Professional Documents
Culture Documents
رواية رحيل (بنت ناس)
رواية رحيل (بنت ناس)
رحــــيل
1
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
2
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
3
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
4
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
5
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
خمس وسبعون عام مضت منذ أن وطئت قدما { يوسف } مصر ليتغير كل شيء،
من طفل صغير ذو الخمسة أعوام هارب من الموت الذى يالحقه هو وما تبقى من أفراد
أسرته إلى قصر كبير وعائلة يحسب لها الجميع ألف حساب ،فهنا وفي هذا القصر
المهيب وفى يوم الشهيد األرميني ،اكتمل جمع جلسة ملتهبة في انتظار مروضها ،فلم يعد
ينقص هذا الجمع العظيم سوى كبيره ،يوسف بيه كبير عائلة الخواجة ،أو كما يطلق عليه
( جو ) ،في الحقيقة أن الخواجة لم يكن لقب العائلة األصلي ،ولكنها اشتهرت به لكونها
عائلة ذات أصول أجنبية استقرت في مصر منذ أعوام ،ومع اختالف العصور واألزمان
أصبح أفرادها المحدودون معصبون بوتد ال يسمح ألحد منهم بالخروج عن القانون ،قانون
العائلة الذى صنعه ( جو ) والذى بات مقدس بالنسبة لهم أكثر من تقاليدهم اليومية ،ففي
الحقيقة لم يكن ( جو ) مثل أي أرميني أخر جاء إلى مصر وأندمج في المجتمع ،ولكن
كان لديه مسعى ومقصد ،وهو الحفاظ على نقاء عرق وساللة عائلته ،لذا وضع لكل نسله
هذا القانون الصارم وفروضه التي تضمن له عدم خروج أحدهم عن طوعه.
فلن يسمح ( جو ) أن يجبر على أمر مثلما حديث في الماضي ،مثل أي مواطن أرميني
أجبرته الظروف على ضرورة إيجاد وطن بديل للعيش به ،حتى أضحى لكل عائلة
وجهتها ،وكانت وجهة عائلة ( جو ) هي القاهرة ،كان ( يوسف ) وقتها ابن الخمسة أعوام
عمرا ،ولكن آالمه تبلغ ده ار كامال ،رأى ( يوسف ) مقتل والده أمام عينيه ،واستطاع
الهروب مع خاله الذى فقده أيضا خالل رحلته ،حتى وصل وجهته ومن تبقى من عائلته
ال يتعدى أصابع اليد الواحدة ،ليبدأ يوسف حياة جديدة يسعى فيها الستعادة ما سلبته منه
أهواء اآلخرين.
اعتمد يوسف على نفسه حيث كان االستقالل مبتغاه ،فهو أرميني وسيظل أرميني ،لن
يسمح لهويته بأن تذوب أو تتالشى وسط الثقافات األخرى التي يكن لها كل االحترام
والتقدير.
تربى يوسف وسط ما تبقى من عائلته في منزل فقير بأحد ضواحي القاهرة ،واضطر للعمل
في سنه الصغيرة مستغال موهبته كرسام لوجوه العاشقين والمشاهير من الفنانين مقابل
خمسون قرشا للوحة الواحدة ،فعل ذلك لكونه الذكر الوحيد الناجي في رحلة الهروب الشاقة
مما جعله يحمل على كاهله مسئولية إعالة نساء العائلة الراحلين معه من أمه وعمته و (
ميريت ) أرملة أخيه التي تكبره بنحو عشرون عاما.
6
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
كانت ( ميريت ) فاتنة جميلة كأي فتاة أوروبية ذات شعر أشقر وبشرة ناصعة البياض،
أعجب بها شاب مصري ورغب في الزواج منها وانتشالها هي وأسرتها من وحشة
االغتراب ،كان يوسف وقتها ابن الخمسة عشرة أعوام ،حيث إنبات شاربه أسفل أنفه لم
يتعدى بضعة أشهر ،ولكنه رفض هذا االرتباط بشدة ،كانت حجته في ذلك هي الحفاظ
على نقاء الساللة ،فإذا قبل يوسف هذه الزيجة لن يكون هناك نسل أرميني منذ هذه
اللحظة.
بالرغم من أن يوسف كان هو العائل الوحيد للثالثة نساء ،إال أن هذا لم يكن كافيا لهم
للخضوع تحت إمرته ،واتخذت ( ميريت ) ق ار ار بالموافقة على االرتباط باركته والدته وعمته
أيضاً ،ولكن يوسف كان يملك من قوة الشخصية ما يمكنه من جعل كلمته سيفاً فوق رقبة
الجميع ،فموهبة يوسف المطلقة جعلته يتعرف على أرقى طبقات المجتمع ،وبات يرسم
لوحات لألمراء داخل البالد ،مما جعله ذو دالل عند الكثير منهم ،واصبح ذو شهرة لديهم
باسم جو الخواجة ،استغل يوسف هذه العالقات في القيام بتهديد هذا الشاب باالبتعاد عن
( ميريت ) نهائيا ،بل أنه قام بالفعل بإفشال صفقة تجارية كان يجريها لخبره أنه على
استط اعة تنفيذ ما يقول ،هنا أدرك الشاب قوة يوسف ،وأنه أصبح شخصية ال يستهان بها،
لم يكن الشاب فحسب ،فأيضاً نساء يوسف خضعن تحت إمرته ،ودنين له بالوالء التام،
اصبح يوسف أكثر سيطرة عليهن ،ولكى يضمن يوسف عدم تكرار مثل ذلك األمر ،قرر
هو الزواج من ( ميريت ) رغبة في أن ينجب منها أول طفل أرميني يأتي إلى هذا
المجتمع الجديد ،وبالرغم من أن ( ميريت ) تكبره بعشرون عاماً إال أنها لم تجد أمامها
خيا اًر سوى أن تقبل ،فيوسف حتى لم يقبل بزواجها من أي أرميني نازح أخر من غير (
عائلة ميلوف ).
***********
باركت العائلة المتقزمة أول زيجة فيها ،وأول مولودة قدمت لهم ،أطلق يوسف عليها اسم (
ميرفت ) ،ولكن مهما بلغ طموحك فلن يكون أقوى من تراتيب القدر ،فبعد انتهاء فترة
رضاعة ميرفت على الفور أصر يوسف على انجاب طفله األخر ،كان ينقصه الولد كى
يستطيع استكمال خطته ،ولكنه لم يصنع حسابا أن هناك خطة كبرى تفوق دونها من
7
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
صنع البشر ،فبالفعل رزق يوسف بالذكر الذى يريد ولكنه اكتشف أنه مصابا بمتالزمة
داون ،لم يكن لدى يوسف الرغبة في التعامل مع حالة طفله وقتها ،فانتظر حتى اتم عامه
الثاني وفى إحدى الليالي قام باختطافه من ( ميريت ) أثناء نومه ،واختفى الطفل لألبد،
أشاع يوسف أنه قام بوأده ووعد ( ميريت ) أن ينجبا غيره ،ولكن األمر على ( ميريت )
هذه المرة لم يكن هينا ،فلقد أصيبت ميريت بنوبات اكتئاب حادة ،ولكن يوسف لم يهتم
سوى بطموحه وفقط ،أصر جو أن تنجب رغم حالتها النفسية ،ولكن محاوالته جميعها
باءت بالفشل دون تفسير واضح ،تعجب جو من هذا األمر وقرر عرض ميريت على
طبيب والدة دون النظر إلى تعبها النفسى وهنا كانت تمكن المفاجأة ،أصيبت ميريت
بانقطاع طمث مبكر ،وفقدت قدرتها على االنجاب ،أندهش جو مما حدث وكاد أن يجن
جنونه ،ال حزنا على ميريت وإنما حزنا على طموحه الذى بات مهددا باالغتيال ،رغم
حرقة كل أفراد العائلة على ما أصاب ميريت إال أن جو كان ال يفكر سوى في أمر بديل
يمكنه من تحقيق ما يريد وكان السؤال الذى ال ينقطع عن ذاكرته هو كيف يزيد نسل
العائلة بعد أن أنقطع ؟؟ ..فمن تبقى من النساء لديه ال يحالن له.
***********
لم يتبقى أمام جو سوى تقفى أثر من هربوا معه من أبناء أعمامه وضل طريقهم ،ظل جو
مكرسا كل وقته وجهده من أجل ذلك األمر ،عبر الحدود وزار بالد عدة يتتبع خطى أقدام
فلول عائلة ميلوف الفارين معهم وفرقتهم الطرق ،حتى جفت كعوب قدميه قدما ،وظن أن
األمر بات مستحيال ،ولكن اإلرادة اإللهية عادت مرة أخرى لتخبر جو أن هناك أمل لم
ينقطع ،فكل شيء عند هللا بقدر وكل شيء عنده بمقدار ،فخالل رحلة جو األخيرة في
لبنان اكتشف مخيم لالجئين ،يحوى الجئون من دويالت عدة ،ومن بينهم أبناء أعمام
يوسف من عائلة ميلوف ،ممن ضل مسعاهم خلف والد جو قبل أن يقتل ،ليقوم جو
بالتعرف عليهم ودعوتهم للعودة معه إلى مصر ،بعد وعود بحياة أفضل من هذا المخيم،
وإشراك في تجارته ،وزواج ممن لديه من نساء لم يفقدن القدرة على االنجاب ،فلبو وصدق،
ليستأنف جو مسيرة من البناء قوامها عام مضى وأعوام أخرى مديدة ستأتي.
8
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
ها هو قد وصل أخي اًر كي يتوسط الجمع ،يوسف بيه الخواجة ،رجل مسن في
أواخر العقد السابع من العمر ولكنه مازال يتمتع بالصحة الجيدة ،يزين رأسه بعض خصال
من الشعر األبيض ،ويرتدى بدلته الكالسيكية األنيقة ،صوت حركة نعاله على الباركيه
يلعب الموسيقى التصويرية للحظة دخول كبير االجتماع وكبير العائلة أيضاً ،أستقر جو
في مكان جلوسه المعهود لهذه الجلسة في هذا اليوم من كل عام ،وكل من حوله في تأهب
تام ،فهو شخص شديد الحزم والقسوة يهابه الجميع ،ف ـ ـ ( جو ) يروى عنه قيامه قديماً
بالتخلص من ولد له إثر والدته بعدما اكتشف إصابته بمتالزمة داون ،لذا يهابه الجميع
ويحسبون له ألف حساب ،فمن فقد الرحمة على فلذة كبده قد يرى قطع أوصال من يخالفه
أبسط من تقسيم شطيرة البيتزا ،لم يكن ذلك فحسب ،ف ـ ـ ( جو ) يسيطر على رأس مال
العائلة بأكمله ،ال يسمح ألحد من أفرادها باالستقالل عنه ،ومن يخالف فبالطبع لن تكون
نهايته أفضل مما القاه من كان من صلبه.
خلع جو نظارته ذات العدسات العسلية التي تحمى عيناه من إضاءة أباجوراته التي ال
يتحملها ،بدأ ( جو ) بطلب الوقوف دقيقة حداد على أرواح ضحاياهم السابقين ،ثم نظر
إلي الجمع نظرة استشعروا فيها غضبه من شيء ما ،وضع مرافق ( جو ) ملفا أمامه ثم
تراجع إلى الخلف ،فتح ( جو ) الملف وسط نظرات ترقب الحاضرين ثم نظر في أوراقه
األولى ثم بدأ في الحديث دون أن ينظر إليهم:
-وفقا ألخر التقارير عن أفراد عائلة الخواجة بلغنى أن ( فخر ) الخواجة قد تقدم لخطبة
فتاة ليست من بنى األرمن ..وقد تم تعمد إخفاء هذا األمر عن ( جو ).
ارتبك ( فخر ) بشدة ،والتفت له الحاضرون ،حاول ابتالع لعابه في صعوبة وبدأ وجهه
يغرق من غ ازرة العرق ،ثم تلعثم حديثه وفقد القدرة على التعبير ،حتى استجمع قواه وحاول
تقديم أي مبرر:
-لقد حاولت منعه يا ( جو ) ولكنه كان شديد اإلصرار يدعى أنه يحبها.
-ال يوجد معنى لهذه الكلمة في عائلة الخواجة ..سيتم تجريدك من منصبك في شركات
العائلة وإحالتك للمعاش ..فمن ال يستطيع إلزام ابناءه بالقانون لن يستطيع تطبيقه على
شركة بأكملها.
9
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
ثم نادى ( جو ) بصوت عال على ( شاكر ) الجالس بجوار ذراعه األيمن ،فأجابه على
الفور.
-أمرك يا ( جو ).
-مهمتك هي استالم إدارة شركة ( فخر ) ومراجعة حساباتها وترشيح مديرها الجديد من
عائلة الخواجة ..باإلضافة إلى استعادة كل مضارباته بالبورصة لحسابه الشخصى في
الفترة الماضية.
ارتبكت نظرات ( فخر ) تجاه ( جو ).
-ال تندهش من معرفتى ..لقد كنت أتركك ربما تراجع نفسك وتصارحني بما فعلت ..
البد أن يظل هذا الكيان محافظا على وحدته وقوته االقتصادية ..وكل فرد به البد أن
يظل مقتنعا أنه ما هو إال مجرد ترس صغير يعمل كى تظل األلة الكبيرة تعمل بكفاءتها،
كل من حضر اجتماع العائلة الشهري ذيل أسمه بلقب الخواجة ،عدا ذراع ( جو ) األيمن،
شاكر الدجوى.
كان { شاكر } دخيالً على العائلة ال ينتمى ألى من أصولها األجنبية ،ولكنه كان أكثرهم
حظاً وتمي اًز عن باقي أفراد العائلة ،ف ـ ( شاكر ) هو زوج ( ميرفت ) كريمة ( جو ) كبير
العائلة نفسه والمالك الوحيد لرؤوس أموالها ،أحبته ( ميرفت ) بشدة وغرسته داخل العائلة
كما تُغرس الفسيلة وسط األشجار العالية ،ولكن ( شاكر ) بات ينمو حتى بات ذو جذع
ممتد يصعب استئصاله ،أقترب من ( جو ) بأفكاره المبتكرة التي ضاعفت له مكاسبه
فسكن قلبه حتى اصبح ال يستطيع االستغناء عنه ،كسر قانون العائلة الذى وضعه من
أجله ولم يستطع أي فرد أخر االعتراض ،ف ـ ( شاكر ) كان يظهر من الوالء واإلخالص ما
أفقد ( جو ) بصيرته ،وبالطبع هذا التمييز قد انعكس بالطبع على ابنتي شاكر ( رحيل )
و ( شمس ).
***********
لم تكن { رحيل } بالرغم من أنها األبنة الكبرى لشاكر وحفيدة جو نفسه تتمتع بالقدر
الكافي من الحرية لتتمكن من فعل كل ما تريد ،فهي تنتمى لعائلة الخواجة ،تراعى المظهر
10
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
الخارجي أكثر من أي جوهر ال ُيرى ،عائلة تخشى كلمات الناس وسنت لنفسها قوانينها
الخاصة ،كالداء المتناقل بالوراثة من الجد األكبر حتى أصغر أفراد العائلة ،فلقد نشئا كل
ٍ
حكاو متكررة بشكل شبه يومي ،جميعها ال يبتعد من ( رحيل ) و ( شمس ) على
مضمونها عن مدى حفاظ ( جو ) جدها على عادات وتقاليد العائلة والحفاظ على بقائهم
مهما كلفه الثمن ،لكن ( رحيل ) كانت تحلق خارج السرب تماما مثل والدها ،فهي ال تعير
أيا من هذه الحكاوي اهتماما ،ربما ألن هناك أمر آخر ظل يشغل بالها دائماً وأبداً منذ
بداية فهمها لطبائع األمور وحتى بلغت من العمر أشده ،فهناك شيئاً ما غير طبيعياً بين
والديها ال تفهمه ،شيئاً ما دائما ما يعكر صفو حياتهما معاً ،بالرغم من كونهما طبيعيان
بشكل كبير جدا أمام العائلة وفى المناسبات العامة ،ولكن ما أن أغلق عليهما بابهما ،حتى
يتبدل كل شيء ويعود كل منهما إلى ما كان عليه في السابق ،دون ابتسامة ،دون مشاركة
في أي أمر من أمور الحياة ،والحديث مقتصر على األمور الضرورية وفقط.
نشأت ( رحيل ) على هذا منذ الصغر حتى اعتادت أن هذا هو الشكل الطبيعي ألى حياة
زوجية جمعت بين طرفان عن حب كما يروى عن والديها بالسابق ،كل ذلك كون قناعة
داخلية في عقل ( رحيل ) أن الحب مجرد كارت مرور لتحقيق أغراض أخرى من خالله،
فمن المؤكد أن هناك أم ار خفيا آخر أجبرهما على الزواج ال يخلو من مصلحة ألحدهما أو
كالهما ،حاولت ( رحيل ) م ار ار وتكرار االستفسار عن هذا األمر من جدتها ومن ( ميرفت
) والدتها أيضا ،ولكن كل الردود وإن اختلفت كلماتها تحمل نفس المضمون ،وهى أن (
رحيل ) واهمة ،حتى أن شقيقتها ( شمس ) لم يختلف رأيها كثي ار عن ذلك ،فهي كانت ترى
من وجهة نظرها أن هذه هي شخصية والديهما الحقيقية ،وأنها لم ترى منهما أي تصرف
مغاير من قبل كي تستشعر االختالف ،وربما مبالغتهما المفرطة في إظهار السعادة أمام
الناس ما هي إال محاوالت تمثيل مصطنعة منهما يعودان بعدها إلى شخصيتهما الحقيقية
بالمنزل.
استسلمت ( رحيل ) لهذا الرأي ،كما أنها قد عزفت عن هذا المعتقد بالفعل لفترة كبيرة،
ولكن عزوفها هذا لم يؤثر على ق ارراتها برفض كل من يتقدم إليها للزواج من عائلة
الخواجة ،ف ـ ( رحيل ) البالغة من العمر 35عاماً كانت تتمتع بقدر كبير من الجمال
واألناقة والسمعة الطيبة باإلضافة إلى أنها حفيدة ( جو ) نفسه ،مما يجعلها أول قبلة
وبيضة ذهبية ألى شاب يرغب بالزواج من العائلة ،لم يكن لدى ( رحيل ) قد ار من الغرور
11
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
يؤثر على اختياراتها ،لكن ردود أفعالها عند مقابلة أي شاب جديد يتقدم لها كانت تنبئ
بذلك ،ففي هذا اليوم سيحين موعد االتفاق المنتظر ،وهو لقائها مع نجل خالتها ( دنيا )،
كانت الزيارة في مظهرها تبدو مجرد زيارة عادية تجمع سيدة بابنة خالتها ،ولكن ( رحيل )
كانت تعلم أن خلف هذه الزيارة يقبع سجاناً جديداً.
دخلت ( ميرفت ) والدة ( رحيل ) عليها غرفتها ،ولكنها لم تكن تتوقع المفاجأة التي كانت
تنتظرها.
وجدت ميرفت رحيل مستلقية على سريرها ترتدى بيجامتها المنزلية ،وشعرها المتشابك من
أثر االستيقاظ من النوم يخفى وسادتها ،وبيدها هاتفها المتنقل تتصفح إشعارات موقع
الفيس بوك دون اهتمام ،نظرت لها والدتها متفاجئة:
-ما هذا الذى أراه فيكي يا من أذهبت النوم عن عيني ..لماذا لم ترتدى مالبسك بعد ؟!
-وهل أقرت عائلة الخواجة في قانونها الجديد أن مالبس المنزل ليست مالبس ؟!
-لم يعد لدى الصبر الحتمال سخافات أسئلتك الفلسفية وأن أبحث لها عن إجابات ..
أنت على علم بموعدنا مع ثانى شباب عائلة الخواجة وأنسبهم ..أرجوا أال تخذلينا أمام
جدك هذه المرة ..وتتخلى عن شروط زواجك التي تبتكرين.
-لن ابتكر شيئا جديداً ..ورفضه يعنى أن المشكلة عنده هو وليست عندى.
-ألم أقل لك لم يعد لدى القدرة لتحمل فلسفتك هذه ؟! ..العريس هذه المرة هو فريد ..
ابن دنيا وعزيز الخواجة ..شاب مهذب وسيصبح المسئول عن مستشفيات جو بعد والده
كما يعلم الجميع ..فهو طبيب نفسى الكل يشهد له بالبراعة واالجتهاد.
-قلت ماذا ؟ ..طبيب نفسى ! ..تقصدين طبيب مجانين ؟! ..وماذا أفعل أنا مع
شخصية كهذه ..رحيل الخواجة ..يكتب عليها مؤخ ار أن تصير زوجة لطبيب مجانين !!
..يا ال سخرية القدر.
-يبدو أنك ترغبين في افتعال مشكلة مع جدك ال قبل لى وال لوالدك بها ..لقد حددت
شروطك مسبقاً ..وعليك عرضها عليه ربما قبل ..غير ذلك ال أرغب في سماع كلمة
زائدة ..أمامك نصف ساعة من األن حتى انتهى من تصفيف شعرى ..تكونين أنت
انتهيت من كل شيء ..فالفتيات الجميالت مثلك ال يحتجن وقت كبير للتزين على حد
قولك ..أتذكرى أم نسيتى ؟!!
ثم تتركها ميرفت وتنصرف ووجه رحيل تمأله الحيرة من أمرها.
12
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
وسط نسمات هواء عليل يداعب خصال شعرها ألتقت رحيل بالدكتور فريد حسب الموعد
المحدد ،لقاء تقليدي ال يختلف أبداً عما يطلق عليه زواج الصالونات ،ولكن ما دار من
حوار خالل هذا اللقاء بين رحيل وفريد لم يكن تقليديا أبداً ،استهلت رحيل اللقاء بابتسامتها
المعهودة التي تظهر ما بداخلها من انطالق وحيوية ،راقب فريد جمال طلة رحيل
وابتسامتها فنمى بداخله رغبة مبدئية في سرعة إتمام هذا األمر ،تعرف كل منهما على
اآلخر ،أعجب فريد بأنشطة رحيل التطوعية وحماسها لخدمة المحتاجين ،ولكن رحيل لم
تهتم كثي اًر باالستفسار عن طبيعة عمل فريد ،ربما ألنها كانت تكن بداخلها استفسا اًر أكبر
من أي سؤال من هذا القابيل:
-قل لي يا فريد.
تعجب فريد من رفع رحيل للتكليف بينهما بشكل مفاجئ وكأنهما كانا يعرفان بعضهما منذ
زمن ،ثم تبعت رحيل حديثها:
-ما هو رأيك في زواج البارت تايم ؟
-نعم ؟! ..ال أفهم ما تقصدين ؟
ضحكت رحيل ضحكة ساخرة تفصح عما بداخلها من استعالء ثقافى وفكرى بينها وبين
فريد رغم شهادته المتفوقة عليها.
-أيعقل أنك لن تسمع عنه ؟! ..زواج البارت تايم ..إنه أخر صيحات الزواج الحديث.
تردد فريد بلخمة وارتباك.
-أهناك زواج حديث وزواج قديم ؟! ..كنت أظن أن الزواج منذ العصر الحجري القديم
حتى وقتنا هذا ذو صيحة واحدة يعلمها الجميع.
-يبدو أن فكرك مازال حبيس العصر الحجري يا دكتور.
بدا على فريد الضيق الشديد ولكنه اختار االستمرار في االستماع إليها أفضل من تبادل
أطراف الحديث والدخول في مهاترات ال يفهمها.
-هذا النوع من الزواج يرتبط فيه العروسان بشكل طبيعي جدا ..ولكن يظل كل منهما
في منزله ..يلتقيان وقتما شاءا ويقضيان أحلى األوقات مع بعضهما البعض ..ثم يعود
كل منهما أدراجه ..دون أي مشكلة تعكر صفو حياتهما.
13
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
14
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
اقتحمت والدة رحيل عليها غرفتها يبدو عليها الغضب الشديد كالبركان الثائر الذى يود
إخراج ما بداخله من حمم الحديث كى يهدأ:
-ما هذا الذى فعلتيه هذه المرة أيضا ..أال تخشين أن يبلغ حديثك مع الدكتور فريد جدك
( جو ).
-بالنسبة لى فال ..أما بالنسبة لكما ال أدرى.
-إذا كنتي ال ترغبين بالزواج ..أال ترغبين أن يكون لك طفل تداعبك ضحكاته ..
تستندين عليه يوم أن أفارق أنا وأبيك الدنيا ؟!
شردت رحيل قليالً ثم أجابت بتمتمة.
-وماذا فعلت أنا وشمس شقيقتي لكما بعد والدتنا ..لقد فشلنا حتى في أن نعيد نظرة
حب متبادلة بينكما.
شعرت ميرفت باالنكسار ودمعت عيناها ،وكأن رحيل قد لمست بإصبعها سطح جرح لم
تتجلط ذرات دماءه بعد ،أصبحت ميرفت بحاجة للمواساة أكثر من رحيل ،وكانت مواساتها
هي االنصراف في الحال.
لم تكن رحيل تعرف سر خوفها الشديد من فكرة االرتباط ،أحيانا كانت تفسر ذلك باحتمالية
خوفها من أن يبعدها عن أنشتطها التطوعية بسبب مسؤوليات الزواج التي لن تستطيع
التخلي عنها تحت أي ظرف من الظروف ،وربما تستكثر جمالها في زيجة تقليدية
محسومة منذ الصغر مثل باقي فتيات العائلة ،لكن في هذه الليلة بالتحديد ستستطيع رحيل
تفسير ما لم تستطع فهمه طيلة حياتها السابقة ،ليلة عيد الميالد.
***********
في هذه الليلة كانت ميرفت بكامل أناقتها برفقة شاكر زوجها ورحيل وشمس من أجل
حضور هذا الحفل الهام ،حفل عيد الميالد ،والذى أقيم بـ ـ ( حديقة الفرايدايز بالقاهرة )،
كان الحفل كمثله من الحفالت السابقة ال ينقصه شيء ،فكل األمور معدة وفقا ألحدث
صحيات اإلتيكيت العالمية ،كان عيد الميالد الخمسين ل ـ ( سونة ) ابنة خالة ميرفت،
15
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
ولكن سونة بالطبع لم تضع سوى شمعة واحدة ،كمولود لم يتخطى من العمر سوى عامه
األول ،مرت فقرات الحفل كسابقاته في نفس التوقيت من كل عام ،لكن كان هناك فقرة لم
يحسب لها حساب ،ولم تكن ضمن توقعات أي من الحاضرين ،ف ـ ( إبرام ) األخ الغير
شقيق لسونة قدم من السفر لتوه بعد هجرة دامت خمس سنوات متصلة ،ليصنع مفاجأة
كبرى لجميع الحاضرين في هذه المناسبة بالذات التي يلتقى فيها معظم أفراد عائلة
الخواجة ،هرول عليه الجميع في لهفة بما فيهم رحيل وشمس اللذان يعرفانه عن قرب
يقدمون له األحضان وقبالت االشتياق ،لم يشذ عن هذا السياق سوى أثنان فقط ،هما
ميرفت وزوجها شاكر ،ولكن بعد أن أنتهى إبرام من مبادلة التحية ،بدأ يشق الصفوف حتى
وقف أمام منضدة ميرفت وشاكر ،بدى رد فعل شاكر طبيعياً حيال هذا الموقف ولكن دون
أن يتحرك من مكانه.
-حمدا هلل على سالمتك يا إبرام.
-سلمك هللا يا شاكر.
ثم نظر إبرام إلى ميرفت التي يبدو عليها االضطراب مبتسما ابتسامة خفيفة.
-أال تصافحينني أيضا ؟!
نظرت ميرفت إلى شاكر في توتر ثم نظرت إلى إبرام مرة أخرى.
-حمدا هلل على سالمتك.
مد إبرام يده إليها فمدت ميرفت يدها مصافحة له.
-كنت أقصد أن نرقص سويا ..فهذه الموسيقى اعتدنا الرقص عليها في صغرنا كثي ار ..
(لشاكر) معذرة صديقي شاكر.
ثم جذب إبرام يد ميرفت وأتجه لمنتصف الحفل ..لم تبدى ميرفت اعتراضاً وتحركت معه
وهى ناظرة إلى شاكر في ابتسامة تستسمحه فيها.
-معذرة يا شاكر.
لم يكن أمام شاكر سوى أن يبادلها نفس االبتسامة الكرتونية أمام هذا الجمع العريق ،كانت
الموسيقى رائعة فعالً ،ألهبت حماس الراقصين ،وبالطبع ميرفت وإبرام ،أخذت ميرفت
تتمايل وكأنها لم تستشعر هذه الفرحة منذ زمن طويل ،وكالعادة لم يظهر شاكر زوجها أي
نوع من أنواع الضيق طوال الحفل.
16
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
كانت ميرفت فى مهد الصبا ،ابنة العشرون عاما ،كانت تعلم منذ نعومة أظفارها أنها
ستكون إلبرام الخواجة وإبرام سيكون لها ،ولكن الحقيقة أن هذا قبل أن يكون قرار ( جو )
كان اختيار إبرام أيضا ،كان حب ميرفت بقلب إبرام ينمو كل يوم عن اليوم الذى سبقه،
تقريبا لم يفارقها إبرام لحظة فى أى مناسبة تمكنه من مقابلتها ،وكانت ميرفت ترتاح فى
لقائها معه ،فإبرام يفهم أى مقصد لها قبل أن تكمل حديثها ،مما جذب ميرفت تجاهه بشدة
كى تتخذ منه صديقا قبل أن يكون حبيبا ،فبالرغم من التفاهم المتبادل بينهما ،إال أن
ميرفت لم ترى أن هذا سببا كافيا يدفعها لالرتباط به طيلة حياتها ،لكنها ال تسطيع
االختيار ،مثلها مثل باقى أفراد عائلة الخواجة.
حتى حل شاكر على أرض قلبها البور ليخضبها بالماء الذى يروى ظمأها ،كان ارتباط
ميرفت بشاكر بمثابة أمر شبه مستحيل ،بل مستحيل فعال ،لكونه ليس من عائلة الخواجة
ولكن تخطيتهما معا نجح فى تحقيق المعجزة ،وخصل شاكر من ( جو ) على استثناء لم
يحصل عليه سابقا أقرب أقرباءه.
سبب هذا جرحا كبي ار إلبرام ،فيكيف بعد كل ذلك يضيع حبه هباء حتى دون رثاء ،قرر
إبرام االبتعاد عن تحكمات ( جو ) التى يغيرها وفقا ألهوائه بل واالبتعاد عن عائلة
الخواجة كلها وقرر الهجرة ،هاجر إبرام إلى أوروبا واستوطن فيها وبدأ حياته هناك ،ذاب
وسط فتيات أوروبا باحثا بداخلهم عن النسيان ،نسيان األمل الذى فقده عن عالقة ظنها
عشق متبادل ولكنها لم تتعد بالنسبة لميرفت حبيبته سوى جلسة للفضفضة ،حتى قرر
العودة فى هذه األثناء بعد هجرة دامت ثالثون عاما تغير فيها كل شيء هنا وهناك ،لم
تفارق يد إبرام خصر ميرفت طوال الحفل ،من رقصة لوقفة للحديث ،لتوجه للبوفيه وتناول
الطعام ،حتى انقطع صوت المعازف ليعلن عن انتهاء الحفل بعدما تناول كل منهم قدر
ليس بالقليل من التورتة التى تحتاج ألسانسير كى تحصى عدد أدوارها ،وعاد كل منهم إلى
منزله حيث أتى.
***********
17
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
استقال كال من ميرفت وشاكر غرفة نومهما ،كانت رحيل سعيدة جدا بهذا اليوم على الرغم
من الروتين الزائد في معظم التصرفات إال أنها كانت فى حاجة ليوم مثل هذا يكسر تكرار
المطالبة بالزواج التي سأمت سماعها ،خرجت رحيل من غرفة نومها متجهة نحو غرفة
شقيقتها ( شمس ) للحديث معها عن حفل عيد الميالد وكيف كان بالنسبة لها ،وأثناء
ذهاب رحيل لغرفة شمس بالممر العلوى للفيال ،وفى لحظة مرورها من أمام باب غرفة
والديها سمعت صوت شجار بينهما ،كانت المرة األولى لرحيل التي تصادف سماع شجار
مثل هذا ،فلقد اعتادت أن حديث والديها ميرفت وشاكر أمامها هي وشقيقتها لم يكن
ارتجاليا بالقدر الكافي الذى يسمح لهما بسماع كلمات كهذه ،دفع الفضول رحيل كي
تتوقف خلف باب الغرفة لتفهم ما يدور.
كان الحوار بين ميرفت وشاكر يبدو ساخناً ،وبخ شاكر بشدة ميرفت على رقصها مع
إبرام ،ولكن ميرفت لم تكن تتقبل مثل هذا االنتقاد:
-وإذا كنت أنت غاضبا إلى هذا الحد من رقصي معه ..لماذا سمحت لي حين قمت
باستئذانك ؟!
-ماذا كان عساي أن أفعل بعد أن طلبتي منى ذلك على مسمع ومرأى من الجميع ..
هل كان أمامي مساحة لالختيار ؟ ..كنتي تريدني أن أعلن رفضي أمامهم كي يقولون لقد
ارتبطت ميرفت من رجل شرقي رجعى غير متحضر.
-أنا شرقية مثلك ..فهذه األرض ولدت فيها وتربيت عليها مثلك ..وتعلمت عاداتها
وتقاليدها مثلك ..ولن أسمح لك بأن تصنفني غريبة بعد كل هذه السنوات التي قضيتها
قبل معرفتك ..وبعدها.
-أنت لست شرقية ..وما يفعله ( جو ) أكبر دليل على ذلك ..يحاول الحفاظ على
هويتكم الغربية.
-والدى يحافظ على عائلة من التفكك وكيان اقتصادي ضخم من االنهيار ..ال أكثر من
ذلك ..لماذا كل هذه الثورة من إبرام ..في حين أن نفس ما حدث تكرر في حفالت
سابقة مع غيره ولم تثر مثل هذه الثورة ..أنه موقف شخصي بينك وبينه ..لم تنس أنه
كان يحبني في يوم من األيام ..ولكنك نسيت أنى أخترتك أنت وفضلتك عليه.
هدأ شاكر وفكر كثي ار ثم اقترب من ميرفت ناظ ار إليها متحدثا في همس:
18
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-إن كنت قد اختارت أن أعاملك معاملة رجل شرقي ألختلف كل شيء ..وربما لم
نظل متزوجان حتى هذه اللحظة ..فال تنسي أنى سترت فضيحتك التي اكتشفتها
ليلة زفافنا ..وال زال جميل ستري عليك أمام ابنتيك دائم حتى لحظتنا هذه
نظرت له ميرفت نظرة حسرة واحتقار ثم توجهت نحو باب الغرفة باكية كي تفتحه وتخرج
يمأل وجهها غضب شديد ،سمعت رحيل خطوات أقدام والدتها تقترب من الباب فقامت
باالبتعاد عن الباب سريعا قبل قدومها وهى تبكى حتى ال تراها ميرفت.
ما سمعته رحيل نزل عليها بمثابة الصاعقة زادت صدمتها فيمن حولها أضعاف ما كانت،
لم تذهب رحيل إلى غرفة شقيقتها شمس كما كانت تنوي وعادت إلى غرفة نومها مرة
أخرى في حالة من الذهول ،لم تكن تتخيل أن تسمع حديث مثل ذلك بين والديها في يوم
من األيام وفى منزلهما العريق هذا ،اآلن استطاعت رحيل تفسير حالة الجفاء والروتينية
الزائدة فى تعامالت والديها معا ،حتى كادت تظن أن هذه هي طبيعة الحيوات األسرية.
خلدت رحيل إلى سريرها وأغلقت أنوار األباجورات المجاورة وقررت الهروب من التفكير
إلى النوم ،باتت رحيل ليلة مليئة بالهواجس واألفكار المتصارعة ال يهزم أي منهم األخر
حتى استفاقت صباحاً وعلى سريرها بقعة من الدماء تتوسط موضع نومها ،كان انزعاج
رحيل كبي اًر من هذا األمر ،أخذت تتفحص رحيل جسدها باحثة عن جرح به قد يكون
تسبب في ذلك ولكنها لم تجد شيئاً ،ظنت رحيل أنه ربما يكون قد حدث تغير في الموعد
الشهري لحدوث ذلك األمر ،ولكن خطر ببالها أنه ربما يكون بسبب حالتها النفسية التي
باتت عليها بعد ما علمته من مفاجآت ليلة أمس ،ال تعلم ،وال يوجد شيء مؤكد.
***********
قررت رحيل أن تتناسى وتتعايش مع األمر ،فليس هناك تصرف أخر يمكن فعله حيال
ذلك ،كما أنها قررت أن تنهمك أكثر في أعمالها التطوعية ،وكأن شيئا لم يكن ،وتتعامل
مع والديها ككاتمة أسرار ال تبدى شيئا ،حتى أنها قررت أن تخفى هذا الخالف عن
شقيقتها شمس أيضا ،ولكنها لن تستطيع أن تحافظ على نظرتها لوالدتها التي كسرت بعد
19
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
قيامها بتربيتها منذ 35عاماً على أخالق وقيم العائلة ،فشاءت رحيل أم أبت هذه هي
الحقيقة ،أم لها ماضي تتظاهر بالفضيلة.
خرجت رحيل تؤدى دورها في الحياة ،فهو بالنسبة لها الشيء الوحيد الذى اختارته لنفسها،
فهي وزمالئها ذهبوا في هذا اليوم وفقا للجدول المعد سابقا إلى منزل عم سليم ،والذى يقع
في أحد القرى األكثر فق اًر واحتياجاً ،قابلت رحيل عم سليم (الرجل الكبير الذى يبدو عليه
كونه في العقد الخامس من العمر) ورأت رحيل حياته األسرية الدافئة ،رأت رحيل كيف
يعيش عم سليم مع لطيفة زوجته بمفردهما في منزل سقفه مهدم ال يحول بينهم وبين مياه
األمطار أو برد الشتاء ،وكيف يقدم للطيفة كل ما بوسعه ليسعدها بأقل القليل رغم
إمكانياته الضئيلة ،الحظ كل من رحيل وزمالئها أثناء حديثهم مع عم سليم لمليء
استمارات البحث االجتماعي الخاصة به هو وزوجته قيامه بغلق باب منزلهما فجأة عند
ظهور أطفال صغار يقومون باللعب أمام الباب بالخارج ،مما أدهش رحيل وزمالئها كثي ار
رد الفعل السريع هذا ،ودفع رحيل لسؤال عم سليم عن السبب:
-لماذا تصرفت هكذا ؟
نظر عم سليم إلى لطيفة زوجته ثم طلب منها أن تجلب الشاي للحضور ،فقامت لطيفة
ملبية طلبه ،ثم تابع عم سليم حديثه.
-لم يكتب لنا هللا االنجاب ،بسبب مشكلة عند زوجتي ال عالج لها جعلتها ال تنتج
بويضات من أجل الحمل ..رفضت التخلي عنها بسبب داء ال ذنب لها فيه ..أو أن أؤلم
مشاعرها بزوجة ثانية تستحوذ علي دونها ..وألنى أعرف مدى عذابها من شعور الحرمان
ّ
من األمومة طوال عمرها ..فال أريد أن أذكرها بأنينها الموجع عند رؤية األطفال يلعبون
بالخارج.
دمعت أعين رحيل كثي ار من هذه اللمحة اإلنسانية ،وانتهت من كتابة تقريرها عنهما هي
وزمالئها ،كما انتهوا من شرب الشاي أيضا ،ولم يعد أمامهم سوى االنصراف للعودة مرة
أخرى حيث تبت اللجنة المشكلة بالجمعية في التقرير المكتوب وتقر مدى استحقاقهم للدعم
من عدمه ،ولكن تقرير رحيل الذى كتبته بمشاعرها المتدفقة كان وافيا بالغرض.
***********
20
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
في اليوم التالي اكتشفت رحيل عند استيقاظها تكرار وجود بقعة دم على سريرها في موضع
نومها مرة أخرى ،يبدو أن األمر لم يكن عاب ار وأنها أصيبت بنوبات نزيف متكررة ال تعرف
سبب لها ،كان تكرار هذا األمر كافيا ألن تشك رحيل أن هناك أم اًر ما ليس طبيعياً ،جعل
ذلك رحيل تعقد العزم على الذهاب لطبيب أمراض نساء من أجل معرفة سبب ما يحدث
لها ،وبالفعل قد حددت رحيل موعد الكشف وذهبت له بمفردها دون أن تخبر أحداً من
العائلة ،وال حتى شقيقتها شمس ،قام طبيب أمراض النساء بفحصها على الشيز لونج
مستخدما جهاز السونار ثم ذهب إلى مكتبه بعد أن انتهى ،انتهت رحيل أيضاً من إعادة
ضبط مالبسها ثم ذهبت إليه وهو منهمك في كتابة الروشتة الموضوعة أمامه على
المكتب ،بينما رحيل تنظر إليه في ترقب ،نظرات يمألها القلق ويكسوها الثبات الهش:
خير يا دكتور ..ما الذى أصابني ؟
-ا
-من الفحص المبدئي بجهاز السونار استطيع أن أطمئنك مبدئيا ..ولكن البد من اجراء
أشعة مقطعية على منطقة البطن والحوض كى نستطيع الجزم أذا كان ما يحدث لك له
سبب عضوي ..أم مجرد حالة عابرة نتيجة توتر أو إجهاد مثال.
لم تكن ابتسامة الطبيب أثناء حديثه كافية لتبث الطمأنينة داخل قلب رحيل ،ولكن ما كان
عليها سوى أن تمد يدها المرتعشة لتلتقط الورقة من الطبيب وتمثل لتعليماته التي طلبها
منها لتنفذها.
***********
استلقى أمام التلفاز كال من رحيل وشمس كما اعتادا لتشاهد شمس قناة األفالم الوثائقية،
ولكن على غير العادة فلم تقم رحيل هذه المرة بالتشاجر مع شمس من أجل رغبتها في
مشاهدة قناة الفاشون فرحيل كانت في هذه اللحظات وكأنها في عالم أخر ،فالحقيقة أنه
21
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
بالرغم من أن ( شمس ) شقيقة رحيل الصغرى ،حملتهما بطن واحدة إال أن شمس تختلف
اختالف كلى عن رحيل ،فشمس ال تشغل بالها بأى تفسيرات ألى تصرف يحدث حولها،
وإذا اضطرت لذلك فإنها تختار األقرب ،دون تأويالت ودون تذاكى ،ترى شمس في ق اررات
جدها ( جو ) قد ار كبي ار من اإلصابة ،فهو يفعل ذلك من أجل الحفاظ على كيان كبير،
ولكن يكن ذلك سوى بشخصية قوية وشديدة يهابها الجميع ،تحلم شمس في اطار الروتين
المحدد لها وال تسمح لخيالها الخروج عن هذا االطار طوعا حتى ال يصبح كرها.
كانت رحيل شبه شاردة تفكر فيما يحدث لها في الفترة األخيرة من تغيرات ،كما أنها ال
تستطيع إخفاء قلقها نحو نتيجة األشعة التي بات من المفترض استالمها من المركز غداً،
ولكن شمس سرعان ما انتبهت لذلك اثر اكتشافها استسالم رحيل للقناة على التلفاز ،راقبت
شمس بنظراتها انفعاالت رحيل تنتظر رد فعل بين لحظة وأخرى ،ولكنها لم تفعل أيا من
ذلك ،فرحيل باتت حاضرة الجسد فقط بينما عقلها يتنقل بين فكرة وأخرى ،ومن هاجس
ألخر ،ما كان أمام شمس سوى أن تتخذ قرار ألن تبدأ هي بالمبادرة:
-أرى أن المسلسل قد نال إعجابك.
-شوفتي الفيديو ده يا رحيل ؟
أجابتها رحيل بعدم اهتمام أو باألحرى بدون تركيز.
-بالفعل ..جميل جدا.
-ولكنه ليس مسلسل ..هذا فيلم وثائقي عن تجربة تجميد البويضات لدى الفتيات ..
يقولون أنه اصبح بإمكان الفتاة أن تحتفظ ببويضاتها وتتزوج في السن الذى تريد حتى ولو
بعد األربعين ..حتى ال تخشى فقد القدرة على االنجاب.
انتبهت رحيل على الفور.
-ماذا قلتي ؟ ..عن ماذا ؟
-رحيل ..ما الذى أصابك ؟ ..أتخفين شيئا ما ؟
أشاحت رحيل لها بيدها في حالة من الضيق وعدم االهتمام ،انتبهت شمس لحالة رحيل
فاندهشت واقتربت منها تربت على ظهرها.
-رحيل ..ماذا بك ؟
-ال شيء.
22
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-تستطيعين قول ذلك البيك الذى ال نراه بالمنزل إال في المناسبات ..لكن أنا فأحفظك
جيداً ..إن لم تصارحي شقيقتك ..فمن لديك ليكون خزينة أسرارك ..أتصر والدتك على
زواجك من الدكتور فريد الخواجة ؟
أدارت رحيل وجهها نحو شمس ناظرة إليها.
-سأخبرك.
***********
وجاء موعد استالم نتيجة األشعة ،ولكن لم تكن رحيل حينئذ بمفردها في هذه اللحظات،
فلقد قررت شمس أال تترك شقيقتها تواجه هذه األمور وحدها ،وبالفعل حصال رحيل
وشمس على نتيجة األشعة وذهبا بها إلى عيادة الطبيب المعالج.
كانت تترقب رحيل تعبيرات وجه الطبيب أثناء نظره لألشعة بكل تفاصيلها ،بينما كانت
شمس تترقب تعبيرات وجهها هي ،حتى وضع الطبيب األشعة على المكتب أمامه ونظر
إلى رحيل ،لم تكن نظرته مرضية لكال الشقيقتين ،فبعد تنهيدة طويلة والتواءة في شفته
السفلية ،نظر الطبيب إلى رحيل قائال:
-مثلما توقعت ..ال يوجد سبب عضوي لهذا العرض عزيزتى.
نظ ار كال من رحيل وشمس لبعضهما البعض في صمت تام فتابع الطبيب حديثه.
-هل حدث في عائلتكم أي عرض مشابه أو أي سبب أثر على قدرة أحدهم
االنجابية ؟
-أنا من من عائلة ذات أصول أرمينية يا دكتور ..وال أعلم تفاصيل مثل هذه ..
فربما كانت معلومة مثل هذه عند جدى وربما والدتى.
-أعتقد أن هذا النزيف مجرد إنذار النقطاع طمث مبكر ..وأرجح أن السبب في
ذلك وراثيا ..ال داعى للهاث حول طرق عالج وهمية.
ارتعشت أيدى رحيل ،وحدقت أعين شمس.
-ماذا تقصد بحديثك هذا ؟
-أقصد أن قدرتك اإلنجابية ستقل بالتدريج ..من الممكن خالل أشهر وربما بعد
سنوات ..ال أستطيع تحديد ذلك ولكن يمكننا المتابعة ..وعلى أية حال فاإلسراع
بالزواج واالنجاب هو الحل األضمن.
23
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
في هذه المرة لم يكن أمام رحيل خيارات محيرة تتمرد على أحدهما وتقبل األخر مثلما
تعودت ،ولكنها وجدت نفسها فجأة أمام اختيار واحد ،شعور الفقد أكسبها معرفة قيمة ما
كانت تتمرد عليه ،بات الزواج حلم ،واالنجاب غاية ،والحرمان األبدى من معنى األمومة
24
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
شبح يطارد خياالتها ،ولكن بعد هدوئها وهي داخل غرفتها بالفيال ،واستعادتها قدرتها على
التفكير ،ذهبت رحيل إلى ميرفت والدتها بمالمح منكسرة تخبرها عن موافقتها على االرتباط
بالدكتور فريد دون شروط ،ولكن ميرفت أخبرتها أن األمر لم يعد يتوقف على موافقتها
مثلما كان بالسابق ،ففريد أصبح هو من يرفض االرتباط بها لألبد.
أخذت رحيل تتصفح مواقع األنترنت بحثاً عن تفاصيل عمليات حفظ البويضات حول
العالم للتأكد من كالم الطبيب الذى ما زال يدوي في آذانها ،رأت رحيل صو اًر لفنانات
عالميات قاموا بإجراء مثل هذه العملية من قبل وكللت بالنجاح ،أنهت رحيل بحثها ثم
هرولت نحو شمس مرة أخرى في غرفتها تسألها عن اسم الفيلم الوثائقي الذى كانت
تشاهده بخصوص هذا األمر ،ولكن شمس لم تكن تشاهده بالقدر الكافي من االهتمام الذى
يجعلها تتذكر اسمه ،طلبت رحيل من شمس أال تخبر أيا من والديها باألمر ،لم تفهم
شمس سبب هذا الطلب العجيب ولكنها وعدتها بتلبيته احتراماً لرغبتها ،لم تسرع رحيل في
تنفيذ أمر بحياتها من قبل مثلما أسرعت في اتخاذ هذا القرار ،كان حديث الطبيب كافيا
ألن يقنع رحيل بأن عملية كهذه هي أقل خطورة من عملية إزالة اللوز التي يجريها األطفال
في الصغر ،فلم يكن صراع رحيل مع خوفها من اإلقدام على عملية كهذه ،وإنما كان
صراعها الحقيقي مع والدتها عندما قامت شمس شقيقتها بكسر االتفاق بينهما وإخبارها بنية
رحيل فى اإلقدام على تنفيذ هذه العملية.
لم تكن المواجهة هينة بين رحيل وميرفت والدتها ،فكان انفعال ميرفت كبي اًر وقامت بتعنيف
رحيل ألقصى درجة وهى تبكي بشدة:
-ال تفعلى ذلك يا رحيل أرجوك ..أنت حفيدة ( جو ) وجميع شباب عائلة الخواجة
يحلمون باالرتباط بك.
-ولكن ( جو ) لن يقبل بمن يروق لي منهم ..ولن استطيع أن أفعل مثلما فعلت وأضع
خطة لينال حبيبى إعجابه.
-سنحاول.
-لن اسمح لجسدى أن يكون رهن محاوالت بائسة ..أنا من سأختار وأنا من سيقرر من
أريد وقتما أريد.
-ولكن جسدك لن يسمح ..لقد أصيبت جدتك ( ميريت ) بنفس هذه الحالة بعدما انجبت
شقيقى ..وكانت هذه الحالة وحدها هي من وقفت أمام رغبات ( جو ).
25
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
26
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
خضعت رحيل لتلقى حقنا تحضيرية لمدة أربعة عشر يوماً تقريبا ،حقن معبأة
بالهرمونات من أجل استثارة المبيض إلنتاج كميات أكثر من البويضات بدالً من بويضة
واحدة شهرياً ،واظبت رحيل على أخذ هذه الحقن قبل الخضوع إلجراء العملية ،حتى حان
الموعد المحدد بدقة من قبل الطبيب والذى يكون األكثر مناسبة إلجراء عملية كهذه ،وقد
حانت اللحظة ،لم يتوقف قلب رحيل عن الخفقان ،كل لحظة كانت تمر عليها كانت
تزيدها خوفاً وقلقاً ،فالحقيقة أن رحيل لم تكن بالقوة التي تظهرها لآلخرين ،فالظروف أثبتت
أنها أضعف ما يكون عن تحمل أقل المحن قوة ،وحتى أتمت رحيل مرادها وانتهى األمر
لم يكن بجوارها سوى شقيقتها شمس ،ربما لشعورها بالذنب لتسببها في اإليقاع بينها وبين
ميرفت والدتهما ،قامت رحيل بإجراء عملية أخذ وتجميد مجموعة بويضات أحدهما أساسية
27
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
وأخرى احتياطية من أجل االحتفاظ بهم في حالة جيدة بعيداً عما تمر به من اضطرابات
مرضية ونفسية شخصية وعائلية ،وكي تتمكن من تلقيحها وزرعها بالرحم مرة أخرى مثل
عمليات طفل األنابيب متى رغبت في الزواج ،وبالفعل قد دفعت رحيل إيجار تخزينهما
بالمستشفى الخاص لمدة عام كامل بشكل مبدئي ،لم تكن العائلة على علم بما حدث،
فميرفت كانت على قدر المسئولية ،وتقدر ما يمكن أن يحدث من عواقب جراء انتشار
خبر كهذا عن عائلة الخواجة ،لذا كان التعتيم سيد الموقف في هذا األمر ،بدال من قيام
والديها بفتح صنبور من األسئلة المتتالية التي لن يكون لها إجابة شافية ،كيف تمت هذه
العملية ؟ وكيف سيتم تلقيحها بعد ذلك والحمل من خاللها بعد إذ ؟ ،وهل سيتم زرع هذا
الجنين في رحمها أم سيتم استئجار رحم سيدة أخرى ؟ ،كل هذه كانت أسئلة من
الضروري أن يولدها حدث غريب مثل هذا ال يوجد أحد من العامة على دراية بتفاصيله،
لذا كان التكتم على األمر ضرورياً ،وكانت اإلجابة على أي سؤال بخصوص خضوع
رحيل لجراحة بمستشفى ال تتعدى سوى إجابة واحدة فقط ،وهى أن رحيل كانت تقوم بإجراء
عملية جراحية الستئصال الم اررة ال أكثر وال أقل.
***********
لم يكن شاكر أيضا على علم بما أجرته ابنته ،فعدم إخباره كان كفيال بجعله يجهل األمر
برمته ،فهو لن يلحظ أم ار ولن يسأل عن أي شيء حتى وإن بدا غير تقليدي ،انتهى شاكر
من تقريره عن الشركة التي كان يقوم فخر بإدارتها ،وطلب لقاء ( جو ) من أجل عرضه
عليه ،وبالطبع لم يخلو التقرير الذى أعده شاكر من بعض البهارات والتوابل التي تجعل
تأثير التقرير على من يقرأه أشد ح اررة وانفعال ،التقى شاكر بجو يعانقه فأوقفه جو بيده
على الفور ،فأخبره جو على الفور:
-باب المكتب مغلق من الداخل.
ابتسم جو ابتسامة وقورة وقام بمعانقة شاكر.
-ما زلت أتلقى نظرات اللوم حتى هذه اللحظة على حبى لك.
-أعلم ذلك ..واعتبره تاج على رأسى.
تغيرت مالمح جو فجأة وذابت ابتسامة وجهه.
28
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
استلقت رحيل فى غرفتها لتحصل على قسط من الراحة ،واشتمت رائحة الياسمين
العليل التى تفضلها فانشرح صدرها وأخذت تتلفت باحثة عن مصدره ،حتى اكتشفت وقوف
شمس عند الباب تحمل زجاجة عطر الياسمين وترش منها عليها لتداعبها ،تراجعت رحيل
عندما اكتشفت ذلك وعادت كما كانت ،فاقتربت منها شمس تحاول مالطفتها.
-أما زلت غاضبة من شقيقتك الوحيدة ؟
آثرت رحيل االنصات أفضل من تجاذب أطراف العتاب ،فتبعت شمس حديثها.
-كان البد أن يعرف بعملية مجهولة مثل هذه أحد الكبار ..ربما أصابك مكروه وقتها
فكيف سأتصرف بمفردي.
-أرادت التخلص من عبء المسئولية.
-بل مشاركتها مع أكثر الناس ثقة بالنسبة لى ولك.
-تحدثي عن نفسك وحسب.
29
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-شعرت وما زلت أشعر أن عالقتك بوالدتنا ليست على ما يرام ..هل هناك أم ار تخفيه
عنى ؟
ظلت رحيل صامتة تفكر فى شرود بالغ ،لم تحتج رحيل إلى وقت كبير للتعافي بعد
العملية ،فالعملية بالفعل كانت ببساطة الوصف الذى تلقته من الطبيب ،وعادت رحيل
سريعا إلى نشاطها التطوعي الذى اكتشفت أنه المسلك الوحيد للهروب مما يدور ببالها من
هواجس ال تنتهى ،بعد أن أخبرها زمالئها بانتهائهم من أعمال التجهيز للقيام بتطوير (
قرية عويس ) ،كما أنه قد تم اعتماد الميزانية الخاصة بها بالفعل ،وأنهم سيقومون بإبالغها
لمرافقتهم عند تحديد موعد التنفيذ ،الخبر الذى أسعد رحيل كثي اًر ،ولكن رحيل لم تقع أسيرة
هذا الشعور قد ار كبي اًر من الوقت ،فالمفاجأة التي باتت تنتظرها كانت كفيلة بأن تنسيها أي
مشاعر أخرى سعيدة كانت أو حتى مؤلمة ،تلقت رحيل مكالمة تليفونية من أحد األطباء
القائمين على المستشفى التي قامت بإجراء العملية بها:
-آنسة رحيل ؟
-أفندم.
-معك الدكتور رياض.
-أهالً وسهالً يا دكتور.
-أرجو الحضور للمستشفى على الفور ..هناك أمر هام لن يأخذ من وقتك الكثير.
-لقد انتهيت من دفع المبلغ المتبقي لحسابات المستشفى.
-األمر ليس مادي على االطالق ..أفضل الحديث فور وصولك ..أنا بانتظار
وصولك.
أجابت رحيل في حيرة بالغة.
-حاالً بإذن هللا.
***********
لم تتمالك رحيل أعصابها كي تؤجل الزيارة إلى وقت آخر أكثر مناسبة وهرولت
بالذهاب إلى طبيب أمراض النساء بالمستشفى على الفور الذى قام بإجراء عملية تجميد
البويضات لها سابقا ،يبدو أن الخبر كان صادماً ،ضربت رحيل خديها وهى تصرخ بشدة:
-ما الذى تقول ؟! ..كيف حدث هذا ؟!!
30
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-أرجوك أهدأي آنسة رحيل ..ال داعى لالنفعال ..األمر برمته في أيدينا ..ونحن لن
نسمح ألمر كهذا أن يمر مرور الكرام.
-تخبرنى أن جزءا منى قد سرق وتطلب منى الهدوء ..كيف هذا ؟ ..وهل ما حدث هذا
لبويضاتى وحدي أم أصاب األمر أخرون ؟
-لألسف ما سرق هو بويضاتك وحدها ..ألنها كانت حديثة ولم تنقل بعد لمكان التخزين
المؤمن.
-هذا ال يعقل ..أال تعلم من أنا وما يمكنني فعله ؟
-آنسة رحيل ..ال داعي للتهديد ولو كنا غير أمناء لما أخبرناك فور وقوع هذا الحادث
..المركز يقم لك عرضا عادال ..سنقوم بإجراء عملية أخرى والتقاط بويضات جديدة
وتخزينها على نفقة المركز بالكامل ..وبذلك يكون وكأن شيء لم يحدث.
-ولماذا أعرض جسدي النهاك كهذا بسبب اهمالكم المذرى ..سأنتظر تحقيقات الشرطة
ربما تكشف عن السارق.
-آنسة رحيل ..نحن لن نبلغ الشرطة ..فبالغ كهذا كفيل بأن يقضى على سمعة مركزنا
لألبد واقصاء العمالء عنه ..نحن سنتولى ذلك بأنفسنا وتأكدى أننا سنصل للجاني عاجال
أم آجال ولكن هذا لن يغنى عن إعادة العملية.
لم تجد رحيل حديث يعبر عما بداخله من وجع ،وللمرة الثانية ال صبح أمام رحيل خيا اًر
آخر سوى أن تقبل العرض ،وبالفعل قد أعادت رحيل كافة اإلجراءات من البداية مرة
أخرى ،بدءاً من حقن الهرمونات التحضيرية وحتى تحديد موعد إجراء العملية ،ولكن داخل
غرفة العمليات كانت تكمن المفاجأة األخرى ،فيبدو أن تكرار جرعة الهرمونات التحضيرية
بعد وقت قصير من إجراء العملية السابقة أحدث هياج للمبيض مما أدى إلى حدوث تورم
به عالوة على إصابته السابقة ،والذى بدوره أدى إلى فشل العملية الثانية ،كان األمر
محبطاً للجميع ،وعجزت الكلمات أن تعبر عما تمر به رحيل من مشاعر قاسية ،ولكن
الدكتور رياض حاول استيعاب الموقف والتهوين من هوله:
-أنا عاجز عن الحديث آنسة رحيل ..أقدر حالتك جيدا ..وإذا أرادت إبالغ الشرطة فلن
يستطيع أحد منعك ..ولكن لألسف إدارة المركز سوفت تنكر جريمة السرقة من األساس
للسبب الذى أخبرتك به سابقا ..أرجو أن تتفهمى موقفى.
-ومن يتفهم موقفى ..من يشعر بآالمى ؟!
تحولت نظرة رحيل إليه إلى نظرة احتقار ،لكن رياض اتبع حديثه لها قائالً:
31
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-المركز كما أخبرتك لن يهدأ حتى يتوصل للسارق ..وهناك احتمال كبير في إعادة ما
سرق ..وأملنا باهلل كبير بأن تكون البويضات ما زالت في حالت جيدة ..فمن المؤكد أن
السارق يعي قيمة ما سرق وعلى دراية بأساليب حفظها جيداً.
أجابت رحيل وهى في حالة انكسار تسمح دموعها وتحاول أن تتماسك.
-ما الدافع للص أن يسرق شيئا كهذا ؟
-هناك دافعان ال ثالث لهما ..إما سيبيعها لسيدة ال تنجب ..وإما سيزرعها في رحم
زوجته التي ال تنجب.
-ولكن بهذه الطريقة الجنين لن يكون ابن هذه السيدة ..فهي ستكون مجرد وعاء إلنبات
بويضتي أنا ..وهذا الجنين سيكون من صلبي أنا ويحمل جيناتي.
-نظريا هذا صحيح يا آنسة رحيل.
نظر الدكتور رياض في األرض خجال ،فقامت رحيل محاولة التحامل على نفسها تتحرك
ببطيء لالنصراف وهى تبكي دون أن تدرى إلى أين تذهب.
***********
في إحدى المناطق الراقية بالتجمع الخامس كانت ميرفت تقود سيارتها في حالة من
الغضب يبدو عليها التهور الشديد حتى قامت بالفرملة المفاجأة أمام مدخل أحد العمارات،
ثم خرجت من سيارتها مندفعة نحو مدخل البرج يبدو على مالمحها الجدية الشديدة،
صعدت ميرفت من خالل األسانسير حتى الطابق السادس ثم خرجت منه متجهة إلى أحد
أبواب الشقق بالطابق تطرقه ،حتى فتحت لها ( نجوى ) الباب (فتاة في منتصف العقد
الثاني من العمر ترتدى مالبس منزلية يغطيها روب من قماش المع).
-أفندم ..تحت أمرك.
-معذرة ..أريد زوجي من الداخل.
أجابتها نجوى باندهاش شديد.
-نعم ؟ ..ماذا تقولين ؟
-قلت معذرة ..أريد شاكر زوجي حاال دون ثرثرة ..من فضلك.
جاء شاكر من الداخل مرتديا روبا منزليا أيضا غير منتبه.
32
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
************
في فيال شاكر كان يجلس كال من شاكر على أحد الكراسي واضعا يديه على خديه،
ورحيل تجلس أيضا في أحد األركان ال تتوقف عن البكاء وبجوارها شمس تربت على
كتفها ،بينما ال تستطيع ميرفت الهدوء وتظل تتحرك في ريسبشن الفيال ذهاباً وإياباً حولهم
جميعا ،ثم توجه حديثها لشاكر:
-منذ أن وصلنا وأنت صامت هكذا ..أال يوجد لديك قولنا فيما علمت ؟
رفع شاكر يداه عن خديه ناظ اًر إلى ميرفت بغضب.
-تريدين قولي !! ..ابنتي من صلبي تجري عملية ثم تسرق ثم تجري األخرى وفى األخر
يقول والدها قوله كمتصفح يضع تعليقا على صفحتك الشخصية ..ماذا عساي أن أفعل
أو أقول اآلن.
-أنا أخر من يالم يا شاكر ..لقد تركت لي الحمل وحدي ..تغيب معظم اليوم في
عملك مع والدي ولم اشتكي ..تأتى لمجرد النوم كأني أقيم بمنزل وحيدة ولم أبدي رد فعل
..تحملت المسئولية وحدى وقمت بها ..واآلن تلومني على عدم إخبارك ؟ ..ومن يلومك
على عدم سؤالك يا شاكر ! ..من يلومك على تجاهلك لي ولبناتك طوال هذه الفترة ؟!!
-ما شاء هللا ..وكأنك تشعرين ..لفت انتباهك عدم شعوري بالسعادة بالمنزل وبالرغم من
ذلك لم تسألي حتى عن السبب بدعوى التحمل ..ليتك لم تتحملين.
قاطعت رحيل حوارهما:
-أنا لم أجلس معكما ألسمع عتابكما على ترهات الحياة البالية ..ولكنى أود حال استعيد
به نسلى الذى اضحى مستباحا لدى مجهولون.
تدخلت شمس في هذه اللحظة بقول اعتقدت في ق اررة نفسها أنه سيحسم األمر:
-أنا أرى يا والدي أن نبلغ جدى ( جو ) وهو من سيستطيع التصرف.
تقدم شاكر نحوها في مالمح صلبة وصفعها على وجهها صفعة صدمت رأسها بظهر كنبة
الصالون المجاورة.
33
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-ال أود أن اسمع عبارة كهذه مرة أخرى ..انتهى األمر عند هذا الحد ..ولن يعلم به
أحد حتى ينقضي أو تسكن رحيل قبرها.
قالها شاكر بكل صرامة وانصرف إلى غرفة نومه ،وانصرفت خلفه ميرفت زوجته محاطة
بخيبة األمل وكسرة الخاطر ،فبالرغم من أن ميرفت وشاكر ما زالت تجمعهما الجدران
ذاتها منذ 36عاماً تقريباً ،إال أن شعور رحيل ال يختلف كثي اًر عن شعور أي فتاة يتيمة
في سن تحتاج فيه ألقرب األشخاص إليها ،حتى شمس شقيقتها الصغرى لم يستطع حنانها
قتل م اررة هذا الشعور ،ولكن بالرغم من ذلك لم تتوان شمس عن محاوالت مواساتها
والتخفيف عنها كما تفعل معها رحيل في هذه اللحظات القاسية ،أخبرتها شمس بأن هناك
زميلة لها شقيقها يعمل بالمحاماة ،وأنه من الممكن أن تقوم رحيل باستشارته في هذا األمر
إذا أرادت ،ولكن رحيل أخبرتها أنها لم تعد ترغب في تحدى رغبة والدها أكثر من ذلك،
وأنها ستصبر وتعود لتستأنف عملها التطوعي ربما تنسى وتذوب وسط البسطاء.
***********
جلسا كال من شاكر وميرفت داخل غرفتهما التي بات يسودها الصمت األكثر بالغة عن
الحديث ،ال يمألها سوى اختالس نظرات متبادلة بين كل منهما لآلخر ،حتى قرر شاكر
الخروج عن صمته:
-ال أرغب في ترك الظنون تجول بخاطرك ..من رأيتني بشقتها هي زوجـ ...
ولكن سارعت ميرفت بمقاطعته.
-ال أريد معرفة من تكون ..فأفضل لي ترك الظنون تجول عن التأكد من غدرك.
-كيف علمت بوجودي هناك ؟
-أنا لم أسألك بخصوصها كى يحق لك أن توجه لي سؤاال في هذا األمر ..طلبي الوحيد
هو أال يغلق هاتفك الجوال مرة أخرى كى يستطيع بناتك الوصول إليك في أي ظرف يط أر
عليهما.
ثم تحركت ميرفت من أمامه متجهة إلى باب غرفة النوم واضعة يدها على المقبض
استعدادا لفتحه ،نظرت إلي شاكر نظرة فاحصة ،ثم فتحت ميرفت باب الغرفة وخرجت منه
وأغلقته خلفها.
34
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
35
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
ومرت األيام والليالي ،يوم يجلب األخر وليلة تدفع األخرى ،والشهر أصبح
شهورا ،وحال رحيل لم يتبدل ،حال ظاهره النسيان وباطنه األلم ،تم تكليف رحيل من قبل
المؤسسة الخيرية التي تتطوع بها بتولي اإلشراف على أعمال رفع كفاءة المنازل بقرية
عويس التي جرى لها الحصر الميداني منذ شهور بعد أن تم اعتماد الميزانية الخاصة بها،
سعدت رحيل كثي ار بهذا األمر الذى كانت تنتظره منذ فترة ،فهذا العمل قد يضمن انشغالها
دون تفكير لثالثة أشهر أخرى قادمة على األقل.
وبدأت أعمال التطوير بالقرية التي سعد بها األهالي كثي اًر ،كان كل منهم يحاول تقديم ما
يقدر عليه من أجل توفير سبل الراحة للعاملين بالمشروع من ماء ومظالت وأماكن
للجلوس ،بدأت معدات شركة المقاوالت في إزالة األسقف الخشبية المتهالكة لتبدأ أعمال
تركيب أسقف جديدة تقييهم حر الصيف وبرد الشتاء ،جذب انتباه رحيل أثناء ذلك وهي
36
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
تقوم باإلشراف على العاملين حاملة بيدها كشوفات دراسة المشروع وتفاصيله وجود طفلة
رضيعة في أشهرها األولى تحملها أحد السيدات ساكنات القرية ،اقتربت رحيل من السيدة
حاملة الطفلة وبدأ شعور األمومة المكبوت بداخلها في الظهور ،الشعور الذى طالما يراود
رحيل كلما رأت أي طفل في هذه المرحلة العمرية منذ الحادثة األخيرة التي أثرت عليها،
ابتسمت رحيل للطفلة:
-بسم هللا ما شاء هللا ..يا لها من طفلة حسناء.
توقفت السيدة لرحيل وأظهرت لها وجه الطفلة الرضيعة التي تحملها ،فأخذت رحيل في
مداعبتها.
-إنها صغيرة للغاية ..حماها هللا لك وحماك لها.
-أشكرك بشدة ولكنها ليست ابنتي.
-أنت جليستها ؟
-أنا جارة والدها ..إنها لطيفة ..ابنة العم سليم ساكن هذا المنزل المجاور ..اسماها
لطيفة تيمنا باسم زوجته لطيفة رحمة هللا عليها التي وافتها المنية إثر والدتها منذ شهور.
شعرت رحيل بدهشة وخشوع من قدرة هللا.
-ابنة لطيفة وعم سليم ! ..لقد اخبرنا أن زوجته ال تنجب ..سبحان هللا في حكمته.
-قام عم سليم بإجراء عملية لزوجته استطاعت بعدها الحمل واالنجاب ..هذا ما أخبرنا
به ..ولكن يبدو أنها لم تحتمل عملية الوالدة وتوفاها هللا خاللها.
-رحمة هللا عليها ..وأثابك هللا على مساعدتك له في ظروفه.
شعرت رحيل بالكثير من التعاطف تجاه الطفلة مما دفعها لحملها محتضنة إياها في أول
مرة تضم لصدرها طفلة في هذا السن وبهذا الشعور ثم قبلت جبينها ،بينما تساقطت إحدى
دموعها على جفن الطفلة لتجعلها تفتح أعينها لرحيل مبتسمة ،لتبادلتها رحيل ابتسامة
يمألها الحنين.
***********
ذهبت رحيل بحماسة يكسوها الغضب إلى الدكتور رياض بمكتبه بالمركز الطبي الذى
يعمل به ،فاستقبلها رياض بالترحاب:
37
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-وألنى أعرف مدى عذابها من شعور الحرمان من األمومة طوال عمرها ..فال أريد أن
أذكرها بأنينها الموجع عند رؤية األطفال يلعبون بالخارج.
انتاب رحيل شعور بالصدم الشديدة جعل أصابع يدها ترتعش من القلق والتوتر مما يجول
بخاطرها الذى باتت تشعر بأن نسبة صحته توفق التسعون بالمائة.
***********
ما زالت رحيل تواصل سيرها فى الممر بنفس حالة الشرود السابقة ولكن هذه المرة بممر
الفيال التي تسكنها متجهة إلى غرفة شمس شقيقتها وال يزال ربط األحداث مستم اًر بخيالها،
تذكرت رحيل حديث الدكتور رياض األخير معها في لقاء سابق:
- -ما الدافع للص أن يسرق شيئا كهذا ؟
-هناك دافعان ال ثالث لهما ..إما سيبيعها لسيدة ال تنجب ..وإما سيزرعها في رحم
زوجته التي ال تنجب.
أغلقت رحيل باب غرفة شمس خلفها بعد أن دخلتها بمالمحها المتجهمة مما أثار دهشة
شمس.
خير يا رحيل ..مالمحك تقلقني ؟!
-اً
-أريد هاتف وعنوان المحامي شقيق صديقتك فو ار.
ظلت شمس ناظرة لرحيل في اندهاش دون أن تبدى أي رد فعل.
-ألم تنسي األمر مثلما طلب والدك ؟
-كان من الممكن سابقا ..لكن بعد هذه اللحظة فمستحيل ..وال يهمني إخبارك له ..
فأنا على استعداد للوقوف أمام جدى ..جو نفسه.
ظهر على وجه شمس مالمح الخوف والقلق على رحيل مما تنوي فعله.
-إذا سألتك ما الذى استجد ..ستخبرينني ؟
-سأخبرك ..ولكن بعد أن تجلبي لي هاتف وعنوان المحامي الذى طلبت.
***********
39
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
كانت يد األستاذ ( على ) المحامي مدودة لرحيل بالسالم بمالمح يبدو عليها السعادة
البالغة.
-أهال وسهال آنسة رحيل ..لو قولت لك أن هذا اليوم سيكون عيدا قوميا للمكتب
ستصدقينني ؟
مدت رحيل يدها أيضاً بالمصافحة.
-ال ..وال وقت لمجامالت فارغة.
-هذه هي الحقيقة ..منذ زمن كنت أتمني مقابلتك ..ولكن لم تحن الفرصة.
-أكنت تعرفني قبل أن أهاتفك وأحدد هذا الموعد ؟
-نعم ..شمس شقيقتك دوما ما كانت تروي لشقيقتى حكاياتك وأفكارك الشاردة عن
المألوف ..أعجبت كثي ار أن هناك فتاة في مجتمعنا تفكر بهذه الطريقة المتحضرة.
-وأنا أيضا لم أكن أتوقع أن أجد شابا شرقيا يعجب بهذه األفكار التي هي كما قلت عليها
شاردة ..لكن ما أريد طرحه عليك يختلف كثي ار عما تظنه عني وإن كان يتسم بالخروج
عن المألوف أيضا.
-تفضلي بالحديث ..يسعدني سماعك.
***********
لم تكن رحيل بمفردها هذه المرة كعادتها سابقاً في مواجهة الدكتور رياض ،ففي هذه الزيارة
بات األستاذ على المحامي وكيال لها وحليفها ،ذهبا كال من رحيل وعلى إلى مكتب
الدكتور رياض وطلبا مقابلته ،وقد كان ،لكن الدكتور رياض هذه المرة كان متوجساً منهما
خيفة أكثر من السابق ،وبدت تصرفاته معهما يحسب لها الحساب ،حدثه األستاذ ( على )
بعد أن قام بتعريف نفسه له:
-لم نأتي دكتور رياض من أجل افتعال مشكالت ..أو إثارة القضايا ..وإنما كل ما
نبتغيه هو المساعدة من اجل استعادة حق هذه الضحية.
-ونحن ال نريد سوى ذلك أستاذ على سواء بوجودك أو قبلها ..ولكننا فعلنا كل ما
بوسعنا من أجل ذلك دون إيقاع ضرر بالمركز ولم نستطع ..هذا أمر واقع علينا جميعا
وعلينا تداركه ..ونحن من ناحيتنا تحملنا نصيبنا من الخطأ ..قمنا بإعادة العملية بالكامل
40
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
دون تكاليف ولكن هللا لم يكتب لها النجاح ..ثم قمنا بفعل ما بوسعنا من تحقيقات دون
جدوى ..ومؤخ ار قمنا بعرض مبلغ تعويض على األنسة رحيل لتخفيف جزءا من آالمها
ولكنها رفضت.
-نقدر ذلك دكتور رياض ولكن بات هناك أمر آخر يظهر لنا وهو ما نريد مساعدتك
فيه.
-ما هو هذا األمر ؟
-عم سليم ..الرجل الذى يعمل ممرض لديكم حسب سجالت البحث االجتماعي التي
أعدتها المؤسسة الخيرية التي تطوع رحيل بالعمل بها ..هو السارق.
ارتبك رياض بشدة محاوال ابتالع لعابه في صعوبة ملفتة لرحيل وعلي:
-هو السارق ! ..وكيف تأكدتم من ذلك ؟
قاطعت رحيل حديث على واكملت هي عرض أدلة االتهام:
-عم سليم كان متزوجا من سيدة ال تنجب ..ثم انجبت طفلة من عام تقريبا عمرها ثالثة
أشهر ..هذا يعنى أن حمل السيدة كان في توقيت سرقة بويضاتى تقريبا.
ضحك رياض ساخرا.
-ربما كانت إرادة هللا ..ما الذى يجزم بأنه سرق بويضاتك أنت ؟ ..هذا ليس دليل
اتهام.
-إذا كانت زوجته قد قامت بعملية طفل انابيب من بويضة خارجية وفى نفس توقيت
سرقة بويضاتى ..باإلضافة ألنه يعمل في نفس المركز هذا ..فماذا تريد دليل أكثر قوة
من ذلك ؟!!
-لكن ما أعلمه أن زوجته توفت ..ومن الصعب أن تثبتي عمليه طفل األنابيب هذه ..
ومن الصعب أيضا أن يشهد الطبيب الذى أجري لها هذه العملية بذلك.
تدخل على في هذا التوقيت وشعر بأن عليه حسم األمور:
نحن ال نريد االثبات ..نحن قدمنا إليكم الدليل ..ويمكنكم استجوابه والتحقق من
األمر.
أستاذ على ..أنت رجل قانون وتعلم أن اتهام شخص دون دليل قاطع يضع
صاحب االتهام نفسه تحت طائلة القانون ..ال يمكن للمركز فعل ذلك ..ثم أن
عم سليم في يوم اجراء العملية تحديدا واليوم الذي يليه حصل على إجازة من
المركز ..أي يستطيع بسهولة الدفاع عن نفسه واثبات عدم وجوده.
41
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
امتزجت مشاعر الحب باأللم ،الحب الذى جاء مؤخ اًر باحثاً عن بصيص ترياق من األمل
كي يستطيع أن ينبت ،ولكن أدراج الدكتور رياض كانت خاوية ،وباتت رحيل تنتظر
صبيحة اليوم التالي كي تقابل طفلة عم سليم بفارغ الصبر ،أو بمعنى أدق ،طفلتها هي.
ذهبت رحيل قبل موعدها إلى قرية عويس ،ولكن هذه المرة لم يلفت انتباه رحيل عملها
بقدر ما فعلت لطيفة طفلة عم سليم ،رأتها رحيل في منزل عم سليم قبل ذهابه إلى عمله
وهى موضوعة على سريرها تلعق أصابعها الصغيرة تعبي ار عن الجوع ،اختطفت قلب وعقل
رحيل أكثر مما كانت ،كانت كل عضلة بوجهها تود أن تقول (هذه هي ابنتي) ،اقتربت
رحيل منها أكثر وأكثر ،وحملتها بين ذراعيها ثم ضمتها إلى صدرها ،بينما كان عم سليم
يقوم بتجنيب بعض قطع األثاث بمنزله من أجل اإلفساح للعاملين ألداء مهامهم ،وما أن
انتهى عم سليم والتفت ليطمئن على طفلته إذا به لم يجد أحداً ،شعر عم سليم بفزع رهيب،
أخذ ينظر هنا وهناك في جنون بالغ ،حتى رأى من فتحة باب داره رحيل وهى تهرول بعيداً
عن المنزل ،فانطلق ورائها على الفور بالخارج حتى أوقفها وكانت المفاجأة ،فلقد اكتشف
عم سليم حيازة رحيل لطفلته ،وما كان عليه سوى أنه انتزع الطفلة من رحيل بقوة في توتر
وغضب ،وباتت رحيل تحاول استعادتها منه وهى تصرخ في حالة شبه هستيرية:
-اتركها أيها اللص ..انها ابنتي ..انها ابنتي أنا قلت لك أتركها.
42
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
لم يسمع لها عم سليم وأخذ يتحرك مبتعدا حامال طفلته بيد ويدفع رحيل عنه باليد األخرى
وسط جمع من بالقرية في ذهول مما يرونه ،حتى سقطت رحيل على األرض فاقدة للوعى.
***********
استفاقت رحيل من ثباتها لتجد نفسها في مواجهة اتهاما من سليم بمحاولة سرقة طفلته أدى
إلى القبض عليها وجعلها رهينة السجن ،ولكن في هذه اللحظة لم يكن بمقدورها حتى
الدفاع عن نفسها ،فكل ما استطاعت فعله هو محادثة شمس شقيقتها فقط ،وإخبارها بما
وقعت فيه من ورطة ،لتقوم شمس بالتواصل مع علي إلنقاذها بعيدا عن محاذير عائلة
الخواجة الخانقة ،ولكن ما واجهته رحيل من اتهام لم يكن كافيا إلخراجها من حالتها
الهيستيرية التي تمر بها والتي أدت إلى اتخاذ قرار بتحويلها لمستشفى األمراض العصبية
والنفسية للكشف عليها وكتابة تقرير عن حالتها.
لم تمكث رحيل بمستشفى األمراض النفسية طويالً ،ففور وصولها اكتشفت قدوم شمس
ودخولها إلى عنبرها على الفور ،مما أدهشها كيفية تمكنها من الدخول إلى مكان مثل هذا
بهذه السهولة ،ولكنها اكتشفت بعد ذلك قدوم الدكتور فريد خلفها ،تقدم فريد نحوها مواسيا
لها لما تمر به:
أقدر ما تمري به آنسة رحيل ..لقد لبيت النداء فور قيام اآلنسة شمس بإبالغي
وقمت بتوصية زميلي لإلسراع في كتابة التقرير لتتمكني من الخروج من هذا
المكان في اسرع وقت ممكن ..استأذنك باالنصراف وسأبلغكم وقت انتهاء
اإلجراءات وفى حالة الرغبة في استدعائي ألمر طارئ ..فآنسة شمس لديها
هاتفي.
انصرف فريد متحدثاً إلى الطبيب المعالج ،واحتضت شمس شقيقتها رحيل وهى في حالة
يرثى لها ،أخذت رحيل تنظر إلى فريد في حالة من عدم استيعاب ،نظرات مليئة بالعديد
من التساؤالت ،حتى قررت شمس اإلجابة على كل ما يدور ببال رحيل وقتل حيرتها:
لم اجد غيره يمكننى استدعاءه لمساعدتنا في مكان كهذا.
هذا من تقدم لخطبتي منذ عام تقريباً ؟
43
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
تحرك شاكر تجاه سيارته القابعة أمام مقر شركته ليركبها قاصدا وجهته المرجوة ،ولكنه
فوجئ بركوب شخص بجواره مما جذب انتباهه فجأة ليكتشف أنه ( فخر ) ،اندهش شاكر
بشدة لجرأة فخر الغير معتاد ومن طريقة لقاءه به المريبة وسأله مستفهماً:
ما هذه الطريقة يا فخر وما الذى تريده ؟
أقدر مسئوليتك ..وال أرغب في أن أسبب لك الحرج مع ( جو ) لذلك فضلت
مقابلتك بهذه الطريقة ..أعلم أن ما فعلته بي كان رضوخا لتعليمات ( جو )
المجحفة التي ال تدع خيا ار أمامنا دون قبولها ،ولكني اآلن أمنحك القدرة الكاملة
44
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
على االختيار ..ولكونك ال تنتمى لعائلة الخواجة فسيكون الخيار عليك أسهل من
أي فرد أخر ..فقط عليك التحرر من الروابط التي صنعتها بنفسك ووقتها ستجد
ما سأعرضه عليك هو رغبتك األولى.
ال أفهم ما تود قوله ..ووقتي ثمين كما تعرف.
وقتك كان ثمين ..لكن لن يصبح كذلك بعد ما سأقوله لك.
اتلو ما عندك.
لقد انتوينا التخلص من ( جو ).
بدت مالمح الصدمة تمأل وجه شاكر وتبعها بسؤال على الفور.
من أنتم ؟
لن أذكر أسماء ..ولكنك ستفاجئ عندما تعلم عدد المتحالفين من عائلة الخواجة
ضد استبداد ( جو ) ..فقط ما عليك سوى أن تعلن تحالفك معنا واترك الباقي من
حملوا على عاتقهم الخالص.
ولماذا ظننت أنى سأوافق ؟ ..وما الذى أدراك أنى لن أخبر ( جو ) ؟
ألننا اتفقنا أن إدارة المجموعة ستكون بعد نجاح مخططنا ستكون لك ..ولكن هذه
المرة بملكيات حرة ..لست موظفا براتب شهري كما يفعل ( جو ).
وإن رفضت ؟
إن رفضت ولم تغدر ستكون كما أنت بعد الخالص ..لن ينقص منك شيء ..
وأرجوك ال تسألنى إن رفضت وغدرت ماذا سيحدث ..فقلبى ال يحتمل اإلجابة.
شاكر ال يخشى التهديد ..دعني أفكر.
حقك ..وأصوب الخيارات ..خذ وقتك ونحن بانتظار ردك ..الذى نثق فيه.
ابتسم شاكر في سخرية اثناء نظره لفخر وهو يخرج من سيارته ،ركب فخر سيارته وانطلق
بها يقصد وجهته ،ولكن وجهة شاكر كان فيال ( جو).
***********
ما زالت ميرفت حبيسة جدرانها كما اعتادت منذ وقت زواجها من شاكر ،ال تفعل شيئا
سوى االحتمال من أجل االستقرار ،االحتمال وفقط ،أخذت تنظر لصورة داخل برواز
45
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
البنتها رحيل في طفولتها ،ولكن رنين هاتفها قطع شعورها المعتاد هذه المرة ،كان اتصاال
من إبرام ابن خالتها مما أثار دهشتها اتصاله بهذا التوقيت ،ولكنها أجابت على االتصال:
-ما الداعي التصالك في توقيت كهذا يا إبرام ؟
-عيناك ..عيناك كشفا في الحفلة ما بداخلك.
-ما الذى بداخلي ..أنت واهم.
-كال لست بواهم ..وأعي ما أقول جيدا ..أنت تعي أني لم أخطأ قراءتهما يوما ما ..
عيناك كشفا ما بداخلك من حزن كبير ..أنت غير سعيدة يا ميرفت.
-وإن كنت كذلك فهذا أمر ال يخصك ..فال تنس أني امرأة متزوجة.
-ومنذ متى يمنع الزواج اتخاذ السيدة لخليل كان يروق لها سابقا.
-هذا في أوروبا حيث كنت تقيم ..ولكننا هنا نعيش في مجتمع شرقى ..وعلينا احترام
تقاليده.
-هذا المجتمع نفسه بات يقلد أوروبا ..فلماذا نظل نحن متمسكون بعاداته أكثر من
ابناءه األصليون.
-نحن لم نعد مثل السابق يا إبرام.
-معك حق ..ولكني لن أكون مثل الظروف واتخلى عنك بسهولة ..ما عندك على
الشاشة هو رقمي في مصر ..استخدمه طوال فترة أجازتى بمصر ..متأكد أنك قد قمتي
بحفظه على هاتفك ..في انتظار مكالمتك وقتما تشائين قبل عودتي.
انهت ميرفت المكالمة وهي تضم الهاتف إليها وتفكر في حيرة.
***********
داخل أروقة المركز الخاص قام على بمقابلة سليم ،ولكن سليم لم يكن مرحبا بمثل هذا
اللقاء ،كان يبدو على سليم محاوالته إلنهاء الحديث مع على وعدم الرضا عما يقول:
-أريد سماع صوتك ..هل فهمت يا عم سليم دوافع قيام األنسة رحيل بما فعلته األن ؟
-ما تقوله هذا يعنى أنه يتعين على رفع قضية تشهير عليها أيضا باإلضافة لقضية
ّ
الشروع بالخطف.
46
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-ليس األمر كذلك ..فهى فتاة في مأزق إنساني ..يتعين علينا الوقوف بجانبها ال
ضدها ..فأنت مثل والدها ولن تسمح لفتاة في هذه الظروف أن تتعرض للسجن.
-عذ ار ..فاألمر لم يكن هينا علي وأنا أرى ابنتي بين ذراعيها تهرول بها وتود خطفها ..
ماذا تريد مني أن أفعل األن.
-أريد تصحيحك للمعلومة عند مثولك أمام النيابة ..تخبرهم بسوء فهمتك عندما رأيت
الطفلة بين يديها ،وأنك نسيت قيامك بتكليفها بحمل الطفلة حتى تنتهى من أعمال تفريغ
شقتك.
-وما الذى يضمن لي بعد تنازلي عن القضية عدم قيامها باتهامي بسرقة البويضات كما
اخبرتنى األن.
-أنا الضامن.
-مع احترامى ..هذا ال يكفى ..البد من ضمانا وافيا.
-اطلب ما تريد.
-اعتراف موقع منك بأنك سارق البويضات ..فإذا عادت واتهمتنى قدمته للنيابة وضمنت
البراءة.
-ولماذا تريد منى اعتراف بجريمة لم ارتكبها.
-وما سبب خوفك ..أال تضمنها كما قلت ..دون اتهام منها هذه الورقة تصبح ال قيمة
لها.
فكر على قليال ثم ضاقت عيناه ثم هز رأسه بالموافقة فابتسم سليم:
-الشرط الثاني أن الجمعية اللي تعمل بها تقوم بتبديلها ..وال تأتى قرية عويس عندنا مرة
أخرى.
أجابه على في شعور يمأله األسى.
-موافق.
-هكذا نكون قد اتفقنا.
ما كان أمام على سوى أن يتنفس الصعداء بعد نجاحه في الوصول لهذا االتفاق ،فهو ال
يبغي منه سوى استعادة حرية رحيل في أسرع وقت ممكن أيا كانت تكلفة ذلك األمر.
***********
47
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
بلغ شاكر وجهته المرجوة ،ولكن ما أن وصل حتى أدهشه جلوس جو أمام منضدة تحمل
فنجانين من القهوة أحدهم يحتسيه جو واألخر وكأنه بانتظار قدوم شاكر ،واألكثر دهشة
أن عند جلوس ساكر ولمس الفنجان وجده ساخنا ،فبادر بالحديث:
-يبدو أنك كنت تعلم بقدومي.
-كنت أتوقع ..لذا طلبت لك هذا الفنجان ..ولكن ما لم أتوقعه يا شاكر أن تخفي عنى
أمرا.
أصاب شاكر الخوف والتوتر ووضع الفنجان على المنضدة بيده المرتعشة على الفور.
-لم أنوى االخفاء ولقد جئت لك حاال من أجل االفصاح بكل شيء.
-فات األوان يا شاكر ..أنت الوحيد الذى أمهلته فرص عدة ربما تتراجع عن خداعك لي
ولكنك ظللت مواصال خبثك.
-لم أكن أعلم إال منذ قليل ..صدقنى ..وجئت ألخبرك للتو ..أرجوك اسمع حديثى
أوال.
أشار جو بيده ألحد رجاله فتقدم بطاولة متحركة تحمل ورقة وقلم.
-وأى عقل يصدق ما تقول ..هذا طلب استقالة من إدارة شركات عائلة الخواجة ..
سأكتفى بذلك وفقط ..قم بتوقيعه وترك أى مفاتيح أو متعلقات على الطاولة بجواره.
-ولكنك بهذه الطريقة تظلمنى.
-أتريد منى أن أصدق أن ابنة تجرى عملية بأحد المراكز الطبية مرتين ثم يتم سرقة أهم
ما بجسدها ووالدها المقيم معها ال يعلم شيئا عن ذلك !!
-رحيل ؟! ..أتقصد رحيل ؟!
-نعم ..أكنت تقصد أمر أخر ؟
فكر شاكر قليال وظهر على وجهه الغضب الممزوج بنظرات الخبث.
-ال ..هذا ما كنت أود الحديث عنه.
مد شاكر يده وقام بتوقيع االستقالة على الفور.
-واألن اذهب واستدعها للقائي ..فأنا من سيتولى إدارة هذا األمر بنفسي ..ولنجعل
جلسات العتاب تتلو احتفاالتنا بالنصر.
تحرك شاكر وألف فكرة وفكرة تدور فى رأسه ،أى قرار يتخذه ،وهل يعود ليخبر جو بما
جاء من أجله ،أم موافقته على عرض فخر اصبحت خيا ار محسوم ،استمرت األفكار
48
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
تصارع إحداهما األخرى ال تطرح أيا منهما صريعتها أرضا ،حتى خرج شاكر خارج القصر
برمته.
***********
عادت رحيل إلى الفيال برفقة شقيقتها شمس ،وكانت المفاجأة اكتشافهم جلوس شاكر
وميرفت في انتظارهما ،لم تتمكن رحيل من تغيير مظهرها الهزيل من أثر ما تعرضت له
بالحجز والمستشفى األيام السابقة ،هرولت ميرفت نحو رحيل ابنتها تحتضنها ولكنها
اكتشفت قيام رحيل بدفعها بعيداً عنها ،بينما نظرات شاكر تترقب يمألها الغضب الشديد:
-لقد طلب ( جو ) لقاءك ..ما رأيك ؟ ..أ تعين عاقبة طلب جو مقابلة أحد من أفراد
العائلة ؟
ثم ازداد شاكر انفعاال وارتفعت حدة نبرة صوته.
-شجرة العيلة هذه التي فتحت لنا أي باب مغلق السنوات الماضية ..هي نفسها من
ستغلقه في وجهنا األيام القادمة ..وكل هذا بسببك أنت وما أعطيتك إياه من حرية لم
تفهمى معناها.
استشعرت ميرفت الخزي مما يحدث حولها من الجميع ،فلم يعد خوف شاكر وحده من
المشكلة التي تواجهها ابنته ،ولكن خوفه الرئيسي على ما يحصل عليه من انتماءه لعائلة
الخواجة ،أصبحت ميرفت تستمع لما يدور من حوار حولها وهى ال تكف عن النظر
لموضع قدميها فى صمت بالغ ،ولكن رحيل قررت أن تقطع هذا الصمت فجأة:
-يمكنكم اعتباري فرع خبيث شارد والتخلي عني.
-الفرع الخبيث بالشجرة يتم استئصاله ..وأنا ال أرغب في ذلك.
-ليس لدي حلوال أخرى ..سأتولى أمرى بنفسى ..وسأرفع قضية إلثبات حقى في ابنتى
..ولن أذهب إلى جو ..وليكن ما يكون.
انتبه شاكر وميرفت وشمس إليها فجأة ثم تقدم شاكر نحوها مندهشا.
-ما هذا الهراء !! ..أنت لم تتزوجي كى تطالبي بحقك في طفلة ..هذه القضية
محسومة قبل أن تبدأ لن تجني منها سوى الثرثرة.
-سأطلب عمل تحليل (دى إن إيه) وسيثبت أنها تحمل جيناتي ..وسأستعيدها إلى
حضني.
49
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
50
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
51
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
(كل ما حققته اضحى يتالشى) كانت هذه الجملة هي بداية حديث شاكر وهو
مستلقياً بين أذرع ( نجوى ) زوجته الثانية يشكو همه ،لكن نجوى كانت أكثر دهاء مما
يتخيل:
-وما الدافع إلبقائك عليها حتى األن ..لتمنحها رغبتها ..فما بينك وبين جو قد انتهى
وبات عليك إعادة ترتيب أوراق اللعبة.
-ماذا تقصدين ؟
-لقد كان عرض فخر عليك مغريا وفى توقيته المناسب من الجنون رفضه.
انتفض شاكر من بين أذرع نجوى مصدوما ووجهه يمأله ألف سؤال:
-وكيف علمت بهذا العرض ..فأنا لم أخبرك شيئاً.
ضحت نجوى بشدة ونظرت لشاكر مبتسمة دون أن تجيب ،بدا شاكر وكان أنه فهم أطراف
الشرك الذى وقع فيه.
-أنت عميلة لفخر.
-مظبوط ..ولكن هذا ال يمنع أنى معجبة بك ..وكل لحظة سعدت معك فيها كانت
حقيقية.
قام شاكر يتحرك في ارجاء الشقة يضرب كفا على كف ،يحاول استعادة تفاصيل لقاءه بها
كيف كانت وكيف لفتت انتباهه ،كيف اغوته حتى وصلت به ألن يتزوجها س ار في مكان
كهذا ،كيف استغل فخر عالقة الجفاء بينه وبين زوجته الغير معلنة ليلعب على هذه العقدة
ويرسل له فتاة تدخل من أقوى ثغرة اصابته ،ثغرة الضعف ،فشاكر كان يبحث عن زوجة
يشعر بضعفها أمامه لتكسبه الشعور الذي افتقده مع ميرفت زوجته ،وبعد أن اتضح لشاكر
األمر برمته قرر ارتداء بقية مالبسه محدثا نجوى في جدية مفرطة.
-أخبري فخر أنى موافق على عرضه ..وسأقدم له ما يحتاج وقتما يريد ..ولكن عليه
تقديم الضمانات أوال التي تضمن مكانتي في مجلس اإلدارة الجديد.
انتهى شاكر من حديثه وتوجه ناحية باب الشقة ثم توقف وعاد إليها مرة أخرى ليقف
أمامها ناظ ار بعينيها التي تكن الكثير من الذكاء ،ولكن نظرات شاكر كانت تتوعد لها
بدهاء أكبر.
-أنت طالقة.
ثم توجه شاكر نحو باب الشقة ليفتحه وينصرف من خالله في هدوء.
52
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
جلس على بمفرده أمام منضدة بمطعم هادئ ينتظر وصول أكسير حياته ،حتى وصلت
رحيل إلى مكان المواعدة تجلس على كرسيها في منتهى الجدية ،أخذ على يبلل شفتيه
باحثا من أين يبدأ الحديث:
-أعتذر عما بدر منى تجاهك بالمستشفى إذا كانت طريقة حديثي ال تليق ..ولكن عليك
أن تقدرى معنى قلقى من ضياع كل ما رتبناه من اجل استعادة حقك وضياعك أنت
شخصيا.
ظلت رحيل ناظرة له تستمع دون إبداء رد فعل ،فتبع على حديثه:
-ما الذى دفعك لذلك يا رحيل ؟ ..لم يكن هذا اتفاقنا.
أجابته رحيل بمنتهى الثبات:
-أريد رفع قضية اثبات نسب يا على.
أجابها على باندهاش:
-اثبات نسب ..كيف ذلك ؟! ..أنت لست متزوجة.
-سأدعي ذلك.
-كفى يا رحيل ..كفى عند هذا الحد ..أنت فتاة جميلة ..يمكنك عيش حياة يحسدك
عليها الجميع ..أنظرى أمامك وال تتراجعين للخلف.
-لن أحيا وأترك ابنتي بعيدة عني ..في هذه الحياة المضنية الفقيرة دون حضن أم دافئ.
لم يتمالك على أعصابه من شدة االندفاع.
-هذه ليست ابنتك.
أستشعر على مشاعر الصدمة في أعين رحيل ..فحاول التهدئة من األمر:
-أقصد أنه احتمال ضعيف سيصعب اثباته وربما نكون مخطئين في حق الرجل.
-ال ..لست مخطأة ..لن يشعر بى سوى أم مثلى ..وتغيرك أفهمه جيدا ..ماذا يملك
سليم لتبيعني من أجله ..أنت ال تختلف كثي ار عن عائلة الخواجة ..ربما أنت منهم.
نظرت له رحيل نظرت قلة حيلة ثم قامت بالتقاط حقيبتها من على المنضدة وانصرفت
دون مقدمات ،أخذ على ينفث أنفاسه وهو في حالة من الحيرة والسأم.
53
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
تتحرك عقارب الساعة من موضعها بينما موضع سكون ميرفت ال يتبدل ،بات المنزل
غريبا وضاق على كل من به رغم اتساعه ،اصبح كل من يسكنه في واد مختلف عن
اآلخر ،وفقد كل منهم القدرة على النظر في وجه من يقابله ،ووسط كل هذا أعين ميرفت
ال تتوقف عن البكاء ،نظرت ميرفت إلى هاتفها الجوال أثناء استمرارها بالبكاء ثم هدأت
قليالً ،ثم مدت يدها لتلتقطه ،أمسكت به وأخذت تفكر كثي اًر ،ثم قامت بفتح رسائل الهاتف
وبدأت في الكتابة ( لقد أصبحت حرة ) ثم قامت ميرفت بتحديد اسم المرسل إليه واختارت
اسم ( إبرام ) ،ترددت ميرفت كثي اًر قبل الضغط على زر اإلرسال ،أخذت ميرفت تنظر إلى
البرواز المعلق على الحائط والذى يحوى صورتها مع شاكر زوجها بفستان الزفاف في
ابتسامة نادرة تجمعهما ،ونظرت أيضاً إلى سلسلة ذهبية معلقة أمامها كانت أولى هدايا
شاكر لها بمناسبة سنوية زواجهما ،ثم تراجعت ميرفت وقامت بقفل شاشة الهاتف ووضعته
أمامها ،دمعت عيناها أكثر ،حتى الحظت دخول رحيل من باب الفيال ومرورها من أمامها
دون أن تخاطبها ،فقامت ميرفت بالتقاط الهاتف مرة أخرى في عجلة من أمرها وقامت
بالضغط على زر اإلرسال وهى تجفف دموعها المنهمرة على خديها.
***********
دخل شاكر فيال جو وهو في حالة من الثبات والجرأة فوجده في موضع جلوسه الدائم ،وما
أن وقف شاكر أمامه حتى بدأ جو بالحديث:
-ما الذى جعلك تأتى دون موعد مسبق ؟ ..لم أرغب في قيام الحرس بمنعك حرصا
على ما تبقى بيننا من عالقة نسب استمرت نحو ثالثون عاما.
-ألن هذه الزيارة تختلف عن أي زيارة مضت خالل الثالثون عاماً ..لقد أتيت ألحذرك
من مخطط بقيادة فخر وحلفاء له من عائلة الخواجة للتخلص منك والسيطرة على رأس
مال المجموعة ومن ثم وضعك بالسجن.
انتفض جو من جلسته في غضب:
54
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
وسط كل ذلك كانت شمس بغرفتها مستغرقة بالحديث في الهاتف بمالمح مشبعة
بالرومانسية ،غير آبه بأي انهيارات أو هزات اجتماعية قد تصيب من حولها ،فكل منهم
مسئول عن اختياراته ،وشمس اختارت هي أيضا الطريق الذى ترضى نهايته:
-وأنا أيضا كنت معجبة بك من قبل ذلك ولكن ما كان يحدث وقتها لم يسمح لي
بالحديث.
حتى قاطعها دخول رحيل إلى غرفتها ،فنظرت إليها شمس بطرف عينيها ثم أنهت
المكالمة على الفور في حالة ضيق ،ثم نظرت إليها في غضب:
-أال يجب عليك طرق بالباب قبل الدخول ؟!
اجابتها رحيل في دهشة:
-ومنذ متى يطرق احدنا باب األخر قبل الدخول يا شمس ؟!!
-منذ أن أصبحنا نفاجئ بأسرار يعرفها أحدنا وال يخبر بها األخر.
كانت شمس تقصد حديث رحيل مع والدها لحظة الخالف وما ألقت به من كلمات غامضة
لم تفهمها تعبر عن سر تعلمه عن أحدهما.
-لن تفيدك معرفة أمر كذلك يا شمس ..بل بالعكس كانت ستضرك بشكل أكبر ..لقد
آثرت الصمت والتحمل وحدى ..دون فضفضة أو مشاركة مع أحد ..كى أدفع عنك
شعور كهذا.
-ولنفس هذا السبب ال أتمنى لك أن تعلمي هوية من أحدثه.
55
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
دخلت رحيل مقر الجمعية التي تعمل كمتطوعة بها ،فأخبرتها السكرتارية بأن مدير
الجمعية بانتظارها في مكتبه ،لم تكن تعلم رحيل سبب هذه الدعوة حتى فوجئت بقرار
باالستغناء عنها ومنعها من دخول مشروع قرية عويس نهائيا ،لم تستطع رحيل قبول األمر
بسهولة وقررت مواجهة مدير المؤسسة للوقوف على مالبسات هذا األمر ،ولكنها لم تكن
تتوقع االجابة التى سمعتها:
-لقد قمت باستغالل تطوعك بالجمعية وقمت بإفشاء األمانة واستخدام مستندات تحمل
بيانات أحد المنتفعين من خدماتنا من أجل تدعيم موقف شخصي لك ضده وإقامة دعوى
قضائية عليه.
56
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
خرجت رحيل من مكتب مدير الجمعية في حالة من الغضب الشديد ال تعير أحد من
زمالئها اهتماما رغم رغبتهم في الحديث معها من أجل معرفة ما دار بالداخل ،ولكنها
فوجئت بوقوف على أمامها بشكل مفاجئ فتوقفت ،اقترب منها على ناظ اًر إليها بود:
-لقد فعلت لك ما تريدين ..لماذا ال تجيبين على مكالماتى الهاتفية يا رحيل ؟
أخذت تنظر إليه رحيل دون أن تجيب ثم أخذت تشتت أنظارها في كل مكان حولها،
نظرت رحيل حولها لزمالئها تستشعر نوعاً من الحرج:
-دعنا نتحدث في مكان أفضل من ذلك.
مد على لها يده ،نظرت رحيل إلى يد على الممدودة إليها ثم أمسكت بها وسارت معه تجاه
باب الخروج.
***********
جلسا كال من رحيل وعلى بأحد الكازينوهات المليئة باألشجار الكثيفة وصوت شقشقة
العصافير يطرب آذان من يسمعها ،تحدث على بعد أن أقترب من رحيل وهو يدنو منها:
57
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-ال تعلمي قدر ما فعلته مع سليم كي أدفعه للتنازل عن اتهامك ..ال أعلم كيف سيكون
رد فعله عندما يصله إعالن قيامي األن برفع دعوى اثبات نسب عليه ..كال أعلم ..
ومستعد لما سيفعله ..ال بأس بذلك.
-ما الذى دفعك للخضوع لرغبتي رغم عدم اقتناعك ؟
-إذا أجابتك سأكذب ..وأنا ال أريد الكذب في الوقت الحالي ..المهم أن تكوني في اتم
استعداد لمواجهة جدك باألمر ..فالقضية لن تكون س ار وسيعرف األمر الجميع فور بدء
الجلسات.
-لم أعد اهتم بذلك ..ولم أعد أرى شيئا سوى ابنتى التي سرقت من بين أحشائي.
-إنها محظوظة جدا ألن هللا رزقها بأم مثلك.
-لكن في ظروف غير مناسبة ..دوما تعطينا الدنيا ما نحتاجه في غير أوقاته المناسبة.
-ربما يكون هو الوقت المناسب يا رحيل دون أن ننتبه.
فكرت رحيل في حديث علي شاردة في معانيه الخفية التي تستتر بين الحروف ودموعها
ّ
محملة بالحنين.
***********
فى هذا التوقيت كان شاكر جالس فى اجتماع مجلس إدارة بمقر المجموعة ليفاجئ أن
أبواب غرفة االجتماعات جميعها باتت موصدة ،أثار ذلك دهشة شاكر وجعله أعتقد أن
هناك أم ار ما يحدث غير طبيعيا ،حتى أقتحم فخر الجلسة عليهم بشكل مفاجئ ليتحول
معتقد شاكر إلى يقين بأن هذه هى لحظة التنفيذ.
ربت فخر على كتف شاكر وأخبره أن الرسالة المرسلة مع نجوى قد وصلته ،وأنه سيرى بأم
أعينه األن تحقق ما وعده إياه ،طلب فخر من أتباعه بالمجلس الوقوف لإلعالن عن
أنفسهم أمام بعضهم البعض ،ليفاجئ شاكر بقيام أكثر من نصف المجلس بالوقوف ،ليبدأ
فخر بعرض مخططه على األقلية المتبقية بالمجلس:
-كل من تبقى كنا نثق من والءه لجو لذا لم نجازف بعرض األمر عليهم ..ولكن األن
أمامهم فرصة أخيرة ..إما شراء سالمتكم بالتوقيع على تنازل عن مناصبهم بالمجموعة
والتوقيع أيضا على عريضة إدانة جو لقيامه بالتالعب برأس مال المجموعة لتقديمها
58
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
للمحكمة ..أو رفض ذلك وسيتم نفس األمر بقوة أغلبية المجلس ولكن سيتم احتجازهم
لحين تسليمهم للشرطة ألن اسمائهم ستضاف لعريضة إدانة جو ..ماذا قلتم ؟
أخذ أعضاء المجلس ينظر كل منهم لألخر دون إبداء أى رد ،فاستأنف فخر:
-قد وصل الرد ..وسيتم اتخاذ الالزم ..بعدها سنقوم بتوقيع محضر الجلسة الجديد
وتفويض شاكر قائما بأعمال رئيس مجلس االدارة لحين انتخابه رسميا.
تبادل شاكر وفخر ابتسامات تتشابه فى ظاهرها ولكن مضمونها يختلف من أحدهما
لآلخر.
59
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
60
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
حان وقت غروب الشمس ،حيث موعد عودة العم سليم من عمله ،ولكن هذه
المرة قد عاد دون رجعة ،أخذ عم سليم في االقتراب من منزل جارته يقدم قدم ويؤخر
األخرى ،حتى وقف أمام منزلها طارقا بابها في حالة من اإلحباط ،فتحت له جارته:
-تفضل يا سليم ..معذرة المنزل غير مرتب بسبب أعمال التطوير التي تجرى في البلدة،
رأيت منزل حسنية بعد أن انتهوا منه اصبح مبهجا للغاية ..عقبى لك ولي.
ثم حملت السيدة الطفلة ومدت يدها إليه لتعطيها له:
-أرضعتها ونامت بعد بكاء طويل ..ال أعلم ما بها ..انصحك بعرضها على طبيب
ربما أصابها ميكروب وتحتاج لعالج ..واألفضل أن تفكر بالزواج ..فلو عادت لطيفة
األن لطلبت منك نفس الطلب ..ليس من أجل أحد بل من أجل ابنتك.
-لو عادت لطيفة األن لتغيرت أشياء كثيرة ..ومصائب أكثر لم تكن لتحدث.
-لماذا تتحدث بهذه النبرة يا سليم ؟
-لقد فصلت من عملي.
-يا هللا ..وما السبب ؟
-استقبلت إعالن بقضية رفعتها علي الفتاة المجنونة تتهمني بهراء كما سمعتيها أخر مرة
..لكني لن أتركها تنال مني ومن سمعتى ..ليتنى ما تنازلت عن قضية محاولتها
اختطاف لطيفة.
-ال حول وال قوة إال باهلل ..ومن أين ستأتى بالمال من أجل رعاية هذه الطفلة المسكينة.
-لن يتركنا هللا.
-انتظر سأجلب لك بعض اللبن والمالبس الزائدة من أجلها.
توجه سليم بالطفلة ناحية باب المنزل متجها للخارج:
-ليس اآلن.
ما أن أستقر عم سليم في منزله وأغلق بابه حتى استيقظت طفلته لطيفة وأخذت في البكاء
فاحتضنها سليم وهو يجلس على السرير وأخذ يحركها بشكل اهتزازي بصوت همهمة
محاوالً جعلها تنام مرة أخرى ،لم تستجب طفلة عم سليم لحيلته ،وكان صوت صراخها
يزداد ارتفاعا مما جعل عم سليم أصبح شارداً وكأنه ال يسمعها ،محدقاً النظر أمامه بنفس
االتجاه ال يحرك عيناه حيث صورة لطيفة زوجته ،ثم أخذت عيناه تذرف دموعا إثر شعوره
بقلة حليته.
61
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
***********
ونجحت محاوالت إبرام مع ميرفت ،وكانت ثمرة هذه المحاوالت أنه اصبح جالسا على
منضدة مطعم في انتظار قدومها إليه ،حتى رآها تدخل من باب المطعم قادمة نحوه فابتسم
لها ملوحاً بيده ،جلست ميرفت على الكرسي المقابل إلبرام ،فنظر إليها إبرام بابتسامة
صافية:
-كأن الزمن قد توقف منذ أكثر من ثالثون عاما ولم يمر.
-لو كان الزمن توقف لما كنا التقينا اآلن مرة أخرى يا إبرام.
-وما الذى جعلنا نلتقى األن ؟
-أمو ار كثي ار ..ال مجال للحديث فيها اآلن ..اخبرني عن نفسك وعن حياتك طيلة
السنوات التي مضت.
-تزوجت وانفصلت عدة مرات ..فعلت كل شيء يحلو لي ..بعيدا عن تسلط جو ..
هذه أفضل ميزة شعرت بها في بعدي عن عائلة الخواجة.
نظرت ميرفت جانبا نظرة حزن وأسى:
-الحقيقة أنه ليست عائلة الخواجة وحدها من تتحكم باختياراتنا ..ولكن الحقيقة أنه
الخوف بداخلنا هو السجن الفعلى ..هو ما تحيا أرواحنا حبيسة جدرانه ثم نبحث عن
األخرين كى نلقي اللوم عليهم ،ما فعلته أنت هو أنك تحررت من خوفك ..ال من عائلة
الخواجة.
أنتبه إبرام لتعبيرات وجهها فتساءل متعجبا:
-يبدو أنك محملة بمآسي عدة ..ليست هذه ميرفت التي تركتها منذ ثالثون عاما تلهو
وتضحك.
-كنت قد ....
قاطع حديث ميرفت رنين هاتف إبرام فقام بالتقاط هاتفه المحمول وأجاب على المكالمة:
. -
ارتسمت مالمح الدهشة على وجه ميرفت أثناء حديث إبرام.
. -
62
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
نظرت ميرفت خلفها فإذا بفتاة جميلة ممشوقة القوام في العقد الثاني من العمر تقترب
نحوهما وبيدها هاتف تغلقه ثم تضعه بحقيبتها ،حتى جلست بجوارهما ،وقام إبرام بتعريف
كل منهما لآلخر مشي اًر إلى ميرفت:
. -
فابتسمت لها الفتاة:
. -
نظرت لها ميرفت بابتسامة صفراء ،ثم أشار إبرام إلى الفتاة محدثا ميرفت.
-إنها ( أولى ) صديقتى وسنتزوج قريبا بإذن هللا.
شعرت ميرفت بصدمة شديدة.
-تعرفت عليها بأوروبا ..رأيت بها طعما جديدا لم أتذوقه من قبل ..انتابنى شعور
الرغبة في التجربة ..ربما أعجبتني واكملت معها حياتي ..جلبتها معي لرؤية مصر كما
أرادت ولشوقها لرؤية عائلة الخواجة التي سمعت عنها الكثير.
ثم نظر إبرام إلى عال وهو مبتسماً يفرك يديها أثناء حديثه مع ميرفت:
-سنذهب اليوم لمشاهدة فيلم رومانسي بالسينما وأنت مدعوة لمرافقتنا.
-أنا ال أحب السينما ..يبدو أن سنوات أوروبا جعلتك تنسى طبعي.
-ظننت أن هذا الطبع ربما تغير مع ما تغير.
-أنت واهم ..لم يتغير شيء أبدا ..فمشاعري تجاه شاكر نفسها منذ ثالثون عاما ..
وتجاهك أيضا ..وأي مقارنة تصنعها األن بيني وبينها ..ليس لها محل من اإلعراب.
ثم جلبت ميرفت حقيبة يدها وهمت باالنصراف محدثة ( أولى ).
نظ ار كال من إبرام وعال لبعضهما البعض فى دهشة من تصرف ميرفت الغير متوقع.
***********
عادت ميرفت إلى فيال شاكر لتقوم بتجهيز حقائبها من أجل المغادرة إلى منزل والدها ،
فاألمر بالنسبة لها لم يعد يحتمل الصبر أكثر من ذلك وبات عليها إبالغ جو بكل شيء،
63
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
ولكن ما أن دخلت ميرفت إلى غرفة نومها حتى فوجئت بوجود شاكر جالسا أمامها
بانتظار قدومها ممسكا بورقة يظهرها لها ،بدا على مالمح ميرفت الدهشة:
-شاكر ! ..ما هذه ؟
-دليل براءتك ..شهادة المستشفى على تعرضك لحادث فى الطفولة ..كنت أعلم الحقيقة
وأنك لم تعرفي أحدا قبلي أو بعدى ..ولكن أنا من أخفيتها طوال السنوات السابقة.
-أنت يا شاكر ؟!! ..لماذا ؟
-أنت ميرفت ابنة الخواجة ..وأنا من ؟ ..مهما فعلت وتقدمت فى عملى وحققت
نجاحات ..سأظل فى المرتبة الثانية ..ألنى لست خواجة ..كنت أريد أن أشعر بفضل
عليكى بأى وسيلة ممكنة ..ولم أجد أفضل من هذه وسيلة ..كان األمر بيننا وفقط لم
اتوقع أنه سيتسرب يوما بين البنات ..الورقة معك ..بإمكانك استعادة كبريائك أمامهما
مرة أخرى.
-لم أعد فى حاجة لذلك ..ولم أعد فى حاجة إليها ،هذه الورقة صدرت قديما ألجلك ..
واآلن ال قيمة لها ..ولكن قبل أن أنصرف هناك سؤال ملحا أتمنى سماع إجابته.
-ما هو ؟
-لماذا األن بالتحديد ؟
-ألنى لم أعد تحت رحمة جو كما كنت بالسابق ..بل فضلى على جو بات كبي ار ..هذا
الملف به حياة جو بالكامل ..إما استأثرت به وغدرت ..وإما سلمته له بجميل لن
يستطيع الوفاء به طوال حياته.
ثم التقطت شاكر الظرف ومد يده به لميرفت:
-واآلن أنا أفي بعشرتى معه ..أريدك أن تكملى جمع حقائبك وكأنك غاضبة كما أنت ..
وتوصلى له هذا الظرف فى غاية السرعة ..ألنه من المؤكد أنى مراقب.
-ما الذى يحدث لوالدى يا شاكر.
-ال وقت لذلك ..هذه أوراق مجلس اإلدارة الجديد بأسماء من خان وأسماء من وفى
وأماكن كل منهم ،عليه التحرك برجاله نحوهم قبل قيامهم باستكمال تنفيذ مخطتهم.
التقطت ميرفت الظرف فى خوف وقلق وقامت بوضعه داخل حقيبة مالبسها.
-أخبريه أن ما أريده منه مقابل هذا هو الوقوف معي إلنهاء مشكلة رحيل.
نظرت له ميرفت نظرة حنين وكأنها ال تصدق ما تسمعه منه ،فمنذ متى فضل شاكر
ابناءه على طموحه الوظيفي ،يبدو أن شاكر قد تغير فعال ،تغير قد يعيد لمشاعر ميرفت
64
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
تجاهه روحها التى صعدت منذ أعوام مديدة ،ولكن هناك أم ار ملحا أكثر أهمية من
المشاعر ،والبد من قضاءه أوال.
***********
قام سليم وهو في حالة استسالم لمواجهة واقع يبدو مري ار بزيارة أحد المحامين المغمورين
الذى يعرفه بشكل شخصي من أجل مساعدته في مواجهة دعوى رحيل التي أقامها لها
علي ،فحص المحامي اإلعالن المرسل لسليم من المحكمة ثم نظر إليه متسائالً:
ّ
-هذه طليقتك ؟
-لم أرها سوى مرتين في حياتي كلها.
-ماذا ؟ ..تقصد أنها مدعية ؟
-ربما تريد مبلغا من المال وربما مصابة بمرض نفسي.
-أال تعلم إذا كان قد سبق لها الزواج من قبل ؟
-ال أظن ذلك.
-األمر بسيط وسيحسم من أول جلسة ..تحليل ال (دى إن إيه) جعل مثل هذه القضايا
أبسط مما تتخيل.
-ولكنى ال أرغب لطفلتى للمثول لهذا التحليل ..فعمرها لم يتعدى أشهر.
-إنه أمر بسيط ..مجرد عينة من شعر أو ما شابه.
-ليس لديها شعر ..وعموما ال أرغب في اقحام ابنتي في أمر كهذا.
-في هذه الحالة سنلجأ لشهادة الطبيب الذى قام بتوليد زوجتك رحمة هللا عليها ..ولكنها
لن تكون بقوة التحليل.
-لدي مستند أخر.
ثم مد سليم يده باالعتراف الموقع من على:
-لدي اعتراف موقع من المحامى رافع الدعوى بأنه من قام بسرقة بويضاتها من المركز
الطبي.
قام المحامي بقراءة االعتراف.
65
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-هذا االعتراف سيضعف موقفها كثي ار ولكنه ليس كاف لحسم األمر ..األفضل هو أن
تخضع الطفلة للتحليل.
أخذ سليم يفكر في هذا األمر في حيرة شديدة.
***********
داخل إحدى مخازن مجموعة شركات الخواجة وجد أعضاء مجلس اإلدارة الجديد أنفسهم
مقيدون ومحاطون برجال جو دون أن يعلم كل منهم كيف أتى إلى هذا المكان ،نظر كل
منهم لألخر في حيرة وعينه يمألها ألف سؤال ،كان من بينهم فخر ومن العجيب أن كان
من بينهم شاكر أيضا ،قام رجال جو بفك قيودهم جميعا ،مما أثار دهشتهم بشكل أكبر،
حتى فوجئ كل منهم بدخول جو عليهم في هدوء متحدثا لهم:
-ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟
عم الصمت األرجاء ،ال حديث ،ال مجال للتبرير ،فكل النوايا اصبحت معلنة مثل بزوغ
الشمس فى وضح النهار.
-تتمردون على قانون وضعته لحمايتكم ! ..لرفعتكم ! ..من هو جو من وجهة نظركم
؟ ..رجل مستبد ؟ ..متسلط ؟ ..أسود القلب ؟
جلس جو شاردا وانسابت دمعة من عينه.
-لقد قتل رجال عائلتكم أمام عيني وأنا لم اتخطى الخمسة عشرة أعوام ،غالم مثلى كان
عليه أن يصبح متشردا دون أن يالم من الدنيا ..ولكن ما منعني هو حلمي بكم ..عائلة
ميلوف أو الخواجة كما يطلق عليها ..حلمت بكم قبل أن أراكم ..كيان كبير وعائلة تنتقل
من وشك اإلبادة إلى مؤسسة تؤثر فى اقتصاد العالم ..لقد بلغت عقدي الثامن ..وانتظر
الرحيل بين لحظة وأخرى ..وما صنعته من أجلكم اصبح ملك لكم ..فإن شئتم احفظوه
..أو اتبعوا أهوائكم ..فلقد غرست فيكم ما يجعلكم تحسنون االختيار.
ترك لهم جو ظرف األوراق والمستندات الخاص بإدارة المجموعة مرفقا بها تنازل عن
رئاسته لمجلس اإلدارة ،ثم أمر رجاله بأن يخفضوا أسلحتهم وأن ينصرفوا استعدادا
النصراف جو أيضا ،ولكنه التفت ناظ ار إليهم:
66
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-أنا لم أقتل ولدى المصاب بالتوحد كما أشاعت بينكم ..هو مودع فى دار رعاية خاصة
اتكفل بمصاريفها يوم أن سكنها ويمكنكم التأكد من ذلك ..ولكنى استخدمت أمر غيابه
كى أبث الخوف بداخلكم منى كى يخشى كل منكم على نفسه إذا لم ينفذ ق ارراتي ..فال
يوجد دوافع لدى االنسان للخضوع سوى أمران ..الخوف ..والحب ..والثانية ال يمكن
لبشر تحقيقها بإرادته ..فما كان أمامي سوى سالح الخوف.
تحدث شاكر فى هذه اللحظة على الفور:
-لكن كل من أختار صفك بإرادته أصابه سالحك األخر ..وأخرهم رحيل التي هي فى
حاجة ماسة إلى الجميع للوقوف بجانبها.
-سأفعل ذلك حين تحتاج ..ولكنها إذ قررت المواجهة بمفردها ..فعلينا أال نحرمها حرية
االختيار.
ثم انصرف جو وانصرفت معه عقود من التسلط والخوف ،أصبح كل أفراد العائلة
محررون ،يستطيعون فعل ما تمليه عليهم اختياراتهم ،ولكن لم يدركوا أن حنكة جو وذكاءه
جعلته يستخدم سالح التعاطف بعدما اكتشف أن السالح األول بات منتهى الصالحية.
***********
لم يتوقف نزيف جسد رحيل كلما استيقظت من النوم ،ولكن بالنسبة لها كان نزيف حياتها
االجتماعية وبعدها عن فلذة كبدها أشد خطورة ،الحظت رحيل أثناء جلوسها في ريسبشن
الفيال ( يبدو عليها إهمالها لنفسها بشكل بالغ ) خروج شمس شقيقتها بأناقة مكتملة فنادت
عليها:
-إلى أين تذهبين يا شمس ؟
-من المؤكد أن مالبسى تدل على أني أهم بالخروج.
-كال ..فمالبسك تدل على أنك في حالة مواعدة.
-وما المانع ..أليس لي حق في التحرر مثل كل من بالمنزل !
-شمس ..أنت شقيقتي الصغرى وأشعر بالمسئولية تجاهك ..ال أريدك أن تخوضى
تجربة مشابهو لتجربتى ..جمالي أكسبني الغرور على كل من حولى ..حتى خسرت ما
لم يستطع جمالى رده لى.
67
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
-صحيح أنك تكبريني سناً ..لكن أثق أنى أتفوق عليك عقالً.
بدا على وجه رحيل مالمح الغضب الشديد واقتربت من شمس ولكن قاطع حوارهما دخول
شاكر من باب الفيال في حالة من الهدوء ومن خلفه ميرفت ،ثم نظر إلى كال من شمس
ورحيل ونظ ار إليه ثم سأل بصوت خافت:
-لماذا ترفعون صوتكما على بعضكما البعض ؟
أجابت شمس بحالة من الضيق:
-كنت أنادي على رحيل كي تسمعني.
-ربما أنا كنت من أحتاج المناداة منذ سنوات كي أشعر بكم ..لقد ظلمت ميرفت لغرض
في نفسى.
تبادلت رحيل وميرفت النظرات أثناء مواصلة شاكر حديثه:
-وتحملت كما تحملت رحيل الكثير وحان وقت الوقوف بجانبها ..سأقف بجوارك في
قضيتك وال تخشين من جو أم اًر ..ولن تكوني بمفردك أبدا في مواجهة أمر أو الخضوع له
دون رغبتك بعد األن.
-بالعكس يا أبي فأنت كنت محق ..ماذا سيحدث بعد كسب القضية ..وكيف سأواجه
المجتمع بأسره ليس عائلة الخواجة فحسب ؟ ..كيف أصبح لي أبنة وأنا ما زلت بك اًر ؟ ..
من والدها ؟ ..وكيف ستنشأ وسط كل ذلك ؟
نظر إليها شاكر منصتا:
-وماذا ترين في هذا األمر ..ستتخلين عنها ؟
-إذا احتاجت المشورة فستكون أول وجهتى.
مد شاكر يداه لبناته فاتحا ذراعيه ،ابتعدت شمس عن باب الخروج مقتربة من شاكر والدها
في حنين ،كما اقتربت منه رحيل أيضا واحتضنا شاكر والدهما بينما نظرت إليهم ميرفت
بابتسامة تمألها الدموع.
***********
في هذا اليوم دخلت رحيل إلى قسم الشرطة تجرى في لهفة بعد خبر تلقته ،كان على
مقتاداً من الحجز إلى مكتب المأمور في حالة يرثى لها ،متسخ الثياب ،أشعث الشعر،
68
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
تملك اإلرهاق واألرق من عينيه ،وصل على إلى المكتب وأكتشف وجود رحيل بانتظاره
جالسة أمام مكتب المأمور ،نظر لهما المأمور ثم قام من كرسيه متجها نحو باب المكتب:
-يمكننى أن أتيح لكم خمس دقائق للحديث.
ثم خرج المأمور وأغلق الباب خلفه ،دمعت أعين رحيل ووقفت وتقدمت نحو على واضعة
يدها على خده تحاول أن تجذب أتجاه بصره نحوها:
-لماذا يا على ؟! ..ما الذى يدفعك لتوقع اعتراف على نفسك كهذا ؟
حاول على مواراة أبصاره عنها:
-كان اتفاقا كي يقبل سليم التنازل عن اتهام الخطف.
-لماذا لم تخبرنى بأمر كهذا حين طلبت منك رفع قضية اثبات النسب عليه ؟!
-تحقيق رغبتك كان أهم عندي من سالمتى.
-كيف ذلك وأنت ال تعرفنى سوى من أيام معدودة.
-غير صحيح ..لقد كذبت عليك ..أنا لم أسمع عنك من حديث شقيقتي عنك مثلما
أخبرتك ..أنا أعرفك منذ عشرة أعوام ..كنت أراك عندما تذهبين لنادى هيليدو ..واكتفى
بمراقبتك من بعيد ..كجوهرة ثمينة تعجبنا ولكن ال نملك سوى مشاهدة بريقها عبر زجاج
الفاترينة ..علمت أنك من عائلة الخواجة وأن نصيبك مقدر منذ والدتك ..وألني ال أنتمى
لهذا اللقب اكتفيت بذلك طيلة هذه السنوات ..حتى انقطعت عن الذهاب وانقطع عني
ترياقي ..ليشيء القدر أن أقابلك ثانية ألكون سببا في رفع معاناة عن كاهلك ..ربما لم
يستطع أحدا تحمل نتائجها غيري.
ازدادت دموع رحيل في االنهمار أثناء حديث على وسط حالة من العجز عن التعبير أو
الرد ،لم تستطع رحيل اإلجابة على مشاعر ( على ) سوى بكلمة واحدة:
-لألسف يا على ..لقد فات األوان ..هكذا حال الدنيا ..نقابل أحالمنا في وقت
الكابوس.
-ال تحملي هما ..فهذا االتهام محاولة بائسة منه لن يجدى شيئا ..بمجرد خضوع
الطفلة للتحليل سيثبت أن الطفلة ال تنتمي لي وسأعترف أن هذا التوقيع تم تحت ضغط
منه ..هذا دليل إدانة عليه ولكنه ال يدرى.
-ال مجال للصراعات القضائية يا على ..فلقد علمت ما يجب على فعله ..من أجل
مصلحة الجميع ..ففي هذا األمر بالذات ..ال يمكن أن يكون هناك خاس اًر.
69
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
توجهت رحيل نحو باب المكتب وهى تبكى وفتحته ثم نظرت لعلى نظرة وداع ،ثم انصرفت
مسرعة.
***********
حان موعد انعقاد جلسة اختيار رئيس مجلس إدارة مجموعة الخواجة الجديد ،أدلى الجميع
بصوته وبقيت لحظة الحسم ،حضر الجلسة جميع أفراد المجلس القديم من خان منهم ومن
صدق وبالطبع بينهم شاكر ولكن الغريب أن ميرفت كانت حاضرة هذه الجلسة أيضا،
فرغبة شاكر في أن يعوضها عن سنوات التحمل والصبر دفعته ألن يعرض عليها دمجها
بمجلس اإلدارة الجديد ،ولم توافق ميرفت فحسب بل سعدت بهذا العرض كثيرا ،في الحقيقة
أن ميرفت لم تسعد بالعرض لذاته ،ولكن سر سعادتها كان لكونه نابعا من شاكر نفسه،
شعرت ميرفت وكأنها عثرت على شاكر الذى افتقدته منذ سنوات.
وتم البدء في سحب أوراق التصويت والجميع في تأهب لسماع النتيجة ،ولكن النتيجة
كانت مفاجأة للجميع ،فلقد تم اختيار جو باإلجماع لرئاسة مجلس اإلدارة الجديد ،قد يبدو
لل عامة وكأن شيئا لم يتبدل ،ولكن الحقيقة هي أن كل شيء قد تغير مائة بالمائة ،فمن
تنصب إجبا ار من قبل قد أصبح ،ظل في موقعه اآلن بمحض االختيار ،اندهشت ميرفت
عندما علمت أن هذا كان اختيار شاكر أيضا ،لتتأكد أنها ستبدأ صفحة جديدة من حياتها
تطوي كل ما آلمها من قبل.
***********
تحركت رحيل بسيارتها وسط الزحام ،ولكن زحام األفكار التي تدور في خيالها كان أشد،
شردت رحيل فيما تنوي فعله ،وتبعاته ،ولكنه استقرت أنه أفضل قرار بالنسبة للجميع،
وبالنسبة لها أيضا ،فبالرغم من قسوته إال أنه سيمكنها من إراحة بالها بشكل دائم ،ولكن ما
أن توقفت رحيل بإشارة مرور ،إال ورأت مفاجأة قطعت دابر كل ما يدور برأسها من أفكار،
توقفت بجوار رحيل سيارة تركب بها شمس شقيقتها ،ولكن المفاجأة األكبر كانت عندما
رأت من يقود السيارة بجوارها ،إنه الدكتور فريد طبيب األمراض النفسية ،فهمت رحيل األن
70
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
سر إخفاء شمس لهوية من تتعلق به ،ولكن األمر لرحيل لم يعد يعني شيئا ،فيبدو أنه قد
نمت عالقة عاطفية بينهما خالل فترة لهاث رحيل خلف نطفتها ،فشمس تعلم دائما من أين
تؤكل الكتف ،وقد أصابت االختيار ،وقعت أعين شمس في أعين رحيل وتبادال الكلمات
وسط صمتهما ،عبرت أعين شمس عن رغبتها في التماس العذر لها عما بدر منها ،وأعين
رحيل تنظر إلى أمل أكبر يتالشى بجانبه أي طموح آخر ،حتى اتشح الطريق باللون
األخضر من انعكاس إشارة المرور ،ليقصد كل منهما وجهته.
***********
بينما كان عم سليم يقوم بمحاولة تغيير كافولة طفلته لطيفة في حيرة من أمره ،سمع صوت
طرقات باب منزله ،فإذا به يفتح ليكتشف وقوف رحيل أمامه ليتعجب من وجودها:
-بأي مصيبة تأتين هذه المرة ؟
-جئت بعرض ال يمكن لعاقل أن يرفضه.
-وأنت عاقلة ؟
-ستقرر عندما تسمع ..ألن تسمح لي بالدخول ؟
دخل سليم تاركاً باب منزله مفتوح ثم دخلت رحيل خلفه ،الحظت رحيل وجود الطفلة وهى
نصف عارية فانزعجت عليها بشدة:
-ما هذا ..هكذا ستبرد البد أن ترتدي مالبسها سريعا.
ثم هرولت رحيل نحوها تلبسها مالبسها بينما أخذ سليم يراقب قيامها بذلك الفعل في
صمت ،وأخذ يتخيل وجود زوجته لطيفة المتوفية مكانها ،انتهت رحيل من عملها ثم حملت
الطفلة بين يديها وضمتها إلى صدرها في حنين بالغ:
-تريدين خطفها ثانية !!
-وهل هناك من يخطف فلذة كبدة ؟
-يبدو أنى سأقرر قبل أن أسمع.
-نحن األن بمفردنا ..ال يوجد من يسمع حديثنا وال داعي لاللتفاف ..لقد كانت زوجتك
ال تنجب كما أخبرتنا سابقا ..كيف حصلت على هذه الطفلة يا سليم ؟
71
رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى
72