You are on page 1of 29

‫العقل والقلب‬

‫‪1‬‬
2
‫العقل والقلب‬

‫مركز نون للتأليف والترجمة‬

‫‪3‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫‪4‬‬
‫حممد وعلى آله األخيار املنتجبني‪.‬‬
‫رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف اخللق ّ‬
‫احلمد هلل ّ‬

‫مهما تغرّي ت الظروف فإ ّن الفكر األصيل يبقى على أصالته‪ ،‬ومهما تب ّدلت األحوال فإ ّن الكالم احملكم بالدليل يبقى‬
‫على إحكامه‪..‬‬

‫فاألصالة واإلحكام أساس الثبات والدوام‪ ،‬ومن هنا جند اإلمام اخلميين الراحل "قدس سره" يوصي‪..." :‬الطبقة‬
‫المفكرة والطالب الجامعيين أال يدعوا قراءة كتب األستاذ العزيز (الشهيد مرتضى مطهري)‪ ،‬وال يجعلوها‬
‫تُنسى جراء الدسائس المبغضة لإلسالم‪...،‬‬

‫فقد كان عالماً باإلسالم والقرآن الكريم والفنون‬

‫‪5‬‬
‫أي استثناء سهلة ومربِّية‪".‬‬
‫والمعارف اإلسالمية المختلفة فريداً من نوعه‪ ...‬وإن كتاباته وكلماته كلها بال ّ‬

‫وكذلك جند قائد الثورة اإلسالميّة مساحة السيد علي اخلامنئي دام ظله يصفه بأنّه‪:‬‬

‫ط الفكري لألستاذ مطهري هو الخط األساس‬


‫"المؤسس الفكري لنظام الجمهورية اإلسالميّة‪ ...،‬وأ ّن الخ ّ‬
‫لألفكار اإلسالمية األصيلة الذي يقف في وجه الحركات المعادية‪...‬‬

‫إ ّن الخط الذي يستطيع أن يحفظ الثورة من الناحية الفكرية هو خط الشهيد مطهري يعني خط اإلسالم‬
‫األصيل غير اإللتقاطي‪...‬‬

‫وصيّتي أن ال تدعوا كالم هذا الشهيد الذي هو كالم الساحة المعاصرة‪ ...،‬واجعلوا كتبه محور بحثكم‬
‫ودرسوها بشكل صحيح‪"...‬‬
‫وتبادل آرائكم وادرسوها ّ‬
‫مركز نون للتأليف والترجمة‬

‫‪6‬‬
‫حول الكتاب‬
‫مطهري حتت عنوان "العقل والقلب"] مأخوذة من كتاب "حماضرات يف الدِّين‬
‫هذا البحث حملاضرة للشهيد] مرتضى ّ‬
‫واالجتماع"‪.‬‬

‫‪7‬‬
8
‫العقل والقلب‬

‫ويؤجج محاسته على فعل أمر ما؟‬ ‫يشجع اإلنسان ّ‬ ‫‪ -1‬ما الّذي ّ‬
‫يوجه محاسته أو يؤثّر عليها؟‬
‫‪ -2‬هل هناك ما ّ‬
‫‪ -3‬هل هناك صراع بني العقل والقلب؟‬
‫والرتدد عندما نكون يف مقام ترجيح فعل على آخر؟‬ ‫السر يف الصراع الّذي يقوم يف داخلنا ّ‬ ‫‪ -4‬ما ّ‬
‫‪ -5‬ملاذا مل نفلح حىّت اآلن يف بناء جمتمع صاحل؟‬
‫احلل الّذي يق ّدمه اإلسالم يف سبيل حتقيق العدالة االجتماعيّة وبناء اجملتمع الصاحل؟‬
‫‪ -6‬ما هو ّ‬
‫الظن بالنفس‪ ،‬أو نلقي املالمة على اآلخرين؟‬
‫‪ -7‬هل ينبغي أن حنسن ّ‬
‫العدو؟‬
‫‪ -8‬ما هو اجلهاد األكرب؟ وهل هناك جهاد أكرب من الفداء بالنفس ومقارعة ّ‬

‫‪9‬‬
10
‫أبعاد اإلنسان التي تؤثر في فعاليته‬

‫يتمركز يف اإلنسان قطبان يتح ّكمان مبختلف فاعليّته العمليّة وجتلّياته الروحيّة‪:‬‬

‫والتبصر واملنطق واالستدالل‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -1‬العقل‪ّ :‬‬
‫ويسمى بـ"احلكمة" أيضاً‪ ،‬وهو مصدر الفكر‬

‫تشق طريقها‬
‫وتشع اهلدايةُ واالستنارة من هذا البعد اإلنساينّ‪ ،‬والّذي يفتقر إىل ّقوة العقل والبصرية يشبه السيّارة الّيت ّ‬
‫ّ‬
‫فتضل وتتيه يف الطرقات‪ ،‬إذ ال سبيل إىل معرفة املعامل من‬
‫ليالً من غري أن تضيء مصابيحها وال أيّة وسيلة منرية‪ّ ،‬‬
‫غري تلك األنوار‪.‬‬

‫واحلب والتميّن واالنفعال‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -2‬القلب‪ :‬وهو منشأ التجلّيات الروحيّة والنفسيّة‪ ،‬من الرغبة‬

‫وتنبعث من هذا القلب إشعاعات احلرارة واحلركة يف‬

‫‪11‬‬
‫لكل فاعليّة‬
‫يتحول إىل كائن ساكن جامد‪ ،‬كائن فاقد ّ‬
‫كيان اإلنسان‪ ،‬والّذي ميلك قلباً كئيباً ال رغبة فيه وال أمالً‪ّ ،‬‬
‫يف هذا اجملتمع‪ ،‬فيكون يف احلقيقة أقرب إىل املوت منه إىل احلياة‪.‬‬

‫وكل‬
‫فكل عمل يقوم به اإلنسان‪ّ ،‬‬ ‫بكل حركاهتم بل وسكناهتم‪ّ ،‬‬
‫القوتني حتكمان الناس مجيعاً ّ‬
‫ويف الواقع فإ ّن هاتني ّ‬
‫كل ذلك يرتبط مبجموعة من املشاعر والعواطف واالنفعاالت النفسيّة من جهة‪ ،‬وبتدبّر‬
‫كلمة تنبس هبا شفتاه‪ّ ،‬‬
‫وتفكري العقل من جهة أخرى‪.‬‬

‫منشأ واحد ونزاع متوقع‬

‫القوتان من مصدر] واحد هو تلك العني والروح الّيت تغ ّذي اإلنسان بفاعليّتة‪ ،‬ومع ذلك فإ ّن هاتني‬
‫تنبع هاتان ّ‬
‫وتبصره مع مراد القلب وهواه‪ ،‬وقد حيصل صراع بينهما‪ :‬فريى‬ ‫القوتني قد تتوافقان‪ ،‬حبيث ينسجم حكم العقل ّ‬
‫ّ‬
‫العقل صالح أم ٍر ال يستهويه القلب‪ ،‬أو ينجذب ُ‬
‫القلب إىل أمر ال يقتنع العقل بصالحيّته‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫يهز كيان الوالدين يف طول مسرية تربيتهما لألوالد‪ ،‬إذ يستهوي قلبهما رفاهيّة وراحة‬
‫ومثاله‪ :‬ذلك النزاع الّذي ّ‬
‫يتحمل‬
‫حب قرب األوالد واحملافظة عليهم بأفضل ما ميكن‪ ،‬فيما حيكم العقل بضرورة أن ّ‬ ‫وحيل فيه ّ‬
‫األبناء املطلقة‪ّ ،‬‬
‫األوالد بعض املش ّقات يف هذه احلياة وأن خيربوا مصاعب هذه الدنيا‪ ،‬بل رمبا حيكم أحياناً بضرورة أن يذوق‬
‫الوالدان مرارة فراق هذا الولد للسفر مثالً سعياً يف تأمني مستقبله وضمان جناح أكرب يف احلياة‪.‬‬

‫وإما أن‬
‫ملقود عقله‪ّ ،‬‬
‫فإما أن خُي ضع اإلنسان أهواءَ قلبه َ‬
‫القوتني‪ ،‬يربز اختالف بعض الناس‪ّ ،‬‬‫وعند النزاع بني هاتني ّ‬
‫ينجر وراء القلب والعاطفة‪.‬‬
‫وإما أن َّ‬
‫بع العقل ّ‬
‫يُطيع عقلُه هوى قلبه‪ ،‬وبتعبري آخر ّإما أن يتّ َ‬

‫فإذا غلّب سلطا َن عقله فسينعم بأمان االنضباط والتنظيم والسلوك] السليم‪ ،‬وإذا مال إىل املشاعر والعواطف فسريزح‬
‫التصرفات‪.‬‬
‫حتت عبء الالمباالة والتقلّب يف األهواء واملزاجيّة يف ّ‬

‫‪13‬‬
‫تأثير القلب على حكم العقل‬

‫تصرفات اإلنسان وغريه‬


‫قاض يف ساحة وحمكمة اإلنسان الداخليّة‪ ،‬فهو الّذي حيكم على ّ‬ ‫إ ّن العقل يف الواقع هو ٍ‬
‫باحلرية واالستقالليّة‪ ،‬حبيث ال يؤثّر يف عمله وأحكامه من ال شأن وال علم له‬
‫باحلق والبطالن‪ ،‬فإذا متتّع هذا القاضي ّ‬
‫ّ‬
‫احلق ح ّقاً والباطل باطالً‪.‬‬
‫بالقضاء‪ ،‬فسريى األمور على ما هي عليه واقعاً‪ ،‬فريى ّ‬

‫حيب‪ ،‬ال مبقتضى‬


‫احلق‪ ،‬إذ سيحكم مبا يهوى هذا القلب ومبا ّ‬
‫ّأما إذا وقع العقل حتت تأثري القلب فسوف حييد عن ّ‬
‫احلق‪.‬‬
‫ّ‬

‫بصره وأظلم قلبَه (عقله)"‪.1‬‬


‫ورد عن أمري املؤمنني عليه السالم‪" :‬من عشق شيئاً أعشى َ‬

‫وتؤدي إىل جمانبة‬


‫فاحلب والبغض والصداقة والعداوة إذا كان هلا سلطة ما على العقل فإهّن ا تؤثّر يف حكمه وقضائه ّ‬
‫ّ‬
‫احلق واالبتعاد عنه‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬هنج البالغة‪ ،‬من اخلطبة ‪.108‬‬

‫‪14‬‬
‫عين السخط تُبدي المساويا‬
‫كما أ ّن َ‬ ‫كل ٍ‬
‫عيب كليلةٌ‬ ‫وعين الرضا عن ّ‬
‫ُ‬

‫إذاً قد تفقد السلطة القضائيّة يف داخل اإلنسان حريّتها لتقع أسرية القلب وأهوائه‪ ،‬ممّا جيعل أحكامها سقيمة‬
‫وحرة غري مكبّلة بالسالسل‪ ،‬كذلك‬
‫وخمطئة‪ ،‬وكما أ ّن أعضاء اإلنسان ال تستطيع احلركة إاّل إذا كانت طليقة] ّ‬
‫أحكام العقل ال تكون مصيبة ما دامت مقيّدة بسالسل رغبات النفس وأهواء القلب‪.‬‬

‫حسن الظن بالنفس ومالمة اآلخرين‬

‫إ ّن أبرز ميدان لصراع العقل والقلب هو النفس‪ ،‬ذلك أ ّن العقل والقلب] على طريف نقيض يف احلكم على هذه‬
‫كل منهما سعيه ألجل أن يكون املسيطر يف احلكم عليها‪ ،‬ولذا تُع ّد مسألة تربية النفس وهتذيبها‬ ‫النفس‪ ،‬ويسعى ّ‬
‫وتزيينها باألخالق اإلنسانيّة من أصعب األمور وأش ّقها‪.‬‬

‫ويف هذا الصراع قد يتغلّب العقل أحياناً‪ ،‬وأثر ذلك ال حيتاج إىل زيادة بيان وتوضيح‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أي شيء آخر‪ ،‬ذلك‬ ‫العقل على اإلنصياع ألهوائه‪ ،‬وهو أنّه يعشق نفسه وحيبّها أكثر من ّ‬
‫القلب َ‬
‫وأحياناً أخرى جُي رب ُ‬
‫أهم الغرائز الكامنة يف باطن هذا اإلنسان‪ ،‬فيكون أثر ذلك يف النتيجة أن ينظر املرء إىل‬
‫حب الذات من ّ‬‫أ ّن غريزة ّ‬
‫نفسه نظرة إعجاب ورضا‪.‬‬

‫والنظر إىل النفس كذلك نظرة اإلعجاب هبا والرضا عنها يف مجيع األحوال هو مبثابة وضع منظا ٍر ال يرى من خالله‬
‫احلق واحلقيقة يف احلكم عليها‪ ،‬وعليه فسريى أخالقه الرديئة‬
‫الظن هبا دائماً‪ ،‬وهذا ما جيعله حييد عن ّ‬ ‫إاّل حسن ّ‬
‫وأعماله السيئة حسنة‪﴿ :‬أَفَ َمن ُزيِّ َن لَهُ ُسوءُ َع َملِ ِه َف َرآهُ َح َسنًا﴾‪.2‬‬

‫ْحيَ ِاة ُّ‬


‫الد ْنيَا‬ ‫ِ‬
‫ض َّل َس ْع ُي ُه ْم في ال َ‬
‫ين َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫إنّه يرى نفسه طاهراً نقيّاً ال عيب فيه‪﴿ :‬قُ ْل َه ْل نُنَبِّئُ ُك ْم باأْل َ ْخ َس ِر َ‬
‫ين أَ ْع َمااًل ‪ ،‬الذ َ‬
‫ِ‬
‫َو ُه ْم يَ ْح َسبُو َن أ ََّن ُه ْم يُ ْحسنُو َن ُ‬
‫ص ْن ًعا﴾‪.3‬‬

‫الظن بنفسه‪،‬‬
‫وامللفت للنظر أ ّن من يعيش حالة حسن ّ‬
‫‪ -2‬سورة فاطر‪ ،‬اآلية‪.8/‬‬
‫‪ -3‬سورة الكهف‪ ،‬اآليتان‪.104103/‬‬

‫‪16‬‬
‫يعتقد بذلك فعالً وجيزم به‪ ،‬ال أنّه يُبدي خالف ما يعتقده من نفسه‪ ،‬والسبب يف ذلك أنّه يكون وقد سيطر القلب‬
‫حترر‬
‫عليه عاجزاً عن إدراك احلقيقة ورؤية الواقع على ما هو عليه‪ ،‬يكون "قد أغشى بصره"‪ ،‬وذلك نتيجة عدم ّ‬
‫عقله ومنطقه‪.‬‬

‫الظن بالنفس إىل عدم الشعور بالتقصري‪ ،‬فال يرى حاّل ً لألخطاء الّيت يقع هبا إاّل بأن يلقيها على‬
‫وتؤدي كثرة حسن ّ‬
‫ّ‬
‫الظن عن بصريته ليضع‬
‫متربئاً منها‪ ،‬بل إنّه كلّما نظر إىل اآلخرين وما يفعلونه فإنّه ينزع منظار حسن ّ‬‫عاتق اآلخرين ّ‬
‫الظن هبم‪ ،‬وليس هذا إاّل من تسويالت تلك النفس‬ ‫الظن مكانه‪ ،‬وحيكم عليهم مبا يراه حينها فيسيء ّ‬
‫منظار سوء ّ‬
‫األمارة‪.‬‬
‫ّ‬

‫حسن الظن بالنفس ومالمة اآلخرين والمجتمع الصالح‬

‫الظن بالنفس وسوء الظن باآلخرين يؤدي إىل مشكالت إجتماعية ال حصر هلا‪ ،‬فهو حيول دون حتقق‬
‫مث إ ّن حسن ّ‬
‫واحلق‬
‫هبمة سواعد العاملني الذين حيكمون بالقسط ّ‬
‫العدالة اإلجتماعية؛ إذ العدالة اإلجتماعية تقوم ّ‬

‫‪17‬‬
‫على أنفسهم وعلى غريهم‪.‬‬

‫يتحمل اإلنسان مسؤوليّة األخطاء الّيت ميكن أن‬


‫إذاً يرتبط إصالح اجملتمع بشكل مباشر بدفع تسويالت النفس‪ ،‬بأن ّ‬
‫يقع فيها‪ ،‬ويرتك آفّة إلقاء أخطائه على عاتق اآلخرين‪ ،‬والّيت ليست إاّل نتيجة تلك القيود والسالسل الّيت يفرضها‬
‫على عقله وفكره‪ :‬قيود أهواء القلب وسالسل رغبات النفس‪ .‬ولذا فإ ّن اإلسالم عندما ينطلق يف بنائه للمجتمع]‬
‫الصاحل فإنّه ينطلق من تنمية َملَكة العدل واإلنصاف يف نفوس أفراد هذا اجملتمع‪ ،‬بأن ال يتّبع اإلنسان ما توحيه إليه‬
‫يظن هبا السوء دائماً‪ ،‬حتصيناً لنفسه من الوقوع يف َشَركها‪ ،‬كما عن أمري املؤمنني عليه السالم يف بيان‬
‫نفسه بل ّ‬
‫احلقيقي‪" :‬المؤمن ال يصبح وال يمسي إال ونفسه ظنون عنده"‪.4‬‬
‫ّ‬ ‫عالمة من عالمات املؤمن‬

‫عمل سيّئ‪ ،‬لذا‬


‫كل حلظة أن يصدر منها ٌ‬
‫فيحتمل يف ّ‬
‫‪ -4‬هنج البالغة‪ ،‬من اخلطبة ‪.176‬‬

‫‪18‬‬
‫الظن واإلعجاب هبا متجنّباً سيطرة أهواء قلبه‪ ،‬ومسلّطاً يف املقابل‬
‫فهو يراقبها نازعاً عن رؤى بصريته منظار حسن ّ‬
‫املستقل على مجيع ما يريد أن يقوم به‪ ،‬وذلك كحج ٍر ٍ‬
‫أساس يف بناء اجملتمع الصاحل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫احلر‬
‫قضاء العقل ّ‬

‫ين بِال ِْق ْس ِط ُش َه َداء لِل ِّه َول َْو َعلَى أَن ُف ِس ُك ْم أَ ِو ال َْوالِ َديْ ِن‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُواْ ُكونُواْ َق َّوام َ‬ ‫ين َ‬ ‫واآلية الشريفة‪﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ين إِن يَ ُك ْن غَنِيًّا أ َْو َف َق ًيرا فَاللّهُ أ َْولَى بِ ِه َما فَالَ َتتَّبِعُواْ ال َْه َوى أَن َت ْع ِدلُواْ﴾‪.5‬‬
‫َواألَق َْربِ َ‬

‫تشري أيضاً إىل ضرورة حتصيل هذه العدالة االجتماعيّة‪.‬‬

‫ببث روح اإلنصاف يف احلكم على النفس وعلى الناس‪ ،‬فعلى اجملتمع الصاحل‬
‫وما مل تتح ّقق هذه العدالة االجتماعيّة‪ّ ،‬‬
‫السالم‪.‬‬

‫‪ -5‬سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.135/‬‬

‫‪19‬‬
‫اإلسالم والتزام جانب التع ّقل‬

‫ليحرر اإلنسان الّذي يرزح مستسلماً لسطوة تضليل نفسه‪ ،‬جاء ليحطّم تلك‬ ‫إ ّن اإلسالم مبفاهيمه السامية جاء ّ‬
‫ليضع عنهم إصرهم‪ ،‬فقد وصف القرآ ُن احلكيم رسولَه‬ ‫األغالل والسالسل الّيت تكبّل عقول الناس وأرواحهم‪ ،‬جاء َ‬
‫اهم َع ِن الْمن َك ِر وي ِح ُّل ل َُهم الطَّيِّب ِ‬
‫ات َويُ َح ِّر ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫الكرمي صلى اهلل عليه وآله وسلم‪...﴿ :‬يَأ ُْم ُر ُهم بال َْم ْع ُروف َو َي ْن َه ُ ْ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم ‪.6﴾...‬‬ ‫ص َر ُه ْم َواألَ ْغالَ َل الَّتِي َكانَ ْ‬
‫ض ُع َع ْن ُه ْم إِ ْ‬ ‫َعلَْي ِه ُم الْ َخبَآئِ َ‬
‫ث َويَ َ‬

‫اهتم كثرياً هبذا اجلانب‪ ،‬فاعترب تقييد سلطة العقل والتدبّر والتنظيم داءاً خطريا خُي شى أن يسري‬
‫إ ّن اإلسالم قد ّ‬
‫ختوف منه رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله على ّأمته‪" :‬ما أخاف على ّأمتي‬
‫وباؤه يف شرايني هذا اجملتمع الطموح‪ ،‬لذا ّ‬
‫الفقر ولكن أخاف عليهم سوء التدبير"‪.7‬‬

‫‪ -6‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية‪.157/‬‬


‫‪ -7‬رواه أصحاب الصحاح والسنن بتفاوت يسري‪ ،‬راجع صحيح البخاري وكتاب املغازي باب شهود املالئكة بدرا‪ ،‬وسنن ابن ماجة‬
‫ج‪ ،18/2‬كتاب الفنت باب فتنة املال احلديث ‪.3997‬‬

‫‪20‬‬
‫تدمره‪ ،‬وذلك بتقوية سلطان العقل‪ :‬بأن يتّبع‬
‫بنظر اإلسالم إ ّن على املسلم أن ينقذ نفسه من سطوة الشهوات الّيت ّ‬
‫كل عمل يعزم على القيام به‪ ،‬بأن يبعد مزاجه‬
‫املنطق ال املشاعر واألحاسيس والعواطف‪ ،‬بأن يلقي نور بصريته على ّ‬
‫الّذي جيعله يطرح سلطة العقل جانباً ومينعه بالتايل من تبنّي عواقب األمور ونتائجها‪.‬‬

‫العلمي الوافر‪ ،‬أن يتع ّقل ويتف ّكر يف أموره وأن يتجنّب‬
‫ّ]‬ ‫الفكري الوايف وبالرأمسال‬
‫ّ‬ ‫فعلى املسلم‪ ،‬وقد تسلّح باملخزون‬
‫العجلة والسرعة‪ ،‬كما يف وصية الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم لذلك الرجل الّذي جاءه طالباً املوعظة‪ :‬عظين يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فأجابه الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم‪" :‬هل أنت مستوص إن أوصيتك؟"‪.‬‬

‫يرد عليه‬
‫كل مرة ّ‬
‫فكرر الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم سؤاله ثالث مرات‪ ،‬ويف ّ‬
‫فقال الرجل‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ّ ،‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الرجل باإلجياب‪ .‬وأخرياً قال له ّ‬

‫هم ْمت بأم ٍر فتدبّر عاقِبته فإن‬


‫"فإنّي أوصيك إذا أنت َ‬

‫‪21‬‬
‫عاقِبته فإن يك رشدا فامضه‪ ،‬وإن يك غيّا فانته عنه"‪.8‬‬

‫أي تع ّقل األمر وتبصر فيه‪ ،‬وأ ِ‬


‫َحكم سلطة العقل حىّت ال تأخذك شهوة القلب‪.‬‬ ‫ّْ‬

‫النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم يويل أمهيّة استثنائيّة هلذه املوعظة القيّمة‪ .‬يتبنّي ذلك من تشديده صلى اهلل‬
‫وواضح أ ّن ّ‬
‫كرر سؤاله عن ذلك ثالثاً‪.‬‬ ‫عليه وآله وسلم على الرجل بااللتزام هبذه املوعظة إذ ّ‬

‫التعمق يف التفكري ودراسة النتائج والعواقب‪ ،‬وضبط مشاعره الداخليّة‪ ،‬قبل اختاذه قراراً‬
‫فعلى اإلنسان اإلعتياد على ّ‬
‫سريعاً حامساً فيما ينوي القيام به من عمل‪.‬‬

‫فرد عليه‬
‫النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم وطلب] منه النصيحة‪ّ ،‬‬
‫قصة أخرى أ ّن رجالً من األعراب جاء إىل ّ‬
‫ويف ّ‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم جبملة قصرية ومضمون] كبري‪ ،‬إذ قال له‪" :‬ال تغضب!"‪.‬‬

‫وقد كان لنصيحة الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم هذه أثرها يف اجملتمع‪.‬‬

‫فإ ّن الرجل بعد أن رجع إىل قومه متسلّحاً هبذه اجلوهرة‪،‬‬

‫‪ -8‬العالمة اجمللسي‪ ،‬حبار األنوار‪ ،‬ج‪ ،68‬ص‪ ،339‬ينقله عن قرب اإلسناد ص‪.32‬‬

‫‪22‬‬
‫جوهرة حتكيم العقل وعدم االستسالم للقلب] والعواطف‪ ،‬وبنور العقل واملنطق استطاع أن يُطفئ حرباً بني قبيلته‬
‫وقبيلة أخرى أشعلتها العواطف واالنفعاالت‪ ،‬على إثر حادث وقع بني القبيلتني‪.‬‬

‫فمجرد‬
‫يتحول إىل حكيم ذي بصرية بني ليلة وضحاها‪ّ ،‬‬ ‫ويف مقام معاجلة هذه اآلفّة‪ ،‬على اإلنسان أن ال يتوقّع أن ّ‬
‫مرور الزمن ال يكفي ليجعل من املرء رجل عقل ومنطق‪ ،‬بل إ ّن هذه الفضيلة األخالقيّة‪ ،‬كغريها من الفضائل‪،‬‬
‫حتتاج إىل مترين ومراس‪.‬‬

‫للحصول على الملكة األخالقية‬

‫إ ّن جهاد النفس واحلصول على امللكات األخالقيّة الرفيعة واتّباع العقل وترك اتّباع اهلوى ال حيصل تلقائيّاً‪ ،‬كما ال‬
‫يتم على مرحلتني‪:‬‬ ‫مبجرد مرور الزمن والتق ّدم بالعمر‪ ،‬وإمّن ا ّ‬
‫حيصل ّ‬

‫في المرحلة األولى‪ :‬على اإلنسان أن يقف بوجه رغباته وأهوائه‪ ،‬فعند ّ‬
‫كل معركة ونزاع ينشب بني العقل والقلب]‬
‫عليه أن يتجاهل رغبات القلب ويرتضي أوامر العقل‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫األمارة‪ ،‬فعلى‬ ‫في المرحلة الثانية‪ :‬وهي مرحلة التمرين واحلصول على امللكة بالسيطرة ّ‬
‫التامة على هذه النفس ّ‬
‫اإلنسان أن يَلزم نفسه م ّدة طويلة لريبّيها ويث ّقفها بشكل دائم ال يهدأ‪ ،‬فال تكون السيطرة يوماً لرغبات قلبه‪ .‬وينبغي‬
‫أن يكون عقله هو املسلّط على أعماله وأقواله‪ ،‬وحركاته وسكناته‪ ،‬فال تعود نفسه تشتهي أصالً ما ال يرضاه عقله‪،‬‬
‫بأي شكل من األشكال‪ ،‬ويئست من إمكانيّة أن تكون‬ ‫وذلك ألهّن ا إذا علمت بأهّن ا ال ميكن أن تؤثّر يوماً عليه ّ‬
‫السيطرة هلا‪ ،‬فستعتاد مع مرور الزمن على ذلك‪ ،‬وتصبح طيّعة لعقله] وبصريته‪ ،‬ال تطلب سوى ما يطلبه‪.‬‬

‫القصة الّيت‬
‫األمارة يتطلّب نفحة قويّة من القدرة‪ ،‬بل هي القدرة] األمسى‪ ،‬كما ورد يف ّ‬
‫والصراع واجلهاد مع النفس ّ‬
‫مر جبمع من الشبّان كانوا يتبارون يف رفع صخرة ثقيلة ميتحنون‬
‫تُنقل عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم حني ّ‬
‫هبا أشدَّهم وأقواهم‪ ،‬فقال هلم‪" :‬أال أخبركم ِّ‬
‫بأشدكم وأقواكم؟"‪.‬‬

‫قالوا‪" :‬بلى يا رسول اهلل"‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ولكن الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم على خالف ما ظنّوا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقد ظنّوا أنّه سوف خيتار منهم أقواهم عضالً‪ّ ،‬‬
‫"أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم وال باطل‪ ،‬وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول‬
‫الحق‪ ،‬وإذا قدر لم يتعاط لم ليس بحق"‪.9‬‬

‫بقوة الروح‪.‬‬
‫بقوة العضل‪ ،‬بل الّذي ميتاز ّ‬
‫فليس األقوى من امتاز ّ‬

‫األمارة يتطلّب القدرة] األمسى‪ ،‬بل نوعاً من احلرب الداخليّة الّيت هي أش ّد من احلروب العاديّة‬
‫وأل ّن جماهدة النفس ّ‬
‫املتعارفة فإ ّن الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬وبعد أن رجع مع أصحابه من اجلهاد‪ ،‬التفت إليهم وقال هلم‪:‬‬
‫"مرحباً بقوم قضوا الجهاد األصغر وبقي عليهم الجهاد األكبر"‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬وما اجلهاد األكرب يارسول اهلل؟!‪.‬‬

‫فقال "صلى اهلل عليه وآله وسلم"‪" :‬هو مجاهدة النفس‪ ،‬ومجالدة هواها"‪.‬‬

‫‪ -9‬العالمة اجمللسي‪ ،‬حبار األنوار‪ ،‬ج‪ ،72‬ص‪ ،28‬ينقله عن معاين األخبار ص‪.366‬‬

‫‪25‬‬
‫الخالصة‬

‫ببث احلرارة يف كيان هذا اإلنسان‬


‫القوتان اللتان مت ّدان اإلنسان مبختلف فاعليّاته‪ .‬القلب يتكفل ّ‬
‫العقل والقلب] مها ّ‬
‫حتركاته نور البصرية والفكر‪.‬‬
‫التحرك‪ ،‬والعقل يُضفي على ّ‬ ‫ليدفعه إىل ّ‬

‫القوتني يف صراع دائم‪ ،‬نفسه تدعوه إىل االستسالم للشهوات والعواطف‪ ،‬وعقله حي ّفزه على التع ّقل‬
‫إ ّن هاتني ّ‬
‫والتبصر فيما يقوم به‪.‬‬
‫ّ‬

‫وأما إذا وقع أسري القلب فسيكون يف عا ٍمَل من سوء التنظيم‬


‫فإذا ألقى نور بصريته فسينعم باالنضباط والنظام‪ّ ،‬‬
‫والالمباالة‪.‬‬

‫احلق واحلقيقة‪ ،‬إذ حيكم‬


‫إ ّن من آثار االستسالم إىل أحكام القلب أن تصبح أحكام العقل عقيمة سقيمة وجتانب ّ‬
‫العقل حينئذ لصاحل ما يهواه قلبه ويعشقه‪.‬‬

‫حب النفس والذات من أش ّد الغرائز تأثرياً على اإلنسان‪ ،‬ويف‬


‫الظن بالنفس‪ .‬أل ّن غريزة ّ‬
‫ونتيجة لذلك ينشأ حسن ّ‬
‫املقابل يظهر سوء الظن باآلخرين‪ .‬أل ّن قلبه مينعه‬

‫‪26‬‬
‫عن لوم ذاته فيدفعه ذلك إىل قذف األخطاء الّيت يقع فيها على عاتق اآلخرين‪.‬‬

‫الظن باآلخرين من قيام اجملتمع الصاحل‪ .‬إذ قوام اجملتمع الصاحل العدالة االجتماعيّة‬
‫الظن بالنفس وسوء ّ‬
‫مينع حسن ّ‬
‫واحلكم على النفس واآلخرين بالعدل‪.‬‬

‫الداخلي‪ ،‬وحماربة‬
‫ّ‬ ‫لذا فاإلسالم يف بنائه للمجتمع الصاحل ينطلق من هذه النقطة‪ ،‬من إصالح النفس وإقامة العدل‬
‫حسن الظن هبا وسوء الظن باآلخرين‪.‬‬

‫ويف هذا املقام فإ ّن اإلسالم يدعو إىل التع ّقل واالحتكام إىل املنطق دائماً‪ ،‬وجيابه أشكال االستسالم للقلب] وشهواته‪.‬‬

‫املسمى باجلهاد األكرب ألنّه يتطلّب قدرة عالية‪،‬‬


‫هذا األمر جيعل املؤمن يف جهاد دائم مع نفسه‪ ،‬وجهاد النفس هو ّ‬
‫يستمران على طول الزمن‪ .‬فهو يتح ّقق عرب مرحلتني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ويتطلّب مراساً ومتريناً‬

‫األولى‪ :‬الوقوف عند ّ‬


‫كل حادثة نزاع بني العقل والقلب إىل جانب العقل‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يرتفع النزاع بني العقل والقلب‪ ،‬بأن يتّحد ما خيتاره القلب مع ما ينتخبه العقل‪ ،‬وذلك بالسيطرة ّ‬
‫التامة‬
‫على النفس وأهوائها‪.‬‬
‫رب العالمين‬
‫والحمد هلل ّ‬

‫‪28‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫المقدّمة‬
‫‪7‬‬ ‫حول الكتاب‬
‫‪11‬‬ ‫أبعاد اإلنسان الّتي تؤثّر في فاعليّته‬
‫‪12‬‬ ‫منشأ واحد ونزاع متوقّع‬
‫‪14‬‬ ‫تأثير القلب على حكم العقل‬
‫‪15‬‬ ‫حسن الظنّ بالنفس ومالمة اآلخرين‬
‫‪17‬‬ ‫حسن الظنّ بالنفس والمجتمع الصالح‬
‫‪20‬‬ ‫اإلسالم والتزام جانب التعقّل‬
‫‪23‬‬ ‫للحصول على الملكة األخالقيّة‬
‫‪26‬‬ ‫الخالصة‬

‫‪29‬‬

You might also like