You are on page 1of 60

‫وزارة التعليم العايل والبحث العلمي‬

‫جامعة حممد الصديق بن حيي ‪ -‬جيجل‪-‬‬


‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬
‫قسم علم االجتماع‬

‫حماضرات يف مقياس‬
‫النظرايت املعاصرة يف علم االجتماع‬
‫السنة الثالثة علم اجتماع‬

‫إعداد‪ :‬د‪ -‬حيتامة العيد‬

‫السنة اجلامعية‪2017/2016 :‬‬

‫‪1‬‬
‫الصفحة‬ ‫فهرس احملتوايت‬
‫مقدمة‬
‫‪02‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬ماهية النظرية السوسيولوجية‬
‫‪03‬‬ ‫‪ -1‬مفهوم النظرية وتعريفها‬
‫‪04‬‬ ‫‪ -2‬نشأة النظرية وتطورها‬
‫‪06‬‬ ‫‪ -3‬شروط النظرية‬
‫‪08‬‬ ‫‪ -4‬وظائف النظرية‬
‫‪11‬‬ ‫‪ -5‬أمهية النظرية‬
‫الفصل الثاين‪ :‬لبعض مناذج النظرايت السوسيولوجية املعاصرة‬
‫‪31‬‬ ‫متهيد‪:‬‬
‫‪34‬‬ ‫‪ -1‬سوسيولوجية دوركامي ونظريته حول االنتحار‬
‫‪ -2‬الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد‬
‫‪39‬‬
‫زاننيكي‬
‫‪44‬‬ ‫‪ -3‬ميدل اتون‪ :‬روبت و هيلني ليند‬
‫‪45‬‬ ‫‪ - 4‬جتارب هوثورن‪ :‬مايو‪ ،‬روثلسربجر‪ ،‬ديسكون‬
‫‪49‬‬ ‫‪ - 5‬دراسات اينكي سييت‪ :‬ويد وارنر‬
‫‪50‬‬ ‫‪ -6‬جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي)‪ :‬وليام فوت وايت‬
‫‪53‬‬ ‫‪ -7‬األزمة األمريكية‪ :‬جوانر مريدال )‪(Gunnar Myrdal‬‬
‫‪54‬‬ ‫‪ -8‬اختيار الشعب‪ :‬بول الزار سفيلد وآخرون‬
‫‪ -9‬اجلندي األمريكي‪ :‬صمويل ستوفر وآخرون‬
‫‪ -10‬اهلابيتوس‪ :‬بيار بورديو‬
‫خالصة‬
‫خامتة‬
‫قائمة املراجع‬
‫أوال‪ :‬املراجع ابللغة العربية‬
‫‪74‬‬ ‫‪ .1‬الكتب‬
‫‪76‬‬ ‫‪ .2‬املذكرات والرسائل اجلامعية‬
‫‪77‬‬ ‫‪ .3‬املواقع االلكرتونية‬
‫‪77‬‬ ‫اثنيا‪ :‬املراجع ابللغة األجنبية‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة‪:‬‬

‫متثل النظرية يف األحباث اإلجتماعية مكانة هامة ذلك ألهنا تفسر املعلومات املراد صياغتها‪ ،‬فالبحث العلمي ال يقف عند‬
‫وصف الظاهرة‪ ،‬وإمنا يذهب إىل تفسريها وأتويلها ‪،‬وهذا أيخذ بعني اإلعتبار طبيعة املوضوع واإلشكال املطروح '' فالرجوع إىل‬
‫نظرية ذات عالقة يف إعداد البحوث يسمح بتوضيحها وتوجيهها'')‪.(1‬‬
‫ونتيجة هلذه األمهية فقد أسهم الباحثون واملهتمون يف هذا اجملال‪،‬وحاولوا حتديد وتفسري معىن النظرية السوسيولوجية‪،‬‬
‫وتبيان شروطها وأمهيتها ودورها ووظائفها‪،‬وقد أكد غالبيتهم أهنا" تساعد أي علم على حتديد هويته وموضوعاته األساسية‪،‬األمر‬
‫الذي يسهم يف إبراز دوره املعريف الرتاكمي‪،‬حيث حيدد يف ضوئها ما جيب دراسته أكثر من غريه‪،‬وما الذي مل يدرس ‪،‬ومستوى ما‬
‫(‪)2‬‬
‫مت التوصل إليه"‬
‫فالنظرية متثل أعلى مستوى للشرح والتفسري لكل الظواهر االجتماعية‪،‬وال ميكن فهم الواقع االجتماعي دون االعتماد‬
‫على النظرية العلمية‪،‬فهي مبثابة البوصلة لكل ابحث أو مستكشف‪،‬وسنحاول يف هذه األوراق الرتكيز على النظرايت‬
‫السوسيولوجية املعاصرة يف علم االجتماع ‪ ،‬انطالقا من سوسيولوجية دوركامي وصوال إىل عصر ما بعد احلداثة‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫الدراسات اليت سوف نستعرضها متثل الكالسيكيات احلديثة للبحث يف علم االجتماع ‪ ،‬فإهنا مل جتر كلها بواسطة علماء‬
‫األنثروبولوجيا وعلماء النفس ‪ ،‬وال ختتلف العلوم اإلجتماعية فيما بينها اختالفا كبريا من حيث اهتماماهتا البحثية‪ ،‬وال يزال‬
‫الوصف األنثروبولوجي للمجتمعات البسيطة يوفر بياانت للتحليل يف علم االجتماع‪ ،‬كما يتم تبادل البياانت بني علم النفس‬
‫وعلم االجتماع بصفة مستمرة‪.‬‬

‫‪1-Angeres Maurice: Initiation pratique à la méthodologie des sciences humaines,‬‬


‫‪casbah édition, Alger, 1997, p 96.‬‬
‫‪-2‬عبد الباسط عبد املعطي‪،‬اجتاهات نظرية يف علم االجتماع‪،‬سلسلة عامل املعرفة‪،‬الكويت‪،1981،‬ص‪15‬‬

‫‪3‬‬
‫الفصل األول‪ :‬ماهية النظرية السوسيولوجية‬

‫مفهوم النظرية‬ ‫‪-1‬‬

‫نشأة النظرية وتطورها‬ ‫‪-2‬‬

‫شروط النظرية‬ ‫‪-3‬‬

‫وظائف النظرية‬ ‫‪-4‬‬

‫أمهية النظرية‬ ‫‪-5‬‬

‫‪4‬‬
‫مفهوم النظرية وتعريفها ‪:‬‬

‫يعترب مفهوم أو مصطلح نظرية من املصطلحات الغامضة‪ ،‬اليت يصعب على الباحث استعماله استعماالً‬
‫دقيقاً وصحيحاً يف كتاابته وحبوثه‪ ،‬فقد يشري املصطلح إىل النظام التجريدي الذي جيمع األفكار ويوحدها‬
‫ويضعها يف قالب جيسد معىن مفاهيم حمددة‪ ،‬يطرحها العامل يف سياق أحباثه األكادميية ‪ ،‬أما معىن النظرية‬
‫االجتماعية فقد كان متعلقاً ابلدراسات الفلسفية والسياسية‪ ،‬فقد استعمل مصطلح النظرية االجتماعية ألول‬
‫مرة‪ ،‬للتعبري عن نظرية الدولة ‪ ،‬اليت اهتمت بدراسات أصل نشوء الدولة احلديثة مع التربيرات الفلسفية‬
‫والعلمية ألشكاهلا ‪ ،‬وهناك جمموعة من املؤلفات والكتاابت األدبية‪ ،‬اليت ميكن أن توضع حتت عنوان النظرية‬
‫االجتماعية‪ ،‬خاصة تلك اليت تدور حول طبيعة العالقات اإلنسانية واجملتمع البشري‪.‬‬
‫عرفها وورد بقوله‪ ":‬هي نسق منطقي استنباطي استقرائي يتكون من مفاهيم وتعريفات وافرتاضات تعرب عن‬
‫ّ‬
‫عالقات بني اثنني أو أكثر من أوجه الظاهرة وميكن أن يشتق منها فرضيات كما ميكن التحقق من صحتها أو‬
‫خطئها" ‪،‬كما عرفها اتلكوت ابرسونز أبهنا " نسق نظري يشكل وحدة ملفاهيم مرتابطة متساندة منطقياً‬
‫وبنائياً هلا مرجعية أمبرييقية يف الواقع‪ ،‬تشكل فيها العالقات بني األجزاء إمكانية اشتقاق فرضيات جديدة أو‬
‫(‪)1‬‬
‫تعميمات تعرب عن انتظامات أمبرييقية "‬
‫فهي إذن جمموعة من املفاهيم اليت تشكل من خالل العالقات بينها منظوراً مفاهيمياً للواقع االجتماعي ‪،‬‬
‫بعض هذه املفاهيم وصفية حتدد وجود املضمون ‪ ،‬والبعض اآلخر حتليلي ‪ ،‬وتتألف النظرية من جمموعة‬
‫افرتاضات يعرب كل منها عن عالقة بني مستني أو أكثر حبيث تشكل هذه االفرتاضات معاً نسقاً قابالً‬
‫لالستنباط وحبيث تكون املفاهيم واالفرتاضات قابلة للتحقق من صحتها أمبرييقياً ‪ ،‬ويتم بناء النظرية على‬
‫أساس عناصر أساسية ومركبات تشمل املفاهيم ‪ ،‬واملتغريات ‪ ،‬وتعريفات وافرتاضات ويوضح العالقات بني‬
‫الوقائع وانتظامها بطريقة دالة‪ ،‬ويبني أسباب وظروف تشكل هذا الواقع وتبدله والبعد األمبرييقي املتضمن‬
‫مكوانت الواقع ومعطياته‪ ،‬هبدف تفسري هذا الواقع وفهمه والتنبؤ مبا ميكن أن يكون عليه مستقبالً (‪. )2‬‬

‫‪5‬‬
‫___________________________________________________‬
‫‪ -1‬معن خليل عمر ‪ ،‬مدخل علم االجتماع ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬عمان‪ ،2009 ،‬ص‪. 50‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم عيسى عثمان‪ ،‬النظرية املعاصرة يف علم االجتماع‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪ ،2008 ،‬ص‪.16‬‬

‫نشأة النظرية وتطورها‪:‬‬


‫من البديهيات املتفق عليها‪ ،‬أن النظرية والتنظري العلمي ليس وليد العصر احلديث ‪،‬بل هو نتيجة لرتاكمات‬
‫معرفية منذ وجود االنسان‪ ،‬حىت إنه من املمكن أن يقال أنه مل يكن هناك عصر من العصور ‪ ،‬وال أمة من‬
‫األمم ‪ ،‬إال وكان فيها من املفكرين االجتماعيني الذين أدلوا أبفكارهم من أجل إصالح اجملتمع منذ‬
‫احلضارات القدمية ‪ ،‬مثل اآلشوريون والبابليون و الفراعنة واهلند ‪ ،‬والصني وغريها‪ ،‬الذين تركوا من الوصااي‬
‫والتوجيهات ‪ ،‬يف االجتماع والرتبية والسياسة ‪ ،‬تعد من أهم مقومات احلياة االجتماعية ‪ ،‬وكذلك احلال عند‬
‫املسلمني ‪،‬الذين كانت هلم إسهامات ابرزة يف التفكري االجتماعي مثل الفارايب وابن خلدون وإخوان الصفا‬
‫والغزايل وابن الرشد وغريهم ‪.‬‬
‫كل ما قام به هؤالء احلكماء واملشرعون من األمم الشرقية القدمية ‪ ،‬من الدراسات واإلصالحات‬
‫االجتماعية ‪ ،‬وكذلك أيضا ما قام به املفكرون املسلمون من الدراسات واإلصالحات ‪،‬مل تتفق أغراضها‬
‫ومناهجها مع ما يسمى اآلن ابلنظرية‪ ،‬ألهنا تفتقر وتفتقد إىل املنهج " ولعل السبب يف ذلك يرجع إىل أن‬
‫دراسة الظواهر االجتماعية على الطريقة اليت يسري عليها علم االجتماع ‪ ،‬ال تتاح إال ملن ثبتت لديه أن هذه‬
‫الظواهر ال تسري حسب األهواء واملصادفات ‪ ،‬وال حسب ما يريده األفراد ‪ ،‬وإمنا تسري يف نشأهتا وتطورها‬
‫وخمتلف أحواهلا ‪ ،‬حسب قوانني اثبتة مطردة ‪ ،‬وهذه احلقيقة مل يصل إليها تفكري أحد من قبل ابن خلدون "‬
‫(‪.)1‬‬

‫فقد حدد ابن خلدون إطار هذا العلم يف كتابة الشهري ابملقدمة اليت حتتوي على شرح مفهوم هذا العلم‬
‫وحتديد إطاره‪ ،‬وقد ساعد ابن خلدون على وضع أسس هذا العلم أنه سلك طريقا مبتكرا يف دراسات خيتلف‬
‫عن سابقيه‪ ،‬مع العلم أن النظرايت االجتماعية اليت نشأت يف تلك احلقبة كثرية جدا ومتباينة كل التباين ‪،‬‬
‫وقد قضى العلماء شطرا كبريا من هذا القرن يف جدال حول طبيعة احلادثة االجتماعية ‪ ،‬وكيفية دراستها‬
‫فانقسموا بني النظرايت اآللية والعضوية والبيولوجية والتطورية والنفسية واالجتماعية ‪ ،‬ولكن العلماء‬
‫املعاصرين أمهلوا بوجه عام هذه النظرايت الضيقة وصاروا أميل إىل اعتبارها نظرايت جزئية ميكن أن يتم‬

‫‪6‬‬
‫بعضها بعضا ‪ ،‬ورمبا كانت النظرية االجتماعية يف علم االجتماع اليت تزعمها إميل دوركامي هي اليت امتصت‬
‫التيارات األخرى وغلبت عليها ‪.‬‬
‫أما ابلنسبة للتفكري االجتماعي والنظرية االجتماعية يف العصر احلديث ‪ ،‬فإهنا نشأت يف جمتمع وقع حتت‬
‫الظلم والطغيان قروان عديدة ‪ ،‬من قبل الكنيسة اليت كانت ترى أن الكتاب املقدس حيتوى على كل احلقائق‬
‫‪ ،‬وأهنا وحدها هي اليت تعرف أتويل آايته ‪ ،‬وبذلك تكون هي مصدر كل احلقائق وليس هناك حقائق أخرى ‪،‬‬
‫ومن ادعى غري ذلك يعترب يف نظر الكنيسة مارقا ومرتدا عن الدين ‪ ،‬وتقوم الكنيسة بتسليمه إىل حماكم‬
‫التفتيش ‪ ،‬اليت تقوم إبعدام املارقني حرقا وهم أحياء ‪ ،‬مثلما فعل جبوردانو برونو الذي أعدم وأحرق و‬
‫حماكمة غاليليو غاليلي ‪.‬‬

‫‪ -1‬زيدان عبد الباقي ‪ ،‬التفكري االجتماعي نشأته وتطوره‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الغريب للطباعة‪، ،‬ص ص‪.181-180‬‬

‫حينها اندى املفكرون ابإلصالح الديين (لوثر مارتن و جون كالفان وغريمها) ‪ ،‬ونبذ كل اخلرافات واألوهام‬
‫اليت يقول هبا رجال الكنيسة ‪ ،‬واألخذ بوسائل التقدم العلمي ‪.‬‬
‫وقد أستُ ْخ ِد َم مفهوم النظريّة للمرة األوىل يف الفلسفة اليواننيّة لإلشارة إىل املُصطلحات‪ ،‬واملفاهيم اليت ُ‬
‫ختالف‬
‫أول َم ْن اعتم َد على تطبيق فكرة النظريّة‬
‫التطبيقات العمليّة الواقعيّة‪ ،‬واعتُرب الفيلسوف اليوانينّ أرسطو َ‬
‫للتفريق بني احلقائق املُطبقة فعليّاً والنظرايت الفكريّة‪ ،‬مثّ أصبح مصطلح النظريّة من املُصطلحات املعرفيّة‬
‫العديد ِمن اجملاالت سواء الفلسفيّة أو العلميّة أم غريها‪،‬ويف القرن السادس عشر للميالد‬
‫ِ‬ ‫ستخدم يف‬
‫ُ‬ ‫اليت تُ‬
‫اعتمدت على مصادر‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫للداللة على العديد من أنواع الدراسات اليت‬ ‫أصبح مفهوم النظريّة أكثر استخداماً‬
‫وسامهت يف‬
‫ْ‬ ‫ومراجع موثوقة‪ ،‬وقابلة للتحليل والتفسري‪ ،‬واليت ِمن املمكن تطبيقها ضمن اجملال اخلاص هبا‪،‬‬
‫النظرايت ُجزءاً مهماً من الدراسات‬
‫ّ‬ ‫أصبحت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫حتقيق إضافة متطورة إىل جمموعة من اجملاالت الدراسيّة‪ ،‬وهكذا‬
‫اإلنسانيّة‪ ،‬والعلميّة‪ ،‬والطبيّة‪ ،‬واألدبيّة‪ ،‬والفلسفيّة‪.‬‬

‫شروط النظرية ‪:‬‬


‫حىت يتم وضع إطار معريف للنظرية ال بد من توفر جمموعة من الشروط من أمهها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن تكون مكوانت النظرية واضحة و دقيقة ‪ ،‬حمددة األلفاظ و املعاين و املضامني ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تعرب النظرية على ما تدل عليه إبجياز يبني حمتواها و أغراضها و أهداف كل جزء من أجزائها ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ -3‬أن تشتمل النظرية على معظم اجلوانب اليت تكون تلك النظرية و حتللها و تفسرها قد اإلمكان ‪.‬‬
‫‪-4‬البد أن تكون النظرية ذات موضوع و إطار تفسريي خاص هبا حبيث ال تتداخل مع نظرية أخرى تتناول‬
‫وتفسر نفس املوضوع و القضااي ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن تستمد النظرية إطارها املرجعي و التفسريي من حقائق و مالحظات واقعية ميكن إختبارها علمياً‬
‫بشكل يثريها و مينحها اخلاصية العلمية ‪.‬‬
‫‪ -6‬من شروط النظرية اهلامة قدرهتا على التنبؤ ‪ ،‬حبيث ال تقف عند الوصف و التفسري إمنا تتجاوزمها اىل‬
‫القدرة على التنبؤ ‪.‬‬
‫وظائف النظرية ‪:‬‬
‫ميكن إجياز الوظائف اليت تضطلع هبا النظرية العلمية على النحو التايل ‪:‬‬
‫‪ -1‬حتديد هوية العلم و موضوعاته الرئيسة و ميادينه فهو من أبرز وظائف النظرية العلمية ‪ ،‬الذي يرتتب‬
‫عليه أتكيد و إظهار الدور املعريف الرتاكمي‪،‬وعليه يتحدد ما جيب دراسته ‪ ،‬و ما هي القضااي اليت مل تدرس‬
‫بعد إضافة إىل ما مت التوصل إليه من نتائج ‪.‬‬
‫‪ -2‬تعترب النظرية العلمية نقطة البدء يف دراسة الظواهر اإلجتماعية و الطبيعية على ٍ‬
‫حد سواء ‪ ،‬ألهنا تضع‬
‫للباحث اإلطار التصوري ألبعاد و عالقات املوضوع الذي يقوم بدراسته ‪ ،‬وحتدد له املعطيات و كيفية‬
‫تنظيمها و من مث تصنيفها‪ ،‬و العالقات و الرتابطات و التداخالت فيما بينها ‪ ،‬أي أن النظرية تضع‬
‫للباحث االجراءات العلمية اليت سيتبعها عند القيام ببحثه ‪.‬‬
‫‪ -3‬تقدم النظرية عددا كبرياً من املفاهيم اليت تثري العلوم‪ ،‬وذلك ألن كل"مفهوم"يتضمن خربة إجتماعية و‬
‫علمية مميزة‪ ،‬إضافة إىل أنه يعد تلخيصاً لكثري من احلقائق اليت تكون النظرية‪.‬‬
‫‪ -4‬من الوظائف اهلامة للنظرية القيمة العلمية اليت متنحها للبحث فجمع البياانت ابإلعتماد على نظرية‬
‫تدعم املعطيات و تفسر النتائج أمراً ضرورايً حىت ال يعد البحث انقصاً و قاصراً ‪ ،‬و عليه فإن العالقة‬
‫اجلدلية بني النظرية و البحث العلمي على قدر كبري من األمهية جيب أن يراعيها الباحث عند القيام ببحثه‬
‫‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ -5‬تساعد النظرية على اجتاه الظاهرة مستقبال‪ ،‬فالتنبؤ يعين االنتقال من املعلوم من احلاالت والوقائع إىل‬
‫احلاالت اجملهولة ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ -6‬إمكانية االستفادة من النظرايت العلمية يف جمال التطبيق‪.‬‬
‫أمهية النظرية‪:‬‬
‫تكمن أمهية النظرية االجتماعية يف‪:‬‬
‫‪ -1‬أهنا شرط ضروري لتفسري وحتليل الظواهر االجتماعية‪.‬‬
‫‪-2‬أهنا متدان ابإلجابة التفسريية ألسباب حدوث الظاهرة‪.‬‬
‫‪-3‬تساهم يف حل املشكالت االجتماعية بطريقة علمية مدروسة‪.‬‬
‫‪-4‬تساعد على وصف وحتليل الواقع اإلجتماعى حتليال علميا دقيقا‪.‬‬
‫‪-5‬تساعدان على إختيار التفسري املناسب حلدوث املشكالت االجتماعية‪.‬‬

‫___________________‬
‫‪ -1‬عبد الباسط عبد املعطي‪ ،‬نفس املرجع‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬النظرايت السوسيولوجية املعاصرة‬

‫متهيد‬

‫‪ -1‬سوسيولوجية دوركامي ونظريته حول االنتحار‬

‫‪ - 2‬الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد زاننيكي‬
‫‪ -3‬ميدل اتون‪ :‬روبت و هيلني ليند‬

‫‪9‬‬
‫‪ - 4‬جتارب هوثورن‪ :‬مايو‪ ،‬روثلسربجر‪ ،‬ديسكون‬
‫‪ - 5‬دراسات اينكي سييت‪ :‬ويد وارنر‬
‫‪ -6‬جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي)‪ :‬وليام فوت وايت‬
‫‪ -7‬األزمة األمريكية‪ :‬جوانر مريدال )‪(Gunnar Myrdal‬‬
‫‪ -8‬اختيار الشعب‪ :‬بول الزار سفيلد وآخرون‬
‫‪ -9‬اجلندي األمريكي‪ :‬صمويل ستوفر وآخرون‬
‫‪ -10‬اهلابيتوس‪ :‬بيار بورديو‬
‫خالصة‬

‫اخلامتة‬

‫‪-1‬إميل دوركامي‪:‬‬
‫ولد إميل دوركامي يف ‪15‬ابريل ‪1858‬م يف بلدة ابينال ابلقرب من سهل اللورين الذي يشتمل على بعض‬
‫املدن الفرنسية‪ ،‬ويف أحضان أسرة يهودية نشأ دوركامي‪ ،‬فهو أحد أحفاد كبار أحبار اليهود‪ ،‬ولد يف أسرة‬
‫تنحدر أصال من حاخامات املذهب الرابين اليهودي‪ ،‬الذين يدينون ابملذهب العرباين اجلديد‪ ،‬ولذلك اجته‬

‫‪10‬‬
‫دوركامي منذ طفولته وصباه حنو دراسة التلمود والعهد القدمي‪ ،‬كما درس أيضا العربية والتاريخ‪ ،‬مث هجر‬
‫اللغوايت كي يدرس اتريخ األداين ‪.‬‬
‫وبعد حماولتني فاشلتني مت قبوله ابملدرسة العليا سنة ‪ 1879‬وفيها التقى بعدد من املفكرين األوائل أمثال‬
‫الفيلسوف الشهري "هنري برجسون"و"بيري جانيت"وكان من أبرز أساتذة املدرسة أتثريا فيه "فوستيل دي‬
‫كوالنج" صاحب كتاب‪ -‬املدينة القدمية‪-‬الذي أصبح فيما بعد مديرا للمدرسة‪،‬ويف عام‪ 1882‬خترج‬
‫دوركامي من املدرسة ليشتغل يف التدريس ابلثانوايت العامة(‪ ،)1‬ويف عام‪1878‬م ذاعت شهرة دوركامي‪ ،‬مث‬
‫انتقل للتدريس جبامعة بوردو وألقى دروسا يف علم االجتماع العائلي واجلنائي ويف التضامن االجتماعي‬
‫واالنتحار ويف الرتبية والدين‪ ،‬كما ألقى دروسا يف اتريخ املذاهب السوسيولوجية ويف املسئولية واجلزاء‬
‫والتنظيم االجتماعي للقبائل االسرتالية القدمية‪.‬‬
‫تويف دوركامي يف ‪15‬نوفمرب‪1917‬م بعد الصدمة اليت تلقاها مبقتل ابنه الوحيد يف عمليات احلرب العاملية‬
‫األوىل‪ ،‬االبن الذي خطط والده أن يكون وريثه العلمي ‪،‬ذلك أن دوركامي جعل ابنه يتخصص مبوضوع علم‬
‫اجتماع اللغة‪ ،‬وبعد مقتل ولده يف احلرب‪ ،‬فقد إميل دوركامي أمل العيش يف احلياة‪ ،‬فمات وهو حيمل األفكار‬
‫املرة عن احلياة وويالهتا وعدم استقرارها (‪. )2‬‬
‫يعترب دوركامي احد دعائم احلركة العلمية يف النصف األخري من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‪،‬‬
‫وهو األب الشرعي لعلم االجتماع الرتبوي‪ ،‬ومن أهم مؤلفاته ‪:‬‬
‫‪ -1‬تقسيم العمل االجتماعي ( ‪)1893‬‬
‫‪-2‬قواعد املنهج يف علم االجتماع (‪)1895‬‬
‫‪-3‬االنتحار (‪)1897‬‬
‫‪-4‬الرتبية اخللقية (‪)1903‬‬
‫‪-5‬الصورة األولية للحياة الدينية (‪)1912‬‬
‫‪-6‬علم االجتماع والفلسفة (‪)1924‬‬
‫‪-7‬اجمللة السنوية لعلم االجتماع عام ‪1896‬م اليت أصبحت اجمللة الرئيسية للفكر االجتماعي والبحث يف‬
‫فرنسا‪.‬‬

‫‪ -1‬اميل دوركامي‪،‬قواعد املنهج يف علم االجتماع‪،‬ترمجة‪ :‬حممود قاسم‪ ،‬مكتبة النهضة املصرية‪،1961،‬القاهرة‪ ،‬ص‪4‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ -2‬عبد الكرمي غريب‪،‬سوسيولوجيا الرتبية‪،‬منشورات عامل الرتبية‪،‬املغرب‪،2000،‬ص‪ 220‬بتصرف‪.‬‬

‫حتليل ظاهرة االنتحار سوسيولوجيا ‪:‬‬


‫وعرفه كحقائق اجتماعية غري مادية هلا نفس املوضوعية‬
‫قدم دوركامي مفهوماً أكثر حتديداً وحيوية ‪ّ ،‬‬
‫واهليمنة على الفرد ‪ ،‬وقدم لذلك عدداً من األمثلة "مثل احلماس‪ ،‬السخط والغضب داخل جتمع‬
‫ما‪،‬ابلرغم من أن التيارات االجتماعية األخرى أقل حتديداً من احلقائق االجتماعية األخرى لكنها تبقى‬
‫حقائق اجتماعية‪ ،‬وقد أوضح دوركامي ذلك عندما ذكر"إهنا أتيت لكل منا من حيث ال يدرى وميكن أن‬
‫حتملنا بعيداً رغم أنفسنا"(‪.)1‬‬
‫شرح دوركامي فكرة التيارات االجتماعية يف كتابه (قواعد املنهج االجتماعي) لكنه استخدمها كمؤشر‬
‫توضيحي أساسي يف دراسة ميدانية أصبحت منوذجاً لتطور الدراسات امليدانية األمريكية‪ ،‬فالبحث‬
‫الوارد يف االنتحار‪ ،‬ميكن اعتباره حماولة الستخدام األفكار‪ ،‬اليت طورت يف (قواعد املنهج االجتماعي)‬
‫يف دراسة ميدانية عن ظاهرة اجتماعية حمددة هي االنتحار‪ ،‬ففي (االنتحار) أوضح دوركامي أن احلقائق‬
‫االجتماعية وخاصة التيارات االجتماعية مستقلة عن الفرد وقاهرة له‪ ،‬وقد اختار دراسة االنتحار بدالً‬
‫عن العديد من الظواهر االجتماعية األخرى ‪،‬ألهنا ظاهرة ملموسة وحمددة‪ ،‬يعتقد دوركامي أنه إذا متكن‬
‫من توضيح أن لعلم االجتماع دور يلعبه يف توضيح ما يبدو أنه فعل فردي مثل االنتحار‪ ،‬فإنه يصبح‬
‫من املمكن توسيع جمال علم االجتماع لدراسة ظواهر هي أكثر انفتاحاً للتحليل السوسيولوجى‪ ،‬فقد‬
‫اختار دوركامي دراسة االنتحار ألنه إذا متكن من إقناع اجملتمع العلمي بدراسته هلذه الظاهرة سيكون‬
‫لعلم االجتماع فرصة أكرب يف احلصول على االعرتاف من العامل األكادميي‪.‬‬
‫دوركامي كعامل اجتماع مل يك مهتماً بدراسة الفرد املنتحر‪(،‬االنتحار كحالة فردية)‪ ،‬هذا جيب أن يرتك‬
‫لعامل النفس‪ ،‬لكن دوركامي كان مهتماً بتوضيح التباين يف معدالت االنتحار‪ ،‬أي أنه كان مهتما ابإلجابة‬
‫عن التساؤل" ملاذا جند جمموعة معينة هلا معدل انتحار أعلى من األخرى؟"‪ ،‬يفرتض دوركامي أن العوامل‬
‫البيولوجية‪ ،‬والنفسية االجتماعية تبقى اثبتة من جمموعة ألخرى ومن وقت ألخر‪ ،‬وإذا كانت هنالك‬
‫اختالفات يف معدل‬
‫االنتحار من جمموعة ألخرى أو من وقت ألخر‪ ،‬يرى دوركامي أن االختالف يرجع إىل العوامل‬
‫االجتماعية وحتديداً التيارات االجتماعية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وكملتزم ابلبحث امليداين‪،‬مل يكتف دوركامي إببعاد األسباب األخرى‪ ،‬اليت رمبا تؤدى إىل االختالف يف‬
‫معدالت االنتحار‪ ،‬وإمنا قام ابختبار تلك األسباب ميدانياً ‪.‬‬
‫بدأ كتابه عن االنتحار بسلسلة من األفكار املغايرة عن أسباب االنتحار‪ ،‬من ذلك احلالة املرضية‬
‫النفسية للفرد‪ ،‬العرق‪ ،‬الوراثة واملناخ‪،‬يف حني أن دوركامي عرض قدراً واسعاً من احلقائق ورفضها‬
‫كمسبب الختالف معدالت االنتحار‪ ،‬لكن حجته األوضح واليت تنسجم مع جممل تصوره ‪،‬كانت‬
‫حول عالقة العوامل العرقية مع تلك‬

‫‪ - 1‬دور كامي اميل ‪ ،‬قواعد املنهج يف علم اإلجتماع‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد قاسم‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬مصر ‪ ،1988،‬ص ‪.37‬‬

‫االختالفات‪ ،‬أحد أسباب رفض العرق هو أن معدالت االنتحار‪ ،‬تتباين وسط اجملموعات ذات األصل‬
‫العرقي الواحد‪ ،‬وإذا كان العرق سبباً مؤثرا يف تباين معدالت االنتحار‪ ،‬فيمكننا أن نفرتض أن له أثراً‬
‫مشاهبا على خمتلف اجملموعات‪ ،‬ودليل آخر ضد أمهية العرق يف تباين معدالت االنتحار هو التغري يف‬
‫تلك املعدالت وسط عرق معني‪ ،‬عندما ينتقل من جمتمع إىل آخر‪ ،‬وإذا كان العرق حقيقة اجتماعية‬
‫ذات عالقة جيب أن يكون هلا نفس األثر يف خمتلف اجملتمعات‪ ،‬ابلرغم من أن حجة دوركامي هنا ليست‬
‫كافية جداً ورمبا تكون حججه حول العوامل األخرى اليت رفضها أضعف ‪ ،‬لكن هذا يعطينا فكرة عن‬
‫طريقة ومدخل دوركامي يف الرفض املدعم مبعلومات ميدانية ملا يعتربه عوامل إضافية‪ ،‬مما م ّكنه من‬
‫االنتقال إىل ما يعتقد أنه العوامل األكثر أمهية‪ ،‬إضافة إىل رفضه للعوامل سابقة الذكر‪ ،‬فقد درس‬
‫دوركامي نظرية التقليد‪ ،‬اليت تنسب إىل عامل النفس االجتماعي الفرنسي جابريل اترد ورفضها‪ ،‬تقول‬
‫نظرية التقليد أن الناس ينتحرون ( ويدخلون يف نطاق واسع من األفعال األخرى ) ألهنم يقلدون أفعال‬
‫اآلخرين الذين انتحروا‪ ،‬هذا املدخل النفسي االجتماعي غريب على علم االجتماع‪ ،‬وعلى تركيز‬
‫دوركامي على احلقائق االجتماعية‪ ،‬لذلك مل يرتدد دوركامي يف رفضها‪ ،‬وحجته يف ذلك أبنه إذا كان‬
‫التقليد مهماً ‪،‬كان جيب أن تكون األمم اليت جتاور بلداً ذا معدل انتحار عال هي نفسها هلا معدالت‬
‫عالية‪ ،‬مث نظر يف املعلومات اخلاصة هبذا العامل اجلغرايف و خلص إىل أنه ليس له أي أمهية‪ ،‬آمن‬
‫دوركامي أن انتحار بعض األفراد رمبا يكون بسبب التقليد‪ ،‬لكن هذا عامل ضعيف جداً وليس له أي‬
‫أتثري على معدالت االنتحار الكلية‪ ،‬ومبا أن التقليد عامل اجتماعي نفسي‪ ،‬لن يكون له يف نسقه أية‬
‫أمهية يف تباين معدالت االنتحار االجتماعية‪ ،‬وخلص إىل أن "معدالت االنتحار االجتماعي ميكن‬

‫‪13‬‬
‫توضيحها فقط سوسيولوجياً"(‪ )1‬أي حتليل االجتماعي ابالجتماعي‪ ،‬ألن العوامل األهم يف التغري يف‬
‫معدالت االنتحار‪ ،‬جيب أن توجد يف االختالفات على مستوى احلقائق االجتماعية‪ ،‬و هنالك نوعان‬
‫من احلقائق االجتماعية ‪ -‬مادية وغري مادية‪ ،-‬مثالً نظر دوركامي يف أمهية الكثافة احليوية يف تباين‬
‫معدالت االنتحار‪ ،‬لكنه وجد أن أثرها غري مباشر‪ ،‬لكن التباين يف الكثافة احليوية وىف احلقائق‬
‫االجتماعية املادية األخرى‪ ،‬يؤثر على التباين يف احلقائق االجتماعية غري املادية ‪،‬وهذا له أثر مباشر‬
‫على التباين يف معدالت االنتحار‪ ،‬هنا يقدم دوركامي حجتني مرتابطتني‪ ،‬فمن انحية يقول أن اجملموعات‬
‫املختلفة هلا ضمري مجعي خمتلف ومتثالت مجعية خمتلفة أيضاً‪ ،‬ومن انحية أخرى هذا ينتج تيارات‬
‫اجتماعية متباينة ذات أثر تبايين على معدالت االنتحار‪ ،‬وإحدى طرق دراسة االنتحار هي املقارنة بني‬
‫خمتلف اجملتمعات أو األنواع األخرى من اجملموعات‪ ،‬و دوركامي يرى أن التغري يف الضمري اجلمعي‪ ،‬يقود‬
‫إىل تغري يف التيارات االجتماعية‪ ،‬واليت بدورها تؤدي إىل التباين يف معدالت االنتحار‪ ،‬أدى هذا إىل‬
‫الدراسة التارخيية للتغريات يف معدالت االنتحار ضمن جمموعة معينة‪.‬‬

‫‪ -1‬قريف عبد احلميد ‪ ،‬بناء املعرفة السوسيولوجية ‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية ‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬مهمل السنة‪،‬ص‪.33‬‬

‫كان دوركامي واضحا حول الدور األساسي‪ ،‬الذي تلعبه التيارات االجتماعية يف تسبيب االنتحار" كل‬
‫جمموعة اجتماعية هلا استعداد مجاعي للفعل خاص هبا‪ ،‬وهو مصدر االستعداد الفردي وليس نتيجته‪،‬‬
‫وهو يتكون من تيارات األاننيةأو اإليثار فالالمعيارية تتخلل كل اجملتمع‪ ،‬هذه النزعات للجسم‬
‫االجتماعي ككل‪ ،‬وبتأثريها على األفراد تدفعهم إىل االنتحار "(‪.)1‬‬
‫يف نظرية دوركامي عن االنتحار وبنية تنظريه السسيولوجي‪ ،‬ميكن أن نرى بوضوح عند دراستنا لكل‬
‫واحد من أنواع االنتحار األربعة‪ :‬األانين‪ ،‬اإليثارى‪ ،‬الالمعيارى والقدري‪.‬‬
‫‪-1‬االنتحار األانين‪ :‬حيدث هذا االنتحار بسبب النزعة الفردية املتطرفة وانفصال الفرد عن اجملتمع‪،‬‬
‫حيث ال جيد الفرد من يسانده عندما حتل به أي مشكلة‪ ،‬فيصبح املقرر الوحيد لشؤونه اخلاصة‪،‬‬
‫وتصبح قضية اخلطأ والصواب من القضااي اليت حيددها الفرد نفسه‪ ،‬ولذلك مسي هذا النوع من‬
‫االنتحار ابالنتحار األانين‪ ،‬فاملعدالت العالية من االنتحار األانين غالبا ما توجد يف اجملتمعات‪ ،‬اليت‬
‫يكون فيها الفرد غري مندمج متاماً يف الوحدة االجتماعية الكربى ‪ ،‬فاجملتمعات ذات الضمري اجلمعي‬

‫‪14‬‬
‫القوي متنع التيارات االجتماعية الوقائية والشاملة‪ ،‬اليت تنبع من ذلك الضمري حدوث وانتشار االنتحار‬
‫األانين فيها‪ ،‬عندما تضعف هذه التيارات االجتماعية يتمكن األفراد وبسهوله من جتاوز الضمري اجلمعي‬
‫ويفعلون ما يريدون‪ ،‬ويف الوحدات االجتماعية الكربى ذات الضمري اجلمعي الضعيف‪ ،‬يرتك األفراد‬
‫للجري وراء مصاحلهم اخلاصة أبي طريقة يريدوهنا‪ ،‬مثل هذه األاننية غري املكبوحة‪ ،‬غالبا ما تقود إىل‬
‫قدر كبري من االستياء والضجر‪ ،‬مبا أنه ال ميكن إشباع كل احلاجات وحىت اليت ميكن إشباعها تنتج‬
‫حاجات أكثر وأكثر‪ ،‬كما أهنا تنتج االستياء املطلق للعديد من الناس كما تدفع بعضهم إىل‬
‫االنتحار‪،‬لكن األسر املندجمة بقوة‪،‬مثل(اجملموعات الدينية‪ ،‬اجلماعات السياسية) تتعامل كهيئات ذات‬
‫ضمري مجعي قوي وال تشجع االنتحار‪ ،‬فالدين حيمي اإلنسان من الرغبة يف حتطيم الذات‪ ،‬وما ي ّكون‬
‫الدين هو وجود عدد من املعتقدات واملمارسات التقليدية املشرتكة بني كل املؤمنني‪ ،‬و لذا فهي ملزمة‪،‬‬
‫وكلما تعددت هذه احلالة العقلية اجلمعية وقويت‪ ،‬كلما ازداد االندماج يف اجملموعة الدينية وكذلك‬
‫ازدادت القيمة الواقية ‪.‬‬
‫لقد حتدث "دوركامي" عن تفكك اجملتمع الذي يقود إىل تيارات من الكآبة واخليبة ‪ ،‬والتفكك األخالقي‬
‫للمجتمع يعرض الفرد الرتكاب فعل االنتحار‪ ،‬لكن البد من وجود تيارات الكآبة حلدوث التباين يف‬
‫معدالت االنتحار األانين‪ ،‬وما هو مثري لالهتمام أن "دوركامي" هنا يعيد أتكيد أمهية العوامل‬
‫االجتماعية‪ ،‬حىت يف االنتحار األانين الذي يعتقد فيه أن الفرد حر من كل قيود اجتماعية‪ ،‬الفاعلون‬
‫ليسوا أحراراً أبداً من قوة اجلماعة ‪،‬مهما كان اإلنسان فرداي يبقي هناك دائماً شئ مجاعي ‪،‬فحالة‬
‫االنتحار األانين تشري إىل أنه حىت يف أكثر األفعال فردية وخصوصية تكون احلقائق االجتماعية هي‬
‫احملدد األساسي‪.‬‬
‫‪-1‬بالنشي روبري‪،‬نظرية املعرفة العلمية(االبستيمولوجيا)‪،‬ترمجة‪:‬حسن عبد احلميدنديوان املطبوعات اجلامعيةانلكوينت‪،1987‬ص‪.63‬‬

‫‪ - 2‬االنتحار اإليثاري ‪:‬‬


‫النوع الثاين من االنتحار الذي انقشه "دوركامي" هو االنتحار اإليثاري‪،‬فاالنتحار األانين غالباً ما حيدث‬
‫عندما يكون االندماج االجتماعي ضعيف جداً‪ ،‬واالنتحار اإليثاري حيدث عندما يكون االندماج‬
‫االجتماعي قوي جداً‪.‬‬
‫الفرد جيرب حرفيا على ارتكاب فعل االنتحار‪ ،‬مثل العمليات االنتحارية عند اجلماعات املسلحة ‪،‬‬
‫وبشكل عام فإن الذين يرتكبون فعل االنتحار اإليثاري يفعلون ذلك ألهنم حيسون أن ذلك هو‬

‫‪15‬‬
‫واجبهم‪ ،‬وكما يف حالة االنتحار األانين درجة التكامل ( يف هذه احلالة درجة عالية) ليست السبب‬
‫الرئيسي يف االنتحار اإليثاري‪ ،‬ولكن التباين يف درجة االندماج ينتج تيارات اجتماعية خمتلفة تؤثر يف‬
‫معدالت االنتحار‪ ،‬فمثلما يف االنتحار األانين اعترب "دوركامي" أن التيارات االجتماعية اليائسة ‪،‬هي‬
‫سبب معدالت االنتحار اإليثاري العالية‪ ،‬يف حني اعترب أن معدالت االنتحار األانين العالية‪ ،‬تنتج من‬
‫التمزق واالكتئاب احلزين فإن الزايدة يف معدالت االنتحار اإليثاري أتيت من األمل‪،‬ألهنا تعتمد على‬
‫االعتقاد يف التصور اجلميل ملا بعد هذه احلياة‪.‬‬
‫‪ - 3‬االنتحار الالمعياري‪:‬‬
‫النوع األخري واألساسي من أنواع االنتحار الذي انقشه "دوركامي" هو االنتحار الالمعياري ‪،‬وحيدث‬
‫عندما تضطرب ضوابط اجملتمع‪ ،‬وترتفع معدالت االنتحار الالمعياري إذا كانت طبيعة االضطراب‬
‫إجيابية (االنتعاش االقتصادي مثال ) أو سلبية (الكساد االقتصادي )‪ ،‬كال النوعني من االضطراب‪،‬‬
‫يؤدى إىل التعطيل املؤقت للجماعة عن أداء دورها السلطوي على األفراد‪ ،‬فرتات االضطراب تطلق‬
‫العنان لتيارات الالمعيارية ‪ ،‬فاإلحساس ابنعدام املعايري يقود هذه التيارات إىل الزايدة يف معدالت‬
‫االنتحار املعياري‪ ،‬ومن السهل تصور هذا يف حاالت الكساد‪ ،‬كإغالق مصنع نتيجة للكساد‬
‫االقتصادي رمبا يؤدي إىل فقدان وظيفة ‪ ،‬ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن أتثري ضوابط الشركة‬
‫والوظيفة‪ ،‬واالنفصال عن مثل هذه البنيات – األسرة‪ ،‬الدين‪ ،‬الدولة مثالً – يرتك الفرد فريسة ألثر‬
‫تيارات الالمعيارية‪ ،‬ويبدو أنه من الصعب ختيل أثر االنتعاش االقتصادي‪ ،‬ففي هذه احلالة ميكن القول‬
‫أن النجاح املفاجئ‪ ،‬رمبا يقود األفراد بعيداً عن البنيات التقليدية اليت نشأوا فيها‪ ،‬والنجاح االقتصادي‬
‫رمبا يقود الفرد إىل ترك عمله واالنتقال إىل جمتمع جديد ‪ ،‬كل هذه التغريات تؤدي إىل اضطراب أثر‬
‫ضوابط البنيات املوجودة‪ ،‬وترتك الفرد يف فرتات االنتعاش االقتصادي فريسة للتيارات االجتماعية‬
‫الالمعيارية‪ ،‬والزايدة يف معدالت االنتحار الالمعياري خالل فرتات اضطراب احلياة االجتماعية‬
‫منسجمة مع رؤية "دوركامي" عن األثر الضار لنزوات الفرد عندما يتحرر من القيود اخلارجية‪ ،‬فعندما‬
‫يتحرر الناس يصبحون عبيداً لنزواهتم ونتيجة لذلك‪،‬يرى"دوركامي" أهنم يقومون بسلسلة واسعة من‬
‫األفعال املدمرة تشمل قتل أنفسهم أبعداد أكرب مما هو معتاد‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ - 4‬االنتحار القدري ‪:‬‬
‫هنالك نوع رابع من االنتحار ال يشار إليه كثريا ‪ -‬االنتحار القدري – والذي انقشه "دوركامي" يف‬
‫إحدى حواشي كتابه (االنتحار)‪ ،‬ففي حني اعترب أن االنتحار الالمعياري حيدث يف احلاالت اليت‬
‫تضعف فيها الضوابط‪،‬فان االنتحار القدري حيدث يف احلاالت اليت تكون فيها الضوابط متجاوزة للحد‬
‫املرغوب فيه‪،‬ووصف "دوركامي" الذين يرتكبون فعل االنتحار القدري‪ ،‬أبهنم أشخاص مستقبلهم مغلق‬
‫بقسوة‪ ،‬ونزواهتم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري ‪.‬‬
‫وخالصة هذه النظرية‪ ،‬أنه يف كل جمتمع توجد أنساق قيمية‪ ،‬حتدد األهداف ووسائل حتقيقها للمشروع‬
‫‪ ،‬فالالمعيارية هي غياب عدالة الفرص يف حتقيق هذه األهداف‪ ،‬والبحث عن وسائل بديلة للنجاح‪،‬‬
‫حىت وإن كانت غري مشروعة‪ ،‬هي حبث عن التكيف واجلرمية‪ ،‬هي املدخل األول الختالل أنساق‬
‫النظام بصفة عامة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫تقييم عام لنظرايت دوركامي‪:‬‬
‫إن ميدان العلوم االجتماعية بصفة عامة ‪،‬وحقل علم االجتماع بصفة خاصة‪ ،‬غين جدا ابملناهج‬
‫والنظرايت املفسرة ككل الظواهر االجتماعية‪ ،‬اليت حيدثها الفرد كشخص أو كجماعات متفرقة ‪ ،‬فنجد‬
‫أن الظاهرة االجتماعية الواحدة هلا عدة تفاسري‪ ،‬ولكل مدرسة حججها وبراهينها‪ ،‬وكلما كانت نظرية‬
‫أو مدرسة مفسرة ألسباب وعوامل حدوث الظاهرة االجتماعية كلما خلفت ورائها جمموعات من‬
‫املالحظات والتعقيبات واالنتقادات‪ ،‬واملالحظ يف مجيع هذه النظرايت أهنا ال ختلو من انتقادات‪ ،‬فهي‬
‫" نظرية ضيقة األفق‪ ،‬على حد تعبري ( ألبريت كوهن)‪ -‬رغم طابعها السوسيولوجي ‪ ،‬إال أهنا تصور‬
‫(‪)1‬‬
‫األفراد األنوميني مفصولني عن الواقع االجتماعي وكأهنم يف صناديق وليسوا يف جمتمع "‬
‫ألهنا مل حتدد بدقة احلالة الزمانية واملكانية أو األوضاع االجتماعية‪،‬اليت تدعو إىل حالة األنومي يف‬
‫اجملتمع ‪" ،‬فدوركامي" يرى أن لالحنراف عالقة طردية بسرعة التغيري الذي حيدث يف اجملتمع‪ ،‬أما مريتون‬
‫فريى أن االحنراف مرتبط طرداي بدرجة التجاذب احلادث بني السبل واألهداف الثقافية يف اجملتمع‪ ،‬يف‬
‫حني نرى يف نفس النظرية وجهة رأي كلوراد ماكلوهن أهنما يعتمدان على متغريي الطبقة االجتماعية‬
‫وبناء الفرصة يف اجملتمع‪ ،‬كما أرجعا حالة االغرتاب عن املعايري اإلجتماعية إىل حاالت الفشل أو توقعه‬
‫من قبل األفراد يف حتقيق أهدافهم‪ ،‬واملالحظ بصفة عامة عن "نظرية األنومي" أن " األهداف وخباصة‬
‫املادية تلعب دورا ابرزا يف تفسري اجلرمية‪ ،‬خاصة إذا أصيب البناء االجتماعي بدرجات عميقة من التغري‬
‫ميتد إىل وسائل الضبط االجتماعي" (‪.)2‬‬
‫وينطلق إميل دوركامي‪ ،‬يف كتابهه (االنتحهار)(‪ ،)3‬مهن نتيجهة أساسهية‪ ،‬وههي أن االنتحهار ليسهت ظهاهرة نفسهية أو‬
‫عضوية‪ ،‬بهل ههي ظهاهرة جمتمعيهة‪ ،‬مرتبطهة بتقسهيم العمهل يف اجملتمهع الرأمسهايل الصهناعي وابلتهايل‪ ،‬يتحهدد معهدل‬
‫االنتحار حبسب درجة اندماج األفراد يف اجلماعة‪ ،‬والعالقة بينهما عالقة علية أو سببية‪.‬‬
‫أما فيما خيص اهتمامه ابجلوانب الدينية‪ ،‬فقد رفض التفسري الفردي واالجتماعي للظاهرة الدينية‪،‬‬
‫فاعتربها ظاهرة اجتماعية‪ ،‬ميكن دراستها دراسة علمية موضوعية‪ ،‬كما يبدو ذلك جليا يف كتابه (‬
‫الصور األولية للحياة الدينية) الذي ظهر سنة ‪ ،)4( 1912‬وقد توصل يف كتابه إىل أن التدين ظاهرة‬

‫‪18‬‬
‫مجاعية؛ ألن فكرة املقدس موجودة يف مجيع العقائد واألداين ومن مث‪ ،‬فاملقدس نتاج احلياة اجلماعية‬
‫وابلتايل‪ ،‬فالدين هو اجملتمع نفسه‪ ،‬ويعين هذا أن اجملتمع هو الذي يولد طبيعة التفكري الديين لدى الفرد‬
‫ومن مث‪ ،‬يرتادف الدين مع اجملتمع‪.‬‬
‫‪ -1‬نبيل رمزي ‪ ،‬النظرية السوسيولوجية املعاصرة‪ ،‬أصوهلا الكالسيكية واجتاهاهتا احملدثة ( قراءات وحبوث)‪ ،‬دار الفكر اجلامعي‪ ،‬بدون بلد‬
‫النشر‪ ،1999 ،‬ص ‪.347‬‬
‫‪ - 2‬نفس املرجع ‪ ،‬ص ‪.357‬‬
‫‪3-Émile Durkheim:Le Suicide: Étude de sociologie, Paris, Presses universitaires‬‬
‫‪France, coll. « Quadrige » )no 19), 1981, 463 p.‬‬ ‫‪de‬‬
‫‪4-- Durkheim, Émile. Les formes élémentaires de la vie religieuse, Presses‬‬
‫‪Universitaires de France, 5e édition, 2003. p. 604‬‬
‫‪ -2‬الفالح البولندي يف أوروابوأمريكا )‪)Polish Peasant in Europe and America‬‬
‫ل ‪ :‬وليام ازاك توماس و فلوراين ولتورد زاننيكي‪:‬‬
‫فلوراين ويلتورد زاننكى عاش من ‪1959-1882‬ولد يف بولندة اليت كانت واقعة يف ذلك الوقت حتت‬
‫االحتالل األملاين‪ ،‬وكان من أوائل علماء االجتماع البولنديني الذين شاركوا يف إنشاء املعهد البولندي لعلم‬
‫االجتماع‪ ،‬واجمللة البولندية لعلم االجتماع‪ ،‬وىف عام ‪ 1914‬اشرتك مع وليام إيزاك توماس يف وضع كتاب‬
‫الفالح البولندي يف أوراب وأمريكا‪ ،‬وهي الدراسة اليت كانت رائدة يف استخدام بعض املناهج واألدوات‬
‫اجلديدة (كاملذكرات الشخصية‪ ،‬وتواريخ احلياة‪ ،‬واخلطاابت)‪ ،‬كما كانت رائدة يف استخدام املعامل اإلنساين‬
‫الذي أيخذ يف االعتبار دائما معاين املشاركني يف التفاعل االجتماعي‪ ،‬وكذلك زادت هذه الدراسة البداايت‬
‫األوىل للوصف املنظم للمجتمع‪،‬وقد طور زاننيكى تلك املناهج واألدوات يف كتبه اليت نشرها بعد ذلك‪،‬‬
‫مثل‪ :‬الواقع الثقايف‪ ،‬العالقات االجتماعية واألدوار االجتماعية الصادر عام ‪.1965‬‬
‫أما وليام ازاك توماس ‪(1863-1947( William Isaac Thomas‬‬
‫فينتمي إىل اجليل األول من الباحثني املنتمني ملدرسة شيكاغو‪ ،‬حيث التحق ابجلامعة كأستاذ مساعد منذ سنة‬
‫‪ 1897‬مث أستاذا مشاركا يف سنة‪، 1900‬وقد جاء إىل السوسيولوجيا عن طريق الفلسفة وعلم النفس‬
‫اإلجتماعي‪،‬حيث سبق أن درس هذه املواد يف جامعة برلني‪ ،‬وقد أتثر ابملناخ الفكري السائد آنذاك يف‬
‫اجلامعة األملانيةن اليت ينتمي اليها جيل املؤسسني‪ ،‬وقد أتثر خالل سنوات تكوينه مبؤلف “مبادئ يف علم‬
‫اإلجتماع” هربرت سبينسر الذي قرأه حني كان طالبا وحدد توجهاته املعرفية الحقا‪ ،‬وتظهر النزعة النفسية‬
‫اإلجتماعية يف أعماله األوىل‪ ،‬اليت تناول فيها قضااي هتم النوع واإلختالفات اجلنسية ومدى أتثريها يف‬

‫‪19‬‬
‫السلوك ‪ ،‬مثل أطروحته لنيل الدكتوراه اليت حتمل عنوان االختالفات اجلنسية واجملتمع عام ‪،1896‬وهو‬
‫تقريبا‬
‫نفس مؤلفه األساسي اجلنس واجملتمع (‪ ،)1907‬ولعل هذا التوجه النفسي اإلجتماعي هو الذي سيدفعه‬
‫الحقا الستعمال املنهجية املعتمدة على السرية الذاتية وقراءة الواثئق واملراسالت الشخصية‪ ،‬كوسيلة‬
‫الستخراج املعلومة واحلصول على معطيات أساسية و موثوقة‪ ،‬وقد استعمل هذه املنهجية بنجاح يف البجث‬
‫الواسع الذي أشرف على إجنازه حول املهاجرين ذوي األصول البولندية مبساعدة فلوراين زاننكي والذي‬
‫نشره حتت عنوان “الفالح البولندي”‪ ،‬ويعترب هذا البحث الذي قامت بتمويله مؤسسة خاصة‪ ،‬أول حبث‬
‫ميداين جدي يف السوسيولوجيا األمرييكية ‪ ،‬وقد طبق الباحث بنجاح هذه املنهجية يف دراسة عدد من‬
‫املواضيع من بينها وضعية املرأة والعالقة بني اجلماعات العرقية‪ ،‬وموضوع اجلرمية وظاهرة الفوضى‬
‫اإلجتماعية‪ ،‬واجلدير ابلذكر أنه قد سبق أن اشرف على إدارة اجمللة املشهورة ‪،‬كما مت تعيينه سنة ‪1927‬‬
‫رئيسا شرفيا للجمعية األمرييكية لعلم اإلجتماع‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1905‬حصل "وليام ازاك توماس" األستاذ جبامعة "شيكاغو" على منحة ضخمة من مؤسسة خاصة‬
‫لدراسة املشكالت املرتبطة ابهلجرة األوروبية إىل الوالايت املتحدة‪ ،‬وبعد ذلك بقليل قرر أن يركز على‬
‫الفالحني البولنديني الذين يشكلون نسبة كبرية من السكان األجانب يف "شيكاغو"‪ ،‬وميثلون مشكلة‬
‫ابرزة‪،‬ويف إحدى رحالته إىل بولندا تعرف على "فلوراين ولتورد زاننيكي" الشاعر والفيلسوف‪ ،‬ونظم‬
‫إجراءات سفره إىل الوالايت املتحدة ليعمل معه يف هذا املشروع البحثي‪ ،‬وقد نشر تقريرمها املشرتك بعد‬
‫احلرب العاملية األوىل مباشرة‪.1‬‬
‫وتتكون البياانت اخلام من جمموعة ضخمة من الواثئق‪ :‬خطاابت شخصية‪ ،‬وقصص صحفية‪،‬‬
‫واستمارات التقدم جلمعية اهلجرة‪ ،‬و"اتريخ األبرشية ‪ ،"parish historiek‬وإحصاءات الروابط‬
‫البولندية‪ -‬األمريكية‪ ،‬وسجالت القضااي من احملاكم واملؤسسات اإلجتماعية‪ ،‬وال نعرف عدد الواثئق‬
‫اجملموعة‪ ،‬غري أن ما يزيد عن ألف منها موجودة يف كتاب "الفالح البولندي يف أورواب وأمريكا" مبا فيها سرية‬
‫ذاتية طويلة ومثرية ملهاجر امسه "والديك ‪ ،"Wladek‬ويف رأي املؤلفني أن سجالت احلياة الشخصية تعد‬

‫‪1‬‬
‫‪Willian thomas and Florian zaniecki, the Plish Peasant in europe and Amirica, 2Vols, NEW York,‬‬
‫‪knopf, 1927. Republished in facsimile New york, Dover, 1920.‬‬

‫‪20‬‬
‫"أكثر أمناط بياانت علم االجتماع اكتماال"‪ .2‬وميثل املنهج الرئيسي يف منط من أمناط حتليل املضمون‪ ،‬وهو‬
‫البحث يف الواثئق عن شواهد على االجتاهات والقيم اليت يعتنقها األشخاص الذين تشري إليهم الواثئق‪.‬‬
‫وتعد االجتاهات والقيم مبثابة املصطلحات األساسية يف هذه الدراسة‪ ،‬والقيم االجتماعية عند "توماس‬
‫و زاننيكي" عبارة عن شيء يشبه الظواهر االجتماعية عند دوركامي‪ ،‬فالقيمة االجتماعية هي شيء – مادي‬
‫أو غري مادي‪ -‬يعد مفيدا ألعضاء اجلماعة االجتماعية‪ ،‬يعرتف "توماس و زاننيكي" أبي تفسري يف علم‬
‫االجتماع يتجاهل الظواهر االجتماعية أو الدوافع الفردية‪ ،‬حيث يقوالن‪" :‬إن سبب القيمة أو االجتاه ال‬
‫ميكن أن يكون االجتاه أو القيمة وحده ولكنه دائما مزيج من االجتاه والقيمة"‪.3‬‬
‫ويتحقق املزج بتبي ني االجتاهات الفردية والقيم االجتماعية لدى كل فرد بواسطة عدد ضخم من‬
‫الرغبات اليت ميكن إشباعها يف احمليط االجتماعي فقط‪ ،‬وميكن حصر األمناط العامة للرغبات يف أربعة‪:‬‬
‫‪ -1‬الرغبة يف اكتساب خربات جديدة‪.‬‬
‫‪ -2‬الرغبة يف كسب االعرتاف‪ ،‬وهذه تشمل االستجابة اجلنسية والتقدير االجتماعي العام‪.‬‬
‫‪ -3‬الرغبة يف السيطرة‪ ،‬وهذه تشمل امللكية والقوة السياسية‪.‬‬
‫‪ -4‬الرغبة يف احلماية‪ ،‬وهذه تشمل تدعيم الزمالء وصحبتهم‪.‬‬
‫وقد عرفت هذه الرغبات األربع املشهورة يف صياغة أخرى قدمها "توماس" فيما بعد‪ ،‬حيث استبعد‬
‫الرغبة يف السيطرة‪ ،‬وأصبحت الرغبات األساسية هي‪ :‬اكتساب خربات جديدة‪ ،‬وكسب االعرتاف‪،‬‬
‫واالستجابة‪ ،‬واحلماية‪.‬‬
‫وكما يبدو واضحا من عنوان الكتاب‪" :‬الفالح البولندي يف أوراب وأمريكا"‪ ،‬فإنه حيلل وضع‬
‫الفالحني البولنديني يف هاتني القارتني‪ ،‬ومع أن الرتكيز انصب على أوراب‪ ،‬فإن التغري االجتماعي كان حمور‬
‫االهتمام يف هاتني القارتني‪ ،‬وتعد اجلماعة األسرية يف القرية البولندية التقليدية هي الفاعل االجتماعي‬
‫األساسي‪ ،‬وخيضع األفراد هلا إىل أبعد حد ممكن‪،‬وتعد واجبات أعضاء األسرة جتاه بعضهم بعضا مسألة التزام‬
‫ال مسألة عاطفية‪ ،‬ويتم ترتيب الزواج بني األسر‪ ،‬وال حتظى املعاشرة اجلنسية أبي قيمة مستقلة‪ ،‬ومن الناحية‬
‫العملية تعد األسرة اجلماعة االجتماعية املنظمة الوحيدة اليت ينتمي إليها الفالح‪ ،‬وليست عالقات األسرة‬
‫جبرياهنا من األسر عالقة وثيقة‪ ،‬غري أن هناك تضامنا قواي يف كل قرية‪ ،‬ألن مجيع الفالحني يعتنقون نفس‬

‫‪ -‬نفس املرجع ‪ ،‬ص ص‪ 23 -18‬بتصرف ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ - 3‬نفس املرجع ‪ ،‬ص‪.44‬‬

‫‪21‬‬
‫اآلراء حول أدوارهم وعالقاهتم‪ ،‬كما يؤمنون بنفس املعتقدات حول الدين والسحر‪،‬وينعزل هذا اجملتمع هبذه‬
‫الصورة التقليدية انعزاال واضحا عن املؤثرات اخلارجية‪ ،‬وال توجد أرسقراطية مالكة لألرض تتحكم فيه‪ ،‬كما‬
‫يوجد عدد حمدود من املدن اجملاورة‪.‬‬
‫وقد أوضحا "توماس و زاننيكي" كيفية حتطم هذا النمط بفعل التغريات االقتصادية واملؤثرات‬
‫األخرى اخلارجية اليت أضعفت تضامن األسرة والقرية‪ ،‬مما ساعد األفراد على تكوين اجتاهات جديدة تتعارض‬
‫مع القيم األسرية‪ ،‬كما أدت ظهور التباين يف اآلراء واملعتقدات والتوجيهات االقتصادية يف القرية‪ ،‬ويعرفان‬
‫"التفكك االجتماعي" أبنه تقلص أتثري املعايري اجلماعية على أعضاء اجلماعة ويوضحان أن هذا التفكك‬
‫أصبح مييز كل جانب من جوانب اجملتمع القروي يف بولندا بعد عام ‪ 1900‬مما أدى إىل عملية إعادة التنظيم‬
‫‪ ،Reorganisation‬ففي األسرة حلت القيم واالجتاهات املرتبطة ابملتعة ‪ Hedonistic‬حمل‬
‫التضامن األسري‪ ،‬ويف القرية حل السعي حنو النجاح والتفوق االقتصادي حمل الروح اجلمعية احملافظة‬
‫القدمية‪ ،‬كما شهد اجملتمع األكرب يف بولندا منو طبقة وسطى جديدة وتعاظم الروح القومية‪ ،‬وحترير املعتقدات‬
‫الدينية‪ ،‬وظهور احلركات الثورية‪ ،‬وتعاظم انتشار األفكار اجلديدة من خالل التعليم والصحافة‪.‬‬
‫وقد ظهرت صورة أكثر تطرفا للتفكك عندما هاجر الفالحون إىل الوالايت املتحدة اتركني وراءهم‬
‫قراهم البولندية‪ ،‬كما استقلوا عن أسرهم أيضا‪ ،‬ويوضح "توماس و زاننيكي" أن املهاجرين مل يدخلوا اجملتمع‬
‫األمريكي مباشرة‪ ،‬فقد كان جمتمعهم األول مكوان من املهاجرين اآلخرين‪ ،‬وكان العامل الذي دخلوه عامل‬
‫املهاجرين البولنديني – األمريكيني وليس عامل األمريكيني الوطنيني‪ ،‬وهنا جند مرة اثنية أن التفكك تبعه إعادة‬
‫تنظيم وظهور اجتاهات وقيم جديدة‪ ،‬فقد ظهرت مجعيات املهاجرين‪ ،‬واألبرشيات البولندية واجلمعيات‬
‫اخلريية‪ ،‬والنظام التعلمي التابع للكنيسة‪ ،‬والروابط البولندية – األمريكية لتحل جزئيا حمل الدعائم اجلماعية‬
‫اليت افتقدها املهاجرون بيد هذه اجلماعات األولية القدمية‪ ،‬ويشيع بني الفالحني البولنديني يف الوالايت‬
‫املتحدة التفكك الفردي‪ ،‬الذي يعرفه "توماس و زاننيكي" أبنه افتقاد الفرد املقدرة على تنظيم حياته من‬
‫اجل حتقيق أهدافه اخلاصة‪ ،‬وليس التفكك الفردي‪ ،‬هو نفسه التفكك االجتماعي على الرغم من الرتابط‬
‫بينهما‪ ،‬إذ يصبح بعض األفراد مفككني عندما يسود التفكك االجتماعي‪ ،‬يف حني يتمكن بعض األفراد‬
‫اآلخرين من ابتداع أمناط جديدة وانجحة للفعل(‪.)1‬‬

‫‪22‬‬
‫وتتمثل الصورة املميزة للتفكك الفردي بني الفالحني البولنديني يف الوالايت املتحدة يف‪ :‬اإلعالة‬
‫االقتصادية‪ ،‬وتقوض العالقات الزواجية‪ ،‬والقتل‪ ،‬واحنراف األحداث‪ ،‬وميكن االستشهاد على الطريقة اليت‬
‫فسر هبا "توماس و زاننيكي" املشكالت السلوكية ابلكشف عن االجتاهات والقيم الكامنة وراءها من خالل‬
‫االقتباس التايل الذي يناقشان فيه نتائج اجلهود‪ ،‬اليت تقوم هبا احملاكم واملؤسسات االجتماعية للحيلولة دون‬
‫اهنيار أسر املهاجرين‪.‬‬
‫ويعد البولنديون – األمريكيون اليوم يف الغالب مواطنني ينتمون إىل اجليل الثالث أو الرابع‪ ،‬الذي ال‬
‫يعاين مشكالت ختصه وحده‪ ،‬غري أن التحليل السابق ال يزال ينطبق على بعض املهاجرين اجلدد واملهاجرين‬
‫الذين يقيمون يف قاع املدينة‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلوهري حممد‪،‬نفس املرجع‪،‬ص ص‪124-123‬‬

‫‪ -3‬ميدل اتون‪ :‬روبت و هيلني ليند‬


‫تلقى "روبرت ليند " تعليمه ليصبح كاهنا يف الكنيسة الربوتستانتية‪ ،‬ويف أوائل العشرينات قام هو‬
‫وزوجته إبجراء مسح عن األنشطة واملمارسات الدينية‪ ،‬يف جمتمع حملي أمريكي منطي‪ ،‬وكان املكان الذي‬
‫اختاره هو مدينة"مونسي ‪ "Muncie‬بوالية "اندايان"‪ ،‬وهي مدينة صناعية صغرية يبلغ عدد سكاهنا حوايل‬
‫‪ 40‬ألف نسمة‪ ،‬وهي تقرتب كثريا من مكان ميالد "روبرت ليند"‪،‬وقد استبدل اسم هذه املدينة ابسم‬
‫مستعار "ميدل اتون ‪ ،"Middletown‬وسرعان ما جتاوزت الدراسة هدفها األصلي‪ ،‬واتسعت لتغطي‬
‫مجيع اجلوانب األساسية للحياة االجتماعية املنظمة حتت ستة عناوين هي‪ :‬كسب القوت‪ ،‬وأتثيث املنزل‪،‬‬
‫وتنشئ’ الصغار‪ ،‬واستخدام وقت الفراغ‪ ،‬واملشاركة يف املمارسات الدينية‪ ،‬واملشاركة يف أنشطة اجملتمع‬
‫احمللي‪ ،‬وتنقسم كل فئة من هذه الفئات إىل أقسام أخرى‪ ،‬فعلى سبيل املثال جند أن مناقشة أنشطة اجملتمع‬
‫احمللي يف "ميدل اتون" مشلت وسائل اإلدارة احلكومية‪ ،‬واحملافظة على الصحة ورعاية املعوقني‪ ،‬واحلصول على‬
‫املعلومات‪ ،‬والعوامل املفضية إىل تضامن اجلماعة وكذا العوامل املؤدية إىل إعاقة هذا التضامن‪.‬‬
‫وقام "ليند وزوجته" ومعاونيهما بفتح مكتب يف مبىن حملي ‪،‬جلمع البياانت ملدة استغرقت مثانية عشر‬
‫شهرا‪ ،‬وخالل تلك الفرتة شارك "ليند وزوجته" قدر اإلمكان يف مجيع جوانب احلياة ابجملتمع احمللي‪ ،‬واعتمد‬

‫‪23‬‬
‫التقرير النائي للبحث على مزيج من البياانت الرمسية واالنطباعات غري الرمسية‪ ،‬وقامت الدراسة على مقارنة‬
‫دقيقة بني ""ميدل اتون املعاصرة" (‪ )1924-1925‬و"ميدل اتون" منذ جيل مضى (‪.)1890‬‬
‫وابإلضافة إىل املعلومات اليت حصل عليها "ليند وزوجته" ابستخدام املالحظة ابملشاركة‪ ،‬قاما‬
‫بفحص البياانت الواثئقية‪ ،‬ومجع اإلحصاءات‪ ،‬وإجراء املقابالت‪ ،‬واالستعانة ابالستبياانت‪ ،‬ومن بني الواثئق‬
‫املكتوبة جند تقارير التعداد‪ ،‬وسجالت املدينة واإلقليم‪ ،‬وملفات احملاكم‪ ،‬وسجالت املدارس‪ ،‬وتقارير الوالية‬
‫وكتبها السنوية‪ ،‬والصحف‪ ،‬وحماضر االجتماعات‪ ،‬واليوميات الشخصية‪ ،‬وسجل القصاصات‪ ،‬واألحداث‬
‫احمللية‪ ،‬ودليل املدينة‪ ،‬واخلرائط‪ ،‬وحوليات املدرسة الثانوية‪ ،‬ومشل برانمج املقابالت حماداثت ومقابالت‬
‫خمططة مع أبرز اإلخباريني‪ ،‬ومسح لعينة من أسر الطبقة العاملة‪ ،‬وعينة أخرى من أسر طبقة رجال األعمال‪.‬‬
‫وكان "كتاب ميدل اتون" أول كتب علم االجتماع‪ ،‬اليت أصبحت من الكتب األكثر مبيعا‪ ،‬حيث‬
‫طبع منه ست طبعات يف السنة اليت ظهر فيها‪ ،‬وحظي مبناقشات حامية يف أرجاء الوالايت املتحدة خاصة يف‬
‫"ميدل اتون" ‪ ،‬وأصبح مؤلفا هذا الكتاب مشهورين بني عشية وضحاها‪ ،‬وقد حصل "ليند" بسبب إسهامه‬
‫يف هذا العمل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا‪ ،‬وعني أستاذا لعلم االجتماع هبا عام ‪.1931‬‬
‫ويف هذا الوقت فاجأ الكساد العظيم الوالايت املتحدة األمريكية‪ ،‬ومجيع مدهنا اليت تشبه "ميدل‬
‫اتون" ويف عام ‪ 1935‬عاد "ليند وزوجته" إىل "مونسي" مع جمموعة كبرية من املعاونني‪ ،‬لدراسة أتثري الكساد‬
‫ورصد التغريات ‪ ،‬اليت أصابت كل نظام من النظم االجتماعية‪ ،‬وكانت املناهج املستخدمة يف هذا البحث‬
‫الثاين أكثر اختصارا من مناهج البحث األول‪ ،‬وقد نشر كتاب "ميدل اتون املتغرية" بعد سنتني فقط‪ ،‬وكان‬
‫التغري الذي انتاب "ليند وزوجته" يفوق التغري الذي أصاب جمتمع الدراسة‪ ،‬ففي الفرتة الواقعة بني الدراستني‬
‫تقبال وجهة النظر املاركسية للبناء االجتماعي‪ ،‬وأصبحا يؤمنان اآلن أبن العالقات املتصلة بكسب القوت‬
‫‪،‬هي اليت حتدد بناء النظم اإلجتماعية اخلمسة األخرى‪ ،‬ابإلضافة إىل القيم واملعتقدات السائدة‪ ،‬لقد اهتزت‬
‫ثقتهما القدمية يف أسلوب املعيشة يف "ميدل اتون" ويف قدرته على التالؤم‪ ،‬وكان ذلك بدرجة أقوى من‬
‫اهتزاز ثقة السكان يف هذا األسلوب‪ ،‬ومل يقتصر األمر على وصف "ليند وزوجته" للتغري الضخم الذي‬
‫أصاب "ميدل اتون" عام ‪ 1935‬كما سوف يتضح من بعد‪ ،‬بل إهنما عدال من وصفهما هلذا اجملتمع عام‬
‫‪ 1925‬بشكل أصبحت املالحم السلبية أكثر وضوحا (‪.)1‬‬

‫‪24‬‬
‫ومن النتائج األساسية للدراسة األوىل‪ ،‬االنقسام احلاد للمجتمع احمللي إىل طبقة رجال األعمال‪ ،‬اليت‬
‫حتصل على معظم دخلها من العمل مع الناس‪ ،‬وطبقة العمال اليت حتصل على معظم دخلها من العمل مع‬
‫األشياء‪ ،‬وختتلف هااتن الطبقتان اختالفا حادا بدرجة تفوق ما يدرسه أعضائها ويتضح هذا االختالف يف‬
‫فرص احلياة‪ ،‬ون ظام املعيشة اليومي (الروتني اليومي)‪ ،‬والعالقات األسرية وكذلك املعتقدات الدينية‬
‫والسياسية إىل حد ما‪ ،‬وتتشابه عادات أفراد الطبقة العاملة يف بعض اجلوانب مع عادات أفراد طبقة رجال‬
‫األعمال من اجليل املاضي‪ ،‬وتظهر السمات الثقافية اجليدة يف طبقة رجال العمال أوال‪ ،‬مث تنتقل ببطء إىل‬
‫طبقة العمال‪.‬‬
‫وكان أتثري هاتني الطبقيتني ابلتغيري االجتماعي بدرجة غري متكافئة‪ ،‬كما كان الصغار أكثر استجابة‬
‫هلذا التغري من والديهم‪ ،‬وكانت النساء أكثر استجابة من الرجال خاصة يف طبقة رجال األعمال‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلوهري حممد‪،‬نفس املرجع‪،‬ص ‪132‬‬

‫تظهر احلياة يف "ميدل اتتون" يف كل جانب تقريبا بعض التغريات أو بعض الضغوط الناجتة عن‬
‫الفشل يف التغري‪ ،‬ويقف الفرد إبحدى قدميه على أرض صلبة من العادات النظامية الراسخة‪ ،‬وجيري بقدمه‬
‫األخرى على سلم يتحرك يف اجتاهات عديدة بسرعات مذهلة‪ ،‬وتتوقف املعيشة يف مثل هذه الظروف أوال‬
‫وقبل كل شيء على حتقيق قدر من التوازن‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1935‬كانت "ميدل اتون" قد بدأت تصحح وضعها الناتج عن اهنيار الصناعة‪ ،‬والبطالة‬
‫السافرة‪ ،‬واخلسارة يف املمتلكات ‪،‬اليت حدثت خالل السنوات اخلمس املاضية‪ ،‬وتعطل التقدم االقتصادي‬
‫للمجتمع احمللي تعطال كامال‪ ،‬وأصبح حوايل ربع األسر يعيش على املساعدات العامة‪ ،‬واخنفضت أعداد‬
‫الزجيات والوالدات‪ ،‬وتوقف تشييد املباين اجلديدة‪ ،‬وشهد نظام العمل حتوال بفعل القواعد الفيدرالية‪،‬‬
‫وانتشار احلركة النقابية بني العمال‪ ،‬والصراعات الكامنة يف القيم داخل جمتمع "ميدل اتون" مثل الصراع بني‬
‫الفردية و املسؤولية اجلمعية‪ ،‬ذلك الصراع الذي شق طريقه وطفا على السطح‪.‬‬
‫وقد اختذ "ليند وزوجته" من األوهام جمرى طبيعيا موازاي‪ ،‬فقد اكتشف مالمح بغيضة للحياة يف‬
‫"ميدل اتون" تغاضيا عنها أو صوراها بدرجة أقل من الواقع عام ‪ ،1925‬ففي مناقشة الدعارة أوضحت‬
‫الدراسة األوىل احنسارها‪ ،‬ووجود بيتني أو ثالثة ملمارسة الدعارة يف اخلفاء‪ ،‬وبعد عشر سنوات اكتشف "ليند‬
‫وزوجته" أن ميدل اتون كانت يف عام ‪ 1925‬متثل مركزا للدعارة إلقليم كبري وأهنما فشال يف مالحظة وجود‬

‫‪25‬‬
‫منطقة حي البغاء جبانب حي األعمال‪ ،‬وعلى حنو مشابه أصبح "ليند وزوجته" على دراية أبن نسبة كبرية من‬
‫السكان كانوا يعيشون يف مساكن متهدمة ال توجد هبا مياه نقية أو تدفئة كافية‪ ،‬وأن إدمان املسكرات كان‬
‫منتشرا عام ‪ ،1925‬وأن التعصب ضد الزنوج كان ميثل مرضا مستوطنا‪ ،‬وأن الصحافة احمللية كانت تتعرض‬
‫للمناورات وملؤثرات غري قومية‪ ،‬وأن النهر كان ملواث بدرجة خطرية(‪.)1‬‬
‫واألهم من ذلك أن ليند وزوجته‪ ،‬أعادا النظر يف وجهة نظرمها السابقة ‪،‬حول البناء الطبقي لتأخذ‬
‫يف اإلعتبار‪ ،‬دور األسر ذات النفوذ اليت كانت متتلك الصناعة احمللية الرئيسية‪ ،‬واليت كانت متارس نوعا من‬
‫السيطرة على اجملتمع احمللي برمته من خالل عالقاهتا اإلسرتاتيجية مع البنوك الرئيسية‪ ،‬واملكاتب القانونية‪،‬‬
‫وجملس التعليم‪ ،‬واجلمعيات اخلريية‪ ،‬والكنائس‪ ،‬والصحافة‪ ،‬وجود طبقة عليا انشئة تتكون من رجال الصناعة‬
‫األثرايء‪ ،‬وأصحاب املديرين احملليني للشركات الوطنية‪ ،‬وقلة ثرية اتبعة هلذه اجلماعات‪ ،‬ويقسمان اآلن طبقة‬
‫رجال األعمال إىل طبقة‬
‫‪ -1‬اجلوهري حممد‪،‬نفس املرجع‪،‬ص ‪133‬‬

‫وسطى – عليا مؤلفة من أصحاب املصانع‪ ،‬والتجار‪ ،‬وأصحاب املهن الفنية املتخصصة‪ ،‬واملديرين‬
‫التنفيذيني‪ ،‬وطبقة وسطى – دنيا تتألف من صغار ابعة التجزئة‪ ،‬والعاملني ابخلدمات‪ ،‬وأصحاب املهن‬
‫الفنية‪.‬‬
‫ومل خيلص "ليند وزوجته" من هذه التقسيمات احلادة إىل أن احلرب الطبقية على وشك احلدوث‪ ،‬بل‬
‫يبدو من احملتمل أن تسري "ميدل اتون" يف الطريق الوسط املعتاد‪ ،‬وتتكيف بعناد مع التغريات الالزمة‬
‫وتشكل مستقبلها من خالل عمليات التوفيق واحللول الوسطى‪.‬‬
‫‪ -4‬جتارب هوثورن‪ :‬مايو‪ ،‬روثلسربجر‪ ،‬ديسكون‬
‫جورج التون مايو (‪ )1880-1949‬أحد علماء علم اإلدارة املشهورين‪ ،‬وقد قام بتجاربه على العمال يف‬

‫مصانع هوثورن بشيكاغو كان اهلدف من التجارب معرفة أثر البيئة احمليطة ابلعمل على اإلنتاجية ‪ ،‬وقد أكد‬

‫مايو وزميله (روثليز برجر) أن حل املشاكل اإلنسانية يف العمل يتم عن طريق االهتمام ابلعنصر اإلنساين‬

‫ودراسة سلوكه" وبذلك انطلقت مدرسة العالقات اإلنسانية من قاعدة أساسية أمهلتها املدرسة الكالسيكية‬

‫وهي" إنسانية الفرد وكذا عالقته ابجلماعة (من خالل دراسة السلوكيني مث املدرسة االجتماعية) حىت ولو مت‬

‫‪26‬‬
‫توفري مجيع الشروط املادية‪ ،‬ميكن أن حيقق االهتمام ابلفرد نتائج قد تكون أحسن من األوىل‪ ،‬وبذلك‬

‫تستطيع أن حيقق إنتاجية أكرب‪ ،‬وهذه العالقات بني األفراد ال تكون يف إطارها الرمسي عن طريق السلطة إمنا‬

‫على أساس الثقة املتبادلة والتعاون املشرتك‪ ،‬وكانت أهداف األفراد تتماشى مع أهداف املؤسسة‪.‬‬

‫أجريت "جتاري هوثورن" اليت عرفت أيضا بدراسات شركة "ويسرتن إليكرتيك" يف مصنع بشركة‬
‫ويسرتن إليكرتيك يف دائرة هاوثورن مبدينة شيكاغو يف الفرتة من ‪ 1927‬إىل ‪ ،1932‬حتت إشراف مشرتك‬
‫من بعض العاملني ابلشركة وفريق من الباحثني جبامعة هارفارد بقيادة "إلتون مايو"‪ ،‬وقد نشر تقرير البحث‬
‫عام ‪ 1939‬من أتليف "روثلسربجر" و"وليام ديسكون"‪ ،‬غري أنه‬ ‫(‪)4‬‬
‫النهائي حتت عنوان "اإلدارة والعمال"‬
‫موجزا ابلنتائج ظهر قبل ذلك بعدة سنوات يف كتاب "مايو"املوسوم ب‪" :‬املشكالت اإلنسانية للحضارة‬
‫الصناعية"‪ ،‬كما نشر من قبل أيضا تقرير إحصائي تفصيلي من أتليف "وايت هيد"(‪.)5‬‬
‫ومع أن "مايو" قدم عرضا خمتصرا مبسطا للنتائج‪ ،‬فقد صاغها يف منظور أوسع يوضح صلتها مبفهوم‬
‫األنومي عند "دوركامي"‪ ،‬وأتكيد "ابريتو" على أمهية النظرايت غري املنطقية يف شؤون احلياة اليومية اإلنسانية‪،‬‬
‫وإيكولوجية شيكاغو‪ ،‬والنتائج األولية لدراسة "اينكي سييت"‪ ،‬والنظرايت النفسية عند جانيت و"فرويد"‬
‫و"بياجيه"‪ ،‬وسلوك السكان األسرتاليني األصليني وسكان "جزر الرتوبياند"‪ ،‬وقد مجع "مايو" أفكارا رئيسية‬
‫من هذه املصادر العديدة ليضمها إىل نتائج "جتارب هوثورن" مبا يدعم إدعاءه الرئيسي‪ ،‬وهو أن الصناعة‬
‫حتتاج إىل مستوى رفيع للغاية يف القدرات واملعارف اإلدارية من أجل احملافظة على اإلتصال والتعاون الوثيق‬
‫املطلوبني لكفاية اإلنتاج والسعادة الشخصية للعمال‪.‬‬
‫وشركة "ويسرتن إليكرتيك" شركة اتبعة للشركة األمريكية للتليفون والتلغراف‪ ،‬وهي تصنع معظم‬
‫املعدات اليت حتتاجها الشركة األم‪ ،‬ومصانع "هوثورن" شركة ضخمة تعمل يف إنتاج املعدات التليفونية‬

‫‪4‬‬
‫‪F.J.Roethlisberger and William, J. Dickson (with Harlo A. Wright), Management and the‬‬
‫‪Worker, Cambridge, Mass, Havard University Press, 1939.‬‬
‫وقد صدر هذا الكتاب يف طبعته األوىل عام ‪ 1933‬عن دار ماكسميالن بنيويورك‪،‬وكان هذا املشروع مبثابة مثرة حبث سابق عن التعب يف‬ ‫‪5‬‬

‫العمل الصناعي الذي كان جيري مبعمل دراسة التعب جبامعة هافارد وكان مدير املعمل آنذاك لورانس هندرسون‪ ،‬املتخصص يف الكيمياء احليوية‪،‬‬
‫كما كان يقدم يف بعض األحيان حماضرات يف علم االجتماع‪ ،‬وهو يشغل مكانة متميزة يف اتريخ البحث االجتماعي يف الوالايت املتحدة‪ ،‬وقد‬
‫توىل ابلتشجيع والتوجيه البحوث األوىل اليت قام هبا كل من ابرسونز‪ ،‬ووايت‪ ،‬وبريانرد‪ ،‬وآرنسربج‪ ،‬وهومانز‪ ،‬وغريهم‪ ،‬مث انتقل إلتون مايو إىل‬
‫هافارد وبدأ تعاونه مع هندرسون يف عام ‪ ،1962‬ويف العام التايل مباشرة ‪1927‬بدأ مشروع حبث ويسرتن إليكرتيك‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫بكميات ضخمة‪ ،‬وأثناء القيام ابلدراسة كانت نسبة كبرية من قوة العمل تتكون من األجانب أو أبناء‬
‫املهاجرين‪ ،‬وكانت نقابة العمال وقتها ضعيفة غري مؤثرة‪ ،‬ومع ذلك مل تكن تبذل أي حماوالت جادة لدعم‬
‫كيان النقابة وتقويتها‪.‬‬
‫وتتكون جتارب "هوثورن" من مخس دراسات مستقلة لكل منه منهاجا ونتائجها املختلفة‪ ،‬وكلها‬
‫تسلم إىل نتيجة مفادها أن إنتاج العمال يتحدد بدرجة كبرية بطبيعة العالقات االجتماعية مع أقراهنم من‬
‫العمال ومع املشرفني‪ ،‬وهذه الدراسات اخلمس هي‪:‬‬
‫‪ -1‬جتارب اإلضاءة‪ -2 .‬حجرة اختبار خط التجميع املناوب (أي القائم ابلعمل وقت البحث)‪.‬‬
‫‪ -3‬برانمج املقابالت‪-4 .‬تقسيم اجملموعات إىل فرق‪-5 .‬حجرة مالحظة شبكة األسالك‪.‬‬

‫وسوف نناقش ثالاث فقط من هذه الدراسات فيما يلي‪:‬‬


‫‪ -1‬جتارب اإلضاءة ‪ :‬أجريت هده التجارب من قبل على يد املسؤولني عن شركة "ويسرتن إلكرتيك" قبل‬
‫وصول فريق جامعة هارفرد‪ ،‬وصممت هده التجربة بغرض الكشف عن عالقة اإلضاءة ابلكافية الصناعية‪،‬‬
‫ومت يف التجربة األوىل زايدة مستوى اإلضاءة بدرجات بطيئة يف ثالثة أقسام تؤدي مهاما خمتلفة‪ ،‬وتبني يف‬
‫قسمني من هذ ه األقسام أن الكفاية تزيد يف حتسن اإلضاءة‪ ،‬يف حني مل يتضح أي أتثري لإلضاءة يف القسم‬
‫الثالث مت اختيار جمموعة واحدة لتعمل يف إضاءة متغرية‪ ،‬ومت مضاهاة هذه اجملموعة الضابطة تعرضت إلضاءة‬
‫اثبتة قدر اإلمكان‪ ،‬وكانت النتائج مباغتة‪ ،‬حيث زادت اإلنتاجية يف اجملموعتني التجريبية والضابطة بنفس‬
‫القدر تقريبا‪ ،‬ويف التجربة الثالثة مت تعريض اجملموعتني‪ :‬التجريبية والضابطة إلضاءة صناعية الستبعاد‬
‫االختالف يف كمية ضوء النهار الواصل إليها‪ ،‬ومت ختفيض مستوى اإلضاءة ابلتدريج يف حجرة اجملموعة‬
‫التجريبية‪.‬‬
‫وتبني للمرة الثانية أن كفاية اجملموعتني‪ :‬التجريبية الضابطة تزيد بنفس املعدل تقريبا‪ ،‬ومل يبدأ اإلنتاج‬
‫يف االخنفاض إال بعد أن قام الباحثون بتخفيض اإلضاءة يف اجملموعة التجريبية إىل مستوى ضوء القمر تقريبا‪،‬‬
‫حبيث مل يعد العمال قادرين على رؤية املواد اليت يعملون فيها إال بصعوبة‪.‬‬
‫ويتضح من هذه التجارب أن اإلضاءة تؤثر أتثريا ضئيال يف اإلنتاج‪ ،‬وأن الزايدة امللحوظة يف هذا‬
‫اإلنتاج أثناء التجارب البد أهنا تعود إىل عامل آخر‪ ،‬وحتدد هذا العامل اخلفي بتأثري عملية البحث نفسها أو‬
‫ما أطلق عليه "أتثري هوثورن"‪ ،‬ووفقا هلذا التفسري (الذي مل يقبله الباحثون األصليون)‪ ،‬فإن العمال تعرضوا‬

‫‪28‬‬
‫لربانمج جترييب‪ ،‬وأن االهتمام الشخصي الذي انلوه مع الربانمج كان له أتثري يف تغيري حالة الالمباالة واملسافة‬
‫االجتماعية يف عالقاهتم الطبيعية مع اإلدارة وتوصيلهم إىل حالة دفعتهم إىل العمل اجلاد‪ ،‬وابلتايل زاد اإلنتاج‬
‫بغض النظر عن مقدار التحسن يف ظروف العمل املادية اليت أحدثتها التجارب‪ ،‬وقد لوحظ ظهور أتثري‬
‫هوثورن يف مؤسسات أخرى كاملدارس‪ ،‬واملكاتب‪ ،‬واملستشفيات‪ ،‬والسجون وأماكن أخرى فضال عن‬
‫املصانع طبعا‪.‬‬
‫‪ -2‬برانمج املقابالت‪ :‬انبثق برانمج املقابالت يف شركة "ويسرتن إليكرتيك" عن برانمج تدرييب‬
‫للمشرفني‪ ،‬كشف عن نقص املعلومات حول الروح املعنوية‪ ،‬كما انبثق أيضا عن اكتشاف وجود عالقة بني‬
‫اإلشراف والروح املعنوية يف حجرة االختبار‪ ،‬وكان برانمج املقابالت يتألف من مرحلتني‪ :‬األوىل‪ :‬دراسة‬
‫استطالعية أجريت يف أحد فروع الشركة من سبتمرب ‪ 1928‬إىل فرباير ‪ ،1929‬والثانية‪ :‬برانمج متصل مشل‬
‫حوايل ‪ 20‬ألف كمقابلة مع العاملني يف الشركة عامي ‪ 1929‬و‪ ،1930‬وقد توقف الربانمج عام ‪1931‬‬
‫نظرا حلدوث اخنفاض مماثل يف النشاط اإلنتاجي‪ ،‬مما أدى إىل تعثر التجارب األخرى‪ ،‬بيد أن الربانمج عاد‬
‫مرة اثنية عام ‪ 1936‬ليصبح من املالمح الدائمة لإلدارة العمالية يف مصانع "هورثون" حتت مسمى "اإلرشاد‬
‫العمايل"‪.‬‬
‫ويف بداية الربانمج أعد القائمون ابملقابلة قائمة ابملوضوعات‪ ،‬اليت اعتقدوا أهنا ترتبط ابلروح املعنوية‬
‫مثل التدفئة‪ ،‬والتهوية‪ ،‬والتخزين‪ ،‬وحوادث العمل واملزااي اإلضافية‪ ،‬وفرص الرتقية‪ ،‬وقد واجه القائمون‬
‫ابملقابلة صعوابت يف إلزام املبحوثني هبذه املوضوعات‪ ،‬وجاءت النتائج أكثر إاثرة عندما سارت املقابلة على‬
‫طبيعتها دون اإللتزام ابملوضوعات احملددة‪ ،‬وبعد عدة مناقشات اتبع الباحثون أسلواب جديدا للمقابلة أطلقوا‬
‫عليه األسلوب غري املباشر‪ ،‬أو ما يطلق عليه اآلن املقابلة غري املوجهة‪ ،‬فقد ترك للمبحوث أن خيتار‬
‫املوضوعات‪ ،‬ويقوم القائم ابملقابلة مبتابعة تفكري املبحوث دون أية حماولة لتغيري املوضوع أو التدخل يف ا‬
‫حملادثة‪ ،‬وترتب على تغيري أسلوب املقابلة إطالة وقت املقابلة من ‪ 30‬دقيقة إىل ‪ 90‬دقيقة‪ ،‬كما زاد متوسط‬
‫عدد صفحات تقرير املقابلة من حويل أربع صفحات إىل حوايل عشر صفحات‪ ،‬وقد تبني أن إاتحة الفرصة‬
‫للحديث مع ابحث غري مدقق ‪،‬خالل ساعات العمل وإاتحة الفرصة للكشف عن املشكالت الشخصية يف‬
‫سرية اتمة مع غريب متعاطف له أتثري إجيايب‪،‬مستقل على الروح املعنوية للعمال‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وكانت هذه النتيجة على درجة كبرية من األمهية‪ ،‬وكان هذا هو هدف برانمج املقابالت عندما طبق‬
‫مرة اثنية يف مصانع هورثون‪ ،‬ومع ذلك كان للربانمج األصلي أهداف أخرى‪ ،‬ومن خالل املقابالت اليت‬
‫أجريت عام ‪ 1929‬استخرج قسم التحليل ابملشروع حوايل ‪ 80‬ألف تعليق‪ ،‬وكانت تلك أول عملية حتليل‬
‫مضمون متت على هذا النطاق الضخم‪.‬‬
‫وتتلخص النتيجة األساسية هلذا التحليل الشامل‪ ،‬يف أن مناخ العمل الذي يعمل فيه العمال‬
‫الصناعيني – ورمبا غريهم من العمال‪ -‬ذا أمهية اجتماعية‪ ،‬وحىت يتسىن فهم شكاوى العمال وكذا مصادر‬
‫رضاهم‪ ،‬ينبغي أن يؤخذ يف االعتبار أربع ظواهر خمتلفة‪ :‬التنظيم االجتماعي الذي يتم يف إطاره‪ ،‬واألحداث‬
‫واألشياء واألشخاص املوجودون يف بيئة العامل‪ ،‬ووضع العامل داخل التنظيم‪ ،‬واألنساق االجتماعية‬
‫اخلارجية اليت حتيط بعمله‪.‬‬
‫حجرة مالحظة شبكة األسالك‪ :‬اشتملت التجربة األخرية من جتارب "هورثون" على دراسة تفصيلية‬
‫ملوقف معملي من وجهة نظر علم االجتماع‪ ،‬وكان اهلدف من تصميم هذه التجربة الكشف عن أاثر التفاعل‬
‫االجتماعي على سلوك العمال‪ ،‬ومع تقدم الدراسة بدأت يف الرتكيز على عملية تقييد اإلنتاج ‪،‬اليت متارسها‬
‫(‪) 1‬‬
‫مجاعة األقران املنظمة تنظيما غري رمسي‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلوهري حممد‪،‬نفس املرجع‪،‬ص ‪134‬‬

‫لقد أخذت جمموعة من العمال الذكور من القسم الذي يعملون فيه‪ ،‬ووضعوا حتت املالحظة يف‬
‫حجرة مستقلة ليستمروا يف أداء نفس العمل الذي كانوا يقومون به‪ ،‬وكان عملهم هو توصيل أسالك خطوط‬
‫لوحة مفاتيح التليفوانت‪ ،‬وتكونت هذه اجملموعة من ‪ 14‬رجال على النحو التايل‪ 9 :‬عمال أسالك‪3 ،‬‬
‫حلامني‪ ،‬و‪ 2‬من املفتشني‪ ،‬ابإلضافة إىل مالحظ مت ضبط سلوكه ضبطا دقيقا ‪،‬حىت ال ينزلق إىل دور شبه‬
‫إشرايف‪ ،‬وقد استمرت هذه التجربة األخرية من نوفمرب ‪ 1931‬إىل مايو ‪ 1932‬حيث انتهت ابنتهاء‬
‫املشروع‪.‬‬
‫ولقد ظلت أجور العمال وساعات عملهم على حاهلا‪ ،‬إذ أن نظام حوافز األجر يضع معيارا قدره‬
‫‪ 7200‬توصيلة‪ ،‬غري أن العامل يقف عن ‪ 6600‬توصيلة يف اليوم‪ ،‬ويذكر معظم العمال إن إنتاجهم اليومي‬
‫يقرتب من هذا الرقم‪ ،‬مع أن ذلك يتطلب جهدا متواصال وانشغاال هبذه األرقام‪ ،‬وابستثناء فرد أو فردين مل‬
‫يندجموا كلية مع اجلماعة‪ ،‬استطاع بقية العمال أن يصلوا إىل هذا اإلنتاج تقريبا‪ ،‬وهذا يعين أن بعض العمال‬

‫‪30‬‬
‫ينتجون أقل مما يستطيعون إنتاجه ابلفعل‪ ،‬وبعضهم ينتج أكثر من ذلك‪ ،‬وتنتج اجملموعة ككل أقل مما تقدر‬
‫عليه‪.‬‬
‫ويالحظ أن التنظيم االجتماعي الداخلي حلجرة األسالك‪ ،‬كان أكثر إحكاما أثناء فرتة التجربة‬
‫القصرية من التنظيم االجتماعي‪ ،‬امللحوظ جملموعات أصغر من الفتيات يف التجارب السابقة‪ ،‬ومل يقتصر‬
‫األمر على أن اجملموعة استطاعت تطوير معايريها اخلاصة هبا‪ ،‬وتتحد على استقرار اإلنتاج عند املستوى‬
‫املرغوب فيه‪ ،‬وحتافظ على التضامن ضد املشرفني‪ ،‬بل إن هذه اجملموعة انقسمت إىل جمموعتني تتفوق‬
‫إحدامها على األخرى‪ ،‬ولكل منهما منط من التفاعل الداخلي اخلاص هبا‪.‬‬
‫وقد قام "جورج هومانز" بتحليل ابرع هلذا اجملتمع الصغري بعد ذلك بعدة سنوات‪ ،‬لتوضيح كيفية‬
‫حفاظ األنساق االجتماعية بصفة عامة على نفسها ضد الضغوط اخلارجية‪ ،‬وحتقيق توازن داخلي بني‬
‫العواطف والنشاط مبا يكفل االمتثال ملعايري اجلماعة‪ ،‬وتناسب الثواب االجتماعي مع الرتبة االجتماعية‪،‬‬
‫وإجناز األهداف املشرتكة(‪.)1‬‬

‫‪ -1‬اجلوهري حممد‪،‬نفس املرجع‪،‬ص ‪.134‬‬

‫‪ -5‬دراسات اينكي سييت‪ :‬ويد وارنر‬


‫كانت دراسة "اينكي سييت" نتاجا مباشرا لتجرب "هوثورن"‪ ،‬اليت كان "لويد وارنر" قد شارك فيها‬
‫حول اهتمامه من اجملتمعات البدائية إىل اجملتمعات احلديثة‪ ،‬كان‬
‫لفرتة قصرية‪ ،‬و"وارنر" ابحث أنثروبولوجي ّ‬
‫قد خطط الباحثون يف "ويسرتن إليكرتيك" لدراسة عالقة مصانع "هوثورن" ابجملتمع احمللي احمليط هبا‪ ،‬ولقد‬
‫أابن البحث الدقيق وجود بعض املعوقات أمام دراسة مدينة كبرية كمدينة شيكاغو‪ ،‬وبدأ البحث عن جمتمع‬
‫حملي صناعي صغري‪ ،‬ميكن فيه دراسة مشكالت عمال املصنع يف إطار السياق اإلجتماعي الكلي الذي‬
‫يعيشون فيه‪ ،‬وقد رغب "وارنر" أن يدرس جمتمعا حمليا أقل من األحياء الصناعية مبدينة شيكاغو‪ ،‬أي جمتمع‬
‫تتميز فيه األمناط االجتماعية ابالستقرار النسيب ومقاومه التغري‪ ،‬وهدا ما جعل اختياره ينحصر يف‬
‫"نيواجنلند"‪ ،‬وقد وقع االختيار يف النهاية على "نيو بري بورت ‪ "New Bury port‬يف‬

‫‪31‬‬
‫"ماساشوسيتش"‪ ،‬وهي مدينة ساحلية صغرية هلا اتريخ طويل ومتواصل‪ ،‬وكانت تضم حوايل ‪ 17‬ألف نسمة‬
‫وقت إجراء الدراسة‪.‬‬
‫وقد بدأ العمل امليداين عام ‪ 1931‬واكتمل عام ‪ ،1935‬وخرجت نتائج املشروع يف مخسة جملدات‬
‫ضخمة ظهرت يف الفرتة بني ‪ 1941‬و‪ 1959‬وفقا خلطة البحث األصلية‪ ،‬وتغطي هده اجمللدات النمط‬
‫العام للحياة االجتماعية يف "اينكى سييت"‪ ،‬وحتليال دقيقا لنسق املكانة‪ ،‬وأوضاع مثاين مجاعات عرقية يف‬
‫اجملتمع احمللي (األيرلنديون‪ ،‬والكنديون الفرنسيون‪ ،‬واليهود‪ ،‬واإليطاليون‪ ،‬واألرمن‪ ،‬واليواننيون‪ ،‬والبولنديون‬
‫والروس)‪ ،‬والتطور املفاجئ اهلام لصناعة األحذية احمللية‪ ،‬والرموز السياسية والتارخيية والدينية يف "اينكي‬
‫سييت"‪ ،‬وقد ساعد "وارنر" يف إعداد هده اجمللدات جمموعة من املشاركني واملساعدين األكفاء‪ ،‬وواصل كثري‬
‫منهم إجراء حبوث هامة خاصة هبم فيما بعد‪.‬‬
‫ويتشابه مشروع "اينكي سييت" مع املشروع األول يف "ميدل اتون" من نواح عديدة‪ ،‬إذ جند للمرة‬
‫الثانية جمموعة متحمسة من الشباب الباحثني تنتقل إىل اجملتمع احمللي‪ ،‬وحتيط سكانه علما أبهدافهم العامة‪،‬‬
‫وتسعى إىل مجع معلومة غزيرة ابستخدام طرق عديدة‪ :‬املالحظات ابملشاركة‪،‬ورسم اخلرائط‪ ،‬والعد‬
‫اإلحصائي‪ ،‬واملقابالت‪ ،‬واالستبياانت‪ ،‬واتريخ احلالة‪ ،‬والواثئق العامة‪ ،‬والصحف‪ ،‬واليوميات‪ ،‬واملذكرات‬
‫وكما هو احلال يف "ميدل اتون" كان االكتشاف املبكر اهلام‪ ،‬هو وجود نسق واضح من الطبقات اإلجتماعية‬
‫‪،‬يؤثر يف حيات السكان من مجيع اجلوانب‪ ،‬وكما هو احلال أيضا يف "ميدل اتون" اتضح أن وجود الباحثني‬
‫كان له ضخم على الوعي االجتماعي للسكان موضوع للدراسة‪.‬‬
‫بيد أن االختالفات بني الدراستني تعادل يف أمهيتها أوجه التشابه بينهما‪ ،‬فقد كان الرتكيز يف "ميدل‬
‫اتون" منصبا على التغريات االجتماعية اليت حدثت بني ‪ 1890‬و‪ ،1925‬أما يف "اينكي سييت" فقد متت‬
‫دراسة التغري بصفة منتظمة عرب فرتة زمنية أطول‪ ،‬وميكن أن تعد "ميدل اتون" عينة من اجملتمع األمريكي أو‬
‫على األقل عينة من وسط غرب أمريكا‪ ،‬أما "اينكي سييت" فإهنا متثل شرحية أقل منطية من احلياة األمريكية‪،‬‬
‫وقد ساد مشروع "اينكي سييت" اهتمام أبماكن معينة وأشخاص بعينهم‪ ،‬وتتمثل أهم االختالفات املنهجية‬
‫بني املشروعني يف معاجلة اجلماعات يف "ميدل اتون" على أهنا جتمعات‪ ،‬يف حني مت ترتيب البياانت اليت‬
‫مجعت يف "اينكي سييت" حسب أمساء األفراد‪ ،‬ويتكون اجلزء الرئيسي من التحليل‪ ،‬من تعقب روابط األفراد‬

‫‪32‬‬
‫وعالقتهم ابستخدام نظام امللفات( ملف لكل فرد) الذي جيمع املعلومات بشكل فردي عن كل ساكن‬
‫تقريبا من سكان املدينة‪.‬‬
‫وي تألف النظام الطبقي من ست طبقات‪ ،‬أو من ثالث طبقات رئيسية ‪،‬كل منهما ينقسم بدوره إىل‬
‫قسمني‪،‬كما توجد أمساء هلذه الطبقة تستند إىل أحياء املدينة ( مثل سكان شارع هيل‪ ،‬وسكان شارع سايد‪،‬‬
‫وسكان ريفر بروكر)‪ ،‬وتدل هذه التسميات كتعبريات مهذبة عن التصنيفات الطبقية‪ ،‬والطبقات الست‪-‬‬
‫بلغة وارنر‪ -‬هي‪- :‬العليا‪-‬العليا‪ ،‬والعليا‪ -‬الدنيا‪ ،‬والوسطى‪ -‬العليا‪ ،‬والوسطى الدنيا‪ ،‬والدنيا العليا‪،‬‬
‫والدنيا‪ -‬الدنيا‪ .‬وتتألف الطبقة العليا‪ -‬العليا من العائالت العريقة اليت حافظ أسالفها على وضع قيادي يف‬
‫املدينة على مدى ثالثة أجيال على األقل‪ ،‬ويلي ذلك العائالت اجلديدة (العليا‪ -‬العليا) اليت يتشابه أسلوب‬
‫معيشتها مع أسلوب معيشة العائالت العريقة‪ ،‬ولكنه أسلوب مكتسب حديثا‪ ،‬وتتكون الطبقة الوسطى‪-‬‬
‫العليا من رجال األعمال وأصحاب املهن الفنية املتخصصة ‪،‬الذين يتمتعون بقدر من االستقاللية‪،‬كما تتألف‬
‫الطبقة الوسطى‪ -‬الدنيا من صغار التجار والعمال أصحاب الياقات البيضاء‪.‬‬
‫ويشكل عمال املصانع السواد األعظم من الطبقة الدنيا‪ -‬العليا‪ ،‬أما الطبقة الدنيا‪ -‬الدنيا فتتكون‬
‫من ساكين ريفر بروكر الذين يعملون بصفة غري منتظمة‪ ،‬وحيصلون على قوت غري مضمون من العمل‬
‫العرضي‪ ،‬وأعمال احلفر‪ ،‬وصيد البحر‪ ،‬واملهن غري النظامية‪.‬‬
‫وقد أسهم مشروع ‪-‬اينكي سييت‪ -‬على غرار دراسات –ميدل اتون‪ -‬يف انتشار وجهة نظر‬
‫األمركيني عن جمتمعهم‪ ،‬واتضح أن التنوع احمللي هو أساس جتانس النظم يف اجملتمع األمريكي‪ ،‬مع ذلك فإن‬
‫هذا التصور كان له مثنه مادام أن النسق الطبقي الذي منا يف "نيو بري بورت" كان بطبيعته سراي‪ ،‬وغري‬
‫معرتف به‪ ،‬واحنرافا غري شرعي عن املثل األمريكية السائدة مثل الدميقراطية واملساواة بني األشخاص‪ ،‬وقد‬
‫أمكن للباحثني من خالل إظهار معامل هذا النسق أن يغريوا من طبيعته إىل حد ما‪،‬وأن يربهنوا على صحة‬
‫حجج من ادعوا مكانة عليا‪ ،‬وأن جيعلوا من الصعب على اجلماعات الوسطى والدنيا ادعاء املساواة النظرية‪،‬‬
‫وهو االدعاء الذي كان موجودا من قبل‪ ،‬ومع الستينات مت التسليم على نطاق واسع بوجود نسق طبقي يف‬
‫الوالايت املتحدة‪ ،‬كما أن النسق الطبقي املؤلف من ست طبقات الذي وجده "وارنر" يف "نيو بري بورت"‬
‫موجود يف جمتمعات أخرى دون حاجة للبحث عن ذلك‪.‬‬
‫‪ -6‬جمتمع يف الشارع (جمتمع النواصي)‪ :‬وليام فوت وايت‬

‫‪33‬‬
‫اكتشف "وليام فوت وايت"‪ -‬وهو خريج جامعة هارفارد‪ -‬جمتمعا غريبا ‪ ،‬وذلك عندما قام بدراسة‬
‫منطقة إيطالية حضرية متخلفة (كورنفيل) يف بوسطن يف الفرتة بني ‪1937‬و‪ ،1940‬وتوجد عالقة بني دراسة‬
‫"وايت" ومشروع "اينكي سييت"‪ ،‬فقد تعلم "وايت" أساليب العمل امليداين من "كونراد أرينسربج" و"إيلوت‬
‫شابل" اللذين اكتسبا هذه املعرفة يف "اينكي سييت"‪ ،‬كما استفاد من نصائح "وارنر" يف إعداده تقريره‪.‬‬
‫ويتمثل االختالف البارز بني هاتني الدراستني يف أن "وايت" قام هبذه الدراسة مبفرده ( ابستثناء‬
‫مساعدة حمدودة له ومن زوجته)‪ ،‬واعتمد اعتمادا كبريا على منهج املالحظة ابملشاركة‪ ،‬وكان سكان‬
‫"كورنفيل" وقت إجراء دراسة أكرب حجما إىل حد ما من سكان "اينكي سييت"‪ ،‬حيث بلغ عدد سكاهنا‬
‫حوايل ‪ 20‬ألف نسمة‪ ،‬ومل يزعم "وايت" أنه يدرس النظم االجتماعية هلذه املدينة دراسة كاملة‪ ،‬واحلقيقة أنه‬
‫أشار إشارات طفيفة إىل األسرة‪ ،‬والكنيسة‪ ،‬واملدارس‪ ،‬والقطاع الرمسي من االقتصاد احمللي‪ ،‬وكان موضوع‬
‫حبثه هو العالقة التبادلية بني اجلمعيات التطوعية للشباب يف "كورنفيل" واملقامرة املنظمة والسياسة‪ ،‬ويصف‬
‫"وايت" يف القسم األول من كتابه تطور مجعيتني شارك فيهما‪ ،‬ومها ‪-‬عصابة النواصي‪ -‬اليت يطلق عليها‬
‫"نورتونز ‪،" Nortons‬ومجعية صغرية يطلق عليها "النادي اإليطايل احمللي ‪Italien commentry‬‬
‫‪ "club‬وأعضاء النورتونز من صبية النواصي الذين ال تتعدى طموحاهتم وفرصهم اجملتمع احمللي‪ ،‬أما أعضاء‬
‫النادي اإليطايل احمللي فهم جامعيون يتطلعون إىل وضع يف اجملتمع األكرب‪.‬‬
‫وكتاب "جمتمع النواصي" له طابع درامي ملحوظ‪ ،‬وال يوجد يف تراث علم االجتماع يتصف هبذه‬
‫الرباعة الف ائقة يف الوصف والدراما وإاثرة العاطفة والشعور‪ .‬وقليلة متاما األعمال األخرى اليت ميكن أن‬
‫تضاهيه يف هذه الرباعة وهذا التأثري‪ .‬ويعود هذا الطابع إىل مشاركة املؤلف الوجدانية للناس الذين قام‬
‫بدراستهم‪ ،‬ويف موضع من الكتاب يشري" وايت" إىل أنه حتول تقريبا من مالحظ غري مشارك إىل مشارك غري‬
‫مالحظ‪ ،‬وكان يشعر أنه أقرب إىل "النورتونز" منه إىل النادي اإليطايل احمللي‪ ،‬وكان "دوك ‪ "Doc‬قائد‬
‫النورتونز أول إخباري له‪ ،‬وأصبح صديقه احلميم ومعاونه‪ ،‬وقصة "النورتونز" هي إىل حد كبري قصة "دوك" يف‬
‫أايم جمده األوىل‪ ،‬مث ضياع هيبته كقائد حالة البطالة الدائمة اليت عاىن منها بينه وبني الوفاء ابلتزامات القيادة‪،‬‬
‫ودفعته يف النهاية إىل قطع صلته مع زمرته‪ ،‬أما القصة املختلفة للنادي اإليطايل احمللي فهي إىل حد كبري قصة‬
‫قائده "شيك موريللي ‪ ،"chic morelli‬وهو انتهازي بال مبادئ على دراية جيدة ابلبناء االجتماعي‬

‫‪34‬‬
‫لكورنفيل‪ ،‬وهي قصة التناحر يف صورة مصغرة بني أسود "ابريتو" وثعالبه‪ ،‬وكانت عواطف "وايت" كلها مع‬
‫األسود قليلة احلظ‪.‬‬
‫القسم الثاين من التقرير عبارة عن دراسة للبناء االجتماعي البتزاز األموال يف "كورنفيل"‪ ،‬وكان‬
‫املبتزون يسيطرون على لعبة األرقام ويتحكمون فيها‪ ،‬وحيرصون على مهادنة الشرطة‪ ،‬وتوطيد عالقاهتم مع‬
‫البناء السياسي الذي يشبع الوالء العرقي واالحتياجات احمللية‪ ،‬ومن مميزات دراسة "وايت" أهنا تكشف عن‬
‫هذا النسق من أسفل إىل أعلى‪ ،‬وهناك فصل طويل حيدثنا عن كيفية خضوع اندي اجتماعي ورايضي صغري‬
‫ألحد املبتزين‪ ،‬وكيفية قيام هذا النادي بدور حمدود – ولكنه دور هام‪ -‬يف انتخاابت املدينة‪ ،‬إن وضوح‬
‫أسلوب "وايت "‪ ،‬ووصفه الدقيق لألحداث‪ ،‬واستخدامه املستمر لالقتباس املباشر يعطي القارئ إحساسا‬
‫ابملشاركة الشخصية‪.‬‬
‫وهناك ملمح درامي آخر يف كتاب "جمتمع النواصي"‪ ،‬ففي الوقت الذي قام فيه "وايت" بدراسة‬
‫منطقة حضرية متخلفة مع هناية الكساد العظيم‪ ،‬وكان مهتما اهتماما ظاهراي ابجلانب األسوأ من حياهتا‬
‫(البطالة واإلسكان املتخلف‪ ،‬والرشاوي واملرتبات الثابتة اليت تدفع لرجال الشرطة‪ ،‬والفساد السياسي‪،‬‬
‫واخلدع االنتخابية‪ ،‬والفرص احملدودة)‪ ،‬فإن تعاطفه قاده إىل وصف "كورنفيل" أبهنا مكان خيلو من العنف‬
‫واحلقد أو املعاانة احلقيقية‪ ،‬وقد أجنز مهمته يف دخول اجملتمع بنجاح لدرجة أوقعته يف حب مبحوثيه ووقعوا‬
‫هم يف حبه‪ ،‬فقد كون لنفسه موطنا اثنيا يف أسرة صاحب مطعم حملي‪ ،‬وتعلم اإليطالية‪ ،‬وحاز مكانة مرتفعة‬
‫بني "النورتونز"‪ ،‬وكون صداقات مع املبتزين‪ ،‬وشارك يف احلمالت االنتخابية‪ ،‬بل وأحضر عروسته اجلديدة‬
‫لتعيش معه يف "كورنفيل"‪ ،‬ويف بعض األحيان كان "وايت" ينسى حياده وينحاز إىل جانب القضااي احمللية‬
‫وبني احلني واآلخر كان يتمثل ملعايري أصدقائه بدرجة تفوق ما كانوا يتوقعونه منه‪ ،‬مثل مشاركته يف التصويت‬
‫عدة مرات يف يوم االنتخاابت‪ ،‬بل إنه فضل املعلومات غري الواثئقية وغري اإلحصائية والبياانت األولية‬
‫املأخوذة مباشرة من امليدان بدرجة أكرب من املطلوب حىت يؤكد على أمهية التزامه ابلتفاعل الشخصي‬
‫املباشر‪.‬‬
‫ومن السلوكيات النمطية اليت اكتشفها "وايت" يف "كورنفيل" أن صبية النواصي يعتنقون "القيم‬
‫احمللية"‪ ،‬أما الطلبة اجلامعيون فإهنم يعتنقون "القيم غري احمللية"‪ ،‬مبعىن أن صبية النواصي حيافظون على‬

‫‪35‬‬
‫الفضائل األصلية جملتمعهم احمليط هبم‪ ،‬يف حني أن طلبة اجلامعة الذين أتثروا ابألخصائيني االجتماعيني وغريهم‬
‫من مؤسسات اجملتمع األكرب تناسوا التزاماهتم حيال بعضهم بعضا يف سباقهم من أجل احلراك الصاعد‪.‬‬
‫ومييز "وايت " يف كل تدرج طبقي يف "كورنفيل" نسقا من ثالثة مستوايت يتألف من صغار القوم‪،‬‬
‫وكبارهم‪ ،‬ووسطائهم‪ ،‬وصبية النواصي هم صغار القوم‪ ،‬أما املبتزون والساسة فهم علية القوم‪ ،‬أما قادة‬
‫عصاابت النواصي فهم الوسطاء الذين يصلون بينهما‪ .‬وميتد هذا النمط إىل التدرج اهلرمي فوق الطبيعي‬
‫حيث أن العباد –شأهنم يف ذلك شأن صغار القوم‪ -‬يتخذون من القديسني وسطاء ليتشفعوا هلم عند "علية‬
‫القوم"‪.‬‬
‫بيد أن التدرج الطبقي يف "كورنفيل" يضم أكثر من هذه الفئات املتدرجة العامة‪ ،‬إذ إن كل رابطة‬
‫من الرابطتني اللتني قام "وايت " مبالحظاهتما هلا نظامها الطبقي الدقيق اخلاص هبا بغض النظر عما يبدو‬
‫للوهلة األوىل من متييز الرابطة ابلبساطة والالرمسية‪ ،‬واستطاع "وايت" أن يبني بوضوح اعتماد املكانة على‬
‫جمموعة من االلتزامات داخل اجلماعة‪ ،‬لدرجة أن مكانة الفرد تقيس مقدرته النسبية على االمتثال لقيم‬
‫اجلماعة‪.‬‬
‫ويكون القائد يف كل األحوال هو النقطة احملورية لبناء اجلماعة‪ ،‬وممثلها أمام العامل اخلارجي‪ ،‬والقائد‬
‫بدور احلكم يف الداخل‪ ،‬هو الذي يبادر أبنشطتها اجلمعية‪ .‬وتكون العالقات اهلامة تلقائية مع انئبيه‪ ،‬وليست‬
‫مع اتبعيه وأعوانه‪ ،‬وحتدث التغريات يف القيادة عن طريقة حدوث حتول يف العالقات بني من يرتبعون على‬
‫قمة البناء‪ ،‬وليس بصعود من يقبعون يف القاع‪ ،‬ومتثل هذه التغريات مصدرات لقلق املشرتكني فيها أو املعنيني‬
‫هبا‪ ،‬وقد يصاب القائد املخلوع وبعض من أتباعه ابملرض عندما خيتل توازن اجلماعة‪.‬‬
‫ورمبا يكون أتثري نتائج لعبة "‪ "Bowling‬من أكثر األشياء اليت تعلق ابلذهن من دراسة "وايت"‪ ،‬إذ يعد‬
‫(البولنج) أحد األنشطة األساسية يف زمرة "دوك"‪ ،‬وهم يعلقون أمهية كبرية على املهارة يف ممارسة هذه اللعبة‪،‬‬
‫وقد افرتض "وايت" يف البداية أن مهارة الفرد يف لعب "البولنج" تضيف إىل مكانته يف اجلماعة‪ ،‬ولكنه انتهى‬
‫بعد مالحة طويلة إىل أن العكس هو الصحيح‪ ،‬إذ إن مكانة عضو اجلماعة هي اليت حتدد مهارته يف‬
‫"البولنج"‪ ،‬على األقل يف تلك املناسبات اليت جتتمع فيها اجلماعة كلها ملشاهدة مباراة هامة‪ .‬وينخفض‬
‫مستوى أداء ذوي املرتبة املنخفضة بفعل الضغوط اجلافة واحلادة من اجلماعة‪ ،‬يف حني يلقى مؤازرة أبساليب‬
‫مشاهبة‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫إن املزج بني العناصر املوضوعية والذاتية يف كتاب "جمتمع النواصي" جيعل الواحد منا يتساءل عما‬
‫ميكن أن يتوصل إليه يف نفس املوقف ابحث آخر لديه مزاج خمتلف‪ ،‬وحتتاج دراسة جمتمع النواصي إىل‬
‫تكرارها أكثر من أي دراسة أخرى يف تراث علم اإلجتماع‪ ،‬ويصعب تفسري وفهم األسباب اليت دفعت إىل‬
‫عدم تكرار مثل هذه الدراسة‪ ،‬ابستثناء دراسة مشاهبة عن "جمتمع نواصي الزنوج" اليت قام هبا "أليوت ليبو"‪،‬‬
‫واليت اهتمت بدراسة املشكالت املهنية واألسرية‪ ،‬وعرضت خلربة خمتلفة متام االختالف‪.‬‬

‫‪ -7‬األزمة األمريكية جوانر مريدال )‪: (Gunnar Myrdal‬‬


‫هو اقتصادي سويدي من مواليد جوستاف البراشيه ‪،‬ولد يف السويد يف ‪ 6‬ديسمرب ‪ ،1898‬وتويف يف سنة‬
‫‪،1987‬خترج من كلية احلقوق من جامعة ستوكهومل عام ‪،1923‬وبدأ ممارسة القانون مع مواصلة دراسته يف‬
‫اجلامعة حصل على درجة الدكتوراه يف االقتصاد يف عام‪ ،1927‬حيث عمل يف االقتصاد السياسي من‬
‫‪ 1925‬إىل ‪ ،1929‬ودرس فرتات يف أملانيا وبريطانيا‪ ،‬حصل عام ‪ 1974‬على جائزة نوبل لالقتصاد‬
‫مشاركة مع فريدريش فون هايك ‪.‬‬
‫جاءت دراسة "مريدال" عن وضع الزنوج األمركيني مببادرة من مؤسسة كارنيجي عام ‪ ،1937‬وأجريت‬
‫الدراسة امليدانية بسرعة ملحوظة يف الفرتة من عام ‪ 1937،1938‬حىت عام ‪.1940‬‬
‫وقد صممت هذه الدراسة لتكون دراسة شاملة عن الزنوج يف أمريكا‪ ،‬وكانت كذلك ابلفعل‪ ،‬واختري‬
‫"مريدال" – وهو عامل سويدي متخصص يف االقتصاد االجتماعي وله مسعته الدولية‪ -‬ليدير مشروع البحث‪،‬‬
‫ألنه جاء من بلد ال تضم نسبة كبرية من السكان امللونني وليس هلا اتريخ يف التدخل االستعماري‪ ،‬وقد‬
‫اصطحب معه من السويد "ريتشارد سترينر"‪ ،‬وبدء العمل ابلتجول طويال وبشكل مكثف يف أرجاء اجلنوب‪،‬‬
‫ومع أن "مريدال" عاد إىل السويد يف أوائل عام‪ ،1940‬فقد عاد مرة اثنية إىل أمريكا عام‪ 1941‬إلعداد‬
‫التقرير النهائي‪ ،‬وكان مسؤوال بدرجة كبرية عن أفكاره األساسية‪.‬‬
‫ويعد هذا املشروع أكرب مشروع مشرتك يقوم به العلماء األمركيون حىت ذلك التاريخ‪ ،‬فقد اشرتك‬
‫حوايل ‪ 150‬منهم يف هذه الدراسة كمستشارين‪ ،‬وخرباء‪ ،‬وابحثني‪ ،‬ومؤلفني‪ ،‬وتضم قائمة املشاركني نسبة‬

‫‪37‬‬
‫كبرية من علماء االجتماع البارزين الذين كانوا على قيد احلياة يف ذلك الوقت‪ ،‬وقد ظهرت ثالثة جملدات‬
‫عن اجلوانب االجتماعية لوضع الزنوج قبل اكتمال التقدير الرئيسي‪ ،‬كما ظهرت كتب عديدة اعتمدت على‬
‫بياانت هذه الدراسة‪ ،‬وبقيت خمطوطات عديدة أعدت هلذا املشروع دون أن يتم نشرها‪.‬‬
‫واملوضوع الرئيسي لكتاب "األزمة األمريكية" ويبدو يف غاية البساطة‪ ،‬كما يتضح من املقدمة اليت‬
‫كتبها "مريدال" لتقرير البحث‪:‬‬
‫"إن مشكلة الزنوج األمريكيني هي مشكلة متأصلة يف قلوب الشعب األمريكي‪ ،‬وهنا ميكن أساس‬
‫التوتر بني اإلثنيات‪ ،‬ويستمر الصراع الضاري‪.‬‬
‫وهذا هو جوهر هذا البحث‪ .‬ومع أن دراستنا تغطي العالقات االقتصادية واالجتماعية والسياسية‬
‫بني اجلماعات اإلثنية‪ ،‬فإن مكمن املشكلة هو األزمة األخالقية للشعب األمريكي‪ ،‬أي الصراع بني تقييمه‬
‫األخ القي على خمتلف مستوايت الوعي والتعميم‪ ،‬وتعين "األزمة األمريكية" املشار إليها يف عنوان الكتاب‬
‫الصراع العنيف بني األحكام القيمية على مستوى العام واليت سوف نطلق عليها "العقيدة األمريكية"‪ ،‬حيث‬
‫يفكر األمريكيون ويتناقشون ويتصرفون حتت أتثري قوى لتعاليم أخالقية ذات طبيعة قومية ومسيحية من‬
‫انحية‪ ،‬ومن بني األحكام القيمية على مستوايت خاصة للحياة الفردية واجلماعية حيث تسيطر على املواطن‬
‫األمريكي وجهة نظره يف املصاحل الشخصية واحمللية‪ ،‬واحلقد االقتصادي واالجتماعي والعرق‪ ،‬واعتبارات‬
‫اهليبة واألمثال يف اجملتمع احمللي‪ ،‬والتعصب اجلماعي ضد أشخاص بعينهم أو مناذج معينة من الناس‪ ،‬ومجيع‬
‫صنوف الرغبات والدوافع والعادات املختلفة من انحية أخرى"(‪.)6‬‬
‫وتعين هذه العبارات أن أسباب مشكلة الزنوج األمريكيني ينبغي البحث عنها يف معتقدات‬
‫وتصرفات األغلبية البيضاء ال يف معتقدات األقلية السوداء‪.‬‬
‫ويف رأى "مريدال" أن القاسم املشرتك يف املشكلة العرقية األمريكية هو رفض األمريكيني البيض‬
‫ابإلمجاع تقريبا لالندماج مع السكان السود‪ ،‬واعتمادهم على إجراءات الفصل العنصري من أجل احليلولة‬
‫دون قيام عالقات وثيقة معهم قد تؤدي إىل التزاوج‪ .‬وقد أشار "مريدال" إىل ما أمساه ابلنظام الرتاتيب للتمييز‬
‫العنصري عند الرجل األبيض أي األمهية النسبية امللتصقة بكل منط من أمناط التمييز العنصري من جانب‬
‫األبيض‪ ،‬وهو النظام الرتاتيب الذي يضاد النظام الرتاتيب للتمييز العنصري عند السود أي األمهية النسبية‬

‫(‪)6‬‬
‫انظر جونار ميردال‪ ،‬األزمة األمريكية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صفحة ‪.XIVII‬‬

‫‪38‬‬
‫امللتصقة ابلتخلص من مجيع صور العنصري‪ .‬ويبدأ النظام الرتاتيب للتمييز العنصري عند الرجل األبيض‬
‫بتحرمي التزاوج واالتصال اجلنسي بني الرجل الزجني واملرأة البيضاء‪ ،‬يلي ذلك وضع حواجز أمام قيام‬
‫عالقات اجتماعية وثيقة‪ ،‬والفصل يف األماكن العامة‪ ،‬واحلرمان من حق التصويت السياسي‪ ،‬واملعاملة‬
‫املتحيزة من جانب املؤسسات العامة‪ ،‬وأخريا التمييز االقتصادي على هذا الرتتيب‪ ،‬ويبدأ النظام الرتاتيب‬
‫للتمييز العنصري عند الزنوج ابلتخلص من التمييز االقتصادي‪.‬‬
‫وقد أصيب "مريدال" بصدمة عند مقارنة وضع الزنوج بوضع قطاعات سكانية أخرى حمرومة من‬
‫املشاركة الكلية يف االقتصاد مثل النسا ء وفقراء البيض‪ ،‬وأشار إىل أن القطاعات الفقرية من قوة العمل‬
‫األمريكية ال تتحد ضد الطبقة املسيطرة ابملعىن املاركسي ولكنها تظهر عداءها حنوها وختضع هلا‪.‬‬
‫التصاعد أو الرتاكم‪ :‬ويعد مبدأ التصاعد أو الرتاكم‪ ،‬مبثابة اآللية اليت تبقى على الزنوج يف فقرهم‪.‬‬
‫يقول "مريدال "‪" :‬إن تعصب البيض وحتيزهم حيافظ على إبقاء الزنوج يف وضع متدن من حيث مستوايت‬
‫املعيشية‪ ،‬والصحة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬واآلداب اإلجتماعية‪ ،‬والعادات األخالقية‪ ،‬وهذا الوضع املتدين الذي يوجد‬
‫فيه الزنوج يدعم بدوره تعصب البيض ضدهم‪ ،‬وهكذا نرى أن تعصب البيض ومستوايت الزنوج املتدنية‬
‫يفضي كل منها إىل اآلخر"(‪ .)7‬وقد سلم مريدال أبن مجيع عوامل احلرمان متداخلة ومتشابكة‪ ،‬غري أنه أكد‬
‫على الصور االقتصادية للحرمان اليت يتعرض هلا الزنوج وال يزالوا معرضني هلا حبكم اهتمامه األساسي بعلم‬
‫االقتصاد‪ ،‬وقد وصف الوضع االقتصادي للزنوج األمريكيني أبنه وضع مرضي حيث الحظ أهنم ميتلكون‬
‫ممتلكات حمدودة‪ ،‬وأن املعدالت املنزلية اليت لديهم غري كافية‪ ،‬ومدخلهم منخفض وغري منتظم‪ ،‬ويرتكز‬
‫املزارعون الزنوج يف أقل القطاعات إنتاجا‪ ،‬كما يرتكز العمال الزنوج غري الزراعيني يف أدىن املهن اخلدمية‬
‫والصناعية وأقلها أجرا‪ ،‬وترتفع البطالة بني الزنوج بنسبة أعلى بكثري من معدهلا العام يف اجملتمع‪ ،‬كما أن‬
‫ظهور النزعة النقابية يف الثالثينيات أصابتهم ابلضرر بدال من أن تؤدي إىل حتسن وضعهم نسبيا‪.‬‬
‫‪-8‬اختيار الشعب‪ :‬بول الزار سفيلد وآخرون‬
‫ولد عامل االجتماع النمساوي األصل فيلكس الزار سفيلد يف فيينا يف ‪ 13‬فرباير ‪ ،1901‬يف أسرة‬
‫نشطت يف جمال الفن والثقافة والسياسة‪ ،‬فوالده اختصت يف التحليل النفسي‪ ،‬وتدريب على)‪(SOFIC‬‬
‫كان حماميا مشهورا بدفاعه عن النشطاء السياسيني الشباب جماان‪ ،‬ووالدته صويف)‪ (Robert‬روبرت وهلا‬

‫(‪ )7‬انظر جوانر مريدال‪ ،‬ص ‪.75‬‬

‫‪39‬‬
‫كتاب عن حترير النساء‪ ،‬وهو ما شجعه ليكون عضوا انشطا وقياداي يف املنظمات الطالبية االشرتاكية‪ ،‬بلغ‬
‫حد (‪ )Alfred Adlér‬يد فالفريد أدلر أتسيس جريدة شهرية للطلبة االشرتاكيني‪ ،‬وقد أسهم يف إنشاء‬
‫ما يسمى به "الكباريه السياسي" الذي لعب دورا مهما يف تطوير اتريخ فيينا السياسي واملسرحي‪.‬‬
‫انل الزار سفيلد شهادة الدكتوراه يف علم الرايضيات التطبيقية من جامعة فيينا ‪ ،1925‬وتعرف‬
‫أثناء دراسته على عاملي النفس كارل وشارلوت‪ ،‬بوهلر اللذين درساه‪ ،‬وأتثر هبما وعمل يف معهد بوهلر‬
‫النفسي‪ ،‬حتديدا لشارلوت بوهلر يف أحباثها عن الطفولة املبكرة ومنو الشباب‪ ،‬مما أاتح له فيما بعد أتسيس‬
‫قسم خ اص يف املعهد النفسي‪ ،‬يعين بتطبيق علم النفس على املشكالت االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬انتقل‬
‫الزار سلفد سنة ‪ 1933‬إىل أمريكا‪ ،‬بعد أن حتصل على منحة من مؤسسة روكفل‪ ،‬اليت أكربت دراسته حول‬
‫قرية مارينيثال‪ ،‬ومثنت ما جاء فيها من نتائج استندت إىل منهج تكاملي‪ ،‬جيمع بني املالحظات الكمية‬
‫والكيفية‪ ،‬وهي دراسة كان هلا أثر كبري يف عدة أجيال الحقة من علم االجتماع‪ ،‬ومع أن النازيون عملوا على‬
‫منع ظهورها ونشرها مند سنة ‪" 1978‬جزاءا من مقررات علم االجتماع يف اجلامعات النمساوي"‬
‫(سيلز‪ ،2010،‬ج‪ ،2‬ص ‪.)238‬‬
‫واستقر الزار سلفد ابلوالايت املتحد األمريكية‪ ،‬وانصرف إىل إجناز عدد من املشاريع البحثية‪ ،‬ووجد‬
‫دعما كبريا من "روبرت ليند"‪ ،‬فتمكن من إنشاء مركز حول البطالة‪ ،‬وتوىل اإلشراف على دراسة أقرهتا‬
‫مؤسسة التأثريات االجتماعية للراديو‪.‬‬
‫ويف سنة ‪ 1939‬مت تعيني الزار سلفد حماضرا جبامعة كولومبيا‪ ،‬مث استاذا مساعدا يف علم االجتماع‪،‬‬
‫حثي ظل إىل حني إدراكه ين التقاعد سنة ‪ ،1969‬ويف سنة ‪ 1944‬حتولت تسمية مكتب حبوث الراديو إىل‬
‫مكتب البحوث االجتماعية التطبيقية‪.‬‬
‫ويف سنة ‪ 1962‬أصبح الزار سلفد أستاذ "كريس كتليه للعلوم االجتماعية"‪ ،‬وقد أنشئ‬
‫هذا الكرسي خصيصا له فقد كان يؤمن أبن اإلحصائي البلجيكي أدولف هو املؤسس احلقيق لعلم االجتماع‬
‫اإلمربيقي‪ ،‬ومل يتوقف الزار سلفد عن التدريس حىت إثر تقاعده‪ ،‬فقد كان يقدم دروسا يف ‪(Adolphe‬‬
‫)‪ Quetlet‬كتليه جامعة بتسربغ‪ ،‬ابعتباره أستاذا متميزا منذ سنة ‪ 1969‬حىت وفاته‪.‬‬
‫من مؤلفاته نذكر‪ :‬مقالة مشرتكة مع روبرت مريتون حول "وسائل االتصال والذوق العام والفعل‬
‫االجتماعي املنظم " (‪ ،)1948‬وكتابه مشرتك مع كندال حول "مشكالت حتليل املسموح"‪ ،‬دراسة عن‬

‫‪40‬‬
‫االنتخاابت الرائسية بعنوان خيارات الناس" (‪ ،)1940‬وكتاب "مذكرات اترخيية عن الدراسات‬
‫(‪)1‬‬
‫)‪( ،(Kendall‬األمربيقية للفعل‪" :‬األوديسا العقالنية" ‪.)1958‬‬
‫يف انتخاابت الرائسة األمريكية عام ‪ 1940‬كان الناخبني يف مقاطعة "ايرى "‪ "Erie‬بوالية "أوهايو"‬
‫أن يقرروا ما إذا سيدلون أبصواهتم لصاحل الرئيس "فرانكيلني رزفلت" لفرتة رائسة اثلثة‪ ،‬أم لصاحل نظريه‬
‫اجلمهوري "وندل ويكي"‪ ،‬أو سيعزفون عن يف االنتخاابت كلية‪ ،‬وقد قام "الزار سفيلد" _ وهو مؤسس‬
‫مكتب البحوث االجتماعية التطبيقية يف جامعة كولومبيا_ إبجراء حبث للكشف عن كيفية اختاذ هذا القرار‪،‬‬
‫وتقل عدد صفحات تقدير نتائج البحث عن مائيت صفحة‪ ،‬غري أن هذا البحث كانت له آاثر بعيدة املدى‬
‫على النظرية واملمارسة‬
‫‪ -1‬مجموعة من الباحثين‪ :‬الموسوعة الدولية للعلوم االجتماعية‪ ،‬ترجمة‪ :‬المركز القومي للترجمة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫(الجزء ‪ 2‬علماء االجتماع)‪ ،‬ط ‪.)2010( ،1‬‬

‫السياسية يف الوالايت املتحدة‪ ،‬وضرب هذا البحث مثاال حيتدى به يف املسوح السياسية اليت وفرت‬
‫ترااث غزيرا منذ ذلك الوقت حول العوامل اليت حتدد نتائج االنتخاابت يف البالد الدميقراطية‪.‬‬
‫وقد جاء مشروع حبث مقاطعة "ايرى" نتيجة لالستخدام املكثف الستطالعات الرأي العام لقدير‬
‫اجتاهات الناخبني يف احلمالت االنتخابية يف الثالثينيات‪ ،‬كما جاء نتيجة لبحوث مجهور املستعملني والقراء‬
‫اليت قامت هبا الشبكات اإلذاعية واجملالت القومية يف نفس الوقت ملضاعفة أتثري محالهتا الدعائية‪ ،‬وقد مت‬
‫تدبري اجلانب األكرب من متويل هذا البحث من جانب إحدى اجملاالت القومية وإحدى مؤسسات حبوث‬
‫الرأي العام‪.‬‬
‫وقد مجعت البياانت بواسطة ابحثني قاموا بزايرة عينة إحصائية ممثلة للسكان‪ ،‬وحصلوا على إجاابهتم‬
‫على استبيان مقنن‪ ،‬وكانت هذه الدراسة _مع ذلك_ أكثر دقة وإحكاما مما هو مألوف يف مسوح الرأي‬
‫العام‪ ،‬وقام الباحثون بزايرة املنزل الرابع يف كل شارع من شوارع املقاطعة لتحديد إطار معاينة مكون من‬
‫‪ 4000‬انخب تقريبا على أن يكونوا ممثلني جلملة السكان من حيث‪ :‬العمر والنوع واإلقامة والتعليم‬
‫وامتالك اهلاتف والسيارة‪ ،‬واملواطن األصلي‪ ،‬مت اختيار أربع عينات من هذا اإلطار‪ ،‬وتتكون كل عينة من‬
‫‪ 600‬مفردة تتشابه يف اخلصائص السابقة‪ ،‬ووقع االختيار على إحدى هذه العينات لتكون العينة األساسية‬
‫ومتت مقابلة مفردهتا مرة كل شهر من مايو إىل نوفمرب من ذلك العام‪ ،‬وجرت املقابلة األوىل قبل انعقاد‬

‫‪41‬‬
‫مؤمترات الرتشيح اليت تعقدها الوالايت‪ ،‬ومتت املقابلة األخرية بعد إجراء االنتخابية‪ ،‬أما مفردات العينات‬
‫الثالث األخرى فقد متت مقابلتهم على فرتات خمتلفة‪ ،‬ومتثل هذه العينات الثالث جمموعات ضابطة الختيار‬
‫أتثري تكرار املقابلة على العينة األساسية‪.‬‬
‫وقد ركزت الدراسة على اجتاه املبحوثني يف عملية التصويت يف انتخاابت شهر نوفمرب والتغريات‬
‫اليت طرأت على هذا االجتاه من مقابلة إىل أخرى‪ ،‬وإذا حدث تغري ما يف اجتاه التصويت لدى املبحوث يتم‬
‫سؤاله عن أسباب ذلك تفصيال وعن املالبسات املرتبطة به‪ ،‬ومت تسجيل اجتاهات املبحوثني عند تعرضهم‬
‫حلمالت الدعائية االنتخابية تسجيال دقيقا‪ ،‬ومل يضم التقرير املطبوع نص االستبيان‪ ،‬غري أننا نعلم أنه يتضمن‬
‫معلومات وافية حول مسات املبحوث الشخصية (البياانت األساسية)‪ ،‬وفلسفته االجتماعية‪ ،‬واترخيه‬
‫السياسي‪ ،‬ومسات شخصيته‪ ،‬وعالقاته مع األصدقاء واألقارب‪ ،‬وعضويته يف التنظيمات‪ ،‬وانتمائه الديين‪،‬‬
‫وآرائه يف القضااي اجلارية‪.‬‬
‫وتتلخ ص النتيجة الرئيسية هلذه الدراسة يف أن اختيار األغلبية العظمى من الناخبني ميكن التنبؤ به‬
‫من خالل ثالث خصائص اجتماعية فقط هي‪ :‬املكانة االجتماعية‪ ،‬االقتصادية‪ ،‬واالنتماء الديين‪ ،‬واإلقامة‬
‫الريفية أو احلضرية‪ ،‬إذ يتبني أن املكانة املرتفعة‪ ،‬والنزعة الربوتستانتية الريفية جتعل الناخبني مييلون إىل املرشح‬
‫اجلمهوري‪ ،‬يف حني أن املكانة املنخفضة‪ ،‬والنزعة الكاثوليكية واإلقامة احلضرية جتعل الناخبني مييلون إىل‬
‫املرشح الدميقراطي‪ ،‬وقد أمكن للباحثني ابستخدام هذه العوامل وحدها أن يصمموا مقياسا للتعرف على‬
‫التوجه السياسي للفرد‪ ،‬ويف يد يف التنبؤ ابلسلوك االنتخايب بصفة عامة‪ ،‬وقد وصل الباحثون إىل هذه النتيجة‬
‫على الرغم من أن قياس هذه اخلصائص الثالث كان قياسا تقريبا إىل حد كبري‪ ،‬فقد اعتمد تقدير املكانة‬
‫االجتماعية _ االقتصادية مثال على التقدير الذايت للمبحوث ملسكنه وممتلكاته ومظهره وطريقة كالمه‪ ،‬ومل‬
‫يتم قياس االنتماء الديين ابملواظبة على الكنيسة أو أي مقياس آخر من مقاييس املشاركة الدينية‪.‬‬
‫ويتأثر اختيار الناخب بتارخيه السياسي إىل حد ما ابإلضافة إىل خصائصه االجتماعية‪ ،‬فقد اتضح‬
‫على سبيل املثال أن مجيع اجلمهوريني الذين أعطوا أصواهتم لصاحل "الندون" ضد "روزفلت" عام ‪ 1936‬قد‬
‫أعطوا أصواهتم "لويلكي" عام ‪ 1940‬وهناك مثال آخر هو أن معظم الناخبني اجلدد ساروا على نفس‬
‫التفصيالت احلزبية لوالديهم عندما أدلوا أبصواهتم للمرة األوىل‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ويتمثل األثر الصايف هلذه العوامل املتعددة يف اخنفاض عدد الناخبني الذين ميكن أن يتأثر قرارهم‬
‫ابحلمالت االنتخابية إىل أقلية صغرية جدا من الناخبني‪ ،‬وقد أصبح هؤالء الناخبون _ غري املستقرين سلفا‬
‫على موقف معني أو غري امللتزمني _ هدفا أساسيا لكل محلة سياسية منظمة‪.‬‬
‫وتلقى كل هذه النتائج بظالل من الشك على رشد العملية السياسية‪ ،‬وعلى أمهية االدعاءات اليت‬
‫يستند إليها املرشحون واألحزاب يف حماولة التأثري على الناخبني‪ ،‬ويتعمق هذا الشك عندما نكشف أن‬
‫التعرض للوسائل الدعائية يتحدد بنفس الطريقة اليت يتم هبا اختاذ قرار التصويت‪ ،‬ويالحظ أن أكثر الناخبني‬
‫اهتماما ومعرفتهم الذين يتخذون قرارهم مبكرا‪ ،‬كما أهنم يكونون أكثر عرضة للوسائل الدعائية وأكثر‬
‫احتجاجا عن التعرض للوسائل الدعائية للمرشحني الذين اختاروهم ابلفعل‪ ،‬أما الناخبون الذين مل يقرروا بعد‬
‫كيفية التصويت يعرضون أنفسهم بدرجة أكرب لدعاية احلزب الذي مييلون إليه متأثرين يف ذلك ابلعوامل‬
‫االجتماعية املألوفة‪.‬‬
‫وق د كان الزار سفيلد وزمالءه مقتنعني أبن اإلقناع العقلي ليس له عالقة تذكر ابلطريقة اليت يتخذ‬
‫هبا الناخب قراره‪.‬‬
‫ويناقش اجلزء األخري من الكتاب اختيار الشعب‪ ،‬التجانس السياسي للجماعات االجتماعية‪،‬‬
‫ويوضح كيف أن االرتباطات اليت اتضحت من قبل تقوم على احتمال قوي مفاده أن الناس الذين يعملون‬
‫أو يعيشون معا يعطون أصواهتم لنفس املرشح‪ ،‬إما من خالل اختيار تلقائي أو بسبب ممارسة أتثري شخصي‪،‬‬
‫احملصلة الطبيعية للمناظرات السياسية اليت حتدث خالل احلمالت االنتخابية بني األصدقاء واجلريان‬
‫واألقارب هي تعزيز الرأي السائد داخل كل مجاعة اجتماعية‪ ،‬وهذا التأثري يوافق أتثري املرشح احملتمل فوزه يف‬
‫مجهور الناخبني بصفة عامة‪ ،‬ويتوقع الناس أن يفوز املرشح الذي يفضلونه‪ ،‬ويكون العكس صحيحا أيضا‬
‫مبعىن أهنم يفضلون أحد املرشحني يف بعض األحيان ألهنم يتوقعون فوزه‪.‬‬
‫وال تتكرر السياسة األمريكية على نفس املنوال مرة اثنية‪ ،‬وقد خلص كتاب "اختيار الشعب" إىل أن‬
‫الطرف الذي يستطيع تعبئة اجلماهري لتأييده بطريقة اخلرباء ترفع فرص جناحه‪ ،‬وإن الذين ميارسون السياسة‬
‫بطريقة اخلرباء ينبتون كالنبات الذي يرتعرع يف األرض‪ ،‬وقد تغلغلت نتائج هذه الدراسة يف العملية السياسية‬
‫خالل الست ينات لدرجة أن إعالانت التلفزيون عن النتائج االنتخاابت‪ ،‬وحتليل اجتاهات التصويت حسب‬

‫‪43‬‬
‫الدخل والدين والعمر والساللة واملهنة وعضوية النقاابت وغريها من العوامل (اليت حتدد التوجه السياسي)‬
‫أصبحت تعد أمورا طبيعية شأهنا يف ذلك شأن نتائج االنتخاابت نفسها‪.‬‬
‫‪-9‬اجلندي األمريكي‪ :‬صمويل ستوفر وآخرون‬
‫بعد اهلجوم الياابين على "بريل هاري" بفرتة قصرية مت تعيني عامل االجتماع املشهور "صومويل ستوفر"‬
‫مديرا مدنيا "لفرع البحوث ‪ "Research Branch‬املنشأ حديثا‪ ،‬والذي أصبح فيما بعد إدارة‬
‫املعلومات والتعليم ابلقوات املسلحة األمريكية‪ ،‬ورأس هذه اإلدارة اجلنرال "فريدريك أوسبورن"‪ ،‬وهو رجل‬
‫أعمال سابق وعامل اجتماع أيضا‪ ،‬وقد أنشئ فرع البحوث _كما يقول "ستوفر"_ للقيام مبهام هندسية‬
‫اجتماعية وليست مهاما علمية‪ ،‬وكانت وظيفته هي إجراء مسوح االجتاهات بني اجلنود عندما تشعر اإلدارات‬
‫العليا مبشكالت حتتاج إىل معلومات شاملة ذات طبيعة مسحية‪ ،‬فقد طلبت تلك اإلدارات على سبيل املثال‬
‫حتليل العوامل اليت جعلت اجلنود يف مسرح العمليات جبنوب احمليط اهلادي ينفرون من استخدام عقار‬
‫"األتربين" للوقاية من املالراي‪ ،‬والكشف عن أي نوع من األكواخ الذي يفضله اجلنود يف "أالسكا"‪ ،‬ودراسة‬
‫حالة مغاسل املالبس يف "بنما"‪ ،‬واجتاهات اجلنود حنو الصينيني يف مسرح العمليات ابهلند وبورما‪ ،‬ويعد كثري‬
‫من هذه املوضوعات اتفها‪ ،‬غري أن بعضا منها له أمهية واضح‪.‬‬
‫فقد قام فرع البحوث على سبيل املثال بتصميم "نظام النفط" الذي استخدم يف حتديد األولوايت‬
‫لتشغيل اجلنود عند تسريح القوات املسلح مع هناية احلرب‪ ،‬كما أن دراسات هذا الفرع وفرت املعلومات‬
‫الالزمة للتشريع اخلاص مبساعدة احملاربني القدماء خاصة ميثاق احلقوق والذي أدى بصفة دائمة إىل التوسع‬
‫يف النظام األمريكي للتعليم العايل‪.‬‬
‫وابنتهاء احلرب العاملية الثانية قام فرع البحوث مبقابلة ما يزيد عن ‪ 500‬ألف شخص ابالستعانة‬
‫أبكثر من ‪ 200‬استبيان خمتلف‪ ،‬وقام إبعداد عدة مئات من التقارير عن نتائجه ألغراض عسكرية متعددة‪،‬‬
‫ومع ذلك مل تستغل مطلقا القيمة العلمية هلذه البياانت الغزيرة‪ ،‬وقد عهد هبذه املهمة إىل جلنة خاصة مبجلس‬
‫حبوث العلوم االجتماعية برائسة اجلنرال "أوسبورون" ونفذت حتت إشراف الربوفيسور "ستوفر" مبنحة من‬
‫مؤسسة "كانيجي" يف السنوات اخلمس اليت أعقبت احلرب‪ ،‬وهكذا حتول فرع البحوث يف ظل نفس القيام‬
‫إىل فريق حبث علمي برعاية مدنية‪ ،‬وقد نشرت النتائج يف أربعة جملدات حتت عنوان‬

‫‪44‬‬
‫"دراسات يف علم النفس االجتماعي يف احلرب العاملية"(‪ ،)8‬واليت اشتهرت ابسم "اجلندي األمريكي" من‬
‫عنوان اجمللدين األولني‪.‬‬
‫وكان هذا املشروع _ على غرار "مشروع مريدال" _ تعاونيا على أوسع نطاق‪ ،‬إذ وصلت قائمة‬
‫األشخاص العلميني واإلداريني إىل ‪ 134‬امسا‪ ،‬وتربز صفحات العناوين يف اجمللدات األربعة أمساء مخسة‬
‫عشرة مؤلفا رئيسيا‪ ،‬ومل يضارع أي حبث اجتماعي بعد ذلك هذا البحث يف جماله‪.‬‬
‫وعلى الرغم من اعتماد كتاب "اجلندي األمريكي" على علوم عديدة خاصة علم النفس وعلم‬
‫النفس االجتماعي‪ ،‬فإنه يعد سوسيولوجيا يف منهجه (مسوح االجتاهات) ويف طبيعة نتائجه كما أن معظم‬
‫التفسريات والتحليالت اليت تلت نشر هذا الكتاب ركزت على املضامني السوسيولوجية للبياانت ال على‬
‫أمهيتها النفسية أو التارخيية أو اإلدارية‪.‬‬
‫وخيتص اجمللد األول من التقرير ابلتكيف الشخصي للجنود خاصة مجوع اجلنود املدنيني الذين‬
‫خدموا يف اجليش بصفة مؤقتة أثناء احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫ويهتم اجمللد الثاين ابملشكالت املتعلقة ابحلرب وما بعدها‪ .‬ويبحث اجمللد الثالث رد فعل مجهور‬
‫املشاهدين العسكريني لألفالم التوجيهية وغريها من املواد الدعائية‪ .‬ويعد هذا اجمللد عن موضوع بقية‬
‫الكتاب إىل حد ما‪ .‬ويتضمن اجمللد الرابع معاجلة دقيقة لنظرية قياس االجتاهات وتطبيقها‪ ،‬ومناقشة لثالثة‬
‫مناهج دقيقة لتحليل بياانت املسح‪ ،‬وهي حتليل البناء الكامن‪ ،‬واستخدام استجاابت املسح ألغراض تنبؤية‪.‬‬
‫وتتميز موضوعات اجمللدات األربعة ابلغزارة واالرتباط الوثيق ولذلك يذهب "إدوارد شليز" يف‬
‫مقاالته الشهرية إىل أن الروح املعنوية للجندي املقاتل تعتمد بصفة أساسية على روابط مجاعته األولية يف‬

‫وهذه الدراسات هي‪:‬‬ ‫( ‪)8‬‬

‫‪Studies in Social Psychology in World War 11.4Vols.‬‬


‫‪_Vol. I .Samuel A. Stouffer et al.The American Soldier, Adjustment During Army Life,‬‬
‫; ‪Princeton, N. J , Princeton University Press, 1949‬‬
‫‪_ vol. II : Samuel A .Stouffer et al, The American Soldier : Combat and Its Aftermath, N.‬‬
‫‪J ,Princeton university Press, 1949.‬‬
‫‪_ vol. III : Carl hovland, Arthur Lumsdaine and Fred Sheffield, Experiments on Mass‬‬
‫‪Communication, Princeton, N, J , Princeton.‬‬

‫‪45‬‬
‫اجليش(‪ ، )9‬وأن هذه الروابط تقلل من اعتماد الروح املعنوية للجندي املقاتل على الصالة اليت تعد أكثر‬
‫أمهية من رفقة السالح‪.‬‬
‫وقد أكد عدد من احملللني على أتثري احلرمان النسيب‪ ،‬فقد لوحظ على سبيل املثال أن الزنوج يف‬
‫املعسكرات الشمالية كانوا أسوأ تكيفا بصفة عامة من الزنوج يف املعسكرات اجلنوبية‪ ،‬ألن أساس املقارنة عند‬
‫اجلندي يف اجلنوب والشمال على حد سواء كان وضع الشخص املدين‪ ،‬وأن الوضع السيئ للزجني املدين يف‬
‫اجلنوب كان مبثابة معامل للمعاملة السيئة للزنوج يف املعسكرات اجلنوبية‪ ،‬وقد أدى التأكيد إىل حتويل‬
‫االهتمام عن بعض النتائج اهلامة حول احلرمان املطلق‪ ،‬ومنها أيضا االكتشاف مفاده أن الوحدات العسكرية‬
‫تبدأ يف التفكك تتعرض للقتال أو ألية صورة أخرى من الصور املعاانة لفرتات طويلة‪.‬‬
‫كما أدى أتكيد ا حملللني على أتثر الدور و املكانة يف تعديل االجتاهات (مبعىن أن االختالفات يف‬
‫الدور واملكانة ال تؤدي فحسب إىل االختالفات يف االجتاه‪ ،‬وإمنا تؤدي أيضا إىل اخلطأ يف حكم مجاعة على‬
‫مجاعة أخرى) أدى إىل إغفال نتيجة هامة هي أن اجليش وقت احلرب يعمه االستياء من سوء استخدام‬
‫امتيازات الرتبة‪ ،‬وأن هذا الشعور له آاثر عكسية شديدة على الروح املعنوية ابستثناء القوات اجلوية اليت‬
‫تسودها ظروف خمتلفة‪.‬‬
‫ورمبا يعد كتاب "اجلندي األمريكي" مبثابة انتقال شديد لواحد من أكرب التنظيمات اليت عرفها‬
‫اجملتمع احلديث والذي أعده أفراد من داخل التن ظيم نفسه‪ ،‬وعلى عكس الدراسات املبكرة للمجتمع احمللي‬
‫والدراسات احلديثة لألنساق التنظيمية اليت توصلت إىل أن معظم الناس راضون عن األنساق االجتماعية‬
‫اليت وجدوا أنفسهم فيها‪ ،‬كشفت بياانت "اجلندي األمريكي" عن حالة ملحوظة ملاليني الرجال املشغولني‬
‫بنضال شديد من أجل مثل اجتماعية مطلقة يف الوقت الذي ال يوجد فيه اِلتزام حقيقي هبذه القضية بني‬
‫أعداد ضخمة منهم‪ ،‬وال توجد لديهم ثقة يف قادهتم‪ ،‬وال يوجد شيء سوى احتقار املعايري اليت تنظم حياهتم‪،‬‬
‫وهناك ثالثة من كل مخسة مقاتلني خدموا يف معارك ما وراء البحار كانت ليهم شكوك حول مشروعية احلرب‬
‫‪.1945‬‬

‫)‪(9‬‬
‫‪_Edward Shils, « Primary Grioups American Army » pp.12_39, in : Continuties in Social‬‬
‫‪Research : Studies in the Scop and Method of ‘’The AmericanSoldier’’, ed. Robert K. Merton‬‬
‫‪abd paul Lazarsfeld, new York, Free Press,1950.‬‬

‫‪46‬‬
‫وقد أجريت هذه التجارب بدون حتفظ على أمل تعليم السلطات العسكرية كيفية التأثري يف آراء‬
‫وعواطف ضباط الصف واجلنود‪ .‬وكان االلتزام الصادق من جانب الباحثني ابجلهود احلربية هو الذي‬
‫ساعدهم يف تعضيد األهداف اإلدارية للقيادة العليا دون تردد‪ ،‬وعند اكتشاف خلل يف نسق اإلدارة‬
‫العسكرية تتم معاجلته على أنه مشكالت معنوية‪ ،‬ومل يهتم فرع البحوث إبمكانية إصالح النسق العسكري‬
‫ابلطرق املناسبة‪ ،‬ألن ذلك مل يدخل ضمن اختصاصات القادة الذين كان فرع البحوث حياول مساعدهتم‪ ،‬ومل‬
‫تكن اإلصالحات اليت متت بفضل النتائج البحثية ذات أتثري يذكر‪ ،‬وقد عوجلت شكوى جنود املشاة أبهنم‬
‫ال يعاملون نفس معاملة اجلنود يف الفروع األخرى من خالل منحهم شارة الشرف‪ ،‬واقرتح الباحثون إجراءات‬
‫جديدة لألخذ هبا يف فرتة السالم بعد الكشف عن سوء استخدام األنساق العسكرية للسلطة من خالل‬
‫القنوات السرية للمفتش العام‪ ،‬وقد وجهت انتقادات حادة إىل وجهة النظر الواحدة بعد طبع التقرير‪ ،‬غري‬
‫أن أصحاب هذه االنتقادات مل حياولوا االستفادة من البياانت الغزيرة اليت يف كتاب "اجلندي األمريكي"‬
‫لتطوير برانمج منظم إلصالح املؤسسات العسكرية‪ ،‬وكانت اإلصالحات الرئيسية اليت متت يف اجليش بعد‬
‫احلرب العاملية جمرد إصالحات داخلية متعلقة بتحقيق العدالة العسكرية أو دعمها‪ ،‬وهو املوضوع الذي مل‬
‫يعاجله كتاب "اجلندي األمريكي"‪.‬‬

‫‪ -10‬بيار بورديو‪:‬‬
‫ولد بيري بورديو ‪ Pierre Bourdieu‬يف دينجون ‪،denguin‬جنوب فرنسا يف عام ‪،1930‬درس‬

‫الفلسفة مع لويس ألثوسري ‪ Louis Althusser‬يف املدرسة العليا العادية‪،‬أجنز حبثا اثنوغرافيا عن قبائل‬

‫الرببر الذي وضع األساس لسمعته كعامل اجتماع‪ ،‬فكان أول كتاب له "سوسولوجيا اجلزائر"‬

‫‪ ، Sociologie de L Algerie‬الذي ترك جناحا فوراي يف فرنسا ونشر يف أمريكا يف عام ‪،1962‬‬

‫ويف ‪ 1960‬عاد إىل جامعة ابريس للتدريس حىت ‪ ،1964‬ويف ‪ 1964‬توىل منصب مدير الدراسات ‪ ،‬ومن‬

‫‪ 1981‬شغل أستاذ كرسي يف الكلية الفرنسية ‪ ،Collège de France‬ويف ‪ 1968‬ترأس مركز‬

‫السوسولوجيا األوربية ‪ the Centre de Sociologie Européenne‬حىت وفاته يف ‪.2002‬‬

‫‪47‬‬
‫بدأ بورديو متأثرا مبعظم رموز علم االجتماع التقليدي‪،‬من ماكس فيرب‪ Max Weber‬حمتفظا أبمهية‬

‫سيحول‬
‫ّ‬ ‫اهليمنة واألنظمة الرمزية يف احلياة االجتماعية‪ ،‬ابإلضافة إىل فكرة النظم االجتماعية الذي يف النهاية‬

‫ِ‬
‫احلقول‪،‬ومن كارل ماركس ‪ Karl Marx‬اكتسب فهم اجملتمع كخالصة‬ ‫من قبل بورديو إىل نظرية‬

‫العالقات االجتماعية‪" :‬الذي يدمج يف عالقات العا ِمل االجتماعي ‪ -‬لَيست تفاعالت بني القوى‬

‫‪ Intersubjective‬املرتبطة بني األفراد‪ ،‬لكن العالقات ااملوضوعيةَ اليت توجد بشكل مستقل عن‬

‫الوعي واإلرادة الفردية " ‪ ،‬واحلاجة لتَطوير النظرية االجتماعية بشكل جديل من املمارسة االجتماعية‪.‬‬

‫وأتكيد احلتمية ‪ Deterministic‬أيضا منه‪ ،‬ومن خالل مارسيل موس ‪ Marcel Mauss‬وكلود‬

‫ليفي شرتاوس ‪،Claude Lévi-Strauss‬أكد ميل البىن االجتماعية إلعادة إنتاج نفسها‪ ،‬وعمل‬

‫بورديو على حماولة جتاوز سلسلة املقابالت اليت ميّزت العلوم االجتماعية (الذااتنية ‪ /‬املوضوعانية‪ ،‬املكرب ‪/‬‬

‫ااملصغر‪ ،‬احلرية ‪ /‬احلتمية) (‪.)1‬‬

‫‪ - 1‬بيري بورديو ‪،‬الرمز والسلطة‪ ،‬ترمجة‪ :‬عبدالسالم بن عبد العايل‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء( املغرب)‪ ،1986 ، ،‬ص‪18‬‬

‫لقد عمل بيار بورديو هذا من خالل التجديدات التصورية‪/‬املفاهيمية‪ ،‬مفاهيم اهلابتوس(التطبع أو السجية‬

‫‪ ،Habitus‬رأساملال الثقايف واالجتماعي ‪ ، Social and Culture Capital‬وتصورات‬

‫اخرى‪.‬‬

‫بدأ جنمه يبزغ بني املتخصصني انطالقًا من الستينيات بعد إصداره كتاب الورثة (مع جون كلود ابسرون)‪،‬‬

‫وازدادت شهرته يف آخر حياته خبروجه يف مظاهرات ووقوفه مع فئات احملتجني واملضربني‪ .‬اهتم بتناول أمناط‬

‫السيطرة االجتماعية بواسطة حتليل مادي لإلنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة إنتاج البنيات‬

‫االجتماعية‪ ،‬وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستنفر كل العتاد املنهجي املرتاكم يف كل جماالت املعرفة عرب‬

‫‪48‬‬
‫اختالف التخصصات‪ ،‬ولقد انتقد بورديو تغاضي املاركسية عن العوامل غري االقتصادية‪ ،‬إذ أن الفاعلني‬

‫املسيطرين ‪ ،‬يف نظره‪ ،‬إبمكاهنم فرض منتجاهتم الثقافية (مثال ذوقهم الفين) أو الرمزية (مثال طريقة جلوسهم‬

‫أو ضحكهم وما إىل ذلك)‪ .‬فللعنف الرمزي (أي قدرة املسيطرين على احلجب عن تعسف هذه املنتجات‬

‫الرمزية وابلتايل على إظهارها على أهنا شرعية) دور أساسي يف فكر بيري بورديو‪ ،‬معىن ذلك أن كل سكان‬

‫سوراي مثال مبا فيهم الفالحون سيعتربون هلجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة ًّ‬
‫جدا رغم أن‬

‫اللهجة الشامية ليست هلا قيمة أعلى حبد ذاهتا‪ ،‬وإمنا هي لغة املسيطرين من املثقفني والساسة عرب العصور‬

‫وأصبح كل الناس يسلّمون أبهنا أفضل وأبن لغة البادية رديئة‪ .‬فهذه العملية اليت تؤدي ابملغلوب إىل أن‬

‫حيتقر لغته ونفسه وأن يتوق إىل امتالك لغة الغالبني (أو غريها من منتجاهتم الثقافية والرمزية) هي مظهر من‬

‫مظاهر العنف الرمزي‪.‬‬

‫كتااب ومئات من املقاالت والدراسات اليت ترمجت إىل أبرز‬


‫أهم أعماله ‪ :‬أنتج بيري بورديو أكثر من ‪ً 30‬‬
‫األلسن يف العامل واليت جعلته يتبوأ مكانة ابرزة بني األمساء البارزة يف علم االجتماع والفكر النقدي منذ هناية‬

‫الستينيات من القرن املاضي‪،‬أمهها‪:‬‬

‫‪-‬سوسيولوجيا اجلزائر ‪1958‬‬

‫الوَرثَة‪ .‬الطلبة والثقافة ‪1964‬‬


‫‪َ -‬‬
‫‪-‬إعادة اإلنتاج‪ -‬أصول نظرية يف نظام التعليم‪1970 -‬‬

‫‪-‬التمييز‪ -‬النقد االجتماعي ِحلُكم الذوق ‪1979-‬‬

‫‪-‬ا ْحلِس العملي ‪1980‬‬

‫معىن أن تتكلم‪ -‬اقتصاد التبادالت اللغوية‪1982 -‬‬


‫‪ -‬ما َ‬

‫‪ -‬درس يف الدرس ‪1982‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ -‬مسائل يف علم االجتماع‪1984‬‬

‫‪-‬اإلنسان األكادميي ‪1984‬‬

‫‪ -‬أشياء منَه ُقولة ‪1987‬‬

‫‪ -‬األنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر ‪1988‬‬

‫‪ -‬إجاابت‪ :‬من أجل إنسيات انعكاسية ‪1992‬‬

‫تكون وبنية احلْقل ْاألديب) ‪1992‬‬


‫‪ -‬قواعد الفن ( ُّ‬

‫‪ -‬بؤس العا َمل ‪1993‬‬

‫‪ِ -‬علَ ٌل َع َملية( يف نظرية الفعل) ‪1994‬‬

‫‪ -‬يف التلفزة ‪1996‬‬

‫‪ -‬أتمالت ابسكالية ‪1997‬‬

‫‪ -‬السيطرة الذكورية ‪1998‬‬

‫‪-‬البنيات االجتماعية لالقتصاد ‪2000‬‬

‫‪-‬علم العلم واالنعكاسية ‪2001‬‬

‫‪-‬تدخالت‪ ،‬العلم االجتماعي والعمل السياسي ‪2002 ،2001‬‬

‫‪-‬توطئة لتحليل ذايت ‪2004‬‬

‫مفهوم رأس املال الثقايف‪: Symbolic System‬‬

‫الثقافة عند بيار بورديو نسق رمزي أو كما أطلق عليها اسم القوة الرمزية وهو يقصد أن األنساق الرمزية يف‬

‫أي جمتمع هي أدوات للسيطرة االجتماعية والسياسية يف اجملتمع الدميقراطي‪،‬وهبذا فإن الثقافة كأنسقة رمزية‬

‫هي رأس مال‪ ،‬وهي موضوع صراع بني القوى االجتماعية املتعددة‪،‬وهتدف كل قوة من هذه القوى‬

‫‪50‬‬
‫االجتماعية إىل السعي وراء السيطرة على حقل الثقافة أو إنتاج وتوزيع رأمسال ثقايف فيه وابلتايل إذا أردان أن‬

‫نصوغ معنا ولو كاريكاتوراي على رأمسال الثقايف فيمكننا القول أبنه القبول أو االعرتاف أو االعتقاد بقوة أو‬

‫بسلطة من ميلك مزااي أكثر‪ ،‬أو شكالً من االعرتاف ابلشرعية‪ ،‬أو قيمة معطاة من اإلنسان‪ .‬ويرتبط هذا‬

‫املفهوم مببدأ السلطة ومبدأ التميُّز أو االختالف (يف اخلصائص) ومبدأ األشكال املختلفة لرأس املال‪،‬‬

‫ويدخل يف خمتلف احلقول ويف خمتلف أشكال السلطة أو اهليمنة‪ ،‬أو يف أشكال العالقات‪ ،‬هذا هو “العنف‬

‫الرمزي” الذي حيدثنا عنه عامل االجتماع الفرنسي بيار بورديو يف كتابه عن “اهليمنة الذكورية”‪ ،‬ويقول عنه انه‬

‫"عنف هادئ ال مرئي ال حمسوس حىت ابلنسبة إىل ضحاايه" (‪ ،)1‬ويتمثل يف أن تشرتك الضحية وجالدها يف‬

‫التصورات نفسها عن العامل واملقوالت التصنيفية نفسها‪ ،‬وأن يعتربا معا بىن اهليمنة من املسلمات والثوابت‪.‬‬

‫فالعنف الرمزي هو الذي يفرض املسلمات اليت إذا انتبهنا إليها وفكران فيها بدت لنا غري مسلم هبا‪ ،‬وهي‬

‫مسلمات جتعلنا نعترب الظواهر التارخيية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاما إالهياً عابرا لألزمنة‪ .‬أشد أنواع‬

‫املقىن العتيق الذي تعود ممارساته إىل مئات السنني إن مل نقل آالفها‪ ،‬وأشد‬
‫العنف ضد املرأة العنف الثقايف ّ‬

‫أنواع العنف الثقايف هو ذلك العنف الرمزي الذي يبدو بديهيا‪ ،‬ويفرض نفسه على الضحية واجلالد‬

‫والقاضي‪ ،‬ويقول عن نفسه انه ليس عنفا‪.‬‬

‫‪1- Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique sociale du jugement, Les Éditions de‬‬
‫‪Minuit, 1979, 670 p.‬‬
‫كأداة لرتسيخ الطبقية‪:‬‬
‫إن النظام الرتبوي يف اجملتمعات ذات التفاوت الطبقي كما يرى بورديو يعترب أحد األليات األساسية الفعالة‬
‫يف ترسيخ النمط االجتماعي السائد يف تلك اجملتمعات‪،‬وهذا يبدو جليا من خالل بنية الفرصة النسبية‬
‫املتاحة ألبناء الطبقات املختلفة لدخول النظام التعليمي يف مراحله املختلفة‪،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى‬
‫مثة مظهر آخر هلذا العنف املمارس القوى السائدة وهو يف تنوع املدارس يف اجملتمع الواحد واختالف‬
‫مستوايهتا ابختالف أصول الطبقية للطالب الداخلني إليها‪،‬فأبناء الطبقات العليا هم الذين حيتلون املدارس‬

‫‪51‬‬
‫ذات النوعية الرفيعة‪،‬وعلى ذلك فالتنوع يف املدارس واختالف مستوايهتا إمنا يعكس صور هذا التفاوت‬
‫الطبقي وجيسد بشكل واضح أحد أهم مظاهر العنف الثقايف يف اجملتمعات احلديثة‪.‬‬
‫‪ -‬تعريف األبيتوس‪ (: Habitus‬السمت)‬
‫يرى بيار بورديو أن األبيتوس هي نسق من الرتتيبات الدائمة واملتغرية املواضع‪،‬والبىن املبنية املهيأة للعمل‬
‫كبىن تبين بشكل بسيط‪،‬و ميكن تعريف األبيتوس كنسق من التنظيمات أو الرتتيبات املرتبطة مبسار اجتماعي‬
‫معني(فالعامل ابن العامل‪،‬اًألصل أن يكون له األبيتوس عامل تقليدي يف حني أن العامل بن الفالح ميكن أن‬
‫يكون له أبيتوس الربجوازي الصغري‪،‬ومن هذا املنطلق فإن لكل طبقة اجتماعية نوعان من األبيتوس‪:‬‬
‫‪ -1‬أبيتوس إعادة اإلنتاج‪ :‬وهنا يعين حمولة توافق الفرد مع الظروف املعاشة من طرف العائلة األصلية فابن‬
‫العامل ال يطمح إال أن يكون عامالً‪.‬‬
‫‪ -2‬أبيتوس"التسلق" االجتماعي‪ :‬وهو الذي يطمح إىل الصعود فوق الطبقة األصلية كأن جتد ابن العامل‬
‫يطمح أن يصبح يف املستقبل طياراً أو جراحاً‪،‬وخالل هذا التحليل لألبيتوسات فإن التنشئة االجتماعية‬
‫حسب بيار بورديو عبارة عن عملية بيوغرافية لدمج التنظيمات االجتماعية املكتسبة ال يف العائلة فقط‬
‫والطبقة األصلية‪،‬لكن يف خمتلف مراحل حياة الفرد اليت مير هبا أثناء وجوده داخل جمتمعه‪،‬إذن فالتنشئة‬
‫تضمن اندماج "أبيتوسات" الطبقة وتنتج االنتماء الطبقي ألفراد كل االجتماعية من وجهة نظرية بيار بورديو‬
‫هذا إبعادة إنتاج الطبقة ابعتبارها جمموعة تتقاسم نفس األبيتوسات (‪.)1‬‬
‫يتخذ مصطلح اهلابتوس أو اآلبيتوس (‪ )Habitus‬دالالت فلسفية وسوسيولوجية خمتلفة‪ ،‬ويعين طريقة يف‬
‫الوجود‪ ،‬أو املظهر العام‪ ،‬أو حالة ذهنية أو عقلية‪ ،‬ويعين هذا أن اهلابيتوس ثقافة‪ ،‬وحضارة‪ ،‬ومنط من أمناط‬
‫الوجود والعيش واحلضور يف العامل‪.‬‬
‫‪1- Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de L'emprise du journalisme, Paris, Liber,‬‬
‫‪coll. « Raisons d'agir », 1996, p 95.‬‬
‫وقد استعمل مصطلح اهلابيتوس أواآلبيتوس ( ‪ ،)Habitus‬قدميا عند الفالسفة اليواننيني مبفهوم‬
‫(‪ ،)Hexis‬وخاصة أفالطون وسقراط‪ ،‬وأرسطو‪ ،‬ومن بعدهم هيغل‪ ،‬وهوسرل‪ ،‬وماكس فيرب‪ ،‬وإميل‬
‫دوركامي‪ ....‬بيد أن مصطلح (‪ ،)Hexis‬قد استبدل‪ ،‬إابن العصور الوسطى‪ ،‬مبصطلح اهلابيتوس‬
‫(‪ ،)Habitus‬للداللة على احلالة أو الوضعية أو طريقة العيش‪.‬‬
‫هذا وقد أخد بيري بورديو مصطلح اهلابيتوس من املفكر السكوالئي طوماس أكني ( ‪Thomas‬‬
‫‪ ،) D’Aquin‬الذي استعمل مصطلح هابيتوس لرتمجة املفهوم األرسطي (اهليكسيس)‪ ،‬وقد استلهمه‬
‫أيضا من إرفني ابنوفسكي (‪ ،)Erwin Panofsky‬الذي حتدث عن مجاليات اإلجتاه املدرسي يف‬
‫ومن مث فاهلابيتوس هو التطبيع االجتماعي يف جمتمع تقليدي‪ ،‬أو هو مبثابة نظام من‬ ‫العصور الوسطى‬
‫(‪)1‬‬

‫‪52‬‬
‫اإليتوس القيمي املتعايل‪ ،‬يستطيع الفرد عربه أن يتحرك يف العامل اجملتمعي‪ ،‬بغية فهمه بطريقته اخلاصة‪ ،‬أو‬
‫بطريقة مشرتكة مع الطبقات االجتماعية األخرى اليت يعيش معها‪.‬‬
‫وقد ركز بورديو على بنية اهلابيتوس الداخلية‪ ،‬ومكوانته‪ ،‬ووظيفته‪ ،‬فمن حيث البنية‪ ،‬يتكون‬
‫اهلابيتوس من جمموعة من امليول‪ ،‬والتصورات‪ ،‬واملعتقدات‪ ،‬واإلدراكات‪ ،‬ورؤى العامل‪ ،‬ومبادئ التصنيف‪،‬‬
‫ومن مث‪ ،‬يساعد اهلابيتوس الذي يكتسبه الفرد يف األسرة واملدرسة على متثل اجملتمع واستيعابه بشكل جيد‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وتقوم التجمعات األولية( الطفولة واملراهقة)‪ ،‬والتجمعات الثانوية ( سن الرشد)‪ ،‬بدور هام يف‬
‫بناء اهلابيتوس ‪ ،‬ويستطيع األفراد عرب هذا الرأمسال االجتماعي احملصل عليه‪ ،‬بفعل التنشئة االجتماعية‪ ،‬أن‬
‫خيلقوا هابيتوس الطبقة (‪ ،)Un Habitus De Classe‬بسبب تشاركهم يف جمموعة من األفعال‬
‫والتصرفات والسلوكيات املشرتكة‪ ،‬وبذلك يكون اهلابيتوس هو مصدر أفعال األفراد اجملتمعيني‪ ،‬وهو الذي‬
‫يتحكم يف توجهاهتم القيمية واألخالقية واملعيارية‪ ،‬أي‪ :‬إنه مبثابة األان األعلى السيكولوجي لتجارهتم احلاضرة‬
‫يف العامل(‪. )2‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فاهلابيتوس هو مبثابة قالب معياري وأخالقي للشخصية الفردية‪ ،‬بل مبثابة ضرورة أو حتمية‬
‫تتحكم يف أفعال اإلنسان‪ ،‬فيما خيص هوايته‪ ،‬وثقافته‪ ،‬وتربيته‪ ،‬وعمله‪ ،‬وتغديته‪ ،‬واستهالكه‪...‬‬
‫‪ -1‬حسين إبراهيم عبد العظيم‪ ،‬اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف( قراءة يف سوسيولوجيا بيري بورديو) ‪،‬اجمللة العربية لعلم االجتماع‪،‬العدد ‪،15‬‬
‫‪ 2011‬ص‪.21‬‬
‫‪ -2‬بيري بورديو ‪،‬الرمز والسلطة‪ ،‬ترمجة‪ :‬عبدالسالم بن عبد العايل‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء( املغرب)‪ ،1986 ، ،‬ص‪18‬‬
‫ويبدو أن مصطلح اهلابيتوس اهلابيتوس مصطلح غامض ومعقد‪ ،‬إذ يقصد به بيري بورديو "بعض اخلصال‬
‫املرتسخة يف داخل عقول البشر وأجسادهم" ومن هنا‪ ،‬فاهلبيتوس مبثابة جمموعة من االستعدادات أو‬
‫امللكات الدائمة اليت يكون الفرد قد اكسبها أو تطبع عليها عرب التنشئة االجتماعية‪ ،‬وابلتايل‪،‬‬
‫فاالستعدادات هي جمموعة من امليول‬

‫واالجتاهات واملواقف النتعلقة ابلتفكري واالدراك واالحساس‪ ،‬فيستنبطها األفراد حسب ظروفهم‬
‫املوضوعية لوجودهم‪ ،‬وتوظف هذه االستعدادات بطريقة ال شعورية‪ ،‬وتتمثل هذه االستعدادات املستضمرة‬
‫يف القيم والتصرفات والسلوكيات واملكتسبات املعرفية والذهنية‪ ،‬ويعين هذا أن اهلابيتوس عبارة عن جمموعة‬
‫من البىن املعرفية واإلدراكية املستدجمة‪ ،‬ويتم إنتاجها يف بيئة اجتماعية حمددة‪ ،‬ويعاد إنتاج هذه البيئة من‬
‫خالل قدرة اهلابيتوس على التوليد‪.‬‬
‫وعليه ال يقتصر اهلابيتوس على توجيهات األفراد وتصوراهتم الشخصية فحسب‪ ،‬بل يتجاوز ذلك‬
‫إىل االستعدادات اجلمعية‪ ،‬مثل‪ :‬أمناط التفكري واإلدراك والتقدير واملمارسة‪ ،‬ومن مث‪ ،‬يؤثر اهلابيتوس يف‬

‫‪53‬‬
‫األفعال اليومية‪ ،‬كالتذوق‪ ،‬واملالبس‪ ،‬واألاثث‪ ،‬والفن‪ ،‬وعادات االستهالك‪ ،‬وأوقات الفراغ‪ ...‬ومن هنا‪،‬‬
‫فاهلابيتوس نتاج ظروفه املوضوعية ذاهتا‪.‬‬
‫فاهلايبتوس مبثابة جمموعة متنوعة من التوجهات املستمرة واملهارات وأشكال من املعرفة الفنية اليت‬
‫يلتقطها الناس ببساطة من معاشرة أانس من ثقافات فرعية معينة‪ ،‬وميكن أن ترتاوح هذه من أشكال السلوك‬
‫اجلسدي‪ ،‬واحلديث‪ ،‬واإلمياء‪ ،‬وامللبس واألخالق االجتماعية‪ ،‬من خالل جماالت املهارات احملركة والعملية إىل‬
‫(‪) 1‬‬
‫أنواع معينة من املعرفة والذاكرة املرتاكمة‪.‬‬
‫يكتسب الفرد أو الفاعل الذايت جمموعة من املوارد اليت جتعله قادرا على إدماجها حينما يتفاعل مع‬
‫بينية اجملتمع بواسطة عملية االستيعاب اخلارجي‪ ،‬أي‪ :‬إن مثة جتانسا وتطابقا ومتاثال بني البينة الذاتية والبنية‬
‫اجملتمعية اللتني يتحكم فيهما اهلايبتوس‪ ،‬ويف هذا يقول جون سكوت‪ :‬أكد بورديو التطابق والتجانس القريب‬
‫بني التنظيم‬

‫‪1- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du‬‬
‫‪système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 144‬‬

‫االجتماعي وديناميكيات العامل اخلارجي والرتتيبات اجملسمة الداخلية لألفراد‪ ،‬ويرى أن هذا أييت عن‬
‫طريق ما يسميه ابالستيعاب اخلارجي‪ ،‬ولقد أخذت أو استوعبت العوامل البشرية ابلتدريج على مدار السنني‬
‫أنواع األمور‪ ،‬اليت حتتاج إىل معرفتها عن بيئتها اخلارجية االجتماعية واملادية حىت ميكنها املشاركة بنجاح يف‬
‫جماالت معينة من ممارستها االجتماعية‪،‬فترتسخ هذه املعرفة يف معظمها طبيعة اثنية‪ ،‬إهنا توفر جمموعة من‬
‫املوارد الكامنة يف الشكل الذي يسميه بورديو ابملخططات التوليدية اليت ميكن االعتماد عليها كلما اقتضت‬
‫الظروف‪.‬‬
‫ومن هنا ليس اهلايبتوس جمرد متثل أو إدماج عاد وبسيط‪ ،‬يبين على ممارسات تقليدية أساسها‬
‫التكرارا والتنميط والتطبيق اآليل بل هو إدماج إبداعي يتجاوز املماثلة إىل االستيعاب ومواجهة وضعيات‬
‫جديدة‪ ،‬كما ان اهلايبتوس هو مبثابة بنيات خاضعة لعامل التكيف والتأقلم مع العامل اجملتمعي املوضوعي‪ ،‬ويف‬
‫الوقت نفسه هو مبثابة أفعال حمركة لبنية اجملتمع‪ ،‬أو مبثابة ممارسات جديدة هتدف إىل حل مشكالت الواقع‬
‫املوضوعي‪ ،‬وجتاوز حتمياته اجلربية‪ ،‬واهلايبتوس يتضمن التطبع ابجملتمع من جهة والتحكم فيه ابلفعل الفردي‬
‫اإلبداعي من جهة أخرى‪.‬‬
‫ويعين هذا أن الفرد يستطيع أن يولد جمموعة من اخلطط واإلسرتاتيجيات‪ ،‬حينما يواجه وضعيات‬
‫جمتمعية جديدة‪ ،‬مثل الذي يستعمل لغته األم فإنه يستطيع من خالل قواعده حمددة أن يولد مجال ال متناهية‬
‫العدد‪ ،‬ويعين هذا أن اهلايبتوس هو مولد إبداعي وتطبيقي لفرد يستعمل كل اسرتاتيجياته وموارده وخططه‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫حينما جيابه وضعيات جمتمعية جديدة إما بطريقة واعية وإما بطريقة غري واعية جيتهد ويتصرف وفق القواعد‬
‫واملعايري اليت استضمرها سابقا‪ ،‬عن طريق التنشئة االجتماعية املستمرة أو اليت انتقلت إليه من اآلخرين‬
‫وإذا كان إميل دوركامي )‪ (E.Durkheim‬يدرس الظواهر اجملتمعية على أهنا أشياء وموضوعات‪ ،‬من‬
‫خالل الرتكيز فإن ماكس فيرب يدرس الذوات الفاعلة اليت أتثر يف اجملتمع من خالل املعاين واملقاصد اليت‬
‫ترتبط هبا أفعاهلم السلوكية‪ ،‬هدا أن مثة ثنائية الذاتية املوضوعية‪ ،‬بينما يرفض بيري بورديو هذه الثنائية ويعتربها‬
‫حالة مصطن عة ومشوهة‪ ،‬فهو حياول اجلمع بينهما بتوليد جمموعة من املفاهيم السوسيولوجية‪ ،‬منها‪ :‬مصطلح‬
‫اهلايبتوس‪.‬‬
‫فاهلايبتوس يتجاوز التعارض املوجود بني الوعي والالوعي‪ ،‬فيوحد بني الفعل اجملتمعي والبنية اجملتمعية‬
‫ويعرب عن انفتاح الذات على اجملتمع اخلارجي‪ ،‬ويف لوقت نفسه حييل خضوع الذات اجلربية اجملتمعية‬
‫اخلارجية‪.‬‬
‫فيما مضى مل يكن اهلايبتوس سوى أتقلم وتكيف عاديني وبسيطني مع األوضاع‪ ،‬بتوظيف املكتسبات‬
‫السابقة بطريقة آلية بل ميكن اليوم أن يتحقق اهلايبتوس بطريقة إبداعية خالقة‪ ،‬إبجياد احللول الناجعة‬
‫ملختلف الوضعيات املعقدة والصعبة واملركبة‪ ،‬ويعين هذا أن اهلايبتوس يسمح للفرد بتوليد جمموعة من‬
‫املمارسات اجلديدة اليت تتالءم مع العامل اجملتمعي الذي يعيش فيه‪ ،‬ومن هنا فاهلايبتوس مبثابة حمرك قوي‬
‫ودينامي يتخذ طابعا تطبيقيا‪.‬‬
‫فاهلايبتوس نتاج البنيات اجلربية واألفعال احلرة على حد سواء‪ ،‬ومن هنا ليس اهلايبتوس تطبعا‬
‫اجتماعيا عاداي بل هو حمرك ملمارسات جمتمعية جديدة ال متناهية العدد‪ ،‬وتشكل هذه األحكام نسقا أو‬
‫نظاما‪ ،‬وابلتايل فاهلايبتوس مصدر وحدة األفكار والفعال لدى الفرد وال يقتصر اهلايبتوس على ما هو فردي‪،‬‬
‫بل يتعدى ذلك إىل اجلماعات اجملتمعية اليت تعيش التطبعات نفسها‪ ،‬ويعين هذا وجود أمناط خمتلفة من‬
‫التفكري واإلحساس والعمل ضمن طبقة اجتماعية واحدة ومتجانسة‪ ،‬ومن خصائص اهلايبتوس أيضا دميومة‬
‫أحكامه وقابلية نقلها من فرد إىل آخر‪ ،‬ومن جيل إىل جيل‪ ،‬ومن مجاعة إىل أخرى(‪.)1‬‬
‫وللتمثيل حبق العمل يرتبط اهلايبتوس العمال ابملفيد والضروري ومن مث فلباسهم وظيفي ويهتمون‬
‫ابلفن امللتزم الواقع‪ ،‬ويكون أكلهم دمسا ومشبعا أي‪ :‬هلم منط حياة مشرتكة تشكل ما يسمى ابهلايبتوس‬
‫العمال‪ ،‬ويتميز اهلايبتوس عن ابقي اهلايبتوسات األخرى مضموان وشكال‪ ،‬يف حني يقوم هايبتوس البورجوازي‬
‫على التجريد‪ ،‬وحب الفن‪ ،‬والبحث عن اجلديد من املوضة‪.‬‬
‫يعين اهلايبتوس مبدأ الفعل لدى األفراد داخل العامل اجملتمعي‪ ،‬أو هو مبثابة األان الذي يوجه سلوك‬
‫األفراد داخل احمليط اجملتمعي بطريقة ل شعورية‪ ،‬أو هو نسق من االستعدادات وامللكات والقيم واألفكار‬
‫واملواقف واالجتاهات اليت تطبع عليها الفرد يف اجملتمع‪ ،‬بغية التمثل هبا أثناء مواجهة املواقف والوضعيات‬

‫‪55‬‬
‫املختلفة فهو الذي يوجه سلوك الفرد أثناء مواجهة وضعية قدمية او جديدة‪ ،‬لذا يعترب اهلايبتوس منتج‬
‫السلوكيات والتصرفات واألفكار والعواطف والقيم اليت ميتلكها الفرد أثناء التفاعل مع موقف جمتمعي معني‬
‫مبثابة موجه ملا هو فكري وذهين‪ ،‬وما هو وجداين وقيمي‪ ،‬وما هو فعلي وسلوكي‪ ،‬أما موقعه فهو الوسط بني‬
‫العالقات اجملتمعية املوضوعية والسلوكيات الفردية‪ ،‬أو هو حلقة وصل بني بنية اجملتمع والفعل الفردي‪ ،‬وعلى‬
‫العموم يتكون اهلايبتوس من شقوق ثنائية‪ :‬فردي وجمتمعي‪ ،‬ذايت وموضوعي‪ ،‬وفاعل ومنفعل(‪.)2‬‬
‫‪ -1‬بيار أنصار‪ ،‬العلوم االجتماعية املعاصرة‪ ،‬ترمجة‪ :‬خنلة فريفر‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،1992 ،‬ص ‪27‬‬
‫‪ -2‬عبد اجلليل بن حممد األزدي‪ ،‬بيري بورديو الفىت املتعدد و املضياف‪ ،‬املطبعة الوطنية‪ ،‬مراكش‪ ،2003 ،‬ص ‪.55‬‬
‫ويرتبط اهلايبتوس برأمسال معني كالرأمسال املادي‪ ،‬أو الرأمسال الثقايف‪ ،‬أو الرأمسال االجتماعي‪ ،‬أو‬
‫الرأمسال الرمزي‪ ،‬وليس الصراع الطبقي هو الوحيد الذي يتحكم يف الطبقات االجتماعية‪ ،‬بل يكون العنف‬
‫الرمزي أيضا عامال من عوامل الصراع وأشكاله‪.‬‬
‫ومن مث فلكل طبقة اجتماعية هايبتوس خاص‪ ،‬ورأمسال معني‪ ،‬مثل‪ :‬طبقة العمال‪ ،‬وطبقة املثقفني‪،‬‬
‫وطبقة الفقراء‪ ،‬وطبقة األغنياء ‪ ...‬ويعين هذا أن اهلابتوس يرتبط من جهة ابلفعل وبنية اجملتمع‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى يقرتن ابلرأمسال والتميز اجلنسي أو الثقايف أو االقتصادي أو اجملتمعي ‪...‬‬
‫ويف احلقيقة واعتمادا على اهلايبتوس ميكن تعيني مظاهر التميز االجتماعي بال حدود حىت يف‬
‫السلوك اليومي للفرد يف‪ :‬الشارع‪ ،‬واملؤسسة‪ ،‬والبيت‪ ،‬واملشي‪ ،‬واجللوس‪ ،‬والنوم‪ ،‬والعمل‪ ،‬واإلتيكيت‪،‬‬
‫واملسكن‪ ،‬ومنط العيش‪ ،‬والسفر‪ ،‬وقضاء أوقات الفراغ‪ ،‬والتسوق‪ ،‬والدراسة‪ ،‬واهلواايت ‪ ...‬إخل‪.‬‬

‫‪56‬‬
57
‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫‪/1‬ابلعربية‪:‬‬

‫‪ -2‬جمموعة من الباحثني‪ :‬املوسوعة الدولية للعلوم االجتماعية‪ ،‬ترمجة‪ :‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬

‫(اجلزء ‪.)2010( ،)2‬‬

‫‪ -2‬إبراهيم عيسى عثمان‪ ،‬النظرية املعاصرة يف علم االجتماع‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪.2008 ،‬‬
‫‪ -3‬اميل دوركامي‪،‬قواعد املنهج يف علم االجتماع‪،‬ترمجة‪ :‬حممود قاسم‪ ،‬مكتبة النهضة املصرية‪،‬‬
‫القاهرة‪1961،‬‬
‫‪ -4‬اميل دور كامي ‪ ،‬قواعد املنهج يف علم اإلجتماع‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد قاسم‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫ط(‪.1988،)2‬‬
‫‪--5‬بيار أنصار‪ ،‬العلوم االجتماعية املعاصرة‪ ،‬ترمجة‪ :‬خنلة فريفر‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.1992 ،‬‬
‫‪-6‬بيري بورديو ‪،‬الرمز والسلطة‪ ،‬ترمجة‪ :‬عبدالسالم بن عبد العايل‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء(‬
‫املغرب)‪.1986 ،‬‬
‫‪-7‬بالنشي روبري‪،‬نظرية املعرفة العلمية(االبستيمولوجيا)‪،‬ترمجة‪:‬حسن عبد احلميد‪ ،‬ديوان املطبوعات‬
‫اجلامعية‪،‬الكويت‪.1987 ،‬‬
‫‪-8‬حسين إبراهيم عبد العظيم‪ ،‬اجلسد والطبقة ورأس املال الثقايف(قراءة يف سوسيولوجيا بييار بورديو) ‪ ،‬اجمللة‬
‫العربية لعلم االجتماع‪،‬العدد ‪.2011 ،15‬‬
‫‪ -9‬اجلوهري حممد‪،‬علم االجتماع التطبيقي‪ ،‬دار الكتاب احلديث ‪،‬القاهرة‪.2008،‬‬
‫‪ -10‬زيدان عبد الباقي ‪ ،‬التفكري االجتماعي نشأته وتطوره ‪ ،‬دار الغريب للطباعة‪ ،‬القاهرة‪.1981،‬‬
‫‪-11‬عبد الباسط عبد املعطي‪ ،‬اجتاهات نظرية يف علم االجتماع‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪.1981 ،‬‬
‫‪ -12‬عبد اجلليل بن حممد األزدي‪ ،‬بيري بورديو الفىت املتعدد و املضياف‪ ،‬املطبعة الوطنية‪ ،‬مراكش‪،‬‬
‫‪.2003‬‬
‫‪ -13‬عبد الكرمي غريب‪،‬سوسيولوجيا الرتبية‪،‬منشورات عامل الرتبية‪،‬املغرب‪.2000،‬‬
‫‪ -14‬قريف عبد احلميد ‪ ،‬بناء املعرفة السوسيولوجية ‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية ‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬مهمل السنة‪.‬‬
‫‪ -15‬معن خليل عمر ‪ ،‬مدخل علم االجتماع ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬عمان‪. 2009 ،‬‬
‫‪ -16‬معن خليل عمر‪،‬نظرايت معاصرة يف علم االجتماع‪،‬دار الشروق‪،‬عمان‪.1997،‬‬

‫‪58‬‬
‫ دار املعرفة‬،)‫ اتريخ علم االجتماع (الرواد واالجتاهات املعاصرة‬،‫ حممد علي حممد‬-17
.1983،‫اإلسكندرية‬،‫اجلامعية‬
.2001،‫اإلسكندرية‬،‫دار املعرفة اجلامعية‬،‫أسس وموضوعات علم االجتماع‬،‫ جممد أمحد بيومي‬-18
‫ أصوهلا الكالسيكية واجتاهاهتا احملدثة ( قراءات‬،‫ النظرية السوسيولوجية املعاصرة‬، ‫ نبيل رمزي‬-19
.1999 ،‫ بدون بلد النشر‬،‫ دار الفكر اجلامعي‬،)‫وحبوث‬

:‫ ابلفرنسية‬/2

20-Angers Maurice: Initiation pratique à la méthodologie des sciences


humaines, casbah édition, Alger, 1997.
21-Émile Durkheim: Le Suicide: Étude de sociologie, Paris, Presses
universitaires de France, coll. « Quadrige » )no 19), 1981.
22- Émile Durkheim; Les formes élémentaires de la vie religieuse,
Presses Universitaires de France, 5e édition, 2003.
23-Simon .J : Histoire de la sociologie ,p,u,f, France,1991.
24-Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique sociale du jugement,
Les Éditions de Minuit, 1979.
25- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passerons, la reproduction,
éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de
minuit, 1980.
26- Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de L'emprise du
journalisme, Paris, Liber, coll. « Raisons d'agir », 1996.
:‫ ابالجنليزية‬/3

27-F.J.Roethlisberger and William, J. Dickson (with Harlot A. Wright),


Management and the Worker, Cambridge, Mass, Harvard University
Press, 1939.
28-Willian thomas and Florian zaniecki, the Polish Peasant in Europe and
America, 2Vols, NEW York, knops, 1927. Republished in facsimile New
York, Dover, 1920.

59
60

You might also like