You are on page 1of 3

‫الصفحة األخيرة‬

‫قصة ‪ :‬عمر شاهني‬

‫رفع الغطاء عن عينيه‪ ،‬نظر إىل الساعة فتفاجأ أنه أتخر عن موعد استيقاظه بعشر دقائق‪ .‬قفز من السرير‬
‫مسرعاً‪.‬وجه عينيه الالئمتني حنو املطبخ حيث تقف زوجته أمام "اجمللى" تستمع لصوت املذايع‪.‬‬

‫يتكلم مع زوجته بصوت عال‪:‬‬

‫‪-‬أمل أقل لك أال تغادري الفراش قبل أن توقظيين‪ ،‬لقد أتخرت‪ ،‬أه‪ ،‬مخسة وثالثون عاماً وال تفهمينين‪.‬‬

‫‪-‬النهار طويل و ال يزال يف ساعاته األوىل اي رجل…‪ .‬اذكر هللا‪.‬‬

‫يقف أمام املرآة ميارس الواجب اليومي األحب لقلبه؛ حالقة ذقنه‪ ،‬فهو منذ العقد السابع من القرن املاضي مميارس‬
‫هذا الواجب يومياً وابلنوع نفسه لتلك املاكنة الكالسيكية اليت يضع فيها الشفرات املطبوع عليها شكل متساح‪،‬‬
‫مُيدق يف هذا الوجه الذي صار مليئاً ابلتجاعيد واليت تمفسد عليه متعة حتريكها بسالسة‪.‬‬

‫يتذكر أمجل أايم حياته اليت شاركته هبا هذه املاكنة؛ أول يوم حلق فيه ذقنه‪ ،‬أول يوم التحق فيه ابجلامعة‪ ،‬أول يوم‬
‫للوظيفة‪ ،‬يوم الزفاف‪،‬حيث كان يشعر أنه عازف مايسرتو وهو ُيركها على وجهه!‬

‫جيلس على مائدة الطعام ‪ ،‬يتناول قطعة صغرية من اخلبز األمسر‪ ،‬بعد أن فرض عليه مرض "السكري "أحكاماً‬
‫قاسية ابالمتناع عن بعض األصناف اليت توضع على املائدة‪.‬‬

‫مميعن النظر يف وجه زوجته‪ ،‬الذي كان مثل حبة "تفاح لبناين" قبل أن يمعلن الزمن متزيقه بثنيات اجللد ‪ُ ،‬ياول أن‬
‫يعرب بذاكرته ليتخطى تلك التجاعيد اليت تشوه وجهها‪ ،‬حىت يتسىن له أن يوقع عليه قبلة بسيطة‪ ،‬ولكنه يضحك‬
‫على نفسه أيضاً ‪،‬فأي قبلة من شفتني تقفان على طقم أسنان صناعي ؟!‬
‫يرتدي ثيابه‪ .‬يغادر البيت ‪ .‬يقف بطابور "السرفيس" متوجهاً إىل جممع "رغدان"‪ ،‬ينظر إىل الساعة املثبتة فوق بناء‬
‫إمسنيت‪.‬يشعر بنشوة كبرية حيث مل يتأخر عن الوقت‪ ،‬يتوجه إىل مقهى شعيب يقع جبانب حافالت النقل العام ‪ .‬يَشرب‬
‫فنجان قهوة‪ ،‬بعدما يتأكد من ذهاب املوظفني إىل أعماهلم ينظر إىل ساعته اليت ما أن تمعلن عقارهبا الساعة الثامنة‬
‫ومخس عشرة دقيقة حىت يغادر املقهى‪.‬‬

‫جيلس على أحد احلجارة يتأمل يف عظمة بناء املدرج الروماين‪ ،‬ومن مث يتابع املسري عرب شارع سقف السيل‪.‬‬

‫يتمىن يف داخل رأسه أن يمصادف جمموعة من السياح الذين يسريون ما بني الساحة اهلامشية و شارع السلط‪،‬‬
‫فمعظمهم عادةً من كبار السن‪ ،‬لكنهم يرفضون االستسالم لكرب العمر‪ .‬رجال ونساء جتاوزوا الستني من أعمارهم‪،‬‬
‫يرتدون "شوراتت" قصرية ويلتقطون صوراً لكل ما يصادفونه‪.‬‬

‫يفكر كم كان يتمىن أن يدامهه املوت قبل أن ُيال على التقاعد‪ ،‬ويصبح رجالً عدمي الفائدة‪ ،‬حىت الراتب ال‬
‫يشعر بنكهته مثل أايم العمل‪.‬‬

‫يقف جبوار املسجد احلسيين‪ ،‬ينظر حبسرة حنو مبىن قهوة محدان‪ ،‬مع أنه مل يدخلها منذ ثالثني عاما‪ ،‬ولكنه كان‬
‫يستبشر ابلنظر حنو حجارهتا الصفراء فلقد كان يسري جبانبها طوال سنوات العمل‪.‬‬

‫يتجه إىل احلديقة اليت تقع جبانب مبىن األمانة‪ ،‬جيلس على الكرسي نفسه يوميا‪ ،‬سوى عندما تطرده قطرات املطر‬
‫أو حرارة صيف مهتاج‪ ،‬ينظر إىل جبل القلعة‪ ،‬يتأمله لساعات دون أن يعرف مالذي يشغل ابله هبذا املشهد!‬

‫يعود عرب الطريق نفسه ‪.‬يدخل املسجد احلسيين ‪،‬يصلي الظهر ‪ ،‬ويقرأ ما تيسر من القرآن‪ُ .‬يماول العودة سرياً‬
‫على األقدام إىل اجملمع‪ ،‬ولكن بطنه املتديل ابلدهون يهبط من عزميته‪ .‬يستقل ابص النقل العام ويعود إىل جممع‬
‫رغدان‪.‬‬

‫جيلس يف القهوة نفسها اليت جلس فيها صباحا ‪ .‬ينتظر حىت يعود املوظفون من أماكن عملهم احمليطة "الدوائر‬
‫الثمانية‪".‬‬
‫وعندما يمشاهد حافالت النقل العام تقلهم إىل جممع رغدان‪ ،‬ينظر إىل ساعته ليتأكد أنه يف نفس الوقت الذي‬
‫كان يعود فيه من العمل‪.‬‬

‫يشرتي حاجات البيت و يستقل سيارة أجرة‪ ،‬ويعود إىل البيت‪.‬‬

You might also like