Professional Documents
Culture Documents
35343967
35343967
زكريا محمد
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
ديانة مكة في الجاهلية /كتاب َ
زكريا محمد
ميثولوجيا
ال ي�س��مح ب�إعادة �إ�ص��دار هذه المادة �أو �أي جزء منها ب�أي �ش��كل من الأ�شكال �أال ب�إذن
خطي م�سبق من النا�شر
�إهداء
ومع��ذرة على �أنن��ي �أخذت عن��وان كتابيكما .فق��د كان ق�صدي �أنني
تلميذكما ،و�أنني �أخبط بقدمي في الطريق الذي خبطت فيه �أقدامكما.
المحتويات
تمهيد 9.............................................
بين المي�سر والأزالم 19..............................
بين المي�سر والأزالم 21..................................
الفرق بين قداح المي�سر و�أزالم اال�ستق�سام22.....................
ف�صل � 1شخ�صيات لعبة المي�سر27........................
البرِ م 27............................................ َ
الجزار28...........................................
الم ْج َمد 28........................................... ُ
الرقيب30...........................................
الح ْر�ضة 32.......................................... ُ
اليد اليمنى �أم الي�سرى؟32.................................
وظيفة المجول 34......................................
لم ي�أكل لحما بثمن قط36..................................
يت�أله �أم نبالة؟ 38.......................................
ف�صل 2قداح المي�سر 43..............................
القداح 44...........................................
الأغفال بين الربح والخ�سارة 48.............................
بين الأ�صمعي و�أبي عبيدة 50...............................
محاولة اليعقوبي لحل لغز المي�سر 54..........................
محاولة ابن قتيبة الدينوري 56..............................
ف�صل 3القدح المردود 59.............................
القدح الم�ستعار61......................................
الثامن والعا�شر62......................................
�أي�سار لقمان الثمانية 62...................................
العا�شر �أي�ضا64........................................
حن قدح لي�س منها65....................................
�صريع القداح66.......................................
مثنى الأيادي 69.......................................
قدح الخيبة 72........................................
قدح الفوزة المنيح72....................................
خروج المنيح 74......................................
الرقيب وال�ضريب76....................................
الوغد78............................................
نماذج عملية لكيفية لعب المي�سر79............................
ف�صل 4وقت لعبة المي�سر 83...........................
ُج ّماع الثريا87........................................
�سهم الله �أم نجم الله؟ 88..................................
فغور النجم 90........................................
�أفغر النجم91.........................................
الثريا وحفر الآبار93....................................
بين الفداء والدية 95.....................................
بئر �سبع وبئر زمزم 97..................................
الربابة من جديد 98.....................................
الرقم 7ونجم الثريا 100..................................
كواكب يو�سف الأحد ع�شر 101.............................
�صورتان للبقرات ال�سبع الم�صريات مع الإله الثور 105..............
ف�صل � 5أ�سطورة غزال الكعبة 107.......................
حلف المطيبين 111.....................................
بيت الأزالم 112......................................
غزال المطيبين114.....................................
الذبيح وتمثال الذهب 115.................................
دراما دينية 117.......................................
�أبو لهب 119.........................................
�أبو لهب وكب�ش المحرقة123...............................
التقليد اليوناني 125.....................................
ديك ودييك 129.......................................
�أ�سماء وعثمة 130......................................
لم حرم الإ�سالم المي�سر؟ 133..............................
ف�صل :6لقمان بن عاد و�أ�سطورته 139....................
لقمان بن عاد ولقمان الحكيم 140............................
رمح �أبي �سعد 141.....................................
لقمان ومو�سى 143.....................................
ف�صل :7لقمان بين الغنم والإبل 147......................
ابنا تقن148..........................................
لقمان ولقيم والوالئم 152.................................
لقيم الأ�ضحية 153......................................
لبد154.............................................
و�ص ْحر 156..................................
ق�صة لقمان ُ
ف�صل :8لقمان� ،إبراهيم ،عبد المطلب 159..................
هبل والأزالم 163.....................................
خال�صة عامة 166......................................
ملحق /حلف الف�ضول173.............................
تداعيات خروج بني عبد �شم�س من المطيبين 178..................
الم�صادر184........................................ :
8
ديانة مكة في الجاهلية
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
تمهيد
المي�سر �أ�شهر لعبة قمار جاهلية .وقد حظرها الإ�سالم بعد انت�صاره�« :إنما الخمر
والمي�س��ر والأن�ص��اب والأزالم رج�س من عمل ال�شيط��ان فاجتنبوه» (المائدة
.)90ث��م �إنه لم يم�ض قرن عل��ى الحظر حتى ن�سيت اللعب��ة تماما ،وتحولت
كيفي��ة ممار�ستها �إلى لغز .وق��د �أقر �أنا�س من القرن الثان��ي الهجري ،ال �شك
ف��ي علمهم ،ب�أنه ال �شيء لديهم م�ؤكدا عن ه��ذه اللعبة .ينقل ابن �سالم [-150
224ه��ـ] عن �أبي عبيده ،معمر بن المثنى [ 210 - 114هـ] قوله« :وقد �س�ألت
عن��ه [المي�سر] الأعراب ،فقالوا :ال علم لنا بهذا ،لأن��ه �شيء قد قطعه الإ�سالم
من��ذ جاء ،فل�سنا ندري كي��ف كانوا يي�سرون» (ابن �س�لام ،غريب الحديث).
وهكذا ،فمنذ القرن الثاني الهجري ،على الأقل ،لم يعد �أحد يدري بيقين كيف
كان �أه��ل الجاهلية يلعبون المي�سر .وظل الحال كذل��ك في ما بعد ،كما يخبرنا
برهان الدين البقاعي [885-809هـ]« :لم يكن �أحد من �أهل اللغة على ثبت في
كيفية ذلك» (البقاعي ،نظم ال��درر) .ثم و�صلنا �إلى الع�صور الحديثة من دون
�أن يع��رف �أحد كيف كان �أهل الجاهلية يي�سرون �أي�ضا� .أي من دون �أن يتمكن
�أحد من حل لغز هذه اللعبة.
وق��د جرت محاوالت متتابعة على مدى التاريخ العربي لفك هذا اللغز .وكان
�أول م��ن قدم محاولة وافية للت�صدي للغ��ز المي�سر هو الأ�صمعي ال�شهير [121
216 -ه��ـ] .فق��د �ألف كتابا با�س��م «المي�سر والقداح» .لكن ه��ذا الكتاب ُفقد،
ولم ي�صلنا للأ�سف .غي��ر �أننا عرفنا بفكرته الرئي�سية من خالل الجدل �ضدها.
9
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وا�ستن��ادا �إلى هذه الفكرة ،يمكن لنا �أن نحك��م ،بقدر من الثقة ،ب�أن الأ�صمعي
كان هو الوحيد الذي عرف حقا كيف كان المي�سر يلعب� ،أو �أنه ،على الأقل،
الوحي��د الذي امتلك فر�ضية ت�صل��ح �أ�سا�سا لبيان كيف كان يلعب .ول�سنا ندري
كيف تو�صل �إلى هذه الفك��رة .لكن يبدو �أن تفكيره المجرد في اللعبة هو الذي
قاده �إليها.
غير �أن فر�ضية الأ�صمع��ي رف�ضت ب�شدة ،للأ�سف ،ل�صالح فر�ضية معاك�سة.
تن�سب الفر�ضية المعاك�سة ،في �أحيان كثيرة ،لمعا�صره �أبي عبيدة .لكن هناك
من ينفي ن�سبتها �إلى �أبي عبيدة وين�سبها لأبي عمرو ال�شيباني« :فقال �أبو عمرو:
على ع�شرة �أجزاء ،وقال الأ�صمعي :على ثمانية وع�شرين جزءا ،ولم يعرف
�أب��و عبيدة لها ع��ددا» (ابن �سالم ،غريب الحدي��ث) .وكما نرى ،فابن �سالم
ي��رى �أن �أبا عبيدة لم يكن ل��ه ر�أي في مو�ضوع عدد �أجزاء لحم الجزور التي
تج��ري عليها المقام��رة .وقد كان عدد هذه الأجزاء ف��ي مركز ال�صراع بين
النظريتي��ن المتنافرتين .مع ذلك �سنفتر�ض �أن النظري��ة المعاك�سة هي نظرية
�أبي عبيدة.
ومن��ذ �أن رف�ضت فر�ضية الأ�صمعي ،و�سادت فر�ضية �أبي عبيدة ،فقد انغلق �أمر
المي�سر و�أبهم تماما ،و�صار لغزا �أف�شل كل محاوالت الت�صدي له� .أي �أن رف�ض
مقترح الأ�صمعي ل�صالح مقترح �أب��ي عبيدة كان الرقية التي حمت لغز المي�سر،
ومنعته من االنك�شاف.
10
زكريا محمد
�أم��ا اب��ن قتيب��ة [ 276 - 213هـ] فقد �أل��ف كتابا بعن��وان م�شابه تمام��ا( :المي�سر
والق��داح) ،ح��اول فيه �أن ي�سيطر على اللغز و�أن يفك��ه .وقد و�صلنا كتابه كامال
لح�س��ن الحظ .وفي مقدمته يخبرنا اب��ن قتيبة �أن من طلب منه ت�أليف الكتاب فعل
ذلك لأن �أحدا لم يحل له لغز المي�سر:
كتبت ُتعلمني �أن تعلّق قلبك بالمي�سر وكيفيته ،والقداح وحظوظها،«�أما بعد ،ف�إنك َ
واليا�سرين و�أحوالهم ،ومعرفة ما في المي�سر من النفع الذي ذكره القر�آن ،و�أنك
لم تج��د فيه لأحد من علماء اللغة مقاال كافيا ،وال ق��ر�أت فيه لمتقدم خبرا �شافيا.
وي�سهله عليك ،حتى ك�أنك للأمر
ّ وت�س�أل �أن �أكتب �إلي��ك بذلك كتابا يو�ضحه لك،
حا�ض��ر ،وبالقداح يا�س��ر» (ابن قتيبة ،المي�سر والق��داح1342 ،هـ� ،ص .)30
وهكذا فمن طلب من ابن قتيبة ت�أليف الكتاب فقد طلبه لأنه لم يجد لأحد من علماء
اللغة في المي�سر «مقاال كافيا» ،وال قر�أ فيه لمتقدم «خبرا �شافيا».
�أما ابن قتيبة ذاته فيح ّدث الطالب ،ويحدثنا ،عن �صعوبة المهمة:
ّفت رحمك الله �شططا ،وحاولت ع�سي��را ،لأن المي�سر �أمر من �أمور «وق��د ُكل َ
الجاهلي��ة قطعه الله بالإ�سالم ،فلم يبق عند الأعراب منه �إال ال َّنبذ الي�سير ،وعند
علمائن��ا �إال م��ا �أدى �إليه ال�شع��ر القديم ،من غير �أن يجدوا في��ه �أخبارا ت�ؤثر �أو
رواي��ات تحف��ظ .وال�شع��ر ي�ضيق ب��الأوزان والقواف��ي عما يت�سع ل��ه الكالم
المنثور .على �أني لم �أجد في �أ�شعارهم �شيئا في جاللته عندهم وعظيم نفعه...
�إنم��ا يعر�ض في �شعر المكثرين من ذكره البيت��ان والثالثة ،و�أكثرهم ي�ضرب
عن��ه �صفحا ...ولم �أجد فيهم �أحدا �ألهج بذكر القداح من ابن مقبل ثم الطرماح
بع��ده .ول��و جمعت م��ا في �شع��ر �أحدهما من ذكره ل��م نجده بع�شر م��ا فيه من
و�ص��ف حمار �أو بعير .ولم��ا ر�أيت �شغفك بهذا الفن �أحبب��ت �إ�سعافك بما �أمكن
من��ه وتعذر علي منقول العلماء فيه ما تعذر علي��ك ،ولم �أجد ال�سبب [الطريق]
�إل��ى ما التم�سته �إال جمع الأبيات في المي�س��ر وتدبرها ،واال�ستدالل على كيفيته
باعتباره��ا .ففعل��ت ذلك ،و�أودع��ت كتابي هذا منه م��ا �أدى �إليه النظر ،ودل
علي��ه اال�ستخراج .و�أ�س�أل الله �إر�شادنا و�إياك» (اب��ن قتيبة ،المي�سر والقداح،
1342هـ� ،ص .)31-30
11
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وفي هذا الن�ص ي�ؤكد لنا ابن قتيبة جملة حقائق عن المي�سر:
�أوال� :أن المي�س��ر «�أمر من �أمور الجاهلية قطعه الله بالإ�سالم» و�أنه لم «يبق عند
الأعراب منه �إال ال َّنبذ الي�سير» .وهو ما يعني �أن النا�س فقدوه وفقدوا معناه.
ثانيا� :أن علماء اللغة �أي�ضا ال يملكون عن المي�سر �شيئا كثيرا ،فهم لم يجدوا « :فيه
�أخبارا ت�ؤثر �أو روايات تحفظ» .وكل ما لديهم هو( :ما �أدى �إليه ال�شعر القديم).
عليه ،فما نعرفه عن المي�سر ي�أتينا من ال�شعر �أ�سا�سا .كما �أن ال�سبيل �إلى حل لغزه
وتدبرها ،واال�ستدالل
ل��ن يت�أتى �إال عبر «جم��ع الأبيات [ال�شعرية] في المي�س��ر ّ
على كيفيته باعتبارها».
ثالث��ا :لكن ما لدينا عن المي�سر في ال�شعر �إنم��ا مجرد جمل ق�صيرة .فال�شعر ي�شير
وال يق��ول ،يخت�صر وال يطيل� ،أو �أن��ه «ي�ضيق بالأوزان والقوافي عما يت�سع له
ال��كالم المنثور» ،ح�سب تعبير اب��ن قتيبة .ن�ضيف �إلى ذلك �أن جلّ ما و�صلنا في
ال�شعر عن المي�سر �إنما هو �أبيات غم�ضت ب�شدة لبعد الزمن .ثم زاد من غمو�ضها
الت�صحيف الذي حل بها في �أحيان كثيرة.
وعب��ر تف�سير ه��ذه الأبيات الملغزة ،ح��اول ابن قتيبة الدين��وري �أن يجد طريقا
لحل مع�ضالت المي�سر وغوام�ضه :كيفية اللعب ،كيف يخ�سر الخا�سر ،من الذي
يدفع ثمة الجزور ،عدد الح�ص�ص ،عدد القداح عموما ،وعدد القداح الأغفال،
ودوها في اللعب� ..إلخ .لكنه ،رغ��م جهده الكبير ،ف�شل ،مثله مثل اليعقوبي،
في حل لغز المي�سر في اعتقادنا .و�سوف نعر�ض لمحاولته الحقا �أي�ضا.
12
زكريا محمد
لنا البقاع��ي مثال ،قدم لنا في كتابه( :نظم الدرر ف��ي تنا�سب الآيات وال�سور)،
ف�ص�لا طيبا جدا عن المي�سر� ،أتى في �سياق تف�سيره للآيات القر�آنية عن المي�سر.
وف��ي ه��ذا الف�صل جمع لن��ا �أ�شتات المو�ض��وع باخت�صار مفيد ،وف��ي لغة �سهلة
ولطيف��ة .وق��د �ألمح لنا ف��ي هذا الف�صل �أنه ل��م يكلف نف�سه �أ�ص�لا مهمة حل لغز
المي�س��ر( :وبيان المراد م��ن المي�سر عزيز الوجود مجتمع��ا ،وقد ا�ستق�صيت ما
ق��درت عليه منه �إتمام ًا للفائ��دة» (البقاعي ،نظم ال��درر) .بالتالي ،فهو لم يزد
عن �أن عر�ض االختالفات ح��ول المو�ضوع ،من دون التجر�ؤ على المغامرة
بتقدي��م ر�أي مختلف ف��ي الق�ضايا الأ�سا�سية .لكنه للحق �أب��دى قدرا ما من التفهم
لفكرة الأ�صمعي.
ثم �ألف الزبيدي [ 1790 - 1732م] وعلى �أبواب ع�صر النه�ضة ،ر�سالة �سماها:
«ن�شوة االرتياح في بيان حقيقة المي�سر والقداح» .وقد طبعت هذه الر�سالة �ضمن
كتاب بعنوان« :ط��رف عربية» ،جمعه عمر ال�سويدي -وه��و ا�سم الم�ست�شرق
ال�سويدي كارلو الندبرغ -وطبع في ليدن عام 1889م .وعنوان الر�سالة يحمل
اله��م القديم ذاته :هم فك لغز المي�سر .وقد كتبها الزبيدي تعليقا على مادة البقاعي
كم��ا جاء في مقدمة الر�سالة .وقد حدثنا هو الآخر في مقدمته عن �صعوبة المي�سر
وغمو�ض �أمره« :لم �أر �أحدا من الأئمة ب�سط فيه من الكالم ،وال ك�شف عن وجه
مر،
ُمخدراته اللثام ،بل بيان المراد منه عزيز الوجود .وا�ستق�صاء حقيقته ،كما ّ
مفق��ود .و�إنما نتف عبارات �سيق��ت في كتب اللغة والتف�سي��ر .و�شطف �إ�شارات
م�ص��ادم بع�ضها مع بع�ض في التعبير» (الزبي��دي ،ن�شوة االرتياح :في :طرف
عربي��ة ،ليدن 1303 ،ه��ـ� ،ص .)40وهكذا ،فبيان الم��راد من المي�سر عزيز
الوجود .كما �أن ا�ستق�صاء حقيقته غير ممكن لأنها فقدت.
وقد �أملى الزبيدي ر�سالته في نهار واحد كما قال في نهايتها« :هذا ما تي�سر �إمال�ؤه
على االرتجال واال�ستعجال ف��ي مجل�س واحد» (الم�صدر ذاته� ،ص .)55وهو
م��ا يعني �أنه لم يبذل جه��دا حقيقيا لحل �أمر المي�سر على عك���س ما يوحي عنوان
ر�سالته .والحق �أنه يقر في المقدمة �أنه لم يكن م�ؤهال لهذه المهمة« :و�أنا عارف
من نف�سي �أنني في الفن قلي��ل الب�ضاعة» (الم�صدر ذاته� ،ص .)40ف�إذن ،يمكن
13
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الق��ول �أن م�ساهمت��ه اقت�صرت على تق�صي ما �أمكنه من م��ادة مهملة عن المي�سر:
«وق��د جمعتها بمراجع��ة �أ�صول اللغة القديمة .متبعا لمظانه��ا في المواد التي هي
عن��د غي��ري عديمة» (الم�ص��در ذاته��� ،ص .)41وهو �أمر ي�شكر ل��ه� .أما غير
ذلك ،فقد �سار على الطريق القديم ذاته ،غير مقدم لمن يقلقه �أمر المي�سر «ن�شوة
االرتياح»� .أي �أن لغز المي�سر ظل على ما هو عليه.
ثم ق��دم لنا عبد ال�سالم هارون في خم�سينيات القرن الما�ضي كتابا بعنوان (المي�سر
أيت -حفظك والأزالم) ،يق��ول لنا في مقدمته على طريقة الكتاب القدماء« :فقد ر� ُ
الله -ح��ول هذا المي�سر وتل��ك الأزالم ظالما متراكب��ا �أردت تبديده» (هارون،
المي�سر والأزالم� ،1953 ،ص .)5غير �أن الكتاب لم يبدد قطع الظالم المتراكب
ح��ول المي�سر ،واكتفى بتقليد من �سبقه ووافقه .وهو يق��ر بهذا ب�شكل ما في مقدمة
كتابه« :فمن هذا يت�ضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة ،وك�شف به الد�ستور الذي
كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب المي�سر» (الم�صدر ذاته� ،ص .)7
وهك��ذا فابن قتيبة كان قد «ك�شف د�ستور المي�س��ر» من قبل .بالتالي ،فال مجال
للإع�لان عن ك�شفه من جديد .عليه ،يمك��ن افترا�ض �أن هدفه لم يكن في الواقع
�سوى التغلب على اال�ستطراد والح�شو ،و�إ�شاعة النظام في هذه المادة ،كما يقول
معلق��ا على منهج ابن قتيبة( :على �أن ابن قتيبة كت��ب هذا البحث بلغة معا�صريه،
وق��ارب منهجهم الذي ال ي�سوده النظام الكامل ،وي�شيع فيه اال�ستطراد والح�شو)
(الم�ص��در ذاته� ،ص .)7وبالفعل فقد نجح هارون ف��ي تقديم كتاب من�سق على
الطريق��ة الحديثة يجعل الق��ارئ العادي قادرا على الو�صول �إل��ى المادة القديمة
ح��ول المي�سر ب�سهولة وي�سر .وه��ذه م�أثرة تح�سب له .لكن لع��ل الهدف الفعلي
والأعم��ق للكتاب كان اجتماعيا في الواقع كما يت�ضح من العنوان الكامل للكتاب:
«المي�سر والأزالم؛ درا�سة اجتماعية �أدبية ودعوة �إلى �إ�صالح اجتماعي» .عليه،
فالأم��ر يتعلق بدعوة اجتماعية .ويت�ضح هذا م��ن مقدمة الكتاب« :حقا �إن الدولة
�أح�سن��ت �صنعا ب�أن حظرت لعب المي�سر على موظفيها ،ولكن موظفيها لي�سوا �إال
طائف��ة قليلة في هذا ال�شع��ب ،و�إن المي�سر يتخذ �صورا �شت��ى �صغيرة في مقاهي
القري��ة والمدينة ،ويبتز �أم��وال الفقراء الكادحين ،ويوقع الع��داوة والبغ�ضاء»
14
زكريا محمد
وكان ق��د �سب��ق كتاب عبد ال�س�لام هارون كت��اب حديث �آخر لمحم��ود �شكري
«الم�س ِفر عن المي�سر» لكنه لم يطبع حتى
الآلو�س��ي [ 1924 - 1856م] بعنوانُ :
الآن ،ف��ي ما يبدو .ولم ن�ستطع العثور على ن�سخة مخطوطة منه المتحان مادته
واال�ستفادة منها.
�أما نحن ف�سنحاول �أي�ضا �أن نقدم كتابا عن المي�سر يو�ضحه للقارئ المعا�صر «حتى
ك�أنه بالقداح يا�سر» ،كما قال ابن قتيبة� ،أي ك�أنه واحد من العبيه وممار�سيه� .أي
�أننا �سنجر�ؤ على التفكي��ر في ما فكر فيه كل من الأ�صمعي وابن قتيبة واليعقوبي:
حل لغز المي�س��ر .نعم� ،سنغامر من جديد بحمل الوع��د القديم نف�سه؛ وعد ك�شف
لغز المي�سر ،وا�ستعادة هذه اللعبة التي �ضاعت.
و�سوف نت�صدى له��ذه المهمة ا�ستنادا �إلى ما ا�ستند �إليه ابن قتيبة وغيره� ،أي �إلى
ال�شع��ر� ،إ�ضافة �إل��ى عدد من الجمل النثرية الت��ي وردت في �سياق الحديث عن
�شخ�صي��ات المي�سر وقداحه .و�س��وف نعمد �إلى الجمل ال�شعري��ة والنثرية فنقلبها
عل��ى وجوهه��ا ،ون�ستغرقها ،ون�ستنزفها حتى نرغمها عل��ى البوح بما لم تبح به
لم��ن قبلنا عن لعب��ة المي�سر� .إذ نعتق��د �أن العديد من هذه الجمل ل��م تفهم من قبل
القدماء ،و�أن معناها فاتهم.
وبما �أن الأبيات ال�شعرية حول المي�سر تمثل في غالبها �ألغازا ،وبما �أن العدد الأكبر
م��ن الجمل النثرية عنه تمثل �أي�ضا �أحاجي غام�ضة ،ف�سوف يكون كتابنا ،بامتياز،
كتاب��ا في تفكي��ك الألغاز وك�شف الأحاجي .وهذا ما قد يجعل��ه �صعبا� ،إلى حد ما،
على القارئ غير ال�شغوف� .إنه في الحقيقة كتاب للقارئ الف�ضولي ال�شغوف.
�أوال� :أنه��ا لن تكتفي بمحاولة فك الأ�سرار الفني��ة للعبة ،وتو�ضيح طريقة لعبها،
ب��ل �ستحاول تبيان جذر اللعب��ة� ،أي ك�شف الأ�صل الذي انبثق منه المي�سر .وهو
15
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
م��ا �سيقودها �إلى درا�سة �أبيها الأ�سطوري :لقمان بن عاد ،الذي ت�شكل �أ�سطورته
واح��دة من �أهم الأ�ساطير العربية و�أ�شدها كثافة وقوة .بالن�سبة للقدماء كان يمكن
فه��م اللعبة من دون فهم لقمان� .أما بالن�سبة لن��ا ،فما لم نفهم لقمان و�أ�سطورته،
فلن نفهم بعمق لعبة المي�سر.
ثانيا� :أن محاولتنا �سننطلق من فر�ضية تقول بالأ�صل الديني لهذه اللعبة ،بل و�أنها
ربما انبثقت من طق�س ديني .كم��ا �أنها على عالقة وطيدة باال�ستق�سام بالأزالم،
ال��ذي هو ممار�سة دينية بال جدال .بل ولع��ل المي�سر واال�ستق�سام انبثقا من �أ�صل
واح��د .فوق هذا ف�إن �أباها الأ�سطوري ،لقمان بن عاد� ،شخ�صية دينية بامتياز.
عليه ،فكتابنا هذا ي�أتي في �سياق جهدنا المتوا�صل لفهم ديانة العرب في الجاهلية.
�إنه جزء متمم لكتبنا ال�سابقة ،ولي�س انفرادا عنها.
ولع��ل مدخلن��ا الديني �أن يك��ون نقطة تفوقنا عل��ى العلماء الأج�لاء قبلنا ،وعلى
الأخ�ص العالم الكبير الذي ال يجارى :ابن قتيبة الدينوري .فنحن ال نجاريه في
علمه ،بل نتفوق عليه في المدخل ،ال غير .وهو تفوق يعود �إلى اختالف و�ضع
زمننا عن زمنه .و�سوف يوفر لنا مدخلنا هذا مادة جديدة حول المي�سر .ذلك �أن
هناك مواد لي�س��ت قليلة الحجم لم يكن �أحد يرى �أنها ذات عالقة بالمي�سر� ،سوف
نثبت �أن لها عالقة به ،ون�ستخدمها في ك�شف �ألغازه.
وفي �سياق مبحثنا �سوف نكت�شف �أن هذه اللعبة على عالقة متينة بطق�سين جاهليين
مركزيين و�شهيرين ،لم يكن �أحد من القدماء يفكر �أنه قد يكون لهما عالقة بها:
الأول :طق���س الذبي��ح ال�شهي��ر ،الذي نعرفه من خ�لال ق�صة عب��د الله بن عبد
المطل��ب الذبيح ،والد الر�سول ،ومن خ�لال ق�صة الذبيح �إ�سماعيل بن �إبراهيم.
وقد عر�ضنا لطق�س الذبيح ب�شكل مف�صل في كتابنا الأ�سبق( :ديانة مكة في الجاهلية:
كتاب الحم�س والطل�س والحلة).
الثان��ي :طق�س �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه .وهو طق���س �أ�سطوري كان يتم فيه
ا�ستع��ادة الزمن البدئي ،الزم��ن الأول ،في مكة بطريقة درامي��ة� .أي �أنه كان
يت��م تمثيل الحدث البدئي ال��ذي انق�سمت انطالقا منه قري���ش ،كما يفتر�ض� ،إلى
16
زكريا محمد
ب��ذا فالكتاب درا�سة في طقو�س ثالثة« :طق���س» المي�سر ،طق�س الذبيح ،وطق�س
غ��زال الكعبة .وهي طقو�س تتراكب عل��ى بع�ضها ،وينبثق واحدها من الآخر،
كما �سن��رى .لكن تركيزنا �سيكون على المي�سر وعل��ى طق�س غزال الكعبة ،فقد
عر�ضنا لطق�س الذبيح بتو�سع في كتابنا المذكور �أعاله.
و�س��وف يك��ون تحليلنا لطق�س غ��زال الكعبة خا�صة نموذج��ا للطريقة التي يجب
اتباعها في التعامل مع ال�سرد الذي و�صلنا عن الجاهلية .فما يقدم لنا كطبق واقعي
ب�ش��كل م�ؤكد هو ،في غال��ب الأحيان ،طبق ميثولوجي .فجمل��ة كبيرة جدا من
ال�سرد الذي قدمه لنا ع�صر التدوين عن الجاهلية يقع في باب الميثولوجيا ،ال في
باب الواق��ع والتاريخ .وهذا �أمر عادي تماما .فال�شع��وب في فترتها ال�شفوية ال
ت�سج��ل لنا عادة الوقائع الفعلية ،الحقيقية ،بل ت�سجل الوقائع الميثولوجية �أ�سا�سا.
فالوقائ��ع الميثولوجية ه��ي التاريخ الحق عندها ،وهي الأح��داث الحقيقية الأ�شد
واقعي��ة .فوق هذا ،ف�إن الذاكرة ال�شفوية المحدودة لن تتمكن �أ�صال من االحتفاظ
بالأح��داث الواقعية المت�شعبة والمتكاث��رة� .إنها بالكاد تكف��ي لالحتفاظ بالحقائق
الدينية ،وحقائق التغيرات الف�صلية وت�أثيراتها ،التي ال يمكن من االحتفاظ بها �إال
عبر تنظيمها في �أنماط قولية تمكن من ا�ستعادتها وتكرارها ب�سهولة.
17
18
بين المي�سر والأزالم
تق��وم لعب��ة المي�سر ،وه��ي لعبة القمار الأول��ى عند عرب الجاهلي��ة ،على نحر
ج��زور� ،أي ناقة �أو جمل ،وتقطيع لحمها �أو لحمه ،ثم تق�سيمه �إلى ح�ص�ص ،ثم
المراهنة على هذه الح�ص�ص بالقداح� ،أي بال�سهام ال�صغيرة التي ال ن�صل فيها وال
ري���ش .ومعنى اال�سم (مي�سر) غام�ض .ولم يتم حتى الآن و�ضع اقتراح مر�ض
ي�سكت الجدل ب�ش�أنه� .أما االقتراحات الأ�سا�سية فكانت كما يلي:
�1.1أن��ه من الي�سر بمعنى الغن��ى .ذلك �أن �أي�سار مكة والع��رب� ،أي �أغنياءهم،
ه��م من كانوا يمار�سون هذه اللعبة .كما �أن الرابح ال ي�ستفيد من ربحه ،لأنه
�سي��وزع اللحم على الفقراء ،في حي��ن �أن الخا�سر هو من يدفع الثمن .وهذا
�أمر ال يقدر عليه �إال الأغنياء.
�2.2أنه يعني التقطيع« :ي�سر القوم الجزور� :أَي اجتزروها واقت�سموا �أَع�ضاءها»
(ل�سان العرب).
�3.3أن المي�س��ر ه��و الذبيحة نف�سه��ا ،و�أن المعن��ى �آت من التقطي��ع واالقت�سام:
يج��ز ُ�أ �أَ ْج��زاء فك َ�أنه مو�ضع
ّ «المي�س��ر :الجزور نف�س��ه� ،سم��ي َم ْي ِ�س��ر ًا لأَنه
التجزئ��ة .وكل �شيء جز�أت��ه ،فقد ي�سرته» (ل�سان الع��رب) .ويخيل لنا �أن
معنى التقطيع في الجذر طارئ� ،أي �أنه �أُخذ من اللعبة ذاتها.
5.5وذهب �آخ��رون �إلى �أنه م�شتق من الي�سر �أي الوجوب« .المي�سر م�أخوذ من
الي َ�سر ،وهو وجوب ال�شيء ل�صاحبه؛ يقال َ :ي َ�سر لي كذا� :إذا وجب» (تف�سير
َ
القرطبي)� .أي �أن المي�سر هو ما يجب على المقامر في اللعب.
19
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
6.6وق��د تقدم توفيق فهد باقتراح مختلف تماما .فهو يربط اال�سم باليد الي�سرى،
متو�صال �إلى �أنها لعبة الأع�سر« :ولأن الحر�ضة ،على الأرجح ،كان يحرك
القداح وي�سحبها بيده الي�سرى ،ف�إن اللعبة �أخذت ا�سم هذه اليد ...وعلى هذا
النح��و ف�إن المي�سر �صار بب�ساطة ،ول�سبب ما «لعبة الأع�سر»» (فهد ،الكهانة
العربي��ة قبل الإ�سالم��� ،2007 ،ص .)155و�سوف نعر�ض لهذا االحتمال
في �سياق حديثنا عن �شخ�صيات لعبة المي�سر.
�7.7أم��ا نحن فن�ضع احتمال �أن يك��ون اال�سم على عالقة بتي�سي��ر الماء وال�سوائل،
�أي ب�إطالق��ه ووق��ف انحبا�سه ،ودفعه �إلى التدفق .وه��ذا نابع من اقتناعنا بان
لعب��ة المي�سر على عالقة بطق�س الذبيح ،الذي ه��و ،في نهاية المطاف ،طق�س
الي�سر» �أو
ا�ستخراج الماء ال�سفلي .وي�ؤيد هذا �أن ثمة عودا �سحريا يدعى «عود َ
«عود الأ�سر» ،مهمته �إطالق بول من احتب�س بوله ،حيث �أن الأ�سر �أو الي�سر
هو احتبا�س الب��ول�« :شمر عن ابن الأعرابي :هذا عود �أ�سر وي�سر :وهو الذي
يعالج به الإن�سان �إذا احتب�س بوله» (ل�سان العرب) .ويبدو �أنه ي�ستخدم لإطالق
ب��ول الحيوان��ات �أي�ضا« :وف��ي حديث ال�شعب��ي :ال ب�أ�س �أن يعلّ��ق الي�سر على
الداب��ة .الي�سر بال�ضم عود يطلق الب��ول .قال الأزهري هو عود �أ�سر ال ي�سر.
والأ�س��ر احتبا�س الب��ول» (ابن الأثير المحدث ،النهاي��ة في غريب الحديث).
ورغ��م �أن الغالبية ت�أخذ بق��ول الفراء والأزهري� ،أي تواف��ق على �أنه «عود
�أ�سر» ال «عود ي�سر» ،فمن المحتمل �أنه بال�صيغتين ،على ر�أي ابن الأعرابي.
ف��ي كل حال ،ف�س��وف يت�ضح لنا في �سي��اق الكتاب ارتباط لعب��ة المي�سر بطق�س
الذبي��ح ،الذي هو جوهريا طق�س �إطالق الماء التحتي وال�سماح بانبثاقه من تحت
الأر�ض عبر حفر الآبار والعيون.
ثمة خلط في الم�صادر العربية بين اال�ستق�سام بالأزالم والمي�سر .وهو خلط نابع من
�أدواتهما .فهما مع��ا ي�ستخدمان ال�سهام غير المن�صلة .فهناك من يقول �أن الأزالم
20
زكريا محمد
هي قداح المي�سر« :قال الم�ؤرج وجماعة من �أهل اللغة� :إن الأزالم قداح المي�سر»
(ل�س��ان الع��رب) .ي�ضيف �آخر« :قيل :ه��و [=الأزالم] المي�س��ر» (الزمخ�شري،
الك�ش��اف) .غير �أن هناك من يرف�ض هذا ،ويف��رق ب�شدة بين اال�ستق�سام بالأزالم
والمي�سر ،وبين الأزالم وقداح المي�سر؛ فالأزالم �سهام اال�ستق�سام ،والقداح �سهام
المي�سر« :فهذا الحديث [حدي��ث �سراقة] يبين لك �أن الأزالم قداح الأمر والنهي،
ال ق��داح المي�سر» (ل�سان العرب) .وهناك ر�أي غري��ب يقول �أن الأزالم ح�صى
بي�ض« :وذك��ر محمد بن جرير� :أن ابن وكيع حدثهم عن �أبيه عن �شريك عن �أبي
ح�صي��ن عن �سعيد ب��ن جير �أن الأزالم ح�صى بي�ض كان��وا ي�ضربون بها» (تف�سير
القرطبي) .غير �أنه ر�أي منفرد ،لم يدعمه �أحد.
وال�صحي��ح �أن المي�سر واال�ستق�سام ي�ستخدمان ال�سهام .لكن قداح اال�ستق�سام غلب
عليها ا�سم الأزالم .ويقوم العمل بها على طلب حكم في ق�ضية ما� ،أو طلب «نهي
�أو �أمر» ح�سب مقتب�س ل�س��ان العرب �أعاله� .أما �سهام المي�سر� ،سهام المقامرة،
فق��د غلب عليها ا�سم القداح ،رغم �أن الق��داح والأزالم �شيء واحد �أ�سا�سا .فهما
�سه��ام ق�صي��رة غير من�صل��ة وال مري�شة .وهو م��ا يو�ضحه لنا بدق��ة عبد ال�سالم
هارون« :والزل��م ،وال�سهم والقدح ...مترادفة المعاني ،تدل كلها على قطعة
م��ن غ�صن م�شذبة .و�أكثر م��ا ي�ستعملون «الزلم» ف��ي «اال�ستق�سام» ...و�أكثر
م��ا ي�ستعملون «ال�سه��م» في �سهم القو�س ال��ذي يرمى به ،و�أكثر م��ا ي�ستعملون
الق��دح في قداح المي�سر ...وكل ه��ذه الألفاظ ينوب عن الآخر في اال�ستعمال»
(هارون ،المي�سر والأزالم� ،1953 ،ص .)16
وهكذا ،فالقداح والأزالم وال�سهام مترادفات تعني ال�شيء ذاته .لكن الذي ح�صل
�أن ه��ذا اال�سم «�أزالم» غلب في لحظة ما على �سهام اال�ستق�سام خا�صة ،في حين
غل��ب ا�سم «القداح» على �سه��ام المي�سر� .أكثر من ذلك فقد �صار اال�سم «�أزالم»
ا�سما لال�ستق�سام ذات��ه� ،أي ا�سما للعملية التي يتم بموجبها طلب حكم تنب�ؤي محدد
م��ن خالل الأزالم .وهكذا ورد في القر�آن�« ،إنم��ا الخمر والمي�سر والأن�صاب
والأزالم رج���س من عم��ل ال�شيطان فاجتنبوه» (�س��ورة المائدة .)90فالأزالم
في الآية تعن��ي اال�ستق�سام .وورودها منف�صلة عن المي�سر ت�أكيد على �أن الأزالم
21
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�أما الذي يفرق بين قداح المي�سر «القداح» و�أزالم اال�ستق�سام ف�شيئان:
فقداح المي�سر ،معلمة بحزوز تحدد قيمة ربحها �أو خ�سارتها� .أما �أزالم اال�ستق�سام
فعليه��ا عالمات ما ،لكنها لي�ست حزوز قيمة مثل قداح المي�سر« :والأزالم كانت
لقري�ش في الجاهلية مكتوب عليها �أمر ونهي ،وافعل وال تفعل» (ل�سان العرب).
لكن ال يقال لنا ما نوع هذه الكتابة ،وهل هي كتابة كلمات �أم عالمات وخدو�ش.
غي��ر �أننا نعتقد �أن العالمات على هذه الأزالم ال ب��د �أن تكون عالمات ب�سيطة،
تبين الأمر والنهي ،الإثبات �أو النفي فقط .بالتالي ،فمن المنطقي �أن يحمل الزلم
الواحد عالمة واحدة .لنقل مثال خد�شا� ،أو نقطة تفيد معنى النفي �أو الإثبات.
�أم��ا بخ�صو�ص النظام ،فنظ��ام قداح المي�سر �سباعي .فالأ�سه��م التي ت�شارك في
المقام��رة ،وعليها حزوز قيمة ،ه��ي �سبعة .كما �أن من يتقام��رون عليها �سبعة
�أي�ض��ا .وهناك ثالثة غفل� ،أي خالية م��ن العالمات ،وال ت�شارك في المقامرة.
�أما �أزالم اال�ستق�سام فثنائية النظام� .أي �أن الف�صل في �أي �أمر فيها يتم بين خيارين
اثني��ن فقط« :و�أما الأزالم ،ف�إن العرب كانت �إذا كانت بينها مدار�أة� ،أو نكاح،
22
زكريا محمد
�أو �أم��ر يريدونه وال يدرون ما الأمر فيه ولم يت�ضح لهم� ،أخذوا قداحا لهم :فيها
افع��ل وال تفعل ،ونعم وال ،وخير و�شر ،وبطيء و�سريع ...فكانوا يجيلونها،
فم��ن خرج �سهم��ه ،فالحق له .وللح�ض��ر وال�سفر �سهمان .في�أت��ون ال�سادن من
�سدن��ة الأوث��ان .فيقول ال�س��ادن« :الله��م �أيهم��ا كان خيرا ف�أخرج��ه لفالن».
فير�ض��ى بما خرج له .و�إذا �شكوا في ن�سب الرجل �أجالوا القداح ،وفيها� :صريح
دع ّي��ا .و�إن خرج القدحومل�ص��ق .فان خ��رج ال�صريح �ألحقوه بهم ول��و كان ِ
ال��ذي فيه مل�صق نف��وه و�إن كان �صريحا .فهذه ق��داح اال�ستق�سام» (ابن حبيب،
المحب��ر) .وهكذا ،فلل�سفر �سهم��ان فقط :افعل وال تفع��ل� ،أو نعم وال ،وللن�سب
�سهم��ان� :صريح ومل�صق ،وللخالفات �سهمان ،الخ� .أي �أنه يتم االقتراع دوما
بين �أمرين ،ف�إما �أن يخرج �سهم هذا ال�شيء �أو ذاك� ،سهم النفي �أو �سهم الإثبات:
«اال�ستق�سام بالأزالم :وكانوا في الجاهلي��ة �إذا �أرادوا �أن يف�صلوا بين م�شتبهين،
�أو يخت��اروا �أحد �أمرين� ،أو يتعرفوا الح��ظ ...ا�ستق�سموا بالقداح فما خرج منها
م��ن �شيء عمل به» (ابن قتيب��ة ،الأ�شربة والأطعم��ة)� .إذن ،فاال�ستق�سام ثنائي
يق��وم على النفي �أو الإثبات ،ويحتاج لخروج �سهم واحد فقط من بين اثنين ،في
حي��ن �أن المي�سر �سباعي الطابع� ،أي �أن �سبعة �سهام يجب �أن تخرج� ،إ�ضافة �إلى
�أنه ال يقوم على النفي والإثبات.
غي��ر �أن هناك من يحدثنا عن نظ��ام ثالثي ،ال ثنائي ،لال�ستق�س��ام« :وا�ستعملوا
والمترب�ص» (الجاحظ ،الحي��وان) .ورغم �أنِّ في القداح :الآم��ر ،والناه��ي،
الجاحظ يتح��دث عن القداح ،فمن الوا�ضح �أنه يق�صد ق��داح اال�ستق�سام .وهو ما
ي�ؤيده خبر البن ه�شام الكلبي ،الذي يحدثنا عن ثالثة قداح:
«لم��ا �أقب��ل ام��ر�ؤ القي���س ب��ن حج��ر ،يري��د الغ��ارة عل��ى بن��ي �أ�س��د ،م��ر
بذي الخل�ص��ة ،وكان �صنم��ا بتبالة .وكان��ت العرب جميعا تعظم��ه .وكانت له
ثالثة �أق ُدح :الآمر ،والناهي ،والمترب�ص ،فا�ستق�سم عنده ثالث مرات .فخرج
ع�ض�ضت ب�أير �أبيك! لو
َ الناهي .فك�سر القداح ،و�ضرب بها وجه ال�صنم ،وقال:
كان �أبوك ُقتل ،ما عوقتني .ثم غزا بني �أ�سد ،فظفر بهم .فلم ي�ستق�سم عنده ب�شيء
حتى جاء الله بالإ�سالم» (ابن الكلبي ،الأ�صنام).
23
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وهك��ذا ،فهن��اك �سه��م ثال��ث متع��ادل بي��ن ال�سهمي��ن المتعاك�سي��ن .وا�سم هذا
«المترب���ص» .والترب���ص ه��و االنتظ��ار .ج��اء ف��ي �س��ورة البق��رة:
ّ ال�سه��م
«والمطلقات يترب�صن ب�أنف�سه��ن ثالث��ة ق��روء» (البق��رة� .)228 :أي عليهن �أن
ينتظرن مرور الع ّدة ،وهي ثالث حي�ضات� ،أي ثالثة �شهور قمرية تقريبا ،قبل
يقت��رن ثانية� .إذن ،فخ��روج هذا ال�سهم يرجئ الحك��م ،وي�ضطر الم�ست�سقم ّ �أن
�إل��ى �أن يعيد الكرة« :ف���إن خرج الآمر فعل� ،أو الناهي ت��رك� ،أو الغفل �أجيلت
[ال�سهام] ثانية» (البقاعي ،نظم الدرر) .وبناء على كالم البقاعي هذا ف�إن ال�سهم
الثالث من �سهام اال�ستق�سام غفل من العالمات ،مثل �سهام المي�سر الأغفال .وهذا
�أن �سهمي��ن فق��ط يحمالن العالمة فق��ط .بناء عليه ،فنظ��ام اال�ستق�سام ثالثي في
الأ�صل ولي�س ثنائيا ،لكن �أهمل الحديث عن ال�سهم المتعادل الذي يرجئ الحكم،
واكتفي بال�سهمين الآخرين� ،سهم النفي و�سهم الإثبات.
غي��ر �أن اب��ن �إ�سحق يقدم لنا خبرا مربكا عن نظام �سباع��ي في اال�ستق�سام �أي�ضا.
وهو يربط هذا النظام بال�صنم هبل:
«وكان عن��د هب��ل قداح �سبعة ،كل ق��دح منها فيه كتاب [كتابة] .ق��دح فيه العقل
[الدي��ة] �إذا اختلف��وا ف��ي العقل من يحمل��ه منهم� ،ضرب��وا بالق��داح ال�سبعة :ف�إن
خ��رج العق��ل فعلى من خرج حمل��ه .وقدح فيه نع��م للأم��ر �إذا �أرادوه ي�ضرب
ب��ه في الق��داح ،ف�إن خرج ق��دح نعم عملوا به .وق��دح في��ه ال� ،إذا �أرادوا �أمرا
�ضرب��وا به ف��ي القداح ،ف�إن خرج ذل��ك القدح لم يفعلوا ذل��ك الأمر .وقدح فيه
منك��م .وق��دح فيه مل�صق .وق��دح فيه من غيركم.وق��دح فيه المي��اه �إذا �أرادوا
�أن يحف��روا للم��اء �ضربوا بالق��داح وفيها ذلك الق��دح ،فحيثما خ��رج عملوا به
وكانوا �إذا �أرادوا �أن يختنوا غالما� ،أو ينكحوا منكحا� ،أو يدفنوا ميتا� ،أو َ�شكّ وا في
ن�سب �أحدهم ،ذهبوا به �إلى هبل وبمائة درهم وجزور ،ف�أعطوها �صاحب القداح
ال��ذي ي�ضرب بها ،ثم قربوا �صاحبهم الذي يري��دون به ما يريدون ،ثم قالوا :يا
الح��ق فيه .ثم يقولونَ �إلهن��ا ،هذا فالن بن فالن ق��د �أردنا به كذا وكذا ،ف� ْأخرِ ج
ل�صاحب القداح :ا�ضرب ،ف�إن خرج عليه «منكم» كان منهم و�سيطا ،و�إن خرج
عليه «من غيركم» كان حليفا ،و�إن خرج عليه «مل�صق» كان على منزلته فيهم،
24
زكريا محمد
ال ن�س��ب له وال حلف ،و�إن خرج فيه �شيء مما �س��وى هذا مما يعملون به «نعم»
عملوا به ،و�إن خرج «ال»� ،أخروه عامه ذلك حتى ي�أتوه به مرة �أخرى ،ينتهون
في �أمورهم �إلى ذلك مما خرجت به القداح» (�سيرة ابن �إ�سحق).
وكما نرى فالمقتب�س محير جدا .ففي البدء يوحي لنا ب�أن النظام �سباعي «�ضربوا
بالقداح ال�سبعة» ،لكنه يتحدث تاليا عن نظام ثنائي �أو ثالثي .ويبدو �أن الت�شو�ش
نات��ج ع��ن خلط النظ��ام بالمو�ضوعات .فالنظ��ام ثنائي �أو ثالث��ي ،في حين �أن
مو�ضوع��ات اال�ستق�س��ام االعتيادي��ة هي التي تك��ون �سبعة :نه��ي و�أمر ،مياه،
دية� ،إلخ .بذا ،نفتر�ض �أن لكل مو�ضوع من هذه خت��ان ،نكاح ،ن�سب ،عقلّ -
الموا�ضيع ثالثة �سهام� .أي �أنه ربما كان هناك � 21سهما للبت في هذه الأمور.
وهن��اك ن���ص لليعقوب��ي يحم��ل الت�شو�ش ذات��ه� .أي في��ه حديث ع��ن �سبعة قداح
لال�ستق�س��ام ،ث��م حديث عن ا�ستق�سام ثنائ��ي« :وكانت القداح �سبع��ة :فواحد عليه:
الله عز وج��ل ،والآخر :لكم ،والآخر :عليكم ،والآخ��ر :نعم ،والآخر :منكم،
والآخر :من غيركم ،والآخر :الوعد ،فكانوا �إذا �أرادوا �أمرا رجعوا �إلى القداح،
ف�ضرب��وا بها ،ثم عملوا بما يخرج من الق��داح ال يتعدونه ،وال يجوزونه ،وكان
لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم» (تاريخ اليعقوبي ،بال تاريخ� ،ص .)259
على كل حال ،يبدو �أن وجود نظام �سباعي يخ�ص المو�ضوعات ي�شير �إلى �أهمية
رمزي��ة ما للرقم 7في اال�ستق�سام �أي�ضا .وهو ما ي�شير �إلى �أن المي�سر واال�ستق�سام
من �أ�صل واحد .وهو ما يوافق عليه دوتيه الذي ينقل لنا ر�أيه توفيق فهد« :كان له
[المي�سر] ولال�ستق�سام �أ�صل واحد بالت�أكيد» (فهد ،الكهانة العربية قبل الإ�سالم،
��� ،2007ص .)154وي�ؤيد ا�ستخدام اال�ستق�سام لل�سهام غير المري�شة ،مثله مثل
المي�سر� ،أنهما من �أ�صل واحد.
�أخيرا ،يمكن القول �أن اال�ستق�سام �أمر ديني تماما ومبا�شرة ،في حين �أن المي�سر
لي���س ممار�س��ة دينية مبا�ش��رة ،لكنه منبثق م��ن �أ�صل ديني كم��ا �سنرى الحقا.
و�سويت،
ّ ولأن �أم��ر اال�ستق�سام ديني ف�إن �أزالمه تكون في الكعبة« :قد ُزلّمت،
وو�ضع��ت في الكعبة ،يقوم بها �سدنة البيت .ف���إذا �أراد رجل �سفرا �أو نكاحا �أتى
25
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ال�سادن فقال� :أخرج لي ُزلما ،فيخرجه وينظر �إليه ،ف�إذا خرج قدح الأمر م�ضى
عل��ى ما عزم علي��ه ،و�إن خرج قدح النه��ي قعد عم��ا �أراده» (ل�سان العرب).
�أم��ا قداح المي�سر فهناك �أخب��ار ت�شير �إلى �أنها ربما كانت تحف��ظ في بيوت �أنا�س
محددي��ن« :وكان لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم» (تاريخ اليعقوبي ،بال
تاريخ� ،ص .)259وقد يكون ه�ؤالء النا�س هم �أي�ضا على ارتباط ما بالكعبة.
لكن يبدو �أنه كان هناك �أي�ضا �أزالم �شخ�صية ،لي�س لها عالقة بالكعبة ،ي�ستخدمها
الف��رد ب�ش�أن حياته اليومي��ة من �سفر �أو بيع و�شراء وغي��ر ذلك .وربما كان مع
الرج��ل زلمان و�ضعهما في قرابه ،ف���إذا �أراد اال�ستق�سام �أخرج �أحدهما» (ل�سان
العرب) .وفي حدي��ث �سراقة وهو يطارد الر�سول المهاجر�« :أهويت بيدي �إلى
كنانت��ي ،ف�أخرجت منها الأزالم ،فا�ستق�سمت به��ا� :أ�ضيرهم �أم ال؟ فخرج الذي
�أكره [�أي] �أن ال �أ�ضيره��م ،فع�صيت الأزالم ،وركبت فر�سي ،فرفعتها تقرب
[تجري] بي» (ل�سان الع��رب) .وهذه نقطة اختالف رئي�سة عن قداح المي�سر.
فق��داح المي�سر ال تكون �شخ�صي��ة في ما نعتقد� .إذ يجب �أن يتفق المتقامرون على
�صالح القداح للعب ،وهذا يقت�ضي �أن تكون بيد �أمينة ما.
26
فصل 1
�إذا ا�ستثنين��ا المتقامرين ال�سبعة ،المتغيرين دوما ،ف���إن �شخ�صيات المي�سر مرتبة
عك�سيا من حيث الأهمية� ،أي �أن الأخير هو الأهم ،وهي على ال�شكل الآتي:
البرِ م
َ
البرم خ��ارج لعبة المي�سر كلها ،كما قلنا �أعاله .فه��و القادر الذي ال ي�شارك في
اللع��ب« :البرم :الذي ال يدخل مع القوم في المي�سر» (المرزوقي� ،شرح ديوان
الحما�س��ة) .لكنه تقليد رئي�س من تقالي��د اللعبة .لذلك يمتلئ ال�شعر الجاهلي بذكره
على �سبيل القدح والذم .فع��دم م�شاركته في اللعب مثلبة ناتجة عن بخله ول�ؤمه:
«الب��رم :الذي ال يدخل مع القوم في المي�سر لبخله» (الميداني ،مجمع الأمثال).
وال يطل��ق اال�سم «البرم» �إال على المو�سر القادر الذي ال ي�شارك في اللعب� .أما
غير القادر فال يو�صف ب�أنه برم�« :ألأم من البرم :هو الذي ال يدخل مع الأي�سار
في المي�س��ر ،وه��و مو�س��ر .وال ي�سمى برم��ا �إذا كان الذي يمنع��ه غير البخل»
(الميداني ،مجمع الأمثال) .ول�سنا ن��دري ا�شتقاق كلمة (برم) ب�شكل م�ؤكد .فال
27
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
يب��دو �أنها من ال�ضجر وال�س�أم .كما ال يبدو �أنها م��ن الفتل والبرم .كذلك ال يبدو
�أنه��ا على عالقة ببرم الحج��ارة �أي قطعها ونحته��ا �أدوات .لكن هناك في جذر
«برم» ما ي�شي��ر �إلى �سوء الخلق« :البرم :القوم ال�سيئ��و الأخالق» .غير �أننا ال
ن�ستطي��ع �أن نحكم �إن كان هذا المعنى �أ�صليا في الجذر� ،أم �أنه ا�شتق من �شخ�صية
البرم في المي�سر.
الجزار
الج��زار هو الذي يذبح الجزور ويقطعها ،وال عالق��ة مبا�شرة له باللعب .غير
�أن��ه ،مثله مثل الرقيب والحر�ضة ،يح�ص��ل على ح�صته من لحم الجزور .وما
يح�ص��ل عليه ه��و �أجرته على عمله .وهو يتكون مما يتبق��ى من �أجزاء الجزور
بعد تق�سيمها« :و�أما الجزار فيعطى مما يبقى بعد الق�سم من عظم �أو ن�صف عظم،
الر ْيم» (البقاعي ،نظ��م الدرر) .وم��ا ي�أخذه يدعى
وي�سمون��ه [�أي م��ا يتبق��ى] ّ
«الجزارة ،بال�ضم:
الجزارة ،وهو مكون من القوائ��م والر�أ�س وقطع �أخرىُ : ُ
ما ي�أخذ الجزار من الذبيحة عن �أجرته ...وت�سمى قوائم البعير ور�أ�سه جزارة؛
لأنها كان��ت ال تق�سم في المي�سر ،وتعط��ى الجزار» (ل�سان الع��رب) .غير �أننا
�سنكت�ش��ف الحقا �أنه ربما يكون للجزار عالقة ما بواحد من القداح الأغفال .كما
�سنكت�شف �أن ح�صته � -أجرته تو�ضع ككومة بين �أكوام لحم الجزور الع�شرة.
الم ْج َمد
ُ
المجمد �شخ�صية غير وا�ضحة ،ولعله مجرد ا�سم ثان لإحدى ال�شخ�صيات الأخرى
الت��ي ذكرناه��ا .وخذ ما يقوله ل�س��ان العرب ،على �سبيل المث��ال ،لتعرف مقدار
الخ�لاف حوله« :المجمد :البرم ،وربما �أفا�ض بالق��داح لأجل الأي�سار .قال ابن
�سيده :والمجمد :البخيل المت�شدد؛ وقيل :هو الذي ال يدخل في المي�سر ،ولكنه يدخل
بين �أهل المي�سر ،في�ضرب بالقداح وتو�ضع على يديه ،وي�ؤتمن عليها ،فيلزم الحق
من وجب عليه ولزمه .وقيل :هو الذي لم يفز قدحه في المي�سر» (ل�سان العرب).
28
زكريا محمد
وهكذا ،فالمجمد هو البرم ،الذي ال ي�شارك لبخله في لعبة المي�سر �أ�صال ،ويعاب
ب�سبب ذلك .كما �أنه الم�ؤتمن على القداح .كذلك فهو الخا�سر الذي لم يفز قدحه.
لكنه �أي�ضا ،وح�س��ب المقتب�س ،ي�شارك �أحيانا في �إفا�ضة القداح .وم�شاركته هذه
تجعل��ه �شبيها بالحر�ض��ة .فالحر�ضة هو ال��ذي يفي�ض الق��داح ويجيلها .وهناك
بالفعل م��ن ر�أى �أنه هو الحر�ضة فعال« :المجمد :الحر�ضة»( ابن قتيبة ،المعاني
الكبير) .وهذا الر�أي منتزع ربما من بيت لبيد عن القدح:
فق��د ا�ستودع القدح «ك��ف مجمد» .وقد افتر�ض �أن من يم�س��ك بالقداح بكفه هو
الحر�ض��ة .وزاد م��ن قوة هذا ال��ر�أي �أن المجمد هو البخيل ف��ي اللغة .وبما �أن
الحر�ض��ة بخيل «لم ي���أكل لحما بثمن ق��ط» كما تقول عنه جمل��ة �شهيرة ،فال بد
�أن المجم��د هو الحر�ضة .لكن هذا يتناق�ض مع فكرة �أن��ه ي�ؤتمن على القداح كما
ر�أينا �أعاله« :تو�ضع [القداح] عل��ى يديه وي�ؤتمن عليها ،فيلزم الحق من وجب
عليه ولزمه» .ي�ضيف الل�س��ان في مكان �آخر« :قيل :المجمد هنا الأمين» (ل�سان
الع��رب) .فكيف يكون بخيال مذموما و�أمينا عل��ى القداح في الوقت عينه؟ ثم �إن
�أحدا لم يقل �أن الحر�ضة �أمين على القداح .على العك�س ،فكل �شيء يدل على �أنه
يحظر عليه ج�س القداح وتح�س�سها.
بن��اء عليه ،ربما لم تكن هن��اك �شخ�صية م�ستقلة تدعى المجم��د .و�إذا كان هناك
مجم��د حقا ،فمن المحتمل �أن يكون هو «�أمين القداح» ،الذي يت�أكد من مطابقتها
للمعايي��ر .غي��ر �أن كل ال�شخ�صي��ات الم�شاركة في المي�سر من غي��ر المتقامرين
معروف��ة وتح�صل على ح�صة من لحم الجزور «الجزار ،الرقيب ،الحر�ضة»،
في حين �أننا لم ن�سمع عن ح�صة للمجمد .وهذا ما ي�شير �إلى �أنه ا�سم �آخر للحر�ضة
�أو الرقي��ب� ،أو �أن��ه لي�س �شخ�صي��ة مهمة في اللعبة .فهو موج��ود لكن بعيدا عن
اللعبة� .أي �أن مهمته هي ،ربما ،الحفاظ على القداح �إلى �أن يحين وقت اللعبة،
حي��ث ي�سلمها ،وينته��ي دوره .و�إذ نعتقد في الأ�صل الدين��ي للعبة المي�سر ،فمن
المحتمل جدا �أن القداح كانت ملكية للمعبد المكي .ولعلها كانت تحفظ فيه �إلى �أن
ي�أتي وقت اللعبة .ولعل المجمد يكون واحدا من خدم المعبد الذين يعتنون بالقداح
29
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الت��ي يملكها المعبد� .أو لعل القداح تعر�ض علي��ه ،فيحدد �إذا كانت �صالحة للعب
�أم ال .وكالم اليعقوب��ي الذي قب�سن��اه �سابقا ي�ؤيد �أنه كان هناك �أمناء على القداح:
«وكان لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم»� .صحيح �أن حديث اليعقوبي هنا
عن ق��داح اال�ستق�سام ال المي�سر ،وهي الأزالم ،لكن ربما كان ذلك ينطبق على
قداح المي�سر.
الرقيب
م��ن وجهة نظر اللعبة ،فالرقيب هو �أهم �شخ�صية في المي�سر كله ،مع �أن ما لدينا
الح ْر�ض��ة .ومن خالل ما لدينا يب��دو �أنه الم�سيطر
عن��ه �أقل بكثير مم��ا لدينا عن ُ
عل��ى اللعبة ،بل والحكم الفعلي له��ا ،ومراقب تنفيذ قوانينها .لذا فح�صته في لحم
الح ْر�ضة:
الج��زور �أهم ح�صة على الإطالق ،وهي �أعلى �ش�أن��ا بكثير من ح�صة ُ
«ف�أم��ا �أجر الرقي��ب فيعطاه من �أول الق�سم ،وهو �أف�ض��ل اللحم ،وي�سمونه بدءا.
و�أم��ا الحر�ضة فيعطى لحما دون ذل��ك» (البقاعي ،نظم ال��درر) .وهو يراقب
الحر�ض��ة وعمله« :ويقوم عل��ى ر�أ�سه [ر�أ�س الحر�ضة] رج��ل ي�سمى الرقيب»
(القلق�شندي� ،صبح الأع�شى) .ي�ضيف الدينوري« :والرقيب :الموكل بال�ضريب
[= الحر�ض��ة] .ورقيب القداح :الأمين على ال�ضري��ب» (ل�سان العرب) .لكن
مهمته �أو�سع من ذلك .فهو الذي« :يدفع ربابة القداح �إلى الحر�ضة ...ف�إذا نهد
فيها قدح تناول��ه ودفعه �إلى الرقيب» (القلق�شندي� ،صب��ح الأع�شى)� .إذن ،فهو
م��ن ي�سلم القداح ف��ي ربابتها للحر�ضة بعد �أن يت�أكد م��ن الو�ضع كله ،ومن تمام
اال�ستع��دادات للعب .ثم �إنه يتلقى م��ن الحر�ضة ال�سهام الطالعة كي ينظر فيها �إن
كانت رابحة �أو كانت من القداح الأغفال.
وب�سب��ب دوره الكبي��ر ي�سميه بع�ضهم �أمي��ن �أ�صحاب المي�سر« :وقي��ل :هو �أمين
�أ�صحاب المي�سر» (ل�سان العرب) .لكن كل ما �أوردناه عن الرقيب ال يوحي حتى
الآن بعالق��ة دينية ما� .إنه خبير قانوني للعب��ة ما ،ال �أكثر .غير �أن جملة واحدة
فالعيوق
العيوق �أ�سا�سا ال بلعبة المي�سر ربما �أر�ست �أ�سا�سا دينيا لدورهّ .
تتعلق بنجم ّ
ي�سم��ى رقيب الثريا« :و�إنما �سم��ي العيوق رقيب الثريا ت�شبيه��ا برقيب المي�سر»
30
زكريا محمد
�إذن ،فقد �سمي العيوق رقيب الثريا ت�شبيها برقيب لعبة المي�سر .وهو يتخذ موقعه
خلف الثريا كما يتخ��ذ رقيب المي�سر موقعه خلف الحر�ضة كي يراقبه .فهو� ،أي
العي��وق ،يقعد «مقعد رابئ ال�ضرباء» ،كما يق��ول ال�شاعر� ،أي في مثل المكان
ال��ذي يقعد فيه رقيب ال�ضرباء� ،أي رقيب الحر�ض��ة .فال�ضريب هو الحر�ضة.
ومن المحتمل �أن ال�ضرباء هنا تعني المتيا�سرين عموما .بالتالي ،فرابئ ال�ضرباء
تعني رقيب الأي�سار� .أما يتتلع فتعني �أنه ثابت ال يتحرك« :ولزم فالن مكانه فما
يتتلّ��ع� ،أي ما يرفع ر�أ�سه للنهو�ض» (الخلي��ل ،العين) .ويبدو �أن الرقيب الذي
يق��ف خلف الحر�ض��ة ،كان يقف ثابتا عل��ى من�صة تعلوه ك��ي ي�ستطيع مراقبته،
ومراقبة اللعبة.
و�أي��ا كان الأمر كذلك ،ف�إن الأم��ر يجب �أن يكون معكو�سا ف��ي الأ�صل .فرقيب
المي�سر ي�سم��ى بالرقيب ت�شبيها برقيب الثريا ال العك�س ف��ي اعتقادنا .فال�سماء ت�أتي
�أوال .فما يحدث على الأر�ض �إنما هو انعكا�س لأحداثها� ،أو ظل لها .وحين نعرف
�أن لعب��ة المي�سر مرتبطة بطل��وع الثريا ،كما �سنرى الحق��ا� ،أي �أن طلوع الثريا
ه��و الذي يحدد موعد لعبها ،ف�إن العالقة بين رقيب المي�سر ورقيب الثريا ،ت�صبح
مثي��رة جدا� .أي �أنها ال تكون مجرد مجاز طارئ .ويزداد الت�شويق ب�ش�أن الرقيب
حين نكت�شف �أن الرقيب -النجم ورد ذكره في حديث حفر بئر زمزم �أي�ضا« :وفي
حديث حفر زمزم :فغار �سهم الل��ه ذي الرقيب» (ابن الأثير المحدث ،النهاية في
غريب الحديث) .لكننا �سوف نناق�ش هذه الجملة الغام�ضة ،والمهمة جدا ،الحقا.
31
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الح ْر�ضة
ُ
الحر�ضة هو الذي يجي��ل القداح في الربابة� ،أي ينكثها ويهزها ،ثم ي�أخذ ما ينبز
منها ،ويعطيه للرقيب كي يقرر ب�ش�أنه .وهو من وجهة نظرنا ،ال من وجهة نظر
اللعب��ة� ،أهم �شخ�ص ف��ي لعبة المي�سر �إطالقا .فهو من نراه��ن عليه لإنارة طابع
اللعب��ة الديني .وله عدة �أ�سماء« :المجيل ،والمفي���ض ،وال�ضارب وال�ضريب»
«تف�سير القرطبي» .ولدينا و�صف عن كيف يقوم بعمله:
«ف���إذا جز�أوا الجزور عل��ى ذلك� ،أتوا برج��ل ي�سمونه الحر�ضة؛ م��ن �ش�أنه �أنه
ل��م ي�أكل لحما ق��ط بثمن .وي�ؤتى بالق��داح ،فت�شد مجموعة ف��ي قطعة جلد ت�سمى
يلف الحر�ضة على يده اليمنى ثوبا ،لئال يجد م�س قدح له مع �صاحبه الربابة .ثم ّ
ه��وى فيحابيه في �إخراجه .ثم ي�ؤتى بث��وب �أبي�ض ،ي�سمى المجول ،فيب�سط بين
يدي الحر�ضة .ويقوم على ر�أ�سه رجل ي�سمى الرقيب ،ويدفع ربابة القداح �إلى
الحر�ض��ة ،وهو محول الوجه عنه��ا ،في�أخذ الربابة التي تجم��ع فيها القداح �إلى
الحر�ضة ،ويدخل يده تحت الثوب فينكز القداح ف�إذا نهد فيها قدح تناوله ،ودفعه
�إلى الرقيب» (القلق�شندي� ،صبح الأع�شى).
وهن��اك من يقول �أن عينيه تع�صب��ان �أي�ضا« :وتك�سى يده �أديما ،لكي ال يجد م�س
ق��دح له فيه ر�أي ،وت�شد عيناه» (البقاعي ،نظ��م الدرر) .ويعتقد �أن الهدف من
لف يده �إنما هو منعه من محاباة �أي كان ،كما ر�أينا في المقتب�س �أعاله ،وكما ي�ؤكد
م�س قدح له فيه هوى ،فيحابي الأخف�ش الأ�صغر« :و�إنما يل��ف يده ،لئال يعرف ّ
في��ه» (الأخف�ش الأ�صغر ،كتاب االختيارين) .ويفتر�ض �أن ع�صب العينين� ،إن
كان��ت عيناه تع�صبان حقا ،له الهدف ذاته .غير �أن هناك اختالفات كثيرة حول
الربابة والمجول� ،سنتطرق لها �أدناه.
�إذن ،فالي��د اليمنى للحر�ضة تربط ،وتم�سك بالربابة ،ثم تقوم اليد الي�سرى بما
32
زكريا محمد
تبقى« :في�أخذها [�أي ربابة القداح] بيمينه ،ويدخل �شماله من تحت الثوب فينكز
الق��داح ب�شماله» (ابن حبي��ب ،المحبر) .ثم يخرج بهذه الي��د ما نبز من القداح
وبرز ،كما م��ر �أعاله في مقتب�س القلق�شندي« :ويدخ��ل يده تحت الثوب فينكز
الق��داح ف�إذا نهد فيها ق��دح تناوله ،ودفعه �إلى الرقي��ب» .وي�ستنتج فهد من كل
ه��ذا �أن لعبة المي�سر هي لعبة اليد الي�سرى� ،أي لعب��ة الأع�سر على حد تعبيره.
لك��ن فهد يوافق ،من ناحي��ة ثانية ،على �أن اليد اليمنى تل��ف «بقطعة من الجلد
�أو القما���ش ،تمنعه��ا من تعرف الق��داح عن طريق مالم�سته��ا» (فهد ،الكهانة
العربي��ة��� ،2007 ،ص � .)155أي تلف لدرء احتم��ال الغ�ش .وهذا يعني �أنه
يوافق على التف�سير ال�سائد لربط اليد اليمنى .وفي هذا تناق�ض .فاليد التي يمكن
له��ا �أن تغ�ش في ه��ذه الحال هي الي��د الي�سرى .فهي التي ت�ض��رب القداح من
الأ�سف��ل كي تنبز من �أعلى الربابة ،ولي�س��ت اليمنى .فاليمنى تقب�ض بي�سر على
الربابة فقط .عليه ،فقد كان الأولى ربط اليد الي�سرى .وهذا ما يلزمنا بالبحث
عن �سبب �آخر لربط اليد اليمنى.
لك��ن خبر ابن حبيب ،ال��ذي يتحدث عن اليد الي�سرى ،يعط��ي دعما ما لفر�ضية
توفي��ق فهد ،التي ترى �أن لعبة المي�سر هي لعب��ة الأع�سر ،م�صداقية ما« :وعلى
ه��ذا النحو ف�إن المي�سر �ص��ار بب�ساطة ،ول�سبب ما لعب��ة «الأع�سر» من دون �أن
يك��ون ممكنا تف�سير الكيفي��ات ال�صرفية لحالته الراهنة» (فه��د ،الكهانة العربية،
� ،2007ص .)153ول�سنا ندري �إن كان فهد قد عني الأع�سر فعال� ،أم �أنه عنى
اليد الي�سرى .وقد تكون الترجمة العربية هي التي �أعطت االنطباع ب�أن الحر�ضة
�أع�سر .ذلك �أن ثمة فرقا بين ا�ستخدام اليد الي�سرى وبين الع�سر .ولو كان ينبغي
للحر�ض��ة �أن يكون �أع�سر� ،أي �أنه رج�لا ي�ستخدم ي�سراه خلقة ،لتم الحديث عنه
في الم�صادر العربية لطرافت��ه وغرابته .بالتالي ،فمن الأف�ضل �أخذ فر�ضية فهد
على �أنها تعني �أنها لعبة اليد الي�سرى ،ال لعبة ال�شخ�ص الأع�سر .و�إذا �صحت هذه
الفر�ضي��ة ،فمن المحتمل �أن تكون اليد الي�سرى على عالقة ب (�أ�صحاب الي�سار)
الذي��ن ورد ذكرهم في القر�آن .وقد ناق�شنا �أمر �أ�صحاب الي�سار و�أ�صحاب اليمين
ف��ي كتابنا عن الطوائف المكية الثالث :الحم�س والطل�س والحلة .وتو�صلنا حينها
33
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�إلى �أن م��ن المحتمل �أن يكون �أ�صحاب الي�سار هم الحم�س ،و�أن يكون �أ�صحاب
اليمين هم الحلة.
بن��اء على ذلك ،ف�إن الغالب �أن اليد التي كانت تربط ،وهي اليمنى في الأغلب،
ربما كانت تربط ل�سبب �سحري .وهذا ما �سيقودنا �إلى المجول.
وظيفة المجول
ثم��ة خالف �شديد حول المجول .فهو �أحيانا ث��وب ما يرتديه الحر�ضة ،لكنه في
�أحيان �أخرى قطعة قما�ش ُت�شد على يده� ،أو ثوب يغطي يده« :يعمد �إلى القداح،
فت�ش��د مجموعة في قطعة جلد ت�سمي الربابة ،ثم يعمد �إلى الحر�ضة فيلف على يده
اليمنى �صنفة ثوب لئال يجد م�س قدح له في �صاحبه هوى ،فيحابيه في �إخراجه.
ثم ي�ؤتى بثوب �أبي�ض ،يدعى المجول ،فيب�سط بين يدي الحر�ضة .ثم يقوم على
ر�أ�س��ه رجل يدعى الرقيب ،ويدف��ع ربابة القداح �إلى الحر�ض��ة» (ابن حبيب،
المحب��ر) .وكما نرى فابن حبيب يتحدث عن �صنفة ثوب� ،أي قطعة ثوبُ ،تلف
عل��ى يد الحر�ضة اليمنى ،وعن ثوب �أبي���ض ،يدعى المجول ،يب�سط بين يديه.
�أي �أنن��ا مع �أمرين مختلفين .وهو ال يخبرن��ا عن غر�ض ب�سط المجول بين يدي
الحر�ضة� .أم��ا القلق�شندي ،فكان قد �أخبرنا ،في مقتب���س �سابق� ،أن يد الحر�ضة
تعبر تحت ه��ذا الثوب لتنكز القداح« :ويدخل يده تح��ت الثوب ،فينكز القداح،
ف�إذا نهد [برز] فيها قدح تناوله ودفعه �إلى الرقيب».
غي��ر �أن اليعقوبي يحدثنا عن قطعة قما�ش واحدة فق��ط ،هي المجول ،و�أنها هي
ذاته��ا الت��ي تربط على يد الحر�ض��ة« :ف�إذا عرف كل رجل منه��م قدحه ،دفعوا
الق��داح �إل��ى رجل �أخ���س ال ينظر �إليها ،مع��روف �أنه لم ي�أكل لحم��ا قط بثمن،
وي�سمى الحر�ضة ،ثم ي�ؤتى بالمجول ،وهو ثوب �شديد البيا�ض ،فيجعل على يده
ويعم��د �إلى ال�سلفة ،وهي قطعة من جراب ،فيع�ص��ب بها على كفه لئال يجد م�س
قداح يكون له في �صاحبه ه��وى ،فيخرجه» (تاريخ اليعقوبي ،بال تاريخ� ،ص
.)260عليه ،فثمة ثوب واحد فقط� ،شديد البيا�ض ،يلف على يد الرجل اليمنى،
34
زكريا محمد
ث��م يرب��ط على اليد والثوب مع��ا ب�سلفة� ،أي �شريط جراب ،حت��ى ي�ضمن �أن ال
ي�سقط الثوب عن اليد .عليه ،فلي�س عنده ثوب تنكز القداح من تحته.
�أم��ا اب��ن عا�شور المت�أخر ،فيخبرن��ا ،متفقا مع اليعقوب��ي� ،أن المجول هو الذي
يلف على اليد .لكنه ي�ؤك��د �أن هناك ثوبا �آخر يلب�سه الحر�ضة ويخرج ر�أ�سه منه:
«ويجعل��ون على يديه خرقة بي�ض��اء ي�سمونها المجول ،يع�صبونه��ا على يديه �أو
جلدة رقيقة ي�سمونها ال�سلفة ...ويلتحف هذا الحر�ضة بثوب يخرج ر�أ�سه منه ،ثم
يجثو على ركبتي��ه ،وي�ضع الربابة بين يديه» (بن عا�شور ،التحرير والتنوير).
من هنا ،فالقطعة التي ت�شد على يد الحر�ضة هي المجول .وهي مختلفة عن الثوب
المفت��وح من �أعلى ال��ذي يدخل الحر�ضة فيه ر�أ�سه وي�سدل��ه على ج�سده ،وعلى
ي��ده الي�سرى التي تنك��ز القداح .ونحن �أميل �إلى هذا فع�لا� .أي �إلى �أن المجول
ه��و قطعة القما�ش الت��ي ُتلف على يد الحر�ض��ة وتربط� .أما الث��وب� ،أو الكي�س
المفت��وح ،فهو الذي يرتديه الحر�ضة وينكز القداح م��ن تحته .كما �أننا نعتقد �أن
الحر�ضة ي�شيح بوجهه عن القداح ،وال تع�صب عيناه كما افتر�ض بع�ضهم.
الم�ص��ادر العربية ،كم��ا ر�أينا �أعاله ،تخبرنا �أن ي��د الحر�ضة تلف كي ال تتمكن
ي��ده من التعرف على القداح ،فيحابي �أحدهم ويخ��رج له قدحه .وقد �أبطلنا هذه
الحج��ة �أع�لاه� ،إلى حد ما .لذا ربما ح��ق لنا �أن نفتر�ض ب���أن اليد تغطى حماية
له��ا ،ولي�س ل�ضمان ع��دم الغ�ش من قبل الحر�ضة� .أي �أن ه��ذا الربط نوع من
التعوي��ذة الحامية .ي�ؤيد ه��ذا �أن المجول بالعربية يعني :الع��وذة� ،أي التعويذة:
«قال اب��ن الأعرابي :المجول :الدره��م ال�صحيح� ،أي�ضا :الع��وذة» (الزبيدي،
تاج العرو���س) .ي�ضيف الأزه��ري« :والمجول :الع��وذة ،والمجول :الحمار
الوح�شي ،والمجول :ه�لال من ف�ضة يكون و�سط القالدة» (الأزهري ،تهذيب
اللغة) .والعوذة هي التميمة� ،أي رقي��ة الحماية« :الرقية :العوذة التي يرقى بها
�صاحب الآفة كالحمى وال�صرع وغير ذلك من الآفات» (ل�سان العرب) .ي�ضيف
الأزهري« :التميمة قالدة من �سيور ،وربما جعلت العوذة التي تعلق في �أعناق
ال�صبي��ان» (الأزه��ري ،تهذي��ب اللغ��ة)� .إذن ،فالمجول تميم��ة تربط على يد
35
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الحر�ضة اليمنى كي تحميها .لكن ما الخطر الذي تتعر�ض له هذه اليد حتى تحمى
منه؟ والجواب ه��و �أن اليد اليمنى تقوم بمهمة ديني��ة .فتقطيع الجزور وتق�سيمه
بي��ن المتقامرين مهمة ديني��ة في الأ�صل ،ولي�ست مجرد لعب��ة قمار .و�إذا وافقنا
عل��ى مقترح فه��د القائل ب�أن لعبة المي�سر هي لعبة الي��د الي�سرى ،ف�إن اليد اليمنى
تكون بريئة .فهي ال دخل لها في تقطيع الجزور وتق�سيمه .عليه ،يكون المجول
تعويذة لإعالن براءة ما .فهي مربوطة وال تفعل �شيئا.
لكن لعل الأم��ر على العك�س من هذا تماما .فاليد الي�سرى تقوم بمهمة هي مهمتها
ديني��ا� ،أي �أنه ال خطر عليها� .أم��ا اليمنى فالخطر داهم عليه��ا لأنها ت�شارك في
مهمة لي�ست لها ،الأمر الذي يجعلها بحاجة �إلى الحماية.
لكن ه��ذا يثير م�شكلة كبي��رة فا�سم المجول ي�شي��ر �إلى الإجال��ة� ،أي �إلى تحريك
الق��داح وهزها .بالتالي ،فاليد التي ترب��ط بالمجول يجب �أن تكون هي اليد التي
تجي��ل القداح� ،أي تهزها .وهي بحاجة �إلى حماي��ة المجول لأنها تجيل القداح.
وهذا م��ا يفتح الباب لمناق�ضة فه��د وابن حبيب معا .فاليد اليمن��ى هي التي تجيل
القداح� ،أي تهزها وتنكثها ،ال اليد الي�سرى.
عل��ى كل ح��ال ،فالمو�ضوع غام�ض معقد ،ولي�س من ال�سه��ل تقديم حكم نهائي
ب�ش�أنه .لذا نترك �أمر الحكم للم�ستقبل.
يو�صف الحر�ضة بجملتين �شديدتي الغمو�ض ،فهو« :رجل يت�أله عندهم ،لم ي�أكل
لحم��ا قط بثمن» (الآبي ،نثر الدر) .وت�ضاف �إلى هاتين ال�صفتين �صفة الخ�سا�سة
والنذالة كما ورد �أعاله في مقتب�س اليعقوبي« :ف�إذا عرف كل رجل منهم قدحه،
دفعوا الق��داح �إلى رجل �أخ�س» .ي�ضيف الل�سان ع��ن الحر�ضة« :الذي ي�ضرب
للأي�س��ار بالقداح ،ال يكون �إال �ساقطا ،يدعون��ه بذلك لرذالته» (ل�سان العرب).
يزي��د ابن قتيبة« :وال يجعل حر�ضة �إال كل وخ���ش [= رذل] من الرجال» (ابن
قتيبة ،المعاني الكبير)� .إذن فالحر�ضة:
36
زكريا محمد
1.1رجل يت�ألّه
هذه هي الجمل النثرية الثالث الأ�سا�سية التي و�صلتنا عن �صفات الحر�ضة .بالطبع
هناك جمل و�صلتنا عن كيفية �أدائه لمهمته في اللعب ،وعن المالب�س التي ي�ضعها
عل��ى ج�سمه ويده ،كما مر .لكن بخ�صو���ص �شخ�صه ،فلي�س لدينا �إال هذه الجمل
الأ�سا�سية الثالث .وعلى هذه الجمل يجب �أن ن�ستند لك�شف جذور الحر�ضة.
وق��د افتر�ض بع�ضهم �أن الحر�ضة ن��ذل خ�سي�س؛ لأنه «لم ي�أكل لحما بثمن قط»،
عل��ى فر�ض �أن ه��ذه الجملة تعني �أنه بخي��ل ال يدفع ثمن اللحم ال��ذي ي�أكله ،بل
يح�ص��ل على لحمته مجانا م��ن غي��ره� .أي �أن ال�صفة الثالث��ة ،الخ�سا�سة ،تابعة
للثانية« :الحر�ضة :الرجل الذي ال ي�شتري اللحم وال ي�أكله بثمن �إال �أن يجده عند
غي��ره» (ل�سان الع��رب) .ي�ضيف ابن دريد« :الحر�ضة :ال��ذي يح�ضر �أ�صحاب
المي�س��ر ليجيل لهم القداح ليطعم [= لي�أكل] اللحم ولم ي�أكل قط لحما بثمن» («ابن
دري��د ،جمهرة اللغة) .عليه ،فخ�سا�سته مرتبطة ببخله .لكننا نعتقد �أن الربط بين
الخ�سا�سة وعدم �شراء اللحم -المفتر�ض -بثمن تف�سير ولي�س خبرا .الخ�سة خبر،
�أما ربطها بعدم �شراء اللحم فتف�سير .يدل على هذا ذلك �أن الخ�سا�سة موجودة داخل
الج��ذر اللغوي ذاته .فجذر «حر�ض» يعطي معنى الف�ساد وال�ضعف والخ�سا�سة:
«الحر�ض :الفا�سد ...الأزهري :المحر�ض الهالك مر�ضا الذي ال حي فيرجى
وال ميت فيو�أ�س من��ه ...وناقة حر�ضان� :ساقطة» (ل�س��ان العرب) .بناء على
ه��ذا ،فمن المحتمل جدا �أن كلمة الحر�ضة تعني «الخ�سي�س» هكذا مبا�شرة ،ومنذ
البدء .وهو ما ي�شير �إلى �أن الم�س�ألة ربما ال تتعلق باللحم؟
والح��ق �أن م�س�ألة اللحم ملغزة .فهل يجب على من يمار�س مهنة الحر�ضة �أن ال
ي�أكل لحما بثم��ن قط؟ ولماذا؟ و�إذا كانت الخ�سة نابعة عدم �أكل اللحم بثمن ،فهل
كان يجب البحث عن رجل خ�سي�س بخيل كي يقوم بالمهمة؟ ولماذا؟ ثم ما عالقة
�إجالة القداح بالخ�سة؟ �أي لماذا على مجيل القداح �أن يكون خ�سي�سا؟
37
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ثم ،وه��ذا ما يزيد تعقيد الأم��ور ،كيف يكون هذا الرجل خ�سي�س��ا ومت�ألها� ،أي
متدينا ،في �آن؟ فالت�أله ه��و التدين والتعبد« :فالن يت�أله :يتعبد .وهو عابد مت�أله»
(الزمخ�ش��ري� ،أ�سا���س البالغة) .ي�ضي��ف الل�س��ان« :الت�أله :التن�س��ك والتعبد»
(ل�س��ان العرب) .وكانت �صفة الت�أله تطلق عل��ى المتعبدين ال�شديدي التدين ،في
الجاهلي��ة .فعبد المطلب و�صف ب�أنه «كان يت�أله ،ويعظ��م الظلم والفجور» (ابن
�سعد ،الطبقات الكبرى) .كما و�صف عمرو بن نفيل ،الحنيفي ال�شهير �أي�ضا ب�أنه:
«كان يت�أله ف��ي الجاهلية» (ابن كثير ،البداية والنهاية) .عليه ،فالحر�ضة «رجل
�أخ�س» و «رجل يت�أله» في الوقت نف�سه .فكيف يمكن حل هذا التناق�ض؟
وقد ر�أى توفي��ق فهد �أن من الممكن وجود ت�صحيف في جملة «لم ي�أكل لحما قط
بثم��ن» ،واقترح ق��راءة كلمة ثمن على �أنها �سمن« :يكف��ي �أن نقر�أ «�سمن» بدل
«ثم��ن» كي نعطي �آخر كلمة من هذه الجملة معنى دينيا» (فهد ،الكهانة العربية،
��� ،2007ص ،435هام���ش .)131ب��ذا ،فالحر�ض��ة رجل ذا مهم��ة دينية ما
متدي��ن ،وهو ال ي�أكل لحما ب�سمن ل�سبب ديني� .أي ال ي���أكل لحما مطبوخا ب�سمن
ل�سب��ب ديني م��ا .لكن ما معنى �أنه ال ي���أكل لحما ب�سمن في لعب��ة المي�سر؟ ولماذا
يكون ممنوعا عليه �أن ي�أكل لحما ب�سمن في هذه اللعبة؟ لي�س هناك من جواب عند
فهد .لذلك نعتقد �أن تخريجته ال تدفع فهمنا للحر�ضة ولو خطوة واحدة للأمام.
غير �أن فهد ينق��ل لنا ر�أيا �شديد الأهمية لهوبر يقترح فيه �أن الت�صحيف حل بكلمة
يت�أل��ه ال بكلمة بثمن« :يقر�أ هوب��رّ ...:نبالة بدال من يت�أله ،في حين �أن الأمر ال
يتعلق برمي ال�سهام ،بل بهزها وا�ستخراجها من الخرج» (فهد ،الكهانة العربية،
� ،2007ص ،435هام�ش � .)131إذن ،فهوبر يقترح �أن الحر�ضة ربما يكون
(نبالة)� ،أي رامي نبال .وال بد �أنه و�ضع اقتراحه هذا �آخذا بعين االعتباررجال ّ
وج��ود القداح في اللعب��ة ،ودور الحر�ضة في التعامل معه��ا .فهو الذي يحرك
هذه ال�سه��ام وي�ستخرج ما برز منها .والقداح كما ر�أينا هي ال�سهام غير المن�صلة
وغير المري�ش��ة .ومن المنطقي �أن يت�ساءل المرء عن �سر وجود ال�سهام في لعبة
38
زكريا محمد
المي�س��ر .فلماذا يكون اللعب فيه��ا بال�سهام -القداح؟ �أال ي�شير ه��ذا �إلى �أن اللعبة
ربما انبثقت من تقليد �صيد� ،أو من تقليد له عالقة بال�صيد في الأ�صل؟ �أما ما يقوله
(هز) ال�سه��ام ال �ضربها ،فلي�س حجة ذلك �أن الحر�ضة النبالة يقوم هنا فهد حول ّ
بعمل رمزي حين يهز ال�سهام ،وال ي�صيد فعال .و�إذا كان هناك تقليد �صيد ،ف�إن
علين��ا �أن ال نرمي اقتراح هوبر كم��ا فعل فهد .فهو اقتراح ربم��ا �أدى �إلى �إلقاء
�ضوء على الحر�ضة ،وعلى لعبة المي�سر بكاملها.
ول��و �صح اقت��راح هوبر ،ونحن نعتق��د ب�صحته ،ف�إن الجملتي��ن الأولى والثانية
�ستن�سجم��ان تماما .فالحر�ض��ة رجل ّنبالة� ،أي �صياد رام��ي نبال .ولأنه �صياد
فه��و ال يحت��اج �أن ي�أكل لحما بثمن� ،أي ال يحتاج �أن ي�شتري لحما� .إذ هو يح�صل
عل��ى ما يحتاجه من لحم عن طريق ال�صيد� ،أي ع��ن طريق قو�سه ونباله .بذا،
فعدم �أكله للحم نابع لمهنته ك�صياد بالنبل والقو�س .وهذا يعني �أن جملة «لم ي�أكل
لحما بثمن» ت�صف قدرته على ال�صيد ،وبراعته فيه ،وال تتحدث عن عدم �شرائه
للحم ب�سبب بخله .كما �أنها ال تتحدث عن تحريم ديني يخ�ضع له ويمنعه من �شراء
اللح��م بثمن .فلو �أن المق�صود هو التحريم ل��كان الأ�صلح ا�ستخدام ال بدل لم «ال
ي�أكل لحما بثمن».
علي��ه ،فالحر�ضة يتعامل مع ق��داح� -سهام المي�سر لأنه (خبي��ر �سهام) �أو (خبير
�صيد) .و�سوف ن�ستبق هنا الحديث المو�سع عن لقمان بن عاد ،الأب الأ�سطوري
للعب��ة المي�سر ،لنقول �أنه �أي�ض��ا كان راميا ماهرا�« :إذا رمى لم تقم راب�ضة ،ولم
ترب���ض قائمة ،ول��م تم�سك مخطاة [حام��ل] ولدا» (ال�ضب��ي ،الأمثال) .ولهذا
�سمي��ت النب��ال غير المري�شة� ،أي تل��ك التي ت�شبه قداح المي�س��ر ،با�سم :حظيات
لقم��ان« :والحظ��وة� :سه��م �صغي��ر ق��در ذراع ،وقي��ل :الحظوة �سه��م �صغير
يلع��ب به ال�صبيان ،و�إذا ل��م يكن فيه ن�صل فهو حظي��ة ،بالت�صغير .وفي المثل:
�إحدى حظي��ات لقمان ،وهو لقمان بن عاد .وحظياته� :سهامه ومراميه» (ل�سان
العرب) .وقد ورد اال�سم في �سياق ق�صة لقمان مع واحد من ابني تقن« :وكانت
لهم��ا �سمرة ي�ستظالن به��ا ،وي�سقيان عندها �إبلهما .ف�صعده��ا لقمان ،واختب�أ فيها
رج��اء �أن ي�صي��ب منهما غ��رة .فلما ر�أى عم��روا قد تجرد لال�ستق��اء رماه من
39
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
فوقه ب�سهم ف��ي ظهره ،فقال« :ح���س� ،إحدى حظيات لقم��ان» ،فذهبت مثال»
(الزمخ�ش��ري ،الم�ستق�صى) .ولأن لقم��ان رامي نبل ،ف���إن الم�صادر العربية
ت�سمي��ه «الراي���ش»« :لقمان ب��ن عاد هو ال��ذي �سمته حمير الراي���ش ،لأنه كان
متوا�ضع ًا لله لم يكن متوجاً» (ابن منبه ،التيجان) .وال نظن �أن تف�سير وهب لهذا
يري�ش ال�سه��ام� ،أي ي�ضع لها ري�شا ،كياللق��ب �سليم .بل نظن �أن��ه يعني :الذي ّ
تك��ون �صالحة للرمي .وهو م��ا يعني �أنه �صياد رام .كما �أن��ه ي�ؤكد ارتباط لعبة
المي�سر ،التي كان هو �أبوها ،بتقاليد ال�صيد.
(الجاحظ ،الحيوان).
�إذن ،فالع��رب «ي�ستذلون ال�صيد» و «يحقرون ال�صياد» .وهنا نجد �أ�سا�س خ�سة
الحر�ضة .فالحر�ضة �صياد ّنبالة� ،أي �صياد بالنبل وال�سهام .وهو ي�أكل لحمه من
نباله .لذا فهو محتقر خ�سي�س� .أي �أن خ�سته نابعة من مهنته ذاتها.
والغريب �أن �صياد الوعول من بني زياد ،الذي تحدثت عنه �أبيات عمرو بن معد
يكرب ،والذي ي�صيد «بوف�ضة وب�أكلب»� ،أي بجعبة �سهام وكالب ،ي�صبح كاهنا
يكهن بعد �شيب �شامل»! وم��ن ال�صعب �أن تكونبع��د �أن ي�شيخ وي�شيب« :حت��ى ّ
يكهن ههنا بمعنى �آخر غير الكهانة ،بع��د �أن تبعتها جملة «كاهن يتكذّب»،
كلم��ة ّ
40
زكريا محمد
�أي كاهن كاذب .بناء عليه ،فنحن هنا مع «�صياد وعول -كاهن»� .أي مع كهانة
ترتبط ب�صيد الوعول في ما يبدو .ولعل كهانة �صياد الوعول هذه هي التي �أ�شار
�إليها بيت �أمية بن �أبي ال�صلت حين ح�ضرته الوفاة:
في ر�ؤو�س الجبال� أرعى الوعوال ليتن��ي كنت قبل م��ا قـد بـ��دا لـي
ونح��ن نذكر �أنه كان لوع��ول الأروى حمى في جبل ثبير ،جب��ل الذبحاء ،في
مكة ،كما �أخبرتنا ال�شاع��رة« :والله �أمن طيرها /والع�صم ت�أمن في ثبير» (�سيرة
اب��ن ه�شام) .ومن جبل ثبير هذا �أتى كب���ش فداء �إ�سماعيل .وهذا يعني �أن �أكبا�ش
الف��داء كانت ت�صاد من على هذا الجبل .فهي حيوانات الإله وال يجب �صيدها في
حماه ،با�ستثناء ال�صيد الديني� ،صيد كب�ش الفداء ،الذي كان يحدث مرة في العام
في ما نظن .وال بد �أن مهمة �صيده كانت ،كمهمة مقد�سة ،تقع على عاتق طراز
خا���ص من ال�صيادين .فال ي�ستطيع �أي واحد �أن يقوم بها .فقط �صياد وعول هو
م��ن يحق له ذلك .وهكذا ي�صير لدينا �صياد وعول مقد�س .ويبدو �أن هذا ال�صياد
كان يتكهن حين ي�شيخ ويتقاعد .ومن المحتمل �أنه من مثل ه�ؤالء ال�صيادين كان
ي�أت��ي حر�ضة المي�سر .فلعبة المي�سر تقوم على اللعب الرمزي بال�سهام� ،أي على
قت��ل �ضحية ،وتقطيعها .مثلما �أن �صيد الوعول المقد�س��ة لعبة �سهام حقيقية ،يتم
فيها قن�ص كب�ش فداء وتقطيعه.
ويمك��ن لهذا �أن يف�سر �أ�صل خ�سة ال�صيادي��ن� .أو �أ�صل خ�سة �صيادي كب�ش الفداء
خا�ص��ة .فهي نابعة من �أن ه�ؤالء ال�صيادي��ن مكلفون بمهمة خ�سي�سة هي ا�صطياد
كب�ش -وعل الف��داء تمهيدا لقتله وتقطيعه .وكب�ش ف��داء �إ�سماعيل وعبد الله لي�س
كب�ش��ا عاديا .بل هو كب�ش -وعل مقد�س� .إذ �أن بدي��ل �إ�سماعيل مقد�س مثله مثل
�إ�سماعيل ذات��ه� .إنه في الحقيقية �إ�سماعيل ،لكنه ي�أخ��ذ �شكال حيوانيا .وهذا يعني
�أن �صي��اد الوعول يقتل في الواق��ع �إ�سماعيل الذبيح وعبد الل��ه الذبيح� ،أي يقتل
ممث��ل الإل��ه الب�شري .ومن هنا تنب��ع خ�سته� .إنه قاتل الإل��ه �أو ابن الإله وممثله
الب�شري .لكن��ه خ�سي�س ومقد�س معا .فمهمته خ�سي�سة ،لكنه��ا مهمة دينية �أي�ضا.
وهكذا فهو من ذلك الط��راز الم�ألوف من المقد�سين -الخ�سي�سين .فقد كان رعاة
41
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
انطالق��ا من ه��ذا ،ف�إن ما يقوم به الحر�ض��ة في لعبة المي�سر �إنم��ا هو تمثيل لقتل
الكب�ش الإلهي وتقطيعه .فلعب��ة المي�سر هي تمثيل للعبة الحقيقية ،لعبة قتل الوعل
الإله��ي ،لعب��ة قتل كب�ش ف��داء �إ�سماعيل وعب��د الله .و�سوف يت�ض��ح لنا الحقا،
وبو�ضوح �أكب��ر ،كيف �أنه يتم ا�ستبدال الكب�ش الإله��ي بجمل ينحر ويقطع ،كما
يقطع جزور المي�سر بال�ضبط.
42
فصل 2
قداح المي�سر
«الرباب��ة ،بالك�سر :جماع��ة ال�سهام .وقيل :خيط ت�شد ب��ه ال�سهام .وقيل :خرقة
ت�ش��د فيه��ا .وقال اللحياني :ه��ي ال�سلفة التي تجع��ل فيها الق��داح� ،شبيهة بالكنانة
يك��ون فيها ال�سهام؛ وقيل ه��ي �شبيهة بالكنانة ،يجمع فيه��ا �سهام المي�سر» (ل�سان
«الربابة :خرقة
العرب)� .أما من يرى �أنها خرقة ،فيعتقد �أن ا�سمها يعني الجمعِّ :
ال�شيء� ،أي :جمعته» (الخليل، ب��ت ّ ُتجع��ل فيها ال ِقداح ،هذلية ،وا�شتقاقه من َ
رب ُ
العين) .غير �أن هناك من يقول �أن الربابة هي ال�شريط الجلدي الذي يربط على
الح ْر�ضة ،وهو يد الحر�ض��ة« :وقيل :الربابة� :سلفة يع�صب بها على ي��د الرجل ُ
الذي تدفع �إلي��ه الأي�سار للقدح؛ و�إنما يفعلون ذلك لكي ال يجد م�س قدح يكون له
في �صاحبه هوى» (ل�سان العرب) .عليه ،فالأمر م�شو�ش جدا.
�أم��ا اقتراح �أن القداح هي ذاته��ا الربابة« :الربابة ،بالك�س��ر :جماعة ال�سهام»،
فيجد ما يدعمه في بيت �أبي ذ�ؤيب الذي ي�صف فيه الحمار و�أتنه:
43
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
جداالت حول معناها .ونحن نعتقد �أن من المحتمل �أن يكون فيها ت�صحيف ،و�أنها
ف��ي الأ�صل «وي�صب��ع» بالباء بمعنى يح�س��ن فعلته ويجيدها .يق��ال :للراعي على
ما�شيته �إ�صبع� :أي �أثر ح�سن .وفي هذه الحالة ،فالفعل يعود �إلى حمار الوح�ش ،ال
دل .يقال�« :صبع فالن على فالن: �إلى الحر�ضة .و�إن لم يكن كذلك فهي بمعنىّ :
دل عليه بالإ�شارة» (ل�سان العرب) .وفي هذه الحالة يعود الفعل �إلى الحر�ضة. ّ
واقتراحن��ا �أن الرباب��ة ا�سم يطلق عل��ى مجموعة القداح وعلى قطع��ة الجلد التي
تحزم بها ،في �آن واحد .فاالثنان ي�سميان بالربابة .ومن المحتمل �أنها في الأ�صل
كان��ت ا�سما للقداح ،ثم �ص��ارت تطلق على قطعة الجلد الت��ي ت�ضم القداح ،من
الحال با�سم المحل .وت�صورنا لهذه الجلدة �أنها ت�شبه �أ�سطوانة مفتوحة
ّ باب ت�سمية
م��ن طرفيها ،ولي�ست م�شدودة �شدا قويا ،لك��ي تتمكن يد الحر�ضة من نكزها من
الأ�سف��ل ،كي تنبز ال�سهام منها في الأعلى .وهو ما يب��دو �أن البقاعي كان يراه:
«وت�سمى تل��ك الجلدة الربابة ....ث��م تجمع �أطرافها ويع�� ّدل بينها ...فيجمع
�أ�صابعه عليها ،وي�ضمها كهي�أة ال�ضغث ،ثم ي�ضرب ر�ؤو�سها بحافة راحته ،ف�أيها
طلع من الربابة كان فائزا» (البقاعي ،نظم الدرر).
لكن من المحتمل �أن يكون معنى اال�سم «ربابة» في الأ�صل عنى :العهد والميثاق.
و�س��وف نعر�ض لهذا االحتمال عند التطرق لطق�س الذبيح وحفر «بئر زمزم»،
و«بئر �سبع» التوراتية.
القداح
1.1ق�س��م يربح �أو يخ�سر ،وعدده �سبعة عند ال��كل .ولكل واحد ا�سم وح�صة محددة
في �سلّم من واحد �إلى �سبعة« :كانت قداح المي�سر ع�شرة� :سبعة منها لها �أن�صب،
وثالث��ة ال �أن�ص��ب لها .فال�سبعة التي له��ا �أن�صب يقال لأوله��ا الفذ ،وله جزء،
والت��و�أم ،وله جزءان ،والرقيب ،ول��ه ثالثة �أجزاء ،والحل���س ،وله �أربعة
�أج��زاء ،والناف�س ،وله خم�سة �أجزاء ،والم�سب��ل ،وله �ستة �أجزاء ،والمعلّى،
44
زكريا محمد
وله �سبع��ة �أجزاء» (تاريخ اليعقوبي ،المجل��د الأول ،بال تاريخ� ،ص .)259
بن��اء عليه ،فالأي�سار� ،أي المقامرون ،يكونون �سبعة بقدر عدد القداح التي لها
حظ الربح والخ�سارة« :وال يكون الأي�سار �إال �سبعة ،ال يكونون �أكثر من ذلك»
(ابن حبيب ،المحبر) .وهذا يعني �أن قداح المقامرة الفعلية �سبعة فقط.
2.2ق�سم ال يربح وال يخ�سر ،لكن ح�سب الغالبية ولي�س ح�سب الكل .وعدد قداحه
ثالث��ة �أو �أربع��ة« :والثالثة التي ال �أن�ص��ب لها �أغفال ،ولي���س عليها ا�سم،
يقال له��ا :المنيح ،وال�سفي��ح ،والوغد» (تاريخ اليعقوب��ي ،المجلد الأول،
ب�لا تاريخ� ،ص � .)259أما ابن حبي��ب فيجعل القداح �أحد ع�شر� ،سبعة منها
قام��رة ،مما يعني �أنه يتبق��ى �أربعة غير قامرة« :وي�ؤت��ى بالقداح وهي �أحد
ع�ش��ر قدحا� .سبعة منها لها حظ �إن فازت ،وعلى �أهلها ُغرم �إن خابت بقدر
ما لها �إن فازت من الحظ» «ابن حبيب ،المحبر» .وهو ما ي�ؤيده ابن �سعيد:
«و�أربع��ة تثقل بها القداح ،ال حظ لها �إن فازت ،وال غرم عليها �إن خابت»
(ابن �سعيد ،ن�شوة الطرب) .و�سوف نعر�ض الحقا لهذا القدح الزائد.
�أم��ا القداح التي تفوز وتخ�سر فت�سمى المو�سومة� :أي المعلمة بو�سم� ،أي بعالمة.
في حين تدعى التي ال تفوز وال تخ�سر الأغفال� :أي العارية من الو�سم والعالمة.
وف��ي مقتب�س اليعقوب��ي ال�سابق �صحفت كلمة «و�سم» وتحول��ت �إلى «ا�سم» ،في
م��ا نعتقد .فالجملة يجب �أن تق��ر�أ هكذا« :والثالثة التي ال �أن�صب لها �أغفال ولي�س
عليه��ا و�سم» .غير �أن ابن قتيبة يبدو كما لو �أنه يوافق على �أن العالمات �أ�سماء،
لكنه��ا �أ�سماء الالعبين ،ال �أ�سماء القداح« :المك ّتبة :الق��داح عليها �أ�سماء �أ�صحابها
�أو عالمات لهم» (اب��ن قتيبة ،المعاني الكبير) .والمك ّتبة هي التي عليها عالمات
كتابي��ة .وهذا ر�أي من ال�صعب قبوله .فه��و يعني �أن لكل �شخ�ص قدحه الخا�ص
الذي عليه ا�سمه .وهذا يخل ب�شروط اللعب .فالقداح يجب �أن تكون كلها مت�شابهة؛
�أي من نوع واحد من الخ�شب ،ومن لون واحد ،وطول واحد ،وملم�س واحد.
علي��ه ،ال يمكن لكل واحد �أن ي�أتي بقدح��ه على الهيئة التي يريد� .أكثر من ذلك،
فنح��ن نعتقد �أن هناك جهة ما ،على عالقة بالمعبد المكي ،كانت ت�ؤتمن على هذه
الق��داح ،وتحتفظ بها حتى يحين موعد اللعب .وهذا يعني �أن القداح كانت ملكية
45
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
عام��ة ،ب�شكل ما .ولم يكرر ابن قتيب��ة ر�أيه �أعاله في كتابه «المي�سر والقداح»،
مما يعني �أنه تخلى عنه.
�إذن ،فالف��ارق بين الأغف��ال وغير الأغفال �إنما هو الح��زوز� ،أو الو�سوم التي
عليها ،كما يقول ابن مقبل في بيت �شعر له:
وي�ش��رح لنا بن عا�شور ب�شكل وا�ضح و�سليم تمام��ا الفرق بين الأغفال والمو�سومة:
«والثالث��ة الأخيرة ال حظوظ لها وت�سمى �أغفاال ،جم��ع غفل ،ب�ضم الغين و�سكون
الف��اء ،وهو الذي �أغفل ف��ي العالمة .وهذه العالمات خطوط م��ن واحد �إلى �سبعة
ك�أرق��ام الح�س��اب الروماني �إلى الأربع��ة .وقد خطوا العالمات عل��ى القداح ذات
العالمات بال�شلط في الق�صبة� ،أو بالحرق بالنار ،فت�سمى العالمة حينئذ قرمة ،وهذه
العالم��ات تو�ضع في �أ�سافل القداح» (بن عا�ش��ور ،التحرير والتنوير) .وي�ؤكد هذا
البقاعي« :قال �صاحب الزينة :فالتي لها الغنم وعليها الغرم ...يقال لها :مو�سومة،
لأجل الفرو�ض [= الحزوز] ف�إنها بمنزلة ال�سمة» (البقاعي ،نظم الدرر) .وهذا هو
ال�صحي��ح .فال�سهام ال�سبع��ة القامرة مو�سومة� ،أي معلمة بح��زوز تحدد ن�صيب كل
واحد منها في ربحه وخ�سارته .فالمعلى عليه �سبعة حزوز ،والفذ عليه حز واحد:
«ف�أوله��ا الفذ :وهو قدح في �صدره ح��ز واحد ،وله ن�صيب واحد في الأخذ والغرم.
والثان��ي الت��و�أم ،وفي �صدره ح��زان ،وله ن�صيب��ان في الأخذ والغ��رم .والثالث
ال�ضري��ب وي�سمى الرقيب وفيه ثالث��ة حزوز ،وله ثالثة �أن�صب��اء .والرابع الحل�س
وفي��ه �أربعة حزوز وله �أربعة �أن�صباء .والخام���س الناف�س وفيه خم�سة حزوز ،وله
خم�سة �أن�صباء .وال�ساد�س الم�سبل ،وي�سمى الم�صفح �أي�ضا ،وفيه �ستة حزوز وله �ستة
�أن�صباء .وال�سابع المعلى ،وفيه �سبعة حزوز ،وله �سبعة �أن�صباء ،وهو �أوفرها حظا،
ولذلك ي�ضرب به المثل في الحظ فيقال قدحه المعلى» (القلق�شندي� ،صبح الأع�شى).
وال نع��رف ب�ش��كل م�ؤك��د �أي��ن كان��ت تو�ض��ع الح��زوز بال�ضب��ط ،و�إن كان
االحتم��ال الأغلب �أنه��ا تو�ضع في الط��رف الأ�سفل من القدح ،كم��ا اقترح بن
عا�ش��ور� .أم��ا الق��داح الأغف��ال فمن المحتم��ل �أن واح��دا منها ،وه��و المنيح،
46
زكريا محمد
كان��ت ل��ه عالمة م��ا ف��ي عقبه .فه��و غفل م��ن الح��زوز مثل��ه مث��ل �شقيقيه،
لك��ن ل��ه عالم��ة م��ا في عقب��ه ،ف��ي ما يب��دو .و�س��وف نتح��دث عن��ه الحقا.
وتدعى القداح المو�سومة �أي�ضا ب «المك ّتبة» ،كما ر�أينا �أعاله عند ابن قتيبة� ،أي
التي عليها كتابة تحزيز« :المكتبة ال�صفر :وهي القداح» (ل�سان العرب)� .أما عند
الفرزدق فالقداح منق�شة ،لكن بالمعنى ذاته� ،أي محززة:
ودارت عليه��ن المنق�ش��ة ال�صفر خرجن حري��رات و�أبدين مجلـدا
فالمنق�ش��ة ال�صفر في البيت هي ق��داح القرعة والقمر« :يعني الق��داح ،يقول� :سبين
فاقت�سمن بالقداح» (المبرد ،الكامل في اللغة) .طبعا ال بد �أنه كانت هناك قداح خا�صة
عند نا�س كثيرين .لكنها قداح اال�ستق�سام ال�شخ�صي� ،أي للبت في �أمر خا�ص ،ك�سفر
�أو زواج �أو غير ذلك .عليه ،فهي من �صنف «الأزالم» التي لي�ست للمقامرة .وهذه
ربم��ا كانت تحفر عليها �أ�سماء �أ�صحابها �أو عالماتهم .وي�سمى التحزيز الخا�ص� ،أي
تعليم المرء لقداحه الخا�صة :الت�ضري�س ،لأنه كان يقع ،في الزمن الأقدم عبر ع�ضة
�ضر�س ،في ما يبدو� ،أو لأن الحز ي�شبه ع�ضة ال�ضر�س« :وال�ضر�س :تعليم القدح،
وهو �أن تعل��م قدحك ب�أن تع�ضه ب�أ�ضرا�سك ...وقدح م�ضر�س :غير �أمل�س لأن فيه
كالأ�ضرا�س .الليث :الت�ضري�س :تحزيز» (ل�سان العرب).
ويب��دو �أن القداح ال�سبعة المحززة كانت �صفراء اللون دوما ،لذا �سميت «المكتبة
ال�صفر» �أو «المنق�شة ال�صفر» كما ر�أينا .ويقال لنا �أن �صفرتها لها عالقة بال�شجرة
التي ت�ؤخذ منها ،وهي �شجرة النبع .قال دريد بن ال�صمة:
ب��ه علم��ان م��ن عق��ب و�ضر�س و�أ�صف��ر م��ن قداح ال ّنبع ف��رع
وت�ؤخ��ذ الق��داح ،و�سهام الرمي �أي�ض��ا ،من �شج��رة النبع ذاتها لق��وة �أغ�صانها
احمر»
ّ ومرونته��ا« :النبع� شجر �أ�صفر العود ،رزينة ،ثقيلة ف��ي اليد و�إِذا تقادم
(ل�س��ان العرب) .ويمكن للمرء �أن يت�ساءل� :أهناك معنى للت�شارك في الجذر بين
�شجرة النبع وبين نبع الماء؟
47
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
يقع الت�شو���ش الأكبر في فهم كيفية لعب المي�سر في م�س�أل��ة القداح الأغفال .فثمة
ر�أيان متعاك�سان بخ�صو�ص مهمة هذه القداح وعملها:
ر�أي الغالبي��ة :ويرى �أن هذه القداح و�ضع��ت كي تتكثّر بها القداح و ُتثقل في�ؤمن
الغ���ش� .أي �أن وجوده��ا له��دف خ��ارج الربح �أو الخ�س��ارة« :الق��داح الغفل:
الت��ي لي�ست له��ا فرو�ض [ح��زوز] وال �أن�صباء وال عليها غ��رم ،و�إنما يثقل بها
القداح اتقاء التهم��ة .قال اللحياني :يدخل في قداح المي�سر قداح يتكثر بها كراهة
التهمة ...لي�س لها غنم وال عليها غرم» (ل�سان العرب).
ر�أي الأقلية :وهو يجادل ب�أن هذه القداح بالذات هي الخا�سرة دوما:
«قال بع�ضهم :بل ي�صير ثمن الجزور كله على �أ�صحاب ه�ؤالء الثالثة [الأغفال]،
فيكونون مقمورين [�أي خا�سرين] ،وي�أخذ �أ�صحاب ال�سبعة �أن�صباء على ما خرج
لهم ،فه�ؤالء اليا�سرون» (البقاعي ،نظم الدرر) .ي�ضيف الزبيدي« :قوله فه�ؤالء
[�أي �أ�صحاب القداح ال�سبعة] اليا�سرون �أي الغالبون في القداح .و�أ�صحاب الثالثة
[الأغفال] المي�س��ورون �أي المغلوبون حيث �أنهم غرموا ثمن الجزور كله .هذا
ال��ذي دل عليه ال�سياق .و�إطالق ا�سم اليا�سر على ال�سبعة دون الثالثة �إنما هو من
ب��اب التغليب ،و�إال فال��كل يا�سرون نظرا على اقت�ضاء �أ�ص��ل اللفظ» (الزبيدي،
ن�شوة االرتياح :في :طرف عربية ،ليدن 1303 ،هـ� ،ص .)47 46-
وهك��ذا فالقداح المتناف�سة ع�شرة ال �سبعة في الواق��ع بناء على هذه الفر�ضية .كما
�أن المتقامري��ن ع�شرة .ثالث��ة منهم خا�سرون و�سبعة رابح��ون .ومن الوا�ضح
�أن ر�أي الأقلي��ة هذا خطل .فهو يك�سر القاع��دة المركزية ال�شهيرة التي تقول �أن
المتقامرين في المي�سر ال يكونون �إال �سبعة.
ث��م �إذا كان المتقام��رون ع�شرة والق��داح ع�شرة ،فهذا يعن��ي �أن التحزيز و�ضع
لتحدي��د ح�ص���ص الفائزي��ن فقط .وفي ه��ذه الحال��ة ،كيف يتم تحدي��د ح�ص�ص
الخا�سري��ن� ،أي ح�ص�ص �أ�صحاب القداح الأغفال؟ وتحديد ح�ص�صهم مهم لأنهم
48
زكريا محمد
ه��م من �سيدفعون ثمن الجزور .فهل يدفع��ون ثمن الجزور بالت�ساوي .ثم لماذا
ُم��دح مثال من راهنوا عل��ى المعلى ،الذي عليه �سبعة ح��زوز� ،إذا لم يكن عنده
احتم��ال الخ�سارة؟ لقد مدح من يراهن على المعلى لأنه يخاطر ب�أن يخ�سر فيدفع
ثم��ن 7ح�ص�ص من لحم الجزور .ثم من هو الذي �سيراهن على قدح خا�سر من
القداح الأغفال� ،إذا كانت خ�سارتها م�ؤكدة؟
لذلك نحن نعتقد �أن ر�أي الغالبية القائل ب�أن الأغفال ال تربح وال تخ�سر هو الر�أي
ال�صحي��ح .لكن �صحته تتوقف هن��ا .فحكمهم ب�أن وظيفة الأغف��ال مجرد التكثير
والإثق��ال لتجنب الغ�ش ،والغ�ش م��ن الحر�ضة �أ�سا�سا ،حكم �شو���ش فهمنا للعبة
المي�سر طوال 1200عام على الأقل .فقد عنى هذا الحكم �أنه ال دور فعليا للقداح
الأغف��ال في اللعب .دورها خ��ارج اللعب� .أي الت�أكد من عدم وجود غ�ش� .أي
�أن خروجها �أو عدمه له المعنى ذاته .في حين �أن لهذه القداح دورا مركزيا في
اللعب ،كما �سنرى.
ويب��دو لن��ا �أن �أ�ص��ل هذا الحك��م الم�شو�ش نابع م��ن قيا�س الق��داح الأغفال على
الق��دح المني��ح� .إذ نخبر في جملة �شهي��رة جدا �أن القدح المنيح ي��رد �إلى الربابة
حين يخ��رج ،فيقال« :رد ،رد ،لي�س هو لأحد» (اب��ن قتيبة ،المعاني الكبير).
وهذه �أهم جملة نثرية و�صلتنا ،كخبر ال ك�شرح �أو تعليق ،عن قداح المي�سر .لذا
فه��ي جملة مهمة جدا .و�سوف ن�شرح معن��ى هذه الجملة الهامة بالتف�صيل الحقا.
وانطالق��ا م��ن الم�شابهة م��ع القدح المنيح قيل لن��ا �أنه �إذا خرج ق��دح من القداح
الأغفال ف�إنه يعاد فورا �إلى الربابة« :ف�إن خرج من الثالثة الأغفال �شيء رد من
�ساعت��ه» (تاريخ اليعقوبي ،المجلد الأول ،بال تاريخ� ،ص .)260وهذا يخالف
جملة ابن قتيبة الدينوري التي تتعلق بالقدح المنيح وحده.
ور�أي اليعقوب��ي والأكثري��ة هن��ا ر�أي خاطئ تماما .ف�إذا كان��ت الأغفال مجرد
قداح يثقل بها اللعب ،فلماذا يق�سم الجزور� ،إذن� ،إلى ع�شرة �أجزاء� ،أي ع�شرة
ح�ص���ص� ،أو ع�ش��رة �أكوام؟ فالمنطقي �أن يتم تق�سيم الج��زور �إلى �سبع ح�ص�ص
ال ع�ش��رة �إذا كان المقامرون �سبع��ة فقط .هذه الم�شكلة هي التي حدت ببع�ضهم،
ربم��ا� ،إلى افترا�ض �أن القداح الأغفال جزء من المقامرة .فما دام هناك ع�شرة
49
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�أجزاء من لحم الجزور ،فيجب �أن يكون هناك ع�شرة من المتقامرين عليها ،كما
ر�أينا عند الزبيدي.
لك��ن هن��اك من يرد على هذا بالتفري��ق بين �أكوام اللحم وبي��ن ح�ص�ص القداح.
وهذا ما ينقلنا �إلى فر�ضيتي الأ�صمعي و�أبي عبيدة.
فالأ�صمعي يقول لنا �أن �أجزاء الجزور فيها 28ح�صة ،في حين يقول �أبو عبيدة،
والغالبية� ،أنها ع�شر ح�ص�ص فقط .وقد �أدى هذا �إلى �أن بع�ض الم�ؤلفين الأحدث
عهدا ر�أى �أنه ربما كانت هناك طريقتان للعب المي�سر عند العرب« :ف�إذا �أرادوا
التقام��ر ا�شتروا جزورا ،ب�ضمان م�ؤجل �إلى ما بعد التقامر ،وق�سموه �أبداء� ،أي
�أج��زاء� ،إلى ثماني��ة وع�شرين جزءا� ،أو �إلى ع�شرة �أج��زاء ،على اختالف بين
الأ�صمع��ي و�أبي عبي��دة .والظاهر �أن للعرب في ذل��ك طريقتين ،فلذلك اختلف
الأ�صمع��ي و�أبو عبيدة» (ب��ن عا�شور ،التحرير والتنوي��ر) .وهو ر�أي ال ينفعنا
�أبدا� ،إذ لوة قبلنا به ف�سوف نكون مع لعبتين ال مع لعبة واحدة.
وين�س��ب الر�أي الثاني �أحيانا لغي��ر �أبي عبيدة .بناء على ذلك ،ف�إذا �أردنا �أن نحل
�ألغاز لعبة المي�سر علينا �أن نو�ضح العالقة بين الرقمين 10و .28الكل ،بالطبع،
يواف��ق على وج��ود الرقمين� ،أي عل��ى �أن لعبة المي�سر ت�سي��ر بهذين الرقمين.
فالج��زور تق�سم �إلى ع�شرة �أجزاء ،كما �أن هناك ع�شرة قداح .كذلك فهناك على
الق��داح المو�سومة ح��زوز ي�ساوي حا�ص��ل جمعها 28حزا .فل��كل قدح ن�صيب
يح��دده موقعه الت�صاعدي .فالأول ل��ه ن�صيب واحد �إن رب��ح ،وعليه غرم �إن
خ�سر� .أما الثاني فن�صيبان ،وهكذا حتى ن�صل �إلى ال�سابع ،الذي له �سبعة �أو عليه
�سبعة.»28 =7+6+5+4+3+2+1« :
لك��ن المختل��ف الذي جاءنا به الأ�صمع��ي -وقد جاء منقوال عنه ول��م نقر�أه بقلمه
للأ�س��ف -هو �أن لحم الجزور �أي�ضا ينق�سم �إلى 28ح�صة« :كان الأ�صمعي يجعل
�أجزاء المي�س��ر [= الجزور هنا] ثمانية وع�شرين ج��زءا؛ ذهب �إلى جمع �أن�صباء
50
زكريا محمد
القداح ال�سبعة وهي ثمانية وع�شرون جزءا» (ابن قتيبة ،المعاني الكبير) .ي�ضيف
القرطب��ي م�ؤكدا ،لكن من باب تخطئة الأ�صمع��ي« :و�أخط�أ الأ�صمعي في ق�سمة
الج��زور ،فذكر �أنها ،على قدر حظوظ ال�سهام ،ثمانية وع�شرون ق�سما ،ولي�س
كذلك» (تف�سير القرطبي).
�إذن ،فالأ�صمع��ي ،منف��ردا وحده من بين الجميع ،كان ي��رى �أن لحم الجزور
يق�س��م �أي�ضا �إلى 28ح�صة ت�س��اوي الفرو�ض -الح��زوز ال 28لل�سهام� .أي �أن
الرق��م 28ال يخ�ص القداح وحدها ،بل يتحقق ف��ي �أجزاء الجزور �أي�ضا .فهناك
ح��زا ف��ي القداح ،يقابلها 28ح�ص��ة من لحم الجزور .بن��اء عليه ،ففر�ضية
ّ 28
الأ�صمع��ي تقوم عل��ى �أنه يجب ت�س��اوي الطرفين� :أجزاء لح��م الجزور وقداح
المي�سر� ،إذا كان للعبة �أن تكون:
و�إذا كان هن��اك 28جزءا من لحم الجزور ،فهذا يو�صل �إلى �أن الأ�صمعي ر�أى
�أن هن��اك �سبعة �أجزاء من لحم الجزور هي التي ت�شارك في المقامرة ال ع�شرة،
مثلم��ا �أن هناك �سبعة قداح مقامرة .فال يمكن الح�صول على الرقم 28في �أجزاء
الج��زور �إال عبر ه��ذا االفترا�ض .علي��ه ،يكون لدينا �سبعة �أج��زاء� -أكوام من
لح��م الجزور تت�صاعد في قيمته��ا الفعلية من الرقم 1حت��ى الرقم 7كي تت�ساوى
مع الت�صاعد في حزوز الق��داح ال�سبعة من .7-1فالكومة الأولى ت�ساوي ح�صة
واحدة� ،أما ال�سابعة فت�ساوي �سبع ح�ص�ص .وهكذا نكون �أمام ال�صورة الآتية:
28حزا = 28جزءا
ثالثة �أقداح �أغفال ال تدخل المقامرة = مقابل ثالثة �أجزاء لحم ال تدخل المقامرة.
51
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ه��ذا هو جوهر الت��وازن والتوازي في لعب��ة المي�سر .وم��ن دون هذا التوازي
الكامل ال يمكن للعبة المي�سر �أن ت�سير.
وقد ُخط��ئ الأ�صمعي ،وهوجم ب�ش��دة ،على فر�ضيته هذه .وي��ورد لنا البقاعي
ال��رد الأ�سا�سي لخ�صوم الأ�صمعي عل��ى فر�ضيته هذه« :وقد ذك��ر [الأ�صمعي]
جز�أ على عدد ما في القداح م��ن الفرو�ض [الحزوز] وهي ثمانية �أن الج��زور ُت ّ
وع�ش��رون جزءا .وال معنى لهذا الق��ول لأنه يلزم �أن ال يكون في هذا قمار وال
ف��وز وال خيبة �إذ كل واحد يختار لنف�سه ما �أحب م��ن ال�سهام ثم ي�أخذ ما خرج له
ثم ال تفرغ �أجزاء الجزور �إال بفراغ القداح ،فال معنى للتقامر عليها» (البقاعي،
نظم الدرر).
�إذن ،فمنتقدو الأ�صمعي يزعمون �أن فر�ضيته ت�ؤدي �إلى ا�ستحالة اللعب .فما دام
هن��اك 28حزا تقابلها 28ح�صة ،فكل الق��داح المو�سومة �ستخرج فائزة .لذا فهم
ي�صرون ،وه��م الأكثرية ،على �أن �أجزاء الجزور ع�ش��رة .فهناك رقم ع�شرة
مقابل رقم .28وهذا ما قادهم �إلى ورطة ال حل لها ،كما �سنرى.
�أم��ا ال��رد على خ�صوم الأ�صمعي ف�سهل ج��دا� .إذ يمكن �أن يقال له��م� :أنتم ر�أيتم
�أن فر�ضي��ة الأ�صمعي �ست���ؤدي �إلى ا�ستحال��ة اللعب لأنكم تجاهلت��م �شيئا واحدا:
الق��داح الأغفال ،التي تعرفونها جيدا .فمهمة ه��ذه القداح هي منع �سيناريو فوز
جميع الق��داح المو�سومة التي تتحدثون عنها .فلي�ست مهمة هذه القداح درء غ�ش
محتمل من قبل الحر�ضة ،عب��ر التكثير و�إثقال اللعب ،بل مهمتها منع ال�سيناريو
ال��ذي يكون الكل فيه فائزين .فالفائز في المي�سر هو من يخرج قدحه� .أما من ال
يخرج قدحه فه��و الخا�سر« :وكان ثمن الجزور عل��ى الذين لم تخرج قداحهم»
(اب��ن حمدون ،التذكرة الحمدونية) .هذه هي القاعدة الأ�سا�سية في لعبة المي�سر.
والق��داح الخارج��ة لن تزيد عن �سبعة ف��ي كل الأحوال� ،أي ل��ن تزيد عن عدد
المقامري��ن .وقد و�ضعت الق��داح الأغفال الثالثة كي ت�ضع��ف ب�شدة من احتمال
خروج الق��داح ال�سبعة المتناف�سة معا .فمن ال�سبعة التي �ستخرج� ،سيكون هناك،
في غالب الأمر ،قدح �أو قدحان �أو ثالثة من الأغفال .بالتالي ،فلن تفوز القداح
المقامرة� ،أي القداح المو�سومة ،كلها .ولو حدث �أن خرجت القداح المو�سومة
52
زكريا محمد
كله��ا ،وهو احتمال �ضئي��ل ،ف�إن اللعب �سيبطل ويعاد م��ن جديد ،ل�سبب ب�سيط:
وهو �أنه لن يكون هناك خا�سر كي يدفع ثمن الجزور.
�إذن ،فق��د كان الحكم ب���أن خروج الأغفال مث��ل عدم خروجه��ا� ،أي �أنها ترد
ثاني��ة �إلى الربابة ،هو الحكم ال��ذي �أجه�ض �أي �إمكانية لفهم لعبة المي�سر .القداح
الأغف��ال ال ترد حين تخرج .القدح الوحيد الذي يرد ،وفي لحظة محددة فقط،
ول�سب��ب محدد ،هو القدح المنيح ،كما �سنرى الحق��ا .فكرة رد القداح هي التي
�أو�صلت �إلى رف�ض نظرية الأ�صمعي عن الح�ص�ص ال 28في لحم المي�سر.
وفر�ضي��ة الأ�صمعي تق��ول :ثمة ع�شرة �أك��وام من اللحم فيه��ا 28ن�صيبا .ومن
الأك��وام الع�ش��رة هناك �سبع��ة �أكوام من اللح��م فقط هي التي يقت��رع عليها� .أما
الثالث��ة الباقية فخ��ارج القرعة .انطالقا م��ن هذا ،ف�أرقام المي�س��ر الفعلية هي 7
و .28لدين��ا ع�شرة قداح� ،سبع��ة منها هي القامرة� .أما الثالث��ة الباقية فال تدخل
ف��ي المقامرة .ولدينا �أي�ضا ع�شرة �أج��زاء من اللحم� ،سبعة منها تدخل المقامرة،
�أم��ا الأجزاء الثالثة الباقية فال تدخل في المقامرة .وهذا يعني �أن الأكوام الثالثة
هي المعادل للقداح الأغفال .و�سوف نرى الحقا �أن الأجزاء الثالثة هي (�أجرة)
الرقيب والحر�ضة والجزار.
�إذن ،يمك��ن القول �أنه ف��ي اللحظة التي رف�ضت فيه فك��رة الأ�صمعي عن وجود
الرقم 28في �أجزاء لحم الجزور� ،أي فكرة �أن داخل �أكوام اللحم يوجد رقم �آخر
هو ،28فقد �أبهم المي�سر ،وفقدنا �إمكانية فهم طريقة لعبه .وها نحن نعود �إلى هذا
ال��ر�أي بعد 1200عام لنجعله حجر الزاوية في فهم اللعبة .الحجر الذي رف�ضه
البنا�ؤون يتحول �إلى حجر الزاوية .وكي يزداد و�ضوح الأمر يمكن لنا �أن ن�ضع
بع�ض ما تو�صلنا �إليه هنا في نقاط على ال�شكل الآتي:
�أوال :ال يمكن للعبة المي�سر �أن تنتهي �إال عند خروج �سبعة قداح.
ثانيا :الق��دح الذي يخ��رج من الق��داح المو�سومة هو الفائ��ز ،والقدح الذي ال
يخرج هو الخا�سر.
53
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ثالثا :و�ضعت الق��داح الأغفال الثالثة بين القداح المو�سومة التي تربح وتخ�سر
كي تقلل من احتم��ال خروج القداح المو�سومة كلها في اللعب .فكل قدح
غف��ل يخرج يمنع قدحا مو�سوما محززا من الخروج .وفي حال خرجت
القداح ال�سبعة المو�سومة معا ،وه��و احتمال �ضئيل ،يبطل اللعب ويعاد؛
لأن��ه لن يكون هناك خا�سر يدفع ثمن الجزور .واللعب في المي�سر يدور
�أ�سا�سا على من يدفع ثمن الجزور.
رابعا� :أكوام لحم الجزور الداخلة في المقامرة �سبعة .ولكل كوم قيمة في �سل�سلة
ت�صاعدية .فالكوم الأول ي�س��اوي ح�صة واحدة ،والكوم ال�سابع ي�ساوي
�سبع ح�ص�ص.
54
زكريا محمد
لكنه��ا ف��ي اللعبة الحقيقية ال تعود حين تخرج� ،إال الق��دح المنيح ،الذي يعود في
لحظة محددة ما �سنعر�ض لها تاليا.
ح�سن جدا ،الحالة ال�سابقة التي عر�ضها اليعقوبي حالة مثالية ،وال تعك�س م�شاكل
الفر�ضي��ة الت��ي ي�سير عليها .وهو ي��ورد لنا بنف�سه بع�ض الح��االت غير المثالية:
«و�إن خ��رج المعل��ى �أول القداح �أخذ �سبعة �أجزاء الج��زور ،وكان الغرم على
�أ�صحاب القداح التي خابت ،واحتاجوا �أن ينحروا جزورا �أخرى لأن في قداحهم
الم�سبل ،وله �ستة �أجزاء ،ولم يبق من اللحم �إال ثالثة» (تاريخ اليعقوبي ،المجلد
الأول ،بال تاريخ� ،ص .)260
�إذن ،هن��ا تبد�أ الورطة .فبعد �أن خرج المعلى ( 7حزوز) ،و�أخذ �سبعة ح�ص�ص
م��ن الع�شر� ،أي �أخذ �سبعة �أكوام لحم ،ولم ينته اللعب� ،صار على المقامرين �أن
ينحروا جزورا �أخرى .لماذا؟ لأن هناك ثالثة �أجزاء لم يحدد م�صيرها .وحين
يخ��رج الم�سبل بعد ذبح الج��زور الثاني ،فما الذي يح�صل؟ ي��رد علينا اليعقوبي
بقول��ه ،ف�إن« :خرج الم�سبل� ،أخذ �صاحبه �ستة �أجزاء الجزور الأخرى :الثالثة
الباقية من الج��زور الأولى ،وثالثة �أجزاء من الج��زور الثانية ،ولزمه الغرم
في الج��زور الأولى ،ولم يلزمه في الثانية �ش��يء؛ لأن قدحه قد فاز .وبقي من
الج��زور الثانية �سبعة �أجزاء .في�ض��رب عليها بقداح من بقي ،ف�إن خرج الناف�س
�أخ��ذ خم�س��ة �أجزاء ،ولم يغرم من ثم��ن الجزور الثانية �شيئ��ا ،لأن قدحه فاز،
ولزم��ه الغرم من الأولى ،وبقي جزءان من اللح��م» (تاريخ اليعقوبي ،المجلد
الأول ،بال تاريخ� ،ص .)261 - 260
غي��ر �أن هذا ال ينهي اللعبة ،لذا يجب نحر جزور ثالثة .ذلك �أن ما تبقى من لحم
الج��زور الثانية جزءان فق��ط ،في حين �أن هناك في الق��داح التي �ستكمل اللعب
(الحل���س) ،وله �أربع ح�ص�ص« :وفيه��ا من القداح (الحل�س) ل��ه �أربعة �أجزاء،
فيحتاجون �أن ينحروا جزورا �أخرى لتتمة �أربعة ..و�إن نحروا الجزور الثالثة
وفاز الحل�س �أخذ �صاحبه �أربعة �أجزاء :جز�أين من الجزور الثانية ،وجز�أين من
55
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الج��زور الثالثة ،ولم يغرم من الجزور الثالثة �شيئا لأنه فاز قدحه .وبقى ثمانية
�أجزاء من الجزور الثالثة في�ضرب ببقايا القداح عليها ،حتى يخرج قداحهم ،وفقا
لأج��زاء الجزور ،فه��ذا ح�ساب غرمهم الثمن كما و�صف��ت» (تاريخ اليعقوبي،
المجلد الأول ،بال تاريخ� ،ص .)261
وهكذا فاللعبة التي بدت بجزور واحد انتهت �إلى نحر ثالث جزر� .أي �أننا �صرنا
�أم��ام مجزرة .وفي هذا اللعب ال يوج��د �إال رابح واحد� ،أما الباقون فرابحون-
خا�سرون .وهكذا فنحن مع فو�ضى ال مع لعب.
و�إذا كان اليعقوب��ي ق��د نحر ثالثة جزر لحل م�شكلة وج��ود �أن�صبة للفائزين �أكثر
م��ن �أكوام اللحم ،ف�إن ابن قتيبة يقدم لنا ح�لا �آخر وهميا للمع�ضلة ذاتها� ،إنه حل
الت�أريب:
«�إذا خرج الأول المعلى وله �سبعة �أ�سهم ،وخرج الثاني الم�سبل وله �ستة �أ�سهم،
ف�أخ��ذ �صاحب المعلى �سبعة �أع�شار ،و�أخذ �صاحب الم�سبل الثالثة الباقية ،وبقيت
ثالثة �أخرى على �أ�صحاب القداح الخم�سة التي لم تخرج ،فيحتاج العدل بينهم �أن
ي�ستظه��ر الرهن لهذه ال�سهام الزائدة ،و�أن يوزع ذلك عليهم على قدر �سهامهم،
فيل��زم �صاحب الف��ذ ق�سطا ،و�صاحب الت��و�أم ق�سطين ،و�صاح��ب الرقيب ثالثة
�أق�ساط ،و�صاحب الحل�س �أربعة �أق�ساط ،و�صاحب الناف�س خم�سة �أق�ساط ،وكانوا
يدعون هذا «الت�أريب» (ابن قتيبة ،المي�سر والقداح� ،1432 ،ص .)146
وهك��ذا ،فال�سه��ام التي خرجت تحمل 13حزا� ،أي �أن له��ا 13ح�صة ،في حين
�أن ع��دد �أجزاء الج��زور ع�شرة فقط .من �أجل حل ه��ذه المع�ضلة ال يقترح ابن
قتيب��ة نحر ج��زر متوا�صل ،بل يقدم لن��ا نظرية (ال�ضم��ان)� .إذ يفتر�ض �أن ثمة
(رهنا) �أو (ت�أمينا) �أو (�ضمانا) يدفعه كل مقامر ل�سد العجز والنق�ص« :وكانوا قبل
�أن ي�ضرب��وا بالقداح يجعل��ون بينهم عدال ي�أخذ من كل منه��م رهنا بما يلزمه من
ثم��ن ن�صيب قدحه �إذا خاب ،وي�ستظهر في ذلك بم��ا يخ�شى �أن يلزمه من فا�ضل
56
زكريا محمد
هذا الرهن� ،أو ال�ضمان ،يدعوه ابن قتيبة بالت�أريب .وتعود م�س�ألة الت�أريب كلها
�إلى بيت غام�ض البن مقبل:
�ص��ك القداح وت�أريب على الي�سر �ش��م مخامي�ص ين�سيه��م معاطفهم
ّ
وق��د افتر�ض اب��ن قتيبة وغيره �أن الت�أريب هنا الره��ن ،وبنى على ذلك نظريته
عن لع��ب المي�سر .غي��ر �أن الأمر لي�س به��ذه ال�سهولة .فالت�أري��ب في اللغة هو
الت�شدي��د� ،أو هو ال�شح والبخل �أ�سا�سا� .أما معناه ف��ي البيت فمختلف عليه .بل �إن
الي ْ�سر عند بع�ضهم ،بل المخاطرة« :قال �أَبو عمرو: كلمة الي�سر في البيت ال تعني َ
خاطرة» (ل�س��ان العرب) .بل �إن بع�ضه��م روى الكلمة الأخيرة الم َالي�س��ر ههنا ُ
َ
ِ
مها�ضيم ،ين�سيهم معاطفهم/ على �أنها الخطر ال الي�سر« :و�أَن�شد البن مقبل :بِي�ض
�ض��رب القداح ،وت�أريب عل��ى الخطر» (ل�سان العرب) .وهن��اك من ر�أى �أن
الأم��ر يتعل��ق بالت�أريث ال بالت�أريب �أ�صال� ،أي �أن ف��ي الكلمة ت�صحيفا« :قال �أَبو
بالثاء» (ل�سان العرب).ِ من�ص��ور [الثعالبي] :هذا ت�صحيف وال�صواب ال َّت�أْرِ ُ
ي��ث
والت�أريث هو الإ�شعال والتح�ضي�ض والتحري�ض .فجذر �أرث يعني �أ�شعل وحث
عل��ى الح��رب �أو الفتنة ،وح�ض�ض وح��ث وحر�ضَّ �« :أرث بين الق��وم� :أَف�سد.
والت�أرِ يث الإِغراء بين القوم .والت�أرِ يث� أَي�ضاً� :إِيقاد النار» (ل�سان العرب) .كما
ورث لي يق��ال� :أرث نار الحرب ،و�أرث ن��ار الفتنة .ويقول العراقيون الآنّ :
ال�سيجارة� ،أي �أ�شعلها لي.
عليه ،فال�شطر يقول� :ضرب القداح وت�أريث� ،أي تح�ضي�ض ،على المخاطرة.
وقد ظن ابن قتيب��ة �أن (�ضرب القداح) مرتبط مبا�شرة ب (ت�أريب على الي�سر)،
و�أنهم��ا يتحدث��ان عن لعب��ة المي�س��ر .غي��ر �أن الأم��ر ال يبدو كذل��ك ،فه�ؤالء
المذك��ورون في البيت ين�سيهم معاطفهم �أح��د �أمرين� :إما �ضربهم لقداح المي�سر،
57
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
و�إما دخولهم في المخاطر وت�أريثهم لنيرانها .عليه ،ف�إحدى الحالين تتحدث عن
المي�سر ،في حين تتحدث الثانية عن المخاطر ال عن المي�سر.
لك��ن هذا ال يعني �أن لي�س ثمة رهن في المي�سر .بلى ،هناك رهن و�ضمان .لكنه
غي��ر الذي يتح��دث عنه ابن قتيب��ة� .إذ ي�ؤخذ من كل واحد م��ن المتقامرين مبلغ
م��ن المال ي�ساوي ،على الأقل ،قدر قدح��ه في حال خ�سارته ،وذلك حتى يدفع
ثم��ن الجزور من��ه حين تنتهي اللعب��ة .وي�ؤخذ هذا الره��ن احتياطا للخالف بين
المتقامرين .ويرد رهن الرابحين �إليهم عند نهاية الجولة.
�إذن ،فمحاول��ة ابن قتيب��ة �أرادت �أن تتجاوز مجزرة اليعقوب��ي ،و�أن تفتح �أفقا
لنظري��ة �أبي عبي��دة ،لكنها كان��ت محكومة بالف�ش��ل .فنظرية خاطئ��ة لن ينقذها
ت�صحيف لغوي.
58
فصل 3
القدح المردود
ن�أتي الآن �إلى القدح المنيح ،الذي هو �أ�شهر قداح المي�سر طرا ،و�أ�شدها غمو�ضا
و�إلغ��ازا �أي�ضا .وربم��ا كان فك لغزه ي�س��اوي فك الن�صف الثان��ي من لغز لعبة
المي�سر كلها .والأخبار عنه مت�ضاربة م�شو�شة� .أو �أنها مت�شابكة بحيث ينبغي بذل
جه��د هائل لل��م �شعثها ،من �أجل تو�ضي��ح دور هذا القدح في اللعب��ة� .أما جوهر
المع�ضلة التي تطرحها الأخبار عن هذا القدح فتتكون من �شقين:
الثاني� :أن هناك قدحين يدعيان بالمنيح� ،أو �أن هذا القدح يتبدى كقدح مزدوج.
بخ�صو�ص ال�شق الأول ،يقال لنا �أنه�« :إذا خرج قالواُ :ردُ ،رد ،لي�س هو لأحد»
(ابن قتيبة ،المعاني الكبير) .ولذلك قال ب�شر بن �أبي خازم الأ�سدي:
مفي�ض
ُ المنيح
َ فردت كما رد فقلت لها ردي �إليه جنانـه
وقد ر�أينا كيف قا�س بع�ضه��م القداح الأغفال على القدح المنيح فحكم ب�أن القداح
الأغف��ال كله��ا تعاد حين تخرج« :ف���إن خرج من الثالثة الأغف��ال �شيء رد من
�ساعت��ه» (تاري��خ اليعقوبي المجل��د الأول ،بال تاريخ��� ،ص .)260وقد حكمنا
بخط���أ هذا ال��ر�أي ،وقلنا �أن المنيح هو وحده الذي ي��رد عند لحظة محددة فقط.
فاالفترا�ض ب�أنه يرد دوما �سيجعل من وجود هذا القدح بال معنى .فهو لن ي�شارك
ف��ي اللعب عمليا .وكيف يمكن لقدح ف��ي �شهرة المنيح �أن يكون لغوا وبال دور؟
فالمني��ح هو الق��دح الأ�شهر بين القداح جميعا .بل �إن��ه �أ�شهر من المعلى الذي هو
الكا�س��ب الأكبر حين يك�س��ب�« :أبو عبيد� :س�ألت الأعراب ع��ن �أ�سماء القداح فلم
يعرف��وا منها غي��ر المنيح» (ابن �سيدة ،المخ�ص�ص) .وهك��ذا ،كان الأعراب ال
59
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
يعرف��ون �إال القدح المنيح .فما الذي يجعل قدحا تافه الدور بهذه ال�شهرة؟ وكيف
يكون قدح بمثل هذه الأهمية خارج �سياق اللعب؟ لذلك نقترح �أنه يرد في لحظات
محددة فقط� ،أي �أن رده م�س�ألة فنية من �أجل ترتيب اللعب ال غير .ولدينا �شواهد
على ذلك ،منها بيت الكميت� :إلى بيت غام�ض البن مقبل:
�أطيل به��ا ،كر المني��ح ،جدالهـا �أقول لك��م هذا وف��ي النف�س خطة
فال�شاعر لديه خطة في نف�سه يطيل جدالها مع نف�سه قبل �أن يعمد �إلى تنفيذها ،م�شبها
بكر القدح المنيح� ،أي بتكرار ظهوره و�إعادته ،الذي يحدث لإطالة هذه الإطالة ّ
اللع��ب «�أطيل بها� »..إلى نقطة محددة ال يعود يرد فيها بعد ذلك للربابة .عليه،
يمك��ن لنا �أن نفهم جملة «رد رد ،لي���س هو لأحد» التي تقال عن المنيح على �أنها
يلزم لأحد بعد .ذلك �أن القداح تعن��ي« :لي�س لأحد في هذه اللحظ��ة»� ،أي �أنه لم ّ
الأغف��ال كلها ،بما فيها المنيح ،لي�ست لأحد م��ن المتقامرين في الأ�صل .فهي ال
تدخ��ل المقامرة ،فلماذا يكون هو الوحيد الذي يقال عنه �أنه لي�س لأحد؟ لي�س من
يلزم
جواب على هذا ال�س�ؤال �إال افترا�ض �أن هذا القدح ،على وجه الخ�صو�صّ ،
في لحظة لأحد ما ،ويل�صق به ،في ما يبدو .و�سوف نحاول الو�صول �إلى تحديد
هذه اللحظة تاليا.
ولعل هذا ما ي�شير �إليه بيت عروة بن الورد الذي ي�صف فيه ال�صعلوك:
ب�ساحته��م زجـر المنيـح الم�شه��ر لا عل��ى �أعدائ��ه يزجرونـه
مط� ً
فالزج��ر هنا يعن��ي الدفع والرد .علي��ه ،فال�شخ�ص المذك��ور يواجه ويرد ،كما
يزج��ر المنيح وي��رد �إلى الربابة .دلي��ل ذلك �أن عروة ي�ضيف ف��ي البيت الذي
يعقبه« :ف�إن بعدوا ال ي�أمنون اقترابه»� ،أي �أن ال�صعلوك يعود بعد دفعه وزجره
حال ابتعادهم وذهاب يقظتهم .عليه ،فالزجر في البيت ال يعني (المراهنة على)
كما ظن �أحمد بن حاتم في جداله مع محمد بن زياد الأعرابي:
«ث��م �سئ��ل [الأعرابي] في ه��ذا المجل���س عن بيت لع��روة :مطال عل��ى �أعدائه
يزجرون��ه /ب�ساحتهم زجر المنيح الم�شهر ،فقيل له :م��ا معناه؟ فقال :يزجرون
60
زكريا محمد
هذا الرج��ل �إذا نزل ب�ساحتهم كما يزجر المنيح ...فقلت له :ويحك� ،إنما يزجر
[يراهن على] ما جاء له ن�صيب ،وهذا خامل ال ن�صيب له» (الزجاجي ،مجال�س
العلماء ،الكويت� ،1984 ،ص .)286-285لكن الحق مع الأعرابي .فالزجر
هنا بمعن��ى الرد والمنع واالنته��ار ،ال بمعنى المراهنة عل��ى .فال�صعلوك يمنع
ويرد كما يرد القدح المنيح عند خروجه من الربابة.
القدح الم�ستعار
ن�أت��ي الآن �إلى الق�سم الثان��ي من م�شكلة هذا القدح :م�شكل��ة وجود منيحين؛ منيح
�أ�صل��ي ومنيح م�ستعار« :اللحياني :المنيح �أحد الق��داح الأربعة التي لي�س لها غنم
وال غ��رم� :أولها الم�صدر ثم الم�ضعف ثم المنيح ث��م ال�سفيح .قال :والمنيح �أي�ضا
ق��دح من �أقداح المي�سر ي�ؤثر بفوزه في�ستعار ،يتيمن بفوزه .والمنيح الأول :من
لغ��و القداح ،وهو ا�سم له ،والمنيح الثاني الم�ستع��ار» (ل�سان العرب) .وهكذا،
فثم��ة منيح لغو ،ال يربح وال يخ�سر� ،أي مثل الأغفال الأخرى ،ومنيح م�ستعار
مع��روف عنه الفوز ،في�ستعيره المتقام��رون ب�سبب ذلك! �أما كيف ي�ؤثر بفوزه،
فهذا ما ال ي�شرحه لنا �أحد.
ويمك��ن لنا ف��ي ما نعتقد �أن نف�سر ب�سهولة حكاي��ة «الم�ستعار» هذه .ذلك �أن جذر
«منح» ذاته يفيد معنى الإعارة �أ�صال« :منحه الناقة جعل له وبرها وولدها ولبنها،
وه��ي المنحة والمنيحة ...ق��ال �أبو عبيد :للعرب �أربع��ة �أ�سماء ت�ضعها موا�ضع
العاري��ة :المنيحة والعرية والإفقار والإخبال» (ل�س��ان العرب) .عليه ،فالمنيح
ذاته م�ستعار من الأ�صل� ،أي بمعنى الجذر .وهذا يعني �أن ال�صفة المركزية لهذا
القدح انه ممنوح معار� .أي �أن الإعارة هي جوهره .فال داعي للبحث عن منيح
�آخر ي�ستعار كي ن�صبح �أمام قدحين منيحين.
لك��ن ال�س�ؤال هو :كيف ينظر �إل��ى هذا القدح على �أنه م�ستعار؟ ولم يكون ممنوحا
م�ستع��ارا؟ وما معنى �أن يك��ون كذلك؟ لكي نجيب على هذا ال�س�ؤال يبدو �أن علينا
�أن نتمعن في و�ضع القداح وترتيبها.
61
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الثامن والعا�شر
يختلف على �أ�سماء قداح المي�سر المو�سومة والأغفال ،وعلى ترتيبها .والأغفال،
كم��ا �أو�ضحنا من قبل ،ثالثة عن��د بع�ضهم ،و�أربعة عن��د �آخرين .وحين تكون
�أربع��ة ف�إن قداح المي�سر ت�صبح 11قدحا ال ع�ش��رة .ويو�ضع المنيح في موا�ضع
متعددة من �صف القداح .فلي�س هناك اتفاق تام على مكانه ،فهو العا�شر في �صف
القداح كما عند اللحياني« :ق��ال اللحياني :هو الثالث من القداح الغفل التي لي�ست
لها فر�ض وال �أن�صباء» (الزبيدي ،تاج العرو�س) .والثالث هنا تعني الأخير بين
الق��داح الأغفال� ،أي العا�شر في �صف القداح كلها كم��ا نفتر�ض .غير �أن هناك
م��ن يجعله ثامنا دوما� ،أي �أنه ي�أتي بع��د المعلى من القداح المو�سومة في ال�صف
مبا�ش��رة« :المنيح فيما زعم :الثامن من القداح» (الخليل العين) .ي�ضيف الل�سان:
«المني��ح :القدح الم�ستعار ،وقيل :هو الثامن من قداح المي�سر» (ل�سان العرب).
لذا يو�ضع ثامنا في ال�صف عند بع�ضهم« :كانت لهم ع�شرة �أقداح ،وهي :الأزالم
والأقالم :الفذ ،والتو�أم ،والرقيب ،والحل�س ،والناف�س ،والم�سبل ،والمعلى،
والمنيح ،وال�سفيح ،والوغد» (الزمخ�شري ،الك�شاف) .و�أن يكون المنيح ثامنا،
فهذه معلومة ثمينة جدا ،لأنها تحيلنا �إلى �أي�سار لقمان الثمانية.
ولقمان ه��و الأب الأ�سطوري للعب��ة المي�سر ،كما قلنا من قب��ل .وهو الذي قيل
في��ه المثل «�أي�سر من لقمان» ،فقد« :كان �أ�ض��رب النا�س بالقداح» (الع�سكري،
جمه��رة الأمثال)� .أم��ا �أي�ساره فهم الذين قيل فيهم �أي�ض��ا« :هم ك�أي�سار لقمان»،
وي�ض��رب في الق��وم ال�شرف��اء النبالء .و�أي�س��ار لقمان هم الأ�ص��ل الأ�سطوري
لأي�س��ار لعبة المي�سر الواقعيين .فهم �أول من لع��ب اللعبة مع لقمان وفي عهده.
و�س��وف نتوقف عند لقمان مطوال في وقت الح��ق .لكن ما نود لفت االنتباه �إليه
�إنما هو الف��ارق بين �أي�سار لقمان و�أي�سار لعبة المي�س��ر .ف�أي�سار المي�سر �سبعة في
حي��ن �أن �أي�سار لقمان ثمانية« :وهم ثمانية :بي�ض وحمحمة وطفيل وذفافة ومالك
62
زكريا محمد
والغري��ب �أن الم�صادر العربية ال تت�ساءل عن �سر الرقم الزائد في �أي�سار لقمان،
مقارنة ب�أي�سار المي�سر .فهي تخبرنا ب�أن �أي�سار المي�سر �سبعة ،ثم ت�ضيف �أن �أي�سار
لقم��ان ثمانية .ثم ال تعل��ق على االختالف ،وك�أنه ال عالق��ة بين الأمرين .هي
ت�ستح�ض��ر لقمان و�أي�ساره الثمانية عند الحديث ع��ن �أي�سار المي�سر ال�سبعة دوما،
لكنه ا�ستح�ضار مجاورة ال مقارنة.
وم��ا دام �أي�سار لقم��ان ثمانية ،فال بد �أن يكون هناك ق��دح زائد ثامن يناظرهم.
لكنن��ا ال نجد �أح��دا يحدثنا عن قدح ثامن� ،أي قدح علي��ه ثمانية حزوز .فمن هو
المقامر الثامن الزائد في �أي�سار لقمان؟ و�أين هو قدحه؟
نحن نريد �أن نفتر�ض �أن القدح المنيح هو نظير المقامر الثامن من �أي�سار لقمان،
�أي �أن��ه نظير (عمار) في الئح��ة �أ�سماء �أي�سار لقمان .فاالثن��ان يحتالن الموقع
الثام��ن :القدح المنيح هو الثامن ف��ي �صف الأقداح عن��د الكثيرين ،وعمار هو
الثام��ن من �أي�سار لقمان .لكننا نعرف �أن المنيح من القداح الأغفال� ،أي القداح
الت��ي ال يراه��ن عليها ،ولي�س له �صاح��ب ،فكيف نحل الأم��ر؟ الجواب :نحن
نفتر�ض �أن القدح المنيح ي�صبح قدحا خا�سرا في لحظة ما ،و�أنه يتم تلزيمه لأحد
الالعبين .فهو حين يخرج في تلك اللحظة يخرج خا�سرا ،وال يرد .كل القداح
المو�سوم��ة حين تخرج تخرج رابحة� ،أم��ا هو فيخرج حين يخرج خا�سرا� .أي
�أن فوزه هو خ�سارت��ه� ،أو خ�سارة المقامر الذي �سيكون �صاحبه .بالتالي ،فهو
ي�ض��اف ،عند لحظة مح��ددة� ،إلى القداح المو�سوم��ة� ،أي المتقامرة ،لكن من
باب الخ�س��ارة ال الربح .فالقداح المو�سومة ،التي له��ا احتمالية الخ�سارة ،هي
�سبع��ة فقط .وهي ت�صبح ثمانية حين ي�ضاف �إليها القدح المنيح ،الذي «يخرج»
63
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
العا�شر �أي�ضا
ح�س��ن جدا .المنيح ه��و الثامن من ق��داح المي�سر المو�سومة ف��ي لحظة ما ،لكنه
�أي�ض��ا الثالث في �صف الق��داح الأغفال ،ويعمل كقدح من الق��داح الأغفال .بذا
فه��و (غفل ومو�سوم) معا عند لحظة محددة .وهذا هو �سبب الت�شو�ش ب�ش�أنه .فهو
يتبدى في مو�ضعين اثني��ن ،مما جعل بع�ض النا�س تظنه قدحين اثنين« :والمنيح
قدح يمنح �أي
له موا�ضع يمدح فيها ويذم .فالمذموم الذي ال حظ له ،والممدوح ٌ
ي�ستعار فيدخ��ل في القداح ثقة بفوزه �أي قدح كان من ال�سبعة ،وي�سمى الم�ستعار
�أي�ضا» (اب��ن حمدون ،التذكرة الحمدونية) .ي�ضي��ف النويري« :قال ابن قتيبة:
والمنيح له مو�ضعان� :أحدهما الحظ له ،والثاني له حظ ،فك�أنه الذي يمنح حظه»
(لنويري ،نهاية الأرب).
ونعتق��د �أن علينا �أن نفرق بين العدد والمو�ض��ع .فللمنيح مو�ضعان في ما يبدو.
�أو ،ب�ش��كل �أدق ،يتبدى وك�أنه يجل�س في مكانين .فهو ثامن المو�سومة من حيث
احتم��ال الخ�س��ارة ،لذا ي�ضعه بع�ضه��م ثامنا في ال�صف .لكن��ه العا�شر من حيث
موقع��ه بي��ن القداح كلها� .إن��ه رقم 8ورق��م 10معا .وهذا مختل��ف عن وجود
منيحين؛ واحد �أ�صلي وواحد م�ستعار .فلي�س هناك �سوى منيح واحد ،لكنه يجل�س
ف��ي موقعين ،ويقعد عل��ى كر�سيين .وما لم نفرق بين هذي��ن الأمرين ،ف�سوف
ن�ضيع مع هذا القدح ال�ضائع .ومن الوا�ضح �أن و�ضع هذا القدح المحير هو الذي
جعل بع�ضهم يفتر�ض �أن قداح المي�سر �أحد ع�شر قدحا ال ع�شرة قداح .فقد ح�سبوه
قدحين بحكم تنقله بين الأغفال والمو�سومة.
64
زكريا محمد
ولأنه قدح غفل وقدح مو�سوم معا ،فمن المحتمل �أنه كان يو�سم بعالمة خا�صة.
لذا ي�سمى «المع ّقب» ،كما �سنرى الحقا .وربما عنى هذا �أن له عالمة في عقبة.
عالمة تميزه عن الأغفال ،وتميزه عن المو�سومة� .إنه غفل -مو�سوم .لكن �سمته
مختلف��ة عن �سمات القداح المو�سومة .ومن المحتمل �أن �سمات القداح المو�سومة
كانت على جنوبها� ،أما �سمته هو فعلى عقبه .و�سوف نعر�ض لهذا الحقا.
�إذن ،فالقدح المنيح في الأ�صل عا�شر القداح ،و�آخرها .لكنه «ي�ستعار» وي�صبح
قدح��ا خا�سرا يل��زم لأحد الخا�سري��ن� .أي ي�ضاف �إلى الق��داح الخا�سرة .وحين
يحدث ذل��ك ي�صبح ثامنا� .أي ي�صبح مقابل الثامن م��ن �أي�سار لقمان .بناء عليه،
فنحن مع قدح غريب من بابين:
الثاني� :أنه يختلف عن القدحين الغفلين الآخرين .فهما ال يربحان وال يخ�سران.
�أم��ا هو في�صبح خا�سرا عند لحظة محددة� .أي �أنه ي�صبح ك�أنه قدح مو�سوم ،لكن
م��ن زاوية الخ�سارة ال الربح .عليه ،فالقداح المو�سومة لها فر�صة �أن تخ�سر �أو
ترب��ح� .أما هو فلي���س له فر�صة �أن يربح .فربح��ه� ،أي خروجه ،هو الخ�سارة
بحد ذاتها.
ولأن المنيح يدخل في لحظة بين القداح المو�سومة ،مع �أنه لي�س منها في الأ�صل،
فهو المق�ص��ود بالمثل ال�شهير الذي يقول« :حن قدح لي�س منها» ،وهو «ي�ضرب
مثال للرجل يدخل نف�سه في القوم لي�س منهم» (الع�سكري ،جمهرة الأمثال) .وقد
ا�ست�شهد ب��ه الخليفة عمر بن الخطاب في حادثة قتل عقبة بن �أبي معيط يوم بدر.
�إذ قال عقبة:
«�أ�أقتل من بين قري�ش �صبرا [�أي �أقتل �أ�سيرا من دون �أ�سرى قري�ش]؟! فقال عمر:
حن قدح لي���س منها ،يعر�ض بن�سبه [فلم يكن قر�شي الأ�صل ح�سب االفترا�ض].
65
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وذل��ك �أن الق��داح في المي�سر ربما جع��ل معها قدح م�ستعار قد ج��رب منه الفلح
واليم��ن في�ستعار لذلك ،وي�سمى :المنيح .ف�إذا ح��رك في الربابة مع القداح تميز
�صوت��ه لمخالفة جوهره جوهر القداح ،فيق��ال :حينئذ حن قدح لي�س منها ،فتمثل
عمر بهذا المثل ،يريد �أن عقبة لي�س من قري�ش» (ال�سهيلي ،الرو�ض الآنف).
�إذن ،فبن��اء على التف�سي��ر ال�سائد فعقبة ملح��ق بقري�ش ون�سبه��ا ،ولي�س منها في
الأ�ص��ل .عليه ،فعمر يقول له� :أنت دخيل في قري�ش ،كما هو حال القدح المنيح
ف��ي القداح المو�سومة؛ فلن تعامل كما تعامل قري�ش ،بل �ستقتل باعتبارك خارجا
عنه��ا ول�ست من �صلبها� .أن��ت تحاول �أن ت�صدر �صوتها مث��ل �أ�صواتها� ،أي �أن
تجعل نف�سك منها ،لكنك ل�ست كذلك.
لكنن��ا نظ��ن �أن هذا التف�سير غير �سلي��م ،و�أن ما عناه عمر هو �أن��ك يا عقبة �ستقتل
�صب��را� ،أي ل��ن تفدى .و�ستكون في �ص��ف الذين يقتلون حتى ل��و كان قر�شيا.
ف�أن��ت كالقدح المنيح ال��ذي ال يخ�سر في الأ�صل ،لكنه يلتح��ق ب�صف الخا�سرين
عن��د لحظة محددة ،وي�صبح منهم� .إذن ،ف�أنت مثل القدح الخا�سر ،الذي ي�صير
خا�س��را مع �أنه لي���س خا�سرا في الأ�ص��ل� .إنه يحن حنين الق��داح الخا�سرة� ،أي
يحن �إلى االن�ضمام �إليها ،و�أنت مثله
ي�صوت �أ�صواتها ،مع �أنه لي�س منها� .أو �أنه ّ
قر�شي ،لكنك �ستن�ضم �إلى �صف غير القر�شيين وتقتل .بناء عليه ،فقد �أراد عمر،
ف��ي ما يبدو� ،أن يقول لعقبة :نعم� ،أن��ت قتيل مثلك مثل القدح المنيح .وهناك ما
ي�شي��ر بالفعل �إلى �أن القدح المنيح يدعى «�صريع القداح»� .أي �أنه قدح قتيل� ،أو
قدح القتيل حتى.
�صريع القداح
فثم��ة بيت �شعر البن مقب��ل ورد فيه معا ذكر المنيح وذكر ق��دح ي�سمى «�صريع
القداح»:
�صري��ع القداح والمني��ح المجبرا ت��م �ضحائهـا
و�أزج��ر فيه��ا قب��ل ّ
66
زكريا محمد
لكن ال�شطر الثاني يروى ب�شكل �آخر ،الأمر الذي يدل على ت�صحيف م�ؤكد:
�أي �أنن��ا بين «مجب��ر» �أو «مخير» .وقد قدمت للبيت ،بن��اء على �شكلي روايته،
تف�سي��رات نظن �أنها ال تنا�س��ب المقام�« :صريع القداح :م��ا �أخذ عوده وهو ياب�س
�ساقط م��ن �شجرته ،والمجبر الم�شدود بالعقب لنفا�ستهم ب��ه» (ابن قتيبة ،المعاني
الكبي��ر)� .أي �أن المجب��ر هنا من التجبي��ر وال�شد ،مثل تجبير العظ��ام المك�سورة
و�شده��ا� .أما الأزهري فيقول« :وال�صريع م��ن القداح :ما �صنع من ال�شجر ينبت
تم �ضحائها� /صريع القداحعل��ى وجه الأر�ض ،وقال ابن مقبل :و�أزجر فيها قبل ّ
والمنيح المخيرا .و�إنما خيره لأنه فائز مبارك .ويقال :ال�صريع :العود يجف في
�شجره ،يتخذ منه قدح ،وهو �أجود ما يكون» (الأزهري ،تهذيب اللغة) .وهكذا،
فالتف�سيرات تقدم من دون محاولة التثبت مما �إذا كان «مجبرا» �أو «مخيرا».
�أم��ا نحن فن�ضع احتمال �أن نكون مع المحير ،بالح��اء المهملة ،ال مع المجبر �أو
المخي��ر «المنيح المحيرا» .فالقدح المنيح في مو�ضع محير فعال .فهو مع القداح
الأغفال ،لكنه مع القداح المو�سومة من باب الخ�سارة .بذا ،ف «المنيح المحيرا»
في البيت و�صف ل «�صريع القداح»� .أي �أن علينا �أن نقر�أ ال�شطر هكذا� :صريع
القداح ،الذي هو المنيح المحير.
�أم��ا كونه �صريع القداح ،فلي�س ل��ه عالقة بنوع الغ�صن ال��ذي ي�ؤخذ منه ،بل هو
نابع من �أنه الخا�سر الدائم بين القداح كلها� .إنه القدح ال�صريع الذبيح دوما .فلي�س
ل��ه حظ في الربح ،لكن الخ�س��ارة تلحق به في لحظة مح��ددة� .إنه في الواقع مثل
الج��زور الذبي��ح ذاته .ومن �أجل ه��ذا يعطى الثامن من �أي�س��ار لقمان� ،أي عديل
القدح المنيح ،اال�سم «عمار» ،الذي يحمل �إ�شارة ما للموت .فالعمار هو الآ�س �أو
ٍ
ريحان عمار» الريحان� ،أو هو الآ�س والريحان معا« :العمار :الآ�س ،وقيل :كل
(ل�س��ان الع��رب) .والعمار هو الآ���س ذاته ف��ي المغرب« :ريح��ان :هو الآ�س»
(دوزي ،تكملة المعاجم العربي��ة) .والرند يعتبر طرازا من الآ�س .وهذه الثالثة
القبر» (ل�سان العرب).
على عالقة ما بالموت .فالآ�س هو القبر« :والآ�سْ :
67
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وف��ي حديث نبوي �أن الآ�س للجنة� ،أي لخلود الموت« :وحديث الح�سن بن علي
ر�ضي الله تعالى عنهما قال :جاءني ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم بالورد بكلتا
يديه فلم��ا �أدنيته من �أنفي قال�« :أما �إنه �سيد ريح��ان الجنة بعد الآ�س» (ال�شامي،
�سبل الهدى والر�شاد) .وف��ي ق�صة ال�ضيزن ملك الجزيرة يت�ضح �أن الآ�س رمز
للموت �أي�ضا .فقد حا�صر �سابور ال�ضيزن في ح�صنه ،لكن الن�ضيرة ابنة ال�ضيزن
دلت��ه على ثغرة في الح�ص��ن فاقتحمه وتزوجها« :ثم �سار �ساب��ور منها �إلى عين
التم��ر فعر�س بالن�ضيرة هن��اك ،فلم تنم تلك الليلة تملمال عل��ى فرا�شها .فقال لها
أمرك؟ قالت :لم �أنم قط على فرا�ش �أخ�شن من فرا�شك .فقال: ٍ
�شيء � ُ �سابور� :أي
ويلك وهل نام الملوك على �أنعم من فرا�شي؟ فنظر ف�إذا في الفرا�ش ورقة� آ�س قد
ل�صقت بين عكنتين من ُعكنها فقال لها :بم كان �أبوك يغذوك؟ قالت :ب�شهد الأبكار
مع ح�سنمن النحل ،ولباب البر ومخ الثنيات ،فقال �سابور� :أنت ما وفيت لأبيك ِ
فبني و�أ�صعدها �إليه ،وقال لها:
عال ُ ه��ذا ال�صنيع فكيف تفين ل��ي �أنا؟ ثم �أمر ٍ
ببناء ٍ
�ألم �أرفعك ف��وق ن�سائي؟ قالت :بلى؟ ف�أمر بفر�سين جموحين فربطت ذوائبها في
ذنبيهم��ا ثم ا�ستح�ض��را فقطعاها ف�ضربت العرب في ذلك مث�لاً» (ياقوت ،معجم
البل��دان) .وهكذا ،فوجود الآ�س على لحمه��ا� ،أدى بها �إلى الموت .بل �أدى بها
�إلى التقطيع كما يقطع جزور المي�سر.
بن��اء على كل هذا ،فالقدح المنيح ه��و �صريع القداح� .إنه الق��دح القتيل الذبيح.
ويجب �أن نفهم هنا �أن ابن مقبل ال يعني �أنه يراهن على قدح فائز ي�سمى المنيح،
ب��ل يعني �أنه ينحر الإبل .وه��و يكني عن نحرها بالمراهنة عل��ى القدح المنيح،
ال��ذي هو قدح الج��زور الذبيح .دليل ذلك �أن لعبة المي�س��ر ال تتم نهارا «قبل تم
�ضحائها» ،بل تتم ع�شية ،بعد غياب ال�شم�س .وهذا ي�شبه قول لبيد:
بمغال��ق مت�شاب��ه �أج�سامه��ا وج��زور �أي�سار دع��وت لحتفها
بذلت لجي��ران الجمي��ع لحامها �أدع��و به��ن لعاق��ر �أو مطف��ل
فالجزور هنا لي�ست ج��زور المي�سر ،بل جزور كرم و�ضيافة .لكنه يقترع على
نياقه بال�سهام ليقرر �أي جزور ينحر« :يقول :رب جزور ت�صلح لتقامر الأي�سار
عليها دع��وت ندمائي لنحرها بتلك المغالق المت�شابهة ،وه��ي �سهام المي�سر ي�شبه
68
زكريا محمد
بع�ضه��ا بع�ضا .و�أراد بها هنا �سهام القرعة يقرع بها بين �إبله� :أيها ينحر لندمائه.
فه��و يدعو بتلك ال�سهام لنحر ناق��ة عاقر �أو �أخرى مطف��ل .و�إنما ذكر «العاقر»
لأنه��ا �أ�سمن واحمل لل�شح��م ،و»المطفل» لنفا�ستها وعزته��ا» (هارون ،المي�سر
والأزالم� ،1953 ،ص .)21
مثنى الأيادي
وثم��ة تعبير غام�ض جدا مر في ال�شعر في �سي��اق الحديث عن لعبة المي�سر وهو:
«مثنى الأيادي» .وقد ورد هذا التعبير عند طرفة:
ِ
المعقب بمثن��ى الأيادي والمني��ح ذعرت قال�ص الثلج تحت ظالله
ُ
وق��د �أثار معنى هذا التعبير ج��دال دائما ،لم ينته �إلى نتيج��ة .وخذ هذا المخت�صر
من ل�سان العرب عن التف�سيرات المختلف��ة لمثنى الأيادي« :ومثنى الأيادي� :أن
يعي��د [الع��ب المي�سر] معروفه مرتي��ن �أو ثالثا .وقيل :هو �أن ي�أخ��ذ الق�سم [�أي
�أن ي�ش��ارك في اللعب] مرة بع��د مرة .وقيل :هو الأن�صب��اء [القطع] التي كانت
تف�ض��ل [تتبقى] من الجزور ...فكان الرج��ل الجواد ي�شريها فيطعمها الأبرام،
وه��م الذين ال يي�سرون» (ل�سان العرب) .وكما ن��رى فهو من غمو�ضه قد يعني
�أ�شياء مختلفة جدا.
ومن بين الأبيات �أعاله فقد حظي بيت طرفه بقدر �أكبر من االهتمام ،ربما ب�سبب
الت�شبيه الجميل والغريب فيه .فهو ي�شبه الغيم بالجمال ،ح�سب المف�سرين .ونحن
69
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
«هوادي �أم��ره� :أوائل �أمره .لل�شمال[ :ريح ال�شم��ال] لأنها هبت فيه� .أخطال:
ف�ضول ...والط��راف :بيت من �أدم .قال�ص الثلج :يعني غيم الثلج ...يقول:
طردته��ا [�أي غي��وم الثل��ج] بالطعام .مثنى الأي��ادي :يريد المع��روف .وقال
بع�ضهم :مثنى الأيادي م��ا ف�ضل من الجزور ي�شتريه فيق�سمه على الأبرام» (ابن
قتيب��ة ،المعاني الكبير) .علي��ه ،فقد ابتد�أ هذا اليوم بريح ال�شم��ال الباردة ،التي
هتك��ت �أطراف البيت الم�صنوع من الجلد .لكن ال�شاع��ر �أقدم على �إخافة الغيوم
الثلجي��ة «قال�ص الثلج» بمثن��ى الأيادي والمنيح المعق��ب� .أي �أنه« :طرد البرد
وكل ال�شت��اء بالقرى [الطعام]» (الزمخ�شري ،الك�شاف)� .إذن ،فقد طرد طرفة
قال�ص الثلج وبردها ،بالطعام ،طعام لحم جزور المي�سر.
وت�شبي��ه الغيوم بالقال���ص ت�شبيه جميل حقا .لكن البيت الثان��ي غام�ض وال يمكن
الرك��ون �إلى �أن ال�شاعر قد طرد الثلج بالإطع��ام والقرى� ،أو طرده بالمعروف
ال��ذي �صنعه بتوزيع لحمه عل��ى الذين �أرهقتهم برودة الثل��ج وغيمه .فهي فكرة
«ذع��رت» .فلماذا
ُ بعي��دة وملتوي��ة .كما �أن ه��ذا التف�سير يتجاه��ل مركزية كلمة
«تذع��ر» جمال الثلج� ،أي الغيوم ،من القرى والإطع��ام؟! المنطقي �أن ال�شاعر
عم��ل �شيئا ما �أذعرها .فما هو هذا ال�شيء؟ �إن��ه ،في اعتقادنا ،ذبح الجزور� -أي
جم��ل المي�س��ر .فحي��ن ر�أت «جمال الغيم» جم��ل المي�سر الذبيح ال��ذي قطع �إلى
ع�شرة �أك��وام ،خافت وذعرت .بذا ،حين يق��ول ال�شاعر «ذعرت قال�ص الثلج
بمثنى الأيادي» ،فيجب �أن نفهم �أن «مثنى الأيادي» هو الجزور الذبيح .لقد هدد
لبيد جمال الغيم بم�صير مثل م�صير الجزور ،فانذعرت ،وتبددت ،في ما يبدو.
«مثني
ّ بن��اء عليه ،يجب �أن نق��ر�أ «مثنى» بالياء الم�شددة ال بالأل��ف المق�صورة:
70
زكريا محمد
الأيادي» .وه��ذا التعبير يعني :البعير المربوط الأي��ادي .ذلك �أن البعير المعد
للذبح تربط يداه عند نحره� .إذ من ال�صعب ال�سيطرة عليه ونحره من دون ذلك:
«ف��ي حديث عمرو بن دينار ،قال :ر�أيت ابن عم��ر ينحر بدنته [�أ�ضحيته] وهي
باركة مثني��ة بثنايين ،يعني معقولة [مربوطة] بعقالين» (ل�سان العرب) .فالحبل
ال��ذي تربط به يدا البعير يقال له ثناية« :الحبل يق��ال له الثناية .قال :و�إنما قالوا
ثنايي��ن ولم يقول��وا ثنايتين لأنه حبل واحد ي�شد ب�أحد طرفي��ه يد البعير وبالطرف
الآخ��ر اليد الأخرى ،فيق��ال ثنيت البعير بثنايي��ن» .وي�سمى �أي�ض��ا الثناء�« :أما
الثناء ...فعقال البعير ونحو ذلك من حبل مثني» (ل�سان العرب).
لكن م��ن المحتمل �أن «المنيح المعقب» هنا هو الق��دح المنيح الذي نتحدث عنه.
المع ّقب �أي�ضا .وقد فهم هذا اللقب عل��ى �أنه يعني :المعاد �إلى الربابة
فه��و يدعىُ :
معقب ،وهو المعاد في الربابة مرة بعد مرة» ٌ قدح
بعد خروجه« :قال �أبو �سعيدٌ :
(الأزه��ري ،تهذيب اللغة) .لكنن��ا �أميل �إلى �أنه الذي علي��ه عالمة في عقبه� .إذ
71
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
يبدو �أنه الوحيد الذي عليه عالمة من بين القداح الأغفال .ويبدو �أن هذه العالمة
كان��ت تو�ضع في عقبه� ،أي في قاعدته ،ك��ي تميزه عن القدحين الآخرين .بناء
عليه ،يكون طرفة قد ذع��ر قال�ص النوق بالجزور الذي ربط وذبح ،وبالقدح
المنيح ،ال��ذي هو قدح الذبيح كما �سنرى� ،أي الق��دح الم�ضاف الخا�سر� .أو �أنه
هدده��ا ب�أنها �ستذبح وتق�سم بالق��داح وعلى ر�أ�سها القدح المني��ح الذي يحدد ،في
الواقع ،من يدفع جزءا كبيرا من لحم الجزور ،كما �سنرى.
قدح الخيبة
وبما �أن المنيح هو القدح الوحيد الذي يخ�سر حين يخرج� ،أي �أن فوزه هو خ�سارته،
فم��ن المحتمل جدا �أن يكون هو ذاته «الق��دح الأخيب» الذي ورد في حديث الإمام
علي عن جماعته« :من فاز بكم فقد فاز بالقدح الأخيب» .وقد فهمت بع�ض الم�صادر
العربي��ة �أن القدح الأخي��ب هذا قدح من القداح الأغفال ،لكنه��ا لم ت�ستطع �أن ت�شير
�إليه« :ال�سهم الخائب :الذي ال ن�صيب له من قداح المي�سر وهي ثالثة :المنيح وال�سفيح
والوغد» (ابن الأثير ،النهاية في غريب الحديث) .لكن ال يقال لنا �أي واحد من هذه
الق��داح ه��و� .أما نحن فنقول �أنه القدح المنيح .وهو خائ��ب لي�س لأنه يخرج خا�سرا
مع �أن��ه ال ي�شارك في المقامرة .وهو بذلك يختلف ع��ن القدحين الآخرين .فهما ال
يخ�س��ران مطلقا� .أما المنيح فلي�س له �سوى حظ الخ�سارة حين يملك حظا .واختالط
الف��وز بالخيبة في حديث الإم��ام علي« :فاز بالقدح الأخي��ب» ينطبق على المنيح،
الذي يمثل فوزه خ�سارته وخيبته� .إنه يفوز� ،أي يخرج ،لكن لكي يخ�سر.
وهن��اك مثل �شهير يق��وي من فر�ضن��ا�« :آب وقدح الفوزة المني��ح» .وقد فهمه
الميدان��ي على هذا ال�شكل« :ي�ضرب لمن غاب ثم يج��يء بعد فراغ القوم مما هم
فيه فه��و يعود بخيبة» (الميدان��ي ،مجمع الأمثال) .ونظ��ن �أن الأمر لي�س هكذا
بال�ضب��ط .فالمث��ل يتهكم على من يك��ون في موقع القدح المني��ح الخا�سر دوما.
72
زكريا محمد
ففوزه� ،أي خروجه عند لحظة محددة ،يعني خ�سارته .فالقداح المو�سومة حين
تخرج تكون فائزة� .أما القداح الأغفال فال تخ�سر حين تخرج� ،إال المنيح .فحين
يخ��رج �أخيرا ،بعد رده لغي��ر مرة في ما يبدو ،يكون خا�س��را .بذا ،ففوزه هو
الخ�س��ارة ذاته��ا� .أما الذي ال يخ�س��ر وال يربح فال يكون مح�لا للتهكم ،مقارنة
بالقداح المو�سومة الخا�سرة ،فهو �أف�ضل منها حاال.
وهكذا ،فالمنيح خا�سر حين «يفوز» �أي حين يخرج كما يخرج القدح الفائز .لذا
يقول ال�شاعر:
منيح��ا ف��ي ق��داح ي��دي مجي��ل فمه�لا ي��ا ق�ض��اع ف�لا تكون��ي
فه��و يقول لق�ضاعة :ال ت�ضعي نف�س��ك في مو�ضع الخ�سارة الم�ؤكدة ،كما هو حال
القدح المنيح.
�أم��ا �أبيات ال�شعر التي قد توحي ب���أن هناك منيحا رابحا ،فيج��ب في ر�أينا فهمها
انطالقا مما قلناه .مثال بيت عمرو بن قبي�صة الذي يقول:
يع��ود ب���أرزاق العي��ال منيحه��ا ومغـالـ��ق
ٌ بـ�أيديـه��م مقـروم��ةٌ
هن��ا ب��دا للبع�ض �أن المني��ح ،الذي يعود ب���أرزاق العيال ،ال ب��د �أن يكون قدحا
مو�سوما معتادا على الربح ل�سبب ما« :و�أما قول عمرو بن قميئة :ب�أيديهم مقرومة
ومغـالـ��ق /يعود ب�أرزاق العي��ال منيحها .فلي�س يجوز �أن يك��ون المنيح في هذا
البيت �إال قدحا يمتن��ح [�أي ي�ستعار] فيدخل في القداح لأنه قال :ب�أرزاق العيال،
فدل على �أن له حظا» (ابن قتيبة ،المعاني الكبير) .ور�أى بع�ضهم �أنه يفوز لأنه
يك��ون �أكثر مال�سة مثال« :ومن��ه قول الآخر :ب�أيديهم مقروم��ة ومغـالـق /يعود
ب�أرزاق العفاة منيحها .و«المنيح» في هذا البيت الم�ستمنح؛ لأنهم كانوا ي�ستعيرون
ال�سهم الذي قد �أمل�س وكثر ف��وزه ،فذلك المنيح الممدوح .و�أما المنيح الذي هو
�أح��د الأغفال فذلك �إنما يو�صف بالكر ،و�إياه �أراد الأخطل» «تف�سير القرطبي».
�أو كما يقول لنا الل�س��ان« :قال :والمنيح �أي�ضا قدح من �أقداح المي�سر ي�ؤثر بفوزه
في�ستعار يتيمن بفوزه» (ل�سان العرب).
73
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وهذا ت�صور خاطئ تماما ي�ض��رب اللعبة من �أ�سا�سها .ف�إذا كان هناك قدح �أمل�س
�سه��ل الف��وز ف�سوف يتناف�س للح�ص��ول عليه كل الالعبي��ن .و�إذا كان هذا القدح
المزع��وم ملك مقامر محدد فلن يقب��ل الآخرون �أن يتناف�س��وا بوجوده� ،أو �أنهم
�سيجعل��ون كل قداحهم مل�ساء مثله .فاللعب��ة تقوم على الت�ساوي الذي ال �شبهة فيه
بين القداح .ووجود واحد مختلف له �إمكانية فر�صة �أكثر للفوز يبطلها تماما.
علي��ه ،فالبيت ال يتحدث عن منيح فائز ،بل ع��ن منيح خا�سر هو من يدفع جزءا
كبيرا من ثمن الجزور ،فيطعم العيال والفقراء .فاللعبة تنتهي ب�أن يح�صل العب
م��ا على هذا القدح الخا�سر ،فيدفع ما تبقى من ثمن الجزور بعد �أن تكون القداح
المو�سومة التي خ�سرت قد دفعت ما عليها ،كما �سنرى �أدناه.
وحي��ن يمر �أي حديث عن الزجر مع المنيح ،فيجب �أن نفهمه ال بمعنى ال�ضرب
للرب��ح �أو الخ�سارة ،بل ال�ضرب الذي للخ�سارة .ذلك �أن المنيح لي�س يزجر به،
�أي ال يراه��ن عليه« :و�أما المنيح �أحد الثالثة التي ال حظوظ لها فلي�س يزجر وال
يرجى له فوز» (ابن قتيبة ،المعاني الكبير) .وفي بع�ض الأحيان علينا �أن ن�أخذه
بمعنى المنع والدفع والرد كما في بيت عروة الذي ناق�شناه من قبل« :قال عروة
بن الورد ي�صف رجال [�صعلوكا]:
و�أخبرني عبد الرحمن عن عمه �أنه كان يذهب �إلى �أن المنيح في هذا البيت المنيح
بعين��ه �أح��د الثالثة الأغفال ،قال :لأن��ه يعاد ف�إذا خرج قال��وا :رد رد ،لي�س هو
لأحد» (ابن قتيبة ،المعاني الكبير) .وهكذا فالمنيح يزجر هنا ،بمعنى يدفع عائدا
�إلى الربابة حين يكون موعد خروجه غير منا�سب.
خروج المنيح
يع��اد القدح المنيح �إل��ى الربابة �إلى �أن يتم الت�أكد من دف��ع ح�ص�ص لحم الجزور
كله��ا .وبهذا المعنى يجب �أن يظل مزجورا مع��ادا حتى اللحظة الأخيرة .فمثال
74
زكريا محمد
بناء عليه ،فحين يخرج المنيح �أخيرا يخرج خا�سرا على عك�س القداح الأخرى.
خروجه يكون هو الخ�س��ارة بعينها .لذلك قيل «�آب وقدح الفوزة المنيح» .ذلك
�أن المني��ح قدح الخ�سارة التامة .فلي�س له رب��ح مطلقا .له الخ�سارة فقط .القداح
المو�سوم��ة لها احتمال الربح� .أما القدحان الغف�لان الآخران فال يخ�سران �أبدا.
ب��ل �إنهم��ا يربحان دوما ب�شكل م��ا .فهما قدحا الرقيب والحر�ض��ة .وهذان لهما
ح�ص��ة محددة من اللحم� .أما القدح المنيح فه��و ال يربح ،لكنه يخ�سر .لقد و�ضع
م��ن �أجل احتمال الخ�سارة فق��ط .وهو في الحقيقة ،وبمعنى م��ا ،قدح الجزور
القتيل� .إنه �صريع مثل الناقة الذبيحة.
علي��ه ،فالق��دح المنيح هو القدح الوحيد م��ن بين القداح الأغف��ال الذي يعاد �إلى
الرباب��ة .وه��و يعاد حتى يت��م الت�أكد من دفع ثمن كل ح�ص���ص الجزور� .إذن،
فحين ن�سمع الفرزدق يتحدث عن فوز المنيح:
وال �أكل��ت فـوز المنيـ��ح المعقـب وما انتابها القنا�ص بالبي�ض والجنا
75
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
فيج��ب �أن نفه��م ف��وز المنيح على �أن��ه على طريق��ة المثل�« :آب وق��دح الفوزة
المنيح»� ،أي �آب بالخ�سارة .بالتالي ،فهو يق�صد �أنها نجت ،ولم ُت�صد ،ولم تحظ
بف��وز القدح المني��ح� ،أي لم تكن خا�سرة .وهذا يعني �أنه��ا خرجت �سالمة ،و�أن
�شط��ري البي��ت يعنيان المعنى ذات��ه .فالقنا�ص لم ي�صدها ،ول��م تنل حظ المنيح
المعقب� ،أي لم تنل الخ�سارة والموت.
الرقيب وال�ضريب
انطالقا من كل ما �سبق ،ن�ستطيع �أن ن�صحح الآن بع�ض الت�شو�شات في �أ�سماء قداح
المي�سر الأخرى ،وفي مواقعها� .أما في القداح المو�سومة ،فالم�شكلة تتمركز في
الق��دح الثالث ،الذي ي�سم��ى «الرقيب» في غالب الأحي��ان .لكن بع�ضهم ي�سميه
ال�ضري��ب �أي�ضا« :والثالث ال�ضري��ب وي�سمى الرقيب وفي��ه ثالثة حزوز ،وله
ثالثة �أن�صباء» (القلق�شندي� ،صب��ح الأع�شى) .وهكذا ،فال�ضريب والرقيب قدح
واحد هو الثالث بين المو�سومة.
لك��ن الم�شكل��ة �أن هناك م��ن يخبرنا ب�إ�ص��رار �أن الرقيب �أي�ضا ق��دح من القداح
الأغفال .وهذا يعني �أننا �أمام رقيب في المو�سومة ورقيب في الأغفال« :الفائزة
منها �سبعة :الفذ والت��و�أم وال�ضريب ،وهو الم�صفح ،والحل�س والناف�س والم�سبل
والمعل��ى .ومنها ما ال ن�صيب ل��ه :ال�سفيح والمنيح والرقي��ب ،وهو ال�ضريب،
والوغ��د» (ابن دريد ،جمهرة اللغ��ة) .وهكذا ،فالرقيب ه��و الثالث من القداح
الأغفال ،وهو يملك ا�سما �آخر :ال�ضريب.
وكما نرى من مقتب�س ابن دريد �أعاله ،فالت�شو�ش بخ�صو�ص هذا القدح ي�صل �إلى
مداه .فالرقيب يزاح من الق��داح المو�سومة ويو�ضع في �صف القداح الأغفال،
لكنه ،ويا للعجب ،يقول لنا �أن الرقيب هو ال�ضريب �أي�ضا ،في الوقت الذي ي�ضع
فيه ال�ضريب ف��ي القداح المو�سومة! وهكذا نعود �إلى ق��دح واحد با�سم ال�ضريب
يك��ون موجودا في لحظة واحدة بين المو�سومة وبي��ن الأغفال! �أي �أننا نعود في
الواقع �إلى رقيب ي�ضع رجال في المو�سومة ورجال في الأغفال.
76
زكريا محمد
وفي اعتقادن��ا �أن الرقيب وال�ضريب هما بين القداح الأغفال ،و�أنه ال عالقة لهما
بالق��داح المو�سومة �إطالقا .وقد و�ضع��ا على ا�سمي ال�شخ�صيتي��ن الرئي�سيتين من
بي��ن �شخ�صيات المي�سر :الحر�ضة والرقي��ب .فال�ضريب هو ا�سم الحر�ضة� .إذ �أن
الحر�ضة له ع��دة �أ�سماء .فهو ي�سمى :المجيل ،ال�ضري��ب ،ال�ضارب ،المفي�ض:
«ي�سمى المجيل :المفي�ض وال�ضارب وال�ضريب» «القرطبي ،تف�سير القرطبي».
وه��و �ضريب؛ لأنه ي�ض��رب جعبة القداح بقب�ضة يده كي تخ��رج القداح منها عند
اللعب .عليه ،فقد �أخذ قدح ال�ضريب ا�سمه من ا�سم �ضارب القداح� ،أي الحر�ضة.
�أم��ا الرقيب فقد عرفناه .فهو« :الموكل بال�ضريب .ورقيب القداح :الأمين على
ال�ضريب؛ وقيل :هو �أمين �أ�صح��اب المي�سر» (ل�سان العرب) .عليه ،فهو ي�سمى
بالرقيب لأنه يراقب الحر�ض��ة -ال�ضريب ،ويت�أكد من دقة عمله� ،أو لأنه �أمين
المتقامرين .وقد �أخذ قدح الرقيب ا�سمه من ا�سم هذه ال�شخ�صية .عليه ،فقد �سمي
القدح��ان المتعادالن با�سم هذين ال�شخ�صين� ،أي الرقي��ب وال�ضريب ،اللذين ال
يقامران .فهما قدحاهما .فبرغم �أنهما ال يقامران ،ف�إن لهما ح�صتين� ،أو كومين،
م��ن �أكوام اللحم .وح�صتهما من اللحم ،تحدد قب��ل المقامرة .وهي لي�ست ح�صة
ف��ي الواقع بل �أجر�« :أما �أجر الرقيب فيعطاه من �أول الق�سمة ،وهو �أف�ضل اللحم
وي�سمون��ه بدءا .و�أما الحر�ضة فيعطى لحما دون ذلك» (البقاعي ،نظم الدرر).
ومن هنا �أمكن اعتبار هذين فائزين ،مقارنة بالمنيح ،فهما يح�صالن على ح�صة.
بل �إنهما فائزان دوما ،لكن من دون مقامرة.
من �أجل ه��ذا كانت �أجزاء الجزور ع�شرة �أجزاء .فهن��اك منها ح�صتان للرقيب
والحر�ضة� .أما الح�صة العا�شرة فهي ح�صة الجزار .وهكذا ،فالقدح المنيح لي�س
له ح�صة� .إنه القتيل ال�صريع المنيح ،ولي�س له �إال �سكين الجزار فقط .ح�صته هي
الجزار ذاته� .أي �أن له الذبح� .إنه قدح الخ�سارة المطلقة.
بن��اء على ه��ذا ،نعتقد �أن الق��دح الثالث من الق��داح المو�سومة لي���س الرقيب �أو
ال�ضريب ،بل هو الم�صفح ،الذي ورد ذكره عند ابن دريد ،والذي هناك ت�شوي�ش
في مو�ضعه .فعند ابن دريد هو الثالث ،كما ر�أينا �أعاله« :الفائزة منها �سبعة :الفذ
والتو�أم وال�ضريب ،وهو الم�صفح ،والحل�س والناف�س والم�سبل والمعلى» .لكنه
77
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
عن��د غيره ال�ساد�س من الق��داح المو�سومة�« :أبو عبيد� :أ�سم��اء القداح التي كانوا
يقت�سم��ون بها الفذ والتو�أم والرقيب والحل���س والناف�س والم�صفح والمعلى» (ابن
�سيدة ،المخ�ص�ص) .لكننا نعتقد �أن��ه الثالث .وربما �سمي �صفيحا؛ لأنه �أول قدح
يق��ع بين قدحي��ن على جانبيه« :ال�صف��ح :الجنب ...و�صف��ح كل �شيء :جانبه.
و�صفحاه :جانباه» (ل�سان العرب).
بناء على هذا ،يمكن قول ما يلي :ثمة ثالثة قداح �أغفال هي :الرقيب ،ال�ضريب،
والمني��ح .والمنيح هو الأخير دوما ،لأنه يجب �أن يكون العا�شر� .إنه الثامن في
�ص��ف القداح المو�سومة� ،أي حين ي�ستعار وي�ض��م �إليها ،لكنه العا�شر في ال�صف
عموما� .أما ال�سبعة الباقية� ،أيا كانت �أ�سما�ؤها ،فهي القداح المو�سومة .هذا يعني
�أن الأ�سم��اء المتع��ددة للقداح الأغفال يجب �أن تكون �إم��ا �أ�سماء �أخرى للقداح،
وه��و الأغلب ،و�إما �أنها ت�صحيفات له��ذه الأ�سماء .فالم�صدر هو في �أغلب الظن
ال�سفي��ح .فالم�صدر تعني الأول في الأغفال� .أما الم�ضعف فربما عنى الثاني من
م�ضاعفة الرقم واحد .لكن الأ�سم��اء الأكثر �شيوعا تربط الأولين منهما بالرقيب
والحر�ضة مبا�شرة.
الوغد
ولدينا ق��دح يو�ضع ثالثا حين تكون القداح الأغفال ثالث��ة� ،أو رابعا حين تكون
�أربعة ،وهو الوغد« :وبقي من ال�سهام �أربعة ،وهي الأغفال ال فرو�ض لها وال
�أن�صباء ،وهي :الم�صدر ،والم�ضعف والمني��ح وال�سفيح .وقيل :الباقية الأغفال
الثالث��ة :ال�سفي��ح والمنيح والوغد» ت��زاد هذه الثالث��ة لتكثر ال�سه��ام على الذي
يجيلها فال يج��د �إلى الميل مع �أحد �سبيال» «تف�سير القرطبي» .ي�ضيف القلق�شندي:
«و�أم��ا الأربعة التي تثقل بها القداح فهي ال�سفيح ،والمنيح ،والم�ضعف والوغد»
(القلق�شندي� ،صبح الأع�شى).
و�أغل��ب الظن �أن هذا «الوغد» هو ا�سم �آخر للقدح المنيح .ففي اللغة �أن «الوغد:
ال�صبي» (ل�س��ان العرب) .والمنيح يكون الأ�صغر في ما يبدو .فقد قال جابر بن
78
زكريا محمد
عبد الله ال�صبي الذي ح�ضر بدرا« :كنت منيح �أ�صحابي»� ،أي �أ�صغرهم .وربما
عنى �أي�ضا حفيظ �أرحالهم و�أغرا�ضهم .ذلك �أن من «ي�أخذ باله» من �أرحال القوم
يدعى الوغ��د« :الرجل الوغد :الذي يرقب للقوم رحله��م» «تف�سير القرطبي».
وم��ن المحتمل �أن هذه المهمة كان��ت تعطى للفتيان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال.
و�س��وف نناق�ش م�س�ألة الأ�صغر الحقا ،وفي �سي��اق تو�ضيح ق�صة الذبيح عبد الله
والذبحاء �أمثاله.
�إذا كان��ت لعبة المي�س��ر ال تنتهي �إال بخروج �سبعة ق��داح ،وكان المنيح يعاد �إلى
الربابة حتى اللحظة الأخيرة ،ف�إنه تكون لدينا ثالثة احتماالت في اللعب:
في االحتمال الأول تخرج كل القداح المو�سومة فائزة .وهذا يبطل اللعب ،لأنه
لن يكون هناك خا�سرون كي يدفعوا ثمن الجزور .لذا تعاد اللعبة من جديد .وقد
و�ضعت القداح الأغفال لتقليل فر�ص حدوث هذا االحتمال.
في االحتمال الثاني ،تخرج �ستة من القداح المو�سومة وقدح واحد من الأغفال.
�أي �أن واح��دا فقط يكون خا�سرا من المتقامري��ن .وي�صعب على المرء �أن يقتنع
ب�أن��ه كان يت��م ال�سير م��ع هذا االحتمال .ل��ذا نعتقد �أن اللعبة تعاد ف��ي هذه الحال
�أي�ض��ا .فمن ال�صعب �أن يتحم��ل �شخ�ص واحد فقط ثمن الجزور كله .بناء عليه،
يظل �أمامنا احتمال �أن تخرج قداح خم�سة مو�سومة ،وقدحان من الأغفال .وهي
الحالة الحقيقية في لعبة المي�سر.
79
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
و�إذا �صح هذا ،فلنفتر�ض مثال �أن ح�ص�ص القداح الخم�سة الخارجة� ،أي الفائزة،
كان��ت كما يلي .6+3+4+3+2 :عليه يكون لدينا 18ح�صة فائزة .وهذا يعني �أن
الح�ص�ص الخا�سرة� ،أي ح�ص�ص القدحين المو�سومين اللذين لم يخرجا ،هي 10
ح�ص�ص� .إذن ،ف�سيدفع الخا�سران ثمن ع�شر ح�ص�ص هي حجم خ�سارتهما .لكن
ال�س���ؤال هو :من الذي �سيدفع ثمن الح�ص���ص ال 18الرابحة؟ والجواب� :سيدفع
ثم��ن هذه الح�ص���ص الخا�سران .لكن م��ن منهما الذي �سيدفع؟ وه��ل �سيقت�سمان
الخ�س��ارة بح�سب قيمة قدحيهما؟ الجواب :نعتقد �أنه يت��م تحديد الخا�سر باالقتراع
م��ن جديد� .أي �أنه ينبغ��ي ا�ستئناف اللعب من جديد ،لكن بي��ن الخا�سرين فقط.
وهن��ا يكون دور المني��ح حا�سما�.إذ يكون في الربابة قدح��ا الخا�سرين مع القدح
رد ،لي�س هو«ردّ ،
المني��ح .ف�إن خ��رج المنيح �أوال يعاد �إلى الربابة ،ويق��ال ّ :
لأح��د» .ث��م يتوا�صل اللعب ،ف���إن خرج واحد م��ن القدحين يك��ون قد نجا من
الخ�سارة الم�ضاعفة .ثم يتوا�صل اللعب ،ف�إن خرج القدح الثاني المو�سوم يكون
ق��د نجا هو الآخ��ر من الخ�سارة .لكن ف��ي هذه الحالة يج��ب ا�ستئناف اللعب من
جديد ،لأنه لي�س هناك من يدفع ثمن ح�ص�ص الرابحين .فيعاد القدحان للربابة،
وي�ست�أنف اللعب .ف�إن خرج واحد منهما يكون فد نجا من الخ�سارة الزائدة ،ثم �إن
خ��رج المنيح في هذه اللحظة فال يعاد ،ويكون هو القدح الذي يتحمل الخ�سارة.
لكن��ه حينها �سيكون قدحا لأح��د� ،أي قدحا لل�شخ�ص الذي لم يخرج قدحه .عليه،
رد ،لي�س هو لأح��د» .فقد ل ُّزم لأحد� .صار قدحه .وهذا الأحد «ردّ ،
فل��ن يقال ّ
�سي���ؤوب وقدح فوزه المني��ح� .أي �أنه �سيكون لهذا ال�شخ���ص قدحان خا�سران:
قدحه الأ�صلي والقدح المنيح ،الذي ل�صق به .عليه ،ف�ستحل الكارثة على ر�أ�سه؛
�سوف يدفع مقدار خ�سارته ،ومقدار ربح الآخرين .ولنفتر�ض �أن قدحه بخم�سة
حزوز .فيكون عليه �أن يدفع 23 =18+5ح�صة.
لكن لو افتر�ضنا �أن حجم الح�ص�ص الرابحة �أقل؛ مثال� ،»5+4+3+2+1« :أي 15
ح�ص��ة .عليه �سيكون على الخا�سرين دفع 13ح�صة� .أي �أن واحدا منهما �سيدفع
ثم��ن 7ح�ص�ص ،بينما يدفع الثاني ثمن 6ح�ص�ص .كما �سيكون على واحد منهما
�أن يدفع ثم��ن الح�ص�ص ال 15للرابحين .وهو �سيك��ون �صاحب القدح المنيح.
80
زكريا محمد
�سي�صبح القدح المنيح الخا�سر قدحه� .سي�ستعار هذا القدح من القداح الأغفال التي
لزم لهذا الخا�سر .ولنفتر�ض �أنه �صاحب المعلى. وي ّ
ال تخ�سر ،وي�صبح خا�سراُ ،
بذا فهو �سيدفع 22 =15+7 :ح�صة.
�إذن ،فف��ي اللحظة الأخيرة يتخلى الق��دح المنيح عن دوره كقدح غفل ،ويلتحق
بالق��داح المو�سوم��ة ،لكن من باب الخ�س��ارة فقط� .أي �أنه ي�صب��ح قدحا منيحا،
م�ستع��ارا ،ت�ستعيره الق��داح المو�سومة الخا�س��رة� ،أو يمنح لها .كم��ا �أنه ي�صبح
ذبيح��ا� ،أي �صريعا ذبيحا .وهو به��ذا ينتقل من المقعد العا�ش��ر في �صف القداح
�إلى المقعد الثامن ،مقعد الخ�سارة والذبح .ت�ستعيره القداح المو�سومة من القداح
الأغفال ،وت�ضعه في �صف الخا�سرين .عليه ،فهو قدح موجود لكي يخ�سر فقط.
�إن��ه قدح الخ�سارة الدائمة .لذا فهو «�صريع الق��داح»� ،أي قتيلها� .إنه في الواقع
قتيل مثل الجزور� .إنه قدح الذبيح.
و�إذا كان فع�لا قدح الذبيح ،ف�إن على الم��رء �أن يت�ساءل �إن كان الذبيح الديني،
من �أمثال �إ�سماعيل� -إ�سحق وعب��د الله �أن يكون منيحا� ،أي �أن يكون م�ستعارا.
ذل��ك �أن لعب��ة المي�سر تبني نف�سها على غرار طق�س الذبي��ح كما �سنرى طوال هذا
الكت��اب .و�إذا على الذبيح �أن يكون «م�ستع��ارا» فهل يعني �أنه ال يجب �أن يكون
ابنا �أ�صليا؟ نترك ه��ذا ال�س�ؤال المعقد لكتاب قادم ربما .لكن من الممكن الإ�شارة
�إل��ى �أن الق�صة تقول لن��ا �أن ها�شم بن عبد مناف تزوج م��ن يثرب عندما مر بها
منطلق��ا نحو غزة في ال�شام ،و�أنه��ا ولدت له ولدا ،وظل الول��د مع �أخواله بني
النج��ار هناك �إل��ى �أن �أخبر �أحدهم �أعمامه ب�أمره ،فذه��ب عمه المطلب والتقطه
وه��و يلعب ،وو�ضعه وراءه على راحلت��ه وعاد به �إلى مكة .وحين ت�ساءل �أهل
مك��ة عن هذا ال�صغير من يكون ،رد المطلب به��ذا الرد الغريب :هذا عبدي! لم
يق��ل �أنه ابن �أخيه ،بل ق��ال �إنه عبده .ومن هنا �سم��ي ال�صغير ،الذي �صار جدا
للر�س��ول با�سم «عبد المطلب» .وهذا ي�شي��ر �إلى �أن هناك ا�ستعارة ما .فك�أن عبد
المطلب ا�ستعير ،و�أح�ضر �إلى مكة.
ث��م لنتذكر حادثة �سكر حمزة بن عبد المطلب ،ع��م الر�سول ،التي قال للر�سول
فيه��ا« :ما �أنتم �إال عبيد �أبي!» .فثمة هن��ا �أي�ضا عبد ما �أي�ضا .فهل في كالم حمزة
81
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�إ�ش��ارة �إلى �أن عب��د الله ،والد الر�سول ،كان تكرارا لعب��د المطلب؟ فهو الآخر
ق�ض��ى ف��ي يثرب عن��د �أخوال �أبي��ه وقتا ثم �أح�ض��ر �إلى مكة� .إن �ص��ح هذا فهو
يفتر���ض �أن عب��د المطلب كان �أي�ضا ذبيح��ا قبل ابنه عبد الله الذبي��ح .فمن �ش�أن
الذبيح �أن يك��ون ممنوحا م�ستعارا في ما يبدو .فهل كان كل ذبيح «ي�ستعار» من
يث��رب لمكة؟ �أو ه��ل كان عليه �أن يعي�ش في يثرب لكي يب��دو «م�ستعارا» ،لأن
الذبي��ح يج��ب �أن يكون م�ستعارا حتى يكون ذبيحا؟ وم��ن ثَم ،هل كان �إ�سماعيل
الذبيح �أي�ضا منيحا م�ستعارا؟ ربما...
في كل حال� ،سنعر�ض الحقا لطق�س الذبيح ،الذي عر�ضنا له في كتبنا ال�سابقة.
82
فصل 4
ال تج��ري لعب��ة المي�سر في كل وق��ت ،وال في �أي وقت ،ب��ل تجري في موعد
مح��دد .وي�ستغرب المرء �أن توفيق فهد في كتاب��ه الت�صنيفي القيم لم يتو�صل �إلى
التعرف على وقت لعبة المي�سر:
«م��ا من �شيء في الواقع ي��دل على �أنه كان هناك وقت محدد يفتر�ض �أن يجري
فيه ذل��ك اللعب ...كذلك فما م��ن �شيء يدل على �أنه كان هن��اك �أماكن خا�صة
مخ�ص�ص��ة لهذه اللعبة» (فهد ،الكهانة العربي��ة� ،2007 ،ص .)155والحق �أن
هن��اك وقتا محددا من اليوم ،ووقتا محددا م��ن ال�سنة ،تجري فيهما اللعبة .فهي
لعب��ة ليلي��ة� ،أي �أنها تبد�أ مع غياب ال�شم�س« :قال �أب��و حاتم عن الأ�صمعي...:
الأي�سار �إنما يتيا�سرون بالع�شيات� ،ألم ت�سمع �إلى قول النمر بن تولب:
و�شهدت عند الليل موقد ناره» ولقد �شهدت �إذ القداح توجدت
(القالي ،الآمالي) .ي�ضيف اليزيدي:
لهم نار �إِي�سارٍ كفى من ت�ضجعا» «�إذا اجتز�أ القوم القداح و�أوقدت
(اليزيدي ،الآمالي)� .إذن ،فالمي�سر مرتبط بالليل وبالنار.
وهي لعبة مرتبطة بالنار لأنها ال تجري في كل ف�صل ،بل تجري عند البرد .فهي
�شتوي��ة ال تجري في ال�صيف �أبدا« :كانت العرب� ،إذا كان ال�شتاء ونالهم القحط،
وقلت �ألبان الإبل ،ا�ستعملوا المي�سر ،وهي الأزالم ،و تقامروا عليها ،و�ضربوا
بالقداح» (تاريخ اليعقوبي ،دار �صادر ،المجلد الأول ،بال تاريخ� ،ص .)259
ي�ضي��ف ابن قتيبة« :ف�إن �أه��ل الثروة والأجواد من العرب كان��وا في �شدة البرد
83
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وج��دب البالد وكلب الزم��ان يي�س��رون� ،أي يتقامرون بالق��داح» (ابن قتيبة،
الأ�شربة والأطعمة) .وهو ما ي�ؤكده ال�شعر .يقول طرفة بن العبد:
�أغل��ت ال�شت��وة �أب��داء الج��زر وه��م� أي�����س��ار ل��ـ��ق��ـ��م��ـ��ان� إذا
لكن حين تدقق ف��ي الأمر تكت�شف �أنها ،في واقع الأمر ،لعبة خريفية ال �شتوية.
�أي �أنه��ا تجري وقت المطر الو�سمي ،الذي ي�سقط في الخريف .غير �أن العرب
ي�ضم��ون الخريف ال��ذي ي�سقط فيه �أول المطر �إلى ال�شت��اء ،في�صير الحديث عن
المي�س��ر كما لو �أنه لعب��ة �شتوية� .أما �أنه لعبة خريفية ،فهذا م��ا �أخبرنا به ال�شعر.
يقول دريد بن ال�صمة في رثاء �أخيه بكر:
برطب الع�ضاة وال�ضريع المع�ضد وال برما �إذْ م��ا الرياح تنـاوحـت
يق��ول ال�شاعر ف��ي البيت عن �أخيه :ل��م يكن برم��ا� ،أي ال ي�ستنكف عن الدخول
ف��ي لعبة المي�سر ،حين ت�ضرب الري��اح المتناوحة حطب نار المي�سر� .أما تناوح
الرياح فهو تقابله��ا« :ال ّتناوح :ال ّتقاب��ل .ومنه تناوح الجبلين وتناوح الرياح،
حن ،وكذلك ومن��ه �سميت الن�س��اء النوائح نوائح ،لأن بع�ضهن يقاب��ل بع�ضا �إذا ُن َ
المهب لأن بع�ضها يناوح بع�ضا وينا�سج» (ل�سان العرب). ّ الرياح �إذا تقابلت في
علي��ه ،فلعبة المي�سر تتم وق��ت تقابل الرياح وتعاك�سها .ويح��دث تناوح الرياح
مرتي��ن في العام؛ مرة في االنقالب الربيع��ي ،و�أخرى في االنقالب الخريفي.
فقد اعتقد العرب �أن الرياح الرئي�سية �أربع هي :ريحا ال�شمال والجنوب ،ثم ريحا
ال�صبا والدبور .وكانوا يعتقدون �أن ال�صبا والدبور هما نتاج تقابل ريحي ال�شمال
والجنوب .فحين تتعاك�س هات��ان الريحان ينتج عن تعاك�سهما ريح و�سطى تهب
في االعتدالين الربيع��ي والخريفي .ريح ال�صبا ربيعية ،وريح الدبور خريفية.
«دبر» الكعب��ة� ،أي من ورائها� .أما ريح و�سمي��ت الدبور دبورا لأنها ت�أتي من ُ
ال�صبا فت�سمى «القبول» ،لأنها ت�أتي من « ُقبل» الكعبة� ،أي من اتجاه بابها .ولعبة
المي�سر تحدث مع االعتدال الخريفي� ،أي مع هبوب ريح الدبور.
ويتراف��ق االعتداالن مع طل��وع الثريا عموما .فطلوعها ف��ي الع�شي يحدث مع
االعتدال الخريفي �أو قربه« :ف�إذا طلعت الثريا ا�ستوى الليل والنهار ،وكل واحد
84
زكريا محمد
اثنت��ا ع�شرة �ساعة» «القرطبي ،تف�سي��ر القرطبي» .وكما نعلم للثريا «طلوعين»
ال طلوع��ا واحدا؛ طلوع بالغدي��ة� ،أي في ال�صبح قبل مطل��ع ال�شم�س ،وطلوع
ـدي��ة /وابتغى الراعي �شكي��ة .فهذا يكون في
بالع�شي��ة« :يقولون :طل��ع النجم ُغ ّ
ال�صي��ف وعند ا�شتداد الح��ر .وطلع النجم عـ�شـاء/وابتغ��ى الراعي ك�ساء ،وهذا
يق��ال في �شدة البرد» (المرزوقي� ،شرح ديوان الحما�سة)� .أما النجم فهو كوكبة
الثريا .بالطبع ،كالم المرزوق��ي هنا ال يف�صل الربيع عن ال�صيف وال الخريف
عن ال�شتاء .فطلوع الثري��ا ال�صباحي ،هو طلوعها قريبا من االعتدال الربيعي.
�أما طلوعها ع�شاء بالبرد فهو طلوعها في االعتدال الخريفي.
بالطبع يجب �أن نفهم هن��ا الغياب على �أنه ال�سقوط والغياب الفلكي .بناء عليه،
ف���إن طق���س المي�سر يترافق م��ع �سقوط الثري��ا وغورانها وانقما�سه��ا� ،أي مع
طلوعها ع�شية .وقد تو�صل باحث تون�سي �إلى �أن المي�سر كان يحدث بالفعل عند
�سقوط الثريا:
«تو�صلن��ا �إلى� :أن المي�سر «الجاهلي» كان بالفع��ل �أحد الطقو�س الدينية ال�سحرية
و�أن��ه كان يقام خالل «فترة غياب نجم الثري��ا» «نوء الثريا» المتزامن عادة مع
85
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ن��زول الأمطار في ما ي�سميه العرب «ف�صل الو�سم��ي» .بالطبع ،يجب �أن نفهم
كلم��ة «غياب» هنا ال كما نفهمه��ا عندما نقول :غابت ال�شم���س� ،أي اختفت ،بل
بمعنى بدء انحدار الثريا الفلكي� ،أي غورانها و�سقوطها.
ي�ضي��ف الباحث« :ويبد�أ «حول الثريا» في «نوء الثري��ا» مع بداية ف�صل �أمطار
الخريف �أي «ف�صل الو�سمي»» .ويزيد« :وبتحديدنا لهذا الموعد� ،أمكننا اعتمادا
عل��ى ما يذكره ال�شع��ر «الجاهلي» حول «لعب المي�سر عند ن��وء الثريا» ،تحديد
موعده م��ن ال�سنة ،ف�أمكننا الرب��ط بين المي�سر وطقو���س اال�ستمطار عند عرب
الجاهلي��ة ليتبين لنا بع��د ب�سط البراهين على ذلك �أن المي�س��ر كان �أحدها .فقد قام
الع��رب باتخاذ نوء الثريا موع��دا للتنقل نحو المحا�ضر ا�ستع��دادا لعملية �ضراب
الإب��ل ،وهي عملية حيوي��ة ودقيقة كانت تق��دم فيها قرابين للآله��ة طلبا للبركة
وخا�ص��ة للمطر ،كم��ا �أقمنا البرهان عل��ى موافقته زمنيا �شه��ر رجب الخريفي
باعتباره �إحدى ذروتي دورة الف�صول الطبيعية» (�سالم ،المي�سر الجاهلي� :أبعاده
ودوره في ممانعة ظهور الدولة ،الأوان :الأحد � 15آذار .)2009
�إذن ،فطق���س المي�سر كان يتم في نوء الثريا� ،أي مع مطرها الو�سمي الذي ي�أتي
م��ع االنقالب الخريفي ،وفي �شهر رجب الخريفي تحديدا .ورجب الخريفي هو
«رجب ربيع��ة» ال «رجب م�ضر» .ورجب ربيع��ة� ،أي �شهرها المقد�س ،هو
�شهر �شوال� ،أول �أ�شهر الحج ال�شتوي المتتابعة في الجاهلية� :شوال ،ذو القعدة،
ذو الحجة .وهذا يعني �أن المي�سر مرتبط ،ب�شكل ما ،بملة الحلة ،ال بملة الحم�س.
�أوال� :أن غياب الثريا ال يعني غيابها اليومي ،كما هو الحال مع غياب ال�شم�س في
الم�س��اء .فغياب الثريا هو �سقوطها الفلكي ،وهو الوقت الذي تظهر �أول ما تظهر
في الع�شية.
86
زكريا محمد
رابع��ا� :أنه يجب التفريق بين ا�ستمط��ار الثريا واال�ستمطار العادي .فهما نوعان
مختلف��ان من اال�ستمطار .فاال�ستمطار العادي طق���س معروف ومختلف عن ما
نحن فيه .وق��د عر�ضنا له في كتبنا ال�سابقة .وهو نف�س��ه «طق�س الت�سليع» ،الذي
يربط فيه الع�شر وال�سلع في �أذيال الأبقار ،وي�شعل بالنار ،لتطلق الأبقار مندفعة
نحو التالل والنار تتوهج في �أذيالها .يقول ال�شاعر:
وف��ي الأغلب ف�إن طق���س الت�سليع كان يح��دث مع االنقالب ال�شت��وي ،في حين
�أن ا�ستمط��ار الثري��ا يتم في االنق�لاب الخريفي �أو حوله .ويمك��ن القول �أنه في
الحقيقة انتظار لنزول المطر في �أيام نوء الثريا ،وهي �سبعة� ،أكثر منه ا�ستمطارا
تقليدي��ا .و�سيتبين لنا الحق��ا �أن هذا اال�ستمطار له عالقة بع��ودة الماء ال�سفلي من
اندفاعت��ه ال�سطحية ال�صيفية .ذلك �أن مط��ر الثريا يترافق مع هذه العودة� .إذن،
فحين يحتفل النا�س عند �آبار المياه مع نوء الثريا فهم يحتفلون بعودة الماء ال�سفلي
�إلى مكامنه ،التي يح�صلون على مائهم منها.
ويمك��ن ت�سمية االحتف��ال بمطر الثريا با�س��م «احتفال الثري��ا»� ،أو «احتفال نوء
الثري��ا» .واالعتق��اد ال�سائد �أن نوء الثريا يجلب المط��ر الغزير« :نو�ؤها �أ�شرف
الأنواء و�أغزرها» (ابن �سيدة ،المحكم) .يقول ذو الرمة:
«و�إِنم��ا َّخ�ص الثريا لأَنه زع��م �أَن العرب تقول :لي�س �شيء م��ن الأَ ْنواء �أَ ْغ َزر
لغ َزارة ذلك منَ ن ْوء الثريا� ،أَراد �أَن المطر كان عندَ نوء الثريا ،وهو ُم ْن َق َم�سهاَ ،
المطر» (ل�سان العرب).
87
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ونح��ن ال نمل��ك الكثير عن هذا االحتف��ال .وما وردنا عنه �إنم��ا جاء في �سياق
تف�سير البيت:
ال�صفاقين خيفق
بمحن��ات ّ
غ�شا�ش��ا ُ كج ّم��اع الثري��ا حويت��ه ٍ
ونه��ب ُ
«ج ّماع الثريا» في البيت .وكان �أحد التف�سيرات �أن البيت فق��د �أثار الجدال تعبير ُ
ي�شي��ر �إلى المحتفلين بمطر الثري��ا« :فقد يكون ُم ْج َت ِمع الثري��ا ،وقد يكون ُج َّماع
الثريا ،الذين يجتمعون على مطر الثريا ،وهو مطر الو�سمي ،ينتظرون خ�صبه
والج َّماع� :أخالط من النا�س»
وكلأه .وبهذا القول الأخير ف�سره ابن الأعرابيُ .
ي�شبه
(ابن �سي��دة ،المحكم) .بالتال��ي ،فال�شاعر ،ح�سب واحد م��ن التف�سيراتّ ،
النه��ب ال��ذي انتهبه في غزواته في كثرت��ه بكثرة «جماع الثري��ا»� ،أي �أخالط
النا�س الذي��ن يحتفلون ب�سقوط مطر الثريا� ،أو ينتظ��رون �سقوط الثريا و�سقوط
مطره��ا .فالجماع هم الأخالط من النا���س« :ومنه الحديث :كان في جبل تهامة
ُج ّماع غ�صبوا المارة� ،أي جماعات من قبائل �شتى متفرقة .وكُ ل ما تجمع وان�ضم
ونهب كجماع الثريا حويته»
ُ بع�ض��ه �إلى بع�ض ُجماع ،قاله ابن دريد ،و�أن�ش��د:
(الزبيدي ،تاج العرو�س).
ويب��دو �أن االحتفال بالمطر الو�سمي ،مطر الثريا ،لي�س مق�صودا لذاته فقط .بل
هو م�ؤ�شر عل��ى �شيء �آخر :و�ضع الماء ال�سفلي في الينابيع .لذلك يبدو �أن النا�س
يتجمعون وقت نوء الثريا حول العيون� .أي �أن هناك عالقة ما بين غزارة مطر
الثريا وبين دف��ق العيون والآبار الجوفية ،ب�شكل يبدو فيه كما لو �أن مطر الثريا
يدف��ع المياه ال�سفلية �إلى العيون والآبار من جدي��د .و�سوف يت�ضح هذا في �سياق
مبحثنا.
عل��ى كل حال ،ن�أتي الآن من جديد �إلى جمل��ة« :وفي حديث حفر زمزم :فغار
�سه��م الله ذي الرقي��ب» .وهي جملة مهمة جدا في اعتقادن��ا .فهي ت�شير ،في ما
88
زكريا محمد
يب��دو لنا� ،إلى زمن حفر بئر زم��زم� ،أو �إعادة حفره �أيام عبد المطلب .بذا ففهم
الجمل��ة ق��د يمكننا من تحديد الزمن الذي تحفر فيه الآب��ار المقد�سة من طراز بئر
زم��زم .ولم نعثر على الجملة �إال عند اب��ن الأثير ،وقد رددتها بع�ض القوامي�س
بال�صيغ��ة ذاته��ا .وه��ي جملة منقطع��ة وحدها ،لم يت�ص��د �أحد لنقط��ة غمو�ضها
المركزي��ة ،وهي تعبير (�سهم الله) .فما هو �سه��م الله هذا؟ ال �أحد يخبرنا بذلك.
وكل م��ا يقال لنا �إنما يتعلق بكلمة الرقيب فقط .فالجملة ت�ستح�ضر من �أجل تف�سير
هذه الكلمة« :في حديث حفر زمزم :فغار �سهم الله ذي الرقيب .الرقيب :الثالث
من �سهام المي�س��ر .والرقيب :النجم الذي في الم�ش��رق ،يراقب الغارب» (ابن
الأثي��ر ،النهاية في غري��ب الحديث) .وهذا ما تكرره بالح��رف القوامي�س التي
تعر�ض للجملة �أي�ضا.
�إذن ،فهناك رقيب في لعبة المي�سر ،ورقيب في الفلك .ورقيب الفلك نجم يعادل
النج��م الغارب ال�ساقط ،ويظهر مع �سقوطه ويرقب��ه ،ولي�س �أكثر من هذا .لكن
بم��ا �أن الجمل��ة تتحدث عن الغوران (فغ��ار) ف�إن من الوا�ض��ح �أنها تتحدث عن
الرقي��ب -النج��م ال عن رقيب المي�سر .وم��ا دمنا مع الرقي��ب -النجم فال بد �أن
يكون هن��اك نجم يرتبط به هذا الرقيب .فهناك دوما نج��م ورقيبه .لكننا ال نجد
النج��م في الجملة .نجد رقيب هذا النجم ،لكنن��ا ال نجد النجم ذاته .غير �أن هناك
حديثا عن الغوران .والغوران ي�شي بوجود النجم الذي نتحدث عنه .فالغوران
هو ال�سق��وط الفلكي للنجوم .يفتر�ض ،بالتال��ي� ،أن الجملة تتحدث عن غوران
نج��م ما .لكنن��ا نحظى بحديث عن غ��وران �سهم ،بدل غ��وران نجم! ونحن لم
ن�سمع بغوران ال�سهام من قبل.
�إذن ،فثم��ة خط�أ م��ا .لذا نقترح �أن في الجملة ت�صحيفا �أ�ض��اع النجم وحوله �إلى
�سهم .والت�صحيف بين كلمتي «نج��م» و «�سهم» بالخط اليدوي ممكن بل و�سهل
جدا� .أي �أن الجملة يجب �أن تكون هكذا في الأ�صل« :فغار نجم الله ذي الرقيب».
وفي ه��ذه الحالة نفتر�ض �أن (نجم الله) هو الثريا .ذل��ك �أن (النجم) ا�سم لكوكبة
الثري��ا كما هو مع��روف و�شائع تمام��ا« :النج��م :الثريا ،وهو ا�س��م غالب لها»
(الزمخ�ش��ري ،الك�شاف) .ي�ضي��ف الدينوري« :والعرب ت�سم��ي الثريا النجم،
89
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ق��ال :طلع النجم ع�ش��اء /ابتغى الراعي ك�س��اء» (ابن قتيبة الدين��وري ،المعاني
الكبير) .ي�ؤكد الجاحظ« :النجم :ا�سم الثريا» (الجاحظ ،البر�صان والعرجان).
عليه ،يك��ون مفهوما اجتماع النجم� ،أي الثريا ،م��ع رقيبها .ورقيب الثريا هو
العي��وق ،عند الغالبية .كما ي�صب��ح مفهوما وجود كلمة «فغ��ار»� .إذ هي �إ�شارة
ّ
�إل��ى طلوع الثري��ا الخريفي في الع�ش��اء .وطلوعها هذا ي�سم��ى غورانا و�سقوطا
وانقما�سا .عليه ،فالجملة تق��ول طلع نجم الله ذي الرقيب طلوعه الخريفي� .أو:
ظهر نجم الله في غورانه الخريفي.
ول��و �ص��ح فر�ضنا ف�إن الجملة يج��ب �أن تكون هكذا ب�ش��كل �أدق« :فغار نجم الله
ذو الرقي��ب» �أي �أنن��ا مع «ذو» بالرفع ،ولي�س م��ع «ذي» بالجر .باعتبار �أنها
�صف��ة للنجم المرفوع ،ال و�صفا للفظ الجاللة .والح��ق �أن ت�صحيف «نجم» �إلى
«�سهم» هو الذي �أدى �إلى تحويل «ذو» �إلى «ذي» .فلو ظلت الكلمة نجم ،لكان
فه��م �أن الرقي��ب يخ�ص النجم� ،أي �أن النجم ه��و «ذو الرقيب»� .أما حين �صرنا
م��ع «�سهم» فقد �صار من المحتم تحوي��ل «ذو» �إلى «ذي» لكي تكون �صفة للفظ
الجاللة .ذلك �أن ال�سهم لي�س له رقيب.
عليه ،فحفر زمزم مرتبط بغوران النجم� ،أي ب�سقوط نجم الثريا .وهو ال�سقوط
ال��ذي تحدث عنه القر�آن في �سورة النجم« :والنجم �إذا هوى» .فالنجم الهاوي،
�أي ال�ساق��ط ،ه��و الثريا ،في �أغلب الظ��ن�« :إذا هوى� :إذا �سق��ط .قالوا :ت�أويل
الكالم :والثريا �إذا �سقطت» (تف�سير الطبري).
فغور النجم
لك��ن هناك احتمال ب�أن الجملة يج��ب �أن تقر�أ هكذا« :فغر نجم الله» ولي�س «فغار
نجم الله ،وبمعنى طلع وظهر »:يقال :ولد فالن بالفغرة ،بالفتح� ،أي عند �إفغار
النج��م ،وهو �أول طلوع الثريا» (الزبيدي ،ت��اج العرو�س) .ي�ؤكد العين« :ولد
رة ،و[هو] �أول طلوع الثريا» (الخليل ،العين) .ومنه �أي�ضا« :فغرت فالن بال ُف ْغ ِ
ال�س��ن� ،إذا طلعت» (الزبيدي ،تاج العرو�س) .فيكون المعنى :طلع نجم الله ذو
90
زكريا محمد
الرقيب .كما �أن هناك احتماال ،و�إن �أ�ضعف� ،أننا مع «بغر النجم» �أي مع مطر
نجم الثري��ا .ذلك �أن بغر تعني �سقط و�أهاج المطر معا« :بغر النجم يبغر بغورا:
�أي �سق��ط وهاج بالمط��ر ،يعني بالنجم الثريا .وبغر الن��وء �إذا هاج بالمطر...
وبغر النجم يبغر بغورا �أي �سقط وهاج بالمطر ،يعني بالنجم الثريا .وبغر النوء
�إذا هاج بالمطر ...وقال �أبو زيد :يقال هذه بغرة نجم كذا ،وال تكون البغرة �إال
م��ع كثرة المطر .والبغر والبغرة :الدفعة ال�شديدة من المطر» (ل�سان العرب).
ونح��ن نعلم �أن بدء المطر ،وه��و ما ي�سمى بالمطر الو�سم��ي ،يكون مع �سقوط
الثريا� ،أي طلوعها ع�شية .ويفتر�ض �أنه مطر �شديد.
واالحتماالن يق��ودان �إلى نجم الثريا غائرا �أو باغرا .وف��ي الحالين ف�إن ق�ضيتنا
رابح��ة� ،أي ق�ضية ربط حفر زمزم بنجم الثريا� ،أي باالنقالب الخريفي ،وقت
تناوح الرياح .وهو الوقت الذي تلعب فيه لعبة المي�سر.
�أفغر النجم
ولع��ل لجملة «�أفغ��ر النجم» ال�شهي��رة والغام�ضة �أن تكون عل��ى عالقة بما نحن
فيه .وقد ُقدم له��ذه الجملة تف�سير غريب ،بل وم�ضحك ،من علماء لغة قديرين:
«�أفغ��ر النجم ،وهو الثريا؛ �إذا حلق ف�صار على قم��ة ر�أ�سك ،فمن نظر �إليه فغر
ف��اه» (الأزهري ،تهذيب اللغ��ة) .وي�صدق المرزوقي ه��ذا التف�سير الم�ضحك:
«معنى� أفغ��ر النجم :يريد �إذا �صارت الثريا في و�سط ال�سماء ،فمن نظر �إليها فغر
ف��اه� ،أي فتحه» (المرزوقي ،الأزمنة والأمكنة)� .أم��ا الوحيد الذي قدم تف�سيرا
يمك��ن و�صفه ب�أنه معق��ول ،حتى ولو لم يكن �صائبا ،ف�إنما ه��و الخليل بن �أحمد:
«�أَف َْغ��ر النجم� :أي َت َو َّق َع ُ
��ه الناظرون �إليه» (الخليل ،العي��ن)� .أما نحن فنرى �أن
الأم��ر يتعلق بفغور الثري��ا� ،أي بطلوعها وظهورها ،في ما يب��دو� .أي �أنه من
الإفغار ،وهو �أول طلوع الثريا ،كما مر �أعاله .ومن هذا الباب جملة «فغرت»
«الفغار» ي�سمى با�سمه ،ح�سب ما قيل لنا:
ّ في البيت الذي جعل ال�شاعر
كما فغ��رت للحي�ض �شمطاء عارك فغ��رت ل��دى النعمان لـمـ��ا ر�أيتـه
ُ
91
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
فغ��رت تعني :برزت وظهرت وانك�شفت كالع��ارك� ،أي كالحائ�ض .فقد ُ فكلمة
كان��ت الحائ�ض« :في ذلك الزمان تكون في بيت عل��ى حدة ،وال تخالط �أهلها»
(ال�ضبي ،الأمثال)� .أي كانت تعزل في مكان بار مك�شوف للعيان ،لأن العروك
نجا�سة خطرة� .أما بيت الكميت الغام�ض جدا فيمكن تف�سيره على الوجهين:
وي��روى ال�شطر الأخير مع «قربوا» بدل «كرب��وا» �أحيانا .وفي التف�سير ال�سائد
للبي��ت �أن الكالئين تعني رعاة النجم وراقبيه« :وم��ن المجاز :كلأت النجم متى
طل��ع� :إذا رعيت��ه» (الزمخ�شري� ،أ�سا���س البالغة)� .إذن ،يك��ون المعنى طلع
النجم -الثري��ا لمنتظريه .ولعله ا�ستنادا �إلى هذا البيت �صنع الخليل تف�سيره لجملة
«�أفغ��ر النجم» .وفي هذه الحال يجب �أن نكون مع «قربوا»� .أي �أن النجم طلع
لهم �أو اقتربوا من طلوعه .ويكون الحديث هنا عن الطلوع الربيعي �أو الخريفي
لنج��م الثريا .لكن من المحتم��ل �أن يكون ما قاله الخليل مالئما هنا� .أي توقع �أي
« َت َو َّق َع ُه الناظرون �إليه» .غير �أننا نرى �أن هذا احتمال لي�س كبيرا.
كم��ا يمك��ن �أن يكون الكالئ��ون هنا بمعن��ى طالبي ال��كلأ� ،أي الع�ش��ب ،ولي�س
الراقبي��ن .وف��ي هذه الح��ال ،فربما تكون �شب��ه جملة «هب ل��ه» بمعنى غاب.
يق��ال�« :أين هببت عنا؟ بالك�س��ر� :أي غبت عنا؟» (القامو���س المحيط) .ي�ضيف
الل�س��ان« :و�أين هببت عنا؟ �ضبطه في التكملة ،بك�س��ر العين� :...أي �أين غـبت
عنا؟» (ل�سان العرب) .عليه ،فالبيت يقول :حتى �إذا غاب حر ال�صيف وانتهى،
و�أمط��رت الثريا الكالئي��ن� ،أو لم تمطرهم فكرب��وا� ،أي �أ�صابهم الكرب .وهذا
يع��ي �أن �أفغر هنا بمعنى� :أمطر .بالتالي تكون جملة «�أفغر النجم» بمعنى «�أمطر
النج��م» ،ويك��ون الحديث هنا عن طل��وع الثري��ا الخريفي� ،أي ع��ن �سقوطها
وغورانه��ا الذي يجلب المطر .وفي حال �أنهم ل��م يمطروا ف�سوف يكون عامهم
قحط��ا وكربا ،ويك��ون ما�ؤه قليال .ذل��ك �أن مطر الثريا هو ال��ذي يحدد و�ضع
المياه الجوفية .فعدم نزوله يهدد ب�أن ماء العيون والآبار الجوفية لن يكون كافيا
(هب له).
(هب به) ال ّومتوفرا .لكن في هذه الحال يجب �أن نكون ّ
92
زكريا محمد
وثم��ة نجوم تدع��ى «نجوم الأخذ» يب��دو �أي�ضا �أن لها عالقة بالثري��ا �أي�ضا .وقد
دار ج��دل بين اللغويين حول هذه النجوم« :قال �أبو عبيدة :نجوم الأخذ :منازل
القم��ر؛ �سميت نج��وم الأخذ ،لأخذه [�أي لوقوعه] كل ليل��ة في منزل .وقال �أبو
عم��رو ال�شيباني :الأخذ :نزول القمر منازل��ه ،يقال� :أخذ القمر نجم كذا �إذا نزل
ب��ه» (المرزوقي ،الأزمن��ة والأمكنة) .وهذا غير معق��ول �إذا عدنا لبيت ال�شعر
الذي يقول:
�أن�ض�� َة مح��لٍ لي�س قاطره��ا يثري و� ْأخ َو ْت نج��وم الأخ��ذ� إال �أنـ�ض��ةً
فالبي��ت يتحدث عن �إِخواء نجوم الأخذ� ،أي عن �إخالفها لمطرها« :خوى النوء،
وخ��وت النجوم :خلت م��ن المطر و�أخلف��ت» (الزمخ�شري� ،أ�سا���س البالغة).
ي�ضي��ف الجيم�« :أخوى النج��م� ،إذا ذهب ولي�س فيه مط��ر» (ال�شيباني ،الجيم).
علي��ه ،فالبيت يقول :لقد �أخلفت نجوم الأخذ وعدها بالمطر ،فلم تمطر �إال �أن�ضة،
ال قليالً» «ن�ض الماء َي ِن ُّ
�ض َن�ضي�ضا� :سال قلي ً َّ �أي �إال القليل الذي بالكاد يبل الأر�ض:
(الجوهري ،ال�صح��اح)� .إذا ،فمن الم�ستحيل �أن يك��ون ال�شاعر قد ق�صد النجوم
الت��ي يدخلها القمر في منازله الثمانية والع�شري��ن .فجزء كبير من هذه النجوم ال
عالقة له بالمطر �أ�صال .لذلك يجب �أن تكون نجوم الأخذ نجوم نوء ممطر.
وقي��ل �أن نج��وم الأخذ هي ال�شهب الت��ي ت�ضرب ال�شياطين الت��ي ت�سترق ال�سمع
لتع��رف ما ي��دور في ال�سم��اء ،والت��ي ورد ذكرها ف��ي الق��ر�آن« :قيل :نجوم
الأخذ :الني��ازك ،وه��ي الت��ي ُرمي بها م�ست��رق ال�سم��ع لأنها ت�أخ��ذه» (ل�سان
الع��رب) .لكن هذه النيازك وال�شهب ال عالقة لها بالمطر ،لذا ال يمكن �أن تكون
ه��ي المق�صودة .عليه ،نقت��رح هنا �أن نجوم الأخذ هي نج��وم المطر الو�سمي،
وعلى ر�أ�سه��ا نجوم الثريا ال�سبعة .بل لعل المق�صود ه��و نجوم الثريا على وجه
الخ�صو���ص .و�إخ��واء الثريا� ،أي عدم نزول المطر فيه��ا ،هو �أمر خطر جدا.
فهو يعني �أن ال�سنة �سنة جدب قا�س.
93
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�إذا �صح هذا ،ف�إن الأكثر احتماال �أننا مع نجوم الإ ِْخذ ،بك�سر الهمزة ،ال مع نجوم
ِ
كهيئة الحو�ض الأَخ��ذ بفتحها� .أي �أننا مع الآبار والحفائ��ر« :والأَِ ْخذُ :ما َح َف ْر َت
الماء َ�أيام ًا .والإ ِْخذُ والإ ِْخذ َُة :ما حفرته كهيئة
َ لنف�سك ،والجمع الأُِ ْخ ُ
ذان ،تم�سك
الحو���ض ،والجمع� أُ ْخذٌ و�إِخ��اذ» (ل�س��ان العرب) .وهذا يعن��ي �أن نجوم الأخذ
ه��ي النجوم المرتبطة بحفر الآب��ار والأحوا�ض .وقد ر�أينا �أعاله كيف �أن الثريا
مرتبط��ة بحفر الآبار� ،آبار الماء ال�سفلي ،و�أن مو�سمها هو مو�سم االحتفال حول
�آب��ار الماء .عليه ،ربما كان��ت الآبار� ،آبار الإخذ ،تحفر وق��ت طلوع الثريا،
مثلها مثل بئر زمزم.
�أكث��ر من ذلك ،ف���إن �أبيات مطرود بن كع��ب الخزاعي ال�شهي��رة في رثاء عبد
المطلب ،ومدح بن��ي ها�شم ،تدل على �أن بني ها�شم كانوا يطعمون ،هم �أي�ضا،
عن��د تناوح الرياح� ،أي عند االنقالب الخريف��ي ،وهو الوقت الذي تتم فيه لعبة
المي�سر كما �أو�ضحنا من قبل:
بن��و ها�ش��م� ،إذن ،يطعمون وقت «تناوح الرياح» .وق��د ر�أينا من لبيد كيف �أن
زمن لعبة المي�سر هو زمن تناوح الرياح �أي�ضا« :وال برما �إذ ما الرياح تناوحت».
ونحن نعتقد �أن �إطعام بني ها�شم الذي تحدث عنه مطرود منبثق من �إطعام طق�س
الذبيح� ،أي طق�س مطعم الطير الذي تحدثنا عنه مطوال في كتابنا ال�سابق.
بن��اء عليه ،فهناك عدة طقو�س يبدو �أنها كانت تج��ري وقت تناوح الرياح� ،أي
وقت غوران الثريا ،وهي:
1.1طق�س الذبيح� ،أي طق�س «مطعم الطير» ،وطق�س الإطعام العام منبثق منه.
2.2حفر الآبار المقد�سة مثل بئر زمزم.
3.3طق�س «جماع الثريا»� ،أي االحتفال بمطرها الو�سمي.
4.4لعبة المي�سر.
94
زكريا محمد
وه��ذا يعني �أن هذه الطقو�س عل��ى عالقة وطيدة في ما بينه��ا .وهو ما ينبئ عن
الأ�صل الطق�سي للعبة المي�سر.
تو�صلن��ا� ،إذن� ،إلى �أن حفر زمزم� ،أو �إعادة حفره��ا ،تم عند غوران الثريا.
فالآب��ار المقد�سة تحفر ف��ي هذا الوقت .لذا فغورانها ه��و نقطة انطالق االحتفال
بالآبار المقد�سة .لكن ق�صة حفر زمزم هي ذاتها ق�صة الذبيح عبد الله .وهذا يعني
�أن طق�س الذبحاء ،ك�إ�سماعيل وعبد الله ،مرتبط ب�سقوط الثريا �أي�ضا .فحفر البئر
المقد�س��ة الأولى يقت�ضى تقديم �أ�ضحية ب�شرية ،كما بين��ا في كتابنا ال�سابق «كتاب
الحم�س والطل�س والحلة» .والأ�ضحية الب�شرية هي التمثيل الب�شري للإله ،كما هو
ح��ال �إ�سماعيل وعبد الله .لكن الب�ش��ري ي�ستبدل بكب�ش �أروى� ،أي بكب�ش فداء،
كم��ا ح�صل م��ع �إ�سماعيل .وهذا الكب�ش كان ي�ؤخذ من جب��ل ثبير« :قال الح�سن:
م��ا فدي �إ�سماعيل �إال بتي�س م��ن الأروى هبط عليه من ثبير ،فذبحه �إبراهيم فداء
ع��ن ابنه ...وقال �أبو �إ�سحاق الزجاج :قد قيل �أنه فدي بوعل ،والوعل :التي�س
الجبل��ي» «القرطب��ي ،تف�سير القرطبي» .ي�ضيف الزمخ�ش��ري« :وعن الح�سن:
فدي بوعل �أهبط عليه من ثبير» (الزمخ�شري ،الك�شاف) .فعلى ظهر هذا الجبل،
جبل الذبح��اء ،كان حمى حيوانات الأروى الإلهية« :والع�صم ت�أمن في ثبير».
وكنا قد �أ�شرنا في كتبنا ال�سابقة �إلى �أنه لي�س م�صادفة �أن يكون ا�سم هذا الكب�ش على
عالقة بالماء والري�« :أروى».
وقد كان من المفتر�ض �أن يفدى عبد الله بكب�ش �أروى �أي�ضا ،و�أن ي�أتي هذا الكب�ش
من جبل ثبير .لكن الذي ح�صل �أن عبد الله فدي بمائة جمل ،ال بتي�س �أروى:
«و�سم��ي [عب��د المطلب] مطعم طي��ر ال�سماء؛ لأن��ه حين �أخذ ف��ي حفر زمزم-
وكان��ت قد اندفنت-جعلت قري�ش تهز�أ ب��ه ،فقال :اللهم �إن �سقيت الحجيج ذبحت
ل��ك بع�ض ولدي؛ ف�أ�سقى الحجيج منه��ا؛ ف�أقرع بين ولده ،فخرجت القرعة على
ابنه عبد الله .فقالت �أخواله بنو مخزوم� :أر�ض ربك وافد ابنك ،فجاء بع�شر من
95
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الإب��ل فخرجت القرعة عل��ى ابنه ،فلم يزل يزيد ع�شرا ع�ش��را ،وكانت القرعة
تخ��رج على ابنه� ،إل��ى �أن بلغها المائ��ة فخرجت على الإب��ل ،فنحرها بمكة في
ر�ؤو���س الجبال؛ ف�سمي مطعم الطير ،وجرت ال�سنة ف��ي الدية بمائة من الإبل»
(الزمخ�شري ،الفائق).
وف��ي الم�شه��د الذي نحن فيه لي���س �أمامن��ا �إال �أن نفتر�ض �أن الكب���ش� ،أي تي�س
الأروى ،ه��و القتي��ل .فمقارنة بق�صة �إ�سماعيل يجب �أن يك��ون عبد الله قد فدي
بتي���س �أروى .والإب��ل المائ��ة هي دية ه��ذا التي�س .نع��م دية ه��ذا التي�س .فهو
لي���س تي�س��ا عاديا ،بل تي�س �إله��ي� .إنه تج�سي��د للإله ذات��ه .فحيوانات الأروى
ه��ي حيوانات الإله .ل��ذا كان لهذه الحيوانات حمى في جب��ل ثبير .وقد ا�ستبدل
�إ�سماعيل بتي�س من حيوانات الأروى هذه .وهذا يعني �أن التي�س مثيل �إ�سماعيل.
لقد ذبح �إ�سماعيل رمزيا عبر الكب�ش .وكذا يجب �أن يكون الأمر مع عبد الله في
ما نفتر�ض� .أي يجب �أن يكون قد ذبح تي�س �أروى فداء له .لكن الكب�ش لم يظهر
عل��ى خ�شبة الم�سرح في ق�صة عبد الله في حين ظهر في ق�صة �إ�سماعيل .غير �أننا
كدية له .لم تكن الإبل
ن�ستطي��ع �أن نتكهن بوجوده من خالل الإبل الت��ي نحرت ّ
ف��داء لعبد الل��ه في الواقع ،بل كانت دية لكب�ش الف��داء ،كب�ش الأروى ،الذي لم
يظه��ر ل�سبب ال نعرفه جيدا .لقد نحر الكب���ش فعليا ،فدفعت ديته مائة من الإبل.
من �أجل هذا �صارت هذه الحادثة �أ�صل الدية عند النا�س.
هذا هو� ،إذن� ،أ�صل اختالف فداء �إ�سماعيل عن فداء عبد الله .ثمة كب�ش خفي في
فداء عبد الله .وثمة �إب��ل خفية في فداء �إ�سماعيل .وبجمعهما معا ن�صل �إلى الخط
96
زكريا محمد
قلن��ا �أنن��ا ال ندري لم غاب كب���ش الأروى عن خ�شبة الم�سرح ف��ي ق�صة عبد الله
الذبيح .لكننا ربما عثرنا عليه ،ب�شكل ما ،في ق�صة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه.
وهي الق�صة التي �سوف نذهب �إليها بعد �أن ننهي هذا الف�صل.
بالطبع ،علينا �أن نتذكر �أن عبد المطلب كان لقب بمطعم الطير ب�سب حادثة الإبل
�أع�لاه ،و�أن هناك �صنما كان من�صوبا على الم��روة ي�سمى :مطعم الطير .وهذا
يعن��ي �أن عبد المطلب كان كاهنا لهذا ال�صنم الإله .كما يعني �أن طق�س الذبيح هو
طق�س هذا الإله� ،أو طق�س �إله هذا ال�صنم.
وف��ي كتابنا ال�سابق اقترحنا �أن ق�صة �إبراهيم مع «بئر �سبع» التوراتية عديل لق�صة
«بئ��ر زمزم»� .أي �أن «بئ��ر �سبع» مثيلة «بئر زمزم» .وقلن��ا وقتها« :نظن �أن
نظرة واحدة تكفي كي يتبين ال�شبه بين ق�صة «بئر �سبع» وق�صة «بئر زمزم» .فقد
دفع �إبراهيم «غنم��ا وبقرا» لأبيمالك نظير حفر البئر وا�ستخدام مائها� .أما النعاج
97
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ال�سبع��ة التي �أفرزها �إبراهيم لأبيمالك ،فهي رم��ز نجوم الثريا ال�سبعة التي يكون
غورانها هو بدء «عودة» الماء ال�سفلي من رحلة في�ضه �إلى ال�سطح» (محمد ،ديانة
مك��ة في الجاهلية :كتاب الحم�س والطل�س والحل��ة� ،2012 ،ص .)146وقد قلنا
وقته��ا هذا م��ن دون �أن نربطه بلعبة المي�سر .بناء علي��ه ،يمكن افترا�ض �أن ا�سم
«بئر �سبع» ي�شير �إل��ى ارتباط البئر الأولى دوما بالرقم �سبعة .فهناك دوما بئر،
وهناك رقم �سبعة .وهو ما يدعم ربط حفر هذه البئر� ،سواء �سميت بئر �سبع �أو بئر
زم��زم ،بظهور الثريا ذات الأنجم ال�سبعة و�أي��ام نوئها ال�سبعة .فظهور الثريا ال
ي�شير �إلى بدء المطر الو�سمي فقط ،بل ي�شير �إلى حفر الآبار الجوفية المقد�سة� ،أو
�إعادة حفرها .فعند ظهور الثريا يعود الماء ال�سفلي من رحلته ال�سطحية ال�صيفية،
ليتجمع من جديد في مكامنه ال�سفلية ،وب�شكل يبدو فيه وك�أن المطر الأول ،المطر
العل��وي ،مطر ن��وء الثريا ،هو من كبت��ه ودفعه �إلى العودة م��ن رحلته� .إذن،
فالمطر الو�سمي لي�س مطرا عاديا� .إنه مرتبط بحركة الماء الجوفي.
في لحظة غوران الثريا� ،إذن ،تحفر البئر الأولى ،مثيلة بئر زمزم وبئر �سبع.
وفي ه��ذا التوقيت تح��دث االحتفاالت ال�سنوية ح��ول �آبار المي��اه الجوفية� .إنها
احتفاالت �سحب الماء الجوفي ،و�سقي الحجيج منه في الحج الخريفي -ال�شتوي.
وفي هذا التوقيت تجري �أي�ضا لعبة المي�سر المقد�سة .وهذا يعني �أنها لعبة مقد�سة،
ب�شكل ما ،في الأ�صل.
الربابة من جديد
انطالق��ا من م��ا �سبق ،ربم��ا كان علينا �أن نع��ود �إلى ربابة المي�س��ر من جديد.
فاال�سم «ربابة» يعني في اللغة �أي�ضا العهود والمواثيق« :الرِ بابة والرِ باب :العهد
والميث��اق ...ومنه قيل للع�شورِ :رباب» (ل�س��ان العرب) .ي�ضيف ابن فار�س:
وهو العهد .يق��ال :للمعاه ِدين �أرِ ّب��ةٌ » (ابن فار�س،
ْ الربابة،
«وم��ن هذا الب��اب ِّ
مقايي���س اللغة) .وهذا �سيعيدنا �أي�ض��ا �إلى �إبراهيم و�أبيمالك وبئ��ر �سبع .فبعد �أن
واف��ق �أبيمالك عل��ى ال�سماح لإبراهيم بحفر البئر ق��دم الأخير له مقابل ذلك غنما
وبقرا ،وقطعا ميثاقا بينهما:
98
زكريا محمد
«ف�أخ��ذ �إبراهيم غنما وبقرا و�أعطى �أبيمالك ،فقطعا كالهما ميثاقا .و�أقام �إبراهيم
�سبع نعاج من الغنم وحدها .فقال �أبيمالك لإبراهيم :ما هي هذه ال�سبع النعاج التي
�أقمته��ا وحدها .فقال� :إنك �سبع نعاج ت�أخذ من ي��دي ،لكي تكون لي �شهادة ب�أني
حفرت هذه البئر .لذلك دع��ا ذلك المو�ضع بئر �سبع ،لأنهما هناك حلفا كالهما.
فقطعا ميثاقا في بئر �سبع ،ثم قام �أبيمالك وفيكول رئي�س جي�شه ورجعا �إلى �أر�ض
الفل�سطينيين» ( الكتاب المقد�س ،تكوين .)32-28 :21
�إذن ،فالنع��اج ال�سبع كانت «�شهادة» عل��ى �أن �إبراهيم حفر البئر ب�شكل �شرعي.
�إنه��ا في الواقع الثمن ال��ذي دفعه �إبراهيم كي يكون له ح��ق ا�ستخدام البئر� .إنها
ثمن وميث��اق في الوقت عينه .وكما نرى من الن�ص ف�إن الميثاق مرتبط بالنعاج
ال�سبع� .أي �أن النعاج ال�سبع هي ،في الواقع ،الميثاق �أو رمزه .وت�سمى الأغنام
ف��ي العربية ُرب��اب ،بال�ضم .يق��ول �أبو الع�لاء :و�إنما مقات��ل الفر�سان عندي/
الرباب .وهذا �أي�ضا ما يفتح بابا للربط مع نعاج �أبيمالك ال�سبع
م�صارع تلكم الغنم ُّ
التي كانت ميثاقا .وهذا يعني �أن الأغنام كانت رمزا للعهد والميثاق.
بن��اء علي��ه� ،أال يدفعنا هذا �إل��ى الت�سا�ؤل عن �س��ر ت�سمية ال�سهام ال�سبع��ة � -إذا ما
�أغفلن��ا القداح التي ال تدخل المقامرة -با�س��م الربابة؟ ثم �أال يمكن لكلمة ربابة �أن
تعني العه��د والميثاق؟ ثمة نعاج �سبع تمثل عهدا وميثاقا� ،أي ربابة .وثمة �سهام
�سبع��ة ت�سمى ربابة .عليه ،فالرقم �سبعة هنا رقم الميثاق والعهد .بذلك ،ال بد �أن
ينفت��ح الباب �أمام افترا�ض �أن ا�سم «الربابة» ف��ي المي�سر ربما عنى في الأ�صل:
الميث��اق والعهد ،م��ع اال�شتمال على معن��ى الثمن .ومن هنا �سمي��ت الع�شور،
�أي ال�ضرائ��ب� ،أي�ضا ربابا« :ومنه قيل للع�ش��ورِ :رباب» .فالرباب هي النعاج
الع�شر� ،أي ال�ضريبة ،التي دفعت من �أجل الح�صول ال�سب��ع ،والنعاج ال�سبع هي ُ
على الماء من عين بئر �سبع� ،أو زمزم.
وم��ن هنا ،من �أجل هذا ،يو�صف �آلهة الماء ال�سفل��ي ،مثل �سهيل اليماني ،ب�أنهم
ع�ش��ارون� ،أي جامعو �ضريبة الع�ش��ر .يقول الجاحظ :وقلت��م« :في� سهيل� أنه
كان ع�شار ًا باليمن» (الجاحظ ،الحيوان).
ّ
99
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ال قال :لعن
ي�ضي��ف النويري« :كان النبي �صلى الله عليه و�سلم �إذا ر�أى� سهي ً
ال� إنه كان ع�شاراً باليمن» (النويري ،نهاية الأرب) .فهم يح�صلون الله� سهي ً
عل��ى ثم��ن الماء ال�سفل��ي ،ماء العي��ون ،ممن يري��دون ا�ستخدام��ه .فالماء
ما�ؤه��م ،ولهم حق قب�ض ثمنه .ح�صلوا عليه من �إبراهيم ،وح�صلوا عليه من
عبد المطلب.
�أكث��ر من ذلك ف�إن تعبير :قط��ع ميثاقا في ق�صة �أبيمال��ك« :فقطعا كالهما ميثاقا»
ربم��ا �أخذ �أ�صله من تقطيع الج��زور� .إذ لماذا يقطع العهد قطعا ،ما لم تكن هناك
عملي��ة تقطيع؟ و�سوف يت�ضح لنا هذا الأم��ر عند الحديث عن �سرقة غزال الكعبة
وتقطيعه.
�إذن ،فلي���س �صدف��ة �أن يكون اليا�س��رون في المي�سر �سبع��ة ،و�أن تكون ال�سهام
القامرة �سبعة ،و�أن تكون �أجزاء الجزور التي يقامر عليها �سبعة .فكل هذا مرتبط
بالثريا ذات الأنجم ال�سبعة .فهل تكون القداح ال�سبعة والمتيا�سرون ال�سبعة تمثيال
لنجوم الثريا ال�سبعة؟
نعتق��د �أن هذا ممك��ن .و�إذا �صح فهو دلي��ل �آخر قوي على ارتب��اط لعبة المي�سر
ب�سق��وط الثريا� ،أي باالعتدال الخريفي ،وقت تناوح الرياح .وفي هذه الحال،
يك��ون المعنى �أن ج��زور المي�سر يذبح وقت �سقوط الثري��ا ذات الأنجم ال�سبعة.
علي��ه ،ومن طرف خف��ي ،ف�إن المتقامري��ن ال�سبعة يمثلون ،ب�ش��كل ما ،نجوم
الثري��ا .فظهور نج��وم الثريا ي�ؤدي �إلى نحر الج��زور وتقطيعها .والمقامرون
ال�سبعة يقطعون لحم الجزور ويتراهنون عليه.
لكن هناك �شيء �آخر يتعلق بالثريا والرقم .7ف�أيام نوئها ،التي ي�سقط فيها مطرها
ع��ادة ،هي �سبعة �أيام� .صحيح �أن هناك من يق��ول �أنها خم�سة �أيام ،لكن الغالبية
عل��ى �أنها �سبع��ة« :الثريا :نو�ؤها خم�س لي��ال ،وقيل �سب��ع» (التيفا�شي� ،سرور
النف�س) .وفي الحديث ال�شهير عن عمر �أنها �سبعة« :ومن هذا الباب قول عمر بن
100
زكريا محمد
الخط��اب للعبا�س بن عبد المطلب حين ا�ست�سقى به :يا عم ر�سول الله ...كم بقي
من نوء الثري��ا؟ فقال العبا�س :العلماء يزعم��ون �أنها تعتر�ض في الأفق �سبعا بعد
�سقوطها .فما م�ضت �سابعة حتى ُمط��روا ...قد علم [عمر] �أن نوء الثريا وقت
يرج��ى فيه المطر وي�ؤمل ،ف�س�أله عنه� :أخرج [ه��ل انتهى؟] �أم بقيت منه بقية؟»
(تف�سي��ر القرطبي) .وهكذا فق��د كان عمر قلقا من �أن ينتهي ن��وء الثريا من دون
مط��ر ،ومط��ر الثريا بالن�سبة لهم �أم��ر �شديد الأهمية .فهو ما يح��دد و�ضع ال�سنة
مائي��ا� .أي يحدد �إن كان الخ�صب �سيعم �أم الجدب .ل��ذا �س�أل العبا�س �إن كان قد
ف�ضل وقت من ن��وء الثريا �أم انه انتهى؟ ف�أخبره العبا�س �أنه بقي �شيء منها ،فلما
حل اليوم ال�سابع من �أيام نوئها �أمطرت.
علي��ه ،يمكن ل�سبعة �أيام نوء الثري��ا �أي�ضا �أن تكون على عالق��ة بالرقم �سبعة في
لعب��ة المي�سر .فكل يوم من هذه الأي��ام يمثله �سهم من �سهام المي�سر و�صاحب هذا
ال�سه��م من المتيا�سرين .فه�ؤالء هم الذين ينتهبون الجزور «الأ�ضحية» .بالطبع
يمكن �أن يكون كل يوم من هذه الأيام ممثال بنجم من نجوم الثريا .ومن المحتمل
�أن وق��ت لعبة المي�سر يغط��ي هذه الأيام ال�سبعة� .أي �أنها تلعب في �أيام نوء الثريا
ال�سبعة فقط.
�إذا كان الرق��م 7هو رق��م نجوم الثريا ،ف�إن لدينا حديثا نبوي��ا يقول لنا �أن نجوم
الثريا �أحد ع�شر نجما ال �سبعة« :وفي «ال�شفا» للقا�ضي عيا�ض� :أن النبي �صلى الله
علي��ه و�سلم كان يرى في الثريا �أحد ع�شر نجم��ا» «تف�سير القرطبي» .لكن هناك
من يقول لنا �أن الر�سول كان يرى فيها اثني ع�شر كوكبا ال �أحد ع�شر كوكبا :كان
«ي��رى في الثريا �أحد ع�ش��ر نجما ذكره القا�ضي والقرطب��ي .وذكر ال�سهيلي �أنه
كان يرى اثني ع�شر نجما» (ال�شامي� ،سبل الهدى والر�شاد).
ولو كان تعلق الأمر باثني ع�شر لكان �سهال علينا �أن هذا الرقم يمثل �أ�شهر ال�سنة.
فبين طلوع الثريا في الغدية وطلوعها الثاني فيها 365يوما� ،أي � 12شهرا« :قال
101
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ابن الأعرابي بين طلوع الثريا مع الفجر وبين عوده �إلى مثله ثالث مائة وخم�سة
و�ست��ون يوما وربع يوم» (المرزوق��ي ،الأزمنة والأمكن��ة) .ومن المحتمل،
ب�سب��ب هذا �أن الثريا كانت ت�ستخدم للتوقيت ال�شم�سي الدقيق .فال�سنة ال�شم�سية كما
نعرفه��ا الآن هي 365ي��وم وربع ،مع زيادة بع�ض الدقائ��ق والثواني .عليه،
فه��ي ت�صلح �أن تكون بديال لل�شعرى ،الت��ي كان التوقيت ال�شم�سي ي�ستند �إليها منذ
الم�صريي��ن .وقد ا�ستخدمه��ا الم�صريون لأن طلوعها ف��ي حزيران ،بعد غياب
�شهور ،يبد�أ تقريبا مع االنقالب ال�صيفي م�ؤذنا بزيادة النيل وفي�ضانه .وال�شعرى
ه��ي �إيزي�س .لذلك تختلط الثريا بال�شعرى �أحيانا .يق��ول عمر بن �أبي ربيعة في
�أبيات �شهيرة له:
وهناك تف�سيرات عديدة للبيتين .لكنن��ا نعتقد �أنه يتحدث عن ال�شعرى والثريا
ال�سماويتين .وهو ي�ستغرب افترا�ض زواج بينهما و�إحداهما مائلة لل�شمال في
برج الثور ،والأخرى جنوبية في برج الجوزاء .كما �أن ال�شعرى هي قرينة
�سهي��ل ال الثري��ا .غير �أن لفكرة ال��زواج بين �سهيل والثري��ا �أ�صل ما في ما
يبدو .فهي في طلوعها ال�صيفي تبدو م�ساوية لل�شعرى ،وقادرة على الحلول
محلها� .أما في طلوعها الخريفي فو�ضعها محير .فهي تبدو �أحيانا وك�أنها تمثل
�آخر �أيام الفي�ض� ،أي تتبع ال�صيف ،وفي �أحيان �أخرى تبدو كما لو �أنها �أول
�أيام الالفي�ض.
ف��ي كل حال ،نعود للرقم 11الذي كان الر�س��ول يراه في نجوم الثريا .فمن
الوا�ض��ح لنا هذا يرتبط بما جاء في �سورة يو�سف�« :إني ر�أيت �أحد ع�شر كوكبا
وال�شم���س والقمر ر�أيتهم ل��ي �ساجدين» (�سورة يو�س��ف .)4 :وقد اختلف في
ه��ذه الكواكب .لكن الغالبية على �أنها �إخوة يو�س��ف« :قال ابن عبا�س وقتادة:
الكواك��ب �إخوته ،وال�شم���س �أمه ،والقمر �أب��وه .وقال قتادة �أي�ض��ا :ال�شم�س
خالت��ه ،لأن �أمه كانت قد ماتت ،وكان��ت خالته تحت �أبيه» (القرطبي ،تف�سير
102
زكريا محمد
القرطبي) .و�إخوة يو�سف مثل �إخوة عبد الله الذبيح مع اختالف ب�سيط .ف�إخوة
عب��د الله ت�سع��ة كان هو عا�شرهم .والعا�ش��ر هو الذبيح دوم��ا� .أي �أنه ال�شهر
العا�شر� ،شهر طق���س الذبيح ومطعم الطير ،حيث يذبح االبن العا�شر رمزيا،
وي�ستبدل بكب�ش فداء .ونحن نفتر���ض �أن يو�سف كان العا�شر �أي�ضا .لكن العد
�أكمل ال�شهري��ن اللذين ي�أتيان بعده� .إذن ،ف�إخوته �أحد ع�شر ال ت�سعة .مع عبد
الله توقف العد عند العا�شر فقط .بالتالي ،فيو�سف �أي�ضا ذبيح من حيث المبد�أ.
لهذا �أثارت ر�ؤية يو�سف للكواكب الخوف في قلب يعقوب والده« :قال يا بني
ال تق�ص���ص ر�ؤياك على �إخوت��ك فيكيدوا لك كيدا �إن ال�شيط��ان للإن�سان عدو
مبين» (�سورة يو�سف.)5 :
ويمك��ن للمرء �أن يقت��رح �أن يو�سف ر�أى الثريا في منام��ه .ور�ؤيته للثريا نذير
بالذبح والموت� ،أي بطق�س الذبيح وتقطيع الجزور .لهذا رجف قلب يعقوب من
ر�ؤي��ة ابنه لها ،وخ�شي �أن تتحقق الر�ؤيا .ونحن نعلم �أن الثريا مرتبطة بالموت
ف��ي كثير م��ن الثقافات« :بالن�سبة ل�شع��وب �أوروبا في الع�ص��ر البرونزي ،ف�إن
الثري��ا �أخذت ترتب��ط بالحداد والجنازات .وبين االعت��دال الخريفي واالنقالب
ال�شتوي ،يطلع عنقود الثريا بعيد طلوع ال�شم�س :وبالن�سبة لل�سلت ف�إن هذه النجوم
هي نافذة على العالم الآخر»
(Amelia Sparavigna, The Pleiades: the celestial herd of ancient
timekeepers
)http://arxiv.org/ftp/arxiv/papers/0810/0810.1592.pdf
وارتباطه��ا بالموت نابع من الطق�س الموغل في القدم ،طق�س الذبيح ،الذي كان
يقدم عند طلوعها الخريفي .على كل حال ،فلدينا دليل �أن يو�سف ذبيح من ق�صته
مع ال�سجينين:
«ودخ��ل معه ال�سجن فتيان؛ قال �أحدهما �إني �أران��ي �أع�صر خمراً ،وقال الآخر
�إن��ي �أراني �أحمل فوق ر�أ�س��ي خبز ًا ت�أكل الطير منه ،نبئن��ا بت�أويله �إنا نراك من
المح�سنين .قال :ال ي�أتيكما طعام ترزقانه �إال نب�أتكما بت�أويله قبل �أن ي�أتيكما ،ذلكما
103
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
مم��ا علمني ربي� ،إني تركت ملة قوم ال ي�ؤمنون بالله ،وهم بالآخرة كافرون»
«يو�س��ف .»37 36- :وت�ضيف ال�سورة« :يا �صاحب��ي ال�سجن �أما �أحدكما في�سقي
رب��ه خمرا ،و�أما الآخر في�صلب فت�أكل الطير م��ن ر�أ�سه ،ق�ضي الأمر الذي فيه
ت�ستفتيان» (�سورة يو�سف.)41 :
�أما ال�سجين الذي ي�سقي ربه خمرا فمثيل فرعون .و�أما ال�سجين الذي ت�أكل الطير
م��ن ر�أ�سه فهو مثيل يو�سف .علي��ه ،فيو�سف هو الذي �أكلت م��ن ر�أ�سه الطير.
وه��ذا يعني �أنه مثل عبد الله الذبيح .فقد ذبح عب��د المطلب الإبل كدية لكب�ش عبد
الل��ه ،و�أطعم منها الطير على ر�ؤو�س الجبال� .أي �أنه ذبح ابنه رمزيا ،و�أطعمه
للطي��ر .لذلك �سمي مطع��م الطير ،با�سم ال�صنم -الإله ال��ذي كان من�صوبا على
المروة .وهذا ال�صنم هو الخبز والقمح .عليه ،فعبد الله و�إ�سماعيل ويو�سف كلهم
ذبحاء ت�أكل الطير من ر�ؤو�سهم� .أما الذي ي�سقي ربه خمرا في ق�صة يو�سف ،فهو
�شبيه ب��ـ «مجاوز الرياح» ،ال�صنم الذي كان عل��ى ال�صفا .وا�سمه يعني «�ساقي
الخمر»� ،أي الذي ي�سقي الخمر.
والحق �أن يو�سف مرتبط �أي�ضا بالرقم .7فهو العا�شر ،لكنه �أي�ضا على عالقة
بالر�ؤي��ا ال�سباعية الغريب��ة للعزيز ملك م�صر« :وقال المل��ك �إني �أرى� سبع
بقرات �سمان ي�أكلهن �سبع عجاف و�سبع �سنبالت خ�ضر و�أخر ياب�سات يا �أيها
الملأ �أفتون��ي في ر�ؤياي �إن كنتم للر�ؤيا تعبرون« « يو�سف� .»43 :صحيح
�أن الآيات تتحدث عن دورة �سباعية للزرع« :قال تزرعون �سبع ِ�س ِنين د�أبا
فم��ا ح�صدتم فذروه ِفي �سنب ِل ِه �إِال ق ِليال مما ت�أكلون .ثم ي�أ ِتي ِمن بع ِد ذ ِلك �سبع
تح�صنون .ثم ي�أ ِتي ِمن بع ِد ذ ِلك عام
ِ ِ�ش��داد ي�أكلن ما قدمتم لهن �إِال ق ِليال مم��ا
يع�ص��رون» (�سورة يو�سف .)49-47 :لكن الحديث يه ِ يه يغاث النا�س و ِف ِ
ِف ِ
ع��ن ال�سنبل ير�سلنا �إلى القمح .والقمح يذكرنا بالذي ت�أكل الطير من ر�أ�سه.
فح�س��ب الت��وراة كان على ر�أ�س ه��ذا ال�سجين �سلة خب��ر� .أي �أننا مع القمح
والخب��ز ال م��ع الخمر .مع الخريف وال�شتاء ال م��ع ال�صيف .بذا ،نحن مع
الرق��م �سبعة ،رقم نج��وم الثريا ،ورقم قداح المي�س��ر ،ورقم ح�ص�ص لحم
الجزور التي تدخل المقامرة.
104
زكريا محمد
لك��ن الأه��م �أن لقمان بن ع��اد ،الأب الأ�سط��وري للعبة المي�س��ر ،مرتبط مثله
مث��ل يو�سف بالرقم � 7أي�ض��ا .فحين طلب طول العمر خي��ره الله بين �سباعيات:
«فن��ودي ق��د �أجيبت دعوت��ك و�أعطي��ت �س�ؤالك وال �سبي��ل �إلى الخل��ود واختر
�إن �شئ��ت بقاء� سبع بق��رات عفر ف��ي جبل وع��ر وال يم�سهن ذع��ر ،وان �شئت
بقاء� سبع نواي��ات م��ن تمر ،م�ستودع��ات في �صخر ال يم�سهن ن��دى وال قطر،
و�إن �شئ��ت بقاء� سبعة ن�س��ور كلما هلك ن�سر عقب بعده ن�س��ر .قال :فكان ذلك �إنه
اختار� سبعة ن�سور» (ابن منبه ،التيجان) .وهكذا ،نعثر على �أبقار يو�سف ال�سبع
عند لقمان .وهو ما ي�شي بعالقة ما بينهما.
وعلى كل ح��ال ،فبقرات التوارة والقر�آن على عالق��ة بالبقرات ال�سبع لحاتور
الإله��ة البقرة الم�صرية .وهاتيك البقرات ال�سب��ع هن نجوم الثريا ال�سبع� ،أو هن
على عالقة بنجوم الثريا.
105
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
و�إذا كان لقمان على عالقة ببقرات �سبع -هن مثيالت للن�سور ال�سبعة -فهذا يعني
�أي�ض��ا �أن نجوم الثريا قد تكون بقرات �سبع .وه��ذه البقرات ال�سبع ربما رمزت
للإله��ة الأنثى� ،إلهة االنقالب الخريفي ،الت��ي هي مثيلة �إيزي�س ،ونقي�ضها� .أي
�أن لقم��ان هو الإله الثور �أي�ضا .لكن يمكن قول العك�س بالمقابل .فالعبو المي�سر
ال�سبع ،الذين يق�سمون لحم الجزور بينهم ،قد يكونون تمثيال لنجوم الثريا ال�سبع.
�أي �أن نج��وم الثري��ا لي�ست على عالق��ة بلقمان ،بل على عالق��ة بنقي�ضه .فحين
تظه��ر النجوم ال�سبع للثريا يكون على لقمان �أن يقدم �أ�ضحيته للإله النقي�ض� ،إله
الم��اء ال�سفلي .و�إذا �صح هذا يكون انت�ساب لقمان للمي�سر انت�ساب �سلبي .فهو من
يقدم الأ�ضحية كما قدم عبد المطلب ابنه الذبيح ك�أ�ضحية .وكما نرى فالأمر معقد
جدا هنا ،وال يمكن تقديم حكم �سهل ب�ش�أنه.
106
فصل 5
تخبرن��ا الم�صادر العربية �أن عب��د المطلب قد عثر ،عندما حفر بئر زمزم ،على
غ��زال من ذه��ب .وهناك من يقول؛ ب��ل عثر على غزالين .كم��ا �أن هناك من
يخبرن��ا �أن الغ��زال� -أو الغزالين -وجد في بئر الكعبة ال ف��ي بئر زمزم .وبئر
الكعبة في الأ�صل خ�سفة تحت الكعبة كانت تو�ضع فيها النذور التي تهدى للكعبة.
غير �أن االتجاه الأقوى �أن الأمر يتعلق بغزال واحد ،و�أنه كان في بئر زمزم.
وي�ؤي��د هذا �أن ق�صة �سرقة الغزال تتحدث عن غزال واحد ال عن غزالين .لذلك
�سنعتمد �أن الأمر يتعلق بغزال واحد ال غير .ويقال لنا �أن غزال عبد المطلب هذا
و�ضع في الكعبة كجزء من مقتنياتها ،وظل هناك �إلى �أن �سرق وقطع في الحادثة
الكبرى التي نحن ب�صدد الحديث عنها.
ال�شريب��ة ال�ساهرين نفدت خمرتهم ،ولم يجدواّ والذي ح�صل �أن جماعة من
م��ا ي�شترون به خم��رة جديدة لإكم��ال �شربهم في �سهره��م ،ف�سرقوا غزال
الكعبة ،وقطع��وه ،وق�سموه بينهم ،وا�شتروا به خمرتهم .وح�سب الرواية،
فق��د �أدت �سرقة الغزال وتقطيعه �إلى منافرة �شاملة بين حلفي مكة الأ�سا�سيين:
الأح�لاف والمطيبين .وكاد الأمر يتطور �إلى ح��رب بينهما� ،إلى �أن انتهى
باتفاق م�صالحة.
ولي���س من �شك لدى الم�صادر العربية ف��ي �أن �أمر الغزال كان حادثة واقعية جدا.
�أما نحن فنعتقد �أننا �أمام حدث ديني� ،أي �أمام طق�س ديني ،جرى تمثيله على الخ�شبة
المكي��ة قبي��ل الإ�سالم .ولكي نبره��ن على ما نقول ،فال بد لن��ا �أوال من ا�ستح�ضار
ن�ص ق�صة الغزال .ونحن ن�أخذها من ابن حبيب في المنمق ،لأنه هو الذي �أوردها
بتف�صيل لم يورده غيره .و�أدناه ن�ص حديث الغزال كما ورد عند ابن حبيب.
107
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وكان م��ن حديث الغ��زال �أن ِم ْق َي�س بن عبد قي�س بن قي���س بن عدي بن �سعد بن
�سه��م كان بيت��ه م�ألفا ل�شباب قري���ش ،ينفقون عنده وي�شرب��ون ،منهم �أبو لهب،
والحك��م بن �أبي العا���ص ،والحارث بن عامر بن نوف��ل ،والفاكه بن المغيرة،
وملي��ح بن الحارث بن ال�سباق بن عبد ال��دار ،و�أبو �إهاب بن عزيز بن قي�س بن
ربيع��ة بن زيد بن عبد الل��ه بن دارم ،وقي�س بن �سوي��د -وكان قي�س �أخا عامر
ب��ن نوفل بن عب��د مناف لأمه ،و�أمهم��ا كهيفة من بني جندل ب��ن �أبير بن نه�شل
وكان حليفا لهم -و�أبو م�سافع الأ�شعري ،حليف بني مخزوم ،وديك ودييك من
خزاعة يخدمانهم .واجتمعوا في بيت مقي�س ،وله قينتان يقال لهما �أ�سماء وعثمة؛
فتغنت �أ�سماء وقد نفد �شرابهم ب�شعر رجل من بلي:
ق��ال �أبو المنذر :عامر وخدا�ش ابنا زهير بن جناب الكلبي ...وقد كان قال لهم
دي��ك ودييك� :إن عيرا قد �أقبلت من ال�شام تحم��ل خمرا ،ف�أناخت بالأبطح .فقال
�أب��و لهب :ويلكم �أما عندكم نفقة؟ قالوا :ال والله! قال :فعليكم بغزال الكعبة ،ف�إنما
هو غزال �أبى .فقاموا فانطلقوا وهم يهابون ،وقد �أ�صابتهم ليلة باردة ذات ظلمة
ومط��ر ،حتى انته��وا �إلى الكعبة ولي�س حولها �أحد .فحم��ل �أبو م�سافع و�أبو لهب
الحارث بن عامر على ظهريهما حتى �ألقياه على الكعبة .ف�ضرب الغزال فوقع.
فتناول��ه �أبو لهب ،ثم �أقبلوا ب��ه .فقال �أبو لهب :قد علمت��م �أن الغزال غزال �أبي
ولي ربعه .ف�أت��وا منزل ديك ودييك ،فك�سروه ،ف�أخ��ذوا الذهب وعينيه وكانتا
م��ن ياقوت .وطرحوا ظرفه وكان على خ�شب في منزل �شيخ من بني عامر بن
ل���ؤي .ف�أخذ �أبو لهب العن��ق والر�أ�س والقرنين ،ودف��ع القرطين �إليهم ،وقال:
هذان لأ�سماء وعثمة ،وانطلق فلم يقربهم .وذهب القوم فا�شتروا كل خمر كانت
بالأبطح ،ثم �أقبلوا به �إلى �أ�صحابهم ف�شربوا وقرطوا ال�شنف والقرط القينتين.
فمكث��ت قري�ش �أياما ثم افتقدوا الغ��زال .فتكلموا فيه و�أعظموه .وكان �أ�شدهم فيه
كالم��ا و�أجدهم عبد الله بن جدعان ،وتكلمت قري�ش فلم يبلغ �أحد مبالغته .وكان
يق��وم فيقول� :أ�شهد �أنه لم يجترئ عليكم غيركم ولم ي�سرق الغزال غيركم ،و�أيم
108
زكريا محمد
الله لئن لم ينه حلما�ؤكم �سفهاءكم لتنزلن بكم النقمة .فلما �أكثر ،قال له حف�ص بن
المغي��رة :قد �أكثرت في �أمر الغزال ول�ست �أول��ى قري�ش به� ،إنما هو غزال عبد
المطلب وهذا الزبير بن عبد المطلب و�أبو طالب ال يتكلمان ،وما �أبو لهب عندي
بخلي منه ،ف�أكفف .فغ�ضب الزبير و�أبو طالب ،فقاال :ال تزال تنا�ضل من دونه
ك�أنك تعرف �صاحبه ،و�أيم الله لئن ثقفناه لنقطعن يده.
فمكث��وا ي�شربون �شهرا �أو �أكثر .ثم �إن العبا�س ب��ن عبد المطلب مر ،وهو غالم
�ش��اب� ،آخر النهار في حاجة له بعد ذلك ب�شهر ب��دور بني �سهم ،وقد لغط القوم
وثملوا وه��م يرفعون �أ�صواتهم ،ف�أ�صغى لهم ف�سمع بع�ضه��م يقول للقينتين :غنيا
بقول �أبي م�سافع:
تقنون��ه لخط��وب الدهـ��ر والـغـير �إن الغزال ال��ذي كنتـم وحـلـيتـه
�أهل العلى والندى والبيت ذي ال�ستر طافت به ع�صب��ة من �شر قومـهم
...فغنت��ا .و�أقبل العبا���س ،فقال :يا �أبا طالب .هل لك ف��ي �سرقة الغزال؟ قال:
وم��ن هم؟ قال :هم في بيت مقي�س ،ول��م �أرهم ،فتعالوا فا�سمعوا .ف�أقبل �أبو طالب
والزبي��ر وابن جدعان ومحزمة بن نوفل والعوام بن خويلد حتى دنوا من الباب،
ف�سمعوهم يقولون :غنينا ...فقال �أبو طالب :ه�ؤالء ال �شك �أ�صحاب الغزال ،و�إن
دخلتم ال�ساعة �أ�صبتموهم �سكارى ال يعقلون عنكم وال يفقهون ،وال نحب �أن ندخل
عليهم �إال ومعنا من الأحالف الذين تحالفوا بعد الحلف الأول من نحتج عليهم بهم.
ول��م تكن عبد �شم�س وال نوفل دخلوا في ذلك الحل��ف ،ف�أخروا ذلك �إلى غد .فلما
�أ�صبحوا ،غدوا �إلى بني �سهم ،وقالوا :يا بني �سهم ،تعلمون �أن غزال ربكم �سرقه
ندم��اء مقي�س وهم في بيته ،فادخلوا معنا نفت�ش��ه .فقاموا معهم ،فلما دخلوا وجدوا
مقي�سا غائبا ،ووجدوا جثة الغزال وهو غمده الذي يكون فيه ،وكان �أديما عربيا،
فقال��وا :ما ينبغي عليه بينة غير هذا .و�أخذوا قينتيه فلزموهما ،ف�إذا �إحداهما مقرطة
ق��رط الغزال والأخرى م�شنفة ب�شنفة ،فقالتا� :أنحن �آمنتان ونخبركم الخبر؟ قالوا:
نع��م ،ف�أخبرت��ا ،ف�سمتا �أبا له��ب ،فاتهموه لأنه غبر عنهم تلك الأي��ام ،فلم ي�أتهم،
فطلبوه ،فتغيب .فبلغهم �أن الغزال ك�سر في بيت ديك ودييك ،فهرب ديك ،و�أخذ
دييك ،و�ضبطوه من خلفه .ومد يده ابن جدعان و�أنحى عليه ال�شفرة وكانت كليلة
فحز كوعه حتى قطعها .فلم يلبث �إال يوما حتى مات.
109
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ث��م �إن المطيبين نافروا الأحالف ،وقالوا :ال نر�ضى حتى نقطع �أيديهم �أو ي�ؤدوا
الغ��زال بعينه� ،أو ي�ؤدي كل رجل منهم مائة ناقة .فمكثوا بذلك .ثم �إن الحارث
بن عامر �أخرج وقد �ألب�س حلة لمطعم بن عدي ،وقد �أهلّ بعمرة ،وطاف بالبيت
ال يكلم��ه �أحد .ثم خرج على وجه��ه فمكث ع�شر �سنين ال يدخ��ل مكة .فقال �أبو
�إه��اب بن عزيز :ما يمنعك��م �أن ت�صنعوا بي ما �صنعت��م ب�صاحبكم؟ �أمن �أجل �أني
حليف ت�ستخفون بي؟ ...ف�ألب�سوه حلة و�أخرجوه مهال بعمرة..
فق��ال اب��ن جدعان ،وكان �أ�شد الق��وم في �أمره ،وكان ال يق��وى �إال ب�أبي طالب
والزبير ومخرمة ،ف�أتاهم فقال :يا ه�ؤالء� ،سرقة غزالكم �آمنون و�أنتم جلو�س؟!
فق��ام �أبو طالب قياما �شديدا حتى غيب الرج�لان وخافوا عليهم القتل ...فقامت
بنو �أمي��ة ف�أعانوا الأحالف حت��ى كادوا يقوون .ف�أقبل عتب��ة و�شيبة ابنا ربيعة،
و�أب��و �سفيان بن ح��رب ،و�سعيد بن العا�ص ،و�أ�سيد بن �أب��ي العي�ص ،ونفر من
�شيوخ قري�ش ،فحدثوا وذكروا الغ��زال ،وحث بع�ضهم بع�ضا على �أن ين�صروا
الأحالف .فقال �أبو �أحيحة� :أطيعوني وال تعر�ضوا �إلى �أمر هذا الغزال ف�إن عندي
منه علما ،قالوا :ما علمك؟ قال :حدثني �أبي عن �أبيه �أن قبيلتين من العرب نزلوا
مك��ة ف�أهلكوا في �ش�أن ظبي قتله رجل منه��م ،فا�ست�ؤ�صل �أحرارهم ورقيقهم...
قال��وا له :كي��ف كان هالكهم؟ قال� :أقبلت حية مثل الجب��ل ،فجعلت تنفخ عليهم،
فتلقي من جوفها �أمثال الرماح من نار فجعلوا يحترقون حتى هلكوا جميعا .قالوا:
�أنى يكون هذا ،قال� :أما �سمعتم بقول عبد �شم�س:
�أحج��ن النابي��ن وث��اب خـ�ضـ��م ف�أتـ��اه حـي��ة مـ��ن خـلـفـ��ه
مثل م��ا �أب�صرت باللي��ل ال�ضرم فرم��اه بـ�شـهـ��اب ثـاقـ��ب
قال��وا :فوالله م��ا ندخل في �شيء م��ن �ش�أنه! فعند ذلك وهن �أم��ر الأحالف حتى
�صالحوه��م �صلحا على خم�سين ناقة ،فدفعت �إلى �أبي طالب والزبير ،فرفدوا بها
الكعب��ة والحجاج .وم��ن لم يعط خم�سين ناقة لم يزل خائف��ا حتى بعث الله النبي
�صل��ى الله عليه و�سلم .فلما كان �أيام ب��در �أقبل �أبو م�سافع و�أ�صحابه الذين هربوا
فقال��وا :يا مع�ش��ر قري�ش ،لم تنفونن��ا وتطردوننا؟ ما لنا عندك��م �إن نقاتل محمدا
و�أ�صحاب��ه ،ف�إن قتلنا فه��و ما تريدون و�إن بقينا فهو عو�ض مم��ا �صنعنا .ف�أقبلوا
110
زكريا محمد
ف�شهدوا بدرا ،فقتل �أبو م�سافع والحارث بن عامر ،و�أفلت �أبو �إهاب...
وطلبت قري�ش الحكم بن �أبي العا�ص �أوال فمنعته بنو �أمية ،فبلغ �أبا لهب �أن قري�شا
ت�أتي��ه فتوارى ،وكان له ع�شر خاالت من خزاعة قد ولدن فيهم ف�أكثرن ،فب�سط
ب�سطة ون��ادى فيهم ،ف�أقبل �إليهم من بني خاالته جمع كثي��ر فلم يقربه �أحد قالوا:
دع��وه لإخوته ...ووج��دوا ظرف الغزال في منزل العام��ري ال�شيخ الأعمى
فقال :ال علم لي بما �صنعوا� ،أنا �أعمى ،فقتلوه» (ابن حبيب ،المنمق).
ه��ذا هو ن�ص الق�صة ،بع��د �إزالة بع�ض �أبي��ات ال�شعر التي افتر�ضن��ا �أنها ال تنير
الأح��داث .وكما نرى ،فهو ،على طوله ،ن���ص مخت�صر مت�شابك معقد ،يظهر
في��ه عدد كبير من ال�شخ�صيات عل��ى خ�شبة الم�سرح ،وك�أنم��ا هو ن�ص م�سرحية
كامل اخت�صر ب�صفحتين.
حلف المطيبين
وقب��ل �أن نبد�أ ف��ي تحليل �أحداث ق�صة الغزال ومغزاها علين��ا �أن ن�شير �سريعا �إلى
الم�شكل��ة المعقدة ب�ش�أن حلف المطيبين وحلف الف�ض��ول .فن�ص ابن حبيب يخبرنا
�أن ال�ص��راع ب�ش���أن �سرقة الغزال كان بي��ن الحلفين المكيي��ن القديمين؛ المطيبين
والأح�لاف« :ث��م �إن المطيبين نافروا الأحالف ،وقال��وا :ال نر�ضى حتى نقطع
�أيديه��م �أو ي���ؤدوا الغزال بعينه� ،أو ي���ؤدى كل رجل منهم مائ��ة ناقة» .غير �أن
ه�شام الكلب��ي يخبرنا �أن ال�صراع دار بين الأحالف والف�ضول ،ال بين الأحالف
والمطيبين .وهو يقول ذلك من خالل عنوان كتاب له لم ي�صلنا للأ�سف« :وتوفي
ه�ش��ام [الكلبي] في �سنة �ست ومائتين .وله من الكت��ب الم�صنفة ما �أنا �أذكره على
ترتيبه من خط �أبي الح�سن بن الكوفي .كتبه في الأحالف :كتاب حلف عبد المطلب
وخزاعة ،كتاب حلف الف�ضول وق�صة الغزال» (ابن النديم ،الفهر�ست).
�أما نحن فنرى �أن المطيبين والف�ضول ا�سمان للحلف ذاته ،لكن في لحظتين زمنيتين
مختلفتي��ن .و�سوف نفرد ف�صال ملحقا حول م�س�ألة حلف الف�ضول في �آخر الكتاب.
فنحن نريد تجنب نقا�ش الم�س�ألة هنا كي ال نقطع ال�سرد حول ق�صة الغزال.
111
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ولنعد الآن �إلى حادثة الغزال .فالم�صادر العربية ال يعتريها ،كما قلنا �أعاله� ،أي
�شك في �أن هذه الحادثة قد وقعت بالفعل .لكن من ال�صعب على المرء في الحقيقة
ت�صدي��ق �أن تقدم ال�شخ�صي��ات المذكورة في الن�ص ،وج��زء رئي�سي منها �أنا�س
من علية القوم ف��ي مكة ،على تلويث �سمعتها بالقيام بجريمة �سرقة داخل الكعبة؛
فالأكثر منطقية �أن نعالج الحادث��ة بو�صفها طرازا من التمثيل لق�صة دينية .وهذا
يعني �أن ما بدا للإخباريين كحادثة واقعية هو في الواقع �إعادة تمثيل لحادثة بدئية
ديني��ة� .أي �أن م��ا حدث دار في بيت ِم ْقي�س في ذلك الي��وم الم�شهود في مكة �إنما
كان في الواقع عمال دينيا� ،أي عمال طق�سيا ،ال جريمة �سرقة عادية.
بيت الأزالم
والحق �أن لدينا خبرا حا�سما يدعم هذا الفر�ض .والخبر يتعلق بدار ِم ْقي�س ذاتها،
�أي بالدار التي حدثت فيه��ا م�ؤامرة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه وتق�سيمه .فهذه
الدار ت�سمى «بيت الأزالم» ،هكذا مبا�شرة وتماما« :حدثنا �أبو الوليد قال :حدثني
جدي عن �سليم بن م�سلم ،عن ابن جريج �أن «بيت الأزالم» كان لمقي�س بن عبد
قي���س ال�سهمي ،وكان بالحثمة ،مما يلي دار �أوي���س التي في مبطح ال�سيل ب�أ�سفل
مك��ة ،التي �صارت لجعفر بن �سليمان بن علي» (الأزرقي� ،أخبار مكة) .يكرر
الفاكهي«« :بيت الأزالم» :لمقي�س بن عبد قي�س ال�سهمي ...وكان بالحثمة التي
تل��ي دار روي�س في مبطح ال�سيل ب�أ�سفل مك��ة� ،صار اليوم لجعفر بن �سليمان بن
علي» (الفاكهي� ،أخبار مكة).
�إذن ،فبيت مقي�س الذي دبرت فيه حادثة ال�سرقة والتقطيع كان «بيت الأزالم».
وق��د ظل ا�سمه كذلك حتى بعد انت�صار الإ�سالم .وا�سم البيت يوحي بالمهمة التي
كان ي�ضطلع بها؛ فالطقو�س المتعلقة بال�ضرب بالأزالم� ،أي القداح ،لأغرا�ض
ديني��ة كانت ،في ما يب��دو ،تجري في هذا البيت ،بيت مقي���س .ولوال ذلك لما
�أطل��ق عليه هذا اال�س��م .وهذا يفتر���ض �أن مقي�سا و�أباءه من قبل��ه كانوا مكلفين
بالإ�شراف عل��ى الأزالم الدينية وعلى ممار�سة طقو�سه��ا عند الحاجة .وهناك
�إ�ش��ارة طريف��ة تتعلق بتوقف مقي�س عن الخمرة قد تفيد ب���أن مهمته كانت بالفعل
112
زكريا محمد
قطع بها غزال الكعب��ة واقت�سمت �أجزا�ؤه ،يمكن للمرء وبن��اء على الطريقة التي ّ
�أن يحك��م �أن دار مقي�س لم تكن لأزالم التنب�ؤ فقط ،بل لأزالم االقتراع مثل تلك
التي ا�ستخدمت في حادثة الذبيح عبد الله .فتق�سيم الغزال بين المت�آمرين �إلى قطع
يوحي ب�أنه تم ال�ضرب عليها بقداح التناف�س ،ال قداح التنب�ؤ� ،أي بقداح مثل قداح
الذبيح ومثل قداح المي�سر.
علي��ه ،يمكن االفترا�ض �أن ما جرى في بيت مقي�س كان ،ب�شكل ما ،على عالقة
ما ب�شيء ي�شبه بحادثة الذبيح عبد الله .وب�شكل �أكثر و�ضوحا ف�إنه ربما كان تمثيال
م��ا لحادثة طق�س الذبيح البدئي��ة� .أو العك�س� ،أي �أن حادث��ة الذبيح كانت تمثيال
لحادث��ة الغزال ،الت��ي كانت هي �أي�ضا ا�ستع��ادة لحادثة بدئي��ة مفتر�ضة ،في ما
يبدو .الفارق �أن �أ�ضحية الذبيح كانت ب�شرية� ،أما هنا في حادثة الغزال ،فالذبيح
ظب��ي .وكنا �أو�ضحن��ا من قبل �أن الذبيح الب�شري ي�ستب��دل بظبي ،ظبي �أروى،
كما كان الحال مع �إ�سماعيل .كما �أو�ضحنا ،من قبل �أي�ضا ،كيف �أن ظبي �أروى
كان يج��ب �أن يكون في حادثة ذبح عبد الل��ه ،انطالقا من الم�شابهة مع �إ�سماعيل
الذبي��ح .غير �أن الظبي اختفى ل�سبب ما ،وظلت على الم�سرح ديته التي ت�ساوي
مائ��ة بعير .وها نحن نعث��ر على الظبي الذي افتر�ضناه ف��ي حادثة تقطيع غزال
الكعب��ة التي نحن ب�صددها .بالتالي ،يمكن االفترا�ض �أن هذه الحادثة الدينية تتبع
حادثة الذبيح وتكملها� .إذ يتم في البدء االقتراع على الأ�ضحية الب�شرية� ،أي على
الذبح��اء �أمثال عبد الله .ثم ي�ستبدل الذبي��ح بكب�ش ،بتي�س �أروى ،فتجري عملية
تقطيع هذا التي�س ،كما ح�صل مع الغزال في دار مقي�س .وهذا يعني �أن ما جرى
ف��ي دار مقي�س ج��زء من طق�س الذبيح ،الذي يتكرر دوري��ا ،و�إن كنا ال ندري
الم��دى الزمني الذي يتكرر فيه ،هل ه��و خم�س �سنوات� ،أم ع�شر �أم ع�شرون،
�أم �أكثر من ذلك.
113
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ون���ص ابن حبيب ي�ؤكد لنا �أنه كان مطلوب��ا من الذين �سرقوا الغزال وقطعوه �أن
يعي��دوا الغزال المقط��ع �أو �أن يدفع كل م��ن �شارك منهم في تقطيع��ه مائة ناقة:
«ث��م �إن المطيبين ناف��روا الأحالف ،وقال��وا :ال نر�ضى حتى نقط��ع �أيديهم �أو
ي�ؤدوا الغزال بعينه� ،أو ي�ؤدي كل رجل منهم مائة ناقة» .بناء عليه ،فالإبل دية
الغزال .وه��و ما ي�ؤكد �أن الإبل المائة التي نحره��ا عبد المطلب كانت دية ظبي
الأروى ،الذي كان الكب�ش المفتر�ض لفداء عبد الله.
�إذن ،فمن الممك��ن جدا �أن التقطيع الرمزي للذبيح ،عب��ر تقطيع الإبل وو�ضع
لحمه��ا على ر�ؤو�س الجبال ،هو تمثيل لحادثة تقطيع غزال الكعبة� .أو �أن الأمر
على العك�س� .أي �أن تقطيع الغزال هو تمثيل رمزي لحادثة الذبيح .ي�ؤيد ما نقول
�أن الق�ص��ة و�صف��ت الغزال الم�سروق والمقطع و�صف ف��ي الن�ص ب�أنه« :غزال
ربكم»� .إنه غزال الإله ،هكذا مرة واحدة .بذا ،فل�سنا هنا مع حادثة �سرقة عادية
لكتلة ذهبية� ،أو مع �سرقة عمل فني على �شكل تمثال غزال .بل نحن مع «غزال
الإله» ذاته .فتمثال الغزال يج�سد الإله ويرمز له.
غزال المطيبين
و�إذا كان «غ��زال ربكم» هو غزال عبد المطلب ،فهذا يعني �أنه غزال المطيبين
الحل��ة .فق��د كان عبد المطل��ب زعيم ه�ؤالء .و�إل��ه الحلة ذو طاب��ع �إبراهيمي-
�إ�سماعيل��ي كم��ا فهمنا م��ن كتابن��ا ال�سابق« :كت��اب الحم�س والطل���س والحلة».
ي�ؤك��د ما نقول �أن هناك من �أخبرنا �أنه عثر عل��ى الغزال في بئر الكعبة� ،أي في
الخ�سف��ة المعروفة �أ�سفل الكعب��ة .وهذه البئر بالذات تدعى بئ��ر �إ�سماعيل« :فلما
ر�أت قري�ش ذلك قالوا� ... :أعطنا من هذا المال الذي �أعطاك الله ف�إنها بئر �أبينا
�إ�سماعيل ف�أ�شركنا معك» (الأزرقي� ،أخبار مكة) .وهكذا ،فالغزال كان في بئر
�إ�سماعي��ل� .أي �أنه يخ�ص �إله �إ�سماعيل الذبيح ،كما يخ�ص �إله الذبحاء كلهم ،بمن
فيه��م عبد الله الذبيح� .أو قل �إنه على عالقة بالذبحاء ،ب�شكل قد ي�شي ب�أنه ت�صوير
لكب�ش فدائهم.
114
زكريا محمد
ولأن الغ��زال لي�س مجرد قطع��ة ذهبية فقد كان موجودا قب��ل حفر بئر زمزم،
�أو قب��ل �إعادة حفره��ا على يد عبد المطلب ،بناء عل��ى �أن �إبراهيم هو من حفرها
الحف��ر الأول .وهن��اك �أكثر من خبر ح��ول �أ�صل هذا الغ��زال .فهناك من قال
�أن جره��م هي التي و�ضعت��ه في بئر الكعبة« :كان الغ��زال لجرهم فلما حفر عبد
المطلب زمزم ا�ستخرج الغزال و�سيوفا قلعية» (ابن �سعد ،الطبقات) .لكن هناك
من يدعي �أنه �أهدي للكعبة من بع�ض ملوك الفر�س الأ�سطوريين« :ذكر ه�شام بن
محم��د بن ال�سائب الكلب��ي� :أن بابك بن �سا�سان كان يغ�شى البيت ،و�آخر ما زاره
ال من ذهب ،عيناه من ياقوت وفي �أذنيه �شنفان من ذهب بدرتين، دف��ن فيه غزا ً
وال�سي��وف القلعية التي لم تكن �إال لفار���س» (الزمخ�شري ،ربيع الأبرار) .غير
�أن هناك من يربطه ب�أ�سفنديار« :وكان الغزال �أهداه �إلى البيت ا�سفنديار الفار�سي
حين �سم��ع بذكر البيت يحج �إليه» (الع�سكري ،الأوائل) .وكل هذا ي�شير �إلى �أننا
نتحدث عن رمز موغل في القدم ،وذي طابع ديني.
�صور الذبيح
وثم��ة ما هو �أكثر �أهمية و�أ�شد �إقناعا م��ن كل هذا .ففي ق�صة الذبيح ُي ّ
عب��د الله كتمثال من ذهب« :قال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم:...
والل��ه ال تذبحه �أبدا حتى نعذر في��ه ،ف�إن كان فداء فدين��اه ب�أموالنا .وقال ،فيما
يزعمون ،في ذلك �شعرا حين �أجمع عبد المطلب في ذبح عبد الله:...
وهك��ذا ،فعبد الل��ه �سيقت��ل «خرقا كتمث��ال الذه��ب» .والتخريق ه��و الت�شقيق
والت�شريط والتخزي��ق والقطع« :الخرقة :القطعة من خ��رق الثوب ،والخرقة
المزق��ة منه .وخرقت الث��وب �إذا �شققته» (ل�سان العرب) .وه��ذا يعني �أن عبد
الل��ه الذبيح �سيقتل ويقط��ع تقطيعا تماما «كتمثال الذه��ب»� ،أي بال�ضبط كتمثال
غزال الكعبة الذهبي الذي قطع تقطيعا ،ووزع بين الذين �سرقوه .وهذا الت�شابه
115
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ال�صاع��ق ي�شير �إلى �أن حادثة تقطيع غزال الكعبة حادثة دينية ،مثلها مثل حادثة
الذبي��ح عبد الله� .أو قل �إن حادث��ة تقطيع غزال الكعبة هي تقطيع رمزي للذبيح
عبد الل��ه و�أمثاله� .أو �إن االثنتي��ن تمثيل لحادثة بدئية مفتر�ض��ة قبلهما .والحق
�أن اب��ن حبي��ب في ن�صه يحدثنا عن ه��ذه الحادثة على ل�سان �أب��ي �أحيحة� ،سعيد
ب��ن العا�ص .فق��د �أخبر �أبو �أحيحة المكيين �أن« :قبيلي��ن من العرب نزلوا مكة،
ف�أهلك��وا في �ش�أن ظبي قتله رجل منهم ،فا�ست�ؤ�صل �أحرارهم ورقيقهم» .عليه،
يمكن االفترا�ض �أن حادثة تقطيع غزال الكعبة الذهبي التي وقعت قبيل الإ�سالم،
كانت مجرد �إعادة تمثيل لهذا الحدث القديم .فالغزال الذهبي تمثيل للظبي القتيل
ف��ي الحادثة البدئية« :ظبي قتله رجل منهم» .و�أغل��ب الظن �أن كلمة قبيلين في
الن�ص تعني ق�سمين� ،أو قبيلين دينيين .وربما كان المق�صود هو ال�صراع البدئي
ال��ذي �أفرز حلفين ،تم الحقا بناء حلفي المطيبين والأحالف على غرارهما .بل
لعل المق�صود هو هذين الحلفين بالذات ،الأحالف والمطيبين ،ولي�س غيرهما.
فهما القبيالن اللذان اخت�صما ب�ش�أن قتل الظبي قديما ،ثم اختلفا ب�ش�أن تقطيع غزال
الكعبة الذهبي الحقا.
علي��ه ،فق�صة الذبيح ،وق�ص��ة غزال الكعبة على عالقة بق�ص��ة �أ�صلية بدئية تقوم
عل��ى قتل ظبي .وهذا الظبي هو كب���ش الأروى� ،أي �أنه كب�ش الفداء .ويبدو �أن
لعب��ة المي�سر على عالقة به��ذا �أي�ضا .فتقطيع الجزور هو تمثي��ل ما لتقطيع كب�ش
الفداء ،وتقطيع غزال الكعبة ،لكن بعد �أن تم ا�ستبدال الغزال بالجزور -البعير.
وهو ا�ستبدال ر�أينا كي��ف ح�صل �أي�ضا في ق�صة الذبيح عبد الله .فقد نحرت الإبل
ديةً لظبي الأروى الذي افتر�ضنا �أنه كان كب�ش فداء عبد الله ،كما كان كب�ش فداء
�إ�سماعيل .الطقو�س الثالثة �إذن «الذبيح ،غزال الكعبة ،المي�سر» نبتت من �أ�صل
واحد .وهذا الأ�صل هو ذبح الإله الأوزيري�سي وتقطيعه� ،أو ذبح تج�سيده ككب�ش
ف��داء .ونحن نعل��م �أن المت�آمرين بقيادة �سيث قطع��وا �أوزيري�س ومزقوه تمزيقا
وتخريق��ا .وقد قطعوه �إلى 14قطعة .ولو �ضاعفنا الرقم ل�صرنا �أمام الرقم ،28
وه��و ح�ص�ص قداح المي�سر وح�ص�ص لح��م الجزور .ولو ق�سمناه على اثنين لكنا
�أمام الرقم ،7الذي هو رقم القداح والمتقامرين و�أكوام لحم الجزور.
116
زكريا محمد
دراما دينية
نعود الآن �إلى حادثة الغزال لنقول� :إذا قبلنا اال�ستخال�صات التي قدمناها �أعاله،
ف���إن ق�صة غزال الكعبة لن تك��ون �إال حدثا تمثيليا تجري في��ه ا�ستعادة الأحداث
البدئية التي انبثقت منها الأحالف الدينية ،مثل حلفي المطيبين والأحالف� ،أول
م��رة� .أي �أنها ل��م تكن حدثا خا�صا وفري��دا جرى قبيل الإ�س�لام فقط ،بل حدثا
جرى تمثيله على الخ�شبة المكية مرات عديدة ،وفي �أزمان قديمة .وهو ما يعني
�أنه��ا حادثة دورية ،تتكرر ربما كل ب�ضع �سن��وات ،وي�شارك فيها كل �أهل مكة
المنق�سمين بين �أحالفها ذات الطابع الديني.
و�إذا �صح هذا ،ف�إنه يفتح الباب للقول ب�أن الأ�شخا�ص المركزيين في ق�صة الغزال
�إنم��ا كانوا في الواقع ممثلين في م�سرحي��ة دينية� .أما �ألقابهم وكناهم «�أبو �إهاب،
�أب��و لهب ،جدعان� ،أحيحة� ،إلخ» فقد كانت مج��رد �أقنعة م�سرحية ال غير� .أي
�أنه��ا لي�ست �ألقاب��ا وكنى واقعية ،بل ه��ي �ألقاب وكنى دينية ت�شي��ر �إلى �أدوارهم
ووظائفهم في الم�سرحية ال غير.
ولن�أخ��ذ كمثال على ذلك «�أبو �إهاب» .ولنالحظ ،بدءا� ،أن هناك اختالفا �شديدا
على ن�سب هذا الرجل .فهو مرة �إهاب بن عزيز� ،أو �إهاب بن عبد عزيز ،من بني
دارم .لكنه ثانية عند ابن �إ�سحق :الحارث بن عامر بن نوفل .وح�سبه �أي�ضا ،فقد
كان �أب��و لهب بن عبد المطلب �أخا الحارث هذا لأمه .لكنه عند �آخرين مولى بني
نوف��ل ولي�س منهم� .أما كني��ة هذا الرجل فت�ؤيد بقوة فكرة �أننا �أمام دور ديني� ،أو
مهم��ة دينية في الم�سرحية التي نخمنها .فالإهاب هو الظرف الجلدي« :الإهاب:
الجلد من البقر والغنم والوح�ش ما لم يدبغ ...ومنه قول عائ�شة في �صفة �أبيها،
ر�ضي الله عنهم��ا :وحقن الدماء في �أهبها� ،أي ف��ي �أج�سادها» (ل�سان العرب).
وعن��د ابن فار�س« :كل جلد �إهاب ،والجمع �أهب» (ابن فار�س ،مقايي�س اللغة).
بن��اء عليه ف�أبو �إهاب تعني� :أبو الظ��رف الجلدي� ،أي �صاحب الظرف الجلدي.
وقد ر�أينا �أعاله في ن�ص ابن حبيب كيف �أن الغزال الذهبي كان يحفظ في ظرف،
�أو جث��ة� ،أي في �إهاب ،ثم ا�ستخرج من �إهابه وقت �سرقته� ،أي في الحقيقة حين
117
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
جاء وقت الحدث التمثيلي من وجهة نظر فكرتنا .عليه ،فال�شخ�ص الذي له عالقة
بظرف الغزال في الحدث الم�سرح��ي المفتر�ض كان يدعى دوما «�أبو �إهاب»،
�أي �صاح��ب الإهاب ،بغ�ض النظر عن ا�سمه الحقيقي� ،أو عن الوقت الذي وجد
في��ه .لكننا ال نعرف يقينا �إن كان��ت وظيفته المحافظة على الغزال في ظرفه� ،أم
تعرية الغزال من ظرفه ا�ستعدادا لتقطيعه� ،أم المهمتين معا.
وانطالق��ا من الفقرة« :وطرحوا ظرفه وكان [ق��د و�ضع] على خ�شب في منزل
�شي��خ م��ن بني عامر بن ل���ؤي» ،ف�إنه يفه��م �أن �أحدا ما يع��ري الغزال ويطرح
الظ��رف على �سطح بيت �أحدهم كي يجري تلزيمه بالجريمة الحقا ،في ما يبدو.
�إذ �أن العث��ور على ظرف الغزال مرميا في بيت ما كان ي�ؤدي �إلى �إدانة �صاحب
البيت وقتله ،رمزيا في ما نفتر�ض .فمن ال�صعب �أن ن�صدق �أن الأمر تعلق بقتل
حقيق��ي« :ووجدوا ظرف الغزال في منزل العام��ري ال�شيخ الأعمى ،فقال :ال
عل��م لي بما �صنعوا� ،أنا �أعم��ى ،فقتلوه» .لقد قتل ،بناء على الق�صة ،رغم �أنه ال
عالقة له بالجريمة .من هنا افتر�ضنا �أن الأمر يتعلق بقتل رمزي ال غير.
بناء عليه ،ربما كان �أبو �إهاب هو من عرى الغزال ورمى الظرف في دار ال�شيخ
العام��ري عمدا� ،أي �ضمن الم�سرحية .و�أي��ا كان الأمر ،فنحن �أمام مهمة دينية
ف��ي الحدث الم�سرحي تتعلق بظرف الغ��زال .عليه ،يكون �أبو �إهاب المذكور،
ال��ذي عا�صر الإ�سالم� ،آخر من �أنيطت به مهمة دينية تتعلق بهذا الظرف .وهذا
م��ا يفتر�ض �أن مك��ة ر�أت �سابقا �أكثر من �أبي �إهاب ،قبل �أبي �إهاب الذي نتحدث
عن��ه ،لكي يق��وم بالوظيفة التي نتح��دث عنها ،وظيفة الحفاظ عل��ى الغزال في
�إهابه� ،أو تعريته من �إهابه.
ث��م لن�أخذ ابن جدع��ان ،فهذه الكنية ق��د توحي بعالقة ما مع وظيف��ة دينية تتعلق
بالحدث الم�سرحي ال��ذي نحن ب�صدده .فهو من جذر «جدع»� ،أي :قطع .لهذا
فهو من حز يد دييك وقطعها في الحادثة« :و�أخذ دييك ،و�ضبطوه من خلفه ،ومد
يده ابن جدعان و�أنحى عليه ال�شفرة ،وكانت كليلة ،فحز كوعه حتى قطعها ،فلم
يلبث �إال يوما حتى مات»! و�أن يكون ا�سم ابن جدعان على عالقة بالقطع ،ثم �أن
يقطع هو بالذات يد دييك فهذا ما ي�صعب �أن يكون �صدفة.
118
زكريا محمد
ثم �إن هناك من يخبرنا �أن ابن جدعان الذي ح�ضر حادثة الغزال كان ،هو نف�سه،
قد ح�ضرقيام حلفي المطيبين والأحالف اللذين �أقيما ب�ش�أن ال�سقاية والرفادة�« :أما
�أن الحلفين قد عقدا في �أيام عبد الله بن جدعان فخط�أ .فقد �أجمع �أهل الأخبار على
�أن بن��ي عبد مناف كانوا يلون الرفادة وال�سقاي��ة قبل هذا العهد ،و�أن ها�شما كان
يليهما في حياته» (علي ،المف�صل في تاريخ العرب قبل الإ�سالم) .بالتالي ،فابن
جدع��ان ح�ضر حلف الف�ض��ول في �شباب الر�سول ،كما ح�ض��ر حادثة الغزال،
�إ�ضافة �إلى ح�ض��وره لحلف المطيبين القديم .وكل هذا قد ي�شير �إلى �أننا �أمام لقب
�أو قناع ل�شخ�صية م�سرحية يتكرر ظهورها على خ�شبة الم�سرح الديني المكي.
�أم��ا «�أبو �أحيحة» فيعك���س ا�سمه الغيظ وال�ضغن�« :سمعت ل��ه �أحاحا و�أَ ِحيحا� :إِذا
�سمعت��ه يتوج��ع م��ن غي��ظ �أَو ح��زن ...والأُحاح والأَ ِحيح والأَ ِحيحة :الغيظ
وال�ضغ��ن وحرارة الغ��م» (ل�سان الع��رب) .وربما كان دوره ف��ي التمثيلية �أن
يطف��ئ الغ�ضب والغي��ظ وال�ضغن .فقد انطف�أ غ�ضب الطرفي��ن بعد �أن حدثهم �أبو
�أحيحة عن حادثة الظبي القديم التي مزقت القبيلين.
�أبو لهب
�إذا �ص��ح �أن الأم��ر يتعلق بحدث تمثي��ل يرتدي فيه �أنا�س مك��ة �أقنعة ل�شخ�صيات
دينية ،فلعل��ه يو�صلنا �إلى �أبي لهب ال�شهير ،ال��ذي نزلت فيه وفي زوجه �سورة
الم�س��د« :تب��ت يدا �أبي لهب وتب .م��ا �أغنى عنه ماله وما ك�س��ب� .سي�صلى نارا
ذات لهب .وامر�أته حمالة الحط��ب ،في جيدها حبل من م�سد» (�سورة الم�سد).
فه��ل من عالقة بين �أبي له��ب وامر�أته في ال�سورة وبين حادثة الغزال التي نحن
ب�صدده��ا؟ �أي هل يكون ال�سرد في ال�سورة �سردا دينيا ال �سردا واقعيا كما ت�صور
المف�سرون في الم�صادر العربية؟
ال�سائ��د بالطبع �أن ال�سورة تحدثنا عن عبد العزى بن عبد المطلب ،عم الر�سول،
وعن زوجه �أم جميل ،وعن �أذى واقعي للر�سول بدر منهما ،ف�أدى �إلى لعنهما.
لكن ما هو هذا الحدث؟ نحن ال ندري بت�أكيد .فكل واحد ي�ضرب ب�ش�أنه في اتجاه.
119
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
-كان ي�سير خلف الر�سول ،وهو يدعو النا�س �إلى الإ�سالم ،فيرميه بالحجارة.
وهذه تهمة ال تليق برجل من علية القوم مثل عم الر�سول.
� -أو �أنه كان يالحقه وهو يقول للنا�س :ال ت�ستمعوا له فهو كذاب.
� -أو �أن��ه قال للر�سول حين جمع ع�شيرته الأقربين كي ينذرهم« :تبا لك� ،ألهذا
جمعتن��ا؟» ،فردت عليه ال�سورة :بل تبت ي��داك �أنت .وهي الرواية ال�سائدة
عموما .وهذا زعم باطل .ذلك �أن �آية «و�أنذر ع�شيرتك الأقربين .واخف�ض
جناحك لم��ن اتبعك من الم�ؤمني��ن» (�سورة ال�شع��راء )215-214 :هي من
�سورة ال�شعراء التي نزلت بعد �سورة الم�سد.
� -أقبل��ت وفي يدها فَه��ر [حجر �أمل�س] كي ت�ضرب ب��ه الر�سول ،وهى تقول:
مذمم��ا �أبينا ،ودينه قلينا ،و�أم��ره ع�صينا .لكن ما �ش�أن ه��ذا بالحطب الذي
تتحدث عنه ال�سورة؟
� -أو �أنها كانت تم�شي بالنمائم ،و�أن حمل الحطب كناية عن النمائم؛ لأنها توقع
بي��ن النا�س ال�شر وت�شعل بينهم النيران كالحطب الذي يدلى به في النار لذلك
�سميت بحمالة الحطب .وهذا يعني �أن القر�آن يتكلم هنا بالمجاز ،وال يتحدث
عن حطب حقيقي .لكن في هذه الحالةِ ،ل َم يكون هناك حبل م�سد؟ �أله عالقة
بالنميمة �أي�ضا؟
� -أو �أنه��ا كانت مو�سرة وكانت لفرط بخلها تحم��ل الحطب على ظهرها فنعى
الله عز وجل عليها هذا القبح من فعلها ،ف�سماها حمالة الحطب .وهذا �صعب
القبول جدا ،وينافي الإيقاع العنيف للآية.
� -أو �أنها كانت تقطع ال�شوك فتطرحه في طريق ر�سول الله و�أ�صحابه لت�ؤذيهم
بذلك والحطب معني به ال�شوك في هذا الجواب.
120
زكريا محمد
• �أو �أنها �ستحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم وال�ضريع؛ لأنها
فعلت ذلك بالر�سول.
وكما نرى فالأمر يتعلق بتكهن��ات ال بروايات حقيقية� .أما ب�ش�أن الحبل الذي في
جيده��ا ،فمختلف عليه .فهو« :حبل وبر �أو �ص��وف� ،أو �أنه ال�سل�سلة التي ذكرها
الل��ه في �س��ورة الحاقة« :ثم في �سل�س��ة ذرعها �سبعون ذراع��ا فا�سلكوه» (�سورة
الحاقة .)32 :لكن هناك من يقول �أنه بينما كانت �أم جميل ذات ليلة حاملة حزمة
حط��ب �أعيت ،فقع��دت على حجر لت�ستري��ح ،فجذبها الملك م��ن خلفها فاختنقت
بحبلها .وفي كل حال ،وبا�ستثناء الخرافة الأخيرة عن اختناق �أم جميل بالحبل،
يبدو �أنه ال دور فعليا للحبل في كل التف�سيرات ،رغم �أنه عن�صر �أ�سا�سي في �سورة
الم�سد .بل �إن ال�سورة ذاتها �سميت با�سم هذا الحبل ،حبل الم�سد.
وهك��ذا ،فكل ما نملك��ه ال يمكن و�صفه ب�أنه �أخبار ،فه��و مجرد محاوالت تف�سير
�ضعيفة الحقة ،ال ت�سمن وال تغني من جوع.
�إذن ،ال يتبقى �أمامنا �إال افترا�ض �أن الحدث الذي ت�شير �إليه ال�سورة حدث ديني
في الحقيق��ة� ،أي حدث الت�ضحية بالغزال وتقطيعه� ،س��واء تعلق بغزال الكعبة
الذي نحن ب�صدده� ،أو بالغزال البدئي القديم الذي حدثنا عنه �أبو �أحيحة� .إذن،
فم��ن تبت يداه لي�س عبد العزى عم الر�سول ،بل �أبو لهب الأول ،الذي يجري
تمثي��ل دوره على يد عبد العزى .فعم الر�سول كان يقوم بتمثيل م�سرحي لفعلة
قتل الغزال في الزم��ن ال�سحيق ،عندما ا�صطرعت القبيلتان اللتان حدثنا عنهما
�أب��و �أحيحه .ي�ؤيد ه��ذا �أن الأخبار المت�ضاربة حول �إي��ذاء عبد العزى للر�سول
تتناق���ض ب�شدة مع �أخبار �أخرى تتحدث ع��ن حمايته للر�سول بعد �أن مات عمه
�أب��و طالب« :لما توفي �أب��و طالب وخديجة ،وكان بينهما �شه��ر وخم�سة �أيام،
اجتمعت عل��ى ر�سول الله �صلى الل��ه عليه و�سلم م�صيبتان ،فل��زم بيته ،و�أقل
الخ��روج ،ونالت منه قري�ش ما لم تكن تنال وال تطمع به ،فبلغ ذلك �أبا لهب،
فجاءه ،فقال :يا محمد ،ام�ض لما �أردت وما كنت �صانعا �إذ كان �أبو طالب حيا
فا�صنعه ،ال والالت ال يو�صل �إليك حتى �أموت .و�سب ابن العيطلة النبي �صلى
الل��ه عليه و�سل��م ،ف�أقبل عليه �أبو لهب ،فنال منه ،فول��ى وهو ي�صيح :يا مع�شر
121
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
قري���ش� ،صب�أ �أبو عتبة» (ابن الجوزي ،المنتظم) .فكيف تتب يدا من دافع عن
الر�سول هذا الدفاع؟
ث��م لنلح��ظ �أن كنية عم الر�س��ول الفعلية هي «�أبو عتبة» ،وهو م��ا يدعم �أن «�أبو
له��ب» لقبه في الحدث الدين��ي الم�ستعاد� ،أي في الح��دث الم�سرحي .فلأنه مثل
الح��دث في حادثة �سرقة الغزال ،فقد �صار ك�أنه �أبو لهب الفعلي� .أي كما يح�صل
ف��ي ال�سينما ،حين يعتقد الجمه��ور �أن (محمود المليجي) هو ال�شرير بعينه ،ال �أنه
يمثل دور ال�شرير.
�أم��ا جمل��ة «تبت ي��دا �أبي لهب وت��ب» ،فتعني ح�س��ب ال�سائد :خ�س��رت يداه،
وخ�سر� ،أو هلك وهلكت يداه .لكن هذا ال�سائد يغفل �أن التب يعني �أي�ضا :القطع.
وه��و يغفله لأنه غافل عن الأ�سطورة« :ت��ب ال�شيء :قطعه» (الخليل ،العين).
و«ثعلب عن ابن الأعرابي :تب �إذا قطع ،وتب �إذا خ�سر» (الأزهري ،تهذيب
اللغ��ة) .و«تب ال�شيء :قطع��ه .وتب� :إذا قطع» (الزبي��دي ،تاج العرو�س).
�إذن ،فجملة تبت يدا �أبي لهب قد تعني :قطعت يدا �أبي لهب� .أي �أن في ال�سورة
دع��وة لقطع يديه .وهذا م��ا يعيدنا �إل��ى حادثة الغزال ،حي��ث جرت محاولة
لقط��ع يد �أبي لهب ،على �أ�سا�س �أنه �سرق الغزال ،لكن يده لم تقطع« :وقطعوا
الموليي��ن ول��م يقووا على �أبي له��ب [�أي لم يقدروا على قطع ي��ده] لمكان بني
ها�شم» (ابن حمدون ،التذكرة الحمدونية) .ويبدو �أن القطع الرمزي ال يحدث
فو�ض جمع ب�سب��ب ال�سرقة ،و�إنما ب�سبب تقطيع الغ��زال الإلهي .ف�أبو لهب من ّ
ال�ساهري��ن ال�سكارى بتقطي��ع الغزال الذهب .ولعل ه��ذا �أن يكون على عالقة
برب��ط يد الحر�ض��ة اليمنى في لعب��ة المي�سر .فمن المحتمل �أنه��ا تلف بالمجول
التب والقط��ع� ،أي من اللعن��ة الدينية الت��ي ت���ؤدي �إليهما� .أي
لحمايته��ا م��ن ّ
ك�إج��راء �سحري يبعد عنها احتمال القطع .ذلك �أن الحر�ضة هو من يقرر ق�سمة
الجزور� ،أي تقطيع لحمه ،رمزيا ،بين المتقامرين ،كما كان �أبو لهب هو من
قرر تقطيع غزال الكعبة.
وباخت�ص��ار يب��دو لنا كما ل��و �أن �أبا لهب هو �ص��ورة �أخرى ،لك��ن �سلبية ،لعبد
المطل��ب .فكل منهما يقدم �أ�ضحية يتم تقطيعه��ا وتمزيقها .عبد المطلب يقدم عبد
122
زكريا محمد
الل��ه الذبيح الذي يتم تقطيعه رمزيا كتمثال الذه��ب ،وعبد العزى �أبو لهب يقدم
غ��زال الكعبة الذهبي ال��ذي يقطع �أي�ضا تقطيعا� .أي �أن االب��ن يقوم ،ب�شكل ما،
بتمثي��ل الدور الذي قام به �أبوه من قبل .من جل ه��ذا قال �أبو لهب عن الغزال:
هذا «غزال �أبي».
وال ب��د من لف��ت االنتباه �إلى مفردات« :لهب ،ن��ار ،حبل ،حطب ،م�سد» في
ال�س��ورة .وجزء رئي�سي من هذه المفردات يمكن ل��ه �أن يذكرنا بالذابح �إبراهيم
والذبي��ح �إ�سحق -مثيل �إ�سماعيل -وكب�ش المحرقة .فهناك �أي�ضا نجد حطبا ونارا
وحيوانا وحبال يربط به .فقط الكب�ش ي�ستبدل بالغزال الذهبي في ق�صة �أبي لهب.
�صحي��ح �أن ق�صة �أبي لهب تقدم �سلبيا في حين �أن ق�صة �إبراهيم تقدم �إيجابيا ،لكن
الم�سرح هو ذاته:
«وحدث بعد هذه الأمور �أن الله امتحن �إبراهيم فقال له يا �إبراهيم فقال ه�أنذا.
فق��ال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه �إ�سحق واذهب �إل��ى �أر�ض المريا وا�صعده
فبكر �إبراهيم �صباحا و�شد على هناك محرقة على �أحد الجبال الذي �أقول لكّ .
حم��اره و�أخذ اثنين من غلمان��ه معه و�إ�سحق ابنه و�شق��ق حطبا لمحرقة وقام
وذه��ب �إلى المو�ضع الذي قال له الل��ه .وفي اليوم الثالث رفع �إبراهيم عينيه
و�أب�ص��ر المو�ضع من بعيد .فقال �إبراهي��م لغالميه اجل�سا �أنتما ههنا مع الحمار
و�أما �أنا والغالم فنذهب �إلى هناك ون�سجد ثم نرجع �إليكما .ف�أخذ �إبراهيم حطب
المحرقة وو�ضعه على �إ�سحق ابنه و�أخذ بيده النار وال�سكين فذهبا كالهما معا.
وكل��م ا�سحق �إبراهيم �أب��اه وقال :يا �أبي ،فق��ال :ه�أنذا يا ابن��ي ،فقال :هو ذا
الن��ار والحطب ،ولكن �أي��ن الخروف للمحرقة .فق��ال �إبراهيم :الله يرى له
الخ��روف للمحرق��ة يا ابني ،فذهبا كالهم��ا معا .فلما �أتيا �إل��ى المو�ضع الذي
قال ل��ه الله بنى هناك �إبراهي��م المذبح ،ورتب الحطب ورب��ط ا�سحق ابنه،
وو�ضع��ه على المذبح فوق الحط��ب .ثم مد �إبراهيم يده و�أخ��ذ ال�سكين ليذبح
ابنه .فناداه مالك الرب من ال�سماء ،وقال� :إبراهيم ،فقال ه�أنذا .فقال ال تمد
123
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ي��دك �إلى الغالم وال تفعل به �شيئا لأن��ي الآن علمت �أنك خائف الله فلم تم�سك
ابنك وحيدك عن��ي .فرفع �إبراهيم عينيه ونظ��ر و�إذا كب�ش وراءه مم�سكا في
الغابة بقرني��ه فذهب �إبراهيم و�أخذ الكب�ش و�أ�صع��ده محرقة عو�ضا عن ابنه»
(الكتاب المقد�س ،تكوين .)13-1 :22
�إذن ،فقد كان هناك حبل و�سكين وذبيح وحطب ومحرقة وكب�ش محرقة.
والحب��ل ثيم��ة مركزية من ثي��م الأ�سطورة .ل��ذا كان هناك حبل ف��ي ال�سورة،
وحب��ل في ق�صة الذبيح �إ�سماعيل .وحبل في جي��د �أم جميل ،وحبل في ق�صة ابن
قهو�س «في يوم جبلة» كم��ا عر�ضناها في كتابنا ال�سابق «كتاب الحم�س والطل�س
والحلة» .فقد كان والد ابن قهو�س ،يعلق في جيده حبال ،افتر�ضنا �أنه �سيربط به
ابنه لت�ضحية ما .قالت دختنو�س:
ولقد ر�أيت �أباك و�سط القوم يربق �أو يجل
124
زكريا محمد
التقليد اليوناني
وبخ�صو�ص وجود الحبل ف��ي عنق زوجة �أبي لهب ،فلدينا التقليد اليوناني الذي
يعط��ي الأم دورا رئي�سي��ا في الت�ضحي��ة باالبن .ففي ال�صراع بي��ن ديوني�سو�س
وبنثيو���س في م�سرحية «عابدات باخو�س» ليوربيدي���س ينتهي الأمر ب�أم الأخير
�إلى قطع ر�أ�س ابنها وهي تظنه ر�أ�س حيوان.
«ه��ذه الفقرة [الفقرة ]168تمثل قمة الم�أ�ساة ف��ي الم�سرحية :تحمل �أجافي ر�أ�س
ولدها بنثيو�س ،لكنها تعتقد �أنها تحمل ر�أ�س �صيد اقتن�صته من فوق جبل كثيرون»
(�شعراوي 1997،عابدات باخو�س� ،ص ،204هام�ش .)162
وق��د «اعتاد ال�شعراء والر�سام��ون الإ�شارة �إلى جلد الغزال كثي��اب تقليدية �أثناء
ت�أديته��ن [الن�ساء] للطقو�س الباخية ...على �أية حال كان جلد الغزال ثوبا مقد�سا
لأتباع باخو�س» (الم�ص��در ذاته� ،ص ،184هام�ش .)26وهذا يذكرنا بظرف
غ��زال الكعبة� ،أي الجلد ال��ذي كان يو�ضع فيه .كما يذكرن��ا ب�أبي �إهاب ،الذي
يعني �أبا ظرف الجلد.
على كل حال ،فرغم �أن الأم قطعت ر�أ�س �أ�سد ،ف�إن العادة في الطقو�س الباخية
يقطع �أ�سد �أو غزال� ،أو غيرها« :ت�شير الم�صادر القديمة �إلى �أن ال�ضحية التي �أن ّ
يمزقها المتعبد ويلتهمها تكون ثورا �أو عنزا بريا �أو غزاال �أو �أفعى �أو �أ�سدا .ولعل
هناك عالق��ة بين هذه الفكرة وما يقول��ه يوربيدي�س على ل�س��ان فتيات الكور�س
حي��ث تطلب عابدات باخو�س م��ن �إلههن �أن يظهر في �صورة ث��ور �أو �أفعى �أو
�أ�سد» (الم�صدر ذاته� ،ص .)57
125
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وهك��ذا فالعن��ز الب��ري� ،أي الأروى ،هو م��ن �ضمن الئح��ة الأ�ضاحي .وهذا
يعن��ي �أن الحيوانات الأخ��رى مثيل لغزال الأروى ،وبديل ل��ه .وارتداء الأم
و�صويحباته��ا لجلد الغزال دليل على �أننا �أمام �شعائر ت�ضحية رمزية بغزال .وقد
ارت��دت �أم بنثيو�س جلد الغزال لأن ابنها غ��زال .لقد ارتدت جلده .وهي تقطع
ر�أ�س هذا االبن في الم�سرحية ظانة �أنها تقطع ر�أ�س حيوان �صيد�« :إننا نحمل من
الجبال غ�صن لبالب �أخ�ضر ،نحمل �إلى الق�صر �صيدا طيبا» (الم�صدر ذاته� ،ص
.)175وهي تقطع هذا الحيوان -ابنها كما مزق �أبو لهب غزال الكعبة:
[�أما] الباخيات [فكن] ي�صحن �صيحات الن�صر .كانت واحدة تحمل ذراعا،
...
�أما الر�أ�س الم�سكين فقد وقع م�صادفة في يدي الأم» (الم�صدر ذاته� ،ص .)167
والحق �أن الن�ص يحاول �أن يخفف من وقع الحقيقة .فالأم تدري �أنها كانت تقطع
ر�أ�سه ابنه��ا .فالطق�س يقت�ضي ذلك .لكنها تقطع ر�أ�س ابنه��ا عبر الغزال .فابنها
والغ��زال �شيء واحد� .أي كان��ت ت�ستبدل ابنها بالغزال� .إن��ه غزال الفداء� ،أي
كب�ش الفداء .و�أم الغزال غزالة كذلك .لذا فقد كانت الباخيات ير�ضعن الغزالن
126
زكريا محمد
م��ن �أثدائهن :كن يلففن �أنف�سه��ن بالحيات ،وير�ضعن �صغ��ار الغزالن والذئاب
من �صدوره��ن .وهذا يعني �أنهن غزاالت ير�ضعن الأخ�شاف ال�صغيرة .وحين
تقط��ع �أم بنثيو�س ر�أ�س ابنها فهي تقطع ر�أ�س الغزال في الواقع .فهو ابنها ،لكنه
غزال �أي�ض��ا ،بال�ضبط مثلما �أن كب�ش فداء �إ�سماعيل� ،أو �إ�سحق ،كان كب�شا � -أو
ظب��ي جبل كما ف��ي التقليد العربي -وكان �إ�سماعيل ب��ن �إبراهيم في الوقت ذاته.
وحي��ن ذبح �إبراهيم الكب�ش -فقد كان يذبح ابنه .ابنه رمزيا هو الكب�ش .يعني �أن
�أمر �أم بنثيو�س ال يتعلق بخط�أ ،بل يتعلق بطق�س في الأ�صل.
�أكث��ر من ذل��ك ،فقد كان��ت الباخي��ات يحملن الع�صي ف��ي �أيديه��ن ح�سب ن�ص
الم�سرحي��ة ال��ذي �أوردن��اه �أعاله�« :أدف��ع بن�سائها �إل��ى ال�ص��راخ ،و�ألقي على
�أج�ساده��ن جلود الغزالن ،و�أ�ضع في �أيديهن المخا�صر» .والمخا�صر هي ع�صا
اخ َت َ�صر الإِن�سان بيده ف�أَم�سكه من ع�صا �أَو ِم ْقرعة �أَو عنزة مح��ددةِ :
الم ْخ�صرة ما ْ
�أَو ع��كازة �أَو ق�ضيب وم��ا �أَ�شبهها ،وقد يتك�أُ علي��ه .والمخ�صرة كانت من �شعار
علي وذكر عمر ،ر�ضي الله عنهما، الملوك ،والجمع المخا�صر؛ ومن��ه حديث ّ
فقال :واخت�صر عنزته؛ العنزة �شبه العكازة» .و�سوف نرى في ف�صل الحق عن
لقمان ابن ع��اد �أهمية المخ�صرة ،التي تدعى العنزة كما ر�أينا .فهي ع�صا -حية
مثل ع�صا مو�سى التي تتحول �إلى حية .وتحمل الن�ساء الباخيات هذه المخ�صرة -
الحية لأنها رمز للإله الذي يتبعه بنثيو�س� ،أو لأنها تمثل الإله بنثيو�س .فبنثيو�س
هو الإله ذاته ،الإله في وجهه القار الذي يتمثل بحية �أو ظبي �أو ثور� ،أو حمار.
لذلك «كانت الباخيات يتوجن ر�ؤو�سه��ن بالأفاعي �أثناء ت�أدية الطقو�س الباخية»
(الم�ص��در ذاته� ،ص ،184هام�ش .)25ولأن الحي��ة رمز لبنثيو�س ،ف�إن ا�سم
وال��ده «�إخيون» يعني الحي��ة( :ولفظ �إخيون معناه «الرج��ل الأفعى» ،لذا كان
الإغريق يعتقدون �أن بنثيو�س �سليل الحيات» (الم�صدر ذاته� ،ص ،184هام�ش
.)139ومن �أبوه حية يكون هو حية .ومن يكون حية تكون الحية رمزه.
فوق هذا كله ،ف�إن �أجافي دعت�( :أفراد الكور�س لي�شاركنها وليمة تكون فيها جثة
بنثيو���س [ابنها] طعاما :يبدو �أن هذه الدعوة كانت ج��زءا من الطقو�س الباخية،
كم��ا جاءت في الطقو�س الإغريقية) (الم�صدر ذات��ه� ،ص ،203هام�ش .)161
127
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وهذا يذكر بطق�س (مطعم الطير) حين ذبح عبد المطلب ابنه رمزيا ،و�أطعم لحمه
للنا���س والطيور .الفارق هنا هو �أن الأم هي التي تمار�س الطق�س ال الأب .لكنه
الطق�س ذاته .بالتالي ،فطق�س (مطعم الطير العربي) عديل هذا الطق�س الباخي.
بن��اء عليه ،لن ن�ستغرب �أن ت�ضع زوجة �أبي له��ب الأولى حبل الم�سد في جيدها
ف��ي الم�سرحية .فهو الحبل الذي �سيربط به الج��دي �أو الغزال .كما ال ن�ستغرب
�أن تجمع الحطب وتحمل��ه على ر�أ�سها من �أجل الت�ضحية بالتي�س �أو الجدي ،فهو
حط��ب كب�ش المحرقة .ومن المحتمل �أن يكون الحب��ل �أ�صال رمزا للحية ذاتها.
على كل حال ،فالحي��ة والغزال هي رموز �إله طائفة الحلة ،التي ترتبط بال�صنم
مطعم الطير .ومطعم الطير على عالقة بالحية ،كما �أو�ضحنا في كتبنا ال�سابقة.
وال ب��د هنا من مالحظة .فاليون��ان والرومان يخلطون ،خلط��ا ال براء منه ،بين
ديوني�سو���س وباخو�س� ،أي بين وجهي الكون -الإله ،اللذين ي�صبحان �شيئا واحدا
عندهم��ا .و�سوف نكر�س الحقا بحث��ا خا�صا عن هذا الخل��ط .فالأ�صل �أن باخو�س
نقي���ض ديوني�سو���س .وباخو�س هذا ي�س��اوي «بكو» من بين �آلت��ي جلجام�ش «مكو
وبك��و» ال�سومريتي��ن .وهو �شبيه ذي بك��ة� ،أي الأبك ،في ديانة مك��ة� .إنه النغمة
ال�سفل��ى الالفي�ضية ال�شتوية .ولأن اليونان والرومان خلطا الوجهين معا ،فقد كان
عليهم��ا �أن ين�صبا دوما نقي�ض��ا لديوني�سو�س .وفي م�سرحية عاب��دات باخو�س كان
بنثيو���س هو النقي�ض� .أي �أن��ه كان هو باخو�س .دليل ذل��ك �أن ا�سمه يعني الحزن
والأ�س��ى .وهو حزين لأنه قتيل ذبيح .كما �أن ا�سم وال��ده «�إخيون» يعني :الحية:
«لف��ظ �إخيون معناه :الرجل الأفعى .لذا كان الإغري��ق يعتقدون �أن بنثيو�س �سليل
الحي��ات» (الم�صدر ذاته� ،ص ،200هام���ش � .)137إذن ،فحين يجري الحديث
عن ارتباط الحي��ة بديوني�سو�س -باخو�س ،فعلينا �أن نفهم �أن الأمر يخ�ص باخو�س
ال ديوني�سو���س« :ارتبطت الحي��ة بطقو�س الإله باخو�س .فكم��ا توجت ر�أ�س الإله
بالأفاعي لحظة مولده كانت الباخيات يتوجن ر�ؤو�سهن بالأفاعي �أثناء ت�أدية الطقو�س
الباخي��ة» (الم�صدر ذاته� ،ص ،184هام�ش 28من عابدات باخو�س) .والحية كما
نعرف من كتبنا ال�سابقة مرتبطة ببكو وبذي بكة .كما �أنها مرتبطة ببكو ال�سومرية.
فحي��ن �صنع جلجام�ش �آل��ة بكو من �صف�صافة �إنانا� ،صنعها م��ن �أ�صل ال�شجرة حيث
128
زكريا محمد
كان��ت تقيم الحية� .أم��ا ديوني�سو�س الخمرى� ،أي �شبيه مك��و الخمري ال�سومري،
والم��كاء العربي الخم��ري ،فلي�س له عالقة بالحي��ات� .إنه نقي�ضه��ا وعدوها .لقد
ارتب��ط بالحيات ب�سب �شوا�ش يوناني ال غير .هذا ال�شوا�ش ناتج ،في �أغلب الظن،
ع��ن �أن �أوزيري�س الفي�ضي ،الجنوبي� ،أي �سهي��ل اليماني ،ممثل الكون في نغمته
العلي��ا ،ال يرى في �أوربا .فهو يك��ون بالن�سبة لها تحت خط الأفق .بناء عليه ،فهم
ال يب�صرون هناك �إال الإل��ه في مظهره ال�شمالي� ،أي ال�سها� ،أو �أبولو� ،أو بنثيو�س
الذي نح��ن ب�صدده .وهكذا �ص��ار الإله في مظهره ال�شمالي ممث�لا لوجهي الكون
ال�صيفي وال�شتوي معا� .صار ديوني�سو���س وباخو�س معا� .أما في الأ�صل فباخو�س
ه��و بك��و .وال�شبه اللفظ��ي بينهما ي�ؤكد ذلك تمام��ا .يعني �أن ابن الحي��ة ،في نهاية
الأمر ،باخو�س -بنثيو�س ،ال ديوني�سو�س .ديوني�سو�س عدو الحيات ال �سليلها.
و�أخيرا ،فقد قدمنا هنا ت�صورا �أوليا عن �أبي لهب وعن �شخ�صيات م�سرحية غزال
الكعب��ة� .أو قل �أننا ق��د فتحنا الباب فقط لفه��م �أمر الم�سرحي��ة الطق�سية الكبرى:
م�سرحية �سرق��ة غزال الكعبة وتقطيعه .ونحن بحاجة �إل��ى جهد �أو�سع لفهم هذه
الم�سرحي��ة ،التي ما زال الغمو�ض يلف �أج��زاء وا�سعة منها ،رغم ما قدمناه في
محاولتن��ا هذه .وهذا الجهد �ضرورة حا�سمة لفهم ديانة العرب قبل الإ�سالم .كما
�أن��ه �ضرورة حا�سمة لفهم االكت�ش��اف الجديد� :أن ثمة م�سرحا طق�سيا كان يعر�ض
على الخ�شبة المكية قبيل الإ�سالم بقليل.
ديك ودييك
�أم��ا بخ�صو�ص ديك ودييك ،ف�إننا في ما يبدو �أمام تمثيل للأب وابنه� .أي �أننا مع
�شيء �شبيه بلقمان بن عاد� ،صاح��ب المي�سر ،وابنه لقيم ،اللذين �سنتحدث عنهما
الحق��ا .وقد حاول لقم��ان �أن يغدر بابنه ويقتله ،في �صيغ��ة �سلبية لمن يقدم ابنه
�أ�ضحية .بالتالي نكون مع:
لقمان و لقيم
ديك و دييك
129
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
مع ال�شيء وت�صغيره .مع الأب وطفله الذي �سيقدمه �أ�ضحية .وال�صغير هو الذي
يكون الأ�ضحية .لذا فقد نجا الديك وقتل م�صغره دييك .و�أخذت الدية عن دييك،
كما �أخذت الدية في ق�صة عبد الله الذبيح .وهذا ما يربطهما ب�إبراهيم وابنه الذبيح
�إ�سماعيل ،وبعبد المطلب والذبيح عبد الله:
لقيم لقمان
دييك ديك
�إبراهيم �إ�سماعيل
عبد المطلب عبد الله
�أ�سماء وعثمة
يب��دو �أن تقلي��د المغنيتين �أ�سم��اء وعثمة تقليد عرب��ي قديم جدا ،و�أن��ه تقليد ديني
�أي�ضا .ي��دل على ذلك �أن الوفد الذي �أر�سلته ع��اد لال�ست�سقاء في الكعبة ،والذي
كان م��ن �ضمنه� ،أو ف��ي قيادته ،لقمان بن عاد ،كان ح�ض��ر هو الآخر في مكة
م�أدبة غنت فيها قينت��ان ت�شبهان �أ�سماء وعثمة� ،سميتا بالجرادتين« :الجرادتان،
قينتا معاوية بن بكر� ،أحد العماليق .و�أن عاد ًا لما كذبوا هودا عليه ال�سالم توالت
عليهم ثالث �سنوات لم يروا فيها مطر ًا فبعثوا من قومهم وفد ًا �إلى مكة ،لي�ست�سقوا
له��م ،ور�أ�سوا عليه��م قيل برعنق ،ولقيم ب��ن هزال ،ولقمان ب��ن عاد .وكان
�أه��ل مكة �إذ ذاك العماليق ...وكان �سيدهم بمك��ة معاوية بن بكر .فلما قدموا،
نزلوا عليه ،لأنه��م كانوا �أخواله و�أ�صهاره ف�أقاموا عن��ده �شهراً .وكان يكرمهم
والجرادتان تغنيانهم» (الميداني ،مجمع الأمث��ال) .ي�ضيف الطبري« :فانطلق
ع��دة وفدهم �سبعين
ُ كل رج��ل من ه���ؤالء القوم معه رهط م��ن قومه ،حتى بلغ
رج�لاً ...فلما نزل وفد عاد عل��ى معاوية بن بكر �أقاموا عن��ده �شهر ًا ي�شربون
الخمر ،وتغنيهم الجرادت��ان -قينتان لمعاوية بن بك��ر -وكان م�سيرهم �شهراً،
ومقامهم �شرهاً» (تاريخ الطبري).
130
زكريا محمد
ويمك��ن لنا �أن نلحظ هنا عددا من الأمور المهم��ة �إذا ما رطنا ق�صة �أ�سماء وعثمة
بق�صة الجرادتين:
�1.1أن تقلي��د المغنيتين مرتبط بتقليد اال�ست�سق��اء ،ا�ست�سقاء المطر الو�سمي ،مطر
الثريا في غورانها.
�2.2أن عالق��ة لقمان ب��ن عاد بالمغنيتي��ن ي�شي بتعال��ق بين لعبة المي�س��ر وتقليد
اال�ست�سقاء.
�3.3أن تقلي��د اال�ست�سقاء مرتبط باحتفاالت فيها قدر م��ن اللهو والن�سيان .لذا قال
المث��ل« :تركت��ه تغنيه الجرادت��ان»� ،أي تركته الهيا ين�س��ى ما هو مطلوب
«جماع
من��ه ،كما فعل وفد عاد .والأغل��ب �أن االحتفاالت مرتبطة باحتفال ّ
الثريا».
�4.4أن وفد عاد كان �سبعين رجال .والرقم �سبعون قريب من الرقم ،72الذي هو
رقم المت�آمرين الذين قتلوا �أوزيري�س وقطعوه و�أغلقوا عليه في ال�صندوق.
لكن يبدو �أن تقليد الم�أدب��ة والمغنيتان تقليد �أقدم و�أبعد زمنا من الق�ص�ص العربية
التي بين �أيدينا عن غزال الكعبة وعن وفد عاد .فنحن نجد هذا التقليد عند الأنباط،
ف��ي ما يبدو .ففي �سياق حديث��ة عن ه�ؤالء الأنباط يعر���ض �سترابو ،في القرن
الأول الميالدي ،لهذا التقليد في كتابه الجغرافيا .وهو في اعتقادنا تقليد ذو �أ�صل
دين��ي« :وهم يعدون موائد عامة �ضمن مجموعات تتكون من � 13شخ�صا .ولكل
مجموع��ة مغنيتان .ويملك الملك �أ�صوعة كثيرة رائعة ،لكن �أحدا ال ي�شرب �أكثر
من 11ك�أ�سا ،م�ستخدما ك�أ�س ذهبية مختلفة في كل مرة»
)(Strabo, The Geography of Strabo, 1932, page 369
131
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الملك �أي�ضا� .أما المغنيتان النبطيتان فهما �شبيهتا �أ�سماء وعثمة في اعتقادنا .ويبدو
م��ن خالل و�صف اب��ن حبيب لحادثة غ��زال الكعبة �أننا كنا �أم��ام م�أدبة في بيت
مقي���س ت�شبه هذه م�أدبة الأنباط .ويبدو �أن مدة االحتفال -الم�أدبة يجب �أن تكون
�شه��را .فعند ابن حبيب �أن م��ن جمعتهم م�أدبة �سرقة الغ��زال« :مكثوا ي�شربون
�شه��را �أو �أكثر» ،كما ر�أين��ا� .أما جماعة عاد الم�ست�سقية فدام��ت م�أدبتها مثل هذا
�أي�ضا »:ف�أقاموا عنده �شهر ًا ي�شربون الخمر وتغنيهم الجرادتان( ».الزمخ�شري،
الك�ش��اف) .ونح��ن نفتر�ض �أن هذا ال�شعر هو �شهر رج��ب الخريفي� ،أي رجب
ربيعة ،الذي تغور فيه الثريا.
وق��د علمنا من كتبنا ال�سابقة ومن كتابنا هذا �أن الإله في طوره القار ،الإله الذبيح
مرتبط بالموائ��د� .إذ تقام م�أدبة يقدم فيها لحم الإل��ه ،رمزيا ،وت�أكل منه الطير
والنا�س .وقد ر�أينا في تلك الكتب �أن الإله �سين اليمني يدعى ب «ذي الوالئم».
كما �أن �إ�سماعيل دعي بـ «ذي المطابخ» .ويجب �أن نلحظ �أن الآدبين ال ي�شربون
�أكثر من 11ك�أ�سا .ذلك �أن الك�أ�س الآخر الذي يكمل العدد 12هو كا�س الذبيح،
�أي ك�أ�س الإله القتيل الم�ضحى به .وهو ك�أ�س لن ي�شربه �أحد .وهذا يذكر بما جاء
ف��ي القر�آن عن يو�سف�« :إني ر�أيت احد ع�شر كوكبا وال�شم�س والقمر ر�أيتهم لي
�ساجدين» .فهن��اك �أحد ع�شر كوكبا هم ذاتهم �إخ��وة يو�سف .ويو�سف هو الرقم
.12يو�سف الذي �ألقاه �إخوته في الجب� ،أي قتلوه رمزيا .فهو مثيل الذبيح� .أما
الع��دد 13فيحيلنا �إلى �شهور ال�سنة م�ضافا �إليها الأي��ام الخم�سة لكي ت�صبح .365
فهذه الأي��ام كانت تح�سب �شهرا ناق�صا ،ي�صبح كامال في ال�سنة الكبي�سة� ،أي مرة
كل �أربع �سنوات.
و�أغلب الظن �أن �أ�سماء وعثمة هما الإلهة الأنثى في وجهيها الربيعي والخريفي،
�أي في الواقع �إيزي�س ونفتي�س ،ال�شع��رى العبور وال�شعرى الغمي�صاء� .أوالهما
ترتب��ط ب�إله الحم�س والثانية ترتبط ب�إله الحل��ة .وربما كانت عثمة مثيلة نفتي�س-
الغمي�ص��اء� .أي مثيلة نجم��ة الزهرة ال�ساقط��ة .فا�سمها يدل عل��ى الف�ساد« :قال
[ثعلب] عثْمة :فا�س��دة» (ل�سان العرب) .في حين �أن �أ�سماء مثيلة �إيزي�س .عليه،
َ
فنح��ن �أم��ام احتفال يلم الم�شهد الدين��ي كله ،لعقة الدم -الحم���س ،الذين يمثلون
132
زكريا محمد
ال�صي��ف الفي�ضي ،والمطيبين -الحلة الذين يمثل��ون ال�شتاء الالفي�ضي ،ثم �أ�سماء
وعثم��ة اللتين تمثالن الإلهة الأنثى في وجهيها الربيعي والخريفي .وهذه الإلهة
مرتبطة بطائفة الطل�س ،كما بينا في كتبنا ال�سابقة.
ن�أتي الآن �إلى ال�س�ؤال الذي يطرح دوما :لماذا حرم الإ�سالم لعبة المي�سر؟
وثم��ة �أكثر من �إجابة� .أما توفيق فهد فيميل �إلى �أن ال�سبب ديني .وهو يعتقد �أن
التف�سي��ر ال�سائد ،الم�ستند �إلى �آيات �س��ورة المائدة ،والذي يربط تحريم المي�سر
ب�إثارت��ه للعدواة والبغ�ضاء في �صفوف الم�سلمي��ن ،غير كاف لتبرير تحريمه.
�أو ي��رى �أنه لي�س ال�سب��ب الأعمق لتحريمه�« :أما تحريمهم��ا [الخمر والمي�سر]
فق��د جرى ت�سويغه عل��ى التوالي ،بواقع �أن فيهما �إثما كبي��را ومنافع للنا�س في
�آن معا .لك��ن �إثمهما �أكبر من نفعهم��ا ،و�أنهما و�سيلة ال�شيط��ان ليوقع العداوة
والبغ�ض��اء بين الم�ؤمنين ،لي�صدهم عن ذكر الل��ه وعن ال�صالة .هذه الأ�سباب
ت�سمح بافترا�ض �أن النبي محمدا ،المطلع على �ضعف ميل العربي �إلى ال�صالة،
�أراد �أن يلغ��ي هذه اللعبة الجاهلية الملهية ،والتي كانت خليقة �أن ت�سبب العداوة
والبغ�ض��اء .غير �أن مثل ه��ذا التف�سير ال يمكن �أن يكون كافيا ،لأن من الممكن
�أن نت�س��اءل ،ولي�س من دون �سبب ،لماذا لم يك��ن الر�سول ليحظر �ألعاب تلك
الحقبة الوثني��ة كافة ،والتي كانت عديدة ،وكان ب�إمكانه��ا �أن ت�سبب الأ�ضرار
ذاته��ا؟ ولماذا يكون الخمر والمي�سر انتهاكا لل�ش��رع الإلهي «�إثما»؟ نحن نظن
�أن ه��ذا الطابع الإثمي للخمر والمي�سر ال يمك��ن �إال �أن يت�أتى من روابطهما مع
العب��ادة الوثنية .فقد كان م��ن المفتر�ض �أن ي�ستخدم المي�س��ر في توزيع لحوم
الأ�ضاحي .وكان من الممكن �أن يرتبط الخمر بعبادة ديوني�سو�س عند الأنباط»
(فهد� ،2007 ،ص .)153-152
�أما �أن لعبة المي�سر ذات روابط دينية ،فهذا ما عملنا على �إثباته طوال كتابنا� .أما
الخم��ر فال يوج��د �أي �شك في ارتباطها بمذهب الحم���س .فهي رمز هذا المذهب
133
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وعنوان��ه .لكن هذا ال يبرهن على �أن تحري��م المي�سر كان لأ�سباب دينية .فهناك
�أ�شي��اء كثيرة ذات روابط مع الديانة الجاهلية ل��م تلغ في الإ�سالم .بل �إن �شعائر
جاهلية بكاملها احتفظ بها ،مثل ال�سعي بين ال�صفا والمروة ،فلماذا يلغي المي�سر،
�إذن ،ل�سب��ب دين��ي؟ الحديث ع��ن �سبب ديني ال يكفي وح��ده .يجب البحث عن
حيثي��ات هذا ال�سبب �إن كان وراء التحريم .وفهد لم يق��دم �شيئا بهذا ال�صدد� .أما
كلم��ة «الإثم» في �سورة البقرة« :ي�س�ألونك عن الخمر والمي�سر قل فيهما �إثم كبير
ومنافع للنا�س و�إثمهما �أكبر من نفعهما» (�سورة البقرة ،)219 :والتي ا�ستند �إليها
فه��د لتبرير حديثه عن رف�ض ال�سبب االجتماعي فت�أتي في مقابل «النفع» �أي �أنها
تعني «ال�ضرر» مبا�شرة .وال يمكن تحميلها �أكثر مما تحمل.
�أم��ا نح��ن فنعتقد �أن المي�س��ر لم يحظر ل�سب��ب ديني مبا�شر .بل حظ��ر ،مثله مثل
الخمر ،ل�سبب اجتماعي� -سيا�سي� ،أي ب�سبب العداوة والبغ�ضاء التي كانا يثيرانها
بي��ن �صفوف الم�سلمين ،الذين خرجوا حديثا من تقاليد الديانة الجاهلية� .أي �أننا ال
ن�ؤيد البحث عن �سبب �آخر غير ال�سبب المن�صو�ص عليه مبا�شرة في القر�آن ،والذي
ي�شير �إلى الع��داوة والبغ�ضاء« :يا �أيها الذين �آمنوا �إنما الخمر والمي�سر والأن�صاب
والأزالم رج���س من عمل ال�شيطان فاجتنبوه لعلك��م تفلحون� .إنما يريد ال�شيطان
�أن يوق��ع بينكم العداوة والبغ�ضاء في الخمر والمي�سر وي�صدكم عن ذكر الله وعن
ال�ص�لاة فهل �أنتم منتهون» (�سورة المائدة .)91-90 :فمن الإجحاف �أن يتجاهل
الم��رء هذا الن�ص المبا�شر والوا�ضح للقر�آن عن العداوة والبغ�ضاء لكي يبحث عن
�سبب �آخر م�ضمر .ولم يكن �أ�صال بمقدور القر�آن �أن يغطي ال�سبب الفعلي للتحريم
و�أن ي�أت��ي ب�سبب �آخر مخالف ،لأن الأمور كانت مك�شوفة للكل وقتها .ف�أهل مكة
كلهم ،والم�سلمون منهم خا�صة ،كانوا يعرفون �سبب التحريم ،لأنهم متورطون
ف��ي الم�س�ألة من �ألفها �إل��ى يائها .ومن �أجل هذا فقد جاء الحظر على �صورة �س�ؤال
وجواب� .س���ؤال من النا�س وجواب قر�آني عليه� .س�ؤال وجواب يهدف �إلى حل
م�شكل��ة هي م�شكل��ة العداوة والبغ�ضاء الت��ي كان يثيرها المي�س��ر وتثيرها الخمر.
ولهذا �أي�ضا تم الإقرار بالمنافع االجتماعية للمي�سر والخمر رغم حظرهما .ومنافع
المي�سر على الأخ�ص كانت وا�ضحة وبارزة.
134
زكريا محمد
�أم��ا الم�شكلة ف��ي ما يخ�ص الخمر فتلخ�صت في �أن جل�س��ات الخمر كانت ت�ؤدي،
عند لحظات فقدان التوازن� ،إلى العودة للمفاخرات القبلية بين حديثي الإ�سالم،
مم��ا ي�ؤدي �إلى نزاع��ات بينهم .وم�شهورة ق�صه حمزة ،ع��م النبي ،الذي �سكر
فقت��ل ناقتين لعلي ابن طالب .كما هي م�شه��ورة جملته الغريبة الملغزة التي قالها
للر�س��ول حين جاء ليعاتبه على فعلته .فقد قال حمزة للر�سول« :هل �أنتم �إال عبيد
�أب��ي؟» .فوق ذلك ،فنحن نعتق��د �أن الخمرة كانت تبعث الح�سا�سيات القديمة بين
من خرجوا من تقليد الحم�س الخم��ري ومن خرجوا من تقليد الحلة الالخمري.
وق��د كانت الح�سا�سي��ات �شديدة بين هذي��ن التقليدين .بالتالي ،فق��د ح�سم القر�آن
�أم��ر الخمر .كما نعتق��د �أن المي�سر كان �أي�ضا يثير من اال�شتب��اكات والم�شاكل ما
كانت تثيره جل�س��ات الخمر .لذا فقد تم ح�سم �أمره مع الخمر في �آية واحدة .وقد
حظرا معا في �آية واحدة لأنهما ي�سببان ال�صداع ذاته :يخلقان العداوة والبغ�ضاء،
ويعرقالن ال�صالة.
�أما كيف كان المي�سر يثي��ر النزاع في �صفوف الم�سلمين فيمكن افترا�ض �أنه كان
يثي��ره حول الح�ص�ص وح��ول من الفائز ومن الخا�سر .وق��د كانت هذه الأمور
يبعث ما خمد من المفاخرات القبلية �أي�ضا .لكن الأهم �أنه كان يثير الأحقاد القديمة
بين الحم�س والحلة .فالمي�س��ر تقليد لأحدهما .لكننا ال ن�ستطيع �أن نحدد بدقة ب�أي
طائف��ة كان يرتبط هذا التقلي��د� ،أي �إن كان في �أ�صله تقليدا حم�سيا �أم حليا .فقد تم
تحري��م المي�سر في لحظة محددة بع��د فتح مكة .وكان الر�سول يحاول ما �أمكنه،
في هذه اللحظة ،عقد م�صالح��ة ما بين الحم�س والحلة .وكان هذا يقت�ضي �صوغ
المنا�س��ك وال�شعائ��ر ب�ش��كل ال يبدو كانت�صار له��ذه الطائفة �أو تل��ك .وقد �أعطينا
نموذج��ا لذلك بالإفا�ض��ة في كتابنا «كتاب الحم�س والطل���س والحلة» .فقد كانت
الحم���س تفي�ض م��ن المزدلفة ،في حين كانت الحلة تفي���ض من عرفات .وكان
كل ط��رف ي�أم��ل �أن يثبت الر�س��ول مفي�ضه حين قال «خ��ذوا منا�سككم عني»،
وبد�أ بممار�س��ة ال�شعائر الجديدة عمليا� ،أي عبر التنفي��ذ الفعلي .لكن الر�سول لم
ينت�ص��ر لهذا التقليد �أو ذاك ،بل جمع المفي�ضي��ن معا .فالإفا�ضة الإ�سالمية ت�شمل
الآن عرف��ات والمزدلفة مع��ا .و�سورة البقرة و�سورة المائ��دة مليئتان بالق�ضايا
135
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الت��ي ح�سم الإ�سالم فيها بين تقليدي الحم�س والحلة .مرة كان ي�ضرب هنا ومرة
هناك .فحين يلغي تقليدا للحم�س ،يلغي مقابله تقليدا للحلة� .أما الخمر فكانت تقليدا
حم�سيا من دون �شك .لكن المي�سر تقليد معقد ال ن�ستطيع ب�سهولة ن�سبته �إلى الحم�س
�أو الحل��ة� .صحيح �أن��ه مرتبط بتقليد طق�س الذبيح ،الذي ه��و تقليد حلي .لكننا ال
ن�ستطي��ع �أن نحكم بناء على ذلك .ذل��ك �أن �أ�ضحية الذبيح� ،أي �أ�ضحية عبد الله،
كان يفتر���ض �أن يقدمها الحلة لإله الحم�س .فالم��اء ال�سفلي مرتبط ب�إله الحم�س.
وحين ت�ضطر الحلة ال�ستخدام��ه عليها �أن تدفع ثمنه ك�أ�ضحية �سنوية .والأ�ضحية
تكون ب�شرية ثم ت�ستبدل بكب�ش فداء ،ينتهي �إلى نحر الإبل ،كما بينا .وقد و�ضعت
لحوم الإبل على ر�ؤو�س الجبال كي ت�أكل منها الطير .و�سمي عبد المطلب ب�سبب
ذل��ك با�سم مطع��م الطير .والطير رمز لإله الحم�س ،كم��ا بينا في كتاب الحم�س
والطل���س .بناء عليه ،فالأ�ضحي��ة قدمت لرمز �إله الحم�س .وهن��اك ما قد ي�شير
�إل��ى �أن لعب��ة المي�سر ربما كانت تمثي�لا لح�صول الحم�س و�إلهه��م على لحم هذه
الأ�ضحي��ة .و�إذا �صح هذا يكون المي�سر لعب��ة مقابلة لطق�س الذبيح .وهو ما يعني
�أنه��ا لعبة حم�سية .فهناك م��ن يقدم الأ�ضحية ،وهناك م��ن يح�صل عليها .هناك
من يطعم وهناك من ي�أكل .بالتالي ،فقد تكون اللعبة لعبة لتمثيل تقطيع الأ�ضحية
واقت�سامه��ا م��ن قبل الحم�س .لكن ه��ذا غير م�ؤكد .ولو كان م�ؤك��دا لأمكننا فهم
النزاع��ات التي يثيره��ا .فج�سد الجزور �س��وف تكون تمثيال رمزي��ا لإله الحلة
القتي��ل� ،أي لعبد الله و�إ�سماعيل .فالحم�س تتراهن عل��ى ج�سد الإله الحلي ذاته.
�صحي��ح �أن الأمر رمزي .لكنه رمز ملتهب ،وقد يفجر �صراعات طائفية قديمة
ما زالت حية في النفو�س
ول��و �ص��ح هذا ،ف�إنه يف�سر لنا ل��م كانت اليد الي�سرى هي الت��ي تتعامل مع القداح
ف��ي لعبة المي�سر .فهذه لعبة �أ�صح��اب الي�سار .و�أ�صحاب الي�سار هم الحم�س� ،أما
�أ�صح��اب اليمين فهم الحلة ،كما اقترحنا في كتابنا ال�سابق .وهذا يعني �أن اقتراح
توفي��ق فه��د حول �أن المي�س��ر لعبة الأي�سر �صحي��ح ب�شكل ما .لك��ن يجب تعديله
والقول ب�أن لعبة المي�سر هي لعبة �أ�صحاب الي�سار.
على كل حال ،فهناك من يعتقد �أنه تم تحريم المي�سر لأنه كان عقبة في وجه ت�شكل
136
زكريا محمد
الدول��ة .فقد قدم الباحث التون�سي محمد الح��اج �سالم �أطروحة دكتوراه بعنوان:
«المي�س��ر الجاهلي� :أبعاده ودوره في ممانعة ظهور الدولة» .والعنوان مخت�صر
للفر�ضي��ة .وفي هذه الأطروحة ف�إن الإ�سالم حط��م المي�سر كم�ؤ�س�سة كانت تقف
في وجه قيام الدولة:
«ا�سته��دف الفع��ل الإ�سالم��ي في مرحل��ة �أولى �أي خ�لال المرحل��ة المكية من
الحرك��ة المحمدي��ة ،البنى الذهني��ة لـ«الجاهليين» ،ليبا�شر ف��ي مرحلة ثانية مع
تك��ون «الأمة» في يثرب �ض��رب م�ؤ�س�سات المجتمع الم��راد تغييره وكان من
ِ
المي�سر» ،وهو ما �سم��ح في مرحلة ثالثة و�أخي��رة �أي خالل ما بينه��ا «م�ؤ�س�س��ة
يمكن اعتباره مرحلة التمكن بتعوي�ض الم�ؤ�س�سة المحرمة ب�أخرى جديدة لكن مع
االحتفاظ دوما بنف�س «منافع» الم� ّؤ�س�سة القديمة» (الم�صدر ذاته ،الأوان ،الأحد
� 15آذار .)2009
ي�ضي��ف الباحث �أن الإ�سالم ا�ستبدل م�ؤ�س�سة المي�سر بم�ؤ�س�سة ال�صدقة« :من هنا،
ِ
المي�سر الجاهل��ي» وتعوي�ضها بم�ؤ�س�سة ر�أين��ا �أن تناول عملي��ة تدمير «م�ؤ�س�س��ة
تغير دين��ي واجتماعي ال�صدقة» �ضم��ن �سياق ّ �أخ��رى نفتر�ض �أنه��ا «م�ؤ�س�س��ة ّ
تكون الدولة العربيةهيكل��ي عميق ،قد يكون �أحد المداخل الممكنة لتناول م�س�ألة ّ
الإ�سالمي��ة الأول��ى وتحليل الأرحام الأولي��ة التي تولدت منها وفيه��ا �أي �إعادة
أهمها
ق��راءة مفردات «الدين الجاهلي» والأ�س���س التي انبنت عليها طقو�سه ومن � ّ
المي�سر» (الم�صدر ذاته ،الأوان ،الأحد � 15آذار .)2009 ِ
ه��ذا هو جوهر فر�ضية الباحث التون�سي .لكننا ال نتفق مع هذه المبالغة في الدور
االجتماع��ي للمي�سر .فلو وافقنا �أن المي�سر كان بالفع��ل م�ؤ�س�سة ،وهو كذلك �إلى
حد ما ،فقد كان م�ؤ�س�سة �صغيرة تقدم اللحم لمدة �أ�سبوع في ال�سنة «هي فترة نوء
الثري��ا»� ،أو على �أكثر تقدير لمدة �شهر هو �شهر رجب الخريفي .وم�ؤ�س�سة تقوم
عل��ى �أ�سبوع واحد� ،أو �شهر واح��د في الحد الأق�صى ،لن تك��ون م�ؤ�س�سة هائلة
الت�أثير� .إذن ،فهي مجرد م�ؤ�س�سة �صغيرة على هام�ش الم�ؤ�س�سة الدينية الجاهلية،
الكبيرة ،والقائمة على انق�سام المجتمع �إلى طوائف ثالث :حم�س وطل�س وحله.
عليه ،فهذه الم�ؤ�س�سة ال�صغيرة لم يكن ب�إمكانها �أن ت�شكل تحديا �ضخما للدولة التي
137
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
كان��ت قد �أخذت تت�شكل من فترة في يث��رب ،لكي يجد الإ�سالم نف�سه مرغما على
تحطيمها .لم تك��ن المنافع االجتماعية للمي�سر هي ما يهدد الإ�سالم ،بل «العداوة
والبغ�ض��اء» .لقد �أراد الإ�سالم �أن يتجنب العداوة والبغ�ضاء اللتين كانت تخلقهما
ه��ذه اللعب��ة ،متحالفة مع الخمر .ل��ذا �أقر بهذه المنافع و�أك��د دورها .وال بد �أن
ت�شكل الم�ؤ�س�س��ات الإ�سالمية االجتماعية قد جاء في جزء منه لت�أمين المنافع التي
�ضربت عند حظر المي�سر .لكن من دون المبالغة في ذلك.
وبالطبع �أي�ضا ،ف�إن الم�ؤ�س�س��ة الدينية الجاهلية عموما كانت تقف حجر عثرة في
وجه ب��روز الدولة .وهي م�ؤ�س�سة كبيرة قائمة عل��ى توافق الطوائف والقبائل،
�أي قائم��ة على طراز من العالقات يمن��ع وجود �سلطة مركزية� ،أي دولة .لكن
�إف��راد المي�سر من بينها باعتب��اره م�ؤ�س�سة خطرة ال�ش�أن ال يتوافق مع ما نملك من
حقائق.
138
فصل 6
ن�أتي الآن �إلى لقمان بن عاد ،الأب الأ�سطوري للعبة المي�سر ،و�إلى �أ�سطورته� .إذ
ال يمكن فهم المي�سر وتعالقاته من دون فهم �أ�سطورة م�ؤ�س�سه .ولم تجد الدرا�سات
ال�سابق��ة حول المي�سر ،قديمة كانت �أو حديثة� ،ضرورة لدرا�سة هذه الأ�سطورة.
ذلك �أنه تعر�ضت للمي�سر من زاوية فنية فقط� ،أي من زاوية طريقة لعبه ،مع �أنه
لي�س �سهال حتى حل الجانب الفني من دون فهم الأ�صل الديني للمي�سر .فكيف يمكن
فه��م «القدح المنيح» م��ن دون معرفة الأ�صل الديني له��ذه اللعبة مثال؟ والأ�صل
الدين��ي يقعد في بيت لقمان بن عاد و�أ�سطورته .و�أ�سطورة لقمان وا�سعة �شا�سعة.
ولعله��ا �أو�سع الأ�ساطير العربية ،و�أ�شدها تعقيدا .ولعبة المي�سر جزء فقط من هذه
الأ�سط��ورة .ولو �أردنا ا�ستغ��راق هذه الأ�سطورة لكنا بحاج��ة �إلى كتاب كامل.
لذلك �سنعر�ض �سريعا لبع�ض جوانبها فقط .والأ�سطورة تت�ضمن:
139
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
لك��ن قبل �أن نعر�ض لهذه الق�ص�ص� ،أو لبع�ضها ،ربما كان علينا �أن نتحدث عن
ب�س ِم ّيه «لقمان الحكيم» ،ال��ذي ورد ذكره في القر�آن، عالق��ة «لقمان بن عاد» َ
ب��ل وله �سورة با�سمه فيه« :ولقد �آتينا لقمان الحكمة �أن ا�شكر لله ومن ي�شكر ف�إنما
ي�شك��ر لنف�سه ومن كفر ف�إن الل��ه غني حميد» (لقم��ان .)13 :والم�صادر العربية
تف��رق ،عموما ،بي��ن االثنين ،وتعتبرهم��ا �شخ�صيتين مختلفتي��ن تماما« :كانت ّ
تعظم �ش�أن لقمان بن عاد الأكب��ر ،والأ�صغر لقيم بن لقمان ...وهذان العرب ّ
غير لقمان الحكيم المذك��ور في القر�آن عل��ى ما يقوله المف�س��رون» (الجاحظ،
البيان والتبيين)» .ي�ضي��ف ال�سهيلي« :ولقمان [الحكيم] كان نوبيا من �أهل �أيلة،
وه��و لقمان بن عنقاء ب��ن �سرور ،فيما ذكروا .وابنه ال��ذي ذكر في القر�آن هو
ثاران ،فيما ذكر الزجاج وغيره .وقد قيل في ا�سمه غير ذلك ،ولي�س بلقمان بن
عاد الحميري» (ال�سهيلي ،الرو�ض الآنف).
�أم��ا نحن فنعتقد بقوة �أنهم��ا �شخ�ص واحد في الأ�سا�س ،لك��ن بن�سختين اثنتن :كتابية
وغي��ر كتابية� .أم��ا الن�سخة الكتابية فتدع��وه با�سم لقمان الحكي��م ،وتجعل ن�سبه �إلى
عنق��اء بن �سرور كما ر�أينا عند ال�سهيلي� ،أو �أنه« :هو لقمان بن باعوراء بن ناحور
ب��ن تارح ،وهو �آزر �أبو �إبراهيم؛ كذا ن�سبه محم��د بن �إ�سحاق» «القرطبي ،تف�سير
القرطب��ي»� .أي �أنه��ا تربط ن�سبه ب�إبراهيم .وهذه نقطة مهم��ة .فالعالقة بين لقمان
و�إبراهيم وطيدة جدا ،كما �سيت�ضح الحقا� .إنه في الحقيقة طراز من �إبراهيم عربي.
ونح��ن نعرف �أنه كانت ف��ي الفترة ما بين القرون الميالدي��ة الأولى حتى البعثة
النبوية ،ع�شرات� ،إن لم يكن مئات ،الكتب الدينية التي تتناول ال�شخ�صيات التي
ورد ذكره��ا في التوراة والإنجيل والق��ر�آن� ،أو تن�سب لهذه ال�شخ�صيات .ومن
بين ه�ؤالء كان لقمان الذي ن�سبت له مجلة خا�صة ورد ذكرها في حديث �سويد بن
ال�صام��ت« :قال :فت�صدى له [�أي ل�سويد] ر�س��ول الله �صلى الله عليه و�سلم حين
�سمع به .فدعاه �إلى الله و�إلى الإ�سالم ،قال :فقال له �سويد :فلعل الذي معك مثل
الذي معي .فقال له ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم :وما الذي معك؟ قال :مجلة
140
زكريا محمد
لقم��ان ...فقال ل��ه ر�سول الله �صلى الله عليه و�سل��م :اعر�ضها علي ،فعر�ضها
علي��ه ،فقال� :إن هذا لكالم ح�سن ،معي �أف�ضل من ه��ذا ،قر�آن �أنزله الله علي،
هدى ونورا .قال :فتال عليه ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم القر�آن ،ودعاه �إلى
الإ�سالم ،فلم يبعد من��ه ،وقال� :إن هذا لقول ح�سن» (تاريخ الطبري) .وهكذا،
فق��د كان هناك كتاب محدد ين�س��ب للقمان الحكيم با�سم «مجلة لقمان» .وال بد �أن
م��ا ورد في القر�آن عن لقمان الحكيم على عالق��ة بما ورد في هذه المجلة ،التي
كانت تحوي حكم لقمان المتداولة.
�أم��ا ن�سخة لقمان بن عاد ،فهي الن�سخة ال�شفوي��ة العربية الأ�صيلة ،والأ�شد غنى،
الت��ي لم يدخلها تحرير �أو تنقي��ح� .إذ �أن الن�سخة الكتابية ال تقدم لنا �سوى �شخ�صية
باهت��ة تنطق ببع���ض الحكم التي ال فرادة فيها ،في حي��ن �أن الن�سخة ال�شفوية بناء
�أ�سطوري �شامل ومعقد وكا�شف.
وقد و�ضعت الم�ص��ادر العربية الن�سختن جنبا �إلى جنب كما لو �أنهما تتحدثان عن
�شخ�صيتين مختلفتين .ودرا�سة الن�سختين ،انطالقا من بع�ض ال�شذرات التي نقلت
عن لقم��ان الحكيم ،قد تكون مفيدة في فهم كيف يتم االنتقال بتقليد ما من الإطار
ال�شفاهي �إلى الإطار المكتوب.
ولأن اللقماني��ن �شخ�صية واحدة في الأ�سا�س ،ف���إن كل واحد منهما متبوع بابنه؛
لقم��ان بن عاد يتبع��ه ابنه ،وابن �أخته ف��ي اللحظة ذاتها ،لقي��م ،ولقمان الحكيم
يتبعه ابنه المختلف على ا�سمه« :ا�سم ابنه ثاران في قول الطبري والقتبي .وقال
الكلبي :م�شكم .وقيل �أنعم؛ حكاه النقا�ش» (القرطبي ،تف�سير القرطبي).
وثمة تعبير �شهير ي�ؤكد ،في ما يبدو لنا ،الربط بين اللقمانين ،وهو�« :أخذ رميح
�أب��ي �سعيد» �أو «رمح �أبي �سعد» .وي�ستخدم ككناي��ة عن كبر العمر�« :أخذ ال�شيخ
رمي��ح �أب��ي �سعد :اتك�أ عل��ى الع�صا من كب��ره .و�أبو �سعد �أح��د وفد عاد .وقيل:
هو لقم��ان الحكيم» (ابن �سي��دة ،المخ�ص���ص) .وكما نرى م��ن المقتب�س ،فهذا
141
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الرم��ح ين�سب للقمان الحكيم �أو لواحد من وفد عاد .ونحن نعلم �أن لقمان بن عاد
كان م��ن �ضمن وفد عاد �إلى الكعبة لال�ستمط��ار« :وفي ال�صحاح :تزعم العرب
�أن لقمان ه��و الذي بعثته عاد في وفدها �إلى الحرم ي�ست�سقي لها» (الزبيدي ،تاج
العرو�س) .عليه ،فال�شخ�ص الذي ين�سب له الرمح من وفد عاد هو لقمان بن عاد
ف��ي �أغلب الظن .وهذا يعن��ي �أن الرمح ين�سب لل�شخ�صيتي��ن معا ،مما يقوي من
فر�ضية �أنهما �شخ�صية واحدة.
غي��ر �أن هناك من يعتق��د �أن «�أبا �سعد»� ،صاحب الرمح ،هو مرثد بن �سعد الذي
يروى �أن��ه كان �أي�ضا في وفد عاد« :و�أبو �سعد قيل :هو لقمان الحكيم ...وقيل:
مرث��د بن �سعيد �أحد وف��د عاد» (اليو�سي ،زهر الأكم) .لكنن��ا نعتقد �أن الرمح ال
يخ�ص مرثد بن �سعد .فمرثد هذا يبدي �أي عالمات تجعل من احتمال كون الرمح
يخا�ضت��ه احتماال ب�لا �أ�سا�س تقريبا .فه��و على عالقة ب «ه��ود» ،الذي لي�ست
الرم��اح من تقليده .فقد �أبعد مرثد عن وفد ع��اد ب�سبب عالقته الدينية بالنبي هود
كما تقول الق�صة الكا�شفة« :ثم قال لمعاوية بن بكر و�أبيه بكر :احب�سا عنا مرثد بن
�سعد فال يقدمن معنا مكة ،ف�إنه قد اتبع دين هود ،وترك ديننا» (تاريخ الطبري).
ي�ضي��ف ابن الجوزي« :فقال جلهم :احب�سوا هذا عنا وال يقدمن معنا مكة ،ف�إنه قد
اتب��ع دين هود .ثم خرج��وا ي�ست�سقون» (ابن الجوزي ،المنتظ��م)� .أما هود فال
يمك��ن �أن تكون ل��ه عالقة باال�ست�سق��اء� ،أي بالمطر وبال�شتاء .فق��د بينا في كتبنا
ال�سابقة �أنه يمثل الوجه الفي�ضي ال�صيفي للكون� ،أي �أنه على عالقة ب�سهيل اليماني
و�أمثال��ه .وقد دللنا على ذلك بق�صة ال�سل�سل��ة التي خرجت من ظهر والده الخلود
ب��ن عاد .فقد كان الخل��ود�« :إذا قيل له :لم ال تتزوج وقد بلغت �سن �أبيك؟ يقول:
ر�أي��ت في المنام ك�أن� سل�سلة بي�ضاء قد خرجت من ظهري ،ولها نور كال�شم�س،
وقي��ل لي� :إذا ر�أيت هذه ال�سل�سلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوج بالتي ت�ؤمر
بتزوجها ...ثم ر�أى بعد ذلك في منامه ال�سل�سلة وقد خرجت من ظهره ،وقائال
يقول« :قم يا خلود فتزوج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوجها ،وواقعها فحملت
بهود؛ و�أ�صبح القوم وهم ي�سمعون من جميع النواحي :هذا هود قد حملت به �أمه»
(النوي��ري ،نهاية الأرب) .وقلنا وقته��ا �أن ال�سل�سلة التي خرجت من ظهره هي
142
زكريا محمد
ح��زام الجوزاء ،الذي يدعى �أي�ضا «فقار الجوزاء» .والفقار هو �سل�سلة الظهر.
علي��ه ،فالخلود وابنه هو على عالقة ببرج الجوزاء .وبرج الجوزاء هو ال�صيف
الفي�ض��ي� ،أي هو باعث الفي�ضانات ،مثل في�ضان النيل .بالتالي ،ال عالقة لهود
بالمطر واال�ستمطار .عالقته بالماء ال�سفلي ،ماء الينابيع ،ال بالماء العلوي .من
�أجل هذا �أبعد عن وف��د اال�ست�سقاء العادي واعتزله .فالمطر ال يخ�صه .عليه ،ال
يمكن لرمح �أبي �سعد �أن يكون رمح مرثد .فمرثد هودي ،على دين هود .وهود
ب�لا رمح� .أي �أنه �شاب وال يتكئ على الع�صا -الرمح .وهذا يعني �أن الرمح هو
رمح لقمان بن عاد .فلقمان هو الذي على عالقة باال�ستمطار .ولعبة المي�سر كما
ر�أينا على عالقة �أ�صيلة بمطر الثريا ،وبا�ستمطار الثريا.
لقمان ومو�سى
وال يمكن المبالغة في �أهمية هذا الرمح ،رمح �أبي �سعيد .فهو العالمة الفارقة في
تحدي��د طبيعة لقمان بن عاد ،كما �سنرى �أدناه .وجمل��ة�« :أخذ ال�شيخ رميح �أبي
�سع��د» ال ت�شي��ر �إلى العمر فقط ،بل �إلى ما هو �أو�س��ع من هذا ،في الحقيقة .ذلك
�أن الرم��ح جزء من ثالوث يتحول بع�ض��ه �إلى بع�ض :رمح -حية -ع�صا .وهذا
الثال��وث هو عالمة الإله في ط��وره القار ال�شتوي ،غي��ر الفي�ضي ،الذي يتمثل
ف��ي العادة ب�شيخ كبير ال�س��ن ،مقارنة بالإله في طوره ال�صيف��ي الفي�ضي ،الذي
يكون في العادة �شابا .فع�صا مو�سى مثال هي �أي�ضا ع�صا -حية« :وما تلك بيمينك
ي��ا مو�سى .قال هي ع�ص��اي �أتوك�أ عليها و�أه�ش بها عل��ى غنمي ولي فيها م�آرب
�أخرى .قال �ألقها يا مو�سى .ف�ألقاها ف�إذا هي حية ت�سعى» (�سورة طه.)20-18 :
وهك��ذا� ،ألقى مو�سى ع�صاه فتحول��ت �إلى حية� .إنها ع�صا -حي��ة .وهذه الع�صا
للتوك���ؤ مث��ل رمح �أبي �سعيد «هي ع�ص��اي �أتوك�أ عليها» ،فتعبي��ر �أخذ رمح �أبي
�سعيد :يعني كبر وتوك�أ على ع�صا .وهو ما يعني �أن مو�سى �شيخ مثل �أبي �سعد.
ف��وق ذلك ،فنحن نعل��م �أن مو�سى راع ،و�أن��ه ا�ستخدم ع�ص��اه ليه�ش بها على
غنمه .كم��ا نعلم �أن لقمان �صاحب غنم كذلك .وال ب��د �أنه كان ي�ستخدم رمحه،
رمح �أبي �سعد� ،أي ع�صاه ،كي يه�ش بها على غنمه كذلك.
143
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
لكن لمو�سى في ع�صاه «م�آرب �أخرى» غير التوك�ؤ واله�ش على الأغنام .ونحن
نفتر���ض ،مقارنة ب�شخ�صيات ميثولوجية م�شابهة� ،أنه��ا ت�صير رمحا �أحيانا .لذا
ن��رى الآلهة من الطراز الذي نتحدث عنه يحملون في �أيديهم ع�صا -رمحا تلتف
حول��ه �أفعى ،مثل الإله «�شدرفه» في متح��ف دم�شق .فهو يحمل ،بيده اليمنى،
ع�صا -رمحا ت�صعد عليه حية ،ويحمل ،بالي�سرى ،حزمة قمح� .إذن ،فالع�صا-
الحية -الرمح هي �شيء واحد ميثولوجيا� .إنها عالمة هذا النوع من الآلهة ،وهذا
النوع من ال�شخ�صيات الميثولوجية .لهذا دعيت ع�صا �أبي �سعيد بالرمح.
عليه ،يمكن لنا �أن نح�صر نقاط الت�شابه بين لقمان ومو�سى:
ثانيا :لقمان يتوك�أ على ع�صاه -رمحه ،رمح �أبي �سعد ،ومو�سى يتوك�أ على ع�صاه.
رابع��ا :مو�سى كان راعي��ا ،ولقمان «الحكيم» كان راعي��ا« :قيل :كان نجارا،
وقيل :كان راعيا» (ل�سان العرب)� .أما النجارة فهي �أي�ضا داخلة في ما نحن فيه.
فال�شخ�صي��ات الميثولوجية الم�شابهة على عالقة بقدوم النجارة ،كما بينا في كتابنا
ال�سابق :م�ضرط الحجارة :كتاب اللقب والأ�سطورة» .وقدوم النجارة هو رمز
بنات نع�ش في �شمال ال�سماء.
خام�سا :للقمان قطيع �أغنامه« :كان ...رب غنم» (الميداني ،مجمع الأمثال).
ولمو�سى قطيعه �أي�ضا «و�أه�ش بها على غنمي».
عليه ،فالن�س��ب الديني بين لقمان ومو�سى قوي ج��دا .فاالثنان راعيان ي�سوقان
العن��ز ،ويه�شان بع�صويهما عل��ى غنمهما ،ويتوك�آن عليه��ا .واالثنان �شيخان؛
وال�شي��خ ميثولوجيا ،يتوك�أ على ع�صا -رمح ،وي�س��وق العنز ،ويرقع ال�شن -
القربة« :يق��ال لل�شيخ �إذا انحنى :قد رقع ال�شن ،و�س��اق العنز ،و�أخذ رميح �أبي
�سعد ،يعني لقمان الحكيم» (ابن �سيدة ،المخ�ص�ص) .
144
زكريا محمد
وكي تكتمل الدائرة ،ف�إن «العنزة» في اللغة العربية هي الع�صا ذات ال�سنان� ،أي
�أنه��ا ع�صا -رمح في الواق��ع« :العنزة :ع�صا في قدر ن�صف الرمح �أو �أكثر �شيئا
فيه��ا �سنان مث��ل �سنان الرمح ،وقيل :في طرفها الأ�سف��ل زج كزج الرمح يتوك�أ
عليها ال�شي��خ الكبير» (ل�سان العرب) .وهذا يعني �أن الع�صا -الرمح ت�سمى با�سم
الأغن��ام� .أي �أن الع�ص��ا تتحول �إلى حية -رم��ح -عنزة ،لكي تعطي عالمات
ال�شخ�صي��ات الإلهية التي نتحدث عنها .فه��ذه ال�شخ�صيات مرتبطة بالأغنام� .أما
كون لقمان عبدا �أ�سود ،فهذا ما يقربه من يون�س العبد الآبق.
بن��اء على كل ه��ذا ،فلقمان لي�س مقامرا لعينا ،بل هو �شخ�صي��ة دينية � -إلهية من
الط��راز الرفيع .وهذا ما يجعلنا نفتر���ض �أن ممار�سته للعب��ة المي�سر م�شتقة من
و�ضع��ه الدين��ي ،ولي�س��ت خارجة عن هذا الو�ض��ع .والح��ق �أن و�ضعه الديني
ثابت ف��ي الم�صادر العربية .فهو قد اعتبر نبيا لكن غير مر�سل« :قال ابن عبا�س
كان لقمان ب��ن عاد بن الملطاط بن ال�سك�سك ابن وائل بن حمير نبيا غير مر�سل.
قال �أبو محم��د :لقيت عامة من العلم��اء يقول��ون �أن لقمان وذا القرنين ودانيال
�أنبي��اء غير مر�سلين» (ابن منبه ،التيج��ان) .وذو القرنين في اعتقادنا هو طراز
من �أوزيري�س القار الالفي�ضي .دليل ذلكم قرنا الثور اللذين يحملهما على ر�أ�سه.
فالثيران والأغنام والأفاعي والحمر الوح�شية حيوانات �أوزيري�س في وجهه.
145
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
146
فصل 7
تك�شف لن��ا ق�صتان من ق�ص�ص لقم��ان بن عاد ،وهما ق�صته م��ع براق�ش وق�صته
م��ع ابني تقن ،طبيعة عالقة لقم��ان بالجمال� .أي طبيعة عالقت��ه برمز نقي�ضه.
فالجم��ال رمز ال�صي��ف الفي�ضي ،الذي يمثله �آلهة من ط��راز �سهيل اليماني .لذا
يلقب �سهيل اليماني بالفحل� ،أي الجمل الذكر� .إنه �إله -بعير .في حين �أن لقمان
مرتبط بالغنم والماعز.
�أم��ا براق���ش فهي بطل��ة المثل ال�شهي��ر« :على �أهله��ا جنت براق���ش» .وبراق�ش
ه��ذه مختلف عليها عن��د الم�صادر العربية .فه��ي �إما امر�أة و�إم��ا كلبة« :براق�ش
ا�سم كلبة لقوم من الع��رب �أغير عليهم في بع�ض الأيام فهربوا وتبعتهم براق�ش،
فرجع الذي��ن �أغاروا خائبين و�أخ��ذوا في طلبه��م ،ف�سمعت براق�ش وقع حوافر
الخي��ل ،فنبحت ،فا�ستدل��وا على مو�ضع نباحها فا�ستباحوه��م .وقال ال�شرقي بن
القطامي :براق�ش ام��ر�أة لقمان بن عاد ،وكان بنو �أبي��ه ال ي�أكلون لحوم الإبل،
ف�أ�ص��اب من براق�ش غالما فنزل لقمان على بني �أبيه��ا ف�أولموا ونحروا جزورا
�إكراما ل��ه ،فراحت براق�ش بعرق من الجزور ،فدفعته لزوجها لقمان ،ف�أكله،
تعرقت مثله قط طيبا! فقالت براق�ش :هذا من لحم جزور .قال: فقال :ما هذا؟ ما ّ
ِ
واجتمل، جملنا
�أولح��وم الإبل كلها هكذا في الطي��ب؟ قالت :نعم .ثم قالت ل��هّ :
ف�أقب��ل لقمان على �إبلها و�إبل �أهلها ف�أ�شرع فيه��ا ،وفعل ذلك بنو �أبيه ،فقيل :على
�أهلها تجني براق�ش ،ف�صارت مثال» (ل�سان العرب).
والحق �أن براق�ش امر�أة وكلبة معا� .أي �أنها امر�أة -كلبة .وكنا قد �أو�ضحنا في كتبنا
ال�سابق��ة �أن براق�ش المر�أة -الكلبة مثيل��ة ال�شعرى العبور اليمانية ،ومثيلة �إيزي�س.
فال�شعرى ام��ر�أة وكلبة �أي�ضا� ،إ�ضافة �إلى كونها نجم��ا �سماويا .لذا تدعى ال�شعرى
147
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
«كل��ب الج��وزاء»� ،أو «الكل��ب الأكبر» عند الع��رب .وهي عن��د اليونان «نجمة
الكل��ب»� .أما �إيزي�س فهي �أم �أنوبي�س الكلب .وال�شعرى ككلبة قرينة �سهيل اليماني.
وهما معا يمثالن ال�صيف الفي�ضي .ورمز هذا ال�صيف هو الجمل ،كما �أ�سلفنا.
وكم��ا نرى فق�ص��ة لقمان مع براق�ش ه��ي ق�صة لحم الجمال .فمن��ذ �أن ذاق لحم
الجم��ل عندها لم يكف عن نحر الجمال و�أكله��ا .ي�ضيف م�صدر �آخر م�ؤكدا هذا:
«وزعم��وا �أن براق���ش :ابنة تقن كانت امر�أة لقمان بن ع��اد ،وكان بنو تقن من
ع��اد �أ�صحاب �إب��ل ،وكان لقمان� صاحب غنم ،وكان ال يطع��م [= ي�أكل] لحوم
الإب��ل ،ف�أطعمته امر�أته براق�ش من لحوم الإبل فنح��ر �إبلهم التي يحتملون عليها
ف�أكلها ثم قاتل �إخوتها على �إبلهم ،فقيل :على �أهلها تجني براق�ش ،ف�أر�سلت مثال»
(ال�ضبي ،الأمثال).
�إذن ،فلقمان �صاحب غنم� .أي �أن الأغنام رمزه ،وحيواناته المقد�سة .بالتالي،
فلح��م الجمال غي��ر محرم عليه� .إنه لحم محرم على نقي�ض��ه .عليه ،فالإبل لحم
�أ�ضاحيه ،كما �سنرى �أي�ضا في ق�صة ابني تقن.
عل��ى كل حال ،فا�س��م براق�ش يدل على طبيعتها .فه��ي مبرق�شة� ،أي مكونة من
لونين .فحين تكون مع �سهيل اليماني و�أمثاله تكون بلون مختلف عنها حين تكون
مع �أمثال لقمان بن عاد� .إنها الإلهة الأنثى -ال�شعرى ،مثيلة �إيزي�س .في ال�صيف
تك��ون في برج الجوزاء غرب نهر المجرة ،وفي الخريف وال�شتاء يفتر�ض �أنها
تذهب �إلى عند �أختها ال�شعرى الغمي�صاء �شرقي نهر المجرة .وفي ال�صيف تكون
قرينة �سهيل و�أمثاله ،وفي ال�شتاء تكون قرينة لقمان بن عاد و�أمثاله.
ابنا تقن
ر�أينا �أعاله �أن لقمان كان «رب غنم»� .أي �أنه على النقي�ض من بني تقن ،الذين
كان��وا �أرباب �إبل« :وكان بنو تقن من عاد �أ�صحاب �إبل ،وكان لقمان� صاحب
غن��م» .وقد ظل لقمان يط��ارد اثنين من بني تقن ه���ؤالء للح�صول على �إبلهما
ب���أي طريقة كانت« :كان بينه وبين رجلين من ع��اد ،يقال لهما عمرو وكعب
148
زكريا محمد
ابن��ا تقن بن معاوية ،قتال .وكانا ربي �إب��ل ،وكان لقمان رب غنم .ف�أعجبت
لقم��ان الإبل ،فراودهما عنهما ،ف�أبيا �أن يبيعاه .فعمد �إلى �ألبان غنمه من �ض�أن
ومعزى و�أنافح من �أنافح ال�سخل ،فلما ر�أيا ذلك لم يلتفتا �إليه ولم يرغبا في �ألبان
الغن��م .فلما ر�أى ذلك لقمان ،قال :ا�شترياه��ا ابني تقن� .أقبلت مي�سا .و�أدبرت
هي�س��ا [الهي�س :دق الأر�ض بالقدم] .وم�ل�أت البيت �أقطا وحي�سا [�إقط مخلوط
ب�سم��ن وتمر] .ا�شترياها ابني تقن �إنها ال�ض�أن تجز جفاال [�شعرا كثيرا] .وتنتج
رخاال [الرخال� :إن��اث ال�ض�أن] .وتحلب كثبا ثقاال [الكث��ب :الحليب الكثير].
فق��اال :ال ن�شريه��ا [نبيعه��ا] بالقم� ،إنها الإب��ل حملن فات�سق��ن .وجرين ف�أعنقن
[العنق :الج��ري ال�سريع] ،وبغير ذلك �أفلتن ...فلم يبيعاه الإبل ،ولم ي�شريا
الغنم» (الميداني ،مجمع الأمثال).
والجمل ،كما نرى �صعبة وملغزة .وقد كانت ملغزة حتى لأبناء ع�صر التدوين
�أي�ض��ا .لكن المعنى العام وا�ضح في ما نعتقد .فنح��ن �إزاء �صراع رمزي بين
الغن��م والإب��ل .لقمان يمثل الغنم وابنا تقن يمثالن الإب��ل .الغنم رمز للإله في
ق��راره ال�شتوي غير الفي�ضي� ،أم��ا الإبل فرمز للإله في �صيف��ه الفي�ضي ،كما
�أو�ضحن��ا في كتبنا ال�سابقة .لكن ِل َم يحاول لقم��ان الح�صول على �إبل ابني تقن؟
الجواب ربما يت�ضح لنا من جملة محددة في �سياق ردهما على لقمان الذي �أراد
�أن ي�شت��ري �إبلهما« :فق��اال :ال ن�شريها بالقم �أنها الإبل حمل��ن فات�سقن .وجرين
ف�أعنق��ن ،وبغير ذل��ك �أفلتن ...فلم يبيعاه الإبل ولم ي�شري��ا الغنم» (الميداني،
مجم��ع الأمثال)� .إذن ،فهما ال يبيعان �إبلهما «بالقم» .فما هو القم؟ وهل يعيدنا
هذا التعبير الغام�ض �إلى تعبير �آخر هو :قم الر�أ�س ،الذي ورد في كالم من�سوب
للقم��ان�« :إذا �أم�ست الثري��ا قم ر�أ�س فف��ي الدثار فاحن���س ،وعظماها ف�أحد�س
و�أنه�س بليل و�أنه�س ،و�إن �سئل��ت فاعب�س» (المرزوقي ،الأزمنة والأمكنة).
غير �أن هناك من يرويه��ا بذكر النجم ال الثريا� .أما النجم فا�سم ال�شهرة للثريا،
كم��ا هو مع��روف .و«�أم�سى النجم» يعني طلعت الثري��ا م�ساء .وطلوع الثريا
م�س��اء� ،أي ع�شية ،يحدث ف��ي االعتدال الخريفي ،عند ب��دء المطر الو�سمي،
كما عرفنا من قبل .وفي هذا الوقت كانت تقدم �أ�ضحيات الإبل في ما يبدو�« :إذ
149
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�أم�س��ى النجم ،قم ر�أ�س ،ففي الدثار فاخن�س ،و�سمناهن فاحد�س ،و�أنه�ش بنيك
و�أنه���س ،و�إن �سئل��ت فاعب�س .احد�س� :أ�ضجعها فاذبحه��ا ،و�أنه�س� :أي �أطعم
بني��ك ،خن�س ف��ي البيت� :إذا قعد» (ال�ضبي ،الأمث��ال) .والغالبية ترى �أن «قم
ر�أ���س» تعن��ي منت�صف ال�سم��ت� ،أي بما يجعل الثريا على قم��ة ر�أ�س من يقف
تحتها ،كما يقال لنا .لكن هذا غير مقنع.
ف��ي كل حال ،فكالم لقم��ان غام�ض ومعقد ،وفيه قدر م��ن الت�صحيف بناء على
ذل��ك .وتعقي��ده نابع من �إيغال��ه في الزمن .لك��ن من الوا�ضح �أن��ه يحدد موعد
�أ�ضحي��ة الإبل :طل��وع الثريا الخريفي في الع�شية� ،أي م��ع غورانها� .أما الكالم
كل��ه فيقول� :إذا �أم�سى النجم في قم ر�أ�س ،فعليك �أن تتدثر بدثارك لأن هذا وقت
البرد ،كما عليك �أن تعمد �إلى �إبلك لكي تنحر �أعظمها �أو �أ�سمنها .فكلمة «احد�س»
تعني طرح الإبل لنحرها.
عليه ،فلقمان يحدثنا عن �أ�ضحية تق��دم مع غوران الثريا� ،أي طلوعها بالع�شي.
وطلوع الثريا بالع�ش��ي يفتتح مو�سم لعبة المي�سر ،ومو�سم طق�س الذبيح معا ،كما
ر�أينا �سابقا .وفيهما معا تكون الت�ضحية بالإبل .بذا ن�ستنتج �أن كالم لقمان يتحدث
ع��ن �أ�ضحية م��ن الإبل �إما لطق�س الذبيح ،و�إما للعب��ة المي�سر� ،أو لهما معا .لكن
ابن��ي تقن لم يرغبا في بيع �إبلهما� ،أو ا�ستبداله��ا بالغنم ،بناء على مقترح لقمان،
في هذا الوقت بالذات ،وقت القم .فلماذا؟
نحن ال ن��دري ب�شكل م�ؤكد .فهما ربما ال يريدان من��ح لقمان �أ�ضحيته� .أو ربما
لأن الإب��ل في هذا الوقت تك��ون رخي�صة الثمن .فهي تهي��ج لل�ضراب مع نهاية
�أيل��ول ،وي�شتد هيجانها في ت�شرين� ،أي وقت طل��وع الثريا .وفي فترة هيجانها
ه��ذه تهزل ويرخ�ص ثمنه��ا« :وفي حديث ال ِّدي��ات :و�إذا هاجت الإبل رخ�صت
يمتها .هاج ال َفحل� :إذا طل��ب ال�ضراب وذلك مم��ا ُي ْهزِ له فيقل ثمنه» و َن َق�ص��ت ِق َ
ِذا هاج ِت
َ (ل�سان الع��رب) .ي�ضيف ابن الأثير مكررا« :وفي حدي��ث ال ِّديات :و�إ
راب ،وذلك مما ُي ْهزِ لُه ال�ض َ
هاج الفحلُ �إذا طلب ِّ
ر ُخ َ�ص ْت و َن َق َ�ص ْت قيمتهاَ .
الإِبلُ َ
فيقل ثمنه» (ابن الأثير ،النهاية في غريب الحديث).
150
زكريا محمد
بالتال��ي ،فم��ن المحتمل �أن جمل��ة «ال ن�شريه��ا [= نبيعها] بالق��م» تتعلق ب�ضراب
الإب��ل� .أي �أن القم هو �ضراب الإبل .بذا فالجملة تعني :ال نبيعها وقت ال�ضراب.
�إذ يقال في اللغ��ة« :قد� أقم الفحل الإبل� ،إذا �ألقحها جمعاء» (ابن ال�سكيت� ،إ�صالح
أقم الفحلُ الإبلَ ،وهو ِي ِق ُّمها �إقمام ًا �إذا َ�ض َربها
المنطق) .ي�ضيف الأزهري« :يقالَّ � :
كلها» (الأزهري ،التهذيب) .ويتوافق القم� ،أي �ضراب الإبل ،مع طلوع الثريا
الخريفي« :قيل �أي�ضاً� :إذا �أم�سى النجم يدبر ف�شهر نتاج و�شهر مطر» (المرزوقي،
الأزمن��ة والأمكنة) .والنت��اج هو نتاج الإبل الذي يب��د�أ بال�ضراب .عليه ،ف�أغلب
الظ��ن �أن العالقة اللفظية بين «القم» ،قم الإبل و�ضرابها ،وبين «قم الر�أ�س» عند
غوران نجم الثري��ا ،تعك�س �أبعادا ذات طبيعة دينية .لكننا ال ندري كيف .وربما
�أن �ضراب الإبل �سمي بالقم ب�سبب ارتباطه بلحظة قم الر�أ�س عند الثريا.
ويبدو �أن �أ�صعب الأوقات بالن�سبة للنا�س في الجاهلية كان �أن تطلع الثريا ع�شية،
�أي تغ��ور ،ثم لم ينزل المطر .فهو يعن��ي �أن القحط قد حل .لذا يبدو �أن طقو�سا
كان��ت ت�ؤدى في هذه الحالة لإر�ضاء �إله الماء ال�سفلي�« :إذا طلعت ال�شعرى �سفر ًا
إمرة وال �أمراً ،و�أر�سل العر�ضات
� -أي ع�شيا -ولم تر فيها مطراً ،فال تغذون � ً
�أث��راً ،يبغينك في الأر�ض معمراً� .سف��را :غروب ال�شم�س قبل �إن يغيب ال�شفق،
يقول ال تغذون جذع ًا جدي ًا وال َعناق ًا على هذا القليل» (ال�ضبي ،الأمثال) .وكنا قد
ناق�شنا �أمر «العر�ضات» في كتاب �سابق هو «ذات النحيين؛ الأمثال الجاهلية بين
الطق�س والأ�سط��ورة» .والعر�ضات هي هدايا تر�ضية من التمر تقدم للغربان،
التي تمثل �إله الماء ال�سفلي كي يجعل ماءه يتدفق� .إذ كان االعتقاد �أن عدم نزول
م��اء المطر مع غ��وران الثريا �سي�ؤدي �إلى �شح الم��اء ال�سفلي .لذا تقدم هدايا من
التم��ر لها ك��ي يتم �إقناعه بتي�سير الم��اء .فالعر�ضات هي الهداي��ا� :أما النوق التي
تو�ض��ع على ظهورها ه��ذه الهدايا فت�سمى «معر�ض��ات الغربان»� ،أي حامالت
الهدايا للغربان�« :أبو عبيد عن الأ�صمعي يقال عر�ضت �أهلي عرا�ضة؛ هي الهدية
تهديها لهم �إذا قدمت من �سفر .و�أن�شد للراجز:
عن��ى �أنها تقدم الإبل في�سقط الغ��راب على حملها �إن كان تمر ًا في�أكله ،فك�أنها �أهدته
151
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ا�س��م لقمان مرتبط بالطعام .فلقمان من اللق��م ،بمعنى الأكل �أو الإطعام .ولأنه
على عالقة بالأكل والطعام فقد كانت هذه الأبيات التي تهجى بها قبيلة تميم:
ف�س��رك �أن يعي�ش فجئ بزاد مي��ت من تـمـي
ٌ �إذا م��ا مات
�أو ال�ش��يء الملفف في البجاد بخب��ز �أو بلح��م �أو بـ�سـمـ��ن
لي�أكل ر�أ�س لقم��ان بن عـاد تراه يطوف بالآفاق حر�صا
وم��ا كان ر�أ���س لقمان لي�صب��ح مو�ضوعا للأكل ل��وال �أن ا�سمه يوح��ي بالأكل.
وارتباطه بالطعام يحيل �إلى الوالئم ،والئم الطعام .والحق �أن ق�صته مع لقيم تتيح
الحديث عن الإطعام والوالئم .وثمة �إجماع على �أن لقيم هو ابن لقمان من عالقة
�سفاح م��ع �أخته .ذلك �أن �أخت لقمان« :قال��ت المر�أة لقمان� :إني امر�أة محمقة،
ولقمان رجل محكم منجب ،و�أنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك .ففعلت فباتت في
152
زكريا محمد
بي��ت امر�أة لقمان ،فوقع عليها ،ف�أحبلها بلقيم» (البغدادي ،خزانة الأدب) .وفي
رواية �أخرى �أن زوج �أخت لقمان رجل محمق و�ضعيف« :وزعموا �أن لقمان بن
ال من قومه �ضعيف ًا �أحمق ،فولدت له ف�أحمقت و�أ�ضعفت، عاد كان زوج �أخته رج ً
فلما ر�أت ذلك �أعجبها �أن يكون لها ولد ،له مثل �أدب لقمان� أخيها ودها�ؤه ،فقالت
ال على
المر�أة لقمان� :إني �أم�سيت الليلة على طهر ،فهل لك على �أن �أجعل لك جع ً
�إن تخليني و�أخي ف�أك��ون معه الليلة؟ فقالت :نعم ،ف�سقته حتى �سكر ،فباتت معه،
فحملت له ،فولدت غالم ًا ف�سمته لقيماً» (ال�ضبي ،الأمثال).
بالتال��ي ،فلقي��م اب��ن لقمان واب��ن �أخت��ه .وه��ذا يذكرن��ا بالعالقة بي��ن �إيزي�س
و�أوزيري���س .ف�إيزي�س �أخت �أوزيري�س وزوجته ،وحور���س هو ابنه منها� .أو
ه��و ابن نفتي�س� ،أخته��ا ،الذي �أ�صبح ابن��ا لإيزي�س .كما �أن ه��ذا يذكرنا ب�سارة
وهاجر .ف�سارة لم تك��ن تحبل وتلد ،لذا قدمت هاجر لزوجها كي يلد لها �أوالدا:
«و�أم��ا �ساراي زوجة �أبرام فقد كانت عاق��را ،وكانت لها جارية م�صرية تدعى
هاجر.فقال��ت �ساراي لأبرام :هو ذا الرب قد حرمني من الوالدة ،فادخل عليها
لعلني �أرزق منها بنين .ف�سمع �أبرام لكالم زوجته ...فعا�شر هاجر فحبلت منه»
(الكتاب المقد�س ،تكوين .)4-1 :16وهذا ما ي�ؤ�س�س ل�شبه �آخر مع �إبراهيم.
كما تذكرنا ق�صة لقم��ان مع �أخته بق�صة �سهيل اليماني وال�شعرى العبور اليمانية.
ف�سهي��ل �أخو ال�شعرى وزوجها في �آن .لكن لقم��ان على ال�ضد من �سهيل اليماني
الفي�ض��ي ال�صيفي .غي��ر �أن الأنثى� ،أي الزوجة -الأخ��ت ،تكون مرة مع هذا
ومرة مع ذاك.
لقيم الأ�ضحية
عل��ى كل ح��ال ،فق�صة �صراع لقم��ان مع ابنه لقي��م �أتت في �سي��اق �شرح المثل
الغام���ض�« :أ�شب��ه �شرج� شرج ًا ل��و �أن �أ�سيم��راً» .وثمة اختالف��ات في روايات
الق�ص��ة� .أما جوهرها فعلىهذا ال�شكل عن��د الميداني« :قال �أبو عبيد :كان المف�ضل
ال يقال له
يح��دث �أن �صاح��ب المثل لقيم بن لقمان .وكان هو و�أب��وه قد نزال منز ً
153
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
�شرج .فذهب لقيم يع�شي �إبله ،وقد كان لقمان ح�سد لقيما و�أراد هالكه ،فاحتفر له
ال�س ُمر ،ثم ملأ به الخندق ف�أوقد عليه ليقع فيه لقيم،
خندقاً ،وقطع كل ما هناك من َّ
فلما �أقبل عرف المكان ،و�أنكر ذهاب ال�سمر فعندها قال� :أ�شبه �شرج� شرج ًا لو �أن
�أ�سيم��را ...ي�ضرب في ال�شيئين يت�شابهان ويفترقان في �شيء» (الميداني ،مجمع
الأمث��ال)� .أما المف�ضل ال�ضب��ي فيورد المقطع �إياه من الق�ص��ة كما يلي« :ومكث
لقم��ان يطبخ لحم��ه ،فلما �أظلم لقمان وهو بمكان يقال ل��ه �شرج -وهو اليوم ماء
لبن��ي عب�س -قطع �سمرات من �شرج ف�أوقد النار حتى �أن�ضج لحمه ،ثم حفر دونه
خندق ًا فملأه نار ًا ثم واراها ،فلما �أقبل لقيم �إلى مكانهما عرف المكان و�أنكر ذهاب
ال�سمر ،فقال� :أ�شبه �شرج� شرج ًا لو �إن �أ�سيمرا ،ف�أر�سلها مثال .ووقعت ناقة من �إبله
في تلك النار فنفرت ،وعرف لقي��م �إنما �صنع لقمان النار لت�صيبه ،و�إنما ح�سده،
ف�سك��ت عنه ،ووج��د لقمان قد نظم في �سيفه لحما من لح��م الجزور وكبد ًا و�سنام ًا
حت��ى توارى �سيفه ،وهو يريد �إذا ذهب لقيم لي�أخذها �أن ينحره بال�سيف ،ففطن له
لقيم فقال :في نظم �سيفك ما ترى يا لُقم ،ف�أر�سلها مثالً» (ال�ضبي ،الأمثال).
علي��ه ،فجوهر الق�ص��ة �أن لقمان �أراد في الحقيقة �أن يقتل لقيم��ا ابنه� ،أي �أن يجعله
�أ�ضحي��ة .لذا جهز له نارا من خ�شب �شج��ر ال�سمر ،و�أخفى النار في خندق كي يقع
لقي��م فيها وي�صبح �شواء« :وع��رف لقيم �إنما �صنع لقمان الن��ار لت�صيبه» .وهذا في
الحقيق��ة يذكرنا بق�ص�ص الذبحاء ،حيث يقرر الأب ذبح ابن��ه ك�أ�ضحية دينية ،لكن
الإله ير�سل كب�ش ف��داء يذبح كبديل له ،كما في حالة عبد المطلب و�إبراهيم .الكبير
ال�شي��خ يقدم ابنه ال�صغير ك�أ�ضحية .وفي حالة لقم��ان ف�إن الأ�سماء ت�شير �إلى المهمة
الميثولوجية فورا .فلقيم هو اللقمة التي �ست�ؤكل ،هو الأ�ضحية التي �ستمزق وت�ؤكل.
لبد
عر�ضن��ا في م��ا �سبق لن�سور لقم��ان ال�سبعة وعالق��ة رقم 7فيه��ا بالثريا وبق�صة
يو�س��ف والبقرات ال�سبع .لكن ما يثير االنتباه �إنم��ا هو الن�سر ال�سابع للقمان الذي
يدع��ى «ل َُبد» ،وهو �أ�شهر الطيور الأ�سطورية العربية .كما �أنه �أطول ن�سور لقما
عمرا .وي�ضرب بط��ول عمره المثل .بل �إن ا�سمه ي��وازي كلمة الدهر والأبد:
154
زكريا محمد
«واخت��ار الن�س��ور ،فلما لم يبق غي��ر ال�سابع .قال ابن �أخ له :ي��ا عم ما بقي من
عمرك �إال عمر هذا .فقال لقمان :هذا لبد .ولبد بل�سانهم الدهر» (الميداني ،مجمع
الأمثال) .ولبد لقمان هذا ح�صل عليه من جبل ثبير هو جبل الذبحاء ،وجبل كب�ش
فداء الذبحاء ،وهو يدعى «الغروب» �أي�ضا:
«فبينما لقمان ي��دور ذات ي��وم ف��ي جبل �أبي قبي���س بمكة� ،سم��ع مناديا ال يرى
�شخ�ص��ه ،وه��و يق��ول :يا لقمان ب��ن عاد المغ��رور ببق��اء الن�سور اطل��ع ر�أ�س
ثبي��ر ...وقدرك المقدور ،فطلع ر�أ�س ثبير ف�إذا بوكر ن�سر فيه بي�ضتان قد تفلقتا
عن فرخيهما فاختار لقمان� أحد الفرخي��ن ،ثم عقد في رجله �سيرا ليعرفه و�سماه
الم�ص��ون» (ابن منبه ،التيجان) .وكان ه��ذا هو الن�سر الأول .غير �أن ابن منبه
نف�سه يعود فيخبرنا �أنه الن�سر ال�سابع� ،أي الن�سر الذي مات لقمان بعد موته:
«الن�س��ر ال�سابع :قال :ثم توجه لقمان� ...إلى جب��ل قريب منهم ،فلما دنا من
الجب��ل �سمع مناديا ينادي به :يا لقمان بن عاد اطلع �إلى الجبل تلق عند ال�سهور
ذي الرت��ب ،ف��ي تلة العرت��ون المنت�صب ،مغيبا لم يغب م��ن حلول موت قد
كتب عل��ى �أهل الم�ش��رق والمغرب ،فطل��ع لقمان ذلك الجب��ل حيث و�صف
الذي ناداه ،ف�إذا هو بوكر ن�سر فيه بي�ضتان قد تفلقتا عن فرخيهما ،فاختار �أحد
الفرخي��ن وعقد ف��ي رجله �سيرا ليعرفه به و�سماه مغيب��ا ،ثم قال� :أنت المغيب
-كم��ا �سماك من ال يكذب -عي�شك معي العي���ش المخ�صب ويزاح عنك المكد
المخ��رب و�أنا عليك حدب في بقائك مرتقب ،فك��ن �أبقى ممن قد ذهب .فكان
لقم��ان ال يغفل عن �إطعام��ه حتى نه�ض طائرا له يدعوه با�سم��ه للم�أكل فيجيبه
حت��ى �إذا كبر و�ضعف ودعاه لقمان ذات يوم من ر�أ�س الجبل فلم يجبه ،فطلع
�إليه فوجده ميتا» (ابن منبه ،التيجان).
وهك��ذا فن�سر لقمان ال�سابع والأهم ،والأط��ول عمرا يدعى «المغيب» .وهذا
�إ�شارة رمزية للموت� .إنه �أبد وغروب معا� .إنه الغروب الأبدي� .أي الموت
الخال��د .فالآلهة الذين ي�شبه��ون لقمان خالدون ،لك��ن خلودهم خلود الموت
وفي �إطاره.
155
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ع��ل كل حال ،فال بد �أن الفرخ الآخ��ر كان ا�سمه ال�شروق .وال�شروق يفتر�ض
�أن يك��ون ا�سم ن�سر نقي�ض لقم��ان� .أي �أنه ن�سر لأمثال �سهي��ل اليماني المنبعثين
المتجددين �سنويا.
ويذكرن��ا الن�سر ال�ساب��ع ،لبد ،بالقدح ال�ساب��ع في المي�سر «المعلّ��ى» .فهو �آخر
الق��داح .وهو كذلك �أكث��ر الن�سور حظا .فله �سبعة حظ��وظ .وهكذا يكون طول
حياة لبد موازيا لكبر ح�صة القدح ال�سابع.
و�ص ْحر
ق�صة لقمان ُ
يق��ال لنا �أن ُ�ص ْحر هي ابنة لقم��ان ،و�أنه قتلها« :ولم��ا َق َتل لُقمان بن ٍ
عاد اب َنته،
َ�ست ام��ر�أة؟ وذلك �أنه قد كان تزوج وهي� ص ْحر� أخ��ت ُل َقي��م ،قال حين َق َتلها� :أل ِ
ُ
عدة ن�ساء ،كلهن خنه في �أنف�سهن ،فلما َقتل �أخراهن ونزل من الجبل ،كان �أول
اه� ص ْحر ابنت��ه ،فوثب عليها فقتلها ،وقال :و�أنت �أي�ض ًا امر�أة» (الجاحظ، من تل ّق ُ
الحيوان) .وعل��ى هذا الأ�سا�س قيل في المثل« :ذن��ب �صحر» ،للذي يعاقب بال
ذن��ب .ويقال �أي�ضا �أن زرقاء اليمامة كانت م��ن بنات لقمان« :واليمامة ا�سمها،
وبه��ا �سمي البلد .وذك��ر الجاحظ �أنها كانت من بنات لقمان ب��ن عاد و�أن ا�سمها
عن��ز ،وكانت هي زرق��اء ،وكانت الزب��اء زرقاء ،وكان��ت الب�سو�س زرقاء»
(الميداني ،مجمع الأمثال).
ونح��ن في الحقيقة �أقرب �إلى �أنها �أخته وزوجته معا� .أي �أنها ا�سم �آخر لبراق�ش،
�أو الوجه الآخر لبراق�ش .وفكرة �أن زرقاء اليمامة من بنات لقمان بن عاد يوحي
بعالق��ة ما بين لقمان وجذيمة الأبر�ش .فقد كانت الزباء ،وهي زرقاء �أي�ضا مثل
اليمام��ة ،زوجة جذيمة �أو خطيبته ،لكنهما ت�صرفا ك�أعداء ،وانتهى �إلى �أن قتلته
156
زكريا محمد
الزباء ،كما قتل لقمان �صحر� .إذن ،فنحن مع �أمثولة الزوجة الم�ش�ؤومة ،وكل
الزرق��اوات م�ش�ؤومات ،الت��ي تقتل زوجها �أو يقتلها زوجه��ا .وجذيمة مرتبط
بال�سم��اء ال�شمالية .لذا يدعى «نديم الفرقدين» .والفرقدان نجمان في نع�ش بنات
نع�ش في �شمال ال�سماء .عليه ،فالظاهر �أي�ضا �أن لقمان مرتبط ب�شمال ال�سماء.
�أما ِل َ
��م كانت النخامة ،وهي النخع��ة� ،أي قذفة البلغم من ال�ص��در� ،سببا في قتل
�صحر ،فربما تف�سره ق�صة الن�ضيرة بنت ال�ضيزن .فقد حا�صر �سابور ذو الأكتاف
ال�ضيزن ملك الجزيرة ،فلم يقدر عليه .لكن الن�ضيرة ابنة ال�ضيزن دلته على نفق
تحت الح�صن �شرط �أن يتزوجها وي�ؤثرها على ن�سائه:
على كل حال ،فق�صة �سابور والن�ضيرة هي ق�صة الزوج الذي يقتل زوجته ،مثل
لقمان وغيره.
157
158
فصل 8
تجمع��ت لدينا الآن ،ومن خالل ه��ذا المبحث ،مادة كافية للق��ول ب�أن ثمة �صلة
جوهرية بي��ن ال�شخ�صيات الثالث� :إبراهيم ،عبد المطلب ،ولقمان بن عاد .فهم
يمثل��ون ،في ما يبدو� ،شرعة دينية واحدة من حي��ث الجوهر .ويمكن اخت�صار
ال�صلة بين هذه ال�شخ�صيات بالنقاط الآتية:
فلعب��ة المي�س��ر ،لعب��ة لقمان ،تح��دث وقت غ��وران الثريا� ،أي ف��ي االنقالب
الخريفي� .أما عالقة عبد المطلب بالثريا فتت�ضح من �أمرين :حفره لزمزم «حين
غ��ار نجم الله ذو الرقيب»� ،أي عند غوران الثريا ،ثم ممار�سته لطق�س الذبيح،
طق���س مطعم الطي��ر ،الذي يج��ري �أي�ضا عند غ��وران الثريا في م��ا يبدو� .أما
�إبراهي��م ،فقد افتر�ضنا �أن��ه هو الآخر قد حفر «بئر �سب��ع» وقت غوران الثريا،
�إ�ضاف��ة �إلى �أنه ال بد �أن يك��ون قد حفر «بئر زمزم» في ه��ذا التوقيت �أي�ضا ،ما
دامت �إعادة حفرها على يد عبد المطلب قد تمت عند غوران الثريا.
كذل��ك فال�شخ�صيات الثالث عل��ى عالقة بالرقم ،7الذي ه��و رقم نجوم الثريا.
ف�إبراهي��م حفر «بئ��ر �سبع»� ،أي بئر الرقم .7كما انه �أعط��ى �أبيمالك �سبع نعاج
ب��دل الح�صول على حقه في ه��ذه البئر� .أما عبد المطلب ،فق��د اقترع على ذبح
واحد م��ن �أوالده بالقداح ال�سبعة في الكعبة .في حي��ن �أن عالقة لقمان بالرقم 7
وا�ضحة وجلية .فلعبة المي�سر �أ�سا�سها الرقم 7وم�ضاعفاته كالرقم .28
ثانيا :حفر الآبار :الثريا على عالقة بحفر الآبار .فنجومها نجوم الإخذ� ،أي هي
نجوم حفر الآب��ار .كما �أن االحتفال بطلوعها الخريف��ي «احتفال جماع الثريا»
159
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
يرافق��ه التجمع عند �آب��ار المياه .وهناك بئ��ر �أخرى في مكة تدع��ى بئر الثريا:
«بئر الثري��ا :وحفرت بنو تيم الثريا وهي بير عب��د الله بن جدعان» (الأزرقي،
�أخبار مكة).
وال�شخ�صي��ات الثالث عل��ى عالقة بحفر الآبار .فعبد المطل��ب هو من �أعاد حفر
زم��زم ،وربما حفر بئر الكعبة �أي�ضا� .أما �إبراهيم فهو من حفر زمزم في البدء،
وم��ن حفر «بئر �سبع» ح�سب التوراة .في حي��ن يتبدى لقمان �أي�ضا كحفار �آبار.
مان :هو لقمان بن عاد ،وهي «ركيةُ ُل ْق َ
فلدينا ركية� ،أي بئر ،تدعى ركية لقمانَ :
ركي��ة بثاج قريب م��ن البحرين بين البحرين واليمامة كان��ت لبني قي�س بن ثعلبة
ولعنزة فغلبت عليها بنو �سعد وهي مطوية بحجارة ،الحجر �أكبر من ذراعين قال
الفرزدق من �أبيات:
ِ��رت َظ ْ
ل��ت جوانبه��ا تغل��ي �إذا ُ�سب َ زدت ر�أ�سك هزمةً
ُ الحي��اء
ُ ول��وال
آبار
راميتٌ � :
ُ «ه
كذل��ك هناك �آبار �أو بئر واح��دة يقال �أن لقمان هو من حفره��اَ :
احت َف َرها؛ الأَ�صمعي عن ي�سارِ
مجتمعة بناحية ال َّد ْهناءَ ،زعم��وا �أَن لقمان بن عاد ْ
راميت ،وحولَها ِجفار؛ و�أَن�شدَ :بقايا
ُ لها ه
َ رية؛ وهي قريةٌ َركايا [�آبار] ،يقال �ض َّ َ
يتُ ن َّز ِح» (ل�سان العرب). من ه ِ
رام َ َ ِج َّفارِ
ثالثا :الذبحاء :وي�شترك الثالثة في طق�س تقديم االبن ك�أ�ضحية� ،أي طق�س الذبيح.
ف�إبراهيم قدم ابنه �إ�سماعيل ذبيحا .وعبد المطلب قدم عبد الله ذبيحا .في حين �أن
لقمان في ما يبدو قدم ابنه لقيم ذبيحا� ،أو �أراد �أن يقدمه ذبيحا� .صحيح �أن الأمر
يبدو كمحاولة قتل ،لكن الأمر في النهاية يتعلق ب�إر�سال االبن �إلى الموت.
رابع��ا :كب���ش الفداء :ف�إبراهي��م فدى �إ�سماعي��ل بكب�ش فداء ،تقول لن��ا الم�صادر
العربي��ة انه كب�ش �أروى .وعبد الله هو �أي�ضا ،وكم��ا �أو�ضحنا ،فدى ابنه بكب�ش
160
زكريا محمد
�أروى ف��ي ما يبدو ،ثم دفع مائة من الإبل دي��ة هذا الكب�ش .لذا جرت العادة �أن
دي��ة القتيل مائة بعير« :وجرت ال�سنة في الدي��ة بمائة من الإبل»� .أما لقمان ف�إنه
ين�سب له ،مثل عبد المطلب ،ت�أ�سي�س تقليد الدية « :و�أول من �سن الدية لقمان بن
عاد» (البغدادي ،خزانة الأدب).
وبخ�صو���ص كب�ش ف��داء الأروى ،ف�إن ا�سم �إبراهيم ذات��ه يعك�س العالقة مع هذا
الكب�ش .ذلك �أن المقطع الأول فيه «�إب� ،أب» يعني الماعز الجبلي في كثير من
لغات المنطقة ،ولي�س ال�سامية منها فقط .ومنه ا�سم الماعز الجبلي� ،أي الأروى،
بالإنجليزي��ة .ibex :ويبدو �أن هذا المقط��ع كان ي�شير �أي�ضا �إلى الماعز الجبلي،
الأروى ،ف��ي اللغة العربية في زمنه��ا الأ�سحق .يدل على ذلك �أن هناك مر�ضا
له عالقة ب��الأروى ي�سمى� :أباء« :الأُباء :داء ي�أخذ العن��ز وال�ض�أن في ر�ؤو�سها
م��ن �أن ت�شم �أب��وال الماعزة الجبلية ،وه��ي الأروى� ،أو ت�شربها �أو تط�أها فترم
ر�ؤو�سها وي�أخذها من ذلك �صداع وال يكاد يبر�أ» (ل�سان العرب) .ومن ال�صعب
�أن ال نفتر���ض �أن ا�سم المر�ض «�أباء» له عالقة با�سم الماعز «�إب» في كثير من
لغات المنطقة القديمة.
وا�سم حيوان الأروى ذاته ،وكما بينا في كتابنا ال�سابق ،ي�شير �إلى المياه والري:
«�أروى» .ولي���س ه��ذا بالم�صادف��ة .فالكب�ش يق��دم كثمن للح�ص��ول على الماء
ال�سفلي ،ماء الآبار والعيون.
الأزالم :لل�شخ�صي��ات الث�لاث عالقة بالأزالم� ،أي بال�سه��ام غير المن�صلة وال
المري�ش��ة .ف�إبراهيم �صور على ج��دران الكعبة وهو يلعب ب��الأزالم بناء على
حدي��ث نبوي �شهير« :فكان الزهري يقول :لما دخل النبي �صلى الله عليه و�سلم
فر�أى فيها �صورة المالئكة وغيرها ،ور�أى �صورة �إبراهيم عليه ال�سالم ،قال:
قاتله��م الله ،جعلوه �شيخ�� ًا ي�ستق�سم بالأزالم!» (الواق��دي ،المغازي) .ي�ضيف
الأزرقي« :ونظر �إلى �صورة �إبراهيم فقال :قاتلهم الله جعلوه ي�ستق�سم بالأزالم ما
لإبراهيم ول�ل�أزالم» (الأزرقي� ،أخبار مكة) .وهك��ذا ،فقد �صورت الجاهلية
�إبراهي��م وهو يمار�س التكهن واال�ستق�سام .والأزالم ممار�سة تقوم �أي�ضا ،مثلها
مث��ل المي�سر ،على ال�سهام غير المن�صلة ،التي ت�سمى بالأزالم� .أما عبد المطلب
161
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
فاقت��رع على الذبي��ح عبد الله بالقداح .ف��ي حين �أن القداح ف��ي جوهرها فكرة
لقمان .فهو �صاحب لعبة المي�سر� ،أي لعبة التقامر بالقداح .كما ان القداح ذاتها
ت�سمى «حظيات لقمان».
الرم��ي بالقو�س :لدينا دالئل عل��ى �أن �إبراهيم ولقمان ،على الأقل ،على عالقة
بال�سهام والرمي ،حي��ث �أن �إبراهيم هو�« :أول من عمل الق�سي العربية �إبراهيم
قو�سا ولإ�سح��اق قو�سا ،وكان��وا يرمون بها، علي��ه ال�سالم؛ عم��ل لإ�سماعي��ل ً
وعلمهم��ا الرمي» (اب��ن الجوزي ،المنتظم ف��ي التاريخ)� .أم��ا �إ�سماعيل فلدينا
«مر ر�س��ول الله �صلى الله عليه و�سلم ب�أنا�س
حدي��ث نبوي عن �إ�سماعيل يقولّ :
من �أ�سلم وهم يتنا�ضل��ون ،فقال« :ارموا يا بني �إ�سماعيل ف�إن �أباكم كان راميا»
(ابن �أبي �شيبة ،الم�سند).
�أما لقمان فقد ر�أينا من قبل �أنه كان�« :إذا رمى لم تقم راب�ضة ،ولم ترب�ض قائمة»
كم��ا �أنه ي�سمى الراي�ش« :لقمان بن عاد هو ال��ذي �سمته حمير الراي�ش؛ لأنه كان
متوا�ضع ًا لله لم يكن متوجاً» (ابن منبه ،التيجان) .ونعتقد �أن ا�سمه :الذي ّ
يري�ش
ال�سه��ام� ،أي ي�ضع لها ري�شا ،كي تكون �صالح��ة للرمي ،كما بينا في مكان �آخر
من هذا الكتاب.
عبد المطلب هو الوحيد الذي لي�س لدينا علما عن عالقته المبا�شرة بال�سهم والقو�س،
�إذا ا�ستثنينا �سهام القرعة غير المري�شة .لكننا نعلم �أنه حين عثر على غزال الكعبة
في زمزم ،عثر معه �أي�ضا على «�سالح و�إظفار»� ،أي على عدة حربية .وهو ما
ي�شي بالقو�س والرمح ،الذي يذكرنا برمح لقمان ،رمح �أبي �سعد.
كب��ر العمر :ال�شخ�صيات الثالث كبيرة العمر .وق��د ر�أينا كيف �صور الجاهليون
�إبراهيم ك�شيخ ي�ستق�سم بالأزالم في الكعبة.
ويب��دو �أن ملته � -إبراهيم -كانت تدعى ملة الأ�شياخ .فلدينا خبر عن لحظة وفاة
�أب��ي طالب يتم و�صفه فيها ب�أنه «ر�أ�س ملة الأ�شياخ»� ،أي الملة الحنيفية :فقد جاء
�إلي��ه الر�س��ول ليقنعه ب�أن ي�سلم قبل وفاته فف�شل« :فجل���س �إليه فقال :يا عم جزيت
عني خيراً ،يا عم �أعني على نف�سك بكلمة واحدة �أ�شفع لك بها عند الله يوم القيامة،
162
زكريا محمد
قال :وما هي يا ابن �أخي؟ قال :قل ال �إله �إال الله وحده ال �شريك له ،فقال� :إنك لي
نا�ص��ح والله لوال �أن تعير بها فيقال :جزع عمك من الموت لأقررت بها عينك،
ق��ال :ف�صاح القوم :يا �أبا طالب �أن��ت ر�أ�س الحنيفية ملة الأ�شياخ» (ابن منظور،
مخت�ص��ر تاريخ دم�شق) .ويب��دو �أن �أبا طالب هو من �صار ر�أ���س ملة الأ�شياخ
ه��ذه ،التي ه��ي ملة الطائفة الحلية ،بع��د �أن توفي عبد المطل��ب ،الذي كان هو
ر�أ�سها .وكان عبد المطلب �شيخا يلقب بـ «�شيبة الحمد».
�أما لقمان فقد ر�أينا �أنه مرتبط برمح �أبي �سعد الذي هو كناية عن الكبر.
وهكذا ،يتبدى لنا �أن ال�شخ�صيات الثالث �شخ�صيات دينية من طراز واحد .وهذا
ما يعني �أن لقمان بن عاد كان �شخ�صية دينية كبيرة ال مجرد العب مي�سر.
هبل والأزالم
�أخب��ار الم�ص��ادر العربية تربط ب�شدة بي��ن هبل والأزالم .والح��ق �أن الأزالم
مرتبط��ة بالمل��ة الإبراهيمية� ،أي مل��ة الحلة ،كما ر�أينا من قب��ل .وهبل لي�س له
عالق��ة بهذه الملة ،ب��ل بنقي�ضها الحم�سي .فم��ن �أح�ضر هبل ون�صب��ه في الكعبة
ه��و عمرو بن لحي الأ�سطوري« :وهو الذي بح��ر البحيرة ،وو�صل الو�صيلة،
وحم��ى الحامي ،و�سيب ال�سوائب ،ون�صب الأ�صنام ح��ول الكعبة ،وجاء بهبل
فن�صب��ه في جوف الكعبة ،فكانت قري�ش والع��رب ت�ستق�سم عنده بالأزالم ،وهو
�أول من غير الحنيفية دين �إبراهيم و�إ�سماعيل -عليهما ال�صالة وال�سالم -وكان
�أم��ره بمكة مطاع�� ًا ال يع�صى ،وكان بمكة رجل من جره��م على دين �إبراهيم،
وكان �شاعراً ،فقال لعمرو بن لحي حين غير دين �إبراهيم...
163
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
و�إ�سماعي��ل»� .أم��ا الرجل ال��ذي كان على دي��ن الحنيفية فقد كان ف��ي مواجهة
عم��رو� .إذن ،ي�صعب التفكير في �أن هبل مرتبط بالأزالم التي تخ�ص �إبراهيم.
عليه ،ربما كان علينا �أن نقدم فهما �آخر لل�صيغ التي تتحدث عن عالقة هذا ال�صنم
بالأزالم :ونحن هنا �أمام احتمالين في ما يبدو لنا:
�أوال� :أن جمل��ة «عند هبل» ت�شير �إلى الق��رب المكاني فقط .ومن المحتمل ،بناء
عل��ى هذا� ،أن يك��ون لال�ستق�سام ب��الأزالم عالقة ببئر الكعب��ة ،المرتبطة بالملة
الإبراهيمي��ة .فهي بئر �إ�سماعيل ،ح�سب بع�ض الأخبار .وهبل كان يقع بالقرب
من هذه البئر� ،أو �أنه ن�صب عند بابها .وهذا ما يفيده ن�ص ابن كثير« :ثم �أتوه [�أي
�أوالد عبد المطل��ب] ،فدخل بهم على هبل ف��ي جوف الكعبة ،وكان هبل عظيم
�أ�صن��ام قري�ش بمك��ة ،وكان على بئر في جوف الكعبة ،وكان��ت تلك البئر التي
يجمع فيها ما يهدى للكعبة ،وكان عند هبل� سبعة �أقداح» (�سيرة ابن �إ�سحق).
الحظ هنا �أن هبل على البئر .وعند ابن ال�ضياء �أن هبل ن�صب على هذه البئر التي
حفره��ا �إبراهيم« :وحفر �إبراهيم عليه ال�سالم جب�� ًا في بطن الكعبة على يمين من
دخله يكون خزانة البيت ،يلقى فيه ما يهدى للكعبة ،وهو الجب الذي ن�صب عليه
عمرو بن لحي هبل ال�صنم الذي كانت قري�ش تعبده وت�ستق�سم عنده بالأزالم حين
جاء به من هيت من �أر�ض الجزيرة» (ابن ال�ضياء ،تاريخ مكة) .بالتالي ،فالبئر
�إبراهيمي��ة .لكن واقعة �أن هبل فوق البئر جع��ل اال�ستق�سام يقع قربه ،بحيث بدا
وك�أنه على عالقة به.
ثاني��ا� :أن عبد المطلب كان يذهب �إل��ى �صنم هبل كي يقدم له الأ�ضحية .فهبل هو
�صن��م �إله الماء ال�سفلي .وعبد المطلب يقدم ل��ه الأ�ضحية ثمن ح�صوله على الماء
ال�سفلي ،ماء عين زمزم .و�إله الماء ال�سفلي هذا هو �إله الحم�س� .أي �أن الأ�ضحية
ه��ي �أ�ضحية من الحلة للحم�س .فم��اء زمزم في الأ�صل ملك للحم�س .والتمتع به
من قبل الحلة يقت�ضي دفع ثمنه� ،أي تقديم �أ�ضحية.
وكنا في كتبنا ال�سابقة قد �أو�ضحنا �أن هبل على عالقة ب�صنم قوم نحو «هب» .فقد
كان لق��وم نحو �صنم��ان هما هب و�صدا� .أما هبل فهو «ه��ب �إيل» ،في حين �أن
164
زكريا محمد
«�صدا» مرتبط بالت�صدية في الآية 35من �سورة الأنفال« :وما كان �صالتهم عند
البي��ت �إال مكاء وت�صدية» .والت�صدية تخ�ص الطبقة ال�سفلية من البيت� ،أي قواعد
البي��ت ،التي ين�سب بنا�ؤها لإبراهيم .والبئ��ر ،بئر الكعبة مرتبطة بهذه القواعد.
�أما هب��ل فعلى عالقة بالمكاء� ،أي بطائر المكّ اء الخم��ري� ،أي بال�صنم «مجاوز
الرياح» ،الذي يعني ا�سمه «�ساقي الخمر».
بن��اء عليه ،يكون اقتراع عب��د المطلب بالقداح على ابنه الذبي��ح هو طق�س تقديم
الأ�ضحي��ة لإله الماء ال�سفل��ي� .أي �أن الأزالم والقداح لي�ست على عالقة مبا�شرة
بهب��ل .فهي �أق��داح الملة الإبراهيمية في عرف الجاهلي��ة .في حين ان الأ�ضحية
تق��دم لهب��ل� ،إله الحم���س .ولأن رمز �إله الحم���س طائر ،هو الطائ��ر المكاء،
ف���إن الأ�ضحي��ة تقطع وتو�ضع على ر�ؤو���س الجبال كي ي�أكل منه��ا الطير� .إنها
�أ�ضحي��ة «مطعم الطير»� ،أي �أ�ضحية عبد المطل��ب ،الذي هو من يطعم الطير.
وه��ي �أ�ضحية ال�صنم «مطعم الطير» المن�صوب على المروة لـ «مجاوز الرياح»
المن�صوب على ال�صفا .وهذا يعني �أن �صنم «مجاوز الرياح» على عالقة بهبل.
�إنهما �صورتان للإله ذاته.
165
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
خال�صة عامة
ظل��ت كيفية لع��ب المي�سر لغ��زا لما يقرب م��ن �ألف ومائتي ع��ام .وقد حاول
كثي��رون على مدى التاريخ العربي حل هذا اللغ��ز ،لكن جهودهم لم تثمر عن
ح��ل اللغز .ويده�ش الم��رء لذلك حقا� .إذ كيف تحولت �أ�شه��ر لعبة جاهلية �إلى
ن�س��ي من�سي خالل قرن واحد �أو �أكثر قليال؟ ويع��ود ال�سبب في ر�أينا �إلى هيمنة
نظري��ة خاطئة حول طريقة لعب��ه .فقد رف�ضت فر�ضي��ة الأ�صمعي التي كانت
الأ�سا���س الوحيد ال�صال��ح لحل لغز لعبة المي�سر ،وحل��ت محلها فر�ضية خاطئة
�أعم��ت الأمر و�أبهمته تماما .وفر�ضية الأ�صمعي ب�سيطة جدا؛ فهي تقول �أن في
�أكوام لحم الجزور الع�شرة 28ح�صة مثلها مثل حزوز القداح ال�سبعة المتقامرة
الت��ي مجموعها 28ح��زا� .أي �أن المقام��رة تجري بين الح��زوز ال 28على
الح�ص���ص ال .28غير �أن البنائين القدماء رف�ضوا حجر الأ�صمعي ،وا�ستندوا
�إلى ر�أي �أبي عبيدة �أو �أبي عمرو ،الذي يقول ب�أن هناك ع�شر ح�ص�ص في لحم
الجزور .وهو ر�أي يخلط بين الح�ص�ص والأكوام .ف�أكوام اللحم ع�شرة (�سبعة
منها ت�شارك في التقامر فقط) ،لكن الح�ص�ص التي تت�ضمنها الأكوام ال�سبعة التي
يج��ري عليها القمار تتكون من 28ح�صة ،ب�ش��كل ت�صاعدي .فالكومة الأولى
تت�ضم��ن ح�صة ،وال�سابعة تت�ضمن �سبع ح�ص�ص .وق��د انتهوا ب�سبب هذا الخلط
�إلى طريق م�سدود .لذا كان ينبغي لنا العودة للأ�صمعي �إذا �أردنا �أن نفتح الباب
لح��ل هذا اللغز .وهذا ما فعل��ه كتابنا هذا .فقد جعل من حج��ر الأ�صمعي حجر
الأ�سا�س في البناء الذي �شاده.
غير �أن ف�شل الباحثين القدماء في فك اللغز نبع �أي�ضا من �أمرين �آخرين:
الأول :الت�شو�ش التام ب�ش�أن القداح الأغفال .فقد انق�سم القدماء ب�ش�أنه �إلى ق�سمين؛
ق�سم يرى �أن القداح الأغفال لغو ال يهدف �إال لتكثير عدد القداح كي ي�ؤمن الغ�ش،
و�أنه��ا بناء على ذلك بال �أهمية في اللعب� .أما الق�س��م الثاني فيرى �أن هذه القداح
بالذات هي الق��داح الخا�سرة ،رغم �أنه ال يوجد �أحد للرهان عليها ،ورغم �أنه ال
توج��د عليها عالمات تحدد قيمتها .وقد �أثبتن��ا �أن هذين الر�أيين خاطئان ،مبينين
166
زكريا محمد
�أن الق��داح الأغفال موجودة كي تقل�ص �إمكانية خ��روج القداح المو�سومة كلها،
وه��و ما يبطل اللعب .وهذا يعني �أن وجودها حا�سم في نجاح اللعبة .فمن دونها
ال يمك��ن للعبة �أن ت�ستمر� .إذ �سيكون لدينا 28ح�صة للقداح ،تقابلها 28ح�صة في
�أكوام لحم الجزور ،الأمر الذي يعني �أن جميع القداح �ستخرج رابحة.
الثان��ي :عدم �إدراك طبيعة القدح الثالث من القداح الأغفال� ،أي القدح المنيح،
وهو الأ�شهر بين القداح كلها .فهو قدح خا�ص �ضمن هذه المجموعة المكونة من
ثالثة قداح .فهو ،من جهة ،جزء من هذه القداح لكنه ،من جهة �أخرى ،يختلف
عنها ب�شدة .فهو ُيرد �إلى الربابة كلما خرج حتى لحظة محددة حيث ال يرد �إليها
حين يخرج .وعند هذه اللحظة ي�صبح قدحا م�ستعارا ،في�ضاف �إلى �صف القداح
المو�سوم��ة ،لكن من باب الخ�س��ارة ال من باب الربح .علي��ه ،يكون لدينا في
اللعب��ة قداح لها حظ الرب��ح والخ�سارة ،هي القداح ال�سبع��ة المو�سومة ،وقداح
ال ترب��ح وال تخ�سر تتمث��ل بقدحين من القداح الثالثة ،وقدح واحد ال يربح لكنه
يلزم لواحد من الخا�سرين ،الذي يخ�سر ،وهو الق��دح المنيح .وهو حين يخ�سر ّ
ي�صير لديه قدحان خا�سران؛ قدحه الأ�صلي ،والقدح المنيح .غير �أن الدار�سين
القدم��اء قا�سوا القدحي��ن الآخرين من الأغفال على هذا الق��دح .فقد اعتقدوا �أنه
ما دام واح��د من القداح الأغفال يرد �إلى الربابة ف��ي لحظة محددة ،فيجب �أن
يك��ون هذا �ش�أن القداح الأغفال جميعه��ا .ولم يكن هذا �صحيحا �أبدا .وقد �شو�ش
ه��ذا الحكم كل محاوالت حل لغز المي�سر .فالمنيح وحده كان يرد �إلى الربابة.
�أم��ا القدحان الآخران فلم يكن يجري ردهما .الإع��ادة �إلى الربابة �سمة خا�صة
بالقدح المنيح.
ورغ��م معرف��ة الباحثين القدماء ب���أن لقمان بن عاد ه��و الأب الأ�سطوري للعبة
المي�س��ر ،لكنهم لم يقارنوا بين لعبة المي�سر وتقليد اللعب عند لقمان .فلم يطرحوا
ال�س�ؤال الحا�سم الذي كان يجب �أن يطرح :لم يكون مقامرو لقمان� ،أي �أي�ساره،
ثماني��ة في حي��ن �أن مقامري المي�س��ر� ،أي �أي�ساره� ،سبعة؟ ول��و �أن هذا ال�س�ؤال
ط��رح لما كان للغ��ز المي�سر �أن يتوا�صل �أكثر من �ألف �سن��ة� .أما هذا الكتاب فقد
يلزم القدح المنيح هو نظير المقامر طرح ال�س�ؤال ،وتو�صل �إلى �أن الخا�سر الذي ّ
167
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الثام��ن في �أي�سار لقمان .وبذلك تم �أي�ضا التحديد النهائي لعدد قداح المي�سر؛ فهي
ع�ش��رة فق��ط؛ �سبعة منها تدخل المقامرة ،وثالثة ال تدخ��ل .وما جعلها تبدو �أحد
ع�ش��ر قدحا �أن القدح المنيح يتبدى كقدحين؛ فهو عا�شر القداح ،لكنه ينتقل ليحتل
المركز الثامن في لحظة محددة ،اللحظة التي ي�صبح فيه م�ستعارا ،فيح�سب �ضمن
القداح المقامرة الخا�سرة� .إنه عا�شر وثامن معا.
ويمك��ن القول� ،أي�ضا� ،أنه لم يكن هناك �أي وعي لدى القدماء ب�إمكانية �أن تكون
لعب��ة المي�س��ر لعبة ذات معنى دين��ي� ،أو ذات �أ�صل ديني .ل��ذا ان�صب اهتمامهم
عل��ى معرفة كيفية لعبها فقط ،ولم يعمدوا �إلى فهم عالقتها ب�أ�سطورة لقمان ،وال
بالطقو���س الديني��ة الجاهلية� .أما ه��ذا الكتاب ،فقد هدف �أ�سا�س��ا �إلى ك�شف �أ�صل
المي�سر وجذوره .وقد تو�صل �إلى عدة �أمور:
�أوال� :أن اللعب��ة ذات �أ�صل ديني ،و�أنها عل��ى عالقة حا�سمة بغوران الثريا� ،أي
بطلوعه��ا الخريفي .فطلوعها في هذا الوقت هو �إ�ش��ارة البدء لمو�سم لعبة المي�سر
ال�سنوي .عليه ،فالمي�سر ال يلعب �إال عند طلوع الثريا .كما �أنه ال يلعب �إال ع�شية،
�أي عند غياب ال�شم�س ،وظهور كوكبة الثريا في ال�سماء.
�أكثر من ذل��ك ،فمن المحتمل �أن لعبة المي�سر تبني نف�سها ،ب�شكل ما ،على غرار
ال�ص��ورة ال�سماوي��ة المفتر�ض��ة لنجوم الثري��ا ومنطقتها في ال�سم��اء .فلدينا نجم
«رقي��ب» للثريا ،و«رقيب» في لعبة المي�سر .ورقي��ب لعبة المي�سر يتخذ موقعه
كما يتخذ رقيب الثريا موقعه خلفها ،كما ورد في بيت �أبي ذ�ؤيب الهذلي الذي مر
ذكره؛ الذي تحدث عن ورود الأتن للماء:
كما �أن لدينا �سبعة مقامرين مقبل �سبعة �أنجم هي �أنجم الثريا .ولي�س من الم�ستبعد
�أن يكون «الحر�ضة» على عالقة بنجم ما في ال�سماء.
ثاني��ا� :أن غ��وران الثريا� ،أي طلوعه��ا الخريفي ،مرتبط بحف��ر الآبار الجوفية
المقد�س��ة ،مثل بئ��ر زمزم وبئر �سبع .ف�لا تحفر الآبار المقد�س��ة �إال مع ظهور
168
زكريا محمد
الثريا .كما �أنها على عالقة ب�آبار المياه الجوفية عموما .بل �إن مطرها ربما حدد
كمي��ة الماء في الآبار الجوفية� .إنها هي من يحدد دف��ق الماء الجوفي .لذا يكون
طلوعها الخريفي �إيذانا باالحتفال قرب �آبار المياه.
ثالث��ا :وبما �أن حفر الآبار المقد�س��ة على عالقة بالثريا ،ف�إن طق�س الذبيح ،الذي
ر�أينا نموذجا منه في عبد الله الذبيح ،هو �أي�ضا على عالقة بالثريا .ذلك �أن طق�س
الذبيح هو ذاته طق�س حفر بئر زمزم� ،أو �إعادة حفره .فقد ذبح عبد الله بناء على
ن��ذر قدمه عبد المطلب ب�ش�أن حفر بئر زمزم« :لأن��ه حين �أخذ في حفر زمزم،
وكانت قد اندفن��ت ،جعلت قري�ش تهز�أ به ،فقال :اللهم �إن �سقيت الحجيج ذبحت
بع�ض ول��دي؛ ف�أ�سقى الحجيج منها .ف�أقرع بين ول��ده فخرجت ال ُق ْرعة على
َ لك
ابنه عبد الل��ه» (الزمخ�شري ،الفائق) .بناء عليه ،فطق�س الذبيح هو طق�س ن�ضح
الماء من زمزم ،وطق�س دفع ثمن هذا الماء عبر الت�ضحية بعبد الله.
وتتواف��ق لعبة المي�سر مع طق���س الذبيح في الزمن .فهما يتمان في اللحظة عينها،
�أي لحظة غوران الثريا وبدء المطر الو�سمي .وهذا ما ي�شي ب�أن اللعبة على عالقة
محددة بطق�س الذبيح .فالتواف��ق الزمني لي�س م�صادفة .بل �إنه ليبدو لنا �أن اللعبة
تح��اول �أن تقلد طق�س الذبيح .فهي تقوم على نحر جزور وتقطيع لحمه وتوزيعه
بين المتقامرين ،مثلما �أن طق�س الذبيح يقوم على نحر جمال ،وتقطيعها ،وتفريق
لحمها .فوق ذلك فاللعبة والطق�س يقومان على الإطعام .فقد نحر عبد الله و�أطعم
النا���س ،كما اطعم الطير ،ف�صار لقبه (مطعم الطير) .كما �أن الالعبين ال ي�أكلون
ما ك�سبوه من لحم بل يوزعونه على الأقرب والفقراء.
رابع��ا� :أن اللعبة وطق���س الذبيح يرتبطان بقوة بطق�س �سرق��ة الغزال وتقطيعه.
فهم��ا معا تقوم��ان على نحر حيوان��ات وتقطيعها ،مثلما �أن طق���س غزال الكعبة
يقوم على تقطيع غزال ذهبي .وهناك ن�صو�ص محددة �أوردناها ت�ؤكد �أن طق�س
الذبيح على عالقة وطيدة بطق�س غزال الكعبة .فقد قيل في ال�شعر �أن عبد المطلب
�أراد تقطي��ع ابن��ه (خرقا كتمثال الذهب) .ولي�س طق�س غ��زال الكعبة �إال تخريق
غزال ذهبي وتقطيعه في الواقع.
169
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
خام�سا� :أن ق�صة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه لي�ست حدثا واقعيا ،بل ق�صة دينية.
وه��ي ق�ص��ة كان يجري تمثيله��ا دوريا على خ�شب��ة الم�سرح المك��ي .بالتالي،
ف��كل �شخ�صياتها ترتدي �أقنعة التمثيل .بالتالي ،ف�أب��و لهب ممثل في الم�سرحية.
ومقي���س ،ال��ذي كانت تج��ري الم�سرحي��ة في بيت��ه ،بي��ت الأزالم ،ممثل في
الم�سرحية .وعبد الله بن جدعان ممثل .كما �أن �أبا �إهاب ممثل ،وهكذا.
خام�س��ا� :أن طق�س الذبيح وطق�س غزال الكعبة والمي�س��ر تنبثق من �أ�صل واحد.
فه��ي جميعا ت�ستخدم ال�سهام غير المقد�س��ة� ،أي القداح -الأزالم .وهذا ما ي�شير
من �أنها جميعا على عالقة بتقليد �صيد .فالإله الذي له عالقة به هو �إله �صياد .من
�أج��ل هذا ،فقد عثر عبد المطلب حين �أعاد حف��ر زمزم على غزال الكعبة وعلى
ع��دة حربية� ،أي �سهام و�سيوف .وهذه عدة الإل��ه ال�صياد ورمزه .وقد بينا �أن
الحر�ضة ،ال�شخ�صية الأهم في لعبة المي�سر ،كان �صيادا -كاهنا في �أغلب الأمر.
كما �أو�ضحنا كيف �أن لقمان بن عاد كان �صيادا �أي�ضا.
ونحن مت�أكدون �أن وقت طق�س الذبيح ووقت حفر زمزم� ،أو االحتفال بذكرى
حف��ره ،يتمان في وقت واحد :غوران الثريا و�سقوط مطرها الو�سمي .لكننا
ل�سنا مت�أكدين ب�أن طق�س تقطيع غزال الكعبة كان يتم مع غوران الثريا .لكن
هن��اك احتمال جدي ب�أنه كان كذلك ،مع �أن ه��ذا الطق�س لم يكن �سنويا ،في
ما يبدو.
ويج��ب �أن نلح��ظ �أن غوران الثريا ومطرها كان ينظر �إلي��ه على �أنه يحدث في
ما يب��دو بين �أواخر �أيلول و�أوائل ت�شرين ,وت�شري��ن في الواقع هو نظير رجب
الخريفي� ،أي �شوال ،الذي كان يبد�أ معه الحج ال�سنوي -الخريفي ال�شتوي.
�ساد�سا� :أن الأب الأ�سطوري للعبة المي�سر ،لقمان بن عاد هو نف�سه لقمان الحكيم
المذكور في الق��ر�آن لكنه كن�سخة �شفوية .وهذا يعن��ي �أن لقمان بن عاد �شخ�صية
ديني��ة بامتي��از .وق��د بينا �أن ه��ذه ال�شخ�صية من ط��راز عبد المطل��ب و�إبراهيم
الخلي��ل� .إنه��ا الن�سخة العربية الأقدم من عبد المطل��ب -مطعم الطير ،والن�سخة
المعادلة لإبراهيم الخليل .ولم يكن ب�إمكان الدار�سين العرب القدماء من كل نوع
170
زكريا محمد
�أن يفك��روا ،بالطب��ع ،بهذا الأمر .فمن غير المعق��ول بالن�سبة لهم ولزمانهم �أن
يكون م�ؤ�س�س لعبة القمار الملعونة مثيال لإبراهيم الخليل وعبد المطلب.
والحق �أن لقمان بن عاد بحاجة �إلى جهد �أو�سع لتفكيك �أ�سطورته وفهم تعالقاتها.
فهذا الكتاب تناولها فقط من باب فهم لعبة المي�سر .والمي�سر لحظة واحدة فقط من
لحظات هذه ال�شخ�صية الميثولوجية الغنية.
فتوة
ثامن��ا� :أن الدورة الأخيرة لطق���س تقطيع غزال الكعبة ،والت��ي حدثت في ّ
الر�سول� ،أعقبت ،في ما يبدو ،االن�شقاق الكبير في حلف المطيبين ،الذي �أ�سفر
عن خروج نوفل وعبد �شم�س منه .وقد �صار هذا الحلف ،الذي هو حلف الحلة،
بعد هذا االن�شقاق ي�سمى (حلف الف�ضول) ،كما �سنرى بتف�صيل في الملحق .ويعني
ا�س��م الف�ضول من ف�ضل في الحلف وتبقى في��ه؛ �أي �أنه (حلف المتبقين) في حلف
المطيبين القديم .والح��ق �أن ان�شقاق هذا الحلف ،في ما يتهي�أ لنا ،كان �إيذانا ب�أن
النظ��ام الديني الجاهل��ي كله قد بد�أ في التحطم .عليه ،يمك��ن القول �أن �ضع�ضعة
هذا الحل��ف ،بخروج عب��د �شم�س خا�ص��ة ،كان �أي�ضا �إيذانا بظه��ور الإ�سالم.
وه��ذا يعني �أن فعل عبد �شم���س (وعلى ر�أ�سهم بنو �أمية) مه��د لظهور الإ�سالم،
لكن��ه �أدى في النهاية ،ويا للغراب��ة� ،إلى هيمنة عبد �شم�س على الإ�سالم وت�أ�سي�س
الإمبراطورية الأموية.
171
172
ملحق
حلف الف�ضول
�أخبرن��ا ابن حبيب� ،إذن� ،أن ال�صراع ب�ش�أن الغ��زال وقع بين الحلفين المكيين
القديمي��ن ال�شهيرين؛ المطيبين والأحالف ،في حين �أن ه�شاما الكلبي �أخبرنا �أنه
كان بي��ن حلفي الف�ضول والأحالف .وهذا ما ي��زج بنا زجا في الم�س�ألة المعقدة
ح��ول الحلف ال��ذي ح�ضره الر�سول ف��ي �شبابه الأول قب��ل البعثة .ففي حديث
نبوي معروف يخبرنا الر�سول �أنه ح�ضر حلف المطيبين« :ما �شهدت من حلف
قري���ش �إال حلف المطيبين ،وما �أحب �أن لي حمر النعم و�إني كنت نق�ضته» (ابن
حبان� ،صحيح اب��ن حبان) .غير �أن الغالبية ال�ساحق��ة تعتقد �أن الر�سول ح�ضر
حل��ف الف�ضول ال حل��ف المطيبين ،و�أن خط�أ ما �أدى �إل��ى تحويل الف�ضول �إلى
المطيبين ف��ي الحديث .فحلف المطيبين بح�سب القناع��ة العامة ت�أ�س�س قبل وقت
طويل من مولد الر�سول:
«ق��ال �أبو حاتم� :أ�ضمر في هذين الخبرين من يريد به �شهدت من حلف الف�ضول؛
لأن��ه �صلى الله عليه و�سلم لم ي�شهد حلف المطيبين ،لأن حلف المطيبين كان قبل
مول��د ر�سول الله �صلى الله علي��ه و�سلم ،و�إنما �شهد ر�سول الل��ه �صلى الله عليه
و�سلم حلف الف�ضول وهم من المطيبين» (الم�صدر ذاته) .وكما نرى ،فالم�صدر
يخبرنا �أن المق�صود هو حلف الف�ضول ال حلف المطيبين.
وي�ؤي��د الدكتور جواد علي ه��ذا التقدير« :وقد وهم بع�ض �أه��ل الأخبار فجعلوا
حلف المطيبين هو حلف الف�ضول .ويظهر �أنهم وقعوا في الخط�أ من كون الذين
دعوا �إلى عقد حلف الف�ضول و�شهدوه هم من «المطيبين» ،فا�شتبه الأمر عليهم،
وظن��وا �أن الحلفي��ن حلف واحد .وق��د رد عليهم بع�ض �أهل الأخب��ار �أي�ضا� ،إذ
ذكروا �أن الر�سول لم يدرك حلف المطيبين؛ لأنه كان وقع بين بني عبد مناف،
173
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
وه��م ها�شم و�إخوته ومن ان�ض��م �إليهم ،وبين بني عمهم عب��د الدار و�أحالفهم،
فقي��ل لهم الأحالف ،قبل �أن يولد الر�س��ول» (علي ،المف�صل في تاريخ العرب
قبل الإ�سالم).
ويدع��م هذا �أن تقلي��د حلف الف�ضول كان م��ا يزال حيا في العه��د الأموي .فقد
ه��دد الح�سين حفيد الر�سول ،الوليد بن �أبي �سفيان �أنه �سيعيد بعث حلف الف�ضول
�ض��د بن��ي �أمية �إذا اعتدى الوليد عل��ى حقه« :كان بين الح�سين ب��ن علي بن �أبي
طالب ،ر�ض��ي الله عنهما ،وبين الوليد بن عتبة بن �أبي �سفيان -والوليد يومئذ
�أمي��ر على المدين��ة �أمره عليه��ا عمه معاوية بن �أبي �سفي��ان ... -منازعة في
م��ال كان بينهما ب��ذي المروة . فكان الوليد تحام��ل على الح�سين ...في حقه
ل�سلطان��ه ،فقال له الح�سين� :أحل��ف بالله لتن�صفني من حق��ي �أو لآخذن �سيفي،
ث��م لأقومن في م�سج��د ر�سول الله �صلى الل��ه عليه و�سلم ،ث��م لأدعون بحلف
الف�ضول» (�سيرة ابن ه�شام).
�إذن ،فق��د هدد الح�سين بالدعوة �إلى العودة �إلى حلف الف�ضول من جديد لمواجهة
بن��ي �أمية .وذل��ك انطالقا من �أن حلف بن��ي �أمية كانوا �أع��داء لحلف الف�ضول،
وانطالقا من الفك��رة ال�شائعة القائلة ب�أن حلف الف�ضول هو حلف رد الحقوق �إلى
المظلومين .وقد كان معترفا به في الع�صر الأموي �أن بني �أمية ،وهم عبد �شم�س
بن عبد مناف ،وبني نوفل بن عبد مناف ،و�ضعا نف�سيهما خارج حلف الف�ضول:
«ق��دم محمد بن جبير ب��ن مطعم بن عدي بن نوفل بن عب��د مناف ...على عبد
المل��ك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير واجتمع النا�س على عبد الملك.
فلما دخل عليه ،قال له :يا �أبا �سعيد� ،ألم نكن نحن و�أنتم ،يعني بني عبد �شم�س بن
عب��د مناف وبني نوفل بن عبد مناف ،في حل��ف الف�ضول؟ قال� :أنت �أعلم .قال
عب��د الملك :لتخبرني يا �أبا �سعيد بالحق م��ن ذلك .فقال :ال والله لقد خرجنا نحن
و�أنتم منه .قال� :صدقت» (�سيرة ابن ه�شام).
فقناع��ة الغالبية �أن ن�ص حدي��ث الر�سول عن ح�ضوره لحل��ف المطيبين مخالف
للواقع .وهو ما يعني �أن تحريفا قد �أ�صاب الحديث وحول الف�ضول �إلى مطيبين.
وت��رى فئة �أخرى �أن حلف الف�ض��ول ا�ستمرار ما لحلف المطيبين« :ذهب بع�ض
174
زكريا محمد
الباحثي��ن �إل��ى �أن حلف الف�ضول ،ه��و ا�ستمرار للحلف المذك��ور� ،إذ ت�ألف من
الأ�سر الت��ي كانت �ألفت ذلك الحلف ما خال بني عب��د �شم�س وبني نوفل» (علي،
المف�صل في تاريخ العرب قب��ل الإ�سالم) .لكن من دون �أن يتقدموا بتف�سير لهذه
اال�ستمرارية.
�أما نحن فنعتقد �أن الر�سول ح�ضر حلف المطيبين ،و�أنه تحدث عن حلف المطيبين،
و�أنه لم يكن هناك حلفان بل حلف واحد� .أي �أنه لم يح�صل وهم وال خط�أ .فحلف
الف�ض��ول هو ا�سم �آخر لحل��ف المطيبين طر�أ بعد خروج عب��د �شم�س ونوفل منه.
واب��ن حبيب في ن�ص غ��زال الكعبة كان يدرك �أنه يتحدث ع��ن المطيبين بعد �أن
خ��رج منه نوفل وعب��د �شم�س ،ومع ذل��ك �سماهم المطيبين« :فقام��ت بنو �أمية،
ف�أعانوا الأحالف حت��ى كادوا يقوون .ف�أقبل عتبة و�شيبة ابنا ربيعة ،و�أبو �سفيان
ب��ن حرب ،و�سعيد بن العا�ص ،و�أ�سيد بن �أبي العي�ص ،ونفر من �شيوخ قري�ش،
فحدث��وا وذك��روا الغزال ،وحث بع�ضه��م بع�ضا على �أن ين�ص��روا الأحالف».
وهكذا ،فقد وقف بنو �أمية مع الأحالف -لعقة الدم� ،أي مع الحلف الم�ضاد لحلف
المطيبين .ي�ضيف« :فقال �أبو طالب :ه�ؤالء ال �شك �أ�صحاب الغزال ،و�إن دخلتم
ال�ساع��ة �أ�صبتموهم �س��كارى ،ال يعقلون عنكم وال يفقه��ون ،وال نحب �أن ندخل
عليه��م �إال ومعنا من الأحالف الذي��ن تحالفوا بعد الحل��ف الأول من نحتج عليهم
بهم .ولم تكن عبد �شم�س وال نوفل دخلوا في ذلك الحلف ،ف�أخروا ذلك �إلى غد».
وكم��ا نرى ،ف�أبو طالب ،المطيبي� ،أراد �أن يدخل معه �إلى بيت مقي�س �أنا�س من
حل��ف الأحالف القدي��م� .إذ ال ينفع بالن�سبة له �أن يدخل معه �أنا�س من بني �أمية بن
عبد �شم�س .فه�ؤالء كانوا من المطيبين ،ثم ان�ضموا �إلى الأحالف حديثا.
وانطالق��ا من هذا ،يمكنن��ا �أن نقترح �أن حلف الف�ضول هو ف��ي الحقيقة ا�سم �آخر
لحلف المطيبين ذاته .وقد انبثق اال�سم الثاني في لحظة ان�شقاق نوفل وعبد �شم�س
عن��ه ،ثم �شاع تدريجيا .وهذا يعني �أن الر�س��ول ح�ضر حلف المطيبين بالفعل،
و�أنه ح�ضره بعد �أن خرج منه عبد �شم�س ونوفل� .أو �أنه ح�ضره في لحظة انعقاده
من دون عبد �شم�س ونوفل .وفي هذا الوقت بالذات �صار للحلف ا�سم �آخر يعرف
به :حلف الف�ضول.
175
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
بن��اء عليه ت�صب��ح كل الفر�ضيات ال�سابقة التي قدمت لفه��م معنى ا�سم «الف�ضول»
غي��ر مقبولة .خذ مث�لا هذا الحل الغري��ب لمعنى ا�سم الحلف« :ذك��ر ابن ه�شام
الحل��ف الذي عقدته قري�ش بينها عل��ى ن�صرة كل مظلوم بمكة قال :وي�سمى حلف
الف�ض��ول ،ولم يذكر �سبب هذه الت�سمية .وذكره��ا ابن قتيبة ،فقال :كان قد �سبق
قري�شا �إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول ،فتحالف منهم ثالثة هم ومن
تبعهم� ،أحدهم الف�ضل بن ف�ضالة ،والثاني الف�ضل بن وداعة ،والثالث ف�ضيل بن
الحارث .هذا قول القتبي .وقال الزبير :الف�ضيل بن �شراعة والف�ضل بن وداعة،
والف�ضل بن ق�ضاعة .فلم��ا �أ�شبه حلف قري�ش الآخر فعل ه�ؤالء الجرهميين �سمي
حل��ف الف�ضول .والف�ض��ول جمع ف�ضل وهي �أ�سماء �أولئ��ك الذين تقدم ذكرهم.
وه��ذا الذي قال��ه ابن قتيبة ح�س��ن ولكن في الحدي��ث ما هو �أقوى من��ه و�أولى»
(ال�سهيل��ي ،الرو�ض الآنف) .وهكذا ،فقد �أ�س���س الحلف ثالثة �أ�شخا�ص ا�سم كل
واح��د منهم ف�ضل .بالتالي فالف�ضول جمع ف�ض��ل .وكما نرى فال�سهيلي ي�شك في
ه��ذا التف�سير الغريب بقوله« :ولكن ف��ي الحديث ما هو �أقوى منه و�أولى» .ومن
الوا�ض��ح �أن كل هذا اله��راء كان من اختراع لغوي ،ولي���س خبرا .ثم اخترع
الخبر من �أجل تبرير محاولة اللغوي البائ�سة.
بالطبع ،ف�إن الغالبية تعتقد �أن كلمة الف�ضول تعني الحقوق .بل �إن بع�ضها يروي
تف�سي��ر اال�سم بهذا ال�شكل على ل�سان الر�سول ذات��ه« :روى الحميدي عن �سفيان
عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني �أبي بكر قاال :قال ر�سول الله � -صلى
الل��ه علي��ه و�سلم -لقد �شهدت ف��ي دار عبد الله بن جدعان حلف��ا لو دعيت به في
الإ�س�لام لأجبت .تحالفوا �أن ترد الف�ضول عل��ى �أهلها ،و�أال يعز ظالم مظلوما.
ورواه في م�سند الحارث بن عبد الله بن �أبي �أ�سامة التميمي .فقد بين هذا الحديث
لم �سمي حلف الف�ضول» (ال�سهيلي ،الرو�ض الآنف) .وهكذا فن�ص الحديث يقول
لنا �أن الف�ضول هي الحقوق« :تحالفوا �أن ترد الف�ضول [=الحقوق] �إلى �أهلها».
�أم��ا نحن فنعتق��د �أن اال�سم من ف�ض��ل بمعنى تبق��ى« :الف�ضل والف�ضلة :البقية من
ِ
والف�ضيلة وال ُف�ضالة :ما ف�ضل من ال�ش��يء» (ل�سان العرب) .فحلف ال�ش��يء...
الف�ض��ول� ،إذن ،هو حلف «من ف�ضل»� ،أي «من تبقى» بعد خروج نوفل وعبد
176
زكريا محمد
�شم���س من المطيبي��ن� .إنه حلف المتبقين ف��ي حلف المطيبين بع��د خروج نوفل
وعب��د �شم�س .و�أغلب الظن �أن هذا اال�سم قد �أطل��ق على حلف المطيبين من قبل
خ�صومه��م في الأحالف الذين ان�ضم �إليهم عبد �شم�س ونوفل� .أما المطيبون فمن
المفتر���ض �أنهم داوموا على ت�سمي��ة حلفهم با�سمه القديم :حل��ف المطيبين .غير
�أن اال�س��م الجديد «حلف الف�ض��ول» �شاع بالتدريج ،في م��ا يبدو ،وتفوق على
ا�سمه��م القديم ،ف�أقروه في النهاية وقبلوه .وهكذا �صار للحلف ا�سمان :المطيبون
والف�ض��ول .عليه ،فالحلفان �ش��يء واحد .وبذا يكون الر�س��ول قد ح�ضر حلف
المطيبين -الف�ضول .ي�ؤيد هذا �أن بني �أمية يعترفون ،كما ر�أينا في الخبر عن عبد
المل��ك بن مروان� ،أنهم «خرجوا» من حلف الف�ضول .فكيف يمكنهم �أن يكونوا
ق��د «خرجوا» من حلف لم يدخلوه �أ�صال؟ بذا ،يكون لزاما علينا �أن نفهم كالمهم
على �أنه يعني الخروج من حلف المطيبين .وحين يقول بنو �أمية �أنهم خرجوا من
حلف الف�ضول ،فهو ي�ساوي قولهم �أنهم خرجوا من حلف المطيبين.
لك��ن م��ا �أثار اال�ضطراب عن��د الم�ؤرخين ه��و �أن الحديث النب��وي يتحدث عن
الحل��ف الذي ح�ضره كما لو �أنه حلف ت�أ�س�س في لحظتها .فكيف يكون هذا الحلف
هو ذاته حل��ف المطيبين الذي ت�أ�س�س قبل مولد الر�سول بزمن طويل؟ ويحل هذا
الأمر اقتراح �أن الأحالف كانت تجدد دوريا .وتجديدها كان يح�صل عن طريق
ا�ستع��ادة لحظة تكوينها الأولى� .أي �أنه كان يجري تمثيل هذه اللحظة من جديد.
بناء عليه ،يكون الر�سول في �شبابه قد ح�ضر الدورة الأخيرة من دورات تجديد
حلف المطيبين وا�ستعادته.
وم��ن رواية ابن حبيب يمكن فهم �أن الحلف قد عق��د دورته الأخيرة قبيل حادثة
�سرق��ة الغزال .بل لع��ل حادثة الغزال �أن تك��ون جزءا تابع��ا ال�ستعادة الحلف
الدورية.
غير �أن المحير �أن �أحدا لم يحدثنا عن �أن الر�سول �شهد حدث الغزال .والمنطقي
انه ق��د �شهدها .فهي قد توافقت مع الدورة الأخي��رة لحلف المطيبين� ،أو جاءت
بعده��ا بقليل .كما �أن كل �أبطال الحادثة عا�ص��روا الر�سول �أو عا�صروا البعثة،
�إذا ا�ستثنين��ا ال�شخ�صيات ذات الطابع الأ�سط��وري مثل «ديك ودييك» .على كل
177
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ح��ال ،فكل �ش��يء ي�شير �إلى �أن ثمة ا�ستعادة دورية للأح��داث البدئية التي ت�شكل
فيه��ا حلف المطيبين والأحالف� .أي �أنه كانت تجري عملية تمثيل طق�سي للحظة
التكوي��ن هذه .وهذا م��ا لم يدركه ال��رواة والإخباريون .لم يدرك��وا �أن حلف
المطيبي��ن يجري تمثيله وا�ستعادة لحظته التكوينية دوريا .لذا بدا لهم وك�أننا �أمام
�أحالف جديدة� ،أو �أحيانا �أم��ام منافرات �سيا�سية وع�سكرية لأحالف قديمة ،في
حين �أننا �أمام ا�ستعادات طق�سية ،ال �أكثر.
تو�صلن��ا ف��ي كتابنا ال�سابق« :ديانة مك��ة في الجاهلية :كت��اب الحم�س والطل�س
والحل��ة» �إل��ى الحلفي��ن الأ�سا�سيين ف��ي مكة قب��ل الإ�سالم :حل��ف لعقة الدم-
الأح�لاف وحلف المطيبين كانا حلفين دينيين م��ن حيث المبد�أ .الحلف الأول
كان حلف الحم�س� ،أما الحلف الثاني فكان حلف الحلة .وقد انق�سم الطل�س بين
الحلفين؛ فلحق ق�سم منهم بالحم�س والآخر بالحلة .وقد ن�ش�أ الحلفان بالفعل حول
الم�س�ألتين الدينيتين :ال�سقاية والرف��ادة .فالأ�صل �أن ال�سقاية من الماء ال�سفلي،
ماء الينابي��ع والآبار الجوفية ،من حق �إله الحم���س .فالماء ال�سفلي ما�ؤه .في
حي��ن �أن الماء العلوي ماء �إل��ه الحلة .لكن �سقاية الحجي��ج -وغير الحجيج -
في الج��ح الخريفي ال�شتوي توج��ب ا�ستخدام الحلة لهذا الم��اء .وقد �أقر للحلة
بذل��ك �شرط �أن يدفعوا ثم��ن الماء �أ�ضحية .هذه الأ�ضحي��ة هي جذر �أ�سطورة
الذبيحين �إ�سماعيل وعبد الله .ف��كل واحد منهما كان الأ�ضحية المطلوبة .لكنه
كابن رمزي للإله يجري ا�ستبداله ،بكب�ش �أروى� ،أي بغزال ،فالأروى من
الظب��اء -الماعز .وفي هذه الأ�ضحية يكون الدم لإله الحم�س .لذا كانوا «لعقة
الدم» .والدم عديل الخمر .لذا كان �صنمهم المن�صوب على ال�صفا هو «مجاوز
الري��اح» الذي يعني ا�سمه «�ساق��ي الخمر» .في حين يك��ون اللحم لإله الحلة
ل��ذا كانوا «المطعمي��ن» ،وكان �صنمهم المن�صوب عل��ى المرة ي�سمى «مطعم
الطي��ر» .و�صنم «مجاوز الريح» مرتبط بالالت� ،إل��ه الحم�س .في حين �أن
�صنم «مطعم الطير» مرتبط بمناة� ،إله الحلة.
178
زكريا محمد
وبتو�صلنا �إلى �أن الحلفين اللذين نتحدث عنهما كانا حلفين ع�سكريين ،نكون خالفنا
كل المعنيي��ن تقريبا .بالطبع هذا ال ينفي �أنه تكونت مع الزمن جوانب �سيا�سية �أو
ع�سكري��ة للحلفين .لكن �أر�ضي��ة قيامهما كانت دينية .وكان بن��و عبد مناف من
الع�شائر المكونة لحلف المطيبين .غير �أن بطنين من عبد مناف ،هما عبد �شم�س،
الذي��ن من ن�سلهم بنو �أميه ،ونوفل ،خرجا م��ن الحلف .ول�سنا نعرف بدقة متى
خرجوا من الحلف ،وال �سبب خروجهما ،وال طبيعة هذا الخروج� ،أي �إن كان
ان�شقاقا دينيا �أم �أنه كان ان�شقاقا عن الجانب ال�سيا�سي للحلف.
عل��ى كل ح��ال ،يبدو لنا �أن خ��روج عبد �شم�س ونوفل قد ح��دث قبيل حادثة
الغ��زال� .أما �سبب ان�شقاق هذي��ن البطنين فغير وا�ضح تماما .غير �أننا نعرف
�أن خالفا ما كان قد وقع بين هذين البطنين وبين بني ها�شم بن عبد مناف ،من
دون �أن نع��رف �شيئا عن الطبيع��ة الفعلية لهذا الخالف« :وكان قد وقع نزاع
بي��ن «نوفل» و«عب��د المطلب بن ها�شم» ،فعلّ��ه كان ال�سبب في عدم ان�ضمام
«نوف��ل» �إل��ى هذا الحلف [الف�ض��ول] .وقد تعاون «نوف��ل» «عبد �شم�س»،
ووجدا ف��ي ا�ستطاعتهما التعاون بينهما من غي��ر حاجة �إلى الدخول في حلف
الف�ض��ول .ولهذا لم يك��ن حلف الف�ض��ول ،في نظر ه���ؤالء ،غير حلف من
�أحالف الأ�س��ر ،ولم يكن على ر�أيهم لن�صرة ال�ضعي��ف و�إن�صاف المظلوم،
على نحو ما جاء في روايات �أهل الأخبار» (علي ،المف�صل في تاريج العرب
قبل ٍاال�سالم).
و�أغلب الظن �أن خروجهم كان ب�سبب �صراع على النفوذ والزعامة في الحلف
بينه��م وبين بني ها�شم بن عبد مناف� .إذ يب��دو �أن و�ضع بني عبد �شم�س خا�صة
كان ي��زداد قوة قبيل البعثة ،في حين �أن بني ها�ش��م لم تتطور �أحوالهم .وبناء
عل��ى ذل��ك ،يبدو �أنه لم ي��رق لعبد �شم���س ونوفل �أن يظلوا تح��ت زعامة بني
ها�ش��م ،الذين كانوا القادة الدينيي��ن لحلف المطيبين .دليل ذلك �أن عبد المطلب
كان يدع��ى «مطعم الطير» على ا�سم �صنم المطيبين الذي ن�صب على المروة.
وهو ما يدل على �أنه كان كاهن هذا ال�صنم الإله .فالكاهن ممثل الإله الب�شري،
لذا ي�أخذ ا�سمه.
179
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
ويبدو �أن عبد �شم�س لم يعودوا م�ستعدين للقبول بزعامة �سيا�سية لبني ها�شم تحت
غط��اء زعامتهم الدينية .لذلك خرج��وا من الحلف ،الذي قد �ص��ار ا�سمه حلف
الف�ضول� ،أي حلف المتبقين في المطيبين ،وقت ق�صة غزال الكعبة.
لكن ال�س�ؤال هو :هل كان ان�شقاقهم دينيا� ،أم ان�شقاقا �سيا�سيا؟ �أي هل خرجوا من
معتق��د الحلة وان�ضموا �إلى معتقد الحم�س ،و�ص��اروا جزءا �أ�صيال من حلفهم،
حل��ف لعقة الدم؟ نح��ن ال ندري .وق��د يميل المرء �إل��ى �أنهم ان�شق��وا �سيا�سيا
فق��ط� .أي �أنهم ظل��وا ي�شتركون مع بني ها�شم ومع بقي��ة الحلف في معتقداتهم
الديني��ة ،لكنه��م اقتربوا �سيا�سيا من حل��ف لعقة الدم ،بحي��ث رف�ضوا �أن تدار
�أموره��م الطق�سية من قبل بني ها�شم .لكن ال يمكن الجزم بذلك .فهناك بع�ض
الم�ؤ�شرات التي قد تخبرنا ب�أنهم ان�شقوا ان�شقاقا تاما� ،أي دينيا و�سيا�سيا .من هذه
الم�ؤ�ش��رات �صيحة �أبي �سفيان يوم �أحد« :اعل هبل» .وهبل �صنم الحم�س� .إنه
عديل الالت� ،أو ا�سم �آخر له .لكن يبدو �أن المطيبين لم يعترفوا بهذا االن�شقاق
دينيا .يدل على ذلك رف�ض �أبي طالب �أن يدخل معهم �إلى بيت مقي�س �أنا�س من
بني �أمية في ق�صة غزال الكعبة .فهم بالن�سبة لأبي طالب لي�سوا جزءا من حلف
لعق��ة الدم القديم� .أي لي�س��وا جزءا من التقليد الديني ال��ذي تقوم حادثة غزال
الكعبة بتكراره.
عل��ى كل حال ،فبخروجهم من حلف المطيبي��ن� ،أيا كانت طبيعة هذا الخروج،
و�ض��ع بنو عبد �شم�س �أنف�سهم في و�ضع الو�س��ط �سيا�سيا .فلو افتر�ضنا �أنه خروج
�سيا�س��ي فقط ،ف�إنهم يكونون �سيا�سيا مع الحم�س وحلفهم ،حلف لعقة الدم ،لكنهم
دينيا مع المطيبين .ولو افتر�ضنا �أنه خروج ديني �أي�ضا ،فهم يكونون قد ان�ضموا
�إلى لعقة الدم تماما ،لكنهم يملكون تاريخا دينيا را�سخا مع الحلة -المطيبين.
وق��د كان لو�ضعهم الجدي��د هذا ت�أثير خطير جدا على مج��رى الأحداث الالحقة
ف��ي مك��ة ،بل وعلى مج��رى التاريخ العرب��ي والإ�سالمي عموم��ا .فقد �شكلوا
كتلة �سيا�سي��ة و�سطى بين الحلفين ،كانت قادرة عل��ى اللعب بينهما ،مما جعلهم
يزي��دون من نفوذهم على ح�ساب الطرفين .بل �إن ه��ذه الكتلة �صارت ،بقيادة
�أبي �سفي��ان ،زعامة مكة �ضد الإ�سالم في وقت معرك��ة �أحد .من ناحية ثانية،
180
زكريا محمد
فخروج بني �أمية من حلف المطيبين� ،إن كانوا قد ان�شقوا عنه دينيا ،مثّل �ضربة
�شامل��ة للبنية الدينية ف��ي مكة الجاهلية .فهو قد زلزل ر�س��وخ هذا التقليد ،الذي
كان ي�ص��ور كتقليد ال بداية له في الزمن .وه��ذا يعني �أن التغيرات والتحوالت
واالن�شقاق��ات الدينية �صارت ممكنة ،ولم تعد �أمرا غريبا .بالتالي ،يمكن القول
�أن ح��دث ان�شقاقهم مهد لظهور الإ�س�لام .فالتغيرات والخ�ضات تجلب وراءها
تغيرات وخ�ضات متالحقة.
وال بد �أن بني عبد �شم�س قد ر�أوا في الإ�سالم وفي بعثة الر�سول محاولة من بني
ها�شم بن عبد مناف ال�ستعادة دورهم المت�ضع�ضع .لذا وقفوا ب�شدة �ضد الإ�سالم.
وال ب��د �أنه��م ف�سروا تعاط��ف بني ها�شم ،و�أج��زاء كبيرة من حل��ف المطيبين -
الف�ضول مع الر�سول دليال على �صحة تقديرهم.
لكن الأمور تغي��رت حين �شعروا ،قبيل فتح مكة� ،أن الأمور ت�سير نحو انت�صار
الم�سلمين .فق��د عمدوا �إلى اال�ستفادة من روابطهم الدينية القديمة مع بني ها�شم،
م��ن �أجل عقد �صفقة دينية � -سيا�سية متكاملة .وق��د كانوا بالفعل في موقع يمكنهم
من نقل ال�سالح من كتف �إلى كتف ،وعقد هذه ال�صفقة مع الم�سلمين� ،أي مع بني
ها�ش��م في عرفه��م هم .فهم يملكون جذرا دينيا قديما مع بن��ي ها�شم ،كما �أنهم لم
يكونوا مكبلين بقيود الأيديولوجي��ا مثل قيادة قبائل طائفة الحم�س .لقد ر�أوا عالم
مك��ة القديم ،الديني وغير الديني ،ينهار .وكان لهم من المرونة ب�سبب تنقالتهم
بي��ن الحلفين ،ما يجعلهم قادرين على اال�ستدارة من جديد .لقد اعتادوا االن�شقاق
وتغيير المواقف من قبل ،فعمدوا �إلى عقد �صفقتهم مع الم�سلمين.
ونحن نعتقد �أن فتح مكة ال�سهل جدا حدث نتيجة هذه ال�صفقة .لم تتم ال�صفقة وقت
الفت��ح� ،أي وق��ت �أن قال الر�سول« :م��ن دخل دار �أبي �سفي��ان فهو �آمن» ،بل
حدثت قبل ذلك في يثرب .وقد كان هذا القول نتيجة تلك ال�صفقة .وكانت مكة قد
�شكت وقتها في �أن �أبا �سفيان قد عقد ال�صفقة مع النبي فعال .فقد خرج الأخير �إلى
المدينة بعد �أن و�صلت��ه �أخبار ا�ستعداد الم�سلمين للهجوم على مكة .وهناك ق�ضى
فترة ال ب�أ�س بها ،ثم عاد ،فاتهمته قري�ش ب�سبب طول �إقامته ،وب�سبب ما جاء به،
ب�أنه �صب�أ� ،أي �أ�سلم:
181
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
«ث��م ركب [�أبو �سفيان] بعيره ،فانطلق حتى قدم على قري�ش ،وقد طالت غيبته،
واتهمته قري�ش �أنه� صب�أ واتبع محمدا �سرا وكتم �إ�سالمه .وقالت له زوجته� :أن كنت
م��ع طول الإقامة جئتهم بنجح ف�أنت الرج��ل .فلما �أخبرها� ...ضربت برجلها في
�صدره ،وقالت :قبحت من ر�سول قوم ،فما جئت بخير .فلما �أ�صبح� أبو� سفيان حلق
ر�أ�سه عند �إ�ساف ونائلة ،وذبح عندهما البدن ،وم�سح ر�ؤو�سهما بالدم ،ليدفع عنه
التهمة .فلما ر�أته قري�ش قالوا :ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد او عهد؟ قال:
ال والل��ه لقد �أبى عل��ي ،وقد تتبعت �أ�صحابه فما ر�أيت قوم��ا لملك �أطوع منهم له.
وف��ي رواية قال :جئت محم��دا فكلمته ،فوالله ما رد علي �شيئ��ا .ثم جئت �إلى ابن
�أب��ي قحافة ،فلم �أجد فيه خيرا .ثم جئت عمر ب��ن الخطاب ،فوجدته �أدنى العدو،
وف��ي رواية �أعدى العدو .ثم جئت عليا فوجدته �ألين القوم ،وقد �أ�شار على ب�شيء
�صنعت��ه ،فوالله ال �أدري �أيغنى عني �شيئا �أم ال .قالوا وبم �أمرك؟ قال� :أمرني �أن
�أجي��ر بين النا�س .قال ل��ي لم تلتم�س جوار النا�س على محم��د وال تجير �أنت عليه
و�أن��ت �سيد قري�ش و�أكبرها و�أحقها �أن ال يخفر ج��واره ،ففعلت .قالوا :فهل �أجاز
ذلك محمد .قال ال و�إنما قال� :أنت تقول ذلك يا �أبا حنظلة؟ ووالله لم يزدني .قالوا:
ر�ضيت بغير ر�ضا ،وجئت بما ال يغني عنا وال عنك �شيئا ،ولعمر الله ما جوارك
بجائز وان �إخفارك� ،أي �إزالة خفارتك ،عليهم لهين .والله �أراد الرجل ،يعنون
عليا كرم الله وجهه� ،أن يلعب بك» (الحلبي ،ال�سيرة الحلبية).
بالطب��ع ،من ال�صعب �أن تكون الأمور قد حدثت على هذا النحو تماما .لكن نواة
الأح��داث قد تكون �صحيحة :زيارة �أبو �سفيان �إل��ى المدينة ،مفاو�ضاته الع�سيرة
م��ع الر�سول ،مبا�شرة �أو غير مبا�شرة ،طول م��دة �إقامته في المدينة ،و�شكوك
قري�ش �أو بع�ضها حول ذلك ،االتهامات ب�أنه قد عقد اتفاقا �سريا مع الر�سول ,كل
هذا قد يكون �صحيحا فعال .بل قد يكون هو الذي جعل �سقوط مكة بالطريقة التي
�سقط��ت فيها ،ممكنا .عليه ،يمكن االفترا���ض �أن �صفقة ما قد عقدت ،ثم �أكملت
عند فتح مكة.
وقد �أثبتت تطورات الأحداث التالية �أن �أبا �سفيان ،الذي عقد ال�صفقة ،كان �سيا�سيا
م��ن طراز رفيع جدا .فلم تم�ض �سنوات قليلة عل��ى هذه ال�صفقة حتى كانت لبني
182
زكريا محمد
�أمية ال�سيادة الكاملة عل��ى مكة والجزيرة العربية ،وعلى الإمبراطورية العربية
الكبرى التي انبثقت عن الإ�سالم.
وباخت�ص��ار �شديد ،يمكن القول �أن �أ�س�س �سيادة بن��ي �أمية و�ضعت قبيل الإ�سالم
بقلي��ل� .أي في اللحظة التي انف�صلوا فيها عن حلفائه��م في حلف المطيبين .نعم،
ف��ي هذه اللحظ��ة بالذات ،كان��وا قد و�ضع��وا �أ�سا�س �سيطرتهم ،الت��ي تبدت في
الإمبراطورية الأموية.
183
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
الم�صادر:
-ابن قتيبة ،عبد الله بن م�سلم الدينوري ،المي�سر والقداح ،المطبعة ال�سلفية ،القاهرة1342 ،هـ
184
زكريا محمد
-الحميري ،ن�شوان ،خال�صة ال�سير الجامعة لعجائب �أخبار الملوك التبابعةwww.alwaraq.net ،
-الزبي��دي ،مرت�ضى ،ن�شوة االرتياح في بيان حقيق��ة المي�سر والقداح :في :طرف عربية،
جمع ال�شيخ عمر ال�سويدي ،ليدن 1303 ،هـ
185
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
كتاب َ
-الزجاج��ي ،مجال���س العلماء :مجل�س محمد بن زي��اد الأعرابي مع �أحمد ب��ن حاتم� ،سل�سلة
التراث العربي ،عن وزرة الإعالم -الكويت ،عام 1984
� -سال��م ،محمد الح��اج ،المي�سر الجاهلي� :أبعاده ودوره في ممانع��ة ظهور الدولة ،الأوان:
،www.alawan.orgالأحد � 15آذار 2009
-فهد ،توفيق ،الكهانة العربية قبل الإ�سالم ،ترجمة :ح�سن عودة ورندة بعث ،دار قدم�س،
دم�شق2007 ،
186
زكريا محمد
-القر�آن الكريم
-محم��د ،زكريا ،ديانة مك��ة في الجاهلية :ديانة مك��ة في الجاهلية؛ كت��اب الحم�س والطل�س
والحلة ،دار الأهلي ،عمان -الأردن2012 ،
-هارون ،عبد ال�سالم محمد ،المي�سر والأزالم؛ درا�سة اجتماعية �أدبية ودعوة على �إ�صالح
اجتماع��ي ،ملت��زم الطبع والن�ش��ر :دار الفك��ر العربي ،القاه��رة ،مطبعة لجن��ة الت�أليف
والترجمة والن�شر1953 ،
187
الم ْي ِ�سر وال ِقداح
َ كتاب
188