You are on page 1of 72

‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫رحــــيل‬

‫م‪ .‬أمحد اإلكياىب‬

‫‪1‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪2‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪3‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪4‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪5‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫خمس وسبعون عام مضت منذ أن وطئت قدما { يوسف } مصر ليتغير كل شيء‪،‬‬
‫من طفل صغير ذو الخمسة أعوام هارب من الموت الذى يالحقه هو وما تبقى من أفراد‬
‫أسرته إلى قصر كبير وعائلة يحسب لها الجميع ألف حساب‪ ،‬فهنا وفي هذا القصر‬
‫المهيب وفى يوم الشهيد األرميني‪ ،‬اكتمل جمع جلسة ملتهبة في انتظار مروضها‪ ،‬فلم يعد‬
‫ينقص هذا الجمع العظيم سوى كبيره‪ ،‬يوسف بيه كبير عائلة الخواجة‪ ،‬أو كما يطلق عليه‬
‫( جو )‪ ،‬في الحقيقة أن الخواجة لم يكن لقب العائلة األصلي‪ ،‬ولكنها اشتهرت به لكونها‬
‫عائلة ذات أصول أجنبية استقرت في مصر منذ أعوام‪ ،‬ومع اختالف العصور واألزمان‬
‫أصبح أفرادها المحدودون معصبون بوتد ال يسمح ألحد منهم بالخروج عن القانون‪ ،‬قانون‬
‫العائلة الذى صنعه ( جو ) والذى بات مقدس بالنسبة لهم أكثر من تقاليدهم اليومية‪ ،‬ففي‬
‫الحقيقة لم يكن ( جو ) مثل أي أرميني أخر جاء إلى مصر وأندمج في المجتمع‪ ،‬ولكن‬
‫كان لديه مسعى ومقصد‪ ،‬وهو الحفاظ على نقاء عرق وساللة عائلته‪ ،‬لذا وضع لكل نسله‬
‫هذا القانون الصارم وفروضه التي تضمن له عدم خروج أحدهم عن طوعه‪.‬‬
‫فلن يسمح ( جو ) أن يجبر على أمر مثلما حديث في الماضي‪ ،‬مثل أي مواطن أرميني‬
‫أجبرته الظروف على ضرورة إيجاد وطن بديل للعيش به‪ ،‬حتى أضحى لكل عائلة‬
‫وجهتها‪ ،‬وكانت وجهة عائلة ( جو ) هي القاهرة‪ ،‬كان ( يوسف ) وقتها ابن الخمسة أعوام‬
‫عمرا‪ ،‬ولكن آالمه تبلغ ده ار كامال‪ ،‬رأى ( يوسف ) مقتل والده أمام عينيه‪ ،‬واستطاع‬
‫الهروب مع خاله الذى فقده أيضا خالل رحلته‪ ،‬حتى وصل وجهته ومن تبقى من عائلته‬
‫ال يتعدى أصابع اليد الواحدة‪ ،‬ليبدأ يوسف حياة جديدة يسعى فيها الستعادة ما سلبته منه‬
‫أهواء اآلخرين‪.‬‬
‫اعتمد يوسف على نفسه حيث كان االستقالل مبتغاه‪ ،‬فهو أرميني وسيظل أرميني‪ ،‬لن‬
‫يسمح لهويته بأن تذوب أو تتالشى وسط الثقافات األخرى التي يكن لها كل االحترام‬
‫والتقدير‪.‬‬
‫تربى يوسف وسط ما تبقى من عائلته في منزل فقير بأحد ضواحي القاهرة‪ ،‬واضطر للعمل‬
‫في سنه الصغيرة مستغال موهبته كرسام لوجوه العاشقين والمشاهير من الفنانين مقابل‬
‫خمسون قرشا للوحة الواحدة‪ ،‬فعل ذلك لكونه الذكر الوحيد الناجي في رحلة الهروب الشاقة‬
‫مما جعله يحمل على كاهله مسئولية إعالة نساء العائلة الراحلين معه من أمه وعمته و (‬
‫ميريت ) أرملة أخيه التي تكبره بنحو عشرون عاما‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫كانت ( ميريت ) فاتنة جميلة كأي فتاة أوروبية ذات شعر أشقر وبشرة ناصعة البياض‪،‬‬
‫أعجب بها شاب مصري ورغب في الزواج منها وانتشالها هي وأسرتها من وحشة‬
‫االغتراب‪ ،‬كان يوسف وقتها ابن الخمسة عشرة أعوام‪ ،‬حيث إنبات شاربه أسفل أنفه لم‬
‫يتعدى بضعة أشهر‪ ،‬ولكنه رفض هذا االرتباط بشدة‪ ،‬كانت حجته في ذلك هي الحفاظ‬
‫على نقاء الساللة‪ ،‬فإذا قبل يوسف هذه الزيجة لن يكون هناك نسل أرميني منذ هذه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫بالرغم من أن يوسف كان هو العائل الوحيد للثالثة نساء‪ ،‬إال أن هذا لم يكن كافيا لهم‬
‫للخضوع تحت إمرته‪ ،‬واتخذت ( ميريت ) ق ار ار بالموافقة على االرتباط باركته والدته وعمته‬
‫أيضاً‪ ،‬ولكن يوسف كان يملك من قوة الشخصية ما يمكنه من جعل كلمته سيفاً فوق رقبة‬
‫الجميع‪ ،‬فموهبة يوسف المطلقة جعلته يتعرف على أرقى طبقات المجتمع‪ ،‬وبات يرسم‬
‫لوحات لألمراء داخل البالد‪ ،‬مما جعله ذو دالل عند الكثير منهم‪ ،‬واصبح ذو شهرة لديهم‬
‫باسم جو الخواجة‪ ،‬استغل يوسف هذه العالقات في القيام بتهديد هذا الشاب باالبتعاد عن‬
‫( ميريت ) نهائيا‪ ،‬بل أنه قام بالفعل بإفشال صفقة تجارية كان يجريها لخبره أنه على‬
‫استط اعة تنفيذ ما يقول‪ ،‬هنا أدرك الشاب قوة يوسف‪ ،‬وأنه أصبح شخصية ال يستهان بها‪،‬‬
‫لم يكن الشاب فحسب‪ ،‬فأيضاً نساء يوسف خضعن تحت إمرته‪ ،‬ودنين له بالوالء التام‪،‬‬
‫اصبح يوسف أكثر سيطرة عليهن‪ ،‬ولكى يضمن يوسف عدم تكرار مثل ذلك األمر‪ ،‬قرر‬
‫هو الزواج من ( ميريت ) رغبة في أن ينجب منها أول طفل أرميني يأتي إلى هذا‬
‫المجتمع الجديد‪ ،‬وبالرغم من أن ( ميريت ) تكبره بعشرون عاماً إال أنها لم تجد أمامها‬
‫خيا اًر سوى أن تقبل‪ ،‬فيوسف حتى لم يقبل بزواجها من أي أرميني نازح أخر من غير (‬
‫عائلة ميلوف )‪.‬‬

‫***********‬

‫باركت العائلة المتقزمة أول زيجة فيها‪ ،‬وأول مولودة قدمت لهم‪ ،‬أطلق يوسف عليها اسم (‬
‫ميرفت )‪ ،‬ولكن مهما بلغ طموحك فلن يكون أقوى من تراتيب القدر‪ ،‬فبعد انتهاء فترة‬
‫رضاعة ميرفت على الفور أصر يوسف على انجاب طفله األخر‪ ،‬كان ينقصه الولد كى‬
‫يستطيع استكمال خطته‪ ،‬ولكنه لم يصنع حسابا أن هناك خطة كبرى تفوق دونها من‬

‫‪7‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫صنع البشر‪ ،‬فبالفعل رزق يوسف بالذكر الذى يريد ولكنه اكتشف أنه مصابا بمتالزمة‬
‫داون‪ ،‬لم يكن لدى يوسف الرغبة في التعامل مع حالة طفله وقتها‪ ،‬فانتظر حتى اتم عامه‬
‫الثاني وفى إحدى الليالي قام باختطافه من ( ميريت ) أثناء نومه‪ ،‬واختفى الطفل لألبد‪،‬‬
‫أشاع يوسف أنه قام بوأده ووعد ( ميريت ) أن ينجبا غيره‪ ،‬ولكن األمر على ( ميريت )‬
‫هذه المرة لم يكن هينا‪ ،‬فلقد أصيبت ميريت بنوبات اكتئاب حادة‪ ،‬ولكن يوسف لم يهتم‬
‫سوى بطموحه وفقط‪ ،‬أصر جو أن تنجب رغم حالتها النفسية‪ ،‬ولكن محاوالته جميعها‬
‫باءت بالفشل دون تفسير واضح‪ ،‬تعجب جو من هذا األمر وقرر عرض ميريت على‬
‫طبيب والدة دون النظر إلى تعبها النفسى وهنا كانت تمكن المفاجأة‪ ،‬أصيبت ميريت‬
‫بانقطاع طمث مبكر‪ ،‬وفقدت قدرتها على االنجاب‪ ،‬أندهش جو مما حدث وكاد أن يجن‬
‫جنونه‪ ،‬ال حزنا على ميريت وإنما حزنا على طموحه الذى بات مهددا باالغتيال‪ ،‬رغم‬
‫حرقة كل أفراد العائلة على ما أصاب ميريت إال أن جو كان ال يفكر سوى في أمر بديل‬
‫يمكنه من تحقيق ما يريد وكان السؤال الذى ال ينقطع عن ذاكرته هو كيف يزيد نسل‬
‫العائلة بعد أن أنقطع ؟؟ ‪ ..‬فمن تبقى من النساء لديه ال يحالن له‪.‬‬

‫***********‬

‫لم يتبقى أمام جو سوى تقفى أثر من هربوا معه من أبناء أعمامه وضل طريقهم‪ ،‬ظل جو‬
‫مكرسا كل وقته وجهده من أجل ذلك األمر‪ ،‬عبر الحدود وزار بالد عدة يتتبع خطى أقدام‬
‫فلول عائلة ميلوف الفارين معهم وفرقتهم الطرق‪ ،‬حتى جفت كعوب قدميه قدما‪ ،‬وظن أن‬
‫األمر بات مستحيال‪ ،‬ولكن اإلرادة اإللهية عادت مرة أخرى لتخبر جو أن هناك أمل لم‬
‫ينقطع‪ ،‬فكل شيء عند هللا بقدر وكل شيء عنده بمقدار‪ ،‬فخالل رحلة جو األخيرة في‬
‫لبنان اكتشف مخيم لالجئين‪ ،‬يحوى الجئون من دويالت عدة‪ ،‬ومن بينهم أبناء أعمام‬
‫يوسف من عائلة ميلوف‪ ،‬ممن ضل مسعاهم خلف والد جو قبل أن يقتل‪ ،‬ليقوم جو‬
‫بالتعرف عليهم ودعوتهم للعودة معه إلى مصر‪ ،‬بعد وعود بحياة أفضل من هذا المخيم‪،‬‬
‫وإشراك في تجارته‪ ،‬وزواج ممن لديه من نساء لم يفقدن القدرة على االنجاب‪ ،‬فلبو وصدق‪،‬‬
‫ليستأنف جو مسيرة من البناء قوامها عام مضى وأعوام أخرى مديدة ستأتي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫ها هو قد وصل أخي اًر كي يتوسط الجمع‪ ،‬يوسف بيه الخواجة‪ ،‬رجل مسن في‬
‫أواخر العقد السابع من العمر ولكنه مازال يتمتع بالصحة الجيدة‪ ،‬يزين رأسه بعض خصال‬
‫من الشعر األبيض‪ ،‬ويرتدى بدلته الكالسيكية األنيقة‪ ،‬صوت حركة نعاله على الباركيه‬
‫يلعب الموسيقى التصويرية للحظة دخول كبير االجتماع وكبير العائلة أيضاً‪ ،‬أستقر جو‬
‫في مكان جلوسه المعهود لهذه الجلسة في هذا اليوم من كل عام‪ ،‬وكل من حوله في تأهب‬
‫تام‪ ،‬فهو شخص شديد الحزم والقسوة يهابه الجميع‪ ،‬ف ـ ـ ( جو ) يروى عنه قيامه قديماً‬
‫بالتخلص من ولد له إثر والدته بعدما اكتشف إصابته بمتالزمة داون‪ ،‬لذا يهابه الجميع‬
‫ويحسبون له ألف حساب‪ ،‬فمن فقد الرحمة على فلذة كبده قد يرى قطع أوصال من يخالفه‬
‫أبسط من تقسيم شطيرة البيتزا‪ ،‬لم يكن ذلك فحسب‪ ،‬ف ـ ـ ( جو ) يسيطر على رأس مال‬
‫العائلة بأكمله‪ ،‬ال يسمح ألحد من أفرادها باالستقالل عنه‪ ،‬ومن يخالف فبالطبع لن تكون‬
‫نهايته أفضل مما القاه من كان من صلبه‪.‬‬
‫خلع جو نظارته ذات العدسات العسلية التي تحمى عيناه من إضاءة أباجوراته التي ال‬
‫يتحملها‪ ،‬بدأ ( جو ) بطلب الوقوف دقيقة حداد على أرواح ضحاياهم السابقين‪ ،‬ثم نظر‬
‫إلي الجمع نظرة استشعروا فيها غضبه من شيء ما‪ ،‬وضع مرافق ( جو ) ملفا أمامه ثم‬
‫تراجع إلى الخلف‪ ،‬فتح ( جو ) الملف وسط نظرات ترقب الحاضرين ثم نظر في أوراقه‬
‫األولى ثم بدأ في الحديث دون أن ينظر إليهم‪:‬‬
‫‪ -‬وفقا ألخر التقارير عن أفراد عائلة الخواجة بلغنى أن ( فخر ) الخواجة قد تقدم لخطبة‬
‫فتاة ليست من بنى األرمن ‪ ..‬وقد تم تعمد إخفاء هذا األمر عن ( جو )‪.‬‬
‫ارتبك ( فخر ) بشدة‪ ،‬والتفت له الحاضرون‪ ،‬حاول ابتالع لعابه في صعوبة وبدأ وجهه‬
‫يغرق من غ ازرة العرق‪ ،‬ثم تلعثم حديثه وفقد القدرة على التعبير‪ ،‬حتى استجمع قواه وحاول‬
‫تقديم أي مبرر‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حاولت منعه يا ( جو ) ولكنه كان شديد اإلصرار يدعى أنه يحبها‪.‬‬
‫‪ -‬ال يوجد معنى لهذه الكلمة في عائلة الخواجة ‪ ..‬سيتم تجريدك من منصبك في شركات‬
‫العائلة وإحالتك للمعاش ‪ ..‬فمن ال يستطيع إلزام ابناءه بالقانون لن يستطيع تطبيقه على‬
‫شركة بأكملها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫ثم نادى ( جو ) بصوت عال على ( شاكر ) الجالس بجوار ذراعه األيمن‪ ،‬فأجابه على‬
‫الفور‪.‬‬
‫‪ -‬أمرك يا ( جو )‪.‬‬
‫‪ -‬مهمتك هي استالم إدارة شركة ( فخر ) ومراجعة حساباتها وترشيح مديرها الجديد من‬
‫عائلة الخواجة ‪ ..‬باإلضافة إلى استعادة كل مضارباته بالبورصة لحسابه الشخصى في‬
‫الفترة الماضية‪.‬‬
‫ارتبكت نظرات ( فخر ) تجاه ( جو )‪.‬‬
‫‪ -‬ال تندهش من معرفتى ‪ ..‬لقد كنت أتركك ربما تراجع نفسك وتصارحني بما فعلت ‪..‬‬
‫البد أن يظل هذا الكيان محافظا على وحدته وقوته االقتصادية ‪ ..‬وكل فرد به البد أن‬
‫يظل مقتنعا أنه ما هو إال مجرد ترس صغير يعمل كى تظل األلة الكبيرة تعمل بكفاءتها‪،‬‬
‫كل من حضر اجتماع العائلة الشهري ذيل أسمه بلقب الخواجة‪ ،‬عدا ذراع ( جو ) األيمن‪،‬‬
‫شاكر الدجوى‪.‬‬

‫كان { شاكر } دخيالً على العائلة ال ينتمى ألى من أصولها األجنبية‪ ،‬ولكنه كان أكثرهم‬
‫حظاً وتمي اًز عن باقي أفراد العائلة‪ ،‬ف ـ ( شاكر ) هو زوج ( ميرفت ) كريمة ( جو ) كبير‬
‫العائلة نفسه والمالك الوحيد لرؤوس أموالها‪ ،‬أحبته ( ميرفت ) بشدة وغرسته داخل العائلة‬
‫كما تُغرس الفسيلة وسط األشجار العالية‪ ،‬ولكن ( شاكر ) بات ينمو حتى بات ذو جذع‬
‫ممتد يصعب استئصاله‪ ،‬أقترب من ( جو ) بأفكاره المبتكرة التي ضاعفت له مكاسبه‬
‫فسكن قلبه حتى اصبح ال يستطيع االستغناء عنه‪ ،‬كسر قانون العائلة الذى وضعه من‬
‫أجله ولم يستطع أي فرد أخر االعتراض‪ ،‬ف ـ ( شاكر ) كان يظهر من الوالء واإلخالص ما‬
‫أفقد ( جو ) بصيرته‪ ،‬وبالطبع هذا التمييز قد انعكس بالطبع على ابنتي شاكر ( رحيل )‬
‫و ( شمس )‪.‬‬

‫***********‬

‫لم تكن { رحيل } بالرغم من أنها األبنة الكبرى لشاكر وحفيدة جو نفسه تتمتع بالقدر‬
‫الكافي من الحرية لتتمكن من فعل كل ما تريد‪ ،‬فهي تنتمى لعائلة الخواجة‪ ،‬تراعى المظهر‬

‫‪10‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫الخارجي أكثر من أي جوهر ال ُيرى‪ ،‬عائلة تخشى كلمات الناس وسنت لنفسها قوانينها‬
‫الخاصة‪ ،‬كالداء المتناقل بالوراثة من الجد األكبر حتى أصغر أفراد العائلة‪ ،‬فلقد نشئا كل‬
‫ٍ‬
‫حكاو متكررة بشكل شبه يومي‪ ،‬جميعها ال يبتعد‬ ‫من ( رحيل ) و ( شمس ) على‬
‫مضمونها عن مدى حفاظ ( جو ) جدها على عادات وتقاليد العائلة والحفاظ على بقائهم‬
‫مهما كلفه الثمن‪ ،‬لكن ( رحيل ) كانت تحلق خارج السرب تماما مثل والدها‪ ،‬فهي ال تعير‬
‫أيا من هذه الحكاوي اهتماما‪ ،‬ربما ألن هناك أمر آخر ظل يشغل بالها دائماً وأبداً منذ‬
‫بداية فهمها لطبائع األمور وحتى بلغت من العمر أشده‪ ،‬فهناك شيئاً ما غير طبيعياً بين‬
‫والديها ال تفهمه‪ ،‬شيئاً ما دائما ما يعكر صفو حياتهما معاً‪ ،‬بالرغم من كونهما طبيعيان‬
‫بشكل كبير جدا أمام العائلة وفى المناسبات العامة‪ ،‬ولكن ما أن أغلق عليهما بابهما‪ ،‬حتى‬
‫يتبدل كل شيء ويعود كل منهما إلى ما كان عليه في السابق‪ ،‬دون ابتسامة‪ ،‬دون مشاركة‬
‫في أي أمر من أمور الحياة‪ ،‬والحديث مقتصر على األمور الضرورية وفقط‪.‬‬

‫نشأت ( رحيل ) على هذا منذ الصغر حتى اعتادت أن هذا هو الشكل الطبيعي ألى حياة‬
‫زوجية جمعت بين طرفان عن حب كما يروى عن والديها بالسابق‪ ،‬كل ذلك كون قناعة‬
‫داخلية في عقل ( رحيل ) أن الحب مجرد كارت مرور لتحقيق أغراض أخرى من خالله‪،‬‬
‫فمن المؤكد أن هناك أم ار خفيا آخر أجبرهما على الزواج ال يخلو من مصلحة ألحدهما أو‬
‫كالهما‪ ،‬حاولت ( رحيل ) م ار ار وتكرار االستفسار عن هذا األمر من جدتها ومن ( ميرفت‬
‫) والدتها أيضا‪ ،‬ولكن كل الردود وإن اختلفت كلماتها تحمل نفس المضمون‪ ،‬وهى أن (‬
‫رحيل ) واهمة‪ ،‬حتى أن شقيقتها ( شمس ) لم يختلف رأيها كثي ار عن ذلك‪ ،‬فهي كانت ترى‬
‫من وجهة نظرها أن هذه هي شخصية والديهما الحقيقية‪ ،‬وأنها لم ترى منهما أي تصرف‬
‫مغاير من قبل كي تستشعر االختالف‪ ،‬وربما مبالغتهما المفرطة في إظهار السعادة أمام‬
‫الناس ما هي إال محاوالت تمثيل مصطنعة منهما يعودان بعدها إلى شخصيتهما الحقيقية‬
‫بالمنزل‪.‬‬
‫استسلمت ( رحيل ) لهذا الرأي‪ ،‬كما أنها قد عزفت عن هذا المعتقد بالفعل لفترة كبيرة‪،‬‬
‫ولكن عزوفها هذا لم يؤثر على ق ارراتها برفض كل من يتقدم إليها للزواج من عائلة‬
‫الخواجة‪ ،‬ف ـ ( رحيل ) البالغة من العمر ‪ 35‬عاماً كانت تتمتع بقدر كبير من الجمال‬
‫واألناقة والسمعة الطيبة باإلضافة إلى أنها حفيدة ( جو ) نفسه‪ ،‬مما يجعلها أول قبلة‬
‫وبيضة ذهبية ألى شاب يرغب بالزواج من العائلة‪ ،‬لم يكن لدى ( رحيل ) قد ار من الغرور‬
‫‪11‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫يؤثر على اختياراتها‪ ،‬لكن ردود أفعالها عند مقابلة أي شاب جديد يتقدم لها كانت تنبئ‬
‫بذلك‪ ،‬ففي هذا اليوم سيحين موعد االتفاق المنتظر‪ ،‬وهو لقائها مع نجل خالتها ( دنيا )‪،‬‬
‫كانت الزيارة في مظهرها تبدو مجرد زيارة عادية تجمع سيدة بابنة خالتها‪ ،‬ولكن ( رحيل )‬
‫كانت تعلم أن خلف هذه الزيارة يقبع سجاناً جديداً‪.‬‬
‫دخلت ( ميرفت ) والدة ( رحيل ) عليها غرفتها‪ ،‬ولكنها لم تكن تتوقع المفاجأة التي كانت‬
‫تنتظرها‪.‬‬
‫وجدت ميرفت رحيل مستلقية على سريرها ترتدى بيجامتها المنزلية‪ ،‬وشعرها المتشابك من‬
‫أثر االستيقاظ من النوم يخفى وسادتها‪ ،‬وبيدها هاتفها المتنقل تتصفح إشعارات موقع‬
‫الفيس بوك دون اهتمام‪ ،‬نظرت لها والدتها متفاجئة‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا الذى أراه فيكي يا من أذهبت النوم عن عيني ‪ ..‬لماذا لم ترتدى مالبسك بعد ؟!‬
‫‪ -‬وهل أقرت عائلة الخواجة في قانونها الجديد أن مالبس المنزل ليست مالبس ؟!‬
‫‪ -‬لم يعد لدى الصبر الحتمال سخافات أسئلتك الفلسفية وأن أبحث لها عن إجابات ‪..‬‬
‫أنت على علم بموعدنا مع ثانى شباب عائلة الخواجة وأنسبهم ‪ ..‬أرجوا أال تخذلينا أمام‬
‫جدك هذه المرة ‪ ..‬وتتخلى عن شروط زواجك التي تبتكرين‪.‬‬
‫‪ -‬لن ابتكر شيئا جديداً ‪ ..‬ورفضه يعنى أن المشكلة عنده هو وليست عندى‪.‬‬
‫‪ -‬ألم أقل لك لم يعد لدى القدرة لتحمل فلسفتك هذه ؟! ‪ ..‬العريس هذه المرة هو فريد ‪..‬‬
‫ابن دنيا وعزيز الخواجة ‪ ..‬شاب مهذب وسيصبح المسئول عن مستشفيات جو بعد والده‬
‫كما يعلم الجميع ‪ ..‬فهو طبيب نفسى الكل يشهد له بالبراعة واالجتهاد‪.‬‬
‫‪ -‬قلت ماذا ؟ ‪ ..‬طبيب نفسى ! ‪ ..‬تقصدين طبيب مجانين ؟! ‪ ..‬وماذا أفعل أنا مع‬
‫شخصية كهذه ‪ ..‬رحيل الخواجة ‪ ..‬يكتب عليها مؤخ ار أن تصير زوجة لطبيب مجانين !!‬
‫‪ ..‬يا ال سخرية القدر‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك ترغبين في افتعال مشكلة مع جدك ال قبل لى وال لوالدك بها ‪ ..‬لقد حددت‬
‫شروطك مسبقاً ‪ ..‬وعليك عرضها عليه ربما قبل ‪ ..‬غير ذلك ال أرغب في سماع كلمة‬
‫زائدة ‪ ..‬أمامك نصف ساعة من األن حتى انتهى من تصفيف شعرى ‪ ..‬تكونين أنت‬
‫انتهيت من كل شيء ‪ ..‬فالفتيات الجميالت مثلك ال يحتجن وقت كبير للتزين على حد‬
‫قولك ‪ ..‬أتذكرى أم نسيتى ؟!!‬
‫ثم تتركها ميرفت وتنصرف ووجه رحيل تمأله الحيرة من أمرها‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫وسط نسمات هواء عليل يداعب خصال شعرها ألتقت رحيل بالدكتور فريد حسب الموعد‬
‫المحدد‪ ،‬لقاء تقليدي ال يختلف أبداً عما يطلق عليه زواج الصالونات‪ ،‬ولكن ما دار من‬
‫حوار خالل هذا اللقاء بين رحيل وفريد لم يكن تقليديا أبداً‪ ،‬استهلت رحيل اللقاء بابتسامتها‬
‫المعهودة التي تظهر ما بداخلها من انطالق وحيوية‪ ،‬راقب فريد جمال طلة رحيل‬
‫وابتسامتها فنمى بداخله رغبة مبدئية في سرعة إتمام هذا األمر‪ ،‬تعرف كل منهما على‬
‫اآلخر‪ ،‬أعجب فريد بأنشطة رحيل التطوعية وحماسها لخدمة المحتاجين‪ ،‬ولكن رحيل لم‬
‫تهتم كثي اًر باالستفسار عن طبيعة عمل فريد‪ ،‬ربما ألنها كانت تكن بداخلها استفسا اًر أكبر‬
‫من أي سؤال من هذا القابيل‪:‬‬
‫‪ -‬قل لي يا فريد‪.‬‬
‫تعجب فريد من رفع رحيل للتكليف بينهما بشكل مفاجئ وكأنهما كانا يعرفان بعضهما منذ‬
‫زمن‪ ،‬ثم تبعت رحيل حديثها‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو رأيك في زواج البارت تايم ؟‬
‫‪ -‬نعم ؟! ‪ ..‬ال أفهم ما تقصدين ؟‬
‫ضحكت رحيل ضحكة ساخرة تفصح عما بداخلها من استعالء ثقافى وفكرى بينها وبين‬
‫فريد رغم شهادته المتفوقة عليها‪.‬‬
‫‪ -‬أيعقل أنك لن تسمع عنه ؟! ‪ ..‬زواج البارت تايم ‪ ..‬إنه أخر صيحات الزواج الحديث‪.‬‬
‫تردد فريد بلخمة وارتباك‪.‬‬
‫‪ -‬أهناك زواج حديث وزواج قديم ؟! ‪ ..‬كنت أظن أن الزواج منذ العصر الحجري القديم‬
‫حتى وقتنا هذا ذو صيحة واحدة يعلمها الجميع‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أن فكرك مازال حبيس العصر الحجري يا دكتور‪.‬‬
‫بدا على فريد الضيق الشديد ولكنه اختار االستمرار في االستماع إليها أفضل من تبادل‬
‫أطراف الحديث والدخول في مهاترات ال يفهمها‪.‬‬
‫‪ -‬هذا النوع من الزواج يرتبط فيه العروسان بشكل طبيعي جدا ‪ ..‬ولكن يظل كل منهما‬
‫في منزله ‪ ..‬يلتقيان وقتما شاءا ويقضيان أحلى األوقات مع بعضهما البعض ‪ ..‬ثم يعود‬
‫كل منهما أدراجه ‪ ..‬دون أي مشكلة تعكر صفو حياتهما‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬أيعتبر هذا زواج ؟!‬


‫‪ -‬بالفعل ‪ ..‬رسمي وشرعى أيضا أيها الطبيب ‪ ..‬ولكنه بعيد عن المسئوليات التي تحطم‬
‫الحب وتدمره تدمي ار ‪ ..‬تستطيع القول أننا سنقوم باقتناص لحظات السعادة بالزواج فقط‬
‫ونتخلى عما يفسدها ‪ ..‬تصدق ؟ ‪ ..‬إذا فعل الجميع مثلنا ألصبحت نسب الطالق في هذا‬
‫المجتمع تساوي صف اًر‪.‬‬
‫‪ -‬إذا أصبحت فعال كذلك فالبد أنك تستحقين براءة اختراع على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أنها نالت إعجابك ‪ ..‬اشعر أننا سنكون زوجان متفاهمان جدا‪.‬‬
‫‪ -‬ربما ‪ ..‬ولكن اسمحي لي ‪ ..‬أين األطفال من زواج بهذه الطريقة ؟‬
‫‪ -‬أتريد اإلنجاب ؟‬
‫‪ -‬ليس بالضبط ولكن من المؤكد أنه ربما سيحدث يوما ما‪.‬‬
‫‪ -‬دعنا في نصف كالمك األول ‪ ..‬ليس بالضبط ‪ ..‬وعندما نشعر برغبتنا في ذلك‬
‫نستطيع تعديل االتفاق وقتها‪.‬‬
‫‪ -‬في الواقع لقد حصلت على درسا جديدا حسن من استيعابي ألمور كثرة حولي وعلي‬
‫مذاكرته جيدا الستيعابه قبل إقامة عالقة من هذا النوع‪.‬‬
‫‪ -‬ربما تظنني متسلطة أفرض رأيي على األخرين ‪ ..‬ولكنى العكس تماما ‪ ..‬فمنذ عام‬
‫كانت لدى رغبة قوية في االستقالل عن والديا وأقيم بمفردي مع أصدقاء وصديقات بنظام‬
‫المساكنة ولكن والدى رفض بشدة وقد خضعت لرأيه ‪ ..‬فأنا ال أرغب أن تكون أفكاري‬
‫المتحررة أذى ألحد ‪ ..‬فوالدي يخشى جدى ( جو ) مثلما تخشاه أنت ‪ ..‬ولكنى ال أخشى‬
‫أحد وأرغب فيمن أرتبط به أن يكون كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬جو لم يعد مرعبا مثلما كان بالسابق وخصوصا بالنسبة لي ‪ ..‬فأنا طبيب ويمكنني‬
‫العمل دون الحاجة إلى شركاته ورأس ماله ‪ ..‬ولكني ال يروق لي هذا النوع من الزواج ‪..‬‬
‫ربما تظني سماعي لك حتى النهاية موافقة مبدئية ‪ ..‬ولكنه لم يكن سوى سعة صدر تزيد‬
‫ثقتي أن حكمي ليس خاطئا ‪ ..‬أنت ال تبحثين عن الحرية يا رحيل ‪ ..‬أنت تبحثين عن‬
‫كسر القواعد التي نشأتي عليها ‪ ..‬ونصيحتي لك أال تؤذى نفسك من أجل هذه الغاية ‪..‬‬
‫فنفسك أولى أال تتمردي عليها ‪ ..‬مثل تمردك على ( جو )‪.‬‬
‫لم تسخر رحيل من فشل هذه المقابلة مثل سابقتها‪ ،‬وإنما أخذت تفكر في معان ما سمعت‬
‫من حديث‪ ،‬يبدو أنه أضاف لها بعدا أخر لم تكن تعيه خالل خبرتها الحياتية المحدودة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫اقتحمت والدة رحيل عليها غرفتها يبدو عليها الغضب الشديد كالبركان الثائر الذى يود‬
‫إخراج ما بداخله من حمم الحديث كى يهدأ‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا الذى فعلتيه هذه المرة أيضا ‪ ..‬أال تخشين أن يبلغ حديثك مع الدكتور فريد جدك‬
‫( جو )‪.‬‬
‫‪ -‬بالنسبة لى فال ‪ ..‬أما بالنسبة لكما ال أدرى‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كنتي ال ترغبين بالزواج ‪ ..‬أال ترغبين أن يكون لك طفل تداعبك ضحكاته ‪..‬‬
‫تستندين عليه يوم أن أفارق أنا وأبيك الدنيا ؟!‬
‫شردت رحيل قليالً ثم أجابت بتمتمة‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا فعلت أنا وشمس شقيقتي لكما بعد والدتنا ‪ ..‬لقد فشلنا حتى في أن نعيد نظرة‬
‫حب متبادلة بينكما‪.‬‬
‫شعرت ميرفت باالنكسار ودمعت عيناها‪ ،‬وكأن رحيل قد لمست بإصبعها سطح جرح لم‬
‫تتجلط ذرات دماءه بعد‪ ،‬أصبحت ميرفت بحاجة للمواساة أكثر من رحيل‪ ،‬وكانت مواساتها‬
‫هي االنصراف في الحال‪.‬‬
‫لم تكن رحيل تعرف سر خوفها الشديد من فكرة االرتباط‪ ،‬أحيانا كانت تفسر ذلك باحتمالية‬
‫خوفها من أن يبعدها عن أنشتطها التطوعية بسبب مسؤوليات الزواج التي لن تستطيع‬
‫التخلي عنها تحت أي ظرف من الظروف‪ ،‬وربما تستكثر جمالها في زيجة تقليدية‬
‫محسومة منذ الصغر مثل باقي فتيات العائلة‪ ،‬لكن في هذه الليلة بالتحديد ستستطيع رحيل‬
‫تفسير ما لم تستطع فهمه طيلة حياتها السابقة‪ ،‬ليلة عيد الميالد‪.‬‬

‫***********‬

‫في هذه الليلة كانت ميرفت بكامل أناقتها برفقة شاكر زوجها ورحيل وشمس من أجل‬
‫حضور هذا الحفل الهام‪ ،‬حفل عيد الميالد‪ ،‬والذى أقيم بـ ـ ( حديقة الفرايدايز بالقاهرة )‪،‬‬
‫كان الحفل كمثله من الحفالت السابقة ال ينقصه شيء‪ ،‬فكل األمور معدة وفقا ألحدث‬
‫صحيات اإلتيكيت العالمية‪ ،‬كان عيد الميالد الخمسين ل ـ ( سونة ) ابنة خالة ميرفت‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫ولكن سونة بالطبع لم تضع سوى شمعة واحدة‪ ،‬كمولود لم يتخطى من العمر سوى عامه‬
‫األول‪ ،‬مرت فقرات الحفل كسابقاته في نفس التوقيت من كل عام‪ ،‬لكن كان هناك فقرة لم‬
‫يحسب لها حساب‪ ،‬ولم تكن ضمن توقعات أي من الحاضرين‪ ،‬ف ـ ( إبرام ) األخ الغير‬
‫شقيق لسونة قدم من السفر لتوه بعد هجرة دامت خمس سنوات متصلة‪ ،‬ليصنع مفاجأة‬
‫كبرى لجميع الحاضرين في هذه المناسبة بالذات التي يلتقى فيها معظم أفراد عائلة‬
‫الخواجة‪ ،‬هرول عليه الجميع في لهفة بما فيهم رحيل وشمس اللذان يعرفانه عن قرب‬
‫يقدمون له األحضان وقبالت االشتياق‪ ،‬لم يشذ عن هذا السياق سوى أثنان فقط‪ ،‬هما‬
‫ميرفت وزوجها شاكر‪ ،‬ولكن بعد أن أنتهى إبرام من مبادلة التحية‪ ،‬بدأ يشق الصفوف حتى‬
‫وقف أمام منضدة ميرفت وشاكر‪ ،‬بدى رد فعل شاكر طبيعياً حيال هذا الموقف ولكن دون‬
‫أن يتحرك من مكانه‪.‬‬
‫‪ -‬حمدا هلل على سالمتك يا إبرام‪.‬‬
‫‪ -‬سلمك هللا يا شاكر‪.‬‬
‫ثم نظر إبرام إلى ميرفت التي يبدو عليها االضطراب مبتسما ابتسامة خفيفة‪.‬‬
‫‪ -‬أال تصافحينني أيضا ؟!‬
‫نظرت ميرفت إلى شاكر في توتر ثم نظرت إلى إبرام مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬حمدا هلل على سالمتك‪.‬‬
‫مد إبرام يده إليها فمدت ميرفت يدها مصافحة له‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أقصد أن نرقص سويا ‪ ..‬فهذه الموسيقى اعتدنا الرقص عليها في صغرنا كثي ار ‪..‬‬
‫(لشاكر) معذرة صديقي شاكر‪.‬‬
‫ثم جذب إبرام يد ميرفت وأتجه لمنتصف الحفل ‪ ..‬لم تبدى ميرفت اعتراضاً وتحركت معه‬
‫وهى ناظرة إلى شاكر في ابتسامة تستسمحه فيها‪.‬‬
‫‪ -‬معذرة يا شاكر‪.‬‬
‫لم يكن أمام شاكر سوى أن يبادلها نفس االبتسامة الكرتونية أمام هذا الجمع العريق‪ ،‬كانت‬
‫الموسيقى رائعة فعالً‪ ،‬ألهبت حماس الراقصين‪ ،‬وبالطبع ميرفت وإبرام‪ ،‬أخذت ميرفت‬
‫تتمايل وكأنها لم تستشعر هذه الفرحة منذ زمن طويل‪ ،‬وكالعادة لم يظهر شاكر زوجها أي‬
‫نوع من أنواع الضيق طوال الحفل‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫كانت ميرفت فى مهد الصبا‪ ،‬ابنة العشرون عاما‪ ،‬كانت تعلم منذ نعومة أظفارها أنها‬
‫ستكون إلبرام الخواجة وإبرام سيكون لها‪ ،‬ولكن الحقيقة أن هذا قبل أن يكون قرار ( جو )‬
‫كان اختيار إبرام أيضا‪ ،‬كان حب ميرفت بقلب إبرام ينمو كل يوم عن اليوم الذى سبقه‪،‬‬
‫تقريبا لم يفارقها إبرام لحظة فى أى مناسبة تمكنه من مقابلتها‪ ،‬وكانت ميرفت ترتاح فى‬
‫لقائها معه‪ ،‬فإبرام يفهم أى مقصد لها قبل أن تكمل حديثها‪ ،‬مما جذب ميرفت تجاهه بشدة‬
‫كى تتخذ منه صديقا قبل أن يكون حبيبا‪ ،‬فبالرغم من التفاهم المتبادل بينهما‪ ،‬إال أن‬
‫ميرفت لم ترى أن هذا سببا كافيا يدفعها لالرتباط به طيلة حياتها‪ ،‬لكنها ال تسطيع‬
‫االختيار‪ ،‬مثلها مثل باقى أفراد عائلة الخواجة‪.‬‬
‫حتى حل شاكر على أرض قلبها البور ليخضبها بالماء الذى يروى ظمأها‪ ،‬كان ارتباط‬
‫ميرفت بشاكر بمثابة أمر شبه مستحيل‪ ،‬بل مستحيل فعال‪ ،‬لكونه ليس من عائلة الخواجة‬
‫ولكن تخطيتهما معا نجح فى تحقيق المعجزة‪ ،‬وخصل شاكر من ( جو ) على استثناء لم‬
‫يحصل عليه سابقا أقرب أقرباءه‪.‬‬
‫سبب هذا جرحا كبي ار إلبرام‪ ،‬فيكيف بعد كل ذلك يضيع حبه هباء حتى دون رثاء‪ ،‬قرر‬
‫إبرام االبتعاد عن تحكمات ( جو ) التى يغيرها وفقا ألهوائه بل واالبتعاد عن عائلة‬
‫الخواجة كلها وقرر الهجرة‪ ،‬هاجر إبرام إلى أوروبا واستوطن فيها وبدأ حياته هناك‪ ،‬ذاب‬
‫وسط فتيات أوروبا باحثا بداخلهم عن النسيان‪ ،‬نسيان األمل الذى فقده عن عالقة ظنها‬
‫عشق متبادل ولكنها لم تتعد بالنسبة لميرفت حبيبته سوى جلسة للفضفضة‪ ،‬حتى قرر‬
‫العودة فى هذه األثناء بعد هجرة دامت ثالثون عاما تغير فيها كل شيء هنا وهناك‪ ،‬لم‬
‫تفارق يد إبرام خصر ميرفت طوال الحفل‪ ،‬من رقصة لوقفة للحديث‪ ،‬لتوجه للبوفيه وتناول‬
‫الطعام‪ ،‬حتى انقطع صوت المعازف ليعلن عن انتهاء الحفل بعدما تناول كل منهم قدر‬
‫ليس بالقليل من التورتة التى تحتاج ألسانسير كى تحصى عدد أدوارها‪ ،‬وعاد كل منهم إلى‬
‫منزله حيث أتى‪.‬‬

‫***********‬

‫‪17‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫استقال كال من ميرفت وشاكر غرفة نومهما‪ ،‬كانت رحيل سعيدة جدا بهذا اليوم على الرغم‬
‫من الروتين الزائد في معظم التصرفات إال أنها كانت فى حاجة ليوم مثل هذا يكسر تكرار‬
‫المطالبة بالزواج التي سأمت سماعها‪ ،‬خرجت رحيل من غرفة نومها متجهة نحو غرفة‬
‫شقيقتها ( شمس ) للحديث معها عن حفل عيد الميالد وكيف كان بالنسبة لها‪ ،‬وأثناء‬
‫ذهاب رحيل لغرفة شمس بالممر العلوى للفيال‪ ،‬وفى لحظة مرورها من أمام باب غرفة‬
‫والديها سمعت صوت شجار بينهما‪ ،‬كانت المرة األولى لرحيل التي تصادف سماع شجار‬
‫مثل هذا‪ ،‬فلقد اعتادت أن حديث والديها ميرفت وشاكر أمامها هي وشقيقتها لم يكن‬
‫ارتجاليا بالقدر الكافي الذى يسمح لهما بسماع كلمات كهذه‪ ،‬دفع الفضول رحيل كي‬
‫تتوقف خلف باب الغرفة لتفهم ما يدور‪.‬‬

‫كان الحوار بين ميرفت وشاكر يبدو ساخناً‪ ،‬وبخ شاكر بشدة ميرفت على رقصها مع‬
‫إبرام‪ ،‬ولكن ميرفت لم تكن تتقبل مثل هذا االنتقاد‪:‬‬
‫‪ -‬وإذا كنت أنت غاضبا إلى هذا الحد من رقصي معه ‪ ..‬لماذا سمحت لي حين قمت‬
‫باستئذانك ؟!‬
‫‪ -‬ماذا كان عساي أن أفعل بعد أن طلبتي منى ذلك على مسمع ومرأى من الجميع ‪..‬‬
‫هل كان أمامي مساحة لالختيار ؟ ‪ ..‬كنتي تريدني أن أعلن رفضي أمامهم كي يقولون لقد‬
‫ارتبطت ميرفت من رجل شرقي رجعى غير متحضر‪.‬‬
‫‪ -‬أنا شرقية مثلك ‪ ..‬فهذه األرض ولدت فيها وتربيت عليها مثلك ‪ ..‬وتعلمت عاداتها‬
‫وتقاليدها مثلك ‪ ..‬ولن أسمح لك بأن تصنفني غريبة بعد كل هذه السنوات التي قضيتها‬
‫قبل معرفتك ‪ ..‬وبعدها‪.‬‬
‫‪ -‬أنت لست شرقية ‪ ..‬وما يفعله ( جو ) أكبر دليل على ذلك ‪ ..‬يحاول الحفاظ على‬
‫هويتكم الغربية‪.‬‬
‫‪ -‬والدى يحافظ على عائلة من التفكك وكيان اقتصادي ضخم من االنهيار ‪ ..‬ال أكثر من‬
‫ذلك ‪ ..‬لماذا كل هذه الثورة من إبرام ‪ ..‬في حين أن نفس ما حدث تكرر في حفالت‬
‫سابقة مع غيره ولم تثر مثل هذه الثورة ‪ ..‬أنه موقف شخصي بينك وبينه ‪ ..‬لم تنس أنه‬
‫كان يحبني في يوم من األيام ‪ ..‬ولكنك نسيت أنى أخترتك أنت وفضلتك عليه‪.‬‬
‫هدأ شاكر وفكر كثي ار ثم اقترب من ميرفت ناظ ار إليها متحدثا في همس‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬إن كنت قد اختارت أن أعاملك معاملة رجل شرقي ألختلف كل شيء ‪ ..‬وربما لم‬
‫نظل متزوجان حتى هذه اللحظة ‪ ..‬فال تنسي أنى سترت فضيحتك التي اكتشفتها‬
‫ليلة زفافنا ‪ ..‬وال زال جميل ستري عليك أمام ابنتيك دائم حتى لحظتنا هذه‬
‫نظرت له ميرفت نظرة حسرة واحتقار ثم توجهت نحو باب الغرفة باكية كي تفتحه وتخرج‬
‫يمأل وجهها غضب شديد‪ ،‬سمعت رحيل خطوات أقدام والدتها تقترب من الباب فقامت‬
‫باالبتعاد عن الباب سريعا قبل قدومها وهى تبكى حتى ال تراها ميرفت‪.‬‬

‫ما سمعته رحيل نزل عليها بمثابة الصاعقة زادت صدمتها فيمن حولها أضعاف ما كانت‪،‬‬
‫لم تذهب رحيل إلى غرفة شقيقتها شمس كما كانت تنوي وعادت إلى غرفة نومها مرة‬
‫أخرى في حالة من الذهول‪ ،‬لم تكن تتخيل أن تسمع حديث مثل ذلك بين والديها في يوم‬
‫من األيام وفى منزلهما العريق هذا‪ ،‬اآلن استطاعت رحيل تفسير حالة الجفاء والروتينية‬
‫الزائدة فى تعامالت والديها معا‪ ،‬حتى كادت تظن أن هذه هي طبيعة الحيوات األسرية‪.‬‬

‫خلدت رحيل إلى سريرها وأغلقت أنوار األباجورات المجاورة وقررت الهروب من التفكير‬
‫إلى النوم‪ ،‬باتت رحيل ليلة مليئة بالهواجس واألفكار المتصارعة ال يهزم أي منهم األخر‬
‫حتى استفاقت صباحاً وعلى سريرها بقعة من الدماء تتوسط موضع نومها‪ ،‬كان انزعاج‬
‫رحيل كبي اًر من هذا األمر‪ ،‬أخذت تتفحص رحيل جسدها باحثة عن جرح به قد يكون‬
‫تسبب في ذلك ولكنها لم تجد شيئاً‪ ،‬ظنت رحيل أنه ربما يكون قد حدث تغير في الموعد‬
‫الشهري لحدوث ذلك األمر‪ ،‬ولكن خطر ببالها أنه ربما يكون بسبب حالتها النفسية التي‬
‫باتت عليها بعد ما علمته من مفاجآت ليلة أمس‪ ،‬ال تعلم‪ ،‬وال يوجد شيء مؤكد‪.‬‬

‫***********‬

‫قررت رحيل أن تتناسى وتتعايش مع األمر‪ ،‬فليس هناك تصرف أخر يمكن فعله حيال‬
‫ذلك‪ ،‬كما أنها قررت أن تنهمك أكثر في أعمالها التطوعية‪ ،‬وكأن شيئا لم يكن‪ ،‬وتتعامل‬
‫مع والديها ككاتمة أسرار ال تبدى شيئا‪ ،‬حتى أنها قررت أن تخفى هذا الخالف عن‬
‫شقيقتها شمس أيضا‪ ،‬ولكنها لن تستطيع أن تحافظ على نظرتها لوالدتها التي كسرت بعد‬

‫‪19‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫قيامها بتربيتها منذ ‪ 35‬عاماً على أخالق وقيم العائلة‪ ،‬فشاءت رحيل أم أبت هذه هي‬
‫الحقيقة‪ ،‬أم لها ماضي تتظاهر بالفضيلة‪.‬‬

‫خرجت رحيل تؤدى دورها في الحياة‪ ،‬فهو بالنسبة لها الشيء الوحيد الذى اختارته لنفسها‪،‬‬
‫فهي وزمالئها ذهبوا في هذا اليوم وفقا للجدول المعد سابقا إلى منزل عم سليم‪ ،‬والذى يقع‬
‫في أحد القرى األكثر فق اًر واحتياجاً‪ ،‬قابلت رحيل عم سليم (الرجل الكبير الذى يبدو عليه‬
‫كونه في العقد الخامس من العمر) ورأت رحيل حياته األسرية الدافئة‪ ،‬رأت رحيل كيف‬
‫يعيش عم سليم مع لطيفة زوجته بمفردهما في منزل سقفه مهدم ال يحول بينهم وبين مياه‬
‫األمطار أو برد الشتاء‪ ،‬وكيف يقدم للطيفة كل ما بوسعه ليسعدها بأقل القليل رغم‬
‫إمكانياته الضئيلة‪ ،‬الحظ كل من رحيل وزمالئها أثناء حديثهم مع عم سليم لمليء‬
‫استمارات البحث االجتماعي الخاصة به هو وزوجته قيامه بغلق باب منزلهما فجأة عند‬
‫ظهور أطفال صغار يقومون باللعب أمام الباب بالخارج‪ ،‬مما أدهش رحيل وزمالئها كثي ار‬
‫رد الفعل السريع هذا‪ ،‬ودفع رحيل لسؤال عم سليم عن السبب‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا تصرفت هكذا ؟‬
‫نظر عم سليم إلى لطيفة زوجته ثم طلب منها أن تجلب الشاي للحضور‪ ،‬فقامت لطيفة‬
‫ملبية طلبه‪ ،‬ثم تابع عم سليم حديثه‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكتب لنا هللا االنجاب‪ ،‬بسبب مشكلة عند زوجتي ال عالج لها جعلتها ال تنتج‬
‫بويضات من أجل الحمل ‪ ..‬رفضت التخلي عنها بسبب داء ال ذنب لها فيه ‪ ..‬أو أن أؤلم‬
‫مشاعرها بزوجة ثانية تستحوذ علي دونها ‪ ..‬وألنى أعرف مدى عذابها من شعور الحرمان‬
‫ّ‬
‫من األمومة طوال عمرها ‪ ..‬فال أريد أن أذكرها بأنينها الموجع عند رؤية األطفال يلعبون‬
‫بالخارج‪.‬‬
‫دمعت أعين رحيل كثي ار من هذه اللمحة اإلنسانية‪ ،‬وانتهت من كتابة تقريرها عنهما هي‬
‫وزمالئها‪ ،‬كما انتهوا من شرب الشاي أيضا‪ ،‬ولم يعد أمامهم سوى االنصراف للعودة مرة‬
‫أخرى حيث تبت اللجنة المشكلة بالجمعية في التقرير المكتوب وتقر مدى استحقاقهم للدعم‬
‫من عدمه‪ ،‬ولكن تقرير رحيل الذى كتبته بمشاعرها المتدفقة كان وافيا بالغرض‪.‬‬

‫***********‬

‫‪20‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫في اليوم التالي اكتشفت رحيل عند استيقاظها تكرار وجود بقعة دم على سريرها في موضع‬
‫نومها مرة أخرى‪ ،‬يبدو أن األمر لم يكن عاب ار وأنها أصيبت بنوبات نزيف متكررة ال تعرف‬
‫سبب لها‪ ،‬كان تكرار هذا األمر كافيا ألن تشك رحيل أن هناك أم اًر ما ليس طبيعياً‪ ،‬جعل‬
‫ذلك رحيل تعقد العزم على الذهاب لطبيب أمراض نساء من أجل معرفة سبب ما يحدث‬
‫لها‪ ،‬وبالفعل قد حددت رحيل موعد الكشف وذهبت له بمفردها دون أن تخبر أحداً من‬
‫العائلة‪ ،‬وال حتى شقيقتها شمس‪ ،‬قام طبيب أمراض النساء بفحصها على الشيز لونج‬
‫مستخدما جهاز السونار ثم ذهب إلى مكتبه بعد أن انتهى‪ ،‬انتهت رحيل أيضاً من إعادة‬
‫ضبط مالبسها ثم ذهبت إليه وهو منهمك في كتابة الروشتة الموضوعة أمامه على‬
‫المكتب‪ ،‬بينما رحيل تنظر إليه في ترقب‪ ،‬نظرات يمألها القلق ويكسوها الثبات الهش‪:‬‬
‫خير يا دكتور ‪ ..‬ما الذى أصابني ؟‬
‫‪ -‬ا‬
‫‪ -‬من الفحص المبدئي بجهاز السونار استطيع أن أطمئنك مبدئيا ‪ ..‬ولكن البد من اجراء‬
‫أشعة مقطعية على منطقة البطن والحوض كى نستطيع الجزم أذا كان ما يحدث لك له‬
‫سبب عضوي ‪ ..‬أم مجرد حالة عابرة نتيجة توتر أو إجهاد مثال‪.‬‬

‫ازدادت مالمح القلق على وجه رحيل‪.‬‬


‫‪ -‬هل يمكن أن يكون هناك سبب عضوي خطير ؟‬
‫‪ -‬ال استطيع الجزم بشيء قبل رؤية األشعة التي طلبتها ‪ ..‬ولكن أيا كانت النتيجة فال‬
‫شيء يدعو للقلق ‪ ..‬فالتقدم الطبي لم يدع عرضا دون حل أو عالج ‪ ..‬فاطمئني‪.‬‬

‫لم تكن ابتسامة الطبيب أثناء حديثه كافية لتبث الطمأنينة داخل قلب رحيل‪ ،‬ولكن ما كان‬
‫عليها سوى أن تمد يدها المرتعشة لتلتقط الورقة من الطبيب وتمثل لتعليماته التي طلبها‬
‫منها لتنفذها‪.‬‬

‫***********‬

‫استلقى أمام التلفاز كال من رحيل وشمس كما اعتادا لتشاهد شمس قناة األفالم الوثائقية‪،‬‬
‫ولكن على غير العادة فلم تقم رحيل هذه المرة بالتشاجر مع شمس من أجل رغبتها في‬
‫مشاهدة قناة الفاشون فرحيل كانت في هذه اللحظات وكأنها في عالم أخر‪ ،‬فالحقيقة أنه‬

‫‪21‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫بالرغم من أن ( شمس ) شقيقة رحيل الصغرى‪ ،‬حملتهما بطن واحدة إال أن شمس تختلف‬
‫اختالف كلى عن رحيل‪ ،‬فشمس ال تشغل بالها بأى تفسيرات ألى تصرف يحدث حولها‪،‬‬
‫وإذا اضطرت لذلك فإنها تختار األقرب‪ ،‬دون تأويالت ودون تذاكى‪ ،‬ترى شمس في ق اررات‬
‫جدها ( جو ) قد ار كبي ار من اإلصابة‪ ،‬فهو يفعل ذلك من أجل الحفاظ على كيان كبير‪،‬‬
‫ولكن يكن ذلك سوى بشخصية قوية وشديدة يهابها الجميع‪ ،‬تحلم شمس في اطار الروتين‬
‫المحدد لها وال تسمح لخيالها الخروج عن هذا االطار طوعا حتى ال يصبح كرها‪.‬‬
‫كانت رحيل شبه شاردة تفكر فيما يحدث لها في الفترة األخيرة من تغيرات‪ ،‬كما أنها ال‬
‫تستطيع إخفاء قلقها نحو نتيجة األشعة التي بات من المفترض استالمها من المركز غداً‪،‬‬
‫ولكن شمس سرعان ما انتبهت لذلك اثر اكتشافها استسالم رحيل للقناة على التلفاز‪ ،‬راقبت‬
‫شمس بنظراتها انفعاالت رحيل تنتظر رد فعل بين لحظة وأخرى‪ ،‬ولكنها لم تفعل أيا من‬
‫ذلك‪ ،‬فرحيل باتت حاضرة الجسد فقط بينما عقلها يتنقل بين فكرة وأخرى‪ ،‬ومن هاجس‬
‫ألخر‪ ،‬ما كان أمام شمس سوى أن تتخذ قرار ألن تبدأ هي بالمبادرة‪:‬‬
‫‪ -‬أرى أن المسلسل قد نال إعجابك‪.‬‬
‫‪ -‬شوفتي الفيديو ده يا رحيل ؟‬
‫أجابتها رحيل بعدم اهتمام أو باألحرى بدون تركيز‪.‬‬
‫‪ -‬بالفعل ‪ ..‬جميل جدا‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنه ليس مسلسل ‪ ..‬هذا فيلم وثائقي عن تجربة تجميد البويضات لدى الفتيات ‪..‬‬
‫يقولون أنه اصبح بإمكان الفتاة أن تحتفظ ببويضاتها وتتزوج في السن الذى تريد حتى ولو‬
‫بعد األربعين ‪ ..‬حتى ال تخشى فقد القدرة على االنجاب‪.‬‬
‫انتبهت رحيل على الفور‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا قلتي ؟ ‪ ..‬عن ماذا ؟‬
‫‪ -‬رحيل ‪ ..‬ما الذى أصابك ؟ ‪ ..‬أتخفين شيئا ما ؟‬
‫أشاحت رحيل لها بيدها في حالة من الضيق وعدم االهتمام‪ ،‬انتبهت شمس لحالة رحيل‬
‫فاندهشت واقتربت منها تربت على ظهرها‪.‬‬
‫‪ -‬رحيل ‪ ..‬ماذا بك ؟‬
‫‪ -‬ال شيء‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬تستطيعين قول ذلك البيك الذى ال نراه بالمنزل إال في المناسبات ‪ ..‬لكن أنا فأحفظك‬
‫جيداً ‪ ..‬إن لم تصارحي شقيقتك ‪ ..‬فمن لديك ليكون خزينة أسرارك ‪ ..‬أتصر والدتك على‬
‫زواجك من الدكتور فريد الخواجة ؟‬
‫أدارت رحيل وجهها نحو شمس ناظرة إليها‪.‬‬
‫‪ -‬سأخبرك‪.‬‬

‫***********‬

‫وجاء موعد استالم نتيجة األشعة‪ ،‬ولكن لم تكن رحيل حينئذ بمفردها في هذه اللحظات‪،‬‬
‫فلقد قررت شمس أال تترك شقيقتها تواجه هذه األمور وحدها‪ ،‬وبالفعل حصال رحيل‬
‫وشمس على نتيجة األشعة وذهبا بها إلى عيادة الطبيب المعالج‪.‬‬
‫كانت تترقب رحيل تعبيرات وجه الطبيب أثناء نظره لألشعة بكل تفاصيلها‪ ،‬بينما كانت‬
‫شمس تترقب تعبيرات وجهها هي‪ ،‬حتى وضع الطبيب األشعة على المكتب أمامه ونظر‬
‫إلى رحيل‪ ،‬لم تكن نظرته مرضية لكال الشقيقتين‪ ،‬فبعد تنهيدة طويلة والتواءة في شفته‬
‫السفلية‪ ،‬نظر الطبيب إلى رحيل قائال‪:‬‬
‫‪ -‬مثلما توقعت ‪ ..‬ال يوجد سبب عضوي لهذا العرض عزيزتى‪.‬‬
‫نظ ار كال من رحيل وشمس لبعضهما البعض في صمت تام فتابع الطبيب حديثه‪.‬‬
‫‪ -‬هل حدث في عائلتكم أي عرض مشابه أو أي سبب أثر على قدرة أحدهم‬
‫االنجابية ؟‬
‫‪ -‬أنا من من عائلة ذات أصول أرمينية يا دكتور ‪ ..‬وال أعلم تفاصيل مثل هذه ‪..‬‬
‫فربما كانت معلومة مثل هذه عند جدى وربما والدتى‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن هذا النزيف مجرد إنذار النقطاع طمث مبكر ‪ ..‬وأرجح أن السبب في‬
‫ذلك وراثيا ‪ ..‬ال داعى للهاث حول طرق عالج وهمية‪.‬‬
‫ارتعشت أيدى رحيل‪ ،‬وحدقت أعين شمس‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد بحديثك هذا ؟‬
‫‪ -‬أقصد أن قدرتك اإلنجابية ستقل بالتدريج ‪ ..‬من الممكن خالل أشهر وربما بعد‬
‫سنوات ‪ ..‬ال أستطيع تحديد ذلك ولكن يمكننا المتابعة ‪ ..‬وعلى أية حال فاإلسراع‬
‫بالزواج واالنجاب هو الحل األضمن‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫تساءلت شمس وهى تحاول التظاهر بالثبات‪:‬‬


‫كنت سمعت أيها الطبيب عن عملية تجرى لتجميد البويضات في أحد األفالم‬
‫الوثائقية ‪ ..‬هل هذا األمر واقعى ومطبق بالفعل‪.‬‬
‫بالطبع ‪ ..‬هذا اقتراح جيد جدا خصوصا أمام حالة كحالتنا هذه ‪ ..‬وإن كنت أفضل‬
‫الزواج عن إجراء مثل هذه العمليات‪.‬‬
‫إنها فتاة وأمر الزواج ليس بيدها‪.‬‬
‫معذرة‪.‬‬
‫تحاملت رحيل على نفسها وقطعت صمتها وقررت التدخل في الحيث‪:‬‬
‫ال تتعذر ‪ ..‬فقط أخبرنا كيف تتم عملية كهذه ؟‬
‫نحن نقوم باختيار مجموعة سليمة من البويضات ثم نقوم باستخراجها وحفظها في‬
‫ظروف تخزين مناسبة ‪ ..‬حتى تحين رغبة العميل في االنجاب ‪ ..‬نستكمل‬
‫إجراءات العملية مثل أي عملية طفل أنابيب بشكل تقليدي جدا‪.‬‬
‫وما هي مدة التخزين القصوى الممكنة ؟‬
‫كلما زادت المدة زادت تكاليف التخزين ‪ ..‬ويمكننا حفظها حتى أربع سنوات بشكل‬
‫مبدئى نتابع فيها تطورات حالتك‪.‬‬
‫ولكنى سأتعرض لجرح يشبه جرح الوالدة‪.‬‬
‫أبدا ‪ ..‬هذه مجرد إبره يتم إدخالها للمبيض ثم نقوم بشفط البويضات وبدون تخدير‬
‫‪ ..‬وحتى دون التأثير على العذرية نهائياً ‪ ..‬باإلضافة إلى أنه سيتم االحتفاظ بها‬
‫في مكان آمن بلون محدد وبرقم سري خاص بك أنت ‪ ..‬مما يعنى أن نسبة‬
‫حدوث خطأ أو اختالط أنساب غير واردة بالمرة‪.‬‬
‫نظرت رحيل لشمس وهي تفكر في توتر وتمتلئ أعينهما بالدموع‪.‬‬

‫***********‬

‫في هذه المرة لم يكن أمام رحيل خيارات محيرة تتمرد على أحدهما وتقبل األخر مثلما‬
‫تعودت‪ ،‬ولكنها وجدت نفسها فجأة أمام اختيار واحد‪ ،‬شعور الفقد أكسبها معرفة قيمة ما‬
‫كانت تتمرد عليه‪ ،‬بات الزواج حلم‪ ،‬واالنجاب غاية‪ ،‬والحرمان األبدى من معنى األمومة‬
‫‪24‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫شبح يطارد خياالتها‪ ،‬ولكن بعد هدوئها وهي داخل غرفتها بالفيال‪ ،‬واستعادتها قدرتها على‬
‫التفكير‪ ،‬ذهبت رحيل إلى ميرفت والدتها بمالمح منكسرة تخبرها عن موافقتها على االرتباط‬
‫بالدكتور فريد دون شروط‪ ،‬ولكن ميرفت أخبرتها أن األمر لم يعد يتوقف على موافقتها‬
‫مثلما كان بالسابق‪ ،‬ففريد أصبح هو من يرفض االرتباط بها لألبد‪.‬‬
‫أخذت رحيل تتصفح مواقع األنترنت بحثاً عن تفاصيل عمليات حفظ البويضات حول‬
‫العالم للتأكد من كالم الطبيب الذى ما زال يدوي في آذانها‪ ،‬رأت رحيل صو اًر لفنانات‬
‫عالميات قاموا بإجراء مثل هذه العملية من قبل وكللت بالنجاح‪ ،‬أنهت رحيل بحثها ثم‬
‫هرولت نحو شمس مرة أخرى في غرفتها تسألها عن اسم الفيلم الوثائقي الذى كانت‬
‫تشاهده بخصوص هذا األمر‪ ،‬ولكن شمس لم تكن تشاهده بالقدر الكافي من االهتمام الذى‬
‫يجعلها تتذكر اسمه‪ ،‬طلبت رحيل من شمس أال تخبر أيا من والديها باألمر‪ ،‬لم تفهم‬
‫شمس سبب هذا الطلب العجيب ولكنها وعدتها بتلبيته احتراماً لرغبتها‪ ،‬لم تسرع رحيل في‬
‫تنفيذ أمر بحياتها من قبل مثلما أسرعت في اتخاذ هذا القرار‪ ،‬كان حديث الطبيب كافيا‬
‫ألن يقنع رحيل بأن عملية كهذه هي أقل خطورة من عملية إزالة اللوز التي يجريها األطفال‬
‫في الصغر‪ ،‬فلم يكن صراع رحيل مع خوفها من اإلقدام على عملية كهذه‪ ،‬وإنما كان‬
‫صراعها الحقيقي مع والدتها عندما قامت شمس شقيقتها بكسر االتفاق بينهما وإخبارها بنية‬
‫رحيل فى اإلقدام على تنفيذ هذه العملية‪.‬‬

‫لم تكن المواجهة هينة بين رحيل وميرفت والدتها‪ ،‬فكان انفعال ميرفت كبي اًر وقامت بتعنيف‬
‫رحيل ألقصى درجة وهى تبكي بشدة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تفعلى ذلك يا رحيل أرجوك ‪ ..‬أنت حفيدة ( جو ) وجميع شباب عائلة الخواجة‬
‫يحلمون باالرتباط بك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ( جو ) لن يقبل بمن يروق لي منهم ‪ ..‬ولن استطيع أن أفعل مثلما فعلت وأضع‬
‫خطة لينال حبيبى إعجابه‪.‬‬
‫‪ -‬سنحاول‪.‬‬
‫‪ -‬لن اسمح لجسدى أن يكون رهن محاوالت بائسة ‪ ..‬أنا من سأختار وأنا من سيقرر من‬
‫أريد وقتما أريد‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن جسدك لن يسمح ‪ ..‬لقد أصيبت جدتك ( ميريت ) بنفس هذه الحالة بعدما انجبت‬
‫شقيقى ‪ ..‬وكانت هذه الحالة وحدها هي من وقفت أمام رغبات ( جو )‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬لذا دعي الضحية تقرر ما تريد‪.‬‬


‫لم تكن رحيل متهيئة كى تقبل نصيحة من والدتها بعد ما علمته عنها وال حتى جداالً‬
‫عادياً‪ ،‬فلم تعيرها رحيل اهتماماً وقررت االنصراف في ِ‬
‫تحد لميرفت وهى تتمتم بالحديث‪.‬‬
‫‪ -‬فما أنوي فعله ال يثير سخط المحيطين مثل غيري ممن يتقمصون دور الواعظين‪.‬‬
‫لم تستطع أقدام ميرفت حملها وقررت االتكاء على األريكة المقابلة‪ ،‬ثم نظرت إلى شمس‬
‫في حالة من الخزي واإلحباط‪ ،‬بينما استشعرت شمس أن حديث رحيل الخفي يقصدها هي‬
‫بسبب ما فعلته‪ ،‬واستشعرت الحرج حيث ظنت أنها قد تسببت في حدوث خالف كبير بين‬
‫أحد أطراف أسرتهم السعيدة يمكن أن يتسبب في قطيعة كبيرة بينها وبين شقيقتها الوحيدة‬
‫رحيل قد يدوم طويال‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫خضعت رحيل لتلقى حقنا تحضيرية لمدة أربعة عشر يوماً تقريبا‪ ،‬حقن معبأة‬
‫بالهرمونات من أجل استثارة المبيض إلنتاج كميات أكثر من البويضات بدالً من بويضة‬
‫واحدة شهرياً‪ ،‬واظبت رحيل على أخذ هذه الحقن قبل الخضوع إلجراء العملية‪ ،‬حتى حان‬
‫الموعد المحدد بدقة من قبل الطبيب والذى يكون األكثر مناسبة إلجراء عملية كهذه‪ ،‬وقد‬
‫حانت اللحظة‪ ،‬لم يتوقف قلب رحيل عن الخفقان‪ ،‬كل لحظة كانت تمر عليها كانت‬
‫تزيدها خوفاً وقلقاً‪ ،‬فالحقيقة أن رحيل لم تكن بالقوة التي تظهرها لآلخرين‪ ،‬فالظروف أثبتت‬
‫أنها أضعف ما يكون عن تحمل أقل المحن قوة‪ ،‬وحتى أتمت رحيل مرادها وانتهى األمر‬
‫لم يكن بجوارها سوى شقيقتها شمس‪ ،‬ربما لشعورها بالذنب لتسببها في اإليقاع بينها وبين‬
‫ميرفت والدتهما‪ ،‬قامت رحيل بإجراء عملية أخذ وتجميد مجموعة بويضات أحدهما أساسية‬
‫‪27‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫وأخرى احتياطية من أجل االحتفاظ بهم في حالة جيدة بعيداً عما تمر به من اضطرابات‬
‫مرضية ونفسية شخصية وعائلية‪ ،‬وكي تتمكن من تلقيحها وزرعها بالرحم مرة أخرى مثل‬
‫عمليات طفل األنابيب متى رغبت في الزواج‪ ،‬وبالفعل قد دفعت رحيل إيجار تخزينهما‬
‫بالمستشفى الخاص لمدة عام كامل بشكل مبدئي‪ ،‬لم تكن العائلة على علم بما حدث‪،‬‬
‫فميرفت كانت على قدر المسئولية‪ ،‬وتقدر ما يمكن أن يحدث من عواقب جراء انتشار‬
‫خبر كهذا عن عائلة الخواجة‪ ،‬لذا كان التعتيم سيد الموقف في هذا األمر‪ ،‬بدال من قيام‬
‫والديها بفتح صنبور من األسئلة المتتالية التي لن يكون لها إجابة شافية‪ ،‬كيف تمت هذه‬
‫العملية ؟ وكيف سيتم تلقيحها بعد ذلك والحمل من خاللها بعد إذ ؟ ‪ ،‬وهل سيتم زرع هذا‬
‫الجنين في رحمها أم سيتم استئجار رحم سيدة أخرى ؟ ‪ ،‬كل هذه كانت أسئلة من‬
‫الضروري أن يولدها حدث غريب مثل هذا ال يوجد أحد من العامة على دراية بتفاصيله‪،‬‬
‫لذا كان التكتم على األمر ضرورياً‪ ،‬وكانت اإلجابة على أي سؤال بخصوص خضوع‬
‫رحيل لجراحة بمستشفى ال تتعدى سوى إجابة واحدة فقط‪ ،‬وهى أن رحيل كانت تقوم بإجراء‬
‫عملية جراحية الستئصال الم اررة ال أكثر وال أقل‪.‬‬

‫***********‬

‫لم يكن شاكر أيضا على علم بما أجرته ابنته‪ ،‬فعدم إخباره كان كفيال بجعله يجهل األمر‬
‫برمته‪ ،‬فهو لن يلحظ أم ار ولن يسأل عن أي شيء حتى وإن بدا غير تقليدي‪ ،‬انتهى شاكر‬
‫من تقريره عن الشركة التي كان يقوم فخر بإدارتها‪ ،‬وطلب لقاء ( جو ) من أجل عرضه‬
‫عليه‪ ،‬وبالطبع لم يخلو التقرير الذى أعده شاكر من بعض البهارات والتوابل التي تجعل‬
‫تأثير التقرير على من يقرأه أشد ح اررة وانفعال‪ ،‬التقى شاكر بجو يعانقه فأوقفه جو بيده‬
‫على الفور‪ ،‬فأخبره جو على الفور‪:‬‬
‫‪ -‬باب المكتب مغلق من الداخل‪.‬‬
‫ابتسم جو ابتسامة وقورة وقام بمعانقة شاكر‪.‬‬
‫‪ -‬ما زلت أتلقى نظرات اللوم حتى هذه اللحظة على حبى لك‪.‬‬
‫‪ -‬أعلم ذلك ‪ ..‬واعتبره تاج على رأسى‪.‬‬
‫تغيرت مالمح جو فجأة وذابت ابتسامة وجهه‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬أتمنى أال تكسر هذا التاج يا شاكر بيدك يوما ما‪.‬‬


‫اندهش شاكر من اسلوب جو وحاول اصطناع ابتسامة ربما تمرر هذا الموقف الغير‬
‫مفهوم‪.‬‬
‫‪ -‬مر أكثر من ثالثون عاما على إخالصي لك ‪ ..‬لم تخبرنى بقول كهذا‪.‬‬
‫‪ -‬ربما لم أمر طوال هذه المدة بشعور كهذا ‪ ..‬كيف حال رحيل ؟‬
‫‪ -‬رحيل فى أحسن حال مثلما رأيتها فى أخر زيارة قدمت فيها إليك‪.‬‬
‫قام جو يتفحص كتب مكتبته الضخمة وهو يحدث شاكر فى غير اهتمام‪.‬‬
‫‪ -‬اتلو ما أتيت من أجله‪.‬‬
‫‪ -‬لقد اكتشفت تالعبات عدة قام بها فخر فى حسابات الشركة التى يديرها‪ ،‬األرباح‬
‫المدونة تختلف عن الفعلية والفرق مسجل لحساب صديق ثقة أخذ عليه تعهدات عدة كى‬
‫يضمن والءه‪.‬‬
‫‪ -‬اخبرني بالرقم الذى حصل عليه واترك بقية األمر لي‪.‬‬
‫فكر شاكر شاردا وكأنه فهم ما ينوى جو فعله‪.‬‬

‫***********‬

‫استلقت رحيل فى غرفتها لتحصل على قسط من الراحة‪ ،‬واشتمت رائحة الياسمين‬
‫العليل التى تفضلها فانشرح صدرها وأخذت تتلفت باحثة عن مصدره‪ ،‬حتى اكتشفت وقوف‬
‫شمس عند الباب تحمل زجاجة عطر الياسمين وترش منها عليها لتداعبها‪ ،‬تراجعت رحيل‬
‫عندما اكتشفت ذلك وعادت كما كانت‪ ،‬فاقتربت منها شمس تحاول مالطفتها‪.‬‬
‫‪ -‬أما زلت غاضبة من شقيقتك الوحيدة ؟‬
‫آثرت رحيل االنصات أفضل من تجاذب أطراف العتاب‪ ،‬فتبعت شمس حديثها‪.‬‬
‫‪ -‬كان البد أن يعرف بعملية مجهولة مثل هذه أحد الكبار ‪ ..‬ربما أصابك مكروه وقتها‬
‫فكيف سأتصرف بمفردي‪.‬‬
‫‪ -‬أرادت التخلص من عبء المسئولية‪.‬‬
‫‪ -‬بل مشاركتها مع أكثر الناس ثقة بالنسبة لى ولك‪.‬‬
‫‪ -‬تحدثي عن نفسك وحسب‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬شعرت وما زلت أشعر أن عالقتك بوالدتنا ليست على ما يرام ‪ ..‬هل هناك أم ار تخفيه‬
‫عنى ؟‬
‫ظلت رحيل صامتة تفكر فى شرود بالغ‪ ،‬لم تحتج رحيل إلى وقت كبير للتعافي بعد‬
‫العملية‪ ،‬فالعملية بالفعل كانت ببساطة الوصف الذى تلقته من الطبيب‪ ،‬وعادت رحيل‬
‫سريعا إلى نشاطها التطوعي الذى اكتشفت أنه المسلك الوحيد للهروب مما يدور ببالها من‬
‫هواجس ال تنتهى‪ ،‬بعد أن أخبرها زمالئها بانتهائهم من أعمال التجهيز للقيام بتطوير (‬
‫قرية عويس )‪ ،‬كما أنه قد تم اعتماد الميزانية الخاصة بها بالفعل‪ ،‬وأنهم سيقومون بإبالغها‬
‫لمرافقتهم عند تحديد موعد التنفيذ‪ ،‬الخبر الذى أسعد رحيل كثي اًر‪ ،‬ولكن رحيل لم تقع أسيرة‬
‫هذا الشعور قد ار كبي اًر من الوقت‪ ،‬فالمفاجأة التي باتت تنتظرها كانت كفيلة بأن تنسيها أي‬
‫مشاعر أخرى سعيدة كانت أو حتى مؤلمة‪ ،‬تلقت رحيل مكالمة تليفونية من أحد األطباء‬
‫القائمين على المستشفى التي قامت بإجراء العملية بها‪:‬‬
‫‪ -‬آنسة رحيل ؟‬
‫‪ -‬أفندم‪.‬‬
‫‪ -‬معك الدكتور رياض‪.‬‬
‫‪ -‬أهالً وسهالً يا دكتور‪.‬‬
‫‪ -‬أرجو الحضور للمستشفى على الفور ‪ ..‬هناك أمر هام لن يأخذ من وقتك الكثير‪.‬‬
‫‪ -‬لقد انتهيت من دفع المبلغ المتبقي لحسابات المستشفى‪.‬‬
‫‪ -‬األمر ليس مادي على االطالق ‪ ..‬أفضل الحديث فور وصولك ‪ ..‬أنا بانتظار‬
‫وصولك‪.‬‬
‫أجابت رحيل في حيرة بالغة‪.‬‬
‫‪ -‬حاالً بإذن هللا‪.‬‬

‫***********‬

‫لم تتمالك رحيل أعصابها كي تؤجل الزيارة إلى وقت آخر أكثر مناسبة وهرولت‬
‫بالذهاب إلى طبيب أمراض النساء بالمستشفى على الفور الذى قام بإجراء عملية تجميد‬
‫البويضات لها سابقا‪ ،‬يبدو أن الخبر كان صادماً‪ ،‬ضربت رحيل خديها وهى تصرخ بشدة‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذى تقول ؟! ‪ ..‬كيف حدث هذا ؟!!‬
‫‪30‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬أرجوك أهدأي آنسة رحيل ‪ ..‬ال داعى لالنفعال ‪ ..‬األمر برمته في أيدينا ‪ ..‬ونحن لن‬
‫نسمح ألمر كهذا أن يمر مرور الكرام‪.‬‬
‫‪ -‬تخبرنى أن جزءا منى قد سرق وتطلب منى الهدوء ‪ ..‬كيف هذا ؟ ‪ ..‬وهل ما حدث هذا‬
‫لبويضاتى وحدي أم أصاب األمر أخرون ؟‬
‫‪ -‬لألسف ما سرق هو بويضاتك وحدها ‪ ..‬ألنها كانت حديثة ولم تنقل بعد لمكان التخزين‬
‫المؤمن‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ال يعقل ‪ ..‬أال تعلم من أنا وما يمكنني فعله ؟‬
‫‪ -‬آنسة رحيل ‪ ..‬ال داعي للتهديد ولو كنا غير أمناء لما أخبرناك فور وقوع هذا الحادث‬
‫‪ ..‬المركز يقم لك عرضا عادال ‪ ..‬سنقوم بإجراء عملية أخرى والتقاط بويضات جديدة‬
‫وتخزينها على نفقة المركز بالكامل ‪ ..‬وبذلك يكون وكأن شيء لم يحدث‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا أعرض جسدي النهاك كهذا بسبب اهمالكم المذرى ‪ ..‬سأنتظر تحقيقات الشرطة‬
‫ربما تكشف عن السارق‪.‬‬
‫‪ -‬آنسة رحيل ‪ ..‬نحن لن نبلغ الشرطة ‪ ..‬فبالغ كهذا كفيل بأن يقضى على سمعة مركزنا‬
‫لألبد واقصاء العمالء عنه ‪ ..‬نحن سنتولى ذلك بأنفسنا وتأكدى أننا سنصل للجاني عاجال‬
‫أم آجال ولكن هذا لن يغنى عن إعادة العملية‪.‬‬
‫لم تجد رحيل حديث يعبر عما بداخله من وجع‪ ،‬وللمرة الثانية ال صبح أمام رحيل خيا اًر‬
‫آخر سوى أن تقبل العرض‪ ،‬وبالفعل قد أعادت رحيل كافة اإلجراءات من البداية مرة‬
‫أخرى‪ ،‬بدءاً من حقن الهرمونات التحضيرية وحتى تحديد موعد إجراء العملية‪ ،‬ولكن داخل‬
‫غرفة العمليات كانت تكمن المفاجأة األخرى‪ ،‬فيبدو أن تكرار جرعة الهرمونات التحضيرية‬
‫بعد وقت قصير من إجراء العملية السابقة أحدث هياج للمبيض مما أدى إلى حدوث تورم‬
‫به عالوة على إصابته السابقة‪ ،‬والذى بدوره أدى إلى فشل العملية الثانية‪ ،‬كان األمر‬
‫محبطاً للجميع‪ ،‬وعجزت الكلمات أن تعبر عما تمر به رحيل من مشاعر قاسية‪ ،‬ولكن‬
‫الدكتور رياض حاول استيعاب الموقف والتهوين من هوله‪:‬‬
‫‪ -‬أنا عاجز عن الحديث آنسة رحيل ‪ ..‬أقدر حالتك جيدا ‪ ..‬وإذا أرادت إبالغ الشرطة فلن‬
‫يستطيع أحد منعك ‪ ..‬ولكن لألسف إدارة المركز سوفت تنكر جريمة السرقة من األساس‬
‫للسبب الذى أخبرتك به سابقا ‪ ..‬أرجو أن تتفهمى موقفى‪.‬‬
‫‪ -‬ومن يتفهم موقفى ‪ ..‬من يشعر بآالمى ؟!‬
‫تحولت نظرة رحيل إليه إلى نظرة احتقار‪ ،‬لكن رياض اتبع حديثه لها قائالً‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬المركز كما أخبرتك لن يهدأ حتى يتوصل للسارق ‪ ..‬وهناك احتمال كبير في إعادة ما‬
‫سرق ‪ ..‬وأملنا باهلل كبير بأن تكون البويضات ما زالت في حالت جيدة ‪ ..‬فمن المؤكد أن‬
‫السارق يعي قيمة ما سرق وعلى دراية بأساليب حفظها جيداً‪.‬‬
‫أجابت رحيل وهى في حالة انكسار تسمح دموعها وتحاول أن تتماسك‪.‬‬
‫‪ -‬ما الدافع للص أن يسرق شيئا كهذا ؟‬
‫‪ -‬هناك دافعان ال ثالث لهما ‪ ..‬إما سيبيعها لسيدة ال تنجب ‪ ..‬وإما سيزرعها في رحم‬
‫زوجته التي ال تنجب‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن بهذه الطريقة الجنين لن يكون ابن هذه السيدة ‪ ..‬فهي ستكون مجرد وعاء إلنبات‬
‫بويضتي أنا ‪ ..‬وهذا الجنين سيكون من صلبي أنا ويحمل جيناتي‪.‬‬
‫‪ -‬نظريا هذا صحيح يا آنسة رحيل‪.‬‬
‫نظر الدكتور رياض في األرض خجال‪ ،‬فقامت رحيل محاولة التحامل على نفسها تتحرك‬
‫ببطيء لالنصراف وهى تبكي دون أن تدرى إلى أين تذهب‪.‬‬

‫***********‬

‫في إحدى المناطق الراقية بالتجمع الخامس كانت ميرفت تقود سيارتها في حالة من‬
‫الغضب يبدو عليها التهور الشديد حتى قامت بالفرملة المفاجأة أمام مدخل أحد العمارات‪،‬‬
‫ثم خرجت من سيارتها مندفعة نحو مدخل البرج يبدو على مالمحها الجدية الشديدة‪،‬‬
‫صعدت ميرفت من خالل األسانسير حتى الطابق السادس ثم خرجت منه متجهة إلى أحد‬
‫أبواب الشقق بالطابق تطرقه‪ ،‬حتى فتحت لها ( نجوى ) الباب (فتاة في منتصف العقد‬
‫الثاني من العمر ترتدى مالبس منزلية يغطيها روب من قماش المع)‪.‬‬
‫‪ -‬أفندم ‪ ..‬تحت أمرك‪.‬‬
‫‪ -‬معذرة ‪ ..‬أريد زوجي من الداخل‪.‬‬
‫أجابتها نجوى باندهاش شديد‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ؟ ‪ ..‬ماذا تقولين ؟‬
‫‪ -‬قلت معذرة ‪ ..‬أريد شاكر زوجي حاال دون ثرثرة ‪ ..‬من فضلك‪.‬‬
‫جاء شاكر من الداخل مرتديا روبا منزليا أيضا غير منتبه‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬من بالباب يا نجوى ؟‬


‫رأى شاكر ميرفت ورأته وتالقت أعينهما فتوقف شاكر في مكانه من أثر الصدمة‪.‬‬
‫‪ -‬ميرفت !‬

‫************‬

‫في فيال شاكر كان يجلس كال من شاكر على أحد الكراسي واضعا يديه على خديه‪،‬‬
‫ورحيل تجلس أيضا في أحد األركان ال تتوقف عن البكاء وبجوارها شمس تربت على‬
‫كتفها‪ ،‬بينما ال تستطيع ميرفت الهدوء وتظل تتحرك في ريسبشن الفيال ذهاباً وإياباً حولهم‬
‫جميعا‪ ،‬ثم توجه حديثها لشاكر‪:‬‬
‫‪ -‬منذ أن وصلنا وأنت صامت هكذا ‪ ..‬أال يوجد لديك قولنا فيما علمت ؟‬
‫رفع شاكر يداه عن خديه ناظ اًر إلى ميرفت بغضب‪.‬‬
‫‪ -‬تريدين قولي !! ‪ ..‬ابنتي من صلبي تجري عملية ثم تسرق ثم تجري األخرى وفى األخر‬
‫يقول والدها قوله كمتصفح يضع تعليقا على صفحتك الشخصية ‪ ..‬ماذا عساي أن أفعل‬
‫أو أقول اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أخر من يالم يا شاكر ‪ ..‬لقد تركت لي الحمل وحدي ‪ ..‬تغيب معظم اليوم في‬
‫عملك مع والدي ولم اشتكي ‪ ..‬تأتى لمجرد النوم كأني أقيم بمنزل وحيدة ولم أبدي رد فعل‬
‫‪ ..‬تحملت المسئولية وحدى وقمت بها ‪ ..‬واآلن تلومني على عدم إخبارك ؟ ‪ ..‬ومن يلومك‬
‫على عدم سؤالك يا شاكر ! ‪ ..‬من يلومك على تجاهلك لي ولبناتك طوال هذه الفترة ؟!!‬
‫‪ -‬ما شاء هللا ‪ ..‬وكأنك تشعرين ‪ ..‬لفت انتباهك عدم شعوري بالسعادة بالمنزل وبالرغم من‬
‫ذلك لم تسألي حتى عن السبب بدعوى التحمل ‪ ..‬ليتك لم تتحملين‪.‬‬
‫قاطعت رحيل حوارهما‪:‬‬
‫‪ -‬أنا لم أجلس معكما ألسمع عتابكما على ترهات الحياة البالية ‪ ..‬ولكنى أود حال استعيد‬
‫به نسلى الذى اضحى مستباحا لدى مجهولون‪.‬‬
‫تدخلت شمس في هذه اللحظة بقول اعتقدت في ق اررة نفسها أنه سيحسم األمر‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أرى يا والدي أن نبلغ جدى ( جو ) وهو من سيستطيع التصرف‪.‬‬
‫تقدم شاكر نحوها في مالمح صلبة وصفعها على وجهها صفعة صدمت رأسها بظهر كنبة‬
‫الصالون المجاورة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬ال أود أن اسمع عبارة كهذه مرة أخرى ‪ ..‬انتهى األمر عند هذا الحد ‪ ..‬ولن يعلم به‬
‫أحد حتى ينقضي أو تسكن رحيل قبرها‪.‬‬
‫قالها شاكر بكل صرامة وانصرف إلى غرفة نومه‪ ،‬وانصرفت خلفه ميرفت زوجته محاطة‬
‫بخيبة األمل وكسرة الخاطر‪ ،‬فبالرغم من أن ميرفت وشاكر ما زالت تجمعهما الجدران‬
‫ذاتها منذ ‪ 36‬عاماً تقريباً‪ ،‬إال أن شعور رحيل ال يختلف كثي اًر عن شعور أي فتاة يتيمة‬
‫في سن تحتاج فيه ألقرب األشخاص إليها‪ ،‬حتى شمس شقيقتها الصغرى لم يستطع حنانها‬
‫قتل م اررة هذا الشعور‪ ،‬ولكن بالرغم من ذلك لم تتوان شمس عن محاوالت مواساتها‬
‫والتخفيف عنها كما تفعل معها رحيل في هذه اللحظات القاسية‪ ،‬أخبرتها شمس بأن هناك‬
‫زميلة لها شقيقها يعمل بالمحاماة‪ ،‬وأنه من الممكن أن تقوم رحيل باستشارته في هذا األمر‬
‫إذا أرادت‪ ،‬ولكن رحيل أخبرتها أنها لم تعد ترغب في تحدى رغبة والدها أكثر من ذلك‪،‬‬
‫وأنها ستصبر وتعود لتستأنف عملها التطوعي ربما تنسى وتذوب وسط البسطاء‪.‬‬

‫***********‬

‫جلسا كال من شاكر وميرفت داخل غرفتهما التي بات يسودها الصمت األكثر بالغة عن‬
‫الحديث‪ ،‬ال يمألها سوى اختالس نظرات متبادلة بين كل منهما لآلخر‪ ،‬حتى قرر شاكر‬
‫الخروج عن صمته‪:‬‬
‫‪ -‬ال أرغب في ترك الظنون تجول بخاطرك ‪ ..‬من رأيتني بشقتها هي زوجـ ‪...‬‬
‫ولكن سارعت ميرفت بمقاطعته‪.‬‬
‫‪ -‬ال أريد معرفة من تكون ‪ ..‬فأفضل لي ترك الظنون تجول عن التأكد من غدرك‪.‬‬
‫‪ -‬كيف علمت بوجودي هناك ؟‬
‫‪ -‬أنا لم أسألك بخصوصها كى يحق لك أن توجه لي سؤاال في هذا األمر ‪ ..‬طلبي الوحيد‬
‫هو أال يغلق هاتفك الجوال مرة أخرى كى يستطيع بناتك الوصول إليك في أي ظرف يط أر‬
‫عليهما‪.‬‬
‫ثم تحركت ميرفت من أمامه متجهة إلى باب غرفة النوم واضعة يدها على المقبض‬
‫استعدادا لفتحه‪ ،‬نظرت إلي شاكر نظرة فاحصة‪ ،‬ثم فتحت ميرفت باب الغرفة وخرجت منه‬
‫وأغلقته خلفها‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪35‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫ومرت األيام والليالي‪ ،‬يوم يجلب األخر وليلة تدفع األخرى‪ ،‬والشهر أصبح‬
‫شهورا‪ ،‬وحال رحيل لم يتبدل‪ ،‬حال ظاهره النسيان وباطنه األلم‪ ،‬تم تكليف رحيل من قبل‬
‫المؤسسة الخيرية التي تتطوع بها بتولي اإلشراف على أعمال رفع كفاءة المنازل بقرية‬
‫عويس التي جرى لها الحصر الميداني منذ شهور بعد أن تم اعتماد الميزانية الخاصة بها‪،‬‬
‫سعدت رحيل كثي ار بهذا األمر الذى كانت تنتظره منذ فترة‪ ،‬فهذا العمل قد يضمن انشغالها‬
‫دون تفكير لثالثة أشهر أخرى قادمة على األقل‪.‬‬
‫وبدأت أعمال التطوير بالقرية التي سعد بها األهالي كثي اًر‪ ،‬كان كل منهم يحاول تقديم ما‬
‫يقدر عليه من أجل توفير سبل الراحة للعاملين بالمشروع من ماء ومظالت وأماكن‬
‫للجلوس‪ ،‬بدأت معدات شركة المقاوالت في إزالة األسقف الخشبية المتهالكة لتبدأ أعمال‬
‫تركيب أسقف جديدة تقييهم حر الصيف وبرد الشتاء‪ ،‬جذب انتباه رحيل أثناء ذلك وهي‬

‫‪36‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫تقوم باإلشراف على العاملين حاملة بيدها كشوفات دراسة المشروع وتفاصيله وجود طفلة‬
‫رضيعة في أشهرها األولى تحملها أحد السيدات ساكنات القرية‪ ،‬اقتربت رحيل من السيدة‬
‫حاملة الطفلة وبدأ شعور األمومة المكبوت بداخلها في الظهور‪ ،‬الشعور الذى طالما يراود‬
‫رحيل كلما رأت أي طفل في هذه المرحلة العمرية منذ الحادثة األخيرة التي أثرت عليها‪،‬‬
‫ابتسمت رحيل للطفلة‪:‬‬
‫‪ -‬بسم هللا ما شاء هللا ‪ ..‬يا لها من طفلة حسناء‪.‬‬
‫توقفت السيدة لرحيل وأظهرت لها وجه الطفلة الرضيعة التي تحملها‪ ،‬فأخذت رحيل في‬
‫مداعبتها‪.‬‬
‫‪ -‬إنها صغيرة للغاية ‪ ..‬حماها هللا لك وحماك لها‪.‬‬
‫‪ -‬أشكرك بشدة ولكنها ليست ابنتي‪.‬‬
‫‪ -‬أنت جليستها ؟‬
‫‪ -‬أنا جارة والدها ‪ ..‬إنها لطيفة ‪ ..‬ابنة العم سليم ساكن هذا المنزل المجاور ‪ ..‬اسماها‬
‫لطيفة تيمنا باسم زوجته لطيفة رحمة هللا عليها التي وافتها المنية إثر والدتها منذ شهور‪.‬‬
‫شعرت رحيل بدهشة وخشوع من قدرة هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ابنة لطيفة وعم سليم ! ‪ ..‬لقد اخبرنا أن زوجته ال تنجب ‪ ..‬سبحان هللا في حكمته‪.‬‬
‫‪ -‬قام عم سليم بإجراء عملية لزوجته استطاعت بعدها الحمل واالنجاب ‪ ..‬هذا ما أخبرنا‬
‫به ‪ ..‬ولكن يبدو أنها لم تحتمل عملية الوالدة وتوفاها هللا خاللها‪.‬‬
‫‪ -‬رحمة هللا عليها ‪ ..‬وأثابك هللا على مساعدتك له في ظروفه‪.‬‬
‫شعرت رحيل بالكثير من التعاطف تجاه الطفلة مما دفعها لحملها محتضنة إياها في أول‬
‫مرة تضم لصدرها طفلة في هذا السن وبهذا الشعور ثم قبلت جبينها‪ ،‬بينما تساقطت إحدى‬
‫دموعها على جفن الطفلة لتجعلها تفتح أعينها لرحيل مبتسمة‪ ،‬لتبادلتها رحيل ابتسامة‬
‫يمألها الحنين‪.‬‬

‫***********‬

‫ذهبت رحيل بحماسة يكسوها الغضب إلى الدكتور رياض بمكتبه بالمركز الطبي الذى‬
‫يعمل به‪ ،‬فاستقبلها رياض بالترحاب‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬أهال وسهال آنسة رحيل ‪ ..‬تفضلي بالجلوس‪.‬‬


‫جلست رحيل على الكرسي المقابل لمكتب رياض ناظرة إليه‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنى هكذا قد غلبت الصبر مثلما قالوا ‪ ..‬وقد مرت شهور عدة وأنتم دون حس أو‬
‫خبر ‪ ..‬هل انتهى األمر هكذا دون العثور على الجاني‪.‬‬
‫‪ -‬لألسف كما أخبرتك سابقا كاميرات المراقبة لم تظهر شيئا ‪ ..‬يبدو أن السارق كان معد‬
‫لألمر جيداً ‪ ..‬والتحقيقات مع العاملين لم تكشف شيئا جديدا‪.‬‬
‫‪ -‬تقصد أن حقى قد ضاع لألبد‪.‬‬
‫‪ -‬ال لم أقصد ذلك ‪ ..‬المركز مستعد لدفع التعويض الذى يرضيك مقابل نسيان هذا األمر‬
‫لألبد ‪ ..‬وهذا على نفقة مالك المركز شخصيا ‪ ..‬ما رأيك ؟‬
‫‪ -‬شيء جميل ‪ ..‬من وجهة نظرك كام تساوي عينك هذه أيها الطبيب ؟‬
‫ارتبك رياض من سؤال رحيل الغير متوقع‪.‬‬
‫‪ -‬تعلمين أنها ال تقدر بثمن‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف تطلب منى أن أثمن جزءا من جسدي ‪ ..‬كيف تطلب منى أن أثمن طفل أو‬
‫طفلة قد تكون من نسلى وطليقة في الدنيا دون أن أعلم ودون أن ترى أمها الحقيقية‪.‬‬
‫ظهر على وجه رياض السأم والضجر الشديد‪ ،‬تركت له رحيل المكتب وانصرفت تضرب‬
‫بيدها جدران الممر في محاولة للتنفيس عن غضبها‪ ،‬حتى لفت انتباهها مرور شخص‬
‫أمامها تكاد تكون تعرفه‪ ،‬شخص يرتدى سكرب أخضر (مالبس خاصة بالمستشفى) ويبدو‬
‫عليه كونه أحد العاملين بهذا المكان‪ ،‬أخذت رحيل في االقتراب منه تتحقق من مالمحة‬
‫حتى ظهرت‪:‬‬
‫‪ -‬عم سليم ! ‪ ..‬ما الذى أتى به إلى هنا ؟ ‪ ..‬إنه يعمل بأحد المراكز الطبية ‪ ..‬يبدو أن‬
‫هذا هو المركز الذى يعمل به‪.‬‬
‫مر عم سليم مبتعدا وشردت رحيل قليالً وأخذت تفكر حتى انصرفت‪ ،‬واصلت رحيل‬
‫تحركها بالممر الخاص بالمركز الطبى وألف خاطرة تدور ببالها‪ ،‬تكرر حديث السيدة مربية‬
‫الطفلة لطيفة ببالها‪:‬‬
‫‪ -‬قام عم سليم بإجراء عملية لزوجته استطاعت بعدها الحمل واالنجاب ‪ ..‬هذا ما أخبرنا‬
‫به ‪ ..‬ولكن يبدو أنها لم تحتمل عملية الوالدة وتوفاها هللا خاللها‪.‬‬
‫تذكرت أيضا وقت البحث االجتماعي بالقرية ولحظة وجودها برفقة زمالئها بمنزل عم سليم‬
‫وهو يغلق الباب كي ال ترى لطيفة زوجته األطفال يلعبون بالخارج‪:‬‬
‫‪38‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬وألنى أعرف مدى عذابها من شعور الحرمان من األمومة طوال عمرها ‪ ..‬فال أريد أن‬
‫أذكرها بأنينها الموجع عند رؤية األطفال يلعبون بالخارج‪.‬‬
‫انتاب رحيل شعور بالصدم الشديدة جعل أصابع يدها ترتعش من القلق والتوتر مما يجول‬
‫بخاطرها الذى باتت تشعر بأن نسبة صحته توفق التسعون بالمائة‪.‬‬

‫***********‬

‫ما زالت رحيل تواصل سيرها فى الممر بنفس حالة الشرود السابقة ولكن هذه المرة بممر‬
‫الفيال التي تسكنها متجهة إلى غرفة شمس شقيقتها وال يزال ربط األحداث مستم اًر بخيالها‪،‬‬
‫تذكرت رحيل حديث الدكتور رياض األخير معها في لقاء سابق‪:‬‬
‫‪ - -‬ما الدافع للص أن يسرق شيئا كهذا ؟‬
‫‪ -‬هناك دافعان ال ثالث لهما ‪ ..‬إما سيبيعها لسيدة ال تنجب ‪ ..‬وإما سيزرعها في رحم‬
‫زوجته التي ال تنجب‪.‬‬
‫أغلقت رحيل باب غرفة شمس خلفها بعد أن دخلتها بمالمحها المتجهمة مما أثار دهشة‬
‫شمس‪.‬‬
‫خير يا رحيل ‪ ..‬مالمحك تقلقني ؟!‬
‫‪ -‬اً‬
‫‪ -‬أريد هاتف وعنوان المحامي شقيق صديقتك فو ار‪.‬‬
‫ظلت شمس ناظرة لرحيل في اندهاش دون أن تبدى أي رد فعل‪.‬‬
‫‪ -‬ألم تنسي األمر مثلما طلب والدك ؟‬
‫‪ -‬كان من الممكن سابقا ‪ ..‬لكن بعد هذه اللحظة فمستحيل ‪ ..‬وال يهمني إخبارك له ‪..‬‬
‫فأنا على استعداد للوقوف أمام جدى ‪ ..‬جو نفسه‪.‬‬
‫ظهر على وجه شمس مالمح الخوف والقلق على رحيل مما تنوي فعله‪.‬‬
‫‪ -‬إذا سألتك ما الذى استجد ‪ ..‬ستخبرينني ؟‬
‫‪ -‬سأخبرك ‪ ..‬ولكن بعد أن تجلبي لي هاتف وعنوان المحامي الذى طلبت‪.‬‬

‫***********‬

‫‪39‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫كانت يد األستاذ ( على ) المحامي مدودة لرحيل بالسالم بمالمح يبدو عليها السعادة‬
‫البالغة‪.‬‬
‫‪ -‬أهال وسهال آنسة رحيل ‪ ..‬لو قولت لك أن هذا اليوم سيكون عيدا قوميا للمكتب‬
‫ستصدقينني ؟‬
‫مدت رحيل يدها أيضاً بالمصافحة‪.‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬وال وقت لمجامالت فارغة‪.‬‬
‫‪ -‬هذه هي الحقيقة ‪ ..‬منذ زمن كنت أتمني مقابلتك ‪ ..‬ولكن لم تحن الفرصة‪.‬‬
‫‪ -‬أكنت تعرفني قبل أن أهاتفك وأحدد هذا الموعد ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬شمس شقيقتك دوما ما كانت تروي لشقيقتى حكاياتك وأفكارك الشاردة عن‬
‫المألوف ‪ ..‬أعجبت كثي ار أن هناك فتاة في مجتمعنا تفكر بهذه الطريقة المتحضرة‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا أيضا لم أكن أتوقع أن أجد شابا شرقيا يعجب بهذه األفكار التي هي كما قلت عليها‬
‫شاردة ‪ ..‬لكن ما أريد طرحه عليك يختلف كثي ار عما تظنه عني وإن كان يتسم بالخروج‬
‫عن المألوف أيضا‪.‬‬
‫‪ -‬تفضلي بالحديث ‪ ..‬يسعدني سماعك‪.‬‬

‫***********‬

‫لم تكن رحيل بمفردها هذه المرة كعادتها سابقاً في مواجهة الدكتور رياض‪ ،‬ففي هذه الزيارة‬
‫بات األستاذ على المحامي وكيال لها وحليفها‪ ،‬ذهبا كال من رحيل وعلى إلى مكتب‬
‫الدكتور رياض وطلبا مقابلته‪ ،‬وقد كان‪ ،‬لكن الدكتور رياض هذه المرة كان متوجساً منهما‬
‫خيفة أكثر من السابق‪ ،‬وبدت تصرفاته معهما يحسب لها الحساب‪ ،‬حدثه األستاذ ( على )‬
‫بعد أن قام بتعريف نفسه له‪:‬‬
‫‪ -‬لم نأتي دكتور رياض من أجل افتعال مشكالت ‪ ..‬أو إثارة القضايا ‪ ..‬وإنما كل ما‬
‫نبتغيه هو المساعدة من اجل استعادة حق هذه الضحية‪.‬‬
‫‪ -‬ونحن ال نريد سوى ذلك أستاذ على سواء بوجودك أو قبلها ‪ ..‬ولكننا فعلنا كل ما‬
‫بوسعنا من أجل ذلك دون إيقاع ضرر بالمركز ولم نستطع ‪ ..‬هذا أمر واقع علينا جميعا‬
‫وعلينا تداركه ‪ ..‬ونحن من ناحيتنا تحملنا نصيبنا من الخطأ ‪ ..‬قمنا بإعادة العملية بالكامل‬

‫‪40‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫دون تكاليف ولكن هللا لم يكتب لها النجاح ‪ ..‬ثم قمنا بفعل ما بوسعنا من تحقيقات دون‬
‫جدوى ‪ ..‬ومؤخ ار قمنا بعرض مبلغ تعويض على األنسة رحيل لتخفيف جزءا من آالمها‬
‫ولكنها رفضت‪.‬‬
‫‪ -‬نقدر ذلك دكتور رياض ولكن بات هناك أمر آخر يظهر لنا وهو ما نريد مساعدتك‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو هذا األمر ؟‬
‫‪ -‬عم سليم ‪ ..‬الرجل الذى يعمل ممرض لديكم حسب سجالت البحث االجتماعي التي‬
‫أعدتها المؤسسة الخيرية التي تطوع رحيل بالعمل بها ‪ ..‬هو السارق‪.‬‬
‫ارتبك رياض بشدة محاوال ابتالع لعابه في صعوبة ملفتة لرحيل وعلي‪:‬‬
‫‪ -‬هو السارق ! ‪ ..‬وكيف تأكدتم من ذلك ؟‬
‫قاطعت رحيل حديث على واكملت هي عرض أدلة االتهام‪:‬‬
‫‪ -‬عم سليم كان متزوجا من سيدة ال تنجب ‪ ..‬ثم انجبت طفلة من عام تقريبا عمرها ثالثة‬
‫أشهر ‪ ..‬هذا يعنى أن حمل السيدة كان في توقيت سرقة بويضاتى تقريبا‪.‬‬
‫ضحك رياض ساخرا‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كانت إرادة هللا ‪ ..‬ما الذى يجزم بأنه سرق بويضاتك أنت ؟ ‪ ..‬هذا ليس دليل‬
‫اتهام‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كانت زوجته قد قامت بعملية طفل انابيب من بويضة خارجية وفى نفس توقيت‬
‫سرقة بويضاتى ‪ ..‬باإلضافة ألنه يعمل في نفس المركز هذا ‪ ..‬فماذا تريد دليل أكثر قوة‬
‫من ذلك ؟!!‬
‫‪ -‬لكن ما أعلمه أن زوجته توفت ‪ ..‬ومن الصعب أن تثبتي عمليه طفل األنابيب هذه ‪..‬‬
‫ومن الصعب أيضا أن يشهد الطبيب الذى أجري لها هذه العملية بذلك‪.‬‬
‫تدخل على في هذا التوقيت وشعر بأن عليه حسم األمور‪:‬‬
‫نحن ال نريد االثبات ‪ ..‬نحن قدمنا إليكم الدليل ‪ ..‬ويمكنكم استجوابه والتحقق من‬
‫األمر‪.‬‬
‫أستاذ على ‪ ..‬أنت رجل قانون وتعلم أن اتهام شخص دون دليل قاطع يضع‬
‫صاحب االتهام نفسه تحت طائلة القانون ‪ ..‬ال يمكن للمركز فعل ذلك ‪ ..‬ثم أن‬
‫عم سليم في يوم اجراء العملية تحديدا واليوم الذي يليه حصل على إجازة من‬
‫المركز ‪ ..‬أي يستطيع بسهولة الدفاع عن نفسه واثبات عدم وجوده‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫هنا تحدثت رحيل شاردة وقد دمعت عيناها‪:‬‬


‫‪ -‬لدي دليل آخر لن يصدقه أحد غيري ‪ ..‬وهو شعوري تجاه الطفلة ‪ ..‬هو أول‬
‫شعور أمر به تجاه طفل أراه ‪ ..‬شعرت نحوها بحنين غير عادى ‪ ..‬ورغبت في‬
‫ضمها لصدري لألبد‪.‬‬
‫ظهر على وجه رياض التأثر وعلي وجه علي أيضا‪ ،‬حاول على إنهاء هذه اللحظة وطلب‬
‫من رحيل الرحيل‪ ،‬بعد أن استأذن الدكتور رياض‪ ،‬خرج على يربت على ظهر رحيل‬
‫محاوال تهدئتها‪ ،‬ثم أمسك يدها يشد عليها في رسالة أنه معها‪ ،‬يشعر بها ويصدقها‪ ،‬ربما‬
‫هو الوحيد الذي يصدق شعور ال يري تمر به رحيل على سطح هذا الكون الفسيح‪.‬‬

‫***********‬

‫امتزجت مشاعر الحب باأللم‪ ،‬الحب الذى جاء مؤخ اًر باحثاً عن بصيص ترياق من األمل‬
‫كي يستطيع أن ينبت‪ ،‬ولكن أدراج الدكتور رياض كانت خاوية‪ ،‬وباتت رحيل تنتظر‬
‫صبيحة اليوم التالي كي تقابل طفلة عم سليم بفارغ الصبر‪ ،‬أو بمعنى أدق‪ ،‬طفلتها هي‪.‬‬

‫ذهبت رحيل قبل موعدها إلى قرية عويس‪ ،‬ولكن هذه المرة لم يلفت انتباه رحيل عملها‬
‫بقدر ما فعلت لطيفة طفلة عم سليم‪ ،‬رأتها رحيل في منزل عم سليم قبل ذهابه إلى عمله‬
‫وهى موضوعة على سريرها تلعق أصابعها الصغيرة تعبي ار عن الجوع‪ ،‬اختطفت قلب وعقل‬
‫رحيل أكثر مما كانت‪ ،‬كانت كل عضلة بوجهها تود أن تقول (هذه هي ابنتي)‪ ،‬اقتربت‬
‫رحيل منها أكثر وأكثر‪ ،‬وحملتها بين ذراعيها ثم ضمتها إلى صدرها‪ ،‬بينما كان عم سليم‬
‫يقوم بتجنيب بعض قطع األثاث بمنزله من أجل اإلفساح للعاملين ألداء مهامهم‪ ،‬وما أن‬
‫انتهى عم سليم والتفت ليطمئن على طفلته إذا به لم يجد أحداً‪ ،‬شعر عم سليم بفزع رهيب‪،‬‬
‫أخذ ينظر هنا وهناك في جنون بالغ‪ ،‬حتى رأى من فتحة باب داره رحيل وهى تهرول بعيداً‬
‫عن المنزل‪ ،‬فانطلق ورائها على الفور بالخارج حتى أوقفها وكانت المفاجأة‪ ،‬فلقد اكتشف‬
‫عم سليم حيازة رحيل لطفلته‪ ،‬وما كان عليه سوى أنه انتزع الطفلة من رحيل بقوة في توتر‬
‫وغضب‪ ،‬وباتت رحيل تحاول استعادتها منه وهى تصرخ في حالة شبه هستيرية‪:‬‬
‫‪ -‬اتركها أيها اللص ‪ ..‬انها ابنتي ‪ ..‬انها ابنتي أنا قلت لك أتركها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫لم يسمع لها عم سليم وأخذ يتحرك مبتعدا حامال طفلته بيد ويدفع رحيل عنه باليد األخرى‬
‫وسط جمع من بالقرية في ذهول مما يرونه‪ ،‬حتى سقطت رحيل على األرض فاقدة للوعى‪.‬‬

‫***********‬

‫استفاقت رحيل من ثباتها لتجد نفسها في مواجهة اتهاما من سليم بمحاولة سرقة طفلته أدى‬
‫إلى القبض عليها وجعلها رهينة السجن‪ ،‬ولكن في هذه اللحظة لم يكن بمقدورها حتى‬
‫الدفاع عن نفسها‪ ،‬فكل ما استطاعت فعله هو محادثة شمس شقيقتها فقط‪ ،‬وإخبارها بما‬
‫وقعت فيه من ورطة‪ ،‬لتقوم شمس بالتواصل مع علي إلنقاذها بعيدا عن محاذير عائلة‬
‫الخواجة الخانقة‪ ،‬ولكن ما واجهته رحيل من اتهام لم يكن كافيا إلخراجها من حالتها‬
‫الهيستيرية التي تمر بها والتي أدت إلى اتخاذ قرار بتحويلها لمستشفى األمراض العصبية‬
‫والنفسية للكشف عليها وكتابة تقرير عن حالتها‪.‬‬

‫لم تمكث رحيل بمستشفى األمراض النفسية طويالً‪ ،‬ففور وصولها اكتشفت قدوم شمس‬
‫ودخولها إلى عنبرها على الفور‪ ،‬مما أدهشها كيفية تمكنها من الدخول إلى مكان مثل هذا‬
‫بهذه السهولة‪ ،‬ولكنها اكتشفت بعد ذلك قدوم الدكتور فريد خلفها‪ ،‬تقدم فريد نحوها مواسيا‬
‫لها لما تمر به‪:‬‬
‫أقدر ما تمري به آنسة رحيل ‪ ..‬لقد لبيت النداء فور قيام اآلنسة شمس بإبالغي‬
‫وقمت بتوصية زميلي لإلسراع في كتابة التقرير لتتمكني من الخروج من هذا‬
‫المكان في اسرع وقت ممكن ‪ ..‬استأذنك باالنصراف وسأبلغكم وقت انتهاء‬
‫اإلجراءات وفى حالة الرغبة في استدعائي ألمر طارئ ‪ ..‬فآنسة شمس لديها‬
‫هاتفي‪.‬‬
‫انصرف فريد متحدثاً إلى الطبيب المعالج‪ ،‬واحتضت شمس شقيقتها رحيل وهى في حالة‬
‫يرثى لها‪ ،‬أخذت رحيل تنظر إلى فريد في حالة من عدم استيعاب‪ ،‬نظرات مليئة بالعديد‬
‫من التساؤالت‪ ،‬حتى قررت شمس اإلجابة على كل ما يدور ببال رحيل وقتل حيرتها‪:‬‬
‫لم اجد غيره يمكننى استدعاءه لمساعدتنا في مكان كهذا‪.‬‬
‫هذا من تقدم لخطبتي منذ عام تقريباً ؟‬

‫‪43‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫نعم هو ‪ ..‬من وصفتيه بطبيب المجانين‪.‬‬


‫تستشعر رحيل الحرج بعض الشيء‪ ،‬ثم أخذت تنظر إليه وتراقب تصرفاته بأعينها‪ ،‬لفت‬
‫انتباهها ألول مرة وسامته‪ ،‬وكيف يمارس عمله بشكل يدعو للفخر وهو يعطى التعليمات‬
‫للممرضين حوله‪ ،‬ويقوم بالنقاش مع زمالءه األطباء عن حاالت أخرى‪ ،‬امتألت أعين‬
‫رحيل بمشاعر الندم على رفض شاب مثل هذا وضياعه منها لألبد‪ ،‬ثم رددت متمتمه‪:‬‬
‫‪ -‬بل أنا المجنونة‪.‬‬
‫قطع بصر رحيل الشارد قدوم على المحامي إليها فجأة متلهفاً‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا الذى فعلتيه يا رحيل ‪ ..‬أهذا كان اتفاقنا ؟‬
‫‪ -‬لم استطع السيطرة على مشاعري عندما رأيت ابنتي‪.‬‬
‫‪ -‬أنت قلبت علينا الطاولة ‪ ..‬واصبحنا بعدما كنا أصحاب حق نطالب به ‪ ..‬مضطرون‬
‫للدفاع عن انفسنا في قضية شروع في خطف‪.‬‬
‫‪ -‬ال احتمل سماع المزيد من هذا الهراء‪.‬‬
‫تدخلت شمس على الفور‪.‬‬
‫‪ -‬يكفي ما حدث أستاذ على ‪ ..‬لنؤجل الحديث عند تعافيها مما تمر به‪.‬‬
‫حاول على التهدئة من نفسه وهو يزفر أنفاسه متفحصا المكان حوله‪ ،‬بينما ظهر أحد‬
‫العاملين بالمصحة يحمل أوراقا ويراقب نظراته الغير عادية إقامة رحيل بالعنبر ثم ينظر‬
‫في األوراق بيده ليتأكد من مطابقة اسمها بطريقة مريبة‪.‬‬

‫***********‬

‫تحرك شاكر تجاه سيارته القابعة أمام مقر شركته ليركبها قاصدا وجهته المرجوة‪ ،‬ولكنه‬
‫فوجئ بركوب شخص بجواره مما جذب انتباهه فجأة ليكتشف أنه ( فخر )‪ ،‬اندهش شاكر‬
‫بشدة لجرأة فخر الغير معتاد ومن طريقة لقاءه به المريبة وسأله مستفهماً‪:‬‬
‫ما هذه الطريقة يا فخر وما الذى تريده ؟‬
‫أقدر مسئوليتك ‪ ..‬وال أرغب في أن أسبب لك الحرج مع ( جو ) لذلك فضلت‬
‫مقابلتك بهذه الطريقة ‪ ..‬أعلم أن ما فعلته بي كان رضوخا لتعليمات ( جو )‬
‫المجحفة التي ال تدع خيا ار أمامنا دون قبولها‪ ،‬ولكني اآلن أمنحك القدرة الكاملة‬

‫‪44‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫على االختيار ‪ ..‬ولكونك ال تنتمى لعائلة الخواجة فسيكون الخيار عليك أسهل من‬
‫أي فرد أخر ‪ ..‬فقط عليك التحرر من الروابط التي صنعتها بنفسك ووقتها ستجد‬
‫ما سأعرضه عليك هو رغبتك األولى‪.‬‬
‫ال أفهم ما تود قوله ‪ ..‬ووقتي ثمين كما تعرف‪.‬‬
‫وقتك كان ثمين ‪ ..‬لكن لن يصبح كذلك بعد ما سأقوله لك‪.‬‬
‫اتلو ما عندك‪.‬‬
‫لقد انتوينا التخلص من ( جو )‪.‬‬
‫بدت مالمح الصدمة تمأل وجه شاكر وتبعها بسؤال على الفور‪.‬‬
‫من أنتم ؟‬
‫لن أذكر أسماء ‪ ..‬ولكنك ستفاجئ عندما تعلم عدد المتحالفين من عائلة الخواجة‬
‫ضد استبداد ( جو ) ‪ ..‬فقط ما عليك سوى أن تعلن تحالفك معنا واترك الباقي من‬
‫حملوا على عاتقهم الخالص‪.‬‬
‫ولماذا ظننت أنى سأوافق ؟ ‪ ..‬وما الذى أدراك أنى لن أخبر ( جو ) ؟‬
‫ألننا اتفقنا أن إدارة المجموعة ستكون بعد نجاح مخططنا ستكون لك ‪ ..‬ولكن هذه‬
‫المرة بملكيات حرة ‪ ..‬لست موظفا براتب شهري كما يفعل ( جو )‪.‬‬
‫وإن رفضت ؟‬
‫إن رفضت ولم تغدر ستكون كما أنت بعد الخالص ‪ ..‬لن ينقص منك شيء ‪..‬‬
‫وأرجوك ال تسألنى إن رفضت وغدرت ماذا سيحدث ‪ ..‬فقلبى ال يحتمل اإلجابة‪.‬‬
‫شاكر ال يخشى التهديد ‪ ..‬دعني أفكر‪.‬‬
‫حقك ‪ ..‬وأصوب الخيارات ‪ ..‬خذ وقتك ونحن بانتظار ردك ‪ ..‬الذى نثق فيه‪.‬‬
‫ابتسم شاكر في سخرية اثناء نظره لفخر وهو يخرج من سيارته‪ ،‬ركب فخر سيارته وانطلق‬
‫بها يقصد وجهته‪ ،‬ولكن وجهة شاكر كان فيال ( جو)‪.‬‬

‫***********‬

‫ما زالت ميرفت حبيسة جدرانها كما اعتادت منذ وقت زواجها من شاكر‪ ،‬ال تفعل شيئا‬
‫سوى االحتمال من أجل االستقرار‪ ،‬االحتمال وفقط‪ ،‬أخذت تنظر لصورة داخل برواز‬

‫‪45‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫البنتها رحيل في طفولتها‪ ،‬ولكن رنين هاتفها قطع شعورها المعتاد هذه المرة‪ ،‬كان اتصاال‬
‫من إبرام ابن خالتها مما أثار دهشتها اتصاله بهذا التوقيت‪ ،‬ولكنها أجابت على االتصال‪:‬‬
‫‪ -‬ما الداعي التصالك في توقيت كهذا يا إبرام ؟‬
‫‪ -‬عيناك ‪ ..‬عيناك كشفا في الحفلة ما بداخلك‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذى بداخلي ‪ ..‬أنت واهم‪.‬‬
‫‪ -‬كال لست بواهم ‪ ..‬وأعي ما أقول جيدا ‪ ..‬أنت تعي أني لم أخطأ قراءتهما يوما ما ‪..‬‬
‫عيناك كشفا ما بداخلك من حزن كبير ‪ ..‬أنت غير سعيدة يا ميرفت‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كنت كذلك فهذا أمر ال يخصك ‪ ..‬فال تنس أني امرأة متزوجة‪.‬‬
‫‪ -‬ومنذ متى يمنع الزواج اتخاذ السيدة لخليل كان يروق لها سابقا‪.‬‬
‫‪ -‬هذا في أوروبا حيث كنت تقيم ‪ ..‬ولكننا هنا نعيش في مجتمع شرقى ‪ ..‬وعلينا احترام‬
‫تقاليده‪.‬‬
‫‪ -‬هذا المجتمع نفسه بات يقلد أوروبا ‪ ..‬فلماذا نظل نحن متمسكون بعاداته أكثر من‬
‫ابناءه األصليون‪.‬‬
‫‪ -‬نحن لم نعد مثل السابق يا إبرام‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق ‪ ..‬ولكني لن أكون مثل الظروف واتخلى عنك بسهولة ‪ ..‬ما عندك على‬
‫الشاشة هو رقمي في مصر ‪ ..‬استخدمه طوال فترة أجازتى بمصر ‪ ..‬متأكد أنك قد قمتي‬
‫بحفظه على هاتفك ‪ ..‬في انتظار مكالمتك وقتما تشائين قبل عودتي‪.‬‬
‫انهت ميرفت المكالمة وهي تضم الهاتف إليها وتفكر في حيرة‪.‬‬

‫***********‬

‫داخل أروقة المركز الخاص قام على بمقابلة سليم‪ ،‬ولكن سليم لم يكن مرحبا بمثل هذا‬
‫اللقاء‪ ،‬كان يبدو على سليم محاوالته إلنهاء الحديث مع على وعدم الرضا عما يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أريد سماع صوتك ‪ ..‬هل فهمت يا عم سليم دوافع قيام األنسة رحيل بما فعلته األن ؟‬
‫‪ -‬ما تقوله هذا يعنى أنه يتعين على رفع قضية تشهير عليها أيضا باإلضافة لقضية‬
‫ّ‬
‫الشروع بالخطف‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬ليس األمر كذلك ‪ ..‬فهى فتاة في مأزق إنساني ‪ ..‬يتعين علينا الوقوف بجانبها ال‬
‫ضدها ‪ ..‬فأنت مثل والدها ولن تسمح لفتاة في هذه الظروف أن تتعرض للسجن‪.‬‬
‫‪ -‬عذ ار ‪ ..‬فاألمر لم يكن هينا علي وأنا أرى ابنتي بين ذراعيها تهرول بها وتود خطفها ‪..‬‬
‫ماذا تريد مني أن أفعل األن‪.‬‬
‫‪ -‬أريد تصحيحك للمعلومة عند مثولك أمام النيابة ‪ ..‬تخبرهم بسوء فهمتك عندما رأيت‬
‫الطفلة بين يديها‪ ،‬وأنك نسيت قيامك بتكليفها بحمل الطفلة حتى تنتهى من أعمال تفريغ‬
‫شقتك‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذى يضمن لي بعد تنازلي عن القضية عدم قيامها باتهامي بسرقة البويضات كما‬
‫اخبرتنى األن‪.‬‬
‫‪ -‬أنا الضامن‪.‬‬
‫‪ -‬مع احترامى ‪ ..‬هذا ال يكفى ‪ ..‬البد من ضمانا وافيا‪.‬‬
‫‪ -‬اطلب ما تريد‪.‬‬
‫‪ -‬اعتراف موقع منك بأنك سارق البويضات ‪ ..‬فإذا عادت واتهمتنى قدمته للنيابة وضمنت‬
‫البراءة‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا تريد منى اعتراف بجريمة لم ارتكبها‪.‬‬
‫‪ -‬وما سبب خوفك ‪ ..‬أال تضمنها كما قلت ‪ ..‬دون اتهام منها هذه الورقة تصبح ال قيمة‬
‫لها‪.‬‬
‫فكر على قليال ثم ضاقت عيناه ثم هز رأسه بالموافقة فابتسم سليم‪:‬‬
‫‪ -‬الشرط الثاني أن الجمعية اللي تعمل بها تقوم بتبديلها ‪ ..‬وال تأتى قرية عويس عندنا مرة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫أجابه على في شعور يمأله األسى‪.‬‬
‫‪ -‬موافق‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا نكون قد اتفقنا‪.‬‬
‫ما كان أمام على سوى أن يتنفس الصعداء بعد نجاحه في الوصول لهذا االتفاق‪ ،‬فهو ال‬
‫يبغي منه سوى استعادة حرية رحيل في أسرع وقت ممكن أيا كانت تكلفة ذلك األمر‪.‬‬

‫***********‬
‫‪47‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫بلغ شاكر وجهته المرجوة‪ ،‬ولكن ما أن وصل حتى أدهشه جلوس جو أمام منضدة تحمل‬
‫فنجانين من القهوة أحدهم يحتسيه جو واألخر وكأنه بانتظار قدوم شاكر‪ ،‬واألكثر دهشة‬
‫أن عند جلوس ساكر ولمس الفنجان وجده ساخنا‪ ،‬فبادر بالحديث‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك كنت تعلم بقدومي‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أتوقع ‪ ..‬لذا طلبت لك هذا الفنجان ‪ ..‬ولكن ما لم أتوقعه يا شاكر أن تخفي عنى‬
‫أمرا‪.‬‬
‫أصاب شاكر الخوف والتوتر ووضع الفنجان على المنضدة بيده المرتعشة على الفور‪.‬‬
‫‪ -‬لم أنوى االخفاء ولقد جئت لك حاال من أجل االفصاح بكل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬فات األوان يا شاكر ‪ ..‬أنت الوحيد الذى أمهلته فرص عدة ربما تتراجع عن خداعك لي‬
‫ولكنك ظللت مواصال خبثك‪.‬‬
‫‪ -‬لم أكن أعلم إال منذ قليل ‪ ..‬صدقنى ‪ ..‬وجئت ألخبرك للتو ‪ ..‬أرجوك اسمع حديثى‬
‫أوال‪.‬‬
‫أشار جو بيده ألحد رجاله فتقدم بطاولة متحركة تحمل ورقة وقلم‪.‬‬
‫‪ -‬وأى عقل يصدق ما تقول ‪ ..‬هذا طلب استقالة من إدارة شركات عائلة الخواجة ‪..‬‬
‫سأكتفى بذلك وفقط ‪ ..‬قم بتوقيعه وترك أى مفاتيح أو متعلقات على الطاولة بجواره‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنك بهذه الطريقة تظلمنى‪.‬‬
‫‪ -‬أتريد منى أن أصدق أن ابنة تجرى عملية بأحد المراكز الطبية مرتين ثم يتم سرقة أهم‬
‫ما بجسدها ووالدها المقيم معها ال يعلم شيئا عن ذلك !!‬
‫‪ -‬رحيل ؟! ‪ ..‬أتقصد رحيل ؟!‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬أكنت تقصد أمر أخر ؟‬
‫فكر شاكر قليال وظهر على وجهه الغضب الممزوج بنظرات الخبث‪.‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬هذا ما كنت أود الحديث عنه‪.‬‬
‫مد شاكر يده وقام بتوقيع االستقالة على الفور‪.‬‬
‫‪ -‬واألن اذهب واستدعها للقائي ‪ ..‬فأنا من سيتولى إدارة هذا األمر بنفسي ‪ ..‬ولنجعل‬
‫جلسات العتاب تتلو احتفاالتنا بالنصر‪.‬‬
‫تحرك شاكر وألف فكرة وفكرة تدور فى رأسه‪ ،‬أى قرار يتخذه‪ ،‬وهل يعود ليخبر جو بما‬
‫جاء من أجله‪ ،‬أم موافقته على عرض فخر اصبحت خيا ار محسوم‪ ،‬استمرت األفكار‬
‫‪48‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫تصارع إحداهما األخرى ال تطرح أيا منهما صريعتها أرضا‪ ،‬حتى خرج شاكر خارج القصر‬
‫برمته‪.‬‬

‫***********‬

‫عادت رحيل إلى الفيال برفقة شقيقتها شمس‪ ،‬وكانت المفاجأة اكتشافهم جلوس شاكر‬
‫وميرفت في انتظارهما‪ ،‬لم تتمكن رحيل من تغيير مظهرها الهزيل من أثر ما تعرضت له‬
‫بالحجز والمستشفى األيام السابقة‪ ،‬هرولت ميرفت نحو رحيل ابنتها تحتضنها ولكنها‬
‫اكتشفت قيام رحيل بدفعها بعيداً عنها‪ ،‬بينما نظرات شاكر تترقب يمألها الغضب الشديد‪:‬‬
‫‪ -‬لقد طلب ( جو ) لقاءك ‪ ..‬ما رأيك ؟ ‪ ..‬أ تعين عاقبة طلب جو مقابلة أحد من أفراد‬
‫العائلة ؟‬
‫ثم ازداد شاكر انفعاال وارتفعت حدة نبرة صوته‪.‬‬
‫‪ -‬شجرة العيلة هذه التي فتحت لنا أي باب مغلق السنوات الماضية ‪ ..‬هي نفسها من‬
‫ستغلقه في وجهنا األيام القادمة ‪ ..‬وكل هذا بسببك أنت وما أعطيتك إياه من حرية لم‬
‫تفهمى معناها‪.‬‬
‫استشعرت ميرفت الخزي مما يحدث حولها من الجميع‪ ،‬فلم يعد خوف شاكر وحده من‬
‫المشكلة التي تواجهها ابنته‪ ،‬ولكن خوفه الرئيسي على ما يحصل عليه من انتماءه لعائلة‬
‫الخواجة‪ ،‬أصبحت ميرفت تستمع لما يدور من حوار حولها وهى ال تكف عن النظر‬
‫لموضع قدميها فى صمت بالغ‪ ،‬ولكن رحيل قررت أن تقطع هذا الصمت فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬يمكنكم اعتباري فرع خبيث شارد والتخلي عني‪.‬‬
‫‪ -‬الفرع الخبيث بالشجرة يتم استئصاله ‪ ..‬وأنا ال أرغب في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ليس لدي حلوال أخرى ‪ ..‬سأتولى أمرى بنفسى ‪ ..‬وسأرفع قضية إلثبات حقى في ابنتى‬
‫‪ ..‬ولن أذهب إلى جو ‪ ..‬وليكن ما يكون‪.‬‬
‫انتبه شاكر وميرفت وشمس إليها فجأة ثم تقدم شاكر نحوها مندهشا‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا الهراء !! ‪ ..‬أنت لم تتزوجي كى تطالبي بحقك في طفلة ‪ ..‬هذه القضية‬
‫محسومة قبل أن تبدأ لن تجني منها سوى الثرثرة‪.‬‬
‫‪ -‬سأطلب عمل تحليل (دى إن إيه) وسيثبت أنها تحمل جيناتي ‪ ..‬وسأستعيدها إلى‬
‫حضني‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬وماذا ستقولين للناس ؟ ‪ ..‬كيف انجبتيها ؟ ‪ ..‬من والدها ؟‬


‫‪ -‬كل ذلك ال يهم ‪ ..‬فما أوقعني بهذا األمر مرض وراثي أصاب عائلة الخواجة ‪ ..‬وعلى‬
‫عائلة الخواجة تحمل نصيبها من اإلثم‪.‬‬
‫فقام شاكر بشكل مفاجئ بلطمها على وجهها‪ ،‬وصرخت ميرفت بشدة‪:‬‬
‫‪ -‬شاكر ! ‪ ..‬كفى‪.‬‬
‫تمالكت رحيل قواها ثم نظرت إلى والدتها نظرة قوية متماسكة‪:.‬‬
‫‪ -‬تضربنى ؟! ‪ ..‬تظنني شمس الخاضعة التي تبكي حبيسة جدران غرفتها ثم تخرج‬
‫تصطنع دور المتعافية وتصدق نفسها ‪ ..‬أنت لم تعرفنى بعد ‪ ..‬فاللطمة تزيدنى إصرار‬
‫وصالبة ‪ ..‬أنا رحيييييل‪.‬‬
‫بدت مالمح الدهشة على وجه ميرفت والتى لم يخلو وجه شاكر منها أيضا‪ ،‬فنظرت رحيل‬
‫لميرفت وشاكر‪ ،‬ثم تركتهما رحيل مع شمس وتحركت نحو السلم لتصعد إلى غرفتها‬
‫متمتمة بالحديث‪:‬‬
‫‪ -‬لم أفعل شيئا مخجال كما فعل غيري ويعيش بيننا بعين مكسورة ‪ ..‬لن أسمح بأحد أن‬
‫يكسرني مهما حدث‪.‬‬
‫كانت أعين شمس تراقب ما يدور ممتلئة بالحيرة ال تستطيع فهم أي شيء‪ ،‬ثم نظرت إلى‬
‫والديها وتحركت خلف رحيل لتصعد سلم الفيال أيضا‪ ،‬ونظر شاكر إلى زوجته بعين‬
‫مكسورة ال يستطيع مواجهتها‪ ،‬بينما استشعرت ميرفت جرحاً كبي اًر بداخلها‪ ،‬اقتربت ميرفت‬
‫من شاكر وكأنها تود أن تقول شيئاً حتى استجمعت القدرة على ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا قلت لها ؟ ‪ ..‬أجب ماذا قلت ألبنتي عنى ؟‬
‫‪ -‬أقسم لك لم أقل شيئاً‪.‬‬
‫‪ -‬أنتهى األمر يا شاكر ‪ ..‬وما كنت أصبر من أجله ضاع هباءا ‪ ..‬لن أكن لك بعد هذه‬
‫اللحظة ‪ ..‬أنا في غرفتي بانتظار صحيفة طالقي‪.‬‬
‫ثم تركته ميرفت أيضاً في ريسبشن الفيال وصعدت إلى غرفتها‪ ،‬وأخذ شاكر يفكر في‬
‫التطورات السريعة التي قلبت حياته فجأة رأسا على عقب في حيرة شديدة يكاد يرغب في‬
‫ضرب رأسه بالحائط المقابل له ولكنه يحاول التغلب على ما بداخله من شعور‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪51‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫(كل ما حققته اضحى يتالشى) كانت هذه الجملة هي بداية حديث شاكر وهو‬
‫مستلقياً بين أذرع ( نجوى ) زوجته الثانية يشكو همه‪ ،‬لكن نجوى كانت أكثر دهاء مما‬
‫يتخيل‪:‬‬
‫‪ -‬وما الدافع إلبقائك عليها حتى األن ‪ ..‬لتمنحها رغبتها ‪ ..‬فما بينك وبين جو قد انتهى‬
‫وبات عليك إعادة ترتيب أوراق اللعبة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصدين ؟‬
‫‪ -‬لقد كان عرض فخر عليك مغريا وفى توقيته المناسب من الجنون رفضه‪.‬‬
‫انتفض شاكر من بين أذرع نجوى مصدوما ووجهه يمأله ألف سؤال‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف علمت بهذا العرض ‪ ..‬فأنا لم أخبرك شيئاً‪.‬‬
‫ضحت نجوى بشدة ونظرت لشاكر مبتسمة دون أن تجيب‪ ،‬بدا شاكر وكان أنه فهم أطراف‬
‫الشرك الذى وقع فيه‪.‬‬
‫‪ -‬أنت عميلة لفخر‪.‬‬
‫‪ -‬مظبوط ‪ ..‬ولكن هذا ال يمنع أنى معجبة بك ‪ ..‬وكل لحظة سعدت معك فيها كانت‬
‫حقيقية‪.‬‬
‫قام شاكر يتحرك في ارجاء الشقة يضرب كفا على كف‪ ،‬يحاول استعادة تفاصيل لقاءه بها‬
‫كيف كانت وكيف لفتت انتباهه‪ ،‬كيف اغوته حتى وصلت به ألن يتزوجها س ار في مكان‬
‫كهذا‪ ،‬كيف استغل فخر عالقة الجفاء بينه وبين زوجته الغير معلنة ليلعب على هذه العقدة‬
‫ويرسل له فتاة تدخل من أقوى ثغرة اصابته‪ ،‬ثغرة الضعف‪ ،‬فشاكر كان يبحث عن زوجة‬
‫يشعر بضعفها أمامه لتكسبه الشعور الذي افتقده مع ميرفت زوجته‪ ،‬وبعد أن اتضح لشاكر‬
‫األمر برمته قرر ارتداء بقية مالبسه محدثا نجوى في جدية مفرطة‪.‬‬
‫‪ -‬أخبري فخر أنى موافق على عرضه ‪ ..‬وسأقدم له ما يحتاج وقتما يريد ‪ ..‬ولكن عليه‬
‫تقديم الضمانات أوال التي تضمن مكانتي في مجلس اإلدارة الجديد‪.‬‬
‫انتهى شاكر من حديثه وتوجه ناحية باب الشقة ثم توقف وعاد إليها مرة أخرى ليقف‬
‫أمامها ناظ ار بعينيها التي تكن الكثير من الذكاء‪ ،‬ولكن نظرات شاكر كانت تتوعد لها‬
‫بدهاء أكبر‪.‬‬
‫‪ -‬أنت طالقة‪.‬‬
‫ثم توجه شاكر نحو باب الشقة ليفتحه وينصرف من خالله في هدوء‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫جلس على بمفرده أمام منضدة بمطعم هادئ ينتظر وصول أكسير حياته‪ ،‬حتى وصلت‬
‫رحيل إلى مكان المواعدة تجلس على كرسيها في منتهى الجدية‪ ،‬أخذ على يبلل شفتيه‬
‫باحثا من أين يبدأ الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬أعتذر عما بدر منى تجاهك بالمستشفى إذا كانت طريقة حديثي ال تليق ‪ ..‬ولكن عليك‬
‫أن تقدرى معنى قلقى من ضياع كل ما رتبناه من اجل استعادة حقك وضياعك أنت‬
‫شخصيا‪.‬‬
‫ظلت رحيل ناظرة له تستمع دون إبداء رد فعل‪ ،‬فتبع على حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذى دفعك لذلك يا رحيل ؟ ‪ ..‬لم يكن هذا اتفاقنا‪.‬‬
‫أجابته رحيل بمنتهى الثبات‪:‬‬
‫‪ -‬أريد رفع قضية اثبات نسب يا على‪.‬‬
‫أجابها على باندهاش‪:‬‬
‫‪ -‬اثبات نسب ‪ ..‬كيف ذلك ؟! ‪ ..‬أنت لست متزوجة‪.‬‬
‫‪ -‬سأدعي ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬كفى يا رحيل ‪ ..‬كفى عند هذا الحد ‪ ..‬أنت فتاة جميلة ‪ ..‬يمكنك عيش حياة يحسدك‬
‫عليها الجميع ‪ ..‬أنظرى أمامك وال تتراجعين للخلف‪.‬‬
‫‪ -‬لن أحيا وأترك ابنتي بعيدة عني ‪ ..‬في هذه الحياة المضنية الفقيرة دون حضن أم دافئ‪.‬‬
‫لم يتمالك على أعصابه من شدة االندفاع‪.‬‬
‫‪ -‬هذه ليست ابنتك‪.‬‬
‫أستشعر على مشاعر الصدمة في أعين رحيل ‪ ..‬فحاول التهدئة من األمر‪:‬‬
‫‪ -‬أقصد أنه احتمال ضعيف سيصعب اثباته وربما نكون مخطئين في حق الرجل‪.‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬لست مخطأة ‪ ..‬لن يشعر بى سوى أم مثلى ‪ ..‬وتغيرك أفهمه جيدا ‪ ..‬ماذا يملك‬
‫سليم لتبيعني من أجله ‪ ..‬أنت ال تختلف كثي ار عن عائلة الخواجة ‪ ..‬ربما أنت منهم‪.‬‬
‫نظرت له رحيل نظرت قلة حيلة ثم قامت بالتقاط حقيبتها من على المنضدة وانصرفت‬
‫دون مقدمات‪ ،‬أخذ على ينفث أنفاسه وهو في حالة من الحيرة والسأم‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫تتحرك عقارب الساعة من موضعها بينما موضع سكون ميرفت ال يتبدل‪ ،‬بات المنزل‬
‫غريبا وضاق على كل من به رغم اتساعه‪ ،‬اصبح كل من يسكنه في واد مختلف عن‬
‫اآلخر‪ ،‬وفقد كل منهم القدرة على النظر في وجه من يقابله‪ ،‬ووسط كل هذا أعين ميرفت‬
‫ال تتوقف عن البكاء‪ ،‬نظرت ميرفت إلى هاتفها الجوال أثناء استمرارها بالبكاء ثم هدأت‬
‫قليالً‪ ،‬ثم مدت يدها لتلتقطه‪ ،‬أمسكت به وأخذت تفكر كثي اًر‪ ،‬ثم قامت بفتح رسائل الهاتف‬
‫وبدأت في الكتابة ( لقد أصبحت حرة ) ثم قامت ميرفت بتحديد اسم المرسل إليه واختارت‬
‫اسم ( إبرام )‪ ،‬ترددت ميرفت كثي اًر قبل الضغط على زر اإلرسال‪ ،‬أخذت ميرفت تنظر إلى‬
‫البرواز المعلق على الحائط والذى يحوى صورتها مع شاكر زوجها بفستان الزفاف في‬
‫ابتسامة نادرة تجمعهما‪ ،‬ونظرت أيضاً إلى سلسلة ذهبية معلقة أمامها كانت أولى هدايا‬
‫شاكر لها بمناسبة سنوية زواجهما‪ ،‬ثم تراجعت ميرفت وقامت بقفل شاشة الهاتف ووضعته‬
‫أمامها‪ ،‬دمعت عيناها أكثر‪ ،‬حتى الحظت دخول رحيل من باب الفيال ومرورها من أمامها‬
‫دون أن تخاطبها‪ ،‬فقامت ميرفت بالتقاط الهاتف مرة أخرى في عجلة من أمرها وقامت‬
‫بالضغط على زر اإلرسال وهى تجفف دموعها المنهمرة على خديها‪.‬‬

‫***********‬

‫دخل شاكر فيال جو وهو في حالة من الثبات والجرأة فوجده في موضع جلوسه الدائم‪ ،‬وما‬
‫أن وقف شاكر أمامه حتى بدأ جو بالحديث‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذى جعلك تأتى دون موعد مسبق ؟ ‪ ..‬لم أرغب في قيام الحرس بمنعك حرصا‬
‫على ما تبقى بيننا من عالقة نسب استمرت نحو ثالثون عاما‪.‬‬
‫‪ -‬ألن هذه الزيارة تختلف عن أي زيارة مضت خالل الثالثون عاماً ‪ ..‬لقد أتيت ألحذرك‬
‫من مخطط بقيادة فخر وحلفاء له من عائلة الخواجة للتخلص منك والسيطرة على رأس‬
‫مال المجموعة ومن ثم وضعك بالسجن‪.‬‬
‫انتفض جو من جلسته في غضب‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬من أين أتيت بمثل هذا الحديث ؟‬


‫‪ -‬كان ينبغي عليك أن تعرف ذلك وحدك ‪ ..‬مثلما تهتم بمعرفة أمو ار أخرى ليست‬
‫بهذا القدر من األهمية ‪ ..‬كان أمامي فرصة سانحة كي أنتقم مما فعلته بي ‪..‬‬
‫ولكن هذا الفعل يروق لمن خوت سرائرهم من األصل‪.‬‬
‫‪ -‬أتلو علي تفاصيل كل ما تعرفه عن هذا األمر ‪ ..‬البد أن نتحرك بخطة مضادة‬
‫حاال‪.‬‬
‫‪ -‬اطمئن ‪ ..‬فتربيتك لم تضيع هباءا‪.‬‬

‫***********‬

‫وسط كل ذلك كانت شمس بغرفتها مستغرقة بالحديث في الهاتف بمالمح مشبعة‬
‫بالرومانسية‪ ،‬غير آبه بأي انهيارات أو هزات اجتماعية قد تصيب من حولها‪ ،‬فكل منهم‬
‫مسئول عن اختياراته‪ ،‬وشمس اختارت هي أيضا الطريق الذى ترضى نهايته‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا أيضا كنت معجبة بك من قبل ذلك ولكن ما كان يحدث وقتها لم يسمح لي‬
‫بالحديث‪.‬‬
‫حتى قاطعها دخول رحيل إلى غرفتها‪ ،‬فنظرت إليها شمس بطرف عينيها ثم أنهت‬
‫المكالمة على الفور في حالة ضيق‪ ،‬ثم نظرت إليها في غضب‪:‬‬
‫‪ -‬أال يجب عليك طرق بالباب قبل الدخول ؟!‬
‫اجابتها رحيل في دهشة‪:‬‬
‫‪ -‬ومنذ متى يطرق احدنا باب األخر قبل الدخول يا شمس ؟!!‬
‫‪ -‬منذ أن أصبحنا نفاجئ بأسرار يعرفها أحدنا وال يخبر بها األخر‪.‬‬
‫كانت شمس تقصد حديث رحيل مع والدها لحظة الخالف وما ألقت به من كلمات غامضة‬
‫لم تفهمها تعبر عن سر تعلمه عن أحدهما‪.‬‬
‫‪ -‬لن تفيدك معرفة أمر كذلك يا شمس ‪ ..‬بل بالعكس كانت ستضرك بشكل أكبر ‪ ..‬لقد‬
‫آثرت الصمت والتحمل وحدى ‪ ..‬دون فضفضة أو مشاركة مع أحد ‪ ..‬كى أدفع عنك‬
‫شعور كهذا‪.‬‬
‫‪ -‬ولنفس هذا السبب ال أتمنى لك أن تعلمي هوية من أحدثه‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫أخذت رحيل تفكر في حيرة ثم بدأت بالحديث‪:‬‬


‫‪ -‬ال يهم ‪ ..‬فقط أخبرينى عندما تشائين ‪ ..‬وأنت كنت على قدر التحمل فسأخبرك بما‬
‫تودين معرفته‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرينى‪.‬‬
‫‪ -‬والدتنا كانت لها عالقة غير شرعية قبل زواجها من أبينا وهذا سر الجفاء بينهما طيلة‬
‫السنوات الماضية ‪ ..‬هذا ما نمى إلى علمى بالصدفة إثر سماعى لحديث دار بينهما‪.‬‬
‫نظرت شمس خلف رحيل‪ ،‬فنظرت رحيل خلفها فاكتشفت وقوف ميرفت والدتهما على باب‬
‫الغرفة تسمع ما يدور‪ ،‬وعيناها تمألهما الدموع‪:‬‬
‫‪ -‬لن أدافع عن نفسى كأى فتاة غانية تحاول ترميم ما تبقى لديها من صورة هشة أمام‬
‫الناس ‪ ..‬فأنا أعلى من ذلك بكثير وستثبت لكما األيام ذلك ‪ ..‬لقد طلبت من شاكر‬
‫االنفصال ‪ ..‬قرار تأخر كثي ار من أجلكما ‪ ..‬وحان وقته اآلن ألجلكما أيضا ‪ ..‬كي تعلمان‬
‫ما عليه والدتكما وما تعرضت له من ظلم من أجل الحفاظ على حياتكما السوية حتى‬
‫اآلن‪.‬‬
‫اندهشا كل من شمس ورحيل ناظرة كل منهما لألخرى‪ ،‬ثم تركت ميرفت الغرفة وانصرفت‪،‬‬
‫فتحركت رحيل جالسة بجوار شمس ببطيء في خيبة أمل يفكران فيما يحدث لهما من‬
‫تفكك ودمار أسرى تدريجي ال يترك أحد إال وطاله‪.‬‬

‫***********‬

‫دخلت رحيل مقر الجمعية التي تعمل كمتطوعة بها‪ ،‬فأخبرتها السكرتارية بأن مدير‬
‫الجمعية بانتظارها في مكتبه‪ ،‬لم تكن تعلم رحيل سبب هذه الدعوة حتى فوجئت بقرار‬
‫باالستغناء عنها ومنعها من دخول مشروع قرية عويس نهائيا‪ ،‬لم تستطع رحيل قبول األمر‬
‫بسهولة وقررت مواجهة مدير المؤسسة للوقوف على مالبسات هذا األمر‪ ،‬ولكنها لم تكن‬
‫تتوقع االجابة التى سمعتها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قمت باستغالل تطوعك بالجمعية وقمت بإفشاء األمانة واستخدام مستندات تحمل‬
‫بيانات أحد المنتفعين من خدماتنا من أجل تدعيم موقف شخصي لك ضده وإقامة دعوى‬
‫قضائية عليه‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬إقامة دعوى ؟ ‪ ..‬أنا لم أقم دعوى‪.‬‬


‫عرض لها المدير صورة من صحيفة الدعوى لتكتشف أن على هو من قام برفع القضية‪:‬‬
‫‪ -‬علي !!‬
‫‪ -‬أوراق اثبات جهة عمل خصمك‪ ،‬وتقارير حالة زوجته المرضية التى تفيد عدم قدرتها‬
‫على االنجاب‪ ،‬كل هذه األوراق شديدة الخصوصية للمنتفع وللجمعية‪ ،‬واستغالل وثائق مثل‬
‫هذه فى أمر شخصي أمر مشين‪ ،‬وعواقبه ليست بسيطة‪ ،‬وقرار االستغناء الذى اتخذته هو‬
‫ابسط قرار يمكن لمدير اتخاذه حيال أمر كذلك‪.‬‬
‫فشلت رحيل في أقناعه بأن ما نمى إلى علمه من أحداث هى محقة فيه‪ ،‬وأن هذه الطفلة‬
‫هي ابنتها بالفعل‪ ،‬لذا لم يكن أمامها سوى االستقالة من التطوع في أنشطة الجمعية نهائياً‬
‫دفاعا عن حقها التي تريد إثباته‪.‬‬

‫خرجت رحيل من مكتب مدير الجمعية في حالة من الغضب الشديد ال تعير أحد من‬
‫زمالئها اهتماما رغم رغبتهم في الحديث معها من أجل معرفة ما دار بالداخل‪ ،‬ولكنها‬
‫فوجئت بوقوف على أمامها بشكل مفاجئ فتوقفت‪ ،‬اقترب منها على ناظ اًر إليها بود‪:‬‬
‫‪ -‬لقد فعلت لك ما تريدين ‪ ..‬لماذا ال تجيبين على مكالماتى الهاتفية يا رحيل ؟‬
‫أخذت تنظر إليه رحيل دون أن تجيب ثم أخذت تشتت أنظارها في كل مكان حولها‪،‬‬
‫نظرت رحيل حولها لزمالئها تستشعر نوعاً من الحرج‪:‬‬
‫‪ -‬دعنا نتحدث في مكان أفضل من ذلك‪.‬‬
‫مد على لها يده‪ ،‬نظرت رحيل إلى يد على الممدودة إليها ثم أمسكت بها وسارت معه تجاه‬
‫باب الخروج‪.‬‬

‫***********‬

‫جلسا كال من رحيل وعلى بأحد الكازينوهات المليئة باألشجار الكثيفة وصوت شقشقة‬
‫العصافير يطرب آذان من يسمعها‪ ،‬تحدث على بعد أن أقترب من رحيل وهو يدنو منها‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬ال تعلمي قدر ما فعلته مع سليم كي أدفعه للتنازل عن اتهامك ‪ ..‬ال أعلم كيف سيكون‬
‫رد فعله عندما يصله إعالن قيامي األن برفع دعوى اثبات نسب عليه ‪ ..‬كال أعلم ‪..‬‬
‫ومستعد لما سيفعله ‪ ..‬ال بأس بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذى دفعك للخضوع لرغبتي رغم عدم اقتناعك ؟‬
‫‪ -‬إذا أجابتك سأكذب ‪ ..‬وأنا ال أريد الكذب في الوقت الحالي ‪ ..‬المهم أن تكوني في اتم‬
‫استعداد لمواجهة جدك باألمر ‪ ..‬فالقضية لن تكون س ار وسيعرف األمر الجميع فور بدء‬
‫الجلسات‪.‬‬
‫‪ -‬لم أعد اهتم بذلك ‪ ..‬ولم أعد أرى شيئا سوى ابنتى التي سرقت من بين أحشائي‪.‬‬
‫‪ -‬إنها محظوظة جدا ألن هللا رزقها بأم مثلك‪.‬‬
‫‪ -‬لكن في ظروف غير مناسبة ‪ ..‬دوما تعطينا الدنيا ما نحتاجه في غير أوقاته المناسبة‪.‬‬
‫‪ -‬ربما يكون هو الوقت المناسب يا رحيل دون أن ننتبه‪.‬‬
‫فكرت رحيل في حديث علي شاردة في معانيه الخفية التي تستتر بين الحروف ودموعها‬
‫ّ‬
‫محملة بالحنين‪.‬‬

‫***********‬

‫فى هذا التوقيت كان شاكر جالس فى اجتماع مجلس إدارة بمقر المجموعة ليفاجئ أن‬
‫أبواب غرفة االجتماعات جميعها باتت موصدة‪ ،‬أثار ذلك دهشة شاكر وجعله أعتقد أن‬
‫هناك أم ار ما يحدث غير طبيعيا‪ ،‬حتى أقتحم فخر الجلسة عليهم بشكل مفاجئ ليتحول‬
‫معتقد شاكر إلى يقين بأن هذه هى لحظة التنفيذ‪.‬‬
‫ربت فخر على كتف شاكر وأخبره أن الرسالة المرسلة مع نجوى قد وصلته‪ ،‬وأنه سيرى بأم‬
‫أعينه األن تحقق ما وعده إياه‪ ،‬طلب فخر من أتباعه بالمجلس الوقوف لإلعالن عن‬
‫أنفسهم أمام بعضهم البعض‪ ،‬ليفاجئ شاكر بقيام أكثر من نصف المجلس بالوقوف‪ ،‬ليبدأ‬
‫فخر بعرض مخططه على األقلية المتبقية بالمجلس‪:‬‬
‫‪ -‬كل من تبقى كنا نثق من والءه لجو لذا لم نجازف بعرض األمر عليهم ‪ ..‬ولكن األن‬
‫أمامهم فرصة أخيرة ‪ ..‬إما شراء سالمتكم بالتوقيع على تنازل عن مناصبهم بالمجموعة‬
‫والتوقيع أيضا على عريضة إدانة جو لقيامه بالتالعب برأس مال المجموعة لتقديمها‬

‫‪58‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫للمحكمة ‪ ..‬أو رفض ذلك وسيتم نفس األمر بقوة أغلبية المجلس ولكن سيتم احتجازهم‬
‫لحين تسليمهم للشرطة ألن اسمائهم ستضاف لعريضة إدانة جو ‪ ..‬ماذا قلتم ؟‬
‫أخذ أعضاء المجلس ينظر كل منهم لألخر دون إبداء أى رد‪ ،‬فاستأنف فخر‪:‬‬
‫‪ -‬قد وصل الرد ‪ ..‬وسيتم اتخاذ الالزم ‪ ..‬بعدها سنقوم بتوقيع محضر الجلسة الجديد‬
‫وتفويض شاكر قائما بأعمال رئيس مجلس االدارة لحين انتخابه رسميا‪.‬‬
‫تبادل شاكر وفخر ابتسامات تتشابه فى ظاهرها ولكن مضمونها يختلف من أحدهما‬
‫لآلخر‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪60‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫حان وقت غروب الشمس‪ ،‬حيث موعد عودة العم سليم من عمله‪ ،‬ولكن هذه‬
‫المرة قد عاد دون رجعة‪ ،‬أخذ عم سليم في االقتراب من منزل جارته يقدم قدم ويؤخر‬
‫األخرى‪ ،‬حتى وقف أمام منزلها طارقا بابها في حالة من اإلحباط‪ ،‬فتحت له جارته‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل يا سليم ‪ ..‬معذرة المنزل غير مرتب بسبب أعمال التطوير التي تجرى في البلدة‪،‬‬
‫رأيت منزل حسنية بعد أن انتهوا منه اصبح مبهجا للغاية ‪ ..‬عقبى لك ولي‪.‬‬
‫ثم حملت السيدة الطفلة ومدت يدها إليه لتعطيها له‪:‬‬
‫‪ -‬أرضعتها ونامت بعد بكاء طويل ‪ ..‬ال أعلم ما بها ‪ ..‬انصحك بعرضها على طبيب‬
‫ربما أصابها ميكروب وتحتاج لعالج ‪ ..‬واألفضل أن تفكر بالزواج ‪ ..‬فلو عادت لطيفة‬
‫األن لطلبت منك نفس الطلب ‪ ..‬ليس من أجل أحد بل من أجل ابنتك‪.‬‬
‫‪ -‬لو عادت لطيفة األن لتغيرت أشياء كثيرة ‪ ..‬ومصائب أكثر لم تكن لتحدث‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا تتحدث بهذه النبرة يا سليم ؟‬
‫‪ -‬لقد فصلت من عملي‪.‬‬
‫‪ -‬يا هللا ‪ ..‬وما السبب ؟‬
‫‪ -‬استقبلت إعالن بقضية رفعتها علي الفتاة المجنونة تتهمني بهراء كما سمعتيها أخر مرة‬
‫‪ ..‬لكني لن أتركها تنال مني ومن سمعتى ‪ ..‬ليتنى ما تنازلت عن قضية محاولتها‬
‫اختطاف لطيفة‪.‬‬
‫‪ -‬ال حول وال قوة إال باهلل ‪ ..‬ومن أين ستأتى بالمال من أجل رعاية هذه الطفلة المسكينة‪.‬‬
‫‪ -‬لن يتركنا هللا‪.‬‬
‫‪ -‬انتظر سأجلب لك بعض اللبن والمالبس الزائدة من أجلها‪.‬‬
‫توجه سليم بالطفلة ناحية باب المنزل متجها للخارج‪:‬‬
‫‪ -‬ليس اآلن‪.‬‬
‫ما أن أستقر عم سليم في منزله وأغلق بابه حتى استيقظت طفلته لطيفة وأخذت في البكاء‬
‫فاحتضنها سليم وهو يجلس على السرير وأخذ يحركها بشكل اهتزازي بصوت همهمة‬
‫محاوالً جعلها تنام مرة أخرى‪ ،‬لم تستجب طفلة عم سليم لحيلته‪ ،‬وكان صوت صراخها‬
‫يزداد ارتفاعا مما جعل عم سليم أصبح شارداً وكأنه ال يسمعها‪ ،‬محدقاً النظر أمامه بنفس‬
‫االتجاه ال يحرك عيناه حيث صورة لطيفة زوجته‪ ،‬ثم أخذت عيناه تذرف دموعا إثر شعوره‬
‫بقلة حليته‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫***********‬

‫ونجحت محاوالت إبرام مع ميرفت‪ ،‬وكانت ثمرة هذه المحاوالت أنه اصبح جالسا على‬
‫منضدة مطعم في انتظار قدومها إليه‪ ،‬حتى رآها تدخل من باب المطعم قادمة نحوه فابتسم‬
‫لها ملوحاً بيده‪ ،‬جلست ميرفت على الكرسي المقابل إلبرام‪ ،‬فنظر إليها إبرام بابتسامة‬
‫صافية‪:‬‬
‫‪ -‬كأن الزمن قد توقف منذ أكثر من ثالثون عاما ولم يمر‪.‬‬
‫‪ -‬لو كان الزمن توقف لما كنا التقينا اآلن مرة أخرى يا إبرام‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذى جعلنا نلتقى األن ؟‬
‫‪ -‬أمو ار كثي ار ‪ ..‬ال مجال للحديث فيها اآلن ‪ ..‬اخبرني عن نفسك وعن حياتك طيلة‬
‫السنوات التي مضت‪.‬‬
‫‪ -‬تزوجت وانفصلت عدة مرات ‪ ..‬فعلت كل شيء يحلو لي ‪ ..‬بعيدا عن تسلط جو ‪..‬‬
‫هذه أفضل ميزة شعرت بها في بعدي عن عائلة الخواجة‪.‬‬
‫نظرت ميرفت جانبا نظرة حزن وأسى‪:‬‬
‫‪ -‬الحقيقة أنه ليست عائلة الخواجة وحدها من تتحكم باختياراتنا ‪ ..‬ولكن الحقيقة أنه‬
‫الخوف بداخلنا هو السجن الفعلى ‪ ..‬هو ما تحيا أرواحنا حبيسة جدرانه ثم نبحث عن‬
‫األخرين كى نلقي اللوم عليهم‪ ،‬ما فعلته أنت هو أنك تحررت من خوفك ‪ ..‬ال من عائلة‬
‫الخواجة‪.‬‬
‫أنتبه إبرام لتعبيرات وجهها فتساءل متعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك محملة بمآسي عدة ‪ ..‬ليست هذه ميرفت التي تركتها منذ ثالثون عاما تلهو‬
‫وتضحك‪.‬‬
‫‪ -‬كنت قد ‪....‬‬
‫قاطع حديث ميرفت رنين هاتف إبرام فقام بالتقاط هاتفه المحمول وأجاب على المكالمة‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ارتسمت مالمح الدهشة على وجه ميرفت أثناء حديث إبرام‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪62‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫نظرت ميرفت خلفها فإذا بفتاة جميلة ممشوقة القوام في العقد الثاني من العمر تقترب‬
‫نحوهما وبيدها هاتف تغلقه ثم تضعه بحقيبتها‪ ،‬حتى جلست بجوارهما‪ ،‬وقام إبرام بتعريف‬
‫كل منهما لآلخر مشي اًر إلى ميرفت‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فابتسمت لها الفتاة‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نظرت لها ميرفت بابتسامة صفراء‪ ،‬ثم أشار إبرام إلى الفتاة محدثا ميرفت‪.‬‬
‫‪ -‬إنها ( أولى ) صديقتى وسنتزوج قريبا بإذن هللا‪.‬‬
‫شعرت ميرفت بصدمة شديدة‪.‬‬
‫‪ -‬تعرفت عليها بأوروبا ‪ ..‬رأيت بها طعما جديدا لم أتذوقه من قبل ‪ ..‬انتابنى شعور‬
‫الرغبة في التجربة ‪ ..‬ربما أعجبتني واكملت معها حياتي ‪ ..‬جلبتها معي لرؤية مصر كما‬
‫أرادت ولشوقها لرؤية عائلة الخواجة التي سمعت عنها الكثير‪.‬‬
‫ثم نظر إبرام إلى عال وهو مبتسماً يفرك يديها أثناء حديثه مع ميرفت‪:‬‬
‫‪ -‬سنذهب اليوم لمشاهدة فيلم رومانسي بالسينما وأنت مدعوة لمرافقتنا‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ال أحب السينما ‪ ..‬يبدو أن سنوات أوروبا جعلتك تنسى طبعي‪.‬‬
‫‪ -‬ظننت أن هذا الطبع ربما تغير مع ما تغير‪.‬‬
‫‪ -‬أنت واهم ‪ ..‬لم يتغير شيء أبدا ‪ ..‬فمشاعري تجاه شاكر نفسها منذ ثالثون عاما ‪..‬‬
‫وتجاهك أيضا ‪ ..‬وأي مقارنة تصنعها األن بيني وبينها ‪ ..‬ليس لها محل من اإلعراب‪.‬‬
‫ثم جلبت ميرفت حقيبة يدها وهمت باالنصراف محدثة ( أولى )‪.‬‬

‫نظ ار كال من إبرام وعال لبعضهما البعض فى دهشة من تصرف ميرفت الغير متوقع‪.‬‬

‫***********‬

‫عادت ميرفت إلى فيال شاكر لتقوم بتجهيز حقائبها من أجل المغادرة إلى منزل والدها ‪،‬‬
‫فاألمر بالنسبة لها لم يعد يحتمل الصبر أكثر من ذلك وبات عليها إبالغ جو بكل شيء‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫ولكن ما أن دخلت ميرفت إلى غرفة نومها حتى فوجئت بوجود شاكر جالسا أمامها‬
‫بانتظار قدومها ممسكا بورقة يظهرها لها‪ ،‬بدا على مالمح ميرفت الدهشة‪:‬‬
‫‪ -‬شاكر ! ‪ ..‬ما هذه ؟‬
‫‪ -‬دليل براءتك ‪ ..‬شهادة المستشفى على تعرضك لحادث فى الطفولة ‪ ..‬كنت أعلم الحقيقة‬
‫وأنك لم تعرفي أحدا قبلي أو بعدى ‪ ..‬ولكن أنا من أخفيتها طوال السنوات السابقة‪.‬‬
‫‪ -‬أنت يا شاكر ؟!! ‪ ..‬لماذا ؟‬
‫‪ -‬أنت ميرفت ابنة الخواجة ‪ ..‬وأنا من ؟ ‪ ..‬مهما فعلت وتقدمت فى عملى وحققت‬
‫نجاحات ‪ ..‬سأظل فى المرتبة الثانية ‪ ..‬ألنى لست خواجة ‪ ..‬كنت أريد أن أشعر بفضل‬
‫عليكى بأى وسيلة ممكنة ‪ ..‬ولم أجد أفضل من هذه وسيلة ‪ ..‬كان األمر بيننا وفقط لم‬
‫اتوقع أنه سيتسرب يوما بين البنات ‪ ..‬الورقة معك ‪ ..‬بإمكانك استعادة كبريائك أمامهما‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬لم أعد فى حاجة لذلك ‪ ..‬ولم أعد فى حاجة إليها‪ ،‬هذه الورقة صدرت قديما ألجلك ‪..‬‬
‫واآلن ال قيمة لها ‪ ..‬ولكن قبل أن أنصرف هناك سؤال ملحا أتمنى سماع إجابته‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو ؟‬
‫‪ -‬لماذا األن بالتحديد ؟‬
‫‪ -‬ألنى لم أعد تحت رحمة جو كما كنت بالسابق ‪ ..‬بل فضلى على جو بات كبي ار ‪ ..‬هذا‬
‫الملف به حياة جو بالكامل ‪ ..‬إما استأثرت به وغدرت ‪ ..‬وإما سلمته له بجميل لن‬
‫يستطيع الوفاء به طوال حياته‪.‬‬
‫ثم التقطت شاكر الظرف ومد يده به لميرفت‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن أنا أفي بعشرتى معه ‪ ..‬أريدك أن تكملى جمع حقائبك وكأنك غاضبة كما أنت ‪..‬‬
‫وتوصلى له هذا الظرف فى غاية السرعة ‪ ..‬ألنه من المؤكد أنى مراقب‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذى يحدث لوالدى يا شاكر‪.‬‬
‫‪ -‬ال وقت لذلك ‪ ..‬هذه أوراق مجلس اإلدارة الجديد بأسماء من خان وأسماء من وفى‬
‫وأماكن كل منهم‪ ،‬عليه التحرك برجاله نحوهم قبل قيامهم باستكمال تنفيذ مخطتهم‪.‬‬
‫التقطت ميرفت الظرف فى خوف وقلق وقامت بوضعه داخل حقيبة مالبسها‪.‬‬
‫‪ -‬أخبريه أن ما أريده منه مقابل هذا هو الوقوف معي إلنهاء مشكلة رحيل‪.‬‬
‫نظرت له ميرفت نظرة حنين وكأنها ال تصدق ما تسمعه منه‪ ،‬فمنذ متى فضل شاكر‬
‫ابناءه على طموحه الوظيفي‪ ،‬يبدو أن شاكر قد تغير فعال‪ ،‬تغير قد يعيد لمشاعر ميرفت‬
‫‪64‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫تجاهه روحها التى صعدت منذ أعوام مديدة‪ ،‬ولكن هناك أم ار ملحا أكثر أهمية من‬
‫المشاعر‪ ،‬والبد من قضاءه أوال‪.‬‬

‫***********‬

‫قام سليم وهو في حالة استسالم لمواجهة واقع يبدو مري ار بزيارة أحد المحامين المغمورين‬
‫الذى يعرفه بشكل شخصي من أجل مساعدته في مواجهة دعوى رحيل التي أقامها لها‬
‫علي‪ ،‬فحص المحامي اإلعالن المرسل لسليم من المحكمة ثم نظر إليه متسائالً‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬هذه طليقتك ؟‬
‫‪ -‬لم أرها سوى مرتين في حياتي كلها‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا ؟ ‪ ..‬تقصد أنها مدعية ؟‬
‫‪ -‬ربما تريد مبلغا من المال وربما مصابة بمرض نفسي‪.‬‬
‫‪ -‬أال تعلم إذا كان قد سبق لها الزواج من قبل ؟‬
‫‪ -‬ال أظن ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬األمر بسيط وسيحسم من أول جلسة ‪ ..‬تحليل ال (دى إن إيه) جعل مثل هذه القضايا‬
‫أبسط مما تتخيل‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنى ال أرغب لطفلتى للمثول لهذا التحليل ‪ ..‬فعمرها لم يتعدى أشهر‪.‬‬
‫‪ -‬إنه أمر بسيط ‪ ..‬مجرد عينة من شعر أو ما شابه‪.‬‬
‫‪ -‬ليس لديها شعر ‪ ..‬وعموما ال أرغب في اقحام ابنتي في أمر كهذا‪.‬‬
‫‪ -‬في هذه الحالة سنلجأ لشهادة الطبيب الذى قام بتوليد زوجتك رحمة هللا عليها ‪ ..‬ولكنها‬
‫لن تكون بقوة التحليل‪.‬‬
‫‪ -‬لدي مستند أخر‪.‬‬
‫ثم مد سليم يده باالعتراف الموقع من على‪:‬‬
‫‪ -‬لدي اعتراف موقع من المحامى رافع الدعوى بأنه من قام بسرقة بويضاتها من المركز‬
‫الطبي‪.‬‬
‫قام المحامي بقراءة االعتراف‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬هذا االعتراف سيضعف موقفها كثي ار ولكنه ليس كاف لحسم األمر ‪ ..‬األفضل هو أن‬
‫تخضع الطفلة للتحليل‪.‬‬
‫أخذ سليم يفكر في هذا األمر في حيرة شديدة‪.‬‬

‫***********‬

‫داخل إحدى مخازن مجموعة شركات الخواجة وجد أعضاء مجلس اإلدارة الجديد أنفسهم‬
‫مقيدون ومحاطون برجال جو دون أن يعلم كل منهم كيف أتى إلى هذا المكان‪ ،‬نظر كل‬
‫منهم لألخر في حيرة وعينه يمألها ألف سؤال‪ ،‬كان من بينهم فخر ومن العجيب أن كان‬
‫من بينهم شاكر أيضا‪ ،‬قام رجال جو بفك قيودهم جميعا‪ ،‬مما أثار دهشتهم بشكل أكبر‪،‬‬
‫حتى فوجئ كل منهم بدخول جو عليهم في هدوء متحدثا لهم‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟‬
‫عم الصمت األرجاء‪ ،‬ال حديث‪ ،‬ال مجال للتبرير‪ ،‬فكل النوايا اصبحت معلنة مثل بزوغ‬
‫الشمس فى وضح النهار‪.‬‬
‫‪ -‬تتمردون على قانون وضعته لحمايتكم ! ‪ ..‬لرفعتكم ! ‪ ..‬من هو جو من وجهة نظركم‬
‫؟ ‪ ..‬رجل مستبد ؟ ‪ ..‬متسلط ؟ ‪ ..‬أسود القلب ؟‬
‫جلس جو شاردا وانسابت دمعة من عينه‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قتل رجال عائلتكم أمام عيني وأنا لم اتخطى الخمسة عشرة أعوام‪ ،‬غالم مثلى كان‬
‫عليه أن يصبح متشردا دون أن يالم من الدنيا ‪ ..‬ولكن ما منعني هو حلمي بكم ‪ ..‬عائلة‬
‫ميلوف أو الخواجة كما يطلق عليها ‪ ..‬حلمت بكم قبل أن أراكم ‪ ..‬كيان كبير وعائلة تنتقل‬
‫من وشك اإلبادة إلى مؤسسة تؤثر فى اقتصاد العالم ‪ ..‬لقد بلغت عقدي الثامن ‪ ..‬وانتظر‬
‫الرحيل بين لحظة وأخرى ‪ ..‬وما صنعته من أجلكم اصبح ملك لكم ‪ ..‬فإن شئتم احفظوه‬
‫‪ ..‬أو اتبعوا أهوائكم ‪ ..‬فلقد غرست فيكم ما يجعلكم تحسنون االختيار‪.‬‬
‫ترك لهم جو ظرف األوراق والمستندات الخاص بإدارة المجموعة مرفقا بها تنازل عن‬
‫رئاسته لمجلس اإلدارة‪ ،‬ثم أمر رجاله بأن يخفضوا أسلحتهم وأن ينصرفوا استعدادا‬
‫النصراف جو أيضا‪ ،‬ولكنه التفت ناظ ار إليهم‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬أنا لم أقتل ولدى المصاب بالتوحد كما أشاعت بينكم ‪ ..‬هو مودع فى دار رعاية خاصة‬
‫اتكفل بمصاريفها يوم أن سكنها ويمكنكم التأكد من ذلك ‪ ..‬ولكنى استخدمت أمر غيابه‬
‫كى أبث الخوف بداخلكم منى كى يخشى كل منكم على نفسه إذا لم ينفذ ق ارراتي ‪ ..‬فال‬
‫يوجد دوافع لدى االنسان للخضوع سوى أمران ‪ ..‬الخوف ‪ ..‬والحب ‪ ..‬والثانية ال يمكن‬
‫لبشر تحقيقها بإرادته ‪ ..‬فما كان أمامي سوى سالح الخوف‪.‬‬
‫تحدث شاكر فى هذه اللحظة على الفور‪:‬‬
‫‪ -‬لكن كل من أختار صفك بإرادته أصابه سالحك األخر ‪ ..‬وأخرهم رحيل التي هي فى‬
‫حاجة ماسة إلى الجميع للوقوف بجانبها‪.‬‬
‫‪ -‬سأفعل ذلك حين تحتاج ‪ ..‬ولكنها إذ قررت المواجهة بمفردها ‪ ..‬فعلينا أال نحرمها حرية‬
‫االختيار‪.‬‬
‫ثم انصرف جو وانصرفت معه عقود من التسلط والخوف‪ ،‬أصبح كل أفراد العائلة‬
‫محررون‪ ،‬يستطيعون فعل ما تمليه عليهم اختياراتهم‪ ،‬ولكن لم يدركوا أن حنكة جو وذكاءه‬
‫جعلته يستخدم سالح التعاطف بعدما اكتشف أن السالح األول بات منتهى الصالحية‪.‬‬

‫***********‬

‫لم يتوقف نزيف جسد رحيل كلما استيقظت من النوم‪ ،‬ولكن بالنسبة لها كان نزيف حياتها‬
‫االجتماعية وبعدها عن فلذة كبدها أشد خطورة‪ ،‬الحظت رحيل أثناء جلوسها في ريسبشن‬
‫الفيال ( يبدو عليها إهمالها لنفسها بشكل بالغ ) خروج شمس شقيقتها بأناقة مكتملة فنادت‬
‫عليها‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين تذهبين يا شمس ؟‬
‫‪ -‬من المؤكد أن مالبسى تدل على أني أهم بالخروج‪.‬‬
‫‪ -‬كال ‪ ..‬فمالبسك تدل على أنك في حالة مواعدة‪.‬‬
‫‪ -‬وما المانع ‪ ..‬أليس لي حق في التحرر مثل كل من بالمنزل !‬
‫‪ -‬شمس ‪ ..‬أنت شقيقتي الصغرى وأشعر بالمسئولية تجاهك ‪ ..‬ال أريدك أن تخوضى‬
‫تجربة مشابهو لتجربتى ‪ ..‬جمالي أكسبني الغرور على كل من حولى ‪ ..‬حتى خسرت ما‬
‫لم يستطع جمالى رده لى‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬صحيح أنك تكبريني سناً ‪ ..‬لكن أثق أنى أتفوق عليك عقالً‪.‬‬
‫بدا على وجه رحيل مالمح الغضب الشديد واقتربت من شمس ولكن قاطع حوارهما دخول‬
‫شاكر من باب الفيال في حالة من الهدوء ومن خلفه ميرفت‪ ،‬ثم نظر إلى كال من شمس‬
‫ورحيل ونظ ار إليه ثم سأل بصوت خافت‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ترفعون صوتكما على بعضكما البعض ؟‬
‫أجابت شمس بحالة من الضيق‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أنادي على رحيل كي تسمعني‪.‬‬
‫‪ -‬ربما أنا كنت من أحتاج المناداة منذ سنوات كي أشعر بكم ‪ ..‬لقد ظلمت ميرفت لغرض‬
‫في نفسى‪.‬‬
‫تبادلت رحيل وميرفت النظرات أثناء مواصلة شاكر حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬وتحملت كما تحملت رحيل الكثير وحان وقت الوقوف بجانبها ‪ ..‬سأقف بجوارك في‬
‫قضيتك وال تخشين من جو أم اًر ‪ ..‬ولن تكوني بمفردك أبدا في مواجهة أمر أو الخضوع له‬
‫دون رغبتك بعد األن‪.‬‬
‫‪ -‬بالعكس يا أبي فأنت كنت محق ‪ ..‬ماذا سيحدث بعد كسب القضية ‪ ..‬وكيف سأواجه‬
‫المجتمع بأسره ليس عائلة الخواجة فحسب ؟ ‪ ..‬كيف أصبح لي أبنة وأنا ما زلت بك اًر ؟ ‪..‬‬
‫من والدها ؟ ‪ ..‬وكيف ستنشأ وسط كل ذلك ؟‬
‫نظر إليها شاكر منصتا‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا ترين في هذا األمر ‪ ..‬ستتخلين عنها ؟‬
‫‪ -‬إذا احتاجت المشورة فستكون أول وجهتى‪.‬‬
‫مد شاكر يداه لبناته فاتحا ذراعيه‪ ،‬ابتعدت شمس عن باب الخروج مقتربة من شاكر والدها‬
‫في حنين‪ ،‬كما اقتربت منه رحيل أيضا واحتضنا شاكر والدهما بينما نظرت إليهم ميرفت‬
‫بابتسامة تمألها الدموع‪.‬‬

‫***********‬

‫في هذا اليوم دخلت رحيل إلى قسم الشرطة تجرى في لهفة بعد خبر تلقته‪ ،‬كان على‬
‫مقتاداً من الحجز إلى مكتب المأمور في حالة يرثى لها‪ ،‬متسخ الثياب‪ ،‬أشعث الشعر‪،‬‬

‫‪68‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫تملك اإلرهاق واألرق من عينيه‪ ،‬وصل على إلى المكتب وأكتشف وجود رحيل بانتظاره‬
‫جالسة أمام مكتب المأمور‪ ،‬نظر لهما المأمور ثم قام من كرسيه متجها نحو باب المكتب‪:‬‬
‫‪ -‬يمكننى أن أتيح لكم خمس دقائق للحديث‪.‬‬
‫ثم خرج المأمور وأغلق الباب خلفه‪ ،‬دمعت أعين رحيل ووقفت وتقدمت نحو على واضعة‬
‫يدها على خده تحاول أن تجذب أتجاه بصره نحوها‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا يا على ؟! ‪ ..‬ما الذى يدفعك لتوقع اعتراف على نفسك كهذا ؟‬
‫حاول على مواراة أبصاره عنها‪:‬‬
‫‪ -‬كان اتفاقا كي يقبل سليم التنازل عن اتهام الخطف‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا لم تخبرنى بأمر كهذا حين طلبت منك رفع قضية اثبات النسب عليه ؟!‬
‫‪ -‬تحقيق رغبتك كان أهم عندي من سالمتى‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك وأنت ال تعرفنى سوى من أيام معدودة‪.‬‬
‫‪ -‬غير صحيح ‪ ..‬لقد كذبت عليك ‪ ..‬أنا لم أسمع عنك من حديث شقيقتي عنك مثلما‬
‫أخبرتك ‪ ..‬أنا أعرفك منذ عشرة أعوام ‪ ..‬كنت أراك عندما تذهبين لنادى هيليدو ‪ ..‬واكتفى‬
‫بمراقبتك من بعيد ‪ ..‬كجوهرة ثمينة تعجبنا ولكن ال نملك سوى مشاهدة بريقها عبر زجاج‬
‫الفاترينة ‪ ..‬علمت أنك من عائلة الخواجة وأن نصيبك مقدر منذ والدتك ‪ ..‬وألني ال أنتمى‬
‫لهذا اللقب اكتفيت بذلك طيلة هذه السنوات ‪ ..‬حتى انقطعت عن الذهاب وانقطع عني‬
‫ترياقي ‪ ..‬ليشيء القدر أن أقابلك ثانية ألكون سببا في رفع معاناة عن كاهلك ‪ ..‬ربما لم‬
‫يستطع أحدا تحمل نتائجها غيري‪.‬‬
‫ازدادت دموع رحيل في االنهمار أثناء حديث على وسط حالة من العجز عن التعبير أو‬
‫الرد‪ ،‬لم تستطع رحيل اإلجابة على مشاعر ( على ) سوى بكلمة واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف يا على ‪ ..‬لقد فات األوان ‪ ..‬هكذا حال الدنيا ‪ ..‬نقابل أحالمنا في وقت‬
‫الكابوس‪.‬‬
‫‪ -‬ال تحملي هما ‪ ..‬فهذا االتهام محاولة بائسة منه لن يجدى شيئا ‪ ..‬بمجرد خضوع‬
‫الطفلة للتحليل سيثبت أن الطفلة ال تنتمي لي وسأعترف أن هذا التوقيع تم تحت ضغط‬
‫منه ‪ ..‬هذا دليل إدانة عليه ولكنه ال يدرى‪.‬‬
‫‪ -‬ال مجال للصراعات القضائية يا على ‪ ..‬فلقد علمت ما يجب على فعله ‪ ..‬من أجل‬
‫مصلحة الجميع ‪ ..‬ففي هذا األمر بالذات ‪ ..‬ال يمكن أن يكون هناك خاس اًر‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫توجهت رحيل نحو باب المكتب وهى تبكى وفتحته ثم نظرت لعلى نظرة وداع‪ ،‬ثم انصرفت‬
‫مسرعة‪.‬‬

‫***********‬

‫حان موعد انعقاد جلسة اختيار رئيس مجلس إدارة مجموعة الخواجة الجديد‪ ،‬أدلى الجميع‬
‫بصوته وبقيت لحظة الحسم‪ ،‬حضر الجلسة جميع أفراد المجلس القديم من خان منهم ومن‬
‫صدق وبالطبع بينهم شاكر ولكن الغريب أن ميرفت كانت حاضرة هذه الجلسة أيضا‪،‬‬
‫فرغبة شاكر في أن يعوضها عن سنوات التحمل والصبر دفعته ألن يعرض عليها دمجها‬
‫بمجلس اإلدارة الجديد‪ ،‬ولم توافق ميرفت فحسب بل سعدت بهذا العرض كثيرا‪ ،‬في الحقيقة‬
‫أن ميرفت لم تسعد بالعرض لذاته‪ ،‬ولكن سر سعادتها كان لكونه نابعا من شاكر نفسه‪،‬‬
‫شعرت ميرفت وكأنها عثرت على شاكر الذى افتقدته منذ سنوات‪.‬‬
‫وتم البدء في سحب أوراق التصويت والجميع في تأهب لسماع النتيجة‪ ،‬ولكن النتيجة‬
‫كانت مفاجأة للجميع‪ ،‬فلقد تم اختيار جو باإلجماع لرئاسة مجلس اإلدارة الجديد‪ ،‬قد يبدو‬
‫لل عامة وكأن شيئا لم يتبدل‪ ،‬ولكن الحقيقة هي أن كل شيء قد تغير مائة بالمائة‪ ،‬فمن‬
‫تنصب إجبا ار من قبل قد أصبح‪ ،‬ظل في موقعه اآلن بمحض االختيار‪ ،‬اندهشت ميرفت‬
‫عندما علمت أن هذا كان اختيار شاكر أيضا‪ ،‬لتتأكد أنها ستبدأ صفحة جديدة من حياتها‬
‫تطوي كل ما آلمها من قبل‪.‬‬

‫***********‬

‫تحركت رحيل بسيارتها وسط الزحام‪ ،‬ولكن زحام األفكار التي تدور في خيالها كان أشد‪،‬‬
‫شردت رحيل فيما تنوي فعله‪ ،‬وتبعاته‪ ،‬ولكنه استقرت أنه أفضل قرار بالنسبة للجميع‪،‬‬
‫وبالنسبة لها أيضا‪ ،‬فبالرغم من قسوته إال أنه سيمكنها من إراحة بالها بشكل دائم‪ ،‬ولكن ما‬
‫أن توقفت رحيل بإشارة مرور‪ ،‬إال ورأت مفاجأة قطعت دابر كل ما يدور برأسها من أفكار‪،‬‬
‫توقفت بجوار رحيل سيارة تركب بها شمس شقيقتها‪ ،‬ولكن المفاجأة األكبر كانت عندما‬
‫رأت من يقود السيارة بجوارها‪ ،‬إنه الدكتور فريد طبيب األمراض النفسية‪ ،‬فهمت رحيل األن‬

‫‪70‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫سر إخفاء شمس لهوية من تتعلق به‪ ،‬ولكن األمر لرحيل لم يعد يعني شيئا‪ ،‬فيبدو أنه قد‬
‫نمت عالقة عاطفية بينهما خالل فترة لهاث رحيل خلف نطفتها‪ ،‬فشمس تعلم دائما من أين‬
‫تؤكل الكتف‪ ،‬وقد أصابت االختيار‪ ،‬وقعت أعين شمس في أعين رحيل وتبادال الكلمات‬
‫وسط صمتهما‪ ،‬عبرت أعين شمس عن رغبتها في التماس العذر لها عما بدر منها‪ ،‬وأعين‬
‫رحيل تنظر إلى أمل أكبر يتالشى بجانبه أي طموح آخر‪ ،‬حتى اتشح الطريق باللون‬
‫األخضر من انعكاس إشارة المرور‪ ،‬ليقصد كل منهما وجهته‪.‬‬

‫***********‬

‫بينما كان عم سليم يقوم بمحاولة تغيير كافولة طفلته لطيفة في حيرة من أمره‪ ،‬سمع صوت‬
‫طرقات باب منزله‪ ،‬فإذا به يفتح ليكتشف وقوف رحيل أمامه ليتعجب من وجودها‪:‬‬
‫‪ -‬بأي مصيبة تأتين هذه المرة ؟‬
‫‪ -‬جئت بعرض ال يمكن لعاقل أن يرفضه‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت عاقلة ؟‬
‫‪ -‬ستقرر عندما تسمع ‪ ..‬ألن تسمح لي بالدخول ؟‬
‫دخل سليم تاركاً باب منزله مفتوح ثم دخلت رحيل خلفه‪ ،‬الحظت رحيل وجود الطفلة وهى‬
‫نصف عارية فانزعجت عليها بشدة‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا ‪ ..‬هكذا ستبرد البد أن ترتدي مالبسها سريعا‪.‬‬
‫ثم هرولت رحيل نحوها تلبسها مالبسها بينما أخذ سليم يراقب قيامها بذلك الفعل في‬
‫صمت‪ ،‬وأخذ يتخيل وجود زوجته لطيفة المتوفية مكانها‪ ،‬انتهت رحيل من عملها ثم حملت‬
‫الطفلة بين يديها وضمتها إلى صدرها في حنين بالغ‪:‬‬
‫‪ -‬تريدين خطفها ثانية !!‬
‫‪ -‬وهل هناك من يخطف فلذة كبدة ؟‬
‫‪ -‬يبدو أنى سأقرر قبل أن أسمع‪.‬‬
‫‪ -‬نحن األن بمفردنا ‪ ..‬ال يوجد من يسمع حديثنا وال داعي لاللتفاف ‪ ..‬لقد كانت زوجتك‬
‫ال تنجب كما أخبرتنا سابقا ‪ ..‬كيف حصلت على هذه الطفلة يا سليم ؟‬

‫‪71‬‬
‫رحيل ___________________________ أحمد اإلكيابى‬

‫‪ -‬إرادة هللا فوق كل شيء ‪ ..‬إقرأي قصة النبي زكريا‪.‬‬


‫‪ -‬ولكنك لست نبي ‪ ..‬ولن أحدثك عن شعوري تجاهها‪.‬‬
‫تقدم سليم ليأخذ الطفلة منها مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬انتهى الحديث عند ذلك ‪ ..‬أراك وقت جلسة القضية‪.‬‬
‫‪ -‬لن يكون قرار القاضي مرضيا لك مثل عرضي ‪ ..‬أنا سأتنازل عن قضية إثبات النسب‬
‫ضدك ‪ ..‬وسيتم اإلفراج عن على ‪ ..‬فهو ال يستحق أن يدفع ثمن ق ارراتي الغير صائبة‪.‬‬
‫‪ -‬مقابل ماذا ؟‬
‫‪ -‬مقابل أن تتزوجني ‪ ..‬وتنسب هذه الفتاة لي في شهادة الميالد‪.‬‬
‫لم تستطع أقدام سليم حمله من قوة غرابة الفكرة وآثر الجلوس على أقرب مقعد مجاور‪،‬‬
‫بينما تواصل رحيل إقناعه بعرضها الذي اعتمد على تضحيتها بكل ما تمنت مقابل ضمان‬
‫وجودها بجوار من وصفتها جيناتها بأنها ابنتها‪:‬‬
‫‪ -‬أنت لن تقوى على تربية طفلة كهذه وحدك ‪ ..‬وبالطبع وفقا لحالتك االجتماعية بالتقارير‬
‫لن تقوى على تكاليف زيجة جديدة ‪ ..‬أمامك عرض ال يقدر بثمن ‪ ..‬ستتزوج من فتاة‬
‫صغيرة يدين لها العاشقين بالطاعة العمياء‪ ،‬ولن تكلفك هذه الزيجة جنيها واحداً ‪ ..‬كل ما‬
‫عليك فعله هو ادعاء وجود خطأ في شهادة الميالد وتعيد تسجيل الفتاة مرة أخرى باسمي‬
‫في خانة األم‪.‬‬
‫لم يستطع سليم حسم األمر بالموافقة أو الرفض‪ ،‬وظل جالسا على كرسيه مستم ار في‬
‫التفكير في شرود بالغ‪ ،‬ثم نظر إلى رحيل من أعلى ألسفل وهى تحتضن طفلته وأخذ‬
‫يستمع إلى صوت لعبها ومداعبتها لها‪ ،‬ثم ارتسمت على وجهه مالمح االبتسامة‪ ،‬بينما‬
‫صوت ضحكات طفلته يمأل سكون ليل قرية عويس الهادئة‪ ،‬ذات المنازل المتالصقة‬
‫وشبابيكها المظلمة في هذا الوقت المبكر من الليل عدا شباك منزل سليم وحده‪ ،‬وهو يتقدم‬
‫نحوه مغلقا بابه وقد بدى ضوء الفجر من بعيد يلوح في األفق معلنا بدء يوم جديد مغاير‬
‫للجميع‪.‬‬

‫‪72‬‬

You might also like