Professional Documents
Culture Documents
النظريات المعاصرة في علم الاجتماع PDF
النظريات المعاصرة في علم الاجتماع PDF
حماضرات يف مقياس
النظرايت املعاصرة يف علم االجتماع
السنة الثالثة علم اجتماع
1
الصفحة فهرس احملتوايت
مقدمة
02 الفصل األول :ماهية النظرية السوسيولوجية
03 -1مفهوم النظرية وتعريفها
04 -2نشأة النظرية وتطورها
06 -3شروط النظرية
08 -4وظائف النظرية
11 -5أمهية النظرية
الفصل الثاين :لبعض مناذج النظرايت السوسيولوجية املعاصرة
31 متهيد:
34 -1سوسيولوجية دوركامي ونظريته حول االنتحار
-2الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد
39
زاننيكي
44 -3ميدل اتون :روبت و هيلني ليند
45 - 4جتارب هوثورن :مايو ،روثلسربجر ،ديسكون
49 - 5دراسات اينكي سييت :ويد وارنر
50 -6جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي) :وليام فوت وايت
53 -7األزمة األمريكية :جوانر مريدال )(Gunnar Myrdal
54 -8اختيار الشعب :بول الزار سفيلد وآخرون
-9اجلندي األمريكي :صمويل ستوفر وآخرون
-10اهلابيتوس :بيار بورديو
خالصة
خامتة
قائمة املراجع
أوال :املراجع ابللغة العربية
74 .1الكتب
76 .2املذكرات والرسائل اجلامعية
77 .3املواقع االلكرتونية
77 اثنيا :املراجع ابللغة األجنبية
2
مقدمة:
متثل النظرية يف األحباث اإلجتماعية مكانة هامة ذلك ألهنا تفسر املعلومات املراد صياغتها ،فالبحث العلمي ال يقف عند
وصف الظاهرة ،وإمنا يذهب إىل تفسريها وأتويلها ،وهذا أيخذ بعني اإلعتبار طبيعة املوضوع واإلشكال املطروح '' فالرجوع إىل
نظرية ذات عالقة يف إعداد البحوث يسمح بتوضيحها وتوجيهها'').(1
ونتيجة هلذه األمهية فقد أسهم الباحثون واملهتمون يف هذا اجملال،وحاولوا حتديد وتفسري معىن النظرية السوسيولوجية،
وتبيان شروطها وأمهيتها ودورها ووظائفها،وقد أكد غالبيتهم أهنا" تساعد أي علم على حتديد هويته وموضوعاته األساسية،األمر
الذي يسهم يف إبراز دوره املعريف الرتاكمي،حيث حيدد يف ضوئها ما جيب دراسته أكثر من غريه،وما الذي مل يدرس ،ومستوى ما
()2
مت التوصل إليه"
فالنظرية متثل أعلى مستوى للشرح والتفسري لكل الظواهر االجتماعية،وال ميكن فهم الواقع االجتماعي دون االعتماد
على النظرية العلمية،فهي مبثابة البوصلة لكل ابحث أو مستكشف،وسنحاول يف هذه األوراق الرتكيز على النظرايت
السوسيولوجية املعاصرة يف علم االجتماع ،انطالقا من سوسيولوجية دوركامي وصوال إىل عصر ما بعد احلداثة ،على الرغم من أن
الدراسات اليت سوف نستعرضها متثل الكالسيكيات احلديثة للبحث يف علم االجتماع ،فإهنا مل جتر كلها بواسطة علماء
األنثروبولوجيا وعلماء النفس ،وال ختتلف العلوم اإلجتماعية فيما بينها اختالفا كبريا من حيث اهتماماهتا البحثية ،وال يزال
الوصف األنثروبولوجي للمجتمعات البسيطة يوفر بياانت للتحليل يف علم االجتماع ،كما يتم تبادل البياانت بني علم النفس
وعلم االجتماع بصفة مستمرة.
3
الفصل األول :ماهية النظرية السوسيولوجية
4
مفهوم النظرية وتعريفها :
يعترب مفهوم أو مصطلح نظرية من املصطلحات الغامضة ،اليت يصعب على الباحث استعماله استعماالً
دقيقاً وصحيحاً يف كتاابته وحبوثه ،فقد يشري املصطلح إىل النظام التجريدي الذي جيمع األفكار ويوحدها
ويضعها يف قالب جيسد معىن مفاهيم حمددة ،يطرحها العامل يف سياق أحباثه األكادميية ،أما معىن النظرية
االجتماعية فقد كان متعلقاً ابلدراسات الفلسفية والسياسية ،فقد استعمل مصطلح النظرية االجتماعية ألول
مرة ،للتعبري عن نظرية الدولة ،اليت اهتمت بدراسات أصل نشوء الدولة احلديثة مع التربيرات الفلسفية
والعلمية ألشكاهلا ،وهناك جمموعة من املؤلفات والكتاابت األدبية ،اليت ميكن أن توضع حتت عنوان النظرية
االجتماعية ،خاصة تلك اليت تدور حول طبيعة العالقات اإلنسانية واجملتمع البشري.
عرفها وورد بقوله ":هي نسق منطقي استنباطي استقرائي يتكون من مفاهيم وتعريفات وافرتاضات تعرب عن
ّ
عالقات بني اثنني أو أكثر من أوجه الظاهرة وميكن أن يشتق منها فرضيات كما ميكن التحقق من صحتها أو
خطئها" ،كما عرفها اتلكوت ابرسونز أبهنا " نسق نظري يشكل وحدة ملفاهيم مرتابطة متساندة منطقياً
وبنائياً هلا مرجعية أمبرييقية يف الواقع ،تشكل فيها العالقات بني األجزاء إمكانية اشتقاق فرضيات جديدة أو
()1
تعميمات تعرب عن انتظامات أمبرييقية "
فهي إذن جمموعة من املفاهيم اليت تشكل من خالل العالقات بينها منظوراً مفاهيمياً للواقع االجتماعي ،
بعض هذه املفاهيم وصفية حتدد وجود املضمون ،والبعض اآلخر حتليلي ،وتتألف النظرية من جمموعة
افرتاضات يعرب كل منها عن عالقة بني مستني أو أكثر حبيث تشكل هذه االفرتاضات معاً نسقاً قابالً
لالستنباط وحبيث تكون املفاهيم واالفرتاضات قابلة للتحقق من صحتها أمبرييقياً ،ويتم بناء النظرية على
أساس عناصر أساسية ومركبات تشمل املفاهيم ،واملتغريات ،وتعريفات وافرتاضات ويوضح العالقات بني
الوقائع وانتظامها بطريقة دالة ،ويبني أسباب وظروف تشكل هذا الواقع وتبدله والبعد األمبرييقي املتضمن
مكوانت الواقع ومعطياته ،هبدف تفسري هذا الواقع وفهمه والتنبؤ مبا ميكن أن يكون عليه مستقبالً (. )2
5
___________________________________________________
-1معن خليل عمر ،مدخل علم االجتماع ،دار الشروق ،عمان ،2009 ،ص. 50
-2إبراهيم عيسى عثمان ،النظرية املعاصرة يف علم االجتماع ،دار الشروق ،عمان ،2008 ،ص.16
فقد حدد ابن خلدون إطار هذا العلم يف كتابة الشهري ابملقدمة اليت حتتوي على شرح مفهوم هذا العلم
وحتديد إطاره ،وقد ساعد ابن خلدون على وضع أسس هذا العلم أنه سلك طريقا مبتكرا يف دراسات خيتلف
عن سابقيه ،مع العلم أن النظرايت االجتماعية اليت نشأت يف تلك احلقبة كثرية جدا ومتباينة كل التباين ،
وقد قضى العلماء شطرا كبريا من هذا القرن يف جدال حول طبيعة احلادثة االجتماعية ،وكيفية دراستها
فانقسموا بني النظرايت اآللية والعضوية والبيولوجية والتطورية والنفسية واالجتماعية ،ولكن العلماء
املعاصرين أمهلوا بوجه عام هذه النظرايت الضيقة وصاروا أميل إىل اعتبارها نظرايت جزئية ميكن أن يتم
6
بعضها بعضا ،ورمبا كانت النظرية االجتماعية يف علم االجتماع اليت تزعمها إميل دوركامي هي اليت امتصت
التيارات األخرى وغلبت عليها .
أما ابلنسبة للتفكري االجتماعي والنظرية االجتماعية يف العصر احلديث ،فإهنا نشأت يف جمتمع وقع حتت
الظلم والطغيان قروان عديدة ،من قبل الكنيسة اليت كانت ترى أن الكتاب املقدس حيتوى على كل احلقائق
،وأهنا وحدها هي اليت تعرف أتويل آايته ،وبذلك تكون هي مصدر كل احلقائق وليس هناك حقائق أخرى ،
ومن ادعى غري ذلك يعترب يف نظر الكنيسة مارقا ومرتدا عن الدين ،وتقوم الكنيسة بتسليمه إىل حماكم
التفتيش ،اليت تقوم إبعدام املارقني حرقا وهم أحياء ،مثلما فعل جبوردانو برونو الذي أعدم وأحرق و
حماكمة غاليليو غاليلي .
-1زيدان عبد الباقي ،التفكري االجتماعي نشأته وتطوره ،القاهرة ،دار الغريب للطباعة، ،ص ص.181-180
حينها اندى املفكرون ابإلصالح الديين (لوثر مارتن و جون كالفان وغريمها) ،ونبذ كل اخلرافات واألوهام
اليت يقول هبا رجال الكنيسة ،واألخذ بوسائل التقدم العلمي .
وقد أستُ ْخ ِد َم مفهوم النظريّة للمرة األوىل يف الفلسفة اليواننيّة لإلشارة إىل املُصطلحات ،واملفاهيم اليت ُ
ختالف
أول َم ْن اعتم َد على تطبيق فكرة النظريّة
التطبيقات العمليّة الواقعيّة ،واعتُرب الفيلسوف اليوانينّ أرسطو َ
للتفريق بني احلقائق املُطبقة فعليّاً والنظرايت الفكريّة ،مثّ أصبح مصطلح النظريّة من املُصطلحات املعرفيّة
العديد ِمن اجملاالت سواء الفلسفيّة أو العلميّة أم غريها،ويف القرن السادس عشر للميالد
ِ ستخدم يف
ُ اليت تُ
اعتمدت على مصادر
ْ ِ
للداللة على العديد من أنواع الدراسات اليت أصبح مفهوم النظريّة أكثر استخداماً
وسامهت يف
ْ ومراجع موثوقة ،وقابلة للتحليل والتفسري ،واليت ِمن املمكن تطبيقها ضمن اجملال اخلاص هبا،
النظرايت ُجزءاً مهماً من الدراسات
ّ أصبحت
ْ ِ
حتقيق إضافة متطورة إىل جمموعة من اجملاالت الدراسيّة ،وهكذا
اإلنسانيّة ،والعلميّة ،والطبيّة ،واألدبيّة ،والفلسفيّة.
7
-3أن تشتمل النظرية على معظم اجلوانب اليت تكون تلك النظرية و حتللها و تفسرها قد اإلمكان .
-4البد أن تكون النظرية ذات موضوع و إطار تفسريي خاص هبا حبيث ال تتداخل مع نظرية أخرى تتناول
وتفسر نفس املوضوع و القضااي .
-5أن تستمد النظرية إطارها املرجعي و التفسريي من حقائق و مالحظات واقعية ميكن إختبارها علمياً
بشكل يثريها و مينحها اخلاصية العلمية .
-6من شروط النظرية اهلامة قدرهتا على التنبؤ ،حبيث ال تقف عند الوصف و التفسري إمنا تتجاوزمها اىل
القدرة على التنبؤ .
وظائف النظرية :
ميكن إجياز الوظائف اليت تضطلع هبا النظرية العلمية على النحو التايل :
-1حتديد هوية العلم و موضوعاته الرئيسة و ميادينه فهو من أبرز وظائف النظرية العلمية ،الذي يرتتب
عليه أتكيد و إظهار الدور املعريف الرتاكمي،وعليه يتحدد ما جيب دراسته ،و ما هي القضااي اليت مل تدرس
بعد إضافة إىل ما مت التوصل إليه من نتائج .
-2تعترب النظرية العلمية نقطة البدء يف دراسة الظواهر اإلجتماعية و الطبيعية على ٍ
حد سواء ،ألهنا تضع
للباحث اإلطار التصوري ألبعاد و عالقات املوضوع الذي يقوم بدراسته ،وحتدد له املعطيات و كيفية
تنظيمها و من مث تصنيفها ،و العالقات و الرتابطات و التداخالت فيما بينها ،أي أن النظرية تضع
للباحث االجراءات العلمية اليت سيتبعها عند القيام ببحثه .
-3تقدم النظرية عددا كبرياً من املفاهيم اليت تثري العلوم ،وذلك ألن كل"مفهوم"يتضمن خربة إجتماعية و
علمية مميزة ،إضافة إىل أنه يعد تلخيصاً لكثري من احلقائق اليت تكون النظرية.
-4من الوظائف اهلامة للنظرية القيمة العلمية اليت متنحها للبحث فجمع البياانت ابإلعتماد على نظرية
تدعم املعطيات و تفسر النتائج أمراً ضرورايً حىت ال يعد البحث انقصاً و قاصراً ،و عليه فإن العالقة
اجلدلية بني النظرية و البحث العلمي على قدر كبري من األمهية جيب أن يراعيها الباحث عند القيام ببحثه
.
8
-5تساعد النظرية على اجتاه الظاهرة مستقبال ،فالتنبؤ يعين االنتقال من املعلوم من احلاالت والوقائع إىل
احلاالت اجملهولة .
()1
-6إمكانية االستفادة من النظرايت العلمية يف جمال التطبيق.
أمهية النظرية:
تكمن أمهية النظرية االجتماعية يف:
-1أهنا شرط ضروري لتفسري وحتليل الظواهر االجتماعية.
-2أهنا متدان ابإلجابة التفسريية ألسباب حدوث الظاهرة.
-3تساهم يف حل املشكالت االجتماعية بطريقة علمية مدروسة.
-4تساعد على وصف وحتليل الواقع اإلجتماعى حتليال علميا دقيقا.
-5تساعدان على إختيار التفسري املناسب حلدوث املشكالت االجتماعية.
___________________
-1عبد الباسط عبد املعطي ،نفس املرجع ،ص.11
متهيد
- 2الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد زاننيكي
-3ميدل اتون :روبت و هيلني ليند
9
- 4جتارب هوثورن :مايو ،روثلسربجر ،ديسكون
- 5دراسات اينكي سييت :ويد وارنر
-6جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي) :وليام فوت وايت
-7األزمة األمريكية :جوانر مريدال )(Gunnar Myrdal
-8اختيار الشعب :بول الزار سفيلد وآخرون
-9اجلندي األمريكي :صمويل ستوفر وآخرون
-10اهلابيتوس :بيار بورديو
خالصة
اخلامتة
-1إميل دوركامي:
ولد إميل دوركامي يف 15ابريل 1858م يف بلدة ابينال ابلقرب من سهل اللورين الذي يشتمل على بعض
املدن الفرنسية ،ويف أحضان أسرة يهودية نشأ دوركامي ،فهو أحد أحفاد كبار أحبار اليهود ،ولد يف أسرة
تنحدر أصال من حاخامات املذهب الرابين اليهودي ،الذين يدينون ابملذهب العرباين اجلديد ،ولذلك اجته
10
دوركامي منذ طفولته وصباه حنو دراسة التلمود والعهد القدمي ،كما درس أيضا العربية والتاريخ ،مث هجر
اللغوايت كي يدرس اتريخ األداين .
وبعد حماولتني فاشلتني مت قبوله ابملدرسة العليا سنة 1879وفيها التقى بعدد من املفكرين األوائل أمثال
الفيلسوف الشهري "هنري برجسون"و"بيري جانيت"وكان من أبرز أساتذة املدرسة أتثريا فيه "فوستيل دي
كوالنج" صاحب كتاب -املدينة القدمية-الذي أصبح فيما بعد مديرا للمدرسة،ويف عام 1882خترج
دوركامي من املدرسة ليشتغل يف التدريس ابلثانوايت العامة( ،)1ويف عام1878م ذاعت شهرة دوركامي ،مث
انتقل للتدريس جبامعة بوردو وألقى دروسا يف علم االجتماع العائلي واجلنائي ويف التضامن االجتماعي
واالنتحار ويف الرتبية والدين ،كما ألقى دروسا يف اتريخ املذاهب السوسيولوجية ويف املسئولية واجلزاء
والتنظيم االجتماعي للقبائل االسرتالية القدمية.
تويف دوركامي يف 15نوفمرب1917م بعد الصدمة اليت تلقاها مبقتل ابنه الوحيد يف عمليات احلرب العاملية
األوىل ،االبن الذي خطط والده أن يكون وريثه العلمي ،ذلك أن دوركامي جعل ابنه يتخصص مبوضوع علم
اجتماع اللغة ،وبعد مقتل ولده يف احلرب ،فقد إميل دوركامي أمل العيش يف احلياة ،فمات وهو حيمل األفكار
املرة عن احلياة وويالهتا وعدم استقرارها (. )2
يعترب دوركامي احد دعائم احلركة العلمية يف النصف األخري من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،
وهو األب الشرعي لعلم االجتماع الرتبوي ،ومن أهم مؤلفاته :
-1تقسيم العمل االجتماعي ( )1893
-2قواعد املنهج يف علم االجتماع ()1895
-3االنتحار ()1897
-4الرتبية اخللقية ()1903
-5الصورة األولية للحياة الدينية ()1912
-6علم االجتماع والفلسفة ()1924
-7اجمللة السنوية لعلم االجتماع عام 1896م اليت أصبحت اجمللة الرئيسية للفكر االجتماعي والبحث يف
فرنسا.
-1اميل دوركامي،قواعد املنهج يف علم االجتماع،ترمجة :حممود قاسم ،مكتبة النهضة املصرية،1961،القاهرة ،ص4
11
-2عبد الكرمي غريب،سوسيولوجيا الرتبية،منشورات عامل الرتبية،املغرب،2000،ص 220بتصرف.
12
وكملتزم ابلبحث امليداين،مل يكتف دوركامي إببعاد األسباب األخرى ،اليت رمبا تؤدى إىل االختالف يف
معدالت االنتحار ،وإمنا قام ابختبار تلك األسباب ميدانياً .
بدأ كتابه عن االنتحار بسلسلة من األفكار املغايرة عن أسباب االنتحار ،من ذلك احلالة املرضية
النفسية للفرد ،العرق ،الوراثة واملناخ،يف حني أن دوركامي عرض قدراً واسعاً من احلقائق ورفضها
كمسبب الختالف معدالت االنتحار ،لكن حجته األوضح واليت تنسجم مع جممل تصوره ،كانت
حول عالقة العوامل العرقية مع تلك
- 1دور كامي اميل ،قواعد املنهج يف علم اإلجتماع ،ترمجة :حممد قاسم ،دار املعرفة اجلامعية ،مصر ،1988،ص .37
االختالفات ،أحد أسباب رفض العرق هو أن معدالت االنتحار ،تتباين وسط اجملموعات ذات األصل
العرقي الواحد ،وإذا كان العرق سبباً مؤثرا يف تباين معدالت االنتحار ،فيمكننا أن نفرتض أن له أثراً
مشاهبا على خمتلف اجملموعات ،ودليل آخر ضد أمهية العرق يف تباين معدالت االنتحار هو التغري يف
تلك املعدالت وسط عرق معني ،عندما ينتقل من جمتمع إىل آخر ،وإذا كان العرق حقيقة اجتماعية
ذات عالقة جيب أن يكون هلا نفس األثر يف خمتلف اجملتمعات ،ابلرغم من أن حجة دوركامي هنا ليست
كافية جداً ورمبا تكون حججه حول العوامل األخرى اليت رفضها أضعف ،لكن هذا يعطينا فكرة عن
طريقة ومدخل دوركامي يف الرفض املدعم مبعلومات ميدانية ملا يعتربه عوامل إضافية ،مما م ّكنه من
االنتقال إىل ما يعتقد أنه العوامل األكثر أمهية ،إضافة إىل رفضه للعوامل سابقة الذكر ،فقد درس
دوركامي نظرية التقليد ،اليت تنسب إىل عامل النفس االجتماعي الفرنسي جابريل اترد ورفضها ،تقول
نظرية التقليد أن الناس ينتحرون ( ويدخلون يف نطاق واسع من األفعال األخرى ) ألهنم يقلدون أفعال
اآلخرين الذين انتحروا ،هذا املدخل النفسي االجتماعي غريب على علم االجتماع ،وعلى تركيز
دوركامي على احلقائق االجتماعية ،لذلك مل يرتدد دوركامي يف رفضها ،وحجته يف ذلك أبنه إذا كان
التقليد مهماً ،كان جيب أن تكون األمم اليت جتاور بلداً ذا معدل انتحار عال هي نفسها هلا معدالت
عالية ،مث نظر يف املعلومات اخلاصة هبذا العامل اجلغرايف و خلص إىل أنه ليس له أي أمهية ،آمن
دوركامي أن انتحار بعض األفراد رمبا يكون بسبب التقليد ،لكن هذا عامل ضعيف جداً وليس له أي
أتثري على معدالت االنتحار الكلية ،ومبا أن التقليد عامل اجتماعي نفسي ،لن يكون له يف نسقه أية
أمهية يف تباين معدالت االنتحار االجتماعية ،وخلص إىل أن "معدالت االنتحار االجتماعي ميكن
13
توضيحها فقط سوسيولوجياً"( )1أي حتليل االجتماعي ابالجتماعي ،ألن العوامل األهم يف التغري يف
معدالت االنتحار ،جيب أن توجد يف االختالفات على مستوى احلقائق االجتماعية ،و هنالك نوعان
من احلقائق االجتماعية -مادية وغري مادية ،-مثالً نظر دوركامي يف أمهية الكثافة احليوية يف تباين
معدالت االنتحار ،لكنه وجد أن أثرها غري مباشر ،لكن التباين يف الكثافة احليوية وىف احلقائق
االجتماعية املادية األخرى ،يؤثر على التباين يف احلقائق االجتماعية غري املادية ،وهذا له أثر مباشر
على التباين يف معدالت االنتحار ،هنا يقدم دوركامي حجتني مرتابطتني ،فمن انحية يقول أن اجملموعات
املختلفة هلا ضمري مجعي خمتلف ومتثالت مجعية خمتلفة أيضاً ،ومن انحية أخرى هذا ينتج تيارات
اجتماعية متباينة ذات أثر تبايين على معدالت االنتحار ،وإحدى طرق دراسة االنتحار هي املقارنة بني
خمتلف اجملتمعات أو األنواع األخرى من اجملموعات ،و دوركامي يرى أن التغري يف الضمري اجلمعي ،يقود
إىل تغري يف التيارات االجتماعية ،واليت بدورها تؤدي إىل التباين يف معدالت االنتحار ،أدى هذا إىل
الدراسة التارخيية للتغريات يف معدالت االنتحار ضمن جمموعة معينة.
-1قريف عبد احلميد ،بناء املعرفة السوسيولوجية ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر ،مهمل السنة،ص.33
كان دوركامي واضحا حول الدور األساسي ،الذي تلعبه التيارات االجتماعية يف تسبيب االنتحار" كل
جمموعة اجتماعية هلا استعداد مجاعي للفعل خاص هبا ،وهو مصدر االستعداد الفردي وليس نتيجته،
وهو يتكون من تيارات األاننيةأو اإليثار فالالمعيارية تتخلل كل اجملتمع ،هذه النزعات للجسم
االجتماعي ككل ،وبتأثريها على األفراد تدفعهم إىل االنتحار "(.)1
يف نظرية دوركامي عن االنتحار وبنية تنظريه السسيولوجي ،ميكن أن نرى بوضوح عند دراستنا لكل
واحد من أنواع االنتحار األربعة :األانين ،اإليثارى ،الالمعيارى والقدري.
-1االنتحار األانين :حيدث هذا االنتحار بسبب النزعة الفردية املتطرفة وانفصال الفرد عن اجملتمع،
حيث ال جيد الفرد من يسانده عندما حتل به أي مشكلة ،فيصبح املقرر الوحيد لشؤونه اخلاصة،
وتصبح قضية اخلطأ والصواب من القضااي اليت حيددها الفرد نفسه ،ولذلك مسي هذا النوع من
االنتحار ابالنتحار األانين ،فاملعدالت العالية من االنتحار األانين غالبا ما توجد يف اجملتمعات ،اليت
يكون فيها الفرد غري مندمج متاماً يف الوحدة االجتماعية الكربى ،فاجملتمعات ذات الضمري اجلمعي
14
القوي متنع التيارات االجتماعية الوقائية والشاملة ،اليت تنبع من ذلك الضمري حدوث وانتشار االنتحار
األانين فيها ،عندما تضعف هذه التيارات االجتماعية يتمكن األفراد وبسهوله من جتاوز الضمري اجلمعي
ويفعلون ما يريدون ،ويف الوحدات االجتماعية الكربى ذات الضمري اجلمعي الضعيف ،يرتك األفراد
للجري وراء مصاحلهم اخلاصة أبي طريقة يريدوهنا ،مثل هذه األاننية غري املكبوحة ،غالبا ما تقود إىل
قدر كبري من االستياء والضجر ،مبا أنه ال ميكن إشباع كل احلاجات وحىت اليت ميكن إشباعها تنتج
حاجات أكثر وأكثر ،كما أهنا تنتج االستياء املطلق للعديد من الناس كما تدفع بعضهم إىل
االنتحار،لكن األسر املندجمة بقوة،مثل(اجملموعات الدينية ،اجلماعات السياسية) تتعامل كهيئات ذات
ضمري مجعي قوي وال تشجع االنتحار ،فالدين حيمي اإلنسان من الرغبة يف حتطيم الذات ،وما ي ّكون
الدين هو وجود عدد من املعتقدات واملمارسات التقليدية املشرتكة بني كل املؤمنني ،و لذا فهي ملزمة،
وكلما تعددت هذه احلالة العقلية اجلمعية وقويت ،كلما ازداد االندماج يف اجملموعة الدينية وكذلك
ازدادت القيمة الواقية .
لقد حتدث "دوركامي" عن تفكك اجملتمع الذي يقود إىل تيارات من الكآبة واخليبة ،والتفكك األخالقي
للمجتمع يعرض الفرد الرتكاب فعل االنتحار ،لكن البد من وجود تيارات الكآبة حلدوث التباين يف
معدالت االنتحار األانين ،وما هو مثري لالهتمام أن "دوركامي" هنا يعيد أتكيد أمهية العوامل
االجتماعية ،حىت يف االنتحار األانين الذي يعتقد فيه أن الفرد حر من كل قيود اجتماعية ،الفاعلون
ليسوا أحراراً أبداً من قوة اجلماعة ،مهما كان اإلنسان فرداي يبقي هناك دائماً شئ مجاعي ،فحالة
االنتحار األانين تشري إىل أنه حىت يف أكثر األفعال فردية وخصوصية تكون احلقائق االجتماعية هي
احملدد األساسي.
-1بالنشي روبري،نظرية املعرفة العلمية(االبستيمولوجيا)،ترمجة:حسن عبد احلميدنديوان املطبوعات اجلامعيةانلكوينت،1987ص.63
15
واجبهم ،وكما يف حالة االنتحار األانين درجة التكامل ( يف هذه احلالة درجة عالية) ليست السبب
الرئيسي يف االنتحار اإليثاري ،ولكن التباين يف درجة االندماج ينتج تيارات اجتماعية خمتلفة تؤثر يف
معدالت االنتحار ،فمثلما يف االنتحار األانين اعترب "دوركامي" أن التيارات االجتماعية اليائسة ،هي
سبب معدالت االنتحار اإليثاري العالية ،يف حني اعترب أن معدالت االنتحار األانين العالية ،تنتج من
التمزق واالكتئاب احلزين فإن الزايدة يف معدالت االنتحار اإليثاري أتيت من األمل،ألهنا تعتمد على
االعتقاد يف التصور اجلميل ملا بعد هذه احلياة.
- 3االنتحار الالمعياري:
النوع األخري واألساسي من أنواع االنتحار الذي انقشه "دوركامي" هو االنتحار الالمعياري ،وحيدث
عندما تضطرب ضوابط اجملتمع ،وترتفع معدالت االنتحار الالمعياري إذا كانت طبيعة االضطراب
إجيابية (االنتعاش االقتصادي مثال ) أو سلبية (الكساد االقتصادي ) ،كال النوعني من االضطراب،
يؤدى إىل التعطيل املؤقت للجماعة عن أداء دورها السلطوي على األفراد ،فرتات االضطراب تطلق
العنان لتيارات الالمعيارية ،فاإلحساس ابنعدام املعايري يقود هذه التيارات إىل الزايدة يف معدالت
االنتحار املعياري ،ومن السهل تصور هذا يف حاالت الكساد ،كإغالق مصنع نتيجة للكساد
االقتصادي رمبا يؤدي إىل فقدان وظيفة ،ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن أتثري ضوابط الشركة
والوظيفة ،واالنفصال عن مثل هذه البنيات – األسرة ،الدين ،الدولة مثالً – يرتك الفرد فريسة ألثر
تيارات الالمعيارية ،ويبدو أنه من الصعب ختيل أثر االنتعاش االقتصادي ،ففي هذه احلالة ميكن القول
أن النجاح املفاجئ ،رمبا يقود األفراد بعيداً عن البنيات التقليدية اليت نشأوا فيها ،والنجاح االقتصادي
رمبا يقود الفرد إىل ترك عمله واالنتقال إىل جمتمع جديد ،كل هذه التغريات تؤدي إىل اضطراب أثر
ضوابط البنيات املوجودة ،وترتك الفرد يف فرتات االنتعاش االقتصادي فريسة للتيارات االجتماعية
الالمعيارية ،والزايدة يف معدالت االنتحار الالمعياري خالل فرتات اضطراب احلياة االجتماعية
منسجمة مع رؤية "دوركامي" عن األثر الضار لنزوات الفرد عندما يتحرر من القيود اخلارجية ،فعندما
يتحرر الناس يصبحون عبيداً لنزواهتم ونتيجة لذلك،يرى"دوركامي" أهنم يقومون بسلسلة واسعة من
األفعال املدمرة تشمل قتل أنفسهم أبعداد أكرب مما هو معتاد.
16
- 4االنتحار القدري :
هنالك نوع رابع من االنتحار ال يشار إليه كثريا -االنتحار القدري – والذي انقشه "دوركامي" يف
إحدى حواشي كتابه (االنتحار) ،ففي حني اعترب أن االنتحار الالمعياري حيدث يف احلاالت اليت
تضعف فيها الضوابط،فان االنتحار القدري حيدث يف احلاالت اليت تكون فيها الضوابط متجاوزة للحد
املرغوب فيه،ووصف "دوركامي" الذين يرتكبون فعل االنتحار القدري ،أبهنم أشخاص مستقبلهم مغلق
بقسوة ،ونزواهتم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري .
وخالصة هذه النظرية ،أنه يف كل جمتمع توجد أنساق قيمية ،حتدد األهداف ووسائل حتقيقها للمشروع
،فالالمعيارية هي غياب عدالة الفرص يف حتقيق هذه األهداف ،والبحث عن وسائل بديلة للنجاح،
حىت وإن كانت غري مشروعة ،هي حبث عن التكيف واجلرمية ،هي املدخل األول الختالل أنساق
النظام بصفة عامة.
17
تقييم عام لنظرايت دوركامي:
إن ميدان العلوم االجتماعية بصفة عامة ،وحقل علم االجتماع بصفة خاصة ،غين جدا ابملناهج
والنظرايت املفسرة ككل الظواهر االجتماعية ،اليت حيدثها الفرد كشخص أو كجماعات متفرقة ،فنجد
أن الظاهرة االجتماعية الواحدة هلا عدة تفاسري ،ولكل مدرسة حججها وبراهينها ،وكلما كانت نظرية
أو مدرسة مفسرة ألسباب وعوامل حدوث الظاهرة االجتماعية كلما خلفت ورائها جمموعات من
املالحظات والتعقيبات واالنتقادات ،واملالحظ يف مجيع هذه النظرايت أهنا ال ختلو من انتقادات ،فهي
" نظرية ضيقة األفق ،على حد تعبري ( ألبريت كوهن) -رغم طابعها السوسيولوجي ،إال أهنا تصور
()1
األفراد األنوميني مفصولني عن الواقع االجتماعي وكأهنم يف صناديق وليسوا يف جمتمع "
ألهنا مل حتدد بدقة احلالة الزمانية واملكانية أو األوضاع االجتماعية،اليت تدعو إىل حالة األنومي يف
اجملتمع " ،فدوركامي" يرى أن لالحنراف عالقة طردية بسرعة التغيري الذي حيدث يف اجملتمع ،أما مريتون
فريى أن االحنراف مرتبط طرداي بدرجة التجاذب احلادث بني السبل واألهداف الثقافية يف اجملتمع ،يف
حني نرى يف نفس النظرية وجهة رأي كلوراد ماكلوهن أهنما يعتمدان على متغريي الطبقة االجتماعية
وبناء الفرصة يف اجملتمع ،كما أرجعا حالة االغرتاب عن املعايري اإلجتماعية إىل حاالت الفشل أو توقعه
من قبل األفراد يف حتقيق أهدافهم ،واملالحظ بصفة عامة عن "نظرية األنومي" أن " األهداف وخباصة
املادية تلعب دورا ابرزا يف تفسري اجلرمية ،خاصة إذا أصيب البناء االجتماعي بدرجات عميقة من التغري
ميتد إىل وسائل الضبط االجتماعي" (.)2
وينطلق إميل دوركامي ،يف كتابهه (االنتحهار)( ،)3مهن نتيجهة أساسهية ،وههي أن االنتحهار ليسهت ظهاهرة نفسهية أو
عضوية ،بهل ههي ظهاهرة جمتمعيهة ،مرتبطهة بتقسهيم العمهل يف اجملتمهع الرأمسهايل الصهناعي وابلتهايل ،يتحهدد معهدل
االنتحار حبسب درجة اندماج األفراد يف اجلماعة ،والعالقة بينهما عالقة علية أو سببية.
أما فيما خيص اهتمامه ابجلوانب الدينية ،فقد رفض التفسري الفردي واالجتماعي للظاهرة الدينية،
فاعتربها ظاهرة اجتماعية ،ميكن دراستها دراسة علمية موضوعية ،كما يبدو ذلك جليا يف كتابه (
الصور األولية للحياة الدينية) الذي ظهر سنة ،)4( 1912وقد توصل يف كتابه إىل أن التدين ظاهرة
18
مجاعية؛ ألن فكرة املقدس موجودة يف مجيع العقائد واألداين ومن مث ،فاملقدس نتاج احلياة اجلماعية
وابلتايل ،فالدين هو اجملتمع نفسه ،ويعين هذا أن اجملتمع هو الذي يولد طبيعة التفكري الديين لدى الفرد
ومن مث ،يرتادف الدين مع اجملتمع.
-1نبيل رمزي ،النظرية السوسيولوجية املعاصرة ،أصوهلا الكالسيكية واجتاهاهتا احملدثة ( قراءات وحبوث) ،دار الفكر اجلامعي ،بدون بلد
النشر ،1999 ،ص .347
- 2نفس املرجع ،ص .357
3-Émile Durkheim:Le Suicide: Étude de sociologie, Paris, Presses universitaires
France, coll. « Quadrige » )no 19), 1981, 463 p. de
4-- Durkheim, Émile. Les formes élémentaires de la vie religieuse, Presses
Universitaires de France, 5e édition, 2003. p. 604
-2الفالح البولندي يف أوروابوأمريكا ))Polish Peasant in Europe and America
ل :وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد زاننيكي:
فلوراين ويلتورد زاننكى عاش من 1959-1882ولد يف بولندة اليت كانت واقعة يف ذلك الوقت حتت
االحتالل األملاين ،وكان من أوائل علماء االجتماع البولنديني الذين شاركوا يف إنشاء املعهد البولندي لعلم
االجتماع ،واجمللة البولندية لعلم االجتماع ،وىف عام 1914اشرتك مع وليام إيزاك توماس يف وضع كتاب
الفالح البولندي يف أوراب وأمريكا ،وهي الدراسة اليت كانت رائدة يف استخدام بعض املناهج واألدوات
اجلديدة (كاملذكرات الشخصية ،وتواريخ احلياة ،واخلطاابت) ،كما كانت رائدة يف استخدام املعامل اإلنساين
الذي أيخذ يف االعتبار دائما معاين املشاركني يف التفاعل االجتماعي ،وكذلك زادت هذه الدراسة البداايت
األوىل للوصف املنظم للمجتمع،وقد طور زاننيكى تلك املناهج واألدوات يف كتبه اليت نشرها بعد ذلك،
مثل :الواقع الثقايف ،العالقات االجتماعية واألدوار االجتماعية الصادر عام .1965
أما وليام ازاك توماس (1863-1947( William Isaac Thomas
فينتمي إىل اجليل األول من الباحثني املنتمني ملدرسة شيكاغو ،حيث التحق ابجلامعة كأستاذ مساعد منذ سنة
1897مث أستاذا مشاركا يف سنة، 1900وقد جاء إىل السوسيولوجيا عن طريق الفلسفة وعلم النفس
اإلجتماعي،حيث سبق أن درس هذه املواد يف جامعة برلني ،وقد أتثر ابملناخ الفكري السائد آنذاك يف
اجلامعة األملانيةن اليت ينتمي اليها جيل املؤسسني ،وقد أتثر خالل سنوات تكوينه مبؤلف “مبادئ يف علم
اإلجتماع” هربرت سبينسر الذي قرأه حني كان طالبا وحدد توجهاته املعرفية الحقا ،وتظهر النزعة النفسية
اإلجتماعية يف أعماله األوىل ،اليت تناول فيها قضااي هتم النوع واإلختالفات اجلنسية ومدى أتثريها يف
19
السلوك ،مثل أطروحته لنيل الدكتوراه اليت حتمل عنوان االختالفات اجلنسية واجملتمع عام ،1896وهو
تقريبا
نفس مؤلفه األساسي اجلنس واجملتمع ( ،)1907ولعل هذا التوجه النفسي اإلجتماعي هو الذي سيدفعه
الحقا الستعمال املنهجية املعتمدة على السرية الذاتية وقراءة الواثئق واملراسالت الشخصية ،كوسيلة
الستخراج املعلومة واحلصول على معطيات أساسية و موثوقة ،وقد استعمل هذه املنهجية بنجاح يف البجث
الواسع الذي أشرف على إجنازه حول املهاجرين ذوي األصول البولندية مبساعدة فلوراين زاننكي والذي
نشره حتت عنوان “الفالح البولندي” ،ويعترب هذا البحث الذي قامت بتمويله مؤسسة خاصة ،أول حبث
ميداين جدي يف السوسيولوجيا األمرييكية ،وقد طبق الباحث بنجاح هذه املنهجية يف دراسة عدد من
املواضيع من بينها وضعية املرأة والعالقة بني اجلماعات العرقية ،وموضوع اجلرمية وظاهرة الفوضى
اإلجتماعية ،واجلدير ابلذكر أنه قد سبق أن اشرف على إدارة اجمللة املشهورة ،كما مت تعيينه سنة 1927
رئيسا شرفيا للجمعية األمرييكية لعلم اإلجتماع.
يف عام 1905حصل "وليام ازاك توماس" األستاذ جبامعة "شيكاغو" على منحة ضخمة من مؤسسة خاصة
لدراسة املشكالت املرتبطة ابهلجرة األوروبية إىل الوالايت املتحدة ،وبعد ذلك بقليل قرر أن يركز على
الفالحني البولنديني الذين يشكلون نسبة كبرية من السكان األجانب يف "شيكاغو" ،وميثلون مشكلة
ابرزة،ويف إحدى رحالته إىل بولندا تعرف على "فلوراين ولتورد زاننيكي" الشاعر والفيلسوف ،ونظم
إجراءات سفره إىل الوالايت املتحدة ليعمل معه يف هذا املشروع البحثي ،وقد نشر تقريرمها املشرتك بعد
احلرب العاملية األوىل مباشرة.1
وتتكون البياانت اخلام من جمموعة ضخمة من الواثئق :خطاابت شخصية ،وقصص صحفية،
واستمارات التقدم جلمعية اهلجرة ،و"اتريخ األبرشية ،"parish historiekوإحصاءات الروابط
البولندية -األمريكية ،وسجالت القضااي من احملاكم واملؤسسات اإلجتماعية ،وال نعرف عدد الواثئق
اجملموعة ،غري أن ما يزيد عن ألف منها موجودة يف كتاب "الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا" مبا فيها سرية
ذاتية طويلة ومثرية ملهاجر امسه "والديك ،"Wladekويف رأي املؤلفني أن سجالت احلياة الشخصية تعد
1
Willian thomas and Florian zaniecki, the Plish Peasant in europe and Amirica, 2Vols, NEW York,
knopf, 1927. Republished in facsimile New york, Dover, 1920.
20
"أكثر أمناط بياانت علم االجتماع اكتماال" .2وميثل املنهج الرئيسي يف منط من أمناط حتليل املضمون ،وهو
البحث يف الواثئق عن شواهد على االجتاهات والقيم اليت يعتنقها األشخاص الذين تشري إليهم الواثئق.
وتعد االجتاهات والقيم مبثابة املصطلحات األساسية يف هذه الدراسة ،والقيم االجتماعية عند "توماس
و زاننيكي" عبارة عن شيء يشبه الظواهر االجتماعية عند دوركامي ،فالقيمة االجتماعية هي شيء – مادي
أو غري مادي -يعد مفيدا ألعضاء اجلماعة االجتماعية ،يعرتف "توماس و زاننيكي" أبي تفسري يف علم
االجتماع يتجاهل الظواهر االجتماعية أو الدوافع الفردية ،حيث يقوالن" :إن سبب القيمة أو االجتاه ال
ميكن أن يكون االجتاه أو القيمة وحده ولكنه دائما مزيج من االجتاه والقيمة".3
ويتحقق املزج بتبي ني االجتاهات الفردية والقيم االجتماعية لدى كل فرد بواسطة عدد ضخم من
الرغبات اليت ميكن إشباعها يف احمليط االجتماعي فقط ،وميكن حصر األمناط العامة للرغبات يف أربعة:
-1الرغبة يف اكتساب خربات جديدة.
-2الرغبة يف كسب االعرتاف ،وهذه تشمل االستجابة اجلنسية والتقدير االجتماعي العام.
-3الرغبة يف السيطرة ،وهذه تشمل امللكية والقوة السياسية.
-4الرغبة يف احلماية ،وهذه تشمل تدعيم الزمالء وصحبتهم.
وقد عرفت هذه الرغبات األربع املشهورة يف صياغة أخرى قدمها "توماس" فيما بعد ،حيث استبعد
الرغبة يف السيطرة ،وأصبحت الرغبات األساسية هي :اكتساب خربات جديدة ،وكسب االعرتاف،
واالستجابة ،واحلماية.
وكما يبدو واضحا من عنوان الكتاب" :الفالح البولندي يف أوراب وأمريكا" ،فإنه حيلل وضع
الفالحني البولنديني يف هاتني القارتني ،ومع أن الرتكيز انصب على أوراب ،فإن التغري االجتماعي كان حمور
االهتمام يف هاتني القارتني ،وتعد اجلماعة األسرية يف القرية البولندية التقليدية هي الفاعل االجتماعي
األساسي ،وخيضع األفراد هلا إىل أبعد حد ممكن،وتعد واجبات أعضاء األسرة جتاه بعضهم بعضا مسألة التزام
ال مسألة عاطفية ،ويتم ترتيب الزواج بني األسر ،وال حتظى املعاشرة اجلنسية أبي قيمة مستقلة ،ومن الناحية
العملية تعد األسرة اجلماعة االجتماعية املنظمة الوحيدة اليت ينتمي إليها الفالح ،وليست عالقات األسرة
جبرياهنا من األسر عالقة وثيقة ،غري أن هناك تضامنا قواي يف كل قرية ،ألن مجيع الفالحني يعتنقون نفس
21
اآلراء حول أدوارهم وعالقاهتم ،كما يؤمنون بنفس املعتقدات حول الدين والسحر،وينعزل هذا اجملتمع هبذه
الصورة التقليدية انعزاال واضحا عن املؤثرات اخلارجية ،وال توجد أرسقراطية مالكة لألرض تتحكم فيه ،كما
يوجد عدد حمدود من املدن اجملاورة.
وقد أوضحا "توماس و زاننيكي" كيفية حتطم هذا النمط بفعل التغريات االقتصادية واملؤثرات
األخرى اخلارجية اليت أضعفت تضامن األسرة والقرية ،مما ساعد األفراد على تكوين اجتاهات جديدة تتعارض
مع القيم األسرية ،كما أدت ظهور التباين يف اآلراء واملعتقدات والتوجيهات االقتصادية يف القرية ،ويعرفان
"التفكك االجتماعي" أبنه تقلص أتثري املعايري اجلماعية على أعضاء اجلماعة ويوضحان أن هذا التفكك
أصبح مييز كل جانب من جوانب اجملتمع القروي يف بولندا بعد عام 1900مما أدى إىل عملية إعادة التنظيم
،Reorganisationففي األسرة حلت القيم واالجتاهات املرتبطة ابملتعة Hedonisticحمل
التضامن األسري ،ويف القرية حل السعي حنو النجاح والتفوق االقتصادي حمل الروح اجلمعية احملافظة
القدمية ،كما شهد اجملتمع األكرب يف بولندا منو طبقة وسطى جديدة وتعاظم الروح القومية ،وحترير املعتقدات
الدينية ،وظهور احلركات الثورية ،وتعاظم انتشار األفكار اجلديدة من خالل التعليم والصحافة.
وقد ظهرت صورة أكثر تطرفا للتفكك عندما هاجر الفالحون إىل الوالايت املتحدة اتركني وراءهم
قراهم البولندية ،كما استقلوا عن أسرهم أيضا ،ويوضح "توماس و زاننيكي" أن املهاجرين مل يدخلوا اجملتمع
األمريكي مباشرة ،فقد كان جمتمعهم األول مكوان من املهاجرين اآلخرين ،وكان العامل الذي دخلوه عامل
املهاجرين البولنديني – األمريكيني وليس عامل األمريكيني الوطنيني ،وهنا جند مرة اثنية أن التفكك تبعه إعادة
تنظيم وظهور اجتاهات وقيم جديدة ،فقد ظهرت مجعيات املهاجرين ،واألبرشيات البولندية واجلمعيات
اخلريية ،والنظام التعلمي التابع للكنيسة ،والروابط البولندية – األمريكية لتحل جزئيا حمل الدعائم اجلماعية
اليت افتقدها املهاجرون بيد هذه اجلماعات األولية القدمية ،ويشيع بني الفالحني البولنديني يف الوالايت
املتحدة التفكك الفردي ،الذي يعرفه "توماس و زاننيكي" أبنه افتقاد الفرد املقدرة على تنظيم حياته من
اجل حتقيق أهدافه اخلاصة ،وليس التفكك الفردي ،هو نفسه التفكك االجتماعي على الرغم من الرتابط
بينهما ،إذ يصبح بعض األفراد مفككني عندما يسود التفكك االجتماعي ،يف حني يتمكن بعض األفراد
اآلخرين من ابتداع أمناط جديدة وانجحة للفعل(.)1
22
وتتمثل الصورة املميزة للتفكك الفردي بني الفالحني البولنديني يف الوالايت املتحدة يف :اإلعالة
االقتصادية ،وتقوض العالقات الزواجية ،والقتل ،واحنراف األحداث ،وميكن االستشهاد على الطريقة اليت
فسر هبا "توماس و زاننيكي" املشكالت السلوكية ابلكشف عن االجتاهات والقيم الكامنة وراءها من خالل
االقتباس التايل الذي يناقشان فيه نتائج اجلهود ،اليت تقوم هبا احملاكم واملؤسسات االجتماعية للحيلولة دون
اهنيار أسر املهاجرين.
ويعد البولنديون – األمريكيون اليوم يف الغالب مواطنني ينتمون إىل اجليل الثالث أو الرابع ،الذي ال
يعاين مشكالت ختصه وحده ،غري أن التحليل السابق ال يزال ينطبق على بعض املهاجرين اجلدد واملهاجرين
الذين يقيمون يف قاع املدينة.
23
التقرير النائي للبحث على مزيج من البياانت الرمسية واالنطباعات غري الرمسية ،وقامت الدراسة على مقارنة
دقيقة بني ""ميدل اتون املعاصرة" ( )1924-1925و"ميدل اتون" منذ جيل مضى (.)1890
وابإلضافة إىل املعلومات اليت حصل عليها "ليند وزوجته" ابستخدام املالحظة ابملشاركة ،قاما
بفحص البياانت الواثئقية ،ومجع اإلحصاءات ،وإجراء املقابالت ،واالستعانة ابالستبياانت ،ومن بني الواثئق
املكتوبة جند تقارير التعداد ،وسجالت املدينة واإلقليم ،وملفات احملاكم ،وسجالت املدارس ،وتقارير الوالية
وكتبها السنوية ،والصحف ،وحماضر االجتماعات ،واليوميات الشخصية ،وسجل القصاصات ،واألحداث
احمللية ،ودليل املدينة ،واخلرائط ،وحوليات املدرسة الثانوية ،ومشل برانمج املقابالت حماداثت ومقابالت
خمططة مع أبرز اإلخباريني ،ومسح لعينة من أسر الطبقة العاملة ،وعينة أخرى من أسر طبقة رجال األعمال.
وكان "كتاب ميدل اتون" أول كتب علم االجتماع ،اليت أصبحت من الكتب األكثر مبيعا ،حيث
طبع منه ست طبعات يف السنة اليت ظهر فيها ،وحظي مبناقشات حامية يف أرجاء الوالايت املتحدة خاصة يف
"ميدل اتون" ،وأصبح مؤلفا هذا الكتاب مشهورين بني عشية وضحاها ،وقد حصل "ليند" بسبب إسهامه
يف هذا العمل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا ،وعني أستاذا لعلم االجتماع هبا عام .1931
ويف هذا الوقت فاجأ الكساد العظيم الوالايت املتحدة األمريكية ،ومجيع مدهنا اليت تشبه "ميدل
اتون" ويف عام 1935عاد "ليند وزوجته" إىل "مونسي" مع جمموعة كبرية من املعاونني ،لدراسة أتثري الكساد
ورصد التغريات ،اليت أصابت كل نظام من النظم االجتماعية ،وكانت املناهج املستخدمة يف هذا البحث
الثاين أكثر اختصارا من مناهج البحث األول ،وقد نشر كتاب "ميدل اتون املتغرية" بعد سنتني فقط ،وكان
التغري الذي انتاب "ليند وزوجته" يفوق التغري الذي أصاب جمتمع الدراسة ،ففي الفرتة الواقعة بني الدراستني
تقبال وجهة النظر املاركسية للبناء االجتماعي ،وأصبحا يؤمنان اآلن أبن العالقات املتصلة بكسب القوت
،هي اليت حتدد بناء النظم اإلجتماعية اخلمسة األخرى ،ابإلضافة إىل القيم واملعتقدات السائدة ،لقد اهتزت
ثقتهما القدمية يف أسلوب املعيشة يف "ميدل اتون" ويف قدرته على التالؤم ،وكان ذلك بدرجة أقوى من
اهتزاز ثقة السكان يف هذا األسلوب ،ومل يقتصر األمر على وصف "ليند وزوجته" للتغري الضخم الذي
أصاب "ميدل اتون" عام 1935كما سوف يتضح من بعد ،بل إهنما عدال من وصفهما هلذا اجملتمع عام
1925بشكل أصبحت املالحم السلبية أكثر وضوحا (.)1
24
ومن النتائج األساسية للدراسة األوىل ،االنقسام احلاد للمجتمع احمللي إىل طبقة رجال األعمال ،اليت
حتصل على معظم دخلها من العمل مع الناس ،وطبقة العمال اليت حتصل على معظم دخلها من العمل مع
األشياء ،وختتلف هااتن الطبقتان اختالفا حادا بدرجة تفوق ما يدرسه أعضائها ويتضح هذا االختالف يف
فرص احلياة ،ون ظام املعيشة اليومي (الروتني اليومي) ،والعالقات األسرية وكذلك املعتقدات الدينية
والسياسية إىل حد ما ،وتتشابه عادات أفراد الطبقة العاملة يف بعض اجلوانب مع عادات أفراد طبقة رجال
األعمال من اجليل املاضي ،وتظهر السمات الثقافية اجليدة يف طبقة رجال العمال أوال ،مث تنتقل ببطء إىل
طبقة العمال.
وكان أتثري هاتني الطبقيتني ابلتغيري االجتماعي بدرجة غري متكافئة ،كما كان الصغار أكثر استجابة
هلذا التغري من والديهم ،وكانت النساء أكثر استجابة من الرجال خاصة يف طبقة رجال األعمال.
تظهر احلياة يف "ميدل اتتون" يف كل جانب تقريبا بعض التغريات أو بعض الضغوط الناجتة عن
الفشل يف التغري ،ويقف الفرد إبحدى قدميه على أرض صلبة من العادات النظامية الراسخة ،وجيري بقدمه
األخرى على سلم يتحرك يف اجتاهات عديدة بسرعات مذهلة ،وتتوقف املعيشة يف مثل هذه الظروف أوال
وقبل كل شيء على حتقيق قدر من التوازن.
ويف عام 1935كانت "ميدل اتون" قد بدأت تصحح وضعها الناتج عن اهنيار الصناعة ،والبطالة
السافرة ،واخلسارة يف املمتلكات ،اليت حدثت خالل السنوات اخلمس املاضية ،وتعطل التقدم االقتصادي
للمجتمع احمللي تعطال كامال ،وأصبح حوايل ربع األسر يعيش على املساعدات العامة ،واخنفضت أعداد
الزجيات والوالدات ،وتوقف تشييد املباين اجلديدة ،وشهد نظام العمل حتوال بفعل القواعد الفيدرالية،
وانتشار احلركة النقابية بني العمال ،والصراعات الكامنة يف القيم داخل جمتمع "ميدل اتون" مثل الصراع بني
الفردية و املسؤولية اجلمعية ،ذلك الصراع الذي شق طريقه وطفا على السطح.
وقد اختذ "ليند وزوجته" من األوهام جمرى طبيعيا موازاي ،فقد اكتشف مالمح بغيضة للحياة يف
"ميدل اتون" تغاضيا عنها أو صوراها بدرجة أقل من الواقع عام ،1925ففي مناقشة الدعارة أوضحت
الدراسة األوىل احنسارها ،ووجود بيتني أو ثالثة ملمارسة الدعارة يف اخلفاء ،وبعد عشر سنوات اكتشف "ليند
وزوجته" أن ميدل اتون كانت يف عام 1925متثل مركزا للدعارة إلقليم كبري وأهنما فشال يف مالحظة وجود
25
منطقة حي البغاء جبانب حي األعمال ،وعلى حنو مشابه أصبح "ليند وزوجته" على دراية أبن نسبة كبرية من
السكان كانوا يعيشون يف مساكن متهدمة ال توجد هبا مياه نقية أو تدفئة كافية ،وأن إدمان املسكرات كان
منتشرا عام ،1925وأن التعصب ضد الزنوج كان ميثل مرضا مستوطنا ،وأن الصحافة احمللية كانت تتعرض
للمناورات وملؤثرات غري قومية ،وأن النهر كان ملواث بدرجة خطرية(.)1
واألهم من ذلك أن ليند وزوجته ،أعادا النظر يف وجهة نظرمها السابقة ،حول البناء الطبقي لتأخذ
يف اإلعتبار ،دور األسر ذات النفوذ اليت كانت متتلك الصناعة احمللية الرئيسية ،واليت كانت متارس نوعا من
السيطرة على اجملتمع احمللي برمته من خالل عالقاهتا اإلسرتاتيجية مع البنوك الرئيسية ،واملكاتب القانونية،
وجملس التعليم ،واجلمعيات اخلريية ،والكنائس ،والصحافة ،وجود طبقة عليا انشئة تتكون من رجال الصناعة
األثرايء ،وأصحاب املديرين احملليني للشركات الوطنية ،وقلة ثرية اتبعة هلذه اجلماعات ،ويقسمان اآلن طبقة
رجال األعمال إىل طبقة
-1اجلوهري حممد،نفس املرجع،ص 133
وسطى – عليا مؤلفة من أصحاب املصانع ،والتجار ،وأصحاب املهن الفنية املتخصصة ،واملديرين
التنفيذيني ،وطبقة وسطى – دنيا تتألف من صغار ابعة التجزئة ،والعاملني ابخلدمات ،وأصحاب املهن
الفنية.
ومل خيلص "ليند وزوجته" من هذه التقسيمات احلادة إىل أن احلرب الطبقية على وشك احلدوث ،بل
يبدو من احملتمل أن تسري "ميدل اتون" يف الطريق الوسط املعتاد ،وتتكيف بعناد مع التغريات الالزمة
وتشكل مستقبلها من خالل عمليات التوفيق واحللول الوسطى.
-4جتارب هوثورن :مايو ،روثلسربجر ،ديسكون
جورج التون مايو ( )1880-1949أحد علماء علم اإلدارة املشهورين ،وقد قام بتجاربه على العمال يف
مصانع هوثورن بشيكاغو كان اهلدف من التجارب معرفة أثر البيئة احمليطة ابلعمل على اإلنتاجية ،وقد أكد
مايو وزميله (روثليز برجر) أن حل املشاكل اإلنسانية يف العمل يتم عن طريق االهتمام ابلعنصر اإلنساين
ودراسة سلوكه" وبذلك انطلقت مدرسة العالقات اإلنسانية من قاعدة أساسية أمهلتها املدرسة الكالسيكية
وهي" إنسانية الفرد وكذا عالقته ابجلماعة (من خالل دراسة السلوكيني مث املدرسة االجتماعية) حىت ولو مت
26
توفري مجيع الشروط املادية ،ميكن أن حيقق االهتمام ابلفرد نتائج قد تكون أحسن من األوىل ،وبذلك
تستطيع أن حيقق إنتاجية أكرب ،وهذه العالقات بني األفراد ال تكون يف إطارها الرمسي عن طريق السلطة إمنا
على أساس الثقة املتبادلة والتعاون املشرتك ،وكانت أهداف األفراد تتماشى مع أهداف املؤسسة.
أجريت "جتاري هوثورن" اليت عرفت أيضا بدراسات شركة "ويسرتن إليكرتيك" يف مصنع بشركة
ويسرتن إليكرتيك يف دائرة هاوثورن مبدينة شيكاغو يف الفرتة من 1927إىل ،1932حتت إشراف مشرتك
من بعض العاملني ابلشركة وفريق من الباحثني جبامعة هارفارد بقيادة "إلتون مايو" ،وقد نشر تقرير البحث
عام 1939من أتليف "روثلسربجر" و"وليام ديسكون" ،غري أنه ()4
النهائي حتت عنوان "اإلدارة والعمال"
موجزا ابلنتائج ظهر قبل ذلك بعدة سنوات يف كتاب "مايو"املوسوم ب" :املشكالت اإلنسانية للحضارة
الصناعية" ،كما نشر من قبل أيضا تقرير إحصائي تفصيلي من أتليف "وايت هيد"(.)5
ومع أن "مايو" قدم عرضا خمتصرا مبسطا للنتائج ،فقد صاغها يف منظور أوسع يوضح صلتها مبفهوم
األنومي عند "دوركامي" ،وأتكيد "ابريتو" على أمهية النظرايت غري املنطقية يف شؤون احلياة اليومية اإلنسانية،
وإيكولوجية شيكاغو ،والنتائج األولية لدراسة "اينكي سييت" ،والنظرايت النفسية عند جانيت و"فرويد"
و"بياجيه" ،وسلوك السكان األسرتاليني األصليني وسكان "جزر الرتوبياند" ،وقد مجع "مايو" أفكارا رئيسية
من هذه املصادر العديدة ليضمها إىل نتائج "جتارب هوثورن" مبا يدعم إدعاءه الرئيسي ،وهو أن الصناعة
حتتاج إىل مستوى رفيع للغاية يف القدرات واملعارف اإلدارية من أجل احملافظة على اإلتصال والتعاون الوثيق
املطلوبني لكفاية اإلنتاج والسعادة الشخصية للعمال.
وشركة "ويسرتن إليكرتيك" شركة اتبعة للشركة األمريكية للتليفون والتلغراف ،وهي تصنع معظم
املعدات اليت حتتاجها الشركة األم ،ومصانع "هوثورن" شركة ضخمة تعمل يف إنتاج املعدات التليفونية
4
F.J.Roethlisberger and William, J. Dickson (with Harlo A. Wright), Management and the
Worker, Cambridge, Mass, Havard University Press, 1939.
وقد صدر هذا الكتاب يف طبعته األوىل عام 1933عن دار ماكسميالن بنيويورك،وكان هذا املشروع مبثابة مثرة حبث سابق عن التعب يف 5
العمل الصناعي الذي كان جيري مبعمل دراسة التعب جبامعة هافارد وكان مدير املعمل آنذاك لورانس هندرسون ،املتخصص يف الكيمياء احليوية،
كما كان يقدم يف بعض األحيان حماضرات يف علم االجتماع ،وهو يشغل مكانة متميزة يف اتريخ البحث االجتماعي يف الوالايت املتحدة ،وقد
توىل ابلتشجيع والتوجيه البحوث األوىل اليت قام هبا كل من ابرسونز ،ووايت ،وبريانرد ،وآرنسربج ،وهومانز ،وغريهم ،مث انتقل إلتون مايو إىل
هافارد وبدأ تعاونه مع هندرسون يف عام ،1962ويف العام التايل مباشرة 1927بدأ مشروع حبث ويسرتن إليكرتيك.
27
بكميات ضخمة ،وأثناء القيام ابلدراسة كانت نسبة كبرية من قوة العمل تتكون من األجانب أو أبناء
املهاجرين ،وكانت نقابة العمال وقتها ضعيفة غري مؤثرة ،ومع ذلك مل تكن تبذل أي حماوالت جادة لدعم
كيان النقابة وتقويتها.
وتتكون جتارب "هوثورن" من مخس دراسات مستقلة لكل منه منهاجا ونتائجها املختلفة ،وكلها
تسلم إىل نتيجة مفادها أن إنتاج العمال يتحدد بدرجة كبرية بطبيعة العالقات االجتماعية مع أقراهنم من
العمال ومع املشرفني ،وهذه الدراسات اخلمس هي:
-1جتارب اإلضاءة -2 .حجرة اختبار خط التجميع املناوب (أي القائم ابلعمل وقت البحث).
-3برانمج املقابالت-4 .تقسيم اجملموعات إىل فرق-5 .حجرة مالحظة شبكة األسالك.
28
لربانمج جترييب ،وأن االهتمام الشخصي الذي انلوه مع الربانمج كان له أتثري يف تغيري حالة الالمباالة واملسافة
االجتماعية يف عالقاهتم الطبيعية مع اإلدارة وتوصيلهم إىل حالة دفعتهم إىل العمل اجلاد ،وابلتايل زاد اإلنتاج
بغض النظر عن مقدار التحسن يف ظروف العمل املادية اليت أحدثتها التجارب ،وقد لوحظ ظهور أتثري
هوثورن يف مؤسسات أخرى كاملدارس ،واملكاتب ،واملستشفيات ،والسجون وأماكن أخرى فضال عن
املصانع طبعا.
-2برانمج املقابالت :انبثق برانمج املقابالت يف شركة "ويسرتن إليكرتيك" عن برانمج تدرييب
للمشرفني ،كشف عن نقص املعلومات حول الروح املعنوية ،كما انبثق أيضا عن اكتشاف وجود عالقة بني
اإلشراف والروح املعنوية يف حجرة االختبار ،وكان برانمج املقابالت يتألف من مرحلتني :األوىل :دراسة
استطالعية أجريت يف أحد فروع الشركة من سبتمرب 1928إىل فرباير ،1929والثانية :برانمج متصل مشل
حوايل 20ألف كمقابلة مع العاملني يف الشركة عامي 1929و ،1930وقد توقف الربانمج عام 1931
نظرا حلدوث اخنفاض مماثل يف النشاط اإلنتاجي ،مما أدى إىل تعثر التجارب األخرى ،بيد أن الربانمج عاد
مرة اثنية عام 1936ليصبح من املالمح الدائمة لإلدارة العمالية يف مصانع "هورثون" حتت مسمى "اإلرشاد
العمايل".
ويف بداية الربانمج أعد القائمون ابملقابلة قائمة ابملوضوعات ،اليت اعتقدوا أهنا ترتبط ابلروح املعنوية
مثل التدفئة ،والتهوية ،والتخزين ،وحوادث العمل واملزااي اإلضافية ،وفرص الرتقية ،وقد واجه القائمون
ابملقابلة صعوابت يف إلزام املبحوثني هبذه املوضوعات ،وجاءت النتائج أكثر إاثرة عندما سارت املقابلة على
طبيعتها دون اإللتزام ابملوضوعات احملددة ،وبعد عدة مناقشات اتبع الباحثون أسلواب جديدا للمقابلة أطلقوا
عليه األسلوب غري املباشر ،أو ما يطلق عليه اآلن املقابلة غري املوجهة ،فقد ترك للمبحوث أن خيتار
املوضوعات ،ويقوم القائم ابملقابلة مبتابعة تفكري املبحوث دون أية حماولة لتغيري املوضوع أو التدخل يف ا
حملادثة ،وترتب على تغيري أسلوب املقابلة إطالة وقت املقابلة من 30دقيقة إىل 90دقيقة ،كما زاد متوسط
عدد صفحات تقرير املقابلة من حويل أربع صفحات إىل حوايل عشر صفحات ،وقد تبني أن إاتحة الفرصة
للحديث مع ابحث غري مدقق ،خالل ساعات العمل وإاتحة الفرصة للكشف عن املشكالت الشخصية يف
سرية اتمة مع غريب متعاطف له أتثري إجيايب،مستقل على الروح املعنوية للعمال.
29
وكانت هذه النتيجة على درجة كبرية من األمهية ،وكان هذا هو هدف برانمج املقابالت عندما طبق
مرة اثنية يف مصانع هورثون ،ومع ذلك كان للربانمج األصلي أهداف أخرى ،ومن خالل املقابالت اليت
أجريت عام 1929استخرج قسم التحليل ابملشروع حوايل 80ألف تعليق ،وكانت تلك أول عملية حتليل
مضمون متت على هذا النطاق الضخم.
وتتلخص النتيجة األساسية هلذا التحليل الشامل ،يف أن مناخ العمل الذي يعمل فيه العمال
الصناعيني – ورمبا غريهم من العمال -ذا أمهية اجتماعية ،وحىت يتسىن فهم شكاوى العمال وكذا مصادر
رضاهم ،ينبغي أن يؤخذ يف االعتبار أربع ظواهر خمتلفة :التنظيم االجتماعي الذي يتم يف إطاره ،واألحداث
واألشياء واألشخاص املوجودون يف بيئة العامل ،ووضع العامل داخل التنظيم ،واألنساق االجتماعية
اخلارجية اليت حتيط بعمله.
حجرة مالحظة شبكة األسالك :اشتملت التجربة األخرية من جتارب "هورثون" على دراسة تفصيلية
ملوقف معملي من وجهة نظر علم االجتماع ،وكان اهلدف من تصميم هذه التجربة الكشف عن أاثر التفاعل
االجتماعي على سلوك العمال ،ومع تقدم الدراسة بدأت يف الرتكيز على عملية تقييد اإلنتاج ،اليت متارسها
() 1
مجاعة األقران املنظمة تنظيما غري رمسي.
لقد أخذت جمموعة من العمال الذكور من القسم الذي يعملون فيه ،ووضعوا حتت املالحظة يف
حجرة مستقلة ليستمروا يف أداء نفس العمل الذي كانوا يقومون به ،وكان عملهم هو توصيل أسالك خطوط
لوحة مفاتيح التليفوانت ،وتكونت هذه اجملموعة من 14رجال على النحو التايل 9 :عمال أسالك3 ،
حلامني ،و 2من املفتشني ،ابإلضافة إىل مالحظ مت ضبط سلوكه ضبطا دقيقا ،حىت ال ينزلق إىل دور شبه
إشرايف ،وقد استمرت هذه التجربة األخرية من نوفمرب 1931إىل مايو 1932حيث انتهت ابنتهاء
املشروع.
ولقد ظلت أجور العمال وساعات عملهم على حاهلا ،إذ أن نظام حوافز األجر يضع معيارا قدره
7200توصيلة ،غري أن العامل يقف عن 6600توصيلة يف اليوم ،ويذكر معظم العمال إن إنتاجهم اليومي
يقرتب من هذا الرقم ،مع أن ذلك يتطلب جهدا متواصال وانشغاال هبذه األرقام ،وابستثناء فرد أو فردين مل
يندجموا كلية مع اجلماعة ،استطاع بقية العمال أن يصلوا إىل هذا اإلنتاج تقريبا ،وهذا يعين أن بعض العمال
30
ينتجون أقل مما يستطيعون إنتاجه ابلفعل ،وبعضهم ينتج أكثر من ذلك ،وتنتج اجملموعة ككل أقل مما تقدر
عليه.
ويالحظ أن التنظيم االجتماعي الداخلي حلجرة األسالك ،كان أكثر إحكاما أثناء فرتة التجربة
القصرية من التنظيم االجتماعي ،امللحوظ جملموعات أصغر من الفتيات يف التجارب السابقة ،ومل يقتصر
األمر على أن اجملموعة استطاعت تطوير معايريها اخلاصة هبا ،وتتحد على استقرار اإلنتاج عند املستوى
املرغوب فيه ،وحتافظ على التضامن ضد املشرفني ،بل إن هذه اجملموعة انقسمت إىل جمموعتني تتفوق
إحدامها على األخرى ،ولكل منهما منط من التفاعل الداخلي اخلاص هبا.
وقد قام "جورج هومانز" بتحليل ابرع هلذا اجملتمع الصغري بعد ذلك بعدة سنوات ،لتوضيح كيفية
حفاظ األنساق االجتماعية بصفة عامة على نفسها ضد الضغوط اخلارجية ،وحتقيق توازن داخلي بني
العواطف والنشاط مبا يكفل االمتثال ملعايري اجلماعة ،وتناسب الثواب االجتماعي مع الرتبة االجتماعية،
وإجناز األهداف املشرتكة(.)1
31
"ماساشوسيتش" ،وهي مدينة ساحلية صغرية هلا اتريخ طويل ومتواصل ،وكانت تضم حوايل 17ألف نسمة
وقت إجراء الدراسة.
وقد بدأ العمل امليداين عام 1931واكتمل عام ،1935وخرجت نتائج املشروع يف مخسة جملدات
ضخمة ظهرت يف الفرتة بني 1941و 1959وفقا خلطة البحث األصلية ،وتغطي هده اجمللدات النمط
العام للحياة االجتماعية يف "اينكى سييت" ،وحتليال دقيقا لنسق املكانة ،وأوضاع مثاين مجاعات عرقية يف
اجملتمع احمللي (األيرلنديون ،والكنديون الفرنسيون ،واليهود ،واإليطاليون ،واألرمن ،واليواننيون ،والبولنديون
والروس) ،والتطور املفاجئ اهلام لصناعة األحذية احمللية ،والرموز السياسية والتارخيية والدينية يف "اينكي
سييت" ،وقد ساعد "وارنر" يف إعداد هده اجمللدات جمموعة من املشاركني واملساعدين األكفاء ،وواصل كثري
منهم إجراء حبوث هامة خاصة هبم فيما بعد.
ويتشابه مشروع "اينكي سييت" مع املشروع األول يف "ميدل اتون" من نواح عديدة ،إذ جند للمرة
الثانية جمموعة متحمسة من الشباب الباحثني تنتقل إىل اجملتمع احمللي ،وحتيط سكانه علما أبهدافهم العامة،
وتسعى إىل مجع معلومة غزيرة ابستخدام طرق عديدة :املالحظات ابملشاركة،ورسم اخلرائط ،والعد
اإلحصائي ،واملقابالت ،واالستبياانت ،واتريخ احلالة ،والواثئق العامة ،والصحف ،واليوميات ،واملذكرات
وكما هو احلال يف "ميدل اتون" كان االكتشاف املبكر اهلام ،هو وجود نسق واضح من الطبقات اإلجتماعية
،يؤثر يف حيات السكان من مجيع اجلوانب ،وكما هو احلال أيضا يف "ميدل اتون" اتضح أن وجود الباحثني
كان له ضخم على الوعي االجتماعي للسكان موضوع للدراسة.
بيد أن االختالفات بني الدراستني تعادل يف أمهيتها أوجه التشابه بينهما ،فقد كان الرتكيز يف "ميدل
اتون" منصبا على التغريات االجتماعية اليت حدثت بني 1890و ،1925أما يف "اينكي سييت" فقد متت
دراسة التغري بصفة منتظمة عرب فرتة زمنية أطول ،وميكن أن تعد "ميدل اتون" عينة من اجملتمع األمريكي أو
على األقل عينة من وسط غرب أمريكا ،أما "اينكي سييت" فإهنا متثل شرحية أقل منطية من احلياة األمريكية،
وقد ساد مشروع "اينكي سييت" اهتمام أبماكن معينة وأشخاص بعينهم ،وتتمثل أهم االختالفات املنهجية
بني املشروعني يف معاجلة اجلماعات يف "ميدل اتون" على أهنا جتمعات ،يف حني مت ترتيب البياانت اليت
مجعت يف "اينكي سييت" حسب أمساء األفراد ،ويتكون اجلزء الرئيسي من التحليل ،من تعقب روابط األفراد
32
وعالقتهم ابستخدام نظام امللفات( ملف لكل فرد) الذي جيمع املعلومات بشكل فردي عن كل ساكن
تقريبا من سكان املدينة.
وي تألف النظام الطبقي من ست طبقات ،أو من ثالث طبقات رئيسية ،كل منهما ينقسم بدوره إىل
قسمني،كما توجد أمساء هلذه الطبقة تستند إىل أحياء املدينة ( مثل سكان شارع هيل ،وسكان شارع سايد،
وسكان ريفر بروكر) ،وتدل هذه التسميات كتعبريات مهذبة عن التصنيفات الطبقية ،والطبقات الست-
بلغة وارنر -هي- :العليا-العليا ،والعليا -الدنيا ،والوسطى -العليا ،والوسطى الدنيا ،والدنيا العليا،
والدنيا -الدنيا .وتتألف الطبقة العليا -العليا من العائالت العريقة اليت حافظ أسالفها على وضع قيادي يف
املدينة على مدى ثالثة أجيال على األقل ،ويلي ذلك العائالت اجلديدة (العليا -العليا) اليت يتشابه أسلوب
معيشتها مع أسلوب معيشة العائالت العريقة ،ولكنه أسلوب مكتسب حديثا ،وتتكون الطبقة الوسطى-
العليا من رجال األعمال وأصحاب املهن الفنية املتخصصة ،الذين يتمتعون بقدر من االستقاللية،كما تتألف
الطبقة الوسطى -الدنيا من صغار التجار والعمال أصحاب الياقات البيضاء.
ويشكل عمال املصانع السواد األعظم من الطبقة الدنيا -العليا ،أما الطبقة الدنيا -الدنيا فتتكون
من ساكين ريفر بروكر الذين يعملون بصفة غري منتظمة ،وحيصلون على قوت غري مضمون من العمل
العرضي ،وأعمال احلفر ،وصيد البحر ،واملهن غري النظامية.
وقد أسهم مشروع -اينكي سييت -على غرار دراسات –ميدل اتون -يف انتشار وجهة نظر
األمركيني عن جمتمعهم ،واتضح أن التنوع احمللي هو أساس جتانس النظم يف اجملتمع األمريكي ،مع ذلك فإن
هذا التصور كان له مثنه مادام أن النسق الطبقي الذي منا يف "نيو بري بورت" كان بطبيعته سراي ،وغري
معرتف به ،واحنرافا غري شرعي عن املثل األمريكية السائدة مثل الدميقراطية واملساواة بني األشخاص ،وقد
أمكن للباحثني من خالل إظهار معامل هذا النسق أن يغريوا من طبيعته إىل حد ما،وأن يربهنوا على صحة
حجج من ادعوا مكانة عليا ،وأن جيعلوا من الصعب على اجلماعات الوسطى والدنيا ادعاء املساواة النظرية،
وهو االدعاء الذي كان موجودا من قبل ،ومع الستينات مت التسليم على نطاق واسع بوجود نسق طبقي يف
الوالايت املتحدة ،كما أن النسق الطبقي املؤلف من ست طبقات الذي وجده "وارنر" يف "نيو بري بورت"
موجود يف جمتمعات أخرى دون حاجة للبحث عن ذلك.
-6جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي) :وليام فوت وايت
33
اكتشف "وليام فوت وايت" -وهو خريج جامعة هارفارد -جمتمعا غريبا ،وذلك عندما قام بدراسة
منطقة إيطالية حضرية متخلفة (كورنفيل) يف بوسطن يف الفرتة بني 1937و ،1940وتوجد عالقة بني دراسة
"وايت" ومشروع "اينكي سييت" ،فقد تعلم "وايت" أساليب العمل امليداين من "كونراد أرينسربج" و"إيلوت
شابل" اللذين اكتسبا هذه املعرفة يف "اينكي سييت" ،كما استفاد من نصائح "وارنر" يف إعداده تقريره.
ويتمثل االختالف البارز بني هاتني الدراستني يف أن "وايت" قام هبذه الدراسة مبفرده ( ابستثناء
مساعدة حمدودة له ومن زوجته) ،واعتمد اعتمادا كبريا على منهج املالحظة ابملشاركة ،وكان سكان
"كورنفيل" وقت إجراء دراسة أكرب حجما إىل حد ما من سكان "اينكي سييت" ،حيث بلغ عدد سكاهنا
حوايل 20ألف نسمة ،ومل يزعم "وايت" أنه يدرس النظم االجتماعية هلذه املدينة دراسة كاملة ،واحلقيقة أنه
أشار إشارات طفيفة إىل األسرة ،والكنيسة ،واملدارس ،والقطاع الرمسي من االقتصاد احمللي ،وكان موضوع
حبثه هو العالقة التبادلية بني اجلمعيات التطوعية للشباب يف "كورنفيل" واملقامرة املنظمة والسياسة ،ويصف
"وايت" يف القسم األول من كتابه تطور مجعيتني شارك فيهما ،ومها -عصابة النواصي -اليت يطلق عليها
"نورتونز ،" Nortonsومجعية صغرية يطلق عليها "النادي اإليطايل احمللي Italien commentry
"clubوأعضاء النورتونز من صبية النواصي الذين ال تتعدى طموحاهتم وفرصهم اجملتمع احمللي ،أما أعضاء
النادي اإليطايل احمللي فهم جامعيون يتطلعون إىل وضع يف اجملتمع األكرب.
وكتاب "جمتمع النواصي" له طابع درامي ملحوظ ،وال يوجد يف تراث علم االجتماع يتصف هبذه
الرباعة الف ائقة يف الوصف والدراما وإاثرة العاطفة والشعور .وقليلة متاما األعمال األخرى اليت ميكن أن
تضاهيه يف هذه الرباعة وهذا التأثري .ويعود هذا الطابع إىل مشاركة املؤلف الوجدانية للناس الذين قام
بدراستهم ،ويف موضع من الكتاب يشري" وايت" إىل أنه حتول تقريبا من مالحظ غري مشارك إىل مشارك غري
مالحظ ،وكان يشعر أنه أقرب إىل "النورتونز" منه إىل النادي اإليطايل احمللي ،وكان "دوك "Docقائد
النورتونز أول إخباري له ،وأصبح صديقه احلميم ومعاونه ،وقصة "النورتونز" هي إىل حد كبري قصة "دوك" يف
أايم جمده األوىل ،مث ضياع هيبته كقائد حالة البطالة الدائمة اليت عاىن منها بينه وبني الوفاء ابلتزامات القيادة،
ودفعته يف النهاية إىل قطع صلته مع زمرته ،أما القصة املختلفة للنادي اإليطايل احمللي فهي إىل حد كبري قصة
قائده "شيك موريللي ،"chic morelliوهو انتهازي بال مبادئ على دراية جيدة ابلبناء االجتماعي
34
لكورنفيل ،وهي قصة التناحر يف صورة مصغرة بني أسود "ابريتو" وثعالبه ،وكانت عواطف "وايت" كلها مع
األسود قليلة احلظ.
القسم الثاين من التقرير عبارة عن دراسة للبناء االجتماعي البتزاز األموال يف "كورنفيل" ،وكان
املبتزون يسيطرون على لعبة األرقام ويتحكمون فيها ،وحيرصون على مهادنة الشرطة ،وتوطيد عالقاهتم مع
البناء السياسي الذي يشبع الوالء العرقي واالحتياجات احمللية ،ومن مميزات دراسة "وايت" أهنا تكشف عن
هذا النسق من أسفل إىل أعلى ،وهناك فصل طويل حيدثنا عن كيفية خضوع اندي اجتماعي ورايضي صغري
ألحد املبتزين ،وكيفية قيام هذا النادي بدور حمدود – ولكنه دور هام -يف انتخاابت املدينة ،إن وضوح
أسلوب "وايت " ،ووصفه الدقيق لألحداث ،واستخدامه املستمر لالقتباس املباشر يعطي القارئ إحساسا
ابملشاركة الشخصية.
وهناك ملمح درامي آخر يف كتاب "جمتمع النواصي" ،ففي الوقت الذي قام فيه "وايت" بدراسة
منطقة حضرية متخلفة مع هناية الكساد العظيم ،وكان مهتما اهتماما ظاهراي ابجلانب األسوأ من حياهتا
(البطالة واإلسكان املتخلف ،والرشاوي واملرتبات الثابتة اليت تدفع لرجال الشرطة ،والفساد السياسي،
واخلدع االنتخابية ،والفرص احملدودة) ،فإن تعاطفه قاده إىل وصف "كورنفيل" أبهنا مكان خيلو من العنف
واحلقد أو املعاانة احلقيقية ،وقد أجنز مهمته يف دخول اجملتمع بنجاح لدرجة أوقعته يف حب مبحوثيه ووقعوا
هم يف حبه ،فقد كون لنفسه موطنا اثنيا يف أسرة صاحب مطعم حملي ،وتعلم اإليطالية ،وحاز مكانة مرتفعة
بني "النورتونز" ،وكون صداقات مع املبتزين ،وشارك يف احلمالت االنتخابية ،بل وأحضر عروسته اجلديدة
لتعيش معه يف "كورنفيل" ،ويف بعض األحيان كان "وايت" ينسى حياده وينحاز إىل جانب القضااي احمللية
وبني احلني واآلخر كان يتمثل ملعايري أصدقائه بدرجة تفوق ما كانوا يتوقعونه منه ،مثل مشاركته يف التصويت
عدة مرات يف يوم االنتخاابت ،بل إنه فضل املعلومات غري الواثئقية وغري اإلحصائية والبياانت األولية
املأخوذة مباشرة من امليدان بدرجة أكرب من املطلوب حىت يؤكد على أمهية التزامه ابلتفاعل الشخصي
املباشر.
ومن السلوكيات النمطية اليت اكتشفها "وايت" يف "كورنفيل" أن صبية النواصي يعتنقون "القيم
احمللية" ،أما الطلبة اجلامعيون فإهنم يعتنقون "القيم غري احمللية" ،مبعىن أن صبية النواصي حيافظون على
35
الفضائل األصلية جملتمعهم احمليط هبم ،يف حني أن طلبة اجلامعة الذين أتثروا ابألخصائيني االجتماعيني وغريهم
من مؤسسات اجملتمع األكرب تناسوا التزاماهتم حيال بعضهم بعضا يف سباقهم من أجل احلراك الصاعد.
ومييز "وايت " يف كل تدرج طبقي يف "كورنفيل" نسقا من ثالثة مستوايت يتألف من صغار القوم،
وكبارهم ،ووسطائهم ،وصبية النواصي هم صغار القوم ،أما املبتزون والساسة فهم علية القوم ،أما قادة
عصاابت النواصي فهم الوسطاء الذين يصلون بينهما .وميتد هذا النمط إىل التدرج اهلرمي فوق الطبيعي
حيث أن العباد –شأهنم يف ذلك شأن صغار القوم -يتخذون من القديسني وسطاء ليتشفعوا هلم عند "علية
القوم".
بيد أن التدرج الطبقي يف "كورنفيل" يضم أكثر من هذه الفئات املتدرجة العامة ،إذ إن كل رابطة
من الرابطتني اللتني قام "وايت " مبالحظاهتما هلا نظامها الطبقي الدقيق اخلاص هبا بغض النظر عما يبدو
للوهلة األوىل من متييز الرابطة ابلبساطة والالرمسية ،واستطاع "وايت" أن يبني بوضوح اعتماد املكانة على
جمموعة من االلتزامات داخل اجلماعة ،لدرجة أن مكانة الفرد تقيس مقدرته النسبية على االمتثال لقيم
اجلماعة.
ويكون القائد يف كل األحوال هو النقطة احملورية لبناء اجلماعة ،وممثلها أمام العامل اخلارجي ،والقائد
بدور احلكم يف الداخل ،هو الذي يبادر أبنشطتها اجلمعية .وتكون العالقات اهلامة تلقائية مع انئبيه ،وليست
مع اتبعيه وأعوانه ،وحتدث التغريات يف القيادة عن طريقة حدوث حتول يف العالقات بني من يرتبعون على
قمة البناء ،وليس بصعود من يقبعون يف القاع ،ومتثل هذه التغريات مصدرات لقلق املشرتكني فيها أو املعنيني
هبا ،وقد يصاب القائد املخلوع وبعض من أتباعه ابملرض عندما خيتل توازن اجلماعة.
ورمبا يكون أتثري نتائج لعبة " "Bowlingمن أكثر األشياء اليت تعلق ابلذهن من دراسة "وايت" ،إذ يعد
(البولنج) أحد األنشطة األساسية يف زمرة "دوك" ،وهم يعلقون أمهية كبرية على املهارة يف ممارسة هذه اللعبة،
وقد افرتض "وايت" يف البداية أن مهارة الفرد يف لعب "البولنج" تضيف إىل مكانته يف اجلماعة ،ولكنه انتهى
بعد مالحة طويلة إىل أن العكس هو الصحيح ،إذ إن مكانة عضو اجلماعة هي اليت حتدد مهارته يف
"البولنج" ،على األقل يف تلك املناسبات اليت جتتمع فيها اجلماعة كلها ملشاهدة مباراة هامة .وينخفض
مستوى أداء ذوي املرتبة املنخفضة بفعل الضغوط اجلافة واحلادة من اجلماعة ،يف حني يلقى مؤازرة أبساليب
مشاهبة.
36
إن املزج بني العناصر املوضوعية والذاتية يف كتاب "جمتمع النواصي" جيعل الواحد منا يتساءل عما
ميكن أن يتوصل إليه يف نفس املوقف ابحث آخر لديه مزاج خمتلف ،وحتتاج دراسة جمتمع النواصي إىل
تكرارها أكثر من أي دراسة أخرى يف تراث علم اإلجتماع ،ويصعب تفسري وفهم األسباب اليت دفعت إىل
عدم تكرار مثل هذه الدراسة ،ابستثناء دراسة مشاهبة عن "جمتمع نواصي الزنوج" اليت قام هبا "أليوت ليبو"،
واليت اهتمت بدراسة املشكالت املهنية واألسرية ،وعرضت خلربة خمتلفة متام االختالف.
37
كبرية من علماء االجتماع البارزين الذين كانوا على قيد احلياة يف ذلك الوقت ،وقد ظهرت ثالثة جملدات
عن اجلوانب االجتماعية لوضع الزنوج قبل اكتمال التقدير الرئيسي ،كما ظهرت كتب عديدة اعتمدت على
بياانت هذه الدراسة ،وبقيت خمطوطات عديدة أعدت هلذا املشروع دون أن يتم نشرها.
واملوضوع الرئيسي لكتاب "األزمة األمريكية" ويبدو يف غاية البساطة ،كما يتضح من املقدمة اليت
كتبها "مريدال" لتقرير البحث:
"إن مشكلة الزنوج األمريكيني هي مشكلة متأصلة يف قلوب الشعب األمريكي ،وهنا ميكن أساس
التوتر بني اإلثنيات ،ويستمر الصراع الضاري.
وهذا هو جوهر هذا البحث .ومع أن دراستنا تغطي العالقات االقتصادية واالجتماعية والسياسية
بني اجلماعات اإلثنية ،فإن مكمن املشكلة هو األزمة األخالقية للشعب األمريكي ،أي الصراع بني تقييمه
األخ القي على خمتلف مستوايت الوعي والتعميم ،وتعين "األزمة األمريكية" املشار إليها يف عنوان الكتاب
الصراع العنيف بني األحكام القيمية على مستوى العام واليت سوف نطلق عليها "العقيدة األمريكية" ،حيث
يفكر األمريكيون ويتناقشون ويتصرفون حتت أتثري قوى لتعاليم أخالقية ذات طبيعة قومية ومسيحية من
انحية ،ومن بني األحكام القيمية على مستوايت خاصة للحياة الفردية واجلماعية حيث تسيطر على املواطن
األمريكي وجهة نظره يف املصاحل الشخصية واحمللية ،واحلقد االقتصادي واالجتماعي والعرق ،واعتبارات
اهليبة واألمثال يف اجملتمع احمللي ،والتعصب اجلماعي ضد أشخاص بعينهم أو مناذج معينة من الناس ،ومجيع
صنوف الرغبات والدوافع والعادات املختلفة من انحية أخرى"(.)6
وتعين هذه العبارات أن أسباب مشكلة الزنوج األمريكيني ينبغي البحث عنها يف معتقدات
وتصرفات األغلبية البيضاء ال يف معتقدات األقلية السوداء.
ويف رأى "مريدال" أن القاسم املشرتك يف املشكلة العرقية األمريكية هو رفض األمريكيني البيض
ابإلمجاع تقريبا لالندماج مع السكان السود ،واعتمادهم على إجراءات الفصل العنصري من أجل احليلولة
دون قيام عالقات وثيقة معهم قد تؤدي إىل التزاوج .وقد أشار "مريدال" إىل ما أمساه ابلنظام الرتاتيب للتمييز
العنصري عند الرجل األبيض أي األمهية النسبية امللتصقة بكل منط من أمناط التمييز العنصري من جانب
األبيض ،وهو النظام الرتاتيب الذي يضاد النظام الرتاتيب للتمييز العنصري عند السود أي األمهية النسبية
()6
انظر جونار ميردال ،األزمة األمريكية ،مرجع سابق ،صفحة .XIVII
38
امللتصقة ابلتخلص من مجيع صور العنصري .ويبدأ النظام الرتاتيب للتمييز العنصري عند الرجل األبيض
بتحرمي التزاوج واالتصال اجلنسي بني الرجل الزجني واملرأة البيضاء ،يلي ذلك وضع حواجز أمام قيام
عالقات اجتماعية وثيقة ،والفصل يف األماكن العامة ،واحلرمان من حق التصويت السياسي ،واملعاملة
املتحيزة من جانب املؤسسات العامة ،وأخريا التمييز االقتصادي على هذا الرتتيب ،ويبدأ النظام الرتاتيب
للتمييز العنصري عند الزنوج ابلتخلص من التمييز االقتصادي.
وقد أصيب "مريدال" بصدمة عند مقارنة وضع الزنوج بوضع قطاعات سكانية أخرى حمرومة من
املشاركة الكلية يف االقتصاد مثل النسا ء وفقراء البيض ،وأشار إىل أن القطاعات الفقرية من قوة العمل
األمريكية ال تتحد ضد الطبقة املسيطرة ابملعىن املاركسي ولكنها تظهر عداءها حنوها وختضع هلا.
التصاعد أو الرتاكم :ويعد مبدأ التصاعد أو الرتاكم ،مبثابة اآللية اليت تبقى على الزنوج يف فقرهم.
يقول "مريدال "" :إن تعصب البيض وحتيزهم حيافظ على إبقاء الزنوج يف وضع متدن من حيث مستوايت
املعيشية ،والصحة ،والتعليم ،واآلداب اإلجتماعية ،والعادات األخالقية ،وهذا الوضع املتدين الذي يوجد
فيه الزنوج يدعم بدوره تعصب البيض ضدهم ،وهكذا نرى أن تعصب البيض ومستوايت الزنوج املتدنية
يفضي كل منها إىل اآلخر"( .)7وقد سلم مريدال أبن مجيع عوامل احلرمان متداخلة ومتشابكة ،غري أنه أكد
على الصور االقتصادية للحرمان اليت يتعرض هلا الزنوج وال يزالوا معرضني هلا حبكم اهتمامه األساسي بعلم
االقتصاد ،وقد وصف الوضع االقتصادي للزنوج األمريكيني أبنه وضع مرضي حيث الحظ أهنم ميتلكون
ممتلكات حمدودة ،وأن املعدالت املنزلية اليت لديهم غري كافية ،ومدخلهم منخفض وغري منتظم ،ويرتكز
املزارعون الزنوج يف أقل القطاعات إنتاجا ،كما يرتكز العمال الزنوج غري الزراعيني يف أدىن املهن اخلدمية
والصناعية وأقلها أجرا ،وترتفع البطالة بني الزنوج بنسبة أعلى بكثري من معدهلا العام يف اجملتمع ،كما أن
ظهور النزعة النقابية يف الثالثينيات أصابتهم ابلضرر بدال من أن تؤدي إىل حتسن وضعهم نسبيا.
-8اختيار الشعب :بول الزار سفيلد وآخرون
ولد عامل االجتماع النمساوي األصل فيلكس الزار سفيلد يف فيينا يف 13فرباير ،1901يف أسرة
نشطت يف جمال الفن والثقافة والسياسة ،فوالده اختصت يف التحليل النفسي ،وتدريب على)(SOFIC
كان حماميا مشهورا بدفاعه عن النشطاء السياسيني الشباب جماان ،ووالدته صويف) (Robertروبرت وهلا
39
كتاب عن حترير النساء ،وهو ما شجعه ليكون عضوا انشطا وقياداي يف املنظمات الطالبية االشرتاكية ،بلغ
حد ( )Alfred Adlérيد فالفريد أدلر أتسيس جريدة شهرية للطلبة االشرتاكيني ،وقد أسهم يف إنشاء
ما يسمى به "الكباريه السياسي" الذي لعب دورا مهما يف تطوير اتريخ فيينا السياسي واملسرحي.
انل الزار سفيلد شهادة الدكتوراه يف علم الرايضيات التطبيقية من جامعة فيينا ،1925وتعرف
أثناء دراسته على عاملي النفس كارل وشارلوت ،بوهلر اللذين درساه ،وأتثر هبما وعمل يف معهد بوهلر
النفسي ،حتديدا لشارلوت بوهلر يف أحباثها عن الطفولة املبكرة ومنو الشباب ،مما أاتح له فيما بعد أتسيس
قسم خ اص يف املعهد النفسي ،يعين بتطبيق علم النفس على املشكالت االجتماعية واالقتصادية ،انتقل
الزار سلفد سنة 1933إىل أمريكا ،بعد أن حتصل على منحة من مؤسسة روكفل ،اليت أكربت دراسته حول
قرية مارينيثال ،ومثنت ما جاء فيها من نتائج استندت إىل منهج تكاملي ،جيمع بني املالحظات الكمية
والكيفية ،وهي دراسة كان هلا أثر كبري يف عدة أجيال الحقة من علم االجتماع ،ومع أن النازيون عملوا على
منع ظهورها ونشرها مند سنة " 1978جزاءا من مقررات علم االجتماع يف اجلامعات النمساوي"
(سيلز ،2010،ج ،2ص .)238
واستقر الزار سلفد ابلوالايت املتحد األمريكية ،وانصرف إىل إجناز عدد من املشاريع البحثية ،ووجد
دعما كبريا من "روبرت ليند" ،فتمكن من إنشاء مركز حول البطالة ،وتوىل اإلشراف على دراسة أقرهتا
مؤسسة التأثريات االجتماعية للراديو.
ويف سنة 1939مت تعيني الزار سلفد حماضرا جبامعة كولومبيا ،مث استاذا مساعدا يف علم االجتماع،
حثي ظل إىل حني إدراكه ين التقاعد سنة ،1969ويف سنة 1944حتولت تسمية مكتب حبوث الراديو إىل
مكتب البحوث االجتماعية التطبيقية.
ويف سنة 1962أصبح الزار سلفد أستاذ "كريس كتليه للعلوم االجتماعية" ،وقد أنشئ
هذا الكرسي خصيصا له فقد كان يؤمن أبن اإلحصائي البلجيكي أدولف هو املؤسس احلقيق لعلم االجتماع
اإلمربيقي ،ومل يتوقف الزار سلفد عن التدريس حىت إثر تقاعده ،فقد كان يقدم دروسا يف (Adolphe
) Quetletكتليه جامعة بتسربغ ،ابعتباره أستاذا متميزا منذ سنة 1969حىت وفاته.
من مؤلفاته نذكر :مقالة مشرتكة مع روبرت مريتون حول "وسائل االتصال والذوق العام والفعل
االجتماعي املنظم " ( ،)1948وكتابه مشرتك مع كندال حول "مشكالت حتليل املسموح" ،دراسة عن
40
االنتخاابت الرائسية بعنوان خيارات الناس" ( ،)1940وكتاب "مذكرات اترخيية عن الدراسات
()1
)( ،(Kendallاألمربيقية للفعل" :األوديسا العقالنية" .)1958
يف انتخاابت الرائسة األمريكية عام 1940كان الناخبني يف مقاطعة "ايرى " "Erieبوالية "أوهايو"
أن يقرروا ما إذا سيدلون أبصواهتم لصاحل الرئيس "فرانكيلني رزفلت" لفرتة رائسة اثلثة ،أم لصاحل نظريه
اجلمهوري "وندل ويكي" ،أو سيعزفون عن يف االنتخاابت كلية ،وقد قام "الزار سفيلد" _ وهو مؤسس
مكتب البحوث االجتماعية التطبيقية يف جامعة كولومبيا_ إبجراء حبث للكشف عن كيفية اختاذ هذا القرار،
وتقل عدد صفحات تقدير نتائج البحث عن مائيت صفحة ،غري أن هذا البحث كانت له آاثر بعيدة املدى
على النظرية واملمارسة
-1مجموعة من الباحثين :الموسوعة الدولية للعلوم االجتماعية ،ترجمة :المركز القومي للترجمة ،القاهرة،
(الجزء 2علماء االجتماع) ،ط .)2010( ،1
السياسية يف الوالايت املتحدة ،وضرب هذا البحث مثاال حيتدى به يف املسوح السياسية اليت وفرت
ترااث غزيرا منذ ذلك الوقت حول العوامل اليت حتدد نتائج االنتخاابت يف البالد الدميقراطية.
وقد جاء مشروع حبث مقاطعة "ايرى" نتيجة لالستخدام املكثف الستطالعات الرأي العام لقدير
اجتاهات الناخبني يف احلمالت االنتخابية يف الثالثينيات ،كما جاء نتيجة لبحوث مجهور املستعملني والقراء
اليت قامت هبا الشبكات اإلذاعية واجملالت القومية يف نفس الوقت ملضاعفة أتثري محالهتا الدعائية ،وقد مت
تدبري اجلانب األكرب من متويل هذا البحث من جانب إحدى اجملاالت القومية وإحدى مؤسسات حبوث
الرأي العام.
وقد مجعت البياانت بواسطة ابحثني قاموا بزايرة عينة إحصائية ممثلة للسكان ،وحصلوا على إجاابهتم
على استبيان مقنن ،وكانت هذه الدراسة _مع ذلك_ أكثر دقة وإحكاما مما هو مألوف يف مسوح الرأي
العام ،وقام الباحثون بزايرة املنزل الرابع يف كل شارع من شوارع املقاطعة لتحديد إطار معاينة مكون من
4000انخب تقريبا على أن يكونوا ممثلني جلملة السكان من حيث :العمر والنوع واإلقامة والتعليم
وامتالك اهلاتف والسيارة ،واملواطن األصلي ،مت اختيار أربع عينات من هذا اإلطار ،وتتكون كل عينة من
600مفردة تتشابه يف اخلصائص السابقة ،ووقع االختيار على إحدى هذه العينات لتكون العينة األساسية
ومتت مقابلة مفردهتا مرة كل شهر من مايو إىل نوفمرب من ذلك العام ،وجرت املقابلة األوىل قبل انعقاد
41
مؤمترات الرتشيح اليت تعقدها الوالايت ،ومتت املقابلة األخرية بعد إجراء االنتخابية ،أما مفردات العينات
الثالث األخرى فقد متت مقابلتهم على فرتات خمتلفة ،ومتثل هذه العينات الثالث جمموعات ضابطة الختيار
أتثري تكرار املقابلة على العينة األساسية.
وقد ركزت الدراسة على اجتاه املبحوثني يف عملية التصويت يف انتخاابت شهر نوفمرب والتغريات
اليت طرأت على هذا االجتاه من مقابلة إىل أخرى ،وإذا حدث تغري ما يف اجتاه التصويت لدى املبحوث يتم
سؤاله عن أسباب ذلك تفصيال وعن املالبسات املرتبطة به ،ومت تسجيل اجتاهات املبحوثني عند تعرضهم
حلمالت الدعائية االنتخابية تسجيال دقيقا ،ومل يضم التقرير املطبوع نص االستبيان ،غري أننا نعلم أنه يتضمن
معلومات وافية حول مسات املبحوث الشخصية (البياانت األساسية) ،وفلسفته االجتماعية ،واترخيه
السياسي ،ومسات شخصيته ،وعالقاته مع األصدقاء واألقارب ،وعضويته يف التنظيمات ،وانتمائه الديين،
وآرائه يف القضااي اجلارية.
وتتلخ ص النتيجة الرئيسية هلذه الدراسة يف أن اختيار األغلبية العظمى من الناخبني ميكن التنبؤ به
من خالل ثالث خصائص اجتماعية فقط هي :املكانة االجتماعية ،االقتصادية ،واالنتماء الديين ،واإلقامة
الريفية أو احلضرية ،إذ يتبني أن املكانة املرتفعة ،والنزعة الربوتستانتية الريفية جتعل الناخبني مييلون إىل املرشح
اجلمهوري ،يف حني أن املكانة املنخفضة ،والنزعة الكاثوليكية واإلقامة احلضرية جتعل الناخبني مييلون إىل
املرشح الدميقراطي ،وقد أمكن للباحثني ابستخدام هذه العوامل وحدها أن يصمموا مقياسا للتعرف على
التوجه السياسي للفرد ،ويف يد يف التنبؤ ابلسلوك االنتخايب بصفة عامة ،وقد وصل الباحثون إىل هذه النتيجة
على الرغم من أن قياس هذه اخلصائص الثالث كان قياسا تقريبا إىل حد كبري ،فقد اعتمد تقدير املكانة
االجتماعية _ االقتصادية مثال على التقدير الذايت للمبحوث ملسكنه وممتلكاته ومظهره وطريقة كالمه ،ومل
يتم قياس االنتماء الديين ابملواظبة على الكنيسة أو أي مقياس آخر من مقاييس املشاركة الدينية.
ويتأثر اختيار الناخب بتارخيه السياسي إىل حد ما ابإلضافة إىل خصائصه االجتماعية ،فقد اتضح
على سبيل املثال أن مجيع اجلمهوريني الذين أعطوا أصواهتم لصاحل "الندون" ضد "روزفلت" عام 1936قد
أعطوا أصواهتم "لويلكي" عام 1940وهناك مثال آخر هو أن معظم الناخبني اجلدد ساروا على نفس
التفصيالت احلزبية لوالديهم عندما أدلوا أبصواهتم للمرة األوىل.
42
ويتمثل األثر الصايف هلذه العوامل املتعددة يف اخنفاض عدد الناخبني الذين ميكن أن يتأثر قرارهم
ابحلمالت االنتخابية إىل أقلية صغرية جدا من الناخبني ،وقد أصبح هؤالء الناخبون _ غري املستقرين سلفا
على موقف معني أو غري امللتزمني _ هدفا أساسيا لكل محلة سياسية منظمة.
وتلقى كل هذه النتائج بظالل من الشك على رشد العملية السياسية ،وعلى أمهية االدعاءات اليت
يستند إليها املرشحون واألحزاب يف حماولة التأثري على الناخبني ،ويتعمق هذا الشك عندما نكشف أن
التعرض للوسائل الدعائية يتحدد بنفس الطريقة اليت يتم هبا اختاذ قرار التصويت ،ويالحظ أن أكثر الناخبني
اهتماما ومعرفتهم الذين يتخذون قرارهم مبكرا ،كما أهنم يكونون أكثر عرضة للوسائل الدعائية وأكثر
احتجاجا عن التعرض للوسائل الدعائية للمرشحني الذين اختاروهم ابلفعل ،أما الناخبون الذين مل يقرروا بعد
كيفية التصويت يعرضون أنفسهم بدرجة أكرب لدعاية احلزب الذي مييلون إليه متأثرين يف ذلك ابلعوامل
االجتماعية املألوفة.
وق د كان الزار سفيلد وزمالءه مقتنعني أبن اإلقناع العقلي ليس له عالقة تذكر ابلطريقة اليت يتخذ
هبا الناخب قراره.
ويناقش اجلزء األخري من الكتاب اختيار الشعب ،التجانس السياسي للجماعات االجتماعية،
ويوضح كيف أن االرتباطات اليت اتضحت من قبل تقوم على احتمال قوي مفاده أن الناس الذين يعملون
أو يعيشون معا يعطون أصواهتم لنفس املرشح ،إما من خالل اختيار تلقائي أو بسبب ممارسة أتثري شخصي،
احملصلة الطبيعية للمناظرات السياسية اليت حتدث خالل احلمالت االنتخابية بني األصدقاء واجلريان
واألقارب هي تعزيز الرأي السائد داخل كل مجاعة اجتماعية ،وهذا التأثري يوافق أتثري املرشح احملتمل فوزه يف
مجهور الناخبني بصفة عامة ،ويتوقع الناس أن يفوز املرشح الذي يفضلونه ،ويكون العكس صحيحا أيضا
مبعىن أهنم يفضلون أحد املرشحني يف بعض األحيان ألهنم يتوقعون فوزه.
وال تتكرر السياسة األمريكية على نفس املنوال مرة اثنية ،وقد خلص كتاب "اختيار الشعب" إىل أن
الطرف الذي يستطيع تعبئة اجلماهري لتأييده بطريقة اخلرباء ترفع فرص جناحه ،وإن الذين ميارسون السياسة
بطريقة اخلرباء ينبتون كالنبات الذي يرتعرع يف األرض ،وقد تغلغلت نتائج هذه الدراسة يف العملية السياسية
خالل الست ينات لدرجة أن إعالانت التلفزيون عن النتائج االنتخاابت ،وحتليل اجتاهات التصويت حسب
43
الدخل والدين والعمر والساللة واملهنة وعضوية النقاابت وغريها من العوامل (اليت حتدد التوجه السياسي)
أصبحت تعد أمورا طبيعية شأهنا يف ذلك شأن نتائج االنتخاابت نفسها.
-9اجلندي األمريكي :صمويل ستوفر وآخرون
بعد اهلجوم الياابين على "بريل هاري" بفرتة قصرية مت تعيني عامل االجتماع املشهور "صومويل ستوفر"
مديرا مدنيا "لفرع البحوث "Research Branchاملنشأ حديثا ،والذي أصبح فيما بعد إدارة
املعلومات والتعليم ابلقوات املسلحة األمريكية ،ورأس هذه اإلدارة اجلنرال "فريدريك أوسبورن" ،وهو رجل
أعمال سابق وعامل اجتماع أيضا ،وقد أنشئ فرع البحوث _كما يقول "ستوفر"_ للقيام مبهام هندسية
اجتماعية وليست مهاما علمية ،وكانت وظيفته هي إجراء مسوح االجتاهات بني اجلنود عندما تشعر اإلدارات
العليا مبشكالت حتتاج إىل معلومات شاملة ذات طبيعة مسحية ،فقد طلبت تلك اإلدارات على سبيل املثال
حتليل العوامل اليت جعلت اجلنود يف مسرح العمليات جبنوب احمليط اهلادي ينفرون من استخدام عقار
"األتربين" للوقاية من املالراي ،والكشف عن أي نوع من األكواخ الذي يفضله اجلنود يف "أالسكا" ،ودراسة
حالة مغاسل املالبس يف "بنما" ،واجتاهات اجلنود حنو الصينيني يف مسرح العمليات ابهلند وبورما ،ويعد كثري
من هذه املوضوعات اتفها ،غري أن بعضا منها له أمهية واضح.
فقد قام فرع البحوث على سبيل املثال بتصميم "نظام النفط" الذي استخدم يف حتديد األولوايت
لتشغيل اجلنود عند تسريح القوات املسلح مع هناية احلرب ،كما أن دراسات هذا الفرع وفرت املعلومات
الالزمة للتشريع اخلاص مبساعدة احملاربني القدماء خاصة ميثاق احلقوق والذي أدى بصفة دائمة إىل التوسع
يف النظام األمريكي للتعليم العايل.
وابنتهاء احلرب العاملية الثانية قام فرع البحوث مبقابلة ما يزيد عن 500ألف شخص ابالستعانة
أبكثر من 200استبيان خمتلف ،وقام إبعداد عدة مئات من التقارير عن نتائجه ألغراض عسكرية متعددة،
ومع ذلك مل تستغل مطلقا القيمة العلمية هلذه البياانت الغزيرة ،وقد عهد هبذه املهمة إىل جلنة خاصة مبجلس
حبوث العلوم االجتماعية برائسة اجلنرال "أوسبورون" ونفذت حتت إشراف الربوفيسور "ستوفر" مبنحة من
مؤسسة "كانيجي" يف السنوات اخلمس اليت أعقبت احلرب ،وهكذا حتول فرع البحوث يف ظل نفس القيام
إىل فريق حبث علمي برعاية مدنية ،وقد نشرت النتائج يف أربعة جملدات حتت عنوان
44
"دراسات يف علم النفس االجتماعي يف احلرب العاملية"( ،)8واليت اشتهرت ابسم "اجلندي األمريكي" من
عنوان اجمللدين األولني.
وكان هذا املشروع _ على غرار "مشروع مريدال" _ تعاونيا على أوسع نطاق ،إذ وصلت قائمة
األشخاص العلميني واإلداريني إىل 134امسا ،وتربز صفحات العناوين يف اجمللدات األربعة أمساء مخسة
عشرة مؤلفا رئيسيا ،ومل يضارع أي حبث اجتماعي بعد ذلك هذا البحث يف جماله.
وعلى الرغم من اعتماد كتاب "اجلندي األمريكي" على علوم عديدة خاصة علم النفس وعلم
النفس االجتماعي ،فإنه يعد سوسيولوجيا يف منهجه (مسوح االجتاهات) ويف طبيعة نتائجه كما أن معظم
التفسريات والتحليالت اليت تلت نشر هذا الكتاب ركزت على املضامني السوسيولوجية للبياانت ال على
أمهيتها النفسية أو التارخيية أو اإلدارية.
وخيتص اجمللد األول من التقرير ابلتكيف الشخصي للجنود خاصة مجوع اجلنود املدنيني الذين
خدموا يف اجليش بصفة مؤقتة أثناء احلرب العاملية الثانية.
ويهتم اجمللد الثاين ابملشكالت املتعلقة ابحلرب وما بعدها .ويبحث اجمللد الثالث رد فعل مجهور
املشاهدين العسكريني لألفالم التوجيهية وغريها من املواد الدعائية .ويعد هذا اجمللد عن موضوع بقية
الكتاب إىل حد ما .ويتضمن اجمللد الرابع معاجلة دقيقة لنظرية قياس االجتاهات وتطبيقها ،ومناقشة لثالثة
مناهج دقيقة لتحليل بياانت املسح ،وهي حتليل البناء الكامن ،واستخدام استجاابت املسح ألغراض تنبؤية.
وتتميز موضوعات اجمللدات األربعة ابلغزارة واالرتباط الوثيق ولذلك يذهب "إدوارد شليز" يف
مقاالته الشهرية إىل أن الروح املعنوية للجندي املقاتل تعتمد بصفة أساسية على روابط مجاعته األولية يف
45
اجليش( ، )9وأن هذه الروابط تقلل من اعتماد الروح املعنوية للجندي املقاتل على الصالة اليت تعد أكثر
أمهية من رفقة السالح.
وقد أكد عدد من احملللني على أتثري احلرمان النسيب ،فقد لوحظ على سبيل املثال أن الزنوج يف
املعسكرات الشمالية كانوا أسوأ تكيفا بصفة عامة من الزنوج يف املعسكرات اجلنوبية ،ألن أساس املقارنة عند
اجلندي يف اجلنوب والشمال على حد سواء كان وضع الشخص املدين ،وأن الوضع السيئ للزجني املدين يف
اجلنوب كان مبثابة معامل للمعاملة السيئة للزنوج يف املعسكرات اجلنوبية ،وقد أدى التأكيد إىل حتويل
االهتمام عن بعض النتائج اهلامة حول احلرمان املطلق ،ومنها أيضا االكتشاف مفاده أن الوحدات العسكرية
تبدأ يف التفكك تتعرض للقتال أو ألية صورة أخرى من الصور املعاانة لفرتات طويلة.
كما أدى أتكيد ا حملللني على أتثر الدور و املكانة يف تعديل االجتاهات (مبعىن أن االختالفات يف
الدور واملكانة ال تؤدي فحسب إىل االختالفات يف االجتاه ،وإمنا تؤدي أيضا إىل اخلطأ يف حكم مجاعة على
مجاعة أخرى) أدى إىل إغفال نتيجة هامة هي أن اجليش وقت احلرب يعمه االستياء من سوء استخدام
امتيازات الرتبة ،وأن هذا الشعور له آاثر عكسية شديدة على الروح املعنوية ابستثناء القوات اجلوية اليت
تسودها ظروف خمتلفة.
ورمبا يعد كتاب "اجلندي األمريكي" مبثابة انتقال شديد لواحد من أكرب التنظيمات اليت عرفها
اجملتمع احلديث والذي أعده أفراد من داخل التن ظيم نفسه ،وعلى عكس الدراسات املبكرة للمجتمع احمللي
والدراسات احلديثة لألنساق التنظيمية اليت توصلت إىل أن معظم الناس راضون عن األنساق االجتماعية
اليت وجدوا أنفسهم فيها ،كشفت بياانت "اجلندي األمريكي" عن حالة ملحوظة ملاليني الرجال املشغولني
بنضال شديد من أجل مثل اجتماعية مطلقة يف الوقت الذي ال يوجد فيه اِلتزام حقيقي هبذه القضية بني
أعداد ضخمة منهم ،وال توجد لديهم ثقة يف قادهتم ،وال يوجد شيء سوى احتقار املعايري اليت تنظم حياهتم،
وهناك ثالثة من كل مخسة مقاتلني خدموا يف معارك ما وراء البحار كانت ليهم شكوك حول مشروعية احلرب
.1945
)(9
_Edward Shils, « Primary Grioups American Army » pp.12_39, in : Continuties in Social
Research : Studies in the Scop and Method of ‘’The AmericanSoldier’’, ed. Robert K. Merton
abd paul Lazarsfeld, new York, Free Press,1950.
46
وقد أجريت هذه التجارب بدون حتفظ على أمل تعليم السلطات العسكرية كيفية التأثري يف آراء
وعواطف ضباط الصف واجلنود .وكان االلتزام الصادق من جانب الباحثني ابجلهود احلربية هو الذي
ساعدهم يف تعضيد األهداف اإلدارية للقيادة العليا دون تردد ،وعند اكتشاف خلل يف نسق اإلدارة
العسكرية تتم معاجلته على أنه مشكالت معنوية ،ومل يهتم فرع البحوث إبمكانية إصالح النسق العسكري
ابلطرق املناسبة ،ألن ذلك مل يدخل ضمن اختصاصات القادة الذين كان فرع البحوث حياول مساعدهتم ،ومل
تكن اإلصالحات اليت متت بفضل النتائج البحثية ذات أتثري يذكر ،وقد عوجلت شكوى جنود املشاة أبهنم
ال يعاملون نفس معاملة اجلنود يف الفروع األخرى من خالل منحهم شارة الشرف ،واقرتح الباحثون إجراءات
جديدة لألخذ هبا يف فرتة السالم بعد الكشف عن سوء استخدام األنساق العسكرية للسلطة من خالل
القنوات السرية للمفتش العام ،وقد وجهت انتقادات حادة إىل وجهة النظر الواحدة بعد طبع التقرير ،غري
أن أصحاب هذه االنتقادات مل حياولوا االستفادة من البياانت الغزيرة اليت يف كتاب "اجلندي األمريكي"
لتطوير برانمج منظم إلصالح املؤسسات العسكرية ،وكانت اإلصالحات الرئيسية اليت متت يف اجليش بعد
احلرب العاملية جمرد إصالحات داخلية متعلقة بتحقيق العدالة العسكرية أو دعمها ،وهو املوضوع الذي مل
يعاجله كتاب "اجلندي األمريكي".
-10بيار بورديو:
ولد بيري بورديو Pierre Bourdieuيف دينجون ،denguinجنوب فرنسا يف عام ،1930درس
الفلسفة مع لويس ألثوسري Louis Althusserيف املدرسة العليا العادية،أجنز حبثا اثنوغرافيا عن قبائل
الرببر الذي وضع األساس لسمعته كعامل اجتماع ،فكان أول كتاب له "سوسولوجيا اجلزائر"
، Sociologie de L Algerieالذي ترك جناحا فوراي يف فرنسا ونشر يف أمريكا يف عام ،1962
ويف 1960عاد إىل جامعة ابريس للتدريس حىت ،1964ويف 1964توىل منصب مدير الدراسات ،ومن
47
بدأ بورديو متأثرا مبعظم رموز علم االجتماع التقليدي،من ماكس فيرب Max Weberحمتفظا أبمهية
سيحول
ّ اهليمنة واألنظمة الرمزية يف احلياة االجتماعية ،ابإلضافة إىل فكرة النظم االجتماعية الذي يف النهاية
ِ
احلقول،ومن كارل ماركس Karl Marxاكتسب فهم اجملتمع كخالصة من قبل بورديو إىل نظرية
العالقات االجتماعية" :الذي يدمج يف عالقات العا ِمل االجتماعي -لَيست تفاعالت بني القوى
Intersubjectiveاملرتبطة بني األفراد ،لكن العالقات ااملوضوعيةَ اليت توجد بشكل مستقل عن
الوعي واإلرادة الفردية " ،واحلاجة لتَطوير النظرية االجتماعية بشكل جديل من املمارسة االجتماعية.
وأتكيد احلتمية Deterministicأيضا منه ،ومن خالل مارسيل موس Marcel Maussوكلود
ليفي شرتاوس ،Claude Lévi-Straussأكد ميل البىن االجتماعية إلعادة إنتاج نفسها ،وعمل
بورديو على حماولة جتاوز سلسلة املقابالت اليت ميّزت العلوم االجتماعية (الذااتنية /املوضوعانية ،املكرب /
- 1بيري بورديو ،الرمز والسلطة ،ترمجة :عبدالسالم بن عبد العايل ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء( املغرب) ،1986 ، ،ص18
لقد عمل بيار بورديو هذا من خالل التجديدات التصورية/املفاهيمية ،مفاهيم اهلابتوس(التطبع أو السجية
اخرى.
بدأ جنمه يبزغ بني املتخصصني انطالقًا من الستينيات بعد إصداره كتاب الورثة (مع جون كلود ابسرون)،
وازدادت شهرته يف آخر حياته خبروجه يف مظاهرات ووقوفه مع فئات احملتجني واملضربني .اهتم بتناول أمناط
السيطرة االجتماعية بواسطة حتليل مادي لإلنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة إنتاج البنيات
االجتماعية ،وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستنفر كل العتاد املنهجي املرتاكم يف كل جماالت املعرفة عرب
48
اختالف التخصصات ،ولقد انتقد بورديو تغاضي املاركسية عن العوامل غري االقتصادية ،إذ أن الفاعلني
املسيطرين ،يف نظره ،إبمكاهنم فرض منتجاهتم الثقافية (مثال ذوقهم الفين) أو الرمزية (مثال طريقة جلوسهم
أو ضحكهم وما إىل ذلك) .فللعنف الرمزي (أي قدرة املسيطرين على احلجب عن تعسف هذه املنتجات
الرمزية وابلتايل على إظهارها على أهنا شرعية) دور أساسي يف فكر بيري بورديو ،معىن ذلك أن كل سكان
سوراي مثال مبا فيهم الفالحون سيعتربون هلجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة ًّ
جدا رغم أن
اللهجة الشامية ليست هلا قيمة أعلى حبد ذاهتا ،وإمنا هي لغة املسيطرين من املثقفني والساسة عرب العصور
وأصبح كل الناس يسلّمون أبهنا أفضل وأبن لغة البادية رديئة .فهذه العملية اليت تؤدي ابملغلوب إىل أن
حيتقر لغته ونفسه وأن يتوق إىل امتالك لغة الغالبني (أو غريها من منتجاهتم الثقافية والرمزية) هي مظهر من
49
-مسائل يف علم االجتماع1984
الثقافة عند بيار بورديو نسق رمزي أو كما أطلق عليها اسم القوة الرمزية وهو يقصد أن األنساق الرمزية يف
أي جمتمع هي أدوات للسيطرة االجتماعية والسياسية يف اجملتمع الدميقراطي،وهبذا فإن الثقافة كأنسقة رمزية
هي رأس مال ،وهي موضوع صراع بني القوى االجتماعية املتعددة،وهتدف كل قوة من هذه القوى
50
االجتماعية إىل السعي وراء السيطرة على حقل الثقافة أو إنتاج وتوزيع رأمسال ثقايف فيه وابلتايل إذا أردان أن
نصوغ معنا ولو كاريكاتوراي على رأمسال الثقايف فيمكننا القول أبنه القبول أو االعرتاف أو االعتقاد بقوة أو
بسلطة من ميلك مزااي أكثر ،أو شكالً من االعرتاف ابلشرعية ،أو قيمة معطاة من اإلنسان .ويرتبط هذا
املفهوم مببدأ السلطة ومبدأ التميُّز أو االختالف (يف اخلصائص) ومبدأ األشكال املختلفة لرأس املال،
ويدخل يف خمتلف احلقول ويف خمتلف أشكال السلطة أو اهليمنة ،أو يف أشكال العالقات ،هذا هو “العنف
الرمزي” الذي حيدثنا عنه عامل االجتماع الفرنسي بيار بورديو يف كتابه عن “اهليمنة الذكورية” ،ويقول عنه انه
"عنف هادئ ال مرئي ال حمسوس حىت ابلنسبة إىل ضحاايه" ( ،)1ويتمثل يف أن تشرتك الضحية وجالدها يف
التصورات نفسها عن العامل واملقوالت التصنيفية نفسها ،وأن يعتربا معا بىن اهليمنة من املسلمات والثوابت.
فالعنف الرمزي هو الذي يفرض املسلمات اليت إذا انتبهنا إليها وفكران فيها بدت لنا غري مسلم هبا ،وهي
مسلمات جتعلنا نعترب الظواهر التارخيية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاما إالهياً عابرا لألزمنة .أشد أنواع
املقىن العتيق الذي تعود ممارساته إىل مئات السنني إن مل نقل آالفها ،وأشد
العنف ضد املرأة العنف الثقايف ّ
أنواع العنف الثقايف هو ذلك العنف الرمزي الذي يبدو بديهيا ،ويفرض نفسه على الضحية واجلالد
1- Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique sociale du jugement, Les Éditions de
Minuit, 1979, 670 p.
كأداة لرتسيخ الطبقية:
إن النظام الرتبوي يف اجملتمعات ذات التفاوت الطبقي كما يرى بورديو يعترب أحد األليات األساسية الفعالة
يف ترسيخ النمط االجتماعي السائد يف تلك اجملتمعات،وهذا يبدو جليا من خالل بنية الفرصة النسبية
املتاحة ألبناء الطبقات املختلفة لدخول النظام التعليمي يف مراحله املختلفة،هذا من جهة ومن جهة أخرى
مثة مظهر آخر هلذا العنف املمارس القوى السائدة وهو يف تنوع املدارس يف اجملتمع الواحد واختالف
مستوايهتا ابختالف أصول الطبقية للطالب الداخلني إليها،فأبناء الطبقات العليا هم الذين حيتلون املدارس
51
ذات النوعية الرفيعة،وعلى ذلك فالتنوع يف املدارس واختالف مستوايهتا إمنا يعكس صور هذا التفاوت
الطبقي وجيسد بشكل واضح أحد أهم مظاهر العنف الثقايف يف اجملتمعات احلديثة.
-تعريف األبيتوس (: Habitusالسمت)
يرى بيار بورديو أن األبيتوس هي نسق من الرتتيبات الدائمة واملتغرية املواضع،والبىن املبنية املهيأة للعمل
كبىن تبين بشكل بسيط،و ميكن تعريف األبيتوس كنسق من التنظيمات أو الرتتيبات املرتبطة مبسار اجتماعي
معني(فالعامل ابن العامل،اًألصل أن يكون له األبيتوس عامل تقليدي يف حني أن العامل بن الفالح ميكن أن
يكون له أبيتوس الربجوازي الصغري،ومن هذا املنطلق فإن لكل طبقة اجتماعية نوعان من األبيتوس:
-1أبيتوس إعادة اإلنتاج :وهنا يعين حمولة توافق الفرد مع الظروف املعاشة من طرف العائلة األصلية فابن
العامل ال يطمح إال أن يكون عامالً.
-2أبيتوس"التسلق" االجتماعي :وهو الذي يطمح إىل الصعود فوق الطبقة األصلية كأن جتد ابن العامل
يطمح أن يصبح يف املستقبل طياراً أو جراحاً،وخالل هذا التحليل لألبيتوسات فإن التنشئة االجتماعية
حسب بيار بورديو عبارة عن عملية بيوغرافية لدمج التنظيمات االجتماعية املكتسبة ال يف العائلة فقط
والطبقة األصلية،لكن يف خمتلف مراحل حياة الفرد اليت مير هبا أثناء وجوده داخل جمتمعه،إذن فالتنشئة
تضمن اندماج "أبيتوسات" الطبقة وتنتج االنتماء الطبقي ألفراد كل االجتماعية من وجهة نظرية بيار بورديو
هذا إبعادة إنتاج الطبقة ابعتبارها جمموعة تتقاسم نفس األبيتوسات (.)1
يتخذ مصطلح اهلابتوس أو اآلبيتوس ( )Habitusدالالت فلسفية وسوسيولوجية خمتلفة ،ويعين طريقة يف
الوجود ،أو املظهر العام ،أو حالة ذهنية أو عقلية ،ويعين هذا أن اهلابيتوس ثقافة ،وحضارة ،ومنط من أمناط
الوجود والعيش واحلضور يف العامل.
1- Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de L'emprise du journalisme, Paris, Liber,
coll. « Raisons d'agir », 1996, p 95.
وقد استعمل مصطلح اهلابيتوس أواآلبيتوس ( ،)Habitusقدميا عند الفالسفة اليواننيني مبفهوم
( ،)Hexisوخاصة أفالطون وسقراط ،وأرسطو ،ومن بعدهم هيغل ،وهوسرل ،وماكس فيرب ،وإميل
دوركامي ....بيد أن مصطلح ( ،)Hexisقد استبدل ،إابن العصور الوسطى ،مبصطلح اهلابيتوس
( ،)Habitusللداللة على احلالة أو الوضعية أو طريقة العيش.
هذا وقد أخد بيري بورديو مصطلح اهلابيتوس من املفكر السكوالئي طوماس أكني ( Thomas
،) D’Aquinالذي استعمل مصطلح هابيتوس لرتمجة املفهوم األرسطي (اهليكسيس) ،وقد استلهمه
أيضا من إرفني ابنوفسكي ( ،)Erwin Panofskyالذي حتدث عن مجاليات اإلجتاه املدرسي يف
ومن مث فاهلابيتوس هو التطبيع االجتماعي يف جمتمع تقليدي ،أو هو مبثابة نظام من العصور الوسطى
()1
52
اإليتوس القيمي املتعايل ،يستطيع الفرد عربه أن يتحرك يف العامل اجملتمعي ،بغية فهمه بطريقته اخلاصة ،أو
بطريقة مشرتكة مع الطبقات االجتماعية األخرى اليت يعيش معها.
وقد ركز بورديو على بنية اهلابيتوس الداخلية ،ومكوانته ،ووظيفته ،فمن حيث البنية ،يتكون
اهلابيتوس من جمموعة من امليول ،والتصورات ،واملعتقدات ،واإلدراكات ،ورؤى العامل ،ومبادئ التصنيف،
ومن مث ،يساعد اهلابيتوس الذي يكتسبه الفرد يف األسرة واملدرسة على متثل اجملتمع واستيعابه بشكل جيد.
هذا ،وتقوم التجمعات األولية( الطفولة واملراهقة) ،والتجمعات الثانوية ( سن الرشد) ،بدور هام يف
بناء اهلابيتوس ،ويستطيع األفراد عرب هذا الرأمسال االجتماعي احملصل عليه ،بفعل التنشئة االجتماعية ،أن
خيلقوا هابيتوس الطبقة ( ،)Un Habitus De Classeبسبب تشاركهم يف جمموعة من األفعال
والتصرفات والسلوكيات املشرتكة ،وبذلك يكون اهلابيتوس هو مصدر أفعال األفراد اجملتمعيني ،وهو الذي
يتحكم يف توجهاهتم القيمية واألخالقية واملعيارية ،أي :إنه مبثابة األان األعلى السيكولوجي لتجارهتم احلاضرة
يف العامل(. )2
ومن هنا ،فاهلابيتوس هو مبثابة قالب معياري وأخالقي للشخصية الفردية ،بل مبثابة ضرورة أو حتمية
تتحكم يف أفعال اإلنسان ،فيما خيص هوايته ،وثقافته ،وتربيته ،وعمله ،وتغديته ،واستهالكه...
-1حسين إبراهيم عبد العظيم ،اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف( قراءة يف سوسيولوجيا بيري بورديو) ،اجمللة العربية لعلم االجتماع،العدد ،15
2011ص.21
-2بيري بورديو ،الرمز والسلطة ،ترمجة :عبدالسالم بن عبد العايل ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء( املغرب) ،1986 ، ،ص18
ويبدو أن مصطلح اهلابيتوس اهلابيتوس مصطلح غامض ومعقد ،إذ يقصد به بيري بورديو "بعض اخلصال
املرتسخة يف داخل عقول البشر وأجسادهم" ومن هنا ،فاهلبيتوس مبثابة جمموعة من االستعدادات أو
امللكات الدائمة اليت يكون الفرد قد اكسبها أو تطبع عليها عرب التنشئة االجتماعية ،وابلتايل،
فاالستعدادات هي جمموعة من امليول
واالجتاهات واملواقف النتعلقة ابلتفكري واالدراك واالحساس ،فيستنبطها األفراد حسب ظروفهم
املوضوعية لوجودهم ،وتوظف هذه االستعدادات بطريقة ال شعورية ،وتتمثل هذه االستعدادات املستضمرة
يف القيم والتصرفات والسلوكيات واملكتسبات املعرفية والذهنية ،ويعين هذا أن اهلابيتوس عبارة عن جمموعة
من البىن املعرفية واإلدراكية املستدجمة ،ويتم إنتاجها يف بيئة اجتماعية حمددة ،ويعاد إنتاج هذه البيئة من
خالل قدرة اهلابيتوس على التوليد.
وعليه ال يقتصر اهلابيتوس على توجيهات األفراد وتصوراهتم الشخصية فحسب ،بل يتجاوز ذلك
إىل االستعدادات اجلمعية ،مثل :أمناط التفكري واإلدراك والتقدير واملمارسة ،ومن مث ،يؤثر اهلابيتوس يف
53
األفعال اليومية ،كالتذوق ،واملالبس ،واألاثث ،والفن ،وعادات االستهالك ،وأوقات الفراغ ...ومن هنا،
فاهلابيتوس نتاج ظروفه املوضوعية ذاهتا.
فاهلايبتوس مبثابة جمموعة متنوعة من التوجهات املستمرة واملهارات وأشكال من املعرفة الفنية اليت
يلتقطها الناس ببساطة من معاشرة أانس من ثقافات فرعية معينة ،وميكن أن ترتاوح هذه من أشكال السلوك
اجلسدي ،واحلديث ،واإلمياء ،وامللبس واألخالق االجتماعية ،من خالل جماالت املهارات احملركة والعملية إىل
() 1
أنواع معينة من املعرفة والذاكرة املرتاكمة.
يكتسب الفرد أو الفاعل الذايت جمموعة من املوارد اليت جتعله قادرا على إدماجها حينما يتفاعل مع
بينية اجملتمع بواسطة عملية االستيعاب اخلارجي ،أي :إن مثة جتانسا وتطابقا ومتاثال بني البينة الذاتية والبنية
اجملتمعية اللتني يتحكم فيهما اهلايبتوس ،ويف هذا يقول جون سكوت :أكد بورديو التطابق والتجانس القريب
بني التنظيم
1- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du
système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 144
االجتماعي وديناميكيات العامل اخلارجي والرتتيبات اجملسمة الداخلية لألفراد ،ويرى أن هذا أييت عن
طريق ما يسميه ابالستيعاب اخلارجي ،ولقد أخذت أو استوعبت العوامل البشرية ابلتدريج على مدار السنني
أنواع األمور ،اليت حتتاج إىل معرفتها عن بيئتها اخلارجية االجتماعية واملادية حىت ميكنها املشاركة بنجاح يف
جماالت معينة من ممارستها االجتماعية،فترتسخ هذه املعرفة يف معظمها طبيعة اثنية ،إهنا توفر جمموعة من
املوارد الكامنة يف الشكل الذي يسميه بورديو ابملخططات التوليدية اليت ميكن االعتماد عليها كلما اقتضت
الظروف.
ومن هنا ليس اهلايبتوس جمرد متثل أو إدماج عاد وبسيط ،يبين على ممارسات تقليدية أساسها
التكرارا والتنميط والتطبيق اآليل بل هو إدماج إبداعي يتجاوز املماثلة إىل االستيعاب ومواجهة وضعيات
جديدة ،كما ان اهلايبتوس هو مبثابة بنيات خاضعة لعامل التكيف والتأقلم مع العامل اجملتمعي املوضوعي ،ويف
الوقت نفسه هو مبثابة أفعال حمركة لبنية اجملتمع ،أو مبثابة ممارسات جديدة هتدف إىل حل مشكالت الواقع
املوضوعي ،وجتاوز حتمياته اجلربية ،واهلايبتوس يتضمن التطبع ابجملتمع من جهة والتحكم فيه ابلفعل الفردي
اإلبداعي من جهة أخرى.
ويعين هذا أن الفرد يستطيع أن يولد جمموعة من اخلطط واإلسرتاتيجيات ،حينما يواجه وضعيات
جمتمعية جديدة ،مثل الذي يستعمل لغته األم فإنه يستطيع من خالل قواعده حمددة أن يولد مجال ال متناهية
العدد ،ويعين هذا أن اهلايبتوس هو مولد إبداعي وتطبيقي لفرد يستعمل كل اسرتاتيجياته وموارده وخططه،
54
حينما جيابه وضعيات جمتمعية جديدة إما بطريقة واعية وإما بطريقة غري واعية جيتهد ويتصرف وفق القواعد
واملعايري اليت استضمرها سابقا ،عن طريق التنشئة االجتماعية املستمرة أو اليت انتقلت إليه من اآلخرين
وإذا كان إميل دوركامي ) (E.Durkheimيدرس الظواهر اجملتمعية على أهنا أشياء وموضوعات ،من
خالل الرتكيز فإن ماكس فيرب يدرس الذوات الفاعلة اليت أتثر يف اجملتمع من خالل املعاين واملقاصد اليت
ترتبط هبا أفعاهلم السلوكية ،هدا أن مثة ثنائية الذاتية املوضوعية ،بينما يرفض بيري بورديو هذه الثنائية ويعتربها
حالة مصطن عة ومشوهة ،فهو حياول اجلمع بينهما بتوليد جمموعة من املفاهيم السوسيولوجية ،منها :مصطلح
اهلايبتوس.
فاهلايبتوس يتجاوز التعارض املوجود بني الوعي والالوعي ،فيوحد بني الفعل اجملتمعي والبنية اجملتمعية
ويعرب عن انفتاح الذات على اجملتمع اخلارجي ،ويف لوقت نفسه حييل خضوع الذات اجلربية اجملتمعية
اخلارجية.
فيما مضى مل يكن اهلايبتوس سوى أتقلم وتكيف عاديني وبسيطني مع األوضاع ،بتوظيف املكتسبات
السابقة بطريقة آلية بل ميكن اليوم أن يتحقق اهلايبتوس بطريقة إبداعية خالقة ،إبجياد احللول الناجعة
ملختلف الوضعيات املعقدة والصعبة واملركبة ،ويعين هذا أن اهلايبتوس يسمح للفرد بتوليد جمموعة من
املمارسات اجلديدة اليت تتالءم مع العامل اجملتمعي الذي يعيش فيه ،ومن هنا فاهلايبتوس مبثابة حمرك قوي
ودينامي يتخذ طابعا تطبيقيا.
فاهلايبتوس نتاج البنيات اجلربية واألفعال احلرة على حد سواء ،ومن هنا ليس اهلايبتوس تطبعا
اجتماعيا عاداي بل هو حمرك ملمارسات جمتمعية جديدة ال متناهية العدد ،وتشكل هذه األحكام نسقا أو
نظاما ،وابلتايل فاهلايبتوس مصدر وحدة األفكار والفعال لدى الفرد وال يقتصر اهلايبتوس على ما هو فردي،
بل يتعدى ذلك إىل اجلماعات اجملتمعية اليت تعيش التطبعات نفسها ،ويعين هذا وجود أمناط خمتلفة من
التفكري واإلحساس والعمل ضمن طبقة اجتماعية واحدة ومتجانسة ،ومن خصائص اهلايبتوس أيضا دميومة
أحكامه وقابلية نقلها من فرد إىل آخر ،ومن جيل إىل جيل ،ومن مجاعة إىل أخرى(.)1
وللتمثيل حبق العمل يرتبط اهلايبتوس العمال ابملفيد والضروري ومن مث فلباسهم وظيفي ويهتمون
ابلفن امللتزم الواقع ،ويكون أكلهم دمسا ومشبعا أي :هلم منط حياة مشرتكة تشكل ما يسمى ابهلايبتوس
العمال ،ويتميز اهلايبتوس عن ابقي اهلايبتوسات األخرى مضموان وشكال ،يف حني يقوم هايبتوس البورجوازي
على التجريد ،وحب الفن ،والبحث عن اجلديد من املوضة.
يعين اهلايبتوس مبدأ الفعل لدى األفراد داخل العامل اجملتمعي ،أو هو مبثابة األان الذي يوجه سلوك
األفراد داخل احمليط اجملتمعي بطريقة ل شعورية ،أو هو نسق من االستعدادات وامللكات والقيم واألفكار
واملواقف واالجتاهات اليت تطبع عليها الفرد يف اجملتمع ،بغية التمثل هبا أثناء مواجهة املواقف والوضعيات
55
املختلفة فهو الذي يوجه سلوك الفرد أثناء مواجهة وضعية قدمية او جديدة ،لذا يعترب اهلايبتوس منتج
السلوكيات والتصرفات واألفكار والعواطف والقيم اليت ميتلكها الفرد أثناء التفاعل مع موقف جمتمعي معني
مبثابة موجه ملا هو فكري وذهين ،وما هو وجداين وقيمي ،وما هو فعلي وسلوكي ،أما موقعه فهو الوسط بني
العالقات اجملتمعية املوضوعية والسلوكيات الفردية ،أو هو حلقة وصل بني بنية اجملتمع والفعل الفردي ،وعلى
العموم يتكون اهلايبتوس من شقوق ثنائية :فردي وجمتمعي ،ذايت وموضوعي ،وفاعل ومنفعل(.)2
-1بيار أنصار ،العلوم االجتماعية املعاصرة ،ترمجة :خنلة فريفر ،املركز الثقايف العريب ،1992 ،ص 27
-2عبد اجلليل بن حممد األزدي ،بيري بورديو الفىت املتعدد و املضياف ،املطبعة الوطنية ،مراكش ،2003 ،ص .55
ويرتبط اهلايبتوس برأمسال معني كالرأمسال املادي ،أو الرأمسال الثقايف ،أو الرأمسال االجتماعي ،أو
الرأمسال الرمزي ،وليس الصراع الطبقي هو الوحيد الذي يتحكم يف الطبقات االجتماعية ،بل يكون العنف
الرمزي أيضا عامال من عوامل الصراع وأشكاله.
ومن مث فلكل طبقة اجتماعية هايبتوس خاص ،ورأمسال معني ،مثل :طبقة العمال ،وطبقة املثقفني،
وطبقة الفقراء ،وطبقة األغنياء ...ويعين هذا أن اهلابتوس يرتبط من جهة ابلفعل وبنية اجملتمع ،ومن جهة
أخرى يقرتن ابلرأمسال والتميز اجلنسي أو الثقايف أو االقتصادي أو اجملتمعي ...
ويف احلقيقة واعتمادا على اهلايبتوس ميكن تعيني مظاهر التميز االجتماعي بال حدود حىت يف
السلوك اليومي للفرد يف :الشارع ،واملؤسسة ،والبيت ،واملشي ،واجللوس ،والنوم ،والعمل ،واإلتيكيت،
واملسكن ،ومنط العيش ،والسفر ،وقضاء أوقات الفراغ ،والتسوق ،والدراسة ،واهلواايت ...إخل.
56
57
قائمة املراجع:
/1ابلعربية:
-2جمموعة من الباحثني :املوسوعة الدولية للعلوم االجتماعية ،ترمجة :املركز القومي للرتمجة ،القاهرة،
-2إبراهيم عيسى عثمان ،النظرية املعاصرة يف علم االجتماع ،دار الشروق ،عمان.2008 ،
-3اميل دوركامي،قواعد املنهج يف علم االجتماع،ترمجة :حممود قاسم ،مكتبة النهضة املصرية،
القاهرة1961،
-4اميل دور كامي ،قواعد املنهج يف علم اإلجتماع ،ترمجة :حممد قاسم ،دار املعرفة اجلامعية ،مصر،
ط(.1988،)2
--5بيار أنصار ،العلوم االجتماعية املعاصرة ،ترمجة :خنلة فريفر ،املركز الثقايف العريب.1992 ،
-6بيري بورديو ،الرمز والسلطة ،ترمجة :عبدالسالم بن عبد العايل ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء(
املغرب).1986 ،
-7بالنشي روبري،نظرية املعرفة العلمية(االبستيمولوجيا)،ترمجة:حسن عبد احلميد ،ديوان املطبوعات
اجلامعية،الكويت.1987 ،
-8حسين إبراهيم عبد العظيم ،اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف(قراءة يف سوسيولوجيا بييار بورديو) ،اجمللة
العربية لعلم االجتماع،العدد .2011 ،15
-9اجلوهري حممد،علم االجتماع التطبيقي ،دار الكتاب احلديث ،القاهرة.2008،
-10زيدان عبد الباقي ،التفكري االجتماعي نشأته وتطوره ،دار الغريب للطباعة ،القاهرة.1981،
-11عبد الباسط عبد املعطي ،اجتاهات نظرية يف علم االجتماع ،سلسلة عامل املعرفة ،الكويت.1981 ،
-12عبد اجلليل بن حممد األزدي ،بيري بورديو الفىت املتعدد و املضياف ،املطبعة الوطنية ،مراكش،
.2003
-13عبد الكرمي غريب،سوسيولوجيا الرتبية،منشورات عامل الرتبية،املغرب.2000،
-14قريف عبد احلميد ،بناء املعرفة السوسيولوجية ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر ،مهمل السنة.
-15معن خليل عمر ،مدخل علم االجتماع ،دار الشروق ،عمان. 2009 ،
-16معن خليل عمر،نظرايت معاصرة يف علم االجتماع،دار الشروق،عمان.1997،
58
دار املعرفة،) اتريخ علم االجتماع (الرواد واالجتاهات املعاصرة، حممد علي حممد-17
.1983،اإلسكندرية،اجلامعية
.2001،اإلسكندرية،دار املعرفة اجلامعية،أسس وموضوعات علم االجتماع، جممد أمحد بيومي-18
أصوهلا الكالسيكية واجتاهاهتا احملدثة ( قراءات، النظرية السوسيولوجية املعاصرة، نبيل رمزي-19
.1999 ، بدون بلد النشر، دار الفكر اجلامعي،)وحبوث
: ابلفرنسية/2
59
60