل العلمي ‪ ،‬هكذا صفى حساباته مع المدرسة‬
‫العضوية علميا ومنهجيا ثم هيأ االرض لنشر افكاره العلمية حول الجريمة بعيدا عن فكرة المجرم‬
‫بالوالدة ‪.‬‬
‫يتوقف طارد عند المحيط االجتماعي ويعتبره سببا مهما في تحديد سلوك المجرم ‪ ،‬ويلفت االنتباه إلى أن‬
‫أغلب المجرمين عاشوا بطفولة تعسة وعانوا من الحرمان العاطفي ورقابة االسرة مما جعلهم يلجأون‬
‫لالجرام من أجل العيش ‪ ،‬كما أن المدنية تجعل الجريمة تعتمد أكثر على الدهاء والغدر والخبث ‪،‬‬
‫ويعطي طارد وصفا دقيقا للمجرم فيقول عنه بأنه شخص عود نفسه منذ صغره على الكراهية والحقد‬
‫والحسد وأغلق على نفسه باب الرحمة والعطف ‪ ،‬كما أنه تمرس على تقبل الصدمات وتخزينها وتحمل‬
‫الشدائد والصعاب ومختلف أشكال المعاناة ‪ ،‬حتى تبلد الحس والشفقة لديه مما أفقده كل مشاعر الرحمة‬
‫نحو االخرين وكنتيجة لهذا التكوين النفسي االجتماعي ينمو هذا الفرد متحفزا الرتكاب الجريمة‬
‫‪28‬‬
‫والشرور والعنف ويكون محظوظا إلى لم يرتكب جريمة قتل في حياته ‪ ،‬هكذا يقول طارد بأن احتراف‬
‫الجريمة يتطلب تدريبا مثلها مثل أي حرفة من الحرف مع فارق بسيط هو ان المجرم يتربى في بيئة‬
‫إجرامية تساعد على انخراطه في عالم الجريمة ‪.‬‬
‫ويالحظ أن طارد بقي متشبثا بقانونه االخالقي الذي ربطه بالجريمة واعتبر أن مستوى االجرام هو‬
‫المؤشر الحقيقي لألخالق في مجتمع معين وهذا التالزم بين االخالق والجريمة يعكس اعتقاده الراسخ أن‬
‫دائرة االخالق ودائرة القانون هما متماسكتان ال تقوم الواحدة دون االخرى ‪.‬‬
‫وقد اعتمد طارد على فكرة التقليد وجعل لها قوانين تحكمها لتشرح ميكانيزمات الجريمة ‪ ،‬وهذه‬
‫المقومات تنبع من مقومات علم النفس االجتماعي الذي يكشف عن استعداد االفراد للمحاكاة وتقليد‬
‫بع ضهم بعضا في السلوك االجرامي ‪ ،‬هكذا يرى طارد أن قانون التقليد مسؤول عن انتاج مجرمين ‪،‬‬
‫هذا القانون يتكون من ‪ 1‬قواعد ‪ ،‬االولى تقتضي أن التقليد يذهب من الداخل للخارج أي أن الطفل يقلد‬
‫االنسان القريب أسبق من تقليده لالنسان البعيد فالطفل يقلد االقربين ويصبح مجرما ‪ ،‬القاعدة الثاني فتفيد‬
‫أن التقليد يأخذ طريقه من القوي إلى الضعيف أي أن االفراد ذوو المكانة المرموقة يؤثرون في أصحاب‬
‫المكانة االجتماعية العادية فيقلد المجرم رؤساءه في العصابة ‪ ،‬أما القاعدة الثالثة فترتكز على وجود‬
‫موضات داخل فكرة التقليد نفسها بالضبط كما يوجد موضة في المالبس ‪ ،‬فالموضة الجديدة تطرد‬
‫الموضة القديمة وتأخذ مكانها فاالجرام يتطور ويفرض نفسه على المجرم بالوسائل الجديدة كخطف‬
‫الطائرات ‪.‬‬

‫نظرية االختالط الفارق لـ ساندرالند ‪ :‬هو عالم اجتماع أمريكي واستاذ بالجامعة األمريكية ‪ ،‬صاغ‬
‫نظريته سنة ‪ ، 1010‬وأكملها فيما بعد سنة ‪ 1052‬دونالد كريستي ‪ ،‬حيث قالت النظرية بأن الشخص‬
‫ال يولد مجرما وإنما يكتسب االجرام ‪ ،‬فالسلوك االجرامي سلوك مكتسب وليس موروثا ‪ ،‬وهو يتم عن‬
‫طريق التدرب والتعلم فهي صنعة يتم احترافها بعد تعلمها ‪ ،‬فالجريمة ال تقع بصفة تلقائية اعتباطية‬
‫وإنما هي م كتسبة بعد االختالط بمجتمع الفاسدين واالحتكاك بالمجرمين والتعلم منهم والتدرب على يدهم‬
‫واقتباس سلوكاتهم االجرامية ‪ ،‬والفرد يصبح مجرما بعد أن يتغلب لديه التفسير المخالف للقانون على‬
‫التفسير المطابق للقانون ‪ ،‬و حينما يختلط مع جماعة تحرص على احترام القانون تقوى لدى هذا‬
‫الشخص المناعة‬
‫وعندما يختلط الشخص مع نماذج المجرمين واالشرار في المجتمع فسلوك الجريمة ينتقل إليه بالتعلم‬
‫والتدرب شيئا فشيئا وهو ما سماه ساندرالند باالختالط الفارق ‪ ،‬ألن هناك فرقا بين من يختلط مع‬
‫جماعة الفاسدين وبين من يختلط مع جماعة الصالحين ‪ ،‬حيث تقوى مناعته ضد الجريمة ‪ ،‬ويتعلم‬
‫االخالق واالنضباط‬
‫صاغ ساندرالند نظريته الجديدة ثم أضاف إليها صنفا جديدا من الجرائم سماها جرائم أصحاب الياقات‬
‫البيضاء ‪ ،‬ح يث يتبوؤون مراكز اجتماعية راقية كالوزراء والمسؤولين والبرلمانيين وقد الحظ أن علم‬
‫االجرام يركز دائما على الطبقة الضعيفة وال يتطرق لجرائم هؤالء النخبة وربما كانت جرائمهم أكثر‬
‫تأثيرا من جرائم سرقة قطعة خبز ‪ ،‬فالجرائم الوزراء والبرلمانيين تعتبر ذات تأثير قوي على المجتمع‬
‫و يتأثر بها آالف الناس أو ربما ماليين ‪ ،‬لذلك يرى ساندرالند أن جرائم أصحاب الياقات البيضاء أخطر‬
‫من جرائم المجرمين البسطاء ‪ ،‬وقال أن إجرام أصحاب الياقات البيضاء هو إجرام خفي مستتر ال يظهر‬
‫وال يثير اضطرابا اجتماعيا كجريمة القتل في الشارع مثال ‪ ،‬واستحالة االحالة أو البروز ‪ ،‬وقال أن‬
‫‪29‬‬
‫أصحاب الياقات البيضاء يتصرفون و كأنهم فوق القانون وغير ملزمين به وال يطبق عليهم ‪ ،‬وأنهم‬
‫جديرون باالحترام بخالف المجرم البسيط الذي يحس أنه تحت مظلة القانون ‪ ،‬كما أن مجرمي الياقات‬
‫البيضاء يبحثون عن الثغرات وربما هم من يصنعونها عند التشريع خدمة لمصالحهم الشخصية ‪ ،‬حيث‬
‫أن مكانتهم تسمح لهم بالتدخل في القرار السياسي أو التشريعي وسن القوانين ويملكون زمام السلطة‬
‫التشريعية وقد قيل " من يملك االقتصاد يملك القانون " حتى القانون الجنائي جاء ليحمي مصالحهم ‪ ،‬أما‬
‫جرائمهم فترتكب غالبا بعيدا عن أعين الناس في مكاتب مغلقة و تحت الكواليس و يصعب إحالتها إلى‬
‫أجهزة العدالة بل وربما كانت أجهزة العدالة متواطئة معهم شأنها في ذلك شأن باقي أجهزة الدولة التي‬
‫يتحكمون فيها وفي أجهزتها السياسية والتشريعية ‪.‬‬
‫قال ساندرالند إن االتجاه البيولوجي والنفسي عجز عن تفسير هذا النوع من اإلجرام فأصحاب الياقات‬
‫البيضاء ليست لديهم عيوب خلقية بل تجدهم في أحسن صحة و رغد عيش ويتمتعون بلباقة و حسن‬
‫مظهر وال تظهر عليهم اي عيوب خلقية عضوية ‪ ،‬والغاية من جرائمهم ليست بسبب العيوب العضوية‬
‫أو النفسية بل بسبب الطمع في الربح والثراء الفاحش فهم يرتكبون جرائمهم من أجل الحفاظ على‬
‫السلطة التي بدورها تخول لهم الحفاظ على مصالحهم االقتصادية و تعطيهم فرصة للتهرب الضريبي‬
‫واستغالل السلطة من أجل تمرير القوانين التي تخدم القطاعات االقتصادية التي ينشطون فيها ‪ ،‬فكل‬
‫همهم هو الحفاظ على مراكزهم و مناصبهم و تحقيق أكبر قدر من الربح ‪.‬‬
‫يعتبر سوزرالند أول من حاول تمثيل المدرسة االمريكية لعلم االجرام ‪ ،‬وهو يرى أن السلوك االجرامي‬
‫ال يعود فقط للعوامل االجتماعية أو النفسية أو الفقر بل حتى االغنياء يسرقون ويقتلون فالسلوك‬
‫االجرامي يتعلمه االغنياء والفقراء على حد سواء ‪ ،‬بطريقة واحدة وبعمليات متشابهة ‪ ،‬وقد حاول أن‬
‫يجد النظرية العامة اعتمادا على الدراسات المنطقية وآليات التوجه نحو االنحراف واالنخراط فيه ‪،‬‬
‫وتقوم نظرية االختالط الفارق التي توصل إليها على محاولة شرح السلوك االجرامي المتعلق أو الملقن‬
‫أو المكتسب الذي يظهر نتيجة صراع بين معايير الثقافات المختلفة التي تكون منها المجتمع االمريكي ‪،‬‬
‫هذا السلوك المنحرف يظهر حينما تطغى المعايير الجانحة في جماعة على المعايير المتكيفة التي تحكم‬
‫المجتمع الكلي ‪ ،‬و مراحل هذه العملية ضمنها سوزرالند في كتابه مبادئ في علم االجرام وهي ‪:‬‬

‫السلوك الجانح مكتسب يلقن ويتعلم وليس وراثيا‬ ‫‪-1‬‬


‫السلوك الجانح مكتسب عن طريق التواصل واالحتكاك باالخرين وهو لفظي وشخصي ويمكن‬ ‫‪-1‬‬
‫أن يكون بالمثال والقدوة ‪.‬‬
‫يتعلم السلوك الجانح في جماعة محصورة تتميز بالعالقات المباشرة والشخصية أما وسائل‬ ‫‪-1‬‬
‫االعالم فال تساهم إال بدور ثانوي ‪.‬‬
‫يشمل التدريب على االنحراف تعلم تقنيات ارتكاب الجنح وتوجيه الدوافع نحو االنحراف‬ ‫‪-4‬‬
‫انتقادات لهذه النظرية ‪:‬‬

‫أول انتقاد لهذه النظرية هو عجزها عن تفسير السلوك االجرامي للطبقة العليا الذين ال يخالطون‬
‫المجرمين ‪ ،‬ثم عجزها عن كشف حقيقة الجرائم التي تحدث جراء االنفعال أو مرحلة الطفولة اي قبل أن‬
‫يخالط االنسان من هو أكبر منه ليتعلم منه ‪ ،‬ألنه قال أن االختالط الفارق هو السبب في ارتكاب الجرائم‬
‫وإذا كان االختالط الفارق هو السبب في تعليم السلوك االجرامي فكيف نفسر سلوك المجرم األول فمن‬
‫علمه فن ارتكاب الجريمة ؟ ولماذا بعض الناس رغم اختالطهم بالمجرمين ال يقدمون على ارتكاب‬
‫الجريمة ‪ ،‬والعكس صحيح فبعض الناس يتربون في بيئة سليمة ويعاشرون الصالحين ومع ذلك قد‬

‫‪30‬‬
‫يرتكبون الجرائم ‪ ،‬ولماذا ال يصبح المسؤولون عن إدارة السجون وعائالت المجرمين مجرمين أيضا‬
‫فهم أكثر احتكاكا بالمجرمين ؟ والقول إن الجرائم ُتتعلم منطق غير سليم فجرائم القتل والسرقة‬
‫واالغتصاب ال تحتاج أي تعليم ‪ ،‬يمكن القول أن هذه النظرية غير قادرة على اعطاء تفسير شامل‬
‫للظاهرة االجرامية ‪.‬‬
‫اتضح لنا من خالل دراسة االتجاه االجتماعي بنظرياته المتعددة أنه يربط الظاهرة االجرامية بعامل‬
‫واحد بعينه فكل نظرية ركزت اهتمامها على عامل واحد وأغفلت باقي العوامل فكانت نظريات أحادية‬
‫النظرة أهملت العوامل االخرى وكانت تعطي تفسيرا جزئيا لنمط معين من الجرائم ‪ ،‬لكن كلهم اتفقوا‬
‫على الحتمية االجرامية ‪ ،‬هذه العوامل ساعدت في نشوء اتجاه جديد هو االتجاه التكاملي في تفسير‬
‫الظاهرة االجرامية ‪ ،‬من أجل الخروج من مأزق أن كل اتجاه ينظر إلى السلوك االجرامي من زاويته‬
‫األحادية فعالم االجتماع ينظر للجريمة من منظور المجتمع ‪ ،‬واالقتصادي ينظر للجريمة من زاوية‬
‫االقتصاد ‪ ،‬والطبيب ينظر للجريمة من زاوية العيوب البيولوجية وعالم النفس ينظر إليها من جانب‬
‫النفسية ‪ ،‬كل عامل من هؤالء ينظر للجريمة من زاويته ويغفل العوامل االخرى ‪.‬‬

‫االتجاه التكاملي ‪:‬‬


‫سنركز في هذا االتجاه على نظريتين ‪ ،‬نظرية فيري ثم نظرية دي توليو ‪.‬‬
‫نظرية العوامل المتعددة عند فيري ‪:‬‬
‫فيري عالم اجتماع وأستاذ للقانون الجنائي وأحد رواد المدرسة الوضعية ‪ ،‬كان طالبا لدى المبروزو‬
‫لكنه انتقد مبالغته في إظهار العوامل البيولوجية الجسدية العضوية ‪ ،‬نظريته تقول أن الجريمة هي ثمرة‬
‫حتمية نتيجة تفاعل ثالثة عوامل ‪:‬‬

‫‪ -1‬عوامل أنطربولوجية ‪ :‬هي المتعلقة بالجوانب البيولوجية والنفسية أو تلك المتعلقة بالشخصية‬
‫كالمهنة والحالة العائلية ‪.‬‬
‫‪ -1‬عوامل طبيعية ‪ :‬كالجغرافيا و نوع التربة و حرارة الجو ‪ ،‬فجرائم العنف تقع في المناطق الحارة‬
‫بينما جرائم السرقة تقع في المناطق الباردة ‪.‬‬
‫‪ -1‬عوامل اجتماعية ‪ :‬المحيط ‪ ،‬البيئة االجتماعية ‪ ،‬تركيبة السكان ‪ ،‬المعتقدات الدينية ‪ ،‬االنتاج‬
‫الصناعي ‪ ،‬مستوى التعليم ‪ ،‬النظام االقتصادي والسياسي ‪.‬‬
‫هذه العوامل إذا ما تفاعلت أي العوامل الطبيعية والجغرافية و االجتماعية نتج عنها عدد معين من‬
‫الجرائم ال يزيد وال ينقص ‪ ،‬وفي بعض االحيان يقع حدث عارض كالحروب أو الزالزل أو الثورة‬
‫السياسية فتزيد فرص الجرائم ويرتفع معدل الجريمة عن حجمه الطبيعي وحالما تزول هذه العوارض‬
‫تعود الجريمة إلى معدالتها الطبيعية ‪.‬‬
‫أول ما يحسب لنظريته هو نظرتها الشمولية في تفسير السلوك االجرامي ‪ ،‬لذلك كانت ضمن االتجاه‬
‫التكاملي ‪ ،‬عكس النظريات اال حادية التي رأيناها ‪ ،‬ولعل ما ميزها بكونها نظرة تكاملية هو أنها تتفاعل‬
‫وتتكامل فيها العديد من العوامل المتنوعة والمختلفة ‪ .‬هذا االتجاه جاء بتحول جذري في السياسة الجنائية‬
‫المعاصرة لمواجهة الظاهرة االجرامية ‪ ،‬حيث يجب االعتماد على سياسة وقائية اجتماعية ثقافية‬
‫اقتصادية لمحاربة الجريمة ‪ ،‬ففي طريق مظلم ترتفع نسبة الجريمة وعوض زيادة عدد الشرطة لم ال‬
‫‪31‬‬
‫نفكر في إضاءة هذه الطريق عوض أن تبقى مظلمة فتقل نسبة الجريمة فيها ‪ ،‬و نعالج المشكل من‬
‫جذوره ‪ ،‬وكأن فيري يتسائل من يصنع الجريمة ؟ هل هي وزارة العدل ؟ الداخلية ؟ أم هي مسؤولية‬
‫باقي السياسات العمومية ؟ ثم يقول إن الجريمة هي مسؤولية المجتمع بأسره ‪ ،‬وكل السياسات العمومية‬
‫في كل القطاعات كالتعليم والصحة و التشغيل هي مسؤولة عن ارتكاب الجريمة ‪ ،‬حسن تتقاعس عن‬
‫أداء وظيفتها ‪ ،‬كل ذلك ينعكس على معدالت الجريمة بشكل مباشر ‪ ،‬يقول فيري إن الحل ليس في‬
‫القانون الجنائي وفي الزجر بل في اعتماد سياسات وقائية تمس كل القطاعات العمومية في الدولة من‬
‫أجل مواجهة الجريمة ‪.‬‬
‫فطن فيري إلى تركيبية السلوك االجرامي فخالف أستاذه لومبروزو في فكرته باالنحطاط الوراثي‬
‫والعامل العضوي فذهب فيري إلى االعتماد على نظريات لم تكن موجودة في عهد لومبروزو ‪ ،‬ومن‬
‫هذا المنطلق المعتمد على تظافر الكثير من النظريات حاول فيري أن يقيم أسس نظريته السوسيولوجية‬
‫في الجريمة في كتابه " علم االجتماع الجنائي " الذي شرح فيه أن الجرائم ترتكب إما بواسطة التكوين‬
‫الفردي لإلنسان وإما بتأثير من العوامل الخارجية سواء انت اجتماعية أو طبيعية ‪ ،‬وقد ذكر من بين‬
‫العوامل توزيع االراضي والمناخ واختالف العقول وما يتبع ذلك من اختالف في عدد السكان والهجرة‬
‫والتقاليد االجتماعية والدينية ومستوى التعليم والصحة وطبيعة كيان المجتمع العائلي والسياسي‬
‫واالقتصادي ‪ ،‬هكذا لم يقتصر فيري على شخص المجرم كما فعل لومبوروزو ‪.‬‬
‫خلص فيري من خالل دراسته إلى ظاهرة التشبع االجرامي بمعنى أن بيئة اجتماعية في ظروف صحية‬
‫معينة ال تحتمل أكثر من درجة معينة من االجرام وأن نسبة االجرام ترتفع حتى تصل إلى درجة‬
‫معلومة ال يمكن أن تتعداها ‪ ،‬وقال بضرورة الوصول إلى درجة التشبع االجرامي باقل خسارة وأسرع‬
‫ما يمكن معلال ذلك بالطريق المظلم الذي يساعد على الجريمة بينما لو كان هناك مصباح يستبعد وقوع‬
‫الجريمة هناك ‪ ،‬وهي حيلة أكثر ذكاء من إنشاء سجن كبير ‪ ،‬والهدف هو الحماية أفضل من العالج ‪،‬‬
‫وتحسين مستوى المعيشة أجدى من السجن وأفضل من المشنقة ‪ ،‬و يرى فيري أن التشبع االجرامي هو‬
‫وليد العوامل الطبيعية التي تقوم الحياة االجتماعية عليها ‪ ،‬ونسبة الجريمة تتأثر بهذه العناصر الطبيعية‬
‫سلبا أو إيجابا ‪ ،‬واشار فيري أن درجة التشبع االجرامي يمكن تجاوزها في حالة الحروب أو الكوارث‬
‫أو الفوضى االجتماعية وعبر عنه بقانون ما فوق التشبع االجرامي ‪ ،‬هكذا حاول فيري ن يعطي شرحا‬
‫علميا وافيا للجريمة وأن يربطها بجذورها االجتماعية ويكون بذلك قد أسس للمدرسة السوسيولوجية في‬
‫علم االجرام التي عرفت صيتا ذائعا ‪ ،‬هكذا يكون لومبروزو قد أسس لالنطروبولوجية الجنائية بينما‬
‫تكلف فيري بإنشاء اسس علم االجتماع الجنائي ‪.‬‬
‫انتقادات نظرية فيري ‪:‬‬

‫ما يعاب على نظريته هو تبنيه فكرة الحتمية االجرامية باعتبارها فكرة ثقيلة على علم االجرام ال تتفق‬
‫مع كون علم االجرام من العلوم االنسانية التي تتميز بالنسبية وليس من العلوم التطبيقية الطبيعية‬
‫القطعية ‪ .‬كما أن النظرية التكاملية لـ فيري تشوه صورة البحث العلمي ألن منطق هذه النظرية يلزم‬
‫الباحث في علم االجرام على القيام بإعداد االسباب والعوامل والمقدمات التي تدفع إلى السلوك االجرامي‬
‫دون أن تعطي لنا العامل الحاسم الفعال الرئيسي لالندفاع نحو السلوك االجرامي ‪ ،‬فيري قال أن السلوك‬
‫االجرامي سببه خليط من العوامل النفسية والبيولوجية و االجتماعية واالقتصادية والطبيعية دون تحديد‬
‫السبب الحاسم ‪ ،‬فيجب أن نعطي السبب الحقيقي بما أنه علم وبحث علمي أما أن نقول انها مجموعة‬
‫عوامل فهو أمر يشوه صورة البحث العلمي ويعتبر مجرد تجميع للعلوم االخرى ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫نظرية االستعداد اإلجرامي عند دي توليو ‪:‬‬

‫هو طبيب ايطالي ‪ ،‬صاغ نظريته في مؤلفه المشهور األنطربولوجية الجنائية ‪ ،‬أي علم طبائع المجرم‬
‫سنة ‪ ، 1854‬عرفت هذه النظرية بنظرية االستعداد االجرامي ‪ ،‬وتعتبر من أشهر النظريات التكاملية‬
‫في تفسير الظاهرة االجرامية ‪ ،‬حيث قال أن كل الناس لديهم غرائز طبيعية اساسية فطرية كحب البقاء‬
‫و حب التملك وحب المال و الجنس ‪ ،‬سماها العوامل الدافعة للجريمة فالغرائز الجنسية تؤدي إلى‬
‫جرائم االغتصاب مثال والزنى و غريزة التملك تؤدي إلى جرائم السرقة وغريزة البقاء تؤدي الى جرائم‬
‫القتل ‪ ،‬فأي غريزة معينة هي سبب الرتكاب جريمة معينة هذه الغرائز تتهذب بفضل عناصر مكتسبة‬
‫منذ الطفولة عن طريق التعليم والثقافة واكتساب القيم االخالقية والعقائد الدينية فيؤدي ذلك الى نشوء‬
‫غرائز اساسية ثانوية ثانية سماها دي توليو العوامل المانعة من الجريمة أو القوى المانعة من الجريمة ‪.‬‬
‫فأنت ايها االنسان لديك غرائز أي عوامل دافعة لالجرام لكن تلك الغرائز بفضل التربية والثقافة والتعليم‬
‫والقيم االخالقية والدينية تقوم بتهذيب تلك الغرائز األساسية فينشأ ما يسمى بالقيم األخالقية أي الغرائز‬
‫الثانوية الثانية سماها بالقوى المانعة من االجرام ‪.‬‬
‫كل ا لبشر لديه استعداد إجرامي معين فإذا انفلتت الغرائز األساسية الطبيعية على الغرائز الثانوية أو‬
‫القوى المانعة فإن االنسان يقدم على ارتكاب الجريمة ‪ ،‬وهذا ما يحيلنا على سؤال آخر لماذا ال يقدم‬
‫البعض على ارتكاب الجريمة بينما البعض اآلخر ال يقدم عليها وهم في نفس المجتمع ‪.‬‬
‫االستعداد اإلجرامي لدى دي توليو نوعان ‪ :‬استعداد إجرامي اصيل و استعداد إجرامي عارض‬
‫االستعداد االجرامي األصيل هو ما يدفع إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ‪ ،‬ويتميز بالثبات واالستمرار‬
‫ويكشف عن ميل فطري غريزي طبيعي نحو الجريمة نظرا الختالالت وراثية أخالقية مرتبطة بالتكوين‬
‫البيولوجي النفسي للمجرم ‪ ،‬فاالختالل التكويني العضوي والنفسي هنا أصيل وليس مكتسبا فهو فطري‬
‫يولد مع االنسان ويدفعه نحو الجريمة ‪.‬‬
‫االستعداد االجرامي العارض يتكون لدى المجرم بالصدفة أو يكون مجرما عاطفيا يرتكب الجريمة تحت‬
‫تأثير المتغيرات االجتماعية أو الظروف البيئية وهي استعدادات إجرامية مكتسبة وليست فطرية وغالبا‬
‫ما ترتبط بالهجرة أو الغيرة أو الحب أو الفقر أو الحقد ‪ ،‬هذه االستعدادات تقلل من قدرة الشخص على‬
‫ضبط مشاعره وهي سلوكات تؤثر على القيم االخالقية لديه وتقلل من قدرته على ضبط مشاعره‬
‫وغرائزه فيندفع نحو ارتكاب الجريمة ‪.‬‬

‫فكرة االستعداد اإلجرامي عند دي توليو ‪:‬‬

‫تعبر الجريمة عند دي توليو عن وجود نوع من عدم التوافق االجتماعي ‪ ،‬ناشئ عن وجود حالة استعداد‬
‫خاص للجريمة كامنة في شخص المجرم ولم تخرج إلى النور إال بسب وجود خلل عضوي ونفسي‬
‫يضعف من قدرة الشخص على التحكم في نزعاته وميوله الفطرية (قوى الدفع للجريمة) ‪ ،‬ويجعل‬
‫الشخص أكثر استجابة للمؤثرات الخارجية المحفزة أو المفجرة للسلوك اإلجرامي ‪.‬‬

‫فالسلوك اإلجرامي عند دي توليو شأنه شأن المرض ‪ ،‬فكما أن الناس يتعرضون جميعهم ألنواع عدة‬
‫من الميكروبات ورغم ذلك ال يصابون جميعهم باألمراض ‪ ،‬بل ال يصاب بها إال من ضعفت مقاومته‬
‫في التصدي لهذه العوارض الخارجية ‪ ،‬وكذلك السلوك اإلجرامي ‪ ،‬فلدى الكل استعداد إجرامي نحو‬
‫الجريمة غير أن البعض فقط هو الذي يدخل إلى طور التنفيذ نتيجة وجود خلل في تكوينهم العضوي‬

‫‪33‬‬
‫والنفسي يجعلهم أقل قدرة على التكيف مع متطلبات الحياة االجتماعية وأقل قدرة على كبح جماح‬
‫غرائزهم الفطرية ‪ ،‬وفي ذات الوقت تقل أو تنعدم لديهم القوى المانعة من الجريمة أو ما يسمى بالغرائز‬
‫السامية‪.‬‬

‫فلدى الكافة غرائز أساسية فطرية ‪ ،‬مثل الغريزة الجنسية وغريزة التملك وغريزة االقتتال والدفاع ‪،‬‬
‫وهذه الغرائز تكون تعبيرا عن "القوة الدافعة للجريمة"‪ .‬غير أن تلك الغرائز تتهذب بفعل عناصر‬
‫مكتسبة منذ مرحلة الطفولة على أثر التعليم والثقافة وتلقين القيم الدينية واألخالقية‪ .‬ويؤدي هذا التهذيب‬
‫إلى نشوء غرائز ثانوية سامية ‪ ،‬يطلق عليها تعبير "القوة المانعة من الجريمة‪".‬‬

‫فإذا التقى االستعداد اإلجرامي بمثير خارجي ‪ ،‬نشأ صراع بين نوعي الغرائز ‪ ،‬فإذا تغلبت الغرائز‬
‫األساسية (القوة الدافعة للجريمة) على الغرائز السامية (القوة المانعة للجريمة) أقدم الشخص على‬
‫ارتكاب السلوك اإلجرامي ‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬األمر الذي يفسر لنا علة ارتكاب البعض دون البعض‬
‫األخر للسلوك اإلجرامي رغم وحدة الظروف البيئية‪.‬‬

‫أساليب الكشف عن االستعداد اإلجرامي ‪:‬‬

‫إن الكشف عن وجود هذا االستعداد يستلزم حتما فحص الشخصية اإلجرامية من ثالث نواحي ‪:‬‬

‫أ‪ -‬الفحص الخارجي ‪ :‬وذلك بفحص أعضاء الجسم الخارجية للشخص للوقوف على ما إذا كانت ذات‬
‫تكوين طبيعي واستكشاف ما بها من شذوذ‪.‬‬

‫ب‪ -‬الفحص الداخلي ‪ :‬يشمل أجهزة الجسم المختلفة ‪ .‬كما يدخل في هذا الجانب فحص الجهاز الغددي‬
‫(خاصة الغدة الدرقية)‪ ،‬فلقد ثبت أن الخلل في افرازات الغدد بالنقص أو بالزيادة يؤثر على الحالة‬
‫النفسية للفرد وبالتالي على مسلكه الشخصي العام ‪.‬‬
‫ج‪ -‬الفحص النفسي ‪ :‬يهدف الفحص النفسي إلى الكشف عن الحالة النفسية للمجرم والكشف عما يصيب‬
‫غرائز الفرد وميوله من خلل أو اضطراب‪.‬‬

‫و قد قسم دي توليو المجرمين إلى طوائف ثالثة كبرى ‪ :‬المجرم ذي التكوين اإلجرامي ‪ ،‬والمجرم‬
‫المجنون ‪ ،‬والمجرم العرضي ‪.‬‬
‫تقييم نظرية دي توليو ‪:‬‬
‫لقد كان له الفضل في توجيه دراسة سلوك السلوك اإلجرامي دراسة تكاملية باعتبارها نتائج عوامل‬
‫فردية واجتماعية فتجنبت نظريته النظرة االحادية أو التفسير األحادي للظاهرة االجرامية وجهت له‬
‫انتقادات عديدة تدور حول فكرة االستعداد اإلجرامي فهو يقول إن العوامل اإلجتماعية ال يمكن أن تحدث‬
‫أثرا إجراميا إال إذا سبقها استعداد إجرامي ‪ ،‬وهذا خطأ كبير ألن بعض الجرائم تقع وإن لم يسبقها‬
‫استعداد إجرامي مثل جرائم عدم التبليغ عن الجريمة بسبب االهمال ‪ ،‬هذه النظرية ال تصدق إال على‬
‫الجرائم الطبيعية التي تتعارض مع القيم االجتماعية والمبادئ األخالقية الراسخة في الوجدان االنساني‬
‫أما الجرائم االصطناعية فال يمكن تفسيرها بفكرة االستعداد االجرامي ألن الجرائم االصطناعية هي‬
‫مخلوق قانوني من صنع المشرع تتغير في الزمان والمكان لذلك ال يمكن القول بأن هناك استعداد قبلي‬
‫في الجرائم الطبيعية كالقتل والسرقة واالغتصاب ‪.‬‬

‫بالتوفيق‬
‫‪34‬‬

You might also like