Professional Documents
Culture Documents
إمارة الشارقة
دولة اإلمارات العربية المتحدة
اإلسالم والبيئة
إعداد
أ.د /محمد فتح هللا الزيادي
عميد كلية الدعوة اإلسالمية
طرابلس /ليبيا
تمهيـــــــد
أصبح موض وع البيئة منذ مطلع الس تينات من الق رن الماضي يش غل ب ال
الع الم أجمع بمختلف اتجاهاته الفكرية والقومية والدينية وذلك لما ب رز من
مخاطر متعددة أصبحت تهدد الحياة البش رية ج راء التعامل غ ير الط بيعي مع
مكون ات البيئة المختلف ة ،وقد تش كلت إثر ذلك جمعي ات علمية وحرك ات
سياس ية ،ومنظم ات اجتماعية ،لالهتم ام بالبيئة والمحافظة عليها من الفس اد
والتل وث ،ونظمت العديد من الم ؤتمرات الدولية واإلقليمية ال تي نبهت إلى
خطورة التعامل المعاصر مع البيئة وض رورة اإلس راع في معالجة التص دعات
الكبرى للمكونات البيئية ونتج عن ذلك ظهور مواثيق دولية وتشريعات إقليمية
تحد من مخاطر اإلهمال العالمي للمحافظة على البيئ ة ،وال نك اد نجد بل دا في
العالم إال وأصبح يش ارك في ه ذه الحملة العالمية للمحافظة على البيئة ال تي
استدعى لها المفكرون والعلماء ورجال األديان وأصحاب القرار السياسي وكافة
الشرائح الفاعلة في المجتمعات المتحضرة وكل ذلك إنما كان بسبب الش عور
العالمي بخطورة مستقبل الحياة على هذه األرض وما يمكن أن ينتج من تداعيات
تسبب سرعة فناء هذا الكوكب بفعل ما يقوم به اإلنس ان من تص رفات ال يق در
عواقبها .
ولعل أقوى األس باب في ه ذه المخ اطر هو طمع اإلنس ان وأنانيته وع دم
قدرته على ضبط غرائ زه ومحاولته الدائمة للس يطرة على الم وارد البش رية
واستغاللها لصالحه فرداً كان أو مجتمعاً دون مراعاة لحق وق اآلخ رين ودون
وعي لمحدودية الموارد أحيانا ،ومن هنا ندرك أن النظ ام األخالقي في المجتمع
البشري يعتبر الضامن األول للمحافظة على مكونات الحياة البش رية ،فم تى ما
سما هذا النظام واستمد مقوماته من مصادر إيمانية عليا ك ان ذلك ع امالً في
رقي الحي اة اإلنس انية وس موها ،وم تى ما انفلت اإلنس ان من س يطرة العوامل
الروحية كان ذلك سبباً في دخوله في أزمات متعددة من ش أنها أن تس اهم في
إنهاء دوره على هذه األرض .
إن اإلسالم وهو الدين الخاتم الذي ارتضاه اهلل دستوراً نهائياً للبشرية عامة
وع البيئة وأكد على المحافظة على كل مكوناتها ذلك أن قد اهتم بموض
نهائية هذه الرسالة وعموميتها صفتان ض منتا لإلس الم ش موليته لكل من احي
الحياة مادية ومعنوية ،وشموليته لكل ما ي ؤدي به إلى الس عادة األخروي ة ،وال
شك أن البيئة بكل جوانبها تقع ض من ه ذه الش مولية إن لم نقل إنها المرتكز
فيه ا ،وذلك ألن البيئة هي مس رح تحقيق الخالفة ال تي خلق اهلل اإلنس ان من
أجلها ،فمالم تتحقق شروط السالمة الكاملة للبيئة ال تتحقق الخالفة ال تي دعي
اإلنسان لتحقيقها .
1
إن المتمعن في آيات القرآن الكريم يجد أن موضوع البيئة يتردد صداه فيما
يقترب من مائتي آية في سور كثيرة تتن اول عناصر البيئة المختلفة من أرض
وما تضمه من مكونات حية وغ ير حية وما يحيط بها من غالف غ ازي وغ يره،
وبحار وما تحتويه من عوالم يصعب إدراك عظمتها ،وكلها تــــدل على ق درة
اهلل وعظيم صنعـه " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " ، 1وعلى اهتمام
هذه الرسالة الخاتمة بتبيان كل ما له صلة بتحقيق السعادة لإلنس ان وتس هيل
مهمته التي أوكلها اهلل إليه وهي إعمار األرض وتسخير كل ما فيها لخدمته .
إن اهتم ام اإلس الم بالبيئة من حيث ذكر مكوناتها ودقة ص نعها وتنوعها
وبيان سحرها وروعتها يرتقي إلى أعلى الدرجات حتى يصل إلى أن يس تخدمها
القرآن كأحد الوسائل الموصلة إلى متانة البناء العقدي لإلنسان المسلم وذلك
حين طالب اإلنسان ب النظر فيها والتفكر في ص نعها والوص ول من خالل ذلك
إلى إدراك عظمة الخالق سبحانه وتع الى ومن ثم اإليم ان به والتس ليم بقدرته
وتفرده في صنع هذا الكون " قُلِ انْظُرُوا مَ اذَا فِي السَّ مَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
2
وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ "
"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْ فَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا
وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( )6وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِ يَ
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( )7تَبْصِ رَةً وَذِكْ رَى لِكُ لِّ
عَبْ دٍ مُنِيبٍ ( )8وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّ مَاءِ مَ اءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِ هِ
جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( )9وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ()10
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُ رُوجُ (" 3")11
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( )24أَنَّا صَبَبْنَا الْمَ اءَ صَ بًّا ()25
ثُمَّ شَ قَقْنَا الْأَرْضَ شَ قًّا ( )26فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ( )27وَعِنَبًا
وَقَضْبًا ( )28وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ( )29وَحَدَائِقَ غُلْبًا ( )30وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا ( )31مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (. 4)32
مفهوم البيئة ()INVIORONMENT
بعي داً عن الغ وص في جدلية المص طلحات وما ينتج عنها من تفريع ات
متنوعة تتع دد بتن وع اإلض افات واختالف المف اهيم ،ودون حاجة إلى إي راد
االجتهادات الكثيرة في تعريف مصطلح البيئة أقول إنها عرفت بتعريفات كثيرة
تأخذ مناحي متنوعة غير أن ما يربطها جميعاً هو أنها تدور حول مح ور واحد
هو الكائن الحي وما يحيط به ،ولذلك عرفها البعض بأنها المجال الذي تح دث
فيه اإلثارة والتفاعل لكل وحدة حية ،أوهي كل ما يحيط باإلنس ان من م وارد
سورة النمل اآلية .88 1
2
طبيعية ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية ، 5وقد عرف مؤتمر البيئة الذي عقد
تحت رعــاية األمم المتحدة في استكهولم بالسويد سنة ، 1972البيئة بأنها :
" رصيد الموارد المادية و االجتماعية المتاحة في وقت ما وفي مكان ما إلش باع
حاج ات اإلنس ان وتطلعاته " ، 2وقد ح اول بعض الب احثين أن يح دد مفهوما
إسالمياً للبيئة غير أنه في تصوري ال يخرج عن التعاريف األخرى التي ذك رت
لمفهوم البيئة .
إن دراسة مفه وم البيئة وتص وراتها المختلفة قد يق ود حتما إلى ذكر
نقطتين أساسيتين :
األولى :أن مفهوم البيئة قد يضيق ليحدد نشاطاً خاصاً يتعلق بمجال واحد دون
غيره وذلك حين نقول مثالً :البيئة الصحية ،البيئة الزراعية ،البيئة الثقافي ة،
البيئة السياسية الخ ونعني بذلك النشاط البشري والصناعي الذي يتعلق بمجال
محدد ال يتعداه لغيره .
الثانية :أن البيئة تقسم في معظم المصادر إلى قسمين رئيسيين:
البيئة الطبيعي ة :ويقصد بها المكون ات البيئية ال تي ال دخل لإلنس ان في
إيجادها كالبحار واألنهار والصحاري والجبال والمناخ ....الخ .
البيئة الصناعية :ويقصد بها المظاهر الحياتية التي شيدها اإلنسان وأنتجها
لصالحه وتشمل مظ اهر البن اء والتش ييد واس تغالل الم وارد المائية والنباتية
والنظم االجتماعية والحضارية ...الخ.
األصول اإلسالمية للبيئة
يمكن حوصلة موضوع البيئة في اإلسالم في ثالثة أصول رئيسة هي:
اإلنسان :الماء :الهواء
األصل األول :اإلنسان
فاإلنسان الذي هو محور الرسالة اإلسالمية قد وضح القرآن أموراً كثيرة
تتعلق به يمكن أن تصاغ كلها في أمرين رئيسيين هما:
أنه مستخلف في األرض .
أن الكون كله مسخر له.
وناتج الربط بين هاتين الحقيق تين هو إعم ار الك ون وص الحيته للحي اة
واستمراريتها فوق هذا الكوكب ،ولتوضيح هذه القضية المحورية في موضوع
البيئة نذكر نظرة القرآن إلى هذين العنصرين وهما :
خالفة اإلنسان في األرض :
3
استخلف اهلل اإلنسان في الكون لي دير م وارده ويعم ره ويظهر أس رار اهلل
وقدرته في خلق ه ،وهي مهمة عظيمة أرادت المالئكة أن تختص بها وأرادها اهلل
لإلنس ان تكريم اً له " وَإِذْ قَ الَ رَبُّ كَ لِلْمَلَائِكَ ةِ إِنِّي جَاعِ لٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَ ةً قَ الُوا أَتَجْعَ لُ فِيهَا مَنْ يُفْسِ دُ فِيهَا وَيَسْ فِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ "" 1وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَ عَ بَعْضَ كُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُ وَكُمْ فِي مَا آَتَ اكُمْ " ، 2وقد ذكر ص احب
التحرير والتنوير أن ":المراد من الخليفة المعني المجازى وهو ال ذي يت ولى
عمال يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في األرض م دبراً يعمل
ما نريده في األرض فهو استعارة أو مج از مرسل وليس بحقيقة ألن اهلل تع الى
لم يكن ح االً في األرض وال ع امال فيها العمل ال ذي أودعه في اإلنس ان وهو
الس لطة على موج ودات األرض ،وألن اهلل تع الى لم ي ترك عمال ك ان يعمله
فوكله إلى اإلنسان بل التدبير األعظم لم يزل هلل تعالى فاإلنس ان هو الموج ود
الوحيد الذي اس تطاع بما أودع اهلل في خلقه أن يتص رف في مخلوق ات األرض
بوجوه عظيمة ال تنتهي خالف غيره من الحي وان " 3ومن هنا ف إن الخالفة هي
تكليف بمهمة االنتفاع بموجودات الكون يك ون اإلنس ان فيها س يدا في الك ون ال
سيدا للكون فسيد الكون وحاكمه ومالك أم ره هو اهلل س بحانه وتع الي ،وألن
اإلنس ان هو أحد مخلوقاته قد تم يز بالعقل فقد كرمه اهلل وأنعم عليه بنعمة
االستخالف تمييزاً له عن غيره من المخلوقات ":وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ
وَحَمَلْنَ اهُمْ فِي الْبَ رِّ وَالْبَحْ رِ وَرَزَقْنَ اهُمْ مِنَ الطَّيِّبَ اتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" 4فاالس تخالف معن اه
أن اإلنس ان وصى على ه ذه األرض بكل ما فيها وليس مالك اً لها فهو م دبر
لمواردها ومستغل لخيراتها " هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا ". 5
وقد أث ارت مس ألة الخالفة قض ية مهمة تتعلق بملكية اإلنس ان للم وارد
الطبيعية هل هي ملكية رقبة أم ملكية انتفاع ودارت مناقشات كث يرة م ال فيها
الكثير من الباحثين إلى أنها ملكية انتفاع وذلك لألسباب التالية :
أن كثيراً من نصوص القرآن الكريم تضيف الملكية إلى اهلل سبحانه -1
وتع الى ":آَمِنُ وا بِاللَّ هِ وَرَسُ ولِهِ وَأَنْفِقُ وا مِمَّا جَعَلَكُمْ
4
2
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ "" 6وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ "
" لَهُ مَا فِي السَّ مَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ
الثَّرَى " " 3لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ". 4
يقول الشيخ شلتوت ":إذا كان المال مال اهلل ،وكان الناس جميعاً
عباد اهلل ،وكانت الحياة التي يعمل ون فيها ويعمرونها بم ال اهلل وهي هلل،
ك ان من الض روري أن يك ون الم ال – وإن ربط باسم ش خص معين –
لجميع عباد اهلل ،يحافظ عليه الجميع وينتفع به المجتمع". 5
-2أن وجود اإلنسان في هذه الحياة مؤقت واستخالفه فيها مؤقت أيضاً ولذلك
كان انتفاعه بمواردها مؤقت " وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ " 6وه ذا التحديد الزم ني للبق اء ي ترتب عليه تحديد
لالستخالف واالنتفاع ومن هنا تبرز أحقية األجيال المتعددة في االنتف اع
ب الموارد الطبيعية وض رورة أن يعي اإلنس ان ه ذه الحقيقة لكي يحفظ
لألجيال التي بعده حقها في االنتفاع بما خلق اهلل في هذا الكون .
-3أن شعور اإلنسان بملكيته الدائمة للم وارد يث ير فيه ن وازع األنانية ويدفعه
إلى الفساد المؤدي إلى نضوب الموارد البيئية أو تدميرها وهو ما تش هده
بيئتنا المعاصرة ،ول ذلك ك انت تع اليم الق رآن واض حة في النهي عن
الفس اد في األرض" وَلَا تَبْ غِ الْفَسَ ادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّ هَ لَا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " " 7وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
" " 8وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُ هُولِهَا قُصُ ورًا وَتَنْحِتُ ونَ الْجِبَ الَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ".9
من أجل ذلك ع بر أحد الب احثين بقوله ":وال نتج اوز روح التش ريع
اإلسالمي إذا قلنا :إن القواعد والمبادئ اإلسالمية المنظمة الس تخالف اإلنس ان
في األرض ومض مونها ،ت نزل " حق اإلنس ان " على م وارد الطبيعة من " حق
الملكية" " إلى مرتبة" حق االنتفاع" فقط ،والذي تقل فيه سلطات ص احبه عن
سلطات المالك ،وال يبدو هذا القول غريب اً إذا عرفنا أن بعض فقه اء الم ذهب
المالكي يرون أن الملكية بوجه عام ال ترد إال على المنافع فقط ،أما األعي ان ،أي
سورة الحديد اآلية .7 1
5
موارد وثروات البيئة والكون ال ذي خلقه اهلل فملكيتها هلل س بحانه وتع الي وال
ملك لإلنسان فيها في الحقيقة والواقع فهم يقولون أن سلطان اإلنسان ال يك ون
على المادة ،وإنما محله منافعها فقط وفكرة حق االنتفاع تبدو أكثر مالءمة إذا
روعيت القواعد الش رعية في أعمال ه ،حيث تؤكد من ناحية أن م وارد البيئة
وثرواتها هي عطاء من اهلل للبشر وفضل ،وبالتالي لن يكون االنتفاع قاصراً على
ش خص دون آخر ومن ناحية أن المنتفع ال يج وز له إه دار أو ت دمير أصل أو
عين المال ال ذي ينتفع ب ه ،ألن س لطة التص رف الش رعي في الم ادة ال تك ون
للمنتفع بل لمالك العين أو الرقبة ". 1
تسخير الكون لإلنسان
تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى أن الكون قد س خره اهلل س بحانه
لإلنسان أي طوعه وذهلل ليس تطيع االنتف اع به والتص رف فيه والس يطرة على
موارده ليحقق من خالله الخالفة التي خلقه اهلل من أجله ا ،يق ول اهلل تع الى":
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِ يمُونَ ( )10يُنْبِتُ لَكُمْ بِ هِ ال زَّرْعَ وَالزَّيْتُ ونَ وَالنَّخِي لَ
وَالْأَعْنَ ابَ وَمِنْ كُ لِّ الثَّمَ رَاتِ إِنَّ فِي ذَلِ كَ لَآَيَ ةً لِقَ وْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ( )11وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (
)12وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( )13وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَ أْكُلُوا مِنْ هُ
لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُ ونَهَا وَتَ رَى الْفُلْ كَ
مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "" .2أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ سَ خَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْ كَ تَجْ رِي فِي الْبَحْ رِ
بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ
بِالنَّ اسِ لَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "" 3إِنَّ فِي خَلْ قِ السَّ مَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَ ارِ وَالْفُلْ كِ الَّتِي تَجْ رِي فِي الْبَحْ رِ بِمَا
يَنْفَ عُ النَّ اسَ وَمَا أَنْ زَلَ اللَّ هُ مِنَ السَّ مَاءِ مِنْ مَ اءٍ فَأَحْيَا بِ هِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْ رِيفِ الرِّيَ احِ
وَالسَّ حَابِ الْمُسَ خَّرِ بَيْنَ السَّ مَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَ اتٍ لِقَ وْمٍ
يَعْقِلُونَ" 4وهكذا تتوالى آيات القرآن الكريم في ذكر ما سخره اهلل لإلنس ان
في الكون حتى تكاد تذكر كل شئ فيه ع دا ما اختص اهلل به مخلوق ات أخ رى
ليس لإلنسان سيطرة عليه ا ،وه ذا التس خير نعمة من نعم اهلل على اإلنس ان إذ
أحمد سالمة /حماية البيئة في الفقه اإلسالمي /مجلة االحمدية /مايو / 1998 1
6
لواله لما استطاع أن يستفيد من كث ير مما خلقه اهلل على ه ذه األرض ،يق ول
صاحب الظالل " إن األرض كلها ال تبلغ أن تكون ذرة ص غيرة في بن اء الك ون
واإلنسان في هذه األرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقي اس إلى حجم ه ذه
األرض وبالقي اس إلى ما فيها من ق وى ومن خالئق حية وغ ير حية ال يعد
اإلنس ان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية ش يئاً إلى جوارها ولكن فضل
اهلل على ه ذا اإلنس ان ونفخته فيه من روحه وتكريمه له على كث ير من خلقه
هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب
،وأن يهيئ اهلل له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وق واه ومن
ذخائره وخيراته وهذا هو التسخير المشار إليه في اآليـة. 1
ولبيان كيفية التسخير التي هيأها اهلل لإلنسان يذكر اإلمام ال رازي أنه
لكي يستطيع اإلنسان استعمال البحر واس تغالله البد له من ثالثة أش ياء لم تكن
لتحصل لوال تسخير اهلل سبحانه وتعالى لها :األولى الري اح ال تي تج ري على
وفق المراد ،والثانية :خلق وجه الماء على المالمسة ال تي تج ري عليها الفلك
والثالثة :خلق الخشبة على وجه تبقي طافية على وجه الم اء وال تغ وص في ه،
2
وهذه األحوال الثالثة ليس لها من موجد إال اهلل سبحانه وتعالى
إن نظرة في آيات التسخير الواردة في القرآن الك ريم عامة ك انت أو مفص لة
تنبؤنا بأمور عدة منها :
-1أن هذا التسخير المذكور في اآليات محدود بإرادة اهلل وال يستطيع اإلنسان
مهما أوتى من قوة مادية أو علمية وتقنية أن يصل إلى االستفادة منها إال إذا
أراد اهلل له ذل ك ":يَا مَعْشَ رَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْ تَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّ مَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُ ذُوا لَا تَنْفُ ذُونَ
إِلَّا بِسُ لْطَانٍ " " 3اللَّ هُ الَّ ذِي سَ خَّرَ لَكُمُ الْبَحْ رَ لِتَجْ رِيَ
الْفُلْكُ فِيهِ بِ أَمْرِهِ " .4وإدراك ه ذا المع نى يحد من أنانية اإلنس ان
واستكباره في األرض وادعائه التأله فيه ا ،وكث ير من أم ور الحي اة يقف
اإلنسان عاجزاً عن حل معضالتها ومن ذلك الماء مثال الذي أص بح مش كلة
العالم المستقبلية نظراً لنضوب موارده وع دم ق درة اإلنس ان على ص نعه،
ولذلك يستخدمه اهلل سبحانه وتعالى في تحدى اإلنسان إذا أمعن في كفره
وعناده ":أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ
الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَ وْ نَشَ اءُ جَعَلْنَ اهُ أُجَاجًا فَلَ وْلَا
سيد قطب :في ظالل القرآن /ط / 6مج / 5ص .223 1
تفسير الفخر الرازي :محمد بن عمر الرازي /دار إحياء التراث العربى /ج / 1 2
ص . 4023
سورة الرحمن اآلية .33 3
7
تَشْ كُرُونَ " ،5وذلك بعد أن جعل اهلل الم اء نعمة مس خرة لإلنس ان "
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَ اءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِ هِ جَنَّ اتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ". 2
-2أنه على ال رغم من التس خير ال ذي حفلت به آي ات الق رآن الك ريم إال أن
اإلنسان يجب أن يدرك أن هن اك ع والم في ه ذا الك ون ليس له س بيل إلى
معرفتها وتظل مخفية عنه وخارجة عن س يطرته ك الجن وغيرها من
المخلوقات التي ال يستطيع اإلنس ان إدراكها وك ذلك بعض الفيروس ات
والظواهر الطبيعية التي لم يسخر اهلل لإلنسان طريق اً للتعامل معها ،وهنا
نشير إلى أن مسألة التسخير فضل من اهلل سبحانه وتعالى على اإلنس ان فما
سخره له استطاع أن يستفيد منه وأن يعمر الكون من خالله وما لم يس خر
له كان عليه أن يقف أمامه مؤمناً بقدرة اهلل وعظيم صنعه .
-3إذا كان التسخير اإللهي لمظاهر الكون لإلنس ان نعمة فهي إذا حق من حقوقه
ال تي منحه اهلل إياها يس تطيع من خالله االنتف اع بكل ما فيها لص الح بن اء
مجتمعه ويعمر من خاللها الكون الذي يعيش فيه ويفيد اإلنسان والمخلوق ات
التي تعيش معه على هذا الكون ،كما أن هذا الحق يمتد ليش مل البحث العلمي
عن خواصها وأس رارها وكل ما يس تطيعه لتط وير مواردها لخدمة اإلنس ان
ولعل النظر في آيات التسخير التفصيلية توضح هذه الحقوق بجالء إذ يق ول
الحق تبارك وتعالى ":فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَ انُ إِلَى طَعَامِ هِ أَنَّا صَ بَبْنَا
الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَ قَقْنَا الْأَرْضَ شَ قًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا
وَقَضْ بًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَ دَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَ ةً وَأَبًّا مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ "" 3وَالْأَرْضَ مَ دَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِ يَ
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُ لِّ عَبْ دٍ
مُنِيبٍ " " 4وَمَا أَنْ زَلَ اللَّ هُ مِنَ السَّ مَاءِ مِنْ مَ اءٍ فَأَحْيَا بِ هِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّ حَابِ الْمُسَ خَّرِ بَيْنَ السَّ مَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَ اتٍ لِقَ وْمٍ
يَعْقِلُونَ " " 5أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْ زَلَ مِنَ السَّ مَاءِ مَ اءً فَسَ لَكَهُ
يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ". 6
األصل الثاني :الماء
8
وهو معجزة إلهية عجز البشر حتى ه ذه اللحظة عن الوص ول إلى ص نعها
على الرغم من أنها أساس الحي اة في كل شئ " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَ اءِ كُ لَّ
شَ يْءٍ حَي " 1وألهميته في الحي اة ودوره في كافة مكون ات البيئة فقد
اس تخدمه الق رآن أداة في المح اورة العقدية فق ال ":الَّ ذِي جَعَ لَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِ هِ
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْ دَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُ ونَ
" 2كما استخدمه القرآن في تحدى البشر وردعهم عن تجاوز ق درة اهلل وع دم
االعتراف بنعمته فقال ":قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْ بَحَ مَ اؤُكُمْ غَ وْرًا فَمَنْ
يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ " " 3أَفَرَأَيْتُمُ الْمَ اءَ الَّ ذِي تَشْ رَبُونَ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُ وهُ مِنَ الْمُ زْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُ ونَ لَ وْ نَشَ اءُ جَعَلْنَ اهُ
أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ " 4وألنه أس اس الحي اة فقد منع اإلس الم احتك اره
وجعله مشاعاً بين الناس ففي الس نة ":الن اس ش ركاء في ثالث الم اء والكأل
والنار " 5كما نهى اإلس الم عن تلويثه واألض رار بم وارده ،روى ابن ماجه أن
النبي مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال له :ال تس رف ،فق ال :أو في
الماء إسراف ؟! قال :نعم وإن كنت على نهر جار " 6ونهى رس ول اهلل " أن
يبال في الماء الجاري ".7
وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من القضايا التي تتعلق بالماء والتي لها
ارتباط بحياة اإلنسان وخالفته في األرض نذكر منها ما يلي :
-1أنه أساس8في حي اة كل ك ائن حي ":وجعلنا من الم اء كل شئ حي أفال
يؤمنون " تقول الدراسات " أن نسبته في أجسام األحياء النشطة تصل إلى
%90فهو الذي يحمل الغذاء والهواء إلى هذه األجسام وهو في ذات ال وقت
المخلص لها من النفايات الضارة ". 9
-2أن نزوله إنما يكون بقدر بحيث يحدث الت وازن ال ذي ال يضر الكائن ات الحية
فلو زاد نزوله لغرقت األرض وأتلفت النباتات وصار مشهد الحياة مض طربا
كما هو الحال في الفيضانات واألعاصير المدمرة التي يشهدها الع الم اآلن،
ولو قل نزوله لشحب وجه األرض وتشقق وماتت النباتات والحيوان ات كما
سورة األنبياء اآلية .30 1
د.محمد منير حجاب /قضايا البيئة من منظور اسالمي /دار الفجر /القاهرة/ص 9
.57
9
يحدث في المن اطق ال تي تص اب بالجف اف والتص حر ول ذلك فحكمة اهلل
وإرادته اقتضت أن يكون نزوله بقدر حيث قال ":وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّ مَاءِ
مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَ ادِرُونَ
" " 1أَنْ زَلَ مِنَ السَّ مَاءِ مَ اءً فَسَ الَتْ أَوْدِيَ ةٌ بِقَ دَرِهَا "" "2
3
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا "
.
-3يشير القرآن إلى أن الماء قد يكون عقوبة لمن كفر بآيات اهلل وأع رض عن
إيمانه وتحدى قدرته ":فَفَتَحْنَا أَبْ وَابَ السَّ مَاءِ بِمَ اءٍ مُنْهَمِ رٍ
4
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَ دْ قُ دِرَ "
وقد يكون مكافأة لإلنس ان إذا ال تزم ب أوامر اهلل واتبع تعاليمه " .وَأَنْ
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ". 5
-4يذكر القرآن الم اء كأحد المعج زات الك برى ال تي خلقها اهلل س بحانه
وتعالى ويقرنها مع دالئل أخرى تشير إلى عظيم صنعه فيقول ":خَلَ قَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُ لِّ دَابَّ ةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّ مَاءِ
مَ اءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُ لِّ زَوْجٍ كَ رِيمٍ هَ ذَا خَلْ قُ اللَّ هِ
فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَ لَالٍ
مُبِينٍ ". 6
10
األصل الثالث :الهواء
ال نريد التع رض للتركيبة العلمية لله واء وما يتضح فيها من دقة في
الخلق وت وازن في العناصر ت دل على عظمة الخ الق وعظيم ص نعه ،وال نريد
التح دث عن الغ ازات والعناصر والمركب ات الكيميائية وكيفية تناغمها ح تى
تنتج هــواء نقياً ال تس تقيم الحي اة وال توجد بدونه في كل مكون ات البيئة "
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " 1ولكن ال ذي تجب اإلش ارة إليه هو
أن المخلوط الغازي المسمى بالهواء عنصر أساس في حياة الكائن الحي كالم اء
ال يمكن أن يحيا اإلنسان أو الحيوان أو النبات بدون ه ،وهو عرضة للتل وث بفعل
التعامل البشري الخاطئ بما يستعمله اإلنسان أو ينتجه من غازات وأبخرة تجعله
غير صالح للحي اة وم ؤثر فيها س لباً وهو ما يه دد الحي اة على وجه األرض،
ويشهد العالم المعاصر مشكالت كبرى ناتجة عن تلوث الهواء بسبب عدم ق درة
اإلنس ان على ض بط تعامله مع محيطه وهو ما أش ار إليه الق رآن حين ق ال ":
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" 2ول ذلك
وحماية من اإلس الم للبيئة فقد أمر باالعت دال في الس لوك حين التعامل مع
الطبيعة خاصة "كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَ وْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ ". 3
والناظر للتركيبة العلمية للغالف الجوي المحيط ب األرض ي درك مع نى
قوله تع الى " وَجَعَلْنَا السَّ مَاءَ سَ قْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا
مُعْرِضُ ونَ " 4فاهلل س بحانه وتع الى خلق له ذا الك وكب ما يحفظه من
5
المؤثرات التي لو أصابته النتهت الحياة فوقه " خلق كل شئ فقدره تقديراً "
" رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ " 6وما يشهده عالمنا من أخط ار
طبقة األوزون دليل على ذلك ،والتي يلعب اإلنسان دوراً رئيساً فيها بما يحدثه
من تدمير للبيئة وتلويث لمكوناتها مما يتسبب عن تصاعد أبخرة ودخان ي دمر
توازنات العناصر الهوائية ،ولذلك جعل القرآن ال دخان من الع ذاب األليم حين
قال ":فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَ ذَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ ". 7
وهك ذا نجد أن البيئة بأص ولها ومكوناتها المختلفة حاض رة في الق رآن
الكريم للداللة على قدرة الخالق وبديع صنعه وإلثبات ض عف المخل وق وع دم
قدرته ح تى على المحافظة عليه ا ،وحاض رة في ص ون الق رآن لها ب األوامر
سورة النمل اآلية .88 1
11
والنواهي التي تحفظها من أنانية اإلنسان واستغالله السيئ له ا ،ومن هنا يت بين
الم قد اهتم بالبيئة من خالل منظومة فكرية متكاملة تجمع مختلف أن اإلس
الجوانب العقدية واالقتصادية واالجتماعية .
الديانات والبيئة
إذا ك ان ما قدمته س ابقاً يؤكد على اهتم ام اإلس الم بالبيئة ونظرته إلى
سالمتها والمحافظة عليها نظرته للحياة ذاته ا ،ف إن الس ؤال ال ذي يتب ادر إلى
الذهن هو هل كل أصحاب الديانات األخرى كانت لديهم هذه النظرة وهل كان
لهم دور في المحافظة على البيئة انطالقاً من عقائدهم وقيمهم كما هو الح ال
في اإلسالم ؟ العالم المعاصر كله يمثل إجابة لهذا السؤال فمعظم ملوثات البيئة
في عالمنا مصدرها العالم الغربي وهو الذي يمثل افتراضاً العالم المسيحي فهل
انفصل المس يحيون عن ثق افتهم الدينية فلم يعد ل ديهم وازع دي ني يحكم
س لوكياتهم ؟ أم أن المس يحية ذاتها لم تتض من ما يحد من تطلع ات اإلنس ان
النفعية والتي وصل مداها إلى دمار البش رية وأص بحت الك رة األرض ية كلها
مهددة بأخطار التلوث الناتج عن اآللة الغربية ال تي أطلق العلم الح ديث م داها
حتى طالت قضايا لم تكن نتصور أنها ستخرج من عالم الخيال إلى عالم الواقع .
يدور جدل كبير حول هذه القضية في األوساط الثقافية العالمي ة ،فهن اك
من علماء البيئة العلم انيون من يق ول ":إن م ؤرخين وفالس فة وعلم اء بيئة
يتجادلون في قضية أن المسيحية هي ال تي ت تزعم جناية الع الم المعاصر على
البيئة بتسويغها خراب األرض " 1وهناك منيقول إنالعلماء الغربيين تتبعوا"
جذور أزمتنا البيئية وأرجعوها إلى الموقف اليهودي المسيحي من الطبيعة ف إن
هذاالموقف وما يصاحبه منم يراثتقلي دي وثق افيهو المس ئول عناألخط ار
الموضوعية التي تهدد المستقبل اإلنساني أال وهي:
)1انطالق التكنولوجيا الموجهة إنتاجياً والذي أدى بدوره إلى نضوب
موارد األرض الطبيعية.
)2الضغط الكلي والفردي على األرض والبيئة .
)3الزيادة المستمرة في المخلفات .
)4المخزون من األسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية الذي يكفي
لتدمير األرض بضع مرات .
إن كل اتجاه من تلك االتجاهات يمثل خطراً رئيسياً يهدد رخاءنا الجم اعي
بل وبقاءنا ،ويحاول علماء أمثال فرايزر دارلنج وثيودور روزال وجوفرى نيكرز
ولين وايت الصغير أن يبرهنوا أن هذه المخاطر ما هي إال نت اج النظ ام األخالقي
الغ ربي ،وج ذور أزمتنا األيكلوجية بديهية فهي تكمن في معتق داتنا وكياناتنا
1
Mennonite Central Committee Worldly Spirituality (Harper and
)Row.1984
12
بالطبيعة وعالقة كل منا ب اآلخر وك ذلك
1
القيمية التي تشكل بدورها عالقاتنا
تشكل األنماط الحياتية التي نعيشها " .
وفي المقابل فإن هناك من رجال ال دين اليه ود والمس يحيين من ي رى أن
األديان جميع اً قد احت وت ما يوجه اإلنس ان إلى المحافظة على البيئة وأن دور
األديان في حماية البيئة المعاصرة مهم جداً كما جاء في ورقة الحاخام داني ال
برن ير المقدمة إلى م ؤتمر الدوحة الرابع لح وار األدي ان وال تي ط الب فيها
بالتصدي الفوري للمخ اطر البيئية ال تي تحيط ب األرض وض رورة اس تخدام
التكنولوجيا من أجل خير البشر مش يراً أن اهلل قد دعا المؤم نين إلى االهتم ام
باألرض ،وأن الزعماء الدينيين مطالبون بالضغط على الحكومات لدرء الحروب
التي تدمر البيئة وفي نفس السياق وفي ذات المؤتمر أش ار ال دكتور /م رون
عازار أمين سر كلية الالهوت الحبرية في جامعة روح القدس بلبنان إلى أهمية
بناء اإلنسان لحماية البيئة مذكرا بما قاله البابا ب ولس الس ادس س نة 1972
مسيحي ،من ضرورة احترام الطبيعية والتش ديد على المس ئولية الجماعية في
حماية البيئة ".2
وإذا كانت اإلش ارات الس ابقة قد انطلقت من الواقع رابطة بينه وبين القيم
الدينية لإلنسان الغربي ،ف إن هن اك تحليالً أعمق يح اول فيه العالمة ( محمد
باقر الصدر ) أن يقارن بين اإلنس ان الش رقي واألوروبي من حيث تغلغل القيم
الدينية في كل منهما وأثر ذلك في تعاملهما مع المكون ات الحياتية المختلفة
فيق ول ":يختلف اإلنس ان األوروبي عن اإلنس ان الش رقي اختالف اً كب يراً
فاإلنس ان األوروبي بطبيعته ينظر إلى األرض دائم اً ال إلى المس اء وح تى
المسيحية – بوصفها الدين الذي آمن به هذا اإلنسان مئات السنين – لم تس تطع
أن تتغلب على النزعة األرضية في اإلنسان األوروبي بل بدال عن أن ترفع نظ ره
إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى األرض ويجسده
في كائن أرضي " "ولقد استطاعت النظرة إلى األرض لدى اإلنس ان األوروبي
أن تفجر طاقاته في البناء وأدت أيضاً إلى ألوان التنافس المحم وم على األرض
وخيراتها ونشأت أشكال من استغالل اإلنسان ألخيه اإلنسان ألن تعلق هذا الك ائن
ب األرض وثرواتها جعله يض حي بأخيه ويحوله من ش ريك إلى أداة ،وأما
الشرقيون فأخالقياتهم تختلف عن أخالقيات اإلنسان األوروبي نتيجة لتاريخهم
الديني فإن اإلنسان الش رقي ال ذي ربته رس االت الس ماء وعاشت في بالده ومر
بتربية دينية على يد اإلسالم ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى األرض
ويأخذ بعالم الغيب قبل أن يأخذ بالمادة والمحس وس وه ذه الغيبية العميقة في
مزاج اإلنسان الشرقي المسلم حدت من قوة إغراء المادة وقابليتها إلثارته ". 3
ضياء الدين سردار /نحو نظرية إسالمية عن البيئة /ترجمة سمية البطراوي /مجلة 1
14
كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها إذا
استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا
ولم نؤذ من فوقنا ،فإن يتركوهم وما أرادوا هلك وا جميع اً ،وإن أخ ذوا
على أيديهم نجوا جميعاً. " 1
وهذا الحديث يوضح مبدأ مهما في الشريعة اإلسالمية وهو أن حرية الف رد
مرهونة بما يلحق اآلخرين من ممارستها فم تى ما لحق ب اآلخرين ض رر منع
الفرد من مزاولة ما يريده وانعكاسات ذلك في مجال البيئة كثيرة ف المزارع
ممنوع من أن يستعمل األدوية والمبيدات الضارة بصحة اإلنسان والحيوان ح تى
ولو كانت هذه تمكنه من زيادة إنتاجيته ودخله ،وكذلك الص انع وغ يره من
الحرف التي تستغل الموارد الطبيعية ،وه ذا التوجيه النب وي يش رع أخالقي ات
س امية في التعامل مع الطبيعية ومواردها وفي الحف اظ عليها ومنع أنانية
األفراد من تملكها والعبث بها .
-2الحث على الغرس واستغالل األرض:
أمر الرسول المؤمنين في أح اديث كث يرة باالهتم ام بغ رس األش جار
واستغالل األرض وجعل ذلك من القربات التي يتق رب بها العبد إلى رب ه ،فعن
أنس ابن مالك عن النبي قال ":ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو
دابة إال كان له صدقة ". 2
وفي الح ديث أن الرس ول ق ال ":من نصب ش جرة فص بر على حفظها
والقيام عليها حتى تثمر فإن له في كل شئ يصاب من ثمرها صدقة عند اهلل عز
وجل ". 3
وتعتبر السنة النبوية أن مهمة الغرس والزرع واستغالل األرض من المه ام
المستديمة لإلنس ان ح تى ولو أش رفت ه ذه ال دنيا على النهاي ة ،فعن أنس بن
مالك أن رسول اهلل ق ال ":إن ق امت الس اعة وفي يد أح دكم فس يلة ف إن
اس تطاع أن ال يق وم ح تى يغرس ها فليغرس ها" 4وه ذا الح ديث وغ يره من
األح اديث ال تي وردت في ذات الموض وع توضح أن غراسة األرض وزراعتها
واستغالل الم وارد الطبيعية مب دأ من مب ادئ التش ريع اإلس المي المؤدية إلى
المحافظة على البيئة إذ كما نعلم أن اخض رار األرض بأش جارها وزروعها
مصدر من مصادر المحافظة على بيئة صحية ونظيفة .
-3االهتمام بموارد المياه:
من الموضوعات الب ارزة في الس نة النبوية المحافظة على مص ادر المي اه
خاصة من التلوث ،وعدم اإلسراف في اس تعمال المي اه ،فقد نهى الرس ول عن
رواه البخاري في كتاب الشركة تحت رقم .2493 1
16
-5العناية بالنظافة العامة:
حثت السنة النبوية المؤمن على أن يكون نظيف اً ط اهراً وأن يهتم بنظافة
محيطه مس كناً ك ان أو ش ارعاً وربطت ذلك كله ب األجر العظيم عند اهلل
سبحانه وتعالى :ففي الحديث الذي رواه أبو هري رة رضي اهلل عنه ق ال :ق ال
رسول اهلل ": األيمان بضع وستون – أو سبعون – شعبة ،أدناها إماطة األذى عن
الطريق وأرفعها قول ال إله إال اهلل" ،1ويق ول " إنه خلق كل إنس ان من ب ني
آدم على ستين وثالث مائة مفصل فمن كبر اهلل وحمد اهلل وهلل اهلل وس بح اهلل
واستغفر اهلل وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس
وأمر بمع روف أو نهى عن منكر ع دد تلك الس تين والثالثمائة الس المي فإنه
يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار " 2ويقول ": البص اق على المس جد
خطيئة وكفارتها دفنها " 3ويقول ": السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ". 4
-6الوقاية من األمراض :
على الرغم من أن األمراض واألوبئة هي قض اء وق در يص يب المجتمع ات
واألف راد إال أن الرس ول نبه المؤم نين إلى ض رورة المحافظة على وقاية
أنفسهم من خطورة األم راض وخاصة المعدية منه ا ،وأن سياسة الع زل واجبة
االتباع في المجتمعات اإلسالمية إذا تعرضت ألخطار األوبئة وفي ذلك يق ول
":ال يورد ممرض على مصح" ، 5ويقول أيضاً ":إذا سمعتم بالوباء ب أرض فال
تقدموا إليه فإذا وقع بأرض وأنتم فيها فال تخرجوا فراراً منه ". 6
هذه نم اذج فقط من التوجيه ات النبوية الكث يرة ال تي تمتلئ بتفص يالتها
كتب الحديث والتي تناولت أموراً غاية في الدقة مما له عالقة بتوجيه المس لم
إلى العناية بنفسه ومحيطه وإرشاده إلى أن المحافظة على نعم اهلل التي أنعم بها
على خلقه هي جزء من مرضاة اهلل سبحانه وتعالى ولذلك ف إن الم اء واله واء
واألشجار والحيوان هي مصادر مهمة للحياة يستخدمها اإلنسان في حياته وينفذ
من خاللها إلى مرضاة ربه إن هو حافظ عليها وحافظ على حقوق اآلخرين فيها،
وينال سخط اهلل وغضبه إن عبث بها ومنع اآلخرين من االستفادة منها .
االجتهاد الفقهي في مجال البيئة
متفق عليه. 1
صحيح مسلم :مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري /دار إحياء 2
التراث العربي – بيروت /تحق :محمد فؤاد عبد الباقي /ج / 2ص / 698ح
.1007
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان :محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي 3
البستي /تحق :شعيب األرنؤوط /مؤسسة الرسالة – بيروت /الطبعة الثانية /
/ 1993 – 1414ج / 4ص / 516ح .1637
رواه احمد في مسنده. 4
17
أولى فقهاؤنا الق دامى البيئة اهتمام اً كب يراً ت رجم ما أمر به الق رآن
الكريم في نصوص تشريعية تناولت قضايا متعددة ذات صلة باألرض واستغاللها
والحيوان ات وحمايتها وغ ير ذلك من األم ور ال تي تحقق كل نفع لإلنس ان
وتمنع عنه كل ضرر ،وإذا جاز لنا أن نذكر أمثلة لذلك فإننا نذكر ما ص اغه
اإلمام مالك واإلم ام أبو حنيفة من مب ادئ ح ول ع دم ش رعية ممارسة الحق
المؤدي إلى ضرر وخاصة فيما يتعلق بمالك األراضي واس تعماالتهم لها المؤدية
إلى اإلضرار ب اآلخرين ،وك ذلك ما وض عه أبو يوسف من قي ود على حق وق
األفراد والسلطات في زراعة األرض البكر حين تسفر عن ضرر بالغ ،ومثل ذلك
ما وضعه ابن قدامة من قيود على استخراج المياه الجوفية إذ ليس لإلنسان الحق
في أن يؤثر على بئر جاره تأثيراً ســــيئاً عن طريق خفض النطاق الم ائي أو
تلويث الطبقــــة الصخرية المائية "، 1وتحدث الفقه اء بتفص يالت دقيقة عن
المي اه والطه ارة بجميع أنواعها شخص ية ك انت أو بيئي ة ،كما تح دثوا عن
النباتات والزروع وما يتعلق بها من أحكام تحميها من القطع واإلفساد ،وتحدثوا
عن إحياء األرض الموات وما يؤدي إلى ذلك من حماية للنظام البيئي وتوازن ه،
وتناولوا أيضاً الكثير من القضايا التي تع الج مس ألة التل وث وآثارها الض ارة
باإلنسان والمجتمع ومن ذلك مثالً التلوث السمعي الذي عالجه الفقه اء كأحد
األضرار التي يجب أن تدفع عن اإلنس ان حيث يق ول أحد الب احثين في ذلك ":
وقد قسم الفقهاء الضرر الن اتج عن األص وات إلى قس مين :ض رر يجب درؤه،
وض رر يمكن احتماله ،ومث ال القسم األول :األص وات والذب ذبات الناتجة عن
حركة البوابات إذ إنها ت ؤثر على س المة المب اني المج اورة له ا .ي روى ابن
ال رامي ( ت وفي ع ام 179هـ ) في كتابه ( اإلعالن بأحك ام البني ان ) أن
مجموعة من الن اس أق اموا بوابة لح ارتهم ،يفتح بابها على حائط ج ار لهم،
فقاضاهم هذا الرجل بدعوى أن فتح الباب وغلقه المستمرين قد أض را به وأقلقا
راحته ،فتحري ابن ال رامي األمر ووجد الحائط يتذب ذب من ج راء فتح الب اب
وغلقه فأمر القاضي به دم البوابة وإزالة بابه ا .أما القسم الث اني :من الض رر
فينتج عن األصوات ال تي تس بب الض يق دون الض رر .وقد اختلف الفقه اء في
حكمهم عليه .فلم يعتبره الفقه اء األوائل ض رراً يجب درؤه .ف المطرف وابن
الماجيشون واألصبغ رأوا ع دم إيق اف الغس ال والض راب لمج رد أن ضوض اء
عملهما تقلق الجيران ،بل ذهب ابن القطان إلى ع دم ج واز منع أحد من ض رب
الحديد في منزله وإن كان يفعله ليل نهار بش رط أن يعتمد معاشه على ذل ك،
أما من لحقهم من الفقهاء فقد كان لهم رأي مغاير ،فاعتبروا الصوت والص دى
ضوضاء ومصدراً للض رر يجب درؤه .فقد وضع قض اة طليطلة – حسب رواية
ابن الرامي – قواعد صارمة لمنع وجود الكمادين لمايس ببون من ض رر وض يق
للجيران بما يص در عنهم من أص وات .كما أع رب القاضي ابن عبد الرافع في
1
ضياء الدين سيدار /نحو نظرية إسالمية عن البيئة /تزكية البطراوي /مج المسلم المعاصر /س / 15ع59
/ 1994ص 87وما بعدها .
18
حركة
2
تونس عن تفضيله منع بناء حظائر الحيوانات متاخمة للمباني لما تسببه
الحيوانات الدائمة أثناء الليل والنهار من إزعاج قد يمنع الجيران من النوم ".
لقد تأسس االجتهاد الفقهي في مجمله وفي موض وع البيئة بص ورة خاصة
على جملة من القواعد التي احتواها علم أصول الفقه والذي بين فيه األصوليون
أن أحكام الشريعة إنما ج اءت لتحقيق مص الح العب اد في الحي اة وبعد المم ات
وذلك انطالقاً مما قررته آيات القرآن الك ريم وبينته س نة الرس ول األمين ،
ويمكن أن نشير هنا إلى قضيتين أساسيتين لهما صلة بموضوع البيئة:
األول :بين األصوليون أن الشريعة اإلسالمية ج اءت لتحقيق الض روريات
الخمس :حفظ النفس ،حفظ النس ل ،حفظ الم ال ،حفظ العقل ،حفظ ال دين،
وتحقيق هذه الضروريات يحدث أث را مهما في خلق بيئة س ليمة تحقق الخالفة
التي خلق اهلل اإلنسان ألجلها ،فمن اختلت عقيدته ال يستطيع كبح جماح شهواته
في االستئثار بالموارد الطبيعية واستغاللها لصالحه ومنع اآلخرين من استغاللها،
وكذلك سيكون أداة إفساد في األرض لعدم وجود ال وازع ال ديني ال ذي يوقف
س يطرته وأنانيته كما هو حاصل في عالمنا المعاصر ال ذي يمتلئ بالش واهد
الحية على ذلك ،ومثل ذلك المحافظة على النفس التي ح رم اهلل قتلها وجعله
قتل للبشرية كلها فالشريعة اإلسالمية تأمر باحترام النفس اإلنس انية وتكرمها
وتجعل المحافظة عليها قاعدة أساسية في التشريع اإلسالمي ،على عكس ما نرى
في عالمنا المعاصر من استهانة ب النفس حيث تق ذف المص انع كل ي وم آالف
األطنان من المواد التي تجلب الكوارث على النفس البشرية في مج االت الزراعة
والصناعة وغيرها من المجاالت الخدمية المختلف ة ،ومثل ما قيل في المحافظة
على النفس يق ال في المحافظة على النسل ال ذي بينت نص وص كث يرة أن
المحافظة على األجيال القادمة هو محافظة على النوع اإلنس اني ،وأن حق ه ذه
األجيال في الموارد الطبيعية ثابت ال يحق ألحد العبث به ،ولكننا ن رى في ع الم
اليوم أن اآلخرين الذين افتقدوا الوازع الديني قد اعت دوا على األجي ال القادمة
إما بصب أطنان من القنابل مختلفة األنواع واألحجام على عدد من بلدان الع الم
في حروب مدمرة سيكون أحد نتائجها وجود أجيال مشوهة ومصابة بالعديد من
األمراض الفتاكة ،وإما بتدمير الموارد الطبيعية واستنزافها بما يحرم األجي ال
القادمة منها ويجعلها في أزمات ال مخرج منها .
ويص دق كل ذلك على حفظ العقل ال ذي أم رت الش ريعة اإلس المية
بالمحافظة عليه ليحقق لإلنسان السعادة بما ينتجه من من افع لص الح البش رية
حين يحلق في أجواء العلم والمعرفة بأخالقيات تبع ده عن أن يك ون أداة فس اد
وعبث بمقدرات البش رية ولس نا نع دم ش واهد لما تنتجه عق ول معاص رة من
محمد عبد القادر الفقهي مكتبة ابن سينا القاهرة /البيئة مشاكلها م. 2
19
مخترعات أضرت بالجنس البشري ألنها افتقدت التوجيه الديني السليم ،وتتكامل
منظومة الضروريات الخمس هذه بالمحافظة على المال ال ذي جعله اهلل وس يلة
للحياة ينتقل بين األف راد تنقل انتف اع بما يجعله مش اعا بين مختلف األجي ال،
ويشمل المال كل ما خلق اهلل من موارد سخرها اهلل لإلنس ان لالنتف اع بها وقد
حددت الشريعة اإلسالمية كافة الضوابط التي تمكن اإلنسان من المحافظة على
المال وتسخيره لمصلحة اإلنسان .
الثاني :أن كثيراً من األحكام الفقهية في مج ال البيئة خاصة وفي معظم
القضايا الحياتية بصورة عامة قد أسست على قاعدة " الض رر والض رار" وهي
م أخوذة من نص ح ديث مش هور عن الن بي ق ال عنه أبو داود إنه أحد خمسة
أحاديث يدور عليها الفقه ،ومع نى الح ديث :أن تس تعمل حقك بحيث ال تضر
باآلخرين ،وهو ما يمكن أن ينعكس في أحكام كثيرة تتعلق بالبيئة ،وقد تفرعت
عن هذه القاعدة قواعد أخرى ذكرها العلماء ومنها :
イالضرر يزال بقدر اإلمكان.
ロالضرر ال يزال بضرر مثله.
ハيتحمل الضرر األدنى لدفع الضرر األعلى .
ニدرء المفاسد أولى من جلب المنافع .
ホإذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما. 1
وه ذه القواعد كلها قد أسست عليها أحك ام كث يرة في مج االت الحي اة
المختلفة منعت المسلم من اإلس اءة إلى اآلخ رين وقي دت أنانيته في اس تغالل
الموارد وفي التمتع بالخيرات ،والمتتبع لهذه القضايا في الفقه اإلس المي يمكن
أن يكون منها موسوعة فقهية بيئية تشمل الكثير من المعالجات للقض ايا البيئية
المعاصرة .
إن الباحث في الموس وعة الفقهية اإلس المية على مختلف مدارس ها س وف
يجد إس هاماً كب يراً لفقهائنا ينظم العالئق بين اإلنس ان ومحيطه البي ئي بما
يتناسب وبساطة البيئة التي عاشها ه ؤالء الفقه اء ول ذلك ف إن بيئة الت دوين
الفقهي التي لم تشهد معاناة بيئة اليوم من التلوث والفساد البيئي المتنوع ال ذي
خلفته أنانية اإلنس ان قد ش هدت اجته اداً فقهي اً يل بي حاجة تلك البيئة مما
يجعلنا نؤكد أن االجتهاد في مجال البيئة كان س مة ب ارزة من س مات الثقافة
اإلسالمية ،وأن فقهائنا قد أولوا البيئة اهتم امهم مما انعكس في ص ورة أحك ام
تأخذ في اعتبارها حتى االفتراضي الذي يتوقع أن يمارسه اإلنسان ج راء أنانيته
وسيطرة الحياة المادية عليه .
د .يوسف القرضاوي /رعاية البيئة في شريعة اإلسالم /دار الشروق /ط / 2 1
/ 2006ص . 40
20
أما إذا نظرنا إلى ع الم الي وم وما فيه من تعقي دات الحي اة وأثر ذلك في
اإلضرار بالبيئة فإننا ال نجد ما يلبي حاجتنا من اجتهادات فقهية تح رم أو تحلل
الكثير من الممارسات اإلنسانية الضارة بالبيئة حتى تلك التي يعتقد أنها لصالح
اإلنسان ذاته ،أي بمعنى أن االجتهاد المعاصر لم يرق إلى مستوى تط ور الحي اة
وتنوعها وتعقيداتها في معظم المجاالت والبيئة واح دة منه ا ،ول ذلك ص ارت
الكثير من القضايا المعاصرة تمثل تحدياً لفقهائنا ال ذين لم يس تطيعوا تق ديم
الحلول الناجحة لها ألسباب متعددة نذكر منها:
الموقف من االجته اد ذاته بفتحه أو غلقه كما يع بر الكث يرون مما أثر -1
سلباً على كثير من العلماء الذين ألجموا عن الولوج في ميدان االجته اد
بمبررات متعددة األمر ال ذي ض يق التفك ير الفقهي وجعله ال ينفك عن
المسائل التي تناولها أئمة المدارس الفقهية مما عطل الكثير من القض ايا
التي ينتظر الشارع المسلم رأيا شرعياً فيها .
عدم تجدد منهجية االجتهاد عند أولئك ال ذين ش عروا بأهمية االجته اد -2
ولم يهتموا بمن يم ارس الوص اية عليه ويق ول بغلق ه ،فالمنهجية ال تي
اتبعوها ال تخ رج عن قي اس المس ائل المعاص رة على أق رب ص ورها
المذكورة في كتب الفقه مما يعني أن النوازل المعاصرة التي ال يت وافر
لها مقاربات تقاس عليها ستظل مشكالت فقهية معاصرة تنبئ عن مشكالت
اجتماعية وتنبئ عن قصور فقهي ال نرتضيه لشريعتنا ال تي نف اخر بأنها
تملك أعظم موسوعة فقهية شهدها التاريخ البش ري ،ولس نا نع دم أمثلة
لهذه المشكالت فمجتمع األقليات المسلمة يعاني الكثير ،والظواهر العلمية
الجديدة تغرقنا في بحر من الجدليات التي تظهر بوض وح م دى الحاجة
إلى تحديد منهجية االجتهاد المعاصر بما يالئم تحديات العصر .
االجتهاد في مجال البيئة – وخاصة المعاصرة – يحت اج إلى ثقافة علمية -3
تش مل علوم اً تقنية متع ددة وذلك ح تى يس تطيع المجتهد أن ي درك
حقيقة الواقعات أو النوازل التي يريد أن يفتي فيها ،وال أعتقد أن كلي ات
الش ريعة في عالمنا اإلس المي قد أدرجت في مناهجها ما يؤهل المتخ رج
منها ألن يؤدي دوره في مجال االجتهاد المعاصر ،وح تى المؤلف ات ال تي
بينت ش روط المجتهد لم تجعل من بينها ( معرفة الواقع ) وقد تنبه إلى
ذلك عدد من فقهائنا القدامى والمعاص رين ال ذين أش اروا إلى خط ورة
جهل المجتهد بالواقع ومعرفة أحوال الناس ،ومن هنا نق ول إننا ال نتوقع
لمجتهد معاصر أن يدرك أخطار التلوث ال ذي ينشأ في اله واء الخ ارجي
نتيجة غازات تصدر من مصنع لمسلم يظن أنه يرتزق حالال من خالل هذا
المصنع ،وال يمكن لمجتهد معاصر أن يدرك أخطاراً ت ترتب على أس مدة
يض عها فالح مس لم يظن أنه يصل بها إلى مس توى من اإلنت اج يخ دم به
21
مجتمعه ،وذلك ألن هذا المجتهد لم يدرس ه ذه القض ايا وتقييمه لها ال
يزيد على تقييم مثقف عادي .
ع دم ش يوع مؤسس ات لالجته اد الفقهي الجم اعي – كمجمع الفقه -4
اإلس المي مثالً وال تي تغطي العجز الن اتج في إع داد الك وادر الفقهية
وذلك بما تنتجه من انض مام مختص ين في مج االت العل وم المختلف ة،
يوضحون حقائق القض ايا المعروضة لالجته اد وبص ورة علمية دقيق ة،
وتتحقق من خاللهم ومن الفقهاء معهم شوري االجتهاد الفقهي ال تي نحن
في أمس الحاجة إليها في عالمنا المعاصر.
نخلص من ذلك كله إلى أن االجتهاد الفقهي المعاصر في مجال البيئة ال -5
يتناسب مع حجم التحديات الكبرى ال تي تحتويها البيئة المعاص رة وأننا
بحاجة إلى التأكيد على أننا ق ادرون على ه ذا االجته اد بما نملكه من
قاعدة نصية واسعة يحتويها كتاب اهلل وسنة رسوله وتراثنا الحض اري،
والحاجة فقط إلى تط وير مناهجنا بما يمكننا من النظر في المش كالت
المعاصرة بعلمية وسعة أفق .
ولعله من المناسب أن أشير هنا إلى أمرين مهمين يكمالن جهود الفقهاء
في معالجة قضايا البيئة وهما :
األمر األول :أن هناك جهوداً كب يرة ق ام بها ع دد من األطب اء والعلم اء
المسلمين إليضاح كثير من المش كالت البيئية خاصة من حيث التل وث البي ئي
وأسبابه ونتائجه ،واألوبئة وما تحتاجه من معالجات وقائية وعالجية ،ون ذكر
على سبيل المثال الكندي ورس الته في األدوية المش فية من ال روائح المؤذية ،
وابن سينا وحديثه عن تلوث المياه بشكل ع ام ،وال رازي وحديثه عن ع دد من
األوبئة ،وابن م روان األندلسي وبيانه لموض وع فس اد اله واء ،والمط ران
الدمشقي وتأكيده على ضرورة مراعاة ت أثير البيئة في الم رض ،ومحمد بن
احمد التميمي وكتابه الكامل عن التل وث ،ون ذكر أيض اً الزه راوي وبيانه
للعالقة بين المستنقعات وانتشار األوبئة ،وابن خلدون واعتب اره إفس اد اله واء
من أسباب كثرة الوفاة ،وأختم هذه األمثلة بابن القيم والفصل الذي عق ده عن
الطاعون وكيفية التعامل معه وفق الهدي النبوي ودور تلوث الهواء في وجوده
حيث يق ول " :إن فس اد اله واء ج زء من أج زاء الس بب الت ام والعلة الفاعلة
للطاعون وأن فس اد ج وهر اله واء الم وجب لح دوث الوب اء ،وفس اده يك ون
الستمالة جوهره إلى الرداءة ،لغلبة إحدى الكيفي ات عليه ،كالعفونة ،والنتن ،
والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن ك ان أك ثر حدوثه في أواخر
فصل الصيف وفي الخريف غالب اً ،لك ثرة اجتم اع الفض الت المرارية الح ادة
وغيرها في فصل الص يف وع دم تحللها في آخ ره ،وفي الخريف ل برد الجو
وردغة األبخ رة والفض الت ال تي ك انت تتحلل في زمن الص يف فتنحص ر،
22
تعداً،
1
فتسخن ،وتعفن ،فتحدث األمراض العفنة ،وال سيما إذا ص ادفت الب دن مس
قابالً ،رهِالً ،قليل الحركة ،كثيرَ المواد ،فهذا ال يكاد يُفْلِت مِن العطب" .
وهكذا نجد أن التراث اإلسالمي احتوى مساهمات كبيرة لعلم اء المس لمين
فقهاء وأطباء ومفك رين ق دموا من خاللها الكث ير من المعالج ات الفقهية في
كتب ورسائل وأبواب نذكر منها على سبيل المثال :األدوية للكندي ،والتيسير
في الم داواة والت دبير ألبي م روان األندلسي ،والذريعة إلى مك ارم الش ريعة
لألصفهاني ،واألبخرة المصلحة للجو من األوبئة للكندي ،واألش باه والنظ ائر
للس يوطي ،والحي وان للجاحظ ،والمقدمة الين خل دون ،والق انون في الطب
البن س ينا ،والحيلة في دفع مض ار األب دان البن رض وان .. ،الخ تلك القائمة
الطويلة من المؤلف ات المتخصصة في ه ذا الموض وع أو تلك ال تي احت وت
إشارات عارضة في مسائل ذات عالقة بموضوعات عامة .
األمر الثاني :ـ نظام الحسبة في اإلسالم ودوره في معالجة القضايا البيئية
.
الحسبة نظام إسالمي رقابي يعتمد على األمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإسداء النصح لمختلف شرائح المجتمع في كل القضايا التي لها عالقة بسالمة
المجتمع وأمنه ،والمحتسب هو الرقيب الذي يتابع سير التعامل بين الن اس في
أسواقهم ومصانعهم ودور عبادتهم ومساكنهم وطرقاتهم ،وهو ع ارف بأحك ام
الشريعة قاصداً في حسبته وجه اهلل تعالى ،ملتزم بما يأمر به ،متواضع مت ودد
ومتقرب من الناس لين القول ،طلق الوجه ،حسن الخلق ،وقد عرفت للمحتسب
تدخالت كثيرة في شؤون المجتمع منها الكثير مما يتعلق بالبيئة ،ن ذكر منه
التالي :ـ
ففي الطرقات يتدخل المحتسب لمنع الس كان من إض رار الس الكين بمي اه
األمطار الساقطة من الحيطان ،ومنع مجاري األوس اخ الخارجة من ال دور في
زمن الصيف ،ويتدخل المحتسب في مراقبة صانعي الدقيق بأمرهم بغربلة الغلة
من التراب وتنظيفها من الغب ار قبل طحنها ،وي أمر الخب ازين بفتح منافذ في
سقوف األفران لئال يضر الن اس ببقائه في الخ بز ،وأن يهتم الخب از بتنظيف
الفرن قبل استعماله ،ويدقق على الخبازين في نظافة األوعية وتغطية الخ بز ،
ويهتم بنظافة الخب از ويمنعه من ممارسة مهنته إذا لم يقم بتغطية ش عره
وتنظيف جسمه ،ويم ارس المحتسب دوره في منع محالت األطعمة والص يادلة
والعطارين وغيرهم من ممارسة الغش في ص نائعهم وما ي ترتب على ذلك من
ضرر بأجسام الناس ،كما أنه يتدخل في توجيه أصحاب الحمام ات إلى تنظيف
ابن القيم /الطب النبوي تحقيق /د.عبد المعطي قلعجي /دار الوعي حلب/ط 1
/14محرم.141/
23
المياه واألحواض واألواني كل مس اء لمنع ما يلحقها من تل وث قد ي ؤدى إلى
انتقال العدوى بين الناس .
وهكذا عمل نظام الحسبة في اإلس الم على وقاية المجتمع من كث ير من
مظاهر الفساد التي تنتج عن أنانية األفراد أو جهلهم وتسبب في تلويث البيئة أو
نشر األمراض ،وقد أدى ه ذا النظ ام دوراً مهم اً في توجيه المجتمع وض بط
سلوكياته بمنطق الشرع واألخالق أوال ثم بمنطق القانون ثانياً حيث كان هذا
النظام مدعوما من السلطة الحاكمة في المجتمع. 1
اإلسالم في مواجهة مشكلة العصر:
التلوث
لعل ني قد أش رت في ثنايا ه ذا البحث إلى نعم اهلل س بحانه وتع الى على
اإلنسان بتكريمه له وجعله خليفته في األرض وتسخير اهلل كل ما في هذا الكون
ليستغله ويستفيد منه في تحقيق خالفته وفي العمل على ض مان حي اة أخروية
سعيدة ،وقد تناولت آيات القرآن الكريم شرحاً مفصالً لمخلوقات اهلل الكث يرة
والعظيمة التي سخرها لخدمة اإلنسان وتكفلت سنة الرس ول ش رح وتفص يل
الكثير من هذه النعم ،ونبه القرآن الكريم والرس ول على أن ه ذا االس تغالل
اإلنساني لمصادر الطبيعة ومكوناتها قد يتحول الى تدمير لهذه المصادر وإفساد
لها إن لم ي راع اإلنس ان فيها أوامر اهلل ونواهيه وذلك حين تتحكم فيه الغرائز
والشهوات ويضعف اإليمان في قلبه وتهتز المع ايير األخالقية واإلنس انية ال تي
أمر اإلنسان بمراعاتها " :ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَ بَتْ
أَيْدِي النَّاسِ" 2ولقد تنبأت المالئكة بإمكانية إفساد اإلنسان حين ق الت " وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَ الُوا أَتَجْعَ لُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ " 3ولكن إرادة اهلل سبحانه وتع الى
اقتضت ذلك لحكمة يعلمها حيث قال تعالى " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ". 4
لقد بدأ اإلنسان في استغالل المصادر الطبيعية منذ بدء الخليقة وح اول أن
يسخرها لمعيشته بدرجات تتناسب وطبيعة الظروف التي ع اش فيها ،وتوس عت
طموحاته في اكتشاف هذا الكون براً وبحراً وجواً بمرور الزمن وبتقدم العلم
لديه حتى وصلنا إلى عالم اليوم الذي استطاع فيه اإلنسان استغالل كل شيء في
أعم اق البح ار أو في مجاهل الفض اء أو في ب اطن األرض ،ووص لنا إلى ه ذه
الحالة واإلنس ان قد تح رر كث يراً من س يطرة النزعة اإلنس انية واستس لم
لنوازعه الفردية ،وتح رر من قي ود الض وابط األخالقية وتح ول إلى عبد
الشيرزي/نهاية الرتبة في طلب الحسبة /دار الثقافة /بيروت /تحقيق د .السيد 1
العريني /ط.2/1981
سورة الروم اآلية .41 2
24
للشهوات والمصالح اإلنسانية ،وتحرر من كثير من االلتزام بالتوجيهات اإللهية
في تم رد واضح على الرس االت وتوجيهاتها وأص بح عب داً للم ذاهب المادية
واإللحادية ،وظهر أثر ذلك واض حاً في مظ اهر البيئة ومكوناتها مما جعل
العالم المعاصر يواجه مشكالت التلوث التي تهدد مستقبل الحياة البشرية بأسرها
.
لقد عرف التلوث بتعريف ات كث يرة تش ير معظمها إلى انه التغ ير ال ذي
يحدثه اإلنسان في المكونات البيئية فيحولها من مكونات مفيدة إلى أخرى ضارة
مما يفقدها خاصيتها الطبيعية ويحرم اإلنسان من االس تمتاع بها ويجعلها ته دد
وجوده ،ويحدث ذلك في الماء والهواء والتربة والنبات وفي أعماق البحار وفي
طبقات الجو العليا ......الخ ،ولقد تكفلت كتب وأبحاث كثيرة تن اولت أن واع
التل وث ونتائجه وأقيمت م ؤتمرات محلية ودولية لمعالجة آث اره بل وتك ونت
جمعيات ومنظمات دولية لمحاربته وتحذير البشرية من خطورته .
ولعل سعة البحث في ه ذه المش كلة وش دة تعقي داتها وض خامة ما كتب
حولها ،وكثرة المهتمين بها وتوزعهم في كل مكان من العالم ،يجعل ني أقفز
فوق كل ذلك ألبين أن التلوث نتج عن سببين رئيسيين كما أتصور :
األول :األنانية الفردية لإلنسان وجهله بما ينتج عن تصرفاته ،وه ذه ربما
تكون مضارها أقل خطورة من السبب الثاني ،فاإلنس ان في س بيل تحقيق معاشه
الي ومي اض طر أحيانا إلى قطع األش جار وحرقها ،والى ص يد الحيوان ات
واالستمتاع بها ،والى استغالل مصادر المي اه س قاية ونظافة له ولحيواناته إلى
غير ذلك من األعمال التي كانت سبباً في إهدار الكث ير من الم وارد الطبيعية
ولكنه كان جزئياً وبسيطاً لم يصل إلى مستوى التلوث الحقيقي ال ذي أحدثته
مجتمعات بكاملها في عصور متأخرة.
الثاني :ظهور النزعات التسلطية لدى بعض المجتمع ات البش رية مما أدى
بها إلى غزو مجتمعات أخ رى بح روب م دمرة نتج عنها الكث ير من الملوث ات
البيئية سواء كان بتدمير موارد بيئية أو اس تغاللها اس تغالالً س يئاً ولعلي هنا
سأركز على ظاهرة الحروب في تاريخ البش رية وما نتج عنها من مض ار بيئية
ك ان اإلنس ان فيها متح رراً من إنس انيته ومنفلت اً من كل القي ود الدينية
واألخالقية فأضر بالبيئة والكون وما عليه من إنسان وحيوان ونب ات ومن ذلك
األمثلة التالية :
في مواجهة االنجليز مع روسيا استخدموا طريقة إلق اء الجثث في اآلب ار -1
لتتلوث وتتحول إلى مصادر فناء للجيش المضاد .
استخدم الفرنسيون في احتاللهم ألمريكا الشمالية وكن دا وس يلة توزيع -2
األغطية الملوثة بداء الجدري إلفناء الهنود الجمر .
25
استخدم األلمان نشر حمى الكربون في الحرب العالمية األولى في قطع ان -3
الماشية في األرجنتين لتحويلها إلى مصادر لنشر داء الجم رة الخبيثة في
األعداء .
ألقت القاذفات البريطانية س نة 1943مس يحي 2417طن اً من القنابل -4
المحرقة على مدينة هامبرغ بألمانيا مما سبب في حرائق غطت مس احات
شاسعة وأدت إلى ارتفاع الحرارة إلى 1450درجة فهرنهايت .
ألقت القاذف ات األمريكية قنابلها النووية على هيروش يما وناج ازاكي -5
فخلفت دماراً بشرياً وبيئياً الزالت آثاره حتى اآلن .
العدوان اإلسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني أدى إلى دمار بيئي ال -6
مثيل له حيث يعمل الصهاينة ليل نهار على تلويث مصادر المي اه وحقنها
بأمراض فيروسية ذات أثر كبير في نمو األجيال القادمة .
ما شهدته الساحتين العراقية واألفغانية من تدمير بشري وبي ئي كب ير -7
في الح روب ال تي مارس تها وال ت زال الوالي ات المتح دة األمريكية
وحلفاؤها والتي أدت إلى قطع ماليين األشجار مما أدى إلى تدمير ث روة
النخيل العراقية وتلويث مياه األنهار وقذف البشر ب اليورانيوم المخصب
والذي سيصيب األجيال القادمة بتشوهات يصعب تصورها.
إن هذه األمثلة وغيرها من األمثلة الكثيرة التي تعم دت ع دم الخ وض في
تفصيالتها خشية اإلطالة إنما تدل على وجود انحراف في مس يرة البش رية أدى
إلى طغيان وفساد كبير مارسته كثير من المجتمعات البش رية بحجج مختلفة
أدت بها إلى التخلي عن إنس انيتها وأخالقياتها في مقابل إرض اء النزع ات
السلطوية وتحقيق المصالح االقتصادية من اجل سلب خيرات الشعوب واالعت داء
على ثرواتها .
وهنا يجب أن نذكر أن عظمة مبادئ اإلس الم ،ال تي اس تطاعت أن تض بط
سلوك المسلمين حتى في حالة الحرب التي مارس ها المس لمون ألس باب تتعلق
بالمحافظة على اإلنس ان وال دفاع عن دينه وقيمه وحض ارته ،فها هو اب وبكر
الصديق يوجه جنده إلى أخالقيات الحرب وهو يجه زهم الى مواجهة ع دوهم
في إحدى المعارك فيقول ":يأيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها ع ني :
ال تخونوا وال تغلوا وال تغدروا وال تمثلوا وال تقتلوا طفالً ص غيراً وال ش يخاً
كبيراً وال امرأة وال تعقروا نخالً وال تحرقوه ،وال تقطعوا شجرة مثم رة وال
تذبحوا شاة وال بقرة وال بعيراً إال لمأكلة وس وف تم رون ب أقوام قد فرغ وا
أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له " 1ه ذه هي أخالق اإلس الم
محمد بن جرير /تاريخ الطبري /تحقيق محمد أبو الفضل /ط 2ج /2دار 1
27
ولذلك يضعف دور القيادات الدينية لعدم القدرة على مواجهة أص حاب الق رار
السياسي وهو األمر الذي يعقد المشكلة ويزيدها تفاقماً.
إننا ندعوا رجال األديان جميعاً وفي مقدمتهم علماء المس لمين أن يهتم وا
بالتوعية الدينية في هذا المجال في خطبهم ومواعظهم ومحاضراتهم ،ون دعوا
المسئولين عن التعليم في بالدنا وفي العالم أجمع أن ي دخلوا الثقافة البيئية في
مناهج التعليم من المراحل الدراسية األولى ،وذلك ح تى نض من تك وين جيل
يتشرب ثقافة المحافظة على البيئة منذ الصغر ،ويتفهم أخطار ع دم المحافظة
عليها ،فالتعويل على األجيال القادمة هو ص مام األم ان ،وال وعي بالمش كالت
البيئية منذ الصغر كفيل بتقويم السلوك البشري نحو البيئة .
وختاماً لهذه الورقة فإني اقترح التوصيات التالية :
تق ديم الرؤية اإلس المية لمش كالت البيئية إلى الع الم اآلخر وذلك عن -1
طريق ترجمة األعمال الرائدة في هذا المجال إلى اللغات العالمية ليتعرف
العالم على هذه الرؤية التي هي تع الج أس اس المش كالت البيئية وتق دم
حلوالً ناجحة لها .
نشر ثقافة المحافظة على البيئة لدى الناش ئة وذلك عن طريق تض مين -2
المناهج الدراسية في المدارس والجامعات موضوعات تع رف بالمش كالت
البيئية وطرق الوقاية منها .
التأكيد على دور المنظمات والهيئات المدنية في رفع درجة الوعي البيئي -3
ودفع الناس للمساهمة في المحافظة على البيئة .
تدريس مواد علمية في كلي ات الش ريعة تس اعد المتخ رج منها في فهم -4
الوقائع البيئية والحكم على قضاياها بصورة علمية .
المس اهمة في تفعيل دور االتفاقي ات الدولية وحشد الجه ود على كافة -5
المستويات لتنفيذ بنودها.
وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين
28