You are on page 1of 352

‫القرب العمي من الواقع‬

‫الالواقعية وشبه الواقعية في الفيزياء‬

‫‪1‬‬
‫الكتاب األصلي‬
‫‪L'aveuglante proximité du réel, by Michil Bitbol‬‬
‫‪Flammarion, Paris 1998‬‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬القرب العمي من الواقع‬


‫تأليف‪ :‬ميشيل بيتبول‬
‫ترجمة‪ :‬موس ى ديب الخوري‬
‫لوحة الغالف‪" :‬الراقب" ألوليفيا بوا‬
‫إخراج وتصميم الغالف‪ :‬دارين أحمد‬

‫جميع الحقوق محفوظة للدار‬


‫الطبعة األولى‪ :‬دمشق ‪4102‬‬

‫معابر للنشر والتوزيع‬


‫سوريا‪ ،‬دمشق‬
‫ص‪ .‬ب‪6655 :‬‬
‫هاتف‪00963-11-3312257 :‬‬
‫بريد إلكتروني‪maaber@scs-net.org :‬‬

‫‪2‬‬
‫القرب العمي من الواقع‬

‫الالواقعية وشبه الواقعية في الفيزياء‬

‫ميشيل بيتبول‬

‫ترجمة موس ى ديب الخوري‬

‫معابر للنشر ‪4102‬‬

‫‪3‬‬
4
‫مقدمة الترجم‬

‫إلى أين يقودنا تقدم البحث التجريبي في الفيزياء؟ هل يقودنا فعال إلى معرفة العالم ‪/‬‬
‫الذات؟‬
‫منذ أعمال برنار دسبانيا‪ ،‬تركز انتباه الفالسفة على مسألة ماذا يواجه الفيزيائيون‬
‫ً‬
‫فعال وعم يحدثنا هذا في النهاية‪ .‬هل يحدثنا عن واقع حقيقي‪ ،‬مستقل عن فعلنا وتأثيرنا‬
‫على الطبيعة الواقعية‪ ،‬أم عن واقعية تجريبية بحتة تنتج بواسطة أدوات قياسنا‬
‫الالواقعية؟ كان دسبانيا قد ّبين ارتباط النظريات السماة "ذات الوضوعية الضعيفة"‬
‫مع معايير التجارب ومع أدوات القياس‪ ،‬وأكد على فكرة واقع حقيقي بعيد‪ ،‬مدرك ليس كـ‬
‫ً‬
‫"الش يء في ذاته" الكانطي‪ ،‬النذور ليبقى غامضا بالنسبة لنا‪ ،‬بل كمجال غير مؤكد‬
‫و"محجوب" لن نستطيع الحصول منه على عناصر معلومات إال بشكل غير مباشر‪ .‬إنه‬
‫موقف شبه مناظر للذي يدافع عنه بيتبول في هذا الكتاب‪.‬‬
‫إن الوقف األصلي ليشيل بيتبول يعاكس الطروحات اإلبستمولوجية السائدة‪.‬‬
‫ً‬
‫فمثاليته التجاوزية توازنها واقعية تجريبية يمكن صياغة معناها على النحو التالي‪ :‬أيا كان‬
‫ً‬
‫اكتمال أجهزة قياسنا ومعاييرنا التجريبية‪ ،‬فإننا لن نعرف أبدا إال ما يظهر إلحساساتنا أو‬
‫ً‬
‫المتداداتها األداتية‪ ،‬أي الظاهرات‪ .‬وبهذا العنى‪ ،‬فإن الحقيقي ليس بعيدا‪ ،‬بل هو قريب‬
‫ً‬
‫إلى درجة أنه "يعمي" من خالل قربه‪ .‬لهذا‪ ،‬ال يجب البحث عن الواقعي والحقيقي خارجا‬
‫ً‬
‫أو بعيدا؛ ال في اليتافيزياء التي تتجاوز التجربة وال في التالقي التدرج والتزايد للنظريات‬
‫ً‬
‫التي ظهرت عبر التاريخ‪ .‬إنه موقف أصيل يعاكس طروحات منتشرة جدا في‬
‫اإلبستمولوجيا منذ بيرس ‪ Peirce‬وتم تحسينها وتطويرها منذ بوبر ‪.Popper‬‬
‫وال يغري بيتبول أكثر الفهم السمى الداللي للنظريات الفيزيائية‪ ،‬وهو فهم يهدف إلى‬
‫أخذ نماذج النظريات بعين االعتبار‪ ،‬أكان لكي تستنتج منها أشكال واقعية ممكنة‪ ،‬أو من‬
‫ً‬
‫أجل تبيان الضغط الذي كانت تمارسه الطبيعة في انتقاء النظريات‪ .‬ويعد بيتبول وفيا‬
‫‪5‬‬
‫لروح الشروع الكانطي‪ ،‬ومن هنا فهو يريد أن يتعرف في النظريات على "لحظات‬
‫ّ‬
‫تجاوزية" مشكلة للموضوعية‪ .‬وهذه اللحظات ستكون مدرجة في الصوريات النظرية‬
‫كخلفية للمفترضات السبقة للنشاطات التجريبية‪.‬‬
‫يصبح تاريخ الفيزياء عندها "سلسلة متتالية من الراحل غير الستمرة‪ ،‬ومن‬
‫ً‬
‫التوسعات لعايير مفترضة مسبقا عبر ديناميكية نشاطات البحث‪ ،‬يليها تفسير هذه العايير‬
‫عتمد عند كل مرحلة من تعميمها"‪ .‬فثمة بالفعل تالق باتجاه‬ ‫بواسطة صورية نظرية ت َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ش يء ما‪ ،‬لكن هذا الش يء لن يكون كائنا وواقعا نهائيا‪ ،‬بل باألحرى أساس كل تجربة‬
‫فيزيائية ممكنة‪ .‬لهذا يسمي بيتبول هذا الطرح بـ "التالقي االنعكاس ي"‪.‬‬
‫إن الهدف من هذا الكتاب هو استخالص كافة النتائج من فكرة تمت صياغتها منذ‬
‫وقت مبكر في تاريخ اليكانيك الكمومي‪ :‬وهي فكرة أن هذه النظرية تترجم حالة من عدم‬
‫االنفصال بين الوضوع واألداة الستخدمة في سبره التجريبي‪ ،‬وأنها بالنتيجة ال تقدم‬
‫صورة عن الطبيعة بل فقط "صورة عالقاتنا مع الطبيعة" كما يقول هايزنبرغ‪.‬‬
‫إن الصعوبات التي نصادفها عندما نحاول استخدام اليكانيك الكمومي من أجل‬
‫ً‬
‫الكشف عن سمات مفترضة خاصة بالواقع‪ ،‬تتبدى عندها منسوبة مجازيا إلى "القرب‬
‫العمي" لهذا الواقع‪ ،‬باألحرى من كونها منسوبة إلى بعده الفرط‪.‬‬
‫كذلك يجب إعطاء شكل واتساق للمفهوم الجديد للنظرية الفيزيائية إثر هذا التحول‬
‫في التمثيالت اإلبستمولوجية‪ .‬فماذا يمكن أن تكون نظرية ما إذا لم تكن "‪،"Theoria‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وفق الفهوم اليوناني‪ ،‬أي تأمال ممنهجا لصيرورة طبيعية مفترضة كصيرورة خارجية‪1‬؟‬
‫وماذا يجب أن يشبه نمط تنظيم عقلي للنشاطات التجريبية وللظاهرات الناجمة عنها‬
‫التي‪ ،‬كما كتب كاسيرر ‪ ،Cassirer‬لم يكن هدفها "[‪ ]...‬كسر حدود عالم التجربة لكي نعد‬
‫ً‬
‫ألنفسنا مخرجا نحو عالم التجاوز‪ ،‬بل أن نتعلم قطع وعبور هذا العالم التجريبي بكل‬

‫‪ 1‬راجع تعريف بيتبول بكتابه على موقعه على االنترنت‪ ،‬ومنه استقيت هذه القدمة‪:‬‬
‫‪http://michel.bitbol.pagesperso-orange.fr/aveuglante.proximite.html‬‬
‫‪6‬‬
‫ّ‬
‫التحول لفاهيمنا للنظرية الفيزيائية أال‬ ‫أمان ويقين‪ ،‬وسكناه بشكل مريح"؟ لكن مثل هذا‬
‫يتضمن القيام بعدة تخليات ال يمكن القبول بها؟‬
‫الجواب الطروح على هذا التساؤل األخير أنه مقابل التراجع األنطولوجي الظاهر‬
‫لشروع الفيزياء هناك تقدم إبستمولوجي ال جدال فيه؛ وأن نظرية فيزيائية من النمط‬
‫الذي يتصوره كاسيرر ‪ Cassirer‬ستجد أن حقل صحتها سيتوسع في الوقت نفسه الذي‬
‫ّ‬
‫سوف تقلص فيه من طموحاتها؛ وأن معرفة ال تكون شاملة بشكل معقول إال بشرط‬
‫التخلي عن كونها موضوعانية بشكل شمولي؛ وأنها ال تكون عامة بدرجة كافية إال بشرط‬
‫أن تكون في جزء منها تشاركية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التخلي عن الشمولية باسم مفهوم ثابت وعالمي للموضوعية يشكل خيارا مقبوال‬
‫(وقد ّبين فعاليته خالل عصر الفيزياء الكالسيكية)‪ ،‬لكنه يفض ي إن عاجال أو آجال إلى‬
‫ّ‬
‫ظهورات "عودة الكبوت" االبستمولوجي‪ .‬وقد ذكرنا اليكانيك الكمومي بهذا‪ ،‬بين أمور‬
‫أخرى‪ ،‬بشكل غامض وإن كان بإصرار‪ .‬فأن نفقد هذه الرؤية ونغفلها من جديد لبعض‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الوقت لن يشكل أبدا تقدما للفكر‪.‬‬
‫إن االختبار الرئيس ي لثل هذا الفهوم يشتمل على تبيان أن بعض اليزات التي اعتبرت‬
‫تم توضيحها بشكل كبير طالا أننا نحل محل مفهوم‬ ‫غامضة في اليكانيك الكمومي قد ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الفهوم الذي يجعل منها تقريرا تنبؤيا‬ ‫النظرية الفيزيائية كوصف منفصل عن العالم‪،‬‬
‫لالرتباطات واالتصاالت المكنة في العالم‪.‬‬
‫أول سمة مميز لهذا النوع هو الالتحديدية‪ .‬لهذا عمل بيتبول على تبيان أن‬
‫الالتحديدية الكمومية تفهم بسهولة كمؤشر على الإنفصالية الظاهرة وشروط ظهورها‪،‬‬
‫ً‬
‫بدال باألحرى من فهمها كانعكاس للنظام (أو للفوض ى) من طبيعة منفصلة‪.‬‬
‫أعيد تقديرها على ضوء قدرتها (الجزئية‬ ‫وضمن التوجه نفسه‪ ،‬فإن النظرية الذرية َ‬
‫فقط) على توحيد طيف واسع من الشاريع التجريبية الشتركة‪ .‬وأعيد مفهوم الفراغ‬
‫ً‬
‫غالبا ما يجسد أو َّ‬
‫يشبه بمفهوم "أثير جديد"‪ ،‬إلى نسبيته اتجاه الحالة‬ ‫الكمومي‪ ،‬الذي‬
‫الديناميكية لعائلة من كواشف األحداث النفصلة‪.‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬فإن الفهوم الذي يدافع عنه بيتبول في كتابه "القرب العمي من الواقع"‬
‫ً‬
‫يصل إلى مفهوم لتاريخ الفيزياء بعيد جدا عن فكرة "التالقي التقارب باتجاه اإلخالص‬
‫‪7‬‬
‫للواقع" الذي يبدو أنه يشكل الحكمة الشتركة في هذا الجال‪ ،‬على األقل منذ بيرس ‪C.S.‬‬
‫‪ .Peirce‬يسمى هذا الفهوم الجديد "التالقي االنعكاس ي"‪ ،‬ألنه يشتمل على مالحظة أنه‬
‫باإلضافة إلى تقاطع القابليات التكنولوجية التي يستجرها التقدم في الفيزياء‪ ،‬فإن هذا‬
‫التقدم يميل إلى أن يكشف لنا بشكل أفضل (عبر بنية الصوريات) عن العايير التي تحكم‬
‫نشاطاتنا الخاصة في االستكشاف التجريبي‪ .‬إن نجاح النظريات في الضبط التنبؤي‬
‫للظاهرات التجريبية‪ ،‬وفي التوحيد الشكلي‪ ،‬يعود إلى قدرتها على أن تترجم الفترضات‬
‫ً‬
‫السبقة للعقالنيات اإلجرائية الوافقة لطبقات أكثر فأكثر عمقا وعمومية للنشاط‬
‫التجريبي‪ .‬إن هذه الفترضات تشتمل على ما يسميه بيتبول "الخلفية البراغماتية‬
‫التجاوزية" للنظريات الفيزيائية‪.‬‬
‫إن مجرد تقديم بديل لتفسير نجاح النظريات بواسطة الواقعية التالقية يجعل هذا‬
‫التفسير أقل جاذبية‪ ،‬طالا أن إحدى الحجج الكبرى لهذا التفسير كانت ّ‬
‫تفرده‪ .‬بالقابل‪،‬‬
‫تنخفض جاذبيته أكثر إذا أخذنا بعين االعتبار النظام الحالي لنماذج النظريات الفيزيائية‬
‫األكثر غنى في الحتوى األنطولوجي‪ .‬وطالا كان من المكن‪ ،‬خالل الفترات التي تلي ثورة‬
‫علمية‪ ،‬صياغة نموذج َّ‬
‫موحد يندرج ضمن تراتبية تقليدية من األنماط األنطولوجية‪،‬‬
‫فقد كان بإمكاننا التفكير أن اللحظة الوجزة التي تعرضت لها الركيزة التجاوزية للنظريات‬
‫لم تكن سوى لحظة طارئة على مسارها‪ ،‬وأن ديناميكية البحث كانت تظل باإلجمال‬
‫ً‬
‫متجهة نحو فهم تقاربي لنموذج صحيح للطبيعة‪ .‬ولكن بدءا من اللحظة‪ ،‬كما في حالة‬
‫اليكانيك الكمومي‪ ،‬التي ال تعود تسمح فيها النماذج القترحة بتقديم تمثيل َّ‬
‫موحد وغير‬
‫اعتباطي‪ ،‬وحيث في الوقت نفسه تظل الخلفية التجاوزية للنظرية مكشوفة‪ ،‬فإن لدينا‬
‫الحق على العكس أن نتساءل إذا لم تكن األولوية السابقة العطاة للنماذج تعود إلى‬
‫حادث تاريخي طويل‪ .‬وهذا الحادث‪ ،‬كان احتواء البحث وحصره في بيئة النوع اإلنساني‪،‬‬
‫في بيئتنا الباشرة‪ ،‬على هذه الجزيرة من الوسط الباسكالي حيث ال تقود االفتراضات‬
‫السبقة البراغماتية للفعل واللغة‪ ،‬كما على سبيل الثال وسط نزع السياقية‪ ،‬إلى أي‬
‫‪8‬‬
‫طريق مسدود‪ .‬وبسبب هذا الحادث ليس إال فإن ال ش يء يمنع من متابعة التحضير‬
‫لتراتبية من أنماط النماذج التي كان نموذجها البدئي هو نموذج "الش يء" والكان في البيئة‬
‫اليومية‪ ،‬على الرغم من اعتراضات الوضعيين ومن النظرة النقدية للكانطيين الجدد‪.‬‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬بالنظر إلى دروس اليكانيك الكمومي‪ ،‬فإن إدراكنا لا هو طارئ ولا هو أساس ي‬
‫ً‬
‫في تاريخ الفيزياء‪ ،‬ينعكس تماما‪.‬‬
‫إن السلسلة الطويلة من أنماط النماذج يظهر كأثر دائم إنما طارئ إلسقاط معايير‬
‫وافتراضات مسبقة لنشاطاتنا التجريبية على الطبيعة‪ .‬إسقاط يميل إلى التحقق وفق‬
‫ً‬
‫نمط قريب جدا وأقرب ما يكون من الفهم السبق اإلدراكي والحرض لهامنا اليومية‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى العكس‪ ،‬فإن ما يظهر أنه أساس ي بعديا في تاريخ النظريات الفيزيائية‪ ،‬هي هذه‬
‫اللحظات الباهتة والعابرة في البداية ثم التي تصبح ظاهرة أكثر فأكثر‪ ،‬حيث نبش بعض‬
‫كبار ممثلي الفترات الثورية األسس البراغماتية ‪ -‬التجاوزية للمرحلة التي كانوا يجتازونها‪.‬‬
‫ً‬
‫وبالتركيز على هذه اللحظات بدال من التركيز على الراحل ما بعد الثورية من إعادة‬
‫ً‬
‫تجهيز النماذج‪ ،‬فإننا نصل إلى فهم تاريخ الفيزياء بطريقة معاكسة جذريا بالتأكيد لطريقة‬
‫ً‬
‫الواقعية التالقية‪ ،‬إنما أكثر تنظيما من االنتشارات الفوضوية من الحاوالت واألخطاء‬
‫على طريقة فايرباند ‪ .Feyerabend‬هكذا فإننا نتوصل إلى اعتبار هذا التاريخ كمتتالية من‬
‫ً‬
‫الراحل غير الستمرة والتقطعة من التوسعات لعايير مفترضة مسبقا بواسطة ديناميكية‬
‫نشاطات البحث‪ ،‬والتي تالها تفسير هذه العايير بواسطة تشكيل نظري متوافق مع كل‬
‫مرحلة من تعميمها‪ .‬إن توسعة هذه العايير تتم من جهتها في زمنين أساسيين‪ .‬ففي مرحلة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أولى‪ ،‬تعمل نظرية فيزيائية سابقة كمنهجية مشكلة من معايير مفترضة مسبقا بواسطة‬
‫نمط تقليدي من النشاط التجريبي ومن ترقب نتائجها‪ .‬وفي مرحلة ثانية‪ ،‬فإن ظرف‬
‫ً‬
‫القيمة غير العدومة لثابتة كونية (تترجم هي نفسها‪ ،‬وفق البدأ اإلنساني الضعيف‪ ،‬شيئا‬
‫ً‬
‫ما من وضعنا ككائنات في العالم بدال باألحرى من ش يء ما من العالم كما هو‪ ،‬بشكل‬
‫ّ‬
‫الجرب الذي يواجهه مجال ال يمكن إهمال‬ ‫مستقل عن الوضع الذي نحتله فيه) ّ‬
‫يقيد‬
‫‪9‬‬
‫هذه النتيجة فيه في إعادة توجيه نشاطه‪ ،‬وتوسعة العايير وصياغة نظرية أخرى تشتمل‬
‫على هذه العايير الجديدة‪.‬‬
‫باعتمادنا لهذه الطريقة في فهم تاريخ الفيزياء‪ ،‬نصل إلى عدة أهداف إبستمولوجية‬
‫هامة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ .0‬فنحن ندرك من اآلن فصاعدا تطور النظريات كصيرورة تستعير شيئا ما من‬
‫معقولية الناهج البحثية الرتكزة على العتقد الواقعي‪ ،‬وإن كانت تتمايز بشكل‬
‫جذري عن نمط مقاربة الواقع‪ .‬وتحت غطاء من اختالف اإلعدادات‬
‫والتحضيرات‪ ،‬واختبارها وسحب نماذج معينة وطيها‪ ،‬فإن هذه الصيرورة تميل‬
‫في الواقع إلى أن تنتخب بطريقة مضبوطة عقالنيات إجرائية أكثر فأكثر عمومية‬
‫متوافقة مع كل مرحلة من توسعة البحث‪.‬‬
‫‪ .4‬نتجاوز هكذا مسألة التحديدية التحتية‪ ،‬طالا أن هذه األخيرة تتعلق بالغنى‬
‫التمثيلي للنماذج وليس االفتراضات السبقة التجاوزية بحدها األدنى لمارسة‬
‫ما‪ ،‬وهو ما ي َّعبر عنه بالبنية التحتية التنبؤية للنظرية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ .3‬نعطي معنى جديدا ألحادية اتجاه العمل العلمي‪ ،‬وذلك بتجنب ربطه مع هذا‬
‫األقنوم من البنى التحتية األنطولوجية للنماذج الذي كان يميل إلى دعم الواقعي‬
‫في انطباعه بمتابعة بحث عن الحقيقة الوافقة بنجاح‪.‬‬
‫‪ .2‬على ضوء مثل هذا التصور‪ ،‬فإن اإلجراء العياري الذي يدخل متتالية متكاثرة‬
‫من الخمنات والتفنيدات للنماذج ي َّ‬
‫فسر بالصعوبة الكامنة في تحديد العايير‬
‫ً‬
‫التي تكون متضمنة أحيانا لبحث ما دون مساعدة ترجمتها الوضوعانية على‬
‫شكل نماذج‪ .‬إن أسطورة التالقي باتجاه الحقيقي ‪ /‬الواقعي تبدو بالتالي مثل‬
‫لتالق آخر‪ .‬وهذا التالقي‪ ،‬هو ما يسميه‬
‫اإلسقاط األنطولوجي‪ ،‬أو الصورة في الرآة ٍ‬
‫بيتبول "التالقي االنعكاس ي"؛ أي التالقي باتجاه األشكال األكثر عالية لعملية توجه‬
‫الكائن الحي في العالم‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ً‬
‫إن الفيزيائي وفقا لبيتبول ال يحدثنا بالتالي عن العالم‪ ،‬عن الطبيعة أو عن واقع‬
‫متجاوز‪ ،‬بل هو يحدثنا في أفضل األحوال عن العرفة وعن أعماق فكرنا‪ .‬فالفيزياء ال‬
‫تخبرنا ويا للغرابة إال حول الذات وليس حول الواضيع واألشياء!‬
‫إن هذا الطرح‪ ،‬وهو نواة الكتاب‪ ،‬يتعرض من قبل الكاتب نفسه عبر فصوله‬
‫الختلفة إلى نقاشات معمقة‪ ،‬مع الواقعيين كما ومع الالواقعيين‪ .‬وهو طرح مدهش بما‬
‫يكشفه من جوانب‪ .‬فنرى بيتبول يعيد هنا تقييم الذهب الذري الذي تضعضع مع تقدم‬
‫اليكانيك الكمومي‪ ،‬كشاهد بسيط مفضل بالنسبة له على "انحالل النواة اليتافيزيائية‬
‫لألنطولوجيات"‪ ،‬أي للنظريات حول ما يمكن أن تكون األشياء بذاتها‪ .‬فالفراغ الفيزيائي‬
‫ً‬
‫مثال لم يعد سوى "تابع عالجي بمواجهة التصلبات الوجودية"‪...‬‬
‫يضاف إلى هذا التطرف النقدي (ربما) إعادة تفسيرات جميلة أو توضيحات‪ ،‬وخاصة‬
‫فيما يتعلق بنظرية العوالم التعددة إليفيريت أو حول الصدفة الوضوعية في اليكانيك‬
‫الكمومي‪ .‬يمكننا مع ذلك عدم موافقة الكاتب حول قناعاته الكانطية الجديدة‪ ،‬حيث‬
‫تظل الثالية التجاوزية مثالية وتظل الشروع نفسه عبر التاريخ‪.2‬‬
‫عد ميشيل بيتبول اليوم من أهم فالسفة العلم‪ ،‬وهو يؤسس لنقد فلسفي صريح‬ ‫ي ّ‬

‫للتوجهات العلمية القبلة كما وللنماذج التي يتحول عبرها العلم في صيرورة بحثه عن‬
‫العنى الكامن فيما هو حقيقي وواقعي‪ .‬ميشيل بيتبول الطبيب‪ ،‬والفيزيائي والفيلسوف‪،‬‬
‫ً‬
‫هو أيضا بال شك أحد الـ "عبر مناهجيين" الذين يؤسسون لفكر فلسفي منفتح على العلم‬
‫ً‬
‫بقدر ما هو مؤسس على النطق‪ ،‬إنما يعتمد في بناء ركائزه أيضا العنى اإلنساني‪ .‬وهذا‬
‫الكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي هو أحد كتبه التي بين فيها القاربات الفلسفية للفكر‬
‫ً‬
‫العلمي من خالل عرض تحليلي ونقدي ألهم الدارس التي تسعى حاليا لسبر اليكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي‪ ،‬الجانب األكثر إدهاشا في عالم الفيزياء العاصرة‪.‬‬

‫‪L'aveuglante Proximité du Réel. Antiréalisme et quasi-réalisme en physique, La Recherche, n°315, 2‬‬


‫‪1998, p. 88.‬‬
‫‪11‬‬
‫ال ّبد لي من التطرق في النهاية إلى الصعوبة الزدوجة في ترجمة هذا الكتاب! فمن‬
‫ً‬
‫جهة‪ ،‬للغة ميشيل بيتبول سمة خاصة ال بد من االحتكاك بها كثيرا وعن قرب للتآلف‬
‫معها والقيام بترجمتها‪ .‬فهي إضافة إلى كونها لغة فلسفية وعلمية في آن واحد‪ ،‬فإنها تعبر‬
‫في الوقت نفسه عن فكر تحليلي عميق وعن رؤيا فكرية تقع على تخوم فلسفة العلوم‬
‫العاصرة‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن الصطلحات الفلسفية التي يستخدمها بيتبول والتي ّ‬
‫تعد‬
‫نموذجا للتجدد الفلسفي للعلوم التالقية‪ ،‬تطرح إشكالية االنقطاع الثقافي للغتنا العربية‬
‫ولفكرنا العربي أمام زخم اإلضاءات العرفية في شتى الجاالت‪ .‬وقد وجدت صعوبة بالغة‬
‫ً‬
‫في اعتماد مصطلحات معينة لم أجد تناوال لها في أدبيات الفلسفة العربية العاصرة‪.‬‬
‫ال بد لي في النهاية من اإلشارة إلى إن هذه الترجمة ما كانت لترى النور لوال تشجيع‬
‫الفكر اإلنساني أكرم أنطاكي‪ ،‬الذي وافق على ترجمة هذا الكتاب لصالح دار معابر‪،‬‬
‫والذي غادرنا قبل صدور الكتاب‪ ،‬فإلى روحه الباقية معنا أهدي هذا الكتاب‪ .‬كما أوجه‬
‫الشكر إلى أسرة دار معابر التي تابعت العمل على إصدار الكتاب‪.‬‬
‫دمشق في ‪ /46‬آب ‪4102‬‬

‫‪12‬‬
:‫مراجع القدمة‬

1. Michel Bitbol, Mécanique quantique : une introduction philosophique,


Collection Nouvelle Bibliothèque Scientifique, Flammarion, 1996 ;
réédition Champs-Flammarion, 1997.
2. Michel Bitbol, L’aveuglante proximité du réel : anti-réalisme et quasi-
réalisme en physique, Champs-Flammarion, 1998
3. Michel Bitbol, Physique et philosophie de l’esprit, Flammarion, 2000.
4. Michel Bitbol, De l’intérieur du monde : pour une philosophie et une
science des relations, Flammarion, 2010.
5. http://michel.bitbol.pagesperso-orange.fr/aveuglante.proximite.html

13
14
‫مقدمة‬

‫"ال ترى التجريبية أننا بحاجة إلى معرفة‬


‫ما الذي نبحث عنه‪ ،‬وإال ما كنا لنبحث عنه؛‬
‫وال ترى العقالنية أننا بحاجة إلى عدم معرفة‬
‫ما الذي نبحث عنه‪ ،‬وإال فإننا مرة أخرى ما‬
‫كنا لنبحث عنه‪".‬‬
‫م‪ .‬مرلو بونتي ‪M. Merleau-Ponty‬‬
‫‪Phénoménologie de la perception‬‬

‫ما هو الحقيقي؛ ومن هو الواقعي؟ إن "الواقع" ‪ ،réel‬هذه اللفظة ‪ -‬القيمة‪،‬‬


‫و"الواقعية"‪ réalisme ،‬هذه اللفظة ‪ -‬العقيدة‪ ،‬هما كلمتان فائقتا التحديد بدرجة كافية‬
‫ً‬
‫لكي يمكن لهما أن تغطيا‪ ،‬دونما صعوبة تذكر‪ ،‬ووفقا للظروف‪ ،‬مواضع شبه متعارضة‪.‬‬
‫ً‬
‫وتبدو مسألة معرفة ما هو الواقعي محسومة في الحقيقة مقدما بمقتض ى الفردات‬
‫الستخدمة‪ ،‬في الجدل التقليدي الذي يتواجه فيه الواقعيون العلميون من جهة‬
‫والتجريبيون أو الذرائعيون (األداتيون) من جهة أخرى‪ .‬والحال أن التجريبي يستطيع‬
‫التصرف بسهولة إزاء هذا التصنيف السبق‪ ،‬بمواجهته بشبكة قراءته الخاصة‬
‫وبمصطلحاته الخاصة‪ .‬وهو يرى أن الفالسفة الذين يصفون أنفسهم بأنهم واقعيون‬
‫ً‬
‫علميون عليهم أن يسموا أنفسهم باألحرى "عقالنيين"‪ ،‬ال بل (إذا ما أبدوا تصلبا)‬
‫"عقالنيين عقائديين"‪ .‬أفال يميلون إلى االعتقاد بوجود كينونات ّبينة (مدركة بالعقل)‪،‬‬
‫تسلم بها نظريات ذات ركائز رياضية‪ ،‬والتي ليس مستوى ظاهراتها التجلية في الختبر‬
‫وفقهم سوى األثر أو البرهان غير الباشر عليها؟ أال يقتربون بذلك من بعض العقائد‬
‫ً‬
‫الثالية التي يبدو أن كل ش يء بدءا بتسميتها كان يفصل مع ذلك بينها؟ وبمواجهة ذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن التجريبي‪ ،‬الذي يحفظ دائما نظره متجها نحو الحقائق العينية‪ ،‬أو اللموسة أو‬
‫‪15‬‬
‫بشكل ّ‬
‫أعم الحسية‪ ،‬التي يختبرها الباحث يمكن أن يقع في مطب اعتبار نفسه أنه‬
‫"الواقعي"‪ 3‬األصيل الوحيد‪ ،‬فيستعيد بذلك لصالحه اللفظة ‪ -‬القيمة "حقيقي"‪.‬‬
‫يعيد الواقعي والتجريبي‪ ،‬في إطار دراسة العلوم‪ ،‬إنتاج بنية الديالكتيك األقدم‬
‫للفيلسوف وللفنان‪ .‬إن الفيلسوف‪ ،‬وفق بول فاليري‪ ،P. Valery 4‬يعمل على رؤية الالمرئي‬
‫ً‬ ‫إلى ّ‬
‫حد أنه يكون عليه أن يجتاز من أجل ذلك الرئي متجاهال إياه؛ أما الفنان فإنه على‬
‫الدرك العقول الشبع به‪ّ .‬‬
‫يوجه‬ ‫العكس يستنفذ ذاته في العودة إلى الرئي‪ ،‬على الرغم من َ‬
‫الفيلسوف انتباهه‪ ،‬إلى ما وراء مثل هذه األوجه التي يتم الحصول عليها تحت منظورات‬
‫معينة‪ ،‬نحو "[‪ ]...‬هندسية هذه الناظير وكافة الناظير‪ ،‬أي إلى ّ‬
‫الحد أو الصطلح الذي ال‬
‫منظور له حيث يمكن اشتقاقها كلها منه [‪ ."5]...‬أما بالنسبة للفنان‪ ،‬فإنه ال يريد أن‬
‫ً‬
‫يفقد شيئا من الظهر ومن تغيراته‪ ،‬ومن إضاءته غير الؤكدة‪ ،‬ومن وجوده غير الوصوف‪.‬‬
‫فهو يرفض على سبيل الثال أن يتنصل من أن "[‪ ]...‬البحر يمتد في عمق الشهد‪ ،"6‬باسم‬
‫التصورة وعمقه الذي نستشعره‪ .‬وهكذا فإنه يصبح من السهل تحديد وجود‬ ‫َّ‬ ‫أفقيته‬
‫مؤشر على تسلسل مزدوج‪ ،‬يمتد من "فيلسوف" فاليري إلى الواقعي العلمي‪ ،‬ومن الفنان‬
‫إلى التجريبي‪ .‬نجد هذا الؤشر بداية عند غاليليه‪ ،‬الذي كانت الواقعية العلمية عنده‪،‬‬
‫العارضة بشكل مأساوي لذرائعية الكردينال بالرمين ‪ ، Bellarmin‬هي صلة الوصل لخيار‬
‫مقصود لصالح عقالنية رياضية مستلهمة من أفالطون‪ .7‬ونكتشفه بعد ذلك عند إرنست‬
‫ماخ ‪ E. Mach‬الذي يرى أن التجريبية بال توفيقيات ولدت‪ ،‬في اعترافه الصريح‪ ،8‬من‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 3‬يمكن أن نجد نقاشا مميزا من هذا النوع في‪C. Diamond, The realistic spirit, MIT Press, 1991, chapitre 1.‬‬
‫‪P. Valéry, Introduction à la méthode de Léonard de Vinci, Callimard, 1957, p. 22. 4‬‬
‫‪M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Callimard, 1945, p. 81. 5‬‬
‫‪ 6‬الرجع السابق ‪.P. Valéry, Introduction à la méthode Léondard de Vinci‬‬
‫‪A. Koyré, Etudes d'histoire de la pensée scientifique, Gallimard, 1973, p. 192. 7‬‬
‫‪E. Mach, Die Analyse der Empfindungen, trad. angl. Analysis of sensations, Dover, 1959, p. 30; trad. 8‬‬
‫‪fr. L'analyse des sensations, Jacqueline Chambon, 1996.‬‬
‫‪16‬‬
‫تجربة فنان عاشها خالل فتوته‪ :‬وهي تجربة ذوبان انطباعي للعالم ولألنا في ما ال يحص ى‬
‫من اللمسات الحسية‪.‬‬
‫َّ‬
‫الفسرة للتعارض بين الواقعية العلمية‬ ‫لكن مما ال شك فيه أن السمة غير‬
‫والتجريبية تتأتى من أن أنصار هاتين العقديتين ال يحاولون تعميق الجهد الزدوج في‬
‫اتجاهين‪ ،‬جهد "الفنان" باتجاه األصل الزعوم للمعرفة‪ ،‬وجهد "الفيلسوف" باتجاه هدفه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي خطط له‪ ،‬بل يتجهون عموما إلنهاء بحثهم إنهاء مثاليا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غالبا ما يتصرف الواقعي العلمي كما لو كان يملك سلفا تمثيال مستنفدا للعالم‪،‬‬
‫جزءا منه كظرف هامش ي‪ ،‬والذي ّ‬ ‫ً‬ ‫يضمنه َ‬
‫ّ‬
‫يفسر أنه يمكن أن يظهر لنا‬ ‫واقع أننا نشكل‬
‫كما هو يبدو لنا‪ .‬وحتى لو غير الواقعي العلمي تمثيله هذا خالل التاريخ‪ ،‬لكن خياره‬
‫األساس ي يبقى‪ ،‬وهو تقييم كل ظاهرة وكل شهادة وفق مقياس رؤيته الفكرية الشاملة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫بدال باألحرى من حصول العكس‪ .‬وقد اتخذ هذا الخيار في الفيزياء العاصرة الشكل‬
‫الشفاف لعالقة تراتبية بين "التناظر" و "شرخ التناظر"‪ .‬إن معظم الفيزيائيين يعتبر أن‬
‫تغير القادير أو القوانين بتأثير منظومة دائمة من التحوالت (راجع الفصل الثالث)‬ ‫عدم ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إشارة ال ريب فيها على أن هذه القادير أو هذه القوانين تصف فعال "واقعا مستقال"‪.‬‬
‫ً‬
‫فالبقاء ثابتا ال يتغير على الرغم من التغيرات الظاهرة والتنوع الالنهائي للمقاربات‪ ،‬تلكم‬
‫تعبر عن عدم التأثر الكامل بما يصفه‬ ‫هي اليزة الذي يعرف بها الواقع‪ .‬إن التناظرات التي ّ‬

‫محملة بمعنى أنطولوجي يضاف إلى أهميتها‬ ‫تغير وجهة النظر‪ ،‬تميل مذاك ألن تصبح ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫النهجية ويكرسها‪ :‬أفليس من الغري‪ ،‬على غرار "أينشتين البرمنيدي" وفقا لوصف كارل‬
‫ً‬
‫بوبر‪ ،9‬أن نرى في ذلك دليال لنا نحو الثبات الفترض للكائن إلى ما وراء دفق الظهور؟‬
‫َ‬
‫والعاينة العزولة‪ ،‬ال يمكنهما أن ينتجا إال‬ ‫وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬فإن الظاهرة الحلية‪،‬‬
‫ً‬
‫من تحديد‪ ،‬أو من جهل أو من قابلية انقسام‪ .‬إن تقريرا تنقصه بعض عناصر الالتغير‬
‫ّ‬
‫ستدل عليه من خالل شرخ في التناظر‪.‬‬ ‫يؤخذ كشاهد متبق عن تناظر أوسع يمكن أن ي‬

‫‪K. Popper, La quête inachevée, Calmann-Lévy, 1981. 9‬‬


‫‪17‬‬
‫النج َزة (بشكل مؤقت) إنما‬
‫تكمن الشكلة أنه فقط في نظر منظومة الفاهيم النظرية َ‬

‫تتبدى الظاهرات والعاينات الواقعية كمشتقات بسيطة لثابت شكلي يفترض أنه يمثل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رفال من الواقع أو طرفا منه‪ .‬إن االستراتيجية التي تشتمل على تقديم البيانات الخاصة‬
‫على أنها ناتجة عن "شرخ" منظومة أساسية‪ ،‬بل و"واقعية"‪ ،‬ال تقوم في العمق سوى‬
‫بترجمة هذه الدرجة االستنباطية كما والثقة الوضوعة فيها‪ .‬غير أن هذا الوضع انقلب‬
‫ً‬
‫تقريبا خالل صيرورة إعداد النظريات‪ .‬فخالل عملية (إعادة) صياغة النظريات العلمية‪،‬‬
‫تم تفسير استحالة دمج بعض النتائج الواقعية‪ ،‬دون القيام بمراجعات ّ‬
‫ممزقة‪ ،‬في‬
‫ً‬
‫منظومات الثوابت التوفرة كإشارة على مقاومة لألشياء‪ ،‬أو أيضا كتعبير على "شحنة‬
‫الغيرية"‪ 10‬التي على النظري أن يأخذها بعين االعتبار‪ .‬إن غياب التناظر ّ‬
‫يعد في وقتنا‬
‫الحالي أنه التجلي الوحيد للواقع الذي نحاول سبره‪ ،‬في حين أن الثوابت الشكلية‬
‫ً‬ ‫والطبقة‪ ،‬تلك التي ّ‬
‫ّ‬
‫تم رفضها أو تلك التي اقترحت حديثا وأخضعت الختبار‬ ‫الستخدمة‬
‫التجربة‪ ،‬فيتم النظر إليها دونما لبس كإنتاجات للذكاء العلمياتي الذي تترجمه‬
‫الرياضيات‪.‬‬
‫للشك اتجاه الوضوع الفترض‬ ‫ّ‬ ‫لهذا فإن عصور العلم "الثوري" هي عصور مالئمة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫للبحث‪ ،‬وللعودة االنعكاسية نحو ما ّ‬
‫نعده مثل مصادر تجريبية له‪ .11‬إن موقفا ذرائعيا أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تجريبيا كالسيكيا‪ ،‬يهدف إلى إدامة وتوسعة هذه الرحلة من انكفاء العتقدات‪ ،‬لن يلقى‬
‫مع ذلك موانع أقل من الوقف الواقعي الذي يديم من جهته ويطيل مرحلة االلتزام‬
‫األنطولوجي البحت لفترات "العلم العادي"‪ .‬وليست هذه الصعوبات سوى القابل الدقيق‬
‫للصعوبات التي تصطدم بها الواقعية العلمية‪ .‬فكما أن الواقعي يتوضع من وجهة نظر‬
‫تمثيل للعالم َ‬
‫النجز‪ ،‬فإن التجريبي الكالسيكي يتخذ موضعه من منظور مطابقة منجزة‬

‫‪D. Lambert, Recherches sur la structure et l'efficacité des interactions récentes entre 10‬‬
‫‪mathématiques et physique, Thèse de doctorat, Université de Louvain-la-neuve, 1995.‬‬
‫‪ 11‬راجع الجزء ‪.6-0‬‬
‫‪18‬‬
‫للمادة الواقعية للمعرفة‪ .‬ويصطدم التجريبي الكالسيكي كما الواقعي بتفنيد عدم اكتمال‬
‫يحرضها‪ .‬فماذا عن الوقائع "البحتة"‪ ،‬الجردة من توجه نظري‬‫تكويني للصيرورة التي ّ‬
‫مسبق؟ وكيف نجيب على مالحظة أينشتين التي تقول "إن النظرية وحدها هي التي تقرر‬
‫ما الذي يمكن أن ي َ‬
‫رصد‪"12‬؟‬
‫لقد كان لجانب من النقد الفلسفي العاصر‪ ،‬الستلهم بشكل غير مباشر من كانط‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إنما الذي يأخذ أحيانا شكال ظاهراتيا وأحيانا شكل تحليل للغة وللممارسات‪ ،‬رد فعل‬
‫ضد هذه البالغة الزدوجة‪ .‬وهو يشتمل في خطه العام على معارضة وجهات نظر العمل‬
‫َ‬
‫والنجز بالالحظة اللحة التي نكون وفقها‪ ،‬في كل لحظة من لحظات البحث‬ ‫الكامل‬
‫والتقص ي‪" ،‬في موضع ما ضمن الالمنجز وغير الكتمل‪ ."13‬إن الظاهراتية‪ ،‬من ّ‬
‫هسرل‬
‫ّ‬
‫حسية‪ ،‬كما‬ ‫‪ Husserl‬إلى مرلو بونتي ‪ ،Merleau-Ponty‬تتسم بتجريبية كالسيكية‪،‬‬
‫وبالقدر نفسه بالتذهنية التي تلهم الواقعية العلمية‪ .‬فهي من جهة تأخذ على هذه‬
‫التذهنية أنها "[‪ ]...‬تفترض بأنها تحقق في موضع ما ليس بالنسبة لنا سوى نية‪ :‬أي‬
‫منظومة من األفكار الصحيحة بشكل مطلق‪ ،‬والقادرة على تنسيق كافة الظاهرات‪."14‬‬
‫وهي من جهة أخرى تدين التجريبية الحسية بفقدان منظور أن اإلدراك الحس ي يحمل‬
‫ً‬
‫اتجاها ما‪ ،‬يقوده ّ‬
‫توجه مسبق ّ‬ ‫ً‬
‫محمل بـ "تقدير مسبق"‪ .‬وعلى غرار حالة ركود مثالية‬ ‫دائما‬
‫لكون يرتكز على ذاته أو في مادة واقعية بحتة متوفرة من أجل بناء تمثيل ما‪ ،‬فإنها‬
‫تعارض بين ديناميكية الواريث أو التقاليد والتوقعات‪ ،‬بين الاض ي الخزن في الذاكرة‬
‫والتأليفات الوارثة الحتملة له‪ .‬أما بالنسبة لتيار فلسفة اللغة والمارسات الذي كان‬
‫ّ‬
‫بتصوره األصلي لـ‬ ‫ويتغنشتاين ‪ Wittgenstein‬رائده فيتميز بشكل عميق عن الظاهراتية‬
‫"مكان ما في الالمنجز أو الالمكتمل" حيث تجري نشاطات البحث‪ .‬وهو يشير إلى "هذا‬

‫‪ 12‬ذكره هايزنبرغ في ‪W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Michel, 1972.‬‬


‫‪ 13‬استخدمت هذه الجملة لريلكه ‪ Rilke‬كعنوان لحوار بين يانكيليفتش ‪ V. Jankélévitch‬وبرلوويتز ‪B. Berlowitz‬‬
‫النشور لدى ‪.Gallimard 1978‬‬
‫‪ 14‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception .61 .‬‬
‫‪19‬‬
‫الكان" على أنه مجمل أشكال الحياة التقنية واللغوية في آن واحد التي تتقاسمها‬
‫مجموعة اجتماعية‪ ،‬باألحرى منه مثل دفق من الوعي الحامل للذكريات والتوقعات‪ .‬وعلى‬
‫ذلك‪ ،‬فإن الفكر ما بعد الويتغنشتايني قابل أكثر بكثير لالستخدام بشكل مباشر بالنسبة‬
‫لتحليل تطبيقات البحث العلمي من الظاهراتية‪ .‬غير أنه في نقده القياس ي للتجريبية‬
‫وللواقعية يتبع إلى ّ‬
‫حد ما خط الواجهة والهاجمة الذي تعتمده الظاهراتية‪.‬‬
‫وعلى عكس التجريبية الكالسيكية‪ ،‬يشير هذا الفكر إلى أن تأكيدات حول الواضيع‬
‫والقوانين ال يمكن تخفيفها أو تحويلها إلى التحليل االنعكاس ي لسلسلة محدودة من‬
‫األحاسيس أو الوقائع‪ ،‬وذلك ليس إال ألن هذه التأكيدات ال يمكن أن تكون معزولة عن‬
‫النظومة الكاملة من أشكال الحياة ومن الفترضات السبقة الرتبطة بها التي تحدد‬
‫معناها‪ .‬وهكذا مقابل الواقعية العلمية في نسختها العقائدية‪ ،‬فإن الفكر "ما بعد‬
‫ً‬
‫الويتغنشتايني"‪ ،‬يظهر من جهة أخرى أن التمييز بين الظاهر والواقع‪ ،‬وهو أمر مفيد جدا‬
‫في الحياة اليومية‪ ،‬ال يقتض ي بحال من األحوال الرجوع إلى ش يء مفارق بشكل مطلق‪ .‬إن‬
‫االستراتيجية الشتركة في الفصل بين الواقعي والصطنع‪ ،‬والستخدمة في آن واحد في‬
‫الحياة وفي العلوم‪ ،‬تسمح قبل كل ش يء بتجاوز لحظة معزولة عن المارسات‬
‫ً‬
‫والتطبيقات وباإلحالة إلى دورة من التطبيقات األكثر تكامال؛ على سبيل الثال تجاوز‬
‫الحاكمة البصرية اللحظية حول انكسار قضيب مغمور لنصفه في الاء‪ ،‬ومكاملته في‬
‫مجموعة من التطبيقات التي تتضمن انغماره العكوس والتقييم اللمس ي النحنائه‪ .‬أما‬
‫الواقعي العقائدي‪ ،‬فإنه يمد بضربة واحدة حتى الالنهاية السلسلة الرتبة من اإلحاالت‬
‫ً‬
‫واإلرجاعات؛ فهو يؤسس فكره إجماال على كون مفارق ال تكون كافة األحكام اإلدراكية‬
‫ً‬
‫فيه سوى آثارا جزئية غير مباشرة‪ ،‬وال تستمر كافة التطبيقات والمارسات بالنسبة لها‬
‫سوى كوسيلة غير كاملة للوصول‪ .‬فهو كشخص مبهور َّ‬
‫ومغيب بـ "ما وراء" ما‪ ،‬يسقط من‬
‫ً‬
‫حسابه أن يولي انتباهه إلى اإلجراءات والناهج الوجودة ببساطة ههنا‪ .‬ولا كان مقتنعا‬
‫توجه‪ ،‬فإنه يترك لنفسه أن يفتن بالوصوف الذي‬ ‫وهو محق باستحالة وجود نشاط بال ّ‬

‫‪21‬‬
‫يحدد الحرق أو النقطة األساسية‪ ،‬وينس ى موقع االنطالق الألوف لخطوط الهرب التي‬
‫تقود إليه‪.‬‬
‫تصور لنا فكرة القواعد والفرضيات الرياضية التي يدافع عنها ويتغنشتاين العالقة‬
‫الوثيقة القائمة عنده بين نقد الواقعية العقائدية ونقد االختزالية االنعكاسية التي تقدم‬
‫ً‬
‫لنا التجريبية الكالسيكية مثاال عليها‪ .‬فمن جهة‪ ،‬يؤكد ويتغنشتاين‪ ،‬كما يشرح لنا ذلك‬
‫بوفريس‪ ،J. Bouveresse 15‬على الفارق الكبير بين اإلعالن أن "‪ "2= 4 × 4‬والتأكيد أن‬
‫"البشر يعتقدون أن ‪ ."2= 4 × 4‬إن االختزالية االنعكاسية من النمط األنثروبولوجي أو‬
‫االجتماعي (العبر عنها بالقترح الثاني) تخفق في الحقيقة في األخذ بعين االعتبار لدى‬
‫االرتباط وااللتزام الذي تشتمل عليه الفرضية األولى‪ .‬ولكن من جهة أخرى‪ ،‬فإن هذه‬
‫االختزالية لفرضية ‪ 2= 4 × 4‬إلى بيانات حول التطبيقات والعقائد ال تقتض ي عدم وجود‬
‫وقائع خارجية بشكل جذري على الستوى التأصل للتطبيقات والعقائد‪ ،‬والتي تجعل من‬
‫ً‬
‫هذه الفرضية صحيحة‪ .‬فمحاولة إقناع متشككين بأن ‪ 4 × 4‬تساوي واقعيا ‪ 2‬ال يختلف‬
‫ً‬
‫بعد كل ش يء أبدا عن محاولة إقناعهم باستخدام هذه الساواة في عملياتهم الحسابية‬
‫وفي تسوياتهم وصفقاتهم‪ .‬فإذا نجحنا بجعلهم يستخدمون مثل هذه الساواة وإذا أدركوا‬
‫ً‬
‫أن ممارساتهم وتطبيقاتهم تحسنت بشكل كبير‪ ،‬فلن نشك أبدا بأنهم سيصلون عندها‬
‫فيما يخص هذه الساواة إلى بلوغ درجة من االلتزام يكافئ بالنسبة لهم القبول (وإعالن‬
‫ذلك لتشككين آخرين) بأنها ببساطة مساواة صحيحة‪.‬‬
‫يمكن نقل التحليل السابق دونما صعوبة‪ ،‬لقاء بعض التعديالت‪ ،‬من الرياضيات إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفيزياء‪ .‬فمن جهة‪ ،‬ليس مطروحا للنقاش أبدا ّرد فرضية مثل "لإللكترونات عالقة‬
‫تناسب للشحنة على الكتلة تساوي ‪ "e/m‬إلى الفرضية التي تقول "إن الجتمع الحالي‬
‫للفيزيائيين يعتقد بأن لإللكترونات عالقة تناسب للشحنة على الكتلة تساوي ‪."e/m‬‬
‫فقبول الفرضية األولى يقتض ي بأننا مستعدين لإللتزام بممارسات وتطبيقات تفترض‬

‫‪J. Bouveresse, La force de la règle, Minuit, 1987, p. 134-135. 15‬‬


‫‪21‬‬
‫ً‬
‫مسبقا وجود كينونات "اإللكترونات" وفي الوقت نفسه العالقة ‪e/m‬؛ أما قبول الفرضية‬
‫شيئا سوى ّ‬ ‫ً‬
‫التقيد على األقل بشكل كامن ضمن نشاط بحث‬ ‫الثانية فال يقتض ي بالقابل‬
‫اجتماعي‪ .‬ولكن من جهة أخرى‪ ،‬فإن عدم إمكانية اختزال الفرضية األولى إلى بيانات حول‬
‫العتقدات والمارسات ال يقتض ي أنه يجب االفتراض‪ ،‬من أجل جعلها صحيحة‪ ،‬وقائع‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التأصل للمعتقدات والمارسات والظاهرات الناتجة عن هذه‬ ‫خارجية تماما عن الستوى‬
‫المارسات‪ .‬أما محاولة إقناع أحدهم بأن العالقة بين شحنة وكتلة اإللكترونات تساوي‬
‫ً‬
‫واقعيا ‪ e/m‬فهو أمر يعود من حيث الجوهر إلى محاولة إقناعه بأن يترك لنفسه أن تقاد‬
‫في بعض هذه المارسات من خالل الفترض السبق بأن كينونات أو جواهر تسمى‬
‫إلكترونات متوفرة وأنها مزودة بالعالقة النوعية "الشحنة على الكتلة"‪ .‬فإذا نجحنا‬
‫بجعله يطبق مجموعة من النشاطات التي يقودها هذا االفتراض السبق‪ ،‬وإذا الحظ أن‬
‫النتائج التي يحصل عليها متوافقة بشكل ملحوظ مع ما جعله التوجه السبق َ‬
‫العت َمد‬
‫على هذا النحو يتوقعه‪ ،‬فال شك بأنه سيصل عندها‪ ،‬فيما يتعلق بالفرضية العنية‪ ،‬إلى‬
‫درجة من اإللتزام مكافئة للقبول بأنها صحيحة‪ .‬سوف نتوسع في هذا النوع من التحليل‬
‫في الفصل الخامس فيما يتعلق بـ "النظرية الذ ّرية" وفي الفصل الثامن فيما يتعلق بـ‬
‫"الصدفة الوضوعية"‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحصلة‪ ،‬فإن النقد الظاهراتي كما والويتغنشتايني للتجريبية الكالسيكية ينتهي‬ ‫في‬
‫ً‬
‫إلى موقف في الرؤية‪ ،‬وإلى طريقة معينة في التصرف تبعا لهذه الرؤية‪ ،‬إنما ليس إلى‬
‫يهدد ٌ‬
‫تبلور‬ ‫عقيدة واقعية‪ .‬يبدو االختالف غير قابل لإلد اك بشكل حس ي‪ ،‬خاصة عندما ّ‬
‫ر‬
‫عقائدي بتجميد النجاح الستمر للموقف والرؤية الساعدة له‪ .‬لكن هذا االختالف يصبح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حاسما عندما تجعل موانع مؤقتة أو دائمة من الصعب أن نأخذ حرفيا العناصر‬
‫الرجعية والتنبؤية التي تتدخل في الفرضيات النظرية‪.‬‬
‫ألن هذا الوقف‪ ،‬بالدرجة األولى‪ ،‬القريب من الوقف الوصوف في الفصل الرابع بـ‬
‫ً‬
‫"شبه الواقعي"‪ ،‬يترك الجال مفتوحا للقيام بإعادة صهر جذرية‪ ،‬األمر الذي تميل باألحرى‬
‫‪22‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫لقاومته العتقدات واآلراء الؤسسة جيدا بواسطة مركب عقائدي‪ .‬أفال تعلمنا أن نرى في‬
‫ً‬
‫بدال باألحرى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البنى الشرعية وفي األنطولوجيات الرتبطة بالنظريات العلمية نظاما مقترحا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منه نظاما مفروضا؟ نظام مقترح عبر النشاطات التجريبية التي تساهم هذه النظريات في‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫توجيهها وفي تنظيمها‪ ،‬نظام مؤكد بشكل وقتي بواسطة قدرة الذين يفترضونه مسبقا‬
‫ً‬
‫إلزالة القاومات التي تنبثق من داخل التنسيقات التي تؤدي إليها تطبيقاته‪ ،‬وليس نظاما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مفروضا من الخارج بواسطة ش يء غريب تماما عن هذه التطبيقات‪.‬‬
‫وبالدرجة الثانية‪ ،‬فإن عودة االنتباه للـ "مشترك" بين اإلجراءات التجريبية والشاريع‬
‫ّ‬
‫يسهل قراءة غير اتفاقية للصعوبات الصادفة في البحث العلمي‪.‬‬
‫ً‬
‫وفقا للتجريبية الكالسيكية‪ ،‬فإن إخفاق العلوم والحواجز النبثقة الناجمة عن ذلك‬
‫أمران يعودان للسمة النتهية لقائمة "العطيات" التي جعلتها التجريبية متوفرة؛ ووفق‬
‫نسخ أكثر حداثة للتجريبية‪ ،‬يجب أن نضيف إلى هذه الشكلة األولى االبتعاد العترف به‬
‫(والدائم ربما) للهدف الذي يشتمل على العزل بشكل متواطئ ومشارك لا هو واقعي‬
‫بحت‪ ،‬أو "معطى" فعلي‪ ،‬في نتائج التجربة‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬وفق الواقعية العلمية‪ ،‬تتأتى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صعوبات البحث الحالية من السافة الكبيرة جدا أيضا (والتعذر إنقاصها ربما‪ ،‬والتي‬
‫تقود إلى الحديث عن "حجب" أو عن إخفاء) التي تفصلنا عن الهدف الذي يشتمل على‬
‫التمثيل الخلص والستنفذ للواقع كما هو‪ .‬والحديث عن االبتعاد‪ ،‬والسافة‪ ،‬وبالتالي عن‬
‫الثنوية‪ ،‬يشير إلى سمات عديدة مشتركة بين التجريبية والواقعية‪ .‬ثنائية الواقعي (بشكل‬
‫حس ي) والنظري العقالني بالنسبة للتجريبية؛ وثنائية الثابت الواقعي (بشكل موضوعي)‬
‫َ‬
‫والظاهرة الردودة إلى ذاتية مستقبلة بالنسبة للواقعية‪.‬‬
‫بمواجهة ذلك‪ ،‬فإن إبستمولوجية للـ "مدى"‪ ،‬مخلصة لروح النقد الظاهراتي أو‬
‫الوتغنشتايني‪ ،‬ستظهر بداية أن العديد من الصعوبات الواجهة تتأتى من التعارض بين‬
‫التوليد الحدود للفرضيات النظرية والعرض غير الحدود الذي يمكن تعيينه للنشاطات‬
‫ً‬
‫التي تقود إلى تصور الشروع‪ .‬وكما كتب محقا فرانسوا جوليان ‪ Francois Jullien‬في‬
‫‪23‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كتاب حول موضوع الحضور ‪ ،immanence‬فإنه يمكن لإلنطباع‪ ،‬بأن شيئا ما مخفيا‪،‬‬
‫أن ينتج بالتأكيد ليس عن عدم إمكانية بلوغه‪ ،‬بل من حقيقة أننا ال ننتهي من رؤية‬
‫منافذ فيه (أو بشكل أدق من أن تكون لنا منافذ له)‪ .16‬فالحديث عن "إخفاء" هو طريقة‬
‫مالئمة هنا‪ ،‬على الرغم من تناقضها‪ ،‬لإلحاطة بإفراط ما يظهر نفسه‪ ،‬أو ما تكون التجربة‬
‫قابلة إلظهاره‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فإن ابستمولوجية "الشترك" ستجنبنا االعتماد على تفاصيل ذات‬
‫أقطاب مسبقة التشكل‪ ،‬وستتساءل باألحرى حول شروط إمكانية بناء مثل هذه‬
‫ّ‬
‫التعرف‪ ،‬في عدد كبير من الحواجز التي‬ ‫األقطاب‪ .‬وتشتمل مهمتها األولية بالتالي على‬
‫يعتمدها التجريبيون أو الواقعيون في سبيل ترجمة ابتعاد للهدف الذي يجب الوصول‬
‫ً‬
‫إليه‪ ،‬على إشارة قربه الفرط‪ .‬أوليس من الواضح (ربما من الواضح جدا)‪ ،‬كما يذكر‬
‫ً‬
‫بذلك هنا أيضا فرانسوا جوليان بأن "[‪ ]...‬أصعب ش يء للرؤية [‪ ]...‬هو من رتبة القريب‪،‬‬
‫والبتذل واليومي‪"17‬؟ أفال يمكن أن يحصل‪ ،‬في العلوم كما في الحياة‪ ،‬أن ذاك "[‪ ]...‬يعفي‬
‫ً‬
‫نفسه بوضوح ‪ -‬قريب ‪ -‬إلى درجة أننا رغم وجوده دائما تحت أنظارنا‪ ،‬أو باألحرى ألنه‬
‫ً‬
‫موجود دائما تحت أنظارنا‪ ،‬فإننا لم نعد نراه [‪18"]...‬؟ لقد عالجنا موضوع تكييف النظر‬
‫هذا‪ ،‬الذي أشرنا إلى ضرورته اللحة في الفصلين الثاني والسابع‪ ،‬في الفصل األول فيما‬
‫يتعلق بموضوع "التقارب نحو الحقيقي"‪ ،‬وفي الفصل الثالث فيما يتعلق بالواقعية‬
‫البنيوية‪ ،‬وفي الفصل الخامس فيما يخص الجواهر الذرية وفي الفصل السادس فيما‬
‫يتعلق باليول‪.‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬فإن اإلبستمولوجية البديلة لـ "في مكان ما في الالمكتمل" أو لـ "الشترك" تجد‬
‫نفسها مدعوة لتقديم تفسير معقول لناطق استقرار ووحدة الفاهيم العلمية‪ ،‬والتي يبدو‬

‫‪F. Jullien, Un sage et sans idée, Seuil, 1998, p. 61. 16‬‬


‫‪ 17‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.53 .‬‬
‫‪ 18‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.9 .‬‬
‫‪24‬‬
‫أن تأكيدها على الصيرورة الديناميكية لتشكيل العارف يبعد هذا التفسير‪ .‬أما الواقعية‪،‬‬
‫فتعتقد بأنها تعرف كيف تأخذ على عاتقها هذه النوى القاومة للمعرفة من خالل مفهوم‬
‫توافق جزئي مع العالم كما هو‪ ،‬وتحاول التجريبية ضبطها بعبارات التوافق أو التأقلم‬
‫شبه األمثلي مع الوقائع‪ .‬والجواب الذي أقترحه أمام هذا التحدي (انظر القطعين ‪ 5-0‬و‬
‫ً‬
‫غالبا ما ت َ‬
‫ختزل إلى‬ ‫‪ )5-3‬يرتكز على استعادة فلسفة تجاوزية وفق نمط براغماتي‪ ،‬فلسفة‬
‫تطلعاتها األساسية األولى‪.‬‬
‫ّ‬
‫مما ال شك فيه أن التفكر حول اليكانيك الكمومي كان وال يزال يشكل اختبار هذه‬
‫القاربة‪ .‬إن اليكانيك الكمومي في نسخته العيارية يضطرب بشكل واضح أمام القراءة‬
‫التجريبية وأمام القراءة الواقعية في الوقت نفسه‪ .‬فالقراءة التجريبية تصطدم بغياب‬
‫مقابل مباشر‪ ،‬في شكالنية هذه النظرية‪ ،‬لفهوم األحداث التنافية التأتية عن ذاتها؛ فإذا‬
‫كان عليها االستمرار فيجب إما أن تفرض الحدث من خارج الشكالنية (من خالل السلمة‬
‫الضافة لتقليص حزمة األمواج)‪ ،‬أو عليها القبول بانفصال كامل بين التطور الزمني لقوى‬
‫‪19‬‬
‫الحالة الوجهة وسلسلة األحداث (كما هو الحال في التفسير الشروط لفان فراسين‬
‫‪ .)Van Fraassen‬أما القراءة الواقعية فعليها من جهتها مواجهة (أو االلتفاف أو تجاوز)‬
‫الحالة األولية التنبؤية‪ ،‬وليس الوصفية‪ ،‬لرموز اليكانيك الكمومي العياري‪ .‬وعلى‬
‫ً‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬وبعيدا عن الشعور بهاتين "الغرابتين" للميكانيك الكمومي كعقبتين‪،‬‬
‫فإن ابستمولوجية للـ "الشترك" ترى فيهما دعوة ال مثيل إلصرارها للعودة والدراسة‬
‫العمقة للعقالنيات اإلجرائية واألساليب النهجية للتوقع التي تشكل الادة اليومية‬
‫للبحث‪ .‬تعتقد اإلبستمولوجيا الواقعية‪ ،‬في مواجهة اليكانيك الكمومي‪ ،‬أنه إما أن هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫النظرية تميل إلى أن تصف لنا كونا يقع تماما خارج الألوف‪ ،‬أو أنها ليست سوى مرحلة‬
‫َ‬
‫"الشترك"‪،‬‬ ‫وسيطة نحو مكان آخر وزمان ال يمكن تجاوزهما للفيزياء‪ .‬أما إبستمولوجيا‬
‫ّ‬
‫فإنها تأخذ هذه النظرية كفرصة ممتازة لكي نتذكر أنه يجب البحث على األرجح على‬

‫‪B. Van Fraassen, Quantum mechanics, an empiricist view, Oxford University Press, 1991. 19‬‬
‫‪25‬‬
‫ً‬
‫مفاتيح فهم العلوم في التحليل الدقيق للمشترك في المارسات بدال من البحث عنها في‬
‫مطابقة الصلة التي يمكن للنظريات إقامتها مع أي مكان آخر مهما كان‪.‬‬
‫مصادر فصول الكتاب‬
‫ولدت فصول كثيرة من هذا الكتاب‪ ،‬بعد تعديلها وصياغتها‪ ،‬من مالحظات‬
‫الحاضرات والقاالت النشورة في مجالت أو من مقدمات لكتب جماعية‪ .‬ولهذا أود أن‬
‫أشكر هنا ناشري القاالت والقدمات لسماحهم لي بنشر كامل النصوص العنية أو جزء‬
‫منها‪ .‬وفيما يلي قائمة بها‪:‬‬
‫‪ -‬الفصل األول هو النسخة الوسعة بشكل كبير من عرض قمت به في ‪ 41‬شباط من‬
‫عام ‪ 0991‬في إطار ندوة بعنوان "العوالم المكنة" في الدرسة العادية العليا ‪école‬‬
‫‪.normale supérieure‬‬
‫‪ -‬يس تعيد الفصل الثاني‪ ،‬مع الكثير من التعديالت التي أدخلتها عليه لكي آخذ بعين‬
‫االعتبار الحوارات التي كانت لي مذاك مع برنار دسبانيا ‪ ،B. D'Espagnat‬القالة التالية‬
‫(بعنوان‪ :‬القرب العمي من الحقيقة)‪M. Bitbol, "L'aveuglante proximité du réel", :‬‬
‫ً‬
‫‪ .Critique, no 576, p. 359-382, 1995‬ولم يقدم لي هذا القال عنوانا للكتاب فقط بل‬
‫وعبره حصلت على الخط ّ‬
‫الوجه للكتاب الحالي‪.‬‬
‫‪ -‬يشتمل الفصل الثالث على توسعة لقدمتي للكتاب الشترك (بعنوان‪ :‬الفيزياء‬
‫والواقع‪ ،‬نقاش مع برنار دسبانيا)‪Physique et Realite, un debat avec B. d'Espagnat, :‬‬
‫‪M. Bitbol & S. Laugier (ed.), Frontieres-Diderot, 1997.‬‬
‫‪ -‬أما الفصل الرابع فمأخوذ في الجزء األساس ي منه من دراستي‪M. Bitbol, "Quasi- :‬‬
‫‪.réalisme et pensée physique", Critique, no 564, p. 340-361, 1994‬‬
‫‪ -‬أما الفصل الخامس فهو غير منشور في القسم األكبر منه‪ ،‬حتى وإن كانت بعض‬
‫األفكار التي توسعنا فيها خالله كانت قد وضعت صيغها األولية في‪M. Bitbol, :‬‬
‫‪Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion,‬‬
‫‪26‬‬
‫‪ ،1997‬وكذلك في النص العنون بـ "مستقبل ّ‬
‫الذرية" النشور في الجلد الشترك بعنوان‬
‫"الفيزياء والواقع‪ ،‬نقاش مع برنار دسبانيا"‪ ،‬الرجع الذكور أعاله‪ .‬وقد طرحت أفكاره‬
‫األولية في نيسان من عام ‪ ،0991‬في إطار ندوة ‪ ،REHSEIS‬ثم في مؤتمر نابولي حول‬
‫النظرية الذرية في القرن السابع عشر‪ ،‬الذي نظمه فستا ‪ E. Festa‬وبالي ‪.M. Blay‬‬
‫‪ -‬ويستعيد الفصل السادس مع بعض التغييرات القالة التي تحمل عنوان‬
‫"‪ "dispositions, propensions et déterminations catégoriques‬النشورة في الجلد‬
‫الشترك بعنوان "الفراغ الكمومي"‪Le vide quantique, E. Gunzig & S. Diner (ed.), :‬‬
‫‪.Editions de l'université libre de Bruxelles, 1998‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬الفصل السابع غير منشور سابقا بالكامل‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل الثامن يوسع ويحدد القالة التالية‪M. Bitbol, "Qu'est-ce qu'un hazard :‬‬
‫‪.objectif?", in La letter mensuelle de l'ECF, n 161, p. 13-18, 1997‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬القدمة والخاتمة غير منشورتين سابقا‪.‬‬

‫‪27‬‬
28
‫‪20‬‬
‫‪ .1‬الواقعية التقاربة والتقارب االنعكاس ي‬

‫"كلما كنا أبعد عن العالم بدا لنا أكثر‬


‫واقعية‪ .‬وكلما اقتربنا منه أكثر تبدو لنا إمكانية‬
‫رؤيته أقل‪ ،‬ويصبح بال معالم مثل سراب‪".‬‬
‫ناغارجونا‪ ،‬اإلكليل الثمين‬

‫ً‬
‫إن هدفي في هذا الفصل هو أن أقترح تحت تسمية "التقارب االنعكاس ي" مشروعا‬
‫ً‬
‫بديال للتطور التاريخي للعلوم الفيزيائية‪ .‬ولكن ال ّبد قبل ذلك من عرض الشروع األكثر‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وتفحص أساسه الجدلي‪ ،‬ثم‬ ‫قبوال‪ ،‬وهو مشروع الواقعية العلمية‪ ،‬وتحديد بواعثه‪،‬‬
‫إظهار الصعوبات التي يواجهها‪.‬‬
‫‪ 1 .1‬الواقعية التقاربة وتوفيقاتها‬
‫قعي كان ّ‬ ‫ّ‬
‫الفكر الوا ّ‬ ‫شك فيه كما يالحظ فان فر ّ‬‫مما ال ّ‬
‫يود‬ ‫اسن‪ ،Van Fraassen 21‬أن‬
‫لو يستطيع التأكيد على أن النظريات العلمية الثبتة في عصره هي نظريات صحيحة‪ ،‬وأن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫تسلم بها موجودة في الطبيعة‪ ،‬وأنها ّ‬
‫تقدم بذلك تمثيال دقيقا‬ ‫الجواهر أو الكينونات التي‬
‫للعالم كما هو‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن تاريخ ّ‬
‫تقدم العلوم يجعل من هذا البيان التزامن للعالقة‬
‫ً‬
‫بيانا غير مقنع‪ .‬لقد ّ‬
‫ارتد بالتالي معظم الدافعين عن الواقعية‬ ‫بين التمثيل العلمي والواقع‬
‫ّ‬
‫الصحة بال شك القول إن‬ ‫تطورية لوقفهم الخاص‪ .‬ووفقهم‪ ،‬فإنه من‬ ‫العلمية إلى نسخة ّ‬
‫أية نظرية علمية معطاة ليست صحيحة بشكل مطلق وال دقيقة في كافة تفاصيلها‬
‫بالنسبة لالرتباطات الفترضة للواقع باألفراد واألنواع الطبيعية؛ بل إن التوالية التاريخية‬
‫للنظريات تتالقى على األقل‪ ،‬بطريقة إما منتهية أو متقاربة فقط‪ ،‬باتجاه بيان صحيح‬

‫‪ 20‬عرضت نسخة سابقة من هذا النص في ‪ 41‬شباط من عام ‪ 0991‬في إطار الندوة التي عقدت تحت عنوان‬
‫"العوالم المكنة"‪ ،‬في الدرسة العادية العليا ‪.Ecole normale supérieure‬‬
‫‪B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 7. 21‬‬
‫‪29‬‬
‫ً‬
‫حرفيا لا يشبهه العالم‪ .‬سمى الري لودان ‪ Larry Laudan‬هذا الطرح بـ "الواقعية‬
‫ً‬
‫التقاربة"‪ ،‬وقد وصفه من خالل القترح الذي وفقه "تكون النظريات العلمية [‪ ]...‬عموما‬
‫صحيحة بشكل تقريبي‪ ،‬وتكون النظريات األحدث أقرب للحقيقة من النظريات السابقة‬
‫في الجال نفسه‪."22‬‬
‫ّ‬
‫التصور الديناميكي للواقعية العلمية هو شارل‬ ‫إن أحد الرواد األكثر شهرة لهذا‬
‫يتردد بعض ّ‬
‫الكتاب بتسمية هذا‬ ‫ساندرز بيرس ‪ ،Charles Sanders Peirce‬بحيث لم ّ‬
‫ّ‬
‫التصور بـ "الواقعية البيرسية‪ "23‬نسبة له‪ .‬نالحظ بالتالي نقطة هامة وهي أن الواقعية‬
‫ً‬
‫عند بيرس تترافق بالبقاء على مسافة واضحة من الواقعية اليتافيزيائية‪ .‬ووفقا لبيرس‪،‬‬
‫فإن أبحاث البشر تجعلهم يميلون على الدى البعيد نحو رأي وحيد فيما يتعلق بموضوع‬
‫أبحاثهم‪ 24‬؛ وهكذا فإن الرأي في هذه السألة‪ ،‬على الرغم من أنه غير مستقل عن نشاط‬
‫وفكر اإلنسان‪ ،‬يتجاوز كل صلة مع ما يمكن أن يكون فيهذا النشاط وهذا الفكر من‬
‫ّ‬
‫وتعسف‪ .25‬وبهذا العنى إنما يمكننا القول حول الرأي النهائي الشار‬ ‫فردية وخصوصية‬

‫‪L. Laudan, "A confutation of convergent realism", Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981. 22‬‬
‫ً‬
‫وانظر أيضا ‪ .L. Laudan, Progress and its problems, University of California Press, 1977‬ويمكننا هنا أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نعتبر أن "الواقعية التقاربة" باتت تشكل منذ اآلن فصاعدا جزءا من الحكمة اإلبستمولوجية الشتركة‬
‫للفيزيائيين‪ .‬يشهد على ذلك بين شواهد أخرى الواقف التخذة من قبل آالن سوكال ‪( Alain Sokal‬في مقالة له‬
‫بعنوان "لاذا كتبت محاكاتي الساخرة" ‪"pourquoij'aiécrit ma parodie", Le Monde, vendredi 31 janvier‬‬
‫‪ )1997‬حيث يقول‪" :‬يصف اليكانيك النيوتوني حركة الكواكب [‪ ]...‬بدقة مدهشة‪ ،‬وهذا فعل موضوعي؛ لكنه‬
‫ً‬
‫مع ذلك غير صحيح‪ .‬أما اليكانيك الكمومي والنسبية العامة فهما مقاربتان أفضل للحقيقة‪ ،‬وهذا أيضا هو‬
‫فعل موضوعي"‪ .‬نشير مباشرة إلى اقتران مصطلحات ـ قيم في هذه الجمل القصيرة مثل "فعل"‪ ،‬و"موضوعية"‪،‬‬
‫ّ‬
‫بالتعرف على عدم‬ ‫مخففة مثل "غير صحيحة" أو "مقاربة"‪ ،‬ذلك أنه في فضاء يسمح‬ ‫و"حقيقة" مع ألفاظ ّ‬
‫اكتمال بعض القيم اإلبستمولوجية إنما يتحقق مصير "الواقعية التقاربة"‪.‬‬
‫‪P. Hoyningen-Huene, Reconstructing scientific revolution, The University of Chicago Press, 1993 .23‬‬
‫‪ 24‬ال يجب بالطبع أن نعتبر على هذا الستوى أطروحة وحدانية الرأي النهائي إال كرأي من الدرجة الثانية ّ‬
‫عبر‬
‫ً‬
‫عنه بيرس‪ .‬وسنناقش هذا الرأي الطروح هنا الحقا‪ ،‬عندما نناقش مسألة التحديدية التحتية للنظريات‬
‫بواسطة التجربة‪.‬‬
‫‪C. S. Peirce, "Critical review of Berkeley's idealism", 1871, in Selected writings, Dover, 1958, p. 82. 25‬‬
‫‪31‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ويتحدد هذا الواقع نفسه باالستناد على الرأي النهائي‪ ،‬بدال من‬ ‫إليه بأنه يعبر عن الواقع‪،‬‬
‫ّ‬
‫التمسك باألحرى بأي ش يء في ذاته‪.‬‬
‫لم يغب عن بيرس صعوبة ربط الحتوى الحالي للنظريات العلمية مع هذا اإلسناد‬
‫البعيد (وربما األسطوري) باتجاه الستقبل‪ ،‬وهو أحد الركائز األساسية لقاربة الواقعية‬
‫العلمية العاصرة‪ .‬وقد تجلت هذه الصعوبة عنده من خالل ّ‬
‫التردد فيما يتعلق بمفهومه‬
‫للـ "الحاكمة االحتمالية‪ ،‬ونذكر هنا بأن الحاكمة االحتمالية تتميز عن االستنباط‪ ،‬الذي‬
‫حد باستخالص النتائج الخاصة من فرضية عامة‪ ،‬كما عن االستقراء الذي يزعم‬ ‫ي ّ‬
‫ً‬
‫استخالص مقترحات كونية انطالقا من وقائع فردية‪ .‬وتهدف الحاكمة االحتمالية التي‬
‫تجمع بين وظيفة االستقراء وتطبيق عملية االستنتاج إلى تحديد القترحات العالية التي‬
‫ابتداء منها يمكن استنتاج القترحات الفردية الوافقة للوقائع الرصودة‪ .‬وتتم الحاكمة‬
‫االحتمالية في ثالث مراحل زمنية‪ .‬في الرحلة األولى‪ ،‬نلحظ الواقعة الفاجئة ‪F‬؛ وفي‬
‫الرحلة الثانية نالحظ أنه إذا كانت الفرضية العالية ‪ P‬صحيحة‪ ،‬فإن ‪ F‬ستكون ال ّبد‬
‫مرصودة ومالحظة؛ وفي الرحلة الثالثة نخلص إلى أنه توجد أسباب جيدة لالعتقاد بأن ‪P‬‬
‫ً‬
‫صحيحة‪ .‬ولكن ما هو الغزى الذي يمكن إعطاؤه لصيرورة الحاكمة االحتمالية؟ وفقا لا‬
‫تشير له الرحلة الثالثة من النطق العروض أعاله‪ ،‬فقد بدأ بيرس بإعطاء الحاكمة‬
‫االحتمالية مرتبة الصيرورة الستقلة لبرهان احتمالية القترحات التي تؤدي إليها؛ وبعبارة‬
‫ً‬
‫أخرى‪ ،‬فإن الحاكمة االحتمالية الراهنة أو الحالية تحاول سلفا من خالل ذاتها تقريبنا‬
‫من فكرة الستقبل النهائي‪ .‬لكنه فيما بعد لم يعد يعتبر الحاكمة االحتمالية إال كمنهج‬
‫لصياغة الفرضيات التي تحتاج إلى االختبار‪ .26‬وتشكل الحاكمة االحتمالية فقط ضمن‬
‫هذا النظور الجديد "الستوى األولى من البحث"‪ ،‬أي الستوى الذي يؤدي إلى تقديم‬
‫ّ‬
‫مرشح افتراض ي إلى صف التفسير الصحيح لواقع مرصود‪ .‬وهكذا ال تعود الرحلة األخيرة‬

‫‪K. T. Fann, Peirce' theory of abduction, MartinusNiihoff, 1970; H. de Regt, Representing the world 26‬‬
‫‪by scientifique theories, Tilburg University Press, 1994.‬‬
‫‪31‬‬
‫من منطق الحاكمة االحتمالية مندرجة في هذه الحالة والتي تقول‪" :‬لدينا أسباب جيدة‬
‫لالعتقاد بأن ‪ P‬صحيحة"‪ ،‬بل تصبح على النحو التالي‪" :‬لدينا أسباب جيدة العتماد ‪P‬‬
‫كفرضية يجب اختبارها"‪ .‬وهكذا فإنه ال يمكن الخلط بين فعل اقتراح فرضية والقيام‬
‫ببرهان ما لصحتها‪ ،‬أو حتى الحتماليتها‪ ،‬األمر الذي يضعنا في حالة ريبة كاملة فيما يتعلق‬
‫بدرجة القرب بين النتيجة الحالية لصيرورة الحاكمة االحتمالية والرأي الستقبلي النهائي‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا الفهوم البوبري للعلم َ‬
‫اليل إلى عدم الرؤية في ثنائية الحقيقة والواقع‬ ‫لقد ّأيد‬
‫ً‬
‫إال نوعا من نقطة ارتكاز للبحث العلمي‪ .‬فبوبر يرى‪ ،‬مثل مفكري الواقعية التقاربة‪ ،‬أن‬
‫تطور العلم يشبه صيرورة مقاربات متتالية‪ .27‬مع ذلك‪ ،‬فإن العملية التي يفترض أنها‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الخمنات ودحضها‪ ،‬تجعل وفق كارل بوبر من غير‬ ‫تدفع عجلة البحث العلمي‪ ،‬أي تتالي‬
‫أي من مراحلها‪ .‬وهكذا يمكن لنظرية جديدة أن ّ‬
‫تبز نظرية أخرى‬ ‫الوثوق تأكيد حقيقة ّ‬
‫معزز ّ‬
‫ومؤيد (أي لم‬ ‫ألنها تملك درجة أعلى من العمومية وألنها تشتمل أكثر على محتوى ّ‬

‫أي عنصر من هذا الحتوى من البيانات العالية‬ ‫ّ‬


‫يتم دحضه)‪ ،‬غير أنه لن يكون بإمكان ّ‬
‫ً‬
‫أن يجد نفسه رغم ذلك موصوفا بـ "الصحيح" دون مانع ما‪ ،‬بالعنى الذي يكون فيه هذا‬
‫متحق ًقا منه‪ .‬ويشير بوبر إلى أن َ‬
‫"علمنا ليس معرفة ("إبستمية")؛ فهو ال يمكن‬ ‫الوصف َّ‬
‫ً‬
‫أن يزعم أبدا بأنه بلغ الحقيقة [‪ ".28]...‬وعلى عكس ما يحب أن يعتقد به معظم‬
‫ً‬
‫الواقعيين‪ ،‬فإن صيرورة تطور العلوم‪ ،‬على الرغم من أنها مماثلة شكليا لصيرورة متتالية‬
‫من التقاربات التعاقبة‪ ،‬ال تتطابق مع "[‪ ]...‬منظومة تتقدم بانتظام نحو حالة نهائية‪."29‬‬
‫وما هو أسوأ من ذلك‪ ،‬فإن إحدى الخصائص الكبرى لنظرية علمية‪ ،‬وهي خاصية تحمل‬
‫مخاطر استباقية في كل مرحلة‪ ،‬وتبسيط وتعميم محاورها بجعلها بذلك قابلة للنقد‬
‫تقلص ما ّ‬ ‫ّ‬
‫يسميه أخصائيو‬ ‫بواسطة مجموعة كبيرة من الردود والتفنيدات المكنة‪،‬‬

‫‪K. Popper, La logique de la découverte scientifique, Payot, 1973, p. 273. 27‬‬


‫‪ 28‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.462 .‬‬
‫‪ 29‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫النطق االستقرائي بـ "احتمال فرضيتها‪ ."30‬وبالتالي فإنه ليس للتقدم ّ‬
‫العمم للنظريات‬
‫ّ‬
‫العلمية الحقيقة كمحصلة يمكن التنبؤ بها وال االحتمالية كبديل مؤقت‪ .‬إن التصحيح‬
‫الوحيد الذي ّ‬
‫يقدمه بوبر على هذه الالحظة هو التالي‪" :‬على الرغم من أن [العلم] ال‬
‫يستطيع بلوغ الحقيقة وال االحتمالية‪ ،‬فإن جهده لبلوغ العرفة‪ ،‬وبحثه في سبيل‬
‫الحقيقة‪ ،‬ال يزاالن الدافعين األقوى في االكتشاف العلمي‪".31‬‬
‫إننا ندرك أن هذه الصورة الساخرة لحقيقة ال يمكن الوصول إليها‪،‬والتي ّ‬
‫يظل‬
‫البحث عنها مع ذلك الدافع الذي ال غنى عنه للباحثين‪ ،‬كانت قد اعتبرت كعقبة ال بد‬
‫من تجاوزها على يد فالسفة موجة الواقعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن‬
‫‪32‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫الاض ي‪ ،‬بدال من اعتبارها باألحرى نتيجة مقبولة‪ .‬فعلى سبيل الثال ركز نيوتن ‪ -‬سميث‬
‫‪ W. H. Newton-Smith‬مقاربته على تطوير مفهوم غير تجاوزي لقاربة الحقيقة‪ .‬ووفقه‪،‬‬
‫فإن ضعف البيان البوبري يكمن في تمييزه للعلم كنشاط عقلي هدفه الحقيقة‪ ،‬في حين‬
‫ال يمكن للمنهج التجريبي االعتراف بامتالك أي حقيقة كانت‪ .33‬ولكن كما يالحظ بوبرفإنه‬
‫َّ‬
‫سيكون من النطقي محاولة الحصول على الحقيقة فقط في حال توفر لنا معيار‬
‫لها‪.‬وبافتراض أننا نعزو لبوبر غياب معيار الحقيقة‪ ،‬فإنه من الضروري بالتالي أن ننسب‬
‫ً‬
‫لتطور العلوم هدفا أكثر محدودية وفي الوقت نفسه يمكن الوصول إليه أكثر‪ .‬إن هدف‬
‫استبدال الواقعية التقاربة هذا هو زيادة ما يوافق أن نسميه "احتمالية" النظريات‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد اقترح بوبر نفسه توجها استراتيجيا قريبا من ذلك في الكتابات التالية لؤلفه‬
‫"منطق االكتشاف العلمي"‪ ،‬طالا أنه انتهى إلى اعتبار اإلثبات التجريبي القوي لنظرية ما‬
‫ً‬
‫ليس أكيدا مثل برهان الحقيقة‪ ،‬بل يعد كمؤشر الحتمالية ظاهرة ضمن حالة معطاة‬

‫‪ 30‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.411 .‬‬


‫‪ 31‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.462 .‬‬
‫‪W. H. Newton-Smith, The rationality of science, Routledge, 1981. 32‬‬
‫‪ 33‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.62 .‬‬
‫‪33‬‬
‫ً‬
‫للبحث العلمي‪ .34‬ولألسف كما يالحظ نيوتن ‪ -‬سميث فإن مثل هذا االمتياز جزئي جدا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بحيث ال يكون مفيدا‪ ،‬ويتخذ هذا الفيلسوف عالوة على ذلك موقفا معارضا لوقف بوبر‬
‫في معاكسة االستقرائية‪ .‬فلكي يكون من النطقي متابعة االحتمالية ال بد أن نستطيع‬
‫الحصول على دليل نحو االحتمالية العملية للنظريات وليس فقط نحو احتماليتها‬
‫الظاهرية‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فإن االعتماد على درجة التأكيد التجريبي لنظرية ما‪ ،‬التي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعيدنا دائما إلى مجموعة من العلومات الاضية‪ ،‬لكي نستنتج منها شيئا حول موضوع‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫"احتمالية" تميل‪ ،‬رغما عنها ‪ ،nolens volens‬إلى توقع القدرة الستقبلية لنظرية ما على‬
‫مقاومة اختبارات تجريبية‪ ،‬يرجع إلى إعادة إدراج حجة استقرائية‪.‬‬
‫ً‬
‫إن قضية الدفاع ما بعد البوبري عن الواقعية التقاربة يقوم من اآلن فصاعدا على‬
‫إعطاء مضمون لتعاريف االحتمالية ولقاربة الواقع‪ ،‬دون الوقوع مع ذلك في النهج العتاد‬
‫للتحققية‪ .‬يبدأ نيوتن ‪ -‬سميث‪ 35‬بتجنب إسناد االحتمال ألي جسم قابل للرصد أو‬ ‫ّ‬
‫يرد احتمالية كل نظرية جديدة إسقاطية ليس فقط إلى‬ ‫مؤيد‪ .‬وهكذا فإنه ّ‬ ‫لحتوى ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تجارب سابقة بل وأيضا إلى نظرية أخرى إسقاطية كانت مقبولة سابقا‪ ،‬متبعا عن قرب‬
‫لتصور في اإلسقاط يعود إلى نلسون غودمان‪Nelson Goodman 36‬‬ ‫ّ‬ ‫الوجهة‬ ‫ّ‬ ‫الخطوط‬
‫ّ‬
‫التمسك بها‪ .‬فنظرية جديدة أولى يمكن أن تعد كنظرية أكثر احتمالية من‬ ‫ّ‬ ‫إنما دون‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫نظرية جديدة ثانية‪ ،‬بالنسبة لنظرية مقبولة حتى اآلن‪ ،‬إذا كان محتواها الؤكد مطابقا أو‬
‫أهم من محتوى الثانية‪ ،‬وإذا كانت تتضمن عناصر وصفية أكثر للنظرية السابقة القبولة‬ ‫ّ‬
‫من الثانية‪ .‬وعلى عكس الطريقة االستقرائية‪ ،‬فإن هذه القاربة ال تحاول العودة من‬
‫ّ‬
‫النتائج الواقعية بجملة من التنبؤات النظ َمة؛ كذلك تستند هذه القاربة على بنى نظرية‬
‫سابقا‪ .‬وهي َتستخدم ضمن هذه البنى النظرية ليس فقط ّ‬ ‫ً‬
‫مؤداها التنبؤي بل‬ ‫موجودة‬
‫ً‬
‫وأيضا محتواها الوصفي‪ .‬إنه الحتوى الوصفي الذي يريد الفيلسوف الواقعي الحفاظ‬
‫ً‬ ‫يعده (أو يتمنى أن ّ‬
‫عليه من نظرية إلى نظرية تالية‪ ،‬ألنه ّ‬
‫يعده) كتمثيل مخلص تقريبا‬

‫‪K. Popper, Objective knowledge, Oxford University Press, 1972, p. 103. 34‬‬
‫‪ 35‬راجع الرجع السابق لنيوتن ـ سميث ‪ ،W. H. Newton-Smith, The rationality of science‬ص‪ 412 .‬ـ ‪.416‬‬
‫‪N. Goodman, Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1984 36‬‬
‫‪34‬‬
‫تجنب على هذا النحو‬‫للواقع‪ .‬وهكذا يستطيع نيوتن ‪ -‬سميث على العكس‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫ّ‬
‫تعريف االحتمالية لنظرية بواسطة النجاح الرصدي الثبت أو التوقع‪ ،‬اعتبار احتمالية‬
‫مرض لنجاحها الرصدي‪.‬‬
‫نظرية ما كتفسير ٍ‬
‫ونجد العنصرين الرئيسيين في طرح نيوتن ‪ -‬سميث‪ ،‬كما عرضناه ّ‬
‫لتونا‪ ،‬تحت أشكال‬
‫مختلفة في كافة النسخ العروفة للواقعية التقاربة‪.‬‬
‫العنصر األول هو ما يمكننا تسميته درجة معينة من "الحافظة"‪ ،‬أكانت هذه‬
‫الحافظة من رتبة بنائية أو قانونية أو أنطولوجية‪ .‬إن درجة دنيا من الحافظة هي‬
‫ّ‬
‫التمسك بأي‬ ‫متالزمة ال يمكن تجنبها للواقعية التقاربة‪ .‬ألنه سيكون من األقل صعوبة‬
‫تالق تاريخي للنظريات التتالية إذا كانت تلجأ بشكل منهجي لبنى أو أنطولوجيات منفصلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما العنصر الثاني الشكل للواقعية العلمية‪ ،‬وبخاصة للواقعية التقاربة‪ ،‬فهو التأكيد‬
‫تفسر بطريقة مرضية النجاح‬‫أنه وحدها فكرة الالءمةمع الواقع‪ ،‬مهما كانت تقريبية‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫التنبؤي للنظريات‪ .‬نجد هذا التأكيد عمليا‪ ،‬على شكل "استدالل نحو التفسير األفضل"‬
‫لنجاح النظريات‪ ،‬أو "استدالل باتجاه التفسير الوحيد القبول"‪ ،‬عند جميع الدافعين‬
‫عن الواقعية العلمية‪ ،‬منذ العصور القديمة‪ 37‬حتى أيامنا هذه‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن العنصرين الشكلين للواقعية يتالقيان في الالحظة التالية‪ :‬وبما أنه ال يمكن‬
‫تفسير نجاح النظريات السابقة إال ألن رموزها تستند بشكل تقريبي إلى كيانات حقيقية في‬
‫الطبيعة وألن بناها تنتج بشكل تقريبي قوانين الطبيعة‪ ،‬فإننا ال نستطيع تجنب الوصول‬
‫إلى األخذ بجزء كبير من أسسها الرجعية والبنيوية‪ .‬وعندما ال نستطيع القيام بذلك علينا‬
‫على األقل تبيان أن الجوانب التروكة من النظرية السابقة هي حاالت محدودة من‬
‫النظرية الجديدة‪ ،‬بل وتفسير سبب النجاح الجزئي لإلطار الرجعي والقانوني القديم‬

‫‪ 37‬ال شك أن لوقريسيوس ‪ Lucrèce‬كان من أوائل الذين استخدموا هذا النوع من الحجج‪ ،‬عندما دافع عن‬
‫النظرية الذرية بذكره لـ "[‪ ]...‬أجسام [‪ ]...‬ال بد من االعتراف بوجودها على الرغم من عدم قدرتنا على رؤيتها"‪،‬‬
‫راجع ‪ .De naturarerum, I, v. 266-275‬ويجعل اإللحاح على ضرورة األجسام غير الرئية من هذا القطع‬
‫النموذج البدئي لـ "استدالل نحو التفسير الوحيد القبول"‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫بمصطلحات النظومة الجديدة من الكيانات والبنى‪ .‬كتب بتنام على سبيل الثال عام‬
‫‪ 0916‬أن مهمة الباحثين أثناء تغيير نظرية ما هي الحفاظ "[‪ ]...‬على اآلليات في النظرية‬
‫ً‬
‫السابقة كلما كان ذلك ممكنا‪ ،‬أو البرهان أنها حاالت محدودة من اآلليات الجديدة‪."38‬‬
‫يشير بويد ‪ R. Boyd‬في السياق نفسه إلى أن "[‪ ]...‬على النظريات الجديدة‪ ،‬في مقاربة‬
‫أولية‪ ،‬مشابهة النظريات الحالية فيما يتعلق ببيانها للعالقات السببية بين الكيانات‬
‫النظرية‪."39‬‬
‫إن الهدف من تفسير نجاح النظريات في العمق هو التبرير الركزي للواقعية التقاربة‪.‬‬
‫كتب بتنام‪" :‬إن الحجة اإليجابية بالنسبة للواقعية هي أنها الفلسفة الوحيدة التي ال‬
‫تجعل من نجاح العلوم معجزة‪ ."40‬وبهذه الطريقة إنما تتجنب الواقعية العلمية اتهام‬
‫العودة إلى نسخة ميتافيزيائية للواقعية‪ .‬بل هي تقدم نفسها باألحرى كنوع من نظرية‬
‫النظريات‪ ،‬نظرية قابلة للدحض عند االقتضاء‪ ،‬وتهدف إلى أن تأخذ بعين االعتبار‬
‫ّ‬
‫بأفضل صورة ممكنة ديناميكية تشكل النظريات العلمية وإتمامها‪.‬‬
‫‪ 2 .1‬التفسيرات الواقعية والال‪-‬تفسيرات الداروينية الضادة لنجاح النظريات‬
‫العلمية‬
‫تعرضت الواقعية التقاربة‪ ،‬على الرغم من تجاوزها لالرتهان اليتافيزيائي‪ ،‬لهجمات‬
‫قاسية على جناحيها الرئيسين‪ ،‬أال وهما "الفكر الحافظ" و"القدرة على التفسير"‪.‬‬

‫‪H. Putnam, Meaning and the moral sciences, Routledge&Kegan Paul, 1987. 38‬‬
‫‪R. Boyd, "Realism, underdetermination, and a causual theory of evidence", Noûs, 7, p. 1-12, 1973 39‬؛‬
‫ً‬
‫وانظر أيضا‪R. Boyd, "The current status of scientific realism", in J. Leplin (ed.), Scientific realism, :‬‬
‫‪.University of California Press, 1984, p. 41-82‬‬
‫ً‬
‫‪H. Putnam, Mathematics, matter and method, Cambridge University Press, 1975, p. 73 40‬؛ وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪E. Mac Mullin, "The history and philosophy of science: a taxonomy", in H. Feigl& G. Maxwell (eds.),‬‬
‫‪[" :Minnesota Studies in the history of science V, University of Minnesota Press, 1970, p. 13-67‬إن]‬
‫تأكيد أنطولوجيا واقعية للعلوم هو أن الطريقة الوحيدة لتفسير لاذا تعمل نماذج العلم بمثل هذا النجاح‬
‫لتجاوز الشذوذات تكمن في أنها تقارب بطريقة من الطرق بنية الوضوع"‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫ومن بين االنتقادات الوجهة لسألة "الحافظة"‪ ،‬فإن أحد أكثرها شهرة هو الذي‬
‫تغير مفاجئ للجشطالت‬‫طرحه كوهن‪ .T. Kuhn 41‬إن مفهومه للثورة العلمية‪ ،‬وفكرته عن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(للبنية) ‪ ،gestalt‬بل و"للعالم"‪ ،‬من نموذج إلى آخر‪ ،‬ال يترك مكانا كافيا للسكونية‬
‫الوصفية التي يطلبها الفالسفة الواقعيون من أجل تجسيد فكرة تالق تاريخي نحو بيان‬
‫تقدم آخر سوى التقدم‬ ‫حقيقي للطبيعة‪ .‬وقاد ذلك كوهن للتأكيد بأن العلوم ال تبدي أي ّ‬
‫ّ‬
‫الدائم الزدياد السعة العملياتية‪ ،‬لعدد السائل الحلولة وللدقة التي نحلها بها‪ .‬وبالنسبة‬
‫له‪ ،‬فإن التالقي نحو حقيقة ما بعد نظرية هو فخ في النطاق الذي "يمكن فيه لـ [كلمة]‬
‫ً‬
‫'حقيقة'‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة لكلمة 'برهان'‪ ،‬أن تكون مصطلحا ليس له سوى‬
‫تطبيقات ضمن النظريات‪ ."42‬وتبدو له استقرارية القوانين غير ثابتة من نظرية إلى أخرى‬
‫بشكل واضح؛ أما فيما يتعلق باستقرارية الرجع‪ ،‬فإنه يكفي وفق كوهن بضعة دراسات‬
‫ً‬
‫لحاالت مأخوذة من الفيزياء للبرهان على عدم الثبات فيها‪ .‬وبدال من مالحظة تالق‬
‫ً‬
‫أنطولوجي‪ ،‬نلحظ غالبا كما يقول كوهن انقطاعات ونقاط انقالب وتقهقر‪ .43‬إن الكينونة‬
‫الكانية ‪ -‬الزمانية للنسبية العامة هي على سبيل الثال أقرب في بعض النواحي من‬
‫الكينونة الكانية في الفيزياء الديكارتية منها إلى منظومة الجسم الذي يجذب عن مسافة‬
‫بعيدة في الفيزياء النيوتونية‪.‬‬
‫ً‬
‫واألمر األكثر إزعاجا كما يالحظ كل من كوهن ولودان‪ ،L. Laudan 44‬ليس فقط أننا ال‬
‫ً‬
‫نلحظ أي تقدم في العلوم على مستوى غير الستوى البرغماتي البحت‪ ،‬بل ونستنتج أيضا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تراجعات حقيقية‪ .‬فغالبا ما يتم التخلي من نظرية إلى أخرى عن هدف تفسيري كان‬

‫‪T. Kuhn, la structure des révolutions scientifiques, Flammarion, 1972. 41‬‬


‫‪T. Kuhn, "Logic of discovery or psychology of research?", in I. Lakatos& A. Musgrave (eds.), 42‬‬
‫‪Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University Press, 1970.‬‬
‫‪ 43‬ضمن المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.P. Hoyningen-Huene, Reconstructing scientific revolutions 453‬‬
‫ً‬
‫‪ ، L. Laudan, Progress and its problems, 44‬الرجع السابق‪ ،‬وراجع أيضا‪:‬‬
‫‪.L. Laudan, "A confutation of convergent realism", Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981‬‬
‫‪37‬‬
‫يعتبر في السابق كضرورة‪ .‬فمن اليكانيك الديكارتي إلى اليكانيك النيوتوني تم التخلي عن‬
‫مطلب تفسير التفاعل الجاذبي بواسطة أفعال اتصال‪ .‬واستطاع كتاب كثيرون التأكيد‪،‬‬
‫ّ‬
‫متكدرين منه‪ ،‬أننا خسرنا من اليكانيك الكالسيكي إلى اليكانيك‬ ‫منشرحين لذلك أو‬
‫ً‬
‫الكمومي مثالية التفسير عموما لصالح تنظيم أهلية وجدارة التنبؤ االحتمالي‪ .‬يضاف إلى‬
‫ذلك قائمة مدهشة من الحاالت‪ ،‬معروفة لدى فالسفة العلم باسم "قائمة لودان"‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حيث ارتكزت نظريات َعرفت نجاحا تجريبيا معينا على أنطولوجيات أو على صيرورات‬
‫اختفت وفقدت مع تطور العلوم‪ .‬ومن األمثلة عليها مدارات األفالك البطلميوسية‪،‬‬
‫ّ‬
‫والسيالة الحرارية (سائل‬ ‫تصوره القدماء لتفسير االحتراق)‬ ‫ّ‬ ‫ومصدر اللهب (سائل‬
‫ّ‬
‫افتراض ي كان يعتقد أنه يولد الحرارة والبرودة) واألثير‪.‬‬
‫ً‬
‫الشكلة هي أن هذا السقوط األنطولوجي في االنتقال من نظرية إلى أخرى يطعن أيضا‬
‫بالشق الثاني من النسخة األكثر محدودية من الواقعية التقاربة‪ :‬أي تلك التي تشتمل‬
‫على إرادة تفسير جزئي لنجاح النظريات الفيزيائية من خالل التقاطها إلشارات طبيعية‪.‬‬
‫ولكي ندرك أن استخدام الرجعيات الناسبة لها قدرة محدودة لتفسير نجاح‬
‫النظريات فال بد في الواقع من مالحظة ما يلي‪ .‬فقد وجدت نظريات نالت ّ‬
‫حصتها من‬
‫النجاح رغم تعاملها مع بعض الكيانات‪ ،‬مثل األثير في الكهرمغنطيسية‪ ،‬وهي كيانات لم‬
‫تأخذ بها النظريات الالحقة األكثر فعالية‪ .‬وعلى العكس فقد وجدت نظريات كانت تدخل‬
‫ً‬ ‫في بنيتها كيانات ّ‬
‫كرسها العلم الالحق‪ ،‬إنما التي أخفقت جزئيا لفترة من الزمن بمواجهة‬
‫النظريات العاصرة التي ال تستخدم هذه الكيانات‪ .‬فالنظريات الذرية ظلت لفترة طويلة‬
‫قابعة وراء غيرها من النظريات وعاجزة بالنسبة للترموديناميك الجهاري أو بالنسبة‬
‫لنظريات اليكانيك االستمرارية للحرارة‪.45‬‬
‫تدخلنا األمثلة التي جئنا على ذكرها أعاله إلى أمثولة أوسع لنقد الواقعية التقاربة‪.‬‬
‫وتتمثل هذه األمثولة في استحالة استخالص النتائج نفسها من مجرد االحتمالية أو من‬

‫‪ 45‬راجع ‪.B. Diu, Les atoms existent-ilsvraiment?,Odile Jacob, 1997‬‬


‫‪38‬‬
‫الطابقة التقريبية للواقع‪ ،‬ومن الحقيقة أو من التوافق الدقيق معها‪ .46‬وفي الواقع ليس‬
‫ً‬
‫ثمة ما يمنع نظرية احتمالية‪ ،‬أو نظرية تتوافق تقريبيا مع الواقعي بما هي تستخدم على‬
‫ً‬
‫سبيل الثال الكيانات "الجيدة"‪ ،‬من اإلخفاق خالل مدة زمنية طويلة نسبيا‪ .‬وعلى‬
‫ً‬
‫العكس‪ ،‬ال ش يء يمنع نظرية قليلة االحتمال‪ ،‬أو ال تتوافق جيدا مع الواقع‪ ،‬ألننا نستطيع‬
‫القول بشكل استرجاعي أنها لم تكن تتضمن االستناد إلى كيانات "جيدة"‪ ،‬من تحقيق‬
‫ً‬
‫النجاح‪ .‬ومن الؤكد أن هذه الالحظة ال تخلو من صلة مع دحض أكثر شيوعا معارض‬
‫للواقعية العلمية‪ :‬وهو دحض التحديدية التحتية للنظريات بواسطة التجربة‪ .‬ويمكن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لنظريات مختلفة احتمالية تقريبا أن "تنقذ" مجلدا منتهيا من الظاهرات؛ لكن هذا‬
‫ً‬
‫الجلد ال يسمح بالتعرف على أكثرها شبها بالصحيح في لحظة معطاة بالطريقة نفسها‬
‫التي تسمح بها معرفة وافية مثالية للموضوع أن تتعرف بشكل مؤكد على النظرية‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫ولنقبل حتى بأننا نعترف للواقعية التقاربة بنوع من القدرة التفسيرية للنجاح التزايد‬
‫اسين ‪B. Van‬‬ ‫للنظريات العلمية‪ ،‬فهل يجبرنا ذلك على القبول بها؟ يجيب فان فر ّ‬
‫‪ Fraassen‬ولودان وبالكبرن‪ S. Blackburn47‬وغيرهم كثيرون بأن ذلك ال يعني القبول بها‬
‫بأي شكل من االشكال‪ .‬ولا كانت الواقعية التقاربة قد ق ّدمت من قبل الكثيرين من‬
‫الدافعين الحديثين عنها كنظرية علمية من الرتبة الثانية‪ ،‬وكنظرية لـ "تقدم" النظريات‪،‬‬
‫فإن قبولها يجب أن يخضع للمعايير التي يرى الفكرون الواقعيون أنفسهم بأنها ضرورية‬
‫من أجل اعتماد نظرية علمية‪ .‬والحال كذلك‪ ،‬كما يالحظ لودان‪ ،‬فإن الواقعيين على‬
‫صممت من‬‫خالف الذرائعيين يتطلبون نظرية تقوم بما هو أكثر من إنقاذ الظاهرات التي ّ‬
‫ً‬
‫أجلها أصال‪ .‬فهم يريدون منها أن تكشف من خالل تفسيراتها عن مجاالت غير مسبوقة‬
‫ّ‬ ‫لالستكشاف‪ ،‬وأن ّ‬
‫تقدم تنبؤات جديدة ومؤكدة إذا أمكن لوضوعها‪ .‬لكن لألسف لم يتم‬

‫‪46‬الرجع السابق ذكره‪.L. Laudan, Progress and its problems .‬‬


‫‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993 .47‬‬
‫‪39‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"الواقعية‬ ‫النظريات التي يفترض أن تكون‬ ‫بنظرية‬ ‫إثبات أي ش يء من ذلك فيما يتعلق‬
‫ّ‬
‫التفسيرية محدودة بالسبب‬ ‫ّ‬
‫خاصة قدرتها‬ ‫ّ‬
‫فرضية‬ ‫التقاربة"‪ .‬إن الواقعية التقاربة تظل‬
‫الذي من أجله ّتمت صياغتها وإعدادها‪ .‬ومن السهل فهم سبب هذه الحدودية‪ :‬فالجال‬
‫الوحيد الذي يمكن للتفسير الواقعي لنجاح النظريات الخاص به اقتراح تنبؤات ال يمكن‬
‫ألية مقاربة ابستمولوجية أخرى تقديمها يتعلق بمنفذ مباشر وهمي‪ ،‬دون وساطة نظرية‬
‫ً‬
‫أو تجريبية‪ ،‬إلى الواقعية التجاوزية‪ .‬كان شرودنغر ليقول‪ ،‬مرتكزا على هذا النوع من‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫والسر‬ ‫الالحظات‪ ،48‬إن الواقعية العلمية ال تقوم سوى بمضاعفة اللغز بإعطائه اسما‪.49‬‬
‫الذي يقصده شرودنغر هنا هو لغز االتفاق البين ‪ -‬الذاتي‪ ،‬في حين أن مضاعفة اللغز هو‬
‫التفسير الواقعي لهذا االتفاق‪ .‬يمكننا مع ذلك نقل الالحظة إلى "السر" البتنامي لنجاح‬
‫النظريات الفيزيائية‪ ،‬ولضاعفتها بواسطة عبارة "التالقي نحو توافقية النظريات مع‬
‫الواقع"‪.‬‬
‫وفي العمق‪ ،‬فإن للعملية التفسيرية كما يبدو التي تعتمد عليها الواقعية العلمية كافة‬
‫الحظوظ باالختصار إلى مصادرة‪ .‬يفترض أن الواقعية التقاربة ّ‬
‫تفسر النجاح التنامي‬
‫للنظريات العلمية من خالل مقاربتها لوصف مخلص للواقع‪ ،‬بالطريقة نفسها التي تميل‬
‫بها الواقعية بشكل عام لتفسير التوافق البين ‪ -‬الذاتي من خالل واقع أن هذا التوافق‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يتأسس بما يخص جسما وحيدا خارجيا‪ .‬لكن علينا أال ننس ى أنه في لحظة معطاة من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يظل النجاح ناقصا ويعاني التوافق البين ‪ -‬ذاتي من العديد من‬ ‫ممارسة العلوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ً‬
‫الشك باإلمكانية الستقبلية‬ ‫العقبات‪ .‬وضمن هذا الوضع ليس ثمة ما يمنع متشككا من‬
‫في توطيد الوصف والحصول على ما هو أفضل من التوافقات الحدودة أو الظرفية‪.‬‬
‫ّ‬
‫عندها يجد الواقعي نفسه بمواجهة معضلة‪ .‬فإما يسلم بأن مقصده الوحيد كان تفسير‬

‫‪ 48‬يقول شرودنغر في كتابه "تصوري للعالم" ( ‪E. Schrodinger, Ma conception du monde, Mercure de‬‬
‫‪" :)France, 1982, p. 108‬ال أحد يدرك عالين‪ ،‬عالم مرصود وعالم حقيقي"‪.‬‬
‫‪ 49‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫النجاحات الجزئية لنظريات الاض ي من خالل احتماليتها‪ ،‬فيمكننا عندها ّ‬
‫الرد عليه‪ ،‬كما‬
‫ّ‬
‫يؤكد بأنه أراد أن ّ‬
‫يفسر‬ ‫في السابق‪ ،‬بضعف الصلة بين النجاح الثابت واالحتمالية‪ .‬وإما‬
‫مد مستقبلي للتالقي نحو منظومة من القوانين والرجعيات الوحيدة‪،‬‬ ‫مقد ًما اليل إلى ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التطور القادم‪ .‬فإذا لم‬ ‫وعلينا بالتالي أن نسأله حول سبب ثقته الضمنية بمثل هذا‬
‫تعميم للتالقي الاض ي (الشكوك فيه)‪ ،‬فإنه يجازف‬
‫ٍ‬ ‫يقتنع بحجة استقرائية من خالل‬
‫عندها بالقبول أن الش يء الوحيد الذي يمكن أن ّ‬
‫يبرر إيمانه بتالق مستقبلي هو أن على‬
‫يتحقق بشكل إجباري‪ ،‬ألن البحث يخضع لقيود مشاركة لواقع خارجي‬ ‫ّ‬ ‫هذا التالقي أن‬
‫ّ‬
‫سابق التشكل‪ .‬وهكذا‪ ،‬ال تعمل أطروحة الواقعية التقاربة سوى على اإلستئثار بالنجاح‬
‫تبرر بالقابل وجودها‪ .‬فالواقعية التقاربة ّ‬ ‫ّ‬
‫وبالتمكن الوصفي للنظريات؛ إنها ّ‬
‫تقدم‬ ‫التنامي‬
‫ً‬
‫في آن معا‪ ،‬وإن ليس دون بعض التبادلية‪ ،‬البدأ التفسيري وضمان أنه يوجد ش يء ما‬
‫لتفسيره‪.50‬‬
‫وفي الواقع‪ ،‬فإن هدوء الواقعيين بمواجهة هذه االنتقادات يتأتى ربما مما يعتقدون‬
‫ّ‬
‫العلمية غير تفسيرهم‪ .‬ويلومهم‬ ‫ّ‬
‫وتطور النظريات‬ ‫به بتعذر الوصول إلى تفسير آخر لنجاح‬
‫ً‬
‫لودان فعال ألنهم لم يبرهنوا أنه تنقص إبستمولوجيا مضادة للواقعية مصادر طبيعية‬
‫لكي يمكنها تقديم مثل هذا التفسير‪ ،‬لكن يجب االعتراف أن مثل هذه الطريقة في ّرد‬
‫عبء اإلثبات إلى الخصم ليست مقنعة‪ .‬وكان اإلبستمولوجيون الالواقعيون سيدعمون‬
‫بشكل كبير طرحهم لو ّ‬
‫قدموا فرضية مقابلة قابلة للتفسير الواقعي‪ .‬فماذا لديهم إذن‬
‫لتقديمه في هذا الجال؟‬
‫تطوري دارويني‪ ،‬وهو مفهوم ّ‬
‫حدد‬ ‫يلجأ معظم فالسفة العلوم الالواقعيين إلى مفهوم ّ‬
‫في إطار إبستمولوجي آخر عند بوبر‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬يبدأ كوهن بقبول فكرة ّ‬
‫تقدم تراكمي لكل علم خالل مراحل العلم السمى بـ‬
‫"العادي"‪ ،‬لكنه يعتبر أن االنتقال من نموذج (إرشادي) ‪ paradigme‬إلى آخر يخضع‬

‫‪ S. Blackburn, Essays in quasi-realism, 50‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.33 .‬‬


‫‪41‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لقواعد منطقية بديهية مختلفة جدا‪ .‬فالثورة العلمية‪ ،‬بما أنها تقتض ي "تغييرا للعالم"‪،‬‬
‫ً‬
‫تقود إلى التخلي فورا عن صيرورة مراكمة العارف فيما يخص الكيانات والروابط‬
‫القانونية للعالم القديم‪ .‬ويرجع عمل الباحثين وفقها إلى قرارهم بزيادة القدرة التي‬
‫يملكونها في حل الشاكل‪ ،‬وذلك على حساب هذا التخلي‪ .‬وهكذا إنما يحفظ ش يء من‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫مفهوم ّ‬
‫تقدم العلوم‪ ،‬لكن األمر ال يعود متعلقا بتقدم نحو الهدف الحدد مسبقا الذي هو‬
‫"الحقيقة"؛ بل باألحرى بصيرورة تأقلم وتخصص وانقراض غير ّ‬
‫موجه مماثل لتطور‬
‫السالالت العبر عنه في النظرية التطورية الداروينية‪ .‬ويالحظ فان فراسين‪ 51‬حول هذا‬
‫تطور األنواع أو على ّ‬
‫تطور النظريات العلمية‪،‬‬ ‫الوضوع أن الداروينية‪ ،‬أكانت مطبقة على ّ‬
‫ّ‬
‫تتميز بأنها ال تجيب على نوع األسئلة التي يطرحها كل من القائلين بالغائية والقائلين‬
‫بالواقعية التقاربة‪ .‬بل هي تقود باألحرى إلى تبيان كيف يمكننا اإلفالت من طرح هذه‬
‫ً‬
‫األسئلة‪ .‬إن أسئلة مثل "لاذا للنظرية العلمية القبولة حاليا البنية التي لها؟" تثير‬
‫ً‬ ‫سر وتدعو بالتالي بشكل ال يمكن ّ‬‫االنطباع بوجود ّ‬
‫تجنبه تقريبا إلى إجابة "غائية" أو‬
‫ّ‬
‫قصدية‪ ،‬من نوع اإلجابة‪" :‬ذلك ألنها (أي النظريات العلمية) تميل إلى التوافق مع بنية‬
‫الواقع"‪ .‬ويكفي وفق فان فراسين توسعة التساؤل إلى مجموعة من النظرات التنافسة‪،‬‬
‫وإلى ديناميكية إخضاعها لالختبار في إطار عمل ّ‬
‫تكيف النظريين والتجريبيين‪ ،‬من أجل‬
‫إفقاد الجواب القصدي إغراءه وسحره‪ ،‬ومن أجل تيسير أجوبة يكون فيها معنى الس ّر قد‬
‫ّ‬
‫انحل في جزء كبير منه‪" :‬من بين كافة النظريات التنافسة‪ ،‬وحدها النظريات التي كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫فعالة بدرجة كافية لكي تقود صفا معينا من التطبيقات هي التي استمرت؛ ثم جاءت‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التوسعة التي ّ‬
‫حرضتها‪ ،‬أفضل تأقلما مع‬ ‫نظريات أخرى‪ ،‬في النظومة البيئية التجريبية‬
‫ّ‬
‫الشروط الجديدة‪ ،‬أو أكثر عالية‪ ،‬وحلت محل النظريات األولى"‪ .‬وكما يشير لودان‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫أحيانا ّ‬
‫تطور العلوم‪ ،‬والذي يعارضه بعض الواقعيين مع‬ ‫انطباع االتجاهية الذي يعطيه‬
‫تعددي و"أعمى" في آن واحد‪ ،‬يمكن أن ينسب إلى وهم‬ ‫لتطور تأقلمي ّ‬
‫ّ‬ ‫التصور الدارويني‬

‫‪ B. Van Fraassen, The scientific image. 51‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.39 .‬‬


‫‪42‬‬
‫ً‬ ‫مرتبط بالاض ي‪ .‬ويبدو أن ا ّ‬
‫لتطور الاض ي يميل دائما‪ ،‬إذا ما نسينا فروعه اليتة‪ ،‬نحو‬
‫الحالة الحاضرة؛ وهذه الحالة الحاضرة هي التي ّ‬
‫تحل كبديل براغماتي عن الهدف‪télos‬‬
‫الستحضر‪.‬‬
‫عند هذا الستوى نلحظ ظهور مسألتين تميزان الداروينية‪ ،‬وهما مسألتان لم‬
‫ً‬
‫يلحظهما دائما بشكل جيد فالسفة العلم الالواقعيين‪.‬‬
‫السألة األولى هي أن التطورية الحديثة‪ ،‬التي تابعها حتى آخر نتائجها مؤلفون مثل‬
‫ستيفن جاي غولد ‪ Stephen Jay Gould‬أو فاريال‪ ،F. Varela 52‬تقود إلى إدراج عنصر‬
‫طارئ نادر الحدوث كانت األجيال األولى من البيولوجيين الداروينيين تعتقد بإمكانية‬
‫تكيف كاف لإلستمرار والبقاء يمكن ّ‬
‫تتبعه‪ ،‬وهذه‬ ‫تطوري يقود إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫تجنبه‪ .‬فأكثر من طريق ّ‬
‫الطرق تقود إلى أنواع ذات سويات تنظيم مختلفة بشكل عميق‪ .‬وحدها الظروف‬
‫العرضية والفاجئة‪ ،‬من رتبة األحداث الجيولوجية أو الفلكية‪ ،‬قادت إلى شجرة ّ‬
‫تطور‬
‫ّ‬ ‫السالالت التي نعرفها‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن شجرة ّ‬
‫تطور السالالت هذه واألنواع التي تشكلها‬
‫حل األمثلي لسألة التأقلم‪ ،‬بل فقط ّ‬ ‫ّ‬
‫تمثل الـ ّ‬
‫حل جملة الحلول تحت األمثلية‬ ‫ال‬
‫ّ‬
‫استمرت حجة‬ ‫والقبولة‪ 53‬الذي ّ‬
‫فضلته األحداث الطارئة في تاريخ الكرة األرضية‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعددية النظريات المكنة‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ ،‬بعد نقلها إلى فلسفة العلوم‪ ،‬لتمثل فيها‬
‫قلب النسخة الطابقة الالواقعية لإلشكالية الواقعية والالهوتية للوحدانية‪ .‬فالالواقعي‬
‫يصر‪ ،‬بمواجهة تناقضه‪ ،‬على االختالف بين التوافقية التماثلية لنظرية مع الواقع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫و ّ‬
‫التكيف البسيط للعالم النظري مع الشروط التجريبية‪ .‬فاألولى تتطلب الوحدانية أو‬
‫ّ‬
‫التعددية‪ ،‬ألن أكثر من طريقة تحت ‪-‬‬ ‫ّ‬
‫فتتكيف مع‬ ‫على األقل قصد الوحدانية‪ .‬أما الثانية‬
‫ّ‬
‫للتوجه يمكن أن تكون موافقة‪ ،‬ضمن حقل من الشروط العطاة‪ ،‬ومن أجل‬ ‫أمثلية‬

‫ً‬
‫‪ .S. J. Gould, La vie est belle, Seuil, 1991 52‬وانظر أيضا‬
‫‪.F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscriptioncorporelle de l'esprit, Seuil, 1993‬‬
‫‪F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993, p. 265. 53‬‬
‫‪43‬‬
‫التكيف يتطلب ّ‬
‫تعددية‬ ‫ّ‬ ‫حاجة للدقة محدودة بالضرورة‪ .‬وبشكل أعمق‪ ،‬فإن مفهوم‬
‫ّ‬
‫التكيف‪ ،‬على عكس التوافقية‬ ‫الصيرورات المكنة من التوافق إلى الشروط‪ .‬ذلك أن‬
‫التماثلية‪ ،‬ليس فيه ش يء من العالقة السكونية‪ .‬وهو يتعلق ليس فقط بالوسط الذي‬
‫يمارس الشروط (القيود)‪ ،‬بل بالشروع (مشروع الحياة أو التنبؤ) الذي يجب إكماله مع‬
‫األخذ بعين االعتبار للقيود‪ .‬وليس لهذه الشروط أي سبب إضافي لكي ال تكون معتمدة‬
‫بشكل جزئي على نمط النشاط التضمن في الشروع التوقع‪ ،‬بما هي إجابات اتجاهية على‬
‫تطبيقات وممارسات هي نفسها اتجاهية‪ .‬ترتبط مشاريع البحث بالتالي‪ ،‬بداهة‪ ،‬مع‬
‫ً‬ ‫إنجازات ّ‬
‫تكيفية منفصلة عن بعضها بعضا‪ .‬ويرتبط كل مشروع بينها بنطاق من بنى‬
‫ّ‬ ‫ً ً‬ ‫ّ‬
‫التعددية‪،‬‬ ‫وأنماط الفعل التأقلمة والميز عن النطاقات األخرى‪ .‬وهي تمثل ترتيبا ثانيا من‬
‫إلى ما وراء الترتيب األول الذي ينتج عن األمثلية التحتية لصيرورة التكيف الخاصة‬
‫بمشروع معطى‪ .‬يلخص لنا فون غالسرفلد ‪ E. Von Glaserfeld‬نتيجة هذا النمط من‬
‫التحليل على النح و التالي‪" :‬ال يعطينا [النجاح] أي مؤشر على السمات الحتملة للعالم‬
‫"الوضوعي‪ ،‬بل يعني فقط أننا نعرف وسيلة قابلة للتطبيق لبلوغ هدف اخترناه‪ ."54‬كان‬
‫ّ‬
‫يمكن ألهداف كثيرة أن تكون مختارة‪ ،‬وكان يتوفر في هذه الحالة لكل من هذه األهداف‬
‫وسائل قابلة للتطبيق‪ .‬إن موقفنا اليوم في الوضع الحالي لتطور العلوم هو االتفاق‬
‫الجماعي على هدف واحد أو على مجموعة محدودة من األهداف‪ ،‬وعلى توفير الوسائل‬
‫القابلة بشكل ّ‬
‫مميز للتطبيق (والوحدة بشكل منطقي) وتحقيق هذه األهداف‪ .‬إن السؤال‬
‫الطروح على هذا الستوى‪ ،‬بنقل اإلشكالية الداروينية الجديدة حول الفجائي أو‬
‫ً‬
‫العرض ي‪ ،‬هو معرفة ما هو الحدث (ما هي األحداث) التي قادتنا تاريخيا لتفضيل هذا‬
‫ّ‬
‫للتكيف‪ .‬إن‬ ‫الهدف‪ ،‬هذا الشروع وهذا النموذج النظري من بين أنماط أخرى ممكنة‬

‫‪E. Von Glaserfeld, "Introduction à un constructivisme radical", in P. Watzawick, L'invention de la 54‬‬


‫‪réalité, Seuil, 1988, p. 26.‬‬
‫‪44‬‬
‫كثيرين من الفالسفة الالواقعيين يحاولون تأكيد تحديدية تحتية مبدئية‪ ،‬دون التساؤل‬
‫حول الظروف التي قادت إلى التحديدية ّ‬
‫الفعالة التي نحن شهود عليها‪.55‬‬
‫ّ‬
‫التكيف واالنتخاب‬ ‫السألة الداروينية الثانية هي أننا نعتبر بشكل عام أن صيرورة‬
‫ً‬ ‫الطبيعي هي صيرورة مشروطة بواسطة القيد الذي يطبقه وسط خارجي ّ‬
‫محدد مسبقا‪.‬‬
‫ً‬
‫أحداثا بيولوجية كبرى ّ‬ ‫ّ‬
‫تغير النظومات البيئية‪ ،‬مدخلة‬ ‫التطوريين يقبلون أن‬ ‫إن غالبية‬
‫ّ‬
‫مستقر‪ ،‬هو على سبيل‬ ‫عليها بالتالي تبادلية ما‪ ،‬بل ويمضون في افتراض أساس بيئي أدنى‬
‫الثال الصادر الادية للكوكب‪ .‬ووفق أكثر العلماء جرأة‪ ،‬مثل فاريال‪ ،‬ال يجب التحدث عن‬
‫ّ‬
‫"تضمن مشترك" بين‬ ‫للمتعضية مع وسطها بل باألحرى عن عالقة‬ ‫ّ‬ ‫تكيف بسيط‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫التعضية ووسطها البيئي؛ وهي عالقة "يحدد بواسطتها كل من التعضية والوسط‬
‫أحدهما اآلخر"‪ .56‬إن مسألة معرفة إلى أي مدى يمض ي التمييز التبادل‪ ،‬وإذا كان يعمل‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫على كون ذي أشكال أولية ّ‬
‫محددا لهذه‬ ‫محددة مسبقا أو إذا كان هذا التمييز نفسه‬
‫األشكال ذاتها‪ ،‬تبقى مع ذلك مسألة تنتظر دراسة أكمل وأشمل‪.‬‬
‫يسمح لنا ذلك بأن نفهم‪ ،‬من خالل الشابهة‪ ،‬أن األشكال التتالية من الالواقعية‬
‫ً‬
‫دائما ّ‬
‫ضد افتراض مميز للواقعية بشكل عام‪ :‬أال وهو افتراض‬ ‫العلمية لم ّتدع التزوير‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫"ش يء ما" مستقل‪ ،‬ومتشكل مسبقا بشكل جزئي‪ ،‬يواجه الباحث‪ .‬ش يء ما يتجلى في‬
‫‪57‬‬
‫أبسط حالة من خالل وقائع بحيث تكون مهمة النظرية‪ ،‬وفق ماخ ‪ Mach‬أو دوهيم‬
‫‪ ،Duhem‬وصفها بأكثر الطرق االقتصادية المكنة بساطة‪ .‬صحيح أن األنطولوجيا‬
‫القديمة اإليجابية للـ "معطى" الواقعي ‪ factuel‬قد تركت مكانها منذ بعض الوقت‬
‫إلشكالية واقعية ‪ facticité‬الفعل‪ ،‬وللعبء النظري للفرضيات التجريبية‪ ،‬بل كما عند‬
‫َّ‬
‫فان فراسين لنماذج معطيات مشكلة بواسطة النموذج الشامل للنظرية‪ .58‬غير أنه يبدو‬

‫‪ 55‬راجع القطع ‪ 0‬ـ ‪ 2‬من أجل اقتراحات إلجابة على هذا السؤال‪.‬‬
‫‪ 56‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪F. Varela, E. Thompson, & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit .455 .‬‬
‫‪P. Duhem, La théorie physique; Vrin, 1989, p. 26. 57‬‬
‫‪ 58‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪B. Van Fraassen, The scientific image, .20 .‬‬
‫‪45‬‬
‫لي أن معظم فالسفة العلوم الالواقعيين لم يتوصلوا إلى تحديد حتى أية نقطة سيظلون‬
‫محدث وعصري لخلفية من‬ ‫ّ‬ ‫تابعين لفكرة وسط واقعي جبري ومسبق‪ ،‬على شكل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الترتيبات الواقعية أو لرابطة متعذر حلها بين العنصر الواقعي حصرا وشبكة قراءته‪ .‬من‬
‫ّ ً‬
‫تقدما من بينهم‪ ،‬وحتى أولئك الذين يعرفون الفيزياء العاصرة‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬حتى األكثر‬
‫بشكل أفضل من غيرهم مثل فان فراسين‪ ،‬لم يأخذوا دون شك القسط الكامل مما كان‬
‫ّ‬
‫التفكر ّ‬
‫العمق هذا حول اليكانيك الكمومي‪.59‬‬ ‫بإمكانهم استنتاجه حول موضوع‬
‫‪ 3 .1‬الطرح الواقعي لنضج العلوم‬
‫ّ‬
‫قبل تناول ما يمكن أن يحمله لنا التفكر باليكانيك الكمومي‪ ،‬فإنه من الفيد مع‬
‫للواقعيين العلم ّيين‬
‫ّ‬ ‫ذلك القيام بعرض سريع لردود الفعل واالعتراضات الضادة العامة‬
‫ّ‬
‫الوجهة من الالواقعيين‪ .‬ذلك أن ردود الفعل هذه هي التي سوف‬ ‫بمواجهة االنتقادات‬
‫تنبئنا‪ ،‬على مضض‪ ،‬حول الطريق الذي بقي علينا اجتيازه من أجل صياغة مفهوم‬
‫لديناميكية العلوم‪ ،‬صياغة قابلة للتطبيق إنما منفصلة عن الواقعية التقاربة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الواقعيين اإلجابة عليهما هما‬ ‫ّ‬
‫الرئيسيين اللذين حاول فالسفة العلوم‬ ‫ّ‬
‫التحديين‬ ‫إن‬
‫تحدي الالإستقرارية التاريخية للـ "عوالم" النموذجية لكوهن‪ ،‬وتحدي التحديدية‬
‫ً‬
‫التحتية‪ .‬وقد جاء الجواب عليهما مستندا على الركبة الالهوتية التي ال غنى عنها في‬
‫الشروع العلمي‪.‬‬
‫يتفق الواقعيون مقابل طرح كوهن في الالقياسية ‪ ،incommensurabilité‬على القول‬
‫بأن جوانب كاملة من التفسيرات ومن اآلليات ومن التقسيمات األنطولوجية‪ ،‬تبقى من‬
‫ّ‬
‫نظرية إلى النظرية التي تحل محلها‪ .‬ومقابل قائمة لودان‪ ،‬التي تظهر كمية من األطوار ما‬
‫ّ‬
‫التصورية‪ ،‬لجأ كثيرون منهم إلى ما‬ ‫بين النظريات حيث من الؤكد نقص االستمرارية‬
‫نسميه باإلنكليزية "افتراض النضج العلمي ‪ ،"the mature science assumption‬ووفقه‬
‫فإنه يمكن فقط في حالة نضج كاف للعلوم تأسيس استقرار معين في تمثيل العالم‪.‬‬

‫ّ‬
‫‪ 59‬راجع الفقرة ‪ 0‬ـ ‪ 5‬من أجل تصور موجز لثل هذا التفكر‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫وهكذا فقد أمكن استبعاد أجزاء كاملة من قائمة لودان‪ ،‬أجزاء اعتبر أنها تستند على‬
‫علم ال يزال غير ناضج في مفترضاته وفي مناهجه‪ .‬والشكلة أن فالسفة العلم الواقعيين ال‬
‫يتوصلون إلى التفاهم ال حول تعريف علم ناضج وال حول امتداد ما يبقى من نظرية‬ ‫ّ‬
‫ّ ّ‬
‫تحل محلها‪.‬‬ ‫علمية ناضجة إلى نظرية علمية‬
‫ّ ً‬ ‫وثيقا إلى درجة أن ّ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫التردد بينهما يصبح مضخما‪ .‬وفي‬ ‫إن السألتين مرتبطتان ارتباطا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الواقع‪ ،‬كلما كان مجال العلوم الناضجة محدودا في الجوار الحالي لحالتها الحاضرة‪ ،‬كلما‬
‫قل احتمال طرح مسألة الالإستمرارية عبر – النموذجية (اإلرشادية) ‪trans-‬‬ ‫ّ‬
‫‪ .paradigmatique‬ولكن من جهة أخرى‪ ،‬فإن مقاربة مفرطة لتعريف العلم الناضج‬
‫ولتعريف العلم الحالي ستؤدي إلى االتهام الذي وفقه يحاول الواقعيون تجاهل‬
‫الالإستمرارية عبر ‪ -‬النظريات باالستناد على قصر النظر التاريخي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ً ً‬ ‫ً‬
‫مقيدا جدا فيما يتعلق بما‬ ‫لنفترض إذن أن الفيلسوف الواقعي اتخذ قرارا ليس‬
‫يفهمه بـ "العلم الناضج"‪ .‬فكيف سيجيب على وجود الإستمرارية بين النماذج؟ إنه يبدأ‬
‫ً‬
‫عموما بعدم استبعاد أن درجة معينة من الالإستمرارية يمكن أن توجد‪ .‬وال يحمل هذا‬
‫التنازل أي معنى من االعتراف بالفشل إذا قبلنا أن كل ش يء في البنى النظرية ليس له ما‬
‫يوافقه في الطبيعة‪ ،‬وأنه ليس من النطقي البحث عن االستقرارية إال في بنى العناصر‬
‫ً‬
‫الشكلية التي لها روابط في العالم الفيزيائي‪ .60‬مع ذلك ال يجب أن يذهب الواقعي بعيدا‬
‫ً‬
‫تدريجيا في ذلك‪ ،‬من تنازل إلى تنازل‪ ،‬في ّ‬ ‫ً‬
‫الحد من‬ ‫جدا في هذا االتجاه‪ ،‬ألنه لو مض ى‬
‫روابط النظرية في العالم الفيزيائي إلى البيانات الرصدية وحدها التعلقة بمجال صحة‬
‫الوضعي النطقي‪ .‬فال ّبد‬
‫ّ‬ ‫هذه النظرية‪ ،‬فإنه يجازف بعدم ّ‬
‫التميز عن الالواقعي‪ ،‬بل عن‬
‫بالتالي وفقه من بقاء أو استمرار ش يء ما غير ذلك من نظرية إلى أخرى تليها‪ :‬أي عنصر غير‬
‫ّ‬
‫الشكلية التي تقيم مع نتائج التجربة‬ ‫قابل للرصد بشكل مباشر؛ إنه أحد هذه العناصر‬
‫ليس عالقة إيزومورفية صارمة بل صلة ذات اتجاه وحيد من خالل إجراء افتراض ي ‪-‬‬

‫‪M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1996. 60‬‬
‫‪47‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫استنتاجي‪ .‬وهنا أيضا ينشرخ مع ذلك التوافق بين فالسفة العلوم الواقعيين ما أن يتعلق‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والستقر في آن معا‪ .‬إن الرشحين‬ ‫األمر بتحديد طبيعة هذا العنصر غير القابل للرصد‬
‫الثالثة الرئيسيين لإلستقرارية هم األنطولوجية‪ ،‬والصيرورات أو اآلليات‪ ،‬والقوانين أو‬
‫البنى العامة‪ .‬أما األنطولوجيا‪ ،‬أي تقسيم العالم إلى صفوف وأفراد وفق "مفاصل" يراد‬
‫لها أن تكون مسبقة الوجود‪ ،‬فهي ال شك كما سبق ورأينا أكثر هذه الترشيحات إثارة‬
‫للجدل‪ .‬فدون الرجوع حتى إلى أنطولوجيات مثل األماكن الطبيعية‪ ،‬أو رباعيات العناصر‪،‬‬
‫أو الالهوب (سائل تصوره القدماء لتفسير االحتراق)‪ ،‬أو السائل الحراري (سائل افتراض ي‬
‫يولد الحرارة والبرودة)‪ ،‬التي يمكن للواقعي الطعن فيها ألنها ال تنتمي إلى حالة ناضجة من‬
‫العنية‪ ،‬يمكننا أن نتساءل فيما إذا كانت عناصر من أنطولوجيا الفيزياء‬ ‫ّ‬ ‫العلوم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫استمرت حقا‪ ،‬إلى ما وراء الذرائع‬ ‫العاصرة‪ ،‬مثل الذرات والجسيمات األولية‪ ،‬قد‬
‫اللفظية والصور اإليحائية‪ ،‬وبقيت رغم التحوالت النظرية في القرن العشرين (انظر‬
‫ً‬
‫الفصل الخامس)‪ .‬إن ظهور مقاالت لؤلفين جادين مؤخرا‪ ،‬تحمل عناوين مثيرة للجدل‬
‫ً‬
‫مثل "الجسيمات غير موجودة"‪ ،61‬أو أيضا "ال يوجد قفزات كمومية وال جسيمات!"‪،62‬‬
‫ويبين استبدال تعداد ‪ N‬جسيم في نظرية الحقول‬ ‫يشير إلى أن القضية ال تزال مفتوحة‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫الكمومية في حالة ما بمفهوم اهتزاز نمط نوسان للحقل في ّ‬
‫سويته الكمومية ‪ ،N‬أن بديال‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تصوره‪ ،‬وأنه يعمل منذ اآلن بشكل ضمني في‬ ‫أنطولوجيا للذرية ليس أمرا ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تقدما‪ّ .63‬‬
‫الواقعيين‪ ،‬الذين هم‬ ‫يفسر ذلك أن هؤالء من الفالسفة‬ ‫النظريات األكثر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يصرون كثيرا على االستقرار العبر ‪ -‬نظري‬ ‫متلقون في الوضع الراهن للفيزياء‪ ،‬ال‬

‫‪P. C. W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, A. 61‬‬
‫‪Hilger, 1984.‬‬
‫‪H. D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!",physics letters, A172, p. 189- 62‬‬
‫‪192, 1993.‬‬
‫‪ 63‬سوف نشير إلى ذلك في الفصلين الخامس والسادس من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫‪64‬‬
‫‪A.‬‬ ‫لألنطولوجيات‪ ،‬أو على األقل أنهم يقومون بذلك بطريقة متباينة‪ .‬ويشير شيموني‬
‫‪ Shimony‬على سبيل الثال أنه فقط إذا تم نسخ أو نقل السائل األنطولوجية على‬
‫الستوى السببي والبنيوي فإنه يمكن إثبات استمرارية تاريخية جزئية لألنطولوجيات‪.‬‬
‫ويصر دسبانيا‪ B. d'Espagnat 65‬وريدهد‪ M. Redhead 66‬فيما يخصهما على درجة معينة‬
‫ّ‬
‫من استمرارية البنى القانونية الكبرى‪ ،‬التي تتعارض وفقهما مع هشاشة وتحللية الروابط‬
‫األنطولوجية‪ .‬وضمن هذه الشروط‪ ،‬يمكن لبعضهم أن يعتقد أن استمرارية واحدة على‬
‫األقل لـ وصف "اآلليات" السببية‪ ،‬أو للـ تفسيرات التي تستخدم روابط قانونية بين‬
‫تظل قائمة بحيث يمكن حمايتها‪ .‬لكن ذلك سيعني الخلط بين البنى‬ ‫ّ‬ ‫الظاهرات‪،‬‬
‫ً‬
‫والتوصيفات‪ ،‬وسيعني أيضا اعتبار أن القوانين ال تستطيع تعيين وضبط سوى تتالي‬
‫الظاهرات مسألة مؤكدة ال لبس فيها‪ .‬والحال‪ ،‬فإن الحالة الفردية إنما التي تحمل معنى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رفيعا للنظريات الكمومية ّ‬
‫تقدم لنا مثاال معاكسا يناقض هذين الفرضين‪ .‬فمن جهة‪،‬‬
‫يطرح تفسير بنى النظريات الكمومية بمصطلحات وصفية‪ ،‬وبعبارة أخرى بمصطلحات‬
‫غير تنبؤية بشكل بحت‪ ،‬صعوبات ال يستهان بها‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن قوانين ّ‬
‫تطور هذه‬
‫النظريات تقوم على رموز تسمح بتقدير احتمال الظاهرات‪ ،‬وال تتعلق بشكل مباشر‬
‫بالظاهرات‪.‬‬
‫نجد أن فسنا عند هذه الرحلة في وضع دقيق‪ .‬وكما يالحظ ذلك كل من دسبانيا‬
‫وريدهد بشكل محق‪ ،‬فإن بعض عناصر االستمرارية البنيوية موجودة بين اليكانيك‬
‫الكالسيكي واليكانيك الكمومي‪ .‬لكن هذه العناصر ال يمكن إعادة توجهيها ال باتجاه ثبات‬
‫أنطولوجي وال باتجاه استقرارية للروابط القانونية بين الظاهرات‪ .‬فما هو مغزاها إذن؟‬

‫‪A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I, Cambridge University Press, 1993, p. 53. 64‬‬
‫‪B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994 65‬؛ و‬
‫‪M. Bitbol& S. Laugier (eds.), Physique et réalité, un débat avec B. d'Espagnat, Frontières-Diderot,‬‬
‫‪1997.‬‬
‫‪ 66‬الصدر السابق ذكره‪ ،‬ص‪M. Redhead, From physics to metaphysics .06 .‬‬
‫‪49‬‬
‫يحيلها شيموني إلى ما كان نيلز بور ‪ N. Bohr‬يسميه "مبدأ التوافق"‪ .‬وباستعارة مصطلح‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫"التصورية" من‬ ‫بور‪ ،‬يشير شيموني إلى أن مبدأ التوافق يبدي شكال من االستقرارية‬
‫نظرية إلى أخرى‪ .‬ويستنتج من ذلك حجة لصالح تقارب للنظريات باتجاه منظومة مفاهيم‬
‫تعكس شكل الواقع‪ .‬ولكن قبل الوصول إلى مثل هذه االستنتاجات كان ال بد لشيموني‬
‫ّ‬
‫"تصور"‪ ،‬وحول األسباب التي جعلته يعتبر هذه‬ ‫أن يتساءل حول استخدام بور للفظة‬
‫ّ‬
‫التصورات وفق بور ال تنطبق بشكل‬ ‫االستقرارية "التصورية" كاستقرارية ال ّبد منها‪ .‬إن‬
‫غير ملتبس إال على مجال مكاني ‪ -‬زماني مستمر من الظاهرات‪ 67‬التي يعطينا عليها محيطنا‬
‫العرفة على هذا النحو ال تفرض‬‫األولي‪ .‬إن ديمومة التصورات ّ‬ ‫الباشر الثال النموذجي ّ‬
‫ّ‬ ‫نفسها بحق إال لكي ّ‬
‫تؤمن غياب اللبس في اتصالية النتائج التجريبية التي تظهر على‬
‫مستوانا وفي بيئتنا الباشرة‪ .‬ويكشف بالتالي شكل االستمرارية العبر ‪ -‬نظرية التي أدخلها‬
‫مبدأ التوافق لبور عن قيود إبستمولوجية ‪ -‬عملياتية‪ .‬ويتصل هذا الشكل باللزوم‬
‫السبق لالتصال البين ‪ -‬ذاتي وبقيود صلت ـ نا بالعالم‪ ،‬باألحرى منه بظهور مباشر للبنى‬
‫االفتراضية للعالم‪ .‬يصبح من الصعب بالتالي أن يتم استحضار "مبدأ التوافق" كحجة‬
‫ً‬
‫لصالح الواقعية التقاربة‪ .‬بل هو يرسم على العكس شكال لتبرير غير مفارق لعناصر‬
‫االستقرارية البنيوية التي تشهد عليها النظريات الفيزيائية؛ تبرير من رتبة تجاوزية بمعنى‬
‫مطابقة لشروط إمكانية تحقق هذه النظريات‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن "مبدأ التوافق"‪ ،‬عبر قدرته‬
‫على إفقاد التفسير الواقعي لعناصر االستقرارية العبر ‪ -‬نموذجية الستنتجة بين الفيزياء‬
‫الكالسيكية والفيزياء الكمومية حصريته‪ ،‬فإنه يحرم في الحقيقة هذا التفسير من جزء‬
‫ً‬
‫كبير من جاذبيته وسحره‪ .‬وسيكون علينا العودة إلى هذه النقطة الحقا‪.68‬‬
‫ّ‬
‫تتعلق الجموعة الثانية من األجوبة الواقعية بضعف بيانات الالواقعيين لديناميكية‬
‫العلوم‪ .‬إن الفكرة التي طورها كوهن لتقدم عبر ‪ -‬نموذجي من خالل زيادة عدد السائل‬

‫‪C. Chevalley, "Glossaire", in N. Bohr, Pysique atomique et connaissance humaine, Gallimard, 1991, 67‬‬
‫‪p. 411‬‬
‫‪ 68‬راجع الفقرتين ‪0‬ـ ‪ 5‬و ‪.1 -0‬‬
‫‪51‬‬
‫ً‬
‫القابلة لحل ما تواجه عقبة كونها فكرة كمية بحتة‪ .‬فهي ال تقول لنا شيئا‪ ،‬بشكل خاص‪،‬‬
‫عن الظروف التي يحق فيها للباحثين اعتبار أن مسألة ما تطرح بشكل مشروع عليهم‪.‬‬
‫ً‬
‫محقا نيوتن ‪ -‬سميث‪ ،69‬فإننا ال ّ‬
‫نعد كنظرية علمية نظرية تحل مسائل ال‬ ‫وكما يالحظ‬
‫معنى لها‪ .‬فال ّبد بالتالي من معيار النتقاء السائل‪ .‬والحال‪ ،‬يتابع نيوتن ‪ -‬سميث‪ ،‬فإن‬
‫العيار الوحيد الجدير بالتصديق يتصل بشكل ما مع الحقيقة‪ :‬فالسائل الجيدة هي‬
‫السائل التي تكون لقدماتها فرص بأن تكون صحيحة‪ .70‬إن الشروع العلمي‪ ،‬دون توجيه‬
‫مصمم ّ‬
‫بحده األدنى كمثال ناظم‪ ،‬يجازف بالوقوع في الالمعنى‪ .‬وفي إطار فكر‬ ‫ّ‬ ‫نحو الحقيقة‬
‫قريب من هذا الفكر‪ ،‬يالحظ فيراباند‪ ،P. Feyerabend 71‬في الوقت الذي كان يضع نفسه‬
‫كمدافع عن الواقعية العلمية‪ ،‬أن األداة اللسانية‪ ،‬التي نستخدمها من أجل التعبير عن‬
‫قضايا قابلة للرصد‪ ،‬مشروطة بقضايا مسبقة فيما يتعلق بوجود مواد التجربة‪ .‬األمر‬
‫الذي يمكن التعبير عنه على النحو التالي‪ ،‬من خالل التشابه مع حجة نيوتن ‪ -‬سميث‪:‬‬
‫فإذا أردنا أم لم نرد‪ ،‬وإذا قبلنا بالوروث اليتافيزيائي أم لم نقبل‪ ،‬فإن الشروع العلمي‬
‫يستخدم كمرجع وكدليل بنية مرجعية ذات تابع ناظم‪.‬‬
‫ً‬
‫تشير هذه الحجج األخيرة إلى انعطاف هام في دفاع الواقعية التقاربة‪ .‬فبدال من‬
‫محاولة إنشاء الصحة والشرعية من وجهة نظر خارجية لنظرية في العرفة‪ّ ،‬‬
‫تتم اإلشارة‬
‫إلى قيمتها الداخلية‪ ،‬من وجهة نظر العامل في تقدم العلوم‪ .‬كان فيراباند األول في عدم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التردد باعتبار أن هجوما ضد الواقعية التقاربة هو في الوقت نفسه هجوم ضد النهج‬
‫ّ‬
‫يتضمنها وله تدين بنجاحها‪ .‬أما بوتنام ‪ Putnam‬فكان‬ ‫العلمي بكامله‪ ،72‬ألن هذا النهج‬

‫‪ 69‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪W. H. Newton-Smith, The rationality of science .069-066 .‬‬
‫‪ 70‬إن مسألة مثل‪" :‬لاذا جميع البجع لونه أخضر؟" ال يمكن أن تطرح‪ ،‬لسبب بسيط هو أن مقدمته النطقية‬
‫("كافة البجع لونه أخضر") هي مقدمة خاطئة‪.‬‬
‫‪P. K. Feyerabend, Realism, rationalism, & scientific method, I, Cambridge University Press, 1981, 71‬‬
‫‪p. 20.‬‬
‫‪ 72‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.06 .‬‬
‫‪51‬‬
‫يؤكد من جهته في السبعينيات (من القرن الاض ي) أن الواقعية‪ ،‬إذا جاز القول‪" ،‬هي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يتضمن الواقعية‪ ."73‬وفي‬ ‫فلسفة علوم العلم"‪ ،‬أو أيضا أن "العلم‪ ،‬مأخوذا بشكل حرفي‪،‬‬
‫ّ‬
‫نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات‪ّ ،‬أدت هذه الالحظات التي نظمها ودرسها بوتنام إلى‬
‫والدة "الواقعية الداخلية"‪.‬‬
‫ّ ً‬
‫متلبسا بنقص التانة‬ ‫تحاول هذه الحاججة في العمق اإلمساك بالفيلسوف الالواقعي‬
‫اتجاه ّ‬
‫تصوره الدارويني الخاص لتطور العلوم‪ .‬إن تقارب السلسلة التاريخية للنظريات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العلمية نحو حقيقة وحيدة‪ ،‬عبر ‪ -‬نموذجية‪ ،‬ربما يكون وهما (علما أننا ال نملك في كل‬
‫األحوال أية وسيلة للتأكد من ذلك‪ ،‬على ّ‬
‫حد قول الالواقعي نفسه)‪ .‬غير أن ال ش يء يمنع‬
‫ً‬
‫خصبا‪ ،‬بسبب قدرته على ّرد كل من اإلخفاقات التي ّ‬
‫تعرض لها‬ ‫مثل هذا الوهم أن يكون‬
‫إلى مسيرات جديدة موجهة نحو مستقبل العلوم‪ .‬فال ّبد في أبسط األحوال من اعتبار‬
‫الواقعية التقاربة كطريقة لتأمين حاضر البحث العلمي بجعله يرتكز على الستقبل‬
‫ً‬
‫الفتوح عبر مشروعه الخاص‪ .‬وهذا وحده سيكون كافيا لفهم أنه أمكن لها‪ ،‬مثلها مثل‬
‫ً‬
‫النظريات نفسها‪ ،‬أن تكون "منتخبة" من خالل إجراء مواجتها مع التجربة‪ .‬إن افتراضا‬
‫مسه ًال لإلبداع‪ ،‬والثقة تجاه التطورات الستقبلية والبحث عن ّ‬ ‫ً‬
‫عاليا ّ‬ ‫ً‬
‫تكيف أمثلي‬ ‫مسبقا‬
‫للنظريات‪ ،‬كان وال ّبد أحد العناصر القدمة في سبيل ضغط عملية االنتخاب خالل‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫التطوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر‪ ،74‬فإن سلوكا‬ ‫إعداد العلوم‪ .‬وكما يعرف جيدا‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬
‫موجها‪ ،‬يمكن أن يفترض مسبقا معتقدات‪ ،‬يميل إلى دفع التعضية باتجاه بيئة يصبح‬
‫ً‬
‫فيها هذا السلوك فعاال‪ ،‬بل ويوسع الحيط القبول‪ .‬يقود ذلك إلى تركيز ضغط االنتخاب‪،‬‬
‫وإلى تضخيم أثره من خالل انحرافات الفاعيل الرجعية‪ .‬يمكن أن يكون ّ‬
‫تطور العلوم قد‬
‫اتبع الدرب نفسه‪ ،‬باستثناء أنه استبدلت في هذا الدرب التوترات السلوكية نحو أهداف‬

‫‪ 73‬الرجع السابق ذكره‪H. Putnam, Meaning and the moral sciences .‬‬
‫‪J. M. Baldwin, "Organic selection", Nature, 55, 558, 1897 74‬؛ و ‪J. Piaget, Le comportementmoteur de‬‬
‫‪l'évolution, Gallimard, 1976.‬‬
‫‪52‬‬
‫ّ‬
‫الجرد للوصف الخلص لواقع سابق التشكل‪.‬‬ ‫ملموسة بتوتر إبستمولوجي باتجاه الهدف‬
‫وبالطريقة نفسها التي انتهى فيها البيولوجي إلى االعتراف بأن ّ‬
‫تطور األنواع ال ينطوي فقط‬
‫ً‬
‫وأيضا على التجاوز الذاتي لسلوك َّ‬
‫موجه‪ ،‬كذلك‬ ‫على لزوم انتخاب طبيعي أعمى بل‬
‫أليس على الفيلسوف الالواقعي أن يأخذ بعين االعتبار أن تطور النظريات ال يتم تحت‬
‫الضغط التأصل في الظاهرات وحده‪ ،‬بل كذلك في إطار التجاوز ‪ -‬الذاتي لوقف البحث‬
‫ً‬
‫عن الحقيقة؟ ذلكم هو‪ ،‬أيا كان الحال‪ ،‬التنازل األقل الذي ينتظره الواقعي العلمي من‬
‫محاوره الالواقعي‪.‬‬
‫‪ 4 -1‬تجريبية بنائية أم واقعية كسياسة بحث؟‬
‫ً‬
‫ذلك هو أيضا التنازل الذي ال يستبعد على الالواقعي الحديث أن يكون قد قام به‪،‬‬
‫األمر الذي أتاح‪ ،‬إذا أخذنا بعين االعتبار اعتدال بعض الواقعيين‪ ،‬إمكانية حقيقية‬
‫ً‬
‫للحوار حيث كانت تتواجه سابقا خيارات متعارضة في أساسها‪.‬‬
‫إن الالواقعية العلمية الحديثة ليست سوى "التجريبية البنائية" لفان فراسين‪،‬‬
‫والواقعية العلمية العتدلة التي توافقها بكافة تفاصيلها هي ما سماه روم هاري‪Rom 75‬‬
‫‪ Harré‬بـ "الواقعية السياسية"‪ ،‬وهو تعبير أترجمه بـ "الواقعية كسياسة للبحث"‪.‬‬
‫ً‬ ‫وفق التجريبية ّ‬
‫البناءة‪ ,‬بداية‪ ،‬فإن كل نظرية ترتبط دائما بنموذج للمجال الذي‬
‫يفترض أن تطبق فيه‪ .‬وضمن إطار الوصف الذي يسمح به هذا النموذج إنما يتم تقدير‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مالءمة النظرية للظاهرات‪ .‬وبدال عن الواجهة النطقية بين الصورية الف َّسرة والبيانات‬
‫ّ ّ‬
‫يحل محلها تقييم لتماثلية (إيزومورفية)‬ ‫الرصدية‪ ،‬عبر قواعد التوافق التجريبي‪ ،‬فإنه‬
‫جزئية بين نموذج نظري كامل والنموذج التحتي من البيانات الرتبطة به‪ .‬ويتجاوز هذا‬
‫االستبدال بداية تفسير القوانين وبنى النظرية كانعكاسات للطبيعة‪ ،‬أو كعمليات تسمح‬
‫بتنظيم معطيات خام مصدرها هذه الطبيعة‪ .‬ذلك أن القوانين التي نتكلم عنها ليست‬

‫‪R. Harré, Varieties of realism, Basil Blackwell, 1986 75.‬‬


‫‪53‬‬
‫ً‬
‫بالدرجة األولى شيئا آخر سوى قوانين النموذج‪ 76‬الذي يساهم في تشكيل "العطيات" في‬
‫الوقت نفسه الذي يأخذها فيه بعين االعتبار‪.‬‬
‫ً‬
‫إن هذا النقل لركز جاذبية الالواقعية العلمية‪ ،‬وهذا اإللحاح على النموذج بدال‬
‫باألحرى من اإللحاح على "الوقائع"‪ ،‬هو طريقة للمض ي حتى نهاية النقد ما بعد الوضعي‬
‫ّ‬
‫التحقق من زعم ما‪ ،‬أو تبرير معتقد‬ ‫للتبرير التجريبي للمعتقدات‪ .‬فإن لم يكن باإلمكان‬
‫ّ‬
‫بواسطة التجربة‪ ،‬فإنه يكون لدينا عندها الخيار بين موقفين فقط‪ :‬التشككية الكاملة أو‬
‫اإليمان الغيبي‪ .‬ويشير فان فراسين إلى أن الحالة الثانية هي الشكلة لحياتنا اليومية‬
‫وللمسيرة العلمية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن غياب التبرير كما يالحظ العتقاد ما ال يعني أنه من‬
‫غير العقالنية الحفاظ على هذا اإليمان‪ .‬بل على العكس‪ ،‬فإنه من غير العقالني تغيير هذا‬
‫شيئا لم يزعزعه وأن عقيدة بديلة لم ّ‬ ‫ً‬
‫تحل محله‪" .‬إن كامل ثقل‬ ‫اإليمان طالا أن‬
‫العقالنية قد انقلب من تبرير أحكامنا إلى عقالنية تغيير أحكامنا وآرائنا‪ ."77‬فمن جهة‪،‬‬
‫ً‬
‫يعتبر فان فراسين بالنتيجة‪ ،‬وفقا لتوجهه الالعقالني ولتأكيده على التحديدية التحتية‬
‫ً‬
‫للنظريات بواسطة التجربة‪ ،‬أننا ال نستطيع أبدا تبرير التأكيد الذي وفقه يترجم انتظام‬
‫للظاهرات‪ ،‬تم إثباته في إطار مشروع بحث معين‪ ،‬بنية طبيعية‪ .‬ولكن من جهة أخرى‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن فان فراسين ليس بعيدا عن االعتقاد بأن مشروع البحث هذا عندما يقترن مع‬
‫َ‬
‫الالحظة تندرج في هذا النموذج‪ ،‬وأنه ليس ثمة أسباب جيدة‬ ‫نموذج‪ ،‬وأن االنتظامات‬
‫من أجل رفضه وال من أجل اعتماد نموذج تبديل‪ ،‬فإنه سيكون من الالعقالنية بالنسبة‬
‫ّ‬
‫التصرف كما لو كان يؤمن ويعتقد بحقيقته‪.‬‬ ‫للباحث العلمي أال يستمر في‬
‫ً‬
‫إن "الواقعية السياسية" لروم هاري ال تتميز عمليا عن التجريبية البنائية لفان‬
‫فراسين إال من خالل سمتين اثنتين‪ .‬السمة األولى هي استبعاد التقييد العقلي الذي‬

‫‪B. Van Fraassen, Laws and symmetry, Oxford University Press, 1989, p. 188 76.‬؛ والترجمة الفرنسية له‬
‫‪C. Chevalley, Lois et symétrie, Vrin, 1994‬‬
‫‪ 77‬الرجع السابق ص‪.010 .‬‬
‫‪54‬‬
‫يستتبعه االستخدام الجلي أو الضمني لـ "كما لو"‪ ،‬حيث يتبدى االعتقاد هنا مثل‬
‫قيمةليست فقط إدراكية بل وكذلك أخالقية‪ .‬أما السمة الثانية فهي إعداد معيار غير‬
‫تجريبي ّ‬
‫يشرع نزعة التحديدية التحتية للنماذج‪.‬‬
‫ً‬
‫في البداية‪ ،‬ظهرت "الواقعية السياسية" مثل نسخة ضعيفة جدا للواقعية العلمية‪،‬‬
‫طالا كانت ّ‬
‫تحد نفسها باليقين الذي وفقه "[‪ ]...‬تكون قراءة النظريات بحسب التفسير‬
‫الواقعي أكثر عقالنية [‪ "]...‬من القراءات الالواقعية‪ .78‬وضمن هذه الشروط‪ ،‬ال يمكن‬
‫تسلم بها النماذج النظرية أن يستحضر ّ‬ ‫ّ‬
‫ضد‬ ‫إلخفاق محتمل للبحث عن كيانات‬
‫ّ‬
‫"الواقعية السياسية"‪ .‬ذلك أن هذه األخيرة تتطلب فقط أنه من الواقعي االلتزام دون‬
‫فكر مسبق في البحث عن هذه الكيانات‪ ،‬وليس أن يكون علينا إيجادها والبرهان على‬
‫وجودها‪ .‬لكن هذه التطلبات التواضعة‪ ،‬التي بالكاد ّ‬
‫تميز للوهلة األولى "الواقعية‬
‫السياسية" عن التجريبية البنائية‪ ،‬إنما تعطيها الوسائل للمض ي إلى ما وراء هذه األخيرة‬
‫ّ‬
‫وتصب مع التيار األكبر للواقعية العلمية‪ .‬ويؤكد هاري في الواقع أن مبدأ الواقعية‬ ‫لتلتقي‬
‫يحقق قيمته بطريقة عبر ‪ -‬نظرية‪ .‬ويكتب هاري‪ ،‬بقدر ما يكون األمر‬ ‫كسياسة للبحث ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫منطقيا أن نبحث عن كيانات تسلم بها نظرية ما‪ ،‬بقدر ما يكون األمر كذلك أيضا فيما‬
‫ّ‬
‫يتعلق بمتابعة البحث في الجال الذي تحكمه النظرية التالية عن أنماط كيانات معروفة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مسبقا‪ ،‬مثل األجسام الادية‪ ،‬واألوساط الستمرة السائلة والهيئات‪ .‬وهكذا فإنه يتوفر‬
‫لدينا معيار غير تجريبي الختيار النماذج والنظريات التتابعة‪ :‬وهو يتمثل في انتماء كياناتها‬
‫إلى تراتبية وحيدة من األنماط األنطولوجية‪.‬‬
‫وفي النهاية ال تكون نظرية ما مقبولة وفق هاري إال بشرطين‪ )0( :‬أن تكون مالئمة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تتضمن آليات وكيانات تنتمي إلى التراتبية‬ ‫تجريبيا‪ ،‬و (‪ )4‬أن تكون "معقولة"‪ ،‬بمعنى أن‬
‫الوحيدة من األنماط األنطولوجية التي تكمن وراء تاريخ الشروع العلمي بكامله‪ .‬إن‬

‫‪R. Harré, "Three varieties of realism", in A. A. Derksen (ed.), The scientific realism of Rom Harré, 78‬‬
‫‪Tilburg University Press, 1994.‬‬
‫‪55‬‬
‫الشرط األول هو شرط تحت ‪ -‬تحديدي‪ ،‬في حين أن الشرط الثاني قابل إلتمام‬
‫التحديدية‪.‬‬
‫ّ‬
‫التصورات الواقعية‬ ‫هكذا نرى كيف ّ‬
‫تبرر "الواقعية السياسية" انتماءها إلى عائلة‬
‫للعلوم‪ .‬فالواقعية السياسية تأخذ اثنين من ّ‬
‫تصورات واقعية العلوم األساسية‪ ،‬وهما‬
‫الغياب الحالي أو الستقبلي لتحت ‪ -‬التحديدية‪ ،‬واستقرارية نواة أنطولوجية أو بنيوية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مستشفة على هذا النحو تالقيا نحو التقابلية ‪ isomorphisme‬مع الواقع‪ .‬لكنها بدال من‬
‫اعتماد التأكيد على تحديدية صارمة واستقرارية عبر ‪ -‬نموذجية كبيان وصفي خارجي‬
‫لحالة العلوم (الحاضرة أو التي ستكون)‪ ،‬فإنها تعطي لالستقرارية حالة متقادمة داخلية‬
‫بالنسبة لتطبيق العلوم‪ ،‬وتجعل من نزعة تحت ‪ -‬التحديدية نتيجة لهذا التقادم‪.‬‬
‫ّ‬
‫تتوصل إلى تغيير البرهان والتدليل الالواقعي الذي قامت‬ ‫وبإدخالها للبعد التقادمي فإنها‬
‫بالكثير من التنازالت لصالحه في البداية‪ ،‬وتعطيه كافة السمات الداخلية لواقعية علمية‪.‬‬
‫ً‬
‫ونالحظ في الواقع أن التجريبية البنائية ترى في التحديدية الفعلية للنظريات حادثا‬
‫ً‬
‫تاريخيا‪ ،‬يعود إلى اعتماد حادث طارئ ذي ّ‬
‫توجه أولي وإلى العقالنية التغيرات الفرطة‬
‫الالحقة‪ .‬وبهذه الروح نفسها تعتبر البنائية أن "[‪ ]...‬إمكانيات بناء [نظام ضمن دفق‬
‫حد بالراحل السابقة من البناء‪ ."79‬أما‬‫تنفك ت ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محددة‪ ،‬وال‬ ‫التجربة] هي إمكانيات‬
‫تحول من جهتها معاينات الهيئة الواقعية هذه لفلسفات‬ ‫"الواقعية السياسية" فإن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫توجه األبحاث‪ .‬وبذلك فإنها ّ‬
‫العلوم الالواقعية إلى حتمية استقرار في ّ‬
‫تقدم بديال مميزا‬
‫لعاينة أخرى ذات مظهر واقعي‪ ،‬معاينة خاصة هذه الرة بالواقعيين العلميين‪ :‬إنها‬
‫ّ‬
‫العاينة التي يقوم بها هؤالء األخيرين عندما يؤكدون بدعم من طرحهم االستقرارية عبر ‪-‬‬
‫النظرية لبعض العناصر الشرعية واألنطولوجية‪ .‬وباإلجمال‪ ،‬تقدم "الواقعية السياسية‬
‫الحتميتين التواجهتين‪ ،‬الحتمية الالواقعية إلشراط تاريخي لصيرورة ّ‬
‫تكيف وتالؤم‬ ‫ّ‬ ‫مقابل‬

‫‪79‬الرجع السابق للمؤلف ص‪E. Von Glaserfeld, ''Introduction à un constructivisme rqdical'', in P. .20 .‬‬
‫‪Watzlawick, L'invention de la réalité‬‬
‫‪56‬‬
‫النظريات والحتمية الواقعية الستقرارية الكيانات النظرية العائدة لتوافقها التدرج مع‬
‫ّ‬
‫الحتمية‬ ‫ّ‬
‫الحتميتين‪ .‬إن مظهر‬ ‫الكيانات الوجودة‪ ،‬فكرة قرار استراتيجي يربط بين هاتين‬
‫الثانية ّ‬
‫(التجه نحو الستقبل) ينتج هنا عن خيار التوافق قدر اإلمكان مع نتائج الحتمية‬
‫ً‬
‫األولى (النتائج التجذرة في الاض ي)‪ .‬وسوف نرى مثاال على هذه الصلة بين هدف البحث‬
‫وتاريخه في الفصل الخامس‪ ،‬الخصص للرؤية الذرية‪.‬‬
‫‪ 5 -1‬الراحل الثورية واالستمرارية األنطولوجية‬
‫ّ‬
‫التصور الداللي للنظريات‪ ،‬في شكله الالواقعي (التجريبية البنائية) أو الواقعي‬ ‫ّ‬
‫يتبدى‬
‫ً‬
‫("الواقعية السياسية")‪ ،‬أنه منذ اآلن فصاعدا السرح الجديد للنقاشات في فلسفة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التصور الداللي‬ ‫العلوم‪ .80‬فهل هذا التوافق مبرر؟ وبداية‪ ،‬على ماذا يشتمل تحديدا‬
‫للنظريات؟‬
‫ّ‬
‫التصور الكالسيكي (البديهي ‪axiomatique‬‬ ‫ّ‬
‫للتصور الداللي‪ ،‬من وجهة نظر‬ ‫إن‬
‫والنحوي ‪ )syntaxique‬للنظريات‪ ،‬وعلى خالفه‪ ،‬سمة ّ‬
‫مميزة في إعطاء األولوية للنماذج‬
‫على البيانات الرصدية كما وبالدرجة نفسها على البيانات البديهية‪ .‬ولكن‪ ،‬ما هو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"النموذج"؟ إن النموذج بمعناه العام جدا الذي يغطي عددا كبيرا من الفاهيم‬
‫ً‬
‫شيئا آخر سوى بنية‪ّ ،‬‬
‫مكونة من مجموعة من‬ ‫الستخدمة في مختلف العلوم‪ ،‬ليس‬
‫األشياء والعالقات والعمليات على هذه األشياء‪ .‬إن نموذج نظرية هو بنية لهذا النمط‬
‫ّ‬
‫الشتقة من بديهيات النظرية مرضية‪ .81‬لهذا‬ ‫الذي تكون بالنسبة له كافة البيانات‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫"التصور البنائي للنظريات‬ ‫التصور الداللي للنظريات العلمية يسمى أيضا‬ ‫السبب فإن‬

‫‪F. Suppe, The semantic conception of theories and scientific realism, University of Illinois Press, 80‬‬
‫‪1988.‬‬
‫‪P. Suppes, "A comparison of the meaning and use of models in mathematics and the empirical 81‬‬
‫‪sciences", Synthese, 12, p. 287-301, 1960‬؛‬
‫وقد أعيد نشر هذا القال في ‪P. Suppes, Studies in the methodology and foundations of science, Reidel,‬‬
‫‪.1969.‬‬
‫‪57‬‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫تميزا للتصور الداللي للنظريات هي أنه عوضا عن‬ ‫العلمية‪ ."82‬إن الخصوصية األكثر‬
‫التركيز على انتخاب البديهيات وعدم االهتمام إال بعد فوات األوان بالتوافق بين النظرية‬
‫صف كافة النماذج التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتجربة عبر "تفسيرها"‪ ،‬فإنه ّ‬
‫تقدم‬ ‫يعرف نظرية على أنها‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫يتعدل بشكل عميق مغزى‬ ‫مباشرة تفسيرا بمصطلحات األشياء والعالقات‪ .‬وهكذا‬
‫التصور الكالسيكي للنظريات‪ ،‬وهما البيانات الرصدية‬‫ّ‬ ‫العنصرين اللذين يتدخالن في‬
‫والبيانات البديهية للصورية النظرية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن البيانات الرصدية والبيانات‬
‫التصور الكالسيكي هي عبارة عن سلسلتين منفصلتين ترتبطان فقط من‬ ‫ّ‬ ‫البديهية في‬
‫خالل التفسير‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬في التصور الداللي للنظريات‪ ،‬فإن البيانات الرصدية ت ّ‬
‫عد‬
‫هي ذاتها غير منفصلة عن نموذج ما (وبالتالي عن النظرية التي يسهم في تعريفها)‪ .‬إن‬
‫السبب الذكور لصالح هذا التراكب هو أنه ليس مجموع الحتوى اإلدراكي للباحث في‬
‫ّ‬
‫مختبره الذي يقارن مع النظرية‪ ،‬بل فقط البقية البنيوية‪ ،‬الشكلة في جزء منها من خالل‬
‫شكل التوقعات الستقرأة بواسطة النموذج النظري الشامل الذي يجب أن َ‬
‫يقابل بها‪ .‬إن‬
‫هذه البقية البنيوية‪ ،‬التي تسمى "نموذج العطيات"‪ ،‬هي التي تترجم فيما بعد بش يء ما‬
‫نستمر في تسميته ببيان "رصدي"‪ ،‬حتى وإن كنا لم نعد نطابقه مع تقرير "ال تشوبه‬
‫شائبة" لرصد َّ‬
‫مفسر‪ .‬وفي مدى آخر‪ ،‬فإن ما يوافق أن نسميه الصورية النظرية ال يظهر‬
‫في التصور الداللي إال كنواة مشتركة َّ‬
‫محررة بعد فوات األوان من البنية األغنى للنماذج‬
‫التي ّ‬
‫يعرف صفها الكامل النظرية‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى العكس‪ ،‬فإنه من المكن أيضا وصف التصور الكالسيكي (البديهي والقواعدي)‬
‫للنظريات من وجهة نظر التصور الداللي‪ ،‬وبشكل معارض له‪ .‬وعلينا من أجل ذلك‬
‫ً‬
‫االنطالق من فكرة خاصة بهذا التصور األخير‪ ،‬أن نظرية ما تكافئ صفا ‪ T‬من البنى‬
‫الجموعاتية التي تشتمل على أشياء وعالقات وعمليات‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬فإن كال من هذه‬
‫َّ‬
‫حلل إلى عدة بنى تحتية بحيث تكون األكثر ّ‬
‫أهمية‬ ‫النماذج أو البنى الجموعاتية يمكن أن ي‬

‫‪ 82‬الرجع السابق للمؤلف‪ ،‬الفصل التاسع‪B. Van Fraassen, Lois et symétrie .‬‬
‫‪58‬‬
‫من بينها‪( :‬أ) البنى التحتية التجريبية‪ ،‬التي تقارن بشكل مباشر مع نتائج مختلف التجارب‬
‫العبر عنها على شكل "نماذج معطيات"‪ ،‬و(ب) البنية التحتية األنطولوجية‪ ،‬التي ّ‬
‫تحدد‬
‫ّ‬
‫صف الكيانات التي نعتبر أن التجارب تمارس عليها‪ ،‬كما والعالقات الفترض وجودها فيما‬
‫عرف الطابقة التجريبية لنظرية ما كإمكانية لدمج كل بنية من أصل‬ ‫بينها‪ .‬عندها ت َّ‬
‫الظاهرات (أو نماذج العطيات) في إحدى البنى التحتية التجريبية للنماذج العامة من‬
‫الصف ‪ .T‬إن الكافئ األنطولوجي للنظريات التتالية َّ‬
‫يعرف من جهته على أنه التقابل بين‬
‫البنى التحتية األنطولوجية لنماذجه؛ تقابل داخل تاريخ التجريبية العلمية الذي‪ ،‬بالنسبة‬
‫ّ ً‬
‫لواقعي علمي‪ ،‬يوحي بالطبع (إذا كان مؤكدا) بتقابل ما خارجي بين البنية التحتية‬
‫األنطولوجية للنظريات و"البنية األنطولوجية للعالم"‪.‬‬
‫وضمن هذا النظور‪ ،‬يمكن من جهة أخرى أن يكون من الهم تحرير بنية صغرى‬
‫تسمح بربط البنى التحتية التجريبية لكافة نماذج الصف ‪ T‬في أداة تنبؤية َّ‬
‫موحدة‪ .‬إن‬
‫ّ‬
‫تتضمن‬ ‫هذه البنية التحتية الصغرى الشتركة‪ ،‬التي سنسميها البنية التنبؤية للنظرية ال‬
‫ً‬
‫عموما البنى التحتية األنطولوجية‪ ،‬ألن هذه األخيرة يمكن أن ت ّ‬
‫تغير من نموذج إلى آخر‪.‬‬
‫فهي تتوافق بشكل جيد مع ما كنا لنعتبره‪ ،‬في التصور الكالسيكي للنظريات‪ ،‬كجمع لـ‬
‫"الصورية البحتة" للنظرية مع قواعدها الوحيدة في التوافق التجريبي‪.‬‬
‫ّ‬
‫التصور الداللي‬ ‫تأسس توافق ّ‬
‫معين حول مفهوم‬ ‫نفهم ابتداء من هذه النقطة لاذا ّ‬
‫ّ‬
‫التصور الداللي أصبح بإمكان الالواقعيين التالقي‪ ،‬دون الرجوع عن‬ ‫للنظريات‪ .‬فبفضل‬
‫رأيهم‪ ،‬مع النقد الواقعي للمواجهة اإليجابية بين صورية غير َّ‬
‫مفسرة وبيانات رصدية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحجة مع الالواقعيين على أرضية‬ ‫مستقلة؛ وهكذا يمكن للواقعيين االستدالل وإقامة‬
‫ً‬
‫التطبيق النمذج للبحث‪ ،‬دون أن يفقد أبدا مع ذلك عن ناظريه خط الهدف الناظم‬
‫باتجاه نموذج "صحيح" للطبيعة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التفوق العترف به للنماذج يجازف بتعطيل إدراك الراحل األكثر‬ ‫تكمن الشكلة في أن‬
‫ً‬
‫عمدا إلى ّ‬ ‫ّ ً‬
‫مجرد اعتبار البنية التنبؤية‬ ‫تميزا في تاريخ الفيزياء‪ ،‬إال إذا كان قد تم تقليصه‬
‫‪59‬‬
‫وحدها للنظريات‪ .83‬ألن متابعة تراتبية األنماط األنطولوجية الدرجة ضمن متوالية من‬
‫النماذج لم تعتبر كقيمة من قبل جميع العلميين وفي كافة العصور‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن‬
‫جهة ثانية‪ ،‬فإن ما يميز الراحل الحاسمة من ّ‬
‫تطور العلوم الفيزيائية‪ ،‬كما سوف نرى‪ ،‬هو‬
‫انقاطع وقتي للسلسلة النمطية الدرجة في البنية التحتية األنطولوجية للنماذج‪ ،‬وليس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نشاطا مستمرا في التحول؛ إنه انهيار لهذه البنى التحتية األنطولوجية يليه إعادة بنائها‬
‫البطيء‪ ،‬باألحرى من إعادة التوجيه البسيطة لنشاطات النمذجة التي تستتبعها‪ .‬وما‬
‫ّ‬
‫التصور الداللي للنظريات بكامل اتساعه‪ ،‬في الفيزياء‬ ‫يزعج أكثر في األمر بالنسبة لتطبيق‬
‫ّ‬
‫الجردة من البنى التحتية‬ ‫الكمومية‪ ،‬هو أن إعادة تشكيل النماذج العامة‪ ،‬غير‬
‫ً‬ ‫األنطولوجية والقادرة على أخذ مجمل الظاهرات الصغائرية بعين االعتبار‪ّ ،‬‬
‫يظل معرقال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويستمد‬ ‫بشكل دائم بواسطة حواجز يعتقد باحثون كثيرون أنه ال يمكن تخطيها‪.‬‬
‫الصوريون من هذا األمر أهمية حاسمة‪ ،‬وتظل النماذج إما في ّ‬
‫حدها األدنى أو ّ‬
‫مجزأة أو‬
‫نظرية فائقة‪ .‬فلنبحث هذه النقاط حسب التسلسل الذكورة فيه‪.‬‬
‫ّ‬
‫بداية‪ ،‬ليس من الؤكد بشكل مطلق بالنسبة للباحثين العلميين ضرورة أن يأخذوا‬
‫على محمل ّ‬
‫الجد الحتوى األنطولوجي للنماذج‪ ،‬ال بل وأن يكونوا واقعيين بشكل تلقائي‪.84‬‬
‫فال تنقصنا األمثلة العاكسة على الباحثين الجيدين األداتيين بشكل صارم‪ ،‬أكانوا من‬

‫‪ 83‬ال يتعلق األمر هنا بنفي أنه‪ ،‬في بعض قطاعات البحث العلمي‪ ،‬يكون دور النموذج بالعنى األغنى (أي غير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الحدود ببنية تنبؤية) دورا رئيسيا على نحو فعال‪ .‬لكن ذلك فقط في الحالة التي يتعلق فيها األمر بفهم نظام‬
‫طارئ باألحرى من بنى ذات نزعة كونية‪ .‬يجب هنا التمييز بين "منظومات للعالم" بالعنى البطلميوس ي أو‬
‫الكوبرنيكي و"قوانين الطبيعة" بالعنى الديكارتي أو النيوتوني‪ .‬إن نظام النظومات األولى هو نظام طارئ ّ‬
‫ويبرر‬
‫إجراء يجمع بين اإلعداد التخميني للنماذج والقابلة مع الظروف الرصدية القابلة للدحض بشكل كموني‪ .‬أما‬
‫النظومات الثانية فتحفظ بالقابل عالقة وثيقة (إلى حد ما) مع الضرورات التجاوزية‪ ،‬ويتدخل شكلها كأساس‬
‫ألي نموذج مناسب لـ "منظومات العالم"‪ .‬إن التشديد الحصري على النماذج‪ ،‬على األقل على النماذج غير‬
‫الدنيا‪ ،‬هو على األرجح إشارة على إدراك ناقص للحظات التجاوزية الدمجة في النظريات الفيزيائية‪ .‬راجع مقالة‬
‫ميشيل بيتبول حول هذه النقطة بعنوان "قوانين الطبيعة‪ ،‬هل هي طارئة أم ضرورة"‪M. Bitbol, ''Les lois de :‬‬
‫‪.la nature, contingence ou nécessité'', Cahier de philosophie ancienne et du langage, 1998‬‬
‫‪ ،L. Laudan, ''A confutation of convergent realism'' 84‬في الرجع سابق الذكر للمؤلف‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫الوضعيين أم من التقليديين‪ ،‬مثل دوهيم ‪ Duhem‬وماخ ‪ Mach‬وبوانكاريه ‪Poincaré‬‬
‫والشاب باولي ‪ .Pauli‬فدوهيم‪ P. Duhem 85‬على سبيل الثال لم يقع في مطب السخرية‬
‫ّ‬
‫الجرد‬ ‫ّ‬
‫بتصوره‬ ‫من ذوق الفيزيائيين اإلنكليز فيما يتعلق بالنماذج (اليكانيكية)‪ ،‬ويقابلهم‬
‫للنظرية التي ّ‬
‫تبدى أنها في بعض الحاالت (مثل الديناميكا الحرارية الجهارية) أكثر خصوبة‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وبشكل خاص‪ ،‬إذا حللنا تاريخ العلوم الفيزيائية‪ ،‬فإننا نلحظ أن العالقات‬
‫التي كانت للباحثين مع نماذجهم لم تكن مشاركة وال ثابتة غير متبدلة‪ .‬ويمكن للحظات‬
‫الثورية بشكل خاص أن تقسم إلى ثالث مراحل من وجهة نظر هذه العالقات‪:‬‬
‫ّ‬
‫التغيرات العميقة‬ ‫‪ .0‬مرحلة اإلسقاط النهائي للنماذج السابقة‪ ،‬على حساب‬
‫لواصفاتها؛‬
‫ً‬
‫‪ .4‬مرحلة نقد جذري للنماذج السابقة‪ ،‬تكون أحيانا مرحلة تشكيك فيما يخص‬
‫فائدة النماذج التي تذهب إلى ما وراء البنية التنبؤية؛‬
‫‪ .3‬مرحلة تحـ ـضير معايير جديدة لتشكيل النمـ ـاذج وإلنشاء نماذج جديدة ليست في‬
‫َّ‬
‫مصممة ض ـ ـ ـمـ ـن منظور است ـم ـ ـرارية ج ـ ـ ـزئية بواس ـ ـ ـطة األنماط‬ ‫حدها األدنـ ـ ـى‬
‫األنطولوجية ما قبل الثورية‪.‬‬
‫يحفظ هذا التحليل بشكل جزئي مخطط "الواقعية السياسية"‪ ،‬طالا أنه يكون علينا‬
‫ّ‬
‫التعرف‪ ،‬من الرحلة ما قبل الثورية إلى الرحلة ما بعد الثورية‪ ،‬على تدخل معيار‬
‫الستمرارية تراتبية األنماط األنطولوجية وأنماط التفسير‪ .‬غير أن الواقعية السياسية ال‬
‫تحفظ كاملة‪ ،‬ألن الرحلة الثورية بحصر العنى‪ ،‬منطقة االنهيار هذه التي يبنى فوقها‬
‫جسر األنماط األنطولوجية‪ ،‬تغيب عن هذا التحليل وتفلت منه‪.‬‬
‫إن بعض األمثلة على التحليل الثالثي السابق ستكون مفيدة لنا‪ .‬وأول األمثلة الذي‬
‫ً‬
‫أعتبره هاما من بينها هو مثال الثورة النيوتونية‪ .‬كانت نظرية الجاذبية قبل نيوتن‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ميكانيكية (آلية) بالعنى األكثر ضيقا للكلمة‪ ،‬فكانت تستخدم معيارا ديكارتيا لتشكل‬

‫‪P. Duhem, La théorie physique, Vrin, 1989, p. 99. 85‬‬


‫‪61‬‬
‫النماذج ابتداء من الصور والحركات وأفعال االتصال‪ .‬غير أن اعتماد نيوتن لقوانين كبلر‬
‫ّ‬
‫التصور‬ ‫ّ‬
‫التدومي وإلى إدخال‬ ‫بشكل كمي قاده إلى تعليق استخدام النماذج من النمط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشكلي لقانون جاذبية كوني يتناسب طردا مع كتل األجسام وعكسا مع مربع السافة‬
‫ّ‬
‫بينها‪ .‬وإلى جانب الحاوالت التأخرة في تعليل هذا القانون بواسطة نماذج مستلهمة‬
‫ً‬
‫ديكارتيا‪ ،‬اعتمدت مشاريع علمية أخرى من النصف األول من القرن الثامن عشر نسخة‬
‫وافية من القاعدة النيوتونية "بعدم طرح الفرضيات ‪ "hypotheses non fingo‬كخط‬
‫ّ‬
‫موجه لها‪ ،‬والتزموا بالنتيجة ببناء فيزياء استقرائية بحتة‪ ،‬مجردة من النماذج والكيانات‬
‫ّ‬
‫التعذر رصدها‪ .‬وكانت أول ترجمة فلسفية لهذه اليول االستقرائية وضع النظريات‬
‫التجريبية للمعرفة على يد كل من هيوم ‪ Hume‬وكونديالك ‪ .Condillac‬أما الثانية‬
‫(وجاءت كرد فعل جزئي على التجريبية‪ ،‬إنما متوافقة معها فيما يتعلق بنقد "العقائدية"‬
‫الديكارتية) فكانت إعداد كانط‪ ،‬في "البادئ األولى ليتافيزياء علم الطبيعة"‪ ،‬لتبرير‬
‫تجاوزي لثالثة قوانين في اليكانيك النيوتوني وفي دمج لقانون الجاذبية الكونية في اإلطار‬
‫ّ‬
‫الحدد على هذا النحو‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬عادت ممارسة العلوم تدريجيا‪ ،‬بدءا منذ منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬
‫متجددة من خالل اعتمادها لفهوم الفعل عن بعد‪،‬‬ ‫استخدام نماذج هي في الوقت نفسه‬
‫ومع ذلك قريبة في أنطولوجيتها للنماذج الذرية والديكارتية السابقة‪ .‬وكان من داللة‬
‫ونتيجة استعادة الحظوة للنماذج إعداد قانون للمنهج االفتراض ي ‪ -‬االستنتاجي مقابل‬
‫للمنهج االستقرائي البحت‪ ،‬وذلك على يد مؤلفين مثل ويليام هرشل ‪William Herschel‬‬
‫ً‬
‫وويليام ويويل‪ .William Whewell 86‬فضال عن ذلك‪ ،‬وعلى الرغم من شهرة مؤلفين مثل‬

‫‪W. Whewell, "Of the transformation of hypotheses in the history of science", Transactions of the 86‬‬
‫‪Cambridge philosophical society, 9, p. 139-147, 1851.‬‬
‫وحول كامل هذه الحركة التأرجحية للتاريخ راجع‪:‬‬
‫‪.L. Laudan, Science and values, University of California Press, 1984, p. 55-60‬‬
‫‪62‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫متجددة للكانطية‪ ،‬فقد مال العديد‬ ‫هلمهولتز ‪ Helmholtz‬أو هرتز ‪ Hertz‬اقترحوا أشكاال‬
‫ً‬
‫من فيزيائيي القرن التاسع عشر عمليا إلى تجاهل األمثولة الرئيسية في الفلسفة النقدية‪،‬‬
‫أال وهي حلول إشكالية في تشكيل الوضوعية محل إشكالية تحديد عناصر أنطولوجية‬
‫ما‪ .87‬بعد ذلك كله كان يمكن االعتقاد أن كانط نفسه ّ‬
‫قدم اإلجراء الذي يسمح في إطار‬
‫ممارسة العلوم بأال نأخذ بعين االعتبار لتحليل شروط إمكانية التجربة‪ .‬فعلى الرغم من‬
‫تتم فيها محاولة استكشاف مجال كان يمكن للظاهرات فيه ان‬ ‫الفترة الطويلة التي كانت ّ‬
‫ً‬
‫تكون مرتبطة بشكل مناسب مع مبادئ ديمومة الجوهر والسببية والتبادلية‪ ،‬فإن شيئا‬
‫لم يكن يمنع من إسقاط هذه البادئ على الطبيعة‪ ،‬ومن التصرف بالضبط كما لو كنا‬
‫نتعامل مع خصائص ألشياء موجودة "بذاتها"‪.‬‬
‫بالتالي‪ ،‬كانت الفترة المتدة بين نهاية القرن الثامن عشر ونهاية القرن التاسع عشر‬
‫من جديد فترة إعداد النماذج والنسيان التواتر لنظامها األساس ي من النماذج‪ ،‬أي فترة‬
‫الجد‪ .‬أضيف إلى ذلك إعادة تحديث لنمط‬ ‫مكوناتها وفق نمط واقعي على مأخذ ّ‬ ‫أخذ ّ‬
‫ً‬
‫عالئقي معروف جيدا‪ ،‬هو نمط أفعال االتصال‪ ،‬وذلك عن طريق التغيير في مفهومي‬
‫األثير والحقل‪ .‬وقد حصلت مقاومات كثيرة شديدة خالل النصف الثاني من القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬من أداتيين وظاهراتيين وطاقيين واصطالحيين‪ ،‬لهذا اليل إلى العودة‬
‫للنماذج بكل غناها‪ .‬وقد ّ‬
‫أقضت هذه المانعات الذكورة‪ ،‬التي يمكن قراءتها في معظم‬
‫األحيان ّ‬
‫كردة فعل للمرحلة الثورية في إعداد الترموديناميك‪ ،‬مضجع أكثر الفيزيائيين‬
‫ً‬
‫إبداعا في بناء وتبرير النماذج‪ ،‬وقادتهم في أبسط األحوال إلى تقييم نقدي للمضمون‬
‫األنطولوجي للنماذج‪ .88‬لكن سرعان ما تم استبعاد هذه المانعات بدورها خالل السنوات‬
‫األولى من القرن العشرين بواسطة ما كان يبدو في ذلك الحين االنتصار الذي ال منازع فيه‬
‫للنموذج الذري‪.‬‬

‫‪ 87‬نشدد هنا على لفظة أنطولوجيا بما هي تعيدنا إلى القبول اليتافيزيائي للمصطلح‪.‬‬
‫‪R. Dugas, La théorie au sens de Boltzmann, le Griffon, 1959. 88‬‬
‫‪63‬‬
‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬كانت سنوات التوافق هذه حول النموذج الذري هي أيضا سنوات ثورة‬
‫النظرية النسبية والثورة الكمومية‪ ،‬واللتين سنطبق عليهما اآلن التحليل الثالثي الراحل‬
‫السابق‪.‬‬
‫كانت إحدى ّ‬
‫القدمات األولى للثورة النسبية هي النتيجة السلبية لتجربة مايكلسون‬
‫ومورلي ‪ Michelson-Morley‬حول هواء األثير‪ .‬وكان أول ّرد فعل على هذه النتيجة هو ّرد‬
‫فعل لورنتز ‪ Lorentz‬الذي حاول تعليلها باللجوء إلى كافة مصادر نموذج األثير‪ّ .‬‬
‫وبين‬
‫لورنتز معتب ًرا القوى الكهربائية كحاالت ضغط داخلية لألثير‪ ،‬أن هذه القوى كانت ّ‬
‫تتغير‬
‫ّ‬
‫التغير كان يؤدي إلى انضغاط‬ ‫ّ‬
‫يتحرك جسم مادي في هذا الوسط‪ ،‬وأن هذا‬ ‫عندما‬
‫الجسم في اتجاه االنتقال‪ .‬وبالثل‪ ،‬كانت الكتلة الفعلية للجسم تزداد بسبب حدوث أثر‬
‫الخر (مثل مخر سفينة لياه البحر) في األثير‪ ،‬وكان ذلك يؤدي بدوره إلى تباطؤ للساعات‬
‫التحركة‪ .89‬وكان انضغاط األجسام وتباطؤ الساعات ضمن التناسبات الصحيحة ّ‬
‫يفسر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫في إطار التمثيالت القبولة وأنطولوجيا األثير العترف بها آنذاك‪ ،‬النتيجة السلبية لتجربة‬
‫مايكلسون ومورلي‪ .‬والشكلة أن هذا االستخدام النهائي للنماذج القديمة كان قد ظهر‬
‫بوضوح بالنسبة لهذه النتيجة‪ .‬ألنه كان ال بد من استحضار نتائج حركة األجسام عبر‬
‫األثير من أجل تفسير االستحالة الجذرية لكشف أقل أثر له‪.‬‬
‫كانت مسيرة أينشتين ‪ Einstein‬مختلفة بشكل عميق‪ ،‬طالا أنها ا تكزت ّ‬
‫محقة على‬ ‫ر‬
‫الحو الكامل للنموذج السابق والتركيز على أسئلة تعريف عملياتية للمقاييس الكانية‬
‫الطبقة‪ .‬وقادته هذه السيرة إلى إثبات مجموعة تناظر‪ ،‬تسمى‬ ‫ّ‬ ‫والزمانية والحركية‬
‫تصح بالنسبة لكل مجموعة إحداثيات قياس مستقلة عن‬ ‫ّ‬ ‫مجموعة لورنتز‪ ،‬وهي‬
‫السياقات التي تطبق عليها وعن النماذج التي يمكن ّ‬
‫تصورها من أجلها‪ .‬إن هذا الدور‬
‫ّ‬
‫محق منذ‬ ‫السيطر لجموعات التناظر‪ ،‬الذي ّ‬
‫أضر بالنماذج الرتبطة بها‪ ،‬اعتبر بشكل‬

‫‪D. Bohm, The special theory of relativity, Addison-Wesley, 1989. 89‬‬


‫‪64‬‬
‫كاسيرر ‪ E. Cassirer‬إلى بتيتو‪ J. Petitot 90‬ككاشف عن استخدام كامن لنسخة ّ‬
‫معممة‪،‬‬
‫غير كانطية بشكل صارم‪ ،‬للمنهج التجاوزي ‪ .transcendant‬منهج يرتكز على لفت االنتباه‪،‬‬
‫الأسور في األصل بموضوع البحث‪ ،‬باتجاه القواعد ّ‬
‫الحددة لهذا البحث نفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مع ذلك‪ ،‬لم يتأخر نوع جديد من النماذج في الظهور انطالقا من التعيينات‬
‫ّ‬
‫والتحديدات التي وضعها أينشتين‪ .‬يتعلق األمر هنا بالزمكان رباعي األبعاد لينكوفسكي‬
‫َّ‬
‫الؤسس على الثابت األساس ي في مجموعة لورنتز وهو السافة الزمكانية‪.‬‬ ‫‪،Minkowski‬‬
‫تم ّ‬
‫ضم هذا النموذج في غالب األحيان إلى أنماط نماذج سابقة‪ ،‬مثل تلك التي‬ ‫وقد ّ‬
‫أصبحت ال تنفصل عن حركة األجسام الادية وتبادالت الطاقة‪ .‬غير أنه كان هناك ميل‬
‫ً‬
‫أيضا في بعض األحيان إلى اعتبار الزمكان رباعي األبعاد نفسه على أنه الوضوع الوحيد في‬
‫الفيزياء‪ .91‬وهكذا فقد أمكن تجاوز الرحلة الثورية لالنعكاسية العملياتية وإتمام الهمة‬
‫ما بعد الثورية في إعادة بناء النماذج‪ .‬ونشير في معرض حديثنا هنا أنه بات من الواضح‬
‫بشكل جيد‪ ،‬عبر مثال نظرية النسبية‪ ،‬ما هو البدأ الزدوج الذي يحكم إعادة تشكيل‬
‫‪92‬‬
‫النماذج بعد انهيارها خالل الرحلة الثورية‪ .‬وهذا البدأ الزدوج هو (‪ )0‬اليل إلى أقنمة‬
‫الثوابت‪ ،‬على حساب مجموعة التناظر التي تكون هذه الثوابت ّ‬
‫معرفة بالنسبة إليها؛ و‬
‫(‪ )4‬تسجيل األنماط األنطولوجية السابقة في اإلطار الجديد للثوابت الذي ّ‬
‫تم إقراره‪.‬‬
‫أخيرا الثورة الكمومية بشكل تام في الخطط الثالثي الذي ّ‬ ‫ً‬
‫حددته‪ ،‬لكنها‬ ‫وتدخل‬
‫ّ‬
‫يستمر التشكيك فيها لتعاد من‬ ‫ّ‬
‫متفجرة‪ ،‬غير توافقية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تتميز بأن لها مرحلة ثالثة صعبة‪،‬‬

‫‪J. Petitot, ''Objectivité faible et philosophie transcendantale'', in M. Bitbol&Sl Laugier (eds.), 90‬‬
‫‪ ،Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat‬الرجع السابق ذكره‪.‬‬
‫‪ 91‬الرجع السابق للمؤلف ص‪B. Van Fraassen, Lois et symétrie .442 .‬‬
‫‪ 92‬فعل األقنمة‪ hypostasier‬ناتج عن النقد الكانطي للميتافيزياء‪ .‬ووفق معجم الالند ‪ ،Lalande‬فإن األقنمة هي‬
‫ً‬
‫تحويل مجموعة من العالقات النطقية إلى ماهية‪ ،‬أو أيضا إعطاء البعد الواقعي الطلق لا هو نسبي‪ .‬وهنا‪ ،‬فإن‬
‫تعددية العالقات القياسية المكنة‪ ،‬الجهزة بنظام تحويل (مجموعة لورنتز)‪ ،‬تترجم بواسطة المتغير شكلي؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهذا الالمتغير هو الذي يجد نفسه في نهاية الطاف مستثمرا بشكل ضمني تقريبا في واقع ملموس‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫ً‬
‫جديد‪ .‬الرحلة األولى هي كما الحال دائما مرحلة تمديد النوع السابق للنموذج‪ ،‬لقاء‬
‫ّ‬
‫إعدادات وانقطاعات مضبوطة‪ .‬وتمثل هذه الرحلة بالنموذج الذري لبور‪ ،‬بين عامي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 0903‬و ‪ .0942‬فهذا النموذج يدخل تمثيال تقابليا مع تمثيل الجموعة الشمسية‪ .‬وتلعب‬
‫فيه النواة دور الشمس‪ ،‬والحقل الكهرمغنطيس ي دور حقل الجاذبية‪ ،‬بينما تدور‬
‫اإللكترونات في مدارات حول النواة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن هذه الدارات كما واإلشعاع الصادر‬
‫عن اإللكترونات تخضع لقيود إضافية تسمى شروط التكميم‪ .‬ويندغم التطور الالحق‬
‫ّ‬
‫الشوق للدراسة النهجية التي قام بها بور من أجل تحديد‬ ‫لهذا النموذج مع التاريخ‬
‫عناصر االنقطاع وعناصر االستمرارية بين النظرية الكمومية الوليدة والفيزياء‬
‫الكالسيكية‪ .93‬غير أن الصعوبات التراكمة في بداية العشرينيات من القرن العشرين‪،‬‬
‫ً‬
‫والسمة األكثر فأكثر وضوحا بشكل مناسب‪ ،‬و"التراجعية" وفق معنى الكتوس‪،Lakatos 94‬‬
‫لبرنامج البحث الؤسس بواسطة نموذج ذرة بور‪ ،‬قادت مع ذلك إلى أزمة ثقة بين‬
‫الفيزيائيين تجاه هذا النموذج‪.‬‬
‫وفي هذه اللحظة بالذات‪ ،‬بين عامي ‪ 0946‬و ‪ ،0945‬إنما جرى الحدثان الؤسسان‬
‫تم وضع ميكانيك الصفوفات على يد هايزنبرغ ‪Heisenberg‬‬ ‫للميكانيك الكمومي‪ :‬فقد ّ‬
‫شدد فالسفة علم‬ ‫ووضع اليكانيك التموجي على يد شرودنغر ‪ .Schrodinger‬لقد ّ‬
‫ً‬
‫معاصرون‪ 95‬على فكرة أنه‪ ،‬وفقا للتصور الداللي للنظريات العلمية‪ ،‬فإن النظريتين‬
‫ّ‬
‫الجهز ببنية تحتية أنطولوجية‪:‬‬ ‫الذكورتين أعاله لم تكونا منفصلتين عن النموذج‬
‫فميكانيك الصفوفات له نموذج جسيمي ومتقطع غير مستمر‪ ،‬واليكانيك التموجي له‬
‫ً‬
‫نموذج مستمر غير متقطع للوسط الهتز‪ .‬مع ذلك‪ ،‬إذا تابعنا ما آلت إليه النظريتان بدال‬

‫‪O. Darrigol, From c-numbers to q-numbers, The University of California Press, 1992. 93‬‬
‫‪I. Lakatos, The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press, 1978. 94‬‬
‫‪F. A. Muller, "The equivalence myth of quantum mechanics", Studies in the history and philosophy 95‬‬
‫‪of modern physics, 28B, p. 35-62, 1997.‬‬
‫‪66‬‬
‫باألحرى من النظر إلى لحظة نشوئهما حيث كانتا ال تزاالن تتميزان بالخط االستكشافي‬
‫ً‬
‫لبدعيهما‪ ،‬فإننا نالحظ أن األمور تصبح أكثر تعقيدا‪.‬‬
‫إن اليكانيك الصفوفي لهايزنبرغ ال يرتبط بنموذج جسيمي ومتقطع إال من حيث أنه‬
‫تم إعداده باالبتعاد التتابع بالنسبة له‪ ،‬وبإفراغ لحتواه التمثيلي وبتجريد لبناه الجبرية‪.‬‬
‫علينا أال ننس ى العبارة اآلمرة لهايزنبرغ في عام ‪ 0946‬التي كانت تطلب "البقاء ضمن حدود‬
‫الرصودات"‪ .‬صحيح أن هايزنبرغ قد استمر يقوده "مبحث‪ "96‬الجسيمي والتقطع على‬
‫ّ‬
‫الرغم من الواقع الذي كان قد جعله "يدقق" في السابق إلى درجة جعله غير قابل‬
‫ً‬
‫للمعرفة؛ ولكن تحت ضغط اليكانيك الوجي النافس وجد نفسه منذ عام ‪ 0945‬منقادا‬
‫إلى إعادة بعث الجرى الشكلي لنظريته (البنية التحتية التنبؤية) وتمييزها بشكل ال ريب‬
‫ً‬
‫فصاعدا ّ‬
‫تصنف تحت عنوان‬ ‫فيه بعناصر متبقية من نماذج كاملة كانت منذ ذلك الحين‬
‫"التفسير"‪ .97‬وباعتبار صيرورة إعداد اليكانيك الصفوفي‪ ،‬فإن هذا التمييز التأخر بين‬
‫الصورية و"التفسير" ال يجب أن يعتبر برأيي كإعادة بناء عقلية بسيطة‪ ،‬بل كمرحلة‬
‫نهائية لفهم هايزنبرغ لعنى عمله في عام ‪.0946‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مستمر كان‬ ‫أما بالنسبة للميكانيك الوجي فهو بال أدنى شك يشكل جزءا من نموذج‬
‫قد اقترحه دو بروغلي ‪ de Broglie‬لتفسير القيود التي كان قد وضعها بور في التكميم؛‬
‫‪98‬‬ ‫ً‬ ‫وهكذا فقد ّ‬
‫تبين بسرعة كبيرة‪ ،‬انطالقا من الصعوبات التي صادفها شرودنغر‬
‫‪ Schrodinger‬في منتصف عام ‪ 0945‬والتفسير االحتمالي للتابع الوجي القترح من ماكس‬
‫بورن ‪ ،Max Born‬أن هذا النوع من النماذج ال يجب أن يؤخذ بشكل حرفي وأنه لم يبق‬

‫‪ 96‬وفق العنى الذي يقصده هولتون‪.G. Holton, L'imagination scientifique, Gallimard, 1981 :‬‬
‫‪W. Heisenberg, "Quantenmechanik", Die Naturwissenschaften, 14, p. 989-995, 1926. 97‬‬
‫‪ 98‬من بين هذه الصعوبات‪ :‬تبدد حزم الوجات‪ ،‬وتعدد أبعاد وظائف الوجة الوافقة لنظومات معقدة‬
‫ً‬
‫والعالقات غير الرمزة بشكل جيد بين التفسير الوجي تحديدا (‪ )ψ‬والتفسير اإللكتروديناميكي (*‪ .)-eψψ‬من‬
‫أجل مزيد من التفاصيل راجع ‪M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston‬‬
‫‪.studies in the philosophy of science, Kluwer, 1996‬‬
‫‪67‬‬
‫ً‬
‫منه هنا أيضا سوى الهيكل الشكلي ذي الوظيفة التنبؤية‪ .‬وكما ّبين فون نيومن ‪von‬‬
‫‪ Neumann‬فيما بعد‪ ،‬فإن "صورية " وحيدة تسمح بالقابل بأن نجمع في مخطط واحد‬
‫القدرات التنبؤية التقاربة للميكانيك الصفوفي وللميكانيك التموجي‪.‬‬
‫يمكن بالتالي اعتبار عامي ‪ 0946‬و ‪ 0945‬كعامي انهيار آخر امتدادات النماذج‬
‫ّ‬
‫السابقة والتشككية التزايدة اتجاه كل إمكانية لتأكيد قيمتها الكشفية البدئية‪ .‬أما‬
‫الرحلة التالية فقد انطلقت منذ عام ‪ ،0941‬وهي مرحلة محاوالت إعادة بناء ّ‬
‫حد أدنى‬
‫من االستمرارية مع األنماط األنطولوجية للنماذج السابقة‪ .‬ففي هذه السنة ّ‬
‫قدم هايزنبرغ‬
‫عالقاته في الريبة التي ّبينت على األقل‪ ،‬دون تكريس عودة تمثيل عنصر جسيمي مزود‬
‫بمسار‪ ،‬كيف تسمح الصورية الكمومية بالتنبؤ بمتتالية من األحداث التجريبية التي‬
‫تتظاهر إلى حد ما كمسار‪ .‬وفي الوقت نفسه قاد إدخال مفهوم التكاملية على يد بور إلى‬
‫توضيح الحدود التي كان يفرضها الوضع الجديد على مساعي إعادة بناء النماذج‪ .‬ونقول‬
‫ً‬
‫هذه الحدود‪ ،‬ألنه أيا كان نمط النموذج الزمكاني السابق الذي يراد تمديده بشكل‬
‫حد بتمثيل الظاهرات التي يتم‬ ‫الد ي ّ‬
‫صحة هذا ّ‬ ‫تقريبي في الجال الصغائري‪ ،‬فإن ّ‬
‫ً‬ ‫الحصول عليها في إطار تجريبي َّ‬
‫محدد تماما‪ .‬إن سلسلة من الظاهرات النقطية "القاربة"‬
‫واليسرة بذلك الهدف القصدي لألجسام الزمكانية النتمية لنمط نموذج‬ ‫ّ‬ ‫لسار‪،‬‬
‫ّ‬
‫جسيمي‪ ،‬نصادفها في إطار صف خاص من التجهيزات مثل الغرف ذات الفقاعات‪ .‬وإن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واليسرة بذلك لهدف قصدي‬ ‫تجمعا من الظاهرات النقطية "الحاذية" لشكل تداخلي‪،‬‬
‫من األجسام الزمكانية النتمية إلى نمط النموذج الوجي‪ ،‬نصادفه في إطار نوع مختلف‬
‫من التجهيزات‪ ،‬مثل شبكات االنحراف البلورية‪ .‬إن ديمومة كل نموذج زمكاني‪ ،‬وكل‬
‫عنصر من البنية التحتية األنطولوجية للنموذج‪ ،‬ال تتجاوز حدود إطار تجريبي‪ .‬ولا كنا‬
‫نعلم من جهة أخرى أن هذه األطر هي أطر غير متوافقة‪ ،‬وأنه من الستحيل أن نتجاوز‬
‫ً‬
‫بشكل تسلسلي هذا التعارض بينها إال في أفضل األحوال بريبة ال يمكن حصرها تقريبا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متحيز وجزئي‪ ،‬وأنه متعلق بعينة من األوضاع‬ ‫فعلينا القبول أن كل نموذج هو نموذج‬
‫‪68‬‬
‫أيضا غير متوافق كثي ًرا مع نماذج أخرى األطر الرتبطة بها ّ‬
‫تحقق هذا‬
‫ً‬
‫التجريبية‪ ،‬وأنه‬
‫التوافق فيما بينها‪ .‬إن مثل هذه النماذج الجزئية‪ ،‬التي يرتبط كل منها بوضع خاص‪ ،‬ال‬
‫يمكن اعتبارها على أنها مظاهر لنموذج واحد شامل‪.‬‬
‫كانت الج ّدة الحاسمة في الوضع الذي واجهه اليكانيك الكمومي غياب التوافق‬
‫الكافي لألطر‪ ،‬والغياب الالزم للثابت الوحيد "عبر ‪ -‬السياقي" للظاهرات التي يمكن أن‬
‫تسمح باإلجراء النهائي ألقنمة الثوابت‪ .‬ونتيجة ذلك هو أنه حتى عندما يستخدم‬
‫فيزيائيون نماذج مستلهمة من التراتبية التقليدية لألنماط األنطولوجية‪ ،‬فإنهم يقومون‬
‫ً‬
‫عموما إما بطريقة ّ‬
‫مجزأة أو تقريبية‪ ،‬واضعين نصب أعينهم حدودهم في الصحة‪،‬‬ ‫بذلك‬
‫وإما باستخدام القواعد البليغة والتصويرية (مثل مخططات فاينمان ‪ )Feynman‬التي‬
‫تسمح باحترام هذه الحدود بشكل شبه آلي‪.‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫إنه لن الصحيح أن تصور النماذج ّ‬
‫الوحدة من نمط سابق ليس ممنوعا منعا باتا‪.‬‬
‫لكنه يأخذ شكل نوع من لعبة ذهنية‪ :‬لعبة النظريات ذات التغيرات الخفية (غير الحلية)‬
‫التي ال تزعم أنها تصف ثوابت ظاهراتية بل صيرورة تقع بشكل أساس ي خارج إمكانية‬
‫حجة من ذلك (ذات‬ ‫مد عدد من فالسفة الفيزياء العاصرين ّ‬‫التقص ي التجريبي‪ .‬يست ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الخفية من‬ ‫ّ‬
‫التغيرات‬ ‫طبيعة غير تجريبية بشكل واضح) من أجل استبعاد النظريات ذات‬
‫مجموعة التفسيرات القبولة في اليكانيك الكمومي‪.99‬‬
‫ً‬
‫من الصحيح أيضا أنه إذا كان اليكانيك الكمومي العياري ال يترك الجال النبثاق أي‬
‫تتم في الكان وفي الزمان‪ ،‬فإنه يستخدم بشكل واسع ثوابت صورية‬ ‫ثابت للظاهرات التي ّ‬
‫في فضاءات مجردة مثل فضاء هيلبرت ‪ .Hilbert‬وهكذا نفهم أن بعض الؤلفين‬
‫ً‬
‫بدال باألحرى‬ ‫استطاعوا اعتبار أن "فضاء هيلبرت هذا هو فضاء الوضوعية الكمومية"‪،‬‬

‫‪ 99‬الثال الجيد على ذلك‪ ،‬والذي نفصله في الفقرتين ‪ 4‬ـ ‪ 4‬و ‪ 4‬ـ ‪ ،3‬هو مثال برنادر دسبانيا الذي يعتقد أن‬
‫النظريات ذات التغيرات الخفية ال يمكن حذفها على خلفية تجريبية بحتة‪ ،‬وأنها في الوقت نفسه غير مقبولة‬
‫مع ذلك ألسباب تتعلق بالتصنع الفرط‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫ابا آخرين ّ‬‫ّ ً‬
‫طوروا منهجية موازية بين التشكيل الزمكاني‬ ‫من الزمكان العادي‪100‬؛ وأن كت‬
‫ّ‬
‫حلله كانط والتشكيل الهيلبرتي الجديد للموضوعية‪ .101‬فإذا ما ّ‬
‫تقيدنا‬ ‫للموضوعية الذي‬
‫ً ً‬
‫بهذا النظور‪ ،‬فإن سؤاال هاما ال يمكن مع ذلك تحاشيه‪ .‬هل هناك وسيلة لكي نربط‪،‬‬
‫حتى لو بطريقة ّ‬
‫مجزأة وغير مباشرة‪ ،‬قانون الثابت لثل هذه الكيانات الرياضية في فضاء‬
‫ً‬ ‫حسية هي الظاهرات التجريبية؟ إن ذلك ممكن ضمن ّ‬ ‫مجرد مع عناصر ّ‬
‫ّ‬
‫حد معين‪ ،‬وفقا‬
‫لطريقتين‪ .‬فبالدرجة األولى‪ ،‬إن الشعاع َّ‬
‫الوجه لحالة فضاء هيلبرت الذي نقرنه عند كل‬
‫تحضير يمكن أن يعتبر كنوع من الثابت الترتيبي‪ ،‬طالا أنه الرمز الوحيد الذي يسمح‬
‫بحساب احتماالت النتائج ألي قياس يمكن أن يجرى بعد عملية التحضير‪ .‬وبالدرجة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الوجه لحالة فضاء هيلبرت هو أيضا الثابت التصنيفي لصف‬ ‫الثانية‪ ،‬فإن الشعاع‬
‫محدود من العمليات التجريبية السماة "قياسات ثبوتية الحرارة ‪ ،"adiabatique‬التي‬
‫التوسطة لرصود ما بطريقة مباشرة و"غير‬ ‫ّ‬ ‫يمكن أن نصل من خاللها إلى القيمة‬
‫َ‬
‫مخلخلة"‪ ،‬دون الرور بإحصائية القياسات النقطية "الخلخلة"‪.102‬‬
‫ال تنقصنا الثوابت إذن في اليكانيك الكمومي‪ ،‬بل وهي تحفظ درجة معينة من‬
‫ً‬
‫االتصال مع الظاهرات؛ غير أن طابعها غير الطبيعي يظل ظاهرا بشكل جلي على الدوام‬

‫‪G. Cohen-Tannoudji& M. Spiro, La matière espace-temps, Gallimard, 1986, p. 162. 100‬‬


‫‪P. Mittelstaedt, Philosophical problems of modern physics, Reidel, 1976 101‬؛ ‪J. Petitot,‬‬
‫‪،"Objectivitéfaible et philosophietranscendantale", in M. Bitbol& S. Laugier (eds.), Physique et réalité‬‬
‫ً‬
‫الرجع السابق ذكره؛ وانظر أيضا‪M. Bitbol, "Some steps towards a transcendental deduction of :‬‬
‫‪( quantum mechanics", Philosophianaturalis‬كان هذا القال قيد الطباعة عند صدور هذا الؤلف عام‬
‫‪.)0996‬‬
‫‪Y. Aharonov, J. Anandan& L. Vaidman, "Meaning of the wave function", Physical Review, A47, p. 102‬‬
‫‪4676-4626, 1993‬؛‬
‫و ‪M. Dickson, "An empirical reply to empiricism: protective measurement opens the door for‬‬
‫‪quantum realism", Philosophy of science, 62, p. 122-140, 1995‬؛‬
‫و ‪.L. Vaidman, "Weak-measurment elements of reality", Foundation of physics, 26, p. 895-905, 1996‬‬
‫ً‬
‫ونجد مناقشة لعنى هذه القياسات العزولة حراريا في ‪M. Bitbol, in Schrodinger's philosophy of quantum‬‬
‫‪ ،mechanics‬الصدر السابق ذكره‪ ،‬ص‪.015 .‬‬
‫‪71‬‬
‫يسهل العملية العادية التي ترتكز على أقنمتها بعد أن تكون قد أخفت مجموعة‬ ‫لكي ّ‬
‫التحوالت الوافقة‪ .‬كبداية‪ ،‬كان كارل بوبر ‪ K. Popper‬يدعم ّ‬
‫بشدة فكرة ثابت ترتيبي في‬
‫ّ‬
‫اليكانيك الكمومي‪ ،103‬لكنها ظلت موضوع انتقادات فلسفية ال يمكننا االستهانة بها‪.‬‬
‫ووفق كوين ‪ Quine‬بشكل خاص‪ ،‬فإن الترتيبات ال يمكنها االستفادة من أية استقاللية‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫بالنسبة لألحداث التي تحصل فعليا والتي يفترض أنها تشكل كمونات لحدوث غير‬
‫ّ‬
‫الوجهة بحيث ال‬ ‫الحد من أشعة الحالة‬‫متوقع‪ .104‬أما بالنسبة للخيار الذي يرتكز على ّ‬

‫تكون الثوابت التصنيفية إال لصف محدود من العالجات التجريبية (قياسات " ثبوتية‬
‫ّ‬
‫الحرارة")‪ ،‬فإنه يترك مسألة ثابت تصنيفي عام يغطي كمية من صفوف تجريبية أخرى‬
‫مسألة مفتوحة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحصلة‪ ،‬فإن الوضع ما بعد الثوري للميكانيك الكمومي هو حالة سلسلة من‬ ‫وفي‬
‫ّ‬
‫التعسفية أو الحدودة‪ ،‬إلعادة بناء التراتبية‬ ‫ّ‬
‫أوالتفجرة أو‬ ‫الحاوالت الخفقة أوالبتورة‬
‫التقليدية من األنماط األنطولوجية القترنة بالنماذج‪ .‬وكان السبب الرئيس ي لهذا اإلخفاق‬
‫قد ح ّدد بوضوح فيما سبق أن أوردناه‪ :‬إنها سياقية الظاهرات التي يجعلها ّ‬
‫الحد الكمومي‬
‫الذي تفرضه ثابتة بالنك على إمكانية الوازنة‪ ،‬إال في حالة خاصة هي عدم توافقية‬
‫القرائن والسياقات التجريبية‪ ،‬أم ًرا ال يمكن ّ‬
‫تجنبه‪.‬‬
‫تغير الالحظات العتادة لإلبستمولوجيين حول ارتباط الوقائع مع‬ ‫إن هذه السياقية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫توجه إجراءات البحث بصلة مشكلة للنظرية الفيزيائية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإننا ال نستطيع القول‪،‬‬
‫كما ال يزال يقبل بذلك ولو باإلشارة العديد من الفيزيائيين الالواقعيين العتدلين‪ ،‬بأن‬
‫ّ‬
‫النظرية الكمومية تخضع لضغط انتقائي مصدره طبيعة مسبقة التشكل‪ .‬فهي خاضعة‬
‫َّ‬
‫لضغط انتقائي تمارسه عليها الظاهرات التي ترتبط بنيتها بالكلية التي ال تنفصم والشكلة‬

‫‪K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996. 103‬‬


‫ً‬
‫‪ W. V. Quine, The roots of reference, Open court, 1990. 104‬ونجد مناقشة أكثر تعمقا لهذه السألة في‬
‫الفصل السادس من هذا الكتاب‪ ،‬الخصص للقواعد والترتيبات و"الفراغ الكمومي"‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫ّ‬
‫بواسطة الوسط ووسائل البحث‪ ،‬حيث أن الوسائل تتشكل بدورها بالشروع النظري‬
‫التي تجسده‪ .‬إن صيرورة الفعول الرجعي في صيرورة التطور‪ ،‬والتشكيل الذاتي للوسط‬
‫البيئي االصطفائي وللكيان الذي سيتم اصطفاؤه‪ ،‬تبلغ هنا إحدى الذرى‪ :‬الذروة التي‬
‫يصبح فيها شكل العالم نفسه‪ ،‬بناؤه في مجموعات من الحوادث الظاهراتية الانعة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫لبعضها بشكل متبادل‪ ،‬جزءا مما تشكله إجراءات البحث التي يتعلق األمر أصال باختبار‬
‫ّ‬
‫خلفيتها النظرية‪.‬‬
‫علينا التذكير هنا بأن ذلك ال يتطلب أي تسهيل مثالي سطحي‪ .‬ألنه ما أن يبدأ العمل‬
‫بمشروع البحث‪ ،‬وما أن يفرض الشروع نفسه اللحمة البنيوية للظاهرات المكنة‪ ،‬فإن‬
‫أي من ظاهرات مجموعة المكنات التي سوف تظهر إثر تطبيق كل تطبيق‬ ‫سؤال معرفة ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فردي لتجربة يظل‪ ،‬في اإلطار الالتحديدي للفيزياء الكمومية‪ ،‬سؤاال مفتوحا بشكل كامل‪.‬‬
‫‪ 6 -1‬الفيزياء الكمومية والفلسفة الصورية التجاوزية‬
‫ضمن هذه الظروف‪ ،‬فإن مطابقة اللحظات التجاوزية التي تجمعها صورية اليكانيك‬
‫ّ‬
‫الكمومي تكتسب أهمية غير مسبوقة‪ .‬فلم يعد األمر يتعلق فقط‪ ،‬كما بالنسبة لعمل‬
‫تأمل فلسفي‬‫كانط على الفيزياء النيوتونية أو عمل كاسيرر على نظرية النسبية‪ ،‬بوضع ّ‬
‫تأمل يعمل الفيزيائيون من جهة أخرى على‬ ‫مستقل حول شروط إمكانية العرفة؛ إنه ّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫تجاهله تماما في ممارستهم اليومية لصالح العمل بالالمتغيرات والنماذج‪ .‬ألن أكثر‬
‫ً‬
‫وضوحا لم يعودوا يستطيعون هنا ّ‬
‫تجنب االرتياب بأن النماذج الكشفية التي‬ ‫الفيزيائيين‬
‫يستخدمونها ليست ربما سوى إسقاطات جزئية وذات ّ‬
‫صحة محدودة للمعايير الناظمة‬
‫للصفوف التحتية لنشاطاتهم‪ .‬إن الكشف عن شبكة االفتراضات السبقة للصف الكامل‬
‫من النشاطات التجريبية التي ّ‬
‫تقدم نظريتهم الجامعة التنبؤات بخصوصها‪ ،‬وبيان كيف‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ويسهل في الوقت‬ ‫تشتق منها‪ ،‬يعطي عندها شكال الرتيابهم‪،‬‬ ‫يمكن للنماذج الجزئية أن‬
‫نفسه ّ‬
‫تحول نظرتهم‪ .‬وعندما ال تعود خلفية االفتراضات السبقة التي يتراكم عليها البحث‬

‫‪72‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قابلة لإلسقاط دون تحايالت بشكل نموذج وحيد وقابل لالختبار تجريبيا‪ ،‬فإن أحدا لن‬
‫يستطيع ّ‬
‫تجنب االلتفاف مباشرة باتجاهها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولكن كيف ننجز مثل هذه الهمة؟ وكيف نثبت العناصر التجاوزية الشكلة‬
‫للميكانيك الكمومي؟ يكفي من أجل ذلك برهان أن اليكانيك الكمومي يمكن أن يكون‬
‫تخص األعمال التجريبية ونمط ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التنبؤ بنتائجها‪.‬‬ ‫مشتقا ابتداء من قواعد التحديد التي‬
‫يكفي بعبارة أخرى إثبات ما يسميه بتيتو ‪" J. Petitot‬الطبيعة الغالوازية" للنظرية‪ ،‬أي‬
‫التحديد السلبي لا هو سهل البلوغ للنظرية بما هو غير ممكن البلوغ بالنسبة لها من‬
‫حيث بناؤها‪.105‬‬
‫وهذا ما توصلت أجيال من الباحثين للقيام به عبر مراحل‪ ،‬وما سأحاول تلخيصه‬
‫بسرعة هنا‪.106‬‬
‫األشعة ّ‬
‫الوجهة للحالة في فضاء هيلبرت‪ ،‬مرتبطة‬ ‫ّ‬ ‫بداية‪ ،‬يمكننا البرهان أن صورية‬
‫بالقاعدة االحتمالية لبورن‪ ،‬هي الترجمة األبسط لشرطين حصريين‪ .‬الشرط األول هو‬
‫استحالة فك سياقية ‪ dé contextualiser‬الظاهرات التي يعمل عليها التنبؤ االحتمالي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والشرط الثاني هو التعددية األداة التنبؤية أيا كان القياس الذي يلي تحضيرا تجريبيا‬
‫معطى‪.‬‬
‫من الواضح أن الشرط األول هو من رتبة تحديدية‪ .‬فهو يجمع والحق يقال الحدودية‬
‫الرئيسية؛ أي التي جعلت الفيزياء الكالسيكية فيزياء مزعزعة؛ بل وهي حتى التي جعلت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تطبيق اللغة العادية وأساسها النطقي على الكون الصغائري أمرا إشكاليا‪ ،‬طالا أن اللغة‬
‫ً‬
‫تفترض مسبقا‪ ،‬عبر استخدام التنبؤ‪ ،‬إمكانية تجريد بعض جوانب الظاهرات من تبعيتها‬

‫‪ 105‬الرجع السابق ذكره ‪J. Petitot, "Objectivité faible et philosophie transcendantale", in M. Bitbol& S.‬‬
‫‪Laugier (eds.) Physique et réalité‬‬
‫‪ 106‬من أجل تفاصيل أكثر راجع ‪M. Bitbol, Mécaniquequantique, une introduction philosophique,‬‬
‫ً‬
‫‪( Flammarion, 1996‬وأعيده طبعه في دار نشر ‪ Champs‬عام ‪)0991‬؛ وأيضا ‪M. Bitbol, "Some steps‬‬
‫‪.towards a transcendental deduction of quantum mechanics", Philosophianaturalis, 1998‬‬
‫‪73‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫لألوضاع‪ .‬وكما أن مبدأ النسبية لغاليليه ‪ Galilée‬كان يشكل شرطا تحديديا‪ ،‬حيث كان‬
‫ً‬
‫يمنع التنبؤ بسرعة جسم بغض النظر عن الرجع‪ ،‬فإن مبدأ السياقية لبور يشكل شرطا‬
‫ً ً‬
‫عاما‪ ،‬بحيث يمنع ّ‬
‫التنبؤ بأية خاصية كانت لجسم ما بتجاهل الشروط األداتية‪.‬‬ ‫تحديديا‬
‫ّ‬
‫محل التساؤل حول وجود الحركة وهو سؤال‬ ‫وكما أن مبدأ النسبية لغاليليه ّ‬
‫حل‬
‫تجاوزي نموذجي حول شروط إمكانية التنبؤ بالسرعة في مرجعية ما‪ ،‬فإن مبدأ السياقية‬
‫لبور حل محل مسألة تالزم الخصائص‪ ،‬وهي مسألة تجاوزية حول شروط إمكانية‬
‫القياس لكل تحديدية في الظروف األداتية العينة‪ .‬إن التعبير الكمي لتحديدية بور‪ ،‬وهو‬
‫يشتق من جهة أخرى بدوره من حجة من‬ ‫ّ‬ ‫القيمة (غير العدومة) لثابتة بالنك‪ ،‬يمكن أن‬
‫ً‬
‫نمط تجاوزي‪ :‬وهو البدأ اإلنساني الضعيف‪ ،107‬ووفقه فإن حدودا صارمة تفرض على‬
‫مجموعة القيم للثوابت الكونية الرئيسية إذا كان يجب على الوجود البيولوجي لإلنسان‬
‫ً‬
‫أن يكون ممكنا ببساطة‪.‬‬
‫أما الشرط الثاني‪ ،‬فإنه يعكس من جهته مشروع موازنة نقص الوحدة التمثيلية‬
‫(التي تفرضها استحالة ّ‬
‫فك السياقية)‪ ،‬باللجوء إلى وحدة قطعية‪ :‬أي وحدة رمز يسمح‬
‫بحساب قدر ما نريد من قوائم االحتمالية كما ومن القياسات القابلة لإلجراء إثر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حدا على ما ّ‬
‫نعده مقبوال بالنسبة لوضوع الصلة‬ ‫التحضير نفسه‪ .‬إن هذا الشرط يفرض‬
‫بين الصورية والتجربة‪ ،‬هذا إذا أردنا على هذا الستوى أو ذاك (على الستوى االحتمالي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫إذا لم يكن ذلك ممكنا على مستوى التحديدات)‪ ،‬أن تكون كافة العلومات التوفرة من‬
‫أجل التنبؤ بالظاهرات ّ‬
‫محددة بشكل يشارك فيه تحضير التجربة‪.108‬‬

‫‪J. D. Barrow & F. J. Tipler, The anthropic cosmological trinciple, Oxford University Press, 1986 107‬؛ و‬
‫‪F. Bertola&Curi (eds.), The anthropic principle, Cambridge University Press, 1993‬؛ و ‪J. Demaret& D.‬‬
‫‪Lambert, Le principeanthropique, Armand Colin, 1994‬‬
‫‪ 108‬من الصحيح أنه ليست كل تجربة‪ ،‬في الفيزياء وخاصة في الفيزياء الفلكية‪ ،‬مسبوقة بتحضير يكون الجرب‬
‫قد ضبط كافة عواملها المكنة‪ .‬مع ذلك يمكن توسعة الخطط العياري التمثل بالتحضير ـ القياس‪ ،‬ليشمل‬
‫ً‬
‫مباشرة هذه الحالة أيضا‪ ،‬شرط أن نلجأ الستخدام خطاب غير عملي فيما يخص موضوع التحضيرات‪ .‬يشبه‬
‫‪74‬‬
‫بعد الحصول على بنية ّ‬
‫متجهات الحالة في فضاء هلبرت‪ ،‬كترجمة لقيدين تحديديين‬
‫تطور ّ‬
‫أيضا اشتقاق معادلة (أو معادالت) ّ‬‫ً‬
‫متجهات الحالة هذه (مثل‬ ‫سابقين‪ ،‬يجب‬
‫ً‬
‫معادلة شرودنغر)‪ .‬إن البرنامج الذي ألزمنا نفسنا به يتطلب أن نستخدم هنا أيضا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إجراء تابعا لصف واسع من الناهج التجاوزية‪ .‬غير أن ذلك ممكن تماما شرط تطبيق‬
‫سلسلة مناسبة من مبادئ الالتغير والتناظر التي لن أدخل في تفاصيلها هنا‪ ،109‬إنما حيث‬
‫يجب ببساطة اإلشارة من جديد إلى التوافق مع قواعد تحديد النشاطات التجريبية‬
‫التغير أن يعتبرا كقواعد ّ‬
‫محددة‬ ‫والتنبؤ بنتائجها‪ .‬وفي الواقع يمكن لجموعة تناظر أو لبدأ ّ‬

‫تخصص ما ال يجب أن نستطيع رصده خالل تراجع هذا البحث‪ .‬فوفق مبدأ‬ ‫ّ‬ ‫بما هي‬
‫الالتغير عبر االنتقال في الكان على سبيل الثال‪ ،‬يجب أال نستطيع رصد ّ‬
‫التغير في الترتيب‬ ‫ّ‬

‫القانوني للظاهرات من موضع إلى آخر؛ ووفق مجموعة تحويالت لورنتز التناظرية‪ ،‬ال‬
‫يمكننا رصد ّ‬
‫تغيرات شكل القوانين (بما في ذلك قوانين الكهرمغنطيسية) من مرجع‬
‫عطالي إلى آخر‪ .‬وهكذا ينتقل التأكيد مرة أخرى من تمييز األشياء بواسطة مسندات‬
‫جوهرية إلى تحليل شروط إمكانية توضيح االستنباط التنبؤي الصحيح من أجل أي من‬
‫األوضاع الخاصة التي تظهر فيها الظاهرات‪.‬‬
‫هكذا تختتم النظرة اإلجمالية السريعة لا يمكن أن ّ‬
‫نسميه "االستنتاج البراغماتي ‪-‬‬
‫التجاوزي" للميكانيك الكمومي‪ .‬تظهر لنا الصورية الكمومية عند النظر إليها بهذه‬
‫الطريقة أنها ليست بعيدة عن التبرير (كما يقبل بذلك التجريبيون) وليست َّ‬
‫مبررة‬

‫ً‬
‫ذلك شيئا مثل‪" :‬الشروط التي تسبق القياس هي نفسها فيما لو كنا قد حضرنا التجربة بهذه الطريقة أو تلك"‪.‬‬
‫يمكن لهذا الخطاب أن يرتكز على تجارب مماثلة جزئية في الختبر‪ ،‬ثم على تعميم‪ ،‬شروط تحضيرية ال يمكن‬
‫للمجرب أن يتحكم بها بشكل مباشر (كما على سبيل الثال الشروط التي ترجح وتغلب في نجوم أو في مجرات‬ ‫ّ‬
‫بعيدة)‪.‬‬
‫‪ 109‬راجع ‪ ،M. Bitbol, Mécaniquequantique, une introduction philosophique‬الرجع السابق ذكره‪،‬‬
‫صفحة ‪016-016‬؛ و ‪M. Bitbol, "Some steps towards a transcendental deduction of quantum‬‬
‫"‪ ،mechanics‬الرجع السابق ذكره‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫بواسطة اتفاقها "الالمعقول" مع العالم كما هو عليه (كما يميل إلى االعتقاد الواقعيون)‪.‬‬
‫مبررة في جزء كبير منها من خالل اتفاقها "العقول" البنيوي مع‬ ‫إن الصورية الكمومية َّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫توقع ظاهرات م َّ‬
‫حددة تبعا إلطار تجريبي‪.‬‬ ‫الشروع العلمي في‬
‫‪ 7 -1‬التالقي االنعكاس ي‪ :‬مشروع آخر للفيزياء‬
‫إن هاتين السمتين للميكانيك الكمومي‪ ،‬أي إمكانية تبرير ما هو أساس ي في البنية من‬
‫ّ‬
‫الجزأة أو العشوائية للنماذج‬ ‫ّ‬
‫ومعمم لالستنتاج التجاوزي‪ ،‬والصفة‬ ‫خالل شكل ّ‬
‫محدث‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫الرتبطة بها‪ ،‬تلقي ضوءا هاما راجعا في الاض ي على تاريخ الفيزياء‪ .‬فبداية‪ ،‬يجب التذكير‬
‫مجرد تقديم بديل واضح لتفسير نجاح النظريات بواسطة الواقعية التقاربة يجعل‬ ‫أن ّ‬
‫ّ‬
‫حصريته‪.‬‬ ‫هذا التفسير بشكل آلي أقل جاذبية‪ ،‬طالا أن إحدى حججه الكبرى هي‬
‫ً‬
‫بالقابل‪ ،‬فإن جاذبيته تتناقص أيضا إذا أخذنا بعين االعتبار الوضع الحالي ألكثر النماذج‬
‫غنى في الحتوى األنطولوجي‪ .‬فطالا كان من المكن‪ ،‬خالل الفترات التي تلت ثورة في‬
‫العلوم الفيزيائية‪ ،‬صياغة نموذج ّ‬
‫موحد يندرج ضمن تراتبية تقليدية من األنماط‬
‫األنطولوجية‪ ،‬كان يمكن االعتقاد بأن اللحظة القصيرة التي كانت تجد فيها القاعدة‬
‫التجاوزية للنظريات نفسها معروضة لم تكن سوى لقطة عارضة من مسار‪ ،‬وأن‬
‫ديناميكية البحث كانت تظل في العموم مشدودة نحو النظرة التقاربية لنموذج صحيح‬
‫ً‬
‫للطبيعة‪ .‬ولكن بدءا من اللحظة التي لم تعد تسمح فيها النماذج القترحة‪ ،‬كما هو الحال‬
‫موحد وغير اعتباطي‪ ،‬وفي الوقت نفسه حيث‬ ‫في اليكانيك الكمومي‪ ،‬بتقديم تمثيل ّ‬

‫الخلفية التجاوزية للنظرية تظل صريحة واضحة‪ ،‬فإنه على العكس يحق لنا أن نتساءل‬
‫إذا لم تكن األولوية السابقة المنوحة للنماذج تعود لصدفة تاريخية بعيدة‪ .‬ولم يكن‬
‫ً‬
‫هذا الحدث الطارئ سوى ظرف ٍ‬
‫بحث ما كان ال يزال معهودا بالنسبة لبيئة ‪umwelt‬‬
‫النوع اإلنساني‪ ،‬لوسطنا البيئي الباشر‪ ،‬لهذا النوع من جزيرة الوسط الباسكالي حيث ال‬
‫تقود االفتراضات السبقة البراغماتية للفعل واللغة‪ ،‬كما على سبيل الثال فك السياقية‪،‬‬
‫إلى أي طريق مسدود‪ .‬وبسبب هذا الحدث الطارئ إنما لم يكن ثمة ش يء يمنع متابعة‬
‫‪76‬‬
‫إعداد تراتبية ألنماط النماذج التي كان نموذجها البدئي هو نموذج "الش يء" ومكان البيئة‬
‫ّ‬
‫الوضعيين ومن النظرة النقدية عند الكانطيين‬ ‫اليومية‪ ،‬هذا على الرغم من اعتراضات‬
‫الجدد‪.‬‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬على ضوء دروس اليكانيك الكمومي‪ ،‬فإن إدراكنا ينقلب لا هو طارئ ولا‬
‫هو أساس ي في تاريخ الفيزياء‪.‬‬
‫تظهر السلسلة الطويلة من سلسلة أنماط النماذج (على األقل في حالة النماذج‬
‫الرتبطة بالنظريات ‪ -‬اإلطار الكبرى) كنتيجة دائمة إنما ظرفية إلسقاط للمعايير‬
‫ّ‬
‫للتحقق على نمط قريب‬ ‫واالفتراضات السبقة ألفعالنا على الطبيعة‪ .‬إنه إسقاط يميل‬
‫ّ‬
‫والحفز لهماتنا اليومية‪.‬‬ ‫قدر اإلمكان من الفهم السبق اإلدراكي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الشبه قليال بالوضوع االجتماعي الذي حلله سيرل‪،J. Searle 110‬‬ ‫إن الكيان النظري‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يشكل جزءا من نموذج يظهر مثل موضع تمفصل للتطبيقات والمارسات‪111‬؛ موضع‬
‫ً‬
‫تفترض فعاليته أال يكون معترفا به على هذا النحو‪ ،‬وذلك ليس إال من أجل أال تنعدم‬
‫ً‬
‫ثقتنا به من خالل وضوح زائد تجاهه‪ .112‬يمكننا أن نتساءل انطالقا من هنا إذا كان‬

‫‪J. Searle, The construction of social reality, Allen lane (The Penguin press), 1995, p. 52. 110‬‬
‫‪ 111‬الرجع السابق‪ .‬إنه لن الصحيح أن الواضيع االجتماعية عند سيرل (الال اإلئتماني‪ ،‬الزواج‪ ،‬ألقاب اللكية‪،‬‬
‫َّ‬
‫إلخ‪ ).‬يجب أ‪ ،‬ترتكز على خلفية واقع مسلم به‪ .‬إن هذا الواقع السلم به عند سيرل هو واقع كيانات (مثل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذرات أو الخاليا) نماذج العلوم "البحتة"‪ .‬ويقدم ذلك وفقا له أساسا لنوع من الحجة التجاوزية للموقف‬
‫الواقعي حول هذه الكيانات (الرجع السابق ص‪ .)063 .‬مع ذلك ال يجب أن يغيب عن ذهننا أن الخطاب حول‬
‫موضوع الكيانات النظرية في العلوم "البحتة" يرتكز بدوره على شكل من الواقعية العترف بها بشكل غير إشكالي‬
‫في الخطاب والفعل اليوميين‪ ،‬إنما غير التضمنة ألي قصد في "الوجود" الذاتي‪ :‬أي واقعية األشياء في الحيط‬
‫الباشر والألوف والتجهيزات على الستوى الجهاري‪ .‬فهنا كما في أي موضع آخر‪ ،‬تصطدم محاولة تجاوز‬
‫الالحظات البراغماتية لويتغنشتاين في مؤلفه "حول اليقين"‪ ،‬كما ومحاولة إعادة تشكيل تأسيسية واقعية‬
‫ً‬
‫اعتمادا على ذلك‪ ،‬بنكوص ال نهاية له لنقاط االرتكاز ولالفتراضات السبقة‪.‬‬
‫‪ 112‬يالحظ فاريال مع ذلك أن هذا النوع من الضرورة الساخرة بحجب الوجه‪ ،‬واالعتقاد بأسس لم يعد لدينا‬
‫سبب لالعتقاد بها‪ ،‬ال يفرض نفسه إال ألننا نجهل وسائل تحولنا الذاتي‪ ،‬والتوسع الالزم لذلك في طريقة رؤيتنا‬
‫للعالم‪ ،F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscriptioncorporelle de l'esprit .‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.492‬‬
‫‪77‬‬
‫ً‬
‫الوقف الواقعي آنيا ألغلبية الفيزيائيين والسلسلة الدهشة من النجاحات الذي سمح‬
‫بالتوصل إليها ال يمكن تفسيرهما بمالحظة من النوع نفسه لتلك العروفة في نظرية‬
‫االحتماالت فيما يخص "مبرهنة الكتاب األلاني ‪ ."Dutch book theorem‬وكما كتب‬
‫جيمس لوغ ‪ James Logue‬في كتابه الحديث "االحتمالية اإلسقاطية ‪Projective‬‬
‫ّ‬
‫‪ ]...[" ،"probability‬علينا‪ ،‬لكي نكون متجانسين (ولكي ال نفقد رهاناتنا بشكل مؤكد)‪ ،‬أن‬
‫نثق بشكل كامل بمسيرتنا الخاصة‪ ."113‬إن هذه الثقة الخصبة بالسيرة الخاصة‪ ،‬وتجانس‬
‫ً‬ ‫السيرات التي تنجم عنها‪ ،‬هو ما ّ‬
‫يعبر عنه محقا "قانون اإليمان" بالنسبة للواقعي التالقي‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬يتابع لوغ‪ ]...[" ،‬لسنا بحاجة ليكون لدينا أي مستوى من الثقة بواقع أن هذه‬
‫الثقة في مسيرتها الخاصة هي ثقة َّ‬
‫مبررة"‪ .‬يعطي ذلك الحق للفيلسوف عندما ال يحاول‬
‫الوافقة على الصورة الواثقة التي يعطيها الفيزيائي عن عمله الخاص‪ ،‬وعندما يسمح‬
‫القدمة لصالح هذه الثقة‪ ،‬وعندما يبحث عن بيانات أخرى‬ ‫ّ‬
‫بالشك بالبررات َّ‬ ‫لنفسه‬
‫مقبولة للنجاحات العملية التزايدة للعلوم غير التالقي باتجاه بيان مخلص لواقعية‬
‫ّ‬
‫مسبقة التشكل‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى العكس‪ ،‬فإن ما يبدو بشكل استداللي أساسيا في تاريخ النظريات الفيزيائية‪ ،‬هو‬
‫ً‬
‫هذه اللحظات التي كانت في البداية غير واضحة وعابرة ثم أصبحت أكثر فأكثر وضوحا‪،‬‬
‫ّ‬
‫حيث نبش بعض أكبر ممثلي الراحل الثورية األساس البراغماتي ‪ -‬التجاوزي للمرحلة التي‬
‫ً‬
‫كانوا في طور اجتيازها‪ .‬وبالتركيز على هذه اللحظات بدال باألحرى من التركيز على الراحل‬
‫نوجه إلى فهم تاريخ الفيزياء بطريقة‬ ‫ما بعد الثورية من إعادة إعداد النماذج‪ ،‬فإننا َّ‬
‫معاكسة بشكل جذري بالتأكيد لطريقة الواقعية التقاربة‪ ،‬إنما هي أفضل هيكلة بكثير‬
‫من طريقة التزايدات الفوضوية من الحاوالت واألخطاء على طريقة فايراباند‪ .114‬نتوصل‬
‫ّ‬
‫من ذلك إلى اعتبار هذا التاريخ كمتتالية من الراحل التقطعة لتوسعة العايير التي‬

‫‪J. Logue, Projective Probability, Oxford University Press, 1995, p. 126. 113‬‬
‫‪P. Feyerabend, Adieu la raison, seuil, 1989. 114‬‬
‫‪78‬‬
‫ً‬
‫تفترضها مسبقا ديناميكية نشاطات البحث‪ ،‬يليها تفسير هذه العايير من خالل صورية‬
‫نظرية متوافقة مع كل مرحلة من مراحل تعميمها‪ّ .‬‬
‫وتتم توسعة هذه العايير من جهتها‬
‫خالل زمنين أساسيين‪ .‬ففي زمنها األول تعمل نظرية فيزيائية سابقة كتنظيم ذي أساس‬
‫ً‬
‫استنباطي للمعايير الفترضة مسبقا بواسطة نمط تقليدي من النشاط التجريبي ومن‬
‫ّ‬
‫توقع نتائجه‪ .‬وفي زمن ثان‪ ،‬فإن ظرف قيمة غير معدومة لثابتة كونية (تترجم هي نفسها‪،‬‬
‫ً‬
‫وفق البدأ اإلنساني الضعيف‪ ،‬شيئا من وضعنا في أن نكون في العالم باألحرى من كوننا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الجرب‬ ‫شيئا من العالم كما هو عليه بشكل مستقل عن الكانة التي نشغلها فيه)‪ ،‬يقيد‬
‫ً‬
‫الذي يواجه مجاال ال يمكن فيه لهذه القيمة أن تهمل في إعادة توجيه نشاطه‪ ،‬وفي‬
‫توسيع العايير وفي صياغة نظرية أخرى تجمع هذه العايير الجديدة‪.‬‬
‫باعتماد هذه الطريقة في فهم تاريخ الفيزياء فإننا نبلغ عدة مواضيع إبستمولوجية‬
‫هامة‪:‬‬
‫تطور النظريات كصيرورة إذا كانت ّ‬
‫تتميز بشكل جذري عن‬ ‫‪ .0‬يقودنا ذلك إلى اعتبار ّ‬
‫ً‬
‫نمط مقاربة الواقع‪ ،‬فإنها تستعير شيئا ما من عقالنية مناهج البحث التي‬
‫ّ‬
‫يجمعها العتقد الواقعي‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬تميل هذه الصيرورة بشكل منظم‪ ،‬تحت‬
‫غطاء تناوب في التحضيرات‪ ،‬وإخضاع للتجربة وسحب للنماذج‪ ،‬إلى اصطفاء‬
‫معقوليات إجرائية أكثر فأكثر عمومية متوافقة مع كل مرحلة من ّ‬
‫توسع البحث‬
‫التجريبي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ .4‬نتجاوز مسألة التحديدية التحتية‪ ،‬طالا أن هذه األخيرة تتعلق بالغنى التمثيلي‬
‫للنماذج وليس باالفتراضات السبقة التجاوزية الدنيا لتطبيق ما (التي َّ‬
‫يعبر عنها‬
‫بالبنية ّ‬
‫التنبؤية التحتية للنظرية)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫بتجنب ربطه بهذا‬ ‫‪ .3‬نعطي بذلك معنى جديدا ألحادية البعد في العمل العلمي‪،‬‬
‫الركود من البنى التحتية األنطولوجية للنماذج الذي كان يميل إلى دعم الواقعي‬
‫ً‬
‫في انطباعه بأن يتابع بنجاح بحثا عن الحقيقة ‪ -‬التوافقية‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫ّ‬
‫التصور‪ ،‬فإن اإلجراء العياري‪ ،‬الذي يدخل متتالية متكاثرة‬ ‫‪ .2‬على ضوء مثل هذا‬
‫يفسر بشكل جزئي بالصعوبة في تحديد‬ ‫الخمنات والتفنيدات للنماذج‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫متضمنة أحيانا في بحث ما دون مساعدة من ترجمتها‬ ‫العايير التي تكون‬
‫ّ‬
‫الوضوعية على شكل نماذج‪ .‬تتبدى مذاك أسطورة التالقي نحو الواقعي‬
‫كإسقاط أنطولوجي أو كصورة في الرآة لتالق آخر‪ .‬وهذا التالقي‪ ،‬هو التالقي الذي‬
‫سميته التالقي االنعكاس ي؛ أي التالقي باتجاه أكثر األشكال عالية في عمل ّ‬
‫توجه‬ ‫ّ‬
‫الكائن الفاعل في العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫وحول هذه النقطة األخيرة‪ ،‬لست بعيدا عن مشاركة التحليل الذي يقترحه ميشيل‬
‫سير ‪ M. Serres‬حول ّ‬
‫تطور الرياضيات‪ ،‬في كتابه "بدايات الهندسة"‪ .‬فباليل نحو موضوع‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تعقيدا كما يشرح ّ‬
‫سير‪ ،‬ال تكف الرياضيات عن التعميم‪ ،‬أي عن إفقار‬ ‫يبدو أكثر فأكثر‬
‫مسلماتها‪ ،‬والكشف بذلك عن القيود السبقة للعمليات األكثر فأكثر بدئية‪ .‬لقد انتقل‬
‫الرياض ي على سبيل الثال من تطبيقات السح الهندس ي بالنسبة للهندسة اإلقليدية إلى‬
‫تطبيقات ّ‬
‫النساج بالنسبة لطبولوجيا الغراف‪ ،115‬أو إلى تطبيقات حديثي الوالدة في‬
‫"الرحلة الحسية ‪ -‬الحركية" بالنسبة لنظرية الجموعات‪ .116‬إن األمر األصيل كما يخلص‬
‫ّ‬
‫سير هو أن "الزمن الرياض ي يتجه نحو أفقه غير التوقع ونحو بدايته‪ ."117‬وفي اإلطار نفسه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لنا الحق بمالحظة أنه بميل الفيزيائي إلى دفع العرفة دائما بعيدا عن موضوعها‪ ،‬فقد‬
‫انتهى إلى تفجير القيود السبقة العملية لتعريفه‪ ،‬وإلى وضع معايير أكثر فأكثر عمومية‬
‫وبدئية للعملية التجريبية بشكل غير مقصود‪ .‬لقد مررنا على سبيل الثال من الجال‬
‫الذي تحكمه الفيزياء الكالسيكية إلى الجال األوسع الذي تحكمه الفيزياء الكمومية من‬
‫ً‬ ‫ً ّ ً‬
‫نشاط تشغيل األجسام الادية‪ ،‬األمر الذي يفترض مسبقا تحكما كامال بالهوية وبديمومة‬

‫‪M. Serres, Les origins de la géométrie, Flammarion, 1993, p. 30. 115‬‬


‫‪J. Piaget, La construction du réel chez l'enfant, Delachaux et Niestlé, 1967. 116‬‬
‫‪ 117‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.41 .‬‬
‫‪81‬‬
‫الكيانات الشغول عليها‪ ،‬إلى نشاط ينتج الظاهرات الالعكوسة والنقطية والرتبطة بإطار‪،‬‬
‫حيث يكون العمل خاللها على إعادة مطابقة ما يظهر هو مسألة مفتوحة باألحرى منه‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫للتنبؤ االحتمالي في هذا الصف الواسع جدا من‬ ‫خبرة ومكتسبا‪ .‬إن القيود الولدة‬
‫الظاهرات األولية هي القيود التي تشكلها النظرية ‪ -‬اإلطار في الفيزياء الكمومية‪ .‬وبالض ي‬
‫سير يمكننا التعجب معه‪" :‬إن تاريخ الفيزياء‪ ،‬الفريد في نوعه‪ ،‬يتجه نحو خلفيته‬ ‫مع أفكار ّ‬
‫ً‬
‫الضمنية وحركيته األولية"‪ .‬وبكلمة واحدة فإن تاريخ الفيزياء يتالقى انعكاسيا‪.‬‬
‫‪ 8 -1‬ما بعد النظريات (ميتا نظريات) وما بعد الناهج‬
‫ال ّبد مع ذلك من أخذ حذرنا ونحن نختم هذا الفصل‪ .‬إن الفلسفة االنعكاسية لها‬
‫ماض؛ فهي لم ّ‬
‫تنفك تصطدم بانتقادات ال يمكننا أال نأخذها بعين االعتبار‪ .‬إن مصطلح‬
‫ّ‬
‫"االنعكاسية ‪ "réflexivité‬نفسه يحمل دالالت ذاتية ال بد من التخلص منها في فلسفة‬
‫العلوم‪ .‬وسوف أعتمد لكي أستطيع القيام بمهمة التوضيح هذه التي ال بد منها على تبادل‬
‫سريع لوجهات النظر بين فون ويزاكر ‪ C. F. Von Weizsacker‬وهابرماس ‪J. Habermas‬‬
‫فيما يخص الفيزياء الكمومية‪ .‬فويزاكر لم ّ‬
‫يتردد في عدد كبير من نصوصه بتشبيه‬
‫اليكانيك الكمومي بـ "نظرية العرفة البشرية"‪ ،118‬األمر الذي يمكن أن نقرأ فيه بيقين ال‬
‫ً‬
‫لبس فيه طبيعته االنعكاسية‪ ،‬إنما مع إراداة كامنة بجعل موضوع العرفة موضوعيا‪.‬‬
‫ويشتمل رد هابرماس على نقد محاولة ويزاكر التفكير بنظرية تكون في الوقت نفسه هي‬
‫ذاتها ميتا نظريتها‪ ،119‬أو في الخلط بين الوضوعية الذاتية واالنعكاسية الذاتية‪ .120‬ألنه‬
‫ً‬
‫كما يالحظ‪ ،‬في منظور جعل التجاوزي طبيعيا الذي هو منظور فون ويزاكر‪ ،‬فإن‬

‫‪ 118‬على سبيل الثال‪C. F. Von Weizsäcker&Th. Görnitz, "Quantum theory as a theory of human :‬‬
‫‪knowledge", in P. Lahti &P. Mittelstaedt (eds.), Symposium on the foundation of modern physics‬‬
‫‪1990, World scientific, 1991.‬‬
‫‪J. Habermas, Connaissance et intérêt, Gallimard, 1976, p. 341. 119‬‬
‫‪ 120‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.336 .‬‬
‫‪81‬‬
‫ً‬
‫االختالف بين صنع نظرية العارف‪ ،‬وتبين الخلفية الشكلية الفترضة مسبقا بواسطة‬
‫ً‬
‫العرفة في بنى النظرية‪ ،‬أمر غير ملحوظ أبدا‪.‬‬
‫مع ذلك فإن الدافع الفلسفي وراء مثل هذا التمييز دافع معروف‪ .‬ألم يشتك مرلو‬
‫بونتي ‪ M. Merleau-Ponty‬عند الذين يمارسون الفلسفة االنعكاسية ميلهم لالعتقاد أننا‬
‫ً‬
‫يوما ّ‬
‫متيقنين إال من أفعالنا‪[ ،‬و]‬ ‫خالل حياة تعاش وفق "الوقف الطبيعي" "[‪ ]...‬لم نكن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أن اإلدراك كان دائما فحصا للفكر‪"121‬؟ إن الكافئ الفلسفي لفيزياء هذه االلتباسات التي‬
‫يشتكي منها مرلو ‪ -‬بونتي هو القول للفيزيائين‪ ،‬على طريقة فون ويزاكر إلى ّ‬
‫حد ما‪ ،‬إن‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وتفحصا لفكرهم الخاص وأعمالهم الخاصة‪ ،‬وهو ما‬ ‫علمهم كان دائما إسقاطا ذاتيا‪،‬‬
‫يرفضونه بشدة ّ‬
‫محقين‪ .‬بالقابل‪ ،‬يمكننا وعلينا اإلشارة إلى الفيزيائيين الذين‪ ،‬خالل‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تقدمهم فيما يتعلق بما يعتبرونه موضوع العلم‪ ،‬كشفوا عن غير قصد تقريبا بنى ص ّي َرت‬
‫ً‬
‫موضوعية‪ ،‬أال وهي الصوريات‪ ،‬يمكن لفكر فلسفي ممارس أن يتعرف انطالقا منها‬
‫ً‬
‫وبشكل أكثر فأكثر وضوحا على الخلفية التجاوزية لتتالية تاريخية من المارسات‬
‫التجريبية العايرة‪.‬‬
‫إن هذا اإلجراء الطبق على الفيزياء ليس‪ ،‬في العمق‪ ،‬سوى التتمة النطقية للعمل‬
‫الذي بدأ منذ نحو قرنين فيما يخص اللغة‪ .‬ولنالحظ في الواقع تقابلية السائل التي تطرح‬
‫في هذه الحالة كما في األخرى‪ .‬وسيكون من العبث الزعم أن اللغة تهدف إلى معرفة‬
‫إمكانياتنا اللغوية الخاصة‪ ،‬بقدر ما سيكون من العبث التأكيد أن هدف الفيزياء هو البنى‬
‫موجهة نحو شكل‬ ‫التناسقية النطقية واإلدراكية لجتمع الفيزيائيين‪ .‬غير أن نظرة فلسفية َّ‬
‫واستخدام اللغة تسمح بالتعرف فيها على رواسب االفتراضات السبقة األولية للفعل‬
‫وللتواصل البين ‪ -‬ذاتي‪ ،‬كما على سبيل الثال هوية الكيانات السماة أو ّ‬
‫التغير الحموالت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تجاه الصفوف الواسعة جدا من تغيرات السياق (القرائن)؛ تماما كما أن نظرة فلسفية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالتعرف فيها على االفتراضات األولية السبقة لتوقع‬ ‫متجهة نحو الفيزياء الكمومية تسمح‬

‫‪M. Merleau-Ponty, Le visible et l'invisible, Gallimard, 1964, p. 59. 121‬‬


‫‪82‬‬
‫الظاهرات غير القابلة لفك سياقيتها‪ .‬وباالنتقال من اللغة إلى صورية النظريات الفيزيائية‬
‫التتالية‪ ،‬لم تقم نظرة الفيلسوف بالنتيجة سوى بتحريك وتوسيع تحليله االنعكاس ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الخاص‪ ،‬بتبيانه أن عددا كبيرا من االفتراضات السبقة الرتبطة باللغة العادية‪ ،‬التي‬
‫اعتمدت في البداية من قبل الفيزياء الكالسيكية‪ ،‬قد استبعدت فيما بعد واستبدلت‬
‫بافتراضات مسبقة أكثر عمومية في الفيزياء الكمومية‪.‬‬
‫كان جيل ‪ -‬غاستون غرانجر ‪ Gilles-Gaston Granger‬يقول إن ما ّ‬
‫سميناه بطريقة‬
‫مبهمة بعض الش يء "النظرة الفلسفية" على اللغة وعلى الفيزياء يعود إلى مقاربة ميتا ‪-‬‬
‫منهجية باألحرى منها ميتا ‪ -‬نظرية‪122‬؛ ويكمن االختالف في أن اليتا ‪ -‬منهجية‪ ،‬على عكس‬
‫َ‬
‫لستكشف‪ ،‬باألحرى‬ ‫اليتا ‪ -‬نظرية‪ ،‬ال تقوم سوى بالكشف عن البنى الخلفية للمنهج ا‬
‫من اعتبارها كموضوع وجعل النظرية في مستوى ثان من هذا الوضوع ‪ -‬النظرية‪ .‬علينا‬
‫ً‬
‫بالتالي فهم مفهوم "التالقي االنعكاس ي" الذي استخدمته على أنه يشكل جزءا من تحليل‬
‫ميتا ‪ -‬منهجي لتاريخ الفيزياء‪ .‬وهو يندرج مثله مثل نتائج تحليل ميتا ‪ -‬نظري‪ ،‬إنما وفق‬
‫توجه استعادي بشكل أساس ي‪ .‬إن بعض االنتقادات تجازف عندها‬ ‫نمط مختلف‪ ،‬ضمن ّ‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫باإلشارة إلى أنه يأتي متأخرا جدا‪ ،‬مشابها في ذلك للمسيرة الفلسفية بكاملها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬إذا‬
‫أخذنا الدور ّ‬
‫الحرك الذي لعبته االعتبارات النقدية والتجاوزية خالل الرحلة الركزية من‬
‫ً‬
‫الثورات في العلوم الفيزيائية‪ ،‬فإنه ليس ممنوعا االعتقاد أنه يمكن لفكرة تالق انعكاس ي‬
‫ً‬
‫التدخل يوما بشكل صريح في مشروع هذه العلوم نفسه‪.‬‬

‫‪G. –G. Granger, Formes, opérations, objets, Vrin, 1994 122‬‬


‫ً‬
‫وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪M. Bitbol, "Comment uneépistémologieformelleest-elle possible?", Revue internationale de‬‬
‫‪systémique, 5, p. 509-524, 1996.‬‬
‫‪83‬‬
84
‫‪123‬‬
‫‪ .2‬الواقعية البعيدة والقرب العمي من الواقع‬

‫"تتبدى اللعبة لن هو مأخوذ باللعبة‪ ،‬لن‬


‫استغرقته اللعبة‪ ،‬مثل كون مفارق‪ ،‬يفرض‬
‫دونما شروط أهدافه ومعاييره الخاصة‪]...[ .‬‬
‫ً‬
‫إن الوهم ال يكون وهما أو 'تسلية'‪ ،‬كما نعلم‪،‬‬
‫إال بالنسبة للذي يدرك اللعبة من الخارج‪ ،‬أي‬
‫من وجهة نظر 'الشاهد غير ّ‬
‫التحيز'‪".‬‬
‫بيير بورديو ‪P. Bourdieu‬‬
‫تأمالت باسكالية ‪Meditations pascaliennes‬‬

‫"ال يمكن للمرئي هكذا أن يمألني ويشغلني‬


‫إال ألنني أنا من أراه‪ ،‬ولست أراه من أعماق‬
‫العدم‪ ،‬بل من وسطه هو بالذات [‪".]...‬‬
‫مارلو بونتي ‪M. Merleau-Ponty‬‬
‫الرئي والالمرئي ‪Le visible et l'Invisible‬‬

‫انتقلنا في الفصل السابق‪ ،‬إنما دون مرحلة انتقالية‪ ،‬من نقد نسخة قوية للواقعية‬
‫العلمية إلى اعتماد وجهة نظر تجاوزية حول العلوم الفيزيائية‪ .‬ولكن أال توجد ربما مع‬
‫َّ‬ ‫ذلك طريقة للحفاظ على شكل َّ‬
‫معدل أو ملطف للواقعية العلمية بمواجهة التحدي الذي‬
‫يطرحه اليكانيك الكمومي؟ اقترح إحدى هذه الطرق‪ ،‬وهي طريقة دقيقة وهامة‪ ،‬برنار‬
‫دسبانيا تحت تسمية "أطروحة الواقع الحجوب"‪ .‬وهذه األطروحة هي التي سوف‬

‫‪ 123‬نص هذا الفصل مأخوذ في جزء منه من مقال صدر للمرة األولى في ‪ Critique no 576, mai 1995‬وكان حول‬
‫موضوع كتاب دسبانيا "الواقع الحجوب"‪.B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994 :‬‬
‫‪85‬‬
‫نناقشها اآلن في هذا الفصل وفي الفصل الذي يليه‪ ،‬بمواجهتها مع مقاربات منافسة‬
‫أخرى‪ .‬وسوف نتساءل خالل هذه الناقشة إذا كان التوتر الذي شعر به دسبانيا بين‬
‫ّ‬
‫تصور واقع مستقل‪ ،‬وهو مصدر القيود التي نصادفها خالل صيرورة البحث‪ ،‬واالستحالة‬
‫الستقل بواسطة نظرية فيزيائية‪ ،‬ال يمكن أن َّ‬
‫يعبر‬ ‫ّ‬ ‫الؤكدة في نظره في وصف هذا الواقع‬
‫ً‬
‫عنه بشكل أفضل في إطار فكر غير ثنائي بالكامل ومتأصل بدال من الحفاظ على التشبيه‬
‫الثنائي لـ "حجاب" يفصل الباحثين عن واقع تجاوزي بشكل جذري‪ .‬إن العديد من‬
‫ً‬
‫دعما ألطروحته‪ ،‬ت َّ‬
‫فسر بسهولة‬ ‫السمات الميزة للميكانيك الكمومي‪ ،‬التي يذكرها دسبانيا‬
‫تخطيه‪ ،‬وذلك عبر استحالة أن ّ‬ ‫ّ‬
‫نعمم في هذا‬ ‫أكبر من خالل قرب من الواقع ال يمكن‬
‫ً‬
‫القرب االنفصالية التي تجعل األمر موضوعيا على كافة الستويات وفي كافة مجاالت‬
‫نبين‪ ،‬دون أن نتوسع هنا ألجل‬‫البحث‪ ،‬إال من خالل ابتعادها الفرط‪ .‬سوف نحاول أن ّ‬

‫التوسع بموضوع "القرب العمي من الواقع" هذا (لن نقوم بخطوة أولى في هذا االتجاه إال‬
‫في الفصل السابع)‪ ،‬أنه مندرج بشكل غير ظاهر في التسويات التي رض ي بها أشد الدافعين‬
‫عن الواقعية العلمية في الفيزياء العاصرة‪.‬‬
‫والروودات‬ ‫‪ 1 -2‬األجسام واخصصائ‬
‫كتب برنار دسبانيا‪" :‬إذا كانت الفيزياء الكمومية تتيح رؤية آفاق حقيقية‪ ،‬فذلك في‬
‫ّ‬
‫الحس السليم ‪ -‬وكان ينظر إلى هذه‬ ‫جانب منه بسبب التفاوتات الوجودة بينها وبين‬
‫التفاوتات في البداية كفروقات سلبية‪ ."124‬فال بد بالتالي من ترك هذه التفاوتات تعزف‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫متسرعين عبر فكر جاهز؛ وال بد أن يكون لدينا‬ ‫بكامل تناغماتها بدال باألحرى من مواراتها‬
‫‪125‬‬
‫صبر القبول والرض ى بـ "فقدان االتجاه" الجذري هذا الذي وفق اورتيغا إي غاسيه‬
‫‪ Ortega y Gasset‬هو الفاتحة الضرورية ّ‬
‫لتوجه حقيقي‪.‬‬

‫‪ 124‬الرجع السابق لدسبانيا ‪ ،B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994‬ص‪.1 .‬‬
‫‪J. Ortega y Gasset, Leçons de métaphysique, II, in Œuvres complètes I, Klinckssieck, 1988. 125‬‬
‫‪86‬‬
‫ّ‬
‫ما أن تظهر التفاوتات فإنها ال تنفك تتضخم‪ .‬وهي تبدأ بمالحظات حول غرابة‬
‫ً‬
‫خصائص األجسام‪ ،‬ثم تضعف بعد ذلك مفهوم الخاصية‪ ،‬لتدفع أخيرا إلى نوع من‬
‫ً‬
‫التعبئة والتجييش وصوال إلى الفهوم الصوري للجسم‪.‬‬
‫إن األجسام الخاصة بالفيزياء الكمومية هي أجسام من مستوى صغائري‪ .‬مع ذلك‬
‫ً‬
‫فإن هذا القول مبتذل وال يض يء العنى كثيرا‪ .‬إذ ال يكفي القيام بعملية تشابه هندس ي‬
‫لالنتقال من السمات الكانية والحركية لألجسام التي ندركها في محيطنا اليومي إلى سمات‬
‫األجسام من الستوى الذري‪ .‬فمنذ فترة مبكرة‪ ،‬تعود إلى بداية القرن العشرين‪ ،‬كشفت‬
‫الالإستمراريات ("الكمومية") للصيرورات التي تنتمي إليها‪ ،‬وسلوكها ذو الظهر الجسيمي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الجدة التعذر تبسيطها لخصائص األجسام في الفيزياء‬ ‫حينا والوجي حينا‪ ،‬عن‬
‫الصغائرية‪.‬‬
‫ولكن هل من الشروع حتى الحديث عن خصائصها‪ ،‬أي عن تحديدات تنتمي لها‬
‫بذاتها؟ وهل لدينا الحق بأن ن ّ‬
‫حل محل البيانات ذات "الواقعية الضعيفة" للمعاينات‬
‫التجريبية‪ ،‬البيانات ذات "الواقعية القوية"‪ 126‬التي تنسب خصائص لوضوع التجربة؟ في‬
‫الفيزياء الكالسيكية‪ ،‬تجعل اإلنتاجية الكافية من النتائج مهما كان مستوى التجارب من‬
‫ً‬
‫هذا التبادل أمرا غير ضار‪ .‬إن اإلسقاط األنطولوجي الذي يشتمل على تحويل الظاهرات‬
‫إلى براهين على األشياء‪ ،‬وكذلك بديله اإلبستمولوجي الذي يرتكز على اعتبار الظاهرات‬
‫كانعكاس ّ‬
‫وفي ومباشر للخصائص التي يمكن أن تملكها األشياء بذاتها‪ ،‬ما كانا يجازفان في‬
‫ً‬
‫أية لحظة بأن يكونا على خطأ‪ .‬كان كانط يشجب فعال وهم إدراك األجسام كأشياء بذاتها‬
‫ً‬
‫في حين أنها ال يمكن أن تكون كذلك إال بما هي ظاهرات‪ ،‬إنما كان يقوم بذلك انطالقا من‬
‫تأمل خارجي‪ ،‬فلسفي وشامل‪ ،‬حول شروط إمكانية العرفة؛ ولم يكن ثمة من داخل‬
‫تطبيق علم خاص مثل الفيزياء الكالسيكية ما يمنع من نسيان أمثولة الفلسفة النقدية‬
‫ّ‬
‫المتغيرة‬ ‫والتعبير كما لو كان لدينا منفذ للوصول إلى خصائص جوهرية ذاتية‪ .‬إن نتيجة‬

‫‪ 126‬الرجع السابق لدسبانيا‪ ،B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994 ،‬ص‪.32 .‬‬
‫‪87‬‬
‫من خالل تغيير في التواليات التجريبية وأنماط العدات الستخدمة يمكن أن تكون‬
‫منفصلة دونما عقبات عن الشروط األداتية للحصول عليها ومندمجة‪ ،‬مع "خصائص‬
‫أخرى"‪ ،‬في أساس قابل إلعادة التعيين يختلط مع الش يء نفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫لقد ّ‬
‫قدم كانط هو نفسه أحيانا النهج والتبرير لثل هذا النسيان‪ .‬ففي الهندسة‬
‫اإلقليدية‪ ،‬كما يالحظ على سبيل الثال‪ ،‬نجد أن كافة الفرضيات تكون صحيحة إذا‬
‫اعتبرنا الكان كشكل من الحساسية وبالقدر نفسه إذا اعتبرناه كش يء مالزم لألجسام‪ .‬إن‬
‫ّ‬
‫التصور األول هي ميزة فلسفية‪ ،‬طالا أنها وحدها تسمح‬ ‫اليزة الوحيدة التي تجعلنا نختار‬
‫لنا بفهم كيف يكون لعرفة مثل الهندسة أن تكون ممكنة‪ ،‬معرفة تشتمل على يقين‬
‫ً‬
‫قاطع‪ .‬ولكن من وجهة نظر داخلية في ممارسة الهندسة‪ ،‬فإن التصور الثاني مقبول أيضا‬
‫بالقدر نفسه‪ ]...[" :‬فبالنسبة لكل تجربة ممكنة‪ّ ،‬‬
‫يظل كل ش يء كما لو لم أقم باالبتعاد‬
‫ً‬
‫على هذا النحو عن الرأي الشترك"‪ .127‬بل وأكثر من ذلك‪ ،‬يمكننا التساؤل‪ ،‬ودائما من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التصور الواقعي مفضال عن زيادة في الراديكالية‬ ‫منظور الباحث العلمي‪ ،‬إذا لم يكن‬
‫ّ‬
‫النقدية التي تميل باتجاه التشككية‪ .‬إن هذا اإلفراط‪ ،‬الذي يكتشفه كانط عند هيوم‬
‫‪ ،Hume‬قاد في الواقع هذا األخير إلى أن يغيب عن باله "[‪ ]...‬الضرر الفعلي الذي ينتج‬
‫عن واقع انتزاع أهم منظورات العقل منه والتي يكون باستطاعته من خاللها وحدها أن‬
‫يثبت لإلرادة الهدف األسمى لكافة جهوده‪ ."128‬وهكذا‪ ،‬على الرغم من أنه على اليتافيزيائي‬
‫أن يثبت لنفسه كهدف أول عدم الوقوع في "الوهم التجاوزي"‪ ،‬لكن عليه مع ذلك أال‬
‫يحرم الباحث العلمي من عملية تصويب الثل الناظمة؛ وذلك على الرغم من واقع أن‬
‫َ ً‬
‫مدركا على أنه وهم‪ .‬ألن ذلك وفق‬ ‫العملية العنية موجودة في أصل الوهم عندما ال يكون‬
‫كانط سيكون حرمان الباحث من نابض إرادته‪ ،‬أي من محرض ودافع مسعاه‪ .‬إن‬
‫الصعوبة الزدوجة تكمن في النهاية بالنسبة للفيلسوف في عدم محاولة تعميم التصورات‬

‫‪E. Kant, Prolégomènes à tout métaphysique future, 13, III, Vrin, 1968, p. 56. 127‬‬
‫‪ 128‬الرجع السابق‪ ،‬القدمة (الهامش)‪ ،‬ص‪.00 .‬‬
‫‪88‬‬
‫التي تنتج عن انفصاله النقدي‪ ،‬وفي عدم تجاهل (كما كتب بورديو ‪ P. Bourdieu‬في‬
‫االستشهاد الذي قدمناه في بداية هذا الفصل) أن واقع االستغراق نفسه في لعبة البحث‬
‫يتصل بتمثيله ككون تجاوزي‪ ،‬إنما مع عدم التنصل البالغ فيه باالنتساب بشكل بحت‬
‫وبسيط ألولية التمثيل التي تنتج عن التزام الباحث العلمي في ممارسته الخاصة‪ .‬وهكذا‬
‫فإنه يجب أن يتم الحفاظ على تعليم السيرة االنعكاسية‪ ،‬ليس من أجل أن يفرض باسم‬
‫أي سيطرة فلسفية كانت‪ ،‬وال من أجل التخلي عنه باسم مكانة العلوم‪ ،‬أي أن يتم‬
‫الحفاظ عليه لوقت سيصادف فيه الباحثون العلميون صعوبات كبرى في متابعة مهمتهم‬
‫التقليدية في إعداد التمثيالت‪.‬‬
‫تظهر لنا عند هذا الستوى مفارقة هامة‪ .‬وضمن الخطوط العامة فإنها تنتج حيث‬
‫تعارض حواجز تمثيل كون من الواضيع التجاوزية الوضوعة بمواجهة الباحثين‪ ،‬كون ال‬
‫ً‬
‫يتبدى إال بشرط أال يعود الـ مثلما لو الكانطي قادرا حتى على الفعل؛ بشرط فشل‬
‫شروط إنشاء مواضيع العرفة الستقرة بدرجة كافية بحيث نستطيع الحديث عنها مثل‬
‫أشياء موجودة من حيث الجوهر وتحمل تحديدات خاصة‪ .‬وللغرابة‪ ،‬فإنه لن يمكن‬
‫بالتالي‪ ،‬إال من خالل تساؤل حول الشروط الكانطية في تأسيس الوضوعية‪ ،‬أن تظهر‬
‫السمة التي ال يمكن تجنبها لتحليل مثل هذه الشروط‪ ،‬وأن تتكشف استحالة التعبير‬
‫ّ‬
‫بمصطلحات موضوعية مسبقة التشكل‪ .‬فبسبب الوجه العاكس للتطبيق الخاص الذي‬
‫ً‬
‫قام به كانط للمنهج التجاوزي تحديدا إنما سيكون من الالزم النظر بشكل أوسع ألهمية‬
‫البدأ نفسه في النهج التجاوزي‪ ،‬أي عودة االنتباه‪ ،‬النبهر عادة بالوضوع الراد معرفته‪،‬‬
‫باتجاه الشروط السبقة للمعرفة‪.‬‬
‫غير إنه ليس من الستحيل أن يكون الظهر هو بالضبط الظهر الذي يواجهه‬
‫الفيزيائيون منذ بداية اليكانيك الكمومي‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬ضمن الجال الذي تحكمه هذه‬
‫النظرية‪ ،‬فإن معظم معايير الحاكاة اإلبستمولوجية‪ ،‬واإلسقاط األنطولوجي (وإن بدرجة‬
‫أقل)‪ ،‬تصبح نافدة‪ .‬إن السمة الميزة األكثر أهمية في جبر "مرصودات" اليكانيك الكمومي‬
‫‪89‬‬
‫هي عدم ‪ -‬تبادليتها‪ ،‬األمر الذي يترجم ارتباط النتائج التجريبية بنظام استخدام‬
‫التجهيزات‪ .‬فعلى سبيل الثال ال يمكن إعادة إنتاج أية قيمة لوضع جسم إذا ما أدرجنا‪،‬‬
‫ً‬
‫ما بين حادثتي قياس الوضع‪ ،‬قياسا لكمية الحركة‪ .‬أو‪ ،‬على األقل‪( ،‬وهنا يكمن مضمون‬
‫عالقات "الريبة" لهايزنبرغ)‪ ،‬فإن قيمة للموضع ال تكون قابلة إلعادة اإلنتاج إال ضمن‬
‫ً‬
‫هامش من التقلبات غير القابلة للضغط تقريبا‪ ،‬بحيث يتحدد عرض أو مدى هذا‬
‫الهامش من خالل دقة القياس الوسيط لكمية الحركة‪ .‬يجب بالتالي التخلي عن منظور‬
‫تالق مقارب لنتائج القياس نحو التغيرها الكامل حيال تغيرات في التوالية التجريبية‪ .‬إن‬
‫كل نتيجة هي حدث مفرد‪ ،‬يتميز بالعكوسية الصيرورات التي تجد منتهاها عنده والتي‬
‫ترتبط بشكل ال ينفصم بتاريخ تجريبي‪ .‬فاعتبارها كترجمة مباشرة ومشاركة لخاصية كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يملكها الجسم بذاته تماما قبل القياس سيكون أمرا فيه الكثير من اإلقحام والخاطرة‬
‫ضمن هذه الظروف‪.‬‬
‫ً‬
‫بالقابل‪ ،‬أال يظل من المكن إسقاطها أنطولوجيا لنجعل منها خاصية كان الجسم‬
‫قد اكتسبها بعد القياس؟ ويبدو أننا نستطيع االستفادة من أجل ذلك من إعادة إنتاج‬
‫نتيجة عند القيام بقياسات مكررة للمتحول الوحيد الذي تتعلق به‪ .‬إن هذه النسخة‬
‫ً‬ ‫الحددة ‪ -‬الخاصة إلعادة اإلنتاجية ّ‬
‫تبرر‪ ،‬أيا كان األمر‪ ،‬أن ننسب بسهولة "حالة" لكل‬
‫َّ‬
‫"محضرة")‪ :‬ووفق معنى‬ ‫تعرضت لقياس مسبق (أو أنها كانت ببساطة‬ ‫منظومة فيزيائية ّ‬
‫اشتقاقي لكلمة "حالة"‪ ،‬فإن منظومة ما تكون في حالة معينة إذا كنا نستطيع توقع‬
‫َّ‬
‫والكررة عبر فواصل كافية‬ ‫استقرارية نتائج القياس إلحدى هذه النتائج القابلة للرصد‪،‬‬
‫القصر على هذه النظومة‪ .‬لكن تطبيق اإلسقاط األنطولوجي يفترض أن نجتاز خطوة‬
‫إضافية بالنسبة لجرد نسب حالة إلى منظومة‪ .‬يفترض ذلك أننا ّ‬
‫نحول يقين إنتاج إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحديدية فئوية‪ ،‬يقين إنتاج ليس مع ذلك سوى يقينا شرطيا‪ :‬فالنتيجة ستنتج إذا كانت‬
‫التجربة قد ك ّررت بالفعل‪ .‬يتطلب ذلك القفز فوق الؤدى التنبؤي للحالة من أجل‬
‫إعطائها قيمة تالزمية؛ ويعود ذلك باإلجمال إلى أقنمة التنبؤية في وجود‪ .‬وبشكل خاص‪،‬‬
‫‪91‬‬
‫فإن نسب خاصية لنظومة فيزيائية باسم تنبؤية لإلنتاج ال تكون صحيحة إال إذا كان‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫ومكرر‪ ،‬يعني إرادة تأسيس تحديدية‬ ‫جهاز تجريبي واحد مستخدما بشكل معاد‬
‫ً‬
‫أنطولوجية على حالة خاصة‪ .‬إن التنبؤ‪ ،‬واإلسناد معه‪ ،‬يصبحان فورا باطلين إذا قررنا‬
‫أن ندرج ضمن سلسلة القياسات مرصودات أخرى ال تتبدل مع األولى‪ .‬وهكذا فإن التنبؤ‬
‫يعوزه عدم التأثر بالظروف التي تسمح بأن ينفصل عنها‪.‬‬
‫تعبر في الحقيقة عن نمط استقرارية أكثر عمومية من إعادة اإلنتاج‬‫إن حالة ما ّ‬

‫مكرر على النظومة نفسها‪ .‬إنها تترجم استقرارية توزع إحصائي لقيم‬ ‫الدقيق لقياس َّ‬
‫ً‬ ‫جسم مرصود مقاس إثر تحضير تجريبي معطى‪ّ ،‬‬
‫ويميز بالتالي وضعا (التحضير) أكثر مما‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يميز جسما ("النظومة الفيزيائية")‪ .‬وهكذا فقد اشتملت مذاك استراتيجية عدد كبير من‬
‫ً‬
‫الفسرين العاصرين للميكانيك الكمومي على التمييز بشكل أكثر وضوحا من أي وقت‬
‫سابق لخصائص الحاالت‪ .129‬ووفق روالن أومنس ‪" ،Roland Omnès‬فإن خاصية ما‬
‫تؤكد قيمة جسم مرصود ضمن ّ‬ ‫ّ‬
‫عينة من قيم األعداد الحقيقية في لحظة معينة‪،"130‬‬
‫ومن ناحية أخرى فإن حالة "[‪ّ ]...‬‬
‫تتحدد بشكل جيد عندما نستطيع أن ننسب احتمالية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫محددة تماما لكل خاصية قابلة لإلدراك‪ ."131‬ووفقا لروح (إنما ليس لصطلحات) عقائد‬
‫بور‪ ،‬فإنه لم يعد للحاالت الكمومية أي مقصد أو ادعاء آخر سوى أن تكون أدوات‬
‫ً‬
‫‪ 129‬إن النقطة الحاسمة‪ ،‬وفقا لفان فراسين ( ‪Quantum mechqnics, empiricist view, Oxford University‬‬
‫‪ ،)Press, 1991, p. 274 – 288‬هي أننا ال نستطيع القبول (على طريقة فون نيومن) بإقامة فرق بين الحالة التي‬
‫تكون فيها احتمالية نتيجة قياس مساوية للواحد‪ ،‬وحيث يمكننا أن ننسب الخاصية الوافقة لجسم ما‪،‬‬
‫والحالة حيث تكون احتمالية مختلف النتائج الحتملة للقياس ألحد الرصودات مختلفة عن الواحد وحيث‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يكون النسب إلى خاصية موافقة أمرا غير مشروع‪ .‬ال بد من اعتماد موقف مناسبا‪ ،‬ومتطابقا في كافة الحاالت‪.‬‬
‫إما أن نرفض بشكل منهجي اعتبار أن الجسم يملك خاصية بذاته‪ ،‬بما في ذلك عندما تعين الحالة الكمومية‬
‫ً‬
‫االحتمال ‪ 0‬للحصول على نتيجة معينة للقياس‪ ،‬أو اعتبار أن لذلك دوما معنى في أن ننسب خاصية‪ ،‬بما في‬
‫ذلك عندما ال تعين الحالة الكمومية االحتمال ‪ 0‬إلى أية نتيجة‪ .‬ويتطلب الخياران أن نميز بعناية مفهوم الحالة‬
‫الكمومية عن مفهوم الخاصية‪.‬‬
‫‪R. Omnès, The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994, p. 104. 130‬‬
‫‪ 131‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.006 .‬‬
‫‪91‬‬
‫للتقييم اإلحصائي‪ ،‬في حين أن مفهوم الخاصية يصير‪ ،‬من خالل مفهوم الرصود‪ ،‬غير‬
‫ً‬
‫منفصل عن اإلسناد إلى الرجعية األداتية‪ .‬فاألدوات‪ ،‬التي ما كان يجب أن تستخدم وفقا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫خاصية ما‪ ،‬باتت تتدخل من اآلن فصاعدا‬ ‫ألشكال التعبير التقليدية إال من أجل "إثبات"‬
‫في تعريفها‪ .‬إن لفظة "خاصية" تحفظ على هذا النحو‪ ،‬لكن معناها قد تم تعديله بشكل‬
‫عميق من خالل اإلطار الجديد "النموذجي" الستخدامها والذي بات من الصعب معرفته‪.‬‬
‫ّ‬
‫الجد الوضعية التنبؤية للحالة ضمن القترحات الناقلة‬ ‫فإذا أخذنا على محمل‬
‫للفيزيائيين ("[‪ ]...‬النظومة الفيزيائية هي في الحالة │ ‪ ،)132"]...[.> Ψ‬وتجاهلنا‬
‫االعتراضات السابقة‪ ،‬لنتخيل اآلن أننا ماثلنا الحاالت الكمومية بأنواع من الخصائص‪.‬‬
‫هل سيكون مع ذلك من الشروع أن ننسب هذه الخصائص ذات النوع الجديد إلى كل‬
‫منظومة فيزيائية‪ ،‬وفي كل لحظة؟ إن اإلجابة على هذا السؤال هي النفي‪ ،‬وسبب ذلك ما‬
‫يالئم أن نسميه الالإنفاصالية‪ .‬ولكي ندلل على ذلك‪ ،‬لنبدأ بإقامة توافق مزدوج التشارك‬
‫بين الحاالت والنظومات الفيزيائية‪ .‬إن نسب حالة كمومية لكل منظومة فيزيائية أمر‬
‫ً‬
‫ممكن تماما إذا كانت تتوفر لنا مجموعة كافية من النتائج التجريبية فيما يتعلق‬
‫بالنظومات‪ ،‬أضف إلى ذلك أن هذا أمر ال غنى عنه عندما نريد أن نتنبأ بسلوكها الالحق‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬عندما ينتج تفاعل ما بين هذه النظومات‪ ،‬يحصل أن النظومة الكبيرة وحدها‬
‫هي التي تشمل هذه النظومات (وبالتالي فإنها ال تعود سوى منظومات تحتية) وهي وحدها‬
‫ً‬
‫التي يمكن أن تنسب إليها حالة كمومية‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬وكما يقول محقا شرودنغر‪ ،‬فإن‬
‫"مجموعة (النظومات) تكون في حالة محددة‪ ،‬لكن ذلك ليس حال كل من األجزاء التي‬
‫تشكل هذه الجموعة مأخوذة بشكل منفصل‪ ."133‬ولا كانت مثل هذه الصيرورة في تعميم‬

‫‪C. Cohen-Tannoudji, B. Diu et F. Laloé, Mécanique quantique I, Hernann, 1973, p. 253. 132‬‬
‫‪ ،E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique", (1935) 133‬وهذا النص معروف أكثر‬
‫من خالل العنوان "قطعة شرودنغر" في ‪"article du chat de Schrodinger", in Physique et représentation‬‬
‫‪du monde, introduction et notes par M. Bitbol, Seuil, 1992, p. 119.‬‬
‫‪92‬‬
‫الحالة يمكن أن ّ‬
‫تمتد للتناسب مع التفاعالت‪ ،‬أو أن َ‬
‫تحبط من حين آلخر بواسطة‬
‫تمييزات تجريبية‪ ،‬فإن حدود النظومة التي يكون من الشروع أن ننسب لها حالة‬
‫كمومية ال تنفك تتغير‪ .‬وبعد مفهوم الخاصية يكون الدور بالتالي على مفهوم حامل‬
‫الخواص في التعرض لنار النقد‪ .‬فبما أن تحديد الحدود لا تكون الحاالت الكمومية قابلة‬
‫للتنبؤ بها من أجله يتغير مع تغير الظروف‪ ،‬وبما أن حدود حامل الحالة تنتقل مع الحالة‬
‫َ ً‬
‫نفسها (باستثناء فقط عندما يكون الحامل مماثال بالكون كله)‪ ،‬فهل سيكون لذلك أي‬
‫معنى بالتالي في أن نجعله يلعب دور الركيزة غير التفاعلة للتحديدات التغيرة‪ 134‬الذي هو‬
‫دور الوصوف في موضع الوضوع القواعدي في اللغة ودور الجوهر منذ أرسطو؟‬
‫ّ ً‬
‫ال بد من الحذر بالنتيجة‪ .‬حذر ينصح به دسبانيا مرات عديدة‪ ،‬محذرا من الروابط‬
‫ً‬
‫بين األفكار السهلة جدا التي تجازف بتحريضها أشكال من الخطاب حيث السبب الوحيد‬
‫لواصلتها هو واقع "[‪ ]...‬أننا نتخيل بشكل س يء كيف يمكننا أن نتجاوزها‪ ."135‬وحتى إذا‬
‫حصل أن "[‪ ]...‬استخدم تعبير النظومة الفيزيائية [‪ ]...‬بشكل موافق لالستخدام الشائع‪،‬‬

‫ً‬
‫‪ 134‬ثمة ملجأ أخير يبدو ممكنا‪ :‬أن نجعل من كل "جسيم" األساس غير التغير للتحديدات الالمتغيرة مثل الكتلة‬
‫أو الشحنة (وهي تحديدات توافق مرصودات خاصة خاضعة لقواعد تسمى "فائقة االنتخاب")‪ .‬ولكن حتى في‬
‫هذه الحالة‪ ،‬ال تكون األمور بهذه البساطة‪ .‬فالكتلة والشحنة يدخالن في تمييز نوع من الجسيمات (اإللكترون‪،‬‬
‫ً‬
‫البروتون‪ ،‬إلخ‪ .).‬وأن نجعل منها تحديدات لكل جسيم يفترض أن لدينا سببا ما لالعتقاد بأن هذه الجسيمات‬
‫ً‬
‫يمكن أن تعامل مثل أفراد منفصلين من النوع الذي تنتمي إليه‪ .‬غير أن هذا ليس هو الحال عموما‪ .‬وقد وجدت‬
‫الفيزياء اإلحصائية الكمومية نفسها مجبرة على التخلي عن الخطط الكالسيكي (مخطط بولتزمان) للتعداد‪،‬‬
‫والذي يتوافق مع كينونات فردية‪ ،‬ليعتمدوا مخططين جديدين للتعداد (مخطط بوز ـ أينشتين ـ ومخطط فرمي‬
‫ً‬
‫ـ ديراك) وهما مخططان يتوافقان مع فرضية التغير الذاتي الكامل لـ "جسيمات" منظومة ما‪ .‬ونجد شرحا يوضح‬
‫هذه السألة في ‪E: Schrodinger, "Science et humanisme", in Physique quantique et représentation du‬‬
‫ً‬
‫‪ ،monde‬في الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪ 30 .‬ـ ‪ .)21‬إن النتائج الفلسفية لالفردانية "الجسيمات" نوقشت مؤخرا‬
‫ريدهد وتيلر في‪M. Redhead & P. Teller, "Particle labels and the teory of indistinguishable particles in :‬‬
‫ً‬
‫‪quantum mechanics", Brit. J. Phil, Sci, 43, p. 201-218, 1992‬؛ وانظر أيضا ‪M. L. Dalla Chiara & G.‬‬
‫‪Toraldo di Francia, "Individuals, kinds and names in physics", in G. Corsi et al. (eds.), Bridging the gap:‬‬
‫‪.philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993, p. 261-283‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 135‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.043 .‬‬
‫‪93‬‬
‫وفي معناه الألوف والحدس ي‪ ،"136‬ال يجب أن ننس ى أن معظم الشروط الألوفة‬
‫الستخدامه تكون غائبة في الجال التجريبي الذي تحكمه الفيزياء الكمومية‪ .‬إن ما يشيد‬
‫به دسبانيا هو في النهاية االستمرار في استخدام اللغة الشائعة‪ ،137‬إنما بحيث نستخدمها‬
‫فلسفيا وفق العنى الويتغنشتايني‪" :‬ففلسفة أمر ما [‪ ]...‬هي قبل كل ش يء النضال ّ‬‫ً‬
‫ضد‬
‫التأثير الساحر الذي تمارسه علينا بعض أشكال التعبير‪."138‬‬
‫‪ 2 -2‬التغيرات اخصفية‪ ،‬والتواريخ الثابتة‪ ،‬وفك االرتباط‬
‫الزودة بخصائص‬‫هل يعني اليكانيك الكمومي "عدم وجود" كثرة في األجسام َّ‬
‫ّ‬
‫واقعية؟ ال ينفك برنار دسبانيا يحذر ضد نوع الحاكمة الالذعة التي تختبئ خلف هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫السؤال‪ .‬إن اليكانيك الكمومي ال يعني شيئا بذاته؛ فهو يترك جدول الخيارات مفتوحا‬
‫بكامله‪ ،‬مع فرضه لحدود على كل من هذه الخيارات‪ .‬فمن الصحيح‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ ،‬أن‬
‫ً‬
‫جسم الظاهرات التي يأخذها اليكانيك الكمومي بعين االعتبار ليس جسما نستطيع أن‬
‫ننظمة بشكل مباشر في تعددية من الحوامل الدائمة التأثرة بتحديدات جوهرية ذاتية‪.‬‬
‫إن الهمة األولى لؤلف كتاب "الواقع الحجوب" تكمن بالتالي في أن يدحض نقطة نقطة‪،‬‬
‫بتشدد وإصرار‪ ،‬كافة الحاوالت الحديثة لتجاهل أو لتقليص إثبات الحالة هذا‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫ً‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬سيكون من الدهش جدا أن يكون لنسق من الظاهرات‪ ،‬مثل النسق‬
‫ً‬
‫الذي تبديه الصورية التنبؤية الناسبة تجريبيا للميكانيك الكمومي‪ ،‬القدرة على حسم‬
‫مسألة ذات الدالالت اإلضافية التي ال تقل ميتافيزيائية عن مسألة وجود أو عدم وجود‬
‫أجسام ذات خصائص واقعية‪ .‬إن البنية الكمومية للظاهرات‪ ،‬مع التنافرات التي تبديها‬
‫اتجاه التنظيم اإلسنادي للخطاب‪ ،‬ال تثبت عدم وجود أي ش يء كان‪ ،‬ليس أكثر مما تفعله‬
‫البنية الكالسيكية للظاهرات‪ ،‬مع اإلمكانية التي تقدمها في التعبير عن نفسها كما لو كانت‬

‫‪ 136‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.65 .‬‬


‫ً‬
‫‪ 137‬على طريقة نيلز بور قليال‪ ،‬انظر ‪N. Bohr; Physique atomique et connaissance humaine; introduction‬‬
‫‪et annotations par C. Chevalley, Gallimard, 1991.‬‬
‫‪L. Wittgenstein, Le cahier bleu, in Le cahier bleu et le cahier brun, Gallimard, 1956, p.56. 138‬‬
‫‪94‬‬
‫ً‬
‫أجسام علم ما مدركة بما هي أشياء بذاتها‪ ،‬التي ال تثبت هي أيضا وجود أي ش يء‪ .‬ليس‬
‫ثمة ما يمنع من تقديم فرضية أن نظام الظاهرات الدرج في صورية اليكانيك الكمومي‬
‫هو فقط الظهور السطحي‪ ،‬غير الباشر وغير القابل للضبط والتحكم به‪ ،‬للتفاعل بين‬
‫الجسيمات الدقيقة (الجهرية) الزودة بخصائص تحتية (خفية) والتجهيزات الجهارية‬
‫التي يفرض علينا مستوانا الجهاري استخدامها‪ .‬إن عدم إمكانية إعادة إنتاج النتائج‬
‫خالل متواليات تجريبية معينة ال يترجم ضمن هذه الظروف إال "تخلخل" الخصائص‬
‫الجوهرية بواسطة أدوات فظة‪ ،139‬أو بشكل أفضل يترجم التأثير الذي تمارسه األدوات‬
‫على تحديدية الخصائص نفسها‪ .‬ومن هنا فإنه ال يبقى سوى خطوة للوصول إلى التسليم‬
‫بمتحوالت خفية تمثل هذه الخصائص التحتية وتكمل الرصودات في اليكانيك الكمومي‪.‬‬
‫وهي خطوة ال يستبعدها اليكانيك الكمومي على عكس ما اعتقد لفترة طويلة تحت تأثير‬
‫‪140‬‬
‫‪" :von Neumann‬فصورية اليكانيك الكمومي هي‬ ‫البرهنة التي تعود إلى فون نيومن‬
‫بشكل أساس ي صورية حيادية فيما يتعلق بمسألة التحوالت الخفية‪ ".141‬إن النظريات‬
‫التي تستخدم التحوالت الخفية تخضع ببساطة إلى سلسلة من الشروط الحاسمة التي‬
‫يحددها دسبانيا والتي يجب أن ّ‬
‫نقيم مغزاها‪.‬‬

‫ً‬
‫‪ 139‬ال تستطيع هذه الصورة الحية والشعبية جدا مواجهة اختبار لها طالا هي ليست صورة جدية‪ .‬وقد تخلى‬
‫عنها بور منذ عام ‪ 0936‬عندما واجهته التجربة التصورية ألينشتين وبودولسكي وروزن ‪Einstein, Podolsky,‬‬
‫‪.Rosen‬‬
‫‪J. von Neumann, Les fondements mathématiques de la mécanique quantique, J. Gabay, 1988, p. 140‬‬
‫‪ .208‬ونجد الدحض الكالسيكي لهذه النظرية في‪J. Bell, "On the problem of hidden variables in quantum :‬‬
‫‪mechanics", in J. Bell, Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University‬‬
‫ً‬
‫‪ .Press, 1987.‬وكانت دحوض أخرى قدمت سابقا على يد كل من هرمان وموغر شاختر‪G. Hermann, Les :‬‬
‫‪fondements philosophiques de la mécanique quantique (1935), introduction et postface par L. Loler,‬‬
‫‪Vrin, 1996; M. Mugur-Schachter, Etude du caractère complet de la théorie quantique, Gauthier-‬‬
‫‪Villars, 1964.‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 141‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.14 .‬‬
‫‪95‬‬
‫ولكن لنبدأ بالنقد‪ ،‬الذي يلتزم به دسبانيا‪ ،‬لحاوالت إعطاء رموز اليكانيك الكمومي‬
‫تتممه التحوالت الخفية) القدرة على اإلسناد مباشرة إلى خصائص‬ ‫العياري (الذي ال ّ‬
‫مسبقة الوجود والتي تكون قد ز ّودت بها النظومات الفيزيائية‪ .‬وأحد أحدث االنتقادات‬
‫ً‬
‫وأكثرها إثارة للنقاش هو نقد "التواريخ الدائمة لغريفيث‪ ."Griffiths 142‬فوفقا لبرنامجه‬
‫في البحث الواقعي‪ ،‬كان غريفيث "[‪ ]...‬ينتظر من عملية قياس أن تكشف لنا خاصية‬
‫كانت موجودة بشكل مسبق‪ ."143‬فكان يجب عليه بالتالي أن ّ‬
‫يتجنب إسناد ميزة للقياس‬
‫غير اليزة اإلبستمولوجية البحتة‪ .‬فبين تجربتين‪ ،‬يفترض أن تكون النظومات الفيزيائية‬
‫تملك الخصائص‪ ،‬حتى وإن لم نكن قد أعطينا إمكانية معرفتها‪ .‬وعلى الستوى الداللي‪،‬‬
‫فإن هذا النمط من الفصل بين الكائن وفعل العرفة يترجم من خالل استقالل قيمة‬
‫ّ‬
‫الحددة للمرصودات‪ ،‬وذلك مقابل اإلنشاء الفعلي لوسيلة‬ ‫حقيقة القضايا ّ‬
‫العينة للقيم‬
‫تجريبية لإلثبات‪ .‬ولكن ما هي الخصائص التي تملكها منظومة بين قياسين؟ وفق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غريفيث‪ ،‬فإن اشتراطا واحدا‪ ،‬يسمى اشتراط التماسك‪ ،‬يكفي لتحديدها‪ .‬ويعلن شرط‬
‫التماسك بشكل مضاد للواقعية أن الخصائص النسوبة للمنظومة ما بين القياسين‬
‫يجب أن تكون بحيث إذا كان ثمة وسيلة لإلثبات كانت قد استخدمت من أجل البرهان‬
‫ً‬
‫عليها‪ ،‬فإن شيئا لن يكون قد تغير فيما يتعلق باحتمال نتيجة القياس النهائي‪ .‬إن متوالية‬
‫من الخص ائص التي تخضع إلى هذا االشتراط (أو من القضايا التي تختص بهذه‬
‫الخصائص) هي تاريخ متماسك ومترابط‪.‬‬
‫إن شروط خطاب واقعي حول الخصائص تبدو وقد تحققت من جديد على هذا‬
‫ً‬
‫النحو‪ ،‬ولكن عندما ننظر إليها عن قرب‪ ،‬نالحظ أن األمر ليس كذلك أبدا‪ .144‬إذ ال يوجد‬

‫‪R. G. Griffiths, "Consistent histoiries and the interpretation of quantum mechanics", J. Stat. Phys., 142‬‬
‫‪36, p. 219-272, 1984; R. G. Griffiths, "Correlations in separated quantum systems: a consistent‬‬
‫‪history analysis of the EPR problem", An. J. Phys., 55, p. 11-17, 1987.‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 143‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.426 .‬‬
‫ً‬
‫‪ 144‬لقد ساهم برنار دسبانيا نفسه كثيرا في هذا اإلدراك من خالل نقاشات خاصة ومقاالت كتبها‪ .‬على سبيل الثال راجع‪:‬‬
‫‪B. d'Espagnat, "Consistent histories and the measurement problem", Phys. Lett., A124, p. 204-206, 1987.‬‬
‫‪96‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عموما‪ ،‬بين قياسين‪ ،‬تاريخ متماسك واحد‪ ،‬بل عدة تواريخ (وأحيانا النهاية من التواريخ)‪.‬‬
‫فعلى أي أساس نقول إن قضية تنتمي إلى تاريخ متماسك معين هي قضية صحيحة‪،‬‬
‫بالتفضيل عن قضية مختلفة تنتمي إلى تاريخ متماسك آخر؟ علينا عندها القبول مع‬
‫أومنس أنه وحدها القضايا العلنة لنتيجة قياس تم إجراؤه هي إما صحيحة وإما خاطئة‪،‬‬
‫في حين أن القضايا التي تعلن امتالك خاصية ضمن الفاصل الزمني بين قياسين هي‬
‫فقط قضايا إما موثوقة أو غير موثوقة‪ .‬وتكون موثوقة إذا كانت تخضع لشرط التماسك‬
‫عند غريفيث وتكون غير موثوقة في حال عدم خضوعها لهذا الشرط‪.‬‬
‫يبقى أن نستخلص األمثولة الساخرة بعض الش يء لهذا النقاش‪ .‬كان هدف العمل‬
‫األصلي لغريفيث أن يعيد إعطاء العنى لفكرة أن النظومات لها خصائص في الطلق‬
‫ً‬
‫واصفا من أجل ذلك القضايا الحاملة لهذه الخصائص بالصحيحة أو الخاطئة‪ ،‬وذلك‬
‫بشكل مستقل عن استخدام وسيلة معينة إلثباتها‪ .‬لكن األمر انتهى إلى االعتراف بأن‬
‫القضايا الوسيطة ال يمكن اعتبارها إال كقضايا موثوقة أو غير موثوقة‪ ،‬أي ال صحيحة‬
‫وال خاطئة‪ .‬وبالتالي كانت نتيجة هذه الحاولة في إعادة الهيكلة الواقعية للميكانيك‬
‫الكمومي العياري‪ ،‬وبشكل مفارق‪ ،‬الوصول إلى خالصات ترتكز على شكل من الالواقعية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وفق العنى الذي يطرحه دوميت‪ :Dummett 145‬فمبدأ الثنائية ليس مبدأ صحيحا عاليا؛‬
‫ً‬
‫إن بيانا ما ال يملك قيمة للحقيقة إال إذا كانت الوسيلة التجريبية التي تسمح بنسب هذه‬
‫ً‬
‫القيمة له قد وضعت موضع العمل؛ فالـ "صحيح" هو مرادف لـ "واضح تجريبيا"‪.‬‬
‫ً‬
‫كان طموح نظريات "الالترابط" (التي ارتبطت أحيانا كما عند جيل ‪ -‬مان ‪Gell-‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ Hartle‬بموضوع التواريخ التماسكة) أكثر محدودية في البداية‪ .‬وال‬ ‫‪ Mann‬وهارتل‬
‫يتعلق األمر هنا بتعيين قيمة حقيقة لكافة القضايا التي تعلن من خالل منظومة فيزيائية‬

‫‪M. Dummett, "Realism" in M. Dummett, Truth and other enigmas, Duckworth, 1978. 145‬‬
‫‪M. Gell-Mann & J. B. Hartle, "Classical equations for quantum systems", Physical Review, D47, p. 146‬‬
‫ً‬
‫‪3345-3382‬؛ وانظر أيضا ‪J. P. Paz & W. H. Zurek, "environnemt-induced decoherence, classicality, and‬‬
‫‪consistency of quantum histories", Physical Review, D48, p. 2728-2737.‬‬
‫‪97‬‬
‫امتالك خاصية غير قابلة للقياس‪ ،‬بل فقط بفهم كيف يكون من السموح‪ ،‬في النموذج‬
‫الكمومي‪ ،‬اعتبار القضايا التي ت ّعين أو تسند خاصية أصيلة لنظومات جهارية مثل أجهزة‬
‫القياس على أنها قضايا صحيحة‪ .‬تشمل السألة باختصار على إيجاد تمفصل بين‬
‫الخطاب حول الرصودات (النسبية)‪ ،‬الذي يسود بالنسبة للمنظومات الجهرية‪،‬‬
‫والخطاب حول خصائص (مطلقة)‪ ،‬التي تفترض الحياة اليومية والفيزياء الكالسيكية‬
‫ً‬
‫مالءمتها على الستوى الجهاري‪ .‬إن الحل ليس صعب الفهم أبدا في مبدئه‪ .‬ونبدأ باعتبار‬
‫ً‬
‫أن نمط الوصف بمصطلحات الرصودات والحاالت الكمومية يصح عاليا‪ ،‬وعلى كافة‬
‫الميزة للنمط الكمومي في الوصف الذي يشكل‬ ‫الستويات‪ .‬بعد ذلك نطابق السمة ّ‬
‫ً‬ ‫حاج ًزا أمام فكرة أن منظومة ما تمتلك خاصية َّ‬
‫محددة تماما حتى وإن كنا نجهل أي‬
‫خاصية هي‪ :‬يتعلق األمر هنا بأول ترابطات الرحلة بين الحدود الوافقة لختلف النتائج‬
‫المكنة لقياس ما‪ .‬نبرهن عندها‪ 147‬أنه ما أن تتفاعل منظومة فيزيائية جهارية‪ ،‬حتى ولو‬
‫ً‬
‫بشكل ضعيف جدا‪ ،‬مع محيطها فإن ترابطات الرحلة وتأثيرات أخرى ذات شكل موجي‬
‫ً‬
‫تختفي بشكل شبه كامل خالل فترة زمنية فائقة القصر‪ .‬وبدءا من هنا‪ ،‬يصبح باإلمكان‬
‫من جديد التعبير والفعل كما لو كانت النظومة الفيزيائية الجهارية تملك خاصية يكشف‬
‫ً‬
‫عنها الرصد أو التحليل التجريبي‪ .‬إن هذه الحاكمة ليست قابلة للنقاش كثيرا في خطوطها‬
‫العامة‪ .‬فنتائجها الرصودة تتوافق حتى مع التجربة‪ .148‬غير أن معناها الفلسفي ال يزال‬
‫موضوع نقاشات حامية‪ .‬لقد مال كل من زورك ‪( Zurek‬على األقل في األوقات األولى من‬
‫يحمال ذلك نتائج ذات صبغة أنطولوجية بشكل واضح‪[" :‬إن‬ ‫محاولته)‪ ،‬ثم أومنس‪ ،‬ألن ّ‬
‫نتيجة القياس] غير معروفة لدينا بعد‪ ،‬بل وليست ّ‬
‫معرفة لدينا‪"149‬؛ إن فك الترابط (أو‬

‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 147‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.094 .‬‬


‫‪S. Haroche, J.-M. Raimond & M. Brune, "Le chat de Schrodinger se prete a l'expérience", La 148‬‬
‫‪Recherche no 301, p. 50-56, 1997; J.-M. Raimond, M. Brune & S. Haroche, "Reversible decoherence‬‬
‫‪of a mesoscopic superposition of field states", Phys. Rev. Lett. 79, p. 1964-1967, 1997.‬‬
‫‪W. H. Zurek, "Environment-induced superselection rules", Physical Review, D26, p. 1862-1880, 1982 149‬‬
‫(النص الضاف بالخط الائل في الرجع الذكور)‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫الالترابط) هو جواب جوهري على عدم وجود تراكبات جهارية‪ ،‬وليس فقط جواب من‬
‫ً‬
‫مستوى تطبيقي وعملي‪ ".150‬تعتبر هذه التأكيدات القوية جدا كإثباتات ال غنى عنها‬
‫لشرعنة عملية إسناد قيمة حقيقة للقاضايا التي تعلن نتيجة قياس‪ ،‬أو بشكل ّ‬
‫أعم‬
‫للقضايا التي تنسب خاصية ما لنظومة جهارية‪ .‬وهي َّ‬
‫مبررة في نظر القائلين بها ألن‬
‫القاربة الوافق عليها أثناء القيام بها هي من الصغر بحيث أنه ال يمكن الوصول إليها في‬
‫تقييم تجريبي متوافق مع حجم وعمر الكون‪ .151‬وهناك فيزيائيون آخرون‪ ،‬مثل بل ‪Bell‬‬
‫ودسبانيا‪ ،‬ال ينسبون مع ذلك لنظريات الالترابط سوى القدرة على تبيان كيف أن‬
‫مظاهر كالسيكية يمكن أن تنبثق في عالم كمومي‪152‬؛ مظاهر ال يمكن أن تماثل‬
‫بخصائص أصيلة إال ألن إسناد قيمة حقيقة للقضايا التي تنسب هذه الخصائص إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منظومة هو عمليا إسناد غير قابل للدحض تجريبيا‪ .‬أما النطق الذي يستخدمه أومنس‪،‬‬
‫الذي يميل إلى جعل هذه الحجة العملية حجة مبدئية باسم الحجم الفرط الضخامة‬
‫للتجهيزات التي تتيح الدحض‪ ،‬وباسم محدودية سرعة الضوء‪ ،‬فهو منطق مرفوض من‬
‫قبل دسبانيا ضمن أسلوب بوري (نسبة إلى نيلز بور)‪ ،‬حيث يقول‪ ]...[" :‬إن ما يهم هو‬
‫فقط مسألة معرفة إذا كان يمكن تحديد بروتوكول للقياس [‪ 153"]...‬وليس إذا كان يمكن‬
‫ً‬
‫فعال تطبيقه في الكون الذي نسكنه‪.‬‬
‫هل يمكننا االعتماد على اليكانيك الكمومي لكي يتم انبثاق عالم على الستوى الكبير‬
‫حيث من الشروع نسب خصائص لألشياء‪ ،‬وإسناد قيمة حقيقة لكافة القضايا التي لها‬
‫معنى‪ ،‬واالعتماد على نتائج قياس محددة بشكل جوهري؟ إن رهان السؤال الطروح عند‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نهاية هذا النقاش ليس رهانا ميتافيزيائيا فقط؛ بل هو رهان منهجي‪ .‬فاليكانيك الكمومي‬

‫‪ ،R. Omnes, The interpretation of quantum mechanics 150‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪( .319 .‬النص الضاف‬
‫بالخط الائل)‪.‬‬
‫‪ 151‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪ 311 .‬ـ ‪.319‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 152‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.414 .‬‬
‫‪ 153‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.099 .‬‬
‫‪99‬‬
‫يرتكز‪ ،‬مثل كل نظرية علمية‪ ،‬على إمكانية إسناد قيمة حقيقة للقضايا التجريبية‪ .‬فمن‬
‫أجل تامين التساوق بين بنية اليكانيك الكمومي والسيرة اإلبستمولوجية التي تضمه من‬
‫حيث جوانبه‪ ،‬يبدو أنه من الضروري عندها البرهان ّأن صوريته تبرر إسناد قيمة‬
‫حقيقة للقضايا التي تتعلق بها من أجل إثباته‪ .‬ووجهة نظر أومنس هي أننا نتوصل إلى‬
‫ذلك من خالل نظريات الالترابط‪ .‬وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬فإن الوضعية الالقياسية‬
‫لدسبانيا‪ ،‬الذي يرفض أن تكون الهوة التصورية (النوعية) بين خطاب حول قضايا‬
‫موثوقة ‪ fiable‬والخطاب الألوف حول قضايا صحيحة قد ردمت بواسطة نظريات‬
‫الالترابط‪ ،‬تضعف كما يبدو األساس النهجي للفيزياء الحديثة‪.‬‬
‫أود اإلشارة هنا إلى أن مطلب أومنس‪ ،‬التمثل بالقابل بأساس لنمط الخطاب‬
‫التجريبي من خالل النظرية الراد اختبارها‪ ،‬هو مطلب مفرط‪ .‬وإلى أن الدور األكثر‬
‫ً‬
‫تواضعا الذي يوليه دسبانيا لنظريات فك االرتباط يكفي لتأمين التانة اإلبستمولوجية‬
‫لسيرة الفيزياء الكمومية‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإنني سوف أعرض مماثلة بين معايير القياس والوقائع‬
‫التجريبية‪.‬‬
‫هل من الصحيح أن متوازي السطوح من البالتين الحتوي على إيريديوم والوضوع في‬
‫‪154‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جناح بروتوي ‪ Breteuil‬في سيفير ‪ Sèvers‬يقيس مترا واحدا؟ الجواب وفق ويتغنشتاين‬
‫هو النفي‪" :‬هناك ش يء ما ال يمكننا القول عنه ال إن طوله متر واحد وال أن ليس طوله متر‬
‫ً‬
‫جدا ّ‬
‫نعده كمعيار‬ ‫واحد‪ ،‬والحديث عن التر ‪ -‬العياري في باريس"‪ .‬لقد بقينا لفترة طويلة‬
‫للطول‪ ،‬ولهذا كان من الخطأ بشكل مؤكد الزعم بأن قياس ّ‬
‫عينة البالتين في جناح‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بروتوي لم يكن مترا واحدا‪ .‬ولكن فقد كان من الخطأ أيضا بالدرجة نفسها التصريح بأنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان يقيس مترا واحدا‪ ،‬ألن تأكيد قضية (أو حقيقتها) ال يكون له معنى إال من خالل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪L. Wittgenstein, Investigations philosophiques, Gallimard, 1961, p. 50 154‬؛ وانظر شرحا موضحا‬
‫(وترجمة ممتازة له) في‪ ،J: Bouverse, La force de la règle, Minuit, 1987, p. 131 :‬وكذلك كتاب ‪J. Bouverse,‬‬
‫‪"Le problèm de la longueure du mètre", in J. Sebestik et A. Soulez, Wittgenstein et la philosophie‬‬
‫‪d'aujourd'hui, Klincksieck, 1992.‬‬
‫‪111‬‬
‫تناقض مع إمكانية نفيه (أو عدم حقيقته)‪ .‬والحال أن دور العيار الذي كانت تلعبه عينة‬
‫البالتين في جناح بروتوي في النظومة الترية القياسية كان يضعها بالضبط من حيث‬
‫بناؤها بمعزل عن مثل هذه اإلمكانية‪ .‬إن القضية القائلة "إن متوازي السطوح من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البالتين في جناح بروتوي يقيس مترا واحدا" لم تكن بالتالي قضية "صحيحة"‪ ،‬ولم تكن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحد النهائي والضمني للمقارنة التي يتطلبها إسناد‬ ‫بحاجة لتكون صحيحة لكي تشكل‬
‫ّ‬
‫قيمة حقيقة للقضايا التي تتعلق بطول األجسام األخرى‪ .‬وضمن هذه الشروط‪ ،‬لم يكن‬
‫من الهم حتى أن ّ‬
‫تبررها بالقابل نظرية فيزيائية‪ ،‬ترتكز عليها في إثباتاتها التجريبية‪ ،‬من‬
‫ّ‬
‫خالل مبرهنة تؤكد الشرط األساس ي لحقيقتها‪ ،‬أال وهو الثبات الطلق لطول العينة‬
‫العدنية‪ .‬فإذا كان ثمة للصرح النظري اإلجمالي بين نتائجه‪ ،‬والذي كانت هذه النظرية‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تشكل جزءا منه‪ ،‬الالإحتمالية القصوى للقدرة على الكشف عن التغيرات النتظمة‬
‫متعددة من األجسام األخرى (حيث تكون كافة الشروط‬ ‫ّ‬ ‫لطولها بالقارنة مع مجموعة‬
‫التعلقة بالقضية متساوية من جهة أخرى)‪ ،‬فإن ذلك سيكفي لضمان التماسك ‪ -‬الذاتي‬
‫األدائي للمنظومة الشكلة بواسطة النظرية الثبتة والفترض التري (القياس ي) إلثباتها‪.‬‬
‫َ‬
‫وبجملة واحدة‪ ،‬فإن اعتبار متوازي السطوح من البالتين كمعيار لم يكن يعود إلى نسب‬
‫خاصية له بل إلى إسناد نظام (قانوني) له‪ .‬كان من المكن المتالك خاصية أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قابال لالختبار تجريبيا وكان من المكن أن يؤخذ بعين االعتبار بواسطة نظرية مستنفذة‬
‫بدرجة كافية؛ بالقابل‪ ،‬فإن النظام وحده يجب أن يندرج ضمن لعبة اتفاقيات تتعلق بها‬
‫ً‬
‫إجراءات تجريبية ونظرية‪ ،‬والذي ي َّبرر استدالليا بواسطة فعاليتها الشاملة‪ .‬إن تخليص‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معيار البالتين من نظامه ذي االمتياز يظل بالطبع أمرا قابال للنظر فيه‪ .‬غير أنه ال يمكن‬
‫القيام بذلك إال على حساب تحويل في حامل العيار‪ ،‬من موضعه ذي السمة الصحيحة‬
‫االستثنائية التي تم ربطها به‪ ،‬إلى جسم آخر أو إلى صيرورة فيزيائية‪.‬‬
‫إن للصعوبة التي نصطدم بها في اليكانيك الكمومي شكل مطابق إنما ذو مدى يتم‬
‫تناوله بشكل مختلف‪ .‬كان السؤال يتعلق بحقيقة قضية واقعية خاصة (هي القضية التي‬
‫‪111‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تمتد من اآلن‬ ‫تنسب طوال معينا لعيار منظومة قياسية)‪ ،‬وقد باتت هذه القضية‬
‫ً‬
‫فصاعدا إلى إمكانية نسب قيمة حقيقة للقضايا الواقعية بشكل عام‪ .‬وكما أن قضية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"متوازي السطوح من البالتين ذي اإليريديوم في جناح بروتوي يقيس مترا واحدا" لم تكن‬
‫بحاجة ألن تكون صحيحة لكي تلعب الدور الذي لعبته في النظومة الترية‪ ،‬فإن القضايا‬
‫التي تعلن وقائع ليست بحاجة إلى مقدرة أن تكون صحيحة لكي تلعب دورها البنائي في‬
‫العلوم التجريبية‪ .‬حيث يكفيها أن يكون باإلمكان اعتبارها على أنها صحيحة‪ ،‬أي أن يكون‬
‫باإلمكان استخدامها في خطاب الباحثين العلميين بحيث أن تكون صحة قولهم بمنأى‬
‫عن الشك عبر اتفاق ضمني‪ .‬إن اعتبار قضية كـ "واقع"‪ ،‬ال يعني تأكيد حقيقتها الجوهرية؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بل يعني أن نسند إلى هذه القضية نظاما أساسيا ذا امتياز ضمن الشبكة النطقية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للعلوم‪ .‬أما لكي نثبت حقيقة هذه القضية فإن ذلك يتطلب تأكيدا تجريبيا أو إدراكيا (مع‬
‫الجازفة بإطالق ارتداد ال ينتهي من تأكيدات الحقيقة وإجراءات اإلثبات)؛ كما أنه‬
‫ً‬
‫يستدعي أيضا أن يؤخذ بعين االعتبار ضمن نظرية كاملة‪ .‬وعلى العكس فإن للنظام‬
‫األساس ي أو القانون ميزة إيقاف االرتداد إلى ما النهاية وأن يوضع باإلجمال على مستوى‬
‫ً‬
‫آخر مختلف عن مستوى نتائج نظرية فيزيائية‪ ،‬طالا أنه يشكل جزءا من الشروط‬
‫السبقة لكي تتم صياغة نظرية ما (إذ تتم صياغة نظرية من أجل أن نأخذ بعين االعتبار‬
‫القضايا التي لها نظام "الوقائع") ولكي يتم إثباتها (يتم إثبات نظرية من خالل مطابقتها لـ‬
‫الحد األدنى الطلوب من نظرية ما هو أال تكون في حالة تناقض‬ ‫ّ‬ ‫"وقائع" معينة)‪ .‬إن‬
‫واضح مع الشكل النطقي للوقائع التي تشرطها بشكل مسبق‪ .‬وبالثل‪ ،‬فإن قضية مجهزة‬
‫بنظام "الواقع" يجب أن تجد نفسها فقط مبررة بشكل استداللي من خالل التجربة عبر‬
‫تطابق وتالؤم إجمالي لجملة العارف التي تساهم في تأييدها‪ .‬وعلى الرغم من أن فك‬
‫االرتباط ‪ décohérence‬ال ينجح كما يشير إلى ذلك دسبانيا في أن يؤسس بالقابل إمكانية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إسناد قيمة حقيقة للقضايا الواقعية‪ ،‬فإنه يكفل ويحمي توافقا هو أكثر من كاف كميا‬
‫ً‬
‫بين النتائج القطعية للميكانيك الكمومي وبيان الحوادث التي تعتبر نظاميا على أنها‬
‫‪112‬‬
‫ّ‬
‫"وقائع"‪ .‬إن فك االرتباط يؤكد ما كنا أسميناه االتساق األدائي الذاتي‪ :‬أي تماسك‬
‫النظومة الشكلة بواسطة اليكانيك الكمومي والفترضات السبقة إلثباتها التجريبي‪.‬‬
‫ً‬
‫إن الوازي لا سبق يمكن أن يكون كامال إذا استطعنا تحديد مكافئ واقعي لقابلية‬
‫الحلول محل العيار‪ .‬فهل من السموح أن نغير من الواقع كما نغير معيار قياس ما؟ ليس‬
‫بالضبط وفق الطريقة نفسها‪ ،‬أي ليس من خالل اتفاق معلن‪ .‬وباألحرى أن ننظر إلى‬
‫ذلك مثل تأثير النقالب عالقة ديالكتيكية تتأسس منذ البداية بين القضايا الواقعية‬
‫ً‬
‫والنظريات‪ ،‬تأثير يرى حينا الواقع ‪ -‬الفعل يشكل نقطة ثابتة يجب أن يستند إليها عمل‬
‫مؤكدة ّ‬‫َّ‬ ‫ً‬
‫محددة حدود ما هو مشروع أن‬ ‫البناء النظري‪ ،‬ويرى حينا النظرية تطرح كبنية‬
‫نعتبره كواقع‪ .‬تسود الصورة األولى خالل مرحلة الثورة العلمية‪ ،‬وتسود الصورة الثانية‬
‫خالل مراحل "العلم العادي"‪ .‬فما أن يتم إنجاز الثورة العلمية ويتم تأسيس النموذج‬
‫ً‬ ‫الجديد‪ ،‬األمر الذي كان في السابق ّ‬
‫يعد واقعا‪ ،‬حتى يمكن بالضبط أال يعود النموذج‬
‫ً‬
‫نموذجا وأال تعود الثورة ثورة‪ .‬ولكن‪ ،‬إذا كان األمر على هذا النحو‪ ،‬أال نصل هكذا إلى‬
‫نسبوية تامة تصدم الشعور‪ ،‬والذي طالا تقاسمه الباحثون العلميون‪ ،‬باستمرارية‬
‫متجاوزة للنموذج لعنصر واقعي؟ علينا بالنتيجة أن نميز بشكل دقيق قابلية الحلول‬
‫ً‬
‫محل الواقع‪ .‬فثمة ش يء ما يبقى فعال من نظرية علمية إلى النظرية التي تحل محلها‪ :‬وهذا‬
‫ما تجعله االفتراضات السبقة لفعلنا ولقولنا اليوميين (أو إذا أردنا النظريات السبقة‬
‫ً‬
‫التضمنة التي تقود حياتنا) أمرا من الشروع اعتباره كواقع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لقد طرح دسبانيا تسهيال عقليا‪ ،‬يشتمل على التفكير بأنه يوجد طريقة في مماثلة‬
‫الرصودات الصغائرية أو الجهارية للميكانيك الكمومي مع خصائص أصيلة بالعنى العتاد‬
‫للكلمة‪ .‬وثمة تسهيل عقلي آخر يشمل االعتقاد بأن إخفاق التسهيل السابق يحكم بشكل‬
‫صريح وحتمي على الفيزيائيين بإفراغ خطابهم من كل اعتبار فيما يخص األجسام الحاملة‬
‫ً‬
‫للخصائص؛ وال يخطئ دسبانيا في رفضه أيضا‪ .‬إن األشكال التقليدية للتعبير يمكن أن‬
‫تدوم بشكل تام على الرغم من عدم توافقها عند الدرجة األولى مع بنية الظاهرات‬
‫‪113‬‬
‫ً‬
‫الكمومية‪ .‬ومن السهل جدا فهم السبب في ذلك‪ :‬إذ يكفي أن نسقط بشكل أنطولوجي‬
‫ً‬
‫الظروف نفسها التي تشكل عائقا على اإلسقاط األنطولوجي للمرصودات من أجل‬
‫الوصول إلى توافق عند الدرجة الثانية‪ .‬ولنذكر بهذه الظروف‪:‬‬
‫أ ‪ -‬االرتباط التعذر حله لقيم الرصودات تجاه الشروط التجريبية لقياسها‪ ،‬والذي‬
‫ً‬
‫يندرج زورا ضد الداللة اإلضافية لـ "تحديد ينتمي بذاته إلى جسم ما" في لفظة "خاصية"‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الالإنفصالية‪ ،‬التي تؤدي إلى إعطاء النظومة الفيزيائية‪ ،‬وهي أساس لـ "حالة"‬
‫ً‬
‫معالجة كخاصية‪ ،‬حدودا تتغير مع الحالة نفسها‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫‪D.‬‬ ‫غير أن استراتيجية "التفسير األنطولوجي للميكانيك الكمومي" لديفيد بوم‬
‫‪ Bohm‬تشتمل بالضبط على تحويل هذه العوائق إلى القدر نفسه من اليزات الجديدة‬
‫للجسيمات‪ .‬إن ارتباط قيم الرصودات اتجاه الشروط التجريبية يتم إسقاطه بشكل‬
‫سياقية (أي بتأثير للتجهيزات التجريبية على الصيرورات الفيزيائية التي تسعى هذه‬
‫التجهيزات للكشف عنها)‪ .‬ومن جهتها‪ ،‬فإن الإنفاصالية النظومات الفيزيائية تتحول إلى‬
‫المحلية لخصائص ّ‬
‫مكوناتها‪ ]...[ :‬في النظريات ذات التغيرات اإلضافية‪ ،‬فإن الجسيمات‬
‫التي تشكل منظومة فيزيائية ممتدة تجد نفسها وهي تختص بنوع من الوجود الفردي على‬
‫الرغم من أنها تتفاعل بطريقة غير محلية"‪ .156‬لقد أعطى كل من مبرهنة كوشن ‪Kochen‬‬
‫ً‬
‫وسبيكر‪ ،Specker 157‬ومبرهنة بل‪ Bell 158‬لهذه التحويالت مدى كونيا من خالل جعلها‬
‫للسياقية والالمحلية ميزات ال يمكن تفاديها في كل نظرية ذات متحوالت خفية قابلة ألن‬
‫ً‬
‫تعيد إنتاج التنبؤات التجريبية الؤكدة للميكانيك الكمومي‪ .‬ونرى بوضوح انطالقا من هنا‬

‫‪D. Bohm & J. Hiley, The undivided universe, Routeldge, 1993. 155‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 156‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.024 .‬‬
‫‪S. Kochen & E. P. Specker, "The problem of hidden variables in quantum mechanics", Journal of 157‬‬
‫‪mathematics and mechanics, 17, p. 59 – 87, 1967.‬‬
‫‪J. Bell, "On the Einstein – Podolsky – Rosen paradox", in J. Bell, Spakable and unspeakable in 158‬‬
‫‪ ،quantum mechanics‬الرجع السابق ذكره‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫ً‬
‫أن نظريات ذات متغيرات خفية تستجيب لشروط معينة ال يمكن رفضها اعتمادا على‬
‫بواعث ذات بعد تجريبي بحت‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي إطار فكر مماثل‪ ،‬إنما مع مناهج ونتائج مختلفة جدا‪ ،‬تم اقتراح إسقاط ارتباط‬
‫النتائج التجريبية اتجاه نظام استخدام التجهيزات على "منطق كمومي" غير توزيعي‪،159‬‬
‫بل وعلى منطق ّ‬
‫"متمم"‪ 160‬ثالثي التكافؤ‪ .‬وهكذا فإنه يتم حفظ إمكانية التحكم بشكل‬
‫قطعي بالشاركة التصلة مع جسم ذي قيم مرصودات ناشئة عن أطر تجريبية متعارضة‪،‬‬
‫وذلك على حساب اعتماد منطق غير كالسيكي‪.‬‬
‫‪ 3 .2‬الواقع التجاوزي أو حضور الواقع؟‬
‫إن حالة فقدان الذاكرة تجاه الشروط السبقة للنشاط اإلبستمولوجي قد أصبحت‬
‫مزعجة بشكل خاص بسبب ظهور اليكانيك الكمومي؛ لكن مزعجة أو غير مريحة ال يعني‬
‫أنها غير قابلة لإلدراك‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ .‬إن بنية اليكانيك الكمومي‪ ،‬مع شكل من‬
‫ً‬
‫جدا أو مصطنعة إلى ّ‬ ‫الحيادية ّ‬
‫حد‬ ‫الوجهة‪ ،‬تجعل من معظم تفسيراتها الواقعية غريبة‬
‫أنها تدعو إلى وضع الواقعي دون أن تفرضه‪ .‬لنقبل اآلن أننا تبعنا هذا النحدر الالواقعي‬
‫(الذي قررنا أعتباره من القضايا ذات "الوضوعية الضعيفة")‪ .‬هل يقتض ي ذلك بالتالي‬
‫اعتماد موقف الواقعي بشكل أصيل‪ ،‬على سبيل الثال مثالية عقائدية؟ لن يقبل بذلك‬
‫أي الواقعي منطقي‪ :‬فتصوره العقائدي يقوم أكثر على تعليق الحاكمة مهما كانت‬
‫الحاكمة‪ ،‬حتى لو كانت سلبية‪ ،‬حول ما الذي يشمل الصيرورات التجريبية‪ .‬إن‬
‫الالواقعية تدفع باألحرى إلى فقدان صورة معينة للواقعية ال إلى فقدان مفهومها‪ .‬إن‬
‫الصورة العلنة هي صورة كينونة معطاة‪ ،‬موضوعة أمام قابلية التأثر واالستقبال‬
‫يقيم اإلخالص الرآوي للمدركات الحسية نفسه‬‫الحساسة واللغة‪ ،‬والتي بالنسبة لها ّ‬

‫‪G. Birkhoff & J. von Neumann, "The logic of quantum mechanics", Annals of mathematics, 37, p. 159‬‬
‫‪823-843, 1936.‬‬
‫‪P. Destouches-Fevrier, La structure des theories physiques, P.U.F., 1951, p. 32. 160‬‬
‫‪115‬‬
‫ّ‬
‫الجرد‬ ‫وكذلك حقيقة القضايا‪ .‬بالقابل فإن ما يبقى بمنأى من النقد‪ ،‬هو الفهوم‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للمجرب‪ ،‬أو أيضا‬ ‫الحددة للنشاط اإليمائي والرمزي‬ ‫لواقعية تعتبر كتحديدية للمقدرة‬
‫كمصدر ّ‬
‫محدد مشترك للقيود التي ال يمكن ضبطها التي تظهر من خالل اإلجابات على‬
‫االستثارات التجريبية‪ .‬ومع أن الصورية التنبؤية للميكانيك الكمومي العياري ال تزعم أنها‬
‫تمثل ما هو قائم‪ ،‬فإنها تترجم هذه التحديدات وتتوافق مع هذه القيود‪ .‬هذا ما يحاول‬
‫دسبانيا التعبير عنه من خالل بيانه التأسيس ي لـ "واقعية مفتوحة"‪" :‬ثمة ش يء ما [‪ ]...‬ال‬
‫يتأتى وجوده من الفكر اإلنساني"‪ ،161‬والذي ّ‬
‫يسمى بعبارة أخرى "الش يء" الذي يقول "ال"‪.‬‬
‫ً‬
‫فطالا بقينا عند هذه النقطة‪ ،‬سيبدو مع ذلك أننا حاولنا إيجاد التعاريف األكثر تمركزا‬
‫ً‬
‫للش يء في ذاته التي أعطاها كانط في نهاية "تحليله التجاوزي"‪ ،‬والتي أخذ بها حصرا‬
‫الفكرون الكانطيون الجدد من مدرسة مربورغ ‪ :Marbourg‬فمفهوم الش يء بذاته هو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫فقط هنا مفهوم تحديدي يقلص مزاعم الحساسية وال يؤسس بالتالي شيئا إيجابيا خارج‬
‫حقله‪ .162‬غير أن دسبانيا يرفض بالضبط أن يتقيد بهذه الدرجة القصوى والفائقة من‬
‫التحفظ اليتافيزيائي‪ .‬وعلى الرغم من أنه كان في السابق قد طعن بنظريات ذات متغيرات‬
‫ً‬
‫خفية يحكم عليها بأنها "[‪ ]...‬تأملية جدا" ألنها بلجوئها إلى نماذج هي من حيث البناء‬
‫بعيدة النال على كل اختبار تجريبي تمييزي‪ ،‬فإنه ال يستطيع أكثر القبول بأن هذا "الش يء‬
‫ً‬
‫ما [‪ ]...‬الذي ال يتعلق وجوده بوجودنا" هو عبارة عن متحول س بحت مجهول تماما ال‬
‫تستطيع الفيزياء أن تفيدنا بش يء فيما يخصه أو يتعلق به‪ .163‬وهكذا فإن دسبانيا ينطلق‬
‫ً‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 161‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪ .336 .‬وقد ع ّبر عن الفكرة أيضا بدقة أكبر فيما‬
‫ّ‬
‫يسميه مغير ـ شوختر مسلمة "الواقعية الدنيا" ( ‪M. Mugur-Schachter, "Spacetime quantum probabilities‬‬
‫‪II: relativezed descriptions and popperian propensities", Foundations of physics, 22, p. 235-312,‬‬
‫ً‬
‫‪ .)1992‬وال يجب أن نخلط هذه الواقعية الدنيا ميتافيزيائيا مع الواقعية الدنيا الداللية بالعنى الذي حدده‬
‫إنجل في كتابه الشيق والحديث‪P. Engel, Davidson et la philosophie du language, P.U.F., 1994. :‬‬
‫‪E. Kant, Critique de la raison pure, A 255, B 311, trad. Tremesaygues et Pacaud, P.U.F., 1944, p. 162‬‬
‫‪229.‬‬
‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 163‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.315-316.‬‬
‫‪116‬‬
‫عندها في محاولة توصيف للواقع حيث أن بنيته الجازية (وهي بنية حجاب‪ ،‬مع فصلها‬
‫لنا عن خلفية العالم‪ ،‬تترك لدوائر واسعة منه أن تشف وتظهر لنا) تسعى لكي تقود‬
‫بشكل آلي الخطط الثنوي لنظرية العرفة في وضع لم تنفك فيه إشارات فرص إعادة‬
‫ً‬
‫النظر فيها تتراكم؛ وهي إشارات لم يستطع دسبانيا نفسه أيضا عدم االعتراف بها‪ .164‬وال‬
‫شك أنه انبرى على هذا النحو‪ ،‬وهو محق في ذلك‪ ،‬لتنفيذ عمل إبستمولوجي نهائي ووضع‬
‫استراتيجية ّبين من جهة أخرى أهميتها في العلوم‪ :‬إنها االستراتيجية التي تشتمل على‬
‫الظهور بشكل منهجي كمحافظ‪ ،‬والتقيد بإطار تصوري كان قد وضع براهينه طالا لم يأت‬
‫ً‬
‫ش يء ليزعزعه بشكل حرفي‪ ،‬أو أيضا كما يقول فان فراسين‪ ،‬والحفاظ على الثقة‬
‫الفترضة للنماذج والتمثيالت‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا كانت صورة الواقع الحجوب قابلة للنقاش‪ ،‬فإنني أعتقد أنه يجب معرفة‬
‫كيف نعترف بأهمية ما يحاول أن يعبر من خالله عن نفسه‪ .‬إن النقاش الحكم الذي‬
‫ً‬
‫يقود إلى اعتماد هذه الصورة يقودنا في الواقع إلى عتبة إشكالية فلسفية مختلفة جدا‪:‬‬
‫إشكالية امحاء للحدود التقليدية بين حقول االستقصاء والتحقق الناشئة على التوالي‬
‫من القاربة التأويلية ومن القاربة التحليلية‪ ،‬وإشكالية منهجية الفهم ما بين هذه الحقول‬
‫وإشكالية عملية تحويلها إلى حقول وضعية‪ .‬وعلى الرغم من أن دسبانيا لم يشرح السألة‬
‫على هذا النحو‪ ،‬لكن لم يغب عنه خالل مسيرته في الفكر ّ‬
‫العمق من االقتراب منها‬
‫ً‬
‫مسبقا من بين ّ‬ ‫ً ً‬
‫قرائه‪.‬‬ ‫بدرجة كبيرا جدا وجعلها ملحوظة ومدركة لن كانوا قد شعروا بها‬
‫ً‬ ‫إن هذا األثر الجانبي ّ‬
‫بتحرره من التوترات‪ ،‬التي لم يتجنبها أبدا‪ ،‬والتي تسكن محاولته في‬
‫إعادة الصياغة اليتافيزيائية‪ ،‬هي ما سيكون علينا أن نحلله فيما يلي‪.‬‬
‫التوتر األول‪ :‬عندما حاول دسبانيا التحدث عن نوع العلومة التي ّ‬
‫يمدنا بها اليكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي حول موضوع "الواقع الستقل"‪ ،‬وجد نفسه منقادا إلى صياغة نوع من‬

‫‪ 164‬راجع القطع ‪ 3‬ـ ‪.4‬‬


‫‪117‬‬
‫األنطولوجية السلبية ال ينتج عنها سوى ما ليست عليه‪ .165‬إن الواقع الستقل ليس‬
‫َّ ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬
‫متعددا‪ ،‬وليس منظما في كثرة من الجواهر الشخصنة‬ ‫مغمورا في الزمكان؛ وهو ليس‬
‫ّ‬
‫مستقر لتحديدات متغيرة‪ .‬نجد أنفسنا هكذا وقد وصلنا إلى قرب‬ ‫والحاملة بشكل‬
‫شديد‪ 166‬من حاجة الفهوم التحديدي الذي يشتمل عليه الش يء بذاته؛ ش يء بذاته غير‬
‫موصوف متوضع بالنظر إلى األشكال بشكل سابق للحساسية وهي أشكال الكان والزمان‪،‬‬
‫وبالنظر إلى الفاهيم البحتة للتفاهم التي هي فئة الجوهر والفئات الناشئة عن الكمية‬
‫وعن الكيفية‪ .‬ال شك أن الفيزيائي ‪ -‬الفيلسوف سيريد الدفاع عن أصالة نتيجته باإلشارة‬
‫إلى أن الطرح القريب في هذه الرة من طرح كانط يستفيد من الدعم الباشر والحسوس‬
‫لعلم فيزيائي تجريبي (هو اليكانيك الكمومي)‪ ،‬في حين أن هذا الطرح لم يكن ينتج في‬
‫نسخته األولى إال من مجرد استنكار للوهم التجاوزي الذي يشتمل على إسقاط سمات‬
‫على األجسام‪ ،‬سمات تنشأ عن اإلطار القطعي لتصورها وفهمها‪ .‬غير أن هذه الحجة‬
‫ً‬
‫ليست مقنعة تماما‪ .‬ذلك أن استنتاجات دسبانيا ال تنتج عن اليكانيك الكمومي بما هو‬
‫ميكانيك كمومي‪ ،‬بل عن نتائج تفسيراته التي تظل بمتناولنا عندما نكون قد قدمنا نسخة‬
‫حديثة من الوهم التجاوزي‪ :‬أال وهي عبارة عن النظريات ذات التغيرات الخفية‪ .‬وإن كان‬
‫هذا النمط األخير من اإلسقاط األنطولوجي يبدو أكثر اصطناعية من اإلسقاطات‬
‫القديمة‪ ،‬بسبب سمات عدم إمكانيات الوصول التجريبية‪ ،‬والالمحلية والسياقية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الرتبطة به‪ ،‬فإن ذلك ال يغير شيئا في أنه من حيث البدأ متوفر وأن استبعاده يفرض‬
‫بالتالي اعتبارات ترهق حقل الفيزياء‪.‬‬
‫في إجابته على القالة التي أخذت هذا الفصل منها‪ ،167‬يقبل دسبانيا بأن أسباب‬
‫استبعاد النظريات ذات التغيرات الخفية "تفوق مجال الفيزياء"‪ ،‬إذا أخذنا لفظة فيزياء‬

‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 165‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪ 315.‬ـ ‪.311‬‬
‫‪ 166‬إن إحدى اليزات (وربما اليزة الوحيدة) التي يعتقد دسبانيا أنه استطاع أن ينسبها إلى الواقعية الستقلة‬
‫على أساس معلومات الفيزياء الكمومية هي ميزة الوحدة الكلية‪ .‬وعلى هذه اليزة إنما ترتكز كما يبدو فكرة‬
‫واقعية محجوبة بالتأكيد إنما ليست بعيدة النال بالكامل‪ ،‬كما هو الش يء بذاته في علم الجمال التجاوزي‪.‬‬
‫‪ 167‬راجع ‪ ،M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et réalité‬الرجع السابق ذكره‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫ً‬ ‫في إطار معنى ّ‬
‫ضيق‪ ،‬استنتاجي حصرا‪ .‬لكنه يعتبر أن قرار استبعاد مثل هذه النظريات‬
‫ً‬
‫بحجة طابعها "االصطناعي" الفرط ينتمي إلى مجموعة واسعة جدا من الخيارات‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التوجه والتي تسمح للمشروع العلمي بكامله أال‬ ‫الجوهرية والتي غالبا ما تكون ضمنية‬
‫ويضل على مفترق الطرق‪ .‬وبالنتيجة‪ ،‬فإن نقد استبعاد النظريات ذات التغيرات‬ ‫ّ‬ ‫يحيد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الخفية ليس نقدا تجريبيا وال استنتاجيا‪ ،‬بل ينتمي إلى صف "االنتقادات التوضيحية"‪،168‬‬
‫الذي ال يمكن للعمل في مجال العلوم تجاوزه‪ .‬تقودنا مع ذلك هذه الالحظة‪ ،‬ذات الصلة‬
‫ً‬
‫الوثيقة بالوضوع‪ ،‬ألن نفهم بشكل واقعي تماما كيف أن األنطولوجيا التي يتم تفضيلها‬
‫وتيسيرها في مرحلة معطاة من قبل الباحثين العلميين تتعلق بطريقة حاسمة بنقد‬
‫توضيحي‪ ،‬بل وبالسلسلة التاريخية لالنتقادات التوضيحية التضمنة التي استخدمت في‬
‫كل مرحلة من االستقصاء‪ ،‬وليس فقط باإلشارات وحدها ذات األصل التجريبي‪ .‬ال يمكن‬
‫ً‬
‫للفيزيائي أن يجيب على السؤال‪" :‬ماذا يمكن أن يشبه الكون لكي يكون محكوما بقوانين‬
‫مثل هذه النظرية الفيزيائية؟" إال تحت الشرط السبق في تفعيل مجموعة من االنتقادات‬
‫التي تتجاوز من حيث البناء العلومة التجريبية التي نفترض أن هذا "العالم" يزودنا بها‪.‬‬
‫وكما سوف نرى بتفصيل أكبر في الفصل الخامس‪ ،‬فإن األنطولوجيا الكليانية لدسبانيا‬
‫(لبوم األخير) هي التي تفرض نفسها تحت شروط مسبقة معينة توضيحية؛ أما تحت‬
‫شروط مسبقة توضيحية أخرى فإن األنطولوجيا التعددية لبوم األول هي التي تبدو ّ‬
‫مفضلة‪.‬‬
‫ينطلق دسبانيا‪ ،‬مثل كانط‪ ،‬من الخطط الثنائي لنظرية العرفة‪ :‬الش يء واألنا‪،‬‬
‫ال َ‬
‫درك والدرك؛ وكما مسيرة كانط فإن مسيرة دسبانيا النقدية تصل إلى إفراغ البديل‬
‫من كل محتوى جوهري‪ .‬وبالقابل‪ ،‬فإن دسبانيا يرث جوانب من سوء الفهم التي‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 168‬إن معيارا توضيحيا هو بالتعريف معيار في اختيار النظريات يمض ي إلى أبعد من العايير التجريبية البحتة‬
‫(والذي يوضح مجلد دوافع االختيار)‪ .‬وفق لودان‪ ،‬يمكن فقط من خالل استخدام مثل هذه العايير يمكن‬
‫توضيح وإعالء التحديد التحتي للنظريات بواسطة التجربة‪ .‬فالسألة كلها تكمن في معرفة ما هي الحالة التي‬
‫نخصصها لثل هذه العايير‪ :‬تفضيالت جماليةن تحديدات اجتماعية أو طريقة توسيع حقل العقالنية إلى ما‬
‫وراء حدود االستنتاج الدقيق؟ راجع ‪.L. Laudan, Beyond position and relativism, Westview Press, 1996. :‬‬
‫‪119‬‬
‫استقرت في األثر الذي تركه عمل كانط‪ .‬إن مفهوم الش يء بذاته كان قد ّ‬
‫تغير خالل "نقد‬
‫العقل الخالص"‪ ،‬ولم يفهم وي ّ‬
‫رد عليه من قبل تيار الثالية األلانية‪ 169‬إال ضمن معناه‬
‫التقليدي للكينونة التجاوزة الؤثرة على العاني‪ .‬وبالثل فإن مفهوم الواقعية الستقلة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫قلص فعال إلى أبسط تعبير تحديدي له (الواقعية النفتحة)‪ ،‬وقد استمر في إثارة التمثيل‬
‫لـ "ش يء بالنسبة إلى" الذي يؤثر على األجهزة التجريبية‪ ،‬والذي تحاول الفيزياء الكشف‬
‫عنه بقدر ما يسمح بذلك "الحجاب" الذي يفصلنا عنه‪ .‬وإنه لن الصحيح‪ ،‬وفق دسبانيا‪،‬‬
‫ً‬
‫أن ثبات واستمرار هذا اليتا ‪ -‬تمثيل ال يشكل أبدا صعوبة في تصوره؛ ذلك أننا ال نرى‪،‬‬
‫ً‬
‫هنا أيضا‪ ،‬ما هو السبب الذي سيدفعنا لكي نتخلى دون مناقشة عن ميتا ‪ -‬تمثيل (ثنائي)‬
‫ّ‬
‫مكرس بواسطة الزمن ومفيد في الكثير من الجاالت الألوفة إذا لم يظهر ش يء ما يجعله‬
‫غير مقبول بشكل صريح‪ .‬لهذا اخترت في هذا الفصل أن أتكلم عن توترات وليس عن‬
‫صعوبات‪ :‬التوترات التي تظهر عندما نترجم سمة معينة للوضع الناش ئ من خالل‬
‫ّ‬
‫تنحل في جزء كبير‬ ‫اليكانيك الكمومي في إطار النظرية الكالسيكية للمعرفة‪ ،‬والتي سوف‬
‫منها من خالل التخلي عن هذا اإلطار‪.‬‬
‫التوتر الثاني‪ :‬إن مفردات العرفة هي مفردات عالقة بين قطبين‪ ،‬بل ومفردات ّ‬
‫توجه‬
‫من أحدهما باتجاه اآلخر‪ .‬إن العرفة هي معرفة ش يء ما‪ ،‬فهي تتصل بش يء ما‪ ،‬أو هي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متعلقة بش يء ما‪ ،‬وهي تخص شيئا ما‪ ،‬وهي ترتكز على موضوع أو على ما يخص شيئا ما‬
‫(حيث االرتباط بش يء هو عبارة عن قصد أو غاية)‪ .‬والحال أن دسبانيا عندما يستخدم‬
‫هذه الجموعة العجمية من الفردات‪ ،‬فإنه يدفع بها إلى تخوم حقل تطبيقها ويبدي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا شعورا بعدم الراحة تجاهها‪ .‬فالتأكيد بأن الفيزياء تزودنا "[‪ ]...‬بمعرفة معينة‬
‫ً‬
‫بالنسبة إلى هذا الش يء"‪ ،170‬يعني تماما إدخال فكرة العالقة وتدخلها‪ ،‬إنما مع تمييز‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بدال باألحرى‬ ‫دقيق غامض عمدا‪ ،‬يعود إلى استخدام الشكل الظرفي للصفة "النسبية"‬

‫‪J. Vullemin, L'héritage kantien et la révolution copernicienne, P.U.F., 1954. 169‬‬


‫‪ ،B. d'Espangat, Le réel voilé 170‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.315 .‬‬
‫‪111‬‬
‫ً‬
‫من استخدام هذه الصفة نفسها‪ .‬والكشف إلى أبعد قليال من ذلك أن "[‪ ]...‬ما يعلمنا‬
‫إياه العلم له دون أي ريب صلة مع الواقعي‪ ،"171‬يعني البدء بتحديد مفهوم العالقة‪ ،‬إنما‬
‫مع تجنب القول بشكل فج إن العلم يتصل أو يتعلق بالواقع‪ .‬ألنه إذا كان العلم يتعلق‬
‫بالواقع‪ ،‬فإن موضوعه الباشر هو "واقع تجريبي"‪ 172‬حيث ال تسمح بنيته (أو على األقل‬
‫ليس دون مراجعات جذرية) بالتعبير كما لو كان موضوعه غير الباشر هو "الواقعية‬
‫ً‬
‫الستقلة"‪ .‬وقد وجد دسبانيا نفسه مضطرا بمواجهة هذه الالحظات إلعادة التمييز بين‬
‫عالقة التوافق وعالقة الوضوع‪ ،‬بين "أن تكون ثمة عالقة مع" و "االتصال بـ"‪ :‬ما أعلمني‬
‫إياه دليلي السياحي في سينتونج ‪ Saintonge‬له بال أدنى شك عالقة مع تاريخ العمارة‪،‬‬
‫لكنني أتجنب أن أقول ("بفظاظة") إن الدليل "يتصل بـ "تاريخ العمارة"‪ .173‬وبالطريقة‬
‫نفسها‪ ،‬فإن الفيزياء العاصرة‪ ،‬من خالل قابليتها لالنسجام مع بعض خطوط القوة‬
‫للواقع الستقل‪ ،‬لها عالقة مع الواقعية الستقلة‪ ،‬دون أن تكون متصلة مباشرة بها‪" .‬إن‬
‫الواقعية الستقلة ال تشكل [‪ ]...‬موضوع الفيزياء‪ ،‬كما أن العمارة ال تشكل موضوع‬
‫الدليل السياحي‪ ،‬لكن الفيزياء تستدعي (بشكل غامض) سمات معينة عامة للواقعية‬
‫ً‬
‫الستقلة"‪ .174‬إن أهمية هذه التحديدات أهمية كبيرة جدا‪ ،‬ألن برنار دسبانيا يدخلنا هنا‬
‫ً‬
‫إلى كون مجازي ليس هو كون "الكاشفة وجها لوجه" بين الفاعل الفيزيائي وموضوعه‬
‫"الواقعية الستقلة"‪ .‬إن صورة الدليل السياحي توحي (خاصة إذا لم تكن تتضمن أية‬
‫خارطة جغرافية) بأنه حتى دون أن نتأمل العالم من الخارج‪ ،‬ودون أن نأخذ به كـ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التوجه فيه وإيجاد طريقه في قلب‬ ‫موضوع (‪ ،)ob-jet‬فإن الفيزيائي يستطيع أن يتعلم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هذا العالم‪ .‬وهكذا ال يعود على النظرية أن تكون مذاك تمثيال للعالم‪ ،‬بل فقط بيانا‬
‫ً‬
‫وجردا منهجيين للطرق التي يسهل السيطرة عليها أكثر من غيرها في السلوك والتصرف في‬

‫‪ 171‬الصدر السابق‪ ،‬ص‪.311 .‬‬


‫‪ 172‬الصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 173‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et realite .205 .‬‬
‫‪ 174‬الرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫هذا العالم‪ .‬وطالا كنا نعترف مع ذلك (كما يفعل دسبانيا) بأن هذا العالم هو في درجة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫معينة سابق التشكل والهيكلة‪ ،‬فإن مسردا أو بيانا بالطرق للعيش والسلوك فيه ال يمكن‬
‫إال أن يفيدنا ويعلمنا بشكل غير مباشر حول هذا العالم نفسه‪ .‬وهذا هو السبب في أنه‬
‫ّ‬
‫يفترض بـ "الدليل" الذي تشكله النظرية الفيزيائية أن "يستدعي بطريقة غامضة" بعض‬
‫سمات الواقعية الستقلة‪ .‬وهكذا نرى بأن الفرضية الحاسمة من أجل الحفاظ مهما‬
‫كلف األمر على الخطط الثنوي لنظرية العرفة هي فرضية التشكل السبق الجزئي على‬
‫َ‬
‫األقل للعالم الستكشف‪ .‬ومع حفاظنا على استخدام صورة "الدليل"‪ ،‬لكن مع عدم‬
‫ً‬
‫اعتبارنا أن الدليل يسمح بالتوجه في عالم متشكل جزئيا بشكل مسبق؛ وإذا اعتبرنا أن‬
‫َّ‬
‫الدليل مثل مجلد من العلومات التي تتعلق باإلجابات الشكلة التي يجابه بها نشاطاتنا‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫الشكلة وسط ال يملك بالضرورة بنى بشكل مسبق‪ ،‬فعندها سيختفي الباعث األخير الذي‬
‫كان بحوزتنا للحفاظ على ش يء ما من الخطط الكالسيكي لنظرية العرفة‪.‬‬
‫َّ‬
‫التضمن" الذي أدخله بوم‪ ،‬يقترح‬ ‫التوتر الثالث‪ :‬خالل مناقشته لفهوم "النظام‬
‫دسبانيا أن نفقد التحديدات الكانية والحركية اليزة التي اكتسبتها خالل القرن السابع‬
‫عشر (والتي كانت موجودة فيها منذ النظرية الذرية لديمقريطس)‪ .‬ووفقه‪ ،‬فإن الوضع‬
‫ً‬ ‫واالتجاه ّ‬
‫وحدة السرعة‪ ،‬التي أصبح تعريفها من اآلن فصاعدا ال ينفصل عن اإلطار‬
‫ً‬
‫أيضا القليل من األسباب في أن ت َ‬
‫عت َبر كصفات "أولية" ليس‬ ‫التجريبي لتقديرها‪ ،‬لها هي‬
‫لدينا لونها‪ .‬وكان هايزنبرغ قد ّ‬
‫عبر عن الفكرة بوضوح منذ بداية الثالثينيات من القرن‬
‫الاض ي‪" :‬في الفيزياء الحديثة‪ ،‬تفقد الذرات هذه الخصائص األخيرة؛ فهي ال تملك‬
‫الصفات الهندسية على مستوى درجة أعلى مثل اللون والذوق إلخ‪ .]...[ .‬ذلك أن كافة‬
‫صفات ذرة ما في الفيزياء الحديثة هي صفات مشتقة‪ ،‬وليس لهذه الذرة أية خاصية‬
‫فيزيائية فورية ومباشرة"‪ .175‬غير أن هذا التخلي عن أرضية صفات أولية لصالح تعميم‬

‫‪W. Heisenberg, "On the history of the physical interpretation of nature" (1932), in W. Heisenberg, 175‬‬
‫‪Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979.‬‬
‫‪112‬‬
‫الفهوم العالئقي للصفة الثانوية له ثمن‪ .‬وكما يشير لوك ‪ Locke‬بعد ديكارت‬
‫‪ ]...[" ،Descartes‬فإن أفكار الصفات األولية لألجسام تكون على مثالها‪ ،‬وتوجد صورها‬
‫ً‬
‫فعليا في األجسام نفسها؛ غير أن األفكار الناتجة َ‬
‫النتجة فينا بواسطة هذه الصفات‬
‫ً‬
‫الثانوية ال تشبه هذه األجسام أبدا في ش يء"‪ .176‬فإذا وحدها الصفات الثانوية استمرت‬
‫ً‬
‫بالوجود‪ ،‬فإن منظور العرفة عندها‪ ،‬الذي ال يكون مقبوال فقط بشكل ما بين ‪ -‬ذاتي بل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأيضا على صورة الوضوع الراد معرفته (مأخوذا بمعناه ما قبل النقدي)‪ ،‬يفقد آخر‬
‫نقطة ارتكاز له‪ .‬وإذا لم يبق سوى الصفات الثانوية‪ ،‬فإننا ال نعود نرى حتى لاذا سنستمر‬
‫في تسميتها "ثانوية" بمقابل عددي للـ "أولية"‪ .‬وحدها الرجعية التاريخية التي ال غنى عنها‬
‫خالل فترة معينة من تطور العلوم حيث كانت تمثيالت الصفات الثانوية‪ ،‬على الرغم من‬
‫َّ‬
‫"مفسرة" بطريقة معينة من خالل التفاعل بين‬ ‫أنها لم تكن تشبه أصلها‪ ،‬يمكن أن تكون‬
‫الصفات األولية لألجسام والصفات األولية ألعضاء الحواس أو ألجهزة االستقبال ّ‬
‫تبرر لنا‬
‫االستمرار (إنما ليس دون حذر وحيطة) في التعبير على هذا النحو‪.‬‬
‫ويفسره بوضوح كبير‪ ،‬لكنه لم يمض ربما حتى نهاية‬ ‫ّ‬ ‫يرى دسبانيا ذلك كله‬
‫ً‬
‫االستنتاجات التي تنجم عن ذلك‪ .‬وهو يرى أنه "[‪ ]...‬من العقول تماما أن يكون «االتجاه‬
‫ً‬
‫الذي يوجد فيه القمر» مرتبطا بالواقعية التحتية بشكل غير مباشر بقدر (من خالل بنانا‬
‫الحسية والعقلية) ما هو األمر بالنسبة لطعم ثمرة ما"‪ .177‬وضمن هذه الشروط ليس ثمة‬
‫أي باعث لالعتقاد بأن االتفاق ما بين ‪ -‬الذاتي فيما يخص موضوع اتجاه القمر ي َّ‬
‫فسر‬
‫ّ‬
‫و"الستقل" لجسم سماوي في هذا االتجاه؛ فليس ثمة أي حجة تجعلنا‬ ‫بالوجود الفعلي‬
‫ً‬
‫نعتقد أن "[‪ ]...‬آنا وبونوا يريان كالهما إبريق شاي على الطاولة ألنه يوجد فعليا إبريق‬
‫شاي هناك"‪ .178‬ويتساءل الؤلف هنا هل علينا لهذا السبب التخلي عن تفسير اإلمكانية‬

‫‪J. Locke, An essay concerning human understanding (1690), Oxford University Press, 1975, II, 176‬‬
‫‪VIII, 15, p. 137.‬‬
‫‪ 177‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪B. d'Espangat, Le réel voilé .323 .‬‬
‫‪ 178‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.31 .‬‬
‫‪113‬‬
‫َّ‬
‫الؤكدة إلقامة توافقات ما بين ‪ -‬ذاتية؟ إن اإلجابة على هذا السؤال تتعلق بنمط‬
‫التفسير الذي نكون مه َّيئين العتماده كتفسير مقبول‪ .‬فإذا حاولنا القبول بأن "التفسير"‬
‫يعني تبيان أن وقائع مختلفة تنشأ عن القانون العام نفسه" فإن الصورية الوحيدة‬
‫للميكانيك الكمومي الطبقة بشكل عالمي (كما في تفسير الحاالت النسبية إليفيريت‬
‫مرض التوافق ما بين ‪ -‬الذاتي"‪ .179‬يضع برنار‬‫ٍ‬ ‫‪ )Everet‬تكفي لكي ندرك ‪ ]...[:‬بشكل‬
‫دسبانيا بالنتيجة هذا الشكل من التفسير‪ ،‬مع القبول بأن تضمين التوافق ما بين ‪-‬‬
‫الذاتي ضمن نظام شرعي يكفي لكي نفهمه‪ .‬الشكلة الوحيدة هنا هي أن هذا الستوى‬
‫ً ً‬
‫األول من التفسير يستدعي مستويا ثانيا للفهم‪ :‬فالقوانين "تفسر" النظام ما بين ‪ -‬الذاتي‪،‬‬
‫يفسر القوانين؟ ومن هنا وفق دسبانيا اللجوء الذي ال غنى عنه إلى واقعية‬‫لكن ما الذي ّ‬
‫مستقلة سابقة التشكل‪" ،‬السبب َّ‬
‫الوسع" لالنتظامات الظاهراتية التي نترجمها بواسطة‬
‫القوانين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الصممة كتفسير‬ ‫تكمن عقدة التوتر مرة أخرى في فكرة التشكل السبق للواقع‪،‬‬
‫وحيد قابل لإلدراك لإلنتظامات الرصودة‪ .‬إنها فكرة تقود‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ ،‬إلى‬
‫إدامةواستمرار شيئ من اإلطار الثنوي لنظرية العرفة على الرغم من التعديالت العميقة‬
‫ً‬
‫التي فرضت عليه‪ .‬إن مثال اتجاه القمر يضع جانبا في الشهد الواقعية مسبقة التشكل‪،‬‬
‫ومن الجهة األخرى منه البنى الحسية والعقلية‪ ،‬وفيما بين الشهدين ثمة رابط ال بد من‬
‫كشفه‪ .‬إن توافقات ما بين ‪ -‬ذاتية تتأسس على الظاهرات‪ ،‬وهي منظمة ويتم توقعها‬
‫ً‬
‫بواسطة قوانين فيزيائية ال عالقة لها أبدا بنزوات اإلنسان‪ ،‬حيث أن غياب االعتباطية‬
‫هنا هو مؤشر في صالح وجود "واقعية مستقلة"‪ ،‬و"بالتالي" يجب أن يكون ثمة رابط سببي‬
‫بين هذه الواقعية الستقلة والظاهرات‪ .180‬وال يتجاهل دسبانيا االعتراضات التي تثيرها‬
‫مصممة للعمل في مستوى الظاهرات إلى السافة الفاصلة التي‬ ‫َّ‬ ‫عملية نقل فئة سببية‬

‫‪ 179‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.350 .‬‬


‫‪ 180‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫يفترض أن تفصل بين ظاهرات "الواقعية الستقلة" (سوف نناقش ذلك في الفصل‬
‫الثالث)؛ غير أنه ال يقوم بش يء في هذا الصدد‪ ،‬ألن إمكانية تفسير نظام التجليات‬
‫ً‬
‫الواقعية التي يمكن التعرف عليها ما بين ‪ -‬ذاتيا تستحق هذا الثمن كما يبدو له‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وبما أن األمر لم يعد من اآلن فصاعدا بعيدا عن إمكانية القبول به فإن دسبانيا‬
‫يمكن أن يساعد (راجع القطع ‪ ،)4 - 3‬في ظل التخلي الكامل عن خرافة الواجهة بين‬
‫ً‬ ‫الوضوع وعالم َّ‬
‫محدد مسبقا‪ ،‬وهي الترجمة اليتافيزيائية للعالقة الكانية بين الجسم‬
‫َّ َ‬
‫العني وأجسام محيطة‪ ،‬في حل هذا الرابطة من التوترات الضطلع بها والتي ال يزال‬
‫يتباحث ويتجادل بها أفضل فالسفة الفيزياء العاصرة‪ .‬إن أكثر الطرق مناسبة للوصول‬
‫ّ‬
‫إلى ذلك تشتمل على االستعانة بتفكر داخلي مستوعب حول حدود استخدام اللغة‪ ،‬أو‬
‫بشبكة من مفاهيم فلسفة االتصاالت‪ .181‬لكن من األسرع (وإن كان ليس من األكثر‬
‫ً‬
‫تشددا) التذكير بخرافة مقابلة‪ 182‬قابلة ألن تضعف رسوخ البنية الثقافية للخرافة األكثر‬
‫ً‬
‫شيوعا‪ .‬لنتخيل إذن ما يلي‪ :‬نحن لسنا بمواجهة الواقع وال حتى منعزلين فيه مثل جسم‬
‫في مسكن ذي عمارة مسبقة التحديد؛ إننا مرتبطون بهذا الواقع بحيث ال يمكن فصلنا‬
‫عنه‪ ،‬بحيث أن "[‪ ]...‬التوصيف الوحيد لهذا الواقع هو أنه قابل للتوصيف"‪ ،183‬ونحن‬
‫نشارك في صيرورته في التوصيف ‪ -‬الذاتي‪ ،‬بل وفي التشكيل البنيوي الذاتي له‪.‬‬

‫‪ 181‬يمكن أن نجد خالصة لهذا العمل في الفصل السابع من هذا الكتاب‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 182‬اعتمادا على مؤسس ي اليكانيك الكمومي‪ ،‬يمكننا أن نرى في هذه الخرافة ـ الضادة نوعا من تذكر أو ذكرى‬
‫للواحدية اليتافيزيائية لشرودنغر ( ‪E. Schrodinger, L'ésprit et la matière, précédé de l'élision par M.‬‬
‫ً‬
‫‪ ،)Bitbol, Seuil, 1990; chapitres III et IV‬أو ألمر بور بتذكر "[‪ ]...‬أننا نحن أيضا ممثلين بقدر ما نحن مشاهدين‬
‫في مسرحية الوجود الكبرى" ( ‪N. Bohr, La théorie atomique et la déscription des phénomenes (1931), J.‬‬
‫‪ .)Gabay, 1993, p. 111‬بل هو يأتي إضافة في الحقيقة إلى واحدية شرودنغر وللثنائية التبقية والواجهة لبور‪.‬‬
‫ً‬
‫راجع أيضا ‪J. A. Wheeler, "Law without law", in J. A. Wheeler & W. H. Zurek, Quantum theory and :‬‬
‫‪measurement, Princeton University Press, 1983.‬‬
‫‪M. Mugur-Schachter, "Spacetime quantum probabilities II: relativized descriptions and propertian 183‬‬
‫‪ ،propensities",‬الرجع السابق ذكره‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫يتضمن الفاهيم ذات األصل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التصور الذي‬ ‫إن قابلية حياة وبقاء هذا النوع من‬
‫ً‬
‫البيولوجي للتنظيم الذاتي وإلنبثاقية البنى الحافظة على نفسها ذاتيا تبقى بالطبع قابلية‬
‫ً‬
‫يجب اختبارها‪ ،‬أكان في مجال فلسفة العلوم أو أيضا في العلوم اإلدراكية التي تشهد‬
‫انطالقة مميزة‪ .‬ويجب بشكل خاص تقدير قدرتها من خالل مسيرتها التاريخية على فهم‬
‫ظاهرية التنظيم السبق واالرتباط الذي تمثله بيئتنا ‪( Umwelt‬أو بيئتنا الألوفة من‬
‫األجسام الادية الجهارية)؛ إن ظاهرية التنظيم السبق واالنفصال تجاه أجسامنا الخاصة‬
‫هو أحد أكثر األسباب يقينية للمصداقية الستمرة للنظرية الثنوية في العرفة‪ .‬ولكن‬
‫ّ‬
‫للتوجه التمثيلي للذكاء‬ ‫ّ‬
‫التقدمات القاومة‬ ‫بمواجهة التحدي الزدوج الذي ّ‬
‫تحرضه‬
‫َّ‬
‫الصممة وفق‬ ‫الصنعي‪ ،‬ومن خالل التوترات الداخلية في تفسيرات اليكانيك الكمومي‬
‫نمط تمثيلي‪ ،‬فإن الواضيعية غير التمثيلية للتنظيم الذاتي تفرض نفسها على األقل‬
‫كبرنامج بحث له األولوية‪.‬‬
‫وهكذا فإن التوافقات ما بين الذاتية التي تنظمها وتتوقعها النظريات ت ّ‬
‫فسر في هذا‬
‫َ‬
‫النظور ذاتي ‪ -‬التنظيم ليس من خالل هوية األجسام (أو الجسم ‪ -‬العالم) التي تواجه‬
‫الواضيع‪ ،‬بل من خالل جملة التزامات هذه الواضيع في قلب العالم‪ ،184‬ومن خالل‬
‫قدرتها (التي تترجم في اللغة بواسطة تبادلية استخدام الضمائر) على تغيير وضعياتها‬
‫وأنماط فعلها فيه‪ .‬إن اإلسناد إلى أجسام ال يمكن استبعاده مع ذلك‪ ،‬ألنه يشكل الركب‬
‫األول للتفاهم‪ .‬وببساطة‪ ،‬فإن العالقة بين التفاهم والجسم تفقد عكوسيتها‪ :‬إننا نتفاهم‬
‫يفسر التفاهم؛ ونتفق حول‬‫ونتفق فيما يتعلق بجسم‪ ،‬حتى ولو لم يكن "وجوده" ما ّ‬
‫ً‬
‫هدف ناظم حتى وإن كان ما هو مستهدف ال يمكن أن يكون معتبرا على أنه السبب‬
‫التجاوزي لالتفاق‪ .‬إن الوظيفة الداللية (اإلسنادية أو الرجعية) هي وظيفة مفصولة عن‬
‫الشحنة اليتافيزيائية‪ ،‬ولهذا فهي تجد نفسها ّ‬
‫مجيشة‪ ،‬مع اإللزام الوحيد بأن تكون‬

‫‪ ،M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique 184‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.202 .‬‬
‫‪116‬‬
‫ً‬
‫عموما مع النظرية األكثر مالءمة لجال التقص ي اإلدراكي أو التجريبي الذي ّ‬
‫يطبق‬ ‫متوافقة‬
‫عليه الخطاب‪.185‬‬
‫يبقى أن نواجه الصراع الواضح بين اليقين بأن الفيزياء "على صلة مع الواقع"‬
‫واالستنتاج‪ ،‬الذي نحصل عليه عبر مسيرة نقدية‪ ،‬بأن الفيزياء ال تصف "الواقع‬
‫يمرر أو يرشح سوى بعض العارف ذات‬ ‫الستقل"‪ .‬كانت وظيفة "الحجاب" الذي ال ّ‬
‫ً‬
‫الطبيعة "العامة أو الجازية"‪ 186‬حول "الواقع الستقل" أن يفصل مجازيا في مثل هذا‬
‫الصراع دون الخروج من الخطط الثنوي لنظرية العرفة‪ .‬ولكن ما أن نضع الثنائية‬
‫ً‬
‫جانبا‪ ،‬فإن استعارات أخرى تصبح متوفرة‪ .‬كما على سبيل الثال االستعارة التالية‪ ،‬التي‬
‫تعود إلى ويتغنشتاين‪" :‬إن الوضوع ال ينبثق من التجربة‪ ،‬بل هو متضمن فيها بحيث أن‬
‫التجربة تكون غير قابلة للوصف"‪ .187‬إن فعل اإلنجاز الجاري ال يمكن أن يوضع على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مسافة وصفية من قبل الذي ينجزه‪ .‬إن تفسيرا متعلقا بالوضوع سيعطي ما يلي‪ :‬إن‬
‫ً‬
‫الوضوع ليس في مواجهة الواقع‪ ،‬بل هو متضمن فيه بحيث أن الواقع ال يدع مجاال لكي‬
‫ً‬
‫يوصف‪ .‬أو على األقل‪ ،‬فإن الوضوع يكون متضمنا كفاية في الواقع‪ ،‬وبطريقة متعذر حلها‬
‫بدرجة كافية‪ ،‬بحيث أن الجال الوحيد الحدد حيث يجري نشاطه الجسماني (أي البيئة‬
‫ً‬
‫الجهارية الألوفة) يكون قابال للوصف بواسطة العلم الكالسيكي لقاء تقريبية مقعولة‪ .‬إن‬
‫الحاجز الذي كان َّ‬
‫يصور في السابق كـ "حجاب" أو كفصل زائد ومفرط (لنتذكر عبارة أو‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 185‬نجد تدقيقا حديثا حول هذا الوضوع في ‪S. Blackburn, Essayts in quasi-realism, Oxford University‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪Press, 1993‬؛ وانظر أيضا الفصل الرابع من هذا الكتاب؛ وانظر أيضا‪M. Bitbol, "Autonomie et ontologie, :‬‬
‫‪l'interprétation du formalism de la mécanique quantique dans les années 1930", in F. Nef et D.‬‬
‫‪.Vernant, Actes du colloque Les années 1930, reaffirmation du formalisme, à paraitre‬‬
‫‪ 186‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪B. d'Espangat, Le réel voilé .316.‬‬
‫‪L. Wittgenstein, Grammaire philosophique, Gallimard, 1980, p. 164. 187‬‬
‫‪117‬‬
‫صيغة "الواقعية البعيدة"‪ ،)188‬هو اآلن مثل إفراط في القرب معم ٍٍ حيث تكون منطقة‬
‫تعويضه محدودة بالبيئة ‪ Umwelt‬الجهارية‪.‬‬
‫ً‬
‫وبدال باألحرى من أن نختم هذا الفصل‪ ،‬سأنهي بمالحظة وبسؤالين‪ .‬يعلن هبرماس ‪J.‬‬
‫‪" :Habermas‬يوافق [امتيازات] وجهة نظر الراقب في العلوم الطبيعية ووجهة نظر‬
‫ٌ‬
‫فصل لجاالت الوضوع"‪ .189‬وبشكل أكثر جوهرية علينا‬ ‫الشارك في العلوم اإلنسانية‪،‬‬
‫ً‬
‫الحديث هنا عن فصل للمناهج‪ :‬النفذ الذي يجعل الش يء موضوعيا من جهة‪ ،‬والنفذ‬
‫الترميزي والتأويلي من جهة ثانية‪ .‬فما الذي يحصل لخطوط القسمة‪ 190‬هذه إذا بدأت‬
‫وجهة النظر الشاركة بالتغلب في بعض علوم الطبيعة‪ ،‬مثل الفيزياء الكمومية؟ وما الذي‬
‫ً‬
‫سيحدث ابتداء من ذلك للخيار الجوهري الذي ارتكزت عليه والدة العلم الغربي وفقا‬
‫لارلو بونتي‪ :191‬خيار اإلنسان بالتخلي عن العيش بين األشياء لكي يتحكم بها بشكل‬
‫أفضل؟‬

‫‪ 188‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪B. d'Espangat, Le réel voilé .342 .‬‬


‫‪J. Habermas, La pensée postmétaphysique, Armand Colin, 1993, p. 44. 189‬‬
‫ً‬
‫‪ 190‬ال شك أنه كان قد تم التشكيك بخطوط التشارك هذه‪ ،‬إنما باتجاه معاكس تماما‪ ،‬وذلك عبر إدخال طرائق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تجعل األمر موضوعيا و ‪ /‬أو "تجعله طبيعيا"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪M. Merleau-Ponty, L'oeil et l'esprit, Gallimard, 1964, p. 9 191‬؛ وانظر شرحا موضحا أيضا في ‪F. Varela, E.‬‬
‫‪ ،Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit,‬الرجع سابق الذكر‪ ،‬ص‪.045 .‬‬
‫‪118‬‬
‫‪192‬‬
‫‪ .3‬واقعية بنيوية‬

‫"الواحد‪ ،‬يقول أفالطون‪ ،‬إذا كان‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫موجودا‪ ،‬ال يكون حتى واحدا‪ .‬أما إذا لم يكن‬
‫ً‬
‫موجودا‪ ،‬فإن أي خطاب ال يمكن أن ينطبق‬
‫عليه‪ ،‬وال حتى النفي‪".‬‬
‫دمسكيوس‪ ،‬حول البادئ األولى‬

‫كما كنا قد أشرنا في الفقرة ‪ ،3 - 0‬فإن اإلجابة التي ّ‬


‫يرد بها عادة أنصار الواقعية‬
‫العلمية على االعتراض التمثل بالالإستقرارية التاريخية لنظومة األشياء الفترض أنها من‬
‫مواضيع التقص ي والتحقيق تشتمل على مقابلة هذه الالإستقرارية باستقرارية البنى‬
‫ّ‬
‫القانونية الكبرى‪ .‬فاإلثبات الواقعي يجب أن يركز بالتالي‪ ،‬وفق هؤالء الباحثين‪ ،‬على البنى‬
‫ً‬
‫بدال باألحرى من تناوله للـ "أنطولوجيا" وفق العنى الذي يعرف كوين ‪ Quine‬األنطولوجيا‬
‫وفقه‪.‬‬
‫لكننا إذا قبلنا بذلك‪ ،‬فال بد أن تظهر أمامنا صعوبة ال يستهان بها‪ .‬وكما يالحظ‬
‫ريدهيد ‪ ،Redhead‬وهو نفسه مدافع عن واقعية بنيوية‪ ]...[" ،‬فإن الضمون الفيزيائي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫[للنظريات] يكون غالبا مغمورا في بنية رياضية أوسع ليس لها بذاتها أية مرجعية‬
‫فيزيائية‪ ."193‬ويكاد هذا االستنتاج أن ّ‬
‫ييسر الفكرة التي ال تكون وفقها النظريات الفيزيائية‬
‫سوى "صناديق سوداء" رياضية كبيرة تتحقق صلتها الوحيدة مع العالم من خالل تنبؤاتها‬
‫التجريبية‪.‬‬

‫معدلة عن مقدمتي لكتاب جماعي مخصص لفكر برنار دسبانيا‪M. Bitbol & S. :‬‬ ‫‪ 192‬هذا الفصل هو نسخة ّ‬
‫‪ ،Laugier (eds.), Physique et réalité‬الرجع السابق‪ .‬وبما أن االستشهادات من هذا الرجع كثيرة‪ ،‬فإننا سوف‬
‫ً‬
‫نشير إليه من اآلن فصاعدا بالرمز الختصر ‪.PR‬‬
‫‪M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995, p. 19. 193‬‬
‫‪119‬‬
‫إنه استنتاج ييسرها لكنه ال يتضمنها‪ ،‬كما ّ‬
‫يرد ريدهيد‪ .‬فبعد كل ش يء‪ ،‬ال نستطيع‬
‫أن نستنتج أن مجمل هذه البنية ينطبق عليها هذا الحال‪ ،‬ألنه ليس لبعض أقسام البنية‬
‫الرياضية للنظريات أية صلة فيزيائية واضحة‪ .‬وال ش يء يمنع أن تكون بعض عناصر هذه‬
‫البنية متوافقة مع البنية الطلوبة للواقعي والحقيقي‪ .‬وبعد أن طرحنا فرضية العمل‬
‫هذه‪ ،‬تكون السألة التالية هي تحديد مرشحين بنيويين معقولين ضمن النظريات التوفرة‬
‫للنظام األساس ي للممثلين الخلصين لبنية واقعية‪ .‬فما هي العايير التي سوف نستخدمها‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفضلة؟ ولا كان أحد أكثر الباحثين تقدما‬ ‫التعرف على هذه العناصر البنيوية‬ ‫من أجل‬
‫في برنامج العمل هذا هو برنار دسبانيا‪ ،‬فإننا سنعتمد من جديد مكانته كمرجع لنا‪ .‬وهذا‬
‫الوضع الذي بلغه في بحثه هو ما سوف نفحصه بتدقيق وتمحيص أكثر منطلقين من‬
‫أولى توجهاته‪.‬‬
‫‪ 1 -3‬بعض الطرق لنكون واقعيين‬
‫تتمحور فلسفة برنار دسبانيا حول مسألة "الواقعية"‪ .‬غير أن االكتفاء بهذا التمييز‬
‫ً‬
‫والوصف لفلسفته سيكون غير كاف أبدا‪ .‬إن تعدد معاني لفظة "واقعية" العقائدية‬
‫ً‬
‫واسع جدا إلى درجة أن معظم الفكرين العاصرين والسابقين استطاعوا أن يجدوا‬
‫أنفسهم في هذا أو ذاك من معانيها‪ ،‬دون أن يتفقوا مع ذلك فيما بينهم حول الجوهر‪.‬‬
‫ً‬
‫ووفقا لداللة لفظية مستلهمة من ويتغنشتاين علينا القبول بأن لفظة "واقعية" تحمل‬
‫من العاني بقدر ما تحمل من االستخدامات المكنة‪ ،‬وعلى وجه التحديد فإنها تحمل من‬
‫العاني بقدر ما تحمل من الوانع تجاه األضداد المكنة‪.‬‬
‫وفقا لعلم الكالم في القرون الوسطى‪ ،‬كانت الواقعية تعارض اإلسمية‬
‫‪ ،nominalisme‬وكانت تشتمل بالتالي على تأكيد وجود قيم عالية مثل الجنس والنوع‪،‬‬
‫إلى ما وراء األشياء الفردانية التي تحققها‪ .‬وتتعارض الواقعية بشكل عام في فلسفة‬
‫الرياضيات مع البنائية‪ ،‬وفي هذه الحالة يعود األمر إلى االعتقاد بأن للكينونات الرياضية‬
‫وجود مستقل اتجاه إجراءات البرهان‪ .‬وهكذا تتعارض الواقعية بسهولة أكثر مع الثالية‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫لكن هذا التعارض يتطلب هو نفسه أن يتم تطويره‪ .‬فإذا كانت الثالية تشتمل على نفي‬
‫وجود أي ش يء كان خارج "الفكر"‪ ،‬بالعنى الوسع الذي يقصده ديكارت‪ ،‬فإن الواقعية‬
‫ً‬
‫الوصوفة باليتافيزيائية تتقلص عندها إلى مجرد التأكيد الغامض والبهم هو أيضا لش يء‬
‫ما يسبق ويتجاوز منطقيا الفكر‪ .‬لكن‪ ،‬إذا اتخذت الثالية الشكل التجاوزي‬
‫(الترانسندنتالي)‪ ،‬وارتكزت عندها فقط على اعتبار أن األجسام اللحوظة هي "نوع من‬
‫التمثيالت نسميها خارجية‪ ،‬ليس ألنها تستند على أجسام خارجية بذاتها‪ ،‬بل ألنها تعيد‬
‫التصورات اإلدراكية إلى الكان‪ ،"194‬فإنها تعارض الواقعية التجاوزية التي تؤكد أن هذه‬
‫األجسام تتوافق مع الكائنات كما هي ("بذاتها")‪ ،‬بشكل مستقل عن الشروط الحساسة‬
‫الذرائعية والعقلية لظهورها‪ .‬إن الشكلة‪ ،‬التي أشار إليها كانط‪ ،‬هي أن الثالي التجاوزي‬
‫ً‬ ‫يمكن أن ي َ‬
‫عتبر تماما كواقعي تجريبي‪ ،‬وذلك باعتبار أنه يقرن باألجسام الادية‪ ،‬بما هي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ظاهرات‪ ]...[" ،‬واقعا حقيقيا ال يحتاج ألن يستنتج‪ ،‬إنما يتم إدراكه بشكل مباشر"‪.195‬‬
‫وعلى العكس‪ ،‬ما أن تمر فترة التأكيدات القاطعة‪ ،‬فإن الثالي التجاوزي يجازف بأن يجد‬
‫نفسه في مواجهة شك التشككين فيما يتعلق بالطابقة بين الخصائص الفترض أنها‬
‫نحصلها حولها‪ .‬وبما أن هذا الشك‬ ‫ّ‬ ‫ذاتية وجوهرية في األجسام والعرفة التي يمكن أن‬
‫ً‬
‫متأصل فيه‪" ،‬فإنه [هو] يجد نفسه مجبرا على إيالء مكان للمثالية التجريبية‪ "196‬التي‬
‫تصل إلى ّ‬
‫حد التشكيك بواقع األشياء التي يبدو أن تمثيالتنا الحسية تعيدنا إليها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نرى هنا‪ ،‬وهذا سيكون مفيدا بشكل خاص من أجل فهم تتمة هذا الفصل‪ ،‬أن كبحا‬
‫ً‬
‫عظيما حول ما يسميه برنار دسبانيا "الواقع الستقل" يمكن أن يكون شرط تنمية شكل‬
‫ّ‬
‫معدل للواقعية (ا لواقعية التجريبية لكانط أو "الواقعية الداخلية" لبوتنام)؛ في حين أننا‬
‫ً‬
‫عندما نريد أن نميز بشكل محدد جدا هذه الواقعية الستقلة الفترضة بأن نسقط عليها‬

‫‪E. Kant, Critique de la raison pure, A371, in OEuvres philosophiques, I, Gallimard-Pléiade, p. 194‬‬
‫‪1444.‬‬
‫‪ 195‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪E. Kant, Critique de la raison pure, A371, in OEuvres philosophiques, I .0226 .‬‬
‫‪ 196‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫شكل الظاهرات‪ ،‬فإننا نصبح حساسين تجاه الريبة والتشكك ونفتح عن غير قصد‬
‫ً‬
‫الطريق ألكثر أشكال الثالية هزءا‪.‬‬
‫لقد أضافت الفلسفة واإلبستمولوجية العاصرتان لهذه االستقطابات ثالثة‬
‫اعتراضات أخرى يكتسب مصطلح "الواقعية" فيها عناصر معنى جديدة‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫‪Dummett‬‬ ‫إن الواقعية‪ ،‬ضمن مدلولية القترحات‪ ،‬تعارض ما سماه دوميت‬
‫"الالواقعية"‪ .‬ويرتكز التصور الالواقعي لقضية على اعتبار أنه ال يمكن القول إنها‬
‫ً‬
‫صحيحة أو خاطئة إال بالنسبة لوسيلة (تكون متوفرة عمليا أو مبدئيا) التحقق منها‪ .‬وعلى‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬فإن التصور الواقعي لقضية ما يشتمل على التأكيد بأنها صحيحة أو‬
‫خاطئة‪ ،‬دون أي استناد للتوفر الحالي أو البدئي لوسيلة للتحقق منها (راجع الفصل‬
‫الرابع)‪ .‬إن هذا التمييز ال يتقاطع بالضبط مع التمييز‪ ،‬األكثر تقليدية‪ ،‬بين الثالية‬
‫ً‬ ‫والواقعية؛ ألنه‪ ،‬على عكس مثالي َّ‬
‫توصل إلى منتهى نتائج موقفه‪ ،‬فإن الواقعيا بالعنى‬
‫الذي يحدده دوميت يمكن أن يتوافق مع الواقعيين لكي يقبل بأن وسائل التحقق التي ال‬
‫غنى عنها تعمل وتؤثر على عالم له درجة معينة من االستقاللية تجاه هذه الوسائل‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬وفي مدلولية األسماء‪ ،‬فإن ما يعارض الواقعية هو الواقعية‬
‫للكينونات السماة‪ .‬ووفق هذه التنويعة الثانية لالواقعية‪ ،‬فإن منظومة من القضايا‬
‫يمكن أن تكون (بصورة شاملة) صحيحة دون أن توافق بالضرورة الكينونات الشار إليها‬
‫ًّ‬
‫وحدا‬ ‫بواسطة تسميات فاعلة أو مؤثرة في القضايا ألجسام موجودة في العالم حرفا حرفا‬
‫ً‬
‫حدا‪ .‬فبعد كل ش يء‪ ،‬كما يشير بوتنام بعد كوين‪ ]...[" ،‬إن أية مقاربة ّ‬
‫تثبت فقط قيمة‬
‫تثبت مرجعية [مصطلحات هذه الجمل]‪ ."198‬فمن الطبيعي‬ ‫حقيقة الجمل ال يمكن أن ّ‬

‫االستفادة من هذا التحديد التحتي لنمط تقطيع العالم إلى كينونات تستند على حقيقة‬
‫القضايا التي تدخل فيها مصطلحات لها وظيفة مرجعية أو إسنادية‪ ،‬لكي ندعم الواقعية‬

‫‪M. Dummett, "Realism", Synthese, 52, p. 55-112, 1982. 197‬‬


‫‪H. Putnam, Raison, vérité et histoire, Minuit, 1948, p. 44. 198‬‬
‫‪122‬‬
‫للكينونات‪ .‬إن نوع الواقعية الذي يستجيب لهذه التنويعة من الالواقعية هو واقعية‬
‫األجسام الحددة والقترحات الستندة عليها‪ .‬ومثل هذه النسخة من الواقعية هي بالتأكيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واقعية أكثر تحديدا وبالتالي أقوى من الواقعية اليتافيزيائية‪ ،‬لكنها أيضا أقوى من‬
‫الواقعية الداللية بالعنى الذي يقصده دوميت‪ ،‬الذي يحاول التأكيد أن قيمة حقيقة‬
‫القضايا مستقلة عن وسيلة التحقق‪ ،‬هذا دون اتخاذ موقف في موضوع الكينونات‬
‫السماة في القضايا‪ .‬فهي تفسر وتعمم الواقعية البسيطة للـ "موقف الطبيعي" فيما‬
‫يخص األشياء اللحوظة والسماة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬ثمة اعتراض أخير هام جدا عندما يتعلق األمر‪ ،‬كما هو الحال في هذا‬
‫ً‬
‫الكتاب‪ ،‬بالواقعية في العلوم‪ .‬وهذا االعتراض يضع وجها لوجه تصورات واقعية‬
‫ً‬
‫والواقعية للنظريات العلمية‪ .‬فوفقا لتصور لالواقعية النظريات العلمية‪" ،‬يهدف العلم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إلى تزويدنا بنظريات مناسبة تجريبيا؛ وقبول نظرية يتطلب اعتقادا وحيدا أن تكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مالئمة تجريبيا‪ ."199‬يمكن لهذا البيان العام أن يشمل "عقائد في العلم" متنوعة جدا‪.‬‬
‫كانت الفلسفة الوضعية الكالسيكية عند إرنست ماخ تميل إلى االلتزام الصارم بـ‬
‫"الوقائع"‪ ،‬واعتبار النظرية كعملية ترتيب اقتصادي لهذه "الوقائع"‪ .‬كانت الكفاية‬
‫التجريبية للنظرية تعتبر كفاية مرضية عندما كان يمكن الحصول على توافق بين البادئ‬
‫األساسية الستخدمة والجسم الواقعي التوفر‪ّ .‬‬
‫تشدد نسخة حديثة من الالواقعية‬
‫العلمية‪ ،‬التي يصفها فان فراسين بـ "التجريبية البنائية" (راجع ‪ ،)3 - 0‬على الرابطة التي‬
‫ال تنفصم مع نظريات نماذج الجال الستكشف التي تذهب إلى أبعد من مجرد‬
‫التشكيالت البسيطة الناظمة لدى أنصار الوضعية طالا أنها تساهم في تشكيل العلومة‬
‫التجريبية‪ .‬إن الكفاية التجريبية للنظريات مثبتة من خالل مواجهتها ليس مع "وقائع" كما‬
‫تقدمها الطبيعة‪ ،‬بل مع نماذج معطيات متعلقة بالنموذج الشامل للنظرية نفسها‪.200‬‬

‫‪B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 12. 199‬‬
‫‪ 200‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.20.‬‬
‫‪123‬‬
‫وثمة نسخ أخرى حديثة من الالواقعية العلمية تذهب إلى أبعد من فان فراسين في فكرة‬
‫تشكيل الظاهرات التجريبية‪ ،‬طالا أنها ال تحاول تمييز التشكيل الفكري للـ "معطيات"‬
‫تشدد أكثر من ذلك على تشكيلها الادي‪ ،‬وذلك بسبب مشاركة‬ ‫بواسطة نموذج‪ ،‬بل ّ‬
‫ّ‬
‫(الحدد بتوقعات نظرية صغرى محتملة) في انبثاق حادثة ما‬ ‫الشكل نفسه لإلطار األداتي‬
‫يمكن أن توصف بالظاهرة‪.201‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ال يهم كثيرا بالنسبة للنقاش الذي يشغلنا هنا اختيار شكل من الالواقعية‬
‫للنظريات العلمية‪ .‬فليس هناك من سبب العتبار أي من هذه األشكال أنه متعارض مع‬
‫الواقعية اليتافيزيائية بالعنى الواسع (طالا أنه في هذه األشكال ال "الوقائع" وال‬
‫ّ‬
‫التكيف‬ ‫"العطيات" التي يقدمها النموذج النظري الستخدم‪ ،‬وال "الظاهرات" الشاركة في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من خالل اإلطار األداتي‪ ،‬ال يتم اختراعها تماما من قبل الباحث)‪ .‬بالقابل فإن كال من‬
‫هذه األشكال يتمايز عن الواقعية العلمية‪ ،‬والتي وفقها "يهدف العلم إلى تزويدنا من‬
‫ً‬
‫خالل نظرياته بتقرير صحيح حرفيا لا يشبهه العالم؛ والقبول بنظرية ما يتطلب االعتقاد‬
‫بأنها صحيحة‪ ."202‬يتفق الواقعيون العلميون بالتالي على نبذ كافة أشكال الالواقعية‬
‫للنظريات‪ .‬ويختلف هؤالء فقط عندما يتعلق األمر بتحديد درجة التقدم الحالي والمكن‬
‫لشروعهم‪ :‬فأي جزء من التقرير الذي تقدمه النظريات العلمية الحالية يمكن أن يعتبر‬
‫ً‬
‫صحيحا بشكل حرفي‪ ،‬وإلى أية درجة ستستطيع النظريات الستقبلية تفسير وتوضيح‬
‫"ماذا يشبه العالم"؟‬
‫سوف نعمل اآلن‪ ،‬باالعتماد على هذه الشبكة من الفاهيم والتعارضات‪ ،‬على تحديد‬
‫موقف برنار دسبانيا وذكر مفاصل الجدال الذي يثيره‪ .‬وسوف نعالج على التوالي الواقعية‬
‫اليتافيزيائية‪ ،‬والواقعية الداللية من منظور دوميت‪ ،‬وواقعية الكينونات وواقعية‬
‫ً‬
‫النظريات العلمية‪ .‬وبالنظر إلى التوجه الفلسفي لبرنار دسبانيا‪ ،‬فإن أيا من الراحل الثالث‬

‫‪ 201‬راجع على سبيل الثال ‪A. Pickering, The mangle of practice, The University of Chicago Press, 1995.‬‬
‫‪ 202‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. Van Fraassen, The scientific image .6 .‬‬
‫‪124‬‬
‫األولى لن يمكن تناولها دون االستناد بشكل سريع على الواقعية األخيرة أي على واقعية‬
‫النظريات العلمية‪.‬‬
‫‪ 2 -3‬قبل وبعد الفيزياء‬
‫كتب برنار دسبانيا‪" :‬إن حججي لصالح مفهوم الواقعية الستقلة نفسه ال ترتكز على‬
‫ً‬
‫الفيزياء [‪ ]...‬أبدا‪ ،‬أو ترتكز عليها بدرجة بسيطة فقط‪ ."203‬يجعل برنار دسبانيا من هذا‬
‫التصور للواقعية الستقلة نتيجة الستنتاج ذي وجهين‪ .‬الوجه األول هو االتصال الباشر‬
‫مع الكائن‪ ،‬الذي تعطيه تجربة "التفكير" (أو الـ كوجيتو بحسب التعبير الديكارتي "أنا‬
‫ً‬
‫أفكر إذا أنا موجود ‪ ،)Cogito, ergo sum‬والوجه الثاني هو مقاومة أن "شيئا ما" يعارض‬
‫عملنا كما ومحاوالتنا في التصور‪.‬‬
‫إن استخدام مصطلح الـ كوجيتو وفق ضمير التكلم الفرد هو امتياز للمفردة‬
‫الديكارتية التي ال يجب أن نستنتج منها أن نقطة انطالق السيرة التي اعتمدها برنارد‬
‫دسبانيا هي نقطة انطالق مثالية‪ ،‬بل وأنانوية ‪ .solipsiste‬ويشير دسبانيا في الواقع في‬
‫القطع نفسه إلى أن التجربة التي يتحدث عنها "تثبت أن فعل «الكينونة» له معنى بذاته‪،‬‬
‫لكنها ال تثبت أن ما هو كائن هو ذو طبيعة عقلية فقط"‪ .‬ويقع عبء اإلثبات على عاتق‬
‫الذين يريدون تقييد نطاق تجربة الكائن إلى مجرد نطاق أنثروبولوجي أو نفساني‪ ،‬باألحرى‬
‫من كونه يقع على عاتق الذين يتجنبون تعيينه‪ .‬تميل هذه التجربة نفسها بالقابل وفق‬
‫دسبانيا إلى اعتماد السمة الثانوية لوظيفة عقلية مثل العرفة‪ ،‬طالا أن كل معرفة‬
‫ً‬
‫تفترض مسبقا الوجود الذي يؤكده واقع الكوجيتو‪" .‬لكي توجد العرفة يجب أن يوجد‬
‫الفكر"‪ .‬األمر الذي يقود دسبانيا إلى استنتاج "أسبقية مفهوم الوجود على مفهوم‬
‫العرفة"‪.204‬‬
‫في الثقافة الغربية خالل القرنين أو القرون الثالثة الاضية‪ ،‬كان وضع هذه األسبقية‬
‫في القدمة يمكن أن يكافئ إيالء أفضلية للعلوم‪ ،‬ألن موضوعية العلوم كانت تعتبر‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 292. 203‬‬


‫‪ 204‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.61.‬‬
‫‪125‬‬
‫الوسيلة الوحيدة للقفز إلى ما وراء حدود العارف الخاصة‪ ،‬و"بالتالي" الحصول (ضمن‬
‫منظور النقد السبق) على فهم غير توهمي لا هو كائن‪ .‬ال يوافق برنار دسبانيا على هذه‬
‫الرؤية االختزالية‪ .‬وحتى إن أمكن لها أن تبدو مقبولة في زمن الفيزياء الكالسيكية‪ ،‬كما‬
‫يالحظ‪ ،‬فإنها ال يمكن أن تكون كذلك في الوقت الحاضر ألن الكثير من الحجج الؤسسة‬
‫على الفيزياء العاصرة يجعل مماثلة هذه النظريات مع توصيفات لـ "ما هو كائن" أقل‬
‫مصداقية من أي وقت مض ى‪ .‬ولذلك يجب القبول بأن الدرب العلمي ال يستنفد إدراكنا‬
‫ً‬
‫للـ "واقعي"‪ ،‬وأن على هذا الدرب التابعة في التواجد جنبا إلى جنب مع مقاربات أخرى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سحيقة؛ مقاربات تكون أحيانا غير استطرادية‪ ،‬وأحيانا ال تستخدم الخطاب والحاكمة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫إال إلعادة الخاطب والحاور نحو الواقع الهائل للوجود‪ .‬ولكي نقدم مثال على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫"الفتاح الشاعري [‪ ]...‬يتم تفسيره كإشارة [‪ ]...‬ونوع من الجسر والصلة األشبه بخيط‬
‫ً‬
‫العنكبوت مع هذا «الواقع»‪ ."205‬وهي إشارة ليست بالضرورة أقل أهمية أو أقل ارتباطا‬
‫بجوهر السألة من رموز النظرية العلمية‪ ،‬وال تكون حتى مجردة من بعض التشابهات مع‬
‫التخيل التي ّ‬
‫تعبر عنها القصيدة‪ ،‬كذلك فإن عناصر "الواقع‬ ‫ّ‬ ‫هذه األخيرة‪ .‬فكما عناصر‬
‫التجريبي" التي تضعها العلوم هي في جزء منها "إبداعنا نحن‪ ."206‬تنتمي األشياء اليومية‬
‫العتادة‪ ،‬وإن كان بدرجة أقل من أثاث الخيال الشاعري‪ ،‬إلى دائرة "واقعي من أجلنا"‪ .‬إن‬
‫الفارق بينهما ليس في الجوهر سوى فارق "كمي"‪ :‬ففي الخيال الشاعري اإلبداع هو إبداع‬
‫شخص ي قبل كل ش يء‪ ،‬حتى وإن كان يهدف إلى التواطؤ التعبيري بين الكاتب والقارئ‪ ،‬في‬
‫حين أنه في تجهيز عناصر "الواقعية التجريبية"‪ ،‬تستجيب الركبة اإلبداعية إلى شروط‬
‫ً‬
‫صارمة من االتفاقات الجتمعية‪ .‬أما نوعيا‪ ،‬فتتالقى "العناصر التخيلية" و"العناصر‬
‫ً‬
‫الواقعية تجريبيا"‪ .‬إنهما تلتقيان بما هما تمثالن كالهما محصلة لصيرورة االنبثاق هذه أو‬
‫ٌ‬
‫ظهور بسببه في آن‬ ‫التوالد الشترك التي يضعها برنار دسبانيا في أصل ما يظهر وما يكون‬

‫‪ 205‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.95.‬‬


‫‪ 206‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،95 .‬الهامش ‪.01‬‬
‫‪126‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫معا‪ .‬ويكتب دسبانيا‪" :‬يولد الوعي والواقعية التجريبية أحدهما اآلخر [‪ ."207]...‬ولكنه‬
‫ّ‬
‫بتحديده أنهما ال يولد كل منهما اآلخر على التبادل إال "في قلب الواقعية الستقلة"‪ ،‬فإنه‬
‫ً‬
‫يهتم جدا في الوقت نفسه باستبعاد الحاولة التي يكتشفها عند بعض محاوريه‪ :‬أال وهي‬
‫محاولة التجاوز الكامل للمرجعية ذات األساس الثابت والستقر للواقعية الستقلة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واألخذ فقط بالصيرورة نفسها للتوالد الشترك‪ّ .‬‬
‫ويكرر قائال‪" :‬أجد نفس ي منسجما جزئيا‬
‫مع التجاوزيين (الترانسندنتاليين) عندما يتحدثون عن توالد متبادل‪ ،‬وعن والدة مشتركة‬
‫للواقعية الظاهراتية وللفكر‪[ ،‬لكنني أضيف]‪ :‬إنما في قلب الكائن‪ ".208‬إن عقدة الختلف‬
‫تطرح مرة أخرى مسألة وجود أو عدم وجود هيكلة مسبقة ثابتة للواقعي‪ .‬ولكن في حين‬
‫أن مسلمة الهيكلة السبقة كانت تدفع دسبانيا في السابق للحفاظ‪ ،‬وإن كان من خالل‬
‫ً‬ ‫لعبة االستعا ات‪ ،‬على مخطط ثنائي لنظرية العرفة‪ ،‬فإنها باتت ّ‬
‫تعد من اآلن فصاعدا‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫بين القدمات التي تسمح بإعطاء سبب النبثاق قطبية الذات ‪ -‬الوضوع‪ .‬لقد تم تدريجيا‬
‫توسيع الفكرة التي ال تزال مفعمة باإلمكانات‪ ،‬فكرة الهيكلة السبقة للعالم الذي نسعى‬
‫ً‬
‫لعرفته‪ ،‬إلى هيكلة مسبقة للوسط الذي تتم بدءا منه عملية التنظيم التبادلة بين‬
‫العارف والعروف‪ .‬وكذلك حقل تطبيق األطروحة الواقعية‪ ،‬الذي كان يتعلق في البداية‬
‫بالآل الوحيد لعالم مأخوذ كموضوع‪ ،‬فقد تم توسيعه بالتالزم مع إدراك مجمل ما‬
‫يسميه شيموني ‪" A. Shimony‬الحلقة اإلبستمولوجية"‪ .‬وبعد تقديم هذه اإلحكامات‬
‫والتفاصيل يستطيع برنار دسبانيا إن يستعيد تأييده‪ ،‬حتى ولو كان ذلك بشكل جزئي‪،‬‬
‫‪209‬‬
‫‪M. Mugur-‬‬ ‫لفهوم مثل مفهوم النسبية الوصفية التي يدافع عنها مغور‪ -‬شختر‬
‫‪ Schachter‬في مجال الفيزياء الكمومية‪ ،‬أي فكرة أن مواضيع الدراسة وتحديداتها تكون‬
‫الجرب تفعيل بعض‬ ‫ّ‬ ‫متعلقة فقط بشبكة قراءة إدراكية أو تجريبية ّ‬
‫يحرض عبرها‬

‫‪ 207‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.61 .‬‬


‫‪ 208‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.242 .‬‬
‫‪M. Mugur-Schachter, "From quantum mechanics to universal structures of conceptualization and 209‬‬
‫‪feedback on quantum mechanics", Foundations of physics, 23, p. 37-122, 1993.‬‬
‫‪127‬‬
‫الكمونات الالمحدودة للـ "واقع"‪ .‬ألسنا نواجه هنا حالة خاصة هامة من التوالد الشترك‬
‫للشروط األداتية أو اإلدراكية الخاصة بموضوع معين ومن الكينونات القابلة للتشييء‬
‫بشكل ّ‬
‫مجزأ أو كامل التي يفترض أن يدرسها؟‬
‫إن التأمالت السابقة تظهر بوضوح منذ اآلن أن برنار دسبانيا‪ ،‬إلى ما وراء صيغه التي‬
‫ال تزال متأثرة (سوف نعود إلى ذلك) بنظرية العرفة الكالسيكية‪ ،‬توصل للدفاع عن‬
‫‪210‬‬
‫للـ "واقعية الستقلة" أو للـ "كائن" الذي يذكره‪ .‬ومثل هذه القراءة‬ ‫تصور غير ثنائي‬
‫مثبتة بالعديد من الجمل التي يشجع بها "مفهوم 'واقعية مستقلة' سابقة للشرخ بين‬
‫ً‬
‫الذات والوضوع‪ ،"211‬أو أيضا "تطرح واقعية سابقة للشرخ بين الذات والوضوع‪ ."212‬وهي‬
‫ً‬
‫مثبتة أيضا من خالل الصدر الزدوج السابق ذكره لفهوم "الواقعية الستقلة"‪ :‬أي تجربة‬
‫الكوجيتو‪ ،‬الرفوضة عادة من جانب الذات‪ ،‬واإلشراطات الرفوضة عادة من جانب‬
‫الوضوع‪ ،‬التي تمارسها التجريبية على الطروحات النظرية‪ .‬لكن دسبانيا يشير في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬بمواجهة طروحات محاوريه الذين يدافعون عن جعل األطروحة غير الثنائية‬
‫نقطة انطالق‪ ،‬أن هذه األطروحة نفسها تشكل عنده نقطة الوصول لسار رحلة طويل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من الفكر‪ ،‬حيث لعب التأمل حول الفيزياء العاصرة دورا مركزيا فيه‪ .‬فبدال من "محور"‬
‫ً‬
‫بدئي‪ ،‬يشكل رفض الفصل بين الذات والوضوع عند دسبانيا "عنصرا من استنتاجاتـ‬
‫[ـه]‪ ."213‬نفهم من ذلك أن دسبانيا حافظ لفترة طويلة على ثقته األساسية بالنموذج‬
‫الثنائي (راجع الفصل الثاني)‪ .‬إن هذه النتيجة الفكرية للطرح غير الثنائي تظهر بوضوح‬
‫عالوة على ذلك عندما يحلل دسبانيا على حدة‪ ،‬في إجابته على بتيتو ‪ ،J. Petitot‬مفهوم‬

‫‪ 210‬ال يجب الخلط بين هذه "الالثنائية"‪ ،‬الناجمة عن نقد لثنائية نظرية العرفة في العلوم‪ ،‬ال مع وحدوية‬
‫مادية‪ ،‬وال مع وحدوية مثالية‪ ،‬وال حتى مع وحدوية حيادية للعناصر ـ اإلحساسات كما عند ماخ ‪.E. Mach‬‬
‫وسوف نحدد مغزاها خالل الجمل التالية‪.‬‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 79. 211‬‬
‫‪ 212‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.15 .‬‬
‫‪ 213‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.496 .‬‬
‫‪128‬‬
‫"األنا التجاوزية"‪ ،‬الجرد من الخصوصيات النفسانية‪ ،‬ومفهوم "الواقع الستقل"‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫يقول مالحظا‪" :‬إن الفهومين‪ ،‬وهما حدان ميتافيزيائيان [األنا التجاوزية و"الواقع‬
‫الستقل"] يتشابهان اليوم بشكل غريب‪ .‬وماذا لو لم يكونا سوى مفهوم واحد‪214‬؟"‬
‫يطالب برنار دسبانيا بقوة باللجوء إلى تبرير استداللي (ما يأتي من التجربة ‪a‬‬
‫ّ‬
‫بالتصور الحدود للواقع الفعلي‪ ،‬باألحرى من تطبيقها‬ ‫‪ )posteriori‬للبيانات التعلقة‬
‫ً‬
‫بشكل مسبق (بشكل سابق منطقيا للتجربة ‪ )a priori‬األمر الذي يأخذه على فالسفة‬
‫كثيرين‪ .‬إن هذا الخيار النهجي يقترن عنده باإلثبات الذي وفقه ال يمكننا أن ننسب له أي‬
‫"تعميم ميتافيزيائي"‪ ،‬بما في ذلك عندما يدخل فكرة مثل فكرة الـ "الواقعية الستقلة"‪.‬‬
‫فإدخال مثل هذه الفكرة ال يقتض ي في الواقع‪ ،‬كما يشير‪ ،‬أية أطروحة خاصة تتعلق بـ‬
‫"طبيعة" أو "خصائص" "الواقعية الستقلة"‪ .‬وإضافة إلى ذلك يمكن لهذه الفكرة في‬
‫بساطتها االستفادة من حجج قاطعة مصدرها الحياة أو العلوم‪.‬‬
‫سبق لنا أن حللنا الصدر األول للتبرير االستداللي لبيانات دسبانيا فيما يتعلق بوجود‬
‫واقعية مستقلة‪ :‬أي التجربة الجوهرية للكوجيتو‪ ،‬بما تحمله من أسبقية لتحديدها‬
‫بالعقلي‪ .‬وعلينا اآلن تحديد الصدر الثاني‪ ،‬أي الطابقة مع بعض السمات الكونية‬
‫للممارسة العلمية‪ .‬وأحد الوقائع الكبرى لهذه المارسة‪ ،‬كما يشير برنار دسبانيا إلى ذلك‬
‫في مرات كثيرة‪ ،‬هو القاومة التي تصطدم بها هذه المارسة‪ .‬إن نظرية بسيطة وأنيقة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومتجانسة رياضيا ليست بذات نفسها ‪ ipso facto‬مالئمة تجريبيا؛ فقد تم التخلي عن‬
‫الكثير من النظريات التي كانت تتسم بهذه الصفات الصريحة‪" .‬ففي هذه الشروط يجب‬
‫أن نعترف أن ثمة ش يء ما يقول «ال» وأن هذا «الش يء» ال يمكن تقليصه إلى «نحن»‪".215‬‬
‫يؤكد دسبانيا هذه النتيجة في معرض مواجهته ضد االنتقادات وأعمال اإلضعاف التي‬
‫أوقع بها العديد من اإلبستمولوجيين العاصرين مذهب التفنيدية ‪faillibilisme‬‬

‫‪ 214‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.424 .‬‬


‫‪ 215‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.61 .‬‬
‫‪129‬‬
‫الفلسفي‪ .‬فبقبوله حتى أنه ال توجد تجربة حاسمة‪ ،‬وأن "أحزمة حامية" بالعنى الذي‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يطرحه الكاتوس ‪ّ Lakatos‬‬
‫تجنب النظرية نقضا أو دحضا عنيفا جدا‪ ،‬يكتب دسبانيا أنه‬
‫يبقى أن نظريات تنتهي بسبب واجب التخلي عنها بسبب عدم قابليتها إلدماج عدد كبير‬
‫ً‬
‫جدا من "العطيات"‪.‬‬
‫إن هذا الخيار لصالح نسخة بهذه القوة من "التفنيدية" تشرط موضع دسبانيا في‬
‫‪216‬‬
‫أو‬ ‫الجدل الذي يضعه في مواجهة محاوريه من ذوي اليل إلى الكانطية الجديدة‬
‫البراغماتية‪ .‬فلو لم يكن قد اختار هذا الخيار‪ ,‬ولو أنه اعتقد أن ال ش يء مع تراجع‬
‫التجربة وانحسارها يلفظ "ال" قاطعة وصريحة‪ ،‬لكان حاول أن يعتبر معهم أن إشراطات‬
‫جديدة تدخل وتتسلل‪ ،‬من داخل ممارسة التجريب نفسها‪ ،‬إشراطات أو حاالت قسر‬
‫ً‬
‫وإكراه ال يمكن أخذها أحيانا بعين االعتبار بشكل بسيط وأنيق وفعال إال على حساب‬
‫ً‬
‫تغيير للنظرية‪ .217‬وعلى نحو مماثل‪ ،‬كان دسبانيا سيكون أقل ميال للبحث عما هي‬
‫العلومة التي تقدمها الفيزياء العاصرة حول موضوع خلفية مقاومة ال تقول من نفسها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شيئا محددا بوضوح‪ ،‬إال حول موضوع البنية الحددة مسبقا لـ "ش يء ما" تنسب له‬
‫قابلية إصدار حكم سلبي غير قابل لالستئناف‪.‬‬
‫ً‬
‫إن نتائج هذا الخيار لدسبانيا لصالح تفنيدية قوية تتبدى أيضا من خالل عودة‬
‫حجة الـ "ش يء الذي يقول ´ال´" في نسخة مطورة عن حجة الـ "ال ‪ -‬معجزة"‪ .‬وكما سبق أن‬
‫ً‬
‫رأينا في القطعين ‪ 0-0‬و ‪ ،4-0‬فإن حجة الال ‪ -‬معجزة‪ ،‬في نسختها األكثر اختصارا‪،‬‬
‫تشتمل على مالحظة أن القدرة ليس فقط الناظمة بل وأيضا التنبؤية لنظرية علمية ال‬
‫ً‬
‫يمكن أن تكون صدفة إعجازية؛ إن التفسير األكثر قبوال لهذه القدرة التنبؤية هو أن‬

‫‪ 216‬انظر ‪C. Schmitz, "Objectivité et temporalité", in PR, p. 273-290.‬‬


‫‪ .J. Bouveresse, La force de la règle, Minuit, 1987, p. 146. 217‬هنا يتم إدخال إمكانية عالقة بين النظرية‬
‫والتجربة التي تكون وسيطة بين اإل ثنتين التي يشير إليها دسبانيا في الفقرة ‪ 5-0-4‬من مقدمته للـ ‪ :PR‬إمكانية‬
‫النظريات الهندسية (مثل نظرية لوباتشفسكي)‪ ،‬التي تؤسس على تجانسها وترابطها وحده‪ ،‬وإمكانية النظريات‬
‫الفيزيائية التي يمكن دحضها بواسطة "تجربة حاسمة"‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫حددت بشكل صحيح األشياء‬ ‫النظرية "صحيحة"‪ ،‬وأنها تصف الطبيعة كما هي‪ ،‬وأنها ّ‬
‫التي ّ‬
‫تكون هذه الطبيعة‪ ،‬وخصائصها والروابط القانونية التي تجمع بينها‪ .‬وفي هذه‬
‫النسخة الوسعة تعرف الحجة تحت اسم "االستدالل باتجاه التفسير األفضل"‪ .‬يبدأ‬
‫ً‬
‫دسبانيا بنقد أوجهها األولية‪ .‬ويشير محقا من خالل األمثلة التي يقدمها أنه يحصل‬
‫ً‬
‫لنظريتين‪ ،‬من الرحلة الزمنية نفسها أو متتاليتين زمنيا‪ ،‬إنما مقترنتين بنماذج للطبيعة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مختلفة بشكل عميق‪ ،‬أن تأخذا بعين االعتبار عمليا وبالدرجة نفسها مجاال تجريبيا‬
‫معطى‪ .‬وضمن هذه الشروط‪ ،‬ليس لدينا أي سبب لكي نأخذ على محمل الجد‪ ،‬بالنسبة‬
‫لهذا الجال ‪ ،‬الوصف الذي تقدمه إحدى النظريات أكثر من الوصف التي تقدمة نظرية‬
‫أخرى‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يشير دسبانيا إلى وجود عنصر بنيوي في النظريات القبولة‪ ،‬أو عنصر‬
‫ً‬
‫اعتباطيا‪ّ .‬‬ ‫ً‬
‫ويبرر هذا العيب االعتباطي بداية‪ ،‬وفق‬ ‫شرعي في حده األدنى‪ ،‬ال يكون عنصرا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫دسبانيا‪ ،‬الفكرة العامة بـ "أن لفهوم الواقعية الستقلة معنى"‪ .‬لكنه يحاول أيضا جعله‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقول شيئا ما أكثر‪ :‬أال وهو أنه عبر العنصر الشرعي الندمج في النظريات الالئمة تجريبيا‪،‬‬
‫ّ‬
‫"يكون لدينا ‪ -‬ربما! ‪ -‬بارقة أمل غير مضللة تتعلق بالبنية العامة للواقع‪ ."218‬إن هذا‬
‫االفتراض‪ ،‬القترن مع النقد السابق للواقعية البسيطة والساذجة‪ ،‬ليس سوى األطروحة‬
‫(التي نجدها في كتابه) الحقيقة الحجوبة‪ .‬وعلى الرغم من أنها ّ‬
‫قدمت فقط "في إطار‬
‫تثبت بشكل‬ ‫مخمنة غير مقررة‪ ،"219‬لكنها تحدد برنامج دسبانيا في التحقيق والبحث‪ .‬وهي ّ‬
‫خاص تساؤله ّ‬
‫الوجه والنمطي للـ "واقعية البنيوية"‪ :‬ما الذي يمكن أن يعتبر في اإلطار أو‬
‫النسيج الشرعي أو البنيوي الذي تكشف عنه النظريات الفيزيائية العاصرة كانعكاس‬
‫منطقي مخلص للبنية العامة للواقع الحقيقي؟ لنالحظ مع ذلك أنها لو كانت مترجمة‬
‫ً‬
‫بعبارات متوافقة تماما مع الرؤية الالثنوية واالنبثاقية التي رسمها دسبانيا‪ ،‬فإن مسألة‬
‫معرفة بماذا يمكن لنظرية فيزيائية أن تكشف شيئا ما من بنية الواقع تعود إلى التساؤل‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 50-51. 218‬‬


‫‪ 219‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫عن الدى الذي يستطيع من خالله الباحث (الذات) أن يدرك بشكل غير مباشر‪ ،‬عبر‬
‫بحثه عن موضوع ما من خالل الفيزياء‪ ،‬الشروط السبقة البنيوية لالنبثاق الشترك‬
‫لذاته ولهذا الوضوع‪ .‬ويجب التشديد على هذه النقطة منذ اآلن ألننا‪ ،‬كما سبق وأشرنا‬
‫إلى ذلك في القطع ‪ ،3 - 4‬فإن ما يولد سوء الفهم فيما يتعلق بأطروحة "الواقع‬
‫الحجوب"‪ ،‬هو التواجد الشترك الستمر لتمثيل موضوعاني للواقع‪ ،‬تمثيل يتعلق األمر‬
‫بالكشف عن بناه الكبرى‪ ،‬مع التأكيد على حدود لهذا الكشف ("الحجاب") ال يمكن‬
‫تفسيرها بسهولة‪ ،‬على عكس ما قد نفهمه من هذه االستعارة‪ ،‬إال بفصل غير كامل‬
‫ألدوات الباحث الفيزيائي ولوضوعه‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬حتى ضمن منظور انبثاقي‪ ،‬فإن مرور الفكرة العامة بأن الواقعية الستقلة لها‬
‫ً‬
‫معنى إلى الفكرة األكثر تحديدا بأن العلوم تسمح‪ ،‬عبر البنى التي تستخدمها‪ ،‬برسم مالمح‬
‫البنى العامة للواقع‪ ،‬هو مرور أو انتقال غير واضح‪ .‬ويمكننا أن نتساءل إذا لم يكن لهذا‬
‫النظور االنبثاقي مرة أخرى صلة ما مع اعتماد دسبانيا لشكل قوي من التفنيدية‪.‬‬
‫لنفترض أن التجريبية ال تقوم في الواقع سوى بإدخال شروط وقيود سيكون على أية‬
‫بنية نظرية أن تأخذها بعين االعتبار من أجل "إنقاذ الظاهرات"‪ ،‬دون أن تجبرنا بشكل‬
‫ً‬
‫صريح على رفض بعض البنى على أنها المركزية جدا‪ .‬فلن يكون لدينا عندها سبب حاسم‬
‫ً‬
‫لالعتقاد بأن مثل هذه العائلة من األساسات النظرية الفعالة (بدال باألحرى من عائلة‬
‫ً‬
‫أخرى من األساسات) تترجم‪ ،‬عبر ما تضيفه للنظام البسيط من الظاهرات‪ ،‬شيئا ما من‬
‫ً‬
‫بنية "الواقع الحقيقي"‪ .‬إن حجة تعددية البنى النظرية التكافئة تجريبيا التي يستخدمها‬
‫توسع كما يبدو‪ ،‬في ظل مقدمة القياس هذه‪،‬‬ ‫دسبانيا ضد الواقعية البسيطة يمكن أن َّ‬
‫لتشمل نقد أطروحته في الواقع الحجوب‪ .‬مع ذلك فإن لدى دسبانيا إجابة جاهزة عمل‬
‫على تنقيتها وتهذيبها بشكل مميز‪ ،‬ترتكز على نتائج معينة للفيزياء العاصرة‪ ،‬في مواجهة‬
‫هذا التهديد بعودة حجة التحديدية التحتية ضد ومقابل أطروحة الواقع الحجوب‪.‬‬
‫سوف نتطرق إلى ذلك في الفقرة التالية ونناقشه في الفقرة التي بعدها ‪.2 - 3‬‬
‫‪132‬‬
‫‪" 3 -3‬الواقع الحجوب" واالنتقادات الوجهة له‬
‫إن هذه األطروحة في الواقع الحجوب هي التي تواجه في كافة األحوال النسبة األعلى‬
‫من االعتراضات أو من الواجهات مع سوابق تاريخية‪ ،‬من قبل محاورين لبرنار دسبانيا في‬
‫الؤلف "الفيزياء والواقع"‪ .‬يكتب سولر ‪ L. Soler‬إن السمات البنيوية التي يقدمها دسبانيا‬
‫حول موضوع الواقع الستقل تكون مشروعة فقط في حال اعتمدنا "الفرضية‬
‫اليتافيزيائية" التي تكون النظريات الفيزيائية وفقها‪ ،‬مثل اليكانيك الكمومي‪ ،‬قابلة‬
‫ً‬
‫علميا وغير َّ‬
‫مقررة قبل‬ ‫لوصف الواقع‪ .‬وهذه الفرضية نفسها تظل‪ ،‬وفقا لها‪ ،‬فائضة‬
‫اليكانيك الكمومي وبعده على حد سواء‪ .‬وتوجه موغور ‪ -‬شختر ‪M. Mugur-Schachter‬‬
‫ً‬
‫النقد إلى نقطة أكثر جوهرية أيضا‪ ،‬عندما تعيد إبراز التعارض بين (‪ )0‬مفهوم وصف هو‪،‬‬
‫بالنسبة لها كما بالنسبة لدسبانيا‪ ،‬دائما نسبي ومتعلق بإطار إدراكي وأداتي وذهني‪ ،‬و (‪)4‬‬
‫مفهوم الواقع "الستقل" الذي يفترض بالضبط اإلستقاللية اتجاه ما نحن عليه‬
‫والطريقة التي نستكشفه بها‪ .‬فإذا قبلنا أن "بنية" ما بالعنى الذي يقصده دسبانيا هي‬
‫عبارة عن وصف ‪ ،‬وأنه ترتبط بكل وصف "نسبية وصفية"‪ ،‬فعلينا عندها االستنتاج بأن‬
‫الفهوم نفسه "للبنى العامة للواقع الستقل [‪ ]...‬الذي ينطوي على مواصفات يمكن‬
‫معرفتها لنمط وجود الواقع الستقل‪ ،‬هو مفهوم متعارض ذاتيا‪ :‬وصف لش يء غير‬
‫موصوف"‪.‬‬
‫يجيب برنار دسبانيا على ذلك على مرحلتين‪ .‬فهو يشير في الرحلة األولى إلى أن‬
‫األوصاف البنيوية التي يسقطها على "الواقع الستقل" ال تتعلق بنظرية خاصة‪ ،‬أال وهي‬
‫اليكانيك الكمومي‪ .‬بل هي ترتكز بدرجة أكثر مباشرة بكثير على التجربة عبر مواجهة نتائج‬
‫هذه األخيرة مع مبرهنات عامة ميتانظرية‪ .‬إن "أطروحة الإنفصالية الواقع الستقل"‬
‫ترتكز على سبيل الثال على مبرهنة بل‪ ،‬ووفقها فإنه ال توجد أية نظرية محلية وقابلة‬
‫ً‬
‫أنطولوجيا تكون قابلة إلعادة إنتاج بعض مجموعات النتائج التي ّ‬
‫تنبأ بها‬ ‫للتفسير‬
‫ً‬
‫اليكانيك الكمومي والثبتة تجريبيا (من قبل مجموعة الباحثين الذين عملوا مع آالن‬
‫‪133‬‬
‫أسبكت)‪ .‬لكن هذه األطروحة ّ‬
‫تظل بالطبع مشروطة بالفرضية ذات الحد األدنى‪ ،‬التي‬
‫ً‬
‫يتقاسمها دسبانيا مع مؤيدي النظريات القابلة للتفسير أنطولوجيا حتى وإن لم يكن‬
‫يتفق معهم في نقاط أخرى كثيرة‪ ،‬والتي َّ‬
‫تبرر من أجل االستفادة من ترتيب الظاهرات‬
‫("ذات الصلة") في سبيل رسم بعض سمات الواقعية "الستقلة"‪ .‬فالسألة كلها تتلخص‬
‫في معرفة أي السمات يمكن تحريرها بشكل عادل على هذا النحو‪ ،‬وما هو النظام‬
‫األساس ي لثل هذا الوصف‪.‬‬
‫عند هذه السوية تبدأ الرحلة الثانية من جواب دسبانيا‪ .‬ففي معرض إجابته على‬
‫موغور ‪ -‬شختر‪ ،‬وعلى كتاب كثيرين آخرين‪ ،‬يؤكد دسبانيا أنه ال يمكن اتهامه بإرادة‬
‫إعطاء اليكانيك الكمومي حالة الوصف‪ ،‬وال محاولة "وصف" "الواقعية الستقلة"‪.‬‬
‫ً‬
‫ويقول‪" :‬أنسب إلى اليكانيك الكمومي حالة تنبؤية حصرا"‪ .‬إن اليكانيك الكمومي يزودنا‬
‫ً‬
‫"[‪ ]...‬باحتماالت [‪ ]...‬وليس بوصف أبدا‪ ،‬أو بتمثيل‪« ،‬لا هو كائن» "‪ .220‬ينجم سوء‬
‫التفاهم على األرجح من تباعد داللي أو معنوي حول موضوع كلمة "وصف"‪ .‬ووفق‬
‫دسبانيا‪ ،‬أن نطلب من نظرية أن تكون أكثر من تنبؤ بسيط‪ ،‬وأن ننسب لها قدرات‬
‫وصفية بشكل خاص‪ ،‬يعني أن ننتظر منها مقترحات مغايرة للواقع‪ ،‬أي مقترحات ذات‬
‫ً‬
‫"[‪ ]...‬تضمينات‪ ،‬ليس فقط حول ما سوف نرصده بل أيضا حول ما كنا نرصده‪ ،‬إذا ما‬
‫التغيرات‪ ،‬وكان الجسم الوصوف قد بقي «هو‬ ‫ّ‬ ‫تعرضت الشروط الخارجية لبعض‬‫ّ‬
‫نفسه»‪ ."221‬يكافئ ذلك بالنتيجة اعتبار النظرية كنظرية ذات "موضوعية قوية"‪" ،‬ممكن‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تأويلها وتفسيرها أنطولوجيا" بمصطلحات خصائص متملكة جوهريا بواسطة األجسام‪ .‬ال‬
‫يأخذ دسبانيا بمثل هذا التطلب‪ ،‬الخاص بأنصار النظريات ذات التغيرات الخفية‪ ،‬وال‬
‫يحافظ عليه‪ .‬وبهذا العنى فهو محق بتأكيد أنه يمتنع عن نسب حالة وصفية للميكانيك‬
‫ً‬
‫‪ 220‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪ .349 .‬أظهر برنار دسبانيا أيضا في عدة مناسبات‪ ،‬في كتبه ومقاالته‪ ،‬قناعته بأنه لم‬
‫توجد أية استراتيجية نظرية سمحت حتى اآلن بإرجاع تابع وصفي إلى رموز اليكانيك الكمومي‪ ،‬مثل متجه‬
‫الحالة‪ .‬في ‪ ،PR‬نراه يوافق زويرن ‪ H. zwirn‬في نقده للتفسيرات الواقعية بشكل مباشر لنظريات فك الترابط‪.‬‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 370. 221‬‬
‫‪134‬‬
‫الكمومي‪ .‬لكن عندما يعتقد محاورو دسبانيا أنهم اكتشفوا عنده محاوالت لوصف الواقع‬
‫بطريقة ما باالعتماد على نتائج الفيزياء العاصرة‪ ،‬فإن كثيرين منهم يكون لديهم بشكل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واضح في أذهانهم مجموعة من العاني األوسع لهذا الفعل‪ .‬إن تأليفا سريعا لهذه‬
‫الجموعة من العاني سوف يعطي بشكل تقريبي ما يلي‪ :‬يظل بإمكاننا القول إن نظرية ما‬
‫تصف وفق خطوط عريضة الواقع إذا كانت بناها القانونية متقابلة بشكل شامل مع‬
‫بنية هذا الواقع‪ .‬ويمكننا قول ذلك حتى إذا كانت مثل هذه البنى القانونية ترتب وتنظم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رموزا ذات تابع تنبؤي حصرا‪ .‬ووفق هذا العنى الثاني‪ ،‬ال يبدو من الخطأ الزعم أن برنار‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دسبانيا يحاول الحفاظ على فكرة أن عنصرا وصفيا‪ ،‬مهما كان ثانويا‪ ،‬وجزئيا وغير‬
‫ً‬
‫مباشر‪ ،‬يكون مرتبطا بالنظريات الفيزيائية‪.‬‬
‫فإذا ما قبلنا بذلك‪ ،‬يبقى هناك خيار يجب القيام به‪ .‬إما أن نعتبر أن هذه الطريقة‬
‫ً‬
‫األخيرة الشاملة جدا‪ ،‬وشبه "االستعارية"‪ ،222‬في رسم خطوط الواقع تشكل استثناء‬
‫ً‬
‫للمبدأ الذي وفقه يكون كل وصف متعلقا بإطار بيئي معين؛ وفي هذه الحالة فإن‬
‫التأكيد‪ ،‬الذي يقول بأن التوصيف البنيوي الذي تكشف عنه الفيزياء الحديثة يتعلق بـ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"الواقع الستقل"‪ ،‬يكون تأكيدا معقوال‪ .‬وإما‪ ،‬على العكس‪ ،‬نوسع صحة مبدأ السياقية‬
‫ليشمل كافة أشكال الوصف أو الوصف األولي‪ ،‬وعلينا عندها التساؤل بماذا يتعلق‬
‫ّ‬
‫العمقة‬ ‫الخطط اإلجمالي الشامل والبنيوي الذي وضعه دسبانيا ابتداء من دراسته‬
‫للفيزياء الكمومية‪ .‬وكما سوف نرى في القطع ‪ ،5 - 3‬فإن إجابة ممكنة على ذلك يمكن‬
‫صياغتها بالقول إنه على عكس التحديدات التنبؤية (األوصاف بالعنى األضيق للكلمة)‬
‫ً‬
‫التي يكون كل منها متعلقا بشروط إدراكية أو أداتية خاصة‪ ،‬فإن البنية التي تنتج عن‬
‫نظرية مثل اليكانيك الكمومي (أي الوصف بالعنى األوسع) تتعلق بسوية خلفية برغماتية‬
‫ً‬
‫شاملة‪ .‬إن هذه السوية الخلفية الكلية تتطابق مع القواعد التي يفترضها مسبقا الحدس‬

‫‪ 222‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat, Le réel voilé .316 .‬‬


‫‪135‬‬
‫ً‬
‫أو توقع النتائج لصف عريض جدا (غير محدود حتى هذا اليوم) من النشاطات‬
‫العملياتية‪.223‬‬
‫لقد عبرت عن اإلحساس في الفصل الثاني أنه‪ ،‬إذا كان دسبانيا قد اختار الخيار‬
‫األولي‪ ،‬فذلك ألنه لم يصفي حسابه مع الخطط الثنوي لنظرية العرفة مع أنه شرع في‬
‫توجيه نقد شديد له‪ .‬ألنه‪ ،‬حتى إذا كنا ننسب لدسبانيا أن التشكيك بأهمية هذا‬
‫الخطط ال يجب أن يؤخذ كنقطة انطالق للتأمل حول الفيزياء‪ ،‬بل يفرض نفسه فقط‬
‫عند نقطة وصول أو نهاية هذا التأمل‪ ،‬فإنه يبقى أنه ال يجب بعد القيام بهذا التشكيك‬
‫ً‬
‫أن يكون خاليا من أية مفاعيل رجعية حول التمثيالت والفردات الستخدمة من أجل‬
‫عرض نمط الصالت التي تقيمها العلوم مع الواقع الحقيقي‪ .‬تفرض األطروحة الالثنوية‬
‫ً‬
‫نفسها في النهاية فعال‪ ،‬وتمتد نتائجها من حيث البدأ‪ ،‬ما أن يتم القبول بها‪ ،‬لتشمل‬
‫البادئ األولى للتأمل اإلبستمولوجي‪ .‬غير أن الفردات الستخدمة من قبل دسبانيا في‬
‫ً‬
‫نهاية السار تظل معلمة غالبا بنقطة انطالقه الثنوية؛ أو على األقل يستطيع أن يترك‬
‫االنطباع بأن األمر على هذا النحو لدى القارئ غير الطلع‪.‬‬
‫إن االستخدام واسع النطاق لصطلح "انعكاس" مع دالالته اإلضافية للعالقة التي‬
‫تجمع مصطلحين (انعكاس جسم معين أو مصدر ضوئي معين على سطح معين)‪ ،‬وتآلفه‬
‫مع النظرية العيارية للعالم في مرآة التمثيل‪ ،224‬هو أحد األمثلة على ذلك‪ .‬فإذا لم تكن‬
‫أطروحة الواقع الحقيقي الحجوب تشتمل على الطموح بمعرفة استداللية للحقيقة‪،‬‬
‫فإنها تشتمل كما يشير دسبانيا على اعتبار أن الفرضية بأن القوانين الكبرى في الفيزياء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقدم انعكاسا غير مشوه كليا لهذا الواقع الحقيقي كفرضية منطقية معقولة‪ .‬إن الحجة‬
‫ً‬
‫التي من النمط "غير اإلعجازي" تقود إلى التقدير بأن معادالت الفيزياء "[‪ ]...‬تعكس شيئا‬

‫‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosohique, Champs-Flammarion, 1997. 223‬‬
‫‪R. Rorty, L'homme spéculaire, Seuil, 1990. 224‬‬
‫‪136‬‬
‫من «الحقيقي»‪ ."225‬وعلى مسألة النظام األساس ي للقواعد التنبؤية للفيزياء الكمومية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن أبسط طرق اإلجابة سوءا "[‪ ]...‬يبدو أنها فعال افتراض أن القواعد العنية هي‬
‫انعكاسات للبنى‪ ،‬الجهولة أو العروفة بشكل س يء‪ ،‬لـ «طبيعة» هي للسبب نفسه مجهولة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أو غير معروفة جيدا هي أيضا‪ ،‬والتي ال تتوافق معنا وال مع الواقعية التجريبية‪ ."226‬وبدءا‬
‫من هنا‪ ،‬يصبح من الغري الرجوع واالستناد إلى "[‪ ]...‬البنى الكبرى التي تكون قوانيننا‬
‫ً‬
‫الفيزيائية انعكاسات جزئية لها‪ ."227‬وهكذا فإن صورة "االنعكاس"‪ ،‬القترحة افتراضيا من‬
‫أجل الحلول محل مفهوم معرفة للواقع من خالل مفهوم أضعف‪ ،‬تعيد على األقل إنتاج‬
‫تبادلية مخططها الثنوي‪ :‬إذا كانت قوانين الفيزياء الكمومية تشتمل على انعكاس لبنى‬
‫ً‬
‫الواقع‪ ،‬فإن بنى الواقع يشار لها على العكس كبنى نجد لها انعكاسا في قوانين الفيزياء‪.‬‬
‫فكل ش يء يجري كما لو كان الواقع وبناه قد استعادوا موضع "الجسم" الذي كان سيكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بشكل طبيعي موضعا لهما في نظرية أصيلة للمعرفة‪ .‬وقد وجد دسبانيا نفسه مجبرا على‬
‫التمييز‪ ،‬لكي يمنع هذا التفسير الخاطئ لوقفه كما سبق ورأينا في الفصل الثاني‪ ،‬بين‬
‫عالقة التوافق (وهي العالقة التي أقامها بين النظرية الكمومية والواقع الستقل) وعالقة‬
‫الوضوع (التي كان ال يزال بإمكاننا االعتقاد في الفيزياء الكالسيكية أنها تتأسس بين‬
‫النظرية والعالم الواقعي الحقيقي)‪.‬‬
‫ً‬
‫اعترف برنار دسبانيا بعد قراءة لهذا القطع أن لفظة "انعكاس" يمكن أن تعطي فعال‬
‫ً‬
‫اإلحساس بعودة إلى نظرية معيارية تماما‪ ،‬وثنوية للمعرفة‪ .‬لكنه يعتقد أن األمر يتعلق‬
‫هنا بمسألة تعبير لفظي باألحرى من كونها تتعلق بالفكر العميق‪ .‬وقد تحدث في مؤلفات‬
‫أخرى‪ ،‬كما في كتابه "ذرة حكمة"‪ ،‬عن "آثار" تركها "الواقع الحقيقي" في فكرنا‪ ،‬آثار‬
‫وصفها بـ "الغامضة‪ ،‬وبعبارة أخرى ال يمكن فك رموزها"‪ .‬ويبدو له أننا عندما نأخذ على‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 62. 225‬‬


‫‪ 226‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.66 .‬‬
‫‪ 227‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.423.‬‬
‫‪137‬‬
‫محمل الجد فكرة واقع مستقل أولي بالنسبة للشرخ بين الذات والوضوع‪ ،‬فإنه ال يخلو‬
‫من العنى استحضار آثار خلفها هذا الواقع في الذات‪ .‬غير أن هذه الطريقة األخرى في‬
‫ً‬
‫التعبير تفض ي أيضا إلى احتمال تعارض في العنى‪ :‬فهي تحيلنا إلى صورة‪ ،‬ليس لها مكانها‬
‫بالتأكيد هنا‪ ،‬لتتالية زمنية (اآلثار التروكة في الذات‪ ،‬والناجمة عن "مسيرة الواقع‬
‫الحقيقي")‪ .‬يقدر برنار دسبانيا مع ذلك أن هذه اآلثار النحرفة عن مرجعية‪ ،‬ثنوية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الراقب ‪ -‬الراقب أحيانا‪ ،‬وأحيانا عن مفهوم الزمن الفيزيائي‪ ،‬ليست سوى نتائج لـ "نقص‬
‫في طواعية لغتنا"‪ ،‬التي لم َّ‬
‫تصمم لهذا النوع من االستخدام؛ وأننا نستطيع تجريدها‪،‬‬
‫ً‬
‫شرط أن نكون قد أخطرنا أو تم تحذيرنا‪ ،‬دون أن نحرم تماما الفكرة التي يحاول‬
‫دسبانيا الدفاع عنها من العنى‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما العنصر االصطالحي الثاني الذي يذكر بشكل ال يقاوم بثنوية إبستمولوجية فهو‬
‫مصطلح السببية ّ‬
‫الوسعة‪ .‬ويهدف إدخال السببية الوسعة عند دسبانيا إلى تفسير‬
‫االنتظامات التجريبية والقوانين الفيزيائية التي تترجمها‪ ،‬وذلك من خالل استحضار "تأثير‬
‫الواقعية الستقلة على الظاهرات"‪ .228‬وكما يبين سولر ‪ L. Soler‬في إعادة تشكيله لحجج‬
‫وتدليالت دسبانيا (الذي يوافقه حول هذه النقطة)‪ ،‬فإن مفهوم السببية الوسعة يجب‬
‫ً‬
‫أن يعتبر حتى عنده أنه يسبق منطقيا مفهوم الواقعية الستقلة‪ .‬وفي الواقع فإن طلبه‬
‫بتحديد سبب النتظامات الظاهرات‪ ،‬الذي تليه عملية حذف للمرشحين من قلب‬
‫الظاهرات لثل هذه الوظيفة السببية‪ ،‬هو ما يؤدي إلى فكرة الواقعية الستقلة‪" .‬عندما‬
‫ً‬
‫يكون من غير المكن العثور على السبب الذي نفتش عنه بين الوقائع التي يتقنها جيدا‬
‫فكرنا العلمي ‪ -‬االستنتاجي‪ ،‬فإنه يبدو لي من الشروع اعتبار أن هذا السبب ال يوجد بينها‬
‫ً‬
‫بدرجة أقل من وجودها‪ ،‬لكنه يقع في مجال ال يتقنه فكرنا إتقانا كامال"‪ .229‬ولكن في هذه‬
‫قدم باإلجمال كأحد حدي عالقة سببية‪ ،‬مما‬ ‫الحالة‪ ،‬فإن مفهوم الواقعية الستقلة ي َّ‬

‫‪ 228‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat, Le réel voilé .232 .‬‬


‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 266. 229‬‬
‫‪138‬‬
‫يعيد إعطاء تماسك ومتانة للمخطط الثنوي لنظرية العرفة‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن تدخل‬
‫هذا الفهوم يفرض "توسيع" العالقة السببية إلى مجال ما وراء الظاهرات الفائقة الكبر‪،‬‬
‫‪230‬‬
‫لألمر الكانطي بعدم تطبيق تصنيفات الفهم‬ ‫مما يؤدي هكذا إلى التحدي الظاهري‬
‫الخالص (مثل تصنيف السببية) إال على صياغة وتنسيق محتوى الحدس الحس ي‪ .‬هل‬
‫كان يمكن لصطلحات أخرى‪ ،‬ولتمثيالت أخرى مرتبطة بها‪ ،‬تجنب هذه النتائج وسوء‬
‫الفهم هذا؟ يعتقد برنار دسبانيا أن استخدام لفظة أخرى‪ ،‬كما على سبيل الثال لفظة‬
‫شيئا في الجوهر‪ ،‬حتى وإن كان ذلك ّ‬‫ً‬
‫يجنب اللجوء صراحة للفظة‬ ‫"أصل"‪ ،‬لن تغير‬
‫ً‬
‫"سببية" الالحظة كثيرا من خالل استخدامها الشائع في حقل الظاهرات‪ .‬يقترح بوتيتو ‪J.‬‬
‫‪ Petitot‬من جهته ترجمة مصطلحات دسبانيا بألفاظ تقبل بسهولة أكبر لدى الذين‬
‫ينتسبون إلى العايير التي وضعها النقد الكانطي للميتافيزياء‪ ]...[" .‬إن الفرق بين السببية‬
‫الوسعة يوافق في الصطلحات الترانسندانتالية الفرق بين السببية‬ ‫َّ‬ ‫القطعية والسببية‬
‫كتصنيف و«الش يء بذاته» كأساس للواقع (‪ )Grund‬بالنسبة للظاهرات‪ ."231‬ودون‬
‫التموضع في حقل العرفة يبقى من غير المكن االستغناء عن هذا "األساس" الدرك‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التكون وكفكرة ناظمة‬ ‫بالعقل‪ ،‬وفقا لبوتيتو‪ ،‬كمبدأ للسبب الكافي بالنسبة للعلم‬
‫بالنسبة للبحث أثناء القيام به‪.‬‬
‫يوافق برنار دسبانيا على هذه الراجعة الكانطية لفهومه في السببية الوسعة‪ ،‬لكنه‬
‫يختلف من جهة أخرى عدة مرات مع كانط ومفهومه الحدود للش يء بذاته غير َّ‬
‫الحدد‬
‫ً‬
‫إيجابيا وفق كيانه‪ ،‬عندما يحاول أن يبين أنه باإلمكان االرتكاز على ترتيب الظاهرات من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫أجل تقديم "فروقات" أو ومضات ليست مضللة كليا حول البنية العامة لـ "أساس‬

‫ً‬
‫‪ 230‬يشير برنار دسبانيا محقا (في ‪ ،PR‬ص‪ )96 .‬إلى أنها ستكون محاكمة سيئة أن نتهمه بتجاهل "قواعد الفهم‬
‫ً‬
‫وحدوده"‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإنه لم يزعم أبدا أنه حصل على معرفة حقيقية للواقع الستقل (وال لرابط السببية‬
‫ّ‬
‫تحصل لنا الفيزياء العاصرة التي‬ ‫الوسعة الذي يوحده بالظاهرة)‪ ،‬بل فقط اإلشارة إلى "الومضات" التي‪ ،‬وفقه‪،‬‬
‫ّ‬
‫تخص موضوعها‪.‬‬
‫‪J. Petitot, "Objectivité faible et philosophique transcendantale", in PR, p. 212. 231‬‬
‫‪139‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الواقع"‪ .‬ووفقه‪ ،‬فإن الفرضية بأن "[‪« ]...‬الواقع»‪ ،‬بدال من أن يكون مجهوال خالصا س‬
‫ً‬
‫غير قابل للمعرفة نهائيا‪ ،‬ليس سوى واقع محجوب‪ ،"232‬هي فرضية تصبح غاية في‬
‫العقولية (ألسباب سوف نعود ونناقشها في الفقرة ‪ )2 - 3‬من خالل معطيات الفيزياء‬
‫الحديثة‪ .‬إن أحد االفتراقات الكبيرة بين دسبانيا والفلسفة الكانطية تتأتى بكل تأكيد من‬
‫نظام البنى أو األشكال‪ .‬ففي حين أن الثورة الكوبرنيكية لكانط تميل إلى تجريد الش يء في‬
‫حد ذاته عن أشكاله لكي تنسبها إلى الذات التجاوزة‪ ،‬حيث تشكل هذه األشكال بالقدار‬ ‫ّ‬

‫نفسه إشراطات إلمكانية التجربة‪ ،‬فإن دسبانيا يعزو بنى معينة للواقع الستقل‪ .‬بل‬
‫ً‬
‫ويذهب أحيانا إلى حد اقتراح مطابقة الواقع الستقل مع هذه البنى‪" :‬إن البنى الكبرى التي‬
‫هي أصل قوانين الفيزياء" هي "[‪ ]...‬بنى يمكننا حتى تصورها‪ ،‬في الحالة الحدية‪ ،‬كما لو‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫كانت هي نفسها «ما هو كائن»‪ ،‬أو كعناصر مشكلة لـ «ما هو كائن»‪ ،‬بدال من مجرد كونها‬
‫كصفات بسيطة لا هو كائن‪."233‬‬
‫يمكننا أن نالحظ ببساطة مرة أخرى أن التمثيل القدم على هذا النحو‪ ،‬أي تمثيل‬
‫ً‬
‫واقع مستقل يؤثر على الظاهرات‪ ،‬واقع حقيقي متشكل مسبقا‪ ،‬وعلة (موسعة)‬
‫ً‬
‫للظاهرات ولبناها الكبرى القانونية‪ ،‬ليس التمثيل األكثر توافقا مع النتيجة الالثنوية‬
‫ّ‬
‫لتفكر دسبانيا في الفيزياء الكمومية‪ .‬ويمكننا بهذا الصدد تقديم تمثيالت معاكسة‪ ،‬أكثر‬
‫ً‬
‫توافقا مع فكرته حول التوالد التبادل "[‪ ]...‬للوعي وللواقع التجريبي"‪ .234‬يشتمل أحد‬
‫هذه التمثيالت العاكسة على أن نرى في االنتظامات القانونية للظاهرات ليس أثر بنية‬
‫ً‬
‫إحصائية مفترضة لـ "أساس الواقع" بكامله‪ ،‬بل تعبيرا عن البنية الديناميكية لصيرورة‬
‫لقطب ذات ولقطب موضوع يجري أو يحدث في قلب هذه البنية‪ .‬إن‬
‫ٍ‬ ‫التوالد الشترك‬
‫َ‬
‫البنى القانونية الكبرى في الفيزياء ال يمكن أن تف ّسر ضمن هذه الشروط من خالل‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 49. 232‬‬


‫‪ 233‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.245 .‬‬
‫‪ 234‬راجع القطع ‪.3-4‬‬
‫‪141‬‬
‫تقابليتها (إيزومورفيتها) مع بنى مسبقة الوجود للواقع الحقيقي‪ ،‬بل من خالل قابليتها‬
‫ً‬
‫لترجمة شروط استقرارية كافية للحدود التوالدة بشكل مشترك في الواقع‪ .‬واستنادا على‬
‫ذلك فإنه ال يعود لهذه البنى القانونية معنى مطلق‪ ،‬بل معنى نسبي فقط بالنسبة لبنى‬
‫لحظات صيرورة التوالد الشترك التي يتم تفضيلها بواسطة قابلية االستنساخ أو‬
‫ً‬
‫االستيالد الرتبطة بها (بخاصة النشاطات التجريبية)‪ .‬وهنا أيضا‪ ،‬يكتب شميتز‪C. 235‬‬
‫‪ ،Schmitz‬بالنسبة للبنى كما بالنسبة إلسناد الخصائص على حد سواء‪" ،‬فإن تعيينها‪،‬‬
‫كما هو الحال بالنسبة لنتاجها‪ ،‬أي العنى‪ ،‬هو تعيين عالئقي"‪ .‬وسوف نعرض لوقف‬
‫دسبانيا إزاء هذه الجملة من التصورات في القطع ‪.5 - 3‬‬
‫‪ 4 .3‬اخحقيقة والوضوعية‬
‫يقترح كل من بوفريس ‪ J. Bouveresse‬وبتيتو ‪ J. Petitot‬في كتاب "الفيزياء والواقع"‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(وهو حوار مع برنار دسبانيا) تصنيفا أصيال للمواقف الفلسفية‪ ،‬حيث يضعان في هذا‬
‫التصنيف خالص ات دسبانيا‪ .‬يتوافق هذان التصنيفان كلمة كلمة‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫أحدهما يرتكز على معايير الحقيقة للقضايا الواقعية‪ ،‬في حين يرتكز اآلخر على معايير‬
‫موضوعية للمعرفة‪.‬‬
‫ال يميز بوفريس موقفين فقط اتجاه حقيقة القضايا الواقعية بل ثالثة مواقف‪ :‬وفق‬
‫الوقف األول‪ ،‬يمكن للقضية أن تكون صحيحة بشكل مستقل عن وسائل التحقق منها؛‬
‫ووفق الوقف الثاني‪ ،‬تكون القضية صحيحة إذا كانت قابلة للتحقق منها؛ ووفق الوقف‬
‫الثالث‪ ،‬تكون صحيحة فقط إذا تم التحقق منها‪ .‬وهكذا يكون علينا التمييز بين ثالثة‬
‫مفاهيم‪ ]...[" :‬صحيح‪ ،‬ومعترف به كصحيح (من خالل إجراء تحقق مناسب) ومعترف به‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فعليا أنه صحيح"‪ .‬وبمواجهة ذلك‪ ،‬يبدو أن عددا كبيرا من فيزيائيي اليكانيك الكمومي‬
‫كما يكتب بوفريس قد حسموا األمر لصالح الوقف الثالث‪ ،‬أي الوقف الجذري ّ‬
‫ضد‬
‫الواقعية‪ .‬لكنه يشير إلى أن هذا الوقف ليس موقف برنار دسبانيا‪ .‬ألم يقترح هذا األخير‬

‫‪C. Schmitz, "Objectivité et temporalité", in PR, p. 288. 235‬‬


‫‪141‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫باألحرى خيارا بين الخيارين األقوى‪ ،‬أي الوقف األول والوقف الثالث‪ ،‬بل دمجا بينهما‪،‬‬
‫مع استبعاد الخيار األوسط؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يشتمل تصنيف بتيتو هو أيضا على ثالثة مداخل معينة تاريخيا‪ :‬األنطولوجيا‪،‬‬
‫والوضوعية الشديدة والوضوعية الضعيفة‪ .‬تنتمي الرحلة األنطولوجية إلى الفيزياء‬
‫األرسطية وحدها‪ .‬وقد جرى اكتشاف الوضوعية الشديدة إثر الثورة الغاليلية ‪-‬‬
‫النيوتونية‪ ،‬التي كانت من خالل استخدامها واسع النطاق لبادئ النسبية‪ ،‬تجعل من غير‬
‫المكن الدفاع عن األنطولوجيا األرسطية لألماكن الطبيعية‪ .‬أما بالنسبة للموضوعية‬
‫الضعيفة‪ ،‬فهي سمة مميزة للميكانيك الكمومي‪ ،‬مع تخليها عن وصف تحديدات متأصلة‬
‫في األشياء‪ ،‬وتقييدها للتنبؤ بالظاهرات التي ال تنفصل عن شروطها التجريبية في‬
‫التظاهر‪ .‬يعتبر بتيتو مثل بوفريس أن دسبانيا يرتكز على الواجهة بين مصطلحين‪ :‬من‬
‫جهة الوضوعية الشديدة غير التمايزة عن األنطولوجيا‪ ،‬ومن جهة أخرى الوضوعية‬
‫الضعيفة‪ .‬ويأخذ عليه بتيتو بأنه يهمل على هذا النحو مساهمة الثورة العلمية الكبيرة‬
‫األولى‪ ،‬أي ثورة العلم الحديث حول الطبيعة في القرن السابع عشر‪ ،‬كما والعبرة التي‬
‫استقاها كانط منها‪ .‬وقد اشتمل االسهام الذي قدمه علم الطبيعة الحديث في الواقع في‬
‫أحل موضوعية اعتبرت كموضوعية شرعية محل الخطاب األنطولوجي الهادف‬ ‫أنه ّ‬
‫إلعالن التحديدات الحكومة بشكل جوهري من قبل الكائنات الطبيعية (الفترضة)‪ .‬كانت‬
‫هذه الوضوعية‪ ،‬التي تبدو بالنظر إلى الاض ي قوية بالنسبة للموضوعية الضعيفة‬
‫ً‬
‫للميكانيك الكمومي‪ ،‬موضوعية ضعيفة بالنسبة للمشروع القوي الحكوم أنطولوجيا‬
‫للفيزياء األرسطية‪ .‬ذلك أنها لم تعد تميل إلى تجاوز "[‪ ]...‬الحتوى «الذاتي» لفهوم‬
‫الظاهرة‪ ،‬العالئقي بالتعريف"‪ ،‬بل فقط لتحديد أشكال أو قواعد تحكم التظاهر بحيث‬
‫أننا نستطيع "أن نضع بين قوسين" هذه الصفة العالئقية‪ .‬لم تعد هذه الوضوعية تهدف‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫للبحث عن تفسير للظاهرات انطالقا من واقعية تحتية متعذر بلوغها‪ ،‬بل ببساطة‬
‫ً‬
‫لتحديد النظام القانوني للظاهرات وتحديد الوضوعية انطالقا من هنا‪ .‬فعبر اإلشكالية‬
‫‪142‬‬
‫الكانطية للتشكيل القانوني كان قد طرح الخلط بين الوصفة القانونية التي تسمح‬
‫ً‬
‫بالوصول إلى الوضعنة ‪ objectivation‬انطالقا من التمثيالت ووصف الكينونات اللتمسة‬
‫في الظاهرات‪.‬‬
‫يقدم دسبانيا إجابة متسقة مع تساؤل بوفريس ومع انتقادات بتيتو‪ .‬فعلى بوفريس‬
‫يجيب دسبانيا بأن أطروحته في الواقع الحجوب تسمح في الواقع بدمج ميزات موقف‬
‫واقعي بشكل صريح فيما يخص الفيزياء الكمومية وميزات تصور الواقعي بشكل جذري‪،‬‬
‫دون محاولة طرح تأليف مستحيل‪ .‬وتقود هذه األطروحة بداية‪ ،‬وبشكل متوافق مع‬
‫موقف معارض ي الواقعية التشددين‪ ،‬إلى اعتبار أنه ال توجد أية قضية يمكن اعتبارها‬
‫ً‬
‫صحيحة إذا لم يوضع تحققها التجريبي فعليا موضع التنفيذ‪ .‬يعود ذلك إلى مالحظة أن‬
‫الخيار الوسطي‪ ،‬الذي وفقه يمكن اعتبار قضية ما كقضية صحيحة إذا كانت قابلة‬
‫ببساطة للتحقق منها أو إذا كان من المكن التحقق منها حتى عندما ال يكون قد تم‬
‫ً‬
‫التحقق منها‪ ،‬هو عموما خيار غير قابل لالستخدام في إطار اليكانيك الكمومي؛ وهو غير‬
‫قابل لالستخدام بسبب عدم التوافق بين مجموعات معينة من البيانات التغايرة (أي‬
‫العطيات التي تتطلب متغيرين مترافقين‪ ،‬كما على سبيل الثال الوضع وكمية الحركة)‬
‫وتنبؤات هذه النظرية‪ .‬ولكن من جهة أخرى‪ ،‬فإن أطروحة الواقع الحجوب تتقاسم مع‬
‫الواقف الواقعية صراحة فيما يتعلق بالفيزياء الكمومية الحد األدنى من مرجعية الواقع‬
‫ً‬
‫الستقل‪ .‬وحتى إن كان مؤيد أطروحة الواقع الحجوب ال يأخذ على محمل الجد كليا‬
‫رؤية العالم القترحة من قبل هذه النظرية أو تلك ذات التحوالت الخفية‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫التحديدية التحتية األكيدة للنظريات من هذا النمط بواسطة التجربة وبسبب طابعها‬
‫ً‬
‫االصطناعي‪ ،‬فإنه يعتبر أن الهم هو االستنتاج العام بأنه توجد نظريات "قابلة أنطولوجيا‬
‫للتفسير" متوافقة مع التنبؤات الكمومية ومع النتائج التجريبية‪ .‬يدل مجرد وجود هذه‬

‫‪143‬‬
‫‪236‬‬
‫النظريات في الواقع من جهة على أن صعوبات معينة في تفسير اليكانيك الكمومي‬
‫ليست صعوبات ال يمكن تجاوزها أو حلها‪ ،‬ومن جهة أخرى أن اليكانيك الكمومي ال‬
‫ً‬
‫يفرض بنفسه استبعاد كل زعم بوجود هدف أو قصد أنطولوجي‪ .‬ومن األفضل أيضا كما‬
‫يقترح برنار دسبانيا أنه ربما من المكن الحصول على بعض الرؤى الوثوقة حول بنية‬
‫الواقعية الستقلة عبر ثوابت النظريات القابلة للتفسير التوافقة مع التنبؤات الكمومية‪.‬‬
‫وكان عدد من هذه الثوابت قد أوجد بواسطة مبرهنات ميتانظرية‪ ،‬مثل مبرهنة بل ‪Bell‬‬
‫أو مبرهنة كوتشن وسبيكر ‪ ،Kochen & Specker‬وعليهم إنما يرتكز دسبانيا لكي يعطي‬
‫ألطروحته في الواقع الحجوب الحتوى والضمون‪ .‬نرى هنا لاذا تبقى حجة التحديدية‬
‫التحتية للنظريات غير فاعلة ضد أطروحة الواقع الحجوب وتوصيفاتها البنيوية‬
‫ً‬
‫الكبرى‪ :237‬فهذه األخيرة تنبثق كسمة مشتركة ألية نظرية قابلة للتفسير أنطولوجيا‬
‫متوافقة مع التنبؤات ّ‬
‫العززة للفيزياء الكمومية‪.‬‬
‫السعى صحيح من حيث مبدئه‪ ،‬لكنه يرتكز على فرضية غير ّ‬
‫موض َحة وعلينا أن‬
‫نناقشها اآلن‪ :‬وهي فرضية أن الثوابت األكثر عمومية التي تم إيجادها خالل مجرى البحث‬

‫‪ 236‬يتعلق األمر بشكل خاص بالصعوبة الاثلة بما يعرف "و ‪ /‬أو" الذي يدخل في إشكالية القياس‪ .‬قدم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شرودنغر بيانا طريفا لهذه الصعوبة‪" :‬إن كافة النتائج التي يعلنها الفيزيائي تقريبا تركز على احتمالية هذا‬
‫الحدث أو ذاك أو ذاك اآلخر‪ ،‬وذلك في العادة مع عدد كبير من الفروع البديلة‪ .‬وتبدو له فكرة أنها ليست فروع‬
‫ً‬
‫أحد البدائل بل أنها كلها تحصل معا في الوقت نفسه فكرة غريبة وشاذة"‪ .‬مع ذلك يشير شرودنغر إلى أن ما‬
‫تترجمه صورية اليكانيك الكمومي الطبقة على سلسلة القياس بكاملها‪ ،‬هو بالضبط اقتران لحدود ‪/‬‬
‫مصطلحات على شكل تراكب خطي‪ ،‬وليس عبارة عن انفكاك أو انفصال‪ .‬وهكذا فإنه يجد نفسه في موقف‬
‫استنكار "[‪ ]...‬اإلكراه في استبدال األحداث التزامنة‪ ،‬كما هي مشار إليها مباشرة في النظرية‪ ،‬بفرع بديل َ‬
‫يفترض‬
‫أن النظرية تحدد احتماليات كل منها" ( ‪E. Schrodinger, The interprtation of quantum mechanics, edited‬‬
‫‪ .)and with introduction by M. Bitbol, Ox Bow Press, 1995, p. 19-20‬إن مشكلة الرور من اقتران (و)‬
‫مصطلحات التراكب الخطي للصورية الكمومية إلى انفصال (أو) النتائج التجريبية الفعالة يختفي إذا‪ ،‬كما هو‬
‫ً‬
‫الحال في النظريات ذات التغيرات الخفية‪ ،‬كانت الصورية قابلة للتفسير أنطولوجيا بعبارات انفصال‬
‫للخصائص التي تمتلكها األجسام‪.‬‬
‫‪ 237‬انظر نهاية القطع ‪.4-3‬‬
‫‪144‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العلمي تكشف عن ش يء ما من واقعية "مستقلة" أصيلة‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن عددا كبيرا من‬
‫الباحثين يتقاسمون اليقين الذي ال جدال فيه بأن الثوابت البنيوية الصالحة لصفوف‬
‫واسعة من الوسائل ودروب القاربة ّ‬
‫تعد مرشحين معقولين لوظيفة المثلين األوفياء لكل‬
‫ً‬
‫أو لجزء من الواقع الستقل‪ .‬ويرتكز اقتناعهم هذا على استدالل بسيط جدا‪ ،‬إنما ال‬
‫يخلو من ضعف منطقي‪ .‬ينطلق هذا االستدالل من االستنتاج التالي‪ :‬إذا كان يمكن‬
‫ً‬ ‫الحصول على انعكاس ّ‬
‫وفي للواقع الستقل‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يتعلق أبدا بالطريقة التي‬
‫نقوم فيها نحن بإنشاء عالقة مع الواقع العني؛ من غير ذلك‪ ،‬لن يكون لدينا انعكاس‬
‫حقيقي للـ "للواقع الفعلي كما هو بذاته"‪ ،‬بل انعكاس لـ "واقع حقيقي كما نراه نحن"‬
‫تحت عالقة معينة‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬إذا كان يمكن تحديد انعكاس بنيوي للواقع الستقل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فسوف يكون بالضرورة ثابتا عبر تغيير طريق مقاربة هذا الواقع‪ .‬وهكذا يبدو أن ثابتا ما‬
‫يدعو بداهة بشكل ال يقاوم لتفسيره كانعكاس لواقع مستقل‪ .‬تكمن الصعوبة في أن‬
‫اليقين بهذا الصدد ال يمكن أن يتأتى إال من العكوس الدقيق لالستنتاج السابق؛ ش يء ما‬
‫مثل "إذا توصلنا إلى تحديد ثابت ما‪ ،‬عندها فإنه يمثل بالضرورة سمة للواقعية‬
‫الستقلة"‪ .‬والحال أن هذه العكوسية ال ّ‬
‫تصح‪ ،‬ويجب بالتالي القبول أن الالتغير أي‬
‫الثبات هو شرط ضروري لكن غير كاف من أجل أسر أي انعكاس مخلص لواقعية‬
‫مستقلة‪ .‬ولكي ندرك السبب الرئيس ي‪ ،‬ذا الستوى اإلبستمولوجي باألحرى منه النطقي‪،‬‬
‫ً‬ ‫الذي من أجله ال ّ‬
‫يصح مثل هذا العكوس‪ ،‬علينا أن نتذكر أن ثابتا ما في العلوم ال يمكن‬
‫أن يستفيد إال من اتساقه إزاء صف واسع من القرائن اإلدراكية أو التجريبية التي َّ‬
‫تعرف‬
‫ً‬
‫بالنسبة لها التحديدات‪ ،‬وليس من تحرره إزاء كل خلفية سياقية‪ .‬إن ثابتا ما يظل‬
‫ً‬
‫مستقرا مهما كان حال نقاط االستشراف التي نعتمدها من بين مجموعة معطاة من‬
‫نقاط االستشراف‪ ،‬ولكن ليس بشكل مستقل عن مرجعية مثل هذه الجموعة‪ ،‬بل ليس‬
‫بشكل مستقل عن مفهوم نقطة االستشراف‪ .‬وكما كان يقول الرياض ي فليكس كالين‬

‫‪145‬‬
‫‪ Félix Klein‬في برنامجه البحثي العروف بإرالنجن‪ ،Erlangen 238‬فإن الحديث عن ثابت‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫أمر ال معنى له طالا لم نحدد إزاء أية مجموعة من التغيرات هو ثابت‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن ثابتا‬
‫ما يكون له على األقل القدر نفسه من الحظوظ في إعالمنا حول منظومة األطر التضمنة‬
‫في نشاط بحثي معطى‪ ،‬أو إذا أردنا حول مجموعة التحوالت الرتبطة به‪ ،‬مما له من‬
‫ً‬
‫الحظوظ في إعالمنا حول البنى االفتراضية الشكلة مسبقا لواقع مستقل‪ .‬ومن هنا‬
‫مسعاي الخاص‪ ،‬والذي أذكر به خالل القاطع التالية‪ :‬ويشتمل هذا السعى على محاولة‬
‫تحديد أو مطابقة‪ ،‬في الثوابت القطعية الصحيحة لكل تفسير مقبول للميكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي‪ ،‬األثر البنيوي للتحوالت العكوسة الفترضة مسبقا بواسطة مجموعة واسعة‬
‫من نشاطات التحقق‪ ،‬وليس الحدود العامة لواقع "مستقل" بشكل مطلق‪.‬‬
‫ثمة مشكلة أخرى ال يحلها برنار دسبانيا (وكنا قد سبق وذكرناها في الفقرة ‪،)3 - 4‬‬
‫وهي أن السمات الشتركة‪ ،‬أو الثوابت البنيوية‪ ،‬التي تنتج من كل نظرية يمكن تفسيرها‬
‫ً‬
‫أنطولوجيا على أنها قابلة إلعادة إنتاج تنبؤات اليكانيك الكمومي‪ ،‬هي في معظمها سمات‬
‫سلبية‪ .‬فالبرهنات اليتا نظرية تشير فقط إلى أن أية نظرية من هذا النمط القابل‬
‫للتفسير بمصطلحات كثرة وتعددية من األجسام َّ‬
‫الحددة الوضع‪ ،‬والتفاعلة بطريقة غير‬
‫آنية‪ ،‬والزودة بتحديدات مستقلة عن سياق إثباتها‪ ،‬ال تكون متوافقة مع مجموعة من‬
‫ً‬
‫التنبؤات الكمومية الثبتة‪ .‬فهل يمكننا التقدم انطالقا من هنا إلى تحويل للسلبي إلى‬
‫إيجابي‪ ،‬والرور على سبيل الثال من الالإنفاصلية إلى فكرة أن الواقع الستقل هو ش يء‬
‫ما فريد وغير مغمور في الزمكان؟ يجيب برنار دسبانيا بـ "ال" دون تروي على هذا السؤال‬
‫ً‬
‫من خالل تأكيده‪" :‬يبدو لي بشكل واضح أننا ال نستطيع التعرف (سلبيا!) على الإنفصالية‬
‫ً‬
‫«ش يء ما» (يقاوم) دون أن نستشف في الوقت نفسه شيئا من الوحدانية فيه‪".239‬‬

‫‪ 238‬أدين بهذه الرجعية ذي الصلة إلى كريستيان شميتز ‪ .Christiane Schmitz‬وأشكرها هنا لغنى وفاعلية وكرم‬
‫أفكارها‪.‬‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 331. 239‬‬
‫‪146‬‬
‫من خالل هذا الجواب‪ ،‬يبدو أن هذا االفتراض الضمني الذي يسمح لدسبانيا‬
‫بالباشرة بتحويل السلبي إلى إيجابي‪ ،‬وبالوصول إلى الخالصات البنيوية التي تنتج عن‬
‫حد أدنى من العقولية للـ "واقعية الستقلة"‪ .‬ويفترض التحول في‬ ‫ذلك‪ ،‬هو افتراض ّ‬

‫الواقع أن مبدأ الثالث الرفوع قابل للتطبيق على الواقع الستقل‪ :‬فإذا لم يكن هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الواقع الستقل كثيرا وقابال لالنفصال‪ ،‬فإنه يكون بطريقة من الطرق واحدا‪ .‬والحال أن‬
‫ً‬
‫مبدأ الثالث الرفوع هو مبدأ شمولية العقول‪ ،‬مبدأ يكون حقل المكن وفقه مغطى كليا‬
‫بالفئات العقالنية‪ .‬ويفترض مبدأ الثالث الرفوع بشكل خاص‪ ،‬الطبق على الكثرة وعلى‬
‫الواحد‪ ،‬أن يكون مجال التحديدات المكنة للواقع الحقيقي مغطى بشكل كامل بفئات‬
‫الكمية‪ .‬ولكن ما الذي يضمن أن يكون "الواقع الستقل" بين فئات الكمية؟ وما الذي‬
‫ً‬
‫يضمن بشكل أوسع أن يكون واقعا ضمن فئات تؤثر للوهلة األولى على الظاهرات؟‬
‫معقولية تجاوزية‪ ،‬يمكن لبعضهم أن يعتبرها كمسلمة ال غنى عنها للعمل‬
‫ٍ‬ ‫وحدها مسلمة‬
‫العلمي‪ ،‬بما هي مثال ناظم له‪ ،‬يمكن أن ّ‬
‫تمر رغم هذا االفتقار إلى الضمانات‪ .‬ودون هذا‬
‫النوع من السلمات فسوف يكون علينا أن نرى في الالإنفصالية مساءلة لطرح تقليدي‬
‫فيما يخص ما هو حقيقي‪ :‬أال وهو قابليته للتحليل الكاني‪ .‬ثم بمراكمة التناقضات‬
‫والتحديدات التحتية لألطروحات والتشكيك بأطروحات أخرى بواسطة التجربة‪ ،‬فإننا‬
‫سوف نصل على األرجح إلى مجرد إيقاف الحاكمة التعلقة بموضوع ماذا يمكن أن تكون‬
‫"الواقعية الستقلة"‪.240‬‬

‫يقدم الالهوت السلبي القاربة ‪ apophatique‬منذ زمن طويل النموذج على هذا النوع من اإليقاف النشط‬ ‫‪ّ 240‬‬
‫للتمييز والحاكمة العقلية‪ .‬وهو يربطه بتأكيد لعدم قابلية تطبيق البادئ النطقية على الطلق‪ ،‬حيث "يتوافق‬
‫األضاد" (‪ّ .)N. de Cues, La docte ignorance, P.U.F., 1930‬بينت الجدلية البوذية "الدرب الوسطى" بالقابل‪،‬‬
‫قبل ويتغنشتاين بألف وثمانمائة سنة‪ ،‬كيف يمكننا أن نحاجج ضد كل طرح يميل إلى تمييز ش يء ما في الطلق‪،‬‬
‫ً‬
‫دون أن نعيد أبدا هذه الحاججة إلى أطروحة مبادلة‪ ،‬ودون الوقوع في أي شكل من العدمية ( ‪J.L. Garfield,‬‬
‫‪The fundamental wisdom of the middle way [traduction anglaise commentée des Stances du milieu‬‬
‫‪.)de Nagarjuna], Oxford University Press, 1995‬‬
‫‪147‬‬
‫اقترح دمسكيوس ‪ Damascius‬عودة ميتافيزيائية لهذا التعليق أو اإليقاف للمحاكمة‪،‬‬
‫وهو أحد آخر فالسفة األفالطونية الجديدة‪ ،‬وله ترجع القضية ذات الصلة التي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استشهدنا بها في مقدمة هذا الفصل‪" .‬الواحد‪ ،‬إذا كان موجودا‪ ،‬ال يكون حتى واحدا"‬
‫كتب دمسكيوس؛ وهذا يعني أن الواحد بالعنى الذي يفهمه األفالطونيون الجدد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫(وخاصة أفلوطين) ال يمكن حتى أن يرى تحديدا كميا منسوبا له يشتمل على معارضة‬
‫ّ‬
‫التعدد‪ .‬ونفهم من هنا إصرار دمسكيوس أكثر ليس على الواحد‪ ،‬الذي يبدو أنه يزودنا‬
‫ً‬
‫أيضا من خالل استمرار داللته الرقمية بعنصر من تمييز الواقع الحقيقي‪ ،‬بل على غير‬
‫القابل للوصف ‪ pantè aporeton‬الذي يفلت من أي خطاب‪ ،‬والذي ال يشتمل على أي‬
‫تحديد ألن فيه ال ش يء يتعارض مع ش يء آخر‪ ،‬والذي نعبر عنه بـ "الذي ال يوصف على‬
‫ً‬
‫اإلطالق" أو "ال يعبر عنه مطلقا"‪ .241‬يبرر دمسكيوس هذا التحويل للواحد إلى ما ال يمكن‬
‫وصفه بالجملة التالية‪" :‬ربما كان أفالطون قد رفعنا بطريقة ال توصف‪ ،‬بواسطة الواحد‪،‬‬
‫حتى هذا الذي يدق عن الوصف إلى ما وراء الواحد‪ ،‬الذي هو اآلن موضوعنا‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬
‫بالذات عبر إلغاء الواحد؛ تماما كما أنه من خالل إلغاء اآلخرين أعادنا باتجاه‬
‫الواحد‪ ".242‬فإذا تذكرنا أن دسبانيا يقارب عن طيب خاطر وصفه البنيوي الخاص للواقع‬
‫الستقل من الفهوم األفلوطيني للواحد‪ ،243‬فسوف يكون علينا أن نترجم األسئلة‬
‫اإلبستمولوجية الطروحة أعاله ضمن هذا السياق اليتافيزيائي القصود‪ .‬وفي العمق‪ ،‬هل‬
‫نرغب في أن نسأل دسبانيا ما الذي يمنعنا من االعتقاد بأن الواقعية الستقلة تشبه أكثر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ما ال يمكن وصفه عند دمسكيوس مما تشبه "واحدا" موصوفا عدديا؟ فإذا وضعنا‬
‫ً‬
‫جانبا حجة الفرصة التي وفقها من األفضل عدم تخيل مثل هذا األمر ألن ذلك يسحب‬
‫من الباحثين موضوعهم النهائي الحرض لهم‪ ،‬فال ّبد من القبول أن ال ش يء يمنعه‪ .‬فال‬

‫‪Damascius, Des premiers principes, Verdier, 1987; J. Combès, Etudes néoplatoniciennes, Jérôme 241‬‬
‫‪Millon, 1989.‬‬
‫‪ 242‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪Damascius, Des premiers principes .065 .‬‬
‫‪ 243‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat, Le réel voilè .244 .‬‬
‫‪148‬‬
‫ً‬
‫ش يء يمنع في الواقع أن نتخيل (حتى لو كان ذلك يثير مشاكل ال يزال حلها عصيا على‬
‫النظريات الحديثة في االنتظام الذاتي) أن كافة التحديدات التي ننسبها إلى محيطنا‬
‫ً‬
‫الحقيقي هي تحديدات مرتبطة بالشروط العارضة لوجودنا بما هي بنى مستقلة ذاتيا ميتا‬
‫ً‬
‫مستقرة‪ ،‬منبثقة ذاتيا مع محيطها ابتداء من عمق لم نعد نستطيع بالعنى الدقيق‬
‫للكلمة وصفه إال بـ "الحرج"‪.‬‬
‫ً ً‬
‫إن الطريقة التي يقف فيها برنار دسبانيا نفسه قريبا جدا من مثل هذا الوقف من‬
‫ً‬
‫التحفظ اليتافيزيائي‪ ،‬ثم يبتعد عنه تدريجيا‪ ،‬هو موقف هام ال بد من تحليله‪ .‬ففي‬
‫إجابته على جان ماري ليفي لوبلون ‪ J.-M. Lévy-Leblond‬الذي يقترح إعادة صياغة‬
‫‪244‬‬
‫‪ " implexité‬أو‬ ‫للمصطلحات تشتمل تعريفات إيجابية مثل " التعقيد التضمن‬
‫‪245‬‬
‫"‪ ،" pantopie‬يوص ي دسبانيا بالحفاظ على تعابير سلبية موافقة ليست‬ ‫البانتوبيا‬
‫سوى مصطلحات مثل الالإنفصالية والالموضعية‪ .‬ألنه كما يشرح بقدر ما تتعلق هذه‬
‫ً‬
‫األخيرة بالواقعية الستقلة‪ ]...[" ،‬فإن التعبير عنها إيجابيا يعود إلى وصف خاصية (تكون‬
‫ً‬
‫عندها أساسية وجوهرية) لا يسمى بالواقعية"‪ .‬مع ذلك‪ ،‬وبدال من التوقف هنا ومن‬
‫محاولة تقديم بيان االمتناع حول موضوع كل خاصية للواقعية الستقلة‪ ،‬فإن دسبانيا‬
‫يحاول إبراز األسباب التي بسببها تكون محاولة التوصيف الكانية الزمانية للحقيقي‬
‫بواسطة مصطلح إيجابي هي محاولة غير حذرة‪ .‬وبمحاولته تعيين أحد هذه األسباب‪ ،‬من‬
‫خالل محاولة شرح لاذا الواقع الحقيقي عنيد وصعب االنقياد ألي تمييز زماني ‪ -‬مكاني‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فإنه يجد نفسه مساقا بشكل طبيعي تماما ألن يرسم بشكل شفاف تمييزا آخر للحقيقي‪،‬‬

‫‪ 244‬في إطار الدراسات الفكرية واإلبستمولوجية‪ ،‬يأتي مصطلح "التضمين"‪ ،‬و"التضمينية" لإلشارة إلى الدمج بين‬
‫َ‬
‫الوضوع والذات‪ ،‬بين الراقب والراقب‪ ،‬بين الوضوعية والذاتية‪ ،‬ولإلشارة إلى أنه من الستحيل من النظور‬
‫اإلبستمولوجي الفصل بين نتاج معرفي وشروط هذا النتاج العرفي (الترجم)‪.‬‬
‫‪ 245‬على عكس اليوتوبيا‪ ،‬وهو مصطلح يشير إلى رؤية للعالم بحيث ال يوجد فيه ش يء‪ ،‬فإن البانتوبيا هي طريقة‬
‫في التفكير بالعالم بملء تنوعه بحيث نعطي لكل موضع فيه‪ ،‬ولكل كائن وكينونة‪ ،‬األهمية التي يستحقها‪ ،‬مع‬
‫ً‬
‫انتقاله في شبكة واسعة من العالقات الزمكانية‪ ،‬ومن االعتراف التبادل حيث يتجلى معناه كامال (الترجم)‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫حيث يتجلى هذا التمييز من خالل االستخدام التجدد لفعل "الكون"‪" :‬فالواقعية‬
‫ً‬
‫الستقلة يمكن أن تكون حقا أولى بالنسبة للزمكان‪".246‬‬
‫ً‬
‫أنطولوجيا" ّ‬
‫للرد‬ ‫بالقابل‪ ،‬استخدم برنار دسبانيا مفهوم "النظرية القابلة للتفسير‬
‫على االنتقاد الذي وجهه له جان بتيتو لعدم تمييزه بين األنطولوجيا والوضوعية‬
‫الشديدة‪ .‬فالنظريات الفيزيائية التابعة لشكل قوي من الوضوعية تكون على األقل قابلة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للتفسير أنطولوجيا كما يشير دسبانيا‪ .‬وهذا ال يعني أن هذه النظريات تركز فعال على‬
‫الكينونات كما هي بذاتها‪ ،‬بل فقط أن ال ش يء يمنع بشكل قطعي من تفسيرها على أنها‬
‫تصف الخصائص الجوهرية لثل هذه الكينونات‪ .‬ويطلب دسبانيا أن نفهم أن "«اللغة‬
‫الوضوعية» [‪ ]...‬هي لغة يكون وفقها إما األشياء [‪ ]...‬التي تعالجها الفيزياء هي أشياء‬
‫مفترض أنها موجودة بذاتها حقيقة‪ ،‬أو التصرف كما لو كانت توجد على هذا النحو‪."247‬‬
‫إن الالواقعية هي ما يسمح لنا بأن نطبق على نطاق واسع قاعدة "كل ش يء يجري كما‬
‫لو"‪ ،‬وهذه القاعدة هي ما يجعل البيانات ذات الوضوعية القوية قابلة للتفسير بعبارات‬
‫ً‬
‫ومصطلحات يستحيل عمليا تمييزها عن توكيد أنطولوجي‪ .‬إن والدة علم الطبيعة‬
‫الحديث كانت لتمثل في هذه الشروط ليس لحظة خسارة الخطاب األنطولوجي لصالح‬
‫متطلبات شرعية للموضوعية‪ ،‬بقدر ما تمثل الوعي بأن الخطابات ذات القصد‬
‫ً‬
‫األنطولوجي يمكن كثيرا أال تكون صالحة إال لعنى "كما لو"‪ .‬مع ذلك فقد استمر الـ "كما‬
‫لو" بالعمل بفعالية كافية لكي يتم نسيانه من قبل معظم الفيزيائيين‪ ،‬وذلك خالل كامل‬
‫ً‬
‫فترة الفيزياء الكالسيكية‪ .‬ومع الفيزياء الكمومية فقط إنما أصبح الـ "كما لو" إشكاليا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بدرجة عالية‪ ،‬دافعا برنامج صياغة النظريات القابلة للتفسير أنطولوجيا في آخر‬
‫إقطاعاته وطروحاته (أي "التغيرات الخفية")‪.‬‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 381. 246‬‬


‫‪ 247‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.39.‬‬
‫‪151‬‬
‫‪ 5 .3‬الذرات وكينونات أخرى‬
‫ً‬
‫إن إحدى السمات األكثر تميزا في فكر برنار دسبانيا هي الفصل الذي يقوم به بين‬
‫السألة العامة للواقعية في الفيزياء ومواضيع خطابات الفيزيائي‪.‬‬
‫ووفقه‪ ،‬فإن الواقعية فيما يخص األجسام الادية وبدائلها الحديثة‪ ،‬مثل الذرات أو‬
‫عرف‬‫الجسيمات األولية‪ ،‬ليست سوى "واقعية حوادث"‪ .‬ويمكن لواقعية الحوادث أن ت َّ‬
‫مص َّممة وفق نموذج الكينونات التي ّ‬
‫تتحدد‬ ‫على أنها االعتقاد بالوجود الحقيقي لكينونات َ‬
‫بواسطة لعبة اإلدراك الحس ي والفعل؛ إنها واقعية مباشرة (بسيطة) بما معناه أنها تقبل‬
‫بوجود كينونات تشاكلية بشكل أساس ي مع الظاهرات اإلدراكية و ‪ /‬أو التجريبية؛ وهي‬
‫تشتمل باإلجمال على جعل العناصر الظاهرة للـ "واقعية التجريبية" عناصر وجودية‬
‫حقيقية‪ .‬وبالنظر إلى البنية الحلية لإلدراك وللتجريب‪ ،‬فإن من بين نتائج هذا الخيار أنه‬
‫لحلي ٍة ّ‬
‫معينة‪ ،‬وبالتالي الفكرة لـ «سببية‬ ‫ّ‬ ‫" بمالزمته لواقعية الحوادث يكون [‪ ]...‬الفكرة‬
‫َ‬
‫محلية» معينة [‪ ."248]...‬ويفض ي هذا الخيار إلى "ديناميكية تعددية" يكون العالم وفقها‬
‫فا من كثرة من ّ‬ ‫ّ ً‬
‫الكونات التموضعة في الكان‪ ،‬وهي تتحرك بعضها بالنسبة لبعضها‬ ‫مؤل‬
‫اآلخر‪ .249‬غير أن دسبانيا يعتبر أن واقعية الحوادث هذه هي الرهن األساس ي الذي يجب‬
‫تحرير الواقعية منه إذا كنا نريد أن تستطيع هذه الواقعية اإلجابة على التحدي الذي‬
‫ّ‬
‫توجهه لها الفيزياء الكمومية‪ .‬دون ذلك‪ ،‬ستكون الواقعية اليوم أكثر من أي يوم مض ى‬
‫ضعيفة أمام االنتقادات من نمط انتقادات الكانطية الجديدة‪" :‬نستطيع تتبع [‪]...‬‬
‫كاسيرر ‪ ]...[ Cassirer‬عندما يعلن تحت اسم «الواقعية التجاوزية» تفكك وتشوش‬
‫واقعية‪ ،‬هي في الواقع كما يقدمها‪ ،‬واقعية ميتافيزيائية لألشياء‪ ."250‬وبشكل أدق‪ ،‬يعتبر‬

‫‪ 248‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.24 .‬‬


‫‪ 249‬في هذا الصدد‪ ،‬يعتب برنار دسبانيا على جان ماري ليفي لوبلون ‪ J.-M. Lévy-Leblond‬لعدم اقتراحه بأن‬
‫تعديالت معجمية اصطناعية هي التي تجعل سمات مسيطرة للمعنى الشائع تستمر تحت غطاء من الجرأة‪:‬‬
‫كمات بصيغة الجمع يعني تكريس التعددية ‪."multitudinisme‬‬ ‫"التحدث عن ّ‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 68. 250‬‬
‫‪151‬‬
‫برنار دسبانيا فكرة "أن الذرات والجسيمات األولية هي كينونات موجودة بشكل منفصل"‬
‫هي فكرة رفضتها الفيزياء الحديثة‪ .‬وهو يعزو أهمية كبيرة "للحقيقة الثابتة [‪ ]...‬أن واقعية‬
‫الحوادث هي رؤية مغلوطة لألمور‪ ."251‬وهو يعمل‪ ،‬من أجل إثبات هذا التأكيد‪ ،‬على إظهار‬
‫تعارض الحاكمات التي تزعم أنها تستند على نتائج الفيزياء الحديثة لكي تثبت "الوجود"‬
‫الجوهري لكثرة من األجسام مثل الذرات أو الجسيمات األولية‪.‬‬
‫يرفض دسبانيا بداية كل الحجج من نمط "االستدالل باتجاه التفسير األفضل"‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتشتمل هذه الحجج على التأكيد أن التفسير األفضل للظاهرات التقطعة مثل‬
‫التصادمات والتأثيرات على الشاشات‪ ،‬واآلثار في الغرف ذات الفقاعات‪ ،‬أو اللطخات‬
‫الظاهرة بشكل منتظم على الصور التي نحصل عليها بواسطة الجاهر ذات األثر النفقي‪،‬‬
‫ً‬
‫جزئيا‪ .‬لكن دسبانيا ّ‬
‫يقدم ويناقش تفسيرات‬ ‫هو وجود أجسام ذات طبيعة جسيمية‬
‫ً‬
‫أخرى غير جسيمية لهذه الظاهرات نفسها‪ ،‬وهي أكثر توافقا مع بنية النظريات الكمومية‬
‫ذاتها‪.252‬‬
‫وينتقد دسبانيا بالدرجة الثانية‪ ،‬مع تقديم أمثلة داعمة‪ ،‬حجة هاكينغ‪I Hacking 253‬‬
‫ووفقها أن كينونة ما ال نقوم إال برصد آثارها‪ ،‬بل التي نستخدمها في تجربة ما‪ ،‬والتي‬
‫يمكننا التحكم بها مباشرة أو بشكل غير مباشر‪ ،‬تكون لهذا السبب كينونة حقيقية‪.254‬‬
‫ً‬
‫كما يستخدم الثال الوافق للعصا التي تبدو منكسرة عندما نغمس جزءا منها في الاء‪،‬‬
‫ويتابع‪" :‬في تجربة العصا الكسورة فإن الكينونة «كسر» (االنعطاف أو االنكسار الحاد‬
‫للعصا) يمكن التحكم فيه بشكل تام‪ ،‬أي أن نغير موضع انكسار العصا كما نريد‪ .‬ويكفي‬

‫‪ 251‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.60 .‬‬


‫‪ 252‬راجع الفصل الخامس في هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪Hacking, Concevoir et expérimenter, Christian Bourgois, 1989. 253‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 254‬يمكننا هنا التفكير بعبارات شائعة عند الفيزيائيين مثل "إرسال إلكترونات واحدا واحدا"‪ ،‬أو أيضا "تحريك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذرات"‪ ،‬أو "أسر ذرة في تجويف"‪ .‬إن هذه العبارات ّ‬
‫تعبر عن تصورات تجريبية ّ‬
‫تبرر‪ ،‬إنما فقط جزئيا ووقتيا‪،‬‬
‫وممي َزة بشكل غامض‪.‬‬ ‫َ‬
‫مموض َعة َّ‬ ‫القيام بتمثيالت ألجسام‬
‫‪152‬‬
‫ً‬
‫من أجل ذلك رفع العصا قليال أو إنزالها قليال في الاء‪ ."255‬مع ذلك‪ ،‬ال يدفعنا هذا األمر‬
‫كما يالحظ دسبانيا إلى اعتبار كينونة "الكسر" كواقع حقيقي‪ .‬فال بد من إضافة الكثير‬
‫من العايير التجريبية األخرى التي تكون متقاربة إذا أردنا الوصول إلى ذلك‪ ،‬وهذه العايير‬
‫ً‬
‫هي تماما ما ينقص في حالة الكسر أو الشرخ‪ .‬وبشكل مماثل (سوف نرى ذلك في الفصل‬
‫الخامس)‪ ،‬فإن معايير تجريبية معينة تنقص في الفيزياء الكمومية لكي يمكن اإلسناد إلى‬
‫الذرات والجسيمات األولية كما لو كانت كينونات منفصلة‪ ،‬وفردانية متميزة وذات سمات‬
‫خاصة بها‪.‬‬
‫هل يفض ي بالرغم من ذلك هذا النقد الجابه للواقعية الذرية والتعددية‬
‫‪ multitudiniste‬إلى نسبوية أنطولوجية‪ ،‬مثل نسبوية كوين ‪Quine‬؟ وهل يمكننا القبول‬
‫بأن أنطولوجية ما توافق ببساطة التجزئة إلى وحدات من العنى التي يشتمل عليها إدراج‬
‫الخطاب في إطار لساني معين؟ وهل علينا لهذا السبب اعتبار أنه يوجد عدد من‬
‫األنطولوجيات بقدر وجود عدد من األطر اللسانية الستخدمة‪ ،‬مع حرية كاملة في اختيار‬
‫اإلطار اللساني؟ يجيب برنار دسبانيا على كافة هذه التساؤالت بإجابة نافية واضحة‪ .‬إنه‬
‫يعترف بالتأكيد الستراتيجية كوين ببعض ّ‬
‫اليزات‪ ،‬مثل استراتيجية تقديم "[‪ ]...‬الشرط‬
‫العقالني‪ ،‬حيث كان كثيرون يعتقدون أنهم كانوا يقدمونه حتى ذلك الوقت‪ ،‬في نسب‬
‫واقعية جوهرية‪ ،‬مستقلة عن اإلطار اللساني‪ ،‬للكينونات موضوع البحث"‪ .256‬ويقترح حتى‬
‫ترجمة لصطلحي كوين في األنطولوجية والنسبوية األنطولوجية في جدوله الخاص‬
‫بالصطلحات‪ :‬والصطلحان هما على الترتيب "الواقعية التجريبية" و"الوضوعية‬
‫الضعيفة" (القترنة بتعريف عملي للمفاهيم)‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن مجرد استخدام مصطلح‬
‫ّ‬
‫أنطولوجيا في هذا اإلطار يبدو له أنه يولد التشويشات‪ .‬ألن هذه الكلمة تعيدنا عادة كما‬
‫يشير إلى مطلق ما‪.‬‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 368. 255‬‬


‫‪ 256‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.90 .‬‬
‫‪153‬‬
‫فالسألة كلها تكمن في معرفة إذا كنا نستيطع أن نتوجه‪ ،‬مع بعض حظوظ النجاح‪،‬‬
‫ّ‬
‫نحو مثل هذا الطلق‪ .‬إن إجابة دسبانيا على هذا التساؤل األخير هي إجابة مدققة‪ ،‬لكنها‬
‫ً‬
‫إيجابية بشكل أساس ي‪ .‬فتجزئة العالم إلى كينونات منفصلة يتعلق فعال باإلطار اللساني‬
‫ّ‬
‫الختار‪ ،‬كما يسلم دسبانيا‪ ،‬ولكن من جهة أخرى "ال بد من وجود سبب‪ ،‬يمكن أو ال‬
‫ً‬
‫يمكن للمعرفة أن تصل إليه‪ ،‬يجعل من هذا اإلطار اللساني «إطارا يعمل» ومن إطار‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لساني آخر إطارا ال يعمل"‪ .‬إن الوجود الفترض لثل هذا السبب يعطي وزنا‬
‫ً‬
‫"أنطولوجيا‪ "257‬حقا‪ ،‬وإن كان بشكل منحرف وغير مباشر‪ ،‬لهذا الجزء أو ذاك من‬
‫الواقعية التجريبية بشكل وحدة (وحدات)‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬علينا عند هذه الرحلة إعادة طرح السؤال البدئي‪ ،‬متسائلين إذا كان‬
‫"السبب" الذي أورده دسبانيا ي ّ‬
‫حد بجعل بعض األطر اللسانية بسيطة وأنيقة وجعل أطر‬
‫أخرى ّ‬
‫معقدة ومنفرة‪ ،‬أو إذا كان يجبرنا على اختيار أحدها على حساب األطر األخرى‪ .‬وهنا‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬يتبدى أن الخيار لصالح تفنيدية ‪ faillibilisme‬قوية أو ضعيفة هو خيار حاسم‪.‬‬
‫فإذا امتنعنا عن اتباع دسبانيا حول هذه النقطة وآثرنا اتباع تفنيدية ضعيفة‪ ،‬فإن ال‬
‫ش يء يمنع أن عدة مخططات أنطولوجية وأطر لسانية مقترنة بها تظل على خالف في‬
‫ً‬
‫وضع علمي معطى‪ ،‬وفي هذه الحالة فإن العايير التجريبية اإلضافية وحدها‪ ،‬أو أيضا‬
‫"الوضحة"‪ ،‬تسمح باالنتقاء بينها‪ .‬ويمكن لشبكة القراءة الذرية بشكل خاص أن تستمر‬
‫وتبقى‪ ،‬على الشكل العدل بشكل عميق الذي اقترحه بوم ‪ ،Bohm‬حتى وإن كانت تفرض‬
‫ً‬
‫قيودا والتجانسات نظرية يراها بعض الباحثين ّ‬
‫محرمة‪ .‬ويمكن لباحثين آخرين في الواقع‪،‬‬
‫من مناصري النظرية التي ّ‬
‫قدمها بوم في عام ‪ ،0964‬تمني أن تدوم على الرغم من عيوبها‪،‬‬
‫وعلى الرغم من السبب العلمي الحاسم الذي يصب في صالحها‪ ،‬باسم قيمة ميتا‬
‫ً‬
‫علمية‪.،‬أما فيما يتعلق بالحفاظ على النظرية الذرية‪ ،‬فإن القيمة التي غالبا ما يتم‬
‫إيرادها (سوف نعود إلى ذلك بتفصيل أكبر في الفصل الخامس) هي قيمة االستمرارية‬

‫‪ 257‬مع اإلشارة هذه الرة إلى ربط لفظة "أنطولوجيا" بمعنى اإلطالق‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫ً ً‬
‫التاريخية في الفاهيم والكينونات‪ .‬إن الصعوبة‪ ،‬التي يدركها برنار دسبانيا إدراكا تاما مهما‬
‫كانت توجهاته الخاصة‪ ،‬هي أن تأكيد حقيقة إطار لساني ‪ /‬أنطولوجي يصبح ذا مصداقية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أقل إذا كان انتخابه يتضمن قيما‪ .‬فبدال باألحرى من حقيقة ذات إطار مماثل‪ ،‬أال يجب‬
‫أن نتحدث هنا عن انتسابها العائد إلى سوية خلفية إبستمولوجية وثقافية ومعيارية‪ ،‬ال‬
‫تشكل النظريات الفيزيائية وقاعدتها التجريبية سوى عنصر فيها بين عناصر أخرى؟‬
‫إن مساءلة الذهب الذري والخطابات العلمية بمصطلحات الوضوعية القوية‪ ،‬لها‬
‫نتيجة أخرى فائقة األهمية يعود إليها دسبانيا مرا ًرا وتكرا ًرا‪ :‬أال وهي ّ‬
‫حل األساس الفيزيائي‬
‫نفسه الذي تستفيد منه االختزالية ‪ réductionnisme‬الفيزيائية في الفيزيولوجيا العصبية‪.‬‬
‫وتتمثل النسخة األكثر كاريكاتورية لهذه االختزالية في القول إن الوعي اإلنساني قابل‬
‫لإلختزال إلى خصائص الذرات والجسيمات الدقيقة التي تشكل العصبونات الدماغية‪.258‬‬
‫ً‬
‫غير أن التمثيالت اآللية تقريبا التي تتماش ى مع هذه التوصيفات بمصطلحات الخصائص‬
‫ً‬
‫الذرية استمرت وبقيت‪ .‬فإذا وضعنا جانبا النظريات ذات التغيرات الخفية‪ ،‬مع ما فيها‬
‫من جانب مصطنع وتعسفي‪ ،‬فال بد من االعتراف أن مفهوم "الخاصية" نفسه قد تم‬
‫استبداله بمفهوم الظاهرة الكلية الرتبط بالشروط األداتية التصلة بسوية وذكاء الكائن‬
‫اإلنساني‪ .‬أما بالنسبة لفهومي الذرة والجسيم‪ ،‬فهما يتصالن بإجراءات التحليل الكاني‬
‫التي ترجعنا بشكل غير مباشر إلى إدراج اإلنسان التجريبي ضمن مجموعة‪ ،‬وإلى الترجمة‬
‫الذهنية واألداتية لهذا اإلدراج ضمن جسم الجموعة‪ .‬يجب أن نضيف إلى ذلك أن ناتج‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هذه العمليات في التحديد والتقطيع الكانيين ال يصبح واضحا أو جليا إال بالنسبة إلى وعي‬
‫(أو بالنسبة على األقل إلطالقنا اسم "الوعي" على الفعل النعكس للتجلي أو الظهور)‪.‬‬
‫َ‬
‫الوعي‬ ‫تفسر خصائصها‬‫وبالنتيجة‪ ،‬فإن أحد العاني يشير إلى أن األشياء التي يفترض أن ّ‬

‫‪ 258‬من أجل مناقشة أكثر دقة بكثير لهذه السائل‪ ،‬راجع ‪P. Engel, Philosophie et psychologie, Folio-‬‬
‫‪ ،Gallimard, 1996‬وكذلك ‪F. Varella, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil,‬‬
‫‪.1993‬‬
‫‪155‬‬
‫"[‪ ]...‬ليس لها هي نفسها وجود سوى الوجود التعلق بالوعي‪ ."259‬ويخلص دسبانيا إلى أنه‬
‫ً‬
‫بعيدا عن فرض "فكرة أن الفكر ليس سوى مجرد انبثاق من الادة‪ "260‬كما يعتقد‬
‫ً‬
‫كثيرون من الشتغلين بالعلم اعتمادا على رؤية مادية ينشرونها في كتب التبسيط‬
‫ً‬
‫العلمي‪ ،‬فإن مجلد العارف العلمية الحالية يجعل من هذه الفكرة أمرا يصعب الدفاع‬
‫عنه ودعمه‪.261‬‬
‫يمكن لصورة استخدمها ويتغنشتاين ‪ Wittgenstein‬ضد مفهوم اليتا رياضيات‬
‫اإلسهام في فهم أفضل لبعض عناصر النقد التي يوجهها دسبانيا لالختزالية العصبية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفيزيولوجية‪ .‬فاليتا رياضيات كما يشرح ويتغنشتاين تستطيع أن تقدم أساسا حقيقيا‬
‫للرياضيات بقدر (وبالدرجة نفسها من عدم تقديم) ما تقدم صخرة ملونة في لوحة إلى‬
‫القصر ّ‬
‫اللون‪ .262‬فالصخرة اللونة قابلة في أفضل األحوال لتوسعة الساحة اللونة‬

‫ً‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 96 (note 9) 259‬؛ وراجع أيضا ‪ PR‬ص‪" :99 .‬ال يجب السعي إلى «وضع نظرية» الوعي‬
‫بتأسيسها على نظرية الادة"‪.‬‬
‫‪ 260‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.244 .‬‬
‫‪ 261‬يمكن لبعضهم أن يأخذ على دسبانيا جهله لوجهة نظر علماء آخرين‪ ،‬مثل روجر بنروز ( ‪Roger Penrose,‬‬
‫ً‬
‫‪ ،)The emperor's new mind, Oxford university Press, 1989‬الذين يرتكزون أيضا على اليكانيك الكمومي‬
‫من أجل دعم وجهات نظر مختلفة بشكل مقبول حول "مشكلة العقل ـ الجسم"‪ .‬لكن نص دسبانيا يشتمل على‬
‫إجابات ضمنية على طروحات بنروز‪ .‬فبداية‪ ،‬يؤسس بنروز نظريته حول فيزيائية الفكر على تفسير واقعي مباشر‬
‫ووصفي للكينونات النظرية للفيزياء الكمومية‪ ،‬والتي ال يتفق دسبانيا معها‪ .‬إن الحجج ضد مثل هذا التفسير‬
‫ً‬ ‫ط َ‬
‫رحت في كتاب "الواقع الحجوب"‪ ،‬وقد استخدمت كثيرا في كتابنا هذا‪ .‬بالقابل‪ ،‬يعتبر بنروز أن السوية التي‬
‫يجب وصف األساس الفيزيائي للوعي عندها ليست على األرجح سوية البنية العصبية‪ ،‬بل سوية بنية تحت‬
‫ً‬
‫خلوية حاملة لحاالت كمومية متجانسة‪ .‬الشكلة أنه يقبل بأن هذا الوصف يمكن أن يتطلب فعال اللجوء إلى‬
‫ً‬
‫فيزياء غير قابلة للحساب‪ ،‬مزاوجا هكذا بين فكرة أن الوعي يدرك بواسطة الفيزياء وبين التصحيحي الذي وفقه‬
‫ً‬
‫يظل الوعي بعيدا عن صيرورة خوارزمية دقيقة‪ .‬أال يكافئ ذلك االعتراف بشكل موارب بما يؤكده دسبانيا‪ ،‬أي‬
‫عدم قابلية العرفة الفعالة للواقع في كليته؟ وفي هذه الحالة‪ ،‬أال يصبح التأكيد بأن ال ش يء‪ ،‬بما في ذلك حتى‬
‫الوعي‪ ،‬يفلت من مجال الفيزياء ّ‬
‫مجرد شعار فارغ من النتائج؟‬
‫‪L. Wittgenstein, Remarques sur les fondements des mathématiques, Gallimard, 1983, 7, p. 16; F. 262‬‬
‫‪Schmitz, La philosophie des mathématiques de Wittgenstein, P.U.F., 1988.‬‬
‫‪156‬‬
‫ّ‬
‫تصوري‪ ،‬داخل الصورة‬ ‫للقصر اللون‪ ،‬وال يمكن اعتبارها كأساس للقصر إال بمعنى‬
‫بشكل بحت‪ .‬أو إذا أردنا فهي ليست أكثر من تمثيل ألساس ما‪ ،‬كما أن القصر اللون هو‬
‫تمثيل لسكن ما‪ .‬وبشكل مماثل‪ ،‬فإن اليتا رياضيات يمكن أن ّ‬
‫توسع في أفضل األحوال‬
‫لعبة اإلجراءات البرهانية التي ترتكز عليها الرياضيات‪ ،‬لكنها ليست قادرة بالتأكيد على‬
‫تقديم أساس نهائي للرياضيات وهو أساس يجب أن يكون خارج اإلطار اإلجرائي‪ .‬فاليتا‬
‫رياضيات هي "حساب" مثل الرياضيات‪ ،‬وهي تظل بالتالي مأسورة في مستوي الرياضيات‬
‫نفسه التي تريد أن تضع أساسا له‪ .‬لنعد اآلن إلى مسألة االختزالية العصبية‬
‫الفيزيولوجية‪ .‬فالزعم أن الدماغ‪ ،‬العصبونات والذرات التي ّ‬
‫تكونها‪ ،‬تمثل كينونات توجد‬
‫ً‬
‫في الطلق سيكون أمرا فيه مجازفة وتهور في منظور الدرس اإلبستمولوجي الذي يدعونا‬
‫دسبانيا إلى تعلمه من ظهور الفيزياء الكمومية‪ .‬إن نقد "واقعية الحوادث" يقود إلى اعتبار‬
‫ً‬
‫أنها ليست سوى واحدات للمعنى وللمفاهيم تترجم نمطا من مظاهر الحقيقي التصل‬
‫بإجراءات وعمليات استقصاء بيولوجية أو فيزيائية تستخدمها كائنات عاقلة وواعية‪.‬‬
‫ينطبق ذلك أيضا على الفاهيم العقالنية (العتقدات‪ ،‬والنوايا‪ ،‬والشاعر‪ ،‬إلخ‪ ،).‬التي‬
‫ً‬
‫تترجم نمط تحديد لظاهر الواقع الحقيقي التصل أحيانا بإجراءات تبادل "بين ذاتي"‪،‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا بمناهج استقصاء نفسانية تستخدم من قبل كائنات عقلية وواعية واقعة في‬
‫ّ‬
‫التشدد الصارم إلى برنامج يهدف إلى‬ ‫شبكة هذا التبادل‪ .‬يمكننا بالتالي االنضمام في حالة‬
‫اختزال الجموعة الثانية من الفاهيم إلى الجموعة األولى‪ ،‬على الرغم من أننا نشك بأن‬
‫ً ً‬
‫هذا البرنامج يجازف بأن يدفع غاليا جدا ثمن جهله للسمة العالئقية (والتصلة بسياقات‬
‫منفصلة) بين الجموعتين اإلثنتين من الفاهيم التي تم الوصل بينها‪ .‬ولكن حتى مع‬
‫افتراض مثل هذا البرنامج المتلئ‪ ،‬علينا أن نفهم أن الفاهيم الفيزيائية والعصبية‬
‫الفيزيولوجية ال تتوصل إلى تأسيس الفاهيم العقالنية إال بالعنى السطحي حيث تؤسس‬
‫الصخرة اللونة القصر اللون‪ .‬وبقدر ما تكون مجموعتا الفاهيم ّ‬
‫معرفتين بالنسبة إلى‬
‫إجراءات تحديد مستخدمة بواسطة كائنات عقالنية وواعية‪ ،‬فإن أيا منهما ال يمكنه أن‬
‫‪157‬‬
‫يزعم أنه يؤسس أي ش يء خارج هذا الخطط الوحيد للصحة النسبية‪ .‬إن وعي الكائنات‬
‫ً‬ ‫التي تستخدم اإلجراءات والعمليات التي ت َّ‬
‫عرف نسبيا إليها الكينونات العصبية‬
‫الفيزيولوجية كما والكينونات العقلية يظل بشكل جذري خارج مدى محاولة االختزال أو‬
‫التأسيس‪ .‬وسيكون من غير الحكمة محاولة اختزال الوعي إلى صيرورات دماغية‪ ،‬بقدر ما‬
‫هو من غير الحكمة األمل بأن نؤسس على رسم الصخرة اللونة القماش الذي عليه تم‬
‫رسم تمثيل للصخرة و تمثيل للقصر‪.‬‬
‫‪ 6 .3‬النظريات والواقع‬
‫فيما يتعلق بتصوره لحالة النظريات الفيزيائية‪ ،‬وللعالقة التي تقيمها مع "الواقعية‬
‫الستقلة"‪ ،‬فإن برنار دسبانيا يخلق لنفسه صفين رئيسيين من الخصوم‪ .‬فمن جهة هناك‬
‫الواقعيون البسطاء‪ ،‬الذين يفترضون أن النظرية الفيزيائية تمثل معرفة حقيقية للواقع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا إلى ّ‬
‫حد اعتبار أن الكينونات النظرية توافق حرفيا‬ ‫الحقيقي‪ ،‬والذين يذهبون‬
‫كينونات من العالم كما هو‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬هناك األداتيون الذرائعيون‪ ،‬والتجريبيون‬
‫(وخلفاؤهم العملياتيون القادرون على أن يأخذوا بعين االعتبار تضمين إجراءات القياس‬
‫ً‬
‫في تشكيل الظاهرات)‪ ،‬الذين يتمسكون جميعا بصرامة بنتيجة نجاح القواعد التنبؤية‬
‫للفيزيائي في مجال تجريبي معين‪ ،‬دون الرغبة بتقديم تنازالت فيما يتعلق "بمستوى تحليل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أكثر عمقا" يذكرونه مع ذلك تلميحا‪ .‬إن الحجج التي يسوقها دسبانيا ضد الواقعية‬
‫البسيطة‪ ،‬أو ضد إمكانية القيام باستخدام َّ‬
‫موسع للبيانات ذات "الوضوعية القوية" في‬
‫ضد "واقعية الحوادث"‪ ،‬سبق وعرضناها في الفقرات السابقة‪.‬‬ ‫الفيزياء الكمومية‪ ،‬أو ّ‬

‫وسوف نركز هنا على الحجج التي يسوقها ضد التجريبيين‪ .‬إن اللوم األساس ي الذي يوجهه‬
‫لهم هو التخلي عن كل شكل من أشكال التفسير في العلوم‪ .‬يقول دسبانيا‪" :‬إن قاعدة في‬
‫التنبؤ ال تفسر بالعنى الدقيق للكلمة أي ش يء على اإلطالق‪ ."263‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن‬
‫السمة الناسبة للقاعدة التنبؤية تتطلب هي نفسها أن يتم تفسيرها‪ ،‬وإال فإن سبب‬

‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 103. 263‬‬


‫‪158‬‬
‫ً‬
‫نجاح النظريات يترك قابعا في غموض مطبق‪ .‬فمن أجل الوصول إلى هذا النمط األخير‬
‫من التفسير إنما يتوصل دسبانيا من جديد "[‪ ]...‬إلى الفكرة بأن لفهوم السبب بعض‬
‫الصحة حتى إلى ما وراء الظاهرات‪ ."264‬ألنه‪ ،‬كما يتساءل‪ ،‬كيف نأخذ بعين االعتبار واقع‬
‫أن مثل هذه البنية النظرية يسمح بالتنبؤ بالظاهرات‪ ،‬في حين أن بنى نظرية أخرى ال‬
‫تتوصل إلى ذلك؟ "يبدو من غير العقول أن يكون ثمة هنا أثر للصدفة‪ .‬على العموم‪ ،‬يبدو‬
‫باألحرى أن فرضية أن تكون الواقعية الستقلة هي أصل هذا الخيار هي فرضية أكثر‬
‫ً‬
‫ترجيحا"‪.265‬‬
‫إن البديل العلن على هذا النحو هو بديل تقليدي‪ :‬وهو يشمل في الرحلة األولى منه‬
‫ّ‬
‫التلمس التجريبي للـ "وصفات التي تعمل"‪ ،‬وفي الرحلة الثانية على التفسير الواقعي‬
‫للنظريات‪.‬مع ذلك‪ ،‬إذا كان دسبانيا ّ‬
‫يعزز بشكل ال لبس فيه الحالة الثانية‪ ،‬فإن نقده‬
‫ً‬
‫الذي تحركه واقعية مباشرة جدا للكينونات النظرية ال يخلو من إضعاف لنطاق خياره‪.‬‬
‫حد على‬‫فجزء اإليزومورفية (التماثل) بين الواقعية الستقلة والنظريات الفيزيائية ي ّ‬
‫ً‬
‫األرجح وفقا لدسبانيا ببعض البنى الشرعية والقانونية الكبيرة‪ ،‬ووحدها هذه األخيرة هي‬
‫التي "يتم تفسيرها" بالنتيجة وفق النمط الواقعي‪.‬‬
‫َّ‬
‫أال يمكننا أن نتصور الض ي حتى نهاية هذا اإلضعاف‪ ،‬دون أن نقلص بالضرورة إلى‬
‫ّ‬
‫التعسف التجريبي؟ أال يوجد إدراك ثالث للنظريات الفيزيائية‪ ،‬ال واقعي وال تجريبي‪ ،‬فهم‬
‫يشتمل على النظر إلى هذه النظريات على أنها أقل من انعكاس جزئي للواقع الحقيقي‪،‬‬
‫إنما على أنها أكثر من مجرد وصفات؟ أليس من المكن أن ّ‬
‫نقدم للنظريات الفيزيائية‬
‫ً‬
‫تبريرا أقوى من إثبات الحالة التالية للتجربة لقابليتها في "إنقاذ الظاهرات"‪ ،‬دون أن‬
‫ّ‬
‫نحدد مع ذلك هذا التبرير بدرجة ال على التعيين من اإليزومورفية بينها وبين الواقعية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الستقلة؟ إن موقفا وسطيا من هذا النوع‪ ،‬يشتمل على الجاهرة بالأدرية ميتافيزيائية‬

‫‪ 264‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 265‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.16 .‬‬
‫‪159‬‬
‫كاملة مثل التجريبية إنما تتقاسم مع الواقعية اليل إلى اعتبار بنية النظريات على أنها‬
‫فائقة األهمية‪ ،‬ليس في خطوطه العريضة سوى الفلسفة الترانسندنتالية (التجاوزية)‪.‬‬
‫ً‬
‫فعند كانط على سبيل الثال نجد أن جزءا ال يستهان به من الهيكلة البنيوية للميكانيك‬
‫النيوتني ي َّبرر بقابليته للتعبير‪ ،‬في اإلطار الخاص لتطبيقه على مفهوم الجسم الادي‪ ،‬عن‬
‫الشروط العامة إلمكانية التجربة‪ .266‬ال ينظر كانط إلى قوانين نيوتن الثالثة‪ ،‬أي قانون‬
‫انحفاظ الادة‪ ،‬وقانون العطالة وقانون الساواة بين الفعل ورد الفعل‪ ،‬ال كوصفات‬
‫ً‬
‫تنبؤية وال كوصف صادق للش يء بذاته‪ .‬بل هي باألحرى وفقا له التعبير‪ ،‬القابل للتطبيق‬
‫على الفهوم التجريبي للجسم الادي‪ ،‬لشروط إمكانية العرفة الوضوعية الثالثة أال وهي‬
‫"قياسات التجربة"‪ :‬فدوام الاهية ّ‬
‫يعبر عنه بانحفاظ الادة‪ ،‬ويعبر عن السببية بتناسب‬
‫القوة والتسارع‪ ،‬في حين يعبر عن الوحدة بالساواة بين الفعل ورد الفعل‪.‬‬
‫وال يجهل برنار دسبانيا هذا الخيار‪ ،‬لكنه يعطي عدة أسباب تقوده إلى عدم األخذ به‬
‫‪267‬‬
‫‪A.‬‬ ‫(أو على األقل للحد من أهميته)‪ .‬أما السبب الرئيس ي فيستعيره من شيموني‬
‫‪ .Shimony‬فشيموني يالحظ‪ ،‬على إثر بوبر‪ ،‬أنه "[‪ ]...‬في فكر كانط‪ ،‬ال بد للتخلي عن كل‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫زعم بمعرفة للش يء بذاته من أن يجد رأيا مخالفا قويا في التأكيد أنه ال ّبد لنا أن نتيح‬
‫معه‪ ،‬فيما يتعلق بالظاهرات‪ ،‬معرفة أكيدة مؤسسة بشكل راسخ على قاعدة مفاهيمنا‬
‫السبقة"‪ .268‬مع األسف‪ ،‬كما يؤكد شيموني‪ ،‬فإن تحوالت الرياضيات والفيزياء خالل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القرن النصرم جعلت من األشكال الكانطية السابقة للتجربة سبقا منطقيا وحتى من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفكرة نفسها لعرفة تأليفية سابقة للتجربة أمرا ال يمكن الدفاع عنه مطلقا‪.‬‬
‫إن هذه الفكرة للسمة التي أهملت للتأليفية السابقة للتجربة في العلوم الحديثة هي‬
‫فكرة مقبولة بسهولة‪ ،‬منذ النقد الذي قام به أينشتين لألشكال السبقة للحدس الحس ي‬

‫‪E. Kant, Premiers principes métaphysiques de la science de la nature , Vrin, 1990; J. Vuillemin, 266‬‬
‫‪Physique et métaphysique kantiennes, P.U.F., 1987.‬‬
‫‪A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I & II, Cambridge University Press, 1993. 267‬‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 103. 268‬‬
‫‪161‬‬
‫قدمه هايزنبرغ لصفوف معينة من الفهم (السببية‬ ‫(الكان والزمان)‪ ،‬وحتى النقد الذي ّ‬
‫والاهية)‪ ،‬إلى درجة أنه بالكاد يكون من الفيد التذكير بدوافعها‪ .‬يعترف مفكرون ينتمون‬
‫إلى الكانطية الجديدة من النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬مثل كاسيرر ‪ E. Cassirer‬أو‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هرمان‪ ،G. Hermann 269‬بأن ّ‬
‫مهمتهم كانت التغلب على معتقد متجذر تماما لدى‬
‫معاصريهم‪ :‬وهو العتقد بأن الفلسفة الترانسندانتالية (التجاوزية) كانت قد فقدت‬
‫ً‬
‫مصداقتيها بمواجهة علوم عصرهم‪ .‬مع ذلك سرعان ما ظهر أن الوضع لم يكن محسوما‬
‫ً‬
‫تماما وال غير مناسب إلى هذه الدرجة بالنسبة للمقاربة التجاوزية كما أمكن االعتقاد‬
‫للوهلة األولى‪ .‬فمن جهة‪ ،‬كان مبدعو اليكانيك الكمومي‪ ،‬مثل هايزنبرغ وبور‪ ،‬يقبلون هم‬
‫أنفسهم بأن األشكال السابقة للتجربة لدى كانط ظلت تحتفظ بكامل مالءمتها ضمن‬
‫محيط التجربة اليومي؛ وبأن االفتراض السبق للسمات الكانية ‪ -‬الزمانية‪ ،‬السببية‬
‫ً‬
‫والجوهرية‪ ،‬لهذه التجربة على مدى استخدام اللغة الشائعة كان ضروريا للتعبير عن‬
‫النتائج التجريبية التي ترتبها النظريات العلمية الجديدة‪ .270‬من جهة أخرى‪ ،‬وكما يالحظ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بتيتو محقا‪ ،‬فإنه من المكن تماما إحياء وتجديد الفلسفة التجاوزية في الفيزياء الحديثة‬
‫(بما في ذلك إلى ما وراء حيز التجربة اليومية والتدخالت التجريبية)‪ ،‬وذلك شرط أن نترك‬
‫ً‬
‫جانبا الشكل العقالني الخاص الذي كان قد أعطاها إياه كانط من خالل عقيدته في‬
‫القدرات‪ ،‬وال نأخذ منها سوى األساس ي فقط‪ .‬والحال أن األساس ي في النهج التجاوزي‬
‫يقود إلى إشكالية البنية األساسية للموضوعية‪ ،‬وإلى استبدال البادئ الوصفية لـ "ما هو‬
‫كائن" بالبادئ التوجيهية الصالحة للظاهرات‪.‬‬
‫إن مبدأ تحديث وإعادة تفعيل النهج التجاوزي الذي أقترحه‪ ،‬مع عدد من الؤلفين‬
‫اآلخرين‪ ،‬يتلخص في العمق بحشد وتعبئة ما هو بديهي‪ .‬فهو يستبعد الحافظة على‬

‫‪E. Cassirer, Determinism and indeterminism in modern physics, Yale University Press, 1956 269‬؛‬
‫‪G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique quantique, trad. A. Schnell en‬‬
‫‪collaboration avec L. Soler, introduction et postface par L. Soler, Vrin, 1996.‬‬
‫‪ 270‬انظر ‪L. Soler, introduction à G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique‬‬
‫‪ ،quantique‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.25 .‬‬
‫‪161‬‬
‫ً‬
‫األشكال الكانطية الؤرخة تاريخيا من التأليفية البديهية‪ ،‬واعتبارها كأشكال عالية‬
‫وثابتة‪ .‬فهذا البدأ يرتكز على العكس على أن يحل محلها ما يمكن تسميته بداهة‬
‫وظيفية‪ ،‬أي مجموعة من االفتراضات السبقة األساسية الرتبطة بنمط النشاط‬
‫َ‬
‫المارس‪ .‬فبما أن لكل نمط نشاط إطاره من االفتراضات السبقة‪ ،‬فإنه يمكن أن يكون‬
‫من الالزم التخلي عن بداهة وظيفية ما في حال حصول تعديل على هذا النشاط‪ .‬وهكذا‬
‫ً‬
‫نفهم أننا نستطيع أن نتجاوز ولو بشكل جزئي على األقل أشكاال سابقة للتجربة أصيلة‬
‫لكانط دون أن نتخلى مع ذلك عن الفلسفة التجاوزية‪ .‬كانت هذه األشكال الكانطية‬
‫وثيقة الصلة مع االفتراضات السبقة للمحاكمة والفعل في الوسط الباشر لإلنسان‪.‬‬
‫فليس ثمة ما يدهش في أن إعادة تعريف النشاطات التجريبية بهدف توسعة حقل‬
‫استقصائها إلى ما وراء الوسط اليومي قد ترافقت بتعديل عميق الفتراضاتها السبقة‪،‬‬
‫ً‬
‫وأن ذلك يفرض على الفيلسوف التجاوزي عمال في إعادة صياغة البداهة الوظيفية التي‬
‫ترتبط بها‪.271‬‬
‫إن القاربة البراغماتية ‪ -‬التجاوزية التي رسمناها لتونا ال تسمح بشكل واضح بموازنة‬
‫الخسارة التي أشار لها شيموني‪ :‬أال وهي خسارة مشروع معرفة أكيدة‪ ،‬مرتكزة على‬
‫صفوف مفترضة كصفوف غير متغيرة وثابتة للفكر‪ .‬لكنها تتيح توقع إمكانية الوصول إلى‬
‫هدف آخر ال يمكن تجاهل أهميته اإلبستمولوجية بحال من األحوال‪ .‬وهذا الهدف هو‬
‫الوصول إلى تبرير لبنية كل نظرية فيزيائية‪ ،‬ليس من خالل إدراجه في خطوط القوى‬
‫لواقع مستقل مسبق التشكل‪ ،‬بل عبر قدرته‪ ،‬في قلب شكليته‪ ،‬على جمع العايير التي‬
‫ً‬
‫تفترضها مسبقا النشاطات التجريبية التي تأخذها بعين االعتبار‪ .‬إن الصعوبات‬
‫واإلضعافات الضرورية للمشروع الواقعي‪ ،‬التي بينها دسبانيا بشكل واضح‪ ،‬يتم تجنبها‬

‫تح ّل كافة الصعوبات على هذا‬ ‫‪ 271‬نرى هكذا أن الفلسفة التجاوزية ال تستبعد تدرجية في البداهة‪ .‬لكن ال َ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الستوى‪ .‬فكيف نفهم في اإلطار الحصري للفلسفة التجاوزية‪ ،‬دون ذكر حكم "واقعية مستقلة" مشكلة مسبقا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أننا نستطيع أحيانا أن نكون مضطرين عمليا إلعادة تحديد نشاط تجريبي‪ ،‬وتعديل افتراضاته السبقة‪،‬‬
‫وبالنتيجة إلى إعادة صياغة بداهته الوظيفية القترنة به؟ اقترحنا إجابات على هذه األسئلة في القطع ‪.1-0‬‬
‫‪162‬‬
‫ّ‬
‫على هذا النحو‪ ،‬إنما دون أن نضطر مع ذلك إلى التعليق والتوقف التجريبي للمحاكمة في‬
‫موضوع البنى النظرية‪ .272‬وبالثل‪ ،‬وكما أشرنا إلى ذلك في الفقرة ‪ ،1 - 0‬فإننا نلمح‬
‫َّ‬
‫مصممة‬ ‫إمكانية فهم تاريخ العلوم الفيزيائية ليس كالتقاء مقارب نحو صورة واقعية‬
‫ً‬ ‫بشكل إحصائي‪ ،‬بل كتعميم ّ‬
‫تدرجي للمعايير التي تفترضها مسبقا ديناميكية نشاطات‬
‫البحث‪ ،‬وككشف عن هذه العايير بواسطة التشكيالت النظرية التأقلمة مع كل مرحلة‬
‫من مراحل توسعها‪.‬‬
‫وبالطبع‪ ،‬فإن مراحل التشكل هذه للنشاطات التجريبية ولعاييرها ليست اعتباطية‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أبدا‪ :‬فهي مشروطة بقابليتها ألن َّ‬
‫الالتغير العملياتي األكثر فأكثر‬ ‫تؤسس ضمن أدوار من‬
‫ً‬
‫اتساعا‪ ،‬أدوار ّ‬
‫تعمم اللحظة الناشئة من عملية االستقرار والترسيخ المثلة من خالل‬
‫تأسيس الوضوعية في الوسط الحيط للكائن الحي الذي هو اإلنسان‪ .‬ببساطة‪ ،‬وفي مثل‬
‫هذا النظور‪ ،‬فإن انتظامات نتائج النشاطات التجريببية (أو "أدوار الالتغير") ال يمكن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نسبيا لشكل حقيقي ّ‬
‫معرف جوهريا وفيه تندرج هذه النشاطات‪،‬‬ ‫اعتبارها كتعبير دقيق‬
‫بل كمحصلة لصيرورة التعريف الشترك للنشاطات ولألشكال التي َّ‬
‫تطبق عليها‪ .‬وبالتالي‬
‫ً‬
‫فإن الثوابت الكبرى بدال باألحرى من أن تكون مجرد انعكاسات لنطقة استقرارية مطلقة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تنتمي إلى واقعية مشكلة مسبقا‪ ،‬فإنها هنا مصممة مثل تكوينات ثابتة متعلقة بصف‬
‫ً‬
‫واسع جدا من صيرورات إنتاج الظاهرات‪ ،‬وهي صيرورات قابلة للنسخ والتوالد‪.273‬‬
‫إن قيمة الثوابت الكونية يمكن أن تعتبر هي نفسها على األرجح‪ ،‬من خالل تطبيق‬
‫التنوع الضعيف للمبدأ اإلنساني‪ ،‬كشرط لالنبثاق الشترك لكينونات بيولوجية‪ ،‬قابلة‬
‫ً‬
‫لمارسة نشاط إبستمولوجي (معرفي)‪ ،‬وألجسام هذا النشاط‪ .‬ووفقا لهذه القاربة‪ ،‬فإنه ال‬
‫ً‬
‫يبقى سوى عنصر ال يمكن اإلمساك به أبدا يظهر السمة النتهية للفكر وللنشاطات‬
‫ً‬
‫العملياتية‪ :‬أال وهو الحصول على مثل هذه النتيجة بدال باألحرى من نتيجة أخرى من بين‬

‫‪ 272‬الرجع السابق‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique .‬‬


‫‪ 273‬انظر القطع ‪.3-3‬‬
‫‪163‬‬
‫كافة النتائج المكنة‪ ،‬وذلك خالل ظهور استثنائي للتجربة ّ‬
‫النفذة‪ .‬غير أن هذا العنصر‬
‫ً‬
‫األخير هو من رتبة غير بنيوية ويفلت عموما من قدرة الفيزياء الكمومية على التوقع حيث‬
‫تثبت هذه الفيزياء سوى االحتمال‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬فإنه يسمح بتصور حالة‬ ‫ال ّ‬

‫لإلبستمولوجيا حيث يمكن تبرير كافة الركبات البنيوية والتنبؤية للنظرية الفيزيائية‬
‫بواسطة حجة من نمط براغماتي ‪ -‬تجاوزي‪ ،‬وحيث وحدها مواجهته مع االنبثاق النوط‬
‫بكل نتيجة فردية تندرج ضمن ما ال يمكن تعيينه‪.274‬‬
‫يعترف برنار دسبانيا بأهمية هذه العائلة من القاربات‪ ،‬و "[‪ ]...‬يعتبرها كتحديد‬
‫لطريق فلسفي جديد‪ ،‬طريق يستحق للغاية االضطالع به‪ ."275‬ومع ذلك‪ ،‬فهو يشك‬
‫بإمكانية الوصول به بشكل متكامل إلى غايته‪ .‬وترتكز أسباب هذا الشك‪ ،‬والتي أصبحت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من اآلن فصاعدا مقبولة تماما‪ ،‬على التمييز بين النظرية اإلطار والنظرية الفيزيائية‬
‫الخاصة‪ .‬ووفق دسبانيا‪ ،‬فإن النظريات اإلطار وحدها قابلة ربما للتبرير وفق النمط‬
‫التجاوزي‪ ،‬في حين أن النظريات الخاصة ليست كذلك‪ .‬إن بنية النظريات الخاصة‪،‬‬
‫النمذجة بواسطة القاومة التي يمانع بها "ش يء ما" محاوالتنا لجعلها صحيحة أو إعطائها‬
‫ً‬
‫سببا ما‪ ،‬ال يمكن أن ت ّ‬
‫فسر بالنتيجة إال من خالل قدرتها على أن تعكس الواقعية‬

‫‪ 274‬في إطار هذه القاربة البراغماتية ـ التجاوزية‪ ،‬فإن الوساطة بين الظاهرة الفردة والبنية النظرية تتم عبر نشاط تجريبي‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫الفترضة مسبقا‪.‬‬ ‫مسمى‪ .‬إن تغييرا في النظرية يترجم بالضرورة إعادة توجيه للنشاط التجريبي وإعادة تعريف لعاييره‬
‫ً‬
‫ولكن كيف نتصور أن "شيئا ما" يمكن أن يدفع الجتمع العلمي إلى إعادة تنظيم نشاطه والعايير الرتبطة به‪ ،‬دون أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫االستناد بالرغم من ذلك على مفهوم واقع حقيقي مشكل مسبقا؟ لنأخذ مثاال على ذلك‪ .‬إن إعادة توجيه الفيزياء‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫مموض َعة مكانيا (الفيزياء الكالسيكية) إلى نشاط أكثر‬ ‫التجريبية في بداية القرن العشرين‪ ،‬من نشاط تحريك ألجسام‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫عمومية إلنتاج ظاهرات سياقية (الفيزياء الكمومية)‪ ،‬ي َّ‬
‫فسر استعاديا كأثر للقيد المارس من خالل واقع القيمة غير‬
‫ََ‬
‫متأت من واقع‬‫العدومة لثابتة بالنك‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن القيمة الخاصة لثابتة بالنك ال يجب أن تعتبر بالضرورة كـ "معطى" ٍ‬
‫ً ً‬
‫حقيقي يضعها قريبا جدا في الطلق‪ .‬إن هذه القيمة يمكن أن يتم تصورها على أنها مرتبطة بموضعنا نحن في صيرورة‬
‫التوالد الشترك التي نشارك فيها‪ .‬تلك هي الفكرة التي يعبر عنها البدأ األنثروبولوجي الضعيف‪ ،‬والذي وفقه‪" :‬فإن قيم‬
‫الثوابت الكونية تكون محددة بالشرط الذي وفقه نحن ممكنون كمتعضيات بيولوجية"‪ .‬وهكذا فإننا نرى كيف أن‬
‫مقاربة تجاوزية عامة بدرجة كافية‪ ،‬متضمنة للمبدأ األنثروبولوجي الضعيف كما وبالقدر نفسه مفهوم البداهة‬
‫ً‬
‫الوظيفية‪ ،‬يمكن أن تمثل ليس فقط البنية بل وأيضا تطور النظريات الفيزيائية‪.‬‬
‫‪B. d'Espagnat, in PR, p. 341. 275‬‬
‫‪164‬‬
‫ّ‬
‫يستمد هذا التمييز بين النظرية اإلطار والنظرية الخاصة‬ ‫الستقلة في خطوطها العريضة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثقال ال يستهان به من خالل اإلسناد إلى حالة اليكانيك الكالسيكي‪ .‬ففي اليكانيك‬
‫الكالسيكي‪ ،‬كان ميكانيك غليليو ‪ -‬نيوتن يستخدم كنظرية إطار في حين كانت نظرية‬
‫الجاذبية نظرية خاصة‪ .‬ولم ّيدع كانط نفسه في كتابه "البادئ اليتافيزيائية األولى لعلوم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الطبيعة" أنه يقدم تبريرا ترانسندانتاليا (تجاوزيا) لعبارة قانون الثقالة الكوني‪ ،‬إنما فقط‬
‫لقوانين نيوتن الثالثة‪ .‬فهو لم يصل إلى قانون الجاذبية الكوني إال في مرحلة ثانية‪ ،‬بأن‬
‫دمج مع قوانين نيوتن العنصر التجريبي غير القابل لالختزال أو التبسيط أال وهو قوانين‬
‫كبلر‪ .‬وبشكل مماثل‪ ،‬كما يشير دسبانيا‪ ،‬إذا افترضنا أننا قبلنا بأن اليكانيك الكمومي‪،‬‬
‫متغير َّ‬
‫محدث للمنهج‬ ‫بما هو النظرية اإلطار للفيزياء الحديثة‪ ،‬قابل للتبرير من خالل ّ‬

‫التجاوزي‪ ،‬فإن حالة الفروع الختلفة (التي لم يتم توحيدها بشكل تام حتى اليوم)‬
‫ً‬
‫للنظرية الكمومية للحقول تظل غير محسومة إلى حد كبير‪ .‬وتبدو فعال بعض مبادئ‬
‫الالتغير والتناظر الكبرى مثل شروط إلمكانية النشاط التجريبي‪ ،‬لكن ذلك ال ينطبق‬
‫بالضرورة على كافة مبادئ التناظر التي تنتج عنها القدرة التنبؤية للنظريات الخاصة‪.‬‬
‫وباإلجمال‪ ،‬كما يشير دسبانيا‪ ،‬فإن التأكيد أنه من المكن تبرير بنية مجمل النظريات‬
‫الفيزيائية وفق النمط التجاوزي ال يمكن أن يستفيد أو يبنى إال على حجج جزئية‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحديا للمستقبل‪ّ .‬‬
‫تحد يراه دسبانيا محفوفا بالخاطر وهو ينأى‬ ‫سيظل بالتالي يشكل‬
‫بنفسه عن االقتران به‪.‬‬
‫ماذا عن هذا االنتقاد التوازن الذي يوجهه دسبانيا إلى محاوالت تحديث القاربة‬
‫ً‬
‫التجاوزية للنظريات الفيزيائية من خالل تعبئتها وجعلها أكثر تجذرا؟‬
‫نرى بداية أن تمييزه‪ ،‬وثيق الصلة بالوضوع بين النظرية اإلطار والنظريات الخاصة‪،‬‬
‫ً‬
‫تم أخذه بعين االعتبار جيدا من خالل القاربة البراغماتية ‪ -‬التجاوزية‪ :‬ففي هذا النظور‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫األخير‪ ،‬تشتمل النظرية اإلطار على العايير الولدة الفترضة مسبقا بواسطة مجمل‬
‫النشاطات التجريبية القبولة في حالة نموذجية معطاة‪ ،‬في حين أن النظريات الخاصة هي‬
‫‪165‬‬
‫بنى تترجم‪ ،‬من خالل استخدامها لتناظرات محلية مختلفة و ‪ /‬أو "داخلية"‪ ،‬االفتراضات‬
‫السبقة األقوى القترنة بمجموعات تحتية معينة من العمليات‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ونرى ثانيا أنه محق تماما في اإلشارة إلى أن إمكانية تبرير بنية كافة النظريات‬
‫الفيزيائية‪ ،‬بما فيها النظريات الخاصة‪ ،‬وفق النمط التجاوزي‪ ،‬تظل عبارة عن ّ‬
‫مخمنة إلى‬
‫حد كبير‪ .‬ولكن بعد كل ش يء‪ ،‬فإن ذلك ليس أقل ّ‬
‫صحة من الطرح الذي وفقه تلقي‬ ‫ّ‬

‫النظريات الفيزيائية إضاءات حول موضوع الواقعية الستقلة‪ .‬أال يستمر دسبانيا نفسه‬
‫مقررة"‪ 276‬على الرغم من الحجج الغاية في الدقة دائما‬ ‫ّ‬
‫"مخمنة غير َّ‬ ‫في تقديمها مثل‬
‫ً‬
‫والقنعة غالبا التي قدمها لصالحها؟ ومن جهة أخرى‪ ،‬أليست السمات النادرة (مثل‬
‫الوحدة الكليانية) التي يعتقد أنه باستطاعته نسبها للواقعية الستقلة هي نفسها ناجمة‬
‫عن المتغير مندرج في النظرية اإلطار‪ ،‬باألحرى من كونها ناشئة عن نظرية خاصة ال على‬
‫التعيين؟‬
‫في أرض العجائب من الشاريع ال َح ّركة واللهمة والثل الناظمة‪ ،‬فإن القرار ال يمكن‬
‫أن يؤخذ بواسطة تجربة حاسمة‪ ،‬أو بواسطة برهان قطعي‪ .‬إن معيار الخيار بين برامج‬
‫التقص ي اإلبستمولوجية يرتكز باألحرى على تقييم‪ ،‬هو بالضرورة تقييم غير دقيق‪،‬‬
‫ً‬
‫لخصوبتها على الدى الطويل‪ ،‬وعلى تقدير‪ ،‬مو ّجه حتما بواسطة نظام للقيم‪ ،‬لقابليتها‬
‫على ربط حقول للفكر وللحياة كانت قد بقيت حتى اللحظة غير قابلة لالختراق كل باتجاه‬
‫اآلخر‪ .‬يشتمل الشرط الوحيد الذي يفرض نفسه على كافة البرامج من هذا الستوى على‬
‫األخذ بعين االعتبار إلسهام العلوم العاصرة بشكل كامل وصارم‪ .‬ومن وجهة النظر‬
‫التعددية هذه‪ ،‬تكمن أهمية عمل وكتاب دسبانيا في قدرته على تقديم أحد البيانات‬
‫ً‬
‫العاصرة النادرة جدا للمثال الناظم الواقعي الذي اعتمد القياس الكامل لتضمينات‬
‫الفيزياء الكمومية‪.‬‬

‫ً‬
‫‪ 276‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪60 .‬؛ راجع أيضا القطع ‪ 4-3‬في الفصل الحالي‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫‪277‬‬
‫‪ .4‬شبه الواقعية والواقعية التجريبية‬

‫ً‬
‫"إن عقائد تجمع شيئا نسميه «واقعية»‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مع ما يشبه كثيرا تلطيفا (داخليا‪ ،‬استشرافيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متواضعا‪ ،‬متأصال‪ ،‬اإلنسان محوره‪،‬أدنى)‬
‫كانت متناغمة منذ قرون مع عصرها‪ .‬كان‬
‫كانط هو األب األقدم لها [‪"]...‬‬
‫بالكبرن ‪ ،S. Blackburn‬في ‪P. Clark & B.‬‬
‫‪Hale, Reading Putnam‬‬

‫تناول النقاش في الفصول السابقة بشكل خاص مسألة عامة هي الواقعية العلمية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وقد رأينا أنها يمكن أن تعالج أحيانا بشكل منفصل عن السألة األكثر تحديدا‪ ،‬أي مسألة‬
‫واقعية األشياء الدروسة وواقعية خصائصها‪ .‬كانت الواقعية الستقلة لدسبانيا وريدهيد‬
‫مخفف من الواقعية العلمية دون ربط مصيرها‬ ‫تمثيال ممتا ًا إلمكانية الدفاع عن شكل َّ‬
‫ً‬
‫ز‬
‫بمصير تأكيد وجود ألجسام يفترض أنه يتم التقص ي والبحث عنها‪ .‬الفصل الحالي‬
‫ّ‬
‫مخصصين لتقدير تنوعات أقوى للواقعية‬ ‫والفصالن التاليان سيكونان على العكس‬
‫حيث سنركز على تفصيل األجسام والكينونات النظرية‪ :‬الذرات والجسيمات والـ "حاالت"‬
‫والحقول و"الفراغ الكمومي"‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكي نبدأ‪ ،‬سوف نتساءل خالل هذا الفصل إذا كان من المكن فعال أن نفصل‬
‫بشكل كامل بين الوقف الواقعي تجاه هذه األجسام والكينونات وبين اإليمان‪ ،‬الذي من‬
‫رتبة ميتافيزيائية‪ ،‬بوجودها الستقل عن اإلجراءات التجريبية التي نستخدمها من أجل‬

‫‪ 277‬ظهرت نسخة سابقة من هذا الفصل بعنوان "شبه الواقعية والفكر الفيزيائي"‪ ،‬في مجلة نقد‪"Quasi- :‬‬
‫‪.réalisme et pensée physique", Critique, no 564, mai 1994, p. 340-361‬‬
‫‪167‬‬
‫ً‬
‫دراستها‪ .‬سوف نقوم بالتالي بالتوغل في سؤال يعتبره فان فراسن‪ Van Fraassen 278‬سؤاال‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫لواضع‬ ‫حيويا بالنسبة لـ "تجريبيته البنائية"‪ ،‬والذي هو كذلك بالتأكيد بالنسبة‬
‫إبستمولوجية أخرى‪ .‬وهذا السؤال هو سؤال معرفة ما هي الترجمة الفلسفية التي يمكننا‬
‫إعطاؤها لحالة الفكر الحيرة بعض الش يء التي نعرف أنها حالة فكر الباحثين العلميين‪:‬‬
‫ً‬
‫أي حالة شكل من االعتقاد بنظرياتهم وكينوناتهم يكون في آن واحد مقاوما بدرجة كافية‬
‫لالختبارات والتجارب من أجل ردعها عن تغييره باستمرار‪ ،‬وقليل العقائدية والجزم بما‬
‫ً‬ ‫يكفي لكي ال يمنعها من القيام بمراجعات ّ‬
‫ممزقة ومفجعة عندما يصبح من الكلف جدا‬
‫االستمرار في عادات الفكر القديمة‪ .‬إن ترجمة فلسفية لهذا الوقف من "اإليمان غير‬
‫العقائدي"‪ ،‬والتي تسلط الضوء على طريقة عمل الباحثين اإلبستمولوجية الهشة‪،‬‬
‫ستساعد ربما على تجنيبهم التأرجح بين أقص ى التشكيك في أوقات الثورات العلمية وبين‬
‫أقص ى إعادة البلورة األنطولوجية خالل فترات الترسيخ ما بعد الثورات العلمية‪.‬‬
‫يميل الرء لالعتقاد بأن التفسير الفلسفي الذي نبحث عنه حول الوقف من اإليمان‬
‫ً‬
‫غير العقائدي يشبه كثيرا "الواقعية التجريبية" لدى كانط‪ ،‬األمر الذي تناولناه باختصار‬
‫ً‬
‫في الفقرة ‪ .0 .3‬إن شكال من الواقعية غير التأملية ال يرتكز‪ ،‬على عكس "الواقعية‬
‫التجاوزية"‪ ،‬على تأكيد مطابقة موضوع البحث مع األشياء كما هي بذاتها‪ ،‬بل يقبل‬
‫ببساطة‪ ،‬وليس بشكل معقد أو إشكالي‪ ،‬واقعيتها كمعطى في الظاهرات‪ .‬الشكلة أننا‬
‫عندما نقول ذلك فإن الكثير يظل أمامنا لنفعله‪ .‬فالظاهرات ال ّ‬
‫تحدد لنا وحدها ما هي‬
‫ً‬
‫الواضيع التي يجب أن نقبل بواقعيتها‪ .‬ومن المكن حتى (وكان كانط سباقا على أية حال‬
‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫في هذا النوع من الالحظات) أن يكون شكل الظاهرة منمذجا أو مشكال بشكل عكس ي‬
‫بواسطة مجموعة أهداف الوضوع‪ ،‬كما وبواسطة المارسات التجريبية التي ترتبط بهذه‬
‫األهداف‪.‬‬

‫‪B. Van Fraassen, "What is empiricism and what could it be?", Conférence du Collége de France, 5 278‬‬
‫‪décembre 1997.‬‬
‫‪168‬‬
‫تحاول "الواقعية الداخلية" لبوتنام اإلجابة على هذه اإلعتراضات بإدخال عامل‬
‫براغماتي للغة لكي يؤخذ بعين االعتبار تقسيم حقل الظاهرات إلى مواضيع دون اللجوء‬
‫في ذلك إلى سهولة التقسيم السبق الطبيعي‪ .‬ووفقه "[‪ ]...‬ال معنى للنظر إلى العالم على‬
‫أنه مقسم من تلقاء نفسه إلى «أجسام» (أو كينونات) بشكل مستقل عن الطريقة التي‬
‫ّ‬
‫نستخدم بها اللغة‪ ."279‬يتخلص بوتنام من نسخ سابقة ألطروحته‪ ،‬نسخ تعود إلى كل من‬
‫كارناب ‪ Carnap‬وكوين ‪ ،Quine‬ويدافع عالوة على ذلك عن فكرة تحديدية متبادلة بين‬
‫اإلطار اللغوي‪ ،‬الذي يعلم بـ "الوقائع" التي تندرج فيه‪ ،‬وهذه "الوقائع" نفسها‪ .‬وبعكس‬
‫ً‬
‫كارناب‪ ،‬يحرص بوتنام على عدم تعميق االنشقاق وجعله مطلقا بين األحكام التحليلية‬
‫واألحكام التأليفية‪ ،‬بين إطار االفتراضات السبقة والعناصر ذات األصل التجريبي التي‬
‫تدرج في هذا اإلطار‪ .‬وهكذا يمكن اعتبار أن "الواقعية الداخلية" في الوقت الحالي هي‬
‫إحدى الفلسفات األكثر صفاء وأكثرها سهولة في إمكانية الدفاع عنها التحدرة من‬
‫ً‬
‫الواقعية التجريبية الكانطية‪ .‬فالواقعية الداخلية تمثل على غرار هذه األخيرة تنويعا غير‬
‫ميتافيزيائي بشكل واضح للواقعية؛ بل هي تنويع يؤيد إعادة توجيه الفلسفة العاصرة‬
‫لتساؤالت نظرية العرفة باتجاه األسئلة الداللية والبراغماتية للغة‪ّ ،280‬‬
‫ويقدم عبر هذه‬
‫الطريقة رؤية مقبولة (على الرغم من أنها ليست كاملة بالضرورة) لعالقة التحديد‬
‫الشترك للظاهرة ولنظومة األهداف‪ .‬ومن جهة أخرى تدخل "الواقعية الداخلية"‬
‫لبوتنام‪ ،‬مثل "الواقعية التجريبية" لكانط‪ ،‬تصحيحات انعكاسية هامة ("تخفيفات"‪ ،‬كما‬
‫كتب بالكبرن في اقتباسه للفظة النحوتة) على األشكال ما قبل النقدية للواقعية‪ .‬يأتي‬
‫كانط بهذا التصحيح عبر قسمته بين الظاهرات واألشياء بذاتها‪ ،‬عبر تقييد تأكيده‬
‫يقيد صحة تقسيم‬‫للواقعية باألجسام الادية بما هي ظاهرات‪ .‬أما بالنسبة لبوتنام فإنه ّ‬

‫‪H. Putnam, "Comments and replies", in P. Clark & B. Hale, Reading Putnam, Basil Blackwell, 1994, 279‬‬
‫‪p. 243.‬‬
‫‪.P. Engel, Davidson et la philosophie du langage, P.U.F., 1944. 280‬‬
‫‪169‬‬
‫أنطولوجي على غرار "الطريقة التي نستخدم نحن بها اللغة"؛ وهو يرجعها إلى عملـ نا نحن‬
‫ً‬
‫في التقسيم‪ ،‬أو أيضا إلى النظور البراغماتي ‪ -‬اللساني الذي نعتمده نحن‪ .‬وفي الحالتين‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن االعتقاد الرتبط بفعل اإلسناد الرجعي إلى ش يء ما يكون قابال للتأويل بشكل مفتوح‬
‫بمقارنته مع "بالنسبة لنا" (نحن)‪ :‬بالنسبة لحساسيتنا ولفهمنا عند كانط‪ ،‬أو بالنسبة‬
‫لمارستنا للتخصيص اللغوي عند بوتنام‪.‬‬
‫إن هذه االستراتيجية هي بالضبط استراتيجية تفسير الوضع الذي َّ‬
‫يعرف بالنسبة له‬
‫تقسيم أنطولوجي يعارض بالكبرن أهميته وفائدته‪ .‬ألنه‪ ،‬كما يتساءل‪ ،281‬ما فائدة‬
‫ً‬
‫االستمرار في القول إن أنطولوجيا ما‪ ،‬أو وصفا للعالم‪ ،‬ال قيمة له إال بالنسبة لنا أو من‬
‫وجهة نظر إنسانية إذا كانت هذه الـ "نحن"‪ ،‬في الحصلة‪ ،‬هي الوحيدة التي نستطيع أن‬
‫نكونها‪ ،‬وإذا كان النظور اإلنساني هو النظور الوحيد الذي بوسعنا أن نرى منه؟ من هذا‬
‫التساؤل ولدت الصورة الساحرة لشبه الواقعي‪ :‬إنه فيلسوف شفاف بالقدر الكافي‬
‫ً‬
‫ليتشارك تلميحا مع كانط وبوتنام الوقف النقدي‪ ،‬ولكنه دقيق وواع بدرجة كافية لا‬
‫سيسميه بعضهم "الحدودية البشرية" بحيث يكون من غير الجدي توصيفها في سمات‪.‬‬
‫مع ذلك ال يجب اعتبار مثل هذه القاربة إال كلحظة متأخرة لنقاش طويل‪ ،‬نقاش‬
‫كان هدفه حل أو ربما إنهاء تناوب الواقعية والالواقعية‪.‬‬
‫‪ 1 -4‬مشكلة تصنيف الواقف الفلسفية لؤسس ي الفيزياء الكمومية‬
‫من الهم أن نستنتج أن الكثير من الحاوالت الهادفة إلى خرق أو تفجير اإلطار البديل‬
‫نفسه ولدت من التأمل حول تاريخ وتفسير اليكانيك الكمومي‪ .282‬وكان الحافز وراء ذلك‬
‫هو الشعور التزايد بشكل واضح بعدم القدرة على إعطاء أي مظهر من مظاهر التماسك‬

‫‪ 281‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪S. Blackburn, "Enchanting views", in P. Clark & B. Hale, Reading Putnam .49-42 .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 282‬كما يشير إلى ذلك بوتنام‪ ،‬فقد بات من اآلن فصاعدا من الصعب جدا الدفاع عن إعداد خط فلسفي‪،‬‬
‫واقعي أو الواقعي‪ ،‬ال يأخذ بعين االعتبار على اإلطالق "[‪ ]...‬النظرية الفيزيائية األكثر جوهرية التي نملكها اليوم‬
‫[الفيزياء الكمومية]"‪H. Putnam, Realism with a human face, Harvard University Press, 1990, Préface, .‬‬
‫‪p. X‬‬
‫‪171‬‬
‫للتصنيف التقليدي لبدعي ومؤسس ي اليكانيك الكمومي بين واقعيين من جهة والواقعيين‬
‫ً‬
‫(الوضعيون والذرائعيون) من جهة ثانية‪ .‬لم يكن أحد قادرا على الفصل بل وأكثر من‬
‫ذلك على تأكيد الصفات العقائدية التي كان هؤالء الفيزيائيين الكبار يطابقونها بانتظام‬
‫مع االتهامات التبادلة فيما بينهم‪.‬‬
‫في كتابه اللعبة الهشة ‪ ،The shaky game283‬يجعل آرثر فاين ‪ Arthur Fine‬من غير‬
‫ّ‬

‫المكن الدفاع عن الفكرة التي وفقها كان أينشتين يجاهر بالشكل اليتافيزيائي للواقعية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي كان ينسبه له بور ‪ .Bohr‬وانطالقا من هذا التفنيد‪ ،‬يجد فاين نفسه مساقا ألن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يجهز لحسابه الخاص موقفا يحفظ واقعية أينشتين في حوافزها‪ ،‬بدال باألحرى من‬
‫ً‬
‫الحفاظ عليها في تعابير التزامه اليتافيزيائي‪ .‬يصف فاين هذا الوقف‪ ،‬الذي ليس واقعيا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫"يقر بداللية‬ ‫وال الواقعيا‪ ،‬بـ "الوقف األنطولوجي الطبيعي"‪ .‬وهو موقف يحاول أن‬
‫مرجعية عادية لأللفاظ‪ ،"284‬دون أن يستدعي مع ذلك واقعية "خارجية" تبرر بنيته‪.‬‬
‫وعلى الجهة األخرى من خط االنقسام هذا‪ ،‬نرى أن بور الذي كان يتهمه كل من‬
‫ً‬
‫أينشتين وشرودنغر دائما بأنه فيلسوف وضعي‪ ،‬كان ي ّبرأ من قبل فالسفة كثيرين‬
‫معاصرين‪ .‬ويذهب أحد الكتب لهنري فولز ‪ ،Henry Folse‬بعنوان "فلسفة نيلز بور‪"285‬‬
‫حد تقديم براهين على ارتباط بور بنسخة ّ‬
‫معدلة‬ ‫‪ ،The philosophy of Niels Bohr‬إلى ّ‬
‫ً‬
‫من "الواقعية"‪ .‬وأخيرا‪ ،‬فإن مؤلفين آخرين‪ ،‬مثل جان فاي ‪ Jean Fay‬في كتابه الحديث‬
‫حول العالقات بين بور والفيلسوف الدانمركي هوفدينغ‪ ،Hoffding 286‬يعتبرون بور مثل‬
‫ً‬
‫الواقعي "موضوعي"‪ ،‬الواقعي بعيد جدا في كل األحوال عن التنويعتين النجزتين من‬
‫الالواقعية وهما الفلسفة الوضعية والفلسفة الظاهراتية‪.‬‬

‫‪A. Fine, The shaky game, The University of Chicago Press, 1986. 283‬‬
‫‪ 284‬الرجع السابق‪.031 ،‬‬
‫‪H. Folse, The philosophy of Niels Bohr, The framework of complementarity, North Holland, 1985. 285‬‬
‫‪J. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy, Kluwer, 1991. 286‬‬
‫‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993.‬‬
‫‪171‬‬
‫غير أن كافة هذه السارات‪ ،‬الرسومة على حافة الكتل العقائدية العتادة من أجل‬
‫الوصول إلى موقف أينشتين وبور‪ ،‬كانت تخطئ في ترك تأمالت أصيلة لفيزيائيين آخرين في‬
‫الظل‪ .‬ولم تلق أية دراسة الضوء بشكل كاف على موقف شرودنغر ‪ Schrodinger‬بشكل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫خاص‪ ،‬هذا الفيزيائي الذي كان يعلم في اليتافيزياء نوعا من "الوحدوية الثالية"‬
‫الستلهمة من الوضعية عند إرنست ماخ ‪ ،Ernest Mach‬والذي كان لديه من جهة أخرى‬
‫ٌ‬
‫نزوع غير عادي للتأكيد على "واقعية" كافة أنواع الكينونات النظرية في الفيزياء الحديثة‪.‬‬
‫ولهذا فقد صدمت عندما ظهر كتاب سيمون بالكبرن "محاوالت في شبه الواقعية‪"287‬‬
‫ً‬
‫‪ ،Essays in quasi-realism‬ألنني استنتجت أن كوكبة فلسفة جديدة متجانسة تماما‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومصممة هي أيضا ضمن روح تجاوز النزاع بين الواقعية والالواقعية‪ ،‬كانت تعيد إنتاج‬
‫خطوة خطوة السيرة الفكرية والواقف التي كان شرودنغر قد اعتمدها قبل خمسين‬
‫سنة في ّ‬
‫جو من عدم تفهم عام له‪.‬‬
‫‪ 2 -4‬تعريفات أولية‪:‬‬
‫اخجدل بين الواقعية ‪ /‬والالواقعية‬
‫قبل البدء بتحليل موقف شرودنغر في هذا النظور‪ ،‬سوف أبدأ بعرض الخطوط‬
‫ً‬
‫الكبرى للجدل بين الواقعية ‪ /‬والالواقعية‪ ،‬ثم سأتوقف مليا عند حيز شبه الواقعية‪ .‬وفي‬
‫نهاية الفقرة فقط سوف أحاول تبيان موافقة القاربة شبه الواقعية بالنسبة لتصنيف‬
‫الواقف الفلسفية للمبدعين الرئيسيين للميكانيك الكمومي‪.‬‬
‫ً‬
‫من السهل جدا للوهلة األولى تمييز الوقف الواقعي من الوقف الالواقعي في الفيزياء‪.‬‬
‫يعتقد الواقعي‪ ،‬ضمن اختالفه األصلي‪ ،‬الذي بات يوصف بالساذج‪ ،‬أن العالم مبني‬
‫ً‬
‫مسبقا بشكل مستقل عنا‪ ،‬وبشكل مستقل عن إمكاناتنا العقلية والحسية والتجريبية‪.‬‬
‫إن هدف الفيزياء وفق الواقعي وصف تركيب العالم الخارجي وقوانينه مع تجاوز كامل‬

‫‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993. 287‬‬


‫‪M. Dummett, "Realism", Symthese, 52, 1982, p. 55-112.‬‬
‫‪172‬‬
‫لإلسناد إلى أدوات معرفتنا أو إلى مرجعيتها‪ .‬كان ميخائيل دوميت‪Michael Dummett 288‬‬
‫قد حدد نتائج هذه الخيارات اليتافيزيائية في مجال فلسفة اللغة تحت تسمية الواقعية‬
‫الداللية‪ .‬ففي إطار واقعية داللية‪ ،‬يجب على لغتنا أن تحوز سمتين اثنتين‪:‬‬
‫‪ .0‬كل مصطلح يرد في مقترح أو قضية يكون له مرجع في العالم‪.‬‬
‫‪ .4‬إن حقيقة مقترح أو قضية ما هي مفهوم غير إبستمولوجي‪ ،‬أي أنها مستقلة عن‬
‫قدرتنا على إثباتها‪.‬‬
‫إن نتيجة مغرية‪ ،‬إنما ليست إجبارية‪ ،‬للشرط الثاني هي مبدأ ثنائية التكافؤ‪:‬‬
‫إن كل قضية إما تكون صحيحة أو تكون خاطئة‪ ،‬ألنه توجد حالة من األشياء في‬
‫العالم تجعلها صحيحة أو خاطئة‪ ،‬ألسباب تطبيقية أو مبدئية‪ ،‬حتى لو أننا لم نكن نملك‬
‫أية وسيلة إلثباتها‪.‬‬
‫عرف الالواقعية بشبه فرضية مضادة للوضعية التي عرفناها أعاله (سوف نرى على‬ ‫ت ّ‬
‫ماذا يشتمل التحفظ الصغير الذي أدخلناه عبر لفظة "شبه")‪ .‬تركز الالواقعية اهتمامها‪،‬‬
‫في نسخها الوضعية أو الثالية أو األداتية أو البراغماتية‪ ،‬نحو ما ّ‬
‫يعرفه الواقعي على أنها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للمجرب‪ .‬أما بالنسبة لالواقعي فإن هدف النظرية الفيزيائية‬ ‫البنى الستقبلة أو النظمة‬
‫ليس وصف العالم الخارجي ناهيك عن فهمه وعن الكشف عنه‪ ،‬بل تنظيم عناصر ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يظهر أو ما يتم التعرف عليه داخليا وذاتيا على أنه "واقع"‪ .‬إن أحد البيانات األكثر‬
‫ً‬
‫وضوحا على هذا الوقف هو الذي يعطيه بور في نص يعود إلى عام ‪" :0949‬إن الهدف‬
‫من وصفنا للطبيعة‪ ،‬ليس كشف الجوهر الحقيقي للظاهرات‪ ،‬إنما فقط الض ي قدر ما‬
‫نستطيع إلى األبعد في إثبات العالقات بين الظاهر التعددة لتجربتنا‪."289‬‬
‫وعلى الستوى الداللي‪ ،‬فإن الالواقعية تتحدد عندها على أنها الوقف الذي وفقه‪:‬‬

‫‪M. Dummett, "Realism", Symthese, 52, 1982, p. 55-112. 288‬‬


‫‪N. Bohr, Atomic theory and the description of nature, Cambridge University Press, 1934, 289‬‬
‫‪Introduction; La théorie atomique et la description des phénomènes, J. Gabay, 1993.‬‬
‫‪173‬‬
‫‪ .0‬ال يكون لصطلح مرجعية ما إال إذا كان يتوفر معيار تجريبي إلعادة التعيين‪.‬‬
‫إن مرجعيات الصطلحات الؤلفة لقترح ما ليست في الواقع مدركة من قبل من هو‬
‫الواقعي إال كأقطاب لالستقرار مؤسسة في دفق الظاهرات من خالل إجراء "متابعة"‪ ،‬أو‬
‫كبنى المتغيرة تسمح بتنظيم الظاهرات من خالل التوقع؛‬
‫ً‬
‫‪ .4‬ال يملك بيان قيمة للحقيقة محددة تماما إال إذا كانت توجد وسيلة تجريبية‬
‫لتعيينه‪.‬‬
‫يخرق بالنتيجة مبدأ التكافؤ الثنائي‪ ،‬ألنه من السهل إيجاد مقترحات ال تتوفر‬
‫‪290‬‬
‫(أو على األقل أية وسيلة الختبارها‬ ‫بالنسبة لها أية وسيلة تجريبية للتحقق منها‬
‫ّ‬
‫التحقق‪.)291‬‬ ‫وبرهانها‪ ،‬هذا إذا تذكرنا النقد البوبري في‬
‫‪ 3 .4‬جسور وممرات بين الواقعية والالواقعية‬
‫ما أن تخرج الحدود من هذه التعارضات الكاريكاتورية إلى حد ما‪ ،‬ومن التأكيدات‬
‫العقائدية بوجود أو عدم وجود "عالم خارجي"‪ ،‬حتى تتداخل بسرعة وتتشوش‪ .‬لنبدأ‬
‫ً‬
‫بتعريف هذه "الظاهرات" التي ترتكز عليها وفقا لالواقعي النظريات الفيزيائية‪ .‬فاألمر يمكن‬
‫أن يتعلق بظهورات معاشة‪ ،‬كأن تكون مجرد إحساس أو إدراك شامل‪ ،‬أو كأن تكون‬
‫ً‬
‫ظروفا يمكن الوصول إليها عالنية مثل عدد مدرج على شاشة حاسب بعد سلسلة من‬
‫القياسات‪ .‬من يريد التمسك بالجانب األول من الظهورات يوصف بأنه الواقعي ذاتي‪،‬‬
‫والذي يقبل بالجانب الثاني من الظهورات يوصف بأنه الواقعي موضوعي‪ .‬فإذا كان‬

‫‪ 290‬إن عدم توافقية مرصودات معينة تسمى "متزاوجة" في اليكانيك الكمومي يولد أمثلة ممتازة من هذا النمط‬
‫من القضايا‪ .‬يكفي أن نفكر بالقضية التالية‪" :‬مثل اإللكترون الواقع في النقطة ‪ A‬ذات اإلحداثيات (‪)x, y, z‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والزود بكمية الحركة ‪ ."(px, py, pz( p‬إن قياسا بدقة مقاربة للموضع يزيد في الواقع كثيرا تشتت قيم كمية‬
‫الحركة التي يمكننا إيجادها عند القيام بقياس الحق (عالقات الريبة أو "الالتحديدية" لهايزنبرغ)‪ .‬إن القضية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التي تشتمل على إسناد متزامن لوضع ولكمية حركة إلى ش يء جسيمي ما ليس بالتالي قابال لالختبار تجريبيا‪ ،‬وهي‬
‫ً‬
‫محرومة بالتالي ضمن منظور الواقعي من كل قيمة حقيقة محددة تماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ 291‬يمكن ّ‬
‫تصور ثنوية التكافؤ في الحالة البوبرية مثل شرخ بين الزيف وغير الزيف (بدال باألحرى من الشرخ بين‬
‫الزيف والصحيح)‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫موقف الالواقعي الذاتي يمكن أن يكون طرحا مضادا كامال لوقف الواقعي‪ ،‬وإذا كان‬
‫يستطيع الض ي إلى حد التأكيد بأن العالم ليس سوى بناء ابتداء من عناصر خبرة ما‪،‬‬
‫فإن األمر نفسه ال ينطبق على موقف الالواقعي الوضوعي‪ .‬ألن الالواقعي الوضوعي‬
‫يتصرف بالضبط مثل واقعي اتجاه ما أسميته بظروف التحقق التجريبي العالنية أو‬
‫الشائعة التي يمكن الوصول إليها‪ ،‬وذلك فيما يتعلق بحالة أداة القياس أو الحركات‬
‫البشرية التي تقود إلى تحضيرها‪ .‬إن القترحات بشأن بنية التجهيزات‪ ،‬وحول حالتها بعد‬
‫عملية قياس‪ ،‬يفترض أن يكون لها قيمة حقيقة بشكل مستقل عن إجراء وصيرورة‬
‫التأكيد والبرهان بالدرجة الثانية‪ ،‬وذلك فقط بسبب الثقة الوضوعة في قلب‬
‫االفتراضات السبقة التي تسمح بالحياة اليومية وحيث يحل االتصال مع أقراننا الذين‬
‫ً‬
‫يشبهوننا ضمنيا محل التنفيذ الفعال لثل هذه اإلجراءات‪.‬‬
‫إن هذا التنازل األولي ليس والحق يقال سوى اإلشارة النذيرة بحصول تنازالت أخرى‬
‫ّ‬
‫يحضر الالواقعي لالعتراف بأن موقفه الداللي األدنى ال يفرض عليه‬ ‫أكبر‪ .‬فهو في الواقع‬
‫َّ‬
‫التأكيد بأن العالم مؤلف بواسطة فعل معرفي‪ ،‬بل فقط نفي أنه يمكن وجود أجسام أو‬
‫خصائص تكون غير مرصودة أو ملحوظة من حيث البدأ أو ال يمكن بلوغها من حيث‬
‫ً‬
‫تعريفها بواسطة وسائلنا في العرفة‪ .292‬فلو كان الالواقعي متمسكا بتضمينات التعريف‬
‫الداللي وحدها لوجهة نظره‪ ،‬فإنه سيستطيع عندها (بصرامة وفي بعض الحاالت) أن‬
‫يتقاسم مع الواقعي الفرضية التي وفقها تؤثر األدوات التي تعمل على تحقيق البرهان‬
‫التجريبي على عالم مستقل عنها‪ .‬وذلك هو أول انتهاك للحدود العقائدية‪.‬‬
‫ولكن هناك طريقة ثانية لخلط األوراق‪ ،‬وهي تتأتى هذه الرة من تصحيح للموقف‬
‫الواقعي‪ .‬فقد سبق وقلنا إن الالواقعية تتصف في إحدى سماتها الميزة باستبعاد مبدأ‬
‫ً‬
‫ثنائية التكافؤ تحت اسم الحاالت غير القررة إبستمولوجيا‪ .‬ولكن بعد كل ش يء‪ ،‬يستطيع‬
‫ً‬
‫الواقعي أن يدمج بشكل جيد جدا مثل هذا الضعف لتطلباته الداللية الخاصة في‬

‫‪ 292‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .099 .‬‬
‫‪175‬‬
‫طريقته في الرؤية بافتراضه أن الالتقريرية االبستمولوجية تعكس التحديدية لـ "أجسام‬
‫ً‬
‫غير كاملة"‪ ،‬أي ألجسام تكون بعض خصائصها فقط محددة‪ ،‬أو أيضا لـ "أجسام مبهمة"‪،‬‬
‫ومعرفة بفاصل تسامح تقريبي‪ .‬وهو يستطيع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محددة‬ ‫أي ألجسام هويتها وخصائصها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬حتى وإن كان ذلك أكثر صعوبة نفسيا عليه مما هو األمر بالنسبة لالواقعي‪ ،‬أن‬
‫يعيد بشكل كامل تقطيعه األنطولوجي بحيث ال يكون لألجسام الجديدة سوى خصائص‬
‫ً‬
‫تقريرية إبستمولوجيا‪ .‬وبالناسبة‪ ،‬فإن الستراتيجيتين استخدمتا في مواجهة عالقات‬
‫الريبة لهيزنبرغ‪ .‬فاالستراتيجية األولى‪ ،‬أي تلك التي تشتمل على تعليم وتمييز مواضيع‬
‫األنطولوجيا التقليدية بختم "البهم" أو "غير الكامل"‪ ،‬قادت إلى بعض تنويعات النطق‬
‫ّ‬
‫الكمومي (تسمى تنويعات النطق التكميلي)‪ ،293‬وفيها فإن "الريبة"‪ ،‬أو "عدم الدقة" الذي‬
‫تقرنه نسخة تبسيطية معينة بعالقات هيزنبرغ‪ ،‬تتحول إلى "التحديدية" جوهرية‬
‫القترانات الخصائص الناجمة عن أشياء قابلة للرصد وغير متوافقة‪ .‬أما االستراتيجية‬
‫الثانية‪ ،‬وهي األكثر ثورية‪ ،‬فقد أدت إلى إبدال أنطولوجيا جسيمات بأنطولوجيا حاالت‬
‫َ‬
‫لخلفية (أو عمق) استعدادي ‪ dispositionnel‬يماثل عادة مع "الفراغ الكمومي‪."294‬‬
‫نرى هكذا أن الواقعية يمكن أن تتناسب وتتوافق مع سمة متمايزة بشكل واضح عن‬
‫الالواقعية‪ ،‬أال وهي التخلي عن مبدأ ثنوية التكافؤ في إطار منظومة أنطولوجية تقليدية‪.‬‬

‫‪ 293‬في النطق الكمومي عند بيرخوف ‪ Birkhoff‬وفون نيومان‪ ،‬نفترض أنه من المكن اقتران خصائص تعود إلى‬
‫أجسام يمكن رصدها غير متوافقة‪ ،‬ونبرهن عندها عدم قابلية ّ‬
‫توزع القضايا التجريبية الوافقة لها‪ .‬وعلى‬
‫ً‬
‫مستحيال مع قواعد منطق ّ‬
‫مكمل طالا أننا نستبعد بالكامل اقترانات‬ ‫العكس‪ ،‬فإن برهان عدم قابلية التوزع‬
‫الخصائص التي تعود إلى أجسام قابلة للرصد غير متوافقة‪ .‬راجع ‪M. Jammer, The philosophy of quantum‬‬
‫‪.mechanics, Wiley, 1974, chap. VIII‬‬
‫‪ 294‬كانت هذه االستراتيجية قد وضعت على يد شرودنغر منذ عام ‪ .0945-0946‬ومذاك ارتبطت بمفاهيم‬
‫ً‬
‫النظرية الكمومية للحقول وبالتكميم الثاني‪ ،‬ودافع عنها حديثا عدد كبير من فالسفة الفيزياء‪:‬‬
‫‪M.L. Dalla Chiara & G. Toraldo di Francia, "Individuals, kinds and names in physics", in G. Corsi et al.‬‬
‫& ‪(eds.), Bridging the gap: philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993, p. 261; M. Redhead‬‬
‫‪P. Teller, "Particle labels and the theory of indistinguishable particles in quantum mechanics", Brit. J.‬‬
‫‪Phil. Sci., 43, p. 201-218, 1992.‬‬
‫ً‬
‫وسوف نعود في الفصل السادس إلى مناقشة أكثر تفصيال لهذا الخيار‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لكن العكس صحيح تماما أيضا‪ .‬فالالواقعية يمكن أن تتناسب مع سمة متمايزة بشكل‬
‫واضح عن الواقعية‪ .‬ونعتبر أن إحدى الخصائص الكبرى لالواقعية أنها تسمح‬
‫بالإستقرارية تاريخية لقيم الحقيقة‪ .‬وهذا هو الحال‪ ،‬في الواقع‪ ،‬إذا اعتبرنا أن قيمة‬
‫الحقيقة القرونة بقضية أو مقترح ما تتعلق بالوسائل التي لدينا من أجل إثباتها في لحظة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معطاة‪ .‬فالذي لم يكن تقريريا يمكن أن يصبح قابال للبلوغ تجريبيا؛ والذي كان غير‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خاطئ‪ ،‬أي غير مدحوض تجريبيا وفقا لبوبر‪ ،‬يمكن أن يصبح خاطئا‪ .‬ال ش يء يمنع مع‬
‫ذلك الالواقعي من االقتراب من االستقرارية الواقعية من خالل إشارته أن ما يحدد وفقه‬
‫قيمة الحقيق ة لقضية ما ليس توفر وسيلة إثبات وتطبيقها الحالي‪ ،‬بل إمكانيتها البدئية‬
‫ً‬
‫(وفقا لالحظة لبوفريس‪ ،‬ذكرت في القطع ‪ ،2 - 3‬ووفقها فإن الالواقعي له الخيار بين‬
‫القول إن قضية ما ليست صحيحة إال إذا كان يمكن التحقق منها والتأكيد أنها صحيحة‬
‫فقط إذا كان قد تم التحقق منها)‪ .‬أما الالواقعي العتدل (الطريقة األولى) فإنه سيتوصل‬
‫على هذا النحو إلى تطبيق وطرح استقرارية مقاربة لشبكة قيم الحقيقة‪ ،‬وذلك باستدعاء‬
‫أفق التحسين واإلتقان غير النتهي لتجهيزاتنا التجريبية‪ .‬من الضروري بالطبع أن نحدد‬
‫عند هذه الرحلة ما الذي نقصده بـ "إمكانية مبدئية" إلثبات تجريبي‪ .‬فإذا كانت هذه‬
‫اإلمكانية البدئية وحيدة ومثبتة مرة واحدة وإلى األبد‪ ،‬فإن موقف الالواقعي ال يختلف‬
‫ً‬
‫أبدا عندها عن موقف الواقعي‪ .‬وبالقابل‪ ،‬إذا كان بيان البادئ التي تحكم إمكانية إثبات‬
‫ما يتعلق بالحالة الحالية للنماذج النظرية‪ ،‬فإن ال ش يء يمنع من االعتقاد بأن تكون هذه‬
‫ً‬
‫"البادئ" هي نفسها متغيرة‪ ،‬وأن يكون الجرى الالحق لتاريخ العلوم قابال لتعديل نقطة‬
‫ً‬
‫التالقي القاربة بالنسبة للمجرى الذي نلمحه حاليا‪ .‬إن هذا الوقف الثاني يجنب‬
‫ً‬
‫الالواقعي فقدان كل خصوصية بالنسبة للواقعي‪ .‬وسوف نعود إلى هذه النقطة الحقا‬
‫عندما نعلق أدناه على الوقف شبه الواقعي لبالكبرن‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫الذهبية‬ ‫‪ 4 -4‬آثار وظالل القص‬
‫بالنتيجة‪ ،‬كلما نظرنا عن قرب أكثر‪ ،‬كلما تراجعت التمييزات بين الواقف التناقضة‬
‫ً‬ ‫إلى هذا ّ‬
‫الحد ظاهريا مثل الواقعية والالواقعية‪ .‬فإذا لم يكن قد تم التوافق بينها بعد‬
‫رغم ذلك‪ ،‬فألن األشكال األكثر رهافة للمجموعتين العقائديتين ال تزاالن تحتفظان‪،‬‬
‫بطريقة من الطرق‪ ،‬باألثر الذي ال يمحى لصياغتها البسيطة‪ .‬وألن هذا األثر يردع أنصار‬
‫إحدى العقيدتين عن القيام بالكثير من التنازالت في الصطلحات والفردات ألنصار‬
‫العقيدة األخرى‪ .‬وفي العمق‪ ،‬فإن ما يميز الوقفين هو السار الفكري الذي تم اجتيازه أكثر‬
‫من الوقف العتمد في النهاية‪ .‬فقد أراد الواقعي أن يرسخ موقف الحس السليم والعنى‬
‫الشترك بمواجهة "أشياء" البيئة اليومية باعتبار الفترضات السبقة للفعل وللتواصل‬
‫البشريين كافتراضات واقعية‪ ،‬لكن الفيزياء العاصرة قادته فيما بعد إلى إدخال مثل هذه‬
‫ً‬
‫الليونة والرونة النهجية بحيث أصبح ال يمكن التعرف على أشيائه وخصائصه تقريبا‬
‫بالنسبة "للرجل الصادق"‪ .‬فمع بوتنام كل الحق في اتهام الفيلسوف الواقعي بأنه ّ‬
‫غرر‬
‫ّ‬
‫باإلنسان العادي وضلله عندما وعده بإنقاذ فئات الحس السليم دون أن يستطيع في‬
‫النهاية القيام بش يء سوى أن يطلب منه اإلذعان دون االعتراض على تطور الكينونات‬
‫ّ‬
‫والحير على نحو متزايد‪.295‬‬ ‫النظرية في الفيزياء‪ ،‬الذي ال يمكن التنبؤ به‬
‫أما بالنسبة لالواقعي‪ ،‬فقد بدأ يشعر بأنه مستثمر من قبل بعثة ثورية؛ فتعاطفه‬
‫وانسجامه كانا يتوافقان مع الشك ّ‬
‫البيروني‪ 296‬أو مع النسخة القطعية للشك الديكارتي؛‬
‫ثم كان عليه القبول بأن يدمج في طبقات وفئات فكره إمكانية وجود منظور لتدقيق‬
‫‪297‬‬
‫أو بإطار من‬ ‫وصقل غير محدودين لطرائق اإلثبات‪ ،‬وهو مفهوم محدد بمثال ناظم‬

‫‪H. Putnam, The many faces of realism, Open Court, 1987, p. 5. 295‬‬
‫‪ 296‬تفضل عقيدة بيرون ‪ ،Pyrrhon‬بين العقائدة التي تزعم وجود حقيقة مطلقة والسفسطائية التي تنفي‬
‫ذلك أن يحفظ الفالسفة موقف الشك‪ .‬وهي عقيدة تشكك بالتالي بكل ش يء (الترجم)‪.‬‬
‫‪ ،E. Kant, Critique de la raison pure (trad. Tremesaygues et Pacaud), P.U.F., 1944, p. 374 297‬حيث نقرأ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"ال ش يء معطى لنا فعليا سوى اإلدراك والتقدم التجريبي لهذا اإلدراك باتجاه إدراكات ممكنة"‪ .‬راجع أيضا ص‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫"النماذج" (كما في التجريبية البنائية لفان فر ّ‬
‫اسن ‪ ،)Van Fraassen‬األمر الذي قاده في‬
‫العديد من الناسبات إلى اعتماد نمط تعبير يكاد ال يتمايز عن نمط تعبير الواقعي‪ .‬فمن‬
‫هذه الصورة األخيرة للتالقي‪ ،‬التي قادت الالواقعي من بداياته األولى إلى موقف يحاكي‬
‫موقف الواقعي‪ ،‬إنما نتج ما ّ‬
‫سماه بالكبرن شبه الواقعية‪ .‬لكن علينا أال نتسرع‪ .‬فقبل أن‬
‫ّ‬
‫نحلل عن قرب محصلة صيرورة النقد الذاتي لالواقعي‪ ،‬ال نزال بحاجة ألن نعين بدرجة‬
‫من الوضوح ما الذي لدى أنصار كل من الوقفين التناقضين من نقد لنقاط البدء عند‬
‫الطرف اآلخر‪ .‬هكذا فقط سنستطيع أن ّ‬
‫نقيم قابلية شبه الواقعية لنزع فتيل االنتقادات‬
‫ً‬
‫التي يقودها عادة متشددو الالواقعية‪ ،‬ونكون بذلك قد تجنبنا أيضا منذ البداية مزالق‬
‫الواقعية‪.‬‬
‫‪ 5 -4‬االتهامات التبادلة للواقعيين والالواقعيين‬
‫لنبدأ بإطاللة سريعة على االنتقادات التي يحتمي الوقف الواقعي بها‪ .‬فالفيلسوف‬
‫الواقعي‪ ،‬كما يالحظ النتقدون‪ ،‬يتميز بطموح مفرط‪ :‬وهو طموح أن يضع نفسه فوق أو‬
‫خارج اإلجراءات التي تسمح بالعرفة اإلنسانية وذلك لكي يفهم ويدرك على ماذا ترتكز‬
‫هذه العرفة‪ .‬إن نظريته في الحقيقة ‪ -‬التوافق‪ 298‬تقول لنا الكثير حول ذلك إذ تؤكد أن‬
‫حقيقة قضية ما تكمن في تماثليتها (‪ )isomorphisme‬مع حالة األشياء في العالم‪ ،‬بشكل‬
‫مستقل عن كل وساطة حسية أو عملياتية‪ ،‬طالا أن الطريقة الوحيدة إلنشاء هذه‬
‫التماثلية ترتكز على الثقة بأداة اإلثبات‪ .‬إن زعمه بـ "تفسير" التوافق البيني (البين ‪ -‬ذاتي‪،‬‬
‫أو الذاتي الداخلي)‪ ،‬من خالل وحدانية عالم خارجي تطلق البيانات الجازمة حوله‪ ،‬ال‬
‫يقوم سوى بمضاعفة لغز هذا التوافق وإدخالنا في لعبة مرآة إبستمولوجية‪ .‬ألنه ليست‬

‫‪" :364‬إن مبدأ العقل (الحاكمة) ليس بالتالي بالتحديد سوى قاعدة تقود‪ ،‬ضمن سلسلة شروط الظاهرات‬
‫ً‬
‫العطاة‪ ،‬إلى تراجع غير مسموح له أبدا التوقف في الالمشروط بالطلق"‪.‬‬
‫‪ 298‬تعتبر هذه النظرية‪ ،‬نظرية الحقيقة التوافق‪ ،‬أن صحة أو خطأ قضية ما تتعلق بعالقات هذه القضية مع‬
‫العالم‪ :‬نقول عن قضية ما إنها صحيحة إذا كانت تصف بشكل مناسب حالة أشياء واقعية‪ .‬وقد ظهر مصطلح‬
‫"الحقيقة التوافق" في القرن العشرين رغم أنه تصور كالسيكي في فلسفة العرفة يعود إلى اليونان‪( .‬الترجم)‬
‫‪179‬‬
‫لدينا بعد كل ش يء أية وسيلة أخرى لنتيقن بواسطتها من وحدانية هذا العالم الخارجي‬
‫مفسر هو في الوقت نفسه الؤشر الوحيد‬‫سوى االعتماد على التوافق البيني‪ .‬فما هو َّ‬
‫لقيمة التفسير‪ .‬وأسوأ من ذلك‪ ،‬بل وما هو أكثر معاودة كما يالحظ بالكبرن‪ ،299‬فإن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الواقعي يحاول أن ّ‬
‫يفسر واقعا (التوافق البيني) هو نفسه ليس مضمونا‪ .‬نعرف الكثير من‬
‫حاالت عدم التوافق الستمرة بين شخصين أو أكثر‪ ،‬بما فيها حول موضوع ما يوافق أن‬
‫نسميه "حاالت األشياء الطبيعية"‪ ،‬كي ال نحافظ على بعض الشكوك فيما يخص السمة‬
‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫التي ال يمكن تجنبها للتفاهم‪ .‬فعندما يزعم الواقعي أنه ّ‬
‫يفسر اتفاقا بينيا حاضرا‪ ،‬فإنه ال‬
‫يقوم إال بالتعبير عن إيمانه الذي ال يتزعزع بالتوافق الستقبلي آلرائنا‪ ،‬شرط أال تفسد أو‬
‫تتغير مقدراتنا ومؤهالتنا وأن نجد أنفسنا مباشرة أمام موضوع االتفاق‪ .‬ولكن‪ ،‬إال يرتكز‬
‫إيمانه بالتبادل وبشكل معاود على اليقين بأن التفاهم ال يمكن إال أن يتأسس طالا أنه‬
‫يتعلق بفهم عالم وحيد؟ إن هذه الحجة التي سبق وصادفناها في الفقرة ‪ 4 - 0‬حول‬
‫ً‬
‫الواقعية التالقية‪ ،‬تجد مكانها هنا تماما‪.‬‬
‫لننتقل إلى تأكيد كبير آخر للواقعية‪ :‬وهو أن األشياء "الخارجية" هي التي تسبب‬
‫انطباعاتنا الحسية‪ .‬كان فالسفة كثيرون ما بعد كانطيين قد أشاروا إلى أن تطبيق فئة‬
‫السببية الكانطية على العالقة بين الش يء في ذاته وتجربتنا قد انزاح ّ‬
‫وتغير موضعه‬
‫ً‬ ‫بالكامل‪ ،‬طالا أن هذه الفئة ال ت َّ‬
‫طبق تعريفا إال على داخل التجربة‪ .‬إن مبدأ اإلنتاج‪،‬‬
‫الذي هو قاعدة استخدام فئة السببية‪ ،‬ال يعمل إال من أجل تأسيس رابطة موضوعية‬
‫بين الظاهرات‪ ،‬وليس من أجل إنشاء عالقة لهذه الظاهرات مع ما وراء للظاهرات‪.300‬‬
‫طبق على‬‫توجد بالثل نسخة أداتية لهذه الحجة‪ :‬فكيف يمكن لفهوم السبب أن ي َّ‬
‫العالقة بين الش يء الذري وجهاز القياس‪ ،‬يتساءل بعض العلقين على نيلز بور‪ ،‬وكيف‬
‫يمكن القول إن التفاعل بين جسم على الستوى الذري وجهاز ما هو الذي يسبب‬

‫‪ 299‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism .33.‬‬


‫‪A. Schopenhauer, Le monde comme volonté et comme représentation, P.U.F., 1996, p. 37. 300‬‬
‫‪181‬‬
‫الظاهرة الجهارية الالحظة على شاشة هذا الجهاز‪ ،‬إذا كانت الوسيلة الوحيدة لإلثبات‬
‫التجريبي للعالقات السببية ترتكز على الظاهرات الجهارية‪301‬؟ في العمق‪ ،‬إذا شاطرنا‬
‫تصورات أكثر رهافة مثل ّ‬
‫تصور السببية الوسعة لبرنار دسبانيا (راجع القطع ‪،)3 - 3‬‬
‫فإن كافة هذه االنتقادات تلتقي في نقد واحد‪ ،‬كان هيوم ‪ Hume‬قد صاغه‪ :‬إن‬
‫الفيلسوف الواقعي يسقط مالمح الحضور والجواهر (األقانيم) في لعبة ظالل متسامية‬
‫وتجاوزية‪ .‬فهو يسقط اإلجراءات الناظمة لإلثبات في تصوره للحقيقة ‪ -‬التوافق؛ ويسقط‬
‫َ‬
‫منظور اتفاق بيني ما مستقبلي بتجسيده في الوحدانية الحاضرة لعالم خارجي؛ ويسقط‬
‫فئة السببية في الفاصل بين العالم والقابلية الحسية‪ .302‬وال تتوقف األمور عند هذا‬
‫ّ‬
‫الحد‪ .‬أفال يمكننا تمييز "األشياء الواسعة" أو "غير الكاملة" كإسقاطات لالتقريرية‬
‫اإلبستمولوجية؟ ألم تولد األنطولوجيات الجديدة من إسقاطات ممكنة بقدر ما ولدت‬
‫من بنى نظرية؟‬
‫إن االعتراف بفشل مثل هذه االستراتيجية هو عالوة على ذلك مدرج في الطريقة‬
‫نفسها التي يتوصل عبرها الفيلسوف الواقعي‪ ،‬الذي زادته الناقشات واالعتراضات‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫تصلبا‪ ،‬إلى تعريف عقيدته وتحديدها‪ .‬وكما سبق ورأينا‪ ،‬فإنه ال يصمد طويال في التأكيد‬
‫القاطع بوجود عالم خارجي؛ بل يحاول على العكس قدر اإلمكان أن يتموضع في شبكة‬
‫من العايير ذات الستوى اإلبستمولوجي والداللي‪ .‬وهو ال يتوصل في نهاية الطاف إلى‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بالتمسك حصريا بقانون وترميز السلوك الحسن الذي يمليه‬ ‫تعريف واقعيته إال‬
‫الالواقعي!‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬لكن الالواقعية ال تصبح مع ذلك ولهذا السبب عقيدة (أو مجموعة عقائدية)‬
‫فوق كل الشبهات‪ .‬فالواقعي يرتكز على توجيه االتهام لها بارتكاب‪ ،‬أو بأن تكون قاب‬
‫قوسين أو أدنى من ارتكاب‪ ،‬خطأ داللي كبير‪ .‬فعندما نتحدث عن ش يء ما‪ ،‬فإننا ال‬

‫‪ 301‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .411.‬‬
‫‪ 302‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism .16 ،65.‬‬
‫‪181‬‬
‫ّ‬
‫نتحدث عن الظهر الخاص الذي يتخذه في هذه اللحظة‪ ،‬وال عن كافة الظاهر التي يمكن‬
‫أن يأخذها‪ ،‬وال عن نتيجة كافة التجارب التي يمكن أن نطبقها عليه‪ .‬فاسم ما أو عبارة‬
‫ً‬
‫مثال يتحدث حول‬ ‫ليس لهما معنى فقط‪ ،‬بل لهما أيضا وظيفة إسنادية‪ .‬فنص تاريخي‬
‫الاض ي‪ ،‬وليس حول الذكريات‪ ،‬حول الشواهد وحول الوثائق الكتابية أو األثرية‪.‬‬
‫وبإسهاب الالواقعي في الحديث عن شروط اإلثبات‪ ،‬فإنه يرجع إلى الدرجة الثانية ما‬
‫ً‬
‫يسميه اإلنكليز "‪ ،"the aboutness of an expression‬وهو واقع أن عبارة ما‪ ،‬أو فعال ما أو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫انتباها ما يكون موجها دائما نحو ش يء ما‪ ،‬وليس نحو الوسائل األداتية الستخدمة‬
‫للولوج إلى هذا الش يء‪.‬‬
‫يمكن صياغة هذا االعتراض الكبير الذي يأتي في مواجهة الالواقعية بطريقة أخرى‪،‬‬
‫ً‬
‫وذلك عبر استخدام مفردات الواقف الخاصة بالقضايا‪ .‬لنفترض أن متكلما يؤكد‬
‫القضية ‪ .p‬ضمن هذه الشروط‪ ،‬فإن الهمة التي يتقلدها الالواقعي تتمثل في الكشف عن‬
‫مبررات موقف التكلم‪ .‬فإذا كانت هذه البررات ضعيفة أو غير موجودة‪ ،‬فإنه يقول إن‬
‫التوكيد ‪ p‬يرتكز على معتقد؛ عندها يكافئ ‪" p‬أعتقد أن ‪ ."p‬أما إذا كانت البررات أكثر‬
‫ً‬
‫جدية‪ ،‬فإن ‪ p‬سوف يكافئ على سبيل الثال "لدي أسباب جيدة لإلعتقاد أن ‪ "p‬أو أيضا‬
‫ً‬ ‫"أنا ّ‬
‫متيقن أن ‪ ،"p‬أو أيضا "لدي براهين أن ‪ ،"p‬أو في أفضل األحوال "أعرف أن ‪ ."p‬ولكن‬
‫ً‬ ‫فجأة‪ ،‬تمر القضية نفسها ومحتواها إلى الستوى الثاني‪ّ .‬‬
‫ويمر أيضا إلى الستوى الثاني‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫واقع أن التكلم لم يعلن بالضبط أيا من الجمل التي ذكرناها أعاله‪ ،‬بل ببساطة أعلن ‪p‬‬
‫ّ‬
‫يتوصل الالواقعي إلى‬ ‫فقط‪ .‬فمع جعل ‪ p‬نسبية‪ ،‬وإدراجها في إطار موقف انعكاس ي‪ ،‬ال‬
‫يعبر عنه‪ .‬فمن خالل وصفه لخبرة دينية في "االعتقاد"‪،‬‬‫اتخاذ تدبير التزام التكلم اتجاه ما ّ‬
‫ً‬
‫تجريبيا"‪ ،‬يترك الالواقعي بعد ّ‬ ‫وبرده لقضية حول العالم إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫الجدية‬ ‫مجرد "إعالن مثبت‬
‫ّ‬
‫الذي يدرجه التكلم في قضيته يفلت منه‪ ،‬وال يعير أهمية تذكر للترابط الكامل بين التكلم‬
‫وما يقوله‪ ،‬في اللحظة التي يقوله بها‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإن الالواقعي يعاني من نوع من‬
‫ً‬
‫اإلخفاق األخالقي‪ .‬وقد اختار الفكرون الواقعيون األكثر وضوحا النضال والصراع على‬
‫‪182‬‬
‫هذه األرضية بالتأكيد‪ .‬يشير أينشتين على سبيل الثال إلى أية درجة كان خطابه حول‬
‫الكون الحقيقي يبتعد عن العتقد البسيط ويقترب من نمط الكينونة‪ ،‬وإلى أية درجة هو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بشكل من األشكال مندمج في إرادته بأن يحيا‪ ،‬مقاربا هكذا موقفا دينيا أصيال يفهم وفق‬
‫معنى تشاركي باألحرى منه عقائدي‪" .‬ليس لدي تعبير أفضل من مصطلح «ديني» ليعبر عن‬
‫ً‬
‫هذه الثقة في الطابع العقالني للواقعية وفي قابلية وصولها‪ ،‬جزئيا على األقل‪ ،‬إلى العقل‬
‫ً‬
‫البشري‪ .‬عندما يكون هذا الشعور غائبا‪ ،‬فإن العلم ينحط إلى تجريبية خالية من‬
‫العنى‪ ."303‬من هنا ما سماه آرثر فاين ‪" Arthur Fine‬الواقعية التحفيزية" لدى أينشتين‪.‬‬
‫ينقص الالواقعية هذا التحفيز‪ ،‬وذلك بالضبط من خالل تحويله إلى موضوع وتقليصه‬
‫ً‬
‫بحيث ال يكون سوى "تحفيز الباحث"‪ .‬ينقص أيضا االعتراف بأن وظيفة الخطاب نفسها‬
‫ً ً‬
‫وعمله الذي يعكس إجراءات التبرير يتضمن استخداما ثابتا للفرضيات السبقة التي ال‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تف ّسر بشكل أفضل إال من خالل مفاهيم حقيقة ‪ -‬توافق وعالم خارجي حقيقي‪ .‬غالبا ما‬
‫ط َ‬
‫رح هذا االعتراض على براغماتية رورتي ‪ ،Rorty‬بشكل خاص من قبل آبل ‪.K. O. Apel‬‬
‫ويعود هذا االعتراض إلى اإلمساك بالالواقعية متلبسة في استخدامها لخلفية فهم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وإلتزامات واقعية‪ ،‬تماما مثلما ضبط الواقعي متلبسا بتطبيق إجراءات الواقعية من أجل‬
‫تحديد موضعه الخاص‪.‬‬
‫أخي ًرا وليس آخ ًرا‪ ،‬كنا قد رأينا أن الالواقعي‪ ،‬إذا ّ‬
‫تمسك بالتعريف الداللي لوضعه‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنه ال يكون مجبرا بالطلق على نفي وجود عالم خارجي واقعي حقيقي؛ فما عليه تأكيده‬
‫فقط هو أن حقيقة بيان ما ت ّ‬
‫شتق من التبرير األقوى الذي يمكن إعطاؤه‪ .304‬في نهاية‬ ‫ٍ‬
‫الطاف‪ ،‬ال ش يء يمنعه من االعتراف للواقعي بـ "إيمانه" بعالم خارجي حقيقي‪ ،‬شرط أال‬
‫وجود ألشياء أو خصائص تقع من حيث البدأ خارج مدى‬
‫ٍ‬ ‫يقوده هذا اإليمان إلى نسب‬

‫‪ 303‬رسالة إلى سولوفين ‪ Solovine‬بتاريخ أول كانون الثاني عام ‪ ،0960‬ذكرها فاين في ‪A. Fine, The shaky‬‬
‫‪ ،game‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.001.‬‬
‫‪ 304‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .414.‬‬
‫‪183‬‬
‫وسائل استكشافنا‪ .‬نعتبر في غالب األحيان أن هذه اإلمكانية‪ ،‬أو هذا التسامح‪ ،‬يفتح‬
‫الباب لرؤية عقائدية مختلفة بين رؤى أخرى لالواقعية‪ .‬ومن جتهي‪ ،‬أعتقد أن هذه‬
‫اإلمكانية ال تقوم سوى بالكشف عن عنصر تشكيكي جذري متأصل ال بد أنه يشكل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جزءا ال يتجزأ من كل رؤية أو تنويعة عقائدية الواقعية‪ .‬ذلك ألن الوقف ّ‬
‫التسق حقا‬
‫الصادر عن الواقعي بمواجهة التأكيد بوجود عالم حقيقي خارجي يجب أال يكون الرفض‬
‫أو القبول بل عدم الباالة‪ .‬فإن لم يكن من الحذر‪ ،‬وال َّ‬
‫البرر أو البالغ فيه إلى حد تأكيد‬
‫ً‬
‫وراء لكل تجربة ممكنة‪ ،‬فإنه أيضا من عدم الحذر وغير‬ ‫وجود حالة تتجاوز التجربة‪ ،‬وما ٍ‬
‫البرر التأكيد على عدم وجوده‪ .‬فالسألة ال ت َ‬
‫طرح بكل بساطة في نظر الالواقعي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ 6 .4‬شبه الواقعية كعودة لالواقعي أوولي‬
‫من هذه الالأدرية بالضبط‪ ،‬من هذا الستوى األقص ى والتطرف لتحديد وإيقاف‬
‫الالواقعي‪ ،‬إنما ولدت شبه الواقعية‪ .‬لنرى كيف أن هذا التحويل‪ ،‬الذي يبدو للوهلة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫األولى متعارضا‪ ،‬ينتج في الواقع بشكل طبيعي جدا عن مالحظات سابقة‪ .‬إن تقديم مثال‬
‫توضيحي قد يكون أكثر فعالية في تقريب الفكرة من تقديم برهان‪ .‬لهذا أقترح أن نعتبر مع‬
‫بالكبرن القضيتين التاليتين‪ ،‬الشار إليهما بالرمزين ‪ p1‬و ‪:p2‬‬
‫‪ :p1‬علينا القيام بأبحاثنا كما لو كان لكل حدث سبب‪.‬‬
‫‪ :p2‬من الصحيح أن لكل حدث سبب‪.‬‬
‫سرعان ما يتبادر إلى الذهن أن القضية ‪ ،p1‬النتسبة إلى مبدأ ناظم‪ ،‬هي واحدة من‬
‫القضايا التي يمكن ألحد الالواقعيين أن يرى فيها بسهولة قضيته‪ .‬أما بالنسبة للقضية ‪p2‬‬
‫ً‬ ‫فإنها تأخذ أكثر بكثير من البدأ ّ‬
‫الكون ولها بالتالي صبغة واقعية قوية جدا‪ .‬مع ذلك يظهر‬
‫هنا عدم اتساق ما‪ .‬فالواقعي لن تكون لديه أية صعوبة في قبول ‪ p1‬إذا قبل بـ ‪ ،p2‬ذلك‬
‫أنه لاذا ال يمارس أبحاثه تحت فرضية أن لكل حدث سبب‪ ،‬إذا كان لكل حدث في‬
‫الحقيقة سبب ما؟ بالقابل تبدو الطريقة البديلة مستبعدة‪ .‬فالالواقعي الذي يقبل‬
‫بالقضية ‪ p1‬يبدو أنه يجب أن يرفض القضية ‪ ،p2‬وذلك بسبب االلتزام بالحقيقة التي‬
‫‪184‬‬
‫تتضمنه‪ .‬ولكن هل هذا الرفض يتوافق مع موقفه؟ ال‪ ،‬على اإلطالق يجيب بالكبرن‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إضافيا ما َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متض َّمن في القبول بـ ‪( p2‬بدال من‬ ‫"فمن الطبيعي جدا التأكيد أن [‪ ]...‬شيئا‬
‫ً‬
‫القبول بـ ‪ ،) p1‬لكن من المكن جدا أن يظهر عند هذه النقطة أن الواقعي وحده من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يجب عليه القيام بهذا التمييز‪ .‬فالبدأ ال يمكن أن يكون م ّكونا في مقابل أن يكون ناظما‬
‫إال إذا كان يوجد مجال من الوقائع يهدف إلى وصف تكوينها‪ ."305‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فيلسوفا الواقعيا متناغما بالكامل ليس لديه أي سبب لرفض القضية ‪ ،p2‬على الرغم‬
‫من صبغتها الواقعية‪ .‬وال يجب على الأدريته التعلقة بوجود األسباب في الطبيعة أن‬
‫تقوده إلى رفض ‪ ،p2‬بل على العكس إلى قبولها كصيغة مكافئة‪ ،‬وربما أكثر أناقة من ‪.p1‬‬
‫فمن القبول بـ ‪ p2‬إلى تفضيل ‪ p1‬ليس ثمة سوى خطوة‪ ،‬خطوة تحدد ّ‬
‫وتعرف شبه‬
‫الواقعية‪.‬‬
‫فشبه الواقعي‪ ،‬كما سبق ولحنا‪ ،‬ينطلق من النتيجة النهائية القصوى للتفكيكية‬
‫ً‬
‫الالواقعية‪ .‬وهو أكثر "[‪ ]...‬انسجاما مع الالواقعي [منه مع الواقعي]‪[ .‬ألن الالواقعي] كسب‬
‫الفاهيم الرتبطة مع الوضوعية‪ ،‬في حين أن منافسه الواقعي سرقها ببساطة؛ لقد أسس‬
‫ً‬
‫ممارساتنا على وقائع معروفة تتعلق بالقدرات البشرية‪ ،‬في حين أن منافسه اخترع شيئا‬
‫ً‬
‫ما إضافيا‪ ."306‬في الوقت نفسه فإن الفيلسوف شبه الواقعي يعي بشكل كامل ما أسميته‬
‫العجز األخالقي لالواقعية‪" :‬فوصف النظريات بواسطة «كما لو» جعله يبدو غير متوافق‬
‫ً‬
‫مع عمق التزاماتنا‪ .‬ويبدو هذا الوصف بالتالي قابال للدحض بواسطة نوع من التذكرة‬
‫الظاهراتية لقوة معتقداتنا [‪ ."307]...‬فمن الؤكد عندها أن شبه الواقعي‪ ،‬على عكس‬
‫الالواقعي‪ ،‬سيتجنب اللجوء بأية طريقة إلى «كما لو»‪" .‬فما هو الخطأ بالتالي‪ ،‬يتساءل‬
‫بالكبرن‪ ،‬عندما نصف هذه الفلسفة كما لو كانت تدعم أننا «نتحدث كما لو كان ثمة‬

‫‪ 305‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism .45 .‬‬


‫‪ 306‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.32.‬‬
‫‪ 307‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.65.‬‬
‫‪185‬‬
‫ضرورات [‪»]...‬؟ هذا ناجم عن أننا لم نلحظ أن شبه الواقعي ليس بحاجة ألن يعطي‬
‫للقضية التي تلي الـ «كما لو» معنى آخر سوى العنى الذي تكون فيه صحيحة"‪ .‬بعبارة‬
‫ً‬
‫أخرى‪ ،‬فإن شبه الواقعي ال يحاول أبدا إضعاف النطاق الرجعي لصطلح أو قيمة حقيقة‬
‫ً‬
‫قضية ما‪ .‬بل هو يظهر مثل "شخص يجد نفسه‪ ،‬وقد انطلق من موقف الواقعي‪ ،‬قادرا‬
‫بالتدريج على محاكاة األفكار والمارسات التي ي َ‬
‫فترض أنها ّ‬
‫تعرف الواقعية‪."308‬‬
‫جيد‪ ،‬ولكن إذا نجح شبه الواقعي هذا النجاح الكامل في محاكاة األفكار والمارسات‬
‫الواقعية ألن ينتهي به الطاف بأن يخسر كل خصوصية له؟ فإذا كان شبه الواقعي يبرر‬
‫ً‬
‫بشكل جيد جدا استخدامنا لكلمات مثل "حقيقة" و"واقع" و"موضوعية" إلخ‪ ،.‬فإن "[‪]...‬‬
‫ّ‬
‫يعض ذيله‪ .‬فهو وضع يبدو أنه يدعم الالواقعية أكثر مما هو‬ ‫وضعه عندها سيبدو كمن‬
‫بمثابة أداة من أجل تفكيك النقاش بأكمله"‪ .309‬فالتمييز بين الواقعية والالواقعية ال‬
‫يعود له معنى‪ ،‬ألن الواقعية مدفوعة إلى أقصاها ستنتهي بأن ال يعود باإلمكان تمييزها‬
‫ً‬
‫عن الواقعية‪ .‬لكن ذلك ليس صحيحا بالضبط‪ .‬إن شبه الواقعية تتميز بداية عن‬
‫الواقعية بدرجتها الرتفعة أكثر في حركة التوازن الجدلي الذي تتمثل مرحلته التوسطة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بطرح وبسط وسائل اإلثبات‪ .‬لقد قطع شبه الواقعي طريقا كبيرا قبل الوصول إلى‬
‫محاكاة زمالئه الواقعيين‪ ،‬وهذا الطريق هو ما يميزه بين الجميع‪" .‬في فلسفة هذه األمور‪،‬‬
‫يالحظ بالكبرن‪ ،‬ليس ما تنتهون إلى قوله هو ما ّ‬
‫يعرف "يتكم" (واقعيتكم‪ ،‬الواقعيتكم‪،‬‬
‫شبه واقعيتكم‪ ،)..‬بل الطريقة التي توصلتم عبرها إلى قوله‪."310‬‬
‫ّ‬
‫وبالثل‪ ،‬سيقول أحدهم‪ ،‬إذا كانت الغامرة الفكرية التي عاشها الفكر شبه الواقعي‬
‫تؤدي ّ‬
‫بشدة إلى أي‬ ‫يتوصل إلى موقفه التشابه بشكل غريب مع موقف الواقعي ال ّ‬
‫ّ‬ ‫قبل أن‬
‫ً‬
‫انزياح بالنسبة إلى هذا األخير‪ ،‬وإذا لم تكن تضع لسة صغيرة جدا من األصالة على‬

‫‪ 308‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.06.‬‬


‫‪ 309‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.6.‬‬
‫‪ 310‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.1.‬‬
‫‪186‬‬
‫مساعيه وخطواته‪ ،‬فهل سيكون لدينا أي سبب لكي ال نهمل هذه الغامرة ولكي ال نعلن‬
‫بشكل قطعي أن الصيرورة بكاملها كانت بال جدوى؟ لحسن الحظ‪ ،‬ليس األمر كذلك‪.‬‬
‫فالعالمة الميزة موجودة‪ .‬ذلك أن الفكر شبه الواقعي أضاع على الطريق الذي قطعه‬
‫آخر نقطة سذاجة أو جمود أنطولوجي كان ال يزال يربطه بزمالئه الواقعيين األكثر رهافة‪.‬‬
‫تقرأ هذه الطراوة والنضارة التي نجدها في االستئنافات وفي إعادة النظر هذه‪ ،‬وفق‬
‫ً‬
‫بالكبرن‪ ،‬في اليل الفرط تقريبا‪ ،‬وشبه الطفولي‪ ،‬لشبه الواقعي في وصف كافة أنواع‬
‫ً‬
‫الكينونات البعيدة جدا عن "أمور" الفطرة السليمة أو النطق السليم بـ "الواقعية"‪:‬‬
‫"يتوصل شبه الواقعي إلى أن يحاكي بشكل مزعج لشدة حماسه األحاسيس التقليدية‬
‫ّ‬
‫للواقعي؛ وفي حماسه هذا بالذات إنما نستطيع أن نتوقع بأن يختلف عن الواقعي‬
‫الحقيقي‪."311‬‬
‫لقد فقد شبه الواقعي على الطريق كافة الوانع النفسانية التي كانت تجعل من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جدا بالنسبة للواقعي أن ّ‬
‫يغير من األنطولوجيا تبعا للتطورات النظرية‪ .‬كان‬ ‫الصعب‬
‫الواقعي يعتقد‪ ،‬في أعماق قناعاته‪ ،‬أن أنطولوجيا األجسام الادية الموضعة‪،‬‬
‫َّ‬
‫والزودة بخصائص‪ ،‬هي الصحيحة‪ ،‬وأن العلوم ال‬ ‫والشخص َنة‪ ،‬والعاد تعيينها في الزمن‬
‫َ‬
‫تقوم سوى بتحسين معرفة هذه األجسام دون اإلخالل بتنظيمها‪ .‬كانت اإلستقرارية‬
‫األنطولوجية بالنسبة له ضامنة ّ‬
‫لتفرد حقيقة قابلة للوصول إليها في نهاية صيرورة من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التقص ي‪ .‬فالتجديد األنطولوجي سيؤدي‪ ،‬دون أن يكون متعارضا صراحة مع الواقعية‪،‬‬
‫إلى اضطراب‪ ،‬وإلى شك من الصعب أن نلجمه‪ ،‬يتعلق بالتالقي النهائي للعلوم باتجاه الـ‬
‫الحقيقة‪ .‬يمكن للتالقي أن يتم‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬باتجاه األنطولوجيا الثانية‪ ،‬ولكن من ذا يقول‬
‫ّ‬
‫لنا إننا لو تخلينا بسهولة كبيرة في األولى لن يكون هناك ثالثة‪ ،‬ثم رابعة‪ ،‬إلخ‪.‬؟ وفي هذه‬
‫الحالة‪ ،‬كيف سنواجه الظهر النتصر لالواقعي‪ ،‬الذي يرى بسرور ال يخفيه طرحه في‬
‫الالإستقرارية التاريخية للبنى اإلبستمولوجية وقد استعاده الواقعي تحت غطاء من‬

‫‪ 311‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.46.‬‬


‫‪187‬‬
‫سلسلة من التغيرات األنطولوجية؟ لهذا فإن الواقعي محكوم بدرجة معينة من‬
‫الحافظة‪ ،‬وبشكل خاص بمواجهة الراجعات األنطولوجية القترحة بواسطة العلوم‬
‫ً‬
‫الفيزيائية‪ .‬لكن ليس هذا حال شبه الواقعي‪ .‬ما كان يبدو للواقعي أنه يشكل امتيازا ال‬
‫يحتمل للنسبوية اإلبسمتولوجية لالواقعي هو على العكس بالنسبة لشبه الواقعي البرهان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األفضل بأن كال من عناصر السار الفكري التي تشكله يجب أن يظل أيضا فاعال على‬
‫الستوى الذي بلغه‪ .‬لن نتفاجأ بالتالي إذا ما استنتجنا‪ ،‬ضمن هذه الشروط‪ ،‬أن "شبه‬
‫ً‬
‫الواقعية غالبا ما تتهم بـ «العلموية» [‪ ]...‬أو‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬تتهم بأنها تحبس الواقع األصيل‬
‫وتحجمها إلى أنطولوجيا وإلى مجموعة من السمات التي يرسمها أحد‬ ‫ّ‬ ‫(الحقيقة األصيلة)‬
‫َّ‬
‫الفضلة‪ ،‬مثل الفيزياء‪."312‬‬ ‫العلوم األساسية‬
‫ال يحاول الفكر شبه الواقعي أن يفرض بأي ثمن على الفيزياء أنطولوجيا ت َ‬
‫فترض أنها‬
‫أكثر واقعية وأكثر حقيقية من األنطولوجيات األخرى بسبب معاصرتها‪ .‬بل هو يطلب على‬
‫العكس من النظرية الفيزيائية األكثر مالءمة واألكثر اقتصادية ضمن وضعية تاريخية‬
‫معطاة‪ ،‬أن تثبت هي نفسها معايير أنطولوجيا ذات نزعة عالية‪ .‬وهو يتالقى بالتالي إلى حد‬
‫كبير مع القائل بالوقف األنطولوجي الطبيعي (م أ ط) لفاين ‪ Fine‬الذي‪ ،‬وهو بالتالي على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عكس الواقعي‪ ،‬ليس مجبرا على االعتقاد بأن العلوم تقدم لنا دائما الزيد من العلومات‬
‫"حول األشياء نفسها‪ ."313‬ومثل من ينتسب إلى الوقف األنطولوجي الطبيعي‪ ،‬يستطيع‬
‫الفكر شبه الواقعي االعتماد على حرية أنطولوجية مطلقة في كافة حاالت ّ‬
‫تغير النموذج‬
‫‪ paradigme‬العلمي‪ .‬فأية فكرة مسبقة لتالقي العلوم باتجاه "بؤرة حقيقية" وحيدة لن‬
‫تمنعه من تقييم معقولية (أو المعقولية) "استقرارية للمرجعية عبر النماذج‪ ."314‬ولكن‬
‫على خالف الناصر للموقف األنطولوجي الطبيعي الذي سيحاول الحفاظ على القطع‬

‫‪ 312‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.6 .‬‬


‫‪ 313‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪A. Fine, The shaky game .031 .‬‬
‫‪ 314‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.030 .‬‬
‫‪188‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫األنطولوجي القديم طالا لم ت َم ّ‬
‫س "معقوليته" مساسا خطيرا‪ ،‬فإن شبه الواقعي لن يتردد‬
‫في تفضيل إصالح وجودي إذا كان النموذج الجديد يجعله أكثر أناقة‪.‬‬
‫فهذا االتجاه "العلمي" على أية حال (الذي يقود إلى تكرار بحت وبسيط للمواقف‬
‫ً‬
‫العقائدية الاضية إذا لم يكن مضبوطا بشكل مستمر بواسطة درجة مرتفعة من‬
‫الوضوح االنعكاس ي)‪ ،‬هو الذي انتقده بشدة بوتنام خالل الجدل الذي جمعه مع‬
‫ً‬
‫بالكبرن‪ .‬بالنسبة له‪ ،‬فإن بالكبرن موجود دائما على بعد خطوتين‪ ،‬على الرغم من دقة‬
‫مسار فكره‪ ،‬من تأكيد أن "[‪ ]...‬العلم‪ ،‬والعلم وحده‪ ،‬يصف العالم «كما هو بشكل‬
‫مستقل عن اللغة»‪ ."315‬إن موقف بالكبرن‪ ،‬الذي ينتظر من الفيزياء أن "ترسم خطوط"‬
‫واقع ما‪ ،‬يجازف في كل لحظة باإليحاء أن هذه الخطوط هي الخطوط الوحيدة في إطار‬
‫نظرية معطاة‪ ،‬وأن العلم يتحرر بذلك‪ ،‬عبر كل من مراحله التاريخية إذا لم يكن على‬
‫الدى البعيد‪ ،‬من مشكلة تعددية وجهات النظر األنطولوجية التي تصادفها فلسفة اللغة‪.‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬كان الفارق بين الواقعية الداخلية لبوتنام وشبه الواقعية لبالكبرن يقع كما‬
‫يبدو فقط على مستوى الفكر البديهي (االستخدام الصريح لـ "كما لو" في الحالة األولى‪،‬‬
‫ً‬
‫والضمني في الحالة الثانية)‪ .‬وهو يترجم من اآلن فصاعدا بتباعد يتعلق بنقطة محددة‬
‫ً‬
‫تماما‪ :‬وهي التي تتعلق بقبول أو رفض إعطاء مكان‪ ،‬في كل نموذج نظري‪ ،‬للـ "واقعية‬
‫الفاهيمية" التي يذكرها باستمرار بوتنام‪.‬‬
‫‪ 7 .4‬مؤسسو اليكانيك الكمومي بين الواقعية والالواقعية وشبه الواقعية‬
‫أصبحت أداة الفكر دقيقة بشكل كاف لكي نواجه دون تردد مسألة التصنيف‬
‫العقائدي لؤسس ي اليكانيك الكمومي‪.‬‬
‫لنبدأ بقول بضعة كلمات عن "الواقعيين الحقيقيين" بالعنى الذي يقصده بالكبرن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ي ّ‬
‫عد أينشتين عموما بين هؤالء الـ ـ ـواقعيين الح ـقي ـق ـي ـيـن‪ .‬ل ـك ـ ـن وضوحه الخـاص‪،‬‬
‫التعرف على الشحنة العاطفية في موقفه‪ ،‬يضعه خارج األخاديد‬ ‫ّ‬ ‫وسخريته‪ ،‬وقدرته على‬

‫‪315‬‬
‫الرجع السابق‪ ،‬ص‪H. Putnam, "Comments and replies", in P. Clark & B. Hale, Reading .423 .‬‬
‫‪Putnam‬‬
‫‪189‬‬
‫ً‬
‫الرسومة والحددة تماما؛ وربما يمكن رؤيته في مكان ما في األطراف السعيدة التي تمتد‬
‫بين الواقعية وشبه الواقعية والواقعية الداخلية‪ .‬إن بعض جوانب فكره وكتاباته‪ ،‬مثل‬
‫قوله باإليمان تجاه نظام كوني‪ّ ،‬‬
‫يقرب أينشتين من واقعية ميتافيزيائية أصيلة‪ .‬وعلى‬
‫العكس‪ ،‬فإن جانب واقعية أينشتين الذي يسميه فاين ‪ Fine‬بـ" ‪ ،"316entheorizing‬أي‬
‫ً‬
‫أن نضع جانبا السائل التعلقة بمرجعية الصطلحات الفردة التي تشير إلى أحداث أو‬
‫أشياء لصالح مسائل حول الكفاية التجريبية الشاملة للنظرية‪ ،‬يضعه بين بداية توجه‬
‫ً‬
‫شبه واقعي وتأكيد أكثر حسما‪ ،‬من نمط واقعي داخلي‪ ،‬للنسبية األنطولوجية‪.‬‬
‫هناك بعده لويس ده بروي ‪ Louis de Broglie‬ومدرسته‪ .‬وهنا‪ ،‬ال يعود الشك‬
‫ً‬
‫مسموحا‪ .‬فهؤالء الفيزيائيون لم يقبلوا بتحديد حقل تطبيق األنطولوجيا الكالسيكية‬
‫لألجسام الادية‪ ،‬كما اقترح عليهم أعضاء مدرسة كوبنهاغن‪ ،‬وال بإدخال تحسينات عليه‬
‫أصبحت ضرورية من خالل موافقته مع الصورية الكمومية‪ ،‬كما كان قد اقترح فون‬
‫ً‬
‫نيومان مع آخرين ممن وضعوا النطق الكمومي‪ ،‬وال بأن يتغيروا أنطولوجيا بشكل جذري‬
‫كما اقترح شرودنغر‪ .‬بل حافظوا ببساطة على األمل بالوصول إلى وسط ما تحت كمومي‪،‬‬
‫يتميز بمتحوالت خفية‪ ،‬حيث تستعيد األنطولوجيا التقليدية جميع حقوقها‪ .‬وقد‬
‫تم البرهان أن نظرية الوجة ّ‬
‫الوجهة‪ ،‬التي نشرها ديفيد‬ ‫اجتاحهم شعور باالنتصار عندما ّ‬
‫بوم ‪ David Bohm‬عام ‪ ،0964‬تكافئ بصرامة على مستوى تنبؤاتها الصيغة العيارية‬
‫للميكانيك الكمومي‪ .‬لكنهم لم يقلقوا لواقع أن نظرية ديفيد بوم ليست في نهاية الطاف‬
‫سوى وسيلة تشتمل على تطعيم جسم اليكانيك الكمومي بشكل أنطولوجي فارغ‬
‫ً‬
‫تجريبيا‪317‬؛ واحتاجوا لوقت طويل قبل اتخاذ أي إجراء حيال ذلك بسبب أن هذا الشكل‬

‫‪ 316‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪A. Fine, The shaky game .015 ،94 .‬‬
‫‪ 317‬تأمل شرودنغر برهافة عميقة حول مفهوم الشكل األنطولوجي الفارغ‪ ،‬عندما بين في عام ‪ 0945‬التكافؤ بين‬
‫"اليكانيك الوجي" الخاص به و"اليكانيك الصفوفي" لهايزنبرغ وبورن وجوردان‪ .‬وكان يصر‪ ،‬في تلك الفترة‪ ،‬على‬
‫فكرة أنه إذا لم يكن اليكانيك الوجي سوى "غالف بدني" أضيف زيادة على الهيكل الوحيد الرياض ي الصالح‬
‫ً‬
‫والفيد تنبؤيا للميكانيك الصفوفي‪ ،‬عندها فإنه يجب القبول بالتفوق اإلبستمولوجي للميكانيك الصفوفي على‬
‫اليكانيك الوجي‪ .‬ولكن‪ ،‬ألن ذلك لم يكن هو الحال‪ ،‬ألنه كان يوجد تكافؤ رياض ي صارم بين النظريتين‪ ،‬ومن‬
‫‪191‬‬
‫ً‬
‫بعيد جدا عن إعادة امتالك كافة السمات التي ترتبط باألجسام الادية للميكانيك‬
‫الكالسيكي‪ .‬تشهد التأثيرات غير الحلية‪ ،‬والسياقية‪ ،318‬وخرق مبدأ العطالة‪ ،319‬على هذا‬
‫ً‬
‫التباين العميق‪ .‬وأيا كان األمر‪ ،‬فإن القاومة العنيفة من دو بروي ومن أنصار النظريات‬
‫ذات التغيرات الخفية اتجاه كل إعادة صياغة أنطولوجية تبين بدرجة كافية عناد‬
‫ّ‬
‫وتصلب التزامهم الواقعي‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫لنأت اآلن إلى الالواقعيين‪ ،‬المثلين جيدا (على األقل في بعض لحظات فكرهم)‬
‫بأعضاء مدرسة كوبنهاغن‪ .‬وهم كثيرون نذكر منهم نيلز بور ‪ Niels Bohr‬وويرنر هايزنبرغ‬
‫‪ Werner Heisenberg‬وماكس بورن ‪ Max Born‬وولفغانغ باولي ‪Wolfgang Pauli‬‬
‫وباسكوال جوردان ‪ Pascual Jordan‬وغيرهم‪ .‬وقد انتقدوا منذ فترة مبكرة بأنهم‬
‫"وضعيون"‪ ،‬وذلك من قبل أينشتين بشكل خاص‪ .‬لقد أمكن ليل هايزنبرغ وبشكل خاص‬
‫باولي إلى فلسفة ماخ ‪ ،Mach‬خالل الفترة البكرة من إعداد الصورية‪،formalisme 320‬‬
‫أن ّ‬
‫يبرر هذا النعت لهم بالوضعية‪ .‬لكن سرعان ما تم تحت تأثير بور تجاوز هذه الرحلة‬
‫حد ما من التفكيك األنطولوجي‪ .321‬وبالتالي تم الوصول إلى النسخة‬ ‫الساذجة إلى ّ‬

‫الوضوعية والعملياتية‪ 322‬لالواقعية‪ ،‬التي ال تخلو من عناصر واقعية متبقية‪ ،‬والتي سبق‬

‫جهة أخرى ألن كينونات اليكانيك الوجي كانت تتمثل بسهولة أكثر في الفضاء وفي الزمان من كينونات اليكانيك‬
‫الصفوفي‪ ،‬فقد كان شرودنغر يؤكد تفوق نسخته من اليكانيك الكمومي على نسخة هايزنبرغ‪ .‬راجع‪E. :‬‬
‫‪Schrodinger, "Sur les rapports qui existent entre la mécanique quantique de Heisenberg-Born-Jordan‬‬
‫‪.et la mienne", in Mémoires sur la mécanique quantique ondulatoire, J. Gabay, 1988, p. 92‬‬
‫‪ 318‬نسبة إلى النظرية السياقية ‪ contextualisme‬في اللسانيات‪ ،‬ووفقها يرتبط معنى كلمة مباشرة بسياق هذه‬
‫الكلمة في الجملة (الترجم)‪.‬‬
‫‪ 319‬راجع ‪D. Bohm & J. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993.‬‬
‫‪W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Miche, 1972, p. 95. 320‬‬
‫‪ 321‬انظر الالحظات التي يخصصها شفالييه ‪ C. Chevalley‬للتشابهات الزعومة بين موقف بور والفلسفة‬
‫الوضعية‪ ،‬في ‪.N. Bohr, Physique atomique et connaissance humaine, Folio-Gallimard, 1991‬‬
‫‪ 322‬العملياتية شكل من البراغماتية يكون على الفاهيم وفقها أن ت َع َّرف بمصطلحات العمليات الفيزيائية‪.‬‬
‫(الترجم)‬
‫‪191‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫وذكرناها سابقا‪ .‬لندع لهايزنبرغ أن يصفها لنا‪ ]...[" :‬إن تفسير كوبنهاغن ليس وضعيا أبدا‪،‬‬
‫ً‬
‫ألنه حيث تعتمد الوضعية أساسا لها اإلدراكات الحسية للمراقب [‪ ،]...‬فإن تفسير‬
‫كوبنهاغن يعتبر أن األشياء والصيرورات القابلة للوصف بمساعدة الفاهيم الكالسيكية‪،‬‬
‫أي الواقع‪ ،‬هي أسس كل تفسير فيزيائي‪ ."323‬إن لهذا الوقف داللة عملياتية بما هي ال‬
‫ً‬
‫تضع أية صعوبة في نسب "واقعية" للتجهيزات الجهارية ولحاالتها‪ .‬وهو يتصل أيضا بال‬
‫لبس بشكل قوي مع الالواقعية بما هي ال تعترف بأية قيمة حقيقة أخرى للبيانات التي‬
‫تتعلق باألشياء الذرية سوى القيمة النسوبة لها من خالل وضعها على الحك ونجاحها‬
‫على نحو فعال‪ ،‬مع اللجوء إلى استخدام تجهيزات جهارية‪ .‬فهو يجمع بين صالبة الواقعية‬
‫على الستوى الجهاري‪ ،‬حتى وإن كان ذلك يؤدي إلى بيان براغماتي ‪ -‬لساني‪ ،‬مع الصفحة‬
‫ً‬ ‫البيضاء الجديدة الالواقعية على الستوى الجهري‪ ،‬حتى وإن كانت ّ‬
‫تعبر عن نفسها أحيانا‬
‫ً‬
‫كما لو أن ذرات مجهزة بتحديدات كانت توجد فعليا‪ .‬يقول هايزنبرغ‪" :‬كانت أنطولوجيا‬
‫الادية ترتكز على وهم أن هذا النوع من الوجود‪« ،‬الواقعية» الباشرة للعالم الذي يحيط‬
‫عمم حتى مستوى حجم الذرة‪ .‬غير أن هذا التعميم مستحيل‪ ."324‬ال ّبد لنا‬
‫بنا‪ ،‬يمكن أن ي َّ‬
‫من اإلشارة إلى أن التعميم في هذه الجملة لألنطولوجيا التقليدية باتجاه كون ذري وما‬
‫ً‬
‫مستحيال‪ ،‬لكن لم تتم اإلشارة إلى أي ّ‬
‫تحفظ فيما يتعلق بتطبيقه على‬ ‫تحت ذري يعتبر‬
‫األشياء من الستوى الجهاري وعلى األحداث التجريبية‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬يعد مثل هذا الدمج غير مستقر‪ ،‬وقد اتبع عدد من أعضاء مدرسة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كوبنهاغن على مسؤوليتهم منحدرا أكثر ما يكون واقعية‪ ،‬أو منحدرا أكثر الواقعية بشكل‬
‫جذري‪ .‬ولن أذكر هنا سوى ماكس بورن الذي أشار في نهاية حياته إلى أن إقامة‬
‫استمرارية تصورية بين العالم الجهاري والعالم الجهري تتطلب تعميم أنطولوجيا‬
‫ً‬
‫ألجسام مادية متموضعة‪ ،‬فعالة بال أدنى شك على مستوانا‪ ،‬وصوال إلى الستوى ما تحت‬

‫‪W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Miche, 1971, p. 188. 323‬‬


‫‪ 324‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫الذري‪ .‬لهذا فقد حاول مذاك أن يبرر‪ ،‬إنما ليس دون الكثير من الحذر واالحتياط‪ ،‬عودة‬
‫مفهوم الجسيم الكمل للتمثيل الرمزي الوجي‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه هايزنبرغ قد أنهاه‬
‫ّ‬
‫وحله ضمن مثاليات رياضية‪ ،‬وفي الوقت الذي لم يكن فيه بور يحفظه إال مع التبعية‬
‫الضمنية للتمثيل الرمزي‪.‬‬
‫ً‬
‫لنأت أخيرا إلى إرفين شرودنغر‪ .‬فحالته معروفة منذ زمن طويل كإحدى أكثر الحاالت‬
‫ً‬
‫تطلبا ووعورة‪ .‬ووفق أحد الشارحين الحديثين‪ ،325‬فإن نصف معاصري شرودنغر ومن‬
‫ً‬
‫تقريبا ّ‬
‫صنفه كمفكر واقعي‪ ،‬في حين أن النصف اآلخر كان يفضل تصنيفه بين‬ ‫تلوه‬
‫ً‬
‫الالواقعيين‪ ،‬بل حتى بين أكثرهم تطرفا‪ ،‬أي الثاليين والظاهراتيين‪ .‬وقد نسب بعض‬
‫الؤلفين لشرودنغر فلسفة في الحضور‪ ،326‬تميل بشكل واضح إلى جانب الالواقعية‪،‬‬
‫ً‬
‫وحاول أخرون أيضا‪ ،‬مع إدراكهم للصعوبة‪ ،‬تحديد نوع من الحلول أو التسويات العرجاء‬
‫التي من المكن أنه كان قد انتسب لها‪.327‬‬
‫وليس ثمة ما يدهش في هذا االعتراف بالفشل من قبل مفسري أعمال شرودنغر‪.‬‬
‫ً‬ ‫فعال في مواجهة نصوص شرودنغر ش يء ّ‬ ‫ً‬
‫محير‪ ،‬ش يء متناقض ظاهريا‪ ،‬ال يمكن ألي‬ ‫فثمة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من تطورات فكره أن يجعله واضحا أو مفهوما‪ .‬ولكي ندرك ذلك‪ ،‬لنضع مواجهة نصوصا‬
‫كتيب فلسفي يعود إلى‬‫تعود إلى فترات متقاربة‪ .‬والعينة األولى من أزواج هذه النصوص‪ّ :‬‬

‫شهر آب من عام ‪ ،0946‬بعنوان "البحث عن الطريق"‪ ،‬ومقالة نشرت في كانون الثاني من‬
‫عام ‪ 0945‬تتضمن أول صياغة لعادلة شرودنغر الشهيرة‪ .‬نقرأ في نص عام ‪]...[" :0946‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ال يمكننا القبول بعالم يوجد خارج [‪ ]...‬أنا‪ ،‬ألن كال منهما [األنا والعالم] يتكون من‬

‫‪M.F. Melgar, "The philosophy of Erwin Schrodinger", Found. Phys., 18, p. 357-371, 1988 325‬؛ راجع‬
‫ً‬
‫أيضا الحادثة الواردة في‪M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Kluwer, 1996. :‬‬
‫‪ ،M. F. Melgar 326‬القال السابق‪.‬‬
‫‪Y. Ben-Menahem, "Struggling with realism: Schrodinger's case", in M. Bitbol & O. Darrigol (eds.), 327‬‬
‫‪Erwin Schrodinger, philosophie et naissance de la mécanique quantique, Frontières-Diderot, 1993.‬‬
‫‪193‬‬
‫«العناصر» التجريبية نفسها‪ ."328‬إن اإلسناد إلى "عناصر" الوضعية الاخية واضح هنا‪،‬‬
‫وقد أشار إليها عبر استشهادات متكررة من "تحليل األحاسيس" لاخ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في مقالة‬
‫عام ‪ ،0945‬يقترح شرودنغر أن "[‪ ]...‬يقرن التابع ‪ Ψ‬مع ظاهرة اهتزاز ضمن ‪ -‬ذري لها‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سمة واقعية أكثر وضوحا بكثير من ظاهرة السارات اإللكترونية التي غالبا ما يشكك فيها‬
‫ً‬
‫حاليا‪ ."329‬لم يورد شرودنغر هنا كلمة واحدة من أجل تمييز الفروق الدقيقة للمجال‬
‫اليتافيزيائي لفهوم "الواقعية"؛ وال أي كلمة من أجل ذكر األحدية‪ monisme 330‬الحسية‬
‫الستعارة من ماخ‪ .‬ولنر اآلن ما الذي يقوله بعد ثالثين إلى خمس وثالثين سنة‪ .‬لدينا هنا‬
‫كمثال زوج آخر من النصوص‪ :‬نص بعنوان "ما الواقعي؟" ويعود إلى عام ‪ ،0951‬وبعض‬
‫القاالت التأملية حول اليكانيك الكمومي تعود إلى نهاية الخمسينيات‪ .‬نقرأ في الؤلف‬
‫الذي يعود إلى عام ‪" :0951‬بداية [‪ ]...‬سوف نأخذ بهذا التأكيد‪ :‬أنه يجب أن يوجد‪ ،‬خارج‬
‫ً‬
‫[الحياة العقلية] أو في جوارها‪ ،‬جسم تكون هذه الحياة العقلية تمثيال له وتكون نتيجة‬
‫ً‬
‫له‪ .‬ألن ذلك يبدو لي تكرارا غير ذي جدوى يصطدم بخيط أوكام‪" ."331‬ال أحد يدرك‬
‫عالين‪ ،‬عالم مرصود وعالم «حقيقي»‪ ."332‬إن كافة حجج ترسانة الالواقعي تستخدم ضد‬
‫فكرة عالم حقيقي أي واقعي خارجي‪ ،‬ونرى أن كافة الهجمات ما بعد الكانطية ضد‬
‫مفهوم الش يء بذاته قد استعيدت هنا وتم تطويرها‪ .‬وإلى جانب ذلك‪ ،‬نقرأ في نص مقالة‬

‫‪E. Schrodinger, Ma conception du monde, Mercure de France, 1982, p. 30. 328‬‬


‫‪ 329‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪E. Schrodinger, Mémoires sur la mécanique ondulatoire, .03 .‬‬
‫‪ 330‬األحدية اتجاه فلسفي يتكون العالم وفقه من جوهر واحد فقط‪ ،‬وهو يتمايز عن النظومة الفكرية‬
‫الواحدية التي تقول بوحدة الوضوع الذي يطبق عليه الفكر‪ ،‬والقابل للثنوية‪( .‬الترجم)‬
‫‪ ،E. Schrodinger, Ma conception du monde 331‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.013 .‬‬
‫مبدأ خيط أوكام هو مبدأ محاكمة فلسفية يدخل في الفاهيم العقلية واإلسمية‪ .‬يسمى أيضا مبدأ البساطة أو‬
‫مبدأ االقتصاد‪ ،‬ويمكن صياغته على النحو التالي‪" :‬ال يجب استخدام الكثرة أو التعدد إذا لم يكن ثمة ضرورة‬
‫لذلك"‪ ،‬وبعبارة أخرى‪" :‬ال يجب مضاعفة الكينونات أكثر مما هو ضروري"‪ .‬وهي صيغة تنسب إلى غيوم دوكام‬
‫منذ القرن الرابع عشر‪ .‬أما الصيغة األحدث فهي على النحو التالي‪" :‬الفرضيات الكافية األكثر بساطة هي األكثر‬
‫ً‬
‫ترجيحا"‪ ،‬وهو مبدأ تفسيري أساس ي في العلم‪ ،‬مع أنه ليس نتيجة علمية بالعنى الصريح‪( .‬الترجم)‬
‫‪ 332‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.016 .‬‬
‫‪194‬‬
‫تعود إلى عام ‪" :0966‬على الستوى الحالي‪ ،‬وطالا بقي الشعاع ّ‬
‫الوجه للحالة يلعب الدور‬
‫ّ‬
‫الذي يلعبه‪ ،‬فيجب أن يعتبر بأنه يمثل «العالم الحقيقي في الكان وفي الزمان»‪."333‬‬
‫إن البيان األوضح الذي ق ّدم حتى اآلن على هذا التباعد الظاهر في فكر شرودنغر هو‬
‫ما كتبته ليندا ويسلز ‪ Linda Wessels‬في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة‪ .334‬ووفق ليندا‬
‫ويسلز‪ ،‬فإن شرودنغر يدعم في آن واحد الواقعية ميتافيزيائية وواقعية منهجية في‬
‫الفيزياء‪ .‬وبالثل‪ ،‬فإن آبنر شيموني ‪ Abner Shimony‬يميز كتابات شرودنغر التي ترجح‬
‫كفة اليزان في أحد االتجاهات‪ ،‬والكتابات التي ترجح اليزان في االتجاه الثاني‪ ،‬وينتهي‬
‫باإلعالن أنه "[‪ ]...‬يدافع من جهة عن الواقعية الفيزيائية [‪ ]...‬وأنه يقترح من جهة أخرى‬
‫ميتافيزياء مثالية"‪.335‬‬
‫لكن أعتقد أننا ال يجب أن نقف عند ترجمة بسيطة للصعوبة من حيث التجاور‬
‫العقائدي‪ .‬فواقعية شرودنغر النهجية ال تقوم سوى بالتجاور والتواجد مع الواقعية‬
‫ّ‬
‫ميتافيزيائية قوية‪ .‬فهي متجذرة فيه بشكل من األشكال‪ .‬إن التعريف األكثر عمومية الذي‬
‫ً‬
‫قدمه شرودنغر للواقع هو بشكل أساس ي‪ ،‬وبقدر ما يبدو ذلك متعارضا‪ ،‬تعريف بين ‪-‬‬
‫ذاتي ‪ ،intersubjectif‬الواقعي بشكل أساس ي‪[" :‬إن الواقعية] تتبدى لنا‪ ،‬بشكل من‬
‫األشكال‪ ،‬مثل صورة تداخل لتحديدات عدة مراقبين فرديين ‪ -‬بل كافة الراقبين‬
‫الفرديين الذين يمكن تصورهم‪ .‬إنها عبارة عن تكثيف لا وجدوه بهدف االقتصاد في‬
‫الفكر‪ ."336‬وعندما كان عليه الدفاع عن فكرة أكثر خصوصية بأن تابع الوجة (أو حامل‬
‫أو شعاع الحالة) يمثل الواقع‪ ،‬فإن الحجة الرئيسية التي استخدمها شرودنغر كانت ترتكز‬

‫‪E. Schrodinger, "Might perhaps energy be a merely statistical concept?", Nuovo cimento, 9, p. 162-170, 333‬‬
‫‪1958.‬‬
‫‪L. Wessels, Schrodinger's interpretations of wave mechanics, Ph. D. thesis, Indiana University, 1975. 334‬‬
‫‪A. Shimony, in "Les implications conceptuelles de la physique quantique", Journal de Physique, 42, C2, 335‬‬
‫‪Editions de physique, 1981, p. 90.‬‬
‫‪ 336‬راجع رسالة ‪ 06‬تشرين الثاني عام ‪ 0961‬إلى أينشتين‪ ،‬في ‪K. Przibram (ed.), Letters in wave mechanics,‬‬
‫‪.Philosophical library, 1967‬‬
‫‪195‬‬
‫على ضعف مزاعم انتماء األشياء اليومية إلى الواقع بقدر ما كانت ترتكز على تحديدات‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لنفصل قليال محاكمته‬ ‫إيجابية للكينونة النظرية التي كان يريد إحاللها محلها‪.‬‬
‫النطقية‪ .337‬يقول شرودنغر إنه ليس لدينا أي سبب لالعتقاد أن متجهات الحالة هي أقل‬
‫حقيقية من الجسيمات أو حتى من الكراس ي أو من الطاوالت‪ .‬فهذه األخيرة هي بقدر أشعة‬
‫الحالة بناءات عقلية مخصصة لتوضيح ومطابقة تجربتنا حول عدد صغير من‬
‫الالمتغيرات‪ .‬فالكراس ي والطاوالت هي كيانات نظرية على درجة متساوي مع متجهات‬
‫الحالة‪ .‬إال أن النظرية التي تندرج فيها الكراس ي والطاوالت هي النظرية التي كان علينا‬
‫نمذجتها منذ نعومة أظفارنا لكي نستمر ونبقى‪.‬‬
‫إن نسب "واقع" لكينونات نظرية غريبة مثل متجهات الحالة ال يتعارض بالتالي بحال‬
‫من األحوال مع الالواقعية اليتافيزيائية لدى شرودنغر‪ .‬بل على العكس‪ ،‬فإن هذه‬
‫الالواقعية الجوهرية هي التي تسمح في آن واحد‪ ،‬بتخفيفها بشكل كبير للشحنة العاطفية‬
‫الرتبطة بمصطلح "واقع"‪ ،‬بفك العالقة الميزة التي تقيمها مع األجسام الادية في الحياة‬
‫وتصور إعادة دمج كاملة لألنطولوجيا دون حاالت‬ ‫ّ‬ ‫اليومية‪ ،‬وتوسيع حقل إسنادها‪،‬‬
‫للعقل باالرتكاز على بنية النظريات الفيزيائية العاصرة‪.‬‬
‫‪ 8 -4‬شرودنغر‪ :‬خيار شبه الواقعية مقابل واقعية داخلية‬
‫ّ‬
‫لنشك بوجود درجة كبيرة من القرابة بين‬ ‫تكفي هذه الالحظات القليلة باعتقادي‬
‫شرودنغر ونموذج بالكبرن‪ ،‬هذا الفكر شبه الواقعي‪ .‬فكما بالكبرن شبه الواقعي‪ ،‬ينطلق‬
‫شرودنغر من نقد الواقعي لواقف الحس السليم ‪ .‬بل هو حتى‪ ،‬بين كافة الفيزيائيين‬
‫الفالسفة في النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬الفيزيائي الذي يدفع إلى أبعد مدى‬
‫التحليل الالواقعي‪ ،‬بحيث لم يترك حتى األشياء اليومية خارج نطاق فعل التسطيح‬

‫‪ 337‬راجع‪M. Bitbol, "Esquisses, forme et totalité (Schrodinger et le concept d'objet)", in M. Bitbol & O. :‬‬
‫‪ ،Darrigol (éd.), Erwin Schrodinger, Philosophie et naissance de la mécanique quantique‬الرجع‬
‫ً‬
‫السابق؛ وراجع أيضا‪ ،M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics :‬الرجع السابق‪،‬‬
‫الفصل الخامس‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫الظاهراتية‪ .‬وبالنتيجة‪ ،‬كما عند شبه الواقعي‪ ،‬فمن نوبة من الشكوك الالواقعية إنما‬
‫ّ‬
‫انبثق تبن يه الالحق لواقف تحاكي مواقف الواقعي‪ .‬ومثل شبه الواقعي أيضا‪ ،‬فقد وجد‬
‫صعوبة في جعل زمالئه يفهمون أن بياناته التعلقة بالواقع‪ ،‬والوضوعية‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬ال‬
‫تعبر بأي شكل من األشكال عن تراجع باتجاه مرحلة سابقة للنوبة‪ ،‬أو لهذه النقطة‬ ‫ّ‬

‫الحرجة‪ ،‬بل على العكس تعبر عن إنجاز وإكمال خطوات حرجة‪ .‬لهذا كان عليه أن يرد‬
‫عليهم بال كلل‪ ،‬كما على سبيل الثال في رسالة مميزة إلى أينشتين تعود إلى عام ‪:0961‬‬
‫"إنهم يتهموننا بالهرطقة اليتافيزيائية إذا أردنا الوقوف في صف هذا «الواقع»‪ .‬وعلينا أن‬
‫ً‬
‫نرد على ذلك بأن الدى اليتافيزيائي لهذا الواقع ال يهمنا على اإلطالق‪"338‬؛ أو أيضا كما في‬
‫هذه القالة األخيرة التي تعود إلى عام ‪ ،0966‬حيث يشعر أنه مجبر على أن يوضح "بشكل‬
‫طبيعي‪ ،‬أن رغبتنا العارمة بتشكيل صورة للعالم‪ ،‬تصلح للجميع‪ ،‬في الكان وفي الزمان‬
‫صمم بشكل أنطولوجي [حيث استخدمت لفظة «أنطولوجيا» هنا في‬ ‫[‪ ]...‬ال يجب أن ت َّ‬
‫ً‬
‫معناها التقليدي‪ ،‬اليتافيزيائي‪ ،‬وليس في معناها الداللي العاصر]؛ فذلك سيكون علما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ساذجا وجاهال لعدد من اإلنجازات الفلسفية األقدم بكثير من اليكانيك الكمومي‪."339‬‬
‫وحده هذا الحماس الذي أبداه شرودنغر في وصف الكينونات النظرية للفيزياء العاصرة‬
‫بـ "الواقعية"‪ ،‬هذا الحماس النموذجي وفق بالكبرن للعقائدية ‪ Weltanschauung‬شبه‬
‫الواقعية‪ ،‬هو ما كان يمكن أن يجعل أكثر ذوي العقول الصافية يظنون أنه لم يكن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قطعا نموذجا معتادا للمفكر الواقعي؛ وأنه لم يكن باختصار "واقعيا حقيقيا"‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى فإن إرادته بأال يسير بشكل مستمر مع التأكيد الواقعي في العلوم لتصحيح أو لـ‬
‫"كما لو" هي ما يميزه بوضوح عن الواقعي الداخلي‪ ،‬ويبرزه بوضوح كشبه واقعي‪.‬‬

‫‪ 338‬رسالة بتاريخ ‪ 06‬تشرين الثاني عام ‪ 0961‬موجهة إلى أينشتين‪ ،‬منشورة في ‪K. Przibram (ed.), Letters in‬‬
‫‪ ،wave mechanics‬النشورة في الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ ،E. Schrodinger, "Might perhaps energy be a merely statistical concept?" 339‬منشورة في الرجع السابق‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫الحدد الالمح إلى ّ‬ ‫ً‬
‫ووجها للشكل غير َّ‬ ‫ً‬
‫حد ما للفيلسوف‬ ‫هكذا نكون قد أعطينا اسما‬
‫شبه الواقعي لدى بالكبرن‪ .‬إن جوهر العقيدة التي كان قد حددها بالكبرن كان قد طرح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فعال في التاريخ؛ فقد وجد حقا مفكر شبه واقعي‪ ،‬وهذا الفكر ليس سوى إرفين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شرودنغر‪ ،‬أحد مؤسس ي اليكانيك الكمومي‪ .‬وبشكل أوسع‪ ،‬فقد رسمنا إطارا مناسبا من‬
‫أجل حوار حول مالءمة منظومات الكينونات الستهدفة من قبل الفيزيائيين‪ :‬إنه في آن‬
‫واحد إطار غير ميتافيزيائي وصادر عن تقييم مفرط للتحوالت االنعكاسية التي ال غنى عنها‪.‬‬
‫سوف نلجأ إلى هذا اإلطار في الفصلين القادمين لكي نحكم على موافقة منظومة الفكر‬
‫الذرية اليوم (الفصل الخامس)‪ ،‬ولكي ّ‬
‫نقيم إسهام أنطولوجيات بديلة كليانية‬
‫واستعدادية ‪( ،‬الفصل السادس)‪ .‬ومما ال شك فيه أن ما يهم هنا‪ ،‬كما في تحديد‬
‫ً‬
‫"الذاهب"‪ ،‬هو الطريق الذي تم قطعه تماما كما النتائج التي تم الوصول إليها‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫‪ - 5‬أزمة النظرية الذرية العاورة‬

‫ً‬
‫"أمام مثل هذه البراهين‪ ،‬القنعة جدا‪،‬‬
‫على وجود الذرة‪ ،‬فقد انتهى األمر بالشككين‬
‫إلى السكوت [‪ .]...‬إننا نستطيع تأكيد وجود‬
‫الذرة باليقين نفسه الذي نؤكد فيه وجود‬
‫النجوم"‪.‬‬
‫رايخنباخ ‪H. Reichenbach‬‬
‫الذرات والكون ‪Atomes et Cosmos‬‬

‫علينا اآلن‪ ,‬قبل أي ش يء آخر‪ ،‬طرح‬


‫ّ‬
‫السؤال التالي‪ :‬كيف يصبح تحقيق التوقع‬
‫ً‬
‫متوافقا مع التوقع؟‬
‫ويتغنشتاين ‪L. Wittgenstein‬‬
‫‪Dictées pour Moritz Schlick‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫غالبا ما نعتبر أن مسألة ّ‬
‫صحة الخطط ّ‬
‫الذري يجب أن تضبط استدالليا اعتمادا‬
‫على ما تقود إليه التجربة‪ ،‬أي من خالل استدالل ينطلق من مجموعة من الظاهرات‬
‫نحو أفضل تفسير له‪ .‬وضمن هذا النظور اإلبستمولوجي‪ ،‬فإن مجرد ذكر أزمة الذهب‬
‫الذري في الفيزياء العاصرة فيه ش يء مفاجئ‪ ،‬بل صادم‪ .340‬أليس من القبول أن الذهب‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫موح جدا مثل "هل توجد الذرات حقا؟" ( ‪Bernard Diu, Les‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪ 340‬يصدمنا أن نستنتج أنه في كتاب بعنوان‬
‫ً‬
‫‪ ،)atoms existent-ils vraiment?, Odile Jacob, 1997‬أن الؤلف برنار ديو يجد نفسه مجبرا على تفريغ شحنته‬
‫ً‬
‫الذات الكمون الدمر عندما كتب منذ مقدمته‪" :‬أن على القارئ أن يطمئن‪ ،‬فالذرات موجودة!"‪ .‬راجع أيضا ‪B.‬‬
‫‪.Pullman, Les atoms, Fayard, 1995‬‬
‫‪199‬‬
‫ً‬
‫الذري يقدم مفتاح تفسير الظاهرات الصنفة بشكل كامل‪ ،‬والتي كان الكثير منها معروفا‬
‫ً‬
‫منذ العقود األولى من القرن العشرين؟ وهذا التفسير ألم يصبح حتميا مع التضاعف‬
‫الحديث لا يتفق على تسميته "براهين مباشرة" على "وجود" الذرات والجسيمات األولية؟‬
‫ّ‬
‫التوقع ّ‬
‫الذري وتحققاته‬ ‫‪1 -5‬‬
‫ضمنا في مسألة ّ‬
‫صحته‬ ‫ستكون أزمة ممكنة في الذهب الذري أقل مثا ًرا للدهشة لو ّ‬
‫ً ً‬
‫مركبا بدهيا‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي الواقع‪ ،‬فإن الذهب الذري وفقا لثل هذه القاربة‪ ،‬ليس نهاية العمل في إعادة‬
‫الظاهرات باتجاه تفسيرها األمثل؛ فهو يرتكز على مخطط قراءة يترقب الظاهرات ويقود‬
‫النشاط التجريبي الذي يشارك في تعريفها‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى العكس من طرح تفسير أمثلي نعتبره وحيدا‪ ،‬فإن مخطط القراءة يمكن من‬
‫حيث البدأ أن يتواجد مع مخططات أخرى كثيرة شرط أن تكون فاعليتها بما هي دليل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ .‬وفي الواقع فإن ّ‬
‫تفرده سيكون عندها عالمة على أن عامال‬ ‫للنشاط التجريبي كافية‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عارضا جاء ّ‬
‫التصورية‪ .‬إن غلبة الخطط الذري خالل فترة‬ ‫ليقيد اإلحاطة باالحتماالت‬
‫طويلة من القرن العشرين يمكن أن نرجعها على هذا النحو إلى صدف تاريخية‪ ،‬مثل إرث‬
‫نظرية ديمقريطس ّ‬
‫الذرية (الوروثة هي نفسها من "الوقف الطبيعي" الذي يشتمل على‬
‫تحليل الوسط الطبيعي بعبارات "األشياء" أو األجسام الادية العزولة بعضها عن بعضها‬
‫ً‬
‫اآلخر)‪ ،‬بدال باألحرى من إرجاعها إلى ضرورة داخلية ملزمة بشكل صارم للوضع الحالي‬
‫للعلوم‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬فإن استبدال الذهب الذري لن يصطدم بأية صعوبة سوى‬
‫ً‬
‫بصعوبة إدراج الفيزياء العاصرة ضمن مسار تقليد مختلف‪ ،‬ربما كان مألوفا بدرجة أقل‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬لا كانت شبكة القراءة اإلستباقية نقطة انطالق مفتوحة بالنسبة‬
‫للبحث وليست‪ ،‬مثل تفسير ظاهرة ما‪ ،‬نقطة وصوله‪ ،‬فإن ال ش يء يمنع أن تصل‬
‫ً‬
‫خصوبته يوما‪ ،‬على الرغم من تميزها في الاض ي‪ ،‬إلى حدوده الخاصة‪ .‬من هنا‪ ،‬فإن أزمة‬
‫النظرية الذرية العاصرة ليست مطروحة هنا للتفسير مثل اإلعالن عن "برهان ّأيا كان‬
‫‪211‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لعدم وجود" للذرات‪ ،‬وهو أمر أكثر غموضا إلى درجة أنه سيبدو مندرجا بشكل زائف ضد‬
‫ً‬
‫"براهين وجود" ال تنفك تصبح أكثر إقناعا تراكمت منذ عدة أجيال‪ .‬بل هي تعني ببساطة‬
‫أن الوقت حان لكي نرسم الحدود الدقيقة للقدرة االستباقية للمخطط الذري‪ ،‬ولكي‬
‫نعيد "براهين الوجود" الزعومة إلى مواضعها الصحيحة‪ .‬وهذا الوضع هو موضع العناصر‬
‫االستثنائية واألشكال النظرية التي اندرجت حتى اآلن بالتأكيد بشكل مميز في عدد كبير‬
‫من معالم شبكة القراءة القترحة من قبل النظرية الذرية‪ ،‬إنما التي هي أيضا قابلة بما‬
‫هي ليست شاملة للتوافق مع شبكات مختلفة بشكل جذري‪ .‬تجازف شبكات القراءة‬
‫التناوبة هذه‪ ،‬التباعدة منذ فترة طويلة بحيث لم تعد تمثل أي تفوق حاسم على‬
‫منافستها التقليدية‪ ،‬بأن تأخذ زمام البادرة إذا ما تبين أنها أكثر قابلية منها لقيادة‬
‫الفيزيائي في األراض ي الجديدة لالستكشاف التجريبي الفتوحة والنظمة تحت تأثير توجيه‬
‫بدئي من النظرية الذرية‪ .‬علينا أال يغيب عن ذهننا لحظة واحدة أن النظرية الذرية‬
‫ترتكز على البنية األنطولوجية لنموذج عبر ‪ -‬نظري تحت ‪ -‬تحديدي بواسطة التجربة‪،‬‬
‫وليس على األساس البراغماتي ‪ -‬التجاوزي للسلسلة التاريخية من النظريات التي‬
‫تستخدمها‪.‬‬
‫إن فائدة مثل هذا االستبدال للمنظور البدهي إلى منظور استداللي يمكن أن َّ‬
‫يوضح‬
‫ً‬
‫من خالل التحليل النقدي لحجة معروفة جيدا‪ ،‬كان قد طرحها إيان هاكينغ ‪Ian‬‬
‫ّ‬
‫‪ Hacking‬لصالح قراءة واقعية للمخطط الذري‪ .‬وفق هاكينغ‪ ،‬فإن كينونة ما تكف عن‬
‫كونها ناتجة عن استدالالت وفرضيات‪ ،‬ويمكن أن توصف بحق بالواقعية‪ ]...[" ،‬عندما‬
‫َ‬
‫نبدأ بإمكان استخدامها من أجل تنفيذ معالجات بطريقة منهجية في مجاالت أخرى من‬
‫علوم الطبيعة"‪ .341‬إن الكينونة تغير عندها في الواقع موضعها اإلبستمولوجي‪ ،‬مارة من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صف الوضوع إلى صف أداة البحث والتقص ي‪ .‬إنها تكف عن أال تكون سوى قبلة األنظار‬
‫لهدف قصدي لتصبح الشرط السبق لفعل ما‪ .‬والحال أن األطروحة الذرية (النقولة إلى‬

‫‪I. Hacking, Concevoir et experimenter, Christian Bourgois, 1989. 341‬‬


‫‪211‬‬
‫"الجسيمات األولية"‪ ،‬وفق نموذج ضمني يسميه جان ماري ليفي لوبلون ‪J.-M. Lévy-‬‬
‫‪ Leblond‬نموذج "الادة التوالدة") يمكنها بالضبط االعتماد في أيامنا هذه على قدرتها على‬
‫تعمر وتسكن عالها موضع أداة للبحث‪ .‬ويكفي أن نفكر هنا بالحاالت‬ ‫منح الكينونات التي ّ‬
‫يتم استخدام حزم قليلة الكثافة من الجسيمات من أجل أعمال دقيقة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫التعددة حيث ّ‬
‫كما وفي الحاالت التي وفق نمط التعبير الدارج يتم التحكم فيها بالذرات‪ ،‬حيث يتم نقلها‬
‫ذرة من أجل قياس كثافة الحقل‬ ‫من موقع ّبلوري إلى آخر‪ ،‬وحيث يتم استخدامها ّ‬
‫ذرة ّ‬
‫الكهرمغنطيس ي في تجويفات رنينية‪.342‬‬
‫ً‬
‫لكن هل يضيف حقا االستدالل القترح من قبل هاكينغ‪ ،‬الذي ينطلق من إمكانية‬
‫ً‬
‫استخدام كينونة من أجل الوصول إلى "حقيقتها"‪ ،‬شيئا ما إلى االستدالل التقليدي‬
‫ً‬
‫باتجاه التفسير األفضل لظاهرة ما؟ يشك عدد كبير من الفالسفة بذلك ويقدمون عددا‬
‫ً‬
‫من الحجج الجيدة التي تدعم تشككهم‪ .343‬ذلك ألنه بات يعد فعال أن الرحلة األخيرة من‬
‫ً‬
‫االستدالل هي مرحلة مفروغ منها بدال من التأكيد أن الباحث يستخدم كينونة‪ .‬كل ما‬
‫ً‬
‫يمكننا قوله‪ ،‬هو أن الباحث يفترض مسبقا هذه الكينونة عندما يفعل؛ ذلك أنه يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مغمورا بالكامل‪ ،‬عندما يتدخل أو يؤثر‪ ،‬في نموذج يتضمن هذه الكينونة؛ وذلك أخيرا‬
‫ألن نتيجة فعله وتدخالته وتأثيراته متوافقة بشكل كاف مع ما تجعله الخلفية النموذجية‬
‫يتوقعه لكي ال يكون لديه أي سبب للتساؤل حولها‪ .‬فإذا كان يرغب بتحويل هذا الغياب‬
‫ً‬
‫لسبب ما يجعلنا نشكك أو نتساءل حول كينونة مفترضة مسبقا إلى سبب لالعتقاد‬
‫بوجودها‪ ،‬فسوف يكون عليه اللجوء مرة أخرى إلى االستدالل باتجاه التفسير األفضل‬
‫ً‬
‫ولن يكون قد أضاف شيئا للحجج العتادة لصالح "واقع حقيقي" من الكينونات الذرية‪.‬‬

‫‪S. Haroche & J.-M. Raimond, "Cavity quantum electrodynamics", Scientific American, Avril, 1993, 342‬‬
‫‪p. 26-33; S. Haroche & J.-M. Raimond, "Manipulation of non-localized field states in a cavity by‬‬
‫‪quantum interferometry", in P. Bergman (ed.), Advances in atomic and molecular physics,‬‬
‫‪supplement 2, Academic Press, 1994.‬‬
‫‪H. De Regt, "The sad but true story of entity realism", in A.A. Derksen (ek.), The scientific realism 343‬‬
‫‪of Rom Harré, Tilburg University Press, 1994.‬‬
‫‪212‬‬
‫وليس من ّ‬
‫التهور أن نشير‪ ،‬كما سبق أن فعلنا في الفصل األول‪ ،‬إلى أن هذا العكس‬
‫لألولويات من االستذكار إلى التنقيب والبحث‪ ،‬ومن الضرورة التفسيرية إلى حصة‬
‫الصدف التاريخية‪ ،‬هو في الوقت الحالي أحد الواضيع األساسية في نظرية التطور كما‬
‫وفي فلسفة العلوم‪ .‬ووفق النظرية العيارية الداروينية الجديدة‪ ،‬فإن االنتخاب الطبيعي‬
‫يجعل كل نوع أو كل منظومة بيئية تميل نحو حد أمثل تأقلمي وحيد يلعب دور سهم‬
‫ّ‬
‫موجه وظيفي‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬وفق بعض الطروحات الحديثة‪ ،344‬فإن االنتخاب ال يعزل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ويفرد حدا أمثليا وحيدا‪ ،‬بل هو ال يقوم إال بتشذيب التنوع البيولوجي محتفظا بكافة‬
‫‪345‬‬
‫مع ذلك من أجل تأمين االستمرار‬ ‫الحلول تحت األمثلية إنما القابلة للحياة والنمو‬
‫محدد بالتشارك بواسطة التعضية التي تسكن فيه‪ .‬وحدها الحوادث‬ ‫والبقاء في وسط َّ‬

‫التاريخية (مثل سقوط النيازك أو حلول العصور الجليدية) يمكن أن تصل إلى فرض‬
‫تنوع األنواع‪ ،‬ونتيجة هذه القيود هي ما ّ‬
‫يفسره البيولوجيون فيما بعد‬ ‫قيود إضافية على ّ‬
‫ََ‬
‫إنما خطأ على أنه نتيجة لصيرورة أمثلة‪ .‬إن مسألة حصر أشكال تطور السالالت باتت‬
‫ً‬
‫مطروحة من اآلن فصاعدا في النظور البراغماتي لتوقيتها وفرصتها بالنسبة إلى وضعية‬
‫ً‬
‫معطاة (من رتبة تاريخية وبيئية في آن واحد)‪ ،‬بدال باألحرى من طرحها من النظور‬
‫َ ََ‬
‫الالهوتي ألمثلة ما‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬فإن ما ينتج عن التحليالت السابقة هو أن مسألة‬
‫الذرية وأزمتها العاصرة الحتملة يجب أن يطرح من النظور اإلبستمولوجي القتضاء بنية‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫توق ّ‬
‫عية بالنسبة إلى وضعية إدراكية معطاة (من رتبة ثقافية وعملياتية في آن واحد)‪ ،‬بدال‬
‫َّ‬
‫باألحرى من النظر إليها من منظور أونطولوجي لـ "وجود" مؤكد أو مرفوض في الطلق‪ .‬إن‬
‫فكرة استمرارية‪ ،‬أو على األقل توازي‪ ،‬صيرورات التأقلم البيولوجية وصيرورات التأقلم‬
‫َّ‬
‫ومدعمة‪.‬‬ ‫اإلدراكية‪ ،‬والنظرية الذرية جزء مشارك فيها‪ ،‬تخرج من هذا التحليل َّ‬
‫معززة‬

‫‪S.J. Gould, La vie est belle, Seuil, 1991, F. Varela, E. Thompson et E. Rosch, L'inscription corporelle 344‬‬
‫‪de l'esprit, Seuil, 1993.‬‬
‫‪F. Varela, E. Thompson et E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, op. cit., p. 263. 345‬‬
‫‪213‬‬
‫‪ 2 -5‬تعريف إطار التوقعات الذرية‬
‫لنعد إلى صلب موضوعنا‪ .‬ما هي بالضبط هذه العناصر التأتية عن التطبيقات‬
‫ً‬
‫التجريبية وعن الصوريات النظرية التي تندرج تماما في اإلطار الذري؟ وكيف توصلنا‪ ،‬على‬
‫الرغم من تحسينها الستمر‪ ،‬إلى إدراك حالة أزمة النظرية الذرية؟‬
‫تكمن مرحلة أولية في طريقنا لإلجابة على هذه التساؤالت في التحديد الواضح لا‬
‫نعنيه بـ "اإلطار الذري"‪ .‬في البداية سوف نقدم تعريفه التقليدي‪ ،‬الذي يؤلف بين تأمالت‬
‫عدة أجيال من فالسفة الطبيعة بين العصور القديمة والقرن السابع عشر‪ .‬وفي الرحلة‬
‫ً‬
‫كافيا لتجهيز فضاء ّ‬ ‫ّ‬
‫التغيرات المكنة‪،‬‬ ‫الثانية‪ ،‬سوف نفكك هذا اإلطار بشكل دقيق يكون‬
‫ً‬
‫بل ومن أجل تعيين الخط الذي إلى ما ورائه يصبح هامش التسامح لإلطار الذري منتهكا‪.‬‬
‫عرف النظرية الذرية الكالسيكية بأربع أطروحات رئيسية‪.‬‬ ‫وفق بيلز‪ ،A. Pyles 346‬ت َّ‬
‫األطروحتان األولى والثانية لهما أساس أنطولوجي‪ ،‬واألطروحتان األخيرتان تعلنان‬
‫الضمون التفسيري للمفهوم الذري‪ .‬وهذه األطروحات هي التالية‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫تصوريا وال هندسيا‪ ،‬وإما‬ ‫‪ .0‬توجد المنقسمات‪ ،‬أي إما كينونات ال يمكن تحليلها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(بشكل أكثر تحديدا) جسيمات مادية غير قابلة لالنقسام فيزيائيا‪.‬‬
‫‪ .4‬يوجد "فراغ" أو "ال ‪ -‬كائن"‪ ،‬وبعبارة أخرى فضاء محروم من الحتوى الادي‬
‫يفصل فيما بين الذرات‪ ،‬وفيه تنتقل الذرات دون قيود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتبدل األجسام الادية من خالل ّ‬ ‫‪ .3‬ي َف َّسر تشكل ودمار ّ‬
‫تجمع وتفكك الجسيمات‬
‫َ‬
‫الذرية‪ .‬بالقابل‪ ،‬فإن الصفات الحساسة لألجسام الادية تف َّسر بمصطلحات‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫التفاعل بين صورة وحركة الجسيمات الذرية التي تشكل األجسام‪ ،‬وصورة‬
‫وحركة الجسيمات الذرية التي تشكل أعضاء الحواس‪ .‬فليس للذرات بذاتها‬
‫خصائص أخرى سوى بعد واحد وموضع واحد ّ‬
‫متغيرين بشكل احتمالي؛ وهي‬
‫ليست مزودة بأية "صفة حقيقية"‪ .‬إنهما بعدا ما نسميه االختزالية الذرية‪.‬‬

‫‪A. Pyles, Atomism and its critics, Thoemmes Press, 1995. 346‬‬
‫‪214‬‬
‫‪ .2‬ال تتحرك أية ذرة إذا لم يكن ذلك بتأثير دفع ناجم عن ذرات أخرى‪ .‬إنها النسخة‬
‫ً‬
‫األكثر صرامة لآللية التي غالبا (ولكن ليس بالضرورة) ما كانت مرتبطة بالنظرية‬
‫الذرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التصورية‪.‬‬ ‫لنفكك اآلن ونحلل الفرضيات األربع الكبيرة السابقة إلى عناصرها‬
‫والفرضية األولى هي بال شك األغنى بالنتائج‪ ،‬على األقل إذا ربطنا بينها وبين الفرضيات‬
‫الثالث األخرى‪.‬‬
‫‪ 0‬أ) من الفهوم في استخدام الجمع لكلمة "المنقسم" أن الجسيمات ّ‬
‫الذرية هي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عبارة عن ّتعدد وكثرة‪ .‬فهذا الرور من الواحد إلى الت ّ‬
‫عدد هو أيضا ما يشكل أول‬
‫االنتقاالت الكبرى التي يفرضها ّ‬
‫الذري على أنطولوجيا برمنيدس (حيث االنتقال الثاني هو‬
‫قبول "الالكائن")‪.‬‬
‫‪ 0‬ب) ينتج عن الجمع بين تعددية الالمنقسمات الجسمية والالإستمرارية الكانية‬
‫العد لجمل الذرات‪ .‬كان أرسطو قد‬‫الفروضة عبر وجود فراغ ما بين ذري سمة قابلية ّ‬

‫أشار إلى هذه النقطة من خالل موازاة بين النظرية الذرية وعلم األعداد الفيثاغوري‪.‬‬
‫ً‬
‫ووفقه‪ ،‬وعلى غرار الفيثاغوريين‪ ،‬فإن الذريين "يجعلون من كل ش يء عددا"‪ .347‬إن التجلي‬
‫العملياتي لهذه اليزة الستمدة من مجمل الذرات هو أن بعض التجارب التي يمكن‬
‫رجم بوقائع منفصلة ومتقطعة‪ .‬إن إمكانية تعداد بعض‬ ‫إجراؤها عليها يجب أن ت َت َ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الظاهرات وتقطعها هما بالنتيجة رابطان من بين أكثر الروابط فورية وأكثرها تمييزا‬
‫للذرية‪.‬‬
‫‪ 0‬ج) يسمح استكشاف كافة نتائج تعددية الالمنقسمات بصياغة أكثر دقة مما ورد‬
‫في الفقرة (‪ )3‬الختزالية بسيطة‪ ،‬وموثوقة بدرجة معينة‪ ،‬ووفقها فإن الخصائص الختلفة‬
‫لألجسام ت َف َّسر وفق تركيبية للذرات‪ ،‬و‪/‬أو من خالل تركيبية َّ‬
‫محددة لحاالتها الحركية‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫‪Leucippe, Fragment A15, in Les présocratiques, Gallimard, Bibliothèque de la Pléiade, 1988. 347‬‬
‫‪215‬‬
‫يعتبر أرسطو أن الذرية تعود لتفسير تنوع الكون الحسوس بالطريقة نفسها التي نفسر بها‬
‫تنوع النصوص من خالل تركيبية حروف األبجدية‪.348‬‬
‫‪ 0‬د) تنشأ الالإنقسامية‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ ،‬إما عن عدم قابلية التحليل الهندس ي‬
‫(وهي خاصية‪ ،‬وفق النمطية األبسط لها‪ ،‬يمكن أن تنتج عن مماثلة الذرة مع نقطة)‪،‬‬
‫وإما عن عدم قابلية القسمة الفيزيائية للجسيمات الذرية‪ .‬وهو ما يترجم‪ ،‬في منظور‬
‫ّ‬
‫اختزالي‪ ،‬بـ العناصرية؛ أي من خالل تأكيد أن الذرات هي العناصر الدنيا الشكلة لألجسام‬
‫الادية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 0‬ه) وفي إطار النموذج التقليص ي أيضا‪ ،‬فإن الإنقسامية الذرات تستتبع عدم قابلية‬
‫الفساد والتحلل‪ ،‬ال بل والنفوذيتها التبادلة فيما بينها‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬إذا كان ّ‬
‫تغير وفساد‬
‫ّ‬ ‫جسم ما ي َّ‬
‫عرف بإعادة توزيع أو تبديل العناصر الذرية التي تشكله‪ ،‬فإن العناصر نفسها‬
‫ال يمكن أن تفسد أو تتغير‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن إحدى أكثر الطرق معقولية في تمثيل‬
‫االختراق تستتبع تداخل وتشابك األجزاء األولية‪ .‬وبما أنه ليس للذرات نفسها أجزاء‪ ،‬فمن‬
‫الصعب تصور أنها تستطيع أن تتداخل فيما بينها‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ 0‬و) إن الالإنقسامية وعدم قابلية فساد الذرات يمكن أن ي َت َ‬
‫رجم أيضا على النحو‬
‫الذرات خصائص هندسية ثابتة غير متحولة (يكون االمتداد أو غياب‬ ‫التالي‪ :‬تملك ّ‬
‫ً‬
‫االمتداد وفقا ألبعاد الكان الثالثية) إلى جانب خصائص هندسية متغيرة (مواضعها)‪,‬‬
‫ً‬
‫وخصائص حركية متغيرة أيضا (السرعة والتسارع)‪ .‬وهي قابلة ألن تضيف عليها خصائص‬
‫جسمانية غير هندسية متغيرة أو ثابتة مثل الكتلة‪ .‬وإذا كانت الخصائص الثابتة للذرات‬
‫ليست كلها متطابقة‪ ،‬فإنها تحدد أنوعا من الذرات‪.‬‬
‫أما الفرضية الثانية‪ ،‬وهي فرضية وجود فراغ ما بين ذري‪ ،‬فلها نتائج تشارك بطريقة‬
‫ال تقل أهمية في تعريف إطار التوقعات الذري‪.‬‬

‫‪Aristote, De generatione et corruptione, 315b14, trad. J. Tricot, Vrin, 1934, p. 10. 348‬‬
‫‪216‬‬
‫‪ 4‬أ) النتيجة األولى واألكثر فورية هي وجود بنية مكانية‪ .‬يقرن جان بيران ‪J. Perrin‬‬
‫بالنظرية الذرية‪ ،‬بعد أن يتأمل حول "خشونة‪ ،‬تحبحب" الادة‪ ،‬التمثيل الحدود لعالم له‬
‫كثافة معدومة في كل مكان‪ ،‬باستثناء في نقاط معزولة حيث تأخذ الكثافة قيمة‬
‫النهائية‪.349‬‬
‫ً‬
‫‪ 4‬ب) الفراغ يفصل الذرات عن بعضها بعضا‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن تمييز مواضع الذرات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للتفرد‬ ‫وفصلها بواسطة فضاء فارغ مقرون بعدم قابليتها لالختراق‪ ،‬يقدمان معيارا كافيا‬
‫في كل لحظة‪ .‬لنضف إلى ذلك (في إطار النموذج اآللي الذي ّ‬
‫يتمم عند االقتضاء بأعمال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عن بعد) أن للذرات مسارا مستمرا في الفراغ‪ .‬يسمح هذا السار بإعادة تحديد أو مطابقة‬
‫كل ذرة من هذه الذرات عبر الزمن‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬من المكن مطابقة ذرة فردية مكتشفة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حاليا مع ذرة مكتشفة سابقا‪ ،‬وذلك بربط حدثي االكتشاف من خالل الطريق الذي تم‬
‫اجتيازه‪.‬‬
‫والفرضية الثالثة هي فرضية االختزالية‪ .‬وهي سبب وجود النظرية الذرية‪ .‬ففائدة‬
‫الذرات تكمن في قدرتها التفسيرية لفعل الظهور‪ .‬ولكن يوجد بداهة العديد من الطرق‬
‫لتفسير الظاهرات‪ ،‬والنظرية الذرية تنشأ عن مجموعة من الخيارات القيدة والحددة لا‬
‫هو مقبول في مجال التفسير‪.‬‬
‫‪ 3‬أ) كان الشروع الذي سبق لغاليليه أن صاغه‪ ،350‬عبر فرضية الذرات‪ ،‬هو اختزال‬
‫النوعي إلى ّ‬
‫كمي‪ ،‬أكان ذلك عبر إمكانية تعداد أو عبر إمكانية تقدير توسعات وتصورات‬
‫مكانية وحركات‪ .‬يتعلق األمر هنا بأول خيار تقييدي‪.‬‬
‫‪ 3‬ب) إن النظرية الذرية هي في العمق حالة خاصة من ميل أوسع إلرادة تأسيس فعل‬
‫الظهور على كون من األشكال‪ .‬وهذه الحالة الخاصة هي التي تكون فيها األشكال متوضعة‬
‫في الكان وفي الزمان‪ ،‬وحيث ال ترجع سمتها غير الحسوسة إال إلى أبعادها الكانية‬

‫‪J. Perrin, Les atoms, Flammarion, 1993, p. 31. 349‬‬


‫‪P. Redondi, Galilée hérétique, Gallimard, 1985, chapitre I. 350‬‬
‫‪217‬‬
‫َّ‬
‫الصغرة بشكل فائق‪ .‬فمن التفق عليه في النظرية الذرية أن األشكال التأسيسية لفعل‬
‫الظهور ليست هي نفسها من حيث البدأ خارج حقل الظهور‪ .‬وهي ال تبقى كذلك إال‬
‫بطريقة تحديدية مشروطة طالا لم يكن هناك مجهر مناسب يسمح بإثبات وجودها‪.‬‬
‫وهذا هو الخيار التقييدي الرئيس ي الثاني‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬فإن الفرضية الرابعة‪ ،‬اآللية‪ ،‬هي بال أدنى شك األقل حتمية‪ .‬لكنها هي أيضا‬
‫التي تسمح بإعطاء الشروع االختزالي للنظرية الذرية كامل استقالليته‪ .‬إن إضافة‬
‫تفاعالت عن بعد للذرة اآللية في النظرية الذرية‪ ،‬بل وأكثر من ذلك إضافة صفات‬
‫حقيقية‪ ،‬يعني القبول بأن تفسير الظاهرات بواسطة أشكال وتصورات وحركات الذرات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليس تفسيرا شامال‪ .‬فال بد عندها إما التخلي عن الشروع االختزالي‪ ،‬أو الحد من‬
‫طموحاته‪ ،‬أو إعادة النظر فيه في إطار َّ‬
‫موسع بالنسبة للنظرية الذرية وذلك بإكمال هذه‬
‫النظرية بواسطة أشكال ممكن تصورها إنما غير محسوسة‪ ،‬وذلك من خالل استخدام‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مجهر‪ ،‬أو أخيرا عبر جعله مستقال بشكل كامل عن النظرية الذرية وذلك باللجوء فقط‬
‫إلى أشكال غير محسوسة‪.‬‬
‫تكمن الشكلة في أن النظرية الذرية‪َّ ،‬‬
‫العرفة على هذا النحو من خالل إطار علم‬
‫ً‬
‫العايير الصارم والتزمت نسبيا‪ ،‬تصادف صعوبات كثيرة كانت معروفة منذ العصور‬
‫القديمة‪ .‬وإحدى الصعوبات الرئيسية التي كان غاليليو غاليليه‪ 351‬قد أشار لها‪ ،‬هي أن‬
‫الذرية‪ ،‬مثل فصل الذرات بواسطة الفراغ‪ ،‬ال ّ‬
‫تسهل تفسير‬ ‫تعرف ّ‬ ‫بعض الطروحات التي ّ‬
‫التماسك الداخلي لألجسام الصلبة‪ .‬ولكن إذا خترنا أن نجيب على هذه الصعوبات‬
‫بالتخلي عن بعض العايير أو اعتماد تحديدات وتعاريف جديدة‪ ،‬فإن السألة تطرح‬
‫عندها في معرفة إذا لم نكن قد غادرنا بشكل كامل وببساطة إطار النظرية الذرية‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تحديد مؤلف أو جسم عقيدة ما على أنه ذري أو غير ذري يصبح بدءا من هنا لعبة‬
‫ً‬
‫دقيقة جدا‪ .‬فال بد من أجل التوصل إلى ذلك من البدء بتحديد عتبات التغيرات‬

‫‪ 351‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫التسامح معها بالنسبة للمعتقد التقليدي‪ .‬وما أن يتم تحديد هذه العتبات فإنه يبقى‬
‫متض َّم َنة ّ‬
‫تعوض معايير‬ ‫َ‬ ‫علينا البحث بشكل معمق من أجل إثبات وجود إما تقاربات‬
‫ضد النظرية الذرية‪ ،‬وإما على العكس تباعدات جذرية مخفية‬‫موجهة ّ‬
‫واضحة وصريحة ّ‬
‫بواسطة تنازالت سطحية لصالح الفردات الذرية‪.‬‬
‫صور بشكل مميز‪ ،‬كما بينت صوفي روو‪ ،Sophie Roux 352‬حالة‬ ‫كان ديكارت قد ّ‬
‫تقارب ضمني ّ‬
‫يعوض االنتقادات الصريحة للنظرية الذرية‪ .‬وقد نظر الكثيرون من‬
‫معاصري ديكارت ومن جاء بعده‪ ،‬ومن بينهم فروادمون ‪ Froidmond‬وهنري مور ‪Henry‬‬
‫‪ More‬وروبرت بويل ‪ ،Robert Boyle‬إلى نظريته حول الادة على أنها نظرية ذرية‪ .‬مع ذلك‬
‫ً‬
‫فقد دافع ديكارت بشدة ضد هذه النظرة وكان محقا في ذلك‪ :‬فهو لم يأخذ من بين‬
‫العايير األربعة التي تحدد وتعرف الذرية سوى اثنين‪ ،‬وهما معياران خاليان من أي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫محتوى أنطولوجي‪ .‬فقد وضع ديكارت فعال برنامجا اختزاليا‪ ،‬طالا أنه كان يهدف إلى إبراز‬
‫صفات ثانوية وأخذها بعين االعتبار بما هي محسوسة من خالل صفات أولية مكانية ‪-‬‬
‫حركية‪ .‬وقد وضع على التوازي ودفع النموذج اليكانيكي حتى نتائجه القصوى‪ .‬لكنه لم‬
‫يقبل بالإنقسامية بعض أجزاء الادة وال بمفهوم امتداد الفراغ الطلق‪ .‬ويرتكز رفضه‬
‫لعدم اإلنقسام على العالقة الصارمة التي ينشئها بين مفهوم التمييز وواقعية التمييز‪ ،‬بين‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الدركة هندسيا واإلمكانية الفيزيائية لقسمة فعلية (على األقل من قبل‬ ‫القسمة‬
‫اإلله)‪ .353‬إن رفضه لفهوم فضاء فارغ حقيقة ناجم من جهته عن التطابق الذي يقيمه‬
‫بين الجسيمية واالمتداد‪ .‬وال تطرح تجارب توريشيلي ‪ Torricelli‬أو باسكال أية إشكاليات‬
‫عليه بهذا الصدد‪ ،‬طالا أنه يفسرها ليس دون ش يء من الحق بحيث يقدم فقط البرهان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫على فراغ حساس بدال من أن يكون باألحرى فراغا أنطولوجيا‪ .‬إن هذا الوقف البدئي‬

‫‪S. Roux, "Descartes atomiste?", in E. Festa & M. Blay (éd.), L'atomisme au XVIIe siècle, 1998. 352‬‬
‫‪ 353‬راجع على سبيل الثال رسالة جيبيوف ‪ Gibieuf‬الؤرخة بتاريخ ‪ 09‬كانون الثاني ‪ ،0524‬النشورة في‪R. :‬‬
‫‪Descartes, Œuvres, III, C. Adam & P. Tannery, Vrin, 1996, p. 477.‬‬
‫‪219‬‬
‫لصالح استمرارية وامتالء االمتداد ال يستبعد مع ذلك إعدادات عملية أصبح ال غنى عنها‬
‫ً‬
‫عبر األخذ بعين االعتبار للظاهرات األكثر شيوعا التي تتعلق باألجسام الادية‪ .‬واإلعدادات‬
‫الرئيسية‪ ،‬التي اتفق عليها في القسمين ‪ 3‬و ‪ 2‬من "مبادئ الفلسفة"‪ ،‬تتعلق بتماسك‬
‫األجسام وتالحمها كما وبفرديتها وهويتها‪ .‬يعتبر ديكارت أنه يوجد بينها أنواع مختلفة من‬
‫عرف بعضها بواسطة أشكالها‬ ‫األجسام الصغيرة ذات االستقرارية شبه الكاملة‪ ،‬والتي ي َّ‬
‫وأبعادها وموضتعها في وسط من الجسيمات األكثر عرضة للتحلل‪ .‬وهكذا حيث تكون‬
‫الالإنقسامية الطلقة للذرات قد استبدلت بصالبة نسبية لألجسام الصغيرة‪ ،‬والوظيفة‬
‫الرئيسية للفصل بين الذرات بواسطة الفراغ (أي الفردانية وإعادة مطابقة الهوية‬
‫بواسطة الشكل‪ ،‬الوضعة والسار) تكون قد ملئت بمكافئات تقريبية‪ ،‬فإن ال ش يء يمنع‬
‫الحديث عن "مذهب ذري واقعي" في "الفيزياء الفعالة" لدى ديكارت‪ .354‬وفي إطار‬
‫ً‬
‫مصطلحات التحليل السابق‪ ،‬نستطيع القول إن ديكارت يستبعد فعال الفرضيتين (‪ )0‬و‬
‫(‪ )4‬الشكلتين للمذهب الذري في نسختهما األنطولوجية األكثر صرامة‪ ،‬لكنه ّ‬
‫يفعل في‬
‫فيزيائه الجزء األساس ي من الوظائف الستخلصة من نتائج هاتين الفرضيتين (‪ 0‬أ) و (‪0‬‬
‫ه) و (‪4‬ب)‪.‬‬
‫‪ 3 -5‬ما هي التوقعات النتظرة من اإلطار الذري وهل تسمح الفيزياء العاورة‬
‫بتحققها؟‬
‫وعلى العكس‪ ،‬يمكننا أن نتساءل إذا لم يكن استخدام الفردات الذرية في الفيزياء‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫العاصرة يخفي خرقا لحقيقة بعض اللحظات الشكلة األساسية لشبكة القراءة الذرية‪.‬‬
‫وإلدراك ذلك‪ ،‬سيكون من الالزم إجراء تقييم دقيق بدرجة كافية يميز بين التوافقات‬
‫والتباعدات بين هذه الشبكة والحالة الحالية للفيزياء‪ .‬إن أحد رهانات هذا التحليل‬
‫سيكون اعتماد منظومة تقييم "مترفقة" بدرجة كافية لكي ال أعلن من فوري بما أنني غير‬
‫ً‬
‫ذري منظومة أجسام الفيزياء الكمومية (األمر الذي سيكون سهال إذا تمسكنا بشدة‬

‫‪ 354‬الرجع السابق‪S. Roux, "Descartes atomiste?" .‬‬


‫‪211‬‬
‫بالتحديدات الجسيمية القديمة أو الكالسيكية للنظرية الذرية‪ ،‬أو إذا رفضنا أن نفصل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عنها اآللية التشددة)‪ ،‬بل ومتطلبا بدرجة كافية لكي ال نعين للذرية حدودا ضبابية جدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومشوهة جدا بحيث تكون قابلة ألن تشمل تقريبا أي تحديد كان‪ .‬سيقدم لنا تفكيكنا‬
‫للمعايير األربعة للتعريف إلى عناصر مفاهيمية بنيوية (بشكل خاص تلك التي تتعلق‬
‫ّ‬
‫بالركبة األنطولوجية للنظرية الذرية) مادة الخيارات التي ال غنى عنها‪.‬‬
‫على الستوى التجريبي‪ ،‬هناك أربعة صفوف كبيرة من الظاهرات تبدو بشكل مميز‬
‫معتمدة بواسطة شبكة القراءة الذرية‪ .‬وهي وفق ترتيب الخصوصية التزايدة‪ :‬انقطاعات‬
‫كمية (‪ ،)1b‬ثوابت رقمية صحيحة كونية (‪ ،)2b ،1b ،1a‬بنى فضائية مجهرية (‪،)2a‬‬
‫ّ‬
‫للتفرد والتمييز ابتداء من هذه البنى (‪.)2b‬‬ ‫وإمكانية تحديد معايير محلية‬
‫أ) االنقطاعات ّ‬
‫الكمية‪.‬‬
‫إن اإلنقطاع األول‪ ،‬الذي أعطى ضربة البداية للنظرية الذرية العاصرة‪ ،‬هو‬
‫َّ‬
‫الحددة" الذي يعلن‬ ‫انقطاع من رتبة كيميائية‪ .‬يتعلق األمر هنا بـ "قانون التناسبات‬
‫أن "النسبة التي وفقها يندمج عنصران ال يمكن أن تتغير بشكل مستمر"‪ .355‬يفترض‬
‫ً‬
‫تعريفا للعناصر ّ‬
‫كحد وكثابت لكافة إجراءات التفكيك‬ ‫هذا القانون بشكل مسبق‬
‫الكيميائي‪ .‬وهو يرتكز بالتالي على مفهوم عدم قابلية القسمة الذي يستدعي بالتأكيد‬
‫وبشدة االشتقاق اللغوي للفظة ّذرة‪ ،‬إنما الذي‪ ،‬على عكس ما تقوله األنطولوجية‬
‫عد بالكامل مثل قانون نسبي متعلق بطبقة خاصة من وسائل التفكيك‪.‬‬ ‫الذرية‪ ،‬ي ّ‬
‫ً‬
‫وقد تم الحقا تحديد عدد كبير من االنقطاعات الكمية‪ ،‬كما على سبيل الثال‬
‫انقطاع الشحنة الكهربائية في التجارب التي من نمط تجربة ميليكان‪ ،‬وانقطاع‬
‫صيرورات إصدار وامتصاص االشعاع الكهرمغنطيس ي عند بالنك الذي أعاد أينشتين‬
‫ً‬
‫قراءته‪ ،‬أو أيضا انقطاع اإلصدار اإلشعاعي‪.‬‬

‫‪ 355‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Perrin, Les atomes .23 .‬‬


‫‪211‬‬
‫ب) كونية الثوابت الرقمية الصحيحة‪.‬‬
‫اعتبر جان بران ‪ Jean Perrin‬في كتابه "الذرات" أن الحجة األقوى التي كان‬
‫يملكها لصالح وجود ذرات كانت التوافق شبه "العجز"‪ 356‬لتحديدات عدد أفوكادرو‬
‫من خالل ظاهرات عميقة متغايرة الخواص إلى هذا الحد مثل لزوجة الغازات‪،‬‬
‫أوالحركة البراونية‪ ،‬أواللمعان الحرج‪ ،‬أو طيف الجسم األسود أو النشاط اإلشعاعي‪.‬‬
‫وفي نهاية تعداد مثل هذه الظاهرات كان يعطي لنفسه الحق باالستنتاج أن "النظرية‬
‫الذرية قد انتصرت"‪.357‬‬
‫ج) اكتشاف بنى مكانية أو حركية مجهرية‪.‬‬
‫اكتشفت أولى البنى الكانية الجهرية من خالل التجارب التي قام بها لوو ‪Laue‬‬
‫وبراغ ‪ Bragg‬على حيود األشعة السينية في البلورات‪ ،‬ومن خالل تجربة رذرفورد‬
‫‪ Rutherford‬في انتشار أشعة ألفا ‪ α‬في طبقة رقيقة من العدن‪ .‬ظهر بعد ذلك الجهر‬
‫ذو اإلصدار الحقلي والجهر ذو األثر النفقي‪ ،‬وهما يسمحان وفق نمط التعبير السائد‬
‫بـ "رؤية الذرات"‪.‬‬
‫ّ‬
‫التعرف عليها في البداية وتحديدها بواسطة‬ ‫أما البنى الحركية الجهرية فقد تم‬
‫غرفة ويلسن ‪ ،Wilson‬ثم بواسطة الغرف ذات الفقاعات أو الغرف ذات خيوط‬
‫شارباك ‪.Charpak‬‬
‫ّ‬
‫التفرد‬ ‫د) القدرة على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تكون بنى فضائية مجهرية أحيانا قابلة للفصل بدرجة كافية عن بعضها بعضا‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫التعرف عليها‬ ‫بحيث تكون مف َّردة ومتمايزة‪ .‬ويحصل أيضا أن تكون قابلة إلعادة‬
‫وتحديدها عبر مرور الزمن عن طريق البنى الحركية‪ .‬يسمح ذلك بشكل خاص‬
‫بمعالجة كميات معينة محفوظة (الكتلة في حالة السكون‪ ،‬الشحنة‪ ،‬وحدة اللف‬

‫‪ 356‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.463 .‬‬


‫‪ 357‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.462 .‬‬
‫‪212‬‬
‫الذاتي‪ ،‬السحر‪ ،‬اللون‪ ،‬إلخ‪ ).‬كما لو كانت بالقدر نفسه خصائص مرتبطة بكل من‬
‫َّ‬
‫والعرفة‪.‬‬ ‫البنى الكانية َّ‬
‫الحددة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التفرد‪ ،‬كما سبق وأشرنا إلى ذلك عموما‪ ،‬هي قدرة‬ ‫غير أن هذا النوع من القدرة على‬
‫جزئية فقط؛ فمن الهم التأكيد منذ اآلن على واقع أنها ال تظهر إال في األطر التجريبية‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مفصلة بشكل كاف‪ ،‬ومعزولة عن بعضها بعضا‪ ،‬لكي‬ ‫حيث تكون آثار مكانية ‪ -‬حركية‬
‫يمكن أن تستخدم كمعيار للمطابقة والتحديد‪.‬‬
‫على الستوى النظري‪ ،‬من المكن موافقة وربط سمة صورية مع كل من الفئات‬
‫األربع السابقة للظاهرات‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتوافق التكميم مع االنقطاعات الكمومية‪ ،‬الشتق هو نفسه من عالقات‬
‫ً‬
‫االستبدال بين الرصودات‪ .‬يتعلق األمر هنا بأحد جوانب الفيزياء الجديدة األكثر صدما‬
‫لنا‪ ،‬وبالجانب الذي أعطاه اسمه‪ :‬الفيزياء الكمومية‪.‬‬
‫فمع القيم العددية الكاملة تتوافق إما األعداد ذات درجة الحرية في اليكانيك‬
‫الكمومي العياري‪ ،‬وإما القيم الخاصة الكاملة للمرصود "رقم" في التكميم الثاني وفي‬
‫النظرية الكمومية للحقول‪.‬‬
‫تتوافق مع البنى الكانية إحداثيات منابع الحقل‪ ،‬وهي َّ‬
‫تقرب في بعض الدراسات من‬
‫ً‬
‫صيرورات التفاعل واالنتشار التي سوف نعود للتحدث عنها الحقا فيما يخص مسألة‬
‫"وجود الكواركات"‪.‬‬
‫ويتوافق مع البنى الحركية نوعان من العمليات النظرية‪ .‬األول هو تقييم لدرجة‬
‫التقريب الضرورية من أجل ربط صورية التجهات الشعاعية للحالة والرصودات في‬
‫الفيزياء الكمومية مع مفهوم السار الوحيد لجسم ما‪ .‬وتزودنا بهذا التقييم عالقات‬
‫"الريبة" لهايزنبرغ‪ .‬أما النوع الثاني من العملية النظرية فيشتمل على العكس على افتراض‬
‫تضاعف في الحالة العامة لسارات افتراضية‪ .‬ويبلغ هذا النوع الثاني مداه في تقنية‬
‫تكامالت الطريق التي تصورها لنا مخططات فاينمان‪.‬‬
‫‪213‬‬
‫فالكميات الحفوظة في الحصلة لها ترجمتها النظرية على شكل تناظرات تشكل لها‬
‫ثوابتها‪ ،‬بحيث أنه أمكن الكتابة أنه في النظريات الكمومية العاصرة ليست الجسيمات‬
‫ّ‬ ‫األولية‪ ،‬التي ي َّ‬
‫عرف كل صف منها بقائمة من الكميات الحفوظة‪ ،‬سوى تمثيالت ال يمكن‬
‫اختزالها من مجموعة التناظر لبوانكاريه‪.358‬‬
‫تظهر الصعوبة الحقيقية عندما يتعلق األمر بموافقة الصورية النظرية ليس فقط‬
‫مع بعض بل مع كافة نتائج التمثيالت الذرية التي تستمر في إخصاب لغة الجربين عندما‬
‫أو في‬ ‫يفسرون البنى الكانية ‪ -‬الحركية الكتشفة في غرف الفقاعات في مخابرهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تنبؤيا‬‫مجاهرهم األكثر دقة وتطورا‪ .‬إن النظرية الكمومية العيارية‪ ،‬التي تقدم إطارا‬
‫َّ ً‬
‫موحدا لجمل الظاهرات الجهرية‪ّ ،‬تدعي في الواقع ضد إمكانية تفرد وتمييز وإعادة‬
‫ً‬
‫تعريف كل جسيم في كافة الظروف؛ فهي ال تشتمل دائما على ضامن واضح على فكرة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫موض َعة للكميات الحفوظة في محل جسيم َّ‬
‫محدد؛ وأخيرا‪ ،‬إذا وضعنا جانبا بشكل وقتي‬
‫النظريات ذات التغيرات الخفية‪ ،‬فإن معظم التحديدات التي تعالجها ال يمكن اعتبارها‬
‫كـ "خصائص" ألجسام مجهرية‪ ،‬بل فقط كـ "مرصودات" متعلقة بإطار تجريبي‪.‬‬
‫نبدأ هكذا بإدراك الحالة الغامضة‪ ،‬الكونة من الحضور الكلي والهشاشة‪ ،‬التي هي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حالة النظرية الذرية في الفيزياء العاصرة‪ .‬إن عددا كبيرا من الشروط الضرورية لنمط‬
‫التعبير الذري يتم تحقيقها بواسطة مجموعة الظاهرات التي على النظريات الكمومية أن‬
‫تأخذها بعين االعتبار‪ .‬لكن هذه الشروط‪ ،‬بمجملها‪ ،‬هي شروط بعيدة عن أن تكون‬
‫كافية‪ .‬وهي لم تبد كذلك للكثير من الباحثين إال لسببين يصوران حدود تمثيالتها‪ .‬السبب‬
‫ً‬
‫األول هو أنها‪ ،‬بتركيز انتباهها حصرا على قطاع التجريب (الذي من الحتمل أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫واسعا بقدر كاف‪ ،‬لكنه ليس شامال)‪ ،‬فإنها ال تولي انتباها كافيا لواقع أن النماذج‬
‫الساعدة على الكشف التي كانت تعمل فيها كانت تطبق بصعوبة بالغة على قطاعات‬

‫‪R.F. Steater, "Why should one want to axiomatize quantum field theory?", in H.R. Brown & R. 358‬‬
‫‪Harré, Philosophical foundations of quantum field theory, Oxford University Press, 1988.‬‬
‫‪214‬‬
‫أخرى‪ ،‬وكانت تبدو بشكل خاص غير قابلة للضبط والتوافق مع نتائج الحساب التأليفي‬
‫لجمل الجاالت التجريبية التاحة‪ .‬إن الحجة العيارية لجان بران ‪ Jean Perrin‬أو هانس‬
‫رايخنباخ ‪ Hans Reichenbach‬في صالح "وجود الذرات"‪ ،‬وهي القابلية التوحيدية‬
‫للمخطط الذري بالنسبة لعدد كبير من الظاهرات‪ ،‬ال تصح إال حتى نقطة معينة‪ .‬أما‬
‫السبب الثاني فهو أنه مع مراعاة خطتهما االستراتيجية في مقاومة اشتقاق متتالي اتجاه‬
‫التمثيالت والعايير اإلبستمولوجية الكالسيكية‪ ،‬فقد كان من الصعب على معظم‬
‫الباحثين القبول بأن الشروط التي سبق تحققها على الستوى التجريبي لم تكن مقترنة‬
‫بشكل ال يمكن تفاديه مع السمات األخرى التي تحدد النموذج الذري‪ .‬فكان يبدو لهم على‬
‫سبيل الثال أنه من الصطنع افتراض أن تقطعات أو الإستمراريات في الظاهرات ال‬
‫تترجم بشكل إجباري انفصالية وتقطع الكينونات التي نقرنها بها‪ .359‬لقد كان بالكاد من‬
‫المكن لهم أن يتوقعوا بأن التقارب التجريبي لتقييمات الثوابت الرقمية الصحيحة ال‬
‫يترجم قدرة مبدئية للقيام بـ تعداد للكينونات العنية‪ ،‬بالعنى الدقيق لعملية تكرارية‬
‫تفرد كينونة بعد األخرى‪ ،‬ووضعها بمعزل عن الكينونات األخرى وعلى إضافة‬‫تشتمل على ّ‬
‫ً‬
‫وحدة في كل مرة على مجموع سابق‪ .360‬يبدو للباحثين هكذا من غير الحتمل كثيرا أال‬
‫تكون البنى الكانية الحبيبية الكتشفة إثر بعض التجارب تعكس وجود ش يء ما في هذه‬
‫ً‬
‫الواضع يمكننا تشبيهه بشكل أساس ي مع أجسام مادية‪ ،‬أو أن آثارا حركية يمكن أن‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تف َّسر بمصطلحات ش يء آخر غير مسارات أشباه الجسيمات العاد تعريفها‪ .‬وأخيرا‪ ،‬فإن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفكرة لم تكن تخطر في بالهم أبدا‪ ،‬بأن ثمة خصائص مكتشفة منهجيا في جوار بنية‬

‫ً‬
‫ومكانيا ومع ذلك فإنها ّ‬
‫تعبر عن ظاهرات‬ ‫‪ 359‬إن النظريات الكمومية للحقول تتعامل مع كينونات مستمرة زمانيا‬
‫غير مستمرة ومتقطعة (راجع الفقرات التالية)‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 360‬إن هذا الفصل الدهش للوهلة األولى بين نسب أعداد وإمكانية القيام بتعداد معين‪ ،‬تمت صياغته مؤخرا‬
‫على يد كل من تورالدو دي فرانسيا ‪ G. Toraldo di Francia‬وكروز ‪ D. Krause‬في نظرية "شبه تجميعية"‪ ،‬يكون‬
‫فيها لـ "أشباه الجموعات" رقم أساس ي لكن ال يكون لها رقم ترتيبي‪ .‬راجع ‪M. Bitbol, Mécanique quantique,‬‬
‫‪une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997, 4-4-2.‬‬
‫‪215‬‬
‫مكانية حركية يجب أن ت َ‬
‫فصل عنها خالل الفترات التي تفصل ظاهرتي اكتشاف‪ .‬وحتى لو‬
‫أنهم الحظوا هذا التشوه أو ذاك في شبكة التوقعات الذرية‪ ،‬فإنهم كانوا يتركون فيها غيره‬
‫في الظل ويعتبرون أنه كان من غير النطقي تجاوز قدرتها التفسيرية التي ال تزال كبيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫والحال أن النظريات الكمومية األكثر تقدما إنما تقود مع ذلك إلى انهيار واسع‬
‫ً‬
‫النطاق للقطع األفضل ترتيبا في لعبة ترتيب قطع اللغز‪ .‬وما تتركه خلفها أشبه‬
‫بالفسيفساء التي تحتوي على فجوات بحيث ال تكفي العناصر الوجودة فيها لرسم لوحة‬
‫التمثيل الذري إال بالنسبة لشاهد ذي نظرة مشروطة بالتقليد‪ ،‬والذي إما ال ينتبه إال‬
‫للخطوط العريضة أو تسحره بعض التفاصيل‪ .‬إن السرد السريع السابق لا يستجيب‪،‬‬
‫ً‬
‫في النظرية‪ ،‬للقاعدة التجريبية في النظرية الذرية كان يوحي بذلك مسبقا‪ .‬ألننا كنا نالحظ‬
‫بسرعة ونحن نضعه أن التوافقات ّ‬
‫العرفة هي إما غير كاملة أو تقريبية‪ .‬ولكن‪ ،‬بعد كل‬
‫ش يء‪ ،‬فإن هذا االستنتاج يمكن أن يترجم ببساطة نقص النظريات الحالية أو "عدم‬
‫كمالها" بالعنى الذي قصده أينشتين‪ .‬سوف يتطلب األمر بالتالي وضع هذه الؤشرات‬
‫ً‬
‫األولية على محك اختبار مناقشة أكثر تشديدا لصداقية النظريات ذات التغيرات الخفية‬
‫التي تهدف إلى "إكمال" النظرية الكمومية العيارية‪.‬‬
‫‪ 4 .5‬الكواركات ومسألة الـ "رود الباشر" للجسيمات‬
‫ً‬
‫من الفيد سلفا أن نخضع لتحليل نقدي الحجج التي تتحدث أكثر من غيرها لصالح‬
‫النظرية الذرية‪ ،‬أي الكشف عن بنى مكانية ‪ -‬حركية مجهرية‪ .‬فعندما نتحرر في الواقع‬
‫من فكرة السمة اللزمة لهذه الحجج‪ ،‬عندها فقط يمكننا أن نواجه دون أفكار مسبقة‬
‫تناوبات شبكة القراءة الذرية‪ .‬وفي إطار هذا الهدف‪ ،‬فإنني سوف أرتكز على بعض األعمال‬
‫الحديثة في فلسفة الفيزياء التي تعالج مفهوم "الرصد الباشر" لجسم مجهري‪.361‬‬

‫‪D. Shapre, "The concept of observation in science and philosophy", Philosophy of science, 49, p. 361‬‬
‫‪485-525, 1982; B. Falkenburg, Teilchenmetaphysik, sprektrum Verlag, 1995; B. Falkenburg, "The‬‬
‫‪concept of spatial structure in microphysics", Philosophia naturalis, 30, p. 208-228, 1993; B.‬‬
‫‪216‬‬
‫يعتبر الرصد الباشر لنمط معين من األجسام على أنه الحصيلة الطبيعية لبرنامج‬
‫بحث أطلقته فرضية وجود هذا الجسم‪ .‬يالحظ بيير جيل دو جين ‪ P.-G. de Gennes‬في‬
‫مقدمته لكتاب بيران ‪" J. Perrin‬الذرات"‪ ،‬أنه على الرغم من أن التحديدات التالقية‬
‫لعدد أفوكادرو يمكن أن تؤخذ كبرهان كبير لصالح التركيب الذري للمادة‪ ،‬فإن البرهان‬
‫الحاسم يشتمل على تقديم صورة‪ ،‬مثل صور حيود األشعة السينية في البلورات‪ .‬ويكتب‬
‫دو جين قائال‪ " :‬تظهر [تجربة الحيود هذه] من خالل جانبها البصري كأول ش يء يجب‬
‫قوله عندما نريد [‪ ]...‬برهان وجود الذرات لطالب الدارس‪."362‬‬
‫وبطريقة مماثلة‪ ،‬فإن تجارب انتشار اإلشعاع ألفا ‪ α‬التي قام بها رذرفورد تقدم لنا‬
‫أولى الصور التي يمكننا إظهارها عندما نريد "برهان وجود" نواة ذرية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن‬
‫الزوايا الكبيرة التي تنتشر وفقها أشعة ‪ α‬يبدو أنها ال يمكن أن َّ‬
‫تفسر إال بطريقة واحدة‪:‬‬
‫وذلك عبر وجود توزعات للشحنات الوجبة شبه النقطية وذات الكتلة في الادة‪ .‬ولكن‬
‫عند هذا الستوى‪ ،‬يجب البدء بأخذ بعض االحتياطات‪ .‬علينا أال ننس ى‪ ،‬أنه ضمن تجارب‬
‫َ َ‬
‫االنتشار في مجال مجهري‪ ،‬فإن السمة النقطية أو غير النقطية للبنى النتشرة ال تكتشف‬
‫بقدر ما ال ت َّ‬
‫حدد من خالل القارنة بين القطع الفعال التفاضلي القاس وصيغة مشتقة‬
‫من صيغة رذرفورد‪ ،‬والتي تنتج من جهتها من تحليل كالسيكي أو شبه كالسيكي لصيرورة‬
‫التفاعل‪ .‬إذا كان عامل الشكل الداخل في الصيغة التي تصف صيرورة االنتشار هو عامل‬
‫رذرفورد‪ ،‬فإن البنى الشحونة النتشرة عندها تعتبر كبنى نقطية؛ وفي الحالة العاكسة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإننا نستنتج انطالقا من معامل شكل مختلف توزعا للشحنات هو نفسه مختلف‪ .‬إن‬
‫نسب بنى مكانية ينشأ باإلجمال عن "[‪ ]...‬التفسير الداللي للبنى الديناميكية غير العروفة‬
‫ضمن الصطلحات الكانية الكالسيكية‪ ."363‬هنا يبدأ خطر الوقوع في حلقة مفرغة‪ :‬أال‬

‫‪Falkenburg, "How to observe quarks", in E. Agazzi, M. Pauri (eds.), Observability, unobservability and‬‬
‫‪their impact on the issue of scientific realism.‬‬
‫‪ 362‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Perrin, Les atomes .02 .‬‬
‫‪ ،B. Falkenburg, "The concept of spatial structure in microphysics" 363‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫وهو خطر طلب أحد البراهين األساسية على وجود بنية مكانية من تجارب يتم تفسيرها‬
‫بواسطة حساب يفترض بشكل مسبق مبدأ هذه البنية‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬لم يكن من‬
‫َّ‬
‫التصور إهمالها باإلجمال؛ ففي الحالة حيث كانت النظرية الكمومية ال تزال في وضع‬
‫التشكيل‪ ،‬لم يكن من المكن إلخضاع التمثيالت التقليدية للبرهان أن يتم إال ضمن إطار‬
‫ً‬
‫نظرية ال يزال مشروطا بها‪ .‬ولكن ما أن كانت النظرية الجديدة تصبح ناجزة حتى يصبح‬
‫ال غنى عن تقدير ما هي التشوهات الفروضة بسبب استخدام الفاهيم الرتبطة بالنظرية‬
‫القديمة في تفسير النتائج التجريبية؛ فال يجب التردد في الباشرة بعدئذ بجزء كبير من‬
‫عملية العودة من البداية التي كنا قد أرجأناها رغم شعورنا بالحاجة إليها‪ .364‬فهل هناك‬
‫تشوهات بالتالي؟ وإذا كان هذا هو الحال‪ ،‬فهل التشوهات كبيرة بحيث يكون علينا أن‬
‫تذكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫بشدة‬ ‫نغير تماما نظرية القياس في الجال الجهري‪ ،‬ومعها تمثيالت البنى الكانية التي‬
‫بتكوين ذري للمادة؟ ال بد من تعديل اإلجابة على هذه األسئلة كما يبين ذلك بالتفصيل‬
‫فالكنبرغ ‪ .B. Falkenberg‬إن الفاهيم الكالسيكية للشحنات شبه النقطية في حالة‬
‫تفاعل "[‪ ]...‬ال تنهار مباشرة في الجال الكمومي‪ ،‬لكنها تنهار مرحلة بعد مرحلة‪ ."365‬تقدم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫هذه الفاهيم في مرحلة أولى تمثيال تقريبيا بالتأكيد بل ومرضيا جدا للصيرورة‬
‫الديناميكية التي تؤدي إلى توزعات الصدمات الستنتج خالل تجربة االنتشار‪ .‬وحتى‬
‫عندما ال يعود باإلمكان تطبيقها دون موانع وأضرار على اإلشعاع الستخدم للسبر‪ ،‬فإنها‬
‫ً‬
‫تظل تعمل تقريبا فيما يتعلق بالبنى السبورة‪ .‬إن صيغة االنتشار لبورن ‪ ،Born‬التي يتم‬
‫الحصول عليها بوصف اإلشعاع الساقط بواسطة تابع موجة ووصف أهداف اإلشعاع‬

‫‪ 364‬إن ما يبقى بالضرورة العملية والنهجية بمنأى عن اإلعادة من البداية‪ 3‬هو وصف مكونات التجهيزات‬
‫التجريبية الفاعلة على مستوانا‪ .‬بالقابل‪ ،‬فإن بيان صيرورة القياس يمكن أن ي َّ‬
‫قدم لنا‪ ،‬بالنسبة لجزء كبير‬
‫ً‬
‫اعتباطيا‪ ،‬بعبارات ومصطلحات كمومية‪ .‬أما بالنسبة للمسائل التعلقة باالنتشار‪ ،‬فإن مقاربة أولى شاملة‬
‫لعالجة كمومية معروفة تحت اسم "صورية الصفوفة ‪ ."S‬راجع ‪S. Weinberg, The quantum theory of‬‬
‫ً‬
‫‪ .fields, Cambridge University Press, 1995, chapitre III‬هناك معالجات كمومية أكثر كماال وأقل شمولية‬
‫ً‬
‫ممكنة أيضا‪.‬‬
‫‪ 365‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫مموض َعة هي مصادر للحقل‪ ،‬تصبح صيغة فاعلة‪ .‬يعمل بعد ذلك‬ ‫َ‬ ‫بواسطة أجسام‬
‫ً‬
‫مفهوم األجسام ‪ -‬األهداف الموضعة مكانيا بشكل جيد كموضع لتالقي التفسيرات للكثير‬
‫من الظاهرات األخرى غير االنتشار‪ ،‬كما على سبيل الثال تقدير طاقة كولومب الخزنة في‬
‫ً‬
‫النوى أو تحليل التفاعالت النووية‪ .‬إن هذا التوافق هو الذي يسمح بأن نضفي وقتيا أو‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫مرحليا على مفاهيم مثل مفهوم توزع شحنة و"إشعاع" جسيم ما "معنى موضوعيا‪."366‬‬
‫تصح طالا كانت كتلة الجسيمات الستخدمة في‬‫إن مثل هذه الحالة من التسويات ّ‬
‫ً‬
‫السبر أقل بكثير من كتلة البنى السبورة‪ ،‬وأيضا طالا كانت سرعتها النسبية ضعيفة‬
‫بدرجة كافية بالنسبة إلى سرعة الضوء‪ .‬ولكن ابتداء من اللحظة التي ال يعود فيها هذان‬
‫الشرطان مطبقان‪ ،‬فإنه يصبح من الضروري تفعيل النطق الداخلي في اليكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي بكافة نتائجه‪ ،‬بدال باألحرى من التمسك بحلول وسطية (إذا لم نقل التمسك‬
‫بحلول هجينة)‪ .‬والحال أن هذا النطق الداخلي هو منطق التنبؤ بالنتائج التجريبية‬
‫ً‬
‫ابتداء من شعاع متجه للحالة العامة‪ ،‬مرتبط بتكوين إعداد في حالته العامة‪ ،‬بدال من‬
‫ارتباطه بأجزائه االفتراضية كالتي تقود إلى تصورها تمثيالت ظلت شبه كالسيكية‪ .‬في‬
‫ً‬
‫التعميم النسبي للمعالجة النظرية لالنتشار‪ ،‬يصبح النموذج "[‪ ]...‬متناظرا بالكامل في‬
‫وصف الجسيم السابر والركز الناشر‪ :‬فهما اإلثنان يمثالن بواسطة توابع موجة‬
‫ديراك‪ "367‬التي تصبح متمازجة (متشابكة ‪ )entangled‬خالل صيرورة التفاعل‪ .‬وابتداء‬
‫من هنا‪ ،‬يجب القبول أنه في الجال حيث يكون شرطا الفارق الكبير في الكتلة والسرعة‬
‫النسبية الضعيفة غير متحققين‪ ،‬فإن تفسير مؤثر شكل مستنتج من صيغة من نمط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صيغة رذرفورد بمصطلحات البنية الكانية لهدف اإلشعاع يميل ليصبح تفسيرا تعسفيا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ظل ّ‬
‫حجة استمرارية لدرجات التقريب‬ ‫أيضا بصرامة إال في ّ‬ ‫واعتباطيا‪ .‬وهو ال ي َب ّرر‬
‫التتالية‪ .‬ففقط ألنه توجد سلسلة من النماذج التقريبية التي تغطي السافة بين‬

‫‪L. Valentin, Noyaux et particules, Hermann, 1975, p. 22. 366‬‬


‫‪ 367‬الرجع السابق‪Falkenburg, "The concept of spatial structure in microphysics" .‬‬
‫‪219‬‬
‫التمثيالت الذرية الكالسيكية والجال الذي تصبح فيه غير قابلة للتطبيق بالكامل‪ ،‬نستمر‬
‫في فهم التجارب التعلقة بهذا الجال األخير كفهم ناجم عن البنى الكانية شبه النقطية‪.‬‬
‫وباختصار‪ ،‬هناك نموذج رذرفورد وهو نموذج كالسيكي بالكامل‪ ،‬ثم هناك نموذج بورن‬
‫وهو نموذج شبه كمومي وهو يصح بالنسبة لهدف ثقيل وسرعة نسبية ضعيفة‪ ،‬ثم هناك‬
‫النموذج شبه الكمومي والنسبوي لوت‪ Mott 368‬وهو يصح بالنسبة لهدف ثقيل وسرعة‬
‫ً‬
‫نسبية عالية‪ ،‬وأخيرا هناك نماذج متعددة كمومية ونسبوية بالكامل‪ .‬بعد أن أدركنا‬
‫ذلك‪ ،‬يخلص فالكنبرغ‪ 369‬إلى أنه يجب القبول بأنه عندما يؤكد الفيزيائيون أنهم رصدوا‬
‫مباشرة بنية أجسام على الستوى ما تحت الذري بواسطة تجارب انتشار‪ ،‬فإنهم‬
‫يستخدمون نمط تعبير يصبح نمط تعبير مجازي بالكامل في الجال الخاص للنظرية‬
‫الكمومية للحقول‪ .‬يشتمل هذا الخطاب في الواقع على القيام بعملية التحويل لشبكة‬
‫ً‬
‫الصور الكانية الذرية من محيط جسم حيث هو فاعل إلى محيط جسم ال يعود فاعال‬
‫ً‬
‫فيه أبدا‪ ،‬من خالل لعبة سلسلة من التقريبات ذات الجودة التناقصة‪ .‬إن التمثيالت‬
‫الذرية تظهر هنا بوضوح السبب التاريخي الستمرارها‪ :‬أال وهو تجذرها البعيد‪ ،‬عبر تعدي‬
‫سلسلة من القيم القربة التتالية‪ ،‬في نموذج (‪ )paradigme‬توقعي سابق منقوش ومدرج‬
‫في استمرارية النموذج البدئي الذي صاغه كل من لوسيبوس ‪ Leucippe‬وديمقريطس‬
‫‪.Démocrite‬‬
‫ً‬
‫عادت مسألة إمكانية "رصد مباشر" للجسيمات األولية لتطرح حديثا بطريقة أكثر‬
‫ً‬
‫حدة أيضا فيما يخص الكواركات‪ ،‬وذلك بسبب ما يوافق أن نسميه احتوائيتها‪ .‬إن‬
‫فرضية االحتواء‪ ،‬الرتبطة بنظرية الكروموديناميك الكمومية‪ ،‬تشتمل على نسب كمون‬
‫تفاعل للكواركات يزداد مع السافة فيما بينها‪ ،‬ويستبعد بالتالي القدرة التجريبية على‬

‫‪N.F. Mott & H.S. Massey, The theory of atomic collisions, Oxford University Press, 1965. 368‬‬
‫‪ ،B. Falkenburg, Teilchenmetaphysik 369‬الرجع السابق؛ ‪Falkenburg, "The concept of spatial structure‬‬
‫"‪ ،in microphysics‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫فصلها بعضها عن بعض‪ .‬من المكن بالتأكيد قياس الكميات التي يمكن أن َ‬
‫تعتبر‬
‫َّ‬
‫العمم للكلمة‪ .‬يتم ذلك بوضع‬ ‫كخاصيات لها‪ ،‬أال وهي "الشحنات" الختلفة بالعنى‬
‫محصلة للكميات الحفوظة‪ ،‬ضمن صيرورات معقدة تتضمن بنى حركية مكتشفة في‬
‫تجهيزات من نمط "الغرف ذات الفقاعات"‪ ،‬ومنسوبة إلى جسيمات مركبة من كواركين أو‬
‫ً‬
‫ثالثة كواركات‪ .‬غير أن أيا من البنى الحركية الكتشفة ال يمكن أن يقرن بكوارك معزول‪.‬‬
‫ً‬
‫السؤال الذي طرح نفسه اعتبارا من هذه النقطة هو معرفة إذا كان من الشروع‬
‫ً‬
‫حقا إقامة اختالف قاطع بين الرصد الباشر لكينونة وقياس الكميات الميزة التالي‬
‫الستدالل كينونة قابلة لحمل هذه الكميات‪ .‬فإذا لم يكن ثمة أي تمييز من هذا النوع‬
‫يمكن القيام به‪ ،‬عندها فإنه ال يوجد أي سبب لعدم تأكيدنا أن الكواركات قد رصدت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فعال‪ ،‬حتى وإن كان ذلك وفقا للنمط االستداللي أو االستنتاجي‪ ،‬وأنها ليست بالنتيجة ال‬
‫أقل وال أكثر افتراضية من كينونات أخرى تنتمي للصف الشاسع من الجسيمات األولية‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى العكس‪ ،‬إذا أكدنا األساس القوي لثل هذا التمييز‪ ،‬عندها يجب أن نقترح معيارا‬
‫ً‬
‫واضحا وأن نتفحص‪ ،‬بين الؤشرات العديدة االستنتاجية للوهلة األولى القرونة‬
‫بالكواركات‪ ،‬إذا لم يكن ثمة بعضها يستجيب لهذا العيار ويقع على الجانب "الرصدي"‬
‫من خط الحد الفاصل مع غير الرصدي‪.‬‬
‫وفقا لفان فراسين‪ ،370‬ليس ثمة أي تمييز بين الرصد واالستدالل ال يخلو من‬
‫ً‬
‫التعسف‪ .‬ألنه من جهة‪ ،‬كل رصد يكون مشوها بواسطة إطار الفهم السبق النظري الذي‬
‫يندرج فيه‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن كل استدالل باتجاه موضوع ما يمكن أن ي َ‬
‫عت َبر كرصد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لهذا الوضوع شرط أن يصبح مألوفا بدرجة كافية بحيث يصبح مخفيا‪ .‬وضمن هذا‬
‫النظور‪ ،‬فإنه يكفي لكي نعتبر أنه تم رصد" الكواركات أن نترك السمة اإلشكالية‬
‫لإلستدالالت التي تقود إلى قياس مجموعة من خصائص الكينونة الوافقة تتخفف‬
‫وتنحل‪ ،‬وذلك من خالل االعتياد ليس إال‪ .‬كذلك يضاف إلى هذا السار‪ ،‬العيد لكميات‬

‫‪B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 15-19. 370‬‬
‫‪221‬‬
‫محفوظة للكينونة‪ ،‬الكشف من خالل تجارب االنتشار عن بنية مكانية داخلية‬
‫للنيوكلينوات؛ بنية مكونة من عناصر‪ ،‬كانت تسمى في البداية "البارتونات"‪ ،‬والتي نعتبر‬
‫أنها شبه نقطية على معيار عوامل الشكل الشتقة من صيغ من نمط صيغة رذرفورد‪.‬‬
‫مذاك‪ ،‬ال يعود ثمة لتوافق السلسلتين االستنتاجيتين‪ ،‬حيث تتعلق األولى بالخصائص‬
‫والثانية بالبنية الكانية‪ ،‬أي سبب في عدم مماثلته بـ "رصد" للكواركات؛ أو على األقل‪ ،‬ال‬
‫يعود ثمة أي سبب على اإلطالق لهذا التوافق في أال يكون كذلك إال في حالة الجسيمات‬
‫األولية من الجيل السابق‪.‬‬
‫وعلى العكس‪ ،‬وفق فالسفة آخرين في العلوم‪ ،‬مثل دودلي شابر‪Dudley Shapere 371‬‬
‫وبريجيت فالكنبرغ ‪ ،Brigitte Falkenburg‬توجد معايير واضحة للفصل بين إجراءات‬
‫تعد كـ "أرصاد لكينونة" وتلك التي ال يمكن أن ّ‬
‫تعد كذلك‪.‬‬ ‫االستدالل التي يمكن أن ّ‬
‫تتعلق هذه العايير بشروط التمييز ( ّ‬
‫التفرد) خالل إجراءات الكشف‪ .‬فعندما نقبل أنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على الستوى العملياتي يكون جسيم ما مشبها بمجموعة من الخصائص الكتشفة معا‪،‬‬
‫في الكان نفسه العتبر كمعيار للتمييز‪ ،‬عندها فإن مسألة معرفة إذا كنا قد رصدنا‬
‫ً‬
‫جسيما أو ال ت َ‬
‫ختزل إلى مسألة معرفة إذا كان بإمكاننا أن نعيد توجيه أو أخذ كل من‬
‫الكميات القاسة إلى النطقة الكانية نفسها‪ .‬إن ما ّ‬
‫يهم هنا هو أن تكون القيم القاسة قد‬
‫ً‬ ‫تم الحصول عليها عن طريق شبكة من البنى َّ‬ ‫ّ‬
‫محددة تماما‪ ،‬بحيث يمكن لهذا السبب أن‬
‫َ‬
‫تف َّسر كسالسل سببية تنطلق من هذه النطقة‪.‬‬
‫إن األهمية الرئيسية لتطبيق هذا العيار هي إدخال تمييزات دقيقة وغير تافهة في‬
‫قلب مجموعة التجريبات النجزة في فيزياء الجسيمات‪ .‬ففي البداية يقود هذا التطبيق‬
‫ً‬
‫إلى االعتراف‪ ،‬وفقا للحكمة الشتركة بين الفيزيائيين‪ ،‬بأن معظم التجارب النجزة حتى‬
‫اآلن ال يمكن أن ّ‬
‫تعد كـ "أرصاد" للكواركات‪ .‬وفي هذه التجارب‪" ،‬فإن التاريخ السببي الذي‬
‫يمكن روايته يتعلق فقط بالكمية الكلية للكواركات في النيوكليون‪ ،‬أو باألثر الكلي لعدة‬

‫‪ 371‬الرجع السابق‪D. Shapere, "The concept of observation in science and philosophy" .‬‬
‫‪222‬‬
‫بنى نقطية ال تفض ي إلى وقائع منفصلة‪ ."372‬بالقابل‪ ،‬هناك بعض التجارب‪ ،‬مثل فناء‬
‫ً‬
‫اإللكترون ‪ -‬البوزيترون ذي الطاقة العالية‪ ،‬التي يكون من المكن فيها انطالقا من‬
‫كل من عناصر الكوارك والكوارك‬
‫االنقذافات الهادرونية الناتجة إعادة تتبع ما يعود إلى ٍ‬
‫الضاد من زوج بدئي غير مستقر يسمى "السحر أو شارمونيوم ‪ ."charmonium‬هنا‪،‬‬
‫ً‬
‫"يربط التاريخ بطريقة واضحة ال لبس فيها كال من االنقذافين بكوارك فردي [‪ ]...‬كان أحد‬
‫مكو ّني منظومة مركبة نتجت في منطقة معينة من منطقة تفاعل حزمتين محددتين‪ ،‬في‬ ‫ّ‬
‫لحظة معينة‪ ،‬ضمن جهاز قياس معطى‪ ."373‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن معيار قابلية التتبع‬
‫َ‬
‫القاسة يلبي الطلوب في هذه الحالة‪ ،‬ويمكننا التأكيد أننا استطعنا‬ ‫الفردية للخصائص‬
‫رصد كواركات على الرغم من حصرها‪.‬‬
‫يجب مع ذلك تجنب أن نترك لهذا النجاح َّ‬
‫الميز أن يبهرنا‪ .‬علينا أال ننس ى أن إمكانية‬
‫ّ‬
‫تفرد وتمييز األجسام على الستوى الذري في الفيزياء الكمومية بالعنى الواسع للكلمة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫محدود ببعض الحاالت التجريبية الخاصة جدا‪ ،‬وأنها ال تنجح أبدا منذ اللحظة التي ال‬
‫تعود فيها هذه الشروط متحققة‪ .‬فاستحالة التمييز في الحالة العامة تتدخل حتى كعنصر‬
‫مفتاحي للقدرة التنبؤية للنظريات الكمومية‪ .‬وبالثل‪ ،‬علينا مالحظة أن َ‬
‫موض َعة الشحنات‬
‫القاسة في نقطة ونسبها التالزم لجسيم يتعلقان بطريقة حاسمة بنمط خاص من‬
‫التجارب التي تظهر بنى حركية مقاربة للمسارات‪ .‬وخارج هذه الحاالت‪ ،‬فإننا نبين أن‬
‫َ‬
‫مموض َعة في نقطة‪ .‬فعلى سبيل الثال ال‬ ‫الشحنات ال يمكن أن توصف كما لو كانت‬
‫يمكن لبعض تجارب تداخل النوترونات في حقل ثقالة أن تفهم إال بقبول أن كتلة كل‬
‫نوترون تكون موزعة في كامل حجم جهاز التداخل خالل مساره بين الصدر والكاشف‪،374‬‬

‫ً‬
‫‪ ،B. Falkenburg, "How to obsrve quarks" 372‬الرجع السابق‪ .‬راجع أيضا ‪D. Griffiths, Introduction to‬‬
‫‪.elementary particles, J. Wiley, 1987‬‬
‫‪ 373‬الرجع السابق‪B. Falkenburg, "How to obsrve quarks" .‬‬
‫‪H.R. Brown, C. Dewdney & G. Horton, "Bohm particles and their detection in the light of neutron 374‬‬
‫‪interferometry", Foundations of physics, 25, p. 329-345, 1995.‬‬
‫‪223‬‬
‫ً‬ ‫وليس في النقطة التي ي َ‬
‫عتقد أن يكون موجودا فيها في كل لحظة‪ .‬إن الالحظة التي وفقها‬
‫َّ‬
‫الحققة في‬ ‫ال يمكن القول إن الكواركات قد "رص َدت" إال "[‪ ]...‬وفق الشروط الخاصة‬
‫أنواع معينة من التجارب الفيزيائية ذات الطاقات العالية‪ "375‬يجب‪ ،‬ضمن هذا اإلطار‪،‬‬
‫ً‬
‫أن تؤخذ على محمل الجد تماما‪ .‬ألنه خارج هذه الشروط الخاصة‪ ،‬على سبيل الثال بين‬
‫والمي ّزة من‬
‫ّ‬ ‫الم َ‬
‫وضعة‬ ‫رصدين‪ ،‬فإننا ليس فقط ال نستطيع بالتأكيد إثبات الحزمة َ‬
‫الخصائص التي يتكون منها كوارك ما من وجهة نظر ّ‬
‫الجرب‪ ،‬بل ولدينا باإلضافة إلى ذلك‬
‫وضعة وهذه‬‫مم َ‬
‫كافة األسباب لعالجة هذه الخصائص في النظرية على أنها غير َ‬
‫ممي َزة‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬علينا أال ننس ى أنه باستثناء حالة بعض‬
‫الجسيمات على أنها غير ّ‬

‫الرصودات السماة "فائقة االنتقائية"‪ ،‬أو خارج إطار النظريات ذات التغيرات الخفية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن مفهوم "الخاصية" نفسه ال يكون قابال للتطبيق عموما عندما نطلب من اليكانيك‬
‫الكمومي وضع رابط تنبؤي (احتمالي) بين رصدين‪ .‬ضمن هذه الشروط‪ ،‬فإن تأكيد‬
‫فالكنبرغ‪ ،‬الذي وفقه فإن مسألة مصير حزم الخصائص التي تحدد كل كوارك فردي بين‬
‫رصدين اثنين ال تطرح إلى حد كبير أكثر من السؤال‪ ،‬الذي يمكن أن يطرح في اليكانيك‬
‫الكالسيكي‪ ،‬الخاص بمعرفة إذا "كان القمر يوجد حتى عندما ال نرصده"‪ ،‬هو التأكيد‬
‫ً‬
‫األقل شكا فيه‪ .‬وكما سبق لرايخنباخ ‪ H. Reichenbach‬أن الحظ‪ ،‬فإن اليكانيك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬
‫الكمومي يدخل تمييزا واضحا جدا‪ ،‬مجهوال تماما في اليكانيك الكالسيكي‪ ،‬بين الظاهرات‬
‫(التي ال تنفصل عن الشروط األداتية لرصدها وتسمح باستخدام الحساب الكالسيكي‬
‫لالحتماالت) والظواهر البينية الشتركة (التي ال تفترض أية وسيلة أداتية للظهور وتتطلب‬
‫استخدام حساب السعات االحتمالية)‪ .‬وهذا التمييز هو جزء ال يتجزأ من قدرته التنبؤية‪.‬‬
‫ً‬
‫وهنا أيضا‪ ،‬بالنتيجة‪ ،‬فإن استنتاج وتعميم تمثيل وخطاب ذري خارج الحقل العملياتي‬
‫صحتها ال يمكن أن يعتمد على أي تبرير آخر سوى على‬ ‫القيد بصرامة الذي تثبت فيه ّ‬
‫َّ‬
‫رسوخ بنيتها التاريخية‪.‬‬

‫‪ 375‬الرجع السابق‪B. Falkenburg, "How to obsrve quarks" .‬‬


‫‪224‬‬
‫‪ 5 .5‬الفيزياء الكمومية ونقد ّ‬
‫الذرية‬
‫مع نهاية هذا التفحص لا يوافق أن نسميه القاعدة التجريبية للنظرية الذرية‪،‬‬
‫ً‬
‫يمكننا العودة بشكل أكثر تعمقا للعبة االنتقادات الجذرية أو إلعادة تأهيل التمثيالت‬
‫الذرية التي يعود إليها عدد من النظريين في الفيزياء الكمومية‪.‬‬
‫وكتمهيد للحجة التي يقدمها عدد كبير من النظريين العاصرين ضد النظرية الذرية‪،‬‬
‫من الفيد وضع تسلسل تاريخي موجز‪ ،‬يعود إلى أصول الفيزياء الكمومية‪ .‬فعندما نحاول‬
‫ً‬
‫اإلشارة إلى بوادر وطالئع هذا النوع من الحجج‪ ،‬فإننا نفكر عموما ببور وهايزنبرغ‪ .‬لكن‬
‫أنماط تعبير هذين العالين بقيت في بعض األحيان دون مستوى جرأتهما التي صاغا في‬
‫عمق باستمرار نقده لفهوم خاصية ذرة ليح َّل‬ ‫البداية بها أفكارهما‪ .‬وإذا كان بور قد ّ‬
‫محله مفهوم الظاهرة التضمنة للجهاز بطريقة ال يمكن فصلهما فيها‪ ،‬وإذا كان قد حدد‬
‫بشكل منهجي على الستوى الرمزي مدى الصور الجسيمية أو الوجية التي نستمر في‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫التعامل معها على مستوى الكون الجهري‪ ،‬فإنه لم يكف أبدا مع ذلك عن اعتبار أن‬
‫الظاهرات تقدم لنا معلومات "تتعلق باألجسام الذرية‪ ،"376‬وأن هذه األجسام الذرية‬
‫"تسبب‪ "377‬بالتبادل ظاهرات تأثير‪ ،‬وكذلك أن الصور ّ‬
‫تقربنا وفق معنى معين من حالة‬
‫األشياء الحقيقية‪ .378‬يفضل بور رسم مخطط الفكرة األصلية للتشكل الرمزي للجسم‬
‫ً‬
‫الذري‪ ،‬وذلك من خالل تجميع الصور أو التغيرات "التكاملة"‪ ،‬بدال باألحرى من القيام‬
‫بنقد مجابه لفهوم األجسام الذرية نفسه‪ .379‬وبقيامه بذلك‪ ،‬فإنه يدمج الجرأة مع نسبة‬
‫معينة من الحافظة‪ .‬ألنه‪ ،‬باستمراره في جمع األزواج نفسها من التغيرات التي ّ‬
‫تحدد‬
‫حالة أجسام الفيزياء الكالسيكية باتجاه أجسام الفيزياء الكمومية (أال وهي أزواج الوضع‬

‫‪N. Bohr, Essays 1958-1962 on atomic physics and human knowledge, Ox Bow Press, 1987, p. 3. 376‬‬
‫‪ 377‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 378‬نص لنيلز بور ذكره هايزنبرغ في كتابه‪.W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Michel, 1972, p. 285 :‬‬
‫‪ 379‬راجع القدمة التي كتبها شيفاليه ‪ C. Chevalley‬إلى نيلز بور في‪N. Bohr, Physique atomique et :‬‬
‫‪.connaissance humaine, Folio-Gallimard, 1991‬‬
‫‪225‬‬
‫وكمية الحركة)‪ ،‬فإنه يجعل بنيتها ذات إمكانية الظهور الكبيرة متطابقة مع البنية‬
‫التنبؤية للنقاط الادية التحركة‪ .‬ومع القبول من جهة أخرى أن متغيرين متكاملين‬
‫مقاسين على التوالي يمكنهما تمييز الجسم الذري "نفسه"‪ ،‬فإنه يسقط طرح السؤال‬
‫ّ‬
‫الدقيق حول التوفر الدائم لعايير إعادة التعيين لهذا الجسم بين لحظة القياس األولى‬
‫ولحظة القياس الثانية‪ .‬أما هايزنبرغ فقد أشار من جهته إلى التحوالت العميقة التي‬
‫ّ‬
‫تعرض لها البرنامج الذري في فيزياء القرن العشرين‪ ،‬ولكنه احتفظ بالبدأ الذري‪ .‬فمن‬
‫ً‬
‫الصحيح وفقه أنه ال يجب اعتبار الذرات من اآلن فصاعدا إال كـ "أشكال مختلفة يمكن‬
‫أن تظهر من خاللها [‪ "380]...‬مادة أولية من نمط أرسطي يشبهها بالطاقة؛ لكن هذا يعني‬
‫ً‬
‫أن أجساما من هذا النمط تستمر على األقل في هويتها الصريحة والقطعية‪ .‬إن مشروع‬
‫النظرية الذرية الديموقريطية‪ ،‬الذي كان يسعى إلى "تفسير التنوع النوعي لألحداث‬
‫الفيزيائية الخارجية بربطها بتنوع في األشكال‪ ،"381‬يمكن أن ي َ‬
‫تابع على هذا النحو شرط أال‬
‫حد من مفهوم الشكل ليصبح مفهوم الحد الكاني لجسم مادي‪ ،‬وأخذه وفق معنى‬ ‫َي ّ‬
‫َّ‬
‫موسع لشكل رياض ي‪ .‬كتب هايزنبرغ بهذا العنى‪ ،‬أنه يمكننا حتى التأكيد أن "[‪ ]...‬النظرية‬
‫الحديثة تدمج فيها األفكار الرئيسية والجوهرية للنظرية الذرية بطريقة أكثر نقاء مما‬
‫ّ‬
‫الجد َدة‬ ‫كانت تقوم به النظرية القديمة‪ ."382‬ويظهر هنا مرة إضافية دمج العناصر‬
‫ّ‬
‫واالحتجاج على استمرارية تاريخية كدمج مشكل للنظرية الذرية العاصرة‪.‬‬
‫سا للميكانيك الكمومي ال ّ‬ ‫ّ ً‬
‫يحد نفسه‬ ‫وال بد من العودة إلى شرودنغر لكي نجد مؤس‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫باقتراح ّ‬
‫تغير نهائي في النظرية الذرية‪ ،‬بل الذي يشكك أحيانا في أكثر عباراته تركيزا حتى‬
‫باإلطار التصوري لها‪ .‬وهو يعتبر في الواقع أن "[‪ ]...‬النظرية الذرية الحديثة كانت قد‬
‫وقعت في أزمة‪ "383‬ال سابق لها‪ .‬وبتحديد أكبر‪ ،‬فإن الفيزياء الكمومية نفسها هي التي‪،‬‬

‫‪W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Michel, 1971, p. 210. 380‬‬


‫‪W. Heisenberg, Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979, p. 55. 381‬‬
‫‪ 382‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.65 .‬‬
‫‪E. Schrodinger, La nature et les Grecs, précédé de M. Bitbol, La cloture de la représentation, Seuil, 1992, p. 383‬‬
‫‪197.‬‬
‫‪226‬‬
‫بعودتها بشكل متعارض ضد أصلها التاريخي الخاص‪ ،‬ولدت حالة األزمة هذه‪" :‬ففي‬
‫ً‬ ‫الوقت الذي ّ‬
‫توسع فيه مجال النظرية الذرية إلى ما وراء كافة الحدود تقريبا‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫النظرية الكمومية دفعت أيضا بالنظرية الذرية في أزمة أخطر من استعداد معظم الناس‬
‫ً‬
‫للقبول به‪ ."384‬ربما كانت خصوبة نمط الفكر الذري كبيرة جدا‪ ،‬وربما كانت البنية‬
‫البديهية للذكاء البشري الذي تمثله‪ 385‬قد أظهرت قدرتها الكاشفة خالل القرن الاض ي‪،‬‬
‫لكن يجب االعتراف‪ ،‬كما يؤكد شرودنغر‪ ،‬بأن كينوناتها تنهار أمام ّ‬
‫الجرب كلما مض ى هذا‬
‫ً‬
‫األخير قدما في استكشافها‪ .‬وفي الحالة العامة‪ ،‬فإن أجسام الستوى الذري تفقد في‬
‫الواقع معايير تمييزها من خالل خصائص نوعية وفي الوقت نفسه تفقد العيار‬
‫الكالسيكي للهوية عبر ‪ -‬الزمنية‪ ،‬الذي كانت تؤمنه إمكانية معالجة مسارها كما لو كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مسارا مستمرا بشكل صارم‪ .‬وفق شرودنغر‪ ،‬فإنه من األفضل بالنتيجة‪ ]...[" ،‬عدم النظر‬
‫ً‬
‫إلى جسيم ككينونة دائمة‪ ،‬بل باألحرى كحدث لحظي‪ .‬تشكل هذه األحداث أحيانا‬
‫سالسل تعطي الوهم بأنها أجسام دائمة‪ ."386‬فاألشياء الجسمية الدائمة التي كانت‬
‫تفترضها النظرية الذرية اختزلت على هذا النحو‪ ،‬عند شرودنغر في فكره خالل سنوات‬
‫الخمسينيات من القرن العشرين‪ ،‬إلى مجرد ظهور أداتي مشابه للظهور اإلدراكي العروف‬
‫باسم "ظاهرة فاي" عند علماء النفس‪ .387‬فكما أنه‪ ،‬في "ظاهرة فاي"‪ ،‬يتم إدراك تتابع‬
‫سريع من الومضات الضوئية التجاورة إنما النفصلة بوضوح كحركة مستمرة لجسم ما‪،‬‬
‫فإنه يتم تفسير ش يء نقطي من األحداث الجهارية في غرف الفقاعات (مثل ظهور فقاعات‬
‫متراصفة إلى حد ما) كتعبير عن انتقال مستمر للجسيم‪.‬‬
‫إن النتيجة التي يستخلصها شرودنغر من نقده للنموذج البدئي للجسيم الادي هي‬
‫ً‬
‫نتيجة جذرية‪ .‬فبدال باألحرى من اللجوء إلى نسخة رياضية‪ ،‬شكالنية ومجردة للنظرية‬

‫‪ 384‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.031 .‬‬


‫‪ 385‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.093 .‬‬
‫‪E. Schrodinger, "Science et humanisme", in Physique quantique et représentation du monde, 386‬‬
‫‪Seuil, 1992, p. 47.‬‬
‫‪D.C. Dennett, Consciousness explained, Penguin, 1991, p. 114. 387‬‬
‫‪227‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫الذرية‪ ،‬كما كان يقترح هايزنبرغ‪ ،‬فإنه يتخلى تماما عن التعددية الشكلة لصالح واحدية‬
‫كونية كانت النسخة األكثر جرأة منها قد وضعت مع نهاية الثالثينيات من القرن العشرين‪.‬‬
‫وهو ال يتردد في سلسلة من القاالت الستلهمة من قراءة إدينغتون ‪ ،388Eddington‬في‬
‫اعتبار أن الظاهرات النفصلة التي تعتمد في ارتكازها على الرؤية الذرية تنتج من أنماط‬
‫ثابتة من االهتزاز الكلي لكون ٍ‬
‫منته‪ .‬إن هذه األنماط الثابتة ال تشبه في ش يء الذرات‬
‫ّ‬
‫يصر شرودنغر‪ ،‬إنما هي تهدف إلى األخذ بعين االعتبار لا يسميه‬ ‫الجسيمية‪ ،‬كما‬
‫"التكافؤية" الظاهرة للطبيعة‪ ،‬أي للجوانب غير الستمرة ‪ /‬التقطعة التي تظهر من خالل‬
‫التقص ي التجريبي‪.‬‬
‫من الصحيح أننا إذا ّ‬
‫تمسكنا بهذا العرض الوجز حول موقف البدعين الرئيسيين‬
‫للميكانيك الكمومي‪ ،‬فإننا قد نعتقد أن تحفظاتهم تجاه الجوانب الكانية األكثر حسية‬
‫َ‬
‫للنظرية الذرية‪ ،‬بل ونقدهم العمق للمبادئ نفسها لهذا التمثيل للعالم‪ ،‬يعود إلى أنهم لم‬
‫ً‬
‫يكونوا يستطيعون أن يتعرفوا في عصرهم على الصور والتجارب الدقيقة جدا الرتكزة‬
‫على استخدام الجاهر أو التجهيزات الخاصة بالعالم الصغائري والتي تجعل التوصيفات‬
‫الذرية حاضرة إلى هذا ّ‬
‫الحد في أيامنا هذه‪ .‬بل إن ما حصل بالضبط هو أن نقد الذرية‬
‫شهد عودة جديدة وملحوظة خالل السنوات األخيرة‪ ،‬على الرغم من التقدم الحاصل في‬
‫ّ‬
‫التجدد هو الجذب الذي‬ ‫مجال الصور وتقنيات العوالم الدقيقة‪ .‬إن السبب الباشر لهذا‬
‫تمارسه التمثيالت الضادة الجديرة بالتصديق الستلهمة من الصورية نفسها للنظريات‬
‫الكمومية‪ .‬وهي تمثيالت مضادة غير ذرية في مبدئها‪ ،‬لكنها فعالة من جهة أخرى بدرجة‬
‫ً‬
‫عالية وقادرة على أن تأخذ بعين االعتبار تنبؤيا الظهور الحذر الذي يستدعي بشكل ال‬
‫يقاوم النظرية الذرية بالنسبة لباحثين منخرطين في تقليدها‪.‬‬
‫يشتق أول هذه التمثيالت الضادة من فك االرتباط‪ .‬ويهدف مشروع نظريات فك‬
‫االرتباط ‪ décoherence‬في الواقع في أقص ى طموحه إلى إظهار كيف أن األحداث الجهارية‬

‫‪E. Schrodinger, "Sur la théorie du monde d'Eddington", Nuovo cimento, 15, p. 246-254, 1938. 388‬‬
‫‪228‬‬
‫التقطعة والحصرية بالتبادل‪ ،‬التي نفسرها في النموذج الذري على أنها أثر صدمة‬
‫جسيم‪ ،‬يمكن أن يتم ّ‬
‫تصورها كبنى منبثقة تنتج عن التطور الستمر لتابع موجة شامل‬
‫مرتبط بكلية سلسلة القياس والوسط الحيط‪ .‬ففي النطاق الذي نمتلك فيه نظرية‬
‫تبادل من هذا النوع‪ ،‬نظرية تأخذ بعين االعتبار الظهورات التقطعة (غير الستمرة)‬
‫باستخدام قانون التطور الستمر وحده في اليكانيك الكمومي (معادلة شرودنغر)‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫الحظ مؤخرا أخصائي فك االرتباط هانس ‪ -‬دييتر زه ‪ ]...[" ،Hans-Dieter Zeh‬فإنه يبدو‬
‫أنه ال يوجد فيها أي باعث منطقي [‪ ]...‬من أجل إدخال مفاهيم مثل مفاهيم الجسيمات‬
‫ً‬
‫[أو] القفزات الكمومية [‪ ]...‬على مستوى جوهري"‪ .‬بل إن عنوان مقالته كان مجردا من‬
‫أي التباس أو ريبة‪" :‬ليس هناك قفزات كمومية‪ ،‬وال جسيمات!‪."389‬‬
‫تقدم لنا نظرية الحقول الكمومية التمثيل الضاد الثاني‪ ،‬وهي اليوم النظرية األكثر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تأييدا وتأكيدا وإحدى النظريات الكمومية األكثر تقدما‪ .‬إن التمثيل الذي تقدمه صوريتها‬
‫قريب في فكره بشكل مميز من النموذج الكوزمولوجي الذي كان يدافع عنه شرودنغر‪،‬‬
‫األمر الذي ال يشكل صدفة على اإلطالق طالا أن شرودنغر كان أحد رواد النظرية‬
‫الكمومية للحقول وأحد أكثر الدافعين عنها حماسة نحو نهاية فترة عمله‪ّ .‬‬
‫حل هذا‬
‫التمثيل الجديد محل مفهوم تعددية ‪ n‬جسيم‪ ،‬وهي سوية التحريض ‪ n‬لوسط مهتز‬
‫وحيد‪ .‬وهو يسمح بشكل خاص باستبدال الفاهيم الشكوك فيها لـ "خلق" و "إفناء"‬
‫الجسيمات (التي يقود إليها التكافؤ النسبي بين الادة والطاقة عندما نطبقه في إطار فكر‬
‫تغير حالة الوسط الهتز‪ .‬وهكذا فإننا ننتقل من وجهة نظر‬ ‫النظرية الذرية)‪ ،‬بمفهوم ّ‬
‫ً‬
‫إحصائية بالدرجة األولى إلى وجهة نظر ديناميكية جوهريا‪ .‬وهكذا يتم التخلي عن‬
‫وضع والدائم بالنسبة لحركته َ‬ ‫ً‬
‫تفوقا للحامل ال َم َ‬
‫العت َبرة‬ ‫ّ‬
‫"التشيؤي"‪ ،‬الذي يمنح‬ ‫النموذج‬
‫كصفة انتقالية‪ ،‬وفي مكانه يتم اعتماد نموذج كمومي نسبي يتركز االنتباه فيه على تغيرات‬

‫‪H.D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!", Phys. lett., A172, p. 189-192, 389‬‬
‫‪1993.‬‬
‫‪229‬‬
‫الحالة بينما يترك أساسه الفترض في خلفية الشهد‪ .‬إن التعليم النهائي واألوضح لصورية‬
‫النظرية الكمومية للحقول‪ ،‬مهما كانت معتبرة من الدرجة األولى‪ ،‬استخلصه بول دايفس‬
‫ً‬
‫‪ Paul Davies‬هنا أيضا في عنوان إحدى مقاالته‪" :‬الجسيمات ال توجد‪."390‬‬
‫‪ 6 -5‬ضعف ومقاومة "براهين وجود" الذرات‬
‫يجب في الوقت الحاضر‪ ،‬لكي نتأكد من أن التمثيالت الضادة جديرة بالتصديق‪،‬‬
‫إتمام مهمة كنت قد وضعت الخطوط األولى لنتيجتها فيما يخص نظريات فك االرتباط‪.‬‬
‫ََ‬
‫الدركة عادة كـ "براهين على وجود"‬ ‫وتشتمل هذه الهمة على البرهان أن الظاهرات‬
‫ً‬
‫أجسام ذات طبيعة جسيمية تقريبا ليست كذلك‪ .‬وهي ليست كذلك ليس فقط‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫سبق ورأينا‪ ،‬ألن أجزاء البراهين التي تقدمها ليست كافية وألن تفسيرها ليس مقرونا‬
‫ً‬
‫بالتمثيالت الذرية إال بواسطة سالسل من التقريبات التتالية‪ ،‬بل وأيضا ألن هذه‬
‫الظاهرات يمكن أن تؤخذ بعين االعتبار على األقل بالقدر نفسه باستخدامها لنموذج‬
‫ّ‬
‫استبدال ال يفترض أي عنصر من نمط جسيمي‪ .‬كتب دسبانيا‪" :‬مضللة في الحقيقة بالغة‬
‫بوضوح‬
‫ٍ‬ ‫الوقائع الصغيرة [التي تدافع لصالح التمثيالت الجسيمية]‪ .‬وما نعتقد أنها تبرهنه‬
‫معم‪ ،‬فإنها ال تبرهنه في نهاية الطاف‪ ."391‬فال التأثيرات على الشاشات‪ ،‬وال اآلثار في غرف‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫الفقاعات‪ ،‬وأضيف أيضا وال الصور الوحية التي تزودنا بها الجاهر ذات األثر النفقي‪،‬‬
‫تبرهن ما يبدو أنها تبرهنه‪.‬‬
‫تكمن السألة في أنه ليس من السهل البرهان على ذلك‪ ،‬خاصة عندما ال نرغب في‬
‫الدخول في كافة تعقيدات الصورية الكمومية‪ .‬وسوف أقدم كشاهد على هذه الصعوبة‬
‫الطريقة التي عمل بها برنار دسبانيا نفسه‪ ،‬من أجل دعم تأكيداته القوية‪ ،‬فلجأ إلى‬
‫تقريبات حاول في بعض األحيان أن يعالجها في عرضه الخصص للجمهور الواسع كما لو‬

‫‪P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, 390‬‬
‫‪Adam Hilger, 1984.‬‬
‫‪B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière, Fayard, 1993, p. 214. 391‬‬
‫‪231‬‬
‫أثر في حجرة فقاعات يبدو أنه ال يمكن أن‬
‫كان يأخذها بشكل حرفي‪ .‬اختار دسبانيا مثال ٍ‬
‫يفسر إال كأثر مرور لجسيم متموضع في كل لحظة‪ .‬والحال‪ ،‬كما يالحظ‪ ،‬أن اليكانيك‬‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكمومي يقدم تفسيرا غير جسيمي لهذه الظاهرة‪" :‬إنه يصف كال من الجسيمات‬
‫العارضة بواسطة موجة مستوية تنتشر من األعلى إلى األسفل‪ ،‬مما يعني أن الجسيمات‬
‫ال يكون لها عند نقطة البداية أي تموضع‪ ."392‬ويسمح اليكانيك الكمومي بعد ذلك‬
‫باالعتماد على قاعدة بورن بحساب "االحتمال من أجل أن يتم تحريض جزيئين من‬
‫السائل الذي تحتويه [حجرة الفقاعات]‪ ،‬وذلك بسبب تفاعلها مع مثل هذه الوجة"‪ .‬بعد‬
‫ً‬
‫القيام بذلك‪ ،‬نستنتج "[‪ ]...‬أن هذا ااالحتمال ضعيف جدا في كافة الحاالت‪ ،‬باستثناء‬
‫ً‬
‫الحاالت التي يقع فيها الجزيئان العنيان على خط شاقولي واحد تقريبا‪ ."393‬إن ظاهر‬
‫مسار جسيمي متموضع يمكن بالتالي أن يؤخذ بعين االعتبار بواسطة نموذج تفاعل‬
‫احتمالي لوجة ممتدة مع الكونات الجزيئية لوسط يمأل حجرة الفقاعات‪.‬‬
‫لكن هذه اإلمكانية ال تكفي بالتأكيد إلعطاء التفضيل للتمثيل القترن بها‪ .‬يضيف‬
‫ً‬
‫دسبانيا بالتالي حجة هامة‪ :‬إن تفسير استبدال اآلثار في حجرات الفقاعات يتوافق تماما‬
‫مع القوانين العامة للفيزياء الكمومية‪ ،‬في حين أن تفسير النطق السليم‪ ،‬التفسير الذي‬
‫يؤدي إلى إظهار مسار جسيمي‪ ،‬يندرج خطأ ضد هذه القوانين‪ .394‬وهكذا يبدو أن خيار‬
‫التمثيل الالجسيمي يفرض نفسه في هذه الشروط‪.‬‬
‫أالحظ مع ذلك بعض األخطاء في هذه الطريقة في عرض البيان التناوبي لظاهرة اآلثار‬
‫في حجيرة الفقاعات‪ .‬أخطاء ال تلغي الخالصة العامة الستخلصة من قبل دسبانيا من‬
‫محاكمته‪ ،‬بل التي تجعلها أقل حتمية طالا كنا ال نلجأ إلى حجج أخرى‪.‬‬

‫‪ ،B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière 392‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪406 .‬؛ ‪B. d'Espagnat, "On the‬‬
‫‪difficulties that attributing existence to «hidden» entities may raise', in F. Bonsack (ed.), On the status‬‬
‫‪of hidden entities in physics, 1999.‬‬
‫‪ 393‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière .406 .‬‬
‫‪ 394‬الرجع السابق‪B. d'Espagnat, "On the difficulties that attributing existence to «hidden» entities .‬‬
‫'‪may raise‬‬
‫‪231‬‬
‫الخطأ األول هو خطأ شائع في العمق‪ .‬وهو يشتمل على إدخال أجزاء من التمثيالت‬
‫َ‬
‫الذرية في بيان لآلثار يسعى إلى التحرر منها‪ .‬ال شك أن اإلشعاع العارض يعالج وفق نمط‬
‫َّ‬
‫موجي‪ ،‬لكن السائل الحتوى في حجيرة الفقاعات يفترض أنه مؤلف من كثرة من األجسام‬
‫ً‬ ‫الم َ‬
‫وض َعة تقريبا (الجزيئات) والقابلة للتحريض‪ .395‬ال شك أن هذا العالج‬ ‫الصغيرة َ‬
‫مشروع كتقريب للمسألة‪ ،‬طالا بقينا موجودين ضمن شروط السرعة النسبية الضعيفة‬
‫واالختالف الكبير في الكتلة بين اإلشعاع النشور والراكز الناشرة له‪ ،‬غير أنه من‬
‫ً‬
‫الضروري الحفاظ دائما في فكرنا على أن األمر ال يتعلق إال بتقريب‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫ً‬
‫بدال من الحديث ببساطة عن موجة مستوية تنتشر في حجرة الفقاعات‪ ،‬يقرن دسبانيا‬
‫في دراسته "‪ "regards sur la mtière‬موجة بكل جسيم؛ موجة من الفترض أن تصف‬
‫الجسيم القترن بها‪ .‬والحال‪ ،‬وهو ال يجهل ذلك‪ ،‬أن هذا النمط من التعبير الشائع لدى‬
‫الفيزيائيين هو أحد األنماط التي "توحي [‪ ]...‬مع قوة األدلة الزائفة‪ ،‬بالذرية الفلسفية‪."396‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لهذا فإنه يختار في مقاله الحديث حول هذا الوضوع ألفاظا أكثر حذرا وأكثر توافقا مع‬
‫الدروس التي استنتجها من التحليل الكلي للظاهرة الذي أشاد به بور‪ .‬فلم يعد يتحدث‬
‫عن جسيمات موصوفة بواسطة موجات بل باألحرى عن "كينونات [‪ ]...‬يجب علينا أن‬
‫َّ َ‬
‫نعتبرها [بالنسبة للظاهرة الحللة] على أنها من طبيعة الوجات بشكل أساس ي"‪ .‬إن البقية‬
‫الوحيدة الباقية هنا من النظرية الذرية هي جمع لفظة "كينونة"‪.‬‬
‫ً‬
‫غير أن هذا التصحيح ليس كافيا‪ .‬فصورة كثرة من الوجات الحادثة التي لها احتمال‬
‫ً‬
‫معين في تحريض الجزيئات التموضعة في الحجرة ذات الفقاعات ال تتقارب كثيرا مع‬
‫صورية اليكانيك الكمومي العياري الدفوع حتى نتائجه القصوى‪ .‬وبالعنى الدقيق‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للكلمة‪ ،‬فإن بيانا كموميا للظاهرة يجب أن يدخل تابع موجة شامل (وغالبا ما يكون "‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متشابكا أو متمازجا") من أجل التحضير الذي يشتمل في آن واحد على اإلشعاع الطارئ و‬
‫قطاع معين من حجرة الفقاعات‪.‬‬

‫‪ 395‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994, p. 421. 396‬‬
‫‪232‬‬
‫إن هذا النمط من العالجة الكلية‪ّ ،‬‬
‫الميز لنمط عمل صورية متجهات الحالة في‬
‫فضاءات هيلبرت الناتجة‪ ،‬معروف منذ عام ‪ 0949‬على األقل‪ ،‬من خالل القالتين‬
‫ّ‬
‫الؤسستين اللتين وضعهما كل من داروين ‪ C. G. Darwin‬وموت‪ .N. F. Mott 397‬وهما‬
‫مقالتان شهيرتان (خاصة الثانية)‪ ،‬إنما حيث يبدو أنه لم تستخلص منهما كافة الدروس‬
‫حتى اآلن‪ .‬هذا إلى حد أن بل ‪ J.S. Bell‬دهش من أن "[‪ ]...‬كثيرين من التالميذ اجتهدوا لكي‬
‫ً‬
‫يعيدوا بأنفسهم اكتشاف أفكار من هذا النوع‪ .‬وعندما يتوصلون إلى ذلك فإن ذلك غالبا‬
‫ما يكون مع إحساس بالكشف‪ ."398‬ولكن على ماذا تشتمل بالضبط هذه األفكار؟ لقد‬
‫اندهش موت‪ ،‬بعد داروين‪ ،‬من وجود نوع من الالتناظر في بيان صيرورة إشعاع ألفا ‪،α‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عندما نعتبر حينا إصداره‪ ،‬ونعتبر حينا آخر اآلثار التي يتركها في حجرات ويلسون‪ .‬إن‬
‫النظرية الكمومية للتحلل اإلشعاعي‪ ،‬التي تسمح بتفسير إصدار اإلشعاع ‪ α‬على الرغم من‬
‫ً‬
‫عال جدا بحيث ال يستطيع جسيم عادي طاقته ضعيفة أن يجتازه‪،‬‬ ‫وجود حاجز كمون ٍ‬
‫تتضمن مفهوم األثر النفقي‪ ،‬ومعالجة اإلشعاع ‪ α‬كموجة‪ .‬تتناقص سعة هذه الوجة‬
‫بشكل ّأس ي مع ثخانة حاجز الكمون‪ ،‬لكنها تظل غير معدومة على الرغم من االرتفاع‬
‫الفرط للحاجز بالنسبة للطاقة الحركية التوفرة لإلشعاع‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإن احتمال إصدار‬
‫اإلشعاع ‪ ،α‬الذي يقدمه مربع معامل سعة هذه الوجة‪ ،‬هو نفسه غير معدوم‪ ،‬على‬
‫عكس ما ستكون عليه الحالة بالنسبة لجسيم كالسيكي له الطاقة الحركية نفسها‪ .‬فإذا‬
‫أردنا أن نعطي للبيان الكمومي درجة كافية من التماسك والقوة‪ ،‬فيجب بالتالي وفق‬
‫داروين وموت االستمرار في استخدام صورية توابع الوجة بشكل حصري عندما نواجه‬
‫مسألة اآلثار في غرفة ويلسون أو في حجرة فقاعات‪ .‬والحال أنه للقيام بذلك ال يجب أن‬

‫‪C.G. Darwin, "A collision problem in the wave mechanics", Proceedings of the Royal Society, 397‬‬
‫‪London, A124, p. 375-394, 1929; N. F. Mott, "The wave mechanics of α-ray tracks", Proceedings of‬‬
‫‪the Royal Society, London, A126, p. 79-84, 1929 (repris dans J.A. Wheeler & W.H. Zurek, Quantum‬‬
‫‪theory and measurement, Princeton University Press, 1983).‬‬
‫‪J.S. Bell, Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987. 398‬‬
‫‪233‬‬
‫نحاول تطبيق هذه الصورية على اإلشعاع الطارئ؛ بل يجب ّ‬
‫مده على الكلية الكونة من‬
‫ً‬
‫اإلشعاع والناطق الكانية ذات الصلة لحجرة ويلسون‪ .‬يقبل موت تماما أن تابع الوجة‬
‫ّ‬
‫متعدد األبعاد الذي ينتج عن هذا الحساب ال يسمح بأي وصف للصيرورات االفتراضية‬
‫الجارية في قطاع الزمكان الذي تغطيه حجرة ويلسون‪ .‬غير أن هذا التابع يقدم لنا على‬
‫األقل وسيلة لتقدير احتمالية أن تظهر متوالية معينة من القطرات الائية (أو من‬
‫الفقاعات) التراصفة بشكل تقريبي‪ .‬فهو يسمح لنا أن "[‪ ]...‬نتنبأ بنتيجة أي رصد كان"‬
‫يتخذ شكل أثر متوالية من القطرات أو من الفقاعات‪ .‬وبالتالي فإننا نتوصل‪ ،‬فقط بشرط‬
‫أن نكون قد دفعنا الصورية الكليانية والنظام التنبؤي البحت للميكانيك الكمومي حتى‬
‫ً‬
‫نتائجهما القصوى‪ ،‬إلى االلتفاف تماما على التمثيل شبه الجسيمي لإلشعاع ‪ α‬الحادث‪،‬‬
‫حتى نجده من جديد في نهاية الطاف‪ ،‬كوسيلة مجازية لتمثيل األثر الستمر لسار‬
‫السلسلة التقطعة من القطرات التي سبق وحسبنا احتمالها‪" :‬فال يجب أن نأتي على ذكر‬
‫أن اإلشعاع ‪ α‬يتألف من جسيمات قبل هذا التفسير االحتمالي النهائي"‪.‬‬
‫لنتساءل اآلن لاذا لم تتم ترجمة هذا اإلجراء من استخدام التوابع الوجية أو‬
‫التجهات العامة للحالة من أجل حساب احتمال الجموعات التوالية من الظاهرات‪،‬‬
‫ً‬
‫على الرغم من كونها معروفة جدا ومستخدمة في غالب األحيان‪ ،‬لاذا لم تتم ترجمتها‬
‫مباشرة ترجمة فلسفية بمصطلحات نقد البقايا النهائية من التمثيالت الجسيمية‪ .‬يمكن‬
‫ً‬
‫أن نجد السبب الرئيس ي لهذا األمر في أعمال لهايزنبرغ معاصرة إلى حد ما‪ .399‬ووفقا‬
‫لهايزنبرغ‪ ،‬فإن النتيجة نفسها تتم على نحو إدراج إشعاع ‪ α‬ومكونات حجرة ويلسون في‬
‫منظومة وحيدة مركبة يقرن بها تابع موجة شامل‪ ،‬أو أال نقرن تابع موجة إال بشعاع ‪α‬‬
‫واعتبار حجرة ويلسون كجهاز قياس يوصف بواسطة الفيزياء الكالسيكية‪ .‬في الحالة‬
‫الثانية‪ ،‬يجب أن يتم إدخال أو إحداث انقطاع في مكان ما بين النظومة الكمومية‬

‫‪W. Heisenberg, Les principes physiques de la théorie des quanta (1929-1930), Gauthier-Villars, 399‬‬
‫‪1972.‬‬
‫‪234‬‬
‫والجهاز شبه الكالسيكي للرصد‪ ،‬غير أن تحديد موضع هذا االنقطاع بالنسبة لهايزنبرغ‬
‫كما بالنسبة لبور هو شبه عشوائي؛ إنه يتعلق فقط باعتبارات براغماتية‪ .‬ولهذا فقد‬
‫ً‬
‫بذل هايزنبرغ جهده لكي يبرهن أنه من الكافئ تنبؤيا‪ ،‬في مسألة آثار إشعاع ‪ α‬في حجيرات‬
‫ويلسون‪ ،‬معالجة شعاع ‪ α‬وحيد بواسطة تابع موجة‪ ،‬حتى جعله يتعرض لـ "اختزاالت"‬
‫متتالية عند كل تشكل لقطرة ما‪ ،‬واستخدام توابع موجة شاملة تصح بالنسبة‬
‫للمنظومة (شعاع ‪ + α‬حجرة ويلسون) وال تتعرض كتوابع شاملة إلى "اختزاالت"‪.‬‬
‫ً‬
‫يجب مع ذلك اإلشارة عند هذه النقطة إلى أنه‪ ،‬إذا كان صحيحا أن الطريقتين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقدمان تنبؤات متطابقة‪ ،‬لكنهما ليستا متكافئتين تعليميا وتجريبيا‪ .‬فالنهج الذي‬
‫يستخدم "اختزاالت" متوالية لتابع الوجة الرتبط فقط بإشعاع ‪ α‬يتمتع بالتأكيد بميزة‬
‫القدمة بواسطة الرصد النقطي‬‫البساطة‪ .‬وهو يشتمل في الواقع على استخدام العلومة َّ‬

‫لقطرة ماء من أجل ربط تابع موجة جديد باإلشعاع ‪ ،α‬األمر الذي يسمح بدوره بالتنبؤ‬
‫بالظاهرات التالية لتشكل قطرة الاء هذه‪ .‬فكل ش يء يجري هنا كما لو كنا نستخرج عند‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كل رصد نقطي جزءا صغيرا متوافقا من العلومات الحتواة في تابع الوجة الشامل‬
‫الرتبط بالنظومة (اإلشعاع ‪ + α‬حجرة ويلسون)‪ :‬هذا الجزء هو الذي يسمح بأن نحسب‬
‫بشكل انتقائي احتمال الرصد النقطي التالي‪ .‬تكمن الشكلة في أن الذين يستخدمون هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الطريقة ينسون عموما تابعها الحدود؛ ويفقدون غالبا رؤية واقع أن "االختزاالت"‬
‫التتالية ليست بأي حال من األحوال تغيرات مستقلة لتابع الوجة بل إعادات تعيين‬
‫لشكله يتم فرضها ألسباب تتعلق بسهولة وبساطة االستخدام‪ .‬وتكون نتيجة هذا‬
‫النسيان أننا ننتهي بأن نعتبر التطور التقطع للتابع الوجي‪ ،‬من خالل االنتشار‬
‫و"االختزاالت" التتالية‪ ،‬كنوع من بيان وصفي للصيرورة الفيزيائية التي هي أساس اآلثار‬
‫الظاهرة في حجرات الفقاعات‪ .‬إن هذه الطريقة في الرؤية (وليس شكالنية النظرية‬
‫الكمومية بذاتها) هو ما ّ‬
‫يحرض الشاكل والتناقضات العتادة حول آلية "اختزال حزمة‬
‫الوجات"‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فإن طريقة التوابع الشاملة للموجة المتزجة (أكانت مطبقة‬
‫‪235‬‬
‫من خالل القراءة االحتمالية األولية لوت‪ ،‬أو من خالل التفسير النمطي لفان فر ّ‬
‫اسين‪ ،‬أو‬
‫من خالل التمثيل التخيلي إليفيريت) تتميز بالحفاظ بشكل دائم على تمييز واضح بين‬
‫النموذج التنبؤي الستمر وسلسلة األحداث التقطعة التي يجب التنبؤ بها‪ .‬إن السألة‬
‫ّ‬
‫الوحيدة التي يجب حلها في هذا اإلطار الفكري تتعلق ليس بأي "اختزال" متقطع لتابع‬
‫الوجة (الذي ال سبب لوجوده)‪ ،‬بل بالطريقة التي يتم بها االنتقال بين حساب لالحتماالت‬
‫ذي بنية موجية وحساب كالسيكي لالحتماالت‪ ،‬كما أن تابع الوجة الشامل يخص على‬
‫ً‬
‫التوالي منظومات أكثر فأكثر قربا من سوية التعقيد الجهاري‪ .‬وكما نعلم‪ ،‬فإن إجابة‬
‫َّ‬
‫الحدد‪ ،‬باألحرى منها إجابة مباشرة على السؤال حول‬ ‫منطقية مرضية على هذا السؤال‬
‫"اختزال حزمة الوجات"‪ ،‬قدمتها نظريات فك الترابط ‪.décohérence‬‬
‫يعرف برنار دسبانيا معرفة تامة بالطبع كافة هذه النقاط الدقيقة في النظرية‬
‫ً‬
‫الكمومية للقياس؛ بل هو حتى أحد الؤلفين األكثر إسهاما في العالم في توضيحها‪ .‬ولهذا‬
‫ً‬
‫السبب فهو يعي تماما‪ ،‬في هذا الجانب كما وفي جوانب أخرى‪ ،‬أنه لم يستخدم سوى‬
‫ّ‬
‫مقاربة‪ ،‬في بيانه الخصص للجمهور الواسع‪ ،‬لصيرورة تشكل اآلثار في حجيرات‬
‫الفقاعات‪ .400‬تكمن الشكلة في أننا ال نستطيع االعتماد صراحة على القاربة من أجل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقديم تفسير إال بشرط أن نقرن فقط بلفظة تفسير معنى براغماتيا ضعيفا من نمط‬
‫العنى الذي يقترحه فان فراسين‪ .401‬فوفق فان فراسين ال تقبل سلسلة من القترحات كـ‬
‫تقدم على سؤال "لاذا" إجابة َ‬
‫تعت َبر مقنعة بالتوافق‪ ،‬في إطار‬ ‫"تفسير" إال إذا كانت ّ‬

‫مجموعة من العتقدات الشتركة من قبل التحاورين ومن التقريبات التي يقبلون بها‪ .‬وهي‬
‫تصح إال بالنسبة لهذا اإلطار‪ ،‬وليس في الطلق‪ ،‬ككشف عن األسباب االنتقالية‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫للظاهرات‪ .‬وهي يمكن أن تكون بالنتيجة موضع تساؤل بالكامل في إطار آخر حيث ال تعتبر‬
‫التقريبات النجزة مقبولة‪.‬‬

‫‪B. d'Espagnat, Réponse à "L'avenir de l'atomisme" de M. Bitbol, in M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et 400‬‬
‫‪réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.‬‬
‫‪ 401‬الرجع السابق‪B. Van Fraassen, The scientific image .‬‬
‫‪236‬‬
‫ولكن حتى مع ذلك ال يتم حل كافة الصعوبات‪ .‬فحتى مع افتراض أننا قبلنا بالتقريب‬
‫القترح‪ ،‬فإننا نظل مجبرين على االستنتاج أن العناصر التي تدخل فيه ال يمكن أن‬
‫تستخدم كعناصر تفسيرية إال بمعنى واسع بشكل مفرط‪ .‬وباستثناء ّ‬
‫مد التوافقات‬
‫البراغماتية للتفسير إلى ما وراء ما يمكن أن يقبل به معظم أعضاء مجتمع التحاورين‪،‬‬
‫فإن اإلجابة القترحة على سؤال "لاذا توجد صفوف من الفقاعات تحاكي أثر مسار ما؟"‬
‫تظل إجابة غير مقنعة‪ .‬لنفترض أننا في الواقع مع برنار دسبانيا ال نعطي معنى آخر‬
‫لكينونات نظرية في اليكانيك الكمومي مثل تابع الوجة إال معنى أداة رياضية لحساب‬
‫االحتماالت‪ ،‬وبعبارة أخرى أداة تنبؤية بحتة‪ .‬فكيف يمكننا القول عندها إن البيان‬
‫ً‬
‫الكمومي التقريبي لآلثار في حجيرات الفقاعات يقدم تفسيرا لها‪ ،‬بل وأكثر من ذلك كيف‬
‫ً‬
‫يقدم تفسيرا ينافس التفسير الذي يدخل في حسابه مرور جسيم؟ يمكننا أن ندعم‪ ،‬مع‬
‫‪402‬‬
‫‪ ،Hempel‬فكرة "تفسير احتمالي" يشتمل على إعادة الربط من خالل قانون‬ ‫هامبل‬
‫احتمالي بين حدث ينتج في موضع زمكاني معين (اإليضاح ‪ )l'explicandum‬مع حدث وقع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سابقا وهو عموما بعيد عن األول (التفسير ‪ .)l'explanans‬وقد أشار دسبانيا أيضا إلى أنه‬
‫كان يفكر بهذا النوع من التفسير في بيانه عن اآلثار في حجيرة ذات فقاعات‪ .403‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنه ال يهم كثيرا اعتبار القيمة الحلية ألداة حساب االحتماالت نفسها (في هذه الحالة هي‬
‫القيمة الحلية لتابع الوجة) كنوع من تفسير ‪ explanans‬وسطي‪ .‬فإذا أصبح حدث ‪ B‬في‬
‫ً‬
‫نقطة ‪ PB‬أكثر احتماال من خالل التدخل السابق للحدث ‪ A‬في النقطة ‪ ،PA‬فإنه يمكننا‬
‫ّ‬ ‫القول وفق العنى الذي يشير له هامبل إن الحدث ‪ّ A‬‬
‫يفسر بطريقة احتمالية تدخل‬
‫ّ‬
‫الحدث ‪B‬؛ لكن ال يمكننا التأكيد بأي حال من األحوال أن التوزع الكاني وتطور تابع‬
‫االحتمال بين الوضعين ‪ PA‬و ‪ PB‬يفسران بنفسهما تدخل الحدث ‪ .B‬إن العنصر األكثر‬

‫‪C. Hempel, Eléments d'épistémologie, Armand Collin, 1972, p. 90. 402‬‬


‫‪ 403‬الرجع السابق‪B. d'Espagnat, Réponse à "L'avenir de l'atomisme" de M. Bitbol, in M. Bitbol & S. .‬‬
‫‪Laugier (eds.), Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat‬‬
‫‪237‬‬
‫كمومية بشكل خاص في هذا البيان‪ ،‬أال وهو تابع الوجة‪ ،‬ال يمكن أن يعالج بالنتيجة كما‬
‫لو كان ّ‬
‫يفسر بذاته أي ش يء كان؛ ولنكرر القول إنه ال يقوم سوى بتزويدنا بالرابط الذي‬
‫يسمح باعتبار األحداث السابقة كـ "تفسيرات" احتمالية ألحداث تالية‪ .‬وذلك على الرغم‬
‫من أن التعابير الستخدمة من قبل دسبانيا‪ ،‬كما على سبيل الثال عندما يتحدث عن‬
‫"تفاعل" الجزيئات مع "موجة معينة"‪ ،‬تستدعي بشكل ال َ‬
‫يقاوم عالقة شبه سببية‬
‫مباشرة‪ ،‬من خالل التجاور بين الوجة بس ي ‪ Ψ‬واألحداث التي تؤدي إلى تشكل البنى‬
‫الرصودة في حجيرة فقاعات‪.404‬‬
‫‪ 7 -5‬تعددية التمثيالت وحدودها‬
‫بالتالي‪ ،‬فإن وصف توابع الوجة وتطورها يعود باألحرى إلى اعتراف بالالأدرية اتجاه‬
‫أي تفسير كان لإلنتاج الحلي للظاهرات التجريبية‪ ،‬هذا إلى جانب االهتمام الحصري‬
‫بالعالقة االحتمالية بين هذه الظاهرات‪ ،‬أكثر مما يعود إلى مشروع تفسير حقيقي‪ .‬إن مثل‬
‫هذا الحصر لالهتمام ال يؤسف عليه في ش يء إذا ما فكرنا أن التمثيل الذري على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العكس‪ ،‬الذي يقدم تفسيرا مقنعا فيما يبدو إلنتاج الظاهرات‪ ،‬يخفق لوحده في تقديم‬
‫سبب لعالقاتها‪.‬‬
‫إن قبول اعتبار اليكانيك الكمومي كصورية تنبؤية بحتة يفرض علينا بالتالي أن ّ‬
‫نحد‬
‫من الزعم التفسيري للبيانات التي يقدمها بذاته‪ .‬لكن ذلك ال يجبرنا بالضرورة على التخلي‬
‫عن الطموح العام بتفسير الظاهرات‪ ،‬في إطار نظرية أخرى ال يشكل اليكانيك الكمومي‬
‫سوى الهيكل االحتمالي لها‪ .‬إن التفسير التنبؤي لرموز النظرية الكمومية ال يجبر في الواقع‬
‫ال على اعتماد ميتافيزياء وضعية للواقع التجريبي‪ ،‬وال بشكل أوسع (حتى وإن كان يدعو‬

‫‪ 404‬إن هذا النوع من العالقة االحتمالي وشبه السببي في آن واحد عبر التواصل بين الوجة الحادثة والجزيئات‬
‫القابلة للتحريض يحمل بعض الشبه مع أطروحة بور وكريمرز وسالتر في عام ‪Bohr, Kramers et :0942‬‬
‫ّ‬
‫)‪ .Slater, ("The quantum theory of ratiation", Phil. Mag., 47, p. 785-802‬ولنذكر أنه وفق هذه األطروحة‪،‬‬
‫فإن موجة كهرطيسية كانت تعتبر ككينونة "افتراضية" صادرة عن كل ذرة وقابلة ألن تثير باحتمال ‪ P‬تحريض‬
‫الذرات الشعة بواسطتها‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫إلى ذلك) على االقتصار على مالزمة صرفة لإلجراءات العملياتية على حساب هدف‬
‫التمثيل‪ .‬يمكن لهذا الوقف التراجع أن يشكل على العكس الرحلة األولية التي ال غنى‬
‫ً‬
‫عنها للتقييم الصافي للقيود التي يجب أن يحققها كل تفسير أكثر طموحا‪ ،‬يمكن أن يقترح‬
‫في الستقبل‪ ،‬أو التي كان يجب أن تحققها التمثيالت الستخدمة كدليل للبحث في‬
‫الاض ي‪ .‬إن النقد الحقيقي‪ ،‬الذي يظل بإمكان الواقعي توجيهه إلى كل من ّ‬
‫يمجد ذرائعية‬
‫منهجية أكثر منها عقائدية‪ ،‬ليس بالتالي منع كل تمثيل أو إيقاف الوظيفة الداللية‬
‫ً‬
‫للمرجع‪ ،‬بل ترك الباب مفتوحا‪ ،‬ما أن يتم أخذ القيود التنبؤية بعين االعتبار‪ ،‬لدرجة‬
‫معينة من تعددية التمثيالت ولتنوع متالزم للمنظومات الرجعية‪.‬‬
‫ينتقل النقاش ضمن هذه الشروط إلى موضع آخر‪ .‬فلم يعد األمر يتعلق باعتماد أو‬
‫رفض عقائدي لتمثيل خاص مثل الذهب الذري‪ ،‬باسم براهين أو تفنيدات تجريبية تعتبر‬
‫حاسمة ونهائية‪ .‬بل يتعلق األمر بمناقشة الطابع القبول أو غير القبول لتعددية‬
‫للتمثيالت‪ ،‬أوللنماذج اإلرشادية (الساعدة على الكشف)‪ ،‬أو للمنظومات الرجعية أو للـ‬
‫"أنطولوجيات"‪ 405‬القترنة بها‪ ،‬وذلك بالنظر إلى القيود الفروضة من خالل الحتوى‬
‫ّ‬
‫التنبؤي للنظريات الكمومية‪ .‬ولكن قبل أن نأتي إلى هذه النقطة‪ ،‬علينا أن نذكر بإيجاز ما‬
‫هي القيود التي يجب أن ينضوي تحتها أي تمثيل كان للجسم الفترض للنظريات‬
‫الكمومية‪ ،‬وبالقابل أي خطاب يتعلق بهذا الجسم‪.406‬‬
‫تستند القيود على التنبؤ وعلى الرجع‪ ،‬أو إذا كنا نفضل على الفاهيم الصورية‬
‫للخاصية ولحامل الخصائص‪.‬‬
‫لنبدأ بالتنبؤ‪ .‬نعلم أنه في الفيزياء الكمومية ال يمكن للنتائج التجريبية بشكل عام أن‬
‫تصبح مستقلة عن نظام استخدام التجهيزات‪ .‬تفرض عالقات هايزنبرغ على سبيل الثال‬

‫ً‬
‫‪ 405‬وفق معنى داللي وكويني (نسبة إلى كوين ‪ )Quine‬بدال باألحرى منه معنى ميتافيزيائي‪.‬‬
‫‪ 406‬من أجل مناقشة معمقة أكثر‪ ،‬راجع‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction :‬‬
‫ً‬
‫‪ ،philosopique‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬وراجع أيضا الفصل الثاني من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪239‬‬
‫أن قيمة لكمية الحركة ال يمكن أن تكون قابلة إلعادة اإلنتاج بدقة إال إذا لم يجر أي‬
‫قياس للموضع أثناء ذلك‪ .‬وفي الحالة العاكسة‪ ،‬فإنه ال يمكن إيجاد قيمة كمية الحركة‬
‫إال مع هامش تشتت إحصائي تتعلق سعته بالتشتت القبول على القياس الوسطي‬
‫للموضع‪ .‬والحال أننا لو أردنا االرتكاز على نتيجة من أجل إسناد خاصية يملكها جسم‬
‫بشكل مستقل عن القياس‪ ،‬وإذا أردنا اعتبار النتيجة كمجرد انعكاس سلبي للخاصية‪،‬‬
‫فسوف يلزم على األقل أن نستطيع االعتماد على درجة كافية من ثبات النتيجة اتجاه‬
‫شروطها األداتية في الحصول عليها واتجاه التواليات األداتية التي سبقتها‪ .‬إن فصل‬
‫تحديد للظروف التجريبية ونسبه بشكل خاص إلى جسم‪ ،‬يفترض أن يظهر بالحد األدنى‬
‫ٍ‬
‫المباالة معينة اتجاه هذه الظروف‪ .‬فإذا كنا نرغب على الرغم من حساسية النتائج هذه‬
‫للظروف التجريبية أال نتخلى بالكامل عن الفهوم الوصفي للخاصية وعدم التمسك‬
‫بالفهوم التنبؤي للـ "مرصود"‪ ،‬فإن مخرجين ينفتحان أمامنا‪ .‬يشتمل األول على إيجاد‬
‫عملية تسمح بجعل تنبؤ ما مستقل صراحة عن األطر التجريبية‪ ،‬تنبؤ ال يمكنه مع ذلك‬
‫محدد بمجموعات تحتية معينة من األطر‬ ‫َّ‬ ‫االعتماد بشكل محسوس إال على ثبات‬
‫الناسبة‪ .‬لقد ّ‬
‫قدمت "النطقيات الكمومية"‪ ،‬غير التوزيعية أو ثالثية التكافؤ‪ ،‬مثل هذه‬
‫ً‬
‫العمليات‪ .‬أما الخرج الثاني فكان قد أشير له منذ فترة مبكرة جدا من تاريخ اليكانيك‬
‫الكمومي‪ .‬وينطلق الذين يأخذون به من فكرة‪ ،‬أصبحت شائعة منذ تأمالت هايزنبرغ وبور‬
‫حوالي عام ‪ ،0941‬وهي أن كل نتيجة ليست االنعكاس الباشر والسلبي للخصائص‬
‫الفترضة للجسم‪ ،‬بل الظهور غير الباشر لتفاعل غير قابل للتحليل بين الجسم وجهاز‬
‫يكفي تدخله الوحيد إلى تغيير الخصائص التي نحاول إثباتها‪ .‬ثم بعد أن ينتقدوا‬
‫"انهزامية" الباحثين الذين يتمسكون بهذا االستنتاج من عدم قابلية التحليل التجريبي‪،‬‬
‫فإنهم يؤكدون أن ال ش يء يمنع أن نحلل بواسطة الفكر صيرورة التفاعل بين الجسم‬
‫واألداة‪ .‬إن الحصلة النطقية لهذا التصور ليست سوى النظريات ذات التحوالت‬
‫الخفية‪ ،‬أي النظريات التي تحاول تقديم وصف للخصائص "عبر ‪ -‬التجريبية" الفترضة‪،‬‬
‫‪241‬‬
‫هذا مع الربط مع التنبؤات التجريبية للميكانيك الكمومي‪ .‬غير أن هذا الربط يفرض‬
‫ً‬
‫بالطبع هو نفسه قيودا على النظريات ذات التغيرات الخفية‪ .‬والقيد الرئيس ي بين هذه‬
‫القيود هو التالي‪ :‬تتأثر الخصائص التحتية الكامنة الفترضة فيما بينها بشكل آني عن‬
‫ً‬
‫بعد؛ ووفقا لبرهنة بل ‪ ،Bell‬فإن النظريات ذات التغيرات الخفية ترتبط بالموضعية‬
‫هذه التغيرات‪ .‬وثمة قيد آخر‪ ،‬سبق أن ذكرناه‪ ،‬هو السياقية‪ ،‬أي التأثير َ‬
‫المارس على كل‬
‫تحديد بواسطة السياقات التجريبية أو الطبيعية الكتشافه‪.‬‬
‫لنأت اآلن إلى الرجعية‪ .‬وفق سيرل ‪ ،J. Searle‬فإن اإلسناد أو اإلرجاع إلى ش يء ما هو‬
‫ً‬
‫التعهد بإعادة تحديده‪ .407‬ووفقا لكريبكه‪ S. Kripke 408‬فإن استخدام الفهوم (التسمية)‬
‫يعني القدرة على ربط الش يء السمى بفعل تكريس بدئي‪ .‬وفي كافة األحوال‪ ،‬فإن اإلسناد‬
‫يفترض اإلمكانية الفعلية أو النظرية إلقامة رابط استمرارية زمنية بين تعيين حاضر‬
‫َ‬
‫مموضع من نمط‬ ‫ماض أو مستقبلي‪ .‬وبشكل أخص‪ ،‬فإن اإلسناد إلى جسم‬ ‫وتحديد‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫"الجسم الادي" يفترض إمكانية تتبع مستقبل صيرورته عبر مسار مستمر‪ .‬والحال أنه كما‬
‫أشار إلى ذلك شرودنغر‪ 409‬بقوة‪ ،‬فإن هذه اإلمكانية تنقصنا في نظام الظاهرات‬
‫ً‬
‫الكمومية‪ .‬إن عالقات هايزنبرغ تستبعد عموما التتبع التجريبي بشكل مستمر لسار‬
‫ّ‬
‫جسيمي‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن قواعد تعداد األجسام ال يمكن أن تتقلص إلى القواعد‬
‫التي وضعها ماكسويل وبولتزمان من أجل جسيمات فردية وقابلة إلعادة التحديد‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫مؤشر غير مباشر وخفي إنما صادم جدا للوضع الجديد‪ .‬وضمن هذه الشروط‪ ،‬إذا لم‬
‫نكن نريد التخلي الكامل ببساطة عن القيام باإلسناد إلى جسم في تجارب الفيزياء‬
‫الكمومية‪ ،‬فيبقى أمامنا ثالثة حلول رئيسية‪:‬‬

‫‪J. Searle, Speech acts, Cambridge University Press, 1969. 407‬‬


‫‪S. Kripke, Naming and necessity, Basil Blackwell, 1980. 408‬‬
‫‪ ،E. Schrodinger, Physique quantique et représentation du monde 409‬الرجع السابق؛ ‪E. Schrodinger,‬‬
‫‪The interpretation of quantum mechanics, edited and with introduction by M. Bitbol, Ox Bow Press,‬‬
‫‪.1995‬‬
‫‪241‬‬
‫‪ - 0‬الحد من استخدام فعل اإلسناد إلى الوضعيات التجريبية الخاصة حيث تظل‬
‫ً‬
‫إعادة تعيين الجسيمات عبر االستمرارية ممكنة آنيا بالنسبة لتقريب جيد (وهو ما يعود‬
‫العتماد الوقف البراغماتي للفيزيائيين التجريبيين)‪،410‬‬
‫‪ - 4‬عدم الحفاظ على استمرارية السارات الجسيمية إال ضمن نوع من الرؤية‬
‫ً‬
‫الذهنية‪ ،‬وهي من حيث البدأ غير قابلة للتجريب (وهو تقريبا موقف أنصار النظرية ذات‬
‫التغيرات الخفية لبوم)‪،‬‬
‫‪ - 3‬اختيار جسم أو أجسام غير مكانية ال ترتكز إعادة تعيينها على استمرارية مسار ما‬
‫بل على استمرارية شكل مدرك بالعنى الواسع (وهو الخيار الذي اختاره شرودنغر‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا الخيار الذي يبدو أن الباحثين العاصرين مثل دسبانيا قريبون جدا منه)‪.‬‬
‫‪ 8 -5‬دايفيد بوم ‪ :1552‬رؤية ذرية تتأرجح في الكلية‬
‫َّ‬
‫العزز للنظريات‬ ‫رأينا عند تحليل القيود الرئيسية التي يفرضها الحتوى التنبؤي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكمومية‪ ،‬أن هذه القيود تبقي (بين خيارات أخرى مقبولة) صفا كامال من النماذج التي‬
‫تدخل وتشرك كثرة من األجسام الواقعة في الكان‪ ،‬النتقلة على امتداد مسار مستمر‪،‬‬
‫والالكة لتحديدات خاصة بها‪ .‬والنموذج البدئي لهذه القيود هو النظرية ذات التغيرات‬
‫الخفية التي صاغها بوم عام ‪ ،0964‬ووصفها هو نفسه بأنها "تفسير أنطولوجي للميكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي"‪ .‬وال ينفي ذلك معظم الباحثين الذين تفكروا مليا وبجدية حول مسائل تفسير‬
‫ً‬
‫اليكانيك الكمومي‪ .‬بل إنهم يدعمون حتى‪ ،‬ضد بعض اليول الستبعاد سريع جدا‬
‫ألطروحات من نوع أطروحة بوم‪ ،‬أن "الصورية الكمومية هي صورية حيادية بشكل‬
‫أساس ي فيما يتعلق بمسألة التغيرات الخفية‪ ."411‬ولكن ما أن يتم اعتماد هذا الوقف‬

‫‪ 410‬هذا بشكل خاص التبرير الذي يمكننا تقديمه لعبارات مثل "رؤية الذرة بواسطة مجهر ذي أثر نفقي"‪ ،‬أو‬
‫"دراسة ذرة معزولة في تجويف"‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫‪ ،B. d'Espagnat, Le réel voilé 411‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪ .14 .‬والجملة الستشهد بها ناجمة عن تصحيح‪(" :‬طالا‬
‫أن فرضية االكتمال لم تتحقق)"‪ .‬أي أن صورية اليكانيك الكمومي ليست حيادية فيما يتعلق بمسألة‬
‫‪242‬‬
‫البدئي‪ ،‬فإنهم ال يفشلون في تعداد البواعث والدوافع فوق النظرية وفوق التجريبية التي‪،‬‬
‫وفق هؤالء‪ ،‬تكافح من أجل استبعاد النظريات ذات التغيرات الخفية‪.‬‬
‫الدافع األول هو أن النظريات ذات التغيرات الخفية هي نظريات "ميتافيزيائية"‪،‬‬
‫بالعنى األكثر جسارة ومغامرة للمصطلح‪ .‬إن البنى الوصفية التي ّ‬
‫تطعمها على الصورية‬
‫التنبؤية للميكانيك الكمومي تكون في الواقع بحيث أنها تتضمن في ذاتها عدم قابلية‬
‫ً‬
‫الوصول للتجريب‪ .‬وحتى إذا كانت القيمة اللحظية للمتغيرات نفسها ليست فعال غير‬
‫قابلة للوصول (على عكس ما توحي به عبارة "التغيرات الخفية")‪ ،‬فإن التابعة نقطة‬
‫نقطة لسار "مستقل" ي َ‬
‫ستبعد بشكل رئيس ي بواسطة السياقية‪ .412‬وإن استخدام تأثيرات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غير محلية من أجل نقل العلومات آنيا عن بعد يصبح مستحيال من خالل عدم إمكانية‬
‫ً‬
‫السيطرة (البدئية أيضا) على الشروط البدئية‪ .‬تصبح هذه النظريات بالتالي "عقيمة‪،"413‬‬
‫طالا أنها ال تفض ي إلى أي تنبؤ إضافي بالنسبة للميكانيك الكمومي العياري‪.414‬‬
‫ستحضر ضد النظريات ذات التغيرات الخفية فهو نتيجة‬‫َ‬ ‫أما الدافع الثاني الذي ي‬
‫للدافع األول‪ .‬فكثرة وتعددية هذه النظريات والتمثيالت القترنة بها‪ ،‬على الرغم من أنه ال‬
‫يوجد بعد أي معيار تجريبي يسمح بالفصل فيما بينها‪ ،‬تبدو أنها ال تحظى بأية فرصة‬
‫ً‬
‫لالختزال وليصغر عددها في الستقبل‪ .‬فأي سبب لدينا لألخذ بواحدة منها بدال من واحدة‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫التغيرات الخفية إال بشرط أن نرى في هذه الصورية ليس وصفا كامال لـ "ما هو موجود" (األمر الذي يستبعد‬
‫ً‬
‫بالتأكيد كل إضافة وصفية)‪ ،‬بل فقط أداة تنبؤية أو وصفا يحمل ثغرات‪.‬‬
‫‪ 412‬يطبق بيتبول هنا مصطلح السياقية ‪ contextualisme‬الذي يدل على نظرية في اللسانيات‪ ،‬ووفقها يكون‬
‫ً‬
‫معنى لفظة ما مرتبطا مباشرة بسياق هذه الكلمة في الجملة‪( .‬الترجم)‬
‫‪ 413‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.314 .‬‬
‫‪ 414‬قبل كل من بوم وهيلي نفسهما أن "نظريتهما" لم تكن في الواقع سوى "تفسير" للميكانيك الكمومي‪ ،‬بمعنى‬
‫ً‬
‫أنها ال تعطي أي تنبؤ منفصل عن هذه األخيرة‪ .‬أما النقاش حول موضوع إمكانية التمييز تجريبيا بين اليكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي العياري ونظرية بوم فيبقى مع ذلك مفتوحا‪ :‬فكافة الؤتمرات حول أسس الفيزياء الكمومية التي‬
‫حضرتها خالل السنوات الثماني األخيرة كانت تتضمن على األقل اقتراح "تجربة حاسمة" تزعم أنها تسمح‬
‫بحسم السألة بين النظريتين‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫أخرى كتمثيل ّ‬
‫وفي للطبيعة‪ ،‬ضمن هذه الشروط؟ وكيف نزوغ من مشكلة ما تحت ‪-‬‬
‫تحديدية النظريات إذا كان ما يشكل رابط هذه األخيرة غياب معيار القرار ليس فقط‬
‫ً‬
‫الحاضر بل والستقبلي أيضا؟‬
‫الدافع الثالث هو أنه يمكن التخلي عن هذه الطروحات دون محتوى تجريبي خاص‬
‫بسهولة أكبر من التخلي عن وسائل موجودة أقل جسارة باإلضافة إلى إنقاذ ّ‬
‫تصور واقعي‬
‫للنظريات الكمومية‪ .415‬وهذه الوسيلة هي الواقعية البنيوية التي دافع عنها باحثون مثل‬
‫مخفف للواقعية‪ ،‬سبق وناقشناه في‬ ‫َّ‬ ‫دسبانيا وريدهيد‪ .M. Redhead 416‬إنها شكل‬
‫ّ‬
‫مفصل للصيرورات‬ ‫تقدم أي وصف‬ ‫الفصل الثالث‪ ،‬ووفقه فإن النظرية الفيزيائية ال ّ‬
‫ً‬
‫الحقيقية‪ ،‬بل فقط انعكاسا للبنى القانونية الكبرى للواقع‪.‬‬
‫ً‬
‫يعود الدافع الرابع إلى التنديد بشكل أكثر تحديدا بعيب في النظرية ذات التغيرات‬
‫الخفية لديفيد بوم‪ :‬أي السمة "التراجعية" (بالعنى الذي يقصده الكاتوس‪)Lakatos 417‬‬
‫لب رنامج البحث الرتبط به‪ .‬يالحظ دسبانيا في هذا الصدد أن برنامج بوم عانى من‬
‫انعطاف كبير هذه األيام األخيرة‪ .‬فقد كان أنصاره مجبرين على التخلي عن فكرة أن‬
‫الجسيمات وخصائصها هي عبارة عن نموذج كوني من "الكينونات"‪ :‬فقد تم حصرها‬
‫ّ‬
‫وتحدد التمثيل الجسيمي بالفرميونات‪ ،‬ولكي تدخل ككينونات‬ ‫ّ‬
‫تخصص‬ ‫وتوجيهها لكي‬
‫جديدة كثافات الحقول البوزونية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن الذين يدافعون عن برنامج بوم يعطون‬
‫ً‬
‫‪ 415‬تم استخدام محاكمة منطقية من هذا النمط حديثا من قبل كل من ريدهيد وتيلر‪Redhead et Teller ("Particle :‬‬
‫‪labels and the theory of indistinguishable particles in quantum maechanics", Brit. J. Phil. Sci., 43, p. 201-218,‬‬
‫ً‬
‫)‪ ،1992‬وذلك في إطار مشابه جدا‪ ،‬فكما يقول هذان الؤلفان‪" :‬طالا ال يوجد صورية بديلة تصف الظاهرات على األقل‬
‫ً‬
‫بالقدر نفسه من الجودة وتكون خالية من العيوب"‪ ،‬سيكون علينا أن نقبل باستخدام الطريقة‪ ،‬الصطنعة جدا‪ ،‬التي‬
‫تشتمل على تسمية الجسيمات‪ ،‬ومعالجتها كأجسام فردية‪ ،‬ثم على إخفاء في نهاية الطاف النتائج التنبؤية لتسمية‬
‫ولفردانية الجسيمات‪ .‬ولكن بما أنه يوجد مثل هذه الصورية البديلة‪ ،‬أي صورية النظرية الكمومية للحقول‪ ،‬فليس ثمة‬
‫ً‬
‫أي سبب لعدم اعتمادها في محل وموضع الصورية التي تشتمل على ترجمة شكلية للمفهوم الفارغ تجريبيا للجسيم‬
‫الفردي‪.‬‬
‫‪M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995. 416‬‬
‫‪ 417‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat, Le réel voilé .499 .‬‬
‫‪244‬‬
‫ً‬
‫االنطباع بتغيير تمثيلهم للعالم وفقا للظروف‪ ،‬وتجزئته (تمثيل للفرميونات وآخر‬
‫ً‬
‫للبوزونات) واللهاث خلف العلومات التجريبية الجديدة بدال باألحرى من توقعها وسبق‬
‫األخرين إليها‪.‬‬
‫وباإلجمال‪ ،‬فإن موقف الباحثين الذين ينتقدون النظرية التي اقترحها بوم عام ‪0964‬‬
‫ً‬
‫يشبه كثيرا الوقف الذي وصفه الكاتوس ‪ ]...[" :Lakatos‬إننا ال نلغي نظرية [‪]...‬‬
‫ً‬
‫ميتافيزيائية إذا كانت تدخل في صراع مع نظرية علمية مثبتة جيدا‪ ،‬على النحو الذي‬
‫تقترحه التفنيدية‪ 418‬البسيطة‪ .‬إنما نلغيها إذا أدت إلى انزالق تقهقري على الدى البعيد‬
‫وإذا كان هناك ميتافيزياء منافسة أفضل لتحل محلها‪."419‬‬
‫ً‬
‫ولكن هناك أيضا دافع خامس وأخير لرفض النظريات ذات التغيرات الخفية‪ .‬وربما‬
‫كان هذا الدافع هو األكثر أهمية ألنه يرتكز على نتيجة نقد ذاتي هو في جزء منه غير‬
‫مقصود ألنصار هذه النظريات‪ .‬إن نظرية بوم عام ‪ 0964‬ال تتوصل في الواقع‪ ،‬مدفوعة‬
‫إلى أقص ى نتائجها‪ ،‬حتى إلى احترام فكر برنامجها الخاص‪ ،‬وهو فكر ذري في أصوله‬
‫ً‬
‫وبدايته‪ .‬فهي بالدرجة األولى تمثل فعال العالم كمجموعة من الجسيمات النفصلة‬
‫والزودة بخصائص؛ غير أن الالموضعية والسياقية تقودان إلى اختفاء مجمل نتائج هذا‬
‫الفصل بواسطة الفكر‪ .‬وقد أمكن البرهان منذ فترة قريبة (من خالل تحليل تجارب‬

‫‪ 418‬أدخل مصطلح التفنيدية كارل بوبر في منتصف القرن العشرين‪ ،‬واعتمد في معظم العلوم الحالية‪ .‬ووفق‬
‫هذا الفهوم‪ ،‬يمكن طرح وإعداد نظرية ما دون قيود عليها‪ .‬ولكن ما أن نحصل على هذه النظرية‪ ،‬فإنه يصبح‬
‫من الالزم اختبار توافقها مع الطبيعة والواقع من خالل الرصد التجريبي والبرهان في النهاية أنها خاطئة‪ .‬عندما‬
‫ً‬
‫نقول مثال إن الطيور كلها بيضاء‪ ،‬فإنه يكفي أن نجد (تجريبيا) طيرا ليس أبيض اللون لكي نثبت خطأ مثل هذه‬
‫النظرية‪ .‬إن منهجية "التفنيدية" ت شتمل بالتالي على إثبات أن نظرية ما غير صحيحة عن طريق تفنيد تجريبي‬
‫أي وضع صيغة نظرية مفندة‪ .‬فالعلم يتقدم عن طريق االرتكاز على تفنيدات (على عكس االستنتاجية التي يبنى‬
‫العلم وفقها على نجاحات متتالية)‪( .‬الترجم)‬
‫‪I. Lakatos, The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press, 419‬‬
‫‪1978, p. 42.‬‬
‫‪245‬‬
‫تداخل النوترونات التي سبق أن ذكرناها‪ )420‬أن الجسيمات التي ّ‬
‫تصورها بوم لم تكن‬
‫تحمل خصائصها إلى نقطة الكان الذي توجد فيه‪ .‬وبتجريدها من ثوب خصائصها‪ ،‬فإنه‬
‫يتم إرجاعها إلى صف "‪ ،"bare particulars‬أي إلى صف "األجسام الفردية ال ّ‬
‫عراة"‪ .‬عالوة‬
‫ً‬
‫على ذلك فقد استنتجنا أنه يمكن أن يحصل أن وجود جسيم ال يكون حتى ليس ضروريا‬
‫ً‬
‫لكي يستجيب كاشف له كما لو كان قد تلقى واحدا‪ .‬يتعلق األمر هنا بظاهرة تسمى‬
‫"‪ " fooled detectors‬أي ظاهرة "الكواشف الخدوعة"‪ .‬وبالنتيجة‪ ،‬في العمق‪ ،‬تحت‬
‫الطبقة السطحية للمفردات الذرية التبقية‪ ،‬أظهرت القاربة القترحة من قبل بوم عام‬
‫‪ 0964‬أزمة النظرية الذرية بقدر ما أظهرت أزمة النسخ العيارية للميكانيك الكمومي‪.‬‬
‫انتهى األمر ببوم وبعدد من أنصار نظريته بقبول ذلك وباستخالص دروس جذرية‪.421‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهكذا‪ ،‬وفقا لبوم في السبعينيات والثمانينيات‪ ،‬فإن أثرا في حجرة للفقاعات هو فقط‬
‫"[‪ ]...‬جانب من [صيرورة شاملة تحتية] تظهر في اإلدراك الباشر [‪ .]...‬ووصف هذا األثر‬
‫كأثر لـ «جسيم» يعود إلى القبول‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬بأن النظام األساس ي للحركة التعلق‬
‫بالجسم مشابه للنظام األساس ي الذي يظهر في الجانب الدرك مباشرة‪ ."422‬إن الطرح‬
‫الجوهري الجديد لبوم هو أنه‪ ،‬تحت النظام الصريح والظاهر للحركات ذات الظهر‬
‫الجسيمي في الزمكان‪ ،‬هناك نظام ضمني كلي والزمكاني‪ .‬وبالتالي فإنه ال يجب بعد ذلك‬
‫اعتبار "الجسيمات" الزعومة‪ ،‬كما كتب‪ ،‬كجسيمات مستقلة وموجودة بشكل منفصل؛‬
‫ً‬
‫إن خطابنا بمصطلحات الجسيمات هو طريقة لتضليل أنفسنا أنطولوجيا بإعطاء معنى‬
‫ً‬
‫الجزأة النشورة ابتداء من النظام الضمني‪ .‬يش ّدد بوم قائال‪:‬‬
‫أساس ي للظهورات الزمكانية َّ‬
‫"إن لفظة «إلكترون» ال يجب أن َ‬
‫تعتبر سوى تسمية نجذب بواسطتها االنتباه إلى جانب‬

‫‪H.R. Brown, C. Dewdney & G. Horton, "Bohm particles and their detection in the light of neutron 420‬‬
‫"‪ ،interferometry‬في الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 421‬من أجل تعليق حول هذه النقطة‪ ،‬راجع ‪ ،B. d'Espagnat, Le réel voilé‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.323 .‬‬
‫‪D. Bohm, Wholeness and the implicate order, Ark Paperbacks, 1983, p. 155. 422‬‬
‫‪246‬‬
‫معين من الحركة الكلية؛ جانب ال يمكن مناقشته إال إذا أخذنا بعين االعتبار مجمل‬
‫الم َ‬
‫وض َعة النتقلة بشكل‬ ‫الوضع التجريبي‪ ،‬والذي ال يمكن تعيينه بمصطلحات األجسام َ‬
‫مستقل في الكان‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإن كل نوع من «الجسيمات»‪ ،‬الذي يقال في الفيزياء‬
‫مكون أولي للمادة‪ ،‬يجب أن يناقش وفق الفكر نفسه (بحيث أن هذه‬ ‫الحديثة إنه ّ‬

‫«الجسيمات» ال تعود معتبرة كجسيمات مستقلة وموجودة بشكل منفصل)‪."423‬‬


‫‪ 5 .5‬قيم الذهب الذري‬
‫لكي نلخص ما سبق‪ ،‬فإن بنية النظرية الكمومية للحقول والنقد الداخلي بقدر ما هو‬
‫خارجي للنظريات ذات التغيرات الخفية يضعان التمثيالت الذرية في وضع ال يمكننا أال‬
‫ً‬
‫جدا‪ .‬لكن هل ّ‬
‫يبرر ذلك أن نمض ي حتى القول‪ ،‬مثل برنار دسبانيا‪ ،‬إن‬ ‫نصفها بالحساس‬
‫‪424‬‬
‫‪multitudinisme‬‬ ‫الفيزياء الكمومية النسبوية "تنافس [‪ ]...‬لتقدير" أن "التعددية‬
‫ً‬
‫خاطئة‪"425‬؟ هل يمكننا القبول بأن السألة القوية جدا التي يطرحها دسبانيا‪" :‬هل‬
‫ً‬
‫صحيح أن الكائن مبعثر بين تعددية من العناصر األولية؟"‪ ،‬تجد جوابا لها في الحجج‬
‫السابقة؟ هل التمثيل الذري هو تمثيل صحيح أم خاطئ؟ وبشكل ّ‬
‫أعم‪ ،‬هل يمكن لخيار‬
‫أنطولوجي أن ّيتخذ قيمة حقيقة؟‬
‫خطأ ّ‬‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ضد‬ ‫إن تحليال معروفا جدا يعود الفضل فيه لكارناب‪ 426‬وويتغنشتاين يندرج‬
‫ََ‬
‫مماثلة شبكة قراءة أنطولوجية مع قضية واقعية من المكن وصفها بالصحيحة أو‬
‫بالخاطئة‪ .‬إن اإلطار األنطولوجي يشكل الخلفية الضرورية للقضايا الواقعية؛ لكنه ليس‬
‫هو نفسه قضية واقعية‪ .‬إن القبول بإطار أنطولوجي هو بالنتيجة‪ ،‬كما يقول كارناب‪،‬‬

‫‪ 423‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 424‬التعددية هي وفق برنار دسبانيا رؤية يتكون العالم وفقها من عناصر بسيطة تتفاعل فيما بينها بواسطة‬
‫قوى تتناقص مع ازدياد السافة بينها‪( .‬الترجم)‬
‫‪ 425‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪B. d'Espagnat, Le réel voilé .335 .‬‬
‫‪R. Carnap, Meaning and cecessity, 2nd edition, The University of Chicago Press, 1956, p. 205, 426‬‬
‫‪trad. fr. Signification et nécessité, P.U.F., 1997.‬‬
‫‪247‬‬
‫مسألة تطبيقية باألحرى منه مسألة نظرية؛ إنه مسألة نفعية أو فعالية وليس مسألة‬
‫ً‬
‫مصداقية‪ .‬ويتوافق هذا التوجه تماما مع التوجه الذي تمت اإلشارة إليه منذ بداية هذا‬
‫الفصل‪ :‬إن أنطولوجيا مثل تلك القرونة بالنظرية الذرية ال تعود إلى تصنيفات الوجود أو‬
‫عدم الوجود‪ ،‬بل باألحرى إلى الكفاءة أو عدم الكفاءة بما هي شبكة قراءة سابقة ودليل‬
‫من أجل البحث التجريبي‪.‬‬
‫باتباع طريق افتتحه بوتنام‪ ،427‬سوف أضيف أن القرار التعلق باستخدام إطار‬
‫ً‬
‫أنطولوجي يتضمن قيما بقدر ما يتضمن من الوقائع؛ وقائع ليست باإلضافة إلى ذلك هي‬
‫نفسها منفصلة بالكامل عن قيم مجتمع الباحثين الذين يقبلون بها كما هي‪ .‬وفي حال‬
‫رفض التعددية الذرية واعتماد تنوع من األنطولوجيا األحادية كتلك التي لدى دسبانيا‪ ،‬أو‬
‫شرودنغر أو بوم في الرحلة األخيرة (أنطولوجيا النظام النطوي الكلي)‪ ،‬فإن هذه القيم‬
‫تصبح سهلة التحديد والطابقة‪ :‬يتعلق األمر هنا بمتطلبات التجانس والبساطة ووحدة‬
‫الخطط التصوري‪ ،‬كما وبإرادة أن نأخذ بجدية تامة بنية النظريات الفيزيائية التنبؤية‬
‫َّ‬
‫الؤك َدة التي نقرن ببعض رموزها (كما على سبيل الثال متجه الحالة الشامل في فضاء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فوك ‪ Fock‬الستخدم في النظرية الكمومية للحقول وفي التكميم الثاني) تابعا وصفيا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومرجعيا‪ .‬وأنا شخصيا ال أمانع أبدا في القبول بهذه التطلبات وتأييدها‪ ،‬ولدي ميل بالتالي‬
‫ً‬
‫إلى اعتبار أن رؤية للعالم غير ذرية‪ ،‬رؤية أحادية بنيويا وكليانية‪ ،‬هي في الوقت الحاضر‬
‫قدم للذين يحاولون الحفاظ على موقف واقعي في الفيزياء‪.‬‬ ‫أحد أفضل الخيارات التي ت َّ‬
‫ويبدو لي ببساطة‪ ،‬على خالف الواقعيين األصيلين‪ ،‬أن االتجاهية الرجعية التضمنة بهذا‬
‫الوقف الواقعي ال يجب النظر إليها كبديل للسببية التجاوزية بين ما تم اإلسناد الرجعي‬
‫له وبين الظاهرات‪ .428‬فهي ال يجب أن تكون كذلك ال من وجهة نظر بسيطة وساذجة‪،‬‬

‫‪H. Putnam, Realism with a human face, Harvard University Press, 1990, trad. fr. Le réalisme à 427‬‬
‫‪visage human, Seuil, 1993.‬‬
‫‪ 428‬حول هذا الوضوع في السببية التجاوزية أو "الوسعة"‪ ،‬راجع ‪ ،B. d'Espagnat, Le réel voilé‬الرجع السابق‪،‬‬
‫ً‬
‫ص‪ .350 .‬وراجع أيضا القطع ‪ 3‬ـ ‪ 3‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫ً‬
‫يكون كل اعتبار بالنسبة لها مستندا على نظرية العرفة هو اعتبار فائض وغير مجدي‪ ،‬وال‬
‫من وجهة نظر فلسفية انعكاسية يعمل فعل اإلسناد الرجعي بالنسبة لها كهدف ناظم‬
‫بسيط يساهم في تثبيت معايير من أجل لزوم النشاط التجريبي‪.‬‬
‫ولكن إذا اعتمدنا في الوقت الحاضر الهدف اإلسنادي أو الرؤية الرجعية األحادية‬
‫ً‬
‫بنيويا (مع أو بدون معنى تجاوزي مقترن بها) الذي اقترحه شرودنغر ودسبانيا وبوم‬
‫األخير‪ ،‬فال بد من الوقوف على حقيقة أنها لم تعتمد بالضبط إال باسم عدد معين من‬
‫القيم الشتركة‪ .‬وهكذا يمكن لنظومات قيم أخرى أن ّ‬
‫تسهل وتقدم لرؤى وأهداف‬
‫إسنادية جديدة‪ .‬علينا بالتالي أن نعرف كيف ّ‬
‫نتعرف على القيم الختلفة التي تقود بعض‬
‫ً‬
‫الباحثين إلى تعزيز رؤى إسنادية مختلفة‪ ،‬بدال باألحرى من استبعادها باإلجمال‬
‫باستدعاء ضمني لقيمنا الخاصة‪.‬‬
‫ومرة أخرى تفيدنا النظرية ذات التغيرات الخفية التي صاغها بوم في عام ‪0964‬‬
‫كمثال على ذلك‪.‬‬
‫ما هي القيم التي تقود الباحثين الذين ينتمون إليها‪ ،‬والذين بتجنبهم اتباع بوم في‬
‫أقص ى ما توصل له من أحادية يستمرون في أن يروا في نظريته األصلية التي صاغها عام‬
‫‪ 0964‬نقطة ارتكاز ذات مصداقية من أجل تمثيل ذري؟ ما هي القيم التي تقودهم إلى‬
‫القبول بمفاهيم غريبة وشاذة بمقدار مفهوم "‪ ،"bare particluars‬أي الكينونات الفردية‬
‫ً‬
‫الجردة من خصائصها‪ ،‬أو أيضا مفهوم الـ "‪ ،"fooled detectors‬أي الكواشف التي تنطلق‬
‫دون جسيمات في حين أننا نعتبر بشكل طبيعي االطالق النقطي والفردي لثل هذه‬
‫الكواشف كـ "دليل" على وجود الجسيمات؟ فلن ندهش بالتالي‪ ،‬بعد التحليالت السابقة‪،‬‬
‫من أن القيمة الرئيسية بين هذه القيم‪ ،‬القيمة التي تسيطر على كافة القيم األخرى والتي‬
‫تفرض التخلي عن بعضها‪ ،‬هي هنا مطلب االستمرارية التاريخية مع النظريات الفيزيائية‬
‫ّ‬
‫التوجه بكثير من الوضوح كل‬ ‫عبر عن هذا‬ ‫الكالسيكية ال بل ومع الوقف الطبيعي‪ .‬لقد ّ‬

‫من بوم وهيلي ‪ Hiley‬نفسهما‪ ،‬عندما نصبا من نفسيهما محاميين مدافعين عن النسخة‬
‫‪249‬‬
‫نبين‪ ،‬أن اليكانيك الكمومي يشتمل‬‫األولية من نظرية بوم‪ ،‬حيث كتبا‪" :‬من األساس ي أن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على مستوى كالسيكي ليس مفترضا مسبقا كما في القاربة العادية‪ ،‬بل الذي يتبع مثل‬
‫إمكانية داخل النظرية الكمومية نفسها‪ ."429‬في القاربة العادية‪ ،‬التي يتحدث عنها كل من‬
‫ً‬
‫بوم وهيلي‪ ،‬فإن النمط الكالسيكي للوصف مفترض مسبقا في الواقع من أجل أن يأخذ‬
‫وليفسر بمصطلحات القياس لبعض‬ ‫ّ‬ ‫بعين االعتبار الجوانب الظاهرة لعمل التجهيزات‪،‬‬
‫التغيرات األحداث الجهارية التي تفي كحجة للصورية االحتمالية للميكانيك الكمومي‪.‬‬
‫وبالثل‪ ،‬فإن التنبؤات الكمية للفيزياء الكالسيكية تعتبر كتقريبات على الستوى الكبير‬
‫للنظريات الكمومية‪ .‬يسمح ذلك بوضع رابط مزدوج ضعيف‪ ،‬إنما كاف طالا كنا نلتزم‬
‫بموقف ذرائعي منهجي‪ ،‬بين الفيزياء الكمومية والفيزياء الكالسيكية‪ .‬وعلى النقيض من‬
‫ذلك‪ ،‬كان طموح نظرية بوم أن تمض ي إلى ما وراء هذا التوافق العملياتي والكمي‬
‫البسيط‪ ،‬والحفاظ على عالقة عبر االستمرارية للمفاهيم والتمثيالت‪ .‬ولكي تتوصل إلى‬
‫ذلك كان عليها أن توافق على كمية من التجهيزات التي‪ ،‬من وجهة نظر قيم التجانس‬
‫والبساطة واألحادية أو التفرد‪ ،‬تبدو كما الكثير من حاالت التخلي‪ .‬التخلي عن شمولية‬
‫ً‬
‫التباين الشترك النسبي‪ ،‬بداية‪ ،‬طالا أن هذا األخير‪ ،‬الذي يصح دائما على الستوى‬
‫اإلحصائي‪ ،‬ال ينطبق من بعد على الصيرورات الفردية‪ .‬وهو من جهة أخرى ٍ‬
‫تخل عن‬
‫الوحدة الصورية ‪ /‬الشكلية للنظريات الكمومية‪ ،‬طالا أن بوم وهيلي يتمسكان كما سبق‬
‫وأشرنا بنوعين اثنين من الكينونات ويطوران نوعين اثنين من الصوريات والتمثيالت‬
‫ً‬
‫الختلفة تماما‪ ،‬إحداهما بالنسبة للفرميونات واألخرى بالنسبة للبوزونات‪.‬‬
‫إن تحليل محرضات هذا التخلي الثاني تفيدنا بشكل خاص‪ .‬إن النظرية الكمومية‬
‫الكممة من تحريض وسط مهتز‪ ،‬هي نظرية قابلة‬ ‫للحقول‪ ،‬مع مفهومها الميز للسوية َّ‬
‫للتطبيق على الفرميونات وعلى البوزونات بالقدر نفسه وذلك مقابل تناوب جبري في ّ‬
‫حده‬
‫األدنى‪ :‬استبدال عالقات اإلبدال (بالنسبة للبوزونات) بعالقات الالإبدال (بالنسبة‬

‫‪D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 160. 429‬‬
‫‪251‬‬
‫للفرميونات)‪ .‬إن اختالفات السلوك بين الفرميونات والبوزونات‪ ،‬التي تجعل من الشائع‬
‫ّ‬
‫اعتبار األولى كـ "عناصر مشكلة للمادة" والثانية كـ "وسطاء تفاعل"‪ ،‬ت َح ّل على هذا النحو‬
‫ضمن مخطط جبري َّ‬
‫موسع؛ والشعور الذي يتقاسمه الفيزيائيون على نطاق واسع هو أن‬
‫ً‬ ‫هذه اإلختالفات يمكن أن َ‬
‫تح ّل بطريقة أكثر جذرية أيضا من خالل عمليات التناظر‬
‫الفائق‪ ،‬القابلة لتحويل الفرميونات إلى بوزونات (أو بالعكس) وإلقامة صلة مطلوبة يتم‬
‫البحث عنها بين فضاءات درجات الحرية "الداخلية" للحقول الكمومية وزمكان‬
‫مينكوفسكي العام‪ .430‬تضمن بالتالي النظرية الكمومية للحقول سوية مميزة من الوحدة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الصورية‪ ،‬وتميل (عبر مفهوم التناظر الفائق) باتجاه سوية وحدة أكثر ارتفاعا أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫بوم وهيلي يعرفان ذلك‪ .‬وهما يبينان إضافة إلى ذلك كيف أنه من المكن تماما‪،‬‬
‫باعتماد كثافات الحقل ككينونات وحيدة بالنسبة لحالة البوزونات‪ ،‬تفسير كافة‬
‫َ‬
‫العتب َرة عادة كآثار جسيمية دون أي تدخل على اإلطالق ألي جسيم‬ ‫الظاهرات التقطعة‬
‫كان‪ .‬إن التفسير الطروح يلجأ إلى صيرورات غير خطية من التركيز اآلني للطاقة التي كانت قد‬
‫ماص‪ .‬وهو تفسير يستعيد في إطار مختلف‬ ‫ّ‬ ‫تبعثرت سابقا في الحقل‪ ،‬في لحظة تفاعلها مع‬
‫فكرة كان قد ذكرها أينشتين عام ‪ 0919‬كبديل ممكن لفرضية الفوتونات‪ ،‬ثم تخلى عنها‬
‫ً‬
‫فورا بسبب حجة المعقوليتها‪ :‬وهي فكرة اللجوء‪ ،‬من أجل تفسير صيرورات االمتصاص‪ ،‬إلى‬
‫إعادة تركيز للطاقة الوجية التي تكون النظيرة الزمنية لتشتت الطاقة الوجية الالحظ أثناء‬
‫صيرورة اإلصدار‪ .431‬ويخلص بوم وهيلي إلى أن التوزع من النمط الوجي لكينونات الحقل‬
‫هو ما يحدد الظهورات من النمط الجسيمي‪ .432‬إن تأكيد دسبانيا الذي وفقه ال تثبت‬
‫ً‬
‫الظاهر الجسيمية شيئا فيما يتعلق بوجود جسيمات هو بالتالي بالنظر إلى الاض ي تأكيد‬

‫‪G. Cohen-Tannoudji et M. Spiro, La matière espace-temps, Folio-Gallimard, 1990, p. 341. 430‬‬


‫‪A. Einstein, "L'évolution de nos conceptions sur la nature et la constitution du rayonnement" 431‬‬
‫ً‬
‫‪ .(1909), in A. Einstein, Œuvres I, Quanta, Seuil, 1989‬وانظر أيضا‪L. Soler, Emergence d'un nouvel :‬‬
‫‪objet symbolique: le photon, Thèse de l'université Paris-I, décembre 1997.‬‬
‫‪ 432‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe .430 .‬‬
‫‪251‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مبرر‪ ،‬وبالعنى األكثر قوة‪ ،‬طالا أن تفسيرا بديال تاما يمكن أن ي َّ‬
‫َّ‬
‫قدم في إطار نظرية قابلة‬
‫ً‬
‫للتفسير أنطولوجيا لكثافات الحقل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن السؤال الذي نطرحه حاليا هو التالي‪ :‬طالا أن كافة اآلثار الزعومة آثارا جسيمية‬
‫للبوزونات يمكن أن تؤخذ بعين االعتبار في نظرية للحقول‪ ،‬لاذا ال نوسع هذا النوع من‬
‫النظرية إلى مجمل الظاهرات‪ ،‬بما فيها الفرميونية والبوزونية على حد سواء؟ ولاذا ال نلجأ‬
‫إلى االستفادة من الوحدة الصورية ومن مشاريع الوحدة البنيوية الكاملة للنظرية الكمومية‬
‫للحقول‪ ،‬لكي نعمم تفسير االنقطاعات الظاهرة عبر صيرورة تركيز محلي آني لطاقة حقل‬
‫ً‬
‫أنطولوجيا؟ ّ‬ ‫َّ‬
‫قدم بوم عدة أنواع من األجابات على هذا السؤال‪ ،‬لكن أوضحها نجده‬ ‫مفسر‬
‫في مقالة لبوم وهيلي وكالوييرو ‪ Kaloyerou‬تعود إلى عام ‪" :0961‬إذا اعتبرنا الفرميونات‬
‫كحقول‪ ،‬فإنها ستخضع لعالقات ال إبدالية ‪ anti-commutation‬ليس لها ّ‬
‫حد كالسيكي‬
‫[‪ ."433]...‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن نظرية محتملة للحقول الفرميونية ستكون محرومة من عالقة‬
‫االستمرارية القوية مع الفيزياء الكالسيكية العتمدة كقيمة سائدة من قبل معظم أنصار‬
‫نظرية بوم (في نسختها لعام ‪ 0964‬والوسعة بإدخال كينونات الحقل)‪ .‬فهم يرفضون‬
‫بسبب ذلك األخذ األنيق بعين االعتبار لصيرورات "خلق" و"إفناء" الفرميونات التي تقدمها‬
‫النظرية الكمومية للحقول‪ ،‬لكنهم لم يتخلوا مع ذلك عن إعداد نظرية كمومية نسبوية‬
‫ً‬
‫للفرميونات قابلة للتفسير أنطولوجيا‪ ،‬ولهذا فقد كان ال بد لهم من تجديد تمثيل‬
‫ليتناسب مع الذائقة العاصرة وكان قد تم نسيانه إلى حد ما وهو تمثيل يعود إلى ديراك‪:‬‬
‫إنه بحر من جسيمات الطاقة السلبية‪ ،‬وفيه يؤدي انتقال جسيم‪ ،‬إلى سوية طاقة‬
‫إيجابية‪ ،‬إلى ترك ثقب مكانه يوصف بالجسيم الضاد‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فإن أحد األسباب‬
‫‪434‬‬
‫هو أنه غير قابل‬ ‫الرئيسية الذي تم من أجله استبعاد هذا النموذج وفق واينبرغ‬
‫للتطبيق على البوزونات في حين أن النموذج النافس للنظرية الكمومية للحقول هو من‬

‫‪D. Bohm, B.J. Hiley & P.N. Kaloyerou, "An ontological basis for quantum theory", Physics Reports, 433‬‬
‫‪144, p. 321-375, 1987.‬‬
‫‪S. Weinberg, The quantum theory of fields I, Cambridge University Press, 1995, p. 14. 434‬‬
‫‪252‬‬
‫جهته نموذج كوني شامل‪ .‬ولكن كما سبق ورأينا‪ ،‬فإن أنصار نظرية بوم جاهزون للتخلي‬
‫عن قيمة التوحيد الصوري لصالح قيمة استمرارية تاريخية‪.‬‬
‫باالعتماد على هذا النوع من التحليل األخالقي لنظرية بوم‪ ،‬فمن المكن التخفيف‬
‫من الخشية التي يبديها الؤلفون الذين ينتقدونها بسبب إمكانية تضاعف غير محددة‬
‫لكينونات النظريات ذات التغيرات الخفية‪ .‬فعندما يتم تطويرها بشكل صحيح‪ ،‬فإن هذه‬
‫النظريات ال تشبه لذلك منظومة العالم البطلميوس ي‪ ،‬مع أفالك مداراتها التي كانت تزاد‬
‫كلما كان هناك حاجة إلضافتها‪ .‬فهي ال تتطلب سوى نوعين اثنين من الكينونات‪:‬‬
‫الكينونات الذرية أو الجسيمية وكينونات الحقول‪ ،‬أي بالضبط الكينونات النمطية التي‬
‫نجدها في النظريات الكالسيكية التي تهدف إلى الترابط معها من خالل عملية إسقاط‬
‫تاريخي‪ .‬إن قائمة كينونات الفيزياء الكالسيكية في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن‬
‫ً‬
‫تتجاوز أبدا هذين النموذجين البدئيين للمتقطع والستمر‪ ،‬وبالتالي ال يجب أن نخش ى أي‬
‫تكاثر وانتشار أنطولوجيين لوافقاتها الكمومية‪.‬‬
‫‪ 11 -5‬العمق القديم للميتافيزياء ومفاهيم واسعة الطيف‬
‫أينما ألقينا بنظرنا في الفيزياء العاصرة سوف نرى بالنتيجة مواجهة بين اتجاهين أو‬
‫ميلين متعارضين للوهلة األولى‪.‬‬
‫موحد لصف متوسع من‬ ‫فمن جهة‪ ،‬نلحظ أزمة في شبكة القراءة الذرية بما هي دافع ّ‬
‫الظاهرات النظمة في الفيزياء الكمومية‪ .‬إن الحجة األساسية التي َّ‬
‫طورها جان بران ومن‬
‫أتى بعده لصالح النظرية الذرية‪ ،‬أال وهي قابليتها للجمع بطريقة متجانسة وتوحيد عدد‬
‫كبير من التحديدات الرقمية أو األرصاد للبنى الكانية‪ ،‬هي حجة وصلت إلى نهايتها‪ .‬إن‬
‫القيمة الساعدة على الكشف (اإلرشادية) تظل قيمة واسعة وغير منقوصة في عدد كبير‬
‫ً‬
‫من قطاعات الفيزياء وأكثر منها في الكيمياء‪ ،‬لكن تتفوق منذ اآلن فصاعدا على قابليتها‬
‫لتوحيد هذين القطاعين فيما بينهما ومع قطاعات أخرى قابلية مخططات الفكر‬
‫االستمرارية والكلية الشتقة من صورية النظرية الكمومية للحقول‪ .‬يشابه هذا الصير‬
‫‪253‬‬
‫للنظرية الذرية بشكل عام‪ ،‬وإن كان على مستوى أكبر بكثير‪ ،‬الصير الذي تكبده نموذج‬
‫ذرة بور بين عامي ‪ 0903‬و ‪ :0944‬فهذا النموذج يحفظ كما نعلم قدرة إرشادية مساعدة‬
‫على الكشف ال يستهان بها في قطاع محدد من الفيزياء الجهرية‪ ،‬على الرغم من عدم‬
‫َّ‬
‫وموحد لقطاعات التجربة التي يغطيها مجال صحة‬ ‫مقدرته على تقديم بيان مقبول‬
‫وشرعية اليكانيك الكمومي العياري الذي صيغ بين عامي ‪ 0946‬و ‪.0945‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬فإننا نواجه من جهة أخرى ثباتا واستمرارا عنيدين لنمط التعبير الذري‬
‫َّ‬ ‫ً ّ ً َ ً‬
‫مفترضا للفيزياء) باسم إسناد مرجعي إما ضمني أو مؤكد‬ ‫(بما في ذلك كونه دافعا موحدا‬
‫إلى ماضيه العقائدي‪ .‬أعطى ماكس بورن ‪ Max Born‬بعد هايزنبرغ الثال البكر على‬
‫َّ‬
‫مرجعية مؤك َدة على الخلفية التاريخية للنظرية الذرية‪ .‬ففي عام ‪ّ ،0964‬رد على‬
‫ً‬
‫شرودنغر وعلى حماسته ضد الذرية‪ ،‬مالحظا أنه سيكون من "الغرور" التخلي عن‬
‫الخطط الذري دون أن يكون لدينا بديل قوي له‪ ،‬طـالا أن ذلك يعني تجاوز التقليد‬
‫ّ‬
‫مثلت الفيزياء الكمومية في بداياتها ّ‬
‫تجدده‪.435‬‬ ‫التاريخي نفسه الذي‬
‫وأمام مثل هذه التصريحات‪ ،‬فإن مالحظات هيالري بوتنام حول ما يسميه "الفاهيم‬
‫تبين أن تجنب شرخ الخيط التاريخي‬ ‫ذات الطيف الواسع" تكتسب موافقة كبيرة‪ ،‬ألنها ّ‬
‫ً‬
‫للمفاهيم يفترض أن نوافق على إدخال هامش تسامح متزايد (حتى ال نقول غموضا ما) في‬
‫هذه الفاهيم‪ .‬وفق بوتنام‪ ،‬على سبيل الثال‪ ،‬فإن الفاهيم الصورية لجسم ‪ -‬حامل‬
‫ً‬
‫ولخاصية ما ال تعمل أبدا في الفيزياء الكمومية بما يوافق ما كان يمكن توقعه من قبولها‬
‫البدئي؛ فإذا ما ظللنا نستخدمها عبر استمرار الخطط الذري‪ ،‬فذلك فقط على حساب‬
‫ً‬
‫تغييرها إلى ما وراء ما كان يعتبر مقبوال في عصر الفيزياء الكالسيكية‪" .‬إن «سبين»‬
‫ً‬
‫كوارك» ما ليس خاصية بالعنى الذي يكون فيها لألجسام عموما خاصية ما‪ ،‬ومن جهة‬
‫« ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أخرى‪ ،‬فإن «الكوارك» ليس أيضا جسما بالعنى التفق عليه عموما؛ ونعطي في الواقع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للفظة "جسم" معنى جديدا كنا نجهله سابقا‪ ،‬مع عالقة خاصية ‪ -‬جسم كانت مجهولة‬

‫‪M. Born, "The ineterpretation of quantum mechanics", Brit. J. Philos. Sci., 4, p. 95-106, 1953. 435‬‬
‫‪254‬‬
‫ً‬
‫هي أيضا‪ ."436‬إن الجسم (الذري) و"الخاصية" يعمالن في الفيزياء كـ "مفهومين واسعي‬
‫الطيف"‪ ،‬وقد قرنا في القرن العشرين بالرونة الطلوبة لكي يستمر استخدامهما كجسر‬
‫بين نماذج (‪ )paradigmes‬علمية مختلفة بشكل عميق‪ .‬ويشير بوتنام إلى أنهما هما اللذان‬
‫حل عملي لسألة استحالة القياس بين النماذج الختلفة‪ .‬وبدونهما‪ ،‬ودون‬ ‫يشكالن نواة ّ‬
‫الفكرة العادية بأن الفيزياء الكمومية لم تقم في العمق سوى بتحديد الخصائص‬
‫والسلوكات القانونية لجسيمي "اإللكترون" و"الذرة" اللذين كانا معروفين في الفيزياء في‬
‫ّ‬
‫نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬ومن ثم بالسماح باكتشاف أجسام ‪ -‬مشكلة جديدة من‬
‫النمط نفسه وصفوف جديدة من الخصائص‪ ،‬فإن الصلة بين كون من النقاط الادية‬
‫في حالة تفاعل في الفيزياء الكالسيكية والصورية التنبؤية للنظريات الكمومية لن يكون‬
‫ً‬
‫فيها ثمة ما هو مؤكد فعال‪.‬‬
‫وبشكل أعمق‪ ،‬فإن استدامة النموذج الذري بما هو مخطط كوني الطموح‪ ،‬على‬
‫ً‬
‫تقريبا لطيف الفاهيم القترنة به‪ ،‬ت َّ‬
‫فسر بقدرته على مد جسر‬ ‫حساب توسع بال حدود‬
‫بين الفيزياء الحديثة وما كان نيتشه ‪ Nietzsche‬يسميه "العمق اليتافيزيائي" للغة‪ ،‬أي مع‬
‫البنية الوضوع ‪ -‬السند للقضية ال َ‬
‫قترحة‪ ،‬كما ومع النموذج التشريحي لألنطولوجيا‪.437‬‬
‫كتب نيتشه‪" :‬إنه عمقنا اليتافيزيائي األقدم [‪ ،]...‬العمق الذي سوف نتخلص منه في‬
‫الرحلة األخيرة‪ ،‬إذا افترضنا أننا سوف ننجح في التخلص منه ‪ -‬هذا العمق الذي اندمج‬
‫مع اللغة ومع التصنيفات القواعدية بحيث أصبح ال يمكن االستغناء عنه إلى حد يبدو‬
‫معه أنه سيكون علينا التوقف عن التفكير‪ ،‬إذا ما تخلينا عن هذه اليتافيزياء‪ ."438‬إن‬
‫استبعاد النظرية الذرية سيمثل في هذا النظور ليس ما هو أقل من التخلي عن استخدام‬
‫الكالم‪ ،‬أو إعادة صهر من الصعب تحقيقها الستخدامه‪ ،‬في حقل التجربة الحكوم‬

‫‪H. Putnam, Définitions, Editions de l'Eclat, 1992, p. 62. 436‬‬


‫‪ 437‬يتعلق األمر هنا بإشارة إلى كوين ‪.W.V. Quine, The roots of reference, Open Court, 1974‬‬
‫‪F. Nietzsche, La volonté de puissance I, Gallimard, 1995, 97. 438‬‬
‫‪255‬‬
‫بالنظريات الكمومية‪ .‬وفي مواجهة مثل هذا التحدي‪ ،‬يمكننا بسهولة تصور أنه مهما‬
‫ً‬
‫استمر ودام مجال من الظاهرات‪ ،‬حتى وإن كان محدودا‪ ،‬ويبقى من المكن العمل تجاهه‬
‫كما لو كنا نعالج مجموعة من األجسام النصوص عنها في التاريخ‪ ،‬فإن العديد من‬
‫الفيزيائيين يفضلون استخدام نظرية أو خطاب مجزأين يشمالن هذه األجسام بين‬
‫ً‬
‫بدال باألحرى من نظرية ّ‬
‫موحدة ال تشتمل عليها‪.‬‬ ‫كينوناتهما‪،‬‬
‫إن االحتياط الوحيد الذي يجب اتخاذه لكي ال يتحول هذا التفضيل الفهوم إلى‬
‫إعالن عقائدي غير صحيح هو ّ‬
‫تجنب اتخاذ الطابع غير اللزم لألسباب التي ستكون لدينا‬
‫ً‬
‫إلعادة النظر في كل موضع بالكينونات التقليدية الفترضة مسبقا في سبيل سبب جيد هو‬
‫تأكيد وجودها‪ .‬يظل يحق للفيزيائيين دائما بالنتيجة أن يقطفوا ثمار الوروث الذري من‬
‫خالل مفرداتهم وأنماط تعبيرهم‪ ،‬إنما لم يعد باستطاعتهم إخفاء شروط استخدامها‪ .‬فال‬
‫ش يء يمنعهم من االستمرار في ّ‬
‫مد خطابهم وأفعالهم في "العمق اليتافيزيائي القديم"‬
‫َ‬
‫التض َّمن الذي ّ‬
‫تحدث عنه نيتشيه‪ ،‬بل إن كل ش يء يحذرهم من محاولة إعادة تجميد‬
‫وبلورة هذا العمق في ميتافيزياء منبسطة‪ .‬إن النظرية الذرية‪ ،‬التي ولدت منذ ألفين‬
‫ّ‬
‫مفضل على‬ ‫َ‬
‫تستخدم اليوم كشاهد‬ ‫وخمسمائة عام كإعداد لألنطولوجيا البارمينيدية‪،‬‬
‫انحالل‪ ،‬بدأ منذ كانط إنما أصبح من الصعب بعد اآلن ّ‬
‫تجنبه‪ ،‬للنواة اليتافيزيائية‬
‫لألنطولوجيات‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫‪439‬‬
‫‪ .6‬استعدادات وتحديدات قاطعة‪ :‬تأمل حول الفراغ‬

‫"ال يمكن أن يكون ّثم إدراك‪ ،‬بنتيجة‬


‫تجربة‪ ،‬يثبت مباشرة أو عن طريق وساطة ما‬
‫ً‬
‫ّ(أيا كان التحايل النطقي الذي يمكن أن نقوم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫به) غيابا كامال ألي واقع في الظاهرة؛ أي أننا ال‬
‫نستطيع أبدا أن نستخلص من التجربة‬
‫البرهان على وجود مكان فارغ أو على وجود‬
‫زمن فارغ‪".‬‬
‫إ‪ .‬كانط‪ ،‬نقد العقل الخالص‬
‫‪E. Kant, Critique de la raison pure‬‬

‫لا كان الفصل السابق قد قادنا إلى إعادة النظر بشكل جدي بالنظام األساس ي‬
‫للتمثيل التأليفي الذي يحفظه الذهب الذري في الخطاب الحامل للفيزياء العاصرة‪ ،‬فإنه‬
‫من الهم تقييم تمثيالت أخرى وأنطولوجيات أخرى‪ .‬تمثيالت وأنطولوجيات هي‪ ،‬حتى‬
‫اللحظة‪ ،‬متشابكة على نحو ال ينفصم مع أنماط تعبير ذرية‪ ،‬إنما قابلة ألن تشاد كبدائل‬
‫حقيقية‪ .‬وأحد هذه التمثيالت يجذب انتباهنا بشكل خاص في هذه األيام‪ :‬أال وهو تمثيل‬
‫لخلفية وحيدة من الكمونات‪ ،‬خزان من التموجات الطاقية والادية يسمى "الفراغ‬
‫الكمومي"‪ .‬إن مفهوم "الفراغ الكمومي" هذا سيشكل بالتالي الوضوع الرئيس ي لهذا‬
‫الفصل‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ال غنى عن تمهيد يشتمل على تحليل لفهومي الـ "االستعداد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ "disposition‬والـ "االنبثاق ‪ "propension‬اللذين يعطيانه أساسا فلسفيا‪ ،‬من خالل‬
‫معارضتهما له مع مفهوم "التحديدية القاطعة"‪.‬‬

‫‪ 439‬ظهرت نسخة سابقة من هذا الفصل في ‪E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, Editions de‬‬
‫‪.l'université de Bruxelles, 1998‬‬
‫‪257‬‬
‫‪ 1 .6‬القطعية‪ 440‬واخحالية‬
‫ً‬
‫إن نسب تحديد قطعي لش يء ما‪ ،‬وفقا للمعنى األول للفظة اليونانية ‪،ααροϒηταα‬‬
‫َّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومت َهما‬ ‫هو بمثابة القيام بتوجيه تهمة‪ .‬وهذه التهمة تضع وجها لوجه َّمتهما‪ ،‬هو العارف‪،‬‬
‫ً‬
‫هو الوضوع العروف‪ .‬وهي تشتمل على اتهام الوضوع بأن يكون "‪ "A‬بدال باألحرى من أن‬
‫يوضح بالفعل والعمل الؤثر اإلشارات التي ال تدحض‪ .‬إن التعيين‬ ‫يكون "ال ‪ ،"A‬وبأنه ّ‬
‫ّ‬
‫القاطع يولف من هذا األمر لحظتين‪ :‬تأكيد حالية ‪ ، actualité‬وموضعة هذه الحالية على‬
‫سلم ثنائي من خالل البادئ النطقية لعدم التناقض وللثالث الرفوع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فعبر هذا التعيين القاطع ترتسم في الواقع صورة مختلفة تماما عن صورة الـ "وجها‬
‫ّ‬
‫لوجه" اإلحصائية للذات والوضوع‪ .‬وتمثل لحظته الثانية‪ ،‬التي تشتمل على موضعة‬
‫ّ‬
‫الحالية على سلم من التعارضات‪ ،‬الرحلة االبتدائية لسيرورة الوضعة؛ وهي مرحلة‬
‫مندرجة في البنية التنبؤية للغة حيث ال تقوم النظرية الثنوية للمعرفة سوى بتحويلها من‬
‫حقيقة مجردة إلى حقيقة وجودية‪ .‬إن العلوم تهدف‪ ،‬بشكل ال يقبل الجدل‪ ،‬إلى تجاوز‬
‫هذه الرحلة االبتدائية لديناميكية الوضعة‪ ،‬وذلك عن طريق تعميقها وتعزيزها وتقويتها؛‬
‫ً‬
‫لكنها تظل أيضا تعتمد عليها من خالل االفتراضات السبقة البراغماتية التي ال غنى عنها‬
‫بالنسبة للخطاب االستطرادي وللنشاط التجريبي للباحث في مختبره‪.‬‬
‫لنحاول إذن كبداية أن نفهم بماذا يؤدي االستخدام النهجي للتحديدات القاطعة إلى‬
‫إطالق صيرورة تشكيل الوضوعية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن إعالن الحالية‪ ،‬إذا بقي معزوال‪ ،‬سيكون مرتبطا بالوضعية الخاصة للـ هنا واآلن‪،‬‬
‫للـ أنا‪ ،‬وللـ هذا‪ .‬وسوف يتعلق بتظاهرة بحتة‪ ،‬وبمظهر غرابة بحت‪ ،‬مظهر ال يمكنه بالعنى‬
‫الدقيق للكلمة التعبير إال من خالل إقحام تعجبي أو عبر وضعية جسمانية‪ .‬وبالدرجة‬

‫‪ 440‬القطعية ‪ catégoricité‬هي سمة نظرية منطقية ال تشتمل على عالقة ال صحيحة وال خاطئة‪ ،‬وهي خاصية‬
‫نظرية رياضية كافة النماذج فيها إيزومورفية (متماثلة) (وهذا يعني أننا نستطيع أن نبني بين عوالم نموذجين ال‬
‫ً‬
‫على التعيين من هذه النظرية تماثال يحفظ العمليات والعالقات)‪( .‬الترجم)‬
‫‪258‬‬
‫األولى كما كتب بالكبرن‪" ،‬إن القطعية ترافق [‪ ]...‬وجهة النظر الذاتية؛ فليس ثم ما هو‬
‫استعدادي ‪ ،dispositionnel‬بالنسبة للذات‪ ،‬في ظهور ألم أو برق في حقل الرؤية‬
‫البصرية‪ ."441‬غير أن التواصل‪ ،‬والشاركة بجزء من التجربة‪ ،‬يتطلبان الحافظة على‬
‫مسافة معينة اتجاه الحالية؛ وهما يتطلبان أن نموضع الحالية ضمن مخطط مشترك‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫والحددة‪ .‬إن‬ ‫عاليا‪ ،‬وأن نح ّل في الخطاب هذا الوقف الجرد محل الحالية الحسوسة‬
‫استخدام التعيينات القاطعة يحقق هذا الشرط باالعتماد على الخطط العالمي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫األشد تباينا‪ ،‬أي النفي‪ .‬وفي الدرجة‬ ‫األبسط‪ ،‬أي التفرع الثنائي‪ ،‬وعلى طريقة التوزيع‬
‫الثانية‪ ،‬يتوصل التعيين القاطع على هذا النحو إلى تجاوز الفورية الحالية‪ ،‬بفضل منهج‬
‫يشتمل على أن نفصل عن الحالية عالمة شكلية ثنائية التفرع‪ ،‬ثم أن ننسبها إلى جسم‬
‫ما‪.‬‬
‫‪ 2 -6‬القطعية في النظريات الكالسيكية والكمومية‬
‫تميل العلوم‪ ،‬والفيزياء بشكل خاص‪ ،‬إلى توسعة وتشذيب صيرورة الواضعة من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خالل انفصال للعالمات الصورية التي تصبح أكثر فأكثر تجريدا وأكثر فأكثر ابتعادا عن‬
‫اآلنية‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬فإن مشروعها‪ ،‬وهو تشكيل معرفة تجريبية‪ ،‬يفرض عليها أن‬
‫تحفظ بشكل دائم صلة مع اآلنية نفسها‪ ،‬وذلك عن طريق تعبيرها ال َم َ‬
‫وضع من الدرجة‬
‫األولى‪ ،‬أي التعيين القاطع‪ .‬ولكن أي نوع من العالقة تقيمها النظريات الفيزيائية في الواقع‬
‫مع عملية نسب التعيينات القاطعة؟ لن يكون من الحكمة محاولة تقديم إجابة عامة‬
‫على هذا السؤال‪ ،‬ألنه بصدده إنما يظهر فارق حاسم بين مجمل النظريات الكالسيكية‬
‫(بما فيها النظريتين النسبيتين) والنظريات الكمومية‪.‬‬
‫إن النظريات الكالسيكية‪ ،‬أكانت تحديدية أو غير تحديدية (عشوائية‬
‫‪ ،)stochastiques‬تحفظ نوعين اثنين من العالقات مع التحديدات القاطعة‪ .‬فهي تسمح‬
‫من جهة بالوصول إلى تنبؤات حول بعض التحديدات القاطعة ألجهزة القياس‪ ،‬وذلك إثر‬

‫‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 257 441‬‬
‫‪259‬‬
‫تفاعل هذه األجهزة مع األجسام التي يتم عليها القياس‪ .‬ومن جهة ثانية‪ ،‬فإن عمل‬
‫صوريتها يتوافق مع فكرة أنها تصف تطور تحديدات قاطعة خاصة باألجسام‪ ،‬يقوم‬
‫القياس بكشفها‪ .‬إن النظريات الكالسيكية التحديدية تعمل بواسطة متغير الحالة يف َّسر‬
‫كتعيين قاطع جوهري للجسم‪ ،‬وابتداء منه تكون كافة تحديداته القاطعة األخرى قابلة‬
‫للحساب‪ .‬وتستخدم النظريات الكالسيكية غير التحديدية العشوائية بنية احتمالية‬
‫استدراكية يمكن أن تتوافق دون صعوبة تذكر مع التفسير الالبالس ي لالحتماالت كتعبير‬
‫عن جهل فيما يتعلق بالتحديدات القاطعة للموضوع‪ .‬يختلف األمر بالنسبة للنظريات‬
‫ً‬
‫الكمومية بشكلها العياري‪ .‬فالنظريات الكمومية العيارية تسمح فعال‪ ،‬مثل النظريات‬
‫الكالسيكية‪ ،‬بوضع تنبؤات (احتمالية) تتعلق بتحديدات قاطعة معينة ألجهزة القياس‪،‬‬
‫وذلك بعد سلسلة معطاة من العمليات التجريبية‪ .‬وهنا تكمن صلة دنيا ال غنى عنها بين‬
‫َ‬
‫الموضعة لآلنية التي يمثلها التحديد القاطع‪ .‬غير أن البنية االحتمالية‬ ‫النظرية والبقايا‬
‫غير االستدراكية للنظريات الكمومية (وهو ما يتجلى من خالل ظهور "حدود تداخل")‪،‬‬
‫تجعل من تفسير االحتماالت كترجمة وتعبير عن جهل في موضوع التعيينات القاطعة‬
‫الخاصة بجسم ما هو التفسير األقل إشكالية‪ .‬إن الحساب الكمومي لالحتماالت ال يفهم‬
‫بسهولة إال إذا قبلنا أنه متكيف مع وضعية ال تنفصل فيها التحديدات عن األطر‬
‫ً‬
‫والسياقات التجريبية‪ ،‬التي تكون غير متوافقة أحيانا‪ ،‬والتي تظهر فيها هذه االحتماالت‪.‬‬
‫إن نمط عمل هذا الحساب الكمومي هو نمط عمل رمزية تنبؤية احتمالية فوق سياقية‬
‫(ميتا سياقية)؛ رمزية تنبؤية تسمح بحساب احتماالت الظاهرات التعلقة بهذا أو بذاك‬
‫تطبق إثر تحضير معطى‪ ،‬وليس حساب احتماالت‬ ‫من السياقات األداتية التي يمكن أن َّ‬
‫األحداث الناجمة من ذاتها في الطبيعة‪.442‬‬
‫إن إحدى نتائج هذا الوضع هو استبعاد‪ ،‬أو تهميش أو تغيير معنى‪ ،‬تعبير مثل‬
‫ً‬
‫"خاصية األجسام"‪ .‬من الجميل أنه أعيد استخدام كلمة "خاصية" حديثا في إطار تفسير‬

‫‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997. 442‬‬
‫‪261‬‬
‫الراحل التسقة لغريفيث ‪ ،443Griffiths‬بما هي ترجمة للمفهوم الصوري الكشاف لفضاء‬
‫تحتي لهيلبرت ‪ ،Hilbert‬غير أنه سرعان ما كان يجب االعتراف بأنها كانت بعيدة عن حمل‬
‫كافة دالالت مكافئها الألوف أو الكالسيكي‪ .‬فمن الستبعد أن ّ‬
‫تعبر القضايا التي تنسب‬
‫هذه الخصائص لألجسام‪ ،‬وهي قضايا ال يمكن أن تعتبر بشكل عام صحيحة أو خاطئة‪،‬‬
‫بل ّ‬
‫تعد فقط كقضايا موثوقة أو غير موثوقة (راجع القطع ‪ ،)4 - 4‬في إطار تحديدات‬
‫غريفيث‪ ،‬في كافة الظروف كما لو كانت األشياء تملك بذاتها تحديدات قطعية‪.‬‬
‫‪ 3 -6‬نقد مفهوم "اخحالة الكمومية"‬
‫إن نتيجة النقد التي أصبحت قديمة لفهوم الخاصية في الفيزياء الكمومية (التي ربما‬
‫يجب أن نستثني منها حالة الرصودات فائقة االنتقائية) كانت استبداله بش يء ما نسميه‬
‫"الحالة"‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬وكما رأينا أعاله‪ ،‬قادت خيبات األمل األحدث لؤيدي تفسير‬
‫غريفيث حول موضوع مفهوم الخاصية ‪ -‬الكشاف إلى تحديد هذا األخير بدور محدود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وإلى معارضته هنا أيضا بمفهوم "الحالة"‪ .‬لكن مفردات "الحاالت" تولد هي نفسها‬
‫التشويشات‪ .‬فـ "الحالة الكمومية" ال تسمح‪ ،‬على عكس قياس وسعة الحالة الكالسيكية‪،‬‬
‫باشتقاق مجمل القياسات النسوبة بشكل قاطع إلى الجسم‪ .‬فهي ال تقدم لنا سوى‬
‫الوسيلة لحساب احتمالية كل قيمة لجملة من "الرصودات" َّ‬
‫الحددة باالستناد إلى إطار‬
‫يسمح بقياسها‪.‬‬
‫على الرغم من ذلك‪ ،‬فإن ما سمح على ما يبدو بتبرير االستخدام التجدد منذ فون‬
‫نيومان للفظة "حالة" كان نوعان من قياس الحالة الكالسيكي‪.‬‬
‫قياس لفظي بشكل أساس ي‪ :‬حيث يتم التنبؤ بـ "الحالة‬ ‫ٌ‬ ‫هناك بالدرجة األولى‬
‫ّ‬
‫الوجه" حالة النظومة؛ وهو‬ ‫الكمومية" لجسم أو لـ "منظومة"؛ يمثل "شعاع الحالة‬

‫‪ 443‬راجع ‪،R. Omnès, The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994‬‬
‫ً‬
‫وراجع أيضا‪:‬‬
‫‪B . d'Espagnat, "Consistent histories and the measurement problem", Phys. lett., A124, p. 204-206,‬‬
‫‪1987.‬‬
‫‪261‬‬
‫نسب إلى الظومة بالطريقة نفسها التي ينسب بها قياس حالة اليكانيك الكالسيكي إلى‬‫ي َ‬
‫ً‬
‫نقطة مادية أو إلى منظومة نقاط مادية‪ .‬وهذه الطريقة‪ ،‬القبولة تماما‪ ،‬يجب أن ترتكز‬
‫مع ذلك‪ ،‬لكي تكون قابلة للتطبيق واالستمرار على الدى البعيد‪ ،‬على عملية مطابقة‬
‫مستمرة ومستقرة للـ "منظومة" التي نسبت حالة لها‪ .‬غير أننا ال نملك مثل هذه الطريقة‬
‫ً‬
‫أو العملية في الحالة العامة‪ ،‬وينتج عن ذلك تنويع امتداد النظومة التأثرة بـ "حالة" وفقا‬
‫للظروف التجريبية الأخوذة بعين االعتبار (راجع القطع ‪ .)0 - 4‬ومذاك بات كل من‬
‫ديفيد بوم ‪ D. Bohm‬وب‪ .‬هيلي‪ B. Hiley 444‬يقدران وهما محقان أن هذه األشكال‬
‫ً‬
‫القواعدية ال تسمح وحدها بعودة تؤدي إلى شكل من الخطاب القابل للتفسير أنطولوجيا‬
‫(الش يء وصفته [أو محموله] "الحالة")‪ ،‬ألنها ال تقوم سوى بأن تخفي بشكل مصطنع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مخططا لخطاب أنطولوجي حول ما كان بور ليسميه بطريقة أكثر حذرا "رمزية تنبؤية"‬
‫ّ‬
‫صالحة لظاهرات كلية تتضمن بطريقة ال فكاك منها إطار القياس‪ .‬فإذا كان يجب أن‬
‫ً‬
‫يكون هناك عودة إلى خطاب قابل للتفسير أنطولوجيا‪ ،‬كما يشير كل من بوم وهيلي‪ ،‬فال‬
‫ً‬ ‫ّبد أن ّ‬
‫تمر عبر الدرب األكثر تعقيدا بكثير للنظريات ذات التحوالت الخفية‪ .‬وهي نظريات‬
‫لم ننته بعد من تقييم سماتها وأهدافها وعيوبها‪ ،‬كما بينا ذلك في الفصول السابقة‪.‬‬
‫ونبدأ منذ اآلن باالشتباه أن استخدام مخطط إسناد "حالة" إلى "منظومة" في اليكانيك‬
‫الكمومي يرجع إلى أحداث تاريخية طبعت خطاب الفيزيائيين بطابعها‪ ،‬أكثر مما يرجع إلى‬
‫ش يء ما كان قد فرض عبر عمل نظريتهم الجديدة نفسه‪.‬‬
‫وبالدرجة الثانية‪ ،‬توجد مماثلة صورية بين "الحالة الكمومية" وقياس الحالة‬
‫ً‬
‫الكالسيكية‪ .‬تشكل الحالتان برهانا أو حجة بالنسبة لعامل تطور النظريات لدى كل‬
‫منهما‪ .‬إن قياس الحالة الكالسيكية (الؤلف من زوج اإلحداثيات الكانية ومركبات كمية‬
‫الحركة) يتطور بشكل متوافق مع معادالت هاميلتون‪ ،‬بينما يكون تطور شعاع الحالة‬
‫ً‬
‫الكمومية محكوما إما بمعادلة شرودنغر أو بمعادلة ديراك‪ .‬فـ "الحالة" في هذا النظور‬

‫‪D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 17. 444‬‬
‫‪262‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫العتب َرة‪ .‬ولكن بدال باألحرى من مثل‬ ‫تكون ببساطة كينونة محكومة بقانون تطور النظرية‬
‫شبه الماثلة هذه للمفهومين عن طريق االستخدام غير النتبه للفظة الشتركة "حالة"‪،‬‬
‫فإن مثل هذه المثالة الصورية يجب أن تقود إلى اعتماد قياس التغير الكبير الذي خضع‬
‫له مفهوم القانون من نموذج نظري إلى آخر‪ .‬كانت قوانين التطور في الفيزياء الكالسيكية‬
‫شتق منها قياسات أخرى يمكن أن تصبح مخصصة بوظيفة‬ ‫تتعلق بقياسات حالة ت ّ‬

‫وصفية بالنسبة للتحديدات القطعية لألجسام‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فإن قانون (أو قوانين)‬
‫تطور اليكانيك الكمومي يتعلق (أو تتعلق) بشعاع ّ‬
‫موجه من فضاء هيلبرت‪ ،‬وهو رمز ذو‬
‫واجه بالئحة األشعة‬ ‫رمز ال ّ‬
‫يقدم من جهة أخرى احتماالت إال عندما ي َ‬ ‫تابع وصفي؛ ٌ‬

‫الوجهة الخاصة بعملية رصد (أي مرة أخرى إضافية بشكل يتعلق بإطار أداتي محدد‬
‫ً‬
‫تماما)‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬فإن الماثلتين الذكورتين أعاله من أجل اعتماد األسس الوضوعية‬
‫ّ‬
‫الوجه للميكانيك الكمومي تظهران‬ ‫للموقف التنبؤي الذي نقرنه عادة بشعاع الحالة‬
‫ً‬
‫كمماثلتين سطحيتين نوعا ما‪ .‬فهما ال تكفيان وحدهما لنعنا من التساؤل حول استيعاب‬
‫"شعاع الحالة ّ‬
‫الوجه" للميكانيك الكمومي لـ "حالة منظومة" حقيقية‪ ،‬وال حتى لكي نضع‬
‫ّ‬
‫الوجه"‪ ،‬الذي يستدعي بشكل قوي‬ ‫موضع التشكيك ديمومة تسمية "شعاع الحالة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نظاما أساسيا غير واضح بذاته‪.‬‬
‫إن الضغط الذي يمارسه نمط عمل النظريات الكمومية على الخطط اإلسنادي لـ‬
‫"حالة" في "منظومة" ما لم يكف عن التوسع خالل تاريخ هذه النظريات‪ .‬فإذا كان قد‬
‫أمكن الحفاظ عليه حتى الوقت الحاضر‪ ،‬فذلك على حساب انحراف مستمر ّ‬
‫للحد بين‬
‫"النظومة" و"الحالة"؛ وهو انحراف جعل تعريف "النظومة" يتراجع لصالح ّ‬
‫توسع ال‬
‫ينفك يزداد الختصاص مفهوم "الحالة"‪ .‬في اليكانيك الكمومي في بداياته بين عامي ‪0946‬‬
‫و‪ ،0945‬الذي أتمه ديراك وفون نيومان‪ ،‬كان يقبل أن بعض أشعة التجهات في أحد‬
‫فضاءات هيلبرت تصف "حالة" منظومة من الجسيمات‪ .‬تنشأ عدة تعارضات وتشويشات‬
‫‪263‬‬
‫والحق يقال من هذه الطريقة في التعبير وانزالقات العنى التي تؤدي إليها‪ .‬فعلى سبيل‬
‫الثال‪ :‬كيف يمكن لـ "حالة" منظومة أن "تتقلص" فجأة عند إجراء قياس‪ ،‬في حين أنها‬
‫تتغير باستمرار‪ ،‬بما يتوافق مع معادلة شرودنغر ومن خالل "التشابك"‪ ،445‬أثناء تفاعل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تفاعال بين تفاعالت أخرى‪446‬؟ وأيضا هذا الثال‪ :‬هل نستطيع القول‬ ‫ما؛ أليس القياس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن قطة شرودنغر هي في حالة محددة تماما (ضمنيا بالعنى الشائع لكلمة "حالة") إذا‬
‫كانت "حالتها الكمومية" مختلطة مع حالة جسم مجهري‪ ،‬وإذا كانت "الحالة الكمومية"‬
‫الشاملة للمنظومة [قطة ‪ +‬جسم] تشتمل على تراتب خطي لـ "حاالت" خاصة بإمكانية‬
‫رصد؟ وكما عرض شرودنغر نفسه السألة في حوار مليء بالفكاهة‪:‬‬
‫ً‬
‫"إن الجملة في حالة محددة‪ ،‬لكنها ليست حال كل من مكونيها إذا أخذناهما كال على‬
‫حدة‪.‬‬
‫وكيف ذلك؟ فال ّبد لنظومة أن تكون في حالة ما‪ .]...[ .‬ولدي الحق في هذه الحالة أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أفكر كما يلي‪ :‬النظومة التحتية هي فعال في حالة معينة (فهناك ثمة حقا تابع ‪ ،)Ψ‬غير‬
‫أنني ال أعرفه فقط‪.‬‬
‫‪ -‬اسمح لي أن أعترضك هنا‪ .‬لألسف‪ ،‬ال‪ .‬ال يمكننا القول "ال أعرفه فقط"‪ ،‬طالا أن‬
‫حالة العارف هي في وضعها األقص ى بالنسبة للمنظومة الشاملة"‪.447‬‬
‫ولكن باإلجمال‪( ،‬على الرغم من هذه التعارضات التي تظهر على هامش االنعكاس‬
‫التفسيري)‪ ،‬فإن القاربة التضمنة من خالل مفهوم "الحالة الكمومية لنظومة‬
‫ً‬
‫جسيمات" كانت تظل غير قابلة لالستخدام عمليا عندما كان يتم معالجتها وفق قواعد‬

‫‪ 445‬باللغة اإلنكليزية "‪."Entanglement‬‬


‫"موجه الحالة" ال ّ‬
‫يعبر عن‬ ‫ّ‬ ‫‪ 446‬ال هذا "التعارض" وال التعارض الذي يليه ال يطرحان أية صعوبة إذا قبلنا أن‬
‫حالة منظومة بل عن الضمون التنبؤي لتحضير تجريبي‪ .‬راجع القاطع ‪ 0-3-6 ،2-2-4 ،3-2-4‬في‪M. Bitbol, :‬‬
‫‪.Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. cit.‬‬
‫‪E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique" (1935), in E. Schrodinger, 447‬‬
‫‪Physique quantique et représentation du monde, Seuil, 1992, p. 119.‬‬
‫‪264‬‬
‫ً‬
‫مقوننة جيدا‪ .‬كان يتم من حين إلى آخر‪ ،‬في أحسن األحوال‪ ،‬اقتراح تقييد دائرة "منظومة‬
‫ً‬
‫قليال من أجل ّ‬
‫مد لدائرة "الحالة الكمومية" بنسبة مقابلة‪ .‬وهكذا‪ ،‬نرى وفق‬ ‫الجسيمات"‬
‫نظرية تعود إلى هايزنبرغ من بداية ثالثينيات القرن الاض ي‪ ،‬أن البروتون والنوترون‪ ،‬وكانا‬
‫يعدان "جسيمين" في البداية‪ ،‬كان يتم تصورهما كـ "حاالت إيزو سبين" (أي كحاالت‬
‫سبين نظير أو لف ذاتي نظير) لجسيم أكثر أساسية منهما هو النوكليون‪.‬‬
‫وسع التكميم الثاني‪ ،‬ثم النظرية الكمومية للحقول هذا اليل إلى تراجع النظومة‬ ‫َّ‬
‫حد السحب الكامل للدور الداعم للـ "حالة الكمومية" لنظومات‬ ‫لحساب الحالة‪ ،‬إلى ّ‬
‫ّ‬
‫الجسيمات‪ .‬وكما ذكرنا في الفصل الخامس‪ ،‬هناك في النظرية الكمومية للحقول‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫كمعبرة أو كمترجمة لـ حالة ح ّرضت عددا ‪N‬‬ ‫جسيمات عددها ‪ N‬ال تعتبر هي نفسها إال‬
‫كمة من تحريضات أنماط عادية من النوسان‪ .‬إن "خلق"‬ ‫من الرات‪ ،‬أو حالة ذات ‪ّ N‬‬
‫و"إفناء" الجسيمات تعيدنا عندها إلى تحريض وإلى إبطال تحريض هذه األنماط‪ .‬علينا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أن نحدد أيضا‪ ،‬وفقا لـ "قواعد" (بالعنى الويتغنشتايني) عبارتي "نمط النوسان" و‬
‫ً‬
‫"الحالة"‪ ،‬ما هو موضوع النوسان‪ ،‬أو أيضا ما الذي تم تحريضه ويوجد في حالة معينة‬
‫مكافئة لجمهرة من الجسيمات‪ .‬إن الجواب العتاد هو التالي‪ :‬إن ما يتميز بأنماط عادية‬
‫كمة من التحريض لثل هذا النمط أو‬ ‫من النوسان‪ ،‬وما هو قابل ألن يكون حالة ذات ‪ّ N‬‬
‫ذاك‪ ،‬ليس سوى حقل؛ حقل فرميوني (نسبة إلى جسيم الفرميون) أو حقل بوزوني‬
‫(نسبة إلى البوزونات) وفق نمط الجسيمات (أو باألحرى ّكمات التحريض) العتبرة‪.‬‬
‫‪ 4 -6‬الفراغ‪ ،‬واخحقل و"اخحالة الكمومية"‬
‫تصح مع األسف دون‬ ‫تصور أو باألحرى في قول األشياء ال ّ‬
‫إن الطريقة السابقة في ّ‬
‫ّ‬
‫وجود عيوب خطيرة‪ .‬ويرجع ذلك لسببين يتعلقان بالعنصرين الشكلين للقضية التنبؤية‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشكك به وبالنقد أو الشك ّ‬ ‫ّ‬
‫الوجه له‪ ،‬وذلك في إطار‬ ‫سببان يشكك كل بدوره بالوضوع‬
‫عملية نسب مماثلة لتحديد قاطع (الحالة) إلى مماثلة للجسم (الحقل)‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫(‪ )0‬ليس للحامل الزعوم للحالة‪ ،‬الحقل الكمومي‪ ،‬سوى صالت بعيدة مع التسمية‬
‫الماثلة له الكالسيكية التي لم يكن ثمة ش يء يمنعها صراحة من تمثيل نفسها ككينونة‬
‫مستمرة ممتدة في الكان‪ .‬وإذا استخدمنا عبارات تيلر‪ ،P. Teller 448‬فهو ليس سوى تقليد‬
‫خادع ("‪ )"the mock-up‬لحقل كالسيكي‪ .‬فالكافئ الكمومي من جهة لكثافة الحقل‬
‫الكالسيكي هو عدد من الكمات‪ ،‬أي ش يء ما يتعلق بـ حالة التحريض وليس بما يفترض‬
‫َّ ً‬
‫محرضا‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن الكينونة الرياضية التي تمثل الحقل في النظرية‬ ‫أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكمومية ليست تابعا ذا قيم محلية بل عامال محليا‪ ،‬أو "ما يمكن رصده" محليا‪ ،‬حيث‬
‫تتوافق قائمة قيمه الخاصة مع قائمة النتائج المكنة لقياس ما‪ .‬ومن بين العوامل التي‬
‫يمكن اشتقاقها من العامل الحلي السابق‪ ،‬ثمة حالة خاصة هامة هي حالة العامل العدد‬
‫كمات التحريض التي سيكون من المكن تقديرها (مع‬ ‫الذي تمثل قيمه الخاصة أعداد ّ‬
‫درجة معينة من االحتمالية) إذا ما تم إجراء قياس مناسب ما‪ .‬وكما نرى‪ ،‬فإن الفهوم‬
‫العياري للحقل الكمومي ال يمكن أن يؤخذ في أي حال من الحاالت السابقة كرأي‬
‫مخالف لكينونة سابقة الوجود‪َّ ،‬‬
‫محددة بشكل مستقل عن اإلطار التجريبي لقياسها‪،‬‬
‫وممتدة في الكان‪ ،‬والتي يمكن استخدامها كحامل جوهري لحالة محددة من التحريض‪.‬‬
‫يكمن جوهر الصعوبة ربما في االستثمار الفرط لقوى صورة ما‪ .‬إن التماثل العتاد‬
‫كمات‬‫الذي يوافق مع الحقل مجموعة من النواسات التجانسة الزدوجة‪ ،‬ومع عدد ّ‬
‫ّ‬
‫تحريضها طاقة اهتزاز منظومة النواسات التجانسة‪ ،‬هو تماثل مضلل إذا نسينا أن األمر‬
‫يتعلق بالضبط بما هو أقل بكثير من مماثلة‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬ليس ثمة هناك مماثل كمومي‬
‫حقيقي لنظومة النواسات التناغمة؛ فليس ثمة سوى بنية جبرية كمومية مشتقة من‬

‫‪P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the quantum field theoretic vacuum explained for all", 448‬‬
‫‪. in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.‬‬
‫ً‬
‫راجع أيضا ‪P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, Princeton University Press,‬‬
‫‪1995.‬‬
‫‪266‬‬
‫البنية الجبرية للنموذج الكالسيكي لنظومة النواسات التناغمة عبر عملية "التكميم"‪،‬‬
‫التي تعود إلى استبدال متحوالت بعوامل وفرض عالقة تواصل بين هذه العوامل‪.‬‬
‫وبالطريقة نفسها‪ ،‬ليس ثمة مماثل كمومي حقيقي للحقل الكالسيكي؛ ليس ثمة سوى‬
‫ّ‬
‫مشتقة من البنية الجبرية لنظرية الحقول الكالسيكية باستبدال‬ ‫بنية جبرية كمومية‬
‫توابع للنقطة بعوامل محلية وبفرض عالقة اتصال (أو مضادة لالتصال) بين العوامل‪ .‬إن‬
‫اعتبار هذا "الحقل الكمومي" للمرصودات الحلية بالنسبة للحامل الجوهري لحالة ما أيا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كانت يبدو من اآلن فصاعدا كترجمة لفظية الستعارة غير مضبوطة جيدا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫(‪ )4‬يظل مفهوم "الحالة الكمومية" أيضا غير قابل للتمثل إال بدرجة قليلة مع مفهوم‬
‫الحالة بالعنى الشائع للكلمة في النظرية الكمومية للحقول كما وفي اليكانيك الكمومي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العياري‪ .‬ولكي ندرك ذلك‪ ،‬لنتذكر مثاال ساحرا‪ .‬أال وهو مثال الحالة الخاصة بالرصود‬
‫"عدد" القترن بالقيمة صفر لعدد التحريض الكمي؛ بعبارة أخرى‪ ،‬نشير هنا إلى الفراغ‪ .‬في‬
‫مثل هذه الحالة‪ ،‬وفق التفسير الذي يقدمه الؤلفون الذين تأملوا في مسائل تفسير‬
‫النظرية الكمومية للحقول‪ ،449‬فإننا نتوقع بالتأكيد عدم القدرة على الكشف عن أي‬
‫جسيم في أي ظرف كان‪ .‬غير أن الحال ليس على هذا النحو‪ .‬فالكاشف ال َّ‬
‫سرع في‬
‫"الفراغ" بالعنى الذي ّ‬
‫عرفناه أعاله لديه إجابات مكافئة إلجابات الكواشف التي ستكون‬
‫إجاباتها هي نفسها لو كانت مغمورة في حمام حراري من الجسيمات‪ .‬إن ما يكتشف على‬
‫هذا النحو بواسطة جهاز َّ‬
‫مسرع يسمى "كمات (أو جسيمات) ريندلر ‪ ."Rindler‬ال التصور‬
‫العتاد للـ "فراغ" كغياب كامل للجسيمات‪ ،‬وال التصور الوصفي للحقل في "حالة" (بالعنى‬
‫التقليدي للكلمة) تحريض معدوم‪ ،‬وال الفهوم األنطولوجي الضمون لجسيم كـ "ش يء ما‬
‫هو موجود هنا (في اللء) أو ليس موجودا هنا (في الفراغ)" بشكل مستقل عن تقلبات ما‬
‫يستخدم في الكشف عنه‪ ،‬كلها ال تسمح بفهم سبب ما يجري في هذه الحالة‪.‬‬

‫‪R. Healey, "The metaphysics of emptyness", P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the 449‬‬
‫‪quantum field theoretic vacuum explained for all", in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.‬‬
‫‪267‬‬
‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬كانت البادئ العامة لعمل الصوريات الكمومية تجعله قادرا على التنبؤ‬
‫بشكل كامل‪ .‬ففي الفراغ كما تم تحديده‪ ،‬تكون قيمة الرصود عدد محددة بالضبط‬
‫طالا أنها تساوي الصفر؛ ولكن فجأة‪ ،‬نرى أن القيمة التي َّ‬
‫تسجل أو تؤخذ‪ ،‬أثناء قياس‬
‫ما‪ ،‬بواسطة أشياء أخرى مرصودة "متممة" لألولى (أي أنها مرتبطة باألولى بعالقة اتصال‬
‫ً‬
‫أبدا‪ .‬غير أن اكتشاف ّ‬ ‫أو بعالقة هايزنبرغ في عدم التعيين)‪ ،‬ال تعود ّ‬
‫كمة ‪/‬‬ ‫محددة بدقة‬
‫َ‬ ‫كمات بواسطة كاشف م َس َّرع يكشف بالضبط عن مر َاقب ‪ /‬مرصود ّ‬
‫متمم للمراقب‬
‫َ‬
‫عدد‪ .450‬وبشكل أعم‪ ،‬في الحالة الخاصة بالراقب عدد‪ ،‬القترن بالقيمة الخاصة صفر‪،‬‬
‫فإن كمية من مرصودات أخرى (كما على سبيل الثال مربع الؤثر "حقل") تكون لها قيمها‬
‫الوسطية غير العدومة‪ .‬يجعلنا ذلك نتوقع ظهور ظاهرات تجريبية كثيرة ومتنوعة في‬
‫"حالة كمومية" ّ‬
‫تعرف مع ذلك "الفراغ"‪ .‬إن نموذج مثل هذه الظاهرات هو "أثر كازيمير‬
‫ً‬
‫‪ "effet Casimir‬الذي يوصف غالبا بطريقة تصويرية كنتيجة لـ "استقطاب للفراغ" ينجم‬
‫عن إعادة توزيع غير متجانس لـ "جسيمات افتراضية" تحمل شحنات متعاكسة‪.‬‬
‫‪ 5 -6‬الفراغ كواقع وجودي واالنبثاقات‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫تمثلت اإلجابة األكثر تواترا على هذه الصعوبة الزدوجة‪ ،‬صعوبة التملص من حامل‬
‫"الحالة الكمومية"‪ ،‬وصعوبة الطبيعة غير القطعية لهذه "الحالة الكمومية" نفسها‪،‬‬
‫باستراتيجية مزدوجة في االنتقال‪.‬‬
‫من جهة‪ ،‬بسبب نقص الحوامل‪ ،‬فإن "الفراغ الكمومي" نفسه هو الذي كان يجد‬
‫ً‬
‫نفسه منظورا إليه كواقع‪ ،‬وذلك إلى ما وراء تعريفه الشكلي كحالة خاصة أساسية‬
‫َ‬
‫تتوافق مع قيمة خاصة صفر للمراقب العدد‪ .‬وكما كتب ساندرز ‪" ،S. Saunders‬الفراغ‬
‫الذي ينبثق غني‪ :‬فهو بالتناوب مغنطيس‪ ،‬وعازل‪ ،‬وناقل فائق‪ ،‬ومرحلة حرارية ‪/‬‬
‫ً‬
‫ترموديناميكية‪ .‬وهكذا يذكرنا هذا الفراغ بشكل أكثر فأكثر وضوحا باألثير (كهرمغنطيسية‬
‫القرن التاسع عشر)"‪.451‬‬

‫‪P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 110-113. 450‬‬
‫‪S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of vacuum, Oxford University Press, 1991, p. 7. 451‬‬
‫‪268‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فقد تم األخذ بـ "الحالة الكمومية" من أجل التعبير ليس عن مكافئ‬
‫بعيد ما لتحديد قطعي‪ ،‬بل عن كمون‪ ،‬عن تحديد استعدادي‪ ،‬أو باألحرى عن تحديد‬
‫ً‬
‫انبثاقي إذا كان صحيحا أن االستعداد يقود إلى ظاهرة مشاركة (وحيدة العنى) عندما‬
‫تجتمع شروط التفعيل‪ ،‬في حين أن االنبثاق ال ّ‬
‫يثبت سوى االحتمال‪ .‬والباحثان‬
‫الرئيسيان اللذان قدما هذا التفسير للـ "حالة الكمومية" هما (إنما ليس دون وجود‬
‫مواضيع اختالف متبادل كبرى بينهما) هايزنبرغ ‪ W. Heisenberg‬وبوبر ‪ .452K. Popper‬وقد‬
‫كتب هايزنبرغ بدون مواربة‪" :‬يمكننا [‪ ]...‬استبدال مصطلح «حالة» بمصطلح «كمون»‪."453‬‬
‫إن الطريقة األبسط لواجهة العالقة بين االنتقال األول والثاني هي اعتبار أن "حالة‬
‫كمومية" تعبر عن انبثاق نوع جديد من "األثير" إلظهار هذه الظاهرة أو تلك ضمن بعض‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫ويشبه هذا الش يء األثيري غالبا بفراغ كمومي منظورا إليه‬ ‫شروط التفعيل التجريبية‪.‬‬
‫كواقع‪ ،‬كما أشرنا إلى ذلك أعاله‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن الفهوم التقليدي إلى حد ما للفراغ الشروط‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أيضا بتعريفه البدئي كحالة خاصة للمراقب العدد‪ ،‬بل والقابل ليكون هو نفسه في "حالة"‬
‫حالة بشكل من األشكال)‪ ،‬أثار تحفظات عند بعض الباحثين‪ .‬يفضل ر‪ .‬هيلي ‪R.‬‬ ‫(حالة ٍ‬
‫‪ Healey‬بالتالي اإلشارة إلى الش يء األثيري كخلفية استعدادية للـ "عالم"‪ ،‬بحيث ال يكون‬
‫ً‬
‫الفراغ نفسه سوى حالة صفر ‪ N=0‬من هذا "العالم"‪ .454‬وأخيرا‪ ،‬يستند كثيرون مثيل ب‪.‬‬
‫ً‬
‫هيلي ‪ B. Hiley‬بشكل واسع على "سيرورات فيزيائية أكثر عمقا‪ ."455‬يبدو هكذا أن الخطط ‪-‬‬
‫النموذج للفكرة األساسية وللتحديد مصون‪ ،‬وذلك على حساب القبول بأساس إيجازي‬
‫وبابتعاد متنام بين التحديدات االستعدادية فقط والحالية التي كانت االستعدادية ال تزال‬
‫ترتبط بها بشكل مباشر‪.‬‬

‫‪W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Michel, 1971: K. Popper, La théorie quantique et le 452‬‬
‫‪schisme en physique, Hermann, 1996.‬‬
‫‪W. Heisenberg, Physique et philosophie, op. cit., p. 247. 453‬‬
‫‪R. Healey, "The metaphysics of emptyness", In E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit. 454‬‬
‫‪B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of 455‬‬
‫‪vacuum, op. cit., p. 223.‬‬
‫‪269‬‬
‫ما هي نظرتنا إلى مثل هذه االستراتيجية؟ في أصولها‪ ،‬يمكننا الكشف عن عدد ال‬
‫ً‬
‫يستهان به من الطابقات مع مقدمات النموذج الجديد‪ .‬وسوف أعدد هنا أربعا من هذه‬
‫الطابقات‪ .‬فبالدرجة األولى‪ ،‬إن السافة التزايدة بين التحديد االنبثاقي الذي يفترض أن‬
‫النظرية العلمية تعالجه والحالية‪ ،‬ال تعمل إال على إتمام ميل سبق أن تم الشروع به‬
‫عبر استخدام تحديدات استعدادية‪ .‬وفي حين أن التحديد االستعدادي كان يجمع بين‬
‫تصنيف فاصل ثنائي التفرع مع إسناد مباشر إلى الحالية‪ ،‬فإن التحديدية االنبثاقية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تستخدم أيضا تصنيفا فاصال (أن تكون في "حالة كمومية" معينة واقعة في فضاء هلبرت‬
‫ّ‬
‫أو في حالة معينة أخرى)‪ ،‬لكنها تعلق أو تربط عالقتها مع حالية ظاهرة ما بوجود إطار‬
‫أداتي مناسب‪ .‬إن العلم يتطابق أكثر من أي وقت مض ى مع نشر للممكن وأقل من أي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقت مض ى مع مصادرة مباشرة للحقيقي والفعلي‪ .‬وهو ينظم ويمنهج عملية دشنتها اللغة‬
‫وتحديداتها التصنيفية‪ :‬وهي العملية التي تشتمل على وضع فضاء من المكنات تظهر‬
‫الحالية مقابله مثل وضعية خاصة بين وضعيات أخرى باألحرى من كونها تعشية أو‬
‫ً‬
‫إظالما ال يمكن تجاوزه‪ .‬وبالدرجة الثانية‪ ،‬تقترن التحديدات واالستعدادات مع فكرة‬
‫توجيه للخطاب العلمي باتجاه الحدث الستقبلي للظاهرات التي يبقى أن ت َّ‬
‫حدد شروطها‪،‬‬
‫ً‬
‫بدال من اقترانها باستنتاج يرتكز على آثار حالية سبق تأكيدها في الاض ي‪ .‬إن الترتيبات‪،‬‬
‫مثل االستقراء‪ ،‬وفق ما كتب غودمان ‪ ،N. Goodman‬تطرح قبل أي ش يء آخر مسألة‬
‫اإلسقاط‪ 456‬على الستقبل‪ .‬أما فيما يتعلق باالنبثاقات‪ ،‬فإنها تترجم كما يشير كارل بوبر‬
‫ً‬
‫‪ ،K. Popper‬وضعية يكون فيها "الستقبل الفتوح موجودا اآلن هنا بطريقة ما‪ ،‬مع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كموناته العديدة التنافسة والتزاحمة‪ ،‬بما يشبه إلى حد ما وعدا أو محاولة أو جذبا‪."457‬‬
‫ً‬
‫إن مماثلة "حالة" ما بانبثاق ما‪ ،‬فهذا يعني أن نأخذ علما بالحالة التنبؤية بشكل أساس ي‬
‫ً‬
‫لرموز اليكانيك الكمومي مع عدم التخلي بشكل رسمي عن طموح إعطائه مضمونا‬

‫‪N. Goodman, Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1985. 456‬‬


‫‪K. Popper, Un univers de propensions, Editions de l'Eclat, 1992, p. 42. 457‬‬
‫‪271‬‬
‫ً‬
‫وصفيا‪ :‬فما "يصفه" اليكانيك الكمومي وفق التوجه االنبثاقي‪ ،‬هو تطور مضمون تنبؤي‬
‫بحت‪ .‬وبالدرجة الثالثة‪ ،‬وكما يشير بوبر‪ ،‬فإن مفهوم االنبثاق يسمح بعدم البقاء أسرى‬
‫لفكرة التغير التوارثة منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر؛ وهي فكرة تقييدية‬
‫تقل أهمية عنها‪ ،‬وكان أول من عددها أرسطو‪.‬‬ ‫تطورت على حساب أفكار أخرى كثيرة ال ّ‬
‫ً‬
‫وفقا للتصور الغاليلي ‪ -‬الديكارتي للتغير‪ ،‬فإن كل تغيير نوعي هو أثر ثانوي لتغييرات كمية‬
‫من التكوينات الكانية ‪ -‬الحركية العتبرة كتكوينات أولية‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فإن الذهب‬
‫االنبثاقي يعيد االعتبار لفكرة تغير نوعي بحت عبر الرور من القدرة إلى الفعل‪ ،‬وال يفرض‬
‫بالتالي اللجوء إلى خلفية من الصور والحركات خلف واقع كل تغير َّ‬
‫مفعل‪ .‬إن هذا‬
‫ً‬
‫االقتصاد في مفهوم من نوعيات ‪ /‬صفات "أولية" مكانية وحركية ليس مهمال في الشروط‬
‫اإلبستمولوجية التي أنشأتها الفيزياء الكمومية‪ .‬ألنه‪ ،‬كما يشير هايزنبرغ‪ ،458‬فإن األمر‬
‫يتعلق هنا بشروط حيث حتى متحوالت الوضع والحركة يجب أن تعتبر كمتحوالت‬
‫"ثانوية"‪ ،‬أي نسبية بالنسبة لشروط التظاهر األداتية‪ .‬وبالدرجة الرابعة‪ ،‬فإن حلول‬
‫ً‬
‫االنبثاقات محل التحديدات االستعدادية يندرج تماما ضمن إطار فلسفي عام حيث‬
‫يستبدل موضوع "قوانين الطبيعة" القديم (التي يفترض أنها تحكم تطور التحديدات‬
‫ً‬
‫االستعدادية لألجسام الشكلة لهذه الطبيعة) تدريجيا باالهتمام بالتناظرات‪ 459‬أو‬
‫بالقدرات الطبيعية‪.460‬‬
‫ً‬
‫غير أن مخطط أو نظام تعيين التحديدات االنبثاقية يرتكز على أساس يشتمل أيضا‬
‫على صعوبات‪ .‬فكما سبق واقترحنا‪ ،‬فإن الطرح االستعدادي يهدف إلى تحرير تفسير‬
‫اليكانيك الكمومي من تصور عالئقي بحت للعمليات التي يعالجها‪ .‬ألنه‪ ،‬حتى إذا كان‬

‫‪W. Heisenberg, Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979, p. 38. 458‬‬
‫‪B. Van Fraassen, Lois et symétrie, Vrin, 1994. 459‬‬
‫‪N. Cartwright, Nature's capacities and their measurement, Oxford University Press, 1989 460‬؛‬
‫‪M. Bitbol "Les lois de la nature: contingence ou nécessité", Cahiers de philosophie ancienne et du‬‬
‫‪langage, 1998.‬‬
‫‪271‬‬
‫تظاهر استعداد ما يفترض عالقة مع "جهاز تفعيل" ما‪ ،‬فإن االستعداد نفسه مجرد من‬
‫نس َب مفسرو النظرية الكمومية للحقول‬ ‫العالقة ويعزى إلى جسم ما‪ .‬عندما َ‬

‫االستعدادات أو االنبثاقات إلى ش يء ما تستكشفه أجهزة القياس (األساس من "الفراغ‬


‫الوجودي"‪" ،‬العالم"‪ ،‬أو "العمليات الفيزيائية العميقة")‪ ،‬فقد تركوا لنا عالوة على ذلك‬
‫ً‬
‫أن نفهم أنه ههنا تماما إنما يكمن الخيار الذي اختاروه‪ :‬وهو خيار التحديدات االنبثاقية‬
‫ً‬
‫التي تنتمي بشكل صحيح إلى جسم واسع أثيري غير محدد تماما إنما بشكل تقريبي‪ ،‬بحيث‬
‫يمكننا على األقل من خالل الفكر أن نتأمله بطريقة انفصالية‪ ،‬وحيث يعتبر جهاز‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التفعيل بالنسبة لهذه الطريقة جهازا خارجيا‪ .‬فالسألة هي أنه لكي نعتمد فكرة مواجهة‬
‫حاسمة بين الجسم وجهاز ّ‬
‫مفعل‪ ،‬يجب على األقل القبول بأن االستعدادات لكل منهما‬
‫هي استعدادات منفصلة بشكل صارم‪ ،‬وبعبارة أخرى أنها بشكل خاص مستقلة عن‬
‫ً‬
‫بعضها بعضا‪ .‬والحال أن مفهوم الفصل الحاسم الستعدادات كثرة من الكينونات‬
‫العززة ّ‬
‫والثبتة للنظرية الكمومية‬ ‫النفصلة هو بالضبط مفهوم غير منسجم مع التنبؤات ّ‬

‫بقدر ما هو غير منسجم مع مفهوم الفصل الحاسم للتحديدات القاطعة لهذه الكينونات‪.‬‬
‫ً‬
‫وانطالقا من هنا‪ ،‬فإننا نفهم أن بوبر كان قد تجنب اعتبار هذه االنبثاقات كانبثاقات‬
‫مستقلة بذاتها ومستقلة فيما بينها‪ ،‬كما كان سيكون الحال فيما لو نسبها بشكل خاص‬
‫إلى أجسام معتبرة بالنسبة ألدوات التفعيل‪ .‬تشتمل االنبثاقات البوبرية‪ ،‬في تعريفها‪ ،‬على‬
‫ً‬
‫وضعية الجموعة‪461‬؛ فهي عبارة عن انبثاقات وضعية عالقة بدال باألحرى منها كينونات‬
‫تنشأ فيما بينها العالقة؛ فهي ال تكتسب كامل معناها إال عندما ننظر لها من داخل هذه‬
‫العالقة‪ .‬وفي حدودها القصوى‪ ،‬يمكننا إذا ما رغبنا بذلك أن ننظر لها كاستعدادات‬
‫للكون بمجمله‪ ،‬لكن مثل هذه االستعدادات الكليانية يجب أن َ‬
‫تعت َبر على أنها ذاتية‬
‫ً‬
‫التفعيل وذلك فيما يتعلق بشرخ شبه اتفاقي داخلي خاص بالكون‪ ،‬بدال من اعتبارها‬
‫ً‬
‫كمغايرة للتفعيالت عبر تدخل جهاز سيكون غريبا عنها‪ .‬وحتى إذا لم يكن هذا الجانب‪،‬‬

‫‪K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit., p. 127. 461‬‬
‫‪272‬‬
‫العالئقي بشكل كامل بالنسبة لالنبثاقات‪ ،‬يشتمل على ارتباطها اتجاه موضوع إنساني‬
‫ً‬
‫(من حيث أن العالقات ال تنتج دائما من نشاطات وأعمال ترتيب لوضوع ما‪ ،‬وأن وضعية‬
‫الجموعة الستدعاة ال يجب أن َّ‬
‫تشبه بالضرورة بوضعية تجريبية)‪ ،‬لكن يبقى أن عقبة‬
‫مبدئية تعترض أن ننسبها ألي ش يء كان بمعزل عن الشروط حيث بإمكانها أن ّ‬
‫تتفعل‪.‬‬
‫تفلت االنبثاقات على هذا النحو من الذاتية‪ ،‬التي كان بوبر يستنكر إدخالها من قبل‬
‫أنصار "تفسير كوبنهاغن"؛ ولكن على الرغم مما يمكن لفردة "موضوعي" البوبرية أن توحي‬
‫به‪ ،‬فإن االنبثاقات ليست بالرغم من ذلك "قابلة للموضعة" بالعنى اإلبستمولوجي للـ‬
‫ً‬
‫قابلة لإلسقاط أماما أو للـ قابلة للفصل‪.‬‬
‫‪ 6 -6‬تناقض االستعدادات والتحديدات القطعية‬
‫تنجم صعوبة أخرى‪ ،‬تصادفها محاولة إيالء انبثاقات ألساس شامل ما‪ ،‬من طموحها‬
‫َ‬
‫األنطولوجي الكامن‪ .‬يتعلق األمر في النهاية بتأكيد أن الخصائص القصوى للعالم هي من‬
‫ً‬
‫رتبة انبثاقية باألحرى من كونها من رتبة تصنيفية‪ .‬ويتعلق األمر أيضا بأن نقرن بهذا‬
‫التأكيد تأكيد أن "قوانين الطبيعة" هي قوانين غير تحديدية بشكل أساس ي وليست‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قوانينا تحديدية (انظر الفصل الثامن)‪ .‬غير أنه ليس من الصعب جدا إدراك أن هذين‬
‫التأكيدين يسقطان كالهما تحت ضربة نقدية من النمط الكانطي في نقده للعقل؛ ألن‬
‫ً‬
‫كال من التأكيدين يعودان إلى محاولة ّ‬
‫مد مفاهيم الفهم واإلدراك إلى ما وراء حدود‬
‫التجربة التي تكمن وظيفتها في تنظيم هذه الحدود‪ .‬إن جزاء مثل هذا التجاوز هو ظهور‬
‫تناقضات‪ ،‬أي مواجهات وصراعات بين تأكيدات عقائدية متناقضة‪.‬‬
‫كان هارتونغ ‪ H. Harthong‬يشير إلى ظهور "صراع خامس لألفكار التجاوزية" بين‬
‫األطروحة التي وفقها‪:‬‬
‫"القانون النهائي للعالم هو قانون تحديدي بالكامل وكل ظاهرة عشوائية يمكن أن‬
‫نلحظها في العالم هي من أثر الشواش التحديدي"‪،‬‬
‫وبين األطروحة الضادة التي وفقها‪:‬‬
‫‪273‬‬
‫"القانون النهائي للعالم هو الصدفة وأية تحديدية جزئية يمكن أن نجدها فيه هي‬
‫أثر لقانون األرقام الكبيرة"‪.462‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال بد لنا أن نضيف إلى ذلك حاليا صراع سادس لألفكار التجاوزية (هو أصال صراع‬
‫ً‬
‫مرتبط جوهريا مع الخامس)‪ ،‬بين األطروحة التالية التي وفقها‪:‬‬
‫"إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات قطعية‪ ،‬وكل تحديد استعدادي أو‬
‫ً‬
‫انبثاقي ننسبه إلى أجسام ما يعكس تحليال غير كامل للصيرورات القطعية التحتية"‪،‬‬
‫واألطروحة الضادة التي وفقها‪:‬‬
‫"إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات استعدادية أو انبثاقية‪ ،‬وكافة‬
‫مرور إلى الضمني للعالقة بين‬
‫ٍ‬ ‫التحديدات القطعية التي يمكننا التنبؤ بها هي انعكاس‬
‫الخلفية االستعدادية وأدوات التفعيل"‪.‬‬
‫لقد أصبح من الرجح أكثر فأكثر أن التجربة ال تستطيع الحسم بين األطروحة‬
‫واألطروحة الضادة‪ ،‬وذلك من خالل التواجد الشترك‪ ،‬في نظر النظريات الكمومية‪،‬‬
‫للتفسيرات ذات التغيرات الخفية القطعية (غير الحلية والسياقية) والتفسيرات‬
‫ً‬ ‫االنبثاقية‪ .‬يبقى أن ّ‬
‫نتفحص الحجج العقالنية البحتة التي تعرض حينا ضد األطروحة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وحينا ضد األطروحة الضادة‪ ،‬والتي هي قابلة ألن تجعل منهما تناقضا حقيقيا بالعنى‬
‫الكانطي‪.‬‬
‫ً‬
‫والحجة القدمة ضد األطروحة معروفة جيدا‪ .‬فكل تحديد قطعي‪ ،‬بقدر ما يهدف ألن‬
‫يتم إيصاله أو إبالغه‪ ،‬وحيث يكون علينا لتحقيق ذلك اللجوء إلى عملية الفصل عن‬
‫ً‬
‫مخطط ثنائي التفرع ابتداء من تفعيل أصيل‪َ ،‬يفترض استعدادا للش يء بالسماح بإعادة‬
‫تفعيل‪ .‬وكما كتب بالكبرن‪ ،‬فإن "الصالبة تتوافق مع القاومة (وهي استعدادية بامتياز)‪،‬‬

‫‪J. Harthong, cité par A. Dahan-Dalmedico, in A. Dahan-Dalmedico, J.-L. Chabert et K. Chemla, 462‬‬
‫‪( Chaos et déterminisme, Seuil, 1992‬هنا‪ ،‬عكسنا عن قصد األطروحة واألطروحة الضادة)؛‬
‫ً‬
‫انظر أيضا‪J. Bouveresse, L'homme probable, Editions de l'Eclat, 1993; J. Harthong, Probabilités et :‬‬
‫‪statistiques, Frontières-Diderot, 1996.‬‬
‫‪274‬‬
‫بينما الكتلة تكون قابلة للمعرفة فقط من خالل آثارها الديناميكية‪ ."463‬ومن هنا‪ ،‬فإن‬
‫الفكرة التي ترسخت عبر نجاحات النموذج الذري في مطلع القرن العشرين‪ ،‬بأننا‬
‫سنستطيع دائما تحديد أساس قطعي الستعدادات اللحظة‪ ،‬ال تصمد أمام هذه الحجة‪،‬‬
‫أو على األقل تكون محكومة باالنحدار إلى الالنهاية‪ .‬فهناك استعدادات تجد نفسها وقد‬
‫وصلت إلى تحديدات قطعية تفترض هي نفسها استعدادات إلعادة التفعيل‪ ،‬وهكذا‬
‫دواليك‪" .‬فكما أن النظرية الجزيئية للغازات تعطينا فقط أشياء مزودة باستعدادات‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن تطور العلوم لن يعطينا شيئا آخر سوى مخطط أفضل من االستعدادات والقدرات‪.‬‬
‫فعلى هذا النحو إنما تمض ي الفيزياء‪ ."464‬إن األساس القطعي النهائي الفترض‪ ،‬اإلسقاط‬
‫َّ‬
‫والعرف فقط بواسطة‬ ‫الجسد للتصنيفات الوضوعية‪ ،‬يتقلص إلى "[‪ ]...‬ما ال نعرفه‬ ‫ّ‬
‫القدرات واالستعدادات التي يحملها‪."465‬‬
‫أما الحجة الرئيسية ضد األطروحة الضادة فقد عرضها كوين ‪" :Quine‬إذا لم يكن ثمة‬
‫معين ضمن ظروف معينة‪،‬‬ ‫إمكانية للتمييز بين استعدادات ش يء ما في التصرف وفق شكل ّ‬

‫والواقع البسيط بأنه يتصرف على هذا النحو ضمن هذه الظروف‪ ،‬عندها فإن كل ما يفعله‬
‫ً‬
‫الش يء يمكن أن ينسب الستعداد ما‪ ."466‬ووفق كوين‪ ،‬فإن مفهوم االستعداد يكون محروما‬
‫بالتالي من معنى مستقل بذاته‪ .‬وهو بالنسبة له ليس سوى وسيلة لإلسناد بشكل غير‬
‫مباشر إلى ترتيب من التحديدات القطعية التي ال نفهمها بعد‪" .‬إن العبارة العامة للفظة‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫[استعداد] هي لفظة برنامجية‪ ،‬وهي تعلب دورا ناظما باألحرى منه دورا مشكال"‪ .467‬وهي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بدال باألحرى‬ ‫تشكل وعدا في سبيل وصف نهائي بمصطلحات ميكانيكية ‪ -‬آلية وتصنيفية‬
‫من وصف بديل‪.‬‬

‫‪S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 255. 463‬‬
‫‪ 464‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.465 .‬‬
‫‪ 465‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪W. V. Quine, The roots of reference, Open Court, 1990, p. 5. 466‬‬
‫‪ 467‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.00 .‬‬
‫‪275‬‬
‫يمكننا سبر جذور هذا الصراع الفكري إذا جمعنا التحليل العام لكانط حول‬
‫‪468‬‬
‫مع بعض الالحظات وثيقة الصلة بالوضوع لكوين حول‬ ‫األطروحة الضادة للمنطق‬
‫االستعدادات‪ .469‬فنصير األطروحة ونصير األطروحة الضادة تقودهما ببساطة قيم أو‬
‫اهتمامات مختلفة‪ ،‬وهما يحاوالن إسقاط هذه االهتمامات على العالم‪ .‬إن نصير‬
‫األطروحة (وبالتالي ناقد األطروحة الضادة) محكوم باهتمام نظري‪ ،‬بل وتخميني‪ :‬فهو‬
‫يريد إدراج عمله في النظور الناظم لوصف شامل لكيف هو العالم‪ .‬وهو يسقط مثاله‬
‫الناظم في "آليات" تتضمن تحديدات قطعية‪ .‬أما نصير األطروحة الضادة (وبالتالي ناقد‬
‫األطروحة)‪ ،‬فهو محكوم باهتمام عملي‪ :‬أال وهو عدم إغفال تضمين مناهج عملياتية‬
‫ضمن إجراءات التفعيل وإعادة التفعيل التي يرتكز عليها في نهاية الطاف كل إسناد من‬
‫ً‬
‫التحديدات‪ .‬غير أنه هو أيضا يسقط شيئا ما على العالم‪ .‬فهو يسقط عليه حدود‬
‫ً‬
‫التجربة نفسها‪ .‬وهو بذلك إنما ينتهك أيضا هذه الحدود على طريقته‪ ،‬طالا أن البرهان‬
‫على أن هذه الحدود غير قابلة للتجاوز وأنها "أساسية" ال يمكن أن ي َّ‬
‫قدم ربما إال بالنظر‬
‫من الجهة األخرى وبإظهار العائق الذي يقاوم تجاوزها‪ .‬وبقيامه بذلك‪ ،‬فإن نصير‬
‫ً‬
‫األطروحة الضادة يجازف بأن يصبح مذنبا بالعقائدية بمقدار ذنب خصمه نصير‬
‫األطروحة‪.‬‬
‫‪ 7 -6‬عناور لتفكيكية أنطولوجية‬
‫ما هي النتيجة التي نصل إليها بعد أن نقبل باالستنتاج السابق بوجود التناقض؟‬
‫نترك لفرعي الكماشة النقدية أن يعمال بملء طاقتهما‪ ،‬ونضع محصلة ما يبقى في نهاية‬
‫عملها في التسوية والتشذيب‪.‬‬
‫خصوم األطروحة الضادة محقون في اإلشارة إلى أن االستعدادات ليس لها أية‬
‫استقاللية اتجاه الظروف التي ّ‬
‫تفعلها‪ ،‬وإلى أنها تستطيع لهذا السبب أن تزعم بصعوبة‬

‫‪E. Kant, Critique de la raison pure, P.U.F., 1984, p. 360. 468‬‬


‫‪W. V. Quine, The roots of reference, op. cit., p. 14. 469‬‬
‫‪276‬‬
‫ً‬
‫أنها تشكل نوعا من الخزان للكمونات الوجودة بشكل جوهري‪ ،‬من حيث ينثبق من وقت‬
‫آلخر‪ ،‬إثر تفاعلها مع جهاز ما‪ ،‬تفعيل كبير وظاهر‪ .‬يكمن رد الفعل األولي بمواجهة هذه‬
‫ً‬
‫الصعوبة‪ ،‬كما سبق وذكرنا‪ ،‬في اعتماد وضع كلياني تماما‪ :‬االستعدادات هي استعدادات‬
‫الكون بكامله‪ ،‬وهي تعبر عن نفسها بحسب كل من انشراخاتها الداخلية‪ .‬ولكن في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬قد يكون علينا أن نأخذ بعين االعتبار حقيقة أن كافة تقسيمات الكون إلى أجزاء‬
‫ً‬
‫تحتية‪ ،‬وهو أمر ال غنى عنه منهجيا إلعداد العلم نفسه الذي قاد إلى الفكرة الكليانية‪،‬‬
‫هي تقسيمات محكومة باالهتمام الخاص الوحيد (أو على األقل بالحالة الطارئة) لدى‬
‫الذين يستخدمونها‪ .‬يمكن لهذا الظرف أن يبدو كشكل من النقد الذاتي للكليانية‬
‫ً‬
‫بواسطة نتائجها الخاصة‪ .‬وهناك رد فعل آخر مختلف جدا على الصعوبة نفسها يمكن‬
‫‪470‬‬
‫أن يتبدى بعكس ترتيب األولويات‪ ،‬على طريقة ويتغنشتاين في تحقيقاته الفلسفية‬
‫ً‬
‫فبدال باألحرى‬ ‫‪ ،investigations philosophiques‬أي أن نضع التفعيل قبل االستعداد‪.‬‬
‫ً‬ ‫من ّ‬
‫تخيل أن التفعيل ينبثق من خلفية استعدادية‪ ،‬لنحاول أن نحيط علما بمشاركة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفيزيائي بلعبة تكون لسانية حينا وشكلية حينا آخر وفيها يتالعب بكينونات ذات شكل‬
‫انبثاقي (متجهات الحالة) لوقت طويل قدر ما يسمح له ذلك بتوقع االنبثاقات اإلحصائية‬
‫للظاهرات ّ‬
‫الفعلة بطريقة كافية‪.‬‬
‫أما خصوم األطروحة‪ ،‬فهم محقون من جهتهم باإلشارة إلى أننا عندما نطبق‬
‫ََ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ينتقد‬ ‫تحديدات قطعية‪ ،‬فإننا نكون قد أتممنا جزءا كبيرا من االبتعاد عن التفعيل الذي‬
‫في االنبثاقية‪ .‬إن التحديد القطعي يحفظ ببساطة وهم تواطئه الجذري مع التفعيل‪ ،‬ألنه‬
‫يرتبط مثل االستعدادات الكالسيكية التي يقول عنها بالكبرن إنها حالة‪ ،‬بلعبة لغوية ذات‬
‫قواعد استباقية أكثر صالبة بكثير (ولنقل تحديدية) من القواعد التي تخضع لها لعبة‬
‫االنبثاقات‪.‬‬

‫ً‬
‫‪ 470‬انظر تعليقا يوضح السألة حول مفهوم "القاعدة" في‪:‬‬
‫‪S. Kripke, Wittgenstein on rules and private language, Basil Blackwell, 1982, p. 97-98.‬‬
‫‪277‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن حقل التفكيكية األنطولوجية هو حقل مفتوح بشكل رحب‪ .‬وقد ولجه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫العديد من الكتاب حتى اآلن‪ ،‬أحيانا بحذر مفرط‪ ،‬لكن أحيانا بطريقة أكثر اندفاعا وقوة‪.‬‬
‫لنبدأ بالطريقة الحذرة‪ .‬فمع االرتكاز على مفهوم االنبثاق‪ ،‬يمتنع كل من بوبر ‪K.‬‬
‫‪ Popper‬وتيللر ‪ P. Teller‬في غالب األحيان من إعطاء تفاصيل دقيقة حول أساس‬
‫ً‬
‫محتمل‪ .‬ويعارض تيللر على سبيل الثال بشكل واضح جدا عملية نسب تحديدات إلى‬
‫أشياء وبين عملية تطبيق مفهوم االنبثاق الذي يترك مسألة األساس مفتوحة‪ .‬إن "الحالة‬
‫ً‬ ‫الكمومية" ّ‬
‫لظهور وفق احتمالية معينة تحت‬
‫ٍ‬ ‫تعبر وفقا لتيللر عن "[‪ ]...‬انبثاقات بالنسبة‬
‫شروط تفعيل مختلفة‪ ."471‬نالحظ هنا االستخدام الضبوط للعبارة الواسعة والطاطة‬
‫"انبثاقات بالنسبة لا سوف يظهر"‪ ،‬وليس للعبارة الشائعة أكثر "انبثاق ش يء ما للظهور‬
‫بطريقة ما" والتي تتضمن اإلسناد إلى أساس ما‪ .‬وهو ي َب ّرر هذا الخيار من جهة أخرى بعد‬
‫عدة صفحات على النحو التالي‪" :‬سيكون علينا أن نفهم «الحالة الكمومية» بما هي تحدد‬
‫االنبثاقات من أجل ظهور الخصائص‪ ،‬لكن يمكننا أن ننفي بطريقة متسقة أنه يجب أن‬
‫نفسه وقد وضع بين‬ ‫يوجد ش يء ما فيها يدفع الحالة‪ ."472‬فبعد أن وجد هذا األساس َ‬
‫ً‬
‫هاللين‪ ،‬فها هو يجد نفسه مهددا من قبل تيللر باإلنكار الصريح‪ .‬أما بوبر‪ ،‬فال يتردد من‬
‫جهته في استخدام نموذج متوالية زمنية ال تدخل سوى االنبثاقات‪ ،‬دون أي ذكر أو إشارة‬
‫ً‬
‫إلى حامل أو أساس‪ .‬وغالبا ما نجد لديه عبارات حيث تطرح مسألة حالة تتأتى من‬
‫انبثاقات ماضية‪ ،‬حيث تشتمل هذه الحالة بدورها على انبثاقات مستقبلية‪ .473‬وهكذا‬
‫فقد وضع بوبر رابط تتابع مضبوط بين الحاالت وحدها واالنبثاقات‪ ،‬أو بين الحاالت‬
‫االنبثاقية‪ ،‬العلقة في "فراغ" ال يعمل كأساس بديل بل كوضع بين قوسين لوظيفة‬
‫األساس نفسها‪.‬‬

‫‪P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 105. 471‬‬
‫‪ 472‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.019 .‬‬
‫‪K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit. 473‬‬
‫‪278‬‬
‫كان دافيس ‪ P. Davies‬هو الذي وضع الطريقة األكثر فظاظة في تفكيك‬
‫األنطولوجيا‪ ،474‬وذلك ّ‬
‫كرد على ظاهرة "جسيمات ريندلر ‪ ."Rindler‬ووفقه‪ ،‬فإن هذا‬
‫الوضع الغريب‪ ،‬حيث نكشف عن جسيمات بواسطة كاشف َ‬
‫مس َّرع ضمن ما هو َّ‬
‫معرف‬
‫مع ذلك كـ "فراغ"‪ ،‬يجبر على القبول بأن مفهوم الجسيم (وليس فقط مفهوم تحديد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتعريف جسيم ما) ال يمكن أن يجد نفسه مخصصا ومعينا بمعنى غير ملتبس إال‬
‫ً‬
‫بالنسبة إلطار تجريبي محدد تماما‪ .‬ولكن ما أن يتحرر هذا الفهوم من روابطه التاريخية‪،‬‬
‫فإن الالحظة العامة لألسلوب البوري (نسبة إلى بور)‪ ،‬ووفقه ال نستطيع إقامة فصل‬
‫واضح بين شكل التحديدات التجريبية والحتوى الداللي للنتائج‪ ،475‬تجازف بأن يكون لها‬
‫نتائج تفكيكية إلى ما وراء النقد الوجه ألساس "منظومة جسيمات"‪ .‬أال ينطبق ذلك بعد‬
‫إجراء التعديالت الالزمة ‪ mutatis mutandis‬على الكثير من الرشحين من الركائز األخرى‪:‬‬
‫َ‬
‫الحتمل‪ ،‬بل والفراغ الف ّعل؟‬
‫َ‬ ‫مثل الحقول الخاصة‪ ،‬والحقل َّ‬
‫الوحد‬
‫ّ‬ ‫في أحسن األحوال‪ ،‬علينا أن نحاول على هذا النحو ّ‬
‫تخيل انبثاقات "معلقة"‪،‬‬
‫محرومة من الركيزة واألساس‪ .‬وفي أسوأ األحوال‪ ،‬كما اقترحنا ذلك أعاله‪ ،‬سيكون من‬
‫الالزم ربما أن نبتعد لسافة معينة فيما يتعلق بالرواسب األنطولوجية التي ينقلها مفهوم‬
‫االنبثاق‪ ،‬والبقاء على التخوم الباشرة بين "لعبة البحث" من جهة‪ ،‬الؤلفة من تالعبات‬
‫تجريبية وتشكيالت تنبؤية واستخدام للغة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬التفعيالت الفردية‬
‫العشوائية‪ .‬غير أن هذا الخيار األخير يقودنا كما يبدو إلى التخلي عن كل ما كان يشكل‬
‫العنى والدافع العميق للمشروع العلمي‪ .‬كنا نعد أنفسنا بأن العلم لن يبعدنا أكثر فأكثر‬
‫عن "الحالية" من خالل تشييداته العقلية إال لكي يقودنا باتجاه مستقبل مشرق لواقعية‬
‫أكثر واقعية وحقيقية من حالية الظاهرة‪ :‬أال وهي الواقعية التي سوف تدركها وتلتقطها‬

‫‪P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S.M. Christensen, (ed.), Quantum theory of gravity, 474‬‬
‫‪Adam Hilger, 1984.‬‬
‫‪B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in op. cit. 475‬‬
‫‪279‬‬
‫ً‬
‫كياناته النظرية بشكل تدريجي ومتالق‪ .‬وانطالقا من هنا‪ ،‬كنا سنضيف أننا سوف نصل‬
‫َ‬
‫إلى إغالق دائرة الحصالت العلمية للعالم في نقطتين‪ .‬في الدرجة األولى‪ ،‬كنا سوف‬
‫ّ‬
‫نتوصل إلى أن نأخذ الحالية نفسها بعين االعتبار كظاهرة موسعة للحقائق األعمق‬
‫ً‬
‫الكتشفة بواسطة العلم‪ .‬وبالدرجة الثانية‪ ،‬سوف نصبح قادرين استدالليا على تفسير‬
‫مالءمة النظريات العلمية في مجال ّ‬
‫صحتها وذلك باستحضار تماثلها الجزئي مع "واقع"‬
‫تتم مقاربته بشكل مقارب‪ .‬فهل يمكننا أن نترك مثل هذا الثال يضيع‪ ،‬باعترافنا بغموض‬
‫الحالية بمواجهة محاوالت اختزالها‪ ،‬وبترك جهود التنظير ت َنبذ تحت ناظرينا في لعبة‬
‫لسانية ‪ -‬شكالنية ال تتوصل نجاحاتها العملية بشكل جيد إلخفاء طابعها الذي ال أساس‬
‫له؟ فلكي يكون ثمة خسارة حقيقية‪ ،‬يجب أن يكون ثمة ش يء هام لفقده وخسارته وال‬
‫ش يء نربحه بالقابل‪ .‬غير أننا في الحالة الراهنة نجازف فقط بخسارة الوهم‪ ،‬ويمكننا أن‬
‫نربح طريقة جديدة في فهم وتبرير بنية صورياتنا النظرية‪.‬‬
‫أ) الوهم‪ ،‬هو وهم التفسير الرجعي للحالية من خالل نتاج اإلعداد النظري‪ .‬لنعد إلى‬
‫القطع ‪ B135‬لديمقريطس الذي أشار منذ ذلك الوقت أنه إذا كان يمكن بواسطة العقل‬
‫اعتبار أن الذرات والفراغ هما الحقيقة الوحيدة‪ ،‬محيلين الحسوس إلى ّ‬
‫مجرد اتفاق‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن الحسوس سوف يبقى مع ذلك الطريق الوحيد الختبار البناء العقلي‪ .‬لنمر أيضا على‬
‫هسيرل ‪ ،Husserl‬والذي أشار إلى أسبقية واقع وقانون "عالم‬ ‫"األزمة" ‪ Krisis‬التي طرحها ّ‬
‫الحياة" ‪ Lebenswelt‬وتساءل عن أية "بنية تحتية" شكلية تزعم أنها تبرره بالقابل‪.‬‬
‫ولنطرح نسخة من هذه الالحظة أكثر خصوصية في الفيزياء العاصرة‪ .‬أحد األسئلة الذي‬
‫ً‬
‫غالبا ما يطرح هو التالي‪ :‬كيف نأخذ بعين االعتبار بأثر رجعي عبر النظرية الكمومية‬
‫للمدى الذي لدى الجرب الستخدامه في التحديدات القطعية على الستوى الجهاري‬
‫ّ ً‬
‫الجد أبدا زعم عناصر الصورية‬ ‫(لنقل تحديدات أجهزته) إذا لم نعد نأخذ على محمل‬
‫الكمومية بوصف "حاالت" لـ ش يء ما‪ ،‬على الستوى الجهري ‪ /‬الصغائري لكونات هذه‬
‫األجهزة نفسها؟ إحدى الطرق التبعة لتحييد هذا السؤال هي اإلشارة إلى أن استخدام‬

‫‪281‬‬
‫ّ‬
‫الجرب ووسطه يمثل شرط إمكانية اإلثبات ما بين الذاتي‪،‬‬ ‫التحديدات القطعية في بيئة‬
‫أي الشترك‪ ،‬ألية صورية تنبؤية مهما كانت‪ :‬فالتنبؤ يركز على هذا وليس باألحرى على‬
‫ذاك‪ ،‬أي على تحديدية قطعية تقع في قلب سويته ثنائية التفرع‪ .‬غير أن الشروع الذي‬
‫يرتكز على إرادة أخذنا بعين االعتبار لشروط إمكانية معرفة ما من خالل محتوى العرفة‬
‫ً‬
‫التي أصبحت ممكنة يحمل هنا كما وفي أي مجال آخر شيئا من الوهم‪ .‬أضف إلى ذلك‪،‬‬
‫أننا نتوصل (وهذا غير مهمل على الستوى النهجي) إلى البرهان بأن محتوى العرفة‬
‫والتنبؤات التي تسمح بالقيام بها ال تدخل في تناقض شروطها السبقة التي ال غنى عنها‪.‬‬
‫وهنا يكمن الدور الحدود الذي أنسبه إلى نظريات فك الترابط في اليكانيك الكمومي وإلى‬
‫تعزيزها التجريبي الحديث من قبل فريق هاروش‪.S. Haroche 476‬‬
‫ب) الطريقة الجديدة في تبرير بنية الصوريات النظرية هي النهج البراغماتي ‪-‬‬
‫التجاوزي‪ .‬وهي تشتمل على تبرير بنية صورية اليكانيك الكمومي‪ ،‬ليس من خالل‬
‫ً‬
‫تسجيلها في خطوط قوى واقع مستقل مسبق البنيان (كان مشكال من تحديدات بحتة)‪،‬‬
‫بل من خالل قدرتها على أن يجمع في صوريته معايير النشاطات التجريبية للتنبؤ‬
‫(االحتمالي) بنتائجها‪ .477‬وهكذا يتم تجنب الصعوبات الرتبطة بـ "التفسير" الواقعي لنجاح‬
‫النظريات الفيزيائية (الذي تنحو وفقه النظريات إلى عكس بنية العالم بشكل مستقل عن‬
‫أية صلة معنا) دون الحاجة مع ذلك إلى التعليق التجريبي للحكم‪" .‬التفسير" البديل هو‬
‫أن النظريات تترجم على مستويات مختلفة الشروط الصريحة للفعل األكثر حيوية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ستحصل هذه العالقة من نتائج لنفسها‪.‬‬ ‫للكائن ‪ -‬في ‪ -‬عالقته ‪ -‬مع ‪ -‬الكون‪ :‬توقع ما‬
‫ووفق هذه القاربة‪ ،‬ال يجب أن يبقى سوى عنصر واحد غير قابل لإلدراك بشكل‬
‫كامل من خالل الصورية النظرية‪ ،‬وبالتالي من خالل الطريقة البراغماتية ‪ -‬التجاوزية‬
‫‪476‬‬
‫‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. citP M. Bitbol,‬‬
‫‪Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston studies in the philosophy of science ,‬‬
‫‪Kluwer, 1996.‬‬
‫ً‬
‫‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. cit. 477‬؛ وانظر أيضا القطعين ‪-0‬‬
‫‪ 1‬و ‪ 5-3‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪281‬‬
‫ً‬
‫للتبرير‪ :‬أال وهو واقع الحصول على هذه النتيجة بدال باألحرى من نتيجة أخرى من بين‬
‫كافة النتائج المكنة‪ ،‬وذلك خالل حدوث مفرد للتجربة َّ‬
‫النفذة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ش يء ما‬
‫يقتض ي حالية بحتة‪.‬‬
‫‪ 8 -6‬خاتمة‪" :‬اخصالء" كعالج‬
‫ً‬
‫إن الخالصات التي يمكننا استخالصها من هذه التأمالت بسيطة جدا وتتوافق مع‬
‫الفكر الويتغنشتايني‪ .‬فهي تعود على الستوى الفلسفي إلى ّ‬
‫حل للمسائل‪ ،‬وعلى مستوى‬
‫الحياة إلى مؤشر عالجي‪.‬‬
‫ً‬ ‫الخالصة األولى هي أنه من ّ‬
‫التهور جدا اعتبار نجاح تنبؤي‪ ،‬متعلق بنشاط تجريبي‬
‫مضبوط‪ ،‬كبرهان على أننا توصلنا إلى حقيقة مطلقة‪ .‬وهو أمر نموذجي بالنسبة لعبادة‬
‫حديثة وغربية للفعالية‪ ،‬كما أنه يشتمل على اعتبار القدرة على الفعل كعالمة ثابتة على‬
‫محك قيمة العرفة هو مقدرتها على خدمة قدرة‬ ‫معرفة أصيلة‪ ،‬وبالعكس على اعتبار أن ّ‬

‫الفعل‪.‬‬
‫أما الخالصة الثانية‪ ،‬فهي أن صيرورة اتخاذ مسافة اتجاه الحالية‪ ،‬التي بدأت مع‬
‫ً‬
‫اللغة وتوسعت من خالل العلوم‪ ،‬ال تزال بعيدة جدا عن اإليفاء بوعدها الضمني‪ ،‬الذي‬
‫كان استعادة هذه الحالية بإدرجها في منظومة فهم كامل "لألشياء منذ خلق العالم"‪.‬‬
‫فعلى هذا النحو إنما نستطيع أن نفهم دون شك الالحظة التالية لويتغنشتاين‪ ]...[" :‬في‬
‫ّ‬
‫الوقت نفسه الذي تكون قد حلت فيه كافة السائل العلمية المكنة‪ ،‬فإننا ال نكون قد‬
‫عرضنا بعد لشكلتنا"‪ .478‬هل يجب أن يكون ثمة فشل ما في ذلك؟ إنها باألحرى تحريض‬
‫على القيام بأبحاث عن ‪ /‬في الحالية‪ ،‬كتتمة ال غنى عنها للبرنامج العلمي في االضطالع‬
‫الخارجي بالخلفات الحققة للحالية‪.‬‬
‫ً‬
‫الخالصة الثالثة هي أننا طالا صغنا على التتالي مفهوما للفراغ كمنطقة من الفضاء‬
‫محرومة من الادة‪ ،‬ثم كحالة أساس لخزان من الكمونات‪ ،‬فقد ارتكزنا على نسبية‬

‫‪L. Wittgenstein, Carnets 1914-1916, Gallimard, 1971, remarque du 25 mai 1915. 478‬‬
‫‪282‬‬
‫تعريف التحديدات‪ ،‬والحاالت‪ ،‬واالنبثاقات‪ ،‬كما وأسسها الفترضة (منظومات‬
‫الجسيمات‪ ،‬الحقول‪ ،‬بل والفراغ الوجودي)‪ ،‬وذلك بمواجهة شروط ومعايير التجريب‪.479‬‬
‫فمن مسألة أنطولوجية الفراغ‪ ،‬انحرفنا نحو مسألة العالقة‪ ،‬التي كان قد أبرزها كانط‬
‫في العبارة التي افتتحنا بها هذا الفصل‪ ،‬وذلك بين التأكيدات القطعية أو االستعدادية‬
‫ً‬
‫التي تتعلق بالفراغ ووسائل إثباتها‪ .‬وهكذا فقد توصلنا عن غير قصد تقريبا إلى مفهوم‬
‫ثالث للفراغ (ليس له صالت أخرى مع الفهومين السابقين سوى الحتوى العام لغزى‬
‫"غياب الش يء"‪ ،‬إنما الذي فرض نفسه مع محصلة تحليلهما)‪ .‬وهذا الفهوم الثالث هو‬
‫مفهوم "الخواء" (سونياتا ‪ )Sunyata‬في بوذية "الدرب الوسط"‪ ،‬والتي تقود إلى االنبثاق‬
‫الشترك التعلق بكل ما هو ظاهر‪" .‬إن ما يظهر بطريقة مرتبطة أو تابعة‪ ،‬كما يكتب‬
‫ناغارجونا‪ ،480‬هو ما نسمعه بواسطة الخالء [‪ .]...‬فش يء ما لم ينبثق بطريقة مرتبطة أو‬
‫ً‬
‫متعلقة ال يوجد‪ .‬وبالنتيجة‪ ،‬فإن شيئا ما ليس فارغا ال يوجد"‪ .481‬وعلى عكس الفهومين‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫السابقين للفراغ‪ ،‬فإن هذا العنى الثالث للـ "فراغ" نادرا ما ولد محاولة تجسيد له‪ .‬وفي‬
‫كل األحوال‪ ،‬فإن الذين خضعوا إلغراء الحاولة لم يكن لديهم أي عذر‪ ،‬ألنه كان قد تم‬
‫ً‬
‫التأكيد لهم منذ البداية أن الفراغ موضوع البحث لم يكن مناسبا‪ .‬ويفسر غارفيلد ‪J.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ Garfield‬أن "الخالء نفسه في «درب الوسط» هو فراغ‪ .‬فالخالء ليس فراغا موجودا بذاته‬
‫َ‬
‫الطابق مع الواقع االتفاقي (للظهورات)؛ بل هو سمة مميزة لهذا‬ ‫خلف حجاب من الوهم‬
‫الواقع االتفاقي"‪ .482‬إنه طريقة للتعبير عن تعارض كل تأكيد يرتكز على الفكر القائل‬

‫‪ 479‬من أجل تطوير لوضوع "النسبويات الوصفية"‪ ،‬راجع‬


‫‪M. Mugur-Schachter, "From quantum mechanics to universal structures of conceptualization and‬‬
‫‪feedback on quantum mechanics", Foundations of physics, 23, p. 37-122, 1993.‬‬
‫‪ 480‬هو الفيلسوف البوذي الرئيس ي في الطرح العروف بـ "الركبة العظيمة"‪ ،‬وقد عاش في الهند في القرن الثاني‬
‫للميالد‪.‬‬
‫‪Nagarjuna, Mulamadhyamakakarida XXIV, 18, in J. Garfield, The fundamental wisdom of the 481‬‬
‫‪middle way, Oxford University Press, 1995, p. 304.‬‬
‫‪J. Garfield, The fundamental wisdom of the middle way, op. cit., p. 91. 482‬‬
‫‪283‬‬
‫بوجود جواهر أساسية؛ فهو يشير إلى غياب "الطبيعة الخاصة" وإلى إمكانيات التمييزات‬
‫ً‬
‫الجوهرية أيا كان الش يء‪.‬‬
‫ليس ثمة بالتالي لهذا الفراغ أي قصد ألساس أنطولوجي‪ .‬بل هو يهدف على العكس‬
‫ً‬
‫تماما إلى تلبية وظيفة عالجية بمواجهة التصلبات الوجودية التي تميل إلى االستقرار في‬
‫مخر التحجرات األنطولوجية‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫‪ - 7‬ماذا يعني "فهم اليكانيك الكمومي"؟‬

‫"يمكننا [‪ ]...‬إعالن ش يء ما حول ما يجري‬


‫في العالم‪ ،‬ولكن ليس حول العالم بما هو ما‬
‫يجري فيه ش يء ما‪".‬‬
‫ّ‬
‫بوفريس ‪J. Bouveresse‬‬ ‫ج‪.‬‬
‫‪Wittgenstein, la rime et la raison‬‬

‫ذكرنا فيما سبق بشكل متواتر فكرة (كانت مألوفة لدى كل من بور وهايزنبرغ) أن‬
‫يعبر عن وضعية تشابك ال ينفصم للوسائل التجريبية لالستكشاف‬ ‫اليكانيك الكمومي ّ‬
‫ً‬ ‫مع الوسط الذي تستكشفه‪ .‬وقد ن َ‬
‫سبت مجازا الصعوبة الظاهرة في استخدام اليكانيك‬
‫الكمومي من أجل تحرير وكشف سمات خاصة محتملة للواقع إلى "القرب العمي" من‬
‫ً‬
‫هذا الواقع‪ ،‬بدال باألحرى من نسبها إلى بعده الفرط‪ .‬ال بد لنا بالتالي من إعطاء شكل‬
‫ّ‬
‫التحول في‬ ‫واتساق للتصور الجديد للنظرية الفيزيائية التي تفرض نفسها بعد هذا‬
‫التمثيالت اإلبستمولوجية‪ .‬فما الذي يمكن أن تكون عليه نظرية ما إذا لم تعد نظرية‬
‫‪ theoria‬بالفهوم األساس ي لها‪ ،‬أي تأمل منهجي لصيرورة طبيعية يفترض أنها خارجية؟‬
‫وماذا يجب أن يشبه نمط تنظيم عقلي للنشاطات التجريبية وللظاهرات الناجمة عنها‬
‫التي‪ ،‬كما يكتب كاسيرر ‪ ،Cassirer‬لن يكون موضوعها أن "[‪ ]...‬تقطع حدود عالم‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫التجربة لكي تجهز لنا منفذا نحو عالم التجاوز‪ ،‬بل أن تعلمنا اجتياز هذا العالم التجريبي‬
‫بكل ثقة‪ ،‬وسكناه بشكل مريح‪"483‬؟ نقترح بدايات أجوبة على هذه األسئلة في القطعين ‪1‬‬
‫‪ 3 -‬و ‪.2 - 1‬‬

‫‪E. Cassirer, La philosophie des lumières, Agora-Fayard, 1996, p. 52. 483‬‬


‫‪285‬‬
‫ولكن‪ ،‬أن نغير بشكل جذري إلى هذا ّ‬
‫الحد طريقتنا في تصميم النظرية الفيزيائية‪،‬‬
‫فهذا يعني أن نغير في الوقت نفسه طبيعة ما ننتظر الحصول عليه عندما نطلب من‬
‫النظرية أن تساعدنا في "فهم" ش يء ما في الظاهرات الفيزيائية‪ .‬ربما كان ذلك يعني‬
‫ً‬
‫االقتراب من هذا اليوم‪ ،‬الذي أعلن عنه بور منذ عام ‪ ،0944‬حيث سنستطيع أخيرا أن‬
‫َ‬
‫"[‪ ]...‬نفهم ماذا تعني كلمة «فه َم»‪ ."484‬إن الهمة األولية التي يجب إنجازها‪ ،‬في القطعين ‪1‬‬
‫‪ 0 -‬و ‪ ،4 - 1‬سوف تكون بالتالي تحليل شعور "عدم الفهم" الذي ّ‬
‫عبر عنه العديد من‬
‫الفيزيائيين بمواجهة اليكانيك الكمومي‪.‬‬
‫‪ 1 -7‬فهم ن ّ ‪ ،‬وفهم نظرية فيزيائية‬
‫لننطلق من التعريف الذي يوضح لنا ما هو اليكانيك الكمومي لجيل ‪ -‬مان ‪M. Gell-‬‬
‫ّ‬
‫والحير‪ ،‬الذي ال يفهمه أحد منا‬ ‫‪" :Mann‬اليكانيك الكمومي‪ ،‬هو هذا العلم الغامض‬
‫بشكل حقيقي‪ ،‬إنما الذي نعرف كيف نستخدمه‪ ."485‬إن مثل هذه الجملة يبدو أنها تطرح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحديا على إحدى نظريات الفهم األكثر شيوعا في الوقت الراهن‪ ،‬عبر التقريب الذي‬
‫تقيمه بين "معرفة االستخدام" و "عدم الفهم"‪.‬‬
‫وفق قول مأثور تناولته شروحات كثيرة لويتغنشتاين الثاني‪ ،‬فإن "معنى الكلمة هو‬
‫ً‬
‫استخدامها في اللغة‪ ."486‬فبالنسبة لويتغنشتاين‪ ،‬إن فهم معنى كلمة أو جملة هو أوال‬
‫معرفة استخدامها في عدد من الظروف الحقيقية أو الممكنة‪ ،‬والتصرف بعد ذلك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بشكل صحيح اتجاه بيانها ونطقها بواسطة أحد التحدثين‪ ،‬وهو أخيرا (إنما ليس إجباريا)‬

‫‪W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Michel, 1972, p. 47 sq. 484‬‬


‫‪M. Gell-Mann, "Questions for the future", in J.H. Mulvey (ed.), The nature of matter, Oxford 485‬‬
‫‪University Press, 1981.‬‬
‫‪" 486‬معنى الكلمة هو استخدامه في اللغة" ( ‪die bedeutung eines Wortes ist sein Gebrauch in der‬‬
‫‪ ،)Sprache‬كما ورد في ‪ .L. Wittgenstein, Philosophische Untersuchungen, Basil Blackwell, 1953, 43‬مع‬
‫ذلك فإن بداية هذا القطع يخفف هذا التأكيد‪" :‬بالنسبة لصف واسع من الحاالت ـ ولكن ليس في جميع‬
‫الحاالت ـ التي نستخدم فيها لفظة «معنى»‪ ،‬فإنها يمكن أن َّ‬
‫تعرف على النحو التالي‪ :‬معنى كلمة ما هو استخدامها‬
‫في اللغة"‪.‬‬
‫‪286‬‬
‫مرض لها‪ .487‬فإذا نقلنا هذه الالحظات من ممارسة اللغة الشائعة إلى‬
‫ٍ‬ ‫تقديم تفسير‬
‫ممارسة وتطبيق الفيزياء‪ ،‬فإننا سوف نحب لو استطعنا القول إن التمكن الكامل من‬
‫استخدام نظرية فيزيائية هو بحد ذاته ولوحده البرهان على أن مستخدمها يفهمها‪.‬‬
‫أليست الحالة التي يصورها جيل ‪ -‬مان‪ ،‬وهي حالة َمقد َرة على االستخدام بدون فهم‪،‬‬
‫أليست ضمن هذه الظروف غير قابلة للتصور؟ أال يجب أن نعزل شهادة أولئك الذين‬
‫ً‬
‫ّيدعون عدم فهم اليكانيك الكمومي في الوقت الذي يترجمون فيه يوميا قابليتهم التميزة‬
‫الستخدامه من خالل أعمال جديدة تنبؤية أو تكنولوجية؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫دعونا ال نتسرع كثيرا؛ فعلينا أال نشكك باألسباب التي لدى الكثير من الفيزيائيين في‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تصور ال يزال مختصرا‬ ‫الشكوى من عدم فهمهم للميكانيك الكمومي‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫ويعمل من جانب واحد للفظة "فهم"‪ .‬زد على ذلك أنه "تصور" ليس بال شك سوى الرسم‬
‫ََ‬ ‫الكاريكاتوري لتصور ويتغنشتاين‪ .‬فمهما كانت في الواقع التحفظات َّ‬
‫البررة اتجاه مماثلة‬
‫نفسانية للفهم مع "تجربة داخلية‪ ،"488‬فإن ويتغنشتاين لم يهمل السافة التي تفصل‬
‫التحرر والنفصل عن الستمع في هذه الوضعية‪ .‬فقد َّثمن بشكل كامل االختالف‬
‫ّ‬ ‫الترجم‬
‫بين العايير التي يضعها مترجم موضع التطبيق لعرفة إذا كان مثل هذا الستمع يفهم ما‬
‫ً‬
‫"فهما"‪ .‬وقد ت ّ‬
‫جنب االستخدام الخاطئ لأللفاظ‬ ‫يقال له‪ ،‬وما يسميه الستمع نفسه‬
‫الشتمل على عدم تناول ظاهرات الفهم إال ابتداء من وضعية من يحاكم ويحلل من‬
‫ً‬
‫الخارج صحة إجابات مستمع على استثارة لغوية‪ .‬وعلى العكس تماما‪ ،‬فقد أمكن اعتبار‬
‫فلسفته الثانية كنصيحة بالعودة إلى الوطن واألصول َّ‬
‫موجهة إلى الترجم النفي والغترب؛‬
‫ّ‬
‫التحول إلى اإلنساني»‪ ،‬أي إعادة إدماج مجتمع في‬ ‫إنها ٌ‬
‫أمر بـ "[‪ ]...‬تنفيذ نوع من «إعادة‬

‫‪G.P. Baker & P.M.S. Hacker, An analytical commentary on the Philosophical Investigations 487‬‬
‫‪(volume 1), Basil Blackwell, 1980, p. 277.‬‬
‫ً‬
‫‪" 488‬أفال أتخيل نفس ي في بعض األحيان أيضا أفهم كلمة ما [‪ ]...‬في حين أتأكد فيما بعد أنني لم أكن أفهمها؟"‪،‬‬
‫‪ ،L. Wittgenstein, Philosophische Untersuchungen‬الرجع السابق‪.036 ،‬‬
‫‪287‬‬
‫الفهم بعد أن كان قد استبعد منه [‪ ."489]...‬فإذا كان الترجم يريد أن يعرف ما هو‬
‫"الفهم"‪ ،‬فإنه ال يستطيع ببساطة أن يوائم العايير ويعاين ّ‬
‫ويقدر األعراض السريرية‬
‫كطبيب منفصل عنها؛ إنما عليه قبل كل ش يء أن يغوص ويغمر نفسه في ممارسة‬
‫اللغة‪ .490‬وإذا ما فعل ذلك‪ ،‬فإنه يوشك بأن يلحظ بسرعة كبيرة السافة التي تظل قائمة‬
‫بين الفهم ومعيار االستخدام الجيد‪ ]...[" :‬إننا نفهم مغزى كلمة معينة عندما نسمعها أو‬
‫نلفظها؛ إننا ندركه في ومضة‪ ،‬وما ندركه بهذه الطريقة هو بكل تأكيد ش يء ما مختلف‬
‫عن «االستخدام» المتد في الزمان‪."491‬‬
‫تأمل ويتغنشتاين‪ ،‬دون أن ّ‬
‫يحمل نفسه الحتوى اإليجابي لهذه الالحظة‪ ،‬فيما‬
‫تحمله من مضمون سلبي‪ .‬فعلى عكس اإلغراء الذي يمكن أن ينجم عن مثل هذه‬
‫ً‬
‫الالحظة إذا أخذت بحرفيتها‪ ،‬فإن ويتغنشتاين يحاذر جيدا من الخلط بين الفهم‬
‫ً‬
‫و"الشعور" بإمساك ش يء ما وإدراكه في لح البصر‪ .‬فهو لم يقع أبدا في العيب الذي‬
‫شجبه ريكارناتي‪ :F. Récarnati 492‬العيب الذي يشتمل على إرادة إعداد نظرية للمعنى‬
‫ّ‬
‫العني التعلق بها‪ .‬وهو يحاول‬ ‫ترتكز على تمثيل أو تقديم إشارة مفتوحة عبر شفافيتها على‬
‫ّ‬
‫التحدث‪ ،‬ال يبدو أن فهم لفظة ما‬ ‫اإلشارة إلى أنه‪ ،‬من منظور الستمع‪ ،‬أو القارئ أو‬
‫يتطابق مع استخدامها الصحيح في الاض ي وال مع بيان واضح لقواعد استخدامها‬
‫ً‬
‫الصحيح‪ .‬وضمن هذا النظور‪ ،‬فإنه لن يكون من غير الدقيق جدا التأكيد (على األقل‬
‫وفق نمط مجازي) أن الفهم يظهر بالنسبة للمستمع أو القارئ مثل شفافية‪ .‬وببساطة‪،‬‬

‫‪J. Bouveresse, "Herméneutique et linguistique", in H. Parret & J. Bouveresse (eds.), Meaning and 489‬‬
‫‪understanding, W. de Gruyter, 1981, p. 152‬؛ وقد أعيد نشر هذا النص بشكل منفصل مع نص آخر‬
‫بعنوان‪ ،Wittgenstein et la philosophie du langage"" :‬وذلك في ‪J. Bouveresse, Herméneutique et‬‬
‫‪.linguistique, Editions de l'Eclat, 1991‬‬
‫‪ 490‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪J. Mac Dowell, "Anti-realism and the epistemology of understanding, in .426 .‬‬
‫‪H. Parret & J. Bouveresse (eds.), Meaning and understanding‬‬
‫‪ 491‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪L. Wittgenstein, Philosophische Untersuchungen .036 .‬‬
‫‪.F. Récanati, La transparence et l'énonciation, Seuil, 1979 492‬‬
‫‪288‬‬
‫من أجل الض ي أبعد فأبعد في اتجاه الخيارات الكبرى لفلسفة ويتغنشتاين الثاني‪،‬‬
‫ً‬
‫سيكون علينا التعبير بمصطلحات المارسة بدال باألحرى من مصطلحات رؤيا تأملية‪:‬‬
‫القول على سبيل الثال إن فهم خطاب أو نص ما‪ ،‬من قلب ممارسة الستمع أو القارئ‪،‬‬
‫يعني القدرة على اإلندراج في أشكال حياة تتوافق معه‪" .‬فأن «نحيا في صفحات كتاب ما»‬
‫ً ً‬
‫يعني فعال شيئا ما" كما كتب ويتغنشتاين في نهاية تأمل حول القصد‪.493‬‬
‫وباإلجمال‪ ،‬فإن فهم لفظة أو جملة‪ ،‬ربما يعني أن تكون لدينا األهلية للفظها بطريقة‬
‫تكون فيها‪ ،‬إذا نظرنا إليها من الخارج‪ ،‬قابلة للوصف من خالل توافقها مع قاعدة‬
‫استخدام‪ ،‬لكن هذا ال يعني بالتأكيد أن نكون َّ‬
‫موجهين صراحة بواسطة القاعدة عندما‬
‫ً‬
‫نلفظها‪ ،494‬ويعني أيضا الحاولة بدرجة أقل إلعالن القاعدة‪.‬‬
‫إن الزدواجية محصالت الفهم اللغوي وفق وجهة النظر أو الشاركة العملية مكافئها‬
‫في الفيزياء‪ .‬فبالنسبة لشخص عادي‪ ،‬ت َع ّد مقدرة الفيزيائي العاصر على التنبؤ باألحداث‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وفقا لقاعدة مؤشرا معياريا على أن درجة فهمه للطبيعة هي درجة عالية جدا؛ بل وهذا‬
‫يعول عليه‪ .‬والفيزيائي يقول بالضبط (وفق جيل ‪ -‬مان ‪M.‬‬ ‫ما يقوله هنا الفيزيائي الذي َّ‬
‫‪ Gell-Mann‬بعد فاينمان ‪ R. Feynman‬وكثيرون آخرون) إنه مع معرفته التعبير عن‬
‫القاعدة ومع كونها تقوده وتوجهه فإنه ال يفهم‪.‬‬
‫تمثيال للفرق بين القدرة على التصرف بشكل متوافق مع قاعدة ما وأن نكون‬‫ً‬
‫نجد‬
‫موجهين بواسطتها بشكل صريح‪ ،‬بين معيار للفهم وفهم مباشر‪ ،‬في التجربة الذهنية‬ ‫َّ‬

‫الشهيرة التي اقترحها سيرل‪ .J. Searle 495‬وهي التجربة العروفة بـ "الغرفة الصينية"‪ ،‬والتي‬

‫‪.L. Wittgenstein, Grammaire philosophique, Gallimard, 1980, 98, p. 154-155 493‬‬


‫‪ 494‬من أجل الفرق بين السلوك اللساني الوافق لقاعدة والسلوك اللساني الذي تقوده قاعدة‪ ،‬راجع ‪W.V. Quine,‬‬
‫‪"Methodological reflections on linguistic theory", in D. Davidson & G. Harman (eds.), Semantics for natural‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪languages, Reidel, 1972‬؛ ونجد شرحا توضيحيا وافيا في ‪P. Engel, Davidson et la philosophie du langage, P.U.F.,‬‬
‫‪.1994, p. 293‬‬
‫‪( ،J. Searle, "Mind, brains and programs" (1980) 495‬مع اعتراض غير منشور لفودور ‪ J.A. Fodor‬ورد من سيرل)‪ ،‬في‪:‬‬
‫‪.D.M. Rosenthal (ed.), The nature of mind, Oxford University Press, 1991‬‬
‫‪289‬‬
‫يمكن تلخيصها على النحو التالي‪ .‬يوجد شخص فرنس ي داخل غرفة ال تحتوي سوى على‬
‫شيئين‪ :‬شاشة تظهر عليها أشكال كتابة تصويرية صينية ّ‬
‫وكتيب يبين باللغة الفرنسية‬
‫مجموعة من قواعد استخدام هذه األشكال التصويرية‪ .‬والكتيب ال يتطابق في ش يء مع‬
‫قاموس ما أو مع أي ش يء آخر مساعد في الترجمة‪ ،‬إنما هو يشتمل فقط على متتالية من‬
‫التعليمات تحدد أية سالسل من اإلشارات تكون مقبولة في "الخرج"‪ ،‬إذا كانت هذه‬
‫السلسلة من اإلشارات قد قبلت في "الدخل"‪ .‬تشتمل اللعبة بالتالي بالنسبة للشخص‬
‫الفرنس ي في الغرفة على "اإلجابة" على متتاليات األشكال التي تندرج على شاشته مع‬
‫متابعته الدقيقة لتعليمات الكتيب بين يديه‪ .‬والنتيجة‪ :‬إذا تم النظر من الخارج إلى هذه‬
‫النتائج من قبل متحدث صيني‪ ،‬فإن "اإلجابات" التي يقدمها الشخص الفرنس ي (أو‬
‫باألحرى القدمة بواسطة الغرفة بكاملها‪ ،‬مع الكتيب الوجود فيها) تكون متوافقة بشكل‬
‫كامل مع معايير "فهم" ممتاز للغة الصينية‪ .496‬غير أن سيرل يالحظ أننا لو سألنا الشخص‬
‫ً‬
‫الفرنس ي فإنه سوف يؤكد بشدة أنه لم يفهم شيئا من الجمل الصينية التي كانت تندرج‬
‫على الشاشة‪ .‬وهذا فيما يتعلق بالجمل التي كانت ترد في "الدخل" كما بالنسبة للجمل‬
‫التي كانت تظهر في "الخرج"‪ ،‬بعد أن اتبع خطوة خطوة تعليمات كتيبه‪ .‬فالنتيجة واضحة‬
‫بالتالي وتفرض نفسها‪ .‬فنحن ال نستطيع القول ما هو الفهم إلى ما وراء معاييره‬
‫الخارجية‪ ،‬لكن يمكننا بشكل كامل القول من جديد ما ليس هو الفهم‪ .‬فهو ليس‬
‫التشغيل الوحيد الصحيح لقواعد االستخدام‪ .‬وحتى الخصوم األكثر محاربة ألطروحة‬

‫‪ 496‬وحده بطء التفاعالت اآلتية من الغرفة يمكن أن يوقظ بعض الشكوك‪ .‬ويذكر هوفستادتر ودينيت بهذا‬
‫البطء لكي يدحضا نتيجة سيرل التي وفقها توجد مسافة ال يمكن قطعها بين الفهم اإلنساني والفهم الذي‬
‫يمكن أن يكون لحاسوب وفق برنامج ذكاء صنعي‪ ]...[" :‬فلكي يستطيع إنسان أن يتمثل ويحاكي بيده هذا [‪]...‬‬
‫البرنامج للذكاء الصنعي‪ ،‬سيكون عليه القيام بعمل شاق ومضن بشكل ال يمكن تصوره أليام إن لم نقل‬
‫ألسابيع أو ألشهر"‪ .‬إن شعار "الفهم‪ ،‬يعني أن نعرف كيف نستخدم" يتم إكماله هنا وفق العبارة "الفهم‪ ،‬يعني‬
‫أن نعرف كيف نستخدم بسرعة كافية"‪ ،‬كما ورد في ‪D.R. Hofstadter, D.C. Dennett, The mind's I, Basic :‬‬
‫‪.books, 1981‬‬
‫‪291‬‬
‫ً‬
‫سيرل يعترفون بذلك تلميحا‪ .‬فالفهم الكامل لخطاب معلن بلغة أجنبية غريبة عنا ال‬
‫يظهر‪ ،‬بالنسبة لستمع ‪ ،‬من خالل توافر صريح لجموعة من قواعد االستخدام‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫بالضبط من خالل اختفاء هذه القواعد‪ .‬وفقا لنقاش التجربة الذهنية لسيرل الذي‬
‫ودينيت ‪" ،Dennett‬فإن كل شخص يقوم‬ ‫يقترحه كل من هوفستادتر ‪ّ Hofstadter‬‬

‫بالتجربة سيدرك الوصف التالي‪ :‬سرعان ما سوف تصبح أصوات اللغة الثانية غير‬
‫ً‬
‫مسموعة ‪ -‬نسمع من خاللها بدال باألحرى من االستماع إليها‪ ،‬كما نرى عبر النافذة بدال‬
‫ً‬
‫باألحرى من رؤية النافذة‪ ."497‬وهنا أيضا نجد الالحظة التي وفقها حتى إذا لم تكن هناك‬
‫ّ‬
‫أية نظرية للمعنى تقلص هذا العنى إلى شعور بـ "اإلدراك الباشر" صحيحة‪ ،‬فإن الفهم‬
‫ّ‬
‫للمتحدث من خالل ش يء مثل شفافية القواعد‪.‬‬ ‫يظهر‬
‫حاول بعض الكتاب (بشكل خاص نعوم تشومسكي) أن يروا في هذا الجمع بين‬
‫توافق السلوكات اللغوية مع قواعد االستخدام‪ ،‬وغياب التوجيه أو الدليل الصريح عبر‬
‫هذه القواعد‪ ،‬الدليل على أن هذه القواعد تقود بشكل الواع وترشد االستماع‬
‫واإلجابات‪ .498‬إن التوافق الظاهر لسلوك ما مع قواعد‪ ،‬في حين أن صاحب هذا السلوك‬
‫يؤكد أن ال ش يء قاده أو أرشده عبر القواعد‪ ،‬يمكن حتى أن يستخدم كتعريف لـ "إرشاد‬
‫غير واع"‪ .‬مع ذلك فإن مثل هذه األطروحات ذات السوية النفسانية هي طروحات‬
‫ً‬
‫متوافق مع‬
‫ٍ‬ ‫خارجي‬ ‫سلوك‬ ‫لتفسير‬ ‫ن‬‫يكو‬ ‫أال‬ ‫جدا‬ ‫متعجلة وغير حذرة‪ ،‬ألنه من المكن‬
‫قواعد معينة أية عالقة مع البرمجة العصبية الدماغية والتنفيذ الدقيق لهذه القواعد‪،‬‬
‫ً‬
‫حتى وإن كان ذلك بطريقة الواعية‪ .‬وإذا أخذنا حرفيا بالتقرير القدم من قبل الستمع‪،‬‬
‫سوف نرغب باألحرى بالقول إن القواعد كانت غائبة؛ وأنها لم تعد تلعب أي دور في‬

‫‪ 497‬رد كل من هوفستادتر ‪ Hofstadter‬ودينيت ‪ Dennett‬على سيرل ‪ ،Searle‬في ‪D.R. Hofstadter, D.C.‬‬


‫‪ ،Dennett, The mind's I‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.319 .‬‬
‫‪ .N. Chomsky, Knowledge of language, Praeger, 1986 498‬والنقاش الوارد في ‪P. Engel, Davidson et la‬‬
‫‪ ،philosophie du langage,‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.493 .‬‬
‫‪291‬‬
‫ً‬
‫الفهم‪ .‬ولكن كيف يصبح سلوك لغوي متوافقا مع قواعد معينة إذا لم تكن هذه‬
‫ّ‬
‫للتصور إذا كانت‬ ‫القواعد ماثلة بطريقة أو بأخرى عند مؤلفها وواضعها؟ إن ذلك قابل‬
‫التضمينات السلوكية لهذه القواعد قد اندمجت بشكل كامل مع "شكل للحياة" (بالعنى‬
‫الذي يقصده ويتغنشتاين)؛ هذا إذا كان التوجيه الصريح أو التضمن بواسطة قاعدة ما‬
‫قد تم استبداله ببساطة باعتماد طريقة ما للوجود ثمة‪ ،‬بين نتائجها‪ ،‬التوافق الخارجي‬
‫للسلوك اللغوي مع هذه القاعدة‪ .‬ووفق هذه القاربة الكليانية‪ ،‬فإننا "نفهم" لغة أجنبية‬
‫ً‬
‫عندما ال تعود قواعد الترجمة تقود استخدامها؛ عندما تصبح كلماتها وجملها جزءا ال‬
‫يتجزأ من سلوك عام في الطبيعة وفي الجتمع‪ .‬فنحن نفهم حكاية ما عندما يحل محل‬
‫التحليل العجمي والنحوي واألسلوبي االعتماد اللحظي والوقتي لشكل حياة متوافق مع‬
‫الشكل الذي أراد الراوي إعطاءه وتقاسمه مع مستمعيه‪ ،‬وبالقدر نفسه مع األشكال التي‬
‫يكون الستمعون مستعدين للتعرف عليها على أنها أشكال يمكن أن تكون أشكالهم هم‪،‬‬
‫ً‬
‫وذلك بالنظر إلى التربية التي تلقوها وإلى توافقات الوسط الذي يكتنفهم‪ .‬نفهم نصا‬
‫عندما يعمل كنقطة مرور أصبحت متضمنة باتجاه عالم تخيلي أو بائد‪ ،‬باتجاه مكان‬
‫ً‬
‫متميز عن الذي يعيش فيه حاليا الراوي وقراؤه المكنين‪ ،‬إنما يعترف فيه الجميع بالقدرة‬
‫على متابعة مشروع وجودهم‪.‬‬
‫وبالثل‪ ،‬أم نرغب القول بالتماثل‪ ،‬فإننا نفهم نظرية فيزيائية عندما يسمح "تفسير"‬
‫متوافق مع بنيتها الرياضية باعتبار هذه األخيرة كوسيلة بسيطة للمرور إلى ما ورائها؛‬
‫وسيلة أصبحت غير ظاهرة لنقل الفيزيائي إلى عالم يمكن التعرف عليه من قبله كنسخة‬
‫مختلفة معقولة إلطار أشكاله للحياة وحركاته وأعماله في تسمية األشياء السماة والتنبؤ‬
‫ً‬
‫بها‪ .‬يتأتى األثر الثقافي لهذا الرور من كونه كان ينظر إليه غالبا كانفتاح نحو "حقيقة" أكثر‬
‫جوهرية من أشكال حياة هو ال يشكل مع ذلك بكل تأكيد سوى امتدادها‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫‪ 2 -7‬حول الالفهم في األدب وفي الفيزياء‬
‫من عدم الفهم االبتدائي للغة أجنبية أو حكاية أو نص أو نظرية‪ ،‬توصلنا إلى فهم‬
‫ً‬
‫ينظر له افتراضيا ككتم وإخفاء ألداته الرمزية‪ .‬ما الذي سيحدث اآلن في حالة الفشل‬
‫التأخر للفهم‪ ،‬إذا أدركنا أننا لم نكن قد فهمنا كل ش يء أو أننا كنا فقط قد اعتقدنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بأننا فهمنا؟ لنفترض على سبيل الثال أن مستمعا فرنسيا لم يكن يسمع األصوات‬
‫الصينية خالل بضعة دقائق‪ ،‬وأنه أدرك الدلول بالرور من فوق الدال‪ ،‬وأنه استقر في‬
‫شكل حياة متوافقة من حيث الظاهر مع الخطاب الذي كان قد و ّجه إليه‪ .‬وفجأة يظهر‬
‫تنافر أو عدم انسجام ما‪ .‬فتتمة الخطاب وحركات التحدث الصيني ال تعود متوافقة على‬
‫اإلطالق مع ما كان الستمع الفرنس ي يتوقعه في أثر ومسار فهمه الزعوم للجمل األولى‪.‬‬
‫يعود الستمع عندها "إلى األرض"‪ .‬والقواعد التي اختفت تعود فتظهر له‪ .‬ويعود لالستماع‬
‫إلى الظاهرات‪ ،‬وإلى اللجوء للتحليل النحوي‪ ،‬وليدرس وفق رسوم وتكاليف جديدة اإلطار‬
‫ً‬
‫الثقافي الصيني‪ .‬ويدرك أخيرا أن ما كان يعتقد أنه فهمه كان يقع ضمن إطار التفسير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فقط؛ تفسير كان يدرك قدرا جيدا من بعض الجمل‪ ،‬إنما لم يعد على اإلطالق يستطيع‬
‫إدراك شريحة أوسع من السلوك اإليمائي واللفظي‪ .‬وهكذا فإننا نصل من االستماع‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫األرعن إلى التفكر؛ ومن الفهم البسيط نصل إلى الفهم التفسيري‪ ،‬إذا كان صحيحا أن‬
‫"[‪ ]...‬خاصية التفسيري هي أنها بشكل من األشكال تتناول مسائل الفهم ابتداء من‬
‫ظاهرات الالفهم‪."499‬‬
‫ً‬
‫لنأخذ مثاال آخر‪ :‬وفي هذه الرة ال تطرح مسألة اللغة‪ .‬ليكن هناك شخص لغته األم‬
‫هي اللغة الفرنسية ويقرأ حكاية باللغة الفرنسية‪ .‬غير أن الحكاية مليئة بالتناقضات‪.‬‬
‫ً‬
‫بهروب‬
‫ٍ‬ ‫فبدال من متابعتها بشكل مستمر‪ ،‬نجدها مقطعة بأحكام الكاتب الشخصية أو‬
‫ً‬
‫حالم‪ ،‬ثم تعود الحكاية إلى مجراها بشكل غير مترابط جزئيا مع ما كانت قد وصلت إليه‬

‫‪ 499‬الرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪J. Bouveresse, "Herméneutique et linguistique", in H. Parret & J. .041 .‬‬
‫‪Bouveresse (eds.), Meaning and understanding‬‬
‫‪293‬‬
‫في الرحلة السابقة‪ .‬ويتم قطع عبور الكالم باتجاه مشهد السرد بشكل منتظم؛ أما‬
‫فتعتم بواسطة تقطعات وال تتضح‬‫النافذة اللسانية التي كانت تنفتح على ديكور الحكاية َّ‬
‫ً‬
‫من جديد ومؤقتا إال من أجل إظهار ديكورات جديدة ومشاهد جديدة‪ .‬إن القارئ الذي ال‬
‫يرفض االستمرار في القراءة وال يقتنع بموقف جمالي أو آثاري‪ ،500‬ويريد "فهم" الخطاب أو‬
‫النص القترح عليه‪ ،‬ال يملك في هذه الحالة سوى خيارين‪ .‬إما أن يوافق على تفكيك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فهمه إلى أجزاء مساوية من الوحدات السردية التي تملك تجانسا داخليا‪ ،‬وإما أن يستمر‬
‫في بحثه عن الوحدة‪ .‬ولكن في الوضع الذي وصفناه أعاله‪ ،‬فإن هذه االستراتيجية األخيرة‬
‫لها ثمنها‪ .‬فهي تجبر القارئ على التخلي بشكل كامل عن رؤية تمثيل "القصة (القصص)"‬
‫التي كان الكاتب قد أراد وضعها تحت بصره‪ .‬وهي تجبره على خسارة إمكانية االنتقال إلى‬
‫الشهد الطوباوي لقصة أو لعدة قصص لكي يتساءل حول الوضع الخاص الذي ك َ‬
‫تب‬
‫ّ‬
‫النص ابتداء منه‪ .‬وبسبب عدم وجود مؤامرة ما‪ ،‬فإن مبدأ الوحدة‪ ،‬الولد لجموعة من‬
‫التحوالت التي ترجع كل عنصر من النص إلى كافة العناصر األخرى فيه‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫يكون سوى الؤلف نفسه (أو ربما الهدف الذي سبق تشكل مجموعة من ّ‬
‫الكتاب)‪ .‬إن‬
‫ربح ش يء ما كفهم إجمالي لنص يستتبع بالنتيجة هنا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي‪:‬‬
‫ً‬
‫من هو الكاتب؟ ما الذي أراد التعبير عنه‪ ،‬انطالقا من أية تجربة فريدة‪ ،‬وفي أية حالة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫فكرية؟ في إطار أي منعطف من حياته جمع ك َسرا متفرقة من النص ليؤلف منها كتابا؟‬
‫وما هي الشروط التي اقتيد وفقها هذا اإلنسان‪ ،‬أحد أقراننا‪ ،‬إلى جمع مادة ما كتبه؟‬
‫ليس ألننا كنا نأمل بتتبع سلسلة سببية تبدأ من الوسط االجتماعي‪ ،‬من التيارات‬
‫تعرض لها الؤلف‪ ،‬للوصول إلى عمله التأليفي‪.‬‬ ‫الثقافية ومن الصدمات الفردية التي ّ‬
‫ً‬
‫لكننا نأمل بالدرجة الدنيا‪ ،‬عبر هذه الصيرورة االنعكاسية‪ ،‬أن نقرر ونجد مرتكزا لنا في‬
‫لعبة من التبادالت القابلة لتوضيح سلسلة التموضعات في العالم التي يعتبرها مواضعه‬

‫‪" 500‬إن التاريخ‪ ،‬في أيامنا هذه‪ ،‬ينحو باتجاه علم اآلثار‪ ،‬أي باتجاه الوصف الجوهري للصرح"‪ ،‬كما يقول فوكو‪،‬‬
‫‪.M. Foucault, L'archéologie du savoir, Gallimard, 1969, p. 15‬‬
‫‪294‬‬
‫مع سلسلة التموضعات التي يمكن أن نعتبرها مواضعنا‪ .‬وفي العمق‪ ،‬فإن كل ما نريد‬
‫معرفته‪ ،‬هو في أية ظروف كان بإمكاننا التصرف مثله هو وفي أية ظروف كان بإمكانه‬
‫التصرف مثلنا نحن‪ .‬فكل ما نبحث عنه هو أن "نفهمه" بالعنى التأويلي والتفسيري؛‬
‫واعتباره ليس كمجرد ش يء منتج للنصوص تحت تأثيرات معينة‪ ،‬بل كموضوع مشارك‬
‫نعرف كيف نتبادل معه جملة أسباب وأهداف ونوايا‪.501‬‬
‫وإذا ما نظرنا بشكل استعادي‪ ،‬فإن الفهم الفوري‪ ،‬ودون إلزام بنص يفض ي إلى‬
‫ّ‬
‫"قصة"‪ ،‬يظهر كحالة نوع من الفهم التفسيري للموضوع ‪ -‬الؤلف من خالل الوضوع ‪-‬‬
‫ً‬
‫القارئ‪ .‬وهذه الحالة هي الحالة التي يكون فيها الؤلف قد توصل فعال إلى تعميم موضعه‬
‫الخاص (أو مواضعه الخاصة) وذلك بتجسيد االفتراضات السبقة‪ ،‬القيم والرغبات‪،‬‬
‫لدى قارئه الحتمل‪ ،‬بحيث ال يكون هذا القارئ بحاجة حتى إلى جعل عامل تبادلية‬
‫يتدخل من أجل أن "يفهمه"‪ .‬إن صوت الراوي هو بالنتيجة شكل من أشكال صوت‬
‫ً‬
‫القارئ؛ صوت كان من المكن للقارئ أن يصيغ نغماته دون أن يكون عليه حتما أن‬
‫ً‬
‫يتمثل نفسه تحت سمات شخص آخر‪ .‬إن تبادل الوضعين أو الحالتين يصبح واضحا إلى‬
‫حد أنه يتحول إلى المباالة بالحالتين‪ .‬وفي هذا العنى‪ ،‬فإن الفهم التفسيري الذاتي ‪-‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مموضعة‪ ،‬يشكل تعميمه‬ ‫التشاركي‪ ،‬بعيدا عن إفقار مخطط الفهم االنعكاس ي لـ "حكاية"‬
‫النطقي‪.502‬‬
‫إن هذه االنعكاسات على عدم الفهم الجزئي لنص تنتقل دون صعوبة إلى الفيزياء‬
‫العاصرة‪ .‬إننا ال نفهم نظرية فيزيائية عندما ال يمكن لبنيتها الرياضية (دون تحايل ما) أن‬

‫‪ 501‬بالنسبة لهذا التعارض بين "التفسير" ومجرد "فهم" األفعال اإلنسانية‪ ،‬راجع الجدال بين فون رايت وآبل‪.‬‬
‫‪G.H. Von Wright, Explanation and understanding, Routledge & Kegan Paul, 1971p K. O. Apel,‬‬
‫‪"Causal explanation, motivational explanation and hermeneutical understanding", in G. Ryle (ed.),‬‬
‫‪Contemporary aspects of philosophy, Oriel Press, 1976.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 502‬ال يتعلق األمر بالطبع بأن نزعم أن الشكل الالإنعكاس ي للفهم هو تاريخيا أكثر تأخرا من الشكل التأويلي‪ .‬فكل‬
‫ش يء يدعونا إلى التفكير بالعكس‪ .‬فالشكل التفسيري ببساطة‪ ،‬ضمن إعادة بناء عقلية‪ ،‬يشتمل على التفسير‬
‫االنعكاس ي للفهم في حين أن العكس ال ّ‬
‫يصح‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫ت َع ّد كوسيلة بسيطة للمرور إلى ما وراء هذه البنية؛ وعندما يبدو أنها ال تسمح بأن تتمثل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"عالا" يمكن أن يكون‪ ،‬مع كونه متماثال‪ ،‬معترفا به من قبل عالم الفيزياء كتوسع أو‬
‫تشوه مستمر لسرح أشكال الحياة فيه‪.‬‬
‫طرح إشكالية حقيقية في "تفسير" النظرية‪ .‬ألنه طالا كان‬‫ضمن هذه الظروف إنما ت َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫باإلمكان وضع ولو مجرد تفسير واحد يكون مندمجا ومتناغما بدرجة كافية مع طرقها في‬
‫االختبار التجريبي ويسمح في الوقت نفسه بفهمها الالمنعكس‪ ،‬فإن النظرية تكون مقترنة‬
‫ً‬
‫بشكل ال ينفصم مع هذا التفسير‪ .‬نستطيع القول بالتالي إن التفسير يشكل جزءا من‬
‫ّ‬
‫التطور التاريخي ألحدهما يتبع خطوة خطوة التطور التاريخي لآلخر‪ .‬يضاف‬ ‫النظرية‪ ،‬وأن‬
‫إلى ذلك أن التضاعف التأخر للتفسيرات القبولة‪ ،‬كما حدث بالنسبة للميكانيك‬
‫الكالسيكي في القرن التاسع عشر‪ ،‬يخاطر بأن يدخل نسبوية معينة لدى أكثر الفكرين‬
‫شفافية وصفاء تفكير‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬إذا كان هناك إخفاق مؤقت في محاولة جعل‬
‫الفيزيائي يدخل إلى عالم مألوف إلى ما وراء الصورية وقواعد االستخدام التنبؤي‬
‫ً‬
‫للنظرية‪ ،‬أو أيضا إذا كانت هذه الحاولة (كما هو األمر في حالة النظريات ذات التغيرات‬
‫الخفية) تستتبع درجة مفرطة من االنفصال عن إجراءات اإلثبات التجريبي للنظرية كما‬
‫ً‬
‫وتراتبية في القيم ال يتقاسمها الجميع‪ ،‬فإن التفسير يكتسب عندها نظاما وحالة على‬
‫حدة‪ .‬هنا يجد التفسير نفسه وقد ح ّول إلى موضوع‪ ،‬ودرس بشكل منفصل‪ ،‬وأبرز ضمن‬
‫مقياس حدوده نفسه‪ .‬ويبدو أننا بقينا هنا في اليكانيك الكمومي منذ ما يقارب ثمانين‬
‫ً‬
‫عاما؛ بحيث أنه مع عدم وجود أي تفسير للنظرية يقدم بطريقة ال يمكن دحضها أهمية‬
‫فهم إجمالي الإنعكاس ي‪ ،‬فقد وجد التفسير نفسه يستكشف حالة موضوع الدراسة‬
‫بشكل كامل‪.‬‬
‫أي موقف نختار في مواجهة مثل هذا الوضع؟ من الهم االستنتاج أن مجموعة‬
‫ً‬ ‫الواقف َ‬
‫العت َمدة من قبل الفيزيائيين تغطي بشكل وثيق جدا الجموعة من الواقف التي‬
‫سبق ورأيناها فاعلة بمواجهة الالفهم الباشر لنص ما‪ .‬اعترض بعضهم برفض قاطع على‬
‫‪296‬‬
‫اليكانيك الكمومي‪ ،‬على طريقة بعض القراء الذين يرفضون متابعة قراءة نص ما يبدو‬
‫ّ‬
‫لهم غير متماسك وغير مفهوم‪ .‬وقد علق بعض الفيزيائيين أملهم على نظرية مستقبلية‬
‫ً‬
‫أكثر غنى (تشبه توسعا للنظريات ذات التغيرات الخفية) أو متميزة عنها بشكل جذري‪ .‬في‬
‫حين أن فيزيائيين آخرين (مثل ديراك) اعتمدوا على إحساس جمالي‪ ،‬يتعلق بالجمال‬
‫الرياض ي لصورية فضاءات هيلبرت أو بانطباع التناغم الذي ينبثق عن القابلية التنبؤية‬
‫ً‬
‫بديال عن "فهم" هذه النظرية‪ .‬واقترح فيزيائيون‬ ‫الشاملة للميكانيك الكمومي‪ ،‬ليكون‬
‫ً‬
‫آخرون أيضا تفكيك ظروف استخدام اليكانيك الكمومي‪ ،‬كما نفعل بالنسبة لنص‬
‫"مفكك"‪ ،‬بحيث يتم ربط كل من األجزاء التي نحصل عليها مع تمثيل جزئي‪ ،‬متوافق‬
‫ً‬
‫محليا مع أشكالنا الحياتية‪ .‬تمثيل موجي أو تمثيل جسيمي؛ تمثيل لسرعة أو تمثيل‬
‫ّ‬ ‫لوضع؛ سببية أو إدراج لألحداث في الزمكان؟ ّ‬
‫نتعرف هنا على إحدى مركبات استراتيجية‬
‫ً‬
‫بور في "التكاملية"‪ .‬يبقى أخيرا خيار أخير‪ ،‬بدأ يشق طريقه في أيامنا هذه‪ ،‬وإن كان ال يزال‬
‫ً‬
‫يتلمسه تلمسا‪ .‬ويشتمل هذا الخيار على البحث عن فهم كلي للميكانيك الكمومي على‬
‫ً‬ ‫حساب توسعة لفهوم "أن نفهم"‪ٌ ،‬‬
‫فهم أقرب إلى الفهم التأويلي‪ .‬فبدال من محاولة تجاوز‬
‫ً‬
‫النظرية باتجاه "عالم" وحيد‪ ،‬وبدال من تعويض فشل هذه الحاولة بالطلب من النظرية‬
‫ً‬
‫إعداد انفتاحات جزئية على أجزاء من عالم‪ ،‬بدال من أن نتطلب باإلجمال من النظرية‬
‫ّ‬
‫أن توفر لنا النسيان النهائي أو من خالل تناوب الضرورة في أخذ موضعنا في الكون بعين‬
‫العمم لتبديل وتبادلية الواضع‪ :‬نظام مبادلة‬‫االعتبار‪ ،‬فإننا نتصورها على أنها النظام َّ‬
‫ً‬ ‫محل تمثيل "عالم" في دور بنية ّ‬ ‫َّ‬ ‫وتبادلية يميل ألن َي َّ‬
‫موحدة للظاهرات‪ ،‬تماما كما‬ ‫حل‬
‫محل القصة في دور‬‫تحل في التأويلية معامالت التبادلية الوضعية بين الؤلف و القارئ َّ‬
‫مبدأ الوحدة في النص‪.‬‬
‫لقد أعطت النسخة األولية لنظرية النسبية الخاصة الثال الشرعي على مثل هذا‬
‫االستبدال‪ ،‬وذلك من خالل التصور األينشتيني لجموعة تحويل لورنتز كمنظومة تبادلية‬
‫قياسية بين العناصر في مجموعة وضعيات مكانية وزمانية وحركية‪ .‬أما اليكانيك‬
‫‪297‬‬
‫الكمومي فيرتكز من جهته على منظومة تبادالت معقدة حيث تتعلق اللحظة الرئيسية‬
‫فيها (إنما ليس الوحيدة‪ ،‬كما سوف نرى) بالعالقات الداخلية التبادلة بين عناصر‬
‫مجموعة الوضعيات التجريبية التي تستجيب لعايير االتصال بين ال ّ‬
‫جربين‪ .‬لقد تم إرساء‬
‫موازاة مفصلة بين منظومة التبادالت النسبوية ومنظومة التبادالت في اليكانيك‬
‫الكمومي‪ .503‬فكما أن النظام التبادلي للوضعيات الكانية ‪ -‬الحركية ي َ‬
‫ترجم في نظرية‬
‫النسبية بواسطة قاعدة للتحويل (تحويل لورنتز)‪ ،‬فإن نظام تبادلية الوضعيات‬
‫التجريبية يمكن أن يترجم في اليكانيك الكمومي بأحد النمطين التاليين لقواعد التحويل‪:‬‬
‫"نظرية تحويالت ديراك" التي تنطبق على العوامل ومنظومة تحويالت فورييه التي تنطبق‬
‫على توابع الوجة‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬كما تقرن عالمة مرجعية عطالية بكل وضعية مكانية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬حركية في نظرية النسبية‪ ،‬فإن عالمة مرجعية بوولية (أو إذا أردنا منطقا بووليا تحتيا)‬
‫ً‬
‫يقترن بكل وضعية تجريبية في اليكانيك الكمومي‪ .‬وأخيرا‪ ،‬كما أنه مع تحويل لورنتز‬
‫موجه يترك له‬‫يتوافق مكان يعمل فيه هذا التحويل (زمكان مينكوفسكي) وشعاع ّ‬
‫ً‬ ‫التحويل العيار (يسمى ّ‬
‫التصل الزمكاني) ثابتا‪ ،‬فإنه يتوافق مع نظرية تحويالت ديراك‬
‫موجه (يسمى شعاع الحالة) تترك‬ ‫فضاء هيلبرت الذي تعمل فيه هذه التحويالت وشعاع ّ‬
‫ً‬
‫له هذه التحويالت معياره ثابتا‪.‬‬
‫‪ 3 .7‬تفسير "اخحاالت النسبية" والفهم التأويلي‬
‫ً‬
‫يمكن لصعوبة خاصة في اليكانيك الكمومي أن تكمن حقا في واقع أن منظومته‬
‫التبادلية تعمل في الحقيقة على مستويين اثنين‪ ،‬وليس باألحرى على مستوى واحد‪.‬‬
‫فإضافة إلى الستوى الذكور أعاله لصفوف العدات التجريبية الستخدمة‪ ،‬يجب أن‬
‫نأخذ أيضا بعين االعتبار مستوى النتائج التي أصبحت ممكنة من خالل إدخال كل من‬
‫التجهيزات والعدات الخاصة في التجربة‪ .‬وقد ّميز بور بشكل كامل السوية األولى من‬

‫‪M. Davis, "A relativity principle in quantum mechanics", international Journal of a Theoretical 503‬‬
‫‪Physics, 16, p. 867-874, 1977.‬‬
‫‪298‬‬
‫التبادالت من خالل تأكيده على نسبية التحديدات تجاه الستوى والوضعية اللذين هما‬
‫الجرب اإلنساني‪ ،‬ومن خالل تضمينه في تعريف الظاهرة نفسه ذكر‬ ‫ّ‬ ‫مستوى ووضعية‬
‫ّ‬
‫صف التجهيزات التجريبية الوافقة لعايير االتصال‪ .‬لكنه تجاهل أو كاد السوية الثانية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعلى العكس‪ ،‬فقد تركز تفسير إيفيريت‪ 504‬للميكانيك الكمومي على السوية الثانية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للتبادالت‪ ،‬مسدال حجابا على السوية األولى‪ .‬لقد ّبين مع ذلك كل من هذين الوقفين‬
‫الجزئيين عيوبه‪ .‬فمع اهتمامه القليل بسوية التبادالت التعلقة بتعددية النتائج المكنة‬
‫ً‬
‫أبدا في ّ‬
‫حل (وال حتى‬ ‫في حالة تجريبية وضمن شروط بدئية معطاة‪ ،‬فإن بور لم يساهم‬
‫أعلن بوضوح طريقته من أجل ّ‬
‫حل) "مشكلة القياس في اليكانيك الكمومي"‪ ،‬التي تطرح‬
‫في إطار صورية فون نيومان والتي يعبر عنها بالتجربة التذهنية العروفة بـ "تعارض قطة‬
‫شرودنغر"‪ .505‬ومن جهته‪ ،‬فقد ترك إيفيريت في الظل‪ ،‬برفضه إعطاء أقل خصوصية‬
‫لستوى التحليل التعلق بتعيين حاالت تجريبية قابلة لإليصال‪ ،‬وذلك باالهتمام فقط‬
‫بتعددية الظاهرات التي أصبحت ممكنة من خالل كل تصور تجريببي‪ ،‬ترك مسألة‬
‫ً‬
‫حصريا على تطور األشعة ّ‬
‫الوجهة للحالة‪ ،‬والتي تتحلل‬ ‫تحديد المكن رصده وركز تحليله‬
‫الوجهة الخاصة بأحد ممكنات الرصد هذه‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد‬ ‫ّ‬ ‫مع ذلك وفق قاعدة األشعة‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الفضلة"‪ .506‬ترتكز هذه السألة‬ ‫حرض ما أصبح متعارفا على تسميته بـ "مشكلة القاعدة‬
‫(التي ال تزال دون ّ‬
‫حل كاف حتى اليوم) على اشتقاق ممكنات الرصد‪ ،‬وقاعدتها من‬
‫األشعة الوجهة الخاصة الرتبطة بها‪ ،‬ابتداء من صورية األشعة الوجهة للحالة وحدها‪،‬‬

‫‪H. Everett, "«Relative state» formulation of quantum mechanics", Rev. Mod. Phys., 29, p. 454- 504‬‬
‫‪462, 1957; H. Everett, "The theory of the universal wave function", in B.S. De Witt & N. Graham‬‬
‫‪(eds.), The many-worlds interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1973.‬‬
‫‪E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique", in E. Shrodinger, Physique 505‬‬
‫‪quantique et représentation du monde, Seuil, 1992.‬‬
‫‪D. Deutsch, "Quantum theory as a universal physical theory", International Journal of Theoretical 506‬‬
‫‪physics, 24, p. 1-41, 1985.‬‬
‫‪299‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دون أن يدخل أبدا فرضية مساعدة مصدرها الفيزياء الكالسيكية‪ ،‬فرضية تترجم‬
‫تعبر عن القيود التي تفرضها السوية الجهارية للجهاز‪.‬‬‫الشروط البراغماتية للتواصل أو ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬فإنه من المكن تماما أن نأخذ بعين االعتبار سويتي التبادلية اإلثنتين معا‬
‫الداخلتين في اليكانيك الكمومي طالا كنا نعتمد قراءة دنيا‪ ،‬غير متيافيزيائية‪ ،‬لتفسير‬
‫نوسع حقل البحث والتقص ي في هذا التفسير‪ .‬تشتمل هذه التوسعة على‬ ‫إيفيريت‪ ،‬وكنا ّ‬
‫ً‬
‫القبول بثنائية سويتي التحليل‪ ،‬السوية االنعكاسية والسوية الوصفية أيضا؛ والقبول‬
‫بشكل خاص أن اعتماد قاعدة موجهات شعاعية خاصة معطاة (أو اعتماد ما هو قابل‬
‫ً‬
‫للرصد) يمكن أن يعكس القيود البراغماتية الرتبطة بالنشاط التجريبي‪ ،‬بدال باألحرى من‬
‫أن يعكس "الحاالت" الفترض أنها حاالت جوهرية لألجسام ولألدوات الداخلة في هذا‬
‫النشاط‪ .‬وفي هذه النسخة الوسعة من تفسير إيفيريت‪ ،‬فإن مشروع مطابقة "قاعدة‬
‫ً‬ ‫َّ َ‬
‫مفضلة (جوهريا)"‪ .‬وفي ظل مثل هذا‬ ‫تفسير" مناسبة يحل محل مشروع إثبات "قاعدة‬
‫الشرط‪ ،‬يظهر تفسير إيفيريت كوسيلة مقبولة لـ فهم اليكانيك الكمومي‪ ،‬بالعنى َّ‬
‫الوسع‬
‫الذي ّ‬
‫قدمت لنا التأويلية نموذجه‪.‬‬
‫ً‬
‫وبالنسبة للذين يعرفون القراءات األكثر شيوعا لتفسير إيفيريت سيجدون‪ ،‬والحق‬
‫يقال‪ ،‬أنه من الفاجئ أن نستطيع تطعيمها بتوسعة لنظومة بور في التبادليات وأن نرى‬
‫فيها استجابة دقيقة للنمط التأويلي في الفهم في مجال علوم الطبيعة‪ .‬أال يعتبر تفسير‬
‫إيفيريت للميكانيك الكمومي عادة كمرادف لـ "تفسير تعددية العوالم"؟ والرؤيا الدوخة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لتفجر للعالم إلى "عوالم" كثيرة‪ ،‬في كل مرة نقيس فيها متغيرا يمكن أن‬ ‫بعض الش يء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يحصل‬ ‫يأخذ أكثر من قيمة‪ ،‬أال تشكل الحاولة األكثر جرأة‪ 507‬حتى هذا اليوم لكي‬

‫ً‬
‫‪" 507‬بالتأكيد‪ ،‬لم يطرح أحد شيئا ما بمثل تطرف تفسير تعددية العوالم قبل تجري الحاولة من قبل اقتراحات‬
‫كثيرة ليست بمثل هذا التطرف وتم رفضها"‪ ،‬كما يقول بوتنام في ‪H. Putnam, Relation with a human face,‬‬
‫‪.Harvard University Press, 1990, p. 8, trad. fr. C. Tiercelin, Le réalisme à visage humain, Seuil, 1993‬‬
‫ً‬
‫وأيضا‪" :‬إنه تفسير العوالم التعددة‪ .‬إنه بال أدنى شك أغرب التفسيرات واألفكار التي طرحت في هذا الجال" كما‬
‫‪311‬‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫الفيزيائي مهما كلفه األمر فهما نزقا وطائشا للنظرية الكمومية؟ في غالب األحيان يتم طرح‬
‫تفسير إيفيريت في مواجهة التفاسير التي ألهمها "فكر مدرسة كوبنهاغن" كما هو األمر‬
‫ً‬ ‫واجه اإلبستمولوجيا باألنطولوجيا‪ ،‬وت َ‬
‫عندما ت َ‬
‫واجه "الوضعية" بالواقعية‪ ،‬وتماما كما‬
‫‪508‬‬ ‫َ‬
‫يقابل الحزب الحافظ على األيقونات (األفكار الثابتة) والعابد لها ويقوده شرودنغر‬
‫بالحزب الحارب لأليقونات (األفكار الثابتة) ومهدمها الذي يقوده كل من بور وهايزنبرغ‪،‬‬
‫البراءة التخيلية بالجدية الفلسفية‪ ،‬القصد الوصفي بالالأدرية التنبؤية‪ .‬إن تفسير‬
‫إيفيريت يشكل كما يبدو إحدى الوسائل األكثر سرعة التي وجدناها حتى اآلن لكي نختصر‬
‫ً‬
‫تأمال حول مفهوم "الفهم"‪ ،‬باألحرى منها النتيجة األفضل لهذا التأمل‪.‬‬
‫ً‬
‫لنتأمل الوضوع عن قرب أكثر مع ذلك‪ .‬هل يندمج فعال تفسير إيفيريت مع تفسير‬
‫ً‬
‫كثرة العوالم وتعددها؟ ليس هناك ما هو أقل يقينا‪ .‬إن ما يصدم للوهلة األولى عندما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نستعرض ما كتب حول تفسير إيفيريت‪ ،‬هو أننا ال نجد هنا تفسيرا واحدا بل عدة تفاسير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للميكانيك الكمومي‪ ،‬مندمجة جزئيا ومتمايزة جزئيا‪" .‬تشتمل الهمة األولى‪ ،‬كما أشار إلى‬
‫ً‬
‫ذلك بل ‪ Bel‬في مرات عديدة‪ ،‬على تحديد ما هو هذا التفسير‪ ،‬ألنه [ال يزال] محاطا‬
‫بالغموض‪ ".509‬إن اللوحة اللحمية لتعددية العوالم ليست سوى إحدى قراءاتها المكنة؛‬
‫قراءة لم تكن ماثلة إال بشكل ّ‬
‫منقط‪ ،‬بين قراءات أخرى كثيرة‪ ،‬ضمن مقاالت إيفيريت‬
‫ّ‬
‫مفصل‬ ‫التاريخية‪ .510‬كانت السيرة األصيلة والبدعة إليفيريت تتركز في الواقع على تحليل‬

‫يقول ج‪ .‬بل في‪J.S. Bell, "Six possible worlds for quantum mechanics", in Speakable and unspeakable :‬‬
‫‪in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987.‬‬
‫ً‬
‫‪ 508‬أشار إيفيريت نفسه أن‪[" :‬تصوري] يتوافق بشكل وثيق جدا مع تصور شرودنغر"‪ ،‬في ‪H. Everett, "The theory of the‬‬
‫‪universal wave function" in B.S. De Witt & N. Graham (eds.), The many-worlds interpretation of quantum‬‬
‫‪ ،mechanics‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.006 .‬‬
‫‪S. Saunders, "Time and quantum mechanics", in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, time and quantum 509‬‬
‫‪mechanics, Frontières-Diderot, 1994.‬‬
‫ً‬
‫‪ 510‬عرض االختالف بين التفسير األصلي إليفيريت وتفسير العوالم التعددة بوضوح جيد جدا في ‪Y. Ben-Dov, "Everett's‬‬
‫ً‬
‫‪ .theory and the «many worlds» interpretation", Am. J. Phys., 58, p. 829-832, 1990‬ونجد أيضا في هذا القال‬
‫‪311‬‬
‫للصيرورات التجريبية في اإلطار الحدد بواسطة اليكانيك الكمومي‪ .‬وكان اهتمامه الغالب‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ينصب على أال يستخدم شيئا أكثر من قانون التحرك الستمر في اليكانيك الكمومي‬
‫وتجنب تعديله أو إيقافه من خالل صيرورات غير مستمرة من‬ ‫ّ‬ ‫(معادلة شرودنغر)‪،‬‬
‫"تقليص حزمة الوجات"‪ ،‬وليس في إعطاء ترجمة تصويرية له‪ .‬يتميز تفسير إيفيريت‬
‫بانشداد نحو اقتصاد كبير في الوسائل‪ ،‬وذلك من خالل حلم باستقاللية النظرية‬
‫الكمومية‪ ،‬باألحرى من كونه من خالل بعض التساهل تجاه مضاعفة الكينونات‪ .‬وحتى‬
‫عندما حاول إيفيريت التعبير عن نتيجة دراسته للصورية بواسطة اللغة اليومية العادية‪،‬‬
‫ً‬
‫فقد ظل متحفظا‪ .‬فالكلمات التي استخدمها أكثر من غيرها عن طيب خاطر‪ ،‬والتي ظهرت‬
‫منذ عنوان أول مقال له‪ ،‬هي‪ :‬عالقة‪ ،‬ونسبي‪ ،‬ونسبية الحاالت‪ .‬وما كان يريد التركيز عليه‬
‫هو قبل كل ش يء ما يلي‪ :‬بنتيجة تفاعل من نمط التفاعالت التي تحدث أثناء الصيرورات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التجريبية‪ ،‬ال يسمح اليكانيك الكمومي بأن ننسب لجسم ما تحديدا خاصا به‪ ،‬بل فقط‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تحديدا نسبيا (متعلقا)‪ .‬إنه تحديد متعلق بتحديدات األجسام األخرى (على سبيل الثال‪،‬‬
‫األجهزة التجريبية) التي تفاعلت معه‪ .‬أما التعددية‪ ،‬التي ت َع ّد عادة مثل السمة البارزة في‬
‫ً‬
‫تفسير إيفيريت‪ ،‬فهي منطقيا سمة ثانوية‪ .‬إنها تنتج عن محاولة االستفادة من بنية‬
‫الصورية من أجل توضيح نسبية الحاالت في اقتران من البيانات والعبارات الشرطية‪.‬‬
‫ً‬
‫وبدال من محاولة القول "الجسم ‪ A‬ال يمكن أن ينسب إلى نفسه حالة معينة إال بالنسبة‬
‫إلى حالة الجسم ‪ ،"B‬فإننا نستفيد من اليزات الجبرية للميكانيك الكمومي لكي نعلن‪" :‬أن‬
‫الجسم ‪ B‬يكون له التحديد ‪ b1‬إذا كانت للجسم ‪ A‬التحديدية ‪ ،a1‬وأنه يكون للجسم ‪B‬‬
‫ً‬
‫التحديدية ‪ b2‬إذا كان للجسم ‪ A‬التحديدية ‪ ،a2‬إلخ‪ .".‬فبدال باألحرى من التمسك‬
‫بالتأكيد الفردي لنسبية الحاالت‪ ،‬نضع القائمة التعددة للحاالت النسبية‪.‬‬

‫البرهان على أن العديد من األخطاء والتناقضات التي تنتقد بحق في "التفسير الشعبي لتعددية العوالم" ال تصح وال تنطبق‬
‫على التفسير األصلي إليفيريت‪.‬‬
‫‪312‬‬
‫أما الرحلة التالية‪ ،‬التي تشتمل على تحويل اجتماع واقتران البيانات الشرطية حول‬
‫الحاالت النسبوية إلى اقتران من البيانات القاطعة حول ما يحصل في تعددية من‬
‫"العوالم"‪ ،‬من نوع "الجسم ‪ B‬يملك التحديدية ‪ b1‬في العالم حيث الجسم ‪ A‬يملك‬
‫التحديدية ‪ ،a1‬والجسم ‪ B‬يملك التحديدية ‪ b2‬في العالم حيث الجسم ‪ A‬يملك‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫التحديدية ‪ ،a2‬إلخ‪ ،".‬فلم ينظر إيفيريت إليها علنا أبدا‪ .‬فهو يقاربها كثيرا عندما يذكر‬
‫ً‬
‫صيرورة من "تشبيك" وتعددية من "فروع"‪ ،‬لكنه يظل دائما أقل من االلتزام األنطولوجي‬
‫اتجاه هذه الفروع‪ .‬وهو يوافق بين كثرة "الفروع" وتنوع ما يمكن أن يظهر من وجهة نظر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مجرب مشارك في سلسلة التفاعالت الدروسة‪ ،‬بدال باألحرى مما هو قائم في كثرة‬
‫َّ َ‬
‫متأملة من الخارج بواسطة النظر النفصل للعالم النظري‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإنه‬ ‫"عوالم"‬
‫يميل إلى تيسير تحليل في الحاالت‪ ،‬بدال باألحرى من اللجوء إلى صورة قصوى للتجريد‬
‫بمواجهة خصوصية الحاالت‪.‬‬
‫ً‬
‫إن التفسير األصيل إليفيريت (أي تفسير "نسبية الحاالت") يعارض عمليا في الواقع‪،‬‬
‫بإحالل البيانات الشرطية محل البيانات القطعية‪ ،‬كافة التفسيرات األخرى العروفة حتى‬
‫اليوم في اليكانيك الكمومي‪ .‬فبالدرجة األولى‪ ،‬يشتمل التفسير "األورثوذكس ي" الذي‬
‫اقترحه للمرة األولى فون نيومان على عدم اإلبقاء بعد صيرورة من القياسات سوى على‬
‫بيان قطعي واحد على الجسم وعلى الجهاز‪" :‬يمتلك الجسم التحديدية ‪ ،a1‬ويمتلك‬
‫الجهاز التحديدية ‪ ."b‬وهذا ما يستخدم فيه "اختزال شعاع الحالة ّ‬
‫الوجه"‪ .‬وبالدرجة‬ ‫‪1‬‬

‫الثانية‪ ،‬في إطار التفسيرات الميزة لفان فراسين ‪ Van Fraassen‬وديك ‪ Dieks‬وكوشن‬
‫ً‬
‫‪ ،Kochen‬أو أيضا وفق مصطلح صيرورة الـ "فك االتساق" أو فك االرتباط‬
‫‪ ،décohérence‬نعتبر أن صيرورة القياس تصل إلى فصل للبيانات التصنيفية‪" :‬الجسم‬
‫يمتلك التحديدية ‪ ،a1‬والجهاز يمتلك التحديدية ‪ ،b1‬أو الجسم يمتلك التحديدية ‪a2‬‬
‫ً‬
‫والجهاز يمتلك التحديدية ‪ ،b2‬إلخ‪ .".‬وأخيرا‪ ،‬بالدرجة الثالثة‪ ،‬كما سبق ورأينا‪ ،‬فإن‬
‫تفسير كثرة العوالم يقود إلى تأكيد أن محصلة صيرورة القياس هي اقتران لبيانات‬
‫‪313‬‬
‫قطعية‪" :‬الجسم يمتلك التحديدية ‪ ،a1‬والجهاز يمتلك التحديدية ‪( b1‬في العالم رقم ‪،)0‬‬
‫والجسم يمتلك التحديدية ‪ a2‬والجهاز يمتلك التحديدية ‪( b2‬في العالم رقم ‪ ،)4‬إلخ‪.".‬‬
‫ّ‬
‫وحده تفسير نسبية الحاالت يعلق كل معطى قطعي في الوصف الشامل للحالة السائدة‬
‫إثر صيرورة القياس ‪ .‬إن تصنيفية البيانات ال تنطبق وفق هذا التفسير إال بالنسبة‬
‫ّ‬
‫الجربين) الذين شاركوا في سلسلة التفاعالت التي تشتمل عليها صيرورة‬ ‫ّ‬
‫للمجرب (أو‬
‫القياس؛ فهي ال تعمل إال بالنسبة لحالة هذه التفاعالت‪ .‬وبشكل أدق‪ ،‬فإن ما يقترحه‬
‫ً‬
‫تفسير نسبية الحاالت‪ ،‬هو أنه بدءا من اللحظة حيث (في نهاية شالل من التفاعالت بين‬
‫والجرب) تصبح تحديدات نسبية تابعة إلى ّ‬
‫مجرب‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫الجسم والجهاز ثم بين الجهاز‬
‫ً‬
‫تأخذ بالنسبة إليه‪ ،‬من وجهة نظره الشاركة‪ ،‬مظهر نتيجة محددة تماما قابلة للتجريب‬
‫من خالل قضية قاطعة‪.‬‬
‫يكفي ما سبق قوله إلظهار الطبيعة الوجزة لسلسلة من التناقضات التي تستخدم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عادة في تمييز تفسير إيفيريت‪ .‬وهذا التفسير ليس تفسيرا ال يبالي جوهريا باإلبستمولوجية‪،‬‬
‫الصور محل التحليل‪ .‬إن التعارض بين بور حاذق يقودنا خطوة خطوة‬ ‫َ‬ ‫وهو ال ي ّ‬
‫حل بذاته‬
‫في تحولنا إلى معنى تأويلي ‪ /‬تفسيري للفهم‪ ،‬وإيفريت حالم‪ ،‬يبحث عن اكتساب فهم نزق‬
‫للميكانيك الكمومي على حساب أكثر التجاوزات التخيلية جرأة‪ ،‬هو تعارض ال يصمد‪.‬‬
‫وفي الحقيقة‪ ،‬فإن نمطي التفسيرين‪ ،‬تفسير بور كما وتفاسير إيفيريت التي سادت‪ ،‬كانا‬
‫بؤرة توتر لم يجر ضبطها بشكل حسن بين اليل إلى الحفاظ على عالم نز ٍق للفهم حتى لو‬
‫عمم مفهومه‪ .‬وهو‬ ‫جزأ مجال تطبيقه‪ ،‬وبين الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الفهم حتى لو َّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫سابقا إنما الذي سنحاول فيما يلي تحديده إلى ّ‬
‫حد ما‪.‬‬ ‫توتر كان قد ألح إليه‬
‫ً‬
‫ولنبدأ من عند بور‪ .‬بعيدا عن التالعب بالكلمات‪ ،‬هناك جانبان متكامالن يمكن‬
‫تمييزهما في مفهوم بور للتكاملية‪ :‬الظهر التصويري ‪ iconographique‬والظهر السياقي‬
‫‪ .contextuel‬يشتمل الظهر التصويري للتكاملية على تحديد عائلتين متعارضتين من‬
‫ً‬
‫الصور‪ ،‬وهما عائلتان غير متوافقتين معا عندما تكونان معزولتين‪ ،‬لكن ال غنى عن كليهما‬
‫‪314‬‬
‫إذا كنا نرغب بتمثيل سلوك جسم مجهري في كافة الظروف‪ .‬إن وحدة "تاريخ" جسم‬
‫َ ً‬
‫تضيع على هذا النحو لكن مبدأ الفهم النزق يظل محافظا عليه عبر تفجره في متواليتين‬
‫َّ‬
‫من األحداث‪ :‬متوالية الواضع التتالية (أو السار) للجسم المثل تحت سمات جسيمية‪،‬‬
‫ومتتالية قيم الرحلة للجسم نفسه المثل تحت سمات صيرورة موجية‪ .‬ويعود الجانب‬
‫السياقي للتكاملية‪ ،‬من جهته‪ ،‬إلى التأكيد على استحالة تجريد ظاهرة من الشروط‬
‫التجريبية للحصول عليها؛ وبالنتيجة‪ ،‬إلى التأكيد على واقع أن ظاهرتين تحصالن تحت‬
‫شروط تجريبية غير متوافقة تكونان ظاهرتين مقصورتين بالتبادل كل على األخرى‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشروط التي يستدعي وفقها توزع لألحداث التجريبية مسارا جسيميا (أو مسارات‬
‫جسيمية) تكون على سبيل الثال مقصورة على الشروط التي يستدعي وفقها توزع آخر‬
‫لألحداث التجريبية صيرورة تداخل موجي‪ .‬لكن ال ش يء يمنع من تحديد ما هي التعديالت‬
‫التي يجب القيام بها على جهاز تجريبي يؤدي إلى آثار ذات مظهر جسيمي لكي يسمح بظهور‬
‫آثار ذات مظهر موجي‪ .‬ويمكن على هذا النحو إعادة اكتساب وحدة معينة‪ ،‬شرط القبول‬
‫ً‬
‫بأن تكون محمولة بواسطة مجموعة التحويالت لألجهزة التجريبية بدال باألحرى من أن‬
‫تكون محمولة بواسطة تمثيل مستقبل الجسم؛ وباختصار شرط إحالل الوقف‬
‫االنعكاس ي للفهم التأويلي محل الوقف القصدي للفهم الباشر‪.‬‬
‫ينتج النوع نفسه من التوتر في تفسير إيفيريت‪ .‬فهناك في الواقع كما أشرنا إلى ذلك‬
‫أعاله قراءتان رئيسيتان لقائمة الحاالت النسبية التي يفض ي إليها التقرير اإليفيريتي‬
‫تحول إلى النظرة الوضوعية وقراءة تشاركية‪ .‬القراءة الوضوعية‬ ‫لصيرورة قياس‪ :‬قراءة ّ‬
‫تو ّجه االنتباه إلى "التاريخ"؛ وهذا يعني هنا اإلشارة إلى صيرورة الجسم والجهاز‪ .‬وهي تهدف‬
‫للوصول إلى محاكمات قاطعة حول الخصائص التي يملكها الجسم والجهاز بنتيجة‬
‫تفاعلهما‪ .‬وتوافق قائمة الحاالت النسبية عندها قائمة للـ "عوالم" التي يكافئ فيها في كل‬
‫مرة مجموعة من الحاكمات القاطعة حول الجسم وحول الجهاز‪ .‬تضيع وحدة وصف‬
‫ً‬
‫األحداث‪ ،‬لكن مبدأ الفهم النزق يجد نفسه مرة أخرى محافظا عليه على حساب تفجر‬
‫‪315‬‬
‫طبق عليه هذا الفهم‪ .‬أما بالنسبة للقراءة التشاركية‪ ،‬فإنها تشتمل على‬ ‫الجال الذي ي ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الجرب فعليا؛ أو باألحرى التأكيد‪ ،‬من أجل استبعاد كل سوء تفسير ذاتي‪،‬‬ ‫التأكيد على‬
‫ً‬ ‫على مجموعة الحاالت التي يمكن أن يوجد فيها ّ‬
‫مجرب إذا كان مشاركا في سلسلة‬
‫ّ‬
‫الحددة لصيرورة القياس‪ .‬توافق قائمة الحاالت النسبية في هذه الحالة قائمة‬ ‫التفاعالت‬
‫ّ‬
‫للمجرب خالل انحسار هذه الصيرورة‪ .‬وهي حالة يحكم فيها أنه يحق له‬ ‫الحاالت المكنة‬
‫التأكيد على أنه حصل على النتيجة رقم ‪ ،0‬وحالة يحكم فيها أنه يحق له التأكيد على‬
‫أنه حصل على النتيجة رقم ‪ ،4‬إلخ‪ .‬إن تابع الوجة الشامل الذي يتحلل إلى قائمة من‬
‫الحاالت النسبية يعمل في هذا النظور مثل عامل تساوي احتمال جزئي لحدثين (ترجحه‬
‫احتماالت) بين هذه الحاالت الختلفة‪ .‬وهكذا فإن الوحدة الضائعة ت َر َّمم من جديد‪،‬‬
‫لكنها ترتكز على شبكة رمزية من التبادليات بين الواقف التي يمكن الوصول لها بالنسبة‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الحددة تماما‬ ‫لجرب مدرج في الطبيعة‪ ،‬بدال باألحرى من االرتكاز على نسب الخصائص‬
‫إلى أجسام طبيعية‪.‬‬
‫‪511‬‬
‫‪ 4 .7‬الووف العلمي والقياسية‬
‫إن القراءة القترحة لتفسير إيفيريت تشتمل على محاولة حل للتناقض التالي‪ :‬من‬
‫جهة‪ ،‬ال يمكن ألي وصف موضوعي للعالم أن يترك نفسه يغير اتجاهه أو يحرفه عبر واقع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أننا نشكل فيه وضعا خاصا وطارئا‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإنه من الستحيل أن نتجاهل‬
‫الدور الذي تلعبه نتائج هذا الواقع في التقرير التنبؤي للظاهرات التي يقدمها اليكانيك‬
‫الكمومي‪ .‬يشتمل هذا االقتراح للحل على استبدال "أننا" (صيغة نحن) بعالمات مجردة‬
‫للوضع العرفي (اإلبستمولوجي) والقيام بتحويالت بين الوضعيات‪ .‬وكما سبق ورأينا‪ ،‬فإن‬
‫تطبيقها يتحلل إلى زمنين‪:‬‬

‫‪ 511‬القياسية ‪ ،indexicalité‬مصطلح مشتق من عملية الفهرسة‪ ،‬وتم استخدامه في األصل في مجال علم‬
‫النفس لإلشارة إلى عملية مقايسة (فهرسة) لجملة شخص ما لكي يصبح لها معنى‪( .‬الترجم)‬
‫‪316‬‬
‫(‪ )0‬االعتماد كقاعدة أشعة ّ‬
‫موجهة خاصة "قاعدة تفسير" مفروضة بواسطة جدول‬
‫التجريب ومن خالل القيود البراغماتية التي تمارس عليها‪ .‬يتم ذلك على سبيل الثال عبر‬
‫استخدام "مبدأ التوافق" بين الفيزياء الكالسيكية والفيزياء الكمومية‪.‬‬
‫(‪ )4‬تعميم منظومة التبادليات بين الوضعيات الفردية في مواجهة موضوعية ما إثر‬
‫تجربة معطاة؛ منظومة يقدم فيها تبادل الضمائر الشخصية ما بين العبارات النموذج‬
‫ً‬
‫األكثر شيوعا على ذلك‪.‬‬
‫وكما كتب ساندرز ‪ S. Saunders‬فيما يتعلق بهذه النقطة الثانية‪ ،‬فإن "الوضوعية"‬
‫يجب أن تلعب في تفسير إيفيريت للميكانيك الكمومي دور اسم إشارة‪ ،‬بالدرجة نفسها التي‬
‫للكلمات "أنا" أو "هنا" أو "اآلن"‪ .‬وكما أنه ليس هناك معنى لتساؤلنا من هو "أنا"‪ ،‬وما هي‬
‫اللحظة "اآلن"‪ ،‬وأي مكان هو "هنا"‪ ،‬بشكل مستقل عن إطار استخدام هذه الصطلحات‪،‬‬
‫فإنه لن يكون هناك معنى لحاولة تخصيص "نتيجة تجربة تحديث" بشكل مستقل عن‬
‫الوضعية الخاصة للذي يشارك في الصيرورة اإلجمالية الوصوفة بـ "القياس"‪ .‬وكما أننا نرفع‬
‫ً‬
‫التناقضات العروفة جيدا لألزمنة النحوية بقبول أن الصلة بين اآلن وكل بيان يشتمل على‬
‫ً‬
‫تبعا إلطار البيان‪ ،‬فإنه يمكننا ّ‬
‫حل الصعوبات‬ ‫فعل نزق هي صلة قياسية بحتة‪ ،‬أي أنها تتغير‬
‫الرتبطة بمسألة القياس في اليكانيك الكمومي بقبول أن الصلة بين النتيجة العتبرة كنتيجة‬
‫ً‬
‫حالية ونشر اإلمكانات البرهنة بواسطة الصورية بالنسبة لتجربة معطاة هي أيضا صلة من‬
‫طبيعة قياسية‪" .‬ففي حين أن القضيتين «الحدث ‪ E‬حدث ماض» و «الحدث ‪ E‬حدث‬
‫مستقبلي» هما قضيتان متناقضتان للوهلة األولى‪ ،‬فإننا بإدخال حدثين جديدين ‪ F‬و *‪F‬‬
‫نحصل على‪ E« :‬هو حدث ماض بالنسبة لـ ‪ ،F‬و ‪ E‬هو حدث مستقبلي بالنسبة لـ *‪ ،F‬وهكذا‬
‫نحل الصعوبة»‪ .‬وبطريقة مماثلة‪ ،‬فإن القضيتين «الرصود ‪ X‬له القيمة ‪ »r‬و «الرصود ‪ X‬له‬
‫القيمة ‪ »s‬متناقضتان‪ .‬ولكن بإدخال مرصود جديد ‪ Y‬يمكننا القول «‪ X‬له القيمة ‪ r‬بالنسبة‬
‫إلى القيمة ‪ u‬لـ ‪Y‬؛ و ‪ X‬له القيمة ‪ s‬بالنسبة للقيمة ‪ v‬لـ ‪ ،»Y‬وهكذا نصل إلى حل‬
‫للتناقض"‪.512‬‬

‫‪ 512‬الرجع السابق‪S. Saunders, "Time and quantum mechanics", in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, .‬‬
‫‪time and quantum mechanics‬‬
‫‪317‬‬
‫إن هذا االستبدال لفهوم الوضعة بدقة بمفهوم قياس ي (و ‪ /‬أو عبر ذاتي) للنظرية‬
‫العلمية يرتبط بمسألة أعم في نظرية العرفة‪ ،‬كما رأى ذلك بوتنام بشكل صريح‪ .513‬وفق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بوتنام‪ ،‬أن يكون الرء واقعيا علميا يعني أنه يدعم إمكانية وصف العالم ابتداء من‬
‫ً‬
‫منظور شمولي خارج عنه تماما؛ وبعبارة أخرى وصفه "من وجهة نظر هللا"‪ .‬والحال أنه‪،‬‬
‫حتى دون مناقشة أهمية مثل هذا الشروع‪ ،‬من السهل البرهان أن ميله نحو معرفة كلية‬
‫‪ -‬الشمول يصطدم بتقييد مبدئي‪ .‬إن بعض الركبات األولية لعرفتنا تفلت من إله خارج‬
‫عن كل زمن‪ ،‬خارج عن كل مكان ومنفصل عن كل شخص فرد لديه منظوره الحدد عن‬
‫ً‬
‫العالم‪ .‬وكما أشار كرتزمان ‪ N. Kretzmann‬في مقالة مشروحة جيدا‪ ،514‬فإن هذا اإلله‬
‫الحدد بنمط فهم تحت شكل من أشكال الخلود ‪ sub specie aeternitatis‬ال يستطيع أن‬‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يعرف أي وقت هو اآلن؛ وال يستطيع أن يعرف أيضا أننا موجودون هنا (في باريس مثال)‪،‬‬
‫وال (إذا استعرنا تعبير ناجيل ‪ )T. Nagel‬ماذا يعني أن أكون أنا؛ وال حتى (إذا ما طبقنا‬
‫ذلك على التراكب الخطي للمتجهات الخاصة في اليكانيك الكمومي) أن مجتمع‪ -‬نا العلمي‬
‫حل) حدود العرفة‬‫حصل على مثل هذه النتيجة التجريبية‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإن رفع (أو ّ‬
‫يفقد معرفة ماذا يعني السكن بين هذه الحدود‪ .‬إن تخصيص العرفة وتحديدها بالعرفة‬
‫ً‬
‫التي يمكن أن تنتج من الواجهة وجها لوجه شبه األنانوية‪ solipsiste 515‬بين العالم وكائن‬
‫خارج العالم سينتج عنه استبعاد قسم كامل (ربما مفرط) من تجربتنا ومن أفعالنا‬
‫الكالمية‪.‬‬
‫َ‬
‫يمكننا أن نصيغ بنفس الروح استعارة الهوتية للمفهوم القياس ي (أو العبر ‪ -‬ذاتي)‪.‬‬
‫ً‬
‫وما ننتظره من هذه االستعارة الجديدة‪ ،‬الختلفة جدا بالتأكيد عن تلك التي كان يقود‬
‫الموضع البحت‪ ،‬هو أنها تسمح بتعويض جزئي على األقل‬ ‫إلى تيسيرها وتشجيعها الوقف َ‬

‫‪ 513‬الرجع السابق‪H. Putnam, Le réalisme à visage humain .‬‬


‫‪N. Kretzmann, "Omniscience and immutability", The Journal of philosophy, 63, p. 409-421, 1966. 514‬‬
‫‪ 515‬من األنانة‪ ،‬وهي نظرية تؤمن باألنا فقط‪( .‬الترجم)‬
‫‪318‬‬
‫للخسارة اإلبستمولوجية القبولة في إطار "الرؤية من الإتجاه والمكان"‪ .‬وللوصول إلى هذه‬
‫النتيجة‪ ،‬يجب أن نحرر هللا من االنعزال الجليل الذي كان قد عزل فيه حتى اآلن‪ .‬وكما‬
‫يالحظ كاستانيدا ‪ ،H. N. Castaneda‬فإن تأكيد كريتزمان‪ ،‬الذي وفقه ال يستطيع هللا‬
‫معرفة ما هو الوقت الذي يكون اآلن‪ ،‬ال يصح إال إذا افترضنا أن الرجعيات القياسية‬
‫(أي االستناد إلى لحظات‪ ،‬أو أماكن أو أشخاص) هي مرجعيات غير قابلة للتحويل‪ 516‬أو‬
‫ً‬
‫غير قابل للتفويض؛ وهو ال يصح أيضا إذا لم نترك ألنفسنا الخيار إال بين مرجعية‬
‫قياسية شخصية بحتة ومرجعية اسمية أو وصفية غير شخصية بالكامل‪ .‬لكن هذا‬
‫التناوب بين الذاتية والوضوعية‪ ،‬وهو تناوب نموذجي في نظرية األنانوية النهجية حيث‬
‫ً‬
‫تنغلق فيها الواقعية العلمية بشكل متوافق مع نموذج نظرية العرفة‪ ،‬ليس تناوبا ال‬
‫يمكن تخطيه أو تجاوزه‪َ .‬ويفترض تجاوزه فقط أن ندخل اعتبارات تعود إلى نموذج‬
‫االتصال‪ .‬إن الرجعية القياسية هي مرجعية قابلة للتحويل‪ ،‬عبر ما نسميه "أشباه‬
‫الؤشرات"‪ .‬يستطيع كل منا صياغة البيانات القياسية ألشخاص آخرين بما هي قياسية‪،‬‬
‫ً‬
‫دون أخذها على عاتقه وال ترجمتها بعبارات وألفاظ غير شخصية‪ ،‬طالا أنه يقرن نمطا‬
‫غير مباشر من التعبير يسمى ‪( oratio obliqua‬الكالم غير الباشر) مع استخدام أشباه‬
‫ً‬
‫الؤشرات‪ .‬لنشرح قليال بتفصيل أكبر هذه العملية والصطلحات الداخلة فيها‪.‬‬
‫وفق كاستانيدا‪ ،517‬تشكل الصطلحات القياسية البحتة الجهاز الرمزي الذي من‬
‫خالله يمكننا أن نعني كينونات كما وردت في سياقها‪ .‬غير أن هذا الجهاز‪ ،‬إذا كان‬
‫ً‬
‫معزوال‪ ،‬سيعيبه عيب خطير في حصر العنى بعناصر من التجربة هي في آن واحد ذاتية‬
‫ومحلية وزائلة‪ .‬فال ّبد بالتالي أن يتم إكماله بآلية نقل‪ ،‬تصبح بفضلها قدرة التعيين‬
‫القياسية قابلة للتفويض في كل موضوع‪ ،‬وفي كل مكان‪ ،‬وفي كل لحظة‪ .‬إن عملية‬

‫‪H.N. Castaneda, Thinking, language and experience, University of Minnesota Press, 1989, p. 137. 516‬‬
‫‪ 517‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.59 ،2 .‬‬
‫‪319‬‬
‫التفويض هذه هي عملية شبه قياسية‪ .518‬وهي تعمل بإحالل نمط غير مباشر (أو ‪oratio‬‬
‫ً‬
‫‪ )obliqua‬محل النمط الباشر للتعبير (أو ‪ .)oratio recta‬لنعط مثاال على هذه‬
‫االستبدال‪:519‬‬
‫(‪ )0‬النمط الباشر (مرجعية قياسية)‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫أخفي هنا وأنني سوف أصبح غنيا إذا (أنا) نبشته اآلن‪".‬‬ ‫"أنا أعتقد أن كنزا‬
‫(أشرنا إلى الصطلحات القياسية بالائل‪ .‬وإضافة إلى الؤشرات أنا و هنا و اآلن‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫هذه الصطلحات تشتمل أيضا على تصريفات األفعال في أزمنة قواعدية بسيطة تنسبها‬
‫إلى اآلن‪).‬‬
‫(‪ )4‬النمط غير الباشر (مرجعية شبه داللية)‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"كان باتريك يعتقد أن كنزا كان مخفيا هنا وأنـ (‪-‬ه) سوف يصبح غنيا إذا ما نبشه‬
‫حينها‪".‬‬
‫(أشرنا إلى األلفاظ شبه القياسية بالائل‪ .‬ونجد إضافة إلى أشباه الؤشرات هو و هنا‬
‫و حينها‪ ،‬فإنها تشتمل أيضا على تصريفات األفعال في أزمنة قواعدية بسيطة أو مركبة‬
‫تعيدها إلى حين في الاض ي‪ .‬إن مقطع الجملة السطر (كان باتريك يعتقد أن) يمثل أداة‬
‫التصدير أو البادئة غير الباشرة ‪oratio obliqua‬؛ ووظيفته هي تحديد الشخص والوقت‬
‫الذي كانت قد ف ّوضت له القدرة على القيام بمرجعية قياسية‪).‬‬
‫يمكن لعملية الرجعية شبه القياسية أن َ‬
‫تعت َبر مثل األثر الذي تتركه في اللغة مرحلة‬
‫بين ذاتية َّ‬
‫معممة من صيرورة الوضعة‪ .‬ويظهر بوضوح تبديل الضمائر الشخصية بين‬
‫التكلم والخاطب التكافؤ الـ بين ‪ -‬ذاتي خالل محادثة يغوص خاللها الشاركون فيها‬
‫بوضعية فريدة من نوعها أو تكاد؛ لكن وحدها شبه القياسية تتوصل إلى ّ‬
‫مد هذا التكافؤ‬

‫‪ 518‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.411 .‬‬


‫‪ 519‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.6 .‬‬
‫‪311‬‬
‫إلى الحالة التي يكون فيها الشاركون المكنون في محادثة ما في مواجهة منفصلة‪ ،‬كل‬
‫لحسابه‪ ،‬مع وضعيات منفصلة‪.‬‬
‫وهكذا يمكننا اآلن اقتراح حل لعضلة هللا‪ ،‬الذي ال يستطيع االختيار إال بين أن‬
‫ً‬
‫يعرف كل ش يء من الخارج دون أن يدرك شيئا من وجهات النظر الخاصة النهائية‪ ،‬أو أال‬
‫يعرف األشياء إال ابتداء من وجهة نظر خاصة فيتخلى بالتالي عن مشروعه في كونه كلي‬
‫ً‬
‫العلم‪" .‬إن كائنا كلي العلم والوعي ال يعرف كافة القضايا في التعبير الباشر ‪:oratio recta‬‬
‫فعليه أن يعرف القضايا القياسية في التعابير غير الباشرة ‪ ،oratio obliqua‬على شكل‬
‫قضايا شبه قياسية‪ ."520‬إن الكائن كلي العلم ال يعرف بالنسبة لكافة "اآلنات" أي وقت‬
‫هو اآلن‪ ،‬لكنه يستطيع أن يعرف أنه في "اللحظة ‪ ،t‬يعرف ‪ X‬أنها اللحظة ‪ t‬عندها‬
‫[‪ ."521]...‬وفي سياق العنى ذاته‪ ،‬في تفسير الحاالت ذات الصلة في اليكانيك الكمومي‪ ،‬فإن‬
‫الكائن الكلي العلم ال يفترض أن يعرف بطريقة جديدة‪ ،‬بالنسبة لكافة النتائج التي‬
‫أصبحت ممكنة عبر عملية قياس‪ ،‬أن نتيجة معينة تم الحصول عليها على نحو فعال في‬
‫الطلق‪ ،‬لكنه يستطيع أن يعرف‪ ،‬عبر تحويل ابتداء من موضعه الخاص‪ ،‬أنه بالنسبة‬
‫لجتمع علمي رقم س‪ ،‬فإنه يبدو أن النتيجة رقم س قد تم الحصول عليها‪ .‬يجد إله هذه‬
‫َ‬
‫الجمع نفسه للمحلية والعالية‬ ‫االستعارة الالهوتية الثانية نفسه ينسب من خالل ذلك‬
‫الذي يقوم به كل واحد منا‪ ،‬طالا أنه بالشاركة في لعبة الفرادات‪ ،‬وبقدرته على التعين‬
‫ً‬
‫والتطابق مع أي منظومة من الرجعيات القياسية‪ ،‬فإنه تكون لديه أيضا القدرة على‬
‫تفويض القابلية إلى الرجعية القياسية‪ .‬إال أن هللا‪ ،‬على عكسنا‪ ،‬من الفترض أن تكون‬
‫لديه إضافة إلى ذلك قدرة غير محدودة على الوافقة بشكل نوعي بين "العرفة" شبه‬
‫القياسية و"التجربة" القياسية‪ .‬وفي الحصلة‪ ،‬إذا لم يكن هللا‪ ،‬عندما كان يستخدم‬

‫ً‬
‫‪ 520‬الرجع السابق ص‪ .023 .‬لقد تطور أيضا موقف كريتزمان ‪ N. Kretzmann‬في هذا االتجاه‪ .‬راجع ‪E. Stump‬‬
‫‪.& N. Kretzmann, "Eternity", Journal of philosophy, 78, p. 429-458‬‬
‫‪ 521‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪H.N. Castaneda, Thinking, language and experience .031 .‬‬
‫‪311‬‬
‫االستعارة للموضوعانية‪ ،‬يستفيد إال من "رؤية من ال مكان" واحدة‪ ،‬فإنما يكون عليه‬
‫معم َمة‪ ،‬أن يدمج بين منظوره‬
‫لكي يقدم استعارة مقبولة بالنسبة لا بين موضوعانية َّ‬
‫الخاص الحتمل (القياس ي) والنظور من أي مكان كان" (شبه القياس ي)‪.522‬‬
‫إن الدرس الذي أريد استخالصه من هذه التأمالت هو أن معرفة ما ال تكون شاملة‬
‫بشكل معقول إال بشرط تخليها عن كونها موضوعانية بشكل شامل؛ وأن هذه العرفة ال‬
‫تكون شاملة بشكل معقول إال بشرط أن تكون في جزء منها تشاركية‪ .‬يشكل التخلي عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكمال لصالح مفهوم إحصائي وعالمي للموضوعية خيارا مقبوال (وقد ّبين فعاليته خالل‬
‫ً‬
‫عصر الفيزياء الكالسيكية)‪ ،‬إنما الذي ال بد يؤدي يوما إلى ظهورات لـ "عودة الكبوت"‬
‫اإلبستمولوجي‪ .‬وهذا ما ذكرتنا به اليكانيكا الكمومية بين أشياء أخرى‪ ،‬بطريقة تنبؤية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رغم أنها ملحة‪ .‬فإذا ما فقدنا هذا التذكير من منظورنا مجددا لبعض الوقت أيضا فإن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ذلك لن يشكل أبدا تقدما للفكر‪.‬‬
‫‪ 5 .7‬تفسير نظرية كدليل للبحث الفلسفي‬
‫لم يكن يهدف تأكيدي في هذا الفصل على تفسير إيفيريت بحال من األحوال إلى إبراز‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫تفوق هذا التفسير‪ ،‬كما لم يهدف إلى تأكيد ّ‬
‫صحته‪ .‬فكما أن تمثيال أو تصورا للعالم ال‬
‫يتم إثباتهما بشكل مؤقت‪ ،‬في كل مرحلة من مراحل الشروع العلمي‪ ،‬إال بقدرتهما على‬
‫توجيه النشاط التجريبي‪ ،‬فإن تفسير نظرية فيزيائية ال يمكن أن يسود إال من خالل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قابليته ألن يقود نمطا معينا من النشاط النظري بشكل أفضل من تفسيرات أخرى‬
‫منافسة‪ .‬إن أهمية تفسير تكون بالتالي متعلقة بنوع النشاط النظري التي تسمح بتوجيهه‬

‫ً‬
‫‪ 522‬ربما‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬تكون استعارة البوديساتفا مناسبة أكثر من استعارة إله الفالسفة‪ ،‬التي غالبا ما تقرن‬
‫مع العرفة الوحيدة تحت شكل من أشكال الخلود ‪ .sub specie aeternitatis‬فللبوديساتفا في الواقع ضمن‬
‫صفاته الخاصة النسوبة له صفة أنه يتطابق‪ ،‬باإلنابة والرحمة‪ ،‬مع كل كائن حساس؛ وأنه ال يرض ى البقاء‬
‫ً‬
‫فوق الكائنات الحساسة‪ ،‬دون أن يكون مع ذلك سجينا لتأثيراتهم‪" .‬إنه يتبع مصائر العالم كله‪ ،‬لكنه يفلت من‬
‫كافة الصائر"‪ ،‬راجع "تعليم فيماالكيرتي ‪ ،"Enseignement de Vimalakirti‬الذكور في ‪L. Silburn, Aux sources‬‬
‫‪.du Boudhisme, Fayard, 1997, p. 164‬‬
‫‪312‬‬
‫بشكل فعال‪ .‬فعندما يبدو تفسير ما أفضل من التفسيرات األخرى في تيسير االكتشاف في‬
‫كافة الجاالت التي يمكن لالستكشاف النظري الوصول إليها‪ ،‬فعندها فقط يتأكد تفوقه‬
‫ويصبح من الغري بالنسبة لكثيرين طرح مسألة حقيقته‪ .‬والحال أن مثل حالة شبه‬
‫القطبية هذه هي بالضبط حالة ال نصادفها في الفيزياء الكمومية‪ .‬إن التفسيرات التعددة‬
‫القبولة للفيزياء الكمومية لها والحق يقال سلطة إرشادية متخصصة‪ ،‬تظهر في مجال‬
‫إشكالي محدود‪ ،‬إنما تضعف وتفسح الجال لسلطة تفسيرات أخرى في الحقول اإلشكالية‬
‫الجاورة‪ .‬وال يشكل تفسير إيفيريت استثناء لهذه القاعدة‪ .‬فدعوته إلى العالية جعلت من‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫تفسيره ضروريا جدا في علم الكونيات الكمومي‪ .523‬وقد ساعد آنه التعدد "التواريخ"‬
‫و"الفروع" التوازية من جهة أخرى بشكل كبير على اكتشاف مبادئ "الحساب‬
‫الكمومي"‪ ،524‬الذي يستخدم طريقة العالجة فائقة التوازي للمعلومة‪ .‬لهذا فإن العديد‬
‫من علماء الكونيات والختصين في الحساب الكمومي يأخذونه بشكل حرفي‪ ،‬ويميلون إلى‬
‫ً‬
‫"االعتقاد" به بالعنى األكثر أنطولوجية للمصطلح‪ .‬لكن تفسير إيفيريت يعتبر أيضا كتفسير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثقيل جدا‪ ،‬ولهذا السبب فهو غير مالئم كثيرا لتقديم الحل لكثير من السائل العروفة‪ ،‬في‬
‫ً‬
‫حين أن تفسير فون نيومان "األورثوذكس ي" يبدو هنا متوافقا تماما مع تقديم حل‪.‬‬
‫َ‬
‫تستفيد معالجات نظرية معينة من جهة أخرى من تمثيل لصيرورات مكانية ‪ -‬زمانية‬
‫وسطية بين التحضير والقياس‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون التفسير ذو التحوالت الخفية غير‬
‫ً‬
‫الحلية لديفيد بوم قابال ألن يقدم نقطة ارتكاز مفيدة للباحثين ضمن ظروف ال يستطيع‬

‫‪ 523‬انظر ‪J.S. Bell, "Quantum mechanics for cosmologists", in J.S. Bell, Speakable and unspeakable in‬‬
‫‪quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987; J. Barrow & F. Tipler, The anthropic‬‬
‫‪cosmological priciple, Oxford University Press, 1986, chapitre VII.‬‬
‫‪D. Deutsch, "Quantum theory, the Church-Turing principle and the universal quantum 524‬‬
‫‪computer", Proceedings of the Royal Society, London, A400, p. 97-108, 1985‬؛‬
‫‪D. Deutsch, "Three connections between Everett's interpretation and experiment", in R. Penrose & D.‬‬
‫‪Isham (eds.), Quantum concepts in space and time, Oxford University Press, 1986, p. 215-225‬؛‬
‫‪D. Deutsch, The fabric of reality, Viking Penguin, 1997.‬‬
‫‪313‬‬
‫ً‬
‫فيها تفسير إيفيريت وال التفسير األورثوذكس ي تقديم أي حل‪ .‬وأخيرا‪ ،‬في إطار النظريات‬
‫الكمومية للحقول وفيزياء الطاقات العالية‪ ،‬فإن تفسير تكامالت الطريق لفاينمان يفرض‬
‫نفسه كما يبدو كدرب مقاربة أكثر فعالية بكثير من التفسيرات الثالثة السابقة‪.‬‬
‫ً‬
‫وفقا للمالحظة التي أشرنا إليها لتونا‪ ،‬فإن تأكيدي على تفسير إيفيريت في هذا الفصل‬
‫فضلته هنا هو القدرة على‬‫كان محرضه الوحيد هو البحث عن قدرة كشفية‪ .‬لكن ما ّ‬

‫الداللة في التأمل الفلسفي‪ ،‬وليس في مجال معين من البحث النظري‪ .‬فقد اعتبر تفسير‬
‫إيفيريت (الذي تمت مراجعته وإكماله) كوسيلة ممتازة إلظهار عالقة ذلك‪ ،‬في الفيزياء‬
‫َ‬
‫الو ّح َدة من التبادليات بين الذاتية أو بين‬
‫مماثل مع بيان النظومة َ‬ ‫الكمومية‪ ،‬بفكرة علم‬
‫الوضعية‪ ،‬باألحرى من التمثيل التأليفي لجسم "خارجي"‪ .‬وفي حين يميل تفسير القائم‬
‫ّ‬
‫وتيسر‬ ‫على متحوالت خفية إلى اإلبقاء على الفكرة في أخدود نظرية ثنائية للمعرفة‪،‬‬
‫الالأدرية أو الشك اإلبستمولوجي النسخ األكثر عملياتية للتفسير األورثوذكس ي‪ ،‬فإن‬
‫القدم في هذا الفصل يزودنا بنقطة االرتكاز الطلوبة من أجل‬ ‫إعادة قراءة تفسير إيفيريت َّ‬
‫ً‬
‫تطوير مفهوم للمعرفة التشاركية‪ ،‬التي تستدعى غالبا فيما يتعلق بالفيزياء الكمومية‪،525‬‬
‫إنما التي ناد ًرا ما ت َ‬
‫تابع حتى نتائجها األخيرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من الصحيح أن بعضهم يستطيع أن يقدم اعتراضا جوهريا على هذه الدرب الثالثة‬
‫ويشكك بالتالي بتوفر أية استراتيجية إبستمولوجية وسطية بين واقعية علمية بال‬
‫تسويات وذرائعية عنيدة متشبثة‪ .‬إن مفهوم العرفة التشاركية نفسها‪ ،‬التي تشتمل في آن‬
‫واحد على نسبية البيانات الواقعية اتجاه وجهة نظر وبسط شبكة موحدة من التبادالت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بين وجهات النظر‪ ،‬يبدو في الواقع مفهوما مسكونا بتوتر داخلي‪ .‬وهو توتر شبيه بالتوتر‬
‫الذي كشفه بالكبرن في الوقف االنعكاس ي لبوتنام‪ ،526‬والذي يمكننا التعبير عنه بأكثر ما‬

‫‪ 525‬انظر على سبيل الثال ‪J.A. Wheeler, "Law without law", in J.A. Wheeler & W. Zurek, Quantum‬‬
‫‪theory and measurement, Princeton University Press, 1983.‬‬
‫‪ 526‬راجع الفصل الرابع‪ ،‬القدمة‪.‬‬
‫‪314‬‬
‫يكون الوضوح من خالل التساؤل التالي‪" :‬كيف أزعم في الوقت نفسه أنني ال أستطيع‬
‫التكلم عن العالم إال في حدود وجهة نظر موجودة لدي عن العالم‪ ،‬وأنني أعرف أنها وجهة‬
‫نظر حول العالم؟‪."527‬‬
‫الجواب األكثر منطقية على هذا النوع من التساؤالت هو أنه‪ ،‬كما أنني خالل مجرى‬
‫الحوار ال أحتاج ألن أعلم ما هي وجهة النظر (أي أن أتمثلها كأمر خارجي) لكي ّ‬
‫أفعل‬
‫قواعد تبادل الضمائر الشخصية في استخدام اللغة‪ ،‬فإنني في الفيزياء ال أحتاج ألن‬
‫ً‬
‫أعتمد عقليا "وجهة نظر من بين وجهات النظر" من أجل تفعيل قواعد التكافؤ الوزونة‬
‫للوضعيات في استخدام صورية النظرية الكمومية‪ .‬إن التطبيق الضبوط للحاالت‬
‫النسبية ال يتطلب تمثيل "العوالم" التوازية الحاملة لوجهات النظر الوافقة‪ ،‬أكثر مما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تتطلب الشاركة في لعبة صياغة العبارات بين التحاورين تأمال مشرفا على وضعية‬
‫الشاركين في الحوار‪.‬‬

‫‪J. Boueresse, Le mythe de l'intériorité, Minuit, 1987, p. 82; 527‬؛ وهذا السؤال َّ‬
‫موجه إلى النظومة الرؤية‬
‫ً‬
‫والنظور لدى برتراند راسل‪ ،‬ويمكن توجيهه أيضا إلى النظومة التعلقة بنظرية الوناد عند ليبنيتز التي يستلهم‬
‫منها‪.‬‬
‫‪315‬‬
316
‫‪528‬‬
‫‪ - 8‬الصدفة الوضوعية ومبدأ السبب الكافي‬

‫"إن فكرة التحديدية السببية الكالسيكية‬


‫ليست صحيحة وال خاطئة بالنسبة للفيزياء‬
‫الحديثة‪ ،‬بل هي ببساطة مجردة من العنى‬
‫الفيزيائي‪".‬‬
‫كوجيف‪ ،‬فكرة التحديدية‬

‫تبقى خطوة أخيرة علينا اجتيازها‪ :‬أال وهي إيضاح بعض السمات التي ّ‬
‫تعد غامضة في‬
‫تصور النظرية الفيزيائية كوصف غير مرتبط‬ ‫اليكانيك الكمومي وذلك بأن نحل محل ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بالعالم‪ ،‬التصور الذي يجعل من ّ‬
‫تصور النظرية الفيزيائية بيانا تنبؤيا باالرتباطات المكنة‬
‫في العالم‪ .‬وإحدى أهم هذه السمات هي الالتحديدية‪ .‬وسنحاول بالتالي في هذا الفصل‬
‫ّ‬
‫الوجيز بيان أن الالتحديدية الكمومية يمكن أن تفهم بسهولة كمؤشر على الإنفصالية‬
‫ً‬
‫الظاهرة وشروط تظاهرها‪ ،‬بدال باألحرى من فهمها كانعكاس للنظام (أو للفوض ى) من‬
‫طبيعة منفصلة‪.‬‬
‫‪ 1 -8‬الصدفة الذاتية والصدفة الوضوعية‬
‫ال يمكن تعريف الصدفة الوضوعية بسهولة إال من خالل عكس العنى‪ ،‬ويشكل ذلك‬
‫ً ً‬
‫مؤشرا أوليا على الصعوبة التي يجب تخطيها‪.‬‬
‫ً‬
‫فما الذي نفهمه إذا بعبارة "الصدفة الذاتية"؟ إن الصدفة الذاتية هي صدفة‬
‫ظاهرية‪ ،‬صدفة تنجم عن الجهل‪ ،‬تخفي تحت سلسلة من األحداث العشوائية حسب‬
‫الظاهر صيرورة طبيعية تحرضها أسباب و‪ /‬أو تحكمها قوانين‪ .‬فهذه الصدفة تتطابق مع‬

‫‪ 528‬هذا الفصل هو نسخة معدلة من القالة التالية‪M. Bitbol, "Qu'est-ce qu'un hasard objectif?", La :‬‬
‫‪lettre mensuelle de l'ECF, no 161, p. 13-16, 1997.‬‬
‫‪317‬‬
‫ّ‬
‫الصدفة الالبالسية‪ ،‬التي تعبر عن نفسها بالدرجة األولى بصيغة ضمير التكلم‪" :‬إننا ننظر‬
‫إلى ش يء ما على أنه أثر الصدفة عندما [‪ ]...‬نجهل [‪ ]...‬األسباب التي أنتجته‪ ".529‬وعندما‬
‫قام البالس رغم كل ش يء‪ ،‬لكي يتوافق مع االستخدام الشائع‪ ،‬باالستناد إلى الصدفة‬
‫بصيغة الغائب‪ ،‬فقد كان ذلك فقط يش ي بالطابع الوهم‪" :‬ليس للصدفة [‪ ]...‬أية واقعية‬
‫بذاتها‪ ".‬فاللجوء إلى ّ‬
‫تصور الصدفة ال يترجم بالتالي هنا سوى اإلقرار بالتخلي الوقتي عن‬
‫متابعة البحث‪ .‬ومن الفروغ منه أن البحث حول األسباب يمكن أن يصل إلى نتيجة‪.‬‬
‫حد أدنى من الثابرة‪ ،‬بإيصاله منذ اآلن إلى‬‫وذلك إما ألن وسائل متوفرة تسمح‪ ،‬مع ّ‬
‫ً‬
‫هدفه‪ .‬وإما ألن النظرية الفيزيائية العمول بها لها بنية تحديدية رياضيا‪ ،‬ولهذا فإنها‬
‫تفسح الجال إلدراك إمكانية (ببناء الوسائل األداتية الناسبة) تتبع سلسلة األسباب‬
‫ً‬
‫الحددة بشكل جيد‪ .‬وإما‪ ،‬أخيرا‪ ،‬ألنه بقبول مبدأ السبب الكافي فإننا نعمل في منظورات‬
‫تحديد مستقبلي لدروب وطرق وصول غير معروفة إلى أسباب مجهولة‪ .‬وليس لهذا‬
‫الوقف األخير أية قيمة للوهلة األولى سوى القيمة اإلرشادية والكشفية؛ فهو ال يعمل‬
‫حتى إشعار آخر إال كدليل وكمشروع ناظم بالنسبة للبحث‪ .‬وهو مع ذلك ي َ‬
‫ستكمل بشكل‬
‫متواتر في تأكيد ميتافيزيائي‪ :‬يوجد هناك في الخارج‪ ،‬بشكل مستقل عن القدرة التي يمكن‬
‫أن تكون لدينا على تأكيدها ووصفها‪ ،‬أسباب حقيقية لألحداث‪.‬‬
‫وعلى العكس‪ ،‬فإن ذكر صدفة موضوعية يشير إلى معنى وجود حواجز غير قابلة‬
‫للتجاوز تمانع إنجاز البحث في مجال علم األسباب (اإلتيولوجي ‪.)étiologique‬‬
‫إن مجرد عدم الجاهزية الادية لوسائل التقص ي والبحث ال يبرر وحده أن نصف‬
‫ً‬
‫صدفة ما بأنها "موضوعية"‪ ،‬ألنها تعلن عن نفسها حتميا بصيغة ضمير التكلم‪ .‬فـ "نحن"‬
‫ال نملك إجراءات تقنية تسمح بتحديد أسباب حادث ما‪ .‬لكن هذه الـ "نحن" العائدة على‬

‫‪ 529‬راجع أعمال البالس‪ ،‬الجلد الثامن‪ ،‬ص‪ 56-46 .‬و ‪59‬ـ‪416‬؛ وقد ذكره دهان ـ دليديكو في ‪A. Dahan-‬‬
‫‪Dalmedico, "Le déterminisme de Pierre-Simon Laplace et le déterminisme aujourd'hui", in A. Dahan-‬‬
‫ً‬
‫‪ .Delmedico, J.-L. Chabert & K. Chemla (éd.), Chaos et déterminisme, Seuil, 1992‬راجع أيضا‪P.-S. :‬‬
‫‪Laplace, Essai philosophique sur les probabilités, Courcier, 1814.‬‬
‫‪318‬‬
‫الجتمع التكنولوجي العلمي الحالي هي "نحن" طارئة ومتموضعة ومزاجية‪ .‬وبالتالي ال يمكن‬
‫ّ‬
‫أن توظف من قبل العالية التي تفترضها الوضوعية‪.‬‬
‫ونجد عند الطرف اآلخر لطيف أسباب التخلي عن البحث "عدم وجود األسباب"‬
‫الصريح والبسيط‪ .‬إن عدم الوجود هذا‪ ،‬إذا ما أثبت‪ ،‬يضمن موضوعية الصدفة في أشد‬
‫معانيها النقدية السبقة‪ :‬أي العنى الذي يمكننا القول وفقه بأن الصدفة هي أمر "أصيل‬
‫ً‬
‫وذاتي"‪ ،‬وأنه "أنطولوجي"‪ ،‬وأنه يميز الطبيعة "بذاتها"‪ .‬نعبر عن الفكرة أحيانا وفق نمط‬
‫ً‬
‫وأحيانا وفق نمط طبيعي ("اليول"‪ ،‬التي ّ‬
‫تؤمن استقرارية‬ ‫الهوتي (هللا يلعب بالنرد‪،)530‬‬
‫التواترات وليس األحداث نفسها‪ ،‬هي قوى "حقيقية" مالزمة للطبيعة‪ .)531‬الشكلة تأتي‬
‫من أن مثل هذه التأكيدات تظل‪ ،‬مثلها مثل بدائلها‪ ،‬بمنأى عن كل إمكانية إلثباتها‬
‫ً‬
‫تجريبيا‪ .‬إن مسألة معرفة إذا كانت الصدفة هي "أنطولوجية" أم ال‪ ،‬وإذا كانت "القوانين‬
‫النهائية للطبيعة" غير تحديدية بشكل جوهري وأصيل أم ال‪ ،‬هي مسألة ال يمكن حسمها‬
‫ّ‬
‫وبتها‪ .‬إن التطور الحديث للعلوم التعلقة بالعشوائية تصور بوضوح عدم إمكانية الحسم‬
‫هذه‪ .‬ويتم البرهان في الواقع أن ظواهر تحديدية يمكن أن تنتج عن تطبيق قانون األعداد‬
‫الكبيرة على حوادث عشوائية وعرضية‪ ،‬وأنه على العكس يمكن لظواهر غير تحديدية أن‬
‫تترجم صيرورات شواش تحديدية كامنة أو تحتية‪.532‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ثمة خيارات وسطية‪ ،‬أقوى من الخيار األول وأقل تأملية من األخيرة‪ ،‬تظل‬
‫متوفرة وقائمة‪ .‬والخيار األساس ي بينها يتمثل في ربط أطروحة الصدفة الوضوعية‬

‫‪ 530‬إذا أخذنا عكس التأكيد الشهير ألينشتين‪[" :‬هللا]‪ ،‬على األقل‪ ،‬ال يلعب بالنرد"‪ ،‬في الرسالة إلى بورن في ‪2‬‬
‫كانون األول من عام ‪ ،0945‬وهي منشورة في ‪A. Einstein & M. Born, Correspondance 1916-1955, Seuil,‬‬
‫‪.1972‬‬
‫‪K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996. 531‬‬
‫‪ .J. Harthong, Probabilités et statistiques, Diderot, 1996. 532‬ويمكن أن نجد في القطع ‪ 5‬ـ ‪ 5‬من هذا‬
‫ً‬
‫الكتاب بيانا بـ "الجدل الخامس في األفكار التجاوزية" لهارثونغ بين التحديدية والالتحديدية الجوهريتين في‬
‫"قوانين الطبيعة"‪.‬‬
‫‪319‬‬
‫ً‬
‫باستنتاج أو معاينة السمة الالتحديدية للنظريات الفيزيائية القبولة حاليا‪ ،‬أي لكافة‬
‫النظريات الشتقة من اليكانيك الكمومي‪ .‬فاليكانيك الكمومي هو نظرية غير تحديدية‬
‫ً‬
‫وفق هذا العنى الزدوج بأنها ال تسمح عموما بالتنبؤ بكل نتيجة تجريبية خاصة بشكل‬
‫يقيني‪ ،‬وبأن شكالنيتها ال تتضمن أي مؤشر استذكاري مشارك في مبتدأ سلسلة افتراضية‬
‫لألسباب التي أمكن لها أن تصل إلى كل نتيجة من النتائج‪ .533‬وبشكل أدق‪ ،‬فإن اليكانيك‬
‫ً‬
‫الكمومي ال يتضمن دائما إعادة اإلنتاج الدقيقة للنتائج التجريبية في إثر تحضيرات‬
‫ً‬
‫أعظمية متطابقة‪ .‬إن هذه النظرية تترجم وضعا ال يمكن فيه لكل حادث أن ينفصل عن‬
‫الظروف الخاصة والالعكوسة والتي ال يمكن ضبطها‪.‬‬
‫يمكن ترجمة هذه الالحظة على النحو التالي‪ .‬إن اليكانيك الكمومي ال "يموضع" صلة‬
‫دقيقة بين مقدمة عملياتية ونتيجة حدثية‪ ،‬طالا أن موضعتها ستعني وصفها على أنها‬
‫صالحة للجميع‪ ،‬وفي كل مكان‪ ،‬وفي كافة الظروف حيث تكون القدمة منجزة ومتحققة‪.‬‬
‫بالقابل‪ ،‬فإن اليكانيك الكمومي يبني التكرارية والتناسلية الكاملتين للعالقة بين كل‬
‫ً‬
‫تحضير وتوزع إحصائي معطى لنتائج تجريبية‪ .‬يضمن اليكانيك الكمومي أيضا من خالل‬
‫معادلة شرودنغر استمرارية هذه العالقة‪ .‬يمكننا بالتالي أن نؤكد‪ ،‬بالتوافق مع التعريفات‬
‫السابقة‪ ،‬أنه يتم من خالل هذه العادلة موضعة صلة بين القدمة العملياتية والنتيجة‬
‫ً‬
‫اإلحصائية‪ .‬إن بنيتها االحتمالية تعطي بالتأكيد مضمونا لفكرة صدفة موضوعية‪.‬‬
‫وببساطة‪ ،‬فإن هذا الضمون يرتبط بمعنى نقدي باألحرى منه بميتافيزياء مفهوم‬
‫الوضوعية‪ .‬إن الصدفة التي تسود في مجال صحة الفيزياء الكوانتية توصف بـ‬
‫"الوضوعية" ليس ألنها تعكس سمة مطلقة للطبيعة (وعلى هذا ليس لدى القاربة‬

‫ً‬
‫‪ 533‬إن "التواريخ التسقة لغريفيث ‪ "Griffiths‬تمثل فعال محاوالت إلعادة تشكيل استرجاعية لسلسلة من‬
‫األسباب بين تجربتين‪ ،‬لكن إعادة التشكيالت هذه ليست وحيدة بذاتها‪ ،‬وال يمكن أن تكون كذلك وإال الندرجت‬
‫بشكل خاطئ ضد التنبؤات االحتمالية للميكانيك الكمومي‪ .‬راجع‪R. Omnés, The interpretation of quantum :‬‬
‫ً‬
‫‪mechanics, Princeton University Press, 1994‬؛ راجع أيضا القطع ‪ 4‬ـ ‪ 4‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫العلمية أي ش يء لقوله في كل األحوال)‪ ،‬بل ألنها تعبر عن نمط كوني‪ ،‬تصفه النظرية‪،‬‬
‫للعالقة اإلحصائية بين العمليات التجريبية ونتائجها‪.‬‬
‫إن هذه االستراتيجية التي تهدف إلى إعطاء موضوعية للصدفة من خالل وساطة‬
‫بنية النظريات الفيزيائية القبولة ال تخلو مع ذلك من ضعف‪ .‬صحيح أن غياب الطابقة‬
‫أو التعرف على صلة محتملة مشاركة بين مقدمات ونتائج لم تعد تنسب إلى عدم كفاية‬
‫حالة راهنة لوسائلنا التكنولوجية‪ ،‬بقدر ما لم تعد تتعلق بالحدود الفروضة بواسطة‬
‫النظريات الفيزيائية على كافة البحوث التي تقودها لتكون ممكنة‪ .‬ولكن ال يجب أن يغيب‬
‫عن ذهننا أن النظرية الفيزيائية‪ ،‬مهما كانت درجة تأكيدها‪ ،‬فإنها تظل هشة‪ ،‬بل هشة‬
‫بشكل مضاعف‪ .‬فهي هشة بسبب التحديدية التحتية لنماذجها عبر حقل التجربة التي‬
‫ً‬
‫تحكمها‪ ،‬وهي كذلك أيضا بسبب إمكانية دحضها بواسطة التجارب التي تنتج بشكل‬
‫إهمال أو خطأ في هذا الحقل‪ .‬إن أقنمة الصدفة التي ص ّيرت موضوعية بواسطة‬
‫اليكانيك الكمومي أمر يعود بالنتيجة للوهلة األولى إلى تأسيس عقيدة مبنية على منهج‬
‫نظري ال حصريته مؤمنة ومؤكدة وال مستقبله‪ .‬إن منهج الفيزياء الكالسيكية‪ ،‬أي‬
‫استخدام العادالت التفاضلية ذات الحلول التحديدية بطريقة مشاركة من خالل‬
‫شروط بدئية‪ ،‬كان ييسر االعتقاد بتحديدية طبيعية‪ .‬ثم قاد منهج الفيزياء الكمومية‪ ،‬أي‬
‫معالجة البدائل وحاالت الضد‪ ،‬و"عالقات الريبة"‪ ،‬كما وسعة االحتمالية‪ ،‬إلى تيسير‬
‫االعتقاد بالتحديدية طبيعية‪ .‬هذا بانتظار تغيير جديد في النهج ال يمكننا استبعاده‬
‫ً‬
‫مسبقا‪.534‬‬
‫‪ 2 .8‬السياقية والالتحديدية‬
‫إن الدرس الذي يقدمه لنا اليكانيك الكمـ ـومي حـ ـول الصدفة يتبدى بالت ـ ـالي عند‬
‫التحليل األولي له أشبه بتعليم العرافين‪ .‬فما سبق وأشرنا له هو أننا لن نستطيع جعل‬

‫‪ 534‬حول هذه النقطة راجع‪L. Soler, "Les régularités phénoménales requiérent-elles une explication?", :‬‬
‫‪in M. Bitbol & S. Laugier (éd.), Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-‬‬
‫‪Diderot, 1997.‬‬
‫‪321‬‬
‫اليكانيك الكمومي‪ ،‬ال هو وال أية نظرية علمية أخرى‪ ،‬يستخدم كبرهان لصالح صدفة‬
‫"صحيحة" أو أنطولوجية ‪ .‬إن موضوعية الصدفة التي يعالجها تظل معلقة بتغير ممكن‬
‫ً‬
‫دائما لنمط الوضعة التي تعبر عنها شكالنية هذا العلم‪ .‬وحتى عندما نتمسك بمجال‬
‫ً‬
‫صحة اليكانيك الكمومي فإنه يكفي عمليا أن نغير مستوى النظرية الوضوعية لكي نغير‬
‫بشكل كبير التقدير والتقييم الذي يمكن أن نصل إليه فيما يخص الصفة الوضوعية أو‬
‫الذاتية للصدفة التي يواجهها‪ .‬فعلى سبيل الثال‪ ،‬إذا كان موقع الوضعة هو موقع‬
‫"التغيرات الخفية" في نظرية ديفيد بوم التي تعود إلى عام ‪ ،0964‬فإن التحديدية النتائج‬
‫التجريبية تنسب إلى صيرورة من الشواش التحديدي‪ ،535‬باألحرى من كونها تعود إلى‬
‫التوزعات اإلحصائية أو إلى موجهات الحالة التي تسمح بتوليدها‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫ً‬
‫القدرة الكشفية الاثلة في هذه النظرية األخيرة ليست معروفة كثيرا (أو لهذا "التفسير"‬
‫كما انتهى بوم نفسه إلى تسميته)‪ ،‬فإن محاولة افتراض أن قوانين الطبيعة‪ ،‬في مجال‬
‫ً‬
‫بحث حتى وإن كان محدودا‪ ،‬هي قوانين تحديدية يجازف بأن يصبح محاولة كبيرة من‬
‫جديد‪.‬‬
‫إن إمكانية بسيطة بأن تكون نظرية (أو "تفسير") مثل نظرية بوم صحيحة تكفي إلى‬
‫إيقاف عمل الحجة االحتمالية األقوى التي تقدم عادة في صالح فكرة أن اليكانيك‬
‫الكمومي يترجم "صدفة صحيحة" باألحرى من مجرد "صدفة جهل"‪ .‬إن هذه الحجة‬
‫ترتكز‪ ،‬ولنذكر بذلك‪ ،536‬على عدم صحة القاعدة العيارية‪ ،‬في الحالة العامة‪ ،‬لراكمة‬
‫ً‬
‫احتماالت األحداث التباعدة‪ ،‬أو أيضا على استحالة اختزال "حالة نقية" إلى "خليط‬
‫إحصائي"‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن النمط غير التباعدي للرابط االحتمالي الؤسس بواسطة‬
‫اليكانيك الكمومي بين األحداث التي تظهر بشكل تجريبي ال يتوافق مع التأكيد بأن هذه‬

‫‪D. Bohm & B. J. Hiley, The individed universe, Routledge, 1993, p. 24 -25. 535‬‬
‫‪M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997, 1, 536‬‬
‫‪3, 8.‬‬
‫‪322‬‬
‫األحداث تنتج من نفسها على الرغم من أننا كنا نجهلها‪ .‬وهو كذلك ليس أكثر توافقية مع‬
‫التأكيد األكثر نوعية ووفقه فإن متواليات من األحداث من هذا النوع تنشأ من ذاتها‬
‫تكون خاضعة لقانون تحديدي مجهول‪ .‬غير أن مثال نظرية بوم قد بين لنا أنه ليس ثمة‬
‫ما يمنع من تصور أنه توجد صيرورات تحتية‪ ،‬غير قابلة للظهور في كليتها على الستوى‬
‫التجريبي‪ ،‬والتي تخضع من جهتها إما بشكل مباشر إلى قوانين تحديدية أو إلى قوانين‬
‫احتمالية تتوافق مع مفهوم "صدفة الجهل"‪ .‬وضمن هذا النظور‪ ،‬فإن االنحرافات‬
‫الالحظة بين القواعد االحتمالية الكمومية والقواعد االحتمالية العيارية (التي تف َّسر‬
‫بعبارة "صدفة الجهل") يمكن أن تفهم أو تشرح من خالل تفاعالت متبادلة ولحظية بين‬
‫الصيرورات التحتية‪ ،‬و ‪ /‬أو من خالل التأثير الذي يجب أن تمارسه أدوات الكشف على‬
‫الصيرورات التحتية من أجل إنتاج األحداث التجريبية التي يحكم اليكانيك الكمومي‬
‫ّ‬
‫الالبتية أو‬ ‫احتماالتها‪ .‬وباإلجمال‪ ،‬فإن اليكانيك الكمومي ال يخرق البدأ العام في‬
‫الالحسمية لعلوم العشوائية‪ .‬وليس ثمة ش يء في بنية تنبؤات اليكانيك الكمومي ما يجبر‬
‫على التأكيد أنه على "مستوى نهائي أعلى" افتراض ي فإن الصدفة وحدها هي ما يحكم‬
‫األحداث الطبيعية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬وفي مقاربة تحليلية ثانية‪ ،‬إذا عرفنا أن نقرأ ما بين السطور في التأمالت‬
‫السابقة‪ ،‬فإن اليكانيك الكمومي يشتمل على درس هام وخال من الغموض في آن واحد‬
‫ً‬
‫فيما يخص الصدفة‪ .‬ألنه إذا كان صحيحا أننا ال نستطيع االستفادة منه من أجل طرح‬
‫أية أطروحة أنطولوجية (تتعلق بالكائن) فيما يخص السمة التحديدية أو غير التحديدية‬
‫لـ "قوانين الطبيعة"‪ ،‬فإننا نستطيع االرتكاز عليه من أجل تقديم مؤشرات ثمينة حول‬
‫موضوع حدود الخصوبة اإلبستمولوجية لبدأ السبب الكافي‪ .‬فمبدأ السبب الكافي لم‬
‫يعتبر كمبدأ خصب من قبل األجيال السابقة من الباحثين العلميين إال ألنه كان يدفعهم‬
‫ضم الظاهرات العروفة‪،‬‬ ‫إلى تصور شبكات من الصالت التشاركية التي تستطيع ّ‬
‫وتصميم نمط من التجارب التي تسمح بإثبات هذه الروابط وبالتالي تحديد صفوف من‬
‫‪323‬‬
‫الظاهرات الجديدة‪ .‬والحال أنه من المكن أن نبين (من خالل محاكمات ما فوق نظرية‬
‫‪ Métathéoriques‬باألحرى من كونها "ما بين نظرية" ‪ ،intrathéoriques‬هذه الرة) أن كل‬
‫نظرية تملك اإلمكانية الزودوجة في التحكم من خالل قوانين (يمكن أن تكون تحديدية)‬
‫ً‬
‫بالخصائص الذاتية لألشياء الفردانية‪ ،‬وأن تنتج التنبؤات الؤكدة مسبقا للميكانيك‬
‫الكمومي‪ ،‬لها ضمن تضميناتها الوصوليتها إلى تجربة الصيرورات التحديدية التحتية التي‬
‫تذكرها‪ .537‬إن الصيروات التحديدية التي تصيغها النظريات ذات التحوالت (أو باألحرى‬
‫ذات الصيرورات) الخفية ال تفتح ألي توسع كوني ظاهرات قابلة للتجريب‪.‬‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬فال عودة التحديدية وال وضع مفهوم للصدفة الذاتية في القدمة أمران‬
‫مستبعدان‪ ،‬أي غير خصبين‪ .‬فاليكانيك الكمومي ال يمنع حفظ مبدأ السبب الكافي‬
‫ً‬
‫وظيفته الثالية الناظمة والجردة في فضاء الثاليات الرياضية‪ ،‬لكنه يطرح حدودا أمام‬
‫استخدامه كدليل واقعي محسوس للبحث التجريبي‪ ،‬وهو بذلك يسحب من هذا البدأ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جزءا كبيرا مما كان يشكل قيمته في نظر كتاب ومفكري الثورة العلمية في القرن السابع‬
‫عشر‪.‬‬
‫إن قحط مبدأ السبب الكافي في سلوك بعض اللحظات من التقص ي العلمي ال يمنع‬
‫مع ذلك من استخدامه في الدرجة الثانية في بحث ارتدادي‪ ،‬أي في بحث حول أسباب‬
‫محله هو بالذات‪ .‬فلماذا أصبح هذا البدأ غير فعال بشكل مزدوج‪ ،‬وفق توجه تنبؤي‬
‫ً‬
‫وعاكس للتنبؤ في آن معا‪ ،‬وذلك في مجال الصحة النوعية للميكانيك الكمومي؟ ثمة‬
‫بمتناولنا بعض اإلجابات الوافية حول هذا السؤال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لنالحظ بداية أن كارل بوبر قدم تفسيرا مقبوال لعدم الخصوبة التنبؤية لبدأ السبب‬
‫الكافي في حالة العرفة ا لذاتية‪ .‬وكتب في هذا الجال‪" :‬لقد برهنا أن التنبؤ الذاتي أمر غير‬
‫ً‬
‫ممكن‪ ،‬وذلك صحيح أيضا في الحالة التي نتوصل فيها إلى بناء متنبئ يجمع كافة قدرات‬
‫ً‬
‫الذكاء الالبالس ي [‪ ،]...‬أي متنبئ يمثل منظومة فيزيائية يتم االعتراف عاليا بصفته‬

‫‪ ،M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, 537‬الصدر السابق‪ ،‬ص‪ 369 .‬ـ ‪.351‬‬
‫‪324‬‬
‫التحديدية‪ .‬كذلك فإنه من الصحيح أن برهاننا ال يمكن أن يستخدم لدحض التحديدية‪.‬‬
‫لكن يمكن استخدامه من أجل دحض التحديدية "العلمية" [‪ .]...‬ذلك ألنه إذا كان التنبؤ‬
‫ً‬
‫الذاتي مستحيال‪ ،‬فإنما ينجم عن ذلك أن التنبئ ال يستطيع أن يتنبأ بردود فعله على‬
‫محيطه الخاص [‪ "538.]...‬بعبارة أخرى‪ ،‬حتى في كون مفترض تحكمه قوانين التحديدية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن متنبئا ال يستطيع التنبؤ بالظاهرات إذا كان متضمنا بطريقة مبهمة جدا في إنتاجها‪.‬‬
‫ً‬
‫غير أننا نجد مكافئا لهذا الوضع من التضمين الفرط في الفيزياء الكمومية‪ ،‬حيث‬
‫ً‬
‫تكون أجهزة الكشف عن الظاهرات هي أيضا إشراطات النبثاق هذه الظاهرات‪ .‬إن‬
‫السمة البهمة للظاهرة ولوسائل ظهورها (إطارية الظاهرة) هي كما نعرف السمة الركزية‬
‫لألوضاع التجريبية والتي تهدف نظريات اليكانيك الكمومي إلى أخذها بعين االعتبار‪ .‬وهذا‬
‫ما يحصل بشكل مباشر في اليكانيك الكمومي العياري‪ ،‬ويترجم ذلك بتأثير آني للوسط‬
‫األداتي على الخصائص المثلة في النظريات ذات التحوالت الخفية من نمط نظرية بوم‪.‬‬
‫ً‬
‫وانطالقا من هذه النقطة فال بد من محاولة تفسير الالتنبؤية في الظاهرات الكوانتية من‬
‫خالل سياقيتها (التي أصبح ال مناص منها بسبب عدم التوافق الجزئي بين السياقات)‪.‬‬
‫كان هايزنبرغ قد استشف مثل هذه العالقة بين السياقية والالتنبؤية في عام ‪0941‬‬
‫في مقالة قدم فيها للمرة األولى العالقات التي سميت بعالقات "الريبة"‪ .539‬غير أن‬
‫ّ‬
‫الصور والحسوس لـ "تخلخل" ما‪ .‬والتخلخل غير‬ ‫السياقية تأخذ في هذا النص الشكل‬
‫القابل لالنضغاط والذي ال يمكن ضبطه بواسطة أداة القياس هو‪ ،‬وفق هايزنبرغ تلك‬
‫الفترة‪ ،‬ما يمنع معرفتنا بشكل كامل لجموعتين من التحوالت التي تشكل الحالة البدئية‬
‫لجسيم‪ ،‬وبالنتيجة يستنتج هايزنبرغ أن مبدأ السببية الذي يربط بشكل قسري حالة‬
‫بدئية بحالة نهائية يظل غير قابل للتطبيق في الفيزياء الكمومية‪ .‬ولألسف‪ ،‬فإن لصورة‬

‫‪K. Popper, L'univers irrésolu, Hermann, 1984, p. 66. 538‬‬


‫‪W. Heisenberg, "The physical content of quantum kinematics and mechanics", in J. A. Wheeler & 539‬‬
‫‪W. H. Zurek, Quantum theory and measurement, Princeton University Press, 1983.‬‬
‫‪325‬‬
‫ً‬
‫تخلخل الوضوع من خالل أداة القياس مانع كبير أيضا لم يغب عن بور وعن هايزنبرغ‪،‬‬
‫وأشار إليه فيما بعد كارل بوبر‪ .‬ففي العمق‪ ،‬تشتمل هذه الصورة على البدء بتشكيل‬
‫مشهد من كون من األشياء الزودة بخصائص جوهرية‪ ،‬ثم على تحريض التغييرات‬
‫التبادلة لهذه الخصائص من أجل تبرير استبعاد مفهوم الخاصية بعد حصوله وتعميم‬
‫مفهوم "الظاهرة" التاريخية‪ .‬وعبر هذا الفهوم‪ ،‬فإنه ال يتم ذكر تحريض تمثيل كون ذي‬
‫كينونات مزودة بتحديدات خاصة إال لغاية وحيدة هي البرهان على بطالن أو‪ ،‬ما يعبر عن‬
‫ً‬
‫األمر نفسه في اإلطار الذي ال يزال راسخا إلبستمولوجية تح ّققية‪ ،‬عدم إمكانية الوصول‬
‫من حيث البدأ‪.‬‬
‫إن صورة "التخلخل" تمثل في العمق لحظة "ميتا مستقرة" للتفكر حول اليكانيك‬
‫الكمومي‪ .‬وهي تدعونا إلى تجاوزها في اتجاهين متعاكسين‪ .‬فإما نأخذ على محمل الجد‬
‫ً‬
‫مقدمات القياس الخاصة بها ونحاول بناء نظرية موافقة تجريبيا للتحديدات التي ال‬
‫يمكن بلوغها التي نسلم بها‪ ،‬وتلك هي االستراتيجية (التي سبق وشرحناها) للنظريات ذات‬
‫التغيرات الخفية‪ .‬أو على العكس نأخذ بملء الجدية النتائج الكليانية لصورة التخلخل‪،‬‬
‫أال وهي الإنقسامية الظاهرة الكمومية‪ ،‬ونسبيتها غير القابلة للتجاوز لسياق تجريبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مصور‬ ‫ونقوم عندها بإعداد تصور للنظرية الفيزيائية التي ال تلجأ من بعد أبدا لتمثيل‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الفترضة للظاهرة‪ ،‬وهي االستراتيجية التي اعتمدها بور منذ عام‬ ‫للحظات الشكلة‬
‫‪ ،0936‬إنما ليس دون الكثير من الضعف والتردد‪.‬‬
‫ً‬
‫نستنتج بمتابعة االستراتيجية الثانية حتى نهايتها أنه يمكن تماما إقامة صلة شكلية‬
‫مباشرة بين الالتحديدية التنبؤية والسياقية‪ ،‬دون الحاجة إلى الوسيط الريب الذي‬
‫تزودنا به صورة التخلخل‪ .‬وقد نشرت غريت هرمان ‪ Grete Hermann‬منذ عام ‪0936‬‬
‫ً ّ‬
‫كتيبا لحت فيه إلى مثل هذا الرابط‪ .540‬فقد الحظت هذه الفيلسوفة األلانية الشابة في‬

‫‪ ،G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mecanique quantique, 540‬نقله إلى الفرنسية ‪A.‬‬
‫‪ Schnell‬بالتعاون مع ‪ ،L. Soler‬وكتب الدخل والتقديم والقدمة النقدية كل من سولر ‪ L. Soler‬وفرين ‪،Vrin‬‬
‫‪ ،0995‬ص‪.91 .‬‬
‫‪326‬‬
‫الواقع أن األسباب الحتملة لظاهرة كمومية ال يمكن أن تستخدم في التنبؤ بها‪ ،‬ألنه لم‬
‫ً‬
‫يتم أبدا تحديدها إال بعد وقوعها‪ ،‬وذلك بالنسبة إلى الظروف نفسها التي أدت إلنتاج‬
‫هذه الظاهرة أثناء القيام بقياس‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬تم وضع الصلة بين السياقية والالتنبؤية‬
‫بشكل صارم من خالل مبرهنة ديتوش ‪ -‬فيفرييه ‪ ،P. Destouches-Février‬ووفقها فإن‬
‫كل نظرية تنبؤية تعنى بظاهرة محددة بالنسبة لقرائن تجريبية يكون بعضها غير متوافق‬
‫على التبادل فيما بينها‪ ،‬هي نظرية "غير تحديدية بشكل جوهري"‪ .541‬إن الخمنة السابقة‪،‬‬
‫تفسر وفقها السياقية الميزة للوضع التجريبي الذي تواجهه الفيزياء الكمومية‬‫التي ّ‬
‫الالتحديدية التنبؤية‪ ،‬ترتكز بالتالي على أسس أكيدة‪.‬‬
‫بالقابل‪ ،‬من السهل البرهان أن هذه السياقية نفسها تجعل من إعادة تشكيل عكس‬
‫تنبؤية لسلسلة األسباب التي أمكن أن تؤدي إلى ظاهرة ما إعادة تشكيل باطلة (أو‬
‫تعسفية)‪ .‬إن إعادة بناء سلسلة األسباب التي ال تكون من حيث البدأ مجردة من‬
‫العالقات مع التجربة يعني في الواقع تأسيس متوالية الظاهرات التي تقود‪ ،‬عبر سلسلة‬
‫ً‬
‫الستنت َنت َجة تجريبيا‪ .‬لكن من‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫العدة إلى النتيجة‬ ‫مشاركة من األحداث‪ ،‬من السابقة‬
‫الفترض أن الظاهرة ال تحدد إال بالنسبة إلى سياق تجريبي واستخدامها الفعلي‪ .‬وبغياب‬
‫السياقات التجريبية الوسيطة القابلة للفعل‪ ،‬فإنه من غير الشروع استحضار ظاهرات‬
‫وسيطة‪ ،‬وهو في األكثر ما يسميه رايشنباخ‪" H. Reichenbach 542‬ما بين ظاهرات" تخيلية‪.‬‬
‫إن إعادة بناء عكس تنبؤية لهذا النمط تظل لذلك اتفاقية بحتة‪ ،‬ولن تكون إضافة إلى‬
‫ذلك متوافقة مع الخوارزمية االحتمالية للميكانيك الكمومي إال بشرط أن تكون متعددة‬
‫القيم‪.543‬‬

‫‪ .P. Destouches-Fevrier, La structure des théories physiques, P. U. F., 1951, p. 260-280 541‬إن هذه‬
‫ً‬
‫البرهنة (مثلها مثل القواعد االحتمالية في اليكانيك الكمومي العياري التي تعممها) متوافقة تماما مع وجود‬
‫نظريات ذات متغيرات (أو باألحرى ذات صيرورة) خفية‪ .‬وهي تهتم في الواقع فقط بالعالقة بين قابلية التنبؤ بين‬
‫الظاهرات‪ ،‬وليس بصيرورات محتملة غير قابلة للتجريب من حيث البدأ‪.‬‬
‫‪H. Reichenbach, Philosophic foundations of quantum mechanics, University of California Press, 1946. 542‬‬
‫‪ 543‬راجع القطعين ‪ 4‬ـ ‪ 4‬و ‪ 6‬ـ ‪.0‬‬
‫‪327‬‬
‫ً‬
‫باختصار‪ ،‬فإن فإن السياقية تجعل مبدأ السبب الكافي غير فاعل أو كيفيا‪ ،‬بحسب‬
‫ما نستخدمه بشكل تنبؤي أو عكس التنبؤي‪ .‬وهكذا فإنه يصبح عندها للصدفة‬
‫الوضوعية للفيزياء الكمومية‪ ،‬على الرغم من أنها ال تدعي أي أساس أنطولوجي‪ ،‬ميل‬
‫للبقاء مسلم به‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫خاتمة‬

‫"قل لي كيف تبحث‪ ،‬وسوف أخبرك بما‬


‫تبحث عنه"‬
‫ويتغنشتاين‪ ،‬مالحظات فلسفية‬
‫‪L. Wittgenstein, Remarques philosophiques‬‬

‫ما هو مستقبل الفيزياء؟ لم ينجح أي من الواقف العلنة خالل النقاشات حول‬


‫الواقعية العلمية في توليد تصور لتاريخ الفيزياء ولتطوراته القابلة للتنبؤ‪ .‬إن التصور‬
‫الذي قدمناه في هذا الكتاب عبر أشكاله األولية ال يشكل استثناء‪ ،‬كما رأينا منذ الفصل‬
‫ً‬
‫األول‪ .‬وهو يشتمل على مصراع سلبي وآخر إيجابي سوف نعيد تفحصهما واحدا بعد‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫أوال‪ .‬بمواجهة تطور اليكانيك الكمومي‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫تبين أن ثمن الحفاظ على‬ ‫الجانب السلبي‬
‫ً‬
‫واقعية للكينونات التقليدية في الفيزياء قد ارتفع كثيرا‪ .‬وبالنسبة للذين ليسوا مستعدين‬
‫لدفع هذا الثمن‪ ،‬هناك ثالثة خيارات على األقل مقدمة لهم‪ .‬خيار الواقعية البنيوية‪،‬‬
‫ً ً‬
‫ووفقها فإن الكفاية التجريبية الشاملة لنظرية علمية ال تشتمل على التوافق حدا حدا‬
‫ّ‬
‫وكلمة كلمة بين كينوناتها والشكالت الفردية للـ "عالم الحقيقي الخارجي"‪ ،‬بل فقط على‬
‫التماثل بين سماتها البنيوية الكبرى والهندسة العامة للطبيعة‪ .‬وخيار التجريبية البنائية‪،‬‬
‫الذي يشير إلى أن الباحثين العلميين ليسوا في الواقع بحاجة إلى االعتماد على ش يء آخر‪،‬‬
‫في معالجتهم اليومية للكينونات النظرية (مثل الجسيمات أو الحقول)‪ ،‬سوى على أسباب‬
‫براغماتية لالعتقاد بها‪ ،‬بل ببساطة على غياب سبب إلعادة التساؤل حولها (في كافة‬
‫ً‬
‫الواضع)‪ .‬وهناك أخيرا خيار شبه الواقعية الذي‪ ،‬مع اتخاذه إلجراء االرتباط بالوقف‬
‫السابق‪ ،‬فإنه ينأى ويتميز بفوارق دقيقة عنه‪ .‬وترتكز شبه الواقعية‪ ،‬في حركة انسحابها‬

‫‪329‬‬
‫اتجاه الالواقعية التي نشأت عنها‪ ،‬على االستنتاج أنه من وجهة نظر الباحث العلمي‪ ،‬فإن‬
‫التلطيفات والـ "كما لو" ال تلعب إذا جاز القول أي دور؛ وأنه من وجهة نظر الفيلسوف‪،‬‬
‫فإن التوكيد الذي وفقه ال تصح االلتزامات األنطولوجية للباحث "في الحقيقة" إال على‬
‫ً‬
‫نمط "كما لو" سيكون ميتافيزيائيا بقدر التوكيد العاكس‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن هذا الوقف الثالث‪ ،‬األنيق والتماسك جدا فلسفيا‪ ،‬هو مع ذلك موقف محفوف‬
‫بالخاطر‪ .‬ألنه‪ ،‬بدعوته إلى اعتماد وقفة تشبه أن يس يء فهم موقف شخص واقعي أصيل‬
‫للكينونات‪ ،‬من خالل ّ‬
‫تجمله بمجرد شبه ابتسامة من ليس بالغبي‪ ،‬وبالرونة الفائقة‬
‫لشخص ال تخيفه أية إعادة تشكيل أنطولوجية‪ ،‬فإن شبه الواقعي يجعل من الصعوبة‬
‫بمكان تجنب نسيان خط السير الذي قاده إلى ّ‬
‫توجهه الحاذق والدقيق‪ ،‬ويفتح هكذا درب‬
‫التراجع في الواقعية النزقة التي يستهجنها‪ .‬وهو يحرم نفسه إضافة إلى ذلك‪ ،‬دون وجود‬
‫رأي مخالف‪ ،‬من الصادر الجدلية التي تتوفر لالواقعي علمي من أجل كسر اإليمان‬
‫ً‬
‫األنطولوجي "للواقعيين الحقيقيين"‪ .‬لنأخذ مثاال على هذا النوع من الصادر‪ .‬ففي مواجهة‬
‫ً‬
‫حجج االحتمال التي يصغيها غالبا الواقعيون لصالح كينونات يقبلون بوجودها‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫الالواقعي يستطيع دائما بناء حجة احتمال أخرى بحيث يجعلها بشكل آلي أكثر قوة من‬
‫حجة خصمه‪ .‬ال يخطئ الواقعي بالتأكيد عندما يالحظ أن احتمال أن ت َح َّرض‬
‫ّ‬
‫استقصاءات متوجة بالنجاح بواسطة نظرية تسلم بكينونات ال توجد في الطبيعة يجب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أن يكون احتماال ضعيفا في الطلق (من باب أولى عندما تكون هذه النجاحات قابلة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫للتفسير بشكل منطقي كـ "اكتشاف" للكينونات السلم بها)‪ .‬غير أن الواقعيا من مدرسة‬
‫فان فراسين يستطيع بسهولة أن يجيب في كل األحوال‪ ،‬أن احتمال أن تكون نظرية‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تسلم بمجموعة معينة من الكينونات هي في آن واحد متجانسة تجريبيا وصحيحة هو‬
‫احتمال أضعف من احتمال أن تكون النظرية متجانسة ببساطة على الستوى التجريبي‪.‬‬
‫وهو بذلك إنما يسلط الضوء‪ ،‬من خالل لعبة جوابه نفسها‪ ،‬على أن بروز الواقعية‬
‫ً‬
‫العلمية ارتكز طويال على غياب بديل موثوق يمكن اعتماده‪.‬‬
‫‪331‬‬
‫ّ‬
‫يفسر ذلك أنني‪ ،‬مع تقديري لرهافة شبه الواقعية واألساس الجيد لالنتقادات التي‬
‫ً‬ ‫توجهها للنسخ العيارية من الالواقعية العلمية‪ّ ،‬‬
‫فضلت غالبا في هذا الكتاب اعتماد‬
‫الوقف النقدي الذي يشتمل على أن يعزو إلى أنطولوجيات النظريات العلمية حالة "كما‬
‫لو" ذات الوظيفة البراغماتية‪ .‬يجنبنا هذا الخيار على األقل حرمان أنفسنا منذ وقت‬
‫ً‬
‫مبكر جدا من الفعالية العالجية لألدوات الالواقعية في البرهان‪ ،‬بمواجهة التسهيالت‬
‫التولدة باستمرار من "الواقعية العفوية للعالم"‪.‬‬
‫ولكن ما أن يتم اختيار خيار الواقعية منهجية فإنه يجب الض ي حتى نهاية نتائجها‪.‬‬
‫يذكرنا بطريقة ّ‬‫ّ‬
‫ملحة الفالسفة الذين يدعمون الواقعية العلمية‪ ]...[" ،‬فمن‬ ‫ألنه كما‬
‫ّ‬
‫مفصل‪ ."544‬يمكننا‬ ‫أجل تكوين بديل جدي‪ ،‬ال ّبد من بسط أنطولوجيا للـ «كما لو» بشكل‬
‫تجنب بصعوبة التخلي عن لوحة من الحاالت والظروف التي يقدم فيها البحث‬‫بالتالي أن ن ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العلمي أسبابا براغماتية جيدة لالعتقاد بنظام كينونات نظرية‪ .‬ولن يكون مهما‪ ،‬مع ش يء‬
‫ً‬
‫من التحفظ وفقا للتوجه نفسه الذي يهدف وفقه مثل هذا التمثيل إلى دعمه‪ ،‬أن ننسب‬
‫ً‬
‫له زيادة سوى وظيفة إرشادية أو عالجية (فلسفيا)‪.‬‬
‫وهاكم مثال على ذلك‪ .‬لدينا أسباب براغماتية جيدة لالعتقاد بمنظومة كينونات‪،‬‬
‫دون أن تكون االنعكاس الوفي لواقع مسبق التشكل‪ ،‬إذا كانت هذه النظومة تتوصل إلى‬
‫إسقاط مناطق االستقرار (أو الالتغير) في الكثير من العقد الرجعية‪ ،‬هذه الناطق التي‬
‫ً‬
‫يفترضها مسبقا نشاط استكشافي منظم وفعال‪ .‬تتميز مثل هذه الطريقة في اإلسقاط بأنها‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫والعززة بإجراءات تأكيد تجريبية‪ ،‬بأن تصبح أجساما‬ ‫تسمح لناطق الالتغير التوقعة‪،‬‬
‫ذات توافق بين ذاتي‪ .‬ال يتعلق األمر هنا بأن نتجاهل أن انبثاق مناطق استقرار يمكن أن‬
‫ً‬
‫يتعلق بماذا يطبق النشاط االستكشافي‪ .‬فهذا النشاط يجب أن يتعلق أيضا مع ذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫ويتصل اتصاال ال انفصام فيه‪ ،‬بطبيعة هذا النشاط؛ وهو يرتبط أيضا بعمل طريقة‬
‫االتصال بين الجربين‪ ،‬طالا أنه من الصحيح أن تمييز ّ‬
‫وتفرد أجزاء مستقرة على خلفية‬
‫‪544‬‬
‫‪H. De Regt, Representing the world by scientific theories, Tilburg University Press, 1994.‬‬
‫‪331‬‬
‫ً‬
‫من الالإستقرارية من خالل إشارات ذات وظيفة مرجعية أمر ليس قابال للتصور بصورة‬
‫ّ‬
‫مجردة ‪ ،in abstracto‬دون اعتبار للقيود الفروضة بواسطة مجتمع التحدثين القابلين‬
‫الستخدام هذه اإلشارات‪ .‬ولكن ضمن القدر نفسه لهذا االرتباط الزدوج‪ ،‬ولسمته غير‬
‫القابلة للفصل‪ ،‬فإن اإلجراء التشفيري الثنائي الستخدم من أجل عرضه ("بماذا"‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونشاط‪ّ ،‬‬
‫معرفان مسبقا حسب الظاهر) يصبح مشكوكا فيه‪ .‬يجب بالتالي محاولة صياغة‬
‫ً‬
‫أخرى‪ .‬فإذا كانت منظومة من الكينونات النظرية تترجم شيئا ما‪ ،‬فهو ليس "الواقع ‪-‬‬
‫ً‬
‫الحقيقة" كلي الحضور (الحاضر كثيرا‪ ،‬وفق استعارة القرب العمي) بقدر ما هو نمطه‬
‫َّ‬
‫الحالي في التقسيم إلى أداة استكشاف وتحري‪ ،‬وإلى مجال معلم للبحث والتقص ي؛ فهو‬
‫ليس "الواقع" بمجمله بقدر ما هو الحالة الحاضرة للقطبية الحاملة للمعنى التي تتأسس‬
‫فيها بين هذا الذي إنما نعرف مقدرة االعتماد عليه (مجموعة دنيا من االفتراضات‬
‫السبقة التي تتعلق باألدوات واالتصال) وموضوع السؤال (هدف البحث)‪ .‬ووفق هذا‬
‫التصور‪ ،‬فإن شبكة الصطلحات الرتبطة بالكينونات النظرية ال تهدف إلى الداللة على‬
‫ً‬
‫مجموعة من األجسام أو األشياء العطاة مسبقا وعلى التنبؤ بخصائصها‪ ،‬بل على التعبير‪،‬‬
‫ً‬
‫بعبارات توافق فيما يخص شيئا ما‪ ،‬مرحلة من الصيرورات الديناميكية الشاركة في‬
‫تحقيق االستقرار لإلجراءات العلمياتية للتجريب‪ ،‬وللظاهرات التي تحرضها والنظريات‬
‫التي تقودها‪.‬‬
‫إن العرض السابق ألسباب االعتقاد بمنظومة من الكينونات‪ ،‬التبادلية بالنسبة‬
‫للتمثيل الشترك لتوافق ما‪ ،‬يشتمل على نسخة إبستمولوجية للـ "منعطف البراغماتي"‬
‫للفلسفة العاصرة للغة؛ "منعطف" يشتمل على التشكيك بأولوية وتفوق الداللية‬
‫‪ sémantique‬الرجعية‪ ،‬وذلك بإدراجها في اإلطار ّ‬
‫األعم لعايير التحقق من صحة أعمال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الخطاب‪ .545‬إن هذا التمثيل نفسه ّ‬
‫يمد إلى علوم الطبيعة نمطا ديناميكيا من التمييز‪،‬‬
‫ً‬
‫كان معروفا منذ زمن بعيد في العلوم التاريخية‪ ،‬بين موضوع (أو هدف) التقص ي والوسط‬

‫‪ 545‬راجع ‪K. O. Apel, Le Logos propre au langage humain, Edition de l'Eclat, 1994.‬‬
‫‪332‬‬
‫الذي فيه وبواسطته إنما يتم هذا البحث‪ .‬وكما كتب غادامر ‪" ،H. G. Gadamer‬ليس إال‬
‫ّ‬
‫من خالل تحريض اإلشكالية إنما توصل كل من موضوع وهدف البحث إلى التشكل‪.‬‬
‫فالبحث التاريخي محمول بالتالي بواسطة الحركة التاريخية التي تشمل الحياة نفسها‬
‫ً‬
‫والتي ال يمكن االستحواذ عليها انطالقا من الوضوع الذي يتوجه له البحث‪ ."546‬إن إعادة‬
‫صياغة مقبولة لهذه العبارة لغادامر بالنسبة لعلوم الطبيعة تأتي على النحو التالي‪" :‬ليس‬
‫الحدد بواسطة نظرية ما إنما يصل كل من موضوع وهدف‬ ‫َّ‬ ‫إال عبر التوجيه العملياتي‬
‫البحث ألن يصبحا مقيدين‪ .‬فعلوم الطبيعة محمولة بالتالي بواسطة حركة تاريخية من‬
‫التحديدات الشتركة للنظريات والعقليات العملياتية للتجريب‪ ،‬وهي ال يمكن بالتالي أن‬
‫ً‬
‫انطالقا من الوضوع الذي ّ‬ ‫ً‬
‫يتوجه له البحث"‪ .‬وكما أن "الحاضر ومنافعه‬ ‫تستحوذ الهوتيا‬
‫الخاصة‪ "547‬يساهم بطريقة حاسمة في تشكيل موضوع العلوم اإلنسانية‪ ،‬فإننا نميل إلى‬
‫القول إن الشكل الحالي لالنشقاق بين التقنية األداتية الدمجة في أشكال حياة األفراد ‪-‬‬
‫مؤسس لنظومة‬ ‫الستكشفين والجال القابل الستكشاف هذه التقنية هو انشقاق ّ‬
‫أجسام ومواضيع العلوم الفيزيائية‪ .‬هكذا أفهم عبارة ويتغنشتاين القتبسة في مطلع هذه‬
‫الخاتمة‪ " :‬قل لي كيف تبحث‪ ،‬وسوف أخبرك بما تبحث عنه"‪ .‬من الثير لالهتمام أن‬
‫نالحظ أن العزوف الذي واجه به في الاض ي كثير من الختصين في العلوم اإلنسانية‬
‫االعتراف بمثل هذه القرابة بين مناهجهم وعلوم الطبيعة يعود إلى اعتقادهم الثابت‬
‫(وشبه السائد) بتالق متقارب لعلوم الطبيعة باتجاه البنية العقول تشكلها بشكل مسبق‬
‫للواقع‪ .‬لم يستبعد غادامر نفسه محاولة تطبيق نموذجه في تشكيل موضوع العلوم‬
‫التاريخية على علوم الطبيعة إال باسم رؤية "متالقية ومتقاربة" لهذه األخيرة‪" :‬إن هوية‬
‫موضوع البحث والتقص ي العمول به في العلوم اإلنسانية ليس بالتأكيد الوضوع الذي‬
‫يجب اعتماده في العنى نفسه في علوم الطبيعة‪ ،‬حيث يدخل البحث إلى طبعيته بشكل‬

‫‪H. G. Gadamer, Vérité et méthode, Seuil, 1976, p. 124. 546‬‬


‫‪ 547‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫ً‬
‫أكثر فأكثر عمقا‪ ."548‬إن االختالف الكبير الذي اكتشفه غادامر بين العلوم الطبيعية‬
‫والعلوم التاريخية هو أن األولى يمكنها وفقه تحديد موضوعها‪ ،‬على طريقة بيرس ي ‪،Peirce‬‬
‫ً‬
‫مثل "الذي سوف يصبح معروفا إذا اكتملت معرفة الطبيعة"؛ في حين أن التاريخ‬
‫تصور معرفته كمعرفة منتهية وال يستطيع بالتالي اعتبار موضوعه‬ ‫يصطدم باستحالة ّ‬
‫كنقطة الهروب الوحيدة والثابتة لوجهته‪ .‬إن نقد مفهوم تالقي مستقبل العلوم‬
‫ً‬
‫الفيزيائية‪ ،‬كالذي تمت إثارته في الفصل األول‪ ،‬يأتي تأثيره بالتالي مضادا في تشكيل فجوة‬
‫كبيرة في الجدار الرتفع بين العلوم البشرية وعلوم الطبيعة‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى جاء اقتراح فتح فجوة أخرى في هذا الجدار في نهاية الفصل الثاني‪،‬‬
‫عندما َّ‬
‫تبين أن النطق النهجي الذي لدينا عادة في التمييز بين علوم الطبيعة والعلوم‬
‫اإلنسانية لم يصمد‪ .‬فخالل القرن النصرم وجهت انتقادات كثيرة للتصور التقليدي‬
‫الذي يجعل من العلوم اإلنسانية الحقل الغلق لتطبيق حصري للمنهج اإلرشادي‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التشاركي؛ ومن الواضح أن النهج الوضوعي يستطيع أن يلعب دورا هاما في ديناميكية‬
‫التفسير الذاتي التي تطبقها العلوم البشرية‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فإن الثال الناظم لـ "رؤية من‬
‫ال مكان" عالية في علوم الطبيعة اصطدم بمعاينة التوتر التزايد بين أشكالها األكثر‬
‫َ‬
‫الوض َعة كلي الشمول الذي نستمر بإرادة إدراجها فيه‪ .‬إن الكثير من‬ ‫حداثة وبرنامج‬
‫مسائل "تفسير" الفيزياء الكمومية يمكن اعتباره كتعبير عن هذا التوتر‪ ،‬وقد رأينا (بشكل‬
‫خاص في الفصل الرابع) كيف أن إدخال مركبة إبستمولوجية تشاركية‪ ،‬تحتل مكانها‬
‫ً‬
‫تماما في تفسير األطر اإلدراكية‪ ،‬أمكن أن يساعد في حلها أو إنهائها‪ .‬وباإلجمال‪ ،‬فإن‬
‫الشرخ بالنتيجة هو شرخ بين منهج تأويلي (أو تشاركي) ومنهج موضوعاني ال يغطي بأية‬
‫طريقة التمييز األكاديمي بين العلوم البشرية وعلوم الطبيعة‪ .‬إن هذا االنشقاق في الناهج‬
‫يشير في الواقع إلى تعارض متأصل في كل مشروع معرفة‪ ،‬يحاول أن يوازن "القرب العمي"‬
‫مما يجب معرفته بإعداد قطاعات من السافات الفاصلة الوضوعانية‪ ،‬إنما الذي يكون‬

‫‪ 548‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫عليه فيما بعد أن يأخذ على عاتقه الفجوات التي تتركها الوضوعانية عند كل مرحلة من‬
‫مراحلها بإعادة إدخال مركبات تشاركية في تقريره‪ .‬إن االختالف الوحيد الذي يظهر حول‬
‫هذه النقطة بين العلوم اإلنسانية والعلوم الطبيعية هو أن هذه األخيرة استطاعت‬
‫تحديد قطاع من السافات الفاصلة الوضوعانية الستقرة كفاية والواسعة كفاية‬
‫(بشكل خاص قطاع الفيزياء الكالسيكية) لكي تستطيع طرح سؤال عدم كمالها بين‬
‫قوسين عبر عدة قرون‪ .‬إن النقاش حول اليكانيك الكمومي يمكن أن تتم قراءته ضمن‬
‫كتجل لعودة هذا الكبوت العرفي (راجع الفقرة ‪.)2 - 1‬‬
‫ٍ‬ ‫هذا النظور‬
‫لنتناول اآلن الجانب اإليجابي من تصور ومفهوم تاريخ علوم الطبيعة الذي تم الدفاع‬
‫عنه هنا‪.‬‬
‫كنا حتى اآلن قد نوهنا بشكل خاص وبطريقة متجددة عن الخطأ الذي يشتمل على‬
‫الخلط بين التركيز باتجاه قطب ‪ -‬موضوع التحديدات التعلقة بصف معين من األدوات‬
‫التكنولوجية‪ ،‬التدرجة والحسية‪ ،‬مع التالقي عبر ‪ -‬النماذجي وعبر ‪ -‬األداتي للمعارف‬
‫ّ‬
‫الوضع للمعرفة وجدا‬ ‫العلمية باتجاه مطلق ما‪ .‬إن الوسط (العمي من القرب) والهدف‬
‫نفسيهما منفصلين بشكل ال يمكن إصالحه أكثر من أي وقت مض ى‪ .‬مع ذلك‪ ،‬إذا قبلنا أن‬
‫النظريات العلمية التالحقة‪ ،‬ليس فقط ال تمثل في لحظة معطاة الوسط الحقيقي الذي‬
‫ً‬
‫(بدال باألحرى من الذي عليه) َّ‬
‫يطبق النشاط التجريبي‪ ،‬بل وال تتالقى حتى باتجاه‬ ‫فيه‬
‫ً‬
‫بنيتها السبقة الزعومة؛ فإذا ما "[‪ ]...‬أصبحنا واعين تماما‪ ،‬عبر مماثلة عميقة للثورة‬
‫الكانطية‪ ،‬لغرور األمل الساذج بأن الفكر اإلنساني سيستطيع‪ ،‬بشكل مقارب‪ ،‬عبر‬
‫تقريبات متتالية‪ ،‬االقتراب من معرفة "مطلقة" للواقع «كما هو بذاته»‪ ،"549‬عندها يحق‬
‫لنا أن نتساءل حول الغزى الذي ال يزال بإمكاننا نسبه لـ "تقدم العلوم"‪.‬‬
‫ربما تكمن الصعوبة ليس في واقع أن هذه العبارة‪ ،‬الستهلكة عبر التعسف الوضعي‪،‬‬
‫قد أفرغت في نهاية الطاف من كامل معناها‪ ،‬بل باألحرى في تضاعف وفي سمة الصراع‬

‫‪M. Mugur-Schachter, "Space-time quantum probabilities II: Relativized descriptions and 549‬‬
‫‪popperian propensities", Foundations of physics, 22, p. 235-312, 1992.‬‬
‫‪335‬‬
‫الكمونية لهذه العاني القبولة‪ .‬فلهذه العبارة في البداية معنى عددي وقياس ي‪ ،‬هو بال شك‬
‫العنى الوحيد الذي يستطيع االضطالع بشكل شرعي بفكرة نهج مقارب‪ :‬إن تقييمات‬
‫الثوابت والعامالت التي تدخل في توقع آثار النشاطات العملياتية البشرية تتالقى باتجاه‬
‫ّ‬
‫دقة قصوى (تخضع عند االقتضاء لتحديدات مبدئية)‪ .‬وللعبارة من ثم داللة إضافية في‬
‫التوسع غير الحدد‪ :‬فلنا الحق في التأكيد بأن النظريات العلمية لها مجال تطبيق يتقاطع‬
‫مع كل من ثوراتها‪ ،‬حتى وإن كنا ال نستطيع أن نحدد إال بعد ذلك ماذا كانت الحدود‬
‫ً‬
‫والعوائق السابقة‪ .‬وأخيرا‪ ،‬وربما على األخص‪ ،‬فإن عبارة "التقدم العلمي" تعيدنا إلى‬
‫القدرة التوحيدية التنامية للنظريات‪ ،‬ولقدرتها على اشتقاق تنوع كبير من التنبؤات‬
‫ً‬
‫التجريبية انطالقا من عدد قليل من البديهيات والفاهيم الرتبطة بها والقيم التجريبية‬
‫من الثوابت الكونية‪ .‬وهي تشير‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬إلى فعالية متزايدة في مجال إدارة‬
‫"التعقيد الخوارزمي"‪ ،‬أي إلى انخفاض في الطول األدنى من الخوارزميات القابلة إلعادة‬
‫الوسع مع ذلك للعمليات التجريبية‪ .‬إن الشكلة‪ ،‬الكامنة في‬ ‫َّ‬ ‫إنتاج نتائج الصف‬
‫التمييزات السابقة‪ ،‬هي للوهلة األولى أن هذه التعابير الختلفة لـ "تقدم للعلوم" ليست‬
‫ً‬
‫متوافقة بالضرورة في كل مكان ودائما‪ .‬ما هي الضمانة التي لدينا بأن اختزال طول‬
‫الخوارزميات النتجة هو في كل الحاالت قابل للتوافق مع االهتمام بدقة وكمال‬
‫متزايدين؟ كيف نستطيع أن نكون متيقنين من أن جدلية التخصص والتوحيد النظري‪،‬‬
‫ً‬
‫التوازنة حتى اآلن‪ ،‬لن تصادف يوما ما عقبة ستؤدي إلى تشتت نهائي لحقول الصالحية؟‬
‫إن مثل هذه الشكوك‪ ،‬التي رعاها تفجر موضوع "تقدم العلوم"‪ ،‬تجازف بأن تعاش‬
‫كشكوك من الصعب قبولها من قبل معظم الذين عملوا في الشروع العلمي‪ .‬إن الحجة‬
‫بكشف يتم في‬
‫ٍ‬ ‫القصوى للواقعية هي كما نعلم من رتبة تحفيزية‪ ،‬بل وأخالقية‪ .‬إن األمل‬
‫نهاية البحث هو ما يكمن وراء جدية االلتزام األنطولوجي للباحثين فيما يخص كينوناتهم‬
‫النظرية‪ .‬والصرامة التي يتطلبها التفحص النقدي او النقاش الجماعي للنتائج التجريبية‬
‫تظهر في االعتقاد بهدف للبحث التجاوز للحاجات الوحيدة للزمن الحاضر؛ اعتقاد له‬
‫‪336‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك ميزة أن يقدم بالقابل الشعور بضمانة رؤية اندغام بعد فترة طالت أم‬
‫ّ‬
‫قصرت الركبات الثالثة من الدقة والتوسع والتوحيد لـ "تقدم العلوم"‪ ،‬كما سبق أن‬
‫اندمجت في بعض األحيان بطريقة مدهشة في الاض ي‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬فإن الخطابات‬
‫ً‬
‫والتطبيقات التي يتألف منها النشاط العلمي تعمل دائما ضمن أفق مشروع يتجاوزها‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الشروع يشكل عملياتها‪ ،‬ولن نستطيع عزله عنها دون أن تتأثر فعاليتها تأثرا كبيرا‪ .‬وبسبب‬
‫ذلك‪ ،‬هنالك خشية منتشرة أنه دون الثال الناظم المنوح لها من خالل تمثيل مصادرة‬
‫ّ‬
‫معرفية نهائية‪ ،‬فإن خيارات وسلوك الجتمع العلمي ينحط في هذه "[‪ ]...‬التجريبية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجردة من أي معنى‪ "550‬ومن أي مستقبل والتي كان أينشتين قد حذر منها‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬فإن هذه الطريقة نفسها في عرض األمور تحمل في ذاتها بذرة التناقض‪.‬‬
‫أفال يكفي التفكير أن الهدف التجاوزي ليس له أي تبرير سوى وظيفته التحفيزية من‬
‫أجل نزع قوته الحفزة؟ أليس من األساس ي لقوة التحفيز أنها ال تدرك فقط كتحفيز؟ ومع‬
‫إرادتنا الجمع بين التحفيز والبصيرة‪ ،‬أال نحكم على أنفسنا بحالة فصام جمعي يكون من‬
‫السموح لبعضهم فيها (العلماء) أن يحافظوا على معتقدات هي بمثابة خط األفق‬
‫بالنسبة لهم‪ ،‬في حين أن آخرين (الفالسفة) تكون مهمتهم البرهان على ابتذالها وتحديد‬
‫مزاعم العرفة بالتأصل البحت لنشاط أداتي وتمهيدي؟ هل يجب عندها‪ ،‬من أجل دمج‬
‫البصيرة مع التحفيز في الشخص الوحيد للباحث العلمي‪ ،‬تعديل مجرى تأهيله بالتركيز‬
‫أكثر فأكثر على البراعة والسيطرة على مجموعة من خيارات الفعل ذات االمتداد التزايد‪،‬‬
‫وأقل فأقل على التبرير الفترض لهذه الخيارات من خالل االستحواذ النهائي على تشكل‬
‫الوضوعات؛ أكثر فأكثر مباشرة على األخالق والسياسة‪ ،‬وأقل فأقل على البدائل‬
‫اليتافيزيائية للسلوك األخالقي ‪ -‬السياس ي؟‬

‫‪ 550‬من رسالة إلى سولوفين ‪ Lettre à Solovine‬بتاريخ ‪ 0‬كانون الثاني ‪ ،0960‬ذكرها فاين في‪A. Fine, The :‬‬
‫‪shaky game, The University of Chicago Press, 1986, p. 110.‬‬
‫‪337‬‬
‫ً‬ ‫االقتراح جدير باالستماع له‪ ،‬إذ يكفي أنه ّ‬
‫يعبر عن وضوح لن نستطيع قريبا تجاوزه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في سلوك الشروع االجتماعي؛ بل يمض ي هذا االقتراح بال أدنى شك بعيدا جدا في‬
‫تشاؤمه الفترض‪ .‬ألنه‪ ،‬حتى لو افترضنا أننا تخلينا عن هدف تجاوزي‪ ،‬فقد رأينا في‬
‫ً‬
‫القطع ‪ 0 - 1‬أنه من المكن أن نعزو لعبارة "تقدم العلوم" معنى آخر مختلف تماما عن‬
‫ً‬
‫معنى انفجار احتماالت التصرف الفعال‪ ،‬أكان متناسبا أم ال مع توحيد شكلي واصطالحي‬
‫ً‬
‫متزايد‪ .‬فإذا لم تكن العلوم قادرة على تعليمنا شيئا فيما يخص الوسط الحقيقي ‪/‬‬
‫الواقعي الذي يتم فيه النشاط التجريبي‪ ،‬بل فقط أن تربط الصالت الجديدة الناشئة‬
‫عن هذا النشاط فيما بينها‪ ،‬وإذا كان تحسين منظومات العالقات التي عليها إنما تحمل‬
‫هذه العلوم لم تؤخذ كمقاربة للمطلق‪ ،‬وإذا كان إجراء "الوضعانية" الذي تمارسه ال‬
‫يجب بأي ثمن كان أن يخلط مع مصادرة موضوع كان قد سبق تطبيقه‪ ،‬فإنها ال تحمل‬
‫بدرجة أقل قدرة هائلة من التوضيح االنعكاس ي‪ .‬إن توسع وتعميم قدرات االستكشاف‬
‫التي على النظريات الفيزيائية أخذها بعين االعتبار تجبر على شرح شروط مسبقة أولية‬
‫للبحث كانت تعتبر حتى اآلن واضحة بما هي جزء من خبرة عملية البحث‪ .‬إن هذا‬
‫االقتراح يقود إلى إصالح تدريجي للمنسيات الكبرى في الخلفية العرفية واإلدراكية‪ ،‬والتي‬
‫كانت قد سهلتها تكرارات الحياة اليومية وضرورات التماسك االجتماعي‪ ،‬ضمن إطار من‬
‫حرية التقص ي أكثر محدودية بكثير من الذي يسود في أيامنا هذه‪ .‬إن إثبات وجود توتر أو‬
‫ّ‬
‫شد في العلوم الفيزيائية باتجاه القاسم الشترك البنيوي األصغر للمفترضات السبقة التي‬
‫تكمن وراء العمليات التجريبية وتوقع نتائجها يسمح بالقابل بتفسير النجاحات السابقة‬
‫ً‬
‫الشتركة مع عمليات التوحيد النظري والدراسات الختصة‪ .‬وهو يعطي معنى أيضا‬
‫للمحافظة على الثقة في التوازن الستقبلي للجدلية بين التخصصية والتوسع والتوحيد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أبدا إلى فكرة تناغم َّ‬
‫مؤسس مسبقا بين شكل الحقيقي وقدرة التأليف لدى‬ ‫دون اللجوء‬
‫الفهم اإلنساني‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وهكذا‪ ،‬حتى إذا لم تتالق العلوم باتجاه إشكالية بنية مشكلة مسبقا لواقع مستقل‪،‬‬
‫فإنها تبرز بنى يمكن لتحليل "ميتا عبر مناهجي" (وفق العنى الذي يشير له غرانجر‪ ،‬راجع‬
‫القطع ‪ )6-0‬أن يتعرف عليها على أنها بنى العقالنيات الكبيرة اإلجرائية التي تكمن وراء‬
‫مشروعها‪ .‬وحتى إذا لم تمل أو تتجه باتجاه ما كانت تعتقد أنها غاياتها الوضعانية‪ ،‬فإنها‬
‫تقود بصرامة الفكر الفلسفي باتجاه الكشف عن أصولها األدائية‪ .‬وضمن هذه‬
‫ً‬ ‫الصيرورة‪ ،‬فإنه ال تطرح في أية لحظة مسألة أن َّ‬
‫تعد العلوم نفسها موضوعا للعلم؛ فهي‬
‫تحافظ على موضوعاتها النوعية‪ .‬غير أنه يحصل أن هذه األخيرة تخدم كمساحات‬
‫َّ‬
‫"عاكسة" تساعد بشكل غير مباشر على تمييز الطبقات التراكبة لخلفيتها الشكلة لها‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬يلقى ضوء جديد غير مسبوق على الجدل حول الواقعية العلمية‪ ،‬مما يقود‬
‫إلى عودة ساخرة للتفضيل الذي أعطي في السابق لشكل من الالواقعية النهجية‬
‫والعالجية‪ .‬وهذا ليس إال ألن عالجية ما ال يجب أن ت َ‬
‫تابع إلى ما بعد الدة الضرورية‬
‫للحصول على أثرها الطلوب‪ .‬فأن نؤكد‪ ،‬في إطار فكر العقالني‪ ،‬أن علوم الطبيعة هي‬
‫نشاط بشري بين نشاطات أخرى وأن األمل بتحقيق "اكتشاف" مواضيع مجهولة ليس له‬
‫وظيفة سوى تشكيل سراب يحث الباحثين على التقدم في صياغة بنى جديدة ذات‬
‫وظيفة كشفية وتطبيقية‪ ،‬أمر يعود إلى ّ‬
‫تبصر اليتافيزياء وإلى عالج اليوتوبيات‪ .‬غير أن‬
‫ذلك يعود في الوقت نفسه إلى إصدار حكم ذي قيمة سلبية على مواضيع البحث‬
‫والتقص ي قابل ألن يردع عملية جمع الغنى االنعكاس ي الحتمل منها‪ .‬إن الواضيع الشار‬
‫ً‬
‫إليها بواسطة نظرية ما يمكن أن تتطابق تماما مع إسقاطات لعمليات التشكيل الشترك‬
‫لشبكة متساوقة من التطبيقات والقاومات بقدر ما ّ‬
‫تحرض منها‪ .‬فإذا كان اإلسقاط قد‬
‫تم تنفيذه بشكل صحيح‪ ،‬فإنه ال يحمل نسبة أقل من العلومات الثمينة حول ما تم‬
‫إسقاطه‪ .‬فعدم االنتباه لواضيع نظرية بحجة أنها ليست سوى إسقاطات يؤدي بالتالي إلى‬
‫ّ‬
‫إهمال مصدر ثمين للمعلومات وربما وحيد حول النشاط الشكل الذي كنا مع ذلك قد‬
‫ً‬
‫عبثا بالتالي شجب نقص ّ‬
‫تبصر زميله‬ ‫قبلنا أوليته وأسبقيته‪ .‬فالباحث الالواقعي يحاول‬
‫‪339‬‬
‫ً‬
‫الواقعي فيما يخص طبيعة مواضيعه‪ ،‬فهو يقدم له خدمة سيئة‪ ،‬ليس فقط مهنيا بل‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وأيضا فلسفيا‪ ،‬بمحاولة جعله يقبل بأن جهده إنما هو لهذا السبب غير معلل‪ .‬وعلى‬
‫العكس‪ ،‬فإن موقف الواقعية العلمية يتميز بأفضلية أنها تدعو‪ ،‬حتى لو كان الثمن‬
‫سذاجة أنطولوجية‪ ،‬إلى موقف أخذ البنى الكاشفة للنظريات العلمية على محمل الجد‪.‬‬
‫ً‬
‫فالباحث الواقعي عبثا يفضح عدم قدرته على تجنب "الوهم التجاوزي" عندما يأخذ ما‬
‫ينحو باتجاهه بشكل حرفي‪ ،‬فهو محق في التمسك بأن جهده ليس سدى‪ .‬إن اليل باتجاه‬
‫الكشف عن شروط العمل اإلنساني في التحويل وفي األهلية الرمزية في قلب مسكنه غير‬
‫ً‬ ‫ال ّ‬
‫ؤهل‪ ،‬بدفع هذا العمل حتى تخومه الخاصة‪ ،‬هو ميل ال يعني شيئا‪.‬‬
‫ً‬
‫يستطيع الباحث الواقعي دائما‪ ،‬حتى إذا كان مشروعه البدئي في الكشف وفي‬
‫َّ‬
‫التصور)‪ ،‬أن يعتمد على أنه قاد‬ ‫الحاكاة يتبدى بال موضوع (بالعنى الخاص كما وبالعنى‬
‫ً‬
‫العلوم حتى مستوى إتمام اإلنجاز حيث يصبح توضيحها الذاتي أمرا ال مفر منه وسهال في‬
‫آن واحد‪ .‬وإذا كنا نلومه لالنعطاف الكبير الذي قاد تاريخ الفكر إليه لكي يصل إلى هنا‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنه ال تزال لديه الصادر لإللاع إلى أن التوضيح الذاتي يشكل جزءا من هذه الحاالت‬
‫التي "[‪ ]...‬يبدو أن من خاصيتها عدم القدرة على التحقق إال بما هي آثار جانبية من‬
‫األفعال التي يتم القيام بها لغايات أخرى [‪ ]...‬ألن واقع [أن نحاول الوصول إليها] هو‬
‫نفسه يمنع النجاح‪ ."551‬وبما أن التوضيح الذاتي للصيرورة اإلبستمولوجية هو على‬
‫األرجح أحد هذه "اآلثار الثانوية بشكل أساس ي" التي يتحدث عنها جون إلستر ‪،Jon Elster‬‬
‫بتحوله ّ‬
‫جنبنا أن نريد‬ ‫فقد كنا بحاجة في الواقع إلى هدف أولي‪ ،‬الهدف الواقعي‪ ،‬الذي ّ‬
‫ً‬
‫منذ فترة مبكرة جدا ما لم نكن نستطيع الحصول عليه بطريقة مضمونة بشكل جمعي‬
‫ً‬
‫إال في نهاية صيرورة طويلة ومعقدة‪ .‬كتب إلستر أيضا‪ :‬إن اآلثار الثانوية بشكل أساس ي‬
‫"[‪ ]...‬تجعلنا ننضج بموجب ما نحن عليه وليس بموجب ما نقوم به ونفعله‪ ."552‬وهو يريد‬

‫‪J. Elster, Le Laboureur et ses enfants, Minuit, 1986, p. 17. 551‬‬


‫‪ 552‬الرجع السابق‪ ،‬ص‪.99 .‬‬
‫‪341‬‬
‫من خالل قوله هذا أنه تم الحصول عليها بسبب االستعدادات واألحكام التي نعتمدها‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫من أجل القيام بعمل ما‪ ،‬وليس من خالل النتائج‪ ،‬التي تكون مضللة ووهمية أحيانا‪،‬‬
‫لهذا العمل‪ .‬وبطريقة مماثلة‪ ،‬فإن الشعلة الحالية من التوضيح الذاتي اإلبستمولوجي‬
‫ّ‬
‫التوجه الشترك للباحثين باتجاه‬ ‫كان قد تم الحصول عليها بتحرير قيود وإشراطات‬
‫التمثيل الخلص لواقعية مستقلة‪ ،‬وليس بما هي عنصر من هذا التمثيل الأمول والذي‬
‫ً‬ ‫ال ّ‬
‫ينفك يظل خافيا‪.‬‬

‫‪341‬‬
342
BIBLIOGRAPHIE
Aharonov Y., Anandan J., & Vaidman L., «Meaning of the wave function», Physical Review, A47,
p. 4616-4626, 1993.
Apel K.O., Le logos propre au langage humain, Éditions de l'Éclat, 1994.
Baker G.P. & Hacker P.M.S., An analytical commentary on the Philosophical Investigations
(volume 1), B. Blackwell, 1980.
Baldwin J.M., «Organic selection», Nature, 55, 558, 1897.
Barrow J.D. & Tipler F.J., The anthropic cosmological principle, Oxford University Press, 1986.
Bell J.S., Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987.
Ben-Dov Y., «Everett's theory and the "many-worlds" interpretation», Am. J. Phys., 58. p. 829-
832, 1990.
Bertola F. & Curi U. (eds.). The anthropic principle, Cambridge University Press. 1993.
Birkhoff G. & Neumann J. von, «The logic of quantum mechanics », Annals of mathematics. 37,
p. 823-843, 1936.
Bitbol M., «Comment une épistémologie formelle est-elle possible?», Revue internationale de
systémique, 5, p. 509-524, 1996.
Bitbol M., Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997.
Bitbol M., Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston studies in the philosophy of
science, Kluwer, 1996.
Bitbol M. & Laugier S. (éd.), Physique et réalité ; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-
Diderot, 1997.
Bitbol M., «Les lois de la nature, contingence ou nécessité», Cahiers de philosophie ancienne et
du langage, 1998, à paraître.
Bitbol M., «Some steps towards a transcendental deduction of quantum mechanics»,
Philosophia naturalis, 1998, à paraître.
Blackburn S., Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993.
Bohm D., The special theory of relativity, Addison-Wesley, 1989.
Bohm D. & Hiley B.J., The undivided universe, Routledge, 1993.
Bohr N., Essays 1958-1962 on atomic physics and human knowledge, Ox Bow Press, 1987.
Bohr N., Physique atomique et connaissance humaine, Gallimard, 1991.
Bohr N., La théorie atomique et la description des phénomènes, J. Gabay, 1993.
Bouveresse J., La force de la règle, Minuit, 1987.,
Bouveresse J., Herméneutique et linguistique, Editions de l'Éclat, 1991.
Bouveresse J., «Le problème de la longueur du mètre», in J. Sebestik et A. Soulez, Wittgenstein
et la philosophie d'aujourd'hui, Klincksieck, 1992.
Bouveresse J., L'homme probable : Robert Musil, le hasard, la moyenne et l'escargot de
l'histoire, Éditions de l'Éclat, 1993.
Boyd R., «Realism, under determination, and a causal theory of evidence», Noûs, 7, p. 1-12,
1973.
Brown H.R. & Harré R., Philosophical foundations of quantum field theory, Oxford University
Press, 1988.
Brown H.R., Dewdney C. & Horton G., «Bohm particles and their detection in the light of
neutron interferometry», Foundations of physics, 25, p. 329-345, 1995.
Carnap R., Meaning and necessity, The University of Chicago Press, 1956; trad. fr. Signification
et nécessité, P.U.F., 1997.
Cartwright N., Nature's capacities and their measurement, Oxford University Press, 1989.
Cassirer E., Determinism and indeterminism in modern physics, Yale University Press, 1956.
343
Cassirer E., La philosophie des lumières, Agora-Fayard, 1966.
Castarieda H.N., Thinking, language and experience, University of Minnesota Press, 1989.
Chomsky N., Knowledge of language, Praeger, 1986.
Clark P. & Hale B. (eds.), Reading Putnam, Basil Blackwell, 1994.
Cohen-Tannoudji C., Diu B. & Laloé F., Mécanique quantique I, Hermann, 1973.
Cohen-Tannoudji G. & Spiro M., La matière espace-temps, Gallimard, 1986.
Combès J., Études néoplatoniciennes, Jérôme Millon, 1989.
Cues (N. de), La docte ignorance, P.U.F, 1930.
Dahan-Dalmedico A., Chabert J.-L. & Chemla K. (éd.), Chaos et déterminisme, Seuil, 1992.
Dalla Chiara M.L. & Toraldo di Francia G., «Individuals, kinds and names in physics», in G. Corsi
et al. (eds.), Bridging the gap : philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993.
Damascius, Des premiers principes, Verdier, 1987.
Darrigol O., From c-numbers to q-numbers, The University of California Press, 1992.
Davies P.C.W., « Particles do not exist », in S.M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity,
A. Hilger, 1984.
Davis M., « A relativity principle in quantum mechanics », International Journal of Theoretical
Physics, 16, p. 867-874, 1977.
Demaret J. & Lambert D., Le principe anthropique, Armand Colin, 1994.
Dennett D. C., Consciousness explained, Penguin, 1991.
De Regt H., Representing the world by scientific theolies, Tilburg University Press, 1994.
Derksen A.A. (ed.), The scientific realism of Rom Harré, Tilburg University Press, 1994.
Destouches-Février P., La structure des théories physiques, P.U.F., 1951.
Deutsch D., «Quantum theory as a universal physical theory», International Journal of
Theoretical physics, 24, p. 1-41, 1985.
Deutsch D., The fabric of reality, Viking Penguin, 1997.
De Witt B.S. & Graham N. (eds.), The many-worlds interpretation of quantum mechanics,
Princeton University Press, 1973.
Diamond C., The realistic spirit, MIT Press, 1991.
Dickson M., «An empirical reply to empiricism : protective measurement opens the door for
quantum realism», Philosophy of science, 62, p. 122-140, 1995.
Diu B., Les atomes existent-ils vraiment ?, Odile Jacob, 1997.
Dugas R., La théorie physique au sens de Boltzmann, Le Griffon, 1959.
Duhem P., La théorie physique, Vrin, 1989.
Dummett M., Truth and other enigmas, Duckworth, 1978.
Einstein A. & Born M., Correspondance 1916-1955, Seuil, 1972.
Elster J., Le laboureur et ses enfants, Minuit, 1986.
Engel P., Davidson et la philosophie du langage, P.U.F., 1994.
Engel P., Philosophie et psychologie, Folio-Gallimard, 1996.
Espagnat B. d' & Klein E., Regards sur la matière, Fayard, 1993.
Espagnat B. d', Le réel voilé, Fayard, 1994.
Falkenburg B., Teilchenmetaphysik, Sprektrum Verlag, 1995.
Falkenburg B., «The concept of spatial structure in micro-physics», Philosophia naturalis, 30, p.
208-228, 1993.
Fann K.T., Peirce's theory of abduction, Martinus Nijhoff, 1970.
Faye J., Niels Bohr : his heritage and legacy, Kluwer, 1991.
Feigl H. & Maxwell G. (eds.), Minnesota studies in the history of science V, University of
Minnesota Press, 1970.
Feyerabend P.K., Realism, rationalism, & scientific method, I, Cambridge University Press, 1981.
344
Feyerabend P.K., Adieu la raison, Seuil, 1989.
Fine A., The shaky game, The University of Chicago Press, 1986.
Folse H., The philosophy of Nils Bohr. The framework of complementarity, North Holland, 1985.
Foucault M., L'archéologie du savoir, Gallimard, 1969.
Gadamer H.G., Vérité et méthode, Seuil, 1976.
Garfield J.L., The fundamental wisdom of the middle way, Oxford University Press, 1995.
Gell-Mann M. & Hartle J.B., «Classical equations for quan-tum systems», Physical Review, D47,
p. 3345-3382, 1993.
Goodman N., Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1984.
Gould S.J., La vie est belle, Seuil, 1991.
Granger G.-G., Formes, opérations, objets, Vrin, 1994.
Griffiths R.G., «Consistent histories and the interpretation of quantum mechanics», J. Stat.
Phys., 36, p. 219-272, 1984.
Griffiths R.G., «Correlations in separated quantum systems : a consistent history analysis of the
EPR problem», Am. j. Phys., 55, p. 11-17, 1987.
Habermas J., Connaissance et intérêt, Gallimard, 1976.
Habermas J., La pensée postmétaphysique, A. Colin, 1993.
Hacking I., Concevoir et expérimenter, Christian Bourgois, 1989.
Haroche S., Raimond J.-M. & Brune M., «Le chat de Schrodinger se prête à l'expérience», La
Recherche no 301, p. 50-56, 1997.
Harré R., Varieties of realism, Basil Blackwell, 1986.
Harthong J., Probabilités et statistiques, Frontières-Diderot, 1996.
Heisenberg W., «Quantenmechanik», Die Naturwissenschaften, 14, p. 989-995, 1926.
Heisenberg W., Physique et philosophie, Albin Michel, 1971.
Heisenberg W., La partie et le tout, Albin Michel, 1972.
Heisenberg W., Les principes physiques de la théorie des quanta, Gauthier-Villars, 1972.
Heisenberg W., Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979.
Hempel C., Éléments d'épistémologie, Armand Colin, 1972.
Hermann G., Les fondements philosophiques de la mécanique quantique (1935), trad. fr.,
introduction et postface par L. Soler, Vrin, 1996.
Hofstadter D.R., Dennett D.C., The Mind's I, Basic books, 1981.
Holton G., L'imagination scientifique, Gallimard, 1981.
Hoyningen-Huene P., Reconstructing scientific revolutions, The University of Chicago Press,
1993.
Jullien F., Un sage est sans idée, Seuil, 1998.
Kant E., Prolégomènes à toute métaphysique future, Vrin, 1968.
Kant E., Critique de la raison pure, trad. Tremesaygues et Pacaud, P.U.F, 1944.
Kant E., Premiers principes métaphysiques de la science de la nature, Vrin, 1990.
Kochen S. & Specker E. P., «The problem of hidden variables in quantum mechanics», journal of
mathematics and mechanics, 17, p. 59-87, 1967.
Koyré A., Études d'histoire de la pensée scientifique, Gallimard, 1973.
Kretzmann N., «Omniscience and immutability», The journal of philosophy, 63, p. 409-421,
1966.
Kripke S., Naming and necessity, Basil Blackwell, 1980.
Kripke S., Wittgenstein on rides and private language, Basil Blackwell, 1982.
Kuhn T., La structure des révolutions scientifiques, Flammarion, 1972.
Kuhn T., «Logic of discovery or psychology of research ?», in I. Lakatos & A. Musgrave (eds.),
Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University Press, 1970.
345
Lakatos I. & Musgrave A. (eds.), Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University
Press, 1970.
Lakatos I., The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press,
1978.
Lambert D., Recherches sur la structure et l'efficacité des interactions récentes entre
mathématiques et physique, Thèse de doctorat, Université de Louvain-la-Neuve, 1995.
Laplace P.-S., Essai philosophique sur les probabilités, Courcier, 1814.
Laudan L., Progress and its problems, University of California Press, 1977.
Laudan L., «A confutation of convergent realism», Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981.
Laudan L., Science and values, University of California Press, 1984.
Laudan L., Beyond positivism and relativism, Westview Press, 1996.
Leplin J. (ed.), Scientific realism, University of California Press, 1984.
Locke J., An essay concerning human understanding, Oxford University Press, 1975.
Logue J., Projective probability, Oxford University Press, 1995.
Mach E., Analysis of sensations, Dover, 1959; trad. fr. L'analyse des sensations, Jacqueline
Chambon, 1996.
Mac Mullin E., «The history and philosophy of science : a taxonomy», in H. Feigl & G. Maxwell
(eds.), Minnesota studies in the history of science V, University of Minnesota Press, 1970.
Merleau-Ponty M., Phénoménologie de la perception, Gallimard, 1945.
Merleau-Ponty M., Le visible et l'invisible, Gallimard, 1964.
Merleau-Ponty M., L'oeil et l'esprit, Gallimard, 1964.
Mittelstaedt P., Philosophical problems of modern physics, Reidel, 1976.
Mon N.F. & Massey H.S., The theory of atomic collisions, Oxford University Press, 1965.
Mugur-Schâchter M., Étude du caractère complet de la théorie quantique, Gauthier-Villars,
1964.
Mugur-Schâchter M., «Spacetime quantum probabilities II : relativized descriptions and
popperian propensities», Foundations of physics, 22, p. 235-312, 1992.
Muller F.A., «The equivalence myth of quantum mechanics», Studies in the history and
philosophy of modern physics, 28B, p. 35-62, 1997.
Neumann J. von, Les fondements mathématiques de la mécanique quantique, J. Gabay, 1988.
Newton-Smith W.H., The rationality of science, Roudedge, 1981.
Nietzsche F., La volonté de puissance I, Gallimard, 1995.
Omnès R., The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994.
Ortega y Gasset J., Œuvres complètes I, Klincksieck, 1988.
Paz J.P. & Zurek W.H., «Environment-induced decoherence, classicality, and consistency of
quantum histories», Physical Review, D48, p. 2728-2737, 1993.
Peirce C.S., Selected writings, Dover, 1958.
Penrose R., The emperor's new mind, Oxford University Press, 1989.
Perrin J., Les atomes, Flammarion, 1993.
Petitot J., «Objectivité faible et philosophie transcendantale», in M. Bitbol & S. Laugier (eds.),
Physique et réalité ; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.
Piaget J., La construction du réel chez l'enfant, Delachaux et Niestlé, 1967.
Piaget J., Le comportement, moteur de l'évolution, Gallimard, 1976.
Pickering A., The Mangle of practice, The University of Chicago Press, 1995.
Popper K., La logique de la découverte scientifique, Payot, 1973.
Popper K., Objective knowledge, Oxford University Press, 1972.
Popper K., La quête inachevée, Calmann-Lévy, 1981.
Popper K., Un univers de propensions, Éditions de l'Éclat, 1992.
346
Popper K., La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996.
Pullman B., Les atomes, Fayard, 1995.
Putnam H., Mathematics, Matter and Method, Cambridge University Press, 1975.
Putnam H., Meaning and the moral sciences, Routledge & Kegan Paul, 1978.
Putnam H., Raison, vérité et histoire, Minuit, 1984.
Putnam H., The many faces of realism, Open Court, 1987.
Putnam H., Définitions, Éditions de l'Éclat, 1992.
Putnam H., Realism with a human face, Harvard University Press, 1990 ; trad. fr., Le réalisme à
visage humain, Seuil, 1993.
Pyles A., Atomism and its critics, Thoemmes Press, 1995.
Quine W.V., The roots of reference, Open Court, 1990.
Raimond J.-M., Brune M. & Haroche S., «Reversible decoherence of a mesoscopic
superpositions of field states», Phys. Rev. Lett., 79, p. 1964-1967, 1997.
Récanati F., La transparence et l'énonciation, Seuil, 1979.
Redhead M. & Teller P., «Particle labels and the theory of indistinguishable particles in
quantum mechanics», Brit. J. Phil. Sci., 43, p. 201-218, 1992.
Redhead M., From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995.
Redondi P., Galilée hérétique, Gallimard, 1985.
Reichenbach H., Philosophic foundations of quantum mechanics, University of California Press,
1946.
Rorty R., L'homme spéculaire, Seuil, 1990.
Saunders S. & Brown H. (eds.), The philosophy of vacuum, Oxford University Press, 1991.
Saunders S., «Time and quantum mechanics», in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, time and
quantum mechanics, Frontières-Diderot, 1994.
Schmitz F., La philosophie des mathématiques de Wittgenstein, P.U.F., 1988.
Schopenhauer A., Le monde comme volonté et comme représentation, P.U.F., 1966.
Schrodinger E., Ma conception du monde, Mercure de France, 1982.
Schrodinger E., L'esprit et la matière, précédé de M. Bitbol, L'élision, Seuil, 1990.
Schrodinger E., La nature et les Grecs, précédé de M. Bitbol, La clôture de la représentation,
Seuil, 1992.
Schrodinger E., Physique quantique et représentation du monde, Seuil, 1992.
Schrodinger E., The interpretation of quantum mechanics, edited and with introduction by M.
Bitbol, Ox Bow Press, 1995.
Searle J., Speech acts, Cambridge University Press, 1969.
Searle J., The construction4of social reality, Allen lane (The Penguin Press), 1995.
Serres M., Les origines de la géométrie, Flammarion, 1993.
Shapere D., «The concept of observation in science and philosophy», Philosophy of science, 49,
p. 485-525, 1982.
Shimony A., Search for a naturalistic world view, I, Cambridge University Press, 1993.
Silburn L., Aux sources du bouddhisme, Fayard, 1997.
Soler L., Émergence d'un nouvel objet symbolique : le photon, Thèse de l'université Paris-I,
décembre 1997.
Stump E. & Kretzmann N., «Eternity», Journal of philosophy, 78, 1981, p. 429-458.
Suppe F., The semantic conception of theories and scientific realism, University of Illinois Press,
1988.
Suppes P., Studies in the methodology and foundations of science, Reidel, 1969.
Teller P., An interpretive introduction to quantum field theory, Princeton University Press, 1995.

347
Vaidman L., «Weak-measurement elements of reality », Foundations of physics, 26, p. 895-905,
1996..
Valentin L., Noyaux et particules, Hermann, 1975.
Valéry P., Introduction à la méthode de Léonard de Vinci, Gallimard, 1957.
Van Fraassen B., The scientific image, Oxford University Press, 1980.
Van Fraassen B., Laws and symmetry, Oxford University Press, 1989 ; trad. fr. C. Chevalley, Lois
et symétrie, Vrin, 1994.
Van Fraassen B., Quantum mechanics, an empiricist view, Oxford University Press, 1991.
Varela F., Thompson E. & Rosch E., L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993.
Von Glaserfeld E., «Introduction à un constructivisme radical», in P. Watzlawick, L'invention de
la réalité, Seuil, 1988.
Von Weizsâcker C.F. & Gromitz Th., « Quantum theory as a theory of human knowledge », in P.
Lahti & P. Mittelstaedt (eds.), Symposium on the foundations of modern physics 1990,
World scientific, 1991.
Von Wright G.H., Explanation and understanding, Routledge & Kegan Paul, 1971.
Vuillemin J., L'héritage kantien et la révolution copernicienne, P.U.F., 1954.
Vuillemin J., Physique et métaphysique kantiennes, P.U.F., 1987.
Watzlawick P., L'invention de la réalité, Seuil, 1988.
Weinberg S., The quantum theory of fields, Cambridge University Press, 1995.
Wheeler J.A. & Zurek W.H., Quantum theory and measurement, Princeton University Press,
1983.
Wittgenstein L., Investigations philosophiques, Gallimard, 1961.
Wittgenstein L., Le cahier bleu et le cahier brun, Gallimard, 1965.
Wittgenstein L., Carnets 1914-1916, Gallimard, 1971.
Wittgenstein L., Grammaire philosophique, Gallimard, 1980.
Wittgenstein L., Remarques sur les fondements des mathématiques, Gallimard, 1983.
Zeh H.D., «There are no quantum jumps, nor are there particles !», Physics letters, A172, p.
189-192, 1993.
Zurek W.H. «Environment-induced superselection rules», Physical Review, D26, p. 1862-1880,
1982.

348
‫الفهرس‬

‫‪6‬‬ ‫‪........................................................................................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫مقدمة الترجم‬


‫‪06‬‬ ‫‪.................................................................................................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪49‬‬ ‫‪...........................................................................................................................................‬‬ ‫الواقعية التقاربة والتقارب االنعكاس ي‬ ‫‪.1‬‬
‫‪49‬‬ ‫الواقعية التقاربة وتوفيقاتها‬
‫‪.......................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪0 .0‬‬
‫التفسيرات الواقعية والال‪-‬تفسيرات الداروينية الضادة لنجاح النظريات‬ ‫‪4 .0‬‬
‫‪35‬‬ ‫العلمية‬
‫‪................................................................................................................. .................................................................. .............................................................................................................................‬‬

‫‪25‬‬ ‫الطرح الواقعي لنضج العلوم‬


‫‪..................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪3 .0‬‬
‫‪63‬‬ ‫تجريبية بنائية أم واقعية كسياسة بحث؟‬
‫‪.................................................................................................................................‬‬ ‫‪2 .0‬‬
‫‪61‬‬ ‫الراحل الثورية واالستمرارية األنطولوجية‬
‫‪.......................................................... ......................................................................‬‬ ‫‪6 .0‬‬
‫‪14‬‬ ‫‪.................................................................................................‬‬ ‫الفيزياء الكمومية والفلسفة الصورية التجاوزية‬ ‫‪5 .0‬‬
‫‪15‬‬ ‫التالقي االنعكاس ي‪ :‬مشروع آخر للفيزياء‬
‫‪................................................................................................................................................‬‬ ‫‪1 .0‬‬
‫‪60‬‬ ‫‪...................................................................................................‬‬ ‫ما بعد النظريات (ميتا نظريات) وما بعد الناهج‬ ‫‪6 .0‬‬
‫‪66‬‬ ‫الواقعية البعيدة والقرب العمي من الواقع‬
‫‪................................................................................................................‬‬ ‫‪.2‬‬
‫‪65‬‬ ‫األجسام والخصائص والرصودات‬
‫‪........................................................................................................................................................................‬‬ ‫‪0 .4‬‬
‫‪92‬‬ ‫‪.................................................................. ......................‬‬ ‫التغيرات الخفية‪ ،‬والتواريخ الثابتة‪ ،‬وفك االرتباط‬ ‫‪4 .4‬‬
‫‪016‬‬ ‫الواقع التجاوزي أو حضور الواقع؟‬
‫‪...................................................................................................................................................................‬‬ ‫‪3 .4‬‬
‫‪009‬‬ ‫واقعية بنيوية‬
‫‪............................................................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫‪.3‬‬
‫‪041‬‬ ‫بعض الطرق لنكون واقعيين‬
‫‪...................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪0 .3‬‬
‫‪046‬‬ ‫قبل وبعد الفيزياء‬
‫‪.............................................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫‪4 .3‬‬
‫‪033‬‬ ‫‪..................................................................................................................................‬‬ ‫"الواقع الحجوب" واالنتقادات الوجهة له‬ ‫‪3 .3‬‬
‫‪020‬‬ ‫الحقيقة والوضوعية‬
‫‪........................................................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪2 .3‬‬
‫‪060‬‬ ‫الذرات وكينونات أخرى‬
‫‪................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫‪6 .3‬‬

‫‪349‬‬
‫‪066‬‬ ‫‪.............................................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫النظريات والواقع‬ ‫‪5 .3‬‬
‫‪051‬‬ ‫شبه الواقعية والواقعية التجريبية‬
‫‪............................................................................................................................................................‬‬ ‫‪.4‬‬
‫‪011‬‬ ‫مشكلة تصنيف الواقف الفلسفية لؤسس ي الفيزياء الكمومية‬
‫‪...........................‬‬ ‫‪0 .2‬‬
‫‪014‬‬ ‫تعريفات أولية‪ :‬الجدل بين الواقعية والالواقعية‬
‫‪....................................................................................................‬‬ ‫‪4 .2‬‬
‫‪012‬‬ ‫جسور وممرات بين الواقعية والالواقعية‬
‫‪.......................................................................................................................................‬‬ ‫‪3 .2‬‬
‫‪016‬‬ ‫آثار وظالل القصص الذهبية‬
‫‪................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪2 .2‬‬
‫‪019‬‬ ‫االتهامات التبادلة للواقعيين والالواقعيين‬
‫‪............................................................................................................................. ....‬‬ ‫‪6 .2‬‬
‫‪062‬‬ ‫شبه الواقعية كعودة لالواقعي أصولي‬
‫‪......................................................................................................................................................‬‬ ‫‪5 .2‬‬
‫‪069‬‬ ‫‪...‬‬ ‫مؤسسو اليكانيك الكمومي بين الواقعية والالواقعية وشبه الواقعية‬ ‫‪1 .2‬‬
‫‪095‬‬ ‫شرودنغر‪ :‬خيار شبه الواقعية مقابل واقعية داخلية‬
‫‪............................................................................‬‬ ‫‪6 .2‬‬
‫‪099‬‬ ‫أزمة النظرية الذرية العاورة‬ ‫‪.5‬‬
‫‪........................................................... .............................................................................................................................‬‬

‫ّ‬
‫التوقع ّ‬
‫‪411‬‬ ‫الذري وتحققاته‬ ‫‪0 .6‬‬
‫‪................................................................. ............................................................................................................................. ...............................‬‬

‫‪412‬‬ ‫‪ 4 .6‬تعريف إطار التوقعات الذرية‬


‫‪................................................................... .............................................................................................................................‬‬

‫‪ 3 .6‬ما هي التوقعات النتظرة من اإلطار الذري وهل تسمح الفيزياء‬


‫‪401‬‬ ‫العاصرة بتحققها؟‬
‫‪....................................................................................................................... .............................................................................................................................‬‬

‫‪405‬‬ ‫‪ 2 .6‬الكواركات ومسألة الـ "رصد الباشر" للجسيمات‬


‫‪.....................................................................................................‬‬

‫‪446‬‬ ‫‪ 6 .6‬الفيزياء الكمومية ونقد ّ‬


‫الذرية‬
‫‪............................................................... .............................................................................................................................‬‬

‫‪431‬‬ ‫‪ 5 .6‬ضعف ومقاومة "براهين وجود" الذرات‬


‫‪................................................................................................................................................‬‬

‫‪436‬‬ ‫‪ 1 .6‬تعددية التمثيالت وحدودها‬


‫‪............................................................................ .............................................................................................................................‬‬

‫‪424‬‬ ‫‪ 6 .6‬دايفيد بوم ‪ :0964‬رؤية ذرية تتأرجح في الكلية‬


‫‪...........................................................................................................‬‬

‫‪421‬‬ ‫‪ 9 .6‬قيم الذهب الذري‬


‫‪........................................................................................................................ .............................................................................................................................‬‬

‫‪463‬‬ ‫‪ 01 .6‬العمق القديم للميتافيزياء ومفاهيم واسعة الطيف‬


‫‪..................................................................................‬‬

‫‪461‬‬ ‫‪...............................................................................‬‬ ‫استعدادات وتحديدات قاطعة‪ :‬تأمل حول الفراغ‬ ‫‪.6‬‬


‫‪466‬‬ ‫القطعية والحالية‬
‫‪............................................................................................................................ .............................................................................................................................‬‬ ‫‪0 .5‬‬
‫‪469‬‬ ‫القطعية في النظريات الكالسيكية والكمومية‬
‫‪................................................................................................................‬‬ ‫‪4 .5‬‬

‫‪351‬‬
‫‪450‬‬ ‫نقد مفهوم "الحالة الكمومية"‬
‫‪...........................................................................................................................................................................................‬‬ ‫‪3 .5‬‬
‫‪456‬‬ ‫الفراغ‪ ،‬والحقل و"الحالة الكمومية"‬
‫‪........................................................................................................................................... ..................‬‬ ‫‪2 .5‬‬
‫‪456‬‬ ‫الفراغ كواقع وجودي واالنبثاقات‬
‫‪...........................................................................................................................................................................‬‬ ‫‪6 .5‬‬
‫‪413‬‬ ‫‪....................................................................................... ...............................‬‬ ‫تناقض االستعدادات والتحديدات القطعية‬ ‫‪5 .5‬‬
‫‪415‬‬ ‫عناصر لتفكيكية أنطولوجية‬
‫‪..................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪1 .5‬‬
‫‪464‬‬ ‫خاتمة‪" :‬الخالء" كعالج‬
‫‪...................................................................................................................................................................................................................................‬‬ ‫‪6 .5‬‬
‫‪466‬‬ ‫ماذا يعني "فهم اليكانيك الكمومي"؟‬
‫‪...................................................................................................................................................‬‬ ‫‪.7‬‬
‫‪465‬‬ ‫فهم ّ‬
‫نص‪ ،‬وفهم نظرية فيزيائية‬
‫‪.......................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫‪0 .1‬‬
‫‪493‬‬ ‫حول الالفهم في األدب وفي الفيزياء‬
‫‪................................................................................................................................................ ......................‬‬ ‫‪4 .1‬‬
‫‪496‬‬ ‫‪.......................................................................................................................................‬‬ ‫تفسير "الحاالت النسبية" والفهم التأويلي‬ ‫‪3 .1‬‬
‫‪315‬‬ ‫الوصف العلمي والقياسية‬
‫‪............................................................................................................................. .................................................................................‬‬ ‫‪2 .1‬‬
‫‪304‬‬ ‫تفسير نظرية كدليل للبحث الفلسفي‬
‫‪........................................................................................................................................................‬‬ ‫‪6 .1‬‬
‫‪301‬‬ ‫‪.............................................................................................................................‬‬ ‫الصدفة الوضوعية ومبدأ السبب الكافي‬ ‫‪.8‬‬
‫‪301‬‬ ‫الصدفة الذاتية والصدفة الوضوعية‬
‫‪.................................................................. .................................................................................‬‬ ‫‪0 .6‬‬
‫‪340‬‬ ‫السياقية والالتحديدية‬
‫‪................................................................................................. .............................................................................................................................‬‬ ‫‪4 .6‬‬
‫‪349‬‬ ‫‪...................................................................................................................................................................... ............................................................................................................................. ...............‬‬ ‫خاتمة‬
‫‪323‬‬ ‫‪.................................................................................................................................................................................... .............................................................................................................................‬‬ ‫مراجع‬

‫‪351‬‬
‫ودر عن دار معابر للنشر‬
‫ّ‬
‫قاموس الالعنف‪ ،‬جان ماري مولر‪ ،‬تقديم‪ :‬د‪ .‬وليد صليبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد علي عبد الجليل‬
‫(بالتعاون مع الهيئة اللبنانية للحقوق الدنية‪ ،‬بيروت)‪.4111 ،‬‬
‫التأمل‪ ،‬جدو كريشنامورتي‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬ديمتري أڤييرينوس‪.4116 ،‬‬
‫على خطى غاندي‪ ،‬كاثرين إنغرام‪ ،‬ترجمة‪ :‬أديب خوري‪ ،‬تدقيق‪ :‬ديمتري أڤييرينوس‪.4116 ،‬‬
‫الحبة في العمل‪ ،‬تيك نات هانه‪ ،‬ترجمة‪ :‬غياث جازي‪ ،‬تدقيق‪ :‬أكرم أنطاكي‪.4116 ،‬‬
‫كتابات وأقوال للمهاتما م‪ .‬ك‪ .‬غاندي‪ ،‬ترجمة‪ :‬أكرم أنطاكي‪ ،‬مراجعة‪ :‬هڤال يوسف‪.4119 ،‬‬
‫فلسفة الالعنف‪ ،‬ديڤيد مكرينولدز‪ ،‬ترجمة‪ :‬ديمتري أڤييرينوس‪.4119 ،‬‬
‫ّ‬
‫الالعنف في التربية‪ ،‬جان ماري مولر‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد علي عبد الجليل‪.4119 ،‬‬
‫ليف تولستوي‪ :‬مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية‪ ،‬ترجمة‪ :‬هڤال يوسف‪.4119 ،‬‬
‫سيمون ڤايل‪ :‬مختارات‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد علي عبد الجليل‪.4119 ،‬‬
‫البحث عن مستقبل العنفي‪ ،‬مايكل ن‪ .‬ناغلر‪ ،‬ترجمة‪ :‬غياث جازي‪.4119 ،‬‬
‫أنا وأنت‪ ،‬مارتن بوبر‪ ،‬ترجمة‪ :‬أكرم أنطاكي‪.4101 ،‬‬
‫ُّ‬
‫التجذر‪ ،‬سيمون ڤايل‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد علي عبد الجليل‪.4101 ،‬‬
‫ملكوت هللا في داخلكم‪ ،‬ليف تولستوي‪ ،‬ترجمة‪ :‬هڤال يوسف‪.4101 ،‬‬
‫ووت الصمت‪ ،‬هيلينا بالڤاتسكي‪ ،‬ترجمة‪ :‬أكرم أنطاكي‪.4100 ،‬‬
‫شبكة الفكر‪ ،‬جدو كريشنامورتي‪ ،‬ترجمة‪ :‬يارا البرازي‪.4100 ،‬‬
‫من البيئة إلى الفلسفة‪ ،‬معين رومية‪.4100 ،‬‬
‫ّ‬
‫غاندي التمرد‪ ،‬ملحمة مسيرة اللح‪ ،‬جان ماري مولر‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد علي عبد الجليل‪.4100 ،‬‬
‫غاندي اإلنسان‪ ،‬إكناث إيسوران‪ ،‬ترجمة غياث جازي‪.4103 ،‬‬
‫النهج اخحيوي الطاقي‪ ،‬ألكسندر لوون‪ ،‬ترجمة‪ :‬نبيل سالمة‪.4103 ،‬‬
‫عودة إلى الذات‪ ،‬أكرم أنطاكي‪.4103 ،‬‬
‫التبادل الستحيل‪ ،‬جان بودريار‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬جالل بدلة‪.4103 ،‬‬
‫التاسوعية‪ ،‬هيلين بالر‪ ،‬ترجمة‪ :‬نبيل سالمة‪.4102 ،‬‬
‫الزمان واآلخر‪ ،‬إيمانويل ليفيناس‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬جالل بدلة‪.4102 ،‬‬
‫‪352‬‬

You might also like