You are on page 1of 188

‫ديانة مكة في الجاهلية‬

‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬


‫كتاب َ‬

‫زكريا محمد‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫ديانة مكة في الجاهلية‪ /‬كتاب َ‬
‫زكريا محمد‬

‫ميثولوجيا‬

‫الت�صميم والإخراج‪ :‬رفيق �شقير‬

‫لوحة الغالف‪ :‬زكريا محمد‬

‫حقوق الطبع محفوظة ©‬

‫ال ي�س��مح ب�إعادة �إ�ص��دار هذه المادة �أو �أي جزء منها ب�أي �ش��كل من الأ�شكال �أال ب�إذن‬
‫خطي م�سبق من النا�شر‬
‫�إهداء‬

‫هذا الكتاب لذكرى العالم الكبير‪ :‬الأ�صمعي‪� ،‬صاحب كتاب «المي�سر‬


‫والقداح»‪ ،‬ولذكرى العالم الكبير‪ :‬ابن قتيبة‪� ،‬صاحب كتاب «المي�سر‬
‫والق��داح» �أي�ضا‪ .‬وق��د �أردت �أن �أقول لهما فيه‪ :‬م��ا �شغلكما ما زال‬
‫ي�شغلنا‪ ،‬حتى و�إن م�ضى على كتابيكما �أكثر من �ألف عام‪ .‬كما �أن هذا‬
‫الكتاب يحمل طم��وح كتابيكما‪ :‬فك لغز لعبة لمي�س��ر‪ .‬غير �أنه يو�سع‬
‫م��ن طموحه ح ّد �أن ي�أمل في �إماط��ة الغطاء عن جذر المي�سر‪ ،‬العن‬
‫طريق��ة لعبه فقط؛ �أي �أن يك�شف عن المعنى الأعمق له‪ ،‬ال �أن يكتفي‬
‫بك�شف جانبه الفني فقط‪.‬‬

‫ومع��ذرة على �أنن��ي �أخذت عن��وان كتابيكما‪ .‬فق��د كان ق�صدي �أنني‬
‫تلميذكما‪ ،‬و�أنني �أخبط بقدمي في الطريق الذي خبطت فيه �أقدامكما‪.‬‬
‫المحتويات‬

‫تمهيد ‪9.............................................‬‬
‫بين المي�سر والأزالم ‪19..............................‬‬
‫بين المي�سر والأزالم ‪21..................................‬‬
‫الفرق بين قداح المي�سر و�أزالم اال�ستق�سام‪22.....................‬‬
‫ف�صل ‪� 1‬شخ�صيات لعبة المي�سر‪27........................‬‬
‫البرِ م ‪27............................................‬‬ ‫َ‬
‫الجزار‪28...........................................‬‬
‫الم ْج َمد ‪28...........................................‬‬ ‫ُ‬
‫الرقيب‪30...........................................‬‬
‫الح ْر�ضة ‪32..........................................‬‬ ‫ُ‬
‫اليد اليمنى �أم الي�سرى؟‪32.................................‬‬
‫وظيفة المجول ‪34......................................‬‬
‫لم ي�أكل لحما بثمن قط‪36..................................‬‬
‫يت�أله �أم نبالة؟ ‪38.......................................‬‬
‫ف�صل ‪ 2‬قداح المي�سر ‪43..............................‬‬
‫القداح ‪44...........................................‬‬
‫الأغفال بين الربح والخ�سارة ‪48.............................‬‬
‫بين الأ�صمعي و�أبي عبيدة ‪50...............................‬‬
‫محاولة اليعقوبي لحل لغز المي�سر ‪54..........................‬‬
‫محاولة ابن قتيبة الدينوري ‪56..............................‬‬
‫ف�صل ‪ 3‬القدح المردود ‪59.............................‬‬
‫القدح الم�ستعار‪61......................................‬‬
‫الثامن والعا�شر‪62......................................‬‬
‫�أي�سار لقمان الثمانية ‪62...................................‬‬
‫العا�شر �أي�ضا‪64........................................‬‬
‫حن قدح لي�س منها‪65....................................‬‬
‫�صريع القداح‪66.......................................‬‬
‫مثنى الأيادي ‪69.......................................‬‬
‫قدح الخيبة ‪72........................................‬‬
‫قدح الفوزة المنيح‪72....................................‬‬
‫خروج المنيح ‪74......................................‬‬
‫الرقيب وال�ضريب‪76....................................‬‬
‫الوغد‪78............................................‬‬
‫نماذج عملية لكيفية لعب المي�سر‪79............................‬‬
‫ف�صل ‪ 4‬وقت لعبة المي�سر ‪83...........................‬‬
‫ُج ّماع الثريا‪87........................................‬‬
‫�سهم الله �أم نجم الله؟ ‪88..................................‬‬
‫فغور النجم ‪90........................................‬‬
‫�أفغر النجم‪91.........................................‬‬
‫الثريا وحفر الآبار‪93....................................‬‬
‫بين الفداء والدية ‪95.....................................‬‬
‫بئر �سبع وبئر زمزم ‪97..................................‬‬
‫الربابة من جديد ‪98.....................................‬‬
‫الرقم ‪ 7‬ونجم الثريا ‪100..................................‬‬
‫كواكب يو�سف الأحد ع�شر ‪101.............................‬‬
‫�صورتان للبقرات ال�سبع الم�صريات مع الإله الثور ‪105..............‬‬
‫ف�صل ‪� 5‬أ�سطورة غزال الكعبة ‪107.......................‬‬
‫حلف المطيبين ‪111.....................................‬‬
‫بيت الأزالم ‪112......................................‬‬
‫غزال المطيبين‪114.....................................‬‬
‫الذبيح وتمثال الذهب ‪115.................................‬‬
‫دراما دينية ‪117.......................................‬‬
‫�أبو لهب ‪119.........................................‬‬
‫�أبو لهب وكب�ش المحرقة‪123...............................‬‬
‫التقليد اليوناني ‪125.....................................‬‬
‫ديك ودييك ‪129.......................................‬‬
‫�أ�سماء وعثمة ‪130......................................‬‬
‫لم حرم الإ�سالم المي�سر؟ ‪133..............................‬‬
‫ف�صل ‪ :6‬لقمان بن عاد و�أ�سطورته ‪139....................‬‬
‫لقمان بن عاد ولقمان الحكيم ‪140............................‬‬
‫رمح �أبي �سعد ‪141.....................................‬‬
‫لقمان ومو�سى ‪143.....................................‬‬
‫ف�صل ‪ :7‬لقمان بين الغنم والإبل ‪147......................‬‬
‫ابنا تقن‪148..........................................‬‬
‫لقمان ولقيم والوالئم ‪152.................................‬‬
‫لقيم الأ�ضحية ‪153......................................‬‬
‫لبد‪154.............................................‬‬
‫و�ص ْحر ‪156..................................‬‬
‫ق�صة لقمان ُ‬
‫ف�صل ‪ :8‬لقمان‪� ،‬إبراهيم‪ ،‬عبد المطلب ‪159..................‬‬
‫هبل والأزالم ‪163.....................................‬‬
‫خال�صة عامة ‪166......................................‬‬
‫ملحق‪ /‬حلف الف�ضول‪173.............................‬‬
‫تداعيات خروج بني عبد �شم�س من المطيبين ‪178..................‬‬
‫الم�صادر‪184........................................ :‬‬
8
‫ديانة مكة في الجاهلية‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫تمهيد‬

‫المي�سر �أ�شهر لعبة قمار جاهلية‪ .‬وقد حظرها الإ�سالم بعد انت�صاره‪�« :‬إنما الخمر‬
‫والمي�س��ر والأن�ص��اب والأزالم رج�س من عمل ال�شيط��ان فاجتنبوه» (المائدة‬
‫‪ .)90‬ث��م �إنه لم يم�ض قرن عل��ى الحظر حتى ن�سيت اللعب��ة تماما‪ ،‬وتحولت‬
‫كيفي��ة ممار�ستها �إلى لغز‪ .‬وق��د �أقر �أنا�س من القرن الثان��ي الهجري‪ ،‬ال �شك‬
‫ف��ي علمهم‪ ،‬ب�أنه ال �شيء لديهم م�ؤكدا عن ه��ذه اللعبة‪ .‬ينقل ابن �سالم [‪-150‬‬
‫‪ 224‬ه��ـ] عن �أبي عبيده‪ ،‬معمر بن المثنى [‪ 210 - 114‬هـ] قوله‪« :‬وقد �س�ألت‬
‫عن��ه [المي�سر] الأعراب‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال علم لنا بهذا‪ ،‬لأن��ه �شيء قد قطعه الإ�سالم‬
‫من��ذ جاء‪ ،‬فل�سنا ندري كي��ف كانوا يي�سرون» (ابن �س�لام‪ ،‬غريب الحديث)‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فمنذ القرن الثاني الهجري‪ ،‬على الأقل‪ ،‬لم يعد �أحد يدري بيقين كيف‬
‫كان �أه��ل الجاهلية يلعبون المي�سر‪ .‬وظل الحال كذل��ك في ما بعد‪ ،‬كما يخبرنا‬
‫برهان الدين البقاعي [‪885-809‬هـ]‪« :‬لم يكن �أحد من �أهل اللغة على ثبت في‬
‫كيفية ذلك» (البقاعي‪ ،‬نظم ال��درر)‪ .‬ثم و�صلنا �إلى الع�صور الحديثة من دون‬
‫�أن يع��رف �أحد كيف كان �أهل الجاهلية يي�سرون �أي�ضا‪� .‬أي من دون �أن يتمكن‬
‫�أحد من حل لغز هذه اللعبة‪.‬‬

‫وق��د جرت محاوالت متتابعة على مدى التاريخ العربي لفك هذا اللغز‪ .‬وكان‬
‫�أول م��ن قدم محاولة وافية للت�صدي للغ��ز المي�سر هو الأ�صمعي ال�شهير [‪121‬‬
‫‪ 216 -‬ه��ـ]‪ .‬فق��د �ألف كتابا با�س��م «المي�سر والقداح»‪ .‬لكن ه��ذا الكتاب ُفقد‪،‬‬
‫ولم ي�صلنا للأ�سف‪ .‬غي��ر �أننا عرفنا بفكرته الرئي�سية من خالل الجدل �ضدها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وا�ستن��ادا �إلى هذه الفكرة‪ ،‬يمكن لنا �أن نحك��م‪ ،‬بقدر من الثقة‪ ،‬ب�أن الأ�صمعي‬
‫كان هو الوحيد الذي عرف حقا كيف كان المي�سر يلعب‪� ،‬أو �أنه‪ ،‬على الأقل‪،‬‬
‫الوحي��د الذي امتلك فر�ضية ت�صل��ح �أ�سا�سا لبيان كيف كان يلعب‪ .‬ول�سنا ندري‬
‫كيف تو�صل �إلى هذه الفك��رة‪ .‬لكن يبدو �أن تفكيره المجرد في اللعبة هو الذي‬
‫قاده �إليها‪.‬‬

‫غير �أن فر�ضية الأ�صمع��ي رف�ضت ب�شدة‪ ،‬للأ�سف‪ ،‬ل�صالح فر�ضية معاك�سة‪.‬‬
‫تن�سب الفر�ضية المعاك�سة‪ ،‬في �أحيان كثيرة‪ ،‬لمعا�صره �أبي عبيدة‪ .‬لكن هناك‬
‫من ينفي ن�سبتها �إلى �أبي عبيدة وين�سبها لأبي عمرو ال�شيباني‪« :‬فقال �أبو عمرو‪:‬‬
‫على ع�شرة �أجزاء‪ ،‬وقال الأ�صمعي‪ :‬على ثمانية وع�شرين جزءا‪ ،‬ولم يعرف‬
‫�أب��و عبيدة لها ع��ددا» (ابن �سالم‪ ،‬غريب الحدي��ث)‪ .‬وكما نرى‪ ،‬فابن �سالم‬
‫ي��رى �أن �أبا عبيدة لم يكن ل��ه ر�أي في مو�ضوع عدد �أجزاء لحم الجزور التي‬
‫تج��ري عليها المقام��رة‪ .‬وقد كان عدد هذه الأجزاء ف��ي مركز ال�صراع بين‬
‫النظريتي��ن المتنافرتين‪ .‬مع ذلك �سنفتر�ض �أن النظري��ة المعاك�سة هي نظرية‬
‫�أبي عبيدة‪.‬‬

‫ومن��ذ �أن رف�ضت فر�ضية الأ�صمعي‪ ،‬و�سادت فر�ضية �أبي عبيدة‪ ،‬فقد انغلق �أمر‬
‫المي�سر و�أبهم تماما‪ ،‬و�صار لغزا �أف�شل كل محاوالت الت�صدي له‪� .‬أي �أن رف�ض‬
‫مقترح الأ�صمعي ل�صالح مقترح �أب��ي عبيدة كان الرقية التي حمت لغز المي�سر‪،‬‬
‫ومنعته من االنك�شاف‪.‬‬

‫عقب الأ�صمعي و�صلتنا‪ ،‬بعد ما يقرب من قرن‪ ،‬محاولتان متقاربتان في الزمن‪:‬‬


‫محاولة اليعقوبي‪ ،‬ومحاولة ابن قتيب��ة الدينوري‪� .‬أما اليعقوبي [توفي ‪ 284‬هـ]‬
‫فقد كتب ف�صال في تاريخه ال�شهير يقع في حدود ثالث �أو �أربع �صفحات مهمة جدا‬
‫من حيث معلوماتها‪� ،‬أكد فيه �أنه ف�سر لنا �أمر المي�سر‪ .‬فقد �أنهى ف�صله بقوله واثقا‪:‬‬
‫«فهذا تف�سير المي�سر»‪ .‬غير �أننا نعتقد تف�سيره لم يكن �إال وهما‪ ،‬لم يزد فيه عن �أن‬
‫كرر الفر�ض ال�سائ��د الخاطئ‪ ،‬فر�ض �أبي عبيدة‪ .‬و�سوف نعر�ض لمحاولته في‬
‫ثنايا الكتاب‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أم��ا اب��ن قتيب��ة [‪ 276 - 213‬هـ] فقد �أل��ف كتابا بعن��وان م�شابه تمام��ا‪( :‬المي�سر‬
‫والق��داح)‪ ،‬ح��اول فيه �أن ي�سيطر على اللغز و�أن يفك��ه‪ .‬وقد و�صلنا كتابه كامال‬
‫لح�س��ن الحظ‪ .‬وفي مقدمته يخبرنا اب��ن قتيبة �أن من طلب منه ت�أليف الكتاب فعل‬
‫ذلك لأن �أحدا لم يحل له لغز المي�سر‪:‬‬

‫كتبت ُتعلمني �أن تعلّق قلبك بالمي�سر وكيفيته‪ ،‬والقداح وحظوظها‪،‬‬‫«�أما بعد‪ ،‬ف�إنك َ‬
‫واليا�سرين و�أحوالهم‪ ،‬ومعرفة ما في المي�سر من النفع الذي ذكره القر�آن‪ ،‬و�أنك‬
‫لم تج��د فيه لأحد من علماء اللغة مقاال كافيا‪ ،‬وال ق��ر�أت فيه لمتقدم خبرا �شافيا‪.‬‬
‫وي�سهله عليك‪ ،‬حتى ك�أنك للأمر‬
‫ّ‬ ‫وت�س�أل �أن �أكتب �إلي��ك بذلك كتابا يو�ضحه لك‪،‬‬
‫حا�ض��ر‪ ،‬وبالقداح يا�س��ر» (ابن قتيبة‪ ،‬المي�سر والق��داح‪1342 ،‬هـ‪� ،‬ص ‪.)30‬‬
‫وهكذا فمن طلب من ابن قتيبة ت�أليف الكتاب فقد طلبه لأنه لم يجد لأحد من علماء‬
‫اللغة في المي�سر «مقاال كافيا»‪ ،‬وال قر�أ فيه لمتقدم «خبرا �شافيا»‪.‬‬

‫�أما ابن قتيبة ذاته فيح ّدث الطالب‪ ،‬ويحدثنا‪ ،‬عن �صعوبة المهمة‪:‬‬

‫ّفت رحمك الله �شططا‪ ،‬وحاولت ع�سي��را‪ ،‬لأن المي�سر �أمر من �أمور‬ ‫«وق��د ُكل َ‬
‫الجاهلي��ة قطعه الله بالإ�سالم‪ ،‬فلم يبق عند الأعراب منه �إال ال َّنبذ الي�سير‪ ،‬وعند‬
‫علمائن��ا �إال م��ا �أدى �إليه ال�شع��ر القديم‪ ،‬من غير �أن يجدوا في��ه �أخبارا ت�ؤثر �أو‬
‫رواي��ات تحف��ظ‪ .‬وال�شع��ر ي�ضيق ب��الأوزان والقواف��ي عما يت�سع ل��ه الكالم‬
‫المنثور‪ .‬على �أني لم �أجد في �أ�شعارهم �شيئا في جاللته عندهم وعظيم نفعه‪...‬‬
‫�إنم��ا يعر�ض في �شعر المكثرين من ذكره البيت��ان والثالثة‪ ،‬و�أكثرهم ي�ضرب‬
‫عن��ه �صفحا‪ ...‬ولم �أجد فيهم �أحدا �ألهج بذكر القداح من ابن مقبل ثم الطرماح‬
‫بع��ده‪ .‬ول��و جمعت م��ا في �شع��ر �أحدهما من ذكره ل��م نجده بع�شر م��ا فيه من‬
‫و�ص��ف حمار �أو بعير‪ .‬ولم��ا ر�أيت �شغفك بهذا الفن �أحبب��ت �إ�سعافك بما �أمكن‬
‫من��ه وتعذر علي منقول العلماء فيه ما تعذر علي��ك‪ ،‬ولم �أجد ال�سبب [الطريق]‬
‫�إل��ى ما التم�سته �إال جمع الأبيات في المي�س��ر وتدبرها‪ ،‬واال�ستدالل على كيفيته‬
‫باعتباره��ا‪ .‬ففعل��ت ذلك‪ ،‬و�أودع��ت كتابي هذا منه م��ا �أدى �إليه النظر‪ ،‬ودل‬
‫علي��ه اال�ستخراج‪ .‬و�أ�س�أل الله �إر�شادنا و�إياك» (اب��ن قتيبة‪ ،‬المي�سر والقداح‪،‬‬
‫‪1342‬هـ‪� ،‬ص ‪.)31-30‬‬

‫‪11‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وفي هذا الن�ص ي�ؤكد لنا ابن قتيبة جملة حقائق عن المي�سر‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أن المي�س��ر «�أمر من �أمور الجاهلية قطعه الله بالإ�سالم» و�أنه لم «يبق عند‬
‫الأعراب منه �إال ال َّنبذ الي�سير»‪ .‬وهو ما يعني �أن النا�س فقدوه وفقدوا معناه‪.‬‬

‫ثانيا‪� :‬أن علماء اللغة �أي�ضا ال يملكون عن المي�سر �شيئا كثيرا‪ ،‬فهم لم يجدوا‪ « :‬فيه‬
‫�أخبارا ت�ؤثر �أو روايات تحفظ»‪ .‬وكل ما لديهم هو‪( :‬ما �أدى �إليه ال�شعر القديم)‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬فما نعرفه عن المي�سر ي�أتينا من ال�شعر �أ�سا�سا‪ .‬كما �أن ال�سبيل �إلى حل لغزه‬
‫وتدبرها‪ ،‬واال�ستدالل‬
‫ل��ن يت�أتى �إال عبر «جم��ع الأبيات [ال�شعرية] في المي�س��ر ّ‬
‫على كيفيته باعتبارها»‪.‬‬

‫ثالث��ا‪ :‬لكن ما لدينا عن المي�سر في ال�شعر �إنم��ا مجرد جمل ق�صيرة‪ .‬فال�شعر ي�شير‬
‫وال يق��ول‪ ،‬يخت�صر وال يطيل‪� ،‬أو �أن��ه «ي�ضيق بالأوزان والقوافي عما يت�سع له‬
‫ال��كالم المنثور»‪ ،‬ح�سب تعبير اب��ن قتيبة‪ .‬ن�ضيف �إلى ذلك �أن جلّ ما و�صلنا في‬
‫ال�شعر عن المي�سر �إنما هو �أبيات غم�ضت ب�شدة لبعد الزمن‪ .‬ثم زاد من غمو�ضها‬
‫الت�صحيف الذي حل بها في �أحيان كثيرة‪.‬‬

‫وعب��ر تف�سير ه��ذه الأبيات الملغزة‪ ،‬ح��اول ابن قتيبة الدين��وري �أن يجد طريقا‬
‫لحل مع�ضالت المي�سر وغوام�ضه‪ :‬كيفية اللعب‪ ،‬كيف يخ�سر الخا�سر‪ ،‬من الذي‬
‫يدفع ثمة الجزور‪ ،‬عدد الح�ص�ص‪ ،‬عدد القداح عموما‪ ،‬وعدد القداح الأغفال‪،‬‬
‫ودوها في اللعب‪� ..‬إلخ‪ .‬لكنه‪ ،‬رغ��م جهده الكبير‪ ،‬ف�شل‪ ،‬مثله مثل اليعقوبي‪،‬‬
‫في حل لغز المي�سر في اعتقادنا‪ .‬و�سوف نعر�ض لمحاولته الحقا �أي�ضا‪.‬‬

‫ثم تتابع��ت محاوالت التعر�ض للمي�سر في الع�ص��ور المت�أخرة‪ ،‬لكنها لم تخرج‬


‫ع��ن الأ�س�س التي �أر�سيت‪ .‬فلم يعد �أحد بق��ادر على �أن يغامر باقتراح فر�ضيات‬
‫مختلفة عن الفر�ضيات ال�سائدة‪ .‬فلم يتجر�أ �أحد على اختراق جدار العداء لفر�ضية‬
‫الأ�صمع��ي ومحاولة اال�ستناد �إليها‪ .‬الكل تابع فر�ضي��ة �أبي عبيدة التي ا�ستمرت‬
‫م��ع اليعقوبي وابن قتيبة‪ .‬وقد اقت�صر الجهد المبذول على تن�سيق المادة المبعثرة‬
‫حول المي�س��ر‪� ،‬أو محاوالت حل م�سائل جزئية عبر ا�ستغ��راق المواد ال�شعرية‬
‫والبح��ث عن المهمل الذي لم ينتبه له �أحد منه��ا‪ ،‬وتقديم تف�سيرات لها‪ .‬فقد قدم‬

‫‪12‬‬
‫زكريا محمد‬

‫لنا البقاع��ي مثال‪ ،‬قدم لنا في كتابه‪( :‬نظم الدرر ف��ي تنا�سب الآيات وال�سور)‪،‬‬
‫ف�ص�لا طيبا جدا عن المي�سر‪� ،‬أتى في �سياق تف�سيره للآيات القر�آنية عن المي�سر‪.‬‬
‫وف��ي ه��ذا الف�صل جمع لن��ا �أ�شتات المو�ض��وع باخت�صار مفيد‪ ،‬وف��ي لغة �سهلة‬
‫ولطيف��ة‪ .‬وق��د �ألمح لنا ف��ي هذا الف�صل �أنه ل��م يكلف نف�سه �أ�ص�لا مهمة حل لغز‬
‫المي�س��ر‪( :‬وبيان المراد م��ن المي�سر عزيز الوجود مجتمع��ا‪ ،‬وقد ا�ستق�صيت ما‬
‫ق��درت عليه منه �إتمام ًا للفائ��دة» (البقاعي‪ ،‬نظم ال��درر)‪ .‬بالتالي‪ ،‬فهو لم يزد‬
‫عن �أن عر�ض االختالفات ح��ول المو�ضوع‪ ،‬من دون التجر�ؤ على المغامرة‬
‫بتقدي��م ر�أي مختلف ف��ي الق�ضايا الأ�سا�سية‪ .‬لكنه للحق �أب��دى قدرا ما من التفهم‬
‫لفكرة الأ�صمعي‪.‬‬

‫ثم �ألف الزبيدي [‪ 1790 - 1732‬م] وعلى �أبواب ع�صر النه�ضة‪ ،‬ر�سالة �سماها‪:‬‬
‫«ن�شوة االرتياح في بيان حقيقة المي�سر والقداح»‪ .‬وقد طبعت هذه الر�سالة �ضمن‬
‫كتاب بعنوان‪« :‬ط��رف عربية»‪ ،‬جمعه عمر ال�سويدي‪ -‬وه��و ا�سم الم�ست�شرق‬
‫ال�سويدي كارلو الندبرغ‪ -‬وطبع في ليدن عام ‪ 1889‬م‪ .‬وعنوان الر�سالة يحمل‬
‫اله��م القديم ذاته‪ :‬هم فك لغز المي�سر‪ .‬وقد كتبها الزبيدي تعليقا على مادة البقاعي‬
‫كم��ا جاء في مقدمة الر�سالة‪ .‬وقد حدثنا هو الآخر في مقدمته عن �صعوبة المي�سر‬
‫وغمو�ض �أمره‪« :‬لم �أر �أحدا من الأئمة ب�سط فيه من الكالم‪ ،‬وال ك�شف عن وجه‬
‫مر‪،‬‬
‫ُمخدراته اللثام‪ ،‬بل بيان المراد منه عزيز الوجود‪ .‬وا�ستق�صاء حقيقته‪ ،‬كما ّ‬
‫مفق��ود‪ .‬و�إنما نتف عبارات �سيق��ت في كتب اللغة والتف�سي��ر‪ .‬و�شطف �إ�شارات‬
‫م�ص��ادم بع�ضها مع بع�ض في التعبير» (الزبي��دي‪ ،‬ن�شوة االرتياح‪ :‬في‪ :‬طرف‬
‫عربي��ة‪ ،‬ليدن‪ 1303 ،‬ه��ـ‪� ،‬ص ‪ .)40‬وهكذا‪ ،‬فبيان الم��راد من المي�سر عزيز‬
‫الوجود‪ .‬كما �أن ا�ستق�صاء حقيقته غير ممكن لأنها فقدت‪.‬‬

‫وقد �أملى الزبيدي ر�سالته في نهار واحد كما قال في نهايتها‪« :‬هذا ما تي�سر �إمال�ؤه‬
‫على االرتجال واال�ستعجال ف��ي مجل�س واحد» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪ .)55‬وهو‬
‫م��ا يعني �أنه لم يبذل جه��دا حقيقيا لحل �أمر المي�سر على عك���س ما يوحي عنوان‬
‫ر�سالته‪ .‬والحق �أنه يقر في المقدمة �أنه لم يكن م�ؤهال لهذه المهمة‪« :‬و�أنا عارف‬
‫من نف�سي �أنني في الفن قلي��ل الب�ضاعة» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪ .)40‬ف�إذن‪ ،‬يمكن‬

‫‪13‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الق��ول �أن م�ساهمت��ه اقت�صرت على تق�صي ما �أمكنه من م��ادة مهملة عن المي�سر‪:‬‬
‫«وق��د جمعتها بمراجع��ة �أ�صول اللغة القديمة‪ .‬متبعا لمظانه��ا في المواد التي هي‬
‫عن��د غي��ري عديمة» (الم�ص��در ذاته‪��� ،‬ص ‪ .)41‬وهو �أمر ي�شكر ل��ه‪� .‬أما غير‬
‫ذلك‪ ،‬فقد �سار على الطريق القديم ذاته‪ ،‬غير مقدم لمن يقلقه �أمر المي�سر «ن�شوة‬
‫االرتياح»‪� .‬أي �أن لغز المي�سر ظل على ما هو عليه‪.‬‬

‫ثم ق��دم لنا عبد ال�سالم هارون في خم�سينيات القرن الما�ضي كتابا بعنوان (المي�سر‬
‫أيت‪ -‬حفظك‬ ‫والأزالم)‪ ،‬يق��ول لنا في مقدمته على طريقة الكتاب القدماء‪« :‬فقد ر� ُ‬
‫الله‪ -‬ح��ول هذا المي�سر وتل��ك الأزالم ظالما متراكب��ا �أردت تبديده» (هارون‪،‬‬
‫المي�سر والأزالم‪� ،1953 ،‬ص ‪ .)5‬غير �أن الكتاب لم يبدد قطع الظالم المتراكب‬
‫ح��ول المي�سر‪ ،‬واكتفى بتقليد من �سبقه ووافقه‪ .‬وهو يق��ر بهذا ب�شكل ما في مقدمة‬
‫كتابه‪« :‬فمن هذا يت�ضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة‪ ،‬وك�شف به الد�ستور الذي‬
‫كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب المي�سر» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪.)7‬‬

‫وهك��ذا فابن قتيبة كان قد «ك�شف د�ستور المي�س��ر» من قبل‪ .‬بالتالي‪ ،‬فال مجال‬
‫للإع�لان عن ك�شفه من جديد‪ .‬عليه‪ ،‬يمك��ن افترا�ض �أن هدفه لم يكن في الواقع‬
‫�سوى التغلب على اال�ستطراد والح�شو‪ ،‬و�إ�شاعة النظام في هذه المادة‪ ،‬كما يقول‬
‫معلق��ا على منهج ابن قتيبة‪( :‬على �أن ابن قتيبة كت��ب هذا البحث بلغة معا�صريه‪،‬‬
‫وق��ارب منهجهم الذي ال ي�سوده النظام الكامل‪ ،‬وي�شيع فيه اال�ستطراد والح�شو)‬
‫(الم�ص��در ذاته‪� ،‬ص ‪ .)7‬وبالفعل فقد نجح هارون ف��ي تقديم كتاب من�سق على‬
‫الطريق��ة الحديثة يجعل الق��ارئ العادي قادرا على الو�صول �إل��ى المادة القديمة‬
‫ح��ول المي�سر ب�سهولة وي�سر‪ .‬وه��ذه م�أثرة تح�سب له‪ .‬لكن لع��ل الهدف الفعلي‬
‫والأعم��ق للكتاب كان اجتماعيا في الواقع كما يت�ضح من العنوان الكامل للكتاب‪:‬‬
‫«المي�سر والأزالم؛ درا�سة اجتماعية �أدبية ودعوة �إلى �إ�صالح اجتماعي»‪ .‬عليه‪،‬‬
‫فالأم��ر يتعلق بدعوة اجتماعية‪ .‬ويت�ضح هذا م��ن مقدمة الكتاب‪« :‬حقا �إن الدولة‬
‫�أح�سن��ت �صنعا ب�أن حظرت لعب المي�سر على موظفيها‪ ،‬ولكن موظفيها لي�سوا �إال‬
‫طائف��ة قليلة في هذا ال�شع��ب‪ ،‬و�إن المي�سر يتخذ �صورا �شت��ى �صغيرة في مقاهي‬
‫القري��ة والمدينة‪ ،‬ويبتز �أم��وال الفقراء الكادحين‪ ،‬ويوقع الع��داوة والبغ�ضاء»‬

‫‪14‬‬
‫زكريا محمد‬

‫(ه��ارون‪ ،‬المي�سر والأزالم‪� ،‬ص ‪� .)5‬إذن‪ ،‬فالهدف الحق هو مواجهة �شرور‬


‫�ألعاب المقامرة في القرن الع�شرين‪.‬‬

‫وكان ق��د �سب��ق كتاب عبد ال�س�لام هارون كت��اب حديث �آخر لمحم��ود �شكري‬
‫«الم�س ِفر عن المي�سر» لكنه لم يطبع حتى‬
‫الآلو�س��ي [‪ 1924 - 1856‬م] بعنوان‪ُ :‬‬
‫الآن‪ ،‬ف��ي ما يبدو‪ .‬ولم ن�ستطع العثور على ن�سخة مخطوطة منه المتحان مادته‬
‫واال�ستفادة منها‪.‬‬

‫�أما نحن ف�سنحاول �أي�ضا �أن نقدم كتابا عن المي�سر يو�ضحه للقارئ المعا�صر «حتى‬
‫ك�أنه بالقداح يا�سر»‪ ،‬كما قال ابن قتيبة‪� ،‬أي ك�أنه واحد من العبيه وممار�سيه‪� .‬أي‬
‫�أننا �سنجر�ؤ على التفكي��ر في ما فكر فيه كل من الأ�صمعي وابن قتيبة واليعقوبي‪:‬‬
‫حل لغز المي�س��ر‪ .‬نعم‪� ،‬سنغامر من جديد بحمل الوع��د القديم نف�سه؛ وعد ك�شف‬
‫لغز المي�سر‪ ،‬وا�ستعادة هذه اللعبة التي �ضاعت‪.‬‬

‫و�سوف نت�صدى له��ذه المهمة ا�ستنادا �إلى ما ا�ستند �إليه ابن قتيبة وغيره‪� ،‬أي �إلى‬
‫ال�شع��ر‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى عدد من الجمل النثرية الت��ي وردت في �سياق الحديث عن‬
‫�شخ�صي��ات المي�سر وقداحه‪ .‬و�س��وف نعمد �إلى الجمل ال�شعري��ة والنثرية فنقلبها‬
‫عل��ى وجوهه��ا‪ ،‬ون�ستغرقها‪ ،‬ون�ستنزفها حتى نرغمها عل��ى البوح بما لم تبح به‬
‫لم��ن قبلنا عن لعب��ة المي�سر‪� .‬إذ نعتق��د �أن العديد من هذه الجمل ل��م تفهم من قبل‬
‫القدماء‪ ،‬و�أن معناها فاتهم‪.‬‬

‫وبما �أن الأبيات ال�شعرية حول المي�سر تمثل في غالبها �ألغازا‪ ،‬وبما �أن العدد الأكبر‬
‫م��ن الجمل النثرية عنه تمثل �أي�ضا �أحاجي غام�ضة‪ ،‬ف�سوف يكون كتابنا‪ ،‬بامتياز‪،‬‬
‫كتاب��ا في تفكي��ك الألغاز وك�شف الأحاجي‪ .‬وهذا ما قد يجعل��ه �صعبا‪� ،‬إلى حد ما‪،‬‬
‫على القارئ غير ال�شغوف‪� .‬إنه في الحقيقة كتاب للقارئ الف�ضولي ال�شغوف‪.‬‬

‫غير �أن محاولتنا �ستختلف في �أكثر من نقطة عن محاوالت القدماء‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أنه��ا لن تكتفي بمحاولة فك الأ�سرار الفني��ة للعبة‪ ،‬وتو�ضيح طريقة لعبها‪،‬‬
‫ب��ل �ستحاول تبيان جذر اللعب��ة‪� ،‬أي ك�شف الأ�صل الذي انبثق منه المي�سر‪ .‬وهو‬

‫‪15‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫م��ا �سيقودها �إلى درا�سة �أبيها الأ�سطوري‪ :‬لقمان بن عاد‪ ،‬الذي ت�شكل �أ�سطورته‬
‫واح��دة من �أهم الأ�ساطير العربية و�أ�شدها كثافة وقوة‪ .‬بالن�سبة للقدماء كان يمكن‬
‫فه��م اللعبة من دون فهم لقمان‪� .‬أما بالن�سبة لن��ا‪ ،‬فما لم نفهم لقمان و�أ�سطورته‪،‬‬
‫فلن نفهم بعمق لعبة المي�سر‪.‬‬

‫ثانيا‪� :‬أن محاولتنا �سننطلق من فر�ضية تقول بالأ�صل الديني لهذه اللعبة‪ ،‬بل و�أنها‬
‫ربما انبثقت من طق�س ديني‪ .‬كم��ا �أنها على عالقة وطيدة باال�ستق�سام بالأزالم‪،‬‬
‫ال��ذي هو ممار�سة دينية بال جدال‪ .‬بل ولع��ل المي�سر واال�ستق�سام انبثقا من �أ�صل‬
‫واح��د‪ .‬فوق هذا ف�إن �أباها الأ�سطوري‪ ،‬لقمان بن عاد‪� ،‬شخ�صية دينية بامتياز‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬فكتابنا هذا ي�أتي في �سياق جهدنا المتوا�صل لفهم ديانة العرب في الجاهلية‪.‬‬
‫�إنه جزء متمم لكتبنا ال�سابقة‪ ،‬ولي�س انفرادا عنها‪.‬‬

‫ولع��ل مدخلن��ا الديني �أن يك��ون نقطة تفوقنا عل��ى العلماء الأج�لاء قبلنا‪ ،‬وعلى‬
‫الأخ�ص العالم الكبير الذي ال يجارى‪ :‬ابن قتيبة الدينوري‪ .‬فنحن ال نجاريه في‬
‫علمه‪ ،‬بل نتفوق عليه في المدخل‪ ،‬ال غير‪ .‬وهو تفوق يعود �إلى اختالف و�ضع‬
‫زمننا عن زمنه‪ .‬و�سوف يوفر لنا مدخلنا هذا مادة جديدة حول المي�سر‪ .‬ذلك �أن‬
‫هناك مواد لي�س��ت قليلة الحجم لم يكن �أحد يرى �أنها ذات عالقة بالمي�سر‪� ،‬سوف‬
‫نثبت �أن لها عالقة به‪ ،‬ون�ستخدمها في ك�شف �ألغازه‪.‬‬

‫وفي �سياق مبحثنا �سوف نكت�شف �أن هذه اللعبة على عالقة متينة بطق�سين جاهليين‬
‫مركزيين و�شهيرين‪ ،‬لم يكن �أحد من القدماء يفكر �أنه قد يكون لهما عالقة بها‪:‬‬

‫الأول‪ :‬طق���س الذبي��ح ال�شهي��ر‪ ،‬الذي نعرفه من خ�لال ق�صة عب��د الله بن عبد‬
‫المطل��ب الذبيح‪ ،‬والد الر�سول‪ ،‬ومن خ�لال ق�صة الذبيح �إ�سماعيل بن �إبراهيم‪.‬‬
‫وقد عر�ضنا لطق�س الذبيح ب�شكل مف�صل في كتابنا الأ�سبق‪( :‬ديانة مكة في الجاهلية‪:‬‬
‫كتاب الحم�س والطل�س والحلة)‪.‬‬

‫الثان��ي‪ :‬طق�س �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه‪ .‬وهو طق���س �أ�سطوري كان يتم فيه‬
‫ا�ستع��ادة الزمن البدئي‪ ،‬الزم��ن الأول‪ ،‬في مكة بطريقة درامي��ة‪� .‬أي �أنه كان‬
‫يت��م تمثيل الحدث البدئي ال��ذي انق�سمت انطالقا منه قري���ش‪ ،‬كما يفتر�ض‪� ،‬إلى‬

‫‪16‬‬
‫زكريا محمد‬

‫طوائف و�أحالف‪ ،‬بم�شاركة كل النا�س في ذلك الوقت‪ .‬عليه‪ ،‬فالكتاب �سيك�شف‬


‫عن وجود دراما دينية حقيقية في مكة قبيل الإ�سالم‪.‬‬

‫ب��ذا فالكتاب درا�سة في طقو�س ثالثة‪« :‬طق���س» المي�سر‪ ،‬طق�س الذبيح‪ ،‬وطق�س‬
‫غ��زال الكعبة‪ .‬وهي طقو�س تتراكب عل��ى بع�ضها‪ ،‬وينبثق واحدها من الآخر‪،‬‬
‫كما �سن��رى‪ .‬لكن تركيزنا �سيكون على المي�سر وعل��ى طق�س غزال الكعبة‪ ،‬فقد‬
‫عر�ضنا لطق�س الذبيح بتو�سع في كتابنا المذكور �أعاله‪.‬‬

‫و�س��وف يك��ون تحليلنا لطق�س غ��زال الكعبة خا�صة نموذج��ا للطريقة التي يجب‬
‫اتباعها في التعامل مع ال�سرد الذي و�صلنا عن الجاهلية‪ .‬فما يقدم لنا كطبق واقعي‬
‫ب�ش��كل م�ؤكد هو‪ ،‬في غال��ب الأحيان‪ ،‬طبق ميثولوجي‪ .‬فجمل��ة كبيرة جدا من‬
‫ال�سرد الذي قدمه لنا ع�صر التدوين عن الجاهلية يقع في باب الميثولوجيا‪ ،‬ال في‬
‫باب الواق��ع والتاريخ‪ .‬وهذا �أمر عادي تماما‪ .‬فال�شع��وب في فترتها ال�شفوية ال‬
‫ت�سج��ل لنا عادة الوقائع الفعلية‪ ،‬الحقيقية‪ ،‬بل ت�سجل الوقائع الميثولوجية �أ�سا�سا‪.‬‬
‫فالوقائ��ع الميثولوجية ه��ي التاريخ الحق عندها‪ ،‬وهي الأح��داث الحقيقية الأ�شد‬
‫واقعي��ة‪ .‬فوق هذا‪ ،‬ف�إن الذاكرة ال�شفوية المحدودة لن تتمكن �أ�صال من االحتفاظ‬
‫بالأح��داث الواقعية المت�شعبة والمتكاث��رة‪� .‬إنها بالكاد تكف��ي لالحتفاظ بالحقائق‬
‫الدينية‪ ،‬وحقائق التغيرات الف�صلية وت�أثيراتها‪ ،‬التي ال يمكن من االحتفاظ بها �إال‬
‫عبر تنظيمها في �أنماط قولية تمكن من ا�ستعادتها وتكرارها ب�سهولة‪.‬‬

‫‪17‬‬
18
‫بين المي�سر والأزالم‬

‫تق��وم لعب��ة المي�سر‪ ،‬وه��ي لعبة القمار الأول��ى عند عرب الجاهلي��ة‪ ،‬على نحر‬
‫ج��زور‪� ،‬أي ناقة �أو جمل‪ ،‬وتقطيع لحمها �أو لحمه‪ ،‬ثم تق�سيمه �إلى ح�ص�ص‪ ،‬ثم‬
‫المراهنة على هذه الح�ص�ص بالقداح‪� ،‬أي بال�سهام ال�صغيرة التي ال ن�صل فيها وال‬
‫ري���ش‪ .‬ومعنى اال�سم (مي�سر) غام�ض‪ .‬ولم يتم حتى الآن و�ضع اقتراح مر�ض‬
‫ي�سكت الجدل ب�ش�أنه‪� .‬أما االقتراحات الأ�سا�سية فكانت كما يلي‪:‬‬

‫‪�1.1‬أن��ه من الي�سر بمعنى الغن��ى‪ .‬ذلك �أن �أي�سار مكة والع��رب‪� ،‬أي �أغنياءهم‪،‬‬
‫ه��م من كانوا يمار�سون هذه اللعبة‪ .‬كما �أن الرابح ال ي�ستفيد من ربحه‪ ،‬لأنه‬
‫�سي��وزع اللحم على الفقراء‪ ،‬في حي��ن �أن الخا�سر هو من يدفع الثمن‪ .‬وهذا‬
‫�أمر ال يقدر عليه �إال الأغنياء‪.‬‬

‫‪�2.2‬أنه يعني التقطيع‪« :‬ي�سر القوم الجزور‪� :‬أَي اجتزروها واقت�سموا �أَع�ضاءها»‬
‫(ل�سان العرب)‪.‬‬

‫‪�3.3‬أن المي�س��ر ه��و الذبيحة نف�سه��ا‪ ،‬و�أن المعن��ى �آت من التقطي��ع واالقت�سام‪:‬‬
‫يج��ز ُ�أ �أَ ْج��زاء فك َ�أنه مو�ضع‬
‫ّ‬ ‫«المي�س��ر‪ :‬الجزور‪ ‬نف�س��ه‪� ،‬سم��ي َم ْي ِ�س��ر ًا لأَنه‬
‫التجزئ��ة‪ .‬وكل �شيء جز�أت��ه‪ ،‬فقد ي�سرته» (ل�سان الع��رب)‪ .‬ويخيل لنا �أن‬
‫معنى التقطيع في الجذر طارئ‪� ،‬أي �أنه �أُخذ من اللعبة ذاتها‪.‬‬

‫‪�4.4‬أن��ه من الي�سر‪ ،‬بمعنى ال�سهولة‪« :‬المي�سر‪ :‬القم��ار‪ ...‬وا�شتقاقه من الي�سر‪،‬‬


‫لأن��ه �أخذ مال الرجل بي�سر و�سهولة من غير ك��د وال تعب‪� ،‬أو من الي�سار‪.‬‬
‫لأنه �سل��ب ي�ساره [ماله وغناه]» (الميداني‪ ،‬مجم��ع الأمثال)‪ .‬وهو اقتراح‬
‫�ضعيف ال يتوافق و�أهمية اللعبة وموقعها االجتماعي‪.‬‬

‫‪5.5‬وذهب �آخ��رون �إلى �أنه م�شتق من الي�سر �أي الوجوب‪« .‬المي�سر م�أخوذ من‬
‫الي َ�سر‪ ،‬وهو وجوب ال�شيء‪ ‬ل�صاحبه؛ يقال‪ َ :‬ي َ�سر‪ ‬لي كذا‪� :‬إذا‪ ‬وجب» (تف�سير‬
‫َ‬
‫القرطبي)‪� .‬أي �أن المي�سر هو ما يجب على المقامر في اللعب‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫‪6.6‬وق��د تقدم توفيق فهد باقتراح مختلف تماما‪ .‬فهو يربط اال�سم باليد الي�سرى‪،‬‬
‫متو�صال �إلى �أنها لعبة الأع�سر‪« :‬ولأن الحر�ضة‪ ،‬على الأرجح‪ ،‬كان يحرك‬
‫القداح وي�سحبها بيده الي�سرى‪ ،‬ف�إن اللعبة �أخذت ا�سم هذه اليد‪ ...‬وعلى هذا‬
‫النح��و ف�إن المي�سر �صار بب�ساطة‪ ،‬ول�سبب ما «لعبة الأع�سر»» (فهد‪ ،‬الكهانة‬
‫العربي��ة قبل الإ�سالم‪��� ،2007 ،‬ص ‪ .)155‬و�سوف نعر�ض لهذا االحتمال‬
‫في �سياق حديثنا عن �شخ�صيات لعبة المي�سر‪.‬‬

‫‪�7.7‬أم��ا نحن فن�ضع احتمال �أن يك��ون اال�سم على عالقة بتي�سي��ر الماء وال�سوائل‪،‬‬
‫�أي ب�إطالق��ه ووق��ف انحبا�سه‪ ،‬ودفعه �إلى التدفق‪ .‬وه��ذا نابع من اقتناعنا بان‬
‫لعب��ة المي�سر على عالقة بطق�س الذبيح‪ ،‬الذي ه��و‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬طق�س‬
‫الي�سر» �أو‬
‫ا�ستخراج الماء ال�سفلي‪ .‬وي�ؤيد هذا �أن ثمة عودا �سحريا يدعى «عود َ‬
‫«عود الأ�سر»‪ ،‬مهمته �إطالق بول من احتب�س بوله‪ ،‬حيث �أن الأ�سر �أو الي�سر‬
‫هو احتبا�س الب��ول‪�« :‬شمر عن ابن الأعرابي‪ :‬هذا عود �أ�سر وي�سر‪ :‬وهو الذي‬
‫يعالج به الإن�سان �إذا احتب�س بوله» (ل�سان العرب)‪ .‬ويبدو �أنه ي�ستخدم لإطالق‬
‫ب��ول الحيوان��ات �أي�ضا‪« :‬وف��ي حديث ال�شعب��ي‪ :‬ال ب�أ�س �أن يعلّ��ق الي�سر على‬
‫الداب��ة‪ .‬الي�سر بال�ضم عود يطلق الب��ول‪ .‬قال الأزهري هو عود �أ�سر ال ي�سر‪.‬‬
‫والأ�س��ر احتبا�س الب��ول» (ابن الأثير المحدث‪ ،‬النهاي��ة في غريب الحديث)‪.‬‬
‫ورغ��م �أن الغالبية ت�أخذ بق��ول الفراء والأزهري‪� ،‬أي تواف��ق على �أنه «عود‬
‫�أ�سر» ال «عود ي�سر»‪ ،‬فمن المحتمل �أنه بال�صيغتين‪ ،‬على ر�أي ابن الأعرابي‪.‬‬

‫ف��ي كل حال‪ ،‬ف�س��وف يت�ضح لنا في �سي��اق الكتاب ارتباط لعب��ة المي�سر بطق�س‬
‫الذبي��ح‪ ،‬الذي هو جوهريا طق�س �إطالق الماء التحتي وال�سماح بانبثاقه من تحت‬
‫الأر�ض عبر حفر الآبار والعيون‪.‬‬

‫بين المي�سر والأزالم‬

‫ثمة خلط في الم�صادر العربية بين اال�ستق�سام بالأزالم والمي�سر‪ .‬وهو خلط نابع من‬
‫�أدواتهما‪ .‬فهما مع��ا ي�ستخدمان ال�سهام غير المن�صلة‪ .‬فهناك من يقول �أن الأزالم‬

‫‪20‬‬
‫زكريا محمد‬

‫هي قداح المي�سر‪« :‬قال الم�ؤرج وجماعة من �أهل اللغة‪� :‬إن الأزالم قداح المي�سر»‬
‫(ل�س��ان الع��رب)‪ .‬ي�ضيف �آخر‪« :‬قيل‪ :‬ه��و [=الأزالم] المي�س��ر» (الزمخ�شري‪،‬‬
‫الك�ش��اف)‪ .‬غير �أن هناك من يرف�ض هذا‪ ،‬ويف��رق ب�شدة بين اال�ستق�سام بالأزالم‬
‫والمي�سر‪ ،‬وبين الأزالم وقداح المي�سر؛ فالأزالم �سهام اال�ستق�سام‪ ،‬والقداح �سهام‬
‫المي�سر‪« :‬فهذا الحديث [حدي��ث �سراقة] يبين لك �أن الأزالم قداح الأمر والنهي‪،‬‬
‫ال ق��داح المي�سر» (ل�سان العرب)‪ .‬وهناك ر�أي غري��ب يقول �أن الأزالم ح�صى‬
‫بي�ض‪« :‬وذك��ر محمد بن جرير‪� :‬أن ابن وكيع حدثهم عن �أبيه عن �شريك عن �أبي‬
‫ح�صي��ن عن �سعيد ب��ن جير �أن الأزالم ح�صى بي�ض كان��وا ي�ضربون بها» (تف�سير‬
‫القرطبي)‪ .‬غير �أنه ر�أي منفرد‪ ،‬لم يدعمه �أحد‪.‬‬

‫وال�صحي��ح �أن المي�سر واال�ستق�سام ي�ستخدمان ال�سهام‪ .‬لكن قداح اال�ستق�سام غلب‬
‫عليها ا�سم الأزالم‪ .‬ويقوم العمل بها على طلب حكم في ق�ضية ما‪� ،‬أو طلب «نهي‬
‫�أو �أمر» ح�سب مقتب�س ل�س��ان العرب �أعاله‪� .‬أما �سهام المي�سر‪� ،‬سهام المقامرة‪،‬‬
‫فق��د غلب عليها ا�سم القداح‪ ،‬رغم �أن الق��داح والأزالم �شيء واحد �أ�سا�سا‪ .‬فهما‬
‫�سه��ام ق�صي��رة غير من�صل��ة وال مري�شة‪ .‬وهو م��ا يو�ضحه لنا بدق��ة عبد ال�سالم‬
‫هارون‪« :‬والزل��م‪ ،‬وال�سهم والقدح‪ ...‬مترادفة المعاني‪ ،‬تدل كلها على قطعة‬
‫م��ن غ�صن م�شذبة‪ .‬و�أكثر م��ا ي�ستعملون «الزلم» ف��ي «اال�ستق�سام»‪ ...‬و�أكثر‬
‫م��ا ي�ستعملون «ال�سه��م» في �سهم القو�س ال��ذي يرمى به‪ ،‬و�أكثر م��ا ي�ستعملون‬
‫الق��دح في قداح المي�سر‪ ...‬وكل ه��ذه الألفاظ ينوب عن الآخر في اال�ستعمال»‬
‫(هارون‪ ،‬المي�سر والأزالم‪� ،1953 ،‬ص ‪.)16‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فالقداح والأزالم وال�سهام مترادفات تعني ال�شيء ذاته‪ .‬لكن الذي ح�صل‬
‫�أن ه��ذا اال�سم «�أزالم» غلب في لحظة ما على �سهام اال�ستق�سام خا�صة‪ ،‬في حين‬
‫غل��ب ا�سم «القداح» على �سه��ام المي�سر‪� .‬أكثر من ذلك فقد �صار اال�سم «�أزالم»‬
‫ا�سما لال�ستق�سام ذات��ه‪� ،‬أي ا�سما للعملية التي يتم بموجبها طلب حكم تنب�ؤي محدد‬
‫م��ن خالل الأزالم‪ .‬وهكذا ورد في القر�آن‪�« ،‬إنم��ا الخمر والمي�سر والأن�صاب‬
‫والأزالم رج���س من عم��ل ال�شيطان فاجتنبوه» (�س��ورة المائدة ‪ .)90‬فالأزالم‬
‫في الآية تعن��ي اال�ستق�سام‪ .‬وورودها منف�صلة عن المي�سر ت�أكيد على �أن الأزالم‬

‫‪21‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�ص��ارت‪ ،‬عموما‪ ،‬ا�سم��ا لال�ستق�سام‪ .‬وقد ربط��ت الأزالم باال�ستق�سام في الآية‬


‫الثالث��ة من ال�سورة نف�سه��ا ب�شكل ال يدع مجاال لأي �شك ب���أن الأزالم المذكورة‬
‫ف��ي الآية �أعاله ا�سم لال�ستق�سام‪« :‬حرم��ت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما‬
‫�أه��ل لغير الله به‪ ‬والمنخنقة والموقوذة والمتردية‪ ‬والنطيحة وما �أكل ال�سبع �إال ما‬
‫ذكيت��م وما ذبح على الن�صب و�أن ت�ستق�سموا بالأزالم»‪�( ‬سورة المائدة ‪� .)3‬إذن‪،‬‬
‫فالأ�صل هو �أن نقول‪ :‬مي�سر وا�ستق�سام‪ ،‬ال �أن نقول‪ :‬مي�سر و�أزالم‪ .‬ثم �صارت‬
‫الأزالم ا�سما لال�ستق�سام ذاته‪ ،‬بينما لم ت�صبح القداح ا�سما للعبة المي�سر‪.‬‬

‫الفرق بين قداح المي�سر و�أزالم اال�ستق�سام‬

‫�أما الذي يفرق بين قداح المي�سر «القداح» و�أزالم اال�ستق�سام ف�شيئان‪:‬‬

‫‪ - 1‬العالمات التي عليها‪.‬‬

‫‪ - 2‬النظام الذي تعمل عليه‪.‬‬

‫فقداح المي�سر‪ ،‬معلمة بحزوز تحدد قيمة ربحها �أو خ�سارتها‪� .‬أما �أزالم اال�ستق�سام‬
‫فعليه��ا عالمات ما‪ ،‬لكنها لي�ست حزوز قيمة مثل قداح المي�سر‪« :‬والأزالم كانت‬
‫لقري�ش في الجاهلية مكتوب عليها �أمر ونهي‪ ،‬وافعل وال تفعل» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫لكن ال يقال لنا ما نوع هذه الكتابة‪ ،‬وهل هي كتابة كلمات �أم عالمات وخدو�ش‪.‬‬
‫غي��ر �أننا نعتقد �أن العالمات على هذه الأزالم ال ب��د �أن تكون عالمات ب�سيطة‪،‬‬
‫تبين الأمر والنهي‪ ،‬الإثبات �أو النفي فقط‪ .‬بالتالي‪ ،‬فمن المنطقي �أن يحمل الزلم‬
‫الواحد عالمة واحدة‪ .‬لنقل مثال خد�شا‪� ،‬أو نقطة تفيد معنى النفي �أو الإثبات‪.‬‬

‫�أم��ا بخ�صو�ص النظام‪ ،‬فنظ��ام قداح المي�سر �سباعي‪ .‬فالأ�سه��م التي ت�شارك في‬
‫المقام��رة‪ ،‬وعليها حزوز قيمة‪ ،‬ه��ي �سبعة‪ .‬كما �أن من يتقام��رون عليها �سبعة‬
‫�أي�ض��ا‪ .‬وهناك ثالثة غفل‪� ،‬أي خالية م��ن العالمات‪ ،‬وال ت�شارك في المقامرة‪.‬‬
‫�أما �أزالم اال�ستق�سام فثنائية النظام‪� .‬أي �أن الف�صل في �أي �أمر فيها يتم بين خيارين‬
‫اثني��ن فقط‪« :‬و�أما الأزالم‪ ،‬ف�إن العرب كانت �إذا كانت بينها مدار�أة‪� ،‬أو نكاح‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أو �أم��ر يريدونه وال يدرون ما الأمر فيه ولم يت�ضح لهم‪� ،‬أخذوا قداحا لهم‪ :‬فيها‬
‫افع��ل وال تفعل‪ ،‬ونعم وال‪ ،‬وخير و�شر‪ ،‬وبطيء و�سريع‪ ...‬فكانوا يجيلونها‪،‬‬
‫فم��ن خرج �سهم��ه‪ ،‬فالحق له‪ .‬وللح�ض��ر وال�سفر �سهمان‪ .‬في�أت��ون ال�سادن من‬
‫�سدن��ة الأوث��ان‪ .‬فيقول ال�س��ادن‪« :‬الله��م �أيهم��ا كان خيرا ف�أخرج��ه لفالن»‪.‬‬
‫فير�ض��ى بما خرج له‪ .‬و�إذا �شكوا في ن�سب الرجل �أجالوا القداح‪ ،‬وفيها‪� :‬صريح‬
‫دع ّي��ا‪ .‬و�إن خرج القدح‬‫ومل�ص��ق‪ .‬فان خ��رج ال�صريح �ألحقوه بهم ول��و كان ِ‬
‫ال��ذي فيه مل�صق نف��وه و�إن كان �صريحا‪ .‬فهذه ق��داح اال�ستق�سام» (ابن حبيب‪،‬‬
‫المحب��ر)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فلل�سفر �سهم��ان فقط‪ :‬افعل وال تفع��ل‪� ،‬أو نعم وال‪ ،‬وللن�سب‬
‫�سهم��ان‪� :‬صريح ومل�صق‪ ،‬وللخالفات �سهمان‪ ،‬الخ‪� .‬أي �أنه يتم االقتراع دوما‬
‫بين �أمرين‪ ،‬ف�إما �أن يخرج �سهم هذا ال�شيء �أو ذاك‪� ،‬سهم النفي �أو �سهم الإثبات‪:‬‬
‫«اال�ستق�سام‪ ‬بالأزالم‪ :‬وكانوا في الجاهلي��ة �إذا �أرادوا �أن يف�صلوا بين م�شتبهين‪،‬‬
‫�أو يخت��اروا �أحد �أمرين‪� ،‬أو يتعرفوا الح��ظ‪ ...‬ا�ستق�سموا بالقداح فما خرج منها‬
‫م��ن �شيء عمل به» (ابن قتيب��ة‪ ،‬الأ�شربة والأطعم��ة)‪� .‬إذن‪ ،‬فاال�ستق�سام ثنائي‬
‫يق��وم على النفي �أو الإثبات‪ ،‬ويحتاج لخروج �سهم واحد فقط من بين اثنين‪ ،‬في‬
‫حي��ن �أن المي�سر �سباعي الطابع‪� ،‬أي �أن �سبعة �سهام يجب �أن تخرج‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫�أنه ال يقوم على النفي والإثبات‪.‬‬

‫غي��ر �أن هناك من يحدثنا عن نظ��ام ثالثي‪ ،‬ال ثنائي‪ ،‬لال�ستق�س��ام‪« :‬وا�ستعملوا‬
‫والمترب�ص» (الجاحظ‪ ،‬الحي��وان)‪ .‬ورغم �أن‬‫ِّ‬ ‫في‪ ‬القداح‪ :‬الآم��ر‪ ،‬والناه��ي‪،‬‬
‫الجاحظ يتح��دث عن القداح‪ ،‬فمن الوا�ضح �أنه يق�صد ق��داح اال�ستق�سام‪ .‬وهو ما‬
‫ي�ؤيده خبر البن ه�شام الكلبي‪ ،‬الذي يحدثنا عن ثالثة قداح‪:‬‬

‫«لم��ا �أقب��ل ام��ر�ؤ القي���س ب��ن حج��ر‪ ،‬يري��د الغ��ارة عل��ى بن��ي �أ�س��د‪ ،‬م��ر‬
‫بذي‪ ‬الخل�ص��ة‪ ،‬وكان �صنم��ا بتبالة‪ .‬وكان��ت العرب جميعا تعظم��ه‪ .‬وكانت له‬
‫ثالثة �أق ُدح‪ :‬الآمر‪ ،‬والناهي‪ ،‬والمترب�ص‪ ،‬فا�ستق�سم عنده‪ ‬ثالث مرات‪ .‬فخرج‬
‫ع�ض�ضت ب�أير �أبيك! لو‬
‫َ‬ ‫الناهي‪ .‬فك�سر القداح‪ ،‬و�ضرب بها وجه ال�صنم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫كان �أبوك ُقتل‪ ،‬ما عوقتني‪ .‬ثم غزا بني �أ�سد‪ ،‬فظفر بهم‪ .‬فلم‪ ‬ي�ستق�سم‪ ‬عنده ب�شيء‬
‫حتى جاء الله بالإ�سالم» (ابن الكلبي‪ ،‬الأ�صنام)‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وهك��ذا‪ ،‬فهن��اك �سه��م ثال��ث متع��ادل بي��ن ال�سهمي��ن المتعاك�سي��ن‪ .‬وا�سم هذا‬
‫«المترب���ص»‪ .‬والترب���ص ه��و االنتظ��ار‪ .‬ج��اء ف��ي �س��ورة البق��رة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ال�سه��م‬
‫«والمطلقات‪ ‬يترب�صن‪ ‬ب�أنف�سه��ن ثالث��ة ق��روء» (البق��رة‪� .)228 :‬أي عليهن �أن‬
‫ينتظرن مرور الع ّدة‪ ،‬وهي ثالث حي�ضات‪� ،‬أي ثالثة �شهور قمرية تقريبا‪ ،‬قبل‬
‫يقت��رن ثانية‪� .‬إذن‪ ،‬فخ��روج هذا ال�سهم يرجئ الحك��م‪ ،‬وي�ضطر الم�ست�سقم‬ ‫ّ‬ ‫�أن‬
‫�إل��ى �أن يعيد الكرة‪« :‬ف���إن خرج الآمر فعل‪� ،‬أو الناهي ت��رك‪� ،‬أو الغفل �أجيلت‬
‫[ال�سهام] ثانية» (البقاعي‪ ،‬نظم الدرر)‪ .‬وبناء على كالم البقاعي هذا ف�إن ال�سهم‬
‫الثالث من �سهام اال�ستق�سام غفل من العالمات‪ ،‬مثل �سهام المي�سر الأغفال‪ .‬وهذا‬
‫�أن �سهمي��ن فق��ط يحمالن العالمة فق��ط‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فنظ��ام اال�ستق�سام ثالثي في‬
‫الأ�صل ولي�س ثنائيا‪ ،‬لكن �أهمل الحديث عن ال�سهم المتعادل الذي يرجئ الحكم‪،‬‬
‫واكتفي بال�سهمين الآخرين‪� ،‬سهم النفي و�سهم الإثبات‪.‬‬

‫غي��ر �أن اب��ن �إ�سحق يقدم لنا خبرا مربكا عن نظام �سباع��ي في اال�ستق�سام �أي�ضا‪.‬‬
‫وهو يربط هذا النظام بال�صنم هبل‪:‬‬

‫«وكان عن��د هب��ل قداح �سبعة‪ ،‬كل ق��دح منها فيه كتاب [كتابة]‪ .‬ق��دح فيه العقل‬
‫[الدي��ة] �إذا اختلف��وا ف��ي العقل من يحمل��ه منهم‪� ،‬ضرب��وا بالق��داح ال�سبعة‪ :‬ف�إن‬
‫خ��رج العق��ل فعلى من خرج حمل��ه‪ .‬وقدح فيه نع��م للأم��ر �إذا �أرادوه ي�ضرب‬
‫ب��ه في الق��داح‪ ،‬ف�إن خرج ق��دح نعم عملوا به‪ .‬وق��دح في��ه ال‪� ،‬إذا �أرادوا �أمرا‬
‫�ضرب��وا به ف��ي القداح‪ ،‬ف�إن خرج ذل��ك القدح لم‪ ‬يفعلوا ذل��ك الأمر‪ .‬وقدح فيه‬
‫منك��م‪ .‬وق��دح فيه مل�صق‪ .‬وق��دح فيه من غيركم‪.‬وق��دح فيه المي��اه �إذا �أرادوا‬
‫�أن‪ ‬يحف��روا للم��اء �ضربوا بالق��داح وفيها ذلك الق��دح‪ ،‬فحيثما خ��رج عملوا به ‪ ‬‬
‫وكانوا �إذا �أرادوا �أن يختنوا غالما‪� ،‬أو ينكحوا منكحا‪� ،‬أو يدفنوا ميتا‪� ،‬أو َ�شكّ وا في‬
‫ن�سب �أحدهم‪ ،‬ذهبوا به �إلى هبل وبمائة درهم وجزور‪ ،‬ف�أعطوها �صاحب القداح‬
‫ال��ذي ي�ضرب بها‪ ،‬ثم قربوا �صاحبهم الذي يري��دون به ما يريدون‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬يا‬
‫الح��ق فيه‪ .‬ثم يقولون‬‫َ‬ ‫�إلهن��ا‪ ،‬هذا فالن بن فالن ق��د �أردنا به كذا وكذا‪ ،‬ف� ْأخرِ ج‬
‫ل�صاحب القداح‪ :‬ا�ضرب‪ ،‬ف�إن خرج عليه «منكم» كان منهم و�سيطا‪ ،‬و�إن خرج‬
‫عليه «من غيركم» كان حليفا‪ ،‬و�إن خرج عليه «مل�صق» كان على منزلته فيهم‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ال ن�س��ب له وال حلف‪ ،‬و�إن خرج فيه �شيء مما �س��وى هذا مما يعملون به «نعم»‬
‫عملوا به‪ ،‬و�إن خرج «ال»‪� ،‬أخروه عامه ذلك حتى ي�أتوه به مرة �أخرى‪ ،‬ينتهون‬
‫في �أمورهم �إلى ذلك مما خرجت به القداح» (�سيرة ابن �إ�سحق)‪.‬‬

‫وكما نرى فالمقتب�س محير جدا‪ .‬ففي البدء يوحي لنا ب�أن النظام �سباعي «�ضربوا‬
‫بالقداح ال�سبعة»‪ ،‬لكنه يتحدث تاليا عن نظام ثنائي �أو ثالثي‪ .‬ويبدو �أن الت�شو�ش‬
‫نات��ج ع��ن خلط النظ��ام بالمو�ضوعات‪ .‬فالنظ��ام ثنائي �أو ثالث��ي‪ ،‬في حين �أن‬
‫مو�ضوع��ات اال�ستق�س��ام االعتيادي��ة هي التي تك��ون �سبعة‪ :‬نه��ي و�أمر‪ ،‬مياه‪،‬‬
‫دية‪� ،‬إلخ‪ .‬بذا‪ ،‬نفتر�ض �أن لكل مو�ضوع من هذه‬ ‫خت��ان‪ ،‬نكاح‪ ،‬ن�سب‪ ،‬عقل‪ّ -‬‬
‫الموا�ضيع ثالثة �سهام‪� .‬أي �أنه ربما كان هناك ‪� 21‬سهما للبت في هذه الأمور‪.‬‬

‫وهن��اك ن���ص لليعقوب��ي يحم��ل الت�شو�ش ذات��ه‪� .‬أي في��ه حديث ع��ن �سبعة قداح‬
‫لال�ستق�س��ام‪ ،‬ث��م حديث عن ا�ستق�سام ثنائ��ي‪« :‬وكانت القداح �سبع��ة‪ :‬فواحد عليه‪:‬‬
‫الله عز وج��ل‪ ،‬والآخر‪ :‬لكم‪ ،‬والآخر‪ :‬عليكم‪ ،‬والآخ��ر‪ :‬نعم‪ ،‬والآخر‪ :‬منكم‪،‬‬
‫والآخر‪ :‬من غيركم‪ ،‬والآخر‪ :‬الوعد‪ ،‬فكانوا �إذا �أرادوا �أمرا رجعوا �إلى القداح‪،‬‬
‫ف�ضرب��وا بها‪ ،‬ثم عملوا بما يخرج من الق��داح ال يتعدونه‪ ،‬وال يجوزونه‪ ،‬وكان‬
‫لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)259‬‬

‫على كل حال‪ ،‬يبدو �أن وجود نظام �سباعي يخ�ص المو�ضوعات ي�شير �إلى �أهمية‬
‫رمزي��ة ما للرقم ‪ 7‬في اال�ستق�سام �أي�ضا‪ .‬وهو ما ي�شير �إلى �أن المي�سر واال�ستق�سام‬
‫من �أ�صل واحد‪ .‬وهو ما يوافق عليه دوتيه الذي ينقل لنا ر�أيه توفيق فهد‪« :‬كان له‬
‫[المي�سر] ولال�ستق�سام �أ�صل واحد بالت�أكيد» (فهد‪ ،‬الكهانة العربية قبل الإ�سالم‪،‬‬
‫‪��� ،2007‬ص ‪ .)154‬وي�ؤيد ا�ستخدام اال�ستق�سام لل�سهام غير المري�شة‪ ،‬مثله مثل‬
‫المي�سر‪� ،‬أنهما من �أ�صل واحد‪.‬‬

‫�أخيرا‪ ،‬يمكن القول �أن اال�ستق�سام �أمر ديني تماما ومبا�شرة‪ ،‬في حين �أن المي�سر‬
‫لي���س ممار�س��ة دينية مبا�ش��رة‪ ،‬لكنه منبثق م��ن �أ�صل ديني كم��ا �سنرى الحقا‪.‬‬
‫و�سويت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولأن �أم��ر اال�ستق�سام ديني ف�إن �أزالمه تكون في الكعبة‪« :‬قد ُزلّمت‪،‬‬
‫وو�ضع��ت في الكعبة‪ ،‬يقوم بها �سدنة البيت‪ .‬ف���إذا �أراد رجل �سفرا �أو نكاحا �أتى‬

‫‪25‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ال�سادن فقال‪� :‬أخرج لي ُزلما‪ ،‬فيخرجه وينظر �إليه‪ ،‬ف�إذا خرج قدح الأمر م�ضى‬
‫عل��ى ما عزم علي��ه‪ ،‬و�إن خرج قدح النه��ي قعد عم��ا �أراده» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫�أم��ا قداح المي�سر فهناك �أخب��ار ت�شير �إلى �أنها ربما كانت تحف��ظ في بيوت �أنا�س‬
‫محددي��ن‪« :‬وكان لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬بال‬
‫تاريخ‪� ،‬ص ‪ .)259‬وقد يكون ه�ؤالء النا�س هم �أي�ضا على ارتباط ما بالكعبة‪.‬‬

‫لكن يبدو �أنه كان هناك �أي�ضا �أزالم �شخ�صية‪ ،‬لي�س لها عالقة بالكعبة‪ ،‬ي�ستخدمها‬
‫الف��رد ب�ش�أن حياته اليومي��ة من �سفر �أو بيع و�شراء وغي��ر ذلك‪ .‬وربما كان مع‬
‫الرج��ل زلمان و�ضعهما في قرابه‪ ،‬ف���إذا �أراد اال�ستق�سام �أخرج �أحدهما» (ل�سان‬
‫العرب)‪ .‬وفي حدي��ث �سراقة وهو يطارد الر�سول المهاجر‪�« :‬أهويت بيدي �إلى‬
‫كنانت��ي‪ ،‬ف�أخرجت منها الأزالم‪ ،‬فا�ستق�سمت به��ا‪� :‬أ�ضيرهم �أم ال؟ فخرج الذي‬
‫�أكره [�أي] �أن ال �أ�ضيره��م‪ ،‬فع�صيت الأزالم‪ ،‬وركبت فر�سي‪ ،‬فرفعتها تقرب‬
‫[تجري] بي» (ل�سان الع��رب)‪ .‬وهذه نقطة اختالف رئي�سة عن قداح المي�سر‪.‬‬
‫فق��داح المي�سر ال تكون �شخ�صي��ة في ما نعتقد‪� .‬إذ يجب �أن يتفق المتقامرون على‬
‫�صالح القداح للعب‪ ،‬وهذا يقت�ضي �أن تكون بيد �أمينة ما‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫فصل ‪1‬‬

‫�شخ�صيات لعبة المي�سر‬

‫�إذا ا�ستثنين��ا المتقامرين ال�سبعة‪ ،‬المتغيرين دوما‪ ،‬ف���إن �شخ�صيات المي�سر مرتبة‬
‫عك�سيا من حيث الأهمية‪� ،‬أي �أن الأخير هو الأهم‪ ،‬وهي على ال�شكل الآتي‪:‬‬

‫البرِ م‪ :‬وهو �شخ�صية من خارج اللعبة‪ ،‬لكنه جزء رئي�سي من تقاليدها‪.‬‬


‫‪َ 1.1‬‬
‫الجزار‪.‬‬
‫‪ّ 2.2‬‬
‫الم ْج َمد‪ .‬وهو �شخ�صية مختلف عليها وينتابها الغمو�ض‪.‬‬
‫‪ُ 3.3‬‬
‫الرقيب‪.‬‬
‫‪ّ 4.4‬‬
‫الح ْر�ضة‪.‬‬
‫‪ُ 5.5‬‬

‫البرِ م‬
‫َ‬

‫البرم خ��ارج لعبة المي�سر كلها‪ ،‬كما قلنا �أعاله‪ .‬فه��و القادر الذي ال ي�شارك في‬
‫اللع��ب‪« :‬البرم‪ :‬الذي ال يدخل مع القوم في‪ ‬المي�سر» (المرزوقي‪� ،‬شرح ديوان‬
‫الحما�س��ة)‪ .‬لكنه تقليد رئي�س من تقالي��د اللعبة‪ .‬لذلك يمتلئ ال�شعر الجاهلي بذكره‬
‫على �سبيل القدح والذم‪ .‬فع��دم م�شاركته في اللعب مثلبة ناتجة عن بخله ول�ؤمه‪:‬‬
‫«الب��رم‪ :‬الذي ال يدخل مع القوم في‪ ‬المي�سر‪ ‬لبخله» (الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال)‪.‬‬
‫وال يطل��ق اال�سم «البرم» �إال على المو�سر القادر الذي ال ي�شارك في اللعب‪� .‬أما‬
‫غير القادر فال يو�صف ب�أنه برم‪�« :‬ألأم من‪ ‬البرم‪ :‬هو الذي ال يدخل مع الأي�سار‬
‫في‪ ‬المي�س��ر‪ ،‬وه��و مو�س��ر‪ .‬وال ي�سمى برم��ا �إذا كان الذي يمنع��ه غير البخل»‬
‫(الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال)‪ .‬ول�سنا ن��دري ا�شتقاق كلمة (برم) ب�شكل م�ؤكد‪ .‬فال‬

‫‪27‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫يب��دو �أنها من ال�ضجر وال�س�أم‪ .‬كما ال يبدو �أنها م��ن الفتل والبرم‪ .‬كذلك ال يبدو‬
‫�أنه��ا على عالقة ببرم الحج��ارة �أي قطعها ونحته��ا �أدوات‪ .‬لكن هناك في جذر‬
‫«برم» ما ي�شي��ر �إلى �سوء الخلق‪« :‬البرم‪ :‬القوم ال�سيئ��و الأخالق»‪ .‬غير �أننا ال‬
‫ن�ستطي��ع �أن نحكم �إن كان هذا المعنى �أ�صليا في الجذر‪� ،‬أم �أنه ا�شتق من �شخ�صية‬
‫البرم في المي�سر‪.‬‬

‫الجزار‬

‫الج��زار هو الذي يذبح الجزور ويقطعها‪ ،‬وال عالق��ة مبا�شرة له باللعب‪ .‬غير‬
‫�أن��ه‪ ،‬مثله مثل الرقيب والحر�ضة‪ ،‬يح�ص��ل على ح�صته من لحم الجزور‪ .‬وما‬
‫يح�ص��ل عليه ه��و �أجرته على عمله‪ .‬وهو يتكون مما يتبق��ى من �أجزاء الجزور‬
‫بعد تق�سيمها‪« :‬و�أما الجزار فيعطى مما يبقى بعد الق�سم من عظم �أو ن�صف عظم‪،‬‬
‫الر ْيم» (البقاعي‪ ،‬نظ��م الدرر)‪ .‬وم��ا ي�أخذه يدعى‬
‫وي�سمون��ه [�أي م��ا يتبق��ى] ّ‬
‫«الجزارة‪ ،‬بال�ضم‪:‬‬
‫الجزارة‪ ،‬وهو مكون من القوائ��م والر�أ�س وقطع �أخرى‪ُ :‬‬ ‫ُ‬
‫ما ي�أخذ الجزار من الذبيحة عن �أجرته‪ ...‬وت�سمى قوائم البعير ور�أ�سه جزارة؛‬
‫لأنها كان��ت ال تق�سم في‪ ‬المي�سر‪ ،‬وتعط��ى الجزار» (ل�سان الع��رب)‪ .‬غير �أننا‬
‫�سنكت�ش��ف الحقا �أنه ربما يكون للجزار عالقة ما بواحد من القداح الأغفال‪ .‬كما‬
‫�سنكت�شف �أن ح�صته ‪� -‬أجرته تو�ضع ككومة بين �أكوام لحم الجزور الع�شرة‪.‬‬

‫الم ْج َمد‬
‫ُ‬

‫المجمد �شخ�صية غير وا�ضحة‪ ،‬ولعله مجرد ا�سم ثان لإحدى ال�شخ�صيات الأخرى‬
‫الت��ي ذكرناه��ا‪ .‬وخذ ما يقوله ل�س��ان العرب‪ ،‬على �سبيل المث��ال‪ ،‬لتعرف مقدار‬
‫الخ�لاف حوله‪« :‬المجمد‪ :‬البرم‪ ،‬وربما �أفا�ض بالق��داح لأجل الأي�سار‪ .‬قال ابن‬
‫�سيده‪ :‬والمجمد‪ :‬البخيل المت�شدد؛ وقيل‪ :‬هو الذي ال يدخل في‪ ‬المي�سر‪ ،‬ولكنه يدخل‬
‫بين �أهل‪ ‬المي�سر‪ ،‬في�ضرب بالقداح وتو�ضع على يديه‪ ،‬وي�ؤتمن عليها‪ ،‬فيلزم الحق‬
‫من وجب عليه ولزمه‪ .‬وقيل‪ :‬هو الذي لم يفز قدحه في‪ ‬المي�سر» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وهكذا‪ ،‬فالمجمد هو البرم‪ ،‬الذي ال ي�شارك لبخله في لعبة المي�سر �أ�صال‪ ،‬ويعاب‬
‫ب�سبب ذلك‪ .‬كما �أنه الم�ؤتمن على القداح‪ .‬كذلك فهو الخا�سر الذي لم يفز قدحه‪.‬‬
‫لكنه �أي�ضا‪ ،‬وح�س��ب المقتب�س‪ ،‬ي�شارك �أحيانا في �إفا�ضة القداح‪ .‬وم�شاركته هذه‬
‫تجعل��ه �شبيها بالحر�ض��ة‪ .‬فالحر�ضة هو ال��ذي يفي�ض الق��داح ويجيلها‪ .‬وهناك‬
‫بالفعل م��ن ر�أى �أنه هو الحر�ضة فعال‪« :‬المجمد‪ :‬الحر�ضة»‪( ‬ابن قتيبة‪ ،‬المعاني‬
‫الكبير)‪ .‬وهذا الر�أي منتزع ربما من بيت لبيد عن القدح‪:‬‬

‫على النار‪ ،‬وا�ستودعته كف مجمد‬ ‫و�أ�صفر م�ضبوح نظرت حواره‬

‫فق��د ا�ستودع القدح «ك��ف مجمد»‪ .‬وقد افتر�ض �أن من يم�س��ك بالقداح بكفه هو‬
‫الحر�ض��ة‪ .‬وزاد م��ن قوة هذا ال��ر�أي �أن المجمد هو البخيل ف��ي اللغة‪ .‬وبما �أن‬
‫الحر�ض��ة بخيل «لم ي���أكل لحما بثمن ق��ط» كما تقول عنه جمل��ة �شهيرة‪ ،‬فال بد‬
‫�أن المجم��د هو الحر�ضة‪ .‬لكن هذا يتناق�ض مع فكرة �أن��ه ي�ؤتمن على القداح كما‬
‫ر�أينا �أعاله‪« :‬تو�ضع [القداح] عل��ى يديه وي�ؤتمن عليها‪ ،‬فيلزم الحق من وجب‬
‫عليه ولزمه»‪ .‬ي�ضيف الل�س��ان في مكان �آخر‪« :‬قيل‪ :‬المجمد هنا الأمين» (ل�سان‬
‫الع��رب)‪ .‬فكيف يكون بخيال مذموما و�أمينا عل��ى القداح في الوقت عينه؟ ثم �إن‬
‫�أحدا لم يقل �أن الحر�ضة �أمين على القداح‪ .‬على العك�س‪ ،‬فكل �شيء يدل على �أنه‬
‫يحظر عليه ج�س القداح وتح�س�سها‪.‬‬

‫بن��اء عليه‪ ،‬ربما لم تكن هن��اك �شخ�صية م�ستقلة تدعى المجم��د‪ .‬و�إذا كان هناك‬
‫مجم��د حقا‪ ،‬فمن المحتمل �أن يكون هو «�أمين القداح»‪ ،‬الذي يت�أكد من مطابقتها‬
‫للمعايي��ر‪ .‬غي��ر �أن كل ال�شخ�صي��ات الم�شاركة في المي�سر من غي��ر المتقامرين‬
‫معروف��ة وتح�صل على ح�صة من لحم الجزور «الجزار‪ ،‬الرقيب‪ ،‬الحر�ضة»‪،‬‬
‫في حين �أننا لم ن�سمع عن ح�صة للمجمد‪ .‬وهذا ما ي�شير �إلى �أنه ا�سم �آخر للحر�ضة‬
‫�أو الرقي��ب‪� ،‬أو �أن��ه لي�س �شخ�صي��ة مهمة في اللعبة‪ .‬فهو موج��ود لكن بعيدا عن‬
‫اللعبة‪� .‬أي �أن مهمته هي‪ ،‬ربما‪ ،‬الحفاظ على القداح �إلى �أن يحين وقت اللعبة‪،‬‬
‫حي��ث ي�سلمها‪ ،‬وينته��ي دوره‪ .‬و�إذ نعتقد في الأ�صل الدين��ي للعبة المي�سر‪ ،‬فمن‬
‫المحتمل جدا �أن القداح كانت ملكية للمعبد المكي‪ .‬ولعلها كانت تحفظ فيه �إلى �أن‬
‫ي�أتي وقت اللعبة‪ .‬ولعل المجمد يكون واحدا من خدم المعبد الذين يعتنون بالقداح‬

‫‪29‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الت��ي يملكها المعبد‪� .‬أو لعل القداح تعر�ض علي��ه‪ ،‬فيحدد �إذا كانت �صالحة للعب‬
‫�أم ال‪ .‬وكالم اليعقوب��ي الذي قب�سن��اه �سابقا ي�ؤيد �أنه كان هناك �أمناء على القداح‪:‬‬
‫«وكان لهم �أمناء على القداح ال يثقون بغيرهم»‪� .‬صحيح �أن حديث اليعقوبي هنا‬
‫عن ق��داح اال�ستق�سام ال المي�سر‪ ،‬وهي الأزالم‪ ،‬لكن ربما كان ذلك ينطبق على‬
‫قداح المي�سر‪.‬‬

‫الرقيب‬

‫م��ن وجهة نظر اللعبة‪ ،‬فالرقيب هو �أهم �شخ�صية في المي�سر كله‪ ،‬مع �أن ما لدينا‬
‫الح ْر�ض��ة‪ .‬ومن خالل ما لدينا يب��دو �أنه الم�سيطر‬
‫عن��ه �أقل بكثير مم��ا لدينا عن ُ‬
‫عل��ى اللعبة‪ ،‬بل والحكم الفعلي له��ا‪ ،‬ومراقب تنفيذ قوانينها‪ .‬لذا فح�صته في لحم‬
‫الح ْر�ضة‪:‬‬
‫الج��زور �أهم ح�صة على الإطالق‪ ،‬وهي �أعلى �ش�أن��ا بكثير من ح�صة ُ‬
‫«ف�أم��ا �أجر الرقي��ب فيعطاه من �أول الق�سم‪ ،‬وهو �أف�ض��ل اللحم‪ ،‬وي�سمونه بدءا‪.‬‬
‫و�أم��ا الحر�ضة فيعطى لحما دون ذل��ك» (البقاعي‪ ،‬نظم ال��درر)‪ .‬وهو يراقب‬
‫الحر�ض��ة وعمله‪« :‬ويقوم عل��ى ر�أ�سه [ر�أ�س الحر�ضة] رج��ل ي�سمى الرقيب»‬
‫(القلق�شندي‪� ،‬صبح الأع�شى)‪ .‬ي�ضيف الدينوري‪« :‬والرقيب‪ :‬الموكل بال�ضريب‬
‫[= الحر�ض��ة]‪ .‬ورقيب القداح‪ :‬الأمين على ال�ضري��ب» (ل�سان العرب)‪ .‬لكن‬
‫مهمته �أو�سع من ذلك‪ .‬فهو الذي‪« :‬يدفع ربابة القداح �إلى الحر�ضة‪ ...‬ف�إذا نهد‬
‫فيها قدح تناول��ه ودفعه �إلى الرقيب» (القلق�شندي‪� ،‬صب��ح الأع�شى)‪� .‬إذن‪ ،‬فهو‬
‫م��ن ي�سلم القداح ف��ي ربابتها للحر�ضة بعد �أن يت�أكد م��ن الو�ضع كله‪ ،‬ومن تمام‬
‫اال�ستع��دادات للعب‪ .‬ثم �إنه يتلقى م��ن الحر�ضة ال�سهام الطالعة كي ينظر فيها �إن‬
‫كانت رابحة �أو كانت من القداح الأغفال‪.‬‬

‫وب�سب��ب دوره الكبي��ر ي�سميه بع�ضهم �أمي��ن �أ�صحاب المي�سر‪« :‬وقي��ل‪ :‬هو �أمين‬
‫�أ�صحاب‪ ‬المي�سر» (ل�سان العرب)‪ .‬لكن كل ما �أوردناه عن الرقيب ال يوحي حتى‬
‫الآن بعالق��ة دينية ما‪� .‬إنه خبير قانوني للعب��ة ما‪ ،‬ال �أكثر‪ .‬غير �أن جملة واحدة‬
‫فالعيوق‬
‫العيوق �أ�سا�سا ال بلعبة المي�سر ربما �أر�ست �أ�سا�سا دينيا لدوره‪ّ .‬‬
‫تتعلق بنجم ّ‬
‫ي�سم��ى رقيب الثريا‪« :‬و�إنما �سم��ي العيوق‪ ‬رقيب‪ ‬الثريا‪ ‬ت�شبيه��ا برقيب المي�سر»‬

‫‪30‬‬
‫زكريا محمد‬

‫(ابن دريد‪ ،‬جمهرة اللغة)‪ .‬ي�ضيف الزبي��دي‪« :‬قيل للعيوق‪ ‬رقيب‪ ‬الثريا‪ ‬ت�شبيها‬


‫برقي��ب المي�سر‪ ،‬ولذلك قال �أبو ذ�ؤيب‪ :‬ف��وردن والعيوق مقعد رابئ‪ /‬ال�ضرباء‬
‫خلف النجم ال يتتلع» (الزبيدي‪ ،‬تاج العرو�س)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فقد �سمي العيوق رقيب الثريا ت�شبيها برقيب لعبة المي�سر‪ .‬وهو يتخذ موقعه‬
‫خلف الثريا كما يتخ��ذ رقيب المي�سر موقعه خلف الحر�ضة كي يراقبه‪ .‬فهو‪� ،‬أي‬
‫العي��وق‪ ،‬يقعد «مقعد رابئ ال�ضرباء»‪ ،‬كما يق��ول ال�شاعر‪� ،‬أي في مثل المكان‬
‫ال��ذي يقعد فيه رقيب‪ ‬ال�ضرباء‪� ،‬أي رقيب الحر�ض��ة‪ .‬فال�ضريب هو الحر�ضة‪.‬‬
‫ومن المحتمل �أن ال�ضرباء هنا تعني المتيا�سرين عموما‪ .‬بالتالي‪ ،‬فرابئ ال�ضرباء‬
‫تعني رقيب الأي�سار‪� .‬أما يتتلع فتعني �أنه ثابت ال يتحرك‪« :‬ولزم فالن مكانه فما‬
‫يتتلّ��ع‪� ،‬أي ما يرفع ر�أ�سه للنهو�ض» (الخلي��ل‪ ،‬العين)‪ .‬ويبدو �أن الرقيب الذي‬
‫يق��ف خلف الحر�ض��ة‪ ،‬كان يقف ثابتا عل��ى من�صة تعلوه ك��ي ي�ستطيع مراقبته‪،‬‬
‫ومراقبة اللعبة‪.‬‬

‫وهن��اك م��ن يدع��ي �أن الدب��ران ه��و رقي��ب الثري��ا‪« :‬طلع‪ ‬رقيب‪ ‬الثريا‪ ‬وهو‬


‫الدب��ران؛ لأن��ه يتبعه��ا ال يفارقه��ا �أبدا فال ي��زال يرق��ب طلوعه��ا‪ ،‬ويقال‪ :‬ال‬
‫�آتي��ك �أو يلقى‪ ‬الثريا‪ ‬رقيبه��ا‪ .‬قال جمي��ل‪� :‬أحقا عباد الله �أن ل�س��ت القيا‪ /‬بثينة �أو‬
‫يلقى‪ ‬الثريا‪ ‬رقيبه��ا» (الزمخ�شري‪� ،‬أ�سا�س البالغ��ة)‪ .‬لكننا نعتقد �أن الأمر يتعلق‬
‫بالعيوق ال بالدبران‪.‬‬

‫و�أي��ا كان الأمر كذلك‪ ،‬ف�إن الأم��ر يجب �أن يكون معكو�سا ف��ي الأ�صل‪ .‬فرقيب‬
‫المي�سر ي�سم��ى بالرقيب ت�شبيها برقيب الثريا ال العك�س ف��ي اعتقادنا‪ .‬فال�سماء ت�أتي‬
‫�أوال‪ .‬فما يحدث على الأر�ض �إنما هو انعكا�س لأحداثها‪� ،‬أو ظل لها‪ .‬وحين نعرف‬
‫�أن لعب��ة المي�سر مرتبطة بطل��وع الثريا‪ ،‬كما �سنرى الحق��ا‪� ،‬أي �أن طلوع الثريا‬
‫ه��و الذي يحدد موعد لعبها‪ ،‬ف�إن العالقة بين رقيب المي�سر ورقيب الثريا‪ ،‬ت�صبح‬
‫مثي��رة جدا‪� .‬أي �أنها ال تكون مجرد مجاز طارئ‪ .‬ويزداد الت�شويق ب�ش�أن الرقيب‬
‫حين نكت�شف �أن الرقيب ‪ -‬النجم ورد ذكره في حديث حفر بئر زمزم �أي�ضا‪« :‬وفي‬
‫حديث حفر زمزم‪ :‬فغار �سهم الل��ه ذي‪ ‬الرقيب» (ابن الأثير المحدث‪ ،‬النهاية في‬
‫غريب الحديث)‪ .‬لكننا �سوف نناق�ش هذه الجملة الغام�ضة‪ ،‬والمهمة جدا‪ ،‬الحقا‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الح ْر�ضة‬
‫ُ‬

‫الحر�ضة هو الذي يجي��ل القداح في الربابة‪� ،‬أي ينكثها ويهزها‪ ،‬ثم ي�أخذ ما ينبز‬
‫منها‪ ،‬ويعطيه للرقيب كي يقرر ب�ش�أنه‪ .‬وهو من وجهة نظرنا‪ ،‬ال من وجهة نظر‬
‫اللعب��ة‪� ،‬أهم �شخ�ص ف��ي لعبة المي�سر �إطالقا‪ .‬فهو من نراه��ن عليه لإنارة طابع‬
‫اللعب��ة الديني‪ .‬وله عدة �أ�سماء‪« :‬المجيل‪ ،‬والمفي���ض‪ ،‬وال�ضارب وال�ضريب»‬
‫«تف�سير القرطبي»‪ .‬ولدينا و�صف عن كيف يقوم بعمله‪:‬‬

‫«ف���إذا جز�أوا‪ ‬الجزور‪ ‬عل��ى ذلك‪� ،‬أتوا برج��ل ي�سمونه الحر�ضة؛ م��ن �ش�أنه �أنه‬
‫ل��م ي�أكل لحما ق��ط بثمن‪ .‬وي�ؤتى بالق��داح‪ ،‬فت�شد مجموعة ف��ي قطعة جلد ت�سمى‬
‫يلف الحر�ضة على يده اليمنى ثوبا‪ ،‬لئال يجد م�س قدح له مع �صاحبه‬ ‫الربابة‪ .‬ثم ّ‬
‫ه��وى فيحابيه في �إخراجه‪ .‬ثم ي�ؤتى بث��وب �أبي�ض‪ ،‬ي�سمى المجول‪ ،‬فيب�سط بين‬
‫يدي الحر�ضة‪ .‬ويقوم على ر�أ�سه رجل ي�سمى الرقيب‪ ،‬ويدفع ربابة القداح �إلى‬
‫الحر�ض��ة‪ ،‬وهو محول الوجه عنه��ا‪ ،‬في�أخذ الربابة التي تجم��ع فيها القداح �إلى‬
‫الحر�ضة‪ ،‬ويدخل يده تحت الثوب فينكز القداح ف�إذا نهد فيها قدح تناوله‪ ،‬ودفعه‬
‫�إلى الرقيب» (القلق�شندي‪� ،‬صبح الأع�شى)‪.‬‬

‫وهن��اك من يقول �أن عينيه تع�صب��ان �أي�ضا‪« :‬وتك�سى يده �أديما‪ ،‬لكي ال يجد م�س‬
‫ق��دح له فيه ر�أي‪ ،‬وت�شد عيناه» (البقاعي‪ ،‬نظ��م الدرر)‪ .‬ويعتقد �أن الهدف من‬
‫لف يده �إنما هو منعه من محاباة �أي كان‪ ،‬كما ر�أينا في المقتب�س �أعاله‪ ،‬وكما ي�ؤكد‬
‫م�س قدح له فيه هوى‪ ،‬فيحابي‬ ‫الأخف�ش الأ�صغر‪« :‬و�إنما يل��ف يده‪ ،‬لئال يعرف ّ‬
‫في��ه» (الأخف�ش الأ�صغر‪ ،‬كتاب االختيارين)‪ .‬ويفتر�ض �أن ع�صب العينين‪� ،‬إن‬
‫كان��ت عيناه تع�صبان حقا‪ ،‬له الهدف ذاته‪ .‬غير �أن هناك اختالفات كثيرة حول‬
‫الربابة والمجول‪� ،‬سنتطرق لها �أدناه‪.‬‬

‫اليد اليمنى �أم الي�سرى؟‬

‫�إذن‪ ،‬فالي��د اليمنى للحر�ضة تربط‪ ،‬وتم�سك بالربابة‪ ،‬ثم تقوم اليد الي�سرى بما‬

‫‪32‬‬
‫زكريا محمد‬

‫تبقى‪« :‬في�أخذها [�أي ربابة القداح] بيمينه‪ ،‬ويدخل �شماله من تحت الثوب فينكز‬
‫الق��داح ب�شماله» (ابن حبي��ب‪ ،‬المحبر)‪ .‬ثم يخرج بهذه الي��د ما نبز من القداح‬
‫وبرز‪ ،‬كما م��ر �أعاله في مقتب�س القلق�شندي‪« :‬ويدخ��ل يده تحت الثوب فينكز‬
‫الق��داح ف�إذا نهد فيها ق��دح تناوله‪ ،‬ودفعه �إلى الرقي��ب»‪ .‬وي�ستنتج فهد من كل‬
‫ه��ذا �أن لعبة المي�سر هي لعبة اليد الي�سرى‪� ،‬أي لعب��ة الأع�سر على حد تعبيره‪.‬‬
‫لك��ن فهد يوافق‪ ،‬من ناحي��ة ثانية‪ ،‬على �أن اليد اليمنى تل��ف «بقطعة من الجلد‬
‫�أو القما���ش‪ ،‬تمنعه��ا من تعرف الق��داح عن طريق مالم�سته��ا» (فهد‪ ،‬الكهانة‬
‫العربي��ة‪��� ،2007 ،‬ص ‪� .)155‬أي تلف لدرء احتم��ال الغ�ش‪ .‬وهذا يعني �أنه‬
‫يوافق على التف�سير ال�سائد لربط اليد اليمنى‪ .‬وفي هذا تناق�ض‪ .‬فاليد التي يمكن‬
‫له��ا �أن تغ�ش في ه��ذه الحال هي الي��د الي�سرى‪ .‬فهي التي ت�ض��رب القداح من‬
‫الأ�سف��ل كي تنبز من �أعلى الربابة‪ ،‬ولي�س��ت اليمنى‪ .‬فاليمنى تقب�ض بي�سر على‬
‫الربابة فقط‪ .‬عليه‪ ،‬فقد كان الأولى ربط اليد الي�سرى‪ .‬وهذا ما يلزمنا بالبحث‬
‫عن �سبب �آخر لربط اليد اليمنى‪.‬‬

‫لك��ن خبر ابن حبيب‪ ،‬ال��ذي يتحدث عن اليد الي�سرى‪ ،‬يعط��ي دعما ما لفر�ضية‬
‫توفي��ق فهد‪ ،‬التي ترى �أن لعبة المي�سر هي لعب��ة الأع�سر‪ ،‬م�صداقية ما‪« :‬وعلى‬
‫ه��ذا النحو ف�إن المي�سر �ص��ار بب�ساطة‪ ،‬ول�سبب ما لعب��ة «الأع�سر» من دون �أن‬
‫يك��ون ممكنا تف�سير الكيفي��ات ال�صرفية لحالته الراهنة» (فه��د‪ ،‬الكهانة العربية‪،‬‬
‫‪� ،2007‬ص ‪ .)153‬ول�سنا ندري �إن كان فهد قد عني الأع�سر فعال‪� ،‬أم �أنه عنى‬
‫اليد الي�سرى‪ .‬وقد تكون الترجمة العربية هي التي �أعطت االنطباع ب�أن الحر�ضة‬
‫�أع�سر‪ .‬ذلك �أن ثمة فرقا بين ا�ستخدام اليد الي�سرى وبين الع�سر‪ .‬ولو كان ينبغي‬
‫للحر�ض��ة �أن يكون �أع�سر‪� ،‬أي �أنه رج�لا ي�ستخدم ي�سراه خلقة‪ ،‬لتم الحديث عنه‬
‫في الم�صادر العربية لطرافت��ه وغرابته‪ .‬بالتالي‪ ،‬فمن الأف�ضل �أخذ فر�ضية فهد‬
‫على �أنها تعني �أنها لعبة اليد الي�سرى‪ ،‬ال لعبة ال�شخ�ص الأع�سر‪ .‬و�إذا �صحت هذه‬
‫الفر�ضي��ة‪ ،‬فمن المحتمل �أن تكون اليد الي�سرى على عالقة ب (�أ�صحاب الي�سار)‬
‫الذي��ن ورد ذكرهم في القر�آن‪ .‬وقد ناق�شنا �أمر �أ�صحاب الي�سار و�أ�صحاب اليمين‬
‫ف��ي كتابنا عن الطوائف المكية الثالث‪ :‬الحم�س والطل�س والحلة‪ .‬وتو�صلنا حينها‬

‫‪33‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�إلى �أن م��ن المحتمل �أن يكون �أ�صحاب الي�سار هم الحم�س‪ ،‬و�أن يكون �أ�صحاب‬
‫اليمين هم الحلة‪.‬‬

‫بن��اء على ذلك‪ ،‬ف�إن الغالب �أن اليد التي كانت تربط‪ ،‬وهي اليمنى في الأغلب‪،‬‬
‫ربما كانت تربط ل�سبب �سحري‪ .‬وهذا ما �سيقودنا �إلى المجول‪.‬‬

‫وظيفة المجول‬

‫ثم��ة خالف �شديد حول المجول‪ .‬فهو �أحيانا ث��وب ما يرتديه الحر�ضة‪ ،‬لكنه في‬
‫�أحيان �أخرى قطعة قما�ش ُت�شد على يده‪� ،‬أو ثوب يغطي يده‪« :‬يعمد �إلى القداح‪،‬‬
‫فت�ش��د مجموعة في قطعة جلد ت�سمي الربابة‪ ،‬ثم يعمد �إلى الحر�ضة فيلف على يده‬
‫اليمنى �صنفة ثوب لئال يجد م�س قدح له في �صاحبه هوى‪ ،‬فيحابيه في �إخراجه‪.‬‬
‫ثم ي�ؤتى بثوب �أبي�ض‪ ،‬يدعى المجول‪ ،‬فيب�سط بين يدي الحر�ضة‪ .‬ثم يقوم على‬
‫ر�أ�س��ه رجل يدعى الرقيب‪ ،‬ويدف��ع ربابة القداح �إلى الحر�ض��ة» (ابن حبيب‪،‬‬
‫المحب��ر)‪ .‬وكما نرى فابن حبيب يتحدث عن �صنفة ثوب‪� ،‬أي قطعة ثوب‪ُ ،‬تلف‬
‫عل��ى يد الحر�ضة اليمنى‪ ،‬وعن ثوب �أبي���ض‪ ،‬يدعى المجول‪ ،‬يب�سط بين يديه‪.‬‬
‫�أي �أنن��ا مع �أمرين مختلفين‪ .‬وهو ال يخبرن��ا عن غر�ض ب�سط المجول بين يدي‬
‫الحر�ضة‪� .‬أم��ا القلق�شندي‪ ،‬فكان قد �أخبرنا‪ ،‬في مقتب���س �سابق‪� ،‬أن يد الحر�ضة‬
‫تعبر تحت ه��ذا الثوب لتنكز القداح‪« :‬ويدخل يده تح��ت الثوب‪ ،‬فينكز القداح‪،‬‬
‫ف�إذا نهد [برز] فيها قدح تناوله ودفعه �إلى الرقيب»‪.‬‬

‫غي��ر �أن اليعقوبي يحدثنا عن قطعة قما�ش واحدة فق��ط‪ ،‬هي المجول‪ ،‬و�أنها هي‬
‫ذاته��ا الت��ي تربط على يد الحر�ض��ة‪« :‬ف�إذا عرف كل رجل منه��م قدحه‪ ،‬دفعوا‬
‫الق��داح �إل��ى رجل �أخ���س ال ينظر �إليها‪ ،‬مع��روف �أنه لم ي�أكل لحم��ا قط بثمن‪،‬‬
‫وي�سمى الحر�ضة‪ ،‬ثم ي�ؤتى بالمجول‪ ،‬وهو ثوب �شديد البيا�ض‪ ،‬فيجعل على يده‬
‫ويعم��د �إلى ال�سلفة‪ ،‬وهي قطعة من جراب‪ ،‬فيع�ص��ب بها على كفه لئال يجد م�س‬
‫قداح يكون له في �صاحبه ه��وى‪ ،‬فيخرجه» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص‬
‫‪ .)260‬عليه‪ ،‬فثمة ثوب واحد فقط‪� ،‬شديد البيا�ض‪ ،‬يلف على يد الرجل اليمنى‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ث��م يرب��ط على اليد والثوب مع��ا ب�سلفة‪� ،‬أي �شريط جراب‪ ،‬حت��ى ي�ضمن �أن ال‬
‫ي�سقط الثوب عن اليد‪ .‬عليه‪ ،‬فلي�س عنده ثوب تنكز القداح من تحته‪.‬‬

‫�أم��ا اب��ن عا�شور المت�أخر‪ ،‬فيخبرن��ا‪ ،‬متفقا مع اليعقوب��ي‪� ،‬أن المجول هو الذي‬
‫يلف على اليد‪ .‬لكنه ي�ؤك��د �أن هناك ثوبا �آخر يلب�سه الحر�ضة ويخرج ر�أ�سه منه‪:‬‬
‫«ويجعل��ون على يديه خرقة بي�ض��اء ي�سمونها المجول‪ ،‬يع�صبونه��ا على يديه �أو‬
‫جلدة رقيقة ي�سمونها ال�سلفة‪ ...‬ويلتحف هذا الحر�ضة بثوب يخرج ر�أ�سه منه‪ ،‬ثم‬
‫يجثو على ركبتي��ه‪ ،‬وي�ضع الربابة بين يديه» (بن عا�شور‪ ،‬التحرير والتنوير)‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬فالقطعة التي ت�شد على يد الحر�ضة هي المجول‪ .‬وهي مختلفة عن الثوب‬
‫المفت��وح من �أعلى ال��ذي يدخل الحر�ضة فيه ر�أ�سه وي�سدل��ه على ج�سده‪ ،‬وعلى‬
‫ي��ده الي�سرى التي تنك��ز القداح‪ .‬ونحن �أميل �إلى هذا فع�لا‪� .‬أي �إلى �أن المجول‬
‫ه��و قطعة القما�ش الت��ي ُتلف على يد الحر�ض��ة وتربط‪� .‬أما الث��وب‪� ،‬أو الكي�س‬
‫المفت��وح‪ ،‬فهو الذي يرتديه الحر�ضة وينكز القداح م��ن تحته‪ .‬كما �أننا نعتقد �أن‬
‫الحر�ضة ي�شيح بوجهه عن القداح‪ ،‬وال تع�صب عيناه كما افتر�ض بع�ضهم‪.‬‬

‫لكن ال�س�ؤال هو‪ :‬لماذا تلف يد الحر�ضة بالمجول؟‬

‫الم�ص��ادر العربية‪ ،‬كم��ا ر�أينا �أعاله‪ ،‬تخبرنا �أن ي��د الحر�ضة تلف كي ال تتمكن‬
‫ي��ده من التعرف على القداح‪ ،‬فيحابي �أحدهم ويخ��رج له قدحه‪ .‬وقد �أبطلنا هذه‬
‫الحج��ة �أع�لاه‪� ،‬إلى حد ما‪ .‬لذا ربما ح��ق لنا �أن نفتر�ض ب���أن اليد تغطى حماية‬
‫له��ا‪ ،‬ولي�س ل�ضمان ع��دم الغ�ش من قبل الحر�ضة‪� .‬أي �أن ه��ذا الربط نوع من‬
‫التعوي��ذة الحامية‪ .‬ي�ؤيد ه��ذا �أن المجول بالعربية يعني‪ :‬الع��وذة‪� ،‬أي التعويذة‪:‬‬
‫«قال اب��ن الأعرابي‪ :‬المجول‪ :‬الدره��م ال�صحيح‪� ،‬أي�ضا‪ :‬الع��وذة» (الزبيدي‪،‬‬
‫تاج العرو���س)‪ .‬ي�ضيف الأزه��ري‪« :‬والمجول‪ :‬الع��وذة‪ ،‬والمجول‪ :‬الحمار‬
‫الوح�شي‪ ،‬والمجول‪ :‬ه�لال من ف�ضة يكون و�سط القالدة» (الأزهري‪ ،‬تهذيب‬
‫اللغة)‪ .‬والعوذة هي التميمة‪� ،‬أي رقي��ة الحماية‪« :‬الرقية‪ :‬العوذة‪ ‬التي يرقى بها‬
‫�صاحب الآفة كالحمى وال�صرع وغير ذلك من الآفات» (ل�سان العرب)‪ .‬ي�ضيف‬
‫الأزهري‪« :‬التميمة قالدة من �سيور‪ ،‬وربما جعلت‪ ‬العوذة‪ ‬التي تعلق في �أعناق‬
‫ال�صبي��ان» (الأزه��ري‪ ،‬تهذي��ب اللغ��ة)‪� .‬إذن‪ ،‬فالمجول تميم��ة تربط على يد‬

‫‪35‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الحر�ضة اليمنى كي تحميها‪ .‬لكن ما الخطر الذي تتعر�ض له هذه اليد حتى تحمى‬
‫منه؟ والجواب ه��و �أن اليد اليمنى تقوم بمهمة ديني��ة‪ .‬فتقطيع الجزور وتق�سيمه‬
‫بي��ن المتقامرين مهمة ديني��ة في الأ�صل‪ ،‬ولي�ست مجرد لعب��ة قمار‪ .‬و�إذا وافقنا‬
‫عل��ى مقترح فه��د القائل ب�أن لعبة المي�سر هي لعبة الي��د الي�سرى‪ ،‬ف�إن اليد اليمنى‬
‫تكون بريئة‪ .‬فهي ال دخل لها في تقطيع الجزور وتق�سيمه‪ .‬عليه‪ ،‬يكون المجول‬
‫تعويذة لإعالن براءة ما‪ .‬فهي مربوطة وال تفعل �شيئا‪.‬‬

‫لكن لعل الأم��ر على العك�س من هذا تماما‪ .‬فاليد الي�سرى تقوم بمهمة هي مهمتها‬
‫ديني��ا‪� ،‬أي �أنه ال خطر عليها‪� .‬أم��ا اليمنى فالخطر داهم عليه��ا لأنها ت�شارك في‬
‫مهمة لي�ست لها‪ ،‬الأمر الذي يجعلها بحاجة �إلى الحماية‪.‬‬

‫لكن ه��ذا يثير م�شكلة كبي��رة فا�سم المجول ي�شي��ر �إلى الإجال��ة‪� ،‬أي �إلى تحريك‬
‫الق��داح وهزها‪ .‬بالتالي‪ ،‬فاليد التي ترب��ط بالمجول يجب �أن تكون هي اليد التي‬
‫تجي��ل القداح‪� ،‬أي تهزها‪ .‬وهي بحاجة �إلى حماي��ة المجول لأنها تجيل القداح‪.‬‬
‫وهذا م��ا يفتح الباب لمناق�ضة فه��د وابن حبيب معا‪ .‬فاليد اليمن��ى هي التي تجيل‬
‫القداح‪� ،‬أي تهزها وتنكثها‪ ،‬ال اليد الي�سرى‪.‬‬

‫عل��ى كل ح��ال‪ ،‬فالمو�ضوع غام�ض معقد‪ ،‬ولي�س من ال�سه��ل تقديم حكم نهائي‬
‫ب�ش�أنه‪ .‬لذا نترك �أمر الحكم للم�ستقبل‪.‬‬

‫لم ي�أكل لحما بثمن قط‬

‫يو�صف الحر�ضة بجملتين �شديدتي الغمو�ض‪ ،‬فهو‪« :‬رجل يت�أله عندهم‪ ،‬لم ي�أكل‬
‫لحم��ا قط بثمن» (الآبي‪ ،‬نثر الدر)‪ .‬وت�ضاف �إلى هاتين ال�صفتين �صفة الخ�سا�سة‬
‫والنذالة كما ورد �أعاله في مقتب�س اليعقوبي‪« :‬ف�إذا عرف كل رجل منهم قدحه‪،‬‬
‫دفعوا الق��داح �إلى رجل �أخ�س»‪ .‬ي�ضيف الل�سان ع��ن الحر�ضة‪« :‬الذي ي�ضرب‬
‫للأي�س��ار بالقداح‪ ،‬ال يكون �إال �ساقطا‪ ،‬يدعون��ه بذلك لرذالته» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫يزي��د ابن قتيبة‪« :‬وال يجعل حر�ضة �إال كل وخ���ش [= رذل] من الرجال» (ابن‬
‫قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪� .‬إذن فالحر�ضة‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫زكريا محمد‬

‫‪1.1‬رجل يت�ألّه‬

‫‪2.2‬لم ي�أكل لحما بثمن قط‬

‫‪�3.3‬أنه رجل نذل خ�سي�س‪.‬‬

‫هذه هي الجمل النثرية الثالث الأ�سا�سية التي و�صلتنا عن �صفات الحر�ضة‪ .‬بالطبع‬
‫هناك جمل و�صلتنا عن كيفية �أدائه لمهمته في اللعب‪ ،‬وعن المالب�س التي ي�ضعها‬
‫عل��ى ج�سمه ويده‪ ،‬كما مر‪ .‬لكن بخ�صو���ص �شخ�صه‪ ،‬فلي�س لدينا �إال هذه الجمل‬
‫الأ�سا�سية الثالث‪ .‬وعلى هذه الجمل يجب �أن ن�ستند لك�شف جذور الحر�ضة‪.‬‬

‫وق��د افتر�ض بع�ضهم �أن الحر�ضة ن��ذل خ�سي�س؛ لأنه «لم ي�أكل لحما بثمن قط»‪،‬‬
‫عل��ى فر�ض �أن ه��ذه الجملة تعني �أنه بخي��ل ال يدفع ثمن اللحم ال��ذي ي�أكله‪ ،‬بل‬
‫يح�ص��ل على لحمته مجانا م��ن غي��ره‪� .‬أي �أن ال�صفة الثالث��ة‪ ،‬الخ�سا�سة‪ ،‬تابعة‬
‫للثانية‪« :‬الحر�ضة‪ :‬الرجل الذي ال ي�شتري اللحم وال ي�أكله بثمن �إال �أن يجده عند‬
‫غي��ره» (ل�سان الع��رب)‪ .‬ي�ضيف ابن دريد‪« :‬الحر�ضة‪ :‬ال��ذي يح�ضر �أ�صحاب‬
‫المي�س��ر ليجيل لهم القداح ليطعم [= لي�أكل] اللحم ولم ي�أكل قط لحما بثمن» («ابن‬
‫دري��د‪ ،‬جمهرة اللغة)‪ .‬عليه‪ ،‬فخ�سا�سته مرتبطة ببخله‪ .‬لكننا نعتقد �أن الربط بين‬
‫الخ�سا�سة وعدم �شراء اللحم‪ -‬المفتر�ض‪ -‬بثمن تف�سير ولي�س خبرا‪ .‬الخ�سة خبر‪،‬‬
‫�أما ربطها بعدم �شراء اللحم فتف�سير‪ .‬يدل على هذا ذلك �أن الخ�سا�سة موجودة داخل‬
‫الج��ذر اللغوي ذاته‪ .‬فجذر «حر�ض» يعطي معنى الف�ساد وال�ضعف والخ�سا�سة‪:‬‬
‫«الحر�ض‪ :‬الفا�سد‪ ...‬الأزهري‪ :‬المحر�ض‪ ‬الهالك مر�ضا الذي ال حي فيرجى‬
‫وال ميت فيو�أ�س من��ه‪ ...‬وناقة‪ ‬حر�ضان‪� :‬ساقطة» (ل�س��ان العرب)‪ .‬بناء على‬
‫ه��ذا‪ ،‬فمن المحتمل جدا �أن كلمة الحر�ضة تعني «الخ�سي�س» هكذا مبا�شرة‪ ،‬ومنذ‬
‫البدء‪ .‬وهو ما ي�شير �إلى �أن الم�س�ألة ربما ال تتعلق باللحم؟‬

‫والح��ق �أن م�س�ألة اللحم ملغزة‪ .‬فهل يجب على من يمار�س مهنة الحر�ضة �أن ال‬
‫ي�أكل لحما بثم��ن قط؟ ولماذا؟ و�إذا كانت الخ�سة نابعة عدم �أكل اللحم بثمن‪ ،‬فهل‬
‫كان يجب البحث عن رجل خ�سي�س بخيل كي يقوم بالمهمة؟ ولماذا؟ ثم ما عالقة‬
‫�إجالة القداح بالخ�سة؟ �أي لماذا على مجيل القداح �أن يكون خ�سي�سا؟‬

‫‪37‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ثم‪ ،‬وه��ذا ما يزيد تعقيد الأم��ور‪ ،‬كيف يكون هذا الرجل خ�سي�س��ا ومت�ألها‪� ،‬أي‬
‫متدينا‪ ،‬في �آن؟ فالت�أله ه��و التدين والتعبد‪« :‬فالن‪ ‬يت�أله‪ :‬يتعبد‪ .‬وهو عابد مت�أله»‬
‫(الزمخ�ش��ري‪� ،‬أ�سا���س البالغة)‪ .‬ي�ضي��ف الل�س��ان‪« :‬الت�أله‪ :‬التن�س��ك والتعبد»‬
‫(ل�س��ان العرب)‪ .‬وكانت �صفة الت�أله تطلق عل��ى المتعبدين ال�شديدي التدين‪ ،‬في‬
‫الجاهلي��ة‪ .‬فعبد المطلب و�صف ب�أنه «كان يت�أله‪ ،‬ويعظ��م الظلم والفجور» (ابن‬
‫�سعد‪ ،‬الطبقات الكبرى)‪ .‬كما و�صف عمرو بن نفيل‪ ،‬الحنيفي ال�شهير �أي�ضا ب�أنه‪:‬‬
‫«كان‪ ‬يت�أله‪ ‬ف��ي الجاهلية» (ابن كثير‪ ،‬البداية والنهاية)‪ .‬عليه‪ ،‬فالحر�ضة «رجل‬
‫�أخ�س» و «رجل يت�أله» في الوقت نف�سه‪ .‬فكيف يمكن حل هذا التناق�ض؟‬

‫يت�أله �أم نبالة؟‬

‫وقد ر�أى توفي��ق فهد �أن من الممكن وجود ت�صحيف في جملة «لم ي�أكل لحما قط‬
‫بثم��ن»‪ ،‬واقترح ق��راءة كلمة ثمن على �أنها �سمن‪« :‬يكف��ي �أن نقر�أ «�سمن» بدل‬
‫«ثم��ن» كي نعطي �آخر كلمة من هذه الجملة معنى دينيا» (فهد‪ ،‬الكهانة العربية‪،‬‬
‫‪��� ،2007‬ص ‪ ،435‬هام���ش ‪ .)131‬ب��ذا‪ ،‬فالحر�ض��ة رجل ذا مهم��ة دينية ما‬
‫متدي��ن‪ ،‬وهو ال ي�أكل لحما ب�سمن ل�سبب ديني‪� .‬أي ال ي���أكل لحما مطبوخا ب�سمن‬
‫ل�سب��ب ديني م��ا‪ .‬لكن ما معنى �أنه ال ي���أكل لحما ب�سمن في لعب��ة المي�سر؟ ولماذا‬
‫يكون ممنوعا عليه �أن ي�أكل لحما ب�سمن في هذه اللعبة؟ لي�س هناك من جواب عند‬
‫فهد‪ .‬لذلك نعتقد �أن تخريجته ال تدفع فهمنا للحر�ضة ولو خطوة واحدة للأمام‪.‬‬

‫غير �أن فهد ينق��ل لنا ر�أيا �شديد الأهمية لهوبر يقترح فيه �أن الت�صحيف حل بكلمة‬
‫يت�أل��ه ال بكلمة بثمن‪« :‬يقر�أ هوب��ر‪ّ ...:‬نبالة بدال من يت�أله‪ ،‬في حين �أن الأمر ال‬
‫يتعلق برمي ال�سهام‪ ،‬بل بهزها وا�ستخراجها من الخرج» (فهد‪ ،‬الكهانة العربية‪،‬‬
‫‪� ،2007‬ص ‪ ،435‬هام�ش ‪� .)131‬إذن‪ ،‬فهوبر يقترح �أن الحر�ضة ربما يكون‬
‫(نبالة)‪� ،‬أي رامي نبال‪ .‬وال بد �أنه و�ضع اقتراحه هذا �آخذا بعين االعتبار‬‫رجال ّ‬
‫وج��ود القداح في اللعب��ة‪ ،‬ودور الحر�ضة في التعامل معه��ا‪ .‬فهو الذي يحرك‬
‫هذه ال�سه��ام وي�ستخرج ما برز منها‪ .‬والقداح كما ر�أينا هي ال�سهام غير المن�صلة‬
‫وغير المري�ش��ة‪ .‬ومن المنطقي �أن يت�ساءل المرء عن �سر وجود ال�سهام في لعبة‬

‫‪38‬‬
‫زكريا محمد‬

‫المي�س��ر‪ .‬فلماذا يكون اللعب فيه��ا بال�سهام‪ -‬القداح؟ �أال ي�شير ه��ذا �إلى �أن اللعبة‬
‫ربما انبثقت من تقليد �صيد‪� ،‬أو من تقليد له عالقة بال�صيد في الأ�صل؟ �أما ما يقوله‬
‫(هز) ال�سه��ام ال �ضربها‪ ،‬فلي�س حجة ذلك �أن الحر�ضة النبالة يقوم هنا‬ ‫فهد حول ّ‬
‫بعمل رمزي حين يهز ال�سهام‪ ،‬وال ي�صيد فعال‪ .‬و�إذا كان هناك تقليد �صيد‪ ،‬ف�إن‬
‫علين��ا �أن ال نرمي اقتراح هوبر كم��ا فعل فهد‪ .‬فهو اقتراح ربم��ا �أدى �إلى �إلقاء‬
‫�ضوء على الحر�ضة‪ ،‬وعلى لعبة المي�سر بكاملها‪.‬‬

‫ول��و �صح اقت��راح هوبر‪ ،‬ونحن نعتق��د ب�صحته‪ ،‬ف�إن الجملتي��ن الأولى والثانية‬
‫�ستن�سجم��ان تماما‪ .‬فالحر�ض��ة رجل ّنبالة‪� ،‬أي �صياد رام��ي نبال‪ .‬ولأنه �صياد‬
‫فه��و ال يحت��اج �أن ي�أكل لحما بثمن‪� ،‬أي ال يحتاج �أن ي�شتري لحما‪� .‬إذ هو يح�صل‬
‫عل��ى ما يحتاجه من لحم عن طريق ال�صيد‪� ،‬أي ع��ن طريق قو�سه ونباله‪ .‬بذا‪،‬‬
‫فعدم �أكله للحم نابع لمهنته ك�صياد بالنبل والقو�س‪ .‬وهذا يعني �أن جملة «لم ي�أكل‬
‫لحما بثمن» ت�صف قدرته على ال�صيد‪ ،‬وبراعته فيه‪ ،‬وال تتحدث عن عدم �شرائه‬
‫للحم ب�سبب بخله‪ .‬كما �أنها ال تتحدث عن تحريم ديني يخ�ضع له ويمنعه من �شراء‬
‫اللح��م بثمن‪ .‬فلو �أن المق�صود هو التحريم ل��كان الأ�صلح ا�ستخدام ال بدل لم «ال‬
‫ي�أكل لحما بثمن»‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬فالحر�ضة يتعامل مع ق��داح‪� -‬سهام المي�سر لأنه (خبي��ر �سهام) �أو (خبير‬
‫�صيد)‪ .‬و�سوف ن�ستبق هنا الحديث المو�سع عن لقمان بن عاد‪ ،‬الأب الأ�سطوري‬
‫للعب��ة المي�سر‪ ،‬لنقول �أنه �أي�ض��ا كان راميا ماهرا‪�« :‬إذا رمى لم تقم راب�ضة‪ ،‬ولم‬
‫ترب���ض قائمة‪ ،‬ول��م تم�سك مخطاة [حام��ل] ولدا» (ال�ضب��ي‪ ،‬الأمثال)‪ .‬ولهذا‬
‫�سمي��ت النب��ال غير المري�شة‪� ،‬أي تل��ك التي ت�شبه قداح المي�س��ر‪ ،‬با�سم‪ :‬حظيات‬
‫لقم��ان‪« :‬والحظ��وة‪� :‬سه��م �صغي��ر ق��در ذراع‪ ،‬وقي��ل‪ :‬الحظوة �سه��م �صغير‬
‫يلع��ب به ال�صبيان‪ ،‬و�إذا ل��م يكن فيه ن�صل فهو حظي��ة‪ ،‬بالت�صغير‪ .‬وفي المثل‪:‬‬
‫�إحدى‪ ‬حظي��ات لقمان‪ ،‬وهو لقمان بن عاد‪ .‬وحظياته‪� :‬سهامه ومراميه» (ل�سان‬
‫العرب)‪ .‬وقد ورد اال�سم في �سياق ق�صة لقمان مع واحد من ابني تقن‪« :‬وكانت‬
‫لهم��ا �سمرة ي�ستظالن به��ا‪ ،‬وي�سقيان عندها �إبلهما‪ .‬ف�صعده��ا لقمان‪ ،‬واختب�أ فيها‬
‫رج��اء �أن ي�صي��ب منهما غ��رة‪ .‬فلما ر�أى عم��روا قد تجرد لال�ستق��اء رماه من‬

‫‪39‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫فوقه ب�سهم ف��ي ظهره‪ ،‬فقال‪« :‬ح���س‪� ،‬إحدى‪ ‬حظيات لقم��ان»‪ ،‬فذهبت مثال»‬
‫(الزمخ�ش��ري‪ ،‬الم�ستق�صى)‪ .‬ولأن لقم��ان رامي نبل‪ ،‬ف���إن الم�صادر العربية‬
‫ت�سمي��ه «الراي���ش»‪« :‬لقمان ب��ن عاد‪ ‬هو ال��ذي �سمته حمير الراي���ش‪ ،‬لأنه كان‬
‫متوا�ضع ًا لله لم يكن متوجاً» (ابن منبه‪ ،‬التيجان)‪ .‬وال نظن �أن تف�سير وهب لهذا‬
‫يري�ش ال�سه��ام‪� ،‬أي ي�ضع لها ري�شا‪ ،‬كي‬‫اللق��ب �سليم‪ .‬بل نظن �أن��ه يعني‪ :‬الذي ّ‬
‫تك��ون �صالحة للرمي‪ .‬وهو م��ا يعني �أنه �صياد رام‪ .‬كما �أن��ه ي�ؤكد ارتباط لعبة‬
‫المي�سر‪ ،‬التي كان هو �أبوها‪ ،‬بتقاليد ال�صيد‪.‬‬

‫خ�سة الحر�ضة‪ .‬فالعرب في الجاهلية‬


‫لك��ن اقتراح (نبالة) قد يف�سر لنا �أي�ض��ا �أ�صل ّ‬
‫كان��وا يحتقرون مهنة ال�صياد ال�صافية‪ .‬كانوا ي�صطادون‪ ،‬لكنهم كانوا يحتقرون‬
‫من يعتا�ش على ال�صيد وح��ده‪« :‬وقد وجدنا العرب ي�ستذلون ال�صيد‪ ،‬ويحقرون‬
‫ال�صياد‪ .‬فمن ذلك قول عمرو بن معد يكرب‪:‬‬
‫ذنب ونحن ف��روع �أ�صل طيب‬
‫ٌ‬ ‫�أبـن��ي زيـ��اد �أنتـ��م ف��ي قومكم‬
‫مرب��ق ومكـلّب‬
‫بالقهـ��ر بيـ��ن ّ‬ ‫ن�صل الخمي�س �إلى الخمي�س و�أنتم‬
‫�س��وق الحمير بحان��ة فالكـوكب‬ ‫ال يح�سب��ن بن��و طليحـ��ة حربنا‬
‫طلب‪ ‬الوعول‪ ‬بوف�ض��ة وب�أكلب‬ ‫حي ٌد عن المع��روف �سعي �أبيهم‬
‫ترحا ل��ه م��ن كاه��ن متكذب»‬ ‫حت��ى َيكّ ه��ن بع��د �شي��ب �شامـل‬

‫(الجاحظ‪ ،‬الحيوان)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فالع��رب «ي�ستذلون ال�صيد» و «يحقرون ال�صياد»‪ .‬وهنا نجد �أ�سا�س خ�سة‬
‫الحر�ضة‪ .‬فالحر�ضة �صياد ّنبالة‪� ،‬أي �صياد بالنبل وال�سهام‪ .‬وهو ي�أكل لحمه من‬
‫نباله‪ .‬لذا فهو محتقر خ�سي�س‪� .‬أي �أن خ�سته نابعة من مهنته ذاتها‪.‬‬

‫والغريب �أن �صياد الوعول من بني زياد‪ ،‬الذي تحدثت عنه �أبيات عمرو بن معد‬
‫يكرب‪ ،‬والذي ي�صيد «بوف�ضة وب�أكلب»‪� ،‬أي بجعبة �سهام وكالب‪ ،‬ي�صبح كاهنا‬
‫يكهن بعد �شيب �شامل»! وم��ن ال�صعب �أن تكون‬‫بع��د �أن ي�شيخ وي�شيب‪« :‬حت��ى ّ‬
‫يكهن ههنا بمعنى �آخر غير الكهانة‪ ،‬بع��د �أن تبعتها جملة «كاهن يتكذّب»‪،‬‬
‫كلم��ة ّ‬

‫‪40‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أي كاهن كاذب‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فنحن هنا مع «�صياد وعول‪ -‬كاهن»‪� .‬أي مع كهانة‬
‫ترتبط ب�صيد الوعول في ما يبدو‪ .‬ولعل كهانة �صياد الوعول هذه هي التي �أ�شار‬
‫�إليها بيت �أمية بن �أبي ال�صلت حين ح�ضرته الوفاة‪:‬‬
‫في ر�ؤو�س الجبال‪� ‬أرعى الوعوال‬ ‫ليتن��ي كنت قبل م��ا قـد بـ��دا لـي‬

‫ونح��ن نذكر �أنه كان لوع��ول الأروى حمى في جبل ثبير‪ ،‬جب��ل الذبحاء‪ ،‬في‬
‫مكة‪ ،‬كما �أخبرتنا ال�شاع��رة‪« :‬والله �أمن طيرها‪ /‬والع�صم ت�أمن في ثبير» (�سيرة‬
‫اب��ن ه�شام)‪ .‬ومن جبل ثبير هذا �أتى كب���ش فداء �إ�سماعيل‪ .‬وهذا يعني �أن �أكبا�ش‬
‫الف��داء كانت ت�صاد من على هذا الجبل‪ .‬فهي حيوانات الإله وال يجب �صيدها في‬
‫حماه‪ ،‬با�ستثناء ال�صيد الديني‪� ،‬صيد كب�ش الفداء‪ ،‬الذي كان يحدث مرة في العام‬
‫في ما نظن‪ .‬وال بد �أن مهمة �صيده كانت‪ ،‬كمهمة مقد�سة‪ ،‬تقع على عاتق طراز‬
‫خا���ص من ال�صيادين‪ .‬فال ي�ستطيع �أي واحد �أن يقوم بها‪ .‬فقط �صياد وعول هو‬
‫م��ن يحق له ذلك‪ .‬وهكذا ي�صير لدينا �صياد وعول مقد�س‪ .‬ويبدو �أن هذا ال�صياد‬
‫كان يتكهن حين ي�شيخ ويتقاعد‪ .‬ومن المحتمل �أنه من مثل ه�ؤالء ال�صيادين كان‬
‫ي�أت��ي حر�ضة المي�سر‪ .‬فلعبة المي�سر تقوم على اللعب الرمزي بال�سهام‪� ،‬أي على‬
‫قت��ل �ضحية‪ ،‬وتقطيعها‪ .‬مثلما �أن �صيد الوعول المقد�س��ة لعبة �سهام حقيقية‪ ،‬يتم‬
‫فيها قن�ص كب�ش فداء وتقطيعه‪.‬‬

‫ويمك��ن لهذا �أن يف�سر �أ�صل خ�سة ال�صيادي��ن‪� .‬أو �أ�صل خ�سة �صيادي كب�ش الفداء‬
‫خا�ص��ة‪ .‬فهي نابعة من �أن ه�ؤالء ال�صيادي��ن مكلفون بمهمة خ�سي�سة هي ا�صطياد‬
‫كب�ش‪ -‬وعل الف��داء تمهيدا لقتله وتقطيعه‪ .‬وكب�ش ف��داء �إ�سماعيل وعبد الله لي�س‬
‫كب�ش��ا عاديا‪ .‬بل هو كب�ش‪ -‬وعل مقد�س‪� .‬إذ �أن بدي��ل �إ�سماعيل مقد�س مثله مثل‬
‫�إ�سماعيل ذات��ه‪� .‬إنه في الحقيقية �إ�سماعيل‪ ،‬لكنه ي�أخ��ذ �شكال حيوانيا‪ .‬وهذا يعني‬
‫�أن �صي��اد الوعول يقتل في الواق��ع �إ�سماعيل الذبيح وعبد الل��ه الذبيح‪� ،‬أي يقتل‬
‫ممث��ل الإل��ه الب�شري‪ .‬ومن هنا تنب��ع خ�سته‪� .‬إنه قاتل الإل��ه �أو ابن الإله وممثله‬
‫الب�شري‪ .‬لكن��ه خ�سي�س ومقد�س معا‪ .‬فمهمته خ�سي�سة‪ ،‬لكنه��ا مهمة دينية �أي�ضا‪.‬‬
‫وهكذا فهو من ذلك الط��راز الم�ألوف من المقد�سين‪ -‬الخ�سي�سين‪ .‬فقد كان رعاة‬

‫‪41‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫قطع��ان الخنازي��ر‪ ،‬مثال‪ ،‬الت��ي هي حيوان��ات �أوزيري�س المقد�س��ة‪ ،‬في م�صر‬


‫القديم��ة مقد�سون وخ�سي�سون‪ .‬فق��د كان ينظر �إليهم على �أنه��م نج�سون ال يمكن‬
‫لم�سه��م‪ .‬لكن نجا�ستهم نابع��ة في الأ�صل من ارتباطه��م بالخنزير‪ ،‬حيوان الإله‬
‫ورم��زه‪ .‬فحيوانات الإله ال ت�ؤكل لأنها مقد�سة‪ .‬والحيوان الذي ال ي�ؤكل يتبدى‬
‫وك�أنه كحيوان نج�س‪ .‬وهذا يعني �أن القدا�سة والنجا�سة وجهان للعملة ذاتها‪.‬‬

‫انطالق��ا من ه��ذا‪ ،‬ف�إن ما يقوم به الحر�ض��ة في لعبة المي�سر �إنم��ا هو تمثيل لقتل‬
‫الكب�ش الإلهي وتقطيعه‪ .‬فلعب��ة المي�سر هي تمثيل للعبة الحقيقية‪ ،‬لعبة قتل الوعل‬
‫الإله��ي‪ ،‬لعب��ة قتل كب�ش ف��داء �إ�سماعيل وعب��د الله‪ .‬و�سوف يت�ض��ح لنا الحقا‪،‬‬
‫وبو�ضوح �أكب��ر‪ ،‬كيف �أنه يتم ا�ستبدال الكب�ش الإله��ي بجمل ينحر ويقطع‪ ،‬كما‬
‫يقطع جزور المي�سر بال�ضبط‪.‬‬

‫(نبالة) فتح لنا الباب وا�سعا‬


‫عليه‪ ،‬يمكن القول �أن الك�شف عن الت�صحيف في كلمة ّ‬
‫لفهم �أ�شد عمقا لمهنة الحر�ض��ة‪ ،‬وللعبة المي�سر عموما‪ .‬فالحر�ضة الخ�سي�س يقوم‬
‫بعمل ديني‪� ،‬أو يمثل عمال دينيا‪ .‬وتمثيل عمل ديني مهمة مقد�سة تماما‪ .‬وهذا هو‬

‫‪42‬‬
‫فصل ‪2‬‬

‫قداح المي�سر‬

‫الربابة‪ ،‬بك�سر ال��راء‪ .‬وال اتفاق على ما‬


‫تجم��ع قداح المي�سر ف��ي �أداة ما ت�سمى ِّ‬
‫ه��ي الربابة‪ .‬فهناك من يعتقد �أنه��ا جعبة‪ -‬كنانة ما‪ ،‬ت�شبه تل��ك التي تو�ضع فيها‬
‫�سه��ام الرماة الحقيقية‪ .‬وهناك من يعتق��د �أنها مجرد قطعة جلد ت�شد على القداح‪.‬‬
‫ويخت�صر لنا الل�سان الآراء حول الربابة على ال�شكل الآتي‪:‬‬

‫«الرباب��ة‪ ،‬بالك�سر‪ :‬جماع��ة ال�سهام‪ .‬وقيل‪ :‬خيط ت�شد ب��ه ال�سهام‪ .‬وقيل‪ :‬خرقة‬
‫ت�ش��د فيه��ا‪ .‬وقال اللحياني‪ :‬ه��ي ال�سلفة التي تجع��ل فيها الق��داح‪� ،‬شبيهة بالكنانة‬
‫يك��ون فيها ال�سهام؛ وقيل ه��ي �شبيهة بالكنانة‪ ،‬يجمع فيه��ا �سهام‪ ‬المي�سر» (ل�سان‬
‫«الربابة‪ :‬خرقة‬
‫العرب)‪� .‬أما من يرى �أنها خرقة‪ ،‬فيعتقد �أن ا�سمها يعني الجمع‪ِّ :‬‬
‫ال�شيء‪� ،‬أي‪ :‬جمعته» (الخليل‪،‬‬ ‫ب��ت ّ‬ ‫ُتجع��ل فيها‪ ‬ال ِقداح‪ ،‬هذلية‪ ،‬وا�شتقاقه من َ‬
‫رب ُ‬
‫العين)‪ .‬غير �أن هناك من يقول �أن الربابة هي ال�شريط الجلدي الذي يربط على‬
‫الح ْر�ضة‪ ،‬وهو‬ ‫يد الحر�ض��ة‪« :‬وقيل‪ :‬الربابة‪� :‬سلفة يع�صب بها على ي��د الرجل ُ‬
‫الذي تدفع �إلي��ه الأي�سار للقدح؛ و�إنما يفعلون ذلك لكي ال يجد م�س قدح يكون له‬
‫في �صاحبه هوى» (ل�سان العرب)‪ .‬عليه‪ ،‬فالأمر م�شو�ش جدا‪.‬‬

‫�أم��ا اقتراح �أن القداح هي ذاته��ا الربابة‪« :‬الربابة‪ ،‬بالك�س��ر‪ :‬جماعة ال�سهام»‪،‬‬
‫فيجد ما يدعمه في بيت �أبي ذ�ؤيب الذي ي�صف فيه الحمار و�أتنه‪:‬‬

‫يفي�ض على القداح‪ ،‬وي�صدع‬ ‫ي�سر‬


‫وك�أنهن ربابةٌ ‪ ،‬وك�أنه ٌ‬
‫ف�أبو ذ�ؤيب ي�شبه �إناث حمار الوح�ش بالربابة‪ ،‬وي�شبه حمار الوح�ش الذكر بالحر�ضة‬
‫«الي�س��ر» ال��ذي يفي�ض بالق��داح‪ .‬بالتالي فالمنطق��ي �أنه ي�شبهه��ن بمجموعة قداح‬
‫المي�س��ر‪ ،‬ال بالجعبة وال بالخرقة‪ .‬وقد �أثارت الكلمة الأخيرة في البيت (وي�صدع)‬

‫‪43‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫جداالت حول معناها‪ .‬ونحن نعتقد �أن من المحتمل �أن يكون فيها ت�صحيف‪ ،‬و�أنها‬
‫ف��ي الأ�صل «وي�صب��ع» بالباء بمعنى يح�س��ن فعلته ويجيدها‪ .‬يق��ال‪ :‬للراعي على‬
‫ما�شيته �إ�صبع‪� :‬أي �أثر ح�سن‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬فالفعل يعود �إلى حمار الوح�ش‪ ،‬ال‬
‫دل‪ .‬يقال‪�« :‬صبع فالن على فالن‪:‬‬ ‫�إلى الحر�ضة‪ .‬و�إن لم يكن كذلك فهي بمعنى‪ّ :‬‬
‫دل عليه بالإ�شارة» (ل�سان العرب)‪ .‬وفي هذه الحالة يعود الفعل �إلى الحر�ضة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫واقتراحن��ا �أن الرباب��ة ا�سم يطلق عل��ى مجموعة القداح وعلى قطع��ة الجلد التي‬
‫تحزم بها‪ ،‬في �آن واحد‪ .‬فاالثنان ي�سميان بالربابة‪ .‬ومن المحتمل �أنها في الأ�صل‬
‫كان��ت ا�سما للقداح‪ ،‬ثم �ص��ارت تطلق على قطعة الجلد الت��ي ت�ضم القداح‪ ،‬من‬
‫الحال با�سم المحل‪ .‬وت�صورنا لهذه الجلدة �أنها ت�شبه �أ�سطوانة مفتوحة‬
‫ّ‬ ‫باب ت�سمية‬
‫م��ن طرفيها‪ ،‬ولي�ست م�شدودة �شدا قويا‪ ،‬لك��ي تتمكن يد الحر�ضة من نكزها من‬
‫الأ�سف��ل‪ ،‬كي تنبز ال�سهام منها في الأعلى‪ .‬وهو ما يب��دو �أن البقاعي كان يراه‪:‬‬
‫«وت�سمى تل��ك الجلدة الربابة‪ ....‬ث��م تجمع �أطرافها ويع�� ّدل بينها‪ ...‬فيجمع‬
‫�أ�صابعه عليها‪ ،‬وي�ضمها كهي�أة ال�ضغث‪ ،‬ثم ي�ضرب ر�ؤو�سها بحافة راحته‪ ،‬ف�أيها‬
‫طلع من الربابة كان فائزا» (البقاعي‪ ،‬نظم الدرر)‪.‬‬

‫لكن من المحتمل �أن يكون معنى اال�سم «ربابة» في الأ�صل عنى‪ :‬العهد والميثاق‪.‬‬
‫و�س��وف نعر�ض لهذا االحتمال عند التطرق لطق�س الذبيح وحفر «بئر زمزم»‪،‬‬
‫و«بئر �سبع» التوراتية‪.‬‬

‫القداح‬

‫تنق�سم قداح المي�سر �إلى ق�سمين‪:‬‬

‫‪1.1‬ق�س��م يربح �أو يخ�سر‪ ،‬وعدده �سبعة عند ال��كل‪ .‬ولكل واحد ا�سم وح�صة محددة‬
‫في �سلّم من واحد �إلى �سبعة‪« :‬كانت قداح المي�سر ع�شرة‪� :‬سبعة منها لها �أن�صب‪،‬‬
‫وثالث��ة ال �أن�ص��ب لها‪ .‬فال�سبعة التي له��ا �أن�صب يقال لأوله��ا الفذ‪ ،‬وله جزء‪،‬‬
‫والت��و�أم‪ ،‬وله جزءان‪ ،‬والرقيب‪ ،‬ول��ه ثالثة �أجزاء‪ ،‬والحل���س‪ ،‬وله �أربعة‬
‫�أج��زاء‪ ،‬والناف�س‪ ،‬وله خم�سة �أجزاء‪ ،‬والم�سب��ل‪ ،‬وله �ستة �أجزاء‪ ،‬والمعلّى‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وله �سبع��ة �أجزاء» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬المجل��د الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)259‬‬
‫بن��اء عليه‪ ،‬فالأي�سار‪� ،‬أي المقامرون‪ ،‬يكونون �سبعة بقدر عدد القداح التي لها‬
‫حظ الربح والخ�سارة‪« :‬وال يكون الأي�سار �إال �سبعة‪ ،‬ال يكونون �أكثر من ذلك»‬
‫(ابن حبيب‪ ،‬المحبر)‪ .‬وهذا يعني �أن قداح المقامرة الفعلية �سبعة فقط‪.‬‬

‫‪2.2‬ق�سم ال يربح وال يخ�سر‪ ،‬لكن ح�سب الغالبية ولي�س ح�سب الكل‪ .‬وعدد قداحه‬
‫ثالث��ة �أو �أربع��ة‪« :‬والثالثة التي ال �أن�ص��ب لها �أغفال‪ ،‬ولي���س عليها ا�سم‪،‬‬
‫يقال له��ا‪ :‬المنيح‪ ،‬وال�سفي��ح‪ ،‬والوغد» (تاريخ اليعقوب��ي‪ ،‬المجلد الأول‪،‬‬
‫ب�لا تاريخ‪� ،‬ص ‪� .)259‬أما ابن حبي��ب فيجعل القداح �أحد ع�شر‪� ،‬سبعة منها‬
‫قام��رة‪ ،‬مما يعني �أنه يتبق��ى �أربعة غير قامرة‪« :‬وي�ؤت��ى بالقداح وهي �أحد‬
‫ع�ش��ر قدحا‪� .‬سبعة منها لها حظ �إن فازت‪ ،‬وعلى �أهلها ُغرم �إن خابت بقدر‬
‫ما لها �إن فازت من الحظ» «ابن حبيب‪ ،‬المحبر»‪ .‬وهو ما ي�ؤيده ابن �سعيد‪:‬‬
‫«و�أربع��ة تثقل بها القداح‪ ،‬ال حظ لها �إن فازت‪ ،‬وال غرم عليها �إن خابت»‬
‫(ابن �سعيد‪ ،‬ن�شوة الطرب)‪ .‬و�سوف نعر�ض الحقا لهذا القدح الزائد‪.‬‬

‫�أم��ا القداح التي تفوز وتخ�سر فت�سمى المو�سومة‪� :‬أي المعلمة بو�سم‪� ،‬أي بعالمة‪.‬‬
‫في حين تدعى التي ال تفوز وال تخ�سر الأغفال‪� :‬أي العارية من الو�سم والعالمة‪.‬‬
‫وف��ي مقتب�س اليعقوب��ي ال�سابق �صحفت كلمة «و�سم» وتحول��ت �إلى «ا�سم»‪ ،‬في‬
‫م��ا نعتقد‪ .‬فالجملة يجب �أن تق��ر�أ هكذا‪« :‬والثالثة التي ال �أن�صب لها �أغفال ولي�س‬
‫عليه��ا و�سم»‪ .‬غير �أن ابن قتيبة يبدو كما لو �أنه يوافق على �أن العالمات �أ�سماء‪،‬‬
‫لكنه��ا �أ�سماء الالعبين‪ ،‬ال �أ�سماء القداح‪« :‬المك ّتبة‪ :‬الق��داح عليها �أ�سماء �أ�صحابها‬
‫�أو عالمات لهم» (اب��ن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬والمك ّتبة هي التي عليها عالمات‬
‫كتابي��ة‪ .‬وهذا ر�أي من ال�صعب قبوله‪ .‬فه��و يعني �أن لكل �شخ�ص قدحه الخا�ص‬
‫الذي عليه ا�سمه‪ .‬وهذا يخل ب�شروط اللعب‪ .‬فالقداح يجب �أن تكون كلها مت�شابهة؛‬
‫�أي من نوع واحد من الخ�شب‪ ،‬ومن لون واحد‪ ،‬وطول واحد‪ ،‬وملم�س واحد‪.‬‬
‫علي��ه‪ ،‬ال يمكن لكل واحد �أن ي�أتي بقدح��ه على الهيئة التي يريد‪� .‬أكثر من ذلك‪،‬‬
‫فنح��ن نعتقد �أن هناك جهة ما‪ ،‬على عالقة بالمعبد المكي‪ ،‬كانت ت�ؤتمن على هذه‬
‫الق��داح‪ ،‬وتحتفظ بها حتى يحين موعد اللعب‪ .‬وهذا يعني �أن القداح كانت ملكية‬

‫‪45‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫عام��ة‪ ،‬ب�شكل ما‪ .‬ولم يكرر ابن قتيب��ة ر�أيه �أعاله في كتابه «المي�سر والقداح»‪،‬‬
‫مما يعني �أنه تخلى عنه‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فالف��ارق بين الأغف��ال وغير الأغفال �إنما هو الح��زوز‪� ،‬أو الو�سوم التي‬
‫عليها‪ ،‬كما يقول ابن مقبل في بيت �شعر له‪:‬‬

‫حد المتـاقة �أغفـال ومو�سـوم‬ ‫من عاتق النبع لم تغمز موا�صمه‬

‫وي�ش��رح لنا بن عا�شور ب�شكل وا�ضح و�سليم تمام��ا الفرق بين الأغفال والمو�سومة‪:‬‬
‫«والثالث��ة الأخيرة ال حظوظ لها وت�سمى �أغفاال‪ ،‬جم��ع غفل‪ ،‬ب�ضم الغين و�سكون‬
‫الف��اء‪ ،‬وهو الذي �أغفل ف��ي العالمة‪ .‬وهذه العالمات خطوط م��ن واحد �إلى �سبعة‬
‫ك�أرق��ام الح�س��اب الروماني �إلى الأربع��ة‪ .‬وقد خطوا العالمات عل��ى القداح ذات‬
‫العالمات بال�شلط في الق�صبة‪� ،‬أو بالحرق بالنار‪ ،‬فت�سمى العالمة حينئذ قرمة‪ ،‬وهذه‬
‫العالم��ات تو�ضع في �أ�سافل القداح» (بن عا�ش��ور‪ ،‬التحرير والتنوير)‪ .‬وي�ؤكد هذا‬
‫البقاعي‪« :‬قال �صاحب الزينة‪ :‬فالتي لها الغنم وعليها الغرم ‪ ...‬يقال لها‪ :‬مو�سومة‪،‬‬
‫لأجل الفرو�ض [= الحزوز] ف�إنها بمنزلة ال�سمة» (البقاعي‪ ،‬نظم الدرر)‪ .‬وهذا هو‬
‫ال�صحي��ح‪ .‬فال�سهام ال�سبع��ة القامرة مو�سومة‪� ،‬أي معلمة بح��زوز تحدد ن�صيب كل‬
‫واحد منها في ربحه وخ�سارته‪ .‬فالمعلى عليه �سبعة حزوز‪ ،‬والفذ عليه حز واحد‪:‬‬

‫«ف�أوله��ا الفذ‪ :‬وهو قدح في �صدره ح��ز واحد‪ ،‬وله ن�صيب واحد في الأخذ والغرم‪.‬‬
‫والثان��ي الت��و�أم‪ ،‬وفي �صدره ح��زان‪ ،‬وله ن�صيب��ان في الأخذ والغ��رم‪ .‬والثالث‬
‫ال�ضري��ب وي�سمى الرقيب وفيه ثالث��ة حزوز‪ ،‬وله ثالثة �أن�صب��اء‪ .‬والرابع الحل�س‬
‫وفي��ه �أربعة حزوز وله �أربعة �أن�صباء‪ .‬والخام���س الناف�س وفيه خم�سة حزوز‪ ،‬وله‬
‫خم�سة �أن�صباء‪ .‬وال�ساد�س الم�سبل‪ ،‬وي�سمى الم�صفح �أي�ضا‪ ،‬وفيه �ستة حزوز وله �ستة‬
‫�أن�صباء‪ .‬وال�سابع المعلى‪ ،‬وفيه �سبعة حزوز‪ ،‬وله �سبعة �أن�صباء‪ ،‬وهو �أوفرها حظا‪،‬‬
‫ولذلك ي�ضرب به المثل في الحظ فيقال قدحه المعلى» (القلق�شندي‪� ،‬صبح الأع�شى)‪.‬‬

‫وال نع��رف ب�ش��كل م�ؤك��د �أي��ن كان��ت تو�ض��ع الح��زوز بال�ضب��ط‪ ،‬و�إن كان‬
‫االحتم��ال الأغلب �أنه��ا تو�ضع في الط��رف الأ�سفل من القدح‪ ،‬كم��ا اقترح بن‬
‫عا�ش��ور‪� .‬أم��ا الق��داح الأغف��ال فمن المحتم��ل �أن واح��دا منها‪ ،‬وه��و المنيح‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫زكريا محمد‬

‫كان��ت ل��ه عالمة م��ا ف��ي عقبه‪ .‬فه��و غفل م��ن الح��زوز مثل��ه مث��ل �شقيقيه‪،‬‬
‫لك��ن ل��ه عالم��ة م��ا في عقب��ه‪ ،‬ف��ي ما يب��دو‪ .‬و�س��وف نتح��دث عن��ه الحقا‪.‬‬
‫وتدعى القداح المو�سومة �أي�ضا ب «المك ّتبة»‪ ،‬كما ر�أينا �أعاله عند ابن قتيبة‪� ،‬أي‬
‫التي عليها كتابة تحزيز‪« :‬المكتبة ال�صفر‪ :‬وهي القداح» (ل�سان العرب)‪� .‬أما عند‬
‫الفرزدق فالقداح منق�شة‪ ،‬لكن بالمعنى ذاته‪� ،‬أي محززة‪:‬‬
‫ودارت عليه��ن المنق�ش��ة ال�صفر‬ ‫خرجن حري��رات و�أبدين مجلـدا‬
‫فالمنق�ش��ة ال�صفر في البيت هي ق��داح القرعة والقمر‪« :‬يعني الق��داح‪ ،‬يقول‪� :‬سبين‬
‫فاقت�سمن بالقداح» (المبرد‪ ،‬الكامل في اللغة)‪ .‬طبعا ال بد �أنه كانت هناك قداح خا�صة‬
‫عند نا�س كثيرين‪ .‬لكنها قداح اال�ستق�سام ال�شخ�صي‪� ،‬أي للبت في �أمر خا�ص‪ ،‬ك�سفر‬
‫�أو زواج �أو غير ذلك‪ .‬عليه‪ ،‬فهي من �صنف «الأزالم» التي لي�ست للمقامرة‪ .‬وهذه‬
‫ربم��ا كانت تحفر عليها �أ�سماء �أ�صحابها �أو عالماتهم‪ .‬وي�سمى التحزيز الخا�ص‪� ،‬أي‬
‫تعليم المرء لقداحه الخا�صة‪ :‬الت�ضري�س‪ ،‬لأنه كان يقع‪ ،‬في الزمن الأقدم عبر ع�ضة‬
‫�ضر�س‪ ،‬في ما يبدو‪� ،‬أو لأن الحز ي�شبه ع�ضة ال�ضر�س‪« :‬وال�ضر�س‪ :‬تعليم القدح‪،‬‬
‫وهو �أن تعل��م قدحك ب�أن تع�ضه ب�أ�ضرا�سك‪ ...‬وقدح م�ضر�س‪ :‬غير �أمل�س لأن فيه‬
‫كالأ�ضرا�س‪ .‬الليث‪ :‬الت�ضري�س‪ :‬تحزيز» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫ويب��دو �أن القداح ال�سبعة المحززة كانت �صفراء اللون دوما‪ ،‬لذا �سميت «المكتبة‬
‫ال�صفر» �أو «المنق�شة ال�صفر» كما ر�أينا‪ .‬ويقال لنا �أن �صفرتها لها عالقة بال�شجرة‬
‫التي ت�ؤخذ منها‪ ،‬وهي �شجرة النبع‪ .‬قال دريد بن ال�صمة‪:‬‬
‫ب��ه علم��ان م��ن عق��ب و�ضر�س‬ ‫و�أ�صف��ر م��ن قداح‪ ‬ال ّنبع‪ ‬ف��رع‬

‫�أما طرفة فقال‪:‬‬


‫كف ُم ِ‬
‫جم ِد‬ ‫على النار‪ ،‬وا�ستودع ُته ّ‬ ‫نظر ُت ُحـواره‬
‫وح‪ْ ،‬‬
‫أ�صفر‪ ‬م�ضب ٍ‬
‫ُ‬ ‫و�‬

‫وت�ؤخ��ذ الق��داح‪ ،‬و�سهام الرمي �أي�ض��ا‪ ،‬من �شج��رة النبع ذاتها لق��وة �أغ�صانها‬
‫احمر»‬
‫ّ‬ ‫ومرونته��ا‪« :‬النبع‪� ‬شجر �أ�صفر العود‪ ،‬رزينة‪ ،‬ثقيلة ف��ي اليد و�إِذا تقادم‬
‫(ل�س��ان العرب)‪ .‬ويمكن للمرء �أن يت�ساءل‪� :‬أهناك معنى للت�شارك في الجذر بين‬
‫�شجرة النبع وبين نبع الماء؟‬

‫‪47‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الأغفال بين الربح والخ�سارة‬

‫يقع الت�شو���ش الأكبر في فهم كيفية لعب المي�سر في م�س�أل��ة القداح الأغفال‪ .‬فثمة‬
‫ر�أيان متعاك�سان بخ�صو�ص مهمة هذه القداح وعملها‪:‬‬

‫ر�أي الغالبي��ة‪ :‬ويرى �أن هذه القداح و�ضع��ت كي تتكثّر بها القداح و ُتثقل في�ؤمن‬
‫الغ���ش‪� .‬أي �أن وجوده��ا له��دف خ��ارج الربح �أو الخ�س��ارة‪« :‬الق��داح الغفل‪:‬‬
‫الت��ي لي�ست له��ا فرو�ض [ح��زوز] وال �أن�صباء وال عليها غ��رم‪ ،‬و�إنما يثقل بها‬
‫القداح اتقاء التهم��ة‪ .‬قال اللحياني‪ :‬يدخل في قداح المي�سر قداح يتكثر بها كراهة‬
‫التهمة‪ ...‬لي�س لها غنم وال عليها غرم» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫ر�أي الأقلية‪ :‬وهو يجادل ب�أن هذه القداح بالذات هي الخا�سرة دوما‪:‬‬

‫«قال بع�ضهم‪ :‬بل ي�صير ثمن الجزور كله على �أ�صحاب ه�ؤالء الثالثة [الأغفال]‪،‬‬
‫فيكونون مقمورين [�أي خا�سرين]‪ ،‬وي�أخذ �أ�صحاب ال�سبعة �أن�صباء على ما خرج‬
‫لهم‪ ،‬فه�ؤالء اليا�سرون» (البقاعي‪ ،‬نظم الدرر)‪ .‬ي�ضيف الزبيدي‪« :‬قوله فه�ؤالء‬
‫[�أي �أ�صحاب القداح ال�سبعة] اليا�سرون �أي الغالبون في القداح‪ .‬و�أ�صحاب الثالثة‬
‫[الأغفال] المي�س��ورون �أي المغلوبون حيث �أنهم غرموا ثمن الجزور كله‪ .‬هذا‬
‫ال��ذي دل عليه ال�سياق‪ .‬و�إطالق ا�سم اليا�سر على ال�سبعة دون الثالثة �إنما هو من‬
‫ب��اب التغليب‪ ،‬و�إال فال��كل يا�سرون نظرا على اقت�ضاء �أ�ص��ل اللفظ» (الزبيدي‪،‬‬
‫ن�شوة االرتياح‪ :‬في‪ :‬طرف عربية‪ ،‬ليدن‪ 1303 ،‬هـ‪� ،‬ص ‪.)47 46-‬‬

‫وهك��ذا فالقداح المتناف�سة ع�شرة ال �سبعة في الواق��ع بناء على هذه الفر�ضية‪ .‬كما‬
‫�أن المتقامري��ن ع�شرة‪ .‬ثالث��ة منهم خا�سرون و�سبعة رابح��ون‪ .‬ومن الوا�ضح‬
‫�أن ر�أي الأقلي��ة هذا خطل‪ .‬فهو يك�سر القاع��دة المركزية ال�شهيرة التي تقول �أن‬
‫المتقامرين في المي�سر ال يكونون �إال �سبعة‪.‬‬

‫ث��م �إذا كان المتقام��رون ع�شرة والق��داح ع�شرة‪ ،‬فهذا يعن��ي �أن التحزيز و�ضع‬
‫لتحدي��د ح�ص���ص الفائزي��ن فقط‪ .‬وفي ه��ذه الحال��ة‪ ،‬كيف يتم تحدي��د ح�ص�ص‬
‫الخا�سري��ن‪� ،‬أي ح�ص�ص �أ�صحاب القداح الأغفال؟ وتحديد ح�ص�صهم مهم لأنهم‬

‫‪48‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ه��م من �سيدفعون ثمن الجزور‪ .‬فهل يدفع��ون ثمن الجزور بالت�ساوي‪ .‬ثم لماذا‬
‫ُم��دح مثال من راهنوا عل��ى المعلى‪ ،‬الذي عليه �سبعة ح��زوز‪� ،‬إذا لم يكن عنده‬
‫احتم��ال الخ�سارة؟ لقد مدح من يراهن على المعلى لأنه يخاطر ب�أن يخ�سر فيدفع‬
‫ثم��ن ‪ 7‬ح�ص�ص من لحم الجزور‪ .‬ثم من هو الذي �سيراهن على قدح خا�سر من‬
‫القداح الأغفال‪� ،‬إذا كانت خ�سارتها م�ؤكدة؟‬

‫لذلك نحن نعتقد �أن ر�أي الغالبية القائل ب�أن الأغفال ال تربح وال تخ�سر هو الر�أي‬
‫ال�صحي��ح‪ .‬لكن �صحته تتوقف هن��ا‪ .‬فحكمهم ب�أن وظيفة الأغف��ال مجرد التكثير‬
‫والإثق��ال لتجنب الغ�ش‪ ،‬والغ�ش م��ن الحر�ضة �أ�سا�سا‪ ،‬حكم �شو���ش فهمنا للعبة‬
‫المي�سر طوال ‪ 1200‬عام على الأقل‪ .‬فقد عنى هذا الحكم �أنه ال دور فعليا للقداح‬
‫الأغف��ال في اللعب‪ .‬دورها خ��ارج اللعب‪� .‬أي الت�أكد من عدم وجود غ�ش‪� .‬أي‬
‫�أن خروجها �أو عدمه له المعنى ذاته‪ .‬في حين �أن لهذه القداح دورا مركزيا في‬
‫اللعب‪ ،‬كما �سنرى‪.‬‬

‫ويب��دو لن��ا �أن �أ�ص��ل هذا الحك��م الم�شو�ش نابع م��ن قيا�س الق��داح الأغفال على‬
‫الق��دح المني��ح‪� .‬إذ نخبر في جملة �شهي��رة جدا �أن القدح المنيح ي��رد �إلى الربابة‬
‫حين يخ��رج‪ ،‬فيقال‪« :‬رد‪ ،‬رد‪ ،‬لي�س هو لأحد» (اب��ن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪.‬‬
‫وهذه �أهم جملة نثرية و�صلتنا‪ ،‬كخبر ال ك�شرح �أو تعليق‪ ،‬عن قداح المي�سر‪ .‬لذا‬
‫فه��ي جملة مهمة جدا‪ .‬و�سوف ن�شرح معن��ى هذه الجملة الهامة بالتف�صيل الحقا‪.‬‬
‫وانطالق��ا م��ن الم�شابهة م��ع القدح المنيح قيل لن��ا �أنه �إذا خرج ق��دح من القداح‬
‫الأغفال ف�إنه يعاد فورا �إلى الربابة‪« :‬ف�إن خرج من الثالثة الأغفال �شيء رد من‬
‫�ساعت��ه» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬المجلد الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪ .)260‬وهذا يخالف‬
‫جملة ابن قتيبة الدينوري التي تتعلق بالقدح المنيح وحده‪.‬‬

‫ور�أي اليعقوب��ي والأكثري��ة هن��ا ر�أي خاطئ تماما‪ .‬ف�إذا كان��ت الأغفال مجرد‬
‫قداح يثقل بها اللعب‪ ،‬فلماذا يق�سم الجزور‪� ،‬إذن‪� ،‬إلى ع�شرة �أجزاء‪� ،‬أي ع�شرة‬
‫ح�ص���ص‪� ،‬أو ع�ش��رة �أكوام؟ فالمنطقي �أن يتم تق�سيم الج��زور �إلى �سبع ح�ص�ص‬
‫ال ع�ش��رة �إذا كان المقامرون �سبع��ة فقط‪ .‬هذه الم�شكلة هي التي حدت ببع�ضهم‪،‬‬
‫ربم��ا‪� ،‬إلى افترا�ض �أن القداح الأغفال جزء من المقامرة‪ .‬فما دام هناك ع�شرة‬

‫‪49‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�أجزاء من لحم الجزور‪ ،‬فيجب �أن يكون هناك ع�شرة من المتقامرين عليها‪ ،‬كما‬
‫ر�أينا عند الزبيدي‪.‬‬

‫لك��ن هن��اك من يرد على هذا بالتفري��ق بين �أكوام اللحم وبي��ن ح�ص�ص القداح‪.‬‬
‫وهذا ما ينقلنا �إلى فر�ضيتي الأ�صمعي و�أبي عبيدة‪.‬‬

‫بين الأ�صمعي و�أبي عبيدة‬

‫فالأ�صمعي يقول لنا �أن �أجزاء الجزور فيها ‪ 28‬ح�صة‪ ،‬في حين يقول �أبو عبيدة‪،‬‬
‫والغالبية‪� ،‬أنها ع�شر ح�ص�ص فقط‪ .‬وقد �أدى هذا �إلى �أن بع�ض الم�ؤلفين الأحدث‬
‫عهدا ر�أى �أنه ربما كانت هناك طريقتان للعب المي�سر عند العرب‪« :‬ف�إذا �أرادوا‬
‫التقام��ر ا�شتروا جزورا‪ ،‬ب�ضمان م�ؤجل �إلى ما بعد التقامر‪ ،‬وق�سموه �أبداء‪� ،‬أي‬
‫�أج��زاء‪� ،‬إلى ثماني��ة وع�شرين جزءا‪� ،‬أو �إلى ع�شرة �أج��زاء‪ ،‬على اختالف بين‬
‫الأ�صمع��ي و�أبي عبي��دة‪ .‬والظاهر �أن للعرب في ذل��ك طريقتين‪ ،‬فلذلك اختلف‬
‫الأ�صمع��ي و�أبو عبيدة» (ب��ن عا�شور‪ ،‬التحرير والتنوي��ر)‪ .‬وهو ر�أي ال ينفعنا‬
‫�أبدا‪� ،‬إذ لوة قبلنا به ف�سوف نكون مع لعبتين ال مع لعبة واحدة‪.‬‬

‫وين�س��ب الر�أي الثاني �أحيانا لغي��ر �أبي عبيدة‪ .‬بناء على ذلك‪ ،‬ف�إذا �أردنا �أن نحل‬
‫�ألغاز لعبة المي�سر علينا �أن نو�ضح العالقة بين الرقمين ‪ 10‬و ‪ .28‬الكل‪ ،‬بالطبع‪،‬‬
‫يواف��ق على وج��ود الرقمين‪� ،‬أي عل��ى �أن لعبة المي�سر ت�سي��ر بهذين الرقمين‪.‬‬
‫فالج��زور تق�سم �إلى ع�شرة �أجزاء‪ ،‬كما �أن هناك ع�شرة قداح‪ .‬كذلك فهناك على‬
‫الق��داح المو�سومة ح��زوز ي�ساوي حا�ص��ل جمعها ‪ 28‬حزا‪ .‬فل��كل قدح ن�صيب‬
‫يح��دده موقعه الت�صاعدي‪ .‬فالأول ل��ه ن�صيب واحد �إن رب��ح‪ ،‬وعليه غرم �إن‬
‫خ�سر‪� .‬أما الثاني فن�صيبان‪ ،‬وهكذا حتى ن�صل �إلى ال�سابع‪ ،‬الذي له �سبعة �أو عليه‬
‫�سبعة‪.»28 =7+6+5+4+3+2+1« :‬‬

‫لك��ن المختل��ف الذي جاءنا به الأ�صمع��ي‪ -‬وقد جاء منقوال عنه ول��م نقر�أه بقلمه‬
‫للأ�س��ف‪ -‬هو �أن لحم الجزور �أي�ضا ينق�سم �إلى ‪ 28‬ح�صة‪« :‬كان الأ�صمعي يجعل‬
‫�أجزاء المي�س��ر [= الجزور هنا] ثمانية وع�شرين ج��زءا؛ ذهب �إلى جمع �أن�صباء‬

‫‪50‬‬
‫زكريا محمد‬

‫القداح ال�سبعة وهي ثمانية وع�شرون جزءا» (ابن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬ي�ضيف‬
‫القرطب��ي م�ؤكدا‪ ،‬لكن من باب تخطئة الأ�صمع��ي‪« :‬و�أخط�أ الأ�صمعي في ق�سمة‬
‫الج��زور‪ ،‬فذكر �أنها‪ ،‬على قدر حظوظ ال�سهام‪ ،‬ثمانية وع�شرون ق�سما‪ ،‬ولي�س‬
‫كذلك» (تف�سير القرطبي)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فالأ�صمع��ي‪ ،‬منف��ردا وحده من بين الجميع‪ ،‬كان ي��رى �أن لحم الجزور‬
‫يق�س��م �أي�ضا �إلى ‪ 28‬ح�صة ت�س��اوي الفرو�ض‪ -‬الح��زوز ال ‪ 28‬لل�سهام‪� .‬أي �أن‬
‫الرق��م ‪ 28‬ال يخ�ص القداح وحدها‪ ،‬بل يتحقق ف��ي �أجزاء الجزور �أي�ضا‪ .‬فهناك‬
‫ح��زا ف��ي القداح‪ ،‬يقابلها ‪ 28‬ح�ص��ة من لحم الجزور‪ .‬بن��اء عليه‪ ،‬ففر�ضية‬
‫ّ‬ ‫‪28‬‬
‫الأ�صمع��ي تقوم عل��ى �أنه يجب ت�س��اوي الطرفين‪� :‬أجزاء لح��م الجزور وقداح‬
‫المي�سر‪� ،‬إذا كان للعبة �أن تكون‪:‬‬

‫ع�شرة قداح = ع�شرة �أجزاء‬

‫‪ 28‬حزا = ‪ 28‬جزءا من اللحم‬

‫و�إذا كان هن��اك ‪ 28‬جزءا من لحم الجزور‪ ،‬فهذا يو�صل �إلى �أن الأ�صمعي ر�أى‬
‫�أن هن��اك �سبعة �أجزاء من لحم الجزور هي التي ت�شارك في المقامرة ال ع�شرة‪،‬‬
‫مثلم��ا �أن هناك �سبعة قداح مقامرة‪ .‬فال يمكن الح�صول على الرقم ‪ 28‬في �أجزاء‬
‫الج��زور �إال عبر ه��ذا االفترا�ض‪ .‬علي��ه‪ ،‬يكون لدينا �سبعة �أج��زاء‪� -‬أكوام من‬
‫لح��م الجزور تت�صاعد في قيمته��ا الفعلية من الرقم ‪ 1‬حت��ى الرقم ‪ 7‬كي تت�ساوى‬
‫مع الت�صاعد في حزوز الق��داح ال�سبعة من ‪ .7-1‬فالكومة الأولى ت�ساوي ح�صة‬
‫واحدة‪� ،‬أما ال�سابعة فت�ساوي �سبع ح�ص�ص‪ .‬وهكذا نكون �أمام ال�صورة الآتية‪:‬‬

‫ع�شرة قداح = ع�شرة �أجزاء ‪� -‬أكوام‬

‫�سبعة قداح = �سبعة �أكوام لحم‬

‫‪ 28‬حزا = ‪ 28‬جزءا‬

‫ثالثة �أقداح �أغفال ال تدخل المقامرة = مقابل ثالثة �أجزاء لحم ال تدخل المقامرة‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ه��ذا هو جوهر الت��وازن والتوازي في لعب��ة المي�سر‪ .‬وم��ن دون هذا التوازي‬
‫الكامل ال يمكن للعبة المي�سر �أن ت�سير‪.‬‬

‫وقد ُخط��ئ الأ�صمعي‪ ،‬وهوجم ب�ش��دة‪ ،‬على فر�ضيته هذه‪ .‬وي��ورد لنا البقاعي‬
‫ال��رد الأ�سا�سي لخ�صوم الأ�صمعي عل��ى فر�ضيته هذه‪« :‬وقد ذك��ر [الأ�صمعي]‬
‫جز�أ على عدد ما في القداح م��ن الفرو�ض [الحزوز] وهي ثمانية‬ ‫�أن الج��زور ُت ّ‬
‫وع�ش��رون جزءا‪ .‬وال معنى لهذا الق��ول لأنه يلزم �أن ال يكون في هذا قمار وال‬
‫ف��وز وال خيبة �إذ كل واحد يختار لنف�سه ما �أحب م��ن ال�سهام ثم ي�أخذ ما خرج له‬
‫ثم ال تفرغ �أجزاء الجزور �إال بفراغ القداح‪ ،‬فال معنى للتقامر عليها» (البقاعي‪،‬‬
‫نظم الدرر)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فمنتقدو الأ�صمعي يزعمون �أن فر�ضيته ت�ؤدي �إلى ا�ستحالة اللعب‪ .‬فما دام‬
‫هن��اك ‪ 28‬حزا تقابلها ‪ 28‬ح�صة‪ ،‬فكل الق��داح المو�سومة �ستخرج فائزة‪ .‬لذا فهم‬
‫ي�صرون‪ ،‬وه��م الأكثرية‪ ،‬على �أن �أجزاء الجزور ع�ش��رة‪ .‬فهناك رقم ع�شرة‬
‫مقابل رقم ‪ .28‬وهذا ما قادهم �إلى ورطة ال حل لها‪ ،‬كما �سنرى‪.‬‬

‫�أم��ا ال��رد على خ�صوم الأ�صمعي ف�سهل ج��دا‪� .‬إذ يمكن �أن يقال له��م‪� :‬أنتم ر�أيتم‬
‫�أن فر�ضي��ة الأ�صمعي �ست���ؤدي �إلى ا�ستحال��ة اللعب لأنكم تجاهلت��م �شيئا واحدا‪:‬‬
‫الق��داح الأغفال‪ ،‬التي تعرفونها جيدا‪ .‬فمهمة ه��ذه القداح هي منع �سيناريو فوز‬
‫جميع الق��داح المو�سومة التي تتحدثون عنها‪ .‬فلي�ست مهمة هذه القداح درء غ�ش‬
‫محتمل من قبل الحر�ضة‪ ،‬عب��ر التكثير و�إثقال اللعب‪ ،‬بل مهمتها منع ال�سيناريو‬
‫ال��ذي يكون الكل فيه فائزين‪ .‬فالفائز في المي�سر هو من يخرج قدحه‪� .‬أما من ال‬
‫يخرج قدحه فه��و الخا�سر‪« :‬وكان ثمن الجزور عل��ى الذين لم تخرج قداحهم»‬
‫(اب��ن حمدون‪ ،‬التذكرة الحمدونية)‪ .‬هذه هي القاعدة الأ�سا�سية في لعبة المي�سر‪.‬‬
‫والق��داح الخارج��ة لن تزيد عن �سبعة ف��ي كل الأحوال‪� ،‬أي ل��ن تزيد عن عدد‬
‫المقامري��ن‪ .‬وقد و�ضعت الق��داح الأغفال الثالثة كي ت�ضع��ف ب�شدة من احتمال‬
‫خروج الق��داح ال�سبعة المتناف�سة معا‪ .‬فمن ال�سبعة التي �ستخرج‪� ،‬سيكون هناك‪،‬‬
‫في غالب الأمر‪ ،‬قدح �أو قدحان �أو ثالثة من الأغفال‪ .‬بالتالي‪ ،‬فلن تفوز القداح‬
‫المقامرة‪� ،‬أي القداح المو�سومة‪ ،‬كلها‪ .‬ولو حدث �أن خرجت القداح المو�سومة‬

‫‪52‬‬
‫زكريا محمد‬

‫كله��ا‪ ،‬وهو احتمال �ضئي��ل‪ ،‬ف�إن اللعب �سيبطل ويعاد م��ن جديد‪ ،‬ل�سبب ب�سيط‪:‬‬
‫وهو �أنه لن يكون هناك خا�سر كي يدفع ثمن الجزور‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فق��د كان الحكم ب���أن خروج الأغفال مث��ل عدم خروجه��ا‪� ،‬أي �أنها ترد‬
‫ثاني��ة �إلى الربابة‪ ،‬هو الحكم ال��ذي �أجه�ض �أي �إمكانية لفهم لعبة المي�سر‪ .‬القداح‬
‫الأغف��ال ال ترد حين تخرج‪ .‬القدح الوحيد الذي يرد‪ ،‬وفي لحظة محددة فقط‪،‬‬
‫ول�سب��ب محدد‪ ،‬هو القدح المنيح‪ ،‬كما �سنرى الحق��ا‪ .‬فكرة رد القداح هي التي‬
‫�أو�صلت �إلى رف�ض نظرية الأ�صمعي عن الح�ص�ص ال ‪ 28‬في لحم المي�سر‪.‬‬

‫وفر�ضي��ة الأ�صمعي تق��ول‪ :‬ثمة ع�شرة �أك��وام من اللحم فيه��ا ‪ 28‬ن�صيبا‪ .‬ومن‬
‫الأك��وام الع�ش��رة هناك �سبع��ة �أكوام من اللح��م فقط هي التي يقت��رع عليها‪� .‬أما‬
‫الثالث��ة الباقية فخ��ارج القرعة‪ .‬انطالقا م��ن هذا‪ ،‬ف�أرقام المي�س��ر الفعلية هي ‪7‬‬
‫و‪ .28‬لدين��ا ع�شرة قداح‪� ،‬سبع��ة منها هي القامرة‪� .‬أما الثالث��ة الباقية فال تدخل‬
‫ف��ي المقامرة‪ .‬ولدينا �أي�ضا ع�شرة �أج��زاء من اللحم‪� ،‬سبعة منها تدخل المقامرة‪،‬‬
‫�أم��ا الأجزاء الثالثة الباقية فال تدخل في المقامرة‪ .‬وهذا يعني �أن الأكوام الثالثة‬
‫هي المعادل للقداح الأغفال‪ .‬و�سوف نرى الحقا �أن الأجزاء الثالثة هي (�أجرة)‬
‫الرقيب والحر�ضة والجزار‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬يمك��ن القول �أنه ف��ي اللحظة التي رف�ضت فيه فك��رة الأ�صمعي عن وجود‬
‫الرقم ‪ 28‬في �أجزاء لحم الجزور‪� ،‬أي فكرة �أن داخل �أكوام اللحم يوجد رقم �آخر‬
‫هو ‪ ،28‬فقد �أبهم المي�سر‪ ،‬وفقدنا �إمكانية فهم طريقة لعبه‪ .‬وها نحن نعود �إلى هذا‬
‫ال��ر�أي بعد ‪ 1200‬عام لنجعله حجر الزاوية في فهم اللعبة‪ .‬الحجر الذي رف�ضه‬
‫البنا�ؤون يتحول �إلى حجر الزاوية‪ .‬وكي يزداد و�ضوح الأمر يمكن لنا �أن ن�ضع‬
‫بع�ض ما تو�صلنا �إليه هنا في نقاط على ال�شكل الآتي‪:‬‬

‫�أوال‪ :‬ال يمكن للعبة المي�سر �أن تنتهي �إال عند خروج �سبعة قداح‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الق��دح الذي يخ��رج من الق��داح المو�سومة هو الفائ��ز‪ ،‬والقدح الذي ال‬
‫يخرج هو الخا�سر‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ثالثا‪ :‬و�ضعت الق��داح الأغفال الثالثة بين القداح المو�سومة التي تربح وتخ�سر‬
‫كي تقلل من احتم��ال خروج القداح المو�سومة كلها في اللعب‪ .‬فكل قدح‬
‫غف��ل يخرج يمنع قدحا مو�سوما محززا من الخروج‪ .‬وفي حال خرجت‬
‫القداح ال�سبعة المو�سومة معا‪ ،‬وه��و احتمال �ضئيل‪ ،‬يبطل اللعب ويعاد؛‬
‫لأن��ه لن يكون هناك خا�سر يدفع ثمن الجزور‪ .‬واللعب في المي�سر يدور‬
‫�أ�سا�سا على من يدفع ثمن الجزور‪.‬‬

‫رابعا‪� :‬أكوام لحم الجزور الداخلة في المقامرة �سبعة‪ .‬ولكل كوم قيمة في �سل�سلة‬
‫ت�صاعدية‪ .‬فالكوم الأول ي�س��اوي ح�صة واحدة‪ ،‬والكوم ال�سابع ي�ساوي‬
‫�سبع ح�ص�ص‪.‬‬

‫محاولة اليعقوبي لحل لغز المي�سر‬

‫ينطل��ق اليعقوبي من الرقمي��ن ‪ 10‬و‪ .28‬لدينا ع�شرة من �أج��زاء لحم الجزور‪،‬‬


‫مقاب��ل ‪ 28‬ح�صة لل�سه��ام‪ ،‬وكل �سهم ح�صت��ه تقررها الحزوز الت��ي عليه‪ .‬ف�إذا‬
‫خ��رج الفذ (حز واحد)‪ ،‬ثم تبعه التو�أم (حزان) ثم تبعه المعلى (‪ 7‬حزوز)‪ ،‬ف�إن‬
‫اللعب��ة تنتهي على �أكمل وج��ه‪ .‬فهذه ع�شرة حزوز‪ ،‬في مقاب��ل ع�شر ح�ص�ص‪:‬‬
‫«وخرج��وا وفقا‪ ،‬ووقع غرم ثمن الجزور على م��ن خاب �سهمه‪ ،‬وهم �أربعة‪:‬‬
‫�صاح��ب الرقيب والحل�س والناف�س والم�سبل‪ .‬ولهذه الق��داح ثمانية ع�شر �سهما‪.‬‬
‫فيج��ز�أ الثمن على ثمانية ع�شر جزءا‪ ،‬و�أخ��ذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان‬
‫ن�صيب��ه من اللحم لو فاز قدح��ه» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬المجل��د الأول‪ ،‬بال تاريخ‪،‬‬
‫���ص ‪ .)260‬يعني‪ :‬اللع��ب يقوم على خروج �أول ع�شرة ح��زوز‪ .‬بالطبع‪ ،‬هذا‬
‫وهم كام��ل‪ .‬فاللعبة لن تنتهي قبل خروج �سبعة ق��داح‪ .‬ولو كان الأمر يتم على‬
‫ه��ذه ال�صورة لما كان هن��اك حاجة �إلى القداح الأغفال مطلق��ا‪� .‬أما �أنها و�ضعت‬
‫لمن��ع غ�ش الحر�ضة ف�أمر غي��ر مطروح‪ .‬فهناك الرقيب ال��ذي يراقبه‪ .‬وهناك‬
‫الالعب��ون الذين يتر�صدون كل حركة من حركاته‪ .‬ب��ذا‪ ،‬يمكن القول �أن فكرة‬
‫الغ�ش كان��ت �ضرورية من �أجل �إنقاذ نظرية �أبي عمرو‪ ،‬التي يوافقها اليعقوبي‪.‬‬
‫فبه��ذه الفكرة يت��م �إرغام القداح الأغفال على العودة �إل��ى الربابة كلما خرجت‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫زكريا محمد‬

‫لكنه��ا ف��ي اللعبة الحقيقية ال تعود حين تخرج‪� ،‬إال الق��دح المنيح‪ ،‬الذي يعود في‬
‫لحظة محددة ما �سنعر�ض لها تاليا‪.‬‬

‫ح�سن جدا‪ ،‬الحالة ال�سابقة التي عر�ضها اليعقوبي حالة مثالية‪ ،‬وال تعك�س م�شاكل‬
‫الفر�ضي��ة الت��ي ي�سير عليها‪ .‬وهو ي��ورد لنا بنف�سه بع�ض الح��االت غير المثالية‪:‬‬
‫«و�إن خ��رج المعل��ى �أول القداح �أخذ �سبعة �أجزاء الج��زور‪ ،‬وكان الغرم على‬
‫�أ�صحاب القداح التي خابت‪ ،‬واحتاجوا �أن ينحروا جزورا �أخرى لأن في قداحهم‬
‫الم�سبل‪ ،‬وله �ستة �أجزاء‪ ،‬ولم يبق من اللحم �إال ثالثة» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬المجلد‬
‫الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)260‬‬

‫�إذن‪ ،‬هن��ا تبد�أ الورطة‪ .‬فبعد �أن خرج المعلى (‪ 7‬حزوز)‪ ،‬و�أخذ �سبعة ح�ص�ص‬
‫م��ن الع�شر‪� ،‬أي �أخذ �سبعة �أكوام لحم‪ ،‬ولم ينته اللعب‪� ،‬صار على المقامرين �أن‬
‫ينحروا جزورا �أخرى‪ .‬لماذا؟ لأن هناك ثالثة �أجزاء لم يحدد م�صيرها‪ .‬وحين‬
‫يخ��رج الم�سبل بعد ذبح الج��زور الثاني‪ ،‬فما الذي يح�صل؟ ي��رد علينا اليعقوبي‬
‫بقول��ه‪ ،‬ف�إن‪« :‬خرج الم�سبل‪� ،‬أخذ �صاحبه �ستة �أجزاء الجزور الأخرى‪ :‬الثالثة‬
‫الباقية من الج��زور الأولى‪ ،‬وثالثة �أجزاء من الج��زور الثانية‪ ،‬ولزمه الغرم‬
‫في الج��زور الأولى‪ ،‬ولم يلزمه في الثانية �ش��يء؛ لأن قدحه قد فاز‪ .‬وبقي من‬
‫الج��زور الثانية �سبعة �أجزاء‪ .‬في�ض��رب عليها بقداح من بقي‪ ،‬ف�إن خرج الناف�س‬
‫�أخ��ذ خم�س��ة �أجزاء‪ ،‬ولم يغرم من ثم��ن الجزور الثانية �شيئ��ا‪ ،‬لأن قدحه فاز‪،‬‬
‫ولزم��ه الغرم من الأولى‪ ،‬وبقي جزءان من اللح��م» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬المجلد‬
‫الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)261 - 260‬‬

‫وهكذا‪ ،‬ف�صاحب الم�سبل خا�سر في الجزور الأولى‪ ،‬ورابح في الجزور الثانية‪.‬‬

‫غي��ر �أن هذا ال ينهي اللعبة‪ ،‬لذا يجب نحر جزور ثالثة‪ .‬ذلك �أن ما تبقى من لحم‬
‫الج��زور الثانية جزءان فق��ط‪ ،‬في حين �أن هناك في الق��داح التي �ستكمل اللعب‬
‫(الحل���س)‪ ،‬وله �أربع ح�ص�ص‪« :‬وفيه��ا من القداح (الحل�س) ل��ه �أربعة �أجزاء‪،‬‬
‫فيحتاجون �أن ينحروا جزورا �أخرى لتتمة �أربعة‪ ..‬و�إن نحروا الجزور الثالثة‬
‫وفاز الحل�س �أخذ �صاحبه �أربعة �أجزاء‪ :‬جز�أين من الجزور الثانية‪ ،‬وجز�أين من‬

‫‪55‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الج��زور الثالثة‪ ،‬ولم يغرم من الجزور الثالثة �شيئا لأنه فاز قدحه‪ .‬وبقى ثمانية‬
‫�أجزاء من الجزور الثالثة في�ضرب ببقايا القداح عليها‪ ،‬حتى يخرج قداحهم‪ ،‬وفقا‬
‫لأج��زاء الجزور‪ ،‬فه��ذا ح�ساب غرمهم الثمن كما و�صف��ت» (تاريخ اليعقوبي‪،‬‬
‫المجلد الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)261‬‬

‫وهكذا فاللعبة التي بدت بجزور واحد انتهت �إلى نحر ثالث جزر‪� .‬أي �أننا �صرنا‬
‫�أم��ام مجزرة‪ .‬وفي هذا اللعب ال يوج��د �إال رابح واحد‪� ،‬أما الباقون فرابحون‪-‬‬
‫خا�سرون‪ .‬وهكذا فنحن مع فو�ضى ال مع لعب‪.‬‬

‫محاولة ابن قتيبة الدينوري‬

‫و�إذا كان اليعقوب��ي ق��د نحر ثالثة جزر لحل م�شكلة وج��ود �أن�صبة للفائزين �أكثر‬
‫م��ن �أكوام اللحم‪ ،‬ف�إن ابن قتيبة يقدم لنا ح�لا �آخر وهميا للمع�ضلة ذاتها‪� ،‬إنه حل‬
‫الت�أريب‪:‬‬

‫«�إذا خرج الأول المعلى وله �سبعة �أ�سهم‪ ،‬وخرج الثاني الم�سبل وله �ستة �أ�سهم‪،‬‬
‫ف�أخ��ذ �صاحب المعلى �سبعة �أع�شار‪ ،‬و�أخذ �صاحب الم�سبل الثالثة الباقية‪ ،‬وبقيت‬
‫ثالثة �أخرى على �أ�صحاب القداح الخم�سة التي لم تخرج‪ ،‬فيحتاج العدل بينهم �أن‬
‫ي�ستظه��ر الرهن لهذه ال�سهام الزائدة‪ ،‬و�أن يوزع ذلك عليهم على قدر �سهامهم‪،‬‬
‫فيل��زم �صاحب الف��ذ ق�سطا‪ ،‬و�صاحب الت��و�أم ق�سطين‪ ،‬و�صاح��ب الرقيب ثالثة‬
‫�أق�ساط‪ ،‬و�صاحب الحل�س �أربعة �أق�ساط‪ ،‬و�صاحب الناف�س خم�سة �أق�ساط‪ ،‬وكانوا‬
‫يدعون هذا «الت�أريب» (ابن قتيبة‪ ،‬المي�سر والقداح‪� ،1432 ،‬ص ‪.)146‬‬

‫وهك��ذا‪ ،‬فال�سه��ام التي خرجت تحمل ‪ 13‬حزا‪� ،‬أي �أن له��ا ‪ 13‬ح�صة‪ ،‬في حين‬
‫�أن ع��دد �أجزاء الج��زور ع�شرة فقط‪ .‬من �أجل حل ه��ذه المع�ضلة ال يقترح ابن‬
‫قتيب��ة نحر ج��زر متوا�صل‪ ،‬بل يقدم لن��ا نظرية (ال�ضم��ان)‪� .‬إذ يفتر�ض �أن ثمة‬
‫(رهنا) �أو (ت�أمينا) �أو (�ضمانا) يدفعه كل مقامر ل�سد العجز والنق�ص‪« :‬وكانوا قبل‬
‫�أن ي�ضرب��وا بالقداح يجعل��ون بينهم عدال ي�أخذ من كل منه��م رهنا بما يلزمه من‬
‫ثم��ن ن�صيب قدحه �إذا خاب‪ ،‬وي�ستظهر في ذلك بم��ا يخ�شى �أن يلزمه من فا�ضل‬

‫‪56‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ح�ص�ص ال�سهام على �أع�شار الجزور» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪.)146‬‬

‫هذا الرهن‪� ،‬أو ال�ضمان‪ ،‬يدعوه ابن قتيبة بالت�أريب‪ .‬وتعود م�س�ألة الت�أريب كلها‬
‫�إلى بيت غام�ض البن مقبل‪:‬‬
‫�ص��ك القداح‪ ‬وت�أريب‪ ‬على الي�سر‬ ‫�ش��م مخامي�ص ين�سيه��م معاطفهم‬
‫ّ‬

‫لكنه يروى هكذا �أي�ضا‪:‬‬


‫الخطَ رِ‬ ‫داحوت�أْرِ ٌ‬
‫يب‪ ‬على َ‬ ‫�ض ْر ُبال ِق ِ‬
‫َ‬ ‫ها�ضيم‪ُ ،‬ي ْن ِ�سيهم َم ِ‬
‫عاط َفهم‬ ‫بِي�ض َم ِ‬

‫وق��د افتر�ض اب��ن قتيبة وغيره �أن الت�أريب هنا الره��ن‪ ،‬وبنى على ذلك نظريته‬
‫عن لع��ب المي�سر‪ .‬غي��ر �أن الأمر لي�س به��ذه ال�سهولة‪ .‬فالت�أري��ب في اللغة هو‬
‫الت�شدي��د‪� ،‬أو هو ال�شح والبخل �أ�سا�سا‪� .‬أما معناه ف��ي البيت فمختلف عليه‪ .‬بل �إن‬
‫الي ْ�سر عند بع�ضهم‪ ،‬بل المخاطرة‪« :‬قال �أَبو عمرو‪:‬‬ ‫كلمة الي�سر في البيت ال تعني َ‬
‫خاطرة» (ل�س��ان العرب)‪ .‬بل �إن بع�ضه��م روى الكلمة الأخيرة‬ ‫الم َ‬‫الي�س��ر ههنا ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫مها�ضيم‪ ،‬ين�سيهم معاطفهم‪/‬‬ ‫على �أنها الخطر ال الي�سر‪« :‬و�أَن�شد البن مقبل‪ :‬بِي�ض‬
‫�ض��رب القداح‪ ،‬وت�أريب عل��ى الخطر» (ل�سان العرب)‪ .‬وهن��اك من ر�أى �أن‬
‫الأم��ر يتعل��ق بالت�أريث ال بالت�أريب �أ�صال‪� ،‬أي �أن ف��ي الكلمة ت�صحيفا‪« :‬قال �أَبو‬
‫بالثاء» (ل�سان العرب)‪.‬‬‫ِ‬ ‫من�ص��ور [الثعالبي]‪ :‬هذا ت�صحيف وال�صواب ال َّت�أْرِ ُ‬
‫ي��ث‬
‫والت�أريث هو الإ�شعال والتح�ضي�ض والتحري�ض‪ .‬فجذر �أرث يعني �أ�شعل وحث‬
‫عل��ى الح��رب �أو الفتنة‪ ،‬وح�ض�ض وح��ث وحر�ض‪َّ �« :‬أرث بين الق��وم‪� :‬أَف�سد‪.‬‬
‫والت�أرِ يث‪ ‬الإِغراء بين القوم‪ .‬والت�أرِ يث‪� ‬أَي�ضاً‪� :‬إِيقاد النار» (ل�سان العرب)‪ .‬كما‬
‫ورث لي‬ ‫يق��ال‪� :‬أرث نار الحرب‪ ،‬و�أرث ن��ار الفتنة‪ .‬ويقول العراقيون الآن‪ّ :‬‬
‫ال�سيجارة‪� ،‬أي �أ�شعلها لي‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فال�شطر يقول‪� :‬ضرب القداح وت�أريث‪� ،‬أي تح�ضي�ض‪ ،‬على المخاطرة‪.‬‬
‫وقد ظن ابن قتيب��ة �أن (�ضرب القداح) مرتبط مبا�شرة ب (ت�أريب على الي�سر)‪،‬‬
‫و�أنهم��ا يتحدث��ان عن لعب��ة المي�س��ر‪ .‬غي��ر �أن الأم��ر ال يبدو كذل��ك‪ ،‬فه�ؤالء‬
‫المذك��ورون في البيت ين�سيهم معاطفهم �أح��د �أمرين‪� :‬إما �ضربهم لقداح المي�سر‪،‬‬

‫‪57‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫و�إما دخولهم في المخاطر وت�أريثهم لنيرانها‪ .‬عليه‪ ،‬ف�إحدى الحالين تتحدث عن‬
‫المي�سر‪ ،‬في حين تتحدث الثانية عن المخاطر ال عن المي�سر‪.‬‬

‫�أما الت�أريب بمعني �إكم��ال الن�صيب‪« :‬الت�أريب‪ :‬تمام الن�صيب» (ل�سان العرب)‪،‬‬


‫فه��و المعنى الذي ا�ستند �إليه ابن قتيبة‪ ،‬فيبدو لن��ا قادما من التف�سير الخاطئ لبيت‬
‫اب��ن مقبل ال غي��ر‪� ،‬أي التف�سير الذي بني على ت�صحي��ف الت�أريث �إلى الت�أريب‪.‬‬
‫وهذا يعني �أنه بال �أ�صل في اللغة‪ ،‬في �أغلب الظن‪.‬‬

‫لك��ن هذا ال يعني �أن لي�س ثمة رهن في المي�سر‪ .‬بلى‪ ،‬هناك رهن و�ضمان‪ .‬لكنه‬
‫غي��ر الذي يتح��دث عنه ابن قتيب��ة‪� .‬إذ ي�ؤخذ من كل واحد م��ن المتقامرين مبلغ‬
‫م��ن المال ي�ساوي‪ ،‬على الأقل‪ ،‬قدر قدح��ه في حال خ�سارته‪ ،‬وذلك حتى يدفع‬
‫ثم��ن الجزور من��ه حين تنتهي اللعب��ة‪ .‬وي�ؤخذ هذا الره��ن احتياطا للخالف بين‬
‫المتقامرين‪ .‬ويرد رهن الرابحين �إليهم عند نهاية الجولة‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فمحاول��ة ابن قتيب��ة �أرادت �أن تتجاوز مجزرة اليعقوب��ي‪ ،‬و�أن تفتح �أفقا‬
‫لنظري��ة �أبي عبي��دة‪ ،‬لكنها كان��ت محكومة بالف�ش��ل‪ .‬فنظرية خاطئ��ة لن ينقذها‬
‫ت�صحيف لغوي‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫فصل ‪3‬‬

‫القدح المردود‬

‫ن�أتي الآن �إلى القدح المنيح‪ ،‬الذي هو �أ�شهر قداح المي�سر طرا‪ ،‬و�أ�شدها غمو�ضا‬
‫و�إلغ��ازا �أي�ضا‪ .‬وربم��ا كان فك لغزه ي�س��اوي فك الن�صف الثان��ي من لغز لعبة‬
‫المي�سر كلها‪ .‬والأخبار عنه مت�ضاربة م�شو�شة‪� .‬أو �أنها مت�شابكة بحيث ينبغي بذل‬
‫جه��د هائل لل��م �شعثها‪ ،‬من �أجل تو�ضي��ح دور هذا القدح في اللعب��ة‪� .‬أما جوهر‬
‫المع�ضلة التي تطرحها الأخبار عن هذا القدح فتتكون من �شقين‪:‬‬

‫الأول‪� :‬أنه يرد �إلى الربابة حين يخرج‪.‬‬

‫الثاني‪� :‬أن هناك قدحين يدعيان بالمنيح‪� ،‬أو �أن هذا القدح يتبدى كقدح مزدوج‪.‬‬

‫بخ�صو�ص ال�شق الأول‪ ،‬يقال لنا �أنه‪�« :‬إذا خرج قالوا‪ُ :‬رد‪ُ ،‬رد‪ ،‬لي�س هو لأحد»‬
‫(ابن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬ولذلك قال ب�شر بن �أبي خازم الأ�سدي‪:‬‬

‫مفي�ض‬
‫ُ‬ ‫المنيح‬
‫َ‬ ‫فردت كما رد‬ ‫فقلت لها ردي �إليه جنانـه‬

‫وقد ر�أينا كيف قا�س بع�ضه��م القداح الأغفال على القدح المنيح فحكم ب�أن القداح‬
‫الأغف��ال كله��ا تعاد حين تخرج‪« :‬ف���إن خرج من الثالثة الأغف��ال �شيء رد من‬
‫�ساعت��ه» (تاري��خ اليعقوبي المجل��د الأول‪ ،‬بال تاريخ‪��� ،‬ص ‪ .)260‬وقد حكمنا‬
‫بخط���أ هذا ال��ر�أي‪ ،‬وقلنا �أن المنيح هو وحده الذي ي��رد عند لحظة محددة فقط‪.‬‬
‫فاالفترا�ض ب�أنه يرد دوما �سيجعل من وجود هذا القدح بال معنى‪ .‬فهو لن ي�شارك‬
‫ف��ي اللعب عمليا‪ .‬وكيف يمكن لقدح ف��ي �شهرة المنيح �أن يكون لغوا وبال دور؟‬
‫فالمني��ح هو الق��دح الأ�شهر بين القداح جميعا‪ .‬بل �إن��ه �أ�شهر من المعلى الذي هو‬
‫الكا�س��ب الأكبر حين يك�س��ب‪�« :‬أبو عبيد‪� :‬س�ألت الأعراب ع��ن �أ�سماء القداح فلم‬
‫يعرف��وا منها غي��ر المنيح» (ابن �سيدة‪ ،‬المخ�ص�ص)‪ .‬وهك��ذا‪ ،‬كان الأعراب ال‬

‫‪59‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫يعرف��ون �إال القدح المنيح‪ .‬فما الذي يجعل قدحا تافه الدور بهذه ال�شهرة؟ وكيف‬
‫يكون قدح بمثل هذه الأهمية خارج �سياق اللعب؟ لذلك نقترح �أنه يرد في لحظات‬
‫محددة فقط‪� ،‬أي �أن رده م�س�ألة فنية من �أجل ترتيب اللعب ال غير‪ .‬ولدينا �شواهد‬
‫على ذلك‪ ،‬منها بيت الكميت‪� :‬إلى بيت غام�ض البن مقبل‪:‬‬
‫�أطيل به��ا‪ ،‬كر المني��ح‪ ،‬جدالهـا‬ ‫�أقول لك��م هذا وف��ي النف�س خطة‬

‫فال�شاعر لديه خطة في نف�سه يطيل جدالها مع نف�سه قبل �أن يعمد �إلى تنفيذها‪ ،‬م�شبها‬
‫بكر القدح المنيح‪� ،‬أي بتكرار ظهوره و�إعادته‪ ،‬الذي يحدث لإطالة‬ ‫هذه الإطالة ّ‬
‫اللع��ب «�أطيل بها‪� »..‬إلى نقطة محددة ال يعود يرد فيها بعد ذلك للربابة‪ .‬عليه‪،‬‬
‫يمك��ن لنا �أن نفهم جملة «رد رد‪ ،‬لي���س هو لأحد» التي تقال عن المنيح على �أنها‬
‫يلزم لأحد بعد‪ .‬ذلك �أن القداح‬ ‫تعن��ي‪« :‬لي�س لأحد في هذه اللحظ��ة»‪� ،‬أي �أنه لم ّ‬
‫الأغف��ال كلها‪ ،‬بما فيها المنيح‪ ،‬لي�ست لأحد م��ن المتقامرين في الأ�صل‪ .‬فهي ال‬
‫تدخ��ل المقامرة‪ ،‬فلماذا يكون هو الوحيد الذي يقال عنه �أنه لي�س لأحد؟ لي�س من‬
‫يلزم‬
‫جواب على هذا ال�س�ؤال �إال افترا�ض �أن هذا القدح‪ ،‬على وجه الخ�صو�ص‪ّ ،‬‬
‫في لحظة لأحد ما‪ ،‬ويل�صق به‪ ،‬في ما يبدو‪ .‬و�سوف نحاول الو�صول �إلى تحديد‬
‫هذه اللحظة تاليا‪.‬‬

‫ولعل هذا ما ي�شير �إليه بيت عروة بن الورد الذي ي�صف فيه ال�صعلوك‪:‬‬
‫ب�ساحته��م زجـر‪ ‬المنيـح‪ ‬الم�شه��ر‬ ‫لا عل��ى �أعدائ��ه يزجرونـه‬
‫مط� ً‬

‫فالزج��ر هنا يعن��ي الدفع والرد‪ .‬علي��ه‪ ،‬فال�شخ�ص المذك��ور يواجه ويرد‪ ،‬كما‬
‫يزج��ر المنيح وي��رد �إلى الربابة‪ .‬دلي��ل ذلك �أن عروة ي�ضيف ف��ي البيت الذي‬
‫يعقبه‪« :‬ف�إن بعدوا ال ي�أمنون اقترابه»‪� ،‬أي �أن ال�صعلوك يعود بعد دفعه وزجره‬
‫حال ابتعادهم وذهاب يقظتهم‪ .‬عليه‪ ،‬فالزجر في البيت ال يعني (المراهنة على)‬
‫كما ظن �أحمد بن حاتم في جداله مع محمد بن زياد الأعرابي‪:‬‬

‫«ث��م �سئ��ل [الأعرابي] في ه��ذا المجل���س عن بيت لع��روة‪ :‬مطال عل��ى �أعدائه‬
‫يزجرون��ه‪ /‬ب�ساحتهم زجر المنيح الم�شهر‪ ،‬فقيل له‪ :‬م��ا معناه؟ فقال‪ :‬يزجرون‬

‫‪60‬‬
‫زكريا محمد‬

‫هذا الرج��ل �إذا نزل ب�ساحتهم كما يزجر المنيح‪ ...‬فقلت له‪ :‬ويحك‪� ،‬إنما يزجر‬
‫[يراهن على] ما جاء له ن�صيب‪ ،‬وهذا خامل ال ن�صيب له» (الزجاجي‪ ،‬مجال�س‬
‫العلماء‪ ،‬الكويت‪� ،1984 ،‬ص ‪ .)286-285‬لكن الحق مع الأعرابي‪ .‬فالزجر‬
‫هنا بمعن��ى الرد والمنع واالنته��ار‪ ،‬ال بمعنى المراهنة عل��ى‪ .‬فال�صعلوك يمنع‬
‫ويرد كما يرد القدح المنيح عند خروجه من الربابة‪.‬‬

‫القدح الم�ستعار‬

‫ن�أت��ي الآن �إلى الق�سم الثان��ي من م�شكلة هذا القدح‪ :‬م�شكل��ة وجود منيحين؛ منيح‬
‫�أ�صل��ي ومنيح م�ستعار‪« :‬اللحياني‪ :‬المنيح �أحد الق��داح الأربعة التي لي�س لها غنم‬
‫وال غ��رم‪� :‬أولها الم�صدر ثم الم�ضعف ثم المنيح ث��م ال�سفيح‪ .‬قال‪ :‬والمنيح �أي�ضا‬
‫ق��دح من �أقداح المي�سر ي�ؤثر بفوزه في�ستعار‪ ،‬يتيمن بفوزه‪ .‬والمنيح الأول‪ :‬من‬
‫لغ��و القداح‪ ،‬وهو ا�سم له‪ ،‬والمنيح الثاني الم�ستع��ار» (ل�سان العرب)‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فثم��ة منيح لغو‪ ،‬ال يربح وال يخ�سر‪� ،‬أي مثل الأغفال الأخرى‪ ،‬ومنيح م�ستعار‬
‫مع��روف عنه الفوز‪ ،‬في�ستعيره المتقام��رون ب�سبب ذلك! �أما كيف ي�ؤثر بفوزه‪،‬‬
‫فهذا ما ال ي�شرحه لنا �أحد‪.‬‬

‫ويمك��ن لنا ف��ي ما نعتقد �أن نف�سر ب�سهولة حكاي��ة «الم�ستعار» هذه‪ .‬ذلك �أن جذر‬
‫«منح» ذاته يفيد معنى الإعارة �أ�صال‪« :‬منحه الناقة جعل له وبرها وولدها ولبنها‪،‬‬
‫وه��ي المنحة والمنيحة‪ ...‬ق��ال �أبو عبيد‪ :‬للعرب �أربع��ة �أ�سماء ت�ضعها موا�ضع‬
‫العاري��ة‪ :‬المنيحة والعرية والإفقار والإخبال» (ل�س��ان العرب)‪ .‬عليه‪ ،‬فالمنيح‬
‫ذاته م�ستعار من الأ�صل‪� ،‬أي بمعنى الجذر‪ .‬وهذا يعني �أن ال�صفة المركزية لهذا‬
‫القدح انه ممنوح معار‪� .‬أي �أن الإعارة هي جوهره‪ .‬فال داعي للبحث عن منيح‬
‫�آخر ي�ستعار كي ن�صبح �أمام قدحين منيحين‪.‬‬

‫لك��ن ال�س�ؤال هو‪ :‬كيف ينظر �إل��ى هذا القدح على �أنه م�ستعار؟ ولم يكون ممنوحا‬
‫م�ستع��ارا؟ وما معنى �أن يك��ون كذلك؟ لكي نجيب على هذا ال�س�ؤال يبدو �أن علينا‬
‫�أن نتمعن في و�ضع القداح وترتيبها‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الثامن والعا�شر‬

‫يختلف على �أ�سماء قداح المي�سر المو�سومة والأغفال‪ ،‬وعلى ترتيبها‪ .‬والأغفال‪،‬‬
‫كم��ا �أو�ضحنا من قبل‪ ،‬ثالثة عن��د بع�ضهم‪ ،‬و�أربعة عن��د �آخرين‪ .‬وحين تكون‬
‫�أربع��ة ف�إن قداح المي�سر ت�صبح ‪ 11‬قدحا ال ع�ش��رة‪ .‬ويو�ضع المنيح في موا�ضع‬
‫متعددة من �صف القداح‪ .‬فلي�س هناك اتفاق تام على مكانه‪ ،‬فهو العا�شر في �صف‬
‫القداح كما عند اللحياني‪« :‬ق��ال اللحياني‪ :‬هو الثالث من القداح الغفل التي لي�ست‬
‫لها فر�ض وال �أن�صباء» (الزبيدي‪ ،‬تاج العرو�س)‪ .‬والثالث هنا تعني الأخير بين‬
‫الق��داح الأغفال‪� ،‬أي العا�شر في �صف القداح كلها كم��ا نفتر�ض‪ .‬غير �أن هناك‬
‫م��ن يجعله ثامنا دوما‪� ،‬أي �أنه ي�أتي بع��د المعلى من القداح المو�سومة في ال�صف‬
‫مبا�ش��رة‪« :‬المنيح فيما زعم‪ :‬الثامن من القداح» (الخليل العين)‪ .‬ي�ضيف الل�سان‪:‬‬
‫«المني��ح‪ :‬القدح الم�ستعار‪ ،‬وقيل‪ :‬هو الثامن من قداح المي�سر» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫لذا يو�ضع ثامنا في ال�صف عند بع�ضهم‪« :‬كانت لهم ع�شرة �أقداح‪ ،‬وهي‪ :‬الأزالم‬
‫والأقالم‪ :‬الفذ‪ ،‬والتو�أم‪ ،‬والرقيب‪ ،‬والحل�س‪ ،‬والناف�س‪ ،‬والم�سبل‪ ،‬والمعلى‪،‬‬
‫والمنيح‪ ،‬وال�سفيح‪ ،‬والوغد» (الزمخ�شري‪ ،‬الك�شاف)‪ .‬و�أن يكون المنيح ثامنا‪،‬‬
‫فهذه معلومة ثمينة جدا‪ ،‬لأنها تحيلنا �إلى �أي�سار لقمان الثمانية‪.‬‬

‫�أي�سار لقمان الثمانية‬

‫ولقمان ه��و الأب الأ�سطوري للعب��ة المي�سر‪ ،‬كما قلنا من قب��ل‪ .‬وهو الذي قيل‬
‫في��ه المثل «�أي�سر من لقمان»‪ ،‬فقد‪« :‬كان �أ�ض��رب النا�س بالقداح» (الع�سكري‪،‬‬
‫جمه��رة الأمثال)‪� .‬أم��ا �أي�ساره فهم الذين قيل فيهم �أي�ض��ا‪« :‬هم ك�أي�سار لقمان»‪،‬‬
‫وي�ض��رب في الق��وم ال�شرف��اء النبالء‪ .‬و�أي�س��ار لقمان هم الأ�ص��ل الأ�سطوري‬
‫لأي�س��ار لعبة المي�سر الواقعيين‪ .‬فهم �أول من لع��ب اللعبة مع لقمان وفي عهده‪.‬‬
‫و�س��وف نتوقف عند لقمان مطوال في وقت الح��ق‪ .‬لكن ما نود لفت االنتباه �إليه‬
‫�إنما هو الف��ارق بين �أي�سار لقمان و�أي�سار لعبة المي�س��ر‪ .‬ف�أي�سار المي�سر �سبعة في‬
‫حي��ن �أن �أي�سار لقمان ثمانية‪« :‬وهم ثمانية‪ :‬بي�ض وحمحمة وطفيل وذفافة ومالك‬

‫‪62‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وفرزع��ة وثميل وعمار‪ ،‬ف�ض��رب العرب به�ؤالء الأي�سار المث��ل» (الميداني‪،‬‬


‫مجم��ع الأمثال)‪� .‬أم��ا الع�سكري فيرتب المجموعة الأخي��رة منهم ترتيبا مختلفا‪:‬‬
‫«وهم ثمانية‪ ،‬بي�ض‪ ،‬وحممة‪ ،‬وطفي��ل‪ ،‬وذفافة‪ ،‬وفرزعة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وثميل‪،‬‬
‫وعم��ار» (الع�سكري‪ ،‬جمهرة الأمث��ال)‪ .‬وهذا يعني �أن �أي�س��ار لقمان يزيدون‬
‫مقام��را واحدا ع��ن المتقامرين في لعبة المي�سر الجاهلي��ة‪ ،‬الذين هم �سبعة دوما‪:‬‬
‫«وال تكون الأي�سار �إال �سبعة» (ابن فار�س‪ ،‬مقايي�س اللغة)‪.‬‬

‫والغري��ب �أن الم�صادر العربية ال تت�ساءل عن �سر الرقم الزائد في �أي�سار لقمان‪،‬‬
‫مقارنة ب�أي�سار المي�سر‪ .‬فهي تخبرنا ب�أن �أي�سار المي�سر �سبعة‪ ،‬ثم ت�ضيف �أن �أي�سار‬
‫لقم��ان ثمانية‪ .‬ثم ال تعل��ق على االختالف‪ ،‬وك�أنه ال عالق��ة بين الأمرين‪ .‬هي‬
‫ت�ستح�ض��ر لقمان و�أي�ساره الثمانية عند الحديث ع��ن �أي�سار المي�سر ال�سبعة دوما‪،‬‬
‫لكنه ا�ستح�ضار مجاورة ال مقارنة‪.‬‬

‫وم��ا دام �أي�سار لقم��ان ثمانية‪ ،‬فال بد �أن يكون هناك ق��دح زائد ثامن يناظرهم‪.‬‬
‫لكنن��ا ال نجد �أح��دا يحدثنا عن قدح ثامن‪� ،‬أي قدح علي��ه ثمانية حزوز‪ .‬فمن هو‬
‫المقامر الثامن الزائد في �أي�سار لقمان؟ و�أين هو قدحه؟‬

‫نحن نريد �أن نفتر�ض �أن القدح المنيح هو نظير المقامر الثامن من �أي�سار لقمان‪،‬‬
‫�أي �أن��ه نظير (عمار) في الئح��ة �أ�سماء �أي�سار لقمان‪ .‬فاالثن��ان يحتالن الموقع‬
‫الثام��ن‪ :‬القدح المنيح هو الثامن ف��ي �صف الأقداح عن��د الكثيرين‪ ،‬وعمار هو‬
‫الثام��ن من �أي�سار لقمان‪ .‬لكننا نعرف �أن المنيح من القداح الأغفال‪� ،‬أي القداح‬
‫الت��ي ال يراه��ن عليها‪ ،‬ولي�س له �صاح��ب‪ ،‬فكيف نحل الأم��ر؟ الجواب‪ :‬نحن‬
‫نفتر�ض �أن القدح المنيح ي�صبح قدحا خا�سرا في لحظة ما‪ ،‬و�أنه يتم تلزيمه لأحد‬
‫الالعبين‪ .‬فهو حين يخرج في تلك اللحظة يخرج خا�سرا‪ ،‬وال يرد‪ .‬كل القداح‬
‫المو�سوم��ة حين تخرج تخرج رابحة‪� ،‬أم��ا هو فيخرج حين يخرج خا�سرا‪� .‬أي‬
‫�أن فوزه هو خ�سارت��ه‪� ،‬أو خ�سارة المقامر الذي �سيكون �صاحبه‪ .‬بالتالي‪ ،‬فهو‬
‫ي�ض��اف‪ ،‬عند لحظة مح��ددة‪� ،‬إلى القداح المو�سوم��ة‪� ،‬أي المتقامرة‪ ،‬لكن من‬
‫باب الخ�س��ارة ال الربح‪ .‬فالقداح المو�سومة‪ ،‬التي له��ا احتمالية الخ�سارة‪ ،‬هي‬
‫�سبع��ة فقط‪ .‬وهي ت�صبح ثمانية حين ي�ضاف �إليها القدح المنيح‪ ،‬الذي «يخرج»‬

‫‪63‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫كخا�سر‪ .‬وبهذا المعنى فالأقداح المو�سومة (ت�ستعير) قدحا من الأقداح الأغفال‪،‬‬


‫الت��ي ال تربح وال تخ�سر‪ ،‬كي ي�صبح قدحا خا�س��را‪ .‬بناء على هذا‪ ،‬نفتر�ض �أن‬
‫يلزم‬
‫ه��ذا القدح هو قدح الثامن من �أي�سار لقمان‪ ،‬ال��ذي هو «عمار»‪ .‬فكل من ّ‬
‫ب��ه من الخا�سرين ي�صبح مثل عمار‪ .‬و�سوف نرى الحقا كيف يح�صل ذلك عبر‬
‫�أمثلة محددة‪.‬‬

‫العا�شر �أي�ضا‬

‫ح�س��ن جدا‪ .‬المنيح ه��و الثامن من ق��داح المي�سر المو�سومة ف��ي لحظة ما‪ ،‬لكنه‬
‫�أي�ض��ا الثالث في �صف الق��داح الأغفال‪ ،‬ويعمل كقدح من الق��داح الأغفال‪ .‬بذا‬
‫فه��و (غفل ومو�سوم) معا عند لحظة محددة‪ .‬وهذا هو �سبب الت�شو�ش ب�ش�أنه‪ .‬فهو‬
‫يتبدى في مو�ضعين اثني��ن‪ ،‬مما جعل بع�ض النا�س تظنه قدحين اثنين‪« :‬والمنيح‬
‫قدح يمنح �أي‬
‫له موا�ضع يمدح فيها ويذم‪ .‬فالمذموم الذي ال حظ له‪ ،‬والممدوح ٌ‬
‫ي�ستعار فيدخ��ل في القداح ثقة بفوزه �أي قدح كان من ال�سبعة‪ ،‬وي�سمى الم�ستعار‬
‫�أي�ضا» (اب��ن حمدون‪ ،‬التذكرة الحمدونية)‪ .‬ي�ضي��ف النويري‪« :‬قال ابن قتيبة‪:‬‬
‫والمنيح له مو�ضعان‪� :‬أحدهما الحظ له‪ ،‬والثاني له حظ‪ ،‬فك�أنه الذي يمنح حظه»‬
‫(لنويري‪ ،‬نهاية الأرب)‪.‬‬

‫ونعتق��د �أن علينا �أن نفرق بين العدد والمو�ض��ع‪ .‬فللمنيح مو�ضعان في ما يبدو‪.‬‬
‫�أو‪ ،‬ب�ش��كل �أدق‪ ،‬يتبدى وك�أنه يجل�س في مكانين‪ .‬فهو ثامن المو�سومة من حيث‬
‫احتم��ال الخ�س��ارة‪ ،‬لذا ي�ضعه بع�ضه��م ثامنا في ال�صف‪ .‬لكن��ه العا�شر من حيث‬
‫موقع��ه بي��ن القداح كلها‪� .‬إن��ه رقم ‪ 8‬ورق��م ‪ 10‬معا‪ .‬وهذا مختل��ف عن وجود‬
‫منيحين؛ واحد �أ�صلي وواحد م�ستعار‪ .‬فلي�س هناك �سوى منيح واحد‪ ،‬لكنه يجل�س‬
‫ف��ي موقعين‪ ،‬ويقعد عل��ى كر�سيين‪ .‬وما لم نفرق بين هذي��ن الأمرين‪ ،‬ف�سوف‬
‫ن�ضيع مع هذا القدح ال�ضائع‪ .‬ومن الوا�ضح �أن و�ضع هذا القدح المحير هو الذي‬
‫جعل بع�ضهم يفتر�ض �أن قداح المي�سر �أحد ع�شر قدحا ال ع�شرة قداح‪ .‬فقد ح�سبوه‬
‫قدحين بحكم تنقله بين الأغفال والمو�سومة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ولأنه قدح غفل وقدح مو�سوم معا‪ ،‬فمن المحتمل �أنه كان يو�سم بعالمة خا�صة‪.‬‬
‫لذا ي�سمى «المع ّقب»‪ ،‬كما �سنرى الحقا‪ .‬وربما عنى هذا �أن له عالمة في عقبة‪.‬‬
‫عالمة تميزه عن الأغفال‪ ،‬وتميزه عن المو�سومة‪� .‬إنه غفل‪ -‬مو�سوم‪ .‬لكن �سمته‬
‫مختلف��ة عن �سمات القداح المو�سومة‪ .‬ومن المحتمل �أن �سمات القداح المو�سومة‬
‫كانت على جنوبها‪� ،‬أما �سمته هو فعلى عقبه‪ .‬و�سوف نعر�ض لهذا الحقا‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فالقدح المنيح في الأ�صل عا�شر القداح‪ ،‬و�آخرها‪ .‬لكنه «ي�ستعار» وي�صبح‬
‫قدح��ا خا�سرا يل��زم لأحد الخا�سري��ن‪� .‬أي ي�ضاف �إلى الق��داح الخا�سرة‪ .‬وحين‬
‫يحدث ذل��ك ي�صبح ثامنا‪� .‬أي ي�صبح مقابل الثامن م��ن �أي�سار لقمان‪ .‬بناء عليه‪،‬‬
‫فنحن مع قدح غريب من بابين‪:‬‬

‫الأول‪� :‬أن له موقعين‪ ،‬يتردد بينهما‪ ،‬فهو العا�شر والثامن‪.‬‬

‫الثاني‪� :‬أنه يختلف عن القدحين الغفلين الآخرين‪ .‬فهما ال يربحان وال يخ�سران‪.‬‬
‫�أم��ا هو في�صبح خا�سرا عند لحظة محددة‪� .‬أي �أنه ي�صبح ك�أنه قدح مو�سوم‪ ،‬لكن‬
‫م��ن زاوية الخ�سارة ال الربح‪ .‬عليه‪ ،‬فالقداح المو�سومة لها فر�صة �أن تخ�سر �أو‬
‫ترب��ح‪� .‬أما هو فلي���س له فر�صة �أن يربح‪ .‬فربح��ه‪� ،‬أي خروجه‪ ،‬هو الخ�سارة‬
‫بحد ذاتها‪.‬‬

‫حن قدح لي�س منها‬

‫ولأن المنيح يدخل في لحظة بين القداح المو�سومة‪ ،‬مع �أنه لي�س منها في الأ�صل‪،‬‬
‫فهو المق�ص��ود بالمثل ال�شهير الذي يقول‪« :‬حن قدح لي�س منها»‪ ،‬وهو «ي�ضرب‬
‫مثال للرجل يدخل نف�سه في القوم لي�س منهم» (الع�سكري‪ ،‬جمهرة الأمثال)‪ .‬وقد‬
‫ا�ست�شهد ب��ه الخليفة عمر بن الخطاب في حادثة قتل عقبة بن �أبي معيط يوم بدر‪.‬‬
‫�إذ قال عقبة‪:‬‬

‫«�أ�أقتل من بين قري�ش �صبرا [�أي �أقتل �أ�سيرا من دون �أ�سرى قري�ش]؟! فقال عمر‪:‬‬
‫حن قدح لي���س منها‪ ،‬يعر�ض بن�سبه [فلم يكن قر�شي الأ�صل ح�سب االفترا�ض]‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وذل��ك �أن الق��داح في المي�سر ربما جع��ل معها قدح م�ستعار قد ج��رب منه الفلح‬
‫واليم��ن في�ستعار لذلك‪ ،‬وي�سمى‪ :‬المنيح‪ .‬ف�إذا ح��رك في الربابة مع القداح تميز‬
‫�صوت��ه لمخالفة جوهره جوهر القداح‪ ،‬فيق��ال‪ :‬حينئذ حن قدح لي�س منها‪ ،‬فتمثل‬
‫عمر بهذا المثل‪ ،‬يريد �أن عقبة لي�س من قري�ش» (ال�سهيلي‪ ،‬الرو�ض الآنف)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فبن��اء على التف�سي��ر ال�سائد فعقبة ملح��ق بقري�ش ون�سبه��ا‪ ،‬ولي�س منها في‬
‫الأ�ص��ل‪ .‬عليه‪ ،‬فعمر يقول له‪� :‬أنت دخيل في قري�ش‪ ،‬كما هو حال القدح المنيح‬
‫ف��ي القداح المو�سومة؛ فلن تعامل كما تعامل قري�ش‪ ،‬بل �ستقتل باعتبارك خارجا‬
‫عنه��ا ول�ست من �صلبها‪� .‬أن��ت تحاول �أن ت�صدر �صوتها مث��ل �أ�صواتها‪� ،‬أي �أن‬
‫تجعل نف�سك منها‪ ،‬لكنك ل�ست كذلك‪.‬‬

‫لكنن��ا نظ��ن �أن هذا التف�سير غير �سلي��م‪ ،‬و�أن ما عناه عمر هو �أن��ك يا عقبة �ستقتل‬
‫�صب��را‪� ،‬أي ل��ن تفدى‪ .‬و�ستكون في �ص��ف الذين يقتلون حتى ل��و كان قر�شيا‪.‬‬
‫ف�أن��ت كالقدح المنيح ال��ذي ال يخ�سر في الأ�صل‪ ،‬لكنه يلتح��ق ب�صف الخا�سرين‬
‫عن��د لحظة محددة‪ ،‬وي�صبح منهم‪� .‬إذن‪ ،‬ف�أنت مثل القدح الخا�سر‪ ،‬الذي ي�صير‬
‫خا�س��را مع �أنه لي���س خا�سرا في الأ�ص��ل‪� .‬إنه يحن حنين الق��داح الخا�سرة‪� ،‬أي‬
‫يحن �إلى االن�ضمام �إليها‪ ،‬و�أنت مثله‬
‫ي�صوت �أ�صواتها‪ ،‬مع �أنه لي�س منها‪� .‬أو �أنه ّ‬
‫قر�شي‪ ،‬لكنك �ستن�ضم �إلى �صف غير القر�شيين وتقتل‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فقد �أراد عمر‪،‬‬
‫ف��ي ما يبدو‪� ،‬أن يقول لعقبة‪ :‬نعم‪� ،‬أن��ت قتيل مثلك مثل القدح المنيح‪ .‬وهناك ما‬
‫ي�شي��ر بالفعل �إلى �أن القدح المنيح يدعى «�صريع القداح»‪� .‬أي �أنه قدح قتيل‪� ،‬أو‬
‫قدح القتيل حتى‪.‬‬

‫�صريع القداح‬

‫فثم��ة بيت �شعر البن مقب��ل ورد فيه معا ذكر المنيح وذكر ق��دح ي�سمى «�صريع‬
‫القداح»‪:‬‬
‫�صري��ع القداح والمني��ح المجبرا‬ ‫ت��م �ضحائهـا‬
‫و�أزج��ر فيه��ا قب��ل ّ‬

‫‪66‬‬
‫زكريا محمد‬

‫لكن ال�شطر الثاني يروى ب�شكل �آخر‪ ،‬الأمر الذي يدل على ت�صحيف م�ؤكد‪:‬‬

‫�صريع القداح والمنيح المخيرا‬

‫�أي �أنن��ا بين «مجب��ر» �أو «مخير»‪ .‬وقد قدمت للبيت‪ ،‬بن��اء على �شكلي روايته‪،‬‬
‫تف�سي��رات نظن �أنها ال تنا�س��ب المقام‪�« :‬صريع القداح‪ :‬م��ا �أخذ عوده وهو ياب�س‬
‫�ساقط م��ن �شجرته‪ ،‬والمجبر الم�شدود بالعقب لنفا�ستهم ب��ه» (ابن قتيبة‪ ،‬المعاني‬
‫الكبي��ر)‪� .‬أي �أن المجب��ر هنا من التجبي��ر وال�شد‪ ،‬مثل تجبير العظ��ام المك�سورة‬
‫و�شده��ا‪� .‬أما الأزهري فيقول‪« :‬وال�صريع م��ن القداح‪ :‬ما �صنع من ال�شجر ينبت‬
‫تم �ضحائها‪� /‬صريع القداح‬‫عل��ى وجه الأر�ض‪ ،‬وقال ابن مقبل‪ :‬و�أزجر فيها قبل ّ‬
‫والمنيح المخيرا‪ .‬و�إنما خيره لأنه فائز مبارك‪ .‬ويقال‪ :‬ال�صريع‪ :‬العود يجف في‬
‫�شجره‪ ،‬يتخذ منه قدح‪ ،‬وهو �أجود ما يكون» (الأزهري‪ ،‬تهذيب اللغة)‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فالتف�سيرات تقدم من دون محاولة التثبت مما �إذا كان «مجبرا» �أو «مخيرا»‪.‬‬

‫�أم��ا نحن فن�ضع احتمال �أن نكون مع المحير‪ ،‬بالح��اء المهملة‪ ،‬ال مع المجبر �أو‬
‫المخي��ر «المنيح المحيرا»‪ .‬فالقدح المنيح في مو�ضع محير فعال‪ .‬فهو مع القداح‬
‫الأغفال‪ ،‬لكنه مع القداح المو�سومة من باب الخ�سارة‪ .‬بذا‪ ،‬ف «المنيح المحيرا»‬
‫في البيت و�صف ل «�صريع القداح»‪� .‬أي �أن علينا �أن نقر�أ ال�شطر هكذا‪� :‬صريع‬
‫القداح‪ ،‬الذي هو المنيح المحير‪.‬‬

‫�أم��ا كونه �صريع القداح‪ ،‬فلي�س ل��ه عالقة بنوع الغ�صن ال��ذي ي�ؤخذ منه‪ ،‬بل هو‬
‫نابع من �أنه الخا�سر الدائم بين القداح كلها‪� .‬إنه القدح ال�صريع الذبيح دوما‪ .‬فلي�س‬
‫ل��ه حظ في الربح‪ ،‬لكن الخ�س��ارة تلحق به في لحظة مح��ددة‪� .‬إنه في الواقع مثل‬
‫الج��زور الذبي��ح ذاته‪ .‬ومن �أجل ه��ذا يعطى الثامن من �أي�س��ار لقمان‪� ،‬أي عديل‬
‫القدح المنيح‪ ،‬اال�سم «عمار»‪ ،‬الذي يحمل �إ�شارة ما للموت‪ .‬فالعمار هو الآ�س �أو‬
‫ٍ‬
‫ريحان‪ ‬عمار»‬ ‫الريحان‪� ،‬أو هو الآ�س والريحان معا‪« :‬العمار‪ :‬الآ�س‪ ،‬وقيل‪ :‬كل‬
‫(ل�س��ان الع��رب)‪ .‬والعمار هو الآ���س ذاته ف��ي المغرب‪« :‬ريح��ان‪ :‬هو‪ ‬الآ�س»‬
‫(دوزي‪ ،‬تكملة المعاجم العربي��ة)‪ .‬والرند يعتبر طرازا من الآ�س‪ .‬وهذه الثالثة‬
‫القبر» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫على عالقة ما بالموت‪ .‬فالآ�س هو القبر‪« :‬والآ�س‪ْ :‬‬

‫‪67‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وف��ي حديث نبوي �أن الآ�س للجنة‪� ،‬أي لخلود الموت‪« :‬وحديث الح�سن بن علي‬
‫ر�ضي الله تعالى عنهما قال‪ :‬جاءني ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم بالورد بكلتا‬
‫يديه فلم��ا �أدنيته من �أنفي قال‪�« :‬أما �إنه �سيد ريح��ان الجنة بعد الآ�س» (ال�شامي‪،‬‬
‫�سبل الهدى والر�شاد)‪ .‬وف��ي ق�صة ال�ضيزن ملك الجزيرة يت�ضح �أن الآ�س رمز‬
‫للموت �أي�ضا‪ .‬فقد حا�صر �سابور ال�ضيزن في ح�صنه‪ ،‬لكن الن�ضيرة ابنة ال�ضيزن‬
‫دلت��ه على ثغرة في الح�ص��ن فاقتحمه وتزوجها‪« :‬ثم �سار �ساب��ور منها �إلى عين‬
‫التم��ر فعر�س بالن�ضيرة هن��اك‪ ،‬فلم تنم تلك الليلة تملمال عل��ى فرا�شها‪ .‬فقال لها‬
‫أمرك؟ قالت‪ :‬لم �أنم قط على فرا�ش �أخ�شن من فرا�شك‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫�شيء � ُ‬ ‫�سابور‪� :‬أي‬
‫ويلك وهل نام الملوك على �أنعم من فرا�شي؟ فنظر ف�إذا في الفرا�ش ورقة‪� ‬آ�س‪ ‬قد‬
‫ل�صقت بين عكنتين من ُعكنها فقال لها‪ :‬بم كان �أبوك يغذوك؟ قالت‪ :‬ب�شهد الأبكار‬
‫مع ح�سن‬‫من النحل‪ ،‬ولباب البر ومخ الثنيات‪ ،‬فقال �سابور‪� :‬أنت ما وفيت لأبيك ِ‬
‫فبني و�أ�صعدها �إليه‪ ،‬وقال لها‪:‬‬
‫عال ُ‬ ‫ه��ذا ال�صنيع فكيف تفين ل��ي �أنا؟ ثم �أمر ٍ‬
‫ببناء ٍ‬
‫�ألم �أرفعك ف��وق ن�سائي؟ قالت‪ :‬بلى؟ ف�أمر بفر�سين جموحين فربطت ذوائبها في‬
‫ذنبيهم��ا ثم ا�ستح�ض��را فقطعاها ف�ضربت العرب في ذلك مث�لاً» (ياقوت‪ ،‬معجم‬
‫البل��دان)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فوجود الآ�س على لحمه��ا‪� ،‬أدى بها �إلى الموت‪ .‬بل �أدى بها‬
‫�إلى التقطيع كما يقطع جزور المي�سر‪.‬‬

‫بن��اء على كل هذا‪ ،‬فالقدح المنيح ه��و �صريع القداح‪� .‬إنه الق��دح القتيل الذبيح‪.‬‬
‫ويجب �أن نفهم هنا �أن ابن مقبل ال يعني �أنه يراهن على قدح فائز ي�سمى المنيح‪،‬‬
‫ب��ل يعني �أنه ينحر الإبل‪ .‬وه��و يكني عن نحرها بالمراهنة عل��ى القدح المنيح‪،‬‬
‫ال��ذي هو قدح الج��زور الذبيح‪ .‬دليل ذلك �أن لعبة المي�س��ر ال تتم نهارا «قبل تم‬
‫�ضحائها»‪ ،‬بل تتم ع�شية‪ ،‬بعد غياب ال�شم�س‪ .‬وهذا ي�شبه قول لبيد‪:‬‬
‫بمغال��ق مت�شاب��ه �أج�سامه��ا‬ ‫وج��زور �أي�سار دع��وت لحتفها‬
‫بذلت لجي��ران الجمي��ع لحامها‬ ‫�أدع��و به��ن لعاق��ر �أو مطف��ل‬
‫فالجزور هنا لي�ست ج��زور المي�سر‪ ،‬بل جزور كرم و�ضيافة‪ .‬لكنه يقترع على‬
‫نياقه بال�سهام ليقرر �أي جزور ينحر‪« :‬يقول‪ :‬رب جزور ت�صلح لتقامر الأي�سار‬
‫عليها دع��وت ندمائي لنحرها بتلك المغالق المت�شابهة‪ ،‬وه��ي �سهام المي�سر ي�شبه‬

‫‪68‬‬
‫زكريا محمد‬

‫بع�ضه��ا بع�ضا‪ .‬و�أراد بها هنا �سهام القرعة يقرع بها بين �إبله‪� :‬أيها ينحر لندمائه‪.‬‬
‫فه��و يدعو بتلك ال�سهام لنحر ناق��ة عاقر �أو �أخرى مطف��ل‪ .‬و�إنما ذكر «العاقر»‬
‫لأنه��ا �أ�سمن واحمل لل�شح��م‪ ،‬و»المطفل» لنفا�ستها وعزته��ا» (هارون‪ ،‬المي�سر‬
‫والأزالم‪� ،1953 ،‬ص ‪.)21‬‬

‫مثنى الأيادي‬

‫وثم��ة تعبير غام�ض جدا مر في ال�شعر في �سي��اق الحديث عن لعبة المي�سر وهو‪:‬‬
‫«مثنى الأيادي»‪ .‬وقد ورد هذا التعبير عند طرفة‪:‬‬
‫ِ‬
‫المعقب‬ ‫بمثن��ى الأيادي والمني��ح‬ ‫ذعرت قال�ص الثلج تحت ظالله‬
‫ُ‬

‫كما ورد عند النابغة‪:‬‬


‫مثنى الأيادي و�أك�سو الجفنة الأدما‬ ‫�أن��ي �أتم��م �أي�س��اري و�أمنحه��م‬

‫وعند متمم بن نويرة‪:‬‬


‫لهم ن��ار �أي�سار كفى م��ن ت�ضجعا‬ ‫�إذا اجتز�أ الق��وم القداح و�أوقدت‬
‫لدى الفرث يحمي اللحم �أن يتوزعا‬ ‫مـالك‬
‫ٌ‬ ‫بمثنى‪ ‬الأيادي‪ ،‬ثم لم يلف‬

‫وق��د �أثار معنى هذا التعبير ج��دال دائما‪ ،‬لم ينته �إلى نتيج��ة‪ .‬وخذ هذا المخت�صر‬
‫من ل�سان العرب عن التف�سيرات المختلف��ة لمثنى الأيادي‪« :‬ومثنى‪ ‬الأيادي‪� :‬أن‬
‫يعي��د [الع��ب المي�سر] معروفه مرتي��ن �أو ثالثا‪ .‬وقيل‪ :‬هو �أن ي�أخ��ذ الق�سم [�أي‬
‫�أن ي�ش��ارك في اللعب] مرة بع��د مرة‪ .‬وقيل‪ :‬هو الأن�صب��اء [القطع] التي كانت‬
‫تف�ض��ل [تتبقى] من الجزور‪ ...‬فكان الرج��ل الجواد ي�شريها فيطعمها الأبرام‪،‬‬
‫وه��م الذين ال يي�سرون» (ل�سان العرب)‪ .‬وكما ن��رى فهو من غمو�ضه قد يعني‬
‫�أ�شياء مختلفة جدا‪.‬‬

‫ومن بين الأبيات �أعاله فقد حظي بيت طرفه بقدر �أكبر من االهتمام‪ ،‬ربما ب�سبب‬
‫الت�شبيه الجميل والغريب فيه‪ .‬فهو ي�شبه الغيم بالجمال‪ ،‬ح�سب المف�سرين‪ .‬ونحن‬

‫‪69‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫نورد البيت المعني مع البيت الذي ي�سبقه‪:‬‬


‫يه ّتك �أخطال ّ‬
‫الط��راف المط ّنـب‬ ‫وي��وم ه��وادي �أم��ره ل�شـمـالـ��ه‬
‫ٍ‬
‫بمثنى الأي��ادي والمنيح المعقـب‬ ‫ذعرت ِقال�ص الثلج تحت ظالله‬
‫ُ‬

‫ويقدم لنا ابن قتيبة الفهم الأكثر �شيوعا للبيتين‪:‬‬

‫«هوادي �أم��ره‪� :‬أوائل �أمره‪ .‬لل�شمال‪[ :‬ريح ال�شم��ال] لأنها هبت فيه‪� .‬أخطال‪:‬‬
‫ف�ضول‪ ...‬والط��راف‪ :‬بيت من �أدم‪ .‬قال�ص الثلج‪ :‬يعني غيم الثلج‪ ...‬يقول‪:‬‬
‫طردته��ا [�أي غي��وم الثل��ج] بالطعام‪ .‬مثنى الأي��ادي‪ :‬يريد المع��روف‪ .‬وقال‬
‫بع�ضهم‪ :‬مثنى الأيادي م��ا ف�ضل من الجزور ي�شتريه فيق�سمه على الأبرام» (ابن‬
‫قتيب��ة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬علي��ه‪ ،‬فقد ابتد�أ هذا اليوم بريح ال�شم��ال الباردة‪ ،‬التي‬
‫هتك��ت �أطراف البيت الم�صنوع من الجلد‪ .‬لكن ال�شاع��ر �أقدم على �إخافة الغيوم‬
‫الثلجي��ة «قال�ص الثلج» بمثن��ى الأيادي والمنيح المعق��ب‪� .‬أي �أنه‪« :‬طرد البرد‬
‫وكل ال�شت��اء بالقرى [الطعام]» (الزمخ�شري‪ ،‬الك�شاف)‪� .‬إذن‪ ،‬فقد طرد طرفة‬
‫قال�ص الثلج وبردها‪ ،‬بالطعام‪ ،‬طعام لحم جزور المي�سر‪.‬‬

‫وت�شبي��ه الغيوم بالقال���ص ت�شبيه جميل حقا‪ .‬لكن البيت الثان��ي غام�ض وال يمكن‬
‫الرك��ون �إلى �أن ال�شاعر قد طرد الثلج بالإطع��ام والقرى‪� ،‬أو طرده بالمعروف‬
‫ال��ذي �صنعه بتوزيع لحمه عل��ى الذين �أرهقتهم برودة الثل��ج وغيمه‪ .‬فهي فكرة‬
‫«ذع��رت»‪ .‬فلماذا‬
‫ُ‬ ‫بعي��دة وملتوي��ة‪ .‬كما �أن ه��ذا التف�سير يتجاه��ل مركزية كلمة‬
‫«تذع��ر» جمال الثلج‪� ،‬أي الغيوم‪ ،‬من القرى والإطع��ام؟! المنطقي �أن ال�شاعر‬
‫عم��ل �شيئا ما �أذعرها‪ .‬فما هو هذا ال�شيء؟ �إن��ه‪ ،‬في اعتقادنا‪ ،‬ذبح الجزور‪� -‬أي‬
‫جم��ل المي�س��ر‪ .‬فحي��ن ر�أت «جمال الغيم» جم��ل المي�سر الذبيح ال��ذي قطع �إلى‬
‫ع�شرة �أك��وام‪ ،‬خافت وذعرت‪ .‬بذا‪ ،‬حين يق��ول ال�شاعر «ذعرت قال�ص الثلج‬
‫بمثنى الأيادي»‪ ،‬فيجب �أن نفهم �أن «مثنى الأيادي» هو الجزور الذبيح‪ .‬لقد هدد‬
‫لبيد جمال الغيم بم�صير مثل م�صير الجزور‪ ،‬فانذعرت‪ ،‬وتبددت‪ ،‬في ما يبدو‪.‬‬

‫«مثني‬
‫ّ‬ ‫بن��اء عليه‪ ،‬يجب �أن نق��ر�أ «مثنى» بالياء الم�شددة ال بالأل��ف المق�صورة‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الأيادي»‪ .‬وه��ذا التعبير يعني‪ :‬البعير المربوط الأي��ادي‪ .‬ذلك �أن البعير المعد‬
‫للذبح تربط يداه عند نحره‪� .‬إذ من ال�صعب ال�سيطرة عليه ونحره من دون ذلك‪:‬‬
‫«ف��ي حديث عمرو بن دينار‪ ،‬قال‪ :‬ر�أيت ابن عم��ر ينحر بدنته [�أ�ضحيته] وهي‬
‫باركة مثني��ة بثنايين‪ ،‬يعني معقولة [مربوطة] بعقالين» (ل�سان العرب)‪ .‬فالحبل‬
‫ال��ذي تربط به يدا البعير يقال له ثناية‪« :‬الحبل يق��ال له الثناية‪ .‬قال‪ :‬و�إنما قالوا‬
‫ثنايي��ن ولم يقول��وا ثنايتين لأنه حبل واحد ي�شد ب�أحد طرفي��ه يد البعير‪ ‬وبالطرف‬
‫الآخ��ر اليد الأخرى‪ ،‬فيق��ال ثنيت البعير بثنايي��ن»‪ .‬وي�سمى �أي�ض��ا الثناء‪�« :‬أما‬
‫الثناء‪ ...‬فعقال البعير ونحو ذلك من حبل مثني» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫مثني الأي��ادي‪ ،‬لأن يديه ربطتا‬


‫فمثن��ي الأيادي ه��و الجزور‪ .‬وقد دعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إذن‪،‬‬
‫بالثن��اء �أو الثناية م��ن �أجل نحره‪ .‬علي��ه‪ ،‬يكون طرفة قد ذعر ني��اق الثلج عبر‬
‫تهديده��ا بم�صي��ر الج��زور الذي رب��ط يديه للذبح‪ .‬ق��د خ�شيت م��ن م�صير هذا‬
‫الج��زور فتفرقت‪ .‬وبهذه الطريقة يمكن قراءة بي��ت متمم بن نويرة‪� ،‬أي قراءة‬
‫كلم��ة «بمثنى» فيها بالياء «بمثني» �أي�ضا‪� .‬أما بي��ت النابغة فيظهر م�شكلة �صغيرة‬
‫تتعلق ب�أنه ال يمكن قراءة الكلمة «مثني» بالت�شديد‪.‬‬
‫مثنى الأيادي و�أك�سو الجفنة الأدما‬ ‫�أن��ي �أتم��م �أي�س��اري و�أمنحه��م‬

‫�سهل ال�شدة ب�سبب ال�ضرورة ال�شعرية‪.‬‬


‫ويمكن حل ذلك بافترا�ض �أن ال�شاعر ّ‬
‫يتبقى‪� ،‬إذن‪� ،‬أن نتحدث عن «المنيح المعقب»‪ .‬فالتف�سير ال�سائد �أنه يعني‪ :‬الجزور‬
‫ال�سمي��ن‪« :‬قال �أبو زي��د‪ :‬جزور �سحوف المعق��ب‪� :‬إذا كان �سمينا» (الأزهري‪،‬‬
‫تهذيب اللغة)‪ .‬ولو �صح هذا يكون مثني الأيادي هو ذاته المنيح المعقب‪� .‬أي �أنه‬
‫يقول ذعرت قال�ص الثلج بالجزور ال�سمين المثني الأيادي‪.‬‬

‫لكن م��ن المحتمل �أن «المنيح المعقب» هنا هو الق��دح المنيح الذي نتحدث عنه‪.‬‬
‫المع ّقب �أي�ضا‪ .‬وقد فهم هذا اللقب عل��ى �أنه يعني‪ :‬المعاد �إلى الربابة‬
‫فه��و يدعى‪ُ :‬‬
‫معقب‪ ،‬وهو المعاد في الربابة مرة بعد مرة»‬ ‫ٌ‬ ‫قدح‬
‫بعد خروجه‪« :‬قال �أبو �سعيد‪ٌ :‬‬
‫(الأزه��ري‪ ،‬تهذيب اللغة)‪ .‬لكنن��ا �أميل �إلى �أنه الذي علي��ه عالمة في عقبه‪� .‬إذ‬

‫‪71‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫يبدو �أنه الوحيد الذي عليه عالمة من بين القداح الأغفال‪ .‬ويبدو �أن هذه العالمة‬
‫كان��ت تو�ضع في عقبه‪� ،‬أي في قاعدته‪ ،‬ك��ي تميزه عن القدحين الآخرين‪ .‬بناء‬
‫عليه‪ ،‬يكون طرفة قد ذع��ر قال�ص النوق بالجزور الذي ربط وذبح‪ ،‬وبالقدح‬
‫المنيح‪ ،‬ال��ذي هو قدح الذبيح كما �سنرى‪� ،‬أي الق��دح الم�ضاف الخا�سر‪� .‬أو �أنه‬
‫هدده��ا ب�أنها �ستذبح وتق�سم بالق��داح وعلى ر�أ�سها القدح المني��ح الذي يحدد‪ ،‬في‬
‫الواقع‪ ،‬من يدفع جزءا كبيرا من لحم الجزور‪ ،‬كما �سنرى‪.‬‬

‫قدح الخيبة‬

‫وبما �أن المنيح هو القدح الوحيد الذي يخ�سر حين يخرج‪� ،‬أي �أن فوزه هو خ�سارته‪،‬‬
‫فم��ن المحتمل جدا �أن يكون هو ذاته «الق��دح الأخيب» الذي ورد في حديث الإمام‬
‫علي عن جماعته‪« :‬من فاز بكم فقد فاز بالقدح الأخيب»‪ .‬وقد فهمت بع�ض الم�صادر‬
‫العربي��ة �أن القدح الأخي��ب هذا قدح من القداح الأغفال‪ ،‬لكنه��ا لم ت�ستطع �أن ت�شير‬
‫�إليه‪« :‬ال�سهم الخائب‪ :‬الذي ال ن�صيب له من قداح المي�سر وهي ثالثة‪ :‬المنيح وال�سفيح‬
‫والوغد» (ابن الأثير‪ ،‬النهاية في غريب الحديث)‪ .‬لكن ال يقال لنا �أي واحد من هذه‬
‫الق��داح ه��و‪� .‬أما نحن فنقول �أنه القدح المنيح‪ .‬وهو خائ��ب لي�س لأنه يخرج خا�سرا‬
‫مع �أن��ه ال ي�شارك في المقامرة‪ .‬وهو بذلك يختلف ع��ن القدحين الآخرين‪ .‬فهما ال‬
‫يخ�س��ران مطلقا‪� .‬أما المنيح فلي�س له �سوى حظ الخ�سارة حين يملك حظا‪ .‬واختالط‬
‫الف��وز بالخيبة في حديث الإم��ام علي‪« :‬فاز بالقدح الأخي��ب» ينطبق على المنيح‪،‬‬
‫الذي يمثل فوزه خ�سارته وخيبته‪� .‬إنه يفوز‪� ،‬أي يخرج‪ ،‬لكن لكي يخ�سر‪.‬‬

‫قدح الفوزة المنيح‬

‫وهن��اك مثل �شهير يق��وي من فر�ضن��ا‪�« :‬آب وقدح الفوزة المني��ح»‪ .‬وقد فهمه‬
‫الميدان��ي على هذا ال�شكل‪« :‬ي�ضرب لمن غاب ثم يج��يء بعد فراغ القوم مما هم‬
‫فيه فه��و يعود بخيبة» (الميدان��ي‪ ،‬مجمع الأمثال)‪ .‬ونظ��ن �أن الأمر لي�س هكذا‬
‫بال�ضب��ط‪ .‬فالمث��ل يتهكم على من يك��ون في موقع القدح المني��ح الخا�سر دوما‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ففوزه‪� ،‬أي خروجه عند لحظة محددة‪ ،‬يعني خ�سارته‪ .‬فالقداح المو�سومة حين‬
‫تخرج تكون فائزة‪� .‬أما القداح الأغفال فال تخ�سر حين تخرج‪� ،‬إال المنيح‪ .‬فحين‬
‫يخ��رج �أخيرا‪ ،‬بعد رده لغي��ر مرة في ما يبدو‪ ،‬يكون خا�س��را‪ .‬بذا‪ ،‬ففوزه هو‬
‫الخ�س��ارة ذاته��ا‪� .‬أما الذي ال يخ�س��ر وال يربح فال يكون مح�لا للتهكم‪ ،‬مقارنة‬
‫بالقداح المو�سومة الخا�سرة‪ ،‬فهو �أف�ضل منها حاال‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فالمنيح خا�سر حين «يفوز» �أي حين يخرج كما يخرج القدح الفائز‪ .‬لذا‬
‫يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫منيح��ا ف��ي ق��داح ي��دي مجي��ل‬ ‫فمه�لا ي��ا ق�ض��اع ف�لا تكون��ي‬

‫فه��و يقول لق�ضاعة‪ :‬ال ت�ضعي نف�س��ك في مو�ضع الخ�سارة الم�ؤكدة‪ ،‬كما هو حال‬
‫القدح المنيح‪.‬‬

‫�أم��ا �أبيات ال�شعر التي قد توحي ب���أن هناك منيحا رابحا‪ ،‬فيج��ب في ر�أينا فهمها‬
‫انطالقا مما قلناه‪ .‬مثال بيت عمرو بن قبي�صة الذي يقول‪:‬‬
‫يع��ود ب���أرزاق العي��ال منيحه��ا‬ ‫ومغـالـ��ق‬
‫ٌ‬ ‫بـ�أيديـه��م مقـروم��ةٌ‬

‫هن��ا ب��دا للبع�ض �أن المني��ح‪ ،‬الذي يعود ب���أرزاق العيال‪ ،‬ال ب��د �أن يكون قدحا‬
‫مو�سوما معتادا على الربح ل�سبب ما‪« :‬و�أما قول عمرو بن قميئة‪ :‬ب�أيديهم مقرومة‬
‫ومغـالـ��ق‪ /‬يعود ب�أرزاق العي��ال منيحها‪ .‬فلي�س يجوز �أن يك��ون المنيح في هذا‬
‫البيت �إال قدحا يمتن��ح [�أي ي�ستعار] فيدخل في القداح لأنه قال‪ :‬ب�أرزاق العيال‪،‬‬
‫فدل على �أن له حظا» (ابن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬ور�أى بع�ضهم �أنه يفوز لأنه‬
‫يك��ون �أكثر مال�سة مثال‪« :‬ومن��ه قول الآخر‪ :‬ب�أيديهم مقروم��ة ومغـالـق‪ /‬يعود‬
‫ب�أرزاق العفاة منيحها‪ .‬و«المنيح» في هذا البيت الم�ستمنح؛ لأنهم كانوا ي�ستعيرون‬
‫ال�سهم الذي قد �أمل�س وكثر ف��وزه‪ ،‬فذلك المنيح الممدوح‪ .‬و�أما المنيح الذي هو‬
‫�أح��د الأغفال فذلك �إنما يو�صف بالكر‪ ،‬و�إياه �أراد الأخطل» «تف�سير القرطبي»‪.‬‬
‫�أو كما يقول لنا الل�س��ان‪« :‬قال‪ :‬والمنيح �أي�ضا قدح من �أقداح المي�سر ي�ؤثر بفوزه‬
‫في�ستعار يتيمن بفوزه» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وهذا ت�صور خاطئ تماما ي�ض��رب اللعبة من �أ�سا�سها‪ .‬ف�إذا كان هناك قدح �أمل�س‬
‫�سه��ل الف��وز ف�سوف يتناف�س للح�ص��ول عليه كل الالعبي��ن‪ .‬و�إذا كان هذا القدح‬
‫المزع��وم ملك مقامر محدد فلن يقب��ل الآخرون �أن يتناف�س��وا بوجوده‪� ،‬أو �أنهم‬
‫�سيجعل��ون كل قداحهم مل�ساء مثله‪ .‬فاللعب��ة تقوم على الت�ساوي الذي ال �شبهة فيه‬
‫بين القداح‪ .‬ووجود واحد مختلف له �إمكانية فر�صة �أكثر للفوز يبطلها تماما‪.‬‬
‫علي��ه‪ ،‬فالبيت ال يتحدث عن منيح فائز‪ ،‬بل ع��ن منيح خا�سر هو من يدفع جزءا‬
‫كبيرا من ثمن الجزور‪ ،‬فيطعم العيال والفقراء‪ .‬فاللعبة تنتهي ب�أن يح�صل العب‬
‫م��ا على هذا القدح الخا�سر‪ ،‬فيدفع ما تبقى من ثمن الجزور بعد �أن تكون القداح‬
‫المو�سومة التي خ�سرت قد دفعت ما عليها‪ ،‬كما �سنرى �أدناه‪.‬‬

‫وحي��ن يمر �أي حديث عن الزجر مع المنيح‪ ،‬فيجب �أن نفهمه ال بمعنى ال�ضرب‬
‫للرب��ح �أو الخ�سارة‪ ،‬بل ال�ضرب الذي للخ�سارة‪ .‬ذلك �أن المنيح لي�س يزجر به‪،‬‬
‫�أي ال يراه��ن عليه‪« :‬و�أما المنيح �أحد الثالثة التي ال حظوظ لها فلي�س يزجر وال‬
‫يرجى له فوز» (ابن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬وفي بع�ض الأحيان علينا �أن ن�أخذه‬
‫بمعنى المنع والدفع والرد كما في بيت عروة الذي ناق�شناه من قبل‪« :‬قال عروة‬
‫بن الورد ي�صف رجال [�صعلوكا]‪:‬‬

‫ب�ساحتهم زجر المنيح الم�شهر‬ ‫مطال على �أعدائه يزجرونـه‬

‫و�أخبرني عبد الرحمن عن عمه �أنه كان يذهب �إلى �أن المنيح في هذا البيت المنيح‬
‫بعين��ه �أح��د الثالثة الأغفال‪ ،‬قال‪ :‬لأن��ه يعاد ف�إذا خرج قال��وا‪ :‬رد رد‪ ،‬لي�س هو‬
‫لأحد» (ابن قتيبة‪ ،‬المعاني الكبير)‪ .‬وهكذا فالمنيح يزجر هنا‪ ،‬بمعنى يدفع عائدا‬
‫�إلى الربابة حين يكون موعد خروجه غير منا�سب‪.‬‬

‫خروج المنيح‬

‫لكن متى يدفع المنيح عائدا �إلى الربابة‪ ،‬ولماذا؟‬

‫يع��اد القدح المنيح �إل��ى الربابة �إلى �أن يتم الت�أكد من دف��ع ح�ص�ص لحم الجزور‬
‫كله��ا‪ .‬وبهذا المعنى يجب �أن يظل مزجورا مع��ادا حتى اللحظة الأخيرة‪ .‬فمثال‬

‫‪74‬‬
‫زكريا محمد‬

‫حين يكون مجم��وع ح�ص�ص الرابحين ‪ ،18‬ومجموع ح�ص�ص الخا�سرين ‪،10‬‬


‫ف�إنه يتبقى ‪ 8‬ح�ص�ص ال تجد �أحدا يدفع ثمنها‪ .‬ونعتقد �أنه كان يتم حل هذه الم�س�ألة‬
‫بي��ن الخا�سرين‪ .‬فواحد منهم هو ال��ذي يجب �أن يدفع ثم��ن الح�ص�ص الزائدة‪،‬‬
‫�إ�ضاف��ة �إل��ى ح�صته من الخ�سارة‪ .‬ويح��دث ذلك عبر االقت��راع‪� .‬إذ تخلط‪ ،‬في‬
‫م��ا يبدو‪ ،‬قداح الخا�سري��ن بالقدح المنيح‪ .‬وتبد�أ جولة لتحدي��د من يدفع ما تبقى‬
‫م��ن ثمن الج��زور‪ .‬ف�إن خرج المنيح ف��ي البداية يعيدونه �إل��ى الربابة من جديد‬
‫قائلي��ن‪« :‬رد‪ ،‬رد لي�س هو لأحد»‪ .‬ثم يع��اد ال�ضرب‪ ،‬فمن خرج قدحه نجا من‬
‫الخ�س��ارة الم�ضاعفة‪ .‬و�إذا خرج المنيح ثانية وكان هناك �أكثر من قدح خا�سر لم‬
‫يخ��رج بعد‪ ،‬يعاد المنيح �إلى الرباب��ة ثانية‪ .‬وحين يتبقى في الربابة قدحان فقط‪:‬‬
‫الق��دح المنيح مع قدح خا�سر واحد‪ ،‬ف�إن خرج المني��ح ف�إنه ال يعاد �إلى الربابة‪.‬‬
‫فخروج��ه حكم ب�أن �صاحب القدح الذي لم يخرج هو من �سيدفع ما تبقى من ثمن‬
‫الج��زور‪ .‬بذا‪ ،‬يكون خروج المنيح خيبة كب��رى ل�صاحب هذا القدح‪� .‬إذ ي�صبح‬
‫القدح المنيح‪� ،‬صريع القداح‪ ،‬قدحه‪� .‬أي يكون له قدحان خا�سران معا‪.‬‬

‫بناء عليه‪ ،‬فحين يخرج المنيح �أخيرا يخرج خا�سرا على عك�س القداح الأخرى‪.‬‬
‫خروجه يكون هو الخ�س��ارة بعينها‪ .‬لذلك قيل «�آب وقدح الفوزة المنيح»‪ .‬ذلك‬
‫�أن المني��ح قدح الخ�سارة التامة‪ .‬فلي�س له رب��ح مطلقا‪ .‬له الخ�سارة فقط‪ .‬القداح‬
‫المو�سوم��ة لها احتمال الربح‪� .‬أما القدحان الغف�لان الآخران فال يخ�سران �أبدا‪.‬‬
‫ب��ل �إنهم��ا يربحان دوما ب�شكل م��ا‪ .‬فهما قدحا الرقيب والحر�ض��ة‪ .‬وهذان لهما‬
‫ح�ص��ة محددة من اللحم‪� .‬أما القدح المنيح فه��و ال يربح‪ ،‬لكنه يخ�سر‪ .‬لقد و�ضع‬
‫م��ن �أجل احتمال الخ�سارة فق��ط‪ .‬وهو في الحقيقة‪ ،‬وبمعنى م��ا‪ ،‬قدح الجزور‬
‫القتيل‪� .‬إنه �صريع مثل الناقة الذبيحة‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬فالق��دح المنيح هو القدح الوحيد م��ن بين القداح الأغف��ال الذي يعاد �إلى‬
‫الرباب��ة‪ .‬وه��و يعاد حتى يت��م الت�أكد من دفع ثمن كل ح�ص���ص الجزور‪� .‬إذن‪،‬‬
‫فحين ن�سمع الفرزدق يتحدث عن فوز المنيح‪:‬‬

‫وال �أكل��ت فـوز المنيـ��ح المعقـب‬ ‫وما انتابها القنا�ص بالبي�ض والجنا‬

‫‪75‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫فيج��ب �أن نفه��م ف��وز المنيح على �أن��ه على طريق��ة المثل‪�« :‬آب وق��دح الفوزة‬
‫المنيح»‪� ،‬أي �آب بالخ�سارة‪ .‬بالتالي‪ ،‬فهو يق�صد �أنها نجت‪ ،‬ولم ُت�صد‪ ،‬ولم تحظ‬
‫بف��وز القدح المني��ح‪� ،‬أي لم تكن خا�سرة‪ .‬وهذا يعني �أنه��ا خرجت �سالمة‪ ،‬و�أن‬
‫�شط��ري البي��ت يعنيان المعنى ذات��ه‪ .‬فالقنا�ص لم ي�صدها‪ ،‬ول��م تنل حظ المنيح‬
‫المعقب‪� ،‬أي لم تنل الخ�سارة والموت‪.‬‬

‫الرقيب وال�ضريب‬

‫انطالقا من كل ما �سبق‪ ،‬ن�ستطيع �أن ن�صحح الآن بع�ض الت�شو�شات في �أ�سماء قداح‬
‫المي�سر الأخرى‪ ،‬وفي مواقعها‪� .‬أما في القداح المو�سومة‪ ،‬فالم�شكلة تتمركز في‬
‫الق��دح الثالث‪ ،‬الذي ي�سم��ى «الرقيب» في غالب الأحي��ان‪ .‬لكن بع�ضهم ي�سميه‬
‫ال�ضري��ب �أي�ضا‪« :‬والثالث ال�ضري��ب وي�سمى الرقيب وفي��ه ثالثة حزوز‪ ،‬وله‬
‫ثالثة �أن�صباء» (القلق�شندي‪� ،‬صب��ح الأع�شى)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فال�ضريب والرقيب قدح‬
‫واحد هو الثالث بين المو�سومة‪.‬‬

‫لك��ن الم�شكل��ة �أن هناك م��ن يخبرنا ب�إ�ص��رار �أن الرقيب �أي�ضا ق��دح من القداح‬
‫الأغفال‪ .‬وهذا يعني �أننا �أمام رقيب في المو�سومة ورقيب في الأغفال‪« :‬الفائزة‬
‫منها �سبعة‪ :‬الفذ والت��و�أم وال�ضريب‪ ،‬وهو الم�صفح‪ ،‬والحل�س والناف�س والم�سبل‬
‫والمعل��ى‪ .‬ومنها ما ال ن�صيب ل��ه‪ :‬ال�سفيح والمنيح والرقي��ب‪ ،‬وهو ال�ضريب‪،‬‬
‫والوغ��د» (ابن دريد‪ ،‬جمهرة اللغ��ة)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالرقيب ه��و الثالث من القداح‬
‫الأغفال‪ ،‬وهو يملك ا�سما �آخر‪ :‬ال�ضريب‪.‬‬

‫وكما نرى من مقتب�س ابن دريد �أعاله‪ ،‬فالت�شو�ش بخ�صو�ص هذا القدح ي�صل �إلى‬
‫مداه‪ .‬فالرقيب يزاح من الق��داح المو�سومة ويو�ضع في �صف القداح الأغفال‪،‬‬
‫لكنه‪ ،‬ويا للعجب‪ ،‬يقول لنا �أن الرقيب هو ال�ضريب �أي�ضا‪ ،‬في الوقت الذي ي�ضع‬
‫فيه ال�ضريب ف��ي القداح المو�سومة! وهكذا نعود �إلى ق��دح واحد با�سم ال�ضريب‬
‫يك��ون موجودا في لحظة واحدة بين المو�سومة وبي��ن الأغفال! �أي �أننا نعود في‬
‫الواقع �إلى رقيب ي�ضع رجال في المو�سومة ورجال في الأغفال‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وفي اعتقادن��ا �أن الرقيب وال�ضريب هما بين القداح الأغفال‪ ،‬و�أنه ال عالقة لهما‬
‫بالق��داح المو�سومة �إطالقا‪ .‬وقد و�ضع��ا على ا�سمي ال�شخ�صيتي��ن الرئي�سيتين من‬
‫بي��ن �شخ�صيات المي�سر‪ :‬الحر�ضة والرقي��ب‪ .‬فال�ضريب هو ا�سم الحر�ضة‪� .‬إذ �أن‬
‫الحر�ضة له ع��دة �أ�سماء‪ .‬فهو ي�سمى‪ :‬المجيل‪ ،‬ال�ضري��ب‪ ،‬ال�ضارب‪ ،‬المفي�ض‪:‬‬
‫«ي�سمى المجيل‪ :‬المفي�ض وال�ضارب وال�ضريب» «القرطبي‪ ،‬تف�سير القرطبي»‪.‬‬
‫وه��و �ضريب؛ لأنه ي�ض��رب جعبة القداح بقب�ضة يده كي تخ��رج القداح منها عند‬
‫اللعب‪ .‬عليه‪ ،‬فقد �أخذ قدح ال�ضريب ا�سمه من ا�سم �ضارب القداح‪� ،‬أي الحر�ضة‪.‬‬

‫�أم��ا الرقيب فقد عرفناه‪ .‬فهو‪« :‬الموكل بال�ضريب‪ .‬ورقيب القداح‪ :‬الأمين على‬
‫ال�ضريب؛ وقيل‪ :‬هو �أمين �أ�صح��اب المي�سر» (ل�سان العرب)‪ .‬عليه‪ ،‬فهو ي�سمى‬
‫بالرقيب لأنه يراقب الحر�ض��ة ‪ -‬ال�ضريب‪ ،‬ويت�أكد من دقة عمله‪� ،‬أو لأنه �أمين‬
‫المتقامرين‪ .‬وقد �أخذ قدح الرقيب ا�سمه من ا�سم هذه ال�شخ�صية‪ .‬عليه‪ ،‬فقد �سمي‬
‫القدح��ان المتعادالن با�سم هذين ال�شخ�صين‪� ،‬أي الرقي��ب وال�ضريب‪ ،‬اللذين ال‬
‫يقامران‪ .‬فهما قدحاهما‪ .‬فبرغم �أنهما ال يقامران‪ ،‬ف�إن لهما ح�صتين‪� ،‬أو كومين‪،‬‬
‫م��ن �أكوام اللحم‪ .‬وح�صتهما من اللحم‪ ،‬تحدد قب��ل المقامرة‪ .‬وهي لي�ست ح�صة‬
‫ف��ي الواقع بل �أجر‪�« :‬أما �أجر الرقيب فيعطاه من �أول الق�سمة‪ ،‬وهو �أف�ضل اللحم‬
‫وي�سمون��ه بدءا‪ .‬و�أما الحر�ضة فيعطى لحما دون ذلك» (البقاعي‪ ،‬نظم الدرر)‪.‬‬
‫ومن هنا �أمكن اعتبار هذين فائزين‪ ،‬مقارنة بالمنيح‪ ،‬فهما يح�صالن على ح�صة‪.‬‬
‫بل �إنهما فائزان دوما‪ ،‬لكن من دون مقامرة‪.‬‬

‫من �أجل ه��ذا كانت �أجزاء الجزور ع�شرة �أجزاء‪ .‬فهن��اك منها ح�صتان للرقيب‬
‫والحر�ضة‪� .‬أما الح�صة العا�شرة فهي ح�صة الجزار‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالقدح المنيح لي�س‬
‫له ح�صة‪� .‬إنه القتيل ال�صريع المنيح‪ ،‬ولي�س له �إال �سكين الجزار فقط‪ .‬ح�صته هي‬
‫الجزار ذاته‪� .‬أي �أن له الذبح‪� .‬إنه قدح الخ�سارة المطلقة‪.‬‬

‫بن��اء على ه��ذا‪ ،‬نعتقد �أن الق��دح الثالث من الق��داح المو�سومة لي���س الرقيب �أو‬
‫ال�ضريب‪ ،‬بل هو الم�صفح‪ ،‬الذي ورد ذكره عند ابن دريد‪ ،‬والذي هناك ت�شوي�ش‬
‫في مو�ضعه‪ .‬فعند ابن دريد هو الثالث‪ ،‬كما ر�أينا �أعاله‪« :‬الفائزة منها �سبعة‪ :‬الفذ‬
‫والتو�أم وال�ضريب‪ ،‬وهو الم�صفح‪ ،‬والحل�س والناف�س والم�سبل والمعلى»‪ .‬لكنه‬

‫‪77‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫عن��د غيره ال�ساد�س من الق��داح المو�سومة‪�« :‬أبو عبيد‪� :‬أ�سم��اء القداح التي كانوا‬
‫يقت�سم��ون بها الفذ والتو�أم والرقيب والحل���س والناف�س والم�صفح والمعلى» (ابن‬
‫�سيدة‪ ،‬المخ�ص�ص)‪ .‬لكننا نعتقد �أن��ه الثالث‪ .‬وربما �سمي �صفيحا؛ لأنه �أول قدح‬
‫يق��ع بين قدحي��ن على جانبيه‪« :‬ال�صف��ح‪ :‬الجنب‪ ...‬و�صف��ح كل �شيء‪ :‬جانبه‪.‬‬
‫و�صفحاه‪ :‬جانباه» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫بناء على هذا‪ ،‬يمكن قول ما يلي‪ :‬ثمة ثالثة قداح �أغفال هي‪ :‬الرقيب‪ ،‬ال�ضريب‪،‬‬
‫والمني��ح‪ .‬والمنيح هو الأخير دوما‪ ،‬لأنه يجب �أن يكون العا�شر‪� .‬إنه الثامن في‬
‫�ص��ف القداح المو�سومة‪� ،‬أي حين ي�ستعار وي�ض��م �إليها‪ ،‬لكنه العا�شر في ال�صف‬
‫عموما‪� .‬أما ال�سبعة الباقية‪� ،‬أيا كانت �أ�سما�ؤها‪ ،‬فهي القداح المو�سومة‪ .‬هذا يعني‬
‫�أن الأ�سم��اء المتع��ددة للقداح الأغفال يجب �أن تكون �إم��ا �أ�سماء �أخرى للقداح‪،‬‬
‫وه��و الأغلب‪ ،‬و�إما �أنها ت�صحيفات له��ذه الأ�سماء‪ .‬فالم�صدر هو في �أغلب الظن‬
‫ال�سفي��ح‪ .‬فالم�صدر تعني الأول في الأغفال‪� .‬أما الم�ضعف فربما عنى الثاني من‬
‫م�ضاعفة الرقم واحد‪ .‬لكن الأ�سم��اء الأكثر �شيوعا تربط الأولين منهما بالرقيب‬
‫والحر�ضة مبا�شرة‪.‬‬

‫الوغد‬

‫ولدينا ق��دح يو�ضع ثالثا حين تكون القداح الأغفال ثالث��ة‪� ،‬أو رابعا حين تكون‬
‫�أربعة‪ ،‬وهو الوغد‪« :‬وبقي من ال�سهام �أربعة‪ ،‬وهي الأغفال ال فرو�ض لها وال‬
‫�أن�صباء‪ ،‬وهي‪ :‬الم�صدر‪ ،‬والم�ضعف والمني��ح وال�سفيح‪ .‬وقيل‪ :‬الباقية الأغفال‬
‫الثالث��ة‪ :‬ال�سفي��ح والمنيح والوغد» ت��زاد هذه الثالث��ة لتكثر ال�سه��ام على الذي‬
‫يجيلها فال يج��د �إلى الميل مع �أحد �سبيال» «تف�سير القرطبي»‪ .‬ي�ضيف القلق�شندي‪:‬‬
‫«و�أم��ا الأربعة التي تثقل بها القداح فهي ال�سفيح‪ ،‬والمنيح‪ ،‬والم�ضعف والوغد»‬
‫(القلق�شندي‪� ،‬صبح الأع�شى)‪.‬‬

‫و�أغل��ب الظن �أن هذا «الوغد» هو ا�سم �آخر للقدح المنيح‪ .‬ففي اللغة �أن «الوغد‪:‬‬
‫ال�صبي» (ل�س��ان العرب)‪ .‬والمنيح يكون الأ�صغر في ما يبدو‪ .‬فقد قال جابر بن‬

‫‪78‬‬
‫زكريا محمد‬

‫عبد الله ال�صبي الذي ح�ضر بدرا‪« :‬كنت منيح �أ�صحابي»‪� ،‬أي �أ�صغرهم‪ .‬وربما‬
‫عنى �أي�ضا حفيظ �أرحالهم و�أغرا�ضهم‪ .‬ذلك �أن من «ي�أخذ باله» من �أرحال القوم‬
‫يدعى الوغ��د‪« :‬الرجل الوغد‪ :‬الذي يرقب للقوم رحله��م» «تف�سير القرطبي»‪.‬‬
‫وم��ن المحتمل �أن هذه المهمة كان��ت تعطى للفتيان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال‪.‬‬
‫و�س��وف نناق�ش م�س�ألة الأ�صغر الحقا‪ ،‬وفي �سي��اق تو�ضيح ق�صة الذبيح عبد الله‬
‫والذبحاء �أمثاله‪.‬‬

‫نماذج عملية لكيفية لعب المي�سر‬

‫�إذا كان��ت لعبة المي�س��ر ال تنتهي �إال بخروج �سبعة ق��داح‪ ،‬وكان المنيح يعاد �إلى‬
‫الربابة حتى اللحظة الأخيرة‪ ،‬ف�إنه تكون لدينا ثالثة احتماالت في اللعب‪:‬‬

‫القداح الأغفال الخارجة‬ ‫القداح المو�سومة الخارجة‬ ‫االحتمال‬


‫�صفر‬ ‫‪7‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪-3‬‬

‫في االحتمال الأول تخرج كل القداح المو�سومة فائزة‪ .‬وهذا يبطل اللعب‪ ،‬لأنه‬
‫لن يكون هناك خا�سرون كي يدفعوا ثمن الجزور‪ .‬لذا تعاد اللعبة من جديد‪ .‬وقد‬
‫و�ضعت القداح الأغفال لتقليل فر�ص حدوث هذا االحتمال‪.‬‬

‫في االحتمال الثاني‪ ،‬تخرج �ستة من القداح المو�سومة وقدح واحد من الأغفال‪.‬‬
‫�أي �أن واح��دا فقط يكون خا�سرا من المتقامري��ن‪ .‬وي�صعب على المرء �أن يقتنع‬
‫ب�أن��ه كان يت��م ال�سير م��ع هذا االحتمال‪ .‬ل��ذا نعتقد �أن اللعبة تعاد ف��ي هذه الحال‬
‫�أي�ض��ا‪ .‬فمن ال�صعب �أن يتحم��ل �شخ�ص واحد فقط ثمن الجزور كله‪ .‬بناء عليه‪،‬‬
‫يظل �أمامنا احتمال �أن تخرج قداح خم�سة مو�سومة‪ ،‬وقدحان من الأغفال‪ .‬وهي‬
‫الحالة الحقيقية في لعبة المي�سر‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫و�إذا �صح هذا‪ ،‬فلنفتر�ض مثال �أن ح�ص�ص القداح الخم�سة الخارجة‪� ،‬أي الفائزة‪،‬‬
‫كان��ت كما يلي‪ .6+3+4+3+2 :‬عليه يكون لدينا ‪ 18‬ح�صة فائزة‪ .‬وهذا يعني �أن‬
‫الح�ص�ص الخا�سرة‪� ،‬أي ح�ص�ص القدحين المو�سومين اللذين لم يخرجا‪ ،‬هي ‪10‬‬
‫ح�ص�ص‪� .‬إذن‪ ،‬ف�سيدفع الخا�سران ثمن ع�شر ح�ص�ص هي حجم خ�سارتهما‪ .‬لكن‬
‫ال�س���ؤال هو‪ :‬من الذي �سيدفع ثمن الح�ص���ص ال ‪ 18‬الرابحة؟ والجواب‪� :‬سيدفع‬
‫ثم��ن هذه الح�ص���ص الخا�سران‪ .‬لكن م��ن منهما الذي �سيدفع؟ وه��ل �سيقت�سمان‬
‫الخ�س��ارة بح�سب قيمة قدحيهما؟ الجواب‪ :‬نعتقد �أنه يت��م تحديد الخا�سر باالقتراع‬
‫م��ن جديد‪� .‬أي �أنه ينبغ��ي ا�ستئناف اللعب من جديد‪ ،‬لكن بي��ن الخا�سرين فقط‪.‬‬
‫وهن��ا يكون دور المني��ح حا�سما‪�.‬إذ يكون في الربابة قدح��ا الخا�سرين مع القدح‬
‫رد‪ ،‬لي�س هو‬‫«رد‪ّ ،‬‬
‫المني��ح‪ .‬ف�إن خ��رج المنيح �أوال يعاد �إلى الربابة‪ ،‬ويق��ال ‪ّ :‬‬
‫لأح��د»‪ .‬ث��م يتوا�صل اللعب‪ ،‬ف���إن خرج واحد م��ن القدحين يك��ون قد نجا من‬
‫الخ�سارة الم�ضاعفة‪ .‬ثم يتوا�صل اللعب‪ ،‬ف�إن خرج القدح الثاني المو�سوم يكون‬
‫ق��د نجا هو الآخ��ر من الخ�سارة‪ .‬لكن ف��ي هذه الحالة يج��ب ا�ستئناف اللعب من‬
‫جديد‪ ،‬لأنه لي�س هناك من يدفع ثمن ح�ص�ص الرابحين‪ .‬فيعاد القدحان للربابة‪،‬‬
‫وي�ست�أنف اللعب‪ .‬ف�إن خرج واحد منهما يكون فد نجا من الخ�سارة الزائدة‪ ،‬ثم �إن‬
‫خ��رج المنيح في هذه اللحظة فال يعاد‪ ،‬ويكون هو القدح الذي يتحمل الخ�سارة‪.‬‬
‫لكن��ه حينها �سيكون قدحا لأح��د‪� ،‬أي قدحا لل�شخ�ص الذي لم يخرج قدحه‪ .‬عليه‪،‬‬
‫رد‪ ،‬لي�س هو لأح��د»‪ .‬فقد ل ُّزم لأحد‪� .‬صار قدحه‪ .‬وهذا الأحد‬ ‫«رد‪ّ ،‬‬
‫فل��ن يقال ّ‬
‫�سي���ؤوب وقدح فوزه المني��ح‪� .‬أي �أنه �سيكون لهذا ال�شخ���ص قدحان خا�سران‪:‬‬
‫قدحه الأ�صلي والقدح المنيح‪ ،‬الذي ل�صق به‪ .‬عليه‪ ،‬ف�ستحل الكارثة على ر�أ�سه؛‬
‫�سوف يدفع مقدار خ�سارته‪ ،‬ومقدار ربح الآخرين‪ .‬ولنفتر�ض �أن قدحه بخم�سة‬
‫حزوز‪ .‬فيكون عليه �أن يدفع ‪ 23 =18+5‬ح�صة‪.‬‬

‫لكن لو افتر�ضنا �أن حجم الح�ص�ص الرابحة �أقل؛ مثال‪� ،»5+4+3+2+1« :‬أي ‪15‬‬
‫ح�ص��ة‪ .‬عليه �سيكون على الخا�سرين دفع ‪ 13‬ح�صة‪� .‬أي �أن واحدا منهما �سيدفع‬
‫ثم��ن ‪ 7‬ح�ص�ص‪ ،‬بينما يدفع الثاني ثمن ‪ 6‬ح�ص�ص‪ .‬كما �سيكون على واحد منهما‬
‫�أن يدفع ثم��ن الح�ص�ص ال ‪ 15‬للرابحين‪ .‬وهو �سيك��ون �صاحب القدح المنيح‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�سي�صبح القدح المنيح الخا�سر قدحه‪� .‬سي�ستعار هذا القدح من القداح الأغفال التي‬
‫لزم لهذا الخا�سر‪ .‬ولنفتر�ض �أنه �صاحب المعلى‪.‬‬ ‫وي ّ‬
‫ال تخ�سر‪ ،‬وي�صبح خا�سرا‪ُ ،‬‬
‫بذا فهو �سيدفع‪ 22 =15+7 :‬ح�صة‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فف��ي اللحظة الأخيرة يتخلى الق��دح المنيح عن دوره كقدح غفل‪ ،‬ويلتحق‬
‫بالق��داح المو�سوم��ة‪ ،‬لكن من باب الخ�س��ارة فقط‪� .‬أي �أنه ي�صب��ح قدحا منيحا‪،‬‬
‫م�ستع��ارا‪ ،‬ت�ستعيره الق��داح المو�سومة الخا�س��رة‪� ،‬أو يمنح لها‪ .‬كم��ا �أنه ي�صبح‬
‫ذبيح��ا‪� ،‬أي �صريعا ذبيحا‪ .‬وهو به��ذا ينتقل من المقعد العا�ش��ر في �صف القداح‬
‫�إلى المقعد الثامن‪ ،‬مقعد الخ�سارة والذبح‪ .‬ت�ستعيره القداح المو�سومة من القداح‬
‫الأغفال‪ ،‬وت�ضعه في �صف الخا�سرين‪ .‬عليه‪ ،‬فهو قدح موجود لكي يخ�سر فقط‪.‬‬
‫�إن��ه قدح الخ�سارة الدائمة‪ .‬لذا فهو «�صريع الق��داح»‪� ،‬أي قتيلها‪� .‬إنه في الواقع‬
‫قتيل مثل الجزور‪� .‬إنه قدح الذبيح‪.‬‬

‫و�إذا كان فع�لا قدح الذبيح‪ ،‬ف�إن على الم��رء �أن يت�ساءل �إن كان الذبيح الديني‪،‬‬
‫من �أمثال �إ�سماعيل‪� -‬إ�سحق وعب��د الله �أن يكون منيحا‪� ،‬أي �أن يكون م�ستعارا‪.‬‬
‫ذل��ك �أن لعب��ة المي�سر تبني نف�سها على غرار طق�س الذبي��ح كما �سنرى طوال هذا‬
‫الكت��اب‪ .‬و�إذا على الذبيح �أن يكون «م�ستع��ارا» فهل يعني �أنه ال يجب �أن يكون‬
‫ابنا �أ�صليا؟ نترك ه��ذا ال�س�ؤال المعقد لكتاب قادم ربما‪ .‬لكن من الممكن الإ�شارة‬
‫�إل��ى �أن الق�صة تقول لن��ا �أن ها�شم بن عبد مناف تزوج م��ن يثرب عندما مر بها‬
‫منطلق��ا نحو غزة في ال�شام‪ ،‬و�أنه��ا ولدت له ولدا‪ ،‬وظل الول��د مع �أخواله بني‬
‫النج��ار هناك �إل��ى �أن �أخبر �أحدهم �أعمامه ب�أمره‪ ،‬فذه��ب عمه المطلب والتقطه‬
‫وه��و يلعب‪ ،‬وو�ضعه وراءه على راحلت��ه وعاد به �إلى مكة‪ .‬وحين ت�ساءل �أهل‬
‫مك��ة عن هذا ال�صغير من يكون‪ ،‬رد المطلب به��ذا الرد الغريب‪ :‬هذا عبدي! لم‬
‫يق��ل �أنه ابن �أخيه‪ ،‬بل ق��ال �إنه عبده‪ .‬ومن هنا �سم��ي ال�صغير‪ ،‬الذي �صار جدا‬
‫للر�س��ول با�سم «عبد المطلب»‪ .‬وهذا ي�شي��ر �إلى �أن هناك ا�ستعارة ما‪ .‬فك�أن عبد‬
‫المطلب ا�ستعير‪ ،‬و�أح�ضر �إلى مكة‪.‬‬

‫ث��م لنتذكر حادثة �سكر حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬ع��م الر�سول‪ ،‬التي قال للر�سول‬
‫فيه��ا‪« :‬ما �أنتم �إال عبيد �أبي!»‪ .‬فثمة هن��ا �أي�ضا عبد ما �أي�ضا‪ .‬فهل في كالم حمزة‬

‫‪81‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�إ�ش��ارة �إلى �أن عب��د الله‪ ،‬والد الر�سول‪ ،‬كان تكرارا لعب��د المطلب؟ فهو الآخر‬
‫ق�ض��ى ف��ي يثرب عن��د �أخوال �أبي��ه وقتا ثم �أح�ض��ر �إلى مكة‪� .‬إن �ص��ح هذا فهو‬
‫يفتر���ض �أن عب��د المطلب كان �أي�ضا ذبيح��ا قبل ابنه عبد الله الذبي��ح‪ .‬فمن �ش�أن‬
‫الذبيح �أن يك��ون ممنوحا م�ستعارا في ما يبدو‪ .‬فهل كان كل ذبيح «ي�ستعار» من‬
‫يث��رب لمكة؟ �أو ه��ل كان عليه �أن يعي�ش في يثرب لكي يب��دو «م�ستعارا»‪ ،‬لأن‬
‫الذبي��ح يج��ب �أن يكون م�ستعارا حتى يكون ذبيحا؟ وم��ن ثَم‪ ،‬هل كان �إ�سماعيل‬
‫الذبيح �أي�ضا منيحا م�ستعارا؟ ربما‪...‬‬

‫في كل حال‪� ،‬سنعر�ض الحقا لطق�س الذبيح‪ ،‬الذي عر�ضنا له في كتبنا ال�سابقة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫فصل ‪4‬‬

‫وقت لعبة المي�سر‬

‫ال تج��ري لعب��ة المي�سر في كل وق��ت‪ ،‬وال في �أي وقت‪ ،‬ب��ل تجري في موعد‬
‫مح��دد‪ .‬وي�ستغرب المرء �أن توفيق فهد في كتاب��ه الت�صنيفي القيم لم يتو�صل �إلى‬
‫التعرف على وقت لعبة المي�سر‪:‬‬
‫«م��ا من �شيء في الواقع ي��دل على �أنه كان هناك وقت محدد يفتر�ض �أن يجري‬
‫فيه ذل��ك اللعب‪ ...‬كذلك فما م��ن �شيء يدل على �أنه كان هن��اك �أماكن خا�صة‬
‫مخ�ص�ص��ة لهذه اللعبة» (فهد‪ ،‬الكهانة العربي��ة‪� ،2007 ،‬ص ‪ .)155‬والحق �أن‬
‫هن��اك وقتا محددا من اليوم‪ ،‬ووقتا محددا م��ن ال�سنة‪ ،‬تجري فيهما اللعبة‪ .‬فهي‬
‫لعب��ة ليلي��ة‪� ،‬أي �أنها تبد�أ مع غياب ال�شم�س‪« :‬قال �أب��و حاتم عن الأ�صمعي‪...:‬‬
‫الأي�سار �إنما يتيا�سرون‪ ‬بالع�شيات‪� ،‬ألم ت�سمع �إلى قول النمر بن تولب‪:‬‬
‫و�شهدت عند الليل موقد ناره»‬ ‫ولقد �شهدت �إذ القداح توجدت‬
‫(القالي‪ ،‬الآمالي)‪ .‬ي�ضيف اليزيدي‪:‬‬
‫لهم نار �إِي�سارٍ كفى من ت�ضجعا»‬ ‫«�إذا اجتز�أ القوم القداح و�أوقدت‬
‫(اليزيدي‪ ،‬الآمالي)‪� .‬إذن‪ ،‬فالمي�سر مرتبط بالليل وبالنار‪.‬‬
‫وهي لعبة مرتبطة بالنار لأنها ال تجري في كل ف�صل‪ ،‬بل تجري عند البرد‪ .‬فهي‬
‫�شتوي��ة ال تجري في ال�صيف �أبدا‪« :‬كانت العرب‪� ،‬إذا كان ال�شتاء ونالهم القحط‪،‬‬
‫وقلت �ألبان الإبل‪ ،‬ا�ستعملوا المي�سر‪ ،‬وهي الأزالم‪ ،‬و تقامروا عليها‪ ،‬و�ضربوا‬
‫بالقداح» (تاريخ اليعقوبي‪ ،‬دار �صادر‪ ،‬المجلد الأول‪ ،‬بال تاريخ‪� ،‬ص ‪.)259‬‬
‫ي�ضي��ف ابن قتيبة‪« :‬ف�إن �أه��ل الثروة والأجواد من العرب كان��وا في �شدة البرد‬

‫‪83‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وج��دب البالد وكلب الزم��ان يي�س��رون‪� ،‬أي يتقامرون بالق��داح» (ابن قتيبة‪،‬‬
‫الأ�شربة والأطعمة)‪ .‬وهو ما ي�ؤكده ال�شعر‪ .‬يقول طرفة بن العبد‪:‬‬
‫�أغل��ت ال�شت��وة �أب��داء الج��زر‬ ‫وه��م‪� ‬أي�����س��ار ل��ـ��ق��ـ��م��ـ��ان‪� ‬إذا‬

‫لكن حين تدقق ف��ي الأمر تكت�شف �أنها‪ ،‬في واقع الأمر‪ ،‬لعبة خريفية ال �شتوية‪.‬‬
‫�أي �أنه��ا تجري وقت المطر الو�سمي‪ ،‬الذي ي�سقط في الخريف‪ .‬غير �أن العرب‬
‫ي�ضم��ون الخريف ال��ذي ي�سقط فيه �أول المطر �إلى ال�شت��اء‪ ،‬في�صير الحديث عن‬
‫المي�س��ر كما لو �أنه لعب��ة �شتوية‪� .‬أما �أنه لعبة خريفية‪ ،‬فهذا م��ا �أخبرنا به ال�شعر‪.‬‬
‫يقول دريد بن ال�صمة في رثاء �أخيه بكر‪:‬‬
‫برطب الع�ضاة وال�ضريع المع�ضد‬ ‫وال برما �إذْ م��ا الرياح تنـاوحـت‬

‫يق��ول ال�شاعر ف��ي البيت عن �أخيه‪ :‬ل��م يكن برم��ا‪� ،‬أي ال ي�ستنكف عن الدخول‬
‫ف��ي لعبة المي�سر‪ ،‬حين ت�ضرب الري��اح المتناوحة حطب نار المي�سر‪� .‬أما تناوح‬
‫الرياح فهو تقابله��ا‪« :‬ال ّتناوح‪ :‬ال ّتقاب��ل‪ .‬ومنه‪ ‬تناوح‪ ‬الجبلين‪ ‬وتناوح‪ ‬الرياح‪،‬‬
‫حن‪ ،‬وكذلك‬ ‫ومن��ه �سميت الن�س��اء النوائح نوائح‪ ،‬لأن بع�ضهن يقاب��ل بع�ضا �إذا ُن َ‬
‫المهب لأن بع�ضها يناوح بع�ضا وينا�سج» (ل�سان العرب)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الرياح �إذا تقابلت في‬
‫علي��ه‪ ،‬فلعبة المي�سر تتم وق��ت تقابل الرياح وتعاك�سها‪ .‬ويح��دث تناوح الرياح‬
‫مرتي��ن في العام؛ مرة في االنقالب الربيع��ي‪ ،‬و�أخرى في االنقالب الخريفي‪.‬‬
‫فقد اعتقد العرب �أن الرياح الرئي�سية �أربع هي‪ :‬ريحا ال�شمال والجنوب‪ ،‬ثم ريحا‬
‫ال�صبا والدبور‪ .‬وكانوا يعتقدون �أن ال�صبا والدبور هما نتاج تقابل ريحي ال�شمال‬
‫والجنوب‪ .‬فحين تتعاك�س هات��ان الريحان ينتج عن تعاك�سهما ريح و�سطى تهب‬
‫في االعتدالين الربيع��ي والخريفي‪ .‬ريح ال�صبا ربيعية‪ ،‬وريح الدبور خريفية‪.‬‬
‫«دبر» الكعب��ة‪� ،‬أي من ورائها‪� .‬أما ريح‬ ‫و�سمي��ت الدبور دبورا لأنها ت�أتي من ُ‬
‫ال�صبا فت�سمى «القبول»‪ ،‬لأنها ت�أتي من « ُقبل» الكعبة‪� ،‬أي من اتجاه بابها‪ .‬ولعبة‬
‫المي�سر تحدث مع االعتدال الخريفي‪� ،‬أي مع هبوب ريح الدبور‪.‬‬

‫ويتراف��ق االعتداالن مع طل��وع الثريا عموما‪ .‬فطلوعها ف��ي الع�شي يحدث مع‬
‫االعتدال الخريفي �أو قربه‪« :‬ف�إذا طلعت الثريا ا�ستوى الليل والنهار‪ ،‬وكل واحد‬

‫‪84‬‬
‫زكريا محمد‬

‫اثنت��ا ع�شرة �ساعة» «القرطبي‪ ،‬تف�سي��ر القرطبي»‪ .‬وكما نعلم للثريا «طلوعين»‬
‫ال طلوع��ا واحدا؛ طلوع بالغدي��ة‪� ،‬أي في ال�صبح قبل مطل��ع ال�شم�س‪ ،‬وطلوع‬
‫ـدي��ة‪ /‬وابتغى الراعي �شكي��ة‪ .‬فهذا يكون في‬
‫بالع�شي��ة‪« :‬يقولون‪ :‬طل��ع النجم ُغ ّ‬
‫ال�صي��ف وعند ا�شتداد الح��ر‪ .‬وطلع النجم عـ�شـاء‪/‬وابتغ��ى الراعي ك�ساء‪ ،‬وهذا‬
‫يق��ال في �شدة البرد» (المرزوقي‪� ،‬شرح ديوان الحما�سة)‪� .‬أما النجم فهو كوكبة‬
‫الثريا‪ .‬بالطبع‪ ،‬كالم المرزوق��ي هنا ال يف�صل الربيع عن ال�صيف وال الخريف‬
‫عن ال�شتاء‪ .‬فطلوع الثري��ا ال�صباحي‪ ،‬هو طلوعها قريبا من االعتدال الربيعي‪.‬‬
‫�أما طلوعها ع�شاء بالبرد فهو طلوعها في االعتدال الخريفي‪.‬‬

‫وب�سب��ب وجود هذين الطلوعين ا�ضطربت الأحاديث عن الثريا‪ ،‬بحيث ال نعود‬


‫نع��رف في بع�ض الأحيان �إن كان المق�ص��ود هو طلوعها الخريفي �أم الربيعي‪.‬‬
‫والحق �أن للثريا �صعودا من جهة‪ ،‬و�سقوطا وغورانا من جهة �أخرى‪� .‬أو �أن لها‬
‫�إقباال و�إدبارا‪ .‬وهي في غورانها‪� ،‬أو �إدبارها‪ ،‬تطلع بالع�شية‪ .‬عليه‪ ،‬فطلوعها‬
‫بالع�ش��ي هو طلوع فترة �سقوطها الفلكي‪ .‬وطلوعها في هذا الموعد ي�صحبه عادة‬
‫ن��زول المطر الو�سمي‪ ،‬وهووقت لعبة المي�سر‪ .‬وقد ظل تقليد الثريا حا�ضرا في‬
‫فل�سطي��ن حتى القرن الع�شرين‪� .‬إذ يخبرنا غو�ست��اف دالمان �أن‪« :‬غياب الثريا‬
‫وطلوعه��ا يعتبر حا�سما عند البدو في التغير بين الف�صلين الرئي�سيين [�إذ يقولون]‬
‫[ح��ر]‪� ...‬أو كما‬
‫ّ‬ ‫«يوم بتغي��ب الثريا بي�صير ال�شت��ا‪ ،‬يوم تتطلع بي�صير �شوب‬
‫يقول المثل‪ :‬الثري بتغيب ع�س��د حاب�س [�س ّد ممتلئ بالماء] وبتتطلع عغمر ياب�س‬
‫[حزمة قمح ياب�سة]»‪)Dalman, Gustaf, Work and Customes in .‬‬
‫‪Palestine, Volume 1/1, 2013, page 39-40).‬‬

‫بالطبع يجب �أن نفهم هن��ا الغياب على �أنه ال�سقوط والغياب الفلكي‪ .‬بناء عليه‪،‬‬
‫ف���إن طق���س المي�سر يترافق م��ع �سقوط الثري��ا وغورانها وانقما�سه��ا‪� ،‬أي مع‬
‫طلوعها ع�شية‪ .‬وقد تو�صل باحث تون�سي �إلى �أن المي�سر كان يحدث بالفعل عند‬
‫�سقوط الثريا‪:‬‬

‫«تو�صلن��ا �إلى‪� :‬أن المي�سر «الجاهلي» كان بالفع��ل �أحد الطقو�س الدينية ال�سحرية‬
‫و�أن��ه كان يقام خالل «فترة غياب نجم الثري��ا» «نوء الثريا» المتزامن عادة مع‬

‫‪85‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ن��زول الأمطار في ما ي�سميه العرب «ف�صل الو�سم��ي»‪ .‬بالطبع‪ ،‬يجب �أن نفهم‬
‫كلم��ة «غياب» هنا ال كما نفهمه��ا عندما نقول‪ :‬غابت ال�شم���س‪� ،‬أي اختفت‪ ،‬بل‬
‫بمعنى بدء انحدار الثريا الفلكي‪� ،‬أي غورانها و�سقوطها‪.‬‬

‫ي�ضي��ف الباحث‪« :‬ويبد�أ «حول الثريا» في «نوء الثري��ا» مع بداية ف�صل �أمطار‬
‫الخريف �أي «ف�صل الو�سمي»»‪ .‬ويزيد‪« :‬وبتحديدنا لهذا الموعد‪� ،‬أمكننا اعتمادا‬
‫عل��ى ما يذكره ال�شع��ر «الجاهلي» حول «لعب المي�سر عند ن��وء الثريا»‪ ،‬تحديد‬
‫موعده م��ن ال�سنة‪ ،‬ف�أمكننا الرب��ط بين المي�سر وطقو���س اال�ستمطار عند عرب‬
‫الجاهلي��ة ليتبين لنا بع��د ب�سط البراهين على ذلك �أن المي�س��ر كان �أحدها‪ .‬فقد قام‬
‫الع��رب باتخاذ نوء الثريا موع��دا للتنقل نحو المحا�ضر ا�ستع��دادا لعملية �ضراب‬
‫الإب��ل‪ ،‬وهي عملية حيوي��ة ودقيقة كانت تق��دم فيها قرابين للآله��ة طلبا للبركة‬
‫وخا�ص��ة للمطر‪ ،‬كم��ا �أقمنا البرهان عل��ى موافقته زمنيا �شه��ر رجب الخريفي‬
‫باعتباره �إحدى ذروتي دورة الف�صول الطبيعية» (�سالم‪ ،‬المي�سر الجاهلي‪� :‬أبعاده‬
‫ودوره في ممانعة ظهور الدولة‪ ،‬الأوان‪ :‬الأحد ‪� 15‬آذار ‪.)2009‬‬

‫�إذن‪ ،‬فطق���س المي�سر كان يتم في نوء الثريا‪� ،‬أي مع مطرها الو�سمي الذي ي�أتي‬
‫م��ع االنقالب الخريفي‪ ،‬وفي �شهر رجب الخريفي تحديدا‪ .‬ورجب الخريفي هو‬
‫«رجب ربيع��ة» ال «رجب م�ضر»‪ .‬ورجب ربيع��ة‪� ،‬أي �شهرها المقد�س‪ ،‬هو‬
‫�شهر �شوال‪� ،‬أول �أ�شهر الحج ال�شتوي المتتابعة في الجاهلية‪� :‬شوال‪ ،‬ذو القعدة‪،‬‬
‫ذو الحجة‪ .‬وهذا يعني �أن المي�سر مرتبط‪ ،‬ب�شكل ما‪ ،‬بملة الحلة‪ ،‬ال بملة الحم�س‪.‬‬

‫لكن علينا تو�ضيح بع�ض النقاط في ما يخ�ص كالم الباحث التون�سي‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أن غياب الثريا ال يعني غيابها اليومي‪ ،‬كما هو الحال مع غياب ال�شم�س في‬
‫الم�س��اء‪ .‬فغياب الثريا هو �سقوطها الفلكي‪ ،‬وهو الوقت الذي تظهر �أول ما تظهر‬
‫في الع�شية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نعتقد �أنه ال عالقة للأمر كله بالقمر‪.‬‬


‫ثالث��ا‪� :‬أننا نوافق مع الباحث التون�سي �أن المي�سر �أ�شبه ما يكون بطق�س ديني‪ .‬فهو‬
‫�إن لم يكن طق�سا دينيا فقد بني على طق�س ديني هو «طق�س الذبيح»‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫زكريا محمد‬

‫رابع��ا‪� :‬أنه يجب التفريق بين ا�ستمط��ار الثريا واال�ستمطار العادي‪ .‬فهما نوعان‬
‫مختلف��ان من اال�ستمطار‪ .‬فاال�ستمطار العادي طق���س معروف ومختلف عن ما‬
‫نحن فيه‪ .‬وق��د عر�ضنا له في كتبنا ال�سابقة‪ .‬وهو نف�س��ه «طق�س الت�سليع»‪ ،‬الذي‬
‫يربط فيه الع�شر وال�سلع في �أذيال الأبقار‪ ،‬وي�شعل بالنار‪ ،‬لتطلق الأبقار مندفعة‬
‫نحو التالل والنار تتوهج في �أذيالها‪ .‬يقول ال�شاعر‪:‬‬

‫ي�ستمطرون‪ ‬لدى‪ ‬الأزمات بالع�شر‬ ‫‪ ‬در‪ ‬رجال‪ ‬خـاب‪� ‬سعيه��م‬


‫ال‪ ‬د ّر ُّ‬
‫َ‬
‫ذريعـ��ة ل��ك بي��ن الل��ه والمطـر؟‬ ‫�أجاعـ��ل �أن��ت بيقـ��ورا م�سلّعـ��ةً‬

‫وف��ي الأغلب ف�إن طق���س الت�سليع كان يح��دث مع االنقالب ال�شت��وي‪ ،‬في حين‬
‫�أن ا�ستمط��ار الثري��ا يتم في االنق�لاب الخريفي �أو حوله‪ .‬ويمك��ن القول �أنه في‬
‫الحقيقة انتظار لنزول المطر في �أيام نوء الثريا‪ ،‬وهي �سبعة‪� ،‬أكثر منه ا�ستمطارا‬
‫تقليدي��ا‪ .‬و�سيتبين لنا الحق��ا �أن هذا اال�ستمطار له عالقة بع��ودة الماء ال�سفلي من‬
‫اندفاعت��ه ال�سطحية ال�صيفية‪ .‬ذلك �أن مط��ر الثريا يترافق مع هذه العودة‪� .‬إذن‪،‬‬
‫فحين يحتفل النا�س عند �آبار المياه مع نوء الثريا فهم يحتفلون بعودة الماء ال�سفلي‬
‫�إلى مكامنه‪ ،‬التي يح�صلون على مائهم منها‪.‬‬

‫ُج ّماع الثريا‬

‫ويمك��ن ت�سمية االحتف��ال بمطر الثريا با�س��م «احتفال الثري��ا»‪� ،‬أو «احتفال نوء‬
‫الثري��ا»‪ .‬واالعتق��اد ال�سائد �أن نوء الثريا يجلب المط��ر الغزير‪« :‬نو�ؤها �أ�شرف‬
‫الأنواء و�أغزرها» (ابن �سيدة‪ ،‬المحكم)‪ .‬يقول ذو الرمة‪:‬‬

‫�اح��ي� ٍ�ة‪َ ،‬و�أ ْت� َ�ب� َ�ع��ـ��ه��ـ��ا ِطـالال‬


‫ِب�����س� ِ‬ ‫���س الثري��ا‬ ‫�ص��اب ا َلأ َ‬
‫ر���ض ُم ْن َق َم ُ‬ ‫َ‬ ‫�أَ‬

‫«و�إِنم��ا َّخ�ص الثريا لأَنه زع��م �أَن العرب تقول‪ :‬لي�س �شيء م��ن الأَ ْنواء �أَ ْغ َزر‬
‫لغ َزارة ذلك‬ ‫من‪َ  ‬ن ْوء الثريا‪� ،‬أَراد �أَن المطر كان عند‪َ  ‬نوء الثريا‪ ،‬وهو ُم ْن َق َم�سها‪َ ،‬‬
‫المطر» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ونح��ن ال نمل��ك الكثير عن هذا االحتف��ال‪ .‬وما وردنا عنه �إنم��ا جاء في �سياق‬
‫تف�سير البيت‪:‬‬

‫ال�صفاقين خيفق‬
‫بمحن��ات ّ‬
‫غ�شا�ش��ا ُ‬ ‫كج ّم��اع الثري��ا حويت��ه‬ ‫ٍ‬
‫ونه��ب ُ‬

‫«ج ّماع الثريا» في البيت‪ .‬وكان �أحد التف�سيرات �أن البيت‬ ‫فق��د �أثار الجدال تعبير ُ‬
‫ي�شي��ر �إلى المحتفلين بمطر الثري��ا‪« :‬فقد يكون ُم ْج َت ِمع الثري��ا‪ ،‬وقد يكون ُج َّماع‬
‫الثريا‪ ،‬الذين يجتمعون على‪ ‬مطر الثريا‪ ،‬وهو مطر الو�سمي‪ ،‬ينتظرون خ�صبه‬
‫والج َّماع‪� :‬أخالط من النا�س»‬
‫وكلأه‪ .‬وبهذا القول الأخير ف�سره ابن الأعرابي‪ُ .‬‬
‫ي�شبه‬
‫(ابن �سي��دة‪ ،‬المحكم)‪ .‬بالتال��ي‪ ،‬فال�شاعر‪ ،‬ح�سب واحد م��ن التف�سيرات‪ّ ،‬‬
‫النه��ب ال��ذي انتهبه في غزواته في كثرت��ه بكثرة «جماع الثري��ا»‪� ،‬أي �أخالط‬
‫النا�س الذي��ن يحتفلون ب�سقوط مطر الثريا‪� ،‬أو ينتظ��رون �سقوط الثريا و�سقوط‬
‫مطره��ا‪ .‬فالجماع هم الأخالط من النا���س‪« :‬ومنه الحديث‪ :‬كان في جبل تهامة‬
‫ُج ّماع غ�صبوا المارة‪� ،‬أي جماعات من قبائل �شتى متفرقة‪ .‬وكُ ل ما تجمع وان�ضم‬
‫ونهب‪ ‬كجماع الثريا‪ ‬حويته»‬
‫ُ‬ ‫بع�ض��ه �إلى بع�ض ُجماع‪ ،‬قاله ابن دريد‪ ،‬و�أن�ش��د‪:‬‬
‫(الزبيدي‪ ،‬تاج العرو�س)‪.‬‬

‫ويب��دو �أن االحتفال بالمطر الو�سمي‪ ،‬مطر الثريا‪ ،‬لي�س مق�صودا لذاته فقط‪ .‬بل‬
‫هو م�ؤ�شر عل��ى �شيء �آخر‪ :‬و�ضع الماء ال�سفلي في الينابيع‪ .‬لذلك يبدو �أن النا�س‬
‫يتجمعون وقت نوء الثريا حول العيون‪� .‬أي �أن هناك عالقة ما بين غزارة مطر‬
‫الثريا وبين دف��ق العيون والآبار الجوفية‪ ،‬ب�شكل يبدو فيه كما لو �أن مطر الثريا‬
‫يدف��ع المياه ال�سفلية �إلى العيون والآبار من جدي��د‪ .‬و�سوف يت�ضح هذا في �سياق‬
‫مبحثنا‪.‬‬

‫�سهم الله �أم نجم الله؟‬

‫عل��ى كل حال‪ ،‬ن�أتي الآن من جديد �إلى جمل��ة‪« :‬وفي حديث حفر زمزم‪ :‬فغار‬
‫�سه��م الله ذي‪ ‬الرقي��ب»‪ .‬وهي جملة مهمة جدا في اعتقادن��ا‪ .‬فهي ت�شير‪ ،‬في ما‬

‫‪88‬‬
‫زكريا محمد‬

‫يب��دو لنا‪� ،‬إلى زمن حفر بئر زم��زم‪� ،‬أو �إعادة حفره �أيام عبد المطلب‪ .‬بذا ففهم‬
‫الجمل��ة ق��د يمكننا من تحديد الزمن الذي تحفر فيه الآب��ار المقد�سة من طراز بئر‬
‫زم��زم‪ .‬ولم نعثر على الجملة �إال عند اب��ن الأثير‪ ،‬وقد رددتها بع�ض القوامي�س‬
‫بال�صيغ��ة ذاته��ا‪ .‬وه��ي جملة منقطع��ة وحدها‪ ،‬لم يت�ص��د �أحد لنقط��ة غمو�ضها‬
‫المركزي��ة‪ ،‬وهي تعبير (�سهم الله)‪ .‬فما هو �سه��م الله هذا؟ ال �أحد يخبرنا بذلك‪.‬‬
‫وكل م��ا يقال لنا �إنما يتعلق بكلمة الرقيب فقط‪ .‬فالجملة ت�ستح�ضر من �أجل تف�سير‬
‫هذه الكلمة‪« :‬في حديث حفر زمزم ‪:‬فغار �سهم الله‪ ‬ذي‪ ‬الرقيب‪ .‬الرقيب‪ :‬الثالث‬
‫من �سهام المي�س��ر‪ .‬والرقيب‪ :‬النجم الذي في الم�ش��رق‪ ،‬يراقب الغارب» (ابن‬
‫الأثي��ر‪ ،‬النهاية في غري��ب الحديث)‪ .‬وهذا ما تكرره بالح��رف القوامي�س التي‬
‫تعر�ض للجملة �أي�ضا‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فهناك رقيب في لعبة المي�سر‪ ،‬ورقيب في الفلك‪ .‬ورقيب الفلك نجم يعادل‬
‫النج��م الغارب ال�ساقط‪ ،‬ويظهر مع �سقوطه ويرقب��ه‪ ،‬ولي�س �أكثر من هذا‪ .‬لكن‬
‫بم��ا �أن الجمل��ة تتحدث عن الغوران (فغ��ار) ف�إن من الوا�ض��ح �أنها تتحدث عن‬
‫الرقي��ب‪ -‬النج��م ال عن رقيب المي�سر‪ .‬وم��ا دمنا مع الرقي��ب‪ -‬النجم فال بد �أن‬
‫يكون هن��اك نجم يرتبط به هذا الرقيب‪ .‬فهناك دوما نج��م ورقيبه‪ .‬لكننا ال نجد‬
‫النج��م في الجملة‪ .‬نجد رقيب هذا النجم‪ ،‬لكنن��ا ال نجد النجم ذاته‪ .‬غير �أن هناك‬
‫حديثا عن الغوران‪ .‬والغوران ي�شي بوجود النجم الذي نتحدث عنه‪ .‬فالغوران‬
‫هو ال�سق��وط الفلكي للنجوم‪ .‬يفتر�ض‪ ،‬بالتال��ي‪� ،‬أن الجملة تتحدث عن غوران‬
‫نج��م ما‪ .‬لكنن��ا نحظى بحديث عن غ��وران �سهم‪ ،‬بدل غ��وران نجم! ونحن لم‬
‫ن�سمع بغوران ال�سهام من قبل‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فثم��ة خط�أ م��ا‪ .‬لذا نقترح �أن في الجملة ت�صحيفا �أ�ض��اع النجم وحوله �إلى‬
‫�سهم‪ .‬والت�صحيف بين كلمتي «نج��م» و «�سهم» بالخط اليدوي ممكن بل و�سهل‬
‫جدا‪� .‬أي �أن الجملة يجب �أن تكون هكذا في الأ�صل‪« :‬فغار نجم الله ذي الرقيب»‪.‬‬

‫وفي ه��ذه الحالة نفتر�ض �أن (نجم الله) هو الثريا‪ .‬ذل��ك �أن (النجم) ا�سم لكوكبة‬
‫الثري��ا كما هو مع��روف و�شائع تمام��ا‪« :‬النج��م‪ :‬الثريا‪ ،‬وهو ا�س��م غالب لها»‬
‫(الزمخ�ش��ري‪ ،‬الك�شاف)‪ .‬ي�ضي��ف الدينوري‪« :‬والعرب ت�سم��ي الثريا النجم‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ق��ال‪ :‬طلع النجم ع�ش��اء‪ /‬ابتغى الراعي ك�س��اء» (ابن قتيبة الدين��وري‪ ،‬المعاني‬
‫الكبير)‪ .‬ي�ؤكد الجاحظ‪« :‬النجم‪ :‬ا�سم‪ ‬الثريا» (الجاحظ‪ ،‬البر�صان والعرجان)‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬يك��ون مفهوما اجتماع النجم‪� ،‬أي الثريا‪ ،‬م��ع رقيبها‪ .‬ورقيب الثريا هو‬
‫العي��وق‪ ،‬عند الغالبية‪ .‬كما ي�صب��ح مفهوما وجود كلمة «فغ��ار»‪� .‬إذ هي �إ�شارة‬
‫ّ‬
‫�إل��ى طلوع الثري��ا الخريفي في الع�ش��اء‪ .‬وطلوعها هذا ي�سم��ى غورانا و�سقوطا‬
‫وانقما�سا‪ .‬عليه‪ ،‬فالجملة تق��ول طلع نجم الله ذي الرقيب طلوعه الخريفي‪� .‬أو‪:‬‬
‫ظهر نجم الله في غورانه الخريفي‪.‬‬

‫ول��و �ص��ح فر�ضنا ف�إن الجملة يج��ب �أن تكون هكذا ب�ش��كل �أدق‪« :‬فغار نجم الله‬
‫ذو الرقي��ب» �أي �أنن��ا مع «ذو» بالرفع‪ ،‬ولي�س م��ع «ذي» بالجر‪ .‬باعتبار �أنها‬
‫�صف��ة للنجم المرفوع‪ ،‬ال و�صفا للفظ الجاللة‪ .‬والح��ق �أن ت�صحيف «نجم» �إلى‬
‫«�سهم» هو الذي �أدى �إلى تحويل «ذو» �إلى «ذي»‪ .‬فلو ظلت الكلمة نجم‪ ،‬لكان‬
‫فه��م �أن الرقي��ب يخ�ص النجم‪� ،‬أي �أن النجم ه��و «ذو الرقيب»‪� .‬أما حين �صرنا‬
‫م��ع «�سهم» فقد �صار من المحتم تحوي��ل «ذو» �إلى «ذي» لكي تكون �صفة للفظ‬
‫الجاللة‪ .‬ذلك �أن ال�سهم لي�س له رقيب‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فحفر زمزم مرتبط بغوران النجم‪� ،‬أي ب�سقوط نجم الثريا‪ .‬وهو ال�سقوط‬
‫ال��ذي تحدث عنه القر�آن في �سورة النجم‪« :‬والنجم �إذا هوى»‪ .‬فالنجم الهاوي‪،‬‬
‫�أي ال�ساق��ط‪ ،‬ه��و الثريا‪ ،‬في �أغلب الظ��ن‪�« :‬إذا هوى‪� :‬إذا �سق��ط‪ .‬قالوا‪ :‬ت�أويل‬
‫الكالم‪ :‬والثريا �إذا �سقطت» (تف�سير الطبري)‪.‬‬

‫فغور النجم‬

‫لك��ن هناك احتمال ب�أن الجملة يج��ب �أن تقر�أ هكذا‪« :‬فغر نجم الله» ولي�س «فغار‬
‫نجم الله‪ ،‬وبمعنى طلع وظهر‪ »:‬يقال‪ :‬ولد فالن بالفغرة‪ ،‬بالفتح‪� ،‬أي عند �إفغار‬
‫النج��م‪ ،‬وهو �أول طلوع الثريا» (الزبيدي‪ ،‬ت��اج العرو�س)‪ .‬ي�ؤكد العين‪« :‬ولد‬
‫رة‪ ،‬و[هو] �أول طلوع‪ ‬الثريا» (الخليل‪ ،‬العين)‪ .‬ومنه �أي�ضا‪« :‬فغرت‬ ‫فالن بال ُف ْغ ِ‬
‫ال�س��ن‪� ،‬إذا طلعت» (الزبيدي‪ ،‬تاج العرو�س)‪ .‬فيكون المعنى‪ :‬طلع نجم الله ذو‬

‫‪90‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الرقيب‪ .‬كما �أن هناك احتماال‪ ،‬و�إن �أ�ضعف‪� ،‬أننا مع «بغر النجم» �أي مع مطر‬
‫نجم الثري��ا‪ .‬ذلك �أن بغر تعني �سقط و�أهاج المطر معا‪« :‬بغر‪ ‬النجم‪ ‬يبغر بغورا‪:‬‬
‫�أي �سق��ط وهاج بالمط��ر‪ ،‬يعني بالنجم‪ ‬الثريا‪ .‬وبغر الن��وء �إذا هاج بالمطر‪...‬‬
‫وبغر‪ ‬النجم‪ ‬يبغر بغورا �أي �سقط وهاج بالمطر‪ ،‬يعني بالنجم‪ ‬الثريا‪ .‬وبغر النوء‬
‫�إذا هاج بالمطر‪ ...‬وقال �أبو زيد‪ :‬يقال هذه بغرة نجم كذا‪ ،‬وال تكون البغرة �إال‬
‫م��ع كثرة المطر‪  .‬والبغر والبغرة‪ :‬الدفعة ال�شديدة من‪ ‬المطر» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫ونح��ن نعلم �أن بدء المطر‪ ،‬وه��و ما ي�سمى بالمطر الو�سم��ي‪ ،‬يكون مع �سقوط‬
‫الثريا‪� ،‬أي طلوعها ع�شية‪ .‬ويفتر�ض �أنه مطر �شديد‪.‬‬

‫واالحتماالن يق��ودان �إلى نجم الثريا غائرا �أو باغرا‪ .‬وف��ي الحالين ف�إن ق�ضيتنا‬
‫رابح��ة‪� ،‬أي ق�ضية ربط حفر زمزم بنجم الثريا‪� ،‬أي باالنقالب الخريفي‪ ،‬وقت‬
‫تناوح الرياح‪ .‬وهو الوقت الذي تلعب فيه لعبة المي�سر‪.‬‬

‫�أفغر النجم‬

‫ولع��ل لجملة «�أفغ��ر النجم» ال�شهي��رة والغام�ضة �أن تكون عل��ى عالقة بما نحن‬
‫فيه‪ .‬وقد ُقدم له��ذه الجملة تف�سير غريب‪ ،‬بل وم�ضحك‪ ،‬من علماء لغة قديرين‪:‬‬
‫«�أفغ��ر النجم‪ ،‬وهو الثريا؛ �إذا حلق ف�صار على قم��ة ر�أ�سك‪ ،‬فمن نظر �إليه فغر‬
‫ف��اه» (الأزهري‪ ،‬تهذيب اللغ��ة)‪ .‬وي�صدق المرزوقي ه��ذا التف�سير الم�ضحك‪:‬‬
‫«معنى‪� ‬أفغ��ر النجم‪ :‬يريد �إذا �صارت الثريا في و�سط ال�سماء‪ ،‬فمن نظر �إليها فغر‬
‫ف��اه‪� ،‬أي فتحه» (المرزوقي‪ ،‬الأزمنة والأمكنة)‪� .‬أم��ا الوحيد الذي قدم تف�سيرا‬
‫يمك��ن و�صفه ب�أنه معق��ول‪ ،‬حتى ولو لم يكن �صائبا‪ ،‬ف�إنما ه��و الخليل بن �أحمد‪:‬‬
‫«�أَف َْغ��ر النجم‪� :‬أي َت َو َّق َع ُ‬
‫��ه الناظرون �إليه» (الخليل‪ ،‬العي��ن)‪� .‬أما نحن فنرى �أن‬
‫الأم��ر يتعلق بفغور الثري��ا‪� ،‬أي بطلوعها وظهورها‪ ،‬في ما يب��دو‪� .‬أي �أنه من‬
‫الإفغار‪ ،‬وهو �أول طلوع الثريا‪ ،‬كما مر �أعاله‪ .‬ومن هذا الباب جملة «فغرت»‬
‫«الفغار» ي�سمى با�سمه‪ ،‬ح�سب ما قيل لنا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫في البيت الذي جعل ال�شاعر‬

‫كما فغ��رت للحي�ض �شمطاء عارك‬ ‫فغ��رت ل��دى النعمان لـمـ��ا ر�أيتـه‬
‫ُ‬

‫‪91‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫فغ��رت تعني‪ :‬برزت وظهرت وانك�شفت كالع��ارك‪� ،‬أي كالحائ�ض‪ .‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫فكلمة‬
‫كان��ت الحائ�ض‪« :‬في ذلك الزمان تكون في بيت عل��ى حدة‪ ،‬وال تخالط �أهلها»‬
‫(ال�ضبي‪ ،‬الأمثال)‪� .‬أي كانت تعزل في مكان بار مك�شوف للعيان‪ ،‬لأن العروك‬
‫نجا�سة خطرة‪� .‬أما بيت الكميت الغام�ض جدا فيمكن تف�سيره على الوجهين‪:‬‬

‫الكالئين‪ ‬النج��م �أو كرب��وا‬


‫ُ‬ ‫و�أفغ��ر‬ ‫حت��ى �إذا لهب��ان ال�صي��ف ه��ب له‬

‫وي��روى ال�شطر الأخير مع «قربوا» بدل «كرب��وا» �أحيانا‪ .‬وفي التف�سير ال�سائد‬
‫للبي��ت �أن الكالئين تعني رعاة النجم وراقبيه‪« :‬وم��ن المجاز‪ :‬كلأت النجم متى‬
‫طل��ع‪� :‬إذا رعيت��ه» (الزمخ�شري‪� ،‬أ�سا���س البالغة)‪� .‬إذن‪ ،‬يك��ون المعنى طلع‬
‫النجم‪ -‬الثري��ا لمنتظريه‪ .‬ولعله ا�ستنادا �إلى هذا البيت �صنع الخليل تف�سيره لجملة‬
‫«�أفغ��ر النجم»‪ .‬وفي هذه الحال يجب �أن نكون مع «قربوا»‪� .‬أي �أن النجم طلع‬
‫لهم �أو اقتربوا من طلوعه‪ .‬ويكون الحديث هنا عن الطلوع الربيعي �أو الخريفي‬
‫لنج��م الثريا‪ .‬لكن من المحتم��ل �أن يكون ما قاله الخليل مالئما هنا‪� .‬أي توقع �أي‬
‫« َت َو َّق َع ُه الناظرون �إليه»‪ .‬غير �أننا نرى �أن هذا احتمال لي�س كبيرا‪.‬‬

‫كم��ا يمك��ن �أن يكون الكالئ��ون هنا بمعن��ى طالبي ال��كلأ‪� ،‬أي الع�ش��ب‪ ،‬ولي�س‬
‫الراقبي��ن‪ .‬وف��ي هذه الح��ال‪ ،‬فربما تكون �شب��ه جملة «هب ل��ه» بمعنى غاب‪.‬‬
‫يق��ال‪�« :‬أين‪ ‬هببت عنا؟‪ ‬بالك�س��ر‪� :‬أي غبت عنا؟» (القامو���س المحيط)‪ .‬ي�ضيف‬
‫الل�س��ان‪« :‬و�أين‪ ‬هببت‪ ‬عنا؟ �ضبطه في التكملة‪ ،‬بك�س��ر العين‪� :...‬أي �أين غـبت‬
‫عنا؟» (ل�سان العرب)‪ .‬عليه‪ ،‬فالبيت يقول‪ :‬حتى �إذا غاب حر ال�صيف وانتهى‪،‬‬
‫و�أمط��رت الثريا الكالئي��ن‪� ،‬أو لم تمطرهم فكرب��وا‪� ،‬أي �أ�صابهم الكرب‪ .‬وهذا‬
‫يع��ي �أن �أفغر هنا بمعنى‪� :‬أمطر‪ .‬بالتالي تكون جملة «�أفغر النجم» بمعنى «�أمطر‬
‫النج��م»‪ ،‬ويك��ون الحديث هنا عن طل��وع الثري��ا الخريفي‪� ،‬أي ع��ن �سقوطها‬
‫وغورانه��ا الذي يجلب المطر‪ .‬وفي حال �أنهم ل��م يمطروا ف�سوف يكون عامهم‬
‫قحط��ا وكربا‪ ،‬ويك��ون ما�ؤه قليال‪ .‬ذل��ك �أن مطر الثريا هو ال��ذي يحدد و�ضع‬
‫المياه الجوفية‪ .‬فعدم نزوله يهدد ب�أن ماء العيون والآبار الجوفية لن يكون كافيا‬
‫(هب له)‪.‬‬
‫(هب به) ال ّ‬‫ومتوفرا‪ .‬لكن في هذه الحال يجب �أن نكون ّ‬

‫‪92‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الثريا وحفر الآبار‬

‫وثم��ة نجوم تدع��ى «نجوم الأخذ» يب��دو �أي�ضا �أن لها عالقة بالثري��ا �أي�ضا‪ .‬وقد‬
‫دار ج��دل بين اللغويين حول هذه النجوم‪« :‬قال �أبو عبيدة‪ :‬نجوم الأخذ‪ :‬منازل‬
‫القم��ر؛ �سميت‪ ‬نج��وم الأخذ‪ ،‬لأخذه [�أي لوقوعه] كل ليل��ة في منزل‪ .‬وقال �أبو‬
‫عم��رو ال�شيباني‪ :‬الأخذ‪ :‬نزول القمر منازل��ه‪ ،‬يقال‪� :‬أخذ القمر نجم كذا �إذا نزل‬
‫ب��ه» (المرزوقي‪ ،‬الأزمن��ة والأمكنة)‪ .‬وهذا غير معق��ول �إذا عدنا لبيت ال�شعر‬
‫الذي يقول‪:‬‬

‫�أن�ض�� َة مح��لٍ لي�س قاطره��ا يثري‬ ‫و� ْأخ َو ْت‪ ‬نج��وم الأخ��ذ‪� ‬إال �أنـ�ض��ةً‬

‫فالبي��ت يتحدث عن �إِخواء نجوم الأخذ‪� ،‬أي عن �إخالفها لمطرها‪« :‬خوى النوء‪،‬‬
‫وخ��وت النجوم‪ :‬خلت م��ن المطر و�أخلف��ت» (الزمخ�شري‪� ،‬أ�سا���س البالغة)‪.‬‬
‫ي�ضي��ف الجيم‪�« :‬أخوى‪ ‬النج��م‪� ،‬إذا ذهب ولي�س فيه مط��ر» (ال�شيباني‪ ،‬الجيم)‪.‬‬
‫علي��ه‪ ،‬فالبيت يقول‪ :‬لقد �أخلفت نجوم الأخذ وعدها بالمطر‪ ،‬فلم تمطر �إال �أن�ضة‪،‬‬
‫ال قليالً»‬ ‫«ن�ض الماء َي ِن ُّ‬
‫�ض َن�ضي�ضا‪� :‬سال قلي ً‬ ‫َّ‬ ‫�أي �إال القليل الذي بالكاد يبل الأر�ض‪:‬‬
‫(الجوهري‪ ،‬ال�صح��اح)‪� .‬إذا‪ ،‬فمن الم�ستحيل �أن يك��ون ال�شاعر قد ق�صد النجوم‬
‫الت��ي يدخلها القمر في منازله الثمانية والع�شري��ن‪ .‬فجزء كبير من هذه النجوم ال‬
‫عالقة له بالمطر �أ�صال‪ .‬لذلك يجب �أن تكون نجوم الأخذ نجوم نوء ممطر‪.‬‬

‫وقي��ل �أن نج��وم الأخذ هي ال�شهب الت��ي ت�ضرب ال�شياطين الت��ي ت�سترق ال�سمع‬
‫لتع��رف ما ي��دور في ال�سم��اء‪ ،‬والت��ي ورد ذكرها ف��ي الق��ر�آن‪« :‬قيل‪ :‬نجوم‬
‫الأخذ‪ :‬الني��ازك‪ ،‬وه��ي الت��ي ُرمي بها م�ست��رق ال�سم��ع لأنها ت�أخ��ذه» (ل�سان‬
‫الع��رب)‪ .‬لكن هذه النيازك وال�شهب ال عالقة لها بالمطر‪ ،‬لذا ال يمكن �أن تكون‬
‫ه��ي المق�صودة‪ .‬عليه‪ ،‬نقت��رح هنا �أن نجوم الأخذ هي نج��وم المطر الو�سمي‪،‬‬
‫وعلى ر�أ�سه��ا نجوم الثريا ال�سبعة‪ .‬بل لعل المق�صود ه��و نجوم الثريا على وجه‬
‫الخ�صو���ص‪ .‬و�إخ��واء الثريا‪� ،‬أي عدم نزول المطر فيه��ا‪ ،‬هو �أمر خطر جدا‪.‬‬
‫فهو يعني �أن ال�سنة �سنة جدب قا�س‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�إذا �صح هذا‪ ،‬ف�إن الأكثر احتماال �أننا مع نجوم الإ ِْخذ‪ ،‬بك�سر الهمزة‪ ،‬ال مع نجوم‬
‫ِ‬
‫كهيئة الحو�ض‬ ‫الأَخ��ذ بفتحها‪� .‬أي �أننا مع الآبار والحفائ��ر‪« :‬والأَِ ْخذُ‪ :‬ما َح َف ْر َت‬
‫الماء َ�أيام ًا ‪.‬والإ ِْخذُ‪ ‬والإ ِْخذ َُة‪ :‬ما حفرته كهيئة‬
‫َ‬ ‫لنف�سك‪ ،‬والجمع‪ ‬الأُِ ْخ ُ‬
‫ذان‪ ،‬تم�سك‬
‫الحو���ض‪ ،‬والجمع‪� ‬أُ ْخذٌ‪ ‬و�إِخ��اذ» (ل�س��ان العرب)‪ .‬وهذا يعن��ي �أن نجوم الأخذ‬
‫ه��ي النجوم المرتبطة بحفر الآب��ار والأحوا�ض‪ .‬وقد ر�أينا �أعاله كيف �أن الثريا‬
‫مرتبط��ة بحفر الآبار‪� ،‬آبار الماء ال�سفلي‪ ،‬و�أن مو�سمها هو مو�سم االحتفال حول‬
‫�آب��ار الماء‪ .‬عليه‪ ،‬ربما كان��ت الآبار‪� ،‬آبار الإخذ‪ ،‬تحفر وق��ت طلوع الثريا‪،‬‬
‫مثلها مثل بئر زمزم‪.‬‬

‫�أكث��ر من ذلك‪ ،‬ف���إن �أبيات مطرود بن كع��ب الخزاعي ال�شهي��رة في رثاء عبد‬
‫المطلب‪ ،‬ومدح بن��ي ها�شم‪ ،‬تدل على �أن بني ها�شم كانوا يطعمون‪ ،‬هم �أي�ضا‪،‬‬
‫عن��د تناوح الرياح‪� ،‬أي عند االنقالب الخريف��ي‪ ،‬وهو الوقت الذي تتم فيه لعبة‬
‫المي�سر كما �أو�ضحنا من قبل‪:‬‬

‫حتى تغي��ب ال�شم�س ف��ي الرجاف‬ ‫والمطعم��ون �إذا الري��اح تناوحت‬

‫بن��و ها�ش��م‪� ،‬إذن‪ ،‬يطعمون وقت «تناوح الرياح»‪ .‬وق��د ر�أينا من لبيد كيف �أن‬
‫زمن لعبة المي�سر هو زمن تناوح الرياح �أي�ضا‪« :‬وال برما �إذ ما الرياح تناوحت»‪.‬‬
‫ونحن نعتقد �أن �إطعام بني ها�شم الذي تحدث عنه مطرود منبثق من �إطعام طق�س‬
‫الذبيح‪� ،‬أي طق�س مطعم الطير الذي تحدثنا عنه مطوال في كتابنا ال�سابق‪.‬‬

‫بن��اء عليه‪ ،‬فهناك عدة طقو�س يبدو �أنها كانت تج��ري وقت تناوح الرياح‪� ،‬أي‬
‫وقت غوران الثريا‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪1.1‬طق�س الذبيح‪� ،‬أي طق�س «مطعم الطير»‪ ،‬وطق�س الإطعام العام منبثق منه‪.‬‬
‫‪2.2‬حفر الآبار المقد�سة مثل بئر زمزم‪.‬‬
‫‪3.3‬طق�س «جماع الثريا»‪� ،‬أي االحتفال بمطرها الو�سمي‪.‬‬
‫‪4.4‬لعبة المي�سر‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وه��ذا يعني �أن هذه الطقو�س عل��ى عالقة وطيدة في ما بينه��ا‪ .‬وهو ما ينبئ عن‬
‫الأ�صل الطق�سي للعبة المي�سر‪.‬‬

‫بين الفداء والدية‬

‫تو�صلن��ا‪� ،‬إذن‪� ،‬إلى �أن حفر زمزم‪� ،‬أو �إعادة حفره��ا‪ ،‬تم عند غوران الثريا‪.‬‬
‫فالآب��ار المقد�سة تحفر ف��ي هذا الوقت‪ .‬لذا فغورانها ه��و نقطة انطالق االحتفال‬
‫بالآبار المقد�سة‪ .‬لكن ق�صة حفر زمزم هي ذاتها ق�صة الذبيح عبد الله‪ .‬وهذا يعني‬
‫�أن طق�س الذبحاء‪ ،‬ك�إ�سماعيل وعبد الله‪ ،‬مرتبط ب�سقوط الثريا �أي�ضا‪ .‬فحفر البئر‬
‫المقد�س��ة الأولى يقت�ضى تقديم �أ�ضحية ب�شرية‪ ،‬كما بين��ا في كتابنا ال�سابق «كتاب‬
‫الحم�س والطل�س والحلة»‪ .‬والأ�ضحية الب�شرية هي التمثيل الب�شري للإله‪ ،‬كما هو‬
‫ح��ال �إ�سماعيل وعبد الله‪ .‬لكن الب�ش��ري ي�ستبدل بكب�ش �أروى‪� ،‬أي بكب�ش فداء‪،‬‬
‫كم��ا ح�صل م��ع �إ�سماعيل‪ .‬وهذا الكب�ش كان ي�ؤخذ من جب��ل ثبير‪« :‬قال الح�سن‪:‬‬
‫م��ا فدي �إ�سماعيل �إال بتي�س م��ن الأروى هبط عليه من ثبير‪ ،‬فذبحه �إبراهيم فداء‬
‫ع��ن ابنه‪ ...‬وقال �أبو �إ�سحاق الزجاج‪ :‬قد قيل �أنه فدي بوعل‪ ،‬والوعل‪ :‬التي�س‬
‫الجبل��ي» «القرطب��ي‪ ،‬تف�سير القرطبي»‪ .‬ي�ضيف الزمخ�ش��ري‪« :‬وعن الح�سن‪:‬‬
‫فدي بوعل �أهبط عليه من ثبير» (الزمخ�شري‪ ،‬الك�شاف)‪ .‬فعلى ظهر هذا الجبل‪،‬‬
‫جبل الذبح��اء‪ ،‬كان حمى حيوانات الأروى الإلهية‪« :‬والع�صم ت�أمن في ثبير»‪.‬‬
‫وكنا قد �أ�شرنا في كتبنا ال�سابقة �إلى �أنه لي�س م�صادفة �أن يكون ا�سم هذا الكب�ش على‬
‫عالقة بالماء والري‪�« :‬أروى»‪.‬‬

‫وقد كان من المفتر�ض �أن يفدى عبد الله بكب�ش �أروى �أي�ضا‪ ،‬و�أن ي�أتي هذا الكب�ش‬
‫من جبل ثبير‪ .‬لكن الذي ح�صل �أن عبد الله فدي بمائة جمل‪ ،‬ال بتي�س �أروى‪:‬‬

‫«و�سم��ي [عب��د المطلب] مطعم طي��ر ال�سماء؛ لأن��ه حين �أخذ ف��ي حفر زمزم‪-‬‬
‫وكان��ت قد اندفنت‪-‬جعلت قري�ش تهز�أ ب��ه‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم �إن �سقيت الحجيج ذبحت‬
‫ل��ك بع�ض ولدي؛ ف�أ�سقى الحجيج منه��ا؛ ف�أقرع بين ولده‪ ،‬فخرجت القرعة على‬
‫ابنه عبد الله‪ .‬فقالت �أخواله بنو مخزوم‪� :‬أر�ض ربك وافد ابنك‪ ،‬فجاء بع�شر من‬

‫‪95‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الإب��ل فخرجت القرعة عل��ى ابنه‪ ،‬فلم يزل يزيد ع�شرا ع�ش��را‪ ،‬وكانت القرعة‬
‫تخ��رج على ابنه‪� ،‬إل��ى �أن بلغها المائ��ة فخرجت على الإب��ل‪ ،‬فنحرها بمكة في‬
‫ر�ؤو���س الجبال؛ ف�سمي‪ ‬مطعم الطير‪ ،‬وجرت ال�سنة ف��ي الدية بمائة من الإبل»‬
‫(الزمخ�شري‪ ،‬الفائق)‪.‬‬

‫فلماذا اختلف حيوان الفداء بين �إ�سماعيل وعبد الله؟‬

‫الحقيق��ة �أن الجملة الأخيرة من مقتب�س الزمخ�شري قد تعطينا الجواب‪« :‬وجرت‬


‫ال�سنة في الدية بمائة من الإبل»‪ .‬فالحديث هنا يجري عن دية‪ .‬وهذا �أمر غريب‪.‬‬
‫فلكي تكون هناك دية‪ ،‬يجب �أن يكون هناك قتيل ما‪ .‬ف�أين هو القتيل؟ فعبد الله لم‬
‫ُيقت��ل‪ .‬كان يفتر�ض �أن ينحر لكنه نجا‪ ،‬وفدي‪ .‬بالتالي‪ ،‬ي�صح الت�سا�ؤل‪ :‬دية من‬
‫كانت الإبل‪� ،‬إذن؟ ال بد �أن يكون هناك قتيل كي تكون الإبل ديته‪.‬‬

‫وف��ي الم�شه��د الذي نحن فيه لي���س �أمامن��ا �إال �أن نفتر�ض �أن الكب���ش‪� ،‬أي تي�س‬
‫الأروى‪ ،‬ه��و القتي��ل‪ .‬فمقارنة بق�صة �إ�سماعيل يجب �أن يك��ون عبد الله قد فدي‬
‫بتي���س �أروى‪ .‬والإب��ل المائ��ة هي دية ه��ذا التي�س‪ .‬نع��م دية ه��ذا التي�س‪ .‬فهو‬
‫لي���س تي�س��ا عاديا‪ ،‬بل تي�س �إله��ي‪� .‬إنه تج�سي��د للإله ذات��ه‪ .‬فحيوانات الأروى‬
‫ه��ي حيوانات الإله‪ .‬ل��ذا كان لهذه الحيوانات حمى في جب��ل ثبير‪ .‬وقد ا�ستبدل‬
‫�إ�سماعيل بتي�س من حيوانات الأروى هذه‪ .‬وهذا يعني �أن التي�س مثيل �إ�سماعيل‪.‬‬
‫لقد ذبح �إ�سماعيل رمزيا عبر الكب�ش‪ .‬وكذا يجب �أن يكون الأمر مع عبد الله في‬
‫ما نفتر�ض‪� .‬أي يجب �أن يكون قد ذبح تي�س �أروى فداء له‪ .‬لكن الكب�ش لم يظهر‬
‫عل��ى خ�شبة الم�سرح في ق�صة عبد الله في حين ظهر في ق�صة �إ�سماعيل‪ .‬غير �أننا‬
‫كدية له‪ .‬لم تكن الإبل‬
‫ن�ستطي��ع �أن نتكهن بوجوده من خالل الإبل الت��ي نحرت ّ‬
‫ف��داء لعبد الل��ه في الواقع‪ ،‬بل كانت دية لكب�ش الف��داء‪ ،‬كب�ش الأروى‪ ،‬الذي لم‬
‫يظه��ر ل�سبب ال نعرفه جيدا‪ .‬لقد نحر الكب���ش فعليا‪ ،‬فدفعت ديته مائة من الإبل‪.‬‬
‫من �أجل هذا �صارت هذه الحادثة �أ�صل الدية عند النا�س‪.‬‬

‫هذا هو‪� ،‬إذن‪� ،‬أ�صل اختالف فداء �إ�سماعيل عن فداء عبد الله‪ .‬ثمة كب�ش خفي في‬
‫فداء عبد الله‪ .‬وثمة �إب��ل خفية في فداء �إ�سماعيل‪ .‬وبجمعهما معا ن�صل �إلى الخط‬

‫‪96‬‬
‫زكريا محمد‬

‫كدية‪ ،‬كما قلنا في كتابنا ال�سابق‪:‬‬


‫التالي‪ :‬ذبيح ب�شري‪ -‬كب�ش فداء‪� -‬إبل تعمل ّ‬
‫«لك��ن ف��داء عبد الل��ه بتي���س �أروى يقت�ضي �صيده م��ن جبل ثبي��ر‪ ،‬حيث حمى‬
‫حيوان��ات الإله‪ .‬له��ذا كان ي�سمح للحلة بال�صي��د في �أحد الأ�شه��ر الحرم‪� ،‬شهر‬
‫رجب ربيعة‪� ،‬أي ال�شهر الأول من �شهور الحج‪ .‬فقد كانوا بحاجة �إلى �صيد تي�س‬
‫الأروى لتقدي��م كب�ش الف��داء في هذا ال�شهر‪ .‬لكن الأروى م��ن ناحية ثانية رمز‬
‫�إلهه��م ال�صي��اد وحيوانه‪� .‬إذن‪ ،‬فقد كان��وا في الواقع يقتلون �إلهه��م �أو ابن �إلههم‬
‫كفدي��ة‪ ،‬كما هو الحال م��ع �إ�سماعيل‪ .‬ومن �أجل ذلك‪ ،‬من �أج��ل فعلتهم ال�شنيعة‬
‫هذه‪ ،‬وهي فعلة دينية‪ ،‬فقد كان على عبد المطلب �أن يدفع دية تي�س الأروى مائة‬
‫م��ن الإبل‪« :‬وكانت القرعة تخرج عل��ى ابنه‪� ،‬إلى �أن بلغها المائة فخرجت على‬
‫الإب��ل‪ ،‬فنحرها بمكة في ر�ؤو�س الجبال؛ ف�سمي مطعم الطير»‪� ...‬أي �أننا انتقلنا‬
‫م��ن �أ�ضحية �إل��ى �أ�ضحية هكذا‪ :‬عبد الله‪ -‬تي���س الأروى‪ -‬الإبل» (محمد‪ ،‬ديانة‬
‫مكة في الجاهلية‪ :‬كتاب الحم�س والطل�س والحلة‪� ،2012 ،‬ص ‪.)144‬‬

‫قلن��ا �أنن��ا ال ندري لم غاب كب���ش الأروى عن خ�شبة الم�سرح ف��ي ق�صة عبد الله‬
‫الذبيح‪ .‬لكننا ربما عثرنا عليه‪ ،‬ب�شكل ما‪ ،‬في ق�صة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه‪.‬‬
‫وهي الق�صة التي �سوف نذهب �إليها بعد �أن ننهي هذا الف�صل‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬علينا �أن نتذكر �أن عبد المطلب كان لقب بمطعم الطير ب�سب حادثة الإبل‬
‫�أع�لاه‪ ،‬و�أن هناك �صنما كان من�صوبا على الم��روة ي�سمى‪ :‬مطعم الطير‪ .‬وهذا‬
‫يعن��ي �أن عبد المطلب كان كاهنا لهذا ال�صنم الإله‪ .‬كما يعني �أن طق�س الذبيح هو‬
‫طق�س هذا الإله‪� ،‬أو طق�س �إله هذا ال�صنم‪.‬‬

‫بئر �سبع وبئر زمزم‬

‫وف��ي كتابنا ال�سابق اقترحنا �أن ق�صة �إبراهيم مع «بئر �سبع» التوراتية عديل لق�صة‬
‫«بئ��ر زمزم»‪� .‬أي �أن «بئ��ر �سبع» مثيلة «بئر زمزم»‪ .‬وقلن��ا وقتها‪« :‬نظن �أن‬
‫نظرة واحدة تكفي كي يتبين ال�شبه بين ق�صة «بئر �سبع» وق�صة «بئر زمزم»‪ .‬فقد‬
‫دفع �إبراهيم «غنم��ا وبقرا» لأبيمالك نظير حفر البئر وا�ستخدام مائها‪� .‬أما النعاج‬

‫‪97‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ال�سبع��ة التي �أفرزها �إبراهيم لأبيمالك‪ ،‬فهي رم��ز نجوم الثريا ال�سبعة التي يكون‬
‫غورانها هو بدء «عودة» الماء ال�سفلي من رحلة في�ضه �إلى ال�سطح» (محمد‪ ،‬ديانة‬
‫مك��ة في الجاهلية‪ :‬كتاب الحم�س والطل�س والحل��ة‪� ،2012 ،‬ص ‪ .)146‬وقد قلنا‬
‫وقته��ا هذا م��ن دون �أن نربطه بلعبة المي�سر‪ .‬بناء علي��ه‪ ،‬يمكن افترا�ض �أن ا�سم‬
‫«بئر �سبع» ي�شير �إل��ى ارتباط البئر الأولى دوما بالرقم �سبعة‪ .‬فهناك دوما بئر‪،‬‬
‫وهناك رقم �سبعة‪ .‬وهو ما يدعم ربط حفر هذه البئر‪� ،‬سواء �سميت بئر �سبع �أو بئر‬
‫زم��زم‪ ،‬بظهور الثريا ذات الأنجم ال�سبعة و�أي��ام نوئها ال�سبعة‪ .‬فظهور الثريا ال‬
‫ي�شير �إلى بدء المطر الو�سمي فقط‪ ،‬بل ي�شير �إلى حفر الآبار الجوفية المقد�سة‪� ،‬أو‬
‫�إعادة حفرها‪ .‬فعند ظهور الثريا يعود الماء ال�سفلي من رحلته ال�سطحية ال�صيفية‪،‬‬
‫ليتجمع من جديد في مكامنه ال�سفلية‪ ،‬وب�شكل يبدو فيه وك�أن المطر الأول‪ ،‬المطر‬
‫العل��وي‪ ،‬مطر ن��وء الثريا‪ ،‬هو من كبت��ه ودفعه �إلى العودة م��ن رحلته‪� .‬إذن‪،‬‬
‫فالمطر الو�سمي لي�س مطرا عاديا‪� .‬إنه مرتبط بحركة الماء الجوفي‪.‬‬

‫في لحظة غوران الثريا‪� ،‬إذن‪ ،‬تحفر البئر الأولى‪ ،‬مثيلة بئر زمزم وبئر �سبع‪.‬‬
‫وفي ه��ذا التوقيت تح��دث االحتفاالت ال�سنوية ح��ول �آبار المي��اه الجوفية‪� .‬إنها‬
‫احتفاالت �سحب الماء الجوفي‪ ،‬و�سقي الحجيج منه في الحج الخريفي‪ -‬ال�شتوي‪.‬‬
‫وفي هذا التوقيت تجري �أي�ضا لعبة المي�سر المقد�سة‪ .‬وهذا يعني �أنها لعبة مقد�سة‪،‬‬
‫ب�شكل ما‪ ،‬في الأ�صل‪.‬‬

‫الربابة من جديد‬

‫انطالق��ا من م��ا �سبق‪ ،‬ربم��ا كان علينا �أن نع��ود �إلى ربابة المي�س��ر من جديد‪.‬‬
‫فاال�سم «ربابة» يعني في اللغة �أي�ضا العهود والمواثيق‪« :‬الرِ بابة‪ ‬والرِ باب‪ :‬العهد‬
‫والميث��اق‪ ...‬ومنه قيل للع�شور‪ِ :‬رباب» (ل�س��ان العرب)‪ .‬ي�ضيف ابن فار�س‪:‬‬
‫وهو‪ ‬العهد‪ .‬يق��ال‪ :‬للمعاه ِدين �أرِ ّب��ةٌ » (ابن فار�س‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الربابة‪،‬‬
‫«وم��ن هذا الب��اب ِّ‬
‫مقايي���س اللغة)‪ .‬وهذا �سيعيدنا �أي�ض��ا �إلى �إبراهيم و�أبيمالك وبئ��ر �سبع‪ .‬فبعد �أن‬
‫واف��ق �أبيمالك عل��ى ال�سماح لإبراهيم بحفر البئر ق��دم الأخير له مقابل ذلك غنما‬
‫وبقرا‪ ،‬وقطعا ميثاقا بينهما‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫زكريا محمد‬

‫«ف�أخ��ذ �إبراهيم غنما وبقرا و�أعطى �أبيمالك‪ ،‬فقطعا كالهما ميثاقا‪ .‬و�أقام �إبراهيم‬
‫�سبع نعاج من الغنم وحدها‪ .‬فقال �أبيمالك لإبراهيم‪ :‬ما هي هذه ال�سبع النعاج التي‬
‫�أقمته��ا وحدها‪ .‬فقال‪� :‬إنك �سبع نعاج ت�أخذ من ي��دي‪ ،‬لكي تكون لي �شهادة ب�أني‬
‫حفرت هذه البئر‪ .‬لذلك دع��ا ذلك المو�ضع بئر �سبع‪ ،‬لأنهما هناك حلفا كالهما‪.‬‬
‫فقطعا ميثاقا في بئر �سبع‪ ،‬ثم قام �أبيمالك وفيكول رئي�س جي�شه ورجعا �إلى �أر�ض‬
‫الفل�سطينيين» ( الكتاب المقد�س‪ ،‬تكوين ‪.)32-28 :21‬‬

‫�إذن‪ ،‬فالنع��اج ال�سبع كانت «�شهادة» عل��ى �أن �إبراهيم حفر البئر ب�شكل �شرعي‪.‬‬
‫�إنه��ا في الواقع الثمن ال��ذي دفعه �إبراهيم كي يكون له ح��ق ا�ستخدام البئر‪� .‬إنها‬
‫ثمن وميث��اق في الوقت عينه‪ .‬وكما نرى من الن�ص ف�إن الميثاق مرتبط بالنعاج‬
‫ال�سبع‪� .‬أي �أن النعاج ال�سبع هي‪ ،‬في الواقع‪ ،‬الميثاق �أو رمزه‪ .‬وت�سمى الأغنام‬
‫ف��ي العربية ُرب��اب‪ ،‬بال�ضم‪ .‬يق��ول �أبو الع�لاء‪ :‬و�إنما مقات��ل الفر�سان عندي‪/‬‬
‫الرباب‪ .‬وهذا �أي�ضا ما يفتح بابا للربط مع نعاج �أبيمالك ال�سبع‬
‫م�صارع تلكم الغنم ُّ‬
‫التي كانت ميثاقا‪ .‬وهذا يعني �أن الأغنام كانت رمزا للعهد والميثاق‪.‬‬

‫بن��اء علي��ه‪� ،‬أال يدفعنا هذا �إل��ى الت�سا�ؤل عن �س��ر ت�سمية ال�سهام ال�سبع��ة ‪� -‬إذا ما‬
‫�أغفلن��ا القداح التي ال تدخل المقامرة‪ -‬با�س��م الربابة؟ ثم �أال يمكن لكلمة ربابة �أن‬
‫تعني العه��د والميثاق؟ ثمة نعاج �سبع تمثل عهدا وميثاقا‪� ،‬أي ربابة‪ .‬وثمة �سهام‬
‫�سبع��ة ت�سمى ربابة‪ .‬عليه‪ ،‬فالرقم �سبعة هنا رقم الميثاق والعهد‪ .‬بذلك‪ ،‬ال بد �أن‬
‫ينفت��ح الباب �أمام افترا�ض �أن ا�سم «الربابة» ف��ي المي�سر ربما عنى في الأ�صل‪:‬‬
‫الميث��اق والعهد‪ ،‬م��ع اال�شتمال على معن��ى الثمن‪ .‬ومن هنا �سمي��ت الع�شور‪،‬‬
‫�أي ال�ضرائ��ب‪� ،‬أي�ضا ربابا‪« :‬ومنه قيل للع�ش��ور‪ِ :‬رباب»‪ .‬فالرباب هي النعاج‬
‫الع�شر‪� ،‬أي ال�ضريبة‪ ،‬التي دفعت من �أجل الح�صول‬ ‫ال�سب��ع‪ ،‬والنعاج ال�سبع هي ُ‬
‫على الماء من عين بئر �سبع‪� ،‬أو زمزم‪.‬‬

‫وم��ن هنا‪ ،‬من �أجل هذا‪ ،‬يو�صف �آلهة الماء ال�سفل��ي‪ ،‬مثل �سهيل اليماني‪ ،‬ب�أنهم‬
‫ع�ش��ارون‪� ،‬أي جامعو �ضريبة الع�ش��ر‪ .‬يقول الجاحظ‪ :‬وقلت��م‪« :‬في‪� ‬سهيل‪� ‬أنه‬
‫كان‪ ‬ع�شار ًا باليمن» (الجاحظ‪ ،‬الحيوان)‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪99‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ال‪ ‬قال‪ :‬لعن‬
‫ي�ضي��ف النويري‪« :‬كان النبي �صلى الله عليه و�سلم �إذا ر�أى‪� ‬سهي ً‬
‫ال‪� ‬إنه كان‪ ‬ع�شاراً‪ ‬باليمن» (النويري‪ ،‬نهاية الأرب)‪ .‬فهم يح�صلون‬ ‫الله‪� ‬سهي ً‬
‫عل��ى ثم��ن الماء ال�سفل��ي‪ ،‬ماء العي��ون‪ ،‬ممن يري��دون ا�ستخدام��ه‪ .‬فالماء‬
‫ما�ؤه��م‪ ،‬ولهم حق قب�ض ثمنه‪ .‬ح�صلوا عليه من �إبراهيم‪ ،‬وح�صلوا عليه من‬
‫عبد المطلب‪.‬‬

‫�أكث��ر من ذلك ف�إن تعبير‪ :‬قط��ع ميثاقا في ق�صة �أبيمال��ك‪« :‬فقطعا كالهما ميثاقا»‬
‫ربم��ا �أخذ �أ�صله من تقطيع الج��زور‪� .‬إذ لماذا يقطع العهد قطعا‪ ،‬ما لم تكن هناك‬
‫عملي��ة تقطيع؟ و�سوف يت�ضح لنا هذا الأم��ر عند الحديث عن �سرقة غزال الكعبة‬
‫وتقطيعه‪.‬‬

‫الرقم ‪ 7‬ونجم الثريا‬

‫�إذن‪ ،‬فلي���س �صدف��ة �أن يكون اليا�س��رون في المي�سر �سبع��ة‪ ،‬و�أن تكون ال�سهام‬
‫القامرة �سبعة‪ ،‬و�أن تكون �أجزاء الجزور التي يقامر عليها �سبعة‪ .‬فكل هذا مرتبط‬
‫بالثريا ذات الأنجم ال�سبعة‪ .‬فهل تكون القداح ال�سبعة والمتيا�سرون ال�سبعة تمثيال‬
‫لنجوم الثريا ال�سبعة؟‬

‫نعتق��د �أن هذا ممك��ن‪ .‬و�إذا �صح فهو دلي��ل �آخر قوي على ارتب��اط لعبة المي�سر‬
‫ب�سق��وط الثريا‪� ،‬أي باالعتدال الخريفي‪ ،‬وقت تناوح الرياح‪ .‬وفي هذه الحال‪،‬‬
‫يك��ون المعنى �أن ج��زور المي�سر يذبح وقت �سقوط الثري��ا ذات الأنجم ال�سبعة‪.‬‬
‫علي��ه‪ ،‬ومن طرف خف��ي‪ ،‬ف�إن المتقامري��ن ال�سبعة يمثلون‪ ،‬ب�ش��كل ما‪ ،‬نجوم‬
‫الثري��ا‪ .‬فظهور نج��وم الثريا ي�ؤدي �إلى نحر الج��زور وتقطيعها‪ .‬والمقامرون‬
‫ال�سبعة يقطعون لحم الجزور ويتراهنون عليه‪.‬‬

‫لكن هناك �شيء �آخر يتعلق بالثريا والرقم ‪ .7‬ف�أيام نوئها‪ ،‬التي ي�سقط فيها مطرها‬
‫ع��ادة‪ ،‬هي �سبعة �أيام‪� .‬صحيح �أن هناك من يق��ول �أنها خم�سة �أيام‪ ،‬لكن الغالبية‬
‫عل��ى �أنها �سبع��ة‪« :‬الثريا‪ :‬نو�ؤها خم�س لي��ال‪ ،‬وقيل �سب��ع» (التيفا�شي‪� ،‬سرور‬
‫النف�س)‪ .‬وفي الحديث ال�شهير عن عمر �أنها �سبعة‪« :‬ومن هذا الباب قول عمر بن‬

‫‪100‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الخط��اب للعبا�س بن عبد المطلب حين ا�ست�سقى به‪ :‬يا عم ر�سول الله‪ ...‬كم بقي‬
‫من‪ ‬نوء‪ ‬الثري��ا؟ فقال العبا�س‪ :‬العلماء يزعم��ون �أنها تعتر�ض في الأفق �سبعا بعد‬
‫�سقوطها‪ .‬فما م�ضت �سابعة حتى ُمط��روا‪ ...‬قد علم [عمر] �أن‪ ‬نوء‪ ‬الثريا‪ ‬وقت‬
‫يرج��ى فيه المطر وي�ؤمل‪ ،‬ف�س�أله عنه‪� :‬أخرج [ه��ل انتهى؟] �أم بقيت منه بقية؟»‬
‫(تف�سي��ر القرطبي)‪ .‬وهكذا فق��د كان عمر قلقا من �أن ينتهي ن��وء الثريا من دون‬
‫مط��ر‪ ،‬ومط��ر الثريا بالن�سبة لهم �أم��ر �شديد الأهمية‪ .‬فهو ما يح��دد و�ضع ال�سنة‬
‫مائي��ا‪� .‬أي يحدد �إن كان الخ�صب �سيعم �أم الجدب‪ .‬ل��ذا �س�أل العبا�س �إن كان قد‬
‫ف�ضل وقت من ن��وء الثريا �أم انه انتهى؟ ف�أخبره العبا�س �أنه بقي �شيء منها‪ ،‬فلما‬
‫حل اليوم ال�سابع من �أيام نوئها �أمطرت‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬يمكن ل�سبعة �أيام نوء الثري��ا �أي�ضا �أن تكون على عالق��ة بالرقم �سبعة في‬
‫لعب��ة المي�سر‪ .‬فكل يوم من هذه الأي��ام يمثله �سهم من �سهام المي�سر و�صاحب هذا‬
‫ال�سه��م من المتيا�سرين‪ .‬فه�ؤالء هم الذين ينتهبون الجزور «الأ�ضحية»‪ .‬بالطبع‬
‫يمكن �أن يكون كل يوم من هذه الأيام ممثال بنجم من نجوم الثريا‪ .‬ومن المحتمل‬
‫�أن وق��ت لعبة المي�سر يغط��ي هذه الأيام ال�سبعة‪� .‬أي �أنها تلعب في �أيام نوء الثريا‬
‫ال�سبعة فقط‪.‬‬

‫كواكب يو�سف الأحد ع�شر‬

‫�إذا كان الرق��م ‪ 7‬هو رق��م نجوم الثريا‪ ،‬ف�إن لدينا حديثا نبوي��ا يقول لنا �أن نجوم‬
‫الثريا �أحد ع�شر نجما ال �سبعة‪« :‬وفي «ال�شفا» للقا�ضي عيا�ض‪� :‬أن النبي �صلى الله‬
‫علي��ه و�سلم كان يرى في الثريا �أحد ع�شر نجم��ا» «تف�سير القرطبي»‪ .‬لكن هناك‬
‫من يقول لنا �أن الر�سول كان يرى فيها اثني ع�شر كوكبا ال �أحد ع�شر كوكبا‪ :‬كان‬
‫«ي��رى في الثريا �أحد ع�ش��ر نجما ذكره القا�ضي والقرطب��ي‪ .‬وذكر ال�سهيلي �أنه‬
‫كان يرى اثني ع�شر نجما» (ال�شامي‪� ،‬سبل الهدى والر�شاد)‪.‬‬

‫ولو كان تعلق الأمر باثني ع�شر لكان �سهال علينا �أن هذا الرقم يمثل �أ�شهر ال�سنة‪.‬‬
‫فبين طلوع الثريا في الغدية وطلوعها الثاني فيها ‪ 365‬يوما‪� ،‬أي ‪� 12‬شهرا‪« :‬قال‬

‫‪101‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ابن الأعرابي بين طلوع‪ ‬الثريا‪ ‬مع الفجر وبين عوده �إلى مثله ثالث مائة وخم�سة‬
‫و�ست��ون يوما وربع يوم» (المرزوق��ي‪ ،‬الأزمنة والأمكن��ة)‪ .‬ومن المحتمل‪،‬‬
‫ب�سب��ب هذا �أن الثريا كانت ت�ستخدم للتوقيت ال�شم�سي الدقيق‪ .‬فال�سنة ال�شم�سية كما‬
‫نعرفه��ا الآن هي ‪ 365‬ي��وم وربع‪ ،‬مع زيادة بع�ض الدقائ��ق والثواني‪ .‬عليه‪،‬‬
‫فه��ي ت�صلح �أن تكون بديال لل�شعرى‪ ،‬الت��ي كان التوقيت ال�شم�سي ي�ستند �إليها منذ‬
‫الم�صريي��ن‪ .‬وقد ا�ستخدمه��ا الم�صريون لأن طلوعها ف��ي حزيران‪ ،‬بعد غياب‬
‫�شهور‪ ،‬يبد�أ تقريبا مع االنقالب ال�صيفي م�ؤذنا بزيادة النيل وفي�ضانه‪ .‬وال�شعرى‬
‫ه��ي �إيزي�س‪ .‬لذلك تختلط الثريا بال�شعرى �أحيانا‪ .‬يق��ول عمر بن �أبي ربيعة في‬
‫�أبيات �شهيرة له‪:‬‬

‫عم��رك الل��ه كي��ف يلتقي��ان؟‬ ‫�أيه��ا المنك��ح الثري��ا �سهي�لا‬


‫و�سهي��ل �إذا ا�ستق��ل يمان��ي‬ ‫ه��ي �شامي��ة �إذا م��ا ا�ستقل��ت‬

‫وهناك تف�سيرات عديدة للبيتين‪ .‬لكنن��ا نعتقد �أنه يتحدث عن ال�شعرى والثريا‬
‫ال�سماويتين‪ .‬وهو ي�ستغرب افترا�ض زواج بينهما و�إحداهما مائلة لل�شمال في‬
‫برج الثور‪ ،‬والأخرى جنوبية في برج الجوزاء‪ .‬كما �أن ال�شعرى هي قرينة‬
‫�سهي��ل ال الثري��ا‪ .‬غير �أن لفكرة ال��زواج بين �سهيل والثري��ا �أ�صل ما في ما‬
‫يبدو‪ .‬فهي في طلوعها ال�صيفي تبدو م�ساوية لل�شعرى‪ ،‬وقادرة على الحلول‬
‫محلها‪� .‬أما في طلوعها الخريفي فو�ضعها محير‪ .‬فهي تبدو �أحيانا وك�أنها تمثل‬
‫�آخر �أيام الفي�ض‪� ،‬أي تتبع ال�صيف‪ ،‬وفي �أحيان �أخرى تبدو كما لو �أنها �أول‬
‫�أيام الالفي�ض‪.‬‬

‫ف��ي كل حال‪ ،‬نعود للرقم ‪ 11‬الذي كان الر�س��ول يراه في نجوم الثريا‪ .‬فمن‬
‫الوا�ض��ح لنا هذا يرتبط بما جاء في �سورة يو�سف‪�« :‬إني ر�أيت �أحد ع�شر كوكبا‬
‫وال�شم���س والقمر ر�أيتهم ل��ي �ساجدين» (�سورة يو�س��ف‪ .)4 :‬وقد اختلف في‬
‫ه��ذه الكواكب‪ .‬لكن الغالبية على �أنها �إخوة يو�س��ف‪« :‬قال ابن عبا�س وقتادة‪:‬‬
‫الكواك��ب �إخوته‪ ،‬وال�شم���س �أمه‪ ،‬والقمر �أب��وه‪ .‬وقال قتادة �أي�ض��ا‪ :‬ال�شم�س‬
‫خالت��ه‪ ،‬لأن �أمه كانت قد ماتت‪ ،‬وكان��ت خالته تحت �أبيه» (القرطبي‪ ،‬تف�سير‬

‫‪102‬‬
‫زكريا محمد‬

‫القرطبي)‪ .‬و�إخوة يو�سف مثل �إخوة عبد الله الذبيح مع اختالف ب�سيط‪ .‬ف�إخوة‬
‫عب��د الله ت�سع��ة كان هو عا�شرهم‪ .‬والعا�ش��ر هو الذبيح دوم��ا‪� .‬أي �أنه ال�شهر‬
‫العا�شر‪� ،‬شهر طق���س الذبيح ومطعم الطير‪ ،‬حيث يذبح االبن العا�شر رمزيا‪،‬‬
‫وي�ستبدل بكب�ش فداء‪ .‬ونحن نفتر���ض �أن يو�سف كان العا�شر �أي�ضا‪ .‬لكن العد‬
‫�أكمل ال�شهري��ن اللذين ي�أتيان بعده‪� .‬إذن‪ ،‬ف�إخوته �أحد ع�شر ال ت�سعة‪ .‬مع عبد‬
‫الله توقف العد عند العا�شر فقط‪ .‬بالتالي‪ ،‬فيو�سف �أي�ضا ذبيح من حيث المبد�أ‪.‬‬
‫لهذا �أثارت ر�ؤية يو�سف للكواكب الخوف في قلب يعقوب والده‪« :‬قال يا بني‬
‫ال تق�ص���ص ر�ؤياك على �إخوت��ك فيكيدوا لك كيدا �إن ال�شيط��ان للإن�سان عدو‬
‫مبين» (�سورة يو�سف‪.)5 :‬‬

‫ويمك��ن للمرء �أن يقت��رح �أن يو�سف ر�أى الثريا في منام��ه‪ .‬ور�ؤيته للثريا نذير‬
‫بالذبح والموت‪� ،‬أي بطق�س الذبيح وتقطيع الجزور‪ .‬لهذا رجف قلب يعقوب من‬
‫ر�ؤي��ة ابنه لها‪ ،‬وخ�شي �أن تتحقق الر�ؤيا‪ .‬ونحن نعلم �أن الثريا مرتبطة بالموت‬
‫ف��ي كثير م��ن الثقافات‪« :‬بالن�سبة ل�شع��وب �أوروبا في الع�ص��ر البرونزي‪ ،‬ف�إن‬
‫الثري��ا �أخذت ترتب��ط بالحداد والجنازات‪ .‬وبين االعت��دال الخريفي واالنقالب‬
‫ال�شتوي‪ ،‬يطلع عنقود الثريا بعيد طلوع ال�شم�س‪ :‬وبالن�سبة لل�سلت ف�إن هذه النجوم‬
‫هي نافذة على العالم الآخر»‬
‫‪(Amelia Sparavigna, The Pleiades: the celestial herd of ancient‬‬
‫‪timekeepers‬‬
‫)‪http://arxiv.org/ftp/arxiv/papers/0810/0810.1592.pdf‬‬

‫وارتباطه��ا بالموت نابع من الطق�س الموغل في القدم‪ ،‬طق�س الذبيح‪ ،‬الذي كان‬
‫يقدم عند طلوعها الخريفي‪ .‬على كل حال‪ ،‬فلدينا دليل �أن يو�سف ذبيح من ق�صته‬
‫مع ال�سجينين‪:‬‬

‫«ودخ��ل معه ال�سجن فتيان؛ قال �أحدهما �إني �أران��ي �أع�صر خمراً‪ ،‬وقال الآخر‬
‫�إن��ي �أراني �أحمل فوق ر�أ�س��ي خبز ًا ت�أكل الطير منه‪ ،‬نبئن��ا بت�أويله �إنا نراك من‬
‫المح�سنين‪ .‬قال‪ :‬ال ي�أتيكما طعام ترزقانه �إال نب�أتكما بت�أويله قبل �أن ي�أتيكما‪ ،‬ذلكما‬

‫‪103‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫مم��ا علمني ربي‪� ،‬إني تركت ملة قوم ال ي�ؤمنون بالله‪ ،‬وهم بالآخرة كافرون»‬
‫«يو�س��ف‪ .»37 36- :‬وت�ضيف ال�سورة‪« :‬يا �صاحب��ي ال�سجن �أما �أحدكما في�سقي‬
‫رب��ه خمرا‪ ،‬و�أما الآخر في�صلب فت�أكل الطير م��ن ر�أ�سه‪ ،‬ق�ضي الأمر الذي فيه‬
‫ت�ستفتيان» (�سورة يو�سف‪.)41 :‬‬

‫�أما ال�سجين الذي ي�سقي ربه خمرا فمثيل فرعون‪ .‬و�أما ال�سجين الذي ت�أكل الطير‬
‫م��ن ر�أ�سه فهو مثيل يو�سف‪ .‬علي��ه‪ ،‬فيو�سف هو الذي �أكلت م��ن ر�أ�سه الطير‪.‬‬
‫وه��ذا يعني �أنه مثل عبد الله الذبيح‪ .‬فقد ذبح عب��د المطلب الإبل كدية لكب�ش عبد‬
‫الل��ه‪ ،‬و�أطعم منها الطير على ر�ؤو�س الجبال‪� .‬أي �أنه ذبح ابنه رمزيا‪ ،‬و�أطعمه‬
‫للطي��ر‪ .‬لذلك �سمي مطع��م الطير‪ ،‬با�سم ال�صنم ‪ -‬الإله ال��ذي كان من�صوبا على‬
‫المروة‪ .‬وهذا ال�صنم هو الخبز والقمح‪ .‬عليه‪ ،‬فعبد الله و�إ�سماعيل ويو�سف كلهم‬
‫ذبحاء ت�أكل الطير من ر�ؤو�سهم‪� .‬أما الذي ي�سقي ربه خمرا في ق�صة يو�سف‪ ،‬فهو‬
‫�شبيه ب��ـ «مجاوز الرياح»‪ ،‬ال�صنم الذي كان عل��ى ال�صفا‪ .‬وا�سمه يعني «�ساقي‬
‫الخمر»‪� ،‬أي الذي ي�سقي الخمر‪.‬‬

‫والحق �أن يو�سف مرتبط �أي�ضا بالرقم ‪ .7‬فهو العا�شر‪ ،‬لكنه �أي�ضا على عالقة‬
‫بالر�ؤي��ا ال�سباعية الغريب��ة للعزيز ملك م�صر‪« :‬وقال المل��ك �إني �أرى‪� ‬سبع‬
‫بقرات �سمان ي�أكلهن �سبع عجاف‪ ‬و�سبع �سنبالت خ�ضر و�أخر ياب�سات يا �أيها‬
‫الملأ �أفتون��ي في ر�ؤياي �إن كنتم للر�ؤيا تعبرون‪« « ‬يو�سف‪� .»43 :‬صحيح‬
‫�أن الآيات تتحدث عن دورة �سباعية للزرع‪« :‬قال تزرعون �سبع ِ�س ِنين د�أبا‬
‫فم��ا ح�صدتم فذروه ِفي �سنب ِل ِه �إِال ق ِليال مما ت�أكلون‪ .‬ثم ي�أ ِتي ِمن بع ِد ذ ِلك �سبع‬
‫تح�صنون‪ .‬ثم ي�أ ِتي ِمن بع ِد ذ ِلك عام‬
‫ِ‬ ‫ِ�ش��داد ي�أكلن ما قدمتم لهن �إِال ق ِليال مم��ا‬
‫يع�ص��رون» (�سورة يو�سف‪ .)49-47 :‬لكن الحديث‬ ‫يه ِ‬ ‫يه يغاث النا�س و ِف ِ‬
‫ِف ِ‬
‫ع��ن ال�سنبل ير�سلنا �إلى القمح‪ .‬والقمح يذكرنا بالذي ت�أكل الطير من ر�أ�سه‪.‬‬
‫فح�س��ب الت��وراة كان على ر�أ�س ه��ذا ال�سجين �سلة خب��ر‪� .‬أي �أننا مع القمح‬
‫والخب��ز ال م��ع الخمر‪ .‬مع الخريف وال�شتاء ال م��ع ال�صيف‪ .‬بذا‪ ،‬نحن مع‬
‫الرق��م �سبعة‪ ،‬رقم نج��وم الثريا‪ ،‬ورقم قداح المي�س��ر‪ ،‬ورقم ح�ص�ص لحم‬
‫الجزور التي تدخل المقامرة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫زكريا محمد‬

‫لك��ن الأه��م �أن لقمان بن ع��اد‪ ،‬الأب الأ�سط��وري للعبة المي�س��ر‪ ،‬مرتبط مثله‬
‫مث��ل يو�سف بالرقم ‪� 7‬أي�ض��ا‪ .‬فحين طلب طول العمر خي��ره الله بين �سباعيات‪:‬‬
‫«فن��ودي ق��د �أجيبت دعوت��ك و�أعطي��ت �س�ؤالك وال �سبي��ل �إلى الخل��ود واختر‬
‫�إن �شئ��ت بقاء‪� ‬سبع‪ ‬بق��رات عفر ف��ي جبل وع��ر وال يم�سهن ذع��ر‪ ،‬وان �شئت‬
‫بقاء‪� ‬سبع‪ ‬نواي��ات م��ن تمر‪ ،‬م�ستودع��ات في �صخر ال يم�سهن ن��دى وال قطر‪،‬‬
‫و�إن �شئ��ت بقاء‪� ‬سبعة‪ ‬ن�س��ور كلما هلك ن�سر عقب بعده ن�س��ر‪ .‬قال‪ :‬فكان ذلك �إنه‬
‫اختار‪� ‬سبعة‪ ‬ن�سور» (ابن منبه‪ ،‬التيجان)‪ .‬وهكذا‪ ،‬نعثر على �أبقار يو�سف ال�سبع‬
‫عند لقمان‪ .‬وهو ما ي�شي بعالقة ما بينهما‪.‬‬

‫وعلى كل ح��ال‪ ،‬فبقرات التوارة والقر�آن على عالق��ة بالبقرات ال�سبع لحاتور‬
‫الإله��ة البقرة الم�صرية‪ .‬وهاتيك البقرات ال�سب��ع هن نجوم الثريا ال�سبع‪� ،‬أو هن‬
‫على عالقة بنجوم الثريا‪.‬‬

‫�صورة للبقرات ال�سبع الم�صريات مع الإله الثور‬

‫‪105‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫و�إذا كان لقمان على عالقة ببقرات �سبع‪ -‬هن مثيالت للن�سور ال�سبعة‪ -‬فهذا يعني‬
‫�أي�ض��ا �أن نجوم الثريا قد تكون بقرات �سبع‪ .‬وه��ذه البقرات ال�سبع ربما رمزت‬
‫للإله��ة الأنثى‪� ،‬إلهة االنقالب الخريفي‪ ،‬الت��ي هي مثيلة �إيزي�س‪ ،‬ونقي�ضها‪� .‬أي‬
‫�أن لقم��ان هو الإله الثور �أي�ضا‪ .‬لكن يمكن قول العك�س بالمقابل‪ .‬فالعبو المي�سر‬
‫ال�سبع‪ ،‬الذين يق�سمون لحم الجزور بينهم‪ ،‬قد يكونون تمثيال لنجوم الثريا ال�سبع‪.‬‬
‫�أي �أن نج��وم الثري��ا لي�ست على عالق��ة بلقمان‪ ،‬بل على عالق��ة بنقي�ضه‪ .‬فحين‬
‫تظه��ر النجوم ال�سبع للثريا يكون على لقمان �أن يقدم �أ�ضحيته للإله النقي�ض‪� ،‬إله‬
‫الم��اء ال�سفلي‪ .‬و�إذا �صح هذا يكون انت�ساب لقمان للمي�سر انت�ساب �سلبي‪ .‬فهو من‬
‫يقدم الأ�ضحية كما قدم عبد المطلب ابنه الذبيح ك�أ�ضحية‪ .‬وكما نرى فالأمر معقد‬
‫جدا هنا‪ ،‬وال يمكن تقديم حكم �سهل ب�ش�أنه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫فصل ‪5‬‬

‫�أ�سطورة غزال الكعبة‬

‫تخبرن��ا الم�صادر العربية �أن عب��د المطلب قد عثر‪ ،‬عندما حفر بئر زمزم‪ ،‬على‬
‫غ��زال من ذه��ب‪ .‬وهناك من يقول؛ ب��ل عثر على غزالين‪ .‬كم��ا �أن هناك من‬
‫يخبرن��ا �أن الغ��زال‪� -‬أو الغزالين‪ -‬وجد في بئر الكعبة ال ف��ي بئر زمزم‪ .‬وبئر‬
‫الكعبة في الأ�صل خ�سفة تحت الكعبة كانت تو�ضع فيها النذور التي تهدى للكعبة‪.‬‬
‫غير �أن االتجاه الأقوى �أن الأمر يتعلق بغزال واحد‪ ،‬و�أنه كان في بئر زمزم‪.‬‬
‫وي�ؤي��د هذا �أن ق�صة �سرقة الغزال تتحدث عن غزال واحد ال عن غزالين‪ .‬لذلك‬
‫�سنعتمد �أن الأمر يتعلق بغزال واحد ال غير‪ .‬ويقال لنا �أن غزال عبد المطلب هذا‬
‫و�ضع في الكعبة كجزء من مقتنياتها‪ ،‬وظل هناك �إلى �أن �سرق وقطع في الحادثة‬
‫الكبرى التي نحن ب�صدد الحديث عنها‪.‬‬

‫ال�شريب��ة ال�ساهرين نفدت خمرتهم‪ ،‬ولم يجدوا‬‫ّ‬ ‫والذي ح�صل �أن جماعة من‬
‫م��ا ي�شترون به خم��رة جديدة لإكم��ال �شربهم في �سهره��م‪ ،‬ف�سرقوا غزال‬
‫الكعبة‪ ،‬وقطع��وه‪ ،‬وق�سموه بينهم‪ ،‬وا�شتروا به خمرتهم‪ .‬وح�سب الرواية‪،‬‬
‫فق��د �أدت �سرقة الغزال وتقطيعه �إلى منافرة �شاملة بين حلفي مكة الأ�سا�سيين‪:‬‬
‫الأح�لاف والمطيبين‪ .‬وكاد الأمر يتطور �إلى ح��رب بينهما‪� ،‬إلى �أن انتهى‬
‫باتفاق م�صالحة‪.‬‬

‫ولي���س من �شك لدى الم�صادر العربية ف��ي �أن �أمر الغزال كان حادثة واقعية جدا‪.‬‬
‫�أما نحن فنعتقد �أننا �أمام حدث ديني‪� ،‬أي �أمام طق�س ديني‪ ،‬جرى تمثيله على الخ�شبة‬
‫المكي��ة قبي��ل الإ�سالم‪ .‬ولكي نبره��ن على ما نقول‪ ،‬فال بد لن��ا �أوال من ا�ستح�ضار‬
‫ن�ص ق�صة الغزال‪ .‬ونحن ن�أخذها من ابن حبيب في المنمق‪ ،‬لأنه هو الذي �أوردها‬
‫بتف�صيل لم يورده غيره‪ .‬و�أدناه ن�ص حديث الغزال كما ورد عند ابن حبيب‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫«وهذا حديث الغزال غزال الكعبة‪:‬‬

‫وكان م��ن حديث الغ��زال �أن ِم ْق َي�س بن عبد قي�س بن قي���س بن عدي بن �سعد بن‬
‫�سه��م كان بيت��ه م�ألفا ل�شباب قري���ش‪ ،‬ينفقون عنده وي�شرب��ون‪ ،‬منهم �أبو لهب‪،‬‬
‫والحك��م بن �أبي العا���ص‪ ،‬والحارث بن عامر بن نوف��ل‪ ،‬والفاكه بن المغيرة‪،‬‬
‫وملي��ح بن الحارث بن ال�سباق بن عبد ال��دار‪ ،‬و�أبو �إهاب بن عزيز بن قي�س بن‬
‫ربيع��ة بن زيد بن عبد الل��ه بن دارم‪ ،‬وقي�س بن �سوي��د ‪ -‬وكان قي�س �أخا عامر‬
‫ب��ن نوفل بن عب��د مناف لأمه‪ ،‬و�أمهم��ا كهيفة من بني جندل ب��ن �أبير بن نه�شل‬
‫وكان حليفا لهم ‪ -‬و�أبو م�سافع الأ�شعري‪ ،‬حليف بني مخزوم‪ ،‬وديك ودييك من‬
‫خزاعة يخدمانهم‪ .‬واجتمعوا في بيت مقي�س‪ ،‬وله قينتان يقال لهما �أ�سماء وعثمة؛‬
‫فتغنت �أ�سماء وقد نفد �شرابهم ب�شعر رجل من بلي‪:‬‬

‫نداماي فيها عامـر وخـدا�ش‬ ‫خلوت بها قد مات نح�س نجومها‬

‫ق��ال �أبو المنذر‪ :‬عامر وخدا�ش ابنا زهير بن جناب الكلبي‪ ...‬وقد كان قال لهم‬
‫دي��ك ودييك‪� :‬إن عيرا قد �أقبلت من ال�شام تحم��ل خمرا‪ ،‬ف�أناخت بالأبطح‪ .‬فقال‬
‫�أب��و لهب‪ :‬ويلكم �أما عندكم نفقة؟ قالوا‪ :‬ال والله! قال‪ :‬فعليكم بغزال الكعبة‪ ،‬ف�إنما‬
‫هو غزال �أبى‪ .‬فقاموا فانطلقوا وهم يهابون‪ ،‬وقد �أ�صابتهم ليلة باردة ذات ظلمة‬
‫ومط��ر‪ ،‬حتى انته��وا �إلى الكعبة ولي�س حولها �أحد‪ .‬فحم��ل �أبو م�سافع و�أبو لهب‬
‫الحارث بن عامر على ظهريهما حتى �ألقياه على الكعبة‪ .‬ف�ضرب الغزال فوقع‪.‬‬
‫فتناول��ه �أبو لهب‪ ،‬ثم �أقبلوا ب��ه‪ .‬فقال �أبو لهب‪ :‬قد علمت��م �أن الغزال غزال �أبي‬
‫ولي ربعه‪ .‬ف�أت��وا منزل ديك ودييك‪ ،‬فك�سروه‪ ،‬ف�أخ��ذوا الذهب وعينيه وكانتا‬
‫م��ن ياقوت‪ .‬وطرحوا ظرفه وكان على خ�شب في منزل �شيخ من بني عامر بن‬
‫ل���ؤي‪ .‬ف�أخذ �أبو لهب العن��ق والر�أ�س والقرنين‪ ،‬ودف��ع القرطين �إليهم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫هذان لأ�سماء وعثمة‪ ،‬وانطلق فلم يقربهم‪ .‬وذهب القوم فا�شتروا كل خمر كانت‬
‫بالأبطح‪ ،‬ثم �أقبلوا به �إلى �أ�صحابهم ف�شربوا وقرطوا ال�شنف والقرط القينتين‪.‬‬

‫فمكث��ت قري�ش �أياما ثم افتقدوا الغ��زال‪ .‬فتكلموا فيه و�أعظموه‪ .‬وكان �أ�شدهم فيه‬
‫كالم��ا و�أجدهم عبد الله بن جدعان‪ ،‬وتكلمت قري�ش فلم يبلغ �أحد مبالغته‪ .‬وكان‬
‫يق��وم فيقول‪� :‬أ�شهد �أنه لم يجترئ عليكم غيركم ولم ي�سرق الغزال غيركم‪ ،‬و�أيم‬

‫‪108‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الله لئن لم ينه حلما�ؤكم �سفهاءكم لتنزلن بكم النقمة‪ .‬فلما �أكثر‪ ،‬قال له حف�ص بن‬
‫المغي��رة‪ :‬قد �أكثرت في �أمر الغزال ول�ست �أول��ى قري�ش به‪� ،‬إنما هو غزال عبد‬
‫المطلب وهذا الزبير بن عبد المطلب و�أبو طالب ال يتكلمان‪ ،‬وما �أبو لهب عندي‬
‫بخلي منه‪ ،‬ف�أكفف‪ .‬فغ�ضب الزبير و�أبو طالب‪ ،‬فقاال‪ :‬ال تزال تنا�ضل من دونه‬
‫ك�أنك تعرف �صاحبه‪ ،‬و�أيم الله لئن ثقفناه لنقطعن يده‪.‬‬
‫فمكث��وا ي�شربون �شهرا �أو �أكثر‪ .‬ثم �إن العبا�س ب��ن عبد المطلب مر‪ ،‬وهو غالم‬
‫�ش��اب‪� ،‬آخر النهار في حاجة له بعد ذلك ب�شهر ب��دور بني �سهم‪ ،‬وقد لغط القوم‬
‫وثملوا وه��م يرفعون �أ�صواتهم‪ ،‬ف�أ�صغى لهم ف�سمع بع�ضه��م يقول للقينتين‪ :‬غنيا‬
‫بقول �أبي م�سافع‪:‬‬
‫تقنون��ه لخط��وب الدهـ��ر والـغـير‬ ‫�إن الغزال ال��ذي كنتـم وحـلـيتـه‬
‫�أهل العلى والندى والبيت ذي ال�ستر‬ ‫طافت به ع�صب��ة من �شر قومـهم‬
‫‪ ...‬فغنت��ا‪ .‬و�أقبل العبا���س‪ ،‬فقال‪ :‬يا �أبا طالب‪ .‬هل لك ف��ي �سرقة الغزال؟ قال‪:‬‬
‫وم��ن هم؟ قال‪ :‬هم في بيت مقي�س‪ ،‬ول��م �أرهم‪ ،‬فتعالوا فا�سمعوا‪ .‬ف�أقبل �أبو طالب‬
‫والزبي��ر وابن جدعان ومحزمة بن نوفل والعوام بن خويلد حتى دنوا من الباب‪،‬‬
‫ف�سمعوهم يقولون‪ :‬غنينا‪ ...‬فقال �أبو طالب‪ :‬ه�ؤالء ال �شك �أ�صحاب الغزال‪ ،‬و�إن‬
‫دخلتم ال�ساعة �أ�صبتموهم �سكارى ال يعقلون عنكم وال يفقهون‪ ،‬وال نحب �أن ندخل‬
‫عليهم �إال ومعنا من الأحالف الذين تحالفوا بعد الحلف الأول من نحتج عليهم بهم‪.‬‬
‫ول��م تكن عبد �شم�س وال نوفل دخلوا في ذلك الحل��ف‪ ،‬ف�أخروا ذلك �إلى غد‪ .‬فلما‬
‫�أ�صبحوا‪ ،‬غدوا �إلى بني �سهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا بني �سهم‪ ،‬تعلمون �أن غزال ربكم �سرقه‬
‫ندم��اء مقي�س وهم في بيته‪ ،‬فادخلوا معنا نفت�ش��ه‪ .‬فقاموا معهم‪ ،‬فلما دخلوا وجدوا‬
‫مقي�سا غائبا‪ ،‬ووجدوا جثة الغزال وهو غمده الذي يكون فيه‪ ،‬وكان �أديما عربيا‪،‬‬
‫فقال��وا‪ :‬ما ينبغي عليه بينة غير هذا‪ .‬و�أخذوا قينتيه فلزموهما‪ ،‬ف�إذا �إحداهما مقرطة‬
‫ق��رط الغزال والأخرى م�شنفة ب�شنفة‪ ،‬فقالتا‪� :‬أنحن �آمنتان ونخبركم الخبر؟ قالوا‪:‬‬
‫نع��م‪ ،‬ف�أخبرت��ا‪ ،‬ف�سمتا �أبا له��ب‪ ،‬فاتهموه لأنه غبر عنهم تلك الأي��ام‪ ،‬فلم ي�أتهم‪،‬‬
‫فطلبوه‪ ،‬فتغيب‪ .‬فبلغهم �أن الغزال ك�سر في بيت ديك ودييك‪ ،‬فهرب ديك‪ ،‬و�أخذ‬
‫دييك‪ ،‬و�ضبطوه من خلفه‪ .‬ومد يده ابن جدعان و�أنحى عليه ال�شفرة وكانت كليلة‬
‫فحز كوعه حتى قطعها‪ .‬فلم يلبث �إال يوما حتى مات‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ث��م �إن المطيبين نافروا الأحالف‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال نر�ضى حتى نقطع �أيديهم �أو ي�ؤدوا‬
‫الغ��زال بعينه‪� ،‬أو ي�ؤدي كل رجل منهم مائة ناقة‪ .‬فمكثوا بذلك‪ .‬ثم �إن الحارث‬
‫بن عامر �أخرج وقد �ألب�س حلة لمطعم بن عدي‪ ،‬وقد �أهلّ بعمرة‪ ،‬وطاف بالبيت‬
‫ال يكلم��ه �أحد‪ .‬ثم خرج على وجه��ه فمكث ع�شر �سنين ال يدخ��ل مكة‪ .‬فقال �أبو‬
‫�إه��اب بن عزيز‪ :‬ما يمنعك��م �أن ت�صنعوا بي ما �صنعت��م ب�صاحبكم؟ �أمن �أجل �أني‬
‫حليف ت�ستخفون بي؟ ‪ ...‬ف�ألب�سوه حلة و�أخرجوه مهال بعمرة‪..‬‬

‫فق��ال اب��ن جدعان‪ ،‬وكان �أ�شد الق��وم في �أمره‪ ،‬وكان ال يق��وى �إال ب�أبي طالب‬
‫والزبير ومخرمة‪ ،‬ف�أتاهم فقال‪ :‬يا ه�ؤالء‪� ،‬سرقة غزالكم �آمنون و�أنتم جلو�س؟!‬
‫فق��ام �أبو طالب قياما �شديدا حتى غيب الرج�لان وخافوا عليهم القتل‪ ...‬فقامت‬
‫بنو �أمي��ة ف�أعانوا الأحالف حت��ى كادوا يقوون‪ .‬ف�أقبل عتب��ة و�شيبة ابنا ربيعة‪،‬‬
‫و�أب��و �سفيان بن ح��رب‪ ،‬و�سعيد بن العا�ص‪ ،‬و�أ�سيد بن �أب��ي العي�ص‪ ،‬ونفر من‬
‫�شيوخ قري�ش‪ ،‬فحدثوا وذكروا الغ��زال‪ ،‬وحث بع�ضهم بع�ضا على �أن ين�صروا‬
‫الأحالف‪ .‬فقال �أبو �أحيحة‪� :‬أطيعوني وال تعر�ضوا �إلى �أمر هذا الغزال ف�إن عندي‬
‫منه علما‪ ،‬قالوا‪ :‬ما علمك؟ قال‪ :‬حدثني �أبي عن �أبيه �أن قبيلتين من العرب نزلوا‬
‫مك��ة ف�أهلكوا في �ش�أن ظبي قتله رجل منه��م‪ ،‬فا�ست�ؤ�صل �أحرارهم ورقيقهم‪...‬‬
‫قال��وا له‪ :‬كي��ف كان هالكهم؟ قال‪� :‬أقبلت حية مثل الجب��ل‪ ،‬فجعلت تنفخ عليهم‪،‬‬
‫فتلقي من جوفها �أمثال الرماح من نار فجعلوا يحترقون حتى هلكوا جميعا‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫�أنى يكون هذا‪ ،‬قال‪� :‬أما �سمعتم بقول عبد �شم�س‪:‬‬
‫�أحج��ن النابي��ن وث��اب خـ�ضـ��م‬ ‫ف�أتـ��اه حـي��ة مـ��ن خـلـفـ��ه‬
‫مثل م��ا �أب�صرت باللي��ل ال�ضرم‬ ‫فرم��اه بـ�شـهـ��اب ثـاقـ��ب‬

‫قال��وا‪ :‬فوالله م��ا ندخل في �شيء م��ن �ش�أنه! فعند ذلك وهن �أم��ر الأحالف حتى‬
‫�صالحوه��م �صلحا على خم�سين ناقة‪ ،‬فدفعت �إلى �أبي طالب والزبير‪ ،‬فرفدوا بها‬
‫الكعب��ة والحجاج‪ .‬وم��ن لم يعط خم�سين ناقة لم يزل خائف��ا حتى بعث الله النبي‬
‫�صل��ى الله عليه و�سلم‪ .‬فلما كان �أيام ب��در �أقبل �أبو م�سافع و�أ�صحابه الذين هربوا‬
‫فقال��وا‪ :‬يا مع�ش��ر قري�ش‪ ،‬لم تنفونن��ا وتطردوننا؟ ما لنا عندك��م �إن نقاتل محمدا‬
‫و�أ�صحاب��ه‪ ،‬ف�إن قتلنا فه��و ما تريدون و�إن بقينا فهو عو�ض مم��ا �صنعنا‪ .‬ف�أقبلوا‬

‫‪110‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ف�شهدوا بدرا‪ ،‬فقتل �أبو م�سافع والحارث بن عامر‪ ،‬و�أفلت �أبو �إهاب‪...‬‬

‫وطلبت قري�ش الحكم بن �أبي العا�ص �أوال فمنعته بنو �أمية‪ ،‬فبلغ �أبا لهب �أن قري�شا‬
‫ت�أتي��ه فتوارى‪ ،‬وكان له ع�شر خاالت من خزاعة قد ولدن فيهم ف�أكثرن‪ ،‬فب�سط‬
‫ب�سطة ون��ادى فيهم‪ ،‬ف�أقبل �إليهم من بني خاالته جمع كثي��ر فلم يقربه �أحد قالوا‪:‬‬
‫دع��وه لإخوته‪ ...‬ووج��دوا ظرف الغزال في منزل العام��ري ال�شيخ الأعمى‬
‫فقال‪ :‬ال علم لي بما �صنعوا‪� ،‬أنا �أعمى‪ ،‬فقتلوه» (ابن حبيب‪ ،‬المنمق)‪.‬‬

‫ه��ذا هو ن�ص الق�صة‪ ،‬بع��د �إزالة بع�ض �أبي��ات ال�شعر التي افتر�ضن��ا �أنها ال تنير‬
‫الأح��داث‪ .‬وكما نرى‪ ،‬فهو‪ ،‬على طوله‪ ،‬ن���ص مخت�صر مت�شابك معقد‪ ،‬يظهر‬
‫في��ه عدد كبير من ال�شخ�صيات عل��ى خ�شبة الم�سرح‪ ،‬وك�أنم��ا هو ن�ص م�سرحية‬
‫كامل اخت�صر ب�صفحتين‪.‬‬

‫حلف المطيبين‬

‫وقب��ل �أن نبد�أ ف��ي تحليل �أحداث ق�صة الغزال ومغزاها علين��ا �أن ن�شير �سريعا �إلى‬
‫الم�شكل��ة المعقدة ب�ش�أن حلف المطيبين وحلف الف�ض��ول‪ .‬فن�ص ابن حبيب يخبرنا‬
‫�أن ال�ص��راع ب�ش���أن �سرقة الغزال كان بي��ن الحلفين المكيي��ن القديمين؛ المطيبين‬
‫والأح�لاف‪« :‬ث��م �إن المطيبين نافروا الأحالف‪ ،‬وقال��وا‪ :‬ال نر�ضى حتى نقطع‬
‫�أيديه��م �أو ي���ؤدوا الغزال بعينه‪� ،‬أو ي���ؤدى كل رجل منهم مائ��ة ناقة»‪ .‬غير �أن‬
‫ه�شام الكلب��ي يخبرنا �أن ال�صراع دار بين الأحالف والف�ضول‪ ،‬ال بين الأحالف‬
‫والمطيبين‪ .‬وهو يقول ذلك من خالل عنوان كتاب له لم ي�صلنا للأ�سف‪« :‬وتوفي‬
‫ه�ش��ام [الكلبي] في �سنة �ست ومائتين‪ .‬وله من الكت��ب الم�صنفة ما �أنا �أذكره على‬
‫ترتيبه من خط �أبي الح�سن بن الكوفي‪ .‬كتبه في الأحالف‪ :‬كتاب حلف عبد المطلب‬
‫وخزاعة‪ ،‬كتاب حلف الف�ضول وق�صة الغزال» (ابن النديم‪ ،‬الفهر�ست)‪.‬‬

‫�أما نحن فنرى �أن المطيبين والف�ضول ا�سمان للحلف ذاته‪ ،‬لكن في لحظتين زمنيتين‬
‫مختلفتي��ن‪ .‬و�سوف نفرد ف�صال ملحقا حول م�س�ألة حلف الف�ضول في �آخر الكتاب‪.‬‬
‫فنحن نريد تجنب نقا�ش الم�س�ألة هنا كي ال نقطع ال�سرد حول ق�صة الغزال‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ولنعد الآن �إلى حادثة الغزال‪ .‬فالم�صادر العربية ال يعتريها‪ ،‬كما قلنا �أعاله‪� ،‬أي‬
‫�شك في �أن هذه الحادثة قد وقعت بالفعل‪ .‬لكن من ال�صعب على المرء في الحقيقة‬
‫ت�صدي��ق �أن تقدم ال�شخ�صي��ات المذكورة في الن�ص‪ ،‬وج��زء رئي�سي منها �أنا�س‬
‫من علية القوم ف��ي مكة‪ ،‬على تلويث �سمعتها بالقيام بجريمة �سرقة داخل الكعبة؛‬
‫فالأكثر منطقية �أن نعالج الحادث��ة بو�صفها طرازا من التمثيل لق�صة دينية‪ .‬وهذا‬
‫يعني �أن ما بدا للإخباريين كحادثة واقعية هو في الواقع �إعادة تمثيل لحادثة بدئية‬
‫ديني��ة‪� .‬أي �أن م��ا حدث دار في بيت ِم ْقي�س في ذلك الي��وم الم�شهود في مكة �إنما‬
‫كان في الواقع عمال دينيا‪� ،‬أي عمال طق�سيا‪ ،‬ال جريمة �سرقة عادية‪.‬‬

‫بيت الأزالم‬

‫والحق �أن لدينا خبرا حا�سما يدعم هذا الفر�ض‪ .‬والخبر يتعلق بدار ِم ْقي�س ذاتها‪،‬‬
‫�أي بالدار التي حدثت فيه��ا م�ؤامرة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه وتق�سيمه‪ .‬فهذه‬
‫الدار ت�سمى «بيت الأزالم»‪ ،‬هكذا مبا�شرة وتماما‪« :‬حدثنا �أبو الوليد قال‪ :‬حدثني‬
‫جدي عن �سليم بن م�سلم‪ ،‬عن ابن جريج �أن «بيت‪ ‬الأزالم»‪ ‬كان لمقي�س بن عبد‬
‫قي���س ال�سهمي‪ ،‬وكان بالحثمة‪ ،‬مما يلي دار �أوي���س التي في مبطح ال�سيل ب�أ�سفل‬
‫مك��ة‪ ،‬التي �صارت لجعفر بن �سليمان بن علي» (الأزرقي‪� ،‬أخبار مكة)‪ .‬يكرر‬
‫الفاكهي‪«« :‬بيت الأزالم»‪  :‬لمقي�س بن عبد قي�س ال�سهمي‪ ...‬وكان بالحثمة التي‬
‫تل��ي دار روي�س في مبطح ال�سيل ب�أ�سفل مك��ة‪� ،‬صار اليوم لجعفر بن �سليمان بن‬
‫علي» (الفاكهي‪� ،‬أخبار مكة)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فبيت مقي�س الذي دبرت فيه حادثة ال�سرقة والتقطيع كان «بيت الأزالم»‪.‬‬
‫وق��د ظل ا�سمه كذلك حتى بعد انت�صار الإ�سالم‪ .‬وا�سم البيت يوحي بالمهمة التي‬
‫كان ي�ضطلع بها؛ فالطقو�س المتعلقة بال�ضرب بالأزالم‪� ،‬أي القداح‪ ،‬لأغرا�ض‬
‫ديني��ة كانت‪ ،‬في ما يب��دو‪ ،‬تجري في هذا البيت‪ ،‬بيت مقي���س‪ .‬ولوال ذلك لما‬
‫�أطل��ق عليه هذا اال�س��م‪ .‬وهذا يفتر���ض �أن مقي�سا و�أباءه من قبل��ه كانوا مكلفين‬
‫بالإ�شراف عل��ى الأزالم الدينية وعلى ممار�سة طقو�سه��ا عند الحاجة‪ .‬وهناك‬
‫�إ�ش��ارة طريف��ة تتعلق بتوقف مقي�س عن الخمرة قد تفيد ب���أن مهمته كانت بالفعل‬

‫‪112‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�سكر‪ ،‬فجعل‬‫«مقي�س‪ ‬بن قي�س بن عدي‪ ‬ال�سهمي‪ ،‬وكان ِ‬ ‫ْ‬ ‫�ضرب الأزالم عموما‪:‬‬


‫يخ��ط ببول��ه‪ ،‬ويقول‪ :‬نعام��ة �أو بعير؟ فلما �أف��اق �أخبر بذل��ك‪ ،‬فحرمها» (ابن‬
‫حبي��ب‪ ،‬المحبر)‪ .‬وكما نرى فمقي���س كان يمار�س دوره في التنب�ؤ اال�ستق�سامي‬
‫حتى في حالة ال�سكر‪.‬‬

‫قطع بها غزال الكعب��ة واقت�سمت �أجزا�ؤه‪ ،‬يمكن للمرء‬ ‫وبن��اء على الطريقة التي ّ‬
‫�أن يحك��م �أن دار مقي�س لم تكن لأزالم التنب�ؤ فقط‪ ،‬بل لأزالم االقتراع مثل تلك‬
‫التي ا�ستخدمت في حادثة الذبيح عبد الله‪ .‬فتق�سيم الغزال بين المت�آمرين �إلى قطع‬
‫يوحي ب�أنه تم ال�ضرب عليها بقداح التناف�س‪ ،‬ال قداح التنب�ؤ‪� ،‬أي بقداح مثل قداح‬
‫الذبيح ومثل قداح المي�سر‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬يمكن االفترا�ض �أن ما جرى في بيت مقي�س كان‪ ،‬ب�شكل ما‪ ،‬على عالقة‬
‫ما ب�شيء ي�شبه بحادثة الذبيح عبد الله‪ .‬وب�شكل �أكثر و�ضوحا ف�إنه ربما كان تمثيال‬
‫م��ا لحادثة طق�س الذبيح البدئي��ة‪� .‬أو العك�س‪� ،‬أي �أن حادث��ة الذبيح كانت تمثيال‬
‫لحادث��ة الغزال‪ ،‬الت��ي كانت هي �أي�ضا ا�ستع��ادة لحادثة بدئي��ة مفتر�ضة‪ ،‬في ما‬
‫يبدو‪ .‬الفارق �أن �أ�ضحية الذبيح كانت ب�شرية‪� ،‬أما هنا في حادثة الغزال‪ ،‬فالذبيح‬
‫ظب��ي‪ .‬وكنا �أو�ضحن��ا من قبل �أن الذبيح الب�شري ي�ستب��دل بظبي‪ ،‬ظبي �أروى‪،‬‬
‫كما كان الحال مع �إ�سماعيل‪ .‬كما �أو�ضحنا‪ ،‬من قبل �أي�ضا‪ ،‬كيف �أن ظبي �أروى‬
‫كان يج��ب �أن يكون في حادثة ذبح عبد الل��ه‪ ،‬انطالقا من الم�شابهة مع �إ�سماعيل‬
‫الذبي��ح‪ .‬غير �أن الظبي اختفى ل�سبب ما‪ ،‬وظلت على الم�سرح ديته التي ت�ساوي‬
‫مائ��ة بعير‪ .‬وها نحن نعث��ر على الظبي الذي افتر�ضناه ف��ي حادثة تقطيع غزال‬
‫الكعب��ة التي نحن ب�صددها‪ .‬بالتالي‪ ،‬يمكن االفترا�ض �أن هذه الحادثة الدينية تتبع‬
‫حادثة الذبيح وتكملها‪� .‬إذ يتم في البدء االقتراع على الأ�ضحية الب�شرية‪� ،‬أي على‬
‫الذبح��اء �أمثال عبد الله‪ .‬ثم ي�ستبدل الذبي��ح بكب�ش‪ ،‬بتي�س �أروى‪ ،‬فتجري عملية‬
‫تقطيع هذا التي�س‪ ،‬كما ح�صل مع الغزال في دار مقي�س‪ .‬وهذا يعني �أن ما جرى‬
‫ف��ي دار مقي�س ج��زء من طق�س الذبيح‪ ،‬الذي يتكرر دوري��ا‪ ،‬و�إن كنا ال ندري‬
‫الم��دى الزمني الذي يتكرر فيه‪ ،‬هل ه��و خم�س �سنوات‪� ،‬أم ع�شر �أم ع�شرون‪،‬‬
‫�أم �أكثر من ذلك‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ون���ص ابن حبيب ي�ؤكد لنا �أنه كان مطلوب��ا من الذين �سرقوا الغزال وقطعوه �أن‬
‫يعي��دوا الغزال المقط��ع �أو �أن يدفع كل م��ن �شارك منهم في تقطيع��ه مائة ناقة‪:‬‬
‫«ث��م �إن المطيبين ناف��روا الأحالف‪ ،‬وقال��وا‪ :‬ال نر�ضى حتى نقط��ع �أيديهم �أو‬
‫ي�ؤدوا الغزال بعينه‪� ،‬أو ي�ؤدي كل رجل منهم مائة ناقة»‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فالإبل دية‬
‫الغزال‪ .‬وه��و ما ي�ؤكد �أن الإبل المائة التي نحره��ا عبد المطلب كانت دية ظبي‬
‫الأروى‪ ،‬الذي كان الكب�ش المفتر�ض لفداء عبد الله‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فمن الممك��ن جدا �أن التقطيع الرمزي للذبيح‪ ،‬عب��ر تقطيع الإبل وو�ضع‬
‫لحمه��ا على ر�ؤو�س الجبال‪ ،‬هو تمثيل لحادثة تقطيع غزال الكعبة‪� .‬أو �أن الأمر‬
‫على العك�س‪� .‬أي �أن تقطيع الغزال هو تمثيل رمزي لحادثة الذبيح‪ .‬ي�ؤيد ما نقول‬
‫�أن الق�ص��ة و�صف��ت الغزال الم�سروق والمقطع و�صف ف��ي الن�ص ب�أنه‪« :‬غزال‬
‫ربكم»‪� .‬إنه غزال الإله‪ ،‬هكذا مرة واحدة‪ .‬بذا‪ ،‬فل�سنا هنا مع حادثة �سرقة عادية‬
‫لكتلة ذهبية‪� ،‬أو مع �سرقة عمل فني على �شكل تمثال غزال‪ .‬بل نحن مع «غزال‬
‫الإله» ذاته‪ .‬فتمثال الغزال يج�سد الإله ويرمز له‪.‬‬

‫غزال المطيبين‬

‫و�إذا كان «غ��زال ربكم» هو غزال عبد المطلب‪ ،‬فهذا يعني �أنه غزال المطيبين‬
‫الحل��ة‪ .‬فق��د كان عبد المطل��ب زعيم ه�ؤالء‪ .‬و�إل��ه الحلة ذو طاب��ع �إبراهيمي‪-‬‬
‫�إ�سماعيل��ي كم��ا فهمنا م��ن كتابن��ا ال�سابق‪« :‬كت��اب الحم�س والطل���س والحلة»‪.‬‬
‫ي�ؤك��د ما نقول �أن هناك من �أخبرنا �أنه عثر عل��ى الغزال في بئر الكعبة‪� ،‬أي في‬
‫الخ�سف��ة المعروفة �أ�سفل الكعب��ة‪ .‬وهذه البئر بالذات تدعى بئ��ر �إ�سماعيل‪« :‬فلما‬
‫ر�أت قري�ش ذلك قالوا‪� ... :‬أعطنا من هذا المال الذي �أعطاك الله ف�إنها بئر �أبينا‬
‫�إ�سماعيل ف�أ�شركنا معك» (الأزرقي‪� ،‬أخبار مكة)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالغزال كان في بئر‬
‫�إ�سماعي��ل‪� .‬أي �أنه يخ�ص �إله �إ�سماعيل الذبيح‪ ،‬كما يخ�ص �إله الذبحاء كلهم‪ ،‬بمن‬
‫فيه��م عبد الله الذبيح‪� .‬أو قل �إنه على عالقة بالذبحاء‪ ،‬ب�شكل قد ي�شي ب�أنه ت�صوير‬
‫لكب�ش فدائهم‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ولأن الغ��زال لي�س مجرد قطع��ة ذهبية فقد كان موجودا قب��ل حفر بئر زمزم‪،‬‬
‫�أو قب��ل �إعادة حفره��ا على يد عبد المطلب‪ ،‬بناء عل��ى �أن �إبراهيم هو من حفرها‬
‫الحف��ر الأول‪ .‬وهن��اك �أكثر من خبر ح��ول �أ�صل هذا الغ��زال‪ .‬فهناك من قال‬
‫�أن جره��م هي التي و�ضعت��ه في بئر الكعبة‪« :‬كان الغ��زال لجرهم فلما حفر عبد‬
‫المطلب زمزم ا�ستخرج الغزال و�سيوفا قلعية» (ابن �سعد‪ ،‬الطبقات)‪ .‬لكن هناك‬
‫من يدعي �أنه �أهدي للكعبة من بع�ض ملوك الفر�س الأ�سطوريين‪« :‬ذكر ه�شام بن‬
‫محم��د بن ال�سائب الكلب��ي‪� :‬أن بابك بن �سا�سان كان يغ�شى البيت‪ ،‬و�آخر ما زاره‬
‫ال من ذهب‪ ،‬عيناه من ياقوت وفي �أذنيه �شنفان من ذهب بدرتين‪،‬‬ ‫دف��ن فيه غزا ً‬
‫وال�سي��وف القلعية التي لم تكن �إال لفار���س» (الزمخ�شري‪ ،‬ربيع الأبرار)‪ .‬غير‬
‫�أن هناك من يربطه ب�أ�سفنديار‪« :‬وكان الغزال �أهداه �إلى البيت ا�سفنديار الفار�سي‬
‫حين �سم��ع بذكر البيت يحج �إليه» (الع�سكري‪ ،‬الأوائل)‪ .‬وكل هذا ي�شير �إلى �أننا‬
‫نتحدث عن رمز موغل في القدم‪ ،‬وذي طابع ديني‪.‬‬

‫الذبيح وتمثال الذهب‬

‫�صور الذبيح‬
‫وثم��ة ما هو �أكثر �أهمية و�أ�شد �إقناعا م��ن كل هذا‪ .‬ففي ق�صة الذبيح ُي ّ‬
‫عب��د الله كتمثال من ذهب‪« :‬قال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم‪:...‬‬
‫والل��ه ال تذبحه �أبدا حتى نعذر في��ه‪ ،‬ف�إن كان فداء فدين��اه ب�أموالنا‪ .‬وقال‪ ،‬فيما‬
‫يزعمون‪ ،‬في ذلك �شعرا حين �أجمع عبد المطلب في ذبح عبد الله‪:...‬‬

‫واعجبي من قتل عبد المـطـلـب‬

‫وذبحه خرقا كتمـثـال الـذهـب» (�سيرة ابن �إ�سحق)‪.‬‬

‫وهك��ذا‪ ،‬فعبد الل��ه �سيقت��ل «خرقا كتمث��ال الذه��ب»‪ .‬والتخريق ه��و الت�شقيق‬
‫والت�شريط والتخزي��ق والقطع‪« :‬الخرقة‪ :‬القطعة من خ��رق الثوب‪ ،‬والخرقة‬
‫المزق��ة منه‪ .‬وخرقت الث��وب �إذا �شققته» (ل�سان العرب)‪ .‬وه��ذا يعني �أن عبد‬
‫الل��ه الذبيح �سيقتل ويقط��ع تقطيعا تماما «كتمثال الذه��ب»‪� ،‬أي بال�ضبط كتمثال‬
‫غزال الكعبة الذهبي الذي قطع تقطيعا‪ ،‬ووزع بين الذين �سرقوه‪ .‬وهذا الت�شابه‬

‫‪115‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ال�صاع��ق ي�شير �إلى �أن حادثة تقطيع غزال الكعبة حادثة دينية‪ ،‬مثلها مثل حادثة‬
‫الذبي��ح عبد الله‪� .‬أو قل �إن حادث��ة تقطيع غزال الكعبة هي تقطيع رمزي للذبيح‬
‫عبد الل��ه و�أمثاله‪� .‬أو �إن االثنتي��ن تمثيل لحادثة بدئية مفتر�ض��ة قبلهما‪ .‬والحق‬
‫�أن اب��ن حبي��ب في ن�صه يحدثنا عن ه��ذه الحادثة على ل�سان �أب��ي �أحيحة‪� ،‬سعيد‬
‫ب��ن العا�ص‪ .‬فق��د �أخبر �أبو �أحيحة المكيين �أن‪« :‬قبيلي��ن من العرب نزلوا مكة‪،‬‬
‫ف�أهلك��وا في �ش�أن ظبي قتله رجل منهم‪ ،‬فا�ست�ؤ�صل �أحرارهم ورقيقهم»‪ .‬عليه‪،‬‬
‫يمكن االفترا�ض �أن حادثة تقطيع غزال الكعبة الذهبي التي وقعت قبيل الإ�سالم‪،‬‬
‫كانت مجرد �إعادة تمثيل لهذا الحدث القديم‪ .‬فالغزال الذهبي تمثيل للظبي القتيل‬
‫ف��ي الحادثة البدئية‪« :‬ظبي قتله رجل منهم»‪ .‬و�أغل��ب الظن �أن كلمة قبيلين في‬
‫الن�ص تعني ق�سمين‪� ،‬أو قبيلين دينيين‪ .‬وربما كان المق�صود هو ال�صراع البدئي‬
‫ال��ذي �أفرز حلفين‪ ،‬تم الحقا بناء حلفي المطيبين والأحالف على غرارهما‪ .‬بل‬
‫لعل المق�صود هو هذين الحلفين بالذات‪ ،‬الأحالف والمطيبين‪ ،‬ولي�س غيرهما‪.‬‬
‫فهما القبيالن اللذان اخت�صما ب�ش�أن قتل الظبي قديما‪ ،‬ثم اختلفا ب�ش�أن تقطيع غزال‬
‫الكعبة الذهبي الحقا‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬فق�صة الذبيح‪ ،‬وق�ص��ة غزال الكعبة على عالقة بق�ص��ة �أ�صلية بدئية تقوم‬
‫عل��ى قتل ظبي‪ .‬وهذا الظبي هو كب���ش الأروى‪� ،‬أي �أنه كب�ش الفداء‪ .‬ويبدو �أن‬
‫لعب��ة المي�سر على عالقة به��ذا �أي�ضا‪ .‬فتقطيع الجزور هو تمثي��ل ما لتقطيع كب�ش‬
‫الفداء‪ ،‬وتقطيع غزال الكعبة‪ ،‬لكن بعد �أن تم ا�ستبدال الغزال بالجزور‪ -‬البعير‪.‬‬
‫وهو ا�ستبدال ر�أينا كي��ف ح�صل �أي�ضا في ق�صة الذبيح عبد الله‪ .‬فقد نحرت الإبل‬
‫ديةً لظبي الأروى الذي افتر�ضنا �أنه كان كب�ش فداء عبد الله‪ ،‬كما كان كب�ش فداء‬
‫�إ�سماعيل‪ .‬الطقو�س الثالثة �إذن «الذبيح‪ ،‬غزال الكعبة‪ ،‬المي�سر» نبتت من �أ�صل‬
‫واحد‪ .‬وهذا الأ�صل هو ذبح الإله الأوزيري�سي وتقطيعه‪� ،‬أو ذبح تج�سيده ككب�ش‬
‫ف��داء‪ .‬ونحن نعل��م �أن المت�آمرين بقيادة �سيث قطع��وا �أوزيري�س ومزقوه تمزيقا‬
‫وتخريق��ا‪ .‬وقد قطعوه �إلى ‪ 14‬قطعة‪ .‬ولو �ضاعفنا الرقم ل�صرنا �أمام الرقم ‪،28‬‬
‫وه��و ح�ص�ص قداح المي�سر وح�ص�ص لح��م الجزور‪ .‬ولو ق�سمناه على اثنين لكنا‬
‫�أمام الرقم ‪ ،7‬الذي هو رقم القداح والمتقامرين و�أكوام لحم الجزور‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫زكريا محمد‬

‫دراما دينية‬

‫نعود الآن �إلى حادثة الغزال لنقول‪� :‬إذا قبلنا اال�ستخال�صات التي قدمناها �أعاله‪،‬‬
‫ف���إن ق�صة غزال الكعبة لن تك��ون �إال حدثا تمثيليا تجري في��ه ا�ستعادة الأحداث‬
‫البدئية التي انبثقت منها الأحالف الدينية‪ ،‬مثل حلفي المطيبين والأحالف‪� ،‬أول‬
‫م��رة‪� .‬أي �أنها ل��م تكن حدثا خا�صا وفري��دا جرى قبيل الإ�س�لام فقط‪ ،‬بل حدثا‬
‫جرى تمثيله على الخ�شبة المكية مرات عديدة‪ ،‬وفي �أزمان قديمة‪ .‬وهو ما يعني‬
‫�أنه��ا حادثة دورية‪ ،‬تتكرر ربما كل ب�ضع �سن��وات‪ ،‬وي�شارك فيها كل �أهل مكة‬
‫المنق�سمين بين �أحالفها ذات الطابع الديني‪.‬‬

‫و�إذا �صح هذا‪ ،‬ف�إنه يفتح الباب للقول ب�أن الأ�شخا�ص المركزيين في ق�صة الغزال‬
‫�إنم��ا كانوا في الواقع ممثلين في م�سرحي��ة دينية‪� .‬أما �ألقابهم وكناهم «�أبو �إهاب‪،‬‬
‫�أب��و لهب‪ ،‬جدعان‪� ،‬أحيحة‪� ،‬إلخ» فقد كانت مج��رد �أقنعة م�سرحية ال غير‪� .‬أي‬
‫�أنه��ا لي�ست �ألقاب��ا وكنى واقعية‪ ،‬بل ه��ي �ألقاب وكنى دينية ت�شي��ر �إلى �أدوارهم‬
‫ووظائفهم في الم�سرحية ال غير‪.‬‬

‫ولن�أخ��ذ كمثال على ذلك «�أبو �إهاب»‪ .‬ولنالحظ‪ ،‬بدءا‪� ،‬أن هناك اختالفا �شديدا‬
‫على ن�سب هذا الرجل‪ .‬فهو مرة �إهاب بن عزيز‪� ،‬أو �إهاب بن عبد عزيز‪ ،‬من بني‬
‫دارم‪ .‬لكنه ثانية عند ابن �إ�سحق‪ :‬الحارث بن عامر بن نوفل‪ .‬وح�سبه �أي�ضا‪ ،‬فقد‬
‫كان �أب��و لهب بن عبد المطلب �أخا الحارث هذا لأمه‪ .‬لكنه عند �آخرين مولى بني‬
‫نوف��ل ولي�س منهم‪� .‬أما كني��ة هذا الرجل فت�ؤيد بقوة فكرة �أننا �أمام دور ديني‪� ،‬أو‬
‫مهم��ة دينية في الم�سرحية التي نخمنها‪ .‬فالإهاب هو الظرف الجلدي‪« :‬الإهاب‪:‬‬
‫الجلد من البقر والغنم والوح�ش ما لم يدبغ‪ ...‬ومنه قول عائ�شة في �صفة �أبيها‪،‬‬
‫ر�ضي الله عنهم��ا‪ :‬وحقن الدماء في �أهبها‪� ،‬أي ف��ي �أج�سادها» (ل�سان العرب)‪.‬‬
‫وعن��د ابن فار�س‪« :‬كل جلد �إهاب‪ ،‬والجمع �أهب» (ابن فار�س‪ ،‬مقايي�س اللغة)‪.‬‬
‫بن��اء عليه ف�أبو �إهاب تعني‪� :‬أبو الظ��رف الجلدي‪� ،‬أي �صاحب الظرف الجلدي‪.‬‬
‫وقد ر�أينا �أعاله في ن�ص ابن حبيب كيف �أن الغزال الذهبي كان يحفظ في ظرف‪،‬‬
‫�أو جث��ة‪� ،‬أي في �إهاب‪ ،‬ثم ا�ستخرج من �إهابه وقت �سرقته‪� ،‬أي في الحقيقة حين‬

‫‪117‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫جاء وقت الحدث التمثيلي من وجهة نظر فكرتنا‪ .‬عليه‪ ،‬فال�شخ�ص الذي له عالقة‬
‫بظرف الغزال في الحدث الم�سرح��ي المفتر�ض كان يدعى دوما «�أبو �إهاب»‪،‬‬
‫�أي �صاح��ب الإهاب‪ ،‬بغ�ض النظر عن ا�سمه الحقيقي‪� ،‬أو عن الوقت الذي وجد‬
‫في��ه‪ .‬لكننا ال نعرف يقينا �إن كان��ت وظيفته المحافظة على الغزال في ظرفه‪� ،‬أم‬
‫تعرية الغزال من ظرفه ا�ستعدادا لتقطيعه‪� ،‬أم المهمتين معا‪.‬‬

‫وانطالق��ا من الفقرة‪« :‬وطرحوا ظرفه وكان [ق��د و�ضع] على خ�شب في منزل‬
‫�شي��خ م��ن بني عامر بن ل���ؤي»‪ ،‬ف�إنه يفه��م �أن �أحدا ما يع��ري الغزال ويطرح‬
‫الظ��رف على �سطح بيت �أحدهم كي يجري تلزيمه بالجريمة الحقا‪ ،‬في ما يبدو‪.‬‬
‫�إذ �أن العث��ور على ظرف الغزال مرميا في بيت ما كان ي�ؤدي �إلى �إدانة �صاحب‬
‫البيت وقتله‪ ،‬رمزيا في ما نفتر�ض‪ .‬فمن ال�صعب �أن ن�صدق �أن الأمر تعلق بقتل‬
‫حقيق��ي‪« :‬ووجدوا ظرف الغزال في منزل العام��ري ال�شيخ الأعمى‪ ،‬فقال‪ :‬ال‬
‫عل��م لي بما �صنعوا‪� ،‬أنا �أعم��ى‪ ،‬فقتلوه»‪ .‬لقد قتل‪ ،‬بناء على الق�صة‪ ،‬رغم �أنه ال‬
‫عالقة له بالجريمة‪ .‬من هنا افتر�ضنا �أن الأمر يتعلق بقتل رمزي ال غير‪.‬‬

‫بناء عليه‪ ،‬ربما كان �أبو �إهاب هو من عرى الغزال ورمى الظرف في دار ال�شيخ‬
‫العام��ري عمدا‪� ،‬أي �ضمن الم�سرحية‪ .‬و�أي��ا كان الأمر‪ ،‬فنحن �أمام مهمة دينية‬
‫ف��ي الحدث الم�سرحي تتعلق بظرف الغ��زال‪ .‬عليه‪ ،‬يكون �أبو �إهاب المذكور‪،‬‬
‫ال��ذي عا�صر الإ�سالم‪� ،‬آخر من �أنيطت به مهمة دينية تتعلق بهذا الظرف‪ .‬وهذا‬
‫م��ا يفتر�ض �أن مك��ة ر�أت �سابقا �أكثر من �أبي �إهاب‪ ،‬قبل �أبي �إهاب الذي نتحدث‬
‫عن��ه‪ ،‬لكي يق��وم بالوظيفة التي نتح��دث عنها‪ ،‬وظيفة الحفاظ عل��ى الغزال في‬
‫�إهابه‪� ،‬أو تعريته من �إهابه‪.‬‬

‫ث��م لن�أخذ ابن جدع��ان‪ ،‬فهذه الكنية ق��د توحي بعالقة ما مع وظيف��ة دينية تتعلق‬
‫بالحدث الم�سرحي ال��ذي نحن ب�صدده‪ .‬فهو من جذر «جدع»‪� ،‬أي‪ :‬قطع‪ .‬لهذا‬
‫فهو من حز يد دييك وقطعها في الحادثة‪« :‬و�أخذ دييك‪ ،‬و�ضبطوه من خلفه‪ ،‬ومد‬
‫يده ابن جدعان و�أنحى عليه ال�شفرة‪ ،‬وكانت كليلة‪ ،‬فحز كوعه حتى قطعها‪ ،‬فلم‬
‫يلبث �إال يوما حتى مات»! و�أن يكون ا�سم ابن جدعان على عالقة بالقطع‪ ،‬ثم �أن‬
‫يقطع هو بالذات يد دييك فهذا ما ي�صعب �أن يكون �صدفة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ثم �إن هناك من يخبرنا �أن ابن جدعان الذي ح�ضر حادثة الغزال كان‪ ،‬هو نف�سه‪،‬‬
‫قد ح�ضرقيام حلفي المطيبين والأحالف اللذين �أقيما ب�ش�أن ال�سقاية والرفادة‪�« :‬أما‬
‫�أن الحلفين قد عقدا في �أيام عبد الله بن جدعان فخط�أ‪ .‬فقد �أجمع �أهل الأخبار على‬
‫�أن بن��ي عبد مناف كانوا يلون الرفادة وال�سقاي��ة قبل هذا العهد‪ ،‬و�أن ها�شما كان‬
‫يليهما في حياته» (علي‪ ،‬المف�صل في تاريخ العرب قبل الإ�سالم)‪ .‬بالتالي‪ ،‬فابن‬
‫جدع��ان ح�ضر حلف الف�ض��ول في �شباب الر�سول‪ ،‬كما ح�ض��ر حادثة الغزال‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إلى ح�ض��وره لحلف المطيبين القديم‪ .‬وكل هذا قد ي�شير �إلى �أننا �أمام لقب‬
‫�أو قناع ل�شخ�صية م�سرحية يتكرر ظهورها على خ�شبة الم�سرح الديني المكي‪.‬‬

‫�أم��ا «�أبو �أحيحة» فيعك���س ا�سمه الغيظ وال�ضغن‪�« :‬سمعت ل��ه �أحاحا‪ ‬و�أَ ِحيحا‪� :‬إِذا‬
‫�سمعت��ه يتوج��ع م��ن غي��ظ �أَو ح��زن‪ ...‬والأُحاح‪ ‬والأَ ِحيح‪ ‬والأَ ِحيحة‪ :‬الغيظ‬
‫وال�ضغ��ن وحرارة الغ��م» (ل�سان الع��رب)‪ .‬وربما كان دوره ف��ي التمثيلية �أن‬
‫يطف��ئ الغ�ضب والغي��ظ وال�ضغن‪ .‬فقد انطف�أ غ�ضب الطرفي��ن بعد �أن حدثهم �أبو‬
‫�أحيحة عن حادثة الظبي القديم التي مزقت القبيلين‪.‬‬

‫�أبو لهب‬

‫�إذا �ص��ح �أن الأم��ر يتعلق بحدث تمثي��ل يرتدي فيه �أنا�س مك��ة �أقنعة ل�شخ�صيات‬
‫دينية‪ ،‬فلعل��ه يو�صلنا �إلى �أبي لهب ال�شهير‪ ،‬ال��ذي نزلت فيه وفي زوجه �سورة‬
‫الم�س��د‪« :‬تب��ت يدا �أبي لهب وتب‪ .‬م��ا �أغنى عنه ماله وما ك�س��ب‪� .‬سي�صلى نارا‬
‫ذات لهب‪ .‬وامر�أته حمالة الحط��ب‪ ،‬في جيدها حبل من م�سد» (�سورة الم�سد)‪.‬‬
‫فه��ل من عالقة بين �أبي له��ب وامر�أته في ال�سورة وبين حادثة الغزال التي نحن‬
‫ب�صدده��ا؟ �أي هل يكون ال�سرد في ال�سورة �سردا دينيا ال �سردا واقعيا كما ت�صور‬
‫المف�سرون في الم�صادر العربية؟‬

‫ال�سائ��د بالطبع �أن ال�سورة تحدثنا عن عبد العزى بن عبد المطلب‪ ،‬عم الر�سول‪،‬‬
‫وعن زوجه �أم جميل‪ ،‬وعن �أذى واقعي للر�سول بدر منهما‪ ،‬ف�أدى �إلى لعنهما‪.‬‬
‫لكن ما هو هذا الحدث؟ نحن ال ندري بت�أكيد‪ .‬فكل واحد ي�ضرب ب�ش�أنه في اتجاه‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�إذ يقال لنا �أن �أبا لهب‪:‬‬

‫‪ -‬كان ي�سير خلف الر�سول‪ ،‬وهو يدعو النا�س �إلى الإ�سالم‪ ،‬فيرميه بالحجارة‪.‬‬
‫وهذه تهمة ال تليق برجل من علية القوم مثل عم الر�سول‪.‬‬

‫‪� -‬أو �أنه كان يالحقه وهو يقول للنا�س‪ :‬ال ت�ستمعوا له فهو كذاب‪.‬‬

‫‪� -‬أو �أن��ه قال للر�سول حين جمع ع�شيرته الأقربين كي ينذرهم‪« :‬تبا لك‪� ،‬ألهذا‬
‫جمعتن��ا؟»‪ ،‬فردت عليه ال�سورة‪ :‬بل تبت ي��داك �أنت‪ .‬وهي الرواية ال�سائدة‬
‫عموما‪ .‬وهذا زعم باطل‪ .‬ذلك �أن �آية «و�أنذر ع�شيرتك الأقربين‪ .‬واخف�ض‬
‫جناحك لم��ن اتبعك من الم�ؤمني��ن» (�سورة ال�شع��راء‪ )215-214 :‬هي من‬
‫�سورة ال�شعراء التي نزلت بعد �سورة الم�سد‪.‬‬

‫�أما امر�أته‪ ،‬وهي �أخت �أبي �سفيان‪ ،‬فيقال �أنها‪:‬‬

‫‪� -‬أقبل��ت وفي يدها فَه��ر [حجر �أمل�س] كي ت�ضرب ب��ه الر�سول‪ ،‬وهى تقول‪:‬‬
‫مذمم��ا �أبينا‪ ،‬ودينه قلينا‪ ،‬و�أم��ره ع�صينا‪ .‬لكن ما �ش�أن ه��ذا بالحطب الذي‬
‫تتحدث عنه ال�سورة؟‬

‫‪� -‬أو �أنها كانت تم�شي بالنمائم‪ ،‬و�أن حمل الحطب كناية عن النمائم؛ لأنها توقع‬
‫بي��ن النا�س ال�شر وت�شعل بينهم النيران كالحطب الذي يدلى به في النار لذلك‬
‫�سميت بحمالة الحطب‪ .‬وهذا يعني �أن القر�آن يتكلم هنا بالمجاز‪ ،‬وال يتحدث‬
‫عن حطب حقيقي‪ .‬لكن في هذه الحالة‪ِ ،‬ل َم يكون هناك حبل م�سد؟ �أله عالقة‬
‫بالنميمة �أي�ضا؟‬

‫‪� -‬أو �أنه��ا كانت مو�سرة وكانت لفرط بخلها تحم��ل الحطب على ظهرها فنعى‬
‫الله عز وجل عليها هذا القبح من فعلها‪ ،‬ف�سماها حمالة الحطب‪ .‬وهذا �صعب‬
‫القبول جدا‪ ،‬وينافي الإيقاع العنيف للآية‪.‬‬

‫‪� -‬أو �أنها كانت تقطع ال�شوك فتطرحه في طريق ر�سول الله و�أ�صحابه لت�ؤذيهم‬
‫بذلك والحطب معني به ال�شوك في هذا الجواب‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫زكريا محمد‬

‫• �أو �أنها �ستحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم وال�ضريع؛ لأنها‬
‫فعلت ذلك بالر�سول‪.‬‬

‫وكما نرى فالأمر يتعلق بتكهن��ات ال بروايات حقيقية‪� .‬أما ب�ش�أن الحبل الذي في‬
‫جيده��ا‪ ،‬فمختلف عليه‪ .‬فهو‪« :‬حبل وبر �أو �ص��وف‪� ،‬أو �أنه ال�سل�سلة التي ذكرها‬
‫الل��ه في �س��ورة الحاقة‪« :‬ثم في �سل�س��ة ذرعها �سبعون ذراع��ا فا�سلكوه» (�سورة‬
‫الحاقة‪ .)32 :‬لكن هناك من يقول �أنه بينما كانت �أم جميل ذات ليلة حاملة حزمة‬
‫حط��ب �أعيت‪ ،‬فقع��دت على حجر لت�ستري��ح‪ ،‬فجذبها الملك م��ن خلفها فاختنقت‬
‫بحبلها‪ .‬وفي كل حال‪ ،‬وبا�ستثناء الخرافة الأخيرة عن اختناق �أم جميل بالحبل‪،‬‬
‫يبدو �أنه ال دور فعليا للحبل في كل التف�سيرات‪ ،‬رغم �أنه عن�صر �أ�سا�سي في �سورة‬
‫الم�سد‪ .‬بل �إن ال�سورة ذاتها �سميت با�سم هذا الحبل‪ ،‬حبل الم�سد‪.‬‬

‫وهك��ذا‪ ،‬فكل ما نملك��ه ال يمكن و�صفه ب�أنه �أخبار‪ ،‬فه��و مجرد محاوالت تف�سير‬
‫�ضعيفة الحقة‪ ،‬ال ت�سمن وال تغني من جوع‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬ال يتبقى �أمامنا �إال افترا�ض �أن الحدث الذي ت�شير �إليه ال�سورة حدث ديني‬
‫في الحقيق��ة‪� ،‬أي حدث الت�ضحية بالغزال وتقطيعه‪� ،‬س��واء تعلق بغزال الكعبة‬
‫الذي نحن ب�صدده‪� ،‬أو بالغزال البدئي القديم الذي حدثنا عنه �أبو �أحيحة‪� .‬إذن‪،‬‬
‫فم��ن تبت يداه لي�س عبد العزى عم الر�سول‪ ،‬بل �أبو لهب الأول‪ ،‬الذي يجري‬
‫تمثي��ل دوره على يد عبد العزى‪ .‬فعم الر�سول كان يقوم بتمثيل م�سرحي لفعلة‬
‫قتل الغزال في الزم��ن ال�سحيق‪ ،‬عندما ا�صطرعت القبيلتان اللتان حدثنا عنهما‬
‫�أب��و �أحيحه‪ .‬ي�ؤيد ه��ذا �أن الأخبار المت�ضاربة حول �إي��ذاء عبد العزى للر�سول‬
‫تتناق���ض ب�شدة مع �أخبار �أخرى تتحدث ع��ن حمايته للر�سول بعد �أن مات عمه‬
‫�أب��و طالب‪« :‬لما توفي �أب��و طالب وخديجة‪ ،‬وكان بينهما �شه��ر وخم�سة �أيام‪،‬‬
‫اجتمعت عل��ى ر�سول الله �صلى الل��ه عليه و�سلم م�صيبتان‪ ،‬فل��زم بيته‪ ،‬و�أقل‬
‫الخ��روج‪ ،‬ونالت منه قري�ش ما لم تكن تنال وال تطمع به‪ ،‬فبلغ ذلك �أبا لهب‪،‬‬
‫فجاءه‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬ام�ض لما �أردت وما كنت �صانعا �إذ كان �أبو طالب حيا‬
‫فا�صنعه‪ ،‬ال والالت ال يو�صل �إليك حتى �أموت‪ .‬و�سب ابن العيطلة النبي �صلى‬
‫الل��ه عليه و�سل��م‪ ،‬ف�أقبل عليه �أبو لهب‪ ،‬فنال منه‪ ،‬فول��ى وهو ي�صيح‪ :‬يا مع�شر‬

‫‪121‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫قري���ش‪� ،‬صب�أ �أبو عتبة» (ابن الجوزي‪ ،‬المنتظم)‪ .‬فكيف تتب يدا من دافع عن‬
‫الر�سول هذا الدفاع؟‬

‫ث��م لنلح��ظ �أن كنية عم الر�س��ول الفعلية هي «�أبو عتبة»‪ ،‬وهو م��ا يدعم �أن «�أبو‬
‫له��ب» لقبه في الحدث الدين��ي الم�ستعاد‪� ،‬أي في الح��دث الم�سرحي‪ .‬فلأنه مثل‬
‫الح��دث في حادثة �سرقة الغزال‪ ،‬فقد �صار ك�أنه �أبو لهب الفعلي‪� .‬أي كما يح�صل‬
‫ف��ي ال�سينما‪ ،‬حين يعتقد الجمه��ور �أن (محمود المليجي) هو ال�شرير بعينه‪ ،‬ال �أنه‬
‫يمثل دور ال�شرير‪.‬‬

‫�أم��ا جمل��ة «تبت ي��دا �أبي لهب وت��ب»‪ ،‬فتعني ح�س��ب ال�سائد‪ :‬خ�س��رت يداه‪،‬‬
‫وخ�سر‪� ،‬أو هلك وهلكت يداه‪ .‬لكن هذا ال�سائد يغفل �أن التب يعني �أي�ضا‪ :‬القطع‪.‬‬
‫وه��و يغفله لأنه غافل عن الأ�سطورة‪« :‬ت��ب ال�شيء‪ :‬قطعه» (الخليل‪ ،‬العين)‪.‬‬
‫و«ثعلب عن ابن الأعرابي‪ :‬تب �إذا قطع‪ ،‬وتب �إذا خ�سر» (الأزهري‪ ،‬تهذيب‬
‫اللغ��ة)‪ .‬و«تب ال�شيء‪ :‬قطع��ه‪ .‬وتب‪� :‬إذا قطع» (الزبي��دي‪ ،‬تاج العرو�س)‪.‬‬
‫�إذن‪ ،‬فجملة تبت يدا �أبي لهب قد تعني‪ :‬قطعت يدا �أبي لهب‪� .‬أي �أن في ال�سورة‬
‫دع��وة لقطع يديه‪ .‬وهذا م��ا يعيدنا �إل��ى حادثة الغزال‪ ،‬حي��ث جرت محاولة‬
‫لقط��ع يد �أبي لهب‪ ،‬على �أ�سا�س �أنه �سرق الغزال‪ ،‬لكن يده لم تقطع‪« :‬وقطعوا‬
‫الموليي��ن ول��م يقووا على �أبي له��ب [�أي لم يقدروا على قطع ي��ده] لمكان بني‬
‫ها�شم» (ابن حمدون‪ ،‬التذكرة الحمدونية)‪ .‬ويبدو �أن القطع الرمزي ال يحدث‬
‫فو�ض جمع‬ ‫ب�سب��ب ال�سرقة‪ ،‬و�إنما ب�سبب تقطيع الغ��زال الإلهي‪ .‬ف�أبو لهب من ّ‬
‫ال�ساهري��ن ال�سكارى بتقطي��ع الغزال الذهب‪ .‬ولعل ه��ذا �أن يكون على عالقة‬
‫برب��ط يد الحر�ض��ة اليمنى في لعب��ة المي�سر‪ .‬فمن المحتمل �أنه��ا تلف بالمجول‬
‫التب والقط��ع‪� ،‬أي من اللعن��ة الدينية الت��ي ت���ؤدي �إليهما‪� .‬أي‬
‫لحمايته��ا م��ن ّ‬
‫ك�إج��راء �سحري يبعد عنها احتمال القطع‪ .‬ذلك �أن الحر�ضة هو من يقرر ق�سمة‬
‫الجزور‪� ،‬أي تقطيع لحمه‪ ،‬رمزيا‪ ،‬بين المتقامرين‪ ،‬كما كان �أبو لهب هو من‬
‫قرر تقطيع غزال الكعبة‪.‬‬

‫وباخت�ص��ار يب��دو لنا كما ل��و �أن �أبا لهب هو �ص��ورة �أخرى‪ ،‬لك��ن �سلبية‪ ،‬لعبد‬
‫المطل��ب‪ .‬فكل منهما يقدم �أ�ضحية يتم تقطيعه��ا وتمزيقها‪ .‬عبد المطلب يقدم عبد‬

‫‪122‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الل��ه الذبيح الذي يتم تقطيعه رمزيا كتمثال الذه��ب‪ ،‬وعبد العزى �أبو لهب يقدم‬
‫غ��زال الكعبة الذهبي ال��ذي يقطع �أي�ضا تقطيعا‪� .‬أي �أن االب��ن يقوم‪ ،‬ب�شكل ما‪،‬‬
‫بتمثي��ل الدور الذي قام به �أبوه من قبل‪ .‬من جل ه��ذا قال �أبو لهب عن الغزال‪:‬‬
‫هذا «غزال �أبي»‪.‬‬

‫�أبو لهب وكب�ش المحرقة‬

‫وال ب��د من لف��ت االنتباه �إلى مفردات‪« :‬لهب‪ ،‬ن��ار‪ ،‬حبل‪ ،‬حطب‪ ،‬م�سد» في‬
‫ال�س��ورة‪ .‬وجزء رئي�سي من هذه المفردات يمكن ل��ه �أن يذكرنا بالذابح �إبراهيم‬
‫والذبي��ح �إ�سحق‪ -‬مثيل �إ�سماعيل‪ -‬وكب�ش المحرقة‪ .‬فهناك �أي�ضا نجد حطبا ونارا‬
‫وحيوانا وحبال يربط به‪ .‬فقط الكب�ش ي�ستبدل بالغزال الذهبي في ق�صة �أبي لهب‪.‬‬
‫�صحي��ح �أن ق�صة �أبي لهب تقدم �سلبيا في حين �أن ق�صة �إبراهيم تقدم �إيجابيا‪ ،‬لكن‬
‫الم�سرح هو ذاته‪:‬‬

‫«وحدث بعد هذه الأمور �أن الله امتحن �إبراهيم فقال له يا �إبراهيم فقال ه�أنذا‪.‬‬
‫فق��ال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه �إ�سحق واذهب �إل��ى �أر�ض المريا وا�صعده‬
‫فبكر �إبراهيم �صباحا و�شد على‬ ‫هناك محرقة على �أحد الجبال الذي �أقول لك‪ّ .‬‬
‫حم��اره و�أخذ اثنين من غلمان��ه معه و�إ�سحق ابنه و�شق��ق حطبا لمحرقة وقام‬
‫وذه��ب �إلى المو�ضع الذي قال له الل��ه‪ .‬وفي اليوم الثالث رفع �إبراهيم عينيه‬
‫و�أب�ص��ر المو�ضع من بعيد‪ .‬فقال �إبراهي��م لغالميه اجل�سا �أنتما ههنا مع الحمار‬
‫و�أما �أنا والغالم فنذهب �إلى هناك ون�سجد ثم نرجع �إليكما‪ .‬ف�أخذ �إبراهيم حطب‬
‫المحرقة وو�ضعه على �إ�سحق ابنه و�أخذ بيده النار وال�سكين فذهبا كالهما معا‪.‬‬
‫وكل��م ا�سحق �إبراهيم �أب��اه وقال‪ :‬يا �أبي‪ ،‬فق��ال‪ :‬ه�أنذا يا ابن��ي‪ ،‬فقال‪ :‬هو ذا‬
‫الن��ار والحطب‪ ،‬ولكن �أي��ن الخروف للمحرقة‪ .‬فق��ال �إبراهيم‪ :‬الله يرى له‬
‫الخ��روف للمحرق��ة يا ابني‪ ،‬فذهبا كالهم��ا معا‪ .‬فلما �أتيا �إل��ى المو�ضع الذي‬
‫قال ل��ه الله بنى هناك �إبراهي��م المذبح‪ ،‬ورتب الحطب ورب��ط ا�سحق ابنه‪،‬‬
‫وو�ضع��ه على المذبح فوق الحط��ب‪ .‬ثم مد �إبراهيم يده و�أخ��ذ ال�سكين ليذبح‬
‫ابنه‪ .‬فناداه مالك الرب من ال�سماء‪ ،‬وقال‪� :‬إبراهيم‪ ،‬فقال ه�أنذا‪ .‬فقال ال تمد‬

‫‪123‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ي��دك �إلى الغالم وال تفعل به �شيئا لأن��ي الآن علمت �أنك خائف الله فلم تم�سك‬
‫ابنك وحيدك عن��ي‪ .‬فرفع �إبراهيم عينيه ونظ��ر و�إذا كب�ش وراءه مم�سكا في‬
‫الغابة بقرني��ه فذهب �إبراهيم و�أخذ الكب�ش و�أ�صع��ده محرقة عو�ضا عن ابنه»‬
‫(الكتاب المقد�س‪ ،‬تكوين ‪.)13-1 :22‬‬

‫�إذن‪ ،‬فقد كان هناك حبل و�سكين وذبيح وحطب ومحرقة وكب�ش محرقة‪.‬‬

‫والحب��ل ثيم��ة مركزية من ثي��م الأ�سطورة‪ .‬ل��ذا كان هناك حبل ف��ي ال�سورة‪،‬‬
‫وحب��ل في ق�صة الذبيح �إ�سماعيل‪ .‬وحبل في جي��د �أم جميل‪ ،‬وحبل في ق�صة ابن‬
‫قهو�س «في يوم جبلة» كم��ا عر�ضناها في كتابنا ال�سابق «كتاب الحم�س والطل�س‬
‫والحلة»‪ .‬فقد كان والد ابن قهو�س‪ ،‬يعلق في جيده حبال‪ ،‬افتر�ضنا �أنه �سيربط به‬
‫ابنه لت�ضحية ما‪ .‬قالت دختنو�س‪:‬‬
‫ولقد ر�أيت �أباك و�سط القوم يربق �أو يجل‬

‫متقل��دا رب��ق الف��رار ك�أن��ه ف��ي الجيد غل‬

‫والف��رار هو الخ��روف �أو الجدي‪ ،‬كم��ا �أو�ضحنا من قبل‪ .‬وهك��ذا‪ ،‬فقهو�س‪-‬‬


‫وا�سم��ه يعن��ي التي�س‪ -‬كان ي�ض��ع في جيده الحب��ل الذي �سيربط ب��ه الجدي �أو‬
‫الخ��روف‪� ،‬أي كب���ش المحرقة‪ .‬كما �أنه كان «يجِ ��لّ »‪� ،‬أي يجمع الجلة‪ ،‬وهي‬
‫الروث‪ .‬فلماذا كان يتقلد في جيده حبال‪ ،‬ويجمع الروث في لحظة ا�شتباك يزعم‬
‫�أن��ه ا�شتباك حربي في يوم جبلة‪ ،‬يوم «تعطي���ش النوق»؟ من الوا�ضح �أنه كان‬
‫مقدما على ت�ضحية ما‪ .‬فالتي�س‪ -‬قهو�س �أعد‪ ،‬مثل �إبراهيم‪ ،‬حبال كي يربط ابنه‬
‫الجدي ويقدمه قربانا‪.‬‬

‫�إنن��ا‪� ،‬إذن‪� ،‬أمام الإك�س�س��وارات ذاتها‪ ،‬والم�سرحية ذاته��ا‪ ،‬م�سرحية الت�ضحية‬


‫باالبن‪ ،‬رمزيا‪ ،‬ثم افتدا�ؤه بكب�ش‪� ،‬أي الت�ضحية بكب�ش �أو تي�س‪ .‬الفارق فقط �أن‬
‫الكب���ش هنا تي�س من ظباء الأروى‪ ،‬و�أن الحبل يو�ضع في عنق زوجة �أبي لهب‬
‫ال ف��ي عنق �أبي لهب‪ .‬لكن المعنى واحد‪« :‬ف��ي جيدها حبل من م�سد» �أو «متقلدا‬
‫ربق الفرار ك�أنه في الجيد غلّ »‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫زكريا محمد‬

‫التقليد اليوناني‬

‫وبخ�صو�ص وجود الحبل ف��ي عنق زوجة �أبي لهب‪ ،‬فلدينا التقليد اليوناني الذي‬
‫يعط��ي الأم دورا رئي�سي��ا في الت�ضحي��ة باالبن‪ .‬ففي ال�صراع بي��ن ديوني�سو�س‬
‫وبنثيو���س في م�سرحية «عابدات باخو�س» ليوربيدي���س ينتهي الأمر ب�أم الأخير‬
‫�إلى قطع ر�أ�س ابنها وهي تظنه ر�أ�س حيوان‪.‬‬

‫«ه��ذه الفقرة [الفقرة ‪ ]168‬تمثل قمة الم�أ�ساة ف��ي الم�سرحية‪ :‬تحمل �أجافي ر�أ�س‬
‫ولدها بنثيو�س‪ ،‬لكنها تعتقد �أنها تحمل ر�أ�س �صيد اقتن�صته من فوق جبل كثيرون»‬
‫(�شعراوي‪ 1997،‬عابدات باخو�س‪� ،‬ص ‪ ،204‬هام�ش ‪.)162‬‬

‫وهي تفعل ذلك مع �صويحباتها اللواتي كن يرتدين جلد غزال‪:‬‬

‫«�إن طيبة هي �أول بقعة من هذه الأر�ض الإغريقية‬


‫�أدفع بن�سائها �إلى ال�صراخ‪ ،‬و�ألقي على �أج�سادهن جلود الغزالن‪،‬‬
‫و�أ�ضع في �أيديه��ن المخا�صر‪ -‬حرابي المعرو�شة ب�أغ�ص��ان اللبالب» (الم�صدر‬
‫ذاته‪� ،‬ص ‪.)122-121‬‬

‫وق��د «اعتاد ال�شعراء والر�سام��ون الإ�شارة �إلى جلد الغزال كثي��اب تقليدية �أثناء‬
‫ت�أديته��ن [الن�ساء] للطقو�س الباخية‪ ...‬على �أية حال كان جلد الغزال ثوبا مقد�سا‬
‫لأتباع باخو�س» (الم�ص��در ذاته‪� ،‬ص ‪ ،184‬هام�ش ‪ .)26‬وهذا يذكرنا بظرف‬
‫غ��زال الكعبة‪� ،‬أي الجلد ال��ذي كان يو�ضع فيه‪ .‬كما يذكرن��ا ب�أبي �إهاب‪ ،‬الذي‬
‫يعني �أبا ظرف الجلد‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬فرغم �أن الأم قطعت ر�أ�س �أ�سد‪ ،‬ف�إن العادة في الطقو�س الباخية‬
‫يقطع �أ�سد �أو غزال‪� ،‬أو غيرها‪« :‬ت�شير الم�صادر القديمة �إلى �أن ال�ضحية التي‬ ‫�أن ّ‬
‫يمزقها المتعبد ويلتهمها تكون ثورا �أو عنزا بريا �أو غزاال �أو �أفعى �أو �أ�سدا‪ .‬ولعل‬
‫هناك عالق��ة بين هذه الفكرة وما يقول��ه يوربيدي�س على ل�س��ان فتيات الكور�س‬
‫حي��ث تطلب عابدات باخو�س م��ن �إلههن �أن يظهر في �صورة ث��ور �أو �أفعى �أو‬
‫�أ�سد» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪.)57‬‬

‫‪125‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وهك��ذا فالعن��ز الب��ري‪� ،‬أي الأروى‪ ،‬هو م��ن �ضمن الئح��ة الأ�ضاحي‪ .‬وهذا‬
‫يعن��ي �أن الحيوانات الأخ��رى مثيل لغزال الأروى‪ ،‬وبديل ل��ه‪ .‬وارتداء الأم‬
‫و�صويحباته��ا لجلد الغزال دليل على �أننا �أمام �شعائر ت�ضحية رمزية بغزال‪ .‬وقد‬
‫ارت��دت �أم بنثيو�س جلد الغزال لأن ابنها غ��زال‪ .‬لقد ارتدت جلده‪ .‬وهي تقطع‬
‫ر�أ�س هذا االبن في الم�سرحية ظانة �أنها تقطع ر�أ�س حيوان �صيد‪�« :‬إننا نحمل من‬
‫الجبال غ�صن لبالب �أخ�ضر‪ ،‬نحمل �إلى الق�صر �صيدا طيبا» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص‬
‫‪ .)175‬وهي تقطع هذا الحيوان‪ -‬ابنها كما مزق �أبو لهب غزال الكعبة‪:‬‬

‫«�أم�سكت بيد ذراعه الأي�سر‪،‬‬

‫و�ضغطت بقدمها على جنب ال�سكين‪،‬‬

‫وانتزعت الذراع من الكتف‬


‫‪...‬‬

‫[�أما] الباخيات [فكن] ي�صحن �صيحات الن�صر‪ .‬كانت واحدة تحمل ذراعا‪،‬‬

‫والأخرى قدما بالحذاء‬


‫‪...‬‬

‫كانت يدا كل منهن تقطر دما‬

‫وهن يتقاذفن �أ�شالء بنثيو�س مثلما يلعبن بالكرة‬

‫‪...‬‬

‫�أما الر�أ�س الم�سكين فقد وقع م�صادفة في يدي الأم» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪.)167‬‬

‫والحق �أن الن�ص يحاول �أن يخفف من وقع الحقيقة‪ .‬فالأم تدري �أنها كانت تقطع‬
‫ر�أ�سه ابنه��ا‪ .‬فالطق�س يقت�ضي ذلك‪ .‬لكنها تقطع ر�أ�س ابنه��ا عبر الغزال‪ .‬فابنها‬
‫والغ��زال �شيء واحد‪� .‬أي كان��ت ت�ستبدل ابنها بالغزال‪� .‬إن��ه غزال الفداء‪� ،‬أي‬
‫كب�ش الفداء‪ .‬و�أم الغزال غزالة كذلك‪ .‬لذا فقد كانت الباخيات ير�ضعن الغزالن‬

‫‪126‬‬
‫زكريا محمد‬

‫م��ن �أثدائهن‪ :‬كن يلففن �أنف�سه��ن بالحيات‪ ،‬وير�ضعن �صغ��ار الغزالن والذئاب‬
‫من �صدوره��ن‪ .‬وهذا يعني �أنهن غزاالت ير�ضعن الأخ�شاف ال�صغيرة‪ .‬وحين‬
‫تقط��ع �أم بنثيو�س ر�أ�س ابنها فهي تقطع ر�أ�س الغزال في الواقع‪ .‬فهو ابنها‪ ،‬لكنه‬
‫غزال �أي�ض��ا‪ ،‬بال�ضبط مثلما �أن كب�ش فداء �إ�سماعيل‪� ،‬أو �إ�سحق‪ ،‬كان كب�شا ‪� -‬أو‬
‫ظب��ي جبل كما ف��ي التقليد العربي‪ -‬وكان �إ�سماعيل ب��ن �إبراهيم في الوقت ذاته‪.‬‬
‫وحي��ن ذبح �إبراهيم الكب�ش‪ -‬فقد كان يذبح ابنه‪ .‬ابنه رمزيا هو الكب�ش‪ .‬يعني �أن‬
‫�أمر �أم بنثيو�س ال يتعلق بخط�أ‪ ،‬بل يتعلق بطق�س في الأ�صل‪.‬‬

‫�أكث��ر من ذل��ك‪ ،‬فقد كان��ت الباخي��ات يحملن الع�صي ف��ي �أيديه��ن ح�سب ن�ص‬
‫الم�سرحي��ة ال��ذي �أوردن��اه �أعاله‪�« :‬أدف��ع بن�سائها �إل��ى ال�ص��راخ‪ ،‬و�ألقي على‬
‫�أج�ساده��ن جلود الغزالن‪ ،‬و�أ�ضع في �أيديهن المخا�صر»‪ .‬والمخا�صر هي ع�صا‬
‫اخ َت َ�صر الإِن�سان بيده ف�أَم�سكه من ع�صا �أَو ِم ْقرعة �أَو عنزة‬ ‫مح��ددة‪ِ :‬‬
‫الم ْخ�صرة‪ ‬ما ْ‬
‫�أَو ع��كازة �أَو ق�ضيب وم��ا �أَ�شبهها‪ ،‬وقد يتك�أُ علي��ه‪ .‬والمخ�صرة‪ ‬كانت من �شعار‬
‫علي وذكر عمر‪ ،‬ر�ضي الله عنهما‪،‬‬ ‫الملوك‪ ،‬والجمع المخا�صر؛ ومن��ه حديث ّ‬
‫فقال‪ :‬واخت�صر عنزته؛ العنزة �شبه العكازة»‪ .‬و�سوف نرى في ف�صل الحق عن‬
‫لقمان ابن ع��اد �أهمية المخ�صرة‪ ،‬التي تدعى العنزة كما ر�أينا‪ .‬فهي ع�صا ‪ -‬حية‬
‫مثل ع�صا مو�سى التي تتحول �إلى حية‪ .‬وتحمل الن�ساء الباخيات هذه المخ�صرة ‪-‬‬
‫الحية لأنها رمز للإله الذي يتبعه بنثيو�س‪� ،‬أو لأنها تمثل الإله بنثيو�س‪ .‬فبنثيو�س‬
‫هو الإله ذاته‪ ،‬الإله في وجهه القار الذي يتمثل بحية �أو ظبي �أو ثور‪� ،‬أو حمار‪.‬‬
‫لذلك «كانت الباخيات يتوجن ر�ؤو�سه��ن بالأفاعي �أثناء ت�أدية الطقو�س الباخية»‬
‫(الم�ص��در ذاته‪� ،‬ص ‪ ،184‬هام�ش ‪ .)25‬ولأن الحي��ة رمز لبنثيو�س‪ ،‬ف�إن ا�سم‬
‫وال��ده «�إخيون» يعني الحي��ة‪( :‬ولفظ �إخيون معناه «الرج��ل الأفعى»‪ ،‬لذا كان‬
‫الإغريق يعتقدون �أن بنثيو�س �سليل الحيات» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪ ،184‬هام�ش‬
‫‪ .)139‬ومن �أبوه حية يكون هو حية‪ .‬ومن يكون حية تكون الحية رمزه‪.‬‬

‫فوق هذا كله‪ ،‬ف�إن �أجافي دعت‪�( :‬أفراد الكور�س لي�شاركنها وليمة تكون فيها جثة‬
‫بنثيو���س [ابنها] طعاما‪ :‬يبدو �أن هذه الدعوة كانت ج��زءا من الطقو�س الباخية‪،‬‬
‫كم��ا جاءت في الطقو�س الإغريقية) (الم�صدر ذات��ه‪� ،‬ص ‪ ،203‬هام�ش ‪.)161‬‬

‫‪127‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وهذا يذكر بطق�س (مطعم الطير) حين ذبح عبد المطلب ابنه رمزيا‪ ،‬و�أطعم لحمه‬
‫للنا���س والطيور‪ .‬الفارق هنا هو �أن الأم هي التي تمار�س الطق�س ال الأب‪ .‬لكنه‬
‫الطق�س ذاته‪ .‬بالتالي‪ ،‬فطق�س (مطعم الطير العربي) عديل هذا الطق�س الباخي‪.‬‬

‫بن��اء عليه‪ ،‬لن ن�ستغرب �أن ت�ضع زوجة �أبي له��ب الأولى حبل الم�سد في جيدها‬
‫ف��ي الم�سرحية‪ .‬فهو الحبل الذي �سيربط به الج��دي �أو الغزال‪ .‬كما ال ن�ستغرب‬
‫�أن تجمع الحطب وتحمل��ه على ر�أ�سها من �أجل الت�ضحية بالتي�س �أو الجدي‪ ،‬فهو‬
‫حط��ب كب�ش المحرقة‪ .‬ومن المحتمل �أن يكون الحب��ل �أ�صال رمزا للحية ذاتها‪.‬‬
‫على كل حال‪ ،‬فالحي��ة والغزال هي رموز �إله طائفة الحلة‪ ،‬التي ترتبط بال�صنم‬
‫مطعم الطير‪ .‬ومطعم الطير على عالقة بالحية‪ ،‬كما �أو�ضحنا في كتبنا ال�سابقة‪.‬‬

‫وال ب��د هنا من مالحظة‪ .‬فاليون��ان والرومان يخلطون‪ ،‬خلط��ا ال براء منه‪ ،‬بين‬
‫ديوني�سو���س وباخو�س‪� ،‬أي بين وجهي الكون‪ -‬الإله‪ ،‬اللذين ي�صبحان �شيئا واحدا‬
‫عندهم��ا‪ .‬و�سوف نكر�س الحقا بحث��ا خا�صا عن هذا الخل��ط‪ .‬فالأ�صل �أن باخو�س‬
‫نقي���ض ديوني�سو���س‪ .‬وباخو�س هذا ي�س��اوي «بكو» من بين �آلت��ي جلجام�ش «مكو‬
‫وبك��و» ال�سومريتي��ن‪ .‬وهو �شبيه ذي بك��ة‪� ،‬أي الأبك‪ ،‬في ديانة مك��ة‪� .‬إنه النغمة‬
‫ال�سفل��ى الالفي�ضية ال�شتوية‪ .‬ولأن اليونان والرومان خلطا الوجهين معا‪ ،‬فقد كان‬
‫عليهم��ا �أن ين�صبا دوما نقي�ض��ا لديوني�سو�س‪ .‬وفي م�سرحية عاب��دات باخو�س كان‬
‫بنثيو���س هو النقي�ض‪� .‬أي �أن��ه كان هو باخو�س‪ .‬دليل ذل��ك �أن ا�سمه يعني الحزن‬
‫والأ�س��ى‪ .‬وهو حزين لأنه قتيل ذبيح‪ .‬كما �أن ا�سم وال��ده «�إخيون» يعني‪ :‬الحية‪:‬‬
‫«لف��ظ �إخيون معناه‪ :‬الرجل الأفعى‪ .‬لذا كان الإغري��ق يعتقدون �أن بنثيو�س �سليل‬
‫الحي��ات» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪ ،200‬هام���ش ‪� .)137‬إذن‪ ،‬فحين يجري الحديث‬
‫عن ارتباط الحي��ة بديوني�سو�س‪ -‬باخو�س‪ ،‬فعلينا �أن نفهم �أن الأمر يخ�ص باخو�س‬
‫ال ديوني�سو���س‪« :‬ارتبطت الحي��ة بطقو�س الإله باخو�س‪ .‬فكم��ا توجت ر�أ�س الإله‬
‫بالأفاعي لحظة مولده كانت الباخيات يتوجن ر�ؤو�سهن بالأفاعي �أثناء ت�أدية الطقو�س‬
‫الباخي��ة» (الم�صدر ذاته‪� ،‬ص ‪ ،184‬هام�ش ‪ 28‬من عابدات باخو�س)‪ .‬والحية كما‬
‫نعرف من كتبنا ال�سابقة مرتبطة ببكو وبذي بكة‪ .‬كما �أنها مرتبطة ببكو ال�سومرية‪.‬‬
‫فحي��ن �صنع جلجام�ش �آل��ة بكو من �صف�صافة �إنانا‪� ،‬صنعها م��ن �أ�صل ال�شجرة حيث‬

‫‪128‬‬
‫زكريا محمد‬

‫كان��ت تقيم الحية‪� .‬أم��ا ديوني�سو�س الخمرى‪� ،‬أي �شبيه مك��و الخمري ال�سومري‪،‬‬
‫والم��كاء العربي الخم��ري‪ ،‬فلي�س له عالقة بالحي��ات‪� .‬إنه نقي�ضه��ا وعدوها‪ .‬لقد‬
‫ارتب��ط بالحيات ب�سب �شوا�ش يوناني ال غير‪ .‬هذا ال�شوا�ش ناتج‪ ،‬في �أغلب الظن‪،‬‬
‫ع��ن �أن �أوزيري�س الفي�ضي‪ ،‬الجنوبي‪� ،‬أي �سهي��ل اليماني‪ ،‬ممثل الكون في نغمته‬
‫العلي��ا‪ ،‬ال يرى في �أوربا‪ .‬فهو يك��ون بالن�سبة لها تحت خط الأفق‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فهم‬
‫ال يب�صرون هناك �إال الإل��ه في مظهره ال�شمالي‪� ،‬أي ال�سها‪� ،‬أو �أبولو‪� ،‬أو بنثيو�س‬
‫الذي نح��ن ب�صدده‪ .‬وهكذا �ص��ار الإله في مظهره ال�شمالي ممث�لا لوجهي الكون‬
‫ال�صيفي وال�شتوي معا‪� .‬صار ديوني�سو���س وباخو�س معا‪� .‬أما في الأ�صل فباخو�س‬
‫ه��و بك��و‪ .‬وال�شبه اللفظ��ي بينهما ي�ؤكد ذلك تمام��ا‪ .‬يعني �أن ابن الحي��ة‪ ،‬في نهاية‬
‫الأمر‪ ،‬باخو�س‪ -‬بنثيو�س‪ ،‬ال ديوني�سو�س‪ .‬ديوني�سو�س عدو الحيات ال �سليلها‪.‬‬

‫و�أخيرا‪ ،‬فقد قدمنا هنا ت�صورا �أوليا عن �أبي لهب وعن �شخ�صيات م�سرحية غزال‬
‫الكعب��ة‪� .‬أو قل �أننا ق��د فتحنا الباب فقط لفه��م �أمر الم�سرحي��ة الطق�سية الكبرى‪:‬‬
‫م�سرحية �سرق��ة غزال الكعبة وتقطيعه‪ .‬ونحن بحاجة �إل��ى جهد �أو�سع لفهم هذه‬
‫الم�سرحي��ة‪ ،‬التي ما زال الغمو�ض يلف �أج��زاء وا�سعة منها‪ ،‬رغم ما قدمناه في‬
‫محاولتن��ا هذه‪ .‬وهذا الجهد �ضرورة حا�سمة لفهم ديانة العرب قبل الإ�سالم‪ .‬كما‬
‫�أن��ه �ضرورة حا�سمة لفهم االكت�ش��اف الجديد‪� :‬أن ثمة م�سرحا طق�سيا كان يعر�ض‬
‫على الخ�شبة المكية قبيل الإ�سالم بقليل‪.‬‬

‫ديك ودييك‬

‫�أم��ا بخ�صو�ص ديك ودييك‪ ،‬ف�إننا في ما يبدو �أمام تمثيل للأب وابنه‪� .‬أي �أننا مع‬
‫�شيء �شبيه بلقمان بن عاد‪� ،‬صاح��ب المي�سر‪ ،‬وابنه لقيم‪ ،‬اللذين �سنتحدث عنهما‬
‫الحق��ا‪ .‬وقد حاول لقم��ان �أن يغدر بابنه ويقتله‪ ،‬في �صيغ��ة �سلبية لمن يقدم ابنه‬
‫�أ�ضحية‪ .‬بالتالي نكون مع‪:‬‬

‫لقمان و لقيم‬
‫ديك و دييك‬

‫‪129‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫مع ال�شيء وت�صغيره‪ .‬مع الأب وطفله الذي �سيقدمه �أ�ضحية‪ .‬وال�صغير هو الذي‬
‫يكون الأ�ضحية‪ .‬لذا فقد نجا الديك وقتل م�صغره دييك‪ .‬و�أخذت الدية عن دييك‪،‬‬
‫كما �أخذت الدية في ق�صة عبد الله الذبيح‪ .‬وهذا ما يربطهما ب�إبراهيم وابنه الذبيح‬
‫�إ�سماعيل‪ ،‬وبعبد المطلب والذبيح عبد الله‪:‬‬

‫لقيم‬ ‫لقمان ‬
‫دييك‬ ‫ديك ‬
‫�إبراهيم �إ�سماعيل‬
‫عبد المطلب عبد الله‬

‫بالطبع‪ ،‬يتم فداء الذبيح بكب�ش الأروى في النهاية‪.‬‬

‫�أ�سماء وعثمة‬

‫يب��دو �أن تقلي��د المغنيتين �أ�سم��اء وعثمة تقليد عرب��ي قديم جدا‪ ،‬و�أن��ه تقليد ديني‬
‫�أي�ضا‪ .‬ي��دل على ذلك �أن الوفد الذي �أر�سلته ع��اد لال�ست�سقاء في الكعبة‪ ،‬والذي‬
‫كان م��ن �ضمنه‪� ،‬أو ف��ي قيادته‪ ،‬لقمان بن عاد‪ ،‬كان ح�ض��ر هو الآخر في مكة‬
‫م�أدبة غنت فيها قينت��ان ت�شبهان �أ�سماء وعثمة‪� ،‬سميتا بالجرادتين‪« :‬الجرادتان‪،‬‬
‫قينتا معاوية بن بكر‪� ،‬أحد العماليق‪ .‬و�أن عاد ًا لما كذبوا هودا عليه ال�سالم توالت‬
‫عليهم ثالث �سنوات لم يروا فيها مطر ًا فبعثوا من قومهم وفد ًا �إلى مكة‪ ،‬لي�ست�سقوا‬
‫له��م‪ ،‬ور�أ�سوا عليه��م قيل برعنق‪ ،‬ولقيم ب��ن هزال‪ ،‬ولقمان ب��ن عاد‪ .‬وكان‬
‫�أه��ل مكة �إذ ذاك العماليق‪ ...‬وكان �سيدهم بمك��ة معاوية بن بكر‪ .‬فلما قدموا‪،‬‬
‫نزلوا عليه‪ ،‬لأنه��م كانوا �أخواله و�أ�صهاره ف�أقاموا عن��ده �شهراً‪ .‬وكان يكرمهم‬
‫والجرادتان‪ ‬تغنيانهم» (الميداني‪ ،‬مجمع الأمث��ال)‪ .‬ي�ضيف الطبري‪« :‬فانطلق‬
‫ع��دة وفدهم �سبعين‬
‫ُ‬ ‫كل رج��ل من ه���ؤالء القوم معه رهط م��ن قومه‪ ،‬حتى بلغ‬
‫رج�لاً‪ ...‬فلما نزل وفد عاد عل��ى معاوية بن بكر �أقاموا عن��ده �شهر ًا ي�شربون‬
‫الخمر‪ ،‬وتغنيهم‪ ‬الجرادت��ان‪ -‬قينتان‪ ‬لمعاوية بن بك��ر‪ -‬وكان م�سيرهم �شهراً‪،‬‬
‫ومقامهم �شرهاً» (تاريخ الطبري)‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ويمك��ن لنا �أن نلحظ هنا عددا من الأمور المهم��ة �إذا ما رطنا ق�صة �أ�سماء وعثمة‬
‫بق�صة الجرادتين‪:‬‬

‫‪�1.1‬أن تقلي��د المغنيتين مرتبط بتقليد اال�ست�سق��اء‪ ،‬ا�ست�سقاء المطر الو�سمي‪ ،‬مطر‬
‫الثريا في غورانها‪.‬‬

‫‪�2.2‬أن عالق��ة لقمان ب��ن عاد بالمغنيتي��ن ي�شي بتعال��ق بين لعبة المي�س��ر وتقليد‬
‫اال�ست�سقاء‪.‬‬

‫‪�3.3‬أن تقلي��د اال�ست�سقاء مرتبط باحتفاالت فيها قدر م��ن اللهو والن�سيان‪ .‬لذا قال‬
‫المث��ل‪« :‬تركت��ه تغنيه الجرادت��ان»‪� ،‬أي تركته الهيا ين�س��ى ما هو مطلوب‬
‫«جماع‬
‫من��ه‪ ،‬كما فعل وفد عاد‪ .‬والأغل��ب �أن االحتفاالت مرتبطة باحتفال ّ‬
‫الثريا»‪.‬‬

‫‪�4.4‬أن وفد عاد كان �سبعين رجال‪ .‬والرقم �سبعون قريب من الرقم ‪ ،72‬الذي هو‬
‫رقم المت�آمرين الذين قتلوا �أوزيري�س وقطعوه و�أغلقوا عليه في ال�صندوق‪.‬‬

‫لكن يبدو �أن تقليد الم�أدب��ة والمغنيتان تقليد �أقدم و�أبعد زمنا من الق�ص�ص العربية‬
‫التي بين �أيدينا عن غزال الكعبة وعن وفد عاد‪ .‬فنحن نجد هذا التقليد عند الأنباط‪،‬‬
‫ف��ي ما يبدو‪ .‬ففي �سياق حديث��ة عن ه�ؤالء الأنباط يعر���ض �سترابو‪ ،‬في القرن‬
‫الأول الميالدي‪ ،‬لهذا التقليد في كتابه الجغرافيا‪ .‬وهو في اعتقادنا تقليد ذو �أ�صل‬
‫دين��ي‪« :‬وهم يعدون موائد عامة �ضمن مجموعات تتكون من ‪� 13‬شخ�صا‪ .‬ولكل‬
‫مجموع��ة مغنيتان‪ .‬ويملك الملك �أ�صوعة كثيرة رائعة‪ ،‬لكن �أحدا ال ي�شرب �أكثر‬
‫من ‪ 11‬ك�أ�سا‪ ،‬م�ستخدما ك�أ�س ذهبية مختلفة في كل مرة»‬
‫)‪(Strabo, The Geography of Strabo, 1932, page 369‬‬

‫وق��د ترجمنا كلم��ة ‪� drinking-bouts‬إلى �أ�صوعة‪ ،‬جم��ع �صواع‪� ،‬أي ك�أ�س‬


‫ال�ش��راب الملك��ي‪ ،‬كي نحيل �إلى م��ا ورد في �سورة يو�سف في الق��ر�آن‪« :‬قالُوا‬
‫الم ِل ِك‪ ‬ولمن جاء بِه حمل بعير و�أَنا به زعيم» (�سورة يو�سف ‪.) 72‬‬
‫اع َ‬‫��و َ‬ ‫َنف ِق ُد ُ‬
‫‪� ‬ص َ‬
‫فكما نلحظ تتحدث الآية عن «�صواع الملك» في حين يتحدث �سترابو عن ك�ؤو�س‬

‫‪131‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الملك �أي�ضا‪� .‬أما المغنيتان النبطيتان فهما �شبيهتا �أ�سماء وعثمة في اعتقادنا‪ .‬ويبدو‬
‫م��ن خالل و�صف اب��ن حبيب لحادثة غ��زال الكعبة �أننا كنا �أم��ام م�أدبة في بيت‬
‫مقي���س ت�شبه هذه م�أدبة الأنباط‪ .‬ويبدو �أن مدة االحتفال‪ -‬الم�أدبة يجب �أن تكون‬
‫�شه��را‪ .‬فعند ابن حبيب �أن م��ن جمعتهم م�أدبة �سرقة الغ��زال‪« :‬مكثوا ي�شربون‬
‫�شه��را �أو �أكثر»‪ ،‬كما ر�أين��ا‪� .‬أما جماعة عاد الم�ست�سقية فدام��ت م�أدبتها مثل هذا‬
‫�أي�ضا‪ »:‬ف�أقاموا عنده �شهر ًا ي�شربون الخمر وتغنيهم‪ ‬الجرادتان‪( ».‬الزمخ�شري‪،‬‬
‫الك�ش��اف)‪ .‬ونح��ن نفتر�ض �أن هذا ال�شعر هو �شهر رج��ب الخريفي‪� ،‬أي رجب‬
‫ربيعة‪ ،‬الذي تغور فيه الثريا‪.‬‬

‫وق��د علمنا من كتبنا ال�سابقة ومن كتابنا هذا �أن الإله في طوره القار‪ ،‬الإله الذبيح‬
‫مرتبط بالموائ��د‪� .‬إذ تقام م�أدبة يقدم فيها لحم الإل��ه‪ ،‬رمزيا‪ ،‬وت�أكل منه الطير‬
‫والنا�س‪ .‬وقد ر�أينا في تلك الكتب �أن الإله �سين اليمني يدعى ب «ذي الوالئم»‪.‬‬
‫كما �أن �إ�سماعيل دعي بـ «ذي المطابخ»‪ .‬ويجب �أن نلحظ �أن الآدبين ال ي�شربون‬
‫�أكثر من ‪ 11‬ك�أ�سا‪ .‬ذلك �أن الك�أ�س الآخر الذي يكمل العدد ‪ 12‬هو كا�س الذبيح‪،‬‬
‫�أي ك�أ�س الإله القتيل الم�ضحى به‪ .‬وهو ك�أ�س لن ي�شربه �أحد‪ .‬وهذا يذكر بما جاء‬
‫ف��ي القر�آن عن يو�سف‪�« :‬إني ر�أيت احد ع�شر كوكبا وال�شم�س والقمر ر�أيتهم لي‬
‫�ساجدين»‪ .‬فهن��اك �أحد ع�شر كوكبا هم ذاتهم �إخ��وة يو�سف‪ .‬ويو�سف هو الرقم‬
‫‪ .12‬يو�سف الذي �ألقاه �إخوته في الجب‪� ،‬أي قتلوه رمزيا‪ .‬فهو مثيل الذبيح‪� .‬أما‬
‫الع��دد ‪ 13‬فيحيلنا �إلى �شهور ال�سنة م�ضافا �إليها الأي��ام الخم�سة لكي ت�صبح ‪.365‬‬
‫فهذه الأي��ام كانت تح�سب �شهرا ناق�صا‪ ،‬ي�صبح كامال في ال�سنة الكبي�سة‪� ،‬أي مرة‬
‫كل �أربع �سنوات‪.‬‬

‫و�أغلب الظن �أن �أ�سماء وعثمة هما الإلهة الأنثى في وجهيها الربيعي والخريفي‪،‬‬
‫�أي في الواقع �إيزي�س ونفتي�س‪ ،‬ال�شع��رى العبور وال�شعرى الغمي�صاء‪� .‬أوالهما‬
‫ترتب��ط ب�إله الحم�س والثانية ترتبط ب�إله الحل��ة‪ .‬وربما كانت عثمة مثيلة نفتي�س‪-‬‬
‫الغمي�ص��اء‪� .‬أي مثيلة نجم��ة الزهرة ال�ساقط��ة‪ .‬فا�سمها يدل عل��ى الف�ساد‪« :‬قال‬
‫[ثعلب]‪ ‬عثْمة‪ :‬فا�س��دة» (ل�سان العرب)‪ .‬في حين �أن �أ�سماء مثيلة �إيزي�س‪ .‬عليه‪،‬‬
‫َ‬
‫فنح��ن �أم��ام احتفال يلم الم�شهد الدين��ي كله‪ ،‬لعقة الدم‪ -‬الحم���س‪ ،‬الذين يمثلون‬

‫‪132‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ال�صي��ف الفي�ضي‪ ،‬والمطيبين‪ -‬الحلة الذين يمثل��ون ال�شتاء الالفي�ضي‪ ،‬ثم �أ�سماء‬
‫وعثم��ة اللتين تمثالن الإلهة الأنثى في وجهيها الربيعي والخريفي‪ .‬وهذه الإلهة‬
‫مرتبطة بطائفة الطل�س‪ ،‬كما بينا في كتبنا ال�سابقة‪.‬‬

‫لم حرم الإ�سالم المي�سر؟‬

‫ن�أتي الآن �إلى ال�س�ؤال الذي يطرح دوما‪ :‬لماذا حرم الإ�سالم لعبة المي�سر؟‬

‫وثم��ة �أكثر من �إجابة‪� .‬أما توفيق فهد فيميل �إلى �أن ال�سبب ديني‪ .‬وهو يعتقد �أن‬
‫التف�سي��ر ال�سائد‪ ،‬الم�ستند �إلى �آيات �س��ورة المائدة‪ ،‬والذي يربط تحريم المي�سر‬
‫ب�إثارت��ه للعدواة والبغ�ضاء في �صفوف الم�سلمي��ن‪ ،‬غير كاف لتبرير تحريمه‪.‬‬
‫�أو ي��رى �أنه لي�س ال�سب��ب الأعمق لتحريمه‪�« :‬أما تحريمهم��ا [الخمر والمي�سر]‬
‫فق��د جرى ت�سويغه عل��ى التوالي‪ ،‬بواقع �أن فيهما �إثما كبي��را ومنافع للنا�س في‬
‫�آن معا‪ .‬لك��ن �إثمهما �أكبر من نفعهم��ا‪ ،‬و�أنهما و�سيلة ال�شيط��ان ليوقع العداوة‬
‫والبغ�ض��اء بين الم�ؤمنين‪ ،‬لي�صدهم عن ذكر الل��ه وعن ال�صالة‪ .‬هذه الأ�سباب‬
‫ت�سمح بافترا�ض �أن النبي محمدا‪ ،‬المطلع على �ضعف ميل العربي �إلى ال�صالة‪،‬‬
‫�أراد �أن يلغ��ي هذه اللعبة الجاهلية الملهية‪ ،‬والتي كانت خليقة �أن ت�سبب العداوة‬
‫والبغ�ض��اء‪ .‬غير �أن مثل ه��ذا التف�سير ال يمكن �أن يكون كافيا‪ ،‬لأن من الممكن‬
‫�أن نت�س��اءل‪ ،‬ولي�س من دون �سبب‪ ،‬لماذا لم يك��ن الر�سول ليحظر �ألعاب تلك‬
‫الحقبة الوثني��ة كافة‪ ،‬والتي كانت عديدة‪ ،‬وكان ب�إمكانه��ا �أن ت�سبب الأ�ضرار‬
‫ذاته��ا؟ ولماذا يكون الخمر والمي�سر انتهاكا لل�ش��رع الإلهي «�إثما»؟ نحن نظن‬
‫�أن ه��ذا الطابع الإثمي للخمر والمي�سر ال يمك��ن �إال �أن يت�أتى من روابطهما مع‬
‫العب��ادة الوثنية‪ .‬فقد كان م��ن المفتر�ض �أن ي�ستخدم المي�س��ر في توزيع لحوم‬
‫الأ�ضاحي‪ .‬وكان من الممكن �أن يرتبط الخمر بعبادة ديوني�سو�س عند الأنباط»‬
‫(فهد‪� ،2007 ،‬ص ‪.)153-152‬‬

‫�أما �أن لعبة المي�سر ذات روابط دينية‪ ،‬فهذا ما عملنا على �إثباته طوال كتابنا‪� .‬أما‬
‫الخم��ر فال يوج��د �أي �شك في ارتباطها بمذهب الحم���س‪ .‬فهي رمز هذا المذهب‬

‫‪133‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وعنوان��ه‪ .‬لكن هذا ال يبرهن على �أن تحري��م المي�سر كان لأ�سباب دينية‪ .‬فهناك‬
‫�أ�شي��اء كثيرة ذات روابط مع الديانة الجاهلية ل��م تلغ في الإ�سالم‪ .‬بل �إن �شعائر‬
‫جاهلية بكاملها احتفظ بها‪ ،‬مثل ال�سعي بين ال�صفا والمروة‪ ،‬فلماذا يلغي المي�سر‪،‬‬
‫�إذن‪ ،‬ل�سب��ب دين��ي؟ الحديث ع��ن �سبب ديني ال يكفي وح��ده‪ .‬يجب البحث عن‬
‫حيثي��ات هذا ال�سبب �إن كان وراء التحريم‪ .‬وفهد لم يق��دم �شيئا بهذا ال�صدد‪� .‬أما‬
‫كلم��ة «الإثم» في �سورة البقرة‪« :‬ي�س�ألونك عن الخمر والمي�سر قل فيهما �إثم كبير‬
‫ومنافع للنا�س و�إثمهما �أكبر من نفعهما» (�سورة البقرة‪ ،)219 :‬والتي ا�ستند �إليها‬
‫فه��د لتبرير حديثه عن رف�ض ال�سبب االجتماعي فت�أتي في مقابل «النفع» �أي �أنها‬
‫تعني «ال�ضرر» مبا�شرة‪ .‬وال يمكن تحميلها �أكثر مما تحمل‪.‬‬

‫�أم��ا نح��ن فنعتقد �أن المي�س��ر لم يحظر ل�سب��ب ديني مبا�شر‪ .‬بل حظ��ر‪ ،‬مثله مثل‬
‫الخمر‪ ،‬ل�سبب اجتماعي‪� -‬سيا�سي‪� ،‬أي ب�سبب العداوة والبغ�ضاء التي كانا يثيرانها‬
‫بي��ن �صفوف الم�سلمين‪ ،‬الذين خرجوا حديثا من تقاليد الديانة الجاهلية‪� .‬أي �أننا ال‬
‫ن�ؤيد البحث عن �سبب �آخر غير ال�سبب المن�صو�ص عليه مبا�شرة في القر�آن‪ ،‬والذي‬
‫ي�شير �إلى الع��داوة والبغ�ضاء‪« :‬يا �أيها الذين �آمنوا �إنما الخمر والمي�سر والأن�صاب‬
‫والأزالم رج���س من عمل ال�شيطان فاجتنبوه لعلك��م تفلحون‪� .‬إنما يريد ال�شيطان‬
‫�أن يوق��ع بينكم العداوة والبغ�ضاء في الخمر والمي�سر وي�صدكم عن ذكر الله وعن‬
‫ال�ص�لاة فهل �أنتم منتهون» (�سورة المائدة‪ .)91-90 :‬فمن الإجحاف �أن يتجاهل‬
‫الم��رء هذا الن�ص المبا�شر والوا�ضح للقر�آن عن العداوة والبغ�ضاء لكي يبحث عن‬
‫�سبب �آخر م�ضمر‪ .‬ولم يكن �أ�صال بمقدور القر�آن �أن يغطي ال�سبب الفعلي للتحريم‬
‫و�أن ي�أت��ي ب�سبب �آخر مخالف‪ ،‬لأن الأمور كانت مك�شوفة للكل وقتها‪ .‬ف�أهل مكة‬
‫كلهم‪ ،‬والم�سلمون منهم خا�صة‪ ،‬كانوا يعرفون �سبب التحريم‪ ،‬لأنهم متورطون‬
‫ف��ي الم�س�ألة من �ألفها �إل��ى يائها‪ .‬ومن �أجل هذا فقد جاء الحظر على �صورة �س�ؤال‬
‫وجواب‪� .‬س���ؤال من النا�س وجواب قر�آني عليه‪� .‬س�ؤال وجواب يهدف �إلى حل‬
‫م�شكل��ة هي م�شكل��ة العداوة والبغ�ضاء الت��ي كان يثيرها المي�س��ر وتثيرها الخمر‪.‬‬
‫ولهذا �أي�ضا تم الإقرار بالمنافع االجتماعية للمي�سر والخمر رغم حظرهما‪ .‬ومنافع‬
‫المي�سر على الأخ�ص كانت وا�ضحة وبارزة‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أم��ا الم�شكلة ف��ي ما يخ�ص الخمر فتلخ�صت في �أن جل�س��ات الخمر كانت ت�ؤدي‪،‬‬
‫عند لحظات فقدان التوازن‪� ،‬إلى العودة للمفاخرات القبلية بين حديثي الإ�سالم‪،‬‬
‫مم��ا ي�ؤدي �إلى نزاع��ات بينهم‪ .‬وم�شهورة ق�صه حمزة‪ ،‬ع��م النبي‪ ،‬الذي �سكر‬
‫فقت��ل ناقتين لعلي ابن طالب‪ .‬كما هي م�شه��ورة جملته الغريبة الملغزة التي قالها‬
‫للر�س��ول حين جاء ليعاتبه على فعلته‪ .‬فقد قال حمزة للر�سول‪« :‬هل �أنتم �إال عبيد‬
‫�أب��ي؟»‪ .‬فوق ذلك‪ ،‬فنحن نعتق��د �أن الخمرة كانت تبعث الح�سا�سيات القديمة بين‬
‫من خرجوا من تقليد الحم�س الخم��ري ومن خرجوا من تقليد الحلة الالخمري‪.‬‬
‫وق��د كانت الح�سا�سي��ات �شديدة بين هذي��ن التقليدين‪ .‬بالتالي‪ ،‬فق��د ح�سم القر�آن‬
‫�أم��ر الخمر‪ .‬كما نعتق��د �أن المي�سر كان �أي�ضا يثير من اال�شتب��اكات والم�شاكل ما‬
‫كانت تثيره جل�س��ات الخمر‪ .‬لذا فقد تم ح�سم �أمره مع الخمر في �آية واحدة‪ .‬وقد‬
‫حظرا معا في �آية واحدة لأنهما ي�سببان ال�صداع ذاته‪ :‬يخلقان العداوة والبغ�ضاء‪،‬‬
‫ويعرقالن ال�صالة‪.‬‬

‫�أما كيف كان المي�سر يثي��ر النزاع في �صفوف الم�سلمين فيمكن افترا�ض �أنه كان‬
‫يثي��ره حول الح�ص�ص وح��ول من الفائز ومن الخا�سر‪ .‬وق��د كانت هذه الأمور‬
‫يبعث ما خمد من المفاخرات القبلية �أي�ضا‪ .‬لكن الأهم �أنه كان يثير الأحقاد القديمة‬
‫بين الحم�س والحلة‪ .‬فالمي�س��ر تقليد لأحدهما‪ .‬لكننا ال ن�ستطيع �أن نحدد بدقة ب�أي‬
‫طائف��ة كان يرتبط هذا التقلي��د‪� ،‬أي �إن كان في �أ�صله تقليدا حم�سيا �أم حليا‪ .‬فقد تم‬
‫تحري��م المي�سر في لحظة محددة بع��د فتح مكة‪ .‬وكان الر�سول يحاول ما �أمكنه‪،‬‬
‫في هذه اللحظة‪ ،‬عقد م�صالح��ة ما بين الحم�س والحلة‪ .‬وكان هذا يقت�ضي �صوغ‬
‫المنا�س��ك وال�شعائ��ر ب�ش��كل ال يبدو كانت�صار له��ذه الطائفة �أو تل��ك‪ .‬وقد �أعطينا‬
‫نموذج��ا لذلك بالإفا�ض��ة في كتابنا «كتاب الحم�س والطل���س والحلة»‪ .‬فقد كانت‬
‫الحم���س تفي�ض م��ن المزدلفة‪ ،‬في حين كانت الحلة تفي���ض من عرفات‪ .‬وكان‬
‫كل ط��رف ي�أم��ل �أن يثبت الر�س��ول مفي�ضه حين قال «خ��ذوا منا�سككم عني»‪،‬‬
‫وبد�أ بممار�س��ة ال�شعائر الجديدة عمليا‪� ،‬أي عبر التنفي��ذ الفعلي‪ .‬لكن الر�سول لم‬
‫ينت�ص��ر لهذا التقليد �أو ذاك‪ ،‬بل جمع المفي�ضي��ن معا‪ .‬فالإفا�ضة الإ�سالمية ت�شمل‬
‫الآن عرف��ات والمزدلفة مع��ا‪ .‬و�سورة البقرة و�سورة المائ��دة مليئتان بالق�ضايا‬

‫‪135‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الت��ي ح�سم الإ�سالم فيها بين تقليدي الحم�س والحلة‪ .‬مرة كان ي�ضرب هنا ومرة‬
‫هناك‪ .‬فحين يلغي تقليدا للحم�س‪ ،‬يلغي مقابله تقليدا للحلة‪� .‬أما الخمر فكانت تقليدا‬
‫حم�سيا من دون �شك‪ .‬لكن المي�سر تقليد معقد ال ن�ستطيع ب�سهولة ن�سبته �إلى الحم�س‬
‫�أو الحل��ة‪� .‬صحيح �أن��ه مرتبط بتقليد طق�س الذبيح‪ ،‬الذي ه��و تقليد حلي‪ .‬لكننا ال‬
‫ن�ستطي��ع �أن نحكم بناء على ذلك‪ .‬ذل��ك �أن �أ�ضحية الذبيح‪� ،‬أي �أ�ضحية عبد الله‪،‬‬
‫كان يفتر���ض �أن يقدمها الحلة لإله الحم�س‪ .‬فالم��اء ال�سفلي مرتبط ب�إله الحم�س‪.‬‬
‫وحين ت�ضطر الحلة ال�ستخدام��ه عليها �أن تدفع ثمنه ك�أ�ضحية �سنوية‪ .‬والأ�ضحية‬
‫تكون ب�شرية ثم ت�ستبدل بكب�ش فداء‪ ،‬ينتهي �إلى نحر الإبل‪ ،‬كما بينا‪ .‬وقد و�ضعت‬
‫لحوم الإبل على ر�ؤو�س الجبال كي ت�أكل منها الطير‪ .‬و�سمي عبد المطلب ب�سبب‬
‫ذل��ك با�سم مطع��م الطير‪ .‬والطير رمز لإله الحم�س‪ ،‬كم��ا بينا في كتاب الحم�س‬
‫والطل���س‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فالأ�ضحي��ة قدمت لرمز �إله الحم�س‪ .‬وهن��اك ما قد ي�شير‬
‫�إل��ى �أن لعب��ة المي�سر ربما كانت تمثي�لا لح�صول الحم�س و�إلهه��م على لحم هذه‬
‫الأ�ضحي��ة‪ .‬و�إذا �صح هذا يكون المي�سر لعب��ة مقابلة لطق�س الذبيح‪ .‬وهو ما يعني‬
‫�أنه��ا لعبة حم�سية‪ .‬فهناك م��ن يقدم الأ�ضحية‪ ،‬وهناك م��ن يح�صل عليها‪ .‬هناك‬
‫من يطعم وهناك من ي�أكل‪ .‬بالتالي‪ ،‬فقد تكون اللعبة لعبة لتمثيل تقطيع الأ�ضحية‬
‫واقت�سامه��ا م��ن قبل الحم�س‪ .‬لكن ه��ذا غير م�ؤكد‪ .‬ولو كان م�ؤك��دا لأمكننا فهم‬
‫النزاع��ات التي يثيره��ا‪ .‬فج�سد الجزور �س��وف تكون تمثيال رمزي��ا لإله الحلة‬
‫القتي��ل‪� ،‬أي لعبد الله و�إ�سماعيل‪ .‬فالحم�س تتراهن عل��ى ج�سد الإله الحلي ذاته‪.‬‬
‫�صحي��ح �أن الأمر رمزي‪ .‬لكنه رمز ملتهب‪ ،‬وقد يفجر �صراعات طائفية قديمة‬
‫ما زالت حية في النفو�س‬

‫ول��و �ص��ح هذا‪ ،‬ف�إنه يف�سر لنا ل��م كانت اليد الي�سرى هي الت��ي تتعامل مع القداح‬
‫ف��ي لعبة المي�سر‪ .‬فهذه لعبة �أ�صح��اب الي�سار‪ .‬و�أ�صحاب الي�سار هم الحم�س‪� ،‬أما‬
‫�أ�صح��اب اليمين فهم الحلة‪ ،‬كما اقترحنا في كتابنا ال�سابق‪ .‬وهذا يعني �أن اقتراح‬
‫توفي��ق فه��د حول �أن المي�س��ر لعبة الأي�سر �صحي��ح ب�شكل ما‪ .‬لك��ن يجب تعديله‬
‫والقول ب�أن لعبة المي�سر هي لعبة �أ�صحاب الي�سار‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬فهناك من يعتقد �أنه تم تحريم المي�سر لأنه كان عقبة في وجه ت�شكل‬

‫‪136‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الدول��ة‪ .‬فقد قدم الباحث التون�سي محمد الح��اج �سالم �أطروحة دكتوراه بعنوان‪:‬‬
‫«المي�س��ر الجاهلي‪� :‬أبعاده ودوره في ممانعة ظهور الدولة»‪ .‬والعنوان مخت�صر‬
‫للفر�ضي��ة‪ .‬وفي هذه الأطروحة ف�إن الإ�سالم حط��م المي�سر كم�ؤ�س�سة كانت تقف‬
‫في وجه قيام الدولة‪:‬‬

‫«ا�سته��دف الفع��ل الإ�سالم��ي في مرحل��ة �أولى �أي خ�لال المرحل��ة المكية من‬
‫الحرك��ة المحمدي��ة‪ ،‬البنى الذهني��ة لـ«الجاهليين»‪ ،‬ليبا�شر ف��ي مرحلة ثانية مع‬
‫تك��ون «الأمة» في يثرب �ض��رب م�ؤ�س�سات المجتمع الم��راد تغييره وكان من‬
‫ِ‬
‫المي�سر»‪ ،‬وهو ما �سم��ح في مرحلة ثالثة و�أخي��رة �أي خالل ما‬ ‫بينه��ا «م�ؤ�س�س��ة‬
‫يمكن اعتباره مرحلة التمكن بتعوي�ض الم�ؤ�س�سة المحرمة ب�أخرى جديدة لكن مع‬
‫االحتفاظ دوما بنف�س «منافع» الم� ّؤ�س�سة القديمة» (الم�صدر ذاته‪ ،‬الأوان‪ ،‬الأحد‬
‫‪� 15‬آذار ‪.)2009‬‬

‫ي�ضي��ف الباحث �أن الإ�سالم ا�ستبدل م�ؤ�س�سة المي�سر بم�ؤ�س�سة ال�صدقة‪« :‬من هنا‪،‬‬
‫ِ‬
‫المي�سر الجاهل��ي» وتعوي�ضها بم�ؤ�س�سة‬ ‫ر�أين��ا �أن تناول عملي��ة تدمير «م�ؤ�س�س��ة‬
‫تغير دين��ي واجتماعي‬ ‫ال�صدقة» �ضم��ن �سياق ّ‬ ‫�أخ��رى نفتر�ض �أنه��ا «م�ؤ�س�س��ة ّ‬
‫تكون الدولة العربية‬‫هيكل��ي عميق‪ ،‬قد يكون �أحد المداخل الممكنة لتناول م�س�ألة ّ‬
‫الإ�سالمي��ة الأول��ى وتحليل الأرحام الأولي��ة التي تولدت منها وفيه��ا �أي �إعادة‬
‫أهمها‬
‫ق��راءة مفردات «الدين الجاهلي» والأ�س���س التي انبنت عليها طقو�سه ومن � ّ‬
‫المي�سر» (الم�صدر ذاته‪ ،‬الأوان‪ ،‬الأحد ‪� 15‬آذار ‪.)2009‬‬ ‫ِ‬

‫ه��ذا هو جوهر فر�ضية الباحث التون�سي‪ .‬لكننا ال نتفق مع هذه المبالغة في الدور‬
‫االجتماع��ي للمي�سر‪ .‬فلو وافقنا �أن المي�سر كان بالفع��ل م�ؤ�س�سة‪ ،‬وهو كذلك �إلى‬
‫حد ما‪ ،‬فقد كان م�ؤ�س�سة �صغيرة تقدم اللحم لمدة �أ�سبوع في ال�سنة «هي فترة نوء‬
‫الثري��ا»‪� ،‬أو على �أكثر تقدير لمدة �شهر هو �شهر رجب الخريفي‪ .‬وم�ؤ�س�سة تقوم‬
‫عل��ى �أ�سبوع واحد‪� ،‬أو �شهر واح��د في الحد الأق�صى‪ ،‬لن تك��ون م�ؤ�س�سة هائلة‬
‫الت�أثير‪� .‬إذن‪ ،‬فهي مجرد م�ؤ�س�سة �صغيرة على هام�ش الم�ؤ�س�سة الدينية الجاهلية‪،‬‬
‫الكبيرة‪ ،‬والقائمة على انق�سام المجتمع �إلى طوائف ثالث‪ :‬حم�س وطل�س وحله‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬فهذه الم�ؤ�س�سة ال�صغيرة لم يكن ب�إمكانها �أن ت�شكل تحديا �ضخما للدولة التي‬

‫‪137‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫كان��ت قد �أخذت تت�شكل من فترة في يث��رب‪ ،‬لكي يجد الإ�سالم نف�سه مرغما على‬
‫تحطيمها‪ .‬لم تك��ن المنافع االجتماعية للمي�سر هي ما يهدد الإ�سالم‪ ،‬بل «العداوة‬
‫والبغ�ض��اء»‪ .‬لقد �أراد الإ�سالم �أن يتجنب العداوة والبغ�ضاء اللتين كانت تخلقهما‬
‫ه��ذه اللعب��ة‪ ،‬متحالفة مع الخمر‪ .‬ل��ذا �أقر بهذه المنافع و�أك��د دورها‪ .‬وال بد �أن‬
‫ت�شكل الم�ؤ�س�س��ات الإ�سالمية االجتماعية قد جاء في جزء منه لت�أمين المنافع التي‬
‫�ضربت عند حظر المي�سر‪ .‬لكن من دون المبالغة في ذلك‪.‬‬

‫وبالطبع �أي�ضا‪ ،‬ف�إن الم�ؤ�س�س��ة الدينية الجاهلية عموما كانت تقف حجر عثرة في‬
‫وجه ب��روز الدولة‪ .‬وهي م�ؤ�س�سة كبيرة قائمة عل��ى توافق الطوائف والقبائل‪،‬‬
‫�أي قائم��ة على طراز من العالقات يمن��ع وجود �سلطة مركزية‪� ،‬أي دولة‪ .‬لكن‬
‫�إف��راد المي�سر من بينها باعتب��اره م�ؤ�س�سة خطرة ال�ش�أن ال يتوافق مع ما نملك من‬
‫حقائق‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫فصل ‪6‬‬

‫لقمان بن عاد و�أ�سطورته‬

‫ن�أتي الآن �إلى لقمان بن عاد‪ ،‬الأب الأ�سطوري للعبة المي�سر‪ ،‬و�إلى �أ�سطورته‪� .‬إذ‬
‫ال يمكن فهم المي�سر وتعالقاته من دون فهم �أ�سطورة م�ؤ�س�سه‪ .‬ولم تجد الدرا�سات‬
‫ال�سابق��ة حول المي�سر‪ ،‬قديمة كانت �أو حديثة‪� ،‬ضرورة لدرا�سة هذه الأ�سطورة‪.‬‬
‫ذلك �أنه تعر�ضت للمي�سر من زاوية فنية فقط‪� ،‬أي من زاوية طريقة لعبه‪ ،‬مع �أنه‬
‫لي�س �سهال حتى حل الجانب الفني من دون فهم الأ�صل الديني للمي�سر‪ .‬فكيف يمكن‬
‫فه��م «القدح المنيح» م��ن دون معرفة الأ�صل الديني له��ذه اللعبة مثال؟ والأ�صل‬
‫الدين��ي يقعد في بيت لقمان بن عاد و�أ�سطورته‪ .‬و�أ�سطورة لقمان وا�سعة �شا�سعة‪.‬‬
‫ولعله��ا �أو�سع الأ�ساطير العربية‪ ،‬و�أ�شدها تعقيدا‪ .‬ولعبة المي�سر جزء فقط من هذه‬
‫الأ�سط��ورة‪ .‬ولو �أردنا ا�ستغ��راق هذه الأ�سطورة لكنا بحاج��ة �إلى كتاب كامل‪.‬‬
‫لذلك �سنعر�ض �سريعا لبع�ض جوانبها فقط‪ .‬والأ�سطورة تت�ضمن‪:‬‬

‫‪1.1‬ق�صة �صراع لقمان مع ابني تقن‪.‬‬


‫‪2.2‬ق�صة �صراعه من ابنه‪ -‬ابن �أخته لقيم‪.‬‬
‫‪3.3‬ق�صته كجزء من وفد عاد ال�شهير �إلى الكعبة لطلب اال�ست�سقاء‪ .‬فقد كان ع�ضوا‬
‫في هذا الوفد‪ ،‬بل ربما كان في قيادته ح�سب بع�ض الأخبار‪.‬‬
‫‪4.4‬ق�صة ن�سوره ال�سبعة ال�شهيرة‪ ،‬التي تنبثق من ق�صة وفد عاد‪.‬‬
‫‪5.5‬ق�صته مع براق�ش‪.‬‬
‫‪6.6‬ق�صته مع ابنته ُ�ص َحر‪.‬‬
‫‪7.7‬ثم �أخيرا ق�صته مع �أي�ساره الثمانية التي عر�ضنا لها ب�شكل مخت�صر‪.‬‬
‫هذا �إ�ضافة �إلى عدد من التفريعات والق�ص�ص الثانوية الأخرى‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫لقمان بن عاد ولقمان الحكيم‬

‫لك��ن قبل �أن نعر�ض لهذه الق�ص�ص‪� ،‬أو لبع�ضها‪ ،‬ربما كان علينا �أن نتحدث عن‬
‫ب�س ِم ّيه «لقمان الحكيم»‪ ،‬ال��ذي ورد ذكره في القر�آن‪،‬‬ ‫عالق��ة «لقمان بن عاد» َ‬
‫ب��ل وله �سورة با�سمه فيه‪« :‬ولقد �آتينا لقمان الحكمة �أن ا�شكر لله ومن ي�شكر ف�إنما‬
‫ي�شك��ر لنف�سه ومن كفر ف�إن الل��ه غني حميد» (لقم��ان‪ .)13 :‬والم�صادر العربية‬
‫تف��رق‪ ،‬عموما‪ ،‬بي��ن االثنين‪ ،‬وتعتبرهم��ا �شخ�صيتين مختلفتي��ن تماما‪« :‬كانت‬ ‫ّ‬
‫تعظم �ش�أن‪ ‬لقمان‪ ‬بن‪ ‬عاد‪ ‬الأكب��ر‪ ،‬والأ�صغر لقيم‪ ‬بن‪ ‬لقمان‪ ...‬وهذان‬ ‫العرب ّ‬
‫غير‪ ‬لقمان‪ ‬الحكيم‪ ‬المذك��ور في القر�آن عل��ى ما يقوله المف�س��رون» (الجاحظ‪،‬‬
‫البيان والتبيين)»‪ .‬ي�ضي��ف ال�سهيلي‪« :‬ولقمان [الحكيم] كان نوبيا من �أهل �أيلة‪،‬‬
‫وه��و لقمان بن عنقاء ب��ن �سرور‪ ،‬فيما ذكروا‪ .‬وابنه ال��ذي ذكر في القر�آن هو‬
‫ثاران‪ ،‬فيما ذكر الزجاج وغيره‪ .‬وقد قيل في ا�سمه غير ذلك‪ ،‬ولي�س بلقمان بن‬
‫عاد الحميري» (ال�سهيلي‪ ،‬الرو�ض الآنف)‪.‬‬

‫�أم��ا نحن فنعتقد بقوة �أنهم��ا �شخ�ص واحد في الأ�سا�س‪ ،‬لك��ن بن�سختين اثنتن‪ :‬كتابية‬
‫وغي��ر كتابية‪� .‬أم��ا الن�سخة الكتابية فتدع��وه با�سم لقمان الحكي��م‪ ،‬وتجعل ن�سبه �إلى‬
‫عنق��اء بن �سرور كما ر�أينا عند ال�سهيلي‪� ،‬أو �أنه‪« :‬هو‪ ‬لقمان‪ ‬بن باعوراء بن ناحور‬
‫ب��ن تارح‪ ،‬وهو �آزر �أبو �إبراهيم؛ كذا ن�سبه محم��د بن �إ�سحاق» «القرطبي‪ ،‬تف�سير‬
‫القرطب��ي»‪� .‬أي �أنه��ا تربط ن�سبه ب�إبراهيم‪ .‬وهذه نقطة مهم��ة‪ .‬فالعالقة بين لقمان‬
‫و�إبراهيم وطيدة جدا‪ ،‬كما �سيت�ضح الحقا‪� .‬إنه في الحقيقة طراز من �إبراهيم عربي‪.‬‬

‫ونح��ن نعرف �أنه كانت ف��ي الفترة ما بين القرون الميالدي��ة الأولى حتى البعثة‬
‫النبوية‪ ،‬ع�شرات‪� ،‬إن لم يكن مئات‪ ،‬الكتب الدينية التي تتناول ال�شخ�صيات التي‬
‫ورد ذكره��ا في التوراة والإنجيل والق��ر�آن‪� ،‬أو تن�سب لهذه ال�شخ�صيات‪ .‬ومن‬
‫بين ه�ؤالء كان لقمان الذي ن�سبت له مجلة خا�صة ورد ذكرها في حديث �سويد بن‬
‫ال�صام��ت‪« :‬قال‪ :‬فت�صدى له [�أي ل�سويد] ر�س��ول الله �صلى الله عليه و�سلم حين‬
‫�سمع به‪ .‬فدعاه �إلى الله و�إلى الإ�سالم‪ ،‬قال‪ :‬فقال له �سويد‪ :‬فلعل الذي معك مثل‬
‫الذي معي‪ .‬فقال له ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم‪ :‬وما الذي معك؟ قال‪ :‬مجلة‬

‫‪140‬‬
‫زكريا محمد‬

‫لقم��ان‪ ...‬فقال ل��ه ر�سول الله �صلى الله عليه و�سل��م‪ :‬اعر�ضها علي‪ ،‬فعر�ضها‬
‫علي��ه‪ ،‬فقال‪� :‬إن هذا لكالم ح�سن‪ ،‬معي �أف�ضل من ه��ذا‪ ،‬قر�آن �أنزله الله علي‪،‬‬
‫هدى ونورا‪ .‬قال‪ :‬فتال عليه ر�سول الله �صلى الله عليه و�سلم القر�آن‪ ،‬ودعاه �إلى‬
‫الإ�سالم‪ ،‬فلم يبعد من��ه‪ ،‬وقال‪� :‬إن هذا لقول ح�سن» (تاريخ الطبري)‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فق��د كان هناك كتاب محدد ين�س��ب للقمان الحكيم با�سم «مجلة لقمان»‪ .‬وال بد �أن‬
‫م��ا ورد في القر�آن عن لقمان الحكيم على عالق��ة بما ورد في هذه المجلة‪ ،‬التي‬
‫كانت تحوي حكم لقمان المتداولة‪.‬‬

‫�أم��ا ن�سخة لقمان بن عاد‪ ،‬فهي الن�سخة ال�شفوي��ة العربية الأ�صيلة‪ ،‬والأ�شد غنى‪،‬‬
‫الت��ي لم يدخلها تحرير �أو تنقي��ح‪� .‬إذ �أن الن�سخة الكتابية ال تقدم لنا �سوى �شخ�صية‬
‫باهت��ة تنطق ببع���ض الحكم التي ال فرادة فيها‪ ،‬في حي��ن �أن الن�سخة ال�شفوية بناء‬
‫�أ�سطوري �شامل ومعقد وكا�شف‪.‬‬

‫وقد و�ضعت الم�ص��ادر العربية الن�سختن جنبا �إلى جنب كما لو �أنهما تتحدثان عن‬
‫�شخ�صيتين مختلفتين‪ .‬ودرا�سة الن�سختين‪ ،‬انطالقا من بع�ض ال�شذرات التي نقلت‬
‫عن لقم��ان الحكيم‪ ،‬قد تكون مفيدة في فهم كيف يتم االنتقال بتقليد ما من الإطار‬
‫ال�شفاهي �إلى الإطار المكتوب‪.‬‬

‫ولأن اللقماني��ن �شخ�صية واحدة في الأ�سا�س‪ ،‬ف���إن كل واحد منهما متبوع بابنه؛‬
‫لقم��ان بن عاد يتبع��ه ابنه‪ ،‬وابن �أخته ف��ي اللحظة ذاتها‪ ،‬لقي��م‪ ،‬ولقمان الحكيم‬
‫يتبعه ابنه المختلف على ا�سمه‪« :‬ا�سم ابنه‪ ‬ثاران في قول الطبري والقتبي‪ .‬وقال‬
‫الكلبي‪ :‬م�شكم‪ .‬وقيل �أنعم؛ حكاه النقا�ش» (القرطبي‪ ،‬تف�سير القرطبي)‪.‬‬

‫رمح �أبي �سعد‬

‫وثمة تعبير �شهير ي�ؤكد‪ ،‬في ما يبدو لنا‪ ،‬الربط بين اللقمانين‪ ،‬وهو‪�« :‬أخذ رميح‬
‫�أب��ي �سعيد» �أو «رمح �أبي �سعد»‪ .‬وي�ستخدم ككناي��ة عن كبر العمر‪�« :‬أخذ ال�شيخ‬
‫رمي��ح �أب��ي �سعد‪ :‬اتك�أ عل��ى الع�صا من كب��ره‪ .‬و�أبو �سعد �أح��د وفد‪ ‬عاد‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫هو‪ ‬لقم��ان الحكيم» (ابن �سي��دة‪ ،‬المخ�ص���ص)‪ .‬وكما نرى م��ن المقتب�س‪ ،‬فهذا‬

‫‪141‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الرم��ح ين�سب للقمان الحكيم �أو لواحد من وفد عاد‪ .‬ونحن نعلم �أن لقمان بن عاد‬
‫كان م��ن �ضمن وفد عاد �إلى الكعبة لال�ستمط��ار‪« :‬وفي ال�صحاح‪ :‬تزعم العرب‬
‫�أن‪ ‬لقمان‪ ‬ه��و الذي بعثته‪ ‬عاد‪ ‬في وفدها �إلى الحرم ي�ست�سقي لها» (الزبيدي‪ ،‬تاج‬
‫العرو�س)‪ .‬عليه‪ ،‬فال�شخ�ص الذي ين�سب له الرمح من وفد عاد هو لقمان بن عاد‬
‫ف��ي �أغلب الظن‪ .‬وهذا يعن��ي �أن الرمح ين�سب لل�شخ�صيتي��ن معا‪ ،‬مما يقوي من‬
‫فر�ضية �أنهما �شخ�صية واحدة‪.‬‬

‫غي��ر �أن هناك من يعتق��د �أن «�أبا �سعد»‪� ،‬صاحب الرمح‪ ،‬هو مرثد بن �سعد الذي‬
‫يروى �أن��ه كان �أي�ضا في وفد عاد‪« :‬و�أبو �سعد قيل‪ :‬هو لقمان الحكيم‪ ...‬وقيل‪:‬‬
‫مرث��د بن �سعيد �أحد وف��د عاد» (اليو�سي‪ ،‬زهر الأكم)‪ .‬لكنن��ا نعتقد �أن الرمح ال‬
‫يخ�ص مرثد بن �سعد‪ .‬فمرثد هذا يبدي �أي عالمات تجعل من احتمال كون الرمح‬
‫يخا�ضت��ه احتماال ب�لا �أ�سا�س تقريبا‪ .‬فه��و على عالقة ب «ه��ود»‪ ،‬الذي لي�ست‬
‫الرم��اح من تقليده‪ .‬فقد �أبعد مرثد عن وفد ع��اد ب�سبب عالقته الدينية بالنبي هود‬
‫كما تقول الق�صة الكا�شفة‪« :‬ثم قال لمعاوية بن بكر و�أبيه بكر‪ :‬احب�سا عنا مرثد بن‬
‫�سعد فال يقدمن معنا مكة‪ ،‬ف�إنه قد اتبع دين هود‪ ،‬وترك ديننا» (تاريخ الطبري)‪.‬‬
‫ي�ضي��ف ابن الجوزي‪« :‬فقال جلهم‪ :‬احب�سوا هذا عنا وال يقدمن معنا مكة‪ ،‬ف�إنه قد‬
‫اتب��ع دين‪ ‬هود‪ .‬ثم خرج��وا ي�ست�سقون» (ابن الجوزي‪ ،‬المنتظ��م)‪� .‬أما هود فال‬
‫يمك��ن �أن تكون ل��ه عالقة باال�ست�سق��اء‪� ،‬أي بالمطر وبال�شتاء‪ .‬فق��د بينا في كتبنا‬
‫ال�سابقة �أنه يمثل الوجه الفي�ضي ال�صيفي للكون‪� ،‬أي �أنه على عالقة ب�سهيل اليماني‬
‫و�أمثال��ه‪ .‬وقد دللنا على ذلك بق�صة ال�سل�سل��ة التي خرجت من ظهر والده الخلود‬
‫ب��ن عاد‪ .‬فقد كان الخل��ود‪�« :‬إذا قيل له‪ :‬لم ال تتزوج وقد بلغت �سن �أبيك؟ يقول‪:‬‬
‫ر�أي��ت في المنام ك�أن‪� ‬سل�سلة‪ ‬بي�ضاء قد خرجت من ظهري‪ ،‬ولها نور كال�شم�س‪،‬‬
‫وقي��ل لي‪� :‬إذا ر�أيت هذه ال�سل�سلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوج بالتي ت�ؤمر‬
‫بتزوجها‪ ...‬ثم ر�أى بعد ذلك في منامه ال�سل�سلة وقد خرجت من ظهره‪ ،‬وقائال‬
‫يقول‪« :‬قم يا خلود فتزوج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوجها‪ ،‬وواقعها فحملت‬
‫بهود؛ و�أ�صبح القوم وهم ي�سمعون من جميع النواحي‪ :‬هذا‪ ‬هود‪ ‬قد حملت به �أمه»‬
‫(النوي��ري‪ ،‬نهاية الأرب)‪ .‬وقلنا وقته��ا �أن ال�سل�سلة التي خرجت من ظهره هي‬

‫‪142‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ح��زام الجوزاء‪ ،‬الذي يدعى �أي�ضا «فقار الجوزاء»‪ .‬والفقار هو �سل�سلة الظهر‪.‬‬
‫علي��ه‪ ،‬فالخلود وابنه هو على عالقة ببرج الجوزاء‪ .‬وبرج الجوزاء هو ال�صيف‬
‫الفي�ض��ي‪� ،‬أي هو باعث الفي�ضانات‪ ،‬مثل في�ضان النيل‪ .‬بالتالي‪ ،‬ال عالقة لهود‬
‫بالمطر واال�ستمطار‪ .‬عالقته بالماء ال�سفلي‪ ،‬ماء الينابيع‪ ،‬ال بالماء العلوي‪ .‬من‬
‫�أجل هذا �أبعد عن وف��د اال�ست�سقاء العادي واعتزله‪ .‬فالمطر ال يخ�صه‪ .‬عليه‪ ،‬ال‬
‫يمكن لرمح �أبي �سعد �أن يكون رمح مرثد‪ .‬فمرثد هودي‪ ،‬على دين هود‪ .‬وهود‬
‫ب�لا رمح‪� .‬أي �أنه �شاب وال يتكئ على الع�صا‪ -‬الرمح‪ .‬وهذا يعني �أن الرمح هو‬
‫رمح لقمان بن عاد‪ .‬فلقمان هو الذي على عالقة باال�ستمطار‪ .‬ولعبة المي�سر كما‬
‫ر�أينا على عالقة �أ�صيلة بمطر الثريا‪ ،‬وبا�ستمطار الثريا‪.‬‬

‫لقمان ومو�سى‬

‫وال يمكن المبالغة في �أهمية هذا الرمح‪ ،‬رمح �أبي �سعيد‪ .‬فهو العالمة الفارقة في‬
‫تحدي��د طبيعة لقمان بن عاد‪ ،‬كما �سنرى �أدناه‪ .‬وجمل��ة‪�« :‬أخذ ال�شيخ‪ ‬رميح �أبي‬
‫�سع��د» ال ت�شي��ر �إلى العمر فقط‪ ،‬بل �إلى ما هو �أو�س��ع من هذا‪ ،‬في الحقيقة‪ .‬ذلك‬
‫�أن الرم��ح جزء من ثالوث يتحول بع�ض��ه �إلى بع�ض‪ :‬رمح‪ -‬حية‪ -‬ع�صا‪ .‬وهذا‬
‫الثال��وث هو عالمة الإله في ط��وره القار ال�شتوي‪ ،‬غي��ر الفي�ضي‪ ،‬الذي يتمثل‬
‫ف��ي العادة ب�شيخ كبير ال�س��ن‪ ،‬مقارنة بالإله في طوره ال�صيف��ي الفي�ضي‪ ،‬الذي‬
‫يكون في العادة �شابا‪ .‬فع�صا مو�سى مثال هي �أي�ضا ع�صا‪ -‬حية‪« :‬وما تلك بيمينك‬
‫ي��ا مو�سى‪ .‬قال هي ع�ص��اي �أتوك�أ عليها و�أه�ش بها عل��ى غنمي ولي فيها م�آرب‬
‫�أخرى‪ .‬قال �ألقها يا مو�سى‪ .‬ف�ألقاها ف�إذا هي حية ت�سعى» (�سورة طه‪.)20-18 :‬‬
‫وهك��ذا‪� ،‬ألقى مو�سى ع�صاه فتحول��ت �إلى حية‪� .‬إنها ع�صا‪ -‬حي��ة‪ .‬وهذه الع�صا‬
‫للتوك���ؤ مث��ل رمح �أبي �سعيد «هي ع�ص��اي �أتوك�أ عليها»‪ ،‬فتعبي��ر �أخذ رمح �أبي‬
‫�سعيد‪ :‬يعني كبر وتوك�أ على ع�صا‪ .‬وهو ما يعني �أن مو�سى �شيخ مثل �أبي �سعد‪.‬‬

‫ف��وق ذلك‪ ،‬فنحن نعل��م �أن مو�سى راع‪ ،‬و�أن��ه ا�ستخدم ع�ص��اه ليه�ش بها على‬
‫غنمه‪ .‬كم��ا نعلم �أن لقمان �صاحب غنم كذلك‪ .‬وال ب��د �أنه كان ي�ستخدم رمحه‪،‬‬
‫رمح �أبي �سعد‪� ،‬أي ع�صاه‪ ،‬كي يه�ش بها على غنمه كذلك‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫لكن لمو�سى في ع�صاه «م�آرب �أخرى» غير التوك�ؤ واله�ش على الأغنام‪ .‬ونحن‬
‫نفتر���ض‪ ،‬مقارنة ب�شخ�صيات ميثولوجية م�شابهة‪� ،‬أنه��ا ت�صير رمحا �أحيانا‪ .‬لذا‬
‫ن��رى الآلهة من الطراز الذي نتحدث عنه يحملون في �أيديهم ع�صا‪ -‬رمحا تلتف‬
‫حول��ه �أفعى‪ ،‬مثل الإله «�شدرفه» في متح��ف دم�شق‪ .‬فهو يحمل‪ ،‬بيده اليمنى‪،‬‬
‫ع�صا‪ -‬رمحا ت�صعد عليه حية‪ ،‬ويحمل‪ ،‬بالي�سرى‪ ،‬حزمة قمح‪� .‬إذن‪ ،‬فالع�صا‪-‬‬
‫الحية‪ -‬الرمح هي �شيء واحد ميثولوجيا‪� .‬إنها عالمة هذا النوع من الآلهة‪ ،‬وهذا‬
‫النوع من ال�شخ�صيات الميثولوجية‪ .‬لهذا دعيت ع�صا �أبي �سعيد بالرمح‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬يمكن لنا �أن نح�صر نقاط الت�شابه بين لقمان ومو�سى‪:‬‬

‫�أوال‪ :‬للقمان رمح ‪ -‬ع�صا‪ ،‬ولمو�سى ع�صا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬لقمان يتوك�أ على ع�صاه ‪ -‬رمحه‪ ،‬رمح �أبي �سعد‪ ،‬ومو�سى يتوك�أ على ع�صاه‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬وهذا يعني �أن االثنين �شيخان كبيرا العمر‪.‬‬

‫رابع��ا‪ :‬مو�سى كان راعي��ا‪ ،‬ولقمان «الحكيم» كان راعي��ا‪« :‬قيل‪ :‬كان نجارا‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬كان راعيا» (ل�سان العرب)‪� .‬أما النجارة فهي �أي�ضا داخلة في ما نحن فيه‪.‬‬
‫فال�شخ�صي��ات الميثولوجية الم�شابهة على عالقة بقدوم النجارة‪ ،‬كما بينا في كتابنا‬
‫ال�سابق‪ :‬م�ضرط الحجارة‪ :‬كتاب اللقب والأ�سطورة»‪ .‬وقدوم النجارة هو رمز‬
‫بنات نع�ش في �شمال ال�سماء‪.‬‬

‫خام�سا‪ :‬للقمان قطيع �أغنامه‪« :‬كان‪ ...‬رب غنم» (الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال)‪.‬‬
‫ولمو�سى قطيعه �أي�ضا «و�أه�ش بها على غنمي»‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فالن�س��ب الديني بين لقمان ومو�سى قوي ج��دا‪ .‬فاالثنان راعيان ي�سوقان‬
‫العن��ز‪ ،‬ويه�شان بع�صويهما عل��ى غنمهما‪ ،‬ويتوك�آن عليه��ا‪ .‬واالثنان �شيخان؛‬
‫وال�شي��خ ميثولوجيا‪ ،‬يتوك�أ على ع�صا ‪ -‬رمح‪ ،‬وي�س��وق العنز‪ ،‬ويرقع ال�شن ‪-‬‬
‫القربة‪« :‬يق��ال لل�شيخ �إذا انحنى‪ :‬قد رقع ال�شن‪ ،‬و�س��اق العنز‪ ،‬و�أخذ‪ ‬رميح �أبي‬
‫�سعد‪ ،‬يعني لقمان الحكيم» (ابن �سيدة‪ ،‬المخ�ص�ص)‪ .‬‬

‫‪144‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وكي تكتمل الدائرة‪ ،‬ف�إن «العنزة» في اللغة العربية هي الع�صا ذات ال�سنان‪� ،‬أي‬
‫�أنه��ا ع�صا ‪ -‬رمح في الواق��ع‪« :‬العنزة‪ :‬ع�صا في قدر ن�صف الرمح �أو �أكثر �شيئا‬
‫فيه��ا �سنان مث��ل �سنان الرمح‪ ،‬وقيل‪ :‬في طرفها الأ�سف��ل زج كزج الرمح يتوك�أ‬
‫عليها ال�شي��خ الكبير» (ل�سان العرب)‪ .‬وهذا يعني �أن الع�صا ‪ -‬الرمح ت�سمى با�سم‬
‫الأغن��ام‪� .‬أي �أن الع�ص��ا تتحول �إلى حية ‪ -‬رم��ح ‪ -‬عنزة‪ ،‬لكي تعطي عالمات‬
‫ال�شخ�صي��ات الإلهية التي نتحدث عنها‪ .‬فه��ذه ال�شخ�صيات مرتبطة بالأغنام‪� .‬أما‬
‫كون لقمان عبدا �أ�سود‪ ،‬فهذا ما يقربه من يون�س العبد الآبق‪.‬‬

‫بن��اء على كل ه��ذا‪ ،‬فلقمان لي�س مقامرا لعينا‪ ،‬بل هو �شخ�صي��ة دينية ‪� -‬إلهية من‬
‫الط��راز الرفيع‪ .‬وهذا ما يجعلنا نفتر���ض �أن ممار�سته للعب��ة المي�سر م�شتقة من‬
‫و�ضع��ه الدين��ي‪ ،‬ولي�س��ت خارجة عن هذا الو�ض��ع‪ .‬والح��ق �أن و�ضعه الديني‬
‫ثابت ف��ي الم�صادر العربية‪ .‬فهو قد اعتبر نبيا لكن غير مر�سل‪« :‬قال ابن عبا�س‬
‫كان‪ ‬لقمان‪ ‬ب��ن عاد بن الملطاط بن ال�سك�سك ابن وائل بن حمير نبيا غير مر�سل‪.‬‬
‫قال �أبو محم��د‪ :‬لقيت عامة من العلم��اء يقول��ون �أن‪ ‬لقمان‪ ‬وذا‪ ‬القرنين‪ ‬ودانيال‬
‫�أنبي��اء غير مر�سلين» (ابن منبه‪ ،‬التيج��ان)‪ .‬وذو القرنين في اعتقادنا هو طراز‬
‫من �أوزيري�س القار الالفي�ضي‪ .‬دليل ذلكم قرنا الثور اللذين يحملهما على ر�أ�سه‪.‬‬
‫فالثيران والأغنام والأفاعي والحمر الوح�شية حيوانات �أوزيري�س في وجهه‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫‪146‬‬
‫فصل ‪7‬‬

‫لقمان بين الغنم والإبل‬

‫تك�شف لن��ا ق�صتان من ق�ص�ص لقم��ان بن عاد‪ ،‬وهما ق�صته م��ع براق�ش وق�صته‬
‫م��ع ابني تقن‪ ،‬طبيعة عالقة لقم��ان بالجمال‪� .‬أي طبيعة عالقت��ه برمز نقي�ضه‪.‬‬
‫فالجم��ال رمز ال�صي��ف الفي�ضي‪ ،‬الذي يمثله �آلهة من ط��راز �سهيل اليماني‪ .‬لذا‬
‫يلقب �سهيل اليماني بالفحل‪� ،‬أي الجمل الذكر‪� .‬إنه �إله ‪ -‬بعير‪ .‬في حين �أن لقمان‬
‫مرتبط بالغنم والماعز‪.‬‬

‫�أم��ا براق���ش فهي بطل��ة المثل ال�شهي��ر‪« :‬على �أهله��ا جنت براق���ش»‪ .‬وبراق�ش‬
‫ه��ذه مختلف عليها عن��د الم�صادر العربية‪ .‬فه��ي �إما امر�أة و�إم��ا كلبة‪« :‬براق�ش‬
‫ا�سم‪ ‬كلبة‪ ‬لقوم من الع��رب �أغير عليهم في بع�ض الأيام فهربوا وتبعتهم‪ ‬براق�ش‪،‬‬
‫فرجع الذي��ن �أغاروا خائبين و�أخ��ذوا في طلبه��م‪ ،‬ف�سمعت‪ ‬براق�ش‪ ‬وقع حوافر‬
‫الخي��ل‪ ،‬فنبحت‪ ،‬فا�ستدل��وا على مو�ضع نباحها فا�ستباحوه��م‪ .‬وقال ال�شرقي بن‬
‫القطامي‪ :‬براق�ش‪ ‬ام��ر�أة لقمان بن عاد‪ ،‬وكان بنو �أبي��ه ال ي�أكلون لحوم الإبل‪،‬‬
‫ف�أ�ص��اب من‪ ‬براق�ش‪ ‬غالما فنزل لقمان على بني �أبيه��ا ف�أولموا ونحروا جزورا‬
‫�إكراما ل��ه‪ ،‬فراحت‪ ‬براق�ش‪ ‬بعرق من الجزور‪ ،‬فدفعته لزوجها لقمان‪ ،‬ف�أكله‪،‬‬
‫تعرقت مثله قط طيبا! فقالت‪ ‬براق�ش‪ :‬هذا من لحم جزور‪ .‬قال‪:‬‬ ‫فقال‪ :‬ما هذا؟ ما ّ‬
‫ِ‬
‫واجتمل‪،‬‬ ‫جملنا‬
‫�أولح��وم الإبل كلها هكذا في الطي��ب؟ قالت‪ :‬نعم‪ .‬ثم قالت ل��ه‪ّ :‬‬
‫ف�أقب��ل لقمان على �إبلها و�إبل �أهلها ف�أ�شرع فيه��ا‪ ،‬وفعل ذلك بنو �أبيه‪ ،‬فقيل‪ :‬على‬
‫�أهلها تجني‪ ‬براق�ش‪ ،‬ف�صارت مثال» (ل�سان العرب)‪.‬‬

‫والحق �أن براق�ش امر�أة وكلبة معا‪� .‬أي �أنها امر�أة ‪ -‬كلبة‪ .‬وكنا قد �أو�ضحنا في كتبنا‬
‫ال�سابق��ة �أن براق�ش المر�أة ‪ -‬الكلبة مثيل��ة ال�شعرى العبور اليمانية‪ ،‬ومثيلة �إيزي�س‪.‬‬
‫فال�شعرى ام��ر�أة وكلبة �أي�ضا‪� ،‬إ�ضافة �إلى كونها نجم��ا �سماويا‪ .‬لذا تدعى ال�شعرى‬

‫‪147‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫«كل��ب الج��وزاء»‪� ،‬أو «الكل��ب الأكبر» عند الع��رب‪ .‬وهي عن��د اليونان «نجمة‬
‫الكل��ب»‪� .‬أما �إيزي�س فهي �أم �أنوبي�س الكلب‪ .‬وال�شعرى ككلبة قرينة �سهيل اليماني‪.‬‬
‫وهما معا يمثالن ال�صيف الفي�ضي‪ .‬ورمز هذا ال�صيف هو الجمل‪ ،‬كما �أ�سلفنا‪.‬‬

‫وكم��ا نرى فق�ص��ة لقمان مع براق�ش ه��ي ق�صة لحم الجمال‪ .‬فمن��ذ �أن ذاق لحم‬
‫الجم��ل عندها لم يكف عن نحر الجمال و�أكله��ا‪ .‬ي�ضيف م�صدر �آخر م�ؤكدا هذا‪:‬‬
‫«وزعم��وا �أن براق���ش‪ :‬ابنة تقن كانت امر�أة‪ ‬لقمان بن ع��اد‪ ،‬وكان بنو تقن من‬
‫ع��اد �أ�صحاب �إب��ل‪ ،‬وكان‪ ‬لقمان‪� ‬صاحب غنم‪ ،‬وكان ال يطع��م [= ي�أكل] لحوم‬
‫الإب��ل‪ ،‬ف�أطعمته امر�أته براق�ش من لحوم الإبل فنح��ر �إبلهم التي يحتملون عليها‬
‫ف�أكلها ثم قاتل �إخوتها على �إبلهم‪ ،‬فقيل‪ :‬على �أهلها تجني براق�ش‪ ،‬ف�أر�سلت مثال»‬
‫(ال�ضبي‪ ،‬الأمثال)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فلقمان �صاحب غنم‪� .‬أي �أن الأغنام رمزه‪ ،‬وحيواناته المقد�سة‪ .‬بالتالي‪،‬‬
‫فلح��م الجمال غي��ر محرم عليه‪� .‬إنه لحم محرم على نقي�ض��ه‪ .‬عليه‪ ،‬فالإبل لحم‬
‫�أ�ضاحيه‪ ،‬كما �سنرى �أي�ضا في ق�صة ابني تقن‪.‬‬

‫عل��ى كل حال‪ ،‬فا�س��م براق�ش يدل على طبيعتها‪ .‬فه��ي مبرق�شة‪� ،‬أي مكونة من‬
‫لونين‪ .‬فحين تكون مع �سهيل اليماني و�أمثاله تكون بلون مختلف عنها حين تكون‬
‫مع �أمثال لقمان بن عاد‪� .‬إنها الإلهة الأنثى‪ -‬ال�شعرى‪ ،‬مثيلة �إيزي�س‪ .‬في ال�صيف‬
‫تك��ون في برج الجوزاء غرب نهر المجرة‪ ،‬وفي الخريف وال�شتاء يفتر�ض �أنها‬
‫تذهب �إلى عند �أختها ال�شعرى الغمي�صاء �شرقي نهر المجرة‪ .‬وفي ال�صيف تكون‬
‫قرينة �سهيل و�أمثاله‪ ،‬وفي ال�شتاء تكون قرينة لقمان بن عاد و�أمثاله‪.‬‬

‫ابنا تقن‬

‫ر�أينا �أعاله �أن لقمان كان «رب غنم»‪� .‬أي �أنه على النقي�ض من بني تقن‪ ،‬الذين‬
‫كان��وا �أرباب �إبل‪« :‬وكان بنو تقن من عاد �أ�صحاب �إبل‪ ،‬وكان‪ ‬لقمان‪� ‬صاحب‬
‫غن��م»‪ .‬وقد ظل لقمان يط��ارد اثنين من بني تقن ه���ؤالء للح�صول على �إبلهما‬
‫ب���أي طريقة كانت‪« :‬كان بينه وبين رجلين من ع��اد‪ ،‬يقال لهما عمرو وكعب‬

‫‪148‬‬
‫زكريا محمد‬

‫ابن��ا تقن بن معاوية‪ ،‬قتال‪ .‬وكانا ربي �إب��ل‪ ،‬وكان لقمان رب غنم‪ .‬ف�أعجبت‬
‫لقم��ان الإبل‪ ،‬فراودهما عنهما‪ ،‬ف�أبيا �أن يبيعاه‪ .‬فعمد �إلى �ألبان غنمه من �ض�أن‬
‫ومعزى و�أنافح من �أنافح ال�سخل‪ ،‬فلما ر�أيا ذلك لم يلتفتا �إليه ولم يرغبا في �ألبان‬
‫الغن��م‪ .‬فلما ر�أى ذلك لقمان‪ ،‬قال‪ :‬ا�شترياه��ا ابني تقن‪� .‬أقبلت مي�سا‪ .‬و�أدبرت‬
‫هي�س��ا [الهي�س‪ :‬دق الأر�ض بالقدم]‪ .‬وم�ل�أت البيت �أقطا وحي�سا [�إقط مخلوط‬
‫ب�سم��ن وتمر]‪ .‬ا�شترياها ابني تقن �إنها ال�ض�أن تجز جفاال [�شعرا كثيرا]‪ .‬وتنتج‬
‫رخاال [الرخال‪� :‬إن��اث ال�ض�أن]‪ .‬وتحلب كثبا ثقاال [الكث��ب‪ :‬الحليب الكثير]‪.‬‬
‫فق��اال‪ :‬ال ن�شريه��ا [نبيعه��ا] بالقم‪� ،‬إنها الإب��ل حملن فات�سق��ن‪ .‬وجرين ف�أعنقن‬
‫[العنق‪ :‬الج��ري ال�سريع]‪ ،‬وبغير ذلك �أفلتن‪ ...‬فلم يبيعاه الإبل‪ ،‬ولم ي�شريا‬
‫الغنم» (الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال)‪.‬‬

‫والجمل‪ ،‬كما نرى �صعبة وملغزة‪ .‬وقد كانت ملغزة حتى لأبناء ع�صر التدوين‬
‫�أي�ض��ا‪ .‬لكن المعنى العام وا�ضح في ما نعتقد‪ .‬فنح��ن �إزاء �صراع رمزي بين‬
‫الغن��م والإب��ل‪ .‬لقمان يمثل الغنم وابنا تقن يمثالن الإب��ل‪ .‬الغنم رمز للإله في‬
‫ق��راره ال�شتوي غير الفي�ضي‪� ،‬أم��ا الإبل فرمز للإله في �صيف��ه الفي�ضي‪ ،‬كما‬
‫�أو�ضحن��ا في كتبنا ال�سابقة‪ .‬لكن ِل َم يحاول لقم��ان الح�صول على �إبل ابني تقن؟‬
‫الجواب ربما يت�ضح لنا من جملة محددة في �سياق ردهما على لقمان الذي �أراد‬
‫�أن ي�شت��ري �إبلهما‪« :‬فق��اال‪ :‬ال ن�شريها بالقم �أنها الإبل حمل��ن فات�سقن‪ .‬وجرين‬
‫ف�أعنق��ن‪ ،‬وبغير ذل��ك �أفلتن‪ ...‬فلم يبيعاه الإبل ولم ي�شري��ا الغنم» (الميداني‪،‬‬
‫مجم��ع الأمثال)‪� .‬إذن‪ ،‬فهما ال يبيعان �إبلهما «بالقم»‪ .‬فما هو القم؟ وهل يعيدنا‬
‫هذا التعبير الغام�ض �إلى تعبير �آخر هو‪ :‬قم الر�أ�س‪ ،‬الذي ورد في كالم من�سوب‬
‫للقم��ان‪�« :‬إذا �أم�ست الثري��ا قم ر�أ�س فف��ي الدثار فاحن���س‪ ،‬وعظماها ف�أحد�س‬
‫و�أنه�س بليل و�أنه�س‪ ،‬و�إن �سئل��ت فاعب�س» (المرزوقي‪ ،‬الأزمنة والأمكنة)‪.‬‬
‫غير �أن هناك من يرويه��ا بذكر النجم ال الثريا‪� .‬أما النجم فا�سم ال�شهرة للثريا‪،‬‬
‫كم��ا هو مع��روف‪ .‬و«�أم�سى النجم» يعني طلعت الثري��ا م�ساء‪ .‬وطلوع الثريا‬
‫م�س��اء‪� ،‬أي ع�شية‪ ،‬يحدث ف��ي االعتدال الخريفي‪ ،‬عند ب��دء المطر الو�سمي‪،‬‬
‫كما عرفنا من قبل‪ .‬وفي هذا الوقت كانت تقدم �أ�ضحيات الإبل في ما يبدو‪�« :‬إذ‬

‫‪149‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�أم�س��ى النجم‪ ،‬قم ر�أ�س‪ ،‬ففي الدثار فاخن�س‪ ،‬و�سمناهن فاحد�س‪ ،‬و�أنه�ش بنيك‬
‫و�أنه���س‪ ،‬و�إن �سئل��ت فاعب�س‪ .‬احد�س‪� :‬أ�ضجعها فاذبحه��ا‪ ،‬و�أنه�س‪� :‬أي �أطعم‬
‫بني��ك‪ ،‬خن�س ف��ي البيت‪� :‬إذا قعد» (ال�ضبي‪ ،‬الأمث��ال)‪ .‬والغالبية ترى �أن «قم‬
‫ر�أ���س» تعن��ي منت�صف ال�سم��ت‪� ،‬أي بما يجعل الثريا على قم��ة ر�أ�س من يقف‬
‫تحتها‪ ،‬كما يقال لنا‪ .‬لكن هذا غير مقنع‪.‬‬

‫ف��ي كل حال‪ ،‬فكالم لقم��ان غام�ض ومعقد‪ ،‬وفيه قدر م��ن الت�صحيف بناء على‬
‫ذل��ك‪ .‬وتعقي��ده نابع من �إيغال��ه في الزمن‪ .‬لك��ن من الوا�ضح �أن��ه يحدد موعد‬
‫�أ�ضحي��ة الإبل‪ :‬طل��وع الثريا الخريفي في الع�شية‪� ،‬أي م��ع غورانها‪� .‬أما الكالم‬
‫كل��ه فيقول‪� :‬إذا �أم�سى النجم في قم ر�أ�س‪ ،‬فعليك �أن تتدثر بدثارك لأن هذا وقت‬
‫البرد‪ ،‬كما عليك �أن تعمد �إلى �إبلك لكي تنحر �أعظمها �أو �أ�سمنها‪ .‬فكلمة «احد�س»‬
‫تعني طرح الإبل لنحرها‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فلقمان يحدثنا عن �أ�ضحية تق��دم مع غوران الثريا‪� ،‬أي طلوعها بالع�شي‪.‬‬
‫وطلوع الثريا بالع�ش��ي يفتتح مو�سم لعبة المي�سر‪ ،‬ومو�سم طق�س الذبيح معا‪ ،‬كما‬
‫ر�أينا �سابقا‪ .‬وفيهما معا تكون الت�ضحية بالإبل‪ .‬بذا ن�ستنتج �أن كالم لقمان يتحدث‬
‫ع��ن �أ�ضحية م��ن الإبل �إما لطق�س الذبيح‪ ،‬و�إما للعب��ة المي�سر‪� ،‬أو لهما معا‪ .‬لكن‬
‫ابن��ي تقن لم يرغبا في بيع �إبلهما‪� ،‬أو ا�ستبداله��ا بالغنم‪ ،‬بناء على مقترح لقمان‪،‬‬
‫في هذا الوقت بالذات‪ ،‬وقت القم‪ .‬فلماذا؟‬

‫نحن ال ن��دري ب�شكل م�ؤكد‪ .‬فهما ربما ال يريدان من��ح لقمان �أ�ضحيته‪� .‬أو ربما‬
‫لأن الإب��ل في هذا الوقت تك��ون رخي�صة الثمن‪ .‬فهي تهي��ج لل�ضراب مع نهاية‬
‫�أيل��ول‪ ،‬وي�شتد هيجانها في ت�شرين‪� ،‬أي وقت طل��وع الثريا‪ .‬وفي فترة هيجانها‬
‫ه��ذه تهزل ويرخ�ص ثمنه��ا‪« :‬وفي حديث ال ِّدي��ات‪ :‬و�إذا هاجت الإبل رخ�صت‬
‫يمتها‪ .‬هاج ال َفحل‪� :‬إذا طل��ب ال�ضراب وذلك مم��ا ُي ْهزِ له فيقل ثمنه»‬ ‫و َن َق�ص��ت ِق َ‬
‫ِذا‪ ‬هاج ِت‬
‫َ‬ ‫(ل�سان الع��رب)‪ .‬ي�ضيف ابن الأثير مكررا‪« :‬وفي حدي��ث ال ِّديات‪ :‬و�إ‬
‫راب‪ ،‬وذلك مما ُي ْهزِ لُه‬ ‫ال�ض َ‬
‫هاج الفحلُ �إذا طلب ِّ‬
‫‪ ‬ر ُخ َ�ص ْت و َن َق َ�ص ْت قيمتها‪َ .‬‬
‫الإِبلُ َ‬
‫فيقل ثمنه» (ابن الأثير‪ ،‬النهاية في غريب الحديث)‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫زكريا محمد‬

‫بالتال��ي‪ ،‬فم��ن المحتمل �أن جمل��ة «ال ن�شريه��ا [= نبيعها] بالق��م» تتعلق ب�ضراب‬
‫الإب��ل‪� .‬أي �أن القم هو �ضراب الإبل‪ .‬بذا فالجملة تعني‪ :‬ال نبيعها وقت ال�ضراب‪.‬‬
‫�إذ يقال في اللغ��ة‪« :‬قد‪� ‬أقم‪ ‬الفحل الإبل‪� ،‬إذا �ألقحها جمعاء» (ابن ال�سكيت‪� ،‬إ�صالح‬
‫أقم‪ ‬الفحلُ ‪ ‬الإبلَ ‪ ،‬وهو ِي ِق ُّمها �إقمام ًا �إذا َ�ض َربها‬
‫المنطق)‪ .‬ي�ضيف الأزهري‪« :‬يقال‪َّ � :‬‬
‫كلها» (الأزهري‪ ،‬التهذيب)‪ .‬ويتوافق القم‪� ،‬أي �ضراب الإبل‪ ،‬مع طلوع الثريا‬
‫الخريفي‪« :‬قيل �أي�ضاً‪� :‬إذا �أم�سى النجم يدبر ف�شهر نتاج و�شهر‪ ‬مطر» (المرزوقي‪،‬‬
‫الأزمن��ة والأمكنة)‪ .‬والنت��اج هو نتاج الإبل الذي يب��د�أ بال�ضراب‪ .‬عليه‪ ،‬ف�أغلب‬
‫الظ��ن �أن العالقة اللفظية بين «القم»‪ ،‬قم الإبل و�ضرابها‪ ،‬وبين «قم الر�أ�س» عند‬
‫غوران نجم الثري��ا‪ ،‬تعك�س �أبعادا ذات طبيعة دينية‪ .‬لكننا ال ندري كيف‪ .‬وربما‬
‫�أن �ضراب الإبل �سمي بالقم ب�سبب ارتباطه بلحظة قم الر�أ�س عند الثريا‪.‬‬

‫ويبدو �أن �أ�صعب الأوقات بالن�سبة للنا�س في الجاهلية كان �أن تطلع الثريا ع�شية‪،‬‬
‫�أي تغ��ور‪ ،‬ثم لم ينزل المطر‪ .‬فهو يعن��ي �أن القحط قد حل‪ .‬لذا يبدو �أن طقو�سا‬
‫كان��ت ت�ؤدى في هذه الحالة لإر�ضاء �إله الماء ال�سفلي‪�« :‬إذا طلعت ال�شعرى �سفر ًا‬
‫إمرة وال �أمراً‪ ،‬و�أر�سل العر�ضات‬
‫‪� -‬أي ع�شيا ‪ -‬ولم تر فيها مطراً‪ ،‬فال تغذون � ً‬
‫�أث��راً‪ ،‬يبغينك في الأر�ض معمراً‪� .‬سف��را‪ :‬غروب ال�شم�س قبل �إن يغيب ال�شفق‪،‬‬
‫يقول ال تغذون جذع ًا جدي ًا وال َعناق ًا على هذا القليل» (ال�ضبي‪ ،‬الأمثال)‪ .‬وكنا قد‬
‫ناق�شنا �أمر «العر�ضات» في كتاب �سابق هو «ذات النحيين؛ الأمثال الجاهلية بين‬
‫الطق�س والأ�سط��ورة»‪ .‬والعر�ضات هي هدايا تر�ضية من التمر تقدم للغربان‪،‬‬
‫التي تمثل �إله الماء ال�سفلي كي يجعل ماءه يتدفق‪� .‬إذ كان االعتقاد �أن عدم نزول‬
‫م��اء المطر مع غ��وران الثريا �سي�ؤدي �إلى �شح الم��اء ال�سفلي‪ .‬لذا تقدم هدايا من‬
‫التم��ر لها ك��ي يتم �إقناعه بتي�سير الم��اء‪ .‬فالعر�ضات هي الهداي��ا‪� :‬أما النوق التي‬
‫تو�ض��ع على ظهورها ه��ذه الهدايا فت�سمى «معر�ض��ات الغربان»‪� ،‬أي حامالت‬
‫الهدايا للغربان‪�« :‬أبو عبيد عن الأ�صمعي يقال عر�ضت �أهلي عرا�ضة؛ هي الهدية‬
‫تهديها لهم �إذا قدمت من �سفر‪ .‬و�أن�شد للراجز‪:‬‬

‫حمراء من‪ ‬معر�ضات‪ ‬الغربان‬ ‫يقدمها كل عالة عليان‬

‫عن��ى �أنها تقدم الإبل في�سقط الغ��راب على حملها �إن كان تمر ًا في�أكله‪ ،‬فك�أنها �أهدته‬

‫‪151‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫العرا�ضات �أثر ًا‪.‬‬


‫له‪ .‬ق��ال ويقال قو�س عرا�ضة‪� ،‬أي عري�ضة ويقال للإب��ل‪� :‬أنها ُ‬
‫وق��ال �ساجعهم‪« :‬و�أر�س��ل العرا�ضات �أث��را‪ ،‬يبغينك في الأر���ض معمر ًا»‪� ،‬أي‬
‫�أر�سل الإبل العري�ضة الآثار عليها ركبانها ليرتادو لك منزال تنتجعه» (الأزهري‪،‬‬
‫تهذيب اللغة)‪ .‬ولم يكن هذا الطق�س مفهوما للم�صادر العربية‪ .‬لذا لم ت�ستطع �أن تفهم‬
‫�أم��ر الغربان‪ .‬فظنت �أن النوق المح��ددة ت�سبق القافلة فت�أتي الغربان �إلى ظهورها‬
‫وت�س��رق التمر‪ .‬لكن الواقع �أن التمر ملك الغرب��ان‪ ،‬وان النوق تترك لتبتعد كي‬
‫ت�أكل التمر على ظهورها من دون خوف �أو وجل‪ .‬دليل ذلك قول الراجز‪:‬‬
‫ِ‬
‫للغراب �إذْ َح َجلْ‬ ‫ال‬
‫قلت قو ً‬
‫قد ُ‬
‫عليك بالقود الم�سانيف الأُ َول‬
‫َ‬
‫َت َغ َّد ما �شئ��ت على غير َع َجلْ‬
‫والق��ود الم�ساني��ف الأول هي هذه الن��وق التي تو�ضع ف��ي �أول القافلة‪ ،‬وتترك‬
‫وحدها كي تنزل عليها الغربان وت�أخذ هديتها‪ .‬وكما نرى فالراجز يحث الغربان‬
‫على اخذ ما هو لها‪.‬‬

‫لقمان ولقيم والوالئم‬

‫ا�س��م لقمان مرتبط بالطعام‪ .‬فلقمان من اللق��م‪ ،‬بمعنى الأكل �أو الإطعام‪ .‬ولأنه‬
‫على عالقة بالأكل والطعام فقد كانت هذه الأبيات التي تهجى بها قبيلة تميم‪:‬‬
‫ف�س��رك �أن يعي�ش فجئ بزاد‬ ‫مي��ت من تـمـي‬
‫ٌ‬ ‫�إذا م��ا مات‬
‫�أو ال�ش��يء الملفف في البجاد‬ ‫بخب��ز �أو بلح��م �أو بـ�سـمـ��ن‬
‫لي�أكل‪ ‬ر�أ�س لقم��ان بن عـاد‬ ‫تراه يطوف بالآفاق حر�صا‬
‫وم��ا كان ر�أ���س لقمان لي�صب��ح مو�ضوعا للأكل ل��وال �أن ا�سمه يوح��ي بالأكل‪.‬‬
‫وارتباطه بالطعام يحيل �إلى الوالئم‪ ،‬والئم الطعام‪ .‬والحق �أن ق�صته مع لقيم تتيح‬
‫الحديث عن الإطعام والوالئم‪ .‬وثمة �إجماع على �أن لقيم هو ابن لقمان من عالقة‬
‫�سفاح م��ع �أخته‪ .‬ذلك �أن �أخت لقمان‪« :‬قال��ت المر�أة‪ ‬لقمان‪� :‬إني امر�أة محمقة‪،‬‬
‫ولقمان رجل محكم منجب‪ ،‬و�أنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك‪ .‬ففعلت فباتت في‬

‫‪152‬‬
‫زكريا محمد‬

‫بي��ت امر�أة‪ ‬لقمان‪ ،‬فوقع عليها‪ ،‬ف�أحبلها بلقيم» (البغدادي‪ ،‬خزانة الأدب)‪ .‬وفي‬
‫رواية �أخرى �أن زوج �أخت لقمان رجل محمق و�ضعيف‪« :‬وزعموا �أن‪ ‬لقمان‪ ‬بن‬
‫ال من قومه �ضعيف ًا �أحمق‪ ،‬فولدت له ف�أحمقت و�أ�ضعفت‪،‬‬ ‫عاد كان زوج �أخته رج ً‬
‫فلما ر�أت ذلك �أعجبها �أن يكون لها ولد‪ ،‬له مثل �أدب‪ ‬لقمان‪� ‬أخيها ودها�ؤه‪ ،‬فقالت‬
‫ال على‬
‫المر�أة‪ ‬لقمان‪� :‬إني �أم�سيت الليلة على طهر‪ ،‬فهل لك على �أن �أجعل لك جع ً‬
‫�إن تخليني و�أخي ف�أك��ون معه الليلة؟ فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬ف�سقته حتى �سكر‪ ،‬فباتت معه‪،‬‬
‫فحملت له‪ ،‬فولدت غالم ًا ف�سمته‪ ‬لقيماً» (ال�ضبي‪ ،‬الأمثال)‪.‬‬

‫بالتال��ي‪ ،‬فلقي��م اب��ن لقمان واب��ن �أخت��ه‪ .‬وه��ذا يذكرن��ا بالعالقة بي��ن �إيزي�س‬
‫و�أوزيري���س‪ .‬ف�إيزي�س �أخت �أوزيري�س وزوجته‪ ،‬وحور���س هو ابنه منها‪� .‬أو‬
‫ه��و ابن نفتي�س‪� ،‬أخته��ا‪ ،‬الذي �أ�صبح ابن��ا لإيزي�س‪ .‬كما �أن ه��ذا يذكرنا ب�سارة‬
‫وهاجر‪ .‬ف�سارة لم تك��ن تحبل وتلد‪ ،‬لذا قدمت هاجر لزوجها كي يلد لها �أوالدا‪:‬‬
‫«و�أم��ا �ساراي زوجة �أبرام فقد كانت عاق��را‪ ،‬وكانت لها جارية م�صرية تدعى‬
‫هاجر‪.‬فقال��ت �ساراي لأبرام‪ :‬هو ذا الرب قد حرمني من الوالدة‪ ،‬فادخل عليها‬
‫لعلني �أرزق منها بنين‪ .‬ف�سمع �أبرام لكالم زوجته‪ ...‬فعا�شر هاجر فحبلت منه»‬
‫(الكتاب المقد�س‪ ،‬تكوين ‪ .)4-1 :16‬وهذا ما ي�ؤ�س�س ل�شبه �آخر مع �إبراهيم‪.‬‬

‫كما تذكرنا ق�صة لقم��ان مع �أخته بق�صة �سهيل اليماني وال�شعرى العبور اليمانية‪.‬‬
‫ف�سهي��ل �أخو ال�شعرى وزوجها في �آن‪ .‬لكن لقم��ان على ال�ضد من �سهيل اليماني‬
‫الفي�ض��ي ال�صيفي‪ .‬غي��ر �أن الأنثى‪� ،‬أي الزوجة ‪ -‬الأخ��ت‪ ،‬تكون مرة مع هذا‬
‫ومرة مع ذاك‪.‬‬

‫لقيم الأ�ضحية‬

‫عل��ى كل ح��ال‪ ،‬فق�صة �صراع لقم��ان مع ابنه لقي��م �أتت في �سي��اق �شرح المثل‬
‫الغام���ض‪�« :‬أ�شب��ه �شرج‪� ‬شرج ًا ل��و �أن �أ�سيم��راً»‪ .‬وثمة اختالف��ات في روايات‬
‫الق�ص��ة‪� .‬أما جوهرها فعلىهذا ال�شكل عن��د الميداني‪« :‬قال �أبو عبيد‪ :‬كان المف�ضل‬
‫ال يقال له‬
‫يح��دث �أن �صاح��ب المثل لقيم بن لقمان‪ .‬وكان هو و�أب��وه قد نزال منز ً‬

‫‪153‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫�شرج‪ .‬فذهب لقيم يع�شي �إبله‪ ،‬وقد كان لقمان ح�سد لقيما و�أراد هالكه‪ ،‬فاحتفر له‬
‫ال�س ُمر‪ ،‬ثم ملأ به الخندق ف�أوقد عليه ليقع فيه لقيم‪،‬‬
‫خندقاً‪ ،‬وقطع كل ما هناك من َّ‬
‫فلما �أقبل عرف المكان‪ ،‬و�أنكر ذهاب ال�سمر فعندها قال‪� :‬أ�شبه �شرج‪� ‬شرج ًا لو �أن‬
‫�أ�سيم��را‪ ...‬ي�ضرب في ال�شيئين يت�شابهان ويفترقان في �شيء» (الميداني‪ ،‬مجمع‬
‫الأمث��ال)‪� .‬أما المف�ضل ال�ضب��ي فيورد المقطع �إياه من الق�ص��ة كما يلي‪« :‬ومكث‬
‫لقم��ان يطبخ لحم��ه‪ ،‬فلما �أظلم لقمان وهو بمكان يقال ل��ه �شرج ‪ -‬وهو اليوم ماء‬
‫لبن��ي عب�س‪ -‬قطع �سمرات من �شرج ف�أوقد النار حتى �أن�ضج لحمه‪ ،‬ثم حفر دونه‬
‫خندق ًا فملأه نار ًا ثم واراها‪ ،‬فلما �أقبل لقيم �إلى مكانهما عرف المكان و�أنكر ذهاب‬
‫ال�سمر‪ ،‬فقال‪� :‬أ�شبه �شرج‪� ‬شرج ًا لو �إن �أ�سيمرا‪ ،‬ف�أر�سلها مثال‪ .‬ووقعت ناقة من �إبله‬
‫في تلك النار فنفرت‪ ،‬وعرف لقي��م �إنما �صنع لقمان النار لت�صيبه‪ ،‬و�إنما ح�سده‪،‬‬
‫ف�سك��ت عنه‪ ،‬ووج��د لقمان قد نظم في �سيفه لحما من لح��م الجزور وكبد ًا و�سنام ًا‬
‫حت��ى توارى �سيفه‪ ،‬وهو يريد �إذا ذهب لقيم لي�أخذها �أن ينحره بال�سيف‪ ،‬ففطن له‬
‫لقيم فقال‪ :‬في نظم �سيفك ما ترى يا لُقم‪ ،‬ف�أر�سلها مثالً» (ال�ضبي‪ ،‬الأمثال)‪.‬‬

‫علي��ه‪ ،‬فجوهر الق�ص��ة �أن لقمان �أراد في الحقيقة �أن يقتل لقيم��ا ابنه‪� ،‬أي �أن يجعله‬
‫�أ�ضحي��ة‪ .‬لذا جهز له نارا من خ�شب �شج��ر ال�سمر‪ ،‬و�أخفى النار في خندق كي يقع‬
‫لقي��م فيها وي�صبح �شواء‪« :‬وع��رف لقيم �إنما �صنع لقمان الن��ار لت�صيبه»‪ .‬وهذا في‬
‫الحقيق��ة يذكرنا بق�ص�ص الذبحاء‪ ،‬حيث يقرر الأب ذبح ابن��ه ك�أ�ضحية دينية‪ ،‬لكن‬
‫الإله ير�سل كب�ش ف��داء يذبح كبديل له‪ ،‬كما في حالة عبد المطلب و�إبراهيم‪ .‬الكبير‬
‫ال�شي��خ يقدم ابنه ال�صغير ك�أ�ضحية‪ .‬وفي حالة لقم��ان ف�إن الأ�سماء ت�شير �إلى المهمة‬
‫الميثولوجية فورا‪ .‬فلقيم هو اللقمة التي �ست�ؤكل‪ ،‬هو الأ�ضحية التي �ستمزق وت�ؤكل‪.‬‬

‫لبد‬

‫عر�ضن��ا في م��ا �سبق لن�سور لقم��ان ال�سبعة وعالق��ة رقم ‪ 7‬فيه��ا بالثريا وبق�صة‬
‫يو�س��ف والبقرات ال�سبع‪ .‬لكن ما يثير االنتباه �إنم��ا هو الن�سر ال�سابع للقمان الذي‬
‫يدع��ى «ل َُبد»‪ ،‬وهو �أ�شهر الطيور الأ�سطورية العربية‪ .‬كما �أنه �أطول ن�سور لقما‬
‫عمرا‪ .‬وي�ضرب بط��ول عمره المثل‪ .‬بل �إن ا�سمه ي��وازي كلمة الدهر والأبد‪:‬‬

‫‪154‬‬
‫زكريا محمد‬

‫«واخت��ار الن�س��ور‪ ،‬فلما لم يبق غي��ر ال�سابع‪ .‬قال ابن �أخ له‪ :‬ي��ا عم ما بقي من‬
‫عمرك �إال عمر هذا‪ .‬فقال لقمان‪ :‬هذا لبد‪ .‬ولبد بل�سانهم الدهر» (الميداني‪ ،‬مجمع‬
‫الأمثال)‪ .‬ولبد لقمان هذا ح�صل عليه من جبل ثبير هو جبل الذبحاء‪ ،‬وجبل كب�ش‬
‫فداء الذبحاء‪ ،‬وهو يدعى «الغروب» �أي�ضا‪:‬‬

‫«فبينما‪ ‬لقمان‪ ‬ي��دور ذات ي��وم ف��ي جبل �أبي قبي���س بمكة‪� ،‬سم��ع مناديا ال يرى‬
‫�شخ�ص��ه‪ ،‬وه��و يق��ول‪ :‬يا لقمان‪ ‬ب��ن عاد المغ��رور ببق��اء الن�سور اطل��ع ر�أ�س‬
‫ثبي��ر‪ ...‬وقدرك المقدور‪ ،‬فطلع ر�أ�س ثبير ف�إذا بوكر ن�سر فيه بي�ضتان قد تفلقتا‬
‫عن فرخيهما فاختار‪ ‬لقمان‪� ‬أحد الفرخي��ن‪ ،‬ثم عقد في رجله �سيرا ليعرفه و�سماه‬
‫الم�ص��ون» (ابن منبه‪ ،‬التيجان)‪ .‬وكان ه��ذا هو الن�سر الأول‪ .‬غير �أن ابن منبه‬
‫نف�سه يعود فيخبرنا �أنه الن�سر ال�سابع‪� ،‬أي الن�سر الذي مات لقمان بعد موته‪:‬‬

‫«الن�س��ر ال�سابع‪ :‬قال‪ :‬ثم توجه لقمان‪� ...‬إلى جب��ل قريب منهم‪ ،‬فلما دنا من‬
‫الجب��ل �سمع مناديا ينادي به‪ :‬يا لقمان بن عاد اطلع �إلى الجبل تلق عند ال�سهور‬
‫ذي الرت��ب‪ ،‬ف��ي تلة العرت��ون المنت�صب‪ ،‬مغيبا لم يغب م��ن حلول موت قد‬
‫كتب عل��ى �أهل الم�ش��رق والمغرب‪ ،‬فطل��ع لقمان ذلك الجب��ل حيث و�صف‬
‫الذي ناداه‪ ،‬ف�إذا هو بوكر ن�سر فيه بي�ضتان قد تفلقتا عن فرخيهما‪ ،‬فاختار �أحد‬
‫الفرخي��ن وعقد ف��ي رجله �سيرا ليعرفه به و�سماه مغيب��ا‪ ،‬ثم قال‪� :‬أنت المغيب‬
‫‪-‬كم��ا �سماك من ال يكذب ‪ -‬عي�شك معي العي���ش المخ�صب ويزاح عنك المكد‬
‫المخ��رب و�أنا عليك حدب في بقائك مرتقب‪ ،‬فك��ن �أبقى ممن قد ذهب‪ .‬فكان‬
‫لقم��ان ال يغفل عن �إطعام��ه حتى نه�ض طائرا له يدعوه با�سم��ه للم�أكل فيجيبه‬
‫حت��ى �إذا كبر و�ضعف ودعاه لقمان ذات يوم من ر�أ�س الجبل فلم يجبه‪ ،‬فطلع‬
‫�إليه فوجده ميتا» (ابن منبه‪ ،‬التيجان)‪.‬‬

‫وهك��ذا فن�سر لقمان ال�سابع والأهم‪ ،‬والأط��ول عمرا يدعى «المغيب»‪ .‬وهذا‬
‫�إ�شارة رمزية للموت‪� .‬إنه �أبد وغروب معا‪� .‬إنه الغروب الأبدي‪� .‬أي الموت‬
‫الخال��د‪ .‬فالآلهة الذين ي�شبه��ون لقمان خالدون‪ ،‬لك��ن خلودهم خلود الموت‬
‫وفي �إطاره‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ع��ل كل حال‪ ،‬فال بد �أن الفرخ الآخ��ر كان ا�سمه ال�شروق‪ .‬وال�شروق يفتر�ض‬
‫�أن يك��ون ا�سم ن�سر نقي�ض لقم��ان‪� .‬أي �أنه ن�سر لأمثال �سهي��ل اليماني المنبعثين‬
‫المتجددين �سنويا‪.‬‬

‫ويذكرن��ا الن�سر ال�ساب��ع‪ ،‬لبد‪ ،‬بالقدح ال�ساب��ع في المي�سر «المعلّ��ى»‪ .‬فهو �آخر‬
‫الق��داح‪ .‬وهو كذلك �أكث��ر الن�سور حظا‪ .‬فله �سبعة حظ��وظ‪ .‬وهكذا يكون طول‬
‫حياة لبد موازيا لكبر ح�صة القدح ال�سابع‪.‬‬

‫و�ص ْحر‬
‫ق�صة لقمان ُ‬

‫يق��ال لنا �أن ُ�ص ْحر هي ابنة لقم��ان‪ ،‬و�أنه قتلها‪« :‬ولم��ا َق َتل‪ ‬لُقمان‪ ‬بن ٍ‬
‫عاد اب َنته‪،‬‬
‫َ�ست ام��ر�أة؟ وذلك �أنه قد كان تزوج‬ ‫وهي‪� ‬ص ْحر‪� ‬أخ��ت ُل َقي��م‪ ،‬قال حين َق َتلها‪� :‬أل ِ‬
‫ُ‬
‫عدة ن�ساء‪ ،‬كلهن خنه في �أنف�سهن‪ ،‬فلما َقتل �أخراهن ونزل من الجبل‪ ،‬كان �أول‬
‫اه‪� ‬ص ْحر‪ ‬ابنت��ه‪ ،‬فوثب عليها فقتلها‪ ،‬وقال‪ :‬و�أنت �أي�ض ًا امر�أة» (الجاحظ‪،‬‬ ‫من تل ّق ُ‬
‫الحيوان)‪ .‬وعل��ى هذا الأ�سا�س قيل في المثل‪« :‬ذن��ب �صحر»‪ ،‬للذي يعاقب بال‬
‫ذن��ب‪ .‬ويقال �أي�ضا �أن زرقاء اليمامة كانت م��ن بنات لقمان‪« :‬واليمامة ا�سمها‪،‬‬
‫وبه��ا �سمي البلد‪ .‬وذك��ر الجاحظ �أنها كانت من بنات‪ ‬لقمان‪ ‬ب��ن عاد و�أن ا�سمها‬
‫عن��ز‪ ،‬وكانت هي زرق��اء‪ ،‬وكانت الزب��اء زرقاء‪ ،‬وكان��ت الب�سو�س زرقاء»‬
‫(الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال)‪.‬‬

‫«�ص ْحر‪ :‬ا�سم �أُخت‪ُ  ‬ل ْقمان بن عاد»‬


‫لكن هناك من يخبرنا �أنها �أخت لقمان ال ابنته‪ُ :‬‬
‫يه هي �أُخت‪ ‬لقمان‬ ‫(ل�سان العرب)‪ .‬لكن هناك من يقول �أنها �أخته‪« :‬قال ابن خال َْو ِ‬
‫ب��ن عاد‪ .‬وقال‪� :‬إ َِّن ذنبه��ا هو �أَن لقمان ر�أَى في بيتها ُنخام��ة في َّ‬
‫ال�س ْقف فقتلها»‬
‫(ل�سان العرب)‪.‬‬

‫ونح��ن في الحقيقة �أقرب �إلى �أنها �أخته وزوجته معا‪� .‬أي �أنها ا�سم �آخر لبراق�ش‪،‬‬
‫�أو الوجه الآخر لبراق�ش‪ .‬وفكرة �أن زرقاء اليمامة من بنات لقمان بن عاد يوحي‬
‫بعالق��ة ما بين لقمان وجذيمة الأبر�ش‪ .‬فقد كانت الزباء‪ ،‬وهي زرقاء �أي�ضا مثل‬
‫اليمام��ة‪ ،‬زوجة جذيمة �أو خطيبته‪ ،‬لكنهما ت�صرفا ك�أعداء‪ ،‬وانتهى �إلى �أن قتلته‬

‫‪156‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الزباء‪ ،‬كما قتل لقمان �صحر‪� .‬إذن‪ ،‬فنحن مع �أمثولة الزوجة الم�ش�ؤومة‪ ،‬وكل‬
‫الزرق��اوات م�ش�ؤومات‪ ،‬الت��ي تقتل زوجها �أو يقتلها زوجه��ا‪ .‬وجذيمة مرتبط‬
‫بال�سم��اء ال�شمالية‪ .‬لذا يدعى «نديم الفرقدين»‪ .‬والفرقدان نجمان في نع�ش بنات‬
‫نع�ش في �شمال ال�سماء‪ .‬عليه‪ ،‬فالظاهر �أي�ضا �أن لقمان مرتبط ب�شمال ال�سماء‪.‬‬

‫�أما ِل َ‬
‫��م كانت النخامة‪ ،‬وهي النخع��ة‪� ،‬أي قذفة البلغم من ال�ص��در‪� ،‬سببا في قتل‬
‫�صحر‪ ،‬فربما تف�سره ق�صة الن�ضيرة بنت ال�ضيزن‪ .‬فقد حا�صر �سابور ذو الأكتاف‬
‫ال�ضيزن ملك الجزيرة‪ ،‬فلم يقدر عليه‪ .‬لكن الن�ضيرة ابنة ال�ضيزن دلته على نفق‬
‫تحت الح�صن �شرط �أن يتزوجها وي�ؤثرها على ن�سائه‪:‬‬

‫«فدلته‪ ‬الن�ضيرة‪ ‬عل��ى ذل��ك الطري��ق‪ ،‬فدخلت من��ه جنود‪� ‬سابور‪ ،‬فقتل��وا �أهل‬


‫الح�صن‪ ،‬وقتلوا ال�ضيزن‪ .‬ثم � َّإن‪� ‬سابور‪ ‬بات بالن�ضيرة معر�ساً‪ .‬فباتت �ساهرة لم‬
‫تنم‪ ،‬فلما �أ�صبح قال لها‪� ‬سابور‪ ‬مم �سهرك هذه الليلة‪ ،‬فقالت‪ :‬من خ�شونة فرا�شك‬
‫ه��ذا‪ ،‬فقال لها‪� :‬أ َّنه فرا�ش من حري��ر مح�شو بزغب النعام‪ ،‬ولم تنم الملوك على‬
‫�ألي��ن منه وال �أوط�أ‪ ،‬فنظر �إلى ورقة �آ���س خ�ضراء بين عكنتين من عكن بطنها‪،‬‬
‫فتناوله��ا ف�س��ال الدم من مو�ض��ع الورقة من ترفه��ا‪ ،‬فقال لها‪ :‬بم��ا كان �أبواك‬
‫يغذيانك؟ فقالت‪ :‬بالمخ والزبد و�صفو الخمر وال�شهد‪ .‬فقال‪� :‬إن كانت هذه حالتك‬
‫معهما‪ ،‬وفعلت بهما ما فعلت؛ فلن ت�صلحي لأحد بعدهما؛ و�أمر بها فعقدت ذوائبها‬
‫بي��ن فر�سين‪ ،‬و�أمر بالفر�سين �أن يرك�ض��ا‪ ،‬فقطعاها �إرباً» (الحميري‪ ،‬ن�شوان‪،‬‬
‫خال�صة ال�سير الجامعة)‪ .‬الق�صة تقول �أن �سابور قتل الن�ضيرة لأنها خانت والدها‬
‫ال��ذي غذاها بكل ما هو طيب من مخ وزبد و�شه��د‪ .‬لكن يبدو �أن ال�سبب الحقيقي‬
‫النخاع الذي‬
‫ِ‬ ‫يتعل��ق بالمخ‪ .‬ذلك �أن النخامة هي النخاعة‪ ،‬والنخاعة ما ينزِ ل من‬
‫مادته من الدماغ‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالنخامة‪� ،‬إذن‪ ،‬على عالقة بالدماغ‪ .‬لقد قتلها لأنها‬
‫ت�أكل الدماغ‪� .‬أما ما معنى هذا ال�ضبط‪ ،‬فهذا ما ي�صعب علينا فهمه بدقة‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬فق�صة �سابور والن�ضيرة هي ق�صة الزوج الذي يقتل زوجته‪ ،‬مثل‬
‫لقمان وغيره‪.‬‬

‫‪157‬‬
158
‫فصل ‪8‬‬

‫لقمان‪� ،‬إبراهيم‪ ،‬عبد المطلب‬

‫تجمع��ت لدينا الآن‪ ،‬ومن خالل ه��ذا المبحث‪ ،‬مادة كافية للق��ول ب�أن ثمة �صلة‬
‫جوهرية بي��ن ال�شخ�صيات الثالث‪� :‬إبراهيم‪ ،‬عبد المطلب‪ ،‬ولقمان بن عاد‪ .‬فهم‬
‫يمثل��ون‪ ،‬في ما يبدو‪� ،‬شرعة دينية واحدة من حي��ث الجوهر‪ .‬ويمكن اخت�صار‬
‫ال�صلة بين هذه ال�شخ�صيات بالنقاط الآتية‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أن الثالثة على عالقة بالثريا وطقو�سها‪:‬‬

‫فلعب��ة المي�س��ر‪ ،‬لعب��ة لقمان‪ ،‬تح��دث وقت غ��وران الثريا‪� ،‬أي ف��ي االنقالب‬
‫الخريفي‪� .‬أما عالقة عبد المطلب بالثريا فتت�ضح من �أمرين‪ :‬حفره لزمزم «حين‬
‫غ��ار نجم الله ذو الرقيب»‪� ،‬أي عند غوران الثريا‪ ،‬ثم ممار�سته لطق�س الذبيح‪،‬‬
‫طق���س مطعم الطي��ر‪ ،‬الذي يج��ري �أي�ضا عند غ��وران الثريا في م��ا يبدو‪� .‬أما‬
‫�إبراهي��م‪ ،‬فقد افتر�ضنا �أن��ه هو الآخر قد حفر «بئر �سب��ع» وقت غوران الثريا‪،‬‬
‫�إ�ضاف��ة �إلى �أنه ال بد �أن يك��ون قد حفر «بئر زمزم» في ه��ذا التوقيت �أي�ضا‪ ،‬ما‬
‫دامت �إعادة حفرها على يد عبد المطلب قد تمت عند غوران الثريا‪.‬‬

‫كذل��ك فال�شخ�صيات الثالث عل��ى عالقة بالرقم ‪ ،7‬الذي ه��و رقم نجوم الثريا‪.‬‬
‫ف�إبراهي��م حفر «بئ��ر �سبع»‪� ،‬أي بئر الرقم ‪ .7‬كما انه �أعط��ى �أبيمالك �سبع نعاج‬
‫ب��دل الح�صول على حقه في ه��ذه البئر‪� .‬أما عبد المطلب‪ ،‬فق��د اقترع على ذبح‬
‫واحد م��ن �أوالده بالقداح ال�سبعة في الكعبة‪ .‬في حي��ن �أن عالقة لقمان بالرقم ‪7‬‬
‫وا�ضحة وجلية‪ .‬فلعبة المي�سر �أ�سا�سها الرقم ‪ 7‬وم�ضاعفاته كالرقم ‪.28‬‬

‫ثانيا‪ :‬حفر الآبار‪ :‬الثريا على عالقة بحفر الآبار‪ .‬فنجومها نجوم الإخذ‪� ،‬أي هي‬
‫نجوم حفر الآب��ار‪ .‬كما �أن االحتفال بطلوعها الخريف��ي «احتفال جماع الثريا»‬

‫‪159‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫يرافق��ه التجمع عند �آب��ار المياه‪ .‬وهناك بئ��ر �أخرى في مكة تدع��ى بئر الثريا‪:‬‬
‫«بئر‪ ‬الثري��ا‪ :‬وحفرت بنو تيم‪ ‬الثريا‪ ‬وهي بير عب��د الله بن جدعان» (الأزرقي‪،‬‬
‫�أخبار مكة)‪.‬‬

‫وال�شخ�صي��ات الثالث عل��ى عالقة بحفر الآبار‪ .‬فعبد المطل��ب هو من �أعاد حفر‬
‫زم��زم‪ ،‬وربما حفر بئر الكعبة �أي�ضا‪� .‬أما �إبراهيم فهو من حفر زمزم في البدء‪،‬‬
‫وم��ن حفر «بئر �سبع» ح�سب التوراة‪ .‬في حي��ن يتبدى لقمان �أي�ضا كحفار �آبار‪.‬‬
‫مان‪ :‬هو‪ ‬لقمان بن عاد‪ ،‬وهي‬ ‫«ركيةُ ُل ْق َ‬
‫فلدينا ركية‪� ،‬أي بئر‪ ،‬تدعى ركية لقمان‪َ :‬‬
‫ركي��ة بثاج قريب م��ن البحرين بين البحرين واليمامة كان��ت لبني قي�س بن ثعلبة‬
‫ولعنزة فغلبت عليها بنو �سعد وهي مطوية بحجارة‪ ،‬الحجر �أكبر من ذراعين قال‬
‫الفرزدق من �أبيات‪:‬‬

‫ِ��رت َظ ْ‬
‫ل��ت جوانبه��ا تغل��ي‬ ‫�إذا ُ�سب َ‬ ‫زدت ر�أ�سك هزمةً‬
‫ُ‬ ‫الحي��اء‬
‫ُ‬ ‫ول��وال‬

‫لقم��ان ال�شبيه��ة بالدح��ل»‬


‫َ‬ ‫ركي��ة‬ ‫وع ك�أنه��ا‬
‫بعي��دة �أط��راف ال�ص�� ُد ِ‬
‫ُ‬

‫(ياقوت‪ ،‬معجم البلدان)‪.‬‬

‫آبار‬
‫راميت‪ٌ � :‬‬
‫ُ‬ ‫«ه‬
‫كذل��ك هناك �آبار �أو بئر واح��دة يقال �أن لقمان هو من حفره��ا‪َ :‬‬
‫احت َف َرها؛ الأَ�صمعي عن ي�سارِ‬
‫مجتمعة بناحية ال َّد ْهناء‪َ ،‬زعم��وا �أَن‪ ‬لقمان‪ ‬بن عاد ْ‬
‫راميت‪ ،‬وحولَها ِجفار؛ و�أَن�شد‪َ :‬بقايا‬
‫ُ‬ ‫لها‪ ‬ه‬
‫َ‬ ‫رية؛ وهي قريةٌ َركايا [�آبار]‪ ،‬يقال‬ ‫�ض َّ‬ ‫َ‬
‫يت‪ُ  ‬ن َّز ِح» (ل�سان العرب)‪.‬‬ ‫من‪ ‬ه ِ‬
‫رام َ‬ ‫َ‬ ‫ِج َّفارِ‬

‫ثالثا‪ :‬الذبحاء‪ :‬وي�شترك الثالثة في طق�س تقديم االبن ك�أ�ضحية‪� ،‬أي طق�س الذبيح‪.‬‬
‫ف�إبراهيم قدم ابنه �إ�سماعيل ذبيحا‪ .‬وعبد المطلب قدم عبد الله ذبيحا‪ .‬في حين �أن‬
‫لقمان في ما يبدو قدم ابنه لقيم ذبيحا‪� ،‬أو �أراد �أن يقدمه ذبيحا‪� .‬صحيح �أن الأمر‬
‫يبدو كمحاولة قتل‪ ،‬لكن الأمر في النهاية يتعلق ب�إر�سال االبن �إلى الموت‪.‬‬

‫رابع��ا‪ :‬كب���ش الفداء‪ :‬ف�إبراهي��م فدى �إ�سماعي��ل بكب�ش فداء‪ ،‬تقول لن��ا الم�صادر‬
‫العربي��ة انه كب�ش �أروى‪ .‬وعبد الله هو �أي�ضا‪ ،‬وكم��ا �أو�ضحنا‪ ،‬فدى ابنه بكب�ش‬

‫‪160‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أروى ف��ي ما يبدو‪ ،‬ثم دفع مائة من الإبل دي��ة هذا الكب�ش‪ .‬لذا جرت العادة �أن‬
‫دي��ة القتيل مائة بعير‪« :‬وجرت ال�سنة في الدي��ة بمائة من الإبل»‪� .‬أما لقمان ف�إنه‬
‫ين�سب له‪ ،‬مثل عبد المطلب‪ ،‬ت�أ�سي�س تقليد الدية‪ « :‬و�أول من �سن الدية‪ ‬لقمان بن‬
‫عاد» (البغدادي‪ ،‬خزانة الأدب)‪.‬‬

‫وبخ�صو���ص كب�ش ف��داء الأروى‪ ،‬ف�إن ا�سم �إبراهيم ذات��ه يعك�س العالقة مع هذا‬
‫الكب�ش‪ .‬ذلك �أن المقطع الأول فيه «�إب‪� ،‬أب» يعني الماعز الجبلي في كثير من‬
‫لغات المنطقة‪ ،‬ولي�س ال�سامية منها فقط‪ .‬ومنه ا�سم الماعز الجبلي‪� ،‬أي الأروى‪،‬‬
‫بالإنجليزي��ة‪ .ibex :‬ويبدو �أن هذا المقط��ع كان ي�شير �أي�ضا �إلى الماعز الجبلي‪،‬‬
‫الأروى‪ ،‬ف��ي اللغة العربية في زمنه��ا الأ�سحق‪ .‬يدل على ذلك �أن هناك مر�ضا‬
‫له عالقة ب��الأروى ي�سمى‪� :‬أباء‪« :‬الأُباء‪ :‬داء ي�أخذ العن��ز وال�ض�أن في ر�ؤو�سها‬
‫م��ن �أن ت�شم �أب��وال الماعزة الجبلية‪ ،‬وه��ي‪ ‬الأروى‪� ،‬أو ت�شربها �أو تط�أها فترم‬
‫ر�ؤو�سها وي�أخذها من ذلك �صداع وال يكاد يبر�أ» (ل�سان العرب)‪ .‬ومن ال�صعب‬
‫�أن ال نفتر���ض �أن ا�سم المر�ض «�أباء» له عالقة با�سم الماعز «�إب» في كثير من‬
‫لغات المنطقة القديمة‪.‬‬

‫وا�سم حيوان الأروى ذاته‪ ،‬وكما بينا في كتابنا ال�سابق‪ ،‬ي�شير �إلى المياه والري‪:‬‬
‫«�أروى»‪ .‬ولي���س ه��ذا بالم�صادف��ة‪ .‬فالكب�ش يق��دم كثمن للح�ص��ول على الماء‬
‫ال�سفلي‪ ،‬ماء الآبار والعيون‪.‬‬

‫الأزالم‪ :‬لل�شخ�صي��ات الث�لاث عالقة بالأزالم‪� ،‬أي بال�سه��ام غير المن�صلة وال‬
‫المري�ش��ة‪ .‬ف�إبراهيم �صور على ج��دران الكعبة وهو يلعب ب��الأزالم بناء على‬
‫حدي��ث نبوي �شهير‪« :‬فكان الزهري يقول‪ :‬لما دخل النبي �صلى الله عليه و�سلم‬
‫فر�أى فيها �صورة المالئكة وغيرها‪ ،‬ور�أى �صورة �إبراهيم عليه ال�سالم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قاتله��م الله‪ ،‬جعلوه �شيخ�� ًا ي�ستق�سم‪ ‬بالأزالم!» (الواق��دي‪ ،‬المغازي)‪ .‬ي�ضيف‬
‫الأزرقي‪« :‬ونظر �إلى �صورة �إبراهيم فقال‪ :‬قاتلهم الله جعلوه ي�ستق�سم‪ ‬بالأزالم‪ ‬ما‬
‫لإبراهيم ول�ل�أزالم» (الأزرقي‪� ،‬أخبار مكة)‪ .‬وهك��ذا‪ ،‬فقد �صورت الجاهلية‬
‫�إبراهي��م وهو يمار�س التكهن واال�ستق�سام‪ .‬والأزالم ممار�سة تقوم �أي�ضا‪ ،‬مثلها‬
‫مث��ل المي�سر‪ ،‬على ال�سهام غير المن�صلة‪ ،‬التي ت�سمى بالأزالم‪� .‬أما عبد المطلب‬

‫‪161‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫فاقت��رع على الذبي��ح عبد الله بالقداح‪ .‬ف��ي حين �أن القداح ف��ي جوهرها فكرة‬
‫لقمان‪ .‬فهو �صاحب لعبة المي�سر‪� ،‬أي لعبة التقامر بالقداح‪ .‬كما ان القداح ذاتها‬
‫ت�سمى «حظيات لقمان»‪.‬‬

‫الرم��ي بالقو�س‪ :‬لدينا دالئل عل��ى �أن �إبراهيم ولقمان‪ ،‬على الأقل‪ ،‬على عالقة‬
‫بال�سهام والرمي‪ ،‬حي��ث �أن �إبراهيم هو‪�« :‬أول من عمل الق�سي العربية �إبراهيم‬
‫قو�سا ولإ�سح��اق قو�سا‪ ،‬وكان��وا يرمون بها‪،‬‬ ‫علي��ه ال�سالم؛ عم��ل لإ�سماعي��ل ً‬
‫وعلمهم��ا الرمي‏» (اب��ن الجوزي‪ ،‬المنتظم ف��ي التاريخ)‪� .‬أم��ا �إ�سماعيل فلدينا‬
‫«مر ر�س��ول الله �صلى الله عليه و�سلم ب�أنا�س‬
‫حدي��ث نبوي عن �إ�سماعيل يقول‪ّ :‬‬
‫من �أ�سلم وهم يتنا�ضل��ون‪ ،‬فقال‪« :‬ارموا يا بني �إ�سماعيل ف�إن �أباكم كان راميا»‬
‫(ابن �أبي �شيبة‪ ،‬الم�سند)‪.‬‬

‫�أما لقمان فقد ر�أينا من قبل �أنه كان‪�« :‬إذا رمى لم تقم راب�ضة‪ ،‬ولم ترب�ض قائمة»‬
‫كم��ا �أنه ي�سمى الراي�ش‪« :‬لقمان بن عاد‪ ‬هو ال��ذي �سمته حمير الراي�ش؛ لأنه كان‬
‫متوا�ضع ًا لله لم يكن متوجاً» (ابن منبه‪ ،‬التيجان)‪ .‬ونعتقد �أن ا�سمه‪ :‬الذي ّ‬
‫يري�ش‬
‫ال�سه��ام‪� ،‬أي ي�ضع لها ري�شا‪ ،‬كي تكون �صالح��ة للرمي‪ ،‬كما بينا في مكان �آخر‬
‫من هذا الكتاب‪.‬‬

‫عبد المطلب هو الوحيد الذي لي�س لدينا علما عن عالقته المبا�شرة بال�سهم والقو�س‪،‬‬
‫�إذا ا�ستثنينا �سهام القرعة غير المري�شة‪ .‬لكننا نعلم �أنه حين عثر على غزال الكعبة‬
‫في زمزم‪ ،‬عثر معه �أي�ضا على «�سالح و�إظفار»‪� ،‬أي على عدة حربية‪ .‬وهو ما‬
‫ي�شي بالقو�س والرمح‪ ،‬الذي يذكرنا برمح لقمان‪ ،‬رمح �أبي �سعد‪.‬‬

‫كب��ر العمر‪ :‬ال�شخ�صيات الثالث كبيرة العمر‪ .‬وق��د ر�أينا كيف �صور الجاهليون‬
‫�إبراهيم ك�شيخ ي�ستق�سم بالأزالم في الكعبة‪.‬‬

‫ويب��دو �أن ملته ‪� -‬إبراهيم ‪ -‬كانت تدعى ملة الأ�شياخ‪ .‬فلدينا خبر عن لحظة وفاة‬
‫�أب��ي طالب يتم و�صفه فيها ب�أنه «ر�أ�س ملة الأ�شياخ»‪� ،‬أي الملة الحنيفية‪ :‬فقد جاء‬
‫�إلي��ه الر�س��ول ليقنعه ب�أن ي�سلم قبل وفاته فف�شل‪« :‬فجل���س �إليه فقال‪ :‬يا عم جزيت‬
‫عني خيراً‪ ،‬يا عم �أعني على نف�سك بكلمة واحدة �أ�شفع لك بها عند الله يوم القيامة‪،‬‬

‫‪162‬‬
‫زكريا محمد‬

‫قال‪ :‬وما هي يا ابن �أخي؟ قال‪ :‬قل ال �إله �إال الله وحده ال �شريك له‪ ،‬فقال‪� :‬إنك لي‬
‫نا�ص��ح والله لوال �أن تعير بها فيقال‪ :‬جزع عمك من الموت لأقررت بها عينك‪،‬‬
‫ق��ال‪ :‬ف�صاح القوم‪ :‬يا �أبا طالب �أن��ت ر�أ�س الحنيفية‪ ‬ملة الأ�شياخ» (ابن منظور‪،‬‬
‫مخت�ص��ر تاريخ دم�شق)‪ .‬ويب��دو �أن �أبا طالب هو من �صار ر�أ���س ملة الأ�شياخ‬
‫ه��ذه‪ ،‬التي ه��ي ملة الطائفة الحلية‪ ،‬بع��د �أن توفي عبد المطل��ب‪ ،‬الذي كان هو‬
‫ر�أ�سها‪ .‬وكان عبد المطلب �شيخا يلقب بـ «�شيبة الحمد»‪.‬‬

‫�أما لقمان فقد ر�أينا �أنه مرتبط برمح �أبي �سعد الذي هو كناية عن الكبر‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬يتبدى لنا �أن ال�شخ�صيات الثالث �شخ�صيات دينية من طراز واحد‪ .‬وهذا‬
‫ما يعني �أن لقمان بن عاد كان �شخ�صية دينية كبيرة ال مجرد العب مي�سر‪.‬‬

‫هبل والأزالم‬

‫�أخب��ار الم�ص��ادر العربية تربط ب�شدة بي��ن هبل والأزالم‪ .‬والح��ق �أن الأزالم‬
‫مرتبط��ة بالمل��ة الإبراهيمية‪� ،‬أي مل��ة الحلة‪ ،‬كما ر�أينا من قب��ل‪ .‬وهبل لي�س له‬
‫عالق��ة بهذه الملة‪ ،‬ب��ل بنقي�ضها الحم�سي‪ .‬فم��ن �أح�ضر هبل ون�صب��ه في الكعبة‬
‫ه��و عمرو بن لحي الأ�سطوري‪« :‬وهو الذي بح��ر البحيرة‪ ،‬وو�صل الو�صيلة‪،‬‬
‫وحم��ى الحامي‪ ،‬و�سيب ال�سوائب‪ ،‬ون�صب الأ�صنام ح��ول الكعبة‪ ،‬وجاء بهبل‬
‫فن�صب��ه في جوف الكعبة‪ ،‬فكانت قري�ش والع��رب ت�ستق�سم عنده‪ ‬بالأزالم‪ ،‬وهو‬
‫�أول من غير الحنيفية دين �إبراهيم و�إ�سماعيل ‪ -‬عليهما ال�صالة وال�سالم ‪ -‬وكان‬
‫�أم��ره بمكة مطاع�� ًا ال يع�صى‪ ،‬وكان بمكة رجل من جره��م على دين �إبراهيم‪،‬‬
‫وكان �شاعراً‪ ،‬فقال لعمرو بن لحي حين غير دين �إبراهيم‪...‬‬

‫ي��ا عم��رو ال تظل��م بمك��ة �إ ّنها بلـ�� ٌد حـرام‬


‫بعـاد �أين هـم وك��ذاك تخترم الأنـام‬ ‫�سائ��ل ٍ‬
‫ال�سوام» (الع�صامي‪� ،‬سمط النجوم)‪.‬‬
‫وبنى العماليق الّـذين لهم بها كان ّ‬
‫وهك��ذا فاب��ن لحي‪ ،‬المرتب��ط بهبل‪« :‬ه��و �أول من غي��ر الحنيفية دي��ن �إبراهيم‬

‫‪163‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫و�إ�سماعي��ل»‪� .‬أم��ا الرجل ال��ذي كان على دي��ن الحنيفية فقد كان ف��ي مواجهة‬
‫عم��رو‪� .‬إذن‪ ،‬ي�صعب التفكير في �أن هبل مرتبط بالأزالم التي تخ�ص �إبراهيم‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬ربما كان علينا �أن نقدم فهما �آخر لل�صيغ التي تتحدث عن عالقة هذا ال�صنم‬
‫بالأزالم‪ :‬ونحن هنا �أمام احتمالين في ما يبدو لنا‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أن جمل��ة «عند هبل» ت�شير �إلى الق��رب المكاني فقط‪ .‬ومن المحتمل‪ ،‬بناء‬
‫عل��ى هذا‪� ،‬أن يك��ون لال�ستق�سام ب��الأزالم عالقة ببئر الكعب��ة‪ ،‬المرتبطة بالملة‬
‫الإبراهيمي��ة‪ .‬فهي بئر �إ�سماعيل‪ ،‬ح�سب بع�ض الأخبار‪ .‬وهبل كان يقع بالقرب‬
‫من هذه البئر‪� ،‬أو �أنه ن�صب عند بابها‪ .‬وهذا ما يفيده ن�ص ابن كثير‪« :‬ثم �أتوه [�أي‬
‫�أوالد عبد المطل��ب]‪ ،‬فدخل بهم على هبل‪ ‬ف��ي جوف‪ ‬الكعبة‪ ،‬وكان‪ ‬هبل‪ ‬عظيم‬
‫�أ�صن��ام قري�ش بمك��ة‪ ،‬وكان على‪ ‬بئر‪ ‬في جوف‪ ‬الكعبة‪ ،‬وكان��ت تلك البئر التي‬
‫يجمع فيها ما يهدى للكعبة‪ ،‬وكان عند‪ ‬هبل‪� ‬سبعة �أقداح» (�سيرة ابن �إ�سحق)‪.‬‬

‫الحظ هنا �أن هبل على البئر‪ .‬وعند ابن ال�ضياء �أن هبل ن�صب على هذه البئر التي‬
‫حفره��ا �إبراهيم‪« :‬وحفر �إبراهيم عليه ال�سالم جب�� ًا في بطن الكعبة على يمين من‬
‫دخله يكون خزانة البيت‪ ،‬يلقى فيه ما يهدى للكعبة‪ ،‬وهو الجب الذي ن�صب عليه‬
‫عمرو بن لحي هبل ال�صنم الذي كانت قري�ش تعبده وت�ستق�سم عنده‪ ‬بالأزالم‪ ‬حين‬
‫جاء به من هيت من �أر�ض الجزيرة» (ابن ال�ضياء‪ ،‬تاريخ مكة)‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالبئر‬
‫�إبراهيمي��ة‪ .‬لكن واقعة �أن هبل فوق البئر جع��ل اال�ستق�سام يقع قربه‪ ،‬بحيث بدا‬
‫وك�أنه على عالقة به‪.‬‬

‫ثاني��ا‪� :‬أن عبد المطلب كان يذهب �إل��ى �صنم هبل كي يقدم له الأ�ضحية‪ .‬فهبل هو‬
‫�صن��م �إله الماء ال�سفلي‪ .‬وعبد المطلب يقدم ل��ه الأ�ضحية ثمن ح�صوله على الماء‬
‫ال�سفلي‪ ،‬ماء عين زمزم‪ .‬و�إله الماء ال�سفلي هذا هو �إله الحم�س‪� .‬أي �أن الأ�ضحية‬
‫ه��ي �أ�ضحية من الحلة للحم�س‪ .‬فم��اء زمزم في الأ�صل ملك للحم�س‪ .‬والتمتع به‬
‫من قبل الحلة يقت�ضي دفع ثمنه‪� ،‬أي تقديم �أ�ضحية‪.‬‬

‫وكنا في كتبنا ال�سابقة قد �أو�ضحنا �أن هبل على عالقة ب�صنم قوم نحو «هب»‪ .‬فقد‬
‫كان لق��وم نحو �صنم��ان هما هب و�صدا‪� .‬أما هبل فهو «ه��ب �إيل»‪ ،‬في حين �أن‬

‫‪164‬‬
‫زكريا محمد‬

‫«�صدا» مرتبط بالت�صدية في الآية ‪ 35‬من �سورة الأنفال‪« :‬وما كان �صالتهم عند‬
‫البي��ت �إال مكاء وت�صدية»‪ .‬والت�صدية تخ�ص الطبقة ال�سفلية من البيت‪� ،‬أي قواعد‬
‫البي��ت‪ ،‬التي ين�سب بنا�ؤها لإبراهيم‪ .‬والبئ��ر‪ ،‬بئر الكعبة مرتبطة بهذه القواعد‪.‬‬
‫�أما هب��ل فعلى عالقة بالمكاء‪� ،‬أي بطائر المكّ اء الخم��ري‪� ،‬أي بال�صنم «مجاوز‬
‫الرياح»‪ ،‬الذي يعني ا�سمه «�ساقي الخمر»‪.‬‬

‫بن��اء عليه‪ ،‬يكون اقتراع عب��د المطلب بالقداح على ابنه الذبي��ح هو طق�س تقديم‬
‫الأ�ضحي��ة لإله الماء ال�سفل��ي‪� .‬أي �أن الأزالم والقداح لي�ست على عالقة مبا�شرة‬
‫بهب��ل‪ .‬فهي �أق��داح الملة الإبراهيمية في عرف الجاهلي��ة‪ .‬في حين ان الأ�ضحية‬
‫تق��دم لهب��ل‪� ،‬إله الحم���س‪ .‬ولأن رمز �إله الحم���س طائر‪ ،‬هو الطائ��ر المكاء‪،‬‬
‫ف���إن الأ�ضحي��ة تقطع وتو�ضع على ر�ؤو���س الجبال كي ي�أكل منه��ا الطير‪� .‬إنها‬
‫�أ�ضحي��ة «مطعم الطير»‪� ،‬أي �أ�ضحية عبد المطل��ب‪ ،‬الذي هو من يطعم الطير‪.‬‬
‫وه��ي �أ�ضحية ال�صنم «مطعم الطير» المن�صوب على المروة لـ «مجاوز الرياح»‬
‫المن�صوب على ال�صفا‪ .‬وهذا يعني �أن �صنم «مجاوز الرياح» على عالقة بهبل‪.‬‬
‫�إنهما �صورتان للإله ذاته‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫خال�صة عامة‬

‫ظل��ت كيفية لع��ب المي�سر لغ��زا لما يقرب م��ن �ألف ومائتي ع��ام‪ .‬وقد حاول‬
‫كثي��رون على مدى التاريخ العربي حل هذا اللغ��ز‪ ،‬لكن جهودهم لم تثمر عن‬
‫ح��ل اللغز‪ .‬ويده�ش الم��رء لذلك حقا‪� .‬إذ كيف تحولت �أ�شه��ر لعبة جاهلية �إلى‬
‫ن�س��ي من�سي خالل قرن واحد �أو �أكثر قليال؟ ويع��ود ال�سبب في ر�أينا �إلى هيمنة‬
‫نظري��ة خاطئة حول طريقة لعب��ه‪ .‬فقد رف�ضت فر�ضي��ة الأ�صمعي التي كانت‬
‫الأ�سا���س الوحيد ال�صال��ح لحل لغز لعبة المي�سر‪ ،‬وحل��ت محلها فر�ضية خاطئة‬
‫�أعم��ت الأمر و�أبهمته تماما‪ .‬وفر�ضية الأ�صمعي ب�سيطة جدا؛ فهي تقول �أن في‬
‫�أكوام لحم الجزور الع�شرة ‪ 28‬ح�صة مثلها مثل حزوز القداح ال�سبعة المتقامرة‬
‫الت��ي مجموعها ‪ 28‬ح��زا‪� .‬أي �أن المقام��رة تجري بين الح��زوز ال ‪ 28‬على‬
‫الح�ص���ص ال ‪ .28‬غير �أن البنائين القدماء رف�ضوا حجر الأ�صمعي‪ ،‬وا�ستندوا‬
‫�إلى ر�أي �أبي عبيدة �أو �أبي عمرو‪ ،‬الذي يقول ب�أن هناك ع�شر ح�ص�ص في لحم‬
‫الجزور‪ .‬وهو ر�أي يخلط بين الح�ص�ص والأكوام‪ .‬ف�أكوام اللحم ع�شرة (�سبعة‬
‫منها ت�شارك في التقامر فقط)‪ ،‬لكن الح�ص�ص التي تت�ضمنها الأكوام ال�سبعة التي‬
‫يج��ري عليها القمار تتكون من ‪ 28‬ح�صة‪ ،‬ب�ش��كل ت�صاعدي‪ .‬فالكومة الأولى‬
‫تت�ضم��ن ح�صة‪ ،‬وال�سابعة تت�ضمن �سبع ح�ص�ص‪ .‬وق��د انتهوا ب�سبب هذا الخلط‬
‫�إلى طريق م�سدود‪ .‬لذا كان ينبغي لنا العودة للأ�صمعي �إذا �أردنا �أن نفتح الباب‬
‫لح��ل هذا اللغز‪ .‬وهذا ما فعل��ه كتابنا هذا‪ .‬فقد جعل من حج��ر الأ�صمعي حجر‬
‫الأ�سا�س في البناء الذي �شاده‪.‬‬

‫غير �أن ف�شل الباحثين القدماء في فك اللغز نبع �أي�ضا من �أمرين �آخرين‪:‬‬

‫الأول‪ :‬الت�شو�ش التام ب�ش�أن القداح الأغفال‪ .‬فقد انق�سم القدماء ب�ش�أنه �إلى ق�سمين؛‬
‫ق�سم يرى �أن القداح الأغفال لغو ال يهدف �إال لتكثير عدد القداح كي ي�ؤمن الغ�ش‪،‬‬
‫و�أنه��ا بناء على ذلك بال �أهمية في اللعب‪� .‬أما الق�س��م الثاني فيرى �أن هذه القداح‬
‫بالذات هي الق��داح الخا�سرة‪ ،‬رغم �أنه ال يوجد �أحد للرهان عليها‪ ،‬ورغم �أنه ال‬
‫توج��د عليها عالمات تحدد قيمتها‪ .‬وقد �أثبتن��ا �أن هذين الر�أيين خاطئان‪ ،‬مبينين‬

‫‪166‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أن الق��داح الأغفال موجودة كي تقل�ص �إمكانية خ��روج القداح المو�سومة كلها‪،‬‬
‫وه��و ما يبطل اللعب‪ .‬وهذا يعني �أن وجودها حا�سم في نجاح اللعبة‪ .‬فمن دونها‬
‫ال يمك��ن للعبة �أن ت�ستمر‪� .‬إذ �سيكون لدينا ‪ 28‬ح�صة للقداح‪ ،‬تقابلها ‪ 28‬ح�صة في‬
‫�أكوام لحم الجزور‪ ،‬الأمر الذي يعني �أن جميع القداح �ستخرج رابحة‪.‬‬

‫الثان��ي‪ :‬عدم �إدراك طبيعة القدح الثالث من القداح الأغفال‪� ،‬أي القدح المنيح‪،‬‬
‫وهو الأ�شهر بين القداح كلها‪ .‬فهو قدح خا�ص �ضمن هذه المجموعة المكونة من‬
‫ثالثة قداح‪ .‬فهو‪ ،‬من جهة‪ ،‬جزء من هذه القداح لكنه‪ ،‬من جهة �أخرى‪ ،‬يختلف‬
‫عنها ب�شدة‪ .‬فهو ُيرد �إلى الربابة كلما خرج حتى لحظة محددة حيث ال يرد �إليها‬
‫حين يخرج‪ .‬وعند هذه اللحظة ي�صبح قدحا م�ستعارا‪ ،‬في�ضاف �إلى �صف القداح‬
‫المو�سوم��ة‪ ،‬لكن من باب الخ�س��ارة ال من باب الربح‪ .‬علي��ه‪ ،‬يكون لدينا في‬
‫اللعب��ة قداح لها حظ الرب��ح والخ�سارة‪ ،‬هي القداح ال�سبع��ة المو�سومة‪ ،‬وقداح‬
‫ال ترب��ح وال تخ�سر تتمث��ل بقدحين من القداح الثالثة‪ ،‬وقدح واحد ال يربح لكنه‬
‫يلزم لواحد من الخا�سرين‪ ،‬الذي‬ ‫يخ�سر‪ ،‬وهو الق��دح المنيح‪ .‬وهو حين يخ�سر ّ‬
‫ي�صير لديه قدحان خا�سران؛ قدحه الأ�صلي‪ ،‬والقدح المنيح‪ .‬غير �أن الدار�سين‬
‫القدم��اء قا�سوا القدحي��ن الآخرين من الأغفال على هذا الق��دح‪ .‬فقد اعتقدوا �أنه‬
‫ما دام واح��د من القداح الأغفال يرد �إلى الربابة ف��ي لحظة محددة‪ ،‬فيجب �أن‬
‫يك��ون هذا �ش�أن القداح الأغفال جميعه��ا‪ .‬ولم يكن هذا �صحيحا �أبدا‪ .‬وقد �شو�ش‬
‫ه��ذا الحكم كل محاوالت حل لغز المي�سر‪ .‬فالمنيح وحده كان يرد �إلى الربابة‪.‬‬
‫�أم��ا القدحان الآخران فلم يكن يجري ردهما‪ .‬الإع��ادة �إلى الربابة �سمة خا�صة‬
‫بالقدح المنيح‪.‬‬

‫ورغ��م معرف��ة الباحثين القدماء ب���أن لقمان بن عاد ه��و الأب الأ�سطوري للعبة‬
‫المي�س��ر‪ ،‬لكنهم لم يقارنوا بين لعبة المي�سر وتقليد اللعب عند لقمان‪ .‬فلم يطرحوا‬
‫ال�س�ؤال الحا�سم الذي كان يجب �أن يطرح‪ :‬لم يكون مقامرو لقمان‪� ،‬أي �أي�ساره‪،‬‬
‫ثماني��ة في حي��ن �أن مقامري المي�س��ر‪� ،‬أي �أي�ساره‪� ،‬سبعة؟ ول��و �أن هذا ال�س�ؤال‬
‫ط��رح لما كان للغ��ز المي�سر �أن يتوا�صل �أكثر من �ألف �سن��ة‪� .‬أما هذا الكتاب فقد‬
‫يلزم القدح المنيح هو نظير المقامر‬ ‫طرح ال�س�ؤال‪ ،‬وتو�صل �إلى �أن الخا�سر الذي ّ‬

‫‪167‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الثام��ن في �أي�سار لقمان‪ .‬وبذلك تم �أي�ضا التحديد النهائي لعدد قداح المي�سر؛ فهي‬
‫ع�ش��رة فق��ط؛ �سبعة منها تدخل المقامرة‪ ،‬وثالثة ال تدخ��ل‪ .‬وما جعلها تبدو �أحد‬
‫ع�ش��ر قدحا �أن القدح المنيح يتبدى كقدحين؛ فهو عا�شر القداح‪ ،‬لكنه ينتقل ليحتل‬
‫المركز الثامن في لحظة محددة‪ ،‬اللحظة التي ي�صبح فيه م�ستعارا‪ ،‬فيح�سب �ضمن‬
‫القداح المقامرة الخا�سرة‪� .‬إنه عا�شر وثامن معا‪.‬‬

‫ويمك��ن القول‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬أنه لم يكن هناك �أي وعي لدى القدماء ب�إمكانية �أن تكون‬
‫لعب��ة المي�س��ر لعبة ذات معنى دين��ي‪� ،‬أو ذات �أ�صل ديني‪ .‬ل��ذا ان�صب اهتمامهم‬
‫عل��ى معرفة كيفية لعبها فقط‪ ،‬ولم يعمدوا �إلى فهم عالقتها ب�أ�سطورة لقمان‪ ،‬وال‬
‫بالطقو���س الديني��ة الجاهلية‪� .‬أما ه��ذا الكتاب‪ ،‬فقد هدف �أ�سا�س��ا �إلى ك�شف �أ�صل‬
‫المي�سر وجذوره‪ .‬وقد تو�صل �إلى عدة �أمور‪:‬‬

‫�أوال‪� :‬أن اللعب��ة ذات �أ�صل ديني‪ ،‬و�أنها عل��ى عالقة حا�سمة بغوران الثريا‪� ،‬أي‬
‫بطلوعه��ا الخريفي‪ .‬فطلوعها في هذا الوقت هو �إ�ش��ارة البدء لمو�سم لعبة المي�سر‬
‫ال�سنوي‪ .‬عليه‪ ،‬فالمي�سر ال يلعب �إال عند طلوع الثريا‪ .‬كما �أنه ال يلعب �إال ع�شية‪،‬‬
‫�أي عند غياب ال�شم�س‪ ،‬وظهور كوكبة الثريا في ال�سماء‪.‬‬

‫�أكثر من ذل��ك‪ ،‬فمن المحتمل �أن لعبة المي�سر تبني نف�سها‪ ،‬ب�شكل ما‪ ،‬على غرار‬
‫ال�ص��ورة ال�سماوي��ة المفتر�ض��ة لنجوم الثري��ا ومنطقتها في ال�سم��اء‪ .‬فلدينا نجم‬
‫«رقي��ب» للثريا‪ ،‬و«رقيب» في لعبة المي�سر‪ .‬ورقي��ب لعبة المي�سر يتخذ موقعه‬
‫كما يتخذ رقيب الثريا موقعه خلفها‪ ،‬كما ورد في بيت �أبي ذ�ؤيب الهذلي الذي مر‬
‫ذكره؛ الذي تحدث عن ورود الأتن للماء‪:‬‬

‫النجم‪ ،‬ال َي َت َتلَّع‬


‫ِ‬ ‫ال�ض ِ‬
‫رباء‪ ،‬خلف‬ ‫ِ‬
‫رابئ ُّ‬ ‫والعيوق مقعد‬
‫ُّ‬ ‫فوردن‪،‬‬

‫كما �أن لدينا �سبعة مقامرين مقبل �سبعة �أنجم هي �أنجم الثريا‪ .‬ولي�س من الم�ستبعد‬
‫�أن يكون «الحر�ضة» على عالقة بنجم ما في ال�سماء‪.‬‬

‫ثاني��ا‪� :‬أن غ��وران الثريا‪� ،‬أي طلوعه��ا الخريفي‪ ،‬مرتبط بحف��ر الآبار الجوفية‬
‫المقد�س��ة‪ ،‬مثل بئ��ر زمزم وبئر �سبع‪ .‬ف�لا تحفر الآبار المقد�س��ة �إال مع ظهور‬

‫‪168‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الثريا‪ .‬كما �أنها على عالقة ب�آبار المياه الجوفية عموما‪ .‬بل �إن مطرها ربما حدد‬
‫كمي��ة الماء في الآبار الجوفية‪� .‬إنها هي من يحدد دف��ق الماء الجوفي‪ .‬لذا يكون‬
‫طلوعها الخريفي �إيذانا باالحتفال قرب �آبار المياه‪.‬‬

‫ثالث��ا‪ :‬وبما �أن حفر الآبار المقد�س��ة على عالقة بالثريا‪ ،‬ف�إن طق�س الذبيح‪ ،‬الذي‬
‫ر�أينا نموذجا منه في عبد الله الذبيح‪ ،‬هو �أي�ضا على عالقة بالثريا‪ .‬ذلك �أن طق�س‬
‫الذبيح هو ذاته طق�س حفر بئر زمزم‪� ،‬أو �إعادة حفره‪ .‬فقد ذبح عبد الله بناء على‬
‫ن��ذر قدمه عبد المطلب ب�ش�أن حفر بئر زمزم‪« :‬لأن��ه حين �أخذ في حفر زمزم‪،‬‬
‫وكانت قد اندفن��ت‪ ،‬جعلت قري�ش تهز�أ به‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم �إن �سقيت الحجيج ذبحت‬
‫بع�ض ول��دي؛ ف�أ�سقى الحجيج منها‪ .‬ف�أقرع بين ول��ده فخرجت ال ُق ْرعة على‬
‫َ‬ ‫لك‬
‫ابنه عبد الل��ه» (الزمخ�شري‪ ،‬الفائق)‪ .‬بناء عليه‪ ،‬فطق�س الذبيح هو طق�س ن�ضح‬
‫الماء من زمزم‪ ،‬وطق�س دفع ثمن هذا الماء عبر الت�ضحية بعبد الله‪.‬‬

‫وتتواف��ق لعبة المي�سر مع طق���س الذبيح في الزمن‪ .‬فهما يتمان في اللحظة عينها‪،‬‬
‫�أي لحظة غوران الثريا وبدء المطر الو�سمي‪ .‬وهذا ما ي�شي ب�أن اللعبة على عالقة‬
‫محددة بطق�س الذبيح‪ .‬فالتواف��ق الزمني لي�س م�صادفة‪ .‬بل �إنه ليبدو لنا �أن اللعبة‬
‫تح��اول �أن تقلد طق�س الذبيح‪ .‬فهي تقوم على نحر جزور وتقطيع لحمه وتوزيعه‬
‫بين المتقامرين‪ ،‬مثلما �أن طق�س الذبيح يقوم على نحر جمال‪ ،‬وتقطيعها‪ ،‬وتفريق‬
‫لحمها‪ .‬فوق ذلك فاللعبة والطق�س يقومان على الإطعام‪ .‬فقد نحر عبد الله و�أطعم‬
‫النا���س‪ ،‬كما اطعم الطير‪ ،‬ف�صار لقبه (مطعم الطير)‪ .‬كما �أن الالعبين ال ي�أكلون‬
‫ما ك�سبوه من لحم بل يوزعونه على الأقرب والفقراء‪.‬‬

‫رابع��ا‪� :‬أن اللعبة وطق���س الذبيح يرتبطان بقوة بطق�س �سرق��ة الغزال وتقطيعه‪.‬‬
‫فهم��ا معا تقوم��ان على نحر حيوان��ات وتقطيعها‪ ،‬مثلما �أن طق���س غزال الكعبة‬
‫يقوم على تقطيع غزال ذهبي‪ .‬وهناك ن�صو�ص محددة �أوردناها ت�ؤكد �أن طق�س‬
‫الذبيح على عالقة وطيدة بطق�س غزال الكعبة‪ .‬فقد قيل في ال�شعر �أن عبد المطلب‬
‫�أراد تقطي��ع ابن��ه (خرقا كتمثال الذهب)‪ .‬ولي�س طق�س غ��زال الكعبة �إال تخريق‬
‫غزال ذهبي وتقطيعه في الواقع‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫خام�سا‪� :‬أن ق�صة �سرقة غزال الكعبة وتقطيعه لي�ست حدثا واقعيا‪ ،‬بل ق�صة دينية‪.‬‬
‫وه��ي ق�ص��ة كان يجري تمثيله��ا دوريا على خ�شب��ة الم�سرح المك��ي‪ .‬بالتالي‪،‬‬
‫ف��كل �شخ�صياتها ترتدي �أقنعة التمثيل‪ .‬بالتالي‪ ،‬ف�أب��و لهب ممثل في الم�سرحية‪.‬‬
‫ومقي���س‪ ،‬ال��ذي كانت تج��ري الم�سرحي��ة في بيت��ه‪ ،‬بي��ت الأزالم‪ ،‬ممثل في‬
‫الم�سرحية‪ .‬وعبد الله بن جدعان ممثل‪ .‬كما �أن �أبا �إهاب ممثل‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫خام�س��ا‪� :‬أن طق�س الذبيح وطق�س غزال الكعبة والمي�س��ر تنبثق من �أ�صل واحد‪.‬‬
‫فه��ي جميعا ت�ستخدم ال�سهام غير المقد�س��ة‪� ،‬أي القداح ‪ -‬الأزالم‪ .‬وهذا ما ي�شير‬
‫من �أنها جميعا على عالقة بتقليد �صيد‪ .‬فالإله الذي له عالقة به هو �إله �صياد‪ .‬من‬
‫�أج��ل هذا‪ ،‬فقد عثر عبد المطلب حين �أعاد حف��ر زمزم على غزال الكعبة وعلى‬
‫ع��دة حربية‪� ،‬أي �سهام و�سيوف‪ .‬وهذه عدة الإل��ه ال�صياد ورمزه‪ .‬وقد بينا �أن‬
‫الحر�ضة‪ ،‬ال�شخ�صية الأهم في لعبة المي�سر‪ ،‬كان �صيادا ‪ -‬كاهنا في �أغلب الأمر‪.‬‬
‫كما �أو�ضحنا كيف �أن لقمان بن عاد كان �صيادا �أي�ضا‪.‬‬

‫ونحن مت�أكدون �أن وقت طق�س الذبيح ووقت حفر زمزم‪� ،‬أو االحتفال بذكرى‬
‫حف��ره‪ ،‬يتمان في وقت واحد‪ :‬غوران الثريا و�سقوط مطرها الو�سمي‪ .‬لكننا‬
‫ل�سنا مت�أكدين ب�أن طق�س تقطيع غزال الكعبة كان يتم مع غوران الثريا‪ .‬لكن‬
‫هن��اك احتمال جدي ب�أنه كان كذلك‪ ،‬مع �أن ه��ذا الطق�س لم يكن �سنويا‪ ،‬في‬
‫ما يبدو‪.‬‬

‫ويج��ب �أن نلح��ظ �أن غوران الثريا ومطرها كان ينظر �إلي��ه على �أنه يحدث في‬
‫ما يب��دو بين �أواخر �أيلول و�أوائل ت�شرين‪ ,‬وت�شري��ن في الواقع هو نظير رجب‬
‫الخريفي‪� ،‬أي �شوال‪ ،‬الذي كان يبد�أ معه الحج ال�سنوي‪ -‬الخريفي ال�شتوي‪.‬‬

‫�ساد�سا‪� :‬أن الأب الأ�سطوري للعبة المي�سر‪ ،‬لقمان بن عاد هو نف�سه لقمان الحكيم‬
‫المذكور في الق��ر�آن لكنه كن�سخة �شفوية‪ .‬وهذا يعن��ي �أن لقمان بن عاد �شخ�صية‬
‫ديني��ة بامتي��از‪ .‬وق��د بينا �أن ه��ذه ال�شخ�صية من ط��راز عبد المطل��ب و�إبراهيم‬
‫الخلي��ل‪� .‬إنه��ا الن�سخة العربية الأقدم من عبد المطل��ب ‪ -‬مطعم الطير‪ ،‬والن�سخة‬
‫المعادلة لإبراهيم الخليل‪ .‬ولم يكن ب�إمكان الدار�سين العرب القدماء من كل نوع‬

‫‪170‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أن يفك��روا‪ ،‬بالطب��ع‪ ،‬بهذا الأمر‪ .‬فمن غير المعق��ول بالن�سبة لهم ولزمانهم �أن‬
‫يكون م�ؤ�س�س لعبة القمار الملعونة مثيال لإبراهيم الخليل وعبد المطلب‪.‬‬

‫والحق �أن لقمان بن عاد بحاجة �إلى جهد �أو�سع لتفكيك �أ�سطورته وفهم تعالقاتها‪.‬‬
‫فهذا الكتاب تناولها فقط من باب فهم لعبة المي�سر‪ .‬والمي�سر لحظة واحدة فقط من‬
‫لحظات هذه ال�شخ�صية الميثولوجية الغنية‪.‬‬

‫فتوة‬
‫ثامن��ا‪� :‬أن الدورة الأخيرة لطق���س تقطيع غزال الكعبة‪ ،‬والت��ي حدثت في ّ‬
‫الر�سول‪� ،‬أعقبت‪ ،‬في ما يبدو‪ ،‬االن�شقاق الكبير في حلف المطيبين‪ ،‬الذي �أ�سفر‬
‫عن خروج نوفل وعبد �شم�س منه‪ .‬وقد �صار هذا الحلف‪ ،‬الذي هو حلف الحلة‪،‬‬
‫بعد هذا االن�شقاق ي�سمى (حلف الف�ضول)‪ ،‬كما �سنرى بتف�صيل في الملحق‪ .‬ويعني‬
‫ا�س��م الف�ضول من ف�ضل في الحلف وتبقى في��ه؛ �أي �أنه (حلف المتبقين) في حلف‬
‫المطيبين القديم‪ .‬والح��ق �أن ان�شقاق هذا الحلف‪ ،‬في ما يتهي�أ لنا‪ ،‬كان �إيذانا ب�أن‬
‫النظ��ام الديني الجاهل��ي كله قد بد�أ في التحطم‪ .‬عليه‪ ،‬يمك��ن القول �أن �ضع�ضعة‬
‫هذا الحل��ف‪ ،‬بخروج عب��د �شم�س خا�ص��ة‪ ،‬كان �أي�ضا �إيذانا بظه��ور الإ�سالم‪.‬‬
‫وه��ذا يعني �أن فعل عبد �شم���س (وعلى ر�أ�سهم بنو �أمية) مه��د لظهور الإ�سالم‪،‬‬
‫لكن��ه �أدى في النهاية‪ ،‬ويا للغراب��ة‪� ،‬إلى هيمنة عبد �شم�س على الإ�سالم وت�أ�سي�س‬
‫الإمبراطورية الأموية‪.‬‬

‫‪171‬‬
172
‫ملحق‬

‫حلف الف�ضول‬

‫�أخبرن��ا ابن حبيب‪� ،‬إذن‪� ،‬أن ال�صراع ب�ش�أن الغ��زال وقع بين الحلفين المكيين‬
‫القديمي��ن ال�شهيرين؛ المطيبين والأحالف‪ ،‬في حين �أن ه�شاما الكلبي �أخبرنا �أنه‬
‫كان بي��ن حلفي الف�ضول والأحالف‪ .‬وهذا ما ي��زج بنا زجا في الم�س�ألة المعقدة‬
‫ح��ول الحلف ال��ذي ح�ضره الر�سول ف��ي �شبابه الأول قب��ل البعثة‪ .‬ففي حديث‬
‫نبوي معروف يخبرنا الر�سول �أنه ح�ضر حلف المطيبين‪« :‬ما �شهدت من حلف‬
‫قري���ش �إال حلف المطيبين‪ ،‬وما �أحب �أن لي حمر النعم و�إني كنت نق�ضته» (ابن‬
‫حبان‪� ،‬صحيح اب��ن حبان)‪ .‬غير �أن الغالبية ال�ساحق��ة تعتقد �أن الر�سول ح�ضر‬
‫حل��ف الف�ضول ال حل��ف المطيبين‪ ،‬و�أن خط�أ ما �أدى �إل��ى تحويل الف�ضول �إلى‬
‫المطيبين ف��ي الحديث‪ .‬فحلف المطيبين بح�سب القناع��ة العامة ت�أ�س�س قبل وقت‬
‫طويل من مولد الر�سول‪:‬‬

‫«ق��ال �أبو حاتم‪� :‬أ�ضمر في هذين الخبرين من يريد به �شهدت من حلف الف�ضول؛‬
‫لأن��ه �صلى الله عليه و�سلم لم ي�شهد حلف المطيبين‪ ،‬لأن حلف المطيبين كان قبل‬
‫مول��د ر�سول الله �صلى الله علي��ه و�سلم‪ ،‬و�إنما �شهد ر�سول الل��ه �صلى الله عليه‬
‫و�سلم حلف الف�ضول وهم من المطيبين» (الم�صدر ذاته)‪ .‬وكما نرى‪ ،‬فالم�صدر‬
‫يخبرنا �أن المق�صود هو حلف الف�ضول ال حلف المطيبين‪.‬‬

‫وي�ؤي��د الدكتور جواد علي ه��ذا التقدير‪« :‬وقد وهم بع�ض �أه��ل الأخبار فجعلوا‬
‫حلف المطيبين هو حلف الف�ضول‪ .‬ويظهر �أنهم وقعوا في الخط�أ من كون الذين‬
‫دعوا �إلى عقد حلف الف�ضول و�شهدوه هم من «المطيبين»‪ ،‬فا�شتبه الأمر عليهم‪،‬‬
‫وظن��وا �أن الحلفي��ن حلف واحد‪ .‬وق��د رد عليهم بع�ض �أهل الأخب��ار �أي�ضا‪� ،‬إذ‬
‫ذكروا �أن الر�سول لم يدرك حلف المطيبين؛ لأنه كان وقع بين بني عبد مناف‪،‬‬

‫‪173‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫وه��م ها�شم و�إخوته ومن ان�ض��م �إليهم‪ ،‬وبين بني عمهم عب��د الدار و�أحالفهم‪،‬‬
‫فقي��ل لهم الأحالف‪ ،‬قبل �أن يولد الر�س��ول» (علي‪ ،‬المف�صل في تاريخ العرب‬
‫قبل الإ�سالم)‪.‬‬

‫ويدع��م هذا �أن تقلي��د حلف الف�ضول كان م��ا يزال حيا في العه��د الأموي‪ .‬فقد‬
‫ه��دد الح�سين حفيد الر�سول‪ ،‬الوليد بن �أبي �سفيان �أنه �سيعيد بعث حلف الف�ضول‬
‫�ض��د بن��ي �أمية �إذا اعتدى الوليد عل��ى حقه‪« :‬كان بين‪ ‬الح�سين ب��ن علي بن �أبي‬
‫طالب‪ ،‬ر�ض��ي الله عنهما‪ ،‬وبين‪ ‬الوليد بن عتبة بن �أبي �سفيان ‪  -‬والوليد‪ ‬يومئذ‬
‫�أمي��ر على المدين��ة �أمره عليه��ا عمه‪ ‬معاوية بن �أبي �سفي��ان ‪ ... -‬منازعة في‬
‫م��ال كان بينهما‪ ‬ب��ذي المروة‪ . ‬فكان‪ ‬الوليد‪ ‬تحام��ل على‪ ‬الح�سين‪ ...‬في حقه‬
‫ل�سلطان��ه‪ ،‬فقال له‪ ‬الح�سين‪�  :‬أحل��ف بالله لتن�صفني من حق��ي �أو لآخذن �سيفي‪،‬‬
‫ث��م لأقومن في م�سج��د ر�سول الله �صلى الل��ه عليه و�سلم ‪ ،‬ث��م لأدعون بحلف‬
‫الف�ضول» (�سيرة ابن ه�شام)‪.‬‬

‫�إذن‪ ،‬فق��د هدد الح�سين بالدعوة �إلى العودة �إلى حلف الف�ضول من جديد لمواجهة‬
‫بن��ي �أمية‪ .‬وذل��ك انطالقا من �أن حلف بن��ي �أمية كانوا �أع��داء لحلف الف�ضول‪،‬‬
‫وانطالقا من الفك��رة ال�شائعة القائلة ب�أن حلف الف�ضول هو حلف رد الحقوق �إلى‬
‫المظلومين‪ .‬وقد كان معترفا به في الع�صر الأموي �أن بني �أمية‪ ،‬وهم عبد �شم�س‬
‫بن عبد مناف‪ ،‬وبني نوفل بن عبد مناف‪ ،‬و�ضعا نف�سيهما خارج حلف الف�ضول‪:‬‬
‫«ق��دم محمد بن جبير ب��ن مطعم بن عدي بن نوفل بن عب��د مناف‪ ...‬على عبد‬
‫المل��ك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير واجتمع النا�س على عبد الملك‪.‬‬
‫فلما دخل عليه‪ ،‬قال له‪ :‬يا �أبا �سعيد‪� ،‬ألم نكن نحن و�أنتم‪ ،‬يعني بني عبد �شم�س بن‬
‫عب��د مناف وبني نوفل بن عبد مناف‪ ،‬في حل��ف الف�ضول؟ قال‪� :‬أنت �أعلم‪ .‬قال‬
‫عب��د الملك‪ :‬لتخبرني يا �أبا �سعيد بالحق م��ن ذلك‪ .‬فقال‪ :‬ال والله لقد خرجنا نحن‬
‫و�أنتم منه‪ .‬قال‪� :‬صدقت» (�سيرة ابن ه�شام)‪.‬‬

‫فقناع��ة الغالبية �أن ن�ص حدي��ث الر�سول عن ح�ضوره لحل��ف المطيبين مخالف‬
‫للواقع‪ .‬وهو ما يعني �أن تحريفا قد �أ�صاب الحديث وحول الف�ضول �إلى مطيبين‪.‬‬
‫وت��رى فئة �أخرى �أن حلف الف�ض��ول ا�ستمرار ما لحلف المطيبين‪« :‬ذهب بع�ض‬

‫‪174‬‬
‫زكريا محمد‬

‫الباحثي��ن �إل��ى �أن حلف الف�ضول‪ ،‬ه��و ا�ستمرار للحلف المذك��ور‪� ،‬إذ ت�ألف من‬
‫الأ�سر الت��ي كانت �ألفت ذلك الحلف ما خال بني عب��د �شم�س وبني نوفل» (علي‪،‬‬
‫المف�صل في تاريخ العرب قب��ل الإ�سالم)‪ .‬لكن من دون �أن يتقدموا بتف�سير لهذه‬
‫اال�ستمرارية‪.‬‬

‫�أما نحن فنعتقد �أن الر�سول ح�ضر حلف المطيبين‪ ،‬و�أنه تحدث عن حلف المطيبين‪،‬‬
‫و�أنه لم يكن هناك حلفان بل حلف واحد‪� .‬أي �أنه لم يح�صل وهم وال خط�أ‪ .‬فحلف‬
‫الف�ض��ول هو ا�سم �آخر لحل��ف المطيبين طر�أ بعد خروج عب��د �شم�س ونوفل منه‪.‬‬
‫واب��ن حبيب في ن�ص غ��زال الكعبة كان يدرك �أنه يتحدث ع��ن المطيبين بعد �أن‬
‫خ��رج منه نوفل وعب��د �شم�س‪ ،‬ومع ذل��ك �سماهم المطيبين‪« :‬فقام��ت بنو �أمية‪،‬‬
‫ف�أعانوا الأحالف حت��ى كادوا يقوون‪ .‬ف�أقبل عتبة و�شيبة ابنا ربيعة‪ ،‬و�أبو �سفيان‬
‫ب��ن حرب‪ ،‬و�سعيد بن العا�ص‪ ،‬و�أ�سيد بن �أبي العي�ص‪ ،‬ونفر من �شيوخ قري�ش‪،‬‬
‫فحدث��وا وذك��روا الغزال‪ ،‬وحث بع�ضه��م بع�ضا على �أن ين�ص��روا الأحالف»‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد وقف بنو �أمية مع الأحالف ‪ -‬لعقة الدم‪� ،‬أي مع الحلف الم�ضاد لحلف‬
‫المطيبين‪ .‬ي�ضيف‪« :‬فقال �أبو طالب‪ :‬ه�ؤالء ال �شك �أ�صحاب الغزال‪ ،‬و�إن دخلتم‬
‫ال�ساع��ة �أ�صبتموهم �س��كارى‪ ،‬ال يعقلون عنكم وال يفقه��ون‪ ،‬وال نحب �أن ندخل‬
‫عليه��م �إال ومعنا من الأحالف الذي��ن تحالفوا بعد الحل��ف الأول من نحتج عليهم‬
‫بهم‪ .‬ولم تكن عبد �شم�س وال نوفل دخلوا في ذلك الحلف‪ ،‬ف�أخروا ذلك �إلى غد»‪.‬‬
‫وكم��ا نرى‪ ،‬ف�أبو طالب‪ ،‬المطيبي‪� ،‬أراد �أن يدخل معه �إلى بيت مقي�س �أنا�س من‬
‫حل��ف الأحالف القدي��م‪� .‬إذ ال ينفع بالن�سبة له �أن يدخل معه �أنا�س من بني �أمية بن‬
‫عبد �شم�س‪ .‬فه�ؤالء كانوا من المطيبين‪ ،‬ثم ان�ضموا �إلى الأحالف حديثا‪.‬‬

‫وانطالق��ا من هذا‪ ،‬يمكنن��ا �أن نقترح �أن حلف الف�ضول هو ف��ي الحقيقة ا�سم �آخر‬
‫لحلف المطيبين ذاته‪ .‬وقد انبثق اال�سم الثاني في لحظة ان�شقاق نوفل وعبد �شم�س‬
‫عن��ه‪ ،‬ثم �شاع تدريجيا‪ .‬وهذا يعني �أن الر�س��ول ح�ضر حلف المطيبين بالفعل‪،‬‬
‫و�أنه ح�ضره بعد �أن خرج منه عبد �شم�س ونوفل‪� .‬أو �أنه ح�ضره في لحظة انعقاده‬
‫من دون عبد �شم�س ونوفل‪ .‬وفي هذا الوقت بالذات �صار للحلف ا�سم �آخر يعرف‬
‫به‪ :‬حلف الف�ضول‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫بن��اء عليه ت�صب��ح كل الفر�ضيات ال�سابقة التي قدمت لفه��م معنى ا�سم «الف�ضول»‬
‫غي��ر مقبولة‪ .‬خذ مث�لا هذا الحل الغري��ب لمعنى ا�سم الحلف‪« :‬ذك��ر ابن ه�شام‬
‫الحل��ف الذي عقدته قري�ش بينها عل��ى ن�صرة كل مظلوم بمكة قال‪ :‬وي�سمى حلف‬
‫الف�ض��ول‪ ،‬ولم يذكر �سبب هذه الت�سمية‪ .‬وذكره��ا ابن قتيبة‪ ،‬فقال‪ :‬كان قد �سبق‬
‫قري�شا �إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول‪ ،‬فتحالف منهم ثالثة هم ومن‬
‫تبعهم‪� ،‬أحدهم الف�ضل بن ف�ضالة ‪ ،‬والثاني الف�ضل بن وداعة‪ ،‬والثالث ف�ضيل بن‬
‫الحارث‪ .‬هذا قول القتبي‪ .‬وقال الزبير‪ :‬الف�ضيل بن �شراعة والف�ضل بن وداعة‪،‬‬
‫والف�ضل بن ق�ضاعة‪ .‬فلم��ا �أ�شبه حلف قري�ش الآخر فعل ه�ؤالء الجرهميين �سمي‬
‫حل��ف الف�ضول‪ .‬والف�ض��ول جمع ف�ضل وهي �أ�سماء �أولئ��ك الذين تقدم ذكرهم‪.‬‬
‫وه��ذا الذي قال��ه ابن قتيبة ح�س��ن ولكن في الحدي��ث ما هو �أقوى من��ه و�أولى»‬
‫(ال�سهيل��ي‪ ،‬الرو�ض الآنف)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد �أ�س���س الحلف ثالثة �أ�شخا�ص ا�سم كل‬
‫واح��د منهم ف�ضل‪ .‬بالتالي فالف�ضول جمع ف�ض��ل‪ .‬وكما نرى فال�سهيلي ي�شك في‬
‫ه��ذا التف�سير الغريب بقوله‪« :‬ولكن ف��ي الحديث ما هو �أقوى منه و�أولى»‪ .‬ومن‬
‫الوا�ض��ح �أن كل هذا اله��راء كان من اختراع لغوي‪ ،‬ولي���س خبرا‪ .‬ثم اخترع‬
‫الخبر من �أجل تبرير محاولة اللغوي البائ�سة‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬ف�إن الغالبية تعتقد �أن كلمة الف�ضول تعني الحقوق‪ .‬بل �إن بع�ضها يروي‬
‫تف�سي��ر اال�سم بهذا ال�شكل على ل�سان الر�سول ذات��ه‪« :‬روى الحميدي عن �سفيان‬
‫عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني �أبي بكر قاال ‪ :‬قال ر�سول الله ‪� -‬صلى‬
‫الل��ه علي��ه و�سلم ‪ -‬لقد �شهدت ف��ي دار عبد الله بن جدعان حلف��ا لو دعيت به في‬
‫الإ�س�لام لأجبت‪ .‬تحالفوا �أن ترد الف�ضول عل��ى �أهلها‪ ،‬و�أال يعز ظالم مظلوما‪.‬‬
‫ورواه في م�سند الحارث بن عبد الله بن �أبي �أ�سامة التميمي‪ .‬فقد بين هذا الحديث‬
‫لم �سمي حلف الف�ضول» (ال�سهيلي‪ ،‬الرو�ض الآنف)‪ .‬وهكذا فن�ص الحديث يقول‬
‫لنا �أن الف�ضول هي الحقوق‪« :‬تحالفوا �أن ترد الف�ضول [=الحقوق] �إلى �أهلها»‪.‬‬

‫�أم��ا نحن فنعتق��د �أن اال�سم من ف�ض��ل بمعنى تبق��ى‪« :‬الف�ضل‪ ‬والف�ضلة‪ :‬البقية من‬
‫ِ‬
‫والف�ضيلة وال ُف�ضالة‪ :‬ما‪ ‬ف�ضل‪ ‬من ال�ش��يء» (ل�سان العرب)‪ .‬فحلف‬ ‫ال�ش��يء‪...‬‬
‫الف�ض��ول‪� ،‬إذن‪ ،‬هو حلف «من ف�ضل»‪� ،‬أي «من تبقى» بعد خروج نوفل وعبد‬

‫‪176‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�شم���س من المطيبي��ن‪� .‬إنه حلف المتبقين ف��ي حلف المطيبين بع��د خروج نوفل‬
‫وعب��د �شم�س‪ .‬و�أغلب الظن �أن هذا اال�سم قد �أطل��ق على حلف المطيبين من قبل‬
‫خ�صومه��م في الأحالف الذين ان�ضم �إليهم عبد �شم�س ونوفل‪� .‬أما المطيبون فمن‬
‫المفتر���ض �أنهم داوموا على ت�سمي��ة حلفهم با�سمه القديم‪ :‬حل��ف المطيبين‪ .‬غير‬
‫�أن اال�س��م الجديد «حلف الف�ض��ول» �شاع بالتدريج‪ ،‬في م��ا يبدو‪ ،‬وتفوق على‬
‫ا�سمه��م القديم‪ ،‬ف�أقروه في النهاية وقبلوه‪ .‬وهكذا �صار للحلف ا�سمان‪ :‬المطيبون‬
‫والف�ض��ول‪ .‬عليه‪ ،‬فالحلفان �ش��يء واحد‪ .‬وبذا يكون الر�س��ول قد ح�ضر حلف‬
‫المطيبين‪ -‬الف�ضول‪ .‬ي�ؤيد هذا �أن بني �أمية يعترفون‪ ،‬كما ر�أينا في الخبر عن عبد‬
‫المل��ك بن مروان‪� ،‬أنهم «خرجوا» من حلف الف�ضول‪ .‬فكيف يمكنهم �أن يكونوا‬
‫ق��د «خرجوا» من حلف لم يدخلوه �أ�صال؟ بذا‪ ،‬يكون لزاما علينا �أن نفهم كالمهم‬
‫على �أنه يعني الخروج من حلف المطيبين‪ .‬وحين يقول بنو �أمية �أنهم خرجوا من‬
‫حلف الف�ضول‪ ،‬فهو ي�ساوي قولهم �أنهم خرجوا من حلف المطيبين‪.‬‬

‫لك��ن م��ا �أثار اال�ضطراب عن��د الم�ؤرخين ه��و �أن الحديث النب��وي يتحدث عن‬
‫الحل��ف الذي ح�ضره كما لو �أنه حلف ت�أ�س�س في لحظتها‪ .‬فكيف يكون هذا الحلف‬
‫هو ذاته حل��ف المطيبين الذي ت�أ�س�س قبل مولد الر�سول بزمن طويل؟ ويحل هذا‬
‫الأمر اقتراح �أن الأحالف كانت تجدد دوريا‪ .‬وتجديدها كان يح�صل عن طريق‬
‫ا�ستع��ادة لحظة تكوينها الأولى‪� .‬أي �أنه كان يجري تمثيل هذه اللحظة من جديد‪.‬‬
‫بناء عليه‪ ،‬يكون الر�سول في �شبابه قد ح�ضر الدورة الأخيرة من دورات تجديد‬
‫حلف المطيبين وا�ستعادته‪.‬‬

‫وم��ن رواية ابن حبيب يمكن فهم �أن الحلف قد عق��د دورته الأخيرة قبيل حادثة‬
‫�سرق��ة الغزال‪ .‬بل لع��ل حادثة الغزال �أن تك��ون جزءا تابع��ا ال�ستعادة الحلف‬
‫الدورية‪.‬‬

‫غير �أن المحير �أن �أحدا لم يحدثنا عن �أن الر�سول �شهد حدث الغزال‪ .‬والمنطقي‬
‫انه ق��د �شهدها‪ .‬فهي قد توافقت مع الدورة الأخي��رة لحلف المطيبين‪� ،‬أو جاءت‬
‫بعده��ا بقليل‪ .‬كما �أن كل �أبطال الحادثة عا�ص��روا الر�سول �أو عا�صروا البعثة‪،‬‬
‫�إذا ا�ستثنين��ا ال�شخ�صيات ذات الطابع الأ�سط��وري مثل «ديك ودييك»‪ .‬على كل‬

‫‪177‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ح��ال‪ ،‬فكل �ش��يء ي�شير �إلى �أن ثمة ا�ستعادة دورية للأح��داث البدئية التي ت�شكل‬
‫فيه��ا حلف المطيبين والأحالف‪� .‬أي �أنه كانت تجري عملية تمثيل طق�سي للحظة‬
‫التكوي��ن هذه‪ .‬وهذا م��ا لم يدركه ال��رواة والإخباريون‪ .‬لم يدرك��وا �أن حلف‬
‫المطيبي��ن يجري تمثيله وا�ستعادة لحظته التكوينية دوريا‪ .‬لذا بدا لهم وك�أننا �أمام‬
‫�أحالف جديدة‪� ،‬أو �أحيانا �أم��ام منافرات �سيا�سية وع�سكرية لأحالف قديمة‪ ،‬في‬
‫حين �أننا �أمام ا�ستعادات طق�سية‪ ،‬ال �أكثر‪.‬‬

‫تداعيات خروج بني عبد �شم�س من المطيبين‬

‫تو�صلن��ا ف��ي كتابنا ال�سابق‪« :‬ديانة مك��ة في الجاهلية‪ :‬كت��اب الحم�س والطل�س‬
‫والحل��ة» �إل��ى الحلفي��ن الأ�سا�سيين ف��ي مكة قب��ل الإ�سالم‪ :‬حل��ف لعقة الدم‪-‬‬
‫الأح�لاف وحلف المطيبين كانا حلفين دينيين م��ن حيث المبد�أ‪ .‬الحلف الأول‬
‫كان حلف الحم�س‪� ،‬أما الحلف الثاني فكان حلف الحلة‪ .‬وقد انق�سم الطل�س بين‬
‫الحلفين؛ فلحق ق�سم منهم بالحم�س والآخر بالحلة‪ .‬وقد ن�ش�أ الحلفان بالفعل حول‬
‫الم�س�ألتين الدينيتين‪ :‬ال�سقاية والرف��ادة‪ .‬فالأ�صل �أن ال�سقاية من الماء ال�سفلي‪،‬‬
‫ماء الينابي��ع والآبار الجوفية‪ ،‬من حق �إله الحم���س‪ .‬فالماء ال�سفلي ما�ؤه‪ .‬في‬
‫حي��ن �أن الماء العلوي ماء �إل��ه الحلة‪ .‬لكن �سقاية الحجي��ج ‪ -‬وغير الحجيج ‪-‬‬
‫في الج��ح الخريفي ال�شتوي توج��ب ا�ستخدام الحلة لهذا الم��اء‪ .‬وقد �أقر للحلة‬
‫بذل��ك �شرط �أن يدفعوا ثم��ن الماء �أ�ضحية‪ .‬هذه الأ�ضحي��ة هي جذر �أ�سطورة‬
‫الذبيحين �إ�سماعيل وعبد الله‪ .‬ف��كل واحد منهما كان الأ�ضحية المطلوبة‪ .‬لكنه‬
‫كابن رمزي للإله يجري ا�ستبداله‪ ،‬بكب�ش �أروى‪� ،‬أي بغزال‪ ،‬فالأروى من‬
‫الظب��اء ‪ -‬الماعز‪ .‬وفي هذه الأ�ضحية يكون الدم لإله الحم�س‪ .‬لذا كانوا «لعقة‬
‫الدم»‪ .‬والدم عديل الخمر‪ .‬لذا كان �صنمهم المن�صوب على ال�صفا هو «مجاوز‬
‫الري��اح» الذي يعني ا�سمه «�ساق��ي الخمر»‪ .‬في حين يك��ون اللحم لإله الحلة‬
‫ل��ذا كانوا «المطعمي��ن»‪ ،‬وكان �صنمهم المن�صوب عل��ى المرة ي�سمى «مطعم‬
‫الطي��ر»‪ .‬و�صنم «مجاوز الريح» مرتبط بالالت‪� ،‬إل��ه الحم�س‪ .‬في حين �أن‬
‫�صنم «مطعم الطير» مرتبط بمناة‪� ،‬إله الحلة‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫زكريا محمد‬

‫وبتو�صلنا �إلى �أن الحلفين اللذين نتحدث عنهما كانا حلفين ع�سكريين‪ ،‬نكون خالفنا‬
‫كل المعنيي��ن تقريبا‪ .‬بالطبع هذا ال ينفي �أنه تكونت مع الزمن جوانب �سيا�سية �أو‬
‫ع�سكري��ة للحلفين‪ .‬لكن �أر�ضي��ة قيامهما كانت دينية‪ .‬وكان بن��و عبد مناف من‬
‫الع�شائر المكونة لحلف المطيبين‪ .‬غير �أن بطنين من عبد مناف‪ ،‬هما عبد �شم�س‪،‬‬
‫الذي��ن من ن�سلهم بنو �أميه‪ ،‬ونوفل‪ ،‬خرجا م��ن الحلف‪ .‬ول�سنا نعرف بدقة متى‬
‫خرجوا من الحلف‪ ،‬وال �سبب خروجهما‪ ،‬وال طبيعة هذا الخروج‪� ،‬أي �إن كان‬
‫ان�شقاقا دينيا �أم �أنه كان ان�شقاقا عن الجانب ال�سيا�سي للحلف‪.‬‬

‫عل��ى كل ح��ال‪ ،‬يبدو لنا �أن خ��روج عبد �شم�س ونوفل قد ح��دث قبيل حادثة‬
‫الغ��زال‪� .‬أما �سبب ان�شقاق هذي��ن البطنين فغير وا�ضح تماما‪ .‬غير �أننا نعرف‬
‫�أن خالفا ما كان قد وقع بين هذين البطنين وبين بني ها�شم بن عبد مناف‪ ،‬من‬
‫دون �أن نع��رف �شيئا عن الطبيع��ة الفعلية لهذا الخالف‪« :‬وكان قد وقع نزاع‬
‫بي��ن «نوفل» و«عب��د المطلب بن ها�شم»‪ ،‬فعلّ��ه كان ال�سبب في عدم ان�ضمام‬
‫«نوف��ل» �إل��ى هذا الحلف [الف�ض��ول]‪ .‬وقد تعاون «نوف��ل» «عبد �شم�س»‪،‬‬
‫ووجدا ف��ي ا�ستطاعتهما التعاون بينهما من غي��ر حاجة �إلى الدخول في حلف‬
‫الف�ض��ول‪ .‬ولهذا لم يك��ن حلف الف�ض��ول‪ ،‬في نظر ه���ؤالء‪ ،‬غير حلف من‬
‫�أحالف الأ�س��ر‪ ،‬ولم يكن على ر�أيهم لن�صرة ال�ضعي��ف و�إن�صاف المظلوم‪،‬‬
‫على نحو ما جاء في روايات �أهل الأخبار» (علي‪ ،‬المف�صل في تاريج العرب‬
‫قبل ٍاال�سالم)‪.‬‬

‫و�أغلب الظن �أن خروجهم كان ب�سبب �صراع على النفوذ والزعامة في الحلف‬
‫بينه��م وبين بني ها�شم بن عبد مناف‪� .‬إذ يب��دو �أن و�ضع بني عبد �شم�س خا�صة‬
‫كان ي��زداد قوة قبيل البعثة‪ ،‬في حين �أن بني ها�ش��م لم تتطور �أحوالهم‪ .‬وبناء‬
‫عل��ى ذل��ك‪ ،‬يبدو �أنه لم ي��رق لعبد �شم���س ونوفل �أن يظلوا تح��ت زعامة بني‬
‫ها�ش��م‪ ،‬الذين كانوا القادة الدينيي��ن لحلف المطيبين‪ .‬دليل ذلك �أن عبد المطلب‬
‫كان يدع��ى «مطعم الطير» على ا�سم �صنم المطيبين الذي ن�صب على المروة‪.‬‬
‫وهو ما يدل على �أنه كان كاهن هذا ال�صنم الإله‪ .‬فالكاهن ممثل الإله الب�شري‪،‬‬
‫لذا ي�أخذ ا�سمه‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫ويبدو �أن عبد �شم�س لم يعودوا م�ستعدين للقبول بزعامة �سيا�سية لبني ها�شم تحت‬
‫غط��اء زعامتهم الدينية‪ .‬لذلك خرج��وا من الحلف‪ ،‬الذي قد �ص��ار ا�سمه حلف‬
‫الف�ضول‪� ،‬أي حلف المتبقين في المطيبين‪ ،‬وقت ق�صة غزال الكعبة‪.‬‬

‫لكن ال�س�ؤال هو‪ :‬هل كان ان�شقاقهم دينيا‪� ،‬أم ان�شقاقا �سيا�سيا؟ �أي هل خرجوا من‬
‫معتق��د الحلة وان�ضموا �إلى معتقد الحم�س‪ ،‬و�ص��اروا جزءا �أ�صيال من حلفهم‪،‬‬
‫حل��ف لعقة الدم؟ نح��ن ال ندري‪ .‬وق��د يميل المرء �إل��ى �أنهم ان�شق��وا �سيا�سيا‬
‫فق��ط‪� .‬أي �أنهم ظل��وا ي�شتركون مع بني ها�شم ومع بقي��ة الحلف في معتقداتهم‬
‫الديني��ة‪ ،‬لكنه��م اقتربوا �سيا�سيا من حل��ف لعقة الدم‪ ،‬بحي��ث رف�ضوا �أن تدار‬
‫�أموره��م الطق�سية من قبل بني ها�شم‪ .‬لكن ال يمكن الجزم بذلك‪ .‬فهناك بع�ض‬
‫الم�ؤ�شرات التي قد تخبرنا ب�أنهم ان�شقوا ان�شقاقا تاما‪� ،‬أي دينيا و�سيا�سيا‪ .‬من هذه‬
‫الم�ؤ�ش��رات �صيحة �أبي �سفيان يوم �أحد‪« :‬اعل هبل»‪ .‬وهبل �صنم الحم�س‪� .‬إنه‬
‫عديل الالت‪� ،‬أو ا�سم �آخر له‪ .‬لكن يبدو �أن المطيبين لم يعترفوا بهذا االن�شقاق‬
‫دينيا‪ .‬يدل على ذلك رف�ض �أبي طالب �أن يدخل معهم �إلى بيت مقي�س �أنا�س من‬
‫بني �أمية في ق�صة غزال الكعبة‪ .‬فهم بالن�سبة لأبي طالب لي�سوا جزءا من حلف‬
‫لعق��ة الدم القديم‪� .‬أي لي�س��وا جزءا من التقليد الديني ال��ذي تقوم حادثة غزال‬
‫الكعبة بتكراره‪.‬‬

‫عل��ى كل حال‪ ،‬فبخروجهم من حلف المطيبي��ن‪� ،‬أيا كانت طبيعة هذا الخروج‪،‬‬
‫و�ض��ع بنو عبد �شم�س �أنف�سهم في و�ضع الو�س��ط �سيا�سيا‪ .‬فلو افتر�ضنا �أنه خروج‬
‫�سيا�س��ي فقط‪ ،‬ف�إنهم يكونون �سيا�سيا مع الحم�س وحلفهم‪ ،‬حلف لعقة الدم‪ ،‬لكنهم‬
‫دينيا مع المطيبين‪ .‬ولو افتر�ضنا �أنه خروج ديني �أي�ضا‪ ،‬فهم يكونون قد ان�ضموا‬
‫�إلى لعقة الدم تماما‪ ،‬لكنهم يملكون تاريخا دينيا را�سخا مع الحلة‪ -‬المطيبين‪.‬‬

‫وق��د كان لو�ضعهم الجدي��د هذا ت�أثير خطير جدا على مج��رى الأحداث الالحقة‬
‫ف��ي مك��ة‪ ،‬بل وعلى مج��رى التاريخ العرب��ي والإ�سالمي عموم��ا‪ .‬فقد �شكلوا‬
‫كتلة �سيا�سي��ة و�سطى بين الحلفين‪ ،‬كانت قادرة عل��ى اللعب بينهما‪ ،‬مما جعلهم‬
‫يزي��دون من نفوذهم على ح�ساب الطرفين‪ .‬بل �إن ه��ذه الكتلة �صارت‪ ،‬بقيادة‬
‫�أبي �سفي��ان‪ ،‬زعامة مكة �ضد الإ�سالم في وقت معرك��ة �أحد‪ .‬من ناحية ثانية‪،‬‬

‫‪180‬‬
‫زكريا محمد‬

‫فخروج بني �أمية من حلف المطيبين‪� ،‬إن كانوا قد ان�شقوا عنه دينيا‪ ،‬مثّل �ضربة‬
‫�شامل��ة للبنية الدينية ف��ي مكة الجاهلية‪ .‬فهو قد زلزل ر�س��وخ هذا التقليد‪ ،‬الذي‬
‫كان ي�ص��ور كتقليد ال بداية له في الزمن‪ .‬وه��ذا يعني �أن التغيرات والتحوالت‬
‫واالن�شقاق��ات الدينية �صارت ممكنة‪ ،‬ولم تعد �أمرا غريبا‪ .‬بالتالي‪ ،‬يمكن القول‬
‫�أن ح��دث ان�شقاقهم مهد لظهور الإ�س�لام‪ .‬فالتغيرات والخ�ضات تجلب وراءها‬
‫تغيرات وخ�ضات متالحقة‪.‬‬

‫وال بد �أن بني عبد �شم�س قد ر�أوا في الإ�سالم وفي بعثة الر�سول محاولة من بني‬
‫ها�شم بن عبد مناف ال�ستعادة دورهم المت�ضع�ضع‪ .‬لذا وقفوا ب�شدة �ضد الإ�سالم‪.‬‬
‫وال ب��د �أنه��م ف�سروا تعاط��ف بني ها�شم‪ ،‬و�أج��زاء كبيرة من حل��ف المطيبين ‪-‬‬
‫الف�ضول مع الر�سول دليال على �صحة تقديرهم‪.‬‬

‫لكن الأمور تغي��رت حين �شعروا‪ ،‬قبيل فتح مكة‪� ،‬أن الأمور ت�سير نحو انت�صار‬
‫الم�سلمين‪ .‬فق��د عمدوا �إلى اال�ستفادة من روابطهم الدينية القديمة مع بني ها�شم‪،‬‬
‫م��ن �أجل عقد �صفقة دينية ‪� -‬سيا�سية متكاملة‪ .‬وق��د كانوا بالفعل في موقع يمكنهم‬
‫من نقل ال�سالح من كتف �إلى كتف‪ ،‬وعقد هذه ال�صفقة مع الم�سلمين‪� ،‬أي مع بني‬
‫ها�ش��م في عرفه��م هم‪ .‬فهم يملكون جذرا دينيا قديما مع بن��ي ها�شم‪ ،‬كما �أنهم لم‬
‫يكونوا مكبلين بقيود الأيديولوجي��ا مثل قيادة قبائل طائفة الحم�س‪ .‬لقد ر�أوا عالم‬
‫مك��ة القديم‪ ،‬الديني وغير الديني‪ ،‬ينهار‪ .‬وكان لهم من المرونة ب�سبب تنقالتهم‬
‫بي��ن الحلفين‪ ،‬ما يجعلهم قادرين على اال�ستدارة من جديد‪ .‬لقد اعتادوا االن�شقاق‬
‫وتغيير المواقف من قبل‪ ،‬فعمدوا �إلى عقد �صفقتهم مع الم�سلمين‪.‬‬

‫ونحن نعتقد �أن فتح مكة ال�سهل جدا حدث نتيجة هذه ال�صفقة‪ .‬لم تتم ال�صفقة وقت‬
‫الفت��ح‪� ،‬أي وق��ت �أن قال الر�سول‪« :‬م��ن دخل دار �أبي �سفي��ان فهو �آمن»‪ ،‬بل‬
‫حدثت قبل ذلك في يثرب‪ .‬وقد كان هذا القول نتيجة تلك ال�صفقة‪ .‬وكانت مكة قد‬
‫�شكت وقتها في �أن �أبا �سفيان قد عقد ال�صفقة مع النبي فعال‪ .‬فقد خرج الأخير �إلى‬
‫المدينة بعد �أن و�صلت��ه �أخبار ا�ستعداد الم�سلمين للهجوم على مكة‪ .‬وهناك ق�ضى‬
‫فترة ال ب�أ�س بها‪ ،‬ثم عاد‪ ،‬فاتهمته قري�ش ب�سبب طول �إقامته‪ ،‬وب�سبب ما جاء به‪،‬‬
‫ب�أنه �صب�أ‪� ،‬أي �أ�سلم‪:‬‬

‫‪181‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫«ث��م ركب [�أبو �سفيان] بعيره‪ ،‬فانطلق حتى قدم على قري�ش‪ ،‬وقد طالت غيبته‪،‬‬
‫واتهمته قري�ش �أنه‪� ‬صب�أ‪ ‬واتبع محمدا �سرا وكتم �إ�سالمه‪ .‬وقالت له زوجته‪� :‬أن كنت‬
‫م��ع طول الإقامة جئتهم بنجح ف�أنت الرج��ل‪ .‬فلما �أخبرها‪� ...‬ضربت برجلها في‬
‫�صدره‪ ،‬وقالت‪ :‬قبحت من ر�سول قوم‪ ،‬فما جئت بخير‪ .‬فلما �أ�صبح‪� ‬أبو‪� ‬سفيان‪ ‬حلق‬
‫ر�أ�سه عند �إ�ساف ونائلة‪ ،‬وذبح عندهما البدن‪ ،‬وم�سح ر�ؤو�سهما بالدم‪ ،‬ليدفع عنه‬
‫التهمة‪ .‬فلما ر�أته قري�ش قالوا‪ :‬ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد او عهد؟ قال‪:‬‬
‫ال والل��ه لقد �أبى عل��ي‪ ،‬وقد تتبعت �أ�صحابه فما ر�أيت قوم��ا لملك �أطوع منهم له‪.‬‬
‫وف��ي رواية قال‪ :‬جئت محم��دا فكلمته‪ ،‬فوالله ما رد علي �شيئ��ا‪ .‬ثم جئت �إلى ابن‬
‫�أب��ي قحافة‪ ،‬فلم �أجد فيه خيرا‪ .‬ثم جئت عمر ب��ن الخطاب‪ ،‬فوجدته �أدنى العدو‪،‬‬
‫وف��ي رواية �أعدى العدو‪ .‬ثم جئت عليا فوجدته �ألين القوم‪ ،‬وقد �أ�شار على ب�شيء‬
‫�صنعت��ه‪ ،‬فوالله ال �أدري �أيغنى عني �شيئا �أم ال‪ .‬قالوا وبم �أمرك؟ قال‪� :‬أمرني �أن‬
‫�أجي��ر بين النا�س‪ .‬قال ل��ي لم تلتم�س جوار النا�س على محم��د وال تجير �أنت عليه‬
‫و�أن��ت �سيد قري�ش و�أكبرها و�أحقها �أن ال يخفر ج��واره‪ ،‬ففعلت‪ .‬قالوا‪ :‬فهل �أجاز‬
‫ذلك محمد‪ .‬قال ال و�إنما قال‪� :‬أنت تقول ذلك يا �أبا حنظلة؟ ووالله لم يزدني‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫ر�ضيت بغير ر�ضا‪ ،‬وجئت بما ال يغني عنا وال عنك �شيئا‪ ،‬ولعمر الله ما جوارك‬
‫بجائز وان �إخفارك‪� ،‬أي �إزالة خفارتك‪ ،‬عليهم لهين‪ .‬والله �أراد الرجل‪ ،‬يعنون‬
‫عليا كرم الله وجهه‪� ،‬أن يلعب بك» (الحلبي‪ ،‬ال�سيرة الحلبية)‪.‬‬

‫بالطب��ع‪ ،‬من ال�صعب �أن تكون الأمور قد حدثت على هذا النحو تماما‪ .‬لكن نواة‬
‫الأح��داث قد تكون �صحيحة‪ :‬زيارة �أبو �سفيان �إل��ى المدينة‪ ،‬مفاو�ضاته الع�سيرة‬
‫م��ع الر�سول‪ ،‬مبا�شرة �أو غير مبا�شرة‪ ،‬طول م��دة �إقامته في المدينة‪ ،‬و�شكوك‬
‫قري�ش �أو بع�ضها حول ذلك‪ ،‬االتهامات ب�أنه قد عقد اتفاقا �سريا مع الر�سول‪ ,‬كل‬
‫هذا قد يكون �صحيحا فعال‪ .‬بل قد يكون هو الذي جعل �سقوط مكة بالطريقة التي‬
‫�سقط��ت فيها‪ ،‬ممكنا‪ .‬عليه‪ ،‬يمكن االفترا���ض �أن �صفقة ما قد عقدت‪ ،‬ثم �أكملت‬
‫عند فتح مكة‪.‬‬

‫وقد �أثبتت تطورات الأحداث التالية �أن �أبا �سفيان‪ ،‬الذي عقد ال�صفقة‪ ،‬كان �سيا�سيا‬
‫م��ن طراز رفيع جدا‪ .‬فلم تم�ض �سنوات قليلة عل��ى هذه ال�صفقة حتى كانت لبني‬

‫‪182‬‬
‫زكريا محمد‬

‫�أمية ال�سيادة الكاملة عل��ى مكة والجزيرة العربية‪ ،‬وعلى الإمبراطورية العربية‬
‫الكبرى التي انبثقت عن الإ�سالم‪.‬‬

‫وباخت�ص��ار �شديد‪ ،‬يمكن القول �أن �أ�س�س �سيادة بن��ي �أمية و�ضعت قبيل الإ�سالم‬
‫بقلي��ل‪� .‬أي في اللحظة التي انف�صلوا فيها عن حلفائه��م في حلف المطيبين‪ .‬نعم‪،‬‬
‫ف��ي هذه اللحظ��ة بالذات‪ ،‬كان��وا قد و�ضع��وا �أ�سا�س �سيطرتهم‪ ،‬الت��ي تبدت في‬
‫الإمبراطورية الأموية‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫الم�صادر‪:‬‬

‫‪ -‬الآبي‪ ،‬من�صور بن الح�سين‪ ،‬نثر الدر ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪ -‬الأزهري‪ ،‬محمد بن �أحمد‪ ،‬تهذيب اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �أبي �شيبة‪ ،‬م�سند ابن �أبي �شيبة‪www.islamport.com ،‬‬

‫‪ -‬ابن الأثير المحدث‪ ،‬النهاية في غريب الحديث والأثر‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الأخف�ش الأ�صغر‪ ،‬كتاب االختيارين‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �إ�سحق‪ ،‬ال�سيرة النبوية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن حبيب‪ ،‬محمد‪ ،‬المحبر‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن حبيب‪ ،‬محمد‪ ،‬المنمق في �أخبار قري�ش‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن حمدون‪ ،‬التذكرة الحمدونية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن دريد‪ ،‬جمهرة اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �سعد‪ ،‬محمد بن منيح‪ ،‬الطبقات الكبرى‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪-‬ابن �سالم‪� ،‬أبو عبيد القا�سم‪ ،‬غريب الحديث ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪ -‬ابن �سعيد‪ ،‬ن�شوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن الكلبي‪ ،‬محمد بن ال�سائب‪ ،‬الأ�صنام‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن كثير‪� ،‬أبو الفداء‪ ،‬البداية والنهاية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن قتيبة‪ ،‬عبد الله بن م�سلم الدينوري‪ ،‬الأ�شربة والأطعمة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن قتيبة‪ ،‬عبد الله بن م�سلم الدينوري‪ ،‬المعاني الكبير‪www.islamport.com ،‬‬

‫‪ -‬ابن قتيبة‪ ،‬عبد الله بن م�سلم الدينوري‪ ،‬المي�سر والقداح‪ ،‬المطبعة ال�سلفية‪ ،‬القاهرة‪1342 ،‬هـ‬

‫‪ -‬ابن فار�س‪� ،‬أحمد‪ ،‬مقايي�س اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن منبه‪ ،‬وهب‪ ،‬التيجان في ملوك حمير‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن دريد‪ ،‬جمهرة اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪184‬‬
‫زكريا محمد‬

‫‪ -‬ابن النديم‪ ،‬الفهر�ست‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �إ�سحق‪ ،‬محمد‪ ،‬ال�سيرة النبوية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن ال�سكيت‪ ،‬يعقوب‪� ،‬إ�صالح المنطق‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن منظور‪ ،‬مخت�صر تاريخ دم�شق ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪ -‬ابن ه�شام‪ ،‬عبد الله‪� ،‬سيرة ابن ه�شام‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن حبان‪� ،‬صحيح ابن حبان‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �سيدة‪ ،‬المحكم والمحيط الأعظم‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن �سيدة‪ ،‬المخ�ص�ص‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ابن ال�ضياء‪ ،‬تاريخ مكة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الأزرقي‪� ،‬أبو الوليد‪� ،‬أخبار مكة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ال�شيباني‪� ،‬أبو عمر‪ ،‬الجيم ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪ -‬البغدادي‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬خزانة الأدب‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬بن عا�شور‪ ،‬الطاهر‪ ،‬التحرير والتنوير‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬البقاعي‪ ،‬برهان الدين‪ ،‬نظم الدرر في تنا�سب الآيات وال�سور‪www.altafsir.com ،‬‬

‫‪ -‬التيفا�شي‪� ،‬أحمد‪� ،‬سرور النف�س بمدارك الحوا�س الخم�س‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الجاحظ‪� ،‬أبو عمرو‪ ،‬الحيوان‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الجاحظ‪� ،‬أبو عمرو‪ ،‬البر�صان والعرجان‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الجوهري‪� ،‬إ�سماعيل بن حماد‪ ،‬ال�صحاح في اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الحميري‪ ،‬ن�شوان‪ ،‬خال�صة ال�سير الجامعة لعجائب �أخبار الملوك التبابعة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الخليل‪ ،‬بن �أحمد‪ ،‬العين‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزبي��دي‪ ،‬مرت�ضى‪ ،‬ن�شوة االرتياح في بيان حقيق��ة المي�سر والقداح‪ :‬في‪ :‬طرف عربية‪،‬‬
‫جمع ال�شيخ عمر ال�سويدي‪ ،‬ليدن‪ 1303 ،‬هـ‬

‫‪185‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
‫كتاب َ‬

‫‪ -‬الزبيدي‪ ،‬مرت�ضى‪ ،‬تاج العرو�س‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزبيدي‪ ،‬مرت�ضى‪ ،‬تاج العرو�س‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪� ،‬أبو القا�سم‪� ،‬أ�سا�س البالغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪� ،‬أبو القا�سم‪ ،‬الم�ستق�صى في �أمثال العرب‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪� ،‬أبو القا�سم‪ ،‬الك�شاف‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪� ،‬أبو القا�سم‪ ،‬ربيع الأبرار‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪�،‬أبو القا�سم‪� ،‬أ�سا�س البالغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزمخ�شري‪� ،‬أبو القا�سم‪ ،‬الفائق في غريب الحديث والأثر‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬دوزي‪ ،‬رينهارت‪ ،‬تكملة المعاجم العربية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الزجاج��ي‪ ،‬مجال���س العلماء‪ :‬مجل�س محمد بن زي��اد الأعرابي مع �أحمد ب��ن حاتم‪� ،‬سل�سلة‬
‫التراث العربي‪ ،‬عن وزرة الإعالم‪ -‬الكويت‪ ،‬عام ‪1984‬‬

‫‪� -‬سال��م‪ ،‬محمد الح��اج‪ ،‬المي�سر الجاهلي‪� :‬أبعاده ودوره في ممانع��ة ظهور الدولة‪ ،‬الأوان‪:‬‬
‫‪ ،www.alawan.org‬الأحد ‪� 15‬آذار ‪2009‬‬

‫‪ -‬ال�سهيلي‪ ،‬الرو�ض الآنف ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪-‬ال�شامي‪ ،‬ال�صالحي‪� ،‬سبل الهدى والر�شاد في �سيرة خيرالعباد‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الطبري‪ ،‬محمد ابن جرير‪ ،‬تاريخ الطبري‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الع�صامي‪� ،‬سمط النجوم العوالي في �أنباء الأوائل والتوالي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الع�سكري‪� ،‬أبو هالل‪ ،‬جمهرة الأمثال‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬علي‪ ،‬جواد‪ ،‬المف�صل في تاريخ العرب قبل الإ�سالم‪www.islamport.com ،‬‬

‫‪� -‬شعراوي‪ ،‬عبد المعطي‪ ،‬يوربيدي�س‪ ،‬عابدات باخ‬

‫‪ -‬الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬فهد‪ ،‬توفيق‪ ،‬الكهانة العربية قبل الإ�سالم‪ ،‬ترجمة‪ :‬ح�سن عودة ورندة بعث‪ ،‬دار قدم�س‪،‬‬
‫دم�شق‪2007 ،‬‬

‫‪186‬‬
‫زكريا محمد‬

‫‪ -‬الفاكهي‪� ،‬أخبار مكة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬القر�آن الكريم‬

‫‪ -‬القرطبي‪ ،‬تف�سير القرطبي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬القلق�شندي‪� ،‬صبح الأع�شى‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬القالي‪� ،‬أبو علي‪ ،‬الآمالي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬القامو�س المحيط‪ ،‬الفيروز�آبادي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الكتاب المقد�س‪ ،‬دار الكتاب المقد�س في ال�شرق الأو�سط‬

‫‪ -‬ل�سان العرب‪ ،‬ابن منظور‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الميداني‪ ،‬مجمع الأمثال‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬المرزوقي‪� ،‬شرح ديوان الحما�سة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬المبرد‪ ،‬الكامل في اللغة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬المرزوقي‪ ،‬الأزمنة والأمكنة‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬المف�ضل ال�ضبي‪ ،‬الأمثال ‪www.alwaraq.net‬‬

‫‪ -‬محم��د‪ ،‬زكريا‪ ،‬ديانة مك��ة في الجاهلية‪ :‬ديانة مك��ة في الجاهلية؛ كت��اب الحم�س والطل�س‬
‫والحلة‪ ،‬دار الأهلي‪ ،‬عمان‪ -‬الأردن‪2012 ،‬‬

‫‪ -‬المنتظم‪ ،‬ابن الجوزي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬الحلبي‪ ،‬نور الدين‪ ،‬ال�سيرة الحلبية‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬النويري‪ ،‬نهاية الأرب في فنون الأدب‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬هارون‪ ،‬عبد ال�سالم محمد‪ ،‬المي�سر والأزالم؛ درا�سة اجتماعية �أدبية ودعوة على �إ�صالح‬
‫اجتماع��ي‪ ،‬ملت��زم الطبع والن�ش��ر‪ :‬دار الفك��ر العربي‪ ،‬القاه��رة‪ ،‬مطبعة لجن��ة الت�أليف‬
‫والترجمة والن�شر‪1953 ،‬‬

‫‪ -‬الواقدي‪ ،‬المغازي‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪ -‬ياقوت الحموي‪ ،‬معجم البلدان‪www.alwaraq.net ،‬‬

‫‪187‬‬
‫الم ْي ِ�سر وال ِقداح‬
َ ‫كتاب‬

www.alwaraq.net ‫ الآمالي‬،‫ محمد بن العبا�س‬،‫ اليزيدي‬-

www.alwaraq.net ،‫ زهر الأكم في الأمثال والحكم‬،‫ اليو�سي‬-

‫ بال تاريخ‬،‫ بيروت‬،‫ دار �صادر‬،‫ تاريخ اليعقوبي‬،‫ اليعقوبي‬-

Amelia Sparavigna Dipartimento di Fisica, The Pleiades: the celestial -


herd of ancient timekeepers,
http://arxiv.org/ftp/arxiv/papers/0810/0810.1592.pdf
Dalman, Gustaf, Work and Customes in Palestine, Volume 1/1, Dar -
Al Nasher, 2013, page 39-40

Strab, The Geography of Strabo, published in Vol VII  of the Loeb -


Classical Library edition, 1932, page 369
http://penelopeuchicagoedu/Thayer/E/Roman/Texts/Strabo/16D*html

188

You might also like