Professional Documents
Culture Documents
ليس من المتوقع أن ينتقل األدب من عصر الجاهلية إلى العصر اإلسالمي دون تغيير بفصوله ،وهذا ما كان رغم أن التغيير لم
يكن بذاك األثر ،إال أنه يعتبر نقلة من حيث المصادر النقدية.
بدأ كل شيء حين نزل القرآن مشيراً إلى الشعراء بالسورة المسماة باسمهم حيث قال (والشعراء يتبعهم الغاوون الم تر أنهم في
كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما ال يفعلون إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا هللا كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) ،فإن هذه اآلية أعطت توجيها للشعراء جديداً ينطلقون منه وظافرها في ذلك أحاديث عن
النبي صلى هللا عليه وسلم كقوله (إلن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ً خير له من أن يمتأل شعراً) ،لذلك تنبه الشعراء إلى أنه قد شرع
لهم صراط جديد يسيرون عليه ،وهذا بحد ذاته نقد على أشعارهم السابقة مؤثر على الالحقة منها – من ناحية المعنى على األقل-
رغم أن مثل هذه النصوص استشهد بها على أنها مضادة لألعمال األدبية ممثلة بالشعر ،وال ننسى األحاديث المضادة للسجع
المشابه لسجع الكهنة كحديث الرجل الذي جاء يسأل عن دية الجنين قائالً (أأدي من ال شرب وال أكل وال نطق وال استهل ومثل
ذلك يُط ّل؟ فقال عليه الصالة والسالم :أسجعا ً كسجع الكهان؟) ،استشهاداتهم هذه مردود عليها بأحاديث وآثار تبارك الشعر الطيب
منه كقول النبي صلى هللا عليه وسلم لحسان (قل وروح القدس معك) ،وما أشبه ذلك من آثار كقول عائشة رضي هللا عنها (الشعر
كالم حسنه حسن وقبيحه قبيح).
إن تأثير الدين على الشعر كان تأثيراً نقديا ً من الناحية المعنوية؛ أي من ناحية األغراض والموضوعات ،وهذا النقد مباشر وغير
مباشر ،أما غير المباشر فمن خالل الرادع النفسي للشاعر المسلم عن إتيان المحرمات qفي الشعر وهذا الراد – وال شك – أنه
كان قويا ً في صدر اإلسالم نتيجة االحتكاك المباشر بالدعوة والنبوة ،أما المباشر ففي بعض المواقف التي تنوقلت إلينا؛ من ذلك
ما كان qبين النابغة الجعدي رضي هللا عنه وبين النبي صلى هللا عليه وسلم حيث أنشد الجعدي:
فقال له النبي صلى هللا عليه :إلى أين يا أبا ليلى؟ (صارفا ً إياه عن مفاخر الجاهلية) فقال :إلى الجنة.
ومنها قول أبي بكر حين سمع قول أمية بن أبي الصلت :أال كل شيء ما خال هللا باطل ،فقال :صدقت .وحين سمع القول:
ومن ذلك أيضا ً قول عمر عندما سمع سحيما ً عبد بني الحسحاس ينشد:
ففي األمثلة خير بيان على وجود نقد ،وإن كان نقدًا ال يرقى على النقد الجاهلي من ناحية الشكل ،إال أنه واضح المعالم من
الناحية المضمونية منه.
مع ذلك ال يمكن qأن نتالفى الدعوة إال عدم التكلف والتنطع واختيار حوشي الكالم هذه الدعوة التي دعا إليها اإلسالم أيضاً ،فمن
قول هللا عز وجل( وما أنا من المتكلفين) qعلى لسان نبيه ،إلى قول النبي صلى هللا عليه وسلم (هلك المتنطعون) إلى نص نقدي
واضح وصريح من عمر رضي هللا عنه ،حيث قال عن زهير حين فضله (كان ال يعاظل بين القول وال يتبع حوشي الكالم وال
يمدح الرجل إال بما هو فيه).
هذا وإن كان هناك من الشعراء الذين ما زالوا متمسكين qبمنهج الصنعة كالحطيئة وكعب بن زهير ،حتى أن عمر رضي هللا عنه
حين مر على قوم على نار لم يقل كما تدعو البديهة (السالم عليكم يا أهل النار) بل قال – بعد تفكير( -السالم عليكم يا أهل
الضوء) ،إذا فالصنعة يحتاج إليها بشكل أو بآخر ،وإن كانت الدعوة إليها معارضةq.
الخالصة أن النقد في عصر صدر اإلسالم لم يتغير في شكل العرض ،إنما تغير في المضمون على جهتين :نقد المعاني والذي
كان صاحب نصيب األسد .ونقد األطر وهو الذي كان تابعا ً لألول أكثر تحرراً من األول.