Professional Documents
Culture Documents
عن الناسخ والمنسوخ2222222 PDF
عن الناسخ والمنسوخ2222222 PDF
علوم القران
تقرير عن الناسخ والمنسوخ
اعداد الطالب
ميكائيل علي صالح حسن
باشراف
د.ميكائيل رشيد علي الزيباري
1
المقدمة
تعريف النسخ:
النسخ لغة :الرفع واإلزالة .ومنه يقال :نسخ الكتاب .أي :رفع منه إلى غيره .ونسخت الشمس الظل:
أزالته.
قال الزجاج" :النسخ في اللغة :إبطال شيء وإقامة آخر مقامه ،تقول العرب :نس َخت الشمس الظل :إذا
أذهبته وحلت محله"( .)1ومثاله :آية{ :إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}[ .الجاثية.]29 /
كما يطلق على إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه ،كقولهم :نسخت الريح األثر( ،)2ومثاله :آية{ :ما
ننسخ من آية أوننسها نأت بخير منها أو مثلها}[ .البقرة.]106 /
أما اصطالحا :فقد اختلف المفسرون واألصوليون في تعريفه ،ولعل تعريفه المستقر اصطالحا أول من
أظهره هو اإلمام الشافعي في "األم" ،ولم يكن مطردا قبله وإن كان موجودا(.)3
وحدُّه عند حذاق أهل السنة :الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لواله
لكان ثابتا مع تراخيه عنه(.)4
ومجموع ما يمكن أن يعرف به أنه :رفع حكم شرعي عملي جزئي ،ثبت بالنص بحكم شرعي عملي
جزئي ثبت بالنص وورد على خالفه ،متأخر عنه في وقت تشريعه ،ليس متصال به(.)5
أما مواضيعه وصوره فقد لخصها اإلمام ابن عطية رحمه هللا تعالى بقوله" :وصور النسخ تختلف؛ فقد
ينسخ األثقل إلى األخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت الثنين".
"وقد ينسخ األخف إلى األثقل؛ كنسخ يوم عاشوراء واأليام المعدودة برمضان".
"وقد ينسخ المثل بمثله ثقال وخفة .كالقبلة .وقد ينسخ الشيء ال إلى بدل؛ كصدقة النجوى"(.)6
مشروعية النسخ:
والنسخ جائز على هللا تعالى عقال؛ ألنه ليس يلزم عنه محال (البداء مثال) ،وال تغيير صفة من صفات
هللا (العلم الخالي عن الشك مثال) ،وليست األوامر معلقة باإلرادة فيلزم من النسخ أن اإلرادة تبدلت ،وال
النسخ لطرو علم ،بل هللا تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم األول ،ويعلم نسخه له بالثاني(.)7
فقد وردت دالئل النسخ في الكتاب والسنة؛
فمن الكتاب الكريم :قوله تعالى{ :ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن هللا
على كل شيء قدير}[ .البقرة.]106 /
وقوله تعالى{ :وإذا بدّلنا آية مكان آية وهللا أعلم بما يُنزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم ال يعلمون * قل
نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}[ .النحل.]102 ،101 /
وقوله تعالى{ :يمحو هللا ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}[ .الرعد .]39 /وصح عن عكرمة مولى ابن
عباس قال{" :يمحو هللا ما يشاء ويثبت} قال :ينسخ اآلية باآلية فترفع{ ،وعنده أم الكتاب} :أصل
الكتاب"(.)8
2
وقوله تعالى{ :وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين ال يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما
يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إال ما يوحى إلي}[ .يونس .]15 /وداللة هذه اآلية على
المقصود في قوله{ :ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي}..اآلية ،ففيها برهان على أن هللا عز وجل
هو الذي يبدل اآلية باآلية ،ال سبيل إلى ذلك إال بوحيه وتنزيله.
ومن السنة :تضافرت الروايات الثابتة من جهة النقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم على أن النسخ قد
وقع لبعض القرآن واألحكام المنزلة كما سيأتي التمثيل له بطائفة منه.
وتواتر عن أصحاب النبي صلى هللا عليه وسلم ذكر النسخ والقول به.
كما ذهب إلى القول به عامة أئمة اإلسالم من السلف والخلف ،إلى أن قال ابن الجوزي" :انعقد إجماع
العلماء على هذا ،إال أنه قد شذ من ال يُلتفت إليه"(.)9
قال أبو جعفر ابن الن ّحاس" :من المتأخرين من قال :ليس في كتاب هللا عز وجل ناسخ وال منسوخ.
وكابر العيان ،واتبع غير سبيل المؤمنين"(.)10
ورأى بعض العلماء أنه :لم يخالف في ثبوت النسخ أحد من أهل اإلسالم ،وأن ما نُسب إلى بعض
المتأخرين فهو – على ندرته ،كما أفتى به أبو مسلم األصفهاني المعتزلي – خالف منهم في اللفظ ال
المعنى(.)11
وقال جدنا اإلمام محمد المنتصر باهلل بن محمد الزمزمي الكتاني رحمه هللا في تفسيره" :وأنكره –
النسخ – في القرآن أبو مسلم األصفهاني المفسر ،وقد تعسف في األجوبة عما وقع فيه؛ كنسخ القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة ،وكمدة العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر .قال ابن كثير :وقوله ضعيف
مردود".
"والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام هللا تعالى ،لما له في ذلك من الحكمة البالغة،
وكلهم قال بوقوعه"(.)12
مكانة النسخ في علوم التفسير:
ال شك أن علم الناسخ والمنسوخ من أساسات علوم التفسير ،ومن العلوم التي ال يقوم إال بها ،كما أنه ال
يمكن معرفة األحكام الشرعية االستنباطية ،وتفسير تعارض النصوص إال بمعرفته ،ولذلك أفرد له
علماء أصول التفسير وعلماء أصول الفقه مصنفات قديما وحديثا.
قال اإلمام القرطبي رحمه هللا" :معرفة هذا الباب أكيدة ،وفائدته عظيمة ،ال يستغني عن معرفته العلماء،
وال ينكره إال الجهلة األغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في األحكام ،ومعرفة الحالل من الحرام .روى
أبو البَ ْختَري قال :دخل علي رضي هللا عنه المسجد ،فإذا رجل يخوف الناس؛ قال :ما هذا؟ .قالوا :رجل
يذكر الناس .فقال :ليس برجل يذكّر الناس ،لكنه يقول :أنا فالن بن فالن اعرفوني .فأرسل إليه فقال:
أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ .فقال :ال .قال :فاخرج من مسجدنا وال تُذكّر فيه .وفي رواية أخرى:
أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ .قال :ال .قال :هلكت وأهلكت .ومثله عن ابن عباس رضي هللا عنهما"(.)13
3
الفصل األول :أقسام النسخ
وينقسم النسخ إلى قسمين:
-نسخ عام .حيث ينسخ الحكم كليا ،ويستبدل بحكم آخر ،كما سيأتي في بقية الفصول إن شاء هللا تعالى.
-نسخ جزئي ،وهو ينقسم إلى خمسة أقسام:
-1تخصيص العام:
وذلك بورود النص بلفظ يدل على استيعاب جميع ما يتناوله ذلك اللفظ ،ثم يأتي التخصيص فيخرج به
بعض أفراد ذلك العام ،ويبقى ما سواه مرادا باللفظ.
ومثال ذلك :خبر ابن عباس رضي هللا عنهما قال{ :يا أيها الذين آمنوا ال تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى
تستأنسوا}...اآلية [النور ،]27 /ثم نُسخ واستثنى من ذلك{ :ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير
مسكونة فيها متاع لكم}[ .النور.)14( ]29 /
-2تقييد المطلق:
وذلك بورود النص بلفظ يتناول شيئا أو شخصا غير محدد ،فيأتي في موضع آخر ما يحدده.
مثاله :قول قتادة وغيره من السلف في قوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا حق تقاته}[ .آل
عمران ،]102 /قالوا :نُسخت بقوله تعالى{ :فاتقوا هللا ما استطعتم}[ .التغابن.)15( ]16 /
-3تبيين المجمل وتفسيره:
كما وقع عند نزول قوله تعالى{ :وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به هللا}[ .البقرة.]284 /
لما نزلت على النبي صلى هللا عليه وسلم ،اشتد ذلك على الصحابة رضوان هللا عليهم ،فنزلت آية{ :ال
يكلف هللا نفسا إال وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت...}...اآلية [البقرة.)16(]286 /
-4ترك العمل بالنص مؤقتا لتغير الظرف:
والمراد به :اإلزالة الوقتية للعمل بالنص األول ،ال إسقاط العمل به مطلقا ،فاستعماله لم يزل قائما ،لكنه
موقوف حتى يكون الوقت الذي يناسبه ،وليس هكذا النسخ بمعناه االصطالحي؛ ألن هذه الصورة ليست
معارضة بين نصين نفى المتأخر منهما المتقدم.
ومثاله :جميع اآليات اآلمرة بالعفو أو الصفح أو اإلعراض عن المشركين والكفار ،مع اآليات اآلمرة
بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم ،فقد زعم بعض السلف أن القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم األول(.)17
-5نقل حكم اإلباحة األصلية:
والمراد :ما كان مسكوتا عنه من األشياء؛ كالمآكل والمشارب والمالبس ،وشبه ذلك ،فكان حكمه قبل
ورود الناقل على اإلباحة ،وهي :حكم مستفاد من مجرد سكوت الشارع عنه .فوقع في كالم بعض
السلف إطالق اسم "النسخ" على تغيير تلك اإلباحة إلى حكم جديد بالنص.
4
ومثاله :ما وقع في شأن تحريم الخمر؛ فإن النصوص جاءت فيه على النحو الذي ورد في حديث أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه قال" :اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء" .فنزلت آية
البقرة{ :يسألونك عن الخمر والميسر .}...اآلية [البقرة.]219 /
فدعي عمر فقرئت عليه ،فقال" :اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء" ،فنزلت آية النساء{ :يا أيها الذين
آمنوا ال تقربوا الصالة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وال جنبا إال عابري سبيل}[ .النساء.]43 /
فدعي عمر ،فقرئت عليه ،ثم قال" :اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء" .فنزلت آية المائدة{ :يا أيها
الذين آمنوا إنما الخمر والميسر واألنصاب واألزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون *
إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم العدوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر هللا وعن
الصلوة فهل أنتم منتهون}[ .المائدة ،]91 ،90 /فدعي عمر ،فقرئت عليه ،فقال" :انتهينا
انتهينا"(.)18
وهذه الوجوه الخمسة من "النسخ الجزئي" إنما أطلق عليها اسم "النسخ" ليست في التحقيق من باب
النسخ الذي استقر معناه عند أهل العلم من بعد ،إنما كانت متعارفا عليها لدى السلف ،أما عند
المتأخرين فإنما يطلق النسخ على النسخ العام.
قال اإلمام الشاطبي في "الموافقات"" :ألن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ،وهو :أن النسخ في
االصطالح المتأخر اقتضى أن األمر المتقدم غير مراد في التكليف ،وإنما المراد :ما جيء به آخرا،
فاألول غير معمول به ،والثاني هو المعمول به...فلما كان كذلك؛ استُسهل إطالق لفظ "النسخ" في جملة
هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد"(.)19
----------------------------------------------------------
5
(" )13الجامع ألحكام القرآن" (.)61 /1
( )14أثر حسن ،أخرجه البخاري في "األدب المفرد" (رقم ،)1056 :وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص،)407
واللفظ له.
( )15هو صحيح عن قتادة ،أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ( ،)128 /1وابن جرير في "تفسيره" (/28 ،29 /4
،)127وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص.)242
( )16حديث صحيح ،أخرجه مسلم (رقم ،)125وغيره عن أبي هريرة رضي هللا عنه.
(" )17المقدمات األساسية" (ص.)212
( )18حديث صحيح ،أخرجه اإلمام أحمد في "المسند" ( ،332 /1رقم ،)378 :وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم:
،)254وأبو داود في سننه (رقم ،)3670والترمذي في سننه (رقم ،)3049 :والنسائي في سننه (رقم،)5540 :
وغيرهم.
(" )19الموافقات" (.)109-108 /3
----------------------------------------------------------
قال أبو جعفر النحاس" :ال يقال "منسوخ" لما ثبت في التنزيل وصح فيه التأويل إال بتوقيف أو دليل
قاطع"(.)2
وقال الحافظ ابن حزم" :ال يحل لمسلم يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة:
هذا منسوخ .إال بيقين"(.)3
وقال الحافظ ابن الجوزي" :إطالق القول برفع حكم آية لم يُرفع؛ جرأة عظيمة"(.)4
ويمكن إجمال شروط القول بالنسخ فيما يلي:
-1أن يكونا ثابتين بالنص:
أي :أن يكون كل من الناسخ والمنسوخ إما آية من كتاب هللا تعالى وإما سنة عن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،فيصح أن تنسخ اآلية اآلية والسنة ،كما يصح أن تنسخ السنة اآلية والسنة على خالف كما
سيأتي بحول هللا تعالى.
-2أن يأتيا على صيغة طلب أو ما يفيده:
6
إذ النص يأتي إما على صيغة طلب؛ كاألمر والنهي ،ومثاله :قوله تعالى{ :فول وجهك شطر المسجد
الحرام}[ .البقرة.]144 /
أو صيغة خبر معناه الطلب؛ كقوله تعالى{ :والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا}[ .البقرة.]234 /
قال القرطبي" :قيل :إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه؛ كقوله تعالى{ :ومن ثمرات النخيل
واألعناب تتخذون منه سكرا}[ .النحل.)5( "]67 /
أما ما لم يرد على صيغة الطلب ،كالنصوص المتحدثة عن أخبار األمم األخرى ،واإلخبار عما سيكون؛
كأشراط الساعة ،وما هو من جنس ذلك؛ ال يكون فيه نسخ إجماعا ،ألن الخبر الصادر يستحيل الرجوع
عنه ،لما يقتضي من الخطأ في أحد الخبرين ،والحق تعالى منزه عنه(.)6
-3أن يكونا ثابتين نقال:
وهذا الشرط معتبر عندما تكون السنة طرفا في النسخ ،أما بالنسبة للقرآن الكريم فقد وصل إلينا بالتواتر
القطعي الذي ال يحوم به شك.
قال أبو بكر ابن خزيمة" :ال يجوز ترك ما قد صح من أمره صلى هللا عليه وسلم وفعله في وقت من
األوقات إال بخبر صحيح عنه ينسخ أمره ذلك وفعله"(.)7
وهل يشترط فيه التواتر؟؛ خالف .قال القرطبي وابن عطية" :والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر
الواحد عقال ،واختلفوا هل وقع شرعا؛ فذهب فذهب أبو المعالي (الجويني) وغيره إلى وقوعه في نازلة
مسجد قباء ،في التحول إلى القبلة ،وأبى ذلك قوم"(.)8
7
فيمتنع النسخ في القواعد ومقاصد التشريع؛ ألنها كليات ،ولم يقع في جميع ما يذكر فيه النسخ من
نصوص الكتاب والسنة نسخ لقاعدة كلية ،إنما جميع أمثلة النسخ واردة في جزئيات األحكام؛ رعاية
للمقاصد الكلية(.)10
وتستثنى من النسخ كذلك :أحكام جزئية اقترن تشريعها بما دل على تأبيدها()11؛ وذلك مثل قوله تعالى
في حديث فرض الصلوات ليلة المعراج" :هي خمس وهي خمسون ،ال يبدل القول لدي"(.)12
وقوله صلى هللا عليه وسلم" :ال تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ،وال تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس
من مغربها"(.)13
-7أن يكونا متعارضين في المعنى:
بمعنى أنه ال يوجد سبيل إلعمال النصين جميعا ،وإنما يأتي أحدهما على ضد اآلخر في داللته ومعناه،
فكل نصين أمكن التوفيق بينهما يقدم التوفيق على النسخ.
كأن يكون أحدهما خاصا واآلخر عاما ،والمطلق مع المقيد ،والمجمل مع المفسر ،والتشريعين المختلفين
الختالف الظرف ،فكل منهما معمول به في وقته أو معناه.
قال ابن جرير الطبري" :وإنما يكون الناسخ ما لم يُجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال
واحدة...فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم اآلخر؛ فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء"(.)14
ومما يمتنع فيه النسخ مطلقا من نصوص التكليف :جميع ما ال يتصور فيه التضاد بين تكليفين؛
كالنصوص اآلمرة بالتوحيد وسائر العقائد ،ونصوص مكارم األخالق والفضائل ،فهذه ال يجوز أضدادها
في دين اإلسالم ،ومن شرط صحة النسخ :التقابل بين التكليفين(.)15
-8أن يكون الناسخ متأخرا في زمن الشريعة عن المنسوخ:
والمراد به :أن يكون الحكمان قد انفصل أحدهما عن اآلخر بزمان أمكن فيه امتثال الحكم المنسوخ قبل
تبديله بالناسخ.
كما تراه في آية{ :وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط األبيض من األسود}[ .البقرة .]187 /فعن
البراء بن عازب رضي هللا عنه :أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا وال يشرب
ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس ،حتى نزلت هذه اآلية"(.)16
قال القرطبي" :وقيد بالتراخي؛ ألنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم ال ناسخا ،أو يكون آخر الكالم
يرفع أوله؛ كقولك :قم؛ ال تقم"(.)17
8
الفصل الثالث :ما يقع به النسخ
يقع النسخ في واحد من األمور األربعة التالية:
-1نسخ القرآن بالقرآن:
وال يختلف أهل العلم في أن هذه الصورة من النسخ واقعة في مواضع في القرآن الكريم ،تتفاوت
أقوالهم في عددها ،والتحقيق أنها قليلة(.)18
ومثاله :نسخ التخيير للقادر على الصوم بين أن يصوم أو يفتدي بالصوم دون الفدية .فالحكم المنسوخ
في قوله تعالى{ :وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا
خير لكم}[ .البقرة.]184 /
والناسخ له :قوله تعالى في اآلية بعدها{ :فمن شهد منكم الشهر فليصمه}[ .البقرة.]185 /
-2نسخ سنة بسنة:
ووقوع هذا النوع ال خالف في صحته(.)19
ومثاله :حكم التطبيق في الركوع .فالمنسوخ :ما حدث به علقمة بن قيس واألسود بن يزيد أنهما :دخال
على عبد هللا – أي :ابن مسعود – فقال" :أصلى َمن خلفكم؟" .قاال" :نعم" .فقام بينهما ،وجعل أحدهما
عن يمينه واآلخر عن شماله ،ثم ركعنا ،فوضعنا أيدينا على ركبنا ،فضرب أيدينا ،ثم طبق بين يديه ،ثم
جعلهما بين فخذيه ،فلما صلى قال" :هكذا فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم"(.)20
والناسخ له :ما حدث به مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال" :صليت إلى جنب أبي ،فلما ركعتُ شبكت
أصابعي وجعلتهما بين ركبتي ،فضرب يدي ،فلما صلى قال :قد كنا نفعل هذا ،ثم أ ُ ِم ْرنا أن نرفع إلى
الركب"(.)21
-3نسخ قرآن بسنة:
وهذا قد اختلفوا فيه على مذهبين:
المذهب األول :امتناع نسخ اآلية بالسنة .وهذا مذهب األئمة سفيان الثوري ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل
في إحدى الروايتين عنه ،وطائفة من أصحاب مالك.
المذهب الثاني :صحة نسخ اآلية بسنة .واختاره بعض أعيان الشافعية؛ كإمام الحرمين الجويني،
والغزالي ،وهو الرواية الثانية عن اإلمام أحمد ،واختيار ابن حزم الظاهري(.)22
قال القرطبي" :وحذاق األئمة على أن القرآن يُنسخ بالسنة ،وهو ظاهر مسائل مالك ،وأبى ذلك الشافعي
ومن عنده وإن اختلفت في األسماء،وأبو الفرج المالكي ،واألول أصح ،بدليل أن الكل حكم هللا تعالى ِ
9
وأيضا؛ فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يُرجم ،وال مسقط لذلك إال السنة :فعل النبي صلى
هللا عليه وسلم .وهذا بيّن"(.)23
ومثال المنسوخ حكمه من القرآن الكريم بالسنة النبوية :قوله تعالى{ :كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم
الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين واألقربين بالمعروف حقا على المتقين}[ .البقرة .]180 /وناسخه
حديث" :إن هللا قد أعطى لكل ذي حق حقه ،فال وصية لوارث"(.)24
-4نسخ سنة بقرآن:
وجمهور أهل العلم على صحة نسخ حكم ثبت بالسنة بآية من كتاب هللا ،وخالف الشافعي رحمه هللا في
ذلك ،بحجة أن السنة مبينة للكتاب ،فكيف يُنسخ المبين؟(.)25
قال القرطبي" :والحذاق – أيضا – على أن السنة تنسخ بالقرآن ،وذلك موجود في القبلة؛ فإن الصالة
إلى الشام لم تكن في كتاب هللا تعالى"( ،)26وبمثله قال ابن عطية.
ومثاله :فرض استقبال بيت المقدس في الصالة أول اإلسالم ،وذلك ما دل على إثباته قوله تعالى{ :وما
جعلنا القبلة التي كنت عليها إال لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}[ .البقرة.]143 /
والناسخ له :قوله تعالى{ :قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر
المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}[ .البقرة.]144 /
-------------------------------------------
10
(" )14تفسير ابن جرير" (.)120 /3
(" )15المقدمات األساسية" (ص.)244
( )16حديث صحيح :أخرجه اإلمام أحمد ( ،575 -573 /30رقم ،)18612 ،18611 :والبخاري (رقم ،)1816 :وأبو
داود (رقم ،)2314 :والترمذي (رقم ،)2968 :والنسائي (رقم..)2168 :
(" )17الجامع ألحكام القرآن" (.)64 /1
(" )18المقدمات األساسية" (ص.)246
(" )19المقدمات األساسية" (ص.)247
( )20حديث صحيح أخرجه مسلم (رقم.)534 :
( )21حديث صحيح أخرجه البخاري (رقم ،)757 :ومسلم (رقم.)535 :
(" )22نواسخ القرآن" البن الجوزي (ص" ،)100 -98الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص" ،)53اإلحكام" البن حزم (/4
" ،)108 ،107المقدمات األساسية" (ص.)250 -247
(" )23الجامع ألحكام القرآن" (.)65 /1
( )24حديث صحيح ،رواه اإلمام أحمد ( ،)267 /5وأبو داود (رقم ،)3565 ،2870والترمذي (رقم ،)2120 :وابن
ماجه (رقم ،)2713 :من طرق إلى أبي أمامة الباهلي رضي هللا عنه.
(" )25الرسالة" (ص.)222 ،111 ،108 :
(" )26الجامع ألحكام القرآن" (" ،)65 /1المحرر الوجيز" (ص.)120
11