Professional Documents
Culture Documents
الصفحة الأخيرة
الصفحة الأخيرة
رفع الغطاء عن عينيه ،نظر إىل الساعة فتفاجأ أنه أتخر عن موعد استيقاظه بعشر دقائق .قفز من السرير
مسرعاً.وجه عينيه الالئمتني حنو املطبخ حيث تقف زوجته أمام "اجمللى" تستمع لصوت املذايع.
-أمل أقل لك أال تغادري الفراش قبل أن توقظيين ،لقد أتخرت ،أه ،مخسة وثالثون عاماً وال تفهمينين.
يقف أمام املرآة ميارس الواجب اليومي األحب لقلبه؛ حالقة ذقنه ،فهو منذ العقد السابع من القرن املاضي مميارس
هذا الواجب يومياً وابلنوع نفسه لتلك املاكنة الكالسيكية اليت يضع فيها الشفرات املطبوع عليها شكل متساح،
مُيدق يف هذا الوجه الذي صار مليئاً ابلتجاعيد واليت تمفسد عليه متعة حتريكها بسالسة.
يتذكر أمجل أايم حياته اليت شاركته هبا هذه املاكنة؛ أول يوم حلق فيه ذقنه ،أول يوم التحق فيه ابجلامعة ،أول يوم
للوظيفة ،يوم الزفاف،حيث كان يشعر أنه عازف مايسرتو وهو ُيركها على وجهه!
جيلس على مائدة الطعام ،يتناول قطعة صغرية من اخلبز األمسر ،بعد أن فرض عليه مرض "السكري "أحكاماً
قاسية ابالمتناع عن بعض األصناف اليت توضع على املائدة.
مميعن النظر يف وجه زوجته ،الذي كان مثل حبة "تفاح لبناين" قبل أن يمعلن الزمن متزيقه بثنيات اجللد ُ ،ياول أن
يعرب بذاكرته ليتخطى تلك التجاعيد اليت تشوه وجهها ،حىت يتسىن له أن يوقع عليه قبلة بسيطة ،ولكنه يضحك
على نفسه أيضاً ،فأي قبلة من شفتني تقفان على طقم أسنان صناعي ؟!
يرتدي ثيابه .يغادر البيت .يقف بطابور "السرفيس" متوجهاً إىل جممع "رغدان" ،ينظر إىل الساعة املثبتة فوق بناء
إمسنيت.يشعر بنشوة كبرية حيث مل يتأخر عن الوقت ،يتوجه إىل مقهى شعيب يقع جبانب حافالت النقل العام .يَشرب
فنجان قهوة ،بعدما يتأكد من ذهاب املوظفني إىل أعماهلم ينظر إىل ساعته اليت ما أن تمعلن عقارهبا الساعة الثامنة
ومخس عشرة دقيقة حىت يغادر املقهى.
جيلس على أحد احلجارة يتأمل يف عظمة بناء املدرج الروماين ،ومن مث يتابع املسري عرب شارع سقف السيل.
يتمىن يف داخل رأسه أن يمصادف جمموعة من السياح الذين يسريون ما بني الساحة اهلامشية و شارع السلط،
فمعظمهم عادةً من كبار السن ،لكنهم يرفضون االستسالم لكرب العمر .رجال ونساء جتاوزوا الستني من أعمارهم،
يرتدون "شوراتت" قصرية ويلتقطون صوراً لكل ما يصادفونه.
يفكر كم كان يتمىن أن يدامهه املوت قبل أن ُيال على التقاعد ،ويصبح رجالً عدمي الفائدة ،حىت الراتب ال
يشعر بنكهته مثل أايم العمل.
يقف جبوار املسجد احلسيين ،ينظر حبسرة حنو مبىن قهوة محدان ،مع أنه مل يدخلها منذ ثالثني عاما ،ولكنه كان
يستبشر ابلنظر حنو حجارهتا الصفراء فلقد كان يسري جبانبها طوال سنوات العمل.
يتجه إىل احلديقة اليت تقع جبانب مبىن األمانة ،جيلس على الكرسي نفسه يوميا ،سوى عندما تطرده قطرات املطر
أو حرارة صيف مهتاج ،ينظر إىل جبل القلعة ،يتأمله لساعات دون أن يعرف مالذي يشغل ابله هبذا املشهد!
يعود عرب الطريق نفسه .يدخل املسجد احلسيين ،يصلي الظهر ،ويقرأ ما تيسر من القرآنُ .يماول العودة سرياً
على األقدام إىل اجملمع ،ولكن بطنه املتديل ابلدهون يهبط من عزميته .يستقل ابص النقل العام ويعود إىل جممع
رغدان.
جيلس يف القهوة نفسها اليت جلس فيها صباحا .ينتظر حىت يعود املوظفون من أماكن عملهم احمليطة "الدوائر
الثمانية".
وعندما يمشاهد حافالت النقل العام تقلهم إىل جممع رغدان ،ينظر إىل ساعته ليتأكد أنه يف نفس الوقت الذي
كان يعود فيه من العمل.