Professional Documents
Culture Documents
سؤال لابن تيميه عن النية
سؤال لابن تيميه عن النية
:سئل شيخ اإلسالم فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟
اإلجابة :ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم ،كالزنا والسرقة ،وشرب الخمر عز ًما جاز ًما فعجز عن فعله :إما
بموت ،أو غيره.
هل يأثم بمجرد العزم أم ال؟ وإن قلتم :يأثم ،فما جواب من يحتج على عدم اإلثم بقوله" إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم
تكتب عليه" وبقوله" إن هّللا تجاوز ألمتي عما حدثت به أنفسها ،مالم تعمل أو تتكلم" واحتج به من وجهين :أحدهما :أنه
أخبر بالعفو عن حديث النفس ،والعزم داخل في العموم Tوالعزم والهم واحد.
قاله ابن سيده.
الثاني :أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كالم أو عمل ،وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز ،ويزعم أال داللة في
قول النبي صلى هللا عليه وسلم" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"؛ ألن الموجب لدخول المقتول في
النار مواجهته أخيه ،ألنه عمل ال مجرد قصد ،وأال داللة في قوله صلى هللا عليه وسلم في الذي قال" لو أن لي ماال لفعلت
وفعلت ،إنهما في اإلثم سواء وفي األجر سواء"؛ ألنه تكلم ،والنبي صلى هللا عليه وسلم قال" ما لم تعمل به أو تتكلم" وهذا
قد تكلم ،وقد وقع في هذه المسألة كالم كثير.
واحتيج إلى بيانها مطواًل مكشوفًا مستوفًا.
فأجاب شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس هّللا روحه ونور ضريحه :
الحمد هّلل ،هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكالم في حكمها إلى حسن التصور لها ،فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع
عامته من أمرين :
أحدهما :عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها ،التي هي مورد الكالم.
والثاني :عدم إعطاء األدلة الشرعية حقها ،ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب ،حتى يجد الناظر في كالمهم
أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر.
فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة واإلرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره ماال
يضبطه العباد :كالشك ،ثم الظن ،ثم العلم ،ثم اليقين ،ومراتبه؛ وكذلك الهم واإلرادة والعزم وغير ذلك؛ ولهذا كان الصواب
عند جماهير أهل السنة وهو ظاهر مذهب أحمـد ،وهو أصح الروايتين عنه ،وقول أكثر أصحابه أن العلم والعقل ونحوهما
يقبل الزيادة والنقصان ،بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي :كاأللوان والطعوم واألرواح.
فنقول أواًل :اإلرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها ،إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت اإلرادة الجازمة مع
القدرة التامة وجب وجود الفعل ،لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم ،ومتي وجدت اإلرادة والقدرة التامة ولم
يقع الفعل لم تكن اإلرادة جازمة ،وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من األفعال ،ولم يفعلوه ،وإن كانت هذه اإلرادات
متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثي ًرا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست اإلرادة جازمة جز ًما
تا ًما.
وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ ألنهم قدروا إرادة جازمة للفعل ال يقترن بها شيء من الفعل ،وهذا ال يكون .وإنما يكون
ذلك في العزم على أن يفعل ،فقد يعزم على الفعل في المستقبل من ال يفعل منه شيئا في الحال ،والعزم على أن يفعل في
المستقبل ال يكفي في وجود الفعل ،بل البد عند وجوده من حدوث تمام اإلرادة المستلزمة للفعل ،وهذه هي اإلرادة الجازمة.
واإلرادة الجازمة إذا فعل معها اإلنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام :له ثواب الفاعل التام ،وعقاب
الفاعل التام الذي فعل جميع الفعل المراد ،حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته ،مثل المشتركين والمتعاونين
سنة حسنة ،وسنة سيئة ،كما ثبت سان ّ
على أفعال البر ،ومنها ما يتولد عن فعل اإلنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضاللة ،وال ّ
في الصحيحين عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال" من دعا إلى هدى كان له من األجر مثل أجور من تبعه ،من غير أن
ينقص من أجورهم شيء ،ومن دعا إلى ضاللة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه ،من غير أن ينقص أوزارهم
شيء" ،،وثبت عنه في الصحيحين أنه قال" من سن سنة حسنة كان له أجرها ،وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير
أن ينقص من أجورهم شيء".
فالداعي إلى الهدى وإلى الضاللة ،هو طالب مريد كامل الطلب واإلرادة لما دعا إليه ،لكن قدرته بالدعاء واألمر ،وقدرة
صيبُ ُه ْم ظَ َمأ ٌ َواَل الفاعل باإلتباع والقبول؛ ولهذا قرن هّللا تعالى في كتابه بين األفعال المباشرة والمتولدة فقالَ { :ذلِكَ بِأَنَّ ُه ْم اَل يُ ِ
صالِ ٌح إِنَّ هَّللا َ اَلار َواَل يَنَالُونَ ِمنْ َعد ٍُّو نَ ْياًل إِاَّل ُكتِ َب لَ ُه ْم بِ ِه َع َم ٌل َ سبِي ِل هَّللا ِ َواَل يَطَئُونَ َم ْو ِطئًا يَ ِغيظُ ا ْل ُكفَّ َ صةٌ فِي َ ب َواَل َم ْخ َم َ ص ٌنَ َ
سنَ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ } يرةً َواَل يَ ْقطَعُونَ َوا ِديًا إِاَّل ُكتِ َب لَ ُه ْم لِيَ ْج ِزيَ ُه ْم هَّللا ُ أَ ْح َ ص ِغي َرةً َواَل َكبِ َ سنِينَ َ .واَل يُنفِقُونَ نَفَقَةً َ ضي ُع أَ ْج َر ا ْل ُم ْح ِ يُ ِ
[التوبة.]120-121 :
فذكر في اآلية األولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة ،وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب ،وما يحصل
للكفار بهم من الغيظ ،وما ينالونه من العدو.
صالِ ٌح} ،فأخبر أن هذه األمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها وقالُ { :كتِ َب لَ ُه ْم بِ ِه َع َم ٌل َ
عمل صالح ،وذكر في اآلية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم :وهي اإلنفاق ،وقطع المسافة ،فلهذا قال
فيها{ :إِاَّل ُكتِ َب لَ ُه ْم} فإن هذه نفسها عمل صالح ،وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله
هّلل ،وأن تكون كلمة هّللا هي العليا ،فما حدث مع هذه اإلرادة الجازمة من األمور التي تعين فيها قدرتهم بعض اإلعانة هي لهم
عمل صالح.
وكذلك الداعي إلى الهدى والضاللة ،لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي األتباع وضاللهم ،وأتى من اإلعانة على ذلك بما
يقدر عليه ،كان بمنزلة العامل الكامل ،فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه :للهادي مثل أجور المهتدين ،وللمضل مثل
أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري ،فإن السان كامل اإلرادة لكل ما يفعل
من ذلك ،وفعله بحسب قدرته.
ومن هذا :قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال" ال تقتل نفس ظل ًما إال كان
على ابن آدم األول كفل من دمها؛ ألنه أول من سن القتل" ،فالكفل النصيب مثل نصيب القاتل.
كما فسره الحديث اآلخر ،وهو كما استباح جنس قتل المعصوم ،لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة ،فصار شري ًكا في
ض فَ َكأَنَّ َما سا ٍد فِي اأْل َ ْر ِ س أَ ْو فَ َ سا بِ َغ ْي ِر نَ ْف ٍ س َرائِي َل أَنَّهُ َمنْ قَتَ َل نَ ْف ً قتل كل نفس ،ومنه قوله تعالىِ { :منْ أَ ْج ِل َذلِ َك َكتَ ْبنَا َعلَى بَنِي إِ ْ
اس َج ِمي ًعا} [المائدة.]32 : اس َج ِمي ًعا َو َمنْ أَ ْحيَاهَا فَ َكأَنَّ َما أَ ْحيَا النَّ َ قَتَ َل النَّ َ
سلِينَ } [الشعراء]105 : ويشبه هذا أنه من كذب رسواًل معينًا كان كتكذيب جنس الرسل ،كما قيل فيهَ { :ك َّذبَتْ قَ ْو ُم نُ ٍ
وح ا ْل ُم ْر َ
سلِينَ } [الشعراء ]123 :ونحو ذلك. { َك َّذبَتْ عَا ٌد ا ْل ُم ْر َ
سبِيلَنَا َو ْلنَ ْح ِم ْل َخطَايَا ُك ْم َو َما ُه ْم بِ َحا ِملِينَ ِمنْ َخطَايَا ُه ْم ِمنْ ومن هذا الباب قوله تعالىَ { :وقَا َل الَّ ِذينَ َكفَ ُروا لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا اتَّبِ ُعوا َ
سأَلُنَّ يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َع َّما َكانُوا يَ ْفتَرُونَ } [ العنكبوت]13 -12 : َي ٍء إِنَّ ُه ْم لَ َكا ِذبُونَ َ .ولَيَ ْح ِملُنَّ أَ ْثقَالَ ُه ْم َوأَ ْثقَااًل َم َع أَ ْثقَالِ ِه ْم َولَيُ ْ
ش ْ
فأخبر أن أئمة الضالل ال يحملون من خطايا األتباع شيئًا ،وأخبر أنهم يحملون أثقالهم ،وهي أوزار األتباع ،من غير أن
ينقص من أوزار األتباع شيء؛ ألن إرادتهم كانت جازمة بذلك ،وفعلوا مقدورهم ،فصار لهم جزاء كل عامل؛ ألن الجزاء على
العمل يستحق مع اإلرادة الجازمة ،وفعل المقدور منه.
وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان :أن النبي صلى هللا عليه وسلم كتب إلى هرقل"فإن توليت
فإن عليك إثم األريسيين" ،فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم األريسيين ،وهم األتباع ،وإن كان
قد قيل :أن أصل هذه الكلمة من الفالحين واألكرة ،كلفظ الطاء بالتركي ،فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك ،ومعلوم
أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب
والسنة.
ستَ ْكبِرُونَ .اَل َج َر َم أَنَّ هَّللا َ يَ ْعلَ ُم َما ومن هذا قوله تعالى{ :إِلَ ُه ُك ْم إِلَهٌ َوا ِح ٌد فَالَّ ِذينَ اَل يُؤْ ِمنُونَ بِاآْل ِخ َر ِة قُلُوبُ ُه ْم ُمن ِك َرةٌ َو ُه ْم ُم ْ
َار ُه ْم َكا ِملَةً يَ ْو َم اطي ُر اأْل َ َّولِينَ ِ .ليَ ْح ِملُوا أَ ْوز َ س ِ ستَ ْكبِ ِرينَ َ .وإِ َذا قِي َل لَ ُه ْم َما َذا أَن َز َل َربُّ ُك ْم قَالُوا أَ َ س ُّرونَ َو َما يُ ْعلِنُونَ إِنَّهُ اَل يُ ِح ُّب ا ْل ُم ْ يُ ِ
ضلُّونَ ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِع ْل ٍم} [النحل.]22-25 : ا ْلقِيَا َم ِة َو ِمنْ أَ ْوزَا ِر الَّ ِذينَ يُ ِ
ضلُّونَ ُهم} [النحل ]25 :هي األوزار الحاصلة لضالل األتباع ،وهي حاصلة من جهة اآلمر ،ومن فقولهَ { :و ِمنْ أَ ْوزَا ِر الَّ ِذينَ يُ ِ
جهة المأمور الممتثل ،فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضالل؛ فلهذا كان علي هذا بعضه ،وعلى هذا بعضه ،إال أن كل
بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل ،كما دلت عليه سائر النصوص ،مثل قوله"من دعا إلى الضاللة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
س فِي النَّا ِر ُكلَّ َما د ََخلَتْ أُ َّمةٌ لَ َعنَتْ أُ ْختَ َها َحتَّى ومن هذا الباب قوله تعالى{ :قَا َل اد ُْخلُوا فِي أُ َم ٍم قَ ْد َخلَتْ ِمنْ قَ ْبلِ ُك ْم ِمنْ ا ْل ِجنِّ َواإْل ِ ن ِ
ضعْفٌ َولَ ِكنْ اَل تَ ْعلَ ُمونَ } ض ْعفًا ِمنْ النَّا ِر قَا َل لِ ُك ٍّل ِ ضلُّونَا فَآتِ ِه ْم َع َذابًا ِ إِ َذا ادَّا َر ُكوا Tفِي َها َج ِمي ًعا قَالَتْ أُ ْخ َرا ُه ْم أِل ُواَل ُه ْم َربَّنَا َه ُؤاَل ِء أَ َ
[األعراف.]38 :
فأخبر سبحانه أن األتباع دعوا على أئمة الضالل بتضعيف العذاب ،كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالىَ { :وقَالُوا َربَّنَا إِنَّا أَطَ ْعنَا
ب َوا ْل َع ْن ُه ْم لَ ْعنًا َكبِي ًرا} [األحزاب.]68 -67 : ض ْعفَ ْي ِن ِمنْ ا ْل َع َذا ِ
سبِي َلَ .ربَّنَا آتِ ِه ْم ِ ضلُّونَا ال َّ سا َدتَنَا َو ُكبَ َرا َءنَا فَأ َ َ
َ
وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين واألتباع تضعيفًا من العذاب.
ولكن ال يعلم األتباع التضعيف.
ولهذا وقع عظيم المدح والثناء ألئمة الهدى ،وعظيم الذم واللعنة ألئمة الضالل ،حتى روى في أثر ال يحضرني إسناده" أنه
ما من عذاب في النار إال يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره ،وما من نعيم في الجنة إال يبدأ فيه بالنبي صلى هللا عليه
وسلم ثم ينتقل إلى غيره" فإنه هو اإلمام المطلق في الهدى ألول بني آدم وآخرهم.
كما قال" أنا سيد ولد آدم وال فخر ،آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة وال فخر" ،وهو شفيع األولين واآلخرين
فيالحساب بينهم؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة ،وذلك أن جميع الخالئق أخذ هّللا عليهم ميثاق اإليمان به كما أخذ على كل
ب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم نبي أن يؤمن بمن قبله من األنبياء؛ ويصدق بمن بعده ،قال تعالىَ { :وإِ ْذ أَ َخ َذ هَّللا ُ ِميثَا َ
ق النَّبِيِّينَ لَ َما آتَ ْيتُ ُك ْم ِمنْ ِكتَا ٍ
ص ُرنَّهُ} اآلية [آل عمران.]81 : ق لِ َما َم َع ُك ْم لَتُؤْ ِمنُنَّ بِ ِه َولَتَ ْن ُص ِّد ٌسو ٌل ُم َ َجا َء ُك ْم َر ُ
فافتتح الكالم بالالم الموطئة للقسم التي يؤتي بها إذا اشتمل الكالم على قسم وشرط؛ وأدخل الالم على ما الشرطية ليبين
العموم ،ويكون المعنى :مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق اإليمان به ونصره.
كما قال ابن عباس :ما بعث هّللا نبيا إال أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
وهّللا تعالى قد نوه بذكره وأعلنه في المأل األعلى ،ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه ،كما في حديث ميسرة الفجرقال، :
قلت :يا رسول هّللا ! متى كنت نبيًا؟ وفي رواية متى كتبت نبيًا ؟ فقال" وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد.
وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال" إني عند هّللا
لخاتم النبيين ،وإن آدم لمنجدل في طينته" الحديث.
فكتب هّللا وقدر في ذلك الوقت ،وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده
ونفخ الروح فيه ،كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
فمن آمن به من األولين واآلخرين أثيب على ذلك ،وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من ثـواب
من لم يأت إال باإليمان المجمل ،على أنه إمام مطلق لجميع الذرية ،وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من األولين واآلخرين،
كما أن كل ضالل وغواية في الجن واإلنس إلبليس منه نصيب ،فهذا يحقق األثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي
حمزة عن الزهري عن النبي صلى هللا عليه وسلم مرساًل إما من مراسيل الزهري ،وإما من مراسيل من فوقه من التابعين
قال" بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء ،وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضاللة شيء".
ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه :قوله في الحديث الذي في السنن" وزنت باألمة فرجحت ،ثم وزن أبو بكر باألمة
فرجح ،ثم وزن عمر باألمة فرجح ،ثم رفع الميزان".
راجحا باألمة فظاهر؛ ألن له مثل أجر جميع األمة مضافا إلى أجره. ً فأما كون النبي صلى هللا عليه وسلم
وأما أبو بكر وعمر؛ فألن لهما معاونة مع اإلرادة الجازمة في إيمان األمة كلها ،وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى
إرادة منه ،فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى هللا عليه وسلم على إيمان األمة في دقيق األمور وجليلها؛ في محياه
وبعد وفاته.
ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد" أفي القوم محمد؟ أفي القوم Tابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي ال تجيبوه.
فقال :أما هؤالء فقد كفيتموهم .فلم يملك عمر نفسه أن قال :كذبت ياعدو هّللا ! إن الذي ذكرت ألحياء وقد بقى لك ما
يسوؤك" رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب ،فأبو سفيان رأس الكفر حينئذ لم يسأل إال عن هؤالء الثالثة؛
ألنهم قادة المؤمنين.
كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال :وهّللا ما على وجه األرض أحد أحب أن ألقي هّللا
بعمله من هذا المسجي ،وهّللا إني ألرجو أن يحشرك هّللا مع صاحبيك ،فإني كثي ًرا ما كنت أسمع النبي صلى هللا عليه وسلم
يقول" دخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ،وذهبت أنا وأبو بكر وعمر".
وأمثال هذه النصوص كثيرة ،تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع األمة ،لوجود اإلرادة الجازمة مع التمكن
من القدرة على ذلك كله ،بخالف من أعان على بعض ذلك دون بعض ،ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض.
ضا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل ،وإن لم يكن إما ًما وداعيًا ،كما قال سبحانه{ :اَل وأي ً
ض َل هَّللا ُ ا ْل ُم َجا ِه ِدينَ بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم
س ِه ْم فَ َّ سبِي ِل هَّللا ِ بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَنفُ ِ
ض َر ِر َوا ْل ُم َجا ِهدُونَ فِي َستَ ِوي ا ْلقَا ِعدُونَ ِمنْ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َغ ْي ُر أُ ْولِي ال َّ يَ ْ
ض َل هَّللا ُ ا ْل ُم َجا ِه ِدينَ َعلَى ا ْلقَا ِع ِدينَ أَ ْج ًرا َع ِظي ًما .د ََر َجا ٍ
ت ِم ْنهُ َو َم ْغفِ َرةً سنَى َوفَ َّ س ِه ْم َعلَى ا ْلقَا ِع ِدينَ َد َر َجةً َو ُكاًّل َو َع َد هَّللا ُ ا ْل ُح ْ
َوأَنفُ ِ
َو َر ْح َمةً َو َكانَ هَّللا ُ َغفُو ًرا َر ِحي ًما} [النساء.]96 -95 :
فاهّلل تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ،ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز ،بل
يقال :دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه .ولفظ اآلية صريح.
استثنى أولو الضرر من نفي المساواة ،فاالستثناء هنا هو من النفي ،وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين،
وإن لم يساووهم في الجميع ،ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك" إن بالمدينة رجاال ما
سرتم مسيرا وال قطعتم واديا إال كانوا معكم .قالوا :وهم بالمدينة .قال :وهم بالمدينة حبسهم العذر" ،فأخبر أن القاعد
بالمدينة الذي لم يحبسه إال العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة.
ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته ،فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إال العذر.
ومن هذا الباب :ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال" إذا مرض العبد أو سافر؛
كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم" ،فإنه إذا كان يعمل في الصحة واإلقامة عمال ثم لم يتركه إال لمرض أو سفر؛ ثبت
أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة ،ال لضعف النية وفتورها ،فكان له من اإلرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إال
لضعف القدرة ،ما للعامل والمسافر وإن كان قاد ًرا مع مشقة كذلك بعض المرض ،إال أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها
سبِياًل } [آل عمران،]97 : ستَطَا َع إِلَ ْي ِه َت َمنْ ا ْ س ِح ُّج ا ْلبَ ْي ِالفعل من غير مضرة راجحة ،كما في قوله تعالىَ { :وهَّلِل ِ َعلَى النَّا ِ
س ِكينًا} [المجادلة ،]4 :ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود ستِّينَ ِم ْ ست َِط ْع فَإِ ْط َعا ُم ِوقوله{ :فَ َمنْ لَ ْم يَ ْ
الفعل بها على أي وجه كان ،بل البد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة ،بل أو مكافية.
ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال" من جهز غازيًا فقد غزا ،ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا"،
وقوله" من فطر صائ ًما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" ،،فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس ،وجهاد
بالمال ،فإذا بذل هذا بدنه ،وهذا ماله مع وجود اإلرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا بإرادته الجازمة ومبلغ
ضا غاز ،وكذلك الصيام البد فيه من إمساك، قدرته ،وكذلك البد للغازي من خليفة في األهل ،فإذا خلفه في أهله بخير فهو أي ً
وال بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم ،و إال فالصائم الذي ال يستطيع العشاء ال يتمكن من الصوم.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح" إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة ،كان لها أجرها بما أنفقت ،ولزوجها مثل
ذلك ،ال ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا" وكذلك قوله في حديث أبي موسى" الخازن األمين الذي يعطي ما أمر به كامال
موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين" أخرجاه.
وذلك أن إعطاء الخازن األمين الذي يعطي ما أمر به موف ًرا طيبة به نفسه ال يكون إال مع اإلرادة الجازمة الموافقة إلرادة
اآلمر ،وقد فعل مقدوره وهو االمتثال ،فكان أحد المتصدقين.
ومن هذا الباب حديث أبي كبشة األنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال" إنما الدنياألربعة:
رجل آتاه هّللا علما وماال فهو يعمل فيه بطاعة هّللا ،فقال رجل :لو أن لي مثل فالن لعملت بعمله ،فقال النبي صلى هللا عليه
وسلم :فهما في األجر سواء" ،وقد رواه الترمذي مطوال ،وقال :حديث حسن صحيح ،فهذا التساوي مع (األجر والوزر) هو
في حكاية حال من قال ذلك ،وكان صادقًا فيه ،وعلم هّللا منه إرادة جازمة ال يتخلف عنها الفعل Tإال لفوات القدرة؛ فلهذا استويا
في الثواب والعقاب.
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال( :لو أن لي ما لفالن لفعلت مثل ما يفعل) إال إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل
معها إذا كانت القدرة حاصلة ،وإال فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم ،لو اقترنت به القدرة النفسخت عزيمته ،كعامة الخلق
يعاهدون وينقضون ،وليس كل من عزم على شيء عز ًما جاز ًما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل Tتبقى تلك اإلرادة
عند القدرة المقارنة للصوارف ،كما قال تعالىَ { :ولَقَ ْد ُك ْنتُ ْم تَتَ َمنَّ ْون ا ْل َم ْوتَ ِمنْ قَ ْب ِل أَنْ تَ ْلقَ ْوهُ فَقَ ْد َرأَ ْيتُ ُموهُ َوأَ ْنتُ ْم تَ ْنظُرُونَ } [آل
عمران ،]143 :وكما قال تعالى{ :يَاأَيُّ َها الَّ ِذينَ آَ َمنُوا لِ َم تَقُولُونَ َما اَل تَ ْف َعلُونَ } [الصف ،]2 :وكما قالَ { :و ِم ْن ُه ْم َمنْ عَا َه َد هَّللا َ
ضلِ ِه بَ ِخلُوا بِ ِه َوت ََولَّوا َو ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ } [التوبة-75 : صالِ ِحينَ .فَلَ َّما آتَا ُه ْم ِمنْ فَ ْ ص َّدقَنَّ َولَنَ ُكونَنَّ ِمنْ ال َّ لَئِنْ آتَانَا ِمنْ فَ ْ
ضلِ ِه لَنَ َّ
.]76
وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات.
وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد هّللا بن عمرو عن النبي صلى هللا عليه وسلم" أن رجاًل من أمة النبي صلى
هللا عليه وسلم ينشر هّللا له يوم القيامة تسعة وتسعين سجال كل سجل منها مدى البصر ،ويقال له :هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل
ظلمتك؟ فيقول :ال يارب .فيقال له :ال ظلم عليك اليوم ،فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجالت في كفة،
فطاشت السجالت وثقلت البطاقة".
فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق واإلخالص والصفاء وحسن النية ،إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة
الظاهرة ،فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما.
ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر هّللا لها ،فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة
إذ ذاك ،ومثله قوله صلى هللا عليه وسلم" إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان هّللا ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب هّللا له بها
رضوانه إلى يوم القيامة ،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط هّللا ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب هّللا له بها سخطه إلى يوم
القيامة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا تعالى -الجزء العاشر.