Professional Documents
Culture Documents
C1
C1
سنتناول في مقالتين متتاليتين تعريفا بمدرستي بوتلميت وأطار ،تأسيسهما وتطورهما ومساهمتهما في بناء التعليم ببالدنا في النصف األول من القرن
ي لمدرسة أطار
ل لمدرسة بوتلميت والثان َ
ل األو َ
.العشرين ،وسنخصص هذا المقا َ
تم افتتاح مدرسة بوتلميت سنة 1912م ،ولعل من أسباب افتتاحها في تلك السنة ،وافتتاح ما تالها من مدراس خصوصا في المذرذره وتنبدغه وأطار
ل تسجيل األطفال الموريتانيين (من غير منطقة الضفة) في مدرسة سان لويس (اندر) بالسنغال ،بل وأحيانا تخلي بعض التالميذ عن
وكيفه ،تضاؤ َ
المدرسة الفرنسية بعد تسجيلهم فيها؛ حيث كان تَرْ كُ التالمي ِذ الموريتانيين لفصول الدراسة بسان لويس مزعجا بالنسبة لإلدارة الفرنسية كما تذكر
.التقارير
وعلى الرغم من قرب سان لويس من منطقتي الترارزة والبراكنة فإن أعداد التالميذ من هاتين المنطقتين ما فتئت منخفضة بمدرسة سان لويس ،بل
إن من سجلوا منهم يتركون المدرسة ألبسط األسباب .ففي ديسمبر 1911غادر تلميذان مدرسة اندر فجأة وهما :محمد الحبيب وأحمدو ولد األمانة.
وفي نوفمبر 1912يذكر أحد التقارير مغادرة الشاب محمد سالم ولد أحمد ولد عبد العزيز (من نواذيبو) مدرسة اندر أيضا ،وفي الشهر نفسه تم طرد
تلميذ موريتاني يسمى المصطفى ولد زيدان دون ذكر أسباب طرده .لهذه األسباب بات تفكير اإلدارة الفرنسية ملحا في إيجاد بديل لمدرسة اندر ،فكان
القرار بإنشاء مدارس بدوية؛ حيث كان إجماع اإلداريين الفرنسيين ،وخاصة في موريتانيا ،يرى أن األسر الموريتانية لن تقبل بالنظام التعليمي
وفي هذا السياق كانت البداية الفعلية لتأسيس مدرسة بوتلميت في السنة الدراسية ،1914-1913وخصوصا في شهر يناير من سنة ،1914حيث
ُفتِحت فصولُها وسكنُها الداخلي قرب المبنى اإلداري الفرنسي بالمدينة .كانت التجربة التربوية الفرنسية بالجزائر في القرن التاسع عشر ملهم ًة
لإلدارة االستعمارية في تعميمها على مستعمرات الغرب اإلفريقي كما رأينا في مقالنا السابق والذي عنوانه "نشأة المدرسة الحديثة بموريتانيا والدور
الجزائري في تطويرها" والمنشور في الشبكة .لذلك كانت نشأة مدرسة بوتلميت والمدارس ،التي صاحبتها أو تلتها نشأ ًة ،استجاب ًة لتلك الرغبة
ي جوزيف روجيه
وكان قبل وصوله لموريتانيا يعمل في غينيا كوناكري .وقد أشار (Joseph Roger)،كان أول مدير لمدرسة بوتلميت هو الفرنس ّ
بابه بن الشيخ سيديا على المدير الجديد -عند وصوله -بزيادة وقت دروس اللغة العربية والمواد الشرعية والتمكين لها ،وقد وافق المدير على
المقترح .وكإجراء تنفيذي اقترح بابه إسنا َد تلك المواد إلى السيد أحمد ولد المختار فال ،فقام بذلك على أحسن وجه وأتمه .وأحمد ولد المختار فال،
المتوفى سنة 1970عن نحو مائة سنة ،شاعر مجيد ونحوي بارع وفقيه من أسرة من أوالد بوسعيد من أوالد الناصر نسبا ،لكنها بحكم وشائج القربى
والخؤوالت والمساكنة من أوالد أبييري وخصوصا أوالد انتشايت ،وقد توطدت عالقتها بهم حتى أصبحوا جز ًءا منهم .وكانت دروس ولد المختار فال
العربية واللغة الفرنسية ،وهما من أرستقراطية الهالبوالر ،ومن أعيان مدينة كيهيدي على وجه الخصوص .وقد تخرجا من مدرسة سانت لويس
الخاصة بأبناء األعيان ،كما أن محمدُّو أحم ُّد باه كان قد درس بمدرسة الجزائر ،وعايش التجربة التربوية الفرنسية هنالك .كما أن هذين األخوين إلى
جانب تدريسهما بمدرسة بوتلميت كانا يعمالن مترجمين في اإلدارة الفرنسية .وقد عمال فيما بعد في مختلف دوائر موريتانيا وخصوصا آدرار
.والضفة والترارزة
وفي فبراير 1914كانت مدرسة بوتلميت على موعد مع تسعة تالميذ من منطقتي الترارزة والبراكنة وتلميذ من منطقة نواذيبو ،ومن بينهم محمد ولد
الراجل وأبو مدين وشقيقه محمد ابنا الشيخ سيدي محمد (اباه ديدي) ابن الشيخ أحم ُّد بن سليمان ،ومحمد سالم ولد أحمد ولد عبد العزيز (من نواذيبو)
الذي ترك مدرسة اندر قبل سنة ،وغيرهم .ومن المالحظ ،حسب التقارير الصادرة عن المدير روجيه ،أن الشبان التسعة قد حفظوا القرآن قبل
.دخولهم المدرسة ،ودرسوا جوانب هامة من العلوم العربية واإلسالمية في محاظر عريقة
بدأت الحرب العالمية األولى في يوليو 1914فتوقف التدريس في بوتلميت سنتين دراسيتين ،كما حدث في مدارس المذرذره وكيهيدي وبوغي وسان
لويس ،وخصوصا ما بين عامي 1915و . 1917وفي تلك األثناء ترك جوزيف روجيه إدارة مدرسة بتلميت ليحل محله فرنسي آخر هو أدريان الروك
الذي كان قبل ذلك في تونس .ويعرف عن الروك تفانيه في مهنة التدريس وحبه للصحراء الموريتانية ،وإعجابه بالكفاءة الذهنية )(Adian Larroque
للموريتانيين وتقديره لقدرات الطالب الموريتانيين االستيعابية .وكثيرا ما عبر عن تلك الكفاءة الذهنية وتلك القدرات االستيعابية في تقاريره بعبارة
التي فاجأته وأغرته بتلك البالد وبأهلها .لقد كان الروك معجبا بالبيئة الموريتانية ال يفتأ يذكرها مادحا معجبا "" (L'âme maure)،الروح البيضانية
.مفتونا ،وقد زاد عدد التالميذ في عهده؛ حيث قام بجوالت الكتتاب التلميذ في المناطق الداخلية الموريتانية
.وببكر باه يدرسان المواد الفرنسية اثنتين وعشرين ساعة أسبوعيا ،وهو ما يعني أن العربية تأخذ نسبة %27.27من الوقت المخصص للدراسة
وفي تقرير آخر يذكر الروك أنه أعرب عن رغبته في إنشاء متحف صغير للطالب ،لتعليمهم الكلمات الفرنسية للنباتات والحيوانات المحلية ،لكنه
.كان يفتقر إلى الموارد الالزمة للقيام بذلك .ورغم تطلع الطالب لذلك المتحف فإن ظروف المدرسة البدوية لم تسمح بتحقيقه
وفي تقرير ثالث يذكر الروك أنه خصص ساعة وربع الساعة في األسبوع لمادة الرسم ،والحظ أن طالب المدرسة استمتعوا كثيرا بهذه المادة ،وقد
دربهم على رسم تصاميم هندسية معقدة لبعض مظاهر الحضارة األندلسية ،مثل واجهة قصر الحمراء في غرناطة ،وهو ما كان محط اهتمام بالغ
.للطالب .وقد قام بتزيين حجرة الدراسة بأفضل أعمال الطالب في هذا المجال
وفي تقرير آخر يذكر أن من أبرز التحديات التي واجهته حص َة األناشيد ،فقد كان التالميذ يرفضون تأديتها ،ويتبرمون من الغناء ،وهو ما لم يفهمه
!الروك في البداية .وعندما سألهم عن سبب امتناعهم من تأدية الغناء قالوا له :هذا ال يفعله إال الصبيان ،أما الكبار فال يحسن بهم أن يغنوا
ويتحدث الروك في أحد تقاريره عن صعوبة واجهته وهو يدرس مادة التاريخ ،فقد كان المقررُ الدراسي ينص على أن يدرس الطالب كتاب آندريه
(André Léguillette, Histoire de l'Afrique Occidentale Française)،لي ِغيَّتْ "تاريخ إفريقيا الغربية الفرنسية" الصادر بدكار سنة 1913
وهو ما قام به الروك نفسه وبمعية زميله محمدُّو باه ،لكن التالميذ تبرموا من التاريخ اإلفريقي ،وأنفوا من سرده ،وأبدوا رغبتهم في أن يدرسوا في
وقد طرح الروك المشكلة على بابه بن الشيخ سيديا الذي نصحه بتدريسهم أبوابا من مقدمة ابن خلدون ،وفصوال من البيان المغرب البن عذاري،
ونصوصا من الحلل الموشية في األخبار المراكشية ،وبعض مقاطع االستقصا ألخبار دول المغرب األقصى ألحمد بن خالد الناصري السالوي .ومن
حسن حظ المدرسة أن مكتبة أهل الشيخ سيديا ببوتلميت تحتوي على جميع هذه المراجع .وقد تم اعتماد ذلك الرأي ،فارتاح التالميذ لمادة التاريخ
.وأقبلوا عليها
تولى ببكر أحمدو باه إدارة المدرسة باإلنابة ،وقد بقي مديرا أربع سنوات إلى أن حصل بينه وبين بعض التالميذ وآبائهم سو ُء تفاهم كما تذكر بعض
التقارير ،فتم استبداله بالجزائري مكي الجنيدي بن أحمد سنة 1922كما رأينا في مقالنا المذكور آنفا .وكان الجنيدي معلما متجوال في إفريقيا الغربية
قبل وصوله موريتانيا في تلك كالسنة .ومع الجنيدي بن أحمد بدأت مدرسة بوتلميت بل المدارس الموريتانية منذ ذلك العهد ما يمكن تسميه الفترة
أدرك مكي الجنيدي أن جذب نخبة التالميذ الموريتانيين يستلزم أن تكون مدرسة بتلميت تتقاطع مع المحظرة التقليدية في بعض المناهج ،ولهذه الغاية
قام بدمج "ديوان الشعراء الستة الجاهليين" في درس األدب ،كما دعا بعض أعيان مدينة بتلميت المشهود لهم بالعلم إلى حضور جلسات تقييم
الطالب؛ بحيث يكون جز ٌء من تقييم المدرسة ومحتوى التدريس بها منوطا بالوسط األهلي .وقد استجلب كتبا كثيرة ومطبوعات حديثة مما وسع أفق
ومع ذلك ما لبثت عالقة الجنيدي بن أحمد أن توترت مع وجهاء بتلميت ،فتم تعليق العمل بمدرسة بوتلميت وتحويلها مؤقتا إلى المذرذرة حيث سيبقى
مكي الجنيدي هناك حتى سنة 1928تاريخ عودته للجزائر .وقد تم نفي الشيخ أحمد حماه هللا إلى المذرذره في فترة وجود الجنيدي بن أحمد فيها (من
1924إلى ) 1930كما هو معلوم .وسيخلف الجنيدي في إدارة مدرسة المذرذره أحمدو ببكر باه .وتذكر الوثائق أن الجنيدي نقل معه من بوتلميت
مكتبة المدرسة إلى المذرذره والتي تبلغ 880كتابا .وفي سنة 1929وصل إلى مدرسة بوتلميت المدرس المتميز وصاحب التجربة التربوية الغنية
ومع سنة ، 1930ومع إدارة بوعالم ولد الرويس ،سيتزايد أعداد تالمذة مدرسة بوتلميت ،وستنفتح على أبناء الشرائح المختلفة من أبناء التجار
.والمترجمين والحراس والحراطين بعد أن كانت حكرا على أبناء الشيوخ واألعيان
تحدثت الرحالة الفرنسية أوديت دو بويغودو ،التي زارت بوتلميت في فترة إدارة الرويس ،عن مدرسة المدينة وعن ازدهارها المتسارع؛ حيث نجح
ولد رويس في تسجيل أبناء العديد من عائالت ساكنة المدينة وغيرها من مناطق الترارزة والبراكنة ،وأخضعها لنظام تربوي صارم تدريسا وتنظيما
وبعد ثماني سنوات من العمل الجاد في مدرسة بوتلميت وفي سنة 1938تم تحويل بوعالم ولد الرويس إلى مدرسة أطار في شمال البالد والتي كانت
قد أنشئت تلك السنة .وقد حل محله في إدارة مدرسة بوتلميت الجزائري مصطفى بن موسى (توفي )1997المنحدر من األغوات والذي ظل في
كان مصطفى بن موسى محل تقدير من سكان المدينة لعلمه وأخالقه ،وله عالقة وثيقة بالقاضي إسماعيل ولد بابه بن الشيخ سيديا وغيره من أعيان
وهو المدير باللغة الفرنسية .وقد تعرضنا في مقالنا المنشور والمذكور فوق Directeur،وكبار شخصيات بوتلميت .وكان مشهورا بلقب "دلكتير" أي
.الندماج األساتذة الجزائريين المذكورين من سيدات موريتانيات وبالتالي أصبحوا أقرب للمجتمع الموريتاني
كانت التجربة الجزائرية في المدارس الموريتانية عموما وفي بتلميت بوجه خاص تجربة ناجحة من حيث تطوير التعليم والتمكين للمدرسة النظامية
وفي تطور إيجابي على المستوى الموريتاني ،وبمبادرة من عبد هللا بن الشيخ سيديا رحمه هللا ،تم في فبراير 1947فتح مدرسة للبنات في بوتلميت
جنبًا إلى جنب مع المدرسة القديمة التي كانت تستقبل األوالد فقط .وكانت مهمة تلك المدرسة تعميم التعليم ليشمل العنصر النسوي وخصوصا بنات
.األعيان وزعماء المجتمع التقليدي إلى جانب بنات الموظفين الموريتانيين العاملين في بوتلميت
وفي نهاية أربعينيات القرن الماضي وبعد الحرب العالمية الثانية ،عاد طاقم التدريس الجزائري إلى بلده ،أو إلى مستعمرات فرنسية أخرى غير
.موريتانيا ،وأصبح اإلطار التدريسي في أغلبه ما بين فرنسي أو موريتاني وأحيانا يوجد معلمون من غرب إفريقيا في بعض المدارس الموريتانية
ي العا َّم في موريتانيا ،وقد أبدى حماسه لفكرة إنشاء المعهد لما عرضها عليه
ي الفرنس َّ
الوزراء الفرنسي األسبق بيير مسمير (توفي )2007هو الوال َ
كان المعهد مستقال عن النظام التربوي الفرنسي في اندر ،وكان تمويله من مال عبد هللا بن الشيخ سيديا الخاص ،وقد تم افتتاحه الرسمي في يونيو
، 1953وانطلق بإطار إداري وتربوي من عشرة موظفين .ولم يقتصر في استقباله للطالب على الموريتانيين من مختلف مناطقهم بل استقبل طالبا
من دول إفريقيا الغربية .وبحلول منتصف ديسمبر 1953كان عدد طالب المعهد 32طالبًا من بينهم اثنان من غينيا بيساو وسنغاليان والبقية
.موريتانيون
وفي سنة 1954بلغ عدد الطالب بالمعهد خمسة وأربعين ،فيهم بعض الغامبيين وبعض الغينيين .ويتحدث تقرير صادر في يناير 1955من السير
بريان شاروود سميث الحاكم العام لشمال نيجيريا ،أن أخبار معهد بوتلميت وصلت شمال نيجيريا ،وأن أعيان المجتمع النيجيري مهتمون بابتعاث
أبنائهم إلى بوتلميت ،لذلك أصبحت بوتلميت مع منتصف خمسينات القرن العشرين مركز إشعاع إسالمي في غرب إفريقيا ،ولن نصل إلى سنة
وكان من أبرز أساتذة معهد بوتلميت محمد عالي بن عبد الودود وابنه محمد يحيى ،واسحاق بن محمد ،ومحمد بن أبي مدين والمختار بن حامدٌ وسيدي
.محمد الديين وغيرهم .وقد كلف محمد مختار ولد محمد فاضل بتدريس مادة اللغة الفرنسية بالمعهد
وبعد االستقالل ،وفي 24مايو ، 1961تم وضع معهد بوتلميت تحت الوصاية المشتركة لوزارة التربية والتعليم والشباب ووزارة العدل الحديثتي
.اإلنشاء ،وقد أنيط بمهمة تطوير ونشر الثقافة اإلسالمية والعربية ،والمساهمة في تدريب الباحثين والمدرسين والقضاة
خاتمة
لعله من المفيد للمهتم بتاريخ التعليم في موريتانيا الوقوف على تجارب المدارس "البدوية" التي عرفتها البالد ما بين عشرينيات وثالثينيات القرن
الماضي في بوتلميت وتنبدغة وأطار وكيفه والمذرذره وغيرها .وقد ركزنا هناك على التجربة التعليمية في بوتلميت ،وسنتناول في المقال التالي
في الواقع فإن خصوصية بوتلميت أنه عرف إلى جانب مدرسته الرائدة تأسيس مركز‡ الدراسات اإلسالمية الذي ساهم بوصفه مؤسسة تعليمية عليا
في ترسيخ اللغة العربية والعناية بها ال في موريتانيا فحسب بل امتد ليشمل نخبة هامة من نخب غرب إفريقيا في خمسينيات وستينيات القرن
الماضي ،من بينها -على سبيل المثال ال الحصر -اإلمام محمود ديكو ،وهو أحد أبرز الالعبين السياسيين اآلن في جمهورية مالي ،وهذه العالقة بين
.بالدنا وبين شخصيات ذات تأثير هام في بالدها من القوة الناعمة التي ال ينبغي التفريط فيها تمكينا لبالدنا وتوظيفا إيجابيا لتلك العالقات لصالحنا
انتهى