Professional Documents
Culture Documents
2014-Michel-Bitol اللاواقعية و شبه الواقعية في الفيزياء PDF
2014-Michel-Bitol اللاواقعية و شبه الواقعية في الفيزياء PDF
1
الكتاب األصلي
L'aveuglante proximité du réel, by Michil Bitbol
Flammarion, Paris 1998
2
القرب العمي من الواقع
ميشيل بيتبول
3
4
مقدمة الترجم
إلى أين يقودنا تقدم البحث التجريبي في الفيزياء؟ هل يقودنا فعال إلى معرفة العالم /
الذات؟
منذ أعمال برنار دسبانيا ،تركز انتباه الفالسفة على مسألة ماذا يواجه الفيزيائيون
ً
فعال وعم يحدثنا هذا في النهاية .هل يحدثنا عن واقع حقيقي ،مستقل عن فعلنا وتأثيرنا
على الطبيعة الواقعية ،أم عن واقعية تجريبية بحتة تنتج بواسطة أدوات قياسنا
الالواقعية؟ كان دسبانيا قد ّبين ارتباط النظريات السماة "ذات الوضوعية الضعيفة"
مع معايير التجارب ومع أدوات القياس ،وأكد على فكرة واقع حقيقي بعيد ،مدرك ليس كـ
ً
"الش يء في ذاته" الكانطي ،النذور ليبقى غامضا بالنسبة لنا ،بل كمجال غير مؤكد
و"محجوب" لن نستطيع الحصول منه على عناصر معلومات إال بشكل غير مباشر .إنه
موقف شبه مناظر للذي يدافع عنه بيتبول في هذا الكتاب.
إن الوقف األصلي ليشيل بيتبول يعاكس الطروحات اإلبستمولوجية السائدة.
ً
فمثاليته التجاوزية توازنها واقعية تجريبية يمكن صياغة معناها على النحو التالي :أيا كان
ً
اكتمال أجهزة قياسنا ومعاييرنا التجريبية ،فإننا لن نعرف أبدا إال ما يظهر إلحساساتنا أو
ً
المتداداتها األداتية ،أي الظاهرات .وبهذا العنى ،فإن الحقيقي ليس بعيدا ،بل هو قريب
ً
إلى درجة أنه "يعمي" من خالل قربه .لهذا ،ال يجب البحث عن الواقعي والحقيقي خارجا
ً
أو بعيدا؛ ال في اليتافيزياء التي تتجاوز التجربة وال في التالقي التدرج والتزايد للنظريات
ً
التي ظهرت عبر التاريخ .إنه موقف أصيل يعاكس طروحات منتشرة جدا في
اإلبستمولوجيا منذ بيرس Peirceوتم تحسينها وتطويرها منذ بوبر .Popper
وال يغري بيتبول أكثر الفهم السمى الداللي للنظريات الفيزيائية ،وهو فهم يهدف إلى
أخذ نماذج النظريات بعين االعتبار ،أكان لكي تستنتج منها أشكال واقعية ممكنة ،أو من
ً
أجل تبيان الضغط الذي كانت تمارسه الطبيعة في انتقاء النظريات .ويعد بيتبول وفيا
5
لروح الشروع الكانطي ،ومن هنا فهو يريد أن يتعرف في النظريات على "لحظات
ّ
تجاوزية" مشكلة للموضوعية .وهذه اللحظات ستكون مدرجة في الصوريات النظرية
كخلفية للمفترضات السبقة للنشاطات التجريبية.
يصبح تاريخ الفيزياء عندها "سلسلة متتالية من الراحل غير الستمرة ،ومن
ً
التوسعات لعايير مفترضة مسبقا عبر ديناميكية نشاطات البحث ،يليها تفسير هذه العايير
عتمد عند كل مرحلة من تعميمها" .فثمة بالفعل تالق باتجاه بواسطة صورية نظرية ت َ
ً ً ً
ش يء ما ،لكن هذا الش يء لن يكون كائنا وواقعا نهائيا ،بل باألحرى أساس كل تجربة
فيزيائية ممكنة .لهذا يسمي بيتبول هذا الطرح بـ "التالقي االنعكاس ي".
إن الهدف من هذا الكتاب هو استخالص كافة النتائج من فكرة تمت صياغتها منذ
وقت مبكر في تاريخ اليكانيك الكمومي :وهي فكرة أن هذه النظرية تترجم حالة من عدم
االنفصال بين الوضوع واألداة الستخدمة في سبره التجريبي ،وأنها بالنتيجة ال تقدم
صورة عن الطبيعة بل فقط "صورة عالقاتنا مع الطبيعة" كما يقول هايزنبرغ.
إن الصعوبات التي نصادفها عندما نحاول استخدام اليكانيك الكمومي من أجل
ً
الكشف عن سمات مفترضة خاصة بالواقع ،تتبدى عندها منسوبة مجازيا إلى "القرب
العمي" لهذا الواقع ،باألحرى من كونها منسوبة إلى بعده الفرط.
كذلك يجب إعطاء شكل واتساق للمفهوم الجديد للنظرية الفيزيائية إثر هذا التحول
في التمثيالت اإلبستمولوجية .فماذا يمكن أن تكون نظرية ما إذا لم تكن "،"Theoria
ً ً
وفق الفهوم اليوناني ،أي تأمال ممنهجا لصيرورة طبيعية مفترضة كصيرورة خارجية1؟
وماذا يجب أن يشبه نمط تنظيم عقلي للنشاطات التجريبية وللظاهرات الناجمة عنها
التي ،كما كتب كاسيرر ،Cassirerلم يكن هدفها "[ ]...كسر حدود عالم التجربة لكي نعد
ً
ألنفسنا مخرجا نحو عالم التجاوز ،بل أن نتعلم قطع وعبور هذا العالم التجريبي بكل
1راجع تعريف بيتبول بكتابه على موقعه على االنترنت ،ومنه استقيت هذه القدمة:
http://michel.bitbol.pagesperso-orange.fr/aveuglante.proximite.html
6
ّ
التحول لفاهيمنا للنظرية الفيزيائية أال أمان ويقين ،وسكناه بشكل مريح"؟ لكن مثل هذا
يتضمن القيام بعدة تخليات ال يمكن القبول بها؟
الجواب الطروح على هذا التساؤل األخير أنه مقابل التراجع األنطولوجي الظاهر
لشروع الفيزياء هناك تقدم إبستمولوجي ال جدال فيه؛ وأن نظرية فيزيائية من النمط
الذي يتصوره كاسيرر Cassirerستجد أن حقل صحتها سيتوسع في الوقت نفسه الذي
ّ
سوف تقلص فيه من طموحاتها؛ وأن معرفة ال تكون شاملة بشكل معقول إال بشرط
التخلي عن كونها موضوعانية بشكل شمولي؛ وأنها ال تكون عامة بدرجة كافية إال بشرط
أن تكون في جزء منها تشاركية.
ً ً
التخلي عن الشمولية باسم مفهوم ثابت وعالمي للموضوعية يشكل خيارا مقبوال
(وقد ّبين فعاليته خالل عصر الفيزياء الكالسيكية) ،لكنه يفض ي إن عاجال أو آجال إلى
ّ
ظهورات "عودة الكبوت" االبستمولوجي .وقد ذكرنا اليكانيك الكمومي بهذا ،بين أمور
أخرى ،بشكل غامض وإن كان بإصرار .فأن نفقد هذه الرؤية ونغفلها من جديد لبعض
ً ً ّ
الوقت لن يشكل أبدا تقدما للفكر.
إن االختبار الرئيس ي لثل هذا الفهوم يشتمل على تبيان أن بعض اليزات التي اعتبرت
تم توضيحها بشكل كبير طالا أننا نحل محل مفهوم غامضة في اليكانيك الكمومي قد ّ
ً ً َ
الفهوم الذي يجعل منها تقريرا تنبؤيا النظرية الفيزيائية كوصف منفصل عن العالم،
لالرتباطات واالتصاالت المكنة في العالم.
أول سمة مميز لهذا النوع هو الالتحديدية .لهذا عمل بيتبول على تبيان أن
الالتحديدية الكمومية تفهم بسهولة كمؤشر على الإنفصالية الظاهرة وشروط ظهورها،
ً
بدال باألحرى من فهمها كانعكاس للنظام (أو للفوض ى) من طبيعة منفصلة.
أعيد تقديرها على ضوء قدرتها (الجزئية وضمن التوجه نفسه ،فإن النظرية الذرية َ
فقط) على توحيد طيف واسع من الشاريع التجريبية الشتركة .وأعيد مفهوم الفراغ
ً
غالبا ما يجسد أو َّ
يشبه بمفهوم "أثير جديد" ،إلى نسبيته اتجاه الحالة الكمومي ،الذي
الديناميكية لعائلة من كواشف األحداث النفصلة.
ً
وأخيرا ،فإن الفهوم الذي يدافع عنه بيتبول في كتابه "القرب العمي من الواقع"
ً
يصل إلى مفهوم لتاريخ الفيزياء بعيد جدا عن فكرة "التالقي التقارب باتجاه اإلخالص
7
للواقع" الذي يبدو أنه يشكل الحكمة الشتركة في هذا الجال ،على األقل منذ بيرس C.S.
.Peirceيسمى هذا الفهوم الجديد "التالقي االنعكاس ي" ،ألنه يشتمل على مالحظة أنه
باإلضافة إلى تقاطع القابليات التكنولوجية التي يستجرها التقدم في الفيزياء ،فإن هذا
التقدم يميل إلى أن يكشف لنا بشكل أفضل (عبر بنية الصوريات) عن العايير التي تحكم
نشاطاتنا الخاصة في االستكشاف التجريبي .إن نجاح النظريات في الضبط التنبؤي
للظاهرات التجريبية ،وفي التوحيد الشكلي ،يعود إلى قدرتها على أن تترجم الفترضات
ً
السبقة للعقالنيات اإلجرائية الوافقة لطبقات أكثر فأكثر عمقا وعمومية للنشاط
التجريبي .إن هذه الفترضات تشتمل على ما يسميه بيتبول "الخلفية البراغماتية
التجاوزية" للنظريات الفيزيائية.
إن مجرد تقديم بديل لتفسير نجاح النظريات بواسطة الواقعية التالقية يجعل هذا
التفسير أقل جاذبية ،طالا أن إحدى الحجج الكبرى لهذا التفسير كانت ّ
تفرده .بالقابل،
تنخفض جاذبيته أكثر إذا أخذنا بعين االعتبار النظام الحالي لنماذج النظريات الفيزيائية
األكثر غنى في الحتوى األنطولوجي .وطالا كان من المكن ،خالل الفترات التي تلي ثورة
علمية ،صياغة نموذج َّ
موحد يندرج ضمن تراتبية تقليدية من األنماط األنطولوجية،
فقد كان بإمكاننا التفكير أن اللحظة الوجزة التي تعرضت لها الركيزة التجاوزية للنظريات
لم تكن سوى لحظة طارئة على مسارها ،وأن ديناميكية البحث كانت تظل باإلجمال
ً
متجهة نحو فهم تقاربي لنموذج صحيح للطبيعة .ولكن بدءا من اللحظة ،كما في حالة
اليكانيك الكمومي ،التي ال تعود تسمح فيها النماذج القترحة بتقديم تمثيل َّ
موحد وغير
اعتباطي ،وحيث في الوقت نفسه تظل الخلفية التجاوزية للنظرية مكشوفة ،فإن لدينا
الحق على العكس أن نتساءل إذا لم تكن األولوية السابقة العطاة للنماذج تعود إلى
حادث تاريخي طويل .وهذا الحادث ،كان احتواء البحث وحصره في بيئة النوع اإلنساني،
في بيئتنا الباشرة ،على هذه الجزيرة من الوسط الباسكالي حيث ال تقود االفتراضات
السبقة البراغماتية للفعل واللغة ،كما على سبيل الثال وسط نزع السياقية ،إلى أي
8
طريق مسدود .وبسبب هذا الحادث ليس إال فإن ال ش يء يمنع من متابعة التحضير
لتراتبية من أنماط النماذج التي كان نموذجها البدئي هو نموذج "الش يء" والكان في البيئة
اليومية ،على الرغم من اعتراضات الوضعيين ومن النظرة النقدية للكانطيين الجدد.
وبالنتيجة ،بالنظر إلى دروس اليكانيك الكمومي ،فإن إدراكنا لا هو طارئ ولا هو أساس ي
ً
في تاريخ الفيزياء ،ينعكس تماما.
إن السلسلة الطويلة من أنماط النماذج يظهر كأثر دائم إنما طارئ إلسقاط معايير
وافتراضات مسبقة لنشاطاتنا التجريبية على الطبيعة .إسقاط يميل إلى التحقق وفق
ً
نمط قريب جدا وأقرب ما يكون من الفهم السبق اإلدراكي والحرض لهامنا اليومية.
ً
وعلى العكس ،فإن ما يظهر أنه أساس ي بعديا في تاريخ النظريات الفيزيائية ،هي هذه
اللحظات الباهتة والعابرة في البداية ثم التي تصبح ظاهرة أكثر فأكثر ،حيث نبش بعض
كبار ممثلي الفترات الثورية األسس البراغماتية -التجاوزية للمرحلة التي كانوا يجتازونها.
ً
وبالتركيز على هذه اللحظات بدال من التركيز على الراحل ما بعد الثورية من إعادة
ً
تجهيز النماذج ،فإننا نصل إلى فهم تاريخ الفيزياء بطريقة معاكسة جذريا بالتأكيد لطريقة
ً
الواقعية التالقية ،إنما أكثر تنظيما من االنتشارات الفوضوية من الحاوالت واألخطاء
على طريقة فايرباند .Feyerabendهكذا فإننا نتوصل إلى اعتبار هذا التاريخ كمتتالية من
ً
الراحل غير الستمرة والتقطعة من التوسعات لعايير مفترضة مسبقا بواسطة ديناميكية
نشاطات البحث ،والتي تالها تفسير هذه العايير بواسطة تشكيل نظري متوافق مع كل
مرحلة من تعميمها .إن توسعة هذه العايير تتم من جهتها في زمنين أساسيين .ففي مرحلة
ً َّ
أولى ،تعمل نظرية فيزيائية سابقة كمنهجية مشكلة من معايير مفترضة مسبقا بواسطة
نمط تقليدي من النشاط التجريبي ومن ترقب نتائجها .وفي مرحلة ثانية ،فإن ظرف
ً
القيمة غير العدومة لثابتة كونية (تترجم هي نفسها ،وفق البدأ اإلنساني الضعيف ،شيئا
ً
ما من وضعنا ككائنات في العالم بدال باألحرى من ش يء ما من العالم كما هو ،بشكل
ّ
الجرب الذي يواجهه مجال ال يمكن إهمال مستقل عن الوضع الذي نحتله فيه) ّ
يقيد
9
هذه النتيجة فيه في إعادة توجيه نشاطه ،وتوسعة العايير وصياغة نظرية أخرى تشتمل
على هذه العايير الجديدة.
باعتمادنا لهذه الطريقة في فهم تاريخ الفيزياء ،نصل إلى عدة أهداف إبستمولوجية
هامة:
ً ً
.0فنحن ندرك من اآلن فصاعدا تطور النظريات كصيرورة تستعير شيئا ما من
معقولية الناهج البحثية الرتكزة على العتقد الواقعي ،وإن كانت تتمايز بشكل
جذري عن نمط مقاربة الواقع .وتحت غطاء من اختالف اإلعدادات
والتحضيرات ،واختبارها وسحب نماذج معينة وطيها ،فإن هذه الصيرورة تميل
في الواقع إلى أن تنتخب بطريقة مضبوطة عقالنيات إجرائية أكثر فأكثر عمومية
متوافقة مع كل مرحلة من توسعة البحث.
.4نتجاوز هكذا مسألة التحديدية التحتية ،طالا أن هذه األخيرة تتعلق بالغنى
التمثيلي للنماذج وليس االفتراضات السبقة التجاوزية بحدها األدنى لمارسة
ما ،وهو ما ي َّعبر عنه بالبنية التحتية التنبؤية للنظرية.
ً
.3نعطي معنى جديدا ألحادية اتجاه العمل العلمي ،وذلك بتجنب ربطه مع هذا
األقنوم من البنى التحتية األنطولوجية للنماذج الذي كان يميل إلى دعم الواقعي
في انطباعه بمتابعة بحث عن الحقيقة الوافقة بنجاح.
.2على ضوء مثل هذا التصور ،فإن اإلجراء العياري الذي يدخل متتالية متكاثرة
من الخمنات والتفنيدات للنماذج ي َّ
فسر بالصعوبة الكامنة في تحديد العايير
ً
التي تكون متضمنة أحيانا لبحث ما دون مساعدة ترجمتها الوضوعانية على
شكل نماذج .إن أسطورة التالقي باتجاه الحقيقي /الواقعي تبدو بالتالي مثل
لتالق آخر .وهذا التالقي ،هو ما يسميه
اإلسقاط األنطولوجي ،أو الصورة في الرآة ٍ
بيتبول "التالقي االنعكاس ي"؛ أي التالقي باتجاه األشكال األكثر عالية لعملية توجه
الكائن الحي في العالم.
11
ً
إن الفيزيائي وفقا لبيتبول ال يحدثنا بالتالي عن العالم ،عن الطبيعة أو عن واقع
متجاوز ،بل هو يحدثنا في أفضل األحوال عن العرفة وعن أعماق فكرنا .فالفيزياء ال
تخبرنا ويا للغرابة إال حول الذات وليس حول الواضيع واألشياء!
إن هذا الطرح ،وهو نواة الكتاب ،يتعرض من قبل الكاتب نفسه عبر فصوله
الختلفة إلى نقاشات معمقة ،مع الواقعيين كما ومع الالواقعيين .وهو طرح مدهش بما
يكشفه من جوانب .فنرى بيتبول يعيد هنا تقييم الذهب الذري الذي تضعضع مع تقدم
اليكانيك الكمومي ،كشاهد بسيط مفضل بالنسبة له على "انحالل النواة اليتافيزيائية
لألنطولوجيات" ،أي للنظريات حول ما يمكن أن تكون األشياء بذاتها .فالفراغ الفيزيائي
ً
مثال لم يعد سوى "تابع عالجي بمواجهة التصلبات الوجودية"...
يضاف إلى هذا التطرف النقدي (ربما) إعادة تفسيرات جميلة أو توضيحات ،وخاصة
فيما يتعلق بنظرية العوالم التعددة إليفيريت أو حول الصدفة الوضوعية في اليكانيك
الكمومي .يمكننا مع ذلك عدم موافقة الكاتب حول قناعاته الكانطية الجديدة ،حيث
تظل الثالية التجاوزية مثالية وتظل الشروع نفسه عبر التاريخ.2
عد ميشيل بيتبول اليوم من أهم فالسفة العلم ،وهو يؤسس لنقد فلسفي صريح ي ّ
للتوجهات العلمية القبلة كما وللنماذج التي يتحول عبرها العلم في صيرورة بحثه عن
العنى الكامن فيما هو حقيقي وواقعي .ميشيل بيتبول الطبيب ،والفيزيائي والفيلسوف،
ً
هو أيضا بال شك أحد الـ "عبر مناهجيين" الذين يؤسسون لفكر فلسفي منفتح على العلم
ً
بقدر ما هو مؤسس على النطق ،إنما يعتمد في بناء ركائزه أيضا العنى اإلنساني .وهذا
الكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي هو أحد كتبه التي بين فيها القاربات الفلسفية للفكر
ً
العلمي من خالل عرض تحليلي ونقدي ألهم الدارس التي تسعى حاليا لسبر اليكانيك
ً
الكمومي ،الجانب األكثر إدهاشا في عالم الفيزياء العاصرة.
12
:مراجع القدمة
13
14
مقدمة
ً ً
3يمكن أن نجد نقاشا مميزا من هذا النوع فيC. Diamond, The realistic spirit, MIT Press, 1991, chapitre 1.
P. Valéry, Introduction à la méthode de Léonard de Vinci, Callimard, 1957, p. 22. 4
M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Callimard, 1945, p. 81. 5
6الرجع السابق .P. Valéry, Introduction à la méthode Léondard de Vinci
A. Koyré, Etudes d'histoire de la pensée scientifique, Gallimard, 1973, p. 192. 7
E. Mach, Die Analyse der Empfindungen, trad. angl. Analysis of sensations, Dover, 1959, p. 30; trad. 8
fr. L'analyse des sensations, Jacqueline Chambon, 1996.
16
تجربة فنان عاشها خالل فتوته :وهي تجربة ذوبان انطباعي للعالم ولألنا في ما ال يحص ى
من اللمسات الحسية.
َّ
الفسرة للتعارض بين الواقعية العلمية لكن مما ال شك فيه أن السمة غير
والتجريبية تتأتى من أن أنصار هاتين العقديتين ال يحاولون تعميق الجهد الزدوج في
اتجاهين ،جهد "الفنان" باتجاه األصل الزعوم للمعرفة ،وجهد "الفيلسوف" باتجاه هدفه
ً ً
الذي خطط له ،بل يتجهون عموما إلنهاء بحثهم إنهاء مثاليا.
ً ً ً ً
غالبا ما يتصرف الواقعي العلمي كما لو كان يملك سلفا تمثيال مستنفدا للعالم،
جزءا منه كظرف هامش ي ،والذي ّ ً يضمنه َ
ّ
يفسر أنه يمكن أن يظهر لنا واقع أننا نشكل
كما هو يبدو لنا .وحتى لو غير الواقعي العلمي تمثيله هذا خالل التاريخ ،لكن خياره
األساس ي يبقى ،وهو تقييم كل ظاهرة وكل شهادة وفق مقياس رؤيته الفكرية الشاملة،
َ ً
بدال باألحرى من حصول العكس .وقد اتخذ هذا الخيار في الفيزياء العاصرة الشكل
الشفاف لعالقة تراتبية بين "التناظر" و "شرخ التناظر" .إن معظم الفيزيائيين يعتبر أن
تغير القادير أو القوانين بتأثير منظومة دائمة من التحوالت (راجع الفصل الثالث) عدم ّ
ً ً ً
إشارة ال ريب فيها على أن هذه القادير أو هذه القوانين تصف فعال "واقعا مستقال".
ً
فالبقاء ثابتا ال يتغير على الرغم من التغيرات الظاهرة والتنوع الالنهائي للمقاربات ،تلكم
تعبر عن عدم التأثر الكامل بما يصفه هي اليزة الذي يعرف بها الواقع .إن التناظرات التي ّ
محملة بمعنى أنطولوجي يضاف إلى أهميتها تغير وجهة النظر ،تميل مذاك ألن تصبح ّ ّ
ً
النهجية ويكرسها :أفليس من الغري ،على غرار "أينشتين البرمنيدي" وفقا لوصف كارل
ً
بوبر ،9أن نرى في ذلك دليال لنا نحو الثبات الفترض للكائن إلى ما وراء دفق الظهور؟
َ
والعاينة العزولة ،ال يمكنهما أن ينتجا إال وعلى النقيض من ذلك ،فإن الظاهرة الحلية،
ً
من تحديد ،أو من جهل أو من قابلية انقسام .إن تقريرا تنقصه بعض عناصر الالتغير
ّ
ستدل عليه من خالل شرخ في التناظر. يؤخذ كشاهد متبق عن تناظر أوسع يمكن أن ي
تتبدى الظاهرات والعاينات الواقعية كمشتقات بسيطة لثابت شكلي يفترض أنه يمثل
ً ً
رفال من الواقع أو طرفا منه .إن االستراتيجية التي تشتمل على تقديم البيانات الخاصة
على أنها ناتجة عن "شرخ" منظومة أساسية ،بل و"واقعية" ،ال تقوم في العمق سوى
بترجمة هذه الدرجة االستنباطية كما والثقة الوضوعة فيها .غير أن هذا الوضع انقلب
ً
تقريبا خالل صيرورة إعداد النظريات .فخالل عملية (إعادة) صياغة النظريات العلمية،
تم تفسير استحالة دمج بعض النتائج الواقعية ،دون القيام بمراجعات ّ
ممزقة ،في
ً
منظومات الثوابت التوفرة كإشارة على مقاومة لألشياء ،أو أيضا كتعبير على "شحنة
الغيرية" 10التي على النظري أن يأخذها بعين االعتبار .إن غياب التناظر ّ
يعد في وقتنا
الحالي أنه التجلي الوحيد للواقع الذي نحاول سبره ،في حين أن الثوابت الشكلية
ً والطبقة ،تلك التي ّ
ّ
تم رفضها أو تلك التي اقترحت حديثا وأخضعت الختبار الستخدمة
التجربة ،فيتم النظر إليها دونما لبس كإنتاجات للذكاء العلمياتي الذي تترجمه
الرياضيات.
للشك اتجاه الوضوع الفترض ّ لهذا فإن عصور العلم "الثوري" هي عصور مالئمة
ً ً للبحث ،وللعودة االنعكاسية نحو ما ّ
نعده مثل مصادر تجريبية له .11إن موقفا ذرائعيا أو
ً ً
تجريبيا كالسيكيا ،يهدف إلى إدامة وتوسعة هذه الرحلة من انكفاء العتقدات ،لن يلقى
مع ذلك موانع أقل من الوقف الواقعي الذي يديم من جهته ويطيل مرحلة االلتزام
األنطولوجي البحت لفترات "العلم العادي" .وليست هذه الصعوبات سوى القابل الدقيق
للصعوبات التي تصطدم بها الواقعية العلمية .فكما أن الواقعي يتوضع من وجهة نظر
تمثيل للعالم َ
النجز ،فإن التجريبي الكالسيكي يتخذ موضعه من منظور مطابقة منجزة
D. Lambert, Recherches sur la structure et l'efficacité des interactions récentes entre 10
mathématiques et physique, Thèse de doctorat, Université de Louvain-la-neuve, 1995.
11راجع الجزء .6-0
18
للمادة الواقعية للمعرفة .ويصطدم التجريبي الكالسيكي كما الواقعي بتفنيد عدم اكتمال
يحرضها .فماذا عن الوقائع "البحتة" ،الجردة من توجه نظريتكويني للصيرورة التي ّ
مسبق؟ وكيف نجيب على مالحظة أينشتين التي تقول "إن النظرية وحدها هي التي تقرر
ما الذي يمكن أن ي َ
رصد"12؟
لقد كان لجانب من النقد الفلسفي العاصر ،الستلهم بشكل غير مباشر من كانط
ً ً ً ً
إنما الذي يأخذ أحيانا شكال ظاهراتيا وأحيانا شكل تحليل للغة وللممارسات ،رد فعل
ضد هذه البالغة الزدوجة .وهو يشتمل في خطه العام على معارضة وجهات نظر العمل
َ
والنجز بالالحظة اللحة التي نكون وفقها ،في كل لحظة من لحظات البحث الكامل
والتقص ي" ،في موضع ما ضمن الالمنجز وغير الكتمل ."13إن الظاهراتية ،من ّ
هسرل
ّ
حسية ،كما Husserlإلى مرلو بونتي ،Merleau-Pontyتتسم بتجريبية كالسيكية،
وبالقدر نفسه بالتذهنية التي تلهم الواقعية العلمية .فهي من جهة تأخذ على هذه
التذهنية أنها "[ ]...تفترض بأنها تحقق في موضع ما ليس بالنسبة لنا سوى نية :أي
منظومة من األفكار الصحيحة بشكل مطلق ،والقادرة على تنسيق كافة الظاهرات."14
وهي من جهة أخرى تدين التجريبية الحسية بفقدان منظور أن اإلدراك الحس ي يحمل
ً
اتجاها ما ،يقوده ّ
توجه مسبق ّ ً
محمل بـ "تقدير مسبق" .وعلى غرار حالة ركود مثالية دائما
لكون يرتكز على ذاته أو في مادة واقعية بحتة متوفرة من أجل بناء تمثيل ما ،فإنها
تعارض بين ديناميكية الواريث أو التقاليد والتوقعات ،بين الاض ي الخزن في الذاكرة
والتأليفات الوارثة الحتملة له .أما بالنسبة لتيار فلسفة اللغة والمارسات الذي كان
ّ
بتصوره األصلي لـ ويتغنشتاين Wittgensteinرائده فيتميز بشكل عميق عن الظاهراتية
"مكان ما في الالمنجز أو الالمكتمل" حيث تجري نشاطات البحث .وهو يشير إلى "هذا
21
يحدد الحرق أو النقطة األساسية ،وينس ى موقع االنطالق الألوف لخطوط الهرب التي
تقود إليه.
تصور لنا فكرة القواعد والفرضيات الرياضية التي يدافع عنها ويتغنشتاين العالقة
الوثيقة القائمة عنده بين نقد الواقعية العقائدية ونقد االختزالية االنعكاسية التي تقدم
ً
لنا التجريبية الكالسيكية مثاال عليها .فمن جهة ،يؤكد ويتغنشتاين ،كما يشرح لنا ذلك
بوفريس ،J. Bouveresse 15على الفارق الكبير بين اإلعالن أن " "2= 4 × 4والتأكيد أن
"البشر يعتقدون أن ."2= 4 × 4إن االختزالية االنعكاسية من النمط األنثروبولوجي أو
االجتماعي (العبر عنها بالقترح الثاني) تخفق في الحقيقة في األخذ بعين االعتبار لدى
االرتباط وااللتزام الذي تشتمل عليه الفرضية األولى .ولكن من جهة أخرى ،فإن هذه
االختزالية لفرضية 2= 4 × 4إلى بيانات حول التطبيقات والعقائد ال تقتض ي عدم وجود
وقائع خارجية بشكل جذري على الستوى التأصل للتطبيقات والعقائد ،والتي تجعل من
ً
هذه الفرضية صحيحة .فمحاولة إقناع متشككين بأن 4 × 4تساوي واقعيا 2ال يختلف
ً
بعد كل ش يء أبدا عن محاولة إقناعهم باستخدام هذه الساواة في عملياتهم الحسابية
وفي تسوياتهم وصفقاتهم .فإذا نجحنا بجعلهم يستخدمون مثل هذه الساواة وإذا أدركوا
ً
أن ممارساتهم وتطبيقاتهم تحسنت بشكل كبير ،فلن نشك أبدا بأنهم سيصلون عندها
فيما يخص هذه الساواة إلى بلوغ درجة من االلتزام يكافئ بالنسبة لهم القبول (وإعالن
ذلك لتشككين آخرين) بأنها ببساطة مساواة صحيحة.
يمكن نقل التحليل السابق دونما صعوبة ،لقاء بعض التعديالت ،من الرياضيات إلى
ً ً
الفيزياء .فمن جهة ،ليس مطروحا للنقاش أبدا ّرد فرضية مثل "لإللكترونات عالقة
تناسب للشحنة على الكتلة تساوي "e/mإلى الفرضية التي تقول "إن الجتمع الحالي
للفيزيائيين يعتقد بأن لإللكترونات عالقة تناسب للشحنة على الكتلة تساوي ."e/m
فقبول الفرضية األولى يقتض ي بأننا مستعدين لإللتزام بممارسات وتطبيقات تفترض
B. Van Fraassen, Quantum mechanics, an empiricist view, Oxford University Press, 1991. 19
25
ً
مفاتيح فهم العلوم في التحليل الدقيق للمشترك في المارسات بدال من البحث عنها في
مطابقة الصلة التي يمكن للنظريات إقامتها مع أي مكان آخر مهما كان.
مصادر فصول الكتاب
ولدت فصول كثيرة من هذا الكتاب ،بعد تعديلها وصياغتها ،من مالحظات
الحاضرات والقاالت النشورة في مجالت أو من مقدمات لكتب جماعية .ولهذا أود أن
أشكر هنا ناشري القاالت والقدمات لسماحهم لي بنشر كامل النصوص العنية أو جزء
منها .وفيما يلي قائمة بها:
-الفصل األول هو النسخة الوسعة بشكل كبير من عرض قمت به في 41شباط من
عام 0991في إطار ندوة بعنوان "العوالم المكنة" في الدرسة العادية العليا école
.normale supérieure
-يس تعيد الفصل الثاني ،مع الكثير من التعديالت التي أدخلتها عليه لكي آخذ بعين
االعتبار الحوارات التي كانت لي مذاك مع برنار دسبانيا ،B. D'Espagnatالقالة التالية
(بعنوان :القرب العمي من الحقيقة)M. Bitbol, "L'aveuglante proximité du réel", :
ً
.Critique, no 576, p. 359-382, 1995ولم يقدم لي هذا القال عنوانا للكتاب فقط بل
وعبره حصلت على الخط ّ
الوجه للكتاب الحالي.
-يشتمل الفصل الثالث على توسعة لقدمتي للكتاب الشترك (بعنوان :الفيزياء
والواقع ،نقاش مع برنار دسبانيا)Physique et Realite, un debat avec B. d'Espagnat, :
M. Bitbol & S. Laugier (ed.), Frontieres-Diderot, 1997.
-أما الفصل الرابع فمأخوذ في الجزء األساس ي منه من دراستيM. Bitbol, "Quasi- :
.réalisme et pensée physique", Critique, no 564, p. 340-361, 1994
-أما الفصل الخامس فهو غير منشور في القسم األكبر منه ،حتى وإن كانت بعض
األفكار التي توسعنا فيها خالله كانت قد وضعت صيغها األولية فيM. Bitbol, :
Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion,
26
،1997وكذلك في النص العنون بـ "مستقبل ّ
الذرية" النشور في الجلد الشترك بعنوان
"الفيزياء والواقع ،نقاش مع برنار دسبانيا" ،الرجع الذكور أعاله .وقد طرحت أفكاره
األولية في نيسان من عام ،0991في إطار ندوة ،REHSEISثم في مؤتمر نابولي حول
النظرية الذرية في القرن السابع عشر ،الذي نظمه فستا E. Festaوبالي .M. Blay
-ويستعيد الفصل السادس مع بعض التغييرات القالة التي تحمل عنوان
" "dispositions, propensions et déterminations catégoriquesالنشورة في الجلد
الشترك بعنوان "الفراغ الكمومي"Le vide quantique, E. Gunzig & S. Diner (ed.), :
.Editions de l'université libre de Bruxelles, 1998
ً
-الفصل السابع غير منشور سابقا بالكامل.
-الفصل الثامن يوسع ويحدد القالة التاليةM. Bitbol, "Qu'est-ce qu'un hazard :
.objectif?", in La letter mensuelle de l'ECF, n 161, p. 13-18, 1997
ً
-القدمة والخاتمة غير منشورتين سابقا.
27
28
20
.1الواقعية التقاربة والتقارب االنعكاس ي
ً
إن هدفي في هذا الفصل هو أن أقترح تحت تسمية "التقارب االنعكاس ي" مشروعا
ً
بديال للتطور التاريخي للعلوم الفيزيائية .ولكن ال ّبد قبل ذلك من عرض الشروع األكثر
ّ ً
وتفحص أساسه الجدلي ،ثم قبوال ،وهو مشروع الواقعية العلمية ،وتحديد بواعثه،
إظهار الصعوبات التي يواجهها.
1 .1الواقعية التقاربة وتوفيقاتها
قعي كان ّ ّ
الفكر الوا ّ شك فيه كما يالحظ فان فر ّمما ال ّ
يود اسن ،Van Fraassen 21أن
لو يستطيع التأكيد على أن النظريات العلمية الثبتة في عصره هي نظريات صحيحة ،وأن
ً ً ّ
تسلم بها موجودة في الطبيعة ،وأنها ّ
تقدم بذلك تمثيال دقيقا الجواهر أو الكينونات التي
للعالم كما هو .مع ذلك ،فإن تاريخ ّ
تقدم العلوم يجعل من هذا البيان التزامن للعالقة
ً
بيانا غير مقنع .لقد ّ
ارتد بالتالي معظم الدافعين عن الواقعية بين التمثيل العلمي والواقع
ّ
الصحة بال شك القول إن تطورية لوقفهم الخاص .ووفقهم ،فإنه من العلمية إلى نسخة ّ
أية نظرية علمية معطاة ليست صحيحة بشكل مطلق وال دقيقة في كافة تفاصيلها
بالنسبة لالرتباطات الفترضة للواقع باألفراد واألنواع الطبيعية؛ بل إن التوالية التاريخية
للنظريات تتالقى على األقل ،بطريقة إما منتهية أو متقاربة فقط ،باتجاه بيان صحيح
20عرضت نسخة سابقة من هذا النص في 41شباط من عام 0991في إطار الندوة التي عقدت تحت عنوان
"العوالم المكنة" ،في الدرسة العادية العليا .Ecole normale supérieure
B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 7. 21
29
ً
حرفيا لا يشبهه العالم .سمى الري لودان Larry Laudanهذا الطرح بـ "الواقعية
ً
التقاربة" ،وقد وصفه من خالل القترح الذي وفقه "تكون النظريات العلمية [ ]...عموما
صحيحة بشكل تقريبي ،وتكون النظريات األحدث أقرب للحقيقة من النظريات السابقة
في الجال نفسه."22
ّ
التصور الديناميكي للواقعية العلمية هو شارل إن أحد الرواد األكثر شهرة لهذا
يتردد بعض ّ
الكتاب بتسمية هذا ساندرز بيرس ،Charles Sanders Peirceبحيث لم ّ
ّ
التصور بـ "الواقعية البيرسية "23نسبة له .نالحظ بالتالي نقطة هامة وهي أن الواقعية
ً
عند بيرس تترافق بالبقاء على مسافة واضحة من الواقعية اليتافيزيائية .ووفقا لبيرس،
فإن أبحاث البشر تجعلهم يميلون على الدى البعيد نحو رأي وحيد فيما يتعلق بموضوع
أبحاثهم 24؛ وهكذا فإن الرأي في هذه السألة ،على الرغم من أنه غير مستقل عن نشاط
وفكر اإلنسان ،يتجاوز كل صلة مع ما يمكن أن يكون فيهذا النشاط وهذا الفكر من
ّ
وتعسف .25وبهذا العنى إنما يمكننا القول حول الرأي النهائي الشار فردية وخصوصية
L. Laudan, "A confutation of convergent realism", Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981. 22
ً
وانظر أيضا .L. Laudan, Progress and its problems, University of California Press, 1977ويمكننا هنا أن
ً ً
نعتبر أن "الواقعية التقاربة" باتت تشكل منذ اآلن فصاعدا جزءا من الحكمة اإلبستمولوجية الشتركة
للفيزيائيين .يشهد على ذلك بين شواهد أخرى الواقف التخذة من قبل آالن سوكال ( Alain Sokalفي مقالة له
بعنوان "لاذا كتبت محاكاتي الساخرة" "pourquoij'aiécrit ma parodie", Le Monde, vendredi 31 janvier
)1997حيث يقول" :يصف اليكانيك النيوتوني حركة الكواكب [ ]...بدقة مدهشة ،وهذا فعل موضوعي؛ لكنه
ً
مع ذلك غير صحيح .أما اليكانيك الكمومي والنسبية العامة فهما مقاربتان أفضل للحقيقة ،وهذا أيضا هو
فعل موضوعي" .نشير مباشرة إلى اقتران مصطلحات ـ قيم في هذه الجمل القصيرة مثل "فعل" ،و"موضوعية"،
ّ
بالتعرف على عدم مخففة مثل "غير صحيحة" أو "مقاربة" ،ذلك أنه في فضاء يسمح و"حقيقة" مع ألفاظ ّ
اكتمال بعض القيم اإلبستمولوجية إنما يتحقق مصير "الواقعية التقاربة".
P. Hoyningen-Huene, Reconstructing scientific revolution, The University of Chicago Press, 1993 .23
24ال يجب بالطبع أن نعتبر على هذا الستوى أطروحة وحدانية الرأي النهائي إال كرأي من الدرجة الثانية ّ
عبر
ً
عنه بيرس .وسنناقش هذا الرأي الطروح هنا الحقا ،عندما نناقش مسألة التحديدية التحتية للنظريات
بواسطة التجربة.
C. S. Peirce, "Critical review of Berkeley's idealism", 1871, in Selected writings, Dover, 1958, p. 82. 25
31
ً ّ
ويتحدد هذا الواقع نفسه باالستناد على الرأي النهائي ،بدال من إليه بأنه يعبر عن الواقع،
ّ
التمسك باألحرى بأي ش يء في ذاته.
لم يغب عن بيرس صعوبة ربط الحتوى الحالي للنظريات العلمية مع هذا اإلسناد
البعيد (وربما األسطوري) باتجاه الستقبل ،وهو أحد الركائز األساسية لقاربة الواقعية
العلمية العاصرة .وقد تجلت هذه الصعوبة عنده من خالل ّ
التردد فيما يتعلق بمفهومه
للـ "الحاكمة االحتمالية ،ونذكر هنا بأن الحاكمة االحتمالية تتميز عن االستنباط ،الذي
حد باستخالص النتائج الخاصة من فرضية عامة ،كما عن االستقراء الذي يزعم ي ّ
ً
استخالص مقترحات كونية انطالقا من وقائع فردية .وتهدف الحاكمة االحتمالية التي
تجمع بين وظيفة االستقراء وتطبيق عملية االستنتاج إلى تحديد القترحات العالية التي
ابتداء منها يمكن استنتاج القترحات الفردية الوافقة للوقائع الرصودة .وتتم الحاكمة
االحتمالية في ثالث مراحل زمنية .في الرحلة األولى ،نلحظ الواقعة الفاجئة F؛ وفي
الرحلة الثانية نالحظ أنه إذا كانت الفرضية العالية Pصحيحة ،فإن Fستكون ال ّبد
مرصودة ومالحظة؛ وفي الرحلة الثالثة نخلص إلى أنه توجد أسباب جيدة لالعتقاد بأن P
ً
صحيحة .ولكن ما هو الغزى الذي يمكن إعطاؤه لصيرورة الحاكمة االحتمالية؟ وفقا لا
تشير له الرحلة الثالثة من النطق العروض أعاله ،فقد بدأ بيرس بإعطاء الحاكمة
االحتمالية مرتبة الصيرورة الستقلة لبرهان احتمالية القترحات التي تؤدي إليها؛ وبعبارة
ً
أخرى ،فإن الحاكمة االحتمالية الراهنة أو الحالية تحاول سلفا من خالل ذاتها تقريبنا
من فكرة الستقبل النهائي .لكنه فيما بعد لم يعد يعتبر الحاكمة االحتمالية إال كمنهج
لصياغة الفرضيات التي تحتاج إلى االختبار .26وتشكل الحاكمة االحتمالية فقط ضمن
هذا النظور الجديد "الستوى األولى من البحث" ،أي الستوى الذي يؤدي إلى تقديم
ّ
مرشح افتراض ي إلى صف التفسير الصحيح لواقع مرصود .وهكذا ال تعود الرحلة األخيرة
K. T. Fann, Peirce' theory of abduction, MartinusNiihoff, 1970; H. de Regt, Representing the world 26
by scientifique theories, Tilburg University Press, 1994.
31
من منطق الحاكمة االحتمالية مندرجة في هذه الحالة والتي تقول" :لدينا أسباب جيدة
لالعتقاد بأن Pصحيحة" ،بل تصبح على النحو التالي" :لدينا أسباب جيدة العتماد P
كفرضية يجب اختبارها" .وهكذا فإنه ال يمكن الخلط بين فعل اقتراح فرضية والقيام
ببرهان ما لصحتها ،أو حتى الحتماليتها ،األمر الذي يضعنا في حالة ريبة كاملة فيما يتعلق
بدرجة القرب بين النتيجة الحالية لصيرورة الحاكمة االحتمالية والرأي الستقبلي النهائي.
ً
أيضا الفهوم البوبري للعلم َ
اليل إلى عدم الرؤية في ثنائية الحقيقة والواقع لقد ّأيد
ً
إال نوعا من نقطة ارتكاز للبحث العلمي .فبوبر يرى ،مثل مفكري الواقعية التقاربة ،أن
تطور العلم يشبه صيرورة مقاربات متتالية .27مع ذلك ،فإن العملية التي يفترض أنها ّ
ّ
الخمنات ودحضها ،تجعل وفق كارل بوبر من غير تدفع عجلة البحث العلمي ،أي تتالي
أي من مراحلها .وهكذا يمكن لنظرية جديدة أن ّ
تبز نظرية أخرى الوثوق تأكيد حقيقة ّ
معزز ّ
ومؤيد (أي لم ألنها تملك درجة أعلى من العمومية وألنها تشتمل أكثر على محتوى ّ
K. Popper, Objective knowledge, Oxford University Press, 1972, p. 103. 34
35راجع الرجع السابق لنيوتن ـ سميث ،W. H. Newton-Smith, The rationality of scienceص 412 .ـ .416
N. Goodman, Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1984 36
34
تجنب على هذا النحوللواقع .وهكذا يستطيع نيوتن -سميث على العكس ،بعد أن ّ
ّ
تعريف االحتمالية لنظرية بواسطة النجاح الرصدي الثبت أو التوقع ،اعتبار احتمالية
مرض لنجاحها الرصدي.
نظرية ما كتفسير ٍ
ونجد العنصرين الرئيسيين في طرح نيوتن -سميث ،كما عرضناه ّ
لتونا ،تحت أشكال
مختلفة في كافة النسخ العروفة للواقعية التقاربة.
العنصر األول هو ما يمكننا تسميته درجة معينة من "الحافظة" ،أكانت هذه
الحافظة من رتبة بنائية أو قانونية أو أنطولوجية .إن درجة دنيا من الحافظة هي
ّ
التمسك بأي متالزمة ال يمكن تجنبها للواقعية التقاربة .ألنه سيكون من األقل صعوبة
تالق تاريخي للنظريات التتالية إذا كانت تلجأ بشكل منهجي لبنى أو أنطولوجيات منفصلة.
ّ
أما العنصر الثاني الشكل للواقعية العلمية ،وبخاصة للواقعية التقاربة ،فهو التأكيد
تفسر بطريقة مرضية النجاحأنه وحدها فكرة الالءمةمع الواقع ،مهما كانت تقريبيةّ ،
ً
التنبؤي للنظريات .نجد هذا التأكيد عمليا ،على شكل "استدالل نحو التفسير األفضل"
لنجاح النظريات ،أو "استدالل باتجاه التفسير الوحيد القبول" ،عند جميع الدافعين
عن الواقعية العلمية ،منذ العصور القديمة 37حتى أيامنا هذه.
ّ
إن العنصرين الشكلين للواقعية يتالقيان في الالحظة التالية :وبما أنه ال يمكن
تفسير نجاح النظريات السابقة إال ألن رموزها تستند بشكل تقريبي إلى كيانات حقيقية في
الطبيعة وألن بناها تنتج بشكل تقريبي قوانين الطبيعة ،فإننا ال نستطيع تجنب الوصول
إلى األخذ بجزء كبير من أسسها الرجعية والبنيوية .وعندما ال نستطيع القيام بذلك علينا
على األقل تبيان أن الجوانب التروكة من النظرية السابقة هي حاالت محدودة من
النظرية الجديدة ،بل وتفسير سبب النجاح الجزئي لإلطار الرجعي والقانوني القديم
37ال شك أن لوقريسيوس Lucrèceكان من أوائل الذين استخدموا هذا النوع من الحجج ،عندما دافع عن
النظرية الذرية بذكره لـ "[ ]...أجسام [ ]...ال بد من االعتراف بوجودها على الرغم من عدم قدرتنا على رؤيتها"،
راجع .De naturarerum, I, v. 266-275ويجعل اإللحاح على ضرورة األجسام غير الرئية من هذا القطع
النموذج البدئي لـ "استدالل نحو التفسير الوحيد القبول".
35
بمصطلحات النظومة الجديدة من الكيانات والبنى .كتب بتنام على سبيل الثال عام
0916أن مهمة الباحثين أثناء تغيير نظرية ما هي الحفاظ "[ ]...على اآلليات في النظرية
ً
السابقة كلما كان ذلك ممكنا ،أو البرهان أنها حاالت محدودة من اآلليات الجديدة."38
يشير بويد R. Boydفي السياق نفسه إلى أن "[ ]...على النظريات الجديدة ،في مقاربة
أولية ،مشابهة النظريات الحالية فيما يتعلق ببيانها للعالقات السببية بين الكيانات
النظرية."39
إن الهدف من تفسير نجاح النظريات في العمق هو التبرير الركزي للواقعية التقاربة.
كتب بتنام" :إن الحجة اإليجابية بالنسبة للواقعية هي أنها الفلسفة الوحيدة التي ال
تجعل من نجاح العلوم معجزة ."40وبهذه الطريقة إنما تتجنب الواقعية العلمية اتهام
العودة إلى نسخة ميتافيزيائية للواقعية .بل هي تقدم نفسها باألحرى كنوع من نظرية
النظريات ،نظرية قابلة للدحض عند االقتضاء ،وتهدف إلى أن تأخذ بعين االعتبار
ّ
بأفضل صورة ممكنة ديناميكية تشكل النظريات العلمية وإتمامها.
2 .1التفسيرات الواقعية والال-تفسيرات الداروينية الضادة لنجاح النظريات
العلمية
تعرضت الواقعية التقاربة ،على الرغم من تجاوزها لالرتهان اليتافيزيائي ،لهجمات
قاسية على جناحيها الرئيسين ،أال وهما "الفكر الحافظ" و"القدرة على التفسير".
H. Putnam, Meaning and the moral sciences, Routledge&Kegan Paul, 1987. 38
R. Boyd, "Realism, underdetermination, and a causual theory of evidence", Noûs, 7, p. 1-12, 1973 39؛
ً
وانظر أيضاR. Boyd, "The current status of scientific realism", in J. Leplin (ed.), Scientific realism, :
.University of California Press, 1984, p. 41-82
ً
H. Putnam, Mathematics, matter and method, Cambridge University Press, 1975, p. 73 40؛ وانظر أيضا:
E. Mac Mullin, "The history and philosophy of science: a taxonomy", in H. Feigl& G. Maxwell (eds.),
[" :Minnesota Studies in the history of science V, University of Minnesota Press, 1970, p. 13-67إن]
تأكيد أنطولوجيا واقعية للعلوم هو أن الطريقة الوحيدة لتفسير لاذا تعمل نماذج العلم بمثل هذا النجاح
لتجاوز الشذوذات تكمن في أنها تقارب بطريقة من الطرق بنية الوضوع".
36
ومن بين االنتقادات الوجهة لسألة "الحافظة" ،فإن أحد أكثرها شهرة هو الذي
تغير مفاجئ للجشطالتطرحه كوهن .T. Kuhn 41إن مفهومه للثورة العلمية ،وفكرته عن ّ
ً ً
(للبنية) ،gestaltبل و"للعالم" ،من نموذج إلى آخر ،ال يترك مكانا كافيا للسكونية
الوصفية التي يطلبها الفالسفة الواقعيون من أجل تجسيد فكرة تالق تاريخي نحو بيان
تقدم آخر سوى التقدم حقيقي للطبيعة .وقاد ذلك كوهن للتأكيد بأن العلوم ال تبدي أي ّ
ّ
الدائم الزدياد السعة العملياتية ،لعدد السائل الحلولة وللدقة التي نحلها بها .وبالنسبة
له ،فإن التالقي نحو حقيقة ما بعد نظرية هو فخ في النطاق الذي "يمكن فيه لـ [كلمة]
ً
'حقيقة' ،كما هو الحال بالنسبة لكلمة 'برهان' ،أن تكون مصطلحا ليس له سوى
تطبيقات ضمن النظريات ."42وتبدو له استقرارية القوانين غير ثابتة من نظرية إلى أخرى
بشكل واضح؛ أما فيما يتعلق باستقرارية الرجع ،فإنه يكفي وفق كوهن بضعة دراسات
ً
لحاالت مأخوذة من الفيزياء للبرهان على عدم الثبات فيها .وبدال من مالحظة تالق
ً
أنطولوجي ،نلحظ غالبا كما يقول كوهن انقطاعات ونقاط انقالب وتقهقر .43إن الكينونة
الكانية -الزمانية للنسبية العامة هي على سبيل الثال أقرب في بعض النواحي من
الكينونة الكانية في الفيزياء الديكارتية منها إلى منظومة الجسم الذي يجذب عن مسافة
بعيدة في الفيزياء النيوتونية.
ً
واألمر األكثر إزعاجا كما يالحظ كل من كوهن ولودان ،L. Laudan 44ليس فقط أننا ال
ً
نلحظ أي تقدم في العلوم على مستوى غير الستوى البرغماتي البحت ،بل ونستنتج أيضا
ّ ً
تراجعات حقيقية .فغالبا ما يتم التخلي من نظرية إلى أخرى عن هدف تفسيري كان
48يقول شرودنغر في كتابه "تصوري للعالم" ( E. Schrodinger, Ma conception du monde, Mercure de
" :)France, 1982, p. 108ال أحد يدرك عالين ،عالم مرصود وعالم حقيقي".
49الرجع السابق.
41
النجاحات الجزئية لنظريات الاض ي من خالل احتماليتها ،فيمكننا عندها ّ
الرد عليه ،كما
ّ
يؤكد بأنه أراد أن ّ
يفسر في السابق ،بضعف الصلة بين النجاح الثابت واالحتمالية .وإما
مد مستقبلي للتالقي نحو منظومة من القوانين والرجعيات الوحيدة، مقد ًما اليل إلى ّ
ّ
ّ
التطور القادم .فإذا لم وعلينا بالتالي أن نسأله حول سبب ثقته الضمنية بمثل هذا
تعميم للتالقي الاض ي (الشكوك فيه) ،فإنه يجازف
ٍ يقتنع بحجة استقرائية من خالل
عندها بالقبول أن الش يء الوحيد الذي يمكن أن ّ
يبرر إيمانه بتالق مستقبلي هو أن على
يتحقق بشكل إجباري ،ألن البحث يخضع لقيود مشاركة لواقع خارجي ّ هذا التالقي أن
ّ
سابق التشكل .وهكذا ،ال تعمل أطروحة الواقعية التقاربة سوى على اإلستئثار بالنجاح
تبرر بالقابل وجودها .فالواقعية التقاربة ّ ّ
وبالتمكن الوصفي للنظريات؛ إنها ّ
تقدم التنامي
ً
في آن معا ،وإن ليس دون بعض التبادلية ،البدأ التفسيري وضمان أنه يوجد ش يء ما
لتفسيره.50
وفي الواقع ،فإن هدوء الواقعيين بمواجهة هذه االنتقادات يتأتى ربما مما يعتقدون
ّ
العلمية غير تفسيرهم .ويلومهم ّ
وتطور النظريات به بتعذر الوصول إلى تفسير آخر لنجاح
ً
لودان فعال ألنهم لم يبرهنوا أنه تنقص إبستمولوجيا مضادة للواقعية مصادر طبيعية
لكي يمكنها تقديم مثل هذا التفسير ،لكن يجب االعتراف أن مثل هذه الطريقة في ّرد
عبء اإلثبات إلى الخصم ليست مقنعة .وكان اإلبستمولوجيون الالواقعيون سيدعمون
بشكل كبير طرحهم لو ّ
قدموا فرضية مقابلة قابلة للتفسير الواقعي .فماذا لديهم إذن
لتقديمه في هذا الجال؟
تطوري دارويني ،وهو مفهوم ّ
حدد يلجأ معظم فالسفة العلوم الالواقعيين إلى مفهوم ّ
في إطار إبستمولوجي آخر عند بوبر.
هكذا ،يبدأ كوهن بقبول فكرة ّ
تقدم تراكمي لكل علم خالل مراحل العلم السمى بـ
"العادي" ،لكنه يعتبر أن االنتقال من نموذج (إرشادي) paradigmeإلى آخر يخضع
ً
.S. J. Gould, La vie est belle, Seuil, 1991 52وانظر أيضا
.F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscriptioncorporelle de l'esprit, Seuil, 1993
F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993, p. 265. 53
43
التكيف يتطلب ّ
تعددية ّ حاجة للدقة محدودة بالضرورة .وبشكل أعمق ،فإن مفهوم
ّ
التكيف ،على عكس التوافقية الصيرورات المكنة من التوافق إلى الشروط .ذلك أن
التماثلية ،ليس فيه ش يء من العالقة السكونية .وهو يتعلق ليس فقط بالوسط الذي
يمارس الشروط (القيود) ،بل بالشروع (مشروع الحياة أو التنبؤ) الذي يجب إكماله مع
األخذ بعين االعتبار للقيود .وليس لهذه الشروط أي سبب إضافي لكي ال تكون معتمدة
بشكل جزئي على نمط النشاط التضمن في الشروع التوقع ،بما هي إجابات اتجاهية على
تطبيقات وممارسات هي نفسها اتجاهية .ترتبط مشاريع البحث بالتالي ،بداهة ،مع
ً إنجازات ّ
تكيفية منفصلة عن بعضها بعضا .ويرتبط كل مشروع بينها بنطاق من بنى
ّ ً ً ّ
التعددية، وأنماط الفعل التأقلمة والميز عن النطاقات األخرى .وهي تمثل ترتيبا ثانيا من
إلى ما وراء الترتيب األول الذي ينتج عن األمثلية التحتية لصيرورة التكيف الخاصة
بمشروع معطى .يلخص لنا فون غالسرفلد E. Von Glaserfeldنتيجة هذا النمط من
التحليل على النح و التالي" :ال يعطينا [النجاح] أي مؤشر على السمات الحتملة للعالم
"الوضوعي ،بل يعني فقط أننا نعرف وسيلة قابلة للتطبيق لبلوغ هدف اخترناه ."54كان
ّ
يمكن ألهداف كثيرة أن تكون مختارة ،وكان يتوفر في هذه الحالة لكل من هذه األهداف
وسائل قابلة للتطبيق .إن موقفنا اليوم في الوضع الحالي لتطور العلوم هو االتفاق
الجماعي على هدف واحد أو على مجموعة محدودة من األهداف ،وعلى توفير الوسائل
القابلة بشكل ّ
مميز للتطبيق (والوحدة بشكل منطقي) وتحقيق هذه األهداف .إن السؤال
الطروح على هذا الستوى ،بنقل اإلشكالية الداروينية الجديدة حول الفجائي أو
ً
العرض ي ،هو معرفة ما هو الحدث (ما هي األحداث) التي قادتنا تاريخيا لتفضيل هذا
ّ
للتكيف .إن الهدف ،هذا الشروع وهذا النموذج النظري من بين أنماط أخرى ممكنة
55راجع القطع 0ـ 2من أجل اقتراحات إلجابة على هذا السؤال.
56الرجع السابق ذكره ،صF. Varela, E. Thompson, & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit .455 .
P. Duhem, La théorie physique; Vrin, 1989, p. 26. 57
58الرجع السابق ذكره ،صB. Van Fraassen, The scientific image, .20 .
45
لي أن معظم فالسفة العلوم الالواقعيين لم يتوصلوا إلى تحديد حتى أية نقطة سيظلون
محدث وعصري لخلفية من ّ تابعين لفكرة وسط واقعي جبري ومسبق ،على شكل
ً ّ
الترتيبات الواقعية أو لرابطة متعذر حلها بين العنصر الواقعي حصرا وشبكة قراءته .من
ّ ً
تقدما من بينهم ،وحتى أولئك الذين يعرفون الفيزياء العاصرة جهة أخرى ،حتى األكثر
بشكل أفضل من غيرهم مثل فان فراسين ،لم يأخذوا دون شك القسط الكامل مما كان
ّ
التفكر ّ
العمق هذا حول اليكانيك الكمومي.59 بإمكانهم استنتاجه حول موضوع
3 .1الطرح الواقعي لنضج العلوم
ّ
قبل تناول ما يمكن أن يحمله لنا التفكر باليكانيك الكمومي ،فإنه من الفيد مع
للواقعيين العلم ّيين
ّ ذلك القيام بعرض سريع لردود الفعل واالعتراضات الضادة العامة
ّ
الوجهة من الالواقعيين .ذلك أن ردود الفعل هذه هي التي سوف بمواجهة االنتقادات
تنبئنا ،على مضض ،حول الطريق الذي بقي علينا اجتيازه من أجل صياغة مفهوم
لديناميكية العلوم ،صياغة قابلة للتطبيق إنما منفصلة عن الواقعية التقاربة.
ّ
الواقعيين اإلجابة عليهما هما ّ
الرئيسيين اللذين حاول فالسفة العلوم ّ
التحديين إن
تحدي الالإستقرارية التاريخية للـ "عوالم" النموذجية لكوهن ،وتحدي التحديدية
ً
التحتية .وقد جاء الجواب عليهما مستندا على الركبة الالهوتية التي ال غنى عنها في
الشروع العلمي.
يتفق الواقعيون مقابل طرح كوهن في الالقياسية ،incommensurabilitéعلى القول
بأن جوانب كاملة من التفسيرات ومن اآلليات ومن التقسيمات األنطولوجية ،تبقى من
ّ
نظرية إلى النظرية التي تحل محلها .ومقابل قائمة لودان ،التي تظهر كمية من األطوار ما
ّ
التصورية ،لجأ كثيرون منهم إلى ما بين النظريات حيث من الؤكد نقص االستمرارية
نسميه باإلنكليزية "افتراض النضج العلمي ،"the mature science assumptionووفقه
فإنه يمكن فقط في حالة نضج كاف للعلوم تأسيس استقرار معين في تمثيل العالم.
ّ
59راجع الفقرة 0ـ 5من أجل تصور موجز لثل هذا التفكر.
46
وهكذا فقد أمكن استبعاد أجزاء كاملة من قائمة لودان ،أجزاء اعتبر أنها تستند على
علم ال يزال غير ناضج في مفترضاته وفي مناهجه .والشكلة أن فالسفة العلم الواقعيين ال
يتوصلون إلى التفاهم ال حول تعريف علم ناضج وال حول امتداد ما يبقى من نظرية ّ
ّ ّ
تحل محلها. علمية ناضجة إلى نظرية علمية
ّ ً وثيقا إلى درجة أن ًّ ً
التردد بينهما يصبح مضخما .وفي إن السألتين مرتبطتان ارتباطا
ً ّ
الواقع ،كلما كان مجال العلوم الناضجة محدودا في الجوار الحالي لحالتها الحاضرة ،كلما
قل احتمال طرح مسألة الالإستمرارية عبر – النموذجية (اإلرشادية) trans- ّ
.paradigmatiqueولكن من جهة أخرى ،فإن مقاربة مفرطة لتعريف العلم الناضج
ولتعريف العلم الحالي ستؤدي إلى االتهام الذي وفقه يحاول الواقعيون تجاهل
الالإستمرارية عبر -النظريات باالستناد على قصر النظر التاريخي.
ّ ّ ً ً ً
مقيدا جدا فيما يتعلق بما لنفترض إذن أن الفيلسوف الواقعي اتخذ قرارا ليس
يفهمه بـ "العلم الناضج" .فكيف سيجيب على وجود الإستمرارية بين النماذج؟ إنه يبدأ
ً
عموما بعدم استبعاد أن درجة معينة من الالإستمرارية يمكن أن توجد .وال يحمل هذا
التنازل أي معنى من االعتراف بالفشل إذا قبلنا أن كل ش يء في البنى النظرية ليس له ما
يوافقه في الطبيعة ،وأنه ليس من النطقي البحث عن االستقرارية إال في بنى العناصر
ً
الشكلية التي لها روابط في العالم الفيزيائي .60مع ذلك ال يجب أن يذهب الواقعي بعيدا
ً
تدريجيا في ذلك ،من تنازل إلى تنازل ،في ّ ً
الحد من جدا في هذا االتجاه ،ألنه لو مض ى
روابط النظرية في العالم الفيزيائي إلى البيانات الرصدية وحدها التعلقة بمجال صحة
الوضعي النطقي .فال ّبد
ّ هذه النظرية ،فإنه يجازف بعدم ّ
التميز عن الالواقعي ،بل عن
بالتالي وفقه من بقاء أو استمرار ش يء ما غير ذلك من نظرية إلى أخرى تليها :أي عنصر غير
ّ
الشكلية التي تقيم مع نتائج التجربة قابل للرصد بشكل مباشر؛ إنه أحد هذه العناصر
ليس عالقة إيزومورفية صارمة بل صلة ذات اتجاه وحيد من خالل إجراء افتراض ي -
M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1996. 60
47
ّ ً
استنتاجي .وهنا أيضا ينشرخ مع ذلك التوافق بين فالسفة العلوم الواقعيين ما أن يتعلق
ً ّ
والستقر في آن معا .إن الرشحين األمر بتحديد طبيعة هذا العنصر غير القابل للرصد
الثالثة الرئيسيين لإلستقرارية هم األنطولوجية ،والصيرورات أو اآلليات ،والقوانين أو
البنى العامة .أما األنطولوجيا ،أي تقسيم العالم إلى صفوف وأفراد وفق "مفاصل" يراد
لها أن تكون مسبقة الوجود ،فهي ال شك كما سبق ورأينا أكثر هذه الترشيحات إثارة
للجدل .فدون الرجوع حتى إلى أنطولوجيات مثل األماكن الطبيعية ،أو رباعيات العناصر،
أو الالهوب (سائل تصوره القدماء لتفسير االحتراق) ،أو السائل الحراري (سائل افتراض ي
يولد الحرارة والبرودة) ،التي يمكن للواقعي الطعن فيها ألنها ال تنتمي إلى حالة ناضجة من
العنية ،يمكننا أن نتساءل فيما إذا كانت عناصر من أنطولوجيا الفيزياء ّ العلوم
ً ّ
استمرت حقا ،إلى ما وراء الذرائع العاصرة ،مثل الذرات والجسيمات األولية ،قد
اللفظية والصور اإليحائية ،وبقيت رغم التحوالت النظرية في القرن العشرين (انظر
ً
الفصل الخامس) .إن ظهور مقاالت لؤلفين جادين مؤخرا ،تحمل عناوين مثيرة للجدل
ً
مثل "الجسيمات غير موجودة" ،61أو أيضا "ال يوجد قفزات كمومية وال جسيمات!"،62
ويبين استبدال تعداد Nجسيم في نظرية الحقول يشير إلى أن القضية ال تزال مفتوحةّ .
ً الكمومية في حالة ما بمفهوم اهتزاز نمط نوسان للحقل في ّ
سويته الكمومية ،Nأن بديال
ّ ً ً
تصوره ،وأنه يعمل منذ اآلن بشكل ضمني في أنطولوجيا للذرية ليس أمرا ال يمكن
ّ ً
تقدماّ .63
الواقعيين ،الذين هم يفسر ذلك أن هؤالء من الفالسفة النظريات األكثر
ً ّ
يصرون كثيرا على االستقرار العبر -نظري متلقون في الوضع الراهن للفيزياء ،ال
P. C. W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, A. 61
Hilger, 1984.
H. D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!",physics letters, A172, p. 189- 62
192, 1993.
63سوف نشير إلى ذلك في الفصلين الخامس والسادس من هذا الكتاب.
48
64
A. لألنطولوجيات ،أو على األقل أنهم يقومون بذلك بطريقة متباينة .ويشير شيموني
Shimonyعلى سبيل الثال أنه فقط إذا تم نسخ أو نقل السائل األنطولوجية على
الستوى السببي والبنيوي فإنه يمكن إثبات استمرارية تاريخية جزئية لألنطولوجيات.
ويصر دسبانيا B. d'Espagnat 65وريدهد M. Redhead 66فيما يخصهما على درجة معينة
ّ
من استمرارية البنى القانونية الكبرى ،التي تتعارض وفقهما مع هشاشة وتحللية الروابط
األنطولوجية .وضمن هذه الشروط ،يمكن لبعضهم أن يعتقد أن استمرارية واحدة على
األقل لـ وصف "اآلليات" السببية ،أو للـ تفسيرات التي تستخدم روابط قانونية بين
تظل قائمة بحيث يمكن حمايتها .لكن ذلك سيعني الخلط بين البنى ّ الظاهرات،
ً
والتوصيفات ،وسيعني أيضا اعتبار أن القوانين ال تستطيع تعيين وضبط سوى تتالي
الظاهرات مسألة مؤكدة ال لبس فيها .والحال ،فإن الحالة الفردية إنما التي تحمل معنى
ً ً ً
رفيعا للنظريات الكمومية ّ
تقدم لنا مثاال معاكسا يناقض هذين الفرضين .فمن جهة،
يطرح تفسير بنى النظريات الكمومية بمصطلحات وصفية ،وبعبارة أخرى بمصطلحات
غير تنبؤية بشكل بحت ،صعوبات ال يستهان بها .ومن جهة أخرى ،فإن قوانين ّ
تطور هذه
النظريات تقوم على رموز تسمح بتقدير احتمال الظاهرات ،وال تتعلق بشكل مباشر
بالظاهرات.
نجد أن فسنا عند هذه الرحلة في وضع دقيق .وكما يالحظ ذلك كل من دسبانيا
وريدهد بشكل محق ،فإن بعض عناصر االستمرارية البنيوية موجودة بين اليكانيك
الكالسيكي واليكانيك الكمومي .لكن هذه العناصر ال يمكن إعادة توجهيها ال باتجاه ثبات
أنطولوجي وال باتجاه استقرارية للروابط القانونية بين الظاهرات .فما هو مغزاها إذن؟
A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I, Cambridge University Press, 1993, p. 53. 64
B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994 65؛ و
M. Bitbol& S. Laugier (eds.), Physique et réalité, un débat avec B. d'Espagnat, Frontières-Diderot,
1997.
66الصدر السابق ذكره ،صM. Redhead, From physics to metaphysics .06 .
49
يحيلها شيموني إلى ما كان نيلز بور N. Bohrيسميه "مبدأ التوافق" .وباستعارة مصطلح
ّ ً
"التصورية" من بور ،يشير شيموني إلى أن مبدأ التوافق يبدي شكال من االستقرارية
نظرية إلى أخرى .ويستنتج من ذلك حجة لصالح تقارب للنظريات باتجاه منظومة مفاهيم
تعكس شكل الواقع .ولكن قبل الوصول إلى مثل هذه االستنتاجات كان ال بد لشيموني
ّ
"تصور" ،وحول األسباب التي جعلته يعتبر هذه أن يتساءل حول استخدام بور للفظة
ّ
التصورات وفق بور ال تنطبق بشكل االستقرارية "التصورية" كاستقرارية ال ّبد منها .إن
غير ملتبس إال على مجال مكاني -زماني مستمر من الظاهرات 67التي يعطينا عليها محيطنا
العرفة على هذا النحو ال تفرضاألولي .إن ديمومة التصورات ّ الباشر الثال النموذجي ّ
ّ نفسها بحق إال لكي ّ
تؤمن غياب اللبس في اتصالية النتائج التجريبية التي تظهر على
مستوانا وفي بيئتنا الباشرة .ويكشف بالتالي شكل االستمرارية العبر -نظرية التي أدخلها
مبدأ التوافق لبور عن قيود إبستمولوجية -عملياتية .ويتصل هذا الشكل باللزوم
السبق لالتصال البين -ذاتي وبقيود صلت ـ نا بالعالم ،باألحرى منه بظهور مباشر للبنى
االفتراضية للعالم .يصبح من الصعب بالتالي أن يتم استحضار "مبدأ التوافق" كحجة
ً
لصالح الواقعية التقاربة .بل هو يرسم على العكس شكال لتبرير غير مفارق لعناصر
االستقرارية البنيوية التي تشهد عليها النظريات الفيزيائية؛ تبرير من رتبة تجاوزية بمعنى
مطابقة لشروط إمكانية تحقق هذه النظريات .ومن هنا ،فإن "مبدأ التوافق" ،عبر قدرته
على إفقاد التفسير الواقعي لعناصر االستقرارية العبر -نموذجية الستنتجة بين الفيزياء
الكالسيكية والفيزياء الكمومية حصريته ،فإنه يحرم في الحقيقة هذا التفسير من جزء
ً
كبير من جاذبيته وسحره .وسيكون علينا العودة إلى هذه النقطة الحقا.68
ّ
تتعلق الجموعة الثانية من األجوبة الواقعية بضعف بيانات الالواقعيين لديناميكية
العلوم .إن الفكرة التي طورها كوهن لتقدم عبر -نموذجي من خالل زيادة عدد السائل
C. Chevalley, "Glossaire", in N. Bohr, Pysique atomique et connaissance humaine, Gallimard, 1991, 67
p. 411
68راجع الفقرتين 0ـ 5و .1 -0
51
ً
القابلة لحل ما تواجه عقبة كونها فكرة كمية بحتة .فهي ال تقول لنا شيئا ،بشكل خاص،
عن الظروف التي يحق فيها للباحثين اعتبار أن مسألة ما تطرح بشكل مشروع عليهم.
ً
محقا نيوتن -سميث ،69فإننا ال ّ
نعد كنظرية علمية نظرية تحل مسائل ال وكما يالحظ
معنى لها .فال ّبد بالتالي من معيار النتقاء السائل .والحال ،يتابع نيوتن -سميث ،فإن
العيار الوحيد الجدير بالتصديق يتصل بشكل ما مع الحقيقة :فالسائل الجيدة هي
السائل التي تكون لقدماتها فرص بأن تكون صحيحة .70إن الشروع العلمي ،دون توجيه
مصمم ّ
بحده األدنى كمثال ناظم ،يجازف بالوقوع في الالمعنى .وفي إطار فكر ّ نحو الحقيقة
قريب من هذا الفكر ،يالحظ فيراباند ،P. Feyerabend 71في الوقت الذي كان يضع نفسه
كمدافع عن الواقعية العلمية ،أن األداة اللسانية ،التي نستخدمها من أجل التعبير عن
قضايا قابلة للرصد ،مشروطة بقضايا مسبقة فيما يتعلق بوجود مواد التجربة .األمر
الذي يمكن التعبير عنه على النحو التالي ،من خالل التشابه مع حجة نيوتن -سميث:
فإذا أردنا أم لم نرد ،وإذا قبلنا بالوروث اليتافيزيائي أم لم نقبل ،فإن الشروع العلمي
يستخدم كمرجع وكدليل بنية مرجعية ذات تابع ناظم.
ً
تشير هذه الحجج األخيرة إلى انعطاف هام في دفاع الواقعية التقاربة .فبدال من
محاولة إنشاء الصحة والشرعية من وجهة نظر خارجية لنظرية في العرفةّ ،
تتم اإلشارة
إلى قيمتها الداخلية ،من وجهة نظر العامل في تقدم العلوم .كان فيراباند األول في عدم
ً ّ
التردد باعتبار أن هجوما ضد الواقعية التقاربة هو في الوقت نفسه هجوم ضد النهج
ّ
يتضمنها وله تدين بنجاحها .أما بوتنام Putnamفكان العلمي بكامله ،72ألن هذا النهج
69الرجع السابق ذكره ،صW. H. Newton-Smith, The rationality of science .069-066 .
70إن مسألة مثل" :لاذا جميع البجع لونه أخضر؟" ال يمكن أن تطرح ،لسبب بسيط هو أن مقدمته النطقية
("كافة البجع لونه أخضر") هي مقدمة خاطئة.
P. K. Feyerabend, Realism, rationalism, & scientific method, I, Cambridge University Press, 1981, 71
p. 20.
72الرجع السابق ،ص.06 .
51
يؤكد من جهته في السبعينيات (من القرن الاض ي) أن الواقعية ،إذا جاز القول" ،هي
ّ ً ً
يتضمن الواقعية ."73وفي فلسفة علوم العلم" ،أو أيضا أن "العلم ،مأخوذا بشكل حرفي،
ّ
نهاية السبعينيات وبداية الثمانينياتّ ،أدت هذه الالحظات التي نظمها ودرسها بوتنام إلى
والدة "الواقعية الداخلية".
ّ ً
متلبسا بنقص التانة تحاول هذه الحاججة في العمق اإلمساك بالفيلسوف الالواقعي
اتجاه ّ
تصوره الدارويني الخاص لتطور العلوم .إن تقارب السلسلة التاريخية للنظريات
ً ً
العلمية نحو حقيقة وحيدة ،عبر -نموذجية ،ربما يكون وهما (علما أننا ال نملك في كل
األحوال أية وسيلة للتأكد من ذلك ،على ّ
حد قول الالواقعي نفسه) .غير أن ال ش يء يمنع
ً
خصبا ،بسبب قدرته على ّرد كل من اإلخفاقات التي ّ
تعرض لها مثل هذا الوهم أن يكون
إلى مسيرات جديدة موجهة نحو مستقبل العلوم .فال ّبد في أبسط األحوال من اعتبار
الواقعية التقاربة كطريقة لتأمين حاضر البحث العلمي بجعله يرتكز على الستقبل
ً
الفتوح عبر مشروعه الخاص .وهذا وحده سيكون كافيا لفهم أنه أمكن لها ،مثلها مثل
ً
النظريات نفسها ،أن تكون "منتخبة" من خالل إجراء مواجتها مع التجربة .إن افتراضا
مسه ًال لإلبداع ،والثقة تجاه التطورات الستقبلية والبحث عن ّ ً
عاليا ّ ً
تكيف أمثلي مسبقا
للنظريات ،كان وال ّبد أحد العناصر القدمة في سبيل ضغط عملية االنتخاب خالل
ً ّ ً
التطوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر ،74فإن سلوكا إعداد العلوم .وكما يعرف جيدا
ً َّ ً
موجها ،يمكن أن يفترض مسبقا معتقدات ،يميل إلى دفع التعضية باتجاه بيئة يصبح
ً
فيها هذا السلوك فعاال ،بل ويوسع الحيط القبول .يقود ذلك إلى تركيز ضغط االنتخاب،
وإلى تضخيم أثره من خالل انحرافات الفاعيل الرجعية .يمكن أن يكون ّ
تطور العلوم قد
اتبع الدرب نفسه ،باستثناء أنه استبدلت في هذا الدرب التوترات السلوكية نحو أهداف
73الرجع السابق ذكرهH. Putnam, Meaning and the moral sciences .
J. M. Baldwin, "Organic selection", Nature, 55, 558, 1897 74؛ و J. Piaget, Le comportementmoteur de
l'évolution, Gallimard, 1976.
52
ّ
الجرد للوصف الخلص لواقع سابق التشكل. ملموسة بتوتر إبستمولوجي باتجاه الهدف
وبالطريقة نفسها التي انتهى فيها البيولوجي إلى االعتراف بأن ّ
تطور األنواع ال ينطوي فقط
ً
وأيضا على التجاوز الذاتي لسلوك َّ
موجه ،كذلك على لزوم انتخاب طبيعي أعمى بل
أليس على الفيلسوف الالواقعي أن يأخذ بعين االعتبار أن تطور النظريات ال يتم تحت
الضغط التأصل في الظاهرات وحده ،بل كذلك في إطار التجاوز -الذاتي لوقف البحث
ً
عن الحقيقة؟ ذلكم هو ،أيا كان الحال ،التنازل األقل الذي ينتظره الواقعي العلمي من
محاوره الالواقعي.
4 -1تجريبية بنائية أم واقعية كسياسة بحث؟
ً
ذلك هو أيضا التنازل الذي ال يستبعد على الالواقعي الحديث أن يكون قد قام به،
األمر الذي أتاح ،إذا أخذنا بعين االعتبار اعتدال بعض الواقعيين ،إمكانية حقيقية
ً
للحوار حيث كانت تتواجه سابقا خيارات متعارضة في أساسها.
إن الالواقعية العلمية الحديثة ليست سوى "التجريبية البنائية" لفان فراسين،
والواقعية العلمية العتدلة التي توافقها بكافة تفاصيلها هي ما سماه روم هاريRom 75
Harréبـ "الواقعية السياسية" ،وهو تعبير أترجمه بـ "الواقعية كسياسة للبحث".
ً وفق التجريبية ّ
البناءة ,بداية ،فإن كل نظرية ترتبط دائما بنموذج للمجال الذي
يفترض أن تطبق فيه .وضمن إطار الوصف الذي يسمح به هذا النموذج إنما يتم تقدير
َ ً
مالءمة النظرية للظاهرات .وبدال عن الواجهة النطقية بين الصورية الف َّسرة والبيانات
ّ ّ
يحل محلها تقييم لتماثلية (إيزومورفية) الرصدية ،عبر قواعد التوافق التجريبي ،فإنه
جزئية بين نموذج نظري كامل والنموذج التحتي من البيانات الرتبطة به .ويتجاوز هذا
االستبدال بداية تفسير القوانين وبنى النظرية كانعكاسات للطبيعة ،أو كعمليات تسمح
بتنظيم معطيات خام مصدرها هذه الطبيعة .ذلك أن القوانين التي نتكلم عنها ليست
B. Van Fraassen, Laws and symmetry, Oxford University Press, 1989, p. 188 76.؛ والترجمة الفرنسية له
C. Chevalley, Lois et symétrie, Vrin, 1994
77الرجع السابق ص.010 .
54
يستتبعه االستخدام الجلي أو الضمني لـ "كما لو" ،حيث يتبدى االعتقاد هنا مثل
قيمةليست فقط إدراكية بل وكذلك أخالقية .أما السمة الثانية فهي إعداد معيار غير
تجريبي ّ
يشرع نزعة التحديدية التحتية للنماذج.
ً
في البداية ،ظهرت "الواقعية السياسية" مثل نسخة ضعيفة جدا للواقعية العلمية،
طالا كانت ّ
تحد نفسها باليقين الذي وفقه "[ ]...تكون قراءة النظريات بحسب التفسير
الواقعي أكثر عقالنية [ "]...من القراءات الالواقعية .78وضمن هذه الشروط ،ال يمكن
تسلم بها النماذج النظرية أن يستحضر ّ ّ
ضد إلخفاق محتمل للبحث عن كيانات
ّ
"الواقعية السياسية" .ذلك أن هذه األخيرة تتطلب فقط أنه من الواقعي االلتزام دون
فكر مسبق في البحث عن هذه الكيانات ،وليس أن يكون علينا إيجادها والبرهان على
وجودها .لكن هذه التطلبات التواضعة ،التي بالكاد ّ
تميز للوهلة األولى "الواقعية
السياسية" عن التجريبية البنائية ،إنما تعطيها الوسائل للمض ي إلى ما وراء هذه األخيرة
ّ
وتصب مع التيار األكبر للواقعية العلمية .ويؤكد هاري في الواقع أن مبدأ الواقعية لتلتقي
يحقق قيمته بطريقة عبر -نظرية .ويكتب هاري ،بقدر ما يكون األمر كسياسة للبحث ّ
ً ّ ً
منطقيا أن نبحث عن كيانات تسلم بها نظرية ما ،بقدر ما يكون األمر كذلك أيضا فيما
ّ
يتعلق بمتابعة البحث في الجال الذي تحكمه النظرية التالية عن أنماط كيانات معروفة
ّ ً
مسبقا ،مثل األجسام الادية ،واألوساط الستمرة السائلة والهيئات .وهكذا فإنه يتوفر
لدينا معيار غير تجريبي الختيار النماذج والنظريات التتابعة :وهو يتمثل في انتماء كياناتها
إلى تراتبية وحيدة من األنماط األنطولوجية.
وفي النهاية ال تكون نظرية ما مقبولة وفق هاري إال بشرطين )0( :أن تكون مالئمة
ّ ً
تتضمن آليات وكيانات تنتمي إلى التراتبية تجريبيا ،و ( )4أن تكون "معقولة" ،بمعنى أن
الوحيدة من األنماط األنطولوجية التي تكمن وراء تاريخ الشروع العلمي بكامله .إن
R. Harré, "Three varieties of realism", in A. A. Derksen (ed.), The scientific realism of Rom Harré, 78
Tilburg University Press, 1994.
55
الشرط األول هو شرط تحت -تحديدي ،في حين أن الشرط الثاني قابل إلتمام
التحديدية.
ّ
التصورات الواقعية هكذا نرى كيف ّ
تبرر "الواقعية السياسية" انتماءها إلى عائلة
للعلوم .فالواقعية السياسية تأخذ اثنين من ّ
تصورات واقعية العلوم األساسية ،وهما
الغياب الحالي أو الستقبلي لتحت -التحديدية ،واستقرارية نواة أنطولوجية أو بنيوية،
ً ً ّ
مستشفة على هذا النحو تالقيا نحو التقابلية isomorphismeمع الواقع .لكنها بدال من
اعتماد التأكيد على تحديدية صارمة واستقرارية عبر -نموذجية كبيان وصفي خارجي
لحالة العلوم (الحاضرة أو التي ستكون) ،فإنها تعطي لالستقرارية حالة متقادمة داخلية
بالنسبة لتطبيق العلوم ،وتجعل من نزعة تحت -التحديدية نتيجة لهذا التقادم.
ّ
تتوصل إلى تغيير البرهان والتدليل الالواقعي الذي قامت وبإدخالها للبعد التقادمي فإنها
بالكثير من التنازالت لصالحه في البداية ،وتعطيه كافة السمات الداخلية لواقعية علمية.
ً
ونالحظ في الواقع أن التجريبية البنائية ترى في التحديدية الفعلية للنظريات حادثا
ً
تاريخيا ،يعود إلى اعتماد حادث طارئ ذي ّ
توجه أولي وإلى العقالنية التغيرات الفرطة
الالحقة .وبهذه الروح نفسها تعتبر البنائية أن "[ ]...إمكانيات بناء [نظام ضمن دفق
حد بالراحل السابقة من البناء ."79أماتنفك ت ّ
ّ ّ
محددة ،وال التجربة] هي إمكانيات
تحول من جهتها معاينات الهيئة الواقعية هذه لفلسفات "الواقعية السياسية" فإن ّ
ً ً توجه األبحاث .وبذلك فإنها ّ
العلوم الالواقعية إلى حتمية استقرار في ّ
تقدم بديال مميزا
لعاينة أخرى ذات مظهر واقعي ،معاينة خاصة هذه الرة بالواقعيين العلميين :إنها
ّ
العاينة التي يقوم بها هؤالء األخيرين عندما يؤكدون بدعم من طرحهم االستقرارية عبر -
النظرية لبعض العناصر الشرعية واألنطولوجية .وباإلجمال ،تقدم "الواقعية السياسية
الحتميتين التواجهتين ،الحتمية الالواقعية إلشراط تاريخي لصيرورة ّ
تكيف وتالؤم ّ مقابل
79الرجع السابق للمؤلف صE. Von Glaserfeld, ''Introduction à un constructivisme rqdical'', in P. .20 .
Watzlawick, L'invention de la réalité
56
النظريات والحتمية الواقعية الستقرارية الكيانات النظرية العائدة لتوافقها التدرج مع
ّ
الحتمية ّ
الحتميتين .إن مظهر الكيانات الوجودة ،فكرة قرار استراتيجي يربط بين هاتين
الثانية ّ
(التجه نحو الستقبل) ينتج هنا عن خيار التوافق قدر اإلمكان مع نتائج الحتمية
ً
األولى (النتائج التجذرة في الاض ي) .وسوف نرى مثاال على هذه الصلة بين هدف البحث
وتاريخه في الفصل الخامس ،الخصص للرؤية الذرية.
5 -1الراحل الثورية واالستمرارية األنطولوجية
ّ
التصور الداللي للنظريات ،في شكله الالواقعي (التجريبية البنائية) أو الواقعي ّ
يتبدى
ً
("الواقعية السياسية") ،أنه منذ اآلن فصاعدا السرح الجديد للنقاشات في فلسفة
ّ ً
التصور الداللي العلوم .80فهل هذا التوافق مبرر؟ وبداية ،على ماذا يشتمل تحديدا
للنظريات؟
ّ
التصور الكالسيكي (البديهي axiomatique ّ
للتصور الداللي ،من وجهة نظر إن
والنحوي )syntaxiqueللنظريات ،وعلى خالفه ،سمة ّ
مميزة في إعطاء األولوية للنماذج
على البيانات الرصدية كما وبالدرجة نفسها على البيانات البديهية .ولكن ،ما هو
ً ً ً
"النموذج"؟ إن النموذج بمعناه العام جدا الذي يغطي عددا كبيرا من الفاهيم
ً
شيئا آخر سوى بنيةّ ،
مكونة من مجموعة من الستخدمة في مختلف العلوم ،ليس
األشياء والعالقات والعمليات على هذه األشياء .إن نموذج نظرية هو بنية لهذا النمط
ّ
الشتقة من بديهيات النظرية مرضية .81لهذا الذي تكون بالنسبة له كافة البيانات
ّ ً ّ
"التصور البنائي للنظريات التصور الداللي للنظريات العلمية يسمى أيضا السبب فإن
F. Suppe, The semantic conception of theories and scientific realism, University of Illinois Press, 80
1988.
P. Suppes, "A comparison of the meaning and use of models in mathematics and the empirical 81
sciences", Synthese, 12, p. 287-301, 1960؛
وقد أعيد نشر هذا القال في P. Suppes, Studies in the methodology and foundations of science, Reidel,
.1969.
57
ً ّ ً
تميزا للتصور الداللي للنظريات هي أنه عوضا عن العلمية ."82إن الخصوصية األكثر
التركيز على انتخاب البديهيات وعدم االهتمام إال بعد فوات األوان بالتوافق بين النظرية
صف كافة النماذج التي ّ ّ والتجربة عبر "تفسيرها" ،فإنه ّ
تقدم يعرف نظرية على أنها
ّ ً
يتعدل بشكل عميق مغزى مباشرة تفسيرا بمصطلحات األشياء والعالقات .وهكذا
التصور الكالسيكي للنظريات ،وهما البيانات الرصديةّ العنصرين اللذين يتدخالن في
والبيانات البديهية للصورية النظرية .وفي الواقع ،فإن البيانات الرصدية والبيانات
التصور الكالسيكي هي عبارة عن سلسلتين منفصلتين ترتبطان فقط من ّ البديهية في
خالل التفسير .وعلى العكس ،في التصور الداللي للنظريات ،فإن البيانات الرصدية ت ّ
عد
هي ذاتها غير منفصلة عن نموذج ما (وبالتالي عن النظرية التي يسهم في تعريفها) .إن
السبب الذكور لصالح هذا التراكب هو أنه ليس مجموع الحتوى اإلدراكي للباحث في
ّ
مختبره الذي يقارن مع النظرية ،بل فقط البقية البنيوية ،الشكلة في جزء منها من خالل
شكل التوقعات الستقرأة بواسطة النموذج النظري الشامل الذي يجب أن َ
يقابل بها .إن
هذه البقية البنيوية ،التي تسمى "نموذج العطيات" ،هي التي تترجم فيما بعد بش يء ما
نستمر في تسميته ببيان "رصدي" ،حتى وإن كنا لم نعد نطابقه مع تقرير "ال تشوبه
شائبة" لرصد َّ
مفسر .وفي مدى آخر ،فإن ما يوافق أن نسميه الصورية النظرية ال يظهر
في التصور الداللي إال كنواة مشتركة َّ
محررة بعد فوات األوان من البنية األغنى للنماذج
التي ّ
يعرف صفها الكامل النظرية.
ً
وعلى العكس ،فإنه من المكن أيضا وصف التصور الكالسيكي (البديهي والقواعدي)
للنظريات من وجهة نظر التصور الداللي ،وبشكل معارض له .وعلينا من أجل ذلك
ً
االنطالق من فكرة خاصة بهذا التصور األخير ،أن نظرية ما تكافئ صفا Tمن البنى
الجموعاتية التي تشتمل على أشياء وعالقات وعمليات .بعد ذلك ،فإن كال من هذه
َّ
حلل إلى عدة بنى تحتية بحيث تكون األكثر ّ
أهمية النماذج أو البنى الجموعاتية يمكن أن ي
82الرجع السابق للمؤلف ،الفصل التاسعB. Van Fraassen, Lois et symétrie .
58
من بينها( :أ) البنى التحتية التجريبية ،التي تقارن بشكل مباشر مع نتائج مختلف التجارب
العبر عنها على شكل "نماذج معطيات" ،و(ب) البنية التحتية األنطولوجية ،التي ّ
تحدد
ّ
صف الكيانات التي نعتبر أن التجارب تمارس عليها ،كما والعالقات الفترض وجودها فيما
عرف الطابقة التجريبية لنظرية ما كإمكانية لدمج كل بنية من أصل بينها .عندها ت َّ
الظاهرات (أو نماذج العطيات) في إحدى البنى التحتية التجريبية للنماذج العامة من
الصف .Tإن الكافئ األنطولوجي للنظريات التتالية َّ
يعرف من جهته على أنه التقابل بين
البنى التحتية األنطولوجية لنماذجه؛ تقابل داخل تاريخ التجريبية العلمية الذي ،بالنسبة
ّ ً
لواقعي علمي ،يوحي بالطبع (إذا كان مؤكدا) بتقابل ما خارجي بين البنية التحتية
األنطولوجية للنظريات و"البنية األنطولوجية للعالم".
وضمن هذا النظور ،يمكن من جهة أخرى أن يكون من الهم تحرير بنية صغرى
تسمح بربط البنى التحتية التجريبية لكافة نماذج الصف Tفي أداة تنبؤية َّ
موحدة .إن
ّ
تتضمن هذه البنية التحتية الصغرى الشتركة ،التي سنسميها البنية التنبؤية للنظرية ال
ً
عموما البنى التحتية األنطولوجية ،ألن هذه األخيرة يمكن أن ت ّ
تغير من نموذج إلى آخر.
فهي تتوافق بشكل جيد مع ما كنا لنعتبره ،في التصور الكالسيكي للنظريات ،كجمع لـ
"الصورية البحتة" للنظرية مع قواعدها الوحيدة في التوافق التجريبي.
ّ
التصور الداللي تأسس توافق ّ
معين حول مفهوم نفهم ابتداء من هذه النقطة لاذا ّ
ّ
التصور الداللي أصبح بإمكان الالواقعيين التالقي ،دون الرجوع عن للنظريات .فبفضل
رأيهم ،مع النقد الواقعي للمواجهة اإليجابية بين صورية غير َّ
مفسرة وبيانات رصدية
ّ ّ
الحجة مع الالواقعيين على أرضية مستقلة؛ وهكذا يمكن للواقعيين االستدالل وإقامة
ً
التطبيق النمذج للبحث ،دون أن يفقد أبدا مع ذلك عن ناظريه خط الهدف الناظم
باتجاه نموذج "صحيح" للطبيعة.
ّ
التفوق العترف به للنماذج يجازف بتعطيل إدراك الراحل األكثر تكمن الشكلة في أن
ً
عمدا إلى ّ ّ ً
مجرد اعتبار البنية التنبؤية تميزا في تاريخ الفيزياء ،إال إذا كان قد تم تقليصه
59
وحدها للنظريات .83ألن متابعة تراتبية األنماط األنطولوجية الدرجة ضمن متوالية من
النماذج لم تعتبر كقيمة من قبل جميع العلميين وفي كافة العصور .هذا من جهة ،ومن
جهة ثانية ،فإن ما يميز الراحل الحاسمة من ّ
تطور العلوم الفيزيائية ،كما سوف نرى ،هو
انقاطع وقتي للسلسلة النمطية الدرجة في البنية التحتية األنطولوجية للنماذج ،وليس
ً ً
نشاطا مستمرا في التحول؛ إنه انهيار لهذه البنى التحتية األنطولوجية يليه إعادة بنائها
البطيء ،باألحرى من إعادة التوجيه البسيطة لنشاطات النمذجة التي تستتبعها .وما
ّ
التصور الداللي للنظريات بكامل اتساعه ،في الفيزياء يزعج أكثر في األمر بالنسبة لتطبيق
ّ
الجردة من البنى التحتية الكمومية ،هو أن إعادة تشكيل النماذج العامة ،غير
ً األنطولوجية والقادرة على أخذ مجمل الظاهرات الصغائرية بعين االعتبارّ ،
يظل معرقال
ّ ّ
ويستمد بشكل دائم بواسطة حواجز يعتقد باحثون كثيرون أنه ال يمكن تخطيها.
الصوريون من هذا األمر أهمية حاسمة ،وتظل النماذج إما في ّ
حدها األدنى أو ّ
مجزأة أو
نظرية فائقة .فلنبحث هذه النقاط حسب التسلسل الذكورة فيه.
ّ
بداية ،ليس من الؤكد بشكل مطلق بالنسبة للباحثين العلميين ضرورة أن يأخذوا
على محمل ّ
الجد الحتوى األنطولوجي للنماذج ،ال بل وأن يكونوا واقعيين بشكل تلقائي.84
فال تنقصنا األمثلة العاكسة على الباحثين الجيدين األداتيين بشكل صارم ،أكانوا من
83ال يتعلق األمر هنا بنفي أنه ،في بعض قطاعات البحث العلمي ،يكون دور النموذج بالعنى األغنى (أي غير
ً ً
الحدود ببنية تنبؤية) دورا رئيسيا على نحو فعال .لكن ذلك فقط في الحالة التي يتعلق فيها األمر بفهم نظام
طارئ باألحرى من بنى ذات نزعة كونية .يجب هنا التمييز بين "منظومات للعالم" بالعنى البطلميوس ي أو
الكوبرنيكي و"قوانين الطبيعة" بالعنى الديكارتي أو النيوتوني .إن نظام النظومات األولى هو نظام طارئ ّ
ويبرر
إجراء يجمع بين اإلعداد التخميني للنماذج والقابلة مع الظروف الرصدية القابلة للدحض بشكل كموني .أما
النظومات الثانية فتحفظ بالقابل عالقة وثيقة (إلى حد ما) مع الضرورات التجاوزية ،ويتدخل شكلها كأساس
ألي نموذج مناسب لـ "منظومات العالم" .إن التشديد الحصري على النماذج ،على األقل على النماذج غير
الدنيا ،هو على األرجح إشارة على إدراك ناقص للحظات التجاوزية الدمجة في النظريات الفيزيائية .راجع مقالة
ميشيل بيتبول حول هذه النقطة بعنوان "قوانين الطبيعة ،هل هي طارئة أم ضرورة"M. Bitbol, ''Les lois de :
.la nature, contingence ou nécessité'', Cahier de philosophie ancienne et du langage, 1998
،L. Laudan, ''A confutation of convergent realism'' 84في الرجع سابق الذكر للمؤلف.
61
الوضعيين أم من التقليديين ،مثل دوهيم Duhemوماخ Machوبوانكاريه Poincaré
والشاب باولي .Pauliفدوهيم P. Duhem 85على سبيل الثال لم يقع في مطب السخرية
ّ
الجرد ّ
بتصوره من ذوق الفيزيائيين اإلنكليز فيما يتعلق بالنماذج (اليكانيكية) ،ويقابلهم
للنظرية التي ّ
تبدى أنها في بعض الحاالت (مثل الديناميكا الحرارية الجهارية) أكثر خصوبة.
بعد ذلك ،وبشكل خاص ،إذا حللنا تاريخ العلوم الفيزيائية ،فإننا نلحظ أن العالقات
التي كانت للباحثين مع نماذجهم لم تكن مشاركة وال ثابتة غير متبدلة .ويمكن للحظات
الثورية بشكل خاص أن تقسم إلى ثالث مراحل من وجهة نظر هذه العالقات:
ّ
التغيرات العميقة .0مرحلة اإلسقاط النهائي للنماذج السابقة ،على حساب
لواصفاتها؛
ً
.4مرحلة نقد جذري للنماذج السابقة ،تكون أحيانا مرحلة تشكيك فيما يخص
فائدة النماذج التي تذهب إلى ما وراء البنية التنبؤية؛
.3مرحلة تحـ ـضير معايير جديدة لتشكيل النمـ ـاذج وإلنشاء نماذج جديدة ليست في
َّ
مصممة ض ـ ـ ـمـ ـن منظور است ـم ـ ـرارية ج ـ ـ ـزئية بواس ـ ـ ـطة األنماط حدها األدنـ ـ ـى
األنطولوجية ما قبل الثورية.
يحفظ هذا التحليل بشكل جزئي مخطط "الواقعية السياسية" ،طالا أنه يكون علينا
ّ
التعرف ،من الرحلة ما قبل الثورية إلى الرحلة ما بعد الثورية ،على تدخل معيار
الستمرارية تراتبية األنماط األنطولوجية وأنماط التفسير .غير أن الواقعية السياسية ال
تحفظ كاملة ،ألن الرحلة الثورية بحصر العنى ،منطقة االنهيار هذه التي يبنى فوقها
جسر األنماط األنطولوجية ،تغيب عن هذا التحليل وتفلت منه.
إن بعض األمثلة على التحليل الثالثي السابق ستكون مفيدة لنا .وأول األمثلة الذي
ً
أعتبره هاما من بينها هو مثال الثورة النيوتونية .كانت نظرية الجاذبية قبل نيوتن
ّ ً ً ً
ميكانيكية (آلية) بالعنى األكثر ضيقا للكلمة ،فكانت تستخدم معيارا ديكارتيا لتشكل
W. Whewell, "Of the transformation of hypotheses in the history of science", Transactions of the 86
Cambridge philosophical society, 9, p. 139-147, 1851.
وحول كامل هذه الحركة التأرجحية للتاريخ راجع:
.L. Laudan, Science and values, University of California Press, 1984, p. 55-60
62
ّ ً
متجددة للكانطية ،فقد مال العديد هلمهولتز Helmholtzأو هرتز Hertzاقترحوا أشكاال
ً
من فيزيائيي القرن التاسع عشر عمليا إلى تجاهل األمثولة الرئيسية في الفلسفة النقدية،
أال وهي حلول إشكالية في تشكيل الوضوعية محل إشكالية تحديد عناصر أنطولوجية
ما .87بعد ذلك كله كان يمكن االعتقاد أن كانط نفسه ّ
قدم اإلجراء الذي يسمح في إطار
ممارسة العلوم بأال نأخذ بعين االعتبار لتحليل شروط إمكانية التجربة .فعلى الرغم من
تتم فيها محاولة استكشاف مجال كان يمكن للظاهرات فيه ان الفترة الطويلة التي كانت ّ
ً
تكون مرتبطة بشكل مناسب مع مبادئ ديمومة الجوهر والسببية والتبادلية ،فإن شيئا
لم يكن يمنع من إسقاط هذه البادئ على الطبيعة ،ومن التصرف بالضبط كما لو كنا
نتعامل مع خصائص ألشياء موجودة "بذاتها".
بالتالي ،كانت الفترة المتدة بين نهاية القرن الثامن عشر ونهاية القرن التاسع عشر
من جديد فترة إعداد النماذج والنسيان التواتر لنظامها األساس ي من النماذج ،أي فترة
الجد .أضيف إلى ذلك إعادة تحديث لنمط مكوناتها وفق نمط واقعي على مأخذ ّ أخذ ّ
ً
عالئقي معروف جيدا ،هو نمط أفعال االتصال ،وذلك عن طريق التغيير في مفهومي
األثير والحقل .وقد حصلت مقاومات كثيرة شديدة خالل النصف الثاني من القرن
التاسع عشر ،من أداتيين وظاهراتيين وطاقيين واصطالحيين ،لهذا اليل إلى العودة
للنماذج بكل غناها .وقد ّ
أقضت هذه المانعات الذكورة ،التي يمكن قراءتها في معظم
األحيان ّ
كردة فعل للمرحلة الثورية في إعداد الترموديناميك ،مضجع أكثر الفيزيائيين
ً
إبداعا في بناء وتبرير النماذج ،وقادتهم في أبسط األحوال إلى تقييم نقدي للمضمون
األنطولوجي للنماذج .88لكن سرعان ما تم استبعاد هذه المانعات بدورها خالل السنوات
األولى من القرن العشرين بواسطة ما كان يبدو في ذلك الحين االنتصار الذي ال منازع فيه
للنموذج الذري.
87نشدد هنا على لفظة أنطولوجيا بما هي تعيدنا إلى القبول اليتافيزيائي للمصطلح.
R. Dugas, La théorie au sens de Boltzmann, le Griffon, 1959. 88
63
ً
مع ذلك ،كانت سنوات التوافق هذه حول النموذج الذري هي أيضا سنوات ثورة
النظرية النسبية والثورة الكمومية ،واللتين سنطبق عليهما اآلن التحليل الثالثي الراحل
السابق.
كانت إحدى ّ
القدمات األولى للثورة النسبية هي النتيجة السلبية لتجربة مايكلسون
ومورلي Michelson-Morleyحول هواء األثير .وكان أول ّرد فعل على هذه النتيجة هو ّرد
فعل لورنتز Lorentzالذي حاول تعليلها باللجوء إلى كافة مصادر نموذج األثيرّ .
وبين
لورنتز معتب ًرا القوى الكهربائية كحاالت ضغط داخلية لألثير ،أن هذه القوى كانت ّ
تتغير
ّ
التغير كان يؤدي إلى انضغاط ّ
يتحرك جسم مادي في هذا الوسط ،وأن هذا عندما
الجسم في اتجاه االنتقال .وبالثل ،كانت الكتلة الفعلية للجسم تزداد بسبب حدوث أثر
الخر (مثل مخر سفينة لياه البحر) في األثير ،وكان ذلك يؤدي بدوره إلى تباطؤ للساعات
التحركة .89وكان انضغاط األجسام وتباطؤ الساعات ضمن التناسبات الصحيحة ّ
يفسر، ّ
في إطار التمثيالت القبولة وأنطولوجيا األثير العترف بها آنذاك ،النتيجة السلبية لتجربة
مايكلسون ومورلي .والشكلة أن هذا االستخدام النهائي للنماذج القديمة كان قد ظهر
بوضوح بالنسبة لهذه النتيجة .ألنه كان ال بد من استحضار نتائج حركة األجسام عبر
األثير من أجل تفسير االستحالة الجذرية لكشف أقل أثر له.
كانت مسيرة أينشتين Einsteinمختلفة بشكل عميق ،طالا أنها ا تكزت ّ
محقة على ر
الحو الكامل للنموذج السابق والتركيز على أسئلة تعريف عملياتية للمقاييس الكانية
الطبقة .وقادته هذه السيرة إلى إثبات مجموعة تناظر ،تسمى ّ والزمانية والحركية
تصح بالنسبة لكل مجموعة إحداثيات قياس مستقلة عن ّ مجموعة لورنتز ،وهي
السياقات التي تطبق عليها وعن النماذج التي يمكن ّ
تصورها من أجلها .إن هذا الدور
ّ
محق منذ السيطر لجموعات التناظر ،الذي ّ
أضر بالنماذج الرتبطة بها ،اعتبر بشكل
J. Petitot, ''Objectivité faible et philosophie transcendantale'', in M. Bitbol&Sl Laugier (eds.), 90
،Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnatالرجع السابق ذكره.
91الرجع السابق للمؤلف صB. Van Fraassen, Lois et symétrie .442 .
92فعل األقنمة hypostasierناتج عن النقد الكانطي للميتافيزياء .ووفق معجم الالند ،Lalandeفإن األقنمة هي
ً
تحويل مجموعة من العالقات النطقية إلى ماهية ،أو أيضا إعطاء البعد الواقعي الطلق لا هو نسبي .وهنا ،فإن
تعددية العالقات القياسية المكنة ،الجهزة بنظام تحويل (مجموعة لورنتز) ،تترجم بواسطة المتغير شكلي؛
ً ً
وهذا الالمتغير هو الذي يجد نفسه في نهاية الطاف مستثمرا بشكل ضمني تقريبا في واقع ملموس.
65
ً
جديد .الرحلة األولى هي كما الحال دائما مرحلة تمديد النوع السابق للنموذج ،لقاء
ّ
إعدادات وانقطاعات مضبوطة .وتمثل هذه الرحلة بالنموذج الذري لبور ،بين عامي
ً ً
0903و .0942فهذا النموذج يدخل تمثيال تقابليا مع تمثيل الجموعة الشمسية .وتلعب
فيه النواة دور الشمس ،والحقل الكهرمغنطيس ي دور حقل الجاذبية ،بينما تدور
اإللكترونات في مدارات حول النواة .مع ذلك ،فإن هذه الدارات كما واإلشعاع الصادر
عن اإللكترونات تخضع لقيود إضافية تسمى شروط التكميم .ويندغم التطور الالحق
ّ
الشوق للدراسة النهجية التي قام بها بور من أجل تحديد لهذا النموذج مع التاريخ
عناصر االنقطاع وعناصر االستمرارية بين النظرية الكمومية الوليدة والفيزياء
الكالسيكية .93غير أن الصعوبات التراكمة في بداية العشرينيات من القرن العشرين،
ً
والسمة األكثر فأكثر وضوحا بشكل مناسب ،و"التراجعية" وفق معنى الكتوس،Lakatos 94
لبرنامج البحث الؤسس بواسطة نموذج ذرة بور ،قادت مع ذلك إلى أزمة ثقة بين
الفيزيائيين تجاه هذا النموذج.
وفي هذه اللحظة بالذات ،بين عامي 0946و ،0945إنما جرى الحدثان الؤسسان
تم وضع ميكانيك الصفوفات على يد هايزنبرغ Heisenberg للميكانيك الكمومي :فقد ّ
شدد فالسفة علم ووضع اليكانيك التموجي على يد شرودنغر .Schrodingerلقد ّ
ً
معاصرون 95على فكرة أنه ،وفقا للتصور الداللي للنظريات العلمية ،فإن النظريتين
ّ
الجهز ببنية تحتية أنطولوجية: الذكورتين أعاله لم تكونا منفصلتين عن النموذج
فميكانيك الصفوفات له نموذج جسيمي ومتقطع غير مستمر ،واليكانيك التموجي له
ً
نموذج مستمر غير متقطع للوسط الهتز .مع ذلك ،إذا تابعنا ما آلت إليه النظريتان بدال
O. Darrigol, From c-numbers to q-numbers, The University of California Press, 1992. 93
I. Lakatos, The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press, 1978. 94
F. A. Muller, "The equivalence myth of quantum mechanics", Studies in the history and philosophy 95
of modern physics, 28B, p. 35-62, 1997.
66
باألحرى من النظر إلى لحظة نشوئهما حيث كانتا ال تزاالن تتميزان بالخط االستكشافي
ً
لبدعيهما ،فإننا نالحظ أن األمور تصبح أكثر تعقيدا.
إن اليكانيك الصفوفي لهايزنبرغ ال يرتبط بنموذج جسيمي ومتقطع إال من حيث أنه
تم إعداده باالبتعاد التتابع بالنسبة له ،وبإفراغ لحتواه التمثيلي وبتجريد لبناه الجبرية.
علينا أال ننس ى العبارة اآلمرة لهايزنبرغ في عام 0946التي كانت تطلب "البقاء ضمن حدود
الرصودات" .صحيح أن هايزنبرغ قد استمر يقوده "مبحث "96الجسيمي والتقطع على
ّ
الرغم من الواقع الذي كان قد جعله "يدقق" في السابق إلى درجة جعله غير قابل
ً
للمعرفة؛ ولكن تحت ضغط اليكانيك الوجي النافس وجد نفسه منذ عام 0945منقادا
إلى إعادة بعث الجرى الشكلي لنظريته (البنية التحتية التنبؤية) وتمييزها بشكل ال ريب
ً
فصاعدا ّ
تصنف تحت عنوان فيه بعناصر متبقية من نماذج كاملة كانت منذ ذلك الحين
"التفسير" .97وباعتبار صيرورة إعداد اليكانيك الصفوفي ،فإن هذا التمييز التأخر بين
الصورية و"التفسير" ال يجب أن يعتبر برأيي كإعادة بناء عقلية بسيطة ،بل كمرحلة
نهائية لفهم هايزنبرغ لعنى عمله في عام .0946
ّ ً
مستمر كان أما بالنسبة للميكانيك الوجي فهو بال أدنى شك يشكل جزءا من نموذج
قد اقترحه دو بروغلي de Broglieلتفسير القيود التي كان قد وضعها بور في التكميم؛
98 ً وهكذا فقد ّ
تبين بسرعة كبيرة ،انطالقا من الصعوبات التي صادفها شرودنغر
Schrodingerفي منتصف عام 0945والتفسير االحتمالي للتابع الوجي القترح من ماكس
بورن ،Max Bornأن هذا النوع من النماذج ال يجب أن يؤخذ بشكل حرفي وأنه لم يبق
96وفق العنى الذي يقصده هولتون.G. Holton, L'imagination scientifique, Gallimard, 1981 :
W. Heisenberg, "Quantenmechanik", Die Naturwissenschaften, 14, p. 989-995, 1926. 97
98من بين هذه الصعوبات :تبدد حزم الوجات ،وتعدد أبعاد وظائف الوجة الوافقة لنظومات معقدة
ً
والعالقات غير الرمزة بشكل جيد بين التفسير الوجي تحديدا ( )ψوالتفسير اإللكتروديناميكي (* .)-eψψمن
أجل مزيد من التفاصيل راجع M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston
.studies in the philosophy of science, Kluwer, 1996
67
ً
منه هنا أيضا سوى الهيكل الشكلي ذي الوظيفة التنبؤية .وكما ّبين فون نيومن von
Neumannفيما بعد ،فإن "صورية " وحيدة تسمح بالقابل بأن نجمع في مخطط واحد
القدرات التنبؤية التقاربة للميكانيك الصفوفي وللميكانيك التموجي.
يمكن بالتالي اعتبار عامي 0946و 0945كعامي انهيار آخر امتدادات النماذج
ّ
السابقة والتشككية التزايدة اتجاه كل إمكانية لتأكيد قيمتها الكشفية البدئية .أما
الرحلة التالية فقد انطلقت منذ عام ،0941وهي مرحلة محاوالت إعادة بناء ّ
حد أدنى
من االستمرارية مع األنماط األنطولوجية للنماذج السابقة .ففي هذه السنة ّ
قدم هايزنبرغ
عالقاته في الريبة التي ّبينت على األقل ،دون تكريس عودة تمثيل عنصر جسيمي مزود
بمسار ،كيف تسمح الصورية الكمومية بالتنبؤ بمتتالية من األحداث التجريبية التي
تتظاهر إلى حد ما كمسار .وفي الوقت نفسه قاد إدخال مفهوم التكاملية على يد بور إلى
توضيح الحدود التي كان يفرضها الوضع الجديد على مساعي إعادة بناء النماذج .ونقول
ً
هذه الحدود ،ألنه أيا كان نمط النموذج الزمكاني السابق الذي يراد تمديده بشكل
حد بتمثيل الظاهرات التي يتم الد ي ّ
صحة هذا ّ تقريبي في الجال الصغائري ،فإن ّ
ً الحصول عليها في إطار تجريبي َّ
محدد تماما .إن سلسلة من الظاهرات النقطية "القاربة"
واليسرة بذلك الهدف القصدي لألجسام الزمكانية النتمية لنمط نموذج ّ لسار،
ّ
جسيمي ،نصادفها في إطار صف خاص من التجهيزات مثل الغرف ذات الفقاعات .وإن
ّ ً
واليسرة بذلك لهدف قصدي تجمعا من الظاهرات النقطية "الحاذية" لشكل تداخلي،
من األجسام الزمكانية النتمية إلى نمط النموذج الوجي ،نصادفه في إطار نوع مختلف
من التجهيزات ،مثل شبكات االنحراف البلورية .إن ديمومة كل نموذج زمكاني ،وكل
عنصر من البنية التحتية األنطولوجية للنموذج ،ال تتجاوز حدود إطار تجريبي .ولا كنا
نعلم من جهة أخرى أن هذه األطر هي أطر غير متوافقة ،وأنه من الستحيل أن نتجاوز
ً
بشكل تسلسلي هذا التعارض بينها إال في أفضل األحوال بريبة ال يمكن حصرها تقريبا،
ّ ّ
متحيز وجزئي ،وأنه متعلق بعينة من األوضاع فعلينا القبول أن كل نموذج هو نموذج
68
أيضا غير متوافق كثي ًرا مع نماذج أخرى األطر الرتبطة بها ّ
تحقق هذا
ً
التجريبية ،وأنه
التوافق فيما بينها .إن مثل هذه النماذج الجزئية ،التي يرتبط كل منها بوضع خاص ،ال
يمكن اعتبارها على أنها مظاهر لنموذج واحد شامل.
كانت الج ّدة الحاسمة في الوضع الذي واجهه اليكانيك الكمومي غياب التوافق
الكافي لألطر ،والغياب الالزم للثابت الوحيد "عبر -السياقي" للظاهرات التي يمكن أن
تسمح باإلجراء النهائي ألقنمة الثوابت .ونتيجة ذلك هو أنه حتى عندما يستخدم
فيزيائيون نماذج مستلهمة من التراتبية التقليدية لألنماط األنطولوجية ،فإنهم يقومون
ً
عموما إما بطريقة ّ
مجزأة أو تقريبية ،واضعين نصب أعينهم حدودهم في الصحة، بذلك
وإما باستخدام القواعد البليغة والتصويرية (مثل مخططات فاينمان )Feynmanالتي
تسمح باحترام هذه الحدود بشكل شبه آلي.
ً ً ً إنه لن الصحيح أن تصور النماذج ّ
الوحدة من نمط سابق ليس ممنوعا منعا باتا.
لكنه يأخذ شكل نوع من لعبة ذهنية :لعبة النظريات ذات التغيرات الخفية (غير الحلية)
التي ال تزعم أنها تصف ثوابت ظاهراتية بل صيرورة تقع بشكل أساس ي خارج إمكانية
حجة من ذلك (ذات مد عدد من فالسفة الفيزياء العاصرين ّالتقص ي التجريبي .يست ّ
ّ
ّ
الخفية من ّ
التغيرات طبيعة غير تجريبية بشكل واضح) من أجل استبعاد النظريات ذات
مجموعة التفسيرات القبولة في اليكانيك الكمومي.99
ً
من الصحيح أيضا أنه إذا كان اليكانيك الكمومي العياري ال يترك الجال النبثاق أي
تتم في الكان وفي الزمان ،فإنه يستخدم بشكل واسع ثوابت صورية ثابت للظاهرات التي ّ
في فضاءات مجردة مثل فضاء هيلبرت .Hilbertوهكذا نفهم أن بعض الؤلفين
ً
بدال باألحرى استطاعوا اعتبار أن "فضاء هيلبرت هذا هو فضاء الوضوعية الكمومية"،
99الثال الجيد على ذلك ،والذي نفصله في الفقرتين 4ـ 4و 4ـ ،3هو مثال برنادر دسبانيا الذي يعتقد أن
النظريات ذات التغيرات الخفية ال يمكن حذفها على خلفية تجريبية بحتة ،وأنها في الوقت نفسه غير مقبولة
مع ذلك ألسباب تتعلق بالتصنع الفرط.
69
ابا آخرين ّّ ً
طوروا منهجية موازية بين التشكيل الزمكاني من الزمكان العادي100؛ وأن كت
ّ
حلله كانط والتشكيل الهيلبرتي الجديد للموضوعية .101فإذا ما ّ
تقيدنا للموضوعية الذي
ً ً
بهذا النظور ،فإن سؤاال هاما ال يمكن مع ذلك تحاشيه .هل هناك وسيلة لكي نربط،
حتى لو بطريقة ّ
مجزأة وغير مباشرة ،قانون الثابت لثل هذه الكيانات الرياضية في فضاء
ً حسية هي الظاهرات التجريبية؟ إن ذلك ممكن ضمن ّ مجرد مع عناصر ّ
ّ
حد معين ،وفقا
لطريقتين .فبالدرجة األولى ،إن الشعاع َّ
الوجه لحالة فضاء هيلبرت الذي نقرنه عند كل
تحضير يمكن أن يعتبر كنوع من الثابت الترتيبي ،طالا أنه الرمز الوحيد الذي يسمح
بحساب احتماالت النتائج ألي قياس يمكن أن يجرى بعد عملية التحضير .وبالدرجة
ً ّ
الوجه لحالة فضاء هيلبرت هو أيضا الثابت التصنيفي لصف الثانية ،فإن الشعاع
محدود من العمليات التجريبية السماة "قياسات ثبوتية الحرارة ،"adiabatiqueالتي
التوسطة لرصود ما بطريقة مباشرة و"غير ّ يمكن أن نصل من خاللها إلى القيمة
َ
مخلخلة" ،دون الرور بإحصائية القياسات النقطية "الخلخلة".102
ال تنقصنا الثوابت إذن في اليكانيك الكمومي ،بل وهي تحفظ درجة معينة من
ً
االتصال مع الظاهرات؛ غير أن طابعها غير الطبيعي يظل ظاهرا بشكل جلي على الدوام
تكون الثوابت التصنيفية إال لصف محدود من العالجات التجريبية (قياسات " ثبوتية
ّ
الحرارة") ،فإنه يترك مسألة ثابت تصنيفي عام يغطي كمية من صفوف تجريبية أخرى
مسألة مفتوحة.
ّ
الحصلة ،فإن الوضع ما بعد الثوري للميكانيك الكمومي هو حالة سلسلة من وفي
ّ
التعسفية أو الحدودة ،إلعادة بناء التراتبية ّ
أوالتفجرة أو الحاوالت الخفقة أوالبتورة
التقليدية من األنماط األنطولوجية القترنة بالنماذج .وكان السبب الرئيس ي لهذا اإلخفاق
قد ح ّدد بوضوح فيما سبق أن أوردناه :إنها سياقية الظاهرات التي يجعلها ّ
الحد الكمومي
الذي تفرضه ثابتة بالنك على إمكانية الوازنة ،إال في حالة خاصة هي عدم توافقية
القرائن والسياقات التجريبية ،أم ًرا ال يمكن ّ
تجنبه.
تغير الالحظات العتادة لإلبستمولوجيين حول ارتباط الوقائع مع إن هذه السياقية ّ
ّ ّ
توجه إجراءات البحث بصلة مشكلة للنظرية الفيزيائية .وبالتالي ،فإننا ال نستطيع القول،
كما ال يزال يقبل بذلك ولو باإلشارة العديد من الفيزيائيين الالواقعيين العتدلين ،بأن
ّ
النظرية الكمومية تخضع لضغط انتقائي مصدره طبيعة مسبقة التشكل .فهي خاضعة
َّ
لضغط انتقائي تمارسه عليها الظاهرات التي ترتبط بنيتها بالكلية التي ال تنفصم والشكلة
72
ً ً
قابلة لإلسقاط دون تحايالت بشكل نموذج وحيد وقابل لالختبار تجريبيا ،فإن أحدا لن
يستطيع ّ
تجنب االلتفاف مباشرة باتجاهها.
ّ
ولكن كيف ننجز مثل هذه الهمة؟ وكيف نثبت العناصر التجاوزية الشكلة
للميكانيك الكمومي؟ يكفي من أجل ذلك برهان أن اليكانيك الكمومي يمكن أن يكون
تخص األعمال التجريبية ونمط ّ
ّ ً
التنبؤ بنتائجها. مشتقا ابتداء من قواعد التحديد التي
يكفي بعبارة أخرى إثبات ما يسميه بتيتو " J. Petitotالطبيعة الغالوازية" للنظرية ،أي
التحديد السلبي لا هو سهل البلوغ للنظرية بما هو غير ممكن البلوغ بالنسبة لها من
حيث بناؤها.105
وهذا ما توصلت أجيال من الباحثين للقيام به عبر مراحل ،وما سأحاول تلخيصه
بسرعة هنا.106
األشعة ّ
الوجهة للحالة في فضاء هيلبرت ،مرتبطة ّ بداية ،يمكننا البرهان أن صورية
بالقاعدة االحتمالية لبورن ،هي الترجمة األبسط لشرطين حصريين .الشرط األول هو
استحالة فك سياقية dé contextualiserالظاهرات التي يعمل عليها التنبؤ االحتمالي.
ً ً ً
والشرط الثاني هو التعددية األداة التنبؤية أيا كان القياس الذي يلي تحضيرا تجريبيا
معطى.
من الواضح أن الشرط األول هو من رتبة تحديدية .فهو يجمع والحق يقال الحدودية
الرئيسية؛ أي التي جعلت الفيزياء الكالسيكية فيزياء مزعزعة؛ بل وهي حتى التي جعلت
ً ً
تطبيق اللغة العادية وأساسها النطقي على الكون الصغائري أمرا إشكاليا ،طالا أن اللغة
ً
تفترض مسبقا ،عبر استخدام التنبؤ ،إمكانية تجريد بعض جوانب الظاهرات من تبعيتها
105الرجع السابق ذكره J. Petitot, "Objectivité faible et philosophie transcendantale", in M. Bitbol& S.
Laugier (eds.) Physique et réalité
106من أجل تفاصيل أكثر راجع M. Bitbol, Mécaniquequantique, une introduction philosophique,
ً
( Flammarion, 1996وأعيده طبعه في دار نشر Champsعام )0991؛ وأيضا M. Bitbol, "Some steps
.towards a transcendental deduction of quantum mechanics", Philosophianaturalis, 1998
73
ً ً ّ
لألوضاع .وكما أن مبدأ النسبية لغاليليه Galiléeكان يشكل شرطا تحديديا ،حيث كان
ً
يمنع التنبؤ بسرعة جسم بغض النظر عن الرجع ،فإن مبدأ السياقية لبور يشكل شرطا
ً ً
عاما ،بحيث يمنع ّ
التنبؤ بأية خاصية كانت لجسم ما بتجاهل الشروط األداتية. تحديديا
ّ
محل التساؤل حول وجود الحركة وهو سؤال وكما أن مبدأ النسبية لغاليليه ّ
حل
تجاوزي نموذجي حول شروط إمكانية التنبؤ بالسرعة في مرجعية ما ،فإن مبدأ السياقية
لبور حل محل مسألة تالزم الخصائص ،وهي مسألة تجاوزية حول شروط إمكانية
القياس لكل تحديدية في الظروف األداتية العينة .إن التعبير الكمي لتحديدية بور ،وهو
يشتق من جهة أخرى بدوره من حجة من ّ القيمة (غير العدومة) لثابتة بالنك ،يمكن أن
ً
نمط تجاوزي :وهو البدأ اإلنساني الضعيف ،107ووفقه فإن حدودا صارمة تفرض على
مجموعة القيم للثوابت الكونية الرئيسية إذا كان يجب على الوجود البيولوجي لإلنسان
ً
أن يكون ممكنا ببساطة.
أما الشرط الثاني ،فإنه يعكس من جهته مشروع موازنة نقص الوحدة التمثيلية
(التي تفرضها استحالة ّ
فك السياقية) ،باللجوء إلى وحدة قطعية :أي وحدة رمز يسمح
بحساب قدر ما نريد من قوائم االحتمالية كما ومن القياسات القابلة لإلجراء إثر
ً ً
حدا على ما ّ
نعده مقبوال بالنسبة لوضوع الصلة التحضير نفسه .إن هذا الشرط يفرض
بين الصورية والتجربة ،هذا إذا أردنا على هذا الستوى أو ذاك (على الستوى االحتمالي
ّ ً
إذا لم يكن ذلك ممكنا على مستوى التحديدات) ،أن تكون كافة العلومات التوفرة من
أجل التنبؤ بالظاهرات ّ
محددة بشكل يشارك فيه تحضير التجربة.108
J. D. Barrow & F. J. Tipler, The anthropic cosmological trinciple, Oxford University Press, 1986 107؛ و
F. Bertola&Curi (eds.), The anthropic principle, Cambridge University Press, 1993؛ و J. Demaret& D.
Lambert, Le principeanthropique, Armand Colin, 1994
108من الصحيح أنه ليست كل تجربة ،في الفيزياء وخاصة في الفيزياء الفلكية ،مسبوقة بتحضير يكون الجرب
قد ضبط كافة عواملها المكنة .مع ذلك يمكن توسعة الخطط العياري التمثل بالتحضير ـ القياس ،ليشمل
ً
مباشرة هذه الحالة أيضا ،شرط أن نلجأ الستخدام خطاب غير عملي فيما يخص موضوع التحضيرات .يشبه
74
بعد الحصول على بنية ّ
متجهات الحالة في فضاء هلبرت ،كترجمة لقيدين تحديديين
تطور ّ
أيضا اشتقاق معادلة (أو معادالت) ًّ
متجهات الحالة هذه (مثل سابقين ،يجب
ً
معادلة شرودنغر) .إن البرنامج الذي ألزمنا نفسنا به يتطلب أن نستخدم هنا أيضا
ً ً
إجراء تابعا لصف واسع من الناهج التجاوزية .غير أن ذلك ممكن تماما شرط تطبيق
سلسلة مناسبة من مبادئ الالتغير والتناظر التي لن أدخل في تفاصيلها هنا ،109إنما حيث
يجب ببساطة اإلشارة من جديد إلى التوافق مع قواعد تحديد النشاطات التجريبية
التغير أن يعتبرا كقواعد ّ
محددة والتنبؤ بنتائجها .وفي الواقع يمكن لجموعة تناظر أو لبدأ ّ
تخصص ما ال يجب أن نستطيع رصده خالل تراجع هذا البحث .فوفق مبدأ ّ بما هي
الالتغير عبر االنتقال في الكان على سبيل الثال ،يجب أال نستطيع رصد ّ
التغير في الترتيب ّ
القانوني للظاهرات من موضع إلى آخر؛ ووفق مجموعة تحويالت لورنتز التناظرية ،ال
يمكننا رصد ّ
تغيرات شكل القوانين (بما في ذلك قوانين الكهرمغنطيسية) من مرجع
عطالي إلى آخر .وهكذا ينتقل التأكيد مرة أخرى من تمييز األشياء بواسطة مسندات
جوهرية إلى تحليل شروط إمكانية توضيح االستنباط التنبؤي الصحيح من أجل أي من
األوضاع الخاصة التي تظهر فيها الظاهرات.
هكذا تختتم النظرة اإلجمالية السريعة لا يمكن أن ّ
نسميه "االستنتاج البراغماتي -
التجاوزي" للميكانيك الكمومي .تظهر لنا الصورية الكمومية عند النظر إليها بهذه
الطريقة أنها ليست بعيدة عن التبرير (كما يقبل بذلك التجريبيون) وليست َّ
مبررة
ً
ذلك شيئا مثل" :الشروط التي تسبق القياس هي نفسها فيما لو كنا قد حضرنا التجربة بهذه الطريقة أو تلك".
يمكن لهذا الخطاب أن يرتكز على تجارب مماثلة جزئية في الختبر ،ثم على تعميم ،شروط تحضيرية ال يمكن
للمجرب أن يتحكم بها بشكل مباشر (كما على سبيل الثال الشروط التي ترجح وتغلب في نجوم أو في مجرات ّ
بعيدة).
109راجع ،M. Bitbol, Mécaniquequantique, une introduction philosophiqueالرجع السابق ذكره،
صفحة 016-016؛ و M. Bitbol, "Some steps towards a transcendental deduction of quantum
" ،mechanicsالرجع السابق ذكره.
75
بواسطة اتفاقها "الالمعقول" مع العالم كما هو عليه (كما يميل إلى االعتقاد الواقعيون).
مبررة في جزء كبير منها من خالل اتفاقها "العقول" البنيوي مع إن الصورية الكمومية َّ
ً ّ
توقع ظاهرات م َّ
حددة تبعا إلطار تجريبي. الشروع العلمي في
7 -1التالقي االنعكاس ي :مشروع آخر للفيزياء
إن هاتين السمتين للميكانيك الكمومي ،أي إمكانية تبرير ما هو أساس ي في البنية من
ّ
الجزأة أو العشوائية للنماذج ّ
ومعمم لالستنتاج التجاوزي ،والصفة خالل شكل ّ
محدث
ً ً ً
الرتبطة بها ،تلقي ضوءا هاما راجعا في الاض ي على تاريخ الفيزياء .فبداية ،يجب التذكير
مجرد تقديم بديل واضح لتفسير نجاح النظريات بواسطة الواقعية التقاربة يجعل أن ّ
ّ
حصريته. هذا التفسير بشكل آلي أقل جاذبية ،طالا أن إحدى حججه الكبرى هي
ً
بالقابل ،فإن جاذبيته تتناقص أيضا إذا أخذنا بعين االعتبار الوضع الحالي ألكثر النماذج
غنى في الحتوى األنطولوجي .فطالا كان من المكن ،خالل الفترات التي تلت ثورة في
العلوم الفيزيائية ،صياغة نموذج ّ
موحد يندرج ضمن تراتبية تقليدية من األنماط
األنطولوجية ،كان يمكن االعتقاد بأن اللحظة القصيرة التي كانت تجد فيها القاعدة
التجاوزية للنظريات نفسها معروضة لم تكن سوى لقطة عارضة من مسار ،وأن
ديناميكية البحث كانت تظل في العموم مشدودة نحو النظرة التقاربية لنموذج صحيح
ً
للطبيعة .ولكن بدءا من اللحظة التي لم تعد تسمح فيها النماذج القترحة ،كما هو الحال
موحد وغير اعتباطي ،وفي الوقت نفسه حيث في اليكانيك الكمومي ،بتقديم تمثيل ّ
الخلفية التجاوزية للنظرية تظل صريحة واضحة ،فإنه على العكس يحق لنا أن نتساءل
إذا لم تكن األولوية السابقة المنوحة للنماذج تعود لصدفة تاريخية بعيدة .ولم يكن
ً
هذا الحدث الطارئ سوى ظرف ٍ
بحث ما كان ال يزال معهودا بالنسبة لبيئة umwelt
النوع اإلنساني ،لوسطنا البيئي الباشر ،لهذا النوع من جزيرة الوسط الباسكالي حيث ال
تقود االفتراضات السبقة البراغماتية للفعل واللغة ،كما على سبيل الثال فك السياقية،
إلى أي طريق مسدود .وبسبب هذا الحدث الطارئ إنما لم يكن ثمة ش يء يمنع متابعة
76
إعداد تراتبية ألنماط النماذج التي كان نموذجها البدئي هو نموذج "الش يء" ومكان البيئة
ّ
الوضعيين ومن النظرة النقدية عند الكانطيين اليومية ،هذا على الرغم من اعتراضات
الجدد.
وبالنتيجة ،على ضوء دروس اليكانيك الكمومي ،فإن إدراكنا ينقلب لا هو طارئ ولا
هو أساس ي في تاريخ الفيزياء.
تظهر السلسلة الطويلة من سلسلة أنماط النماذج (على األقل في حالة النماذج
الرتبطة بالنظريات -اإلطار الكبرى) كنتيجة دائمة إنما ظرفية إلسقاط للمعايير
ّ
للتحقق على نمط قريب واالفتراضات السبقة ألفعالنا على الطبيعة .إنه إسقاط يميل
ّ
والحفز لهماتنا اليومية. قدر اإلمكان من الفهم السبق اإلدراكي
ّ ً ّ
الشبه قليال بالوضوع االجتماعي الذي حلله سيرل،J. Searle 110 إن الكيان النظري،
ً ّ
يشكل جزءا من نموذج يظهر مثل موضع تمفصل للتطبيقات والمارسات111؛ موضع
ً
تفترض فعاليته أال يكون معترفا به على هذا النحو ،وذلك ليس إال من أجل أال تنعدم
ً
ثقتنا به من خالل وضوح زائد تجاهه .112يمكننا أن نتساءل انطالقا من هنا إذا كان
J. Searle, The construction of social reality, Allen lane (The Penguin press), 1995, p. 52. 110
111الرجع السابق .إنه لن الصحيح أن الواضيع االجتماعية عند سيرل (الال اإلئتماني ،الزواج ،ألقاب اللكية،
َّ
إلخ ).يجب أ ،ترتكز على خلفية واقع مسلم به .إن هذا الواقع السلم به عند سيرل هو واقع كيانات (مثل
ً ً
الذرات أو الخاليا) نماذج العلوم "البحتة" .ويقدم ذلك وفقا له أساسا لنوع من الحجة التجاوزية للموقف
الواقعي حول هذه الكيانات (الرجع السابق ص .)063 .مع ذلك ال يجب أن يغيب عن ذهننا أن الخطاب حول
موضوع الكيانات النظرية في العلوم "البحتة" يرتكز بدوره على شكل من الواقعية العترف بها بشكل غير إشكالي
في الخطاب والفعل اليوميين ،إنما غير التضمنة ألي قصد في "الوجود" الذاتي :أي واقعية األشياء في الحيط
الباشر والألوف والتجهيزات على الستوى الجهاري .فهنا كما في أي موضع آخر ،تصطدم محاولة تجاوز
الالحظات البراغماتية لويتغنشتاين في مؤلفه "حول اليقين" ،كما ومحاولة إعادة تشكيل تأسيسية واقعية
ً
اعتمادا على ذلك ،بنكوص ال نهاية له لنقاط االرتكاز ولالفتراضات السبقة.
112يالحظ فاريال مع ذلك أن هذا النوع من الضرورة الساخرة بحجب الوجه ،واالعتقاد بأسس لم يعد لدينا
سبب لالعتقاد بها ،ال يفرض نفسه إال ألننا نجهل وسائل تحولنا الذاتي ،والتوسع الالزم لذلك في طريقة رؤيتنا
للعالم ،F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscriptioncorporelle de l'esprit .الرجع السابق ذكره ،ص.
.492
77
ً
الوقف الواقعي آنيا ألغلبية الفيزيائيين والسلسلة الدهشة من النجاحات الذي سمح
بالتوصل إليها ال يمكن تفسيرهما بمالحظة من النوع نفسه لتلك العروفة في نظرية
االحتماالت فيما يخص "مبرهنة الكتاب األلاني ."Dutch book theoremوكما كتب
جيمس لوغ James Logueفي كتابه الحديث "االحتمالية اإلسقاطية Projective
ّ
]...[" ،"probabilityعلينا ،لكي نكون متجانسين (ولكي ال نفقد رهاناتنا بشكل مؤكد) ،أن
نثق بشكل كامل بمسيرتنا الخاصة ."113إن هذه الثقة الخصبة بالسيرة الخاصة ،وتجانس
ً السيرات التي تنجم عنها ،هو ما ّ
يعبر عنه محقا "قانون اإليمان" بالنسبة للواقعي التالقي.
ولكن ،يتابع لوغ ]...[" ،لسنا بحاجة ليكون لدينا أي مستوى من الثقة بواقع أن هذه
الثقة في مسيرتها الخاصة هي ثقة َّ
مبررة" .يعطي ذلك الحق للفيلسوف عندما ال يحاول
الوافقة على الصورة الواثقة التي يعطيها الفيزيائي عن عمله الخاص ،وعندما يسمح
القدمة لصالح هذه الثقة ،وعندما يبحث عن بيانات أخرى ّ
بالشك بالبررات َّ لنفسه
مقبولة للنجاحات العملية التزايدة للعلوم غير التالقي باتجاه بيان مخلص لواقعية
ّ
مسبقة التشكل.
ً
وعلى العكس ،فإن ما يبدو بشكل استداللي أساسيا في تاريخ النظريات الفيزيائية ،هو
ً
هذه اللحظات التي كانت في البداية غير واضحة وعابرة ثم أصبحت أكثر فأكثر وضوحا،
ّ
حيث نبش بعض أكبر ممثلي الراحل الثورية األساس البراغماتي -التجاوزي للمرحلة التي
ً
كانوا في طور اجتيازها .وبالتركيز على هذه اللحظات بدال باألحرى من التركيز على الراحل
نوجه إلى فهم تاريخ الفيزياء بطريقة ما بعد الثورية من إعادة إعداد النماذج ،فإننا َّ
معاكسة بشكل جذري بالتأكيد لطريقة الواقعية التقاربة ،إنما هي أفضل هيكلة بكثير
من طريقة التزايدات الفوضوية من الحاوالت واألخطاء على طريقة فايراباند .114نتوصل
ّ
من ذلك إلى اعتبار هذا التاريخ كمتتالية من الراحل التقطعة لتوسعة العايير التي
J. Logue, Projective Probability, Oxford University Press, 1995, p. 126. 113
P. Feyerabend, Adieu la raison, seuil, 1989. 114
78
ً
تفترضها مسبقا ديناميكية نشاطات البحث ،يليها تفسير هذه العايير من خالل صورية
نظرية متوافقة مع كل مرحلة من مراحل تعميمهاّ .
وتتم توسعة هذه العايير من جهتها
خالل زمنين أساسيين .ففي زمنها األول تعمل نظرية فيزيائية سابقة كتنظيم ذي أساس
ً
استنباطي للمعايير الفترضة مسبقا بواسطة نمط تقليدي من النشاط التجريبي ومن
ّ
توقع نتائجه .وفي زمن ثان ،فإن ظرف قيمة غير معدومة لثابتة كونية (تترجم هي نفسها،
ً
وفق البدأ اإلنساني الضعيف ،شيئا من وضعنا في أن نكون في العالم باألحرى من كوننا
ّ ً
الجرب شيئا من العالم كما هو عليه بشكل مستقل عن الكانة التي نشغلها فيه) ،يقيد
ً
الذي يواجه مجاال ال يمكن فيه لهذه القيمة أن تهمل في إعادة توجيه نشاطه ،وفي
توسيع العايير وفي صياغة نظرية أخرى تجمع هذه العايير الجديدة.
باعتماد هذه الطريقة في فهم تاريخ الفيزياء فإننا نبلغ عدة مواضيع إبستمولوجية
هامة:
تطور النظريات كصيرورة إذا كانت ّ
تتميز بشكل جذري عن .0يقودنا ذلك إلى اعتبار ّ
ً
نمط مقاربة الواقع ،فإنها تستعير شيئا ما من عقالنية مناهج البحث التي
ّ
يجمعها العتقد الواقعي .وفي الواقع ،تميل هذه الصيرورة بشكل منظم ،تحت
غطاء تناوب في التحضيرات ،وإخضاع للتجربة وسحب للنماذج ،إلى اصطفاء
معقوليات إجرائية أكثر فأكثر عمومية متوافقة مع كل مرحلة من ّ
توسع البحث
التجريبي.
ّ
.4نتجاوز مسألة التحديدية التحتية ،طالا أن هذه األخيرة تتعلق بالغنى التمثيلي
للنماذج وليس باالفتراضات السبقة التجاوزية الدنيا لتطبيق ما (التي َّ
يعبر عنها
بالبنية ّ
التنبؤية التحتية للنظرية).
ّ ً
بتجنب ربطه بهذا .3نعطي بذلك معنى جديدا ألحادية البعد في العمل العلمي،
الركود من البنى التحتية األنطولوجية للنماذج الذي كان يميل إلى دعم الواقعي
ً
في انطباعه بأن يتابع بنجاح بحثا عن الحقيقة -التوافقية.
79
ّ
التصور ،فإن اإلجراء العياري ،الذي يدخل متتالية متكاثرة .2على ضوء مثل هذا
يفسر بشكل جزئي بالصعوبة في تحديد الخمنات والتفنيدات للنماذجَّ ،
ّ من
ً ّ
متضمنة أحيانا في بحث ما دون مساعدة من ترجمتها العايير التي تكون
ّ
الوضوعية على شكل نماذج .تتبدى مذاك أسطورة التالقي نحو الواقعي
كإسقاط أنطولوجي أو كصورة في الرآة لتالق آخر .وهذا التالقي ،هو التالقي الذي
سميته التالقي االنعكاس ي؛ أي التالقي باتجاه أكثر األشكال عالية في عمل ّ
توجه ّ
الكائن الفاعل في العالم.
ً
وحول هذه النقطة األخيرة ،لست بعيدا عن مشاركة التحليل الذي يقترحه ميشيل
سير M. Serresحول ّ
تطور الرياضيات ،في كتابه "بدايات الهندسة" .فباليل نحو موضوع ّ
ّ ً
تعقيدا كما يشرح ّ
سير ،ال تكف الرياضيات عن التعميم ،أي عن إفقار يبدو أكثر فأكثر
مسلماتها ،والكشف بذلك عن القيود السبقة للعمليات األكثر فأكثر بدئية .لقد انتقل
الرياض ي على سبيل الثال من تطبيقات السح الهندس ي بالنسبة للهندسة اإلقليدية إلى
تطبيقات ّ
النساج بالنسبة لطبولوجيا الغراف ،115أو إلى تطبيقات حديثي الوالدة في
"الرحلة الحسية -الحركية" بالنسبة لنظرية الجموعات .116إن األمر األصيل كما يخلص
ّ
سير هو أن "الزمن الرياض ي يتجه نحو أفقه غير التوقع ونحو بدايته ."117وفي اإلطار نفسه
ً ً
لنا الحق بمالحظة أنه بميل الفيزيائي إلى دفع العرفة دائما بعيدا عن موضوعها ،فقد
انتهى إلى تفجير القيود السبقة العملية لتعريفه ،وإلى وضع معايير أكثر فأكثر عمومية
وبدئية للعملية التجريبية بشكل غير مقصود .لقد مررنا على سبيل الثال من الجال
الذي تحكمه الفيزياء الكالسيكية إلى الجال األوسع الذي تحكمه الفيزياء الكمومية من
ً ً ّ ً
نشاط تشغيل األجسام الادية ،األمر الذي يفترض مسبقا تحكما كامال بالهوية وبديمومة
118على سبيل الثالC. F. Von Weizsäcker&Th. Görnitz, "Quantum theory as a theory of human :
knowledge", in P. Lahti &P. Mittelstaedt (eds.), Symposium on the foundation of modern physics
1990, World scientific, 1991.
J. Habermas, Connaissance et intérêt, Gallimard, 1976, p. 341. 119
120الرجع السابق ،ص.336 .
81
ً
االختالف بين صنع نظرية العارف ،وتبين الخلفية الشكلية الفترضة مسبقا بواسطة
ً
العرفة في بنى النظرية ،أمر غير ملحوظ أبدا.
مع ذلك فإن الدافع الفلسفي وراء مثل هذا التمييز دافع معروف .ألم يشتك مرلو
بونتي M. Merleau-Pontyعند الذين يمارسون الفلسفة االنعكاسية ميلهم لالعتقاد أننا
ً
يوما ّ
متيقنين إال من أفعالنا[ ،و] خالل حياة تعاش وفق "الوقف الطبيعي" "[ ]...لم نكن
ً ً
أن اإلدراك كان دائما فحصا للفكر"121؟ إن الكافئ الفلسفي لفيزياء هذه االلتباسات التي
يشتكي منها مرلو -بونتي هو القول للفيزيائين ،على طريقة فون ويزاكر إلى ّ
حد ما ،إن
ّ ً ً ً ً َ
وتفحصا لفكرهم الخاص وأعمالهم الخاصة ،وهو ما علمهم كان دائما إسقاطا ذاتيا،
يرفضونه بشدة ّ
محقين .بالقابل ،يمكننا وعلينا اإلشارة إلى الفيزيائيين الذين ،خالل
ً ّ ّ
تقدمهم فيما يتعلق بما يعتبرونه موضوع العلم ،كشفوا عن غير قصد تقريبا بنى ص ّي َرت
ً
موضوعية ،أال وهي الصوريات ،يمكن لفكر فلسفي ممارس أن يتعرف انطالقا منها
ً
وبشكل أكثر فأكثر وضوحا على الخلفية التجاوزية لتتالية تاريخية من المارسات
التجريبية العايرة.
إن هذا اإلجراء الطبق على الفيزياء ليس ،في العمق ،سوى التتمة النطقية للعمل
الذي بدأ منذ نحو قرنين فيما يخص اللغة .ولنالحظ في الواقع تقابلية السائل التي تطرح
في هذه الحالة كما في األخرى .وسيكون من العبث الزعم أن اللغة تهدف إلى معرفة
إمكانياتنا اللغوية الخاصة ،بقدر ما سيكون من العبث التأكيد أن هدف الفيزياء هو البنى
موجهة نحو شكل التناسقية النطقية واإلدراكية لجتمع الفيزيائيين .غير أن نظرة فلسفية َّ
واستخدام اللغة تسمح بالتعرف فيها على رواسب االفتراضات السبقة األولية للفعل
وللتواصل البين -ذاتي ،كما على سبيل الثال هوية الكيانات السماة أو ّ
التغير الحموالت
ً ً
تجاه الصفوف الواسعة جدا من تغيرات السياق (القرائن)؛ تماما كما أن نظرة فلسفية
ّ ّ
بالتعرف فيها على االفتراضات األولية السبقة لتوقع متجهة نحو الفيزياء الكمومية تسمح
انتقلنا في الفصل السابق ،إنما دون مرحلة انتقالية ،من نقد نسخة قوية للواقعية
العلمية إلى اعتماد وجهة نظر تجاوزية حول العلوم الفيزيائية .ولكن أال توجد ربما مع
َّ ذلك طريقة للحفاظ على شكل َّ
معدل أو ملطف للواقعية العلمية بمواجهة التحدي الذي
يطرحه اليكانيك الكمومي؟ اقترح إحدى هذه الطرق ،وهي طريقة دقيقة وهامة ،برنار
دسبانيا تحت تسمية "أطروحة الواقع الحجوب" .وهذه األطروحة هي التي سوف
123نص هذا الفصل مأخوذ في جزء منه من مقال صدر للمرة األولى في Critique no 576, mai 1995وكان حول
موضوع كتاب دسبانيا "الواقع الحجوب".B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994 :
85
نناقشها اآلن في هذا الفصل وفي الفصل الذي يليه ،بمواجهتها مع مقاربات منافسة
أخرى .وسوف نتساءل خالل هذه الناقشة إذا كان التوتر الذي شعر به دسبانيا بين
ّ
تصور واقع مستقل ،وهو مصدر القيود التي نصادفها خالل صيرورة البحث ،واالستحالة
الستقل بواسطة نظرية فيزيائية ،ال يمكن أن َّ
يعبر ّ الؤكدة في نظره في وصف هذا الواقع
ً
عنه بشكل أفضل في إطار فكر غير ثنائي بالكامل ومتأصل بدال من الحفاظ على التشبيه
الثنائي لـ "حجاب" يفصل الباحثين عن واقع تجاوزي بشكل جذري .إن العديد من
ً
دعما ألطروحته ،ت َّ
فسر بسهولة السمات الميزة للميكانيك الكمومي ،التي يذكرها دسبانيا
تخطيه ،وذلك عبر استحالة أن ّ ّ
نعمم في هذا أكبر من خالل قرب من الواقع ال يمكن
ً
القرب االنفصالية التي تجعل األمر موضوعيا على كافة الستويات وفي كافة مجاالت
نبين ،دون أن نتوسع هنا ألجلالبحث ،إال من خالل ابتعادها الفرط .سوف نحاول أن ّ
التوسع بموضوع "القرب العمي من الواقع" هذا (لن نقوم بخطوة أولى في هذا االتجاه إال
في الفصل السابع) ،أنه مندرج بشكل غير ظاهر في التسويات التي رض ي بها أشد الدافعين
عن الواقعية العلمية في الفيزياء العاصرة.
والروودات 1 -2األجسام واخصصائ
كتب برنار دسبانيا" :إذا كانت الفيزياء الكمومية تتيح رؤية آفاق حقيقية ،فذلك في
ّ
الحس السليم -وكان ينظر إلى هذه جانب منه بسبب التفاوتات الوجودة بينها وبين
التفاوتات في البداية كفروقات سلبية ."124فال بد بالتالي من ترك هذه التفاوتات تعزف
ّ ً
متسرعين عبر فكر جاهز؛ وال بد أن يكون لدينا بكامل تناغماتها بدال باألحرى من مواراتها
125
صبر القبول والرض ى بـ "فقدان االتجاه" الجذري هذا الذي وفق اورتيغا إي غاسيه
Ortega y Gassetهو الفاتحة الضرورية ّ
لتوجه حقيقي.
124الرجع السابق لدسبانيا ،B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994ص.1 .
J. Ortega y Gasset, Leçons de métaphysique, II, in Œuvres complètes I, Klinckssieck, 1988. 125
86
ّ
ما أن تظهر التفاوتات فإنها ال تنفك تتضخم .وهي تبدأ بمالحظات حول غرابة
ً
خصائص األجسام ،ثم تضعف بعد ذلك مفهوم الخاصية ،لتدفع أخيرا إلى نوع من
ً
التعبئة والتجييش وصوال إلى الفهوم الصوري للجسم.
إن األجسام الخاصة بالفيزياء الكمومية هي أجسام من مستوى صغائري .مع ذلك
ً
فإن هذا القول مبتذل وال يض يء العنى كثيرا .إذ ال يكفي القيام بعملية تشابه هندس ي
لالنتقال من السمات الكانية والحركية لألجسام التي ندركها في محيطنا اليومي إلى سمات
األجسام من الستوى الذري .فمنذ فترة مبكرة ،تعود إلى بداية القرن العشرين ،كشفت
الالإستمراريات ("الكمومية") للصيرورات التي تنتمي إليها ،وسلوكها ذو الظهر الجسيمي
ّ ّ ً ً
الجدة التعذر تبسيطها لخصائص األجسام في الفيزياء حينا والوجي حينا ،عن
الصغائرية.
ولكن هل من الشروع حتى الحديث عن خصائصها ،أي عن تحديدات تنتمي لها
بذاتها؟ وهل لدينا الحق بأن ن ّ
حل محل البيانات ذات "الواقعية الضعيفة" للمعاينات
التجريبية ،البيانات ذات "الواقعية القوية" 126التي تنسب خصائص لوضوع التجربة؟ في
الفيزياء الكالسيكية ،تجعل اإلنتاجية الكافية من النتائج مهما كان مستوى التجارب من
ً
هذا التبادل أمرا غير ضار .إن اإلسقاط األنطولوجي الذي يشتمل على تحويل الظاهرات
إلى براهين على األشياء ،وكذلك بديله اإلبستمولوجي الذي يرتكز على اعتبار الظاهرات
كانعكاس ّ
وفي ومباشر للخصائص التي يمكن أن تملكها األشياء بذاتها ،ما كانا يجازفان في
ً
أية لحظة بأن يكونا على خطأ .كان كانط يشجب فعال وهم إدراك األجسام كأشياء بذاتها
ً
في حين أنها ال يمكن أن تكون كذلك إال بما هي ظاهرات ،إنما كان يقوم بذلك انطالقا من
تأمل خارجي ،فلسفي وشامل ،حول شروط إمكانية العرفة؛ ولم يكن ثمة من داخل
تطبيق علم خاص مثل الفيزياء الكالسيكية ما يمنع من نسيان أمثولة الفلسفة النقدية
ّ
المتغيرة والتعبير كما لو كان لدينا منفذ للوصول إلى خصائص جوهرية ذاتية .إن نتيجة
126الرجع السابق لدسبانيا ،B. d'Espagnat: Le reel voilé, Fayard, 1994 ،ص.32 .
87
من خالل تغيير في التواليات التجريبية وأنماط العدات الستخدمة يمكن أن تكون
منفصلة دونما عقبات عن الشروط األداتية للحصول عليها ومندمجة ،مع "خصائص
أخرى" ،في أساس قابل إلعادة التعيين يختلط مع الش يء نفسه.
ً لقد ّ
قدم كانط هو نفسه أحيانا النهج والتبرير لثل هذا النسيان .ففي الهندسة
اإلقليدية ،كما يالحظ على سبيل الثال ،نجد أن كافة الفرضيات تكون صحيحة إذا
اعتبرنا الكان كشكل من الحساسية وبالقدر نفسه إذا اعتبرناه كش يء مالزم لألجسام .إن
ّ
التصور األول هي ميزة فلسفية ،طالا أنها وحدها تسمح اليزة الوحيدة التي تجعلنا نختار
لنا بفهم كيف يكون لعرفة مثل الهندسة أن تكون ممكنة ،معرفة تشتمل على يقين
ً
قاطع .ولكن من وجهة نظر داخلية في ممارسة الهندسة ،فإن التصور الثاني مقبول أيضا
بالقدر نفسه ]...[" :فبالنسبة لكل تجربة ممكنةّ ،
يظل كل ش يء كما لو لم أقم باالبتعاد
ً
على هذا النحو عن الرأي الشترك" .127بل وأكثر من ذلك ،يمكننا التساؤل ،ودائما من
ً ّ
التصور الواقعي مفضال عن زيادة في الراديكالية منظور الباحث العلمي ،إذا لم يكن
ّ
النقدية التي تميل باتجاه التشككية .إن هذا اإلفراط ،الذي يكتشفه كانط عند هيوم
،Humeقاد في الواقع هذا األخير إلى أن يغيب عن باله "[ ]...الضرر الفعلي الذي ينتج
عن واقع انتزاع أهم منظورات العقل منه والتي يكون باستطاعته من خاللها وحدها أن
يثبت لإلرادة الهدف األسمى لكافة جهوده ."128وهكذا ،على الرغم من أنه على اليتافيزيائي
أن يثبت لنفسه كهدف أول عدم الوقوع في "الوهم التجاوزي" ،لكن عليه مع ذلك أال
يحرم الباحث العلمي من عملية تصويب الثل الناظمة؛ وذلك على الرغم من واقع أن
َ ً
مدركا على أنه وهم .ألن ذلك وفق العملية العنية موجودة في أصل الوهم عندما ال يكون
كانط سيكون حرمان الباحث من نابض إرادته ،أي من محرض ودافع مسعاه .إن
الصعوبة الزدوجة تكمن في النهاية بالنسبة للفيلسوف في عدم محاولة تعميم التصورات
E. Kant, Prolégomènes à tout métaphysique future, 13, III, Vrin, 1968, p. 56. 127
128الرجع السابق ،القدمة (الهامش) ،ص.00 .
88
التي تنتج عن انفصاله النقدي ،وفي عدم تجاهل (كما كتب بورديو P. Bourdieuفي
االستشهاد الذي قدمناه في بداية هذا الفصل) أن واقع االستغراق نفسه في لعبة البحث
يتصل بتمثيله ككون تجاوزي ،إنما مع عدم التنصل البالغ فيه باالنتساب بشكل بحت
وبسيط ألولية التمثيل التي تنتج عن التزام الباحث العلمي في ممارسته الخاصة .وهكذا
فإنه يجب أن يتم الحفاظ على تعليم السيرة االنعكاسية ،ليس من أجل أن يفرض باسم
أي سيطرة فلسفية كانت ،وال من أجل التخلي عنه باسم مكانة العلوم ،أي أن يتم
الحفاظ عليه لوقت سيصادف فيه الباحثون العلميون صعوبات كبرى في متابعة مهمتهم
التقليدية في إعداد التمثيالت.
تظهر لنا عند هذا الستوى مفارقة هامة .وضمن الخطوط العامة فإنها تنتج حيث
تعارض حواجز تمثيل كون من الواضيع التجاوزية الوضوعة بمواجهة الباحثين ،كون ال
ً
يتبدى إال بشرط أال يعود الـ مثلما لو الكانطي قادرا حتى على الفعل؛ بشرط فشل
شروط إنشاء مواضيع العرفة الستقرة بدرجة كافية بحيث نستطيع الحديث عنها مثل
أشياء موجودة من حيث الجوهر وتحمل تحديدات خاصة .وللغرابة ،فإنه لن يمكن
بالتالي ،إال من خالل تساؤل حول الشروط الكانطية في تأسيس الوضوعية ،أن تظهر
السمة التي ال يمكن تجنبها لتحليل مثل هذه الشروط ،وأن تتكشف استحالة التعبير
ّ
بمصطلحات موضوعية مسبقة التشكل .فبسبب الوجه العاكس للتطبيق الخاص الذي
ً
قام به كانط للمنهج التجاوزي تحديدا إنما سيكون من الالزم النظر بشكل أوسع ألهمية
البدأ نفسه في النهج التجاوزي ،أي عودة االنتباه ،النبهر عادة بالوضوع الراد معرفته،
باتجاه الشروط السبقة للمعرفة.
غير إنه ليس من الستحيل أن يكون الظهر هو بالضبط الظهر الذي يواجهه
الفيزيائيون منذ بداية اليكانيك الكمومي .وفي الواقع ،ضمن الجال الذي تحكمه هذه
النظرية ،فإن معظم معايير الحاكاة اإلبستمولوجية ،واإلسقاط األنطولوجي (وإن بدرجة
أقل) ،تصبح نافدة .إن السمة الميزة األكثر أهمية في جبر "مرصودات" اليكانيك الكمومي
89
هي عدم -تبادليتها ،األمر الذي يترجم ارتباط النتائج التجريبية بنظام استخدام
التجهيزات .فعلى سبيل الثال ال يمكن إعادة إنتاج أية قيمة لوضع جسم إذا ما أدرجنا،
ً
ما بين حادثتي قياس الوضع ،قياسا لكمية الحركة .أو ،على األقل( ،وهنا يكمن مضمون
عالقات "الريبة" لهايزنبرغ) ،فإن قيمة للموضع ال تكون قابلة إلعادة اإلنتاج إال ضمن
ً
هامش من التقلبات غير القابلة للضغط تقريبا ،بحيث يتحدد عرض أو مدى هذا
الهامش من خالل دقة القياس الوسيط لكمية الحركة .يجب بالتالي التخلي عن منظور
تالق مقارب لنتائج القياس نحو التغيرها الكامل حيال تغيرات في التوالية التجريبية .إن
كل نتيجة هي حدث مفرد ،يتميز بالعكوسية الصيرورات التي تجد منتهاها عنده والتي
ترتبط بشكل ال ينفصم بتاريخ تجريبي .فاعتبارها كترجمة مباشرة ومشاركة لخاصية كان
ً ً
يملكها الجسم بذاته تماما قبل القياس سيكون أمرا فيه الكثير من اإلقحام والخاطرة
ضمن هذه الظروف.
ً
بالقابل ،أال يظل من المكن إسقاطها أنطولوجيا لنجعل منها خاصية كان الجسم
قد اكتسبها بعد القياس؟ ويبدو أننا نستطيع االستفادة من أجل ذلك من إعادة إنتاج
نتيجة عند القيام بقياسات مكررة للمتحول الوحيد الذي تتعلق به .إن هذه النسخة
ً الحددة -الخاصة إلعادة اإلنتاجية ّ
تبرر ،أيا كان األمر ،أن ننسب بسهولة "حالة" لكل
َّ
"محضرة") :ووفق معنى تعرضت لقياس مسبق (أو أنها كانت ببساطة منظومة فيزيائية ّ
اشتقاقي لكلمة "حالة" ،فإن منظومة ما تكون في حالة معينة إذا كنا نستطيع توقع
َّ
والكررة عبر فواصل كافية استقرارية نتائج القياس إلحدى هذه النتائج القابلة للرصد،
القصر على هذه النظومة .لكن تطبيق اإلسقاط األنطولوجي يفترض أن نجتاز خطوة
إضافية بالنسبة لجرد نسب حالة إلى منظومة .يفترض ذلك أننا ّ
نحول يقين إنتاج إلى
ً ً
تحديدية فئوية ،يقين إنتاج ليس مع ذلك سوى يقينا شرطيا :فالنتيجة ستنتج إذا كانت
التجربة قد ك ّررت بالفعل .يتطلب ذلك القفز فوق الؤدى التنبؤي للحالة من أجل
إعطائها قيمة تالزمية؛ ويعود ذلك باإلجمال إلى أقنمة التنبؤية في وجود .وبشكل خاص،
91
فإن نسب خاصية لنظومة فيزيائية باسم تنبؤية لإلنتاج ال تكون صحيحة إال إذا كان
َّ ً
ومكرر ،يعني إرادة تأسيس تحديدية جهاز تجريبي واحد مستخدما بشكل معاد
ً
أنطولوجية على حالة خاصة .إن التنبؤ ،واإلسناد معه ،يصبحان فورا باطلين إذا قررنا
أن ندرج ضمن سلسلة القياسات مرصودات أخرى ال تتبدل مع األولى .وهكذا فإن التنبؤ
يعوزه عدم التأثر بالظروف التي تسمح بأن ينفصل عنها.
تعبر في الحقيقة عن نمط استقرارية أكثر عمومية من إعادة اإلنتاجإن حالة ما ّ
مكرر على النظومة نفسها .إنها تترجم استقرارية توزع إحصائي لقيم الدقيق لقياس َّ
ً جسم مرصود مقاس إثر تحضير تجريبي معطىّ ،
ويميز بالتالي وضعا (التحضير) أكثر مما
ً ّ
يميز جسما ("النظومة الفيزيائية") .وهكذا فقد اشتملت مذاك استراتيجية عدد كبير من
ً
الفسرين العاصرين للميكانيك الكمومي على التمييز بشكل أكثر وضوحا من أي وقت
سابق لخصائص الحاالت .129ووفق روالن أومنس " ،Roland Omnèsفإن خاصية ما
تؤكد قيمة جسم مرصود ضمن ّ ّ
عينة من قيم األعداد الحقيقية في لحظة معينة،"130
ومن ناحية أخرى فإن حالة "[ّ ]...
تتحدد بشكل جيد عندما نستطيع أن ننسب احتمالية
ً ً
محددة تماما لكل خاصية قابلة لإلدراك ."131ووفقا لروح (إنما ليس لصطلحات) عقائد
بور ،فإنه لم يعد للحاالت الكمومية أي مقصد أو ادعاء آخر سوى أن تكون أدوات
ً
129إن النقطة الحاسمة ،وفقا لفان فراسين ( Quantum mechqnics, empiricist view, Oxford University
،)Press, 1991, p. 274 – 288هي أننا ال نستطيع القبول (على طريقة فون نيومن) بإقامة فرق بين الحالة التي
تكون فيها احتمالية نتيجة قياس مساوية للواحد ،وحيث يمكننا أن ننسب الخاصية الوافقة لجسم ما،
والحالة حيث تكون احتمالية مختلف النتائج الحتملة للقياس ألحد الرصودات مختلفة عن الواحد وحيث
ً ً ً
يكون النسب إلى خاصية موافقة أمرا غير مشروع .ال بد من اعتماد موقف مناسبا ،ومتطابقا في كافة الحاالت.
إما أن نرفض بشكل منهجي اعتبار أن الجسم يملك خاصية بذاته ،بما في ذلك عندما تعين الحالة الكمومية
ً
االحتمال 0للحصول على نتيجة معينة للقياس ،أو اعتبار أن لذلك دوما معنى في أن ننسب خاصية ،بما في
ذلك عندما ال تعين الحالة الكمومية االحتمال 0إلى أية نتيجة .ويتطلب الخياران أن نميز بعناية مفهوم الحالة
الكمومية عن مفهوم الخاصية.
R. Omnès, The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994, p. 104. 130
131الرجع السابق ،ص.006 .
91
للتقييم اإلحصائي ،في حين أن مفهوم الخاصية يصير ،من خالل مفهوم الرصود ،غير
ً
منفصل عن اإلسناد إلى الرجعية األداتية .فاألدوات ،التي ما كان يجب أن تستخدم وفقا
ً ّ
خاصية ما ،باتت تتدخل من اآلن فصاعدا ألشكال التعبير التقليدية إال من أجل "إثبات"
في تعريفها .إن لفظة "خاصية" تحفظ على هذا النحو ،لكن معناها قد تم تعديله بشكل
عميق من خالل اإلطار الجديد "النموذجي" الستخدامها والذي بات من الصعب معرفته.
ّ
الجد الوضعية التنبؤية للحالة ضمن القترحات الناقلة فإذا أخذنا على محمل
للفيزيائيين ("[ ]...النظومة الفيزيائية هي في الحالة │ ،)132"]...[.> Ψوتجاهلنا
االعتراضات السابقة ،لنتخيل اآلن أننا ماثلنا الحاالت الكمومية بأنواع من الخصائص.
هل سيكون مع ذلك من الشروع أن ننسب هذه الخصائص ذات النوع الجديد إلى كل
منظومة فيزيائية ،وفي كل لحظة؟ إن اإلجابة على هذا السؤال هي النفي ،وسبب ذلك ما
يالئم أن نسميه الالإنفاصالية .ولكي ندلل على ذلك ،لنبدأ بإقامة توافق مزدوج التشارك
بين الحاالت والنظومات الفيزيائية .إن نسب حالة كمومية لكل منظومة فيزيائية أمر
ً
ممكن تماما إذا كانت تتوفر لنا مجموعة كافية من النتائج التجريبية فيما يتعلق
بالنظومات ،أضف إلى ذلك أن هذا أمر ال غنى عنه عندما نريد أن نتنبأ بسلوكها الالحق.
مع ذلك ،عندما ينتج تفاعل ما بين هذه النظومات ،يحصل أن النظومة الكبيرة وحدها
هي التي تشمل هذه النظومات (وبالتالي فإنها ال تعود سوى منظومات تحتية) وهي وحدها
ً
التي يمكن أن تنسب إليها حالة كمومية .وبشكل عام ،وكما يقول محقا شرودنغر ،فإن
"مجموعة (النظومات) تكون في حالة محددة ،لكن ذلك ليس حال كل من األجزاء التي
تشكل هذه الجموعة مأخوذة بشكل منفصل ."133ولا كانت مثل هذه الصيرورة في تعميم
C. Cohen-Tannoudji, B. Diu et F. Laloé, Mécanique quantique I, Hernann, 1973, p. 253. 132
،E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique", (1935) 133وهذا النص معروف أكثر
من خالل العنوان "قطعة شرودنغر" في "article du chat de Schrodinger", in Physique et représentation
du monde, introduction et notes par M. Bitbol, Seuil, 1992, p. 119.
92
الحالة يمكن أن ّ
تمتد للتناسب مع التفاعالت ،أو أن َ
تحبط من حين آلخر بواسطة
تمييزات تجريبية ،فإن حدود النظومة التي يكون من الشروع أن ننسب لها حالة
كمومية ال تنفك تتغير .وبعد مفهوم الخاصية يكون الدور بالتالي على مفهوم حامل
الخواص في التعرض لنار النقد .فبما أن تحديد الحدود لا تكون الحاالت الكمومية قابلة
للتنبؤ بها من أجله يتغير مع تغير الظروف ،وبما أن حدود حامل الحالة تنتقل مع الحالة
َ ً
نفسها (باستثناء فقط عندما يكون الحامل مماثال بالكون كله) ،فهل سيكون لذلك أي
معنى بالتالي في أن نجعله يلعب دور الركيزة غير التفاعلة للتحديدات التغيرة 134الذي هو
دور الوصوف في موضع الوضوع القواعدي في اللغة ودور الجوهر منذ أرسطو؟
ّ ً
ال بد من الحذر بالنتيجة .حذر ينصح به دسبانيا مرات عديدة ،محذرا من الروابط
ً
بين األفكار السهلة جدا التي تجازف بتحريضها أشكال من الخطاب حيث السبب الوحيد
لواصلتها هو واقع "[ ]...أننا نتخيل بشكل س يء كيف يمكننا أن نتجاوزها ."135وحتى إذا
حصل أن "[ ]...استخدم تعبير النظومة الفيزيائية [ ]...بشكل موافق لالستخدام الشائع،
ً
134ثمة ملجأ أخير يبدو ممكنا :أن نجعل من كل "جسيم" األساس غير التغير للتحديدات الالمتغيرة مثل الكتلة
أو الشحنة (وهي تحديدات توافق مرصودات خاصة خاضعة لقواعد تسمى "فائقة االنتخاب") .ولكن حتى في
هذه الحالة ،ال تكون األمور بهذه البساطة .فالكتلة والشحنة يدخالن في تمييز نوع من الجسيمات (اإللكترون،
ً
البروتون ،إلخ .).وأن نجعل منها تحديدات لكل جسيم يفترض أن لدينا سببا ما لالعتقاد بأن هذه الجسيمات
ً
يمكن أن تعامل مثل أفراد منفصلين من النوع الذي تنتمي إليه .غير أن هذا ليس هو الحال عموما .وقد وجدت
الفيزياء اإلحصائية الكمومية نفسها مجبرة على التخلي عن الخطط الكالسيكي (مخطط بولتزمان) للتعداد،
والذي يتوافق مع كينونات فردية ،ليعتمدوا مخططين جديدين للتعداد (مخطط بوز ـ أينشتين ـ ومخطط فرمي
ً
ـ ديراك) وهما مخططان يتوافقان مع فرضية التغير الذاتي الكامل لـ "جسيمات" منظومة ما .ونجد شرحا يوضح
هذه السألة في E: Schrodinger, "Science et humanisme", in Physique quantique et représentation du
ً
،mondeفي الرجع السابق ذكره ،ص 30 .ـ .)21إن النتائج الفلسفية لالفردانية "الجسيمات" نوقشت مؤخرا
ريدهد وتيلر فيM. Redhead & P. Teller, "Particle labels and the teory of indistinguishable particles in :
ً
quantum mechanics", Brit. J. Phil, Sci, 43, p. 201-218, 1992؛ وانظر أيضا M. L. Dalla Chiara & G.
Toraldo di Francia, "Individuals, kinds and names in physics", in G. Corsi et al. (eds.), Bridging the gap:
.philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993, p. 261-283
،B. d'Espangat, Le réel voilé 135الرجع السابق ذكره ،ص.043 .
93
وفي معناه الألوف والحدس ي ،"136ال يجب أن ننس ى أن معظم الشروط الألوفة
الستخدامه تكون غائبة في الجال التجريبي الذي تحكمه الفيزياء الكمومية .إن ما يشيد
به دسبانيا هو في النهاية االستمرار في استخدام اللغة الشائعة ،137إنما بحيث نستخدمها
فلسفيا وفق العنى الويتغنشتايني" :ففلسفة أمر ما [ ]...هي قبل كل ش يء النضال ًّ
ضد
التأثير الساحر الذي تمارسه علينا بعض أشكال التعبير."138
2 -2التغيرات اخصفية ،والتواريخ الثابتة ،وفك االرتباط
الزودة بخصائصهل يعني اليكانيك الكمومي "عدم وجود" كثرة في األجسام َّ
ّ
واقعية؟ ال ينفك برنار دسبانيا يحذر ضد نوع الحاكمة الالذعة التي تختبئ خلف هذا
ً ً
السؤال .إن اليكانيك الكمومي ال يعني شيئا بذاته؛ فهو يترك جدول الخيارات مفتوحا
بكامله ،مع فرضه لحدود على كل من هذه الخيارات .فمن الصحيح ،كما سبق ورأينا ،أن
ً
جسم الظاهرات التي يأخذها اليكانيك الكمومي بعين االعتبار ليس جسما نستطيع أن
ننظمة بشكل مباشر في تعددية من الحوامل الدائمة التأثرة بتحديدات جوهرية ذاتية.
إن الهمة األولى لؤلف كتاب "الواقع الحجوب" تكمن بالتالي في أن يدحض نقطة نقطة،
بتشدد وإصرار ،كافة الحاوالت الحديثة لتجاهل أو لتقليص إثبات الحالة هذا .ولكن،
ً
من جهة أخرى ،سيكون من الدهش جدا أن يكون لنسق من الظاهرات ،مثل النسق
ً
الذي تبديه الصورية التنبؤية الناسبة تجريبيا للميكانيك الكمومي ،القدرة على حسم
مسألة ذات الدالالت اإلضافية التي ال تقل ميتافيزيائية عن مسألة وجود أو عدم وجود
أجسام ذات خصائص واقعية .إن البنية الكمومية للظاهرات ،مع التنافرات التي تبديها
اتجاه التنظيم اإلسنادي للخطاب ،ال تثبت عدم وجود أي ش يء كان ،ليس أكثر مما تفعله
البنية الكالسيكية للظاهرات ،مع اإلمكانية التي تقدمها في التعبير عن نفسها كما لو كانت
ً
139ال تستطيع هذه الصورة الحية والشعبية جدا مواجهة اختبار لها طالا هي ليست صورة جدية .وقد تخلى
عنها بور منذ عام 0936عندما واجهته التجربة التصورية ألينشتين وبودولسكي وروزن Einstein, Podolsky,
.Rosen
J. von Neumann, Les fondements mathématiques de la mécanique quantique, J. Gabay, 1988, p. 140
.208ونجد الدحض الكالسيكي لهذه النظرية فيJ. Bell, "On the problem of hidden variables in quantum :
mechanics", in J. Bell, Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University
ً
.Press, 1987.وكانت دحوض أخرى قدمت سابقا على يد كل من هرمان وموغر شاخترG. Hermann, Les :
fondements philosophiques de la mécanique quantique (1935), introduction et postface par L. Loler,
Vrin, 1996; M. Mugur-Schachter, Etude du caractère complet de la théorie quantique, Gauthier-
Villars, 1964.
،B. d'Espangat, Le réel voilé 141الرجع السابق ذكره ،ص.14 .
95
ولكن لنبدأ بالنقد ،الذي يلتزم به دسبانيا ،لحاوالت إعطاء رموز اليكانيك الكمومي
تتممه التحوالت الخفية) القدرة على اإلسناد مباشرة إلى خصائص العياري (الذي ال ّ
مسبقة الوجود والتي تكون قد ز ّودت بها النظومات الفيزيائية .وأحد أحدث االنتقادات
ً
وأكثرها إثارة للنقاش هو نقد "التواريخ الدائمة لغريفيث ."Griffiths 142فوفقا لبرنامجه
في البحث الواقعي ،كان غريفيث "[ ]...ينتظر من عملية قياس أن تكشف لنا خاصية
كانت موجودة بشكل مسبق ."143فكان يجب عليه بالتالي أن ّ
يتجنب إسناد ميزة للقياس
غير اليزة اإلبستمولوجية البحتة .فبين تجربتين ،يفترض أن تكون النظومات الفيزيائية
تملك الخصائص ،حتى وإن لم نكن قد أعطينا إمكانية معرفتها .وعلى الستوى الداللي،
فإن هذا النمط من الفصل بين الكائن وفعل العرفة يترجم من خالل استقالل قيمة
ّ
الحددة للمرصودات ،وذلك مقابل اإلنشاء الفعلي لوسيلة حقيقة القضايا ّ
العينة للقيم
تجريبية لإلثبات .ولكن ما هي الخصائص التي تملكها منظومة بين قياسين؟ وفق
ً ً
غريفيث ،فإن اشتراطا واحدا ،يسمى اشتراط التماسك ،يكفي لتحديدها .ويعلن شرط
التماسك بشكل مضاد للواقعية أن الخصائص النسوبة للمنظومة ما بين القياسين
يجب أن تكون بحيث إذا كان ثمة وسيلة لإلثبات كانت قد استخدمت من أجل البرهان
ً
عليها ،فإن شيئا لن يكون قد تغير فيما يتعلق باحتمال نتيجة القياس النهائي .إن متوالية
من الخص ائص التي تخضع إلى هذا االشتراط (أو من القضايا التي تختص بهذه
الخصائص) هي تاريخ متماسك ومترابط.
إن شروط خطاب واقعي حول الخصائص تبدو وقد تحققت من جديد على هذا
ً
النحو ،ولكن عندما ننظر إليها عن قرب ،نالحظ أن األمر ليس كذلك أبدا .144إذ ال يوجد
R. G. Griffiths, "Consistent histoiries and the interpretation of quantum mechanics", J. Stat. Phys., 142
36, p. 219-272, 1984; R. G. Griffiths, "Correlations in separated quantum systems: a consistent
history analysis of the EPR problem", An. J. Phys., 55, p. 11-17, 1987.
،B. d'Espangat, Le réel voilé 143الرجع السابق ذكره ،ص.426 .
ً
144لقد ساهم برنار دسبانيا نفسه كثيرا في هذا اإلدراك من خالل نقاشات خاصة ومقاالت كتبها .على سبيل الثال راجع:
B. d'Espagnat, "Consistent histories and the measurement problem", Phys. Lett., A124, p. 204-206, 1987.
96
ً ً
عموما ،بين قياسين ،تاريخ متماسك واحد ،بل عدة تواريخ (وأحيانا النهاية من التواريخ).
فعلى أي أساس نقول إن قضية تنتمي إلى تاريخ متماسك معين هي قضية صحيحة،
بالتفضيل عن قضية مختلفة تنتمي إلى تاريخ متماسك آخر؟ علينا عندها القبول مع
أومنس أنه وحدها القضايا العلنة لنتيجة قياس تم إجراؤه هي إما صحيحة وإما خاطئة،
في حين أن القضايا التي تعلن امتالك خاصية ضمن الفاصل الزمني بين قياسين هي
فقط قضايا إما موثوقة أو غير موثوقة .وتكون موثوقة إذا كانت تخضع لشرط التماسك
عند غريفيث وتكون غير موثوقة في حال عدم خضوعها لهذا الشرط.
يبقى أن نستخلص األمثولة الساخرة بعض الش يء لهذا النقاش .كان هدف العمل
األصلي لغريفيث أن يعيد إعطاء العنى لفكرة أن النظومات لها خصائص في الطلق
ً
واصفا من أجل ذلك القضايا الحاملة لهذه الخصائص بالصحيحة أو الخاطئة ،وذلك
بشكل مستقل عن استخدام وسيلة معينة إلثباتها .لكن األمر انتهى إلى االعتراف بأن
القضايا الوسيطة ال يمكن اعتبارها إال كقضايا موثوقة أو غير موثوقة ،أي ال صحيحة
وال خاطئة .وبالتالي كانت نتيجة هذه الحاولة في إعادة الهيكلة الواقعية للميكانيك
الكمومي العياري ،وبشكل مفارق ،الوصول إلى خالصات ترتكز على شكل من الالواقعية
ً ً
وفق العنى الذي يطرحه دوميت :Dummett 145فمبدأ الثنائية ليس مبدأ صحيحا عاليا؛
ً
إن بيانا ما ال يملك قيمة للحقيقة إال إذا كانت الوسيلة التجريبية التي تسمح بنسب هذه
ً
القيمة له قد وضعت موضع العمل؛ فالـ "صحيح" هو مرادف لـ "واضح تجريبيا".
ً
كان طموح نظريات "الالترابط" (التي ارتبطت أحيانا كما عند جيل -مان Gell-
146
Hartleبموضوع التواريخ التماسكة) أكثر محدودية في البداية .وال Mannوهارتل
يتعلق األمر هنا بتعيين قيمة حقيقة لكافة القضايا التي تعلن من خالل منظومة فيزيائية
M. Dummett, "Realism" in M. Dummett, Truth and other enigmas, Duckworth, 1978. 145
M. Gell-Mann & J. B. Hartle, "Classical equations for quantum systems", Physical Review, D47, p. 146
ً
3345-3382؛ وانظر أيضا J. P. Paz & W. H. Zurek, "environnemt-induced decoherence, classicality, and
consistency of quantum histories", Physical Review, D48, p. 2728-2737.
97
امتالك خاصية غير قابلة للقياس ،بل فقط بفهم كيف يكون من السموح ،في النموذج
الكمومي ،اعتبار القضايا التي ت ّعين أو تسند خاصية أصيلة لنظومات جهارية مثل أجهزة
القياس على أنها قضايا صحيحة .تشمل السألة باختصار على إيجاد تمفصل بين
الخطاب حول الرصودات (النسبية) ،الذي يسود بالنسبة للمنظومات الجهرية،
والخطاب حول خصائص (مطلقة) ،التي تفترض الحياة اليومية والفيزياء الكالسيكية
ً
مالءمتها على الستوى الجهاري .إن الحل ليس صعب الفهم أبدا في مبدئه .ونبدأ باعتبار
ً
أن نمط الوصف بمصطلحات الرصودات والحاالت الكمومية يصح عاليا ،وعلى كافة
الميزة للنمط الكمومي في الوصف الذي يشكل الستويات .بعد ذلك نطابق السمة ّ
ً حاج ًزا أمام فكرة أن منظومة ما تمتلك خاصية َّ
محددة تماما حتى وإن كنا نجهل أي
خاصية هي :يتعلق األمر هنا بأول ترابطات الرحلة بين الحدود الوافقة لختلف النتائج
المكنة لقياس ما .نبرهن عندها 147أنه ما أن تتفاعل منظومة فيزيائية جهارية ،حتى ولو
ً
بشكل ضعيف جدا ،مع محيطها فإن ترابطات الرحلة وتأثيرات أخرى ذات شكل موجي
ً
تختفي بشكل شبه كامل خالل فترة زمنية فائقة القصر .وبدءا من هنا ،يصبح باإلمكان
من جديد التعبير والفعل كما لو كانت النظومة الفيزيائية الجهارية تملك خاصية يكشف
ً
عنها الرصد أو التحليل التجريبي .إن هذه الحاكمة ليست قابلة للنقاش كثيرا في خطوطها
العامة .فنتائجها الرصودة تتوافق حتى مع التجربة .148غير أن معناها الفلسفي ال يزال
موضوع نقاشات حامية .لقد مال كل من زورك ( Zurekعلى األقل في األوقات األولى من
يحمال ذلك نتائج ذات صبغة أنطولوجية بشكل واضح[" :إن محاولته) ،ثم أومنس ،ألن ّ
نتيجة القياس] غير معروفة لدينا بعد ،بل وليست ّ
معرفة لدينا"149؛ إن فك الترابط (أو
،R. Omnes, The interpretation of quantum mechanics 150الرجع السابق ذكره ،ص( .319 .النص الضاف
بالخط الائل).
151الرجع السابق ،ص 311 .ـ .319
،B. d'Espangat, Le réel voilé 152الرجع السابق ذكره ،ص.414 .
153الرجع السابق ،ص.099 .
99
يرتكز ،مثل كل نظرية علمية ،على إمكانية إسناد قيمة حقيقة للقضايا التجريبية .فمن
أجل تامين التساوق بين بنية اليكانيك الكمومي والسيرة اإلبستمولوجية التي تضمه من
حيث جوانبه ،يبدو أنه من الضروري عندها البرهان ّأن صوريته تبرر إسناد قيمة
حقيقة للقضايا التي تتعلق بها من أجل إثباته .ووجهة نظر أومنس هي أننا نتوصل إلى
ذلك من خالل نظريات الالترابط .وعلى النقيض من ذلك ،فإن الوضعية الالقياسية
لدسبانيا ،الذي يرفض أن تكون الهوة التصورية (النوعية) بين خطاب حول قضايا
موثوقة fiableوالخطاب الألوف حول قضايا صحيحة قد ردمت بواسطة نظريات
الالترابط ،تضعف كما يبدو األساس النهجي للفيزياء الحديثة.
أود اإلشارة هنا إلى أن مطلب أومنس ،التمثل بالقابل بأساس لنمط الخطاب
التجريبي من خالل النظرية الراد اختبارها ،هو مطلب مفرط .وإلى أن الدور األكثر
ً
تواضعا الذي يوليه دسبانيا لنظريات فك االرتباط يكفي لتأمين التانة اإلبستمولوجية
لسيرة الفيزياء الكمومية .ولهذا ،فإنني سوف أعرض مماثلة بين معايير القياس والوقائع
التجريبية.
هل من الصحيح أن متوازي السطوح من البالتين الحتوي على إيريديوم والوضوع في
154 ً ً
جناح بروتوي Breteuilفي سيفير Sèversيقيس مترا واحدا؟ الجواب وفق ويتغنشتاين
هو النفي" :هناك ش يء ما ال يمكننا القول عنه ال إن طوله متر واحد وال أن ليس طوله متر
ً
جدا ّ
نعده كمعيار واحد ،والحديث عن التر -العياري في باريس" .لقد بقينا لفترة طويلة
للطول ،ولهذا كان من الخطأ بشكل مؤكد الزعم بأن قياس ّ
عينة البالتين في جناح
ً ً ً
بروتوي لم يكن مترا واحدا .ولكن فقد كان من الخطأ أيضا بالدرجة نفسها التصريح بأنه
ً ً
كان يقيس مترا واحدا ،ألن تأكيد قضية (أو حقيقتها) ال يكون له معنى إال من خالل
ً ً
L. Wittgenstein, Investigations philosophiques, Gallimard, 1961, p. 50 154؛ وانظر شرحا موضحا
(وترجمة ممتازة له) في ،J: Bouverse, La force de la règle, Minuit, 1987, p. 131 :وكذلك كتاب J. Bouverse,
"Le problèm de la longueure du mètre", in J. Sebestik et A. Soulez, Wittgenstein et la philosophie
d'aujourd'hui, Klincksieck, 1992.
111
تناقض مع إمكانية نفيه (أو عدم حقيقته) .والحال أن دور العيار الذي كانت تلعبه عينة
البالتين في جناح بروتوي في النظومة الترية القياسية كان يضعها بالضبط من حيث
بناؤها بمعزل عن مثل هذه اإلمكانية .إن القضية القائلة "إن متوازي السطوح من
ً ً
البالتين في جناح بروتوي يقيس مترا واحدا" لم تكن بالتالي قضية "صحيحة" ،ولم تكن
ّ ّ ّ
الحد النهائي والضمني للمقارنة التي يتطلبها إسناد بحاجة لتكون صحيحة لكي تشكل
ّ
قيمة حقيقة للقضايا التي تتعلق بطول األجسام األخرى .وضمن هذه الشروط ،لم يكن
من الهم حتى أن ّ
تبررها بالقابل نظرية فيزيائية ،ترتكز عليها في إثباتاتها التجريبية ،من
ّ
خالل مبرهنة تؤكد الشرط األساس ي لحقيقتها ،أال وهو الثبات الطلق لطول العينة
العدنية .فإذا كان ثمة للصرح النظري اإلجمالي بين نتائجه ،والذي كانت هذه النظرية
ً ّ
تشكل جزءا منه ،الالإحتمالية القصوى للقدرة على الكشف عن التغيرات النتظمة
متعددة من األجسام األخرى (حيث تكون كافة الشروط ّ لطولها بالقارنة مع مجموعة
التعلقة بالقضية متساوية من جهة أخرى) ،فإن ذلك سيكفي لضمان التماسك -الذاتي
األدائي للمنظومة الشكلة بواسطة النظرية الثبتة والفترض التري (القياس ي) إلثباتها.
َ
وبجملة واحدة ،فإن اعتبار متوازي السطوح من البالتين كمعيار لم يكن يعود إلى نسب
خاصية له بل إلى إسناد نظام (قانوني) له .كان من المكن المتالك خاصية أن يكون
ً ً
قابال لالختبار تجريبيا وكان من المكن أن يؤخذ بعين االعتبار بواسطة نظرية مستنفذة
بدرجة كافية؛ بالقابل ،فإن النظام وحده يجب أن يندرج ضمن لعبة اتفاقيات تتعلق بها
ً
إجراءات تجريبية ونظرية ،والذي ي َّبرر استدالليا بواسطة فعاليتها الشاملة .إن تخليص
ً ً
معيار البالتين من نظامه ذي االمتياز يظل بالطبع أمرا قابال للنظر فيه .غير أنه ال يمكن
القيام بذلك إال على حساب تحويل في حامل العيار ،من موضعه ذي السمة الصحيحة
االستثنائية التي تم ربطها به ،إلى جسم آخر أو إلى صيرورة فيزيائية.
إن للصعوبة التي نصطدم بها في اليكانيك الكمومي شكل مطابق إنما ذو مدى يتم
تناوله بشكل مختلف .كان السؤال يتعلق بحقيقة قضية واقعية خاصة (هي القضية التي
111
ّ ً ً
تمتد من اآلن تنسب طوال معينا لعيار منظومة قياسية) ،وقد باتت هذه القضية
ً
فصاعدا إلى إمكانية نسب قيمة حقيقة للقضايا الواقعية بشكل عام .وكما أن قضية
ً ً
"متوازي السطوح من البالتين ذي اإليريديوم في جناح بروتوي يقيس مترا واحدا" لم تكن
بحاجة ألن تكون صحيحة لكي تلعب الدور الذي لعبته في النظومة الترية ،فإن القضايا
التي تعلن وقائع ليست بحاجة إلى مقدرة أن تكون صحيحة لكي تلعب دورها البنائي في
العلوم التجريبية .حيث يكفيها أن يكون باإلمكان اعتبارها على أنها صحيحة ،أي أن يكون
باإلمكان استخدامها في خطاب الباحثين العلميين بحيث أن تكون صحة قولهم بمنأى
عن الشك عبر اتفاق ضمني .إن اعتبار قضية كـ "واقع" ،ال يعني تأكيد حقيقتها الجوهرية؛
ً ً
بل يعني أن نسند إلى هذه القضية نظاما أساسيا ذا امتياز ضمن الشبكة النطقية
ً ً ً
للعلوم .أما لكي نثبت حقيقة هذه القضية فإن ذلك يتطلب تأكيدا تجريبيا أو إدراكيا (مع
الجازفة بإطالق ارتداد ال ينتهي من تأكيدات الحقيقة وإجراءات اإلثبات)؛ كما أنه
ً
يستدعي أيضا أن يؤخذ بعين االعتبار ضمن نظرية كاملة .وعلى العكس فإن للنظام
األساس ي أو القانون ميزة إيقاف االرتداد إلى ما النهاية وأن يوضع باإلجمال على مستوى
ً
آخر مختلف عن مستوى نتائج نظرية فيزيائية ،طالا أنه يشكل جزءا من الشروط
السبقة لكي تتم صياغة نظرية ما (إذ تتم صياغة نظرية من أجل أن نأخذ بعين االعتبار
القضايا التي لها نظام "الوقائع") ولكي يتم إثباتها (يتم إثبات نظرية من خالل مطابقتها لـ
الحد األدنى الطلوب من نظرية ما هو أال تكون في حالة تناقض ّ "وقائع" معينة) .إن
واضح مع الشكل النطقي للوقائع التي تشرطها بشكل مسبق .وبالثل ،فإن قضية مجهزة
بنظام "الواقع" يجب أن تجد نفسها فقط مبررة بشكل استداللي من خالل التجربة عبر
تطابق وتالؤم إجمالي لجملة العارف التي تساهم في تأييدها .وعلى الرغم من أن فك
االرتباط décohérenceال ينجح كما يشير إلى ذلك دسبانيا في أن يؤسس بالقابل إمكانية
ً ً
إسناد قيمة حقيقة للقضايا الواقعية ،فإنه يكفل ويحمي توافقا هو أكثر من كاف كميا
ً
بين النتائج القطعية للميكانيك الكمومي وبيان الحوادث التي تعتبر نظاميا على أنها
112
ّ
"وقائع" .إن فك االرتباط يؤكد ما كنا أسميناه االتساق األدائي الذاتي :أي تماسك
النظومة الشكلة بواسطة اليكانيك الكمومي والفترضات السبقة إلثباتها التجريبي.
ً
إن الوازي لا سبق يمكن أن يكون كامال إذا استطعنا تحديد مكافئ واقعي لقابلية
الحلول محل العيار .فهل من السموح أن نغير من الواقع كما نغير معيار قياس ما؟ ليس
بالضبط وفق الطريقة نفسها ،أي ليس من خالل اتفاق معلن .وباألحرى أن ننظر إلى
ذلك مثل تأثير النقالب عالقة ديالكتيكية تتأسس منذ البداية بين القضايا الواقعية
ً
والنظريات ،تأثير يرى حينا الواقع -الفعل يشكل نقطة ثابتة يجب أن يستند إليها عمل
مؤكدة َّّ ً
محددة حدود ما هو مشروع أن البناء النظري ،ويرى حينا النظرية تطرح كبنية
نعتبره كواقع .تسود الصورة األولى خالل مرحلة الثورة العلمية ،وتسود الصورة الثانية
خالل مراحل "العلم العادي" .فما أن يتم إنجاز الثورة العلمية ويتم تأسيس النموذج
ً الجديد ،األمر الذي كان في السابق ّ
يعد واقعا ،حتى يمكن بالضبط أال يعود النموذج
ً
نموذجا وأال تعود الثورة ثورة .ولكن ،إذا كان األمر على هذا النحو ،أال نصل هكذا إلى
نسبوية تامة تصدم الشعور ،والذي طالا تقاسمه الباحثون العلميون ،باستمرارية
متجاوزة للنموذج لعنصر واقعي؟ علينا بالنتيجة أن نميز بشكل دقيق قابلية الحلول
ً
محل الواقع .فثمة ش يء ما يبقى فعال من نظرية علمية إلى النظرية التي تحل محلها :وهذا
ما تجعله االفتراضات السبقة لفعلنا ولقولنا اليوميين (أو إذا أردنا النظريات السبقة
ً
التضمنة التي تقود حياتنا) أمرا من الشروع اعتباره كواقع.
ً ً
لقد طرح دسبانيا تسهيال عقليا ،يشتمل على التفكير بأنه يوجد طريقة في مماثلة
الرصودات الصغائرية أو الجهارية للميكانيك الكمومي مع خصائص أصيلة بالعنى العتاد
للكلمة .وثمة تسهيل عقلي آخر يشمل االعتقاد بأن إخفاق التسهيل السابق يحكم بشكل
صريح وحتمي على الفيزيائيين بإفراغ خطابهم من كل اعتبار فيما يخص األجسام الحاملة
ً
للخصائص؛ وال يخطئ دسبانيا في رفضه أيضا .إن األشكال التقليدية للتعبير يمكن أن
تدوم بشكل تام على الرغم من عدم توافقها عند الدرجة األولى مع بنية الظاهرات
113
ً
الكمومية .ومن السهل جدا فهم السبب في ذلك :إذ يكفي أن نسقط بشكل أنطولوجي
ً
الظروف نفسها التي تشكل عائقا على اإلسقاط األنطولوجي للمرصودات من أجل
الوصول إلى توافق عند الدرجة الثانية .ولنذكر بهذه الظروف:
أ -االرتباط التعذر حله لقيم الرصودات تجاه الشروط التجريبية لقياسها ،والذي
ً
يندرج زورا ضد الداللة اإلضافية لـ "تحديد ينتمي بذاته إلى جسم ما" في لفظة "خاصية".
ب -الالإنفصالية ،التي تؤدي إلى إعطاء النظومة الفيزيائية ،وهي أساس لـ "حالة"
ً
معالجة كخاصية ،حدودا تتغير مع الحالة نفسها.
155
D. غير أن استراتيجية "التفسير األنطولوجي للميكانيك الكمومي" لديفيد بوم
Bohmتشتمل بالضبط على تحويل هذه العوائق إلى القدر نفسه من اليزات الجديدة
للجسيمات .إن ارتباط قيم الرصودات اتجاه الشروط التجريبية يتم إسقاطه بشكل
سياقية (أي بتأثير للتجهيزات التجريبية على الصيرورات الفيزيائية التي تسعى هذه
التجهيزات للكشف عنها) .ومن جهتها ،فإن الإنفاصالية النظومات الفيزيائية تتحول إلى
المحلية لخصائص ّ
مكوناتها ]...[ :في النظريات ذات التغيرات اإلضافية ،فإن الجسيمات
التي تشكل منظومة فيزيائية ممتدة تجد نفسها وهي تختص بنوع من الوجود الفردي على
الرغم من أنها تتفاعل بطريقة غير محلية" .156لقد أعطى كل من مبرهنة كوشن Kochen
ً
وسبيكر ،Specker 157ومبرهنة بل Bell 158لهذه التحويالت مدى كونيا من خالل جعلها
للسياقية والالمحلية ميزات ال يمكن تفاديها في كل نظرية ذات متحوالت خفية قابلة ألن
ً
تعيد إنتاج التنبؤات التجريبية الؤكدة للميكانيك الكمومي .ونرى بوضوح انطالقا من هنا
D. Bohm & J. Hiley, The undivided universe, Routeldge, 1993. 155
،B. d'Espangat, Le réel voilé 156الرجع السابق ذكره ،ص.024 .
S. Kochen & E. P. Specker, "The problem of hidden variables in quantum mechanics", Journal of 157
mathematics and mechanics, 17, p. 59 – 87, 1967.
J. Bell, "On the Einstein – Podolsky – Rosen paradox", in J. Bell, Spakable and unspeakable in 158
،quantum mechanicsالرجع السابق ذكره.
114
ً
أن نظريات ذات متغيرات خفية تستجيب لشروط معينة ال يمكن رفضها اعتمادا على
بواعث ذات بعد تجريبي بحت.
ً
وفي إطار فكر مماثل ،إنما مع مناهج ونتائج مختلفة جدا ،تم اقتراح إسقاط ارتباط
النتائج التجريبية اتجاه نظام استخدام التجهيزات على "منطق كمومي" غير توزيعي،159
بل وعلى منطق ّ
"متمم" 160ثالثي التكافؤ .وهكذا فإنه يتم حفظ إمكانية التحكم بشكل
قطعي بالشاركة التصلة مع جسم ذي قيم مرصودات ناشئة عن أطر تجريبية متعارضة،
وذلك على حساب اعتماد منطق غير كالسيكي.
3 .2الواقع التجاوزي أو حضور الواقع؟
إن حالة فقدان الذاكرة تجاه الشروط السبقة للنشاط اإلبستمولوجي قد أصبحت
مزعجة بشكل خاص بسبب ظهور اليكانيك الكمومي؛ لكن مزعجة أو غير مريحة ال يعني
أنها غير قابلة لإلدراك ،كما سبق ورأينا .إن بنية اليكانيك الكمومي ،مع شكل من
ً
جدا أو مصطنعة إلى ّ الحيادية ّ
حد الوجهة ،تجعل من معظم تفسيراتها الواقعية غريبة
أنها تدعو إلى وضع الواقعي دون أن تفرضه .لنقبل اآلن أننا تبعنا هذا النحدر الالواقعي
(الذي قررنا أعتباره من القضايا ذات "الوضوعية الضعيفة") .هل يقتض ي ذلك بالتالي
اعتماد موقف الواقعي بشكل أصيل ،على سبيل الثال مثالية عقائدية؟ لن يقبل بذلك
أي الواقعي منطقي :فتصوره العقائدي يقوم أكثر على تعليق الحاكمة مهما كانت
الحاكمة ،حتى لو كانت سلبية ،حول ما الذي يشمل الصيرورات التجريبية .إن
الالواقعية تدفع باألحرى إلى فقدان صورة معينة للواقعية ال إلى فقدان مفهومها .إن
الصورة العلنة هي صورة كينونة معطاة ،موضوعة أمام قابلية التأثر واالستقبال
يقيم اإلخالص الرآوي للمدركات الحسية نفسهالحساسة واللغة ،والتي بالنسبة لها ّ
G. Birkhoff & J. von Neumann, "The logic of quantum mechanics", Annals of mathematics, 37, p. 159
823-843, 1936.
P. Destouches-Fevrier, La structure des theories physiques, P.U.F., 1951, p. 32. 160
115
ّ
الجرد وكذلك حقيقة القضايا .بالقابل فإن ما يبقى بمنأى من النقد ،هو الفهوم
ً ّ ّ
للمجرب ،أو أيضا الحددة للنشاط اإليمائي والرمزي لواقعية تعتبر كتحديدية للمقدرة
كمصدر ّ
محدد مشترك للقيود التي ال يمكن ضبطها التي تظهر من خالل اإلجابات على
االستثارات التجريبية .ومع أن الصورية التنبؤية للميكانيك الكمومي العياري ال تزعم أنها
تمثل ما هو قائم ،فإنها تترجم هذه التحديدات وتتوافق مع هذه القيود .هذا ما يحاول
دسبانيا التعبير عنه من خالل بيانه التأسيس ي لـ "واقعية مفتوحة"" :ثمة ش يء ما [ ]...ال
يتأتى وجوده من الفكر اإلنساني" ،161والذي ّ
يسمى بعبارة أخرى "الش يء" الذي يقول "ال".
ً
فطالا بقينا عند هذه النقطة ،سيبدو مع ذلك أننا حاولنا إيجاد التعاريف األكثر تمركزا
ً
للش يء في ذاته التي أعطاها كانط في نهاية "تحليله التجاوزي" ،والتي أخذ بها حصرا
الفكرون الكانطيون الجدد من مدرسة مربورغ :Marbourgفمفهوم الش يء بذاته هو
ً ً ّ
فقط هنا مفهوم تحديدي يقلص مزاعم الحساسية وال يؤسس بالتالي شيئا إيجابيا خارج
حقله .162غير أن دسبانيا يرفض بالضبط أن يتقيد بهذه الدرجة القصوى والفائقة من
التحفظ اليتافيزيائي .وعلى الرغم من أنه كان في السابق قد طعن بنظريات ذات متغيرات
ً
خفية يحكم عليها بأنها "[ ]...تأملية جدا" ألنها بلجوئها إلى نماذج هي من حيث البناء
بعيدة النال على كل اختبار تجريبي تمييزي ،فإنه ال يستطيع أكثر القبول بأن هذا "الش يء
ً
ما [ ]...الذي ال يتعلق وجوده بوجودنا" هو عبارة عن متحول س بحت مجهول تماما ال
تستطيع الفيزياء أن تفيدنا بش يء فيما يخصه أو يتعلق به .163وهكذا فإن دسبانيا ينطلق
ً
،B. d'Espangat, Le réel voilé 161الرجع السابق ذكره ،ص .336 .وقد ع ّبر عن الفكرة أيضا بدقة أكبر فيما
ّ
يسميه مغير ـ شوختر مسلمة "الواقعية الدنيا" ( M. Mugur-Schachter, "Spacetime quantum probabilities
II: relativezed descriptions and popperian propensities", Foundations of physics, 22, p. 235-312,
ً
.)1992وال يجب أن نخلط هذه الواقعية الدنيا ميتافيزيائيا مع الواقعية الدنيا الداللية بالعنى الذي حدده
إنجل في كتابه الشيق والحديثP. Engel, Davidson et la philosophie du language, P.U.F., 1994. :
E. Kant, Critique de la raison pure, A 255, B 311, trad. Tremesaygues et Pacaud, P.U.F., 1944, p. 162
229.
،B. d'Espangat, Le réel voilé 163الرجع السابق ذكره ،ص.315-316.
116
عندها في محاولة توصيف للواقع حيث أن بنيته الجازية (وهي بنية حجاب ،مع فصلها
لنا عن خلفية العالم ،تترك لدوائر واسعة منه أن تشف وتظهر لنا) تسعى لكي تقود
بشكل آلي الخطط الثنوي لنظرية العرفة في وضع لم تنفك فيه إشارات فرص إعادة
ً
النظر فيها تتراكم؛ وهي إشارات لم يستطع دسبانيا نفسه أيضا عدم االعتراف بها .164وال
شك أنه انبرى على هذا النحو ،وهو محق في ذلك ،لتنفيذ عمل إبستمولوجي نهائي ووضع
استراتيجية ّبين من جهة أخرى أهميتها في العلوم :إنها االستراتيجية التي تشتمل على
الظهور بشكل منهجي كمحافظ ،والتقيد بإطار تصوري كان قد وضع براهينه طالا لم يأت
ً
ش يء ليزعزعه بشكل حرفي ،أو أيضا كما يقول فان فراسين ،والحفاظ على الثقة
الفترضة للنماذج والتمثيالت.
ولكن ،إذا كانت صورة الواقع الحجوب قابلة للنقاش ،فإنني أعتقد أنه يجب معرفة
كيف نعترف بأهمية ما يحاول أن يعبر من خالله عن نفسه .إن النقاش الحكم الذي
ً
يقود إلى اعتماد هذه الصورة يقودنا في الواقع إلى عتبة إشكالية فلسفية مختلفة جدا:
إشكالية امحاء للحدود التقليدية بين حقول االستقصاء والتحقق الناشئة على التوالي
من القاربة التأويلية ومن القاربة التحليلية ،وإشكالية منهجية الفهم ما بين هذه الحقول
وإشكالية عملية تحويلها إلى حقول وضعية .وعلى الرغم من أن دسبانيا لم يشرح السألة
على هذا النحو ،لكن لم يغب عنه خالل مسيرته في الفكر ّ
العمق من االقتراب منها
ً
مسبقا من بين ّ ً ً
قرائه. بدرجة كبيرا جدا وجعلها ملحوظة ومدركة لن كانوا قد شعروا بها
ً إن هذا األثر الجانبي ّ
بتحرره من التوترات ،التي لم يتجنبها أبدا ،والتي تسكن محاولته في
إعادة الصياغة اليتافيزيائية ،هي ما سيكون علينا أن نحلله فيما يلي.
التوتر األول :عندما حاول دسبانيا التحدث عن نوع العلومة التي ّ
يمدنا بها اليكانيك
ً
الكمومي حول موضوع "الواقع الستقل" ،وجد نفسه منقادا إلى صياغة نوع من
،B. d'Espangat, Le réel voilé 165الرجع السابق ذكره ،ص 315.ـ .311
166إن إحدى اليزات (وربما اليزة الوحيدة) التي يعتقد دسبانيا أنه استطاع أن ينسبها إلى الواقعية الستقلة
على أساس معلومات الفيزياء الكمومية هي ميزة الوحدة الكلية .وعلى هذه اليزة إنما ترتكز كما يبدو فكرة
واقعية محجوبة بالتأكيد إنما ليست بعيدة النال بالكامل ،كما هو الش يء بذاته في علم الجمال التجاوزي.
167راجع ،M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et réalitéالرجع السابق ذكره.
118
ً في إطار معنى ّ
ضيق ،استنتاجي حصرا .لكنه يعتبر أن قرار استبعاد مثل هذه النظريات
ً
بحجة طابعها "االصطناعي" الفرط ينتمي إلى مجموعة واسعة جدا من الخيارات
ّ ً
التوجه والتي تسمح للمشروع العلمي بكامله أال الجوهرية والتي غالبا ما تكون ضمنية
ويضل على مفترق الطرق .وبالنتيجة ،فإن نقد استبعاد النظريات ذات التغيرات ّ يحيد
ً ً ً
الخفية ليس نقدا تجريبيا وال استنتاجيا ،بل ينتمي إلى صف "االنتقادات التوضيحية"،168
الذي ال يمكن للعمل في مجال العلوم تجاوزه .تقودنا مع ذلك هذه الالحظة ،ذات الصلة
ً
الوثيقة بالوضوع ،ألن نفهم بشكل واقعي تماما كيف أن األنطولوجيا التي يتم تفضيلها
وتيسيرها في مرحلة معطاة من قبل الباحثين العلميين تتعلق بطريقة حاسمة بنقد
توضيحي ،بل وبالسلسلة التاريخية لالنتقادات التوضيحية التضمنة التي استخدمت في
كل مرحلة من االستقصاء ،وليس فقط باإلشارات وحدها ذات األصل التجريبي .ال يمكن
ً
للفيزيائي أن يجيب على السؤال" :ماذا يمكن أن يشبه الكون لكي يكون محكوما بقوانين
مثل هذه النظرية الفيزيائية؟" إال تحت الشرط السبق في تفعيل مجموعة من االنتقادات
التي تتجاوز من حيث البناء العلومة التجريبية التي نفترض أن هذا "العالم" يزودنا بها.
وكما سوف نرى بتفصيل أكبر في الفصل الخامس ،فإن األنطولوجيا الكليانية لدسبانيا
(لبوم األخير) هي التي تفرض نفسها تحت شروط مسبقة معينة توضيحية؛ أما تحت
شروط مسبقة توضيحية أخرى فإن األنطولوجيا التعددية لبوم األول هي التي تبدو ّ
مفضلة.
ينطلق دسبانيا ،مثل كانط ،من الخطط الثنائي لنظرية العرفة :الش يء واألنا،
ال َ
درك والدرك؛ وكما مسيرة كانط فإن مسيرة دسبانيا النقدية تصل إلى إفراغ البديل
من كل محتوى جوهري .وبالقابل ،فإن دسبانيا يرث جوانب من سوء الفهم التي
ً ً
168إن معيارا توضيحيا هو بالتعريف معيار في اختيار النظريات يمض ي إلى أبعد من العايير التجريبية البحتة
(والذي يوضح مجلد دوافع االختيار) .وفق لودان ،يمكن فقط من خالل استخدام مثل هذه العايير يمكن
توضيح وإعالء التحديد التحتي للنظريات بواسطة التجربة .فالسألة كلها تكمن في معرفة ما هي الحالة التي
نخصصها لثل هذه العايير :تفضيالت جماليةن تحديدات اجتماعية أو طريقة توسيع حقل العقالنية إلى ما
وراء حدود االستنتاج الدقيق؟ راجع .L. Laudan, Beyond position and relativism, Westview Press, 1996. :
119
استقرت في األثر الذي تركه عمل كانط .إن مفهوم الش يء بذاته كان قد ّ
تغير خالل "نقد
العقل الخالص" ،ولم يفهم وي ّ
رد عليه من قبل تيار الثالية األلانية 169إال ضمن معناه
التقليدي للكينونة التجاوزة الؤثرة على العاني .وبالثل فإن مفهوم الواقعية الستقلة
ً ّ
قلص فعال إلى أبسط تعبير تحديدي له (الواقعية النفتحة) ،وقد استمر في إثارة التمثيل
لـ "ش يء بالنسبة إلى" الذي يؤثر على األجهزة التجريبية ،والذي تحاول الفيزياء الكشف
عنه بقدر ما يسمح بذلك "الحجاب" الذي يفصلنا عنه .وإنه لن الصحيح ،وفق دسبانيا،
ً
أن ثبات واستمرار هذا اليتا -تمثيل ال يشكل أبدا صعوبة في تصوره؛ ذلك أننا ال نرى،
ً
هنا أيضا ،ما هو السبب الذي سيدفعنا لكي نتخلى دون مناقشة عن ميتا -تمثيل (ثنائي)
ّ
مكرس بواسطة الزمن ومفيد في الكثير من الجاالت الألوفة إذا لم يظهر ش يء ما يجعله
غير مقبول بشكل صريح .لهذا اخترت في هذا الفصل أن أتكلم عن توترات وليس عن
صعوبات :التوترات التي تظهر عندما نترجم سمة معينة للوضع الناش ئ من خالل
ّ
تنحل في جزء كبير اليكانيك الكمومي في إطار النظرية الكالسيكية للمعرفة ،والتي سوف
منها من خالل التخلي عن هذا اإلطار.
التوتر الثاني :إن مفردات العرفة هي مفردات عالقة بين قطبين ،بل ومفردات ّ
توجه
من أحدهما باتجاه اآلخر .إن العرفة هي معرفة ش يء ما ،فهي تتصل بش يء ما ،أو هي
ً ً
متعلقة بش يء ما ،وهي تخص شيئا ما ،وهي ترتكز على موضوع أو على ما يخص شيئا ما
(حيث االرتباط بش يء هو عبارة عن قصد أو غاية) .والحال أن دسبانيا عندما يستخدم
هذه الجموعة العجمية من الفردات ،فإنه يدفع بها إلى تخوم حقل تطبيقها ويبدي
ً ً
أحيانا شعورا بعدم الراحة تجاهها .فالتأكيد بأن الفيزياء تزودنا "[ ]...بمعرفة معينة
ً
بالنسبة إلى هذا الش يء" ،170يعني تماما إدخال فكرة العالقة وتدخلها ،إنما مع تمييز
ً ً
بدال باألحرى دقيق غامض عمدا ،يعود إلى استخدام الشكل الظرفي للصفة "النسبية"
W. Heisenberg, "On the history of the physical interpretation of nature" (1932), in W. Heisenberg, 175
Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979.
112
الفهوم العالئقي للصفة الثانوية له ثمن .وكما يشير لوك Lockeبعد ديكارت
]...[" ،Descartesفإن أفكار الصفات األولية لألجسام تكون على مثالها ،وتوجد صورها
ً
فعليا في األجسام نفسها؛ غير أن األفكار الناتجة َ
النتجة فينا بواسطة هذه الصفات
ً
الثانوية ال تشبه هذه األجسام أبدا في ش يء" .176فإذا وحدها الصفات الثانوية استمرت
ً
بالوجود ،فإن منظور العرفة عندها ،الذي ال يكون مقبوال فقط بشكل ما بين -ذاتي بل
ً ً
وأيضا على صورة الوضوع الراد معرفته (مأخوذا بمعناه ما قبل النقدي) ،يفقد آخر
نقطة ارتكاز له .وإذا لم يبق سوى الصفات الثانوية ،فإننا ال نعود نرى حتى لاذا سنستمر
في تسميتها "ثانوية" بمقابل عددي للـ "أولية" .وحدها الرجعية التاريخية التي ال غنى عنها
خالل فترة معينة من تطور العلوم حيث كانت تمثيالت الصفات الثانوية ،على الرغم من
َّ
"مفسرة" بطريقة معينة من خالل التفاعل بين أنها لم تكن تشبه أصلها ،يمكن أن تكون
الصفات األولية لألجسام والصفات األولية ألعضاء الحواس أو ألجهزة االستقبال ّ
تبرر لنا
االستمرار (إنما ليس دون حذر وحيطة) في التعبير على هذا النحو.
ويفسره بوضوح كبير ،لكنه لم يمض ربما حتى نهاية ّ يرى دسبانيا ذلك كله
ً
االستنتاجات التي تنجم عن ذلك .وهو يرى أنه "[ ]...من العقول تماما أن يكون «االتجاه
ً
الذي يوجد فيه القمر» مرتبطا بالواقعية التحتية بشكل غير مباشر بقدر (من خالل بنانا
الحسية والعقلية) ما هو األمر بالنسبة لطعم ثمرة ما" .177وضمن هذه الشروط ليس ثمة
أي باعث لالعتقاد بأن االتفاق ما بين -الذاتي فيما يخص موضوع اتجاه القمر ي َّ
فسر
ّ
و"الستقل" لجسم سماوي في هذا االتجاه؛ فليس ثمة أي حجة تجعلنا بالوجود الفعلي
ً
نعتقد أن "[ ]...آنا وبونوا يريان كالهما إبريق شاي على الطاولة ألنه يوجد فعليا إبريق
شاي هناك" .178ويتساءل الؤلف هنا هل علينا لهذا السبب التخلي عن تفسير اإلمكانية
J. Locke, An essay concerning human understanding (1690), Oxford University Press, 1975, II, 176
VIII, 15, p. 137.
177الرجع السابق ذكره ،صB. d'Espangat, Le réel voilé .323 .
178الرجع السابق ،ص.31 .
113
َّ
الؤكدة إلقامة توافقات ما بين -ذاتية؟ إن اإلجابة على هذا السؤال تتعلق بنمط
التفسير الذي نكون مه َّيئين العتماده كتفسير مقبول .فإذا حاولنا القبول بأن "التفسير"
يعني تبيان أن وقائع مختلفة تنشأ عن القانون العام نفسه" فإن الصورية الوحيدة
للميكانيك الكمومي الطبقة بشكل عالمي (كما في تفسير الحاالت النسبية إليفيريت
مرض التوافق ما بين -الذاتي" .179يضع برنارٍ )Everetتكفي لكي ندرك ]...[:بشكل
دسبانيا بالنتيجة هذا الشكل من التفسير ،مع القبول بأن تضمين التوافق ما بين -
الذاتي ضمن نظام شرعي يكفي لكي نفهمه .الشكلة الوحيدة هنا هي أن هذا الستوى
ً ً
األول من التفسير يستدعي مستويا ثانيا للفهم :فالقوانين "تفسر" النظام ما بين -الذاتي،
يفسر القوانين؟ ومن هنا وفق دسبانيا اللجوء الذي ال غنى عنه إلى واقعيةلكن ما الذي ّ
مستقلة سابقة التشكل" ،السبب َّ
الوسع" لالنتظامات الظاهراتية التي نترجمها بواسطة
القوانين.
َّ ّ
الصممة كتفسير تكمن عقدة التوتر مرة أخرى في فكرة التشكل السبق للواقع،
وحيد قابل لإلدراك لإلنتظامات الرصودة .إنها فكرة تقود ،كما سبق ورأينا ،إلى
إدامةواستمرار شيئ من اإلطار الثنوي لنظرية العرفة على الرغم من التعديالت العميقة
ً
التي فرضت عليه .إن مثال اتجاه القمر يضع جانبا في الشهد الواقعية مسبقة التشكل،
ومن الجهة األخرى منه البنى الحسية والعقلية ،وفيما بين الشهدين ثمة رابط ال بد من
كشفه .إن توافقات ما بين -ذاتية تتأسس على الظاهرات ،وهي منظمة ويتم توقعها
ً
بواسطة قوانين فيزيائية ال عالقة لها أبدا بنزوات اإلنسان ،حيث أن غياب االعتباطية
هنا هو مؤشر في صالح وجود "واقعية مستقلة" ،و"بالتالي" يجب أن يكون ثمة رابط سببي
بين هذه الواقعية الستقلة والظاهرات .180وال يتجاهل دسبانيا االعتراضات التي تثيرها
مصممة للعمل في مستوى الظاهرات إلى السافة الفاصلة التي َّ عملية نقل فئة سببية
،M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique 184الرجع السابق ذكره ،ص.202 .
116
ً
عموما مع النظرية األكثر مالءمة لجال التقص ي اإلدراكي أو التجريبي الذي ّ
يطبق متوافقة
عليه الخطاب.185
يبقى أن نواجه الصراع الواضح بين اليقين بأن الفيزياء "على صلة مع الواقع"
واالستنتاج ،الذي نحصل عليه عبر مسيرة نقدية ،بأن الفيزياء ال تصف "الواقع
يمرر أو يرشح سوى بعض العارف ذات الستقل" .كانت وظيفة "الحجاب" الذي ال ّ
ً
الطبيعة "العامة أو الجازية" 186حول "الواقع الستقل" أن يفصل مجازيا في مثل هذا
الصراع دون الخروج من الخطط الثنوي لنظرية العرفة .ولكن ما أن نضع الثنائية
ً
جانبا ،فإن استعارات أخرى تصبح متوفرة .كما على سبيل الثال االستعارة التالية ،التي
تعود إلى ويتغنشتاين" :إن الوضوع ال ينبثق من التجربة ،بل هو متضمن فيها بحيث أن
التجربة تكون غير قابلة للوصف" .187إن فعل اإلنجاز الجاري ال يمكن أن يوضع على
ً ً
مسافة وصفية من قبل الذي ينجزه .إن تفسيرا متعلقا بالوضوع سيعطي ما يلي :إن
ً
الوضوع ليس في مواجهة الواقع ،بل هو متضمن فيه بحيث أن الواقع ال يدع مجاال لكي
ً
يوصف .أو على األقل ،فإن الوضوع يكون متضمنا كفاية في الواقع ،وبطريقة متعذر حلها
بدرجة كافية ،بحيث أن الجال الوحيد الحدد حيث يجري نشاطه الجسماني (أي البيئة
ً
الجهارية الألوفة) يكون قابال للوصف بواسطة العلم الكالسيكي لقاء تقريبية مقعولة .إن
الحاجز الذي كان َّ
يصور في السابق كـ "حجاب" أو كفصل زائد ومفرط (لنتذكر عبارة أو
ً ً
185نجد تدقيقا حديثا حول هذا الوضوع في S. Blackburn, Essayts in quasi-realism, Oxford University
ً ً
Press, 1993؛ وانظر أيضا الفصل الرابع من هذا الكتاب؛ وانظر أيضاM. Bitbol, "Autonomie et ontologie, :
l'interprétation du formalism de la mécanique quantique dans les années 1930", in F. Nef et D.
.Vernant, Actes du colloque Les années 1930, reaffirmation du formalisme, à paraitre
186الرجع السابق ذكره ،صB. d'Espangat, Le réel voilé .316.
L. Wittgenstein, Grammaire philosophique, Gallimard, 1980, p. 164. 187
117
صيغة "الواقعية البعيدة" ،)188هو اآلن مثل إفراط في القرب معم ٍٍ حيث تكون منطقة
تعويضه محدودة بالبيئة Umweltالجهارية.
ً
وبدال باألحرى من أن نختم هذا الفصل ،سأنهي بمالحظة وبسؤالين .يعلن هبرماس J.
" :Habermasيوافق [امتيازات] وجهة نظر الراقب في العلوم الطبيعية ووجهة نظر
ٌ
فصل لجاالت الوضوع" .189وبشكل أكثر جوهرية علينا الشارك في العلوم اإلنسانية،
ً
الحديث هنا عن فصل للمناهج :النفذ الذي يجعل الش يء موضوعيا من جهة ،والنفذ
الترميزي والتأويلي من جهة ثانية .فما الذي يحصل لخطوط القسمة 190هذه إذا بدأت
وجهة النظر الشاركة بالتغلب في بعض علوم الطبيعة ،مثل الفيزياء الكمومية؟ وما الذي
ً
سيحدث ابتداء من ذلك للخيار الجوهري الذي ارتكزت عليه والدة العلم الغربي وفقا
لارلو بونتي :191خيار اإلنسان بالتخلي عن العيش بين األشياء لكي يتحكم بها بشكل
أفضل؟
معدلة عن مقدمتي لكتاب جماعي مخصص لفكر برنار دسبانياM. Bitbol & S. : 192هذا الفصل هو نسخة ّ
،Laugier (eds.), Physique et réalitéالرجع السابق .وبما أن االستشهادات من هذا الرجع كثيرة ،فإننا سوف
ً
نشير إليه من اآلن فصاعدا بالرمز الختصر .PR
M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995, p. 19. 193
119
إنه استنتاج ييسرها لكنه ال يتضمنها ،كما ّ
يرد ريدهيد .فبعد كل ش يء ،ال نستطيع
أن نستنتج أن مجمل هذه البنية ينطبق عليها هذا الحال ،ألنه ليس لبعض أقسام البنية
الرياضية للنظريات أية صلة فيزيائية واضحة .وال ش يء يمنع أن تكون بعض عناصر هذه
البنية متوافقة مع البنية الطلوبة للواقعي والحقيقي .وبعد أن طرحنا فرضية العمل
هذه ،تكون السألة التالية هي تحديد مرشحين بنيويين معقولين ضمن النظريات التوفرة
للنظام األساس ي للممثلين الخلصين لبنية واقعية .فما هي العايير التي سوف نستخدمها
ً ّ ّ
الفضلة؟ ولا كان أحد أكثر الباحثين تقدما التعرف على هذه العناصر البنيوية من أجل
في برنامج العمل هذا هو برنار دسبانيا ،فإننا سنعتمد من جديد مكانته كمرجع لنا .وهذا
الوضع الذي بلغه في بحثه هو ما سوف نفحصه بتدقيق وتمحيص أكثر منطلقين من
أولى توجهاته.
1 -3بعض الطرق لنكون واقعيين
تتمحور فلسفة برنار دسبانيا حول مسألة "الواقعية" .غير أن االكتفاء بهذا التمييز
ً
والوصف لفلسفته سيكون غير كاف أبدا .إن تعدد معاني لفظة "واقعية" العقائدية
ً
واسع جدا إلى درجة أن معظم الفكرين العاصرين والسابقين استطاعوا أن يجدوا
أنفسهم في هذا أو ذاك من معانيها ،دون أن يتفقوا مع ذلك فيما بينهم حول الجوهر.
ً
ووفقا لداللة لفظية مستلهمة من ويتغنشتاين علينا القبول بأن لفظة "واقعية" تحمل
من العاني بقدر ما تحمل من االستخدامات المكنة ،وعلى وجه التحديد فإنها تحمل من
العاني بقدر ما تحمل من الوانع تجاه األضداد المكنة.
وفقا لعلم الكالم في القرون الوسطى ،كانت الواقعية تعارض اإلسمية
،nominalismeوكانت تشتمل بالتالي على تأكيد وجود قيم عالية مثل الجنس والنوع،
إلى ما وراء األشياء الفردانية التي تحققها .وتتعارض الواقعية بشكل عام في فلسفة
الرياضيات مع البنائية ،وفي هذه الحالة يعود األمر إلى االعتقاد بأن للكينونات الرياضية
وجود مستقل اتجاه إجراءات البرهان .وهكذا تتعارض الواقعية بسهولة أكثر مع الثالية.
121
لكن هذا التعارض يتطلب هو نفسه أن يتم تطويره .فإذا كانت الثالية تشتمل على نفي
وجود أي ش يء كان خارج "الفكر" ،بالعنى الوسع الذي يقصده ديكارت ،فإن الواقعية
ً
الوصوفة باليتافيزيائية تتقلص عندها إلى مجرد التأكيد الغامض والبهم هو أيضا لش يء
ما يسبق ويتجاوز منطقيا الفكر .لكن ،إذا اتخذت الثالية الشكل التجاوزي
(الترانسندنتالي) ،وارتكزت عندها فقط على اعتبار أن األجسام اللحوظة هي "نوع من
التمثيالت نسميها خارجية ،ليس ألنها تستند على أجسام خارجية بذاتها ،بل ألنها تعيد
التصورات اإلدراكية إلى الكان ،"194فإنها تعارض الواقعية التجاوزية التي تؤكد أن هذه
األجسام تتوافق مع الكائنات كما هي ("بذاتها") ،بشكل مستقل عن الشروط الحساسة
الذرائعية والعقلية لظهورها .إن الشكلة ،التي أشار إليها كانط ،هي أن الثالي التجاوزي
ً يمكن أن ي َ
عتبر تماما كواقعي تجريبي ،وذلك باعتبار أنه يقرن باألجسام الادية ،بما هي
ً ً
ظاهرات ]...[" ،واقعا حقيقيا ال يحتاج ألن يستنتج ،إنما يتم إدراكه بشكل مباشر".195
وعلى العكس ،ما أن تمر فترة التأكيدات القاطعة ،فإن الثالي التجاوزي يجازف بأن يجد
نفسه في مواجهة شك التشككين فيما يتعلق بالطابقة بين الخصائص الفترض أنها
نحصلها حولها .وبما أن هذا الشك ّ ذاتية وجوهرية في األجسام والعرفة التي يمكن أن
ً
متأصل فيه" ،فإنه [هو] يجد نفسه مجبرا على إيالء مكان للمثالية التجريبية "196التي
تصل إلى ّ
حد التشكيك بواقع األشياء التي يبدو أن تمثيالتنا الحسية تعيدنا إليها.
ً ً
نرى هنا ،وهذا سيكون مفيدا بشكل خاص من أجل فهم تتمة هذا الفصل ،أن كبحا
ً
عظيما حول ما يسميه برنار دسبانيا "الواقع الستقل" يمكن أن يكون شرط تنمية شكل
ّ
معدل للواقعية (ا لواقعية التجريبية لكانط أو "الواقعية الداخلية" لبوتنام)؛ في حين أننا
ً
عندما نريد أن نميز بشكل محدد جدا هذه الواقعية الستقلة الفترضة بأن نسقط عليها
E. Kant, Critique de la raison pure, A371, in OEuvres philosophiques, I, Gallimard-Pléiade, p. 194
1444.
195الرجع السابق ،صE. Kant, Critique de la raison pure, A371, in OEuvres philosophiques, I .0226 .
196الرجع السابق.
121
شكل الظاهرات ،فإننا نصبح حساسين تجاه الريبة والتشكك ونفتح عن غير قصد
ً
الطريق ألكثر أشكال الثالية هزءا.
لقد أضافت الفلسفة واإلبستمولوجية العاصرتان لهذه االستقطابات ثالثة
اعتراضات أخرى يكتسب مصطلح "الواقعية" فيها عناصر معنى جديدة.
197
Dummett إن الواقعية ،ضمن مدلولية القترحات ،تعارض ما سماه دوميت
"الالواقعية" .ويرتكز التصور الالواقعي لقضية على اعتبار أنه ال يمكن القول إنها
ً
صحيحة أو خاطئة إال بالنسبة لوسيلة (تكون متوفرة عمليا أو مبدئيا) التحقق منها .وعلى
النقيض من ذلك ،فإن التصور الواقعي لقضية ما يشتمل على التأكيد بأنها صحيحة أو
خاطئة ،دون أي استناد للتوفر الحالي أو البدئي لوسيلة للتحقق منها (راجع الفصل
الرابع) .إن هذا التمييز ال يتقاطع بالضبط مع التمييز ،األكثر تقليدية ،بين الثالية
ً والواقعية؛ ألنه ،على عكس مثالي َّ
توصل إلى منتهى نتائج موقفه ،فإن الواقعيا بالعنى
الذي يحدده دوميت يمكن أن يتوافق مع الواقعيين لكي يقبل بأن وسائل التحقق التي ال
غنى عنها تعمل وتؤثر على عالم له درجة معينة من االستقاللية تجاه هذه الوسائل.
من ناحية أخرى ،وفي مدلولية األسماء ،فإن ما يعارض الواقعية هو الواقعية
للكينونات السماة .ووفق هذه التنويعة الثانية لالواقعية ،فإن منظومة من القضايا
يمكن أن تكون (بصورة شاملة) صحيحة دون أن توافق بالضرورة الكينونات الشار إليها
ًّ
وحدا بواسطة تسميات فاعلة أو مؤثرة في القضايا ألجسام موجودة في العالم حرفا حرفا
ً
حدا .فبعد كل ش يء ،كما يشير بوتنام بعد كوين ]...[" ،إن أية مقاربة ّ
تثبت فقط قيمة
تثبت مرجعية [مصطلحات هذه الجمل] ."198فمن الطبيعي حقيقة الجمل ال يمكن أن ّ
االستفادة من هذا التحديد التحتي لنمط تقطيع العالم إلى كينونات تستند على حقيقة
القضايا التي تدخل فيها مصطلحات لها وظيفة مرجعية أو إسنادية ،لكي ندعم الواقعية
B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 12. 199
200الرجع السابق ،ص.20.
123
وثمة نسخ أخرى حديثة من الالواقعية العلمية تذهب إلى أبعد من فان فراسين في فكرة
تشكيل الظاهرات التجريبية ،طالا أنها ال تحاول تمييز التشكيل الفكري للـ "معطيات"
تشدد أكثر من ذلك على تشكيلها الادي ،وذلك بسبب مشاركة بواسطة نموذج ،بل ّ
ّ
(الحدد بتوقعات نظرية صغرى محتملة) في انبثاق حادثة ما الشكل نفسه لإلطار األداتي
يمكن أن توصف بالظاهرة.201
مع ذلك ،ال يهم كثيرا بالنسبة للنقاش الذي يشغلنا هنا اختيار شكل من الالواقعية
للنظريات العلمية .فليس هناك من سبب العتبار أي من هذه األشكال أنه متعارض مع
الواقعية اليتافيزيائية بالعنى الواسع (طالا أنه في هذه األشكال ال "الوقائع" وال
ّ
التكيف "العطيات" التي يقدمها النموذج النظري الستخدم ،وال "الظاهرات" الشاركة في
ً ً
من خالل اإلطار األداتي ،ال يتم اختراعها تماما من قبل الباحث) .بالقابل فإن كال من
هذه األشكال يتمايز عن الواقعية العلمية ،والتي وفقها "يهدف العلم إلى تزويدنا من
ً
خالل نظرياته بتقرير صحيح حرفيا لا يشبهه العالم؛ والقبول بنظرية ما يتطلب االعتقاد
بأنها صحيحة ."202يتفق الواقعيون العلميون بالتالي على نبذ كافة أشكال الالواقعية
للنظريات .ويختلف هؤالء فقط عندما يتعلق األمر بتحديد درجة التقدم الحالي والمكن
لشروعهم :فأي جزء من التقرير الذي تقدمه النظريات العلمية الحالية يمكن أن يعتبر
ً
صحيحا بشكل حرفي ،وإلى أية درجة ستستطيع النظريات الستقبلية تفسير وتوضيح
"ماذا يشبه العالم"؟
سوف نعمل اآلن ،باالعتماد على هذه الشبكة من الفاهيم والتعارضات ،على تحديد
موقف برنار دسبانيا وذكر مفاصل الجدال الذي يثيره .وسوف نعالج على التوالي الواقعية
اليتافيزيائية ،والواقعية الداللية من منظور دوميت ،وواقعية الكينونات وواقعية
ً
النظريات العلمية .وبالنظر إلى التوجه الفلسفي لبرنار دسبانيا ،فإن أيا من الراحل الثالث
201راجع على سبيل الثال A. Pickering, The mangle of practice, The University of Chicago Press, 1995.
202الرجع السابق ،صB. Van Fraassen, The scientific image .6 .
124
األولى لن يمكن تناولها دون االستناد بشكل سريع على الواقعية األخيرة أي على واقعية
النظريات العلمية.
2 -3قبل وبعد الفيزياء
كتب برنار دسبانيا" :إن حججي لصالح مفهوم الواقعية الستقلة نفسه ال ترتكز على
ً
الفيزياء [ ]...أبدا ،أو ترتكز عليها بدرجة بسيطة فقط ."203يجعل برنار دسبانيا من هذا
التصور للواقعية الستقلة نتيجة الستنتاج ذي وجهين .الوجه األول هو االتصال الباشر
مع الكائن ،الذي تعطيه تجربة "التفكير" (أو الـ كوجيتو بحسب التعبير الديكارتي "أنا
ً
أفكر إذا أنا موجود ،)Cogito, ergo sumوالوجه الثاني هو مقاومة أن "شيئا ما" يعارض
عملنا كما ومحاوالتنا في التصور.
إن استخدام مصطلح الـ كوجيتو وفق ضمير التكلم الفرد هو امتياز للمفردة
الديكارتية التي ال يجب أن نستنتج منها أن نقطة انطالق السيرة التي اعتمدها برنارد
دسبانيا هي نقطة انطالق مثالية ،بل وأنانوية .solipsisteويشير دسبانيا في الواقع في
القطع نفسه إلى أن التجربة التي يتحدث عنها "تثبت أن فعل «الكينونة» له معنى بذاته،
لكنها ال تثبت أن ما هو كائن هو ذو طبيعة عقلية فقط" .ويقع عبء اإلثبات على عاتق
الذين يريدون تقييد نطاق تجربة الكائن إلى مجرد نطاق أنثروبولوجي أو نفساني ،باألحرى
من كونه يقع على عاتق الذين يتجنبون تعيينه .تميل هذه التجربة نفسها بالقابل وفق
دسبانيا إلى اعتماد السمة الثانوية لوظيفة عقلية مثل العرفة ،طالا أن كل معرفة
ً
تفترض مسبقا الوجود الذي يؤكده واقع الكوجيتو" .لكي توجد العرفة يجب أن يوجد
الفكر" .األمر الذي يقود دسبانيا إلى استنتاج "أسبقية مفهوم الوجود على مفهوم
العرفة".204
في الثقافة الغربية خالل القرنين أو القرون الثالثة الاضية ،كان وضع هذه األسبقية
في القدمة يمكن أن يكافئ إيالء أفضلية للعلوم ،ألن موضوعية العلوم كانت تعتبر
210ال يجب الخلط بين هذه "الالثنائية" ،الناجمة عن نقد لثنائية نظرية العرفة في العلوم ،ال مع وحدوية
مادية ،وال مع وحدوية مثالية ،وال حتى مع وحدوية حيادية للعناصر ـ اإلحساسات كما عند ماخ .E. Mach
وسوف نحدد مغزاها خالل الجمل التالية.
B. d'Espagnat, in PR, p. 79. 211
212الرجع السابق ،ص.15 .
213الرجع السابق ،ص.496 .
128
"األنا التجاوزية" ،الجرد من الخصوصيات النفسانية ،ومفهوم "الواقع الستقل" ،ثم
ً
يقول مالحظا" :إن الفهومين ،وهما حدان ميتافيزيائيان [األنا التجاوزية و"الواقع
الستقل"] يتشابهان اليوم بشكل غريب .وماذا لو لم يكونا سوى مفهوم واحد214؟"
يطالب برنار دسبانيا بقوة باللجوء إلى تبرير استداللي (ما يأتي من التجربة a
ّ
بالتصور الحدود للواقع الفعلي ،باألحرى من تطبيقها )posterioriللبيانات التعلقة
ً
بشكل مسبق (بشكل سابق منطقيا للتجربة )a prioriاألمر الذي يأخذه على فالسفة
كثيرين .إن هذا الخيار النهجي يقترن عنده باإلثبات الذي وفقه ال يمكننا أن ننسب له أي
"تعميم ميتافيزيائي" ،بما في ذلك عندما يدخل فكرة مثل فكرة الـ "الواقعية الستقلة".
فإدخال مثل هذه الفكرة ال يقتض ي في الواقع ،كما يشير ،أية أطروحة خاصة تتعلق بـ
"طبيعة" أو "خصائص" "الواقعية الستقلة" .وإضافة إلى ذلك يمكن لهذه الفكرة في
بساطتها االستفادة من حجج قاطعة مصدرها الحياة أو العلوم.
سبق لنا أن حللنا الصدر األول للتبرير االستداللي لبيانات دسبانيا فيما يتعلق بوجود
واقعية مستقلة :أي التجربة الجوهرية للكوجيتو ،بما تحمله من أسبقية لتحديدها
بالعقلي .وعلينا اآلن تحديد الصدر الثاني ،أي الطابقة مع بعض السمات الكونية
للممارسة العلمية .وأحد الوقائع الكبرى لهذه المارسة ،كما يشير برنار دسبانيا إلى ذلك
في مرات كثيرة ،هو القاومة التي تصطدم بها هذه المارسة .إن نظرية بسيطة وأنيقة
ً ً
ومتجانسة رياضيا ليست بذات نفسها ipso factoمالئمة تجريبيا؛ فقد تم التخلي عن
الكثير من النظريات التي كانت تتسم بهذه الصفات الصريحة" .ففي هذه الشروط يجب
أن نعترف أن ثمة ش يء ما يقول «ال» وأن هذا «الش يء» ال يمكن تقليصه إلى «نحن»".215
يؤكد دسبانيا هذه النتيجة في معرض مواجهته ضد االنتقادات وأعمال اإلضعاف التي
أوقع بها العديد من اإلبستمولوجيين العاصرين مذهب التفنيدية faillibilisme
M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosohique, Champs-Flammarion, 1997. 223
R. Rorty, L'homme spéculaire, Seuil, 1990. 224
136
من «الحقيقي» ."225وعلى مسألة النظام األساس ي للقواعد التنبؤية للفيزياء الكمومية،
ً ً
فإن أبسط طرق اإلجابة سوءا "[ ]...يبدو أنها فعال افتراض أن القواعد العنية هي
انعكاسات للبنى ،الجهولة أو العروفة بشكل س يء ،لـ «طبيعة» هي للسبب نفسه مجهولة
ً ً ً
أو غير معروفة جيدا هي أيضا ،والتي ال تتوافق معنا وال مع الواقعية التجريبية ."226وبدءا
من هنا ،يصبح من الغري الرجوع واالستناد إلى "[ ]...البنى الكبرى التي تكون قوانيننا
ً
الفيزيائية انعكاسات جزئية لها ."227وهكذا فإن صورة "االنعكاس" ،القترحة افتراضيا من
أجل الحلول محل مفهوم معرفة للواقع من خالل مفهوم أضعف ،تعيد على األقل إنتاج
تبادلية مخططها الثنوي :إذا كانت قوانين الفيزياء الكمومية تشتمل على انعكاس لبنى
ً
الواقع ،فإن بنى الواقع يشار لها على العكس كبنى نجد لها انعكاسا في قوانين الفيزياء.
فكل ش يء يجري كما لو كان الواقع وبناه قد استعادوا موضع "الجسم" الذي كان سيكون
ً ً
بشكل طبيعي موضعا لهما في نظرية أصيلة للمعرفة .وقد وجد دسبانيا نفسه مجبرا على
التمييز ،لكي يمنع هذا التفسير الخاطئ لوقفه كما سبق ورأينا في الفصل الثاني ،بين
عالقة التوافق (وهي العالقة التي أقامها بين النظرية الكمومية والواقع الستقل) وعالقة
الوضوع (التي كان ال يزال بإمكاننا االعتقاد في الفيزياء الكالسيكية أنها تتأسس بين
النظرية والعالم الواقعي الحقيقي).
ً
اعترف برنار دسبانيا بعد قراءة لهذا القطع أن لفظة "انعكاس" يمكن أن تعطي فعال
ً
اإلحساس بعودة إلى نظرية معيارية تماما ،وثنوية للمعرفة .لكنه يعتقد أن األمر يتعلق
هنا بمسألة تعبير لفظي باألحرى من كونها تتعلق بالفكر العميق .وقد تحدث في مؤلفات
أخرى ،كما في كتابه "ذرة حكمة" ،عن "آثار" تركها "الواقع الحقيقي" في فكرنا ،آثار
وصفها بـ "الغامضة ،وبعبارة أخرى ال يمكن فك رموزها" .ويبدو له أننا عندما نأخذ على
ً
230يشير برنار دسبانيا محقا (في ،PRص )96 .إلى أنها ستكون محاكمة سيئة أن نتهمه بتجاهل "قواعد الفهم
ً
وحدوده" .وفي الواقع ،فإنه لم يزعم أبدا أنه حصل على معرفة حقيقية للواقع الستقل (وال لرابط السببية
ّ
تحصل لنا الفيزياء العاصرة التي الوسعة الذي يوحده بالظاهرة) ،بل فقط اإلشارة إلى "الومضات" التي ،وفقه،
ّ
تخص موضوعها.
J. Petitot, "Objectivité faible et philosophique transcendantale", in PR, p. 212. 231
139
ً ً ً
الواقع" .ووفقه ،فإن الفرضية بأن "[« ]...الواقع» ،بدال من أن يكون مجهوال خالصا س
ً
غير قابل للمعرفة نهائيا ،ليس سوى واقع محجوب ،"232هي فرضية تصبح غاية في
العقولية (ألسباب سوف نعود ونناقشها في الفقرة )2 - 3من خالل معطيات الفيزياء
الحديثة .إن أحد االفتراقات الكبيرة بين دسبانيا والفلسفة الكانطية تتأتى بكل تأكيد من
نظام البنى أو األشكال .ففي حين أن الثورة الكوبرنيكية لكانط تميل إلى تجريد الش يء في
حد ذاته عن أشكاله لكي تنسبها إلى الذات التجاوزة ،حيث تشكل هذه األشكال بالقدار ّ
نفسه إشراطات إلمكانية التجربة ،فإن دسبانيا يعزو بنى معينة للواقع الستقل .بل
ً
ويذهب أحيانا إلى حد اقتراح مطابقة الواقع الستقل مع هذه البنى" :إن البنى الكبرى التي
هي أصل قوانين الفيزياء" هي "[ ]...بنى يمكننا حتى تصورها ،في الحالة الحدية ،كما لو
ً ّ
كانت هي نفسها «ما هو كائن» ،أو كعناصر مشكلة لـ «ما هو كائن» ،بدال من مجرد كونها
كصفات بسيطة لا هو كائن."233
يمكننا أن نالحظ ببساطة مرة أخرى أن التمثيل القدم على هذا النحو ،أي تمثيل
ً
واقع مستقل يؤثر على الظاهرات ،واقع حقيقي متشكل مسبقا ،وعلة (موسعة)
ً
للظاهرات ولبناها الكبرى القانونية ،ليس التمثيل األكثر توافقا مع النتيجة الالثنوية
ّ
لتفكر دسبانيا في الفيزياء الكمومية .ويمكننا بهذا الصدد تقديم تمثيالت معاكسة ،أكثر
ً
توافقا مع فكرته حول التوالد التبادل "[ ]...للوعي وللواقع التجريبي" .234يشتمل أحد
هذه التمثيالت العاكسة على أن نرى في االنتظامات القانونية للظاهرات ليس أثر بنية
ً
إحصائية مفترضة لـ "أساس الواقع" بكامله ،بل تعبيرا عن البنية الديناميكية لصيرورة
لقطب ذات ولقطب موضوع يجري أو يحدث في قلب هذه البنية .إن
ٍ التوالد الشترك
َ
البنى القانونية الكبرى في الفيزياء ال يمكن أن تف ّسر ضمن هذه الشروط من خالل
143
236
النظريات في الواقع من جهة على أن صعوبات معينة في تفسير اليكانيك الكمومي
ليست صعوبات ال يمكن تجاوزها أو حلها ،ومن جهة أخرى أن اليكانيك الكمومي ال
ً
يفرض بنفسه استبعاد كل زعم بوجود هدف أو قصد أنطولوجي .ومن األفضل أيضا كما
يقترح برنار دسبانيا أنه ربما من المكن الحصول على بعض الرؤى الوثوقة حول بنية
الواقعية الستقلة عبر ثوابت النظريات القابلة للتفسير التوافقة مع التنبؤات الكمومية.
وكان عدد من هذه الثوابت قد أوجد بواسطة مبرهنات ميتانظرية ،مثل مبرهنة بل Bell
أو مبرهنة كوتشن وسبيكر ،Kochen & Speckerوعليهم إنما يرتكز دسبانيا لكي يعطي
ألطروحته في الواقع الحجوب الحتوى والضمون .نرى هنا لاذا تبقى حجة التحديدية
التحتية للنظريات غير فاعلة ضد أطروحة الواقع الحجوب وتوصيفاتها البنيوية
ً
الكبرى :237فهذه األخيرة تنبثق كسمة مشتركة ألية نظرية قابلة للتفسير أنطولوجيا
متوافقة مع التنبؤات ّ
العززة للفيزياء الكمومية.
السعى صحيح من حيث مبدئه ،لكنه يرتكز على فرضية غير ّ
موض َحة وعلينا أن
نناقشها اآلن :وهي فرضية أن الثوابت األكثر عمومية التي تم إيجادها خالل مجرى البحث
236يتعلق األمر بشكل خاص بالصعوبة الاثلة بما يعرف "و /أو" الذي يدخل في إشكالية القياس .قدم
ً ً ً
شرودنغر بيانا طريفا لهذه الصعوبة" :إن كافة النتائج التي يعلنها الفيزيائي تقريبا تركز على احتمالية هذا
الحدث أو ذاك أو ذاك اآلخر ،وذلك في العادة مع عدد كبير من الفروع البديلة .وتبدو له فكرة أنها ليست فروع
ً
أحد البدائل بل أنها كلها تحصل معا في الوقت نفسه فكرة غريبة وشاذة" .مع ذلك يشير شرودنغر إلى أن ما
تترجمه صورية اليكانيك الكمومي الطبقة على سلسلة القياس بكاملها ،هو بالضبط اقتران لحدود /
مصطلحات على شكل تراكب خطي ،وليس عبارة عن انفكاك أو انفصال .وهكذا فإنه يجد نفسه في موقف
استنكار "[ ]...اإلكراه في استبدال األحداث التزامنة ،كما هي مشار إليها مباشرة في النظرية ،بفرع بديل َ
يفترض
أن النظرية تحدد احتماليات كل منها" ( E. Schrodinger, The interprtation of quantum mechanics, edited
.)and with introduction by M. Bitbol, Ox Bow Press, 1995, p. 19-20إن مشكلة الرور من اقتران (و)
مصطلحات التراكب الخطي للصورية الكمومية إلى انفصال (أو) النتائج التجريبية الفعالة يختفي إذا ،كما هو
ً
الحال في النظريات ذات التغيرات الخفية ،كانت الصورية قابلة للتفسير أنطولوجيا بعبارات انفصال
للخصائص التي تمتلكها األجسام.
237انظر نهاية القطع .4-3
144
ً ً
العلمي تكشف عن ش يء ما من واقعية "مستقلة" أصيلة .وفي الواقع ،فإن عددا كبيرا من
الباحثين يتقاسمون اليقين الذي ال جدال فيه بأن الثوابت البنيوية الصالحة لصفوف
واسعة من الوسائل ودروب القاربة ّ
تعد مرشحين معقولين لوظيفة المثلين األوفياء لكل
ً
أو لجزء من الواقع الستقل .ويرتكز اقتناعهم هذا على استدالل بسيط جدا ،إنما ال
يخلو من ضعف منطقي .ينطلق هذا االستدالل من االستنتاج التالي :إذا كان يمكن
ً الحصول على انعكاس ّ
وفي للواقع الستقل ،فإنه ال يمكن أن يتعلق أبدا بالطريقة التي
نقوم فيها نحن بإنشاء عالقة مع الواقع العني؛ من غير ذلك ،لن يكون لدينا انعكاس
حقيقي للـ "للواقع الفعلي كما هو بذاته" ،بل انعكاس لـ "واقع حقيقي كما نراه نحن"
تحت عالقة معينة .بالنتيجة ،إذا كان يمكن تحديد انعكاس بنيوي للواقع الستقل
ً ً
فسوف يكون بالضرورة ثابتا عبر تغيير طريق مقاربة هذا الواقع .وهكذا يبدو أن ثابتا ما
يدعو بداهة بشكل ال يقاوم لتفسيره كانعكاس لواقع مستقل .تكمن الصعوبة في أن
اليقين بهذا الصدد ال يمكن أن يتأتى إال من العكوس الدقيق لالستنتاج السابق؛ ش يء ما
مثل "إذا توصلنا إلى تحديد ثابت ما ،عندها فإنه يمثل بالضرورة سمة للواقعية
الستقلة" .والحال أن هذه العكوسية ال ّ
تصح ،ويجب بالتالي القبول أن الالتغير أي
الثبات هو شرط ضروري لكن غير كاف من أجل أسر أي انعكاس مخلص لواقعية
مستقلة .ولكي ندرك السبب الرئيس ي ،ذا الستوى اإلبستمولوجي باألحرى منه النطقي،
ً الذي من أجله ال ّ
يصح مثل هذا العكوس ،علينا أن نتذكر أن ثابتا ما في العلوم ال يمكن
أن يستفيد إال من اتساقه إزاء صف واسع من القرائن اإلدراكية أو التجريبية التي َّ
تعرف
ً
بالنسبة لها التحديدات ،وليس من تحرره إزاء كل خلفية سياقية .إن ثابتا ما يظل
ً
مستقرا مهما كان حال نقاط االستشراف التي نعتمدها من بين مجموعة معطاة من
نقاط االستشراف ،ولكن ليس بشكل مستقل عن مرجعية مثل هذه الجموعة ،بل ليس
بشكل مستقل عن مفهوم نقطة االستشراف .وكما كان يقول الرياض ي فليكس كالين
145
Félix Kleinفي برنامجه البحثي العروف بإرالنجن ،Erlangen 238فإن الحديث عن ثابت
ً ٌ
أمر ال معنى له طالا لم نحدد إزاء أية مجموعة من التغيرات هو ثابت .وهكذا ،فإن ثابتا
ما يكون له على األقل القدر نفسه من الحظوظ في إعالمنا حول منظومة األطر التضمنة
في نشاط بحثي معطى ،أو إذا أردنا حول مجموعة التحوالت الرتبطة به ،مما له من
ً
الحظوظ في إعالمنا حول البنى االفتراضية الشكلة مسبقا لواقع مستقل .ومن هنا
مسعاي الخاص ،والذي أذكر به خالل القاطع التالية :ويشتمل هذا السعى على محاولة
تحديد أو مطابقة ،في الثوابت القطعية الصحيحة لكل تفسير مقبول للميكانيك
ً
الكمومي ،األثر البنيوي للتحوالت العكوسة الفترضة مسبقا بواسطة مجموعة واسعة
من نشاطات التحقق ،وليس الحدود العامة لواقع "مستقل" بشكل مطلق.
ثمة مشكلة أخرى ال يحلها برنار دسبانيا (وكنا قد سبق وذكرناها في الفقرة ،)3 - 4
وهي أن السمات الشتركة ،أو الثوابت البنيوية ،التي تنتج من كل نظرية يمكن تفسيرها
ً
أنطولوجيا على أنها قابلة إلعادة إنتاج تنبؤات اليكانيك الكمومي ،هي في معظمها سمات
سلبية .فالبرهنات اليتا نظرية تشير فقط إلى أن أية نظرية من هذا النمط القابل
للتفسير بمصطلحات كثرة وتعددية من األجسام َّ
الحددة الوضع ،والتفاعلة بطريقة غير
آنية ،والزودة بتحديدات مستقلة عن سياق إثباتها ،ال تكون متوافقة مع مجموعة من
ً
التنبؤات الكمومية الثبتة .فهل يمكننا التقدم انطالقا من هنا إلى تحويل للسلبي إلى
إيجابي ،والرور على سبيل الثال من الالإنفاصلية إلى فكرة أن الواقع الستقل هو ش يء
ما فريد وغير مغمور في الزمكان؟ يجيب برنار دسبانيا بـ "ال" دون تروي على هذا السؤال
ً
من خالل تأكيده" :يبدو لي بشكل واضح أننا ال نستطيع التعرف (سلبيا!) على الإنفصالية
ً
«ش يء ما» (يقاوم) دون أن نستشف في الوقت نفسه شيئا من الوحدانية فيه".239
238أدين بهذه الرجعية ذي الصلة إلى كريستيان شميتز .Christiane Schmitzوأشكرها هنا لغنى وفاعلية وكرم
أفكارها.
B. d'Espagnat, in PR, p. 331. 239
146
من خالل هذا الجواب ،يبدو أن هذا االفتراض الضمني الذي يسمح لدسبانيا
بالباشرة بتحويل السلبي إلى إيجابي ،وبالوصول إلى الخالصات البنيوية التي تنتج عن
حد أدنى من العقولية للـ "واقعية الستقلة" .ويفترض التحول في ذلك ،هو افتراض ّ
الواقع أن مبدأ الثالث الرفوع قابل للتطبيق على الواقع الستقل :فإذا لم يكن هذا
ً ً ً
الواقع الستقل كثيرا وقابال لالنفصال ،فإنه يكون بطريقة من الطرق واحدا .والحال أن
ً
مبدأ الثالث الرفوع هو مبدأ شمولية العقول ،مبدأ يكون حقل المكن وفقه مغطى كليا
بالفئات العقالنية .ويفترض مبدأ الثالث الرفوع بشكل خاص ،الطبق على الكثرة وعلى
الواحد ،أن يكون مجال التحديدات المكنة للواقع الحقيقي مغطى بشكل كامل بفئات
الكمية .ولكن ما الذي يضمن أن يكون "الواقع الستقل" بين فئات الكمية؟ وما الذي
ً
يضمن بشكل أوسع أن يكون واقعا ضمن فئات تؤثر للوهلة األولى على الظاهرات؟
معقولية تجاوزية ،يمكن لبعضهم أن يعتبرها كمسلمة ال غنى عنها للعمل
ٍ وحدها مسلمة
العلمي ،بما هي مثال ناظم له ،يمكن أن ّ
تمر رغم هذا االفتقار إلى الضمانات .ودون هذا
النوع من السلمات فسوف يكون علينا أن نرى في الالإنفصالية مساءلة لطرح تقليدي
فيما يخص ما هو حقيقي :أال وهو قابليته للتحليل الكاني .ثم بمراكمة التناقضات
والتحديدات التحتية لألطروحات والتشكيك بأطروحات أخرى بواسطة التجربة ،فإننا
سوف نصل على األرجح إلى مجرد إيقاف الحاكمة التعلقة بموضوع ماذا يمكن أن تكون
"الواقعية الستقلة".240
يقدم الالهوت السلبي القاربة apophatiqueمنذ زمن طويل النموذج على هذا النوع من اإليقاف النشط ّ 240
للتمييز والحاكمة العقلية .وهو يربطه بتأكيد لعدم قابلية تطبيق البادئ النطقية على الطلق ،حيث "يتوافق
األضاد" (ّ .)N. de Cues, La docte ignorance, P.U.F., 1930بينت الجدلية البوذية "الدرب الوسطى" بالقابل،
قبل ويتغنشتاين بألف وثمانمائة سنة ،كيف يمكننا أن نحاجج ضد كل طرح يميل إلى تمييز ش يء ما في الطلق،
ً
دون أن نعيد أبدا هذه الحاججة إلى أطروحة مبادلة ،ودون الوقوع في أي شكل من العدمية ( J.L. Garfield,
The fundamental wisdom of the middle way [traduction anglaise commentée des Stances du milieu
.)de Nagarjuna], Oxford University Press, 1995
147
اقترح دمسكيوس Damasciusعودة ميتافيزيائية لهذا التعليق أو اإليقاف للمحاكمة،
وهو أحد آخر فالسفة األفالطونية الجديدة ،وله ترجع القضية ذات الصلة التي
ً ً
استشهدنا بها في مقدمة هذا الفصل" .الواحد ،إذا كان موجودا ،ال يكون حتى واحدا"
كتب دمسكيوس؛ وهذا يعني أن الواحد بالعنى الذي يفهمه األفالطونيون الجدد
ً ً ً
(وخاصة أفلوطين) ال يمكن حتى أن يرى تحديدا كميا منسوبا له يشتمل على معارضة
ّ
التعدد .ونفهم من هنا إصرار دمسكيوس أكثر ليس على الواحد ،الذي يبدو أنه يزودنا
ً
أيضا من خالل استمرار داللته الرقمية بعنصر من تمييز الواقع الحقيقي ،بل على غير
القابل للوصف pantè aporetonالذي يفلت من أي خطاب ،والذي ال يشتمل على أي
تحديد ألن فيه ال ش يء يتعارض مع ش يء آخر ،والذي نعبر عنه بـ "الذي ال يوصف على
ً
اإلطالق" أو "ال يعبر عنه مطلقا" .241يبرر دمسكيوس هذا التحويل للواحد إلى ما ال يمكن
وصفه بالجملة التالية" :ربما كان أفالطون قد رفعنا بطريقة ال توصف ،بواسطة الواحد،
حتى هذا الذي يدق عن الوصف إلى ما وراء الواحد ،الذي هو اآلن موضوعنا ،وذلك
ً
بالذات عبر إلغاء الواحد؛ تماما كما أنه من خالل إلغاء اآلخرين أعادنا باتجاه
الواحد ".242فإذا تذكرنا أن دسبانيا يقارب عن طيب خاطر وصفه البنيوي الخاص للواقع
الستقل من الفهوم األفلوطيني للواحد ،243فسوف يكون علينا أن نترجم األسئلة
اإلبستمولوجية الطروحة أعاله ضمن هذا السياق اليتافيزيائي القصود .وفي العمق ،هل
نرغب في أن نسأل دسبانيا ما الذي يمنعنا من االعتقاد بأن الواقعية الستقلة تشبه أكثر
ً ً
ما ال يمكن وصفه عند دمسكيوس مما تشبه "واحدا" موصوفا عدديا؟ فإذا وضعنا
ً
جانبا حجة الفرصة التي وفقها من األفضل عدم تخيل مثل هذا األمر ألن ذلك يسحب
من الباحثين موضوعهم النهائي الحرض لهم ،فال ّبد من القبول أن ال ش يء يمنعه .فال
Damascius, Des premiers principes, Verdier, 1987; J. Combès, Etudes néoplatoniciennes, Jérôme 241
Millon, 1989.
242الرجع السابق ،صDamascius, Des premiers principes .065 .
243الرجع السابق ،صB. d'Espagnat, Le réel voilè .244 .
148
ً
ش يء يمنع في الواقع أن نتخيل (حتى لو كان ذلك يثير مشاكل ال يزال حلها عصيا على
النظريات الحديثة في االنتظام الذاتي) أن كافة التحديدات التي ننسبها إلى محيطنا
ً
الحقيقي هي تحديدات مرتبطة بالشروط العارضة لوجودنا بما هي بنى مستقلة ذاتيا ميتا
ً
مستقرة ،منبثقة ذاتيا مع محيطها ابتداء من عمق لم نعد نستطيع بالعنى الدقيق
للكلمة وصفه إال بـ "الحرج".
ً ً
إن الطريقة التي يقف فيها برنار دسبانيا نفسه قريبا جدا من مثل هذا الوقف من
ً
التحفظ اليتافيزيائي ،ثم يبتعد عنه تدريجيا ،هو موقف هام ال بد من تحليله .ففي
إجابته على جان ماري ليفي لوبلون J.-M. Lévy-Leblondالذي يقترح إعادة صياغة
244
" implexitéأو للمصطلحات تشتمل تعريفات إيجابية مثل " التعقيد التضمن
245
" ،" pantopieيوص ي دسبانيا بالحفاظ على تعابير سلبية موافقة ليست البانتوبيا
سوى مصطلحات مثل الالإنفصالية والالموضعية .ألنه كما يشرح بقدر ما تتعلق هذه
ً
األخيرة بالواقعية الستقلة ]...[" ،فإن التعبير عنها إيجابيا يعود إلى وصف خاصية (تكون
ً
عندها أساسية وجوهرية) لا يسمى بالواقعية" .مع ذلك ،وبدال من التوقف هنا ومن
محاولة تقديم بيان االمتناع حول موضوع كل خاصية للواقعية الستقلة ،فإن دسبانيا
يحاول إبراز األسباب التي بسببها تكون محاولة التوصيف الكانية الزمانية للحقيقي
بواسطة مصطلح إيجابي هي محاولة غير حذرة .وبمحاولته تعيين أحد هذه األسباب ،من
خالل محاولة شرح لاذا الواقع الحقيقي عنيد وصعب االنقياد ألي تمييز زماني -مكاني،
ً ً ً
فإنه يجد نفسه مساقا بشكل طبيعي تماما ألن يرسم بشكل شفاف تمييزا آخر للحقيقي،
244في إطار الدراسات الفكرية واإلبستمولوجية ،يأتي مصطلح "التضمين" ،و"التضمينية" لإلشارة إلى الدمج بين
َ
الوضوع والذات ،بين الراقب والراقب ،بين الوضوعية والذاتية ،ولإلشارة إلى أنه من الستحيل من النظور
اإلبستمولوجي الفصل بين نتاج معرفي وشروط هذا النتاج العرفي (الترجم).
245على عكس اليوتوبيا ،وهو مصطلح يشير إلى رؤية للعالم بحيث ال يوجد فيه ش يء ،فإن البانتوبيا هي طريقة
في التفكير بالعالم بملء تنوعه بحيث نعطي لكل موضع فيه ،ولكل كائن وكينونة ،األهمية التي يستحقها ،مع
ً
انتقاله في شبكة واسعة من العالقات الزمكانية ،ومن االعتراف التبادل حيث يتجلى معناه كامال (الترجم).
149
حيث يتجلى هذا التمييز من خالل االستخدام التجدد لفعل "الكون"" :فالواقعية
ً
الستقلة يمكن أن تكون حقا أولى بالنسبة للزمكان".246
ً
أنطولوجيا" ّ
للرد بالقابل ،استخدم برنار دسبانيا مفهوم "النظرية القابلة للتفسير
على االنتقاد الذي وجهه له جان بتيتو لعدم تمييزه بين األنطولوجيا والوضوعية
الشديدة .فالنظريات الفيزيائية التابعة لشكل قوي من الوضوعية تكون على األقل قابلة
ً ً
للتفسير أنطولوجيا كما يشير دسبانيا .وهذا ال يعني أن هذه النظريات تركز فعال على
الكينونات كما هي بذاتها ،بل فقط أن ال ش يء يمنع بشكل قطعي من تفسيرها على أنها
تصف الخصائص الجوهرية لثل هذه الكينونات .ويطلب دسبانيا أن نفهم أن "«اللغة
الوضوعية» [ ]...هي لغة يكون وفقها إما األشياء [ ]...التي تعالجها الفيزياء هي أشياء
مفترض أنها موجودة بذاتها حقيقة ،أو التصرف كما لو كانت توجد على هذا النحو."247
إن الالواقعية هي ما يسمح لنا بأن نطبق على نطاق واسع قاعدة "كل ش يء يجري كما
لو" ،وهذه القاعدة هي ما يجعل البيانات ذات الوضوعية القوية قابلة للتفسير بعبارات
ً
ومصطلحات يستحيل عمليا تمييزها عن توكيد أنطولوجي .إن والدة علم الطبيعة
الحديث كانت لتمثل في هذه الشروط ليس لحظة خسارة الخطاب األنطولوجي لصالح
متطلبات شرعية للموضوعية ،بقدر ما تمثل الوعي بأن الخطابات ذات القصد
ً
األنطولوجي يمكن كثيرا أال تكون صالحة إال لعنى "كما لو" .مع ذلك فقد استمر الـ "كما
لو" بالعمل بفعالية كافية لكي يتم نسيانه من قبل معظم الفيزيائيين ،وذلك خالل كامل
ً
فترة الفيزياء الكالسيكية .ومع الفيزياء الكمومية فقط إنما أصبح الـ "كما لو" إشكاليا
ً ً
بدرجة عالية ،دافعا برنامج صياغة النظريات القابلة للتفسير أنطولوجيا في آخر
إقطاعاته وطروحاته (أي "التغيرات الخفية").
257مع اإلشارة هذه الرة إلى ربط لفظة "أنطولوجيا" بمعنى اإلطالق.
154
ً ً
التاريخية في الفاهيم والكينونات .إن الصعوبة ،التي يدركها برنار دسبانيا إدراكا تاما مهما
كانت توجهاته الخاصة ،هي أن تأكيد حقيقة إطار لساني /أنطولوجي يصبح ذا مصداقية
ً ً
أقل إذا كان انتخابه يتضمن قيما .فبدال باألحرى من حقيقة ذات إطار مماثل ،أال يجب
أن نتحدث هنا عن انتسابها العائد إلى سوية خلفية إبستمولوجية وثقافية ومعيارية ،ال
تشكل النظريات الفيزيائية وقاعدتها التجريبية سوى عنصر فيها بين عناصر أخرى؟
إن مساءلة الذهب الذري والخطابات العلمية بمصطلحات الوضوعية القوية ،لها
نتيجة أخرى فائقة األهمية يعود إليها دسبانيا مرا ًرا وتكرا ًرا :أال وهي ّ
حل األساس الفيزيائي
نفسه الذي تستفيد منه االختزالية réductionnismeالفيزيائية في الفيزيولوجيا العصبية.
وتتمثل النسخة األكثر كاريكاتورية لهذه االختزالية في القول إن الوعي اإلنساني قابل
لإلختزال إلى خصائص الذرات والجسيمات الدقيقة التي تشكل العصبونات الدماغية.258
ً
غير أن التمثيالت اآللية تقريبا التي تتماش ى مع هذه التوصيفات بمصطلحات الخصائص
ً
الذرية استمرت وبقيت .فإذا وضعنا جانبا النظريات ذات التغيرات الخفية ،مع ما فيها
من جانب مصطنع وتعسفي ،فال بد من االعتراف أن مفهوم "الخاصية" نفسه قد تم
استبداله بمفهوم الظاهرة الكلية الرتبط بالشروط األداتية التصلة بسوية وذكاء الكائن
اإلنساني .أما بالنسبة لفهومي الذرة والجسيم ،فهما يتصالن بإجراءات التحليل الكاني
التي ترجعنا بشكل غير مباشر إلى إدراج اإلنسان التجريبي ضمن مجموعة ،وإلى الترجمة
الذهنية واألداتية لهذا اإلدراج ضمن جسم الجموعة .يجب أن نضيف إلى ذلك أن ناتج
ً ً
هذه العمليات في التحديد والتقطيع الكانيين ال يصبح واضحا أو جليا إال بالنسبة إلى وعي
(أو بالنسبة على األقل إلطالقنا اسم "الوعي" على الفعل النعكس للتجلي أو الظهور).
َ
الوعي تفسر خصائصهاوبالنتيجة ،فإن أحد العاني يشير إلى أن األشياء التي يفترض أن ّ
258من أجل مناقشة أكثر دقة بكثير لهذه السائل ،راجع P. Engel, Philosophie et psychologie, Folio-
،Gallimard, 1996وكذلك F. Varella, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil,
.1993
155
"[ ]...ليس لها هي نفسها وجود سوى الوجود التعلق بالوعي ."259ويخلص دسبانيا إلى أنه
ً
بعيدا عن فرض "فكرة أن الفكر ليس سوى مجرد انبثاق من الادة "260كما يعتقد
ً
كثيرون من الشتغلين بالعلم اعتمادا على رؤية مادية ينشرونها في كتب التبسيط
ً
العلمي ،فإن مجلد العارف العلمية الحالية يجعل من هذه الفكرة أمرا يصعب الدفاع
عنه ودعمه.261
يمكن لصورة استخدمها ويتغنشتاين Wittgensteinضد مفهوم اليتا رياضيات
اإلسهام في فهم أفضل لبعض عناصر النقد التي يوجهها دسبانيا لالختزالية العصبية
ً ً
الفيزيولوجية .فاليتا رياضيات كما يشرح ويتغنشتاين تستطيع أن تقدم أساسا حقيقيا
للرياضيات بقدر (وبالدرجة نفسها من عدم تقديم) ما تقدم صخرة ملونة في لوحة إلى
القصر ّ
اللون .262فالصخرة اللونة قابلة في أفضل األحوال لتوسعة الساحة اللونة
ً
B. d'Espagnat, in PR, p. 96 (note 9) 259؛ وراجع أيضا PRص" :99 .ال يجب السعي إلى «وضع نظرية» الوعي
بتأسيسها على نظرية الادة".
260الرجع السابق ،ص.244 .
261يمكن لبعضهم أن يأخذ على دسبانيا جهله لوجهة نظر علماء آخرين ،مثل روجر بنروز ( Roger Penrose,
ً
،)The emperor's new mind, Oxford university Press, 1989الذين يرتكزون أيضا على اليكانيك الكمومي
من أجل دعم وجهات نظر مختلفة بشكل مقبول حول "مشكلة العقل ـ الجسم" .لكن نص دسبانيا يشتمل على
إجابات ضمنية على طروحات بنروز .فبداية ،يؤسس بنروز نظريته حول فيزيائية الفكر على تفسير واقعي مباشر
ووصفي للكينونات النظرية للفيزياء الكمومية ،والتي ال يتفق دسبانيا معها .إن الحجج ضد مثل هذا التفسير
ً ط َ
رحت في كتاب "الواقع الحجوب" ،وقد استخدمت كثيرا في كتابنا هذا .بالقابل ،يعتبر بنروز أن السوية التي
يجب وصف األساس الفيزيائي للوعي عندها ليست على األرجح سوية البنية العصبية ،بل سوية بنية تحت
ً
خلوية حاملة لحاالت كمومية متجانسة .الشكلة أنه يقبل بأن هذا الوصف يمكن أن يتطلب فعال اللجوء إلى
ً
فيزياء غير قابلة للحساب ،مزاوجا هكذا بين فكرة أن الوعي يدرك بواسطة الفيزياء وبين التصحيحي الذي وفقه
ً
يظل الوعي بعيدا عن صيرورة خوارزمية دقيقة .أال يكافئ ذلك االعتراف بشكل موارب بما يؤكده دسبانيا ،أي
عدم قابلية العرفة الفعالة للواقع في كليته؟ وفي هذه الحالة ،أال يصبح التأكيد بأن ال ش يء ،بما في ذلك حتى
الوعي ،يفلت من مجال الفيزياء ّ
مجرد شعار فارغ من النتائج؟
L. Wittgenstein, Remarques sur les fondements des mathématiques, Gallimard, 1983, 7, p. 16; F. 262
Schmitz, La philosophie des mathématiques de Wittgenstein, P.U.F., 1988.
156
ّ
تصوري ،داخل الصورة للقصر اللون ،وال يمكن اعتبارها كأساس للقصر إال بمعنى
بشكل بحت .أو إذا أردنا فهي ليست أكثر من تمثيل ألساس ما ،كما أن القصر اللون هو
تمثيل لسكن ما .وبشكل مماثل ،فإن اليتا رياضيات يمكن أن ّ
توسع في أفضل األحوال
لعبة اإلجراءات البرهانية التي ترتكز عليها الرياضيات ،لكنها ليست قادرة بالتأكيد على
تقديم أساس نهائي للرياضيات وهو أساس يجب أن يكون خارج اإلطار اإلجرائي .فاليتا
رياضيات هي "حساب" مثل الرياضيات ،وهي تظل بالتالي مأسورة في مستوي الرياضيات
نفسه التي تريد أن تضع أساسا له .لنعد اآلن إلى مسألة االختزالية العصبية
الفيزيولوجية .فالزعم أن الدماغ ،العصبونات والذرات التي ّ
تكونها ،تمثل كينونات توجد
ً
في الطلق سيكون أمرا فيه مجازفة وتهور في منظور الدرس اإلبستمولوجي الذي يدعونا
دسبانيا إلى تعلمه من ظهور الفيزياء الكمومية .إن نقد "واقعية الحوادث" يقود إلى اعتبار
ً
أنها ليست سوى واحدات للمعنى وللمفاهيم تترجم نمطا من مظاهر الحقيقي التصل
بإجراءات وعمليات استقصاء بيولوجية أو فيزيائية تستخدمها كائنات عاقلة وواعية.
ينطبق ذلك أيضا على الفاهيم العقالنية (العتقدات ،والنوايا ،والشاعر ،إلخ ،).التي
ً
تترجم نمط تحديد لظاهر الواقع الحقيقي التصل أحيانا بإجراءات تبادل "بين ذاتي"،
ً
وأحيانا بمناهج استقصاء نفسانية تستخدم من قبل كائنات عقلية وواعية واقعة في
ّ
التشدد الصارم إلى برنامج يهدف إلى شبكة هذا التبادل .يمكننا بالتالي االنضمام في حالة
اختزال الجموعة الثانية من الفاهيم إلى الجموعة األولى ،على الرغم من أننا نشك بأن
ً ً
هذا البرنامج يجازف بأن يدفع غاليا جدا ثمن جهله للسمة العالئقية (والتصلة بسياقات
منفصلة) بين الجموعتين اإلثنتين من الفاهيم التي تم الوصل بينها .ولكن حتى مع
افتراض مثل هذا البرنامج المتلئ ،علينا أن نفهم أن الفاهيم الفيزيائية والعصبية
الفيزيولوجية ال تتوصل إلى تأسيس الفاهيم العقالنية إال بالعنى السطحي حيث تؤسس
الصخرة اللونة القصر اللون .وبقدر ما تكون مجموعتا الفاهيم ّ
معرفتين بالنسبة إلى
إجراءات تحديد مستخدمة بواسطة كائنات عقالنية وواعية ،فإن أيا منهما ال يمكنه أن
157
يزعم أنه يؤسس أي ش يء خارج هذا الخطط الوحيد للصحة النسبية .إن وعي الكائنات
ً التي تستخدم اإلجراءات والعمليات التي ت َّ
عرف نسبيا إليها الكينونات العصبية
الفيزيولوجية كما والكينونات العقلية يظل بشكل جذري خارج مدى محاولة االختزال أو
التأسيس .وسيكون من غير الحكمة محاولة اختزال الوعي إلى صيرورات دماغية ،بقدر ما
هو من غير الحكمة األمل بأن نؤسس على رسم الصخرة اللونة القماش الذي عليه تم
رسم تمثيل للصخرة و تمثيل للقصر.
6 .3النظريات والواقع
فيما يتعلق بتصوره لحالة النظريات الفيزيائية ،وللعالقة التي تقيمها مع "الواقعية
الستقلة" ،فإن برنار دسبانيا يخلق لنفسه صفين رئيسيين من الخصوم .فمن جهة هناك
الواقعيون البسطاء ،الذين يفترضون أن النظرية الفيزيائية تمثل معرفة حقيقية للواقع
ً ً
أحيانا إلى ّ
حد اعتبار أن الكينونات النظرية توافق حرفيا الحقيقي ،والذين يذهبون
كينونات من العالم كما هو .ومن جهة أخرى ،هناك األداتيون الذرائعيون ،والتجريبيون
(وخلفاؤهم العملياتيون القادرون على أن يأخذوا بعين االعتبار تضمين إجراءات القياس
ً
في تشكيل الظاهرات) ،الذين يتمسكون جميعا بصرامة بنتيجة نجاح القواعد التنبؤية
للفيزيائي في مجال تجريبي معين ،دون الرغبة بتقديم تنازالت فيما يتعلق "بمستوى تحليل
ً ً
أكثر عمقا" يذكرونه مع ذلك تلميحا .إن الحجج التي يسوقها دسبانيا ضد الواقعية
البسيطة ،أو ضد إمكانية القيام باستخدام َّ
موسع للبيانات ذات "الوضوعية القوية" في
ضد "واقعية الحوادث" ،سبق وعرضناها في الفقرات السابقة. الفيزياء الكمومية ،أو ّ
وسوف نركز هنا على الحجج التي يسوقها ضد التجريبيين .إن اللوم األساس ي الذي يوجهه
لهم هو التخلي عن كل شكل من أشكال التفسير في العلوم .يقول دسبانيا" :إن قاعدة في
التنبؤ ال تفسر بالعنى الدقيق للكلمة أي ش يء على اإلطالق ."263إضافة إلى ذلك ،فإن
السمة الناسبة للقاعدة التنبؤية تتطلب هي نفسها أن يتم تفسيرها ،وإال فإن سبب
264الرجع السابق.
265الرجع السابق ،ص.16 .
159
كاملة مثل التجريبية إنما تتقاسم مع الواقعية اليل إلى اعتبار بنية النظريات على أنها
فائقة األهمية ،ليس في خطوطه العريضة سوى الفلسفة الترانسندنتالية (التجاوزية).
ً
فعند كانط على سبيل الثال نجد أن جزءا ال يستهان به من الهيكلة البنيوية للميكانيك
النيوتني ي َّبرر بقابليته للتعبير ،في اإلطار الخاص لتطبيقه على مفهوم الجسم الادي ،عن
الشروط العامة إلمكانية التجربة .266ال ينظر كانط إلى قوانين نيوتن الثالثة ،أي قانون
انحفاظ الادة ،وقانون العطالة وقانون الساواة بين الفعل ورد الفعل ،ال كوصفات
ً
تنبؤية وال كوصف صادق للش يء بذاته .بل هي باألحرى وفقا له التعبير ،القابل للتطبيق
على الفهوم التجريبي للجسم الادي ،لشروط إمكانية العرفة الوضوعية الثالثة أال وهي
"قياسات التجربة" :فدوام الاهية ّ
يعبر عنه بانحفاظ الادة ،ويعبر عن السببية بتناسب
القوة والتسارع ،في حين يعبر عن الوحدة بالساواة بين الفعل ورد الفعل.
وال يجهل برنار دسبانيا هذا الخيار ،لكنه يعطي عدة أسباب تقوده إلى عدم األخذ به
267
A. (أو على األقل للحد من أهميته) .أما السبب الرئيس ي فيستعيره من شيموني
.Shimonyفشيموني يالحظ ،على إثر بوبر ،أنه "[ ]...في فكر كانط ،ال بد للتخلي عن كل
ً ً ً
زعم بمعرفة للش يء بذاته من أن يجد رأيا مخالفا قويا في التأكيد أنه ال ّبد لنا أن نتيح
معه ،فيما يتعلق بالظاهرات ،معرفة أكيدة مؤسسة بشكل راسخ على قاعدة مفاهيمنا
السبقة" .268مع األسف ،كما يؤكد شيموني ،فإن تحوالت الرياضيات والفيزياء خالل
ً ً
القرن النصرم جعلت من األشكال الكانطية السابقة للتجربة سبقا منطقيا وحتى من
ً ً
الفكرة نفسها لعرفة تأليفية سابقة للتجربة أمرا ال يمكن الدفاع عنه مطلقا.
إن هذه الفكرة للسمة التي أهملت للتأليفية السابقة للتجربة في العلوم الحديثة هي
فكرة مقبولة بسهولة ،منذ النقد الذي قام به أينشتين لألشكال السبقة للحدس الحس ي
E. Kant, Premiers principes métaphysiques de la science de la nature , Vrin, 1990; J. Vuillemin, 266
Physique et métaphysique kantiennes, P.U.F., 1987.
A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I & II, Cambridge University Press, 1993. 267
B. d'Espagnat, in PR, p. 103. 268
161
قدمه هايزنبرغ لصفوف معينة من الفهم (السببية (الكان والزمان) ،وحتى النقد الذي ّ
والاهية) ،إلى درجة أنه بالكاد يكون من الفيد التذكير بدوافعها .يعترف مفكرون ينتمون
إلى الكانطية الجديدة من النصف األول من القرن العشرين ،مثل كاسيرر E. Cassirerأو
ً ّ ّ هرمان ،G. Hermann 269بأن ّ
مهمتهم كانت التغلب على معتقد متجذر تماما لدى
معاصريهم :وهو العتقد بأن الفلسفة الترانسندانتالية (التجاوزية) كانت قد فقدت
ً
مصداقتيها بمواجهة علوم عصرهم .مع ذلك سرعان ما ظهر أن الوضع لم يكن محسوما
ً
تماما وال غير مناسب إلى هذه الدرجة بالنسبة للمقاربة التجاوزية كما أمكن االعتقاد
للوهلة األولى .فمن جهة ،كان مبدعو اليكانيك الكمومي ،مثل هايزنبرغ وبور ،يقبلون هم
أنفسهم بأن األشكال السابقة للتجربة لدى كانط ظلت تحتفظ بكامل مالءمتها ضمن
محيط التجربة اليومي؛ وبأن االفتراض السبق للسمات الكانية -الزمانية ،السببية
ً
والجوهرية ،لهذه التجربة على مدى استخدام اللغة الشائعة كان ضروريا للتعبير عن
النتائج التجريبية التي ترتبها النظريات العلمية الجديدة .270من جهة أخرى ،وكما يالحظ
ً ً
بتيتو محقا ،فإنه من المكن تماما إحياء وتجديد الفلسفة التجاوزية في الفيزياء الحديثة
(بما في ذلك إلى ما وراء حيز التجربة اليومية والتدخالت التجريبية) ،وذلك شرط أن نترك
ً
جانبا الشكل العقالني الخاص الذي كان قد أعطاها إياه كانط من خالل عقيدته في
القدرات ،وال نأخذ منها سوى األساس ي فقط .والحال أن األساس ي في النهج التجاوزي
يقود إلى إشكالية البنية األساسية للموضوعية ،وإلى استبدال البادئ الوصفية لـ "ما هو
كائن" بالبادئ التوجيهية الصالحة للظاهرات.
إن مبدأ تحديث وإعادة تفعيل النهج التجاوزي الذي أقترحه ،مع عدد من الؤلفين
اآلخرين ،يتلخص في العمق بحشد وتعبئة ما هو بديهي .فهو يستبعد الحافظة على
E. Cassirer, Determinism and indeterminism in modern physics, Yale University Press, 1956 269؛
G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique quantique, trad. A. Schnell en
collaboration avec L. Soler, introduction et postface par L. Soler, Vrin, 1996.
270انظر L. Soler, introduction à G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique
،quantiqueالرجع السابق ،ص.25 .
161
ً
األشكال الكانطية الؤرخة تاريخيا من التأليفية البديهية ،واعتبارها كأشكال عالية
وثابتة .فهذا البدأ يرتكز على العكس على أن يحل محلها ما يمكن تسميته بداهة
وظيفية ،أي مجموعة من االفتراضات السبقة األساسية الرتبطة بنمط النشاط
َ
المارس .فبما أن لكل نمط نشاط إطاره من االفتراضات السبقة ،فإنه يمكن أن يكون
من الالزم التخلي عن بداهة وظيفية ما في حال حصول تعديل على هذا النشاط .وهكذا
ً
نفهم أننا نستطيع أن نتجاوز ولو بشكل جزئي على األقل أشكاال سابقة للتجربة أصيلة
لكانط دون أن نتخلى مع ذلك عن الفلسفة التجاوزية .كانت هذه األشكال الكانطية
وثيقة الصلة مع االفتراضات السبقة للمحاكمة والفعل في الوسط الباشر لإلنسان.
فليس ثمة ما يدهش في أن إعادة تعريف النشاطات التجريبية بهدف توسعة حقل
استقصائها إلى ما وراء الوسط اليومي قد ترافقت بتعديل عميق الفتراضاتها السبقة،
ً
وأن ذلك يفرض على الفيلسوف التجاوزي عمال في إعادة صياغة البداهة الوظيفية التي
ترتبط بها.271
إن القاربة البراغماتية -التجاوزية التي رسمناها لتونا ال تسمح بشكل واضح بموازنة
الخسارة التي أشار لها شيموني :أال وهي خسارة مشروع معرفة أكيدة ،مرتكزة على
صفوف مفترضة كصفوف غير متغيرة وثابتة للفكر .لكنها تتيح توقع إمكانية الوصول إلى
هدف آخر ال يمكن تجاهل أهميته اإلبستمولوجية بحال من األحوال .وهذا الهدف هو
الوصول إلى تبرير لبنية كل نظرية فيزيائية ،ليس من خالل إدراجه في خطوط القوى
لواقع مستقل مسبق التشكل ،بل عبر قدرته ،في قلب شكليته ،على جمع العايير التي
ً
تفترضها مسبقا النشاطات التجريبية التي تأخذها بعين االعتبار .إن الصعوبات
واإلضعافات الضرورية للمشروع الواقعي ،التي بينها دسبانيا بشكل واضح ،يتم تجنبها
تح ّل كافة الصعوبات على هذا 271نرى هكذا أن الفلسفة التجاوزية ال تستبعد تدرجية في البداهة .لكن ال َ
ً َّ
الستوى .فكيف نفهم في اإلطار الحصري للفلسفة التجاوزية ،دون ذكر حكم "واقعية مستقلة" مشكلة مسبقا،
ً ً
أننا نستطيع أحيانا أن نكون مضطرين عمليا إلعادة تحديد نشاط تجريبي ،وتعديل افتراضاته السبقة،
وبالنتيجة إلى إعادة صياغة بداهته الوظيفية القترنة به؟ اقترحنا إجابات على هذه األسئلة في القطع .1-0
162
ّ
على هذا النحو ،إنما دون أن نضطر مع ذلك إلى التعليق والتوقف التجريبي للمحاكمة في
موضوع البنى النظرية .272وبالثل ،وكما أشرنا إلى ذلك في الفقرة ،1 - 0فإننا نلمح
َّ
مصممة إمكانية فهم تاريخ العلوم الفيزيائية ليس كالتقاء مقارب نحو صورة واقعية
ً بشكل إحصائي ،بل كتعميم ّ
تدرجي للمعايير التي تفترضها مسبقا ديناميكية نشاطات
البحث ،وككشف عن هذه العايير بواسطة التشكيالت النظرية التأقلمة مع كل مرحلة
من مراحل توسعها.
وبالطبع ،فإن مراحل التشكل هذه للنشاطات التجريبية ولعاييرها ليست اعتباطية
ّ ً
أبدا :فهي مشروطة بقابليتها ألن َّ
الالتغير العملياتي األكثر فأكثر تؤسس ضمن أدوار من
ً
اتساعا ،أدوار ّ
تعمم اللحظة الناشئة من عملية االستقرار والترسيخ المثلة من خالل
تأسيس الوضوعية في الوسط الحيط للكائن الحي الذي هو اإلنسان .ببساطة ،وفي مثل
هذا النظور ،فإن انتظامات نتائج النشاطات التجريببية (أو "أدوار الالتغير") ال يمكن
ً ً
نسبيا لشكل حقيقي ّ
معرف جوهريا وفيه تندرج هذه النشاطات، اعتبارها كتعبير دقيق
بل كمحصلة لصيرورة التعريف الشترك للنشاطات ولألشكال التي َّ
تطبق عليها .وبالتالي
ً
فإن الثوابت الكبرى بدال باألحرى من أن تكون مجرد انعكاسات لنطقة استقرارية مطلقة
ً ّ
تنتمي إلى واقعية مشكلة مسبقا ،فإنها هنا مصممة مثل تكوينات ثابتة متعلقة بصف
ً
واسع جدا من صيرورات إنتاج الظاهرات ،وهي صيرورات قابلة للنسخ والتوالد.273
إن قيمة الثوابت الكونية يمكن أن تعتبر هي نفسها على األرجح ،من خالل تطبيق
التنوع الضعيف للمبدأ اإلنساني ،كشرط لالنبثاق الشترك لكينونات بيولوجية ،قابلة
ً
لمارسة نشاط إبستمولوجي (معرفي) ،وألجسام هذا النشاط .ووفقا لهذه القاربة ،فإنه ال
ً
يبقى سوى عنصر ال يمكن اإلمساك به أبدا يظهر السمة النتهية للفكر وللنشاطات
ً
العملياتية :أال وهو الحصول على مثل هذه النتيجة بدال باألحرى من نتيجة أخرى من بين
لإلبستمولوجيا حيث يمكن تبرير كافة الركبات البنيوية والتنبؤية للنظرية الفيزيائية
بواسطة حجة من نمط براغماتي -تجاوزي ،وحيث وحدها مواجهته مع االنبثاق النوط
بكل نتيجة فردية تندرج ضمن ما ال يمكن تعيينه.274
يعترف برنار دسبانيا بأهمية هذه العائلة من القاربات ،و "[ ]...يعتبرها كتحديد
لطريق فلسفي جديد ،طريق يستحق للغاية االضطالع به ."275ومع ذلك ،فهو يشك
بإمكانية الوصول به بشكل متكامل إلى غايته .وترتكز أسباب هذا الشك ،والتي أصبحت
ً ً
من اآلن فصاعدا مقبولة تماما ،على التمييز بين النظرية اإلطار والنظرية الفيزيائية
الخاصة .ووفق دسبانيا ،فإن النظريات اإلطار وحدها قابلة ربما للتبرير وفق النمط
التجاوزي ،في حين أن النظريات الخاصة ليست كذلك .إن بنية النظريات الخاصة،
النمذجة بواسطة القاومة التي يمانع بها "ش يء ما" محاوالتنا لجعلها صحيحة أو إعطائها
ً
سببا ما ،ال يمكن أن ت ّ
فسر بالنتيجة إال من خالل قدرتها على أن تعكس الواقعية
274في إطار هذه القاربة البراغماتية ـ التجاوزية ،فإن الوساطة بين الظاهرة الفردة والبنية النظرية تتم عبر نشاط تجريبي
ً َ ً
الفترضة مسبقا. مسمى .إن تغييرا في النظرية يترجم بالضرورة إعادة توجيه للنشاط التجريبي وإعادة تعريف لعاييره
ً
ولكن كيف نتصور أن "شيئا ما" يمكن أن يدفع الجتمع العلمي إلى إعادة تنظيم نشاطه والعايير الرتبطة به ،دون أن
ً ً َّ
االستناد بالرغم من ذلك على مفهوم واقع حقيقي مشكل مسبقا؟ لنأخذ مثاال على ذلك .إن إعادة توجيه الفيزياء
ً َ
مموض َعة مكانيا (الفيزياء الكالسيكية) إلى نشاط أكثر التجريبية في بداية القرن العشرين ،من نشاط تحريك ألجسام
َ ً عمومية إلنتاج ظاهرات سياقية (الفيزياء الكمومية) ،ي َّ
فسر استعاديا كأثر للقيد المارس من خالل واقع القيمة غير
ََ
متأت من واقعالعدومة لثابتة بالنك .مع ذلك ،فإن القيمة الخاصة لثابتة بالنك ال يجب أن تعتبر بالضرورة كـ "معطى" ٍ
ً ً
حقيقي يضعها قريبا جدا في الطلق .إن هذه القيمة يمكن أن يتم تصورها على أنها مرتبطة بموضعنا نحن في صيرورة
التوالد الشترك التي نشارك فيها .تلك هي الفكرة التي يعبر عنها البدأ األنثروبولوجي الضعيف ،والذي وفقه" :فإن قيم
الثوابت الكونية تكون محددة بالشرط الذي وفقه نحن ممكنون كمتعضيات بيولوجية" .وهكذا فإننا نرى كيف أن
مقاربة تجاوزية عامة بدرجة كافية ،متضمنة للمبدأ األنثروبولوجي الضعيف كما وبالقدر نفسه مفهوم البداهة
ً
الوظيفية ،يمكن أن تمثل ليس فقط البنية بل وأيضا تطور النظريات الفيزيائية.
B. d'Espagnat, in PR, p. 341. 275
164
ّ
يستمد هذا التمييز بين النظرية اإلطار والنظرية الخاصة الستقلة في خطوطها العريضة.
ً
ثقال ال يستهان به من خالل اإلسناد إلى حالة اليكانيك الكالسيكي .ففي اليكانيك
الكالسيكي ،كان ميكانيك غليليو -نيوتن يستخدم كنظرية إطار في حين كانت نظرية
الجاذبية نظرية خاصة .ولم ّيدع كانط نفسه في كتابه "البادئ اليتافيزيائية األولى لعلوم
ً ً ً
الطبيعة" أنه يقدم تبريرا ترانسندانتاليا (تجاوزيا) لعبارة قانون الثقالة الكوني ،إنما فقط
لقوانين نيوتن الثالثة .فهو لم يصل إلى قانون الجاذبية الكوني إال في مرحلة ثانية ،بأن
دمج مع قوانين نيوتن العنصر التجريبي غير القابل لالختزال أو التبسيط أال وهو قوانين
كبلر .وبشكل مماثل ،كما يشير دسبانيا ،إذا افترضنا أننا قبلنا بأن اليكانيك الكمومي،
متغير َّ
محدث للمنهج بما هو النظرية اإلطار للفيزياء الحديثة ،قابل للتبرير من خالل ّ
التجاوزي ،فإن حالة الفروع الختلفة (التي لم يتم توحيدها بشكل تام حتى اليوم)
ً
للنظرية الكمومية للحقول تظل غير محسومة إلى حد كبير .وتبدو فعال بعض مبادئ
الالتغير والتناظر الكبرى مثل شروط إلمكانية النشاط التجريبي ،لكن ذلك ال ينطبق
بالضرورة على كافة مبادئ التناظر التي تنتج عنها القدرة التنبؤية للنظريات الخاصة.
وباإلجمال ،كما يشير دسبانيا ،فإن التأكيد أنه من المكن تبرير بنية مجمل النظريات
الفيزيائية وفق النمط التجاوزي ال يمكن أن يستفيد أو يبنى إال على حجج جزئية ،وهو
ً ً
تحديا للمستقبلّ .
تحد يراه دسبانيا محفوفا بالخاطر وهو ينأى سيظل بالتالي يشكل
بنفسه عن االقتران به.
ماذا عن هذا االنتقاد التوازن الذي يوجهه دسبانيا إلى محاوالت تحديث القاربة
ً
التجاوزية للنظريات الفيزيائية من خالل تعبئتها وجعلها أكثر تجذرا؟
نرى بداية أن تمييزه ،وثيق الصلة بالوضوع بين النظرية اإلطار والنظريات الخاصة،
ً
تم أخذه بعين االعتبار جيدا من خالل القاربة البراغماتية -التجاوزية :ففي هذا النظور
ً ّ
األخير ،تشتمل النظرية اإلطار على العايير الولدة الفترضة مسبقا بواسطة مجمل
النشاطات التجريبية القبولة في حالة نموذجية معطاة ،في حين أن النظريات الخاصة هي
165
بنى تترجم ،من خالل استخدامها لتناظرات محلية مختلفة و /أو "داخلية" ،االفتراضات
السبقة األقوى القترنة بمجموعات تحتية معينة من العمليات.
ً ً
ونرى ثانيا أنه محق تماما في اإلشارة إلى أن إمكانية تبرير بنية كافة النظريات
الفيزيائية ،بما فيها النظريات الخاصة ،وفق النمط التجاوزي ،تظل عبارة عن ّ
مخمنة إلى
حد كبير .ولكن بعد كل ش يء ،فإن ذلك ليس أقل ّ
صحة من الطرح الذي وفقه تلقي ّ
النظريات الفيزيائية إضاءات حول موضوع الواقعية الستقلة .أال يستمر دسبانيا نفسه
مقررة" 276على الرغم من الحجج الغاية في الدقة دائما ّ
"مخمنة غير َّ في تقديمها مثل
ً
والقنعة غالبا التي قدمها لصالحها؟ ومن جهة أخرى ،أليست السمات النادرة (مثل
الوحدة الكليانية) التي يعتقد أنه باستطاعته نسبها للواقعية الستقلة هي نفسها ناجمة
عن المتغير مندرج في النظرية اإلطار ،باألحرى من كونها ناشئة عن نظرية خاصة ال على
التعيين؟
في أرض العجائب من الشاريع ال َح ّركة واللهمة والثل الناظمة ،فإن القرار ال يمكن
أن يؤخذ بواسطة تجربة حاسمة ،أو بواسطة برهان قطعي .إن معيار الخيار بين برامج
التقص ي اإلبستمولوجية يرتكز باألحرى على تقييم ،هو بالضرورة تقييم غير دقيق،
ً
لخصوبتها على الدى الطويل ،وعلى تقدير ،مو ّجه حتما بواسطة نظام للقيم ،لقابليتها
على ربط حقول للفكر وللحياة كانت قد بقيت حتى اللحظة غير قابلة لالختراق كل باتجاه
اآلخر .يشتمل الشرط الوحيد الذي يفرض نفسه على كافة البرامج من هذا الستوى على
األخذ بعين االعتبار إلسهام العلوم العاصرة بشكل كامل وصارم .ومن وجهة النظر
التعددية هذه ،تكمن أهمية عمل وكتاب دسبانيا في قدرته على تقديم أحد البيانات
ً
العاصرة النادرة جدا للمثال الناظم الواقعي الذي اعتمد القياس الكامل لتضمينات
الفيزياء الكمومية.
ً
276الرجع السابق ،ص60 .؛ راجع أيضا القطع 4-3في الفصل الحالي.
166
277
.4شبه الواقعية والواقعية التجريبية
ً
"إن عقائد تجمع شيئا نسميه «واقعية»
ً ً ً ً
مع ما يشبه كثيرا تلطيفا (داخليا ،استشرافيا،
ً ً
متواضعا ،متأصال ،اإلنسان محوره،أدنى)
كانت متناغمة منذ قرون مع عصرها .كان
كانط هو األب األقدم لها ["]...
بالكبرن ،S. Blackburnفي P. Clark & B.
Hale, Reading Putnam
تناول النقاش في الفصول السابقة بشكل خاص مسألة عامة هي الواقعية العلمية،
ً ً َ
وقد رأينا أنها يمكن أن تعالج أحيانا بشكل منفصل عن السألة األكثر تحديدا ،أي مسألة
واقعية األشياء الدروسة وواقعية خصائصها .كانت الواقعية الستقلة لدسبانيا وريدهيد
مخفف من الواقعية العلمية دون ربط مصيرها تمثيال ممتا ًا إلمكانية الدفاع عن شكل َّ
ً
ز
بمصير تأكيد وجود ألجسام يفترض أنه يتم التقص ي والبحث عنها .الفصل الحالي
ّ
مخصصين لتقدير تنوعات أقوى للواقعية والفصالن التاليان سيكونان على العكس
حيث سنركز على تفصيل األجسام والكينونات النظرية :الذرات والجسيمات والـ "حاالت"
والحقول و"الفراغ الكمومي" ،إلخ.
ً
ولكي نبدأ ،سوف نتساءل خالل هذا الفصل إذا كان من المكن فعال أن نفصل
بشكل كامل بين الوقف الواقعي تجاه هذه األجسام والكينونات وبين اإليمان ،الذي من
رتبة ميتافيزيائية ،بوجودها الستقل عن اإلجراءات التجريبية التي نستخدمها من أجل
277ظهرت نسخة سابقة من هذا الفصل بعنوان "شبه الواقعية والفكر الفيزيائي" ،في مجلة نقد"Quasi- :
.réalisme et pensée physique", Critique, no 564, mai 1994, p. 340-361
167
ً
دراستها .سوف نقوم بالتالي بالتوغل في سؤال يعتبره فان فراسن Van Fraassen 278سؤاال
َ ً
لواضع حيويا بالنسبة لـ "تجريبيته البنائية" ،والذي هو كذلك بالتأكيد بالنسبة
إبستمولوجية أخرى .وهذا السؤال هو سؤال معرفة ما هي الترجمة الفلسفية التي يمكننا
إعطاؤها لحالة الفكر الحيرة بعض الش يء التي نعرف أنها حالة فكر الباحثين العلميين:
ً
أي حالة شكل من االعتقاد بنظرياتهم وكينوناتهم يكون في آن واحد مقاوما بدرجة كافية
لالختبارات والتجارب من أجل ردعها عن تغييره باستمرار ،وقليل العقائدية والجزم بما
ً يكفي لكي ال يمنعها من القيام بمراجعات ّ
ممزقة ومفجعة عندما يصبح من الكلف جدا
االستمرار في عادات الفكر القديمة .إن ترجمة فلسفية لهذا الوقف من "اإليمان غير
العقائدي" ،والتي تسلط الضوء على طريقة عمل الباحثين اإلبستمولوجية الهشة،
ستساعد ربما على تجنيبهم التأرجح بين أقص ى التشكيك في أوقات الثورات العلمية وبين
أقص ى إعادة البلورة األنطولوجية خالل فترات الترسيخ ما بعد الثورات العلمية.
يميل الرء لالعتقاد بأن التفسير الفلسفي الذي نبحث عنه حول الوقف من اإليمان
ً
غير العقائدي يشبه كثيرا "الواقعية التجريبية" لدى كانط ،األمر الذي تناولناه باختصار
ً
في الفقرة .0 .3إن شكال من الواقعية غير التأملية ال يرتكز ،على عكس "الواقعية
التجاوزية" ،على تأكيد مطابقة موضوع البحث مع األشياء كما هي بذاتها ،بل يقبل
ببساطة ،وليس بشكل معقد أو إشكالي ،واقعيتها كمعطى في الظاهرات .الشكلة أننا
عندما نقول ذلك فإن الكثير يظل أمامنا لنفعله .فالظاهرات ال ّ
تحدد لنا وحدها ما هي
ً
الواضيع التي يجب أن نقبل بواقعيتها .ومن المكن حتى (وكان كانط سباقا على أية حال
َّ ً ً
في هذا النوع من الالحظات) أن يكون شكل الظاهرة منمذجا أو مشكال بشكل عكس ي
بواسطة مجموعة أهداف الوضوع ،كما وبواسطة المارسات التجريبية التي ترتبط بهذه
األهداف.
B. Van Fraassen, "What is empiricism and what could it be?", Conférence du Collége de France, 5 278
décembre 1997.
168
تحاول "الواقعية الداخلية" لبوتنام اإلجابة على هذه اإلعتراضات بإدخال عامل
براغماتي للغة لكي يؤخذ بعين االعتبار تقسيم حقل الظاهرات إلى مواضيع دون اللجوء
في ذلك إلى سهولة التقسيم السبق الطبيعي .ووفقه "[ ]...ال معنى للنظر إلى العالم على
أنه مقسم من تلقاء نفسه إلى «أجسام» (أو كينونات) بشكل مستقل عن الطريقة التي
ّ
نستخدم بها اللغة ."279يتخلص بوتنام من نسخ سابقة ألطروحته ،نسخ تعود إلى كل من
كارناب Carnapوكوين ،Quineويدافع عالوة على ذلك عن فكرة تحديدية متبادلة بين
اإلطار اللغوي ،الذي يعلم بـ "الوقائع" التي تندرج فيه ،وهذه "الوقائع" نفسها .وبعكس
ً
كارناب ،يحرص بوتنام على عدم تعميق االنشقاق وجعله مطلقا بين األحكام التحليلية
واألحكام التأليفية ،بين إطار االفتراضات السبقة والعناصر ذات األصل التجريبي التي
تدرج في هذا اإلطار .وهكذا يمكن اعتبار أن "الواقعية الداخلية" في الوقت الحالي هي
إحدى الفلسفات األكثر صفاء وأكثرها سهولة في إمكانية الدفاع عنها التحدرة من
ً
الواقعية التجريبية الكانطية .فالواقعية الداخلية تمثل على غرار هذه األخيرة تنويعا غير
ميتافيزيائي بشكل واضح للواقعية؛ بل هي تنويع يؤيد إعادة توجيه الفلسفة العاصرة
لتساؤالت نظرية العرفة باتجاه األسئلة الداللية والبراغماتية للغةّ ،280
ويقدم عبر هذه
الطريقة رؤية مقبولة (على الرغم من أنها ليست كاملة بالضرورة) لعالقة التحديد
الشترك للظاهرة ولنظومة األهداف .ومن جهة أخرى تدخل "الواقعية الداخلية"
لبوتنام ،مثل "الواقعية التجريبية" لكانط ،تصحيحات انعكاسية هامة ("تخفيفات" ،كما
كتب بالكبرن في اقتباسه للفظة النحوتة) على األشكال ما قبل النقدية للواقعية .يأتي
كانط بهذا التصحيح عبر قسمته بين الظاهرات واألشياء بذاتها ،عبر تقييد تأكيده
يقيد صحة تقسيمللواقعية باألجسام الادية بما هي ظاهرات .أما بالنسبة لبوتنام فإنه ّ
H. Putnam, "Comments and replies", in P. Clark & B. Hale, Reading Putnam, Basil Blackwell, 1994, 279
p. 243.
.P. Engel, Davidson et la philosophie du langage, P.U.F., 1944. 280
169
أنطولوجي على غرار "الطريقة التي نستخدم نحن بها اللغة"؛ وهو يرجعها إلى عملـ نا نحن
ً
في التقسيم ،أو أيضا إلى النظور البراغماتي -اللساني الذي نعتمده نحن .وفي الحالتين،
ً
فإن االعتقاد الرتبط بفعل اإلسناد الرجعي إلى ش يء ما يكون قابال للتأويل بشكل مفتوح
بمقارنته مع "بالنسبة لنا" (نحن) :بالنسبة لحساسيتنا ولفهمنا عند كانط ،أو بالنسبة
لمارستنا للتخصيص اللغوي عند بوتنام.
إن هذه االستراتيجية هي بالضبط استراتيجية تفسير الوضع الذي َّ
يعرف بالنسبة له
تقسيم أنطولوجي يعارض بالكبرن أهميته وفائدته .ألنه ،كما يتساءل ،281ما فائدة
ً
االستمرار في القول إن أنطولوجيا ما ،أو وصفا للعالم ،ال قيمة له إال بالنسبة لنا أو من
وجهة نظر إنسانية إذا كانت هذه الـ "نحن" ،في الحصلة ،هي الوحيدة التي نستطيع أن
نكونها ،وإذا كان النظور اإلنساني هو النظور الوحيد الذي بوسعنا أن نرى منه؟ من هذا
التساؤل ولدت الصورة الساحرة لشبه الواقعي :إنه فيلسوف شفاف بالقدر الكافي
ً
ليتشارك تلميحا مع كانط وبوتنام الوقف النقدي ،ولكنه دقيق وواع بدرجة كافية لا
سيسميه بعضهم "الحدودية البشرية" بحيث يكون من غير الجدي توصيفها في سمات.
مع ذلك ال يجب اعتبار مثل هذه القاربة إال كلحظة متأخرة لنقاش طويل ،نقاش
كان هدفه حل أو ربما إنهاء تناوب الواقعية والالواقعية.
1 -4مشكلة تصنيف الواقف الفلسفية لؤسس ي الفيزياء الكمومية
من الهم أن نستنتج أن الكثير من الحاوالت الهادفة إلى خرق أو تفجير اإلطار البديل
نفسه ولدت من التأمل حول تاريخ وتفسير اليكانيك الكمومي .282وكان الحافز وراء ذلك
هو الشعور التزايد بشكل واضح بعدم القدرة على إعطاء أي مظهر من مظاهر التماسك
281الرجع السابق ،صS. Blackburn, "Enchanting views", in P. Clark & B. Hale, Reading Putnam .49-42 .
ً ً
282كما يشير إلى ذلك بوتنام ،فقد بات من اآلن فصاعدا من الصعب جدا الدفاع عن إعداد خط فلسفي،
واقعي أو الواقعي ،ال يأخذ بعين االعتبار على اإلطالق "[ ]...النظرية الفيزيائية األكثر جوهرية التي نملكها اليوم
[الفيزياء الكمومية]"H. Putnam, Realism with a human face, Harvard University Press, 1990, Préface, .
p. X
171
للتصنيف التقليدي لبدعي ومؤسس ي اليكانيك الكمومي بين واقعيين من جهة والواقعيين
ً
(الوضعيون والذرائعيون) من جهة ثانية .لم يكن أحد قادرا على الفصل بل وأكثر من
ذلك على تأكيد الصفات العقائدية التي كان هؤالء الفيزيائيين الكبار يطابقونها بانتظام
مع االتهامات التبادلة فيما بينهم.
في كتابه اللعبة الهشة ،The shaky game283يجعل آرثر فاين Arthur Fineمن غير
ّ
المكن الدفاع عن الفكرة التي وفقها كان أينشتين يجاهر بالشكل اليتافيزيائي للواقعية
ً ً
الذي كان ينسبه له بور .Bohrوانطالقا من هذا التفنيد ،يجد فاين نفسه مساقا ألن
ً ً
يجهز لحسابه الخاص موقفا يحفظ واقعية أينشتين في حوافزها ،بدال باألحرى من
ً
الحفاظ عليها في تعابير التزامه اليتافيزيائي .يصف فاين هذا الوقف ،الذي ليس واقعيا
ّ ً
"يقر بداللية وال الواقعيا ،بـ "الوقف األنطولوجي الطبيعي" .وهو موقف يحاول أن
مرجعية عادية لأللفاظ ،"284دون أن يستدعي مع ذلك واقعية "خارجية" تبرر بنيته.
وعلى الجهة األخرى من خط االنقسام هذا ،نرى أن بور الذي كان يتهمه كل من
ً
أينشتين وشرودنغر دائما بأنه فيلسوف وضعي ،كان ي ّبرأ من قبل فالسفة كثيرين
معاصرين .ويذهب أحد الكتب لهنري فولز ،Henry Folseبعنوان "فلسفة نيلز بور"285
حد تقديم براهين على ارتباط بور بنسخة ّ
معدلة ،The philosophy of Niels Bohrإلى ّ
ً
من "الواقعية" .وأخيرا ،فإن مؤلفين آخرين ،مثل جان فاي Jean Fayفي كتابه الحديث
حول العالقات بين بور والفيلسوف الدانمركي هوفدينغ ،Hoffding 286يعتبرون بور مثل
ً
الواقعي "موضوعي" ،الواقعي بعيد جدا في كل األحوال عن التنويعتين النجزتين من
الالواقعية وهما الفلسفة الوضعية والفلسفة الظاهراتية.
A. Fine, The shaky game, The University of Chicago Press, 1986. 283
284الرجع السابق.031 ،
H. Folse, The philosophy of Niels Bohr, The framework of complementarity, North Holland, 1985. 285
J. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy, Kluwer, 1991. 286
S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993.
171
غير أن كافة هذه السارات ،الرسومة على حافة الكتل العقائدية العتادة من أجل
الوصول إلى موقف أينشتين وبور ،كانت تخطئ في ترك تأمالت أصيلة لفيزيائيين آخرين في
الظل .ولم تلق أية دراسة الضوء بشكل كاف على موقف شرودنغر Schrodingerبشكل
ً ّ
خاص ،هذا الفيزيائي الذي كان يعلم في اليتافيزياء نوعا من "الوحدوية الثالية"
الستلهمة من الوضعية عند إرنست ماخ ،Ernest Machوالذي كان لديه من جهة أخرى
ٌ
نزوع غير عادي للتأكيد على "واقعية" كافة أنواع الكينونات النظرية في الفيزياء الحديثة.
ولهذا فقد صدمت عندما ظهر كتاب سيمون بالكبرن "محاوالت في شبه الواقعية"287
ً
،Essays in quasi-realismألنني استنتجت أن كوكبة فلسفة جديدة متجانسة تماما،
ّ
ومصممة هي أيضا ضمن روح تجاوز النزاع بين الواقعية والالواقعية ،كانت تعيد إنتاج
خطوة خطوة السيرة الفكرية والواقف التي كان شرودنغر قد اعتمدها قبل خمسين
سنة في ّ
جو من عدم تفهم عام له.
2 -4تعريفات أولية:
اخجدل بين الواقعية /والالواقعية
قبل البدء بتحليل موقف شرودنغر في هذا النظور ،سوف أبدأ بعرض الخطوط
ً
الكبرى للجدل بين الواقعية /والالواقعية ،ثم سأتوقف مليا عند حيز شبه الواقعية .وفي
نهاية الفقرة فقط سوف أحاول تبيان موافقة القاربة شبه الواقعية بالنسبة لتصنيف
الواقف الفلسفية للمبدعين الرئيسيين للميكانيك الكمومي.
ً
من السهل جدا للوهلة األولى تمييز الوقف الواقعي من الوقف الالواقعي في الفيزياء.
يعتقد الواقعي ،ضمن اختالفه األصلي ،الذي بات يوصف بالساذج ،أن العالم مبني
ً
مسبقا بشكل مستقل عنا ،وبشكل مستقل عن إمكاناتنا العقلية والحسية والتجريبية.
إن هدف الفيزياء وفق الواقعي وصف تركيب العالم الخارجي وقوانينه مع تجاوز كامل
290إن عدم توافقية مرصودات معينة تسمى "متزاوجة" في اليكانيك الكمومي يولد أمثلة ممتازة من هذا النمط
من القضايا .يكفي أن نفكر بالقضية التالية" :مثل اإللكترون الواقع في النقطة Aذات اإلحداثيات ()x, y, z
ً ً
والزود بكمية الحركة ."(px, py, pz( pإن قياسا بدقة مقاربة للموضع يزيد في الواقع كثيرا تشتت قيم كمية
الحركة التي يمكننا إيجادها عند القيام بقياس الحق (عالقات الريبة أو "الالتحديدية" لهايزنبرغ) .إن القضية
ً ً
التي تشتمل على إسناد متزامن لوضع ولكمية حركة إلى ش يء جسيمي ما ليس بالتالي قابال لالختبار تجريبيا ،وهي
ً
محرومة بالتالي ضمن منظور الواقعي من كل قيمة حقيقة محددة تماما.
ً 291يمكن ّ
تصور ثنوية التكافؤ في الحالة البوبرية مثل شرخ بين الزيف وغير الزيف (بدال باألحرى من الشرخ بين
الزيف والصحيح).
174
ً ً ً
موقف الالواقعي الذاتي يمكن أن يكون طرحا مضادا كامال لوقف الواقعي ،وإذا كان
يستطيع الض ي إلى حد التأكيد بأن العالم ليس سوى بناء ابتداء من عناصر خبرة ما،
فإن األمر نفسه ال ينطبق على موقف الالواقعي الوضوعي .ألن الالواقعي الوضوعي
يتصرف بالضبط مثل واقعي اتجاه ما أسميته بظروف التحقق التجريبي العالنية أو
الشائعة التي يمكن الوصول إليها ،وذلك فيما يتعلق بحالة أداة القياس أو الحركات
البشرية التي تقود إلى تحضيرها .إن القترحات بشأن بنية التجهيزات ،وحول حالتها بعد
عملية قياس ،يفترض أن يكون لها قيمة حقيقة بشكل مستقل عن إجراء وصيرورة
التأكيد والبرهان بالدرجة الثانية ،وذلك فقط بسبب الثقة الوضوعة في قلب
االفتراضات السبقة التي تسمح بالحياة اليومية وحيث يحل االتصال مع أقراننا الذين
ً
يشبهوننا ضمنيا محل التنفيذ الفعال لثل هذه اإلجراءات.
إن هذا التنازل األولي ليس والحق يقال سوى اإلشارة النذيرة بحصول تنازالت أخرى
ّ
يحضر الالواقعي لالعتراف بأن موقفه الداللي األدنى ال يفرض عليه أكبر .فهو في الواقع
َّ
التأكيد بأن العالم مؤلف بواسطة فعل معرفي ،بل فقط نفي أنه يمكن وجود أجسام أو
خصائص تكون غير مرصودة أو ملحوظة من حيث البدأ أو ال يمكن بلوغها من حيث
ً
تعريفها بواسطة وسائلنا في العرفة .292فلو كان الالواقعي متمسكا بتضمينات التعريف
الداللي وحدها لوجهة نظره ،فإنه سيستطيع عندها (بصرامة وفي بعض الحاالت) أن
يتقاسم مع الواقعي الفرضية التي وفقها تؤثر األدوات التي تعمل على تحقيق البرهان
التجريبي على عالم مستقل عنها .وذلك هو أول انتهاك للحدود العقائدية.
ولكن هناك طريقة ثانية لخلط األوراق ،وهي تتأتى هذه الرة من تصحيح للموقف
الواقعي .فقد سبق وقلنا إن الالواقعية تتصف في إحدى سماتها الميزة باستبعاد مبدأ
ً
ثنائية التكافؤ تحت اسم الحاالت غير القررة إبستمولوجيا .ولكن بعد كل ش يء ،يستطيع
ً
الواقعي أن يدمج بشكل جيد جدا مثل هذا الضعف لتطلباته الداللية الخاصة في
292الرجع السابق ،صJ. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .099 .
175
طريقته في الرؤية بافتراضه أن الالتقريرية االبستمولوجية تعكس التحديدية لـ "أجسام
ً
غير كاملة" ،أي ألجسام تكون بعض خصائصها فقط محددة ،أو أيضا لـ "أجسام مبهمة"،
ومعرفة بفاصل تسامح تقريبي .وهو يستطيع ّ ّ
محددة أي ألجسام هويتها وخصائصها
ً ً
أيضا ،حتى وإن كان ذلك أكثر صعوبة نفسيا عليه مما هو األمر بالنسبة لالواقعي ،أن
يعيد بشكل كامل تقطيعه األنطولوجي بحيث ال يكون لألجسام الجديدة سوى خصائص
ً
تقريرية إبستمولوجيا .وبالناسبة ،فإن الستراتيجيتين استخدمتا في مواجهة عالقات
الريبة لهيزنبرغ .فاالستراتيجية األولى ،أي تلك التي تشتمل على تعليم وتمييز مواضيع
األنطولوجيا التقليدية بختم "البهم" أو "غير الكامل" ،قادت إلى بعض تنويعات النطق
ّ
الكمومي (تسمى تنويعات النطق التكميلي) ،293وفيها فإن "الريبة" ،أو "عدم الدقة" الذي
تقرنه نسخة تبسيطية معينة بعالقات هيزنبرغ ،تتحول إلى "التحديدية" جوهرية
القترانات الخصائص الناجمة عن أشياء قابلة للرصد وغير متوافقة .أما االستراتيجية
الثانية ،وهي األكثر ثورية ،فقد أدت إلى إبدال أنطولوجيا جسيمات بأنطولوجيا حاالت
َ
لخلفية (أو عمق) استعدادي dispositionnelيماثل عادة مع "الفراغ الكمومي."294
نرى هكذا أن الواقعية يمكن أن تتناسب وتتوافق مع سمة متمايزة بشكل واضح عن
الالواقعية ،أال وهي التخلي عن مبدأ ثنوية التكافؤ في إطار منظومة أنطولوجية تقليدية.
293في النطق الكمومي عند بيرخوف Birkhoffوفون نيومان ،نفترض أنه من المكن اقتران خصائص تعود إلى
أجسام يمكن رصدها غير متوافقة ،ونبرهن عندها عدم قابلية ّ
توزع القضايا التجريبية الوافقة لها .وعلى
ً
مستحيال مع قواعد منطق ّ
مكمل طالا أننا نستبعد بالكامل اقترانات العكس ،فإن برهان عدم قابلية التوزع
الخصائص التي تعود إلى أجسام قابلة للرصد غير متوافقة .راجع M. Jammer, The philosophy of quantum
.mechanics, Wiley, 1974, chap. VIII
294كانت هذه االستراتيجية قد وضعت على يد شرودنغر منذ عام .0945-0946ومذاك ارتبطت بمفاهيم
ً
النظرية الكمومية للحقول وبالتكميم الثاني ،ودافع عنها حديثا عدد كبير من فالسفة الفيزياء:
M.L. Dalla Chiara & G. Toraldo di Francia, "Individuals, kinds and names in physics", in G. Corsi et al.
& (eds.), Bridging the gap: philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993, p. 261; M. Redhead
P. Teller, "Particle labels and the theory of indistinguishable particles in quantum mechanics", Brit. J.
Phil. Sci., 43, p. 201-218, 1992.
ً
وسوف نعود في الفصل السادس إلى مناقشة أكثر تفصيال لهذا الخيار.
176
ً ً
لكن العكس صحيح تماما أيضا .فالالواقعية يمكن أن تتناسب مع سمة متمايزة بشكل
واضح عن الواقعية .ونعتبر أن إحدى الخصائص الكبرى لالواقعية أنها تسمح
بالإستقرارية تاريخية لقيم الحقيقة .وهذا هو الحال ،في الواقع ،إذا اعتبرنا أن قيمة
الحقيقة القرونة بقضية أو مقترح ما تتعلق بالوسائل التي لدينا من أجل إثباتها في لحظة
ً ً ً
معطاة .فالذي لم يكن تقريريا يمكن أن يصبح قابال للبلوغ تجريبيا؛ والذي كان غير
ً ً ً
خاطئ ،أي غير مدحوض تجريبيا وفقا لبوبر ،يمكن أن يصبح خاطئا .ال ش يء يمنع مع
ذلك الالواقعي من االقتراب من االستقرارية الواقعية من خالل إشارته أن ما يحدد وفقه
قيمة الحقيق ة لقضية ما ليس توفر وسيلة إثبات وتطبيقها الحالي ،بل إمكانيتها البدئية
ً
(وفقا لالحظة لبوفريس ،ذكرت في القطع ،2 - 3ووفقها فإن الالواقعي له الخيار بين
القول إن قضية ما ليست صحيحة إال إذا كان يمكن التحقق منها والتأكيد أنها صحيحة
فقط إذا كان قد تم التحقق منها) .أما الالواقعي العتدل (الطريقة األولى) فإنه سيتوصل
على هذا النحو إلى تطبيق وطرح استقرارية مقاربة لشبكة قيم الحقيقة ،وذلك باستدعاء
أفق التحسين واإلتقان غير النتهي لتجهيزاتنا التجريبية .من الضروري بالطبع أن نحدد
عند هذه الرحلة ما الذي نقصده بـ "إمكانية مبدئية" إلثبات تجريبي .فإذا كانت هذه
اإلمكانية البدئية وحيدة ومثبتة مرة واحدة وإلى األبد ،فإن موقف الالواقعي ال يختلف
ً
أبدا عندها عن موقف الواقعي .وبالقابل ،إذا كان بيان البادئ التي تحكم إمكانية إثبات
ما يتعلق بالحالة الحالية للنماذج النظرية ،فإن ال ش يء يمنع من االعتقاد بأن تكون هذه
ً
"البادئ" هي نفسها متغيرة ،وأن يكون الجرى الالحق لتاريخ العلوم قابال لتعديل نقطة
ً
التالقي القاربة بالنسبة للمجرى الذي نلمحه حاليا .إن هذا الوقف الثاني يجنب
ً
الالواقعي فقدان كل خصوصية بالنسبة للواقعي .وسوف نعود إلى هذه النقطة الحقا
عندما نعلق أدناه على الوقف شبه الواقعي لبالكبرن.
177
الذهبية 4 -4آثار وظالل القص
بالنتيجة ،كلما نظرنا عن قرب أكثر ،كلما تراجعت التمييزات بين الواقف التناقضة
ً إلى هذا ّ
الحد ظاهريا مثل الواقعية والالواقعية .فإذا لم يكن قد تم التوافق بينها بعد
رغم ذلك ،فألن األشكال األكثر رهافة للمجموعتين العقائديتين ال تزاالن تحتفظان،
بطريقة من الطرق ،باألثر الذي ال يمحى لصياغتها البسيطة .وألن هذا األثر يردع أنصار
إحدى العقيدتين عن القيام بالكثير من التنازالت في الصطلحات والفردات ألنصار
العقيدة األخرى .وفي العمق ،فإن ما يميز الوقفين هو السار الفكري الذي تم اجتيازه أكثر
من الوقف العتمد في النهاية .فقد أراد الواقعي أن يرسخ موقف الحس السليم والعنى
الشترك بمواجهة "أشياء" البيئة اليومية باعتبار الفترضات السبقة للفعل وللتواصل
البشريين كافتراضات واقعية ،لكن الفيزياء العاصرة قادته فيما بعد إلى إدخال مثل هذه
ً
الليونة والرونة النهجية بحيث أصبح ال يمكن التعرف على أشيائه وخصائصه تقريبا
بالنسبة "للرجل الصادق" .فمع بوتنام كل الحق في اتهام الفيلسوف الواقعي بأنه ّ
غرر
ّ
باإلنسان العادي وضلله عندما وعده بإنقاذ فئات الحس السليم دون أن يستطيع في
النهاية القيام بش يء سوى أن يطلب منه اإلذعان دون االعتراض على تطور الكينونات
ّ
والحير على نحو متزايد.295 النظرية في الفيزياء ،الذي ال يمكن التنبؤ به
أما بالنسبة لالواقعي ،فقد بدأ يشعر بأنه مستثمر من قبل بعثة ثورية؛ فتعاطفه
وانسجامه كانا يتوافقان مع الشك ّ
البيروني 296أو مع النسخة القطعية للشك الديكارتي؛
ثم كان عليه القبول بأن يدمج في طبقات وفئات فكره إمكانية وجود منظور لتدقيق
297
أو بإطار من وصقل غير محدودين لطرائق اإلثبات ،وهو مفهوم محدد بمثال ناظم
H. Putnam, The many faces of realism, Open Court, 1987, p. 5. 295
296تفضل عقيدة بيرون ،Pyrrhonبين العقائدة التي تزعم وجود حقيقة مطلقة والسفسطائية التي تنفي
ذلك أن يحفظ الفالسفة موقف الشك .وهي عقيدة تشكك بالتالي بكل ش يء (الترجم).
،E. Kant, Critique de la raison pure (trad. Tremesaygues et Pacaud), P.U.F., 1944, p. 374 297حيث نقرأ:
ً ً
"ال ش يء معطى لنا فعليا سوى اإلدراك والتقدم التجريبي لهذا اإلدراك باتجاه إدراكات ممكنة" .راجع أيضا ص.
178
"النماذج" (كما في التجريبية البنائية لفان فر ّ
اسن ،)Van Fraassenاألمر الذي قاده في
العديد من الناسبات إلى اعتماد نمط تعبير يكاد ال يتمايز عن نمط تعبير الواقعي .فمن
هذه الصورة األخيرة للتالقي ،التي قادت الالواقعي من بداياته األولى إلى موقف يحاكي
موقف الواقعي ،إنما نتج ما ّ
سماه بالكبرن شبه الواقعية .لكن علينا أال نتسرع .فقبل أن
ّ
نحلل عن قرب محصلة صيرورة النقد الذاتي لالواقعي ،ال نزال بحاجة ألن نعين بدرجة
من الوضوح ما الذي لدى أنصار كل من الوقفين التناقضين من نقد لنقاط البدء عند
الطرف اآلخر .هكذا فقط سنستطيع أن ّ
نقيم قابلية شبه الواقعية لنزع فتيل االنتقادات
ً
التي يقودها عادة متشددو الالواقعية ،ونكون بذلك قد تجنبنا أيضا منذ البداية مزالق
الواقعية.
5 -4االتهامات التبادلة للواقعيين والالواقعيين
لنبدأ بإطاللة سريعة على االنتقادات التي يحتمي الوقف الواقعي بها .فالفيلسوف
الواقعي ،كما يالحظ النتقدون ،يتميز بطموح مفرط :وهو طموح أن يضع نفسه فوق أو
خارج اإلجراءات التي تسمح بالعرفة اإلنسانية وذلك لكي يفهم ويدرك على ماذا ترتكز
هذه العرفة .إن نظريته في الحقيقة -التوافق 298تقول لنا الكثير حول ذلك إذ تؤكد أن
حقيقة قضية ما تكمن في تماثليتها ( )isomorphismeمع حالة األشياء في العالم ،بشكل
مستقل عن كل وساطة حسية أو عملياتية ،طالا أن الطريقة الوحيدة إلنشاء هذه
التماثلية ترتكز على الثقة بأداة اإلثبات .إن زعمه بـ "تفسير" التوافق البيني (البين -ذاتي،
أو الذاتي الداخلي) ،من خالل وحدانية عالم خارجي تطلق البيانات الجازمة حوله ،ال
يقوم سوى بمضاعفة لغز هذا التوافق وإدخالنا في لعبة مرآة إبستمولوجية .ألنه ليست
" :364إن مبدأ العقل (الحاكمة) ليس بالتالي بالتحديد سوى قاعدة تقود ،ضمن سلسلة شروط الظاهرات
ً
العطاة ،إلى تراجع غير مسموح له أبدا التوقف في الالمشروط بالطلق".
298تعتبر هذه النظرية ،نظرية الحقيقة التوافق ،أن صحة أو خطأ قضية ما تتعلق بعالقات هذه القضية مع
العالم :نقول عن قضية ما إنها صحيحة إذا كانت تصف بشكل مناسب حالة أشياء واقعية .وقد ظهر مصطلح
"الحقيقة التوافق" في القرن العشرين رغم أنه تصور كالسيكي في فلسفة العرفة يعود إلى اليونان( .الترجم)
179
لدينا بعد كل ش يء أية وسيلة أخرى لنتيقن بواسطتها من وحدانية هذا العالم الخارجي
مفسر هو في الوقت نفسه الؤشر الوحيدسوى االعتماد على التوافق البيني .فما هو َّ
لقيمة التفسير .وأسوأ من ذلك ،بل وما هو أكثر معاودة كما يالحظ بالكبرن ،299فإن
ً ً الواقعي يحاول أن ّ
يفسر واقعا (التوافق البيني) هو نفسه ليس مضمونا .نعرف الكثير من
حاالت عدم التوافق الستمرة بين شخصين أو أكثر ،بما فيها حول موضوع ما يوافق أن
نسميه "حاالت األشياء الطبيعية" ،كي ال نحافظ على بعض الشكوك فيما يخص السمة
ً ً ً التي ال يمكن تجنبها للتفاهم .فعندما يزعم الواقعي أنه ّ
يفسر اتفاقا بينيا حاضرا ،فإنه ال
يقوم إال بالتعبير عن إيمانه الذي ال يتزعزع بالتوافق الستقبلي آلرائنا ،شرط أال تفسد أو
تتغير مقدراتنا ومؤهالتنا وأن نجد أنفسنا مباشرة أمام موضوع االتفاق .ولكن ،إال يرتكز
إيمانه بالتبادل وبشكل معاود على اليقين بأن التفاهم ال يمكن إال أن يتأسس طالا أنه
يتعلق بفهم عالم وحيد؟ إن هذه الحجة التي سبق وصادفناها في الفقرة 4 - 0حول
ً
الواقعية التالقية ،تجد مكانها هنا تماما.
لننتقل إلى تأكيد كبير آخر للواقعية :وهو أن األشياء "الخارجية" هي التي تسبب
انطباعاتنا الحسية .كان فالسفة كثيرون ما بعد كانطيين قد أشاروا إلى أن تطبيق فئة
السببية الكانطية على العالقة بين الش يء في ذاته وتجربتنا قد انزاح ّ
وتغير موضعه
ً بالكامل ،طالا أن هذه الفئة ال ت َّ
طبق تعريفا إال على داخل التجربة .إن مبدأ اإلنتاج،
الذي هو قاعدة استخدام فئة السببية ،ال يعمل إال من أجل تأسيس رابطة موضوعية
بين الظاهرات ،وليس من أجل إنشاء عالقة لهذه الظاهرات مع ما وراء للظاهرات.300
طبق علىتوجد بالثل نسخة أداتية لهذه الحجة :فكيف يمكن لفهوم السبب أن ي َّ
العالقة بين الش يء الذري وجهاز القياس ،يتساءل بعض العلقين على نيلز بور ،وكيف
يمكن القول إن التفاعل بين جسم على الستوى الذري وجهاز ما هو الذي يسبب
301الرجع السابق ،صJ. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .411.
302الرجع السابق ،صS. Blackburn, Essays in quasi-realism .16 ،65.
181
ّ
نتحدث عن الظهر الخاص الذي يتخذه في هذه اللحظة ،وال عن كافة الظاهر التي يمكن
أن يأخذها ،وال عن نتيجة كافة التجارب التي يمكن أن نطبقها عليه .فاسم ما أو عبارة
ً
مثال يتحدث حول ليس لهما معنى فقط ،بل لهما أيضا وظيفة إسنادية .فنص تاريخي
الاض ي ،وليس حول الذكريات ،حول الشواهد وحول الوثائق الكتابية أو األثرية.
وبإسهاب الالواقعي في الحديث عن شروط اإلثبات ،فإنه يرجع إلى الدرجة الثانية ما
ً
يسميه اإلنكليز " ،"the aboutness of an expressionوهو واقع أن عبارة ما ،أو فعال ما أو
ً ً ً
انتباها ما يكون موجها دائما نحو ش يء ما ،وليس نحو الوسائل األداتية الستخدمة
للولوج إلى هذا الش يء.
يمكن صياغة هذا االعتراض الكبير الذي يأتي في مواجهة الالواقعية بطريقة أخرى،
ً
وذلك عبر استخدام مفردات الواقف الخاصة بالقضايا .لنفترض أن متكلما يؤكد
القضية .pضمن هذه الشروط ،فإن الهمة التي يتقلدها الالواقعي تتمثل في الكشف عن
مبررات موقف التكلم .فإذا كانت هذه البررات ضعيفة أو غير موجودة ،فإنه يقول إن
التوكيد pيرتكز على معتقد؛ عندها يكافئ " pأعتقد أن ."pأما إذا كانت البررات أكثر
ً
جدية ،فإن pسوف يكافئ على سبيل الثال "لدي أسباب جيدة لإلعتقاد أن "pأو أيضا
ً "أنا ّ
متيقن أن ،"pأو أيضا "لدي براهين أن ،"pأو في أفضل األحوال "أعرف أن ."pولكن
ً فجأة ،تمر القضية نفسها ومحتواها إلى الستوى الثانيّ .
ويمر أيضا إلى الستوى الثاني
ً ّ
واقع أن التكلم لم يعلن بالضبط أيا من الجمل التي ذكرناها أعاله ،بل ببساطة أعلن p
ّ
يتوصل الالواقعي إلى فقط .فمع جعل pنسبية ،وإدراجها في إطار موقف انعكاس ي ،ال
يعبر عنه .فمن خالل وصفه لخبرة دينية في "االعتقاد"،اتخاذ تدبير التزام التكلم اتجاه ما ّ
ً
تجريبيا" ،يترك الالواقعي بعد ّ وبرده لقضية حول العالم إلى ّ ّ
الجدية مجرد "إعالن مثبت
ّ
الذي يدرجه التكلم في قضيته يفلت منه ،وال يعير أهمية تذكر للترابط الكامل بين التكلم
وما يقوله ،في اللحظة التي يقوله بها .وباختصار ،فإن الالواقعي يعاني من نوع من
ً
اإلخفاق األخالقي .وقد اختار الفكرون الواقعيون األكثر وضوحا النضال والصراع على
182
هذه األرضية بالتأكيد .يشير أينشتين على سبيل الثال إلى أية درجة كان خطابه حول
الكون الحقيقي يبتعد عن العتقد البسيط ويقترب من نمط الكينونة ،وإلى أية درجة هو
ً ً ً ً
بشكل من األشكال مندمج في إرادته بأن يحيا ،مقاربا هكذا موقفا دينيا أصيال يفهم وفق
معنى تشاركي باألحرى منه عقائدي" .ليس لدي تعبير أفضل من مصطلح «ديني» ليعبر عن
ً
هذه الثقة في الطابع العقالني للواقعية وفي قابلية وصولها ،جزئيا على األقل ،إلى العقل
ً
البشري .عندما يكون هذا الشعور غائبا ،فإن العلم ينحط إلى تجريبية خالية من
العنى ."303من هنا ما سماه آرثر فاين " Arthur Fineالواقعية التحفيزية" لدى أينشتين.
ينقص الالواقعية هذا التحفيز ،وذلك بالضبط من خالل تحويله إلى موضوع وتقليصه
ً
بحيث ال يكون سوى "تحفيز الباحث" .ينقص أيضا االعتراف بأن وظيفة الخطاب نفسها
ً ً
وعمله الذي يعكس إجراءات التبرير يتضمن استخداما ثابتا للفرضيات السبقة التي ال
ً َ
تف ّسر بشكل أفضل إال من خالل مفاهيم حقيقة -توافق وعالم خارجي حقيقي .غالبا ما
ط َ
رح هذا االعتراض على براغماتية رورتي ،Rortyبشكل خاص من قبل آبل .K. O. Apel
ويعود هذا االعتراض إلى اإلمساك بالالواقعية متلبسة في استخدامها لخلفية فهم
ً ً
وإلتزامات واقعية ،تماما مثلما ضبط الواقعي متلبسا بتطبيق إجراءات الواقعية من أجل
تحديد موضعه الخاص.
أخي ًرا وليس آخ ًرا ،كنا قد رأينا أن الالواقعي ،إذا ّ
تمسك بالتعريف الداللي لوضعه،
ً
فإنه ال يكون مجبرا بالطلق على نفي وجود عالم خارجي واقعي حقيقي؛ فما عليه تأكيده
فقط هو أن حقيقة بيان ما ت ّ
شتق من التبرير األقوى الذي يمكن إعطاؤه .304في نهاية ٍ
الطاف ،ال ش يء يمنعه من االعتراف للواقعي بـ "إيمانه" بعالم خارجي حقيقي ،شرط أال
وجود ألشياء أو خصائص تقع من حيث البدأ خارج مدى
ٍ يقوده هذا اإليمان إلى نسب
303رسالة إلى سولوفين Solovineبتاريخ أول كانون الثاني عام ،0960ذكرها فاين في A. Fine, The shaky
،gameالرجع السابق ،ص.001.
304الرجع السابق ،صJ. Faye, Niels Bohr: his heritage and legacy .414.
183
وسائل استكشافنا .نعتبر في غالب األحيان أن هذه اإلمكانية ،أو هذا التسامح ،يفتح
الباب لرؤية عقائدية مختلفة بين رؤى أخرى لالواقعية .ومن جتهي ،أعتقد أن هذه
اإلمكانية ال تقوم سوى بالكشف عن عنصر تشكيكي جذري متأصل ال بد أنه يشكل
ً ً
جزءا ال يتجزأ من كل رؤية أو تنويعة عقائدية الواقعية .ذلك ألن الوقف ّ
التسق حقا
الصادر عن الواقعي بمواجهة التأكيد بوجود عالم حقيقي خارجي يجب أال يكون الرفض
أو القبول بل عدم الباالة .فإن لم يكن من الحذر ،وال َّ
البرر أو البالغ فيه إلى حد تأكيد
ً
وراء لكل تجربة ممكنة ،فإنه أيضا من عدم الحذر وغير وجود حالة تتجاوز التجربة ،وما ٍ
البرر التأكيد على عدم وجوده .فالسألة ال ت َ
طرح بكل بساطة في نظر الالواقعي. َّ
6 .4شبه الواقعية كعودة لالواقعي أوولي
من هذه الالأدرية بالضبط ،من هذا الستوى األقص ى والتطرف لتحديد وإيقاف
الالواقعي ،إنما ولدت شبه الواقعية .لنرى كيف أن هذا التحويل ،الذي يبدو للوهلة
ً ً
األولى متعارضا ،ينتج في الواقع بشكل طبيعي جدا عن مالحظات سابقة .إن تقديم مثال
توضيحي قد يكون أكثر فعالية في تقريب الفكرة من تقديم برهان .لهذا أقترح أن نعتبر مع
بالكبرن القضيتين التاليتين ،الشار إليهما بالرمزين p1و :p2
:p1علينا القيام بأبحاثنا كما لو كان لكل حدث سبب.
:p2من الصحيح أن لكل حدث سبب.
سرعان ما يتبادر إلى الذهن أن القضية ،p1النتسبة إلى مبدأ ناظم ،هي واحدة من
القضايا التي يمكن ألحد الالواقعيين أن يرى فيها بسهولة قضيته .أما بالنسبة للقضية p2
ً فإنها تأخذ أكثر بكثير من البدأ ّ
الكون ولها بالتالي صبغة واقعية قوية جدا .مع ذلك يظهر
هنا عدم اتساق ما .فالواقعي لن تكون لديه أية صعوبة في قبول p1إذا قبل بـ ،p2ذلك
أنه لاذا ال يمارس أبحاثه تحت فرضية أن لكل حدث سبب ،إذا كان لكل حدث في
الحقيقة سبب ما؟ بالقابل تبدو الطريقة البديلة مستبعدة .فالالواقعي الذي يقبل
بالقضية p1يبدو أنه يجب أن يرفض القضية ،p2وذلك بسبب االلتزام بالحقيقة التي
184
تتضمنه .ولكن هل هذا الرفض يتوافق مع موقفه؟ ال ،على اإلطالق يجيب بالكبرن:
ً ً
إضافيا ما َ ً ً
متض َّمن في القبول بـ ( p2بدال من "فمن الطبيعي جدا التأكيد أن [ ]...شيئا
ً
القبول بـ ،) p1لكن من المكن جدا أن يظهر عند هذه النقطة أن الواقعي وحده من
ً ً
يجب عليه القيام بهذا التمييز .فالبدأ ال يمكن أن يكون م ّكونا في مقابل أن يكون ناظما
إال إذا كان يوجد مجال من الوقائع يهدف إلى وصف تكوينها ."305بعبارة أخرى ،فإن
ً ً ً
فيلسوفا الواقعيا متناغما بالكامل ليس لديه أي سبب لرفض القضية ،p2على الرغم
من صبغتها الواقعية .وال يجب على الأدريته التعلقة بوجود األسباب في الطبيعة أن
تقوده إلى رفض ،p2بل على العكس إلى قبولها كصيغة مكافئة ،وربما أكثر أناقة من .p1
فمن القبول بـ p2إلى تفضيل p1ليس ثمة سوى خطوة ،خطوة تحدد ّ
وتعرف شبه
الواقعية.
فشبه الواقعي ،كما سبق ولحنا ،ينطلق من النتيجة النهائية القصوى للتفكيكية
ً
الالواقعية .وهو أكثر "[ ]...انسجاما مع الالواقعي [منه مع الواقعي][ .ألن الالواقعي] كسب
الفاهيم الرتبطة مع الوضوعية ،في حين أن منافسه الواقعي سرقها ببساطة؛ لقد أسس
ً
ممارساتنا على وقائع معروفة تتعلق بالقدرات البشرية ،في حين أن منافسه اخترع شيئا
ً
ما إضافيا ."306في الوقت نفسه فإن الفيلسوف شبه الواقعي يعي بشكل كامل ما أسميته
العجز األخالقي لالواقعية" :فوصف النظريات بواسطة «كما لو» جعله يبدو غير متوافق
ً
مع عمق التزاماتنا .ويبدو هذا الوصف بالتالي قابال للدحض بواسطة نوع من التذكرة
الظاهراتية لقوة معتقداتنا [ ."307]...فمن الؤكد عندها أن شبه الواقعي ،على عكس
الالواقعي ،سيتجنب اللجوء بأية طريقة إلى «كما لو»" .فما هو الخطأ بالتالي ،يتساءل
بالكبرن ،عندما نصف هذه الفلسفة كما لو كانت تدعم أننا «نتحدث كما لو كان ثمة
315
الرجع السابق ،صH. Putnam, "Comments and replies", in P. Clark & B. Hale, Reading .423 .
Putnam
189
ً
الرسومة والحددة تماما؛ وربما يمكن رؤيته في مكان ما في األطراف السعيدة التي تمتد
بين الواقعية وشبه الواقعية والواقعية الداخلية .إن بعض جوانب فكره وكتاباته ،مثل
قوله باإليمان تجاه نظام كونيّ ،
يقرب أينشتين من واقعية ميتافيزيائية أصيلة .وعلى
العكس ،فإن جانب واقعية أينشتين الذي يسميه فاين Fineبـ" ،"316entheorizingأي
ً
أن نضع جانبا السائل التعلقة بمرجعية الصطلحات الفردة التي تشير إلى أحداث أو
أشياء لصالح مسائل حول الكفاية التجريبية الشاملة للنظرية ،يضعه بين بداية توجه
ً
شبه واقعي وتأكيد أكثر حسما ،من نمط واقعي داخلي ،للنسبية األنطولوجية.
هناك بعده لويس ده بروي Louis de Broglieومدرسته .وهنا ،ال يعود الشك
ً
مسموحا .فهؤالء الفيزيائيون لم يقبلوا بتحديد حقل تطبيق األنطولوجيا الكالسيكية
لألجسام الادية ،كما اقترح عليهم أعضاء مدرسة كوبنهاغن ،وال بإدخال تحسينات عليه
أصبحت ضرورية من خالل موافقته مع الصورية الكمومية ،كما كان قد اقترح فون
ً
نيومان مع آخرين ممن وضعوا النطق الكمومي ،وال بأن يتغيروا أنطولوجيا بشكل جذري
كما اقترح شرودنغر .بل حافظوا ببساطة على األمل بالوصول إلى وسط ما تحت كمومي،
يتميز بمتحوالت خفية ،حيث تستعيد األنطولوجيا التقليدية جميع حقوقها .وقد
تم البرهان أن نظرية الوجة ّ
الوجهة ،التي نشرها ديفيد اجتاحهم شعور باالنتصار عندما ّ
بوم David Bohmعام ،0964تكافئ بصرامة على مستوى تنبؤاتها الصيغة العيارية
للميكانيك الكمومي .لكنهم لم يقلقوا لواقع أن نظرية ديفيد بوم ليست في نهاية الطاف
سوى وسيلة تشتمل على تطعيم جسم اليكانيك الكمومي بشكل أنطولوجي فارغ
ً
تجريبيا317؛ واحتاجوا لوقت طويل قبل اتخاذ أي إجراء حيال ذلك بسبب أن هذا الشكل
316الرجع السابق ،صA. Fine, The shaky game .015 ،94 .
317تأمل شرودنغر برهافة عميقة حول مفهوم الشكل األنطولوجي الفارغ ،عندما بين في عام 0945التكافؤ بين
"اليكانيك الوجي" الخاص به و"اليكانيك الصفوفي" لهايزنبرغ وبورن وجوردان .وكان يصر ،في تلك الفترة ،على
فكرة أنه إذا لم يكن اليكانيك الوجي سوى "غالف بدني" أضيف زيادة على الهيكل الوحيد الرياض ي الصالح
ً
والفيد تنبؤيا للميكانيك الصفوفي ،عندها فإنه يجب القبول بالتفوق اإلبستمولوجي للميكانيك الصفوفي على
اليكانيك الوجي .ولكن ،ألن ذلك لم يكن هو الحال ،ألنه كان يوجد تكافؤ رياض ي صارم بين النظريتين ،ومن
191
ً
بعيد جدا عن إعادة امتالك كافة السمات التي ترتبط باألجسام الادية للميكانيك
الكالسيكي .تشهد التأثيرات غير الحلية ،والسياقية ،318وخرق مبدأ العطالة ،319على هذا
ً
التباين العميق .وأيا كان األمر ،فإن القاومة العنيفة من دو بروي ومن أنصار النظريات
ذات التغيرات الخفية اتجاه كل إعادة صياغة أنطولوجية تبين بدرجة كافية عناد
ّ
وتصلب التزامهم الواقعي.
ً َّ
لنأت اآلن إلى الالواقعيين ،المثلين جيدا (على األقل في بعض لحظات فكرهم)
بأعضاء مدرسة كوبنهاغن .وهم كثيرون نذكر منهم نيلز بور Niels Bohrوويرنر هايزنبرغ
Werner Heisenbergوماكس بورن Max Bornوولفغانغ باولي Wolfgang Pauli
وباسكوال جوردان Pascual Jordanوغيرهم .وقد انتقدوا منذ فترة مبكرة بأنهم
"وضعيون" ،وذلك من قبل أينشتين بشكل خاص .لقد أمكن ليل هايزنبرغ وبشكل خاص
باولي إلى فلسفة ماخ ،Machخالل الفترة البكرة من إعداد الصورية،formalisme 320
أن ّ
يبرر هذا النعت لهم بالوضعية .لكن سرعان ما تم تحت تأثير بور تجاوز هذه الرحلة
حد ما من التفكيك األنطولوجي .321وبالتالي تم الوصول إلى النسخة الساذجة إلى ّ
الوضوعية والعملياتية 322لالواقعية ،التي ال تخلو من عناصر واقعية متبقية ،والتي سبق
جهة أخرى ألن كينونات اليكانيك الوجي كانت تتمثل بسهولة أكثر في الفضاء وفي الزمان من كينونات اليكانيك
الصفوفي ،فقد كان شرودنغر يؤكد تفوق نسخته من اليكانيك الكمومي على نسخة هايزنبرغ .راجعE. :
Schrodinger, "Sur les rapports qui existent entre la mécanique quantique de Heisenberg-Born-Jordan
.et la mienne", in Mémoires sur la mécanique quantique ondulatoire, J. Gabay, 1988, p. 92
318نسبة إلى النظرية السياقية contextualismeفي اللسانيات ،ووفقها يرتبط معنى كلمة مباشرة بسياق هذه
الكلمة في الجملة (الترجم).
319راجع D. Bohm & J. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993.
W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Miche, 1972, p. 95. 320
321انظر الالحظات التي يخصصها شفالييه C. Chevalleyللتشابهات الزعومة بين موقف بور والفلسفة
الوضعية ،في .N. Bohr, Physique atomique et connaissance humaine, Folio-Gallimard, 1991
322العملياتية شكل من البراغماتية يكون على الفاهيم وفقها أن ت َع َّرف بمصطلحات العمليات الفيزيائية.
(الترجم)
191
ً ً ً
وذكرناها سابقا .لندع لهايزنبرغ أن يصفها لنا ]...[" :إن تفسير كوبنهاغن ليس وضعيا أبدا،
ً
ألنه حيث تعتمد الوضعية أساسا لها اإلدراكات الحسية للمراقب [ ،]...فإن تفسير
كوبنهاغن يعتبر أن األشياء والصيرورات القابلة للوصف بمساعدة الفاهيم الكالسيكية،
أي الواقع ،هي أسس كل تفسير فيزيائي ."323إن لهذا الوقف داللة عملياتية بما هي ال
ً
تضع أية صعوبة في نسب "واقعية" للتجهيزات الجهارية ولحاالتها .وهو يتصل أيضا بال
لبس بشكل قوي مع الالواقعية بما هي ال تعترف بأية قيمة حقيقة أخرى للبيانات التي
تتعلق باألشياء الذرية سوى القيمة النسوبة لها من خالل وضعها على الحك ونجاحها
على نحو فعال ،مع اللجوء إلى استخدام تجهيزات جهارية .فهو يجمع بين صالبة الواقعية
على الستوى الجهاري ،حتى وإن كان ذلك يؤدي إلى بيان براغماتي -لساني ،مع الصفحة
ً البيضاء الجديدة الالواقعية على الستوى الجهري ،حتى وإن كانت ّ
تعبر عن نفسها أحيانا
ً
كما لو أن ذرات مجهزة بتحديدات كانت توجد فعليا .يقول هايزنبرغ" :كانت أنطولوجيا
الادية ترتكز على وهم أن هذا النوع من الوجود« ،الواقعية» الباشرة للعالم الذي يحيط
عمم حتى مستوى حجم الذرة .غير أن هذا التعميم مستحيل ."324ال ّبد لنا
بنا ،يمكن أن ي َّ
من اإلشارة إلى أن التعميم في هذه الجملة لألنطولوجيا التقليدية باتجاه كون ذري وما
ً
مستحيال ،لكن لم تتم اإلشارة إلى أي ّ
تحفظ فيما يتعلق بتطبيقه على تحت ذري يعتبر
األشياء من الستوى الجهاري وعلى األحداث التجريبية.
مع ذلك ،يعد مثل هذا الدمج غير مستقر ،وقد اتبع عدد من أعضاء مدرسة
ً ً
كوبنهاغن على مسؤوليتهم منحدرا أكثر ما يكون واقعية ،أو منحدرا أكثر الواقعية بشكل
جذري .ولن أذكر هنا سوى ماكس بورن الذي أشار في نهاية حياته إلى أن إقامة
استمرارية تصورية بين العالم الجهاري والعالم الجهري تتطلب تعميم أنطولوجيا
ً
ألجسام مادية متموضعة ،فعالة بال أدنى شك على مستوانا ،وصوال إلى الستوى ما تحت
شهر آب من عام ،0946بعنوان "البحث عن الطريق" ،ومقالة نشرت في كانون الثاني من
عام 0945تتضمن أول صياغة لعادلة شرودنغر الشهيرة .نقرأ في نص عام ]...[" :0946
ً َ
ال يمكننا القبول بعالم يوجد خارج [ ]...أنا ،ألن كال منهما [األنا والعالم] يتكون من
M.F. Melgar, "The philosophy of Erwin Schrodinger", Found. Phys., 18, p. 357-371, 1988 325؛ راجع
ً
أيضا الحادثة الواردة فيM. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Kluwer, 1996. :
،M. F. Melgar 326القال السابق.
Y. Ben-Menahem, "Struggling with realism: Schrodinger's case", in M. Bitbol & O. Darrigol (eds.), 327
Erwin Schrodinger, philosophie et naissance de la mécanique quantique, Frontières-Diderot, 1993.
193
«العناصر» التجريبية نفسها ."328إن اإلسناد إلى "عناصر" الوضعية الاخية واضح هنا،
وقد أشار إليها عبر استشهادات متكررة من "تحليل األحاسيس" لاخ .ومع ذلك ،في مقالة
عام ،0945يقترح شرودنغر أن "[ ]...يقرن التابع Ψمع ظاهرة اهتزاز ضمن -ذري لها
َّ ً ً
سمة واقعية أكثر وضوحا بكثير من ظاهرة السارات اإللكترونية التي غالبا ما يشكك فيها
ً
حاليا ."329لم يورد شرودنغر هنا كلمة واحدة من أجل تمييز الفروق الدقيقة للمجال
اليتافيزيائي لفهوم "الواقعية"؛ وال أي كلمة من أجل ذكر األحدية monisme 330الحسية
الستعارة من ماخ .ولنر اآلن ما الذي يقوله بعد ثالثين إلى خمس وثالثين سنة .لدينا هنا
كمثال زوج آخر من النصوص :نص بعنوان "ما الواقعي؟" ويعود إلى عام ،0951وبعض
القاالت التأملية حول اليكانيك الكمومي تعود إلى نهاية الخمسينيات .نقرأ في الؤلف
الذي يعود إلى عام " :0951بداية [ ]...سوف نأخذ بهذا التأكيد :أنه يجب أن يوجد ،خارج
ً
[الحياة العقلية] أو في جوارها ،جسم تكون هذه الحياة العقلية تمثيال له وتكون نتيجة
ً
له .ألن ذلك يبدو لي تكرارا غير ذي جدوى يصطدم بخيط أوكام" ."331ال أحد يدرك
عالين ،عالم مرصود وعالم «حقيقي» ."332إن كافة حجج ترسانة الالواقعي تستخدم ضد
فكرة عالم حقيقي أي واقعي خارجي ،ونرى أن كافة الهجمات ما بعد الكانطية ضد
مفهوم الش يء بذاته قد استعيدت هنا وتم تطويرها .وإلى جانب ذلك ،نقرأ في نص مقالة
E. Schrodinger, "Might perhaps energy be a merely statistical concept?", Nuovo cimento, 9, p. 162-170, 333
1958.
L. Wessels, Schrodinger's interpretations of wave mechanics, Ph. D. thesis, Indiana University, 1975. 334
A. Shimony, in "Les implications conceptuelles de la physique quantique", Journal de Physique, 42, C2, 335
Editions de physique, 1981, p. 90.
336راجع رسالة 06تشرين الثاني عام 0961إلى أينشتين ،في K. Przibram (ed.), Letters in wave mechanics,
.Philosophical library, 1967
195
على ضعف مزاعم انتماء األشياء اليومية إلى الواقع بقدر ما كانت ترتكز على تحديدات
ً ّ
لنفصل قليال محاكمته إيجابية للكينونة النظرية التي كان يريد إحاللها محلها.
النطقية .337يقول شرودنغر إنه ليس لدينا أي سبب لالعتقاد أن متجهات الحالة هي أقل
حقيقية من الجسيمات أو حتى من الكراس ي أو من الطاوالت .فهذه األخيرة هي بقدر أشعة
الحالة بناءات عقلية مخصصة لتوضيح ومطابقة تجربتنا حول عدد صغير من
الالمتغيرات .فالكراس ي والطاوالت هي كيانات نظرية على درجة متساوي مع متجهات
الحالة .إال أن النظرية التي تندرج فيها الكراس ي والطاوالت هي النظرية التي كان علينا
نمذجتها منذ نعومة أظفارنا لكي نستمر ونبقى.
إن نسب "واقع" لكينونات نظرية غريبة مثل متجهات الحالة ال يتعارض بالتالي بحال
من األحوال مع الالواقعية اليتافيزيائية لدى شرودنغر .بل على العكس ،فإن هذه
الالواقعية الجوهرية هي التي تسمح في آن واحد ،بتخفيفها بشكل كبير للشحنة العاطفية
الرتبطة بمصطلح "واقع" ،بفك العالقة الميزة التي تقيمها مع األجسام الادية في الحياة
وتصور إعادة دمج كاملة لألنطولوجيا دون حاالت ّ اليومية ،وتوسيع حقل إسنادها،
للعقل باالرتكاز على بنية النظريات الفيزيائية العاصرة.
8 -4شرودنغر :خيار شبه الواقعية مقابل واقعية داخلية
ّ
لنشك بوجود درجة كبيرة من القرابة بين تكفي هذه الالحظات القليلة باعتقادي
شرودنغر ونموذج بالكبرن ،هذا الفكر شبه الواقعي .فكما بالكبرن شبه الواقعي ،ينطلق
شرودنغر من نقد الواقعي لواقف الحس السليم .بل هو حتى ،بين كافة الفيزيائيين
الفالسفة في النصف األول من القرن العشرين ،الفيزيائي الذي يدفع إلى أبعد مدى
التحليل الالواقعي ،بحيث لم يترك حتى األشياء اليومية خارج نطاق فعل التسطيح
337راجعM. Bitbol, "Esquisses, forme et totalité (Schrodinger et le concept d'objet)", in M. Bitbol & O. :
،Darrigol (éd.), Erwin Schrodinger, Philosophie et naissance de la mécanique quantiqueالرجع
ً
السابق؛ وراجع أيضا ،M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics :الرجع السابق،
الفصل الخامس.
196
الظاهراتية .وبالنتيجة ،كما عند شبه الواقعي ،فمن نوبة من الشكوك الالواقعية إنما
ّ
انبثق تبن يه الالحق لواقف تحاكي مواقف الواقعي .ومثل شبه الواقعي أيضا ،فقد وجد
صعوبة في جعل زمالئه يفهمون أن بياناته التعلقة بالواقع ،والوضوعية ،والحقيقة ،ال
تعبر بأي شكل من األشكال عن تراجع باتجاه مرحلة سابقة للنوبة ،أو لهذه النقطة ّ
الحرجة ،بل على العكس تعبر عن إنجاز وإكمال خطوات حرجة .لهذا كان عليه أن يرد
عليهم بال كلل ،كما على سبيل الثال في رسالة مميزة إلى أينشتين تعود إلى عام :0961
"إنهم يتهموننا بالهرطقة اليتافيزيائية إذا أردنا الوقوف في صف هذا «الواقع» .وعلينا أن
ً
نرد على ذلك بأن الدى اليتافيزيائي لهذا الواقع ال يهمنا على اإلطالق"338؛ أو أيضا كما في
هذه القالة األخيرة التي تعود إلى عام ،0966حيث يشعر أنه مجبر على أن يوضح "بشكل
طبيعي ،أن رغبتنا العارمة بتشكيل صورة للعالم ،تصلح للجميع ،في الكان وفي الزمان
صمم بشكل أنطولوجي [حيث استخدمت لفظة «أنطولوجيا» هنا في [ ]...ال يجب أن ت َّ
ً
معناها التقليدي ،اليتافيزيائي ،وليس في معناها الداللي العاصر]؛ فذلك سيكون علما
ً ً
ساذجا وجاهال لعدد من اإلنجازات الفلسفية األقدم بكثير من اليكانيك الكمومي."339
وحده هذا الحماس الذي أبداه شرودنغر في وصف الكينونات النظرية للفيزياء العاصرة
بـ "الواقعية" ،هذا الحماس النموذجي وفق بالكبرن للعقائدية Weltanschauungشبه
الواقعية ،هو ما كان يمكن أن يجعل أكثر ذوي العقول الصافية يظنون أنه لم يكن
ً ً ً ً ً
قطعا نموذجا معتادا للمفكر الواقعي؛ وأنه لم يكن باختصار "واقعيا حقيقيا" .ومن جهة
أخرى فإن إرادته بأال يسير بشكل مستمر مع التأكيد الواقعي في العلوم لتصحيح أو لـ
"كما لو" هي ما يميزه بوضوح عن الواقعي الداخلي ،ويبرزه بوضوح كشبه واقعي.
338رسالة بتاريخ 06تشرين الثاني عام 0961موجهة إلى أينشتين ،منشورة في K. Przibram (ed.), Letters in
،wave mechanicsالنشورة في الرجع السابق.
،E. Schrodinger, "Might perhaps energy be a merely statistical concept?" 339منشورة في الرجع السابق.
197
الحدد الالمح إلى ّ ً
ووجها للشكل غير َّ ً
حد ما للفيلسوف هكذا نكون قد أعطينا اسما
شبه الواقعي لدى بالكبرن .إن جوهر العقيدة التي كان قد حددها بالكبرن كان قد طرح
ً ً
فعال في التاريخ؛ فقد وجد حقا مفكر شبه واقعي ،وهذا الفكر ليس سوى إرفين
ً ً
شرودنغر ،أحد مؤسس ي اليكانيك الكمومي .وبشكل أوسع ،فقد رسمنا إطارا مناسبا من
أجل حوار حول مالءمة منظومات الكينونات الستهدفة من قبل الفيزيائيين :إنه في آن
واحد إطار غير ميتافيزيائي وصادر عن تقييم مفرط للتحوالت االنعكاسية التي ال غنى عنها.
سوف نلجأ إلى هذا اإلطار في الفصلين القادمين لكي نحكم على موافقة منظومة الفكر
الذرية اليوم (الفصل الخامس) ،ولكي ّ
نقيم إسهام أنطولوجيات بديلة كليانية
واستعدادية ( ،الفصل السادس) .ومما ال شك فيه أن ما يهم هنا ،كما في تحديد
ً
"الذاهب" ،هو الطريق الذي تم قطعه تماما كما النتائج التي تم الوصول إليها.
198
- 5أزمة النظرية الذرية العاورة
ً
"أمام مثل هذه البراهين ،القنعة جدا،
على وجود الذرة ،فقد انتهى األمر بالشككين
إلى السكوت [ .]...إننا نستطيع تأكيد وجود
الذرة باليقين نفسه الذي نؤكد فيه وجود
النجوم".
رايخنباخ H. Reichenbach
الذرات والكون Atomes et Cosmos
ً ً
موح جدا مثل "هل توجد الذرات حقا؟" ( Bernard Diu, Les ٍ 340يصدمنا أن نستنتج أنه في كتاب بعنوان
ً
،)atoms existent-ils vraiment?, Odile Jacob, 1997أن الؤلف برنار ديو يجد نفسه مجبرا على تفريغ شحنته
ً
الذات الكمون الدمر عندما كتب منذ مقدمته" :أن على القارئ أن يطمئن ،فالذرات موجودة!" .راجع أيضا B.
.Pullman, Les atoms, Fayard, 1995
199
ً
الذري يقدم مفتاح تفسير الظاهرات الصنفة بشكل كامل ،والتي كان الكثير منها معروفا
ً
منذ العقود األولى من القرن العشرين؟ وهذا التفسير ألم يصبح حتميا مع التضاعف
الحديث لا يتفق على تسميته "براهين مباشرة" على "وجود" الذرات والجسيمات األولية؟
ّ
التوقع ّ
الذري وتحققاته 1 -5
ضمنا في مسألة ّ
صحته ستكون أزمة ممكنة في الذهب الذري أقل مثا ًرا للدهشة لو ّ
ً ً
مركبا بدهيا.
ً
وفي الواقع ،فإن الذهب الذري وفقا لثل هذه القاربة ،ليس نهاية العمل في إعادة
الظاهرات باتجاه تفسيرها األمثل؛ فهو يرتكز على مخطط قراءة يترقب الظاهرات ويقود
النشاط التجريبي الذي يشارك في تعريفها.
ً
وعلى العكس من طرح تفسير أمثلي نعتبره وحيدا ،فإن مخطط القراءة يمكن من
حيث البدأ أن يتواجد مع مخططات أخرى كثيرة شرط أن تكون فاعليتها بما هي دليل
ً ً
أيضا .وفي الواقع فإن ّ
تفرده سيكون عندها عالمة على أن عامال للنشاط التجريبي كافية
ّ ً
عارضا جاء ّ
التصورية .إن غلبة الخطط الذري خالل فترة ليقيد اإلحاطة باالحتماالت
طويلة من القرن العشرين يمكن أن نرجعها على هذا النحو إلى صدف تاريخية ،مثل إرث
نظرية ديمقريطس ّ
الذرية (الوروثة هي نفسها من "الوقف الطبيعي" الذي يشتمل على
تحليل الوسط الطبيعي بعبارات "األشياء" أو األجسام الادية العزولة بعضها عن بعضها
ً
اآلخر) ،بدال باألحرى من إرجاعها إلى ضرورة داخلية ملزمة بشكل صارم للوضع الحالي
للعلوم .وفي هذه الحالة ،فإن استبدال الذهب الذري لن يصطدم بأية صعوبة سوى
ً
بصعوبة إدراج الفيزياء العاصرة ضمن مسار تقليد مختلف ،ربما كان مألوفا بدرجة أقل.
من جهة أخرى ،لا كانت شبكة القراءة اإلستباقية نقطة انطالق مفتوحة بالنسبة
للبحث وليست ،مثل تفسير ظاهرة ما ،نقطة وصوله ،فإن ال ش يء يمنع أن تصل
ً
خصوبته يوما ،على الرغم من تميزها في الاض ي ،إلى حدوده الخاصة .من هنا ،فإن أزمة
النظرية الذرية العاصرة ليست مطروحة هنا للتفسير مثل اإلعالن عن "برهان ّأيا كان
211
ً ً
لعدم وجود" للذرات ،وهو أمر أكثر غموضا إلى درجة أنه سيبدو مندرجا بشكل زائف ضد
ً
"براهين وجود" ال تنفك تصبح أكثر إقناعا تراكمت منذ عدة أجيال .بل هي تعني ببساطة
أن الوقت حان لكي نرسم الحدود الدقيقة للقدرة االستباقية للمخطط الذري ،ولكي
نعيد "براهين الوجود" الزعومة إلى مواضعها الصحيحة .وهذا الوضع هو موضع العناصر
االستثنائية واألشكال النظرية التي اندرجت حتى اآلن بالتأكيد بشكل مميز في عدد كبير
من معالم شبكة القراءة القترحة من قبل النظرية الذرية ،إنما التي هي أيضا قابلة بما
هي ليست شاملة للتوافق مع شبكات مختلفة بشكل جذري .تجازف شبكات القراءة
التناوبة هذه ،التباعدة منذ فترة طويلة بحيث لم تعد تمثل أي تفوق حاسم على
منافستها التقليدية ،بأن تأخذ زمام البادرة إذا ما تبين أنها أكثر قابلية منها لقيادة
الفيزيائي في األراض ي الجديدة لالستكشاف التجريبي الفتوحة والنظمة تحت تأثير توجيه
بدئي من النظرية الذرية .علينا أال يغيب عن ذهننا لحظة واحدة أن النظرية الذرية
ترتكز على البنية األنطولوجية لنموذج عبر -نظري تحت -تحديدي بواسطة التجربة،
وليس على األساس البراغماتي -التجاوزي للسلسلة التاريخية من النظريات التي
تستخدمها.
إن فائدة مثل هذا االستبدال للمنظور البدهي إلى منظور استداللي يمكن أن َّ
يوضح
ً
من خالل التحليل النقدي لحجة معروفة جيدا ،كان قد طرحها إيان هاكينغ Ian
ّ
Hackingلصالح قراءة واقعية للمخطط الذري .وفق هاكينغ ،فإن كينونة ما تكف عن
كونها ناتجة عن استدالالت وفرضيات ،ويمكن أن توصف بحق بالواقعية ]...[" ،عندما
َ
نبدأ بإمكان استخدامها من أجل تنفيذ معالجات بطريقة منهجية في مجاالت أخرى من
علوم الطبيعة" .341إن الكينونة تغير عندها في الواقع موضعها اإلبستمولوجي ،مارة من
ّ ّ ّ
صف الوضوع إلى صف أداة البحث والتقص ي .إنها تكف عن أال تكون سوى قبلة األنظار
لهدف قصدي لتصبح الشرط السبق لفعل ما .والحال أن األطروحة الذرية (النقولة إلى
S. Haroche & J.-M. Raimond, "Cavity quantum electrodynamics", Scientific American, Avril, 1993, 342
p. 26-33; S. Haroche & J.-M. Raimond, "Manipulation of non-localized field states in a cavity by
quantum interferometry", in P. Bergman (ed.), Advances in atomic and molecular physics,
supplement 2, Academic Press, 1994.
H. De Regt, "The sad but true story of entity realism", in A.A. Derksen (ek.), The scientific realism 343
of Rom Harré, Tilburg University Press, 1994.
212
وليس من ّ
التهور أن نشير ،كما سبق أن فعلنا في الفصل األول ،إلى أن هذا العكس
لألولويات من االستذكار إلى التنقيب والبحث ،ومن الضرورة التفسيرية إلى حصة
الصدف التاريخية ،هو في الوقت الحالي أحد الواضيع األساسية في نظرية التطور كما
وفي فلسفة العلوم .ووفق النظرية العيارية الداروينية الجديدة ،فإن االنتخاب الطبيعي
يجعل كل نوع أو كل منظومة بيئية تميل نحو حد أمثل تأقلمي وحيد يلعب دور سهم
ّ
موجه وظيفي .وعلى العكس ،وفق بعض الطروحات الحديثة ،344فإن االنتخاب ال يعزل
ً ً ً ّ
ويفرد حدا أمثليا وحيدا ،بل هو ال يقوم إال بتشذيب التنوع البيولوجي محتفظا بكافة
345
مع ذلك من أجل تأمين االستمرار الحلول تحت األمثلية إنما القابلة للحياة والنمو
محدد بالتشارك بواسطة التعضية التي تسكن فيه .وحدها الحوادث والبقاء في وسط َّ
التاريخية (مثل سقوط النيازك أو حلول العصور الجليدية) يمكن أن تصل إلى فرض
تنوع األنواع ،ونتيجة هذه القيود هي ما ّ
يفسره البيولوجيون فيما بعد قيود إضافية على ّ
ََ
إنما خطأ على أنه نتيجة لصيرورة أمثلة .إن مسألة حصر أشكال تطور السالالت باتت
ً
مطروحة من اآلن فصاعدا في النظور البراغماتي لتوقيتها وفرصتها بالنسبة إلى وضعية
ً
معطاة (من رتبة تاريخية وبيئية في آن واحد) ،بدال باألحرى من طرحها من النظور
َ ََ
الالهوتي ألمثلة ما .وبشكل مشابه ،فإن ما ينتج عن التحليالت السابقة هو أن مسألة
الذرية وأزمتها العاصرة الحتملة يجب أن يطرح من النظور اإلبستمولوجي القتضاء بنية
ً ّ
توق ّ
عية بالنسبة إلى وضعية إدراكية معطاة (من رتبة ثقافية وعملياتية في آن واحد) ،بدال
َّ
باألحرى من النظر إليها من منظور أونطولوجي لـ "وجود" مؤكد أو مرفوض في الطلق .إن
فكرة استمرارية ،أو على األقل توازي ،صيرورات التأقلم البيولوجية وصيرورات التأقلم
َّ
ومدعمة. اإلدراكية ،والنظرية الذرية جزء مشارك فيها ،تخرج من هذا التحليل َّ
معززة
S.J. Gould, La vie est belle, Seuil, 1991, F. Varela, E. Thompson et E. Rosch, L'inscription corporelle 344
de l'esprit, Seuil, 1993.
F. Varela, E. Thompson et E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, op. cit., p. 263. 345
213
2 -5تعريف إطار التوقعات الذرية
لنعد إلى صلب موضوعنا .ما هي بالضبط هذه العناصر التأتية عن التطبيقات
ً
التجريبية وعن الصوريات النظرية التي تندرج تماما في اإلطار الذري؟ وكيف توصلنا ،على
الرغم من تحسينها الستمر ،إلى إدراك حالة أزمة النظرية الذرية؟
تكمن مرحلة أولية في طريقنا لإلجابة على هذه التساؤالت في التحديد الواضح لا
نعنيه بـ "اإلطار الذري" .في البداية سوف نقدم تعريفه التقليدي ،الذي يؤلف بين تأمالت
عدة أجيال من فالسفة الطبيعة بين العصور القديمة والقرن السابع عشر .وفي الرحلة
ً
كافيا لتجهيز فضاء ّ ّ
التغيرات المكنة، الثانية ،سوف نفكك هذا اإلطار بشكل دقيق يكون
ً
بل ومن أجل تعيين الخط الذي إلى ما ورائه يصبح هامش التسامح لإلطار الذري منتهكا.
عرف النظرية الذرية الكالسيكية بأربع أطروحات رئيسية. وفق بيلز ،A. Pyles 346ت َّ
األطروحتان األولى والثانية لهما أساس أنطولوجي ،واألطروحتان األخيرتان تعلنان
الضمون التفسيري للمفهوم الذري .وهذه األطروحات هي التالية:
ً ّ ً
تصوريا وال هندسيا ،وإما .0توجد المنقسمات ،أي إما كينونات ال يمكن تحليلها
ً ً
(بشكل أكثر تحديدا) جسيمات مادية غير قابلة لالنقسام فيزيائيا.
.4يوجد "فراغ" أو "ال -كائن" ،وبعبارة أخرى فضاء محروم من الحتوى الادي
يفصل فيما بين الذرات ،وفيه تنتقل الذرات دون قيود.
ّ وتبدل األجسام الادية من خالل ّ .3ي َف َّسر تشكل ودمار ّ
تجمع وتفكك الجسيمات
َ
الذرية .بالقابل ،فإن الصفات الحساسة لألجسام الادية تف َّسر بمصطلحات ّ
ّ
التفاعل بين صورة وحركة الجسيمات الذرية التي تشكل األجسام ،وصورة
وحركة الجسيمات الذرية التي تشكل أعضاء الحواس .فليس للذرات بذاتها
خصائص أخرى سوى بعد واحد وموضع واحد ّ
متغيرين بشكل احتمالي؛ وهي
ليست مزودة بأية "صفة حقيقية" .إنهما بعدا ما نسميه االختزالية الذرية.
A. Pyles, Atomism and its critics, Thoemmes Press, 1995. 346
214
.2ال تتحرك أية ذرة إذا لم يكن ذلك بتأثير دفع ناجم عن ذرات أخرى .إنها النسخة
ً
األكثر صرامة لآللية التي غالبا (ولكن ليس بالضرورة) ما كانت مرتبطة بالنظرية
الذرية.
ّ ّ ّ
التصورية. لنفكك اآلن ونحلل الفرضيات األربع الكبيرة السابقة إلى عناصرها
والفرضية األولى هي بال شك األغنى بالنتائج ،على األقل إذا ربطنا بينها وبين الفرضيات
الثالث األخرى.
0أ) من الفهوم في استخدام الجمع لكلمة "المنقسم" أن الجسيمات ّ
الذرية هي
ّ ً عبارة عن ّتعدد وكثرة .فهذا الرور من الواحد إلى الت ّ
عدد هو أيضا ما يشكل أول
االنتقاالت الكبرى التي يفرضها ّ
الذري على أنطولوجيا برمنيدس (حيث االنتقال الثاني هو
قبول "الالكائن").
0ب) ينتج عن الجمع بين تعددية الالمنقسمات الجسمية والالإستمرارية الكانية
العد لجمل الذرات .كان أرسطو قدالفروضة عبر وجود فراغ ما بين ذري سمة قابلية ّ
أشار إلى هذه النقطة من خالل موازاة بين النظرية الذرية وعلم األعداد الفيثاغوري.
ً
ووفقه ،وعلى غرار الفيثاغوريين ،فإن الذريين "يجعلون من كل ش يء عددا" .347إن التجلي
العملياتي لهذه اليزة الستمدة من مجمل الذرات هو أن بعض التجارب التي يمكن
رجم بوقائع منفصلة ومتقطعة .إن إمكانية تعداد بعض إجراؤها عليها يجب أن ت َت َ
ً ّ
الظاهرات وتقطعها هما بالنتيجة رابطان من بين أكثر الروابط فورية وأكثرها تمييزا
للذرية.
0ج) يسمح استكشاف كافة نتائج تعددية الالمنقسمات بصياغة أكثر دقة مما ورد
في الفقرة ( )3الختزالية بسيطة ،وموثوقة بدرجة معينة ،ووفقها فإن الخصائص الختلفة
لألجسام ت َف َّسر وفق تركيبية للذرات ،و/أو من خالل تركيبية َّ
محددة لحاالتها الحركية. ٍ
Leucippe, Fragment A15, in Les présocratiques, Gallimard, Bibliothèque de la Pléiade, 1988. 347
215
يعتبر أرسطو أن الذرية تعود لتفسير تنوع الكون الحسوس بالطريقة نفسها التي نفسر بها
تنوع النصوص من خالل تركيبية حروف األبجدية.348
0د) تنشأ الالإنقسامية ،كما سبق ورأينا ،إما عن عدم قابلية التحليل الهندس ي
(وهي خاصية ،وفق النمطية األبسط لها ،يمكن أن تنتج عن مماثلة الذرة مع نقطة)،
وإما عن عدم قابلية القسمة الفيزيائية للجسيمات الذرية .وهو ما يترجم ،في منظور
ّ
اختزالي ،بـ العناصرية؛ أي من خالل تأكيد أن الذرات هي العناصر الدنيا الشكلة لألجسام
الادية.
ً
0ه) وفي إطار النموذج التقليص ي أيضا ،فإن الإنقسامية الذرات تستتبع عدم قابلية
الفساد والتحلل ،ال بل والنفوذيتها التبادلة فيما بينها .وفي الواقع ،إذا كان ّ
تغير وفساد
ّ جسم ما ي َّ
عرف بإعادة توزيع أو تبديل العناصر الذرية التي تشكله ،فإن العناصر نفسها
ال يمكن أن تفسد أو تتغير .ومن جهة أخرى ،فإن إحدى أكثر الطرق معقولية في تمثيل
االختراق تستتبع تداخل وتشابك األجزاء األولية .وبما أنه ليس للذرات نفسها أجزاء ،فمن
الصعب تصور أنها تستطيع أن تتداخل فيما بينها.
ً 0و) إن الالإنقسامية وعدم قابلية فساد الذرات يمكن أن ي َت َ
رجم أيضا على النحو
الذرات خصائص هندسية ثابتة غير متحولة (يكون االمتداد أو غياب التالي :تملك ّ
ً
االمتداد وفقا ألبعاد الكان الثالثية) إلى جانب خصائص هندسية متغيرة (مواضعها),
ً
وخصائص حركية متغيرة أيضا (السرعة والتسارع) .وهي قابلة ألن تضيف عليها خصائص
جسمانية غير هندسية متغيرة أو ثابتة مثل الكتلة .وإذا كانت الخصائص الثابتة للذرات
ليست كلها متطابقة ،فإنها تحدد أنوعا من الذرات.
أما الفرضية الثانية ،وهي فرضية وجود فراغ ما بين ذري ،فلها نتائج تشارك بطريقة
ال تقل أهمية في تعريف إطار التوقعات الذري.
Aristote, De generatione et corruptione, 315b14, trad. J. Tricot, Vrin, 1934, p. 10. 348
216
4أ) النتيجة األولى واألكثر فورية هي وجود بنية مكانية .يقرن جان بيران J. Perrin
بالنظرية الذرية ،بعد أن يتأمل حول "خشونة ،تحبحب" الادة ،التمثيل الحدود لعالم له
كثافة معدومة في كل مكان ،باستثناء في نقاط معزولة حيث تأخذ الكثافة قيمة
النهائية.349
ً
4ب) الفراغ يفصل الذرات عن بعضها بعضا .وبالتالي ،فإن تمييز مواضع الذرات،
ّ ً ً
للتفرد وفصلها بواسطة فضاء فارغ مقرون بعدم قابليتها لالختراق ،يقدمان معيارا كافيا
في كل لحظة .لنضف إلى ذلك (في إطار النموذج اآللي الذي ّ
يتمم عند االقتضاء بأعمال
ً ً
عن بعد) أن للذرات مسارا مستمرا في الفراغ .يسمح هذا السار بإعادة تحديد أو مطابقة
كل ذرة من هذه الذرات عبر الزمن .بعبارة أخرى ،من المكن مطابقة ذرة فردية مكتشفة
ً ً
حاليا مع ذرة مكتشفة سابقا ،وذلك بربط حدثي االكتشاف من خالل الطريق الذي تم
اجتيازه.
والفرضية الثالثة هي فرضية االختزالية .وهي سبب وجود النظرية الذرية .ففائدة
الذرات تكمن في قدرتها التفسيرية لفعل الظهور .ولكن يوجد بداهة العديد من الطرق
لتفسير الظاهرات ،والنظرية الذرية تنشأ عن مجموعة من الخيارات القيدة والحددة لا
هو مقبول في مجال التفسير.
3أ) كان الشروع الذي سبق لغاليليه أن صاغه ،350عبر فرضية الذرات ،هو اختزال
النوعي إلى ّ
كمي ،أكان ذلك عبر إمكانية تعداد أو عبر إمكانية تقدير توسعات وتصورات
مكانية وحركات .يتعلق األمر هنا بأول خيار تقييدي.
3ب) إن النظرية الذرية هي في العمق حالة خاصة من ميل أوسع إلرادة تأسيس فعل
الظهور على كون من األشكال .وهذه الحالة الخاصة هي التي تكون فيها األشكال متوضعة
في الكان وفي الزمان ،وحيث ال ترجع سمتها غير الحسوسة إال إلى أبعادها الكانية
351الرجع السابق.
218
التسامح معها بالنسبة للمعتقد التقليدي .وما أن يتم تحديد هذه العتبات فإنه يبقى
متض َّم َنة ّ
تعوض معايير َ علينا البحث بشكل معمق من أجل إثبات وجود إما تقاربات
ضد النظرية الذرية ،وإما على العكس تباعدات جذرية مخفيةموجهة ّ
واضحة وصريحة ّ
بواسطة تنازالت سطحية لصالح الفردات الذرية.
صور بشكل مميز ،كما بينت صوفي روو ،Sophie Roux 352حالة كان ديكارت قد ّ
تقارب ضمني ّ
يعوض االنتقادات الصريحة للنظرية الذرية .وقد نظر الكثيرون من
معاصري ديكارت ومن جاء بعده ،ومن بينهم فروادمون Froidmondوهنري مور Henry
Moreوروبرت بويل ،Robert Boyleإلى نظريته حول الادة على أنها نظرية ذرية .مع ذلك
ً
فقد دافع ديكارت بشدة ضد هذه النظرة وكان محقا في ذلك :فهو لم يأخذ من بين
العايير األربعة التي تحدد وتعرف الذرية سوى اثنين ،وهما معياران خاليان من أي
ً ً ً
محتوى أنطولوجي .فقد وضع ديكارت فعال برنامجا اختزاليا ،طالا أنه كان يهدف إلى إبراز
صفات ثانوية وأخذها بعين االعتبار بما هي محسوسة من خالل صفات أولية مكانية -
حركية .وقد وضع على التوازي ودفع النموذج اليكانيكي حتى نتائجه القصوى .لكنه لم
يقبل بالإنقسامية بعض أجزاء الادة وال بمفهوم امتداد الفراغ الطلق .ويرتكز رفضه
لعدم اإلنقسام على العالقة الصارمة التي ينشئها بين مفهوم التمييز وواقعية التمييز ،بين
ً َ
الدركة هندسيا واإلمكانية الفيزيائية لقسمة فعلية (على األقل من قبل القسمة
اإلله) .353إن رفضه لفهوم فضاء فارغ حقيقة ناجم من جهته عن التطابق الذي يقيمه
بين الجسيمية واالمتداد .وال تطرح تجارب توريشيلي Torricelliأو باسكال أية إشكاليات
عليه بهذا الصدد ،طالا أنه يفسرها ليس دون ش يء من الحق بحيث يقدم فقط البرهان
ً ً ً
على فراغ حساس بدال من أن يكون باألحرى فراغا أنطولوجيا .إن هذا الوقف البدئي
S. Roux, "Descartes atomiste?", in E. Festa & M. Blay (éd.), L'atomisme au XVIIe siècle, 1998. 352
353راجع على سبيل الثال رسالة جيبيوف Gibieufالؤرخة بتاريخ 09كانون الثاني ،0524النشورة فيR. :
Descartes, Œuvres, III, C. Adam & P. Tannery, Vrin, 1996, p. 477.
219
لصالح استمرارية وامتالء االمتداد ال يستبعد مع ذلك إعدادات عملية أصبح ال غنى عنها
ً
عبر األخذ بعين االعتبار للظاهرات األكثر شيوعا التي تتعلق باألجسام الادية .واإلعدادات
الرئيسية ،التي اتفق عليها في القسمين 3و 2من "مبادئ الفلسفة" ،تتعلق بتماسك
األجسام وتالحمها كما وبفرديتها وهويتها .يعتبر ديكارت أنه يوجد بينها أنواع مختلفة من
عرف بعضها بواسطة أشكالها األجسام الصغيرة ذات االستقرارية شبه الكاملة ،والتي ي َّ
وأبعادها وموضتعها في وسط من الجسيمات األكثر عرضة للتحلل .وهكذا حيث تكون
الالإنقسامية الطلقة للذرات قد استبدلت بصالبة نسبية لألجسام الصغيرة ،والوظيفة
الرئيسية للفصل بين الذرات بواسطة الفراغ (أي الفردانية وإعادة مطابقة الهوية
بواسطة الشكل ،الوضعة والسار) تكون قد ملئت بمكافئات تقريبية ،فإن ال ش يء يمنع
الحديث عن "مذهب ذري واقعي" في "الفيزياء الفعالة" لدى ديكارت .354وفي إطار
ً
مصطلحات التحليل السابق ،نستطيع القول إن ديكارت يستبعد فعال الفرضيتين ( )0و
( )4الشكلتين للمذهب الذري في نسختهما األنطولوجية األكثر صرامة ،لكنه ّ
يفعل في
فيزيائه الجزء األساس ي من الوظائف الستخلصة من نتائج هاتين الفرضيتين ( 0أ) و (0
ه) و (4ب).
3 -5ما هي التوقعات النتظرة من اإلطار الذري وهل تسمح الفيزياء العاورة
بتحققها؟
وعلى العكس ،يمكننا أن نتساءل إذا لم يكن استخدام الفردات الذرية في الفيزياء
ّ ً
العاصرة يخفي خرقا لحقيقة بعض اللحظات الشكلة األساسية لشبكة القراءة الذرية.
وإلدراك ذلك ،سيكون من الالزم إجراء تقييم دقيق بدرجة كافية يميز بين التوافقات
والتباعدات بين هذه الشبكة والحالة الحالية للفيزياء .إن أحد رهانات هذا التحليل
سيكون اعتماد منظومة تقييم "مترفقة" بدرجة كافية لكي ال أعلن من فوري بما أنني غير
ً
ذري منظومة أجسام الفيزياء الكمومية (األمر الذي سيكون سهال إذا تمسكنا بشدة
R.F. Steater, "Why should one want to axiomatize quantum field theory?", in H.R. Brown & R. 358
Harré, Philosophical foundations of quantum field theory, Oxford University Press, 1988.
214
أخرى ،وكانت تبدو بشكل خاص غير قابلة للضبط والتوافق مع نتائج الحساب التأليفي
لجمل الجاالت التجريبية التاحة .إن الحجة العيارية لجان بران Jean Perrinأو هانس
رايخنباخ Hans Reichenbachفي صالح "وجود الذرات" ،وهي القابلية التوحيدية
للمخطط الذري بالنسبة لعدد كبير من الظاهرات ،ال تصح إال حتى نقطة معينة .أما
السبب الثاني فهو أنه مع مراعاة خطتهما االستراتيجية في مقاومة اشتقاق متتالي اتجاه
التمثيالت والعايير اإلبستمولوجية الكالسيكية ،فقد كان من الصعب على معظم
الباحثين القبول بأن الشروط التي سبق تحققها على الستوى التجريبي لم تكن مقترنة
بشكل ال يمكن تفاديه مع السمات األخرى التي تحدد النموذج الذري .فكان يبدو لهم على
سبيل الثال أنه من الصطنع افتراض أن تقطعات أو الإستمراريات في الظاهرات ال
تترجم بشكل إجباري انفصالية وتقطع الكينونات التي نقرنها بها .359لقد كان بالكاد من
المكن لهم أن يتوقعوا بأن التقارب التجريبي لتقييمات الثوابت الرقمية الصحيحة ال
يترجم قدرة مبدئية للقيام بـ تعداد للكينونات العنية ،بالعنى الدقيق لعملية تكرارية
تفرد كينونة بعد األخرى ،ووضعها بمعزل عن الكينونات األخرى وعلى إضافةتشتمل على ّ
ً
وحدة في كل مرة على مجموع سابق .360يبدو للباحثين هكذا من غير الحتمل كثيرا أال
تكون البنى الكانية الحبيبية الكتشفة إثر بعض التجارب تعكس وجود ش يء ما في هذه
ً
الواضع يمكننا تشبيهه بشكل أساس ي مع أجسام مادية ،أو أن آثارا حركية يمكن أن
ً َ
تف َّسر بمصطلحات ش يء آخر غير مسارات أشباه الجسيمات العاد تعريفها .وأخيرا ،فإن
ً ً
الفكرة لم تكن تخطر في بالهم أبدا ،بأن ثمة خصائص مكتشفة منهجيا في جوار بنية
ً
ومكانيا ومع ذلك فإنها ّ
تعبر عن ظاهرات 359إن النظريات الكمومية للحقول تتعامل مع كينونات مستمرة زمانيا
غير مستمرة ومتقطعة (راجع الفقرات التالية).
ً
360إن هذا الفصل الدهش للوهلة األولى بين نسب أعداد وإمكانية القيام بتعداد معين ،تمت صياغته مؤخرا
على يد كل من تورالدو دي فرانسيا G. Toraldo di Franciaوكروز D. Krauseفي نظرية "شبه تجميعية" ،يكون
فيها لـ "أشباه الجموعات" رقم أساس ي لكن ال يكون لها رقم ترتيبي .راجع M. Bitbol, Mécanique quantique,
une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997, 4-4-2.
215
مكانية حركية يجب أن ت َ
فصل عنها خالل الفترات التي تفصل ظاهرتي اكتشاف .وحتى لو
أنهم الحظوا هذا التشوه أو ذاك في شبكة التوقعات الذرية ،فإنهم كانوا يتركون فيها غيره
في الظل ويعتبرون أنه كان من غير النطقي تجاوز قدرتها التفسيرية التي ال تزال كبيرة.
ً
والحال أن النظريات الكمومية األكثر تقدما إنما تقود مع ذلك إلى انهيار واسع
ً
النطاق للقطع األفضل ترتيبا في لعبة ترتيب قطع اللغز .وما تتركه خلفها أشبه
بالفسيفساء التي تحتوي على فجوات بحيث ال تكفي العناصر الوجودة فيها لرسم لوحة
التمثيل الذري إال بالنسبة لشاهد ذي نظرة مشروطة بالتقليد ،والذي إما ال ينتبه إال
للخطوط العريضة أو تسحره بعض التفاصيل .إن السرد السريع السابق لا يستجيب،
ً
في النظرية ،للقاعدة التجريبية في النظرية الذرية كان يوحي بذلك مسبقا .ألننا كنا نالحظ
بسرعة ونحن نضعه أن التوافقات ّ
العرفة هي إما غير كاملة أو تقريبية .ولكن ،بعد كل
ش يء ،فإن هذا االستنتاج يمكن أن يترجم ببساطة نقص النظريات الحالية أو "عدم
كمالها" بالعنى الذي قصده أينشتين .سوف يتطلب األمر بالتالي وضع هذه الؤشرات
ً
األولية على محك اختبار مناقشة أكثر تشديدا لصداقية النظريات ذات التغيرات الخفية
التي تهدف إلى "إكمال" النظرية الكمومية العيارية.
4 .5الكواركات ومسألة الـ "رود الباشر" للجسيمات
ً
من الفيد سلفا أن نخضع لتحليل نقدي الحجج التي تتحدث أكثر من غيرها لصالح
النظرية الذرية ،أي الكشف عن بنى مكانية -حركية مجهرية .فعندما نتحرر في الواقع
من فكرة السمة اللزمة لهذه الحجج ،عندها فقط يمكننا أن نواجه دون أفكار مسبقة
تناوبات شبكة القراءة الذرية .وفي إطار هذا الهدف ،فإنني سوف أرتكز على بعض األعمال
الحديثة في فلسفة الفيزياء التي تعالج مفهوم "الرصد الباشر" لجسم مجهري.361
D. Shapre, "The concept of observation in science and philosophy", Philosophy of science, 49, p. 361
485-525, 1982; B. Falkenburg, Teilchenmetaphysik, sprektrum Verlag, 1995; B. Falkenburg, "The
concept of spatial structure in microphysics", Philosophia naturalis, 30, p. 208-228, 1993; B.
216
يعتبر الرصد الباشر لنمط معين من األجسام على أنه الحصيلة الطبيعية لبرنامج
بحث أطلقته فرضية وجود هذا الجسم .يالحظ بيير جيل دو جين P.-G. de Gennesفي
مقدمته لكتاب بيران " J. Perrinالذرات" ،أنه على الرغم من أن التحديدات التالقية
لعدد أفوكادرو يمكن أن تؤخذ كبرهان كبير لصالح التركيب الذري للمادة ،فإن البرهان
الحاسم يشتمل على تقديم صورة ،مثل صور حيود األشعة السينية في البلورات .ويكتب
دو جين قائال " :تظهر [تجربة الحيود هذه] من خالل جانبها البصري كأول ش يء يجب
قوله عندما نريد [ ]...برهان وجود الذرات لطالب الدارس."362
وبطريقة مماثلة ،فإن تجارب انتشار اإلشعاع ألفا αالتي قام بها رذرفورد تقدم لنا
أولى الصور التي يمكننا إظهارها عندما نريد "برهان وجود" نواة ذرية .وفي الواقع ،فإن
الزوايا الكبيرة التي تنتشر وفقها أشعة αيبدو أنها ال يمكن أن َّ
تفسر إال بطريقة واحدة:
وذلك عبر وجود توزعات للشحنات الوجبة شبه النقطية وذات الكتلة في الادة .ولكن
عند هذا الستوى ،يجب البدء بأخذ بعض االحتياطات .علينا أال ننس ى ،أنه ضمن تجارب
َ َ
االنتشار في مجال مجهري ،فإن السمة النقطية أو غير النقطية للبنى النتشرة ال تكتشف
بقدر ما ال ت َّ
حدد من خالل القارنة بين القطع الفعال التفاضلي القاس وصيغة مشتقة
من صيغة رذرفورد ،والتي تنتج من جهتها من تحليل كالسيكي أو شبه كالسيكي لصيرورة
التفاعل .إذا كان عامل الشكل الداخل في الصيغة التي تصف صيرورة االنتشار هو عامل
رذرفورد ،فإن البنى الشحونة النتشرة عندها تعتبر كبنى نقطية؛ وفي الحالة العاكسة،
ً ً
فإننا نستنتج انطالقا من معامل شكل مختلف توزعا للشحنات هو نفسه مختلف .إن
نسب بنى مكانية ينشأ باإلجمال عن "[ ]...التفسير الداللي للبنى الديناميكية غير العروفة
ضمن الصطلحات الكانية الكالسيكية ."363هنا يبدأ خطر الوقوع في حلقة مفرغة :أال
Falkenburg, "How to observe quarks", in E. Agazzi, M. Pauri (eds.), Observability, unobservability and
their impact on the issue of scientific realism.
362الرجع السابق ،صJ. Perrin, Les atomes .02 .
،B. Falkenburg, "The concept of spatial structure in microphysics" 363الرجع السابق.
217
وهو خطر طلب أحد البراهين األساسية على وجود بنية مكانية من تجارب يتم تفسيرها
بواسطة حساب يفترض بشكل مسبق مبدأ هذه البنية .بطبيعة الحال ،لم يكن من
َّ
التصور إهمالها باإلجمال؛ ففي الحالة حيث كانت النظرية الكمومية ال تزال في وضع
التشكيل ،لم يكن من المكن إلخضاع التمثيالت التقليدية للبرهان أن يتم إال ضمن إطار
ً
نظرية ال يزال مشروطا بها .ولكن ما أن كانت النظرية الجديدة تصبح ناجزة حتى يصبح
ال غنى عن تقدير ما هي التشوهات الفروضة بسبب استخدام الفاهيم الرتبطة بالنظرية
القديمة في تفسير النتائج التجريبية؛ فال يجب التردد في الباشرة بعدئذ بجزء كبير من
عملية العودة من البداية التي كنا قد أرجأناها رغم شعورنا بالحاجة إليها .364فهل هناك
تشوهات بالتالي؟ وإذا كان هذا هو الحال ،فهل التشوهات كبيرة بحيث يكون علينا أن
تذكر ّ ّ ً
بشدة نغير تماما نظرية القياس في الجال الجهري ،ومعها تمثيالت البنى الكانية التي
بتكوين ذري للمادة؟ ال بد من تعديل اإلجابة على هذه األسئلة كما يبين ذلك بالتفصيل
فالكنبرغ .B. Falkenbergإن الفاهيم الكالسيكية للشحنات شبه النقطية في حالة
تفاعل "[ ]...ال تنهار مباشرة في الجال الكمومي ،لكنها تنهار مرحلة بعد مرحلة ."365تقدم
ً ً ً ً
هذه الفاهيم في مرحلة أولى تمثيال تقريبيا بالتأكيد بل ومرضيا جدا للصيرورة
الديناميكية التي تؤدي إلى توزعات الصدمات الستنتج خالل تجربة االنتشار .وحتى
عندما ال يعود باإلمكان تطبيقها دون موانع وأضرار على اإلشعاع الستخدم للسبر ،فإنها
ً
تظل تعمل تقريبا فيما يتعلق بالبنى السبورة .إن صيغة االنتشار لبورن ،Bornالتي يتم
الحصول عليها بوصف اإلشعاع الساقط بواسطة تابع موجة ووصف أهداف اإلشعاع
364إن ما يبقى بالضرورة العملية والنهجية بمنأى عن اإلعادة من البداية 3هو وصف مكونات التجهيزات
التجريبية الفاعلة على مستوانا .بالقابل ،فإن بيان صيرورة القياس يمكن أن ي َّ
قدم لنا ،بالنسبة لجزء كبير
ً
اعتباطيا ،بعبارات ومصطلحات كمومية .أما بالنسبة للمسائل التعلقة باالنتشار ،فإن مقاربة أولى شاملة
لعالجة كمومية معروفة تحت اسم "صورية الصفوفة ."Sراجع S. Weinberg, The quantum theory of
ً
.fields, Cambridge University Press, 1995, chapitre IIIهناك معالجات كمومية أكثر كماال وأقل شمولية
ً
ممكنة أيضا.
365الرجع السابق.
218
مموض َعة هي مصادر للحقل ،تصبح صيغة فاعلة .يعمل بعد ذلك َ بواسطة أجسام
ً
مفهوم األجسام -األهداف الموضعة مكانيا بشكل جيد كموضع لتالقي التفسيرات للكثير
من الظاهرات األخرى غير االنتشار ،كما على سبيل الثال تقدير طاقة كولومب الخزنة في
ً
النوى أو تحليل التفاعالت النووية .إن هذا التوافق هو الذي يسمح بأن نضفي وقتيا أو
ً ّ ً
مرحليا على مفاهيم مثل مفهوم توزع شحنة و"إشعاع" جسيم ما "معنى موضوعيا."366
تصح طالا كانت كتلة الجسيمات الستخدمة فيإن مثل هذه الحالة من التسويات ّ
ً
السبر أقل بكثير من كتلة البنى السبورة ،وأيضا طالا كانت سرعتها النسبية ضعيفة
بدرجة كافية بالنسبة إلى سرعة الضوء .ولكن ابتداء من اللحظة التي ال يعود فيها هذان
الشرطان مطبقان ،فإنه يصبح من الضروري تفعيل النطق الداخلي في اليكانيك
ً
الكمومي بكافة نتائجه ،بدال باألحرى من التمسك بحلول وسطية (إذا لم نقل التمسك
بحلول هجينة) .والحال أن هذا النطق الداخلي هو منطق التنبؤ بالنتائج التجريبية
ً
ابتداء من شعاع متجه للحالة العامة ،مرتبط بتكوين إعداد في حالته العامة ،بدال من
ارتباطه بأجزائه االفتراضية كالتي تقود إلى تصورها تمثيالت ظلت شبه كالسيكية .في
ً
التعميم النسبي للمعالجة النظرية لالنتشار ،يصبح النموذج "[ ]...متناظرا بالكامل في
وصف الجسيم السابر والركز الناشر :فهما اإلثنان يمثالن بواسطة توابع موجة
ديراك "367التي تصبح متمازجة (متشابكة )entangledخالل صيرورة التفاعل .وابتداء
من هنا ،يجب القبول أنه في الجال حيث يكون شرطا الفارق الكبير في الكتلة والسرعة
النسبية الضعيفة غير متحققين ،فإن تفسير مؤثر شكل مستنتج من صيغة من نمط
ً ً
صيغة رذرفورد بمصطلحات البنية الكانية لهدف اإلشعاع يميل ليصبح تفسيرا تعسفيا
ً ً
ظل ّ
حجة استمرارية لدرجات التقريب أيضا بصرامة إال في ّ واعتباطيا .وهو ال ي َب ّرر
التتالية .ففقط ألنه توجد سلسلة من النماذج التقريبية التي تغطي السافة بين
N.F. Mott & H.S. Massey, The theory of atomic collisions, Oxford University Press, 1965. 368
،B. Falkenburg, Teilchenmetaphysik 369الرجع السابق؛ Falkenburg, "The concept of spatial structure
" ،in microphysicsالرجع السابق.
221
فصلها بعضها عن بعض .من المكن بالتأكيد قياس الكميات التي يمكن أن َ
تعتبر
َّ
العمم للكلمة .يتم ذلك بوضع كخاصيات لها ،أال وهي "الشحنات" الختلفة بالعنى
محصلة للكميات الحفوظة ،ضمن صيرورات معقدة تتضمن بنى حركية مكتشفة في
تجهيزات من نمط "الغرف ذات الفقاعات" ،ومنسوبة إلى جسيمات مركبة من كواركين أو
ً
ثالثة كواركات .غير أن أيا من البنى الحركية الكتشفة ال يمكن أن يقرن بكوارك معزول.
ً
السؤال الذي طرح نفسه اعتبارا من هذه النقطة هو معرفة إذا كان من الشروع
ً
حقا إقامة اختالف قاطع بين الرصد الباشر لكينونة وقياس الكميات الميزة التالي
الستدالل كينونة قابلة لحمل هذه الكميات .فإذا لم يكن ثمة أي تمييز من هذا النوع
يمكن القيام به ،عندها فإنه ال يوجد أي سبب لعدم تأكيدنا أن الكواركات قد رصدت
ً ً
فعال ،حتى وإن كان ذلك وفقا للنمط االستداللي أو االستنتاجي ،وأنها ليست بالنتيجة ال
أقل وال أكثر افتراضية من كينونات أخرى تنتمي للصف الشاسع من الجسيمات األولية.
ً
وعلى العكس ،إذا أكدنا األساس القوي لثل هذا التمييز ،عندها يجب أن نقترح معيارا
ً
واضحا وأن نتفحص ،بين الؤشرات العديدة االستنتاجية للوهلة األولى القرونة
بالكواركات ،إذا لم يكن ثمة بعضها يستجيب لهذا العيار ويقع على الجانب "الرصدي"
من خط الحد الفاصل مع غير الرصدي.
وفقا لفان فراسين ،370ليس ثمة أي تمييز بين الرصد واالستدالل ال يخلو من
ً
التعسف .ألنه من جهة ،كل رصد يكون مشوها بواسطة إطار الفهم السبق النظري الذي
يندرج فيه ،ومن جهة أخرى فإن كل استدالل باتجاه موضوع ما يمكن أن ي َ
عت َبر كرصد
ً ً
لهذا الوضوع شرط أن يصبح مألوفا بدرجة كافية بحيث يصبح مخفيا .وضمن هذا
النظور ،فإنه يكفي لكي نعتبر أنه تم رصد" الكواركات أن نترك السمة اإلشكالية
لإلستدالالت التي تقود إلى قياس مجموعة من خصائص الكينونة الوافقة تتخفف
وتنحل ،وذلك من خالل االعتياد ليس إال .كذلك يضاف إلى هذا السار ،العيد لكميات
B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 15-19. 370
221
محفوظة للكينونة ،الكشف من خالل تجارب االنتشار عن بنية مكانية داخلية
للنيوكلينوات؛ بنية مكونة من عناصر ،كانت تسمى في البداية "البارتونات" ،والتي نعتبر
أنها شبه نقطية على معيار عوامل الشكل الشتقة من صيغ من نمط صيغة رذرفورد.
مذاك ،ال يعود ثمة لتوافق السلسلتين االستنتاجيتين ،حيث تتعلق األولى بالخصائص
والثانية بالبنية الكانية ،أي سبب في عدم مماثلته بـ "رصد" للكواركات؛ أو على األقل ،ال
يعود ثمة أي سبب على اإلطالق لهذا التوافق في أال يكون كذلك إال في حالة الجسيمات
األولية من الجيل السابق.
وعلى العكس ،وفق فالسفة آخرين في العلوم ،مثل دودلي شابرDudley Shapere 371
وبريجيت فالكنبرغ ،Brigitte Falkenburgتوجد معايير واضحة للفصل بين إجراءات
تعد كـ "أرصاد لكينونة" وتلك التي ال يمكن أن ّ
تعد كذلك. االستدالل التي يمكن أن ّ
تتعلق هذه العايير بشروط التمييز ( ّ
التفرد) خالل إجراءات الكشف .فعندما نقبل أنه
ً ً
على الستوى العملياتي يكون جسيم ما مشبها بمجموعة من الخصائص الكتشفة معا،
في الكان نفسه العتبر كمعيار للتمييز ،عندها فإن مسألة معرفة إذا كنا قد رصدنا
ً
جسيما أو ال ت َ
ختزل إلى مسألة معرفة إذا كان بإمكاننا أن نعيد توجيه أو أخذ كل من
الكميات القاسة إلى النطقة الكانية نفسها .إن ما ّ
يهم هنا هو أن تكون القيم القاسة قد
ً تم الحصول عليها عن طريق شبكة من البنى َّ ّ
محددة تماما ،بحيث يمكن لهذا السبب أن
َ
تف َّسر كسالسل سببية تنطلق من هذه النطقة.
إن األهمية الرئيسية لتطبيق هذا العيار هي إدخال تمييزات دقيقة وغير تافهة في
قلب مجموعة التجريبات النجزة في فيزياء الجسيمات .ففي البداية يقود هذا التطبيق
ً
إلى االعتراف ،وفقا للحكمة الشتركة بين الفيزيائيين ،بأن معظم التجارب النجزة حتى
اآلن ال يمكن أن ّ
تعد كـ "أرصاد" للكواركات .وفي هذه التجارب" ،فإن التاريخ السببي الذي
يمكن روايته يتعلق فقط بالكمية الكلية للكواركات في النيوكليون ،أو باألثر الكلي لعدة
371الرجع السابقD. Shapere, "The concept of observation in science and philosophy" .
222
بنى نقطية ال تفض ي إلى وقائع منفصلة ."372بالقابل ،هناك بعض التجارب ،مثل فناء
ً
اإللكترون -البوزيترون ذي الطاقة العالية ،التي يكون من المكن فيها انطالقا من
كل من عناصر الكوارك والكوارك
االنقذافات الهادرونية الناتجة إعادة تتبع ما يعود إلى ٍ
الضاد من زوج بدئي غير مستقر يسمى "السحر أو شارمونيوم ."charmoniumهنا،
ً
"يربط التاريخ بطريقة واضحة ال لبس فيها كال من االنقذافين بكوارك فردي [ ]...كان أحد
مكو ّني منظومة مركبة نتجت في منطقة معينة من منطقة تفاعل حزمتين محددتين ،في ّ
لحظة معينة ،ضمن جهاز قياس معطى ."373بعبارة أخرى ،فإن معيار قابلية التتبع
َ
القاسة يلبي الطلوب في هذه الحالة ،ويمكننا التأكيد أننا استطعنا الفردية للخصائص
رصد كواركات على الرغم من حصرها.
يجب مع ذلك تجنب أن نترك لهذا النجاح َّ
الميز أن يبهرنا .علينا أال ننس ى أن إمكانية
ّ
تفرد وتمييز األجسام على الستوى الذري في الفيزياء الكمومية بالعنى الواسع للكلمة،
ً ً
محدود ببعض الحاالت التجريبية الخاصة جدا ،وأنها ال تنجح أبدا منذ اللحظة التي ال
تعود فيها هذه الشروط متحققة .فاستحالة التمييز في الحالة العامة تتدخل حتى كعنصر
مفتاحي للقدرة التنبؤية للنظريات الكمومية .وبالثل ،علينا مالحظة أن َ
موض َعة الشحنات
القاسة في نقطة ونسبها التالزم لجسيم يتعلقان بطريقة حاسمة بنمط خاص من
التجارب التي تظهر بنى حركية مقاربة للمسارات .وخارج هذه الحاالت ،فإننا نبين أن
َ
مموض َعة في نقطة .فعلى سبيل الثال ال الشحنات ال يمكن أن توصف كما لو كانت
يمكن لبعض تجارب تداخل النوترونات في حقل ثقالة أن تفهم إال بقبول أن كتلة كل
نوترون تكون موزعة في كامل حجم جهاز التداخل خالل مساره بين الصدر والكاشف،374
ً
،B. Falkenburg, "How to obsrve quarks" 372الرجع السابق .راجع أيضا D. Griffiths, Introduction to
.elementary particles, J. Wiley, 1987
373الرجع السابقB. Falkenburg, "How to obsrve quarks" .
H.R. Brown, C. Dewdney & G. Horton, "Bohm particles and their detection in the light of neutron 374
interferometry", Foundations of physics, 25, p. 329-345, 1995.
223
ً وليس في النقطة التي ي َ
عتقد أن يكون موجودا فيها في كل لحظة .إن الالحظة التي وفقها
َّ
الحققة في ال يمكن القول إن الكواركات قد "رص َدت" إال "[ ]...وفق الشروط الخاصة
أنواع معينة من التجارب الفيزيائية ذات الطاقات العالية "375يجب ،ضمن هذا اإلطار،
ً
أن تؤخذ على محمل الجد تماما .ألنه خارج هذه الشروط الخاصة ،على سبيل الثال بين
والمي ّزة من
ّ الم َ
وضعة رصدين ،فإننا ليس فقط ال نستطيع بالتأكيد إثبات الحزمة َ
الخصائص التي يتكون منها كوارك ما من وجهة نظر ّ
الجرب ،بل ولدينا باإلضافة إلى ذلك
وضعة وهذهمم َ
كافة األسباب لعالجة هذه الخصائص في النظرية على أنها غير َ
ممي َزة .من جهة أخرى ،علينا أال ننس ى أنه باستثناء حالة بعض
الجسيمات على أنها غير ّ
الرصودات السماة "فائقة االنتقائية" ،أو خارج إطار النظريات ذات التغيرات الخفية،
ً ً
فإن مفهوم "الخاصية" نفسه ال يكون قابال للتطبيق عموما عندما نطلب من اليكانيك
الكمومي وضع رابط تنبؤي (احتمالي) بين رصدين .ضمن هذه الشروط ،فإن تأكيد
فالكنبرغ ،الذي وفقه فإن مسألة مصير حزم الخصائص التي تحدد كل كوارك فردي بين
رصدين اثنين ال تطرح إلى حد كبير أكثر من السؤال ،الذي يمكن أن يطرح في اليكانيك
الكالسيكي ،الخاص بمعرفة إذا "كان القمر يوجد حتى عندما ال نرصده" ،هو التأكيد
ً
األقل شكا فيه .وكما سبق لرايخنباخ H. Reichenbachأن الحظ ،فإن اليكانيك
ً ً ً ً ً
الكمومي يدخل تمييزا واضحا جدا ،مجهوال تماما في اليكانيك الكالسيكي ،بين الظاهرات
(التي ال تنفصل عن الشروط األداتية لرصدها وتسمح باستخدام الحساب الكالسيكي
لالحتماالت) والظواهر البينية الشتركة (التي ال تفترض أية وسيلة أداتية للظهور وتتطلب
استخدام حساب السعات االحتمالية) .وهذا التمييز هو جزء ال يتجزأ من قدرته التنبؤية.
ً
وهنا أيضا ،بالنتيجة ،فإن استنتاج وتعميم تمثيل وخطاب ذري خارج الحقل العملياتي
صحتها ال يمكن أن يعتمد على أي تبرير آخر سوى على القيد بصرامة الذي تثبت فيه ّ
َّ
رسوخ بنيتها التاريخية.
N. Bohr, Essays 1958-1962 on atomic physics and human knowledge, Ox Bow Press, 1987, p. 3. 376
377الرجع السابق.
378نص لنيلز بور ذكره هايزنبرغ في كتابه.W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Michel, 1972, p. 285 :
379راجع القدمة التي كتبها شيفاليه C. Chevalleyإلى نيلز بور فيN. Bohr, Physique atomique et :
.connaissance humaine, Folio-Gallimard, 1991
225
وكمية الحركة) ،فإنه يجعل بنيتها ذات إمكانية الظهور الكبيرة متطابقة مع البنية
التنبؤية للنقاط الادية التحركة .ومع القبول من جهة أخرى أن متغيرين متكاملين
مقاسين على التوالي يمكنهما تمييز الجسم الذري "نفسه" ،فإنه يسقط طرح السؤال
ّ
الدقيق حول التوفر الدائم لعايير إعادة التعيين لهذا الجسم بين لحظة القياس األولى
ولحظة القياس الثانية .أما هايزنبرغ فقد أشار من جهته إلى التحوالت العميقة التي
ّ
تعرض لها البرنامج الذري في فيزياء القرن العشرين ،ولكنه احتفظ بالبدأ الذري .فمن
ً
الصحيح وفقه أنه ال يجب اعتبار الذرات من اآلن فصاعدا إال كـ "أشكال مختلفة يمكن
أن تظهر من خاللها [ "380]...مادة أولية من نمط أرسطي يشبهها بالطاقة؛ لكن هذا يعني
ً
أن أجساما من هذا النمط تستمر على األقل في هويتها الصريحة والقطعية .إن مشروع
النظرية الذرية الديموقريطية ،الذي كان يسعى إلى "تفسير التنوع النوعي لألحداث
الفيزيائية الخارجية بربطها بتنوع في األشكال ،"381يمكن أن ي َ
تابع على هذا النحو شرط أال
حد من مفهوم الشكل ليصبح مفهوم الحد الكاني لجسم مادي ،وأخذه وفق معنى َي ّ
َّ
موسع لشكل رياض ي .كتب هايزنبرغ بهذا العنى ،أنه يمكننا حتى التأكيد أن "[ ]...النظرية
الحديثة تدمج فيها األفكار الرئيسية والجوهرية للنظرية الذرية بطريقة أكثر نقاء مما
ّ
الجد َدة كانت تقوم به النظرية القديمة ."382ويظهر هنا مرة إضافية دمج العناصر
ّ
واالحتجاج على استمرارية تاريخية كدمج مشكل للنظرية الذرية العاصرة.
سا للميكانيك الكمومي ال ّ ّ ً
يحد نفسه وال بد من العودة إلى شرودنغر لكي نجد مؤس
ً ً باقتراح ّ
تغير نهائي في النظرية الذرية ،بل الذي يشكك أحيانا في أكثر عباراته تركيزا حتى
باإلطار التصوري لها .وهو يعتبر في الواقع أن "[ ]...النظرية الذرية الحديثة كانت قد
وقعت في أزمة "383ال سابق لها .وبتحديد أكبر ،فإن الفيزياء الكمومية نفسها هي التي،
E. Schrodinger, "Sur la théorie du monde d'Eddington", Nuovo cimento, 15, p. 246-254, 1938. 388
228
التقطعة والحصرية بالتبادل ،التي نفسرها في النموذج الذري على أنها أثر صدمة
جسيم ،يمكن أن يتم ّ
تصورها كبنى منبثقة تنتج عن التطور الستمر لتابع موجة شامل
مرتبط بكلية سلسلة القياس والوسط الحيط .ففي النطاق الذي نمتلك فيه نظرية
تبادل من هذا النوع ،نظرية تأخذ بعين االعتبار الظهورات التقطعة (غير الستمرة)
باستخدام قانون التطور الستمر وحده في اليكانيك الكمومي (معادلة شرودنغر) ،كما
ً
الحظ مؤخرا أخصائي فك االرتباط هانس -دييتر زه ]...[" ،Hans-Dieter Zehفإنه يبدو
أنه ال يوجد فيها أي باعث منطقي [ ]...من أجل إدخال مفاهيم مثل مفاهيم الجسيمات
ً
[أو] القفزات الكمومية [ ]...على مستوى جوهري" .بل إن عنوان مقالته كان مجردا من
أي التباس أو ريبة" :ليس هناك قفزات كمومية ،وال جسيمات!."389
تقدم لنا نظرية الحقول الكمومية التمثيل الضاد الثاني ،وهي اليوم النظرية األكثر
ً ً ً
تأييدا وتأكيدا وإحدى النظريات الكمومية األكثر تقدما .إن التمثيل الذي تقدمه صوريتها
قريب في فكره بشكل مميز من النموذج الكوزمولوجي الذي كان يدافع عنه شرودنغر،
األمر الذي ال يشكل صدفة على اإلطالق طالا أن شرودنغر كان أحد رواد النظرية
الكمومية للحقول وأحد أكثر الدافعين عنها حماسة نحو نهاية فترة عملهّ .
حل هذا
التمثيل الجديد محل مفهوم تعددية nجسيم ،وهي سوية التحريض nلوسط مهتز
وحيد .وهو يسمح بشكل خاص باستبدال الفاهيم الشكوك فيها لـ "خلق" و "إفناء"
الجسيمات (التي يقود إليها التكافؤ النسبي بين الادة والطاقة عندما نطبقه في إطار فكر
تغير حالة الوسط الهتز .وهكذا فإننا ننتقل من وجهة نظر النظرية الذرية) ،بمفهوم ّ
ً
إحصائية بالدرجة األولى إلى وجهة نظر ديناميكية جوهريا .وهكذا يتم التخلي عن
وضع والدائم بالنسبة لحركته َ ً
تفوقا للحامل ال َم َ
العت َبرة ّ
"التشيؤي" ،الذي يمنح النموذج
كصفة انتقالية ،وفي مكانه يتم اعتماد نموذج كمومي نسبي يتركز االنتباه فيه على تغيرات
H.D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!", Phys. lett., A172, p. 189-192, 389
1993.
229
الحالة بينما يترك أساسه الفترض في خلفية الشهد .إن التعليم النهائي واألوضح لصورية
النظرية الكمومية للحقول ،مهما كانت معتبرة من الدرجة األولى ،استخلصه بول دايفس
ً
Paul Daviesهنا أيضا في عنوان إحدى مقاالته" :الجسيمات ال توجد."390
6 -5ضعف ومقاومة "براهين وجود" الذرات
يجب في الوقت الحاضر ،لكي نتأكد من أن التمثيالت الضادة جديرة بالتصديق،
إتمام مهمة كنت قد وضعت الخطوط األولى لنتيجتها فيما يخص نظريات فك االرتباط.
ََ
الدركة عادة كـ "براهين على وجود" وتشتمل هذه الهمة على البرهان أن الظاهرات
ً
أجسام ذات طبيعة جسيمية تقريبا ليست كذلك .وهي ليست كذلك ليس فقط ،كما
ً
سبق ورأينا ،ألن أجزاء البراهين التي تقدمها ليست كافية وألن تفسيرها ليس مقرونا
ً
بالتمثيالت الذرية إال بواسطة سالسل من التقريبات التتالية ،بل وأيضا ألن هذه
الظاهرات يمكن أن تؤخذ بعين االعتبار على األقل بالقدر نفسه باستخدامها لنموذج
ّ
استبدال ال يفترض أي عنصر من نمط جسيمي .كتب دسبانيا" :مضللة في الحقيقة بالغة
بوضوح
ٍ الوقائع الصغيرة [التي تدافع لصالح التمثيالت الجسيمية] .وما نعتقد أنها تبرهنه
معم ،فإنها ال تبرهنه في نهاية الطاف ."391فال التأثيرات على الشاشات ،وال اآلثار في غرف
ٍ
ً
الفقاعات ،وأضيف أيضا وال الصور الوحية التي تزودنا بها الجاهر ذات األثر النفقي،
تبرهن ما يبدو أنها تبرهنه.
تكمن السألة في أنه ليس من السهل البرهان على ذلك ،خاصة عندما ال نرغب في
الدخول في كافة تعقيدات الصورية الكمومية .وسوف أقدم كشاهد على هذه الصعوبة
الطريقة التي عمل بها برنار دسبانيا نفسه ،من أجل دعم تأكيداته القوية ،فلجأ إلى
تقريبات حاول في بعض األحيان أن يعالجها في عرضه الخصص للجمهور الواسع كما لو
P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, 390
Adam Hilger, 1984.
B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière, Fayard, 1993, p. 214. 391
231
أثر في حجرة فقاعات يبدو أنه ال يمكن أن
كان يأخذها بشكل حرفي .اختار دسبانيا مثال ٍ
يفسر إال كأثر مرور لجسيم متموضع في كل لحظة .والحال ،كما يالحظ ،أن اليكانيكَّ
ً ً
الكمومي يقدم تفسيرا غير جسيمي لهذه الظاهرة" :إنه يصف كال من الجسيمات
العارضة بواسطة موجة مستوية تنتشر من األعلى إلى األسفل ،مما يعني أن الجسيمات
ال يكون لها عند نقطة البداية أي تموضع ."392ويسمح اليكانيك الكمومي بعد ذلك
باالعتماد على قاعدة بورن بحساب "االحتمال من أجل أن يتم تحريض جزيئين من
السائل الذي تحتويه [حجرة الفقاعات] ،وذلك بسبب تفاعلها مع مثل هذه الوجة" .بعد
ً
القيام بذلك ،نستنتج "[ ]...أن هذا ااالحتمال ضعيف جدا في كافة الحاالت ،باستثناء
ً
الحاالت التي يقع فيها الجزيئان العنيان على خط شاقولي واحد تقريبا ."393إن ظاهر
مسار جسيمي متموضع يمكن بالتالي أن يؤخذ بعين االعتبار بواسطة نموذج تفاعل
احتمالي لوجة ممتدة مع الكونات الجزيئية لوسط يمأل حجرة الفقاعات.
لكن هذه اإلمكانية ال تكفي بالتأكيد إلعطاء التفضيل للتمثيل القترن بها .يضيف
ً
دسبانيا بالتالي حجة هامة :إن تفسير استبدال اآلثار في حجرات الفقاعات يتوافق تماما
مع القوانين العامة للفيزياء الكمومية ،في حين أن تفسير النطق السليم ،التفسير الذي
يؤدي إلى إظهار مسار جسيمي ،يندرج خطأ ضد هذه القوانين .394وهكذا يبدو أن خيار
التمثيل الالجسيمي يفرض نفسه في هذه الشروط.
أالحظ مع ذلك بعض األخطاء في هذه الطريقة في عرض البيان التناوبي لظاهرة اآلثار
في حجيرة الفقاعات .أخطاء ال تلغي الخالصة العامة الستخلصة من قبل دسبانيا من
محاكمته ،بل التي تجعلها أقل حتمية طالا كنا ال نلجأ إلى حجج أخرى.
،B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière 392الرجع السابق ،ص406 .؛ B. d'Espagnat, "On the
difficulties that attributing existence to «hidden» entities may raise', in F. Bonsack (ed.), On the status
of hidden entities in physics, 1999.
393الرجع السابق ،صB. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière .406 .
394الرجع السابقB. d'Espagnat, "On the difficulties that attributing existence to «hidden» entities .
'may raise
231
الخطأ األول هو خطأ شائع في العمق .وهو يشتمل على إدخال أجزاء من التمثيالت
َ
الذرية في بيان لآلثار يسعى إلى التحرر منها .ال شك أن اإلشعاع العارض يعالج وفق نمط
َّ
موجي ،لكن السائل الحتوى في حجيرة الفقاعات يفترض أنه مؤلف من كثرة من األجسام
ً الم َ
وض َعة تقريبا (الجزيئات) والقابلة للتحريض .395ال شك أن هذا العالج الصغيرة َ
مشروع كتقريب للمسألة ،طالا بقينا موجودين ضمن شروط السرعة النسبية الضعيفة
واالختالف الكبير في الكتلة بين اإلشعاع النشور والراكز الناشرة له ،غير أنه من
ً
الضروري الحفاظ دائما في فكرنا على أن األمر ال يتعلق إال بتقريب .ومن جهة أخرى،
ً
بدال من الحديث ببساطة عن موجة مستوية تنتشر في حجرة الفقاعات ،يقرن دسبانيا
في دراسته " "regards sur la mtièreموجة بكل جسيم؛ موجة من الفترض أن تصف
الجسيم القترن بها .والحال ،وهو ال يجهل ذلك ،أن هذا النمط من التعبير الشائع لدى
الفيزيائيين هو أحد األنماط التي "توحي [ ]...مع قوة األدلة الزائفة ،بالذرية الفلسفية."396
ً ً ً
لهذا فإنه يختار في مقاله الحديث حول هذا الوضوع ألفاظا أكثر حذرا وأكثر توافقا مع
الدروس التي استنتجها من التحليل الكلي للظاهرة الذي أشاد به بور .فلم يعد يتحدث
عن جسيمات موصوفة بواسطة موجات بل باألحرى عن "كينونات [ ]...يجب علينا أن
َّ َ
نعتبرها [بالنسبة للظاهرة الحللة] على أنها من طبيعة الوجات بشكل أساس ي" .إن البقية
الوحيدة الباقية هنا من النظرية الذرية هي جمع لفظة "كينونة".
ً
غير أن هذا التصحيح ليس كافيا .فصورة كثرة من الوجات الحادثة التي لها احتمال
ً
معين في تحريض الجزيئات التموضعة في الحجرة ذات الفقاعات ال تتقارب كثيرا مع
صورية اليكانيك الكمومي العياري الدفوع حتى نتائجه القصوى .وبالعنى الدقيق
ً ً ً
للكلمة ،فإن بيانا كموميا للظاهرة يجب أن يدخل تابع موجة شامل (وغالبا ما يكون "
ً ً
متشابكا أو متمازجا") من أجل التحضير الذي يشتمل في آن واحد على اإلشعاع الطارئ و
قطاع معين من حجرة الفقاعات.
395الرجع السابق.
B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994, p. 421. 396
232
إن هذا النمط من العالجة الكليةّ ،
الميز لنمط عمل صورية متجهات الحالة في
فضاءات هيلبرت الناتجة ،معروف منذ عام 0949على األقل ،من خالل القالتين
ّ
الؤسستين اللتين وضعهما كل من داروين C. G. Darwinوموت .N. F. Mott 397وهما
مقالتان شهيرتان (خاصة الثانية) ،إنما حيث يبدو أنه لم تستخلص منهما كافة الدروس
حتى اآلن .هذا إلى حد أن بل J.S. Bellدهش من أن "[ ]...كثيرين من التالميذ اجتهدوا لكي
ً
يعيدوا بأنفسهم اكتشاف أفكار من هذا النوع .وعندما يتوصلون إلى ذلك فإن ذلك غالبا
ما يكون مع إحساس بالكشف ."398ولكن على ماذا تشتمل بالضبط هذه األفكار؟ لقد
اندهش موت ،بعد داروين ،من وجود نوع من الالتناظر في بيان صيرورة إشعاع ألفا ،α
ً ً
عندما نعتبر حينا إصداره ،ونعتبر حينا آخر اآلثار التي يتركها في حجرات ويلسون .إن
النظرية الكمومية للتحلل اإلشعاعي ،التي تسمح بتفسير إصدار اإلشعاع αعلى الرغم من
ً
عال جدا بحيث ال يستطيع جسيم عادي طاقته ضعيفة أن يجتازه، وجود حاجز كمون ٍ
تتضمن مفهوم األثر النفقي ،ومعالجة اإلشعاع αكموجة .تتناقص سعة هذه الوجة
بشكل ّأس ي مع ثخانة حاجز الكمون ،لكنها تظل غير معدومة على الرغم من االرتفاع
الفرط للحاجز بالنسبة للطاقة الحركية التوفرة لإلشعاع .ولهذا ،فإن احتمال إصدار
اإلشعاع ،αالذي يقدمه مربع معامل سعة هذه الوجة ،هو نفسه غير معدوم ،على
عكس ما ستكون عليه الحالة بالنسبة لجسيم كالسيكي له الطاقة الحركية نفسها .فإذا
أردنا أن نعطي للبيان الكمومي درجة كافية من التماسك والقوة ،فيجب بالتالي وفق
داروين وموت االستمرار في استخدام صورية توابع الوجة بشكل حصري عندما نواجه
مسألة اآلثار في غرفة ويلسون أو في حجرة فقاعات .والحال أنه للقيام بذلك ال يجب أن
C.G. Darwin, "A collision problem in the wave mechanics", Proceedings of the Royal Society, 397
London, A124, p. 375-394, 1929; N. F. Mott, "The wave mechanics of α-ray tracks", Proceedings of
the Royal Society, London, A126, p. 79-84, 1929 (repris dans J.A. Wheeler & W.H. Zurek, Quantum
theory and measurement, Princeton University Press, 1983).
J.S. Bell, Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987. 398
233
نحاول تطبيق هذه الصورية على اإلشعاع الطارئ؛ بل يجب ّ
مده على الكلية الكونة من
ً
اإلشعاع والناطق الكانية ذات الصلة لحجرة ويلسون .يقبل موت تماما أن تابع الوجة
ّ
متعدد األبعاد الذي ينتج عن هذا الحساب ال يسمح بأي وصف للصيرورات االفتراضية
الجارية في قطاع الزمكان الذي تغطيه حجرة ويلسون .غير أن هذا التابع يقدم لنا على
األقل وسيلة لتقدير احتمالية أن تظهر متوالية معينة من القطرات الائية (أو من
الفقاعات) التراصفة بشكل تقريبي .فهو يسمح لنا أن "[ ]...نتنبأ بنتيجة أي رصد كان"
يتخذ شكل أثر متوالية من القطرات أو من الفقاعات .وبالتالي فإننا نتوصل ،فقط بشرط
أن نكون قد دفعنا الصورية الكليانية والنظام التنبؤي البحت للميكانيك الكمومي حتى
ً
نتائجهما القصوى ،إلى االلتفاف تماما على التمثيل شبه الجسيمي لإلشعاع αالحادث،
حتى نجده من جديد في نهاية الطاف ،كوسيلة مجازية لتمثيل األثر الستمر لسار
السلسلة التقطعة من القطرات التي سبق وحسبنا احتمالها" :فال يجب أن نأتي على ذكر
أن اإلشعاع αيتألف من جسيمات قبل هذا التفسير االحتمالي النهائي".
لنتساءل اآلن لاذا لم تتم ترجمة هذا اإلجراء من استخدام التوابع الوجية أو
التجهات العامة للحالة من أجل حساب احتمال الجموعات التوالية من الظاهرات،
ً
على الرغم من كونها معروفة جدا ومستخدمة في غالب األحيان ،لاذا لم تتم ترجمتها
مباشرة ترجمة فلسفية بمصطلحات نقد البقايا النهائية من التمثيالت الجسيمية .يمكن
ً
أن نجد السبب الرئيس ي لهذا األمر في أعمال لهايزنبرغ معاصرة إلى حد ما .399ووفقا
لهايزنبرغ ،فإن النتيجة نفسها تتم على نحو إدراج إشعاع αومكونات حجرة ويلسون في
منظومة وحيدة مركبة يقرن بها تابع موجة شامل ،أو أال نقرن تابع موجة إال بشعاع α
واعتبار حجرة ويلسون كجهاز قياس يوصف بواسطة الفيزياء الكالسيكية .في الحالة
الثانية ،يجب أن يتم إدخال أو إحداث انقطاع في مكان ما بين النظومة الكمومية
W. Heisenberg, Les principes physiques de la théorie des quanta (1929-1930), Gauthier-Villars, 399
1972.
234
والجهاز شبه الكالسيكي للرصد ،غير أن تحديد موضع هذا االنقطاع بالنسبة لهايزنبرغ
كما بالنسبة لبور هو شبه عشوائي؛ إنه يتعلق فقط باعتبارات براغماتية .ولهذا فقد
ً
بذل هايزنبرغ جهده لكي يبرهن أنه من الكافئ تنبؤيا ،في مسألة آثار إشعاع αفي حجيرات
ويلسون ،معالجة شعاع αوحيد بواسطة تابع موجة ،حتى جعله يتعرض لـ "اختزاالت"
متتالية عند كل تشكل لقطرة ما ،واستخدام توابع موجة شاملة تصح بالنسبة
للمنظومة (شعاع + αحجرة ويلسون) وال تتعرض كتوابع شاملة إلى "اختزاالت".
ً
يجب مع ذلك اإلشارة عند هذه النقطة إلى أنه ،إذا كان صحيحا أن الطريقتين
ً ً
تقدمان تنبؤات متطابقة ،لكنهما ليستا متكافئتين تعليميا وتجريبيا .فالنهج الذي
يستخدم "اختزاالت" متوالية لتابع الوجة الرتبط فقط بإشعاع αيتمتع بالتأكيد بميزة
القدمة بواسطة الرصد النقطيالبساطة .وهو يشتمل في الواقع على استخدام العلومة َّ
لقطرة ماء من أجل ربط تابع موجة جديد باإلشعاع ،αاألمر الذي يسمح بدوره بالتنبؤ
بالظاهرات التالية لتشكل قطرة الاء هذه .فكل ش يء يجري هنا كما لو كنا نستخرج عند
ً ً ً
كل رصد نقطي جزءا صغيرا متوافقا من العلومات الحتواة في تابع الوجة الشامل
الرتبط بالنظومة (اإلشعاع + αحجرة ويلسون) :هذا الجزء هو الذي يسمح بأن نحسب
بشكل انتقائي احتمال الرصد النقطي التالي .تكمن الشكلة في أن الذين يستخدمون هذه
ً ً
الطريقة ينسون عموما تابعها الحدود؛ ويفقدون غالبا رؤية واقع أن "االختزاالت"
التتالية ليست بأي حال من األحوال تغيرات مستقلة لتابع الوجة بل إعادات تعيين
لشكله يتم فرضها ألسباب تتعلق بسهولة وبساطة االستخدام .وتكون نتيجة هذا
النسيان أننا ننتهي بأن نعتبر التطور التقطع للتابع الوجي ،من خالل االنتشار
و"االختزاالت" التتالية ،كنوع من بيان وصفي للصيرورة الفيزيائية التي هي أساس اآلثار
الظاهرة في حجرات الفقاعات .إن هذه الطريقة في الرؤية (وليس شكالنية النظرية
الكمومية بذاتها) هو ما ّ
يحرض الشاكل والتناقضات العتادة حول آلية "اختزال حزمة
الوجات" .وعلى العكس ،فإن طريقة التوابع الشاملة للموجة المتزجة (أكانت مطبقة
235
من خالل القراءة االحتمالية األولية لوت ،أو من خالل التفسير النمطي لفان فر ّ
اسين ،أو
من خالل التمثيل التخيلي إليفيريت) تتميز بالحفاظ بشكل دائم على تمييز واضح بين
النموذج التنبؤي الستمر وسلسلة األحداث التقطعة التي يجب التنبؤ بها .إن السألة
ّ
الوحيدة التي يجب حلها في هذا اإلطار الفكري تتعلق ليس بأي "اختزال" متقطع لتابع
الوجة (الذي ال سبب لوجوده) ،بل بالطريقة التي يتم بها االنتقال بين حساب لالحتماالت
ذي بنية موجية وحساب كالسيكي لالحتماالت ،كما أن تابع الوجة الشامل يخص على
ً
التوالي منظومات أكثر فأكثر قربا من سوية التعقيد الجهاري .وكما نعلم ،فإن إجابة
َّ
الحدد ،باألحرى منها إجابة مباشرة على السؤال حول منطقية مرضية على هذا السؤال
"اختزال حزمة الوجات" ،قدمتها نظريات فك الترابط .décohérence
يعرف برنار دسبانيا معرفة تامة بالطبع كافة هذه النقاط الدقيقة في النظرية
ً
الكمومية للقياس؛ بل هو حتى أحد الؤلفين األكثر إسهاما في العالم في توضيحها .ولهذا
ً
السبب فهو يعي تماما ،في هذا الجانب كما وفي جوانب أخرى ،أنه لم يستخدم سوى
ّ
مقاربة ،في بيانه الخصص للجمهور الواسع ،لصيرورة تشكل اآلثار في حجيرات
الفقاعات .400تكمن الشكلة في أننا ال نستطيع االعتماد صراحة على القاربة من أجل
ً ً
تقديم تفسير إال بشرط أن نقرن فقط بلفظة تفسير معنى براغماتيا ضعيفا من نمط
العنى الذي يقترحه فان فراسين .401فوفق فان فراسين ال تقبل سلسلة من القترحات كـ
تقدم على سؤال "لاذا" إجابة َ
تعت َبر مقنعة بالتوافق ،في إطار "تفسير" إال إذا كانت ّ
مجموعة من العتقدات الشتركة من قبل التحاورين ومن التقريبات التي يقبلون بها .وهي
تصح إال بالنسبة لهذا اإلطار ،وليس في الطلق ،ككشف عن األسباب االنتقالية ّ ال
للظاهرات .وهي يمكن أن تكون بالنتيجة موضع تساؤل بالكامل في إطار آخر حيث ال تعتبر
التقريبات النجزة مقبولة.
B. d'Espagnat, Réponse à "L'avenir de l'atomisme" de M. Bitbol, in M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et 400
réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.
401الرجع السابقB. Van Fraassen, The scientific image .
236
ولكن حتى مع ذلك ال يتم حل كافة الصعوبات .فحتى مع افتراض أننا قبلنا بالتقريب
القترح ،فإننا نظل مجبرين على االستنتاج أن العناصر التي تدخل فيه ال يمكن أن
تستخدم كعناصر تفسيرية إال بمعنى واسع بشكل مفرط .وباستثناء ّ
مد التوافقات
البراغماتية للتفسير إلى ما وراء ما يمكن أن يقبل به معظم أعضاء مجتمع التحاورين،
فإن اإلجابة القترحة على سؤال "لاذا توجد صفوف من الفقاعات تحاكي أثر مسار ما؟"
تظل إجابة غير مقنعة .لنفترض أننا في الواقع مع برنار دسبانيا ال نعطي معنى آخر
لكينونات نظرية في اليكانيك الكمومي مثل تابع الوجة إال معنى أداة رياضية لحساب
االحتماالت ،وبعبارة أخرى أداة تنبؤية بحتة .فكيف يمكننا القول عندها إن البيان
ً
الكمومي التقريبي لآلثار في حجيرات الفقاعات يقدم تفسيرا لها ،بل وأكثر من ذلك كيف
ً
يقدم تفسيرا ينافس التفسير الذي يدخل في حسابه مرور جسيم؟ يمكننا أن ندعم ،مع
402
،Hempelفكرة "تفسير احتمالي" يشتمل على إعادة الربط من خالل قانون هامبل
احتمالي بين حدث ينتج في موضع زمكاني معين (اإليضاح )l'explicandumمع حدث وقع
ً ً ً
سابقا وهو عموما بعيد عن األول (التفسير .)l'explanansوقد أشار دسبانيا أيضا إلى أنه
كان يفكر بهذا النوع من التفسير في بيانه عن اآلثار في حجيرة ذات فقاعات .403ومع ذلك،
ً
فإنه ال يهم كثيرا اعتبار القيمة الحلية ألداة حساب االحتماالت نفسها (في هذه الحالة هي
القيمة الحلية لتابع الوجة) كنوع من تفسير explanansوسطي .فإذا أصبح حدث Bفي
ً
نقطة PBأكثر احتماال من خالل التدخل السابق للحدث Aفي النقطة ،PAفإنه يمكننا
ّ القول وفق العنى الذي يشير له هامبل إن الحدث ّ A
يفسر بطريقة احتمالية تدخل
ّ
الحدث B؛ لكن ال يمكننا التأكيد بأي حال من األحوال أن التوزع الكاني وتطور تابع
االحتمال بين الوضعين PAو PBيفسران بنفسهما تدخل الحدث .Bإن العنصر األكثر
404إن هذا النوع من العالقة االحتمالي وشبه السببي في آن واحد عبر التواصل بين الوجة الحادثة والجزيئات
القابلة للتحريض يحمل بعض الشبه مع أطروحة بور وكريمرز وسالتر في عام Bohr, Kramers et :0942
ّ
) .Slater, ("The quantum theory of ratiation", Phil. Mag., 47, p. 785-802ولنذكر أنه وفق هذه األطروحة،
فإن موجة كهرطيسية كانت تعتبر ككينونة "افتراضية" صادرة عن كل ذرة وقابلة ألن تثير باحتمال Pتحريض
الذرات الشعة بواسطتها.
238
إلى ذلك) على االقتصار على مالزمة صرفة لإلجراءات العملياتية على حساب هدف
التمثيل .يمكن لهذا الوقف التراجع أن يشكل على العكس الرحلة األولية التي ال غنى
ً
عنها للتقييم الصافي للقيود التي يجب أن يحققها كل تفسير أكثر طموحا ،يمكن أن يقترح
في الستقبل ،أو التي كان يجب أن تحققها التمثيالت الستخدمة كدليل للبحث في
الاض ي .إن النقد الحقيقي ،الذي يظل بإمكان الواقعي توجيهه إلى كل من ّ
يمجد ذرائعية
منهجية أكثر منها عقائدية ،ليس بالتالي منع كل تمثيل أو إيقاف الوظيفة الداللية
ً
للمرجع ،بل ترك الباب مفتوحا ،ما أن يتم أخذ القيود التنبؤية بعين االعتبار ،لدرجة
معينة من تعددية التمثيالت ولتنوع متالزم للمنظومات الرجعية.
ينتقل النقاش ضمن هذه الشروط إلى موضع آخر .فلم يعد األمر يتعلق باعتماد أو
رفض عقائدي لتمثيل خاص مثل الذهب الذري ،باسم براهين أو تفنيدات تجريبية تعتبر
حاسمة ونهائية .بل يتعلق األمر بمناقشة الطابع القبول أو غير القبول لتعددية
للتمثيالت ،أوللنماذج اإلرشادية (الساعدة على الكشف) ،أو للمنظومات الرجعية أو للـ
"أنطولوجيات" 405القترنة بها ،وذلك بالنظر إلى القيود الفروضة من خالل الحتوى
ّ
التنبؤي للنظريات الكمومية .ولكن قبل أن نأتي إلى هذه النقطة ،علينا أن نذكر بإيجاز ما
هي القيود التي يجب أن ينضوي تحتها أي تمثيل كان للجسم الفترض للنظريات
الكمومية ،وبالقابل أي خطاب يتعلق بهذا الجسم.406
تستند القيود على التنبؤ وعلى الرجع ،أو إذا كنا نفضل على الفاهيم الصورية
للخاصية ولحامل الخصائص.
لنبدأ بالتنبؤ .نعلم أنه في الفيزياء الكمومية ال يمكن للنتائج التجريبية بشكل عام أن
تصبح مستقلة عن نظام استخدام التجهيزات .تفرض عالقات هايزنبرغ على سبيل الثال
ً
405وفق معنى داللي وكويني (نسبة إلى كوين )Quineبدال باألحرى منه معنى ميتافيزيائي.
406من أجل مناقشة معمقة أكثر ،راجعM. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction :
ً
،philosopiqueالرجع السابق ذكره ،وراجع أيضا الفصل الثاني من هذا الكتاب.
239
أن قيمة لكمية الحركة ال يمكن أن تكون قابلة إلعادة اإلنتاج بدقة إال إذا لم يجر أي
قياس للموضع أثناء ذلك .وفي الحالة العاكسة ،فإنه ال يمكن إيجاد قيمة كمية الحركة
إال مع هامش تشتت إحصائي تتعلق سعته بالتشتت القبول على القياس الوسطي
للموضع .والحال أننا لو أردنا االرتكاز على نتيجة من أجل إسناد خاصية يملكها جسم
بشكل مستقل عن القياس ،وإذا أردنا اعتبار النتيجة كمجرد انعكاس سلبي للخاصية،
فسوف يلزم على األقل أن نستطيع االعتماد على درجة كافية من ثبات النتيجة اتجاه
شروطها األداتية في الحصول عليها واتجاه التواليات األداتية التي سبقتها .إن فصل
تحديد للظروف التجريبية ونسبه بشكل خاص إلى جسم ،يفترض أن يظهر بالحد األدنى
ٍ
المباالة معينة اتجاه هذه الظروف .فإذا كنا نرغب على الرغم من حساسية النتائج هذه
للظروف التجريبية أال نتخلى بالكامل عن الفهوم الوصفي للخاصية وعدم التمسك
بالفهوم التنبؤي للـ "مرصود" ،فإن مخرجين ينفتحان أمامنا .يشتمل األول على إيجاد
عملية تسمح بجعل تنبؤ ما مستقل صراحة عن األطر التجريبية ،تنبؤ ال يمكنه مع ذلك
محدد بمجموعات تحتية معينة من األطر َّ االعتماد بشكل محسوس إال على ثبات
الناسبة .لقد ّ
قدمت "النطقيات الكمومية" ،غير التوزيعية أو ثالثية التكافؤ ،مثل هذه
ً
العمليات .أما الخرج الثاني فكان قد أشير له منذ فترة مبكرة جدا من تاريخ اليكانيك
الكمومي .وينطلق الذين يأخذون به من فكرة ،أصبحت شائعة منذ تأمالت هايزنبرغ وبور
حوالي عام ،0941وهي أن كل نتيجة ليست االنعكاس الباشر والسلبي للخصائص
الفترضة للجسم ،بل الظهور غير الباشر لتفاعل غير قابل للتحليل بين الجسم وجهاز
يكفي تدخله الوحيد إلى تغيير الخصائص التي نحاول إثباتها .ثم بعد أن ينتقدوا
"انهزامية" الباحثين الذين يتمسكون بهذا االستنتاج من عدم قابلية التحليل التجريبي،
فإنهم يؤكدون أن ال ش يء يمنع أن نحلل بواسطة الفكر صيرورة التفاعل بين الجسم
واألداة .إن الحصلة النطقية لهذا التصور ليست سوى النظريات ذات التحوالت
الخفية ،أي النظريات التي تحاول تقديم وصف للخصائص "عبر -التجريبية" الفترضة،
241
هذا مع الربط مع التنبؤات التجريبية للميكانيك الكمومي .غير أن هذا الربط يفرض
ً
بالطبع هو نفسه قيودا على النظريات ذات التغيرات الخفية .والقيد الرئيس ي بين هذه
القيود هو التالي :تتأثر الخصائص التحتية الكامنة الفترضة فيما بينها بشكل آني عن
ً
بعد؛ ووفقا لبرهنة بل ،Bellفإن النظريات ذات التغيرات الخفية ترتبط بالموضعية
هذه التغيرات .وثمة قيد آخر ،سبق أن ذكرناه ،هو السياقية ،أي التأثير َ
المارس على كل
تحديد بواسطة السياقات التجريبية أو الطبيعية الكتشافه.
لنأت اآلن إلى الرجعية .وفق سيرل ،J. Searleفإن اإلسناد أو اإلرجاع إلى ش يء ما هو
ً
التعهد بإعادة تحديده .407ووفقا لكريبكه S. Kripke 408فإن استخدام الفهوم (التسمية)
يعني القدرة على ربط الش يء السمى بفعل تكريس بدئي .وفي كافة األحوال ،فإن اإلسناد
يفترض اإلمكانية الفعلية أو النظرية إلقامة رابط استمرارية زمنية بين تعيين حاضر
َ
مموضع من نمط ماض أو مستقبلي .وبشكل أخص ،فإن اإلسناد إلى جسم وتحديد
ٍ ٍ
"الجسم الادي" يفترض إمكانية تتبع مستقبل صيرورته عبر مسار مستمر .والحال أنه كما
أشار إلى ذلك شرودنغر 409بقوة ،فإن هذه اإلمكانية تنقصنا في نظام الظاهرات
ً
الكمومية .إن عالقات هايزنبرغ تستبعد عموما التتبع التجريبي بشكل مستمر لسار
ّ
جسيمي .ومن جهة أخرى ،فإن قواعد تعداد األجسام ال يمكن أن تتقلص إلى القواعد
التي وضعها ماكسويل وبولتزمان من أجل جسيمات فردية وقابلة إلعادة التحديد ،وهو
ً
مؤشر غير مباشر وخفي إنما صادم جدا للوضع الجديد .وضمن هذه الشروط ،إذا لم
نكن نريد التخلي الكامل ببساطة عن القيام باإلسناد إلى جسم في تجارب الفيزياء
الكمومية ،فيبقى أمامنا ثالثة حلول رئيسية:
410هذا بشكل خاص التبرير الذي يمكننا تقديمه لعبارات مثل "رؤية الذرة بواسطة مجهر ذي أثر نفقي" ،أو
"دراسة ذرة معزولة في تجويف" ،إلخ.
،B. d'Espagnat, Le réel voilé 411الرجع السابق ،ص .14 .والجملة الستشهد بها ناجمة عن تصحيح(" :طالا
أن فرضية االكتمال لم تتحقق)" .أي أن صورية اليكانيك الكمومي ليست حيادية فيما يتعلق بمسألة
242
البدئي ،فإنهم ال يفشلون في تعداد البواعث والدوافع فوق النظرية وفوق التجريبية التي،
وفق هؤالء ،تكافح من أجل استبعاد النظريات ذات التغيرات الخفية.
الدافع األول هو أن النظريات ذات التغيرات الخفية هي نظريات "ميتافيزيائية"،
بالعنى األكثر جسارة ومغامرة للمصطلح .إن البنى الوصفية التي ّ
تطعمها على الصورية
التنبؤية للميكانيك الكمومي تكون في الواقع بحيث أنها تتضمن في ذاتها عدم قابلية
ً
الوصول للتجريب .وحتى إذا كانت القيمة اللحظية للمتغيرات نفسها ليست فعال غير
قابلة للوصول (على عكس ما توحي به عبارة "التغيرات الخفية") ،فإن التابعة نقطة
نقطة لسار "مستقل" ي َ
ستبعد بشكل رئيس ي بواسطة السياقية .412وإن استخدام تأثيرات
ً ً
غير محلية من أجل نقل العلومات آنيا عن بعد يصبح مستحيال من خالل عدم إمكانية
ً
السيطرة (البدئية أيضا) على الشروط البدئية .تصبح هذه النظريات بالتالي "عقيمة،"413
طالا أنها ال تفض ي إلى أي تنبؤ إضافي بالنسبة للميكانيك الكمومي العياري.414
ستحضر ضد النظريات ذات التغيرات الخفية فهو نتيجةَ أما الدافع الثاني الذي ي
للدافع األول .فكثرة وتعددية هذه النظريات والتمثيالت القترنة بها ،على الرغم من أنه ال
يوجد بعد أي معيار تجريبي يسمح بالفصل فيما بينها ،تبدو أنها ال تحظى بأية فرصة
ً
لالختزال وليصغر عددها في الستقبل .فأي سبب لدينا لألخذ بواحدة منها بدال من واحدة
ً ً
التغيرات الخفية إال بشرط أن نرى في هذه الصورية ليس وصفا كامال لـ "ما هو موجود" (األمر الذي يستبعد
ً
بالتأكيد كل إضافة وصفية) ،بل فقط أداة تنبؤية أو وصفا يحمل ثغرات.
412يطبق بيتبول هنا مصطلح السياقية contextualismeالذي يدل على نظرية في اللسانيات ،ووفقها يكون
ً
معنى لفظة ما مرتبطا مباشرة بسياق هذه الكلمة في الجملة( .الترجم)
413الرجع السابق ،ص.314 .
414قبل كل من بوم وهيلي نفسهما أن "نظريتهما" لم تكن في الواقع سوى "تفسير" للميكانيك الكمومي ،بمعنى
ً
أنها ال تعطي أي تنبؤ منفصل عن هذه األخيرة .أما النقاش حول موضوع إمكانية التمييز تجريبيا بين اليكانيك
ً
الكمومي العياري ونظرية بوم فيبقى مع ذلك مفتوحا :فكافة الؤتمرات حول أسس الفيزياء الكمومية التي
حضرتها خالل السنوات الثماني األخيرة كانت تتضمن على األقل اقتراح "تجربة حاسمة" تزعم أنها تسمح
بحسم السألة بين النظريتين.
243
أخرى كتمثيل ّ
وفي للطبيعة ،ضمن هذه الشروط؟ وكيف نزوغ من مشكلة ما تحت -
تحديدية النظريات إذا كان ما يشكل رابط هذه األخيرة غياب معيار القرار ليس فقط
ً
الحاضر بل والستقبلي أيضا؟
الدافع الثالث هو أنه يمكن التخلي عن هذه الطروحات دون محتوى تجريبي خاص
بسهولة أكبر من التخلي عن وسائل موجودة أقل جسارة باإلضافة إلى إنقاذ ّ
تصور واقعي
للنظريات الكمومية .415وهذه الوسيلة هي الواقعية البنيوية التي دافع عنها باحثون مثل
مخفف للواقعية ،سبق وناقشناه في َّ دسبانيا وريدهيد .M. Redhead 416إنها شكل
ّ
مفصل للصيرورات تقدم أي وصف الفصل الثالث ،ووفقه فإن النظرية الفيزيائية ال ّ
ً
الحقيقية ،بل فقط انعكاسا للبنى القانونية الكبرى للواقع.
ً
يعود الدافع الرابع إلى التنديد بشكل أكثر تحديدا بعيب في النظرية ذات التغيرات
الخفية لديفيد بوم :أي السمة "التراجعية" (بالعنى الذي يقصده الكاتوس)Lakatos 417
لب رنامج البحث الرتبط به .يالحظ دسبانيا في هذا الصدد أن برنامج بوم عانى من
انعطاف كبير هذه األيام األخيرة .فقد كان أنصاره مجبرين على التخلي عن فكرة أن
الجسيمات وخصائصها هي عبارة عن نموذج كوني من "الكينونات" :فقد تم حصرها
ّ
وتحدد التمثيل الجسيمي بالفرميونات ،ولكي تدخل ككينونات ّ
تخصص وتوجيهها لكي
جديدة كثافات الحقول البوزونية .وهكذا ،فإن الذين يدافعون عن برنامج بوم يعطون
ً
415تم استخدام محاكمة منطقية من هذا النمط حديثا من قبل كل من ريدهيد وتيلرRedhead et Teller ("Particle :
labels and the theory of indistinguishable particles in quantum maechanics", Brit. J. Phil. Sci., 43, p. 201-218,
ً
) ،1992وذلك في إطار مشابه جدا ،فكما يقول هذان الؤلفان" :طالا ال يوجد صورية بديلة تصف الظاهرات على األقل
ً
بالقدر نفسه من الجودة وتكون خالية من العيوب" ،سيكون علينا أن نقبل باستخدام الطريقة ،الصطنعة جدا ،التي
تشتمل على تسمية الجسيمات ،ومعالجتها كأجسام فردية ،ثم على إخفاء في نهاية الطاف النتائج التنبؤية لتسمية
ولفردانية الجسيمات .ولكن بما أنه يوجد مثل هذه الصورية البديلة ،أي صورية النظرية الكمومية للحقول ،فليس ثمة
ً
أي سبب لعدم اعتمادها في محل وموضع الصورية التي تشتمل على ترجمة شكلية للمفهوم الفارغ تجريبيا للجسيم
الفردي.
M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995. 416
417الرجع السابق ،صB. d'Espagnat, Le réel voilé .499 .
244
ً
االنطباع بتغيير تمثيلهم للعالم وفقا للظروف ،وتجزئته (تمثيل للفرميونات وآخر
ً
للبوزونات) واللهاث خلف العلومات التجريبية الجديدة بدال باألحرى من توقعها وسبق
األخرين إليها.
وباإلجمال ،فإن موقف الباحثين الذين ينتقدون النظرية التي اقترحها بوم عام 0964
ً
يشبه كثيرا الوقف الذي وصفه الكاتوس ]...[" :Lakatosإننا ال نلغي نظرية []...
ً
ميتافيزيائية إذا كانت تدخل في صراع مع نظرية علمية مثبتة جيدا ،على النحو الذي
تقترحه التفنيدية 418البسيطة .إنما نلغيها إذا أدت إلى انزالق تقهقري على الدى البعيد
وإذا كان هناك ميتافيزياء منافسة أفضل لتحل محلها."419
ً
ولكن هناك أيضا دافع خامس وأخير لرفض النظريات ذات التغيرات الخفية .وربما
كان هذا الدافع هو األكثر أهمية ألنه يرتكز على نتيجة نقد ذاتي هو في جزء منه غير
مقصود ألنصار هذه النظريات .إن نظرية بوم عام 0964ال تتوصل في الواقع ،مدفوعة
إلى أقص ى نتائجها ،حتى إلى احترام فكر برنامجها الخاص ،وهو فكر ذري في أصوله
ً
وبدايته .فهي بالدرجة األولى تمثل فعال العالم كمجموعة من الجسيمات النفصلة
والزودة بخصائص؛ غير أن الالموضعية والسياقية تقودان إلى اختفاء مجمل نتائج هذا
الفصل بواسطة الفكر .وقد أمكن البرهان منذ فترة قريبة (من خالل تحليل تجارب
418أدخل مصطلح التفنيدية كارل بوبر في منتصف القرن العشرين ،واعتمد في معظم العلوم الحالية .ووفق
هذا الفهوم ،يمكن طرح وإعداد نظرية ما دون قيود عليها .ولكن ما أن نحصل على هذه النظرية ،فإنه يصبح
من الالزم اختبار توافقها مع الطبيعة والواقع من خالل الرصد التجريبي والبرهان في النهاية أنها خاطئة .عندما
ً
نقول مثال إن الطيور كلها بيضاء ،فإنه يكفي أن نجد (تجريبيا) طيرا ليس أبيض اللون لكي نثبت خطأ مثل هذه
النظرية .إن منهجية "التفنيدية" ت شتمل بالتالي على إثبات أن نظرية ما غير صحيحة عن طريق تفنيد تجريبي
أي وضع صيغة نظرية مفندة .فالعلم يتقدم عن طريق االرتكاز على تفنيدات (على عكس االستنتاجية التي يبنى
العلم وفقها على نجاحات متتالية)( .الترجم)
I. Lakatos, The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press, 419
1978, p. 42.
245
تداخل النوترونات التي سبق أن ذكرناها )420أن الجسيمات التي ّ
تصورها بوم لم تكن
تحمل خصائصها إلى نقطة الكان الذي توجد فيه .وبتجريدها من ثوب خصائصها ،فإنه
يتم إرجاعها إلى صف " ،"bare particularsأي إلى صف "األجسام الفردية ال ّ
عراة" .عالوة
ً
على ذلك فقد استنتجنا أنه يمكن أن يحصل أن وجود جسيم ال يكون حتى ليس ضروريا
ً
لكي يستجيب كاشف له كما لو كان قد تلقى واحدا .يتعلق األمر هنا بظاهرة تسمى
" " fooled detectorsأي ظاهرة "الكواشف الخدوعة" .وبالنتيجة ،في العمق ،تحت
الطبقة السطحية للمفردات الذرية التبقية ،أظهرت القاربة القترحة من قبل بوم عام
0964أزمة النظرية الذرية بقدر ما أظهرت أزمة النسخ العيارية للميكانيك الكمومي.
انتهى األمر ببوم وبعدد من أنصار نظريته بقبول ذلك وباستخالص دروس جذرية.421
ً ً
وهكذا ،وفقا لبوم في السبعينيات والثمانينيات ،فإن أثرا في حجرة للفقاعات هو فقط
"[ ]...جانب من [صيرورة شاملة تحتية] تظهر في اإلدراك الباشر [ .]...ووصف هذا األثر
كأثر لـ «جسيم» يعود إلى القبول ،باإلضافة إلى ذلك ،بأن النظام األساس ي للحركة التعلق
بالجسم مشابه للنظام األساس ي الذي يظهر في الجانب الدرك مباشرة ."422إن الطرح
الجوهري الجديد لبوم هو أنه ،تحت النظام الصريح والظاهر للحركات ذات الظهر
الجسيمي في الزمكان ،هناك نظام ضمني كلي والزمكاني .وبالتالي فإنه ال يجب بعد ذلك
اعتبار "الجسيمات" الزعومة ،كما كتب ،كجسيمات مستقلة وموجودة بشكل منفصل؛
ً
إن خطابنا بمصطلحات الجسيمات هو طريقة لتضليل أنفسنا أنطولوجيا بإعطاء معنى
ً
الجزأة النشورة ابتداء من النظام الضمني .يش ّدد بوم قائال:
أساس ي للظهورات الزمكانية َّ
"إن لفظة «إلكترون» ال يجب أن َ
تعتبر سوى تسمية نجذب بواسطتها االنتباه إلى جانب
H.R. Brown, C. Dewdney & G. Horton, "Bohm particles and their detection in the light of neutron 420
" ،interferometryفي الرجع السابق.
421من أجل تعليق حول هذه النقطة ،راجع ،B. d'Espagnat, Le réel voiléالرجع السابق ،ص.323 .
D. Bohm, Wholeness and the implicate order, Ark Paperbacks, 1983, p. 155. 422
246
معين من الحركة الكلية؛ جانب ال يمكن مناقشته إال إذا أخذنا بعين االعتبار مجمل
الم َ
وض َعة النتقلة بشكل الوضع التجريبي ،والذي ال يمكن تعيينه بمصطلحات األجسام َ
مستقل في الكان .وبالطبع ،فإن كل نوع من «الجسيمات» ،الذي يقال في الفيزياء
مكون أولي للمادة ،يجب أن يناقش وفق الفكر نفسه (بحيث أن هذه الحديثة إنه ّ
423الرجع السابق.
424التعددية هي وفق برنار دسبانيا رؤية يتكون العالم وفقها من عناصر بسيطة تتفاعل فيما بينها بواسطة
قوى تتناقص مع ازدياد السافة بينها( .الترجم)
425الرجع السابق ،صB. d'Espagnat, Le réel voilé .335 .
R. Carnap, Meaning and cecessity, 2nd edition, The University of Chicago Press, 1956, p. 205, 426
trad. fr. Signification et nécessité, P.U.F., 1997.
247
مسألة تطبيقية باألحرى منه مسألة نظرية؛ إنه مسألة نفعية أو فعالية وليس مسألة
ً
مصداقية .ويتوافق هذا التوجه تماما مع التوجه الذي تمت اإلشارة إليه منذ بداية هذا
الفصل :إن أنطولوجيا مثل تلك القرونة بالنظرية الذرية ال تعود إلى تصنيفات الوجود أو
عدم الوجود ،بل باألحرى إلى الكفاءة أو عدم الكفاءة بما هي شبكة قراءة سابقة ودليل
من أجل البحث التجريبي.
باتباع طريق افتتحه بوتنام ،427سوف أضيف أن القرار التعلق باستخدام إطار
ً
أنطولوجي يتضمن قيما بقدر ما يتضمن من الوقائع؛ وقائع ليست باإلضافة إلى ذلك هي
نفسها منفصلة بالكامل عن قيم مجتمع الباحثين الذين يقبلون بها كما هي .وفي حال
رفض التعددية الذرية واعتماد تنوع من األنطولوجيا األحادية كتلك التي لدى دسبانيا ،أو
شرودنغر أو بوم في الرحلة األخيرة (أنطولوجيا النظام النطوي الكلي) ،فإن هذه القيم
تصبح سهلة التحديد والطابقة :يتعلق األمر هنا بمتطلبات التجانس والبساطة ووحدة
الخطط التصوري ،كما وبإرادة أن نأخذ بجدية تامة بنية النظريات الفيزيائية التنبؤية
َّ
الؤك َدة التي نقرن ببعض رموزها (كما على سبيل الثال متجه الحالة الشامل في فضاء
ً ً
فوك Fockالستخدم في النظرية الكمومية للحقول وفي التكميم الثاني) تابعا وصفيا
ً ً ً
ومرجعيا .وأنا شخصيا ال أمانع أبدا في القبول بهذه التطلبات وتأييدها ،ولدي ميل بالتالي
ً
إلى اعتبار أن رؤية للعالم غير ذرية ،رؤية أحادية بنيويا وكليانية ،هي في الوقت الحاضر
قدم للذين يحاولون الحفاظ على موقف واقعي في الفيزياء. أحد أفضل الخيارات التي ت َّ
ويبدو لي ببساطة ،على خالف الواقعيين األصيلين ،أن االتجاهية الرجعية التضمنة بهذا
الوقف الواقعي ال يجب النظر إليها كبديل للسببية التجاوزية بين ما تم اإلسناد الرجعي
له وبين الظاهرات .428فهي ال يجب أن تكون كذلك ال من وجهة نظر بسيطة وساذجة،
H. Putnam, Realism with a human face, Harvard University Press, 1990, trad. fr. Le réalisme à 427
visage human, Seuil, 1993.
428حول هذا الوضوع في السببية التجاوزية أو "الوسعة" ،راجع ،B. d'Espagnat, Le réel voiléالرجع السابق،
ً
ص .350 .وراجع أيضا القطع 3ـ 3من هذا الكتاب.
248
ً
يكون كل اعتبار بالنسبة لها مستندا على نظرية العرفة هو اعتبار فائض وغير مجدي ،وال
من وجهة نظر فلسفية انعكاسية يعمل فعل اإلسناد الرجعي بالنسبة لها كهدف ناظم
بسيط يساهم في تثبيت معايير من أجل لزوم النشاط التجريبي.
ولكن إذا اعتمدنا في الوقت الحاضر الهدف اإلسنادي أو الرؤية الرجعية األحادية
ً
بنيويا (مع أو بدون معنى تجاوزي مقترن بها) الذي اقترحه شرودنغر ودسبانيا وبوم
األخير ،فال بد من الوقوف على حقيقة أنها لم تعتمد بالضبط إال باسم عدد معين من
القيم الشتركة .وهكذا يمكن لنظومات قيم أخرى أن ّ
تسهل وتقدم لرؤى وأهداف
إسنادية جديدة .علينا بالتالي أن نعرف كيف ّ
نتعرف على القيم الختلفة التي تقود بعض
ً
الباحثين إلى تعزيز رؤى إسنادية مختلفة ،بدال باألحرى من استبعادها باإلجمال
باستدعاء ضمني لقيمنا الخاصة.
ومرة أخرى تفيدنا النظرية ذات التغيرات الخفية التي صاغها بوم في عام 0964
كمثال على ذلك.
ما هي القيم التي تقود الباحثين الذين ينتمون إليها ،والذين بتجنبهم اتباع بوم في
أقص ى ما توصل له من أحادية يستمرون في أن يروا في نظريته األصلية التي صاغها عام
0964نقطة ارتكاز ذات مصداقية من أجل تمثيل ذري؟ ما هي القيم التي تقودهم إلى
القبول بمفاهيم غريبة وشاذة بمقدار مفهوم " ،"bare particluarsأي الكينونات الفردية
ً
الجردة من خصائصها ،أو أيضا مفهوم الـ " ،"fooled detectorsأي الكواشف التي تنطلق
دون جسيمات في حين أننا نعتبر بشكل طبيعي االطالق النقطي والفردي لثل هذه
الكواشف كـ "دليل" على وجود الجسيمات؟ فلن ندهش بالتالي ،بعد التحليالت السابقة،
من أن القيمة الرئيسية بين هذه القيم ،القيمة التي تسيطر على كافة القيم األخرى والتي
تفرض التخلي عن بعضها ،هي هنا مطلب االستمرارية التاريخية مع النظريات الفيزيائية
ّ
التوجه بكثير من الوضوح كل عبر عن هذا الكالسيكية ال بل ومع الوقف الطبيعي .لقد ّ
من بوم وهيلي Hileyنفسهما ،عندما نصبا من نفسيهما محاميين مدافعين عن النسخة
249
نبين ،أن اليكانيك الكمومي يشتملاألولية من نظرية بوم ،حيث كتبا" :من األساس ي أن ّ
ً ً
على مستوى كالسيكي ليس مفترضا مسبقا كما في القاربة العادية ،بل الذي يتبع مثل
إمكانية داخل النظرية الكمومية نفسها ."429في القاربة العادية ،التي يتحدث عنها كل من
ً
بوم وهيلي ،فإن النمط الكالسيكي للوصف مفترض مسبقا في الواقع من أجل أن يأخذ
وليفسر بمصطلحات القياس لبعض ّ بعين االعتبار الجوانب الظاهرة لعمل التجهيزات،
التغيرات األحداث الجهارية التي تفي كحجة للصورية االحتمالية للميكانيك الكمومي.
وبالثل ،فإن التنبؤات الكمية للفيزياء الكالسيكية تعتبر كتقريبات على الستوى الكبير
للنظريات الكمومية .يسمح ذلك بوضع رابط مزدوج ضعيف ،إنما كاف طالا كنا نلتزم
بموقف ذرائعي منهجي ،بين الفيزياء الكمومية والفيزياء الكالسيكية .وعلى النقيض من
ذلك ،كان طموح نظرية بوم أن تمض ي إلى ما وراء هذا التوافق العملياتي والكمي
البسيط ،والحفاظ على عالقة عبر االستمرارية للمفاهيم والتمثيالت .ولكي تتوصل إلى
ذلك كان عليها أن توافق على كمية من التجهيزات التي ،من وجهة نظر قيم التجانس
والبساطة واألحادية أو التفرد ،تبدو كما الكثير من حاالت التخلي .التخلي عن شمولية
ً
التباين الشترك النسبي ،بداية ،طالا أن هذا األخير ،الذي يصح دائما على الستوى
اإلحصائي ،ال ينطبق من بعد على الصيرورات الفردية .وهو من جهة أخرى ٍ
تخل عن
الوحدة الصورية /الشكلية للنظريات الكمومية ،طالا أن بوم وهيلي يتمسكان كما سبق
وأشرنا بنوعين اثنين من الكينونات ويطوران نوعين اثنين من الصوريات والتمثيالت
ً
الختلفة تماما ،إحداهما بالنسبة للفرميونات واألخرى بالنسبة للبوزونات.
إن تحليل محرضات هذا التخلي الثاني تفيدنا بشكل خاص .إن النظرية الكمومية
الكممة من تحريض وسط مهتز ،هي نظرية قابلة للحقول ،مع مفهومها الميز للسوية َّ
للتطبيق على الفرميونات وعلى البوزونات بالقدر نفسه وذلك مقابل تناوب جبري في ّ
حده
األدنى :استبدال عالقات اإلبدال (بالنسبة للبوزونات) بعالقات الالإبدال (بالنسبة
D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 160. 429
251
للفرميونات) .إن اختالفات السلوك بين الفرميونات والبوزونات ،التي تجعل من الشائع
ّ
اعتبار األولى كـ "عناصر مشكلة للمادة" والثانية كـ "وسطاء تفاعل" ،ت َح ّل على هذا النحو
ضمن مخطط جبري َّ
موسع؛ والشعور الذي يتقاسمه الفيزيائيون على نطاق واسع هو أن
ً هذه اإلختالفات يمكن أن َ
تح ّل بطريقة أكثر جذرية أيضا من خالل عمليات التناظر
الفائق ،القابلة لتحويل الفرميونات إلى بوزونات (أو بالعكس) وإلقامة صلة مطلوبة يتم
البحث عنها بين فضاءات درجات الحرية "الداخلية" للحقول الكمومية وزمكان
مينكوفسكي العام .430تضمن بالتالي النظرية الكمومية للحقول سوية مميزة من الوحدة
ً ً
الصورية ،وتميل (عبر مفهوم التناظر الفائق) باتجاه سوية وحدة أكثر ارتفاعا أيضا.
ً
بوم وهيلي يعرفان ذلك .وهما يبينان إضافة إلى ذلك كيف أنه من المكن تماما،
باعتماد كثافات الحقل ككينونات وحيدة بالنسبة لحالة البوزونات ،تفسير كافة
َ
العتب َرة عادة كآثار جسيمية دون أي تدخل على اإلطالق ألي جسيم الظاهرات التقطعة
كان .إن التفسير الطروح يلجأ إلى صيرورات غير خطية من التركيز اآلني للطاقة التي كانت قد
ماص .وهو تفسير يستعيد في إطار مختلف ّ تبعثرت سابقا في الحقل ،في لحظة تفاعلها مع
فكرة كان قد ذكرها أينشتين عام 0919كبديل ممكن لفرضية الفوتونات ،ثم تخلى عنها
ً
فورا بسبب حجة المعقوليتها :وهي فكرة اللجوء ،من أجل تفسير صيرورات االمتصاص ،إلى
إعادة تركيز للطاقة الوجية التي تكون النظيرة الزمنية لتشتت الطاقة الوجية الالحظ أثناء
صيرورة اإلصدار .431ويخلص بوم وهيلي إلى أن التوزع من النمط الوجي لكينونات الحقل
هو ما يحدد الظهورات من النمط الجسيمي .432إن تأكيد دسبانيا الذي وفقه ال تثبت
ً
الظاهر الجسيمية شيئا فيما يتعلق بوجود جسيمات هو بالتالي بالنظر إلى الاض ي تأكيد
D. Bohm, B.J. Hiley & P.N. Kaloyerou, "An ontological basis for quantum theory", Physics Reports, 433
144, p. 321-375, 1987.
S. Weinberg, The quantum theory of fields I, Cambridge University Press, 1995, p. 14. 434
252
جهته نموذج كوني شامل .ولكن كما سبق ورأينا ،فإن أنصار نظرية بوم جاهزون للتخلي
عن قيمة التوحيد الصوري لصالح قيمة استمرارية تاريخية.
باالعتماد على هذا النوع من التحليل األخالقي لنظرية بوم ،فمن المكن التخفيف
من الخشية التي يبديها الؤلفون الذين ينتقدونها بسبب إمكانية تضاعف غير محددة
لكينونات النظريات ذات التغيرات الخفية .فعندما يتم تطويرها بشكل صحيح ،فإن هذه
النظريات ال تشبه لذلك منظومة العالم البطلميوس ي ،مع أفالك مداراتها التي كانت تزاد
كلما كان هناك حاجة إلضافتها .فهي ال تتطلب سوى نوعين اثنين من الكينونات:
الكينونات الذرية أو الجسيمية وكينونات الحقول ،أي بالضبط الكينونات النمطية التي
نجدها في النظريات الكالسيكية التي تهدف إلى الترابط معها من خالل عملية إسقاط
تاريخي .إن قائمة كينونات الفيزياء الكالسيكية في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن
ً
تتجاوز أبدا هذين النموذجين البدئيين للمتقطع والستمر ،وبالتالي ال يجب أن نخش ى أي
تكاثر وانتشار أنطولوجيين لوافقاتها الكمومية.
11 -5العمق القديم للميتافيزياء ومفاهيم واسعة الطيف
أينما ألقينا بنظرنا في الفيزياء العاصرة سوف نرى بالنتيجة مواجهة بين اتجاهين أو
ميلين متعارضين للوهلة األولى.
موحد لصف متوسع من فمن جهة ،نلحظ أزمة في شبكة القراءة الذرية بما هي دافع ّ
الظاهرات النظمة في الفيزياء الكمومية .إن الحجة األساسية التي َّ
طورها جان بران ومن
أتى بعده لصالح النظرية الذرية ،أال وهي قابليتها للجمع بطريقة متجانسة وتوحيد عدد
كبير من التحديدات الرقمية أو األرصاد للبنى الكانية ،هي حجة وصلت إلى نهايتها .إن
القيمة الساعدة على الكشف (اإلرشادية) تظل قيمة واسعة وغير منقوصة في عدد كبير
ً
من قطاعات الفيزياء وأكثر منها في الكيمياء ،لكن تتفوق منذ اآلن فصاعدا على قابليتها
لتوحيد هذين القطاعين فيما بينهما ومع قطاعات أخرى قابلية مخططات الفكر
االستمرارية والكلية الشتقة من صورية النظرية الكمومية للحقول .يشابه هذا الصير
253
للنظرية الذرية بشكل عام ،وإن كان على مستوى أكبر بكثير ،الصير الذي تكبده نموذج
ذرة بور بين عامي 0903و :0944فهذا النموذج يحفظ كما نعلم قدرة إرشادية مساعدة
على الكشف ال يستهان بها في قطاع محدد من الفيزياء الجهرية ،على الرغم من عدم
َّ
وموحد لقطاعات التجربة التي يغطيها مجال صحة مقدرته على تقديم بيان مقبول
وشرعية اليكانيك الكمومي العياري الذي صيغ بين عامي 0946و .0945
ً ً
مع ذلك ،فإننا نواجه من جهة أخرى ثباتا واستمرارا عنيدين لنمط التعبير الذري
َّ ً ّ ً َ ً
مفترضا للفيزياء) باسم إسناد مرجعي إما ضمني أو مؤكد (بما في ذلك كونه دافعا موحدا
إلى ماضيه العقائدي .أعطى ماكس بورن Max Bornبعد هايزنبرغ الثال البكر على
َّ
مرجعية مؤك َدة على الخلفية التاريخية للنظرية الذرية .ففي عام ّ ،0964رد على
ً
شرودنغر وعلى حماسته ضد الذرية ،مالحظا أنه سيكون من "الغرور" التخلي عن
الخطط الذري دون أن يكون لدينا بديل قوي له ،طـالا أن ذلك يعني تجاوز التقليد
ّ
مثلت الفيزياء الكمومية في بداياتها ّ
تجدده.435 التاريخي نفسه الذي
وأمام مثل هذه التصريحات ،فإن مالحظات هيالري بوتنام حول ما يسميه "الفاهيم
تبين أن تجنب شرخ الخيط التاريخي ذات الطيف الواسع" تكتسب موافقة كبيرة ،ألنها ّ
ً
للمفاهيم يفترض أن نوافق على إدخال هامش تسامح متزايد (حتى ال نقول غموضا ما) في
هذه الفاهيم .وفق بوتنام ،على سبيل الثال ،فإن الفاهيم الصورية لجسم -حامل
ً
ولخاصية ما ال تعمل أبدا في الفيزياء الكمومية بما يوافق ما كان يمكن توقعه من قبولها
البدئي؛ فإذا ما ظللنا نستخدمها عبر استمرار الخطط الذري ،فذلك فقط على حساب
ً
تغييرها إلى ما وراء ما كان يعتبر مقبوال في عصر الفيزياء الكالسيكية" .إن «سبين»
ً
كوارك» ما ليس خاصية بالعنى الذي يكون فيها لألجسام عموما خاصية ما ،ومن جهة
« ٍ
ً ً ً
أخرى ،فإن «الكوارك» ليس أيضا جسما بالعنى التفق عليه عموما؛ ونعطي في الواقع
ً ً
للفظة "جسم" معنى جديدا كنا نجهله سابقا ،مع عالقة خاصية -جسم كانت مجهولة
M. Born, "The ineterpretation of quantum mechanics", Brit. J. Philos. Sci., 4, p. 95-106, 1953. 435
254
ً
هي أيضا ."436إن الجسم (الذري) و"الخاصية" يعمالن في الفيزياء كـ "مفهومين واسعي
الطيف" ،وقد قرنا في القرن العشرين بالرونة الطلوبة لكي يستمر استخدامهما كجسر
بين نماذج ( )paradigmesعلمية مختلفة بشكل عميق .ويشير بوتنام إلى أنهما هما اللذان
حل عملي لسألة استحالة القياس بين النماذج الختلفة .وبدونهما ،ودون يشكالن نواة ّ
الفكرة العادية بأن الفيزياء الكمومية لم تقم في العمق سوى بتحديد الخصائص
والسلوكات القانونية لجسيمي "اإللكترون" و"الذرة" اللذين كانا معروفين في الفيزياء في
ّ
نهاية القرن التاسع عشر ،ومن ثم بالسماح باكتشاف أجسام -مشكلة جديدة من
النمط نفسه وصفوف جديدة من الخصائص ،فإن الصلة بين كون من النقاط الادية
في حالة تفاعل في الفيزياء الكالسيكية والصورية التنبؤية للنظريات الكمومية لن يكون
ً
فيها ثمة ما هو مؤكد فعال.
وبشكل أعمق ،فإن استدامة النموذج الذري بما هو مخطط كوني الطموح ،على
ً
تقريبا لطيف الفاهيم القترنة به ،ت َّ
فسر بقدرته على مد جسر حساب توسع بال حدود
بين الفيزياء الحديثة وما كان نيتشه Nietzscheيسميه "العمق اليتافيزيائي" للغة ،أي مع
البنية الوضوع -السند للقضية ال َ
قترحة ،كما ومع النموذج التشريحي لألنطولوجيا.437
كتب نيتشه" :إنه عمقنا اليتافيزيائي األقدم [ ،]...العمق الذي سوف نتخلص منه في
الرحلة األخيرة ،إذا افترضنا أننا سوف ننجح في التخلص منه -هذا العمق الذي اندمج
مع اللغة ومع التصنيفات القواعدية بحيث أصبح ال يمكن االستغناء عنه إلى حد يبدو
معه أنه سيكون علينا التوقف عن التفكير ،إذا ما تخلينا عن هذه اليتافيزياء ."438إن
استبعاد النظرية الذرية سيمثل في هذا النظور ليس ما هو أقل من التخلي عن استخدام
الكالم ،أو إعادة صهر من الصعب تحقيقها الستخدامه ،في حقل التجربة الحكوم
256
439
.6استعدادات وتحديدات قاطعة :تأمل حول الفراغ
لا كان الفصل السابق قد قادنا إلى إعادة النظر بشكل جدي بالنظام األساس ي
للتمثيل التأليفي الذي يحفظه الذهب الذري في الخطاب الحامل للفيزياء العاصرة ،فإنه
من الهم تقييم تمثيالت أخرى وأنطولوجيات أخرى .تمثيالت وأنطولوجيات هي ،حتى
اللحظة ،متشابكة على نحو ال ينفصم مع أنماط تعبير ذرية ،إنما قابلة ألن تشاد كبدائل
حقيقية .وأحد هذه التمثيالت يجذب انتباهنا بشكل خاص في هذه األيام :أال وهو تمثيل
لخلفية وحيدة من الكمونات ،خزان من التموجات الطاقية والادية يسمى "الفراغ
الكمومي" .إن مفهوم "الفراغ الكمومي" هذا سيشكل بالتالي الوضوع الرئيس ي لهذا
الفصل .مع ذلك ،ال غنى عن تمهيد يشتمل على تحليل لفهومي الـ "االستعداد
ً ً
"dispositionوالـ "االنبثاق "propensionاللذين يعطيانه أساسا فلسفيا ،من خالل
معارضتهما له مع مفهوم "التحديدية القاطعة".
439ظهرت نسخة سابقة من هذا الفصل في E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, Editions de
.l'université de Bruxelles, 1998
257
1 .6القطعية 440واخحالية
ً
إن نسب تحديد قطعي لش يء ما ،وفقا للمعنى األول للفظة اليونانية ،ααροϒηταα
َّ ً ً ً
ومت َهما هو بمثابة القيام بتوجيه تهمة .وهذه التهمة تضع وجها لوجه َّمتهما ،هو العارف،
ً
هو الوضوع العروف .وهي تشتمل على اتهام الوضوع بأن يكون " "Aبدال باألحرى من أن
يوضح بالفعل والعمل الؤثر اإلشارات التي ال تدحض .إن التعيين يكون "ال ،"Aوبأنه ّ
ّ
القاطع يولف من هذا األمر لحظتين :تأكيد حالية ، actualitéوموضعة هذه الحالية على
سلم ثنائي من خالل البادئ النطقية لعدم التناقض وللثالث الرفوع.
ً ً
فعبر هذا التعيين القاطع ترتسم في الواقع صورة مختلفة تماما عن صورة الـ "وجها
ّ
لوجه" اإلحصائية للذات والوضوع .وتمثل لحظته الثانية ،التي تشتمل على موضعة
ّ
الحالية على سلم من التعارضات ،الرحلة االبتدائية لسيرورة الوضعة؛ وهي مرحلة
مندرجة في البنية التنبؤية للغة حيث ال تقوم النظرية الثنوية للمعرفة سوى بتحويلها من
حقيقة مجردة إلى حقيقة وجودية .إن العلوم تهدف ،بشكل ال يقبل الجدل ،إلى تجاوز
هذه الرحلة االبتدائية لديناميكية الوضعة ،وذلك عن طريق تعميقها وتعزيزها وتقويتها؛
ً
لكنها تظل أيضا تعتمد عليها من خالل االفتراضات السبقة البراغماتية التي ال غنى عنها
بالنسبة للخطاب االستطرادي وللنشاط التجريبي للباحث في مختبره.
لنحاول إذن كبداية أن نفهم بماذا يؤدي االستخدام النهجي للتحديدات القاطعة إلى
إطالق صيرورة تشكيل الوضوعية.
ً ً
إن إعالن الحالية ،إذا بقي معزوال ،سيكون مرتبطا بالوضعية الخاصة للـ هنا واآلن،
للـ أنا ،وللـ هذا .وسوف يتعلق بتظاهرة بحتة ،وبمظهر غرابة بحت ،مظهر ال يمكنه بالعنى
الدقيق للكلمة التعبير إال من خالل إقحام تعجبي أو عبر وضعية جسمانية .وبالدرجة
440القطعية catégoricitéهي سمة نظرية منطقية ال تشتمل على عالقة ال صحيحة وال خاطئة ،وهي خاصية
نظرية رياضية كافة النماذج فيها إيزومورفية (متماثلة) (وهذا يعني أننا نستطيع أن نبني بين عوالم نموذجين ال
ً
على التعيين من هذه النظرية تماثال يحفظ العمليات والعالقات)( .الترجم)
258
األولى كما كتب بالكبرن" ،إن القطعية ترافق [ ]...وجهة النظر الذاتية؛ فليس ثم ما هو
استعدادي ،dispositionnelبالنسبة للذات ،في ظهور ألم أو برق في حقل الرؤية
البصرية ."441غير أن التواصل ،والشاركة بجزء من التجربة ،يتطلبان الحافظة على
مسافة معينة اتجاه الحالية؛ وهما يتطلبان أن نموضع الحالية ضمن مخطط مشترك
َّ ً
والحددة .إن عاليا ،وأن نح ّل في الخطاب هذا الوقف الجرد محل الحالية الحسوسة
استخدام التعيينات القاطعة يحقق هذا الشرط باالعتماد على الخطط العالمي
ً ّ
األشد تباينا ،أي النفي .وفي الدرجة األبسط ،أي التفرع الثنائي ،وعلى طريقة التوزيع
الثانية ،يتوصل التعيين القاطع على هذا النحو إلى تجاوز الفورية الحالية ،بفضل منهج
يشتمل على أن نفصل عن الحالية عالمة شكلية ثنائية التفرع ،ثم أن ننسبها إلى جسم
ما.
2 -6القطعية في النظريات الكالسيكية والكمومية
تميل العلوم ،والفيزياء بشكل خاص ،إلى توسعة وتشذيب صيرورة الواضعة من
ً ً
خالل انفصال للعالمات الصورية التي تصبح أكثر فأكثر تجريدا وأكثر فأكثر ابتعادا عن
اآلنية .وفي الوقت نفسه ،فإن مشروعها ،وهو تشكيل معرفة تجريبية ،يفرض عليها أن
تحفظ بشكل دائم صلة مع اآلنية نفسها ،وذلك عن طريق تعبيرها ال َم َ
وضع من الدرجة
األولى ،أي التعيين القاطع .ولكن أي نوع من العالقة تقيمها النظريات الفيزيائية في الواقع
مع عملية نسب التعيينات القاطعة؟ لن يكون من الحكمة محاولة تقديم إجابة عامة
على هذا السؤال ،ألنه بصدده إنما يظهر فارق حاسم بين مجمل النظريات الكالسيكية
(بما فيها النظريتين النسبيتين) والنظريات الكمومية.
إن النظريات الكالسيكية ،أكانت تحديدية أو غير تحديدية (عشوائية
،)stochastiquesتحفظ نوعين اثنين من العالقات مع التحديدات القاطعة .فهي تسمح
من جهة بالوصول إلى تنبؤات حول بعض التحديدات القاطعة ألجهزة القياس ،وذلك إثر
S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 257 441
259
تفاعل هذه األجهزة مع األجسام التي يتم عليها القياس .ومن جهة ثانية ،فإن عمل
صوريتها يتوافق مع فكرة أنها تصف تطور تحديدات قاطعة خاصة باألجسام ،يقوم
القياس بكشفها .إن النظريات الكالسيكية التحديدية تعمل بواسطة متغير الحالة يف َّسر
كتعيين قاطع جوهري للجسم ،وابتداء منه تكون كافة تحديداته القاطعة األخرى قابلة
للحساب .وتستخدم النظريات الكالسيكية غير التحديدية العشوائية بنية احتمالية
استدراكية يمكن أن تتوافق دون صعوبة تذكر مع التفسير الالبالس ي لالحتماالت كتعبير
عن جهل فيما يتعلق بالتحديدات القاطعة للموضوع .يختلف األمر بالنسبة للنظريات
ً
الكمومية بشكلها العياري .فالنظريات الكمومية العيارية تسمح فعال ،مثل النظريات
الكالسيكية ،بوضع تنبؤات (احتمالية) تتعلق بتحديدات قاطعة معينة ألجهزة القياس،
وذلك بعد سلسلة معطاة من العمليات التجريبية .وهنا تكمن صلة دنيا ال غنى عنها بين
َ
الموضعة لآلنية التي يمثلها التحديد القاطع .غير أن البنية االحتمالية النظرية والبقايا
غير االستدراكية للنظريات الكمومية (وهو ما يتجلى من خالل ظهور "حدود تداخل")،
تجعل من تفسير االحتماالت كترجمة وتعبير عن جهل في موضوع التعيينات القاطعة
الخاصة بجسم ما هو التفسير األقل إشكالية .إن الحساب الكمومي لالحتماالت ال يفهم
بسهولة إال إذا قبلنا أنه متكيف مع وضعية ال تنفصل فيها التحديدات عن األطر
ً
والسياقات التجريبية ،التي تكون غير متوافقة أحيانا ،والتي تظهر فيها هذه االحتماالت.
إن نمط عمل هذا الحساب الكمومي هو نمط عمل رمزية تنبؤية احتمالية فوق سياقية
(ميتا سياقية)؛ رمزية تنبؤية تسمح بحساب احتماالت الظاهرات التعلقة بهذا أو بذاك
تطبق إثر تحضير معطى ،وليس حساب احتماالت من السياقات األداتية التي يمكن أن َّ
األحداث الناجمة من ذاتها في الطبيعة.442
إن إحدى نتائج هذا الوضع هو استبعاد ،أو تهميش أو تغيير معنى ،تعبير مثل
ً
"خاصية األجسام" .من الجميل أنه أعيد استخدام كلمة "خاصية" حديثا في إطار تفسير
M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997. 442
261
الراحل التسقة لغريفيث ،443Griffithsبما هي ترجمة للمفهوم الصوري الكشاف لفضاء
تحتي لهيلبرت ،Hilbertغير أنه سرعان ما كان يجب االعتراف بأنها كانت بعيدة عن حمل
كافة دالالت مكافئها الألوف أو الكالسيكي .فمن الستبعد أن ّ
تعبر القضايا التي تنسب
هذه الخصائص لألجسام ،وهي قضايا ال يمكن أن تعتبر بشكل عام صحيحة أو خاطئة،
بل ّ
تعد فقط كقضايا موثوقة أو غير موثوقة (راجع القطع ،)4 - 4في إطار تحديدات
غريفيث ،في كافة الظروف كما لو كانت األشياء تملك بذاتها تحديدات قطعية.
3 -6نقد مفهوم "اخحالة الكمومية"
إن نتيجة النقد التي أصبحت قديمة لفهوم الخاصية في الفيزياء الكمومية (التي ربما
يجب أن نستثني منها حالة الرصودات فائقة االنتقائية) كانت استبداله بش يء ما نسميه
"الحالة" .من جهة أخرى ،وكما رأينا أعاله ،قادت خيبات األمل األحدث لؤيدي تفسير
غريفيث حول موضوع مفهوم الخاصية -الكشاف إلى تحديد هذا األخير بدور محدود،
ّ ً
وإلى معارضته هنا أيضا بمفهوم "الحالة" .لكن مفردات "الحاالت" تولد هي نفسها
التشويشات .فـ "الحالة الكمومية" ال تسمح ،على عكس قياس وسعة الحالة الكالسيكية،
باشتقاق مجمل القياسات النسوبة بشكل قاطع إلى الجسم .فهي ال تقدم لنا سوى
الوسيلة لحساب احتمالية كل قيمة لجملة من "الرصودات" َّ
الحددة باالستناد إلى إطار
يسمح بقياسها.
على الرغم من ذلك ،فإن ما سمح على ما يبدو بتبرير االستخدام التجدد منذ فون
نيومان للفظة "حالة" كان نوعان من قياس الحالة الكالسيكي.
قياس لفظي بشكل أساس ي :حيث يتم التنبؤ بـ "الحالة ٌ هناك بالدرجة األولى
ّ
الوجه" حالة النظومة؛ وهو الكمومية" لجسم أو لـ "منظومة"؛ يمثل "شعاع الحالة
443راجع ،R. Omnès, The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994
ً
وراجع أيضا:
B . d'Espagnat, "Consistent histories and the measurement problem", Phys. lett., A124, p. 204-206,
1987.
261
نسب إلى الظومة بالطريقة نفسها التي ينسب بها قياس حالة اليكانيك الكالسيكي إلىي َ
ً
نقطة مادية أو إلى منظومة نقاط مادية .وهذه الطريقة ،القبولة تماما ،يجب أن ترتكز
مع ذلك ،لكي تكون قابلة للتطبيق واالستمرار على الدى البعيد ،على عملية مطابقة
مستمرة ومستقرة للـ "منظومة" التي نسبت حالة لها .غير أننا ال نملك مثل هذه الطريقة
ً
أو العملية في الحالة العامة ،وينتج عن ذلك تنويع امتداد النظومة التأثرة بـ "حالة" وفقا
للظروف التجريبية الأخوذة بعين االعتبار (راجع القطع .)0 - 4ومذاك بات كل من
ديفيد بوم D. Bohmوب .هيلي B. Hiley 444يقدران وهما محقان أن هذه األشكال
ً
القواعدية ال تسمح وحدها بعودة تؤدي إلى شكل من الخطاب القابل للتفسير أنطولوجيا
(الش يء وصفته [أو محموله] "الحالة") ،ألنها ال تقوم سوى بأن تخفي بشكل مصطنع
ً ً
مخططا لخطاب أنطولوجي حول ما كان بور ليسميه بطريقة أكثر حذرا "رمزية تنبؤية"
ّ
صالحة لظاهرات كلية تتضمن بطريقة ال فكاك منها إطار القياس .فإذا كان يجب أن
ً
يكون هناك عودة إلى خطاب قابل للتفسير أنطولوجيا ،كما يشير كل من بوم وهيلي ،فال
ً ّبد أن ّ
تمر عبر الدرب األكثر تعقيدا بكثير للنظريات ذات التحوالت الخفية .وهي نظريات
لم ننته بعد من تقييم سماتها وأهدافها وعيوبها ،كما بينا ذلك في الفصول السابقة.
ونبدأ منذ اآلن باالشتباه أن استخدام مخطط إسناد "حالة" إلى "منظومة" في اليكانيك
الكمومي يرجع إلى أحداث تاريخية طبعت خطاب الفيزيائيين بطابعها ،أكثر مما يرجع إلى
ش يء ما كان قد فرض عبر عمل نظريتهم الجديدة نفسه.
وبالدرجة الثانية ،توجد مماثلة صورية بين "الحالة الكمومية" وقياس الحالة
ً
الكالسيكية .تشكل الحالتان برهانا أو حجة بالنسبة لعامل تطور النظريات لدى كل
منهما .إن قياس الحالة الكالسيكية (الؤلف من زوج اإلحداثيات الكانية ومركبات كمية
الحركة) يتطور بشكل متوافق مع معادالت هاميلتون ،بينما يكون تطور شعاع الحالة
ً
الكمومية محكوما إما بمعادلة شرودنغر أو بمعادلة ديراك .فـ "الحالة" في هذا النظور
D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 17. 444
262
ً َ
العتب َرة .ولكن بدال باألحرى من مثل تكون ببساطة كينونة محكومة بقانون تطور النظرية
شبه الماثلة هذه للمفهومين عن طريق االستخدام غير النتبه للفظة الشتركة "حالة"،
فإن مثل هذه المثالة الصورية يجب أن تقود إلى اعتماد قياس التغير الكبير الذي خضع
له مفهوم القانون من نموذج نظري إلى آخر .كانت قوانين التطور في الفيزياء الكالسيكية
شتق منها قياسات أخرى يمكن أن تصبح مخصصة بوظيفة تتعلق بقياسات حالة ت ّ
وصفية بالنسبة للتحديدات القطعية لألجسام .وعلى العكس ،فإن قانون (أو قوانين)
تطور اليكانيك الكمومي يتعلق (أو تتعلق) بشعاع ّ
موجه من فضاء هيلبرت ،وهو رمز ذو
واجه بالئحة األشعة رمز ال ّ
يقدم من جهة أخرى احتماالت إال عندما ي َ تابع وصفي؛ ٌ
الوجهة الخاصة بعملية رصد (أي مرة أخرى إضافية بشكل يتعلق بإطار أداتي محدد
ً
تماما).
في النهاية ،فإن الماثلتين الذكورتين أعاله من أجل اعتماد األسس الوضوعية
ّ
الوجه للميكانيك الكمومي تظهران للموقف التنبؤي الذي نقرنه عادة بشعاع الحالة
ً
كمماثلتين سطحيتين نوعا ما .فهما ال تكفيان وحدهما لنعنا من التساؤل حول استيعاب
"شعاع الحالة ّ
الوجه" للميكانيك الكمومي لـ "حالة منظومة" حقيقية ،وال حتى لكي نضع
ّ
الوجه" ،الذي يستدعي بشكل قوي موضع التشكيك ديمومة تسمية "شعاع الحالة
ً ً
نظاما أساسيا غير واضح بذاته.
إن الضغط الذي يمارسه نمط عمل النظريات الكمومية على الخطط اإلسنادي لـ
"حالة" في "منظومة" ما لم يكف عن التوسع خالل تاريخ هذه النظريات .فإذا كان قد
أمكن الحفاظ عليه حتى الوقت الحاضر ،فذلك على حساب انحراف مستمر ّ
للحد بين
"النظومة" و"الحالة"؛ وهو انحراف جعل تعريف "النظومة" يتراجع لصالح ّ
توسع ال
ينفك يزداد الختصاص مفهوم "الحالة" .في اليكانيك الكمومي في بداياته بين عامي 0946
و ،0945الذي أتمه ديراك وفون نيومان ،كان يقبل أن بعض أشعة التجهات في أحد
فضاءات هيلبرت تصف "حالة" منظومة من الجسيمات .تنشأ عدة تعارضات وتشويشات
263
والحق يقال من هذه الطريقة في التعبير وانزالقات العنى التي تؤدي إليها .فعلى سبيل
الثال :كيف يمكن لـ "حالة" منظومة أن "تتقلص" فجأة عند إجراء قياس ،في حين أنها
تتغير باستمرار ،بما يتوافق مع معادلة شرودنغر ومن خالل "التشابك" ،445أثناء تفاعل
ً ً
تفاعال بين تفاعالت أخرى446؟ وأيضا هذا الثال :هل نستطيع القول ما؛ أليس القياس
ً ً
إن قطة شرودنغر هي في حالة محددة تماما (ضمنيا بالعنى الشائع لكلمة "حالة") إذا
كانت "حالتها الكمومية" مختلطة مع حالة جسم مجهري ،وإذا كانت "الحالة الكمومية"
الشاملة للمنظومة [قطة +جسم] تشتمل على تراتب خطي لـ "حاالت" خاصة بإمكانية
رصد؟ وكما عرض شرودنغر نفسه السألة في حوار مليء بالفكاهة:
ً
"إن الجملة في حالة محددة ،لكنها ليست حال كل من مكونيها إذا أخذناهما كال على
حدة.
وكيف ذلك؟ فال ّبد لنظومة أن تكون في حالة ما .]...[ .ولدي الحق في هذه الحالة أن
ً ً
أفكر كما يلي :النظومة التحتية هي فعال في حالة معينة (فهناك ثمة حقا تابع ،)Ψغير
أنني ال أعرفه فقط.
-اسمح لي أن أعترضك هنا .لألسف ،ال .ال يمكننا القول "ال أعرفه فقط" ،طالا أن
حالة العارف هي في وضعها األقص ى بالنسبة للمنظومة الشاملة".447
ولكن باإلجمال( ،على الرغم من هذه التعارضات التي تظهر على هامش االنعكاس
التفسيري) ،فإن القاربة التضمنة من خالل مفهوم "الحالة الكمومية لنظومة
ً
جسيمات" كانت تظل غير قابلة لالستخدام عمليا عندما كان يتم معالجتها وفق قواعد
265
( )0ليس للحامل الزعوم للحالة ،الحقل الكمومي ،سوى صالت بعيدة مع التسمية
الماثلة له الكالسيكية التي لم يكن ثمة ش يء يمنعها صراحة من تمثيل نفسها ككينونة
مستمرة ممتدة في الكان .وإذا استخدمنا عبارات تيلر ،P. Teller 448فهو ليس سوى تقليد
خادع (" )"the mock-upلحقل كالسيكي .فالكافئ الكمومي من جهة لكثافة الحقل
الكالسيكي هو عدد من الكمات ،أي ش يء ما يتعلق بـ حالة التحريض وليس بما يفترض
َّ ً
محرضا .ومن جهة أخرى ،فإن الكينونة الرياضية التي تمثل الحقل في النظرية أن يكون
ً ً ً ً
الكمومية ليست تابعا ذا قيم محلية بل عامال محليا ،أو "ما يمكن رصده" محليا ،حيث
تتوافق قائمة قيمه الخاصة مع قائمة النتائج المكنة لقياس ما .ومن بين العوامل التي
يمكن اشتقاقها من العامل الحلي السابق ،ثمة حالة خاصة هامة هي حالة العامل العدد
كمات التحريض التي سيكون من المكن تقديرها (مع الذي تمثل قيمه الخاصة أعداد ّ
درجة معينة من االحتمالية) إذا ما تم إجراء قياس مناسب ما .وكما نرى ،فإن الفهوم
العياري للحقل الكمومي ال يمكن أن يؤخذ في أي حال من الحاالت السابقة كرأي
مخالف لكينونة سابقة الوجودَّ ،
محددة بشكل مستقل عن اإلطار التجريبي لقياسها،
وممتدة في الكان ،والتي يمكن استخدامها كحامل جوهري لحالة محددة من التحريض.
يكمن جوهر الصعوبة ربما في االستثمار الفرط لقوى صورة ما .إن التماثل العتاد
كماتالذي يوافق مع الحقل مجموعة من النواسات التجانسة الزدوجة ،ومع عدد ّ
ّ
تحريضها طاقة اهتزاز منظومة النواسات التجانسة ،هو تماثل مضلل إذا نسينا أن األمر
يتعلق بالضبط بما هو أقل بكثير من مماثلة .وفي الواقع ،ليس ثمة هناك مماثل كمومي
حقيقي لنظومة النواسات التناغمة؛ فليس ثمة سوى بنية جبرية كمومية مشتقة من
P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the quantum field theoretic vacuum explained for all", 448
. in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.
ً
راجع أيضا P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, Princeton University Press,
1995.
266
البنية الجبرية للنموذج الكالسيكي لنظومة النواسات التناغمة عبر عملية "التكميم"،
التي تعود إلى استبدال متحوالت بعوامل وفرض عالقة تواصل بين هذه العوامل.
وبالطريقة نفسها ،ليس ثمة مماثل كمومي حقيقي للحقل الكالسيكي؛ ليس ثمة سوى
ّ
مشتقة من البنية الجبرية لنظرية الحقول الكالسيكية باستبدال بنية جبرية كمومية
توابع للنقطة بعوامل محلية وبفرض عالقة اتصال (أو مضادة لالتصال) بين العوامل .إن
اعتبار هذا "الحقل الكمومي" للمرصودات الحلية بالنسبة للحامل الجوهري لحالة ما أيا
ً ً
كانت يبدو من اآلن فصاعدا كترجمة لفظية الستعارة غير مضبوطة جيدا.
ّ ً
( )4يظل مفهوم "الحالة الكمومية" أيضا غير قابل للتمثل إال بدرجة قليلة مع مفهوم
الحالة بالعنى الشائع للكلمة في النظرية الكمومية للحقول كما وفي اليكانيك الكمومي
ً ً
العياري .ولكي ندرك ذلك ،لنتذكر مثاال ساحرا .أال وهو مثال الحالة الخاصة بالرصود
"عدد" القترن بالقيمة صفر لعدد التحريض الكمي؛ بعبارة أخرى ،نشير هنا إلى الفراغ .في
مثل هذه الحالة ،وفق التفسير الذي يقدمه الؤلفون الذين تأملوا في مسائل تفسير
النظرية الكمومية للحقول ،449فإننا نتوقع بالتأكيد عدم القدرة على الكشف عن أي
جسيم في أي ظرف كان .غير أن الحال ليس على هذا النحو .فالكاشف ال َّ
سرع في
"الفراغ" بالعنى الذي ّ
عرفناه أعاله لديه إجابات مكافئة إلجابات الكواشف التي ستكون
إجاباتها هي نفسها لو كانت مغمورة في حمام حراري من الجسيمات .إن ما يكتشف على
هذا النحو بواسطة جهاز َّ
مسرع يسمى "كمات (أو جسيمات) ريندلر ."Rindlerال التصور
العتاد للـ "فراغ" كغياب كامل للجسيمات ،وال التصور الوصفي للحقل في "حالة" (بالعنى
التقليدي للكلمة) تحريض معدوم ،وال الفهوم األنطولوجي الضمون لجسيم كـ "ش يء ما
هو موجود هنا (في اللء) أو ليس موجودا هنا (في الفراغ)" بشكل مستقل عن تقلبات ما
يستخدم في الكشف عنه ،كلها ال تسمح بفهم سبب ما يجري في هذه الحالة.
R. Healey, "The metaphysics of emptyness", P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the 449
quantum field theoretic vacuum explained for all", in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.
267
ً
مع ذلك ،كانت البادئ العامة لعمل الصوريات الكمومية تجعله قادرا على التنبؤ
بشكل كامل .ففي الفراغ كما تم تحديده ،تكون قيمة الرصود عدد محددة بالضبط
طالا أنها تساوي الصفر؛ ولكن فجأة ،نرى أن القيمة التي َّ
تسجل أو تؤخذ ،أثناء قياس
ما ،بواسطة أشياء أخرى مرصودة "متممة" لألولى (أي أنها مرتبطة باألولى بعالقة اتصال
ً
أبدا .غير أن اكتشاف ّ أو بعالقة هايزنبرغ في عدم التعيين) ،ال تعود ّ
كمة / محددة بدقة
َ كمات بواسطة كاشف م َس َّرع يكشف بالضبط عن مر َاقب /مرصود ّ
متمم للمراقب
َ
عدد .450وبشكل أعم ،في الحالة الخاصة بالراقب عدد ،القترن بالقيمة الخاصة صفر،
فإن كمية من مرصودات أخرى (كما على سبيل الثال مربع الؤثر "حقل") تكون لها قيمها
الوسطية غير العدومة .يجعلنا ذلك نتوقع ظهور ظاهرات تجريبية كثيرة ومتنوعة في
"حالة كمومية" ّ
تعرف مع ذلك "الفراغ" .إن نموذج مثل هذه الظاهرات هو "أثر كازيمير
ً
"effet Casimirالذي يوصف غالبا بطريقة تصويرية كنتيجة لـ "استقطاب للفراغ" ينجم
عن إعادة توزيع غير متجانس لـ "جسيمات افتراضية" تحمل شحنات متعاكسة.
5 -6الفراغ كواقع وجودي واالنبثاقات
ّ ً ّ
تمثلت اإلجابة األكثر تواترا على هذه الصعوبة الزدوجة ،صعوبة التملص من حامل
"الحالة الكمومية" ،وصعوبة الطبيعة غير القطعية لهذه "الحالة الكمومية" نفسها،
باستراتيجية مزدوجة في االنتقال.
من جهة ،بسبب نقص الحوامل ،فإن "الفراغ الكمومي" نفسه هو الذي كان يجد
ً
نفسه منظورا إليه كواقع ،وذلك إلى ما وراء تعريفه الشكلي كحالة خاصة أساسية
َ
تتوافق مع قيمة خاصة صفر للمراقب العدد .وكما كتب ساندرز " ،S. Saundersالفراغ
الذي ينبثق غني :فهو بالتناوب مغنطيس ،وعازل ،وناقل فائق ،ومرحلة حرارية /
ً
ترموديناميكية .وهكذا يذكرنا هذا الفراغ بشكل أكثر فأكثر وضوحا باألثير (كهرمغنطيسية
القرن التاسع عشر)".451
P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 110-113. 450
S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of vacuum, Oxford University Press, 1991, p. 7. 451
268
من جهة أخرى ،فقد تم األخذ بـ "الحالة الكمومية" من أجل التعبير ليس عن مكافئ
بعيد ما لتحديد قطعي ،بل عن كمون ،عن تحديد استعدادي ،أو باألحرى عن تحديد
ً
انبثاقي إذا كان صحيحا أن االستعداد يقود إلى ظاهرة مشاركة (وحيدة العنى) عندما
تجتمع شروط التفعيل ،في حين أن االنبثاق ال ّ
يثبت سوى االحتمال .والباحثان
الرئيسيان اللذان قدما هذا التفسير للـ "حالة الكمومية" هما (إنما ليس دون وجود
مواضيع اختالف متبادل كبرى بينهما) هايزنبرغ W. Heisenbergوبوبر .452K. Popperوقد
كتب هايزنبرغ بدون مواربة" :يمكننا [ ]...استبدال مصطلح «حالة» بمصطلح «كمون»."453
إن الطريقة األبسط لواجهة العالقة بين االنتقال األول والثاني هي اعتبار أن "حالة
كمومية" تعبر عن انبثاق نوع جديد من "األثير" إلظهار هذه الظاهرة أو تلك ضمن بعض
ً ً َّ
ويشبه هذا الش يء األثيري غالبا بفراغ كمومي منظورا إليه شروط التفعيل التجريبية.
كواقع ،كما أشرنا إلى ذلك أعاله .مع ذلك ،فإن الفهوم التقليدي إلى حد ما للفراغ الشروط
َ ً
أيضا بتعريفه البدئي كحالة خاصة للمراقب العدد ،بل والقابل ليكون هو نفسه في "حالة"
حالة بشكل من األشكال) ،أثار تحفظات عند بعض الباحثين .يفضل ر .هيلي R. (حالة ٍ
Healeyبالتالي اإلشارة إلى الش يء األثيري كخلفية استعدادية للـ "عالم" ،بحيث ال يكون
ً
الفراغ نفسه سوى حالة صفر N=0من هذا "العالم" .454وأخيرا ،يستند كثيرون مثيل ب.
ً
هيلي B. Hileyبشكل واسع على "سيرورات فيزيائية أكثر عمقا ."455يبدو هكذا أن الخطط -
النموذج للفكرة األساسية وللتحديد مصون ،وذلك على حساب القبول بأساس إيجازي
وبابتعاد متنام بين التحديدات االستعدادية فقط والحالية التي كانت االستعدادية ال تزال
ترتبط بها بشكل مباشر.
W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Michel, 1971: K. Popper, La théorie quantique et le 452
schisme en physique, Hermann, 1996.
W. Heisenberg, Physique et philosophie, op. cit., p. 247. 453
R. Healey, "The metaphysics of emptyness", In E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit. 454
B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of 455
vacuum, op. cit., p. 223.
269
ما هي نظرتنا إلى مثل هذه االستراتيجية؟ في أصولها ،يمكننا الكشف عن عدد ال
ً
يستهان به من الطابقات مع مقدمات النموذج الجديد .وسوف أعدد هنا أربعا من هذه
الطابقات .فبالدرجة األولى ،إن السافة التزايدة بين التحديد االنبثاقي الذي يفترض أن
النظرية العلمية تعالجه والحالية ،ال تعمل إال على إتمام ميل سبق أن تم الشروع به
عبر استخدام تحديدات استعدادية .وفي حين أن التحديد االستعدادي كان يجمع بين
تصنيف فاصل ثنائي التفرع مع إسناد مباشر إلى الحالية ،فإن التحديدية االنبثاقية
ً ً ً
تستخدم أيضا تصنيفا فاصال (أن تكون في "حالة كمومية" معينة واقعة في فضاء هلبرت
ّ
أو في حالة معينة أخرى) ،لكنها تعلق أو تربط عالقتها مع حالية ظاهرة ما بوجود إطار
أداتي مناسب .إن العلم يتطابق أكثر من أي وقت مض ى مع نشر للممكن وأقل من أي
ّ ّ
وقت مض ى مع مصادرة مباشرة للحقيقي والفعلي .وهو ينظم ويمنهج عملية دشنتها اللغة
وتحديداتها التصنيفية :وهي العملية التي تشتمل على وضع فضاء من المكنات تظهر
الحالية مقابله مثل وضعية خاصة بين وضعيات أخرى باألحرى من كونها تعشية أو
ً
إظالما ال يمكن تجاوزه .وبالدرجة الثانية ،تقترن التحديدات واالستعدادات مع فكرة
توجيه للخطاب العلمي باتجاه الحدث الستقبلي للظاهرات التي يبقى أن ت َّ
حدد شروطها،
ً
بدال من اقترانها باستنتاج يرتكز على آثار حالية سبق تأكيدها في الاض ي .إن الترتيبات،
مثل االستقراء ،وفق ما كتب غودمان ،N. Goodmanتطرح قبل أي ش يء آخر مسألة
اإلسقاط 456على الستقبل .أما فيما يتعلق باالنبثاقات ،فإنها تترجم كما يشير كارل بوبر
ً
،K. Popperوضعية يكون فيها "الستقبل الفتوح موجودا اآلن هنا بطريقة ما ،مع
ً ً
كموناته العديدة التنافسة والتزاحمة ،بما يشبه إلى حد ما وعدا أو محاولة أو جذبا."457
ً
إن مماثلة "حالة" ما بانبثاق ما ،فهذا يعني أن نأخذ علما بالحالة التنبؤية بشكل أساس ي
ً
لرموز اليكانيك الكمومي مع عدم التخلي بشكل رسمي عن طموح إعطائه مضمونا
W. Heisenberg, Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979, p. 38. 458
B. Van Fraassen, Lois et symétrie, Vrin, 1994. 459
N. Cartwright, Nature's capacities and their measurement, Oxford University Press, 1989 460؛
M. Bitbol "Les lois de la nature: contingence ou nécessité", Cahiers de philosophie ancienne et du
langage, 1998.
271
تظاهر استعداد ما يفترض عالقة مع "جهاز تفعيل" ما ،فإن االستعداد نفسه مجرد من
نس َب مفسرو النظرية الكمومية للحقول العالقة ويعزى إلى جسم ما .عندما َ
بقدر ما هو غير منسجم مع مفهوم الفصل الحاسم للتحديدات القاطعة لهذه الكينونات.
ً
وانطالقا من هنا ،فإننا نفهم أن بوبر كان قد تجنب اعتبار هذه االنبثاقات كانبثاقات
مستقلة بذاتها ومستقلة فيما بينها ،كما كان سيكون الحال فيما لو نسبها بشكل خاص
إلى أجسام معتبرة بالنسبة ألدوات التفعيل .تشتمل االنبثاقات البوبرية ،في تعريفها ،على
ً
وضعية الجموعة461؛ فهي عبارة عن انبثاقات وضعية عالقة بدال باألحرى منها كينونات
تنشأ فيما بينها العالقة؛ فهي ال تكتسب كامل معناها إال عندما ننظر لها من داخل هذه
العالقة .وفي حدودها القصوى ،يمكننا إذا ما رغبنا بذلك أن ننظر لها كاستعدادات
للكون بمجمله ،لكن مثل هذه االستعدادات الكليانية يجب أن َ
تعت َبر على أنها ذاتية
ً
التفعيل وذلك فيما يتعلق بشرخ شبه اتفاقي داخلي خاص بالكون ،بدال من اعتبارها
ً
كمغايرة للتفعيالت عبر تدخل جهاز سيكون غريبا عنها .وحتى إذا لم يكن هذا الجانب،
K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit., p. 127. 461
272
العالئقي بشكل كامل بالنسبة لالنبثاقات ،يشتمل على ارتباطها اتجاه موضوع إنساني
ً
(من حيث أن العالقات ال تنتج دائما من نشاطات وأعمال ترتيب لوضوع ما ،وأن وضعية
الجموعة الستدعاة ال يجب أن َّ
تشبه بالضرورة بوضعية تجريبية) ،لكن يبقى أن عقبة
مبدئية تعترض أن ننسبها ألي ش يء كان بمعزل عن الشروط حيث بإمكانها أن ّ
تتفعل.
تفلت االنبثاقات على هذا النحو من الذاتية ،التي كان بوبر يستنكر إدخالها من قبل
أنصار "تفسير كوبنهاغن"؛ ولكن على الرغم مما يمكن لفردة "موضوعي" البوبرية أن توحي
به ،فإن االنبثاقات ليست بالرغم من ذلك "قابلة للموضعة" بالعنى اإلبستمولوجي للـ
ً
قابلة لإلسقاط أماما أو للـ قابلة للفصل.
6 -6تناقض االستعدادات والتحديدات القطعية
تنجم صعوبة أخرى ،تصادفها محاولة إيالء انبثاقات ألساس شامل ما ،من طموحها
َ
األنطولوجي الكامن .يتعلق األمر في النهاية بتأكيد أن الخصائص القصوى للعالم هي من
ً
رتبة انبثاقية باألحرى من كونها من رتبة تصنيفية .ويتعلق األمر أيضا بأن نقرن بهذا
التأكيد تأكيد أن "قوانين الطبيعة" هي قوانين غير تحديدية بشكل أساس ي وليست
ً ً
قوانينا تحديدية (انظر الفصل الثامن) .غير أنه ليس من الصعب جدا إدراك أن هذين
التأكيدين يسقطان كالهما تحت ضربة نقدية من النمط الكانطي في نقده للعقل؛ ألن
ً
كال من التأكيدين يعودان إلى محاولة ّ
مد مفاهيم الفهم واإلدراك إلى ما وراء حدود
التجربة التي تكمن وظيفتها في تنظيم هذه الحدود .إن جزاء مثل هذا التجاوز هو ظهور
تناقضات ،أي مواجهات وصراعات بين تأكيدات عقائدية متناقضة.
كان هارتونغ H. Harthongيشير إلى ظهور "صراع خامس لألفكار التجاوزية" بين
األطروحة التي وفقها:
"القانون النهائي للعالم هو قانون تحديدي بالكامل وكل ظاهرة عشوائية يمكن أن
نلحظها في العالم هي من أثر الشواش التحديدي"،
وبين األطروحة الضادة التي وفقها:
273
"القانون النهائي للعالم هو الصدفة وأية تحديدية جزئية يمكن أن نجدها فيه هي
أثر لقانون األرقام الكبيرة".462
ً ً
ال بد لنا أن نضيف إلى ذلك حاليا صراع سادس لألفكار التجاوزية (هو أصال صراع
ً
مرتبط جوهريا مع الخامس) ،بين األطروحة التالية التي وفقها:
"إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات قطعية ،وكل تحديد استعدادي أو
ً
انبثاقي ننسبه إلى أجسام ما يعكس تحليال غير كامل للصيرورات القطعية التحتية"،
واألطروحة الضادة التي وفقها:
"إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات استعدادية أو انبثاقية ،وكافة
مرور إلى الضمني للعالقة بين
ٍ التحديدات القطعية التي يمكننا التنبؤ بها هي انعكاس
الخلفية االستعدادية وأدوات التفعيل".
لقد أصبح من الرجح أكثر فأكثر أن التجربة ال تستطيع الحسم بين األطروحة
واألطروحة الضادة ،وذلك من خالل التواجد الشترك ،في نظر النظريات الكمومية،
للتفسيرات ذات التغيرات الخفية القطعية (غير الحلية والسياقية) والتفسيرات
ً االنبثاقية .يبقى أن ّ
نتفحص الحجج العقالنية البحتة التي تعرض حينا ضد األطروحة،
ً ً
وحينا ضد األطروحة الضادة ،والتي هي قابلة ألن تجعل منهما تناقضا حقيقيا بالعنى
الكانطي.
ً
والحجة القدمة ضد األطروحة معروفة جيدا .فكل تحديد قطعي ،بقدر ما يهدف ألن
يتم إيصاله أو إبالغه ،وحيث يكون علينا لتحقيق ذلك اللجوء إلى عملية الفصل عن
ً
مخطط ثنائي التفرع ابتداء من تفعيل أصيلَ ،يفترض استعدادا للش يء بالسماح بإعادة
تفعيل .وكما كتب بالكبرن ،فإن "الصالبة تتوافق مع القاومة (وهي استعدادية بامتياز)،
J. Harthong, cité par A. Dahan-Dalmedico, in A. Dahan-Dalmedico, J.-L. Chabert et K. Chemla, 462
( Chaos et déterminisme, Seuil, 1992هنا ،عكسنا عن قصد األطروحة واألطروحة الضادة)؛
ً
انظر أيضاJ. Bouveresse, L'homme probable, Editions de l'Eclat, 1993; J. Harthong, Probabilités et :
statistiques, Frontières-Diderot, 1996.
274
بينما الكتلة تكون قابلة للمعرفة فقط من خالل آثارها الديناميكية ."463ومن هنا ،فإن
الفكرة التي ترسخت عبر نجاحات النموذج الذري في مطلع القرن العشرين ،بأننا
سنستطيع دائما تحديد أساس قطعي الستعدادات اللحظة ،ال تصمد أمام هذه الحجة،
أو على األقل تكون محكومة باالنحدار إلى الالنهاية .فهناك استعدادات تجد نفسها وقد
وصلت إلى تحديدات قطعية تفترض هي نفسها استعدادات إلعادة التفعيل ،وهكذا
دواليك" .فكما أن النظرية الجزيئية للغازات تعطينا فقط أشياء مزودة باستعدادات،
ً
فإن تطور العلوم لن يعطينا شيئا آخر سوى مخطط أفضل من االستعدادات والقدرات.
فعلى هذا النحو إنما تمض ي الفيزياء ."464إن األساس القطعي النهائي الفترض ،اإلسقاط
َّ
والعرف فقط بواسطة الجسد للتصنيفات الوضوعية ،يتقلص إلى "[ ]...ما ال نعرفه ّ
القدرات واالستعدادات التي يحملها."465
أما الحجة الرئيسية ضد األطروحة الضادة فقد عرضها كوين " :Quineإذا لم يكن ثمة
معين ضمن ظروف معينة، إمكانية للتمييز بين استعدادات ش يء ما في التصرف وفق شكل ّ
والواقع البسيط بأنه يتصرف على هذا النحو ضمن هذه الظروف ،عندها فإن كل ما يفعله
ً
الش يء يمكن أن ينسب الستعداد ما ."466ووفق كوين ،فإن مفهوم االستعداد يكون محروما
بالتالي من معنى مستقل بذاته .وهو بالنسبة له ليس سوى وسيلة لإلسناد بشكل غير
مباشر إلى ترتيب من التحديدات القطعية التي ال نفهمها بعد" .إن العبارة العامة للفظة
ّ ً ً ً ً
[استعداد] هي لفظة برنامجية ،وهي تعلب دورا ناظما باألحرى منه دورا مشكال" .467وهي
ً ً
بدال باألحرى تشكل وعدا في سبيل وصف نهائي بمصطلحات ميكانيكية -آلية وتصنيفية
من وصف بديل.
S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 255. 463
464الرجع السابق ،ص.465 .
465الرجع السابق.
W. V. Quine, The roots of reference, Open Court, 1990, p. 5. 466
467الرجع السابق ،ص.00 .
275
يمكننا سبر جذور هذا الصراع الفكري إذا جمعنا التحليل العام لكانط حول
468
مع بعض الالحظات وثيقة الصلة بالوضوع لكوين حول األطروحة الضادة للمنطق
االستعدادات .469فنصير األطروحة ونصير األطروحة الضادة تقودهما ببساطة قيم أو
اهتمامات مختلفة ،وهما يحاوالن إسقاط هذه االهتمامات على العالم .إن نصير
األطروحة (وبالتالي ناقد األطروحة الضادة) محكوم باهتمام نظري ،بل وتخميني :فهو
يريد إدراج عمله في النظور الناظم لوصف شامل لكيف هو العالم .وهو يسقط مثاله
الناظم في "آليات" تتضمن تحديدات قطعية .أما نصير األطروحة الضادة (وبالتالي ناقد
األطروحة) ،فهو محكوم باهتمام عملي :أال وهو عدم إغفال تضمين مناهج عملياتية
ضمن إجراءات التفعيل وإعادة التفعيل التي يرتكز عليها في نهاية الطاف كل إسناد من
ً
التحديدات .غير أنه هو أيضا يسقط شيئا ما على العالم .فهو يسقط عليه حدود
ً
التجربة نفسها .وهو بذلك إنما ينتهك أيضا هذه الحدود على طريقته ،طالا أن البرهان
على أن هذه الحدود غير قابلة للتجاوز وأنها "أساسية" ال يمكن أن ي َّ
قدم ربما إال بالنظر
من الجهة األخرى وبإظهار العائق الذي يقاوم تجاوزها .وبقيامه بذلك ،فإن نصير
ً
األطروحة الضادة يجازف بأن يصبح مذنبا بالعقائدية بمقدار ذنب خصمه نصير
األطروحة.
7 -6عناور لتفكيكية أنطولوجية
ما هي النتيجة التي نصل إليها بعد أن نقبل باالستنتاج السابق بوجود التناقض؟
نترك لفرعي الكماشة النقدية أن يعمال بملء طاقتهما ،ونضع محصلة ما يبقى في نهاية
عملها في التسوية والتشذيب.
خصوم األطروحة الضادة محقون في اإلشارة إلى أن االستعدادات ليس لها أية
استقاللية اتجاه الظروف التي ّ
تفعلها ،وإلى أنها تستطيع لهذا السبب أن تزعم بصعوبة
ً
470انظر تعليقا يوضح السألة حول مفهوم "القاعدة" في:
S. Kripke, Wittgenstein on rules and private language, Basil Blackwell, 1982, p. 97-98.
277
وبالتالي ،فإن حقل التفكيكية األنطولوجية هو حقل مفتوح بشكل رحب .وقد ولجه
ً ً ً
العديد من الكتاب حتى اآلن ،أحيانا بحذر مفرط ،لكن أحيانا بطريقة أكثر اندفاعا وقوة.
لنبدأ بالطريقة الحذرة .فمع االرتكاز على مفهوم االنبثاق ،يمتنع كل من بوبر K.
Popperوتيللر P. Tellerفي غالب األحيان من إعطاء تفاصيل دقيقة حول أساس
ً
محتمل .ويعارض تيللر على سبيل الثال بشكل واضح جدا عملية نسب تحديدات إلى
أشياء وبين عملية تطبيق مفهوم االنبثاق الذي يترك مسألة األساس مفتوحة .إن "الحالة
ً الكمومية" ّ
لظهور وفق احتمالية معينة تحت
ٍ تعبر وفقا لتيللر عن "[ ]...انبثاقات بالنسبة
شروط تفعيل مختلفة ."471نالحظ هنا االستخدام الضبوط للعبارة الواسعة والطاطة
"انبثاقات بالنسبة لا سوف يظهر" ،وليس للعبارة الشائعة أكثر "انبثاق ش يء ما للظهور
بطريقة ما" والتي تتضمن اإلسناد إلى أساس ما .وهو ي َب ّرر هذا الخيار من جهة أخرى بعد
عدة صفحات على النحو التالي" :سيكون علينا أن نفهم «الحالة الكمومية» بما هي تحدد
االنبثاقات من أجل ظهور الخصائص ،لكن يمكننا أن ننفي بطريقة متسقة أنه يجب أن
نفسه وقد وضع بين يوجد ش يء ما فيها يدفع الحالة ."472فبعد أن وجد هذا األساس َ
ً
هاللين ،فها هو يجد نفسه مهددا من قبل تيللر باإلنكار الصريح .أما بوبر ،فال يتردد من
جهته في استخدام نموذج متوالية زمنية ال تدخل سوى االنبثاقات ،دون أي ذكر أو إشارة
ً
إلى حامل أو أساس .وغالبا ما نجد لديه عبارات حيث تطرح مسألة حالة تتأتى من
انبثاقات ماضية ،حيث تشتمل هذه الحالة بدورها على انبثاقات مستقبلية .473وهكذا
فقد وضع بوبر رابط تتابع مضبوط بين الحاالت وحدها واالنبثاقات ،أو بين الحاالت
االنبثاقية ،العلقة في "فراغ" ال يعمل كأساس بديل بل كوضع بين قوسين لوظيفة
األساس نفسها.
P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 105. 471
472الرجع السابق ،ص.019 .
K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit. 473
278
كان دافيس P. Daviesهو الذي وضع الطريقة األكثر فظاظة في تفكيك
األنطولوجيا ،474وذلك ّ
كرد على ظاهرة "جسيمات ريندلر ."Rindlerووفقه ،فإن هذا
الوضع الغريب ،حيث نكشف عن جسيمات بواسطة كاشف َ
مس َّرع ضمن ما هو َّ
معرف
مع ذلك كـ "فراغ" ،يجبر على القبول بأن مفهوم الجسيم (وليس فقط مفهوم تحديد
ً ً
وتعريف جسيم ما) ال يمكن أن يجد نفسه مخصصا ومعينا بمعنى غير ملتبس إال
ً
بالنسبة إلطار تجريبي محدد تماما .ولكن ما أن يتحرر هذا الفهوم من روابطه التاريخية،
فإن الالحظة العامة لألسلوب البوري (نسبة إلى بور) ،ووفقه ال نستطيع إقامة فصل
واضح بين شكل التحديدات التجريبية والحتوى الداللي للنتائج ،475تجازف بأن يكون لها
نتائج تفكيكية إلى ما وراء النقد الوجه ألساس "منظومة جسيمات" .أال ينطبق ذلك بعد
إجراء التعديالت الالزمة mutatis mutandisعلى الكثير من الرشحين من الركائز األخرى:
َ
الحتمل ،بل والفراغ الف ّعل؟
َ مثل الحقول الخاصة ،والحقل َّ
الوحد
ّ في أحسن األحوال ،علينا أن نحاول على هذا النحو ّ
تخيل انبثاقات "معلقة"،
محرومة من الركيزة واألساس .وفي أسوأ األحوال ،كما اقترحنا ذلك أعاله ،سيكون من
الالزم ربما أن نبتعد لسافة معينة فيما يتعلق بالرواسب األنطولوجية التي ينقلها مفهوم
االنبثاق ،والبقاء على التخوم الباشرة بين "لعبة البحث" من جهة ،الؤلفة من تالعبات
تجريبية وتشكيالت تنبؤية واستخدام للغة ،ومن جهة أخرى ،التفعيالت الفردية
العشوائية .غير أن هذا الخيار األخير يقودنا كما يبدو إلى التخلي عن كل ما كان يشكل
العنى والدافع العميق للمشروع العلمي .كنا نعد أنفسنا بأن العلم لن يبعدنا أكثر فأكثر
عن "الحالية" من خالل تشييداته العقلية إال لكي يقودنا باتجاه مستقبل مشرق لواقعية
أكثر واقعية وحقيقية من حالية الظاهرة :أال وهي الواقعية التي سوف تدركها وتلتقطها
P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S.M. Christensen, (ed.), Quantum theory of gravity, 474
Adam Hilger, 1984.
B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in op. cit. 475
279
ً
كياناته النظرية بشكل تدريجي ومتالق .وانطالقا من هنا ،كنا سنضيف أننا سوف نصل
َ
إلى إغالق دائرة الحصالت العلمية للعالم في نقطتين .في الدرجة األولى ،كنا سوف
ّ
نتوصل إلى أن نأخذ الحالية نفسها بعين االعتبار كظاهرة موسعة للحقائق األعمق
ً
الكتشفة بواسطة العلم .وبالدرجة الثانية ،سوف نصبح قادرين استدالليا على تفسير
مالءمة النظريات العلمية في مجال ّ
صحتها وذلك باستحضار تماثلها الجزئي مع "واقع"
تتم مقاربته بشكل مقارب .فهل يمكننا أن نترك مثل هذا الثال يضيع ،باعترافنا بغموض
الحالية بمواجهة محاوالت اختزالها ،وبترك جهود التنظير ت َنبذ تحت ناظرينا في لعبة
لسانية -شكالنية ال تتوصل نجاحاتها العملية بشكل جيد إلخفاء طابعها الذي ال أساس
له؟ فلكي يكون ثمة خسارة حقيقية ،يجب أن يكون ثمة ش يء هام لفقده وخسارته وال
ش يء نربحه بالقابل .غير أننا في الحالة الراهنة نجازف فقط بخسارة الوهم ،ويمكننا أن
نربح طريقة جديدة في فهم وتبرير بنية صورياتنا النظرية.
أ) الوهم ،هو وهم التفسير الرجعي للحالية من خالل نتاج اإلعداد النظري .لنعد إلى
القطع B135لديمقريطس الذي أشار منذ ذلك الوقت أنه إذا كان يمكن بواسطة العقل
اعتبار أن الذرات والفراغ هما الحقيقة الوحيدة ،محيلين الحسوس إلى ّ
مجرد اتفاق،
ً
فإن الحسوس سوف يبقى مع ذلك الطريق الوحيد الختبار البناء العقلي .لنمر أيضا على
هسيرل ،Husserlوالذي أشار إلى أسبقية واقع وقانون "عالم "األزمة" Krisisالتي طرحها ّ
الحياة" Lebensweltوتساءل عن أية "بنية تحتية" شكلية تزعم أنها تبرره بالقابل.
ولنطرح نسخة من هذه الالحظة أكثر خصوصية في الفيزياء العاصرة .أحد األسئلة الذي
ً
غالبا ما يطرح هو التالي :كيف نأخذ بعين االعتبار بأثر رجعي عبر النظرية الكمومية
للمدى الذي لدى الجرب الستخدامه في التحديدات القطعية على الستوى الجهاري
ّ ً
الجد أبدا زعم عناصر الصورية (لنقل تحديدات أجهزته) إذا لم نعد نأخذ على محمل
الكمومية بوصف "حاالت" لـ ش يء ما ،على الستوى الجهري /الصغائري لكونات هذه
األجهزة نفسها؟ إحدى الطرق التبعة لتحييد هذا السؤال هي اإلشارة إلى أن استخدام
281
ّ
الجرب ووسطه يمثل شرط إمكانية اإلثبات ما بين الذاتي، التحديدات القطعية في بيئة
أي الشترك ،ألية صورية تنبؤية مهما كانت :فالتنبؤ يركز على هذا وليس باألحرى على
ذاك ،أي على تحديدية قطعية تقع في قلب سويته ثنائية التفرع .غير أن الشروع الذي
يرتكز على إرادة أخذنا بعين االعتبار لشروط إمكانية معرفة ما من خالل محتوى العرفة
ً
التي أصبحت ممكنة يحمل هنا كما وفي أي مجال آخر شيئا من الوهم .أضف إلى ذلك،
أننا نتوصل (وهذا غير مهمل على الستوى النهجي) إلى البرهان بأن محتوى العرفة
والتنبؤات التي تسمح بالقيام بها ال تدخل في تناقض شروطها السبقة التي ال غنى عنها.
وهنا يكمن الدور الحدود الذي أنسبه إلى نظريات فك الترابط في اليكانيك الكمومي وإلى
تعزيزها التجريبي الحديث من قبل فريق هاروش.S. Haroche 476
ب) الطريقة الجديدة في تبرير بنية الصوريات النظرية هي النهج البراغماتي -
التجاوزي .وهي تشتمل على تبرير بنية صورية اليكانيك الكمومي ،ليس من خالل
ً
تسجيلها في خطوط قوى واقع مستقل مسبق البنيان (كان مشكال من تحديدات بحتة)،
بل من خالل قدرتها على أن يجمع في صوريته معايير النشاطات التجريبية للتنبؤ
(االحتمالي) بنتائجها .477وهكذا يتم تجنب الصعوبات الرتبطة بـ "التفسير" الواقعي لنجاح
النظريات الفيزيائية (الذي تنحو وفقه النظريات إلى عكس بنية العالم بشكل مستقل عن
أية صلة معنا) دون الحاجة مع ذلك إلى التعليق التجريبي للحكم" .التفسير" البديل هو
أن النظريات تترجم على مستويات مختلفة الشروط الصريحة للفعل األكثر حيوية
ّ ّ
ستحصل هذه العالقة من نتائج لنفسها. للكائن -في -عالقته -مع -الكون :توقع ما
ووفق هذه القاربة ،ال يجب أن يبقى سوى عنصر واحد غير قابل لإلدراك بشكل
كامل من خالل الصورية النظرية ،وبالتالي من خالل الطريقة البراغماتية -التجاوزية
476
M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. citP M. Bitbol,
Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston studies in the philosophy of science ,
Kluwer, 1996.
ً
M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. cit. 477؛ وانظر أيضا القطعين -0
1و 5-3من هذا الكتاب.
281
ً
للتبرير :أال وهو واقع الحصول على هذه النتيجة بدال باألحرى من نتيجة أخرى من بين
كافة النتائج المكنة ،وذلك خالل حدوث مفرد للتجربة َّ
النفذة .بعبارة أخرى ،ش يء ما
يقتض ي حالية بحتة.
8 -6خاتمة" :اخصالء" كعالج
ً
إن الخالصات التي يمكننا استخالصها من هذه التأمالت بسيطة جدا وتتوافق مع
الفكر الويتغنشتايني .فهي تعود على الستوى الفلسفي إلى ّ
حل للمسائل ،وعلى مستوى
الحياة إلى مؤشر عالجي.
ً الخالصة األولى هي أنه من ّ
التهور جدا اعتبار نجاح تنبؤي ،متعلق بنشاط تجريبي
مضبوط ،كبرهان على أننا توصلنا إلى حقيقة مطلقة .وهو أمر نموذجي بالنسبة لعبادة
حديثة وغربية للفعالية ،كما أنه يشتمل على اعتبار القدرة على الفعل كعالمة ثابتة على
محك قيمة العرفة هو مقدرتها على خدمة قدرة معرفة أصيلة ،وبالعكس على اعتبار أن ّ
الفعل.
أما الخالصة الثانية ،فهي أن صيرورة اتخاذ مسافة اتجاه الحالية ،التي بدأت مع
ً
اللغة وتوسعت من خالل العلوم ،ال تزال بعيدة جدا عن اإليفاء بوعدها الضمني ،الذي
كان استعادة هذه الحالية بإدرجها في منظومة فهم كامل "لألشياء منذ خلق العالم".
فعلى هذا النحو إنما نستطيع أن نفهم دون شك الالحظة التالية لويتغنشتاين ]...[" :في
ّ
الوقت نفسه الذي تكون قد حلت فيه كافة السائل العلمية المكنة ،فإننا ال نكون قد
عرضنا بعد لشكلتنا" .478هل يجب أن يكون ثمة فشل ما في ذلك؟ إنها باألحرى تحريض
على القيام بأبحاث عن /في الحالية ،كتتمة ال غنى عنها للبرنامج العلمي في االضطالع
الخارجي بالخلفات الحققة للحالية.
ً
الخالصة الثالثة هي أننا طالا صغنا على التتالي مفهوما للفراغ كمنطقة من الفضاء
محرومة من الادة ،ثم كحالة أساس لخزان من الكمونات ،فقد ارتكزنا على نسبية
L. Wittgenstein, Carnets 1914-1916, Gallimard, 1971, remarque du 25 mai 1915. 478
282
تعريف التحديدات ،والحاالت ،واالنبثاقات ،كما وأسسها الفترضة (منظومات
الجسيمات ،الحقول ،بل والفراغ الوجودي) ،وذلك بمواجهة شروط ومعايير التجريب.479
فمن مسألة أنطولوجية الفراغ ،انحرفنا نحو مسألة العالقة ،التي كان قد أبرزها كانط
في العبارة التي افتتحنا بها هذا الفصل ،وذلك بين التأكيدات القطعية أو االستعدادية
ً
التي تتعلق بالفراغ ووسائل إثباتها .وهكذا فقد توصلنا عن غير قصد تقريبا إلى مفهوم
ثالث للفراغ (ليس له صالت أخرى مع الفهومين السابقين سوى الحتوى العام لغزى
"غياب الش يء" ،إنما الذي فرض نفسه مع محصلة تحليلهما) .وهذا الفهوم الثالث هو
مفهوم "الخواء" (سونياتا )Sunyataفي بوذية "الدرب الوسط" ،والتي تقود إلى االنبثاق
الشترك التعلق بكل ما هو ظاهر" .إن ما يظهر بطريقة مرتبطة أو تابعة ،كما يكتب
ناغارجونا ،480هو ما نسمعه بواسطة الخالء [ .]...فش يء ما لم ينبثق بطريقة مرتبطة أو
ً
متعلقة ال يوجد .وبالنتيجة ،فإن شيئا ما ليس فارغا ال يوجد" .481وعلى عكس الفهومين
ّ ً
السابقين للفراغ ،فإن هذا العنى الثالث للـ "فراغ" نادرا ما ولد محاولة تجسيد له .وفي
كل األحوال ،فإن الذين خضعوا إلغراء الحاولة لم يكن لديهم أي عذر ،ألنه كان قد تم
ً
التأكيد لهم منذ البداية أن الفراغ موضوع البحث لم يكن مناسبا .ويفسر غارفيلد J.
ً ً
Garfieldأن "الخالء نفسه في «درب الوسط» هو فراغ .فالخالء ليس فراغا موجودا بذاته
َ
الطابق مع الواقع االتفاقي (للظهورات)؛ بل هو سمة مميزة لهذا خلف حجاب من الوهم
الواقع االتفاقي" .482إنه طريقة للتعبير عن تعارض كل تأكيد يرتكز على الفكر القائل
284
- 7ماذا يعني "فهم اليكانيك الكمومي"؟
ذكرنا فيما سبق بشكل متواتر فكرة (كانت مألوفة لدى كل من بور وهايزنبرغ) أن
يعبر عن وضعية تشابك ال ينفصم للوسائل التجريبية لالستكشاف اليكانيك الكمومي ّ
ً مع الوسط الذي تستكشفه .وقد ن َ
سبت مجازا الصعوبة الظاهرة في استخدام اليكانيك
الكمومي من أجل تحرير وكشف سمات خاصة محتملة للواقع إلى "القرب العمي" من
ً
هذا الواقع ،بدال باألحرى من نسبها إلى بعده الفرط .ال بد لنا بالتالي من إعطاء شكل
ّ
التحول في واتساق للتصور الجديد للنظرية الفيزيائية التي تفرض نفسها بعد هذا
التمثيالت اإلبستمولوجية .فما الذي يمكن أن تكون عليه نظرية ما إذا لم تعد نظرية
theoriaبالفهوم األساس ي لها ،أي تأمل منهجي لصيرورة طبيعية يفترض أنها خارجية؟
وماذا يجب أن يشبه نمط تنظيم عقلي للنشاطات التجريبية وللظاهرات الناجمة عنها
التي ،كما يكتب كاسيرر ،Cassirerلن يكون موضوعها أن "[ ]...تقطع حدود عالم
ّ ً
التجربة لكي تجهز لنا منفذا نحو عالم التجاوز ،بل أن تعلمنا اجتياز هذا العالم التجريبي
بكل ثقة ،وسكناه بشكل مريح"483؟ نقترح بدايات أجوبة على هذه األسئلة في القطعين 1
3 -و .2 - 1
G.P. Baker & P.M.S. Hacker, An analytical commentary on the Philosophical Investigations 487
(volume 1), Basil Blackwell, 1980, p. 277.
ً
" 488أفال أتخيل نفس ي في بعض األحيان أيضا أفهم كلمة ما [ ]...في حين أتأكد فيما بعد أنني لم أكن أفهمها؟"،
،L. Wittgenstein, Philosophische Untersuchungenالرجع السابق.036 ،
287
الفهم بعد أن كان قد استبعد منه [ ."489]...فإذا كان الترجم يريد أن يعرف ما هو
"الفهم" ،فإنه ال يستطيع ببساطة أن يوائم العايير ويعاين ّ
ويقدر األعراض السريرية
كطبيب منفصل عنها؛ إنما عليه قبل كل ش يء أن يغوص ويغمر نفسه في ممارسة
اللغة .490وإذا ما فعل ذلك ،فإنه يوشك بأن يلحظ بسرعة كبيرة السافة التي تظل قائمة
بين الفهم ومعيار االستخدام الجيد ]...[" :إننا نفهم مغزى كلمة معينة عندما نسمعها أو
نلفظها؛ إننا ندركه في ومضة ،وما ندركه بهذه الطريقة هو بكل تأكيد ش يء ما مختلف
عن «االستخدام» المتد في الزمان."491
تأمل ويتغنشتاين ،دون أن ّ
يحمل نفسه الحتوى اإليجابي لهذه الالحظة ،فيما
تحمله من مضمون سلبي .فعلى عكس اإلغراء الذي يمكن أن ينجم عن مثل هذه
ً
الالحظة إذا أخذت بحرفيتها ،فإن ويتغنشتاين يحاذر جيدا من الخلط بين الفهم
ً
و"الشعور" بإمساك ش يء ما وإدراكه في لح البصر .فهو لم يقع أبدا في العيب الذي
شجبه ريكارناتي :F. Récarnati 492العيب الذي يشتمل على إرادة إعداد نظرية للمعنى
ّ
العني التعلق بها .وهو يحاول ترتكز على تمثيل أو تقديم إشارة مفتوحة عبر شفافيتها على
ّ
التحدث ،ال يبدو أن فهم لفظة ما اإلشارة إلى أنه ،من منظور الستمع ،أو القارئ أو
يتطابق مع استخدامها الصحيح في الاض ي وال مع بيان واضح لقواعد استخدامها
ً
الصحيح .وضمن هذا النظور ،فإنه لن يكون من غير الدقيق جدا التأكيد (على األقل
وفق نمط مجازي) أن الفهم يظهر بالنسبة للمستمع أو القارئ مثل شفافية .وببساطة،
J. Bouveresse, "Herméneutique et linguistique", in H. Parret & J. Bouveresse (eds.), Meaning and 489
understanding, W. de Gruyter, 1981, p. 152؛ وقد أعيد نشر هذا النص بشكل منفصل مع نص آخر
بعنوان ،Wittgenstein et la philosophie du langage"" :وذلك في J. Bouveresse, Herméneutique et
.linguistique, Editions de l'Eclat, 1991
490الرجع السابق ،صJ. Mac Dowell, "Anti-realism and the epistemology of understanding, in .426 .
H. Parret & J. Bouveresse (eds.), Meaning and understanding
491الرجع السابق ،صL. Wittgenstein, Philosophische Untersuchungen .036 .
.F. Récanati, La transparence et l'énonciation, Seuil, 1979 492
288
من أجل الض ي أبعد فأبعد في اتجاه الخيارات الكبرى لفلسفة ويتغنشتاين الثاني،
ً
سيكون علينا التعبير بمصطلحات المارسة بدال باألحرى من مصطلحات رؤيا تأملية:
القول على سبيل الثال إن فهم خطاب أو نص ما ،من قلب ممارسة الستمع أو القارئ،
يعني القدرة على اإلندراج في أشكال حياة تتوافق معه" .فأن «نحيا في صفحات كتاب ما»
ً ً
يعني فعال شيئا ما" كما كتب ويتغنشتاين في نهاية تأمل حول القصد.493
وباإلجمال ،فإن فهم لفظة أو جملة ،ربما يعني أن تكون لدينا األهلية للفظها بطريقة
تكون فيها ،إذا نظرنا إليها من الخارج ،قابلة للوصف من خالل توافقها مع قاعدة
استخدام ،لكن هذا ال يعني بالتأكيد أن نكون َّ
موجهين صراحة بواسطة القاعدة عندما
ً
نلفظها ،494ويعني أيضا الحاولة بدرجة أقل إلعالن القاعدة.
إن الزدواجية محصالت الفهم اللغوي وفق وجهة النظر أو الشاركة العملية مكافئها
في الفيزياء .فبالنسبة لشخص عادي ،ت َع ّد مقدرة الفيزيائي العاصر على التنبؤ باألحداث
ً ً ً ً
وفقا لقاعدة مؤشرا معياريا على أن درجة فهمه للطبيعة هي درجة عالية جدا؛ بل وهذا
يعول عليه .والفيزيائي يقول بالضبط (وفق جيل -مان M. ما يقوله هنا الفيزيائي الذي َّ
Gell-Mannبعد فاينمان R. Feynmanوكثيرون آخرون) إنه مع معرفته التعبير عن
القاعدة ومع كونها تقوده وتوجهه فإنه ال يفهم.
تمثيال للفرق بين القدرة على التصرف بشكل متوافق مع قاعدة ما وأن نكونً
نجد
موجهين بواسطتها بشكل صريح ،بين معيار للفهم وفهم مباشر ،في التجربة الذهنية َّ
الشهيرة التي اقترحها سيرل .J. Searle 495وهي التجربة العروفة بـ "الغرفة الصينية" ،والتي
496وحده بطء التفاعالت اآلتية من الغرفة يمكن أن يوقظ بعض الشكوك .ويذكر هوفستادتر ودينيت بهذا
البطء لكي يدحضا نتيجة سيرل التي وفقها توجد مسافة ال يمكن قطعها بين الفهم اإلنساني والفهم الذي
يمكن أن يكون لحاسوب وفق برنامج ذكاء صنعي ]...[" :فلكي يستطيع إنسان أن يتمثل ويحاكي بيده هذا []...
البرنامج للذكاء الصنعي ،سيكون عليه القيام بعمل شاق ومضن بشكل ال يمكن تصوره أليام إن لم نقل
ألسابيع أو ألشهر" .إن شعار "الفهم ،يعني أن نعرف كيف نستخدم" يتم إكماله هنا وفق العبارة "الفهم ،يعني
أن نعرف كيف نستخدم بسرعة كافية" ،كما ورد في D.R. Hofstadter, D.C. Dennett, The mind's I, Basic :
.books, 1981
291
ً
سيرل يعترفون بذلك تلميحا .فالفهم الكامل لخطاب معلن بلغة أجنبية غريبة عنا ال
يظهر ،بالنسبة لستمع ،من خالل توافر صريح لجموعة من قواعد االستخدام ،بل
ً
بالضبط من خالل اختفاء هذه القواعد .وفقا لنقاش التجربة الذهنية لسيرل الذي
ودينيت " ،Dennettفإن كل شخص يقوم يقترحه كل من هوفستادتر ّ Hofstadter
بالتجربة سيدرك الوصف التالي :سرعان ما سوف تصبح أصوات اللغة الثانية غير
ً
مسموعة -نسمع من خاللها بدال باألحرى من االستماع إليها ،كما نرى عبر النافذة بدال
ً
باألحرى من رؤية النافذة ."497وهنا أيضا نجد الالحظة التي وفقها حتى إذا لم تكن هناك
ّ
أية نظرية للمعنى تقلص هذا العنى إلى شعور بـ "اإلدراك الباشر" صحيحة ،فإن الفهم
ّ
للمتحدث من خالل ش يء مثل شفافية القواعد. يظهر
حاول بعض الكتاب (بشكل خاص نعوم تشومسكي) أن يروا في هذا الجمع بين
توافق السلوكات اللغوية مع قواعد االستخدام ،وغياب التوجيه أو الدليل الصريح عبر
هذه القواعد ،الدليل على أن هذه القواعد تقود بشكل الواع وترشد االستماع
واإلجابات .498إن التوافق الظاهر لسلوك ما مع قواعد ،في حين أن صاحب هذا السلوك
يؤكد أن ال ش يء قاده أو أرشده عبر القواعد ،يمكن حتى أن يستخدم كتعريف لـ "إرشاد
غير واع" .مع ذلك فإن مثل هذه األطروحات ذات السوية النفسانية هي طروحات
ً
متوافق مع
ٍ خارجي سلوك لتفسير نيكو أال جدا متعجلة وغير حذرة ،ألنه من المكن
قواعد معينة أية عالقة مع البرمجة العصبية الدماغية والتنفيذ الدقيق لهذه القواعد،
ً
حتى وإن كان ذلك بطريقة الواعية .وإذا أخذنا حرفيا بالتقرير القدم من قبل الستمع،
سوف نرغب باألحرى بالقول إن القواعد كانت غائبة؛ وأنها لم تعد تلعب أي دور في
292
2 -7حول الالفهم في األدب وفي الفيزياء
من عدم الفهم االبتدائي للغة أجنبية أو حكاية أو نص أو نظرية ،توصلنا إلى فهم
ً
ينظر له افتراضيا ككتم وإخفاء ألداته الرمزية .ما الذي سيحدث اآلن في حالة الفشل
التأخر للفهم ،إذا أدركنا أننا لم نكن قد فهمنا كل ش يء أو أننا كنا فقط قد اعتقدنا
ً ً
بأننا فهمنا؟ لنفترض على سبيل الثال أن مستمعا فرنسيا لم يكن يسمع األصوات
الصينية خالل بضعة دقائق ،وأنه أدرك الدلول بالرور من فوق الدال ،وأنه استقر في
شكل حياة متوافقة من حيث الظاهر مع الخطاب الذي كان قد و ّجه إليه .وفجأة يظهر
تنافر أو عدم انسجام ما .فتتمة الخطاب وحركات التحدث الصيني ال تعود متوافقة على
اإلطالق مع ما كان الستمع الفرنس ي يتوقعه في أثر ومسار فهمه الزعوم للجمل األولى.
يعود الستمع عندها "إلى األرض" .والقواعد التي اختفت تعود فتظهر له .ويعود لالستماع
إلى الظاهرات ،وإلى اللجوء للتحليل النحوي ،وليدرس وفق رسوم وتكاليف جديدة اإلطار
ً
الثقافي الصيني .ويدرك أخيرا أن ما كان يعتقد أنه فهمه كان يقع ضمن إطار التفسير
ً ً
فقط؛ تفسير كان يدرك قدرا جيدا من بعض الجمل ،إنما لم يعد على اإلطالق يستطيع
إدراك شريحة أوسع من السلوك اإليمائي واللفظي .وهكذا فإننا نصل من االستماع
ً ّ
األرعن إلى التفكر؛ ومن الفهم البسيط نصل إلى الفهم التفسيري ،إذا كان صحيحا أن
"[ ]...خاصية التفسيري هي أنها بشكل من األشكال تتناول مسائل الفهم ابتداء من
ظاهرات الالفهم."499
ً
لنأخذ مثاال آخر :وفي هذه الرة ال تطرح مسألة اللغة .ليكن هناك شخص لغته األم
هي اللغة الفرنسية ويقرأ حكاية باللغة الفرنسية .غير أن الحكاية مليئة بالتناقضات.
ً
بهروب
ٍ فبدال من متابعتها بشكل مستمر ،نجدها مقطعة بأحكام الكاتب الشخصية أو
ً
حالم ،ثم تعود الحكاية إلى مجراها بشكل غير مترابط جزئيا مع ما كانت قد وصلت إليه
499الرجع السابق ذكره ،صJ. Bouveresse, "Herméneutique et linguistique", in H. Parret & J. .041 .
Bouveresse (eds.), Meaning and understanding
293
في الرحلة السابقة .ويتم قطع عبور الكالم باتجاه مشهد السرد بشكل منتظم؛ أما
فتعتم بواسطة تقطعات وال تتضحالنافذة اللسانية التي كانت تنفتح على ديكور الحكاية َّ
ً
من جديد ومؤقتا إال من أجل إظهار ديكورات جديدة ومشاهد جديدة .إن القارئ الذي ال
يرفض االستمرار في القراءة وال يقتنع بموقف جمالي أو آثاري ،500ويريد "فهم" الخطاب أو
النص القترح عليه ،ال يملك في هذه الحالة سوى خيارين .إما أن يوافق على تفكيك
ً ً
فهمه إلى أجزاء مساوية من الوحدات السردية التي تملك تجانسا داخليا ،وإما أن يستمر
في بحثه عن الوحدة .ولكن في الوضع الذي وصفناه أعاله ،فإن هذه االستراتيجية األخيرة
لها ثمنها .فهي تجبر القارئ على التخلي بشكل كامل عن رؤية تمثيل "القصة (القصص)"
التي كان الكاتب قد أراد وضعها تحت بصره .وهي تجبره على خسارة إمكانية االنتقال إلى
الشهد الطوباوي لقصة أو لعدة قصص لكي يتساءل حول الوضع الخاص الذي ك َ
تب
ّ
النص ابتداء منه .وبسبب عدم وجود مؤامرة ما ،فإن مبدأ الوحدة ،الولد لجموعة من
التحوالت التي ترجع كل عنصر من النص إلى كافة العناصر األخرى فيه ،ال يمكن أن
يكون سوى الؤلف نفسه (أو ربما الهدف الذي سبق تشكل مجموعة من ّ
الكتاب) .إن
ربح ش يء ما كفهم إجمالي لنص يستتبع بالنتيجة هنا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:
ً
من هو الكاتب؟ ما الذي أراد التعبير عنه ،انطالقا من أية تجربة فريدة ،وفي أية حالة
ً ّ ً
فكرية؟ في إطار أي منعطف من حياته جمع ك َسرا متفرقة من النص ليؤلف منها كتابا؟
وما هي الشروط التي اقتيد وفقها هذا اإلنسان ،أحد أقراننا ،إلى جمع مادة ما كتبه؟
ليس ألننا كنا نأمل بتتبع سلسلة سببية تبدأ من الوسط االجتماعي ،من التيارات
تعرض لها الؤلف ،للوصول إلى عمله التأليفي. الثقافية ومن الصدمات الفردية التي ّ
ً
لكننا نأمل بالدرجة الدنيا ،عبر هذه الصيرورة االنعكاسية ،أن نقرر ونجد مرتكزا لنا في
لعبة من التبادالت القابلة لتوضيح سلسلة التموضعات في العالم التي يعتبرها مواضعه
" 500إن التاريخ ،في أيامنا هذه ،ينحو باتجاه علم اآلثار ،أي باتجاه الوصف الجوهري للصرح" ،كما يقول فوكو،
.M. Foucault, L'archéologie du savoir, Gallimard, 1969, p. 15
294
مع سلسلة التموضعات التي يمكن أن نعتبرها مواضعنا .وفي العمق ،فإن كل ما نريد
معرفته ،هو في أية ظروف كان بإمكاننا التصرف مثله هو وفي أية ظروف كان بإمكانه
التصرف مثلنا نحن .فكل ما نبحث عنه هو أن "نفهمه" بالعنى التأويلي والتفسيري؛
واعتباره ليس كمجرد ش يء منتج للنصوص تحت تأثيرات معينة ،بل كموضوع مشارك
نعرف كيف نتبادل معه جملة أسباب وأهداف ونوايا.501
وإذا ما نظرنا بشكل استعادي ،فإن الفهم الفوري ،ودون إلزام بنص يفض ي إلى
ّ
"قصة" ،يظهر كحالة نوع من الفهم التفسيري للموضوع -الؤلف من خالل الوضوع -
ً
القارئ .وهذه الحالة هي الحالة التي يكون فيها الؤلف قد توصل فعال إلى تعميم موضعه
الخاص (أو مواضعه الخاصة) وذلك بتجسيد االفتراضات السبقة ،القيم والرغبات،
لدى قارئه الحتمل ،بحيث ال يكون هذا القارئ بحاجة حتى إلى جعل عامل تبادلية
يتدخل من أجل أن "يفهمه" .إن صوت الراوي هو بالنتيجة شكل من أشكال صوت
ً
القارئ؛ صوت كان من المكن للقارئ أن يصيغ نغماته دون أن يكون عليه حتما أن
ً
يتمثل نفسه تحت سمات شخص آخر .إن تبادل الوضعين أو الحالتين يصبح واضحا إلى
حد أنه يتحول إلى المباالة بالحالتين .وفي هذا العنى ،فإن الفهم التفسيري الذاتي -
َ ً
مموضعة ،يشكل تعميمه التشاركي ،بعيدا عن إفقار مخطط الفهم االنعكاس ي لـ "حكاية"
النطقي.502
إن هذه االنعكاسات على عدم الفهم الجزئي لنص تنتقل دون صعوبة إلى الفيزياء
العاصرة .إننا ال نفهم نظرية فيزيائية عندما ال يمكن لبنيتها الرياضية (دون تحايل ما) أن
501بالنسبة لهذا التعارض بين "التفسير" ومجرد "فهم" األفعال اإلنسانية ،راجع الجدال بين فون رايت وآبل.
G.H. Von Wright, Explanation and understanding, Routledge & Kegan Paul, 1971p K. O. Apel,
"Causal explanation, motivational explanation and hermeneutical understanding", in G. Ryle (ed.),
Contemporary aspects of philosophy, Oriel Press, 1976.
ً ً
502ال يتعلق األمر بالطبع بأن نزعم أن الشكل الالإنعكاس ي للفهم هو تاريخيا أكثر تأخرا من الشكل التأويلي .فكل
ش يء يدعونا إلى التفكير بالعكس .فالشكل التفسيري ببساطة ،ضمن إعادة بناء عقلية ،يشتمل على التفسير
االنعكاس ي للفهم في حين أن العكس ال ّ
يصح.
295
ت َع ّد كوسيلة بسيطة للمرور إلى ما وراء هذه البنية؛ وعندما يبدو أنها ال تسمح بأن تتمثل
ً ً ً
"عالا" يمكن أن يكون ،مع كونه متماثال ،معترفا به من قبل عالم الفيزياء كتوسع أو
تشوه مستمر لسرح أشكال الحياة فيه.
طرح إشكالية حقيقية في "تفسير" النظرية .ألنه طالا كانضمن هذه الظروف إنما ت َ
ً ً
باإلمكان وضع ولو مجرد تفسير واحد يكون مندمجا ومتناغما بدرجة كافية مع طرقها في
االختبار التجريبي ويسمح في الوقت نفسه بفهمها الالمنعكس ،فإن النظرية تكون مقترنة
ً
بشكل ال ينفصم مع هذا التفسير .نستطيع القول بالتالي إن التفسير يشكل جزءا من
ّ
التطور التاريخي ألحدهما يتبع خطوة خطوة التطور التاريخي لآلخر .يضاف النظرية ،وأن
إلى ذلك أن التضاعف التأخر للتفسيرات القبولة ،كما حدث بالنسبة للميكانيك
الكالسيكي في القرن التاسع عشر ،يخاطر بأن يدخل نسبوية معينة لدى أكثر الفكرين
شفافية وصفاء تفكير .من جهة أخرى ،إذا كان هناك إخفاق مؤقت في محاولة جعل
الفيزيائي يدخل إلى عالم مألوف إلى ما وراء الصورية وقواعد االستخدام التنبؤي
ً
للنظرية ،أو أيضا إذا كانت هذه الحاولة (كما هو األمر في حالة النظريات ذات التغيرات
الخفية) تستتبع درجة مفرطة من االنفصال عن إجراءات اإلثبات التجريبي للنظرية كما
ً
وتراتبية في القيم ال يتقاسمها الجميع ،فإن التفسير يكتسب عندها نظاما وحالة على
حدة .هنا يجد التفسير نفسه وقد ح ّول إلى موضوع ،ودرس بشكل منفصل ،وأبرز ضمن
مقياس حدوده نفسه .ويبدو أننا بقينا هنا في اليكانيك الكمومي منذ ما يقارب ثمانين
ً
عاما؛ بحيث أنه مع عدم وجود أي تفسير للنظرية يقدم بطريقة ال يمكن دحضها أهمية
فهم إجمالي الإنعكاس ي ،فقد وجد التفسير نفسه يستكشف حالة موضوع الدراسة
بشكل كامل.
أي موقف نختار في مواجهة مثل هذا الوضع؟ من الهم االستنتاج أن مجموعة
ً الواقف َ
العت َمدة من قبل الفيزيائيين تغطي بشكل وثيق جدا الجموعة من الواقف التي
سبق ورأيناها فاعلة بمواجهة الالفهم الباشر لنص ما .اعترض بعضهم برفض قاطع على
296
اليكانيك الكمومي ،على طريقة بعض القراء الذين يرفضون متابعة قراءة نص ما يبدو
ّ
لهم غير متماسك وغير مفهوم .وقد علق بعض الفيزيائيين أملهم على نظرية مستقبلية
ً
أكثر غنى (تشبه توسعا للنظريات ذات التغيرات الخفية) أو متميزة عنها بشكل جذري .في
حين أن فيزيائيين آخرين (مثل ديراك) اعتمدوا على إحساس جمالي ،يتعلق بالجمال
الرياض ي لصورية فضاءات هيلبرت أو بانطباع التناغم الذي ينبثق عن القابلية التنبؤية
ً
بديال عن "فهم" هذه النظرية .واقترح فيزيائيون الشاملة للميكانيك الكمومي ،ليكون
ً
آخرون أيضا تفكيك ظروف استخدام اليكانيك الكمومي ،كما نفعل بالنسبة لنص
"مفكك" ،بحيث يتم ربط كل من األجزاء التي نحصل عليها مع تمثيل جزئي ،متوافق
ً
محليا مع أشكالنا الحياتية .تمثيل موجي أو تمثيل جسيمي؛ تمثيل لسرعة أو تمثيل
ّ لوضع؛ سببية أو إدراج لألحداث في الزمكان؟ ّ
نتعرف هنا على إحدى مركبات استراتيجية
ً
بور في "التكاملية" .يبقى أخيرا خيار أخير ،بدأ يشق طريقه في أيامنا هذه ،وإن كان ال يزال
ً
يتلمسه تلمسا .ويشتمل هذا الخيار على البحث عن فهم كلي للميكانيك الكمومي على
ً حساب توسعة لفهوم "أن نفهم"ٌ ،
فهم أقرب إلى الفهم التأويلي .فبدال من محاولة تجاوز
ً
النظرية باتجاه "عالم" وحيد ،وبدال من تعويض فشل هذه الحاولة بالطلب من النظرية
ً
إعداد انفتاحات جزئية على أجزاء من عالم ،بدال من أن نتطلب باإلجمال من النظرية
ّ
أن توفر لنا النسيان النهائي أو من خالل تناوب الضرورة في أخذ موضعنا في الكون بعين
العمم لتبديل وتبادلية الواضع :نظام مبادلةاالعتبار ،فإننا نتصورها على أنها النظام َّ
ً محل تمثيل "عالم" في دور بنية ّ َّ وتبادلية يميل ألن َي َّ
موحدة للظاهرات ،تماما كما حل
محل القصة في دورتحل في التأويلية معامالت التبادلية الوضعية بين الؤلف و القارئ َّ
مبدأ الوحدة في النص.
لقد أعطت النسخة األولية لنظرية النسبية الخاصة الثال الشرعي على مثل هذا
االستبدال ،وذلك من خالل التصور األينشتيني لجموعة تحويل لورنتز كمنظومة تبادلية
قياسية بين العناصر في مجموعة وضعيات مكانية وزمانية وحركية .أما اليكانيك
297
الكمومي فيرتكز من جهته على منظومة تبادالت معقدة حيث تتعلق اللحظة الرئيسية
فيها (إنما ليس الوحيدة ،كما سوف نرى) بالعالقات الداخلية التبادلة بين عناصر
مجموعة الوضعيات التجريبية التي تستجيب لعايير االتصال بين ال ّ
جربين .لقد تم إرساء
موازاة مفصلة بين منظومة التبادالت النسبوية ومنظومة التبادالت في اليكانيك
الكمومي .503فكما أن النظام التبادلي للوضعيات الكانية -الحركية ي َ
ترجم في نظرية
النسبية بواسطة قاعدة للتحويل (تحويل لورنتز) ،فإن نظام تبادلية الوضعيات
التجريبية يمكن أن يترجم في اليكانيك الكمومي بأحد النمطين التاليين لقواعد التحويل:
"نظرية تحويالت ديراك" التي تنطبق على العوامل ومنظومة تحويالت فورييه التي تنطبق
على توابع الوجة .ومن جهة أخرى ،كما تقرن عالمة مرجعية عطالية بكل وضعية مكانية
ً ً ً
-حركية في نظرية النسبية ،فإن عالمة مرجعية بوولية (أو إذا أردنا منطقا بووليا تحتيا)
ً
يقترن بكل وضعية تجريبية في اليكانيك الكمومي .وأخيرا ،كما أنه مع تحويل لورنتز
موجه يترك لهيتوافق مكان يعمل فيه هذا التحويل (زمكان مينكوفسكي) وشعاع ّ
ً التحويل العيار (يسمى ّ
التصل الزمكاني) ثابتا ،فإنه يتوافق مع نظرية تحويالت ديراك
موجه (يسمى شعاع الحالة) تترك فضاء هيلبرت الذي تعمل فيه هذه التحويالت وشعاع ّ
ً
له هذه التحويالت معياره ثابتا.
3 .7تفسير "اخحاالت النسبية" والفهم التأويلي
ً
يمكن لصعوبة خاصة في اليكانيك الكمومي أن تكمن حقا في واقع أن منظومته
التبادلية تعمل في الحقيقة على مستويين اثنين ،وليس باألحرى على مستوى واحد.
فإضافة إلى الستوى الذكور أعاله لصفوف العدات التجريبية الستخدمة ،يجب أن
نأخذ أيضا بعين االعتبار مستوى النتائج التي أصبحت ممكنة من خالل إدخال كل من
التجهيزات والعدات الخاصة في التجربة .وقد ّميز بور بشكل كامل السوية األولى من
M. Davis, "A relativity principle in quantum mechanics", international Journal of a Theoretical 503
Physics, 16, p. 867-874, 1977.
298
التبادالت من خالل تأكيده على نسبية التحديدات تجاه الستوى والوضعية اللذين هما
الجرب اإلنساني ،ومن خالل تضمينه في تعريف الظاهرة نفسه ذكر ّ مستوى ووضعية
ّ
صف التجهيزات التجريبية الوافقة لعايير االتصال .لكنه تجاهل أو كاد السوية الثانية.
ّ
وعلى العكس ،فقد تركز تفسير إيفيريت 504للميكانيك الكمومي على السوية الثانية
ً ً
للتبادالت ،مسدال حجابا على السوية األولى .لقد ّبين مع ذلك كل من هذين الوقفين
الجزئيين عيوبه .فمع اهتمامه القليل بسوية التبادالت التعلقة بتعددية النتائج المكنة
ً
أبدا في ّ
حل (وال حتى في حالة تجريبية وضمن شروط بدئية معطاة ،فإن بور لم يساهم
أعلن بوضوح طريقته من أجل ّ
حل) "مشكلة القياس في اليكانيك الكمومي" ،التي تطرح
في إطار صورية فون نيومان والتي يعبر عنها بالتجربة التذهنية العروفة بـ "تعارض قطة
شرودنغر" .505ومن جهته ،فقد ترك إيفيريت في الظل ،برفضه إعطاء أقل خصوصية
لستوى التحليل التعلق بتعيين حاالت تجريبية قابلة لإليصال ،وذلك باالهتمام فقط
بتعددية الظاهرات التي أصبحت ممكنة من خالل كل تصور تجريببي ،ترك مسألة
ً
حصريا على تطور األشعة ّ
الوجهة للحالة ،والتي تتحلل تحديد المكن رصده وركز تحليله
الوجهة الخاصة بأحد ممكنات الرصد هذه .وهكذا ،فقد ّ مع ذلك وفق قاعدة األشعة
َ َّ ّ
الفضلة" .506ترتكز هذه السألة حرض ما أصبح متعارفا على تسميته بـ "مشكلة القاعدة
(التي ال تزال دون ّ
حل كاف حتى اليوم) على اشتقاق ممكنات الرصد ،وقاعدتها من
األشعة الوجهة الخاصة الرتبطة بها ،ابتداء من صورية األشعة الوجهة للحالة وحدها،
H. Everett, "«Relative state» formulation of quantum mechanics", Rev. Mod. Phys., 29, p. 454- 504
462, 1957; H. Everett, "The theory of the universal wave function", in B.S. De Witt & N. Graham
(eds.), The many-worlds interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1973.
E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique", in E. Shrodinger, Physique 505
quantique et représentation du monde, Seuil, 1992.
D. Deutsch, "Quantum theory as a universal physical theory", International Journal of Theoretical 506
physics, 24, p. 1-41, 1985.
299
ً ً
دون أن يدخل أبدا فرضية مساعدة مصدرها الفيزياء الكالسيكية ،فرضية تترجم
تعبر عن القيود التي تفرضها السوية الجهارية للجهاز.الشروط البراغماتية للتواصل أو ّ
ً ً
مع ذلك ،فإنه من المكن تماما أن نأخذ بعين االعتبار سويتي التبادلية اإلثنتين معا
الداخلتين في اليكانيك الكمومي طالا كنا نعتمد قراءة دنيا ،غير متيافيزيائية ،لتفسير
نوسع حقل البحث والتقص ي في هذا التفسير .تشتمل هذه التوسعة على إيفيريت ،وكنا ّ
ً
القبول بثنائية سويتي التحليل ،السوية االنعكاسية والسوية الوصفية أيضا؛ والقبول
بشكل خاص أن اعتماد قاعدة موجهات شعاعية خاصة معطاة (أو اعتماد ما هو قابل
ً
للرصد) يمكن أن يعكس القيود البراغماتية الرتبطة بالنشاط التجريبي ،بدال باألحرى من
أن يعكس "الحاالت" الفترض أنها حاالت جوهرية لألجسام ولألدوات الداخلة في هذا
النشاط .وفي هذه النسخة الوسعة من تفسير إيفيريت ،فإن مشروع مطابقة "قاعدة
ً َّ َ
مفضلة (جوهريا)" .وفي ظل مثل هذا تفسير" مناسبة يحل محل مشروع إثبات "قاعدة
الشرط ،يظهر تفسير إيفيريت كوسيلة مقبولة لـ فهم اليكانيك الكمومي ،بالعنى َّ
الوسع
الذي ّ
قدمت لنا التأويلية نموذجه.
ً
وبالنسبة للذين يعرفون القراءات األكثر شيوعا لتفسير إيفيريت سيجدون ،والحق
يقال ،أنه من الفاجئ أن نستطيع تطعيمها بتوسعة لنظومة بور في التبادليات وأن نرى
فيها استجابة دقيقة للنمط التأويلي في الفهم في مجال علوم الطبيعة .أال يعتبر تفسير
إيفيريت للميكانيك الكمومي عادة كمرادف لـ "تفسير تعددية العوالم"؟ والرؤيا الدوخة
ً ّ
لتفجر للعالم إلى "عوالم" كثيرة ،في كل مرة نقيس فيها متغيرا يمكن أن بعض الش يء
ّ ّ
يحصل يأخذ أكثر من قيمة ،أال تشكل الحاولة األكثر جرأة 507حتى هذا اليوم لكي
ً
" 507بالتأكيد ،لم يطرح أحد شيئا ما بمثل تطرف تفسير تعددية العوالم قبل تجري الحاولة من قبل اقتراحات
كثيرة ليست بمثل هذا التطرف وتم رفضها" ،كما يقول بوتنام في H. Putnam, Relation with a human face,
.Harvard University Press, 1990, p. 8, trad. fr. C. Tiercelin, Le réalisme à visage humain, Seuil, 1993
ً
وأيضا" :إنه تفسير العوالم التعددة .إنه بال أدنى شك أغرب التفسيرات واألفكار التي طرحت في هذا الجال" كما
311
ً ً ً
الفيزيائي مهما كلفه األمر فهما نزقا وطائشا للنظرية الكمومية؟ في غالب األحيان يتم طرح
تفسير إيفيريت في مواجهة التفاسير التي ألهمها "فكر مدرسة كوبنهاغن" كما هو األمر
ً واجه اإلبستمولوجيا باألنطولوجيا ،وت َ
عندما ت َ
واجه "الوضعية" بالواقعية ،وتماما كما
508 َ
يقابل الحزب الحافظ على األيقونات (األفكار الثابتة) والعابد لها ويقوده شرودنغر
بالحزب الحارب لأليقونات (األفكار الثابتة) ومهدمها الذي يقوده كل من بور وهايزنبرغ،
البراءة التخيلية بالجدية الفلسفية ،القصد الوصفي بالالأدرية التنبؤية .إن تفسير
إيفيريت يشكل كما يبدو إحدى الوسائل األكثر سرعة التي وجدناها حتى اآلن لكي نختصر
ً
تأمال حول مفهوم "الفهم" ،باألحرى منها النتيجة األفضل لهذا التأمل.
ً
لنتأمل الوضوع عن قرب أكثر مع ذلك .هل يندمج فعال تفسير إيفيريت مع تفسير
ً
كثرة العوالم وتعددها؟ ليس هناك ما هو أقل يقينا .إن ما يصدم للوهلة األولى عندما
ً ً
نستعرض ما كتب حول تفسير إيفيريت ،هو أننا ال نجد هنا تفسيرا واحدا بل عدة تفاسير
ً ً
للميكانيك الكمومي ،مندمجة جزئيا ومتمايزة جزئيا" .تشتمل الهمة األولى ،كما أشار إلى
ً
ذلك بل Belفي مرات عديدة ،على تحديد ما هو هذا التفسير ،ألنه [ال يزال] محاطا
بالغموض ".509إن اللوحة اللحمية لتعددية العوالم ليست سوى إحدى قراءاتها المكنة؛
قراءة لم تكن ماثلة إال بشكل ّ
منقط ،بين قراءات أخرى كثيرة ،ضمن مقاالت إيفيريت
ّ
مفصل التاريخية .510كانت السيرة األصيلة والبدعة إليفيريت تتركز في الواقع على تحليل
يقول ج .بل فيJ.S. Bell, "Six possible worlds for quantum mechanics", in Speakable and unspeakable :
in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987.
ً
508أشار إيفيريت نفسه أن[" :تصوري] يتوافق بشكل وثيق جدا مع تصور شرودنغر" ،في H. Everett, "The theory of the
universal wave function" in B.S. De Witt & N. Graham (eds.), The many-worlds interpretation of quantum
،mechanicsالرجع السابق ،ص.006 .
S. Saunders, "Time and quantum mechanics", in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, time and quantum 509
mechanics, Frontières-Diderot, 1994.
ً
510عرض االختالف بين التفسير األصلي إليفيريت وتفسير العوالم التعددة بوضوح جيد جدا في Y. Ben-Dov, "Everett's
ً
.theory and the «many worlds» interpretation", Am. J. Phys., 58, p. 829-832, 1990ونجد أيضا في هذا القال
311
للصيرورات التجريبية في اإلطار الحدد بواسطة اليكانيك الكمومي .وكان اهتمامه الغالب
ً ّ
ينصب على أال يستخدم شيئا أكثر من قانون التحرك الستمر في اليكانيك الكمومي
وتجنب تعديله أو إيقافه من خالل صيرورات غير مستمرة من ّ (معادلة شرودنغر)،
"تقليص حزمة الوجات" ،وليس في إعطاء ترجمة تصويرية له .يتميز تفسير إيفيريت
بانشداد نحو اقتصاد كبير في الوسائل ،وذلك من خالل حلم باستقاللية النظرية
الكمومية ،باألحرى من كونه من خالل بعض التساهل تجاه مضاعفة الكينونات .وحتى
عندما حاول إيفيريت التعبير عن نتيجة دراسته للصورية بواسطة اللغة اليومية العادية،
ً
فقد ظل متحفظا .فالكلمات التي استخدمها أكثر من غيرها عن طيب خاطر ،والتي ظهرت
منذ عنوان أول مقال له ،هي :عالقة ،ونسبي ،ونسبية الحاالت .وما كان يريد التركيز عليه
هو قبل كل ش يء ما يلي :بنتيجة تفاعل من نمط التفاعالت التي تحدث أثناء الصيرورات
ً ً
التجريبية ،ال يسمح اليكانيك الكمومي بأن ننسب لجسم ما تحديدا خاصا به ،بل فقط
ً ً ً
تحديدا نسبيا (متعلقا) .إنه تحديد متعلق بتحديدات األجسام األخرى (على سبيل الثال،
األجهزة التجريبية) التي تفاعلت معه .أما التعددية ،التي ت َع ّد عادة مثل السمة البارزة في
ً
تفسير إيفيريت ،فهي منطقيا سمة ثانوية .إنها تنتج عن محاولة االستفادة من بنية
الصورية من أجل توضيح نسبية الحاالت في اقتران من البيانات والعبارات الشرطية.
ً
وبدال من محاولة القول "الجسم Aال يمكن أن ينسب إلى نفسه حالة معينة إال بالنسبة
إلى حالة الجسم ،"Bفإننا نستفيد من اليزات الجبرية للميكانيك الكمومي لكي نعلن" :أن
الجسم Bيكون له التحديد b1إذا كانت للجسم Aالتحديدية ،a1وأنه يكون للجسم B
ً
التحديدية b2إذا كان للجسم Aالتحديدية ،a2إلخ .".فبدال باألحرى من التمسك
بالتأكيد الفردي لنسبية الحاالت ،نضع القائمة التعددة للحاالت النسبية.
البرهان على أن العديد من األخطاء والتناقضات التي تنتقد بحق في "التفسير الشعبي لتعددية العوالم" ال تصح وال تنطبق
على التفسير األصلي إليفيريت.
312
أما الرحلة التالية ،التي تشتمل على تحويل اجتماع واقتران البيانات الشرطية حول
الحاالت النسبوية إلى اقتران من البيانات القاطعة حول ما يحصل في تعددية من
"العوالم" ،من نوع "الجسم Bيملك التحديدية b1في العالم حيث الجسم Aيملك
التحديدية ،a1والجسم Bيملك التحديدية b2في العالم حيث الجسم Aيملك
ً ً ً
التحديدية ،a2إلخ ،".فلم ينظر إيفيريت إليها علنا أبدا .فهو يقاربها كثيرا عندما يذكر
ً
صيرورة من "تشبيك" وتعددية من "فروع" ،لكنه يظل دائما أقل من االلتزام األنطولوجي
اتجاه هذه الفروع .وهو يوافق بين كثرة "الفروع" وتنوع ما يمكن أن يظهر من وجهة نظر
ً ّ
مجرب مشارك في سلسلة التفاعالت الدروسة ،بدال باألحرى مما هو قائم في كثرة
َّ َ
متأملة من الخارج بواسطة النظر النفصل للعالم النظري .بعبارة أخرى ،فإنه "عوالم"
يميل إلى تيسير تحليل في الحاالت ،بدال باألحرى من اللجوء إلى صورة قصوى للتجريد
بمواجهة خصوصية الحاالت.
ً
إن التفسير األصيل إليفيريت (أي تفسير "نسبية الحاالت") يعارض عمليا في الواقع،
بإحالل البيانات الشرطية محل البيانات القطعية ،كافة التفسيرات األخرى العروفة حتى
اليوم في اليكانيك الكمومي .فبالدرجة األولى ،يشتمل التفسير "األورثوذكس ي" الذي
اقترحه للمرة األولى فون نيومان على عدم اإلبقاء بعد صيرورة من القياسات سوى على
بيان قطعي واحد على الجسم وعلى الجهاز" :يمتلك الجسم التحديدية ،a1ويمتلك
الجهاز التحديدية ."bوهذا ما يستخدم فيه "اختزال شعاع الحالة ّ
الوجه" .وبالدرجة 1
الثانية ،في إطار التفسيرات الميزة لفان فراسين Van Fraassenوديك Dieksوكوشن
ً
،Kochenأو أيضا وفق مصطلح صيرورة الـ "فك االتساق" أو فك االرتباط
،décohérenceنعتبر أن صيرورة القياس تصل إلى فصل للبيانات التصنيفية" :الجسم
يمتلك التحديدية ،a1والجهاز يمتلك التحديدية ،b1أو الجسم يمتلك التحديدية a2
ً
والجهاز يمتلك التحديدية ،b2إلخ .".وأخيرا ،بالدرجة الثالثة ،كما سبق ورأينا ،فإن
تفسير كثرة العوالم يقود إلى تأكيد أن محصلة صيرورة القياس هي اقتران لبيانات
313
قطعية" :الجسم يمتلك التحديدية ،a1والجهاز يمتلك التحديدية ( b1في العالم رقم ،)0
والجسم يمتلك التحديدية a2والجهاز يمتلك التحديدية ( b2في العالم رقم ،)4إلخ.".
ّ
وحده تفسير نسبية الحاالت يعلق كل معطى قطعي في الوصف الشامل للحالة السائدة
إثر صيرورة القياس .إن تصنيفية البيانات ال تنطبق وفق هذا التفسير إال بالنسبة
ّ
الجربين) الذين شاركوا في سلسلة التفاعالت التي تشتمل عليها صيرورة ّ
للمجرب (أو
القياس؛ فهي ال تعمل إال بالنسبة لحالة هذه التفاعالت .وبشكل أدق ،فإن ما يقترحه
ً
تفسير نسبية الحاالت ،هو أنه بدءا من اللحظة حيث (في نهاية شالل من التفاعالت بين
والجرب) تصبح تحديدات نسبية تابعة إلى ّ
مجرب ،وهي ّ الجسم والجهاز ثم بين الجهاز
ً
تأخذ بالنسبة إليه ،من وجهة نظره الشاركة ،مظهر نتيجة محددة تماما قابلة للتجريب
من خالل قضية قاطعة.
يكفي ما سبق قوله إلظهار الطبيعة الوجزة لسلسلة من التناقضات التي تستخدم
ً ً
عادة في تمييز تفسير إيفيريت .وهذا التفسير ليس تفسيرا ال يبالي جوهريا باإلبستمولوجية،
الصور محل التحليل .إن التعارض بين بور حاذق يقودنا خطوة خطوة َ وهو ال ي ّ
حل بذاته
في تحولنا إلى معنى تأويلي /تفسيري للفهم ،وإيفريت حالم ،يبحث عن اكتساب فهم نزق
للميكانيك الكمومي على حساب أكثر التجاوزات التخيلية جرأة ،هو تعارض ال يصمد.
وفي الحقيقة ،فإن نمطي التفسيرين ،تفسير بور كما وتفاسير إيفيريت التي سادت ،كانا
بؤرة توتر لم يجر ضبطها بشكل حسن بين اليل إلى الحفاظ على عالم نز ٍق للفهم حتى لو
عمم مفهومه .وهو جزأ مجال تطبيقه ،وبين الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الفهم حتى لو َّ ّ
ً
سابقا إنما الذي سنحاول فيما يلي تحديده إلى ّ
حد ما. توتر كان قد ألح إليه
ً
ولنبدأ من عند بور .بعيدا عن التالعب بالكلمات ،هناك جانبان متكامالن يمكن
تمييزهما في مفهوم بور للتكاملية :الظهر التصويري iconographiqueوالظهر السياقي
.contextuelيشتمل الظهر التصويري للتكاملية على تحديد عائلتين متعارضتين من
ً
الصور ،وهما عائلتان غير متوافقتين معا عندما تكونان معزولتين ،لكن ال غنى عن كليهما
314
إذا كنا نرغب بتمثيل سلوك جسم مجهري في كافة الظروف .إن وحدة "تاريخ" جسم
َ ً
تضيع على هذا النحو لكن مبدأ الفهم النزق يظل محافظا عليه عبر تفجره في متواليتين
َّ
من األحداث :متوالية الواضع التتالية (أو السار) للجسم المثل تحت سمات جسيمية،
ومتتالية قيم الرحلة للجسم نفسه المثل تحت سمات صيرورة موجية .ويعود الجانب
السياقي للتكاملية ،من جهته ،إلى التأكيد على استحالة تجريد ظاهرة من الشروط
التجريبية للحصول عليها؛ وبالنتيجة ،إلى التأكيد على واقع أن ظاهرتين تحصالن تحت
شروط تجريبية غير متوافقة تكونان ظاهرتين مقصورتين بالتبادل كل على األخرى .إن
ً ً
الشروط التي يستدعي وفقها توزع لألحداث التجريبية مسارا جسيميا (أو مسارات
جسيمية) تكون على سبيل الثال مقصورة على الشروط التي يستدعي وفقها توزع آخر
لألحداث التجريبية صيرورة تداخل موجي .لكن ال ش يء يمنع من تحديد ما هي التعديالت
التي يجب القيام بها على جهاز تجريبي يؤدي إلى آثار ذات مظهر جسيمي لكي يسمح بظهور
آثار ذات مظهر موجي .ويمكن على هذا النحو إعادة اكتساب وحدة معينة ،شرط القبول
ً
بأن تكون محمولة بواسطة مجموعة التحويالت لألجهزة التجريبية بدال باألحرى من أن
تكون محمولة بواسطة تمثيل مستقبل الجسم؛ وباختصار شرط إحالل الوقف
االنعكاس ي للفهم التأويلي محل الوقف القصدي للفهم الباشر.
ينتج النوع نفسه من التوتر في تفسير إيفيريت .فهناك في الواقع كما أشرنا إلى ذلك
أعاله قراءتان رئيسيتان لقائمة الحاالت النسبية التي يفض ي إليها التقرير اإليفيريتي
تحول إلى النظرة الوضوعية وقراءة تشاركية .القراءة الوضوعية لصيرورة قياس :قراءة ّ
تو ّجه االنتباه إلى "التاريخ"؛ وهذا يعني هنا اإلشارة إلى صيرورة الجسم والجهاز .وهي تهدف
للوصول إلى محاكمات قاطعة حول الخصائص التي يملكها الجسم والجهاز بنتيجة
تفاعلهما .وتوافق قائمة الحاالت النسبية عندها قائمة للـ "عوالم" التي يكافئ فيها في كل
مرة مجموعة من الحاكمات القاطعة حول الجسم وحول الجهاز .تضيع وحدة وصف
ً
األحداث ،لكن مبدأ الفهم النزق يجد نفسه مرة أخرى محافظا عليه على حساب تفجر
315
طبق عليه هذا الفهم .أما بالنسبة للقراءة التشاركية ،فإنها تشتمل على الجال الذي ي ّ
ً ّ
الجرب فعليا؛ أو باألحرى التأكيد ،من أجل استبعاد كل سوء تفسير ذاتي، التأكيد على
ً على مجموعة الحاالت التي يمكن أن يوجد فيها ّ
مجرب إذا كان مشاركا في سلسلة
ّ
الحددة لصيرورة القياس .توافق قائمة الحاالت النسبية في هذه الحالة قائمة التفاعالت
ّ
للمجرب خالل انحسار هذه الصيرورة .وهي حالة يحكم فيها أنه يحق له الحاالت المكنة
التأكيد على أنه حصل على النتيجة رقم ،0وحالة يحكم فيها أنه يحق له التأكيد على
أنه حصل على النتيجة رقم ،4إلخ .إن تابع الوجة الشامل الذي يتحلل إلى قائمة من
الحاالت النسبية يعمل في هذا النظور مثل عامل تساوي احتمال جزئي لحدثين (ترجحه
احتماالت) بين هذه الحاالت الختلفة .وهكذا فإن الوحدة الضائعة ت َر َّمم من جديد،
لكنها ترتكز على شبكة رمزية من التبادليات بين الواقف التي يمكن الوصول لها بالنسبة
ً َّ َ ً ّ
الحددة تماما لجرب مدرج في الطبيعة ،بدال باألحرى من االرتكاز على نسب الخصائص
إلى أجسام طبيعية.
511
4 .7الووف العلمي والقياسية
إن القراءة القترحة لتفسير إيفيريت تشتمل على محاولة حل للتناقض التالي :من
جهة ،ال يمكن ألي وصف موضوعي للعالم أن يترك نفسه يغير اتجاهه أو يحرفه عبر واقع
ً ً ً
أننا نشكل فيه وضعا خاصا وطارئا ،ومن جهة أخرى ،فإنه من الستحيل أن نتجاهل
الدور الذي تلعبه نتائج هذا الواقع في التقرير التنبؤي للظاهرات التي يقدمها اليكانيك
الكمومي .يشتمل هذا االقتراح للحل على استبدال "أننا" (صيغة نحن) بعالمات مجردة
للوضع العرفي (اإلبستمولوجي) والقيام بتحويالت بين الوضعيات .وكما سبق ورأينا ،فإن
تطبيقها يتحلل إلى زمنين:
511القياسية ،indexicalitéمصطلح مشتق من عملية الفهرسة ،وتم استخدامه في األصل في مجال علم
النفس لإلشارة إلى عملية مقايسة (فهرسة) لجملة شخص ما لكي يصبح لها معنى( .الترجم)
316
( )0االعتماد كقاعدة أشعة ّ
موجهة خاصة "قاعدة تفسير" مفروضة بواسطة جدول
التجريب ومن خالل القيود البراغماتية التي تمارس عليها .يتم ذلك على سبيل الثال عبر
استخدام "مبدأ التوافق" بين الفيزياء الكالسيكية والفيزياء الكمومية.
( )4تعميم منظومة التبادليات بين الوضعيات الفردية في مواجهة موضوعية ما إثر
تجربة معطاة؛ منظومة يقدم فيها تبادل الضمائر الشخصية ما بين العبارات النموذج
ً
األكثر شيوعا على ذلك.
وكما كتب ساندرز S. Saundersفيما يتعلق بهذه النقطة الثانية ،فإن "الوضوعية"
يجب أن تلعب في تفسير إيفيريت للميكانيك الكمومي دور اسم إشارة ،بالدرجة نفسها التي
للكلمات "أنا" أو "هنا" أو "اآلن" .وكما أنه ليس هناك معنى لتساؤلنا من هو "أنا" ،وما هي
اللحظة "اآلن" ،وأي مكان هو "هنا" ،بشكل مستقل عن إطار استخدام هذه الصطلحات،
فإنه لن يكون هناك معنى لحاولة تخصيص "نتيجة تجربة تحديث" بشكل مستقل عن
الوضعية الخاصة للذي يشارك في الصيرورة اإلجمالية الوصوفة بـ "القياس" .وكما أننا نرفع
ً
التناقضات العروفة جيدا لألزمنة النحوية بقبول أن الصلة بين اآلن وكل بيان يشتمل على
ً
تبعا إلطار البيان ،فإنه يمكننا ّ
حل الصعوبات فعل نزق هي صلة قياسية بحتة ،أي أنها تتغير
الرتبطة بمسألة القياس في اليكانيك الكمومي بقبول أن الصلة بين النتيجة العتبرة كنتيجة
ً
حالية ونشر اإلمكانات البرهنة بواسطة الصورية بالنسبة لتجربة معطاة هي أيضا صلة من
طبيعة قياسية" .ففي حين أن القضيتين «الحدث Eحدث ماض» و «الحدث Eحدث
مستقبلي» هما قضيتان متناقضتان للوهلة األولى ،فإننا بإدخال حدثين جديدين Fو *F
نحصل على E« :هو حدث ماض بالنسبة لـ ،Fو Eهو حدث مستقبلي بالنسبة لـ * ،Fوهكذا
نحل الصعوبة» .وبطريقة مماثلة ،فإن القضيتين «الرصود Xله القيمة »rو «الرصود Xله
القيمة »sمتناقضتان .ولكن بإدخال مرصود جديد Yيمكننا القول « Xله القيمة rبالنسبة
إلى القيمة uلـ Y؛ و Xله القيمة sبالنسبة للقيمة vلـ ،»Yوهكذا نصل إلى حل
للتناقض".512
512الرجع السابقS. Saunders, "Time and quantum mechanics", in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, .
time and quantum mechanics
317
إن هذا االستبدال لفهوم الوضعة بدقة بمفهوم قياس ي (و /أو عبر ذاتي) للنظرية
العلمية يرتبط بمسألة أعم في نظرية العرفة ،كما رأى ذلك بوتنام بشكل صريح .513وفق
ً ً
بوتنام ،أن يكون الرء واقعيا علميا يعني أنه يدعم إمكانية وصف العالم ابتداء من
ً
منظور شمولي خارج عنه تماما؛ وبعبارة أخرى وصفه "من وجهة نظر هللا" .والحال أنه،
حتى دون مناقشة أهمية مثل هذا الشروع ،من السهل البرهان أن ميله نحو معرفة كلية
-الشمول يصطدم بتقييد مبدئي .إن بعض الركبات األولية لعرفتنا تفلت من إله خارج
عن كل زمن ،خارج عن كل مكان ومنفصل عن كل شخص فرد لديه منظوره الحدد عن
ً
العالم .وكما أشار كرتزمان N. Kretzmannفي مقالة مشروحة جيدا ،514فإن هذا اإلله
الحدد بنمط فهم تحت شكل من أشكال الخلود sub specie aeternitatisال يستطيع أنَّ
ً ً
يعرف أي وقت هو اآلن؛ وال يستطيع أن يعرف أيضا أننا موجودون هنا (في باريس مثال)،
وال (إذا استعرنا تعبير ناجيل )T. Nagelماذا يعني أن أكون أنا؛ وال حتى (إذا ما طبقنا
ذلك على التراكب الخطي للمتجهات الخاصة في اليكانيك الكمومي) أن مجتمع -نا العلمي
حل) حدود العرفةحصل على مثل هذه النتيجة التجريبية .وباختصار ،فإن رفع (أو ّ
يفقد معرفة ماذا يعني السكن بين هذه الحدود .إن تخصيص العرفة وتحديدها بالعرفة
ً
التي يمكن أن تنتج من الواجهة وجها لوجه شبه األنانوية solipsiste 515بين العالم وكائن
خارج العالم سينتج عنه استبعاد قسم كامل (ربما مفرط) من تجربتنا ومن أفعالنا
الكالمية.
َ
يمكننا أن نصيغ بنفس الروح استعارة الهوتية للمفهوم القياس ي (أو العبر -ذاتي).
ً
وما ننتظره من هذه االستعارة الجديدة ،الختلفة جدا بالتأكيد عن تلك التي كان يقود
الموضع البحت ،هو أنها تسمح بتعويض جزئي على األقل إلى تيسيرها وتشجيعها الوقف َ
H.N. Castaneda, Thinking, language and experience, University of Minnesota Press, 1989, p. 137. 516
517الرجع السابق ،ص.59 ،2 .
319
التفويض هذه هي عملية شبه قياسية .518وهي تعمل بإحالل نمط غير مباشر (أو oratio
ً
)obliquaمحل النمط الباشر للتعبير (أو .)oratio rectaلنعط مثاال على هذه
االستبدال:519
( )0النمط الباشر (مرجعية قياسية)
ً َ ً
أخفي هنا وأنني سوف أصبح غنيا إذا (أنا) نبشته اآلن". "أنا أعتقد أن كنزا
(أشرنا إلى الصطلحات القياسية بالائل .وإضافة إلى الؤشرات أنا و هنا و اآلن ،فإن
ً
هذه الصطلحات تشتمل أيضا على تصريفات األفعال في أزمنة قواعدية بسيطة تنسبها
إلى اآلن).
( )4النمط غير الباشر (مرجعية شبه داللية)
ً ً ً
"كان باتريك يعتقد أن كنزا كان مخفيا هنا وأنـ (-ه) سوف يصبح غنيا إذا ما نبشه
حينها".
(أشرنا إلى األلفاظ شبه القياسية بالائل .ونجد إضافة إلى أشباه الؤشرات هو و هنا
و حينها ،فإنها تشتمل أيضا على تصريفات األفعال في أزمنة قواعدية بسيطة أو مركبة
تعيدها إلى حين في الاض ي .إن مقطع الجملة السطر (كان باتريك يعتقد أن) يمثل أداة
التصدير أو البادئة غير الباشرة oratio obliqua؛ ووظيفته هي تحديد الشخص والوقت
الذي كانت قد ف ّوضت له القدرة على القيام بمرجعية قياسية).
يمكن لعملية الرجعية شبه القياسية أن َ
تعت َبر مثل األثر الذي تتركه في اللغة مرحلة
بين ذاتية َّ
معممة من صيرورة الوضعة .ويظهر بوضوح تبديل الضمائر الشخصية بين
التكلم والخاطب التكافؤ الـ بين -ذاتي خالل محادثة يغوص خاللها الشاركون فيها
بوضعية فريدة من نوعها أو تكاد؛ لكن وحدها شبه القياسية تتوصل إلى ّ
مد هذا التكافؤ
ً
520الرجع السابق ص .023 .لقد تطور أيضا موقف كريتزمان N. Kretzmannفي هذا االتجاه .راجع E. Stump
.& N. Kretzmann, "Eternity", Journal of philosophy, 78, p. 429-458
521الرجع السابق ،صH.N. Castaneda, Thinking, language and experience .031 .
311
االستعارة للموضوعانية ،يستفيد إال من "رؤية من ال مكان" واحدة ،فإنما يكون عليه
معم َمة ،أن يدمج بين منظوره
لكي يقدم استعارة مقبولة بالنسبة لا بين موضوعانية َّ
الخاص الحتمل (القياس ي) والنظور من أي مكان كان" (شبه القياس ي).522
إن الدرس الذي أريد استخالصه من هذه التأمالت هو أن معرفة ما ال تكون شاملة
بشكل معقول إال بشرط تخليها عن كونها موضوعانية بشكل شامل؛ وأن هذه العرفة ال
تكون شاملة بشكل معقول إال بشرط أن تكون في جزء منها تشاركية .يشكل التخلي عن
ً ً
الكمال لصالح مفهوم إحصائي وعالمي للموضوعية خيارا مقبوال (وقد ّبين فعاليته خالل
ً
عصر الفيزياء الكالسيكية) ،إنما الذي ال بد يؤدي يوما إلى ظهورات لـ "عودة الكبوت"
اإلبستمولوجي .وهذا ما ذكرتنا به اليكانيكا الكمومية بين أشياء أخرى ،بطريقة تنبؤية
ً ً
رغم أنها ملحة .فإذا ما فقدنا هذا التذكير من منظورنا مجددا لبعض الوقت أيضا فإن
ً ً
ذلك لن يشكل أبدا تقدما للفكر.
5 .7تفسير نظرية كدليل للبحث الفلسفي
لم يكن يهدف تأكيدي في هذا الفصل على تفسير إيفيريت بحال من األحوال إلى إبراز
ً ً تفوق هذا التفسير ،كما لم يهدف إلى تأكيد ّ
صحته .فكما أن تمثيال أو تصورا للعالم ال
يتم إثباتهما بشكل مؤقت ،في كل مرحلة من مراحل الشروع العلمي ،إال بقدرتهما على
توجيه النشاط التجريبي ،فإن تفسير نظرية فيزيائية ال يمكن أن يسود إال من خالل
ً ً
قابليته ألن يقود نمطا معينا من النشاط النظري بشكل أفضل من تفسيرات أخرى
منافسة .إن أهمية تفسير تكون بالتالي متعلقة بنوع النشاط النظري التي تسمح بتوجيهه
ً
522ربما ،في هذه الحالة ،تكون استعارة البوديساتفا مناسبة أكثر من استعارة إله الفالسفة ،التي غالبا ما تقرن
مع العرفة الوحيدة تحت شكل من أشكال الخلود .sub specie aeternitatisفللبوديساتفا في الواقع ضمن
صفاته الخاصة النسوبة له صفة أنه يتطابق ،باإلنابة والرحمة ،مع كل كائن حساس؛ وأنه ال يرض ى البقاء
ً
فوق الكائنات الحساسة ،دون أن يكون مع ذلك سجينا لتأثيراتهم" .إنه يتبع مصائر العالم كله ،لكنه يفلت من
كافة الصائر" ،راجع "تعليم فيماالكيرتي ،"Enseignement de Vimalakirtiالذكور في L. Silburn, Aux sources
.du Boudhisme, Fayard, 1997, p. 164
312
بشكل فعال .فعندما يبدو تفسير ما أفضل من التفسيرات األخرى في تيسير االكتشاف في
كافة الجاالت التي يمكن لالستكشاف النظري الوصول إليها ،فعندها فقط يتأكد تفوقه
ويصبح من الغري بالنسبة لكثيرين طرح مسألة حقيقته .والحال أن مثل حالة شبه
القطبية هذه هي بالضبط حالة ال نصادفها في الفيزياء الكمومية .إن التفسيرات التعددة
القبولة للفيزياء الكمومية لها والحق يقال سلطة إرشادية متخصصة ،تظهر في مجال
إشكالي محدود ،إنما تضعف وتفسح الجال لسلطة تفسيرات أخرى في الحقول اإلشكالية
الجاورة .وال يشكل تفسير إيفيريت استثناء لهذه القاعدة .فدعوته إلى العالية جعلت من
َ ً
تفسيره ضروريا جدا في علم الكونيات الكمومي .523وقد ساعد آنه التعدد "التواريخ"
و"الفروع" التوازية من جهة أخرى بشكل كبير على اكتشاف مبادئ "الحساب
الكمومي" ،524الذي يستخدم طريقة العالجة فائقة التوازي للمعلومة .لهذا فإن العديد
من علماء الكونيات والختصين في الحساب الكمومي يأخذونه بشكل حرفي ،ويميلون إلى
ً
"االعتقاد" به بالعنى األكثر أنطولوجية للمصطلح .لكن تفسير إيفيريت يعتبر أيضا كتفسير
ً ً
ثقيل جدا ،ولهذا السبب فهو غير مالئم كثيرا لتقديم الحل لكثير من السائل العروفة ،في
ً
حين أن تفسير فون نيومان "األورثوذكس ي" يبدو هنا متوافقا تماما مع تقديم حل.
َ
تستفيد معالجات نظرية معينة من جهة أخرى من تمثيل لصيرورات مكانية -زمانية
وسطية بين التحضير والقياس ،وفي هذه الحالة يكون التفسير ذو التحوالت الخفية غير
ً
الحلية لديفيد بوم قابال ألن يقدم نقطة ارتكاز مفيدة للباحثين ضمن ظروف ال يستطيع
523انظر J.S. Bell, "Quantum mechanics for cosmologists", in J.S. Bell, Speakable and unspeakable in
quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987; J. Barrow & F. Tipler, The anthropic
cosmological priciple, Oxford University Press, 1986, chapitre VII.
D. Deutsch, "Quantum theory, the Church-Turing principle and the universal quantum 524
computer", Proceedings of the Royal Society, London, A400, p. 97-108, 1985؛
D. Deutsch, "Three connections between Everett's interpretation and experiment", in R. Penrose & D.
Isham (eds.), Quantum concepts in space and time, Oxford University Press, 1986, p. 215-225؛
D. Deutsch, The fabric of reality, Viking Penguin, 1997.
313
ً
فيها تفسير إيفيريت وال التفسير األورثوذكس ي تقديم أي حل .وأخيرا ،في إطار النظريات
الكمومية للحقول وفيزياء الطاقات العالية ،فإن تفسير تكامالت الطريق لفاينمان يفرض
نفسه كما يبدو كدرب مقاربة أكثر فعالية بكثير من التفسيرات الثالثة السابقة.
ً
وفقا للمالحظة التي أشرنا إليها لتونا ،فإن تأكيدي على تفسير إيفيريت في هذا الفصل
فضلته هنا هو القدرة علىكان محرضه الوحيد هو البحث عن قدرة كشفية .لكن ما ّ
الداللة في التأمل الفلسفي ،وليس في مجال معين من البحث النظري .فقد اعتبر تفسير
إيفيريت (الذي تمت مراجعته وإكماله) كوسيلة ممتازة إلظهار عالقة ذلك ،في الفيزياء
َ
الو ّح َدة من التبادليات بين الذاتية أو بين
مماثل مع بيان النظومة َ الكمومية ،بفكرة علم
الوضعية ،باألحرى من التمثيل التأليفي لجسم "خارجي" .وفي حين يميل تفسير القائم
ّ
وتيسر على متحوالت خفية إلى اإلبقاء على الفكرة في أخدود نظرية ثنائية للمعرفة،
الالأدرية أو الشك اإلبستمولوجي النسخ األكثر عملياتية للتفسير األورثوذكس ي ،فإن
القدم في هذا الفصل يزودنا بنقطة االرتكاز الطلوبة من أجل إعادة قراءة تفسير إيفيريت َّ
ً
تطوير مفهوم للمعرفة التشاركية ،التي تستدعى غالبا فيما يتعلق بالفيزياء الكمومية،525
إنما التي ناد ًرا ما ت َ
تابع حتى نتائجها األخيرة.
ً ً
من الصحيح أن بعضهم يستطيع أن يقدم اعتراضا جوهريا على هذه الدرب الثالثة
ويشكك بالتالي بتوفر أية استراتيجية إبستمولوجية وسطية بين واقعية علمية بال
تسويات وذرائعية عنيدة متشبثة .إن مفهوم العرفة التشاركية نفسها ،التي تشتمل في آن
واحد على نسبية البيانات الواقعية اتجاه وجهة نظر وبسط شبكة موحدة من التبادالت
ً ً
بين وجهات النظر ،يبدو في الواقع مفهوما مسكونا بتوتر داخلي .وهو توتر شبيه بالتوتر
الذي كشفه بالكبرن في الوقف االنعكاس ي لبوتنام ،526والذي يمكننا التعبير عنه بأكثر ما
525انظر على سبيل الثال J.A. Wheeler, "Law without law", in J.A. Wheeler & W. Zurek, Quantum
theory and measurement, Princeton University Press, 1983.
526راجع الفصل الرابع ،القدمة.
314
يكون الوضوح من خالل التساؤل التالي" :كيف أزعم في الوقت نفسه أنني ال أستطيع
التكلم عن العالم إال في حدود وجهة نظر موجودة لدي عن العالم ،وأنني أعرف أنها وجهة
نظر حول العالم؟."527
الجواب األكثر منطقية على هذا النوع من التساؤالت هو أنه ،كما أنني خالل مجرى
الحوار ال أحتاج ألن أعلم ما هي وجهة النظر (أي أن أتمثلها كأمر خارجي) لكي ّ
أفعل
قواعد تبادل الضمائر الشخصية في استخدام اللغة ،فإنني في الفيزياء ال أحتاج ألن
ً
أعتمد عقليا "وجهة نظر من بين وجهات النظر" من أجل تفعيل قواعد التكافؤ الوزونة
للوضعيات في استخدام صورية النظرية الكمومية .إن التطبيق الضبوط للحاالت
النسبية ال يتطلب تمثيل "العوالم" التوازية الحاملة لوجهات النظر الوافقة ،أكثر مما
ً ً
تتطلب الشاركة في لعبة صياغة العبارات بين التحاورين تأمال مشرفا على وضعية
الشاركين في الحوار.
J. Boueresse, Le mythe de l'intériorité, Minuit, 1987, p. 82; 527؛ وهذا السؤال َّ
موجه إلى النظومة الرؤية
ً
والنظور لدى برتراند راسل ،ويمكن توجيهه أيضا إلى النظومة التعلقة بنظرية الوناد عند ليبنيتز التي يستلهم
منها.
315
316
528
- 8الصدفة الوضوعية ومبدأ السبب الكافي
تبقى خطوة أخيرة علينا اجتيازها :أال وهي إيضاح بعض السمات التي ّ
تعد غامضة في
تصور النظرية الفيزيائية كوصف غير مرتبط اليكانيك الكمومي وذلك بأن نحل محل ّ
ً ً بالعالم ،التصور الذي يجعل من ّ
تصور النظرية الفيزيائية بيانا تنبؤيا باالرتباطات المكنة
في العالم .وإحدى أهم هذه السمات هي الالتحديدية .وسنحاول بالتالي في هذا الفصل
ّ
الوجيز بيان أن الالتحديدية الكمومية يمكن أن تفهم بسهولة كمؤشر على الإنفصالية
ً
الظاهرة وشروط تظاهرها ،بدال باألحرى من فهمها كانعكاس للنظام (أو للفوض ى) من
طبيعة منفصلة.
1 -8الصدفة الذاتية والصدفة الوضوعية
ال يمكن تعريف الصدفة الوضوعية بسهولة إال من خالل عكس العنى ،ويشكل ذلك
ً ً
مؤشرا أوليا على الصعوبة التي يجب تخطيها.
ً
فما الذي نفهمه إذا بعبارة "الصدفة الذاتية"؟ إن الصدفة الذاتية هي صدفة
ظاهرية ،صدفة تنجم عن الجهل ،تخفي تحت سلسلة من األحداث العشوائية حسب
الظاهر صيرورة طبيعية تحرضها أسباب و /أو تحكمها قوانين .فهذه الصدفة تتطابق مع
528هذا الفصل هو نسخة معدلة من القالة التاليةM. Bitbol, "Qu'est-ce qu'un hasard objectif?", La :
lettre mensuelle de l'ECF, no 161, p. 13-16, 1997.
317
ّ
الصدفة الالبالسية ،التي تعبر عن نفسها بالدرجة األولى بصيغة ضمير التكلم" :إننا ننظر
إلى ش يء ما على أنه أثر الصدفة عندما [ ]...نجهل [ ]...األسباب التي أنتجته ".529وعندما
قام البالس رغم كل ش يء ،لكي يتوافق مع االستخدام الشائع ،باالستناد إلى الصدفة
بصيغة الغائب ،فقد كان ذلك فقط يش ي بالطابع الوهم" :ليس للصدفة [ ]...أية واقعية
بذاتها ".فاللجوء إلى ّ
تصور الصدفة ال يترجم بالتالي هنا سوى اإلقرار بالتخلي الوقتي عن
متابعة البحث .ومن الفروغ منه أن البحث حول األسباب يمكن أن يصل إلى نتيجة.
حد أدنى من الثابرة ،بإيصاله منذ اآلن إلىوذلك إما ألن وسائل متوفرة تسمح ،مع ّ
ً
هدفه .وإما ألن النظرية الفيزيائية العمول بها لها بنية تحديدية رياضيا ،ولهذا فإنها
تفسح الجال إلدراك إمكانية (ببناء الوسائل األداتية الناسبة) تتبع سلسلة األسباب
ً
الحددة بشكل جيد .وإما ،أخيرا ،ألنه بقبول مبدأ السبب الكافي فإننا نعمل في منظورات
تحديد مستقبلي لدروب وطرق وصول غير معروفة إلى أسباب مجهولة .وليس لهذا
الوقف األخير أية قيمة للوهلة األولى سوى القيمة اإلرشادية والكشفية؛ فهو ال يعمل
حتى إشعار آخر إال كدليل وكمشروع ناظم بالنسبة للبحث .وهو مع ذلك ي َ
ستكمل بشكل
متواتر في تأكيد ميتافيزيائي :يوجد هناك في الخارج ،بشكل مستقل عن القدرة التي يمكن
أن تكون لدينا على تأكيدها ووصفها ،أسباب حقيقية لألحداث.
وعلى العكس ،فإن ذكر صدفة موضوعية يشير إلى معنى وجود حواجز غير قابلة
للتجاوز تمانع إنجاز البحث في مجال علم األسباب (اإلتيولوجي .)étiologique
إن مجرد عدم الجاهزية الادية لوسائل التقص ي والبحث ال يبرر وحده أن نصف
ً
صدفة ما بأنها "موضوعية" ،ألنها تعلن عن نفسها حتميا بصيغة ضمير التكلم .فـ "نحن"
ال نملك إجراءات تقنية تسمح بتحديد أسباب حادث ما .لكن هذه الـ "نحن" العائدة على
529راجع أعمال البالس ،الجلد الثامن ،ص 56-46 .و 59ـ416؛ وقد ذكره دهان ـ دليديكو في A. Dahan-
Dalmedico, "Le déterminisme de Pierre-Simon Laplace et le déterminisme aujourd'hui", in A. Dahan-
ً
.Delmedico, J.-L. Chabert & K. Chemla (éd.), Chaos et déterminisme, Seuil, 1992راجع أيضاP.-S. :
Laplace, Essai philosophique sur les probabilités, Courcier, 1814.
318
الجتمع التكنولوجي العلمي الحالي هي "نحن" طارئة ومتموضعة ومزاجية .وبالتالي ال يمكن
ّ
أن توظف من قبل العالية التي تفترضها الوضوعية.
ونجد عند الطرف اآلخر لطيف أسباب التخلي عن البحث "عدم وجود األسباب"
الصريح والبسيط .إن عدم الوجود هذا ،إذا ما أثبت ،يضمن موضوعية الصدفة في أشد
معانيها النقدية السبقة :أي العنى الذي يمكننا القول وفقه بأن الصدفة هي أمر "أصيل
ً
وذاتي" ،وأنه "أنطولوجي" ،وأنه يميز الطبيعة "بذاتها" .نعبر عن الفكرة أحيانا وفق نمط
ً
وأحيانا وفق نمط طبيعي ("اليول" ،التي ّ
تؤمن استقرارية الهوتي (هللا يلعب بالنرد،)530
التواترات وليس األحداث نفسها ،هي قوى "حقيقية" مالزمة للطبيعة .)531الشكلة تأتي
من أن مثل هذه التأكيدات تظل ،مثلها مثل بدائلها ،بمنأى عن كل إمكانية إلثباتها
ً
تجريبيا .إن مسألة معرفة إذا كانت الصدفة هي "أنطولوجية" أم ال ،وإذا كانت "القوانين
النهائية للطبيعة" غير تحديدية بشكل جوهري وأصيل أم ال ،هي مسألة ال يمكن حسمها
ّ
وبتها .إن التطور الحديث للعلوم التعلقة بالعشوائية تصور بوضوح عدم إمكانية الحسم
هذه .ويتم البرهان في الواقع أن ظواهر تحديدية يمكن أن تنتج عن تطبيق قانون األعداد
الكبيرة على حوادث عشوائية وعرضية ،وأنه على العكس يمكن لظواهر غير تحديدية أن
تترجم صيرورات شواش تحديدية كامنة أو تحتية.532
مع ذلك ،ثمة خيارات وسطية ،أقوى من الخيار األول وأقل تأملية من األخيرة ،تظل
متوفرة وقائمة .والخيار األساس ي بينها يتمثل في ربط أطروحة الصدفة الوضوعية
530إذا أخذنا عكس التأكيد الشهير ألينشتين[" :هللا] ،على األقل ،ال يلعب بالنرد" ،في الرسالة إلى بورن في 2
كانون األول من عام ،0945وهي منشورة في A. Einstein & M. Born, Correspondance 1916-1955, Seuil,
.1972
K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996. 531
.J. Harthong, Probabilités et statistiques, Diderot, 1996. 532ويمكن أن نجد في القطع 5ـ 5من هذا
ً
الكتاب بيانا بـ "الجدل الخامس في األفكار التجاوزية" لهارثونغ بين التحديدية والالتحديدية الجوهريتين في
"قوانين الطبيعة".
319
ً
باستنتاج أو معاينة السمة الالتحديدية للنظريات الفيزيائية القبولة حاليا ،أي لكافة
النظريات الشتقة من اليكانيك الكمومي .فاليكانيك الكمومي هو نظرية غير تحديدية
ً
وفق هذا العنى الزدوج بأنها ال تسمح عموما بالتنبؤ بكل نتيجة تجريبية خاصة بشكل
يقيني ،وبأن شكالنيتها ال تتضمن أي مؤشر استذكاري مشارك في مبتدأ سلسلة افتراضية
لألسباب التي أمكن لها أن تصل إلى كل نتيجة من النتائج .533وبشكل أدق ،فإن اليكانيك
ً
الكمومي ال يتضمن دائما إعادة اإلنتاج الدقيقة للنتائج التجريبية في إثر تحضيرات
ً
أعظمية متطابقة .إن هذه النظرية تترجم وضعا ال يمكن فيه لكل حادث أن ينفصل عن
الظروف الخاصة والالعكوسة والتي ال يمكن ضبطها.
يمكن ترجمة هذه الالحظة على النحو التالي .إن اليكانيك الكمومي ال "يموضع" صلة
دقيقة بين مقدمة عملياتية ونتيجة حدثية ،طالا أن موضعتها ستعني وصفها على أنها
صالحة للجميع ،وفي كل مكان ،وفي كافة الظروف حيث تكون القدمة منجزة ومتحققة.
بالقابل ،فإن اليكانيك الكمومي يبني التكرارية والتناسلية الكاملتين للعالقة بين كل
ً
تحضير وتوزع إحصائي معطى لنتائج تجريبية .يضمن اليكانيك الكمومي أيضا من خالل
معادلة شرودنغر استمرارية هذه العالقة .يمكننا بالتالي أن نؤكد ،بالتوافق مع التعريفات
السابقة ،أنه يتم من خالل هذه العادلة موضعة صلة بين القدمة العملياتية والنتيجة
ً
اإلحصائية .إن بنيتها االحتمالية تعطي بالتأكيد مضمونا لفكرة صدفة موضوعية.
وببساطة ،فإن هذا الضمون يرتبط بمعنى نقدي باألحرى منه بميتافيزياء مفهوم
الوضوعية .إن الصدفة التي تسود في مجال صحة الفيزياء الكوانتية توصف بـ
"الوضوعية" ليس ألنها تعكس سمة مطلقة للطبيعة (وعلى هذا ليس لدى القاربة
ً
533إن "التواريخ التسقة لغريفيث "Griffithsتمثل فعال محاوالت إلعادة تشكيل استرجاعية لسلسلة من
األسباب بين تجربتين ،لكن إعادة التشكيالت هذه ليست وحيدة بذاتها ،وال يمكن أن تكون كذلك وإال الندرجت
بشكل خاطئ ضد التنبؤات االحتمالية للميكانيك الكمومي .راجعR. Omnés, The interpretation of quantum :
ً
mechanics, Princeton University Press, 1994؛ راجع أيضا القطع 4ـ 4من هذا الكتاب.
321
العلمية أي ش يء لقوله في كل األحوال) ،بل ألنها تعبر عن نمط كوني ،تصفه النظرية،
للعالقة اإلحصائية بين العمليات التجريبية ونتائجها.
إن هذه االستراتيجية التي تهدف إلى إعطاء موضوعية للصدفة من خالل وساطة
بنية النظريات الفيزيائية القبولة ال تخلو مع ذلك من ضعف .صحيح أن غياب الطابقة
أو التعرف على صلة محتملة مشاركة بين مقدمات ونتائج لم تعد تنسب إلى عدم كفاية
حالة راهنة لوسائلنا التكنولوجية ،بقدر ما لم تعد تتعلق بالحدود الفروضة بواسطة
النظريات الفيزيائية على كافة البحوث التي تقودها لتكون ممكنة .ولكن ال يجب أن يغيب
عن ذهننا أن النظرية الفيزيائية ،مهما كانت درجة تأكيدها ،فإنها تظل هشة ،بل هشة
بشكل مضاعف .فهي هشة بسبب التحديدية التحتية لنماذجها عبر حقل التجربة التي
ً
تحكمها ،وهي كذلك أيضا بسبب إمكانية دحضها بواسطة التجارب التي تنتج بشكل
إهمال أو خطأ في هذا الحقل .إن أقنمة الصدفة التي ص ّيرت موضوعية بواسطة
اليكانيك الكمومي أمر يعود بالنتيجة للوهلة األولى إلى تأسيس عقيدة مبنية على منهج
نظري ال حصريته مؤمنة ومؤكدة وال مستقبله .إن منهج الفيزياء الكالسيكية ،أي
استخدام العادالت التفاضلية ذات الحلول التحديدية بطريقة مشاركة من خالل
شروط بدئية ،كان ييسر االعتقاد بتحديدية طبيعية .ثم قاد منهج الفيزياء الكمومية ،أي
معالجة البدائل وحاالت الضد ،و"عالقات الريبة" ،كما وسعة االحتمالية ،إلى تيسير
االعتقاد بالتحديدية طبيعية .هذا بانتظار تغيير جديد في النهج ال يمكننا استبعاده
ً
مسبقا.534
2 .8السياقية والالتحديدية
إن الدرس الذي يقدمه لنا اليكانيك الكمـ ـومي حـ ـول الصدفة يتبدى بالت ـ ـالي عند
التحليل األولي له أشبه بتعليم العرافين .فما سبق وأشرنا له هو أننا لن نستطيع جعل
534حول هذه النقطة راجعL. Soler, "Les régularités phénoménales requiérent-elles une explication?", :
in M. Bitbol & S. Laugier (éd.), Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-
Diderot, 1997.
321
اليكانيك الكمومي ،ال هو وال أية نظرية علمية أخرى ،يستخدم كبرهان لصالح صدفة
"صحيحة" أو أنطولوجية .إن موضوعية الصدفة التي يعالجها تظل معلقة بتغير ممكن
ً
دائما لنمط الوضعة التي تعبر عنها شكالنية هذا العلم .وحتى عندما نتمسك بمجال
ً
صحة اليكانيك الكمومي فإنه يكفي عمليا أن نغير مستوى النظرية الوضوعية لكي نغير
بشكل كبير التقدير والتقييم الذي يمكن أن نصل إليه فيما يخص الصفة الوضوعية أو
الذاتية للصدفة التي يواجهها .فعلى سبيل الثال ،إذا كان موقع الوضعة هو موقع
"التغيرات الخفية" في نظرية ديفيد بوم التي تعود إلى عام ،0964فإن التحديدية النتائج
التجريبية تنسب إلى صيرورة من الشواش التحديدي ،535باألحرى من كونها تعود إلى
التوزعات اإلحصائية أو إلى موجهات الحالة التي تسمح بتوليدها .وعلى الرغم من أن
ً
القدرة الكشفية الاثلة في هذه النظرية األخيرة ليست معروفة كثيرا (أو لهذا "التفسير"
كما انتهى بوم نفسه إلى تسميته) ،فإن محاولة افتراض أن قوانين الطبيعة ،في مجال
ً
بحث حتى وإن كان محدودا ،هي قوانين تحديدية يجازف بأن يصبح محاولة كبيرة من
جديد.
إن إمكانية بسيطة بأن تكون نظرية (أو "تفسير") مثل نظرية بوم صحيحة تكفي إلى
إيقاف عمل الحجة االحتمالية األقوى التي تقدم عادة في صالح فكرة أن اليكانيك
الكمومي يترجم "صدفة صحيحة" باألحرى من مجرد "صدفة جهل" .إن هذه الحجة
ترتكز ،ولنذكر بذلك ،536على عدم صحة القاعدة العيارية ،في الحالة العامة ،لراكمة
ً
احتماالت األحداث التباعدة ،أو أيضا على استحالة اختزال "حالة نقية" إلى "خليط
إحصائي" .وفي الواقع ،فإن النمط غير التباعدي للرابط االحتمالي الؤسس بواسطة
اليكانيك الكمومي بين األحداث التي تظهر بشكل تجريبي ال يتوافق مع التأكيد بأن هذه
D. Bohm & B. J. Hiley, The individed universe, Routledge, 1993, p. 24 -25. 535
M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997, 1, 536
3, 8.
322
األحداث تنتج من نفسها على الرغم من أننا كنا نجهلها .وهو كذلك ليس أكثر توافقية مع
التأكيد األكثر نوعية ووفقه فإن متواليات من األحداث من هذا النوع تنشأ من ذاتها
تكون خاضعة لقانون تحديدي مجهول .غير أن مثال نظرية بوم قد بين لنا أنه ليس ثمة
ما يمنع من تصور أنه توجد صيرورات تحتية ،غير قابلة للظهور في كليتها على الستوى
التجريبي ،والتي تخضع من جهتها إما بشكل مباشر إلى قوانين تحديدية أو إلى قوانين
احتمالية تتوافق مع مفهوم "صدفة الجهل" .وضمن هذا النظور ،فإن االنحرافات
الالحظة بين القواعد االحتمالية الكمومية والقواعد االحتمالية العيارية (التي تف َّسر
بعبارة "صدفة الجهل") يمكن أن تفهم أو تشرح من خالل تفاعالت متبادلة ولحظية بين
الصيرورات التحتية ،و /أو من خالل التأثير الذي يجب أن تمارسه أدوات الكشف على
الصيرورات التحتية من أجل إنتاج األحداث التجريبية التي يحكم اليكانيك الكمومي
ّ
الالبتية أو احتماالتها .وباإلجمال ،فإن اليكانيك الكمومي ال يخرق البدأ العام في
الالحسمية لعلوم العشوائية .وليس ثمة ش يء في بنية تنبؤات اليكانيك الكمومي ما يجبر
على التأكيد أنه على "مستوى نهائي أعلى" افتراض ي فإن الصدفة وحدها هي ما يحكم
األحداث الطبيعية.
ومع ذلك ،وفي مقاربة تحليلية ثانية ،إذا عرفنا أن نقرأ ما بين السطور في التأمالت
السابقة ،فإن اليكانيك الكمومي يشتمل على درس هام وخال من الغموض في آن واحد
ً
فيما يخص الصدفة .ألنه إذا كان صحيحا أننا ال نستطيع االستفادة منه من أجل طرح
أية أطروحة أنطولوجية (تتعلق بالكائن) فيما يخص السمة التحديدية أو غير التحديدية
لـ "قوانين الطبيعة" ،فإننا نستطيع االرتكاز عليه من أجل تقديم مؤشرات ثمينة حول
موضوع حدود الخصوبة اإلبستمولوجية لبدأ السبب الكافي .فمبدأ السبب الكافي لم
يعتبر كمبدأ خصب من قبل األجيال السابقة من الباحثين العلميين إال ألنه كان يدفعهم
ضم الظاهرات العروفة، إلى تصور شبكات من الصالت التشاركية التي تستطيع ّ
وتصميم نمط من التجارب التي تسمح بإثبات هذه الروابط وبالتالي تحديد صفوف من
323
الظاهرات الجديدة .والحال أنه من المكن أن نبين (من خالل محاكمات ما فوق نظرية
Métathéoriquesباألحرى من كونها "ما بين نظرية" ،intrathéoriquesهذه الرة) أن كل
نظرية تملك اإلمكانية الزودوجة في التحكم من خالل قوانين (يمكن أن تكون تحديدية)
ً
بالخصائص الذاتية لألشياء الفردانية ،وأن تنتج التنبؤات الؤكدة مسبقا للميكانيك
الكمومي ،لها ضمن تضميناتها الوصوليتها إلى تجربة الصيرورات التحديدية التحتية التي
تذكرها .537إن الصيروات التحديدية التي تصيغها النظريات ذات التحوالت (أو باألحرى
ذات الصيرورات) الخفية ال تفتح ألي توسع كوني ظاهرات قابلة للتجريب.
وبالنتيجة ،فال عودة التحديدية وال وضع مفهوم للصدفة الذاتية في القدمة أمران
مستبعدان ،أي غير خصبين .فاليكانيك الكمومي ال يمنع حفظ مبدأ السبب الكافي
ً
وظيفته الثالية الناظمة والجردة في فضاء الثاليات الرياضية ،لكنه يطرح حدودا أمام
استخدامه كدليل واقعي محسوس للبحث التجريبي ،وهو بذلك يسحب من هذا البدأ
ً ً
جزءا كبيرا مما كان يشكل قيمته في نظر كتاب ومفكري الثورة العلمية في القرن السابع
عشر.
إن قحط مبدأ السبب الكافي في سلوك بعض اللحظات من التقص ي العلمي ال يمنع
مع ذلك من استخدامه في الدرجة الثانية في بحث ارتدادي ،أي في بحث حول أسباب
محله هو بالذات .فلماذا أصبح هذا البدأ غير فعال بشكل مزدوج ،وفق توجه تنبؤي
ً
وعاكس للتنبؤ في آن معا ،وذلك في مجال الصحة النوعية للميكانيك الكمومي؟ ثمة
بمتناولنا بعض اإلجابات الوافية حول هذا السؤال.
ً ً
لنالحظ بداية أن كارل بوبر قدم تفسيرا مقبوال لعدم الخصوبة التنبؤية لبدأ السبب
الكافي في حالة العرفة ا لذاتية .وكتب في هذا الجال" :لقد برهنا أن التنبؤ الذاتي أمر غير
ً
ممكن ،وذلك صحيح أيضا في الحالة التي نتوصل فيها إلى بناء متنبئ يجمع كافة قدرات
ً
الذكاء الالبالس ي [ ،]...أي متنبئ يمثل منظومة فيزيائية يتم االعتراف عاليا بصفته
،M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, 537الصدر السابق ،ص 369 .ـ .351
324
التحديدية .كذلك فإنه من الصحيح أن برهاننا ال يمكن أن يستخدم لدحض التحديدية.
لكن يمكن استخدامه من أجل دحض التحديدية "العلمية" [ .]...ذلك ألنه إذا كان التنبؤ
ً
الذاتي مستحيال ،فإنما ينجم عن ذلك أن التنبئ ال يستطيع أن يتنبأ بردود فعله على
محيطه الخاص [ "538.]...بعبارة أخرى ،حتى في كون مفترض تحكمه قوانين التحديدية،
ً ً ً
فإن متنبئا ال يستطيع التنبؤ بالظاهرات إذا كان متضمنا بطريقة مبهمة جدا في إنتاجها.
ً
غير أننا نجد مكافئا لهذا الوضع من التضمين الفرط في الفيزياء الكمومية ،حيث
ً
تكون أجهزة الكشف عن الظاهرات هي أيضا إشراطات النبثاق هذه الظاهرات .إن
السمة البهمة للظاهرة ولوسائل ظهورها (إطارية الظاهرة) هي كما نعرف السمة الركزية
لألوضاع التجريبية والتي تهدف نظريات اليكانيك الكمومي إلى أخذها بعين االعتبار .وهذا
ما يحصل بشكل مباشر في اليكانيك الكمومي العياري ،ويترجم ذلك بتأثير آني للوسط
األداتي على الخصائص المثلة في النظريات ذات التحوالت الخفية من نمط نظرية بوم.
ً
وانطالقا من هذه النقطة فال بد من محاولة تفسير الالتنبؤية في الظاهرات الكوانتية من
خالل سياقيتها (التي أصبح ال مناص منها بسبب عدم التوافق الجزئي بين السياقات).
كان هايزنبرغ قد استشف مثل هذه العالقة بين السياقية والالتنبؤية في عام 0941
في مقالة قدم فيها للمرة األولى العالقات التي سميت بعالقات "الريبة" .539غير أن
ّ
الصور والحسوس لـ "تخلخل" ما .والتخلخل غير السياقية تأخذ في هذا النص الشكل
القابل لالنضغاط والذي ال يمكن ضبطه بواسطة أداة القياس هو ،وفق هايزنبرغ تلك
الفترة ،ما يمنع معرفتنا بشكل كامل لجموعتين من التحوالت التي تشكل الحالة البدئية
لجسيم ،وبالنتيجة يستنتج هايزنبرغ أن مبدأ السببية الذي يربط بشكل قسري حالة
بدئية بحالة نهائية يظل غير قابل للتطبيق في الفيزياء الكمومية .ولألسف ،فإن لصورة
،G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mecanique quantique, 540نقله إلى الفرنسية A.
Schnellبالتعاون مع ،L. Solerوكتب الدخل والتقديم والقدمة النقدية كل من سولر L. Solerوفرين ،Vrin
،0995ص.91 .
326
الواقع أن األسباب الحتملة لظاهرة كمومية ال يمكن أن تستخدم في التنبؤ بها ،ألنه لم
ً
يتم أبدا تحديدها إال بعد وقوعها ،وذلك بالنسبة إلى الظروف نفسها التي أدت إلنتاج
هذه الظاهرة أثناء القيام بقياس .بعد ذلك ،تم وضع الصلة بين السياقية والالتنبؤية
بشكل صارم من خالل مبرهنة ديتوش -فيفرييه ،P. Destouches-Févrierووفقها فإن
كل نظرية تنبؤية تعنى بظاهرة محددة بالنسبة لقرائن تجريبية يكون بعضها غير متوافق
على التبادل فيما بينها ،هي نظرية "غير تحديدية بشكل جوهري" .541إن الخمنة السابقة،
تفسر وفقها السياقية الميزة للوضع التجريبي الذي تواجهه الفيزياء الكموميةالتي ّ
الالتحديدية التنبؤية ،ترتكز بالتالي على أسس أكيدة.
بالقابل ،من السهل البرهان أن هذه السياقية نفسها تجعل من إعادة تشكيل عكس
تنبؤية لسلسلة األسباب التي أمكن أن تؤدي إلى ظاهرة ما إعادة تشكيل باطلة (أو
تعسفية) .إن إعادة بناء سلسلة األسباب التي ال تكون من حيث البدأ مجردة من
العالقات مع التجربة يعني في الواقع تأسيس متوالية الظاهرات التي تقود ،عبر سلسلة
ً
الستنت َنت َجة تجريبيا .لكن من
َ َّ
العدة إلى النتيجة مشاركة من األحداث ،من السابقة
الفترض أن الظاهرة ال تحدد إال بالنسبة إلى سياق تجريبي واستخدامها الفعلي .وبغياب
السياقات التجريبية الوسيطة القابلة للفعل ،فإنه من غير الشروع استحضار ظاهرات
وسيطة ،وهو في األكثر ما يسميه رايشنباخ" H. Reichenbach 542ما بين ظاهرات" تخيلية.
إن إعادة بناء عكس تنبؤية لهذا النمط تظل لذلك اتفاقية بحتة ،ولن تكون إضافة إلى
ذلك متوافقة مع الخوارزمية االحتمالية للميكانيك الكمومي إال بشرط أن تكون متعددة
القيم.543
.P. Destouches-Fevrier, La structure des théories physiques, P. U. F., 1951, p. 260-280 541إن هذه
ً
البرهنة (مثلها مثل القواعد االحتمالية في اليكانيك الكمومي العياري التي تعممها) متوافقة تماما مع وجود
نظريات ذات متغيرات (أو باألحرى ذات صيرورة) خفية .وهي تهتم في الواقع فقط بالعالقة بين قابلية التنبؤ بين
الظاهرات ،وليس بصيرورات محتملة غير قابلة للتجريب من حيث البدأ.
H. Reichenbach, Philosophic foundations of quantum mechanics, University of California Press, 1946. 542
543راجع القطعين 4ـ 4و 6ـ .0
327
ً
باختصار ،فإن فإن السياقية تجعل مبدأ السبب الكافي غير فاعل أو كيفيا ،بحسب
ما نستخدمه بشكل تنبؤي أو عكس التنبؤي .وهكذا فإنه يصبح عندها للصدفة
الوضوعية للفيزياء الكمومية ،على الرغم من أنها ال تدعي أي أساس أنطولوجي ،ميل
للبقاء مسلم به.
328
خاتمة
329
اتجاه الالواقعية التي نشأت عنها ،على االستنتاج أنه من وجهة نظر الباحث العلمي ،فإن
التلطيفات والـ "كما لو" ال تلعب إذا جاز القول أي دور؛ وأنه من وجهة نظر الفيلسوف،
فإن التوكيد الذي وفقه ال تصح االلتزامات األنطولوجية للباحث "في الحقيقة" إال على
ً
نمط "كما لو" سيكون ميتافيزيائيا بقدر التوكيد العاكس.
ً ً
إن هذا الوقف الثالث ،األنيق والتماسك جدا فلسفيا ،هو مع ذلك موقف محفوف
بالخاطر .ألنه ،بدعوته إلى اعتماد وقفة تشبه أن يس يء فهم موقف شخص واقعي أصيل
للكينونات ،من خالل ّ
تجمله بمجرد شبه ابتسامة من ليس بالغبي ،وبالرونة الفائقة
لشخص ال تخيفه أية إعادة تشكيل أنطولوجية ،فإن شبه الواقعي يجعل من الصعوبة
بمكان تجنب نسيان خط السير الذي قاده إلى ّ
توجهه الحاذق والدقيق ،ويفتح هكذا درب
التراجع في الواقعية النزقة التي يستهجنها .وهو يحرم نفسه إضافة إلى ذلك ،دون وجود
رأي مخالف ،من الصادر الجدلية التي تتوفر لالواقعي علمي من أجل كسر اإليمان
ً
األنطولوجي "للواقعيين الحقيقيين" .لنأخذ مثاال على هذا النوع من الصادر .ففي مواجهة
ً
حجج االحتمال التي يصغيها غالبا الواقعيون لصالح كينونات يقبلون بوجودها ،فإن
ً
الالواقعي يستطيع دائما بناء حجة احتمال أخرى بحيث يجعلها بشكل آلي أكثر قوة من
حجة خصمه .ال يخطئ الواقعي بالتأكيد عندما يالحظ أن احتمال أن ت َح َّرض
ّ
استقصاءات متوجة بالنجاح بواسطة نظرية تسلم بكينونات ال توجد في الطبيعة يجب
ً ً
أن يكون احتماال ضعيفا في الطلق (من باب أولى عندما تكون هذه النجاحات قابلة
ً َّ
للتفسير بشكل منطقي كـ "اكتشاف" للكينونات السلم بها) .غير أن الواقعيا من مدرسة
فان فراسين يستطيع بسهولة أن يجيب في كل األحوال ،أن احتمال أن تكون نظرية
ً ّ
تسلم بمجموعة معينة من الكينونات هي في آن واحد متجانسة تجريبيا وصحيحة هو
احتمال أضعف من احتمال أن تكون النظرية متجانسة ببساطة على الستوى التجريبي.
وهو بذلك إنما يسلط الضوء ،من خالل لعبة جوابه نفسها ،على أن بروز الواقعية
ً
العلمية ارتكز طويال على غياب بديل موثوق يمكن اعتماده.
331
ّ
يفسر ذلك أنني ،مع تقديري لرهافة شبه الواقعية واألساس الجيد لالنتقادات التي
ً توجهها للنسخ العيارية من الالواقعية العلميةّ ،
فضلت غالبا في هذا الكتاب اعتماد
الوقف النقدي الذي يشتمل على أن يعزو إلى أنطولوجيات النظريات العلمية حالة "كما
لو" ذات الوظيفة البراغماتية .يجنبنا هذا الخيار على األقل حرمان أنفسنا منذ وقت
ً
مبكر جدا من الفعالية العالجية لألدوات الالواقعية في البرهان ،بمواجهة التسهيالت
التولدة باستمرار من "الواقعية العفوية للعالم".
ولكن ما أن يتم اختيار خيار الواقعية منهجية فإنه يجب الض ي حتى نهاية نتائجها.
يذكرنا بطريقة ّّ
ملحة الفالسفة الذين يدعمون الواقعية العلمية ]...[" ،فمن ألنه كما
ّ
مفصل ."544يمكننا أجل تكوين بديل جدي ،ال ّبد من بسط أنطولوجيا للـ «كما لو» بشكل
تجنب بصعوبة التخلي عن لوحة من الحاالت والظروف التي يقدم فيها البحثبالتالي أن ن ّ
ً ً
العلمي أسبابا براغماتية جيدة لالعتقاد بنظام كينونات نظرية .ولن يكون مهما ،مع ش يء
ً
من التحفظ وفقا للتوجه نفسه الذي يهدف وفقه مثل هذا التمثيل إلى دعمه ،أن ننسب
ً
له زيادة سوى وظيفة إرشادية أو عالجية (فلسفيا).
وهاكم مثال على ذلك .لدينا أسباب براغماتية جيدة لالعتقاد بمنظومة كينونات،
دون أن تكون االنعكاس الوفي لواقع مسبق التشكل ،إذا كانت هذه النظومة تتوصل إلى
إسقاط مناطق االستقرار (أو الالتغير) في الكثير من العقد الرجعية ،هذه الناطق التي
ً
يفترضها مسبقا نشاط استكشافي منظم وفعال .تتميز مثل هذه الطريقة في اإلسقاط بأنها
ً َّ
والعززة بإجراءات تأكيد تجريبية ،بأن تصبح أجساما تسمح لناطق الالتغير التوقعة،
ذات توافق بين ذاتي .ال يتعلق األمر هنا بأن نتجاهل أن انبثاق مناطق استقرار يمكن أن
ً
يتعلق بماذا يطبق النشاط االستكشافي .فهذا النشاط يجب أن يتعلق أيضا مع ذلك،
ً
ويتصل اتصاال ال انفصام فيه ،بطبيعة هذا النشاط؛ وهو يرتبط أيضا بعمل طريقة
االتصال بين الجربين ،طالا أنه من الصحيح أن تمييز ّ
وتفرد أجزاء مستقرة على خلفية
544
H. De Regt, Representing the world by scientific theories, Tilburg University Press, 1994.
331
ً
من الالإستقرارية من خالل إشارات ذات وظيفة مرجعية أمر ليس قابال للتصور بصورة
ّ
مجردة ،in abstractoدون اعتبار للقيود الفروضة بواسطة مجتمع التحدثين القابلين
الستخدام هذه اإلشارات .ولكن ضمن القدر نفسه لهذا االرتباط الزدوج ،ولسمته غير
القابلة للفصل ،فإن اإلجراء التشفيري الثنائي الستخدم من أجل عرضه ("بماذا"
ً ً ونشاطّ ،
معرفان مسبقا حسب الظاهر) يصبح مشكوكا فيه .يجب بالتالي محاولة صياغة
ً
أخرى .فإذا كانت منظومة من الكينونات النظرية تترجم شيئا ما ،فهو ليس "الواقع -
ً
الحقيقة" كلي الحضور (الحاضر كثيرا ،وفق استعارة القرب العمي) بقدر ما هو نمطه
َّ
الحالي في التقسيم إلى أداة استكشاف وتحري ،وإلى مجال معلم للبحث والتقص ي؛ فهو
ليس "الواقع" بمجمله بقدر ما هو الحالة الحاضرة للقطبية الحاملة للمعنى التي تتأسس
فيها بين هذا الذي إنما نعرف مقدرة االعتماد عليه (مجموعة دنيا من االفتراضات
السبقة التي تتعلق باألدوات واالتصال) وموضوع السؤال (هدف البحث) .ووفق هذا
التصور ،فإن شبكة الصطلحات الرتبطة بالكينونات النظرية ال تهدف إلى الداللة على
ً
مجموعة من األجسام أو األشياء العطاة مسبقا وعلى التنبؤ بخصائصها ،بل على التعبير،
ً
بعبارات توافق فيما يخص شيئا ما ،مرحلة من الصيرورات الديناميكية الشاركة في
تحقيق االستقرار لإلجراءات العلمياتية للتجريب ،وللظاهرات التي تحرضها والنظريات
التي تقودها.
إن العرض السابق ألسباب االعتقاد بمنظومة من الكينونات ،التبادلية بالنسبة
للتمثيل الشترك لتوافق ما ،يشتمل على نسخة إبستمولوجية للـ "منعطف البراغماتي"
للفلسفة العاصرة للغة؛ "منعطف" يشتمل على التشكيك بأولوية وتفوق الداللية
sémantiqueالرجعية ،وذلك بإدراجها في اإلطار ّ
األعم لعايير التحقق من صحة أعمال
ً ً الخطاب .545إن هذا التمثيل نفسه ّ
يمد إلى علوم الطبيعة نمطا ديناميكيا من التمييز،
ً
كان معروفا منذ زمن بعيد في العلوم التاريخية ،بين موضوع (أو هدف) التقص ي والوسط
545راجع K. O. Apel, Le Logos propre au langage humain, Edition de l'Eclat, 1994.
332
الذي فيه وبواسطته إنما يتم هذا البحث .وكما كتب غادامر " ،H. G. Gadamerليس إال
ّ
من خالل تحريض اإلشكالية إنما توصل كل من موضوع وهدف البحث إلى التشكل.
فالبحث التاريخي محمول بالتالي بواسطة الحركة التاريخية التي تشمل الحياة نفسها
ً
والتي ال يمكن االستحواذ عليها انطالقا من الوضوع الذي يتوجه له البحث ."546إن إعادة
صياغة مقبولة لهذه العبارة لغادامر بالنسبة لعلوم الطبيعة تأتي على النحو التالي" :ليس
الحدد بواسطة نظرية ما إنما يصل كل من موضوع وهدف َّ إال عبر التوجيه العملياتي
البحث ألن يصبحا مقيدين .فعلوم الطبيعة محمولة بالتالي بواسطة حركة تاريخية من
التحديدات الشتركة للنظريات والعقليات العملياتية للتجريب ،وهي ال يمكن بالتالي أن
ً
انطالقا من الوضوع الذي ّ ً
يتوجه له البحث" .وكما أن "الحاضر ومنافعه تستحوذ الهوتيا
الخاصة "547يساهم بطريقة حاسمة في تشكيل موضوع العلوم اإلنسانية ،فإننا نميل إلى
القول إن الشكل الحالي لالنشقاق بين التقنية األداتية الدمجة في أشكال حياة األفراد -
مؤسس لنظومة الستكشفين والجال القابل الستكشاف هذه التقنية هو انشقاق ّ
أجسام ومواضيع العلوم الفيزيائية .هكذا أفهم عبارة ويتغنشتاين القتبسة في مطلع هذه
الخاتمة " :قل لي كيف تبحث ،وسوف أخبرك بما تبحث عنه" .من الثير لالهتمام أن
نالحظ أن العزوف الذي واجه به في الاض ي كثير من الختصين في العلوم اإلنسانية
االعتراف بمثل هذه القرابة بين مناهجهم وعلوم الطبيعة يعود إلى اعتقادهم الثابت
(وشبه السائد) بتالق متقارب لعلوم الطبيعة باتجاه البنية العقول تشكلها بشكل مسبق
للواقع .لم يستبعد غادامر نفسه محاولة تطبيق نموذجه في تشكيل موضوع العلوم
التاريخية على علوم الطبيعة إال باسم رؤية "متالقية ومتقاربة" لهذه األخيرة" :إن هوية
موضوع البحث والتقص ي العمول به في العلوم اإلنسانية ليس بالتأكيد الوضوع الذي
يجب اعتماده في العنى نفسه في علوم الطبيعة ،حيث يدخل البحث إلى طبعيته بشكل
548الرجع السابق.
334
عليه فيما بعد أن يأخذ على عاتقه الفجوات التي تتركها الوضوعانية عند كل مرحلة من
مراحلها بإعادة إدخال مركبات تشاركية في تقريره .إن االختالف الوحيد الذي يظهر حول
هذه النقطة بين العلوم اإلنسانية والعلوم الطبيعية هو أن هذه األخيرة استطاعت
تحديد قطاع من السافات الفاصلة الوضوعانية الستقرة كفاية والواسعة كفاية
(بشكل خاص قطاع الفيزياء الكالسيكية) لكي تستطيع طرح سؤال عدم كمالها بين
قوسين عبر عدة قرون .إن النقاش حول اليكانيك الكمومي يمكن أن تتم قراءته ضمن
كتجل لعودة هذا الكبوت العرفي (راجع الفقرة .)2 - 1
ٍ هذا النظور
لنتناول اآلن الجانب اإليجابي من تصور ومفهوم تاريخ علوم الطبيعة الذي تم الدفاع
عنه هنا.
كنا حتى اآلن قد نوهنا بشكل خاص وبطريقة متجددة عن الخطأ الذي يشتمل على
الخلط بين التركيز باتجاه قطب -موضوع التحديدات التعلقة بصف معين من األدوات
التكنولوجية ،التدرجة والحسية ،مع التالقي عبر -النماذجي وعبر -األداتي للمعارف
ّ
الوضع للمعرفة وجدا العلمية باتجاه مطلق ما .إن الوسط (العمي من القرب) والهدف
نفسيهما منفصلين بشكل ال يمكن إصالحه أكثر من أي وقت مض ى .مع ذلك ،إذا قبلنا أن
النظريات العلمية التالحقة ،ليس فقط ال تمثل في لحظة معطاة الوسط الحقيقي الذي
ً
(بدال باألحرى من الذي عليه) َّ
يطبق النشاط التجريبي ،بل وال تتالقى حتى باتجاه فيه
ً
بنيتها السبقة الزعومة؛ فإذا ما "[ ]...أصبحنا واعين تماما ،عبر مماثلة عميقة للثورة
الكانطية ،لغرور األمل الساذج بأن الفكر اإلنساني سيستطيع ،بشكل مقارب ،عبر
تقريبات متتالية ،االقتراب من معرفة "مطلقة" للواقع «كما هو بذاته» ،"549عندها يحق
لنا أن نتساءل حول الغزى الذي ال يزال بإمكاننا نسبه لـ "تقدم العلوم".
ربما تكمن الصعوبة ليس في واقع أن هذه العبارة ،الستهلكة عبر التعسف الوضعي،
قد أفرغت في نهاية الطاف من كامل معناها ،بل باألحرى في تضاعف وفي سمة الصراع
M. Mugur-Schachter, "Space-time quantum probabilities II: Relativized descriptions and 549
popperian propensities", Foundations of physics, 22, p. 235-312, 1992.
335
الكمونية لهذه العاني القبولة .فلهذه العبارة في البداية معنى عددي وقياس ي ،هو بال شك
العنى الوحيد الذي يستطيع االضطالع بشكل شرعي بفكرة نهج مقارب :إن تقييمات
الثوابت والعامالت التي تدخل في توقع آثار النشاطات العملياتية البشرية تتالقى باتجاه
ّ
دقة قصوى (تخضع عند االقتضاء لتحديدات مبدئية) .وللعبارة من ثم داللة إضافية في
التوسع غير الحدد :فلنا الحق في التأكيد بأن النظريات العلمية لها مجال تطبيق يتقاطع
مع كل من ثوراتها ،حتى وإن كنا ال نستطيع أن نحدد إال بعد ذلك ماذا كانت الحدود
ً
والعوائق السابقة .وأخيرا ،وربما على األخص ،فإن عبارة "التقدم العلمي" تعيدنا إلى
القدرة التوحيدية التنامية للنظريات ،ولقدرتها على اشتقاق تنوع كبير من التنبؤات
ً
التجريبية انطالقا من عدد قليل من البديهيات والفاهيم الرتبطة بها والقيم التجريبية
من الثوابت الكونية .وهي تشير ،في هذه الحالة ،إلى فعالية متزايدة في مجال إدارة
"التعقيد الخوارزمي" ،أي إلى انخفاض في الطول األدنى من الخوارزميات القابلة إلعادة
الوسع مع ذلك للعمليات التجريبية .إن الشكلة ،الكامنة في َّ إنتاج نتائج الصف
التمييزات السابقة ،هي للوهلة األولى أن هذه التعابير الختلفة لـ "تقدم للعلوم" ليست
ً
متوافقة بالضرورة في كل مكان ودائما .ما هي الضمانة التي لدينا بأن اختزال طول
الخوارزميات النتجة هو في كل الحاالت قابل للتوافق مع االهتمام بدقة وكمال
متزايدين؟ كيف نستطيع أن نكون متيقنين من أن جدلية التخصص والتوحيد النظري،
ً
التوازنة حتى اآلن ،لن تصادف يوما ما عقبة ستؤدي إلى تشتت نهائي لحقول الصالحية؟
إن مثل هذه الشكوك ،التي رعاها تفجر موضوع "تقدم العلوم" ،تجازف بأن تعاش
كشكوك من الصعب قبولها من قبل معظم الذين عملوا في الشروع العلمي .إن الحجة
بكشف يتم في
ٍ القصوى للواقعية هي كما نعلم من رتبة تحفيزية ،بل وأخالقية .إن األمل
نهاية البحث هو ما يكمن وراء جدية االلتزام األنطولوجي للباحثين فيما يخص كينوناتهم
النظرية .والصرامة التي يتطلبها التفحص النقدي او النقاش الجماعي للنتائج التجريبية
تظهر في االعتقاد بهدف للبحث التجاوز للحاجات الوحيدة للزمن الحاضر؛ اعتقاد له
336
باإلضافة إلى ذلك ميزة أن يقدم بالقابل الشعور بضمانة رؤية اندغام بعد فترة طالت أم
ّ
قصرت الركبات الثالثة من الدقة والتوسع والتوحيد لـ "تقدم العلوم" ،كما سبق أن
اندمجت في بعض األحيان بطريقة مدهشة في الاض ي .وفي الواقع ،فإن الخطابات
ً
والتطبيقات التي يتألف منها النشاط العلمي تعمل دائما ضمن أفق مشروع يتجاوزها .إن
ً ً ّ
الشروع يشكل عملياتها ،ولن نستطيع عزله عنها دون أن تتأثر فعاليتها تأثرا كبيرا .وبسبب
ذلك ،هنالك خشية منتشرة أنه دون الثال الناظم المنوح لها من خالل تمثيل مصادرة
ّ
معرفية نهائية ،فإن خيارات وسلوك الجتمع العلمي ينحط في هذه "[ ]...التجريبية
ّ ّ
الجردة من أي معنى "550ومن أي مستقبل والتي كان أينشتين قد حذر منها.
مع ذلك ،فإن هذه الطريقة نفسها في عرض األمور تحمل في ذاتها بذرة التناقض.
أفال يكفي التفكير أن الهدف التجاوزي ليس له أي تبرير سوى وظيفته التحفيزية من
أجل نزع قوته الحفزة؟ أليس من األساس ي لقوة التحفيز أنها ال تدرك فقط كتحفيز؟ ومع
إرادتنا الجمع بين التحفيز والبصيرة ،أال نحكم على أنفسنا بحالة فصام جمعي يكون من
السموح لبعضهم فيها (العلماء) أن يحافظوا على معتقدات هي بمثابة خط األفق
بالنسبة لهم ،في حين أن آخرين (الفالسفة) تكون مهمتهم البرهان على ابتذالها وتحديد
مزاعم العرفة بالتأصل البحت لنشاط أداتي وتمهيدي؟ هل يجب عندها ،من أجل دمج
البصيرة مع التحفيز في الشخص الوحيد للباحث العلمي ،تعديل مجرى تأهيله بالتركيز
أكثر فأكثر على البراعة والسيطرة على مجموعة من خيارات الفعل ذات االمتداد التزايد،
وأقل فأقل على التبرير الفترض لهذه الخيارات من خالل االستحواذ النهائي على تشكل
الوضوعات؛ أكثر فأكثر مباشرة على األخالق والسياسة ،وأقل فأقل على البدائل
اليتافيزيائية للسلوك األخالقي -السياس ي؟
550من رسالة إلى سولوفين Lettre à Solovineبتاريخ 0كانون الثاني ،0960ذكرها فاين فيA. Fine, The :
shaky game, The University of Chicago Press, 1986, p. 110.
337
ً االقتراح جدير باالستماع له ،إذ يكفي أنه ّ
يعبر عن وضوح لن نستطيع قريبا تجاوزه
ً ً
في سلوك الشروع االجتماعي؛ بل يمض ي هذا االقتراح بال أدنى شك بعيدا جدا في
تشاؤمه الفترض .ألنه ،حتى لو افترضنا أننا تخلينا عن هدف تجاوزي ،فقد رأينا في
ً
القطع 0 - 1أنه من المكن أن نعزو لعبارة "تقدم العلوم" معنى آخر مختلف تماما عن
ً
معنى انفجار احتماالت التصرف الفعال ،أكان متناسبا أم ال مع توحيد شكلي واصطالحي
ً
متزايد .فإذا لم تكن العلوم قادرة على تعليمنا شيئا فيما يخص الوسط الحقيقي /
الواقعي الذي يتم فيه النشاط التجريبي ،بل فقط أن تربط الصالت الجديدة الناشئة
عن هذا النشاط فيما بينها ،وإذا كان تحسين منظومات العالقات التي عليها إنما تحمل
هذه العلوم لم تؤخذ كمقاربة للمطلق ،وإذا كان إجراء "الوضعانية" الذي تمارسه ال
يجب بأي ثمن كان أن يخلط مع مصادرة موضوع كان قد سبق تطبيقه ،فإنها ال تحمل
بدرجة أقل قدرة هائلة من التوضيح االنعكاس ي .إن توسع وتعميم قدرات االستكشاف
التي على النظريات الفيزيائية أخذها بعين االعتبار تجبر على شرح شروط مسبقة أولية
للبحث كانت تعتبر حتى اآلن واضحة بما هي جزء من خبرة عملية البحث .إن هذا
االقتراح يقود إلى إصالح تدريجي للمنسيات الكبرى في الخلفية العرفية واإلدراكية ،والتي
كانت قد سهلتها تكرارات الحياة اليومية وضرورات التماسك االجتماعي ،ضمن إطار من
حرية التقص ي أكثر محدودية بكثير من الذي يسود في أيامنا هذه .إن إثبات وجود توتر أو
ّ
شد في العلوم الفيزيائية باتجاه القاسم الشترك البنيوي األصغر للمفترضات السبقة التي
تكمن وراء العمليات التجريبية وتوقع نتائجها يسمح بالقابل بتفسير النجاحات السابقة
ً
الشتركة مع عمليات التوحيد النظري والدراسات الختصة .وهو يعطي معنى أيضا
للمحافظة على الثقة في التوازن الستقبلي للجدلية بين التخصصية والتوسع والتوحيد،
ً ً
أبدا إلى فكرة تناغم َّ
مؤسس مسبقا بين شكل الحقيقي وقدرة التأليف لدى دون اللجوء
الفهم اإلنساني.
338
ً َّ
وهكذا ،حتى إذا لم تتالق العلوم باتجاه إشكالية بنية مشكلة مسبقا لواقع مستقل،
فإنها تبرز بنى يمكن لتحليل "ميتا عبر مناهجي" (وفق العنى الذي يشير له غرانجر ،راجع
القطع )6-0أن يتعرف عليها على أنها بنى العقالنيات الكبيرة اإلجرائية التي تكمن وراء
مشروعها .وحتى إذا لم تمل أو تتجه باتجاه ما كانت تعتقد أنها غاياتها الوضعانية ،فإنها
تقود بصرامة الفكر الفلسفي باتجاه الكشف عن أصولها األدائية .وضمن هذه
ً الصيرورة ،فإنه ال تطرح في أية لحظة مسألة أن َّ
تعد العلوم نفسها موضوعا للعلم؛ فهي
تحافظ على موضوعاتها النوعية .غير أنه يحصل أن هذه األخيرة تخدم كمساحات
َّ
"عاكسة" تساعد بشكل غير مباشر على تمييز الطبقات التراكبة لخلفيتها الشكلة لها.
هكذا ،يلقى ضوء جديد غير مسبوق على الجدل حول الواقعية العلمية ،مما يقود
إلى عودة ساخرة للتفضيل الذي أعطي في السابق لشكل من الالواقعية النهجية
والعالجية .وهذا ليس إال ألن عالجية ما ال يجب أن ت َ
تابع إلى ما بعد الدة الضرورية
للحصول على أثرها الطلوب .فأن نؤكد ،في إطار فكر العقالني ،أن علوم الطبيعة هي
نشاط بشري بين نشاطات أخرى وأن األمل بتحقيق "اكتشاف" مواضيع مجهولة ليس له
وظيفة سوى تشكيل سراب يحث الباحثين على التقدم في صياغة بنى جديدة ذات
وظيفة كشفية وتطبيقية ،أمر يعود إلى ّ
تبصر اليتافيزياء وإلى عالج اليوتوبيات .غير أن
ذلك يعود في الوقت نفسه إلى إصدار حكم ذي قيمة سلبية على مواضيع البحث
والتقص ي قابل ألن يردع عملية جمع الغنى االنعكاس ي الحتمل منها .إن الواضيع الشار
ً
إليها بواسطة نظرية ما يمكن أن تتطابق تماما مع إسقاطات لعمليات التشكيل الشترك
لشبكة متساوقة من التطبيقات والقاومات بقدر ما ّ
تحرض منها .فإذا كان اإلسقاط قد
تم تنفيذه بشكل صحيح ،فإنه ال يحمل نسبة أقل من العلومات الثمينة حول ما تم
إسقاطه .فعدم االنتباه لواضيع نظرية بحجة أنها ليست سوى إسقاطات يؤدي بالتالي إلى
ّ
إهمال مصدر ثمين للمعلومات وربما وحيد حول النشاط الشكل الذي كنا مع ذلك قد
ً
عبثا بالتالي شجب نقص ّ
تبصر زميله قبلنا أوليته وأسبقيته .فالباحث الالواقعي يحاول
339
ً
الواقعي فيما يخص طبيعة مواضيعه ،فهو يقدم له خدمة سيئة ،ليس فقط مهنيا بل
ّ ً
وأيضا فلسفيا ،بمحاولة جعله يقبل بأن جهده إنما هو لهذا السبب غير معلل .وعلى
العكس ،فإن موقف الواقعية العلمية يتميز بأفضلية أنها تدعو ،حتى لو كان الثمن
سذاجة أنطولوجية ،إلى موقف أخذ البنى الكاشفة للنظريات العلمية على محمل الجد.
ً
فالباحث الواقعي عبثا يفضح عدم قدرته على تجنب "الوهم التجاوزي" عندما يأخذ ما
ينحو باتجاهه بشكل حرفي ،فهو محق في التمسك بأن جهده ليس سدى .إن اليل باتجاه
الكشف عن شروط العمل اإلنساني في التحويل وفي األهلية الرمزية في قلب مسكنه غير
ً ال ّ
ؤهل ،بدفع هذا العمل حتى تخومه الخاصة ،هو ميل ال يعني شيئا.
ً
يستطيع الباحث الواقعي دائما ،حتى إذا كان مشروعه البدئي في الكشف وفي
َّ
التصور) ،أن يعتمد على أنه قاد الحاكاة يتبدى بال موضوع (بالعنى الخاص كما وبالعنى
ً
العلوم حتى مستوى إتمام اإلنجاز حيث يصبح توضيحها الذاتي أمرا ال مفر منه وسهال في
آن واحد .وإذا كنا نلومه لالنعطاف الكبير الذي قاد تاريخ الفكر إليه لكي يصل إلى هنا،
ً
فإنه ال تزال لديه الصادر لإللاع إلى أن التوضيح الذاتي يشكل جزءا من هذه الحاالت
التي "[ ]...يبدو أن من خاصيتها عدم القدرة على التحقق إال بما هي آثار جانبية من
األفعال التي يتم القيام بها لغايات أخرى [ ]...ألن واقع [أن نحاول الوصول إليها] هو
نفسه يمنع النجاح ."551وبما أن التوضيح الذاتي للصيرورة اإلبستمولوجية هو على
األرجح أحد هذه "اآلثار الثانوية بشكل أساس ي" التي يتحدث عنها جون إلستر ،Jon Elster
بتحوله ّ
جنبنا أن نريد فقد كنا بحاجة في الواقع إلى هدف أولي ،الهدف الواقعي ،الذي ّ
ً
منذ فترة مبكرة جدا ما لم نكن نستطيع الحصول عليه بطريقة مضمونة بشكل جمعي
ً
إال في نهاية صيرورة طويلة ومعقدة .كتب إلستر أيضا :إن اآلثار الثانوية بشكل أساس ي
"[ ]...تجعلنا ننضج بموجب ما نحن عليه وليس بموجب ما نقوم به ونفعله ."552وهو يريد
341
342
BIBLIOGRAPHIE
Aharonov Y., Anandan J., & Vaidman L., «Meaning of the wave function», Physical Review, A47,
p. 4616-4626, 1993.
Apel K.O., Le logos propre au langage humain, Éditions de l'Éclat, 1994.
Baker G.P. & Hacker P.M.S., An analytical commentary on the Philosophical Investigations
(volume 1), B. Blackwell, 1980.
Baldwin J.M., «Organic selection», Nature, 55, 558, 1897.
Barrow J.D. & Tipler F.J., The anthropic cosmological principle, Oxford University Press, 1986.
Bell J.S., Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987.
Ben-Dov Y., «Everett's theory and the "many-worlds" interpretation», Am. J. Phys., 58. p. 829-
832, 1990.
Bertola F. & Curi U. (eds.). The anthropic principle, Cambridge University Press. 1993.
Birkhoff G. & Neumann J. von, «The logic of quantum mechanics », Annals of mathematics. 37,
p. 823-843, 1936.
Bitbol M., «Comment une épistémologie formelle est-elle possible?», Revue internationale de
systémique, 5, p. 509-524, 1996.
Bitbol M., Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997.
Bitbol M., Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston studies in the philosophy of
science, Kluwer, 1996.
Bitbol M. & Laugier S. (éd.), Physique et réalité ; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-
Diderot, 1997.
Bitbol M., «Les lois de la nature, contingence ou nécessité», Cahiers de philosophie ancienne et
du langage, 1998, à paraître.
Bitbol M., «Some steps towards a transcendental deduction of quantum mechanics»,
Philosophia naturalis, 1998, à paraître.
Blackburn S., Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993.
Bohm D., The special theory of relativity, Addison-Wesley, 1989.
Bohm D. & Hiley B.J., The undivided universe, Routledge, 1993.
Bohr N., Essays 1958-1962 on atomic physics and human knowledge, Ox Bow Press, 1987.
Bohr N., Physique atomique et connaissance humaine, Gallimard, 1991.
Bohr N., La théorie atomique et la description des phénomènes, J. Gabay, 1993.
Bouveresse J., La force de la règle, Minuit, 1987.,
Bouveresse J., Herméneutique et linguistique, Editions de l'Éclat, 1991.
Bouveresse J., «Le problème de la longueur du mètre», in J. Sebestik et A. Soulez, Wittgenstein
et la philosophie d'aujourd'hui, Klincksieck, 1992.
Bouveresse J., L'homme probable : Robert Musil, le hasard, la moyenne et l'escargot de
l'histoire, Éditions de l'Éclat, 1993.
Boyd R., «Realism, under determination, and a causal theory of evidence», Noûs, 7, p. 1-12,
1973.
Brown H.R. & Harré R., Philosophical foundations of quantum field theory, Oxford University
Press, 1988.
Brown H.R., Dewdney C. & Horton G., «Bohm particles and their detection in the light of
neutron interferometry», Foundations of physics, 25, p. 329-345, 1995.
Carnap R., Meaning and necessity, The University of Chicago Press, 1956; trad. fr. Signification
et nécessité, P.U.F., 1997.
Cartwright N., Nature's capacities and their measurement, Oxford University Press, 1989.
Cassirer E., Determinism and indeterminism in modern physics, Yale University Press, 1956.
343
Cassirer E., La philosophie des lumières, Agora-Fayard, 1966.
Castarieda H.N., Thinking, language and experience, University of Minnesota Press, 1989.
Chomsky N., Knowledge of language, Praeger, 1986.
Clark P. & Hale B. (eds.), Reading Putnam, Basil Blackwell, 1994.
Cohen-Tannoudji C., Diu B. & Laloé F., Mécanique quantique I, Hermann, 1973.
Cohen-Tannoudji G. & Spiro M., La matière espace-temps, Gallimard, 1986.
Combès J., Études néoplatoniciennes, Jérôme Millon, 1989.
Cues (N. de), La docte ignorance, P.U.F, 1930.
Dahan-Dalmedico A., Chabert J.-L. & Chemla K. (éd.), Chaos et déterminisme, Seuil, 1992.
Dalla Chiara M.L. & Toraldo di Francia G., «Individuals, kinds and names in physics», in G. Corsi
et al. (eds.), Bridging the gap : philosophy, mathematics and physics, Kluwer, 1993.
Damascius, Des premiers principes, Verdier, 1987.
Darrigol O., From c-numbers to q-numbers, The University of California Press, 1992.
Davies P.C.W., « Particles do not exist », in S.M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity,
A. Hilger, 1984.
Davis M., « A relativity principle in quantum mechanics », International Journal of Theoretical
Physics, 16, p. 867-874, 1977.
Demaret J. & Lambert D., Le principe anthropique, Armand Colin, 1994.
Dennett D. C., Consciousness explained, Penguin, 1991.
De Regt H., Representing the world by scientific theolies, Tilburg University Press, 1994.
Derksen A.A. (ed.), The scientific realism of Rom Harré, Tilburg University Press, 1994.
Destouches-Février P., La structure des théories physiques, P.U.F., 1951.
Deutsch D., «Quantum theory as a universal physical theory», International Journal of
Theoretical physics, 24, p. 1-41, 1985.
Deutsch D., The fabric of reality, Viking Penguin, 1997.
De Witt B.S. & Graham N. (eds.), The many-worlds interpretation of quantum mechanics,
Princeton University Press, 1973.
Diamond C., The realistic spirit, MIT Press, 1991.
Dickson M., «An empirical reply to empiricism : protective measurement opens the door for
quantum realism», Philosophy of science, 62, p. 122-140, 1995.
Diu B., Les atomes existent-ils vraiment ?, Odile Jacob, 1997.
Dugas R., La théorie physique au sens de Boltzmann, Le Griffon, 1959.
Duhem P., La théorie physique, Vrin, 1989.
Dummett M., Truth and other enigmas, Duckworth, 1978.
Einstein A. & Born M., Correspondance 1916-1955, Seuil, 1972.
Elster J., Le laboureur et ses enfants, Minuit, 1986.
Engel P., Davidson et la philosophie du langage, P.U.F., 1994.
Engel P., Philosophie et psychologie, Folio-Gallimard, 1996.
Espagnat B. d' & Klein E., Regards sur la matière, Fayard, 1993.
Espagnat B. d', Le réel voilé, Fayard, 1994.
Falkenburg B., Teilchenmetaphysik, Sprektrum Verlag, 1995.
Falkenburg B., «The concept of spatial structure in micro-physics», Philosophia naturalis, 30, p.
208-228, 1993.
Fann K.T., Peirce's theory of abduction, Martinus Nijhoff, 1970.
Faye J., Niels Bohr : his heritage and legacy, Kluwer, 1991.
Feigl H. & Maxwell G. (eds.), Minnesota studies in the history of science V, University of
Minnesota Press, 1970.
Feyerabend P.K., Realism, rationalism, & scientific method, I, Cambridge University Press, 1981.
344
Feyerabend P.K., Adieu la raison, Seuil, 1989.
Fine A., The shaky game, The University of Chicago Press, 1986.
Folse H., The philosophy of Nils Bohr. The framework of complementarity, North Holland, 1985.
Foucault M., L'archéologie du savoir, Gallimard, 1969.
Gadamer H.G., Vérité et méthode, Seuil, 1976.
Garfield J.L., The fundamental wisdom of the middle way, Oxford University Press, 1995.
Gell-Mann M. & Hartle J.B., «Classical equations for quan-tum systems», Physical Review, D47,
p. 3345-3382, 1993.
Goodman N., Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1984.
Gould S.J., La vie est belle, Seuil, 1991.
Granger G.-G., Formes, opérations, objets, Vrin, 1994.
Griffiths R.G., «Consistent histories and the interpretation of quantum mechanics», J. Stat.
Phys., 36, p. 219-272, 1984.
Griffiths R.G., «Correlations in separated quantum systems : a consistent history analysis of the
EPR problem», Am. j. Phys., 55, p. 11-17, 1987.
Habermas J., Connaissance et intérêt, Gallimard, 1976.
Habermas J., La pensée postmétaphysique, A. Colin, 1993.
Hacking I., Concevoir et expérimenter, Christian Bourgois, 1989.
Haroche S., Raimond J.-M. & Brune M., «Le chat de Schrodinger se prête à l'expérience», La
Recherche no 301, p. 50-56, 1997.
Harré R., Varieties of realism, Basil Blackwell, 1986.
Harthong J., Probabilités et statistiques, Frontières-Diderot, 1996.
Heisenberg W., «Quantenmechanik», Die Naturwissenschaften, 14, p. 989-995, 1926.
Heisenberg W., Physique et philosophie, Albin Michel, 1971.
Heisenberg W., La partie et le tout, Albin Michel, 1972.
Heisenberg W., Les principes physiques de la théorie des quanta, Gauthier-Villars, 1972.
Heisenberg W., Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979.
Hempel C., Éléments d'épistémologie, Armand Colin, 1972.
Hermann G., Les fondements philosophiques de la mécanique quantique (1935), trad. fr.,
introduction et postface par L. Soler, Vrin, 1996.
Hofstadter D.R., Dennett D.C., The Mind's I, Basic books, 1981.
Holton G., L'imagination scientifique, Gallimard, 1981.
Hoyningen-Huene P., Reconstructing scientific revolutions, The University of Chicago Press,
1993.
Jullien F., Un sage est sans idée, Seuil, 1998.
Kant E., Prolégomènes à toute métaphysique future, Vrin, 1968.
Kant E., Critique de la raison pure, trad. Tremesaygues et Pacaud, P.U.F, 1944.
Kant E., Premiers principes métaphysiques de la science de la nature, Vrin, 1990.
Kochen S. & Specker E. P., «The problem of hidden variables in quantum mechanics», journal of
mathematics and mechanics, 17, p. 59-87, 1967.
Koyré A., Études d'histoire de la pensée scientifique, Gallimard, 1973.
Kretzmann N., «Omniscience and immutability», The journal of philosophy, 63, p. 409-421,
1966.
Kripke S., Naming and necessity, Basil Blackwell, 1980.
Kripke S., Wittgenstein on rides and private language, Basil Blackwell, 1982.
Kuhn T., La structure des révolutions scientifiques, Flammarion, 1972.
Kuhn T., «Logic of discovery or psychology of research ?», in I. Lakatos & A. Musgrave (eds.),
Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University Press, 1970.
345
Lakatos I. & Musgrave A. (eds.), Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University
Press, 1970.
Lakatos I., The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press,
1978.
Lambert D., Recherches sur la structure et l'efficacité des interactions récentes entre
mathématiques et physique, Thèse de doctorat, Université de Louvain-la-Neuve, 1995.
Laplace P.-S., Essai philosophique sur les probabilités, Courcier, 1814.
Laudan L., Progress and its problems, University of California Press, 1977.
Laudan L., «A confutation of convergent realism», Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981.
Laudan L., Science and values, University of California Press, 1984.
Laudan L., Beyond positivism and relativism, Westview Press, 1996.
Leplin J. (ed.), Scientific realism, University of California Press, 1984.
Locke J., An essay concerning human understanding, Oxford University Press, 1975.
Logue J., Projective probability, Oxford University Press, 1995.
Mach E., Analysis of sensations, Dover, 1959; trad. fr. L'analyse des sensations, Jacqueline
Chambon, 1996.
Mac Mullin E., «The history and philosophy of science : a taxonomy», in H. Feigl & G. Maxwell
(eds.), Minnesota studies in the history of science V, University of Minnesota Press, 1970.
Merleau-Ponty M., Phénoménologie de la perception, Gallimard, 1945.
Merleau-Ponty M., Le visible et l'invisible, Gallimard, 1964.
Merleau-Ponty M., L'oeil et l'esprit, Gallimard, 1964.
Mittelstaedt P., Philosophical problems of modern physics, Reidel, 1976.
Mon N.F. & Massey H.S., The theory of atomic collisions, Oxford University Press, 1965.
Mugur-Schâchter M., Étude du caractère complet de la théorie quantique, Gauthier-Villars,
1964.
Mugur-Schâchter M., «Spacetime quantum probabilities II : relativized descriptions and
popperian propensities», Foundations of physics, 22, p. 235-312, 1992.
Muller F.A., «The equivalence myth of quantum mechanics», Studies in the history and
philosophy of modern physics, 28B, p. 35-62, 1997.
Neumann J. von, Les fondements mathématiques de la mécanique quantique, J. Gabay, 1988.
Newton-Smith W.H., The rationality of science, Roudedge, 1981.
Nietzsche F., La volonté de puissance I, Gallimard, 1995.
Omnès R., The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994.
Ortega y Gasset J., Œuvres complètes I, Klincksieck, 1988.
Paz J.P. & Zurek W.H., «Environment-induced decoherence, classicality, and consistency of
quantum histories», Physical Review, D48, p. 2728-2737, 1993.
Peirce C.S., Selected writings, Dover, 1958.
Penrose R., The emperor's new mind, Oxford University Press, 1989.
Perrin J., Les atomes, Flammarion, 1993.
Petitot J., «Objectivité faible et philosophie transcendantale», in M. Bitbol & S. Laugier (eds.),
Physique et réalité ; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.
Piaget J., La construction du réel chez l'enfant, Delachaux et Niestlé, 1967.
Piaget J., Le comportement, moteur de l'évolution, Gallimard, 1976.
Pickering A., The Mangle of practice, The University of Chicago Press, 1995.
Popper K., La logique de la découverte scientifique, Payot, 1973.
Popper K., Objective knowledge, Oxford University Press, 1972.
Popper K., La quête inachevée, Calmann-Lévy, 1981.
Popper K., Un univers de propensions, Éditions de l'Éclat, 1992.
346
Popper K., La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996.
Pullman B., Les atomes, Fayard, 1995.
Putnam H., Mathematics, Matter and Method, Cambridge University Press, 1975.
Putnam H., Meaning and the moral sciences, Routledge & Kegan Paul, 1978.
Putnam H., Raison, vérité et histoire, Minuit, 1984.
Putnam H., The many faces of realism, Open Court, 1987.
Putnam H., Définitions, Éditions de l'Éclat, 1992.
Putnam H., Realism with a human face, Harvard University Press, 1990 ; trad. fr., Le réalisme à
visage humain, Seuil, 1993.
Pyles A., Atomism and its critics, Thoemmes Press, 1995.
Quine W.V., The roots of reference, Open Court, 1990.
Raimond J.-M., Brune M. & Haroche S., «Reversible decoherence of a mesoscopic
superpositions of field states», Phys. Rev. Lett., 79, p. 1964-1967, 1997.
Récanati F., La transparence et l'énonciation, Seuil, 1979.
Redhead M. & Teller P., «Particle labels and the theory of indistinguishable particles in
quantum mechanics», Brit. J. Phil. Sci., 43, p. 201-218, 1992.
Redhead M., From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995.
Redondi P., Galilée hérétique, Gallimard, 1985.
Reichenbach H., Philosophic foundations of quantum mechanics, University of California Press,
1946.
Rorty R., L'homme spéculaire, Seuil, 1990.
Saunders S. & Brown H. (eds.), The philosophy of vacuum, Oxford University Press, 1991.
Saunders S., «Time and quantum mechanics», in M. Bitbol & E. Ruhnau (eds.), Now, time and
quantum mechanics, Frontières-Diderot, 1994.
Schmitz F., La philosophie des mathématiques de Wittgenstein, P.U.F., 1988.
Schopenhauer A., Le monde comme volonté et comme représentation, P.U.F., 1966.
Schrodinger E., Ma conception du monde, Mercure de France, 1982.
Schrodinger E., L'esprit et la matière, précédé de M. Bitbol, L'élision, Seuil, 1990.
Schrodinger E., La nature et les Grecs, précédé de M. Bitbol, La clôture de la représentation,
Seuil, 1992.
Schrodinger E., Physique quantique et représentation du monde, Seuil, 1992.
Schrodinger E., The interpretation of quantum mechanics, edited and with introduction by M.
Bitbol, Ox Bow Press, 1995.
Searle J., Speech acts, Cambridge University Press, 1969.
Searle J., The construction4of social reality, Allen lane (The Penguin Press), 1995.
Serres M., Les origines de la géométrie, Flammarion, 1993.
Shapere D., «The concept of observation in science and philosophy», Philosophy of science, 49,
p. 485-525, 1982.
Shimony A., Search for a naturalistic world view, I, Cambridge University Press, 1993.
Silburn L., Aux sources du bouddhisme, Fayard, 1997.
Soler L., Émergence d'un nouvel objet symbolique : le photon, Thèse de l'université Paris-I,
décembre 1997.
Stump E. & Kretzmann N., «Eternity», Journal of philosophy, 78, 1981, p. 429-458.
Suppe F., The semantic conception of theories and scientific realism, University of Illinois Press,
1988.
Suppes P., Studies in the methodology and foundations of science, Reidel, 1969.
Teller P., An interpretive introduction to quantum field theory, Princeton University Press, 1995.
347
Vaidman L., «Weak-measurement elements of reality », Foundations of physics, 26, p. 895-905,
1996..
Valentin L., Noyaux et particules, Hermann, 1975.
Valéry P., Introduction à la méthode de Léonard de Vinci, Gallimard, 1957.
Van Fraassen B., The scientific image, Oxford University Press, 1980.
Van Fraassen B., Laws and symmetry, Oxford University Press, 1989 ; trad. fr. C. Chevalley, Lois
et symétrie, Vrin, 1994.
Van Fraassen B., Quantum mechanics, an empiricist view, Oxford University Press, 1991.
Varela F., Thompson E. & Rosch E., L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993.
Von Glaserfeld E., «Introduction à un constructivisme radical», in P. Watzlawick, L'invention de
la réalité, Seuil, 1988.
Von Weizsâcker C.F. & Gromitz Th., « Quantum theory as a theory of human knowledge », in P.
Lahti & P. Mittelstaedt (eds.), Symposium on the foundations of modern physics 1990,
World scientific, 1991.
Von Wright G.H., Explanation and understanding, Routledge & Kegan Paul, 1971.
Vuillemin J., L'héritage kantien et la révolution copernicienne, P.U.F., 1954.
Vuillemin J., Physique et métaphysique kantiennes, P.U.F., 1987.
Watzlawick P., L'invention de la réalité, Seuil, 1988.
Weinberg S., The quantum theory of fields, Cambridge University Press, 1995.
Wheeler J.A. & Zurek W.H., Quantum theory and measurement, Princeton University Press,
1983.
Wittgenstein L., Investigations philosophiques, Gallimard, 1961.
Wittgenstein L., Le cahier bleu et le cahier brun, Gallimard, 1965.
Wittgenstein L., Carnets 1914-1916, Gallimard, 1971.
Wittgenstein L., Grammaire philosophique, Gallimard, 1980.
Wittgenstein L., Remarques sur les fondements des mathématiques, Gallimard, 1983.
Zeh H.D., «There are no quantum jumps, nor are there particles !», Physics letters, A172, p.
189-192, 1993.
Zurek W.H. «Environment-induced superselection rules», Physical Review, D26, p. 1862-1880,
1982.
348
الفهرس
349
066 .............................................................................................................................. ............................................................................................................................. النظريات والواقع 5 .3
051 شبه الواقعية والواقعية التجريبية
............................................................................................................................................................ .4
011 مشكلة تصنيف الواقف الفلسفية لؤسس ي الفيزياء الكمومية
........................... 0 .2
014 تعريفات أولية :الجدل بين الواقعية والالواقعية
.................................................................................................... 4 .2
012 جسور وممرات بين الواقعية والالواقعية
....................................................................................................................................... 3 .2
016 آثار وظالل القصص الذهبية
................................................................... ............................................................................................................................. 2 .2
019 االتهامات التبادلة للواقعيين والالواقعيين
............................................................................................................................. .... 6 .2
062 شبه الواقعية كعودة لالواقعي أصولي
...................................................................................................................................................... 5 .2
069 ... مؤسسو اليكانيك الكمومي بين الواقعية والالواقعية وشبه الواقعية 1 .2
095 شرودنغر :خيار شبه الواقعية مقابل واقعية داخلية
............................................................................ 6 .2
099 أزمة النظرية الذرية العاورة .5
........................................................... .............................................................................................................................
ّ
التوقع ّ
411 الذري وتحققاته 0 .6
................................................................. ............................................................................................................................. ...............................
351
450 نقد مفهوم "الحالة الكمومية"
........................................................................................................................................................................................... 3 .5
456 الفراغ ،والحقل و"الحالة الكمومية"
........................................................................................................................................... .................. 2 .5
456 الفراغ كواقع وجودي واالنبثاقات
........................................................................................................................................................................... 6 .5
413 ....................................................................................... ............................... تناقض االستعدادات والتحديدات القطعية 5 .5
415 عناصر لتفكيكية أنطولوجية
..................................................................... ............................................................................................................................. 1 .5
464 خاتمة" :الخالء" كعالج
................................................................................................................................................................................................................................... 6 .5
466 ماذا يعني "فهم اليكانيك الكمومي"؟
................................................................................................................................................... .7
465 فهم ّ
نص ،وفهم نظرية فيزيائية
.......................................................... ............................................................................................................................. 0 .1
493 حول الالفهم في األدب وفي الفيزياء
................................................................................................................................................ ...................... 4 .1
496 ....................................................................................................................................... تفسير "الحاالت النسبية" والفهم التأويلي 3 .1
315 الوصف العلمي والقياسية
............................................................................................................................. ................................................................................. 2 .1
304 تفسير نظرية كدليل للبحث الفلسفي
........................................................................................................................................................ 6 .1
301 ............................................................................................................................. الصدفة الوضوعية ومبدأ السبب الكافي .8
301 الصدفة الذاتية والصدفة الوضوعية
.................................................................. ................................................................................. 0 .6
340 السياقية والالتحديدية
................................................................................................. ............................................................................................................................. 4 .6
349 ...................................................................................................................................................................... ............................................................................................................................. ............... خاتمة
323 .................................................................................................................................................................................... ............................................................................................................................. مراجع
351
ودر عن دار معابر للنشر
ّ
قاموس الالعنف ،جان ماري مولر ،تقديم :د .وليد صليبي ،ترجمة :محمد علي عبد الجليل
(بالتعاون مع الهيئة اللبنانية للحقوق الدنية ،بيروت).4111 ،
التأمل ،جدو كريشنامورتي ،ترجمة وتقديم :ديمتري أڤييرينوس.4116 ،
على خطى غاندي ،كاثرين إنغرام ،ترجمة :أديب خوري ،تدقيق :ديمتري أڤييرينوس.4116 ،
الحبة في العمل ،تيك نات هانه ،ترجمة :غياث جازي ،تدقيق :أكرم أنطاكي.4116 ،
كتابات وأقوال للمهاتما م .ك .غاندي ،ترجمة :أكرم أنطاكي ،مراجعة :هڤال يوسف.4119 ،
فلسفة الالعنف ،ديڤيد مكرينولدز ،ترجمة :ديمتري أڤييرينوس.4119 ،
ّ
الالعنف في التربية ،جان ماري مولر ،ترجمة :محمد علي عبد الجليل.4119 ،
ليف تولستوي :مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية ،ترجمة :هڤال يوسف.4119 ،
سيمون ڤايل :مختارات ،ترجمة :محمد علي عبد الجليل.4119 ،
البحث عن مستقبل العنفي ،مايكل ن .ناغلر ،ترجمة :غياث جازي.4119 ،
أنا وأنت ،مارتن بوبر ،ترجمة :أكرم أنطاكي.4101 ،
ُّ
التجذر ،سيمون ڤايل ،ترجمة :محمد علي عبد الجليل.4101 ،
ملكوت هللا في داخلكم ،ليف تولستوي ،ترجمة :هڤال يوسف.4101 ،
ووت الصمت ،هيلينا بالڤاتسكي ،ترجمة :أكرم أنطاكي.4100 ،
شبكة الفكر ،جدو كريشنامورتي ،ترجمة :يارا البرازي.4100 ،
من البيئة إلى الفلسفة ،معين رومية.4100 ،
ّ
غاندي التمرد ،ملحمة مسيرة اللح ،جان ماري مولر ،ترجمة :محمد علي عبد الجليل.4100 ،
غاندي اإلنسان ،إكناث إيسوران ،ترجمة غياث جازي.4103 ،
النهج اخحيوي الطاقي ،ألكسندر لوون ،ترجمة :نبيل سالمة.4103 ،
عودة إلى الذات ،أكرم أنطاكي.4103 ،
التبادل الستحيل ،جان بودريار ،ترجمة :د .جالل بدلة.4103 ،
التاسوعية ،هيلين بالر ،ترجمة :نبيل سالمة.4102 ،
الزمان واآلخر ،إيمانويل ليفيناس ،ترجمة :د .جالل بدلة.4102 ،
352