You are on page 1of 519

‫اسم الكتاب‪ :‬التليد والطارف شرح منظومة فقه التحوالت وسنة المواقف‬

‫اسم المؤلف‪ :‬أبوبكر العدني ابن علي المشهور‬


‫الطبعة الثانية ‪ 1433‬هـ ‪ 2012 -‬م (تحت التعديل)‬

‫بريد المؤلف ‪alhabibabobakr@gmail.com :‬‬

‫الناشر‬
‫مركز اإلبداع الثقافي للدراسات وخدمة التراث‬
‫الجمهورية اليمنية ‪ -‬عدن ‪ +9672 251089‬ص‪.‬ب ‪70014 .‬‬
‫‪www.goraba.com‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‪ ،‬ال يسمح بإعادة إصدار‬


‫هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق‬
‫استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من األشكال‬
‫دون إذن خطي مسبق من المؤلف‪.‬‬
‫‪All rights reserved. No part of this‬‬
‫‪book may be reproduced, stored in‬‬
‫‪a retrieval system or transmitted in‬‬
‫‪any form by any means without prior‬‬
‫‪permission written from the author.‬‬
﷽�
‫املطلع القرآين‬

‫ﭑﭒﭓﭔ‬
‫(ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ‬
‫ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ‬
‫ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ‬
‫ﯪﯫﯬﯭﯮﯯ)‬

‫ﮱﯓ ﯮ‬

‫اآليات ‪ 5-1‬من سورة القمر‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اإلهداء‬
‫ِ‬
‫للقدس‪..‬‬
‫ِ‬
‫املقدس‪..‬‬ ‫ِ‬
‫للواد ْي‬
‫للقيو ْد‪..‬‬
‫الص ُمو ْد‪..‬‬
‫حلجارة الشعب َّ‬
‫بغداد‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وإليك يا‬
‫يا رمز ًا َعنو ْد‪..‬‬
‫وإىل اجلنو ْد‪..‬‬
‫ِ‬
‫املدائن‪..‬‬ ‫ِ‬
‫أبواب‬ ‫وج ِه نحو‬ ‫ِ‬
‫جيش ال َّت ُّ‬
‫واحلدو ْد‪..‬‬
‫وإىل اإلما ِم املنت ََظ ْر‪..‬‬
‫داعي احلشو ْد‪..‬‬
‫اخلالص‪..‬‬
‫ْ‬ ‫والقادمنيَ‪ ..‬ألهنم أ َم ُل‬
‫والوعدُ جاء‪ ..‬وال َمن ْ‬
‫َاص‪..‬‬
‫َاص‪..‬‬
‫ال َمن ْ‬
‫ْ‬
‫تعلمون ؟!‬ ‫ّتب ًا َلع رْصي !‬
‫املتخ ُم َ‬
‫ون‪..‬‬ ‫َ‬
‫الع‪..‬‬ ‫َت َضا َفروا و َبنُوا ِ‬
‫الق ْ‬
‫حلامية الكنـز اإلل ْه‪..‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪2‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫العهو ْد‪..‬‬
‫اعوا ُ‬
‫َب ُ‬
‫ارت ُسدُ ود‪..‬‬
‫وشعوبم َص َ‬
‫هُ ُ‬
‫خلف البنو ْد‪..‬‬
‫رصنا غثا ًء كالقرو ْد‪..‬‬
‫ُ‬
‫ملحمة الطغاةْ‪..‬‬ ‫والدِّ ُ‬
‫ين‬
‫رب يا هيو ْد‪..‬‬
‫اهلل أك ُ‬
‫اجتامعات الوفو ْد‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يكفي ُق ُعود‪ ..‬تكفي‬
‫حي َم ْهزَ ل َة الوعو ْد‪..‬‬
‫الو ِ‬ ‫َسئِ َم ْت ُش ُع ُ‬
‫وب َ‬
‫ج َه َر ِة ُّ‬
‫الر َواةْ‪..‬‬ ‫ورغا َء مَ ْ‬
‫ُ‬
‫َل ُك ُم احلياةْ‪ُ ..‬‬
‫لكم احلياةْ‪..‬‬
‫الرتاب مع املياه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫لكم‬
‫ُ‬
‫ولنا ال ُّل ُحو ْد‪..‬‬
‫خري ِم ْن ُم َعا َن َق ِة ُ‬
‫الغزَ اةْ‪..‬‬ ‫املوت ٌ‬
‫ُ‬
‫قريب‪..‬‬
‫ْ‬ ‫لناظ ِر ِه‬
‫َو َغدَ ًا ِ‬

‫قريب‪..‬‬
‫ْ‬ ‫َح ّق ًا‬
‫َو ْعدُ اإلل ْه‪..‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫شاهد احلال‬
‫عن أيب الدرداء ريض اهلل عنه قال‪ ( :‬لقد تركنا رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وما‬ ‫* ‬
‫يف املساء طري يطري بجناحيه إ ذكر لنا منه علام )‬
‫رواه الطرباين‪ ،‬قال اهليثمي‪ :‬رجاله رجال الصحيح‬
‫وس ّب َأ ْص َحابـي فل ُيظه ِر‬ ‫هرت ِ‬
‫الفتن ‪-‬أو قال‪ :‬البِدع‪ُ -‬‬ ‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إذا َظ ْ‬ ‫* ‬
‫واملالئكة وال َّناس أمجعني‪ ،‬ال َيقبل ُ‬
‫اهلل َل ُه رصف ًا‬ ‫ِ‬ ‫لعنة اهللِ‬ ‫العا ُمل ِع ْل َمه‪ ،‬فمن مل ْ‬
‫يفعل ذلك فعليه ُ‬ ‫َ‬
‫وال عد ً‬
‫ال»‪.‬‬
‫أخرجه اخلطيب يف «اجلامع» عن معاذ‬
‫فإن َكاتم‬
‫فليظهر ُه‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫فمن كان عنده ِع ٌ‬
‫لم‬ ‫أو َهلا َ‬
‫األمة ّ‬ ‫عن ِ‬
‫آخ ُر هذه َّ‬ ‫* قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إذا َل َ‬
‫اتم ما ُأ َ‬
‫نـزل عىل حُم َّمد»‪.‬‬ ‫كك ِ‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ َ‬ ‫ِ‬
‫العلم‬
‫رواه ابن ماجه يف «سننه»‬
‫عن النعامن بن بشري ؤ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪»:‬إن بـني يدي الساعة فتن ًا ِ‬
‫كق َط ِع‬ ‫* ‬
‫قوم فيها‬
‫يبـيع ٌ‬ ‫الليلِ ا ُملظلم‪ُ ،‬يصبح َّ‬
‫الرجل ُمؤمن ًا و ُي ْمسيِ َكافر ًا‪ ،‬و ُيميس مؤمن ًا ويصبح كافر ًا‪ُ ،‬‬
‫ري‪ ،‬أو َبع َر ٍ‬
‫ض من الدُّ نيا»‪ ،‬قال احلسن‪ :‬فواهلل الذي ال إله إال هو‬ ‫َخال َقهم َبع َر ٍ‬
‫ض من الدُّ نيا َيس ٍ‬
‫ان َط َم ٍع‪ ،‬يغدون بدرمهني‪،‬‬ ‫اش نا ٍر‪ُ ،‬‬
‫وذ ّب َ‬ ‫أحالم‪َ ،‬ف َر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عقول‪ ،‬وأجسام ًا وال‬ ‫لقد رأي ُتم ُص َو َر ًا وال‬
‫ٍ‬
‫عنـزة»‪.‬‬ ‫بـيع أحدُ هم ِدينَه َ‬
‫بثم ِن‬ ‫ويروحون بدرمهني‪َ ،‬ي ُ‬
‫محاد (‪)47 :1‬‬
‫«الفتن» لن َُعيم بن ّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪4‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ال َّتمهيد‬

‫(ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ‬
‫ﯼﯽﯾﯿ ﰀ ﰁﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫ‬
‫ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ‬
‫ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ )‬
‫ﮱﯓ ﯮ‬

‫سيدنا حُم ّمد بن عبد اهلل القائل عن الدَّ جال‪« :‬إِنَّ َم َع ُه َج َّن ًة َو َن ًارا َفن ُ‬
‫َار ُه‬ ‫والسالم عىل ّ‬ ‫والصالة َّ‬ ‫َّ‬
‫اللِ َو ْل َي ْق َر ْأ َف َواتِ َح ا ْل َك ْه ِ‬
‫ف َفت َُكونَ َع َل ْي ِه َب ْر ًدا َو َس اَل ًما َكم‬ ‫ُل بِنَا ِر ِه َف ْل َي ْست َِغ ْث بِ هَّ‬
‫َج َّن ٌة َو َج َّن ُت ُه َن ٌار‪َ ،‬ف َم ْن ا ْبت يِ َ‬

‫يم» (((‪.‬‬ ‫اه َ‬ ‫َكا َن ْت ال َّن ُار َعل إِ ْب َر ِ‬

‫وعىل آله األطهار وصحابته األخيار‪ ،‬ما تعاقب الليل والنهار‪ ،‬وعىل التابعني هلم بإحسان‬
‫إىل يوم القرار واالستقرار‪.‬‬
‫أشبعت منه فصو ً‬
‫ال‬ ‫ْ‬ ‫ربه اليوم‪ ،‬ومؤلفات العرص قد‬ ‫ٌ‬
‫منترش خ ُ‬ ‫ِ‬
‫عالمات الساعة‬ ‫وبعدُ ّ‬
‫فإن فق َه‬
‫ِ‬
‫واستقراء‬ ‫وخ ِ‬
‫طابة منرب‪،‬‬ ‫وحمارضة ورشيط‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ورشح‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ونرشة‬ ‫كتاب وكت ِّي ٍ‬
‫ب ورسالة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كثري ًة ما بـني‬

‫((( أخرجه ابن ماجه يف سننه عن أيب أمامة الباهيل برقم ‪ ،4067‬و «فتح الباري» البن حجر (‪ ،)141 :20‬و‬
‫«فيض القدير» للمناوي (‪.)791 :3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪5‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أن كا ّف َة ما‬ ‫نكتفي بام ُكتِ َب وصن َ‬
‫ِّف يف هذا املضامر ؛ ولكنا رأينا ّ‬ ‫َ‬ ‫األجدر أن‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حالة ومظهر‪ ،‬وكان‬
‫ٍ‬
‫متفرقة عن هذه الظواهر اخلطرية‪ ،‬ومع هذا فقد‬ ‫ٍ‬
‫كمعلومات‬ ‫كتِب عن الساعة وعالماهتا ُينرش‬
‫ِ‬
‫الواجب واملتحت ِِّم والالز ِم واملندوب ؛‬ ‫ورص ٍ‬
‫ف عن‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫شغلة‬ ‫جمرد َم‬ ‫َ‬
‫التناول هلا ُ‬ ‫اعتقد البعض ّ‬
‫أن‬
‫إىل ما ال حاجة له من علم الغيوب‪.‬‬
‫وكنا يف هذا السبـيل قد ِ‬
‫رضينا ما رض َيه الناس‪ ،‬مع أن إرضا َء الناس ٌ‬
‫غاية ال تدرك‪ ،‬وفجأ ًة‪..‬‬
‫ِ‬
‫برصف النظر عماّ كنا‬ ‫َ‬
‫جربيل عليه السالم‬ ‫ِ‬
‫حلديث‬ ‫عظيم من خالل استقرائِنا‬
‫ٌ‬ ‫نبوي‬
‫ٌّ‬ ‫َب َر َز لنا شاهدٌ‬
‫قد عزمنا عليه من السكوت‪ ،‬واالكتفاء بام هو موجود ومعلوم عن عامل امللك وامللكوت‪ ،‬حتت‬
‫آخر هَ ذه ُ‬
‫األ َّمة َأ َّو هَلا فمن كان عنده ِع ْل ٌم‬
‫الع ْل ِم َي ٍ‬
‫ومئذ‬ ‫فليظهره‪ ،‬فإن َكاتم ِ‬
‫ْ‬ ‫شاهد ُم ِل ٍّح «إذا َل َع َن ِ ُ‬
‫ٍ‬
‫ككاتِم َما ُأن َ‬
‫ْـزل عىل حُم َّمد»(((‪.‬‬ ‫َ‬

‫إظهاره‪ ،‬فاستجبنا للدعوة و َل ّبـينا‬


‫ُ‬ ‫واجب‬
‫ٌ‬ ‫مكتوم العلم‬
‫َ‬ ‫النبوي ّ‬
‫أن‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫النداء‬ ‫وف ِه ْمنا من هذا‬
‫ِ‬
‫حديث جربيل ‪-‬عليه السالم‪-‬‬ ‫َ‬
‫السؤال من حمور احلديث النبوي العظيم‪،‬‬ ‫اإلشارة‪ ،‬وبدأنا نضع‬
‫أساس الديانة وثوابت الدِّ ين وشواهده‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫وقواعده‪ ،‬واحلاملِ‬ ‫ِ‬
‫احلديث احلاوي عىل أصول الدِّ ين‬
‫ٍ‬
‫أصول وأركان وما نطقت به الذات النبوية أربعة‪،‬‬ ‫أن ما قرره علامء امل َّلة األثبات ُ‬
‫ثالثة‬ ‫فوجدنا ّ‬
‫وندرس أركان الدِّ ين األربعة جمتمع ًة ال متفرقة‪،‬‬
‫األشتات ُ‬
‫َ‬ ‫امللحظ وبدأنا نجمع‬
‫فوقفنا عند هذا َ‬
‫وعي املسلمني‬ ‫كركن من أركان الدِّ ين وأصل من أصول ِ‬
‫بناء ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ونتحدث عن عالمات الساعة‬
‫َـكم»(((‪.‬‬ ‫جربيل َأ َت ُ‬
‫اكم ُيع َّل ُم ُكم ِدين ُ‬ ‫ُ‬ ‫وفهمهم عن أمر دينهم‪ ،‬كام قال ﷺ يف آخر احلديث‪َ « :‬ذ َ‬
‫اك‬
‫ٍ‬
‫ركن منها‬ ‫رس ُّ‬
‫كل‬ ‫وبام أن أمور الدين التي شملها احلديث أربعة فالواجب أن ُيدْ َ‬
‫بالتفصيل‪.‬‬

‫((( انظر «كنز العامل» (‪ )216 :10‬عن جابر‪.‬‬


‫((( مسلم وأصحاب السنن عن عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه يف حديث جربيل عليه السالم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪6‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫جوانب ِعدّ ة‪:‬‬
‫َ‬ ‫والركن الرابع منها باخلصوص حيتاج إىل هذا التفصيل والتبـيني من‬
‫أمهها‪ :‬أن يتعرف املسلم الفرق بـينه وبـني الثالثة األركان األوىل التي اعتمدها العلامء‬
‫الصبا‪ ،‬ألهنا ُتعنى بالعلم الفريض‬ ‫ٌ‬
‫أركان ثابتة جيب تعلمها منذ ِّ‬ ‫إن الثالث َة األركان‬
‫حيث ّ‬

‫الواجب الذي ال يصح التعبد إلاَّ به‪ ،‬وهو علم العقيدة والرشيعة ومراتب ُّ‬
‫السلوك‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ارتباط بالتعبد الذايت‪ ،‬وإنّام عالقته بمقاييس التحول‬ ‫فمتغري‪ ،‬أي‪ :‬ليس له‬
‫ٌ‬ ‫أما الركن الرابع‬
‫ومواقع اخلري والرش يف الناس والزمان‪ ،‬ويرتبط بعلم التعبد من ُ‬
‫حيث امليل القلبـي والوالء‪.‬‬
‫عر ُف معنى عالقتهم هبم من حيثيات العالمة والسمة‪،‬‬ ‫فالذين يوالون الصاحلني ‪-‬مث ً‬
‫ال‪ُ -‬ت َ‬
‫والذين يوالون الكفر والطواغيت وأهل الدنيا تعرف حقيقة والءاهتم بالعالمة والسمة‪.‬‬
‫حوالت ِ‬
‫والعلم بعالمات‬ ‫علم ينبني عىل معرفة « ِفقه ال َّت ُّ‬
‫فالعالمة والسمة يف هذا اجلانب ٌ‬
‫الساعة»‪ ،‬وإذا ما اعتمدناها يف حياتنا العلمية ركن ًا من أركان الديانة والتدين يمكن ‪-‬بمتابعة‬
‫الوارد فيها‪ -‬معرفة علم التحوالت اخلاص بفقه ال َّتغريات وأحوال الدجاجلة والدَّ ْجل وما‬
‫ٍ‬
‫وإحباط‪ ،‬وكذلك ما ينتظرها من بشارات وخري‪ ،‬كام يتثبت املتفقه‬ ‫َتؤول إليه األمة من فشلٍ‬
‫هلذا العلم حول مسألة بعض الصحابة الذين يتكلم البعض يف شأن عدالتهم وتوثيق مواقفهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫موقف ما ضد أحد من الصحابة ال يقف عىل فهم املجتهد أو املستنبط؛ بل‬ ‫حيث إن اختا َذ‬
‫بنص آخر من‬ ‫رت ٌ‬
‫فتنة عىل صحابـي لكنها ال تقدح يف مرتبته وال صحبته‪ ،‬وال خترجه ٍّ‬ ‫ربام َج ْ‬
‫الصحبة ورتبة ال َّنجاة يف الدارين‪.‬‬
‫ومجاعات َف ِه ُموا بعض الوقائع واحلوادث والنصوص‬
‫ٌ‬ ‫مجاعات‬
‫ٌ‬ ‫وقد َز ّل ْت يف هذا الباب‬
‫جمردة عن هذا الفقه وعدُّ وها حج ًة يف القدح يف بعض الصحابة‪ ،‬مع أن فقه التحوالت وأرشاط‬
‫الساعة تنفي عنهم الضاللة والفتنة املفضية إىل َس ِّبهم أو إخراجهم عن امل ّلة والدِّ ين‪ ،‬وجتع ُلهم‬
‫بالنص الواضح‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مص ِّ‬
‫ف اخللفاء الراشدين املهديينّ‬ ‫يف َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪7‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫إذ وال يصح ألحد أن يصدر حك ًام باملروق أو اخلروج عىل من عارص رسول اهلل ﷺ وكان‬
‫صانة ال ُتن َقض إلاَّ‬
‫وصحبة وخصوصية‪ ،‬فالصحبة واخلصوصيات َح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لرسول اهلل معه ٌ‬
‫شأن‬
‫نص من رسول اهلل ﷺ ذاتِه‪ ،‬وهذا ما حيدِّ ده العلم بفقه ال َّتحول كام أرشنا لذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بناقض يّ ٍّ‬
‫متعم ٍد‬
‫الساعة تعرضا خالل مرحلة التدوين وما قبلها إىل إقصاء َّ‬
‫لم َّ‬ ‫حوالت ِ‬
‫وع ُ‬ ‫ِ‬
‫وف ْق ُه ال َّت ُّ‬
‫ور ْغ َم‬
‫ومواقع احلكم والسياسة‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫املعني بالقرا ِر‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ومقصود‪ ،‬وخاصة أن هذا الركن قد تناول الفسا َد‬
‫حفظ للصحيح كاإلمام البخاري ومسلم وغ ِ‬
‫ريه‬ ‫ٍ‬ ‫ما قد َب َذله العلامء املخلصون هلذا الدِّ ين من‬
‫السلوك قد ذكروا يف‬ ‫ِ‬
‫ومراتب ُّ‬ ‫فإهنم عىل عظمة اجلهود املبذولة وخاصة يف فقه الرشيعة والعقيدة‬
‫بعض مقدّ ماهتم ما قاموا به من جتاو ٍز وإقصاء يف شأن فقه التحوالت‪ ،‬فهذا اإلمام البخاري يقول‬
‫الصحاح ٍ‬
‫حلال‬ ‫وتركت من ِّ‬
‫ُ‬ ‫أدخلت يف كتاب اجلامع إلاَّ ما َص َّح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف مقدمة اجلامع الصحيح‪ :‬ما‬
‫الصحاح حتى ال َيطول(((‪.‬‬
‫وتركت من ِّ‬
‫ُ‬ ‫أو ألجل الطول‪ ،‬ويف رواية‪:‬‬
‫ُ‬
‫أحاديث‬ ‫وهذا ما تركه البخاري من الصحاح العام املتناول لكثري من األحاديث املتنوعة‪ ،‬أما‬
‫ِ‬
‫الفتَن وعالمات الساعة فال َّ‬
‫شك أن الكثري قد ُترك منها‪ ،‬ويقول اإلمام مسلم رمحه اهلل‪ :‬ليس كل‬
‫وضعت ما أمجعوا عليه‪ ،‬وقال السخاوي يف «فتح املغيث»‪ :‬إن‬
‫ُ‬ ‫يشء عندي صحيح َو َص ْف ُت ُه هاهنا‪ ،‬إنام‬
‫كتابـيهام‪ ،‬وقد رصح ٌّ‬
‫كل منهام بعدم االستيعاب(((‪ .‬اهـ‬ ‫الشيخني مل يستوعبا َّ‬
‫كل الصحيح يف َ‬
‫رأس الستني التي َح َّذ َر منها‬
‫قال مؤلف كتاب «أرسار اجلفر»‪« :‬إن املشكلة بدأت من هناك من ِ‬
‫وإشارات عىل الطريق ُت ِ‬
‫رشد األمة‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ومعامل‬ ‫سيدنا حممد ﷺ‪ ،‬ألن طمس ًا كبـري ًا سيحدث يف حقائقَ‬
‫تبـيـن هبا املسالك واملمرات وسط الت ِ‬
‫ِّيه العظيم‬ ‫ٍ‬
‫حروف ّ‬ ‫بمعنى أدق تزيد األمة يف إرشادها لتحديد‬
‫الساسة والقا َدة الذين لو ُأ ِبـ َ‬
‫يح بأسامئهم رصاحة ووصلتنا‬ ‫ِ‬ ‫الذي ال حمالة ستصل إليه األمة؛ لفساد‬

‫((( «أرسار اهلاء يف اجلفر» ص ‪.134‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪8‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الرصاحة موثقة لكانت الدنيا واألمة اإلسالمية يف وجه آخر»((( ‪.‬‬
‫وهبذا اإلفصاح املهم عن (فقه التحوالت وأرشاط الساعة) نستفيد حاجتَنا امللحة إىل إعادة‬
‫ُ‬
‫البعض‬ ‫وش ِغل‬ ‫الر ْك ّنية) التي َغ ِف َل عن اإلشارة إليها ٌ‬
‫كثري من الباحثني‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫(مدلول ُّ‬ ‫َفهم املسلم إىل‬
‫ِ‬
‫بمحاكمة العلم والعلامء‪ ،‬وحاول آخرون أن َي ْندَ ُّسوا من خالل هذه الثغرات للنيل من‬ ‫منهم‬
‫آل البـيت النبوي‬ ‫ِ‬
‫وهيندسوا ألجيالنا املعارصة ِصيغَ الرصاع املد ِّمر باسم ِ‬ ‫رشف اإلسالم كله‪،‬‬
‫املظلومني كام يقولون‪.‬‬
‫والشأن كل الشأن يف االعتدال‪ ،‬فالبنيان اإلسالمي خري كله‪ ،‬وإذا ما َفات عىل األمة فقه‬
‫ُ‬
‫ري كل اخلري يف‬
‫حوالت وأرشاط الساعة فال جمال لنسف بنيان األمة يف أركاهنا الباقية‪ ،‬واخل ُ‬
‫ال َّت ُّ‬
‫إصالح ُه‬
‫ُ‬ ‫حسن التناول للقضايا العلمية‪ ،‬ومعاجلة األمور من خالل حاجتنا إلصالح ما يمكن‬
‫يف شمول ُّ‬
‫الطوفان القادم‪ ،‬وأما ما قد َسلف‪ ،‬فقد قال تعاىل‪( :‬ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) (((‪.‬‬
‫وإذا كانت اآلية قد نـزلت يف شأن األمم السابقة فإن معاين القرآن تتجدد يف شواهد‬
‫ِ‬
‫الرباعية إىل موقعها بام هتيأ لنا‬ ‫الر ِ‬
‫كنية‬ ‫ِ‬
‫إعادة مدلول ُّ‬ ‫االستدالل‪ ،‬وعلينا أن نفهم املعنى من‬
‫التاريخ ورجالِه‪ُ ،‬‬
‫فحر َمة اإلسالم‬ ‫ِ‬ ‫من الشواهد خلدمة األمة‪ ،‬ال أن نعيش عىل حساب َه ْت ِ‬
‫ك‬
‫نوج َه األجيال إىل املرحلة‬
‫يف املسلمني عظيمة‪ ،‬وغاية ما نحتاج إليه يف تقريرنا هلذه الركنية أن ِّ‬
‫ودراسة عالمات الساعة دراس ًة متأني ًة إلخراج من استطعنا من براثِ ِن ال ّتبعية املطلقة‬
‫ِ‬ ‫املعارصة‬
‫للكفر والكافر يف احلارض واملستقبل‪.‬‬

‫((( املصدر السابق باختصار‪ ،‬وأعتقد أن فهمنا ملراد املؤلف ال يتجاوز مفهوم ساسة وقادة الدولتني ذايت امللك‬
‫العضوض‪ ،‬أما ما سبق ذلك فالطعن والنبز ال تسعفه وال تؤيده النصوص حلصانة الصحبة لرسول اهلل‬
‫ﷺ لو أراد أحد أن يعمم املقصود من عبارة املؤلف‪.‬‬
‫((( البقرة‪.134 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪9‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ففي عرصنا نرى عرشات املفكرين والعلامء يص ُّلون ويصومون ويتعبدون هلل ويتقربون‬
‫ُ‬
‫مشكلة األمر ال يف العبادة وإنام يف نامذج الوالء‪ ،‬فمنهم من ُيوايل الكفار وجيتهد يف‬ ‫ولكن‬
‫ْ‬ ‫إليه‪،‬‬
‫مكاسب مادي ًة وفكري ًة واجتامعي ًة واقتصادي ًة وسياسية‪،‬‬
‫َ‬ ‫خدمتهم وحيقق هلم من هذه اخلدمة‬
‫ت ِ‬
‫الفتَن»‪ ،‬وقد‬ ‫كامنة يف والئه وخدماته ال يف صالته وصيامه‪ ،‬وهذا ما ُيعرف بـ» ُم ِضلاّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫فالعلة‬
‫ِ‬
‫املذهبـية ا ُملعارصة‪ ،‬كام شملت بوضوح َمن َش َّذ‬ ‫ِ‬
‫طوائف اإلسالم‬ ‫غالب‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫العلة‬ ‫شملت هذه‬
‫عن املذاهب اإلسالمية العاملية‪ ،‬واختذ لنفسه ومجاعته منهج ًا ُين َقض به ُ‬
‫العرى و ُيق َبض به ومن‬
‫بعلم حين ًا وحين ًا بغري علم وال وعي‪.‬‬
‫خالله مفاهيم خري الورى ٍ‬
‫وقد برز هذا االنفصام((( جلي ًا يف مرحلتنا املعارصة نتيج َة احتواء املدرسة احلديثة ذات العالقة‬
‫مناهج التعليم والرتبـية يف البالد العربـية واإلسالمية‪ُ ،‬ب َع ْيدَ‬
‫ِ‬ ‫س كا ّف َة‬
‫املسي ِ‬
‫املبارشة بربنامج الغثاء َّ‬
‫تطبـيع العقل اإلسالمي مرافق ًا لتطويع املنطقة وتطبـيعها‬
‫ُ‬ ‫احلربـ ِ‬
‫ني األوىل والثانية‪ ،‬وهبا حتقق للكافر‬
‫ِ‬
‫السلبـية عىل كثري‬ ‫سيل العرصنة‬ ‫الر ِاقع‪َ ،‬‬
‫وطام ُ‬ ‫ملصالح االستعامر‪ ،‬ومن هنا اتّسع اخلرق مع انعدام َّ‬
‫غالب عقول املسلمني ومؤسساهتم العلمية ضمن عجلة‬
‫من مواقع الرتبـية والتعليم حتى اندرجت ُ‬
‫ٍ‬
‫مرحلة حتى عرصنا الراهن‪ ،‬وهلذا فإننا عندما نعيد مفهوم العلم‬ ‫ال ّتغيري‪ ،‬و َتواىل التغيري مرحل ًة بعد‬
‫والسـ َّنـة نجد أن غالب املنطلقني يف هذا املضامر املعاصرِ هم ضحايا مرحلة‬
‫عىل أساس الكتاب ُّ‬
‫يس شاءوا أم أ َبوا‪ ،‬وربام عاجلوا كثري ًا من قضايانا املعارصة بأسلوب مريب وغريب‬
‫الغثاء وال َّت ْسيِ ِ‬
‫املسيس للكتاب والسنة‪ .‬وهذا ٌ‬
‫مقتل خطري جد ًا‪ ،‬قد تكلم عنه من ال ينطق عن‬ ‫ِ‬
‫معتمدين عىل َفهمهم َّ‬

‫((( االنفصام‪ :‬معناه اختالف الفعل الصادر من شخصية واحدة عىل شكل متناقض‪ ،‬بمعنى تعامل اإلنسان‬
‫عدوه من خالل مصالح يستفيدها وعرض مادي‪ ،‬مع التزامه بمفهوم الدين والعبادة واملحبة هلل‬
‫مع ّ‬
‫ولرسوله من جانب آخر‪ ،‬أو هو اعتزاز املسلم بدينه من حيث الوالء العام وااللتزام بالعبادة واالنتامء من‬
‫جهة ثم تنفيذ برامج الوجه اآلخر بعلم أو بغري علم يف االقتصاد والسياسة واإلعالم بام حيقق املكاسب‬
‫والفوائد املخالفة لدين املنفذ ذاته‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪10‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اهلوى ﷺ وهو ينقل للعامل خطور َة مستقبلِ املرحلة الغثائية يف النظرية والتطبـيق الرشعي‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫األمور األخرى‪ ،‬ومن ذلك قو ُله لألعرا ِّ‬
‫يب السائلِ عن الساعة‪« :‬إذا ُض ِّي َعت األمانة فانتظر الساعة‪،‬‬
‫ري أهله»((( والتضييع والتوسيد املشار إليه يف احلديث‬
‫األمر إىل غ ِ‬
‫إضاع ُتها؟ قال‪ :‬إذا ُو ِّسد ُ‬
‫قال‪ :‬وكيف َ‬
‫نائب الفاعل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫أجنبية ال يظهر فيها إلاَّ‬ ‫ٍ‬
‫لتدخالت‬ ‫مبني للمجهول‪ ،‬وفيه رمز‬
‫ونحن هنا قد َع ِهدْ نا إىل أنفسنا ‪-‬ما استطعنا إىل ذلك سبـي ً‬
‫ال‪ -‬أن نكشف احلقيقة ونتحمل‬
‫مسؤوليات ِ‬
‫كشفها سوا ًء من املعرتضني علينا داخل دائرة املدرسة األبوية ذاتهِ ا أم من املعرتضني علينا‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫اإلفراط والتفريط‬ ‫خارجها(((‪ ،‬فكال اجلهتني يعا ُنون يف مرحلتنا املعارصة من شمول احلرية يف جانِ َبـي‬
‫َ‬
‫الذي يعاجلون به قضايا التعبد وقضايا احلياة‪ ،‬وكال النقيضني أيض ًا يعيشون َأزمة خطرية‪ ،‬صارت‬
‫ِ‬
‫التداعيات التي نشهدها اليوم‪ ،‬وشهدهتا‬ ‫وبال َّ‬
‫شك هي املسؤولة (بعد تدخالت العدو) عن كل‬
‫ُ‬
‫األبوية املسندة بعد سقوط القرار اإلسالمي العاملي يف القرن التاسع عرش امليالدي‪ ،‬وإعالن‬ ‫ُ‬
‫املدرسة‬
‫املدرسة العلامنية يف تركيا عىل أنقاض املدرسة العاملية اإلسالمية‪.‬‬
‫وهذا النقض وثمراته جزء من علم التحوالت وفقه عالمات الساعة‪ ،‬وقد جهله الكثري‬
‫ممن يعنيهم األمر فض ً‬
‫ال عن عا ّمة األمة ودمهائهم‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬وأمحد يف مسنده‪ ،‬والبيهقي يف السنن الكربى من حديث أيب هريرة ريض‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫((( ومن هذا القبيل ما الحظناه بعد إصدار الطبعة األوىل من هذا الكتاب حيث أخذ بعض املنتمني ملدارس‬
‫القبض والنقض يتتبع بعض العبارات واجلمل يف الكتاب ويف غريه من كتبنا؛ ل ُيخرج من هذا األمر‬
‫املركب كذب ًا وزور ًا وهبتان ًا بحكم ّ‬
‫معيـن عىل املؤلف ويدرجه حسب تسييسه للعبارات واجلمل من‬
‫جمموعة كذا وكذا‪ ...‬ويضيف فوق هذا الرتكيب املصنع عبارات النصح والرغبة يف التوجيه املرشوع‪..‬‬
‫ولو كان منصف ًا حق ًا وناصح ًا صدق ًا لوجد اإلجابة عىل ما يف عقله وذهنه من املتناقضات يف ثنايا نصوص‬
‫الكتب التي برت عباراهتا ومجلها واستخلص منها تصور ًا وحك ًام ال عالقة للكاتب به وال للمؤلف؛ ولكن‬
‫سامح اهلل هؤالء امل َّتقولني‪ ،‬وهدانا وإياهم إىل سواء السبيل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪11‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وهلذا السبب نجد أن إعادة مفهوم القراءة الرشعية ألركان الدِّ ين عىل أساس املعاجلة‬
‫وواجب املرحلة أسهم معنا يف استقراء‬
‫ُ‬ ‫الرباعية هي واجب املرحلة وإحدى رضوراهتا‪،‬‬
‫ُّ‬
‫صاحب الرسالة ﷺ وهناي ًة بعرصنا الذي َط َغى فيه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عرص‬ ‫ِ‬
‫مكنونات العالمات ك ِّلها‪ ،‬بِدء ًا من‬
‫املصب اإليامين‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التحول والتغري‪ ،‬فاستنفذنا جهدنا املحدود الستفراغ املعرفة يف هذا‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫دخان‬
‫ووضعنا هذا الكتاب احلامل السم «التليد والطارف» ‪ ،‬و «ال َّتليد» ال َبعيد‪ ،‬و « َّ‬
‫الطا ِرف» القريب‪،‬‬
‫حوالت» املَ ْق ُصود به‪َ :‬ف ْه ُم ما يجَ ْ ِري من ُسنن ال َّت َغيرُّ ِ‬
‫ات وال َّتبدالت يف املراحل املتقلبة‪،‬‬ ‫و «فقه ال َّت ُّ‬
‫أشارت إليه اآليات والس ُّنة النبوية يف شأن ذلك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وما‬
‫ف» فهي إضافة حممودة يف تأصيل فقه الدعوة إىل اهلل بخصوصه عىل ما‬ ‫ِ‬
‫املواق ِ‬ ‫وأ ّما «س ّن ُة‬
‫تقرر لدى العلامء من تقسيم سنة املصطفى يف علم األصول إىل قولية وفعلية وتقريرية‪ ،‬حيث‬
‫ُ‬
‫وسنة َمواقف‪.‬‬ ‫ُل ِ‬
‫وحظ أن هناك ُ‬
‫سنة َداللة‬
‫وسنتناول هنا بادئ ذي بدء ما يتعلق بسنة املواقف‪ ،‬وهي ما اختذه الرسول من موقف‬
‫والسالم‪ -‬مع أعدائه وأضداده منذ بدء الدعوة اإلسالمية يف‬
‫الصالة َّ‬
‫ذايت يليق بأخالقه ‪-‬عليه َّ‬
‫نص قرآين دامغ ‪ ،‬ونستخلص‬
‫مرحلتي مكة واملدينة حتى وفاته‪ ،‬وحتى مع من نـزل يف شأهنم ٌّ‬
‫من هذه املعاملة قاعدة التأصيل ملنهج الدعوة إىل اهلل باحلكمة واملوعظة السنة يف كافة مراحل‬
‫احلياة‪ ،‬أما سنة الداللة فسنتناوهلا خالل حديثنا عن التحوالت‪ ،‬وما يرتتب عىل فقه املناسبات‬
‫ِ‬
‫واملواقف ال عالقة هلا بعلم األصول التي قررها العلامء‬ ‫ِ‬
‫الداللة‬ ‫الرشعية‪ ،‬وكال الس ّنت ِ‬
‫ني‪:‬‬
‫وفرغوا منها‪ ،‬وإنام عالقتها بفقه التحوالت املقتبس من رباعية األركان باعتبار ما خيص الربط‬
‫للع ْفو واستجالب ًا لل ُّنفوس (ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫بني التاريخ والديانة يف مسرية الدعوة إىل اهلل َب ْسط ًا َ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) (((‪.‬‬

‫((( األعراف‪.199 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪12‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وقولنا هنا‪« :‬إنام عالقتها بفقه التحوالت املقتبس من رباعية األركان» إشارة إىل أن هذا‬
‫الركن الرابع مل ينطو حتت أي مدلول فقهي خاص من قبل‪ ،‬وهلذا فليس التناول له عىل صفة‬
‫خدمة الدعوة إىل اهلل ينازع الفقه األصويل يف األحكام والترشيعات األخرى وليس أيضا بديال‬
‫عنه‪ ،‬وإنام هو إحياء ملعاين هامة يف منهج السالمة‪ ،‬ومعاجلة رشعية لسلبيات الرتاكامت النفسية‬
‫املؤدية إىل احلرية وشمول الرصاع بني املصلني من جهة‪ ،‬وامتداد نفوذ الشيطان وعمالئه يف‬
‫اإلنسانية عموما واألمة اإلسالمية خصوصا من جهة أخرى‪ ،‬وخاصة فيام يتعلق باحلوادث‬
‫والتحوالت التارخيية‪.‬‬
‫وأسأل اهلل أن يغفر يل كل جرأة وخطأ غري مقصود‪ ،‬وأن يوفقني للصواب فيام توجهت إليه‪،‬‬
‫كتبت وع ّل ُ‬
‫قت‪ ،‬وأسأل اجلميع‬ ‫وأال جيعل يف قلب أحد من أمة اإلسالم عيل وجدا أو ضغينة بام ُ‬
‫الدعاء‪ ..‬كام أرجو موالي التوفيق يف كل حال‪..‬‬

‫وهو حسبي ونعم الوكيل‪ ..‬وصىل اهلل عىل سيدنا حممد وآله وصحبه وسلم‪..‬‬

‫املؤلف‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪13‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ْخ ُل إىل رَ ْ‬
‫ش ِح ا َملن ْ ُ‬
‫ظومَ ِة‬ ‫ا َملد َ‬

‫�م‬‫ِ‬ ‫ل�ه وال َف ْض ُ ِ‬


‫ِم�ن َف ْض ِ‬ ‫ِ‬
‫لل�ه عل�ى م�ا ُي ِ‬
‫�ل منْ�ه دائ ُ‬ ‫�م‬
‫له ُ‬ ‫الح ْم�دُ‬
‫َ‬
‫حيمد اهلل تعاىل عىل ما أهلمه من‬
‫«احلمد» هو الثناء عىل اهلل باجلميل االختياري‪ ،‬والناظم َ‬
‫الفضل الذي هو املعرفة والبـيان املؤدي إىل استنباط املعاين من النصوص‪« ،‬وال َف ْض ُل» يعود إىل‬
‫اهلل يف كل األحوال‪ ،‬فمنه كل يشء ألنه الكريم اجلواد املتفضل سبحانه‪.‬‬
‫الم ِد ْل‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫َّبـي كاشف الف ْقه ُ‬
‫على الن ِّ‬ ‫المت َِّص ْل‬
‫والسلا ُم ُ‬
‫الصلا ُة َّ‬
‫ث�م َّ‬
‫الصالة» من اهلل رمحة‪ ،‬ومن املالئكة استغفار‪ ،‬ومن اآلدميني ترضع ودعاء‪ ،‬والصالة بمعنى‬
‫« َّ‬
‫الدعاء‪ ،‬وهو استجابة ألمر اهلل تعاىل للعباد يف قوله‪ ( :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫والسالم» هو‬ ‫واجب عىل ِّ‬
‫كل مسلم‪َّ « ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ﭿ) (((‪ ،‬فالصالة والسالم عىل رسول اهلل ﷺ ٌ‬
‫حق‬
‫األمان ا ُملفيض إىل االطمئنان‪ ،‬وهو اسم من أسامء اهلل‪ ،‬أنـزله إىل األرض ليتجسدَ معناه يف العباد‬
‫َ‬
‫ويربز عىل ألسنتهم وأقواهلم وأفعاهلم وعالقاهتم‪.‬‬
‫النبـي» مأخوذ من النبوة‪ ،‬وهي اإلخبار‬
‫ّ‬ ‫وقوله‪« :‬امل ّت ِصل» أي‪ :‬الدائم غري املنقطع‪« ،‬عىل‬
‫باملغيب‪ ،‬ونبـينا عليه الصالة والسالم نبـي ورسول‪ ،‬فقد خاطبه اهلل بكل الصفتني‪( :‬ﭶ‬
‫َّ‬
‫ﭷ ) (ﮔ ﮕ )‪.‬‬
‫الفقه ا ُمل ِدل» الكاشف‪ :‬ا ُملظهر وا ُملبـينِّ ملا َخ ِفي واسترت‪ ،‬ورسول اهلل ﷺ أبرز يف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كاشف‬ ‫«‬

‫الكشف « ِف ْق َه ًا» ألنه‬


‫ُ‬ ‫وسم َي هذا‬
‫صحيح أقواله ما استرت وخفي يف املايض واحلارض واملستقبل‪ِّ ،‬‬
‫الساعة‪ ،‬وقوله‪« :‬ا ُمل ِدل» أي املرشد إىل حقيقة ما جيهله اإلنسان‪ ،‬أو ما‬ ‫خيتص ِ‬
‫بع ْلم َعالمات َّ‬

‫((( األحزاب‪.56 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪14‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يرتبك يف شأن اإلفصاح عنه من سلوك الناس وأحواهلم‪.‬‬
‫وم ْة‬ ‫الم ْش ُ‬ ‫َ‬ ‫�وم ْة‬ ‫ِ‬
‫�ؤ َ‬ ‫عال�م َ‬
‫الم َ‬ ‫وأ ْو َض َ‬
‫�ح َ‬ ‫الم ْر ُس َ‬
‫�م َ‬‫�ن َح�دَّ َد ال َعالئ َ‬
‫َم ْ‬
‫«العالئم»(((‪ :‬مجع للعالمات‪ ،‬و «املرسومة» أي‪ :‬اجلارية يف قضاء اهلل وقدَ ره يف مستقبل‬
‫كـمـ ًا ونوع ًا وصف ًة وحا ً‬
‫ال ومكان ًا وزمان ًا‪.‬‬ ‫الزمان‪ ،‬فهو ﷺ قد حدَّ دها َّ‬
‫«وأوضح» أي‪ :‬بـيـن َ‬
‫وأ ْجىل «املعامل» مجع َمع َلم وهو ِ‬
‫املوقع واملكان‪ ،‬ويقال أيض ًا‪ :‬اإلشارات‬ ‫َّ‬
‫واملالمح «املشؤومة» أي‪ :‬مظاهر االنحراف والفساد ُ‬
‫وش ْؤم املسلك واملقصد والترصف‪ ،‬كام‬
‫عبرَّ عن ذلك من ال ينطق عن اهلوى ﷺ‪.‬‬
‫الطريق الو ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ِع‬ ‫ِ َ‬ ‫ومن َم َشى على‬
‫َ‬ ‫�م التَّابِ� ِع‬ ‫ِ‬
‫واألصح�اب ُث َّ‬ ‫واآلل‬
‫«اآلل» هم بنو هاشم وبنو عبداملطلب «واألصحاب» مجع صحابـي‪ ،‬وهو من اجتمع بالنبـي‬
‫مؤمن ًا ومات عىل اإليامن يف املعنى العام((( «والتابع» هم من اجتمع بالصحابة أو بأحدهم ِمن‬
‫ٍ‬
‫بإحسان عىل طريق‬ ‫املتعاق ِ‬
‫بة ومات عىل اإليامن‪« ،‬ومن َم َشى» أي‪َ :‬من ا َّت َب َعهم‬ ‫ِ‬ ‫الح ِق ْي األزمنة‬
‫ِ‬

‫السالمة الواسع‪ ،‬وحسن الظن باهلل وبعباده‪.‬‬


‫وج ِد‬
‫الم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْن س ِّ�ر آيات الك َِري� ِم ُ‬
‫ِ ِ‬
‫الو ُجود األَ َبد ْ‬
‫ي‬ ‫مس�ت ِ ِ‬
‫َلهم ًا س َّ�ر ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫ِ‬
‫احلياة وما بعدها‪ ،‬حيث أودع اهلل يف‬ ‫أي‪ :‬مستغرق ًا يف معاين أرسار آيات اهلل لِيستل ِه َم منها َّ‬
‫رس‬

‫((( العالئم مجع عالمة وهي الشارة التي تدل عىل اليشء‪ ،‬ومنها عالمات الساعة‪ ،‬واملعامل مجع معلم وهو املآثر‬
‫أو املكان الذي يكون فيه جمريات التحول‪.‬‬
‫((( قوله يف املعنى العام‪ :‬أي فيام تعارف عليه علامء امل ّلة يف تعريف الصحايب بعمومه‪ ،‬وأما يف املعنى اخلاص‬
‫فالصحبة مقيدة أيض ًا برشوط أخرى حتى ال يندرج املنافقون ومن وردت فيهم نصوص رصحية يف‬
‫قراء الكتاب ممن أصيبوا بطريف‬
‫املفهوم ذاته‪ ..‬وأرشنا إىل هذا التفصيل بعد ورود مالحظات بعض َّ‬
‫اإلفراط والتفريط يف تناول املواضيع وحتليلها ومل يلتزموا أدب التوسط واالعتدال مع أصحاب رسول‬
‫اهلل ﷺ ومل يتفهموا أيض ًا آراء الراغبني يف هذا املنهج الرشعي املعتدل بعيد ًا عن الغلو والتسييس‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪15‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫تأمل‬ ‫والفهوم من ِ‬
‫يكش ُف أرسار األعايل وال ُّت ُخوم‪ ،‬فهي آيات اهلل البـ ِّينات ملن َّ‬ ‫آياته من العلوم ُ‬
‫ِ‬
‫املوجد (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ )‪( ،‬ﮛ ﮜ‬ ‫ورس اإلجياد من‬ ‫واستش َّف معنى َ‬
‫الكرم من الكريم َّ‬ ‫َ‬
‫ﮝ ﮞ)‪( ،‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)‪( ،‬ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ)‪.‬‬
‫�ع ا ْقتِف�ا‬ ‫َ‬
‫وأ َد ٍ‬
‫ب َم َ‬
‫بهم ٍ‬
‫�ة‬ ‫ِ َّ‬ ‫المص َط َف�ى‬
‫و َقارئ� ًا ُس�نَّـ َة َط� َه ُ‬
‫الرسالة (ﭻ ﭼ ﭽ) ((( والقارئ لـ» ُس ّنة طه املصطفى»‬
‫القراءة منهج هذه األمة منذ فجر ِّ‬
‫ِ‬
‫املراد ومع‬ ‫هو الناظر إليها واملطلع عليها مستغرق ًا يف معانيها مع كامل اهلمة يف احلصول عىل‬
‫ٍ‬
‫واجتناب للمنهيات وفق‬ ‫ِ‬
‫للمأمورات‬ ‫ومقام ِه‪ ،‬عىل ا ِّت َبا ٍع‬
‫ِ‬ ‫األدب املفيض إىل تعظيم ذات املع ِّلم‬
‫ِ‬
‫منهج االقتداء املنصوص عليه (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) (((‪.‬‬
‫الم َعالِـ ِم‬
‫إِ ْذ في األُ ُص�ول ُج ْمل ُة َ‬
‫عن ك ُِّل ِعل ٍم محدَ ٍ‬
‫ث في ال َعا َلـ ِم‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫حدّ د القراءة يف السنة النبوية « ِ‬
‫بالعلم املحدث» أي‪ :‬املتجدِّ د املتغري املتحول‪ ،‬وبمعنى آخر‪:‬‬
‫كل علم يأيت يف هذا العامل عىل مقتىض تطور احلياة وجتدُّ د املفاهيم فيها من غري مساس بالقواعد‬
‫والتحول‪ ،‬فاملوىل يقول‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫جامعة لكل يشء من مظاهر التجديد‬ ‫َ‬
‫أصول هذا الدِّ ين‬ ‫والثوابت‪ ،‬ألن‬
‫(ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ) (((‪(،‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) ((( «واملعامل» مظاهر التجديد‬
‫وعالئم التغيرُّ والتبدُّ ل‪.‬‬
‫ِ‬
‫لين‬ ‫في َصدْ ِر َط َه َخ ِير كُل ُ‬
‫الم ْر َس ْ‬ ‫ين‬
‫الم ْ‬ ‫حان َم ْن َأ ْو َد َع ع َ‬
‫لم ال َع َ‬ ‫ُس ْب َ‬

‫((( الفلق‪. 1 :‬‬


‫((( األحزاب ‪.21 :‬‬
‫((( األنعام‪.38 :‬‬
‫((( الرعد‪.8 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪16‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫تنـزيه هللِ َتعاىل عن كل مثل وشبه‪ ،‬فهو سبحانه أودع يف صدر املصطفى ﷺ كا َّف َة العلوم‬
‫ٌ‬
‫وإمام من‬
‫ٌ‬ ‫أهل ِ‬
‫هلذه املعارف‪،‬‬ ‫األولية واألخرية واملاضية واحلارضة واملستقبلية‪ ،‬إذ هو ﷺ ٌ‬
‫َّ‬
‫علم َن َ‬
‫ظري وال َما ِّد ٍّي عىل صفحة‬ ‫س ٌ‬ ‫تع ُّلمها ِ‬
‫وع ْل ِمها سوا ًء كانت رشعي ًة أم مادي ًة‪ ،‬فال ُيق َت َب ُ‬
‫الزمان أو َمن قب َله أو َمن بعده‪ ،‬حيث َّ‬
‫بـيـن اهلل‬ ‫نبـي ذلك َّ‬ ‫ِ‬
‫لسان ِّ‬ ‫الوجود إلاَّ بعد إمضائه عىل‬
‫َ‬
‫مدلول ذلك بقوله‪( :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) (((‪.‬‬
‫واملقصود الظاهر هو القرآن‪ ،‬واملعنى اإلشاري هو كا َّف ُة العلوم التي تربز يف الوجود حتت‬
‫مدلول (ﭻ ﭼ ﭽ ) (((‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ) (((‪.‬‬
‫ِ‬
‫ْـ�وان‬ ‫وم�ا َأ َرا َد الل� ُه لـ َ‬
‫ألك‬ ‫َ‬ ‫نس�اني‬
‫ِْ‬ ‫َف َّص�ل فِ ْق� َه ال َعا َلـ� ِم ا ِ‬
‫إل‬
‫بـيـن وأبرز يف أحاديثه «فقه العامل» بأدق معاين الفقه وال َفهم والتبـيان‪ ،‬كام‬
‫أي‪ :‬أنه ﷺ قد َّ‬
‫أوضح ﷺ من هذا الفقه أيض ًا مرا َد اهلل يف مسرية األكوان ُ‬
‫وسن ََن ال ّتطور يف احلياة‪.‬‬
‫وأ َّو ِل‬
‫�ر َ‬ ‫وم�ا َق َض�ى ِم�ن ِ‬
‫آخ ٍ‬ ‫�ن الت ََّح ُّو ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫من س ِّ�ر ما َي ْج ِري م َ‬
‫رس ما جيري‪ ،‬وإنام يشتغلون‬ ‫أغلب الناس َ‬
‫شأن ِّ‬ ‫ُ‬ ‫اخل َفاء ِ‬
‫والك ْتامن‪ ،‬حيث ال يعلم‬ ‫إشار ٌة إىل َ‬

‫بظاهر ما جيري‪( ،‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) (((‪.‬‬


‫«وال َّتحول» هو تغري الزمن وأحواله يف العباد‪ ،‬وما يطرأ يف اجلوانب العلمية والعملية‬
‫والسلوكية من تبدل وحتول‪ ،‬وما جيري به قضاء اهلل من أول ِ‬
‫وآخر (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬

‫((( مريم‪.97 :‬‬


‫((( العلق‪.1 :‬‬
‫((( النساء‪.113 :‬‬
‫((( الروم‪.7 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪17‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﭲ) (((‪(،‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ) (((‪.‬‬
‫ُيدْ ِركُ� ُه في الن ِ‬
‫َّ�اس َأ ْه ُ‬
‫�ل ال َف ْه ِم‬ ‫اض�ح ِ‬
‫بالعل� ِم‬ ‫ف�ك ُُّل َش�ي ٍء و ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫رس ال َفهم يف‬ ‫ٌ‬
‫واضحة لدى أهل العلم الذين منحهم اهلل َّ‬ ‫أي‪ :‬إن ُك َّل متغريات األحوال‬
‫ورسها الباطن‪،‬‬ ‫العلم بكا َّف ِة َ‬
‫صو ِره حيمل ظاهر املعرفة ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫قراءة األصول وفقه التحول‪ ،‬حيث إن‬
‫فالظاهر ما ال حيتاج إىل إعامل ال َفهم الوهبـي‪ ،‬حيث تربز مواهب العلم الكسبـي بعوامل العقل‬
‫حول وفقه ال ّتغري فال‬
‫علم ال َّت ُّ‬
‫وأما ُ‬
‫املتداول‪َّ .‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الطاف َي ُة عىل سطح العلم‬ ‫واجلوارح‪ ،‬فتربز املعرفة‬
‫ٍ‬
‫لقلة من الناس ممن وهبهم اهلل معنى خاص ًا من معاين رس العلم «العلم اللدين»(((‪.‬‬ ‫يربز إلاَّ‬

‫الص�دْ َر ك�ذا ُي ْعطِ َي ُه‬


‫َي ْش َ�ر ْح ل� ُه َّ‬ ‫وم�ن َأرا َد الل� ُه َأ ْن َي ْه ِد َي� ُه‬
‫َ‬
‫«واهلداية» هنا ليست بمفهومها العام‪ ،‬وإنام اهلداية هبذا العلم اخلاص ضمن اهلداية العامة‪،‬‬
‫رس هذا العلم‪ ،‬فال غمط‬ ‫يمنحه ُ‬
‫اهلل َّ‬ ‫ْ‬ ‫فلر َّب ٍ‬
‫عبد َهدَ ا ُه اهلل للخري والعمل الصالح؛ ولكن مل‬ ‫ُّ‬
‫استنقاص‪ ،‬فقد قال اهلل يف حق سليامن وداود‪( :‬ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫َ‬ ‫يف شأنِه وال‬
‫املعني يف قوله تعاىل‪( :‬ﮓ‬
‫ِّ‬ ‫الصدر» هنا املقصود به هتيِ ُئة علم ُّ‬
‫الصدُ ور‬ ‫ﮫ ﮬ ) ((( «ورشح َّ‬

‫((( الروم‪.27 :‬‬


‫((( آل عمران‪.26 :‬‬
‫((( العلم اللدين ثمرة من ثمرات التقوى‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ) ‪ ،‬فالذين يلمزون‬
‫وهيمزون ويغتابون ويكذبون ال عالقة هلم هبذا العلم ولو كانوا ُح َّفاظ ًا للكتاب والس ّنة؛ ألهنم َخ ُ‬
‫الفوا‬
‫مفهوم ال َّتقوى ألن التقوى اتّباع األوامر واجتناب النواهي‪ ،‬ومن األوامر حفظ اللسان واجلنان واألركان‬
‫عن احلرمات واألعراض (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) ‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬املسلم من‬
‫َس ِل َم املسلمون من لسانه ويده» والعلم اللدين جزء من معاين علم اإلحسان‪ ،‬ومن مل يعلمه يلزمه التصديق‬
‫حرف معانيه إىل معاين أهل التفريط واإلفراط فقد َبا َء باخلرسان يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫به ومن كذب به أو ّ‬
‫الت ِ‬
‫الفتن‪.‬‬ ‫ونعوذ باهلل من ُم ِض ّ‬
‫((( األنبياء‪.79 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪18‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) (((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َس َ‬
‫والى واحت ََذا‬ ‫وك ُِّل َم ْ‬
‫�ن في الل�ه َ‬ ‫لت َربـ�ي َأ ْن َي ُم َّ‬
‫�ن ل�ي بِذا‬ ‫�أ ُ‬
‫هبـي َل ُه وملن وااله يف اهلل واحتذا الطريقَ‬
‫الو َّ‬
‫العلم َ‬
‫َ‬ ‫الناظم من مواله أن َهي َب ُه هذا‬
‫ُ‬ ‫يسأل‬
‫السديدَ الذي جاء به النبـي املقتدى ﷺ‪.‬‬
‫الو ِصيدْ‬
‫غاليق َ‬ ‫ِمن َق ْبل َأ ْن ت َْأ ِ‬
‫تي َم ُ‬ ‫األبواب في العل ِم ُ‬
‫المفيدْ‬ ‫َ‬ ‫و َي ْفت ََح‬
‫سؤال من الناظم لربه أن يفتح أبواب العلم بفقه التحوالت وسنة املواقف؛ لينترش اخلرب‬
‫ُ‬
‫اجلاهل من قبل أن يأيت‬ ‫ويتعلم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الغافل‬ ‫َّ‬
‫ويتذك ُر‬ ‫ُ‬
‫العاقل‬ ‫األمر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فيدرك‬ ‫والعام‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اخلاص‬
‫ِّ‬ ‫واألثر لدى‬
‫يوم ال مرد له (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [العنكبوت‪( ]49 :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ٌ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [األنعام ‪.]158 :‬‬
‫الوصيد ا ُملراد به حصول العالمة التي َأ ْخ َبـر عنها من ال ينطق عن اهلوى ﷺ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َو َغ ْل ُق‬
‫الشمس من مغرهبا وغريها من اآليات‪.‬‬‫ِ‬ ‫لوع‬
‫وط ِ‬ ‫كالدَّ جال والدَّ ِ‬
‫ابة ُ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫�ي ٍء ب َق‬
‫الس َو ْر‬
‫لم باآليات من س ِّ�ر ُّ‬
‫والع ُ‬ ‫ض�اء و َق�دَ ْر‬ ‫وك ُُّل َش ْ‬
‫سواء ظهر هذا العلم أم مل يظهر (ﯢ ﯣ‬
‫ٌ‬ ‫أي‪ :‬أن ما جيري يف كون اهلل هو قضاء وقدره‬
‫ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ‬

‫((( العنكبوت‪.49 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪19‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) (((‪.‬‬
‫وإنام جيب العلم هبذا الفقه عىل من سبقت له من اهلل العناية وخاصة أن هذا العلم يربز من‬
‫مطلب إهلي يربز يف قوله تعاىل‪( :‬ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ٌ‬ ‫رس القرآن وتدبره‪ ،‬وتد ُّب ُر القرآن‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ) (((‪.‬‬

‫يب التُّخُ و ِم َّ‬


‫والس�ما‬ ‫ت ََرى َأ َع ِ‬
‫اج َ‬ ‫�ي َما َأ ُق ُ‬
‫�ول وا ْف َهما‬ ‫فاس�م ْع ُأ َخ َّ‬
‫َ‬
‫يصغي إىل ما يقوله يف شأن هذا العلم‪ ،‬وأن ُي ِعدَّ ِذهنَه ل َفهمه‬
‫َ‬ ‫مطلب الناظم من املسلم أن‬
‫ُ‬
‫يتدبرها ال ُّل ُّب ومل‬
‫ْ‬ ‫تأخذ بال ُّل ِّب و ُتبهر َ‬
‫العقل‪ ،‬حيث مل‬ ‫أعاجيب» ُ‬
‫َ‬ ‫واستيعابه‪ ،‬فإن من وراء ذلك «‬
‫ِ‬
‫املعهودة يف التعليم والتع ُّلم املعارص‪.‬‬ ‫يت ََّتب ْعها العقل يف شأن املعرفة‬
‫أعاجيب ال ُّت ُخوم» أي أعامق األرض‪،‬‬
‫َ‬ ‫لذلك فإن القارئ سيربز له من خالل تتبع هذا العلم «‬

‫رس سلوك اإلنسان البرشي وما حوله من مكان وزمان‪ ،‬و «السام» كناية عىل ِّ‬
‫علو‬ ‫كناية عن ِّ‬
‫تنـزل من عند اهلل لتفهيم العباد وتنويرهم وإجالء غموض‬ ‫ِ‬
‫وعظمة ال َّتنـزيل ورشف ما َّ‬ ‫املعرفة‬
‫العاملني‪.‬‬

‫((( املائدة‪.41 :‬‬


‫((( حممد‪.24 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪20‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فِ ْق ُه التَّـحَ ـوُّالت‬

‫فِيما يرى البع ُض ِ‬ ‫�س ُمن َْح ِص ْ�ر‬ ‫ِ‬


‫بعل ٍم ُم ْش�ت َِه ْر‬ ‫َْ‬ ‫َ ََ‬ ‫الف ْق� ُه َأن ٌ‬
‫ْ�واع ول ْي َ‬
‫وف�ي الصي�ا ِم وك�ذا ال َّط ِ‬
‫اعات‬ ‫لاة وال�ز ِ‬
‫َّكاة‬ ‫�ه ف�ي الص ِ‬ ‫كالف ْق ِ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الناظم معنى الفقه ليشمل أنواع ًا عديدة ليست منحرص ًة فيام يفهمه البعض من ّ‬
‫أن علم‬ ‫ُ‬ ‫يوس ُع‬
‫ِّ‬
‫الفقه املشتمل عىل فرع العبادات واملعامالت واجلنايات واإلرث واألنكحة واحلدود وغريها‪.‬‬

‫الم ْعت ََمدْ‬ ‫ع ِن النَّبـي في ِ ِ‬ ‫ب�ل ينْت َِه�ي ِ‬


‫الف ْق� ُه بِكُل م�ا َو َر ْد‬
‫الحديث ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫كل ما ورد من مفهوم حديث « َم ْن ُي ِر ِد ُ‬
‫اهلل بِ ِه َخيرْ ًا ُي َف ِّق ْه ُه ف‬ ‫ُ‬
‫مدلول الفقه اللغوي َّ‬ ‫أي يشمل‬
‫ِّ‬
‫الدين» (((‪.‬‬

‫الج ِام ُع‬ ‫فا ْف َه ْم َمدَ ى َ‬


‫الم ْعنى تَرا ُه َ‬ ‫�ع‬ ‫ِ‬
‫يم واس ُ‬
‫الف ْق�ه في الدِّ ِ ِ‬
‫ين َعظ ٌ‬ ‫ُ‬
‫َف ِ‬

‫�ب ال َّت ْعيِ ِ‬ ‫وم�ا َأتَى ع�ن ص ِ‬


‫اح ِ‬ ‫�ن ُع ُل�و ِم الدِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫ي�ن‬ ‫ل�كُل عل� ٍم م ْ‬
‫َ‬
‫مدلول احلديث اآلنف يشري إىل املعنى الواسع يف الفقه‪ ،‬حيث إن الفقه يف معناه‬ ‫أي‪ :‬إن‬
‫ٌ‬
‫واسعة عىل كافة علوم الديانة والتدين املنطوية‬ ‫ٌ‬
‫داللة‬ ‫العام هو ال َفهم‪ ،‬وقوله‪« :‬يفقهه يف ِّ‬
‫الدين»‬ ‫ُّ‬
‫حتت مدلول اإلسالم واإليامن واإلحسان وعالمات الساعة وما تفرع عنها‪.‬‬
‫ويف اآلية الكريمة (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ) ((( وهبذا يتسع معنى الفقه ويصح‬
‫حوالت ِف ْقه ًا ِ‬
‫ودي َن ًا‪ ،‬ألهنا من معنى الدَّ اللة عىل أركان الدِّ ين وال ّتد ُّين كام‬ ‫أن يطلق عىل ال َّت ُّ‬

‫((( أخرجه البخاري ومسلم عن معاوية ريض اهلل عنه‪.‬‬


‫((( آل عمران‪.19 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪21‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ورد يف احلديث عن النبـي ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نَبـ ِّين�ا ال�ذي َأ َح َ‬
‫دين� ًا و ُدنْي�ا ُم ْبع�د ًا ك َُّل ُ‬
‫الو ُه�و ْم‬ ‫�اط بال ُع ُل�و ْم‬

‫النص النبوي ذاتِه حيث إن صاحب الرسالة قد َأ َحاط‬


‫يف البـيت إشارة إىل االستناد عىل ّ‬
‫بالعلوم ك ِّلها‪ ،‬فال ُم ِّ‬
‫سو َغ ِ‬
‫لنفي ركن من أركان الدِّ ين عن موقعه من األحاديث؛ ألن العلامء لـم‬
‫يذكروه ركن ًا رابع ًا كام سيأيت‪.‬‬
‫وقد أشار بضعهم إىل أن جتاوز العلامء هلذا الركن املشار إليه بفقه التحوالت سببه أنه ال‬
‫عالقة له بالسؤال يف القرب واحلساب يوم القيامة‪ ،‬وإنام هو حوادث وفتن وأرشاط‪ ،‬ويبدو أن‬
‫هذا القول كان من باب االعرتاض عىل ما أرشنا إليه ال من باب حتقيق املسألة عىل الوجه‬
‫الساعة‬
‫النص‪ ،‬وإلجالء هذا الغموض وبيانه الحظنا أن مسألة عالمات َّ‬
‫الرشعي يف قراءة ّ‬
‫جزء من الديانة الرشعية ‪.‬‬
‫وفقه ال َّتحوالت ليست كام يشري املعرتض‪ ،‬وإنام هي ٌ‬
‫ونصه كام يف الصحيح ‪ :‬عن أيب هريرة قال‬
‫ويدل عىل ذلك حديث األعرايب عن الساعة‪ّ ،‬‬
‫بينام النبي صىل اهلل عليه وسلم يف جملس حيدث القوم جاءه أعرايب‪ ،‬فقال‪ :‬متى الساعة؟ فمىض‬
‫رسول اهلل ﷺ حيدث‪ ،‬فقال بعض القوم‪ :‬سمع ما قال َ‬
‫فك ِره ما قال‪ ،‬وقال‪ :‬بعضهم بل مل يسمع‬
‫الس ِ‬
‫اعة؟» ‪ ،‬قال‪ :‬ها أنا يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬فإذا‬ ‫ُ‬
‫السائل عن َّ‬ ‫حتى إذا َقضىَ حديثه‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْي َن ُأرا ُه‬
‫ري ِ‬
‫أهله فانتظ ِر‬ ‫األمر إىل َغ ِ‬
‫ُ‬ ‫اع َة» قال‪ :‬كيف إضاعتها؟ قال‪« :‬إذا ُو ِّس َد‬ ‫ت األمان ُة َفا ْنت َِظ ِر ّ‬
‫الس َ‬ ‫ُض ِّي َع ِ‬

‫الساع َة»(((‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واضحة إىل ما جيب عىل املسلم أن يتنبه له يف واقع األحداث‬ ‫ويف هذا احلديث إشار ٌة‬
‫والتحوالت ‪ ،‬ليس من خالل النظر السطحي لألمور وإنام من خالل التعمق للمدلول اللغوي‬

‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬وأمحد يف مسنده‪ ،‬والبيهقي يف «السنن الكربى» من حديث أيب هريرة ريض‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪22‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يف نص احلديث‪:‬‬
‫‪.1‬إذا ضيعت األمانة ‪.‬‬
‫‪ .2‬إذا وسد األمر إىل غري أهله‪.‬‬
‫يف هاتني العبارتني توضيحات وتفصيالت جتمع بني َتآمر مشرتك داخل يف واقع القرار من‬
‫األمة‪ ،‬وتدخل خارجي من خارج دائرة األمة يف تضييع األمانة ‪ ،‬وتوسيد األمر إىل غري أهله‪،‬‬
‫وهذا احلديث وحده ٍ‬
‫كاف للداللة عىل رضورة معرفة أسباب تضييع األمانة وتوسيد األمر‬
‫إىل غري أهله فيام يتعلق بفقه التحوالت وأرشاط الساعة وربطها بأركان الديانة العليا‪ ،‬وما‬
‫هذه التداعيات واملحن واإلحباطات وما شاهبها يف حياة األمة حتى ساعتنا هذه إال ثمرة من‬
‫ثمرات اإلضاعة‪ ،‬والتوسيد املبطن‪َ ،‬ع ِل َم هذا َمن َع ِل َم ُه َ‬
‫وج ِه َل هذا َمن َج ِه َله‪ ..‬واألمر كله هلل‬
‫من قبل ومن بعد‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العيل العظيم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪23‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ُّالت وعَ القتُه بأ ْر ِ‬
‫كان الدِّين‬ ‫فِ قه التَّحو ِ‬

‫ُي ْق َصدُ «بفقه التحوالت» َفهم ما جيري من ُسن َِن ال َّتغيرُّ ات واحلوادث يف املراحل املتقلبة وما‬
‫ِ‬
‫نصوص‬ ‫وصالح أو فساد‪ ،‬وما تطابق من هذه التحوالت مع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وقبض‬ ‫ترتب عليها من ٍ‬
‫نقض‬
‫الكتاب أو السنة يف شأن اإلفصاح عن بعض الظواهر وجمرياهتا‪.‬‬
‫منحرص عند موضو ٍع معينَّ ٍ من أصول‬
‫ٌ‬ ‫مفهوم الفقه لدى الكثري من العلامء‬
‫َ‬ ‫واملعلوم أن‬
‫ِ‬
‫احلديث النبوي املستدل به يف هذا‬ ‫َ‬
‫مدلول‬ ‫معرفة علوم الفقه الرشعي وفروعه‪ ،‬واألصل أن‬
‫به َخيرْ ًا ُيف ِّق ْه ُه يف ِّ‬ ‫ملدلول الفقه‪ ،‬قال ﷺ‪َ « :‬م ْن ُي ِر ِد ُ‬
‫اهلل ِ‬ ‫ِ‬ ‫امل ْن َحى إنام ِ‬
‫الدين»(((‪.‬‬ ‫أوسع‬
‫َ‬ ‫حيم ُل ً‬
‫معنى‬
‫ُ‬
‫إدراك املقصود املرت ِّتب عىل نوع العلم‬ ‫فالفقه يف اللغة‪ :‬هو ال َفهم‪ ،‬ويف االصطالح العام‪:‬‬
‫حـو ًا أو حديث ًا أو تفسري ًا أو غري ذلك‪.‬‬ ‫املقرر ِف َ‬
‫قه ًا أو َن َ‬ ‫َّ‬
‫الواسع يف الدَّ اللة عىل مقصود الفقه؛ بل ويتعدى العلوم‬
‫ِ‬ ‫واحلديث اآلنِ ُف يشري إىل املعنى‬

‫ك َّلها إىل َفهم َّ‬


‫السامع املقصود من الكالم أو األمر املخاطب به وإىل هذا يشري معنى احلديث‬
‫الز ْلزَ لة حتى‬
‫عن رجل جاء إىل رسول اهلل ﷺ وطلب منه أن يقرأ عليه القرآن فقرأ عليه سورة َّ‬
‫يل آي ًة َكف ْتنِي»‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قرأت ع َّ‬
‫َ‬ ‫فرغ منها وأراد أن يستأنف القراءة‪ ،‬فقال األعرايب‪َ « :‬ح ْس ُبك لقد‬
‫ما هي؟‪ ،‬قال‪( :‬ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬

‫ﮓ) [الزلزلة‪ ]8-7 :‬فقال ﷺ‪َ « :‬ف ُق َه ّ‬


‫الرجل»‪ ،‬فيفهم من قوله ﷺ‪« :‬فقه الرجل»((( إدراكه‬
‫املقصود من اآلية‪.‬‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫((( «فيض القدير» للمناوي (‪.)581 :5‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪24‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الدين» يف احلديث‪« :‬يفقه ُه يف ِّ‬
‫الدين» تدل عىل سعة املعنى ليشمل كافة علوم‬ ‫وكلمة « ِّ‬
‫الديانة والتدين املنطوية حتت ( أركان الدِّ ين ) وإىل ذلك يشري احلق سبحانه يف كتابه يف قوله‬
‫أوسع من مفهو ِم ركنية اإلسالم يف أركان‬
‫ُ‬ ‫‪( :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) ((( فاإلسالم هنا‬
‫ويصح‬
‫الدين ذاهتا‪ ،‬وإنام يقصد به كل ما جاءت به الرسالة املحمدية‪ ،‬وهبذا يتسع معنى الفقه‪ّ ،‬‬
‫حوالت) فقه ًا ودين ًا؛ ألن املعنى العام يشملها كغريها من نامذج الفقه‪.‬‬
‫أن ُيطلق عىل (ال َّت ُّ‬
‫وعندما نعود إىل حديث جربيل عليه السالم املروي عن عمر بن اخلطاب ؤ ‪-‬وهو‬
‫نص احلديث الرشيف شمل أربعة‬
‫أحد األحاديث املعتمدة يف ثوابت الديانة والتدين‪ -‬نجد أن ّ‬
‫أركان متتابعة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫* اإلسالم‪.‬‬
‫* اإليامن‪.‬‬
‫ ‬
‫* اإلحسان‪.‬‬
‫* العلم بعالمات الساعة‪.‬‬
‫وص َّن ُ‬
‫ـفـوا فيها‬ ‫بينام نجد تقريرات العلامء ال تتجاوز األركان الثالثة من هذا احلديث فقط‪َ ،‬‬
‫الثوابت‬
‫َ‬ ‫األركان الثالث َة أو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫األصول الثالث َة أو‬ ‫َ‬
‫الرسائل واملؤلفات‪ ،‬ومنهم من سماَّ ها‬ ‫جمتمع ًة‬
‫التناو َل يف رشح هذه الثوابت الثالثة اهلامة‪ ،‬وأشبعوها بحث ًا‬
‫ُّ‬ ‫الثالثة أو غري ذلك وأوسعوا‬
‫األوجه ِ‬
‫العلمية‪ ،‬ما عدا الركن الرابع (عالمات الساعة) فلم يذكروه‬ ‫ِ‬ ‫ال من كا َّف ِة‬
‫ال وتعلي ً‬
‫وحتلي ً‬
‫ِ‬
‫الثوابت ومل يتناولوا بح َثه كجزء من أركان الدين‪ ،‬وإنام تناوله بعض العلامء‬ ‫موق ِعه من‬
‫يف ِ‬
‫ِ‬
‫(أرشاط الساعة)‪ ،‬وأوسعوا‬ ‫ِ‬
‫(عالمات الساعة) أو‬ ‫ٍ‬
‫مستقلة حتت مسمى‬ ‫ٍ‬
‫معلومات‬ ‫كمجرد‬
‫ِ‬
‫صحيحه إىل هذا األمر فأشار إليه يف‬ ‫البخاري يف‬
‫ُّ‬ ‫اإلمام‬
‫ُ‬ ‫الركنِ َّي ِة‪ ،‬وقد َف ِطن‬
‫جمر َد ًا عن ُّ‬ ‫َ‬
‫البحث فيه َّ‬

‫((( آل عمران‪.19 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪25‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والساع ُة من ِّ‬
‫الدين»(((‪.‬‬ ‫َ‬
‫حديث جربيل بقوله‪َّ « :‬‬ ‫تبويبه‬
‫خمالف ملا قرره ُ‬
‫أهل‬ ‫ٌ‬ ‫النبوي‬
‫ّ‬ ‫وعند تأملنا للحديث الرشيف ذاتِه وجدنا أن ّ‬
‫نص احلديث‬
‫العلم عن فصل الركن الرابع عن أركان الدِّ ين‪ .‬حيث إن مدلول الركنية للثالثة الثوابت غ ُ‬
‫ري‬
‫ِ‬
‫الثوابت بعد‬ ‫ِ‬
‫ركنية‬ ‫ٍ‬
‫ثالثة‪ ،‬وإنام ورد التأكيد عىل‬ ‫ٍ‬
‫كأركان‬ ‫احلديث وال بعد ِ‬
‫إيرادها‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫واردة يف مط َلع‬
‫َ‬
‫جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬كام ورد أنه ﷺ قال لعمر‪« :‬يا ُع ْمر أتدري‬ ‫ِ‬
‫ذهاب‬ ‫ِ‬
‫احلديث ُك ِّله بعد‬ ‫ختا ِم‬
‫اك جربيل َأتاكم يعلمكم ُأ َ‬
‫مور دينكم»‪ ،‬ويف‬ ‫من السائل؟» قال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪َ « :‬ذ َ‬

‫وردت بعد ذكر األربعة‬


‫ْ‬ ‫النبوي الدال عىل ركنية األركان‬
‫ّ‬ ‫فاللفظ‬ ‫(((‬
‫رواية‪« :‬يعلمكم دينكم»‬

‫نص ًا نبوي ًا أربعة وليست ثالثة‪.‬‬


‫كلها‪ ،‬وهبذا يتأكد أن أركان الدين ّ‬
‫النبوي الرشيف‪ُ -‬ن َق ِّس ُم هذه‬
‫ّ‬ ‫وبعد إثباتنا لرباعية األركان ‪-‬كام هي يف سياق احلديث‬
‫َ‬
‫األركان بعد ذلك إىل ثوابت ومتغيرِّ ‪.‬‬
‫ُ‬
‫واضحة البيان والقصد يتدرج هبا‬ ‫أصول ُ‬
‫ثابتة املدلول واملعنى‬ ‫ٌ‬ ‫فاألصول الثالثة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫السلوك‪ ،‬وعليها ينشأ األجيال و َت ْف َهم األمة‬ ‫ِ‬
‫ومراتب ُّ‬ ‫ِ‬
‫والرشيعة‬ ‫ِ‬
‫العقيدة‬ ‫املك َّلف يف شؤون‬
‫ِ‬
‫الواج ْب‪.‬‬ ‫َ‬
‫الفريض‬ ‫علمها‬
‫ٍ‬
‫مرتبط بمتعلقات الرتبية وبناء‬ ‫ري‬
‫الرابع فمتغيرِّ ‪ ،‬أي أنه غ ُ‬
‫ُ‬ ‫الركن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األصل الرابِ ُع أو‬ ‫َأ ّما‬

‫(( ( انظر صحيح اإلمام البخاري حديث رقم (‪ )50‬من اجلزء األول الباب (‪ )37‬سؤال جربيل عن اإليامن‬
‫واإلسالم واإلحسان وعلم الساعة وبيان النبي ﷺ له‪ ،‬ثم قال‪« :‬جاءكم جربيل يعلمكم دينكم» فجعل‬
‫كل ذلك دين ًا‪.‬‬
‫((( وقد ورد هذا املعنى يف احلديث بعدة روايات أخرى‪ ،‬منها‪« :‬هذا جربيل عليه السالم جاء ليعلم الناس‬
‫دينهم» ويف رواية «هذا جربيل أراد أن تعلموا إذا مل تسألوا» للشيخني وأليب داود والنسائي‪ ،‬ويف رواية‬
‫ألمحد عن طريق آخر‪« :‬هذا جربيل جاء ليعلم الناس دينهم‪ ،‬والذي نفس حممد بيده ما جاءين قط إ ّال وأنا‬
‫أعرفه إ ّال أن يكون هذه املرة» ‪ ،‬وعن ابن عمر ريض اهلل عنه‪« :‬ما جاءين يف صورة قط إ ّال عرفته إ ّال يف هذه‬
‫الصورة» «جممع الزوائد» (‪.)18 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪26‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫هِ‬
‫وأسبابا وما‬ ‫ِ‬
‫باحلوادث‬ ‫السلوك‪ ،‬وإنام خيتص‬
‫املكلفني يف شؤون العقيدة والرشيعة ومراتب ُّ‬
‫واملرج ِفني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأحوال املنافقني‬ ‫الرمحانية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النبوية والعالمات َّ‬ ‫ِ‬
‫اإلشارات‬ ‫يرتتب عليها من شؤون‬
‫يات ال ّت َح ُّو ِل البرشي‬ ‫وأشباه ِهم‪َ ،‬‬
‫وأ َثرهم وتأثِريهم يف مجُ َر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأحوال الكفا ِر‬ ‫ِ‬
‫واملفسدين يف الدِّ ين‬
‫والعرى من‬
‫والعالقات واألخالق ُ‬ ‫احل ْك ِم ِ‬
‫والع ْل ِم َ‬ ‫نقض يف ُ‬
‫واإلنساين‪ ،‬وما يطرأ عىل األمة من ٍ‬
‫ينعكس بالرضورة عىل الديانة والتدين ذاته سلب ًا وإجياب ًا‪.‬‬
‫رسه َ‬
‫وخبرَ ه عن‬ ‫لم ِ‬
‫واس ٍع هبذا الركن اخلطري ويكتمون ّ‬ ‫الصحابة ئ عىل ِع ٍ‬
‫ُ‬ ‫وقد كان‬
‫العامة والدَّ مهاء ‪ ،‬ملا يرتتب عىل نرشه يف ذلك العرص من فتنة واسعة ودمار حم َّق ٍق‪ ،‬ويف هذا يقول‬
‫َّ‬
‫مُ‬
‫أحدها فقد‬ ‫ني من ِ‬
‫العلم‪ ،‬أ َّما‬ ‫سيدُ نا أبو هريرة ؤ فيام يرويه الصحيح‪« :‬أعطاين َخلييل ِجرا َب ِ‬
‫ب َثثتُه بينكم‪ ،‬وأ ّما اآلخر فلو بثثته ُلق ِط َع م ّني هذا ُ‬
‫احللقوم»(((‪.‬‬
‫َ‬
‫احلديث عن هذا العلم املرتتب عىل كشف الفتن وأصحاهبا‬ ‫لقد أخفى أبو هريرة ؤ‬
‫املسيخ‬
‫ِ‬ ‫والعربية ِ‬
‫لفتنة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلسالمية‬ ‫ِ‬
‫املجتمعات‬ ‫هتيئة‬ ‫والدّ جل والدجاجلة‪ ،‬ومن يكون عىل ِ‬
‫أيدهيم ُ‬
‫علامء امل ّلة‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫هالكه عىل أيدي أهلِ الفتنة‪ ،‬ور َّبام يكون‬ ‫ِ‬
‫املؤدية إىل‬ ‫ِ‬
‫الفتنة‬ ‫الدّ ِ‬
‫جال‪ ،‬ملا كان خيشاه من‬
‫ِ‬
‫أساسه؛‬ ‫ريض اهلل عنهم وأرضاهم قد اعتربوا مثل هذا املوقف سبب ًا يف جتاوز الركن الرابع من‬

‫األجيال تر َت ِك ُ‬
‫س يف اخلطأ وتقع‬ ‫َ‬ ‫جعل‬ ‫َ‬
‫العزل واإلقصا َء بالنسبة حلقيقة العلم باألمر َ‬ ‫ولكن هذا‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫العلامء األثبات‪ ،‬وخاصة‬ ‫األحداث السفها َء بمظه ِر‬
‫َ‬ ‫وأظه َر‬
‫َ‬ ‫يف املحذور مما خ َلط احلابِ َل بالنابلِ ‪،‬‬
‫ّباع واالقتداء بمن‬ ‫يف ِ‬
‫آخر الزمان ومع انقطاع العلم وأهله وشمول القبض للعلامء‪ ،‬فكان االت ُ‬

‫ال خالق له‪ ،‬وكان الوالء واالستفادة من علامء الفتنة الذين َح َّذ َر منهم َّ‬
‫سيد امل ّلة ‪-‬عليه الصالة‬

‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه ‪ ،‬انظر «فتح الباري» (‪ ) 288 :1‬حدثنا إسامعيل‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أخي عن‬
‫ابن أيب ذئب‪ ،‬عن سعيد املقربي‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬قال‪ :‬حفظت من رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‬
‫وعاءين‪ :‬فأما أحدمها فبثثته‪ ،‬وأما اآلخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪27‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫الرشعية‬ ‫وعلامء املذهبية‬
‫ُ‬ ‫والسالم‪ ،-‬فانقلب هبم امل ِ َج ّن عىل أهله حتى اتهُّ ِ َم ُ‬
‫آل البيت النبوي‬
‫مهاء وال ُب َس ِ‬
‫طاء وشملت‬ ‫غالب الدَّ ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫واعرتت احلري ُة‬ ‫والز َه ُاد والصاحلون بام ليس فيهم‪،‬‬
‫والع َّب ُاد ُّ‬
‫ُ‬
‫وجمتمع اإلسالم ك َّله‪ ،‬والواقع شاهد بني عىل ما نقول‪.‬‬
‫َ‬ ‫األرس َة والعائل َة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفتنة‬
‫إن رسول اهلل ﷺ كان يف مرحلتنا أكثر حضور ًا بعلمه‬ ‫ولست أذهب بعيد ًا إذا ُ‬
‫قلت‪ّ :‬‬ ‫ُ‬
‫ابن ماجة يف سننه بقوله‪:‬‬
‫ونصوصه من حضورنا وإدراكنا فهو ﷺ يشري يف احلديث الذي رواه ُ‬
‫كاتم ما ُأنزل‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ َك ِ‬ ‫اتم ِ‬
‫العلم‬ ‫فمن َكان ِعنده ِع ٌ‬
‫لم فليظ ِه ْر ُه فإنّ َك َ‬ ‫«إذا َلعن ِ‬
‫آخ ُر هذه األ َّمة َّأو َهلا ْ‬
‫عىل حُم َّمد ﷺ»(((‪.‬‬
‫الساعة وعالق ُتها بأركان الدِّ ين»‬
‫لم بعالمات َّ‬ ‫أحد معانيه « ِ‬
‫الع ُ‬ ‫العلم املرا َد هنا يف َ‬
‫َ‬ ‫واملرج ُح َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫ألن ما يرتتب عىل الكتم للعلم هبذا يعادل َك ْت َم الوحي ويرتتب عىل َفهم هذا املعنى أن إظهار هذا‬
‫يني كإظهار رشف الوحي ذاته‪.‬‬
‫واجب َع ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫وإشهاره يف األمة‬
‫َ‬ ‫العلم‬
‫ِ‬
‫وعند وقوفنا أمام هذا احلديث الرشيف بتأمل وا ٍع نجد أن الرسول ﷺ ربط من خالل‬
‫ال جديد ًا ال عالقة له بس َّن ِة األحكام‬ ‫التحو ِ‬
‫الت واملواقف وأعطى الس َّنة مدلو ً‬ ‫ُّ‬ ‫هذا احلديث بني‬
‫واحلالل واحلرام املقررة سلف ًا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واضحة‬ ‫املهد ِّيني ِم ْن بعدي»((( إشار ٌة‬
‫الراشدين ِ‬ ‫وس ّن ِة ُ‬
‫اخل ِ‬
‫لفاء َّ‬ ‫بسنُتِي ُ‬
‫ففي قوله ﷺ‪« :‬عليكم ّ‬
‫الس َّنـة هنا)‪.‬‬
‫مفهوم ُّ‬
‫ُ‬ ‫التحوالت‪( ،‬وعليها يقترص‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫األخالقية جتا َه‬ ‫ِ‬
‫املواقف‬ ‫إىل‬
‫للخلفاء ٌ‬
‫سنة أخرى غري‬ ‫الس َّن َة التي حتت َِك ُم إليها َّ‬
‫األمة هي س َّنـ ُتـه ﷺ وليس ُ‬ ‫فاملعلوم َّ‬
‫أن ُّ‬ ‫ُ‬
‫األربعة أو كان ال َفهم ّ‬
‫العام املناسب‬ ‫ُ‬ ‫اخللفاء‬
‫ُ‬ ‫فاخللفاء سوا ًء كانوا َح َس َب َف ْه ِم ال َبعض أهنم‬
‫ُ‬ ‫س َّنته‪،‬‬

‫((( أخرجه الطرباين يف «املعجم األوسط» (‪ )436 :1‬عن جابر ريض اهلل عنه‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه يف سننه‬
‫آخ ُر هَ ِذ ِه الأْ َّمة َأ َّو هَ َلا َف َم ْن َكت ََم َح ِدي ًثا فقد َكت ََم َما َأ ْنزَ َل اهلل» ‪.‬‬
‫وأبو داود عن جابر برواية ‪« :‬إِذا َل َع َن ِ‬
‫((( رواه الرتمذي يف سننه وابن ماجه يف سننه وأمحد يف مسنده والبيهقي يف سننه عن العرباض بن سارية‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪28‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ملعنى احلديث أهنم «الراشدون» من الرشد «واملهديون» من اهلداية إىل يوم الدين ليس هلم سنة‬
‫متفردة متميزة غري سنة املواقف‪ ،‬وليست السنة يف اصطالح الفقهاء أو املحدثني‪.‬‬
‫حوالت ) وسن َة‬ ‫(مواقفه أمام ِ‬
‫الفتن وال َّت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وهلذا يؤكد رسول اهلل ﷺ أن س َّنـت َُه يف هذا املعنى‬
‫ِ‬
‫موقف‬ ‫ِ‬
‫بالنواجذ»‪ ..‬إشار ٌة إىل اختاذ‬ ‫حوالت)‪َ « ..‬ع ّضوا عليها‬ ‫أمام ِ‬
‫الفتن وال َّت ُّ‬ ‫(مواقفهم َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اخللفاء‬
‫فس َيـرى اختالف ًا‬ ‫الثّبات وااللتزام هبذه الس ّن ِة‪ ..‬ويؤكد هذا املعنى قو ُله‪« :‬فإنّ من َي ْ‬
‫عش منكم َ‬
‫كثري ًا»‪.‬‬
‫فاالختالف هنا ال ينحرص بالسنن القولية والفعلية والتقريرية أو ما اخ َت َلف عليه املذهبيون‬
‫ِ‬
‫املقولة ال َّن َبوية‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنام احلديث يشمل قضية ال َق َرا ِر واحلكم‪ ،‬واملت َت ِّب ُع ّ‬
‫بروية لوقائع‬
‫وتارخيها يستفيد ما ييل‪:‬‬
‫ِ‬
‫واالختالف حو َله‪.‬‬ ‫احلديث يشمل مسأل َة ال َقرا ِر‬
‫َ‬ ‫‪ّ -1‬‬
‫أن هذا‬
‫احلديث يضع س َّنـ ًة جديد ًة تقعد مسألة املواقف‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫أن هذا‬
‫‪ّ -3‬‬
‫أن سنة املواقف تكتسب من النظر يف ُسلوك رسول اهلل ﷺ وخلفائه يف العلم أهل‬
‫اهلداية والرشد عند انقطاع خالفة احلكم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫اختالف يف قرار احلكم‪ ،‬وعالجه ما أكده ﷺ من قوله‪:‬‬ ‫َ‬
‫حصول‬ ‫‪ -4‬إن هذا احلديث ِّ‬
‫مؤكدٌ‬
‫«اسمعوا وأطيعوا ولو تأ ّمر عليكم‪.(((»...‬‬
‫موقف الصحابة بعد رسول اهلل ﷺ كان قائ ًام عىل َفهم هذا احلديث‪ ،‬ومل ُ‬
‫يشذ منهم‬ ‫َ‬ ‫‪ّ -5‬‬
‫إن‬
‫املتقولني‪ -‬ال‬ ‫ُ‬
‫والشذوذ يف هذا األم ِر ‪-‬لدى ِّ‬ ‫أحدٌ عىل قرار اخلالفة يف أيب بكر ؤ ومن بعده‪،‬‬
‫يدخل حتت معنى (اخللفاء املقتدَ ى هبم عند االختالف)‪.‬‬

‫((( وقوله‪« :‬تأمر عليكم» إشارة واضحة إىل ما لو أن صاحب القرار أخذه بالقوة ومن غري شورى وال‬
‫انتخاب‪ ،‬وهذا مدلول هام جد ًا يف مسألة السمع والطاعة‪ ،‬وفيه ر ّد بينّ عىل أصحاب األقوال األخرى‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪29‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وس ّنة املواقف وما ترتب‬ ‫خاص ًا) لفقه ال َّت ُّ‬
‫حوالت ُ‬ ‫الرشيف (منهج ًا ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احلديث‬ ‫ويصبح هذا‬
‫عىل هذا الفقه من ِ‬
‫فرع ّي ٍ‬
‫ات وإضافات‪.‬‬
‫ِ‬
‫الفقه يعودون إىل من ُع ِرف‬ ‫ِ‬
‫الصحابة ريض اهلل عنهم وأرضاهم يف هذا‬ ‫كبار‬
‫وقد كان ُ‬
‫ٌ‬
‫موقف نحو بعض األفراد غري املوقف الذي أرادوه‬ ‫ختصصه فيه‪ ،‬وربام كان هلم بعد السؤال‬
‫من قبل لمِ ا ينكشف هلم من حقيقة حال املرء أو املرحلة‪ ،‬وقد ورد أن سيدنا عمر بن اخلطاب‬

‫ؤ كان يستشري حذيفة بن اليامن (أمنيَ ّ‬


‫رس رسول اهلل ﷺ) يف شؤون بعض الوالة الذي‬
‫ابن اليامن بام يناسب فق َه التحول الذي سمعه من رسول اهلل ﷺ‪ ،‬حتى ورد ّ‬
‫أن‬ ‫يوليهم فيجيبه ُ‬
‫ابن اخلطاب ال حيرضها اقتدا ًء به‪ ،‬وقد أرشنا إىل‬
‫اجلنازة التي ال حيرضها حذيفة بن اليامن كان ُ‬
‫حديث حذيفة ريض اهلل عنه الذي يؤكد سالمة املرحلة الراشدة يف بداية فصل مرحلة أيب بكر‬
‫الناس من‬
‫ً‬ ‫إن اهلل بعث حممد ًا صىل اهلل عليه وآله وسلم فدعا‬
‫الصديق‪ ،‬وفيه يقول حذيفة‪ّ « :‬‬
‫فحيِ َي باحلق من كان‬
‫الضاللة إىل اهلدى‪ ،‬ومن الكفر إىل اإليامن‪ ،‬فاستجاب له من استجاب‪َ ،‬‬
‫ميت ًا ومات بالباطل من كان حيا‪ ،‬ثم ذهبت النبو ُة فكانت اخلالفة عىل منهج النبوة» ‪.‬‬
‫اإلمام عيل ريض اهلل عنه‪ ،‬وكان يف (ينبع النخل) قال له الصحابة ملّا َع ُادوه يف‬
‫ُ‬ ‫وملّا مرض‬
‫ولر ّبام جاءتك ُ‬
‫املنية فتكون يف جوار رسول اهلل‬ ‫مرضه‪ ،‬ارجع إىل املدينة جتد من يقوم بأمرك‪ُ ،‬‬
‫ول اهلل ﷺ َع ِه َد إِ َّيل َأنْ ل َأ ُم َ‬
‫وت َح َّتى ُأ َؤ َّم َر ُث َّم خُ ْت َض َب هَ ِذ ِه ‪َ -‬ي ْعنِي لحِ ْ َيت َُه‪ِ -‬م ْن‬ ‫ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬إِنَّ َر ُس َ‬

‫َد ِم هَ ِذ ِه ‪َ -‬ي ْعنِي َها َمت َُه أو َر ْأ َسه‪ »-‬روى هذا احلديث أمحد يف مسنده‪ ،‬وقال فيه ‪ :‬كان أبو فضالة‬
‫ض َأ َصا َب ُه َث ُق َل ِم ْن ُه‪،‬‬‫ب ؤ ِم ْن َم َر ٍ‬ ‫قال‪:‬خ َر ْج ُت َم َع َأبيِ َعائِدً ا لِ َعليِ ِّ ْب ِن َأبيِ َطالِ ٍ‬
‫َ‬ ‫من أهل بدر‪،‬‬
‫اب ُج َه ْي َن َة حتمل إىل‬ ‫يم َك يف منزلك هذا لو َأ َصا َب َك َأ َج ُل َك لمَ ْ َي ِل َك إِلاَّ َأ ْع َر ُ‬ ‫قال‪ :‬فقال َل ُه َأبيِ ‪َ :‬ما ُي ِق ُ‬
‫املدينة فإن َأ َصا َب َك َأ َج ُل َك َولِ َي َك َأ ْص َحا ُب َك َو َص َّل ْوا َع َل ْي َك‪ ...‬فذكر احلديث(((‪.‬‬

‫((( إسناده صحيح‪ ،‬قال اهليثمي‪ :‬رجاله موثقون‪ ،‬وذكره البخاري يف الكنى مستطرد ًا‪ ،‬نقلناه بترصيف من‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪30‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وبإعادة النظر خلدمة هذه املواقف الراشدة للخلفاء ولس ِّيد امل ّلة ‪-‬عليه َّ‬
‫الصالة والسالم‪-‬‬
‫ٍ‬
‫شاهد نبويٍ قال‬ ‫ينفتح باب العلم هبذا الركن املشار إليه بالركن الرابع من أركان الدين حتت‬
‫أمات ال َّناس‬ ‫للغ ِ‬
‫رباء الذين حُي ُيونَ َما َ‬ ‫يعود َغريب ًا كم َب َدأ‪ُ ،‬‬
‫فطوبى ُ‬ ‫وس ُ‬ ‫ين َغريب ًا َ‬ ‫فيه ﷺ‪َ « :‬ب َدأ ِّ‬
‫الد ُ‬
‫من ُس َّنتِي»(((‪.‬‬
‫ولو تأملنا باالستقراء واملتابعة ما حيمله هذا احلديث من معنى لوجدناه يقرر يف بعض‬
‫معانيه ما أرشنا إليه واهلل أعلم‪.‬‬
‫فالدِّ ين بأركانه األربعة َبدَ أ غريب ًا يف أول األمر لصعوبة اإلفصاح عن ركنيته‪ ،‬وهو اليوم يف‬
‫الرابع منه يف التوثيق والدراسة واإليامن‪ ،‬ويف قوله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الركن‬ ‫ِ‬
‫لنقص‬ ‫غريب أيض ًا‬
‫ٌ‬ ‫املرحلة املعارصة‬
‫ﷺ‪ُ « :‬‬
‫فطوبى للغرباء الذين حييون» أي‪ :‬يعيدون رشف رباعية األركان التي أماهتا الناس من‬
‫سنته ﷺ ‪.‬‬
‫ومعنى احلديث الرشيف ال يقف عند هذا املعنى وال ينحرص فيه وحدَ ه وإنام ُيست ُّ‬
‫َدل به هنا‬

‫كتاب «بيعة اإلمام عيل بن أيب طالب» حلسن فرحان املالكي ص‪.70‬‬
‫رفعه ورواه أيض ًا‬
‫((( «بدأ اإلسالم غريب ًا‪ ،‬وسيعود كام بدأ غريب ًا‪ ،‬فطوبى للغرباء» رواه مسلم عن أيب هريرة ّ‬
‫عن طريق عاصم بن حممد العمري عن أبيه عن ابن عمر رفعه بلفظ ‪« :‬إن اإلسالم بدأ غريب ًا وسيعود‬
‫غريبا كام بدأ‪ ،‬وهو يأرز بني املسجدين كام تأرز احلية إىل جحرها» وعزاه يف «الدرر» ملسلم عن ابن عمر‬
‫بلفظ ‪« :‬بدأ اإلسالم غريب ًا وسيعود كام بدأ» ‪ ،‬وللبيهقي يف «الشعب» عن رشيح بن عبيد مرس ً‬
‫ال‪« :‬إن‬
‫اإلسالم بدأ غريب ًا وسيعود غريب ًا فطوبى للغرباء‪ ،‬أال إنه ال غربة عىل مؤمن‪ ،‬ما مات مؤمن يف أرض غربة‬
‫غابت عنه فيها بواكيه إلاَّ بكت عليه السامء واألرض» ‪ ،‬ورواه ابن جرير وابن أيب الدنيا كام يف «الفتاوى‬
‫احلديثية» البن حجر املكي لكن من غري ذكر صحابيه بلفظ‪« :‬إن اإلسالم بدأ غريب ًا وسيعود كام بدأ غريب ًا‪،‬‬
‫أال ال غربة عىل مؤمن‪ ،‬ما مات مؤمن يف غربة غابت عنه فيها بواكيه إلاَّ بكت عليه الساموات واألرض‪،‬‬
‫ثم قرأ رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ) ‪-‬ثم قال‪ -:‬إهنام ال يبكيان عىل‬
‫كافر»‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪31‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من أحد معانيه التي حيملها‪.‬‬
‫شهيد»‪ ،‬ويف رواية ‪َ « :‬أ ْج ُر َش ِهيد»‬
‫(((‬ ‫ِ‬ ‫ومث ُله أيض ًا حديث‪« :‬من أحيا ُس َّنتِي عند فساد ُأ َّمتِي َف َل ُه َأ ْج ُر ِ‬
‫مئة‬
‫إحياء سنة مواقفه ﷺ عند فساد أمته ﷺ وسنة خلفائه الراشدين املهديني(((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فمن معانيه ُ‬
‫واخللق‪،‬‬ ‫وضع ٍ‬
‫ف أمام قرار الدِّ ين ُ‬ ‫ْ‬ ‫حتو ٍل يف ّ‬
‫السلوك‬ ‫فالتحوالت اجلارية يف األمة ُتشري إىل ُّ‬
‫ُّ‬
‫وحتول يف مفهوم ِ‬
‫العزة والشرَّ ف واإلباء حتى َض ُعف َص ُ‬
‫وت األمة أمام أندادها من الدول‬ ‫ٍ‬
‫يش ِ‬
‫واخلالف والرصاع‬ ‫واألنظمة العاملية‪ ،‬إضاف ًة إىل ما َح َّ‬
‫ـل هبا أي هذه األمة من فتن ال َّتح ِر ِ‬
‫والنـزاع يف أمر الدين‪ِّ ،‬‬
‫ورش االستتباع لألعداء يف شؤون احلياة‪ ،‬وكل ذلك بأسباب أمهها‬
‫لتنقضن ُعرى اإلسالم ُعرو ًة ُع ْروة‬
‫َّ‬ ‫كم وقرا ِر العلم‪َّ ،‬‬
‫املعبـر عنها يف احلديث‪« :‬‬ ‫سقوط قرا ِر ُ‬
‫احل ِ‬ ‫ُ‬

‫ور َّب‬
‫الصالة‪ُ ..‬‬
‫رهن َّ‬ ‫احلكم‪ِ ،‬‬
‫وآخ َّ‬ ‫متسك ال َّناس بالتي َت ِليها‪َ ،‬أ َّو ّ‬
‫هلن نقض ًا ُ‬ ‫ك َّلام نقضت ُع ْرو ٌة َّ‬
‫ُم ٍّ‬
‫صل ال أمان َة له» (((‪.‬‬

‫أجر ِ‬
‫مئة شهيد» أخرجه بن عدي يف «الكامل»‬ ‫((( الرواية جاءت بلفظ «من تمَ سك بس ُّنتي عند فساد أمتي فل ُه ُ‬
‫(‪ ، )327 :2‬كام رواه يف «الرتغيب والرتهيب» (‪ )41 :1‬من طريق احلسن بن قتيبة‪ ،‬عن عبداخلالق بن املنذر‪،‬‬
‫عن ابن نجيح‪ ،‬عن جماهد‪ ،‬عن ابن عباس مرفوع ًا ‪ ،‬قال الدارقطني يف رواية الربقاين‪ :‬مرتوك احلديث‪ ،‬وقال‬
‫أبو حاتم‪ :‬ضعيف‪ ،‬وقال األزدي‪ :‬واهي احلديث‪ ،‬وقال العقييل‪ :‬كثري الوهم‪ ،‬كذا يف «لسان امليزان»‬
‫(‪ ،)305 :2‬ورواه الطرباين من حديث أيب هريرة بإسناد ال بأس به إال أنه قال‪« :‬فله أجر شهيد» ‪.‬‬
‫((( وعىل هذا املفهوم فاملعنى يف بعض أوجهه أن كل من عمل عىل إحياء سنة املواقف بإصالح ما فسد من‬
‫جراء التحوالت املؤدية إىل سفك الدماء وتقطيع األرحام‪ ،‬وعمل عىل مجع قلوب األمة وتوحيد كلمتها‬
‫ومل شعثها‪ ،‬ودرء أسباب الفتن والرصاعات نال من اهلل أجر مئة شهيد‪ ،‬ألن الثواب اجلزيل واملنح الكبري‬
‫يتالءم مع مثل هذه املواقف املفضية إىل حقن الدماء وسالمة الشعوب‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫((( أخرجه أمحد يف «املسند» (‪ )251 :5‬ومن طريقه احلاكم يف «املستدرك» (‪ )92 :4‬من حديث أيب أمامة‬
‫لتنقضن ُعرى اإلسالم ُعرو ًة ُعروة فكلام نقضت‬
‫َّ‬ ‫الباهيل عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬قال‪« :‬‬
‫الصالة» واحلديث صححه احلاكم‪.‬‬ ‫وآخرهن َّ‬
‫ّ‬ ‫عروة تشبث الناس بالتي تليها‪ ،‬وأوهلن نقض ًا احلكم‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪32‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أبواب كثرية سيأيت رشحها يف موقعها من هذا الكتاب إن شاء اهلل‬
‫ٌ‬ ‫وحتت هذين األمرين‬
‫تعاىل‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪33‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مَ دْخ ٌل إىل ُربَاعية األ ْر َكان (أ ْر َكا ُن الد ِ‬
‫ِّين األ ْربَعَ ة)‬

‫ما جاء في نَص الح ِد ِ‬ ‫الج ِد ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫يث ُحك ُْم ُه‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ي�ر َف ْه ُم� ُه‬ ‫�ن َأ َّول الف ْق�ه َ‬
‫م ْ‬

‫مقدم عىل تقرير‬


‫ٌ‬ ‫نص احلديث النبوي الصحيح‬ ‫َّأو ُل ما جيب معرفته يف ِف ْقه التحوالت ّ‬
‫أن َّ‬
‫أهل العلم‪ ،‬وإن كان إمجاع ًا هلم‪.‬‬

‫الس ِوي ال َف ِصيحِ‬


‫يل َّ‬
‫ح ِد ِ‬
‫يث ِج ْب ِر ِ‬ ‫َ‬
‫وق في الص ِ‬
‫حيحِ‬ ‫َّ‬ ‫َع ّما َر َوى ال َف ُار ُ‬

‫إشار ٌة إىل حديث جربيل املروي عن سيدنا عمر بن اخلطاب ؤ‪ ،‬وهو احلديث الذي‬
‫َ‬
‫برشوح عديدة‪ ،‬وأ َطالوا ال َّن َف َ‬
‫س يف ذلك وخاصة فيام‬ ‫ٍ‬ ‫عرشات العلامء وشرَ َ ُحوه‬
‫ُ‬ ‫اعتنى بشأنه‬
‫يتعلق بأركان اإلحسان حتى َصار مذهب ًا ُيسمى ال َّتصوف عند أهله والزهد لدى غريهم‪.‬‬

‫اإليمان ِمن َأ ْق َوى ال ُع َرى‬


‫ُ‬ ‫و َب ْعدَ ُه‬ ‫ف�أ َّو ُل األَ ْر ِ‬
‫كان إِ ْسلا ُم َ‬
‫ال�و َرى‬ ‫َ‬

‫َان في َأ ْهل الن َُّهى‬ ‫ِمن َثابِ ِ‬


‫ت األَ ْرك ِ‬ ‫المنْت ََهى‬
‫وه َو ُ‬
‫اإلحس�ان ْ‬
‫ُ‬ ‫و َب ْعدَ ُه‬

‫يشري الناظم إىل أن هذه الثالثة األركان هي املعتربة من هذا احلديث واملرشوحة فيام يسمى‬
‫تأم ِلنا حلقيقة الوارد يف احلديث‬
‫بأركان الدين الثالثة أو األصول الثالثة عند البعض‪ ،‬وعند ُّ‬
‫كنية للثالثة غري وارد يف مطلع احلديث وإنام يف خامتته بعد إيراد‬
‫الر َّ‬ ‫َ‬
‫مدلول ُّ‬ ‫النبوي نجد ّ‬
‫أن‬
‫ٌ‬
‫أربعة وليست ثالثة‪.‬‬ ‫عالمات الساعة مما يدل عىل ّ‬
‫أن األركان‬

‫ْ�ن َرابِ ُ‬
‫�ع‬ ‫َّ�ص ُرك ٌ‬ ‫ُمك َِّم ٌ‬
‫�ل للن ِّ‬ ‫بالس�ا َع ِة َف ْ�ر ٌض َقاطِ ُع‬
‫ل�م ّ‬ ‫والع ُ‬
‫ِ‬

‫اهيتِ ِ‬
‫�ه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِس� َيا ُق ُه‬ ‫الح�اوي لركْنِيتِ ِ‬‫ِ‬ ‫َضابِ ُط� ُه‬
‫الم ْب�دي لم َّ‬ ‫ُ‬ ‫�ه‬ ‫ُ َّ‬
‫يتجز ُأ من حديث‬
‫وجزء ال ّ‬
‫ٌ‬ ‫رابع‬
‫ركن ٌ‬‫يشري الناظم إىل أن عالمات الساعة يف سياق احلديث ٌ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪34‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫جربيل‪ ،‬وضابط هذه الركنية سياق احلديث ذاته‪.‬‬

‫فمن ذا َي ْحت َِذي؟‬ ‫ُي َف ِّص ُل الدِّ َ‬


‫ي�ن َ‬
‫بالعل� ِم ِ‬
‫ال�ذي‬ ‫ي�ل ِ‬‫ُ�م ِج ْ ِبر ُ‬
‫َأتَاك ُ‬
‫فالرسول ﷺ مل خيرب بأركان الدِّ ين إلاِّ بعد انتهاء احلديث وبعد ذهاب جربيل‪ ،‬عندما قال لسيدنا‬
‫عمر‪« :‬أتدري من السائل؟» قال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪« :‬ذاك جربيل أتاكم يعلمكم دينكم»‪ ،‬فقوله‪:‬‬
‫«يعلمكم دينكم» أو عىل رواية أخرى «أمور دينكم»(((وردت بعد ذكر عالمات الساعة‪.‬‬
‫نص ًا‪ ،‬وليس ثالثة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫أربعة ّ‬ ‫فيستدل هبذا عىل أن أركان الدين‬
‫ِ‬ ‫واألَ ْخ ُذ بال َّث ِ‬
‫الت‬ ‫َأ ّم�ا األَخ ُ‬
‫ي�ر َم ْظ َه ُ�ر الت ََّح ُّو ْ‬ ‫لاث َم ْظ َه ُر ال َّث ْ‬
‫بات‬
‫ِ‬
‫عالمات الساعة ومل يدرجوها ضمن أركان‬ ‫يشري الناظم إىل ُعذ ِر العلامء الذين جتاهلوا‬
‫ُ‬
‫واضحة البـيان والقصد‪ ،‬هبا يتدرج‬ ‫األركان الثالثة ُ‬
‫ثابتة املدلول واملعنى‬ ‫َ‬ ‫الدين‪ ،‬حيث إن‬
‫ُ‬
‫األجيال و ُت ّ‬
‫وجه األمة عليها يف‬ ‫املك َّل ُف يف شؤون العقيدة والرشيعة ومراتب السلوك‪َ ،‬‬
‫وينشأ‬
‫العلم الفريض الواجب الذي يسأل عنه املسلم يف الربزخ يوم احلساب‪.‬‬
‫ذات‬ ‫ٍ‬
‫مسؤولية ِ‬ ‫ٍ‬
‫ذوات وال‬ ‫مكان وال ِ‬
‫بناء‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بزمان وال‬ ‫ٍ‬
‫مرتبط‬ ‫ري‬
‫أما الركن الرابع فمتغيرٌّ غ ُ‬
‫ٍ‬
‫عالقة باملك َّلفني من البنني والبنات‪ ،‬وإنام هو يعتني باحلوادث وشؤون التحوالت وأحوال‬
‫املنافقني وما يطرأ عىل املسلمني من نقص يف العلم ونقض يف احلكم واستتباع لألمم‪.‬‬

‫ّاس ِس ٌّ�ر َخطِ ُر‬ ‫ِ‬


‫وذك ُْره�ا ف�ي الن ِ‬ ‫�ن َش ْ‬
‫�أ ِ‬
‫نها ال َّت َغ ُّي ُ�ر‬ ‫ِ‬
‫الم� ٌة م ْ‬
‫َع َ‬
‫عالمات وليست أعام ً‬
‫ال‪ ،‬وهي متغرية احلد والزمن وليست ثابت ًة بوظائف‬ ‫ٌ‬ ‫الرابع‬
‫ُ‬ ‫الركن‬
‫ُ‬ ‫أي‪:‬‬
‫رس‬
‫األوقات واألعامر‪ ،‬وذكرها ونرش أخبارها يكشف بعض أحوال الناس وانحرافاهتم‪ ،‬فهي ٌّ‬
‫من أرسار النبوة‪َ ،‬س َك َت عنها الكثري حتى كان أبو هريرة يقول يف شأهنا‪َ « :‬أ ْع َطاين َخلييل ِجرابـ ِ‬
‫ني‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪35‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اآلخ ُر َفواهللِ لو بثثتُه ُلق ِط َع مني هذا ُ‬
‫احل ْل ُقوم» (((‪،‬‬ ‫الع ْلم‪َ ،‬أ َّما َأحدُ مُها فقد ب َث ْث ُت ُه بـينكم‪َ ،‬‬
‫وأ َّما َ‬ ‫من ِ‬
‫وكأنّه يشري إىل ما يعلمه من ِ‬
‫الفتن وال َّتحول مما سمعه من رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫للم ِس�يخِ َم َّهدُ وا‬


‫�م َ‬ ‫َأ ْو َم ْ‬
‫�ن ت ََر ُاه ْ‬
‫َ�ة أو ِمحن ٍ‬
‫َ�ة ت َُه�دِّ ُد‬ ‫ْ‬
‫ِم�ن فِ ْتن ٍ‬
‫ْ‬

‫أي‪ :‬إن هذا الركن خمصوص بعلم الفتن واملحن التي « هتدد» حصون األمة من داخلها‪ ،‬وتربز‬
‫مسألة الدَّ جل والدَّ جاجلة الذين يكون عىل أيدهيم متهيد الطريق ملنهجية املسيخ الدجال‪.‬‬
‫صادق في ِ‬
‫ٍ‬
‫االتِّجا ْه‬ ‫من كل َح ْب ٍر‬ ‫أو َمن َس َي ْأتُوا َين ُْص ُروا َ‬
‫دين اإل َل ْه‬

‫اإلخبار عام سيظهر يف آخر الزمان من نرصة الدين والرشيعة‬


‫ُ‬ ‫كام أن من وظائف الركن الرابع‬
‫يف أفجاج العامل ممن حيفظ اهلل هبم الدين وينرص هبم سنة سيد املرسلني‪.‬‬

‫وصنَّ ُف�وا فِيه�ا ُر ُقوم� ًا ُم ْف َ�ر َد ْة‬


‫َ‬ ‫َفاض ِذك ُْره�ا ُمنْ َف ِ‬
‫�ر َد ْة‬ ‫ل�ذا ْاس�ت َ‬

‫أي‪ :‬إن عذر العلامء يف مسألة فصل الركن الرابع عن موقعه من األركان راجع إىل ما فيها‬
‫ٍ‬
‫ومؤلفات خاصة‪.‬‬ ‫ـفوا فيها كتب ًا مستقلة‬
‫وص َّن ُ‬
‫رس التحول وال َّتبدُّ ل‪ ،‬فعزلوها عن مكاهنا َ‬
‫من ِّ‬
‫ابن ماجه «إذا َلع َن ِ‬
‫آخ ُر هذه األمة َّأو هَلا‬ ‫العلم وإظها ِره يشري احلديث الذي رواه ُ‬
‫ِ‬ ‫وإىل هذا‬

‫ككاتم ما ُأنـزل عىل ّ‬


‫حممد»(((‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ‬ ‫العلم‬
‫ِ‬ ‫كاتم‬
‫َ‬ ‫فليظهره‪ ،‬فإنّ‬
‫ْ‬ ‫فمن كان عنده علم‬
‫واملع َت َقد أن العلم املراد هنا يف أحد معانيه –واهلل أعلم‪« -‬العلم بعالمات الساعة وركنيتِه»‬
‫ألن ما يرتتب عىل الكتم يعادل كتم الوحي‪ ،‬وإظهار هذا العلم ‪-‬إذا فهم احلديث هبذا املعنى‪-‬‬
‫يكون واجب ًا عيني ًا‪.‬‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫(( ( سبق خترجيه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪36‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مَ ْدلُو ُل إِحْ ياء ُسنَّة ا َملواقف يف فِ ْقه التَّحوُّالت‬

‫شغل ذهن رسول اهلل ﷺ من بعده؛ وألن يف التحوالت‬ ‫أهم شاغلٍ ُي ِ‬ ‫التحوالت َّ‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫يضع أصحابه‬ ‫َ‬
‫ومنافذ الدَّ مار‪ ،‬فقد كان البدّ له ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أن َ‬ ‫أخطر الفتن‬
‫َ‬ ‫وجمرياهتا‬
‫الع ِ‬
‫رباض بن‬ ‫ويرس َم هلم خمرج السالمة عند اشتباك األمور‪ ،‬ويأيت حديث‪ِ :‬‬
‫ُ‬ ‫أمام األمر الواقع‪،‬‬
‫َ‬
‫موقف اإلسالم من جمريات التحول‪،‬‬ ‫وجمسد ًا‬
‫ِّ‬ ‫سارية املروي يف الصحيح حام ً‬
‫ال رسالة الفصلِ‬
‫ويكاد هذا احلديث أن يكون قاعدة (الفقه اخلاص بالتحوالت) بكل رواياته‪ ،‬وخاصة أن َرا ِو ِ‬
‫يه‬
‫يؤكد أن هذا احلديث كان من آخر ما تكلم به ﷺ يف حياته‪ ،‬فيكون بذلك عىل غاية من األمهية‬
‫يف شأن هذا الفقه اخلاص‪.‬‬
‫الف ْق َه ِ‬
‫موق َع ًا وال مكان ًا يف شرُ وحهم عدَ ُلوا عن معاين احلديث‬ ‫وهلذا فإن الذين مل ُيو ُلوا هذا ِ‬
‫َ‬
‫مواقف‬ ‫معها من‬
‫خذ َ‬ ‫ل َت َّت ِخذ املعاين مفهوم ًا آخر ربام ال يعالج مسألة ال َّت ُّ‬
‫حول‪ ،‬وما جيب أن ُي َّت َ‬

‫رشعية‪ ،‬وإنام عالج قضايا األحكام‪ ،‬ومفهوم االلتزام لثوابت اإلسالم واإليامن واإلحسان‬
‫ٍ‬
‫لسبب َ‬
‫وآخر‪،‬‬ ‫الرابع‬
‫ُ‬ ‫مه َل‬ ‫وظيفة احلديث األساسية يف ثالثة أركان‪ُ ،‬‬
‫وأ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ذاهتا‪ ،‬وهبذا انحرصت‬
‫أحدَ أسباب الفتنة يف سائر األزمنة الالحقة‪.‬‬
‫االضطراب والقلق َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وظل‬

‫�واه ِدي‬
‫عليكُ�م بس�نَّتي َش ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫الوار ِد‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الحديث ِ‬ ‫َقال الن ُّ‬
‫َّبـي في‬

‫َع ُّض�وا عليه�ا ال َتكُونُوا ُض َعفا‬ ‫وس�ن َِّة اآلتي�ن بع ِ‬


‫�دي ُخ َل َف�ا‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬
‫إشارة إىل احلديث «عليكم بس ّنتي وس ّنة اخللفاء الراشدين املهديني من بعدي َع ُّضوا عليها‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪37‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ٌ‬
‫واضحة إىل املواقف التي أقامها ﷺ مع غريه‪ ،‬وأقامها من بعده‬ ‫بالنواجذ» (((‪ ،‬ويف احلديث إشار ٌة‬
‫خلفاؤه من أهل احلكم والعلم الذين اجتمعت فيهم رشوط اخلالفة‪ ،‬وهم «املهديون» من اهلداية‬
‫و «الراشدون» من الرشد‪.‬‬
‫ِ‬
‫احلديث ال تنرصف‬ ‫الس َّنـ َة يف هذا‬ ‫وقد أشار الناظم إىل تأكيد ربط املواقف بالس َّن ِة‪ّ ،‬‬
‫وأن ُّ‬
‫ري هذا‪ ،‬وإنام تقف عند س َّن ِة املواقف‬ ‫ِ‬
‫والتقريرية فتلك موقعها ومكاهنا غ ُ‬ ‫ِ‬
‫والفعلية‬ ‫ِ‬
‫القولية‬ ‫إىل‬
‫لرسول اهلل وخللفائه‪ ،‬فانظر‪.‬‬

‫ُ�ب‬ ‫ِم�ن س�ن ٍّة م ْكتُوب ٍ‬


‫�ة ف�ي ال ُكت ِ‬ ‫لألصحاب ِمن ِ‬
‫بعد النّبـي‬ ‫ِ‬ ‫ولي�س‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ح ِ‬
‫الزمان المج ِ‬ ‫واق ِ‬
‫غَي�ر ال�ذي ق�د كان ِم�ن م ِ‬
‫ف‬ ‫ِ ُ ْ‬ ‫َبدَ ْت ُسلوك ًا في‬ ‫ف‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫يشري الناظم إىل أن اخللفاء سواء كانوا األربعة أو غريهم يف مطلق املعنى ليس هلم هناك‬
‫مدلول ِ‬
‫العصمة هلم‬ ‫ُ‬ ‫سنة مستقلة ُتقرأ أو ُت َّتبع ختتلف عن سنة النبـي ﷺ‪ ،‬حيث يلزم من ذلك‬

‫أن الس ّن َة املقصو َد هبا هنا هي ا ُهلدى ّ‬


‫والسلوك‬ ‫ِ‬
‫احلديث ّ‬ ‫ِ‬
‫مدلول‬ ‫فه ُم من‬
‫بعد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ف ُي َ‬
‫ِ‬
‫والوقوف عندها « َع ُّضوا عليها بالنواجذ»‪،‬‬ ‫واملواقف‪ .‬ويف احلديث إشار ٌة إىل َتع ُّل ِمها َ‬
‫والع َملِ هبا‬
‫ِ‬
‫مسرية احلياة؟‬ ‫موق ُع َها ِمن‬
‫هو ِّي ُتها وما ِ‬
‫إِ َذ ْن فام هي هذه الس َّن ُة وما َ‬

‫يك�ون ِمن ِص�را ِع ال�دُّ َو ِل‬


‫ُ‬ ‫وم�ا‬ ‫�و ِل‬
‫وال َقص�دُ منه�ا ُس�نَّ ُة الت ََّح ُّ‬
‫التحو ِ‬
‫الت‬ ‫ُّ‬ ‫إ َذ ْن فاملقصود من قوله‪« :‬عليكم بسنُتي وس ّنة اخللفاء‪...‬الخ» هو س ّنة املواقف عند‬
‫ُ‬
‫التعريف‬ ‫ورصاع الدول واجلامعات واألحزاب والقبائل والفئات‪ ،‬وهذا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واالجتامعية‬ ‫ِ‬
‫السياسية‬
‫ِ‬
‫املألوف يف التأصيل الفقهي واألصويل أو اصطالح املحدثني((( أو مفهو ٍم‬ ‫للس َّن ِة ُ‬
‫خيرج َها عن‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫((( عرف املحدثون السنة‪ :‬ما أثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة َخ ْل ِقية أو ُخ ُلقية أو سرية‬
‫سواء كانت قبل البعثة أو بعدها‪ ،‬وعرف األصوليون السنة بأهنا ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪38‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫آخ َر يرتبط ارتباط ًا وثيق ًا لفقه التحوالت ال بغريه‪.‬‬
‫َ‬

‫�و ِة‬
‫�ن َس� ُي ْحيِي ُس� َّن َة النُّ ُب َّ‬
‫َع َّم ْ‬
‫كمث�ل م�ا قد ج�اء ف�ي الر ِ‬
‫واية‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫والديان�ة‬ ‫ِ‬
‫ش�هداء الش�ر ِع‬ ‫ِم�ن‬ ‫لمئ ِ‬
‫َ�ة‬ ‫ن�ال أج�ر ًا وافي� ًا ِ‬
‫َي ُ‬

‫آخ َر حول مفهو ِم سنة املواقف بحديث « َم ْن َأحيا ُس ّنتي ِع ْن َد َف َس ِ‬


‫اد‬ ‫ٍ‬
‫تأكيد َ‬ ‫يشري الناظم إىل‬
‫أجر ِ‬ ‫ُ‬
‫مئة َشهيد» (((‪ ،‬وإىل ّ‬
‫أن إحياء السنة عند فساد األمة إنام هو «سنة املواقف»‪،‬‬ ‫أ َّمتي َفل ُه ُ‬
‫رسوم السنة املعلومة عند العلامء فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وليست‬

‫وم ِة‬ ‫بـين ال ُقوى َ‬


‫الم ْش ُؤ َ‬
‫َ ِ‬
‫وض ْعفها َ‬
‫�ة المرحوم ِ‬
‫�ة‬ ‫َْ ُ َ‬
‫س�اد األُم ِ‬
‫َّ‬
‫ِعنْ�دَ َف ِ‬

‫�د ِ‬
‫يد‬ ‫�ه القل�وب بالتَّس ِ‬
‫وجم ِع ِ‬ ‫ِ‬
‫بالتوحي�د‬ ‫الدم�اء‬ ‫لح ْقن ِ ِ‬
‫�ه‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٌ‬
‫وحتول يف العزة‬ ‫عام يف قرارها ودينها‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وضعف ٌّ‬ ‫السلوك‬ ‫يشري إىل أن فساد األمة ٌ‬
‫حتول يف ُّ‬
‫والرشف واإلباء‪ ،‬بحيث يضعف صوهتا أمام الدول أنداد ًا وأضداد ًا‪ ،‬فكل من أحيا سنة‬

‫املواقف بإصالح ما فسد منها ومجع قلوب األمة وتوحيد كلمتها و َل ِّ‬
‫ـم َش ْعثها ودرء أسباب‬
‫الفتن والرصاعات املؤدية لسفك الدماء وتقطيع األرحام والوشائج نال من اهلل أجر مائة‬
‫شهيد‪ ،‬فالثواب اجلزيل واملنح الكبـري يتالءم مع املواقف املفضية إىل حقن الدماء‪ ،‬فيكتب اهلل‬
‫له ثواب املائة الشهيد‪ ،‬ومثّل الناظم عىل هذا املفهوم‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫ّاس بانْتِ ِ‬
‫خاب‬ ‫�أ ِن ُح ْك ِم الن ِ‬
‫في َش ْ‬ ‫�ف اإلما ِم ِم�ن َأ ْص ِ‬
‫حاب‬ ‫كمو ِق ِ‬
‫َْ‬
‫ِ‬
‫ال�ف م�ا ا ُّتبِ ْع‬
‫ْ‬ ‫ول�م َي ُش َّ‬
‫�ذ أو ُيخَ‬ ‫ْ‬ ‫�و ُم ْقتَن ْ‬
‫�ع‬ ‫وه َ‬
‫ي�ق ْ‬
‫الصدِّ َ‬ ‫إِ ْذ با َي َ‬
‫�ع ِّ‬

‫تقرير‪ ،‬وأما اصطالح الفقهاء فهو ما ثبت عن النبي ﷺ من غري افرتاض وال وجوب‪ ،‬ويقابل الوجوب‬
‫وغريه األحكام اخلمسة‪.‬‬
‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪39‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يشري الناظم إىل أن سنة املواقف عند اخللفاء تشري إىل داللة االتباع بدي ً‬
‫ال عام يشيعه البعض‬
‫عن اإلمام عيل ؤ لتأييد مفاهيمهم‪ ،‬فاإلمام عيل عند مالحظة مواقفه من اخلالفة نجده قد‬
‫بايع الصديق مقتنع ًا بذلك‪ ،‬سواء عىل ما ذكره الرواة من املبايعة أليب بكر من اليوم الثاين أو‬
‫الثالث من موت رسول اهلل أو بعد وفاة السيدة فاطمة ريض اهلل عنها عىل القول اآلخر‪ ،‬وصار‬
‫مستشار ًا له طيلة فرتة حكمه‪ ،‬وفعله هذا يعد موقف ًا وسنة تتبع وحيتذى هبا بعيدا عام اختذه‬
‫املحبون املفرطون‪ ،‬حيث ال يعقل أن يكون موقفه العام يف املوافقة ألبـي بكر وعمر ثم يعمل‬
‫يف جانب آخر ضدمها‪ ،‬فهذه أخالق املنافقني وليس أخالق املؤمنني‪ ،‬ويؤكد الناظم هذا املوقف‬
‫السامي من اإلمام‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َبل َرض َي األَ ْم َر وكان ُم ْست ْ‬
‫َش�ار‬ ‫�ش َأ َحد ًا ض�دَّ ال َق ْ‬
‫رار‬ ‫ول�م ُي َج ِّي ْ‬
‫ْ‬
‫جييش أحد ًا ضد قرار» احلكم‬
‫يشري الناظم إىل سكون اإلمام عيل مع أصحاب الشأن‪« ،‬ومل ّ‬
‫عىل عهد أبـي بكر وال من بعده‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان موقف ًا حيتذى مع النص الذي ي َّتخذه‬
‫َ‬
‫اآلخرون حجة معلومة لديه‪ ،‬وال يليق به أن يسكت عنه أو أن يرىض بغريه‪ ،‬إذن فهو حجة يف‬
‫سكوته وحجة يف انطوائه مع اخللفاء الراشدين‪ ،‬ويتوقف االحتجاج بالنصوص امللزمة لغريه‬
‫(((‪(((.‬‬
‫بتوقفه عن العمل هبا‪ ،‬فموقفه حجة وكفى‬

‫((( فهم بعض املغرضني من قولنا (حجة) أننا نشري إىل ما يفهمه آخرون عن مفهوم احلجة اصطالح ًا لدى‬
‫وبت‪ ..‬فمقصودنا يف لفظة احلجة معناها اللغوي‪ ،‬وهي‪ :‬اجتامع رشوط‬
‫تقول هُ‬
‫بعض املذاهب وهذا ّ‬
‫اإلقناع أمام اخلصم‪ ..‬وليس لدينا أكثر من هذا فل ُيعلم‪ ..‬اهـ‬
‫((( لفظة (البغاة) مأخوذ من لفظة احلديث‪« :‬ويح عامر تقتله الفئة الباغية‪ ..‬يدعوهم إىل اجلنة ويدعونه إىل‬
‫ابن ُس َم َّية تقتله الفئة الباغية» ‪ ،‬قال احلافظ ابن حجر‪ :‬ويف قوله‪:‬‬
‫س ُ‬ ‫النار» رواه البخاري‪ ،‬ولفظه ملسلم‪َ « :‬بئِ َ‬
‫داللة واضحة عىل أن علي ًا ومن معه كانوا عىل احلق وأن من قاتلهم كانوا خمطئني‬
‫ٌ‬ ‫«تقتل عامر الفئة الباغية»‬
‫يف تأويلهم‪« .‬فتح الباري» (‪ .)619 :6‬قال ابن تيمية ‪ :‬وهذا يدل عىل صحة إمامة عيل ووجوب طاعته‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪40‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫غ�اة م�دْ ِرء ًا ِ‬
‫للفت ِ‬ ‫م�ع الب ِ‬ ‫الح َس ِ‬ ‫ل�ح ا ِ‬ ‫ِ‬
‫َ�ن‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫�ن‬ ‫إلم�ا ِم َ‬ ‫وم ْث ُل� ُه ُص ُ‬
‫ِ‬
‫املواق ِ‬
‫ف ما فعله اإلمام احلسن مع حماربـيه من أجل‬ ‫أي‪ :‬ويستشهد عىل مفهو ِم ُس ِ‬
‫نة‬
‫احلكم‪ ،‬فالبيعة الرشعية ُتل ِز ُمه بمحاربة البغاة وعدم التخيل عن موقع القرار مهام ك َّلف‬
‫الثمن‪ ،‬ولك ّنا نرى موقفه غري ذلك حيث اختذ موقف ًا ال يتوقعه أحد وال يقفه إلاَّ خليفة‬
‫سيدٌ وس ُيصلح اهلل به بـني فئت ِ‬
‫ني من‬ ‫من خلفاء الدين أ ّيده ﷺ بقوله‪ « :‬إنّ ابني هذا ّ‬
‫املسلمني » (((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬

‫�لف ِه‬
‫وق�ال ه�ذا س�يدٌ كس ِ‬
‫َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫لم ْو ِق ِف ْه‬
‫الم ْص َط َف�ى َ‬
‫�ار ُ‬‫و َقد َأ َش َ‬
‫َات‬‫وء افتِئ ْ‬
‫ح ُّل ِمن س ِ‬
‫ُ‬
‫رغْم الذي ي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ئات‬‫الف ْ‬ ‫�ه بـي�ن ِ‬
‫َ‬
‫س�يصلِح الله بِ ِ‬
‫ُ ْ ُ ُ‬
‫يشري الناظم إىل تأييد الرسول ﷺ لسنة املواقف التي يتخذها اخللفاء يف ِ‬
‫الفتن‪.‬‬

‫الصرا ِع الدّ ِائ ِر‬ ‫الح َس ِ‬


‫ين في ّ‬ ‫على ُ‬ ‫�ر‬ ‫وم�ا ج�رى ِم�ن فِ ْتن ِ‬
‫َ�ة التَّآ ُم ِ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫آلل�ه‬ ‫�ار َد ْرس� ًا ُم ْقنِع� ًا‬ ‫�ق واعتِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فص َ‬‫َ‬ ‫داله‬ ‫الح ِّ‬
‫ألجل َ‬ ‫َض ّح�ى‬
‫ِ‬
‫مواقف السنة املشار إليها بسنة املواقف‪ ،‬وهي ما جرى‬ ‫ف َ‬
‫آخ َر من‬ ‫يشري الناظم إىل ِ‬
‫موق ٍ‬

‫املحبـني واملتع ِّلقني ليتخذ موقف ًا يف سبـيل إعادة احلقِّ‬


‫ِّ‬ ‫لإلمام احلسني الذي َد َف َع به الدافعون من‬
‫إىل نِصابه معتمد ًا عىل اهلل ومستند ًا إىل وعود األنصار الذين خذلوه وتركوه فكان هذا املوقف‬
‫التحوالت‪ّ ،‬‬
‫وأن بعض املحبـني النفعيني ال‬ ‫ُّ‬ ‫درس ًا له وآلل بـيته وسن ًة يتعلمها ُ‬
‫آل البـيت يف‬

‫داع إىل النار وإن كان متأو ً‬


‫ال أو باغيا بال تأويل‪.‬‬ ‫وأن الداعي إىل طاعته دا ٍع إىل اجلنة والداعي إىل مقاتلته ِ‬
‫«بيعة اإلمام عيل بن أيب طالب» ص‪ 76 ،75‬حسن فرحان املالكي ‪.‬‬
‫((( رواه أصحاب السنن‪ ،‬ولفظ البخاري‪« :‬إن ابني سيد‪ ،‬ولعل اهلل يصلح به بـني فئتني من املسلمني» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪41‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يملكون عند اشتداد امل ِ َحن غري التصلية والبكاء والنحيب واملدائح‪ ،‬ومن َث ّم يعيشون عىل‬
‫بتطويع‬
‫ِ‬ ‫حساب آل البـيت‪ ،‬ويبلغون إىل مآرهبم من خالل املواقف العكسية التي يتخذوهنا‬
‫ِ‬
‫وحتريف املنصوص‪.‬‬ ‫ِ‬
‫النصوص‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومو ِق ِ‬
‫مع إِعالء د ْ‬
‫ين‬ ‫بالز ُّْهد في الدُّ نيا َ‬ ‫العابدين‬
‫ْ‬ ‫�ف اإلما ِم ز ِ‬
‫َي�ن‬ ‫َْ‬
‫ُ‬
‫موقف اإلمام عيل زين العابدين السجاد الذي ترك شأن احلياة الدنيا‬ ‫ومن ُسنن املواقف‬
‫وخاصة أنه قد رأى ما َح َّل بوالده‬
‫َّ‬ ‫ومظاهرها‪ ،‬واتجّ ه إىل العلم والعمل لربه سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫احلسني يف َكربالء وأهل بـيته من البالء‪ ،‬فاختذ موقف ًا عملي ًا من الفتنة وأرباهبا إىل ساعة وفاته‬
‫رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪42‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ّان‬
‫املصدران األساسي ِ‬
‫ِ‬ ‫الش ُ‬
‫يفة‬ ‫والسن ّ ُة رّ‬ ‫ُ‬
‫الق ْرآ ُن العظي ُم ّ‬
‫لفقه التَّحَ وُّالت‬
‫ِ‬

‫خي�ر ه�ادي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫المخت�ار‬ ‫وس�نّ ُة‬ ‫ِ‬
‫اإلس�ناد‬ ‫كت�اب َر ّب�ي َم ْص�دَ ُر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وم�ا تَلا ِم�ن مو ِق ٍ‬
‫�ف ف�ي األُ َو ِل‬ ‫كالهم�ا الح�اوي عل�ى الت ََّح ُّو ِل‬
‫َْ‬
‫ِ‬
‫األث�ر‬ ‫ِ‬
‫بأه�ل‬ ‫ِ‬
‫النق�ل‬ ‫ُم َو َّث ِ‬
‫�ق‬ ‫ِ‬
‫خب�ر‬ ‫ٍ‬
‫س�يرة أو‬ ‫وم�ا أت�ى م�ن‬
‫ِ‬
‫الس�ائر‬ ‫ِ‬
‫الجديد‬ ‫وم�ا س�يأتي ف�ي‬ ‫ِ‬
‫الحاض�ر‬ ‫وم�ا َعنَان�ا ف�ي الزم�ان‬
‫ِ‬
‫والشعوب الكافر ْة‬ ‫المسلمين‬
‫َ‬ ‫في‬ ‫ِم�ن عا َل� ِم الدني�ا ك�ذاك اآلخ�ر ْة‬

‫يشري الناظم إىل موقع القرآن العظيم والسنة الرشيفة من فقه التحوالت‪ ،‬فهام –أي‪ :‬الكتاب‬
‫والسنة‪ -‬يعتربان املصدر األول والثاين لثوابت فقه التحوالت‪ ،‬ويأيت بعد ذلك ما وثقه العلامء‬
‫من السري واآلثار واألخبار‪ ،‬فهذه كلها تعد يف (فقه التحوالت) مصدر النقل واإلثبات من‬
‫جهة‪ ،‬ومصدر اختاذ املواقف املتنوعة سلبا وإجيابا يف كل مرحلة وعرص أمام كل ظاهرة فكرية‬
‫أو عذاب أو آية أو معجزة من جهة أخرى‪.‬‬
‫كام أن من مادة (فقه التحوالت) جمريات الزمان احلارض وما ورد يف املصادر املشار إليها من‬
‫العالمات واألرشاط‪ ،‬ومقابلة ذلك مع ما ورد يف األصلني‪ ،‬ليربز مفهوم التحول وموقعه من‬
‫السالمة ‪ ،‬أو الفساد‪ ،‬كام يعتني فقه التحول بام سيأيت من جديد احلوادث والوقائع ويضع هلا‬
‫العالئم املبينة حال احلدث وأربابه وموقفهم أيضا من السالمة أو اجلنوح‪.‬‬
‫حتى ينتقل األمر من عامل الدنيا إىل عامل اآلخرة‪ ،‬فاالنتقال لألفراد والشعوب واألمم بل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪43‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وهالك العامل كله جزء من التحوالت التي اندرجت يف الفقه اإلسالمي اخلاص بعالمات‬
‫الساعة وما تالها‪ ،‬باعتبار انقسام األمر إىل برزخني‪ :‬شعوب مسلمة وهلا رشوطها يف الدنيا‬
‫وجزاؤها يف اآلخرة‪ ،‬وشعوب كافرة هلا جنوحها وقواعدها املنحرفة يف الدنيا وجزاؤها املوعود‬
‫يف اآلخرة‪.‬‬

‫�والً ع�ن اله�دى َم ُه�وال‬ ‫ت ََح ُّ‬ ‫فالكاف�رون َح َّر ُف�وا التَّنزيلا‬
‫َ‬
‫ج�اءت له�م بالعل� ِم والدِّ يان ِ‬
‫َ�ة‬ ‫ِ‬
‫س�االت الت�ي‬ ‫الر‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫�ج ِّ‬ ‫وخالف�وا ن َْه َ‬
‫ُ‬
‫الحديث قد َح َوى ما َص َّح ُفو ْه‬ ‫كذا‬ ‫الق�رآن م�ا ق�د َح َّر ُف�و ْه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأكَّ�دَ‬
‫ِ‬
‫الش�يطان‬ ‫وم�ا ج�رى م�ن فِ ْتن ِ‬
‫َ�ة‬ ‫ِ‬
‫اإليم�ان‬ ‫َي ْ�ر ِوي لن�ا ت ََس ْل ُس َ‬
‫�ل‬

‫يشري الناظم إىل عوامل الفساد املؤدية إىل التحول السلبي يف مواقف الكافرين‪ ،‬وما نتج عن‬
‫هذه املواقف من حتريف للكتب الساموية وحتول سافر عن اهلداية والطاعة‪ ،‬وخمالفة رصحية‬
‫لنهج الرساالت الرشعية‪ ،‬وأن هذا االنحراف اخلطري ال يمكن حتجيمه ومعرفته وإدانته إال‬
‫بالنظر الواعي يف القرآن والسنة‪ ،‬فهام دون غريمها قد حفظا لنا تسلسل اإلسناد اإليامين الرشعي‬
‫يف الشعوب كام حفظا لنا خطورة االنحراف اإلنساين وما ترتب عليه من استتباع للشيطان‬
‫وفتنته يف احلياة‪.‬‬
‫�ول األَم ِ‬
‫�د‬ ‫ُم ْعت ََم�دَ الت َّْوثِ ِ‬
‫ي�ق ُط َ‬ ‫ِ‬
‫محمد‬ ‫ي�ن المصطف�ى‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫فصار د ُ‬
‫َ‬
‫الحديث في ِ‬
‫الف َر ْق‬ ‫ِ‬ ‫بما أتى عن‬ ‫َ�ار ك َُّل ُمنْ َط َل ْ‬
‫�ق‬ ‫وض َب َ‬
‫َ‬
‫المخْ ت ُ‬
‫�ط ُ‬

‫يشري الناظم إىل الضابط الرشعي يف فقه التحوالت العاملية بني األمم والشعوب وهو أن‬
‫دين املصطفى حممد صىل اهلل عليه وآله وسلم ومصادره املوثقة مها الضابط الرشعي لقراءة‬
‫التاريخ مربوطا بالديانات‪ ،‬وال عربة يف هذه املعرفة باملصادر التارخيية الوضعية ذات العالقة‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪44‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫باملنهج الشيطاين واالستتباع اإلنساين‪ ،‬فهي جمرد معلومات استقرائية للظواهر املادية ودراسة‬
‫عقالنية قائمة عىل الظن الذهني‪ ،‬ال عىل احلقيقة الربانية‪ ،‬قال تعاىل يف سورة النجم‪( :‬ﭡ ﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)‪-‬أي‪ :‬القرآن والسنة‪(-‬‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)‪-‬أي‪ :‬التفسري العقالين املجرد‪( -‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ )‪-‬أي‪:‬‬
‫أقىص ما عرفوا من العلم‪( -‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ) ‪ ،‬ومن‬
‫هذا املنحى نجد عند تأملنا لكتاب اهلل تعاىل أن معظم اآليات وبعض السور إنام كانت مادهتا‬
‫املعروضة تعنى بفقه التحوالت وتاريخ الدول واألمم والشعوب‪ ،‬وألجل تثبيت هذا النموذج‬
‫من العلم ندب اإلسالم تكرار سورة الكهف كل مجعة للمسلمني‪ ،‬إذ حتتوي هذه السورة عىل‬
‫العديد من فصول فقه التحوالت يف حياة الشعوب‪ ،‬وفيها مالمح شديدة األثر حول مسالة‬
‫التحوالت واملواقف وارتباطها بالساعة‪ ،‬قال تعاىل عن أهل الكهف‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ‬

‫ﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ‬

‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪45‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫السمَ ِاوي َِّة‬ ‫النبي ﷺ تَحَ ُّو ٌل عَ ا َل ِم ٌّي يف َس رْ ِ‬
‫ي ال ِّر َس ِ‬
‫االت ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫رسالة‬

‫َّ�ص للت َّْوثِ ِ‬


‫ي�ق‬ ‫كم�ا أت�ى ف�ي الن ِّ‬ ‫ِ‬
‫بالتصدي�ق‬ ‫ُ‬
‫الميث�اق‬ ‫ق�د ُأ ِخ َ‬
‫�ذ‬
‫الم َف َّض ِ‬ ‫ؤمنُ�وا بدَ ع ِ‬
‫َأ ْن ي ِ‬ ‫والر ْس ِ‬
‫�ل‬ ‫�وة ُ‬‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫�ل‬ ‫عل�ى جمي� ِع األنبي�ا ُّ‬
‫ُ‬
‫المس�ؤول‬ ‫ال�و َرى كذلك‬
‫إل�ى َ‬ ‫�ول‬ ‫�ال َط� َه إِنَّ� ُه َ‬
‫الم ْر ُس ُ‬ ‫و َق َ‬

‫رس�ال ًة خاتم� ًة إل�ى ال�ورى‬ ‫إِنْس� ًا ِ‬


‫وجنّ� ًا َأ ْس�ود ًا وأحم�را‬
‫�ق األَ ْخ َب ِ‬
‫�ار‬ ‫كم�ا َأتَ�ى ف�ي َأ ْو َث ِ‬ ‫ِ‬
‫الن�ار‬ ‫ُّ‬
‫وكل َم�ن َي ْك ُف ْ�ر به�ا ف�ي‬

‫يشري الناظم إىل اختالف مرحلة الرسالة اخلامتة النبوية عن بقية الرساالت السابقة يف تاريخ األمم‪،‬‬

‫وأن هذا االختالف يف املرشوع جزء من فقه لتحوالت املبينة عظمة وظيفة الرسالة اخلامتة‪.‬‬

‫فمن أهم ما يبني ذلك‪ :‬أخذ احلق سبحانه وتعاىل امليثاق عىل مجيع األنبياء والرسل أن من أدرك‬

‫منهم النبي اخلاتم ودعوته الرشعية أن يؤمن به وينرصه‪.‬‬

‫ويؤكد هذا األمر ما ذكره ابن سيد الناس يف «عيون األثر» ‪ :‬قال ابن إسحاق املطلبي ‪ :‬وكان اهلل‬

‫تبارك وتعاىل قد أخذ امليثاق عىل كل نبي يعيشه من قبله باإليامن به والتصديق له‪ ،‬والنرص له عىل‬

‫من خالفه‪ ،‬وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إىل كل من آمن هبم وصدقهم‪ ،‬فأدوا من ذلك ما كان عليهم‬

‫من احلق فيه‪ ،‬يقول اهلل تعاىل ملحمد صىل اهلل عليه وآله وسلم يف سورة آل عمران‪( :‬ﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ‬
‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ‪-‬أي‪ :‬ثقل ما محلتم من عهدي‪ -‬ﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ) فأخذ اهلل ميثاق النبيني مجيعا بالتصديق له والنرص له ممن‬
‫خالفه‪َ ،‬‬
‫وأ َّدوا ذلك إىل من آمن هبم وصدقهم من أهل هذين الكتابني‪.‬اهـ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪46‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وقد أثبت النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم عاملية دعوته اخلامتة وموقفه صىل اهلل عليه وآله وسلم‬

‫املتميز يف جمموع الرساالت‪ ،‬فعن جابر بن عبداهلل قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪:‬‬

‫«وكان النبي يبعث إىل قومه خاصة وبعثت إىل الناس كافة» متفق عليه‪ ،‬وروى البخاري بسنده إىل أيب‬

‫الدرداء قال فذكر احلديث‪ ،‬وفيه قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬يا أهيا الناس إين رسول اهلل إليكم‬

‫مجيعا»‪ ،‬وروى جابر بن عبداهلل األنصاري قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬كان كل‬

‫نبي يبعث إىل قومه خاصة وبعثت إىل كل أمحر وأسود» رواه أمحد يف مسنده‪.‬‬

‫يسمع‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حممد بيده‪ ..‬ال‬ ‫نفس‬
‫وعن أيب هريرة عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم قال‪« :‬والذي ُ‬
‫ِ‬
‫أصحاب‬ ‫يؤمن بالذي ُأ ْر ِس ْل ُت به إال كان من‬
‫ْ‬ ‫يموت ومل‬
‫ُ‬ ‫هيودي وال نرصاينٌّ ثم‬
‫ٌّ‬ ‫ِ‬
‫األمة‬ ‫يب أحدٌ من هذه‬

‫النار» أخرجه أمحد يف مسنده واحلاكم يف «املستدرك» ‪.‬‬

‫وعن ابن عباس ريض اهلل عنهام قال‪ :‬فذكر احلديث‪ ،‬وقال ملحمد صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪:‬‬

‫(ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) فأرسله إىل اجلن واإلنس‪ ،‬قال احلاكم‪ :‬هذا‬

‫حديث صحيح اإلسناد‪ ،‬وأخرجه البيهقي يف «الدالئل» ‪.‬‬

‫حي ًا ومل‬
‫أدركت ّ‬
‫ُ‬ ‫وعن احلسن ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬من‬

‫يولدْ بعدي» ‪.‬‬

‫«أرسلت إىل اجلن‬


‫ُ‬ ‫وعن ابن عباس ريض اهلل عنهام قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‪:‬‬

‫واإلنس وإىل كل أمحر وأسود» أخرجه البيهقي يف «الدالئل» ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪47‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ص ما َقبْ َل ْ‬
‫اإلسالم‬ ‫فقه التَّحول من عَ رْ ِ‬

‫ِ‬
‫خي�ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جيل‬ ‫وف�ي ال َّز ُب�ور َعه�دُ‬ ‫واإلنجيل‬ ‫َّ�وراة‬ ‫َقدْ َج َ‬
‫اء ف�ي الت‬

‫والم َثانِ�ي‬
‫َ‬ ‫اح�ب ال ُق ْ�ر ِ‬
‫آن‬ ‫ُ‬ ‫وص‬ ‫َ‬ ‫الم ْص َط َف�ى ال َي َمانِي‬
‫النبي ُ‬
‫ِّ‬ ‫َع ْه�دُ‬
‫التغيي�ر والت َب�دُّ ِل‬
‫ِ‬ ‫وم ْل َح َ‬
‫�ظ‬ ‫َ‬ ‫َح�و ِل‬
‫َان ه�ذا َأ ّو َل الت ّ‬
‫َف�ك َ‬
‫اإليم�ان‬
‫ُ‬ ‫جزي�ر ًة يحي�ا به�ا‬ ‫هب�ان‬
‫ُ‬ ‫والر‬ ‫األحب�ار‬ ‫إ ْذ َق ِ‬
‫�د َم‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ف�كان ه�ذا م ِ‬
‫وقف� ًا ُمالئم�ا‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ألنّه�م َق�دْ َعر ُف�وا ال َع َ‬
‫الئم�ا‬

‫يشري الناظم إىل أن فق َه التحوالت يربز من خالل ما قد ذكرته كتب السامء األوىل حول‬
‫وأن هذه املعلومات الواردة يف الكتب الساموية كانت سبب ًا يف‬
‫مسألة ظهور خري الربية ﷺ‪ّ ،‬‬
‫قرارات ومواقف اختذها البعض آنذاك هبذا الشأن‪ ،‬ومن ذلك كثرة نزوحهم إىل جزيرة العرب‬
‫ُ‬
‫وأصل هذا التحول ما جاء يف الكتب الساموية السابقة‬ ‫تحَ ُّسب ًا لظهور مرحلة َنبِ ِّي ِ‬
‫آخ ِر ّ‬
‫الزمان‪،‬‬
‫والزبور‪ ،‬ومن هذه اإلشارات والبشارات جاءت ُسنن املواقف لدى‬
‫كال َّتوراة واإلنجيل ّ‬
‫األحبار والرهبان وغريهم من علامء اليهود والنصارى امللتزمني بالكتب الساموية وإشاراهتا‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪48‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫فِ ْق ُه التَّحَ والت ِبميالدِ ال َرسول ﷺ‬

‫نزل�ت َعل�ى األُ ْ‬


‫م�م‬ ‫ْ‬ ‫وآي� ًة َق�دْ ُأ‬ ‫ُب�رو ُز ُه َق�دْ كَان َر ْم� َز ًا و َع َل ْ‬
‫�م‬
‫ف�ي ك ِ‬
‫َ�ون رب�ي َحي ُثم�ا أرا َد ْه‬ ‫�ع ِ‬
‫ال�والد ْة‬ ‫َف َق�دْ َب�دَ ا ن ٌ‬
‫ُ�ور َم َ‬
‫َار ت َْض َط ِر ْم‬ ‫وأ ْخ ِمدَ ْت لل ُف ِ‬
‫�رس ن ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وانهدَ ْم‬ ‫ٌ ِ‬
‫إيوان لك ْس َ�رى َ‬ ‫ْش�ق‬
‫وان َ‬
‫ِ‬
‫باحت�راق‬ ‫�ض‬ ‫بش ٍ‬
‫�هب َتنْ َق ُّ‬ ‫ُ‬ ‫راق‬ ‫�ن َل�دى ْاس�تِ ِ‬‫الج ُّ‬ ‫�ي ِ‬ ‫ِ‬
‫ورم َ‬ ‫ُ‬
‫�م الت َّأ ُّم ِ‬ ‫َح�و ِل‬ ‫ِ‬
‫�ل‬ ‫دي�ر ق ِّي ُ‬‫عل�م َج ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ب�ر ُز َأ ّن الف ْق� َه ف�ي الت ّ‬
‫ُي ِ‬
‫لل�ذات ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم ْص َط َف�ى‬ ‫ِ ِ‬ ‫وفِي�ه‬
‫االقتف�اء‬
‫َ‬ ‫ذات‬ ‫ونظ�ر‬
‫ٌ‬ ‫إحي�اء لف ْق�ه ُ‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫األحبار‬ ‫وما ج�رى من مو ِق ِ‬
‫�ف‬ ‫ِ‬
‫األخب�ار‬ ‫إذ كان َم�ا كَان ِم�ن‬
‫َْ‬ ‫َ َ‬
‫يشري الناظم إىل التحوالت التي عرفها الكون مرافقة مليالد الرسول ﷺ وأثبتتها كتب‬
‫التفسري واحلديث‪ ،‬وخاصة ما ثبت وصح يف هذا املضامر كربوز النور مع والدته‪ ،‬وما ُشوهد‬
‫ِ‬
‫وإنخامد‬ ‫ٍ‬
‫كعالمة لزوال ملكه وحتول حاله‪،‬‬ ‫من قصور الشام والعراق‪ ،‬وانشقاق إيوان كرسى‬
‫ورمي اجلن ُّ‬
‫بالشهب من السامء كام ورد يف سورة اجلن‪ ،‬وهي‬ ‫ِ‬ ‫نار الفرس املوقدة من ألف عام‪،‬‬
‫سورة هامة يف مدلوالت فقه التحوالت وتأكيد قرآين عىل أمهية هذا العلم الرشعي‪ ،‬وغري ذلك‬
‫مما يفيد اهتامم الوحي بام حيصل من حتول كوين وتغري يف جمرى بعض الظواهر‪ ،‬ومنها عالمة‬
‫بروز النبي اخلاتم ﷺ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪49‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َّالت ُقبيل مَ ْرحلة الوَحي‬
‫فق ُه التّحو ِ‬

‫وضلال َظ ِ‬
‫اه ِر‬ ‫ٍ‬ ‫م�ن ِ‬
‫بع�د ٍ‬
‫كف�ر‬ ‫ابتع�اث ال َّط ِ‬
‫اهر‬ ‫ُ‬ ‫�ة ِ‬
‫الله‬ ‫ِمن حج ِ‬
‫ْ ُ َّ‬
‫بالح�ق‬ ‫وم ٍ‬
‫ؤم�ن‬ ‫�ن ك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫أن َي ِمي َز بي�ن الخَ ِ‬ ‫�ن َأ ْج ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫َاف�ر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫لق‬ ‫�ل ْ‬ ‫م ْ‬
‫َّ�دت حكمتَ� ُه الس�ديد ْة‬
‫ق�د أك ْ‬ ‫ٌ‬
‫مواق�ف َعدي�د ْة‬ ‫�رت‬‫وك�م َج ْ‬
‫ِ‬
‫الت َْحكي�م‬ ‫وق ِ‬
‫�ف‬ ‫كم ِ‬
‫َاح الخَ َط ْر‬ ‫الم ْو ِق َ‬
‫ف وا ْنز َ‬ ‫إِ ْذ َح َس َم َ‬
‫َ‬
‫الح َج ْ�ر‬
‫َ‬ ‫َر ْف� ِع‬ ‫فِ�ي‬
‫ُ‬
‫تعميق عرى الناس‬ ‫يشري الناظم إىل ما برز من حتوالت خاصة سبقت مرحلة الوحي كان هبا‬
‫بحب الناس وثقتهم فيه وحديثهم‬
‫بمراد اهلل يف نبيه ﷺ‪ ،‬وكيف كان عليه الصالة والسالم يتمتع ِّ‬
‫والعون حتى برز يف املحيط َع َل ًام ومثا ً‬
‫ال لدى‬ ‫عنه وخوفهم عليه‪ ،‬وما أجرى اهلل من رس احلفظ َ‬
‫شباب َم َّك َة وقدو ًة حتى َّ‬
‫سم ْو ُه األمنيَ الصادق‪ ،‬وهو لدى عقالء القوم‬ ‫ِ‬ ‫أشباهه وأمثاله من‬
‫رجع إىل رأيه ويؤخذ بكالمه‪ ،‬كام هو يف موقف التحكيم‪ ،‬وقد ذكرت‬ ‫وع ٌ‬
‫دل ُي َ‬ ‫كم َ‬
‫ووجهائهم َح ٌ‬
‫بعض كتب السري أن يف ذلك اليوم الذي أمجع فيه القوم عىل حتكيم رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم برز هلم الشيطان يف صورة شيخ نجدي ينهاهم عن اتباعهم حلكم رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وآله وسلم ويعريهم أن يكون عقالؤهم وحكامؤهم ينزلون لرأي شاب صغري السن‬
‫فيهم‪ ،‬ويف هذا املوقف إشارة إىل أن إبليس كان أيضا يرقب أمر ظهور رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم وخيذل الناس عن األخذ برأيه واتباعه‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪50‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ُّالت َ‬
‫الغ ِار ونُزو ُل الوَحي‬ ‫تَحو ُ‬

‫في الغ ِ‬ ‫أن َي ْعت َِزالَ‬ ‫ِ‬


‫َار ال َي ْر ُجو اتِّصاالً َ‬
‫بالم َ‬
‫ال‬ ‫خت�ار ْ‬
‫ُ‬ ‫الم‬
‫�ب ُ‬‫َق�دْ َرغ َ‬
‫ِ‬ ‫�مى َأ َث َ�را‬ ‫ِ ٍ‬
‫الو َرى‬
‫ون َ‬ ‫ُمس� َتغ ِْرق ًا ف َ‬
‫يما َي َرى ُد َ‬ ‫كموق�ف َي َ�را ُه َأ ْس َ‬
‫َ‬
‫تَح�والً َقدْ ج ِ‬ ‫الو ِحيفيالغ ِ‬ ‫َحتَىن ِ‬
‫انتظار‬
‫ْ‬ ‫�ن غ ِ‬
‫َير‬ ‫اء م ْ‬‫َ َ‬ ‫ُّ‬ ‫َار ِج ْ‬
‫هار‬ ‫ُزول َ‬
‫مخاطب� ًا خديج� ًة ُمنْ َف ِع َ‬
‫لا‬ ‫َف َع�ا َد َطـ�ه َأ ْه َل�ه ُمس�تعج َ‬
‫ال‬
‫أم�ور م ِ‬ ‫مم�ا اعت�را ُه ِم�ن‬ ‫مطالِب� ًا له�ا ب�أن‬
‫ثق َل�ه‬ ‫ٍ ُ‬ ‫ّ‬ ‫تزم َل�ه‬
‫ِّ‬
‫إلى ا َّل�ذي في ِع ْلم�ه ال ِ‬
‫يكذ ُب‬ ‫َذه�ب‬
‫ُ‬ ‫قال�ت ن‬
‫ْ‬ ‫َفز ََّم َلتْ� ُه ُث َّ‬
‫�م‬

‫َّنـزيل ما ُي ْب ِدي الخَ َفا‬


‫ِ‬ ‫ِم ْن ُكت ِ‬
‫ُب الت‬ ‫اب�ن نَو َف ٍ‬
‫�ل َق�د َعر َف�ا‬ ‫ُو َري َق� ُة ُ‬
‫�وس َح َّق� ًا باركَ� ْه‬ ‫ش�ار ُة المباركَ� ْة‬ ‫ِ‬
‫بأنَّ� ُه الن َُّام ُ‬ ‫فكان�ت ال َب َ‬
‫يشري الناظم أن فقه التحوالت يف هذه املرحلة ما أجراه اهلل عىل قلب املصطفى ﷺ من‬
‫الرغبة يف اخللوة واالبتعاد عن حميط احلركة العامة واستمراره عىل هذا املوقف حتى أفاض اهلل‬
‫عليه بركات الوحي املنـزل‪ ،‬وكان الوحي (حتو ً‬
‫ال) جديد ًا أخرجه ﷺ من موقفه األول‪ ،‬فذهب‬
‫إىل خدجية حام ً‬
‫ال معه ثقل الوحي ومفاجأة العطاء الرباين‪ ،‬وقد استوعبت السري وكتب التاريخ‬
‫وقائع التحوالت يف هذه املرحلة وما قابله رسول اهلل ﷺ من املواقف‪ ،‬وما كان من خدجية‬

‫ريض اهلل تعاىل عنها مع رسول اهلل ﷺ من مواقف هامة َشدت من عزمه‪ّ ،‬‬
‫وقوت من موقفه مع‬
‫بروز هذه التحوالت‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪51‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫تَتاب ُع الو ِ‬
‫َحي واستمرا ُره‬

‫الم ْص َطف�ى ال َعدْ نَانِي‬


‫َي ُش�دُّ َأز َْر ُ‬ ‫�ف ال ُقرآنِ�ي‬ ‫وبع�دُ ج�اء الم ِ‬
‫وق ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫�ول‪ُ :‬ق�م بأم ِرنَ�ا َف َأن ِ‬
‫ْ�ذ َرا‬ ‫َي ُق ُ‬ ‫ِّ�را‬ ‫بِ ِ ِ‬
‫ْ َ ْ‬ ‫الملا ُمدَّ ث َ‬ ‫وصف�ه بي�ن َ‬ ‫ْ‬
‫�أن‬
‫الش ُ‬ ‫َّ‬ ‫َا ْس�تَقا َم‬ ‫َحتَّ�ى‬
‫اال ْختِ َفا‬
‫وص�ار ي ْأبى بع�دَ ه�ذا ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫الم ْصطف�ى‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِعن�دَ‬
‫ُم ْس� َت ْتبِ َع ًا ُق ْرآنَ� ُه لِ َي ْج َم َع� ْه‬ ‫برائي�ل ك َْي َي ْس�ت َِم َع ْه‬
‫َ‬ ‫َاق ِج‬
‫َي ْش�ت ُ‬

‫يشري الناظم إىل أن املرحلة الثانية يف فقه التحول بنـزول الوحي وبعد أن أدرك رسول اهلل ﷺ‬
‫بمؤازرة زوجته خدجية ريض اهلل عنها وبام سمعه من ورقة بن‬
‫َ‬ ‫عظمة ما ُأويت وبرز موقعه جلي ًا‬
‫نوفل‪ ،‬بدأ القرآن حيدُ ْو ُه إىل اختاذ مواقف الربوز والظهور واالنطالق (ﭑ ﭒ)(((‪(،‬ﮬ‬
‫ِ‬
‫لنـزول جربيل‬ ‫يتله ُف‬
‫ﮭ) (((‪ ،‬حتى استقام األمر لدى رسول اهلل ﷺ وتعزز موقفه وصار ّ‬
‫وسامع الوحي الرشيف وحيزَ ُن ُّ‬
‫لتأخره وبطئه عليه‪.‬‬

‫((( املزمل‪.1:‬‬
‫((( املدثر‪.1:‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪52‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ُّالت مَ ا بَعد ن ُ ِ‬
‫زول الوَحي‬ ‫تَحو ُ‬

‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َح�و ِل ا ّل�ذي َط َ�را‬ ‫َ‬


‫س�ول ُم ْ‬
‫�ذ َق َرا‬ ‫الر‬
‫ف�ي َمكْة ضدَّ ّ‬ ‫وأ ّو ُل الت ّ‬
‫َ�ار ِ‬
‫الفت َِن‬ ‫�ب ن ِ‬ ‫َ‬ ‫قري�ش م�ا َأتَ�ى بال َع َل ِن‬
‫ٍ‬
‫وأ ْو َغ ُل�وا ف�ي َش ِّ‬ ‫ُ‬
‫رف�ض‬
‫بِ�أ َد ٍ‬ ‫ّخ�ذ المخْ تَ�ار ِمنه�م م ِ‬
‫ب ُم ْص َطب�ر ًا َعل�ى َ‬
‫الج َف�ا‬ ‫وقف�ا‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫فات َ ُ‬
‫الحك ِ‬
‫ْم�ة‬ ‫ن�وف ِ‬
‫ويج َتبِيه�م بص ِ‬ ‫ِ‬
‫حم�ة‬‫ور‬ ‫يدْ عوه�م برأ َف ٍ‬
‫�ة‬
‫ْ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ ُ‬
‫المواق ِ‬
‫�ف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألش�رف‬ ‫مت ِ‬
‫َّخ�ذ ًا‬ ‫ِ‬
‫الطائ�ف‬ ‫مك�ة وف�ي بِ ِ‬
‫لاد‬ ‫ٍ‬ ‫ف�ي‬
‫ُ‬
‫َحتَى َأ َسا ُلوا َد َم ُه ِم ْن َح ُ‬
‫يث َس ْار‬ ‫جار‬ ‫ِ‬ ‫و َف َ‬
‫�وق ه�ذا َر َج ُم�و ُه بالح ْ‬
‫برائي�ل نَح�و دربِ ِ‬
‫�ه‬ ‫ُ‬ ‫�اء ِج‬ ‫�ه لرب ِ‬ ‫فع�اد ي ْش�كُو م�ا بِ ِ‬
‫َ َْ‬ ‫وج َ‬‫َ‬ ‫ِّ�ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫مس�تَطلع ًا طبيع� َة األَ ْح ِ‬
‫�وال‬ ‫الج ِ‬
‫ب�ال‬ ‫�ك ِ‬‫ق�ول َه�ذا َم َل ُ‬ ‫َي ُ‬
‫ُ‬
‫والر َج�االَ‬ ‫ِّس�اء‬ ‫�ق ِ‬
‫الج َب�االَ‬ ‫مس�ت ِ‬
‫َأذن ًا َأ ْن ُي ْطبِ َ‬
‫ّ‬ ‫�ح َق الن َ‬ ‫و َي ْس َ‬ ‫ُ ْ‬
‫�م ِج ْي ً‬ ‫ِ‬
‫أب�ي‬
‫لا ْ‬ ‫إِن�ي ُ‬
‫ألرج�و من ُْه ُ‬ ‫فق�ال‪َ :‬طـ�ه لي�س ه�ذا َم ْط َلبِ ْي‬

‫الس ِديدْ‬
‫بالوح ِي ّ‬
‫ْ‬ ‫َم َ‬
‫عاقل اإلسال ِم‬ ‫ي�ن َحق ًا و ُي ِش�يدْ‬
‫ي�م َه�ذا الدّ َ‬
‫ِ‬
‫ُيق ُ‬
‫يشري الناظم إىل حصول حتوالت جديدة يف الواقع املعاش مع بروز الرسول ﷺ بدعوته‬
‫اخليـرة‪ ،‬حيث رأى املرشكون حتو ً‬
‫ال جديد ًا يف حياة املصطفى فاختذوا موقف ًا سلبي ًا يتالءم مع‬
‫الكفر والكفار‪ ،‬فحاربوا دعوته علن ًا وأثاروا ضده وضدّ ما جاء به كل يشء يف واقع مكة‪ ،‬وما‬
‫حوهلا‪ ،‬ومع هذا املوقف السلبي فقد َش َعر رسول اهلل ﷺ بثقل األمر الذي جاء به وخطورة‬
‫ودينِه‬
‫موقف الكفار منه ومن الدعوة‪ ،‬فألزم عليه الصالة والسالم نفسه موقف ًا يتالءم مع ُخ ُل ِقه ِ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪53‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بالصرب واحللم واألناة والتحمل لألذى خالل سنوات العهد املكي‪ ،‬بل زاد صربه وحتمله بعد‬
‫موت السيدة خدجية بنت خويلد وموت عمه أيب طالب‪ ،‬إذ كان موهتام حتوال اقتىض الزيادة منه‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم يف التحمل والصرب‪ ،‬وحتى عندما ذهب إىل الطائف مستنرص ًا القوم‬
‫فكان منهم ما كان‪ ،‬وجاء ملك اجلبال مستأذن ًا أن يطبق عليهم األخش َبني َفأ َبى رسول اهلل ﷺ‬
‫حتو ٍل فيه‪ ،‬وقال ما قال من أمله يف املستقبل القادم‪ ،‬والنظر‬
‫ونظر إىل املستقبل وما جيريه اهلل من ُّ‬
‫إىل األجيال الذين يف أصالب آبائهم‪« :‬إين ألرجو أن خيرج اهلل من أصالهبم من يتوىل هذا‬
‫األمر كذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الدين» أو ما يف معناه‪ ،‬وكان‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪54‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ُّالت ما َقبل ِ‬
‫الهجْ رة‬ ‫تَحو ُ‬

‫والعدَ ا لِ ْم ُي ْم ِه ُلوا‬
‫َضعفين ِ‬
‫َ‬
‫في المست ِ‬
‫ُ ْ‬
‫ّلم�ا ر َأى َطـ�ه األ َذى يس� َت ْف ِ‬
‫ح ُل‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َاص ُ�روا‬ ‫أح ْب ٍ‬
‫�اش َعس�ى ُين َ‬ ‫ِ‬
‫ألرض َ‬ ‫�ار لألتب�ا ِع َأ ْن ُي َه ِ‬
‫اج ُ�روا‬ ‫َأ َش َ‬
‫م�ع الذي�ن َو َف�دُ وا م�ن َخ ِ‬
‫ي�ر َف ْج‬ ‫�ج‬ ‫و َع َق�دَ ال ُعه�و َد ف�ي أ ّي�ا ِم َح ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم�ن ِ‬
‫م�ن َعاه�دوا َطـ�ه بب�ذل ُ‬
‫الم َه�جِ‬ ‫األوس كَ�ذا والخزرجِ‬ ‫فتي�ة‬ ‫ْ‬
‫والص�دُّ ِض�دَّ َد ْعوتِ� ْه‬
‫زَا َد األَ َذى َ‬ ‫�ه وزَوجتِ� ْه‬ ‫�وت عم ِ‬
‫َ ِّ‬
‫وبع�دَ م ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الس�ما‬ ‫لِيصع�دَ المخْ ت ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفج ِ‬
‫اج َّ‬ ‫َ�ار م ْع َ�ر َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫�ما‬ ‫الس َ‬
‫�اءت الدّ َع�و ُة م ْن َر ِّب َّ‬ ‫َ َ‬
‫�ر َحا‬ ‫وص�دْ ُر ُه ُم ْبت َِه َج� ًا ُمن َْش ِ‬‫َ‬ ‫ور ًا بِ َم�ا َق�دْ ُمن ِ َح�ا‬
‫و َع�ا َد َم ْس ُ�ر َ‬
‫فك ََّذب�وه واس�تْخَ ُّفوا َش ِ‬ ‫َ‬
‫�اهدَ ه‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫وأ ْخ َب َ�ر ال َق�و َم بِ َم�ا َق�دْ َش َ‬
‫�اهدَ ْه‬

‫�ص بِ ْه‬ ‫َ�ال بالت َّْص ِد ِ‬


‫ي�ق َم�ا َقدْ ُخ ّ‬ ‫َفن َ‬ ‫�اء بِ ْه‬ ‫الص ِد ُ‬
‫ي�ق َم�ا َقدْ َج َ‬ ‫وص�دّ َق ِّ‬ ‫َ‬
‫حتو ِ‬
‫الت ما قبل اهلجرة واشتداد أذى املرشكني‪ ،‬وما كان من مواقف وقفها‬ ‫يشري الناظم إىل ُّ‬
‫رسول اهلل ﷺ يف سبيل محاية أتباعه من املستضعفني فأمرهم باهلجرة األوىل إىل احلبشة‪ ،‬وما‬
‫اختذه ﷺ من موقف يشري إىل حسن التدبري يف لقائه األول والثاين مع وفود احلج من األوس‬
‫تم عليه االتفاق عند هجرة الرسول ﷺ من محايته ونرصته‪.‬‬
‫واخلزرج‪ ،‬وما َّ‬
‫واملعراج»‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلرساء‬ ‫ِ‬
‫بمنحة «‬ ‫والر ِ‬
‫فعة‬ ‫ثم أشار الناظم إىل ما أراد اهلل هلذا النبي ﷺ من الكرامة ِّ‬
‫ٍ‬
‫وعزمات‬ ‫َ‬
‫مواقف جديدة‬ ‫حتو ٍل يف سرِ ِّ ه َ‬
‫وجه ِره أكسبه‬ ‫وما َ‬
‫هيأ ُه اهلل له هبذا العطاء العظيم من ُّ‬
‫َّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َ‬
‫مواقف سديدة‪،‬‬ ‫نامذج خمترص ٌة من حتوالت املرحلة وما كان أمامها من‬
‫ُ‬ ‫أكيدة(((‪ ،‬وهذه ك ُّلها‬
‫يمكن التعرف عىل تفصيالهتا يف أمهات السرية ‪ ،‬أما هنا فنكتفي برسد األحداث وذكر املواقف‬
‫ِحيالهَ ا‪.‬‬

‫((( بل يعد اإلرساء واملعرج حتوال هاما يف تاريخ الرسالة املحمدية كلها‪ ،‬فوقائع الرحلة عىل ظاهر األرض بني‬
‫مكة وبيت املقدس تكشف رس حتدي احلق للعقالء من مرشكي قريش والعرب‪ ،‬كام يكشف رس الرحلة‬
‫من بيت املقدس إىل عامل الساموات العىل وما فوقها مدى استيعاب املسلمني عطاء اهلل األبدي لنبيه حممد‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم بام يتجاوز حدود الزمان واملكان واإلمكان‪ ،‬وهلذا نجد الصديق ريض اهلل عنه‬
‫ساعة سؤاله عن اإلرساء والتصديق بام قاله صىل اهلل عليه وآله وسلم يقول‪ :‬إن قال ذلك فقد صدق‪،‬‬
‫واستدل بام قد أجراه اهلل لنبيه صىل اهلل عليه وآله وسلم من ارتباط بعامل السامء ونزول جربيل عليه فقال‪:‬‬
‫وكيف ال نصدقه وهو الذي يأتيه جربيل بخرب السامء يف اليوم والليلة؟‬
‫لقد كانت قصة اإلرساء واملعراج حتوال كبريا يف مستوى ثقافات الشعوب كلها‪ ،‬وحتديا خطريا ملجريات‬
‫املألوف واستعدادات العقل اإلنساين املجرد‪ ،‬وهلذا فإن قراءة وقائعها بتأن ومتعن بدءا باآليات القرآنية‬
‫املعربة عن هذا احلدث ومرورا باألحاديث الرشيفة احلاملة رس الوقائع التي شهدها رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم يف رحلته الكربى يف العاملني الدنيوي واألخروي‪ ،‬وما تيرس له من خرق العادة يف صور‬
‫شتى بدءا بالرباق وحركته ومرورا بالتقائه مع األنبياء والرسل واملالئكة يف بيت املقدس‪ ،‬وهناية بعروجه‬
‫من سامء إىل سامء وااللتقاء يف كل سامء ببعض األنبياء والرسل ورؤية اجلنة والنار وسدرة املنتهى واخرتاق‬
‫احلجب حتى املقام األعىل‪ ،‬الذي عرب عنه سبحانه بقوله‪( :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [النجم‪.]11-8 :‬‬
‫كل هذا ينقل املفهوم العقيل النظري إىل حالة من الذهول واالستغراب عند التفكر‪ ،‬وال خمرج وال مناص‬
‫من هذا الذهول إال بالتسليم وإسقاط كافة التصورات الذهنية العقالنية ليندرج العقل والقلب يف بحر‬
‫من االطمئنان والتسليم‪ ،‬وينتقل الوعي إىل قبول ما ال يقبل وتصديق ما ال يصدق ومعرفة ما ال يعرف‪،‬‬
‫كحالة إيامنية ترفع مستوى العقل ذاته إىل جتريد األسباب املدركة‪ ،‬والغوص يف عمق احلقيقة التي أوجدت‬
‫اإلنسان من العدم‪ ،‬وأبرزت فيه رس العلم والقلم‪ ،‬فسبحانه جل وعال‪ ..‬علم اإلنسان ما مل يعلم ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪56‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ف‪..‬‬ ‫الهجْ َر ُة‪ ..‬تَحو ٌ‬
‫َّالت ومَ واقِ ُ‬ ‫ِ‬

‫يب�ة المن ِ‬
‫ّ�ة لطِ ِ‬
‫ِم�ن مك ٍ‬ ‫ِ‬
‫َاص َ�ر ْة‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫�اء َأ ْم ُ�ر الل�ه ُ‬
‫بالمغَ�ا َدر ْة‬ ‫وج َ‬‫َ‬
‫َحتَّى َف َش�ا َأ ْم ُر الخُ ُ�روجِ األَ ْك َب ِر‬ ‫�ذ ِر‬
‫وح َ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اج ُ�روا ف�ي خ ْفي�ة َ‬ ‫َف َه َ‬
‫ب كَ�ذا َو َل�دْ‬ ‫ي�ن ُأ ٍّم َ‬
‫وأ ٍ‬ ‫م�ا َب َ‬ ‫ُّف�ار إِ ْخ ُ‬
‫لاء ال َب َل�دْ‬ ‫�ق الك َ‬ ‫َ‬
‫وأ ْق َل َ‬
‫ِ‬
‫الفتن�ة‬ ‫رأس‬ ‫فاجتَمع�وا فِي ال�دَّ ِار د ِار النَّدْ ِ‬
‫إبلي�س ُ‬
‫ُ‬ ‫اءه�م‬
‫ْ‬ ‫وج‬
‫َ‬ ‫وة‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫َاس‬ ‫�ه ِم ْن َخ ِ‬
‫ي�ر ن ْ‬
‫ألنّه�م فِي رأيِ ِ‬
‫َ‬ ‫باس‬ ‫ٍ‬
‫هل ن َْج�د في ال ِّل ْ‬ ‫كَأنّ� ُه ِم ْن َأ ِ‬

‫ت َخ ِف ْي‬‫ب َقت ِْل طـه وه�و فِي البي ِ‬


‫َْ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫ف‬ ‫ّخ�اذ المو ِق ِ‬
‫َْ‬
‫وا َّت َف ُق�وا عل�ى ات ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫للحص�ار‬ ‫�اء الق�و ُم‬ ‫و َق َ‬
‫�ال‪َ :‬ج َ‬ ‫َ�ار‬‫للمخْ ت ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رائي�ل‬ ‫�اء ِج ْب‬‫فج َ‬‫َ‬
‫ُوف َش ِّ�ر ِه ْم‬
‫ليك ِمن صن ِ‬
‫ُ‬ ‫وم�ا َع َ‬ ‫َ‬ ‫هم‬ ‫وق َمك ِْر ْ‬
‫اخرج َفمكْر ِ‬
‫الله َف َ‬ ‫ُ‬ ‫َف ْ ُ ْ‬
‫�ي ال َق ِد ِير‬ ‫ِ‬
‫ال�رب ال َعل ْ‬
‫ِّ‬
‫وحكْم ِ‬
‫�ة‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ي�ر‬ ‫�ن التّدْ بِ ِ‬ ‫َان م�ا ك َ ِ‬
‫َان م ْ‬ ‫َف�ك َ َ‬
‫وق�ف يحمي�ه ِم�ن َأ ْش ِ‬
‫�باه‬ ‫ٌ‬ ‫وم‬ ‫ِ‬
‫الل�ه‬ ‫َح�و ٌل َي ْج�ري َب ِ‬
‫أم�ر‬
‫َ‬ ‫ت ُّ‬
‫ِ‬
‫األش�ياء‬ ‫ج ِ‬
‫يب�ة‬ ‫ٍ‬
‫وح�ة َع ِ‬ ‫ف�ي َل‬ ‫ِ‬
‫ض�اء‬ ‫َّدبي�ر بال َق‬
‫تَم�از ََج الت ُ‬
‫قرارها يف حياة املسلمني‬
‫أشار الناظم إىل صدور األمر اإلهلي باهلجرة إىل املدينة‪ ،‬وكان ُ‬
‫أحسوا ّ‬
‫بأن‬ ‫فالكفار ُّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫شديد بني الطرفني‪،‬‬ ‫حتو ً‬
‫ال خطري ًا يف املرحلة بعمومها‪َّ ،‬أدى إىل استنفا ٍر‬ ‫ُّ‬
‫َ‬
‫موقف االجتامع يف دار الندوة‪ ،‬وكيف‬ ‫اإلخال َء اخلفي ملكة يهُ دِّ د البال َد وأمنها‪ ،‬ولذلك اتخَّ ذوا‬
‫الشيطان يف هذا املوقف العنيد بغيتَه فجا َء بذاتِ ِه مشارك ًا يف قرار القتل واإلمضاء عليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وجد‬
‫ِ‬
‫وحسن املكر والتدبري‬ ‫ف ال َّتحدِّ ي مع الكفا ِر ساع َة شعورهم بالقوة‪،‬‬ ‫وكيف جعل ُ‬
‫اهلل ِ‬
‫موق َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪57‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َفأمر نبيه صىل اهلل عليه وسلم ﷺ باخلروج من املنزل يف تلك الساعة احلرجة وأجرى اهلل أسباب‬
‫احلفظ والكألة والنرص لنبيه صىل اهلل عليه وآله وسلم حتى وصوله إىل غار ثور‪ ،‬وكيف أجرى‬
‫اهلل انفعال الظواهر خارج دائرة املألوف ليصبح كل يشء يف أعني الكفار من جنس املألوف‬
‫فتطمئن عقوهلم وقلوهبم ملا يف مدركاهتم من الفهم والتصور‪ ،‬فال يصلوا إىل رسول اهلل صىل اهلل‬
‫ري إىل ّ‬
‫أن يف‬ ‫عليه وآله وسلم من جهة وال يتجاوز حدود عقوهلم الضيقة من جهة أخرى‪ ،‬مما يش ُ‬
‫عظيم للمسلمني وإعادة‬
‫ٌ‬ ‫درس‬ ‫ِ‬
‫واملواقف وما ترتب عليها من املواقف والنتائج‪ٌ :‬‬ ‫التحوالت‬
‫ُّ‬ ‫فقه‬
‫واعية ملدرسة النبوة مدرسة االقتداء واالهتداء‪ ،‬سواء عند ترجيح مقومات العقل والتدبري أو‬
‫عند تعطيل مستوى العقل لالنطواء يف إعجاز اآليات وانفعاالت الظواهر بأمر اهلل‪ ،‬وكم يف‬
‫وقائع القصة من دروس‪.‬‬
‫تعرض له ﷺ يف سبيل اهلجرة حتى وصل إىل‬ ‫فعىل سبيل املثال‪ :‬نجد ّ‬
‫أن االبتالء الذي ّ‬
‫خاص ًا ألمته‪ ،‬تتعلم من خالله معنى املكابدة أواملجاهدة‬ ‫املدينة جمهد ًا مكدود ًا‪ ،‬إنام ِ‬
‫حيم ُل تعلي ًام ّ‬
‫جيري له‬
‫َ‬ ‫أو الصرب عىل املكاره يف سبيل حتقيق األهداف والغايات‪ ،‬وإلاَّ فإن اهلل ٌ‬
‫قادر عىل أن‬
‫دون احلاجة ألصناف‬ ‫ِ‬
‫املدينة َ‬ ‫يف اهلجرة ما أجراه له يف اإلرساء واملعراج فيحمله البرُ اق إىل‬
‫ريها من حياة رسول اهلل إنام هي‬
‫ولكن اهلجرة وغ َ‬
‫ّ‬ ‫املواجهة واملراقبة واحلذر وطول املرحلة‪،‬‬
‫مدرسة املواقف ألمته‪ ،‬وهي الوجه اإلجيايب املعادل ملا أجراه اهلل من رسعة الرحلة السابقة ليلة‬
‫اإلرساء واملعراج‪ ،‬وكم يف هذه الوقائع من فقه مكنون‪ ،‬ال زالت أمة القرآن حتتاج إىل إبرازه‬
‫وإخراجه من حيز الصدور إىل مساحة السطور‪ ،‬فالنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم أسوة وقدوة‬
‫سواء يف حال استخدامه الواعي للعقل املحاط بالعناية أو يف حالة تسليمه الكيل ألمر اهلل تعاىل‬
‫يف توجيهه وما جيري له من انفعاالت وإعجاز‪.‬‬
‫مفهوم التوكل من خالل األخذ باألسباب حينا‪ ،‬وحينا‬
‫َ‬ ‫وهبذا وذاك يع ِّلم ُّ‬
‫النبي ﷺ أ ّمتَه‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪58‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫أتباعه يف ِّ‬
‫حمك االختبار واالبتالء لريبطوا توكلهم بام جيريه اهلل‪ ،‬وكيف يعطي‬ ‫يضع الرسول َ‬
‫ِ‬
‫حاالت احلرج واخلطر مقرون ًا بأمر اهلل‪،‬‬ ‫موقعه يف أشد‬ ‫ُ‬
‫الرسول للعقل وحسن التدبري اإلنساين َ‬
‫وكيف تتوقف مسألة التدبري والعقل يف مواقع أخرى بأمر اهلل أيضا‪.‬‬
‫واسعة املعاين واملباين ِ‬
‫حتمل‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مدرسة‬ ‫ولنا يف مرحلة ما قبل اهلجرة ‪-‬لو تفكرنا يف ِ‬
‫تفاصيلها‪-‬‬
‫ويوسع مشاهدها املعرفية‪ ،‬عل ًام‬
‫ِّ‬ ‫من ِ‬
‫فقه ال َّت َح ُّوالت واملواقف ما ُي ِ‬
‫ربز أمهية السرية املباركة‬
‫وعم ً‬
‫ال وسلوك ًا ومواقف‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪59‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫املرحلة امل ِّكي َِّة من االقتدا ِء واالهتدا ِء‬
‫ِ‬ ‫مَ وْقِ ُع‬

‫مدرس� ٌة ش�رعي ٌة ت َْه ِدي الورى‬ ‫مرحل� ُة البع َث ِ‬


‫�ة ف�ي أ ِّم الق�رى‬ ‫َْ‬
‫الش�عوب إِ ْن َف ِه ْمنا اإلقتِدا‬
‫ِ‬ ‫بين‬ ‫الخالص والهدى‬
‫ُ‬ ‫إلى الذي فيه‬
‫ْ‬
‫العمل‬ ‫ٍ‬
‫واقتداء في‬ ‫ٍ‬
‫اهتداء‬ ‫َأ ْص ُل‬ ‫ف�كل ما قد م�ر فيه�ا أو َح َص ْل‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫المخالف‬ ‫�ب أو م�ع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫المح ِّ‬
‫م�ع ُ‬
‫َ‬ ‫مواق�ف‬ ‫وكل م�ا ق�د كان م�ن‬
‫ِ‬
‫األفضل‬ ‫نحو‬ ‫ِ‬
‫األزمان َ‬ ‫ِ‬
‫الحق‬ ‫في‬ ‫واألس�اس ال َع َملِ ْي‬
‫ُ‬ ‫الطريق‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫ِ‬
‫الكتب‬ ‫ِ‬
‫نص�وص‬ ‫ِ‬
‫لالجته�اد في‬ ‫ِ‬
‫أخلاق النبي‬ ‫َ‬
‫مج�ال بع�دَ‬ ‫فلا‬

‫وم�ا ج�رى من�ه وم�ا أ َق َّ�ر ُه‬ ‫ِ‬


‫األص�ول َهدْ ُي ُه‬ ‫منص�وص‬
‫َ‬ ‫ألن‬
‫ّ‬

‫َع ْو ُد الجمي ِع َ‬
‫نحو طه المرسلا‬ ‫فالمخرج الس�ليم فيما َأ ْش�كَال‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تضلي�ل‬ ‫ٍ‬
‫تزيي�ف وال‬ ‫م�ن غي�ر‬ ‫ِ‬
‫التأصيل‬ ‫والغ�وص في مرحل�ة‬
‫ُ‬
‫وكل م�ا ق�د ص�ح م�ن أقوالِ ِ‬
‫�ه‬ ‫ِّ‬ ‫فالح�ق فيم�ا كان م�ن أفعالِ ِ‬
‫�ه‬ ‫ُّ‬
‫َ َّ‬

‫يشري الناظم يف هذه اخلالصة إىل أمهية دراسة املرحلة املكية وما تفردت به من املواقف‬
‫والعظات والعرب إذا تأملنا سرية املصطفى صىل اهلل عليه وآله وسلم مع أبتاعه ومع معارضيه‪،‬‬
‫وما متيز به صىل اهلل عليه وآله وسلم من األخالق العالية التي أهلمه اهلل إياها أمام طغيان قريش‬
‫واألعراب وهم يملكون قرار احلكم واالستقرار يف مكة وما حوهلا‪ ،‬وكيف عاملهم صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم باحلكمة واملوعظة احلسنة وطويل الصرب والتحمل حتى استجلب العديد من‬
‫الكفار إىل اإلسالم‪ ،‬وإىل أن يف هذه املواقف واألخالق مدرسة مستمرة النفع وإلفادة املسلمني‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪60‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫أمجعني يف كل عرص ومرحلة‪ ،‬حيث كانت هذه املرحلة يف عمق تاريخ البعثة حماطة هبيمنة‬
‫الكافر وجربوته‪ ،‬وهي ما تسمى بمرحلة اجلاهلية األوىل‪.‬‬
‫وال شك أن معامل املرحلة القادمة تشري إىل شمول آثار اجلاهلية الثانية يف العامل‪ ،‬وهي سيادة‬
‫قرار الكفر والكافر عىل الشعوب‪ ،‬وقد برزت معاملها يف أطروحات العوملة املعارصة‪ ،‬واهلل‬
‫غالب عىل أمره‪ ،‬ولكن عمق دراستنا للمرحلة املكية خصوصا ربام فتح لنا كأمة ذات منهج‬
‫رشعي واع طريقا للسالمة ومنهجا للتعامل املرشوع يف املرحلة املضطربة‪ ،‬وبام يتفتح للدارس‬
‫تنازل مخُ ِ ٍّل أو‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تفريط أو‬ ‫ٍ‬
‫إفراط وال‬ ‫املتعمق أساليب الصرب واألخالق والتوازن مع الغري دون‬
‫تعاون ِ‬
‫مذ ٍّل‪ ،‬إىل أن يقيض اهلل أمرا كان مفعوال‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪61‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َّالت ومَ واقِ ُ‬
‫ف مَ ْرحَ ِلة ما بَعد ِ‬
‫الهجْ رة‬ ‫تَحو ُ‬
‫َمث�ل اله ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يبة‬ ‫والبِ ْش ُ�ر َيغ َْش َ‬
‫�اها ك ِ َ‬ ‫لطيبة‬ ‫الم ْص َط َفى‬ ‫ُمن ُ‬
‫ْ�ذ ُوص�ول ُ‬
‫لم�ا َر َأوا َطـ� َه إليه�م َق�دْ َق ِد َم‬ ‫ّ‬ ‫َّ�اس و ُقو َف� ًا ُم ْلت ِ‬
‫َ�ز ْم‬ ‫َو َو َق َ‬
‫�ف الن ُ‬
‫و ُك ّله�م ِم ّم�ا َر َأى َق�د َا ْش� َف َقا‬ ‫ت األَ ْع�دَ ُاء َص ْم َت ًا ُم ْطبِ َقا‬
‫وص َم َ‬
‫َ‬
‫السكِ ْي ِنة‬‫الماضي إلى َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َحا َلة َ‬
‫ِ‬ ‫اه�ر المدْ ِ‬
‫ين�ة‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َقل�ت َم َظ ُ‬
‫و َا ْنت ْ‬
‫م ِ‬ ‫َ�ار‬
‫المخْ ت ُ‬ ‫ُ‬ ‫و َات َ‬
‫َّخ�ذ‬
‫واق َف� ًا َجدي�د ًة تُحيِ�ي ال َب َل�دْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫الص َم�دْ‬
‫َّ‬ ‫َوح�ي‬ ‫ِم�ن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ليجم�ع النَّ�اس َعلى اإلسلا ِم‬
‫َ‬ ‫الح�را ِم‬ ‫الم ْس�جد َ‬ ‫منْه�ا بِ ُ‬
‫ن�اء َ‬
‫ْصار ِصدْ َق ًا وانْطِوا‬
‫فِي َو ْحدَ ِة األَن ِ‬ ‫ْرج واألَ َ‬
‫وس َس�وا‬ ‫وج َم َع الخَ ز َ‬
‫َ‬
‫َاص ُروا‬
‫من ن َ‬ ‫و ُع ْص ِبة األَن َْص ِ‬
‫ار ِّم ْ‬ ‫اج ُروا‬ ‫آخى َب ْي َن َم ْن َقدْ َه َ‬ ‫ك َ‬
‫َذاك َ‬

‫َأ ْن َين ُْصروا اإلسال َم َج ْه َر ًا َ‬


‫وخ َفا‬ ‫اه�دُ و ُه َعه�دَ ِص ٍ‬
‫�دق َو َو َف�ا‬ ‫و َع َ‬
‫وصول رسول اهلل ﷺ إىل املدينة املنورة حتو ً‬
‫ال هام ًا وفاص ً‬
‫ال زمني ًا بني مرحلتني‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫السن َِة ِمن حسن استقبال املدينة لنبيها الكريم عليه‬
‫كتب ُّ‬
‫استني‪ .‬أوهلام ما أشارت إليه ُ‬
‫حس َ‬
‫َّ‬
‫أفضل الصالة والسالم‪،‬وما أسعد اهلل به قلب نبيه صىل اهلل عليه وآله وسلم وهو يشهد حتول‬
‫احلال ما بني موقف أهل مكة الذين اضطروه للخروج متخفيا متواريا وبني أهل املدينة الذين‬
‫فتحوا صدورهم للنبي اخلاتم والدين احلاكم‪ ،‬وصاروا يتسابقون إىل السالم عليه واستضافته‬
‫يف بيوهتم بعد أن أحسنوا ضيافته يف قلوهبم‪.‬‬
‫لقد بقيت أبيات الولدان وهزجيهم يف االستقبال أعظم شاهد عىل رشف التحول‪ ،‬وسالمة‬
‫املدنية ‪:‬‬
‫املواقف ّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪62‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الو َد ْاع‬
‫ات َ‬‫ِمن َثنِ ّي ِ‬ ‫البدر علينا‬
‫ُ‬ ‫َط َل َع‬

‫ما َد َعا هللِ ْ‬


‫داع‬ ‫الش ْك ُر علينا‬
‫َو َج َب ُّ‬

‫س هبا ﷺ بناء اجلبهة الداخلية‬


‫أس َ‬ ‫ٍ‬
‫جديدة َّ‬ ‫َ‬
‫ومواقف‬ ‫ٍ‬
‫قرارات‬ ‫وما تال هذا املوقف الرائع من‬
‫ُ‬
‫املواقف التي أشار إليها الناظم كبناء املسجد احلرام وما‬ ‫لدولة اإلسالم اجلديدة‪ ،‬فكانت تِ ْل ُكم‬
‫رافق هذا البناء من أعاجيب املواقف التي تستحق التوقف واإلشارة للراغب املتفهم‪ ،‬كـ»مجع‬

‫األوس واخلزرج» يف وحدة جديدة حتمل مسمى (األنصار) وما يف هذا املوقف اجلديد من ُّ‬
‫حتول‬
‫هام يف شأن العالقات االجتامعية وخروج الفريقني من قاموس األلفاظ القديم الذي كان سبب ًا يف‬
‫إثارة الرصاع والنـزاع ومن خلفه اليهود إىل قاموس تعبريي جديد حيمل تفاؤ ً‬
‫ال جديد ًا بمسمى‬
‫األنصار‪.‬‬
‫ِ‬
‫املعاجلات ك ِّلها عرب‬ ‫ُ‬
‫موقف املؤاخاة الذي َس َبق به رسول اهلل ﷺ الزمن واختزل مساحة‬ ‫ثم‬
‫أعظم التأثري يف وحدة الشعب بعمومه‪ ،‬ومتييز مجاعة اإلسالم‬
‫ُ‬ ‫التاريخ‪ ،‬فقد كان هلذا املوقف‬
‫عن غريهم وبموقف سيايس وعسكري واجتامعي متميز جتاوز احلاجة للتخطيط والدراسة‬
‫وامليزانيات وجدولة التنفيذ‪.‬‬
‫فالقرار احلاسم يف املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار القائم عىل معاين احلب والرمحة والسالم‬
‫واألخوة يف اهلل َم َّك َن الدولة ال َفتِ َّي َة من ضامن االستقرار واالستمرار ِّ‬
‫بأقل التكاليف وأفضل‬
‫ت املؤاخا ُة ُأ ُك َلها يف حينها‪ ،‬كنموذج َ‬
‫عميل لإلصالحات الرضورية يف عالقات‬ ‫الوسائل‪ ،‬وآ َت ِ‬

‫املسلمني قبل اإلصالحات املادية‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪63‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الله ﷺ‬
‫ول ِ‬ ‫قِ را َء ٌة جَ دِي َد ٌة للمُجْ تَمَ ِع ا َمل َدن ِِّي عىل حَ يَا ِة َر ُس ِ‬
‫الل ثَوَا ِب ِت فِ ْق ِه التَّحَ و ِ‬
‫ُّالت‬ ‫ِمن خِ ِ‬

‫يقصد بالقراءة اجلديدة عمق النظر يف املرحلة املدنية التي طرأ فيها حتول كبري وهام من‬
‫حيثيات عدة‪ ،‬أبرزت َل ّف ًا من مواقف رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وجديد علمه وعظيم‬
‫رسالته ومسؤوليته‪ ،‬ما يؤكد حقيقة ما قد قيل‪ :‬إهنا مرحلة ترسيخ ثوابت األمة إىل يوم الدين‪،‬‬
‫فلن يأيت أحد بعده بجديد‪ ،‬ولن يبلغ عقل مهام أويت من امللكات مبلغ صاحب الوعي السديد‬
‫والوحي األكيد‪.‬‬
‫فالرسول صىل اهلل عليه وآله وسلم غرس البذرة ورعاها وحدد أسباب نجاحها وعوامل‬
‫فسادها من داخل املدينة املباركة‪ ،‬فالذين كتب اهلل هلم السالمة واألمان يف الدارين جرت هلم‬
‫أسباب التوفيق منذ باكورة هذه املرحلة‪ ،‬والذين كتب اهلل عليهم الشقوة والتحريش واإلرجاف‬
‫وحتمل مسؤولية االنحراف ومدراسه عرب التاريخ الالحق برزوا عىل صفة النفاق والفسوق‬
‫والرتدد والفساد منذ تلك املرحلة‪.‬‬
‫فكانت تلك املرحلة هي البوصلة التارخيية املحددة وجهة املجتمعات واجلامعات بدءا من‬
‫رجال النرصة‪ :‬األنصار واملهاجرين‪ ،‬وهناية بيأجوج ومأجوج وعساكر الدجل والدجاجلة‪،‬‬
‫إىل ساعة النفخ يف الصور‪.‬‬
‫ومن أجل إيضاح هذه الصورة املتحركة عرب األمكنة واألزمنة فقد رفع النبي صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم مستوى االستعداد لفقه التحوالت بني أصحابه منذ بسطه مادة هذا العلم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪64‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اهلام واخلطري‪ ،‬لينظروا بأعينهم وقلوهبم مساحة الزمن وحتوالته وما سيجري فيه من خري‬
‫أو رش أو إشارة أو نذارة أو استقامة أو انحراف‪ ،‬سواء يف مستوى احلكم والقرار‪ ،‬أو العلم‬
‫واالستقرار‪ ،‬أو غريمها من أسباب احلياة العامة واخلاصة‪ ،‬بل اعتنى صىل اهلل عليه وآله وسلم‬
‫بمن حوله من األقارب والنساء واألصحاب وكشف لكثري منهم ما ينتظره يف املستقبل القريب‬
‫وما ينتظره غريه يف املستقبل البعيد‪ ،‬بل ثبت يف الصحيح أنه صىل اهلل عليه وآله وسلم صىل‬
‫بالناس صالة الفجر ثم قام خطيبا حتى صالة الظهر فنزل ثم صىل هبم الظهر‪ ،‬ثم قام خطيبا‬
‫حتى صالة العرص فنزل وصىل ثم صعد املنرب خطيبا حتى صالة املغرب ثم انرصف‪ .‬وكأنه‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم قد مجع دفتي الزمان واملكان من عرصه إىل قيام الساعة يف هذا اليوم‬
‫املتميز بدء فجره‪ ،‬وهو ِإشارة إىل بداية مرحلة البالغ وهناية بغروب شمسه وهي إشارة إىل هناية‬
‫العامل والكون‪ ،‬وقد ثبت أنه صىل اهلل عليه وآله وسلم رسد يف هذا اليوم كل ما سيقع من فتن‬
‫وحتوالت وأرشاط ومالحم وبشارات وهرج ومرج وغري ذلك‪ ،‬حتى قال الراوي‪ :‬حفظ ذلك‬
‫من حفظ ونيس ذلك من نيس‪.‬‬
‫إذن فهذه مرحلة خطرية وهامة وفقه جدير بالقراءة والنظر‪ ،‬ألنه ليس فقه اإلسالم واإليامن‬
‫واإلحسان‪ ،‬وإنام هو فقه عالمات الساعة‪ ،‬وقد وضعنا يف هذه الوريقات ما أدركناه وفهمناه‬
‫من قليل املعرفة حول هذا العلم الواسع باعتباره أحد أركان هذا الدين‪ ،‬فنسأل اهلل العون‬
‫والتوفيق‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪65‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫والس ُ‬
‫اعة‪ ..‬تَداخ ٌل مَ ٌّ‬
‫كاني و َز ٌّ‬
‫ماني‬ ‫البَعْ ث َ ُة َّ‬

‫�ت والس�اع ُة ش�يئ ًا ِ‬


‫ُب ِع ْث ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ول َخ ُير الخَ ِ‬
‫َي ُق ُ‬
‫واح�دا‬ ‫َّ‬ ‫لق في ف ْقه ُ‬
‫الهدَ ى‪:‬‬
‫َر ْأس ًا و َع ْرض ًا فا ْف َه َم َّن ْ‬
‫واش َر َحا‬ ‫واضحا‬ ‫�ير با ِ‬
‫إل ْص َب ِع َرس�م ًا‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُيش ُ‬
‫يبدأ الناظم يف حتديد فقه التحوالت مع سنة املواقف بحديث املصطفى ﷺ‪ُ « :‬ب ِعث ُْت‬
‫اعـ ُة َك َها َتني»((( فاإلشارة إىل ذاته بقوله‪َ « :‬أ َنـا» واإلشارة إىل املواقف بالبعثة واإلشارة إىل‬
‫والس َ‬
‫َّ‬
‫بالساعة‪.‬‬
‫التحوالت َّ‬
‫هام إىل بـيان املالحقة واملعارصة باألحداث‬ ‫ٌ‬
‫مدلول ٌ‬ ‫وإشارته ﷺ بأصبعه يف قوله‪ « :‬كهاتنيِ»‬

‫زمان ًا ومكان ًا‪.‬‬


‫له�ذ ِه الدُّ ني�ا وو ْق� ِع ِ‬
‫الفت ِ‬
‫َ�ن‬ ‫ِ‬ ‫ي�ه م�ا َب ِقي ِم�ن ز ََم ِن‬
‫فال�ر ْأس فِ ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬

‫يشري الناظم إىل أننا إذا رفعنا السبابة والوسطى إىل الشكل الرأيس فسيت ََبـينَّ ُ َمن املَعنِ ُّي‬
‫يف قوله‪« :‬كهاتني» َر ْس ًام بـياني ًا ملا بقي من ُع ُمر الدنيا الذي ال يتجاوز األنملة الوسطى أمام‬

‫السبابة‪ ،‬وأما «وقع الفتن» أي‪ :‬إن رأس األصبع أعاله‪ ،‬فالفتن يف َع ّ‬
‫لو مع هناية الزمان‪.‬‬

‫يث َأتَى ِج ْب ِر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫صان‬
‫الم ْ‬
‫بالوحي ُ‬
‫ِ‬ ‫يل‬ ‫َح ُ‬ ‫�كان‬
‫الم ْ‬ ‫واألُ ُفق ُّ‬
‫�ي في�ه ت َْحدي�دُ َ‬

‫وضع ُأ ُف ٍ‬
‫قي فإننا نفهم من قوله‪ :‬كهاتني املجاور َة يف‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا ما وضعنا السباب َة والوسطى يف‬
‫املكان واملالحق َة يف الزمان‪.‬‬
‫أن عالمات الساعة تظهر وتشتد ويعلو خطرها يف املكان الذي َنـزَ َل‬
‫واملقصود «باملكان» ّ‬

‫(( ( أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬ومسلم يف صحيحه‪ ،‬والطرباين عن أنس‪ ،‬وأمحد يف مسنده‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪66‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رشها ِ‬
‫وخدَ اعها يربز مالحق ًا‬ ‫وإبراز ِّ‬
‫َ‬ ‫فيه القرآن وليس بعيد ًا عنها‪ ،‬كام ّ‬
‫أن مالحقة العالمات‬
‫للمكان يف كل زمان وعرص ومرحلة‪ ،‬من مدلول «أنـا» أي من حيث أقامه اهلل وأقام املدافعني‬
‫عن ذاته وصفاته وأخالقه ومواقفه باالنطواء فيه‪ ،‬وليس يف النصوص وحدها‪ ،‬فاملوقع املبارك‬
‫ٍ‬
‫خطرية‬ ‫َ‬
‫مواقف وحتوالتٍ‬ ‫الذي ُولِدَ فيه ﷺ واملوطن الذي هاجر إليه أن يشهد من هذا املعنى‬
‫يف العالقة بالذات النبو ّية والعالقة بالعالمات والعالقة بالنصوص(((‪.‬‬

‫ب�ر ٍم ُمنَ�ز َِّل‬ ‫ٍ‬


‫أم�ر ُم َ‬ ‫ِم�ن ّ‬
‫كل‬ ‫�و ِل‬ ‫يك ُ ِ ِ‬
‫ُ�ون في�ه َأ ْخ َط ُ�ر الت ََّح ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫األجيال ِمن ُ‬ ‫ُ‬
‫واصمت�ا‬
‫ُ‬ ‫ي�ن اإلل�ه فاع َل َّ‬
‫م�ن‬ ‫د ُ‬ ‫حيث أتى‬ ‫و ُيخْ �دَ ُع‬

‫يشري الناظم إىل خطورة التحوالت املكانية والزمانية يف ذات املوقع املبارك‪ ،‬وأهنا طوع ًا‬
‫أو كره ًا ستكون موقع ًا ومرسح ًا للخداع يف الدِّ ين والدنيا‪ ،‬فإذا علمت ذلك فافهم واصمت‬
‫وتابع مدلول التحول منذ بدايته‪ ،‬حيث قال‪:‬‬

‫َ�ر‬ ‫�ط ُم ٍ‬
‫�واز ُي ْذك ُ‬ ‫س�ير ف�ي َخ ٍّ‬
‫َي ُ‬ ‫فمنذ َع ْص ِر المصطفى والخَ ُ‬
‫طر‬ ‫ُ‬

‫ن�وات‬ ‫�ائر ف�ي َق‬ ‫َخ ْي ٌ�ر َ‬ ‫�ر و َث ِ‬ ‫ِخ َ‬


‫لال َع ْش ٍ‬
‫ْ‬ ‫وش ٌّ�ر َس ٌ‬ ‫�نوات‬
‫ْ‬ ‫الث َس‬

‫�ه ُمنْ َع ِق�دُ‬


‫أتباع ِ‬
‫ِ‬ ‫والش�ر ف�ي‬
‫ُّ‬ ‫فالخي�ر ف�ي مس�يره ُمط ِ‬
‫َّ�ر ُد‬ ‫ُ‬
‫باإلل�ه ُمنْت َِص ْ�ر‬
‫ِ‬ ‫لك�ن َطـ�ه‬
‫ّ‬ ‫ألم�ر َق�دْ ُق ِد ْر‬
‫ٍ‬ ‫وك ُّله�م َي ْس� َعى‬

‫((( كمثل قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم عن مكة ‪« :‬بئس الشعب جياد» ‪ ،‬قاهلا مرتني أو ثالثا‪ ،‬قالوا‪ :‬يارسول‬
‫اهلل! قال‪« :‬خترج منه الدابة فترصخ رصختني أو ثالث رصخات فيسمعها َمن بني اخلافقني» ‪ .‬رواه يف‬
‫«األوسط» بضعف‪ .‬اهـ عن «مجع الفوائد عىل جممع الزوائد» ص‪.731‬‬
‫ومثل قوله عن املدينة يف حديث الساعة قال‪ :‬أرشف النبي عىل أطم من آطام املدينة فقال‪« :‬هل ترون‬
‫ما أرى؟» قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪« :‬فإين أرى مواقع الفتن خالل بيوتكم كمواقع القطر» املرجع السابق ص‪.711‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪67‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بعثت أنا والساعة كهاتني»((( ّ‬
‫وأن من معانيه‪ :‬املرافقة الزمنية واملكانية‬ ‫يشري الناظم إىل مدلول « ُ‬
‫َالح ِق األصبعني وتالزمهام‪ ،‬ولذلك سنجد‬ ‫الز ٌم و َت ُ‬
‫الح ٌق كت ُ‬ ‫للتحوالت واملواقف «كهاتني» َت ُ‬
‫يف قراءتنا هلذا العلم كيف بدأ التالزم والرتافق مع خطوط التحول داخل اخليمة اإلسالمية‬
‫ذاهتا‪.‬‬

‫تنة أو ِمن ِش ْ‬
‫قاق‬ ‫وما جرى ِمن فِ ٍ‬
‫ََ‬ ‫س�لوك ذو نِ ْ‬
‫ف�اق‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األم�ر‬ ‫َف ْم َب ُ‬
‫�دأ‬

‫يشري الناظم إىل أن مبتدأ األمر يف هذا العلم من حيث ظهور التحول باالنحراف الفكري‬
‫يف املدينة داخل اخليمة اإلسالمية يتحدد بمرحلة ظهور اإلسالم يف املدينة املنورة‪ ،‬وقد أتم اهلل‬
‫للنبـي ﷺ األمر باهلجرة واالستقرار بطيبة وبناء املسجد واملؤاخاة بـني املهاجرين واألنصار‬
‫الز َخم املبارك برزت نوا ُة املنافقني َّ‬
‫كأول‬ ‫ووضع القواعد األوىل لدولة اإلسالم‪ ،‬ويف هذا َّ‬
‫بؤرة فساد داخل اخليمة اإلسالمية‪ ،‬حيث أظهر العديد منهم اإلسالم واطمأنوا عىل أنفسهم‬
‫وأمواهلم وأبنائهم‪ ،‬ثم بدؤوا من داخل هذا االطمئنان عىل إبراز مكنون صدورهم‪ ،‬حتى إن‬
‫القرآن جعل حيز ًا كبـري ًا للكالم عنهم و َف َض َح مؤامراهتم وأفعاهلم‪.‬‬

‫اآليات َش ْر ُح َمك ِْر ِه ْم‬


‫ِ‬ ‫وجاء في‬
‫َ‬
‫ت بإس ِ‬
‫�م ِه ْم‬ ‫�م َي ْ ْ‬
‫�ور ٌة ق�د ُس ِّ‬
‫وس َ‬‫ُ‬
‫إشار ٌة إىل اهتامم القرآن بشأن مواقفهم اخلطرية فقد أورد سور ًة كامل ًة حتمل مبادئهم‬
‫وأفكارهم وهي سورة املنافقون‪ ،‬وأورد احلق من هذه املواقف يف هذه السورة ما جيدُ ُر الوقوف‬
‫عنده كشاهد أبدي عىل سلوك املنافقني ومواقفهم الرديئة‪.‬‬
‫(ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)‪.‬‬
‫(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ) ‪.‬‬

‫(( ( سبق خترجيه‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪68‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ )‪.‬‬
‫(ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ)‪.‬‬
‫(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ )‪.‬‬
‫(ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)‪.‬‬
‫(ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ )‪.‬‬
‫فتكاد هذه املفاهيم هي أغلب ما ينتهجه أهل هذه الرؤية إىل اليوم‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلرجاففيك ُِّل َم َح ْل‬ ‫وهم ُأ ْو ُلو‬ ‫اإلفك صنّاع ِ‬
‫الح َي ْل‬ ‫ِ‬ ‫فه�م ُر ُمو ُز‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬

‫يشري الناظم إىل ما كان عليه املنافقون منذ ظهور اإلسالم يف املدينة وهم «رموز اإلفك» أي‪:‬‬
‫الكذب عىل اهلل ورسوله‪ ،‬وال شغل هلم غري احليل واملخادعة‪ ،‬كام أهنم «أولو اإلرجاف»‪ ،‬وهي‬
‫اإلشاعات الكاذبة حيثام نـزلوا وحلوا‪.‬‬

‫ار‬ ‫ِ‬
‫خدمة ال ُك ّف ِ‬ ‫ـموا في‬ ‫ِ‬ ‫يس�تَحوا م�ن َطلع ِ‬
‫�اه ُ‬
‫بل َس َ‬ ‫المخت�ار‬ ‫�ة‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬

‫يشري الناظم إىل اجلرأة املركبة عند هؤالء الذين مل يتأثروا بطلعة املختار بـينهم ومل يستحوا‬
‫من اهلل‪ ،‬حتى بلغ هبم األمر مبلغه أن يتآمروا مع الكفار ويتحالفوا معهم و ُيربموا االتفاقيات‬
‫املبطنة عىل أذى اإلسالم والنيل من رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪69‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫(((‬
‫وح ا ُملتَنَوِّعَ ِة ِمن عَ هْ ِد َ‬
‫صد ِْر ال ِّر َسا َل ِة‬ ‫ملدار ِس الجُ ن ُ ِ‬
‫ِ‬ ‫نَماذِجُ‬

‫تكونه التارخيي‬
‫ُوح ) من جذوره وبدء ّ‬ ‫يشري الناظم أن فقه التحوالت يكشف مواقع ( ُ‬
‫اجلن ِ‬
‫فأول هذه املدارس املحاربة لإلسالم والعاملة عىل تقويض قواعده يف املرحلتني املكية واملدنية‬
‫خلصت فيام ييل‪:‬‬
‫(‪ )1‬مدرسة األوثان العربية‬
‫وهي مدارس اجلاهلية التي أزاهلا اإلسالم ّ‬
‫وحطم رموزها‬

‫وب ُأ ِّص َل ْ‬
‫ت‬ ‫ونفِي ُّ‬
‫الش ُع ِ‬ ‫َع ْب َـرال ُق ُر ِ‬ ‫�رك التِي تَس ْل َس َل ْ‬
‫ت‬ ‫الش ِ‬
‫َمدْ رس ُة ِّ‬
‫حم ِ‬
‫ـ�ن‬ ‫ور ْف ُض َه�ا َش�ري َع َة َّ‬
‫الر َ‬ ‫َ‬ ‫األَو َث ِ‬
‫�ان‬ ‫ِعب�ا َد ُة‬ ‫ِش� َع ُار َها‬

‫مدرسة الرشك التارخيية التي َع َر َفها اإلنسان ووضع هلا األصول الوضعية كعبادة األوثان‬
‫واالستقسام باألزالم وما شاكلها‪ ،‬وقد كان هلا يف العرص اجلاهيل مقام ومظهر‪ ،‬وهي املدرسة‬
‫التي أبت الرشيع َة احلقَّ التي جاء هبا سيد اخللق عليه الصالة والسالم‪ ،‬ومل تلتزم هلذه الثوابت‬
‫بدء ًا بمفهوم التوحيد وسالمة العقيدة‪ ،‬وهناي ًة بالترشيعات والقوانني‪.‬‬
‫قال يف تاريخ اخلميس ص‪ُّ :15‬‬
‫أول ما كانت عبادة األصنام (األحجار) يف بني إسامعيل‬

‫(( ( املدارس مجع مدرسة‪ ..‬واملقصود هبا (الرؤية) أو (الفكرة) التي جتمع أكثر من عنرص وذات‪ ،‬تتفق آراؤهم‬
‫ووجهات نظرهم‪ ،‬ويكون هلا أتباع يتحالفون عىل أم ٍر ما ومصالح مشرتكة سلب ًا أو إجياب ًا‪ ،‬وتكون هلم‬
‫مواقف من املرحلة وظواهرها‪ ..‬وقد ملـح النبي ﷺ يف أحاديثه إىل مفهوم الكتلة التي تعنيها مدارس‬
‫اجلنوح‪ ،‬واجتناب النبي ﷺ التصادم مع جمموعتهم يف قوله‪« :‬إِنَّ ِم ْن َو َرائِ ِه َأ ْص َحا َب ًا» ‪ ،‬ويف العبارة داللة‬
‫ُ‬
‫عىل أن والءهم خمالف للوالء الذي عليه أصحاب رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪70‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ظاعن منهم حتى ضاقت عليهم والتمسوا الفتح يف البالد إلاَّ محلوا‬
‫ٌ‬ ‫ألنه كان ال يظعن يف مكة‬
‫معه حجر ًا من حجرات احلرم تعظي ًام للحرم‪ ،‬فحينام نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة‬
‫حتى اشتهر ذلك فيهم إىل أن صاروا يعبدون ما استحسنوا من احلجارة حتى خلفت اخللوف‬
‫ونسوا ما كانوا عليه فعبدوا األوثان‪ ،‬ومنهم من بقى عىل بقايا من عهد إبراهيم مع إدخاهلم‬
‫فيه ما ليس منه‪ ،‬وكان الذين اختذوا األصنام من ولد إسامعيل وغريهم وفارقوا دين إبراهيم‬
‫وإسامعيل عليهام السالم‪.‬‬
‫ُ‬
‫فهذيل بن مدرك َة بن إلياس بن مرض اختذوا (سواعا) فكان هلم بأرض (رهاط)‪.‬‬
‫وكلب بن مره من قضاعة اختذوا (و ّدا) بدُ ِ‬
‫ومة َ‬
‫اجلندل‪.‬‬
‫وأنعم من طي وأهل جرش من مذحج اختذوا (يغوث) بجرش‪.‬‬
‫وجويان بطن من مهدان اختذوا (يعوق) بأرض مهدان من اليمن‪.‬‬
‫وذو الكالع من محري اختذوا (نرسا) بأرض محري‪.‬‬
‫وقريش اختذت صن ًام عىل بئر جوف الكعبة يقال له ُ‬
‫(ه َبل)‪.‬‬
‫واختذوا (أسافا) و (نائله) يف موضع زمزم ينحرون عندمها‪.‬‬
‫وكان أساف ونائله رج ً‬
‫ال وامرأة من ُجرهم فوقع أساف عىل نائله يف الكعبة فمسخهام اهلل‬
‫حجرين‪.‬‬
‫وكانت (الالت) لثقيف بالطائف هدمها املغرية بن شعبة بأمر رسول اهلل ﷺ يف السنة‬
‫التاسعة من اهلجرة‪.‬‬
‫وكانت (مناة) لألوس واخلزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب عىل البحر (بقديد) بعث‬
‫هلا النبي ﷺ سعد بن زيد األشهيل فكرسها‪.‬‬
‫(العزى) صن ًام لقريش ومجيع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم‪ ،‬بعث النبي ﷺ هلا‬
‫َّ‬ ‫وكانت‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪71‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫خالد بن الوليد فقلعها ثم رجع إىل النبي ﷺ فأخربه‪ ،‬فقال‪ :‬قد يئست أن ُتعبد ببالدكم أبدا‪.‬‬
‫وهلذيل صنم (سواع) عىل ثالثة أميال يف مكة‪ ،‬وقد هدمها سيدنا عمرو بن العاص بأمر‬
‫رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫وكان (ذو اخللصة)((( بيت ًا باليمن خلثعم وبجيلة وفيه نصب تعبد‪ ،‬وكان يقال له ذو اخللصة‬
‫(والكعبة اليامنية) (والكعبة الشامية) فبعث إليهم رسول اهلل جرير بن عبداهلل البجيل سنة عرش‬
‫من اهلجرة يف مئة ومخسني فارسا من (أمحس) فكرسها وأحرقها فدعا هلم النبي ﷺ‪.‬‬
‫وأخرب النبي ﷺ يف فقه التحوالت أهنا ستعبد يف آخر الزمان مرة أخرى يف حديثه «ال َتقوم‬
‫الساعة َح َّتى تضطرب أليات َدوس عىل ِذي اخللصة»(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقد كان من طالئع مدرسة األوثان العربية يف مكة كبار رجال قريش كأيب جهل بن هشام‬
‫ٍ‬
‫معيط وعبدالعزى بن عبداملطلب‬ ‫والعاص بن وائل السهمي والوليد بن املغرية وعقبة بن أيب‬
‫(أيب هلب) وهؤالء وأشباههم اعتصبوا ضد الديانة اإلسالمية‪ ،‬وعملوا عىل أذى رسول اهلل ﷺ‬
‫يستسلموا أو ِ‬
‫يرتد ُعوا عن غ ِّيهم َبرغم ما‬ ‫ِ‬ ‫ومن معه‪َّ ،‬‬
‫وعذبوا املستضعفني وفتنوهم يف دينهم‪ ،‬ومل‬
‫ِ‬
‫واألعراب‬ ‫ِ‬
‫مدارس أهل الكتاب واملنافقني‬ ‫ِ‬
‫واملعجزات‪ ،‬وحتا َلفوا مع‬ ‫أظهر ُ‬
‫اهلل هلم من اآليات‬
‫ب ِضدَّ‬
‫التعص ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫واحد ضد اإلسال ِم واملسلمنيَ كام سيأيت بيا ُنه‪ ،‬كام برز يف ثنايا‬ ‫لتشكيلٍ ِح ٍ‬
‫لف‬
‫موقف إبليس َعيان ًا إىل جانب مدرسة األوثان‪ ،‬ففي بيعة العقبة صرَ َ َخ إبليس بأعىل‬
‫ُ‬ ‫اإلسالم‬
‫صوته ّ‬
‫حمذر ًا أهل مكة ومن حوهلا من حتالف األوس واخلزرج مع رسول اهلل ﷺ‪ ،‬كام تبدى‬
‫إبليس يف حال اجتامعهم يف دار الندوة عىل صورة شيخ نجدي‪ ،‬وتبدى أيض ًا يف استعدادهم‬
‫لبدر مرتني أو ثالث ًا‪ ،‬ففي األوىل جاءهم يف صورة رساقة بن مالك بن جعشم الكناين وكان من‬

‫(( ( ذو اخللصة صنم لدوس بلد أيب هريرة الدويس‪ ،‬وهي اآلن تسمى أهبا باململكة العربية السعودية‪.‬‬
‫(( ( رواه مسلم يف صحيحه وأمحد يف مسنده من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪72‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أرشاف بني كنانة‪ ،‬قال‪ :‬أنا جار لكم ِمن أن تأتيكم كنانة من خلفكم بيشء تكرهو َن ُه‪ ،‬كام تبدى‬
‫وأن (‬
‫مرة أخرى واملرشكون يف طريقهم إىل بدر يعدهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنرصهم ْ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ )‪ ،‬والثالثة ملا اهنزمت قريش ( ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ) ((( ‪ .‬اهـ((( ‪.‬‬
‫إن حممد ًا قد‬ ‫وظهر أيض ًا يف غزوة أحد ملا انكشف املسلمون يف صورة أحد الصحابة قائ ً‬
‫ال‪َّ :‬‬
‫ُقتل‪ ،‬ممّا َف َّت يف عضد املسلمني وزادهم قلق ًا وخوف ًا‪.‬‬
‫ومل ِ‬
‫تنته آثار مدرسة األوثان انتها ًء تاما إلاَّ بعد الفتح ملكة وحتطيم األصنام التي كانت يف‬
‫وحينها‬ ‫(((‬
‫الكعبة‪ ،‬ونزول قوله تعاىل‪( :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ )‬
‫سقطت رايات األوثان واستسلم غالب أتباعها وصمت آخرون وانتكست حظوظهم وصاروا‬
‫بعد ذلك يعملون يف حذر وصمت وخوف‪.‬‬

‫(‪ )2‬مدرسة أهل الكتاب‬


‫�م وفِ�ي َ‬
‫الض ِ‬
‫لال َأ ْس َ�ر ُفوا‬ ‫ِ‬
‫دين َُه ُ‬ ‫�ارى َح ّر ُفوا‬ ‫ك َ‬
‫َ�ذا ال َي ُه�و ُد والن ََّص َ‬
‫اإلفك َم�دَ ى األز ِ‬
‫َمان‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وش َ�ر ُعوا‬ ‫ِ‬
‫اإليمان‬ ‫رج ُح�وا ال َع ْق َل َعلى‬
‫َقدْ َّ‬
‫خالف‬
‫ْ‬ ‫بأنّ�ه الدِّ ين ا ّل�ذي ين ِْفي الِ‬ ‫اعتراف‬
‫ْ‬ ‫وح َار ُبوا اإلسال َم من َبعدَ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫حر ُفوها بدي ً‬
‫ال عن‬ ‫ُ‬
‫مدرسة اليهود والنصارى التي َّ‬ ‫ُ‬
‫مدرسة الكفر واالنحراف‬ ‫املدرسة الثانية‪:‬‬
‫ترجيح‬
‫ُ‬ ‫ترجيح رأيِ العقل فيام ال ينبغي فيه‬
‫َ‬ ‫رسالة ال َّتوراة واإلنجيل الرشعية وجعلوا من ثوابتها‬

‫(( ( األنفال‪.48 :‬‬


‫(( ( «سبل اهلدى والرشاد» (‪.)22 :4‬‬
‫((( اإلرساء‪. 81 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪73‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫وحياة ُعزير بعد موته‪ ،‬واستمرار هذا االنحراف حتى‬ ‫العقلِ كام هو يف خلق عيسى ومحل مريم‪،‬‬
‫بلغ إىل الذين َط َ‬
‫ال هبم العهد وعارصوا رسال َة املصطفى وأنكروها وهم عىل علم بصدق صاحبها‬
‫ِ‬
‫ُوحات‬ ‫ض مفاهيم هاتني املدرستني وف َّند ُ‬
‫اجلن‬ ‫وببشارة كتبهم بمرحلته‪ ،‬وقد تناول القرآن َد ْح َ‬
‫وح َّذر منها‪ ،‬وأشار ﷺ يف أحاديثه الكريمة إىل أثر هذه املدارس يف آخر‬
‫التي ارتكسوا فيها َ‬
‫مجسانِه»(((‪،‬‬
‫هيو َدانه أو ينصرِّ َ انه أو ُي ِّ‬ ‫ٍ‬
‫مولود يولد عىل الفطرة فأبواه ِّ‬ ‫الزمان‪ ،‬كمثل قوله ﷺ‪ُّ « :‬‬
‫كل‬
‫بذراع حتى لو دخلوا ُج ْح َر َض ٍّب‬
‫ٍ‬ ‫رب وذراع ًا‬
‫لتتبعن َسنن من كان قبلكم شرب ًا بش ٍ‬
‫َّ‬ ‫وحديث‪« :‬‬

‫لدخلتموه‪ ،‬قالوا‪ :‬اليهود والنصارى يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬ومن!»(((‪.‬‬


‫وقد حتالف أهل الكتاب مع املرشكني ضد رسول اهلل ﷺ ودعوته ‪ ،‬ومن ذلك ملا وقعت‬
‫بدر كتبت قريش إىل اليهود‪« :‬إنكم أهل احللقة واحلصون فلنقاتلن صاحبنا أو ليكونن بيننا‬
‫وبينكم أمر» فلام بلغ الكتاب إليهم اجتمعت النضري عىل الغدر فأرسلوا إىل رسول اهلل ﷺ أن‬
‫اخرج إلينا يف ثالثني من أصحابك وخيرج منا ثالثون َح ْبـر ًا فنلتقي بمكان منصف فيسمعون‬
‫منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا أمجعني‪ ،‬فأعلمه جربيل عليه السالم بكيدهم فغدا عليهم‬
‫بالكتائب فحرصهم ثم حرص بني النضري بالكتائب حتى نزلوا عىل َ‬
‫اجلالء‪.‬‬

‫(‪ )3‬مدرسة األعراب‬


‫ؤسس� ْة‬ ‫ِ‬ ‫َمدْ َرس� ُة األ ْع ِ‬
‫�ن ُله�م خيان� ٌة ُم َّ‬ ‫مم ْ‬‫َّ‬ ‫راب َش ُّ�ر َمدْ َرس� ْة‬

‫وح‬ ‫ك ََما َأتَى فِي الن َِّص َعن ُْهم بِ ُ‬


‫وض ْ‬ ‫ُ�وح‬
‫وجن ْ‬
‫ِ‬
‫َأ َش�دُّ ُك ْف�ر ًا ون َفا َق� ًا ُ‬

‫(( ( رواه البخاري يف صحيحه وأبو داود يف سننه وأمحد يف مسنده عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫(( ( أخرجه البخاري ‪ ،‬انظر «الفتح» (‪ )613 :6‬ومسلم (‪ )462 :2‬من حديث أيب سعيد اخلدري ريض اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪74‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مدرسة األعراب الذين وصفهم يف القرآن (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ) (((‪ ،‬وهي مدرسة بقيت ُ‬
‫آثارها ومظاهرها اجلاهلية يف حياة األمة‬
‫عرب التاريخ إىل اليوم‪ ،‬ومن أخطر مظاهرها التي حارهبا اإلسالم‪:‬‬
‫‪ -1‬الثأر والغارات احلربية‪.‬‬
‫التعصب العرقي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ -2‬‬
‫‪ -3‬عدم توريث النساء‪.‬‬
‫‪ -4‬االعتقاد يف الظواهر (الكهانة ‪ /‬التنجيم ‪ /‬السحر) وغريها‪.‬‬
‫‪ -5‬القتل من أجل املال‪.‬‬
‫اجلاهلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلمية‬
‫ّ‬ ‫‪ -6‬‬
‫وأد البنات‪.‬‬
‫‪ُ -7‬‬
‫‪ -8‬مبادلة الزوجات‪.‬‬
‫‪ -9‬عدم االستئذان عند الدخول‪.‬‬
‫‪ -10‬الطواف بالبيت مع العري‪.‬‬
‫الربا‪.‬‬
‫‪ -11‬معامالت ِّ‬
‫وتتداخل بعض هذه املظاهر مع مدرسة األوثان العربية الحتاد الرؤية بينهام يف شأن العقيدة‬
‫يف األوثان ومتعلقاهتا‪ ،‬ومن أعامل هذه املدرسة البدوية ما قامت به َذ ْكوان ورعل الذين أخذوا‬
‫يعقبهم ِ‬
‫وجي َء هبم فأمر النبي ﷺ‬ ‫إبل الصدقة وقتلوا الراعي فأرسل إليهم الرسول ﷺ من ُ‬
‫احل َّر ِة َي ْست َْس ُقون فال ُي ْس َق ْون حتى ماتوا وأنزل‬ ‫بتقطيع أيدهيم وأرجلهم من ِخالف ُ‬
‫ور ُموا يف َ‬

‫اهلل فيهم (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬

‫((( التوبة‪.97 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪75‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ‬

‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ) ((( ‪.‬‬
‫ومن سوء أعامل مدرسة األعراب طل ُبهم ُ‬
‫الق َّرا َء من رسول اهلل ﷺ بعد أن أسلموا ومكثوا‬
‫يف املدينة أيام ًا فأرسل الرسول عدد ًا من الصحابة معهم منهم عاصم بن ثابت وزيد بن الدثنة‬
‫فلام كانوا ببعض الطريق قاتلهم املرشكون فقت ُلوا من ق َت ُلوا وأسرَ وا منهم من أرسوا ومنهم‬
‫زيد بن الدثنة‪ ،‬ومحت الذبر((( ج َّث َة عاصم ألنه أقسم عىل اهلل أال يمس جلده مرشك‪ ،‬فلم يقدر‬
‫املرشكون أن يصلوا إليه حتى حل الليل‪ ،‬فبعث اهلل السيول فحملته ومل متس جلدَ ه يدُ ِ‬
‫مرشك‪.‬‬

‫((( املائدة‪.33 :‬‬


‫((( الذبر حرشة صغرية صفراء اللون شديدة اللسع‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪76‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫دارس الن ِّ َفاق‬
‫مَ ُ‬

‫دارس النِّفاق ُمنذ استقرار الرسول ﷺ باملدينة املنورة كظاهرة من ظواهر املنافسة‬
‫ُ‬ ‫برزت َم‬
‫ْ‬
‫ـفية مع إعالهنم شأن اإلسالم بألسنتهم والعمل عىل عكس ذلك يف بواطنهم‪،‬‬ ‫واملعارضة َ‬
‫اخل ّ‬
‫وهم نامذج متعددة‪ ،‬قال اهلل تعاىل فيهم‪ ( :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ) (((‪ ،‬فالبد أن ُنتابع و ُنالحق هذه املظاهر لنرى ُس َّنة املواقف التي‬
‫كان رسول اهلل ﷺ ُ‬
‫يتخذها معهم‪.‬‬
‫باختِ ِ‬
‫�راق‬ ‫ب اإلسلا ِم ْ‬ ‫ف�ي َي ْث ِ‬
‫�ر ِ‬ ‫�اق‬‫�ف النِّ َف ِ‬ ‫َت م ِ‬
‫واق ُ‬ ‫َـم َّيـ�ز ْ َ‬ ‫ت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال�كات ُح َّر َدا‬‫اله‬ ‫وفي النُّ ُف ِ‬
‫�وس َ‬ ‫�و َم كان�وا ُح َّق�دا‬ ‫تُفي�دُ َأ ّن ال َق ْ‬
‫ي�ن ب�ك ُِّل ِحي َل ِ‬
‫�ة‬ ‫داخ�ل الدِّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِم�ن‬ ‫ُ�و ِر الم َّل ِة‬ ‫ِ‬
‫إجهاض ن ْ‬ ‫ون في‬ ‫َي ْس� َع َ‬

‫أشار الناظم إىل الدور املتميز الذي يقوم به املنافقون يف املدينة وهو االخرتاق للواقع‬
‫النبوي‪ ،‬والتعرف عىل دقائِ ِق ُس ِ‬
‫لوكه ومواقفه‪ ،‬مما يؤكد حقدَ هم َّ‬
‫الطبعي وحردهم النفعي‪،‬‬
‫وسعيهم الدؤوب يف «إجهاض نور» اإلسالم باإلرجاف والدعايات واألكاذيب‪ ،‬وهم نامذج‬
‫وأنواع ومنهم‪:‬‬
‫(‪ )1‬املدرسة السلولية‬
‫�و ْل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُم ِ‬ ‫ابن َس ُل ْ‬ ‫ورأس هذا ِ‬
‫عار َض� ًا ل�ك ُِّل َآم�ال َّ‬
‫الر ُس ْ‬ ‫ول‬ ‫األمر كَان َ‬ ‫ُ‬

‫((( التوبة‪.101 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪77‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وحمرك ِ‬
‫أتباعه وهو «عبداهلل بن أبـي بن سلول(((»‬ ‫يشري الناظم إىل «رأس» النفاق ومصدره ِّ‬
‫وقد أسلم عبداهلل بن أيب مع دخول النبي ﷺ املدينة‪ ،‬وكان أهل املدينة قد اتفقوا عىل تتو ِ‬
‫جيه‬
‫ملك ًا عليهم ومرجع ًا قبل هجرة النبـي ﷺ‪ ،‬فلام َق ِدم النبـي ﷺ إىل املدينة انقطع أمله‪ ،‬وظهر‬
‫ِ‬

‫ابن ُأبيَ ٍّ عىل رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وأخذ يعمل عىل اإلرجاف‬ ‫رسول اهلل باإلسالم ظهور ًا ب ِّين ًا‪َ ،‬‬
‫فح َقدَ ُ‬
‫واألذى يف مواقف عديدة استفاض ذكرها يف القرآن والسنة‪ ،‬ويبدو أن إسالمه كان لتأمني‬
‫نفسه وماله‪ ،‬وهلذا رصد املسلمون كثري ًا من مالبسات سلوكه النفاقية‪.‬‬

‫ال َم�ن َأتَانَ�ا ُي ْصلِ ُح‬


‫وس�ه ً‬ ‫َأه ً‬
‫لا َ‬
‫ف�إن ر َأى المخت�ار ٍ‬
‫آت َي ْم�دَ ُح‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫�ول س ٍ ِ‬ ‫ب�ك ُِّل َق ٍ‬
‫الج َف�ا‬
‫�ـيء في�ه َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫الم ْص َط َفى‬ ‫�م إِ َذا َو َّلى ْاس َ‬
‫�تباح ُ‬ ‫ُث َّ‬
‫كان عبداهلل بن ُأ َبـي يؤسس ُسلوك املدرسة النفاقية باخلداع والكذب‪ ،‬فكان عىل املأل من‬
‫ال برسول اهلل‬ ‫َ‬
‫املصطنع‪ :‬أه ً‬ ‫الناس إذا رأى النبـي ﷺ قادم ًا خرج يستقبله بالبشاشة والفرح‬
‫ال بكذا وكذا‪ ،‬ثم إذا َو َلـى رسول اهلل ﷺ ضحك مع أصحابه واستهزأ‪.‬‬
‫أه ً‬

‫ج�اء َي ْر ُج�و َم ْأ َمنَ ْه‬ ‫للم َوا َطنَ� ْة‬ ‫ِ‬


‫َ‬ ‫وال�ذ َّل َ‬
‫فيمن‬ ‫ُّ‬ ‫ب�أن الع� َّز ُ‬
‫َّ‬ ‫َي َ�رى‬

‫كان عبداهلل بن ُأ َبـي يرسخ مبدأ «املواطنة» وهو من مبادئ النفاق‪ ،‬وإىل هذا املبدأ أشار‬
‫القرآن يف سور املنافقني (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ) (((‪.‬‬
‫ِ‬
‫األرزاق‬ ‫ذات الي ِ‬
‫�د ف�ي‬ ‫ي�ق ِ‬ ‫ِ‬
‫وض ِ‬ ‫إل ِ‬
‫نف�اق‬ ‫�ح ِة ا ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫كَم�ا َد َع�ا لش َّ‬

‫كام أن من مبادئه النِّفاقية فرض احلصار االقتصادي عىل املسلمني املهاجرين‪ ،‬ومنع التغذية‬

‫((( هو عبداهلل بن أيب بن احلارث بن عبيد املشهور بابن سلول ‪ ،‬وهي امرأة من خزاعة‪ ،‬وهو ابن خالة أيب‬
‫عامر الفاسق اخلزرجي‪ ،‬وقد أسلم من اخلزرج عند وفاة عبداهلل بن أيب وتأثرهم بام رأوا من فعل النبي من‬
‫إلباسه قميصه وصالته عليه ألف رجل‪ .‬ذكره «تاريخ اخلميس» ص‪.141‬‬
‫((( املنافقون‪.8 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪78‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عنهم‪ ،‬ظن ًا منه بأن هذا سيساعد عىل انفكاكهم عن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وقد وصف اهلل هذا املبدأ يف‬
‫سورة املنافقون يف قوله تعاىل‪( :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) (((‪.‬‬

‫ف َب ْع�دَ ذا ال ُب�دّ َأ ْن َي ْع ِق َ�ركَا‬ ‫وقال ‪-‬فيما قال‪َ :-‬س ِّم ْن كَل َبكَا‬

‫وهذه مقولة تروى عن عبداهلل بن ُأ َبـي ملا بلغه أن أحد املهاجرين تكلم يف شأن بعض‬
‫كلب َك َي ْع ِق ْر َك‪.‬‬
‫األنصار‪ ،‬فقال‪َ :‬س ِّمن ْ‬
‫ويف هذا داللة عىل حقد املذكور عىل أصحاب رسول اهلل ﷺ وحن َِقه عىل إنفاق األنصار‬
‫عليهم وإعطائهم ما ال يستحقون كام يعتقد‪.‬‬

‫اس�تغفار َر ِّبـ�ي و َدعا‬


‫َ‬ ‫لم�ا َر َج�ا‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الخلق الدُّ عا‬ ‫ور ْف ُض ُه ْم ِم ْن َس ِّي ِد‬
‫َ‬
‫الم ِ‬ ‫ِ‬ ‫وس الكِ ْب ِر قالوا‪ :‬ال ن ُِريدْ‬
‫جيدْ‬ ‫َو َس�ائط ًا تَدْ ُعو لنا عنْ�دَ َ‬ ‫َّلو ْوا ُرؤُ َ‬

‫يشري الناظم إىل ما وصف اهلل به املنافقني يف السورة املسامة باسمهم (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬


‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ) ((( وهذه إحدى مفاهيمهم‬
‫املنكرة حيث ال يريدون ‪-‬كام يقولون‪ -‬واسطة بـينهم وبـني اهلل‪.‬‬
‫وي ْضحك َ ِ‬ ‫في ال َغز ِْو كانوا ُي ْر ِج ُف َ‬
‫(‪)1‬‬
‫(لن) و (ال)‬ ‫ُون َقائ َ‬
‫لين‪ْ :‬‬ ‫َ َ‬ ‫المال‬
‫ون في َ‬
‫يع�ود إِلاَّ ف�ي ِ‬
‫الح َب�ال ُم ْث َقلا‬ ‫فل�ن َي َ�رى ُم َح َّم�د ًا ن َْص�ر ًا وال‬
‫َُ ُ‬ ‫ْ‬
‫وأ ْجل�ى ِس َّ�ر ُه ْم‬
‫وش َّ�ر م�ا َقا ُل�وا َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الق�رآن ُي ْب�دي ُك ْف َر ُه ْ‬
‫�م‬ ‫ُ‬ ‫فنَـ�ز ََل‬

‫(((يشري الناظم إىل نموذج آخر من نامذج سلوكهم وهو اإلرجاف واإلشاعة واالستهزاء‬

‫((( املنافقون‪.7 :‬‬


‫((( املنافقون‪.5 :‬‬
‫((( من إرجافهم وخذالهنم لرسول اهلل ما فعله عبداهلل بن أيب يف غزوة أحد ملا عاد بثلث اجليش إىل املدينة‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪79‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والسخرية ‪ ،‬وقد أشارت كتب السري والتفسري عند قوله تعاىل من سورة التوبة‪( :‬ﭰ‬
‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ‬
‫ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ‬

‫ﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ) ّ‬
‫بأن املنافقني خرجوا مع رسول اهلل ﷺ يف غزوة‪ ،‬وكانوا يسريون خلف‬
‫جيش رسول اهلل ويضحكون ويستهزئون‪ ،‬ويقول قائلهم‪ :‬إن حممد ًا س ُيهزَ م وسيك ِّب ُله بنو األصفر‬
‫فطوقهم رسول اهلل‬ ‫ِ‬
‫باحلبال هو وأصحابه‪ ،‬فنـزل جربيل عىل رسول اهلل وأخربه بشأن سخريتهم‪َّ ،‬‬
‫خوض و َن ُ‬
‫لعب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قلت كذا؟»‪ ،‬فقالوا‪ :‬إ َّنام ُك َّنا َن‬ ‫قلت َكذا َ‬
‫وأنت َ‬ ‫أنت َ‬
‫باجليش‪ ،‬وقال لكل منهم‪َ « :‬‬

‫فأنـزل اهلل اآليات عىل نبـ ِّي ِه ِّ‬


‫مقرر ًا َح َ‬
‫ال كفرهم ومروقهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫في َغز َْو ِة‬ ‫َو َوا َطئ ُْوا ال َي ُهو َد ِضدَّ‬
‫األحزابكانوا ُم ْر ِجف ْ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫المس�لمين‬
‫ْ‬

‫يشري الناظم إىل موقف املنافقني يف غزوة األحزاب ومشاهبة أحواهلم حيث تواطئوا مع‬
‫اليهود واملرشكني عىل تتبع أخبار النبـي ﷺ وأصحابه واإلرجاف داخل املدينة‪.‬‬

‫�ود ًا إِليه�ا َفبِ َه�ا َأ ْه ٌ‬


‫�ل َلنَ�ا‬ ‫َع ْ‬ ‫�م ْح لنا‬
‫فاس َ‬
‫البـيوت َع ْو َر ٌة ْ‬
‫ُ‬ ‫َقا ُلوا‬

‫يشري الناظم إىل ما ورد يف سورة األحزاب من قوهلم‪ ( :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬

‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) ‪.‬‬
‫ِ‬
‫َش�ن ُ‬
‫ْآن‬ ‫وحا ُل ُه ْ‬
‫�م‬ ‫َ‬ ‫�م‬
‫رار ُه ْ‬
‫ف ُ‬ ‫�م كم�ا تَلا ال ُق ْ�ر ُ‬
‫آن‬ ‫و َق ْصدُ ُه ْ‬
‫يشري الناظم إىل ثمرات العمل وهي النيات‪ ،‬فقد كانت نياهتم حال اعتذارهم الفشل‬
‫والرجوع والفرار‪ ،‬وقوله‪« :‬وحاهلم شنآن» أي‪ :‬حال باطنهم العداوة‪.‬‬

‫وتركوا رسول اهلل ﷺ ومعه سبع مئة مقاتل‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪80‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫و َزي ُف�وا ك َُّل ح ِد ٍ‬
‫ي�ث و َن َب�ا‬ ‫اإلف�ك َألغ َْوا ك َِذبا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حديث‬ ‫وف�ي‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫إشار ٌة إىل ما يف صدورهم من الغيظ وال َّت َش ِّفي‪ ،‬وحماولتهم استغالل حادثة اإلفك الشهرية‬
‫واإلرجاف هبا والكذب فيها‪ ،‬وتروجيهم ملا تصورته نفوسهم املريضة يف شأن عائشة ريض اهلل‬
‫يروجها البعض إىل اليوم لوال أن القرآن نزل‬
‫عنها‪ ،‬وكيف صار هذا اإلفك مدرسة متسلسلة ّ‬
‫برباءهتا من فوق سبع سموات‪.‬‬

‫المآثِ� ِم‬
‫َ‬
‫�ه بِتُهم ِ‬
‫�ة‬ ‫ْ َ‬
‫فِ�ي َأهلِ ِ‬
‫ْ‬
‫اش ِ‬
‫�م ْي‬ ‫لي ْض ِع ُف�وا دور النبـي اله ِ‬
‫ِّ َ‬ ‫ََْ‬ ‫ُ‬
‫�راء ِة‬ ‫ِ‬
‫األخب�ار بالق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ�ر ِّد ُد‬
‫ت َ‬
‫ِ‬
‫بالب�راءة‬ ‫ِ‬
‫اآلي‬ ‫ُ‬
‫نـ�زول‬ ‫َل�وال‬

‫سات‬ ‫وم ْ‬ ‫والخُ بثاء ح ُّظهم في الم ِ‬ ‫�ون دائم� ًا لل َّط ِّي ْ‬
‫ب�ات‬ ‫ال َّط ِّي ُب َ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ َ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�اء ف�ي ال ُق ِ‬
‫البي�ان‬ ‫�م ُمم َّي� ُز‬‫ع�ن ُخ ْبث ِه ْ‬ ‫�رآن‬ ‫وك ُُّل َم�ا َق�دْ َج َ‬
‫يشري الناظم إىل تعدد آيِ القرآن يف تناول مكرهم وخداعهم وخزهيم عىل عهد رسول‬
‫اهللﷺ‪ ،‬وأنه َط ٌ‬
‫بع ُيت ََو َار ُث وينتقل منهم إىل أشباههم وأمثاهلم ممن حيلو هلم الولوغ يف املقام‬
‫النبوي وآل بيته‪.‬‬

‫وأن حقيقة النفاق يف األفراد قد ال ُتعرف ؛ ولكن مظاهر ُّ‬


‫السلوك وثمرات األعامل واملواقف‬
‫تظل مؤرش ًا خطري ًا ملفهوم العالقة بني أسس مدرسة النفاق األوىل وبني آثارها يف احلياة‪.‬‬
‫ِ‬
‫الحي�اة واألح�كا ِم‬ ‫قاع�د َة‬ ‫ي�ر ف�ي ُم ْس�تَق َب ِل األ َّي�ا ِم‬ ‫ِ‬
‫َيص ُ‬
‫من َأ ْم ِر ِه ْم‬ ‫اختالل األَ ِ ِ‬
‫مر ض َ‬ ‫ِ‬ ‫عندَ‬ ‫يق�ول المصطفى َعن ِم ِ‬
‫ثله ْم‬ ‫ُ‬ ‫لِذا‬

‫فاح َذ َر ْن‬
‫ان ْ‬‫وف يأتي في الز ََّم ِ‬
‫َو َس َ‬ ‫أي�ت فاع َل َم ْ‬
‫�ن‬ ‫ور َ‬ ‫أي�ت َ‬
‫إذا َر َ‬

‫إشار ٌة إىل تنبؤات الرسول ﷺ منذ عهده عماَّ يكون يف مستقبل الزمان عىل أيدي مدارس‬
‫رأيت‪...‬‬
‫َ‬ ‫النفاق املتفرعة من مدرسة املدينة‪ ،‬فيشري عليه الصالة والسالم بام مثاله‪« :‬إذا‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪81‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ورأيت‪ »...‬وهذه إشار ٌة مبثوثة يف عالمات الساعة وأبواب الفتن من كتب احلديث‪ ،‬مثل قوله‬
‫َ‬
‫كاتم العلم يومئذ ككاتم‬
‫َ‬ ‫ﷺ‪« :‬إذا لعن ِ‬
‫آخ ُر هذه األمة َّأو هَلا َف َم ْن كان عنده علم فليظ ِه ْر ُه‪ ،‬فإنَّ‬
‫ما أنـزل عىل حممد» (((‪.‬‬
‫وإعجاب ِّ‬
‫كل ذي رأي برأيه‪ ..‬فعليك‬ ‫َ‬ ‫وى ُم َّت َبع ًا‪ُ ،‬‬
‫ودنيا ُمؤْ َثرة‪،‬‬ ‫رأيت ُش َّح ًا ُمطاع ًا‪ ،‬وهَ ً‬
‫«إذا َ‬
‫بخويصة نفسك و َد ْع َك من أمر العوام‪ ...‬الخ» (((‪ .‬فهذه مقوالت نبوية حتدد موقع السلوك‬
‫النفاقي يف املجتمع وتضافر قوى الرش عىل ذلك‪.‬‬

‫َ‬
‫ميث�اق ال ُع َ�رى‬ ‫َعالَئ َق� ًا َتن ِْس ُ‬
‫�ف‬ ‫إِ ْن ُو ِّس�دَ األَ ْم ُ�ر إِلى الغ ِ‬
‫َي�ر ت ََرى‬
‫إشار ٌة إىل احلديث الذي ُي ْؤ َث ُر عن األعرابـي السائل عن الساعة فرد عليه ﷺ‪« :‬إذا ُض ِّي ِ‬
‫عت‬
‫األمر إىل غري‬
‫ُ‬ ‫األمانة فانتظر الساعة»‪ ،‬قال‪ :‬وكيف إضاعتها يا رسول اهلل؟‪ ،‬قال‪« :‬إذا ُو ِّس َد‬
‫أهله»(((‪.‬‬
‫ويف احلديث إشار ٌة إىل بروز التضافر السلبـي بـني املنافقني والكفار؛ إلجهاض الدِّ ين والتآمر‬
‫عليه‪ ،‬وهو ما ُيسمى بضياع األمانة‪ ،‬وتكون إضاعتها بتوسيد األمر ‪-‬أي وضع القرارات‪ -‬يف‬
‫احلكم والعلم وغريها بـيد غري أهله عرب الزمان‪.‬‬

‫�م ِمن َمك ِْر ِه ْم‬


‫ون َج ْه َل ُه ْ‬
‫ال َي ْف َق ُه َ‬ ‫بكفره�م‬
‫ْ‬ ‫مطبوع� ًة قلو ُبه�م‬

‫إشار ٌة إىل ما وصفه اهلل تعاىل يف كتابه عنهم‪( :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫((( أخرجه أبو داود وابن ماجه وحسنه الرتمذي‪.‬‬
‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪82‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﯛ ﯜ) (((‪(،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) (((‪.‬‬

‫َص�دُّ وا ع�ن اإلسلا ِم والفضي َل ْة‬ ‫وس�ي َل ْة‬ ‫أيمانَه�م‬ ‫اِتَّخَ ُ‬


‫�ذوا‬

‫إشار ٌة إىل ما جاء يف سورة املنافقون‪( :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬


‫ﮯ) (((‪.‬‬

‫�م ال َع�دُ ُّو ُي ْظ ِه َ‬ ‫�م كخُ ُش ٍ‬ ‫ِ‬


‫الم ْف َس�دَ ْة‬
‫�رون َ‬ ‫ُه ُ‬ ‫�ب ُم َس�نَّدَ ْة‬ ‫مثا ُل ُه ْ‬
‫إشار ٌة إىل قوله تعاىل يف سورة املنافقون‪( :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ) (((‪.‬‬
‫(‪ )2‬‬

‫((( املنافقون‪. 3 :‬‬


‫((( التوبة‪.87 :‬‬
‫((( املنافقون‪.2 :‬‬
‫((( التوبة‪.87 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪83‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الضا ِر أليب عامر الفاسق‬
‫(‪ )3‬مدرسة رِّ‬
‫آفاق�ي‬ ‫لِر ِ‬
‫اه ٍ‬
‫�ب‬ ‫َمدْ َرس� ٌة‬ ‫�ر النِّ َف ِ‬
‫�اق‬ ‫ِ‬
‫وم�ن ُر ِ‬
‫م�وز َم ْظ َه ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫المخت�ار َمدْ َح� ًا َط ِّيب�ا‬
‫�دح ُ‬
‫و َي ْم ُ‬ ‫َان ف�ي َطيب� َة َي ْق َ�را الك ُت َب�ا‬
‫َق�دْ ك َ‬
‫وح�رف القول فأب�دى ِش� ْقو َت ْه‬ ‫َحتَّ�ى َأتَ�ى َطـ� َه ف َع َ‬
‫�اب َد ْعوتَ� ْه‬

‫الكافرين‬
‫ْ‬ ‫ُث َّم انتهى َّ‬
‫للش�ا ِم َي ْر ُجو‬ ‫المسلمين‬
‫ْ‬ ‫وس�ا َعدَ ال ُك َّف َار ِضدَّ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬‫ل َي ْش َر ُعوا في خدمة ال َبغْي ا َلمش ْ‬ ‫قي�ن‬‫للمنَاف ْ‬‫م�و َال ُ‬‫�ل األَ َ‬ ‫وأ ْر َس َ‬‫َ‬

‫وهي مدرسة أيب عامر اخلزرجي املشتهر بالفاسق‪ ،‬كان مهيب ًا يف قومه رّ‬
‫وتنص يف اجلاهلية‬
‫وأظهر الورع‪ ،‬وزعم أنه ينتظر النبي املبعوث‪ ،‬وصار َ‬
‫يذ ِّكر الناس بكثري من صفات النبي ﷺ‬
‫التي عرفها من التوراة واإلنجيل‪ ،‬وملا هاجر النبي ﷺ إىل املدينة وصار فيها لإلسالم كلمة‬
‫عاملية انتكس أبو عامر وانسلخ من آيات اهلل وأظهر احلقد عىل النبي ﷺ وبارزه بالعداوة‬
‫والبغضاء واختذ سبيله إىل املرشكني بمكة الستشارهتم إىل حرب رسول اهلل ﷺ وظل معهم‬
‫حتى تم له ما أراد بغزوة أحد التي أصاب املسلمني فيها ما أصاهبم‪ ،‬ثم انقلب عىل وجهه هائ ًام‬
‫يساكن النبي يف املدينة وال يف‬
‫َ‬ ‫يف قبائل العرب ُيغْ ِرهيم بقتال النبي ﷺ وأصحابه وأقسم أن ال‬

‫غريها‪ ،‬فلام فتح النبي ﷺ مكة خرج إىل الطائف‪ ،‬وملا أسلم أه ُلها َّ‬
‫فر إىل الشام يستنرص ملك‬
‫الروم عىل النبي ﷺ فوعده ومناه‪ ،‬ومن الشام كتب إىل املنافقني من أنصاره أن يستعدوا ويبنوا‬
‫له مسجد ًا؛ ألنه سيأتيهم بجنود قيرص حلرب رسول اهلل وأصحابه َو َن َّف َذ املنافقون مخُ َّط َط أيب‬
‫عامر وبنوا املسجد حتت شعار التجمع لعبادة اهلل ((( ولليلة املطرية والبن السبيل واملنقطع‪ ،‬قال‬

‫((( من كتاب «إسالم الصوفية هو احلل» ص ‪ ، 38‬ونعتقد أن قوله‪( :‬إسالم الصوفية هو احلل) كعنوان‬
‫للكتاب يعرب عن وجهة نظره فيام يتحدث عنه مع أننا نجزم بأن الصوفية جزء من معاجلة شؤون األمة‬
‫وليست خالهلا‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪84‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الشيخ عز الدين مايض(((‪:‬‬
‫وبالفعل بنوا هذا املسجد وأحكموا بناءه وأنفقوا عليه املبالغ وبعد إمتامه ذهبوا إىل رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وقالوا‪ :‬إن بيوتنا قاصية عن مسجدك ويصعب علينا احلضور فيه‬
‫ونكره الصالة من غري مجاعةوقد بنينا مسجدا هلذه الغاية وللضعفاء وأهل احلاجة فإن رأيت أن‬
‫تصيل فيه لنتيمن ونتربك بالصالة يف موضع صالتك‪.‬‬
‫قال يف كتاب تاريخ اخلميس‪ :‬ملّا اختذ بنو عمر بن عوف مسجد قباء فبعثوا للنبي ﷺ أن‬
‫يأتيهم فأتاهم فصىل فيه فحسدهم إخوهتم بنو غنم بن عوف ابن غنم وكانوا من منافقي‬
‫األنصار‪ ،‬فقالوا‪ :‬نبني مسجد ًا ونرسل لرسول اهلل ﷺ فيصيل فيه كام صىل يف مسجد إخواننا‬
‫وليصيل فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام(((‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫الض ِ‬
‫�ر إ ْذ كانوا َبال‬ ‫تخطيط ِهم في ِّ‬
‫الس ِ‬ ‫�رار َش�اهدٌ َع َل�ى‬ ‫ومس�جدُ ِّ‬

‫قال تعاىل‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬

‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰ‬

‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ) (((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫س الدِّ ِ‬
‫َي ْس� َعى ل َط ْم ِ‬ ‫�ل دور المنْه�جِ النِّ َف ِ‬
‫اآلفاق‬ ‫ين في‬ ‫اق�ي‬ ‫و َظ َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫ثا ِ‬
‫إل َح ِن‬ ‫في الحكْ� ِم ِ‬
‫والعل ِم و َب ِّ‬ ‫الفت ِ‬
‫َ�ن‬ ‫ُ�وف ِ‬ ‫بم�ا يث�ار م�ن صن ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إشار ٌة إىل أن سياس َة النفاق واملنافقني القائمة عىل الغش واخلداع والرتبص والفتنة‬

‫((( املصدر السابق‪.‬‬


‫((( من كتاب «تاريخ اخلميس» (‪.)131 : 2‬‬
‫((( التوبة‪.108-107 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪85‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫واإلرجاف‪ ..‬إلخ مستمر ٌة يف احلركة داخل اخليمة اإلسالمية‪ ،‬منذ عهد الرسالة وما بعدها‪،‬‬
‫ف َم ِق ٍ‬
‫يت مع الكفار واملستعمرين متهيد ًا‬ ‫بأساليب شتى َ‬
‫وحتا ُل ٍ‬ ‫َ‬ ‫تعمل عىل رضب الدين والديانة‬
‫لفتنة املسيخ الدجال‪.‬‬

‫اش�تهار فِ ْتنَتِ� ْه‬


‫ُ‬ ‫ثم�ان‬
‫َ‬ ‫ِم�ن َقت ِ‬
‫ْ�ل ُع‬ ‫�ن َم ْر َح َلتِ� ْه‬ ‫الر ُس ُ‬
‫�ول َع ْ‬ ‫َ‬
‫وأ ْخ َب َ�ر َّ‬
‫إشار ٌة إىل أن دور املنافقني وحتالفهم مع الكفار هييئ األسباب والعقول لقبول فتنة املسيخ‬
‫الدجال‪ ،‬وأن هذا التحالف املقيت قد برز جليا يف املؤامرة عىل خالفة سيدنا عثامن بن عفان‬
‫ريض اهلل عنه‪ ،‬ورصح النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم بأن هذا التحالف هو من فعل مدرسة‬
‫النفاق العربية‪ ،‬يؤيده حديث أنس ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬يا عثامنُ إنك تيل اخلالف َة‬
‫وص ْم يف ذلك اليوم ُت ِ‬
‫فط ْر عندي»(((‪.‬‬ ‫من بعدي‪ ،‬وسرييدك املنافقون عىل َخ ْل ِعها‪ ،‬فال ختلعها‪ُ ،‬‬
‫كام حدد النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم خطورة مقتل سيدنا عثامن وأنه بداية ملرشوع‬
‫سيايس خطر داخل اخليمة اإلسالمية‪ ،‬إنه مرشوع الدجل والدجاجلة‪ ،‬فعن حذيفة ؤ‪:‬‬
‫« َّأو ُل الفتن َق ْت ُل ُعثامن ِ‬
‫وآخ ُرها ُخ ُ‬
‫روج الدَّ َّجال» (((‪ ،‬زاد ابن عساكر يف روايته‪« :‬والذي نفيس‬
‫بـيده ما من رجل يف قلبه مثقال ذرة من قتل عثامن إل تبع الدجال إن أدركه‪ ،‬وإن مل يدركه آمن‬
‫به يف قربه» ‪ ،‬وسيأيت تفصيل ذلك يف تناولنا ملرحلة عثامن ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫الش ِ‬
‫�قاق‬ ‫�دار ُس ِّ‬‫ت َم ِ‬ ‫ت ََس ْل َس� َل ْ‬ ‫�اق‬ ‫َح�ت س ِ‬
‫�قف َمن َْه�جِ النِّ َف ِ‬ ‫َوت َ َ‬
‫�راد س ِ‬
‫�اح ِق‬ ‫ِدين� ًا ودني�ا ف�ي ا ِّط ٍ‬ ‫ِ‬
‫الالَّح ِق‬ ‫بجيل في الز ََّم ِ‬
‫�ان‬ ‫ٍ‬ ‫ِجي ً‬
‫لا‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫يشري الناظم إىل أن النفاق اتَّسع عىل عهد صاحب الرسالة حتى صار منهج ًا له سقفه‬

‫((( رواه ابن أيب شيبة وابن عساكر عن حذيفة بن اليامن ريض اهلل عنه‪ ،‬انظر «اإلشاعة يف أرشاط الساعة»‬
‫للربزنجي ص‪.39‬‬
‫((( رواه ابن أيب شيبة عن حذيفة بن اليامن‪ ،‬املصدر السابق ص‪.38‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪86‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الفكري وجتمعه الفئوي مضا ِرع ًا لوجود دعوة رسول اهلل ﷺ عىل شكل معارضة داخلية‬
‫ترتصد املواقف وتتحسب الفرص وهتيئ نفسها لالنقضاض؛ ولكن دون ضوضاء وال َج َلبة‬
‫وال تصادم أو رصاع مبارش خاصة َو َأ َّن رسول اهلل ﷺ قد امتلك القرار‪ ،‬وليس من مصلحتهم‬
‫إظهار مبادئهم وأفكارهم والوحي ينـزل والكل يف املجتمع املدين مؤيد ملواقف س ِّيد اخللق‬
‫عليه الصالة والسالم؛ ولكنهم يف األزمنة الالحقة لرسول اهلل برزت بعض مواقفهم ضد‬
‫اإلسالم وقراره عىل صور ونامذج شتى‪ ،‬ولعل من أبرزها ما جرى لعثامن ؤ من احلصار‬
‫والقتل‪ ،‬وما جرى أيض ًا لإلمام عيل ؤ من األذى واملخالفة املؤدية إىل القتل أيض ًا‪.‬‬

‫(‪ )4‬املدرسة النبتلية لعبداهلل بن نبتل‬


‫�ل َن ْبت ِ‬
‫َ�ل‬ ‫�د ال ّل ِ‬
‫�ه ن َْج ِ‬ ‫يدْ ع�ى بِعب ِ‬ ‫�د ا ْبتُلِ�ي‬ ‫�ق َق ِ‬ ‫�م ُمنَافِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َومن ُْه ُ‬
‫اب َح ُق�و ْد‬ ‫َو َأز َْر ُق ال َع ْينَ ْي ِ‬
‫�ن ك َّ‬
‫َ�ذ ٌ‬ ‫�ي لِ ْل َي ُه�و ْد‬
‫�ل َأ ْس َ�ر َار النَّبِ ِّ‬
‫َينْ ُق ُ‬
‫�ب َج َّب ٍ‬
‫�ار َمتَ�ى ْاس� َت َق َاما‬ ‫َو َق ْل ِ‬ ‫�ن َش� ْي َط ٍ‬
‫ان َي َ�رى ا ِ‬
‫إل ْسَل�اَ َما‬ ‫بِ َع ْي ِ‬

‫قال السرّ ِ ي‪ :‬كان (عبداهلل بن نبتل) املنافق يجُ الس رسول اهلل ﷺ ويرفع حديثه إىل اليهود‬
‫عليكم اآلنَ َر ُج ٌل َق ْل ُبه َق ٌ‬
‫لب َج َّب ٌار‬ ‫ُ‬ ‫فبينام رسول اهلل ﷺ يف حجرة من حجراته‪ ،‬إذ قال‪َ « :‬يدْ ُ‬
‫خل‬
‫و َي ْن ُظ ُر بِ َع ْين َْي َشيطانٍ»((( فدخل عبداهلل بن نبتل‪ ،‬وكان أزرق العينني‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪« :‬تَشْ تِ ُمني‬
‫َأن َْت َ‬
‫وأ ْص َحا ُب َك؟» فح َل َ‬
‫ف باهلل ما فعل ذلك‪ ،‬فقال له النبي ﷺ‪« :‬بل فعلت» فجاء بأصحابه‬
‫فحلفوا باهلل ما سبوه فأنزل اهلل تعاىل‪( :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬

‫((( رواه أمحد عن ابن عباس ريض اهلل عنهام والبزار ورجال اجلميع رجال الصحيح‪« ،‬جممع الزوائد»‬
‫(‪.)122 :7‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪87‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) (((‪.‬‬

‫(‪ )5‬مدرسة اإلرجاف ومرىض القلوب‬


‫باإلس� َف ِ‬
‫اف‬ ‫الفك ِْر ِ‬
‫ِممن َغ َلوا فِي ِ‬ ‫�اف‬‫وم ْث ُله�ا مدْ رس� ُة اإلرج ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫�ج َحتَى َا ْح َتر ُقوا‬ ‫وخا َل ُفوا َ‬
‫المن َْه َ‬ ‫َ‬ ‫ب ِم َّم ْن َف َس ُقوا‬‫َذاك َم ْرضى ال َق ْل ِ‬
‫ك َ‬

‫للذ َم ْم‬‫ي�ن و َبا ُع�وا ِّ‬‫َفأه َلكُ�وا الدِّ َ‬ ‫�اد فِ�ي األُ َمم‬ ‫َأصابه�م داء ال َفس ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫وم ْة‬
‫المش�ؤ َ‬
‫ُ‬ ‫َالت ِهي‬‫َانت وال ز ْ‬‫ك ْ‬ ‫�دار ٌس َم ْذ ُم َ‬
‫وم� ْة‬ ‫�ذه َم ِ‬ ‫َفه ِ‬
‫َ‬
‫�ق فِ�ي ال َعوالِـ� ِم‬ ‫الح َّ‬
‫�ون َ‬‫ار ُب َ‬‫ُي َح ِ‬ ‫�زل َأ ْت َبا ُعه�ا فِ�ي ال َعا َلـ� ِم‬
‫�م َي ْ‬
‫و َل ْ‬
‫والن َّْص ُ�ر َيأتِ�ي ُدون ََم�ا ْاش�تِ َب ِاه‬ ‫�ظ ِ‬
‫الل�ه‬ ‫�وظ بِح ْف ِ‬
‫�ق َم ْح ُف ٌ‬
‫والح ُّ‬
‫َ‬

‫املشك َكة واملت ََش ِّك َكة داخل اجلسد اإلسالمي واملوصوفون‬
‫ِّ‬ ‫مدرسة اإلرجاف هم العنارص‬
‫يف سورة األحزاب بقوله‪ ( :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ) (((‪ .‬ومنها أيض ًا مدرسة‬
‫مرىض القلوب (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ) (((‪.‬‬
‫ذكر يف مواقع كثرية من القرآن‪ ،‬فقد جاء ذكرها يف أول سورة البقرة عند‬
‫وهذه املدرسة هلا ٌ‬
‫قوله تعاىل‪( :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ )(((‪ ،‬وورد ذكر هذه املدرسة يف سورة‬
‫األحزاب عند قوله تعاىل‪( :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬

‫((( املجادلة‪.14 :‬‬


‫((( األحزاب‪.60 :‬‬
‫((( األنفال‪.49 :‬‬
‫((( البقرة‪.10-9:‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪88‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ) (((‪.‬‬
‫وقد ظلت آثار هذه املدرسة يف األمة وسارت سري ًا مطرد ًا يف سلوك الكثري ممن ال يعتني‬
‫باألخالق وحقائق االستقامة يف عموم املسلمني ممن تضعف قلوهبم وقابلهم عن االلتزام‬

‫باآلداب الرشعية لسبب أو آلخر‪ ،‬ويف مثل ذلك ُي َل ِّم ُح ُّ‬


‫النبي صىل ﷺ ملثل هذه الظواهر‬
‫َاف ِق َث اَل ٌث‪ :‬إِ َذا َحدَّ َث َك َذ َب َوإِ َذا َو َع َد َأ ْخ َل َف َوإِ َذا ْاؤتمُ ِ َن َخانَ » (((‪ ،‬ويف‬
‫حتذير ًا‪ ،‬فيقول‪« :‬آ َي ُة املن ِ‬

‫رواية‪َ « :‬وإِ َذا َخ َ‬


‫اص َم َف َج َر»((( نسأل اهلل السالمة‪.‬‬

‫(‪ )6‬املدرسة ُ‬
‫احل ْر ُق ْو ِص َّي ُة‬
‫املدرسة احلرقوصية‪ ،‬املنسوبة ُ‬
‫حل ْر ُقوص بن ُز َهيرْ الذي اعرتض عىل النبي يف قسمة املال‬
‫هبوازن‪ .‬وهي أصل مدارس اخلوارج‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِمنفِ ْق ِه َع ِ‬
‫ف�ي غَ�ز َْوة ال َّطائ�ف ّ‬
‫لم�ا نَـ�زَال‬ ‫الم ْص َط َفى َما َح َصال‬
‫صر ُ‬
‫ي َقائِ َما‬ ‫�و ٌص ُي َم ِ‬
‫�ار ْ‬ ‫�اء ُح ْر ُق ْ‬
‫َف َج َ‬ ‫ال َغنَائِ َم�ا‬ ‫ُي َق ِّس ُ‬
‫�م‬ ‫َنبِـ ُّينَ�ا‬
‫وم�ا َأرد َت الل�ه فِ�ي الم َق ِ‬
‫اس� ِم‬ ‫ع�دل ِقس�م َة ال َغنَائِ� ِم‬
‫وق�ال‪ :‬إِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫مص َط َفى َو َ‬
‫ك َم ْن َي ْعد ْل َو َم ْن ُي َق ِّس َ‬
‫�م ْه؟‬ ‫يح َ‬
‫َو َ‬ ‫قال‪َ :‬م ْه‬ ‫فاح َم َّر َو ْج ُه ا ُل ْ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ـي َج ِد ْي َر ًا بِال ِّث َق ْة‬ ‫ِ‬
‫الصدَ َق� ْة‬ ‫�ن َع َس�ا ُه َي ْقس َ‬
‫�م َّن َّ‬ ‫َف َم ْ‬ ‫إِ ْن ل�م َيك ُْن َعدْ ل ْ‬
‫�ه َش ٌّ�ر َي ِص ْل‬
‫وق�ال‪ِ :‬م�ن ِضئ ِْضئِ ِ‬ ‫الر ُج ْل‬ ‫ِ‬
‫ظه�ر َّ‬ ‫وح�دَّ َق الن ُّ‬
‫َّبـي في‬ ‫َ‬

‫((( األحزاب‪. 32 :‬‬


‫((( متفق عليه عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( متفق عليه من حديث عبد اهلل بن عمرو ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪89‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ال ُق ْ�ر ِ‬
‫آن‬ ‫ِق َ�ر َاء ُة‬
‫�م‬ ‫ِ‬
‫مي َزت ُُه ْ‬ ‫ِ‬
‫األزم�ان‬ ‫َي ْظ َه ُ�ر ق�و ٌم من�ه ف�ي‬
‫فِ�ي و ِاق� ٍع مح َّط� ِم الغَاي ِ‬
‫�ات‬ ‫ُون الص�و َت بِاآلي ِ‬
‫�ات‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُي َح ِّس�ن َ َّ ْ‬

‫يشري الناظم يف األبـيات السالفة إىل معنى احلديث الوارد يف صحيح مسلم عن أبـي سعيد‬
‫يقسم َق ْس ًام أتاه ذو اخلويرصة ‪-‬وهو‬ ‫ُ‬
‫اخلدْ ِري ؤ‪ ،‬قال‪ :‬بـينام نحن عند رسول اهلل ﷺ وهو ّ‬
‫رجل من متيم‪ -‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ِ ..‬‬
‫اعدل‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬و ْي َل َك! ومن َي ُ‬
‫عدل إنْ‬
‫ائذن يل‬ ‫ْ‬
‫أعدل»‪ ،‬فقال عمر بن اخلطاب‪ :‬يا رسول اهلل‪ْ ..‬‬ ‫رست إن مل‬
‫وخ ُ‬‫أعدل؟ قد ِخ ْب ُت ِ‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫َأضرْ ِ ْب ُع ُن َقه‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬د ْعهُ‪ ،‬فإن له أصحاب ًا حَ ْي ِق ُر أحدُ ُكم َصال َت ُه مع صالهتم‬

‫يمر ُق َّ‬
‫الس ْه ُم‬ ‫وصيا َمه مع صيامهم‪ ،‬يقرؤون القرآن ال جياوز ِ‬
‫تراق ْي ِهم‪َ ،‬ي ْم ُر ُق ْونَ من اإلسالم كام ُ‬
‫ْضئِ هذا قوم ًا يقرؤون القرآن ال جياوز َحناجرهم‪،‬‬ ‫الرم ِّيةِ»(((‪ ،‬ويف رواية‪ ...« :‬إِنَّ ِم ْ‬
‫ن ِضئ ِ‬ ‫من ِ‬

‫يقتلون أهل اإلسالم ويدعون أهل األوثان‪ ،‬يمرقون من اإلسالم كام َيمرق السهم من الرمية‪،‬‬
‫لئن أدركت ُُهم َأل ْقتَل َّنهم َق ْت َل َع ٍ‬
‫اد» (((‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫وق�ال‪َ :‬د ْعن�ي ِع ْب َ�ر ًة أجع ُل� ُه‬ ‫اس�ت ََأ َذ َن ال َف ُ‬


‫�ار ْو ُق َأ ْن َي ْق ُت َل� ُه‬ ‫َف ْ‬
‫َأ َرى رج�االً ش�أن ُُه ْم كش�أنِ ِه‬ ‫فق�ال‪ :‬دع�ه إِ ّن ِم�ن ورائِ ِ‬
‫�ه‬ ‫َْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ُ ِ‬ ‫الن�اس‪ :‬إِ ّن أحم�دا‬
‫�جدَ ا‬ ‫يقت�ل م�ن أصحابِه َمن ْ‬
‫يس ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يق�ول‬ ‫وال‬

‫أورد الناظم يف هذه األبـيات والتي سبقتها حتت مسمى «ملحظ فتنة املستقبل من غزوة‬
‫هوازن»‪ ،‬واملقصود من هذا املسمى إبراز القراءة املستقبلية لدى صاحب الرسالة ﷺ من واقع‬
‫رس تطور الفتنة من مصدرها األول مقارنة لربوز الرشيعة من مصدرها األول‪،‬‬
‫عرصه‪ ،‬وكشف ّ‬

‫((( أخرجه البخاري ومسلم عن أيب سعيد ‪« ،‬كنز العامل» (‪.)202 :12‬‬
‫((( رواه عبدالرزاق يف مسنده وابن جرير عن أيب سعيد اخلدري ‪« ،‬كنز العامل» (‪.)308 :11‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪90‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وثوابت وللرشّ مثل ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأن احلق سبحانه وتعاىل جعل للخري أصو ً‬
‫ال‬
‫ص ِة‬
‫واحلديث الرشيف يربز ملحظ اجلرأة لدى أهل الفتنة وما ُتزَ ِّين ُُه هلم عقوهلم يف شأن ُن رْ َ‬
‫احلق من منظور النفس واهلوى والدنيا ووساوس الشيطان‪ ،‬فيفهمون األثر القائل‪ُ « :‬قل‬
‫أخ ْذ َك ف اهللِ لو َم َة الئِ ٍم» عىل غ ِ‬
‫ري معناه وال َم ْبنَاه‪.‬‬ ‫احلقَّ ولو َكان ُم َّر ًا»(((‪« ،‬وال َت ُ‬
‫اخل َو ْي رِصة َف ْر ٌد حيمل منهج مراحل وأسلوب جحافل‪ ،‬ظل‬ ‫بن ُز َهيرْ َأ ْو ُذ ْو ُ‬
‫ص ُ‬‫فهذا ُح ْر ُق ْو ُ‬
‫ِ‬
‫األنانية َح ّتى َب َر َز ْت حقيقته يف غزوة هوازن متجرئ ًا‬ ‫ينسج حول نفسه مفاهيم الرشع بصورة‬
‫عىل رسول اهلل بام قال عىل خمتلف الروايات‪.‬‬
‫قسمة ما ُأريد هبا وجه اهلل)‪ ،‬وكل تلك املقوالت‬
‫ٌ‬ ‫فقد قال‪( :‬ا ِ ْع ِد ْل) ويف رواية قال‪( :‬هذه‬
‫وطرح خطري يف أفضل املجتمعات‪ ،‬فالبد أن يظهر مقابل هذا‬
‫ٍ‬ ‫حتو ٍل يف الذات‪،‬‬
‫داللة عىل ُّ‬
‫التحول موقف وبرز هذا املوقف يف قراءة رسول اهلل ﷺ لذات الرجل وما خيرج من أمثاله يف‬
‫ُّ‬
‫االعتناء ال َّت ُّام بالقرآن ‪-‬ويف بعض الروايات‪-‬‬
‫ُ‬ ‫مدرسة اإلسالم من أقوام ‪-‬وليس أفراد‪ِ -‬م ْيزَ تهُ ُ ُم‬
‫بصحيح الس ّنة‪ ،‬ولكنهم مع هذا االعتناء بالنصوص يمرقون من اإلسالم كام يمرق السهم من‬
‫جتر َأ ذو اخلويرصة عىل ذات رسول‬
‫الرمية‪ ،‬لتشابه عنرص اجلرأة منهم عىل الذوات املؤمنة‪ ،‬كام َّ‬
‫اهلل يقول‪ :‬ا ِ ْع ِد ْل‪ ،‬مع أنه يعتقد يف نفسه معرفة حق اهلل واإلسالم ملا ورد فيه الرواية األخرى «إن‬
‫هذه قسمة ما ُأ َ‬
‫ريد هبا وجه اهلل»‪.‬‬
‫فاملنطق املطروح إنام هو ِغرية عىل ُمراد اهلل‪ ،‬واحلقيقة املنشودة يف صدر الرجل هو نقد موقف‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وكانت إرادة اهلل متجلي ًة خلف هذا احلدث اخلطري لتربز أحكام املستقبل ممن‬
‫ال ينطق عن اهلوى ﷺ‪ ،‬فيتقرر بذلك أن تاريخ ال َّت َح ُّوالت املستقبلية ليس له ضابط وال قيد إلاَّ‬

‫((( قال احلافظ ىف «بلوغ املرام» (‪ :)182 :1‬صححه ابن حبان من حديث طويل‪ .‬انظر «روضة املحدثني»‬
‫(‪.)286 :9‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪91‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫النظر يف هذا الفقه اخلاص‪.‬‬
‫فقراءة الواقع اإلسالمي عىل مدلوالت هذا الفقه تربز معنى البيـت‪:‬‬
‫واق� ٍع مح َّط� ِم الغَاي ِ‬
‫�ات‬ ‫ف�ي ِ‬ ‫ِ‬
‫باآلي�ات‬ ‫�و َت‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫الص ْ‬
‫ُون َّ‬
‫ُي َح ِّس�ن َ‬

‫واملشاهد يف عاملنا املعارص اهتامم اجليل األوسع من املسلمني بالقرآن طباع ًة وجتويد ًا وتالو ًة‬
‫ٍ‬
‫ومنهوك‪ ،‬تكتنفه األمراض‬ ‫ٍ‬
‫وضعيف‬ ‫واقع إسالمي حُم َّط ٍم‬
‫وحتسين ًا لألصوات وتنا ُف َس ًا عليه مع ٍ‬
‫والو َهن والغزو الفكري الكافر والربامج التعليمية والرتبوية املاجنة بكل صورها‬
‫واألغراض َ‬
‫ونامذجها‪.‬‬
‫ويف قوله ﷺ‪« :‬لئن أدركت ُُه ْم َألقتل ّنهم َ‬
‫قتل عاد» إشار ٌة إىل خطورة مكانتهم يف املجتمع‬
‫وصعوبة املعاجلة السلمية ملا يأتون به مع كثرهتم وقوة انتشارهم وعلو مظهرهم يف آخر‬
‫الزمان‪.‬‬
‫هام يف هذه العبارة‪ ،‬فقوله ﷺ‪« :‬لئن أدركت ُُهم» وهو عليه الصالة والسالم قد‬ ‫ٌ‬
‫ملحظ ٌ‬ ‫وهنا‬
‫اس ِه ؟‬
‫أس ِ‬ ‫َأ ْد َر َك ُح ْر ُق ْو َ‬
‫ص بذاته؛ ولكنه مل يقتله‪ ،‬فكيف لو قتله؟ أليس يف ذلك قطع ًا للرش من َ‬
‫واملعتقد واهلل أعلم أنه ﷺ ال يميض حك ًام يف مثل هذا الشأن إلاَّ بأمر اهلل وهو مل خيرب يف شأن‬
‫الرجل‪ .‬وأما قوله‪« :‬خيرج من ضئضئ هذا» فهو عىل معنيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬من ذريته ونسله‪ ،‬وهذا يعني أن الرجل حمفوظ بقدر اهلل وقضائه‪ ،‬فلن يسلط عليه‬
‫أحد‪ ،‬كام هو يف شأن ابن صياد وذاك الرجل السابق ذكره‪ ،‬ولقوله ﷺ مشري ًا إىل خطر اإلشاعة‬
‫حممد ًا ُ‬
‫يقتل‬ ‫حوالت « َد ْع ُه حتى ال يقول الناس‪ :‬إن ّ‬
‫التي ال يرجوها رسول اهلل يف مبتدأ ال َّت ُّ‬
‫أصحابه»‪ ،‬ويف رواية أخرى‪« :‬دعه فإن ِمن ورائه رجا ًال‪« »..‬دعه فإن له أصحاب ًا»‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن معنى قوله‪« :‬خيرج من ضئضئ هذا» أي‪ :‬من مثاله وعىل رؤيته ومنهجه ٌ‬
‫قوم أو‬
‫وأصحاب هم عىل ذات ِطينته ورؤيته‪ ،‬فيعترب القتل له يف‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رجال‬ ‫أقوام‪ ،‬وله يف املدينة ٌ‬
‫أمثلة‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪92‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مر أشدَّ خطر ًا وأثر ًا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هذه احلالة َغيرْ َ مجُ ٍْد َوال ُم ِف ٍ‬
‫يد‪ ،‬بل ربام صار األ ُ‬
‫مشهد ِه و ُب ْعدَ مقصده ورسوخ‬
‫ِ‬ ‫الرسالة سع َة‬ ‫ُ‬
‫القائمة يف عهد صاحب ِّ‬ ‫الت‬
‫التحو ُ‬
‫ُّ‬ ‫و ُت ِ‬
‫رب ُز هذه‬
‫ُ‬
‫احلافظ‬ ‫أخالق ُن ُب ّوتِ ُه‪ ،‬وأهنا‬
‫ِ‬ ‫دعوته بأخالقه ومواقفه‪ ،‬وهذا ما يؤكد بقاء هذا املعنى إذا عرفنا سرِ َّ‬
‫واألسلوب ال َّناجح يف استمرارية هذا املرياث إىل جانب األصلني «الكتاب والسنة»‬
‫ُ‬ ‫املناسب‬
‫ُ‬
‫أمام جمريات الفتن وأصحاهبا‪.‬‬
‫جمر َد ْي ِن عن أخالق النبوة ُيضرْ َ ُب هلام مرضب املثل يف‬
‫فاآلخذ هلام ‪-‬أي الكتاب والسنة‪َّ -‬‬
‫أخذمها بح ِّقهام ومعادهلام الثالث عرف سرِ ِّ قوله‬
‫حرقوص ومثله ممن هلم اعتزاز باإلثم‪ ،‬ومن َ‬
‫تعاىل‪( :‬ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬
‫أمر رباين هييئ به (املخلصني) يف كل زمان ومكان‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬
‫التوكيل ٌ‬ ‫ﯪ ) (((‪َّ ،‬‬
‫وأن هذا‬
‫سبحانه يرعاهم وحيفظهم للقيام بأمره‪ ،‬كام حفظ وكالء غريهم ممن له فيهم حكمة وامتداد‬
‫الرش وسريه‪ ..‬وهلل يف خلقه شؤون‪.‬‬

‫((( األنعام‪.89 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪93‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫م ْدرس ُة ِ‬
‫الف َت ِن ا ُمل َعـماّ ة‬ ‫َ َ َ‬

‫يف هذا العنوان إظهار نموذج آخر من نامذج الفتن املؤثرة يف مسار حياة األمة أشار إليها ﷺ‬
‫وعبـر عنها فقه التحوالت بمدرسة «الفتنة املعماّ ة» وكأهنا بؤرة العديد من ِ‬
‫الفتن‬ ‫يف أحاديثه‪َّ ،‬‬
‫قميص عثامن ‪-‬كام يقولون‪ -‬لتنفيذ أغراض‬
‫َ‬ ‫التلبس بالدِّ ين واختاذه‬ ‫التي ُتصيب َّ‬
‫األمة يف شأن ُّ‬
‫وأهداف أخرى‪ ،‬ور َّبام ينطوي حتت سقفها عدد من نامذج االنحرافات املتنوعة التي أصابت‬
‫الضا َّل ِة املنحرفة التي ال سقف هلا من مسميات الفتن‬ ‫العامل اإلسالمي يف مراحله املتقلبة ِ‬
‫كالف َر ِق َّ‬
‫املشار إليها باملدارس يف هذا التقسيم‪ ،‬وقد تناول بعض العلامء الكثري منها يف كتب مستقلة‪ ،‬قال‬
‫عنها الناظم‪:‬‬
‫ِ‬
‫األس�ماء‬
‫ُ‬ ‫َمدْ َرس� ٌة َض ْ‬
‫اع�ت بها‬ ‫�اء‬
‫ال َعم َي ُ‬ ‫الفتنَ� ُة‬ ‫ومث ُل َّ‬
‫ه�ن‬

‫َسوس�ها َمجمو َع� ُة األَ ْقم�ا ِع‬ ‫ِ‬


‫األف�راد واألتب�ا ِع‬ ‫َمجهول� ُة‬
‫ت ُ‬
‫�ه ُمعتَكِف�ا‬ ‫َان ف�ي أصحابِ ِ‬ ‫َق�دْ ك َ‬ ‫الم ْص َط َفى‬
‫أن ُ‬‫و َقدْ َأتَى في الن َِّّص َّ‬
‫َـمن�ا‬
‫ـؤت َ‬‫ُم َصـ ِّليـ� ًا وقـانِت� ًا ُم ْ‬ ‫إ ْذ َّذك َُروا َش�خْ َص ًا َجدي�ر ًا بال َّثنَا‬

‫ني متوازي ِ‬
‫ني‪ ،‬وأن مرحلة‬ ‫يشري الناظم إىل مقتىض قضاء اهلل وقدره يف سري اخلري والرش يف َّ‬
‫خط ِ‬
‫الرسالة القائمة عىل اهلداية واإليامن كان داخل خيمتها مظاهر أخرى ختدم سرية الشيطان‬
‫والدَّ جال‪ ،‬ومن ذلك ما أشارت إليه األحاديث الصحيحة‪ ،‬فعن أنس بن مالك ؤ‪ ،‬قال‪ :‬كان‬
‫تعبدُ ه واجتِهاده‪ ،‬فذكرناه لرسول اهلل ﷺ ووصفناه بصفته‪،‬‬
‫يف عهد رسول اهلل ﷺ رجل يعجبنا ُّ‬
‫ففيام نحن نذكره إذ طلع الرجل‪ ،‬فقلنا‪ :‬هو هذا يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬إنكم ختربوين عن رجلٍ عىل‬
‫الشيطان»‪ ،‬قال‪ :‬فأقبل عىل املجلس‪ ،‬فقال رسول اهلل‪َ « :‬أن ُْشدُ َك َ‬
‫اهلل‪ ..‬هل َ‬
‫قلت‬ ‫لس ْف َع ٌة من َّ‬
‫وجهه َ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪94‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫خري مني ؟»‪ ،‬قال‪ :‬ال َّل ّ‬
‫هم نعم‪ ،‬ثم دخل‬ ‫ُ‬
‫أفضل مني أو ٌ‬ ‫وقفت عىل املجلس‪ :‬ما يف املجلس أحدٌ‬
‫َ‬ ‫حني‬
‫َ‬
‫الرجل؟» قال أبوبكر ؤ‪ :‬أنا‪ ،‬فدخل فوجده يصيل‪،‬‬ ‫ليصل‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬من ُ‬
‫يقتل‬
‫ال يصيل! وقد هنانا رسول اهلل ﷺ عن رضب املص ِّلني! فخرج‪ ،‬فقال‬
‫أقتل رج ً‬
‫فقال‪ُ :‬س ْب َحان اهلل‪ُ ..‬‬

‫له رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬مه؟»‪ ،‬قال‪ :‬وجد ُته بأبـي أنت وأمي يصيل‪ ،‬وقد هنيتنا عن رضب املصلني‪،‬‬
‫فقال ﷺ‪« :‬من يقتل الرجل ؟»‪ ،‬فقال عمر ؤ‪ :‬أنا‪ ،‬فوجده ساجد ًا‪ ،‬فقال‪ :‬أقتل رج ً‬
‫ال واضع ًا‬
‫جبهته هلل تعاىل! وقد رجع أبوبكر ؤ وهو أفضل مني! فخرج‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬مه؟»‪،‬‬
‫فقال‪ :‬بأبـي أنت وأمي يا رسول اهلل وجدته ساجد ًا فكرهت أن أقتله واضع ًا جبهته هلل تعاىل‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬من يقتل الرجل؟»‪ ،‬فقال عيل‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪« :‬أنت إن أدركتَه قتلتَه» فوجده‬
‫عيل قد خرج فجاء‪ ،‬فقال‪ :‬وجدته بأبـي أنت وأمي قد خرج‪ ،‬قال‪« :‬لو قتلتَه ما اختلف من أمتي‬
‫رجالن كان أوهلم وآخرهم واحد ًا»‪ .‬أي‪ :‬كان أوهلم وآخرهم عىل قلب واحد(((‪.‬‬
‫وح َّط عن رحله َع ِمدَ إىل املسجد‬ ‫أن رج ً‬
‫ال كان يغزو مع رسول اهلل ﷺ فإذا رجع َ‬ ‫وعن أ َن ٍ‬
‫س َّ‬
‫فمر يوم ًا‬ ‫فجعل يصيل فيه فيطيل الصالة حتى جعل أصحاب النبي ﷺ يرون له فض ً‬
‫ال عليهم َّ‬
‫والنبي ﷺ قاعد يف أصحابه‪ ،‬فقال له بعض أصحابه‪ :‬يا رسول اهلل هو ذاك الرجل‪ ،‬فإما أرسل‬
‫إليه وإما جاء من قبل نفسه‪ ،‬فلام رآه رسول اهلل ﷺ مقب ً‬
‫ال‪ ،‬قال‪« :‬والذي نفيس بيده إنَّ بني عينيه‬
‫نفسك ِحني َو َ‬
‫قفت‬ ‫َ‬ ‫سفعة من الشيطان» فلام وقف عىل املجلس قال له رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ُق َ‬
‫لت يف‬
‫املجلس ليس يف القو ِم َخ ٌري ِمني؟» قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم انرصف فأتى ناحية من املسجد ّ‬
‫فخط خط ًا‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫برجله ثم صف كعبيه فقام يصيل‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ُّي ُكم يقوم إىل هذا فيقتله» فقام َأ ُبوبكر‬
‫الر ُجل!»‪ ،‬فقال‪ :‬وجدته يصيل فهب ُت ُه‪ .‬فقال رسول اهلل ﷺ «أ ُّيكم‬ ‫فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ َق َ‬
‫تلت َّ‬

‫((( رواه احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول» (‪ )223 :1‬حتقيق د‪ .‬عبدالرمحن عمرية‪ ،‬و «جممع الزوائد»‬
‫(‪.)301 :3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪95‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يقوم إىل هذا فيقتله» فقال عمر‪ :‬أنا‪ ،‬وأخذ السيف فوجده يصيل فرجع‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‬
‫الرجل!»‪ ،‬فقال يا رسول اهلل‪ :‬وجدته يصيل فهب ُت ُه‪ .‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ُّي ُكم‬
‫َ‬ ‫أقتلت‬
‫لعمر‪َ « :‬‬
‫َي ُقوم إىل هذا فيقتُله؟» قال عيل‪ :‬أنا‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أن َْت َل ُه إِنْ َأ ْد َر ْك َت ُه» فذهب عيل فلم جيده‪،‬‬
‫َ‬
‫الرجل؟» قال‪ :‬مل أد ِر أين سلك من األرض! فقال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬ ‫أقتلت‬
‫فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬‬
‫اختلف يف ُأ َّمتِي ا ْثنَان»(((‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫َ‬ ‫«إنَّ هذا َأ َّول َق ْر ٍن((( َخ َر َج يف ُأ َّمتي‪ ،‬لو َقتلتَه ما‬

‫بالم ْص َطف�ى بـيانُ� ُه‬


‫�ل ُ‬ ‫ول�م َي ُط ْ‬ ‫لست أدري َش ْأ َن ُه‬ ‫الر ُس ُ‬
‫�ول‪ُ :‬‬ ‫قال َّ‬
‫ط�وف‬
‫ُ‬ ‫ث�م اس�تقا َم خل َف َه�م َي‬
‫َّ‬ ‫الموصوف‬
‫ُ‬ ‫الر ُ‬
‫جل‬ ‫�اء َ‬
‫ذاك َّ‬ ‫إذ َج َ‬
‫أحسن منك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬حالي َأ َب ْر‬‫َ‬ ‫فيمن َح َض ْر‬
‫َّبـي‪ :‬هل تَرى َ‬ ‫َ‬
‫قال الن ُّ‬
‫غضب ًا‬ ‫المس�جد يخْ ُطو ِ‬
‫ِ‬ ‫لرو َض ِ‬
‫�ة‬ ‫ول�م َي ُط ْ‬
‫�ل َب َق�اؤُ ه ب�ل َذ َهب�ا‬
‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫يحنَ�ا ِم�ن َش ِّ�ر م�ا‬
‫يحم ُل� ُه‬ ‫ُي ِر ُ‬ ‫ُ�م َي ْق ُت ُل� ُه؟‬
‫ق�ال النَّبـ�ي‪ :‬أ ُّيك ْ‬
‫ق�ال‪ُ :‬ي َص ِّل�ي ل�م َي ُ�ر ْم َف َس�ا َدا‬ ‫�م َع�ا َدا‬ ‫ي�ق ُث َّ‬
‫الصدِّ ُ‬
‫�ب ِّ‬‫فذ َه َ‬‫َ‬

‫�ه ك ََم�ا ُجبِ ْ‬ ‫رأ ِس ِ‬


‫قط�ع ْ‬ ‫�و ُمنْ َف ِع ْ‬
‫�ل‬ ‫َ‬ ‫يري�دُ‬ ‫�ل‬ ‫وه َ‬ ‫ُ‬
‫الف�اروق ْ‬ ‫َو َذ َه َ‬
‫�ب‬

‫�ق بِ َم�ا َع َقدْ تُ� ُه‬ ‫َو َل َ‬


‫ي�س ل�ي َح ٌّ‬ ‫�ال‪َ :‬س ِ‬
‫�اجد ًا َو َجدتُّ� ُه‬ ‫َف َع�ا َد َق َ‬

‫أنت َح َّق� ًا َأ ْجدَ ُر‬ ‫الر ُس ُ‬


‫�ول‪َ :‬‬ ‫َق�ام علِ�ي ق�ال‪ :‬إنّ�ي َأ ْق ِ‬
‫ق�ال َّ‬ ‫�د ُر‬ ‫َ َ ٌّ‬

‫(( ( قال يف «القاموس» ‪ :‬القرن‪ :‬أعىل اجلبل‪ ،‬وأول الفالة‪ ،‬وأول شعاع الشمس أو أول ما يبدو منها عند‬
‫طلوعها‪ ،‬والدفعة من املطر‪ ،‬والقرن أربعون سنة‪ ،‬والصحيح‪ :‬مئة سنة‪ ،‬والقرن‪ :‬كل أمة هلكت فلم يبقَ‬
‫ٌ‬
‫واضحة إىل أن أول مبتدأ ظهور الفتن‬ ‫منها أحد‪ .‬اهـ «حميط املحيط» ص‪ ، 731‬قلت‪ :‬ويف هذا إشار ٌة‬
‫بكافة صورها كان يف عهد العرص األول ومع وجوده ﷺ‪.‬‬
‫ضعفه اجلمهور‪ ،‬وفيه توثيق لني‪ ،‬وبقية رجاله رجال الصحيح‪ ،‬انظر‬
‫(( ( رواه أبو يعىل وفيه يزيد الرقايش ّ‬
‫«جممع الزوائد» (‪.)85 :3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪96‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ق�ال ال َّنبِـ�ي للجمي� ِع من ِ‬ ‫�م َع�ا َد ُمخبِ�را‬ ‫�م َي ِ‬
‫ْ�ذ َرا‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ج�دْ ُه ُث َّ‬ ‫َف َل ْ‬
‫إثن�ان ف�ي منْ ُق ِ‬
‫�ول‬ ‫ِ‬ ‫ل�م َي ْفت ِ‬
‫َ�ر ْق‬ ‫ول‬‫جه ِ‬
‫الم ُ‬ ‫الر ُج ِ‬ ‫َ�م َقت ُ‬
‫َ‬ ‫�ل َ‬ ‫ْ�ل َّ‬ ‫ل�و ت َّ‬
‫يب ال َقدَ ِر الذي َج َرى‬ ‫فان ُظ ْر َع ِ‬ ‫يج�ري َق�دَ را‬ ‫ِ‬
‫ج َ‬ ‫ْ‬ ‫الل�ه‬ ‫أم�ر‬
‫لك�ن َ‬ ‫َّ‬
‫عب�ر ك ُِّل الز ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و ِم�ن هن�ا ب�دَ ا م ِس�ير ِ‬
‫الفت ِ‬
‫ّم�ن‬ ‫ح�االً بح�ال َ‬ ‫َ�ن‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫أشار الناظم يف األبـيات التي أوردت مجلة واحدة الحتوائها عىل موضوع احلديث السالف‬
‫إىل تفصيل قصة هذا احلديث الغريب املعرب عن عمق احلكمة اإلهلية يف جمريات القضاء والقدر‪،‬‬
‫وفيها من عجيب مواقف الصحابة أمام ظواهر السلوك‪ ،‬وما يرتتب عىل هذه املواقف من قضاء‬
‫وجتسدها‬
‫نافذ ال يملكه املرء وال يتدخل فيه‪ ،‬كام أن فيها من عظيم علم املصطفى باألمور الكائنة ّ‬
‫يف األفراد منذ بداية البعثة والرسالة ومعارصة النبـي ﷺ هلذه التحوالت وأصوهلا‪ ،‬ومعايشته‬
‫والتحوالت وأمره الرصيح‬
‫ُّ‬ ‫ملتناقضاهتا‪ ،‬وإشارته ﷺ من واقع العلم الذي يعلمه لرس بقاء الفتن‬
‫ألمثال أبـي بكر وعمر كي يترصفا بحز ٍم أمام جمريات التحول‪ ،‬فيجدا نفسيهام حبـيسني ملا يعلامن‬
‫من أمر اهلل وغري قادرين عىل جتاوز العلم الذي علامه‪.‬‬
‫فهذا أبوبكر ؤ يقوم لقتل الرجل بعد أن أبرز النبـي ﷺ رس َز ْي ِف ِه َوخيانته وفساد رأيه‪،‬‬
‫ِ‬
‫للتعبد هيب ًة متنع احلصيف من‬ ‫ِ‬
‫فريجع أبوبكر ؤ ليقول‪ :‬وجدته يصيل‪ ،‬وهذا يدل عىل أن‬
‫جتاوزها خشية اإلثم مع أن الرسول ﷺ قد أطلق األمر‪ ،‬وقال‪« :‬من يقتل الرجل؟» ومل حيدد نوع‬
‫السلوك أو احلالة التي ينتفي هبا عنه القتل‪ ،‬وهلذا قال ﷺ ألبـي بكر بعد عودته وهو يبتسم‪« :‬قد‬
‫كنت أعلم ذلك» أي‪َ :‬‬
‫لست صاحبه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وقام عمر ؤ؛ ليقوم بذات املهمة عازم ًا جازم ًا وهذا شأنه يف مواقفه‪ ،‬وهو أيض ًا أول‬
‫قتيل يف الفتن‪ ،‬وهو أيض ًا الباب الواقي من انتشارها يف األمة‪ ،‬وهو الفاروق الذي يفرق بـني‬
‫احلق والباطل‪ ،‬ولكنه أمام الرجل املشار إليه عاد إىل رسول اهلل‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪ :‬وجدته ساجد ًَا هلل‪ ،‬أي‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪97‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫إن عمر استهاب أن يقتل عبد ًا يف حالة من حاالت القرب عند اهلل‪ ،‬وهيبة املقام لرجلٍ َّ‬
‫رجا ٍع‬
‫و َّقاف عند أمر اهلل وكتابه تقتيض أن ال يضع سيفه إلاَّ فيمن يستحق‪ ،‬ولعله رأى يف مفهوم علمه‬
‫يتجر َأ عليه‪ ،‬وكأ َّنه نيس قول النبـي‬
‫أن هذا الساجد بـني يدي اهلل ال يستحق القتل وال يليق أن َّ‬
‫ﷺ‪« :‬من يقتل الرجل؟» وأنه مل يبـني احلالة وال الكيفية‪.‬‬
‫ويقوم اإلمام عيل ؤ ليقوم باملهمة ويقطع دابر الفتنة ولكن بعد زمن قد فات‪ ،‬وجرى‬
‫أدركتَه» وكأنهَّ ا إشار ٌة منه ﷺ للعالقة‬
‫فيه أمر القضاء بام جرى‪ ،‬فقال له ﷺ‪« :‬أنت صاح ُبه إن َ‬
‫الرشعية يف شأن َتأ ُّهله الجتثاث الفتن ومعاجلتها؛ ولكنه ع َّلق عىل ذلك بقوله‪« :‬إن أدركتَه»‪.‬‬
‫ودقائق املعرفة تشري إىل أن ترك الصديق والفاروق قتل الرجل عىل غري تعمد بعد األمر‬
‫النبوي باجتثاث الفتنة أمر مربم يف جمريات القدر والقضاء عىل غري مسؤولية أو تبعة عليهام‪،‬‬
‫حيث أرشنا سلف ًا أن رسول اهلل ﷺ كان يقول‪ُ « :‬‬
‫كنت أعلم ذلك» بعد عودة كل منهام‪ ،‬وملا عاد‬
‫اإلمام عيل ؤ وأخرب أنه مل جيد الرجل فيه إشارة تتناسب مع قول رسول اهلل ﷺ‪« :‬أنت‬
‫صاحبه إن أدركتَه»‪ ،‬أي‪ :‬إن هتيأ لك يف مستقبل الزمان األخذ بزمام األمور سيكون عىل يدك‬
‫حسم كثري من الرش‪.‬‬
‫والعجيب أننا مل نلحظ مكان ًا لعثامن بن عفان يف هذه املسألة‪ ،‬وكأن األمر يشري إىل عهده‬
‫مدوية ومل ختمد بعد ذلك‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫الذي برزت فيه قضايا الفتن عالية َّ‬
‫حتى إنه ملا جاء اإلمام عيل ؤ بعده جاء وقد انترشت الفتنة داخل وخارج اخليمة‬
‫الصاع واخلالف‪ ،‬وكان هو كرم اهلل وجهه َأحد‬ ‫َ‬
‫خيوط رِّ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ونسجت ِ‬
‫عناك ُب الشرَّ ِّ‬
‫ضحاياها‪ .‬ويف ختام األمر كشف ﷺ رس األمر بالقتل للرجل فقال‪« :‬لو ُقتل هذا ملا اختلف‬
‫اثنان‪.»..‬‬
‫ولو كان ﷺ مأمور ًا بقتل الرجل ملا تردد يف قتله؛ ولكن احلكمة اإلهلية تربز لنا رس معرفة‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪98‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫رسول اهلل للفتن منذ باكورة الرسالة كام هو يف ابن صياد‪ ،‬حيث قال الرسول لسيدنا عمر ابن‬
‫فاحلق ُس ْب َحانه يحَ ِْميه‬
‫ُّ‬ ‫اخلطاب‪« :‬إن َي ُك ْن ُه فلن ُت َس َّل َط عليه» أي‪ :‬إن كان ُ‬
‫ابن َص َّياد هو الدَّ جال‬
‫ضائه و َقدَ ِر ِه‪ ،‬وهلل يف خلقه شؤون‪.‬‬
‫حكمة اهلل يف مجَ َْرى َق ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫منك أل َّنه ُج ٌ‬
‫زء من‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪99‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مَ دارس ال َكذ ِِب‪ ..‬مُـدَّعُ و النبوّة‪:‬‬
‫األسود العَ نْس‬
‫األسدي‪ْ ،‬‬ ‫ط َليحة َ‬ ‫م َُسيْلِمَ ة ال َك ّذاب‪ُ ،‬‬
‫�ر ال َب ِد ْي ِع َّ‬
‫الذ َهبِ ْي‬ ‫في ِ‬
‫آخ ِر ال َع ْص ِ‬ ‫ب َبدَ ْت فِي ال َع َر ِ‬
‫ب‬ ‫دارس الكِ ْذ ِ‬
‫َم ُ‬
‫ِ‬ ‫ف�ي فِ َ�ر ِ‬
‫ض‬‫�و ُل ال َع َر ِ‬ ‫الو ْح َي ُذ ُي ْ‬
‫�ى َ‬ ‫إِذ ا َّد َع ْ‬ ‫الم َر ِ‬
‫ض‬ ‫اش َ‬ ‫َان َطـ� َه ِ‬
‫َوك َ‬

‫(‪ )1‬املدرسة املسيلمية‬


‫اب‬ ‫ي ُذ ْو ا ِ‬
‫إل ْع َج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ�ذ ِ‬
‫الك َّ‬ ‫در َس� ُة‬ ‫َّأو ُله�ا‬
‫ُمس� ْيل ُم الن َّْج�د ُّ‬ ‫اب‬ ‫َم َ‬

‫َأتَ�ى إِ َل�ى َط ْي َب� َة ك ْ‬


‫َ�ي َي ُب ْو َح�ا‬ ‫ب�ل ُمس�لم ًا َط ُم َ‬
‫وح�ا‬ ‫َان َق ُ‬
‫َق�دْ ك َ‬
‫أشار ال َّن ِ‬
‫اظ ُم فيِ عنوان املوضوع إىل مدرسة كاملة تأسست يف آخر مرحلة الرسالة وهي‬
‫مدرسة الكذب وصاحبها مسيلمة((( َّ‬
‫الكذاب وموطنها َن ْجد‪ ،‬ومن خالل مواقف الكذاب‬

‫((( هو مسيلمة بن ثاممة بن كبـري بن حبـيب احلنفي أبو ثاممة‪ ،‬ولد ونشأ بالياممة بوادي حنيفة بنجد‪ ،‬وتلقب‬
‫يف اجلاهلية بالرمحان‪ ،‬وكان يعرف برمحان الياممة‪ ،‬طاف ديار العرب والعجم وتعلم األساليب التي‬
‫يستغفل هبا الناس كالكهانة والعيافة والسحر واستخدام اجلن وغريها‪ ،‬وكان يدعي النبوة قبل إسالمه‬
‫عىل ما ذكرته بعض الروايات‪ ،‬ويرسل أناس ًا إىل مكة ليسمعوا القرآن فينسج عىل منواله‪ ،‬ويف العام التاسع‬
‫للهجرة أقبل وفد بني حنيفة يعلنون إسالمهم‪ ،‬وكان مسيلمة معهم‪ ،‬ففي رواية أن ختلف عن مقابلة‬
‫رسول اهلل حيرس متاع قومه‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ عنه‪« :‬إنه ليس بِشرَ ِّ ُك ْم مكان ًا» ‪ ،‬فلام رجعوا أعلن رشكته‬
‫يف النبوة معتمد ًا عىل قوله ﷺ‪« :‬إنه ليس بِشرَ ِّ ُك ْم مكان ًا» ‪ ،‬قال بعض الرشاح‪ :‬إنام قوله ﷺ‪« :‬إنه ليس‬
‫بِشرَ ِّ ُك ْم مكان ًا» ال تعني أنه خريهم‪ ،‬بل تعني أهنم أرشار‪ ،‬وليس هو بأكثر رش ًا منهم بل هو رشير منهم‪،‬‬
‫وتويف رسول اهلل ﷺ وأمر مسيلمة الزال ظاهر ًا‪ ،‬وبعث إليهم سيدنا أبوبكر الصديق خالد بن الوليد‬
‫يف جيش من املهاجرين واألنصار وعىل األنصار ثابت بن قيس بن شامس‪ ،‬واشتدت املعركة وثبت قوم‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪100‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ا ُملشار إليه تربز معامل هذه املدرسة كنقطة حتول جديدة داخل خيمة األمة اإلسالمية‪ ،‬وتربز‬
‫أس َس َها وقواعدَ َها من ال ينطق عن اهلوى ﷺ‪.‬‬
‫معها مواقف جديدة يضع ُ‬
‫واد َعى أ َّنه ُينـزل‬
‫تنبأ َّ‬
‫وقد اختلفت الروايات يف وقت نبوءته‪ ،‬واإلمجاع عىل أن الرجل َّ‬
‫عليه قرآن(((‪ ،‬ويف بعض الروايات أنه أتى وأسلم ثم عاد إىل نجد وارتد بنبوءته‪ ،‬ومن جمموع‬
‫الروايات يستفاد أن ظاهرة ال َّتن َُّب ِؤ برزت يف تلك املرحلة يف نجد واليمن‪ ،‬فكان مسيلمة يف نجد‬
‫رأيت يف يدي سوارين‬ ‫الع ْنيس يف اليمن‪ ،‬وإىل ذلك أشار ﷺ يف قوله‪« :‬بـينام أنا ٌ‬
‫نائم ُ‬ ‫واألسود َ‬

‫ال شديد ًا حتى اقتحم املسلمون احلديقة ومحي القتال داخلها ُ‬


‫وأغلق باهبا‬ ‫مسيلمة وقاتلوا املسلمني قتا ً‬
‫وأقام املسلمون عليه رج ً‬
‫ال لئال خيرج منهم أحد‪ ،‬وقتل منهم مجع كثري ومنهم مسيلمة الكذاب‪ ،‬رماه‬
‫حبيش بحربته التي قتل هبا محزة ريض اهلل عنه‪ ،‬ورضبه رجل من األنصار عىل هامته وهو أبو دجانة‬
‫سامك بن خرشة ريض اهلل عنه –وقيل‪ :‬عبداهلل بن زيد األنصاري‪ -‬فخر رصيع ًا‪ ،‬وانقطع دابر القوم بعد‬
‫قتله‪ ،‬وقتل من املهاجرين سبعون ومن األنصار سبعون ومن سائر الناس مخس مئة‪« .‬تاريخ اخلميس»‬
‫(‪.)219 :2‬‬
‫((( ذكرت الروايات أن مما زعمه قرآن ًا قوله‪ :‬لقد أنعم اهلل عىل احلبىل ‪ .‬أخرج منها نسمة تسعى ‪ .‬من بـني‬
‫صفاف وحشا ‪ .‬فمنهم من يموت ويدس إىل الثرى ‪ .‬ومنهم من يبقى إىل أجل مسمى ‪ .‬واهلل يعلم الرس‬
‫وأخفى‪ ،‬ومن قرآنه‪ :‬يا ضفدع بنت ضفدعني ‪ .‬نقي ما تنقني ‪ .‬أعالك يف املاء وأسفلك يف الطني ‪ .‬ال‬
‫الشارب متنعني ‪ .‬وال املاء تكدرين ‪ .‬نقله الدكتور حممد اهلالبـي عن الطربي‪ ،‬انظر «االنرشاح ورفع‬
‫الضيق يف سرية الصديق» ص‪.262‬‬
‫ومن قرآنه ‪ :‬يا ضفدع بنت ضفدعني‪ ،‬نقي ما تنقني‪ ،‬ال الشارب متنعني‪ ،‬وال املاء تكدرين‪ ،‬امكثي يف‬
‫األرض حتى يأتيك اخلفاش باخلرب اليقني‪ ،‬لنا نصف األرض ولقريش نصفها ولكن قريشا ال يعدلون‪.‬‬
‫ومن قرآنه ‪ :‬الفيل ما الفيل ‪ ،‬وما أدراك ما الفيل ‪ ،‬له ذنب وثيل ‪ ،‬وخرطوم طويل‪ ،‬إن ذلك من خلق‬
‫ربنا لقليل‪.‬‬
‫وقد أنزل اهلل يف شأنه قوله تعاىل‪( :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)‬
‫[األنعام‪ ]93:‬قال يف «الكشاف» ‪ :‬هو مسيلمة احلنفي الكذاب أو كذاب صنعاء األسود العنيس ‪ .‬اهـ «تاريخ‬
‫اخلميس» (‪.)13-12 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪101‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ارا فأولتُهام كذابـني خيرجان من بعدي‬ ‫فأوحي إ ّيل يف املنام أن انفخهام َ‬
‫فط َ‬ ‫َ‬ ‫من ذهب َفأ مَ َّ‬
‫هنِ ْي شأنهُام‬
‫أحدُ مها َ‬
‫الع ْنس صاحب صنعاء واآلخر مسيلمة صاحب الياممة»(((‪.‬‬
‫وذكر الناظم ما روي أ َّنه أسلم بادئ ذي بدء‪ ،‬وكان له طموح يف شأن اقتسام املصلحة كام‬
‫يعتقد ورأى يف شأن حكم األرض‪((( .‬‬
‫م�ع النَّبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـي ف�ي النِّ َظ�ا ِم ال َع َ‬
‫المي‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫َقاس� ِم‬
‫�ن ت ُ‬ ‫بِس ِّ�ر َم�ا َي ْر ُج ْ‬
‫�و ُه م ْ‬

‫حيث ورد يف الرواية أنه يف العام العارش للهجرة عندما ُأصيب رسول اهلل ﷺ بمرض موته‬
‫جترأ مسيلمة فكتب إىل رسول اهلل ﷺ يزعم لنفسه الرشكة مع رسول اهلل يف النبوة‪ ،‬وبعث‬
‫رسالته مع عبادة بن احلارث احلنفي املعروف بابن النواحة‪ ،‬وفيها كتب‪« :‬من مسيلمة رسول‬
‫ولقريش نص َفها‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫نصف األرض‬ ‫اهلل –وقد َك َذب يف ذلك‪ -‬إىل حممد رسول اهلل‪ ،‬أ َّما بعد فإن لنا‬
‫ـي‬ ‫ٍ‬
‫حممد ال َّنبِ ِّ‬ ‫ولكن قريش ًا ال ينصفون»‪َّ ،‬‬
‫فرد عليه رسول اهلل ﷺ‪« :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من‬ ‫َّ‬
‫الكذاب‪ ،‬أ َّما بعد فإن األرض هلل يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقني‪،‬‬‫إىل مسيلمة َّ‬

‫والسالم عىل من اتبع اهلدى» (((‪.‬‬


‫حبـيب بن زيد األنصاري‪ ،‬فلام أسلمها له قال مسيلمة‪ :‬أتشهد‬
‫ُ‬ ‫ومحل الرسال َة إىل مسيلمة‬
‫أسمع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أصم ال‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ويقول له‪ :‬أتشهد أين رسول اهلل؟ فيقول‪ :‬أنا ُّ‬ ‫أن حممد ًا‬
‫َّ‬
‫ففعل ذلك ِم َرار ًا‪ ،‬ويف كل مرة كان يقطع منه عضو ًا حتى مات‪.‬‬
‫ويف رواية أخرى‪َّ :‬‬
‫أن احلوار بـني رسول اهلل ﷺ ومسيلمة كان باملدينة يف منـزل عبداهلل بن‬

‫((( «كنز العامل» (‪.)376 :11‬‬


‫((( النظام العاملي إشارة إىل ما يدعيه مسيلمة الكذاب يف مرشوعية دعواه بأنه يوحى إليه‪ ،‬وأن له حق ًا يف إقامة‬
‫ثوابت الدين العاملي األخري كذب ًا وافرتا ًء‬
‫((( «دالئل النبوة» للبيهقي (‪ )420 :5‬يف باب وفد بني حنيفة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪102‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ُأ َبـ ِّي ِ‬
‫ابن سلول‪ ،‬وكان مع رسول اهلل ثابت بن قيس ابن شامس‪ ،‬وتكلم مسيلمة‪ ،‬وقال‪ :‬األرض‬
‫فرد عليه الرسول ﷺ‪« :‬إن األرض هللِ يورثها من يشاء من عباده»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نصفها يل ونصفها لك‪َّ ،‬‬
‫أعط ْيت َُك ُه»‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه قال له‪ :‬ألمألنهَّ َ ا عليك‬
‫وأخذ ُع ْو َد ًا من األرض‪ ،‬وقال‪« :‬لو سألتني هذا ما َ‬
‫ثابت ابن قيس بن شامس ُ‬
‫خيطب عني»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ وهو يقول‪« :‬وهذا ُ‬ ‫ال و ِر َجا ً‬
‫ال‪ ،‬فولىَّ‬ ‫َخ ْي ً‬

‫وإىل هذا أشار الناظم يف قوله معتمد ًا عىل هذه الرواية‪:‬‬

‫الم ُي ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وح َّل َض ْي َف ًا ِعندَ ن َْس ِل ِ‬


‫ابن َس ُل ْ‬
‫ول‬ ‫َعاض�دَ ًا َي ْحكي َلنَا س َّ�ر ُ‬
‫ت ُ‬ ‫ول‬ ‫َ‬
‫ويشري هنا إىل ما بـني الرجلني من هدف ِ‬
‫العداء لرسول اهلل ﷺ‪ ،‬وكيف يأيت تعاضد الكذب‬
‫والنِّفاق يف غرض واحد‪((( .‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي�ر الخَ ِ‬
‫الم ْفت ََرى‬ ‫�ن ال ُّط ُم ْ‬
‫�وحِ ُ‬ ‫َم�ا عن�دَ ُه م َ‬ ‫نح�و ُه َي َ�رى‬
‫َ‬ ‫ل�ق‬ ‫�اء َخ ُ‬
‫َو َج َ‬

‫(( ( هو ثابت بن قيس بن شامس‪ ،‬وشامس هو ابن زهري بن مالك بن امرئ القيس بن مالك األغر بن ثعلبة بن‬
‫كعب بن اخلزرج‪ ،‬وثابت بن قيس صاحب رسول اهلل وخطيبه يف املحافل‪ ،‬وقد خطب أمام رسول اهلل ﷺ‬
‫يوم مقدمه املدينة‪ ،‬واشتهرت خطبته أمام وفد بني متيم‪ ،‬وملا نزل قوله تعاىل‪( :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ) حزن قيس والزم بيته‪ ،‬وملا‬
‫كلمه قومه يف ذلك‪ ،‬قال‪ :‬إين هلكت فلقد كنت أرفع صويت بني يدي رسول اهلل ﷺ وأجهر له كام أجهر‬
‫لكم‪ ،‬وملا َع ِل َم النبي ﷺ َب َعث إليه أن يأتيه وبرشه باجل َّنة وبأن اهلل لن حيبط ماله من عمل وفضل‪ ،‬ومكث‬
‫ثابت بعد النبي ﷺ حتى يوم الياممة فكان من الذين بذلوا أنفسهم وحياهتم يف سبيل اهلل حتى ُرزق‬
‫الشهادة‪ ،‬وقد نفذ أبوبكر الصديق ريض اهلل عنه وصيته التي أوىص هبا بعد شهادته حني رآه أحد املسلمني‬
‫يف املنام فذكر له ما عليه من دين حيب أن يقيض عنه وأخربه بمن أخذ درعه التي كانت عليه يف املعركة‪.‬‬
‫ويف األنصار ٌ‬
‫رجل آخر اسمه ثابت بن قيس ابن اخلطيم أبوه كان شاعر ًا مشهور ًا‪ ،‬وكان من القلة‬
‫الذين ثبتوا مع رسول اهلل ﷺ يوم أحد‪ ،‬وكان يقاتل بني يديه حارس ًا ال ترس له‪ ،‬وكان رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫يقول له‪« :‬أقبل يا حارس وأدبر يا حارس» ‪ ،‬وقد شهدت ثابت هذا املشاهد كلها مع النبي ﷺ ‪ ،‬واستعمله‬
‫اإلمام عيل بن أيب طالب عىل املدائن‪« .‬يف موكب السرية النبوية» د‪ .‬حممد املختار ولد أ ّباه ص‪.168‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪103‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والمغَانِ ِم‬
‫ض َ‬ ‫نِ ْص َف ِ‬
‫ي�ن ُحكْ� ِم األَ ْر ِ‬ ‫َّقاس� ِم‬
‫بالت ُ‬ ‫َّبـ�ي‬
‫الن َّ‬ ‫َف َطا َل َ‬
‫�ب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لل�ه َر َس�ا‬ ‫�ك‬ ‫�ير َأ َّن ُ‬
‫الم ْل َ‬ ‫ُيش ُ‬ ‫�و َد ًا َيابِ َس�ا‬
‫َّبـ�ي ُع ْ‬ ‫َف َح َم َ‬
‫�ل الن ُّ‬
‫َاض َب� ًا ُم ْرت َِع َش�ا‬
‫ذاك غ ِ‬ ‫َ‬
‫فاش�تاط َ‬ ‫�ن َي َش�ا‬
‫لم ْ‬
‫َ‬ ‫ور ُث� ُه بِ َأ ِ‬
‫م�ره‬ ‫ُي ِ‬

‫الح ْر ُب َع َلى الدُّ ْن َيا ِس َج ْال‬


‫ك َو َ‬ ‫َعل ْي َ‬ ‫لا َو ِر َج ْ‬
‫�ال‬ ‫لأن األَ َ‬
‫رض َخ ْي ً‬ ‫ألَ ْم َّ‬
‫ف‬‫اس خطيب ًا ُمت َِّص ْ‬ ‫�م ٍ‬ ‫َسل ِ‬
‫ابن َش ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ِّ�ي َي ِق ْ‬
‫�ف‬ ‫ِ‬
‫اح َط� َه َقائلاً‪َ :‬عن ْ‬‫َف َ�ر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َأم�ام ز ِ‬
‫َيف ال َب ِ‬ ‫�د وا َل ُّ ِ‬‫ِ‬ ‫ْ�ذ َذ َ‬
‫َو ُمن ُ‬
‫الم ْفضي نـز ْ‬
‫َاع‬ ‫اطل ُ‬ ‫َ‬ ‫اع‬
‫ح�ق ص َر ْ‬ ‫اك ال َع ْه َ‬

‫يشري الناظم إىل استمرار معركة احلق والباطل بـني مدرسة اإلسالم الصادقة ومدرسة‬
‫الكذب واملنافقة منذ ذلك العهد‪ ،‬حيث أشار النبـي إىل تسلسل املنافحة يف من يأيت بعده بقوله‪:‬‬
‫وهذا ثابت بن قيس بن شامس ُ‬
‫خيطب عني‪ ،‬وفيه داللة انتقال أمر املدافعة عن اإلسالم إىل‬
‫األجيال الالحقة‪ ،‬وهذا ما تشهد به الوقائع واحلوادث من تضافر الكفر والكذب والنفاق يف‬
‫متارس واحدة أمام احلق الناصع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ�ر والمو ِاق ِ‬ ‫ِ‬
‫الوظائ�ف‬ ‫وخدْ َع� ٌة َت ُل ُ‬
‫�وح ف�ي‬ ‫�ف‬ ‫�و ٌل ف�ي الفك ِ َ َ َ‬
‫ت ََح ُّ‬

‫املسيل ِم َّي ِة وغريها من مدارس‬


‫ِ‬ ‫إشار ٌة إىل ما أثمرته حتالفات الكفر والنفاق ومدرسة الكذب‬
‫الدجل يف تاريخ األمة اإلسالمية من خدا ٍع وتضليل يف الفكر والديانة‪ ،‬ويف املواقف العاملية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واستمرار هذا اخلداع واإلفك يف أجىل صوره ومعانيه‪.‬‬
‫وقد برز هذا التحالف منذ عهد مسيلمة حيث حتالف مسيلمة الكذاب مع رجل يسمى‬
‫النهار إىل رسول اهلل ﷺ مع قومه إىل النبي ﷺ فقرأ القرآن‬
‫الر َّحال بن عنفوة(((‪ ،‬وقد قدم هذا ّ‬
‫َّ‬
‫وتعلم السنن‪ ،‬وكان يأيت إىل ُأبيَ ِّ بن كعب وهو من أشهر القراء للقرآن الكريم فبعثه النبي ﷺ‬

‫(الر ّحال)‪ ،‬وقيل‪( :‬الدجال)‪ .‬وقيل‪( :‬الرجال)‪.‬‬


‫((( اختلف يف اسمه‪ ،‬فقيل‪ :‬إهنا ّ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪104‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫سفري ًا إىل الياممة ليعلم أهلها أحكام اإلسالم ويبرصهم بفرائضه فام لبث مسيلمة الكذاب أن‬
‫است َْه َوا ُه بخبثه ولؤمه حتى شهد ملسيلمة بأنه يوحى إليه‪ ،‬وأنه قد سمع رسول اهلل ﷺ يقول‪:‬‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫مسيلمة وشهد له بالنبوة»‪ ..‬فكان أعظم عىل أهل الياممة فتن ًة من‬ ‫«إنه قد أرشك معه يف نبوته‬
‫الرحال‬
‫غريه‪ ،‬وكان يقول‪ :‬كبشان انتطحا فأحبهام إلينا كبشنا(((‪ ،‬وقال عنه ﷺ ‪« :‬رضسه –أي‪َّ :‬‬
‫بن عنفوة‪ -‬يف النَا ِر أعظم من ُأ ُحد» ‪.‬‬
‫وأخذ هنار الرجال يسوق الناس إىل طريق الغواية بعد أن حتالف مع مسيلمة الكذاب‪ ،‬كام‬
‫حتالف مسيلمة مع سجاح بنت احلارث التميمية التي َّاد َعت النبوة وقد قدمت إليه بجيش‬
‫لتغزوه ومعها ُ‬
‫رهطها من أخواهلا بني تغلب‪ ،‬فأغراها مسيلمة بالزواج والتحالف بقوله‪( :‬هل‬
‫وآك ُل بقومي وقومك العرب) فقبلت وأقامت عنده ثالث ًا وتزوجها وشهدت‬
‫لك أن أتزوجك ُ‬
‫له بالنبوة‪ ،‬وأسلمت سجاح بعد مقتل مسيلمة وحلقت بقومها وماتت يف عهد معاوية بن أيب‬
‫سفيان‪ ،‬وكان ظهور مسيلمة يف السنة احلادية عرشة من اهلجرة إبان مرض النبي ﷺ األخري‬
‫قبل موته‪ ،‬ويف هذه الفرتة أيض ًا ظهر األسود َ‬
‫الع ْنسيِ باليمن‪ ،‬وقد أشار النبي ﷺ إىل ظهورمها‬
‫وما أمهه من أمرمها كام سبق ذكره‪.‬‬

‫((( وعن رافع قال‪ :‬كان بالرحال ابن عنفوة من اخلشوع واللزوم لقراءة القرآن واخلري فيام يرى رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم يشء عجيب‪ ،‬فخرج علينا رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يوم ًا والرحال معنا جالس‬
‫فنظرت يف القوم فإذا أبو هريرة الدويس وأبو أروى‬
‫ُ‬ ‫مع نفر فقال‪ :‬أحد هؤالء النفر يف النار‪ ،‬قال رافع‪:‬‬
‫الدويس والطفيل بن عمرو الدويس ورجال بن عنفوة‪ ،‬فجعلت أنظر وأتعجب وأقول‪ :‬من هذا الشقي‬
‫؟ فلام تويف رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم رجعت بنو حنيفة فسألته‪ :‬ما فعل الرجال بن عنفوة ؟ فقالوا‪:‬‬
‫افتُتن‪ ،‬هو الذي شهد ملسيلمة عىل رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أنه أرشكه يف األمر بعده‪ ،‬فقلت‪ :‬ما قال‬
‫ُ‬
‫الرحال وهو يقول‪ :‬كبشان انتطحا فأحبهام إلينا كبشنا‪.‬‬ ‫وس ِم َع‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فهو حق‪ُ ،‬‬
‫رواه الطرباين وقال فيه‪ :‬الرحال باحلاء املهملة املشددة ‪« ،‬جممع الزوائد ومنبع الفوائد» (‪.)33 :4‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪105‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الع ْنسيِ ‪:‬‬
‫(‪ )2‬األسود َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ح�ي وكان ُمف َتت َْن‬ ‫َق�د ا َّد َع�ى َ‬
‫الو َ‬ ‫أرض ال َي َم ْن‬ ‫ْسي في‬
‫واألسو ُد ال َعن ُّ‬
‫الع ْنسيِ ُّ من مذحج ويقال له‪( :‬ذو اخلامر)؛ ألنه كان يغطي‬ ‫ٍ‬
‫عوف َ‬ ‫بن‬ ‫ِ‬
‫كعب ِ‬ ‫هو َع ْب َه َل ُة ُ‬
‫بن‬
‫وجهه بخامر‪َّ ،‬اد َعى النبوة باليمن يف أخريات عهد النبي ﷺ وكان ِ‬
‫كاه َن ًا ُم َشع ِوذ ًا ُيري الناس‬
‫األعاجيب ويسبي منطقه قلب كل من سمعه‪ ،‬وكان أول خروجه بعد حجة رسول اهلل ﷺ‬
‫حجة الوداع‪ ،‬ومن أول خروجه إىل أن قتل (أربعة أشهر) فخرج مع قومه َو َقتَل َوايل صنعاء‬
‫باذان‪ ،‬ويف رواية أنه مات وظهر العنيس بعد موته وتزوج زوجته (املرزبانة) وغلب عىل اليمن‬
‫فكتب فروة بن مسيك عامل رسول اهلل إىل خالد خيربه(((‪ ،‬وخرج معاذ بن جبل إىل أيب موسى‬
‫أمر األسود‬
‫األشعري بمأرب وذهبا حرضموت ورجع خالد بن الوليد إىل املدينة وجعل ُ‬
‫ُ‬
‫فريوز الدَّ يلمي وهو قريب‬ ‫ري استطار َة احلريق‪ ،‬و ُقتِ َل األسود يف منـزله وهو سكران قتله‬
‫يستط ُ‬
‫لزوجة باذان وكانت بنت عمه‪ ،‬وفرح املسلمون بقتله وأخرب النبي الصحابة بمقتله‪،‬و ُقبض‬
‫النبي من الغد‪ ،‬ووصل خرب مقتل العنيس إىل املدينة يف خالفة أيب بكر ؤ يف آخر شهر ربيع‬

‫((( جاء يف «تاريخ اليعقويب» (‪ )122 :2‬أسامء عامله صىل اهلل عليه وآله وسلم وقضاته حيث قال‪ :‬وكان عامل‬
‫رسول اهلل ملا قبضه اهلل عىل مكة عتاب بن أسيد بن العاص وعىل البحرين العالء بن احلرضمي واملنذر بن ساوي‬
‫وجيفر ابنا اجللندا‪ ،‬وقال‬
‫ُ‬ ‫عباد‬ ‫العالء َأ َب ُ‬
‫ان بن سعيد بن العاص‪ ،‬وعىل َعماّ ن ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫مكان‬ ‫التميمي‪ ،‬وبعضهم يقول‪:‬‬
‫بعضهم‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬وعىل الطائف عثامن بن أيب العاص‪ ،‬وعىل اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبداهلل‬
‫بن قيس األشعري يف ّقهان الناس‪ ،‬وعىل خماليف اجلند وصنعاء املهاجر بن أيب أمية املخزومي‪ ،‬وعىل حرضموت‬
‫زياد بن لبيد األنصاري‪ ،‬وعىل خماليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص‪ ،‬وعىل ناحية من نواحيها يعىل بن‬
‫منية التميمي‪ ،‬وعىل نجران فروة ابن مسيك املرادي‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬أبو سفيان بن حرب‪ ،‬وعىل صدقات‬
‫أسد وطيء عدي بن حاتم‪ ،‬وعىل صدقات حنظلة مالك بن نويرة احلنظيل‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬عىل صدقات‬
‫بني يربوع وعىل صدقات بني عمرو ومتيم سمرة بن عمرو بن جناب العنربي‪ ،‬وعىل صدقات بني سعد‬
‫الزبرقان بن بدر‪ ،‬وعىل صدقات مقاعس والبطون قيس بن عاصم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪106‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫األول‪ ،‬قال يف «تاريخ اخلميس» ‪ :‬وفريوز الديلمي‪ ،‬هو ابن أخت النجايش‪ ،‬وقيل‪ :‬هو من أبناء‬
‫احل ْميرَ ِي‪ ،‬ألنه نزل حمِ ْ يرَ ‪.‬‬
‫فارس‪ ،‬ويقال له‪ِ :‬‬

‫(‪ )3‬طليحة األسدي‬


‫هو ُط َليحة بن ُخ َو ْي ِلد األسدي من بني أسد‪ ،‬أسلم بادئ ذي بدء وجاء يف وفد بني أسد إىل‬
‫وادعى النبوة‪ ،‬وكان من أشجع الرجال‪ ،‬وملا أعلن ارتداده وا ِّدعا َء ُه‬ ‫املدينة ثم ما لبث أن ار َتدَّ َّ‬
‫رسول اهلل ﷺ‬ ‫ُ‬ ‫بن َ‬
‫األزْ َو ِر لقتاله و ُت ُوفيِّ‬ ‫خريات عهد رسول اهلل ﷺ بعث إليه ضرِ َ َار َ‬ ‫ُ‬
‫للنبوة يف أ َ‬
‫شوك ُته بعد وفاة رسول اهلل وظهر أمره وحلقه من العرب أقوام منهم‬ ‫وهو بعد مل ُي ْذ ِع ْن وقو َيت َ‬
‫عيينة بن حصن الفزاري‪ ،‬وامتنعوا عن أداء الزكاة‪ ،‬وكان يزعم أن امللك يأتيه بالوحي‪ ،‬ويف‬
‫خالفة أيب بكر الصديق بعث لقتاله خالد بن الوليد عىل رأس جيش وقاتله مع أتباعه حتى‬
‫اهنزموا‪ ،‬وهرب طليحة وخلفه امرأته عىل حصانه و َل ِ‬
‫ـحـق بالشام وانقطعت فتنته‪ ،‬وعاد‬
‫وحج بيت اهلل وأبىل بالء ًا حسن ًا يف‬
‫َّ‬ ‫إسالم ُه‬
‫ُ‬ ‫وحس َن‬
‫ُ‬ ‫طليحة إىل اإلسالم يف عهد عمر ؤ‬
‫معركة القادسية بالعراق واستشهد يف (هناوند) من أرض فارس‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪107‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َمدْ َرس ُة ُ‬
‫األ َغ ْي ِل َمة‬
‫(املدرسة السفيانية ‪/‬املروانية ‪/‬اليزيدية)‬

‫�ن ُي ْهلِك َ‬
‫ُ�ون األُ َّم� َة ُ‬
‫الم ْلت َِز َم� ْة‬ ‫َم ْ‬ ‫وم ْث ُل َه�ا َمدْ َرس� ُة األُ َغ ْيلِ َم� ْة‬
‫ِ‬

‫الهدَ ى‬ ‫ك ََما َأتَى فِي الن َِّّص َع ْن ن ِ‬


‫ُور ُ‬ ‫�م فِ�ي َع�ا ِم ِس�تِّيِ َن َب�دَ ا‬
‫ُظ ُه ْو ُر ُه ْ‬
‫الك ُأ َّمتي عىل َيد ُأغيلمة‬ ‫َّأما مدرسة ُ‬
‫األ َغ ْي ِل َم ِة فهي التي وصفها رسول اهلل ﷺ‪ ،‬بقوله‪« :‬يكون هَ ُ‬

‫من قريش»(((‪ ،‬وكان ظهورهم عام الستني من اهلجرة وهم أغيلمة من قريش عند وصوهلم إىل‬
‫الع ُضوض وآثاره يف الفصل بني الدِّ ين والدولة‪،‬‬
‫احلكم‪ ،‬وما ترتب بعد ذلك من مفهوم امللك َ‬
‫احلكم ِ‬
‫والعلم‪.‬‬ ‫وتنامت أفكار هذه املدرسة عرب تاريخ التحوالت بصو ٍر َشتَى يف طريف ُ‬
‫(((‬
‫وتفرعت هذه املدرسة إىل ثالثة أنامط‪:‬‬

‫((( أخرجه يف «املستدرك» من حديث أيب هريرة وقال ‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬


‫((( كان ظهور املدرسة املروانية منذ عهد رسول اهلل ﷺ وكان احلكم بن أيب العاص والد مروان رائدها‬
‫قبل ولده‪ ،‬وقد جاء يف «العقد الثمني يف تاريخ البلد األمني» ص‪ ،218‬قوله‪ :‬احلكم بن أيب العاص بن‬
‫عبدشمس بن عبد مناف وهو أبو مروان وعم سيدنا عثامن ‪ ،‬أسلم يف الفتح وقدم املدينة ثم أخرجه رسول‬
‫اهلل ﷺ منها وطرده عنها؛ ألنه كان يتحيل يف سامع رس رسول اهلل ﷺ يف خفية حتى ظهر ذلك عليه‪ ،‬وقيل‬
‫ألنه كان حياكي النبي يف مشيته وبعض حركاته‪ ،‬ودعا عليه النبي ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬فكذلك فلتكن» ‪ ،‬فكان‬
‫احلكم خمتلج ًا يرتعش من يومئذ‪ ،‬وروي أن النبي ﷺ لعنه‪ ،‬وهذا يروى عن عائشة ريض اهلل عنها من‬
‫طرق كثرية‪ ،‬وملا طرده النبي ﷺ من املدينة نزل الطائف ومل يزل هبا حتى رده عثامن بن عفان ريض اهلل عنه‬
‫ملا ويل‪ ،‬وتويف يف آخر خالفة عثامن‪.‬‬
‫أما ولده مروان فقد روى الطرباين يف الكبري عن ابن عمر ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ للحكم‪:‬‬
‫«إن هذا خيالف كتاب اهلل وسنة نبيه وخيرج من صلبه فتن يبلغ دخاهنا السامء» وروى ابن عساكر عن محزة‬
‫بن حبيب ريض اهلل عنه‪ ،‬قال‪ُ :‬أيت رسول اهلل ﷺ بمروان بن احلكم وهو مولود ليحنكه فلم يفعل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«ويل ألمتي من هذا أو َو َل ِد هذا» «كنز العامل» (‪ ،)67 :13‬وروى البيهقي يف «الدالئل» بلفظ‪« :‬رأى‬
‫ٌ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪108‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نمط املدرسة اليزيدية‬ ‫نمط املدرسة املروانية‬ ‫نمط املدرسة السفيانية‬

‫وتنتمي إىل يزيد بن‬ ‫وتنتمي إىل مروان بن‬ ‫وتنتمي إىل أيب سفيان‬
‫معاوية ومن نحا نحوه‬ ‫َ‬
‫احلكم ومن نحا نحوه‬ ‫ومن َن َحا نحوه‬

‫وكل واحدة من هذه املدارس يتناوهلا فقه التحوالت برؤية ومفهوم رشعي عند التحليل‬
‫الع َقالء الذين حيبون اهلل ورسوله والدار اآلخرة عىل غري انفعال‬
‫دون إفراط وال تفريط‪ ،‬يتفهمه ُ‬
‫وال إنقاص أحد أو جدال‪ ،‬وإنام هو علم خاص بتعيني ما جيب تعيينه والسكوت عام جيب‬
‫السكوت عنه (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) ‪.‬‬
‫اغية»((( فقد روى عبداهلل‬ ‫ص يف قولِ ِه ﷺ‪َ « :‬ع اَّم ُر َت ْق ُت ُله ِ‬
‫الفئ ُة ال َب ِ‬ ‫ُ‬
‫حتريف معاين ال َّن ِّ‬ ‫ومن مظاهرها‬
‫بن احلارث أن عمرو بن العاص‪ ،‬قال ملعاوية‪ :‬أما سمعت رسول اهلل ﷺ يقول حني كان بناء‬
‫حلريص عىل اجلهاد وإنك ملن أهل اجلنة ولتقتلنك الفئة الباغية‪ ،‬قال‪ :‬بىل فلم‬
‫ٌ‬ ‫املسجد لعامر‪ :‬إنك‬
‫قتلتموه؟ قال‪ :‬واهلل ما تزال تدحض يف بولك أنحن قتلناه ؟ إنام قتله الذي جاء به(((‪.‬‬
‫وقد تغلغلت هذه الرؤية يف داخل احلكم والعلم من خالل هذه القنوات املوعود هبا‪،‬‬
‫ورسى أثرها وخطرها يف كثري من املسلمني جي ً‬
‫ال بعد جيل‪ ،‬وال زال خطرها وأثرها يف األقالم‬
‫واإلعالم هيدم العالقات ويدمر األبنية السليمة‪ ..‬ولكن اهلل غالب عىل أمره‪ ..‬وهو حسبنا‬
‫ونعم الوكيل‪.‬‬

‫رسول اهلل ﷺ بني احلكم ينزون عىل منربه فأصبح كاملتغيظ» ‪ ،‬قال‪ :‬فام رؤي رسول اهلل ﷺ ضاحك ًا‬
‫مستجمع ًا بعد حتى مات‪.‬‬
‫((( يف «احللية» أليب نعيم عن أيب قتادة ‪ .‬انظر «كنز العامل» (‪.)722 :11‬‬
‫((( «مجع الفوائد» ص‪ 539‬برقم ‪ ،8829‬وقال‪ :‬رجاله ثقات ‪ .‬كذا يف «جممع الزوائد» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪109‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َموق ُع ابن ص ّياد من ف ْقه ال َّت ُّ‬
‫حوالت‬
‫َواآل َث ِ‬
‫�ار‬ ‫األَ ْخ َب ِ‬
‫�ار‬ ‫َ‬
‫وأ ْو َض�حِ‬ ‫الم ِ‬
‫ختار‬ ‫الم ْص َط َف�ى ُ‬
‫�ر ُ‬‫�ن فِ ْق ِه َع ْص ِ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬

‫ض فِي الن ُُّص ْو ِ‬


‫ص َقدْ ُع ِر ْ‬
‫ف‬ ‫ِم َن الغ ُُم ْو ِ‬ ‫�ه ُو ِص ْ‬
‫�ف‬ ‫�اد وم�ا بِ ِ‬
‫ٍ‬ ‫ش�أن ا ْب ِ‬
‫�ن َص َّي َ َ‬ ‫ُ‬

‫أنموذج آخر من نامذج الفتن والتحوالت التي برزت منذ عهد صاحب‬
‫ٍ‬ ‫(((يشري الناظم إىل‬
‫الرسالة‪ ،‬وما كتب عنها من أخبار وآثار‪ ،‬وما اختلف فيه الصحابة ومن بعدهم حول شخصية‬
‫ابن صياد‪ ،‬والغموض الذي اكتنف هذه الشخصية ومواقفها‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ�ار فِ�ي ا ِ‬
‫�ن َأ َ‬
‫رواحِ‬ ‫�ن ُكنْ�ه َم�ا َيأتي�ه م ْ‬
‫َع ْ‬ ‫إل ْف َص�احِ‬ ‫َو َأ َّن َط� َه ْ‬
‫احت َ‬
‫�ن ُي َض ِ‬ ‫ُمن ُ‬ ‫َاذ ٌب ُي ِ‬ ‫�اد ٌق وك ِ‬ ‫َفص ِ‬
‫ار ُع ْه‬ ‫الص َب�ا َو َل ْي َ‬
‫�س َم ْ‬ ‫ْ�ذ ِّ‬ ‫ناز ُع� ْه‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫صياد اليهودي‪ ،‬ولد باملدينة‪ ،‬ويوم ولد أرسل النبـي ﷺ‪ :‬أبا ذر ليسأل أمه عن‬ ‫((( هو صايف بن ّ‬
‫أمور منها‪ :‬كم محلت به‪ ،‬وما هي صيحته يوم ولد‪ ،‬حيث كان رسول اهلل ﷺ يعلم خربه‪ ،‬وكان‬
‫غالم أعور» ويف‬
‫ٌ‬ ‫يقول عنه‪« :‬يمكث أبوا املسيخ الدجال ثالثني عام ًا ال يولد هلام‪ ،‬ثم يولد هلام‬
‫يشء وأق َّله نفع ًا» ‪ ،‬ويقول عن أبويه‪« :‬أبوه َر ُج ٌل َط ٌ‬
‫وال مضطرب‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫أرض‬ ‫رواية‪« :‬مستور ًا خمتون ًا‬
‫اللحم طويل األنف كأن أنفه منقار‪ ،‬وأمه فرضاخية عظيمة الثديني» ويف رواية‪« :‬طويلة الثديني»‬
‫‪ ،‬وعندما ولد الغالم وانطلق أبا ذر ليسأل قالت أم الغالم‪ :‬إهنا محلت به اثني عرش شهر ًا‪ ،‬وإن‬
‫صيحته يوم ولد كانت صيحة ابن شهر‪ ،‬ويف رواية‪ :‬ابن شهرين‪ ،‬عندئذ انطلق النبـي ﷺ ومعه‬
‫عبداهلل بن مسعود حتى أتى دار ًا قوراء‪ ،‬فقال‪« :‬افتحوا هذا الباب» ففتح ودخل النبـي ﷺ وابن مسعود‪،‬‬
‫فإذا قطيفة وسط البـيت‪ ،‬فقال‪« :‬ارفعوا هذه القطيفة» فإذا غالم أعور حتت القطيفة‪ ،‬فقال‪ُ « :‬ق ْم يا غالم‪،‬‬
‫أتشهد أين رسول اهلل» ‪ ،‬فقال الغالم‪ :‬أتشهد أين رسول اهلل‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬أتشهد أين رسول اهلل»‬
‫‪ ،‬فقال الغالم‪ :‬أتشهد أين رسول اهلل‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬أتشهد أين رسول اهلل» فقال الغالم‪ :‬أتشهد‬
‫أين رسول اهلل‪ ،‬فقال النبـي ﷺ‪« :‬تعوذوا باهلل من رش هذا مرتني» رواه أمحد وقال اهليثمي‪ :‬رجاله رجال‬
‫الصحيح‪ .‬وانظر بتوسع «بـني يدي الدَّ جال» للمؤلف ص‪.17-16‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪110‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أهم النبـي ﷺ من أمر ابن صياد حيث ظل جمهو ً‬
‫ال يف كثري من املواقف‪،‬‬ ‫أشار ال َّناظم إىل ما َّ‬
‫فقد ورد َّ‬
‫أن ال َّنبـي ﷺ لقيه وهو غالم‪ ،‬ويف رواية‪ :‬قد ناهز احللم‪ ،‬فلم يشعر ابن صياد حتى‬
‫النبـي ﷺ ظهره بـيده‪ ،‬ثم قال‪« :‬أتشهد أين رسول اهلل؟» فنظر إليه ابن صياد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫رضب‬
‫أشهد أنك رسول األميني‪ ،‬ثم قال ابن صياد للنبـي ﷺ‪ :‬أتشهد أين رسول اهلل‪ ،‬فقال النبـي‬
‫آمنت باهلل ورسله» اهـ‪.‬‬
‫ﷺ‪ُ « :‬‬
‫وملا أراد عمر بن اخلطاب أن يرضب ُعنقَ ابن صياد برزت حقيقة خطرية حيث قال ﷺ‪:‬‬
‫لك يف َق ْت ِل ِه»((( ويف رواية‪« :‬إن َي ُك الذي ختاف‬ ‫لن ُت َس َّل َط َعليه‪ ،‬وإنْ ال َيك ْن ُه َفال َخ َ‬
‫ري َ‬ ‫«إِنْ َيكن ُه َف ْ‬
‫العهد»(((‪.‬‬ ‫فلن تستطيعه»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬وإل يكن هو فليس لك أن تقتل رج ً‬
‫ال من أهل َ‬
‫ويف مرة أخرى ذهب النبـي ﷺ ومعه َن َف ٌر من الصحابة َن ْح َو ِ‬
‫ابن صياد ناحية النخل‪ ،‬فأخذ‬
‫النبـي ﷺ خيتل بـني النخل ليفاجئ ابن صياد ويسمع منه شيئ ًا فسبقته أم ابن صياد‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫يا صاف هذا أبوالقاسم‪ ،‬فلام جاءه النبـي ﷺ‪ ،‬قال له‪« :‬ما َت َرى؟» قال‪ :‬أرى حق ًا وأرى باط ً‬
‫ال‬
‫وأرى َع ْر َش ًا عىل املاء‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬أتشهد أين رسول اهلل» قال ابن صياد‪« :‬أتشهد أين‬
‫آمنت باهلل ورسله»‪.‬‬
‫رسول اهلل»‪ ،‬فقال النبـي ﷺ‪ُ « :‬‬
‫ويف رواية‪ :‬قال له رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬خ َب ْأ ُت لك خبـيئ ًا فام هو؟» وكان النبـي ﷺ قد أخفى يف‬
‫نفسه قول اهلل تعاىل‪( :‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) ((( وهي آية الدخان التي هي من‬
‫صياد‪ :‬الدُّ ّخ‪ ..‬الدُّ ّخ‪ ..‬فقال النبـي ﷺ‪« :‬اخسأ اخسأ» فلام ولىّ ﷺ‪،‬‬
‫عالمات الساعة‪ ،‬فقال ابن ّ‬

‫((( أخرجه مسلم يف كتاب الفتن ‪ ،‬باب ذكر ابن صياد برقم (‪ ، )2930‬انظر «كنز العامل» للهندي‬
‫(‪.)330 :14‬‬
‫((( أخرجه أمحد يف مسنده عن جابر ريض اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬إن عمر قال ‪ :‬يا رسول اهلل ! ائذن يل فأقتل ابن صياد‪،‬‬
‫قال فذكره‪.‬‬
‫((( الدخان‪. 10 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪111‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال القوم‪ :‬ماذا قال؟ فقال بعضهم‪ُ « :‬دخ»‪ ،‬وقال بعضهم‪« :‬ذخ»‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬هذا‬
‫أشدُّ اختالف ًا»(((‪.‬‬
‫وأنتم معي خمتلفون‪ ،‬فأنتم بعدي َ‬
‫ويف عبارته هذه ﷺ إشار ٌة إىل حتوالت املستقبل يف االختالف حول النصوص واأللفاظ‪،‬‬
‫ومحل كل فريق معناها عىل غري حممل اآلخر‪.‬‬

‫�ال ف�ي ذاتِ َّيتِ� ْه‬


‫بِأنَّ� ُه الدَّ َّج ُ‬ ‫ول فِي َشخْ ِص َّيتِ ْه‬
‫اض ال َق ُ‬
‫حت َّْى ْاس َت َف َ‬

‫ابن صياد هو الدَّ جال‪ ،‬وخاصة بعد أن‬


‫أن َ‬‫يشري الناظم إىل ما ساور العديد من الصحابة من َّ‬
‫لن ُت َس َّل َط َعليه»‪.‬‬
‫َث َب َت قول النبـي ﷺ لعمر بن اخلطاب‪« :‬إِنْ َيكن ُه َف ْ‬
‫قال األستاذ سعيد أيوب يف كتابه «عقيدة املسيخ الدجال»‪ :‬يعترب ابن صياد صورة حمدودة‬
‫للمسيخ الدجال‪ ،‬ومهمته يف حدود صورته التي ظهر هبا‪ ،‬هو دجال لك َّنه يعمل يف جمتمع َع َصم‬
‫وع َصم‬ ‫اهلل نبـيه من الناس (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ) ((( َ‬
‫وع َص َم ُه من غري الناس باملعوذتني َ‬
‫منهجه باحلفظ (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) (((‪.‬‬
‫وقد كان النبـي يرصد احلدث منذ بدئه فيقول للصحابة‪« :‬إن خيرج وأنا فيكم فأنا َح ِج ْي ُج ُه»‬
‫حي َك َف ْيت ُُك ُم ْوه»((( أي‪َ :‬س َ‬
‫يظ ُّل يف َصغا ٍر‬ ‫ويف رواية‪« :‬إن خيرج املسيخ الدَّ جال وأنا ‪-‬فيكم‪ٌّ -‬‬
‫(((‬

‫وصغا ٍر ح َّتى يأيت قدر اهلل‪.‬‬


‫َ‬
‫وكان بعض الصحابة يرون ابن صياد هو املسيخ الدَّ جال‪ ،‬قيل لإلمام عيل بن أبـي طالب‬

‫((( أخرجه الطرباين يف املعجم الكبري عن احلسني بن عيل ريض اهلل عنهام‪ .‬انظر «كنز العامل» (‪.)615 :14‬‬
‫((( املائدة‪.67 :‬‬
‫((( احلجر‪.9 :‬‬
‫((( رشح مسلم (‪ )65 :13‬كتاب الفتن ‪ ،‬وأخرجه احلاكم يف «املستدرك» عن عبدالرمحن نفري عن أبيه عن‬
‫جده ‪ ،‬وقال‪ :‬حديث صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫((( أخرجه أمحد يف مسنده من حديث عائشة ريض اهلل عنها‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪112‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(كرم اهلل وجهه)‪ :‬من هو املسيخ الدَّ جال ؟ قال‪ِ « :‬‬
‫صاف ابن صياد»(((‪.‬‬
‫وقال أبو ذر‪ :‬لأَ َ ْن َأ ْح ِل َ‬
‫ف عرش مرات َّ‬
‫أن ابن صياد هو املسيخ الدَّ جال أحب يل من أحلف‬
‫مرة واحدة أنه ليس به‪ ،‬وذلك ليشء سمعته من النبـي ﷺ‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫وأبو ذر كام سبق هو الذي بعثه النبـي ﷺ إىل منـزل ابن صياد يوم والدته‪ ،‬فلعله سمع من‬
‫النبـي ﷺ ما يشري إىل ذلك‪.‬‬
‫رأيت جابر بن عبداهلل حيلف باهلل َّ‬
‫أن ابن صياد هو املسيخ الدَّ جال‪،‬‬ ‫وقال حممد بن املنذر‪ُ :‬‬
‫سمعت عمر بن اخلطاب حيلف عىل ذلك عند رسول اهلل ﷺ فلم‬
‫ُ‬ ‫فقلت‪ :‬أحتلف باهلل؟ قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫ينكره‪ ،‬وكان ابن عمر وجابر حيلفان َّ‬
‫أن ابن صياد هو املسيخ الدَّ جال ال َيشكان فيه‪ ،‬فقيل جلابر‪:‬‬
‫إنه أسلم‪ ،‬فقال‪ :‬وإن أسلم‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه دخل مكة وكان يف املدينة‪ ،‬قال‪ْ :‬‬
‫وإن دخل‪.‬‬
‫أحب إ َّيل من أن‬ ‫قال عبداهلل بن مسعود‪ :‬ألن أحلف باهلل تسع ًا َّ‬
‫أن ابن صياد هو الدَّ جال ُّ‬
‫قلت‪ :‬وعبداهلل بن مسعود كان مصاحب ًا لرسول اهلل ﷺ يوم ذهب‬
‫أحلف واحدة أنه ليس به(((‪ُ ،‬‬
‫إىل منـزل ابن صياد يوم والدته(((‪.‬‬
‫�ن و َظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف�ي َش ْ ِ ِ ِ‬
‫�ر‬‫اه ِ‬ ‫�ن َباط ٍ َ‬ ‫�أنه م ْ‬ ‫آخ ِ‬
‫�ر‬ ‫َ�ص َ‬ ‫�س األَ ُ‬
‫م�ر بِن ٍّ‬ ‫وا ْل َت َب َ‬
‫�ر ِه َفتَا َب َع� ْه‬
‫�ض َأ ْم ِ‬
‫�ف َب ْع ِ‬ ‫لِك َْش ِ‬
‫َ�ار بِ ُ‬
‫المتَا َب َع� ْه‬ ‫َفان َْش�غ ََل ُ‬
‫المخْ ت ُ‬
‫�ال‪ :‬فِ ْتنَ� ٌة َمخُ ْو َف� ْة‬‫َعنْ� ُه‪َ ،‬و َق َ‬ ‫الم ْع ُر ْو َف� ْة‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َو َح�دَّ َد ال َع اَلئ َ‬
‫�م‬

‫تشري األبـيات إىل اشتغال املصطفى ﷺ بابن صياد‪ ،‬ورغبته أن يتحقق من أمره‪ ،‬وقد ترجح‬

‫((( «عقيدة املسيخ الدجال» لسعيد أيوب‪.‬‬


‫((( «جممع الزوائد ومنبع الفوائد» (‪.)357 :3‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)358 :3‬‬
‫((( راجع «بـني يدي الدجال» للمؤلف ص‪.22-13‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪113‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫لدى العديد من الصحابة أن ابن صياد هو الدَّ جال‪ ،‬قال يف الفتح‪ :‬مما يدل عىل أن ابن صياد‬
‫هو الدجال‪ ،‬حديث جابر ؤ الذي يف البخاري أنه كان حيلف أن ابن صياد هو الدجال‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬سمعت عمر ؤ حيلف عند رسول اهلل ﷺ فلم ينكر عليه‪.‬‬
‫لقيت‬ ‫ٍ‬
‫بسند صحيح‪ ،‬قال‪ُ « :‬‬ ‫وحديث ابن عمر ريض اهلل عنهام عند مسلم وعند عبد الرزاق‬
‫ابن صياد مرتني‪ ،‬فذكر املرة األوىل‪ُ ،‬ث َّم قال‪ :‬لقيته أخرى‪ ،‬فإذا عيناه قد طفئت» ويف لفظ‪« :‬قد‬
‫ٌ‬
‫خارجة مثل عني اجلمل‪ ،‬فقلت‪ :‬متى فعلت عينُك ما أرى؟ قال‪ :‬ال أدري‪،‬‬ ‫نفرت عينُه وهي‬
‫ْ‬
‫قلت‪ :‬ال تدري وهي يف رأسك؟ قال‪ :‬إن شاء اهلل تعاىل أجعلها يف عصاك هذه‪ ،‬فمسحها ونخر‬
‫ثالث ًا كأشد نخري محار سمعت‪ ،‬فزعم أصحابـي أين رضبته بعصا كانت معي حتى تكرست‬
‫وأنا واهلل ما شعرت»‪.‬‬
‫ويف لفظه‪« :‬وكان معه هيودي‪ ،‬فزعم اليهودي أين رضبت بـيدي صدره‪ ،‬وقلت‪ :‬اخسأ فلن‬
‫تعدو قدرك‪ ،‬فذكرت ذلك حلفصة قالت‪ :‬ما تريد إليه؟ أمل تسمع أن الدجال خيرج عند غضبة‬
‫يغضبها‪ .‬ويف لفظ‪ :‬إنام يبعثه عىل الناس غضب يغضبه» (((‪.‬‬
‫قال احلافظ‪ :‬وهذه األحاديث ك َّلها ليست َّ‬
‫نص ًا رصحي ًا يف أن ابن الصياد هو الدَّ جال‪ ،‬ألن‬
‫النبـي ﷺ ردد فيه القول‪ ،‬فقال‪« :‬إن َيكن هو» أي‪ :‬وهذا كان عند أوائل قدومه ﷺ إىل املدينة‪،‬‬
‫ثم ملا أخربه متيم الداري‪ ،‬جزم بأن الدَّ جال هو ذلك املَ ْح ُبوس الذي رآه متيم‪.‬‬
‫وأما حلف الصحابة وحديث أبـي سعيد ؤ فغايته أن يكون ابن صياد أحد الدجاجلة‬
‫َّ‬
‫وأحد أتباع الدَّ جال الكبـري ‪.‬و ُف ِقد ابن صياد يوم َّ‬
‫احلرة (((‪.‬‬ ‫(((‬

‫((( املصدر السابق ص ‪.287‬‬


‫((( املصدر السابق ص ‪ ،288‬والدَّ جال الكبـري حسبام كان ﷺ يتوقعه ليس هو ابن َصياد‪ ،‬وسيأيت ٌ‬
‫نقل عن‬
‫بعض الصحف القديمة واملخطوطات املؤيدة كونه صاحب متيم الداري‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص ‪.193‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪114‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وأشار الناظم إىل ما حصل من التباس بـني العلامء واملحدثني حول معارضة النصوص لبعضها‬
‫يف أمر الدَّ جال –فإن ما ورد عن ابن صياد أنه هو الدَّ جال يعارضه ما ورد يف مسلم عن متيم الدَّ اري‬
‫ٍ‬
‫بجزيرة‪ -‬فقال‪:‬‬ ‫ال باألغالل يف ٍ‬
‫كهف‬ ‫وحديث اجلساسة‪ ،‬وأنه لقي الدَّ جال مسلس ً‬
‫�ة تَخ َف�ى ع َل�ى الن ِ‬
‫َّبـي�ه‬ ‫حكْم ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫�أ ِن فِ�ي التَّم ِو ِ‬
‫الش ْ‬ ‫والش�أن ُّ‬
‫كل َّ‬
‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ي�ه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يشري الناظم إىل حقيقة حال املسألة وما يف متويه األمر واختالف العلامء حوله من َس ٍ‬
‫رت ألمر‬
‫حكمة ٌ‬
‫بالغة يف إخفاء حقيقته حتى ال ُيعرف وال ُيميز‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫قد قدر‪ ،‬فاالختالف يف شأن الدَّ جال له‬
‫جمم ٍع‬
‫كام هو احلال يف كثري من قضايا الغيب التي َم ّوه الشارع فيها األمر‪ ،‬ومل يفصح فيه ببـيان َ‬
‫عليه كاإلمام املنتظر وساعة اجلمعة وليلة القدر وغريها‪.‬‬
‫واملتأ ِّم ُل للنصوص برو َّية وحتقيق يستطيع أن يتفهم رس اإلخفاء ويربز له ما يستأنس به‬
‫مسألة التحديد لظهور تلك الذات املخفية‪.‬‬
‫قال األستاذ سعيد أيوب يف «عقيدة املسيخ الدجال»‪ :‬كان ظهور املسيخ الدجال ُل ْط َف ًا من‬
‫اخلامتة أحدا َث ُه‪ ،‬ألنه َخارج منها ال حَمالة‪ ،‬ألهنا آخر األمم بال ِّ‬
‫شك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اهلل تعاىل َكي تف َق َه ُ‬
‫األ َّم ُة‬
‫وظهور املسيخ الدجال مل يقترص عىل الصورة التي ظهر هبا لتميم يف اجلزيرة‪ ،‬بل ظهر مرة‬
‫أخرى يف صورة أخرى من أجل أهداف أخرى‪ ،‬لقد ظهر يف صورة رجل يدعى «ابن صياد»‪،‬‬
‫وظهور القوى الغيبـية مل يقترص فقط عىل تعدُّ ِد ظهور املسيخ الدَّ جال‪ ،‬فلقد ظهر جربيل عليه‬
‫السالم يف صورة «دحية الكلبـي»‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫وأضاف األستاذ سعيد أيوب عند قوله يف احلديث‪« :‬أتشهد أين رسول اهلل»‪ ،‬فقال ابن صياد‪:‬‬
‫سل ِه»‪.‬‬
‫ور ِ‬
‫آمنت باهللِ ُ‬
‫أتشهد أين رسول اهلل‪ ،‬قال النبـي ﷺ‪ُ « :‬‬
‫قال األستاذ سعيد‪ :‬ابن صياد مقذوف قذف اهلل به حلكمة‪ ،‬هو رسول اهلل فتنة له بصامت عىل‬

‫((( املصدر السابق‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪115‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مجيع الفتن منذ َذ َرأ اهلل ذرية آدم‪ ،‬ورسل اهلل هلم مالمح عديدة يف كونه سبحانه وتعاىل‪ ،‬فهناك‬
‫مث ً‬
‫ال رسل مهمتهم هداية ال َبرش بقوله تعاىل‪( :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) (((‪،‬‬
‫فمن رفض منهج اهلداية سقط يف سلة رسل آخرين‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬
‫َام‬
‫َام َع ْينَا ُه وال َين ُ‬ ‫ﮊ ﮋ ﮌ ) (((‪ ،‬وابن صياد رسول؛ لك َّنه « َأضرَ ُّ يشء َ‬
‫وأق ُّله نفع ًا‪َ ،‬تن ُ‬
‫َق ْل ُب ُه»((( كام قال النبـي ﷺ‪.‬‬
‫وابن صياد عالمة من عالمات الساعة‪ ،‬بل من أخطر عالمات الساعة‪ ،‬والنبـي ﷺ عندما‬
‫عو ُذ ْوا باهللِ من شرَ ِّ هذا (مرتني)(((» ‪ ،‬فإنه يعني بذلك «املسيخ الدَّ جال»‬
‫قال ملن حوله‪َ « :‬ت َّ‬
‫والتعوذ من ابن صياد مرتني‪ ،‬ألنه بداية الطريق ‪ -‬عىل عهد رسول اهلل ‪ -‬والثانية هنايته يف‬
‫َّ‬
‫آخر الزمان‪ ،‬فأمرهم بال َّتعوذ من الظهور األول «ظهور ال َّتخويف» والتعوذ من الظهور الثاين‬
‫«ظهور ال َّتدمري» والنبـي ﷺ َر ْغ َم ِعلمه َ‬
‫باحلدث إلاَّ أنه ٌ‬
‫آخذ باألسباب(((‪.‬‬
‫ويف األمر إشارة خفية إىل عالقة (الدجال باليهود) وأن دائرة العنرص اليهودي عرب التاريخ‬
‫هي املعنية برتويج وإشاعة وتنفيذ مهامت الدجل والدجال يف تاريخ اهلويات والشعوب‪،‬‬
‫فاليهود منذ عهد موسى عليه السالم وهم يعملون عىل (تنفيذ برنامج مشرتك تعددت أسامؤه‬
‫وتعريفاته) واحتدت غاياته وأهدافه‪ ،‬وأهم هذه الغايات إفساد املنهج النبوي لألنبياء وحتريف‬
‫ما أمكن حتريفه واحتواؤه‪ ،‬وقد فعلوا ذلك مع كافة أنبيائهم حتى جاء عيسى عليه السالم‬

‫((( األنعام‪.48 :‬‬


‫((( مريم‪.83 :‬‬
‫((( رواه أمحد يف مسنده من حديث عبدالرمحن بن أيب بكرة‪.‬‬
‫((( رواه أمحد والطرباين‪ ،‬وفيه مهدي بن عمران‪ ،‬قال البخاري‪ :‬ال يتابع عىل حديثه‪« .‬جممع الزوائد ومنبع‬
‫الفوائد» (‪.)357 :3‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.17 - 16‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪116‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فكانوا هم القائمني عىل حماولة قتله والقضاء عليه لوال أن اهلل فتنهم بإلقاء الشبه عىل غريه‬
‫وأثبت بقاءه حيا يف السامء‪.‬‬
‫ومنذ والدة النبي حممد صىل اهلل عليه وآله وسلم والكثري من املؤمنني باهلل واملنتظرين رس‬
‫الظهور إنام خيافون املكر واخلديعة من (اليهود) ‪ ،‬وخشيت حليمة السعدية حال إرضاعها له‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم من هيود‪ ،‬كام خيش الراهب نسطور عىل طريق الشام من هيود وأوىص‬
‫أباطالب أن يعيد حممدا صىل اهلل عليه وآله وسلم إىل مكة‪.‬‬
‫ومل يزل اليهود يرتبصون بالنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم وباإلسالم حتى هاجر النبي‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم إىل املدينة وبرز دور اليهود يف املدينة أكرب وأوسع‪ ،‬وأبتت السرية من‬
‫وقائع مكرهم وخداعهم وحماولتهم اغتياله صىل اهلل عليه وآله وسلم وتسميمه يف طعامه ما‬
‫هو معلوم ومذكور‪.‬‬
‫وكل هذه األفعال ال تعدو كوهنا خدمة منظمة ملصلحة الدجال والشيطان يف مكرمها العاملي‬
‫ضد اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫واملتتبع هلذه الفئة اليهودية عىل مدى تارخيها املايض واحلارض يالحظ الرشاكة الواضحة‬
‫والعمل املشرتك يف كل شؤون احلياة ملصلحة الكفر والبغي واحلرام واالنحالل واإلفساد يف‬
‫األرض‪.‬‬
‫كام يالحظ اندراج حيلهم ووسائلهم ومتوهيهم يف مجلة الشعوب وجتنيد تلك الشعوب‬
‫ومؤسساهتا لتنفيذ برامج الدجل والدجال يف كافة شؤون احلياة‪ ،‬إىل اليوم وما بعد اليوم‪.‬‬
‫وقد ذكر احلافظ السيوطي يف كتابه «الدر املنثور» ‪ :‬أخرج عبد بن محيد وابن أيب حاتم بسند‬
‫صحيح عن أيب العالية ريض اهلل عنه أن اليهود أتوا النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم فقالوا‪ :‬إن‬
‫الدجال يكون منا يف آخر الزمان ويكون من أمره‪ ،‬فعظموا أمره وقالوا‪ :‬يصنع كذا‪ ،‬فأنزل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪117‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اهلل عز وجل‪( :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) فأمر نبيه صىل اهلل عليه وآله وسلم أن يتعوذ باهلل من‬
‫فتنة الدجال‪( ،‬ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) الدجال‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وذكر أبوحيان يف تفسريه «البحر املحيط» عند كالمه يف تفسري اآلية‪ :‬قال الزخمرشي‪ :‬وقيل‪:‬‬
‫املجادلون هم اليهود‪ ،‬وكانوا يقولون‪ :‬خيرج صاحبنا املسيح ابن داود‪ ،‬يريدون الدجال‪ ،‬ويبلغ‬
‫سلطانه الرب والبحر‪ ،‬وتسري معه األهنار ‪ ،‬وهو آية من آيات اهلل‪ ،‬فريجع إلينا امللك‪ ،‬فسمى ُ‬
‫اهلل‬
‫تمَ َنِّي ِه ْم ذلك ِكبرْ ًا‪ ،‬ونفى أن يبلغوا ُمت ََم ّن ُ‬
‫اهم‪.‬اهـ‪ .‬ويف هذا التفسري إشارة إىل عالقة اليهود عرب‬
‫التاريخ بالدجال كام أرشنا لذلك‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪118‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫موقع الغزوات من فقه التحوالت‬
‫الس� َب ِ‬ ‫ِم�ن ح�دَ ٍ‬
‫ث ُي ْع�زَى لأِ َ ْص ِ‬ ‫َان ع َل�ى عه ِ‬
‫�د النَّبِ�ي‬
‫ب‬ ‫�ل َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َوك ُُّل َم�ا ك َ َ‬
‫ِ‬ ‫مر َتبِ ًط�ا بِاألَم ِ ِ‬
‫ب َفا ْف َه ْم َوا ْع َل َما‬ ‫الس ْل ِم َأ ْو في َ‬
‫الح ْر ِ‬ ‫في ِّ‬ ‫�ما‬
‫الس َ‬‫�ن َر ِّب َّ‬ ‫�ر م ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫�ن َر ِّبنَ�ا لِ َح ْس� ٍم َش ٍّ�ر ُو ِّقتَ�ا‬
‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫َ�ال َف ْ�ر ٌض َق�دْ َأتَ�ى‬ ‫القت ِ‬‫َفاألَم�ر بِ ِ‬
‫ْ ُ‬
‫ين في األَ ْر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الح َرا ْم‬ ‫ض َ‬ ‫و َل ْ‬
‫�م َي ُر ْق َها الدِّ ُ‬ ‫ل ُع ْص َب�ة ف�ي ال ُك ْف ِر لم ت َْر َض َّ‬
‫السَل�اَ ْم‬
‫العب ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ِس�ي َل ِة‬ ‫الجه ِ‬ ‫َان م�ا ك َ ِ‬
‫�اد‬ ‫َ‬ ‫السَل�اَ ِم ف�ي‬ ‫َّ‬ ‫�اد‬ ‫َِ‬ ‫�ن‬
‫َان م َ‬ ‫َف�ك َ َ‬
‫يشير الناظم إلى مرحلة هامة من مراحل المدينة المنورة ‪ ،‬أوجب الله فيها القتال على‬
‫المسلمين وقال فيها ‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ) [البقرة‪.]216:‬‬
‫ويشير الناظم إلى أن كل شيء كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ال يأتي اعتباط ًا‬
‫أو صدفة ‪ ،‬وإنما يأتي مرتبط ًا بسبب شرعي وأمر رباني مربوط بزمن ومرحلة تقتضي حمل‬
‫السيف حين ًا ‪ ،‬وحين ًا حمل القرآن ‪ ،‬والقدوة الحسنة المجردة عن السالح ‪.‬‬
‫فالجهاد في سبيل الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ِم ْف َص ً‬
‫ال تاريخي ًا‬
‫وعالمة من عالمات التحول في معالجة األمور ‪ ،‬وفي إعادة ترتيب اإلنسانية‪ ،‬ولفت نظرها‬
‫ألسباب القوة والقهر لمعرفة الحق المراد في الوجود ‪.‬‬
‫فعصبة الكفر على مدى تاريخ النبوة من البعثة إلى غزوة بدر وهم في حشد وإرجاف وكر‬
‫وفر ضد النبوة وضد أتباع الرسالة الخاتمة ‪ ،‬وبلغ األمر منتهاه في طول المعالجة بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة إلى ما بلغ إليه من الصبر والمواراة وكف األذى من رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وبدأت عوامل القضاء والقدر الرباني تهيئ المسلمين للمواجهة الحاسمة على‬
‫غير سابق إعداد وال استعداد ‪ ،‬لتبرز «غزوة بدر الكبرى» مثاال عظيم ًا في التهيئة الربانية لنصر‬
‫عباده المؤمنين‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪119‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نماذج من الغزوات اإلسالمية‬
‫غزوة بدر الكبرى‬
‫�اء ْت بِ اَل ت َْرتِ ِ‬
‫يب َح ْر ٍ‬
‫ب ُم ْض َم َر ْة‬ ‫َج َ‬ ‫َب ْط َش� ُة َر ِّب�ي فِ�ي ُج ُم�و ِع ال َك َف َ�ر ْة‬

‫الس�ابِ َل ْة‬ ‫يم� ًة َع َل�ى َط ِر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ال َقافِ َل� ْة‬ ‫َ�ت لِ َس� ْل ِ‬‫َوإِن ََّم�ا كَان ْ‬
‫ي�ق َّ‬ ‫غَن َ‬
‫�ر َح ِ‬
‫�ال‬ ‫ان بِخَ ْي ِ‬ ‫آل ِع ْم َ�ر َ‬ ‫َو ِ‬ ‫م ْو ُصو َف� ًة ف�ي س�ور ِة األَ ْن َف ِ‬
‫�ال‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ك ََم�ا َأتَى فِي الن َِّّص َم ْه َم�ا ا ْقت ََر ُفوا‬ ‫�ل َب�دْ ٍر ُش ِّ�ر ُفوا‬ ‫�ذا َأ ْه ُ‬ ‫�ل َه َ‬‫لأِ َ ْج ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ور‬‫الصدُ ْ‬ ‫ين في ال َق ْو ِم ُّ‬‫يت َأ ْم ِر الدِّ ِ‬
‫َت ْثبِ ُ‬ ‫ور‬ ‫�ع الغَ�ز َْوة م ْن َس� ْي ِر األُ ُم ْ‬ ‫َو َم ْوق ُ‬
‫�ر ُمدْ ِر ِك‬‫ين َغ ْي ِ‬
‫�ف في الدِّ ِ‬ ‫َأو مر ِج ٍ‬
‫ْ ُْ‬ ‫�ر ِك‬ ‫�ر لِ�ك ُِّل ُم ْش ِ‬ ‫َق ِ‬
‫اص َم� ُة ال َّظ ْه ِ‬

‫ال هام ًا‬


‫يشير الناظم إلى أهم نموذج من نماذج الغزوات ‪ ،‬وهي غزوة بدر ‪ ،‬وكانت مفص ً‬
‫في تاريخ تحوالت الدعوة اإلسالمية منذ عهد البعثة ‪ ،‬وقد أشار الناظم إلى مدلوالت تفردها‬
‫وتميزها بما يلي‪:‬‬
‫ •أنها بطشة ربانية أراد الله بها إحناء ظهور الكفرة وقصم ظهورهم وفيها إظهار دينه‬
‫واعالء كلمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ •أنها جاءت بال ترتيب عسكري وال إعداد مسبق ‪ ،‬وإنما كان شأن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ومن خرج معه طوع ًا أخذ قافلة أبي سفيان القادمة من الشام‪.‬‬
‫ •أن هذه الغزوة ورد ذكرها بتفصيل خاص في سورتي آل عمران واألنفال‪.‬‬
‫ •تميزت غزوة بدر بحصانة حاضريها جميعا ‪ ،‬وفيهم ورد حديث ‪( :‬لعل الله قد اطلع‬
‫على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)‬
‫ •كما ورد أنه لم يشارك في غزوة بدر منافق ولم يستعن فيها بمشرك ‪ ،‬وكانت غزوة بدر‬
‫في صبيحة السابع عشر من رمضان بعد سنة ونصف من قدوم رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم إلى المدينة ‪ ،‬وكانت يوم جمعة‪.‬‬
‫ •‪ ##‬حضر إبليس لقريش في هذه الغزوة على صورة سراقة بن مالك بن جعشم ‪##‬‬
‫وقال لهم ‪( :‬أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ‪ ،‬فخرجوا‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪120‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫سراعا) تاريخ الطبري (‪.)431 :2‬‬
‫•إن الق ّلة المؤمنة غلبت الكثرة الكافرة ‪ ،‬فكان جيش قريش ألف مقاتل ‪ ،‬وكان المسلمون‬ ‫ ‬
‫في ثالثمائة رجل وخمسة نفر‪ ،‬وقيل ثالثمائة وثالثة عشر رجال‪.‬‬
‫•حصول أسباب النصرة بالدعاء والمعجزة ‪ ##‬حيث كان رسول الله صلى عليه‬ ‫ ‬
‫وسلم يلح على ربه في الدعاء‪ ،‬وشارك المالئكة في المعركة ‪ ،‬ونزول المطر لتثبيت‬
‫المسلمين وتشتيت المشركين‪.‬‬
‫•مخاطبة النبي لقتلى بدر من المشركين وهم في ‪ ##‬قليب بدر ‪ :‬هل وجدتم ما وعد‬ ‫ ‬
‫ربكم حقا‪..‬إلخ‪.‬‬
‫•ورد في دالئل النبوة للبيهقي قال‪ :‬وروى بسنده عن موسى بن عقبة ‪ ##‬الحديث وفيه‬ ‫ ‬
‫(وأذل بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين فلم يبق بالمدينة منافق وال يهودي إال‬
‫وهو خاضع عنقه لوقعه بدر ‪ ،‬وكان ذلك يوم الفرقان ‪ ،‬يوم فرق الله تعالى بين الشرك‬
‫واإليمان ‪ ،‬وقالت اليهود‪ :‬تيقنا أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة ‪ ،‬والله ال يرفع راية‬
‫بعد اليوم إال ظهرت‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪121‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مظهر التحوالت في غزوة أحد‬
‫�اروا‬ ‫ت ُق ُلو ُب ُه ْ‬
‫�م َو َث ُ‬ ‫َو ْاش� َت َع َل ْ‬ ‫�ق ال ُك َّف ُ‬
‫�ار‬ ‫َب�دْ ٍر َقلِ َ‬ ‫ِم�ن بع ِ‬
‫�د‬ ‫ْ َْ‬
‫ال�ر ِّب‬‫�ر َّ‬ ‫�و َق َأ ْم ِ‬‫ين َف ْ‬‫ُم ْس� َت ْكبِ ِر َ‬ ‫ب‬ ‫�ه ْم لِ ْل َح ْ�ر ِ‬‫وش ُ‬‫ُج ُي َ‬ ‫َو َح َش�دُ وا‬

‫�أ ِر ف�ي َج ْم� ٍع ك ََم�ا ُر ِوينَ�ا‬ ‫لِل َّث ْ‬ ‫از ِمينَ�ا‬


‫ب َع ِ‬ ‫لِ ْل َح ْ�ر ِ‬ ‫َو َق ِد ُم�وا‬
‫ب َو َأ ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْع َم َع ْة‬
‫ض َ‬ ‫الح ْر ِ‬
‫في َم ْوق ِع َ‬ ‫َان َم َع� ْه‬
‫�ن ك َ‬‫�ي َم ْ‬ ‫�او َر النَّبِ ُّ‬
‫َو َش َ‬
‫وركِب�وا في ِ‬ ‫ِ‬
‫وج‬‫الس ُ�ر ْ‬ ‫�ر األَ ْم ِر ُّ‬
‫آخ ِ‬ ‫ََ ُ‬ ‫وج‬‫�ن ال َب َق�اء َوالخُ ُر ْ‬‫اخ َت َل ُف�وا َب ْي َ‬
‫َف ْ‬
‫َو ْاس� َت ْع َج ُلو ُه في الخُ ُروجِ َو َر َج ْوا‬ ‫ال�ر ْأ َ‬
‫ي َل َّم�ا َخ َر ُج�وا‬ ‫َو َخا َل ُف�و ُه َّ‬
‫�ن ك ُِّل ِج َه� ْة‬ ‫�د ي ْأت َ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ُ�ون م ْ‬ ‫ف�ي ُأ ُح َ‬ ‫اج َه� ْة‬ ‫�ار بِ ُ‬
‫الم َو َ‬ ‫َأ ْن َي ْف َج ُ‬
‫�ؤوا ال ُك َّف َ‬
‫يشير الناظم إلى آثار غزوة بدر على المشركين وما حصل لهم بها من ضربة موجعة في‬
‫الصميم ‪ ،‬فقد شعروا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توطدت له األمور في المدينة‬
‫ولن يتركهم حتى يحمل الناس على اإلسالم بدعوته وهيبته‪ ،‬فأعادوا ترتيب أنفسهم يتزعمهم‬
‫أبو سفيان بن حرب ومن على شاكلته من قريش الذين أصيبوا في أبنائهم ورجالهم في غزوة‬
‫تكون لهم بهم جيش كبير‪ ،‬قال‬
‫بدر‪ ،‬واجتمع حولهم من الحلفاء واألعراب والساقة من َّ‬
‫ابن إسحاق عمن حدثه حديث يوم أحد ‪ :‬لما أصيب يوم بدر كفار قريش أصحاب القليب‬
‫ورجعت فلولهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة‬
‫وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آبائهم وأبناؤهم‬
‫وإخوانهم يوم بدر ‪ ،‬فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت في تلك العير من قريش تجارة‪،‬‬
‫فقالوا ‪ :‬يا معشر قريش إن محمد ًا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه ‪،‬‬
‫فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا فافعلوا ‪.‬‬
‫وفي رواية لما رجع من حضر بدر ًا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو‬
‫سفيان حرب موقوفة في دار الندوة ‪ ،‬فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا نحن طيبوا‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪122‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نفسا تجهزوا بربح هذه العير جيش ًا إلى محمد ‪ ،‬فقال أبو سفيان‪ :‬وأنا أول من أجاب إلى ذلك‬
‫وبنو عبد مناف معي ‪ ،‬فباعوها فصارت ذهبا فكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار ‪،‬‬
‫وفيهم نزلت ‪( :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [األنفال‪.]36:‬‬

‫والخبر في دالئل البيهقي (‪ : )224 :3‬ودعا جبير بن مطعم غالما حبشي ًا يقال له وحشي‬
‫يقذف بحربة له قذف الحبشة ّ‬
‫قل ما يخطئ بها فقال له ‪ :‬اخرج مع الناس فإذا أنت قتلت حمزة‬
‫عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق‪ ،‬فخرجت قريش ومن تابعها من بني كنانة وأهل‬
‫تهامة ‪ ،‬وأخرجوا معهم النساء لزيادة الحمية ‪ ،‬ولئال يفر أحد ‪ ،‬وأخرج أبو سفيان معه هند‬
‫بنت عتبة ‪ ،‬وأخرج عكرمة بن أبي جهل أم حكيم بن الحارث بن هشام بن المغيرة ‪ ،‬وخرج‬
‫الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ‪ ،‬وخرج صفوان بن أمية ببرزة‬
‫بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية ‪ ،‬وغيرهن ممن بلغوا خمسة عشرة امرأة ‪ ،‬وخرج معهم‬
‫أبو عمر الفاسق في خمسين رج ً‬
‫ال من قومه ‪ ،‬وكان عدد القوم ثالثة آالف رجل ‪ ،‬وكتب‬
‫العباس بن عبد المطلب كتاب ًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما أعد القوم ‪،‬‬
‫فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وشاورهم في األمر وقال ‪ :‬إني رأيت في المنام‬
‫سيفي ذي الفقار انكسر وهي مصيبة‪ ،‬ورأيت بقر ًا تذبح وهي مصيبة ‪ ،‬ورأيت على درعي ‪##‬‬
‫مدينتكم ال يصلون إليها إن شاء الله‪.‬‬
‫واختلفوا بين الخروج خارج المدينة وبين المكث بها ومقاتلة المشركين فيها ‪ ،‬وكان رأي‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ال يخرج من المدينة لهذه الرؤيا ‪ ،‬ووافقه أكابر المهاجرين‬
‫واألنصار ‪ ،‬وطلب منه بعض أحداث القوم الخروج ورغبوا في الشهادة ‪ ،‬وكان رجال من‬
‫المسلمين لم يشهدوا بدر ًا فندموا على ما فاتهم من سابقة بدر وتمنوا لقاء العدو ‪ ،‬وأشار عبد‬
‫الله بن أبي على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج وغلب القضاء والقدر‪ ،‬وتهيأ النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ولبس ألمته وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس‬
‫ووعظهم وحثهم على الجهاد ‪ ،‬وخرج النبي صلى الله عليه وسلم البس ًا ألمته وندم الناس‬
‫وقالوا استكرهنا رسول الله‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪123‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬ ‫لِ َين ُْص ُروا ا ِ‬ ‫بِال َي ُه�و ْد‬ ‫المنَافِ ُق َ‬
‫الح ُشو ْد‬‫إل ْس اَل َم ضدَّ ذي ُ‬ ‫�ون‬ ‫ُ‬ ‫�اءه‬
‫َو َج َ‬
‫اج ُم�وا‬ ‫َو َقاتِ ُل�وا ف�ي َج ْي ِش�نَا َو َه ِ‬ ‫َأ ْس�لِ ُموا‬ ‫�م َط� َه َو َق َ‬
‫�ال‬ ‫َف َر َّد ُه ْ‬
‫ك‬ ‫ب ِضدَّ م ْش ِر ٍك في المس َل ِ‬ ‫الح ْر ِ‬ ‫�ر ِك‬
‫بِ ُم ْش ِ‬ ‫إِ ْذ ال َي ُج�و ُز ن ُْص َ�ر ٌة‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫في َ‬
‫ِ‬
‫القت ِ‬ ‫َأصحابِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ�ال ُث ُلث� ًا حراب�ه‬ ‫َع ِ‬
‫�ن‬ ‫�ه‬ ‫ْ َ‬ ‫�ن‬ ‫�ن ُأ َب ٍّ‬
‫�ي َر َّد م ْ‬ ‫َوا ْب ُ‬
‫يشير الناظم إلى ما فعله المنافقون من حشد حلفائهم من اليهود ومجيئهم بهم إلى بعض‬
‫آطام المدينة ليساعدوا المسلمين في صد المشركين عن المدينة ‪ ،‬فقال لهم رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ :‬وقد أسلموا؟ قالوا‪ :‬ال يا رسول الله‪ ،‬قال‪ :‬قولوا لهم فليرجعوا ‪ ،‬فإنا ال‬
‫نستعين بالمشركين على المشركين‪.‬‬
‫(((‬

‫كما ورد في السيرة أن عبد الله بن ُأبي ان َ‬


‫ْخ َذ َل ب ُث ُلث الناس ورجع بمن اتّبعه من قومه من أهل‬
‫النفاق والريب‪ ،‬فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم من عند قوله‪( :‬ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [آل عمران‪ ،]167:‬يعني عبد الله بن أبي وأصحابه‬
‫الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعددهم ثالثمئة ‪ ،‬وبقي مع رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم سبعمئة(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين‬
‫المك ْ‬
‫الح ْيد َ‬
‫الر َما ُة في َ‬
‫َومن ُْه ُم ُّ‬ ‫ين‬‫الم ْس�لم ْ‬ ‫�ي َج ْي َش ُ‬ ‫َو َوز ََّع ال َّنبِ ُّ‬
‫�ي َد ْأب� ًا ُين َْض ُحوا‬ ‫ي�ع َأ ْن لاَ َي ْب َر ُح�وا‬ ‫ِ‬
‫�م بِ َّ‬
‫الر ْم ِ‬ ‫َمكَان َُه ْ‬ ‫الجم َ‬ ‫َو َأ ْل� َز َم َ‬
‫�م َو َأ ْب َ�را ِذ َّمتَ� ْه‬
‫ُم َذكِّ�ر ًا َل ُه ْ‬ ‫�م ُخ ْط َبتَ� ْه‬ ‫�ي فِ ِ‬
‫يه ْ‬ ‫�ب النَّبِ ُّ‬ ‫َو َخ َط َ‬
‫يشير الناظم إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ترتيب المسلمين وتعبئتهم للقتال‬
‫فجعل ظهره وعسكره ألحد وقال ‪( :‬ال يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال)‪ ،‬وأ ّمر على‬
‫الرماة عبد الله بن جبير‪ ،‬فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين‪ ،‬وقال لهم صلى الله‬

‫((( أخرجه اهليثمي يف جممع الزوائد (ج ‪.)303/5‬‬


‫(( ( دالئل البيهقي ج‪.221/208/3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪124‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عليه وسلم‪( :‬إن رأيتمونا تخطفنا الطير فال تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم(‪.)239 :4‬‬
‫وخطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة قال فيها‪( :‬يا أيها الناس أوصيكم بما‬
‫أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ‪ ،‬ثم إنكم اليوم بمنزل أجر‬
‫وذخر عن ذكر الذي ‪ ##‬ثم وطن نفسه له على الجد واليقين والنشاط‪ ،‬فإن جهاد العدو‬
‫شديد‪ ،‬شديد كربه قليل من يصبر عليه إال من عزم الله رشده فإن الله مع من أطاعه وإن‬
‫الشيطان مع من عصاه ‪ ،‬فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم‬
‫الله وعليكم بالذي آمركم به‪ ،‬والتثبيط من أمر ‪ ##‬والضعف مما ال يحب الله وال يعطي عليه‬
‫النصر وال الظفر‪..‬إلخ (‪ )221 :1‬الواقدي ‪ ،‬الجامع في السيرة‪.‬‬

‫�ل األَ ْب َط ُال في ك ُِّل َم َج ْال‬


‫َو ْاس َت ْب َس َ‬ ‫الح ْر ُب َع َلى ال َق ْو ِم ِس َج ْال‬ ‫ِ‬
‫َو َد َارت َ‬
‫َوان َْه� َزم ال ُك َّف�ار ف�ي َح ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫�ال َم ِه ْ‬
‫ي�ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين‬ ‫َولاَ َح في األُ ْف ِق انْت َص ُار ُ‬
‫الم ْسلم ْ‬
‫يشير الناظم إلى نجاح المسلمين في إدارة رحى الحرب واستبسلوا غاية االستبسال ‪،‬‬
‫وحفظت كتب السير ألوانا من البطوالت في تلك المعركة حتى انكشف جيش المشركين ‪،‬‬
‫وإلى ذلك أشارت اآلية الكريمة (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ )‬
‫[آل عمران‪ ،]152:‬قال ابن عباس ‪ :‬ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد‬
‫والح ُّس هو القتل‪ .‬رواه الحاكم وأحمد راجع ص‪ 432‬الجامع في السيرة‪.‬‬
‫وقرأ اآلية ‪ ،‬قال ‪َ :‬‬
‫وروى ابن سعد في طبقاته ‪ :‬فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون ‪ ##‬ال يلوون على‬
‫شيء ونساؤهم يدعين بالويل ‪ ،‬وتبعهم المسلمون يضعون السالح فيهم حيث شاؤوا‪..‬إلخ‪.‬‬
‫ِ‬
‫الم ْش�ت ََر َك ْة‬
‫�م ُ‬ ‫َل َّم�ا َر ُأوا ال َغنَائ َ‬ ‫الم ْع َر َك ْة‬ ‫َو ْاس�ت َْم َل َح ُّ‬
‫الر َما ُة ن َْص َر َ‬
‫�ر د ِ‬ ‫ِِ‬ ‫�ن َم ْو ِق� ِع الدِّ َف�ا ِع‬
‫اع�ي‬ ‫ي�ن َأ ْم َ�ر َخ ْي ِ َ‬ ‫ُمخَ الف َ‬ ‫َو َن َز ُل�وا َع ْ‬
‫الج َب ْل‬ ‫ين في َر ْأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َص َع�دَ ال ُك َّفار في َح ِ‬
‫س َ‬ ‫َو َق َت ُل�وا ال َباق َ‬ ‫ال ال َع َج ْل‬ ‫ُ‬
‫يشير الناظم إلى ما حصل من تحول في المعركة نتيجة المخالفة التي وقع فيها أغلب‬
‫الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحماية ظهور المسلمين ‪ ،‬حيث استبشروا‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪125‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بالنصر وهرعوا إلى الغنائم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفين أمر‬
‫قائدهم عبدالله بن جبير‪ ،‬ولما رأى خالد بن الوليد وكل ‪ ##‬خيل المشركين فراغ الجبل‬
‫من المدافعين صعد بمن معه الجبل وأجهزوا على البقية الباقية ثم أعادوا ترتيب أنفسهم ‪،‬‬
‫وجاؤوا للمسلمين من وراء ظهورهم فكانت الهزيمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫�ن ُع ْص َب�ة َثابِتَ�ة ف�ي َ‬
‫الم ْع َم َع ْة‬ ‫م ْ‬ ‫الم ْص َط َفى َو َم ْن َم َع ْه‬
‫ات ُ‬‫َل ْولاَ َث َب ُ‬
‫ِ‬ ‫إِ ْذ َدا َف ُع�وا َع ِ‬
‫اح‬ ‫َو َقا َت ُلوا بِ َّ‬
‫الس ْيف َص ْلتًا َو ِّ‬
‫الر َم ْ‬ ‫السَل�اَ ْح‬‫�ن النَّبِ ِّي بِ ِّ‬
‫َ�ي َي ِزي�دَ َ‬
‫الح َزنَ�ا‬ ‫ْ�ل النَّبِ ِّ‬
‫�ي ك ْ‬ ‫َقت َ‬ ‫ي�ن ُم ْعلِنَ�ا‬ ‫ِ‬
‫ي�س ا ْل َلع ُ‬
‫ِ‬
‫�اح إِ ْبل ُ‬
‫َو َص َ‬
‫يشير الناظم إلى الثبات النادر الذي وقفه صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه في المعركة‬
‫حتى كسر طلحة بن عبيد الله تسعة أسياف ورمى سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم يذب عنه ‪ ،‬والنبي يقول له ‪ :‬ارم فداك أبي وأمي‪ ،‬وكانت الجموع تحيط‬
‫بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ومن معه ‪ ،‬حتى َغ َّير النبي صلى الله عليه وسلم درعه‬
‫ولبس درع ًا آخر تمويه ًا على العدو والمتربص‪.‬‬
‫وفي أثناء المواجهة المحتدمة أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسه وكسرت‬
‫رباعيته فانسحب صلى الله عليه وسلم إلى غار بجبل أحد ‪ ،‬وشاع في الناس القلق والفوضى‬
‫‪ ،‬وصاح الشيطان فيهم بأن محمد ًا قد قتل ‪ ،‬حتى ضرب المسلمون بعضهم بعض ًا في‬
‫االندهاش والجزع‪.‬‬
‫ُس� ْقي ًا َوت َْض ِميد ًا لِك ُِّل َم ْن َش ِ‬
‫�هدْ‬ ‫�و ِم ُأ ُحدْ‬ ‫�ار َك الن َِّس ُ‬
‫�اء ف�ي َي ْ‬ ‫َو َش َ‬
‫يشير الناظم إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في يوم أحد بالمشاركة في تضميد‬
‫الجرحى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الم ْص َط َفى‬
‫َلك َّ‬
‫�ن َر ِّب�ي َق�دْ َح َم�ا ُه َو َك َف�ى‬ ‫ْ�ل ُ‬ ‫�او َل ال ُك َّف ُ‬
‫�ار َقت َ‬ ‫َو َح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وج ِ‬
‫اخ َت َل ُفوا في َح ْربِ ِه ْم َع ْرض ًا َو ُط ْ‬
‫ول‬ ‫َو ْ‬ ‫ول‬ ‫اءت األَ ْم اَل ُك م ْن َح ْول َّ‬
‫الر ُس ْ‬ ‫َ َ َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪126‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ِ‬ ‫َ�ى فِ�ي ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َخ َب ْر‬
‫آي َر ِّب�ي م ْ‬ ‫ك ََم�ا َأت ٰ‬ ‫اس َب ْع ُض َم ْن َح َض ْر‬
‫�ي ال ُّن َع َ‬
‫َوغَش َ‬
‫يشير الناظم إلى محاولة بعض الكفار االعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله‪،‬‬
‫بل إن أربعة من المشركين ممن حضر بدر ًا تعاهدوا على قتله يوم أحد ‪ ،‬وهم عبدالله بن‬
‫شهاب وأبي بن خلف وابن قميئة وعتبة بن أبي وقاص ‪ ،‬وكلهم يوم أحد لم يبصروا رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬حتى قال أحدهم ‪ :‬والله ما رأيته ‪ ،‬أحلف بالله إنه منا ممنوع ‪.‬‬
‫وأما حضور المالئكة في غزوة أحد فالصحيح أنهم لم يحضروا ولم يقاتلوا إال يوم بدر‪،‬‬
‫وذكر ابن سعد في طبقاته ‪ :‬وحضرت المالئكة يومئذ ولم تقاتل‪.‬‬
‫قال ابن اسحاق أنزل الله النعاس أمنة منه على أهل اليقين به فهم نيام ال يخافون‪ ،‬وفي‬
‫الدالئل للبيهقي بسنده عن عبد الرحمن بن عوف في قوله (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) قال‬
‫ألقي علينا النوم يوم أحد‪.‬اهـ‬

‫َ�م َع ِميدْ‬ ‫ك ََح ْم�ز ٍَة َو ُم ْص َع ٍ‬


‫ب َوك ْ‬ ‫ين َش ِهيدْ‬ ‫ِ‬
‫الح ْر ُب بِ َس ْبع َ‬
‫ِ‬
‫َوا ْنت ََهت َ‬
‫اهدُ وا‬ ‫َحتَّى َق َض ْوا لِلن َّْح ِ‬
‫ب فيما َع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ك ُِّل َم ْن في ال ّله َح ّق ًا َج َ‬
‫اهدُ وا‬
‫يشير الناظم إلى حصيلة معركة أحد وأنها بلغت سبيعن شهيد ًا من المسلمين ‪ ,‬يأتي في‬
‫مقدمتهم أسد الله حمزة ‪ ،‬ومصعب بن عمير ‪ ،‬وغيرهم ممن قضى نحبه في سبيل الله‪.‬‬

‫�ال‪َ :‬أ ْح َي ٌ‬
‫�اء َح َي�ا ًة ُمدْ َركَ� ْة‬ ‫َو َق َ‬ ‫�ن النَّبِ ُّ‬
‫�ي َق ْت َل�ى َ‬
‫الم ْع َركَ� ْة‬ ‫َو َد َف َ‬
‫ع َلى المدَ ى حتَّى إلى يو ِم ِ‬
‫الق َيا ْم‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫السَل�اَ ْم‬
‫ون َّ‬
‫وه ْم َي ُر ُّد َ‬ ‫َو َق َال‪ :‬ز ُ‬
‫ُور ُ‬
‫يشير الناظم إلى اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعد المعركة بدفن الشهداء‬
‫‪ ،‬وقد نزلت فيهم ‪( :‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)‬
‫[آل عمران‪.]169:‬‬

‫وعن ابن عمر قال ‪ :‬مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير حين رجع‬
‫من أحد فوقف على أصحابه وقال ‪( :‬أشهد أنكم أحياء عند الله ‪ ،‬فزوروهم وسلموا عليهم ‪،‬‬
‫فوالذي نفس محمد بيده ال يسلم عليهم أحد إال ردوا عليه إلى يوم القيامة)‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪127‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َّاس ِمن س ِ‬ ‫المنَافِ ُق ْ‬
‫وء ال ُّظن ْ‬
‫ُون‬ ‫َو َأ ْك َث ُروا في الن ِ ْ ُ‬ ‫�ون‬ ‫َو َأ ْر َج َ‬
‫�ف ال َي ُه�و ُد َو ُ‬
‫يشير الناظم إلى موقف اليهود والمنافقين بعد المعركة ‪ ،‬وخاصة أنهم لم يشاركوا فيها ‪،‬‬
‫وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل ‪ ،‬وقالت اليهود لو كان نب ّيا ‪ #‬فاظهروا عليه وال أصيب ‪#‬‬
‫منه ما أصيب ولكنه طالب ملك تكون له الدولة مرة ومرة عليه‪ ،‬وقال المنافقون نحو قولهم‬
‫‪ ،‬وقالوا لمن قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬لو كنتم أطعتمونا ما أصابوا الذي‬
‫أصابوا منكم‪.‬‬
‫ف الع ِ‬
‫اص َف ْة‬ ‫ان كَوص ِ‬ ‫ِمن ِ ِ‬ ‫�ق و ِ‬
‫اص َف� ْة‬ ‫َو ُأن ِْز َل ْ‬
‫َ‬ ‫آل ع ْم َر َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫�ات َح ٍّ َ‬
‫�ت آ َي ُ‬
‫َوإِ ْذ َغ�دَ ْو َت لِ ْل ِقت ِ‬
‫َ�ال َش ِ‬
‫�ار َح ْة‬ ‫ات رب�ي و ِ‬
‫اض َح ْة‬ ‫ِ‬ ‫ِس�ت َ ِ‬
‫ُّون م ْن آ َي َ ِّ َ‬
‫يشير الناظم إلى أهمية الحدث وتوثيقه في القرآن العظيم فقد أنزل الله ستين آية من سورة‬
‫[آل عمران‪]121:‬‬ ‫آل عمران بدء ًا بقوله تعالى‪( :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ )‬
‫إلى قوله تعالى‪( :‬ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ‬
‫ﯰ ﯱ) [آل عمران‪ ]179:‬دالئل البيهقي (‪.)274 :3‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪128‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة بني النضير‬
‫وتأتي أهميتها في فقه التحوالت أنها أول معركة معلنة مع اليهود بعد ستة أشهر من معركة‬
‫أحد ‪ ،‬وسببها تآمر بني النضير على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى ديارهم‬
‫ليعينوه في دية قتيلين من بني عامر فأجابوه وذهبوا يتشاورون على قتله وهو بجانب جدار‬
‫من جدران بيوتهم ‪ ،‬واتفقوا على إلقاء صخرة عليه ‪ ،‬وانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن‬
‫كعب أحدهم ‪ ،‬فلما صعد الرجل جاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما ب ّيتوه فقام‬
‫وخرج راجع ًا إلى المدينة ‪ ،‬فأخبر أصحابه الخبر وأمر أصحابه بالتهيؤ لحربهم‪.‬‬

‫ج ْير‬ ‫اله ِ‬ ‫لِ َقت ِ‬


‫ْ�ل َط� َه َو ْه َو في َح ِّ�ر َ‬ ‫ي�ر‬ ‫ِ‬
‫�ن َبن�ي النَّض ْ‬
‫تَآم�ر اليه�ود ِم ِ‬
‫َ َ َُ ُ ْ‬
‫�م لِ َت ْق ُت َل� ْه‬
‫َفدَ ْح َر ُج�وا َصخْ َرت َُه ْ‬ ‫�اء َي ْر ُج�و ِد َي� ًة ُم َع َّج َل� ْة‬
‫َق�دْ َج َ‬
‫ي�ل َأتَ�ى بِالخَ َب ِ‬ ‫�ن ِج ْب ِر َ‬ ‫ِ‬
‫�ل الخَ َط ِ‬
‫�ر‬ ‫َو َن َّب� َه النَّبِ َّ‬
‫�ي َق ْب َ‬ ‫�ر‬ ‫َلك َّ‬
‫َو َح َّر َق النَّخْ َل َو َأ ْج اَل ُه ْم ‪ #‬بِدُ ْ‬
‫ون‬ ‫ون‬
‫الح ُص ْ‬
‫ش ُ‬ ‫اص َر النَّبِ ُّي بِ َ‬
‫الج ْي ِ‬ ‫َف َح َ‬
‫يشير الناظم إلى المؤامرة الدنيئة التي قام بها يهود بني النضير فعادت وباالً عليهم ‪ ،‬حيث‬
‫جهز النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم أصحابه وحاصرهم ست ليال‪ ،‬وقطع النخل وحرقها‬
‫‪ ،‬مما أثار غضبهم فأنزل الله ‪( :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ) [الحشر‪.]5:‬‬
‫الكف عن دمائهم ولهم ما‬
‫ّ‬ ‫وقذف الله في قلوبهم الرعب فقبلوا الجالء عن المدينة بشرط‬
‫حملت اإلبل من األموال إال السالح ولحقوا بخيبر ‪ ،‬وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا‪.‬‬
‫وأسلم من بني النضير رجالن يامين بن عمير بن كعب وأبو سعد بن وهب فترك لهما‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أموالهما وسلم دماءهما ‪ ،‬وقسم النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫أموالهم على المهاجرين األولين دون األنصار إال رجلين فقيرين من األنصار ‪ ،‬وفيهم نزلت‬
‫‪( :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ) [الحشر‪ ،]9:‬ونادت األنصار رضينا وسلمنا يا‬
‫رسول الله ‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬اللهم ارحم األنصار وأبناء األنصار‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪129‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وفي بني النضير نزلت آيات سورة الحشر بأسرها‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬سور ُة الحشر سور ُة بني‬
‫النضير‪.‬‬

‫َ�م َو ِاق َع ْة‬ ‫ِ‬


‫الم َر ْيس�ي ِع بِ َه�ا ك ْ‬
‫ات ُ‬‫َذ ُ‬ ‫الج ِام َع ْة‬ ‫ِ‬ ‫َو ِم ْن غ َِر ِ‬
‫ي�ب ال َغز ََوات َ‬
‫ِ‬ ‫بِ ِع َّل ِ‬
‫�ة النِّ َف ِ‬ ‫�ن ُأ َب ْي‬
‫ور ا ْب ِ‬
‫�اق ُت ْب�دي ك َُّل غ ْ‬
‫َ�ي‬ ‫فال َع�ز ُْل ج�ا َز َو ُظ ُه ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ك ا َّلتِي كَان ْ‬ ‫إل ْف ِ‬
‫َو ِق َّص� ُة ا ِ‬
‫المَلَ‬
‫�ن َ‬ ‫يم� ًة َب ْي َ‬
‫َوف ْتنَ� ًة َعظ َ‬ ‫َ�ت َبل‬
‫يشير الناظم إلى غزوة المريسيع التي وقعت سنة ست من الهجرة في شهر شعبان وقيل‬
‫غير ذلك ‪ ،‬وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له‪ ،‬فلما سمع‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له (المريسيع)‬
‫من ناحية قديد إلى الساحل فقاتلهم صلى الله عليه وسلم بمن معه فانهزموا ‪ ،‬وقتل منهم من‬
‫قتل وسبى من نسائهم وأبنائهم من سبى ‪ ،‬وفيهم جويرية بنت أبي ضرار سيدة قومها ‪ ،‬وهي‬
‫التي تزوجها رسول الله عليه وسلم بعد أن أسلمت ‪ ،‬وفي هذه الغزوة جرت تحوالت هامة‬
‫في تاريخ الشريعة ومنها‪:‬‬
‫‪1.1‬إباحة العزل ‪ ،‬وفيه قال صلى الله عليه وسلم ‪ :‬ما عليكم أال تعزلوا فإن الله قدّ ر ما‬
‫هو خالق إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫‪2.2‬حديث اإلفك بطوله ونزول البراءة في سورة النور ونزول سورة المنافقين ‪ ،‬وجاء‬
‫أنها لما نزلت ـ وفيها تكذيب ابن أبي ـ قال له أصحابه ‪ :‬اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم يستغفر لك ‪ ،‬فلوى رأسه ثم قال ‪ :‬أمرتموني أن أؤمن فأمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة‬
‫أموالي فأعطيت ‪ ،‬فما بقي إال أن أسجد لمحمد ‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيه ‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) اآلية [المنافقون‪.]5:‬‬
‫وجاء عبدالله بن عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‪ :‬بلغني أنك‬
‫تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه ‪ ،‬فإن كنت ال بد فاعال فمرني به فأنا أحمل رأسه إليك‬
‫‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪( :‬بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) ‪ .‬تاريخ‬
‫الطبري ودالئل البيهقي‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪130‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وكان من خبره كما ورد أن رجال من المهاجرين كسع رجال من األنصار فقال األنصاري ‪:‬‬
‫يا لألنصار ‪ ،‬وقال المهاجري ‪ :‬يا للمهاجرين ‪ ،‬فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬ما بال دعوى جاهلية ‪ ،‬فأخبروه فقال‪ :‬دعوها فإنها منتنة‪.‬‬
‫فغضب عبد الله بن أبي وقال‪َ :‬أ َو َقد فعلوها؟! نافرونا وكاثرونا في بالدنا والله ما نحن وهم‬
‫إال كما قال األول‪( :‬سمن كلبك يأكلك) ‪ ،‬أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز‬
‫منها األذل‪.‬‬
‫وأبلغ زيد بن أرقم رسول الله بمقالته فأنكرها عبد الله بن أبي ‪ ،‬فوجد النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم على زيد ‪ ،‬فأنزل الله سورة المنافقين وأرسل النبي إلى زيد وقرأها عليه وقال‪ :‬إن الله‬
‫قد صدقك ‪ ،‬والقصة مشهورة بتفاصيلها في كتب السيرة والحديث والتفسير‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪131‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة الخندق (األحزاب)‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬ ‫َوغَ�ز َْو ُة الخَ نْ�دَ ِق ُأ ُّم الغَ�ز ََو ْ‬
‫ات‬
‫الح َي ْ‬ ‫َن ََّها م ْ‬
‫�ن َمك ِْر َأ ْع�دَ اء َ‬ ‫ات‬

‫�أنِ َها‬ ‫و َخرج�وا لِمك ٍ‬


‫َّ�ة ف�ي َش ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َآم َ�ر ال َي ُه�و ُد ف�ي إِ ْذكَائِ َه�ا‬ ‫ت َ‬
‫�ذ ِل الن ُّْص َ�ر ِة‬
‫َع ْه�دً ا َو ِمي َثاق� ًا لِ َب ْ‬ ‫و َأ ْلص ُق�وا صدُ وره�م بِال َكعب ِ‬
‫�ة‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ ُ ْ‬ ‫َ َ‬
‫�ش عصب ِ‬
‫�ة الخَ َ�ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ل األَ ْع َ�ر ِ‬ ‫َو ْاس� َتنْ َف ُروا َق َبائِ َ‬
‫اب‬ ‫�ن ُق َر ْي ٍ ُ ْ َ‬
‫َوم ْ‬ ‫اب‬
‫أشار الناظم إلى هذه الغزوة بأنها (أم الغزوات) ‪ ،‬وعلل ذلك لكونها من تخطيط وتنفيذ‬
‫وتمويل أعداء الحياة ‪ ،‬وهم اليهود ‪ ،‬حيث أشارت كتب السير أن نفر ًا من اليهود ـ منهم سالم‬
‫بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضرسي وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري‬
‫وغيرهم ـ حزبوا األحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ ،‬حيث خرجوا حتى‬
‫قدموا مكة على قريش ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فاجتمعوا‬
‫لذلك وأعدوا له ‪ ،‬فدعوهم إلى الحرب ‪.‬‬
‫قال الواقدي في روايته ‪ :‬إن يهود كما بلغوا إلى مكة قال أبو سفيان‪ :‬أحب الناس إلينا من‬
‫أعاننا على عداوة محمد ‪ ،‬قال النفر من يهود ‪َ :‬أ ْخ ِر ْج خمسين رجال من بطون قريش كلها‬
‫أنت منهم وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ثم نحلف بالله جميع ًا‬
‫ال يخذل بعضنا بعضا ‪ ،‬ونتلو على كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل ‪ ،‬ففعلوا‬
‫فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وكان الذي دفع اليهود من بني النضير إلى هذه الغزوة فيما ذكر ما كان من أجاله رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم‪.‬‬

‫ب َو َما َقدْ َج َّم ُعوا‬‫َع َل ْي ِه ِم ْن َح ْ�ر ٍ‬ ‫�ي َم�ا َق�دْ َأ ْج َم ُع�وا‬


‫َو َب َل�غَ النَّبِ َّ‬
‫اب‬ ‫�اق َوالخَ َ�ر ِ‬ ‫َوز ُْم َ�ر ِة النِّ َف ِ‬ ‫اب‬ ‫ِم ْن ُع ْص َب ِة األَ ْحز ِ‬
‫َاب َواألَ ْع َر ِ‬
‫ْ�ر غ ِ‬
‫َ�اد ِر‬ ‫َأ ْص َحا َب� ُه لِ َص�دِّ َمك ٍ‬ ‫�او ِر‬ ‫ِ‬
‫َ�ار للت ََّش ُ‬
‫المخْ ت ُ‬
‫�ع ُ‬‫َف َج َم َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪132‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫�ر ِق‬
‫الم ْش ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ك َِفك ٍ‬ ‫�ر الخَ نْدَ ِق‬
‫ان بِ َح ْف ِ‬
‫�اء َس� ْل َم ُ‬
‫ْ�رة َم ْس� ُبو َقة في َ‬
‫َ‬ ‫َف َج َ‬
‫ِِ‬ ‫�ي َح ْف ً�را َع ِ‬
‫َك ْي َم�ا َي ُص�دَّ ال َقادم َ‬
‫ي�ن الدُّ َخَلَ‬ ‫جَلَ‬ ‫�ق النَّبِ ُّ‬
‫َف َوا َف َ‬
‫يشير الناظم إلى بلوغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اجتمع عليه يهود ومن‬
‫معهم ‪ ،‬فجمع النبي أصحابه للتشاور وأشار عليهم سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر‬
‫الخندق حول المدينة ‪ ،‬فخط رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل عشرة أربعين ذراع ًا ‪،‬‬
‫وبدأ العمل في الحفر ‪ ،‬والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يشارك القوم فيه إال بعض المنافقين‬
‫‪ ،‬فكانوا يتباطؤون في العمل ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫وال إذن منه ‪ ،‬وكان العمل فيه نهار ًا ثم يذهبون إلى أهليهم لي ً‬
‫ال ‪.‬‬
‫وفرغ العمل منه في بضع عشر ليلة ‪ ،‬وقيل أربع ًا وعشرين ‪ ،‬وفي حفر الخندق جرت جملة‬
‫من اآليات والمواقف منها اعتراض ‪ ##‬من الجيل فضربها رسول الله صلى عليه وسلم‬
‫بالمساد وقال ‪ :‬بسم الله فصارت كثيبا مهيال‪.‬‬
‫وفيه رأى جابر بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شدّ على بطنه حجرا من‬
‫الجوع فذهب إلى أهله وصنع طعام ًا لعشرة ‪ ،‬ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى‬
‫رسول الله في أهل الخندق ‪##‬‬
‫وما أجرى الله من المعجزة الكبرى في إطعام القوم من ذلك الفتات والخبز‪.‬‬
‫ان ِمنَّ�ا وإِ َلينَ�ا ينْح ِ‬
‫�د ْر‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َس� ْل َم ُ‬ ‫الم َق َال ُ‬
‫الم ْش�ت ََه ْر‬ ‫�و ُم َ‬ ‫َو َأ ْك َث َ�ر ال َق ْ‬
‫�ت ُط ِّه َ�را‬‫آل لِبي ٍ‬‫�ن ٍ‬ ‫س� ْلم ُ ِ‬ ‫�ال َط� َه لِ ْل َج ِمي� ِع ُمخْ بِ َ�را‬ ‫َف َق َ‬
‫َْ‬ ‫ان م ْ‬ ‫َ َ‬
‫ِِ‬
‫�ن ال َع َ�ر ْب‬ ‫َو َه�ذه َم ِز َّي� ٌة َب ْي َ‬ ‫َ�ال ُق ْر َب� ًا َوات َِّص�الاً َو َس� َب ْ‬
‫ب‬ ‫َفن َ‬
‫يشير الناظم إلى ما سبق من إلحاق كل قبيلة سلمان الفارسي إليها ‪ ،‬حيث قال المهاجرون‬
‫‪ :‬سلمان منا ‪ ،‬وقال األنصار كذلك ‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬سلمان منا أهل‬
‫البيت‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪133‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نكث بني قريظة لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫ب ِم ْث َ‬
‫�ل ال َع َر ِ‬
‫ب‬ ‫َت لِ ْل َح ْ�ر ِ‬
‫َو َج َّه�ز ْ‬ ‫�ت ُق َر ْي َظ� ٌة َع ْه�دَ النَّبِ�ي‬
‫َو َن َق َض ْ‬
‫َو َأ ْر َس َ‬ ‫واتَّح�دَ الحي ِ ِ‬
‫�م‬ ‫�ل النَّبِ ُّ‬
‫�ي َي ْر ُج�و َع ْهدَ ُه ْ‬ ‫�م‬
‫يم�ا َب ْين َُه ْ‬
‫�ان ف َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ‬
‫ْ�ر َو َصا ُل�وا َو َع َل ْوا‬ ‫َو َع َق�دُ وا َ‬
‫المك َ‬ ‫�وا‬ ‫َف َش�ت َُموا َو ْف�دَ النَّبِ ِّ‬
‫�ي َو َغ َل ْ‬

‫َحتَّى َر َأى األَ ْص َح ُ‬


‫اب في َذ َ‬
‫اك ال َبل‬ ‫�اف النِّ َف ِ‬
‫�اق َو َعَلَ‬ ‫َوا ْز َدا َد إِ ْر َج ُ‬
‫يشير الناظم إلى ما فعله بنو النضير من تأثيرهم على بني قريظة حتى نقضوا عهدهم‬
‫وتحالفوا مع األحزاب ‪ ،‬وأغلظوا القول لوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فلما علم‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقفهم ونقضهم للعهد قال ألصحابه بعد غفوة اضطجع‬
‫فيها وقام ‪ :‬أبشروا بفتح الله ونصره‪ ،‬وأنزل الله في أمر الخندق وأمر بني قريضة ونقضهم‬
‫للعهد واجتماع األحزاب وإرجاف المنافقين قوله‪( :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [األحزاب‪.]10:‬‬
‫جاء في دالئل البيهقي ‪ :‬فلما اشتد البالء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‬
‫نافق ناس كثير وتكلموا بكالم قبيح ‪ ،‬فلما رأى رسول الل صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس‬
‫من البالء والكرب قال ‪( :‬والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة ‪ ،‬وإني‬
‫ألرجو أن أطوف بالبيت آمنا ‪ ،‬وأن يدفع الله عز وجل إلي مفاتيح الكعبة ‪ ،‬وليهلكن كسرى‬
‫وقيصر ‪ ،‬ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله) ‪ ،‬فلما سمع بعض المنافقين ذلك قالوا ‪ :‬كان محمد‬
‫يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم ال يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‪ .‬اهـ‬
‫الطبري‪.‬‬
‫ووصف الله هذه األقوال ‪( :‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ) [األحزاب‪.]12:‬‬
‫ِ‬ ‫َوفِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ي�ن‬
‫�ن َو ٍّد ال َيل ْ‬
‫�م َع ْم ُ�رو ْب ُ‬
‫يه ُ‬ ‫الم ْش ِرك ْ‬
‫ين‬ ‫َوا ْقت ََح ْم الخَ نْدَ َق َب ْع ُض ُ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪134‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫�اب َط َه َو ْاس�تَخَ ْ‬
‫ف‬ ‫ُم َب ِ‬
‫�ارزًا َأ ْص َح َ‬ ‫�و ِم بِ َفخْ ٍ‬
‫�ر َو َص َل ْ‬
‫ف‬ ‫َو َج َ‬
‫�ال في ال َق ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫�ث َعلِ�ي‬ ‫ِ‬ ‫َفن َ ِ‬
‫�ل‬ ‫بِ َح ْر َب�ة بِ َك ِّف�ه َل ْ‬
‫�م َتن َْج ِ‬ ‫�ب ا ْل َل ْي ُ‬
‫َ�ال منْ� ُه الغَال ُ‬
‫يشير الناظم إلى صورة من صور المواجهة في ميدان المعركة عندما اقتحم الخندق عدد‬
‫من المشركين‪ ،‬وفيهم عمرو بن ود ‪ ،‬واسمه عمرو بن عبد ود ‪ ،‬وود صنم من أصنام الجاهلية‪،‬‬
‫وبارزه اإلمام علي فقتله ‪ ،‬وكان صلى الله عليه وسلم قد دعا لعلي ساعة خروجه لمبارزته ‪،‬‬
‫وعممه ‪( :‬اللهم أعنه عليه)‪.‬‬
‫وقال بعد أن أعطاه سيفه ّ‬
‫يب َما َد َعا‬ ‫ُم ْس� َت ْل ِه ًما َأ ْن َي ْس�ت ِ‬ ‫و َأ ْك َث�ر النَّبِ�ي لِ ّل ِ‬
‫َج َ‬ ‫�ه الدُّ َع�ا‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جيب الن ِ‬ ‫�زم األَح�زَاب وه�و ال َق ِ‬
‫َّاص ُر‬ ‫الم ِ ُ‬ ‫ُس� ْب َحا َن ُه َف ْه َو ُ‬ ‫اد ُر‬ ‫َو َي ْه ِ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫�ذ َل ال ّله ُق ُلوب الم ْش ِ ِ‬
‫ين‬ ‫س ّر ًا َو َج ْه ًرا َو َأتَى الن َّْص ُر ُ‬
‫المبِ ْ‬ ‫ين‬‫�رك ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َفخَ َ‬
‫يشير الناظم إلى توجه النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة الكرب إلى ربه سائال منه النصرة‬
‫والعون ‪ ،‬وقد ورد أنه كان من دعائه ‪ :‬اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم األحزاب ‪،‬‬
‫اللهم اهزمهم وزلزلهم‪..‬‬
‫وفي رواية ‪ :‬لما كان يوم األحزاب ُحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة‬
‫ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب ‪ ،‬وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪( :‬اللهم‬
‫إني أنشدك عهدك وعدك ‪ ،‬اللهم إنك إن تشأ ال تعبد)‪.‬‬
‫واستجاب الله دعاء نب ّيه فخذل قلوب المشركين وأجرى األسباب باختالف كلمتهم من‬
‫جهة ‪ ،‬حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود وقد أسلم يوم األحزاب وقال‬
‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬إن قومي لم يعلموا بإسالمي فمرني بما شئت ‪ ،‬فقال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪( :‬إنما أنت فينا رجل واحد ِّ‬
‫فخذل عنا إن استطعت ‪ ،‬فإن‬
‫الحرب خدعة) ‪ ،‬وفي رواية ‪( :‬فقل ما بدا لك فأنت في حل) ‪.‬‬
‫فذهب نعيم وخذل بين بني قريظة وقريش وغطفان ‪ ،‬ثم ذهب إلى قريش وخذل بينهم وبين‬
‫يهود ‪ ،‬ثم ذهب إلى غطفان وهم عشيرته وقومه فخذل بينهم وبين القوم ‪ ،‬حتى غدا كل فريق‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪135‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ال يأمن اآلخر منهم ‪ ،‬ودعت قريش اليهود إلى الحرب وكان يوم السبت فأبى اليهود وقالوا‬
‫فمسخوا قردة وخنازير ‪ ،‬فقال أبو سفيان ‪( :‬أال أراني‬
‫ال نقاتل فيه ألن قومنا غدوا يوم السبت ُ‬
‫أستعين بإخوة القردة والخنازير)‪.‬‬
‫قال تعالى‪ ( :‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [األحزاب‪ ]25:‬قال المفسرون‪ :‬بما أجراه الله بينهم من‬
‫التخذيل والفرقة والشك حتى تفرقوا‪.‬‬

‫الح َجاِر َوال َّث َرى‬


‫والريح َثار ْت بِ ِ‬
‫َ ِّ َ َ‬ ‫ُ�را‬ ‫َو َأ ْر َس َ‬
‫�ل ال ّل� ُه ُجنُ�و ًدا َل ْ‬
‫�م ت َ‬
‫ت نِيرانَه�م و ِ‬
‫الخ َي َما‬ ‫َو ْاس�ت َْأ َص َل ْ َ ُ ْ َ‬ ‫�م َوال ُب َر َم�ا‬
‫ور ُه ْ‬ ‫َف َأ ْك َف َ‬
‫�أ ْت ُقدُ َ‬
‫يشير الناظم إلى ما وصفه الله في كتابه من قوله تعالى في وصف الحالة ‪( :‬ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ) [األحزاب‪ .]9:‬قال‬
‫المفسرون ‪ :‬كانت الجنود التي أرسل الله عليهم هي الريح المالئكة ‪ ،‬قال ‪ :‬ولم تقاتل‬
‫المالئكة يومئذ‪ .‬وقول الناظم‪ :‬البرما جمع َبرمه وهو اسم لبعض األواني‪.‬‬

‫�و ُم فِئ ْ‬
‫َات‬ ‫�ال َط� َه َذ َه َ‬
‫�ب ال َق ْ‬ ‫َو َق َ‬ ‫َوارت ََح َل ال َق ْوم َع َلى َح ٍ‬
‫ال َشت ْ‬
‫َات‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫�و ِم َو َّلى َأ ْم ُر ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�م َولاَ غَ�ز َْو َل ُه ْم‬
‫�ن َب ْعد َه َذا ال َي ْ‬
‫م ْ‬ ‫�ن َن ْغز ُ‬
‫ُوه ْ‬ ‫َون َْح ُ‬
‫يشير الناظم إلى ارتحال األحزاب من قريش والقبائل واليهود كل إلى بلده وهم في غاية‬
‫االختالف والشتات والجهد ‪ ،‬وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم ‪( :‬لن‬
‫تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزوهم)‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪136‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة بني قريظة‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ي ِعنْدَ َم�ا‬ ‫�اء ِج ْب ِر ُ‬
‫َق�دْ َع�ا َد م ْ‬
‫�ن َغز َْوت�ه ُم ْبتَس َ‬
‫�ما‬ ‫ي�ل النَّبِ َّ‬ ‫َو َج َ‬
‫اب ِ‬‫يق ن َْح َو َأ ْر َب ِ‬
‫َع َلى ال َّط ِر ِ‬
‫الح َي ْل‬ ‫�م نَ�ز َْل‬ ‫�ال إِنَّ�ا بِ ِّ‬
‫السَل�اَ حِ َل ْ‬ ‫َو َق َ‬

‫ِم ْن َب ْع ِد َما قد َن َق ُضوا ك َُّل ال ُع َرى‬ ‫إل�ى بن�ي ُق َر ْي َظ� َة األَ ْم ُ�ر َج َ�رى‬
‫يشير الناظم إلى ما أشارت إليه كتب الحديث والسير ‪ ،‬ومنه حديث عائشة رضي الله عنها‬
‫قالت‪ :‬ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فوضع السالح فجاءه جبريل‬
‫وضعت السالح ؟ والله ما وضعت‬
‫َ‬ ‫عليه السالم وأتى على ثناياه لنقع الغبار ‪ ##‬فقال ‪ :‬أوقد‬
‫المالئكة بعد السالح‪ ..‬اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫�ع‬‫�ن َج َم ْ‬ ‫إل�ى بن�ي ُق َر ْي َظ�ة َو َم ْ‬ ‫�ع‬
‫�ن َر َج ْ‬ ‫اس� َتنْ َف َر النَّبِ ُّ‬
‫�ي ك َُّل َم ْ‬ ‫َف ْ‬
‫وه ْم ف�ي ُذ َرى َأ ْب َوابِ ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َو َق َال َص ُّلوا ال َع ْص َر في َأ ْطنَابِ ِه ْم‬
‫َو َحاص ُر ُ‬
‫يشير الناظم إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج إلى بني قريظة وقال‬
‫عبارته المشهورة ‪( :‬أال ال ُي َص ِّل َي َّن أحدٌ العصر إال في بني قريظة)‪ ،‬وبعث مناديا ينادي‪( :‬يا‬
‫خيل ِ‬
‫الله اركبي)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمس ًا وعشرين ليلة ‪ ،‬وقيل غير ذلك ‪ ،‬حتى جهدهم‬
‫الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫�ذي َي ْحك ُُم� ُه َنبِ ُّينَ�ا‬ ‫ع َل�ى ا َّل ِ‬ ‫�د جه ٍ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫�د َو َعنَ�ا‬ ‫َو َن َز ُل�وا م ْ‬
‫�ن َب ْع َ ْ‬
‫�ل َحلِي ًف�ا َو َم َع�ا ْذ‬ ‫�ن َق ْب ُ‬ ‫وك َ ِ‬
‫َان م ْ‬ ‫َ‬ ‫�ن ُم َع�ا ْذ‬ ‫َّ�م النَّبِ ُّ‬
‫�ي َس� ْعدَ ْب َ‬ ‫َف َحك َ‬
‫�اء َواألَ ْط َف ِ‬
‫�ال‬ ‫والس�بي لِلنِّس ِ‬ ‫ْ�ل َع َل�ى الر َج ِ‬
‫�ال‬ ‫َف َأنْ�ز ََل ال َقت َ‬
‫َ‬ ‫َ َّ ْ َ‬ ‫ِّ‬
‫�اري‬ ‫ي�ن َأ ْس� َل ُموا لِ ْل َب ِ‬ ‫ِ‬
‫إِلاَّ ا َّلذ َ‬ ‫�و ِ‬
‫ال َوال َع َق ِ‬
‫�ار‬ ‫�م َة األَ ْم َ‬
‫ِ‬
‫َوق ْس َ‬
‫يشير الناظم إلى ما حكم به سعد بن معاذ على اليهود من بني قريظة فقال له رسول الله‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪137‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫صلى الله عليه وسلم ‪( :‬أصبت حكم الله فيهم) ‪ ،‬وأمر صلى الله عليه وسلم بحفر الخنادق‬
‫لقتل من لم يسلم منهم فقتلوا جميع ًا إال بعض من آمن وأسلم ‪ ،‬فأجالهم رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم مع إخوانهم من بني قينقاع ويهود بني حارثة وكل يهود المدينة وقال لهم ‪:‬‬
‫(انطلقوا إلى أرض المحشر فأنا في آثاركم) ‪ ،‬يعني أرض الشام فسيرهم إليها‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪138‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫أمر الحديبية وخروج النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة‬
‫�ار ف�ي األَ ْع َر ِ‬
‫اب‬ ‫�ن األَ ْخ َب َ‬
‫َو َأ ْع َل َ‬ ‫�اب‬‫�ي لِلأْ َ ْص َح ِ‬ ‫ا ْس� َتنْ َف َر النَّبِ ُّ‬
‫ِ‬

‫َيدْ ُعو َل َها َم ْن َش َ‬


‫�اء َف ْي َض َّ‬
‫الر ِّب‬ ‫ب‬ ‫�ه ال لِ ْل َح ْ�ر ِ‬
‫ع�ن عم�ر ٍة لِ ّل ِ‬
‫َ ْ ُ ْ َ‬
‫ي�ل ف�ي َش�و َال ف�ي ِرواي ِ‬ ‫َو ِق َ‬ ‫�ي ف�ي ِذي ال َِق ْعدَ ِة‬
‫�ة‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫إِ ْذ َخ َ�ر َج النَّبِ ُّ‬
‫ومن الغزوات الهامة التي أطلق عليها مسمى الغزوة خروج النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫للعمرة غير معلن حربا وال قتاالً ‪ ،‬وإنما حصلت فيها مجريات القضاء والقدر والحكمة‬
‫ال هام ًا في تاريخ التحوالت ‪ ،‬وخاصة أنها جاءت بعد هزيمة قريش‬
‫اإللهية مما جعلها مفص ً‬
‫في غزوة األحزاب وعودتهم إلى مكة خائبين وظهور الضعف والشتات على حلفائهم من‬
‫اليهود واألعراب ‪ ،‬وفيها تحقيق لنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيد غزوة‬
‫األحزاب وعودة المشركين إلى مكة يوم قال ‪( :‬لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم‬
‫تغزوهم) إال أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرغب في إظهار الخروج بمظهر الحرب‬
‫واالنتقام بل جعلها خالصة لله تعالى وعمرة له ولمن معه من المسلمين ‪.‬‬
‫وفيها قال الصديق رضي الله عنه لما بلغه خروج المشركين وإعدادهم للصد عن العمرة (يا‬
‫رسول الله خرجت عامد ًا لهذا البيت ال تريد قتل أحد وال حرب أحد فتوجه له ‪ ،‬فمن صدنا‬
‫عنه قاتلناه فقال صلى الله عليه وسلم ‪ #‬عند خروج األعراب فأبطأوا عليه ‪ ،‬واستنفر أصحابه‬
‫من المهاجرين واألنصار فل ّبوا وتهيئوا معه للخروج فخرجوا ‪ ،‬ولما رآهم صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم قال (أنتم خير أهل األرض) (‪ )41 :3‬الجامع للسيره‬

‫�ت َج ْم ًعا َع َلى ُّ‬


‫الس ُ�روجِ‬ ‫َف َج َم َع ْ‬ ‫�ش بِالخُ ُ�روجِ‬ ‫َو َعلِ َم ْ‬
‫�ت ُق َر ْي ُ‬

‫ُ�ن َق�دْ َأ ْح َر َم�ا‬ ‫ِ ِ‬


‫ُو ُصول�ه َوإِ ْن َيك ْ‬ ‫َو َق َّ�ر ُروا َص�دَّ النَّبِ ِّ‬
‫�ي ُدون ََم�ا‬
‫ص اَل َة َخو ٍ‬
‫ف في ال َّط ِر ِ‬
‫يق َش ْ�ر َعا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َو َي ْو َم َه�ا َص َّل�ى النَّبِ ُّ‬
‫�ي َج ْم َع�ا‬
‫يشير الناظم إلى ما أعدته قريش من العدة بعد علمهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪139‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫في المدينة قاصدا العمرة‪ ،‬وبلغه الخبر بخروج خالد بن الوليد في طليعة جيش على طريقهم‬
‫‪ ،‬وقال له بشر بن سفيان الكعبي ‪ :‬يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم‬
‫العوذ المطافيل ‪ ،‬أي‪ :‬اإلبل مع أوالدها ‪ .‬والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأطفالهم قد لبسوا‬
‫جلود النمور ‪ ،‬وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله ال تدخلها عليهم أبدا‪..‬الخ‬
‫فقال صلى الله عليه وسلم ‪( :‬يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني‬
‫وبين سائر العرب ‪ ،‬فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا‬
‫في اإلسالم وافرين ‪ ،‬وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم ‪ ##‬فما تظن قريش فوالله ال أزال أجاهد‬
‫على الذي يعينني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة) ‪ ،‬والسالفه جانب العنق وكنى‬
‫بذلك عن القتل ‪ ،‬أي‪ :‬حتى أموت أو أبقى منفردا‪.‬‬
‫وفي عسفان استقبلهم خالد بن الوليد ومعه المشركون فكانوا بين النبي وبين القبلة ‪ ،‬فصلى‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صالة الظهر أو العصر ‪ ،‬وعلى رواية صالة الخوف‬
‫وألول مرة ‪ ،‬مما أربك المشركين ‪ ،‬وقد كانوا يعدون العدة للهجوم على المسلمين وقت‬
‫صالتهم‪.‬‬
‫وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طريق ًا مختصرة إلى الحديبية وفوجئ أصحاب خالد‬
‫بذلك ورجعوا إلى قريش يحذرونهم وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ‪ ،‬وجاء‬
‫في رواية الدالئل أنه صلى الله عليه وسلم قال‪( :‬هل من رجل يعدل بنا عن الطريق ‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫أنا بأبي وأمي ‪ ،‬فأخذ بهم في طريق بحور نافذ قد ‪#‬وعقاب ‪#‬فاستوت بنا األرض حتى أنزله‬
‫على الحديبية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�اء َقلِ ٍ‬
‫م ٍ‬ ‫ونَ�ز ََل النَّبِ�ي ف�ي ال�و ِ‬
‫المل‬‫�م َي َكدْ َيكْ�ف َ‬ ‫يل َل ْ‬ ‫َ‬ ‫ادي َع َلى‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫بِو ْض ِع ِه ف�ي الم ِ‬ ‫�ه ًما َو َأ َم ْ�ر‬
‫اء َفا ْز َدا َد َو َس ْ�ر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َفا ْنتَ�ز ََع النَّبِ ُّ‬
‫�ي َس ْ‬
‫�ه َف َف�ار ِم�ن ِس�ر بِ ِ‬ ‫م�اء ‪ #‬بِ ِ‬ ‫ي�ل مج�ه النَّبِ�ي ِم�ن َف ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫�ه‬ ‫َ ْ ٍّ‬ ‫َ ً‬ ‫�ه‬ ‫ْ ْ‬ ‫َوق َ َ َّ ُ‬
‫يشير الناظم إلى نزوله صلى الله عليه وسلم بماء الحديبية ‪ ،‬وكان قلي ً‬
‫ال ال يفي بالحاجة‬
‫فشكى الناس إليه ق ّلة الماء ‪ ،‬فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته وأمرهم بغرزها‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪140‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫في الماء فازداد ‪ ،‬والروايات كثيرة ومتنوعة‪.‬‬

‫�م َي ْأ َب ْونَ� ُه‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫�ن َمكَّ�ة َو َأن َُّه ْ‬ ‫م ْ‬ ‫الو ُف�و ُد َي ْمنَ ُعونَ� ُه‬ ‫ُ‬ ‫�اء ُه‬
‫َو َج َ‬
‫َ�ال‬‫�ت َمن ْ‬ ‫َوإِن ََّم�ا لِ ُع ْم َ�ر ٍة َطا َب ْ‬ ‫ب َأ ْو ِقت َْال‬ ‫�ال َما ِج ْئنَ�ا لِ َح ْ�ر ٍ‬
‫َف َق َ‬

‫الش ْ�ر َك ال َعنِيدْ‬‫�او ُض ِّ‬ ‫لِمك ٍ‬


‫َّ�ة ُي َف ِ‬ ‫َ‬ ‫الش ِ‬
‫�هيدْ‬ ‫�ث النَّبِ ُّ‬
‫�ي ُع ْث َم َ‬
‫�ان َّ‬ ‫َف َب َع َ‬

‫الح َر ْم‬
‫�ط َ‬ ‫�اع َق ْت ُل ُه َو ْس َ‬
‫َي ُع�دْ َو َش َ‬ ‫�ان َو َل ْم‬
‫�ار ُع ْث َم َ‬
‫�س ال ُك َّف ُ‬
‫اح َت َب َ‬
‫َو ْ‬
‫َاج�زًا لِ ْل َك َف َ�ر ْة‬ ‫َأ ْص َحا َب� ُه ُمن ِ‬ ‫�ج َر ْة‬ ‫�ت َّ‬
‫الش َ‬ ‫�ع النَّبِ ُّ‬
‫�ي ت َْح َ‬ ‫َف َج َم َ‬
‫يشير الناظم إلى تردد الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة قريش وكلهم‬
‫يمنعونه ومن معه دخول مكة ‪ ،‬وينذرونهم الحرب والقتال إن فعلوا ‪ ،‬ولم يقبلوا دخول أحد‬
‫للعمرة وال لغيرها‪ ،‬فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان بن عفان مفاوض ًا للدخول‬
‫معتمرين‪ ،‬وطال مكث عثمان بمكة حتى أشيع أنه قد قتل بها‪ ،‬فجمع النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم بعض الصحابة وبايعهم على مناجزة القوم وأن ال يفر منهم أحد ‪ ،‬وسميت ببيعة‬
‫الرضوان ‪ ،‬وفيها وضع النبي يده اليمنى على اليسرى وقال‪ :‬هذه لعثمان ‪ ،‬أي‪ :‬مبايعته على‬
‫ما بويع عليه ‪ ،‬فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خير ًا من أيديهم ألنفسهم‪.‬‬

‫ُ�م ِخ َي ُار َأ ْه ِل األَ ْر ِ‬


‫ض ُعن ُْص َرا‬ ‫َأ ْنت ْ‬ ‫�ي ُمخْ بِ َ�را‬
‫�ال النَّبِ ُّ‬
‫�م َق َ‬ ‫َوفِ ِ‬
‫يه ُ‬
‫يشير الناظم إلى ما ورد في السيرة بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‪ :‬قال لنا‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‪( :‬أنتم خير أهل األرض) وكنا ألفا وأربعمئة‪.‬‬
‫ع�ا ٍم يلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ي�ه َغ ْي ِر َه َ‬
‫�ذا ال َع�ا ِم ‪ #‬ال‬ ‫َ َ‬ ‫لص ْل�حِ َع َل�ى‬ ‫َوآ َل�ت األُ ُم ُ‬
‫�ور ل ُّ‬
‫�ه َل َّم�ا ُطلِ َب�ا‬
‫مح�و ًا لإِ ِ س� ِم ال ّل ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫�ي َو َأب�ى‬ ‫ِ‬
‫َ�ب ال َع ْق�دَ َعل ٌّ‬
‫َو َكت َ‬
‫َان َط� َه َخ ْي َ�ر َم�احٍ َقائِ� ِم‬
‫َف�ك َ‬ ‫َو ِم ْث ُل� ُه اس�م لِلرس ِ‬
‫�ول الخَ اتَ� ِم‬ ‫ْ ٌ َّ ُ‬
‫يشير الناظم إلى ثمرة الوفود واللقاءات الطويلة حول األمر ‪ ،‬وهي مبثوثة في كتب السيرة ‪،‬‬
‫وقد أشارت نهاية األمر إلى كتابة عقد الصلح على شروطه ‪ ،‬وأبى اإلمام علي رضي الله عنه‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪141‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ما طلبه سهيل بن عمرو من محو (بسم الله) وكتابة (باسمك اللهم)‪ ،‬ومحو (محمد رسول‬
‫الله) ولكن (محمد بن عبد الله) فقال علي‪ :‬والله ال أمحوه أبدا ‪ ،‬فقال له صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ :‬فأرنيه ‪ ،‬قال‪ :‬فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده‪.‬‬

‫ارب ًا َي ْس� َت ْعطِ ُ‬


‫ف‬ ‫�ه ْي ٍل َه ِ‬ ‫ن َْج ُ‬
‫�ل ُس َ‬ ‫�اء ف�ي ال َق ْي ِد إِ َل ْي ِه ُم َي ْر ُس ُ‬
‫�ف‬ ‫َو َج َ‬
‫�ث َأتَ�ى‬ ‫ُم َطالِب� ًا َع ْو َدتَ�ه َح ْي ُ‬ ‫ي�ع َوالِ�دُ ال َفتَ�ى‬ ‫ِ‬ ‫َف َأ ْو َق َ‬
‫�ف الت َّْوق َ‬
‫الم َطا َب َق� ْة‬ ‫ِ‬ ‫لأِ َ ْج ِ‬ ‫ِ‬
‫�ث ال َع ْق�د َو ُ‬‫�ل َب ِّ‬ ‫الم َوا َف َق� ْة‬
‫�ن ُ‬ ‫َف�ك َ‬
‫َان َم�ا كَان م َ‬
‫يشير الناظم إلى وصول أبي جندل بن سهيل بن عمر يرسف في الحديد هارب ًا من مكة إلى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولما رآه والده قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتالبيبه يرده‬
‫إلى قريش ‪ ،‬وجعل أبوجندل يصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا معشر المسلمين‪َ ..‬أ ُأ َر ُّد إلى المشركين‬
‫يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وسلم‪ ( :‬يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل‬
‫لك ومن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ‪ ،‬إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم‬
‫على ذلك وأعطونا عهد الله ‪ ،‬وإنا ال نغدر بهم) ‪ ،‬فرد أباجندل إلى المشركين ‪ ،‬ولم يأت أحد‬
‫في هذه المدة إال ر ّد إليهم وإن كان مسلما‪.‬‬

‫َوا ْن َز َع ُج�وا َونَا َز ُع�وا َولاَ ُم�وا‬ ‫الص َحا َب� ُة الكِ َ�را ُم‬
‫َّ‬ ‫َو َح�ز ََن‬

‫�ال لِ َط� َه ُم ْعلِنَ�ا‬


‫�ال َم�ا َق�دْ َق َ‬
‫َو َق َ‬ ‫َو ْاش�تَدَّ بِال َف ُار ِ‬
‫وق َم�ا َقدْ َح َصل‬
‫يشير الناظم إلى ما حصل بعد الصلح من الحزن واأللم في صدور الصحابة حتى قال عمر‬
‫ألبي بكر‪َ :‬أ َو َل ْسنا بالمسلمين؟ لِ َم نُعطي الدني َة في ديننا؟ فقال أبوبكر‪َ :‬أ ْم ِس ْك َغ ْر َز ُه ‪ ،‬أي‪ :‬اتبع‬
‫قوله وفعله وال تخالفه فإني أشهد أنه رسول الله‪ ،‬وذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم يقول له ما قال ألبي بكر ‪ ،‬فقال له صلى الله عليه وسلم ‪( :‬أنا عبد الله ورسوله لن‬
‫أخالف أمره ولن يضيعني) ‪ ،‬قال فكان عمر يقول فيما بعد ‪( :‬ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي‬
‫وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كالمي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرا)‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪142‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫موقف الصحابة ودور أم سلمة الواعي‬
‫إل ْح َ�را ِم َفالأْ َ ْم ُ�ر َص�دَ ْر‬ ‫�ل ا ِ‬‫ت ََح ُّل َ‬ ‫�ب النَّبِ�ي ك َُّل َم ْ‬
‫�ن َح َض ْ�ر‬ ‫َو َطا َل َ‬
‫�م ُمنْ َف ِعَلَ‬ ‫َف َق�ا َم ٰط� َه َعن ُْه ُ‬ ‫َف ْار َت َبكُ�وا َو ْاس� َت ْع َظ ُموا الت ََّح ُّلل‬

‫ث َوثِ ْق‬ ‫�أ ِن َأ ْم ِر ال ّل ِه ِم ْن َح ْي ُ‬


‫في َش ْ‬ ‫�ق‬ ‫َو َأ ْخ َب َرتْ� ُه ز َْو ُج� ُه َأ ْن َينْ َطلِ ْ‬
‫�م َأ َح�دً ا َو َم�ا ا ْن َت َظ ْ�ر‬ ‫ِ‬
‫�م ُي َك ِّل ْ‬
‫َو َل ْ‬ ‫�م ن ََح ْ�ر‬ ‫ال�ر ْأ َس َوم ْ‬
‫�ن َث َّ‬ ‫�ق َّ‬ ‫َف َح َل َ‬
‫َح ِزينَ� ْة‬ ‫بِ َأ ْن ُف ٍ‬
‫�س‬ ‫َفا ْن َط َل ُق�وا‬ ‫الم ِدينَ� ْة‬
‫�ى َ‬ ‫�و َد إِ َل ٰ‬ ‫َو َأ ْع َل َ‬
‫�ن ال َع ْ‬
‫يشير الناظم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم ألصحابه بعد توقيع عقد الصلح‪(:‬قوموا‬
‫فانحروا ثم احلقوا) ‪،‬قال‪ :‬فوالله ما قام منهم رجل ‪ ،‬حتى قال ذلك ثالث مرات ‪ ،‬فلما لم يقم‬
‫منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ‪ ،‬فقالت أم سلمة‪ :‬يا نبي الله اخرج‬
‫وال تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ‪ ،‬فخرج النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم ولم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ‪ ،‬فلما رأوا منه ذلك قاموا فنحروا وجعل‬
‫بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعض ًا غم ًا‪.‬‬

‫الم ْر ِو َي ْة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحدَ ْيبِ َي� ْة‬


‫اآلثار َ‬ ‫ع ْش ِر َ‬
‫ين َي ْوم ًا في‬ ‫َ�ث النَّبِ ُّ‬
‫�ي ف�ي ُ‬ ‫َو َمك َ‬

‫ت ِس ًّ�را َوثِ ْيق‬


‫�ور َة َفتْ�حٍ َح َم َل ْ‬
‫ُس َ‬
‫و َأنْ�ز ََل ال ّل�ه ع َلي ِ‬
‫�ه ف�ي ال َّط ِر ْيق‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫�ور َة في َأ ْم ِ‬
‫�ر ال َقدَ ْر‬ ‫الس َ‬
‫�م َع ُّ‬
‫ل َي ْس َ‬ ‫َف َأ َم َ�ر النَّبِ ُّ‬
‫�ي َأ ْن ُيدْ َع�ى ُع َم ْ�ر‬
‫�ال َط�ه َله ِ‬
‫يم�ا ن ََم�ا‬‫�م ف َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َق�دْ َق َ‬ ‫�ذا َأ ْع َظ َ‬
‫�م ال َفتْ�حِ ك ََما‬ ‫َان َه َ‬
‫َف�ك َ‬
‫يشير الناظم إلى مكث النبي في الحديبية عشرين يوم ًا ثم عاد إلى المدينة ‪ ،‬وكان الجميع في‬
‫حال إحباط وغم وهم حتى إن كال منهم يسير في وجهة لوحده ‪ ،‬فنزلت عليه صلى الله عليه‬
‫إلي من‬
‫وسلم سورة الفتح وقال فيها صلى الله عليه وسلم ‪( :‬لقد أنزلت علي آية هي أحب ّ‬
‫الدنيا جميع ًا) ‪ ،‬فقال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬ما هذا بفتح لقد‬
‫وصد هدينا‪ ،‬فبلغ صلى الله عليه وسلم ما قيل فخطب فيهم ‪( :‬بئس الكالم‬
‫ُصددنا عن البيت ُ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪143‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫هذا أعظم الفتح‪..‬إلخ) ‪ .‬وروى بسنده عن البراء رضي الله عنه قال‪ :‬تعدون أنتم الفتح فتح‬
‫مكة‪ ،‬وقد كان فتح مكة فتح ًا‪ ،‬ونحن نعد الفتح ببيعة الرضوان يوم الحديبية‪.‬‬
‫ي�ر لاَ ِج�ئ الم ِدين ِ‬
‫َأ ُبو َب ِص ٍ‬ ‫�و َد ِة‬ ‫وج ِ‬
‫َ�ة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫�ن َمكَّ� َة َب ْع�دَ ال َع ْ‬
‫�اء م ْ‬
‫َ َ َ‬
‫الص ْلحِ َأ ْو َفى َو ْعدَ ُه‬
‫اق ُّ‬ ‫ب ا ِّت َف ِ‬
‫َح ْس َ‬ ‫�ن َي ُ�ر َّد ُه‬
‫�ار َم ْ‬ ‫�ث ال ُك َّف ُ‬‫َف َب َع َ‬

‫�ن َق�دْ َأ ْم َكنَ�ا‬ ‫ْ�ل َم ْ‬ ‫َأ ُبو َب ِص ٍ‬


‫ي�ر َقت َ‬ ‫ي�ق َعائِ�دً ا ت ََم َّكنَ�ا‬
‫َوف�ي ال َّط ِر ِ‬

‫يشير الناظم إلى أول اختبار تعرض له المسلمون بعد العودة من الحديبية حيث وصل‬
‫أبوبصير إلى المدينة مستجير ًا والجئ ًا بعد أن كان محبوسا بمكة ‪ ،‬فبعث المشركون بكتاب‬
‫إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فأمر الرسول أبا بصير أن يرجع إليهم وقال له‪( :‬يا أبا‬
‫بصير إنا قد أعطينا هؤالء القوم ما قد علمت وال يحل لنا في ديننا الغدر ‪ ،‬وإن الله جاعل لك‬
‫ولمن معك من المستضعفين فرج ًا ومخرجا فانطلق إلى قومك‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول الله أتردني‬
‫إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ قال‪ :‬يا أبابصير انطلق فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل لك‬
‫ولمن معك فرجا ومخرجا‪ ،‬فانطلق أبو بصير مع الرسل من أهل مكة ‪ ،‬وفي الطريق احتال‬
‫على الرجلين واستل سيف أحدهما وقتله ‪ ،‬وهرب الثاني إلى المدينة مخبرا رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم بما فعل أبو بصير‪ ،‬واتجه أبوبصير إلى ناحية العيص من ناحية ذي المرون ‪#‬‬
‫على ساحل البحر بطريق قريش إلى الشام‪.‬‬

‫ي�ن َو َم َق ْ�ر‬ ‫َو َم ْج َم ًع�ا لِ ْل َه ِ‬


‫اربِ َ‬ ‫�أ َوى َو َظ َف ْ�ر‬ ‫ي�ق َم ْ‬ ‫�ذ ال َّط ِر َ‬
‫َواتَّخَ َ‬
‫�ن م ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الع َير ِم ْن َغ ْي ِر ُق َر ْ‬
‫�ون ِ‬ ‫َي ْعت َِر ُض َ‬
‫يش‬ ‫ال َو َع ْ‬ ‫َو َي ْس� ُل ُبوا َما َل َّذ م ْ َ‬ ‫يش‬

‫�و ِار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِ ْب َط َ‬ ‫�ار لِ ْل ُمخْ ت ِ‬


‫المنْ� ِع لل ُّث َّ‬
‫�ال َش ْ�رط َ‬ ‫َ�ار‬ ‫َ�ب ال ُك َّف ُ‬ ‫َف َكت َ‬
‫يشير الناظم إلى ما فعله أبو بصير من تحويل موقعه المشار إلى نقطة تجمع لكافة الهاربين‬
‫من المستضعفين بمكة ‪ ،‬ومنهم أبوجندل صاحب الحديبية ‪ ،‬فقد أفلت من مكة ولحق بأبي‬
‫بصير وكان معه‪ ،‬حتى قلقت قريش من كثرة قطعهم للطريق ونهب قوافلهم ‪ ،‬فكتبوا إلى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ًا يبطلون فيه شرطهم في منع ورد من التحق بالمسلمين‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪144‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ومن أتاهم هارب ًا فهو آمن‪ ،‬فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير كتاب ًا يأمرهم أن‬
‫يقدموا عليه ويأمر من اتبعهم من المسلمين أن يعودوا إلى بالدهم وأال يعترضوا أحد ًا مر بهم‬
‫من قريش ‪ ،‬وقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بصير محتضر للموت ومات‬
‫وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه ‪ ،‬فدفنه أبوجندل وجعل عند قبره‬
‫مسجد ًا ‪ ،‬وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أناس من أصحابه ‪ ،‬و َأ ِمنَت ٌ‬
‫قريش‬
‫على نميرها ‪ ،‬وبقي أبو جندل بالمدينة وشهد المشاهد وشهد عام الفتح ولم يزل بالمدينة‬
‫حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫ات‬ ‫�ن ِعنْ�دَ ُه ُم َه ِ‬


‫اج َ�ر ْ‬ ‫ِ‬
‫�ن َقد ْم َ‬
‫ِ‬
‫م َّم ْ‬ ‫الم ْؤ ِمن ْ‬
‫َ�ات‬ ‫�ق ُ‬‫اآلي بِ َح ِّ‬
‫ُ‬ ‫َونَ�ز ََل‬
‫يشير الناظم إلى ما نزل من آيات الله بشأن المؤمنات المهاجرات ومنع إعادتهن إلى‬
‫المشركين ‪ ،‬حتى في فترة منع المشركين الرجال من اللحاق بالمسلمين ‪ ،‬فقد أمسك رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم النساء ورد الرجال باديء األمر‪ ،‬وكان صلى الله عليه وسلم‬
‫يبايعهن على ما جاء في كتاب الله ‪.‬‬
‫قالت عائشة رضي الله عنها ‪ :‬فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله علسه‬
‫وسلم‪ :‬قد بايعتك ‪ ،‬كالما يكلمها به ‪ ،‬والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ‪ ،‬وما بايعهن‬
‫إال بقوله‪.‬اهـ صحيح البخاري (ج‪ )162/5‬كتاب المغازي‪.‬‬
‫الم َه ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ة لِكَافِ َ�ر ْة‬
‫و ِم ْث ُل�ه ف�ي ِعصم ٍ‬
‫اج َ�ر ْة‬ ‫ك ََم�ا َأتَ�ى ف�ي آ َي�ة ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫يشير الناظم إلى قوله تعالى في اآلية‪ ( :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الممتحنة‪ ]10:‬وهو أمر بتطليق‬
‫النسوة الالتي لم يدخلن اإلسالم ‪ ،‬وكان ممن طلق امرأته بعد هذه اآلية عمر بن الخطاب‬
‫رضي الله عنه طلق قريبة ‪ #‬بنت أمية بن المغيرة ‪ ،‬فتزوجها من بعده معاوية بن أبي سفيان‬
‫وهما على شركهما بمكة ‪ ،‬وأم كلثوم بنت أم عبيد الله بن عمر الخزاعية تزوجها من بعده‬
‫أبوجهم بن حذيفة بن غانم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪145‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بعث النبي بالرسائل إلى الملوك واتخاذه الخاتم‬
‫بِدَ عو ِة الدِّ ِ ِ‬ ‫�ي إِ ْر َس َ‬
‫ين ا َّلتي ت َْح ِوي ُ‬
‫الم ُث ْل‬ ‫َْ‬ ‫الر ُس ْ‬
‫�ل‬ ‫�ال ُّ‬ ‫َو َع� َز َم النَّبِ ُّ‬
‫ال َب ِدي� ِع‬ ‫�م ِه‬
‫بِإِس ِ‬
‫ْ‬ ‫َو َن ْق ُش� ُه‬ ‫َ�م لِلت َّْو ِقي� ِع‬ ‫َواتَّخَ َ‬
‫�ذ الخَ ات َ‬
‫يشير الناظم إلى عزم النبي صلى الله عليه وسلم إرسال الرسل إلى الملوك والوجهاء‬
‫يدعوهم إلى دين اإلسالم ويقيم عليهم حجة اإلبالغ ‪ ،‬واتخذ الخاتم لما له لدى أولئك‬
‫من أهمية في قبول الرسائل ومعرفة أربابها ‪ ،‬وجعل نقشه محمد رسول الله ‪ ،‬وقد أفاضت‬
‫كتب السيرة عن الملوك الذي أرسلت لهم الرسائل ومواقفهم وما ترتب على ذلك من أمور‬
‫هامة خاصة وعامة‪ ،‬لم نتطرق إليها هنا طلب ًا لالختصار ورغبة في تحديد مفهوم التحوالت‬
‫األساسية في التاريخ ‪ ،‬ويمكن مراجعة التفصيالت في مظانها من كتب األحاديث والسير‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪146‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة خيبر وآثارها التاريخية‬
‫�ود من ِ‬
‫ِرس�ا َل ًة إل�ى اليه ِ‬ ‫َو َأ ْر َس َ‬
‫ْ�ذ َرا‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫�و َخ ْي َب َ�را‬ ‫�ل النَّبِ ُّ‬
‫�ي ن َْح َ‬
‫َو ُي ْش ِ‬
‫�ه ُروا إِ ْسَل�اَ َم ُه ْم َو َي ْذك ُُرو ْه‬ ‫�م لِ ْل َح ِّق َحتَّ�ى َين ُْص ُرو ْه‬
‫وه ُ‬‫َيدْ ُع ُ‬
‫إلرج َ ِ‬
‫يم ْن َحا َل ُفوا‬ ‫اف ف َ‬ ‫َو َأ ْك َث ُروا ا ِ ْ َ‬ ‫�ل َطغ ْ‬
‫َ�وا َو َخا َل ُفوا‬ ‫�م َي ُر ُّدوا َب ْ‬
‫َف َل ْ‬
‫ي�ق َع َب�را‬ ‫�م َوفِ�ي ال َّط ِر ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه ُ‬ ‫َف َج َّه� َز النَّبِ ُّ‬
‫�ي َج ْي ًش�ا َوا ْن َب َ�رى‬

‫ي�ق ف�ي َأ َم َ‬
‫�ان‬ ‫ك ال َّط ِر َ‬ ‫لِ َي ْس� ُل َ‬ ‫الر ِجي ِع ف�ي َبنِ�ي َغ ْط َف ِ‬
‫ان‬ ‫َع َل�ى َّ‬
‫يشير الناظم إلى غزوة خيبر الشهيرة وأهميتها من حيث تاريخها وموقعها الزمني‬
‫واالجتماعي واالقتصادي بين الغزوات‪ ،‬وكان صلى الله عليه وسلم قد أوعده الله في‬
‫الحديبية بفتحها ‪( .‬عبور األثر ج‪.)170/2‬‬
‫وكانت الغزوة في شهر جمادى األولى سنة سبع من الهجرة ‪ ،‬وهي ـ أي ‪ :‬خيبر ـ على بعد‬
‫ثمانية برد من المدينة‪.‬‬
‫وفي رواية‪ :‬انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت سورة الفتح فيما‬
‫بين مكة والمدينة ‪ ،‬فأعطاه الله عز وجل فيها خيبر ‪( ،‬ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ) [الفتح‪ ]20:‬هي خبير‪ ،‬فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل‬
‫خيبر رسالة هذا نصها (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫صاحب موسى وأخيه والمصدق لما جاء به موسى‪ ،‬أال أن الله قد قال لكم يا معشر أهل‬
‫التوارة وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬
‫[الفتح‪]29:‬‬ ‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) اآلية‬
‫‪ ،‬وإني أنشدكم بالله وأنشدكم بما أنزل عليكم وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من‬
‫أسباطكم المن والسلوى‪ ،‬وأنشدكم بالذي أيبس البحر آلبائكم حتى أنجاهم من فرعون‬
‫وعمله إال خبرتموني هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ‪ ،‬فإن كنتم ال‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪147‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫تجدون ذلك في كتابكم فال كره عليكم قد تب ّين الرشد من الغي فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه)‬
‫سنن البيهقي (‪.)180 :10‬‬
‫وبعدها قال صلى الله عليه وسلم ‪ :‬تجهزوا إلى هذه القرية الظالم أهلها ـ يعني خيبر ـ فإن‬
‫الله عز وجل فاتحها عليكم إن شاء الله ‪ ،‬وال يخرجن معي مصعب ـ أي‪ :‬من كان بعيره‬
‫مصعبا غير منقاد وال ذلول ـ وال مضعف ‪ ،‬أي‪ :‬من كانت دابته ضعيفة‪.‬‬
‫واستعمل النبي سباع بن عرفطة الغفاري على المدينة ‪ ،‬وقيل في رواية ابن هشام‪ :‬استعمل‬
‫نميلة بن عبدالله الليثي‪ .‬عيون األثر‪.‬‬
‫واستعان النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة أرسلهم إلى خيبر وأسهم لهم‬
‫سهمين مثل المسلمين‪ ،‬وفي طريقه صلى الله عليه وسلم نزل ٍ‬
‫بواد يقال له الرجيع بين خيبر‬
‫وغطفان ‪ ،‬فنزل بينهم ليحول بين إمدادهم ألهل خيبر ‪ ،‬وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله‬
‫(((‬
‫صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫�م ُم ْس َت ْب ِش ً�را ُم َه ِّلَلَ‬ ‫ِ‬


‫ُح ُصون ِه ْ‬
‫ِ‬
‫�ي َس�اع ًيا إِ َل ٰ‬
‫�ى‬ ‫َو َأ ْص َب َ‬
‫�ح النَّبِ ُّ‬
‫المن َْذ َرا‬ ‫�اح َة َق ْو ٍم َس َ‬
‫�اء ُص ْب ُح ُ‬ ‫َس َ‬ ‫الق�رى‬
‫ٰ‬ ‫�ال إِنَّ�ا إِ ْن َن َز ْلنَ�ا ف�ي‬
‫َو َق َ‬

‫الم ْش َه ِد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ل َر ُج ٍل في ا ْل ُح ِّ‬
‫ب َعالي َ‬ ‫َ�د‬‫�ال ُأعطِ�ي رايتِ�ي ي�وم غ ِ‬
‫َ َ َ َْ‬ ‫َو َق َ ْ‬
‫�ه َل َّم�ا ا ْبتُلِي‬
‫�ل عين ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َب ْع�د َت ْف ِ َ ْ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫�ي‬ ‫ِ ِ‬
‫الرا َي� َة ُص ْبح� ًا ل َعل ّ‬ ‫َف َأ ْس� َل َم َّ‬
‫�ر َق�دْ ُق ِ‬
‫�اب لأِ َ ْم ٍ‬ ‫َو َح َم َ‬ ‫�ون وه�و م ْقت ِ‬
‫�د ْر‬ ‫�ل ال َب َ‬ ‫َ�د ْر‬ ‫الح ُص َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ�ح ُ‬ ‫َف َفت َ‬
‫يشير الناظم إلى ما أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه عليه مع بزوغ الصباح بعد‬
‫أن صلى الفجر ودخل خيبر ‪ ،‬واستقبلهم عمالها غادين بمكاتلهم إلى مزارعهم وأعمالهم‬
‫‪ ،‬فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا ‪ :‬محمد والخميس ‪ ،‬وأدبروا‬
‫هرب ًا ‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪( :‬الله أكبر ‪ ،‬خربت خيبر ‪ ،‬إنا إذا نزلنا بساحة‬
‫قوم فساء صباح المنذرين) قالها ثالثا ‪ ،‬ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ‪،‬‬

‫(( ( قال اليبهقي هذا منقطع وإسناده ضعيف‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪148‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وكانت بيضاء ‪ ،‬وفيها قال صلى الله عليه وسلم ألصحابه ‪( :‬ألعطين الراية غد ًا رج ً‬
‫ال يحب‬
‫الله ورسوله يفتح الله على يديه ‪ ،‬ليس بفرار)‪.‬‬
‫وكان علي رضي الله عنه أرمد فتفل في عينيه ثم قال‪ :‬خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح‬
‫الله عليك ‪ ،‬وورد الخبر بروايات عديدة فيها بعض الزيادات ‪ ،‬وكان أول ما فتح من حصونهم‬
‫حصن ناعم‪ ،‬وخرج مرحب اليهودي مرتجزا قد حمل سالحه مقات ً‬
‫ال فخرج له محمد بن‬
‫مسلمة فقتله‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه جرحه فمر عليه علي بن أبي طالب فقتله ‪ ،‬وأعطى رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم سيفه لمحمد بن مسلمة ‪ ،‬وفي روايات أخرى أن عليا رضي الله عنه بارزه‬
‫وقتله واحتز رأسه وأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وفي أحد حصون يهود أخذ علي‬
‫بن أبي طالب باب ًا للحصن وتترس به بعد أن تلف ترسه ‪ ،‬فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح‬
‫الله عليه ‪ ،‬ثم ألقاه من يده حين فرغ ‪ ،‬قال الراوي‪ :‬فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم‬
‫نجهد على أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه‪ .‬أخرجه أحمد في مسنده (‪.)8 :6‬‬
‫ومن الحصون التي فتحت حصن الصعب بن معاذ ‪ ،‬وما بخيبر حصن كان أكثر طعام ًا منه ‪،‬‬
‫ونهى النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر عن أكل لحوم الحمر األهلية فكفئت من قدورها‬
‫وهي تفور بها ‪ ،‬وأذن لهم في لحوم الخيل ‪ .‬البخاري (‪.)172 :5‬‬
‫وفي رواية أنه حرم عليهم أربعا‪ :‬عن إتيان الحبالى من السبايا ‪ ،‬وعن أكل لحم الحمار‬
‫األهلي ‪ ،‬وعن أهل كل ذي ناب من السباع ‪ ،‬وعن بيع المغانم حتى تقسم‪.‬اهـ أخرجه الحاكم‬
‫في المستدرك (‪. )137 :2‬‬
‫وحاصر النبي صلى الله عليه وسلم قلعة الزبير ‪ ،‬وهي من أمنع حصونهم على رأس ق ّلة ‪،‬‬
‫فأقام على محاصرتها ثالثة أيام ‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنك لو أقمت شهر ًا ما بالوا بهم ‪ #‬ديول (جدول‬
‫ماء) تحت األرض يخرجون إليها بالليل يشربون ثم يرجعون إلى قلعتهم ‪ ،‬فسار رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم إلى مياههم فقطعها فخرجوا عليه يقاتلون أشد القتال ‪ ،‬وقتل من‬
‫المسلمين يومئذ نفر ومن اليهود عشرة ‪ ،‬وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فتح‬
‫أبي والنزار ‪.‬‬
‫حصن ّ‬
‫وبقي من حصونهم الوطيح والساللم والغموص البن أبي الحقيق ‪ ،‬وكان من آخر حصونهم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪149‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫افتتاحا ‪ ،‬وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشر ليلة ‪ ،‬ونصب النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم المنجنيق عليهم ‪ ،‬فلما أيقنوا الهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫الصلح‪.‬‬

‫َع َل ٰى الخُ ُ�روجِ ُك ِّل ِه ْم إِ َل ٰ‬


‫�ى ال َع َرا‬ ‫�ي َأ ْه َ‬
‫�ل َخ ْي َب َ�را‬ ‫�ح النَّبِ ُّ‬
‫َو َصا َل َ‬
‫وم ِ ِ‬ ‫َو َي ْأ ُخ ُ‬
‫�ؤ ِّدي َما َل ُه ْم‬
‫�م ُي َ‬
‫�ن َبق�ي من ُْه ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫�ت ِركَا ُب ُه ْ‬
‫�م‬ ‫�ذوا َم�ا َح َم َل ْ‬
‫�ذي َق�دْ َحك ََم�ا‬ ‫َفنَ َز ُل�وا ع َل�ى ا َّل ِ‬ ‫�ار ك َُّل َع�ا ٍم لاَ ِز َم�ا‬ ‫نِ ْص ُ‬
‫�ف ال ِّث َم ِ‬
‫َ ٰ‬
‫فصالحهم على أن يحقن دماءهم ولهم ما حملت ركابهم ‪ ،‬وللنبي صلى الله عليه وسلم‬
‫الصفراء والبيضاء والحلقة ‪ ،‬وهو السالح ‪ ،‬وأن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم ‪ ،‬ولمن بقي منهم‬
‫نصف الثمر كل عام على ما ألقررناكم ‪ ،‬فإذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ‪ ،‬فنزلوا على ذلك‪.‬‬

‫�اء‬
‫الم َس ْ‬‫ون َ‬ ‫َص ِف َّي ًة َو َأ ْس� َل َم ْ‬
‫ت ُد َ‬ ‫�اء‬
‫�ي م ْن َس� ْب ِي الن َِّس ْ‬
‫�ذ النَّبِ ِ‬
‫ُّ‬ ‫َو َأ َخ َ‬
‫يق َأعرس اله ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ذ َأ ْع َت َق َه�ا‬ ‫وكَان ِ‬
‫ادي بِ َها‬ ‫َوفي ال َّط ِر ِ ْ َ َ َ‬ ‫َ�ت الز َّْو َج� َة ُم ْ‬
‫يشير الناظم إلى ما كان من أمر صفية بن حيي بن أخطب ‪ ،‬وقد ذكر أن دحية الكلبي استأذن‬
‫رسول الله في سبِ َّي ٍة من السبايا فأذن له فاختار صفية بنت حيي ‪ ،‬وذكر للنبي صلى الله عليه‬
‫وسلم مكانها وفضلها وأنها ال تصلح إال له صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فدعا بدحية ‪ ،‬وبها فلما‬
‫نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ :‬خذ جارية من السبي غيرها ‪ ،‬وأعتقها النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وتزوجها ‪ ،‬وبنى بها في الطريق ‪ ،‬وقد ذكر إسالمها بادئ األمر ‪ ،‬حيث‬
‫ِ‬
‫اخترت‬ ‫ورد أنه لما دخلت صفية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها‪ :‬اختاري فإن‬
‫أمسكتك لنفسي ‪ ،‬وإن اخترتي اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اإلسالم‬
‫وصدقت بك قبل أن تدعوني ‪ ،‬حيث صرت إلى رحلك‬ ‫ُ‬ ‫يت اإلسالم‬‫يا رسول الله قد َه ِو ُ‬
‫ومالي في اليهودية أرب ومالي فيها والد وال أخ ‪ ،‬وخيرتني الكفر واإلسالم فالله ورسوله‬
‫إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي‪ ،‬فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه‪،‬‬ ‫أحب ّ‬
‫وفي الطريق كانت أم سليم بنت ملحان أم أنس قد أصلحت من شانها فبنى بها صلى الله عليه‬
‫وسلم في محلة بين خيبر والمدينة بثالث ليال وضرب عليها الحجاب‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪150‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ِ ِ‬
‫الج ْم َع َو َب ْش‬
‫�ى َ‬‫إِ َل ٰى ال َّنبِ ِّي َفا ْل َت َق ٰ‬ ‫ي�ن كَانُ�وا بِ َ‬
‫الح َب ْ‬
‫�ش‬ ‫َو َق�د َم ا َّلذ َ‬
‫وم�ا َأ َقام�ه َله ِ‬ ‫�ن َسَل�اَ ِم َأ ْص َح َم� ْة‬
‫�ن َتك ِْر َم� ْة‬
‫�م م ْ‬
‫َ ُ ُ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َو َأ ْب َلغُ�و ُه َع ْ‬
‫يشير الناظم إلى وصول أصحاب الحبشة وهم جعفر بن أبي طالب ومن معه ‪ ،‬خمسون‬
‫ال فيهم أبو موسى األشعري ‪ ،‬جاؤوا في سفينة من سفن البحر حتى بلغوا الوجده ‪، #‬‬ ‫رج ً‬
‫ولما دنوا من المدينة جعلوا يقولون ‪ :‬غد ًا نلقى األحبة محمد ًُا وصحبه ‪ ،‬أو محمدا وحزبه‪.‬‬
‫ولما وصلوا المدينة علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ‪ ،‬فتوجهوا إليه وفرح النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم بقدومهم ‪ ،‬وقال عند التزامه جعفر بن أبي طالب ‪( :‬والله ما أدري‬
‫بأيهما ُأ َس ّر ‪ ،‬بفتح خيبر أم بقدوم جعفر‪.‬‬
‫فلما نظر جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جحل ـ أي‪ :‬مشى على رجل واحدة‬
‫ـ فرح ًا منه برسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فقبل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه‬
‫وأعطاه من الغنيمة‪ .‬الحاكم في المستدرك (‪. )624 :2‬‬
‫م ْصلِي� ًة مس�موم َة الم ْأك ِ‬
‫ُ�ول‬ ‫َو ُأ ْه ِد َي ْ‬
‫�ت َش�ا ٌة إِ َل�ى الرس ِ‬
‫�ول‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ‬ ‫ٰ َّ ُ‬
‫وم ٌة َق�دْ َأ ْخ َب َ�ر ْت َع َّما بِ َها‬ ‫�ال إِن ََّه�ا‬
‫�م َق َ‬ ‫ِ‬
‫�م َ‬‫َم ْس ُ‬ ‫فََل�اَ َك من َْه�ا ُث َّ‬
‫ار ِ‬‫الح ِ‬ ‫ِ‬
‫ث ‪ ،‬وهي التي أهدت إلى‬ ‫َب بِن ُْت َ‬ ‫اس ُم َها َز ْين ُ‬ ‫يشير الناظم إلى قصة اليهودية ‪َ ،‬وق َيل ْ‬
‫السم في ذراعها لما علمت أن رسول‬ ‫ِ‬
‫وأكثرت‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة َمصل ّي ًة‬
‫َّ‬
‫الله صلى الله عليه وسلم يحب الذراع ‪ ،‬فالك منها مضغة فلم يسغها ‪ ،‬وكان معه بشر بن‬
‫البراء ابن معرور قد أخذ منها وأكل فمات منه ‪ ،‬وقال صلى الله عليه وسلم ‪( :‬إن هذا العظم‬
‫ليخبرني أنه مسموم) ‪ ،‬ثم دعا باليهودية فاعترفت ‪ ،‬وفي رواية دعا قومها من يهود فقالوا‪:‬‬
‫(أردنا إن كنت كاذب ًا نستريح وإن كنت نب ّيا لم يضرك)((( ‪ .‬وقد اختلفت الروايات فيما فعل‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهودية ففي قول‪ :‬إنه عفا عنها ‪ ،‬وفي قول ‪ :‬إنه أمر بها‬
‫فقتلت‪.‬اهـ(((‪.‬‬

‫(( ( اخلرب يف صحيح البخاري ج‪ 180/7‬كتاب الطب ومسند اإلمام أمحد ج‪.451/2‬‬
‫(( ( اجلامع يف السرية ج‪.252-251 /3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪151‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عمرة القضاء‬
‫المنْتَظِ َم� ْة‬ ‫ِ‬
‫الس�ابِ َعة ُ‬
‫ِ‬
‫الس�نَة َّ‬ ‫ف�ي َّ‬ ‫َ�ت ُم ْل ِز َم� ْة‬ ‫وعم�ر ُة ال َق َض ِ‬
‫�اء كَان ْ‬ ‫َ ُ ْ َ‬
‫يما َم َض ٰى ِم ْن َع�ا ِم ُص ْلحٍ َقدْ َأغ َْم‬ ‫ف َ‬
‫ِ‬ ‫الح َ�ر ْم‬‫�ن َ‬ ‫�م َع ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َصدِّ ه ْ‬
‫ِ‬
‫َبدي َل� ًة َع ْ‬
‫ِ‬ ‫د َ ِ‬ ‫اض ج ِ‬
‫المَلَ‬ ‫�اء َ‬ ‫ون سَل�اَ حٍ م ْث َل َم�ا َش َ‬ ‫ُ‬ ‫�ذل‬ ‫ي َر ٍ َ‬ ‫اله�دْ َ‬
‫�ي َ‬‫�اق النَّبِ ُّ‬
‫َس َ‬

‫اق‬ ‫الرك َْن َو َطا ُفوا في ْاستِ َب ْ‬


‫َو ْاس َت َل َم ُوا ُّ‬ ‫اق‬ ‫�د ْاش�تِ َي ْ‬
‫ود َخ ُل�وا مكَّ� َة ِم�ن بع ِ‬
‫ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يشير الناظم إلى العام الذي يلي صلح الحديبية ‪ ،‬وهي السنة التي دخل فيها رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمر ًا مقاضا ًة لمنعهم عن العمرة العام الماضي‪ ،‬وروى‬
‫بسنده عن ابن عمر قال‪( :‬لم تكن هذه العمرة قضا ًء ولكن كان شرط ًا على المسلمين أن‬
‫يعتمروا قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه)(((‪.‬‬
‫ولم يتخلف عنها أحد ممن شهد الحديبية إال رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا‪ ،‬وخرج‬
‫مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين ُع َّمار ًا فكانوا في عمر القضية أفين ‪#‬‬
‫(الخبر في عيون األثر ج‪.)149/2‬‬
‫وساق النبي الهدي كما أشار إلى ذلك ابن عباس قال‪ :‬إن أهل الحديبية أمروا بإبدال الهدي‬
‫في العام الذي دخلوا فيه مكة ‪ ،‬فأبدلوا وعزت اإلبل ‪ّ ،‬‬
‫فرخص لهم فيمن ال يجد بدنة في شراء‬
‫بقرة) المستدرك ج‪.486/1‬‬
‫وساق النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ستين بدنة‪ ،‬واشترطوا عليه أن ال يدخل‬
‫بسالح فو ّفى لهم بذلك‪ ،‬ودخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء ‪،‬‬
‫فلم يزل يلبي والصحابة يلبون حتى استلم الركن بمحجته مضطبعا بثوبه ‪ ،‬وخرج المشركون‬
‫على رؤوس الجبال ينظرون إلى النبي وأصحابه ‪ ،‬ولما دخل رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال‪( :‬رحم الله امرء ًا أراهم اليوم من‬
‫قوة)‪.‬‬
‫نفسه ّ‬

‫(( ( دالئل البيهقي ج‪.318/4‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪152‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم واستلم‬
‫الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن األسود ‪ ،‬ثم هرول كذلك ثالثة أطواف ومشى‬
‫سائرها‪ ،‬وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬قدم رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم وأصحابه فقال المشركون ‪( :‬إنه يقدم عليكم وفدٌ َو َهنَت ُْهم ُح َّمى يثرب) ‪ ،‬فأمرهم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجلوا األشواط الثالثة وأن يمشوا بين الركنين‪ .‬اهـ صحيح‬
‫البخاريج‪ 84/2‬كتاب الحج‪.‬‬
‫ِ‬
‫وج َو َأت ْ‬
‫َ�و ُه َي ْط ُل ُب�وا‬ ‫منْ� ُه الخُ ُ�ر َ‬ ‫ث َط َل ُب�وا‬ ‫َو َب ْع�دَ َأ ْن َم َّ�ر ْت ثََل�اَ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫َش�ر َط ا ِّت َف ٍ ِ‬
‫اس� َت َعدَّ َو َص�دَ ْر‬ ‫َب ْع�دَ ثََل�اَ ث َف ْ‬ ‫اق من ُْه ُم َع َل ٰى َّ‬
‫الس� َف ْر‬ ‫ْ‬
‫َفح َّ ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫َف‬‫َ�ى ُع ْر ًس�ا َوز ْ‬ ‫�ط في�ه َو َبن ٰ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫�مى بِ َس َ�ر ْ‬ ‫َحتَّ�ى َأت ٰ‬
‫َ�ى َواد ُي َس َّ‬
‫يشير الناظم إلى ما ورد في كتب السيرة إن المشركين من قريش أرسلوا إلى النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم بعد تمام العمرة في اليوم الرابع (نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضا فقد‬
‫مضت الثالث)‪ ،‬فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم بالخروج حتى نزل بطن َس ِرف‬
‫وأقام المسلمون وبها بنى على ميمونة بنت الحارث وهي خالة عبد الله بن عباس‪ ،‬وكانت قد‬
‫تزوجت في الجاهلية مسعود بن عمرو الثقفي ثم فارقها فخلف عليها أبو رهم بن عبد العزى‬
‫وتوفي عنها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬زوجها إ ّياه العباس بن عبد المطلب‬
‫وكان يلي أمرها)اهـ الجامع للسيرة من‪.3/310‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪153‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة مؤتة‬
‫�أ ِن َح ِ‬
‫ال َس� ْي ِر َها‬ ‫ى في َش ْ‬
‫بِ َم�ا َج َ�ر ٰ‬ ‫�ن َغ ْي ِر َه�ا‬
‫َت َع ْ‬ ‫َوغَ�ز َْو ٌة ت ََم َّي�ز ْ‬
‫�د ِح َيا َل َه�ا‬
‫�ف ِم�ن َخالِ ٍ‬
‫ْ‬
‫ومو ِق ٍ‬
‫ََْ‬ ‫ات َل َه�ا‬ ‫القي�اد ِ‬
‫َ َ‬
‫اد ِ‬ ‫ب�دْ ء ًا بِ َتع�دَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ�اب َح ِاملا‬ ‫ى لِ ْلكِت ِ‬ ‫َر ُس َ‬
‫�ول ُب ْص َ�ر ٰ‬ ‫�ن َق�دْ َقتََلَ‬ ‫ي�ب َم ْ‬
‫ِ‬
‫َأ ْس� َبا ُب َها ت َْأد ُ‬
‫يشير الناظم إلى غزوة مؤتة التي حملت اسم قرية من قرى البلقاء في حدود الشام ‪ ،‬وهي‬
‫التي جرت فيها وقائع المعركة المشار إلى تفردها عن غيرها بأمور منها ‪:‬‬
‫تحديد القادة الذين رشحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمعركة ‪،‬‬
‫وأنهم قتلوا كلهم تبع ًا واحدا بعد اآلخر في مواقف بطولية خالدة ‪ ،‬ومنها موقف خالد بن‬
‫الوليد في حمل الراية من بعدهم ‪ ،‬وإعادة ترتيب المعركة واالنسحاب منها بسالم ‪ ،‬حتى نال‬
‫لقب (سيف من سيوف الله) على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وكان سبب الغزوة ما ذكره ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث‬
‫إلى حارث بن عمير األزدي إلى ملك بصرى بكتابه ‪ ،‬فلما نزل (مؤتة) عرض له شرحبيل بن‬
‫عمر الغساني فقال ‪ :‬أين تريد؟ قال ‪ :‬الشام ‪ ،‬قال‪ :‬لعلك من رسل محمد ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فأمر‬
‫به ‪ ،‬فأوثق رباطا ‪ ،‬ثم قدمه فضرب عنقه صبرا ‪ ،‬ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫رسول غيره ‪.‬‬
‫وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه وندب الناس وأخبرهم بمقتل‬
‫‪،‬‬ ‫(((‬
‫الحارث ومن قتله ‪ ،‬فأسرعوا في االستعداد ‪ ،‬وكان ذالك سبب خروجهم للغزوه‬
‫واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال‪( :‬إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس ‪ ،‬فإن‬
‫أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس)‪.‬‬
‫فتهيؤوا للخروج وهم ثالثة آالف ‪ ،‬وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض‬
‫‪ ،‬ورفعه إلى زيد بن حارثة ومضوا حتى بلغوا َم َع َ‬
‫ان من أرض الشام ‪ ،‬فبلغهم أن هرقل قد‬

‫(( ( الطبقات ج ‪.128/ 2‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪154‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نزل ( مأرب ) من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم ‪ ،‬وانضم إليه من لخم وجذام وغيرها‬
‫مئة ألف ‪ ،‬فيقر المسلمون في (معان) ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا‪ :‬نكتب لرسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا ‪ ،‬فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي‬
‫له ‪ ،‬قال ‪ :‬فشجع الناس عبدالله بن رواحة وقال ‪ :‬يا قوم والله إن التي تكرهون َللتي خرجتم‬
‫تطلبون ‪ ،‬الشهاده ‪ ،‬وما نقاتل الناس بعدد وال قوة وال كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إال بهذا الدين الذي‬
‫أكرمنا الله به ‪ ،‬فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين إما ظهور وإما شهادة ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال الناس ‪:‬‬
‫قد والله صدق ابن رواحة ‪ ،‬فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل‬
‫من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها (مشارف) ‪ ،‬فانحاز المسلمون إلى قرية يقال‬
‫لها (مؤتة) فالتقى الناس عندها ‪ ،‬وتعبأ المسلمون للقتال واقتتلوا قتاال شديد ًا حتى قتل زيد‬
‫بالرماح ‪ ،‬ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتىإذا ألجمه القتال‬ ‫(((‬
‫بن حارثة طعنا‬
‫اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ‪ ،‬ثم قاتل القوم حتى قتل ‪ ،‬ثم أخذ عبدالله بن رواحة الراية‬
‫وتقدم بها وقاتل حتى قتل ‪ ،‬ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة واصطلح الناس على خالد بن‬
‫الوليد ‪ ،‬فلما أخذ الراية دافع القوم وماشى بهم ثم انحازوا وانحيز عنه حتى انصرف بالناس‬
‫‪( .‬الهيثمي في الزوائد ‪. )159/6‬‬
‫وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪( :‬ثم أخذها خالد بن الوليد من غير أمره ففتح له ) ثم‬
‫رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعيه فقال ‪( :‬اللهم هو سيف من سيوفك فانصره)‬
‫فمن يومئذ سمي خالد (سيف الله) ونعى النبي صلى الله عليه وسلم األمراء الثالثة وعيناه‬
‫تذرفان ‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫�ب‬ ‫َو َأ ْخ َب َ�ر الن َ‬
‫َّ�اس بِ َم�ا في�ه ال َع َج ْ‬ ‫�ب‬ ‫َو َح�ز ََن النَّبِ ُّ‬
‫�ي ُح ْزنً�ا َوا ْنت ََح ْ‬
‫وم�ا َله�م ِم�ن ر ْتب ٍ‬
‫�ة َو َم ْم َلكَ� ْة‬ ‫الم ْع َر َك ْة‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ََ‬ ‫ى في َ‬ ‫م ْن َو ْصفه ل َما َج َ�ر ٰ‬
‫يشير الناظم إلى نعي النبي ‪ m‬لألمراء الثالثة واستشهادهم الواحد تلو اآلخر ‪ ،‬وما نالوه‬

‫((( رواه اهليثمي يف جممع الزوائد ج ‪.158/6‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪155‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من شرف الشهادة وثوابها عند الله ‪ ،‬فقد روى أنس عن النبي ‪ : m‬إن النبي ‪ m‬نعى زيدا‬
‫وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ‪ ،‬فقال‪ :‬أخذ الراية زيد فأصيب ‪ ،‬ثم أخذ‬
‫جعفر فأصيب ‪ ،‬ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ‪ ،‬وعيناه تذرفان ‪ .‬رواه البخاري ‪ ،‬وفي رواية‬
‫أخرى قال ‪ m‬ألصحابه‪ :‬كان الذي رأيتم مني أنه أحزنني قتل أصحابي حتى رأيتهم في‬
‫الجنة إخوانا على سرر متقابلين ‪ ،‬ورأيت في بعضهم إعراضا كأنه كره السيف ‪ ،‬ورأيت‬
‫جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجا بالدماء مصبوغ القوادم‪ .‬مجمع الزوائد‪.‬‬
‫وفي كتب المغازي والسير تفصيالت وزيادات مفيدة حول األمراء الثالثة وغيرهم ممن‬
‫حضر موته وما جرى بعد ذلك ‪ ،‬ولما عاد الجيش إلى المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم والمسلمون ‪ ،‬ولقيهم الصبيان يشتدون ‪ ،‬وجعل الناس يحثون على الجيش‬
‫التراب ويقولون‪( :‬يا ُف َّرار فررتُم في سبيل الله) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫(ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى‪ .‬اهـ تاريخ ج ‪ /42/ 3‬وقد بلغ قتلى الغزوة‬
‫سبعين رجال‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪156‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة فتح مكة رمضان سنة ثمان‬
‫ِ‬
‫ب‬ ‫الص ْلحِ َماالً َو َس َل ْ‬ ‫بِ َع ْون ِه ْم في ُّ‬ ‫ب‬ ‫ت ُق َر ْي ُش َع ْهد ًا َقدْ َو َج ْ‬
‫َو َن َق َض ْ‬
‫ِ‬ ‫�م َبنُ�و َبك ٍ‬ ‫ِ‬
‫الج َما َع ْة‬
‫�ع َ‬ ‫�م َع َل ٰى ال َع ْهد َم َ‬
‫َو ُه ْ‬ ‫�ى ُخزَا َع� ْة‬‫ْ�ر َع َل ٰ‬ ‫من ُْه ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫�وا‬ ‫�م بِ َع ْهده ْ‬
‫�م َل َّم�ا َر َع ْ‬ ‫ن ُْص َرت َُه ْ‬ ‫ين َو َد َع ْوا‬ ‫اس� َتن َْجدُ وا بِ ُ‬
‫الم ْسلم َ‬ ‫َف ْ‬
‫يشير الناظم إلى أسباب غزوة فتح مكة ‪ ،‬وهو ـ كما أشار إليها أصحاب السير ـ أنه تظاهرت‬
‫بنوبكر وقريش على خزاعة ‪ ،‬وكان لخزاعة عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام‬
‫الحديبية ولبني بكر عهد مع قريش في ذلك الصلح ‪ ،‬فأمدت قريش بني بكر بالمال والسالح‬
‫على خزاعة وقتل منهم عدد من الرجال وأصابوا منهم ما أصابوا ‪ ،‬ونقضوا ما كان بينهم وبين‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ‪ ،‬ووفد إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم بعض أهل خزاعة ‪ ،‬يشكون إليه مافعلته بنوبكر بمعونة قريش ‪ ،‬فقال صلى الله عليه‬
‫(نصرت يا عمرو بن سالم ) ونظر إلى السماء فرأى‬
‫َ‬ ‫وسلم للرسول الذي جاءه من خزاعة ‪:‬‬
‫عنان سحاب فقال ‪ :‬إن هذه السحابة لتستهل بنهر بني كعب‪ . #‬البيهقي في الدالئل ج‪/9‬‬
‫‪. 233‬‬

‫�ان انْطَِل�اَ ٍق َأز َْم َع ْه‬


‫ط كِت َْم ِ‬
‫بِ َش�ر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ�ار ك َُّل َم ْن َم َع ْه‬ ‫َو ْاس� َتنْ َف َر ُ‬
‫المخْ ت ُ‬
‫�ؤل‬ ‫�ر ٰه ُ‬ ‫بِ َأ ْم ِ‬ ‫َمكَّ� َة َم ْر ُس�ولاً‬ ‫الس ِّ�ر إِ َل ٰى‬ ‫ب َأ ْر َس َ‬ ‫ِ‬
‫�ل في ِّ‬ ‫َو َحاط ٌ‬
‫�ر َن َف ْ�ر‬ ‫لِلأْ َ ْم ِ‬ ‫�ث النَّبِ ُّ‬
‫�ي‬ ‫َف َب َع َ‬ ‫ي�ن بِالخَ َب ْ�ر‬ ‫َفج�اء ِجب ِر ُ ِ‬
‫ي�ل األَم ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫�ع ال َق ِض َّي� ْة‬ ‫َم َ‬ ‫َو َك ُب َ�ر األَ ْم ُ�ر‬ ‫الم ْط ِو َّي� ْة‬ ‫َو َأ ْر َج ُع�وا ِّ‬
‫الر َس�ا َل َة َ‬
‫�ي َعنْ� ُه إِ ْذ ُحبِ�ي‬‫�ع النَّبِ ُّ‬‫َفدَ ا َف َ‬ ‫ب‬ ‫ْ�ل َحاطِ ِ‬ ‫وق َقت َ‬‫�ار ُ‬ ‫َو َط َل َ‬
‫�ب ال َف ُ‬
‫ي�م ال َق�دْ ِر‬‫ِ‬ ‫�ال َب�دْ ِر‬ ‫�ن ِر َج ِ‬ ‫�ال ه َ ِ‬
‫�م َعظ َ‬ ‫اه ْ‬‫َوال ّل� ُه َأ ْع َط ُ‬ ‫�ذا م ْ‬ ‫َو َق َ ٰ‬
‫يشير الناظم إلى تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزوة وإخبار الصحابة بذلك ‪،‬‬
‫واشترط عليهم كتمان األمر ‪ ،‬واستشار البعض منهم في األمر كأبي بكر وعمر ‪ ،‬وكان رأي‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪157‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عمر رضي الله عنه أقرب إلى الموافقة حيث قال ‪ :‬وايم الله ال تذل العرب حتى تذل أهل مكة‬
‫‪ ،‬إنهم لحراس الكفر ‪ ،‬إال أن حاطب بن أبي بلتعة ـ وهو ممن شهد بدرا ـ كتب باألمر إلى‬
‫وس َّير امرأة وجعل لها جعال على أن ُت َب ِّل َغه قريشا فجعلته في رأسها ‪ ،‬ثم فتلت عليه‬
‫أهل مكه َ‬
‫قرونها ‪ ،‬وخرجت به ‪ ،‬وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء بما صنع‬
‫حاطب فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فأدركاها والتمسا في‬
‫ِ‬
‫لتخرج َّن الكتاب أو لنكشفنَّك‬ ‫رحلها الكتاب فلم يجدا شيئا ‪ ،‬فقال لها علي رضي الله عنه ‪:‬‬
‫‪ ،‬فلما رأت الجد منه استخرجتْه من قرون رأسها ‪ ،‬فدفعته إليه فانطلق به مع الزبير إلى رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له ‪( :‬ماحملك‬
‫على هذا؟) فقال‪ :‬يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت وال بدلت ولكن‬
‫كنت امرأ ليس لي في القوم أصل وال عشيرة ‪ ،‬وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم‬
‫عليهم ‪ ،‬فقال عمر رضي الله عنه ‪ :‬يا رسول الله دعني فألضرب عنقه فإن الرجل منافق ‪،‬‬
‫فقال رسول الله عيه وسلم ‪( :‬وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر‬
‫فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه البيهقي في مجمع الزوائد ج ‪ )304/ 9‬بمعناه‬
‫ورواه غيره بروايات متنوعة‪.‬‬

‫�ن ف�ي ِر َوا َي ِة‬ ‫ُك ْل ُث�و ُم بِ ْ‬


‫�ن ُح َص ْي ِ‬ ‫ف النَّبِ�ي بِالم ِدين ِ‬
‫َ�ة‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َو ْاس�تَخْ َل َ‬

‫الس� َف ْر‬
‫ض َّ‬ ‫َو َأ ْف َط َ�ر النَّبِ ُّ‬
‫�ي في َب ْع ِ‬ ‫الش ْه ِر األَغ َْر‬
‫َو َخ َر ُجوا في َم ْط َل ِع َّ‬
‫يشير الناظم إلى استخالف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حصين‬
‫الطفار ‪ #‬على رواية ‪ ،‬وعلى رواية أخرى استخلف عبد الله بن أم مكتوم ‪ ،‬وكان خروج النبي‬
‫في مستهل شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة ( البخاري ج ه‬
‫‪ ، ) 185/‬واجتمع مع النبي في الغزوة عشر آالف من المسلمين ‪.‬‬

‫اس‬ ‫ِ‬ ‫َ�ذا َأ ُب�و ُس� ْف َي َ‬


‫ك َ‬ ‫َوف�ي ال َّط ِر ِ‬
‫ان َوالم ْ�ر َد ُ‬ ‫�اس‬
‫�اء ُه ال َع َّب ُ‬
‫ي�ق َج َ‬
‫يشير الناظم إلى لحاق العباس بن عبد المطلب بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض‬
‫الطريق ‪ ،‬وكان قد أسلم من قبل وأقام بمكة على السقاية ولم يهاجر ‪ ،‬كما قدم أبوسفيان بن‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪158‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الحارث وعبد الله بن أمية وأسلما ‪ ،‬وجاء العباس بن مرداس ‪ ،‬وكان قد أسلم من قبل في‬
‫قصته التي ذكرتها كتب السير ‪.‬‬
‫ِ‬
‫ُم َس� ِّل ًما َو ُم ْس�ل ًما َي ْر ُج�و َ‬
‫الو َف�ا‬ ‫ب َق�دْ َأت ٰ‬
‫َ�ى ُم ْعت َِر َفا‬ ‫َأ َّم�ا ا ْب ُن َح ْر ٍ‬

‫يشير الناظم إلى مجيء أبي سفيان بن حرب ومعه نفر من قومه فلما رأوا العسكر أفزعهم‬
‫مسمع العباس ‪ #‬صوت أبي سفيان ‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا حنظلة ‪ ،‬فقال‪ :‬لبيك فما وراءك ؟ قال ‪ :‬هذا‬
‫رسول الله في عشرة آالف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك ‪ ،‬فأجاره ثم خرج به على بغلته شنه‬
‫‪ #‬تخور رسول الله ‪ ،‬فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ‪ :‬أبو سفيان عدو الله الحمد‬
‫لله الذي أمكن منك بغير عقد وال عهد وقام يشتد خلفه ‪ ،‬ودخل العباس به على رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر خلفه يقول ‪ :‬يا رسول الله هذا أبوسفيان قد أمكن الله‬
‫منه بغير عقد وال عهد فدعني أضرب عنقه ‪ ،‬قال رسول الله ‪ :‬إني قد أجرته ‪ ،‬فلما أكثر عمر‬
‫من شأنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪( :‬عباس اذهب به إلى رحلك ‪ ،‬فإذا أصبحت‬
‫فأتني به ‪ ،‬فلما أصبح غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ( :‬ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه ال إله إال الله ) ‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنت‬
‫وأمي ما أحكمك وأكرمك وأوصلك ‪ ،‬والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى‬
‫‪ #‬مني شيئا بعد ‪ ..‬إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬ويحك أسلم واشهد أنه‬
‫ال إله إال الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك ‪.‬‬
‫قال فشهد شهادة الحق وأسلم ‪ ،‬قال العباس ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب‬
‫الفخر فاجعل له شيئا قال ‪( :‬نعم‪ ..‬من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‪ ..‬إلخ) ‪ ،‬وإلى ذلك أشار‬
‫الناظم بقوله ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ف�ي َد ِاره َحت ٰ‬
‫َّ�ى َم َض ٰى َعنْ� ُه َم َث ْل‬ ‫�ل‬‫�ن َد َخ ْ‬ ‫�ن النَّبِ ُّ‬
‫�ي ك َُّل َم ْ‬ ‫َف َأ َّم َ‬
‫الم ْس ِ‬ ‫ِ‬
‫الح َرا ِم‬
‫جدَ َ‬ ‫ى َو َ‬‫الهدَ ٰ‬‫َأ ْر َض ُ‬ ‫إل ْسَل�اَ ِم‬ ‫�ب ا ِ‬ ‫�ت َكتَائ ُ‬ ‫َو َد َخ َل ْ‬
‫الو ْج� ُه ن َِض ْ�ر‬ ‫ٍ‬
‫بِ ُب ْ�ر َدة َح ْم َ�ر َاء َو َ‬ ‫�ول ُم ْعت َِم ْر‬
‫الر ُس ُ‬
‫�ج َو َّ‬ ‫�ن ك ُِّل َف ٍّ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪159‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫�اء‬ ‫ل�ر ْأ ِ‬‫م َطئْطِ ً ِ‬ ‫ِع َم َام� ًة‬ ‫َولاَ بِ ًس�ا‬
‫�و َم َج َ‬
‫س َي ْ‬ ‫�أ ل َّ‬ ‫ُ‬ ‫�و َد َاء‬
‫َس ْ‬
‫يشير الناظم إلى دخول المسلمين إلى مكة المكرمة عام الفتح وراية الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم بيد سعد بن عبادة ‪ ،‬فلما مر على أبي سفيان قال سعد ‪ ( :‬اليوم يوم الملحمة اليوم‬
‫تستحل الحرمة اليوم ‪ #‬أذل الله قريش ًا ) ‪ ،‬فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أبو‬
‫سفيان ‪ :‬يا رسول الله أمرت بقتل موكل ‪ #‬فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا ‪ ،‬فقال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪( :‬اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشا ) ‪.‬‬
‫وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده وجعله‬
‫بيد قيس ابنه ‪ ،‬وكان رسول الله معتجرا ببردة حمراء ‪ ،‬وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫ليضع راسه تواضعا لله ‪ ،‬أي‪ :‬ما كرمه الله به من الفتح حتى ‪ ،‬إن ُح ْثنُونه ‪( #‬أي لحيته ) ليكاد‬
‫أن تمس واسطة الرحل ‪ ،‬وكانت عليه عمامة سوداء ‪ ،‬وكان دخوله من جهة كداء التي بأعلى‬
‫مكة‪.‬‬

‫َو َأ ْخ َر َج األَ ْو َث َ‬ ‫ِ‬


‫الصن َْم‬‫ان َج ْم ًعا َو َّ‬ ‫�اف بِال َب ْي�ت َو َط َّه َ�ر َ‬
‫الح َر ْم‬ ‫َو َط َ‬
‫�اء لِ إْ ِ‬
‫ل ٰل� ْه‬ ‫َو َب ْعدَ َه�ا َأ ْو َف ٰ‬
‫�ى الدُّ َع َ‬ ‫لصَل�اَ ْة‬ ‫�ل ال َكعب� َة َأد ِ‬
‫ى ل َّ‬ ‫ْ َ َّ ٰ‬ ‫َو َد َخ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫�ي ِعنْ�دَ ال َب ِ‬
‫�اب‬ ‫�ن ك ُِّل ذي ع َق ْ‬ ‫ك ََم�ا َع َف�ا َع ْ‬ ‫�اب‬ ‫�ب النَّبِ ُّ‬‫َو َخ َط َ‬
‫يشير الناظم إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ومن ذلك طوافه بالبيت‬
‫وتطهيره المسجد والكعبة وجوانبهما من األصنام واألوثان ‪ ،‬وكان يأتي إلى الصنم فيهوي‬
‫إليه بمخصرته مشيرا فتهوى من غير أن يمسها ويقرأ‪( :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ) [اإلسراء‪ ]81:‬فتتساقط على وجوهها ‪ ،‬ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسيل ‪ ،‬وكان يومئذ‬
‫حول الكعبة ثالثمئة وستون وثنا وصنما ‪.‬‬
‫كما دخل الكعبة وهتك ما فيها من الصور وأمر بطمسها ‪ ،‬ثم صلى ركعتين ‪ ،‬ثم خرج‬
‫وصلى في وجه الكعبة ركعتين ‪ ،‬وفي رواية أنه كبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه ‪.‬‬
‫ولما خرج من بابها خطب بالناس وهو قائم على باب الكعبة فقال‪ ( :‬ال إله إال الله وحده ال‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪160‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم األحزاب وحده ‪ ...‬إلى أن قال‪ :‬يا معشر قريش إن‬
‫الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها باآلباء الناس من آدم وآدم من تراب ‪ ،‬ثم تال ‪:‬‬
‫(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) ُ‬
‫[الح ُجرات‪ ،]13:‬كما قال لقريش من فوق باب الكعبة‪ ( :‬يا‬
‫معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ‪ ،‬قالوا‪ :‬خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ‪ ،‬قال ‪ :‬اذهبوا فأنتم‬
‫الطلقاء ) ‪ .‬البيهقي في السنن ج ‪. 1181 9‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َأهدَ ر النَّبِي بع َض الم ْش ِ ِ‬
‫�ن َغ ْي ِر ل ْ‬
‫ين‬ ‫َو َأ ْع َل َ‬
‫�ن ال َقت َْل َل ُه ْم م ْ‬ ‫ين‬
‫�رك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ َ ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يشير الناظم إلى ما ذكرته كتب السيرة فيما روى ابن سعد قال‪ ( :‬لما كان يوم فتح مكة أ ّمن‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إال أربعة نفر وامرأتين ‪ ،‬وقال ‪ :‬اقتلوهم وإن وجدتموهم‬
‫متعلقين بأستار الكعبة‪ ،‬وهم عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة وعبد‬
‫الله بن سعد بن أبي السرح ‪ ،‬فقتل منهم عبدالله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس‬
‫بن حبابة ادركه الناس في السوق فقتلوه ‪ ،‬وأما عكرمة فركب في البحر وأسلم فيما بعد ‪ ،‬وأما‬
‫عبد الله بن أبي السرح فاختبأ عند عثمان بن عفان فاستجاره عثمان فأجاره رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬وكان أخو عثمان من الرضاعة ‪ ،‬وأما المرأتان وكانتا تغيان بهجاء رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم قتلت إحداهما واالخرى أسلمت ‪ .‬اهـ الجامع للسيرة ‪475 474/3‬‬

‫�ل َو ْام َ�ر َأ ٍة َج�اؤُ وا ز َُم ْر‬‫ِم ْن َر ُج ٍ‬ ‫�ن َح َض ْ�ر‬ ‫�ي ك َُّل َم ْ‬‫�ع النَّبِ ُّ‬
‫َو َبا َي َ‬
‫�ل نَاطِ ًق�ا ُم ْس� َت ْقبِ اًل َب ْي َعت ََه�ا‬
‫َب ْ‬ ‫�س ْام َ�ر َأ ًة بِ َي ِد َه�ا‬‫�م َي َم َّ‬‫َو َل ْ‬
‫يشير الناظم إلى مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ‪ ،‬قال ‪ :‬فجاءه الناس الصغار‬
‫والكبار والنساء فبايعوه على اإلسالم والشهادة ‪.‬‬
‫�ل النِّي ِ‬
‫�ة‬ ‫الج َه�ا ُد ِم ْث ُ‬
‫ِ‬ ‫�ي‬ ‫ِ‬ ‫اله ْج َر ِة‬
‫ت بِال َفتْ�حِ َع ْي ُن ِ‬
‫َوا ْن َق َط َع ْ‬
‫َّ‬ ‫َو َبق َ‬
‫يشير الناظم الى قوله صلى الله عليه وسلم ‪ ( :‬ال هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ‪ ،‬وإذا‬
‫استنفرتم فانفروا ) صحيح البخاري ج‪ 3/18‬ابواب ‪###‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪161‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ِ‬
‫لصن َْم‬ ‫�ث ال ُب ُع َ‬
‫�وث َهدْ ًم�ا ل َّ‬ ‫َو َب َع َ‬ ‫الح َر ْم‬ ‫َو َج�دَّ َد ال َّنبِ ُّي َأن َْص َ‬
‫�اب ‪َ #‬‬
‫َو َأ ْر َس َ‬
‫�ل الدُّ َعا َة َيدْ ُعو َم ْن َو َع ٰى‬ ‫َّ�ى َر َج َع�ا‬
‫وقص�ر الصلاة َحت ٰ‬
‫يشير الناظم إلى بعض أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم خالل إقامته بعد الفتح بمكة‬
‫‪ ،‬ومنها تجديد أنصاب الحرم ‪ ،‬وهي حدوده ‪ ،‬فقد ورد أنه ‪ m‬بعث تميم بن أسد الخزاعي‬
‫فجدد أنصاب الحرم‪ .‬الجامع في السيرة النبوية (‪.)105 :3‬‬
‫وبعث بعض الرجال لتكسير األوثان واألصنام التي حول الكعبة ‪ ،‬ونادى مناديه بمكة ( من‬
‫كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فال يدع في بيته صنما إال كسره ‪ ،‬كما أرسل خالد بن الوليد إلى‬
‫صنم العزى وكان بيتا يعظمه الحي من قريش وكنانة ومضر كلها فانتهى إليها خالد فهدمها‬
‫‪ ،‬وبعث عمرو بن العاص إلى صنم سواع وهو صنم بتهامة فدنا منه وكسره ‪ ،‬كما بعث بعثا‬
‫لهدم صنم مناة وكانت لألوس والخزرج فهدمها‪.‬‬
‫كما قصر النبي الصالة مدة إقامته بمكة حتى عاد إلى المدينة ‪ ،‬واختُلف في أيام بقائه فقيل‬
‫‪ :‬عشرا ‪ ،‬وقيل‪ :‬خمسة عشر يوما ‪ ،‬واألصح أنها ثمانية عشر يوما ‪.‬‬
‫وبعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه للدعوة إلى اإلسالم ‪ ،‬ومنهم سرية خالد بن الوليد‬
‫إلى بني جذيمة بن كنانة ولم يحسنوا القول ‪ ،‬بل جعلوا يقولون‪ :‬صبأنا صبأنا ‪ ،‬فجعل خالد‬
‫يقتل منهم ويأسر ‪ ،‬فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪ ( :‬اللهم إني ابرأ‬
‫إليك مما صنع خالد ) مرتين ‪ ،‬ثم دفع النبي صلى الله عليه وسلم دية قتالهم ‪ .‬وبعث إليهم‬
‫علي بن أبي طالب للنظر في أمر ما صنع خالد بهم ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪162‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة حنين‬
‫َّاس‬ ‫َح ْش�دً ا َكبِي�ر ًا ِضدَّ َخ ْي ِ‬
‫�ر الن ِ‬ ‫�ار ف�ي َأ ْو َط ِ‬
‫�اس‬ ‫�ع ال ُك َّف ُ‬
‫ت ََج َّم َ‬
‫الم َث ِ‬
‫�ال‬ ‫نِكَاي� ًة بِالمص َط َف�ى ِ‬ ‫َو َأزْم ُع�وا الم ِس�ير لِ ْل ِقت ِ‬
‫َ�ال‬
‫ٰ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َ�ى ُم َوافِق� ًا لِ َي ْت َب َع� ْه‬‫�ن َأت ٰ‬
‫َو َم ْ‬ ‫َان َم َع� ْه‬
‫�ن ك َ‬ ‫اس� َتنْ َف َر النَّبِ ُّ‬
‫�ي َم ْ‬ ‫َف ْ‬
‫يشير الناظم إلى غزوة الطائف المعروفة بغزوة حنين والتي كان من خبرها ‪ :‬أن النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح بنصف شهر لم يزد على ذلك حتى جاءت هوزان وثقيف‬
‫فنزلوا بحنين عامدين قتال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فلما سمع النبي بخبرهم استنفر‬
‫أصحابه ومن كان بمكة من األعراب وانطلق حتى بلغ الجيش اثني عشر ألف ًا ‪ ،‬فلما فصل من‬
‫مكة قال بعض من معه ‪( :‬لن نهزم اليوم من ق ّلة) ‪.‬‬
‫واستخلف عتاب بن أسيد على مكة يصلي بالناس واستخلف معاذ يعلمهم الدين‪ ،‬واستنفر‬
‫معه أصحابه وساروا نحو العدو ‪ ،‬وعبأ الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في السحر‬
‫صفوفا ووضع الرايات واأللوية في يد أهلها وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في‬
‫وادي حنين وهو راكب بغلته البضاء‪ ،‬وأمرهم وحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا‬
‫وصبروا‪ ،‬وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي فكموا في شعابه ومضايقه ‪ ،‬قال ‪ :‬فما راعنا إال‬
‫الكتائب قد شدّ وا علينا شدة رجل واحد وانهزم الناس راجعين ال يلوون على أحد ‪ ،‬وانحاز‬
‫إلي أنا رسول اله أنا‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين وقال‪( :‬يأيها الناس هلموا ّ‬
‫محمد بن عبد الله) ‪ ،‬قال‪ :‬فنزل النبي من على بلغته ويقول‪( :‬أنا النبي ال كذب أنا ابن عبد‬
‫المطلب) ثم صف أصحابه ‪« .‬صحيح مسلم ج‪ 1401/3‬كتاب الجهاد والسير»‪.‬‬
‫وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين واألنصار وأهل بيته وكان يدعو‬
‫ربه ويستنصر ويقول ‪ :‬اللهم بك أحاول وبك أحاول وبك أقاتل‪ ،‬والتفت النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم عن يمينه فقال ‪ :‬يا معشر األنصار فقالوا ‪ :‬لبيك يا رسول ‪ ،‬أبشر نحن معك ‪ ،‬ثم‬
‫التفت عن يساره فقال ‪ :‬يا معشر األنصار قالوا‪ :‬لبيك يارسول الله ابشر نحن معك ‪ ،‬فنزل‬
‫فقال ‪( :‬أنا عبد الله ورسوله) ‪ ،‬فانهزم المشركون فأصاب يومئذ غنائم كثيرة ثم انطلق إلى‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪163‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الطائف‪.‬‬

‫ش َو ُأولِي َّ‬
‫الش ْأ ِن ُ‬
‫الم ِه ْم‬ ‫َع َل ٰى ُق َر ْي ٍ‬ ‫�م‬ ‫ِ‬
‫�ي ك َُّل َم�ا غَن ْ‬ ‫َو َوز ََّع النَّبِ ُّ‬
‫�ى بِال َع ِ‬
‫اج ِل‬ ‫َب ال َب ْع ُض ِر ًض ٰ‬
‫َف َعت َ‬ ‫اب َوال َق َبائِ ِل‬ ‫ِم�ن جم َل ِ‬
‫�ة األَ ْع َ�ر ِ‬ ‫ْ ُ ْ‬
‫ى‬ ‫ُ�م َأ ْه ُ‬
‫�ل النَّدَ ٰ‬ ‫�م َأ ْنت ُ‬ ‫�ال فِ ِ‬
‫يه ْ‬ ‫َو َق َ‬ ‫ى‬ ‫اله�دَ ٰ‬ ‫�ي َأن َْص َ‬
‫�ار ُ‬ ‫�ع النَّبِ ُّ‬
‫َف َج َم َ‬
‫�ر ٰه َ‬
‫�ذا ال َعا َل� ِم‬ ‫َو َأ ْنت ُ‬
‫ُ�م بِخَ ْي ِ‬ ‫المغَانِ� ِم‬
‫َّ�اس بِ َ‬
‫َي ُع�و ُد ك ُُّل الن ِ‬
‫يشير الناظم إلى كثرة الغنائم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤلفة‬
‫قلوبهم من قريش واألعراب حتى استشاط بعض أحداث األنصار وجاء من يقول ‪ :‬قسمت‬
‫الغنائم في قومك وقبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من األنصار منها شيء ‪ ،‬فقال صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ :‬اجمعوا إلي القوم من األنصار ‪ ،‬فاجتمعوا فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وقال‪ :‬يا معشر األنصار ما قال ٌة بلغتني عنكم وأشار إلى ما قيل عنهم حتى قال‪ :‬أال ترضون يا‬
‫معشر األنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟! فوالذي‬
‫نفسي بيده لوال الهجرة لكنت امرأ من األنصار ‪ ،‬ولو سلك الناس شعبا وسلكت األنصار‬
‫شعبا لسلكت شعب األنصار ‪ ،‬اللهم ارحم األنصار وأبناء األنصار وأبناء أبناء األنصار ‪ ،‬قال‬
‫فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم ‪ ،‬وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا ‪ .‬ثم انصرف رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا (صحيح البخاري ج‪.)201/200/5‬‬

‫َ�ار فِيم�ا َق�دَّ َر ْه‬‫المخْ ت َ‬ ‫َ�از ُع ُ‬ ‫ُين ِ‬ ‫�ذي الخُ َو ْي ِص َر ْة‬


‫و َق�ام من يدْ عى بِ ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ َ ٰ‬
‫َو َم�ا ُأ ِري�دَ َو ْج� ُه َر ٍّب ُم ْعتَلِ�ي‬ ‫�ذي ِقس�م ٌة َل�م َتع ِ‬
‫�د ِل‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫�ال ه ِ‬
‫َو َق َ ٰ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ت ا ْفتِ َ�را‬
‫ى‬ ‫إِ ْن َل ْم َأك ُْن َأ ْعد ْل َف َم ْن َي ْهدي َ‬
‫الو َر ٰ‬ ‫�ال ٰط� َه َو ْي َ‬
‫�ح َم�ا ُق ْل َ‬ ‫َف َق َ‬

‫ي�ر ُم ْش�كِ َل ْة‬ ‫ِ‬


‫�ال َد ْع� ُه ال نُث ُ‬ ‫َف َق َ‬ ‫وق َك ْي َم�ا َي ْق ُت َل� ْه‬ ‫َو ْاس�ت َْأ َذ َن ال َف ُ‬
‫�ار ُ‬

‫�م‬ ‫ص ن َِه ْ‬‫آن ف�ي ِح ْ�ر ٍ‬ ‫ِق َ�ر َاء ُة ال ُق ْ�ر ِ‬ ‫�أنِ ِه ْم‬‫�ن َش ْ‬ ‫ِ‬ ‫َفه ُ ِ ِ‬
‫�ؤلاَ ء فئَ� ٌة م ْ‬ ‫ٰ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪164‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫�ق‬ ‫اح ِ‬‫�اد الم ِ‬ ‫ون بِال َفس ِ‬
‫َو َي ْظ َه ُ�ر َ‬ ‫�ان ا ْل اَل ِح ِق‬
‫ون ف�ي الز ََّم ِ‬
‫َس� َيخْ ُر ُج َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُم َف َّص َل� ْة‬ ‫مع ُلوم ٍ‬ ‫لِ ِع َّل ٍ‬ ‫�م َف ِري ًق�ا َي ْق ُت َل� ْه‬ ‫ِ ِ‬
‫�ة‬ ‫َ ْ َ‬ ‫�ة‬ ‫�ن َلق�ي من ُْه ْ‬
‫َف َم ْ‬
‫يشير الناظم إلى ما جرى في هذه الغزوة من انتقاد ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم حول العدل في القسمة وقال ك والله إن هذه القسمة ما عدل فيها ‪ ،‬فقال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬فمن ْ‬
‫يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ رحم الله موسى قد‬
‫أوذي بأكثر من هذا فصبر‪.‬‬
‫فقال عمر رضي الله عنه ‪ :‬دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ‪ ،‬فقال صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ :‬معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ‪ ،‬يوشك أن يأتي قوم مثل هذا ـ‬
‫وفي رواية‪ :‬يخرج من ضئضئ هذا ـ قوم يقرؤون القرآن ال يجاوز حناجرهم ‪ ،‬يمرقون من‬
‫الدين كما يمرق السهم من الرمية) ‪ ،‬وروي بروايات وألفاظ متنوعة‪.‬‬
‫�ر م�ع الغَنِيم ِ‬ ‫�ق لِ ْلم ِدين ِ‬
‫�ة‬ ‫َ‬ ‫بِال َفتْ�حِ َوالن َّْص ِ َ َ‬ ‫َ�ة‬ ‫َو َع�ا َد َخ ْي ُ�ر الخَ ْل ِ َ‬
‫آن‬ ‫ُم ْعلِنَ� ًة إِ ْسَل�اَ َم َها ف�ي َخ ْي ِ‬
‫�ر ْ‬ ‫�ن ك ُِّل َمك ْ‬
‫َان‬ ‫ِ‬
‫الو ُفو ُد م ْ‬
‫وج ِ‬
‫اءت ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫يشير الناظم إلى عود النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين حام ً‬
‫ال رايات النصر‬
‫والغنيمة ‪ ،‬ولم يكد تستقر في المدينة حتى توالت الوفود من األنحاء معلنة والءها لإلسالم‬
‫وللرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فمن الوفود وفد ثعلبة ووفد صدا ووفد ثمالة والحدان ‪#‬‬
‫ووفد باهلة ووفد جرم وغيرهم‪ .‬الجامع للسيرة ج‪.3‬‬
‫في َعا ِم تِ ْس� ٍع في َج ِمي ِع ا ِ‬
‫إلت َِّجا ْه‬ ‫�ي ُع َّم َ‬
‫�ال ال� َّزكَا ْة‬ ‫�ث النَّبِ ُّ‬ ‫َو َب َع َ‬

‫�ال َوال َع َطا َي�ا‬‫الم َ‬ ‫ِ‬ ‫ى في األَ ْم ِر ِم ْن َو َصا َيا‬


‫�ص َ‬ ‫يم�ا َيخُ ُّ‬ ‫ف َ‬ ‫َوك َْم َج َر ٰ‬
‫�و ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ�ب النَّبِ�ي لِ ْل ُعم ِ‬
‫ال‬ ‫�ط ال� َّزكَاة للأْ َ ْم َ‬ ‫َض َوابِ َ‬ ‫�ال‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َو َكت َ‬
‫يشير الناظم إلى السنة التاسعة من الهجرة ‪ ،‬وهي السنة التي بعث فيها النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم بالعمال لجلب الصدقات من سائر األنحاء والبالد ‪ ،‬وقد جمعت كتب السيرة تفاصيل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪165‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الجهات التي بعث إليها أولئك العمال ‪ ،‬كما ذكرت العديد من الوقائع المتنوعة مع سائر‬
‫العرب حول مسألة الزكاة وأخذها وما قد يحصل من خيانة أو إفراط في أخذ كرائم أموال‬
‫الناس ‪.‬‬
‫ثم أشار الناظم إلى ما عينه صلى الله عليه وسلم لألمراء والعمال في شأن ضوابط الصدقات‬
‫وهو الكتاب الذي كان يعمل به ويوصي بالتزامه حتى مات ‪ ،‬فعمل به من بعده الخلفاء‬
‫الراشدون ‪ ،‬وكان مقرونا بمقبض سيفه صلى الله عليه وسلم‪ .‬الجامع للسيرة ص‪/17/16‬‬
‫الجزء‪.4‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪166‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫غزوة تبوك‬
‫يما َق�دْ ُأثِ ْر‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن ِج َه�ة األَ ْر َوا ِم ف َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫ت األَ ْخ َب ُار َع ْن َح ْش ٍد َك ُث ْر‬ ‫وجاء ِ‬
‫َ َ َ‬
‫وع‬ ‫َّاس في َغز ِْو ُّ‬
‫الر ُب ْ‬ ‫ُون الن َ‬
‫ُي َج ِّهز َ‬ ‫�وع‬
‫الج ُم ْ‬ ‫لا َو ُ‬‫الش�ا ِم ِه َر ْق ً‬‫َو َأ َّن بِ َّ‬
‫يشير الناظم إلى أسباب غزوة تبوك وما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من اجتماع النصارى‬
‫ومن شايعهم من األعراب في نواحي الشام ‪ ،‬وأمر النبي أصحابه ليتهيؤوا لغزو الروم ‪ ،‬وذلك‬
‫في زمن عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البالد ‪.‬‬
‫وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إال كنّى عنها إال ما كان في‬
‫غزوة تبوك فإنه ب ّينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو ‪ ،‬ليتأهب الناس لذلك وأمر‬
‫الناس بالجهاز ‪ ،‬وأخبرهم أنه يريد الروم ‪ ،‬وحض أهل الغنى على النفقة والحمالن في سبيل‬
‫الله ‪ ،‬وقال‪( :‬من جهز جيش العسرة فله الجنة) كما قال الناظم‪:‬‬

‫�ي َأ ْح َم�دَ ا‬
‫�ش النَّبِ ِّ‬
‫ُم َج ِّه�ز ًا َج ْي َ‬ ‫جيب� ًا لِلنِّ�دَ ا‬
‫�ان ُم ِ‬
‫�اء ُع ْث َم ُ‬
‫َو َج َ‬
‫يشير الناظم إلى موقف عثمان بن عفان يوم جاء بمئة بعير بأحالسها وأقتابها في سبيل الله‬
‫‪ ،‬وفي رواية مئتا بعير وفي رواية ثالثمئة بعير‪ ،‬ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على‬
‫المنبر وهو يقول‪ :‬ما هلى عثمان ما عمل بعد هذه‪ ،‬ما عمل عثمان ما عمل بعد هذه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�ون الك َِذ َب�ا‬
‫المنَافِ ُق َ‬ ‫َو َأ ْك َث َ�ر‬
‫الر َب ٰى‬ ‫َو َث َّب ُطوا الن َ‬
‫َّ�اس ل َي ْب ُقوا في ُّ‬ ‫ُ‬
‫يشير الناظم إلى موقف ناس من المنافقين حيث جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم يستأذنون في التخلف من غير ع ّلة ‪ ،‬فأذن لهم وهم بضعة وثمانون رجال ‪ ،‬قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬فلما أزف خروج النبي صلى الله عليه وسلم أكثروا االستئذان وشكوا شدة الحر‬
‫وخافوا‪.‬‬

‫الخ َيان َِة‬


‫�ك و ِ‬
‫َ‬
‫إل ْف ِ‬
‫�ف ِس َّ�ر ا ِ‬
‫َتك ِْش ُ‬ ‫�ات ف�ي َب َ�ر َاء ِة‬ ‫وج�اء ِ‬
‫ت اآل َي ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫وأرجف المنافقون في المدينة بكل خبر سوء ‪ ،‬ونزلت سورة براءة تصف المواقف ‪ #‬أرساال‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪167‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫حتى ظن المؤمنون الظنون‪ ،‬حيث نزلت براءة فيمن تخلف من المنافقين من تبوك ‪ ،‬فكشف‬
‫الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ‪ ،‬منهم من سمي ومنهم من لم يسم‪.‬‬

‫الج�دَ َار ِة‬


‫ْ�و َار بِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعل ًّي�ا المغ َ‬
‫ف النَّبِ�ي بِالم ِدين ِ‬
‫َ�ة‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َو ْاس�تَخْ َل َ‬

‫�ى في ا َّلتِي‬
‫وس ٰ‬
‫ك َِم ْث ِل هار َ ِ‬
‫ون ل ُم َ‬ ‫َ ُ‬
‫ْ�ت ف�ي المن ِْز َل ِ‬
‫�ة‬ ‫َ‬ ‫�ال ِمنِّ�ي َأن َ‬
‫َو َق َ‬
‫يشير الناظم إلى استخالف النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في المدينة بعد‬
‫خروجه ناحية تبوك ‪ ،‬فأرجف به المنافقون وقالوا ‪ :‬ما خلفه إال استثقاال له وتخففا منه ‪ ،‬فلما‬
‫بلغه ذلك حمل سالحه وخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف ‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫نبي الله زعم المنافقون إنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني ‪ ،‬فقال‪ :‬كذبوا ولكني‬
‫خلفتُك لما تركت ورائي ‪ ،‬فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ‪ ،‬أفال ترضى يا علي أن تكون‬
‫مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال نبي بعدي؟ فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله‬
‫صلى الله عليه على سفره‪.‬‬
‫ِ‬
‫ى ُم َح َّم�د ًا ُض ًح�ى َم ِه ْ‬
‫ين‬ ‫َغدً ا ن َ‬
‫َ�ر ٰ‬ ‫ين‬‫الم ْر ِجف ْ‬ ‫َوفي ال َّط ِر ِ‬
‫يق َق َال َب ْع ُض ُ‬
‫َت ُق�و ُد ُه ال�روم بِ َش�ر َح ِ‬
‫�ال‬ ‫الح َب ِ‬
‫�ال‬ ‫�ر بِ ِ‬ ‫ُم َق َّي�دً ا ف�ي األَ ْس ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ ُ‬
‫�ن َس َ‬
‫�أ َلت َْه ُم)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفنَ�ز ََل ال ُق ْ�ر ُ‬
‫�م ( َلئ ْ‬
‫َوكَاش�ف ًا َعن ُْه ْ‬ ‫آن َي ْحك�ي َق ْو َل ُه ْ‬
‫�م‬
‫يشير الناظم إلى حال من أظهر النفاق في طريق تبوك حيث قال بعضهم لبعض‪ :‬أتحسبون‬
‫جالد بني األصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم غد ًا مقرنين في الحبال! فلما‬
‫سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقالتهم قالوا ‪ :‬إنما كنا نخوض ونلعب ‪ ،‬فأنزل‬
‫الله خبرهم في القرآن وأثبت استهزائهم وقال لهم ‪( :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)‬
‫[التوبة‪.]66:‬‬
‫َف َع�ا َد ِمن َْه�ا َع ِ‬
‫جًلً‬ ‫ُمن ِ‬
‫َ�او ًءا‬ ‫�م َي ِ‬
‫جدْ َح ْر ًب�ا َولاَ َك ْي�دً ا َول‬ ‫َو َل ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫َر َس�ائِ اًل‬ ‫َو َصا َل َح ال َب ْع َض ك ََما َقدْ َأ ْر َسَلَ‬
‫ل َب ْعض ِه ْ‬
‫�م ُم َف ِّصَلَ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪168‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫يشير الناظم إلى نزول النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك ولم يجد عدوا وال حربا وإنما‬
‫بعث بجملة من الرسائل إلى قيصر وملك أيلة ودومة الجندل ‪ ،‬كما صالح أهل أيلة وجرباء‬
‫وأذرح وقعنا ومقنا‪.#‬‬
‫ِ ِ‬ ‫َوف�ي ال َّط ِر ِ‬
‫�ون‬ ‫ل ُي ْس�ق ُطو ُه َو ُه ُ‬
‫�م ال ُي ْع َر ُف ْ‬ ‫الم َل َّث ُم ْ‬
‫ون‬ ‫�اء ُه ُ‬
‫ي�ق َج َ‬
‫�م َو َأ ْف َس�دَ ا‬
‫َو َر َّد َر ِّب�ي َمك َْر ُه ْ‬ ‫�م َأ َب�دَ ا‬ ‫�م َينَا ُل�وا ُم ْب َتغ ُ‬
‫َاه ْ‬ ‫َف َل ْ‬
‫يشير الناظم إلى ما رواه في سنن البيهقي ج‪ 32/9‬عن عروة قال ‪ :‬ورجع رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم قافال من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق َمك ََر برسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ناس من أصحابه فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبة في الطريق‬
‫‪ ،‬فلما بلغوا العقبة وأرادوا أن يسلكوها معه أمر رسول الله الناس أن يأخذوا بطن الوادي ‪،‬‬
‫وأخذ النبي العقبة إال النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما سمعوا‬
‫بذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة‬
‫بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه مشي ًا ‪ ،‬فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم من ورائهم‬
‫قد غشوهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة‬
‫ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن ‪ ،‬وارتعب القوم حين أبصروا‬
‫حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه ‪ ،‬فأسرعوا حتى خالطوا الناس وعاد حذيفة إلى رسول‬
‫عرفت يا حذيفة هؤالء الرهط؟ قال‬
‫َ‬ ‫صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم‪ :‬هل‬
‫عرفت راحلة فالن وفالن‪ ،‬قال‪ :‬هل علمتُم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قال‪ :‬ال‬
‫ُ‬ ‫حذيفة‪:‬‬
‫والله يا رسول‪ .‬قال‪ :‬فإنهم مكروا‪ ..‬يسيرون معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬أفال تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال‪ :‬أكره أن يتحدث‬
‫الناس ويقولون إن محمدا قد وضع يده في أصحابه‪ .‬فسماهم لهما وقال‪ :‬اكتماهم‪.‬اهـ سنن‬
‫البيهقي ج‪9‬‬
‫وفيهم قال تعالى‪( :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ) [التوبة‪ ]74:‬قال في رواية‪ :‬ومات االثنا عشر منافق ًا‬
‫محاربين لله تعالى ورسوله‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪169‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َف َقبِ َل ال ُع ْذ َر لمن أبدى األس�ف‬ ‫�ن َخ َل َ‬
‫�ف‬ ‫�اء ُه لِ اِل ْعتِ َ‬
‫�ذ ِار َم ْ‬ ‫َو َج َ‬
‫�ى ِ‬
‫الج�دَ ِار‬ ‫�ل َم ْر ُبو ًط�ا إِ َل ٰ‬
‫َف َظ َّ‬ ‫األَن َْص ِ‬
‫�اري‬ ‫َأ ُبو ُل َبا َب� َة‬ ‫إِلاَّ‬

‫الم َرا ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ�ى َأت ْ‬ ‫ب َأ ْو َط َعا ْم‬


‫ون ُش ْ�ر ٍ‬ ‫س� ْب َع َلي ٍ‬
‫َ�ت ت َْو َب ُت ُه ُت ْب�دي َ‬ ‫َحت ٰ‬ ‫ال ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َث اَل َث� ٌة فِ�ي آي ِ‬ ‫ي�ن َصدَ ُق�وا فِ�ي ال َق ْو ِل‬ ‫ِ‬
‫�ة ال َّتن ِْز ِ‬
‫ي�ل‬ ‫َ‬ ‫َأ َّم�ا ا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ب ِهَل�اَ ٍل َوك َ‬
‫الر َض�ا ف�ي آ َي�ة البِ َش َ‬
‫�ار ْة‬ ‫نَا ُل�وا ِّ‬ ‫َ�ذا ُم َ�ر َار ْة‬ ‫َك ْع ُ‬
‫يشير الناظم إلى المخلفين عن غزوة تبوك وقد جاؤوا إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم‬
‫يعتذرون ويرجوه أن يستغفر لهم فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم إال جماعة منه ‪ ،‬ومنهم أبو‬
‫لبابة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم عليه فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم‬
‫‪ ،‬ففزع أبو لبابة وربط نفسه بسارية التوبة سبع ًا بين يوم وليلة في حر شديد ال يأكل فيهن وال‬
‫علي ‪ ،‬فلم يزل كذلك‬
‫يشرب قطرة ‪ ،‬وقال‪ :‬ال يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله ّ‬
‫حتى ما يسمع الصوت له من الجهد ورسول الله ينظر إليه بكرة وعشية‪ ،‬ثم تاب الله عليه‬
‫فنودي أن الله تعالى قد تاب عليك فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلق عنه‬
‫رباطه فأبى أن يطلق عنه أحد إال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فجاءه رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم فأطلق عنه بيده ‪ ،‬فقال أبو لبابة حين أفاق ‪ :‬يا رسول الله إني أهجر دار قومي‬
‫التي أصبت فيها الذنب وأنتقل إليك وأساكنك وإني أختلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل‬
‫ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال‪( :‬يجزئ منك الثلث) ‪ ،‬فهجر أبو لبابة دار قومه وساكن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق بثلث ماله ‪ ،‬ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك في اإلسالم‬
‫إال خيرا حتى فارق الدنيا ‪« .‬الخبر في عيون األثر باختصار ج‪ »71/2‬راجع الجامع للسيرة‬
‫ص‪/136‬ج‪.4‬‬
‫وممن تخلف وصدق في االعتراف لرسول الله (الثالثة المخلفون) الذين وردت فيهم اآلية‬
‫‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ)‬
‫اآلية [التوبة‪ ، ]118:‬وهم‪ :‬كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهالل بن أمية‪ ،‬وقصتهم في كتب‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪170‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الحديث والسير مشهورة وفيهم نزلت (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫) [التوبة‪ ،]106:‬قال المفسرون‪ :‬هم الثالثة الذين خلفوا وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫أمرهم حتى أتته من الله توبتهم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪171‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫والت قبيل موت النبي ﷺ‬
‫ظاهِ ُر فِ قه التَّحَ ِ‬
‫مَ َ‬
‫�ه ا َّل ِ‬
‫الف ْق ِ‬
‫�ر ِ‬ ‫م�ن ِ‬
‫�ي َم�ا َج َ�رى َو ُو ِّث َق�ا‬ ‫�وت النَّبِ ِّ‬
‫َم َ‬ ‫�ذي َقد َس� َب َقا‬ ‫آخ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُخ ْطبتُ�ه ف�ي حج ِ‬
‫�ن ُج ْم َل�ة الدَّ َواع ْ‬
‫�ي‬ ‫ـه�ا م ْ‬ ‫َو َم�ا بِ َ‬ ‫ال�و َدا ِع‬
‫َ‬ ‫�ة‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ُ‬
‫�ن َأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َج ِام َع� ٌة لِ�ك ُِّل َأ ْم ٍ‬
‫�ب‬‫المن َق َل ْ‬ ‫م�ر ُدن َيانَ�ا َو َي�و ِم ُ‬ ‫م ْ‬ ‫�ب‬ ‫�ر َو َط َل ْ‬

‫يشري الناظم إىل اهتامم النبي ﷺ بأمور التحوالت وجمريات األحداث‪ ،‬وخطورة ما قد يقع‬
‫فيه املسلمون من بعده‪ ،‬فكانت خطبته ﷺ يف حجة الوداع من أعظم وأشمل ُ‬
‫اخلطب اجلامعة‬
‫شؤون احلياتني‪ ،‬وما جيب عىل األمة فهمه وإدراكه بشأن مسؤولياهتام ُبعيد نزول القرآن وبعثة‬
‫املصطفى ﷺ‪ ،‬وقد قال فيها‪« :‬ال أدري لعيل ال ألقاكم بعد عامي هذا»((( واعترب أهل العلم هذه‬
‫اخلطبة هي البيان األخري يف شأن الديانة والتدين وفيها حدَّ َد النبي ﷺ معامل املستقبل عىل الوجه‬
‫الذي يرضاه اهلل‪.‬‬
‫فهي (ضابطة التحوالت) من يوم اخلطبة إىل يوم الدين َفأ ُّي َخ َللٍ جيري يف ضوابط هذه‬
‫املفاهيم التي قررها ﷺ يف خطبته تشري إىل الفساد املمقوت والنقض الرصيح لمِ ا دعا إليه ﷺ‬
‫قبل أن يموت ومن هذه الثوابت‪:‬‬
‫‪ )1‬حرمة األموال واألعراض والدماء «إنَّ ِد َم َاء ُكم َ‬
‫وأ ْم َو َال ُكم َعليكم َح َرام»‪.‬‬
‫معنى من معاين‬
‫ً‬ ‫‪ )2‬حرمة القتال بني املسلمني‪َّ ،‬‬
‫وأن هذا الفعل داخل دائرة املسلمني يعد‬
‫العودة إىل الكفر «ال َت ْر ِج ُعوا َب ْع ِدي ُك َّفار ًا»‪.‬‬

‫سمعت رسول اهلل ﷺ خيطب‬


‫ُ‬ ‫(( ( وأخرج اإلمام أمحد والرتمذي من حديث أيب إمامة ريض اهلل عنه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حجة الوداع يقول‪« :‬اتقوا اهلل وصلوا مخسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم‬
‫تدخلوا جنة ربكم» ‪ ،‬ويف رواية أخرى‪« :‬يا أهيا الناس إنه ال نبي بعدي وال أمة بعدكم» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪172‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اجلاهلية َموضوع حَت َت َق َد ِمي»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪ )3‬كل أمر اجلاهلية موضوع «إنَّ كل يشء من أمر‬
‫ؤوس َأ ْموالِ ُكم‬ ‫وع َ‬
‫ول ُكم ُر ُ‬ ‫‪ )4‬إسقاط املعامالت الربوية بكافة صورها «وإنَّ ُك َّل ِربا َم ْو ُض ٌ‬
‫ال َتظلمون وال ُتظلمون َقض اهلل أن ال ربا وإنَّ َّأو َل ربا َأ َض َع ُه ِربا العباس بن عبداملطلب فإنه‬
‫َم ْو ُضوع ُك َّله»‪.‬‬
‫ض‬ ‫الشيطان َأيِ َ‬
‫س أن ُي ْع َب َد بأرضكم هذه أبد ًا؛ ولكنه أن يطمع فيام سوى ذلك فقد َر يِ َ‬ ‫‪« )5‬إنَّ َّ‬
‫بام حَ ْت ِق ُرون يف أعاملكم‪ ،‬فاحذروه عىل دينكم»‪ ،‬وفيه انتفاء االستتباع للرشك أو الكفر الرصيح‪،‬‬
‫وإنام بام دون ذلك من التحريش واإلفراط والتفريط‪.‬‬
‫‪( )6‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)‪.‬‬
‫‪« )7‬اتقوا اهلل واستوصوا بالنساء خري ًا فإهنن عندكم َع َوانٌ ‪ ..‬إلخ» إشار ٌة إىل االهتامم باملرأة‬
‫وربطها الالزم بالديانة واحلرص عىل تعليمهن وحسن معاملتهن‪.‬‬
‫تركت فيكم ما إن متسكتم لن تضلوا بعدي أبد ًا ما اعتصمتم به» ويف رواية‪« :‬كتاب‬
‫ُ‬ ‫‪« )8‬قد‬
‫اهلل عز وجل وسنة نبيه ﷺ»‪.‬‬
‫‪« )9‬إن كل مسلم أخ املسلم» وجاء رواية ‪« :‬أخو املسلم وإن املسلمني أخوة»‪.‬‬
‫‪ )10‬وملا رجع عن حجة الوداع إىل املدينة مجع الناس بامء بني مكة واملدينة يسمى (خم)‬
‫وخطبهم‪ ،‬وقال‪« :‬يا أيهُّ ا ال َّناس إ َّنام أنا برش مثلكم يوشك أن يأتيني َر ُ‬
‫سول َر َّبـي فأجيبه» ثم‬
‫حض عىل ال َّتمسك بكتاب اهلل ووصىَ بأهلِ بيته َخري ًا(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأخرج ابن أيب شيبة يف املصنف وأمحد يف مسنده وابن ماجه يف مقدمة السنن عن الرباء بن‬
‫عازب‪ ،‬قال‪« :‬ملا أقبلنا مع النبي ﷺ يف حجة الوداع حتى إذا كنا (بغدير خم) نودي فينا الصالة‬
‫جامعة وكسح النبي ﷺ حتت شجرتني فأخذ النبي ﷺ بيد ع ّ‬
‫يل‪ ،‬فقال‪« :‬ألست أوىل بكل مؤمن‬

‫((( أخرجه مسلم‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪173‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من نفسه»‪ ،‬قالوا ‪ :‬بىل‪ ،‬قال ‪« :‬أليس أزواجي أمهاهتم»‪ ،‬قالوا‪ :‬بىل يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬فإن هذا‬
‫موىل من أنا مواله‪ ..‬ال َّلهم ِ‬
‫وال من وااله وعاد من عاداه»‪ ،‬فلقيه عمر بعد ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬نسيناك يا‬
‫ابن أيب طالب أصبحت وأمسيت موىل كل مؤمن ومؤمنة (((‪ ،‬ويف رواية أمحد‪« :‬من كنت مواله‬
‫فعيل مواله‪ ..‬اللهم ِ‬
‫وال من وااله وعاد من عاداه وانرص من نرصه واخذل من خذله وأدر احلق‬
‫معه حيثام دار»‪.‬‬

‫((( ص‪« 497‬رشف املصطفى» لعبدامللك بن أيب عثامن‪ ،‬قال املحقق نبيل بن هاشم الغمري‪ :‬قال أبو عاصم‪:‬‬
‫وقد طعن قوم يف حديث ‪« :‬من كنت مواله فعيل مواله» منهم الشيخ ابن تيمية رمحه اهلل ذهب إىل أنه‬
‫مكذوب عىل رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وقد قال احلافظ الذهبي يف «السري» و «التذكرة» ‪ :‬احلديث ثابت بال ريب‪.‬‬
‫اهـ ص‪.493‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪174‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رار بَعدَه‬ ‫اع عَ ىل َ‬
‫الق ِ‬ ‫مَ وق ُِف ُه ﷺ مـن َق ِ‬
‫ضية االجْ تِمَ ِ‬
‫�و َأق�وى َس�نَدَ ا‬ ‫ك َُّل ُ‬
‫الو ُه�و ِم َو ْه َ‬ ‫َ�ذا َح ِد ٌ‬
‫ي�ث َق�دْ َأتَ�ى ُم َب�دِّ َدا‬ ‫ك َ‬

‫ك ََم�ا َأتَى في الن َِّّص فاس� َت ْع ِصم بِ ِه‬ ‫�ول ال�ذي َأ ْو َصى بِ ِه‬
‫�ر ال َق ِ‬ ‫ِمن ِ‬
‫آخ ِ‬

‫ِ‬
‫مطل�ب‬‫وع َظ� ًة َجلِي َل� ًة فِ�ي ا َل‬
‫م ِ‬
‫َ‬
‫اض ِمن َق ِ‬
‫ول النَّبِ ْي‬ ‫َف َقد روى ِ‬
‫الع ْر َب ُ‬ ‫ََ‬
‫رج ِع‬
‫ي�ر َم َ‬ ‫ص َأ َ‬
‫نت َخ ُ‬ ‫ف�أو ِ‬
‫َقال�وا‪ْ :‬‬ ‫الم�و ِّد ِع‬
‫ُ‬ ‫فيه�ا ُخط َب� َة‬
‫َ‬ ‫َأن‬
‫ك َّ‬
‫ِ‬ ‫�م ُعوا كَذا أطِي ُع�وا األُ َم َرا‬
‫ك�ن َع ْب�دَ ًا َقميئَ� ًا ُأم َ‬
‫ِّ�را‬ ‫�و َي ْ‬‫و َل ْ‬ ‫َق َال‪ْ :‬اس َ‬
‫َ�ذا ِ‬
‫انص َرا َفا‬ ‫في الحكْ� ِم ِ‬
‫والع ْل ِم ك َ‬ ‫�ش َي َ�رى َا ْختِ اَل َف�ا‬‫�ن َي ِع ْ‬ ‫َف َّ‬
‫ُ‬ ‫�إن َم ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َفالت َِزم�وا الم ِ‬
‫ل ُس�نَّتي َو ُخ َل َف�اء الس َ‬
‫ِّ�يـر ْة‬ ‫الش�هير ْة‬ ‫�ف َ‬ ‫واق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ع ُّض�وا ع َليها فِي َل َظ�ى الكَو ِار ِ‬ ‫�يد و ِار ِ‬ ‫�دي ر ِش ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ث‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫َ‬ ‫�ن ك ُِّل َم ْه ٍّ َ‬ ‫م ْ‬

‫(((يشري الناظم إىل أن من صفات النبوة إخباره ﷺ بام سيحصل من بعده يف حميط احلكم‬
‫والعلم‪ ،‬وكيف استبق ﷺ األحداث‪ ،‬ووضع املعاجلات لشتى الظروف املتوقعة حيث ألقى‬
‫نصها‪ :‬عن أيب نجيح العرباض بن سارية‬
‫خطبته الشهرية التي رواها العرباض بن سارية‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫القلوب و َذ ْ‬
‫رفت منها العيون‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا‬ ‫وع َظنَا رسول اهلل ﷺ َموعظ ًة َو ْ‬
‫جلت منها ُ‬ ‫ؤ‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مع َّ‬
‫والطاع َة وإِ ْن َت َّأمر‬ ‫موعظة ُمو ِّد ٍع َفأ ْو ِصنَا‪ ،‬قال‪« :‬أ ْو ِص ْيكم بتقوى اهلل َ‬
‫والس َ‬ ‫ُ‬ ‫رسول اهلل كأنهَّ ا‬

‫اخل َل َفاء َّ‬


‫الراشدين‬ ‫بس َّنتِي ُ‬
‫وس َّنة ُ‬ ‫فسيرَ ى اختالف ًا كثري ًا‪ ،‬فعليكم ُ‬ ‫ش منكم َ‬ ‫َعليكم َع ْبدٌ ‪ ،‬وإنه من َي ِع ْ‬
‫دعة ضاللة»(((‪ .‬ووردت‬ ‫ومدَ ثات األمور فإن ُك َّل بِ ٍ‬ ‫املَ ْهديني َع ُّضوا عليها بال َّنواجذ‪ ،‬وإ َّي ُاكم حُ‬

‫املشوه‪.‬‬
‫(( ( القمئ ‪ :‬القصري ّ‬
‫((( رواه أبو دواد والرتمذي وقال ‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪175‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أحاديث شتى حول ما َّ‬
‫حذر منه النبي ﷺ من بعده حول مسألة االختالف يف القرار‪ ،‬منها‬
‫ول اهلل ﷺ َعلىَ َق ْتلىَ ُأ ُح ٍد ُث َّم َص ِعدَ‬ ‫«صلىَّ َر ُس ُ‬ ‫حديث مسلم عن عقبة بن عامر ؤ‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫ض َوإِ َّن َع ْر َض ُه َكماَ َبينْ َ َأ ْي َل َة إِلىَ‬ ‫ات‪ ،‬فقال‪« :‬إِنيِّ َف َر ُط ُك ْم َعلىَ َ‬
‫احل ْو ِ‬ ‫اء َوالأْ َ ْم َو ِ‬
‫املو ِّد ِع لِلأْ َ ْح َي ِ‬
‫المْ ِ ْنبرَ َ َك َ‬
‫الجْ ُ ْح َف ِة إِنيِّ َل ْس ُت َأ ْخ َشى َع َل ْي ُك ْم َأ ْن تُشرْ ِ ُكوا َب ْع ِدي َو َل ِكنِّي َأ ْخ َشى َع َل ْي ُك ْم الدُّ ْن َيا َأ ْن َتنَا َف ُسوا ِف َيها‬
‫آخ َر َما َر َأ ْي ُت َر ُس َ‬
‫ول اهلل ﷺ َعلىَ‬ ‫ال ُع ْق َب ُة‪َ :‬ف َكا َن ْت ِ‬ ‫َ َت ْقتَتِ ُلوا َفت َْه ِل ُكوا َكماَ َه َل َك َم ْن َك َ‬
‫ان َق ْب َل ُك ْم» ‪َ ،‬ق َ‬

‫المْ ِ ْنبرَ ِ(((‪.‬‬


‫وقوله‪« :‬أوصيكم بتقوى اهلل‪ ..‬والسمع والطاعة» قال ابن رجب احلنبيل يف جامع العلوم‬
‫ِ‬
‫واحل َكم‪( :‬وأما السمع والطاعة لوالة أمور املسلمني ففيها سعادة الدنيا‪ ،‬وهبا تنتظم مصالح‬
‫ربم‪ ،‬كام قال اإلمام عيل بن أيب طالب‬
‫العباد يف معاشهم‪ ،‬وهبا يستعينون عىل إظهار دينهم وطاعة هَّ‬
‫فاج ٌر‪ ،‬إن كان فاجر ًا عبد املؤمن فيه ر ّبه ومحل‬
‫إمام َب ٌّر أو ِ‬ ‫ؤ‪« :‬إنَّ الناس ال ُي ِ‬
‫صل ُح ُهم إل ٌ‬
‫الفاجر فيها إىل أجله» ((( ‪ ،‬قال احلسن يف األمراء‪« :‬هم َيل ْونَ من أمورنا مخس ًا‪ :‬اجلمع َة واجلامعة‬
‫الدين إل هبم ‪ ،‬وإنْ جاروا وظلموا‪ ،‬واهلل لمَ َا ُي ْص ُ‬
‫لح اهلل‬ ‫والعيد وال ُّثغور واحلدود‪ ،‬واهلل ما َيستقيم ِّ‬

‫لغيظ ‪ ،‬وإنَّ فرقتهم ٌ‬


‫لكفر‪.(((»...‬‬ ‫أكثر ممَّا ُيفسدون‪ ،‬مع أنَّ ‪-‬واهلل‪ -‬إنَّ طاعتهم ٌ‬
‫هبم ُ‬

‫((( أخرجه مسلم والرتمذي وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر‪.‬‬


‫((( أخرجه البيهقي يف «شعب اإليامن « برقم ( ‪.) 7508‬‬
‫(( ( «جامع العلوم» البن رجب ص‪. 340‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪176‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫موقفه ﷺ من َّ‬
‫الصالة بالنّاس‬
‫�ق ال َق�و ِم فِ�ي ِ‬
‫الق َي ِ‬
‫�اس‬ ‫�ن َأ َح ُّ‬ ‫الصلا ُة بع�دَ ُه بِالن ِ‬
‫َو َم ْ‬ ‫َّ�اس‬ ‫كَ�ذا َّ‬
‫ُ�م‬ ‫ُم ُ�رو أ َب�ا َبك ٍ‬
‫ْ�ر ُي َص ِّل�ي بِك ُ‬ ‫َ�ار َل َّم�ا َو َه ُم�وا‬
‫المخْ ت ُ‬ ‫َق�دْ ك َّ‬
‫َ�ر َر ُ‬
‫�ال َطـ� َه‪َ :‬أ ْم ُ�ر َر ِّب�ي َق�دْ َصدَ ْر‬
‫َف َق َ‬ ‫ليص ِّل َه�ا ُع َم ْ‬
‫ـــر‬ ‫َقا ُل�وا‪َ :‬أ ِس ٌ‬
‫�يف َف َ‬
‫اك الم ِ‬
‫ُ�ون‬
‫هم�ا َيك ْ‬ ‫َأن الَ ُي َص ِّل�ي غ ُ‬
‫َي�ر ُه َم َ‬ ‫ُ�ون‬
‫ؤمن ْ‬ ‫َ�ذ َ ُ‬ ‫َيأ َب�ى ا ِ‬
‫إل َل� ُه َوك َ‬

‫أن من مواقف صاحب الرسالة التي ُي ْقتَدَ ى هبا ما كان منه ﷺ‬


‫يشري الناظم يف هذا الفصل َّ‬
‫يصيل بالناس يف مرضه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وما جرى من‬
‫َ‬ ‫يف ترشيح أيب بكر الصديق َأن‬
‫تكرار لفظه بقوله‪ُ « :‬م ُروا أبا بكر ف ْل ُي َص ِّل بِالن ِ‬
‫َّاس»((( وتدَ َّخ َل بعض نسائه يف ترشيح سيدنا عمر‬
‫ؤ‪ ،‬وما جرى منه ﷺ من انفعال وإعادة األمر بتقديم أيب بكر مع رده عليهن بقوله‪« :‬إِ َّن ُك َّن‬
‫وسف» (((‪.‬‬ ‫ب ُي‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َصواح ُ‬
‫َوفيِ هذا امللحظ تأثري العاطفة وامليول لدى البعض أمام األمر الصادر‪ ،‬ويؤكد الرسول ﷺ‬
‫أن َت ْق ِد َم َة أبا بكر الصديق أمر يرضاه اهلل ورسوله واملؤمنون بقوله فيام رواه البخاري‪« :‬يأبى اهلل‬
‫ذلك واملؤمنون» عدة مرات‪ ،‬وهذا هو ما استدل به اإلمام عيل ؤ يف مسألة تقدمة أيب بكر‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ‬ ‫الصديق يف اخلالفة بعد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬بقوله‪« :‬ال نُقي ُل َك وال ن َْستَقي ُل َك‪َ ..‬قدَّ َم َك‬
‫اك لدُ نيانا؟»‪ ..‬وهكذا تكون املواقف‪.‬‬ ‫لِ ِدينِنَا‪ ..‬ألاَ ن َْر َض َ‬

‫((( رواه البخاري ومسلم ‪« .‬كنز العامل» (‪.)549 :11‬‬


‫((( أخرجه البخاري «‪ »173 :1‬برقم (‪ )682‬قال ‪ :‬حدثنا حييى بن ُسليامن قال ‪ :‬حدثنا ابن َو ْهب قال‪:‬‬
‫حدثني ُيونس ‪ ،‬وال َّن َسائي يف «الكربى» برقم (‪ )9227‬قال ‪ :‬أخربنا َص ْفوان بن َع ْمرو ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا برش‬
‫بن ُش َعيب ‪ ،‬قال ‪ :‬أخربين أيب‪ .‬وأمحد يف مسنده (‪ )361 :5‬برقم (‪.)23448‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪177‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫موقفه ﷺ من اللغط واالختالف عنده‬
‫صحا َب� ُه ُم َف ِّس�ر ًا لِغ ََر ِض� ْه‬ ‫َأ َ‬ ‫�ي ِعنْ�دَ َم َر ِض� ْه‬ ‫كَ�ذا َد َع�ا النَّبِ ُّ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الو ِص َّي� َة األَ ِخ ْي َ�ر ْة‬ ‫ِ‬
‫َف َل َغ ُط�وا ف�ي َحا َل�ة ُمث َ‬
‫ي�ر ْة‬ ‫َ‬ ‫ل َي ْكت َ‬
‫ُ�ب‬

‫�س‬‫ي�ب النَّ َف ِ‬‫�ذا ِم�ن غ َِر ِ‬ ‫َان َه َ‬


‫َف�ك َ‬ ‫اخر ُجوا ِمن َمجلِ ِس ْي‬ ‫وموا َو ُ‬ ‫َف َق َال‪ُ :‬ق ُ‬
‫المن َط َل ْ‬ ‫ِ‬ ‫كم� ٌة َع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي�ه ِس�ر لِ َق َض ٍ‬ ‫وف ِ ِ‬
‫�ق‬ ‫جي َب� ٌة ف�ي ُ‬ ‫َوح َ‬ ‫�اء َق�د َس� َب ْق‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫و َق َ ِ‬
‫�اس‬ ‫َر ِز َّي� ٌة َم�ا م ْث ُل َه�ا ُي َق ُ‬ ‫�اس‪:‬‬ ‫الس� ِّيدُ ال َع َّب ُ‬
‫�ال ف َيه�ا َّ‬ ‫َ‬
‫إلنْتِم�ا‬ ‫َت َف َّه ُم�وا ِم�ن ِس ِّ�ر َه َ‬
‫�ذا ا ِ‬ ‫َوك ُُّل َق�و ٍم َف َّس ُ�ر َ‬
‫وها َحس� َبما‬
‫فِ�ي َش ِ‬
‫�أن َم�ن َي ُقو ُد ُه�م ُم َح ّق َق�ا‬ ‫اجته�ا َد ًا ُم ْط َل َقا‬
‫مر َ‬ ‫لِ َ‬
‫�ذا اقت ََضى األَ ُ‬
‫ألَ َّن َطـ� َه ال ُي َحاب�ي َم�ن َو َج�دْ‬ ‫�اص ألَ َحدْ‬ ‫ِ‬
‫ي�س في األَم�ر انت َق ٌ‬
‫َو َل َ‬
‫�اد ِ‬
‫الم ْث ِ‬
‫�ل‬ ‫م َؤكِّ�دٌ دور اجتِه ِ‬ ‫�ل‬‫�ر ُد ْو َن َف ْص ِ‬ ‫َفت َْركُ� ُه لِ َ‬
‫أل ْم ِ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫الفتن ِ‬
‫داع�ي ِ‬
‫بِ�أي معن�ى َفه�و ِ‬ ‫الصح َب ِة‬ ‫ِ‬
‫َ�ة‬ ‫ِّ َ ً ْ َ‬ ‫�ن َت َع�دَّ ى َطاعنَ ًا ف�ي ُّ‬
‫َو َم ْ‬

‫(((يشري الناظم يف هذا الفصل إىل حادثة أخرى من حوادث املرحلة األخرية من حياة‬
‫رسول اهلل ﷺ وما التبس فيه األمر لدى املفرسين للمواقف‪ ،‬فقد روى البخاري عن ابن‬
‫عباس ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪« :‬ملَّا اشتد بالنبي ﷺ َو َج ُع ُه قال‪ :‬ائتوين بكتاب أكتب لكم كتاب ًا‬
‫إن ال َّنبي ﷺ غ َل َب ُه الوجع وعندنا كتاب اهلل َحس ُبنَا‪ ،‬فاختلفوا َ‬
‫وك ُثر‬ ‫ال تضلوا بعده» قال عمر‪َّ :‬‬

‫ال َّل َغ ُط‪ ،‬قال ﷺ‪ُ :‬ق ُ‬


‫وموا َعنِّي وال ينبغي عندي التنازع»‪ .‬فخرج ابن عباس يقول‪َّ :‬‬
‫إن الرزية‬
‫َّ‬
‫كل الرزية ما حال بني رسول اهلل ﷺ وبني كتابه(((‪ .‬وقد جاء يف صحيح البخاري عن‬

‫((( من وجد يف نفسه وحنق‪.‬‬


‫(( ( أخرجه البخاري بعدة روايات عن ابن عباس‪ ،‬رقم احلديث‪.)6932 ،5345 ،4169 ،114( :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪178‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عبيداهلل بن عبداهلل بن عتبة عن ابن عباس ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪ :‬يوم ُحضرِ َ َر ُس ُ‬
‫ول اهلل ﷺ َوفيِ‬
‫«ه ُل ُّموا َأ ْك ُت ْب َل ُك ْم ِكتَا ًبا لاَ َت ِض ُّلوا َب ْعدَ ُه» فقال بعضهم‪َّ :‬‬
‫إن رسول‬ ‫ال‪َ ،‬ف َق َ‬
‫ال ال َّنبِ ُّي ﷺ َ‬ ‫ا ْل َب ْي ِ‬
‫ت ِر َج ٌ‬

‫اختصموا‬
‫ُ‬ ‫َاب اهلل فاختلف َأ ْهل البيت َو‬
‫اهلل ﷺ َقد غلبه ا ْل َو َجع وعندكم ا ْل ُق ْرآن‪َ ،‬ح ْس ُبنَا ِكت ُ‬
‫فمنهم َم ْن َي ُقول‪َ :‬ق ِّر ُبوا يكتب َل ُك ْم كتا ًبا لاَ َت ِض ُّلوا َب ْعدَ ُه‪ ،‬ومنهم من يقول َغيرْ َ ذلك‪ ،‬فلام َأ ْك َثروا‬
‫الر ِز َّي َة‬
‫وموا» ‪ ،‬قال عبداهلل فكان ابن عباس يقول‪« :‬إِ َّن َّ‬ ‫ال رسول اهلل ﷺ‪ُ « :‬ق ُ‬ ‫ال َّلغْ َو َوالاِ ْختِلاَ ف َق َ‬

‫ول اللهَّ ِ ﷺ َو َبينْ َ َأ ْن َي ْك ُت َب لهَ ُ ْم َذلِ َك ا ْل ِكت َ‬


‫َاب لاِ ْختِلاَ ِف ِه ْم َو َل َغ ِط ِه ْم»‪.‬‬ ‫الر ِز َّي ِة َما َح َ‬
‫ال َبينْ َ َر ُس ِ‬ ‫ُك َّل َّ‬
‫ويف هذا احلديث إشارة َّأكدَ عليها الناظم‪ ،‬وهي إخراجه ﷺ القوم من جملسه بعد َل َغ ِط ِهم‬
‫وعدم إحلاحه أو إرصاره بعد ذلك عىل فعل ما أراد اهلل من الكتابة‪ ،‬مما يدل عىل أن األمر مل يكن‬
‫ظه ُار ُه مهام كان األمر ومهام كان ال َّل َغ ُط يف جملسه ﷺ(((‪،‬‬
‫إشهار ُه وإِ َ‬
‫ُ‬ ‫فيه وحي من اهلل‪ ،‬وإال لزم‬
‫راجح أبرزه لغريه باعتبار أن ذلك‬
‫ٌ‬ ‫الر ِز َّي ِة»‪ ..‬فهو رأي‬
‫الر ِز َّي َة ُك َّل َّ‬
‫وأما قول العباس بأهنا «إِنَّ َّ‬
‫اليوم لو قىض فيه رسول اهلل ﷺ ما كان بصدده ال نحسم اخلالف واإلشكال الذي يتلجلج يف‬
‫الصدور‪ .‬وقد فسرّ البعض كالم العباس ؤ بام ال يناسب املقام‪ ،‬وهلذا عبرّ الناظم عن ذلك‬
‫بقوله‪:‬‬

‫تفهم�وا م�ن ِس ِّ�ر ه�ذا االنتم�اء‬


‫َّ‬ ‫وك ُُّل ق�و ٍم َف َّس ُ�ر َ‬
‫وها َح ْس� َبما‬
‫ف�ي َش ِ‬
‫�أن م�ن يقوده�م ُمحقق�ا‬ ‫األمر اجته�اد ًا ُم ْط َلقا‬
‫اقتضى ُ‬ ‫لِ َ‬
‫�ذا َ‬

‫((( قال الشيخ الندوي يف كتابه «املرتىض» ‪ :‬وقد عاش رسول اهلل ﷺ بعدما طلب القرطاس ثالثة أيام‪ ،‬ومل يعد‬
‫إىل ما طلبه ومل يرصح بيشء يف أمر اخلالفة‪ ،‬ووىص يف نفس ذلك اليوم بوصايا ومل يرصح فيها بيشء من‬
‫أمر اخلالفة‪ ،‬ويقول سيدنا عيل ريض اهلل عنه‪« :‬أوىص رسول اهلل ﷺ بالصالة والزكاة وما ملكت أيامنكم»‬
‫رواه البيهقي وأمحد‪ .‬ومنها قوله‪« :‬قاتل اهلل اليهود والنصارى اختذوا ُق ُبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬ال َي ْب َقينَ َّ ِدين ِ‬
‫َان‬
‫ِ‬
‫بأرض العرب» رواه مالك يف «املوطأ» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪179‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يشري الناظم إىل أن ترك الرسول ﷺ موضوع الكتابة من أساسه فتح باب ًا االجتهاد عىل‬
‫مرصاعيه بعد وفاته للصحابة ئ أمجعني يف شأن القيادة‪.‬‬
‫ومن عجيب ما نقله صاحب «تاريخ اخلميس» يف هذا األمر‪ ،‬قوله‪ :‬ومما وقع يف مرحلته ﷺ‬
‫وجعه اشتد يوم اخلميس فأراد أن يكتب كتاب ًا‪ ،‬فقال لعبد الرمحن بن أيب بكر‪« :‬ائتني بكتف‬
‫أن َ‬‫َّ‬
‫أو لوح أكتب أليب بكر كتاب ًا ال خيتلف عليه»‪ ،‬فلام ذهب عبدالرمحن‪ ،‬قال‪ :‬أبى أن خيتلف عليك‬
‫يا أبا بكر‪ .‬اهـ((( ‪.‬‬

‫ألَ َّن َطـ� َه ال ُي َحابِ�ي م�ن َوج�دْ‬ ‫انتق�اص ألَ َحدْ‬


‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫األم�ر‬ ‫ولي�س في‬
‫َ‬

‫يشري الناظم إىل أن حديث الكتابة وما جرى بشأن ال َّل َغ َط وما ترتب عليه ليس فيه من حيث‬
‫مفهوم (سنة املواقف) من «انتقاص ألحد» من الصحابة أو احلارضين‪ ..‬ألن الرسول ﷺ مل‬
‫يرش بقوله إىل هتمة أحد من أصحابه يف جملسه‪ ،‬وإنام أمر اجلميع باخلروج‪ ..‬ولو كان يف هذا‬
‫لسبب أجراه اهلل عىل لسانه فاملوقف النبوي «ال حُيايب»‬
‫ٍ‬ ‫املوقف ما يدل عىل انتقاص ٍ‬
‫أحد معني‬
‫أحد ًا سواء كان قوله من قبيل التأثر باملوقف أو كان يف نفسه يشء عىل أحد من القوم‪.‬‬

‫إضافة إىل أن َف ْه َم البعض امتناع قول النبي حقيقة معينة ل ّل َغ ِط الذي جرى عنده ٌ‬
‫فهم ال‬
‫يتناسب مع مقام النبوة‪ ،‬فالنبي ﷺ لن يكتم شيئ ًا من الوحي أمر بإبالغه‪.‬‬
‫�اد ِ‬
‫الم ْث ِ‬
‫�ل‬ ‫م َؤكِّ�دٌ دور اجتِه ِ‬ ‫�ر ُد ْو َن َف ْص ِ‬
‫�ل‬ ‫َفتركُ� ُه ل َ‬
‫أل ْم ِ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫أي ترك األمر دون فصل فيه يؤكد بروز موقف صاحب الرسالة من موافقته عىل االجتهاد‬
‫يف شأن هذا األمر الذي مل حيسم‪ ،‬وأما حديث املواالة الذي سبق فهو حديث بمختلف رواياته‬
‫ُيبرْ ِ ُز فضل اإلمام عيل ومكانته يف اإلسالم إلاَّ أن العلامء أكدّ وا عدم إثبات اخلالفة نص ًا لإلمام‬

‫((( «تاريخ اخلميس « (‪.)164 :2‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪180‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نص عىل‬
‫صح إسناده‪ٌّ -‬‬
‫ريض اهلل عنه‪ ،‬قال البيهقي يف كتاب االعتقاد‪« :‬ليس يف احلديث((( ‪-‬إن ّ‬
‫والية عيل ريض اهلل عنه بعد رسول اهلل ﷺ»(((‪ ،‬وقال اإلمام الشافعي ‪ :‬إن املراد به يف احلديث‬
‫‪ :‬والء اإلسالم وذلك لقوله تعاىل‪( :‬ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) (((‪،‬‬
‫وملا سأل سائل عنه احلسن بن عيل ريض اهلل عنهم قال له‪« :‬لو عنى به رسول اهلل ﷺ علي ًا‬
‫لكان نصح املسلمني وقال‪ :‬أيهُّ ا الناس هذا و ُّيل أمركم والقائم عليكم من بعدي فاستمعوا له‬
‫وأطيعوا‪ ،‬واهلل لئن كان اهلل عز وجل اختار علي ًا هلذا األمر وجعله القائم به للمسلمني من بعده‬
‫وأعظم الناس خطيئة وجرم ًا‪..‬‬
‫َ‬ ‫ثم ترك أمر اهلل ورسوله لكان عيل َّأول من ترك أمر اهلل ورسوله‬
‫وح َ‬
‫اشاه ذلك‪.‬‬ ‫َ‬

‫((( حديث املواالة‪.‬‬


‫((( «كتاب االعتقاد» للبيهقي (‪.)332 :1‬‬
‫((( حممد‪.11 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪181‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ووصاياه عند موته التي َر َفع بها‬
‫َ‬ ‫مَ واقف أخرية ُقبيل مَ وت ِِه‬
‫صوته ﷺ‬ ‫َ‬
‫الصلا َة ِذكْ�ر ًا ر َّد َدا‬
‫َّ‬ ‫نب ُّين�ا‬ ‫وكان م�ن ِ‬
‫آخ ِره�ا ق�د أكَّ�دَ ا‬

‫ال�روا ُة ق�د َر َو ْت‬


‫أيمانَك�م به�ا ُّ‬
‫ْ‬ ‫َ�ذا ال� َّزكَا َة ِم ْث َله�ا م�ا َم َل ْ‬
‫ك�ت‬ ‫ك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫و َب َّش�ر الز َّْه َ�ر َاء فيم�ا ق�د ُف ِه ْ‬
‫�م‬ ‫به�م‬
‫ُ�م ْ‬‫�ال‪ُ :‬أوصيك ْ‬ ‫�ي َق َ‬
‫وآل َب ْيت ْ‬
‫فابتس�مت وكان ه�ذا م ِ‬ ‫�ن ال ُّل ُح ِ‬ ‫ِ‬
‫وقف�ا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الم ْصطف�ى‬
‫�ي ُ‬ ‫�وق بالنَّبِ ِّ‬ ‫م َ‬
‫وخيـ�ر َفاختَ�ار الحي�ا َة ِ‬ ‫ِ‬ ‫لم�ا َن َظ َ�ره‬
‫اآلخ َ�ره‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫الس�واك َّ‬ ‫َو َط َل َ‬
‫�ب ِّ‬
‫(((يشري الناظم إىل املواقف األخرية التي أبرزها ﷺ كشاهد عىل اهتاممه بأهم أمور تشغله‬
‫الصال َة َ‬
‫وآل بيتي» ‪ ،‬وهي أمانة وضعها رسول‬ ‫ُقبيل وفاته تكراره ﷺ عىل الوصية‪َّ :‬‬
‫«الصال َة‪َّ ..‬‬
‫اهلل يف أعناق األ ّمة‪ ،‬وبشارة للسيدة الزهراء بأهنا أرسع آل بيته حلوق ًا به ﷺ‪.‬‬
‫العلم من بعده أن‬
‫ِ‬ ‫احلكم أو‬
‫ِ‬ ‫ووصية الرسول ﷺ بآل بيته إشار ٌة منه لكل من سيتوىل َ‬
‫قرار‬
‫س ُ‬
‫اخل ُم ِ‬
‫س وتقدمتهم وتكرمتهم واستفادة الشعوب‬ ‫القربى من رسول اهلل ﷺ َك ُخ ُم ِ‬
‫يعرف َحقَّ ُ‬

‫وخ ُل ِق ِهم إذ هبم وبمن أخذ عنهم منهج السالمة جتتمع كلمة َّ‬
‫األمة وتزول غالب‬ ‫من علمهم ُ‬
‫سلبياهتا‪.‬‬
‫وأما مسألة موقعهم من القرار فال إشارة يف نص احلديث يف ما يظهر لنا إىل يشء من ذلك‬
‫حيث جرى مثل هذه الوصية منه ﷺ باألنصار وغريهم‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫ـر) بسكون الياء وفتح الراء أي‪ُ :‬خيرِّ َ ‪ُ ،‬‬


‫وخففت ملناسبة الشعر‪ ،‬وهي لغة يف أحد وجيهها‪.‬‬ ‫((( ِ‬
‫(خ ْي َ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪182‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫تَحو ٌل َخطريٌ يف فِ قه التَّحوُّالت‬ ‫النبي ﷺ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫موت‬

‫النبـي ﷺ‪ ،‬وهي ‪-‬كام أشار صاحب‬


‫ِّ‬ ‫موت‬
‫ُ‬ ‫كانت أخطر التحوالت يف عرص الرسالة‬
‫«اإلشاعة» يف الباب األول‪ -‬من أعظم املصائب يف الدِّ ين بل أعظمها‪ ،‬ومن ثم قال ﷺ‪« :‬إذا‬

‫فإنا َأ ُ‬
‫عظم املصائب» (((؛ ألن وجوده ﷺ بني‬ ‫ٍ‬
‫بمصيبة فليذكر مصي َبت ُه بـي‪ ،‬هَّ‬ ‫أصيب أحدُ ُكم‬
‫ظهراين الناس كان أمان لألمة وتأسيس لرشف الدعوة اإلسالمية بنـزول الوحي عىل رسول‬
‫وخطأٍ‪ ..‬وأما موته ﷺ فهو باب‬
‫نوح َ‬ ‫ٍ‬
‫وثبات يف املعاجلات لكل ما يقع يف الناس من ُج ِ‬ ‫اهلل ﷺ‬
‫لفتح ما َأ ْو َعدَ به ﷺ من توارد عالمات الساعة‪ ،‬وبروز رؤوس ِ‬
‫الفتن التي َح َّذر منها عليه‬
‫الصالة والسالم يف جممل أحاديثه‪.‬‬
‫َّ‬
‫وعن عائشة ريض اهلل عنها‪ :‬أن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬من أصيب منكم بمصيبة من‬
‫يصاب أحدٌ من أمتي من بعدي بمثل مصيبته‬
‫َ‬ ‫بعدي فل َيت ََع َّز بمصيبته بـي عن مصيبته‪ ،‬فإنه لن‬
‫بـي»(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫بـيت‬ ‫الساعة‪َ :‬موتِـي‪ ،‬ثم َف ُ‬
‫تح‬ ‫وعن عوف بن مالك رفعه‪ ،‬قال‪ُ « :‬ا ْعدُ ْد ِس ّت ًا بـني يدي َّ‬
‫املَقدس‪ ...‬احلديث» ((( اهـ‪.‬‬

‫((( رواه الطرباين عن سابط اجلمحي وابن سعد عن عطاء بن أيب رباح‪.‬‬
‫((( رواه الطرباين يف «األوسط» ‪.‬‬
‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه عن عوف بن مالك ‪ ،‬ومتام احلديث‪ُ « :‬ا ْعدُ ْد ِس ّت ًا بني يدي الساعة‪ :‬مويت‪ ،‬ثم‬
‫فتح بيت املقدس‪ ،‬ثم ُموتانٌ يأخذ فيكم كقعاص الغنم‪ ،‬ثم استفاضة املال حتى يعطى الرجل مئة دينار‬
‫فيظل ساخط ًا‪ ،‬ثم فتنة ال يبقى بيت من العرب إلاَّ دخلته‪ ،‬ثم هدنة تكون بينكم وبني بني األصفر فيغدرون‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪183‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ظاهِ ُر تَحَ و ُ‬
‫ُّالت ما بَعْ َد عَ رْ ِ‬
‫ص ال ِّر َسالة‬ ‫مَ َ‬

‫�ماء ورخي�م صوتِ ِ‬


‫�ه‬ ‫وح�ي الس ِ‬ ‫�ول وا ْن َق َض�ى بموتِ ِ‬
‫�ه‬ ‫الر ُس ُ‬
‫ُ َ ْ‬ ‫َ ْ ُ َّ‬ ‫َْ‬ ‫�ات َّ‬
‫َم َ‬
‫�ار َأ ْب َل َج�ا‬
‫فص َ‬‫ي�ن َ‬ ‫َ‬
‫وأ ْظ َه َ�ر الدِّ َ‬ ‫�ت َحتّ�ى َأ َق�ا َم ُ‬
‫الح َج َجا‬ ‫ول�م َي ُم ْ‬
‫ْ‬
‫ـ�ر َعالِـ� ٍم َي ُص ُ‬
‫�ول‬ ‫ِم�ن ك ُِّل َح ْب ٍ‬ ‫َي ْح َف ُظ� ُه ال ُف ُح ُ‬
‫�ول وال ُع�دُ ُ‬
‫ول‬

‫أشار الناظم إىل انتقال الرسول ﷺ من عامل الدنيا إىل عامل اآلخرة‪ ،‬وأن هبذا األجل املقيض‬
‫انقطع عن األرض «وحي السامء» الذي استمر ثالث ًا وعرشين سنة‪ ،‬كام انقطع أيض ًا رخيم صوت‬
‫الرسول ﷺ بـني أصحابه وأهله؛ ولك َّنه عليه الصالة والسالم «مل يمت حتى أقام ُ‬
‫احل َج َج»‬

‫والعدُ ول» من‬ ‫الدين» عالي ًا بلج ًا «حيفظه ُ‬


‫الف ُحول» من الصحابة « ُ‬ ‫وجاهد يف سبـيل اهلل «وأظهر ِّ‬
‫العلامء والتابعني وتابعي التابعني‪.‬‬

‫إل َم َام� ْة‬ ‫ـ�ر ٍة ف�ي َمن ِْص ِ‬


‫�ب ا ِ‬ ‫لح ْي َ‬
‫َ‬ ‫الم ْص َط َف�ى َع َ‬
‫الم� ْة‬ ‫�و ُت ُ‬
‫َان َم ْ‬
‫وك َ‬

‫وت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وما‬


‫يشري الناظم إىل إحدى عالمات ال َّتحول يف هذه املرحلة‪ ،‬وهي َم ُ‬
‫األمر من مواقف متنوعة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّأدى إليه ذلك‬
‫المنْ َط َل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الموت َب ْع ُض ال َق َل ِق‬
‫�ق‬ ‫وحال� ٌة م�ن َر ْج َف�ة ُ‬ ‫وقد َج َرى في‬

‫إشار ٌة إىل املفاجأة التي حدثت بموت رسول اهلل ﷺ يف أصحابه وشمول القلق واالرجتاف‬
‫من هول احلدث باعتبار حال البرشية‪.‬‬

‫فيأتونكم حتت ثامنني غاية حتت كل غاية اثنا عرش ألف ًا»‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪184‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وح َس َ�رى‬
‫الر ُ‬
‫َّبـ�ي إن ََّم�ا ُّ‬
‫�و َت الن ِّ‬
‫َم ْ‬ ‫كان ال َي َ�رى‬
‫وق َ‬‫�ار ُ‬
‫َف ُع َم ُ�ر ال َف ُ‬
‫�ج ِد‬
‫الم ْس ِ‬
‫ون َ‬
‫َقتَلتُ�ه بالس�ي ِ‬
‫ف ُد َ‬ ‫ّ ْ‬ ‫ُ‬
‫�وت َأحم ِ‬
‫�د‬ ‫ْ َ‬
‫وق�ال م�ن نَ�ادى بم ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫إشارة إىل ما َط َر َأ عىل س ِّيدنا عمر ؤ عند تلقي اخلرب وإرصاره عىل أن رسول اهلل مل يمت‬
‫وإنام ذهب إىل ربه كام ذهب موسى وإنه سريجع‪ ،‬وصعد عمر ؤ عىل املنرب يصيح بالناس‬
‫وهيدد القائلني بموت رسول اهلل بالقتل والنفاق‪.‬‬

‫ي با َّل�ذي َيلِ ُ‬
‫ي�ق‬ ‫الح ِ‬
‫�ر ُّ‬ ‫وه�و َ‬ ‫ْ‬ ‫ي�ق‬ ‫ول�م َي�زَل َحتَّ�ى َأتَ�ى ِّ‬
‫الصدِّ ُ‬ ‫ْ‬
‫والم ِض ْي‬ ‫ِ‬
‫ت ف�ي الحياة ُ‬ ‫َو َقال‪ :‬طِ ْب َ‬ ‫الو ِض ْي‬ ‫ِ‬
‫الوجه َ‬
‫المختار ف�ي َ‬
‫َ‬ ‫َف َق َّب َل‬

‫أشار الناظم إىل موقف الصديق ؤ من مفاجأة املوت حيث دخل عىل رسول اهلل‬

‫وكشف الغطاء عن وجهه َو َق َّب َل ُه‪ ،‬وقال‪ِ « :‬ط ْب َت يا رسول اهلل ّ‬


‫حي ًا وميت ًا» ثم َخ َر َج إىل املسجد‬
‫يتوعدُ ‪ ،‬وقد َتي َق َن الصديق‬
‫ورأى ما أصاب الناس من الفزع واهللع‪ ،‬وسمع ابن اخلطاب وهو َّ‬
‫من موت رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫والجميع في َشت ْ‬
‫َات‬ ‫م ْو َت الرس ِ‬
‫ول‬ ‫�ات‬ ‫ِ‬
‫للمس�جد َي ْ�ر ِوي ب َث َب ْ‬ ‫وع�ا َد‬
‫ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬
‫التحول‪ ،‬فثباته أمام مفاجأة‬
‫ُّ‬ ‫وكان هذا موقف ًا شجاع ًا من سيدنا أبـي بكر الصديق أمام هذا‬
‫وحسم ْت موقف َ‬
‫احلرية التي رضبت عقوهلم‬ ‫َ‬ ‫ـم َش ِ‬
‫عث أصحاب النبـي ﷺ‬ ‫املوت أسهمت يف َل ِّ‬
‫ِ‬
‫الناس اآلية (ﭳ‬ ‫عم ُر بن اخلطاب النـزول وتال عىل‬
‫وأفهامهم‪ ،‬إذ صعد املنرب بعد أن أ َبى َ‬
‫ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) (((‪.‬‬

‫((( آل عمران‪.144 :‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪185‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َ�ال ِمن جه ِ‬ ‫م ْش ٍ ِ‬
‫�د ال َبال‬ ‫�ي لما َقد ن َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫�وى َع َل�ى‬
‫وق ال َي ْق َ‬
‫�ار ُ‬ ‫َ‬
‫ونـ�زل ال َف ُ‬
‫ـي�ت ِ‬
‫الل�ه ُحزْن� ًا َ‬ ‫وس ِ‬
‫�م َع اآلي� َة ُت ْت َل�ى ف َبكَ�ى‬
‫وش�كا‬ ‫َو َض َّ‬
‫�ج َب ُ‬ ‫َ‬
‫إشارة إىل وقع اآليات القرآنية عىل الصحابة‪ ،‬إذ أخذ سيدنا أبوبكر الصديق يرددها عىل‬
‫وضج الناس بالبكاء والنحيب عند‬
‫َّ‬ ‫الناس‪ ،‬فنـزل الفاروق منهار اجلسم ال حتمله رجاله‪،‬‬
‫موت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وقال بعضهم ملا سمع اآلية‪ :‬واهلل كأنهَّ ا اليوم ُأنـزلت‪ ،‬حتى ورد‬
‫ت َي ُّقنِ ِهم َ‬
‫يف بعض اآلثار كام رواه احلافظ ابن رجب‪ :‬وملا تويف رسول اهلل ﷺ اضطرب املسلمون فمنهم‬
‫ـق ِ‬
‫الق َيام‪ ،‬ومنهم من اعتقل لسانه فلم ِ‬
‫يطق الكالم‪،‬‬ ‫من دهش فخلط‪ ،‬ومنهم من ُأقعد فلم ُي ِط ِ‬
‫ومنهم من أنكر موته بالكلية‪ .‬اهـ (((‪.‬‬
‫الصدِّ يق وثباته أمام هذا التحول اخلطري‪ ،‬قال القرطبـي‪ :‬هذه‬
‫وهذا من أعظم مواقف ِّ‬
‫اآلية َّأو ُل دليل عىل شجاعة الصديق وجرأته‪ ،‬فإن الشجاعة واجلرأة أحدمها ثبوت القلب عند‬
‫حلول املصائب‪ ،‬وهبذه الكلامت القالئل واستشهاد أبـي بكر الصديق بالقرآن الكريم َخ َر َج‬
‫الناس من ذهوهلم وحريهتم ورجعوا إىل الفهم الصحيح رجوع ًا مجي ً‬
‫ال‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫ُ‬

‫نـ�ز ِل‬ ‫ِ‬ ‫�و ِل‬


‫الم ِ‬‫�م َي�ز َْل نَبـ ُّينَ�ا ف�ي َ‬
‫َو َل ْ‬ ‫�ذا َأ َّو َل الت ََّح ُّ‬
‫َان َه َ‬
‫َوك َ‬

‫((( «االنرشاح ورفع الضيق يف ترمجة سيدنا أبـي بكر الصديق» ص‪.115‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪186‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اختالف الصحابة حول موضع القرب الرشيف‬

‫ي�ق بالص ِ‬ ‫واختَل ُف�وا ف�ي م ِ‬


‫حي�حِ‬ ‫َّ‬ ‫َحتَّ�ى َأتَ�ى ِّ‬
‫الصدِّ ُ‬ ‫الض ِر ْي�حِ‬‫وق� ِع َّ‬ ‫َ‬
‫وم ْق َولِ� ْه‬
‫ِ‬ ‫�مع ُته ِم�ن َلفظِ ِ‬
‫�ه‬ ‫ِ‬
‫َس ْ ُ‬ ‫ْـزلِ� ْه‬
‫�ال َلح�دُ َس� ِّي ِدي بِ َمن ِ‬
‫َو َق َ‬

‫َقطِي َفتَ� ْه‬ ‫ح�د ِه‬


‫و َأ ْن َز ُل�وا فِ�ي َل ِ‬
‫َ‬
‫َح�ت ِ‬
‫الف َ�ر ِ‬
‫اش ُح ْف َرتَ� ْه‬ ‫َف َح َف ُ�روا ت َ‬
‫ُ‬
‫مسألة إرشاده‬ ‫(((ومن املواقف املباركة التي تداركها الصديق ؤ ساعة وفاة النبي ﷺ‬
‫هلم بموقع دفن النبي ﷺ حيث اختلفوا يف موضع دفنه فأشار هلم ؤ أنه سمع رسول اهلل‬
‫«إن مكان َد ْفنِه مكان َم ْوتِ ِه»((( ُ‬
‫فح ِف َر له ﷺ يف حجرته حيث كان فراشه‬ ‫ﷺ‪ ،‬يقول بمعناه‪َّ :‬‬
‫ودفن هناك ﷺ‪.‬‬

‫((( ويؤيد هذا حديث ذكره يف «فيض القدير» (‪ )21 :2‬وإسناده حسن وله وشواهد قوله صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم‪« :‬اف ِر ُشوا يل قطيف ًة يف َ‬
‫حل ِدي» ‪.‬‬
‫((( عن ابن جريج عن أبيه أهنم شكوا يف قرب رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أين يدفنونه‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬إن النبي ال حيول عن مكان يدفن حيث يموت‪ ،‬فنحوا‬
‫فراشه فحفروا له موضع فراشه‪ .‬رواه ابن أيب شيبة وأمحد‪ ،‬ولفظه ‪ :‬لن يقرب نبي إلاَّ حيث يموت‪ ،‬قال‬
‫ابن كثري‪ :‬هذا منقطع من هذا الوجه فإن ولد ابن جريج فيه ضعف ومل يدرك أيام الصديق‪« .‬كنز العامل»‬
‫(‪.)235 :7‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪187‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بي ﷺ وانقطاع الوَحْ ي‬
‫وت الن َ َّ‬
‫تَحوالت ما بَعد مَ ِ‬

‫وجم� ِع ر ْأ ِي ال َق�و ِم ف�ي الخَ لي َف ِ‬ ‫�قي َف ِة‬


‫�ر الس ِ‬ ‫ِ‬
‫�ة‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫وم�ا َج َ�رى م�ن َم ْظ َه ِ َّ‬
‫ملا علم الصحابة ئ بموت رسول اهلل ﷺ اجتمع األنصار يف سقيفة بني ساعدة يوم‬
‫االثنني الثاين عرش من ربـيع األول يف السنة احلادية عرش للهجرة يوم وفاة رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫وتداولوا األمر بـينهم يف شأن اخلالفة‪ ،‬وحلقهم أبوبكر وعمر إىل السقيفة فقام خطيب األنصار‬
‫فحمد اهلل وأثنى عليه‪ ،‬وقال‪« :‬أ َّما بعدُ فنحن أنصار اهلل وكتيبة اإلسالم وأنتم معرش املهاجرين‬
‫َر ْه ٌط وقد َد ّف ْت َدا ّف ٌة((( من قومكم فإذا هم يريدون أن خيتزلونا من أصلنا وأن حيضنونا من‬
‫ذكرتم فيكم من خري فأنتم له أهل‪ ،‬ولن ُيعرف‬
‫ُ‬ ‫األمر»‪ ،‬وقام أبوبكر الصديق ؤ‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬
‫رضيت لكم أحد‬
‫ُ‬ ‫هذا األمر إلاَّ هلذا احلي من قريش‪ ،‬هم أوسط العرب نسب ًا ودار ًا‪ ،‬وقد‬
‫هذين الرجلني فبايعوا أهيام شئتم‪ ،‬فأخذ بـيد عمر ويد أبـي عبـيدة بن اجلراح‪ ،‬فقال قائل من‬
‫أمري ومنكم أمري يا معرش قريش‪ ،‬فك ُثر‬
‫األنصار‪ :‬أنا جذيلها املحكك وعذيقها املرجب‪ ،‬منا ٌ‬
‫علمت يا سعدُ أن‬
‫َ‬ ‫األصوات‪ .‬ويف رواية ألمحد أن أبا بكر ؤقال‪ :‬ولقد‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وارتفعت‬ ‫ال َّل َغ ُط‬
‫وفاجر ال ّناس‬
‫ُ‬ ‫تبع ِ‬
‫لربهم‪،‬‬ ‫ـر ال َّناس ٌ‬ ‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال وأنت قاعد‪ٌ « :‬‬
‫قريش وال ُة هذا األمر‪ ،‬ف َب ُّ‬
‫صدقت‪ ،‬نحن الوزراء وأنتم األمراء‪ ،‬وقام عمر بن اخلطاب‪ ،‬وقال‬
‫َ‬ ‫َت َب ٌع ِ‬
‫لفاجرهم» فقال سعد‪:‬‬
‫ألبـي بكر‪ُ « :‬ا ْب ُس ْط َيدك يا أ َبابكر» فبسط يده‪ ،‬فبايعه وبايعه املهاجرون ثم بايعه األنصار(((‪.‬‬

‫((( دفت دافة‪ :‬أي عدد قليل‪.‬‬


‫((( رواه البخاري يف كتاب احلدود برقم (‪.)6830‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪188‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وبرز يف هذا التحول موقفان‪:‬‬
‫األول‪ :‬موقف سيدنا أبـي بكر الصديق ؤ الذي عرف كيف يقبض عىل زمام األمور‬
‫بكلمته يف السقيفة كام قبض عىل زمامها يف املسجد‪ ،‬وأ َّيده سعد بن عبادة الذي كان له رأي آخر‬
‫من قبل‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬موقف عمر بن اخلطاب عند ظهور ال َّل َغط واالختالف وبدء مبايعته ألبـي بكر‬
‫ؤ‪.‬‬

‫الس ِّ�ر الخَ ِف ْي‬ ‫ِ‬


‫يل َل ْب َس األَ ْم ِر في ِّ‬
‫ت ُِز ُ‬ ‫كأج َل�ى مو ِق ِ‬
‫�ف‬ ‫َْ‬ ‫ج�اء ْت َ ْ‬
‫َ‬ ‫و َفلتَ� ٌة‬

‫املقصود من «الفلتة» املشار إليها قوة املوقف الناشئ عن القيام باحلجة الدامغة حيث أهلم‬
‫اهلل أبا بكر الصديق ؤ حجج اإلقناع‪ ،‬فأدخل إىل قلوب األنصار احلق دون أن يعرضهم‬
‫للفتنة‪ ،‬حيث أثنى عليهم بام هم أهله‪ ،‬وذلك موقف هام‪ ،‬ثم أقنعهم بعد أن اعرتف بفضلهم أنه‬
‫ال يعني أح ِّق َّيتَهم يف اخلالفة‪ ،‬ألن النبـي ﷺ قد ّ‬
‫نص عىل أن املهاجرين من قريش هم املقدَّ ُمون‬
‫يف هذا األمر(((‪ .‬وأشار املؤرخون إىل َّ‬
‫أن أبا بكر الصديق ؤ استدل عىل أن أمر اخلالفة‬
‫«استوصوا بِ َ‬
‫األن َْصار خري ًا‪ ،‬اقبلوا من حُم ِسنِ ِهم وجتاوزوا عن‬ ‫ُ‬ ‫يف قريش بوصية رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫الصادقني وسماَّ كم ا ُمل ِ‬
‫فلحني» إشارة ملا ورد يف‬ ‫مسيئِهم» كام احتج أيض ًا بقوله‪َّ :‬‬
‫«إن اهلل سماَّ نا َّ‬
‫آية‪( :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ‬
‫ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) (((‪ ،‬ثم قال‪ :‬وقد أمركم اهلل أن تكونوا معهم حيثام كانوا‬

‫((( «رفع الضيق» ص‪.115‬‬


‫((( احلرش‪9-8 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪189‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فقال تعاىل‪( :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) (((‪.‬‬
‫وهبذه املواقف ومثلها توحد صف املسلمني‪ ،‬وقد ثبت فيام بعد ذلك أن أبابكر الصديق قام‬
‫باسترباء نفوس املسلمني من أي معارضة خلالفته واستح َل َف ُهم جهار ًا عىل ذلك‪.‬‬
‫فأبرز اإلمام عيل كرم اهلل وجهه موقف ًا ثالث ًا فصل يف األمر وأكد اخلالفة‪ ،‬إذ قال الصديق‪:‬‬
‫أيهُّ ا الناس ُ‬
‫اذكروا اهلل أ ُّيام رجل ندم عىل بـيعتي إال قام عىل رجليه‪ ،‬فقام عيل بن أبـي طالب‬
‫ومعه السيف فدنا منه حتى وضع رج ً‬
‫ال عىل عتبة املنرب واألخرى عىل احلىص‪ ،‬وقال‪« :‬واهلل ال‬
‫نقيلك وال نستقيلك‪ ،‬فمن ذا يؤخرك؟ قدّ مك رسول اهلل ﷺ» (((‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫ُ�ر األح�وال ِم ّم�ا َق�د َج َ�رى‬


‫َتنَاك َ‬ ‫الم ْص َط َفى قالوا‪ :‬ن ََرى‬
‫�ن ُ‬‫و َب ْعدَ َد ْف ِ‬

‫التحوالت النفسية التي طرأت عىل الصحابة عند فراقهم لرسول اهلل ﷺ‬
‫ُّ‬ ‫إشارة إىل مدلول‬
‫وذهابه عنهم فجأة‪ ،‬وقد ألِ ُفوا االحتكام إليه وااللتفاف واإلمجاع عليه والتشاور لديه‪ ،‬حيث‬
‫ٌ‬
‫حقيقية‬ ‫ورد «ما نفضنا أيدينا من تراب رسول اهلل ﷺ حتى أنكرنا قلوبنا»(((‪ ،‬وهذه ظاهر ٌة‬
‫تلحق مثل هذا التحول‪ ،‬وتطرأ عىل النفوس والقلوب وحشة وانـزعاج‪ ،‬وخاصة أن كلام‬
‫اختلف عليه القوم من قبل كانت عصمة الوحي تفصل فيه وجتزم يف شأنه‪ ،‬وأ ّما ما هم فيه اآلن‬
‫إنام يرجع رِ‬
‫لصف الفهم واالجتهاد‪((( .‬‬

‫والوال‬ ‫ٍ‬
‫اجتهاد في ال َق ِ‬ ‫ِص�ر ِ‬ ‫�و َل األَ ْم ُ�ر إل�ى‬ ‫ِ‬
‫�رار َ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫وم�ن هن�ا ت ََح َّ‬

‫((( التوبة‪.119 :‬‬


‫((( «األنصار يف العرص الراشدي» ص‪« ،108‬رفع الضيق» ص‪ .121‬انظر «كنز العامل» (‪.)654 :5‬‬
‫((( رواه البخاري‪ ،‬راجع «اإلشاعة» الباب األول‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬إنه بعد انقطاع الوحي بقي ترجيح األمر قائ ًام عىل االجتهاد والشورى‪ ،‬خالف ًا ملا كان عليه األمر خالل‬
‫عهد رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪190‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ٌ‬
‫وموقف‪.‬‬ ‫قرار‬ ‫وهذا ٌ‬
‫حتول لزم أن يتبعه ٌ‬
‫ال َّت َع ُّق ِ‬
‫�ل‬ ‫َم َو ِاق ُ‬
‫�ف‬ ‫ِ‬
‫وم ْث ُل َه�ا‬ ‫�و ِل‬
‫الت ََّح ُّ‬ ‫َم َو ِاق ُ‬
‫�ف‬ ‫َت‬
‫و َب َ�رز ْ‬

‫وبعد هذه املرحلة التي انتقل فيها رسول اهلل ﷺ برزت عىل سطح الواقع االجتامعي مواقف‬
‫متنوعة أفرزها التحول اجلديد ما بـني مواقف تعقل واتزان ومواقف اندفاع وانفعال‪.‬‬
‫فمن مواقف التعقل واالتزان‪:‬‬
‫‪ -1‬أن قيادة األمة ال تقام إلاَّ باالختيار‪.‬‬
‫‪ -2‬وأن البـيعة أصل من أصول االختيار ورشعية القيادة‪.‬‬
‫‪ -3‬وأن اخلالفة ال يتوالها إلاَّ األك َفاء ِدين ًا َ‬
‫وعق ً‬
‫ال وإدار ًة‪.‬‬
‫‪ -4‬ال تدخل اخلالفة السياسية ضمن الوراثة والقبلية إلاَّ من داخل قرار النص‬
‫الرشعي الذي ال يتعارض مع أصول اإلسالم‪ ،‬وإذا افرتضنا دخوهلا بام اعتقده البعض من‬
‫نصوص تؤكد أو تشري لذلك‪ ،‬فإن مواقف رجل اخلالفة يوقف العمل بالنص عند قبوله‬
‫الرأي اآلخر وااللتزام به‪ ،‬كام فعل اإلمام عيل وفعل بصورة أوسع وأشمل اإلمام احلسن‬
‫بن عيل ؤ ويف هذين حجة ملن أشكل عليه األمر‪.‬‬
‫‪ -5‬احلوار الذي دار يف السقيفة َّأدى إىل تسليم كافة العنارص للنصوص التي حتكمهم‪،‬‬
‫حيث كانت املرجعية يف احلوار إىل النصوص الرشعية‪.‬‬
‫‪ -6‬اإلعالن من سيدنا أبـي بكر الصديق بعد البـيعة باسترباء نفوس املسلمني من أي‬
‫معارضة خلالفته‪ ،‬وقيام اإلمام عيل ؤ‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪« :‬واهلل ال نقيلنك وال نستقيلنك فمن ذا‬
‫يؤخرك قدَّ َم َك رسول اهلل ﷺ» (((‪.‬‬

‫((( ورد يف رواية أخرى قول اإلمام عيل‪« :‬ال نقيلك وال نستقيلك‪ ،‬قدمك رسول اهلل ﷺ لديننا‪ ،‬أال نرضاك‬
‫لدنيانا؟» قال الباقالين‪ :‬يعني بذلك حني قدمه لإلمامة يف الصالة واستنابته يف احلج‪ .‬راجع «رفع الضيق»‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪191‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪ -7‬اجتامع السقيفة يقرر مبدأ الشورى كأصل رشعي لنظام احلكم يف اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -8‬اختيار رجل الدولة بالشورى والبـيعة احلرة‪.‬‬
‫‪َ -9‬ش ْف ُع االختيا ِر بالبـيعة العامة‪ ،‬أي‪ :‬موافقة مجهور املسلمني‪.‬‬
‫‪ -10‬خطاب رجل الدولة للمسلمني عند استالم احلكم‪.‬‬

‫مواقف االندفاع واالنفعال‪:‬‬


‫اآلخ َ‬
‫رون حول عقد البـيعة ألبـي بكر ؤ مع غياب اإلمام عيل ؤ‬ ‫احتج به َ‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬ما‬
‫عن السقيفة‪ ،‬وكان مستخلي ًا بنفسه قد استفزه احلزن عىل رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ومشغو ً‬
‫ال بحال فاطمة‬
‫حتو ٌل طرأ عليه بسبب انتقال رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ولكنه اختذ بعد‬
‫ريض اهلل عنها وأهل بـيتها‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫ذلك موقف ًا ودخل فيام دخل فيه الناس‪ ،‬وبايع أبابكر عىل مأل من األشهاد‪ ،‬ومل يشذ أو خيالف‬
‫أو يعلن مترد ًا أو طلب ًا بخالفة‪ ،‬وهذا هو موقف االقتداء واالهتداء‪.‬‬
‫ونحن هنا لسنا بصدد إثبات أو نفي األح ِّق َّية لإلمام عيل بن أيب طالب كرم اهلل وجهه إن كانت‬
‫نصوص السنة النبوية قد جعلت له يف ذلك حقا كام يقول البعض؛ ألن هذا اخلالف عىل النفي أو‬
‫اإلثبات هو الذي أوقع األمة يف بوتقة الرصاع الذي دخل منه الشيطان عىل اجلميع‪ ،‬وإنام نحن بصدد‬
‫تأكيد موقف من اجتهد فأقر بخالفة أيب بكر‪ ،‬ثم بصدد تأكيد موقف اإلمام عيل ؤ الذي اختذه‬
‫باملوافقة حتت أي اعتبار يليق به؛ ألن بعض املعارضني خلالفة أيب بكر يرسدون من اآلثار ما ال يليق‬
‫باإلمام وال بمواقفه ومع هذا وذاك فإن موافقة األنصار عىل بيعة أيب بكر تنفي ما قيل بأن اإلمام علي ًا‬
‫اهلل َ‬
‫اهلل يا معرش املهاجرين ال خَترجوا ُسلطان حممد يف العرب من داره و َقعر بيته إىل‬ ‫احتج به يف قوله‪َ « :‬‬

‫دوركم و ُق ُعور بيوتكم‪ ...‬الخ»‪.‬‬

‫ص‪. 122‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪192‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ثم رد بشري بن سعد األنصاري (لو كان هذا الكالم ِ‬
‫سم َع ْت ُه األنصار منك يا عيل قبل بيعتها‬
‫أليب بكر ما اختلف عليك اثنان)(((‪ .‬إذن فبيعة أيب بكر َأ َّيدَ َها األنصار لعدم علمهم كغريهم‬
‫هبذه األحقية ثم بعد علمهم هبذه َ‬
‫األ َح ِّق َّي ِة مسمي ًا ما ورد ذكره من قول اإلمام عيل‪ ،‬مل ينكث‬
‫األنصار بيعة أيب بكر‪ ،‬فكان عىل اإلمام عيل ؤ أن يعارض اجلميع وأن يقف بعيد ًا عن‬
‫الساحة أو أن يموت يف سبيل موقف األح ِّق َّي ِة هذا إذا جتاوزنا حكمة أيب بكر الصديق وسالمة‬
‫مواقفه منذ ساعة وفاة رسول اهلل ﷺ ‪.‬‬
‫‪ -2‬ما نسب لسعد بن عبادة من جمانبته البـيعة وخمالفته ألبـي بكر وعمر‪ ،‬مما خيالف علمه‬
‫ومقامه‪ ،‬كام أنه مل يصح ما ورد يف بعض املراجع أنه بعد بـيعة أبـي بكر كان ال يصيل بصالهتم‬
‫وال يفيض احلج بإفاضتهم(((‪.‬اهـ‬
‫سب َب االنشغال باخلالفة عن دفن النبـيﷺ‪.‬‬
‫‪ -3‬ما روجه البعض أن الطمع يف الرئاسة َّ‬
‫‪ -4‬ما يقال من أن حديث «األئمة من قريش»((( شعار رفعته قريش الستالب اخلالفة‬
‫من األنصار وأنه جمرد رأي ألبـي بكر وليس حديث ًا‪ ،‬وهذا القول من نوع التشويش والتشويه‬
‫الذي حيلو لبعض العنارص املستفيدة من منهج التشويش والتشويه والتحريش‪.‬‬

‫(( ( كتاب «نظرية عدالة الصحابة» ألمحد حسني يعقوب ص ‪.135 - 132‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫((( حديث «األئمة من قريش» ورد يف الصحيحني وغريها بألفاظ متعددة‪« .‬رفع الضيق يف سرية أبـي بكر‬
‫الصديق» ص‪.25‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪193‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪194‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الر ِ‬
‫اش َدة‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫اخل‬ ‫َم ْر َح َل ُة‬
‫عن أيب الطفيل ريض اهلل عنه أنه سمع حذيفة ريض اهلل عنه يقول‪« :‬يا أهيا الناس أال‬
‫تسألوين؟ فإن الناس كانوا يسألون رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم عن اخلري وكنت‬
‫ت َ‬
‫األحياء؟ فقال‪ :‬إن اهلل بعث حممد ًا صىل اهلل عليه‬ ‫أساله عن الرش‪ ..‬أفال تسألون عن َم ِّي ِ‬
‫وآله وسلم فدعا الناس من الضاللة إىل اهلدى ومن الكفر إىل اإليامن‪ ،‬فاستجاب له من‬
‫فحيِ َي باحلق من كان ميت ًا ومات بالباطل من كان ّ‬
‫حيا‪ ،‬ثم ذهبت النبو ُة فكانت‬ ‫استجاب‪َ ،‬‬
‫اخلالفة عىل منهاج النبوة‪ ،‬ثم يكون ِم ْلك ًا َع ُضوض ًا‪ ،‬فمن الناس من ُينكر بقلبه ويده‬
‫ولسانه واحلقَّ است َْك َمل‪ ،‬ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كا ّف ًا يده وشعب ًة من احلق َت َر َك‪،‬‬
‫احلق َت َر َك‪ ،‬ومنهم من ال ينكر بقلبه‬
‫ومنهم من ينكر بقلبه كا ّف ًا يده ولسانه وشعبتني من ِّ‬
‫ت األحياء»‬
‫ولسانه‪ ،‬فذلك َم ِّي ُ‬
‫حذيفة بن اليامن أمني رس رسول اهلل ﷺ يشهد بسالمة‬
‫املرحلة الراشدة‪ ،‬عن «احتاف اجلامعة بام جاء يف الفتن واملالحم‬
‫وأرشاط الساعة» (‪ )213 :1‬حلمود بن عبداهلل التوجيري‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪195‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪196‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أهمية تثبيت مرحلة َ‬
‫الخالفة الراشدة‬

‫ص�ر َطـ� َه لأِ بِ�ي ٍ‬


‫م�ن َع ِ‬ ‫لنق�ل ع ِ‬
‫ن�ار‬
‫بك�ر َم ْ‬ ‫الق�رار‬
‫ْ‬ ‫ه�دة‬ ‫ِ ُ‬ ‫َت ْثبي ُتنَ�ا‬
‫َ�ة ال َّزعام ِ‬
‫بِم�ا ج�رى ِم�ن َفلت ِ‬ ‫�ن ف�ي َسَل�اَ َم ِة‬ ‫ِ‬
‫�ة‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُيش� ْي ُر َأ َّن الدِّ ْي َ‬
‫الم ْصط َفى‬ ‫ال ا ِ ِ ِ‬ ‫َعصر انْتِ َق ِ‬ ‫اش ِ‬
‫�د ْي َن الخُ َل َف�ا‬ ‫أن عص�ر الر ِ‬
‫إلرث إرث ُ‬ ‫ُ‬ ‫َو َّ َ ْ َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اختَِل�اَ ِ‬ ‫لأِ ِ ِ ِ‬
‫�ي‬‫�ل بِض�دِّ ه ُيجاف ْ‬ ‫�ن َي ُق ْ‬ ‫َو َم ْ‬ ‫ف‬ ‫�ن ُدون ََم�ا ْ‬ ‫هل�ه م ْ‬
‫ي�ق بِالت ََّم�ا ِم‬
‫الصدِّ َ‬
‫ِّ‬ ‫�ن َوا َف َ‬
‫�ق‬ ‫َم ْ‬ ‫ا ِ‬
‫إل َم�ا ِم‬ ‫َم َو ِاق َ‬
‫�ف‬ ‫بِنَ ْق ِض ِ‬
‫�ه‬

‫ِّب�اع‬ ‫�اء وه�و َأص ُ ِ‬ ‫لِلخُ َل َف ِ‬ ‫�ت ِمنْه�اج ِ‬ ‫لأِ َ َّن فِ�ي التَّثبِي ِ‬
‫�ل االت ْ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫�اع‬
‫اجت َم ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫َب‬ ‫ون َش�غ ِ‬ ‫َو َحك َُم�وا ال َع ْص َ�ر بِ�دُ ِ‬ ‫�و ا َّلذي ْارت ََضا ُه َأ ْص َح ُ‬
‫�اب النَّبِ ْي‬ ‫َو ْه َ‬
‫ول فِ�ي الدُّ نَ�ا و ِ‬
‫اآلخ َ�ر ْة‬ ‫�م ُع�دُ ٌ‬ ‫َو ُد ْو َن ت َْح ِر ٍ‬
‫ي�ش َولاَ‬
‫َ‬ ‫َو ُه ْ‬ ‫ُم َؤ َام َ�ر ْة‬

‫هذا الفصل جعلناه إضافي ًا ألجل تثبيت مرحلة اخلالفة الراشدة‪ ،‬والتأكيد عىل سالمة هذه‬
‫املرحلة‪ ،‬واعتبارها املرحلة الرشعية الوارثة لرسول اهلل ﷺ بدء ًَا بالبيعة لسيدنا أيب بكر الصديق‬
‫حسم واضح لألغراض واألمراض التي‬
‫ٌ‬ ‫وهناية بتنازل اإلمام احلسن ؤ‪ ،‬ويف هذا التثبيت‬
‫املاحلِ ‪،‬‬ ‫األ َّمة‪ ،‬ونزعت هبا نحو الرصاع والنـزاع املفتعل والتحريش َ‬
‫األ َن ِو ِّي ِ‬ ‫تاريخ ُ‬
‫َ‬ ‫َت‬
‫ش َّتت ْ‬
‫األمر ٌ‬
‫مجلة من األحاديث‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ويؤيد هذا‬
‫والرابع يف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والثالث‬ ‫يقوم بعده يف َ‬
‫اجل َّنة‬ ‫ُ‬ ‫القائم بعدي يف َ‬
‫اجل َّنة والذي‬ ‫‪ )1‬قوله ﷺ‪ُ « :‬‬
‫اجلنة»(((‪.‬‬

‫((( صححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» برقم (‪.)2319‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪197‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يؤم ُر َبعدَ ك؟ قال‪:‬‬
‫‪ )2‬أخرج اإلمام أمحد وغريه عن عيل ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قيل يا رسول اهلل من َّ‬
‫اغب ًا ف الآْ ِخ َر ِة‪َ ،‬وإِنْ تُؤَ ِّم ُروا ُع َم َر جَ ِ‬
‫تدُ و ُه‬ ‫تدُ و ُه َأ ِمين ًا َز ِ‬
‫اهد ًا ف الدُّ ْن َيا َر ِ‬ ‫«إِنْ تُؤَ ِّم ُروا َأ َبا َب ْك ٍر جَ ِ‬
‫تدُ و ُه هَ ِ‬
‫اد ًيا‬ ‫اللِ َل ْو َم َة لاَ ئِ ٍم‪َ ،‬وإِنْ تُؤَ ِّم ُروا َع ِل ّي ًا ‪-‬وال أراكم فاعلني‪ -‬جَ ِ‬ ‫اف ف هَّ‬ ‫َق ِو ّي ًا َأ ِمين ًا ل يخَ َ ُ‬

‫املست َِق َ‬
‫يم»(((‪.‬‬ ‫يق ْ‬ ‫َم ْه ِد ًّيا َي ْأ ُخ ُذ بِ ُك ْم َّ‬
‫الط ِر َ‬
‫ويف هذا احلديث تأكيد عىل أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬سالمة منهج الشيخني وجدارهتم باخلالفة وأهليتهم الرشعية هلا‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬إثباته صىل اهلل عليه وآله وسلم جلدارة اإلمام ريض اهلل عنه يف اخلالفة وإثباته أيضا‬
‫إحالة األمر يف الرتجيح للصحابة أنفسهم‪.‬‬
‫وأيا كان شأن املسألة عند حتليلها من وجهات النظر املتنوعة فإن الشأن كل الشأن يف اعتامد‬
‫سالمة املرحلة الراشدة من خالل استقراء النصوص النبوية ذاهتا ملا يرتتب عىل هذا االعتامد من‬
‫سالمة التسلسل الرشعي يف انتقال القرار من مرحلة الوحي إىل مرحلة االجتهاد‪.‬‬

‫((( رواه أمحد يف مسنده وله شاهد عن حذيفة وأخرجه الطرباين‪..‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪198‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ٌ‬
‫رصيحة فيِ َسالمة ا َمل ْرحَ لة ال َّراشدة‬ ‫ٌ‬
‫صوص‬‫نُ‬

‫يعترب تأكيد فقه التحوالت عىل سالمة انتقال القرار اإلسالمي من رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم إىل أيب بكر الصديق باالجتهاد واملشورة ترسيخا ملبدأ الشورى يف اإلسالم (ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ) ((( ‪.‬‬
‫وأيدته وقائع األحوال ومواقف االنتقال ذاهتا يف بروز مواقف الصديق ريض اهلل عنه أمام‬
‫اجلميع باجلدارة والتقدمة وسالمة الترصف‪.‬‬
‫القائم‬
‫أما فيام يتعلق بالنصوص الرصحية املؤيدة هذا االنتقال املرشوع فمنها قوله ﷺ‪ُ « :‬‬
‫والرابع يف اجل َّنة» ((( ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والثالث‬ ‫يقوم بعده يف َ‬
‫اجل َّنة‬ ‫بعدي يف َ‬
‫اجل َّنة والذي ُ‬
‫وهو –أي‪ :‬احلديث‪ -‬من دالئل النبوة‪ ،‬فقد ذكر النبي ﷺ اخللفاء األربعة املبرشين باجلنة‪،‬‬
‫وفيه داللة رصحية عىل َّ‬
‫أن كل واحد منهم قد قام باألمر واخلالفة‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واضحة لسالمة مرحلة اخلالفة‬ ‫عود ُم ْل َك ًا»((( إشار ٌة‬ ‫ويف احلديث « ِ‬
‫اخلالفة َثالثون َسنَة ُث َّم َت ُ‬
‫الراشدة وهي مرحلة أيب بكر وعمر وعثامن وعيل ريض اهلل عنهم أمجعني وللحسن ريض اهلل‬

‫((( الشورى‪. 38 :‬‬


‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫((( راجع كتاب «بيعة عيل بن أيب طالب يف ضوء الروايات الصحيحة» حلسن فرحان املالكي‪.‬‬
‫((( رواه أمحد يف مسنده والرتمذي وأبو داود عن سفينة موىل رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬اخلالفة ثالثون سن ًة ثم تكون‬
‫ُملك ًا» ‪ ،‬ثم يقول سفينة ‪ :‬أمسك‪ ..‬خالفة أيب بكر سنتني وخالفة عمر عرشة وعثامن اثنتي عرشة وعيل‬
‫ستة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪199‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عنه ثامنية أشهر‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫وسامها النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم خالفة ورضيها كبار الصحابة رضوان اهلل تعاىل‬
‫عنهم أمجعني ومل يطعن أحد يف مسامها أو تسلسلها املرشوع‪ ،‬بل الذين بايعوا عليا ريض اهلل عنه‬
‫يف خالفته كان أكثرهم ممن بقي حيا وبايع أبابكر وعمر وعثامن ريض اهلل عنهم أمجعني‪ ،‬وعىل‬
‫هذا فإن تثبيت مرحلة اخلالفة الراشدة بدءا بمرحلة أيب بكر الصديق ينقل القرار اإلسالمي‬
‫عىل ثوابته ومرشوعيته عىل منهج السالمة من عرص الرسالة إىل عرص اخلالفة عىل الوجه‬
‫الرشعي الصحيح‪ ،‬وكل ما قاله واحتج به املعرتضون واملعارضون حتت أي مسمى يرجع إىل‬
‫أنموذجني‪:‬‬
‫خالف أو اختالف يندرج حتت مفهوم االجتهاد وإبداء الرأي لدى األتباع حول‬ ‫‪ -1‬‬
‫نص أو فهم أو موقف ال يقدح يف سالمة انتقال القرار ذاته‪.‬‬
‫تعصب الرأي وغرض ذايت هلدم قرار اإلسالم عىل أهله‪ ،‬واستثامر هذا التعصب‬ ‫‪ -2‬‬
‫من خالل التحريش والتفريق والتمزيق وحتريف للنصوص واملواقف والثوابت ‪،‬‬
‫وهذا ما ُيرجعه فقه التحوالت إىل مضالت الفتن وعالمات الساعة املوعود هبا بني‬
‫املصلني يف التسلسل املتعاقب عرب املراحل واألزمنة وال حول وال قوة إال باهلل العيل‬
‫العظيم‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.69‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪200‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪201‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪202‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصدِّ يق‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ر‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫ب‬
‫ص َ‬
‫بيِ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫َع رْ ُ‬

‫فقلت‪ :‬إين رسول اهلل إليكم‪،‬‬


‫ُ‬ ‫جئت إليكم‪،‬‬
‫«يا أهيا الناس إين قد ُ‬
‫صدقت‪ ..‬فهل أنتم تاركو يل‬
‫َ‬ ‫كذبت‪ ،‬وقال أبوبكر ‪:‬‬
‫َ‬ ‫فقل ُتم‬
‫صاحبي (ثالث ًا)»‬

‫رواه مسلم‬

‫«ا ِ ْقت َُدوا با ّل َذ ِ‬


‫ين ِمن َب ْع ِدي أيب بك ٍر ُ‬
‫وع َم َر»‬
‫رواه احلاكم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪203‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪204‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫ُبايعة الخليفة األول ؤ‬
‫م ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ي�ق بِ ِ‬
‫ف�ي ف ْتنَ�ة َأ ْب َع�دَ ت َ‬
‫المخَ ا َف� ْة‬ ‫الخ اَل َف� ْة‬ ‫الصدِّ ُ‬
‫ِّ‬ ‫و ُبويِ َ‬
‫�ع‬
‫�م ُي ِ‬
‫ج ُّل� ُه‬ ‫َواألَ ْم ُ�ر ُش ْ‬
‫�و َرى ك ُّل ُه ْ‬ ‫َان أه َل� ُه‬ ‫َو َق�ا َم بِاألَ ْم ِ‬
‫�ر َوك َ‬

‫اإلسالمية حتت ظل اخلالفة الراشدة وهي مرحلة‬


‫َّ‬ ‫يشري الناظم إىل أول مراحل الدولة‬
‫أيب بكر الصديق‪ ،‬ويشري إىل أول إجيابـيات التحول باإلمجاع التام عىل خالفة الصديق وقيامه‬

‫((( هو أبو بكر الصديق خليفة رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم وأول املسلمني من الرجال برسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم واسمه عبد اهلل ابن أيب قحافة عثامن بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن‬
‫لؤي بن غالب القريش التيمي‪ ،‬يلتقي مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يف مرة‪ ،‬ولد بعد مولد النبي صىل‬
‫اهلل عليه وسلم بسنتني وأشهر ومات وله ثالثة وستون سنة ‪.‬‬
‫روى عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم مئة واثنني وأربعني حديث ًا ‪ ،‬قال النووي‪ :‬وسبب قلة روايته مع تقدم‬
‫صحبته ومالزمته النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه تقدمت وفاته قبل انتشار األحاديث واعتناء التابعني‬
‫بسامعها وحتصيلها وحفظها‪.‬‬
‫ويل اخلالفة بعد رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم سنتني وأربعة أشهر‪ ،‬وأمجعت األمة عىل تسميته بالصديق ألنه‬
‫بادر إىل تصديق رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم والزم الصدق‪ ،‬وكانت له يف اإلسالم املواقف الرفيعة‬
‫منها قصته يوم ليلة اإلرساء وثباته‪ ،‬وجوابه للكفار يف ذلك وهجرته مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫وترك عياله وأطفاله ومالزمته يف الغار وسائر الطريق‪ ،‬ثم كالمه يوم بدر ويوم احلديبية حني اشتبه عىل‬
‫غريه األمر يف تأخر دخول مكة‪ ،‬ثم بكاؤه حني قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬إن عبد ًا َخيرَّ َ ُه‬
‫اهلل بني الدنيا واآلخرة فاختار اآلخرة» ‪ ،‬ثم ثباته يوم وفاة رسول اهلل صىل اهلل وسلم وخطبته الناس‬ ‫ُ‬
‫وتسكينهم‪ ،‬ثم قيامه يف قضية البيعة ملصلحة املسلمني‪ ،‬ثم اهتاممه وثباته يف بعث جيش أسامة بن زيد إىل‬
‫الشام وتصميمه يف ذلك‪ ،‬ثم قيامه يف قتال أهل الردة ومجع القرآن الكريم‪ ،‬ثم جتهيزه اجليوش إىل الشام‬
‫لفتوحه وإمدادهم باإلمداد‪ ،‬ثم ختم ذلك بمهم من أحسن مناقبه وأجل فضائله وهو استخالفه عىل‬
‫املسلمني عمر ريض اهلل عنه وتفرسه فيه ووصيته له واستيداعه اهلل األمة‪ ،‬وتويف ليلة الثالثاء لثامن بقني‬
‫من مجادى اآلخرة سنة ثالث عرشة وله ثالث وستون سنة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪205‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫باملسؤولية عىل أفضل األحوال جمسد ًا مبدأ الشورى يف حياة املسلمني منذ بيعته واجتامعهم‬
‫عليه ريض اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬بداي ًة من السقيفة ثم البـيعة العامة دون خمالفة أحد‪ ،‬وقد انعقد‬
‫وخلف ًا عىل َأ َح ِّق َّي ِة أبـي بكر الصديق باخلالفة بعد رسول اهلل ﷺ‬
‫إمجاع أهل السنة واجلامعة َسلف ًا َ‬
‫لفضله وسابقته‪ ،‬ولتقديم النبـي ﷺ إياه يف الصلوات ومل يتخلف منهم أحد‪.‬‬
‫الز َبـري واإلمام عيل ريض اهلل عنهام عن‬
‫ف ُّ‬‫وقد وردت بعض اآلثار التي أشارت إىل خت ُّل ِ‬

‫مبايعة الصديق ‪-‬كام أسلفنا‪ ،-‬ولكن تلك األخبار مردودة بام ورد عن مبايعتهام يف اليوم الثاين‬
‫لوفاة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال أبو سعيد اخلدري‪ :‬ملا صعد أبوبكر املنرب نظر يف وجوه القوم فلم َي َر‬
‫الزبـري بن العوام فدعا بالزبـري فجاء‪ ،‬فقال له أبوبكر‪ :‬يا ابن عمة رسول اهلل ﷺ وحوا ِر َّي ُه‪:‬‬
‫أتريد أن َت ُشقَّ عصا املسلمني؟ فقال الزبـري‪ :‬ال تثريب عليك يا خليف َة رسول اهلل‪ ،‬فقام الزبـري‬
‫فبايع أبا بكر‪ ،‬ثم نظر أبوبكر يف وجوه القوم فلم َير ع َّ‬
‫يل بن أبـي طالب فدعا بعيل فجاء‪ ،‬فقال‬
‫له أبوبكر‪ :‬يا ابن عم رسول اهلل ﷺ َو َخ َتن َُه عىل ابنتِ ِه‪ ،‬أتريد أن تشق عصا املسلمني؟ فقال عيل‪:‬‬
‫ال تثريب عليك يا خليف َة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فقام عيل فبايع أبا بكر‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫وقد سأل عمرو من حديث سعيد بن زيد ؤ‪ ،‬فقال له‪ :‬أشهدت وفاة رسول اهلل ﷺ؟‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل كره املسلمون أن َي ْب َقوا‬ ‫يوم مات‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬حتى بويع أبوبكر‪ ،‬قال سعيد‪َ :‬‬
‫أحدٌ أبا بكر؟ قال سعيد‪ :‬مل خيالفه إلاَّ مرتد أو كاد‬ ‫َ‬
‫بعض َيوم وليسوا يف مجاعة‪ ،‬قال‪ :‬هل خالف َ‬
‫أن يرتد‪ ،‬وقد أنقذ اهلل األنصار فجمعهم عليه فبايعوه‪ ،‬قال‪ :‬هل قعد أحد من املهاجرين عن‬
‫بـيعته‪ ،‬قال سعيد‪ :‬ال‪ ،‬لقد تتابع املهاجرون عىل بـيعته‪ .‬اهـ‬
‫تأخر بيعة عيل حتى وفاة فاطمة ما مفاده ‪« :‬ملا ماتت‬
‫وقد أوردت بعض كتب السري عن ُّ‬
‫يل‪َ ،‬فأ ْق َب َل أبوبكر حتى دخل عىل َعليِ ٍّ‬
‫فاطمة ‪-‬عليها السالم‪ -‬أرسل عيل إىل أيب بكر َأ ْن َأ ْقبِ ْل ع ّ‬

‫((( «رفع الضيق» ص‪.169-168‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪206‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وعنده بنو هاشم‪ِ ،‬‬
‫فحمدَ اهلل وأثنى عليه ثم‪ ،‬قال‪« :‬أ َّما بعد يا أبابكر‪ ،‬فإنه مل يمنعنا أن نبايعك‬
‫إنكارا لفضيلتك وال معاتبة عليك؛ ولكنا كنا نرى أن لنا يف هذا األمر حق ًا فاستتبددت به علينا‪،‬‬
‫ثم ذكر قرابته من رسول اهلل ﷺ فلم يزل يذكر حتى بكى أبوبكر‪ ،‬فقال أبوبكر‪َ :‬ل َقرابة رسول‬
‫أحب إ َّيل من قرابتي»‪.‬‬
‫اهلل ﷺ ُّ‬
‫يل باخلالفة لقرابته من رسول اهلل وباسم بني هاشم مجيع ًا‪،‬‬
‫وهذه الرواية إنام تؤكد مطالب َة ع ٍّ‬

‫وليس بام هو يف نص معني باخلالفة‪ ،‬وهلذا فاخلليفة أبوبكر ؤ أثبت هذه القرابة وأمهيتها‪،‬‬
‫ومل يذكر اإلمام يف مقالته إشارة من رسول اهلل إىل بيعته من بعده فكان األمر مبني ًا عىل االجتهاد‬
‫لدى الصحابة‪.‬‬
‫وأما بقية ما أورده املعارضون للخالفة فهو جمرد مواقف ما بني فعل وردة فعل‪ ،‬وهذا‬
‫حمقوق حصوله بني الناس‪ ،‬وخاصة يف مثل هذه احلالة من التحول‪ ،‬وال ينبني عليه نقض لبيعة‬
‫وال إثبات لغريها‪ ،‬وإنام هي شبه األراجيف التي قد كان منها كثري يف عهد صاحب الرسالة‬
‫يريد منها أصحاهبا زعزعة ثقة الناس بالصحابة األثبات‪ ،‬وهبذه الفهوم عىل ما تعتقده نفوسهم‬
‫يشريون إىل فشل أصحاب حممد ﷺ من حتمل مسؤولياهتم من بعده‪ ،‬وفساد مرحلة اخلالفة‬
‫الراشدة التي بفساد مرشوعيتها يفسد انتقال قرار األمة من رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‬
‫إىل وراث األمانة‪ ،‬بينام احلقيقة املثبتة وما تؤيده القراءة الواعية لفقه التحوالت أن االنتقال‬
‫الراشدة عىل الوجه‬ ‫الرسالة إىل مرحلة ِ‬
‫اخلالفة َّ‬ ‫الرشعي للقرار اإلسالمي قد َت َّم من مرحلة ِّ‬
‫الصحيح باإلمجاع‪.‬‬
‫وبرزت مواقف اإلمام عيل منذ بـيعته‪ ،‬فلم ُي َفارق الصديق يف وقت من األوقات‪ ،‬ومل ينقطع‬
‫عنه يف مجاعة من اجلامعات‪ ،‬وكان يشاركه املشورة وتدبـري أمور املسلمني‪.‬اهـ(((‪.‬‬

‫((( «اخللفاء الراشدون» للخالدي ص‪ ، 56‬راجع «رفع الضيق» ص‪.169‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪207‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بل حسم اإلمام عيل ريض اهلل عنه املوقف أمام املغرضني ور ّد كيدهم يف نحورهم‪ ،‬فقد‬
‫روى ابن املبارك عن مغول عن ابن أبجر‪ ،‬قال ‪« :‬ملا ُبويع أبوبكر جاء أبو سفيان بن حرب‬
‫إىل عيل ريض اهلل عنه‪ ،‬فقال‪ :‬أخذ عليكم هذا األمر أذل بيت يف قريش فو اهلل ألمالهنا خي ً‬
‫ال‬
‫ورجا ً‬
‫ال‪ ،‬فقال له عيل ريض اهلل عنه‪ :‬ما زلت عدو ًا لإلسالم وأهله‪ ،‬فام ضرَ َّ اإلسالم وأهله‬
‫شيئ ًا‪ ،‬إنا رأينا أبابكر هلا أه ً‬
‫ال»(((‪.‬‬
‫نع بعد مرحلة اخلالفة الراشدة مع ارتفاع رؤوس‬ ‫ُّ‬
‫وكل ما نشأ من التناقضات وال ُّتهم إنام ُص َ‬
‫اخلالف التي َم َّهدَ هلا مقتل سيدنا عثامن ثم مقتل سيدنا عيل ريض اهلل عنهم وعن الصحابة‬
‫أمجعني‪.‬‬

‫((( رواه احلاكم يف «املستدرك» ‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪208‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصديق بعد تويل الخالفة‪ :‬إِن ْ َفاذُ جَ ي ِْش أ ُ َسامَ ة‬
‫مواقف ّ‬

‫ي�ش بِاجتِه ِ‬ ‫للجه ِ‬


‫�اد‬ ‫َ‬ ‫ُأ َس َ‬
‫�ام ًة َو َ‬
‫الج َ‬ ‫�اد‬ ‫َِ‬ ‫ي�ق‬
‫الصدِّ ُ‬
‫ِّ‬ ‫�ذ‬ ‫َ‬
‫وأ ْن َف َ‬
‫ِ ِ‬ ‫لِما ي�دُ ِ‬ ‫�ض َألاّ ُي ْر ِس� َل ْه‬
‫الم ْر َح َل ْه‬
‫�ن َجد ْي�د َ‬ ‫ور م ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َان َر ْأ ُ‬
‫ي ال َب ْع ِ‬ ‫إِ ْذ ك َ‬
‫وم ْظه�ر ال َّثب ِ‬
‫�ات َواألَ ْم ُر اس� َت َق ْر‬ ‫رس�الِ ِه َد ْر ُء الخَ َط ْ�ر‬ ‫وك َ ِ‬
‫ََ َ ُ َ‬ ‫َان ف�ي إِ َ‬ ‫َ‬

‫َاط ِة بالتحول املفاجئ ملوت رسول‬


‫كان من أول مهامت خليفة رسول اهلل يف مسؤولياته ا ُملن َ‬

‫اهلل ﷺ تنفيذ ما كان ﷺ قد أوىص به‪ ،‬حيث َت َّم جتهيز جيش أسامة ُق َبـ َي َل موت النبـي ﷺ‬
‫بـيومني فقط‪ ،‬وكان ابتداء ذلك قبل مرض ال َّنبـي ﷺ‪َ ،‬فنَدَ َب الناس لغزو الروم يف آخر‬
‫ُك هَ َذا‬ ‫صفر ودعا أسامة ؤ‪ ،‬فقال‪« :‬سرِ ْ إِىل َم ْو ِض ِع َم ْق َتلِ َأبِ ْـي َك َف َأ ْو ِطئ ُْه ُم َ‬
‫اخل ْي َل‪َ ،‬ف َقدْ َو َّل ْيت َ‬

‫ش»‪ ،‬وظل اجليش معسكر ًا باجلرف حتى وفاة رسول اهلل ﷺ فرجعوا إىل املدينة وتغريت‬ ‫َ‬
‫اجل ْي َ‬
‫يقة تصف احلالة بقوهلا‪« :‬ملّا‬
‫الصدِّ ُ‬ ‫ُ‬
‫عائشة ِّ‬ ‫األحوال بانتقال رسول اهلل ﷺ إىل ربه‪ ،‬حتى كانت‬
‫ُقبض رسول اهلل ﷺ ارتدت العرب قاطبة‪ ،‬وارشأب النفاق‪ ،‬واهلل لقد نـزل بـي ما لو نـزل‬
‫كأنم معزى مطرية يف ُح ٍ‬
‫ش يف ليلة مطرية‬ ‫باجلبال الراسيات هلاضها‪ ،‬وصار أصحاب حممد ﷺ هّ‬
‫بأرض ُم ْس َبعة» (((‪.‬‬
‫ويف اليوم الثالث من وفاة رسول اهلل ﷺ أمر الصديق املنادي أن ينادي ليتم بعث أسامة «أال‬
‫باملدينة أحدٌ من ُج ْن ِد ُأ َسامة إل َخ َر َج إىل َع ْس َك ِر ِه ُ‬
‫باجل ْرف»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ال يبقنيَّ‬
‫واقرتح بعض الصحابة بأن يبقى اجليش‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن هؤالء ُج ُّل املسلمني والعرب عىل ما‬

‫((( اجلرف موضع خارج املدينة‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪209‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ترى قد انتقضت بك‪ ،‬فليس ينبغي لك أن تفرق عنك مجاعة املسلمني‪.‬‬
‫وأرسل أسامة من معسكره ُ‬
‫باجل ْرف عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنهام إىل أبـي بكر يستأذنه‬
‫يف أن يرجع بالناس‪ ،‬وقال‪ :‬إن معي وجو َه املسلمني وجلتهم وال آمن عىل خليفة رسول اهلل ﷺ‬
‫وحرم رسول اهلل واملسلمني أن يتخطفهم املرشكون‪.‬‬
‫ولكن أبابكر أصرََّ عىل استمرار تسيري جيش أسامة مهام كانت الظروف واألحوال‪ ،‬واجتمع‬
‫او ِر يف األمر‪ ،‬واعرتض ابن اخلطاب عىل تسيري اجليش ُمبدي ًا أسباب ًا هامة وخطرية‬
‫الصحابة لل َّت َش ُ‬
‫تقتيض ذلك‪ ،‬فلم يكن من سيدنا أبـي بكر إلاَّ ْ‬
‫أن مجعهم مر ًة أخرى‪ ،‬وقال‪« :‬والذي ُ‬
‫نفس أبـي‬
‫ول اهللِ ﷺ‪َ ،‬و َلو ل َي ْب َق‬ ‫ألنفذت َب ْع َث ُأ َسا َم َة َكم َأ َمر َر ُس ُ‬
‫ُ‬ ‫الس َباعَ ختطفني‬
‫ظننت أنَّ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بكر بـيده لو‬
‫الق َرى َغيرْ ِْي لأَ َ ْن َف ْذ ُت ُه»‪.‬‬
‫ف ُ‬
‫لس َف ِر‬‫األيام َسلاَ َم َة َر ْأيِ ِه َو َص َواب قراره‪ ،‬ثم قال ألسامة بعد أن َج َّهزَ ُه لِ َّ‬
‫ُ‬ ‫ففعل ذلك وأثبتت‬
‫«إذا َر َأ ْي َت َأنْ ُت ِع ْينَنِي بِ ُع َمر َفا ْف َعل َف َأ ِذنَ َل ُه» وبقي عمر ؤ مع أبـي بكر الصديق‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪210‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الله ﷺ ِمن بَعده‬
‫صدقات رسول ِ‬ ‫مَ وقفه من َ‬
‫وما جَ َرى حَ ولها من التَّحْ ريش واإلثَارة‬
‫ْ�ع لِ َق ْس� ِم َف�دَ ٍك َأ ْن ُي ْؤ َث َ�را‬ ‫َمن ٌ‬ ‫�ق فِ ْي َما ُذكِ َرا‬
‫الصدِّ ْي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫�ن َموقف ِّ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬

‫َار َح َّق ًا َتك ِْس�به‬ ‫المخْ ت ِ‬‫�ن ُ‬


‫ِ‬
‫إِ ْر َث� ًا م َ‬ ‫َ�ت َفاطِ َم� ٌة لِ َت ْط ُل َب� ْه‬ ‫لم�ا َأت ْ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ث ِم ْن َق ْو ِل النَّبِي‬ ‫حدي ِ‬‫ِ‬
‫�ي ال َع َربِ�ي‬ ‫�س إِ ْر َث� ًا للنَّبِ ِّ‬‫َأ ْن َل ْي َ‬ ‫احت ََّج بِا َل ْ‬ ‫َف ْ‬
‫ِ‬
‫�ق بِدَ ْف� ِع النَّ َف َق� ْة‬ ‫َوإِن ََّم�ا َ‬
‫الح ُّ‬ ‫�ن َصدَ َق� ْة‬ ‫َو َم�ا ت ََر ْكنَ�ا َب ْعدَ نَ�ا م ْ‬
‫لما َل ْم ُي ِق ْر‬
‫الصدِّ ْي ِق َّ‬
‫ِ ِ‬
‫م ْن َم ْوق�ف ِّ‬
‫ِ‬ ‫�ت َفاطِ َم� ٌة فِ ْي َم�ا ُذكِ ْ�ر‬ ‫َف َعتِ َب ْ‬
‫ِ‬ ‫اء َه�ا ُم ْعت َِذ َرا‬ ‫بِ�ا ِ ِ ِ ِ‬
‫مم�ا َج َ�رى‬ ‫ُم َب ِّينَ� ًا َم ْوق َف� ُه َّ‬ ‫�ن َج َ‬‫إل ْرث لك ْ‬
‫ش�ر َفه‬
‫أت ُح َّجتَ� ُه ُم ِّ‬ ‫لم�ا َر ْ‬ ‫َّ‬ ‫�ف َم ْو ِق َف�ه‬ ‫�م ت َِع ْب� ُه َأ ْو تُخَ الِ ْ‬ ‫َف َل ْ‬
‫�ط بِ َلو َث ِ‬
‫�ة الت ََّح ُّي ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ف الت ََّم ُّي ِ‬ ‫َم َو ِاق ُ‬ ‫�ذ ِه‬
‫وه ِ‬
‫�ز‬ ‫�م تَخْ تَل ْ ْ‬ ‫َل ْ‬ ‫�ز‬ ‫َ َ‬
‫ْ�ع ال َف ْر ِ‬
‫ض‬ ‫�ف َمن َ‬ ‫الم ْو ِق َ‬
‫َفا ْع َت َب�ر َ‬ ‫الر ْف ِ‬
‫ض‬ ‫َو َقدْ َأ َص َ‬
‫اب ال َب ْع َض َد ُاء َّ‬

‫تفرد هبا اخلليفة األول أبوبكر الصديق ؤ موقفه من (صدقة رسول‬


‫ومن املواقف التي ّ‬
‫اهلل ﷺ التي تسمى َفدَ ك ًا((() وكانت وجهة نظره يف هذه املسألة التزامه بالنص الذي سمعه‬

‫((( قال احلموي يف معجم البلدان‪َ :‬فدَ ك بالتحريك ‪-‬أي‪ :‬بتحريك الفاء والدال وآخره كاف‪ -‬قرية باحلجاز‬
‫بينها وبني املدينة يومان‪ ،‬وقيل ثالثة‪ ،‬أفاءها اهلل عىل رسوله ﷺ يف سنة سبع صلح ًا‪ ،‬وذلك أن النبي ﷺ ملا‬
‫نزل خيرب وفتح حصوهنا ومل يبقَ إال ثالث واشتد هبم احلصار أرسلوا إىل رسول اهلل ﷺ يسألونه أن ينزهلم‬
‫عىل اجلالء وفعل‪ ،‬وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إىل رسول اهلل ﷺ أن يصاحلهم عىل النصف من ثامرهم‬
‫وأمواهلم فأجاهبم إىل ذلك‪ ،‬فهو مما مل يرجف عليه بخيل وال ركاب‪ ،‬فكانت خالصة لرسول اهلل ﷺ‪ ،‬أي‪:‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪211‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من رسول اهلل ﷺ‪(« :‬إنا) نحن معاشرِ األَنْبِي ِ‬
‫اء لاَ ن ُْو َر ُ‬
‫ث َو َما ت ََر ْكنَا ُه َصدَ َق ٌة‪ ...‬الخ»((( والتزم‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬
‫الصديق هبذا النص وأنفق عىل فاطمة وغريها من آل البيت من بيت مال املسلمني حتى قيل‬
‫أن فاطمة ‪-‬عليها السالم‪َ -‬عتِ َب ْت عليه ومل تكلمه حتى ماتت ريض اهلل عنهم أمجعني‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫البعض املال َم عىل أيب بكر‬
‫ُ‬ ‫يمنحها (سهم َفدَ ك)‪ ،‬وقد َو َّسع‬
‫ْ‬ ‫أنه اسرتضاها قبل موهتا إلاّ أنه مل‬
‫ف ليس بقادح‪ ..‬وإنام هو اجتهاد‬ ‫أن هذا ِ‬
‫املوق َ‬ ‫واحلق َّ‬
‫ُّ‬ ‫ؤ وجعلوا ذلك قادح ًا يف خالفته‪،‬‬
‫اجتهده‪ ،‬واهلل يغفر لنا وهلم‪.‬‬ ‫ْ‬
‫�ق‬ ‫لا وبِ َم�ا لاَ َي ْن َطبِ ْ‬ ‫لا و َن ْق ً‬
‫َع ْق ًَ‬ ‫�ق‬ ‫�وا األَ ْم َ�ر بِ َم�ا لاَ َيت َِّف ْ‬
‫و َع َّل ُل ْ‬
‫�ه َام ِة‬
‫الش َ‬‫صحاب َطـ� َه َم ْع ِد ِن َّ‬‫ِ‬ ‫َأ‬ ‫السَل�اَ َم ِة‬ ‫ِ‬
‫َع َل�ى ُس� ُلوك َمن َْه�جِ َّ‬
‫ِ‬ ‫َأئِم ِ‬ ‫�ر الخَ ْل ِق‬
‫َ�ص َخ ْي ِ‬
‫�ق‬ ‫الح ِّ‬
‫�ن ُح َم�اة َ‬ ‫َّ�ة الدِّ ْي ِ‬ ‫�وا بِن ِّ‬
‫�ن ُو ِّث ُق ْ‬
‫َم ْ‬
‫َ‬
‫حول هذه املسألة وحكمها م َّتهمني أبابكر‬ ‫يشري الناظم إىل ما قد َف ِه َم ْت ُه ُ‬
‫بعض املذاهب‬
‫وض ِم َن هلم عىل اهلل باجلنة حيث‬
‫الصديق ؤ بام ال يليق مع من َو َّث َقهم ﷺ وريض عنهم‪َ ،‬‬
‫مع َّ‬
‫أن أهل البيت بعمومهم وفاطمة وعيل‬ ‫عن‪َ ،‬‬ ‫حريش َّ‬
‫والط ِ‬ ‫ِ‬ ‫منهج ال َّت‬
‫َ‬ ‫هنج املخالفون للسالمة‬
‫ريض اهلل عنهام ثبت عنهام السكوت‪ ،‬والسكوت عد الطلب والرضا بام اجتهده اخلليفة و َقبِلاَ‬

‫منه النفقة كغريهم من آل البيت حتى وفاته ريض اهلل عنه وعنهم أمجعني‪.‬‬
‫وكام أرشنا سلفا إىل أن مثل هذا املوقف ال يقدح يف سالمة القرار باخلالفة وبجدارة أيب‬
‫بكر ريض اهلل عنه ‪ ،‬وإنام هو باب فتحه أهل التحريش إليقاد نار الفتنة بني آل البيت من جهة‬
‫وأصحاب رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم من جهة أخرى ولألسف‪ ،‬وال زالت بعض‬
‫نامذجه وصوره وقودا للمرحلة وهتويشات الطاحمني واملرتبصني باإلسالم‪.‬‬

‫ليست من نوع الغنائم التي توزع عىل املقاتلني وإنام هي لرسول اهلل ﷺ يضعها حيث شاء‪.‬‬
‫((( رواه الرتمذي عن عائشة ريض اهلل عنها وقال‪ :‬هذا حديث غريب‪ ،‬وابن عساكر عائشة ريض اهلل عنها‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪212‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ف أ َ ْه ِل ال ِّر َّد ِة أُنْمُوذُجٌ َخ ِطريٌ فيِ التَّحَ وُّالت‬
‫مَ وَاقِ ُ‬

‫للحظ ْي َ�ر ِة‬


‫َ‬ ‫�و َد َة‬
‫�وا ال َع ْ‬ ‫َو َر َف ُض ْ‬
‫وارتَ�دَّ َأع�راب ِم�ن الج ِزي ِ‬
‫�رة‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ َ ٌ‬ ‫َ ْ‬
‫�او ْم َم ْن َج َفا‬ ‫و َل�م يه ِ‬
‫�اد ْن َأ ْو ُي َس ِ‬ ‫�ق ِمنْه�م م ِ‬
‫وق َف�ا‬ ‫َفاتخَّ َ‬
‫َ ْ َُ‬ ‫الصدِّ ْي ُ ُ ْ َ‬ ‫�ذ ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المل‬ ‫َحتَّى َوإِ ْن َص ُّل ْوا َو َص ُام ْوافي َ‬ ‫�م َع َل�ى ال� َّزكَاة َو َ‬
‫ال�ول‬ ‫َح َار َب ُه ْ‬
‫إل ْسلا َم فِ�ي ك ُِّل بِ َ‬
‫ال ْد‬ ‫�خ ا ِ‬‫َو َر َّس َ‬ ‫اال ْجتِ َه�ا ْد‬
‫�ذا ِ‬
‫�م األَ ْم َ�ر بِ َه َ‬
‫َو َح َس َ‬

‫يشري الناظم إىل مظهر من مظاهر التحوالت التي طرأت عىل مرحلة اخلالفة عند انتقال‬
‫األمر من عهد رسول اهلل ﷺ إىل عهد أبـي بكر‪ ،‬ومن ذلك ما ُذكر من ردة بعض القبائل‬
‫العربـية‪ ،‬وقد ذكرت بعض املصادر أن انتقال األمر من مرحلة إىل مرحلة بموت رسول اهلل‬
‫ﷺ أفرز حتو ً‬
‫ال يف حياة العرب‪.‬‬
‫فمنهم من ترك اإلسالم مُجل ًة وتفصي ً‬
‫ال وعا َد إىل الوثنية وعبادة األصنام‪ ،‬ومنهم من ا ّدعى‬
‫النبوة‪ ،‬ومنهم من دعا إىل ترك الصالة‪ ،‬ومنهم من بقي يعرتف باإلسالم ويقيم الصالة؛ ولكنه‬
‫امتنع عن أداء زكاته‪ ،‬ومنهم من َحتيرَّ َو َت َر َّد َد وانتظر عىل من تكون الدائرة‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجهات نظ ِر الصحابة يف شأن حرهبم‪ ،‬فلام سمع‬ ‫وملّا كانت الر ّدة سمع أبوبكر الصديق‬
‫أنفذ القوم بصرية يف هذا الشأن‪ ،‬إذ فهم َّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫وجهات ال َّنظ ِر اختذ القرار‪ ،‬لقد كان أبوبكر الصديق َ‬
‫الزَ َكا َة ال تنفصل عن الشهادتني‪ّ ،‬‬
‫وأن (ال إله إال اهلل) بغري زكاة ال وزن هلا يف حياة الشعوب‪،‬‬
‫وأن السيف يرشع دفاع ًا عن أدائها كام يرشع دفاع ًا عن (ال إله إال اهلل)(((‪.‬‬
‫َّ‬

‫((( «رفع الضيق» بترصف ص‪.201 - 200‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪213‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصدِّ يق عىل إعداد جيوش اإلسالم ملحاربة املرتدين كتب هلم كتاب ًا عام ًا‬ ‫وبعد ْ‬
‫أن عمل ِّ‬
‫أرسله قبل تسيري اجليوش يتضمن ما ييل‪:‬‬
‫‪ -1‬بـيان أساس مطالبة املرتدين بالعودة إىل اإلسالم‪.‬‬
‫الردة‪.‬‬
‫‪ -2‬بـيان عاقبة اإلرصار عىل َّ‬
‫أن العبد ال يعبد حممد ًا‪ ،‬وإنام يعبد احلي الذي ال يموت‪ ،‬وال عذر ملرتد‪.‬‬
‫‪ - 3‬بـيان َّ‬
‫‪ -4‬من رجع إىل اإلسالم َو َأ َق َّر بضالله َ‬
‫وك َّف عن قتال املسلمني وعمل صاحل ًا فهو من‬
‫جمتمع املسلمني له ما هلم وعليه ما عليهم‪.‬‬
‫‪ - 5‬من يأبى الرجوع إىل صف املسلمني ال مفر من حربه ولن ُي ْع ِجزَ اهلل بأية حال‪.‬‬
‫وهبذا بعث الصديق قادة اجليوش إىل حيث كان جممع القبائل املرتدة‪:‬‬
‫‪ -1‬جيش خالد بن الوليد إىل بني أسد ثم إىل متيم ثم إىل الياممة‪ ،‬وأدى هذا اجليش أعظم‬
‫األدوار يف إسقاط الكذابني العربيني‪ُ :‬طليحة األسدي ومسيلمة َّ‬
‫الكذاب‪.‬‬
‫‪ -2‬جيش عكرمة بن أبـي جهل إىل مسيلمة يف بني حنيفة ثم إىل عامن واملهرة فحرضموت‬
‫فاليمن‪.‬‬
‫رش ْحبِ ْـي َل بن َح َسنَة إىل الياممة يف إثر عكرمة ثم حرضموت‪.‬‬
‫‪ -3‬جيش َ‬
‫‪ -4‬جيش طريف بن حاجر إىل بني سليم من هوازن‪.‬‬
‫العاص إىل قضاعة‪.‬‬
‫بن َ‬‫‪ -5‬جيش َع ْم ِرو ِ‬
‫‪ -6‬جيش خالد بن سعيد بن العاص إىل مشارف الشام‪.‬‬
‫‪ -7‬جيش العالء بن احلرضمي إىل البحرين‪.‬‬
‫‪ -8‬جيش حذيفة بن حمصن الغلفاين إىل عامن‪.‬‬
‫‪ -9‬جيش عرفجه بن هرثمة إىل املهرة‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪214‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪ -10‬جيش املهاجر بن أبـي أمية إىل اليمن ( صنعاء ثم حرضموت )‪.‬‬
‫‪ -11‬جيش سويد بن مقرن إىل هتامة اليمن(((‪.‬‬
‫وقد استطاعت هذه اجليوش املبعوثة إىل األفجاج أن تعيد هيبة اإلسالم وقوة الدعوة‬
‫وترسخ اخلالفة الراشدة وهتدم أوكار اإلفك والتحريش والردة‪ ،‬برصف النظر عمن يطعن يف‬
‫بعض القادة ويتخذ من جمريات املعارك ونتائجها وسيلة لألغراض واألمراض‪ ،‬فاملقاتلون عىل‬
‫عهد رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ذاته وقعت منهم األخطاء والتجاوزات ومل جيرد صىل‬
‫اهلل عليه وآله وسلم أحدا من دينه وال سالمة معتقده‪ ،‬ومن اختارهم رسول اهلل قادة للجيوش‬
‫يف عهده كخالد بن الوليد وسامه بالسيف املسلول فقد اختاره أيضا أبوبكر الصديق ريض اهلل‬
‫عنه‪ ،‬ففي االختيار اقتداء ويف عزله عىل عهد عمر بن اخلطاب حكمة وهدف خلليفة مقتدى‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.211 - 210‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪215‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫آن‬ ‫ف أبـي بكر ٍمن َق َر ِار جمَ ِع ُ‬
‫الق ْر ِ‬ ‫مَ وْقِ ُ‬

‫الوثِ ِ‬
‫ي�ق‬ ‫ِ‬
‫للم ْص َح�ف َ‬
‫ِ‬
‫ت َْجمي ُع� ُه ُ‬ ‫الصدِّ ِ‬
‫ي�ق‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َعظي� ِم َم ْوق�ف ِّ‬
‫ِ‬
‫وم ْ‬
‫ين َن َف ْر‬ ‫ِ‬ ‫�ن ُع ْص َب ِة ال ُق ْ�ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫لم�ا َر َأى ال َقت َْل بِ ِه ْم َق ِد ْاس�ت ََح ْر‬
‫آن َس� ْبع َ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫�وت ُع َ�رى ال َي ِق ْي ِن‬ ‫�ون بِالم ِ‬
‫ُي ْح ُي َ َ‬ ‫ين‬‫�هدَ َاء الدِّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ض ن َْج�د ُش َ‬ ‫فِ�ي َأ ْر ِ‬

‫وه�ا َب َأ َم ْ‬ ‫ِ‬ ‫الح َّف ُ‬ ‫ِ‬


‫�ان‬ ‫َع ْب َ�ر ال ِّث َق�ات َن َق ُل َ‬ ‫آي ا ْل ُق َر ْ‬
‫ان‬ ‫اظ َع ْن ِ‬ ‫اس ُتنْط َق ُ‬ ‫َف ْ‬

‫التحول يف شأن‬
‫ُّ‬ ‫تشري األبـيات إىل أحد مواقف الصديق ؤ عندما برزت عالمات‬
‫أن سبعني منهم ُقتلوا يف معركة الياممة خالل حروب الردة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الق َّراء محلة القرآن‪ ،‬فقد ثبت َّ‬
‫ومجع خوف ًا من ذهابه بذهاب القراء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حفظ‬ ‫الصدِّ ُ‬
‫يق خطورة األمر وأن القرآن حيتاج إىل‬ ‫فرأى ِّ‬
‫فاستشار كبار الصحابة يف ذلك فوافقه األغلب إلاَّ عبداهلل بن مسعود ريض اهلل عنه ونفر معه؛‬
‫ولكن الصديق اختذ املوقف وندب للجمع املبارك مجلة من الصحابة حتت إمرة زيد بن ثابت‬
‫ؤ‪.‬‬
‫وقد اختلف الباحثون والعلامء حول مسألة كتابة القرآن‪ ،‬هل كان القرآن مكتوب ًا عىل صفة‬
‫املصحف من عهد رسول اهلل ﷺ أم كان مفرق ًا يف األوراق واجللود والعظام؟ ثم مُجع عىل عهد‬
‫أبـي بكر الصديق عىل صفة املصحف‪ ،‬وقد كتب يف هذا الباب أستاذنا العالمة حممد بن أمحد‬
‫الشاطري رسالة عن مجع املصاحف أثبت فيها وجود القرآن مكتوب ًا وجمموع ًا منذ عهد رسول‬
‫اهلل ﷺ‪ ،‬وأنه مل يمت عليه الصالة والسالم إلاَّ وقد مجع املصحف بـني الدفتني كتاب ًة وحتقيق ًا‪،‬‬
‫وقد طبعت هذه الرسالة وسميت «عرض األدلة والرباهني عىل كتابة املصاحف يف حياة سيد‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪216‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫املرسلني صىل اهلل عليه وآله وسلم يف عهد اخللفاء الراشدين» ((( ‪ ،‬وكان أول باب فيها ما‬
‫صورته‪ :‬إن املصحف الذي نقرؤه وهو بني أيدينا هو نفسه الذي مجع وكتب يف عهد رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته‪ ،‬وهؤالء هم اجليل الفريد األول الذي يتلوه حق‬
‫تالوته‪ ،‬وتلته عنه األجيال املسلمة جيال بعد جيل إىل جيلنا احلارض‪ ،‬وسيتلقاه عنا من بعدنا من‬
‫األجيال القادمة إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫ويف موقع آخر قال‪ :‬هناك أحاديث تدل عىل وجود القرآن كمصحف يف حياة رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم منها ما رواه مسلم يف صحيحه وغريه‪« :‬ال تسافروا بالقرآن إىل أرض‬
‫العدو لئال يناله» ‪ ،‬وحديث‪« :‬إن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم هنى أن يسافر بالقرآن إىل‬
‫أرض العدو لئال يناله العدو» ‪ .‬اهـ ص‪ . 39‬وهذا رصيح يف لفظ القرآن مجلة‪ ،‬وهو أوىل من‬
‫تأويله بأن املراد املوجود منه يف املصحف‪.‬‬

‫((( طبعة دار احلاوي‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪217‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصدي ِّق َمل ْرحَ َل ِة التَّحَ و ُِّل ِمن بَعْ دِهِ‬ ‫ُ‬
‫دادات ّ‬ ‫اِ ْستِعْ‬

‫ت و َق ْط� ِع َعملِ ْه‬


‫ض الم�و ِ‬
‫بِ َم َ�ر ِ َ ْ‬ ‫�رب َأ َجلِ ْه‬
‫ي�ق ُق َ‬
‫الصدِّ ُ‬
‫لم�ا َرأى ِّ‬
‫ّ‬
‫رج�و ُه بِال َّت َفك ِ‬
‫ُّ�ر‬ ‫َو َو ْض� ِع َم�ا َي ُ‬ ‫�ر‬ ‫�أن األَ ْم ِ‬
‫�ر بِالتَّدَ ُّب ِ‬ ‫أ َد َار َش َ‬
‫ِ‬
‫يم�ا َد َارا‬ ‫ـ�ي ف َ‬ ‫َص َحا َب� َة النَّبِ ِّ‬ ‫اس�تَخْ َل َ‬
‫ف ال َف ُار ْو َق واست ََش َارا‬ ‫َف ْ‬
‫�ه فِ�ي إِمرتِ ِ‬ ‫و َأجمع�وا ع َلي ِ‬ ‫�ل موتِ ِ‬
‫�ه‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ ْ‬ ‫�ه‬ ‫وق َق ْب َ َ‬
‫�ار ُ‬ ‫و ُبويِ َ‬
‫�ع ال َف ُ‬

‫تشري األبـيات إىل استمرار مواقف الصديق اإلجيابـية طيلة خالفته وحتى مرض موته‪،‬‬
‫وملا ثقل به املرض مجع الناس إليه واستشارهم يف شأن اخلالفة فأعادوا إليه األمر ومل خيالف‬
‫أحدٌ إلاَّ أبوطلحة الذي‪ ،‬قال له يف شأن استخالف الفاروق‪ :‬ما أنت قائل لربك إذا سألك عن‬
‫استخالفك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبوبكر‪َ :‬أ ْج ِل ُسوين‪ ..‬أباهلل تخُ َ ِّو ُف ْونيِ ؟ َخ َ‬
‫اب َمن‬
‫ري أهلك‪ ،‬ثم ّنبه من يرى غلظة عمر‪،‬‬
‫استخلفت عليهم خ َ‬
‫ُ‬ ‫لم! أقول‪ :‬ال َّلهم‬ ‫َتزَ َّو َد من أمركم ُ‬
‫بظ ٍ‬
‫فقال‪ :‬ذلك ألنه يراين رقيق ًا‪ ،‬ولو أفىض األمر إليه لرتك كثري ًا مما هو عليه(((‪ ،‬ثم كتب عهد ًا‬
‫مصار‪ ،‬و ُق ِر َئ يف املدينة‪ ،‬ثم اختىل بابن‬ ‫باستخالف ُع َمر َو َأ َمر بقراءته عىل الناس يف كا َّف ِة َ‬
‫األ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اخلطاب وأوصاه باملسلمني خري ًا‪ ،‬ودعا الناس إىل بـيعته فبايعوه باإلمجاع‪.‬‬
‫وملا حرضته الوفاة مل َي ُف ْته أن يتخذ موقف ًا هام ًا يف بـيته‪ ،‬فقد كانت عائشة ريض اهلل عنها‬
‫تعوده وتستشهد بقول القائل‪:‬‬
‫إِ َذا َحشرْ َ َج ْت َي ْو َم ًا َو َض َ‬
‫اق هِ َبا َّ‬
‫الصدْ ُر‬ ‫َل َع ْم ُر َك ما ُيغنِي الث ََّر ُاء ِم َن ال َفتَى‬

‫((( املصدر السابق ص‪.392‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪218‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َفن ََظ َر إِليها َكالغضبان‪ ،‬ثم قال‪ :‬ليس كذلك يا َّأم ا ُملؤمنني‪ ،‬ولكن قول اهلل أصدق‪( :‬ﭳ‬
‫أحب إ ّيل ِ‬
‫منك‪،‬‬ ‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) ثم قال يا عائشة‪ :‬إنه ليس أحد من أهيل َّ‬
‫كنت نحل ُت ِ‬
‫ك َحائط ًا َوإِ َّن يف نفيس منه شيئ ًا‪ ،‬فرديه إىل املرياث‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأرجعته ريض‬ ‫وقد ُ‬
‫اهلل عنها(((‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ومات رمحه اهلل تعاىل وريض اهلل عنه يوم اإلثنني ليلة الثالثاء يف الثاين والعرشين من مجاد‬
‫اآلخر سنة ‪ 13‬للهجرة بعد أن مرض مخسة عرش يوم ًا(((‪.‬‬
‫َ‬
‫مواقف جدير ًة باإلجالل‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫وقد أبرز الصديق أمام ال َّت َح ُّوالت‬
‫‪ )1‬املوقف من حرية الصحابة حول موت رسول اهلل‪.‬‬
‫‪ )2‬املوقف من قضية السقيفة وإقناع األنصار‪.‬‬
‫‪ )3‬املوقف من بعث أسامة واإلرصار عىل إنفاذه‪.‬‬
‫‪ )4‬املوقف من حماربة أهل الردة‪.‬‬
‫‪ )5‬املوقف من مسألة اخلالف حول مجع القرآن‪.‬‬
‫‪ )6‬املوقف من مدَّ ِعي النبوة‪.‬‬
‫‪ )7‬املوقف من قضية َفدَ ك وااللتزام بالنص مع اإلنفاق عىل آل البيت وزوجات‬
‫الرسول مدة حياته‪.‬‬

‫((( املصدر السابق‪.‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.397-396‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪219‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪220‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اب‬ ‫بن َ‬
‫اخل ّط ِ‬ ‫ص ُع َم َر ِ‬
‫َع رْ ُ‬
‫« َعرص َغ ْل ِ‬
‫ق الفتنة»‬

‫أعز اإلسالم بعمر»‬ ‫‪« :‬لو كان بعدي ٌّ‬


‫نبي لكان ُعمر‪ ،‬اللهم َّ‬ ‫قال ﷺ‬
‫اخلميس (‪)243 :2‬‬

‫ري هذه األمة بعد نبيها أبوبكر وعمر»‬


‫«خ ُ‬
‫ذكره الذهبي يف «دول اإلسالم» عن اإلمام عيل ريض اهلل عنه‬

‫«كان عمر بن اخلطاب حائطا حصينا عىل اإلسالم يدخل الناس فيه‬
‫وال خيرجون منه‪ ،‬فانثلم احلائط والناس خيرجون منه وال يدخلون فيه»‬

‫رواه ابن وضاح عن ابن مسعود‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪221‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪222‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫الخ َ‬
‫ليفة الثَانِي‬ ‫ُّالت و ِبنا ُء ا َملوَاقِ ِف عىل عَ هْ ِد َ‬
‫ظهَ ُر التَّحَ و ِ‬
‫مَ ْ‬

‫َع ْه�دَ البِنَ�ا َو َج ْو َه َ�ر ال َّت ْط ِ‬


‫بـي�ق‬ ‫�ار ِ‬
‫وق‬ ‫وكان َع ْه�دُ ُع َم َ�ر ال َف ُ‬
‫َ‬
‫الم َحاكِ ِم‬ ‫ِ‬
‫�ذ األَ ْح�كَا َم ف�ي َ‬
‫َو َن َّف َ‬ ‫َان النِّ َظ�ا ِم الع ِ‬
‫الم�ي‬ ‫َ‬ ‫َأ َق�ا َم َأ ْرك َ‬

‫انتقل القرار اإلسالمي باإلمجاع بني الصحابة من اخلليفة األول أيب بكر الصديق ريض اهلل‬
‫عنه إىل اخلليفة الثاين أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه‪ ،‬ومتت مبايعته ريض اهلل عنه‬
‫علنا يف املسجد ومل يتخلف أحد من أهل احلل والعقد عن بيعته‪ ،‬ويف رواية‪ :‬إن طلحة قال‪:‬‬
‫أتويل علينا فظا غليظا؟ ما تقول لربك إذا لقيته؟ فقال أبوبكر‪ :‬ساندوين ‪ ،‬فأجلسوه فقال‪ :‬أبلله‬
‫استعملت عليهم خري أهلك ‪ .‬وقال عيل ريض اهلل عنه‪ :‬يا خليفة رسول اهلل ‪ ،‬امض‬
‫ُ‬ ‫ختوفونني؟‬
‫لرأيك فام نعلم به إال خريا‪« .‬تاريخ اخلميس» (‪.)241 :2‬‬
‫واستقبل عمر اخلالفة صبيحة يوم الثالثاء لتسع بقني من مجادى اآلخرة من السنة الثالثة‬
‫عرش للهجرة‪ ،‬وكان أول ما تكلم به حني صعد املنرب‪ :‬اللهم إين شديد فلي ّني‪ ،‬وإين ضعيف‬

‫((( هو أبو حفص عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه‪ ،‬ولد بعد عام الفيل بثالث عرشة سنة‪ ،‬وهو أول من سمي‬
‫بأمري املؤمنني‪ ،‬وك ّناه رسول اهلل ﷺ بأبـي حفص ملا رأى فيه من الشدة والبأس‪ ،‬واحلفص لغ ًة األسد‪،‬‬
‫ولقبه الرسول بالفاروق يوم أسلم يف دار األرقم؛ ألنه كان يفرق بـني احلق والباطل‪ ،‬وهو أول من جهر‬
‫باإلسالم‪ ،‬وفرح املسلمون بإسالمه‪ ،‬برشه النبـي باجلنة‪ ،‬وشهد له بأن اهلل تعاىل جعل احلق عىل لسانه‬
‫وقلبه‪ ،‬وأن الشيطان يفر منه‪ ،‬عاش ثالث ًا وستني‪ ،‬واستمرت خالفته عرش سنني وستة أشهر ومخسة ليال‪،‬‬
‫ويل اخلالفة يف مجاد اآلخر سنة ‪ 13‬للهجرة يوم الثالثاء‪ ،‬وكان ريض اهلل عنه رجل مواقف سواء يف عهد‬
‫رسول اهلل ﷺ أو يف بعده وقد وافقه القرآن يف أكثر من موقف‪ ..‬وهي جديرة بالنظر والتأمل إذ فيها إشارة‬
‫قطعية لسالمة توجهه‪ ،‬وهبا ينتفي كل ما يتقوله املتقولون الذين جيعلون من مواقفه بعد اإلسالم طعنا يف‬
‫دينه وأمانته سواء يف قرار احلكم أو العلم أو غريها‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪223‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فقوين‪ ،‬وإين بخيل ّ‬
‫فسخني‪.‬‬
‫ويعد هذا العرص الذي توىل فيه الفاروق سدّ ة احلكم من أزهى عصور اإلسالم وأكثرها‬
‫ِ‬
‫تأسيس دولة املؤسسات والنظام اإلداري والعسكري‬ ‫امتداد ًا وحرك ًة؛ بل ُي ِعدُّ ُه ال َب ْع ُ‬
‫ض عهدَ‬
‫إسالم ُع َم َر َف ْت َح ًا‪ ،‬وكانت هجر ُت ُه َنصرْ َ ًا‪ ،‬وكانت‬
‫ُ‬ ‫واالقتصادي‪ ،‬قال فيه ابن مسعود‪« :‬كان‬
‫مح ًة»‪.‬‬
‫إمار ُت ُه َر َ‬
‫كان هو صاحب املواقف أمام مظاهر عرصه ومسؤوليات خالفته‪ ،‬فهو أول من كتب‬
‫التاريخ اهلجري يف شهر ربـيع األول سنة سبعة عرش فكتبه من هجرة النبـي من مكة إىل املدينة‬
‫بمشورة اإلمام عيل بن أبـي طالب‪ ،‬وكان هو أول من مجع الناس عىل صالة الرتاويح بإمامة‬
‫وأدب هبا‪َ ،‬و ُه َو َأ َّو ُل من فتح الفتوح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أ َبـ ِّي بن َك ْعب‪ ،‬وهو أول من َع َّ‬
‫س باملدينة ومحل الدِّ َّرة َّ‬
‫مص األمصار‪ ،‬وهو أول من وضع القضاة هبا‪ ،‬وهو أول من دون الدَّ َوا ِوين‪،‬‬
‫وهو أول من رّ‬
‫وهو أول من َح َّر َك أساطيل السفن باألرزاق واحلبوب من مرص إىل البحر األمحر واملدينة‪ ،‬وهو‬
‫الذي أخرج اليهود من جزيرة العرب إىل الشام‪.‬‬
‫وملن أراد استزادة يف شأن مواقفه فلرياجع أمهات التاريخ والسري‪.‬‬
‫�ن‬ ‫وس�نَد ًا لل َع�دْ ِل ُد َ‬
‫ون َو َه ِ‬ ‫وكان باب� ًا ِض�دَّ ك ُِّل ِ‬
‫الفت ِ‬
‫َ�ن‬ ‫َ‬
‫َ‬

‫يشري الناظم إىل عالقة الفاروق بمجموع الفتن‪َ ،‬و َأ َّن ال َّنبـي ﷺ شبهه بالباب الفاصل‬
‫التحوالت ووقوعها حلديث «هذا غلق الفتنة ‪-‬وأشار ﷺ بـيده إىل عمر‪ -‬وقال‪ :‬ال يزال‬
‫ُّ‬ ‫بـني‬
‫باب شديدُ الغلق ما عاش هذا بـني أظهركم»(((‪.‬‬
‫بـينكم وبـني الفتنة ٌ‬
‫ويف صحيح البخاري أن ُع َم َر َسأل حذيفة ريض اهلل عنهام عن الفتنة التي متوج كموج‬
‫البحر‪ ،‬فقال يا أمري املؤمنني‪« :‬ال بأس عليك منها إِنَّ بـينك وبـينها باب ًا مغلق ًا»‪ ،‬قال‪« :‬أيفتح‬

‫((( أخرجه البزار عن ُقدامة ابن مظعون عن عمه عثامن بن مظعون‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪224‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أو يكرس»‪ ،‬قال‪« :‬ال بل يكرس»‪ ،‬قال‪« :‬ذاك أحرى أن ال يغلق» وفيه أن الباب هو عمر ؤ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بسند رجاله ثقات أن أبا ذر لقي عمر ؤ فأخذ عمر بـيده فغمزها‪،‬‬ ‫وروى الطرباين‬
‫فقال له أبو ذر‪َ :‬أ ْر ِس ْل يدي يا ُق ْف َل الفتنة‪ ...‬احلديث‪ ،‬وفيه أن أبا ذر قال‪ :‬ال تصيبكم فتنة ما دام‬
‫فيكم هذا‪ ،‬وأشار إىل عمر‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫للعدْ ِل ُدونَ َوهَ ِن» وحكاياته يف هذا الشأن‬
‫وكان عمر ؤ أيض ًا كام أشار الناظم «سند ًا َ‬
‫وأخباره ال ختفى‪ ،‬ريض اهلل عنه وأرضاه‪.‬‬
‫وخ ّلفت فيكم بعد صاحبـي‪،‬‬
‫ابتليت بكم وابتليتم بـي‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وخطب يف الناس فقال‪ :‬أما بعد فقد‬
‫من كان بحرضتنا بارشناه بأنفسنا ومهام غاب عنا ولينا أهل القوة واألمانة‪ ،‬فمن حيسن نـزده‬
‫ُحسن ًا ومن يسئ نعاقبه ويغفر اهلل لنا ولكم‪.‬‬
‫الربـيع بن زياد احلارثي فأعجبته هيئته‬
‫ُ‬ ‫عمر ؤ‬
‫ومن مثل ذلك ما ذكر أنه وفد عىل َ‬
‫ونحوه فشكا عمر طعام ًا غليظ ًا أكله‪ ،‬فقال الربـيع‪ :‬يا أمري املؤمنني إِ َّن أحق الناس بطعام لني‬
‫ومركب لني وملبس لني ألنت‪ ،‬فرفع عمر جريدة معه فرضب هبا رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬أما واهلل ما‬
‫أراك أردت هبا اهلل وما أردت هبا إلاَّ مقاربتي‪ ..‬هل تدري ما مثيل ومثل هؤالء؟ قال‪ :‬وما مثلك‬
‫ومثلهم؟ قال‪ :‬مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاهتم إىل رجل منهم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬أنفق علينا‪ ،‬فهل حيل‬
‫له أن يستأثر منها بيشء؟ قال‪ :‬ال يا أمري املؤمنني‪.‬‬
‫أبشار ُك ْم َولِيشتموا أعراضكم‬
‫َ‬ ‫ثم قال عمر للربـيع‪ :‬إين مل أستعمل عليكم ُعماَّليِ ليرضبوا‬
‫ويأخذوا أموالكم؛ ولكني أستعملهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبـيكم‪ ،‬فمن ظلمه عام ُل ُه‬
‫يل‪ ،‬لريفعها إ ّيل حتى أقصه منه‪ ،‬فقال عمرو بن العاص‪ :‬يا أمري املؤمنني إن‬
‫بمظلمة فال إذن له ع ّ‬
‫أمري رج ً‬
‫ال من رعيته أتقتص منه؟ فقال عمر‪ :‬ومايل ال أقتص منه وقد رأيت رسول اهلل‬ ‫أ ّدب ٌ‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.5‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪225‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﷺ يقص من نفسه ؟(((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وما يك ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َمص ِير ُ‬
‫الم ْجت ََم ْع‬ ‫ُون م ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫�م بِس ِّ�ر َم�ا َي َق ْ‬
‫�ع‬ ‫وعنْ�دَ ُه ع ْل ٌ‬

‫إشار ٌة يف البـيت إىل ما يعرفه سيدنا عمر من ِّ‬


‫رس التحوالت وحقيقة شأن رجاهلا‪ ،‬وما أخرب‬
‫به ﷺ يف تقلبات املراحل‪ ،‬وقد أكدت األحاديث الرشيفة أنه ؤ « ُم ْل َه ٌم حُ َ‬
‫ومدَّ ٌث»‪ ،‬أخرجه‬
‫البخاري عن أبـي هريرة قال‪ :‬قال النبـي ﷺ‪« :‬لقد كان فيام قبلكم من األمم ناس حمدَّ ثون‪ ،‬فإن‬
‫يكن يف أمتي أحدٌ فإ َّن ُه ُع َمر»(((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫بالم ْس�أ َل ْة‬ ‫ك َُّل إم�ا ٍم ع ِ ٍ‬ ‫الم ْر َح َل ْة‬ ‫�ؤ ِ‬
‫�ير في ُش ُ‬ ‫ِ‬
‫�ارف َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون َ‬ ‫و َي ْستَش ُ‬
‫الس ِّر ُح َذي َف َة ال َي ْ‬
‫مان‬ ‫َأو ص ِ‬
‫اح ِ‬ ‫اب ِ‬
‫الع ْل ِم َمنْ ُط ِ‬ ‫ك َِم ِ‬
‫ثل َب ِ‬
‫ب ِّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ان‬
‫وق الز ََّم ْ‬
‫�ار ِق‬ ‫لم ِ‬ ‫َجنَ�ا َز ًة‬ ‫وتَركِ ِ‬
‫�ه‬ ‫�ل َع�ز ِْل َحاكِ� ٍم ُمنَافِ ِ‬
‫�ق‬ ‫ك َِم ْث ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬

‫يشري الناظم إىل استشارة عمر ملجموعة من الصحابة حوله ممن يعلم عدل رأهيم وسالمة‬

‫مشورهتم وعمق ِف ْق َهم بعالمات َّ‬


‫الساعة‪ ،‬ويأيت يف مقدمتهم سيدنا اإلمام عيل بن أبـي طالب‬
‫‪-‬س ِّي ِد َنا َأ ِبـي بكر الصديق‪ ،-‬وكان سيدنا عمر‬
‫الذي كان مستشار ًا ناصح ًا له‪ ،‬وملن كان قبله َ‬
‫ؤ يستعيذ من ُم ْع ٍ‬
‫ضلة ليس هلا أبو احلسن‪-‬أي عيل بن أبـي طالب(((‪ ،‬وكان اإلمام عيل يقول‬
‫عند موت عمر‪« :‬واهلل ما خلفت أحد ًا أحب إىل أن ألقى اهلل تعاىل بمثل عمله منك يا عمر» (((‪.‬‬

‫((( «الفاروق عمر بن اخلطاب» ملحمد رضا ص‪.32 - 31‬‬


‫((( «تاريخ اخللفاء» ص ‪. 109‬‬
‫((( «إمام املتقني» للرشقاوي ص‪.18‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.21‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪226‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ثمنهن يف‬
‫َّ‬ ‫يبـيعهن كاجلواري َو َي َض َع‬
‫َّ‬ ‫ومن ذلك ما روي أن بنات ملك الفرس أراد عمر أن‬
‫إحداهن فلطمته‬
‫َّ‬ ‫وأعطاهن للدَّ لاَّ ِل ينادي َع َل ْي ِه َّن بالسوق فكشف الدَّ لاَّ ل عن وجه‬
‫َّ‬ ‫بـيت املال‬
‫بالعصا‪،‬‬
‫يرضهبن َ‬
‫َّ‬ ‫فدعاهن عمر وأراد أن‬
‫َّ‬ ‫لطمة شديدة‪ ،‬فصاح الرجل ( َو ُاع َم َراه ) َو َش َكا إليه‬
‫أكرموا عزيزَ قو ٍم َذل‪َ ،‬‬
‫وغني قوم‬ ‫فقال عيل ؤ‪ :‬يا أمري املؤمنني إن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال‪ُ « :‬‬
‫وه َّن َو ُك َّن ثَلاَ َث ًا فأعطاه أثامنهَ ُ َّن َو َو َه َب ُه َّن‬ ‫ولكن َق ِّو ُم ُ‬
‫وه َّن‪َ ،‬ف َق َّو ُم ُ‬ ‫ْ‬ ‫عن‬ ‫افتقر»((( إِ َّن َبن ِ‬
‫َات امللوك ال ُي َب َ‬
‫واحد ًة ملحمد بن أبـي بكر والثانية لعبداهلل بن عمر والثالثة البنه احلسني(((‪.‬‬
‫عيل بِ ُح ْس ِن املَ ُش ْو َرة لعمر أن خيفف من‬
‫قال الرشقاوي يف كتابه «إمام املتقني»‪ :‬استطاع ٌّ‬
‫شدته‪ ،‬وأن يشد أزره يف وجه أصحاب املطامع الذين أغراهم الغنى املفاجئ‪ ،‬واطمأن عمر‬
‫أصغر منه بنحو عرشين عام ًا‪ ،‬وتزوج‬
‫ُ‬ ‫علي ًا‬ ‫الر ْغ ِم ِمن َّ‬
‫أن َّ‬ ‫بن أبـي طالب صديق ًا عىل َّ‬ ‫واختذ ع َّ‬
‫يل َ‬
‫إلمام ع ٍّ‬
‫يل ؤ كام ورد يف السرية‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫عمر ؤ من ِّأم ُكلثوم ِ‬
‫بنت ا ِ‬
‫حذيفة بن اليامن « َأ ْو َص ِ‬
‫اح ِ‬
‫ب السرِّ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وكان ممن يستشريهم عمر ؤ يف مرحلة خالفته‬
‫ُح َذ ْي ِفة ال َي اَمنْ » (((‪.‬‬

‫((( من حديث «ارمحوا ثالثة ‪ :‬عزيز قوم ذل ‪ :‬وغني قوم افتقر ‪ ،‬وعاملا بني جهال» أخرجه ابن حبان من حديث‬
‫أنس ريض اهلل عنه‪ ،‬وأورده اإلمام السيوطي يف «اجلامع الكبري» برقم ‪ 2951 : 107‬وقال‪ :‬احلديث عن‬
‫أنس وفيه عيسى بن طهامن‪.‬‬
‫((( «إمام املتقني» ص ‪.98‬‬
‫((( هو حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربـيعة بن فروة‪...‬إلخ نسبه من بني عبس املعروف باليامين العبيس‪ ،‬أسلم‬
‫حذيفة وأبوه وأرادا شهود بدر فصدمها املرشكون وشهدا أحد ًا فاستشهد اليامن هبا‪ ،‬وروى حذيفة عن‬
‫النبـي ﷺ الكثري‪ ،‬استعمله عمر عىل املدائن فلم يزل هبا حتى مات بعد مقتل عثامن وبعد بـيعة عيل ريض‬
‫اهلل عنه بأربعني يوم ًا سنة ‪36‬هـ‪ ،‬وكان حذيفة يقول عن العلم بفقه التحوالت‪ :‬لقد حدثني رسول اهلل‬
‫ﷺ ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة‪ ،‬ويف الصحيحني أن أبا الدرداء قال لعلقمة‪ :‬أليس فيكم صاحب‬
‫الرس الذي ال يعلمه غريه؟ يعني حذيفة‪ ،‬وروى ابن سعد عن حممد بن سريين قال‪ :‬كان عمر بن اخلطاب‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪227‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وقد ورد ّ‬
‫أن أمري املؤمنني كان يستشريه يف بعض أمور الناس‪ ،‬وخاصة يف شأن عالمات املنافقني‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬ما روي عن محيد بن هالل‪ ،‬قال‪ُ :‬أتى عمر بن اخلطاب برجل يصيل عليه فدعا ُبو ُض ْو ٍء ليص َ‬
‫يل‬
‫عليه وعنده حذيفة فمرزه ‪-‬أي قرصه بأصابعه لئال يصيل عليه‪ -‬مرزة شديدة‪ ،‬قال عمر‪َ :‬ف َص ُّلوا عىل‬
‫ربهم‪ ،‬قال عمر‪ :‬يا حذيفة َأ ِم ْن ُهم أنا؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬ففي ُعماَّ يل أحدٌ منهم؟‬
‫صاحبِكم‪ ،‬من غري أن خي َ‬
‫نـزع ُه من غري أن خيربه ‪.‬اهـ(((‪.‬‬
‫دل عليه حتى َ‬ ‫قال‪ :‬رجل واحد‪ ،‬وكأ َّنام َّ‬
‫�ي األَ ِش ْر‬ ‫ِ‬
‫إِ ْذ َد َّب َر ال َقت َْل َ‬
‫الم ُجوس ُّ‬ ‫�ف َينْك َِس ْ�ر‬ ‫لم� ُه بال َب ِ‬
‫�اب َك ْي َ‬ ‫ِ‬
‫وع ُ‬

‫إشارة إىل أن سيدنا عمر ؤ لديه علم بشأن الفتنة من بعده‪ ،‬وأنه قد علم أن الرسول‬
‫سامه «الباب»‪ ،‬وأنه ُي ْكسرَ ُ أي يقتل‪ ،‬وكان قتله عىل يد أبـي لؤلؤة املجويس(((‪.‬‬

‫إذا بعث عام ً‬


‫ال كتب يف عهده‪ :‬أن اسمعوا له وأطيعوا ما عدل عليكم‪ ،‬فلام استعمل حذيفة عىل املدائن‬
‫كتب يف عهده أن اسمعوا وأطيعوا وأعطوه ما سألكم‪ ،‬وروى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث‬
‫حذيفة بن اليامن ريض اهلل عنهام قال‪ :‬لقد خطبنا النبـي ﷺ خطبة ما ترك فيها شيئ ًا من مقام الساعة إلاَّ‬
‫ذكره علمه من علمه وجهله من جهله‪ ،‬إن كنت ال أرى اليشء قد نسيت فأراه فأذكره كام يذكر الرجل‬
‫وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه‪.‬‬
‫((( «كنـز العامل» (‪.)344 :13‬‬
‫((( أبو لؤلؤة املجويس غالم كان بالكوفة‪ ،‬طلب املغرية بن شعبة من عمر أمري املؤمنني أن يأذن له يف دخول‬
‫املدينة املنورة ملا عنده من صنعة فيها منافع للناس فكتب إليه عمر ريض اهلل عنه‪ ،‬فأذن له أن يرسل به‪،‬‬
‫وكان كافر ًا جموسي ًا فلام وصل إىل املدينة طلب من أمري املؤمنني أن يرفع عنه شدة اخلراج‪ ،‬فقال عمر‬
‫ريض اهلل عنه‪ :‬خراجك ليس بكثري يف كفة عملك‪ ،‬فانرصف ساخط ًا يتذمر‪ .‬ويف رواية قال له عمر‪ :‬وما‬
‫عملك؟ قال‪ :‬األرحاء‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬أال جتعل لنا برحى؟ فقال‪ :‬ألصنعن لك رحى يتحدث الناس هبا‪،‬‬
‫فلام وىل قال عمر‪ :‬أوعدين العبد آنف ًا‪ ،‬ويف رواية أنه قال‪ :‬يكفينا اهلل قد علمت أنه يريد بكلمته غدر ًا‪ ،‬وأعد‬
‫وسمه‪ ،‬ثم أتى به إىل اهلرمزان ( وكان حينها‬ ‫ّ‬ ‫املجويس عدة القتل فاصطنع خنجر ًا له رأسان وشحذه‬
‫باملدينة ) وقال له‪ :‬كيف ترى هذا اآلن ؟ قال‪ :‬أرى أنك ال ترضب به أحد ًا إلاَّ قتلته‪ ،‬فتحني أبو لؤلؤة حتى‬
‫جاء يف صالة الفجر وعمر ريض اهلل عنه ُيوقظ الناس للصالة حتى إذا ُأقيمت الصالة‪ ،‬ويقول‪ :‬أقيموا‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪228‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ٍ‬
‫بحصن‬ ‫شبه مدة حياة عمر ؤ‬
‫قال يف «اإلشاعة»‪ :‬وحاصل معنى األحاديث أنه ﷺ َّ‬
‫عمر وسأل حذيف َة‪:‬‬
‫بباب ذلك احلصن‪َ ،‬و َف ِه َم ُ‬ ‫وشب َه َش َ‬
‫خص ُع َم َر ِ‬ ‫منيع فيه أهل اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫أيموت أم يقتل؟ فأخربه أنه يقتل‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك أحرى أن ال ُيغْ َلقَ ‪ ،‬فإن الباب إذا كان موجود ًا‬
‫يمكن غلقه بعد الفتح بخالف ما إذا انكرس‪ ،‬وإنام كان هو الباب دون عثامن ألن وجود الباب‬
‫العدو ِ‬
‫احل ْص َن‪ ،‬وإن الفتنة مل تظهر يف حياة عمر ؤ ألن وجو َد ُه كان باب ًا‬ ‫ِّ‬ ‫يمنع من دخول‬
‫مانع ًا من ظهورها‪ ،‬وإنام ظهرت يف حياة عثامن(((‪.‬‬
‫ب�اب َخطِير فِي ِ‬ ‫واس� َت ْف َح َل األَ ْم ُر بِ َه َ‬
‫المص ِير َ‬
‫ور َج ْح‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫�ذا َوا ْن َفت َْح‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫إشار ٌة إىل انطالق الفتنة بعد كرس الباب كام هو مقرر يف األحاديث السابقة‪ ،‬وكانت‬
‫الناس بعد أن أفاق من غشيته‪ ،‬وقال‪ :‬هل‬
‫َ‬ ‫مواقف الفاروق مع هذا ال َّت َح ُّو ِل اخلطري أن سأل‬
‫صىل الناس؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬ال إسالم ملن ترك الصالة‪ ،‬وكان قبل ذلك عندما ُط ِع َن قال‪:‬‬
‫فليصل بالناس‪ ،‬ودعا ؤ ُبو ُض ٍ‬
‫وء فتوضأ ثم صىل‪ ،‬وقال‪ :‬من‬ ‫ِّ‬ ‫قولوا لعبدالرمحن بن عوف‬
‫قتلني؟ قالوا‪ :‬أبو لؤلؤة املجويس غالم املغرية بن شعبة‪ ،‬فقال‪ :‬احلمد اهلل الذي مل جيعل قاتيل‬
‫اجنِي عند اهلل بسجدة سجدها له قط‪ ،‬ما كانت العرب لتقتلني‪ ،‬أنا أحب إليها من ذلك‪.‬‬
‫يحُ َ ُّ‬
‫ودعا بأصحاب رسول اهلل ﷺ وجعل األمر شورى بـينهم وألزمهم التشاور ثالثة أيام‪ ،‬وأمر‬
‫صهيب ًا أن يصيل بالناس‪.‬‬
‫فلام قبض عمر وذلك يف ‪ 26‬ذي احلجة ‪23‬هـ‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬خرجنا به إىل حجرة عائشة‬

‫صفوفكم وكبرّ فطعنه أبو لؤلؤة ثالث طعنات واحدة يف كتفه وأخرى يف خارصته والثالثة حتت رسته‪،‬‬
‫وهلك منهم سبعة ورمى رجل عىل‬ ‫وقد خرقت الصفاق‪ ،‬وهي التي قتلته‪ ،‬وطعن معه ثالثة عرش رج ً‬
‫ال َ‬
‫رأسه بربنس فانتحر أبولؤلؤة بخنجره‪ .‬ويرى بعض املؤرخني أن مقتل اخلليفة كان مؤامرة مدبرة ألكثر‬
‫من جهة ومل تكن جمرد نزوة من املجويس ‪ ،‬كام جاء يف «تاريخ اخلميس» ‪.‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.33‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪229‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ودخل عبداهلل بن عمر‪ ،‬وقال‪ :‬يستأذن عمر ابن اخلطاب‪ ،‬قالت‪ :‬أدخلوه فأدخلوه مع صاحبـيه(((‪.‬‬
‫وبعد دفنه اجتمع أهل الشورى((( وتداولوا األمر حتى استقر إىل عثامن ؤ‪.‬‬

‫((( كان ابن اخلطاب قد طلب من عائشة وهو يف مرض موته أن يدفن بجوار صاحبـيه فأذنت إلاَّ أنه طلب‬
‫منهم التثبت من رأهيا بعد موته‪.‬‬
‫((( هم الذين اختارهم عمر الفاروق بعد إصابته‪ ،‬وهم‪ :‬عثامن وعيل وطلحة والزبـري وعبدالرمحن بن عوف‬
‫وسعد بن أبـي وقاص‪ ،‬وجعل عبداهلل بن عمر معهم مشري ًا وليس منهم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪230‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ٌ‬ ‫مقتل سيدنا عمر بن الخطاب مُؤامر ٌة م‬
‫ُشرتكة‬

‫جاء يف «تاريخ اخلميس» (‪ )273 :2‬ما مثاله‪َ ( :‬ر َأى عبدالرمحن بن أيب بكر أبا لؤلؤة‬
‫املجويس واهلرمزان وجفينه يدخلون يف مكان يتشاورون وبينهم خنجر له مقبض يف وسطه‪،‬‬
‫فقتل عمر يف صبيحة تلك الليلة فاستدعى سيدنا عثامن عبدالرمحن بن أيب بكر فسأله عن ذلك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬انظروا إىل السكني فإذا كان ذا طرقه‪ ،‬فال أرى القوم إلاَّ وقد اجتمعوا عىل قتله‪ ..‬فنظروا‬
‫فوجدوها كام َو َصف عبد الرمحن )‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫إسالم الصوفية هو احلل» (((‪ ،‬بقوله‪ :‬وقد بلغ من َتبرَ ُّ ِم هؤالء‬
‫ُ‬ ‫وقد َفسرَّ َ هذه احلادثة كتاب «‬

‫ب‬ ‫س طائف ًة منهم بعمر بن اخلطاب الذي َح َّطم نعر َة ال َّت ُّ‬
‫عص ِ‬ ‫أن َث ْ‬
‫ارت ُن ُف ْو ُ‬ ‫بفتح املسلمني بال َدهم ْ‬
‫ِ‬
‫باملتمسكني‬ ‫اإلقليمية أو الدِّ ِ‬
‫ينية وأذاهبا يف دولة اإلسالم‪ ،‬لذلك بلغ اإلستياء والسخط‬ ‫ِ‬ ‫للقومي ِ‬
‫ات‬ ‫َّ‬
‫بالقومية الفارسية أمثال ( اهلرمزان ) وهو سيد من سادات الفرس َف َقد سلطانه َو َم َكا َن ُه‪ ،‬كام كان‬
‫ان نرصاني ًا من أهل احلرية ُي َع ِّلم الكتابة ألهل‬
‫يقف وراء التعصب للنرصانية ( جفينة) الذي َك َ‬
‫املدينة‪ ،‬وكان ثالث األثايف كعب األحبار أحد أحبار اليهود املتعصب للصهيونية((( الذي َأن َْذ َر‬

‫((( للشيخ عز الدين مايض أبوالعزائم‪.‬‬


‫((( يف قوله‪( :‬للصهيونية ) ربام كانت (لليهودية) ألن لفظة الصهيونية مل تعرف آنذاك‪ ،‬وإنام ظهرت الصهيونية‬
‫يف مرحلة اضطهاد الدول األوروبية لليهود‪ ،‬و(صهيون) موضع معروف بالبيت املقدس فيه كنيسة‬
‫صهيون‪ ،‬وقيل‪ :‬اسم لبيت املقدس وفيها جبل يسمى (جبل صهيون) ‪ ،‬وكان أول إنشاء مجعية عشاق‬
‫صهيون عام ‪ 1300‬هـ بعد املذابح الكبرية التي نزلت باليهود يف روسيا‪ ،‬وهدفها ترحيل اليهود إىل‬
‫فلسطني ‪ ،‬وعن طريق هذه اجلمعية تسلل اليهود إىل فلسطني‪.‬اهـ «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ملحمد‬
‫عصام عرار احلسني‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪231‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ميت يف ثالثة أيام‪ ..‬ومل يعر سيدنا عمر‬
‫سيدنا عمر بن اخلطاب ؤ‪ ،‬بقوله‪( :‬اعلم أنك ٌ‬
‫ؤ هذا اإلنذار عناية خاصة)‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وجاء يف «تاريخ اخلميس» (‪ )248 :2‬إنه ملا كان من الغد الذي توعد فيه أبولؤلؤة املجويس‬
‫أمري املؤمنني جاءه كعب األحبار فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬اعهد فإنك ميت يف ثالث أيام‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وما يدريك؟ قال‪ :‬أجده يف كتاب اهلل التوراة‪ ،‬فقال عمر‪ :‬آهلل إنك لتجد عمر بن اخلطاب يف‬
‫التوراة؟ قال‪ :‬اللهم ال ولكن أحد صفتك وحليتك‪ ،‬وبأنه قد فني أجلك‪ ،‬وعمر ال حيس وجعا‬
‫وال أملا فقال عمر‪ :‬رضينا بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬فلام أصيب تذكر قول كعب فقال‪ :‬وكان أمر اهلل‬
‫قدرا مقدورا‪ ،‬فلام كان الغد جاءه كعب فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني ذهب يوم وبقي يومان‪ ،‬ثم جاءه‬
‫من بعد الغد فقال‪ :‬ذهب يومان وبقي يوم وليلة ‪ ،‬وهي لك إىل صبحها(((‪.‬‬
‫املجويس املسمى‬
‫َّ‬ ‫ض هؤالء الثالثة كام هو واضح من خالل وقائع األحوال فريوز ًا‬
‫وقد َح َّر َ‬
‫بأيب لؤلؤة عىل قتل أمري املؤمنني‪.‬‬
‫وإذا ما دققنا النظر يف هذه املؤامرة املشار إليها فستجد أن اجلهات املشرتكة يف ختطيطها وتنفيذها‪:‬‬
‫ممثلة بكعب األحبار‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -1‬اليهود‬
‫ممثلة بجفينة النرصاين‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -2‬النرصانية‬
‫ممثلة باهلرمزان وبأيب لؤلؤة املجويس‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -3‬املجوسية‬

‫((( وروى الديلمي أن عمر ريض اهلل عنه دخل عىل أم كلثوم بنت عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنهام فوجدها تبكي‬
‫يبكيك؟ قالت‪ :‬هذا اليهودي –كعب األحبار‪ -‬يقول‪ :‬إنك باب من أبواب جهنم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ :‬ما‬
‫شاء اهلل! ثم خرج فأرسل إىل كعب فجاءه فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني والذي نفيس بيده ال ينسلخ ذو احلجة حتى‬
‫تدخل اجلنة‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ مرة يف اجلنة ومرة يف النار؟ فقال‪ :‬إنا لنجدك يف كتب اهلل عىل باب من أبواب جهنم‬
‫متنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا‪ .‬رواه اخلطيب عن مالك ‪« ،‬إحتاف اجلامعة» حلمود التوجيري‬
‫(‪.)149 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪232‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وهكذا كان اغتيال عمر بن اخلطاب ؤ تدبري مؤامرة َد ْب َّر َها أعداء اإلسالم استغرق‬
‫إعدادها زمن ًا طوي ً‬
‫ال قبل احلادث من رموز اليهودية والصليبية والقومية الفارسية‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫وحذر من‬ ‫و ُف ِج َع اإلسالم واملسلمني هبذه احلادثة التي كان رسول اهلل ﷺ قد َّنبه إليها‪،‬‬
‫رس الباب» وأنه لن ُيغلق بعده أبد ًا‪ ،‬وكان األمر كذلك‪.‬‬
‫وقوعها‪ ،‬وعبرّ عنها «بك ِ‬

‫((( «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.49‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪233‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪234‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بن َع ّفان‬ ‫َعصرْ ُ ُع َث َ‬
‫امن ِ‬

‫الفت َِن َقتل ُعثامن وآخرها ُخروج الدَّ َجال‪ ..‬والذي نفيس بـيده ما‬ ‫« َّأو ُّل ِ‬
‫من رجلٍ يف قلبه مثقال َح َّبة من َقتلِ ُعثامن إلاَّ َتبِ َ‬
‫ـع الدَّ َجال إن أدركه‪،‬‬
‫وإن مل يدركه آمن به يف قربه»‬

‫أخرجه ابن أيب شيبة وابن عساكر عن حذيفة بن اليامن‬

‫َ‬
‫أحداث‬ ‫«أال ال ُت ْب ِط َّر َن ُك ُم الفانية‪ ،‬وال ُت ْش ِغ َل َّن ُك ْم عن الباقية‪ ،‬واحذروا‬
‫الده ِر ا ُملغري‪ ،‬والزَ ُموا مجاعتَكم‪ ،‬وال ّ‬
‫تتفرقوا شيع ًا وأحزاب ًا»‬

‫من خطبة لسيدنا عثامن ريض اهلل عنه رواها الطربي يف «تاريخ الرسل» (‪) 4:38‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪235‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪236‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫ُّالت وا َملواقِ ف يف عَ هْ ِد َسيِّدِنا عُ ثمان ؤ‬
‫ظهَ ُر التَّحَ و ِ‬
‫مَ ْ‬

‫فزي�دَ ِش� ْبرا‬


‫�ع الخَ ْ�ر َق ِ‬
‫و َي ْر َق ُ‬ ‫ي�م األَ ْم َ�را‬ ‫وج�اء ع ْث ُ ِ‬
‫م�ان ُيق ُ‬ ‫َ ُ‬

‫سيدنا ُعثامن من مبتدأ خالفته ؤ‪ ،‬فقد‬


‫حوالت عىل عهد ّ‬
‫هذه األبـيات خاصة بمظهر ال َّت ُّ‬
‫احلكم ِ‬
‫والعلم‪ ،‬واجتمع‬ ‫بجراح ِه تحَ ُ ُّو ً‬
‫ال خطري ًا يف سلسلة ُ‬ ‫ِ‬ ‫كانت وفاة سيدنا عمر ؤ متأثر ًا‬
‫عين َُهم عمر ؤ فنظروا يف اخلالفة من بعده واختاروا بعد طول ُمدَ اولة‬
‫ورى الذين َّ‬ ‫أهل ُّ‬
‫الش َ‬
‫ُعثامن ابن عفان ريض اهلل عنه‪.‬‬

‫قال ابن عباس‪ :‬ملا َف َر َغ ِمن دفن عمر بن اخلطاب‪ :‬اجتمع هؤالء َّ‬
‫الرهط ‪-‬يعني أهل‬
‫ُّ‬
‫الشورى‪ -‬فقال عبدالرمحن بن عوف اجعلوا أمركم إىل ثالثة منكم‪ ،‬قال الزبـري‪ :‬قد جعلت‬
‫أمري إىل عيل‪ ،‬وقال طلحة‪ :‬قد جعلت أمري إىل عثامن‪ ،‬وقال سعد‪ :‬قد جعلت أمري إىل‬
‫عبدالرمحن‪ ،‬فقال‪ :‬عبدالرمحن أيكم تربأ من هذا األمر فنجعله إليه فسكت عثامن وعيل‪ ،‬فقال‬
‫عبدالرمحن‪ :‬أفتجعلونه إ ّيل‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فأخذ بـيد عيل فقال‪ :‬لك من قرابة رسول اهلل ﷺ‬
‫لتسمعن‬
‫َّ‬ ‫رت عثامن‬
‫لتعدلن ولئن أ ّم َ‬
‫َّ‬ ‫والقدم يف اإلسالم ما قد علمت فآهلل عليك لئن ُأ ِّم َ‬
‫رت‬

‫((( هو عثامن بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف‪ ،‬ويرتفع نسبه إىل لؤي بن غالب‪ ،‬ولد‬
‫يف السنة السادسة من عام الفيل‪ ،‬وأسلم قدي ًام بمكة املكرمة وهو ابن تسع وثالثني سنة‪ ،‬وكان الصديق‬
‫سبب ًا يف إسالمه‪ ،‬هاجر اهلجرتني وتزوج رقية بنت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ثم تزوج بأم كلثوم‪ ،‬ولذلك سمي‬
‫ذا النورين‪ ،‬وهو من السابقني األولني وأحد العرشة املشهود هلم باجلنة وأحد الستة الذين تويف عنهم‬
‫راض‪ ،‬روى عن رسول اهلل مئة وستة وأربعني حديث ًا‪ .‬وفتحت يف خالفته إفريقية وكرمان‬
‫رسول اهلل وهو ٍ‬
‫وسواحل الروم وطربستان وسجستان ونيسابور وفارس وأعامل خراسان وغريها‪ ،‬وقتل وعمره ثالث‬
‫وثامنون سنة يوم اجلمعة ثاين عرش من شهر ذي احلجة سنة مخس وثالثني رمحه اهلل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪237‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ولتطيعن‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم خال بعثامن‪ ،‬وقال له مثل ذلك‪ ،‬فلام أخذ امليثاق‪ ،‬قال‪ :‬ارفع يدك يا‬
‫َّ‬
‫عثامن‪ ،‬فبايعه‪ ،‬فبايع له عيل ؤ‪ ،‬ثم ولج أهل الدار فبايعوه‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫وكانت مبايعته ؤ بعد دفن عمر ؤ بثالث ٍ‬
‫ليال‪ ،‬ومنذ أن ويل اخلالفة قام فيهم بأمر‬
‫ش اجليوش للفتوحات‪ ،‬ففي السنة التي ُوليِّ َ ِف ْي َها فتحت الري وفتح يف الروم حصون‬
‫اهلل َو َج َّي َ‬
‫كثرية‪.‬‬
‫وأول ما ُنقم عليه ؤ ملا وىل الكوفة الوليدَ بن أبـي ُم َع ٍ‬
‫يط وعزل سعد بن أبـي وقاص‪.‬‬
‫وكان هذا العزل لسعد بداية التحول يف عالقة اخلليفة بالرأي العام وخاصة أنه حكي أن‬
‫الوليد صىل هبم الصبح أربع ًا وهو سكران ثم التفت إليهم فقال‪ :‬أزيدكم؟!‬
‫وخالل السنوات املتالحقة أقام اخلليفة عثامن عدد ًا معن املنجزات اهلامة‪ ،‬كغزوة قربص‬
‫ثم األندلس‪.‬‬
‫وزاد عثامن يف مسجد الرسول ووسعه‪ ،‬ويف سنة ثالثني فتحت بالد كثرية يف خراسان‬
‫وفتحت نيسابور ُصلح ًا وكذا مرو وبـيهق‪.‬‬
‫وكانت مدة خالفته اثنتي عرشة سنة منها سنتني مل ينقم عليه أحد((( إلاَّ أنه بعد ذلك استعمل‬
‫مجلة من أقربائه وأهل بـيته ووصلت إليه شكايات الناس ببعضهم فكان يكتفي بعتاهبم ومل‬
‫يعزهلم‪ ،‬وكأ َّنه ؤ كان يتمهل يف األمر حلكمة َيراها و ُبعد نظر مل يستسغه اآلخرون‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫بات ِ‬
‫إل َح ِ‬
‫�ن‬ ‫َأنْيا َب َه�ا َو َه َ‬
‫�اج َب ْح ُ�ر ا ِ‬ ‫الفت ِ‬
‫َ�ن‬ ‫إِ ْذ ك ََّش َ�ر ْت ُم َس� ِّب ُ‬
‫إل ِ‬
‫يمان في َأ ْر ِ‬ ‫لع ا ِ‬ ‫وجاء ِجي ٌل ِ‬
‫ض النَّدَ ى‬ ‫وم ْط َ‬
‫َ‬ ‫لم َيع ْش َع ْص َر ُ‬
‫الهدَ ى‬ ‫َ َ َ ْ ْ‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪. 37‬‬


‫((( «تاريخ اخللفاء» ص‪.146-145‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪238‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫�ر بِال َغ ْل�و ِ‬
‫�م األَ ْم ِ‬ ‫إلسَل�اَ م ف�ي اآلب ِ‬ ‫�ل َو ِر َ‬
‫اء‬ ‫َ‬ ‫َو َخ َ‬
‫�اض َه َّ‬ ‫�اء‬ ‫َ‬ ‫ثا ِ ْ َ‬ ‫َب ْ‬

‫يشري الناظم إىل ما جرى من َسيرْ ِ الفتنة يف ُأخريات عهد سيدنا ُعثامن‪ ،‬فقد ذكر املؤرخون أن‬
‫حوالت التي َعكستها ُسلوكيات بعض َأ ْقر َباء سيدنا عثامن جعلت الناقمني يتخذون‬ ‫جمريات ال َّت ُّ‬
‫املواقف حياهلا‪.‬‬
‫فجاء أهل مرص إىل عثامن يشتكون من عبداهلل بن أبـي رسح‪ ،‬فكتب عثامن إليه كتاب ًا هيدده‬
‫فيه فأبى ابن أبـي رسح أن يقبل ما هناه عنه عثامن‪ ،‬ورضب بعض من شكاه من أهل مرص‬
‫حتى قتله‪َ ،‬ف َّخر من أهل مرص سبعامئة فنـزلوا املسجد وشكوا إىل الصحابة ما صنع ابن أبـي‬
‫ال ُأ َو ِّل ْي ِه‬
‫رسح‪ ،‬فذهب مجاعة منهم إىل عثامن ومنهم عيل بن أبـي طالب‪ ،‬فقال هلم‪ :‬اختاروا رج ً‬

‫عدد‬
‫عليكم‪ ،‬فأشار الناس عىل حممد ابن أبـي بكر الصديق فكتب عهده وواله وخرج معهم ٌ‬
‫من املهاجرين واألنصار ينظرون فيام هم إليه‪ ،‬ويف الطريق إذا هم بغالم عىل بعري خيبط به خبط ًا‬
‫كأنه يطلب أو مطلوب فسألوه‪ ،‬فقال‪ :‬إن غالم أمري املؤمنني وجهني إىل عامل مرص‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫هذا أمري مرص‪ ،‬فقال‪ :‬ليس هذا أريد‪ ،‬فقال له حممد بن أبـي بكر‪ :‬غالم من أنت؟ فمرة يقول‪:‬‬
‫غالم أمري املؤمنني‪ ،‬ومرة يقول‪ :‬غالم مروان‪َ ،‬ف َف َّتشوه فإذا معه كتاب من عثامن إىل ابن أبـي‬
‫رسح‪ ،‬فجمع حممد بن أبـي بكر من كان عنده من املهاجرين واألنصار ثم َف َّك الكتاب بمحرض‬
‫قتل ِه ْم َو َأ ْب ِط ْل كتا َب ُه َو َقر عىل عملك حتى‬
‫فاحتل يف ِ‬
‫ْ‬ ‫منهم فإذا فيه «إذا أتاك حممد وفالن وفالن‬
‫جييء إ َّيل بتظلم منك»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يأتيك رأيي‪ ،‬واحبس من‬
‫فلام قرؤوا الكتاب فزعوا ورجعوا إىل املدينة وأظهروا ذلك للناس‪ ،‬فاشتد َحن َُق ُهم‪ ،‬وذهب‬
‫عيل ؤ بالكتاب والغالم إىل عثامن‪ ،‬فنفى عثامن أنه بعث بالكتاب‪ ،‬وقال‪ :‬ال أمرت به وال‬

‫ِع َ‬
‫لم يل به‪ ،‬قال عيل‪ :‬فاخلاتم خامتك‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال كيف خرج الغالم ببعريك وبكتاب عليه‬
‫كتبت الكتاب وال ِع ْل َم يل به‪.‬‬
‫بعثت به وال ُ‬
‫خامتك وال تعلم‪ ،‬فحلف عثامن ما ُ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪239‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وأما اخلط فعرفوه أنه خط مروان وسألوه أن يدفع إليهم مروان‪ ،‬فأبى ومروان عنده يف‬
‫وحورص عثامن ومنعوه املاء وذهب الصحابة إىل بـيوهتم معتبـني‪،‬‬
‫الدار‪ ،‬فخرج القوم غضبى ُ‬
‫مجاعة الدَّ ار عىل عثامن‪ ،‬ومل يكن معه إلاَّ‬
‫ٌ‬ ‫ومكث بعضهم عىل باب عثامن حلراسته‪َ ،‬و َت َس َّو َر‬
‫امرأته‪ ،‬فدخل القوم عليه وقتلوه(((‪.‬‬
‫لثامن َعشرْ ٍ َخ َل ْت من ذي‬
‫وكان قتله يف أوسط أيام الترشيق من سنة ‪ 35‬وقيل يوم اجلمعة ِ‬

‫احلجة‪ ،‬ودفن ليلة السبت واختلف يف حتديد وفاته(((‪.‬‬


‫ُ‬
‫سلوك جيلٍ مل‬ ‫ود َها‬ ‫وقد أشار الناظم إىل هياج الفتنة التي َأ َّد ْت إىل ِ‬
‫قتل ِه ؤ‪ ،‬إذ كان َو ُق ُ‬

‫((( املصدر السابق ص‪.150-141‬‬


‫((( ومن البدهيي أن موقف عثامن كان موقف ًا سلي ًام يف كل األحوال وإن اقتىض اخلطأ الناشئ عن مروان بن‬
‫احلكم ما اقتضاه من تعصب وفتنة‪ ،‬فرجل الدولة واخلالفة ال يمكن أن يفتح باب اإلثارة عىل موقع‬
‫القرار ملجرد اختاذ الناس موقف ًا معين ًا‪ ،‬ولعل عثامن ؤ يريد أن يميل ملروان وجيمع خيوط مؤامرته لو‬
‫تركه الثائرون دون ضعف وال حتد‪ ،‬وكأنيِّ باالندفاع الناجم عن املوقف املذكور قد أخرج القوم عن طور‬
‫االعتدال يف املطالبة كام مل جيد لدى اخلليفة منفذ ًا جياملهم به‪ ،‬بل كان موقفه السيايس سلـي ًام‪ ،‬مما يؤكد ُبعد‬
‫نظره يف معاجلة املسألة‪.‬‬
‫وهذا هو الشأن نفسه بعد ذلك يف قضية اإلمام عيل كرم اهلل وجهه ومعاوية ريض اهلل عنهم أمجعني‪ ،‬فبعد نظر‬
‫اإلمام يف شأن قتلة عثامن وأخذهم بعد مجع خيوط املؤامرة مل يقبله معاوية‪ ،‬بل وقف ومعه عدد من كبار‬
‫الصحابة بنفس االندفاع الذي أدى يف عهد عثامن إىل قتله‪ ،‬وهذا ما يعرب عنه بالفتنة‪ ،‬حيث أنصف النبـي‬
‫ﷺ عثامن يف موقفه وأشار إليه حمددا موقف الضاغطني عليه بأهنم منافقون‪.‬‬
‫ويف هذا البـيان النبوي ملحظ هام جدا يف تقييم سلوك املطالبـني عثامن باخللع‪ ،‬وإن كانت عقالنية املواقف‬
‫تفيد سالمة مطلب الثائرين كام كانوا يعتقدون ملا يف أيدهيم من األدلة القاطعة‪.‬‬
‫فعقالنية الدوافع ال تقوم بيشء أمام قدسية القرار الرشعي وإن بدا صاحبه َّ‬
‫خمتل التوازن يف معاجلة األمور‪،‬‬
‫فاملحافظة عىل القرار مع اختالل توازن صاحبه أعظم عند اهلل من انتقال القرار إىل أيدي الغوغائية‬
‫ومدبري املؤامرات‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪240‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫العرص األول عرص الرسالة‪ ،‬بل َو ِر َث اإلسالم عن طريق اآلباء‪ ،‬فكان من السهل عىل‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫يعش‬
‫تتجرأ َعلىَ َأ َح ِد املبرشين باجلنة‪ ،‬وقد أشارت أحاديث النبـي ﷺ إىل هذه‬
‫َ‬ ‫هذه األجيال أن‬
‫الصاع عىل اإلمارة‪ ،‬وإنام هلا أبعاد أخرى‪،‬‬
‫املرحلة وما يدور فيها‪ ،‬وأهنا ال تقف عند مسألة رِّ‬
‫بـي ﷺ يو َم ال َف ْت ِح رج ً‬
‫ال من قريش‬ ‫فقد ورد يف احلديث عن الزبـري ؤ أنه قال‪َ « :‬ق َ‬
‫تل ال َّن ُّ‬
‫َصبرْ ًا» ثم قال‪« :‬ال ُي ْقت َُل ِم ْن قريش بعد هذا اليوم صرب ًا إل َر ُج ٌل قتل عثامن بن عفان فا ْقتلوه‪،‬‬
‫فإال تفعلوا ُتقتلوا َق ْت َل َّ‬
‫الشاء»(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫وكأن رسول اهلل ﷺ قد‬ ‫ٌ‬
‫موقف‪،‬‬ ‫إذن فمقتل عثامن تحَ َ ُّو ٌل َأ َخبرَ عنه ﷺ‪ ،‬وجيب أن ُي َّت َخ َذ فيه‬
‫َأ َط َّل عىل فتنة عهد عثامن وامتحان الوالء فيها‪ ،‬فعن أبـي هريرة ؤ قال وعثامن ؤ‬
‫وفتنة‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫اختالف ٌ‬ ‫ٌ‬
‫واختالف أو‬ ‫حمصور(((‪ :‬سمعت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬يقول‪« :‬إهنا ستكون ٌ‬
‫فتنة‬
‫قلنا‪ُ :‬م ْرنا يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬عليكم باألمري وأصحابِ ِه» وأشار إىل عثامن(((‪ ،‬ويف هذا احلديث‬
‫التح ُّولاَ ِ‬
‫ت‪.‬‬ ‫حيدد الرسول املواقف قبل حصول َ‬
‫وعن عائشة ريض اهلل عنها قالت‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ لعثامن‪« :‬إنَّ َ‬
‫اهلل ُم َق ِّم ُص َك َقميص ًا ‪-‬‬
‫يك اخلالفة ‪ -‬فإن َأرا َد َك املنافقون عىل خلعه فال خَت ْ‬
‫لع ُه»(((‪ .‬وعن ٍ‬
‫أنس ؤ قال‪ :‬قال‬ ‫أي ُم َو ِّل َ‬

‫رسول اهلل ﷺ‪« :‬يا عثامن إنك َس َتليِ اخلالفة بعدي‪ ،‬وسيرُ يدُ َك املنافقون عىل خلعها فال ْ‬
‫ختلع َها‪،‬‬
‫وص ْم يف ذلك اليوم تفطر عندي»(((‪ ،‬ورواه الطرباين يف األوسط من حديث عبداهلل احلربي‬
‫ُ‬

‫((( رواه البزار والطرباين عن الزبري بن العوام‪.‬‬


‫((( أي‪ :‬حمصور بمكة عام عمرة القضاء‪.‬‬
‫((( رواه احلاكم والبـيهقي والطرباين يف «األوسط» كلهم عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( رواه أمحد يف مسنده واحلاكم يف «املستدرك» والطرباين يف «املعجم الكبري» ك ّلهم عن عائشة ريض اهلل عنها‪.‬‬
‫«اإلشاعة» ص‪.39‬‬
‫((( رواه ابن عدي وابن عساكر‪ ،‬املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪241‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال‪ :‬دخلت عىل عائشة ريض اهلل عنها فذكر احلديث‪ ،‬وفيه أن النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم‬
‫اهلل قميص ًا‪ ،‬فإِ ْن أرادك املنافقون عىل َخ ْل ِع ِه فال تخَ ْ َل ْع ُه» (ثالث‬
‫عثامن عسى أن ُي َق ِّم َص َك ُ‬
‫ُ‬ ‫قال‪« :‬يا‬
‫مرات)‪ ،‬فقال هلا النعامن بن بشري‪ :‬يا أم املؤمنني‪ ،‬أين ِ‬
‫كنت عن هذا احلديث؟ فقالت‪ :‬نسي ُته‬
‫ُ‬
‫الرجل‪ .‬اهـ «إحتاف اجلامعة» (‪.)160 :1‬‬ ‫ورب الكعبة حتى ُقتِ َل‬
‫ِّ‬
‫ويف هذين احلديثني إشارة نبوية عىل امتداد الرؤية النفاقية داخل اجلسد االجتامعي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وما سيحصل من تفاقم يف التحوالت‪ ،‬وما جيب أن يتخذ معه عثامن من املواقف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عرص‬ ‫ومل تقف مسألة عثامن عند هذا احلد بل حتولت إىل قضية عاملية ينبني عليها مسري ُة‬
‫ٍ‬
‫متقلبات ُكثْر‪.‬‬ ‫َ‬
‫ومراحل‬ ‫بكامله‬
‫ور َ‬
‫بط النبـي‬ ‫تن َق ْت ُل ُعثامنَ ِ‬
‫وآخ ُرهَ ا ُخ ُ‬
‫روج الدَّ َجال»((( َ‬ ‫فعن حذيفة ؤ‪ ،‬قال‪َ « :‬أ َّو ُل ِ‬
‫الف ِ‬
‫ﷺ بـني حركة العواطف وحقائق املواقف‪ ،‬فيقول فيام زاد ابن عساكر‪« :‬والذي نفيس بـيده َما‬
‫جال إن َأ ْد َر َكهُ‪ ،‬وإنْ مل ُيدْ ْ‬
‫رك ُه َ‬
‫آمن به يف‬ ‫ِم ْن َرجلٍ يف قلبِه ِمثقال َح َّب ٍة من َق ْتلِ ُعثامنَ إل َتبِ َ‬
‫ـع الدَّ َ‬

‫َقبرْ ِه»‪.‬‬
‫إذن فمقتل عثامن كان «مرحلة» ومنعطف ًا عاملي ًا يف تحَ ُّوالت ُّ‬
‫األمة ومسرية االنحراف نحو‬
‫منطلقات املسيخ الدِّ جال‪.‬‬
‫اإلسالم كان يف ِح ٍ‬
‫صن حصني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قال السيوطي يف «تاريخ اخللفاء» وأخرج عن سمرة قال‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫وإهنم ُث ِل ُموا يف اإلسالم ُث َ‬
‫لم ًة بقتلهم عثامن ال تسدُّ إىل يوم القيامة‪ ،‬وإن أهل املدينة كانت فيهم‬
‫اخلالفة فأخرجوها ومل َتعدْ فيهم»‪.‬‬
‫وأخرج حممد بن سريين قال‪« :‬مل ُتفقد اخليل البلق يف املغازي واجليوش((( حتى ُقتل عثامن»‪،‬‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫((( يقصد قتال املالئكة مع املسلمني‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪242‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫حتول يف شأن ِعزَ ِة األمة وعالقتها باجلهاد يف سبـيل اهلل ومواقفها من عدوها‬
‫داللة عىل ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ويف هذا‬
‫العاملي‪ ،‬ومل ُخيتلف يف األهلة حتى ُقتل عثامن‪ .‬اهـ(((‪.‬‬
‫َ�ة الرئَاس ِ‬ ‫ِبف ْتن ِ‬ ‫لِ َت ْنت َِه�ي‬ ‫َت مس�ائِ ُل السياس ِ‬
‫�ة‬ ‫ِّ َ‬ ‫�ة‬ ‫ِّ َ َ‬ ‫َو ْاش� َت َبك ْ َ َ‬
‫�و فِ�ي تِ اَل َوتِ� ْه‬ ‫�و ُه َو ْه َ‬‫َو َق َت ُل ْ‬ ‫ياس�تِ ْه‬ ‫ونَا َزع�وا ع ْثم َ ِ ِ‬
‫�ان ف�ي س َ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ‬
‫�ل‬‫العل� ِم ُر َو ِاة النَّ ْق ِ‬ ‫وس�اد ِة ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫�ل‬‫�ل ال َع ْق ِ‬‫�و ُد َأ ْه ِ‬ ‫و َل ِ‬
‫�م ُيف�دْ ُو ُج ْ‬
‫َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫الس� ْي ُل إِ َل�ى َح�دِّ ال ُّز َبى‬
‫ين َو َك َبا‬‫الم ْس�لم َ‬‫�ال ُ‬ ‫َو ْاش�تَدَّ َح ُ‬ ‫إِ ْذ َب َل�غَ َّ‬
‫النـزاع السيايس ُقبـيل َم ْقتَل سيدنا عثامن‪ ،‬ودخول َه ْي َش ِ‬
‫ات‬ ‫إشارة يف األبـيات إىل فتح باب ِّ‬
‫الرئاسة‪.‬‬
‫األسواق يف تسيري دفة الرصاع‪ ،‬وبروز العديد من مظاهر الثَّراء والرغبة يف ِّ‬
‫باملدينة ِحني َف ِ‬
‫اضت‬ ‫ِ‬ ‫أخرج ابن عساكر عن حكيم بن عباد بن حنيف قال‪َ « :‬أ َّو ُل ُم ْن َك ٍر َظ َه َر‬
‫ف من قبل‪.‬‬ ‫والر َف ِ‬
‫اه َّي ُة التي مل ُت ْؤ َل ْ‬ ‫الدُّ نيا وانتهى ِس َم ُن ال َّن ِ‬
‫اس» ‪ .‬أي‪َ :‬ظ َهرت الدَّ َع ُة َّ‬
‫إل َضا َف ِ‬
‫�ن بِا ِ‬ ‫ِ‬ ‫�د الصحاب ِ‬ ‫�ال دم َأح ِ‬
‫�ة‬ ‫�ن َآم َ‬ ‫بِ َس� ْيف َم ْ‬ ‫�ة‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َو َس َ َ ُّ َ‬

‫أي‪ُ :‬قتِل سيدنا عثامن وهو أحد صحابة رسول اهلل واملبرش باجل َّنة عىل يد عدد من َغ ْو َغاء‬
‫مرص واملدينة ممن اجتمعوا يف فتنة الرصاع‪.‬‬
‫أشارت بعض كتب التاريخ إىل أن حممد بن أبـي بكر الصديق كان مع املت ََس ِّو ِر ْي َن‬
‫ْ‬ ‫وقد‬

‫((( «تاريخ اخللفاء « ص‪ ،153‬وربط بعض رشاح احلديث بني الفتن عىل عهد عثامن ريض اهلل عنه وضياع‬
‫خاتم رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم الذي كان يف يده بوقوعه يف بئر أريس‪ :‬فقال‪ :‬قال الباجوري‪:‬‬
‫ويف وقوعه إشارة إىل أن أمر اخلالفة كان منوطا به‪ ،‬فقد تواصلت الفتن وتفرقت الكلمة وحصل اهلرج‪،‬‬
‫ولذلك قال بعضهم‪ :‬كان يف خاتم رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ما يف خاتم سليامن من األرسار؛‬
‫ألن خاتم سليامن ملا فقد ذهب ملكه وخامته صىل اهلل عليه وآله وسلم ملا فقد من عثامن انتقص األمر‬
‫وحصلت الفتن التي أفضت إىل قتله واتصلت إىل آخر الزمان‪ .‬اهـ عن كتاب «منتهى السول عىل وسائل‬
‫الوصول إىل شامئل الرسول» (‪ )558 :1‬طبعة دار طوق النجاة ‪ 1419‬هـ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪243‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الدَّ َار عىل سيدنا عثامن‪ ،‬دخلوا عليه من جهة دار رجل من األنصار دون أن يعلم هبم أحدٌ ممن‬
‫حوله‪ ،‬ألهنم كانوا فوق البـيوت‪ ،‬ومل يكن معه إلاَّ امرأته‪ ،‬فدخل حممد بن أبـي بكر الصديق‬
‫اخت يده‪ ،‬ودخل‬
‫ْ‬ ‫لسا َء ُه َمكانك ِمنِّي‪َ ،‬فترَ‬ ‫آك َأ ُب َ‬
‫وك َ‬ ‫وأخذ بلحية عثامن‪ ،‬فقال له عثامن‪ :‬واهللِ لو َر َ‬

‫ورصخت امرأته فلم ُيسمع صرُ َ ُ‬


‫اخها ملا كان‬ ‫ْ‬ ‫رجالن آخران فقتاله وخرجا َها ِر َبـني من الدار‪،‬‬
‫ري املؤمنني قد ُقتل‪ ،‬فدخل‬
‫إن أم َ‬ ‫يف الدار من َ‬
‫اجل َل َبة حتى صعدت امرأته عىل ال َّناس‪ ،‬وقالت‪َّ :‬‬
‫وح ًا(((‪.‬‬
‫الناس فوجدوه َم ْذ ُب َ‬
‫َحتَّ�ى ْاس�ت ََرا ُب ْوا َم ْوتَ� ُه بِ َجانِبِ� ْه‬ ‫إلم�ام َف�و َق ص ِ‬
‫احبِ ْه‬ ‫�ب ا ِ َ ُ ْ َ‬ ‫َوا ْنت ََح َ‬
‫َل ْم ُي ْح ِسنُوا ُصنْ َع ًا فخَ ا ُبوا ُك ُّل ُه ْم‬ ‫�م‬‫�ر ُله ْ‬
‫�ال َتبَّ� ًا ِ‬
‫آخ َ�ر الدَّ ْه ِ‬ ‫َو َق َ‬

‫يشري الناظم ملوقف اإلمام عيل أمام خطورة ال َّت َحول بقتل عثامن‪ ،‬فقد ُذ ِك َر َّ‬
‫أن علي ًا بعث‬
‫دعا أحد ًا يصل إليه‪،‬‬
‫باحلسن واحلسني‪ ،‬وقال‪ :‬اذهبا بسيفيكام حتى َت ُقو َما عىل باب عثامن‪ ،‬فال َت َ‬
‫وخضب احلسن بن عيل بالدم عىل الباب حيث رماه أهل احلصار(((‪.‬‬

‫أرض له‪ ،‬فقال‪« :‬ال َّل ُّ‬


‫هم إين مل ْأر َ‬
‫ض ومل‬ ‫ٍ‬ ‫وملا َع ِل َم اإلمام عيل بخرب مقتل ُعثامن وكان يف‬
‫ُأمالِ ْئ»‪.‬‬
‫ئت َع ِل َّي ًا وهو جالس يف‬
‫قال األعمش عن أبـي جعفر األنصاري قال‪ :‬ملا ُقتل عثامن ِج ُ‬
‫عاممة سوداء‪ ،‬فقلت له‪ُ :‬قتل ُعثْامن! فقال‪َ « :‬ت َّب ًا هلم َ‬
‫آخر الدَّ هر»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫املسجد وعليه‬
‫وروى الربـيع بدر بن سيار عن أبـي العالية أن علي ًا ؤ دخل عىل عثامن فوقع عليه‬

‫((( «تاريخ اخللفاء» للسيوطي ص‪ ،150‬ومما ذكره‪ :‬أخرج عساكر عن كنانة موىل صفية وغريه قالوا‪َ :‬قت ََل‬
‫عثامن ٌ‬
‫رجل من أهل مرص أزرق أشقر يقال له‪ :‬محار‪.‬‬ ‫َ‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪244‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وجعل يبكي حتى َظ ُّنوا أنه سيلحق به(((‪.‬‬
‫عثامن ؤ تحَ ُّو ً‬
‫ال خطري ًا يف تاريخ الدعوة اإلسالمية ُك ِّلها؛ ألهنا ارتبطت‬ ‫َ‬ ‫لقد كان مقتل‬
‫ِ‬
‫الثالث التي أشار النبـي ﷺ إىل خطورهتا يف احلديث‬ ‫بالنص مبارشة‪ ،‬وبرزت كإحدى الركائ ِز‬
‫ِّ‬
‫الذي رواه أمحد يف مسنده وابن شيبة يف تاريخ املدينة عن عبداهلل بن حوالة ؤ عن النبـي‬
‫روج‬
‫وخ ُ‬‫ثالث فقد َن َجا» قالوا‪ :‬ماذا يا رسول اهلل ؟ قال‪َ « :‬م ْوتِـي‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ﷺ أنه قال‪َ « :‬م ْن َن َجا من‬
‫باحلق ُي ْع ِطيه»(((‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫خليفة ُم ْص َطرب‬ ‫الدَّ جال‪ ،‬و َقتل‬
‫َو َكأ ِّنـي بالتربيرات التي تكتنف األحداث تشري إىل أن الفتنة خمتلطة هبا بحيث ختفى عىل‬
‫والع ُجول‪ ،‬وأ َّيـ ًا كانت َعدَ ا َل ُة املَ ْط َل ِ‬
‫ب الذي اختذه املرصيون أمام ُعثامن‬ ‫ال عن ِ‬
‫الغ ِّر َ‬ ‫احلصيف فض ً‬
‫يف تسليم مروان أو عقابه عىل ما فعل هبم‪ ،‬وما ُف ِعل بعثامن أيض ًا َّ‬
‫فإن جمريات األحداث كانت‬
‫ال حتمل احلل من كل الوجوه‪ ،‬بل حتفز باجلميع نحو الفتنة‪ ،‬وعن أنس بن مالك ؤ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إنَّ هللِ َسيف ًا َمغْ ُمود ًا يف ِغ ْمده ما َدا َم ُعثْامن بن عفان َح ّيـ ًا‪ ،‬فإذا ُقتل ُعثامن‬
‫السيف فلم ُيغْ مد إىل يو ِم ِ‬
‫القيامة» (((‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُج ِّر َد ذلك‬
‫وهذا يفرس الفرق بـني النهايتني‪ :‬هناية اخلليفة الثاين عمر بن اخلطاب وهناية اخلليفة الثالث‬
‫عثامن بن عفان‪.‬‬
‫ص عثامن بذكر ال َبلاَ ء((( مع أن عمر ُقتل أيض ًا ؛ لكون عمر مل ُي ْمت ََح ْن‬
‫قال ابن بطال‪ :‬إنام ُخ ّ‬
‫ينخلع من إ َما َمتِ ِه بسبب ما نسبوه إليه‬
‫َ‬ ‫عثامن من تس ُّل ِط القوم الذين أرادوا أن‬
‫ُ‬ ‫بمثْلِ ما ام ُت ِح َن به‬

‫((( «الفتنة املعارصة وموقف املسلمني منها» ص ‪.138‬‬


‫((( «حتقيق مواقف الصحابة» (‪ ،)8 :2‬وفيه إشارة للذين سامهوا يف تأييد الناس عىل عثامن‪.‬‬
‫((( رواه ابن عدي والديلمي وابن عساكر عن أنس مرفوع ًا‪ ،‬وقال ابن عدي ‪ّ :‬‬
‫تفرد به عمرو بن فائد وله‬
‫مناكري‪ .‬انظر «تاريخ اخللفاء» للسيوطي ص‪.152‬‬
‫((( إشارة إىل قوله ﷺ‪« :‬وبشرِّ َ ه باجلنة عىل بلوى تصيبه» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪245‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من اجلور والظلم‪ ،‬مع تنصله عن ذلك واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه‪ ،‬ثم هجومهم عليه يف‬
‫داره وهتكهم سرت أهله‪.(((.‬‬
‫ـر ؤ صرب ًا مجي ًَ‬
‫ال عىل ما حدث له وهو يعلم مصريه‪ ،‬فقد روي عن أبـي سهلة‬ ‫وقد َص َب َ‬
‫صابر عليه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫موىل عثامن‪ ،‬قال قال يل عثامن يوم الدَّ ار‪ :‬إن رسول اهلل ﷺ قد عهد إ ّيل عهد ًا فأنا‬
‫وحدث أيض ًا عن عثامن ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال يل رسول اهلل ﷺ‪« :‬إنك َستُبتىل بعدي فال تقاتلن»‬

‫(((‪.‬‬
‫ويفرس ابن عباس ريض اهلل عنهام قوله تعاىل‪ ( :‬ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ)‬
‫قال‪ :‬الذين يأمرون بالقسط من الناس‪ :‬والة العدل عثامن ورضبه‪.‬‬

‫((( «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)9 :2‬‬


‫((( رواه أبو يعىل عن عثامن ريض اهلل عنه‪ .‬انظر «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)10 :2‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪246‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ابة من َقتْ ِل عُ ثْمَ ان‬
‫الصحَ ِ‬
‫ف َّ‬‫مَ وْاقِ ُ‬

‫يعترب مقتل عثامن ؤ منعطفا وحتوال خطريا يف تقرير مصري املعارصين له‪ ،‬وهبذا َو َل َج‬
‫كثري من الطاعنني يف بعض الصحابة عىل غري تثبت تبع ًا للتحوالت التي طرأت وما نقله‬
‫األخباريون عنهم‪.‬‬
‫وقد أشار صاحب كتاب «حتقيق مواقف الصحابة من الفتنة» إىل هذا املوضوع بتفصيل‬
‫برآء من التآمر عىل عثامن ؤ‪.‬‬
‫مفيد‪ ،‬وأبرز مواقف الصحابة العدول‪ ،‬وأهنم ُ‬
‫رأيت َعلي ًا‬
‫فقد أخرج اإلمام أمحد يف فضائل الصحابة عن عبدالرمحن بن أبـي ليىل قال‪ُ « :‬‬
‫رأ َ‬
‫إليك من َد ِّم ُعثامن»‪.‬‬ ‫رافع ًا ِح ْضنَي ِه‪ ،‬يقول‪ :‬ال َّلهم إن َأ ْب ُ‬
‫ْ‬
‫عن عمرية بن سعد قال‪ :‬كنا مع ع ٍّ‬
‫يل عىل شاطئ الفرات فمرت سفينة مرفوع رشاعها‪،‬‬
‫فقال عيل ؤ‪« :‬يقول اهلل عز وجل‪( :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) والذي أنشأها‬
‫ُ‬
‫عثامن‬ ‫ماألت عىل قتله» (((‪ ،‬وعن ابن سريين قال‪ :‬لقد ُقتل‬
‫ُ‬ ‫قتلت عثامن وال‬
‫يف بحر من بحاره ما ُ‬
‫علي ًا يف قتله(((‪.‬‬
‫يوم ُقتل وما أحدٌ ي ّتهم ّ‬
‫قتل عثامن‪ ،‬قال‪ :‬ال َّلهم إنك َت ُ‬
‫علم َبراءيت من َد ِم ُعثامن‪ ،‬فإن كان الذين‬ ‫وعن حذيفة ملّا بلغه ُ‬

‫العرب لئن‬
‫ُ‬ ‫بريء منه‪ ،‬وإن كان َأ ْخ َطؤوا فقد تعلم َبراءيت من ِذمته‪ ،‬وستَعلم‬
‫ٌ‬ ‫َق َت ُلوه َأ َصا ُبوا فإين‬
‫لتحلبن بذلك دم ًا‪ ،‬فاحت َِل ُبوا‬
‫َّ‬ ‫أخطأت بقتله‬
‫ْ‬ ‫َحلبن بذلك لبن ًا وإن كانت‬
‫أصابت بقتله لت َّ‬
‫ْ‬ ‫كانت‬

‫((( املصدر السابق (‪.)19 :2‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪247‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بذلك َدم ًا ما رفعت عنهم السيوف وال القتل (((‪.‬‬
‫وروى ابن شيبة عن طلق بن حنشاف‪ ،‬قال‪ :‬قلت لعائشة ريض اهلل عنها‪ :‬فيم ُقتل أمري‬
‫قلن‬ ‫عن ُ‬
‫اهلل َق َت َلتَه‪ ،‬وروى عن بعض أزواج النبـي ﷺ ّ‬
‫إهنن َ‬ ‫املؤمنني عثامن؟ قالت‪ُ :‬قتِل َم ْظلوم ًا َل َ‬
‫الء وانكفأ اإلسالم(((‪.‬‬
‫حني قتل عثامن‪َ :‬ه َج َم ال َب ُ‬
‫وأخرج أبو نعيم يف معرفة الصحابة بسنده إىل عبداهلل بن عمرو بن العاص‪ ،‬قال‪ُ :‬عثامن بن‬
‫عفان ذو ال ُّنورين ُقتل َم ْظ ُلوم ًا‪ُ ،‬أويت ِك ْف َلني ِمن َ‬
‫األ ْجر(((‪.‬‬
‫وروى ابن سعد يف الطبقات بإسناده إىل عبداهلل بن عباس ريض اهلل عنهام قال‪ :‬لو أمجع‬
‫باحلجارة َكام ُر ِمي َقوم ُلوط(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ال َّناس عىل َقتل ُعثامن ُلر ُموا‬
‫وعن الزهري قال‪ :‬كان سعيد بن ا ُملسيب يسمي العام الذي قتل فيه ُعثامن عام ُ‬
‫احل ْزن(((‪.‬‬
‫وهذه النصوص وغريها تثبت سالمة موقف الصحابة من الوقوع يف الفتنة التي أدت إىل‬
‫ري ٍّ‬
‫ورش ُمستط ٍ‬
‫ري وال يتناسب ما كان فيها من اخليانات‬ ‫مرحلة ٍ‬
‫حتول خط ٍ‬ ‫ُ‬ ‫مقتل عثامن ؤ ألهنا‬
‫عىل من أخذ عن رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫وقد ُسئل احلسن البرصي رمحه اهلل ‪-‬وهو شاهدُ عيان‪ -‬أكان فيمن قتل عثامن أحد من‬
‫املهاجرين واألنصار؟‪ ،‬قال‪َ « :‬كانوا َأ ْع َ‬
‫الج ًا من أهل ِمص» وملا جاء حذيفة ؤ خرب مقتل‬
‫القلوب بأ ْن َفارها‪ ،‬احلمدُ هلل الذي َس َ‬
‫بق بـي‬ ‫عثامن وكان عىل فراش املوت‪ ،‬قال‪« :‬اليوم َنفرت ُ‬

‫وع ُل َ‬
‫وجها»‪.‬‬ ‫الفتن َقادهتا ُ‬

‫((( املصدر السابق (‪ ،)28 :2‬وكذلك «فضائل عثامن بن عفان» لعبد اهلل بن أمحد بن حنبل (‪. )94 :1‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)31 :2‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)33 :2‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)37 :2‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)46 :2‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪248‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫سيدنا ُعثامن‪:‬‬
‫ومجلة مواقف َّ‬
‫‪ )1‬اشرتى بئر أرومه‪.‬‬
‫‪ )2‬جهز جيش العرسة‪.‬‬
‫‪ )3‬اتساع الفتوح يف عرصه‪.‬‬
‫‪ ) 4‬حتولت الدولة يف عهده إىل دولة بحرية ألمره باستخدام األساطيل البحرية‪.‬‬
‫‪ )5‬مجع العامل اإلسالمي عىل نسخة املصحف اإلمام‪.‬‬
‫‪ )6‬منع الصحابة من الدفاع عنه يف الفتنة وطلب سالمة اآلخرين التزام ًا بام‬
‫أوعده به رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪249‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪250‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عرص اإلمام عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنه‬
‫يل َ‬
‫احلوض» ‪.‬‬ ‫والق ْرآنُ مع َعيل لن َي ْفتَـر َقا َح َّتى َير َدا َع َّ‬ ‫« ٌّ‬
‫عيل مع ُ‬
‫الق ْرآن ُ‬ ‫* ‬

‫رواه احلاكم والطرباين يف «األوسط» عن أم سلمة‬

‫ِ‬
‫فليأت الباب»‪.‬‬ ‫وع ٌّيل َبابهُ ا فمن أرا َد املدين َة‬ ‫« َأ َنا َمدين ُة ِ‬
‫العلم َ‬ ‫* ‬

‫رواه احلاكم والطرباين عن ابن عباس ريض اهلل عنهام‬

‫عرف املنافقني إل بتكذيبهم اهلل ورسوله والتَخ َّلف عن‬


‫عن أبـي ذر‪« :‬ما ُكنا َن ُ‬ ‫* ‬
‫أبـي َطالب»‪.‬‬ ‫الص َلوات والبغض لع ٍّ‬
‫يل بن ِ‬ ‫َّ‬
‫أخرجه اخلطيب يف «املتفق»‬
‫َ‬
‫تعيش عىل ِم َّلتِي و ُت ْقت َُل عىل ُس َّنتِي‪ ،‬من أ َّ‬
‫حب َك‬ ‫ُ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬ ‫ستغدر بِ َك بعدي‬
‫ُ‬ ‫* «إنَّ األ َّمة‬
‫ُخضب من هَ ذا – يعني لحِ يتَه من َر ِ‬
‫أبغضك أبغضنِي‪ ،‬وإنَّ هذه ست‬
‫َ‬ ‫حبني ومن‬ ‫َ‬
‫أسه‪.« -‬‬ ‫ُ‬ ‫أ َّ‬
‫أخرجه احلاكم يف «املستدرك» عن عيل بن أيب طالب‬

‫قال رجل لإلمام عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنه‪ :‬نسمعك تقول يف اخلطبة‪:‬‬ ‫* ‬
‫فاغ َر ْو َر َق ْت عينا ُه‬ ‫اخللفاء الراشدين املَ ْه ِد ِّيني»‪َ ..‬‬
‫فمن ُهم؟ ْ‬ ‫َ‬ ‫أصلحت به‬
‫َ‬ ‫الله َّم أصلحنا بام‬
‫« ُ‬
‫ٍ‬
‫قريش واملقتدى‬ ‫ور ُجال‬
‫وع َم َر إماما اهلدى وشيخا اإلسالم َ‬ ‫وقال‪« :‬مها َحبِي َب َ‬
‫اي أبوبك ٍر ُ‬
‫آثار مُها ُه ِد َي‬
‫هبام بعد رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪َ ،‬م ِن اقتدى هبام ُع ِص َم و َم ِن ا َّت َب َع َ‬
‫إىل الرصاط املستقيم‪ ،‬و َمن تمَ َ َّس َ‬
‫ك هبام فهو من حزب اهلل»‬

‫ذكره السيوطي يف «تاريخ اخللفاء»‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪251‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪252‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مَ ظاه ُر التَّحوُّالت وبنا ُء ا َمل ِ‬
‫واقف عىل عَ هْ ِد اإلما ِم‬
‫(((‬
‫عيل بن أبي طالب كرم الله وجهه‬
‫((( هو أبواحلسن وأخو رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم يف اإلسالم َ‬
‫وخ َتن ُُه عىل ابنته سيدة نساء العاملني فاطمة‬
‫الزهراء وأحد العرشة املبرشين باجلنة‪ ،‬أبوه أبوطالب بن عبداملطلب بن هاشم بن عبدمناف وأمه فاطمة بنت‬
‫أسد بن هاشم‪ ،‬كان أول من أسلم من الفتيان وكتم إسالمه‪ ،‬وهو أول من صىل مع النبي صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم بعد خدجية عليها السالم‪.‬‬
‫أنابه صىل اهلل عليه وآله وسلم بديال يف أداء أمانات الناس ليلة اهلجرة وقال له‪« :‬إِنَّ ُق َر ْيش ًا مل َي ْف ِقدُ وين ما َر َأ ْو َك»‬
‫واضطجع عيل وكانت قريش تنظر إىل فراش النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم فلم تر إال عليا وتظنه رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم حتى أصبح الصباح فوجدوا عليا فقالوا‪ :‬لو خرج حممدٌ خلرج ٌّ‬
‫عيل معه‪،‬‬
‫وحلق اإلمام عيل ريض اهلل عنه برسول اهلل بعد أداء الودائع التي لديه‪ ،‬وقدم املدينة وقدماه تقطران دما‬
‫من جراء مشيه ليال وكمونه هنارا‪ ،‬فلام قدم قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬ادعوا يل عليا»‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬إنه ال يقدر عىل امليش‪ ،‬فأتاه رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ورأى ما بقدميه فتفل رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم يف يديه ومسح هبام رجليه ثم دعا له بالعافية‪ ،‬فلم يشتك منهام حتى استشهد‬
‫ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫وتزوج اإلمام عيل ريض اهلل عنه بفاطمة الزهراء ريض اهلل عنها بعد غزوة أحد‪ ،‬وكان عمرها مخسة عرش عاما‬
‫ومخسة اشهر‪ ،‬فأصدقها درعه (احلطمية) التي أهداها رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم له‪ ،‬وولدت له‬
‫احلسن واحلسني وحمسن ًا‪.‬‬
‫وصفه صىل اهلل عليه وآله وسلم بأنه باب العلم فعن ابن عباس ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫ت َبا َبهُ» وعن عبداهلل بن مسعود ريض اهلل‬ ‫فمن َأرا َد ِ‬
‫الع ْل َم ف ْل َي ْأ ِ‬ ‫وآله وسلم ‪َ :‬‬
‫«أ َنا َم ِدي َن ُة ِ‬
‫الع ْل ِم وعَ يِ ٌّل َبابهُ ا‪َ ،‬‬
‫عنه قال‪( :‬كنا نتحدث أن أقىض أهل املدينة عيل بن أيب طالب) ‪.‬‬
‫شهد مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم املغازي كلها سوى تبوك حيث استخلفه رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم عىل املدينة‪ ،‬وملا آخى رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم أصحابه اختذ عليا أخاه دون غريه‪،‬‬
‫ففي الرتمذي عن ابن عمر ريض اهلل عنهام قال‪ :‬آخى رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم بني أصحابه‬
‫فجاء عيل تدمع عيناه فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ..‬آخيت بني أصحابك ومل تؤاخ بيني وبني أحد؟ فقال رسول اهلل‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪253‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬ ‫بالخال َف ِ‬
‫ِ‬
‫الغاية‬ ‫ب ل ُب ُل�و ِغ‬ ‫وال َّظ ْ�ر ُ‬
‫ف َص ْع ٌ‬ ‫�ة‬ ‫اإلم�ا ُم‬ ‫و ُبويِ َ‬
‫�ع‬

‫يشري الناظم إىل ما جرى بعد مقتل عثامن ؤ من إلزام الناس اخلالفة إىل اإلمام عيل‬
‫ؤ واملرحلة تغيل كامل ِ ْر َجل‪ ،‬حيث أشارت كتب السري والتاريخ عن اضطراب حال‬

‫واآلخ َر ِة» ‪.‬‬


‫ِ‬ ‫«أن َْت َأ ِخي يف الدُّ ْن َيا‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪َ :‬‬

‫وجلل النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم أهل بيته بكسائه وضم عليا ريض اهلل عنه وفاطمة واحلسن واحلسني‬
‫س َ‬ ‫اصتِي‪َ ُ ..‬‬ ‫الء َأ ْه ُل َبيتِي َ‬
‫وط ِّه ْرهُ ْم َت ْط ِهريا» ‪ ،‬قالت أم سلمة‪:‬‬ ‫الله َّم أ ْذ ِه ْب عَ ْن ُه ُم ِّ‬
‫الر ْج َ‬ ‫وخ َّ‬ ‫«الله َّم هَ ؤُ ِ‬
‫وقال‪ُ :‬‬
‫يا رسول اهلل أنا منهم؟ قال‪« :‬إِن ِ‬
‫َّك إىل َخيرْ ٍ» رواه أمحد يف مسنده‪.‬‬
‫وعن عيل ريض اهلل عنه قال‪ :‬إن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم أخذ بيد حسن وحسني وقال‪َ « :‬م ْن َأ َح َّبنِي‬
‫الق َيا َم ِة» رواه الرتمذي‪.‬‬ ‫اها ُ‬
‫وأ َّم ُهام كان َم ِعي يف َد َر َجتِي َي ْو َم ِ‬ ‫وأ َح َّب هَ َذينِ َ‬
‫وأ َب مُ َ‬ ‫َ‬

‫عرف ريض اهلل عنه بشجاعته وإقدامه فارسا ال جيارى‪ ،‬وكان يوم خيرب عىل الراية ملكانته القتالية الفريدة‪ ،‬وقد‬
‫ي ُّب َ‬ ‫ال َي ْفت َُح ُ‬
‫اهلل عىل َيدَ ْي ِه‪ ،‬حُ ِ‬ ‫لأَ ُ‬
‫اهلل‬ ‫قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ألصحابه ليال‪ْ « :‬ع ِطينَ َّ َّ‬
‫الرا َي َة َر ُج ً‬
‫ور ُسو ُلهُ» ‪ ،‬فبات الناس يدوكون ليلتهم أهيم يعطاها‪ ،‬فلام أصبح الصباح غدوا عىل‬ ‫وي ُّب ُه ُ‬
‫اهلل َ‬ ‫ور ُس َ‬
‫ولهُ‪ ،‬حُ ِ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها‪ ،‬فقال صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪َ :‬‬
‫«أ ْي َن عَ يِ ُّ‬
‫ب؟» فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل يشتكي عينيه‪ ،‬فقال‪َ « :‬ف َأ ْر ِس ُلوا َلهُ» ‪ ،‬فأيت به فبصق يف عينيه ودعا له‬
‫بن أيب َطالِ ٍ‬
‫ُ‬
‫فربئ حتى كأن مل يكن به وجع فأعطاه الراية ‪.‬‬
‫بويع له ريض اهلل عنه باخلالفة بعد مقتل عثامن ريض اهلل عنه ولكنه مل يستقر يف املدينة ونقل مركز اخلالفة إىل‬
‫الكوفة‪ ،‬وهناك استقر هبا ولكن الفتن تفاقمت وتوسعت وعانى منها كثريا ريض اهلل عنه‪ ،‬وألجل ذلك‬
‫خاض حروبا عديدة منها معركة صفني واجلمل والنهروان‪.‬‬
‫وكانت مدة خالفته أربع سنني وتسعة أشهر وعرشة أيام‪ ،‬واستشهد ريض اهلل عنه عىل يد أشقى اآلخرين‬
‫عبدالرمحن بن ملجم اخلارجي‪ ،‬ومكث بعد رضبه بالسيف ثالثة أيام ومات فغسله احلسن واحلسني‬
‫وعبداهلل بن جعفر‪ ،‬وكانت وفاته ألحد عرشة بقيتا من رمضان سنة ‪ 40‬هـ‪.‬‬
‫واختلف يف موقع قربه فقيل‪ُ :‬ع ِّم َي عليه حتى ال ينبشه اخلوارج‪ ،‬وأرجح األقوال أنه يف النجف األرشف‬
‫بالعراق‪ ،‬رمحه اهلل رمحة األبرار‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪254‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املسلمني بمقتل عثامن فقام كبار الصحابة ودخلوا عىل اإلمام عيل ؤ‪ ،‬فقالوا‪« :‬إن هذا‬
‫الرجل قد ُقتل والبد للناس من إما ٍم وال نجد اليوم أحد ًا أحقَّ هبذا األمر منك‪ ،‬ال أقدم سابقة‬
‫خري من أن أكون أمري ًا‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫وال أقرب من رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬ال تفعلوا فإين أكون وزير ًا ٌ‬
‫في ًا وال تكون‬
‫ال واهلل ما نحن بفاعلني حتى نبايعك‪ ،‬قال‪ :‬ففي املسجد‪ ،‬فإن بـيعتي ال تكون َخ ّ‬
‫إل عن ِرىض املسلمني‪َ ،‬‬
‫فبايع ُه املهاجرون واألنصار ثم َبا َي َع ُه الناس» (((‪.‬‬
‫ورويت يف قصة بـيعته حوايل ثامين روايات ك ّلها ُتشري إىل مرشوعية خالفته‪ ،‬يقول ابن‬
‫ُ‬
‫ويع َع ُّ‬
‫يل بن أبـي طالب بن عبداملطلب بن هاشم بن عبدمناف باملدينة‬ ‫عساكر يف تارخيه‪ُ « :‬ب َ‬
‫َ‬
‫فاستقبل املحرم َسنة ست‬ ‫بقيت من ذي احلجة‬ ‫يوم ُ‬
‫اجلمعة ِحني ُقتل ُعثامن الثنتي عرشة ليلة ْ‬
‫العامة يف َم ْس ِج ِد رسول اهلل ﷺ»(((‪.‬‬
‫وثالثني‪ ..‬ثم ُبويع البـيعة َ‬
‫ويقول احلافظ الذهبـي يف شأن البـيعة‪« :‬ملا ُقتلِ ُعثامن َس َعى ال َّناس إىل َعيل‪ ،‬وقالوا‪ :‬البد‬
‫لل َّناس من إما ٍم فحرض طلحة والزبـري وسعد بن أبـي وقاص واألعيان‪ ،‬وكان َأ َّول من َ‬
‫بايع ُه‬
‫َطلحة ثم َسائر ال َّناس»(((‪.‬‬
‫وما روي غري ذلك من الروايات ففيها نظر(((‪ ،‬قال صاحب حتقيق موقف الصحابة‪ :‬والذي‬
‫يظهر من هذه الروايات ‪-‬بعد إيراد العديد من الروايات‪َّ -‬‬
‫أن التوقف يف البـيعة كان يف البداية‬
‫فقط كام كان عيل ذاته يأباها فلام اتضح األمر واجتمع الناس عىل بـيعة عيل بايع هؤالء‪ ،‬وليس‬
‫أدل عىل ذلك من قول الواقدي‪ :‬ومل يتخلف َأ َحدٌ من األنصار إلاَّ بايع فيام نعلم‪.‬‬
‫ويقول ابن كثري‪ :‬فلام كان يوم اجلمعة وصعد ٌّ‬
‫عيل املنرب بايعه من مل يبايعه باألمس‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)60-59 :2‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)80 :2‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬وقد صنف يف هذا املوضوع األخ حسن فرحان املالكي رسالة وافية‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪255‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وكان من قدر اهلل يف حتوالت هذه املرحلة أن َشقَّ بعض بني أمية العصا وهربوا من املدينة‬
‫إىل الشام ومكة فرار ًا من بـيعة اإلمام‪ ،‬والذين ذهبوا إىل الشام محلوا معهم قميص عثامن ؤ‬
‫الف ِ‬
‫رافصة التي َبترَ ها القتلة وهي تدافع عن زوجها‪.‬‬ ‫ُمرضَّ ج ًا بالدِّ ماء َ‬
‫وأ َن ِ‬
‫ام ُل زوجته َنائلة بنت ُ‬
‫القميص عىل منرب جامع دمشق وأعلن العصيان عىل اإلمام مطالب ًا بثأر عثامن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫معاوية‬ ‫وع َّلق‬
‫وأنه لن ُيبايع حتى يسلم إليه القتلة‪.‬‬
‫وواجه اإلمام عيل أمام هذه األوضاع عدة مشاكل كانت سبب ًا يف التحوالت املتداعية‪.‬‬
‫األوىل‪ :‬مطالبة اخلوارج له ب َق َت َل ِة عثامن قبل البـيعة‪ ،‬وهو أمر ال يتأتى يف ظل الوضع‬
‫املضطرب‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬رضورة عزله للوالة الذين يمثلون املرحلة االستبدادية يف وجهة نظر الناس‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬التزامه ؤ مبدأ الرصاحة والصدق دون مداراة فيام يعلم أنه احلق‪.‬‬
‫وقد أشار عليه ابن عباس بتولية طلحة والزبـري عىل بعض األمصار لتخفيف حدة التوتر‪،‬‬
‫ولكن اإلمام َأ َبى‪ ،‬وقال‪« :‬إن رسول اهلل ﷺ قال‪ :‬إن َ‬
‫الوالي َة ال ُت َ‬
‫عطى ملن َيطل ُبها وال ملن حَيرص‬
‫َعليها»‪.‬‬
‫وتفاقمت األمور يف الشام بتأليب الناس عىل قتلة عثامن‪ ،‬وأثارت اجلمهور ضد بـيعة اإلمام‬
‫عيل‪ ،‬فأرسل اإلمام عيل إىل معاوية حيذره من َشقِّ عصا الطاعة ويدعوه إىل إنفاذ البـيعة ودرء‬
‫الفتنة ولكن معاوية مل يرد‪.‬‬
‫وتنادى الناس باملدينة وما حوهلا واحتشدوا لنرصة اإلمام عيل عند بلوغهم احتشاد أهل‬
‫الشام؛ ولكن اإلمام مل يأذن ألحد باخلروج حتى يعذر الذين خرجوا عن طاعته‪.‬‬
‫وجاءت إىل املدينة أموال من اخلراج فاختذ اإلمام عيل ؤ موقف ًا عاد ً‬
‫ال يف التسوية بـني‬
‫الناس يف القسمة واألعطية عىل غري ما يعهدون يف العهد السابق‪ ،‬فأثار ذلك األمر التذمر لدى‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪256‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الكثري من الناس وفيهم بعض املهاجرين واألنصار‪ ،‬وملا عاتبوه يف ذلك أبى‪ ،‬وقال‪« :‬إن اهلل‬
‫فقري إل بتخمة غني» (((‪.‬‬
‫فرض يف أموال األغنياء أقوات الفقراء فام َجاع ٌ‬
‫يثبت معاوية عىل الشام يف اإلمارة حتى يلتزم الطاعة فأبى‪،‬‬
‫ونصحه املغرية بن شعبة أن َ‬
‫وقال‪« :‬إن أقررت معاوية عىل ما يف يده كنت متخذ ًا املضلني َعضد ًا‪ ،‬وال يراين اهلل كذلك‬
‫أبد ًا»‪.‬‬
‫بق أحد ًا غري أبـي موسى األشعري‪،‬‬
‫وعزل اإلمام عيل كافة عامل عثامن يف األمصار ومل ُي ِ‬
‫وأرسل سهل بن حنيف األنصاري والي ًا عىل الشام خلع ًا ملعاوية بن أبـي سفيان فتلقاه بتبوك‬
‫ٌ‬
‫فرسان من أهل الشام وهددوه بالقتل إن هو دخل الشام وردوه إىل املدينة‪.‬‬
‫فدعا اإلمام عيل كبار الصحابة ومنهم طلحة والزبـري وعرض عليهم األمر‪ ،‬وذكر هلم أنه‬
‫البد أن يتجهز لقتال معاوية وال ينتظر حتى يزحف عىل املدينة بجيش من الشام‪.‬‬
‫ويف هذه األثناء كانت عائشة ريض اهلل عنها قد فرغت من احلج عائدة إىل املدينة فبلغها خرب‬
‫مقتل عثامن ؤ وهي بالطريق فعادت إىل مكة وأعلنت عن مطالبتها بدم عثامن‪.‬‬
‫وعلم اإلمام عيل بام جيري بمكة فأصابه احلزن واإلشفاق من هذه التداعيات والتحوالت‪،‬‬
‫وجاءه طلحة والزبـري يستأذنا يف الذهاب إىل العمرة فأذن هلام‪ ،‬وقال‪ :‬ما العمرة تريدان إنام‬
‫تريدان أن متضيا إىل شأنكام فامضيا (((‪.‬‬
‫ويف مكة اتفق شأن طلحة والزبـري مع أم املؤمنني عائشة ريض اهلل عنها عىل اخلروج إىل‬
‫العراق للمطالبة بدم عثامن‪ ،‬والنظر يف األمر ووصلت األنباء إىل اإلمام عيل ؤ بخروجهم‬
‫إىل البرصة فأخذ جيهز للرحيل‪.‬‬

‫((( «إمام املتقني» للرشقاوي ص‪.238 - 237‬‬


‫((( املصدر السابق ص ‪.247‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪257‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َان َم ْع�دُ و َد ًا ل� ُه َب�ل َأ ْهَلَ‬
‫إِ ْذ ك َ‬ ‫وكان يرج�و َأ ْن ُي َ‬
‫قي�م ال َع�دْ ال‬

‫�و ِل‬ ‫ِ‬ ‫�و ِل‬ ‫ِ‬


‫�ع الت ََّم ُّ‬ ‫بِ َط َم� ِع َ‬
‫الج�اه َم َ‬ ‫َت َمس�ائ ُل الت ََّح ُّ‬
‫َفاش� َت َبك ْ‬

‫تشري األبـيات إىل ما برز لإلمام عيل ؤ من خطورة املوقف والتحوالت‪ ،‬وأهنا استمرار‬
‫خطري ملا أخرب به ﷺ من الفتن املتالحقة‪ ،‬وكيف التبس األمر حتى عىل جهابذة العلم واملعرفة‬
‫ليقىض اهلل أمر ًا كان مفعو ً‬
‫ال‪.‬‬
‫بعض الرجال الك َُّم ِل‬
‫ِ‬ ‫ما كان من‬ ‫�و ِل‬ ‫ِ‬ ‫وم�ن غ َِر ِ‬‫ِ‬
‫ي�ب آ َي�ة الت ََّح ُّ‬
‫الف ْتن ِ‬
‫س�ير ِ‬
‫ي�را فِ�ي َم ِ‬ ‫الزبـي�ر أو َك َطلح ِ‬ ‫كمو ِق ِ‬
‫َ�ة‬ ‫َأ ِو ُ‬
‫الح َم َ‬ ‫�ة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫�ف‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫الم ْص َطفى‬ ‫ِ‬ ‫�و َأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بـيثرب‬ ‫تحقيق َقول ُ‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫الح ْ‬
‫الب م�اء َ‬
‫َتنْ َب ُح َه�ا ك ُ‬
‫رج�ال َي ْحلِ ُف َ‬
‫�ون ال َق َس�ما‬ ‫ٌ‬ ‫ق�ا َم‬ ‫�ت عل�ى الرج�وع ِإنّما‬
‫فص َّم َم ْ‬
‫َ‬
‫�ت َو َأ ْم ُ�ر َربـ�ي ق�د َن َفدْ‬
‫َف َصدَّ َق ْ‬ ‫الم�اء َل َ‬
‫ي�س م�ا َو َر ْد‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب�أ َّن ه�ذا‬

‫يشري الناظم إىل ما جرى من عجيب قدر اهلل يف سلوك كبار الصحابة ‪-‬كام ذكرهم يف‬
‫األبـيات‪ -‬فهؤالء كانوا عىل قدر عظيم من العلم والدين‪.‬‬
‫وقد ورد أن عائشة ريض اهلل عنها ملا بلغ ركبها إىل ناحية من نواحي الطريق نبحت الكالب‪،‬‬
‫فرصخت يف ُذعر‪ :‬ما أراين إلاَّ راجعة‪ ،‬وثبت‬
‫ْ‬ ‫احل ْو َأب‪،‬‬
‫أي ماء هذا؟ قالوا‪ :‬ماء َ‬
‫فسألت عائشة‪ُّ :‬‬
‫بإحداكن تنبحها كالب‬
‫ّ‬ ‫سمعت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬يقول لنسائه‪« :‬كأن‬
‫ُ‬ ‫اجلميع وسألوها؟ قالت‪:‬‬
‫احلوأب‪ »..‬ثم اجته إ َّيل وقال‪« :‬إياك أن تكوين ِ‬
‫أنت يا محُريا!»؛ ولكن القوم مجعوا هلا مخسني من‬
‫األعراب فحلفوا أن ماء احلوأب قد جاوزوه أول الليل‪.‬‬
‫ومىض الركب يف الطريق إىل البرصة واجتمع اجليشان جيش عيل وجيش طلحة والزبـري‬
‫عيل بـ(ذي قار) ودعاهم ثالثة أيام للصلح وال َّت َفاهم‪ ،‬وكان قتلة عثامن يف‬
‫وعائشة‪ ،‬ونـزل ٌّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪258‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اجليشني فخافوا أن يصطلح القوم فيكون فيهم قتلهم‪ ،‬فأخذوا حيرضون الناس عىل القتال‪.‬‬
‫ري‪ ،‬وقال‪ :‬تعال ولك األمان‪ ،‬فخال به‪ ،‬وقال‪ :‬أنشدك اهلل‪ ..‬هل سمعت‬ ‫ونادى ُّ‬
‫عيل الزبـ َ‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬يقول وأنت ال ِوي َي ِدي‪« :‬لتقاتل ّنه وأنت له ظامل ثم ل ُينرصنّ عليك» ؟ قال‪ :‬لقد‬
‫الدهر‪ ..‬ال جرم‪ ..‬ال أقات ُلك»(((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أنسانيه‬ ‫ذكرتني شيئ ًا‬
‫ّ‬
‫ونشبت املعركة يف ظروف غامضة وقد كاد الفريقان أن يتفقا عىل أمر‪.‬‬
‫جاء يف «حتقيق مواقف الصحابة من الفتنة» فلام نـزل الناس منازهلم واطمأنوا خرج عيل‬
‫وخرج طلحة والزبـري وتوافقوا وتكلموا فيام اختلفوا فيه‪ ،‬فلم جيدوا أمر ًا هو أمثل من الصلح‬
‫وترك احلرب‪ ،‬فافرتقوا عىل ذلك وأرسل عيل ؤ إىل رؤساء أصحابه‪ ،‬وأرسل طلحة‬
‫والزبـري إىل رؤساء أصحاهبام ما عدا أولئكم الذين حارصوا عثامن‪.‬‬
‫فبات الناس عىل نية الصلح وبات الذين أثاروا الفتنة برش ليلة‪ ،‬وقال قائلهم‪« :‬إن يصطلحوا‬
‫مع عيل فعىل دمائنا‪ ،‬وتكلم ابن السوداء عبداهلل بن سبأ((( وهو املشري فيهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا قوم إن‬
‫عزكم يف خلطة الناس فصانعوهم‪ ،‬وإذا التقى الناس غد ًا فانشبوا القتال‪ ،‬وال تفرغوهم للنظر‪،‬‬
‫َّ‬
‫ويشغل اهلل علي ًا وطلحة والزبـري ومن رأى رأهيم عام تكرهون‪.‬‬
‫فغدوا يف الغلس وعليهم ظلمة وما شعر هبم جرياهنم إال وقد وضعوا فيهم السيوف فثار‬
‫أهل البرصة وثار كل قوم يف وجوه الذين باغتوهم وخرج الزبـري وطلحة يسأالن‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫أهل البرصة لي ً‬
‫ال‪َ ،‬و َ‬
‫نش َبت املعركة(((‪.‬‬ ‫طر َقنَا ُ‬
‫أهل الكوفة‪َ :‬‬ ‫أهل الكوفة لي ً‬
‫ال‪ ،‬وقال ُ‬ ‫طر َقنا ُ‬
‫َ‬
‫فجرت فتنة اجلمل عىل غري اختيار من عيل وال من طلحة والزبـري‪،‬‬
‫ْ‬ ‫يقول اإلمام الطحاوي‪:‬‬

‫((( رواه ابن أيب شيبة وابن منيع والعقييل ‪ ،‬انظر «كنز العامل» (‪ )340 :11‬و «اإلشاعة» ص‪.49‬‬
‫((( انظر الكالم عن السبئية ودورهم يف الفتنة يف الفصل القادم‪.‬‬
‫((( «حتقيق مواقف الصحابة» ص‪.119 - 116‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪259‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وإنام أثارها املفسدون بغري اختيار السابقني‪.‬‬
‫ويقول الباقالين‪ :‬وقال مجلة من أهل العلم‪َّ :‬‬
‫إن الواقعة بالبرصة بـينهم كانت عىل غري عزيمة‬
‫عىل احلرب بل فجأة(((‪.‬‬
‫وأشري بعقر اجلمل الذي عليه اهلودج وكان فيه أم املؤمنني عائشة ريض اهلل عنها فلام عقر‬
‫محل اهلودج بام فيه إىل أمري املؤمنني‪ ،‬ورضبت عليها قبة‪ ،‬وكان معها أخوها حممد بن أبـي بكر‪،‬‬
‫فجاء إليها اإلمام عيل فسلم عليها‪ ،‬وقال‪ :‬كيف أنت يا ّأم؟ قالت‪ :‬بخري‪ ..‬اهلل يغفر لك‪.‬‬
‫وأرسل هبا إىل البرصة مع مجع من النسوة‪ ،‬ثم عزمت عىل الرجوع نحو املدينة‪ ،‬فبعث إليها‬
‫اإلمام بام ينبغي من مركب وزاد ومتاع وأرسل معها أربعني امرأة من نساء البرصة وسيرَّ َ معها‬
‫أخاها حممد ًا‪.‬‬
‫وقد َف َعل اإلمام عيل مع أم املؤمنني ما َف َعل من اإلكرام واألدب اعرتاف ًا بفضلها ومكاهنا من‬
‫فار ِفقْ هبا» (((‪.‬‬ ‫ال لقوله ﷺ‪« :‬إن ُو ِّل َ‬
‫يت من أم ِرها شيئ ًا ْ‬ ‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وامتثا ً‬

‫وملا سئل ؤ عن موقعة اجلمل‪ :‬أمرشكون هم؟‬


‫قال‪« :‬من الرشك َف ُّروا» ‪.‬‬
‫قيل‪ :‬أمنافقون ؟‬
‫قال‪« :‬إن املنافقني ال يذكرون اهلل إل قلي ً‬
‫ال» ‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فمن هم؟ قال‪« :‬إخوا ُننا َب َغ ْوا علينا» (((‪.‬‬
‫جرير بن عبداهلل البجيل‬
‫َ‬ ‫وملا فرغ اإلمام عيل من معركة اجلمل ورجع إىل الكوفة أرسل‬

‫((( املصدر السابق ص ‪.126‬‬


‫((( احلاكم يف «املستدرك» عن أم سلمة‪.‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.54 - 51‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪260‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫إىل معاوية بالشام يدعوه إىل الدخول فيام دخل فيه الناس ويبايع‪ ،‬فامتنع معاوية حتى يسلم‬
‫ق َت َل َة عثامن‪ ،‬وأخذ معاوية يف تسيِري جيش من الشام وأخذ اإلمام يعدُّ ُ‬
‫العدة للمقاتلة فالتقيا يف‬
‫ِص ِّفني‪ ،‬وحني َع ْس َكر اإلمام بصفني أرسل وفد ًا إىل معاوية يدعوه إىل َح ْقن الدِّ ماء والدخول يف‬
‫املبايعة فأرسل إليه معاوية‪ :‬إن عثامن ُقتل مظلوم ًَا َفليدفع لنا قتلته حتى نسلم هذا األمر‪.‬‬
‫فقال اإلمام‪ :‬ادخلوا إىل البـيعة واطلبوا احلق تصلوا إليه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال تستحق بـيعة َو َق َت َلة‬
‫عثامن تراهم صباح ًا ومساء ًا(((‪.‬‬
‫ري ُم ٍ‬
‫هادن وال ُمساو ٍم يف مقتل عثامن‪ ،‬وإنام كان يرغب يف‬ ‫لقد كان اإلمام عيل ؤ غ َ‬
‫استيثاق الكلمة وإقامة األمن ثم يكون الطلب وتقع الدعوى ويكون اجلواب وتقوم البـينة‬
‫وجيري القضاء يف جملس احلكم‪ ،‬وال خالف بـني األمة أنه جيوز لإلمام تأخري القصاص إذا‬
‫َّأدى ذلك إىل إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة‪.‬‬
‫ونشبت احلرب بـني الفريقني واقتتلوا اقتتا ً‬
‫ال شديد ًا حتى بلغت القتىل ثالثني ألف ًا‪،‬‬
‫ورجحت كفة اإلمام عيل ؤ يف احلرب و ُقتل عامر بن يارس ؤ‪ ،‬وقد قال ﷺ‪ٌ « :‬‬
‫عامر‬
‫َت ْقتله الفئ ُة الباغية» (((‪.‬‬
‫قال الناظم‪((( :‬‬
‫بِال َبت ِ‬
‫َّ�ار‬ ‫ُ�ون‬
‫ال َباغ َ‬ ‫َي ْق ُت ُل� ُه‬ ‫�ار‬ ‫وم ْث ُل� ُه َم�ا ِق َ‬
‫ي�ل ف�ي َع َّم ِ‬ ‫ِ‬

‫َ�ى َبـ ِّين�ا‬ ‫َف َح َّ�ر َ‬


‫ف ال ُبغَ�ا ُة َم ْعن ً‬ ‫َنبِـ ُّين�ا‬ ‫َحدَّ َده�ا‬ ‫َع اَل َم� ٌة‬

‫ب َط ْوع ًا َح َم َل ْه‬ ‫لح ْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َذ َ‬ ‫و َأع َلنُ�وا َأ َّن ا َّل ِ‬


‫اك ا َّلذي ل َ‬ ‫�ذي َق�دْ َق َت َل� ْه‬ ‫َ ْ‬

‫((( «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)153 :2‬‬


‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫((( يف رواية البخاري «ويح عامر تقتله الفئة الباغية» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪261‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫كان مقتل عامر ؤ حتو ً‬
‫ال خطري ًا يف املواقف‪ ،‬وكاد جيش معاوية أن يهُ زم‪ ،‬وخاصة َّ‬
‫أن‬
‫كثري ًا من املقاتلة امتنع عن القتال ملا عرف بالعالمة أن ال ُبغاة هم قتلة عامر‪ ،‬فام كان من مهنديس‬

‫الفتن إلاَّ أن َّ‬


‫بـينوا األمر عىل غري وجهه‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن الذي جاء بعامر إىل احلرب هو عيل وفئته‪،‬‬
‫فهي التي قتلته‪ ،‬وهي الفئة الباغية‪ ،‬وليس مجاعة معاوية‪ ،‬واستمر القتال‪.‬‬
‫ش الشام َعمدُ وا إىل ِحيلة املصاحف ورفعها وطلب حتكيم‬ ‫وعندما برز َ‬
‫احل ُّق وانكشف َج ْي ُ‬
‫واحلكم‪.‬‬ ‫خطري يف ُس َّنة ِ‬
‫العلم ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫انحراف‬ ‫كتاب اهلل‪ ،‬وكال املوقفني يف فقه التحوالت‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫الم ْشكِ ِل‬ ‫في ِ ِ‬
‫األمر والعل ِم َع َ‬
‫ظيم ُ‬ ‫�و ِل‬ ‫�ار َأ ْم ُ�ر َ‬
‫الم ْس�خِ والت ََّح ُّ‬ ‫فص َ‬‫َ‬

‫حرفوا سنة العلم بام قالوه يف مفهوم احلديث‪:‬‬


‫حرفوا سنة احلكم برفض البـيعة‪ ،‬ثم َّ‬
‫فالباغون َّ‬
‫« َع اَّمر تقتله الفئة الباغية»((( ويف سياسة رفع املصاحف فوق الرماح مطلب حتكيم كتاب اهلل‪،‬‬
‫وقد َف ِط َن اإلمام عيل ؤ للخدعة ِ‬
‫واحليلة‪ ،‬فصاح بجيشه كام نقله الطربي يف تارخيه‪ :‬إن أهل‬
‫الشام ملا رفعوا املصاحف عىل الرماح ونادوا بتحكيم كتاب اهلل يف اخلالف مل يقبل ذلك اإلمام‬
‫عيل ؤ‪ ،‬و َن َّبـه القوم إىل إهنا جمرد َخديعة و َمكيدة بقوله‪ِ « :‬عبا َد اهلل‪ ..‬ا ْم ُضوا عىل َح ِّقكم‬
‫وصدقكم يف القتال‪َ ،‬و حْ َي ُك ْم إهنم ما رفعوها لكم إل خديع ًة ودهن ًا ومكيدة»‪.‬‬
‫ِ‬

‫وبرز هنا دور اخلوارج ودور األتباع املتعصبـني للرأي‪ ،‬فقال قوم‪ :‬ما وسعنا أن ندعى إىل‬
‫كتاب اهلل عز وجل فنأبى أن نقبله‪ ،‬فقال هلم‪« :‬إين ما قاتلتهم إل ليدينوا بحكم هذا الكتاب‬
‫فإهنم قد َع َص ُوا َ‬
‫اهلل عز وجل يف أمرهم و َن ُسوا َع ْه َد ُه و َن َب ُذوا كتَا َب ُه»‪.‬‬
‫فقال مجاعة القراء‪ :‬يا عيل أجب إىل كتاب اهلل إذا ُدعيت إليه‪ ،‬وإلاَّ ندفعك بِ ُر َّمتِ َك إىل القوم‬
‫أو نفعل كام فعلنا بابن عفان‪ ،‬واهلل لتفعلنها أو لنفعلنها بك‪.‬‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪262‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال‪ :‬احفظوا عني هنيي إياكم واحفظوا مقالتكم يل‪ ،‬أ َّما أنا فإن تطيعوين تقاتلوا‪ ،‬وإن‬
‫تعصوين فاصنعوا ما بدالكم‪.‬‬
‫وقبل القوم التحكيم واختاروا أبا موسى األشعري‪ ،‬وتبدأ املحاورة حول الصلح‪ ،‬ويف هذه‬
‫السعدي قائلني‪ :‬ال حكم إلاَّ هلل‪،‬‬
‫قوم من القراء فيهم ُح ْر ُقوص بن زهري َّ‬
‫األثناء دخل عىل اإلمام ٌ‬
‫ُت ْب من خطيئتِ َك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إىل عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا‪ ،‬فقال اإلمام‪:‬‬
‫«قد أرد ُتكم عىل ذلك فعصيتموين‪ ،‬وقد كتبنا بـيننا وبـينهم كتاب ًا ورشطنا رشوط ًا وأعطينا عليها‬
‫ذنب ولكنه‬
‫وب منه‪ ،‬فقال عيل‪« :‬ما هو ٌ‬ ‫عهود ًا ومواثيق ًا»‪ ،‬قال ُح ْر ُقوص‪ :‬ذاك ٌ‬
‫ذنب جيب أن َت ُت َ‬
‫تقدمت إليكم فيام كان منه وهنيتُكم عنه»‪ ،‬فأبوا وقالوا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫العقل‪ ،‬وقد‬ ‫ٌ‬
‫وضعف يف َ‬ ‫َعجزٌ يف الرأي‬
‫تدع حتكيم الرجال يف كتاب اهلل قاتلناك نطلب بذلك وجه اهلل ورضوانه(((‪.‬‬
‫لئن مل ْ‬
‫روايات ال َّتاريخ إلاَّ أن اإلمام ال َباقالين يف «مناقب‬
‫ُ‬ ‫وج َرى التحكيم عىل الوجه الذي َذ َك َرت ُْه‬
‫َ‬
‫األئمة» نقد رواية التحكيم ‪ ،‬قال الباقالين‪ :‬فام اتفق احلكامن عىل خلعه‪ ،‬وعىل أهنام لو اتفقا عىل‬
‫ذلك مل ينخلع‪.‬‬
‫وتفرق القوم بعد التحكيم عىل غري وفاق وال اتفاق‪ ،‬وبقي اإلمام عيل جيهز جيوشه لقتال‬
‫أهل الشام مرة بعد أخرى إلاَّ أن أمر اخلوارج شغله عنهم‪.‬‬
‫�و ُه لِل َف َس�ا ْد‬
‫َح َّق� ًا َل ِز ْيم� ًا َو َّظ ُف ْ‬ ‫اال ْجتِ َها ْد‬
‫إِ ْذ جع َل الباغُ�و َن َأمر ِ‬
‫َ َ َ ْ َْ‬
‫َوا ْع َت َب ُ�ر ْوا ال َقت َْل َص اَل َح� ًا لِ َ‬
‫ألنَا ْم‬ ‫اجت ََهدُ ْوا بِالن َِّّص فِي َقت ِْل ا ِ‬
‫إل َما ْم‬ ‫َف ْ‬

‫صوص َو ِس ْي َل ًة لتحقيق مآرهبم وغاياهتم‪ ،‬قال ابن‬


‫َ‬ ‫ِ‬
‫واختاذ ُه ُم ال ُّن‬ ‫وارج‬
‫اخل ِ‬‫يشري الناظم إىل َ‬

‫َح ْزم عنهم‪ :‬وأسالف اخلوارج ‪ -‬هم القراء ‪ -‬كانوا أعراب ًا قرؤوا القرآن قبل أن يتفقهوا يف‬
‫السنن الثابتة عن رسول اهلل ﷺ ومل يكن فيهم أحدٌ من الفقهاء وال من أصحاب أحد من علامء‬

‫((( «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)221 :2‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪263‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصحابة‪ ،‬ولذا جتدهم يكفر بعضهم بعض ًا عند أقل نازلة تنـزل هبم من دقائق ُ‬
‫الف ْت َيا وصغارها‪،‬‬
‫وكانوا قوم ًا ُكثر يف جيش اإلمام عيل ؤ‪ ،‬وبرز دورهم اخلطري يف موقعة صفني‪ ،‬وكانوا أكثر‬
‫الناس ِعبادة وأقرأهم لكتاب اهلل؛ إلاَّ أن اخلالف كان متأص ً‬
‫ال فيهم‪ ،‬فلم يفعل أمري املؤمنني‬
‫شيئ ًا إلاَّ وخالفوه(((‪.‬‬
‫وقد اتفقوا بعد التحكيم عىل كفر عيل ومعاوية مع ًا‪ ،‬فاعتزلوا أمري املؤمنني ونـزلوا‬
‫(ح َر ْوراء)(((‪ ،‬فأرسل إليهم اإلمام عبداهلل بن عباس فرجع بعضهم وأبى آخرون‪ ،‬وأخذ اإلمام‬
‫َ‬
‫يقاتل اخلوارج حتى هزمهم يف موقعة النهروان‪ ،‬فلام فرغ اإلمام منهم واستدل عىل ذي الثديتني‬
‫يف احلرب مقتو ً‬
‫ال‪ ،‬قال أحدهم‪ :‬احلمد هلل الذي أبادهم وأراحنا منهم‪ ،‬فقال اإلمام عيل‪« :‬كال‬
‫وليكونن آخرهم لصاص ًا‬ ‫الرجال مل حتمله ال َّنساء بعد‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫والذي نفيس بـيده إن منهم ملن يف أصالب َّ‬
‫َحرادين»‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)204 :2‬‬


‫((( حروراء موقع يف نواحي الكوفة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪264‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الس َبئِ َّية وبروزها‬
‫(((‬
‫املدرسة َّ‬

‫((( يرى ابن كثري يف تارخيه أن مقتل عثامن كان مدبرا وأن تألب األحزاب عليه كان من فعل ابن سبأ‪ ،‬ويؤيد‬
‫هذا القول ما ذكره ابن خلدون يف «العرب» (‪ :)1027 :2‬إن عبداهلل بن سبأ يعرف بابن السوداء كان هيوديا‬
‫فهاجر أيام عثامن فلم حيسن إسالمه فأخرج من البرصة فلحق الكوفة ثم الشام فأخرجوه فلحق بمرص‪،‬‬
‫وكان يكثر الطعن عىل عثامن ويدعو يف الرس إىل أهل البيت وحيرض الناس عىل القيام بذلك‪ ،‬والطعن عىل‬
‫األمراء‪ ،‬فاستامل الناس بذلك يف األمصار‪ ،‬وكاتب بعضهم بعضا‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ويشري إىل مثل ذلك املقريزي وابن حجر والسيوطي‪ ،‬ويقول ابن حبيب البغدادي (ت ‪245‬هـ)‪ :‬عبداهلل ابن‬
‫سبأ صاحب السبئية‪« .‬املحرب» ص‪ ، 308‬ويقول ابن قتيبة (ت ‪276‬هـ)‪ :‬السبئية ينسبون إىل عبداهلل بن‬
‫سبأ ‪.‬اهـ‪« .‬املعارف» ص‪( 62‬الطبعة املحققة) ‪ ،‬وكل ذلك مما يؤكد عالقة ابن سبأ بأمرين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تكوين فتنة املدرسة السبئية التي انترشت فيام بعد داخل اخليمة اإلسالمية وتطورت إىل منهج ومذهب‬
‫اختلط باملنهج اخلاص بغالة املتعلقني بآل البيت ريض اهلل عنهم وهم منه براء‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬عالقة هذه املدرسة وما تفرع منها باملدرسة الدجالية العاملية التي حذر منها رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم من بروزها عامليا منذ عهد آدم يف العامل‪ ،‬وحذر منها باخلصوص يف مسرية اجلسد اإلسالمي‬
‫بمقتل عثامن ريض اهلل عنه يف قوله‪« :‬أول الفتن قتل عثامن وآخرها خروج الدجال» رواه ابن عدي وابن‬
‫عساكر‪ ،‬انظر «اإلشاعة» ص‪.139‬‬
‫وكان من خطر أعامل هذه املدرسة‪:‬‬
‫‪ -1‬التخطيط يف الرس‪.‬‬
‫‪ -2‬اختاذ آل البيت ذريعة لتأليب العامة وإدخال املعتقدات الفاسدة بني اإلفراط والتفريط باسم آل البيت وهم‬
‫منها براء‪.‬‬
‫‪ -3‬إثارة الفوىض وزعزعة الثقة باحلكم واألمراء من خالل اإلرجاف وتكوين األحزاب املتعارضة وانتحال‬
‫املواقف السياسية بالتزوير كام هو يف قضية عثامن ريض اهلل عنه وتزوير الرسالة التي أثارت املرصيني‬
‫وغريها‪.‬‬
‫‪ -4‬استخدام اإلشاعة والدعاية بصورة فعالة (الكذب اإلعالمي)‪.‬‬
‫‪ -5‬استغالل الفرص لإلثارة والدفع باملتنازعني للقتال واحلرب كام هو يف معركتي اجلمل وصفني‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪265‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫لقد كانت وسائل املدرسة السبئية هي االمتداد اخلطري للمدرسة الدجالية العاملية داخل اجلسد اإلسالمي‪،‬‬
‫وخاصة إذا علمنا أن مصدرها األسايس هو (ابن سبأ اليهودي) وأن اليهود يف العامل هو الذراع األيمن‬
‫للدجال ومدارسه يف التاريخ‪ ،‬وال ختفى وسائلهم احلقرية يف إسقاط األنظمة والدول والتحريش السيايس‬
‫واالقتصادي واالجتامعي واإلعالمي إىل اليوم وبعد اليوم‪ ،‬فهي سلسلة من املؤامرات ضد البرشية‬
‫النظر إىل (فتنة مقتل عثامن) من وجهة‬
‫َ‬ ‫بعمومها‪ ،‬وضد دعوات احلق يف العامل بخصوصها‪ ،‬وهلذا فإن‬
‫اإلسالم العاملية ال ُي َفسرِّ ُ القضي َة بام يفرسه املؤرخون املشتغلون بجزئيات املواقف‪ ،‬وإنام ُت َفرس احلوادث‬
‫بإعادة قراءة نصوص التحوالت التي أخرب عنها صىل اهلل عليه وآله وسلم وربطها بمسرية األحداث بعد‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وهلذا فإن التمعن والتأمل ملواقف الصحابة أنفسهم وارتباكهم وقلقهم أمام هذه الفتن يربز لنا العنرص اخلفي‬
‫الذي يعمل عىل إفساد املواقف‪ ،‬وحيرك األمور ضد التيار اإلسالمي الصحيح‪.‬‬
‫فسيدنا عثامن ريض اهلل عنه ملا شعر بالفتنة يف األمصار وأن األمة تتمخض عن رش قال‪« :‬واهلل إن رحى الفتنة‬
‫لدائرة‪ ،‬فطوبى لعثامن إن مات ومل حيركها» الطربي (‪ )343 :4‬عن «حتقيق مواقف الصحابة» ‪.‬‬
‫وكان جواب الصحابة ريض اهلل عنهم ملا جاءهم األعراب الثائرون –وقد غشهم من غشهم بكتب ادعى أهنا‬
‫وردت من كبار الصحابة‪ -‬أن الثائرين مل جيدوا منهم تشجيعا عىل ثورة وال عىل فتنة بل تربؤوا مما نسب‬
‫إليهم من رسائل تؤلب الناس عىل عثامن ريض اهلل عنه ووجدوا عثامن مقدرا للحقوق بل وناظرهم فيام‬
‫نسبوه إليه ورد عليهم افرتاءاهتم وفرس هلم صدق آماله حتى قال أحد هؤالء األعراب وهو مالك بن‬
‫األشرت النخعي‪ :‬لعله مكر به وبكم‪ .‬املصدر السابق‪.‬‬
‫وملا اقرتب (أعراب الفتنة) من املدينة بعثوا من يستطلع هلم أخبار املدينة فذهب رجالن فلقيا أزواج النبي‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم وعليا وطلحة والزبري وقاال‪ :‬إنام جئنا نستعفي عثامن من بعض عاملنا‪ ،‬واستأذنا‬
‫لرفاقهم بدخول املدينة فأبى الصحابة وقال اإلمام عيل ريض اهلل عنه‪« :‬ال آمركم باإلقدام عىل عثامن ‪ ،‬فإن‬
‫ض س ُي َف َّرخ» فعاد الرجالن وعاد أهل الفتنة حييكون حيلة أخرى للدخول‪ ،‬وملا دخل منهم مجاعة‬ ‫َأ َب ْيت ُْم ف َب ْي ٌ‬
‫قال هلم بعض الصحابة‪ :‬لقد علم الصاحلون أن جيش ذي املروة وذي خشب ملعونون عىل لسان حممد‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم‪ ..‬فارجعوا ال صحبكم اهلل‪ ،‬وذو املروة وذو خشب مكانان نزل هبام ذلك اجليش‪،‬‬
‫جيش املروة وأهل النهروان ملعونون‬ ‫علمت عائش ُة أن َ‬
‫ْ‬ ‫ويف رواية ابن عساكر عن عيل بن أيب طالب‪« :‬لقد‬
‫جيش املروة َق َت َل ُة عثامن‪« .‬حتقيق مواقف‬
‫عىل لسان حممد صىل اهلل عليه وآله وسلم» قال أبوبكر بن عياش‪ُ :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪266‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصحابة» (‪.)332 :1‬‬
‫ويف املرة األخرية ظهرت قضية الرسالة املزورة التي خولت لألعراب الدخول إىل املدينة بعدها إلثارة الفتنة‬
‫كتبت فينا بكذا وكذا‪ ،‬فقال‪« :‬إهنام اثنتان‪ :‬أن يقيموا رجلني‬
‫َ‬ ‫وملا دخلوا عىل عثامن ريض اهلل عنه قالوا‪:‬‬
‫علمت» قالوا‪ :‬قد أحل اهلل دمك‬
‫ُ‬ ‫أمليت وال‬
‫ُ‬ ‫كتبت وال‬
‫من املسلمني أو يميني باهلل الذي ال إله إال هو ما ُ‬
‫ونقضت العهد وامليثاق‪ ،‬وحرصوه يف القرص‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫َ‬
‫واستوقف اإلمام عيل ريض اهلل عنه وفد الكوفة والبرصة وقد قالوا‪ :‬إنام جئنا لننرص إخواننا ونمنعهم‪ ،‬فقال‬
‫هلم اإلمام عيل ريض اهلل عنه‪« :‬وكيف علمتُم يا أهل الكوفة ويا أهل البرصة بام َل ِق َي ُ‬
‫أهل مرص وقد سرِ ْ ُت ْم‬
‫أمر ُأ ْب ِر َم باملدينة» اهـ «حتقيق مواقف‬
‫نحونا؟» ثم قال اإلمام ريض اهلل عنه‪« :‬هذا واهللِ ٌ‬
‫ثم طويتُم َ‬ ‫َ‬
‫مراحل ّ‬
‫الصحابة» (‪.)334 :1‬‬
‫وتشري الوقائع إىل أن تزوير الكتب تكرر يف هذه املرحلة‪ ،‬فهذه عائشة ريض اهلل تعاىل عنها تُتهم بأهنا كتبت إىل‬
‫كتبت‬
‫الناس تأمرهم باخلروج عىل عثامن فتنفي وتقول‪« :‬ال والذي آمن به املؤمنون وكفر به الكافرون ما ُ‬
‫جلست جمليس هذا» رواه ابن كثري يف «البداية والنهاية» ‪ ،‬عن «حتقيق مواقف‬
‫ُ‬ ‫هلم سودا َء يف بيضا َء حتى‬
‫الصحابة» (‪ )334 :1‬ويعقب األعشى فيقول‪ :‬فكانوا َي َر ْو َن أنه ُك َ‬
‫تب عىل لساهنا‪.‬‬
‫كتبت إليكم‬
‫ويتهم الوافدون عليا ريض اهلل عنه بأنه كتب إليها ليقدموا عليه املدينة فينكر ذلك ويقسم «واهلل ما ُ‬
‫كذب‬
‫ٌ‬ ‫كتاب ًا» انظر «حتقيق مواقف الصحابة» (‪ ، )1:335‬قال ابن كثري معلقا عىل هذه األخبار‪ :‬وهذا‬
‫عىل الصحابة وإنام كتبت كتب مزورة عليهم‪ ،‬فقد ُكتب من جهة عيل وطلحة والزبري إىل اخلوارج ‪-‬قتلة‬
‫كتب مزور ٌة عليهم أنكروها‪ ،‬وكذلك زور هذا الكتاب عىل عثامن أيضا فإنه مل يأمر به ومل يعلم‬
‫عثامن‪ٌ -‬‬
‫به‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ويستفاد من هذا كله أن هناك عنرصا مدسوسا يعمل حلساب مدرسة الدجال ذات العالقة املبارشة باستثامر‬
‫الفتن يف تاريخ الديانات والشعوب‪ ..‬ومنها املدرسة السبئية‪ ..‬وقد استاملت (عنرص األعراب) الذين مل‬
‫ُ‬
‫سلف اخلوارج‪،‬‬ ‫يدخل اإليامن قلوهبم من قبائل خمتلطة من مرض وربيعة واليمن‪ ،‬وهؤالء هم ُ‬
‫(الق ّراء)‬
‫ومنهم كام ذكره بعض الرواة األعراب املرتدون الذين استعني هبم يف اجلهاد عىل عهد عثامن ريض اهلل‬
‫عنهم‪ ،‬وتشري عائشة ريض اهلل عنها إىل هؤالء بقوهلا بعد مقتل عثامن‪« :‬إن الغوغاء من أهل األمصار و ُن ّزاع‬
‫القبائل غزوا حرم رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وأحدثوا فيه األحداث وآووا املحدثني‪ ..‬مع ما‬
‫نالوا من قتال إمام املسلمني بال ترة وال عذر»‪ .‬اهـ «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)354 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪267‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املدرسة السبئية تعريف معارص يشري إىل مدرسة ذات هوية سياسية منحرفة منتمية إىل‬
‫مذهب عقيدي خطري ينسب إىل عبداهلل بن سبأ اهلمداين منشأ اليهودي أصال‪ ،‬وله مذهب‬
‫فكري معروف ذكرته أغلب كتب التاريخ والسري والطبقات‪ ،‬وصار فيام بعد مدرسة فكرية‬
‫متميزة حتمل آراء ومعتقدات بذرت بذور الشقاق يف املجتمع اإلسالمي‪ ،‬وكانت من مجلة‬
‫العوامل التي أدت إىل مقتل أمري املؤمنني عثامن بن عفان ريض اهلل عنه وتفرق املسلمني شيعا‬
‫وش َّذ ْت َو َغ َل ْت يف األحكام وال َّتصورات واملواقف‪،‬‬
‫وأحزابا‪ ،‬والتي اخرتقت أتباع اإلمام عيل َ‬
‫دور ٌ‬
‫فاعل يف‬ ‫وأرجفت يف مسألة الوالء والرباء إرجاف ًا خطري ًا‪ ،‬حتى كان لإلمام عيل ؤ ٌ‬
‫معاقبة الغاليني وا ُمل ْف ِرطني وا ُمل ِّ‬
‫فرطني يف حمبته منهم‪ ،‬كمثل دوره الفاعل يف معاقبة وتعقب‬
‫الغالني يف عدوانه واخلروج عنه‪.‬‬
‫وهذا من فقه التحوالت لدى اإلمام ومعرفته بامتداد الفتنة وسريها عرب األزمنة‪ ،‬ومل يطل‬
‫بقتل ِه و َق ْتلِ معاوي َة وعمرو بن العاص يف يو ٍم‬
‫اخلوارج ِ‬
‫ُ‬ ‫األمر باإلمام عيل ؤ فقد حكم‬
‫ٍ‬
‫واحد‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :59‬ملّا رجع ٌ‬
‫عيل ؤ من قتال اخلوارج وجتهز للشام ُقتل يف سابع‬

‫وشدد اإلمام عيل ريض اهلل عنه عىل األعراب بعد مقتل اخلليفة عثامن وخاطب أهل املدينة بقوله‪« :‬يا أهيا الناس‬
‫أخرجوا األعراب عنكم» وقال‪« :‬يا معرش األعراب احلقوا بمياهكم» ‪ ..‬فأبت السبئية الطاعة وأطاعهم‬
‫األعراب‪ .‬اهـ «حتقيق مواقف الصحابة» (‪.)354 :1‬‬
‫إذن فاملدرسة السبئية تعمل عىل إثارة املواقف وتستفيد من األعراب والغوغائية‪ ،‬وهذا هو أيضا منهج املدرسة‬
‫الدجالية يف التاريخ املايض والتاريخ املعارص‪ ،‬وأساسها العمل عىل اإلثارة وامتالك موقع القرار أو‬
‫منازعته‪ ،‬ويف هذا يقول اإلمام عيل ريض اهلل عنه ملا بويع عىل اخلالفة وطلب منه طلحة والزبري إقامة‬
‫أصنع بقو ٍم يملكوننا وال‬
‫ُ‬ ‫لست أجهل ما تعلمون‪ ..‬ولكن كيف‬ ‫احلدود عىل قتلة عثامن‪« :‬يا إخوتاه إين ُ‬
‫ُ‬
‫نملكهم؟ هاهم هؤالء قد ثارت معهم عبدا ُنكم وثابت إليهم أعرا ُبكم‪ »..‬اهـ «حتقيق مواقف الصحابة»‬
‫(‪.)355 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪268‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عرش من رمضان وهو خارج لصالة الصبح‪َ ،‬ق َت َل ُه َأ ْش َقى اآلخرين عبدالرمحن بن ُم ِ‬
‫لجم رضبه‬
‫ٍ‬
‫بسيف مسمو ٍم ليل َة اجلمعة سنة أربعني للهجرة‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ي�ر ُم ْس�لِ ِم‬
‫ري�ق َد َم َخ ِ‬ ‫َغ�دْ ر ًا ُي ُ‬ ‫�ل ُم ِ‬
‫لج ِم‬ ‫َف َقا َم َأ ْش� َقى ال َق ْو ِم ن َْس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاص‬ ‫لم َي ُعدْ من َْها َمن ْ‬ ‫َو ْاش َت َبك ْ‬
‫َت َو ْ‬ ‫اص‬ ‫َفزَا َدت األُ ُم ُ‬
‫�ور َن ْق َض ًا َوانْت َق ْ‬

‫إشارة من الناظم إىل اختتام حلقة اخلالفة الراشدة باإلمام عيل ؤ «وانتقاض» األمور‬
‫من بعده واشتباكها‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪269‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫تَحوُّالت عَ رْص اإلمام عَ يل ؤ ومَ واقِ فه ِمنْهَ ا‬

‫‪ )1‬آثار مقتل عثامن وتبني القتلة سياسة ا ُمل َر َاو َغ ِة والدفع باألمور عىل طريق نشوء املدرسة‬
‫الدجالية يف األمة‪.‬‬
‫‪ )2‬تشبث معاوية ومن معه يف الشام بثأر عثامن ح َّتى صار َم ِط َّي ًة للفتنة وسبب ًا يف معركة‬
‫ِص ِّفينْ وما تالها‪.‬‬
‫ال إىل معركة َ‬
‫اجلمل‬ ‫‪َ )3‬ت َبنِّي عائش َة والزبـري وطلحة قضية ثأر عثامن بالعراق‪ ،‬وسبب ًا موص ً‬

‫عىل غري رضا منهم وإنام بإيعاز طرف ثالث يمثل مدرسة الدجال‪.‬‬
‫‪ )4‬انتشار ظاهرة الثراء واإلقطاعات واملخصصات املالية التي حجزت اإلمام عيل عن‬
‫إرضاء اجلميع واضطراره إىل إجياد سياسة مالية جديدة مل َ‬
‫يرض عنها الكثري‪.‬‬
‫‪ )5‬بروز فئتني معارضتني ملوقف اإلمام عيل وأهل بـيته وأتباعه بعد معركة صفني‪،‬‬
‫وهم‪:‬‬

‫غالة الشيعة‪ :‬الذين َقبِ ُل ْوا ال َّت ْح ِك َ‬


‫يم وألزموا اإلمام به‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬
‫اخلوارج‪ :‬الذين رفضوا التحكيم وخرجوا عىل اإلمام‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬
‫موقع وتأث ٍ‬
‫ري يف الواقع االجتامعي إىل اليوم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وصارت هاتان الفئتان قو ًة سياسي ًة َ‬
‫ذات‬
‫وقد قاتل اإلمام عيل اخلوارج وانترص عليهم‪ ،‬وأما الشيعة فقد انقسمت مجاعاهتم بعد ذلك‬
‫إىل أقسام متنوعة‪ ،‬وتبنى بعضهم مبادئ خمتلفة متام ًا عن مواقف اإلمام عيل وأهل بـيته وخاصة‬
‫من تأثروا باملدرسة السبئية إلاَّ من عصمه اهلل‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪270‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪271‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪272‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫احل َسن ِ‬
‫الس ْبط‬ ‫مرحلة اإلمام َ‬
‫ُ‬
‫ؤ (اخلليفة اخلامس)‬
‫«إن ابني هذا س ِّيدٌ وس ُي ِ‬
‫صل ُح اهلل به بـني فئتني من املسلمني»‪.‬‬ ‫* ‬

‫أخرجه أمحد والبخاري‬

‫* «نظر النبـي ﷺ إىل عيل وفاطمة واحلسن واحلسني ئ‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫ُ‬
‫ساملكم»‪.‬‬ ‫أنا َح ْر ٌب ملن حار َب ُكم ِ‬
‫وس ْل ٌم ملن‬
‫رواه احلاكم يف املستدرك عن أبـي هريرة‬

‫ساملت وحياربون من‬


‫ُ‬ ‫اجم العرب بـيدي يساملون من‬
‫* «كانت جمَ ُ‬
‫ابتغاء ِ‬
‫وجه اهلل»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حاربت فرتكت َُها‬
‫ُ‬
‫اإلمام احلسن بن عيل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪273‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪274‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫الف ُة اإلما ِم الحَ َس ِن وتَنَا ُز ِل ِه عَ ِن الحُ ْك ِم‬
‫خِ َ‬

‫الم ْح ِس�نَا‬ ‫ِ‬


‫َخل ْي َف ًة َي ْر ُج ْو الك َِر ْي َم ُ‬ ‫الح َس�نَا‬
‫َّ�اس اإلم�ا َم َ‬
‫اي�ع الن ُ‬
‫و َب َ‬
‫لِ َّ‬
‫لش�ا ِم ك َْي ُي ْل ِز َم ُه ْم َأ ْخ َذ ال ُع ُهو ْد‬ ‫الجنُ�و ْد‬ ‫َف َق�ا َم بِاألَ ْم ِ‬
‫�ر َو َج َّه� َز ُ‬
‫يشري الناظم إىل ما جرى بعد مقتل اإلمام عيل ؤ من االجتامع عىل تعيني اإلمام‬
‫احلسن بن عيل ؤ خليف ًة للمسلمني حتى قيل‪ :‬إن الذين اجتمعوا عىل بيعة احلسن أكثر ممن‬
‫فتم األمر عىل ذلك وكان احلسن بن عيل ريض اهلل عنهام مياال إىل السالم‬
‫اجتمع عىل بيعة أبيه‪َّ ،‬‬
‫ومعاجلة األمور باحلسنى إال أن القوم دافعوه األمر وأكثروا عليه يف أمر احلرب ضد أهل الشام‪،‬‬

‫((( ولد اإلمام احلسن السبط يوم الثالثاء مخسة عرش من رمضان يف السنة الثالثة للهجرة‪ ،‬ويكنى «أبا حممد»‪،‬‬
‫ويلقب «بالتقي»‪ ،‬حفظ عن جده مجلة من األحاديث وعن أبـيه وعن أمه‪ ،‬وكان احلسن أشبه الناس‬
‫برسول اهلل ﷺ‪ ،‬فعن أنس ؤ قال‪ :‬أشبههم بالنبـي ﷺ احلسن بن عيل ؤ‪ ،‬وقال النبـي ﷺ‬
‫للحسن‪« :‬اللهم إين أحبه فأحبه وأحب من حيبه» رواه الرتمذي‪ ،‬ولقد َح َّج احلسن مخس ًا وعرشين حجة‬
‫ماشي ًا عىل قدميه‪ ،‬وكان حكي ًام كري ًام صبور ًا‪ ،‬تويف خلمس خلون من ربـيع األول سنة ‪ 50‬للهجرة النبوية‬
‫وقيل سنة ‪ 52‬هـ ودفن يف البقيع‪.‬‬
‫والعجيب أن املؤرخني مل يعتربوا اإلمام احلسن خليف ًة ُيعدّ بعد اخللفاء األربعة وإنام اعتربوا اخلليفة اخلامس‬
‫احلسن هو اخلليفة اخلامس‪ ،‬وأنه تنازل عن احلكم‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلمام‬
‫َ‬ ‫عمر بن عبدالعزيز‪ ،‬واملعت َقد ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن‬
‫كانت مرحل ًة رشعية ًوموثق ًة بالنص بالنبوي‪ ،‬وهي ٌ‬
‫جزء من جمريات فقه‬ ‫ْ‬ ‫فاملرحلة التي كان حيكم فيها‬
‫هام يف طريق القرار الرشعي يف اإلسالم‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫مفرتق ٌّ‬ ‫التحوالت يف املرحلة‪ ،‬بل هي‬
‫واخلليفة السادس من هذه الوجهة هو عمر بن عبدالعزيز ريض اهلل عنه وعنهم أمجعني‪ ،‬ومل َي ْث ُب ْت أن أحد ًا من‬
‫ال عددي ًا يف اخللفاء الراشدين‪ ،‬وإنام كانت خالفتُه بموافقة‬ ‫العلامء واملؤرخني َعدَّ خالف َة معاوي َة تسلس ً‬
‫احلسن بالتنازل‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلمام‬
‫َ‬ ‫خاصة َأ ْلزَ َم ِ‬
‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وظروف‬ ‫ٍ‬
‫مالبسات‬ ‫األمر من‬
‫َ‬ ‫شاب‬
‫َ‬ ‫اإلمام احلسن ورضاه لمِ َا‬
‫الهتبال املوقف كام سبق اهتبا ُله يف التحكيم بينه وبني اإلمام عيل ريض اهلل عنه يف معركة‬
‫ِ‬ ‫ودفعت معاوية‬
‫ْ‬
‫ص ّفني ولكن بصورة أخرى‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪275‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فخرج هبم إىل املدائن بعد خالفته بثامنية أشهر تقريبا‪ ،‬وكان اجليش من لفيف الناس واألعراب‪،‬‬
‫والتقى اجليشان بناحية األنبار من أرض السواد‪.‬‬
‫وراجع اإلمام احلسن أهل الشام وعىل رأسهم معاوية ومن معه درء ًا للفتنة وحقن الدماء‪،‬‬
‫فام وجد من اجلانبني إال الرغبة يف القتال‪ ،‬ورأى احلسن ريض اهلل عنه يف أصحابه تفككا حتى‬
‫قيل‪ :‬إنه صاح صائح هبم أن قيس بن سعد بن عبادة قتل وكان قائد جيش اإلمام احلسن‪ ،‬فهرج‬
‫القوم وماجوا وأخذ ينهب بعضهم بعضا حتى نازعوا احلسن ريض اهلل عنه يف فراشه الذي كان‬
‫عليه وجرحه أحدهم بسالحه‪.‬‬
‫ورأى احلسن بعد هذا األمر وما سبقه أن يقبل الصلح ويويل احلكم إىل معاوية برشوطه‪،‬‬
‫فأرسل إىل معاوية يفاوضه األمر‪ ،‬ف َقبِل معاوية وأرسل إليه أن اطلب ما شئت واشرتط فإين‬
‫وخت ََم يف أسفله‪ ،‬فاشرتط احلسن عىل معاوية ما ييل‪:‬‬ ‫وأرس َل َبـ َي َ‬
‫اض ًا َ‬ ‫َ‬ ‫أويف لك بذلك‬
‫‪ )1‬أن يكون بـيت مال الكوفة حتت ترصفه‪.‬‬
‫‪ )2‬أن يكون له خراج دار أبـي جرد‪.‬‬
‫‪ )3‬أن تكون اخلالفة بعد معاوية له وألخيه احلسني‪ ،‬ويف رواية‪ :‬أن تكون للمسلمني يولوا‬
‫من شاؤوا‪.‬‬
‫‪ )4‬أن ال يتعرض معاوية ألهل العراق وال ينتقم منهم‪.‬‬
‫الصلح والتوقيع عىل ذلك وقام احلسن بن عيل خطيب ًا فحمد اهلل وأثنى عليه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫فت ََّم ُّ‬
‫وح َق َن ِد َم َاء ُكم بِ ِ‬
‫آخ ِرنا‪ ،‬وإِنَّ معاوية نازعني أمر ًا أنا ُّ‬
‫أحق به منه‪،‬‬ ‫بأولِنَا َ‬ ‫«أيهُّ ا الناس إن َ‬
‫اهلل هَ داكم َّ‬
‫وط َلب ًا ملا عند اهلل» (((‪.‬‬ ‫وإين تركته َح ْقن ًا لدماء املسلمني َ‬
‫وجاء يف «البداية والنهاية » أنه قال‪َّ :‬‬
‫إن اهلل هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا‬
‫وان هلذا األمر ُمدة والدنيا ُد َو ل‪ ،‬فإن اهلل تعاىل قال لنبيه ﷺ‪( :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬

‫(( ( «اإلشاعة» ص‪.91‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪276‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) ‪ ،‬ومل َيسرُ َّ هذا معاوي َة ومل يزل يف نفسه‪.‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬وحصل عىل بيعة معاوية عامئذ االجتامع واالتفاق‪ ،‬فرحل‬
‫احلسن بن عيل ومعه أخوه احلسني وبقية إخوهتم وابن عمهم عبد اهلل بن جعفر من‬
‫أرض العراق إىل أرض املدينة النبوية ‪ -‬عىل ساكنها أفضل الصالة والسالم‪ ،-‬وجعل‬
‫بحي من شيعتهم يبكتونه عىل ما صنع من نزوله عن األمر ملعاوية‪ ،‬وهو يف‬ ‫ٍّ‬ ‫كلام َم َّر‬
‫ذلك البار الراشد املمدوح‪ ،‬وليس جيد يف صدره حرج ًا وال َت َل ُّو م ًا وال ندم ًا ؛ بل هو‬
‫مستبرش به‪ ،‬وإن كان قد ساء هذا خلق ًا من ذويه وأهله وشيعتهم‪ ،‬وال‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫راض بذلك‬
‫وه ُل َّم َج َّر ًا إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫سيام بعد ذلك بمدد َ‬
‫ومدح ُه فيام َح َق َن به دما َء األمة‪ ،‬كام َمدَ َح ُه عىل ذلك‬
‫ُ‬ ‫واحلق يف ذلك ا ِّت ُ‬
‫باع السنة‬ ‫ُّ‬
‫عار املؤمنني‪ ،‬قال ‪ :‬فيقول هلم‪:‬‬
‫رسول اهلل ﷺ وكان أصحاب احلسن يقولون ‪ :‬يا َ‬
‫العار خري من النار ‪.‬‬
‫وقال له رجل يقال له أبو عامر‪ :‬السالم عليك يا َ‬
‫مذل املؤمنني‪ ،‬فقال‪ :‬ال َت ُق ْل هذا‬
‫وسميت‬ ‫كرهت َأ ْن أقتلهم عىل امللك (((‪ .‬اهـ‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫يا عامر ! َل ُ‬
‫ست بمذل املؤمنني ولكنِّي‬
‫تلك السنة « سن َة َ‬
‫اجلامعة » الجتامع الناس ورفع القتال‪ ،‬وحتقق لإلمام احلسن ما قاله‬
‫فيه جده ﷺ‪ « :‬إن ابني هذا س ِّيدٌ ‪ ،‬وسيصلح اهلل بـني فئتني من املسلمني يكون بـينهام‬
‫مقتلة عظيمة » (((‪.‬‬

‫((( قلت‪ :‬ويف هذه العبارة من اإلمام احلسن إشارة إىل عدم اهتاممه بمسألة امللك كمطلب أسايس إذا اختُلف‬
‫ِ‬
‫اخللفاء الراشدين املهديني‬ ‫وعي‬ ‫ِ‬
‫املالحظ ُ‬ ‫وعرضت دماء املسلمني لإلهدار واإلسالة‪ ،‬كام أنه من‬ ‫عليه ّ‬
‫خري ِمن َس ْفك الدماء‬ ‫ِ‬
‫ومحلة مرياث االقتداء واالهتداء بأن التضحية باحلكم وقرار ا ُمللك ٌ‬ ‫ِ‬
‫رجال السالمة‬
‫يف سبيله مع وجود البديل األفضل‪ :‬وهو رضاء اهلل‪ ،‬والقيام بحق العلم‪ ،‬وخدمة الشعوب‪.‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪277‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وصية اإلمام احلسن بن عيل ألخيه احلسني عند موته‬

‫جاء يف «تاريخ اخلميس» ص‪ :293‬روينا من عدة وجوه أن احلسن ملا حرضته الوفاة قال‬
‫للحسني أخيه‪ :‬يا أخي‪ ،‬إن أباك حني قبض رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم استرشف هلذا‬
‫األمر رجاء أن يكون صاحبه فرصفه اهلل عنه ووليها أبوبكر‪ ،‬فلام حرضت أبابكر الوفاة ترشف‬
‫هلا أيضا فرصفت عنه إىل عمر‪ ،‬فلام قبض عمر جعلها شورى بني ستة هو أحدهم فلم يشك أهنا‬
‫ال تعدوه‪ ،‬فرصفت عنه إىل عثامن فلام هلك عثامن بويع له ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها فام‬
‫صفا له يشء منها‪ ،‬وإين واهلل ما أرى أن جيمع اهلل فينا أهل البيت النبوة واخلالفة‪ ،‬فال أعرف ّنك‬
‫ما استخفك من سفهاء أهل الكوفة فأخرجوك‪.‬اهـ ‪ .‬وللوصية بقية متعلقة برغبته يف أن يدفن‬
‫يف بيت عائشة تراجع يف املصدر ذاته‪.‬‬
‫ويف هذه الوصية خالصة (منهج السالمة آلل البيت ريض اهلل عنهم وأرضاهم) وهو املنهج‬
‫السديد الذي جاء عىل لسان من مدحه جده صىل اهلل عليه وآله وسلم بالسيادة وباإلصالح بني‬
‫املتصارعني عىل القرار واحلكم‪،‬وإذا طعن أحدهم يف الوصية فلن يطعن يف موقف احلسن وما‬
‫ترتب عليه من اجتامع ووئام وحقن دماء‪ ،‬وإعادة حياة إىل الشعوب‪.‬‬
‫وكأين بفقه التحوالت يقف رافدا لسلوك ومواقف آل البيت‪ ،‬تلكم املواقف املنتسبة بالسند‬
‫املتصل إىل رسول اهلل ﷺ ذاته‪ ،‬ويلخص هذا الفقه اهلام سلوك هذه املدرسة إىل ما ييل‪:‬‬
‫‪ .1‬إن التجربة العملية منذ عهد صدر اإلسالم إىل عهد مواقف اإلمام عيل زين‬
‫العابدين بن احلسني ترسم آلل البيت منهجا عمليا جديدا‪ ،‬جيب فيه رصف النظر‬
‫عن مسألة ملطالبة بالقرار واحلكم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪278‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪ .2‬أال يكون هؤالء السادة األرشاف وسيلة الستخفاف السفهاء من املتعلقني‬
‫واملحبني الذين يدفعون باألئمة للقرار ثم جيري عىل أيدهيم خذالهنم ويكون‬
‫األرشاف هم الضحية‪.‬‬
‫‪ .3‬أن حيافظ آل البيت عىل رشف النبوة ويلتزمون القدوة فيه وال يطالبون بالقرار‬
‫واخلالفة وال يقاتلون يف سبيلها حقنا للدماء وإقامة للحجة عىل من يتشبث بالقرار‬
‫عىل حساهبم‪.‬‬
‫‪ .4‬إن ما ترتب من مواقف الحقة حتت ما يسمى بمذهب آل البيت إنام هو مذهب‬
‫علمي فقهي للتعبد ورشائع األحكام‪ ،‬مثله مثل املذاهب الفقهية املتعددة‪ ،‬وله‬
‫مميزاته اخلاصة يف االجتهاد ‪ ،‬أما ما يتعلق باملواقف والقرار واخلالفة واملطالبة هبا‬
‫فقد قرر األمر فيها صدور آل البيت كاإلمام عيل واحلسن واحلسني وعيل زين‬
‫العابدين‪.‬‬
‫وما طرأ لدى بعض آل البيت الكرام بعد ذلك من عودة للمطالبة بالقرار إنام‬
‫كان ما بني االجتهاد القائم عىل قراءة األحداث وجمرياهتا وعىل فطرة الشجاعة‬
‫ورفض الذل واملهانة‪ ،‬أو بني ما تبنته بعض الفئات املتخذة من املطالبة وسيلة‬
‫للبلوغ إىل املآرب وسببا يف املكاسب بحجة أو بغري حق راجية الرغبة يف امتالك‬
‫القرار ومنازعة املنافسني هلم كمنازعة القبائل أشباهها وأمثاهلا عىل مسألة التشفي‬
‫ودماء الثأر لألسف‪.‬‬
‫وهذا ما تفرسه مواقف الثائرين باسم آل البيت يف املراحل املتقلبة إىل اليوم‪،‬‬
‫حتى اضطر بعضهم رغبة يف الوصول إىل احلكم إىل االنخراط يف األحزاب‬
‫واجلامعات والتكتل‪ ،‬وال يعدو هذا الفعل إذا نسب ملن يقتدى به منهم أنه اجتهاد‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪279‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ض مدرس َة آل البيت كلها إىل اخلطر واالنتحار‪ ،‬و ُت ْف ِسدُ‬
‫ذايت وحماولة فردية‪ُ ،‬ت َع ِّر ُ‬
‫وظيف َة األبوة الرشعية يف بناء الشعوب عىل احلكمة واملوعظة احلسنة وهتيئة‬
‫أسباب االستقرار‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪280‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫(((‬
‫مَ وْقِ ُف اإلما ِم الحُ سني ِب ْن عَ يل ٍّ ؤ‬
‫لج َها ْد‬‫اع َق ُاموا لِ ِ‬ ‫َّلما َر َأى ْ‬
‫األش� َي َ‬ ‫اجتِ َها ْد‬
‫ف ْ‬‫�ين َم ْو ِق َ‬ ‫َواتَّخَ َذ ُ‬
‫الح َس ُ‬
‫ي�م األَ ْم َ�را‬ ‫ِ‬ ‫�و ُه فِ�ي الخُ ُ�ر ْوجِ ِس َّ�را‬
‫َ�ي ُيق َ‬ ‫َو َبا َي ُع�و ُه ك ْ‬ ‫َوكَا َت ُب ْ‬
‫الم ِس ِ‬
‫�ير َي ْت َب َع� ْه‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْ ِ‬
‫�ن آل َط� َه ف�ي َ‬ ‫َان َم َع� ْه‬
‫�ن ك َ‬‫َف َج َّ�ر َد ال َع� ْز َم َو َم ْ‬
‫ِ‬
‫الصحاب�ة‬ ‫رأي م�ن‬ ‫ِ‬ ‫الخروج ُ‬ ‫َ‬
‫وم�ن له�م ٌ‬ ‫العترة‬ ‫بعض‬ ‫َ‬ ‫واعترض‬
‫ال يرتقي لمس�توى ِ‬
‫بذل الحيا ْة‬ ‫�ن َد َع�اه‬ ‫وأ ْخ َب ُ�ر ْو ُه َأ َّن ُح َّ‬
‫�ب َم ْ‬ ‫َ‬

‫بيقي�ن‬ ‫ري�ب في�ه‬ ‫ألَ َج ٍ‬


‫�ل ال‬ ‫سين‬ ‫َلكن َأمر ِ‬
‫الله َقدْ َس َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الح ْ‬
‫�اق ُ‬ ‫َّ ْ َ‬

‫(( ( ولد اإلمام احلسني بن عيل ريض اهلل عنهام باملدينة املنورة خلمس خلون من شعبان السنة الرابعة بعد‬
‫اهلجرة‪ ،‬وملا أخرب به ﷺ جاء وأذن يف أذنه اليمنى وأقام يف أذنه اليرسى‪ ،‬وسامه حسين ًا‪َ ،‬‬
‫وعقَّ عنه بكبش‪،‬‬
‫وقال ألمه‪« :‬احلقي رأسه وتصدقي بوزنه فضة وافعيل به كام فعل بأخيه احلسن»‪ ،‬كنيته «أبوعبداهلل»‪ ،‬وله‬
‫ألقاب كثرية‪ ،‬منها‪( :‬الرشيد‪ ،‬والويف‪ ،‬والسيد‪ ،‬والذكي‪ ،‬واملبارك )‪ ،‬وفيه ويف أخيه احلسن ريض اهلل عنهام‬
‫قال ﷺ‪« :‬إهنام سيدا شباب أهل اجلنة»‪ ،‬وقال يف احلسني‪« :‬حسنيٌ مني وأنا من حسني‪ ،‬أحب اهلل من أحب‬
‫حسين ًا‪ ،‬حسني سبط من األسباط» رواه الرتمذي وابن ماجه‪.‬‬
‫كان يف شبابه مقدام ًا شجاع ًا‪ ،‬وكان أحد حراس عثامن أيام حصاره‪ ،‬شارك هو وأخوه احلسن يف معارك مجة مع‬
‫أبـيهام اإلمام عيل كرم اهلل وجهه وريض اهلل عنهم‪ ،‬كان كري ًام مضياف ًا رحي ًام‪ ،‬حتىل بمجموع فضائل اخلري‪،‬‬
‫قال فيه ﷺ خمرب ًا عن استشهاده‪« :‬إن ابني يقتل بأرض يقال هلا‪ :‬كربال‪ ،‬فمن شهد ذلك فلينرصه» «اإلصابة»‬
‫(‪.)199 :8‬‬
‫وعن أم سلمة ريض اهلل عنها قالت‪ :‬ناولني رسول اهلل ﷺ كف ًا من تراب أمحر‪ ،‬وقال‪« :‬هذه من تربة األرض‬
‫التي يقتل هبا ابني‪-‬يعني احلسني‪ -‬فإن صار دم ًا فاعلمي أنه قتل»‪ ،‬وكان مقتله يوم عاشوراء سنة ‪61‬‬
‫للهجرة النبوية بكربالء رمحه اهلل رمحة األبرار‪ .‬اهـ باختصار عن «قرة كل عني» للكابيل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪281‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فِيما َق َضى س�بحا َنه رب ِ‬
‫الع َبا ْد‬ ‫الم َ�را ْد‬ ‫ِ‬ ‫َف�ك َ‬
‫ُ ْ َ ُ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َان َولل�ه ُ‬
‫َان َم�ا ك َ‬

‫حرض اإلمام احلسني ؤ قتل والده اإلمام عيل وعمل من بعده بوصيته التي قال فيها‪:‬‬
‫«يا بني عبد املطلب ال ختوضوا دماء املسلمني خوض ًا تقولون‪ُ ( :‬قتل أمري املؤمنني)‪ ..‬أال ال َت ْق ُت ُل َّن‬
‫يب إل قاتيل‪ ،‬انظروا إذا أنا ُم ُّت من رضبته هذه فارضبوه رضب ًة‪ ،‬وال مت ِّث ُلوا به فإين سمعت ﷺ‬
‫يقول‪« :‬إياكم واملثلة ولو بالكلب العقور»» ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وويل احلسن بن عيل ؤ اخلالفة ورأى من مواقف القوم وموقف األضداد ما جعله‬
‫حساب ح ِّق ِه يف احلكم بعد البيعة‪ ،‬ألن ِ‬
‫موق َف ُه يعترب‬ ‫ِ‬ ‫يتخذ القرار األخري لنرش السالم ولو عىل‬
‫َم ِ‬
‫وق َ‬
‫ف الوسطية الرشعية واالعتدال الواعي بني طريف اإلفراط والتفريط ‪.‬‬
‫وقد شهد احلسني هذه املواقف وعارصها معارصة واعية‪ ،‬وأدرك أمهية قرار أخيه احلسن‬
‫وما اتفق عليه مع معاوية من رشوط الصلح‪.‬‬
‫ال خطري ًا يف الاِ ِّت ِ‬
‫فاق‪ ،‬وخاصة َّ‬
‫أن موت‬ ‫حتو ً‬
‫وملا مات احلسن بن عيل ؤ شهد احلسني ؤ ُّ‬
‫آخر من قريش عىل‬ ‫ٌ‬
‫ورجل َ‬ ‫دخلت أنا‬
‫ُ‬ ‫بالس ِّم َمدْ ُسوس ًا عليه‪ ،‬قال عمري بن إسحاق‪:‬‬
‫احلسن كان ُّ‬
‫الس ْو ِق‬
‫الس َّم مرار ًا وما سقيت مرة هي أشدّ من هذه‪ ،‬وقد أخذ يف َّ‬
‫قيت ُّ‬
‫احلسن بن عيل‪ ،‬فقال‪ :‬قد ُس ُ‬
‫أي أخي من صاحبك؟» قال تريد قت َل ُه!! قال‪:‬‬
‫ـز ِع) فجاء احلسني حتى قعد عند رأسه‪ ،‬وقال‪ُّ « :‬‬
‫(ال َّن ْ‬
‫نعم‪ ،‬قال‪« :‬فإن كان صاحبي الذي أظن فاهلل أشدُّ نقمة»‪ ..‬ويف رواية عند ابن كثري يف «البداية والنهاية»‬
‫‪« :‬اهلل أشد بأس ًا وأشد تنكي ً‬
‫ال‪ ،‬وإن مل يكن‪ ...‬ما أحب أن تقتل يب برئي ًا»‪.‬‬
‫ِ‬
‫وفاة احلسن‬ ‫ريات ُ‬
‫األ ُمور التي طرأت ُب َعيدَ‬ ‫ِ‬ ‫ونستفيد من مفهومنا من فقه التحوالت َّ‬
‫أن مجُ‬
‫ؤ أكسبت احلسنيَ ريض اهلل عنه موقف ًا جديد ًا‪ ،‬ومنها ‪:‬‬
‫عدم موا َفقتِ ِه عىل بيعة يزيد وبقي متمسكا بذلك ومعه عبداهلل بن عمر وعبدالرمحن‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬‬
‫بن أيب بكر وعبد اهلل بن الزبري وغريهم‪ ،‬أي‪ :‬إهنم قبلوا ما قبله اإلمام احلسن وما اتفق عليه‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪282‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مع معاوية؛ ولكنهم مل يقبلوا ما ترتب عىل بيعة يزيد واختذوا من ذلك موقف ًا رشعي ًا ملخالفة‬
‫ذلك ما اتفق عليه احلسن مع معاوية يف رشوط الصلح‪ ،‬ومات معاوية إثر ذلك يف رجب سنة‬
‫ستني‪ ،‬وأفضت اخلالفة إىل يزيد‪ ،‬وأرسل إىل احلسني وابن الزبري ليبايعا فهربا ليال إىل مكة‬
‫ومن مكة عقد العزم عىل اخلروج إىل الكوفة كام سيأيت‪.‬‬
‫أهل العراق يف عنقه بيعتَهم وأرسلوا إليه مئة ومخسني كتاب ًا يدعونه إليهم‬
‫َو َض َع ُ‬ ‫‪ -‬‬
‫فاض َط َّر أن يبعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أيب طالب وأرسل معه كتاب ًا وبويع له‬
‫ْ‬
‫بالكوفة فكتب مسلم بن عقيل إىل احلسني ليقدم‪ ،‬وجتهز احلسني ‪-‬بنا ًء عىل ذلك‪ -‬بينام َعزَ َل‬
‫األشياع حو َل ُه حتى تركوه وحده‪ ،‬ثم ُقبِ َ‬
‫ض‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وختاذل‬ ‫مسلم بن عقيل‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الكوفة وقا َت َل‬ ‫ري‬
‫يزيد أم َ‬
‫عليه و ُقتل‪ ،‬و ُقبيل قتله أرسل إىل احلسني رسو ً‬
‫ال يقول له‪( :‬ارجع بأهلك واليغرنك ُ‬
‫أهل‬
‫أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فرا َق ُهم باملوت أو القتل‪ ،‬إذ أهل الكوفة قد‬
‫ُ‬ ‫الكوفة فإهنم‬
‫ُ‬
‫الرسول احلسنيَ بمكان يسمى‬ ‫كذبوك وكذبوين وليس لكاذب رأي)‪ .‬قال الراوي‪ :‬ولقي‬
‫كل أم ٍر َح َّم ٌ‬
‫نازل‬ ‫(ز َبا َلة) ألربع ليال من الكوفة فأخربه اخلرب وأبلغه الرسالة‪ ،‬فقال ؤ‪ُّ « :‬‬
‫ُ‬
‫عند اهلل‪َ ..‬ن ْحت َِس ُب َأن ُْف َسنا و َف َسا َد َأئِ َّمتِنا‪ »..‬اهـ(((‪.‬‬
‫جاء يف «أسد الغابة» ‪ :‬وامتنع مع احلسني عن بيعة يزيد عبداهلل بن عمر وعبداهلل بن الزبري‬
‫وعبدالرمحن بن أيب بكر‪ ،‬وملا تويف معاوية مل يبايع احلسني أيضا وسار من املدينة إىل مكة فأتاه‬
‫كتاب أهل الكوفة وهو بمكة ومنها جتهز للمسري يف سبعني فارسا من أهل بيته وغريهم‪،‬‬
‫والتقى مع جيش يزيد يف كربالء وسأل احلسني عن املكان فأخربه فقال‪« :‬صدق رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وآله وسلم‪« :‬أرض كرب وبالء»» ‪ ،‬فجرى من أمر اهلل فيها ما كان وإنا هلل وإنا‬
‫إليه راجعون‪.‬‬

‫((( نفس املصدر‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪283‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الصحَ ابة من ُخ ِ‬
‫روج اإلمام الحُ سني بن عيل ٍّ‬ ‫مَ وقِف بعض َّ‬
‫ؤ‬

‫كان كثري من الصحابة وأولو الرأي ير ُق ُب َ‬


‫ون األمر من خالل شواهد األحداث والتغريات‪،‬‬
‫وهلذا فقد أشار العديد منهم برأيه حول خمرج اإلمام احلسني وطلبوا منه عدم الرحيل حتى قال‬
‫له عبد اهلل بن العباس(((‪ ( :‬إن أهل العراق قوم غدر فال تغرت ََّّن هبم‪َ ،‬أ ِق ْم يف هذا البلد حتى ينفي‬

‫((( ولد قبل حادثة الفيل بثالث سنني‪ ،‬وهو أكرب من النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم بسنتني‪ ،‬وكنيته أبوالفضل‪،‬‬
‫عرف بلطفه وأدبه‪ ،‬قال له ابن عمر‪ :‬أنت أكرب أم النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم؟ قال‪ :‬هو أكرب مني وأنا‬
‫ولدت قبله‪.‬‬
‫وكانت أخالقه عالية وعرف بالكرم واجلود وصلة األرحام‪ ،‬قدمته قريش وأسندت إليه عامرة املسجد احلرام‪،‬‬
‫ثم أسندت إليه السقاية ‪ ،‬فغدا بذلك مقدما يف قريش كلها‪.‬‬
‫أبوه عبداملطلب‪ ،‬واسمه (شيبة احلمد)‪ ،‬سمي بذلك ألنه ولد يف رأسه شيبة واحدة‪ ،‬آزر رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم بمكة قبل أن يسلم‪ ،‬وشهد معه ليلة العقبة الثانية‪ ،‬وأخذ عىل األنصار العهد يف نرصهتم‬
‫للنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬ويف ليلة اإلرساء افتقده العباس فخرج يبحث عنه حتى وصل إىل ذي‬
‫طوى والنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم يف طريق عودته‪ ،‬فكان ينادي‪ :‬يا حممد يا حممد‪ ..‬فأجابه صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن أخي َأ ْع َي ْي َت قو َمك منذ الليلة فأين أنت؟ فقال صىل اهلل عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫س» ‪ ،‬فقال العباس‪ :‬يف ليلتك؟ قال‪« :‬نعم» ‪ ،‬فقال العباس‪ :‬هل أصابك إال خري؟ فقال‪:‬‬ ‫بيت املَ ْق ِد ِ‬
‫«أتيت َ‬
‫ُ‬
‫خري» ‪.‬‬
‫«ما أصابني إال ٌ‬
‫وخرج العباس مكرها إىل بدر مع قريش‪ ،‬ووقع أسريا يف يد املسلمني فافتدى نفسه بمئة أوقية من ذهب‪ ،‬وقد‬
‫أحس رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم قلقا ليلة أرسه ومل ينم‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ..‬ما لك ال تنام؟‬
‫فس َك َت فنام رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ثاقه» فأطلقوه َ‬ ‫«سمعت َأنِ َ‬
‫ني عَ ّمي يف َو ِ‬ ‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬
‫وعاد العباس إىل مكة وكتم إسالمه ثم أقبل مهاجرا إىل املدينة سنة الفتح فاستقبل النبي باألبواء وكان معه‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪284‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أهل العراق عدوهم ثم اقدُ ْم عليهم) َف َر َّد احلسني‪« :‬يا بن عم واهلل إين ألعلم أنك ناصح شفيق‬
‫ولك ّني قد أز َم ْع ُت املسري» فقال‪( :‬فإن كنت سائر ًا َفلاَ َتسرْ ِ بِ َأ ْو ِ‬
‫الدك ونسائك فواهلل إين خلائف‬
‫عثامن ونساؤه وولدُ ُه ينظرون إليه) ‪ ،‬وهناه عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وملا رأى موقفه يف‬ ‫ُ‬ ‫َأن ُتقت ََل َكماَ ُقتِل‬
‫املسري اعتنقه وبكى‪ ،‬وقال‪( :‬أستودعك اهلل من قتيل)‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ‪ :‬انتقل احلسني من املدينة إىل املنورة هرب ًا أيضا من بيعة يزيد ملا مات‬
‫معاوية‪ ،‬وبويع يزيد بالشام وغريها‪ ،‬وانتقل احلسني من املدينة إىل مكة هرب ًا من بـيعة يزيد‬
‫فأرسل إليه أهل الكوفة أن اقدم إلينا نبايعك‪ ،‬فنهاه ابن عباس وذكر له مواقفهم‪ ،‬ثم أمره إذا‬
‫أرص عىل الرحيل أن ال يرحل بأهله فأبى فبكى ابن عباس‪ ،‬وقال‪ :‬واحسيناه‪ ،‬وقال له ابن عمر‬
‫نحو ذلك‪ ،‬ثم َّقبله بـني عينيه‪ ،‬وقال‪ :‬أستودعك اهلل من شهيد‪ ،‬أو قال‪ :‬أستودعك من قتيل‪.‬‬
‫وكذلك هناه ابن الزبـري‪ ،‬ومل يبقَ أحد بمكة إلاَّ وحزن ملسريه‪ ،‬وأخذ البـيعة للحسني بالكوفة‬

‫مسلم بن عقيل وبايعه هبا اثنا عرش ألف ًا‪ ،‬فأرسل إليه زياد بن أبـيه من يقتله بالكوفة‪َّ ،‬‬
‫وتفرق عنه‬ ‫ُ‬
‫املبايعون وسار احلسني ؤ غري عامل بذلك فلقي الفرزدق فسأله‪ ،‬فقال‪ :‬قلوب الناس معك‬
‫وسيوفهم مع بني أمية‪ ،‬والقضاء ينـزل من السامء‪.‬‬
‫ويف كربالء جهز إليه ابن زياد عرشين ألف مقاتل فقاتلوه مع أهل بـيته ومن معه حتى ُقتل‬
‫احلسن‪ ،‬ومن أوالد جعفر وعقيل تسعة عرش‬
‫ُ‬ ‫ؤ‪ ،‬و ُقتل معه من إخوانه وبنيه وبني أخيه‬

‫العباس فقد آذاين‪ ،‬وإنام عَ ُّم الرجلِ ِص ْن ُو‬


‫َ‬ ‫يف فتح مكة وكان يقول صىل اهلل عليه وآله وسلم فيه‪« :‬من آذى‬
‫الع ّباس» ‪ ،‬قاهلا ثالثا‪ .‬وملا قحط الناس عىل عهد‬ ‫وو َلدَ َ‬
‫اس َ‬ ‫«اللهم ا ْنصرُ ِ َ‬
‫الع ّب َ‬ ‫َّ‬ ‫أبيه» ‪ ،‬وقال له يف فتح مكة‪:‬‬
‫فسقوا‪ ،‬وملا رحل للشام اصطحبه‬
‫أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب توسل عمر بالعباس وتربك به للسقيا ُ‬
‫ني ماسك ًا بزمام بغلته حني فر الناس‪ ،‬وكان معه يوم‬
‫معه‪ .‬وكان مع النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم يوم حن ٍ‬
‫تبوك‪ ،‬وملا تويف صىل عليه عثامن ريض اهلل عنه ُ‬
‫وشيع يف جنازة عظيمة وذلك يوم اجلمعة الثنتي عرشة ليلة‬
‫خلت من رجب عام ‪ ٣٢‬هـ قبيل مقتل عثامن بسنتني‪ ،‬ودفن يف البقيع رمحه اهلل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪285‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رج ً‬
‫ال(((‪.‬‬
‫وكان ﷺ يف حياته قد وصف هذه التحوالت وما جيري خالهلا من مواقف‪ ،‬وتعددت‬
‫األحاديث يف هذا الباب ما بـني الصحيح والضعيف‪ ،‬وكلها تشري إىل تغري ُس َّن ِة احلكم يف هذه‬
‫املرحلة‪ ،‬وال َّ‬
‫شك أنه هبذا التغري يرسي التغري إىل العلم‪ ،‬وكأ ِّنـي برسول اهلل ﷺ وقد عاش‬
‫هذا التحول‪ ،‬فعن أبـي العالية عن أبـي ذر ؤ مرفوع ًا‪« :‬أول رجلٍ يغري س ُّنتي رجل من‬
‫أمر أ َّمتي َقائ ًام‬
‫بني فالن» يعني بني أمية‪ ،‬وأخرج أبو يعىل عن أبـي عبـيده مرفوع ًا‪« :‬ال يزال ُ‬
‫(((‬

‫رجل من بني ُأمية ُيقال له‪َ :‬يزيد»(((‪.‬‬


‫بالقسط حتى يكون َّأو ُل من يثلمه ٌ‬

‫استباحةجيشيزيداملدين َةبعدموقعةاحلرةالشهريةالتيوردت‬
‫ُ‬ ‫ومنحتوالتهذهاملرحلةوتداعياهتا‬
‫يف العديد من كتب السري والتاريخ‪ ،‬حتى جالت فيها اخليول بمسجد رسول اهلل ﷺ وتعطل املسجد‬
‫الرشيف ثالثة أيام‪ ،‬ثم ُحوصرِ َ ت مكة الرشيفة أربع ًة وستني يوم ًا‪ ،‬ورمي البـيت باملنجنيق‪ ،‬واحرتقت‬
‫أستارالكعبة‪،‬ثماحرتقباقيمافيها‪،‬وماتيزيدبعدهذهاملوقعةبثالثةأشهر(((‪.‬‬
‫وبويع بعده ملعاوية بن يزيد وكان رج ً‬
‫ال صاحل ًا وحمب ًا آلل البـيت خالف ًا ألبـيه‪ ،‬ومل تدم به‬
‫ال يف ِ‬
‫آخر خطبة‪« :‬شأنكم وأمركم‪ُ ،‬‬
‫فخذوه ومن‬ ‫خالفته بل صعد املنرب َو َخ َل َع نفسه عنها‪ ،‬قائ ً‬

‫لعت بـيعتي من أعناقكم والسالم»(((‪.‬‬


‫وخ ُ‬‫رضيتم به عليكم فولوه‪َ ،‬‬
‫يرق هلم موقفه وأخذوه ودفنوه حي ًا وعمره ثالث وعرشون سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬أقل‬
‫ولكن قومه مل ْ‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.70‬‬


‫((( رواه ابن عساكر عن ابن العالية‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.71‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.74‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪ ،75‬ويف رواية أخرى‪ :‬أنه لزم بيته فأمل به مرض فكان سبب وفاته‪ ،‬وقبل أن يفارق‬
‫احلياة أوىص الضحاك بن قيس أن يصيل بالناس حتى يقوم هلم خليفة‪« .‬أعالم أهل البيت» ص‪.14‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪286‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من ذلك‪ ،‬و ُبويع ابن الزبـري بعد معاوية بن يزيد‪ ،‬وانتظم حكم احلجاز واليمن ومرص والعراق‬
‫والشام‪ ،‬ومل يتخلف عن بـيعته إلاَّ بنو أمية ومن شايعهم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪287‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بروز مدرسة النمط األوسط وأهمية ذلك في فقه التحوالت‬
‫الخيان ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِك َْر َبَل�اَ ِء ال َبغ ِ‬ ‫�ال األُ َّم ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ�ة‬ ‫ْ�ي َو َ‬ ‫�ن َب ْعد َم�ا ُأص َ‬
‫يب َح ُ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السَل�اَ ِم َو ْه َو َف ْر ُض َع ْي ِن‬
‫ق ْس� ِم َّ‬ ‫�م ْي ِن‬ ‫�م األَ ْم ُ�ر إِ َل ٰ‬
‫�ى ق ْس َ‬ ‫َت َق َّس َ‬
‫�ن‬‫َط ِري َق� ًة َو َمن َْه ًج�ا لِلز ََّم ِ‬ ‫الح َس ِن‬ ‫َم ْن َأ َخ ُذوا ُص ْل َح ا ِ‬
‫إل َما ِم َ‬
‫ِِ‬ ‫�ن ِقت ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬ ‫َ�ال ال َّظالم ْ‬ ‫َل َّما َأ َش َ‬
‫�اح َع ْ‬ ‫�وا َمن َْه َج َز ْي ِن ال َعابِد ْ‬
‫ين‬ ‫ك ََذا ا ْق َت َف ْ‬
‫�ه َأ ْم ً�را َقائِ َم�ا‬
‫ي�ن ال ّل ِ‬
‫�ظ ِد ِ‬ ‫ح ْف ِ‬ ‫لِ ِ‬ ‫�ح َب ِديًل�اً َدائِ ًم�ا‬
‫الص ْل َ‬ ‫�ذ ُّ‬ ‫َواتَّخَ َ‬
‫يشير الناظم إلى مفصل هام من مفاصل التاريخ اإلسالمي خالل مرحلة الملك العضوض‬
‫‪ ،‬وهو ما سماه الناظم (بكربالء البغي والخيانة) حيث قتل اإلمام الحسين وجملة من أهل‬
‫بيته عليهم السالم أجمعين ‪ ،‬وبهذه الفاجعة طويت صفحة تاريخية وفتحت صفحة أخرى‪.‬‬
‫وإليها يشير الناظم بانقسام األمر في األمة إلى قسمين ‪:‬‬
‫قسم رضي صلح اإلمام الحسن وما ترتب عليه من اجتماع كلمة األمة تحت مسمى (أهل‬
‫السنه والجماعة) سواء من أهل البيت أو من غيرهم من سائر المتعلقين والشيعة المحبين‬
‫سواء بسواء ‪ ،‬واعتبروا أن مقولة اإلمام الحسن في خطبته منهجا وطريقة ‪ ،‬وهي قوله‪( :‬إن‬
‫الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا)‪.‬‬
‫وهذا القول نص أبوي يحدد مرحلة الصلح المدعومة بقوله صلى الله عليه وسلم‪( :‬إن ابني‬
‫هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ) ‪ ،‬بصرف النظر عن الغدر والمكر الذي‬
‫جرى من المعارضين له وآلل البيت فيما بعد‪.‬‬
‫فاألصل المنصوص على دوام أثره هو الصلح والصلح خير‪.‬‬
‫وجاء من بعد هذا الموقف موقف اإلمام زين العابدين الذي رجح موقف الصلح وأخذ به‬
‫وهو األحق أن يأخذ بثأر أبيه منهج ًا وشرعة ‪ ،‬وخاصة أن منهج الصلح قد أثمر اتساع األخذ‬
‫بالعلم وخدمة الملة اإلسالمية واشتغال الجل األوسع من الناس بذلك ‪ ،‬ولم يخرج من هذا‬
‫المنهج إال (أهل اإلفراط والتفريط) ‪ ،‬وكان اإلفراط ممثال في أولئك الخارجين باسم آل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪288‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫البيت من صادق وكاذب ‪ ،‬وبين أهل التفريط وهم حملة قرار الملك العضوض ومن شايعهم‬
‫في ظلمهم وبطشهم ‪.‬‬

‫�ن‬‫�ن فِ ْر َق َت ْي ِ‬ ‫مس�أل ًة َم�ا َب ْي َ‬ ‫�ل بِ ُ‬


‫الح َس� ْي ِن‬ ‫َوا ْع َت َب ُ�روا َم�ا َح َّ‬

‫َ�ى‬‫�ذ َأت ٰ‬ ‫َوفِ ْر َق� ٌة َق�دْ َخ َذ ُل�و ُه ُم ْ‬ ‫ُبغَ�ا ُة ُظ ْل� ٍم َق َت ُل�و ُه َعنَتَ�ا‬
‫َان م�ا ك َ ِ ِ‬ ‫َل ْم َين ُْص ُرو ُه َس�ا َع َة َ‬
‫الح ْس ِم المراد‬
‫َان َول ّل�ه ُ‬
‫الم َ�را ْد‬ ‫َف�ك َ َ‬
‫وقد اعتبر هؤالء الناهجين منهج الصلح (مقتل الحسين) ومن معه من آل البيت جرما‬
‫عظيما يحمل مسؤوليتها ٌّ‬
‫كل من الفريقين أهل التفريط البغاة القتلة وأهل اإلفراط المبايعين‬
‫الغفلة ‪ ،‬الذين خذلوه ساعة الحسم المطلوب ‪ ،‬وتفرقوا عنه وتركوه عرضة للقتل واإلبادة ‪،‬‬
‫بعد أن حملوه على الخروج واالنتقال من الحجاز إلى العراق ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫لص ْل�حِ َوا ِ‬
‫إل ْصَل�اَ حِ ُمن ُ‬
‫ْ�ذ َذ َه َب�ا‬ ‫ل ُّ‬ ‫�ين َم ْط َل َب�ا‬
‫وج ل ْل ُحس َ‬ ‫َأ َّم�ا الخُ ُ�ر ُ‬
‫الم َرا ْد‬
‫يق ُ‬ ‫َو ْاست َْش َهدُ وا ِم ْن َأ ْج ِل ت َْح ِق ِ‬ ‫االجتِ َها ْد‬
‫�ن َق�دْ َخ َر ُج�وا بِ ْ‬ ‫َوك ُُّل َم ْ‬
‫َل�م يخُ رج�وا إِلاَّ لِص�دِّ ال َغ َل ِ‬ ‫�ال النَّم ِ‬ ‫�ن ِر َج ِ‬ ‫َفه ُ ِ ِ‬
‫�ط‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ ُ‬ ‫�ط‬ ‫َ‬ ‫�ؤلاَ ء م ْ‬ ‫ٰ‬
‫�ف‬ ‫�م َيخْ تَلِ ْ‬
‫�م َل ْ‬‫�م َعن ُْه ُ‬‫يه ْ‬‫�م َوفِ ِ‬
‫من ُْه ْ‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫�ر ْ‬ ‫�ن ُع ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬
‫�ل َز ْي�د َوا ْبن�ه َو َم ْ‬‫ك َِم ْث ِ‬
‫يشير الناظم إلى مسألة الخروج ذاتها ودوافعها لدى اإلمام الحسين عليه السالم وأن النظر‬
‫لها من واقع النصوص خير من النظر إليها من واقع المستثمرين لها سلب ًا وإيجاب ًا ‪ ،‬فالحسين‬
‫عليه السالم قال عن نفسه‪( :‬إنما خرجت ألصلح في أمة جدي ) ‪ ،‬ويترتب على هذا النص‬
‫األبوي أن مهمة اإلمام الحسين هي (اإلصالح في األمة)‪.‬‬
‫ولهذا يوكد الناظم أهمية التفصيل لألمور بين هذه المجموعات المشتبكة ويشير إلى‬
‫سالمة توجه رجال النمط األوسط في كال الحالين ‪( :‬حال الصلح الحسني وحال الخروج‬
‫الحسيني ) ‪ ،‬وأن كل الذين خرجوا من هذا النموذج القائم على االجتهاد المشروع لألئمة‬
‫جزء ال يتجزأ من النمط األوسط كمثل اإلمام زين بن علي وابنه يحيى ومن جاء من بعدهم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪289‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫على ذات الطريق ‪.‬‬

‫ْ�ب َم ْق ُرون� ًا بِ َث ْ‬
‫�ار‬ ‫َك ُع ْق�دَ ٍة لِ َّ‬
‫لذن ِ‬ ‫�أ َر ِش� َع ْار‬ ‫�ذوا ال َّث ْ‬‫ون اتَّخَ ُ‬
‫آخ ُ�ر َ‬ ‫َو َ‬
‫ج ٍ ِ‬ ‫لا بِ ِ‬
‫ِجي ً‬ ‫�ل ِض�دَّ َأ ْف َع ُ‬ ‫َ�ر ِّد فِ ْع ٍ‬
‫ي�ل َوش� َعار ًا ف�ي َ‬
‫الح َي�ا ْة‬ ‫�ال ال ُبغَ�ا ْة‬ ‫ك َ‬
‫�م ُل ت ِ‬
‫َاريخ� ًا َج َ�ر ٰ‬
‫ى‬ ‫َض َب� ًة ت َْش َ‬
‫َوغ ْ‬ ‫�ار ِدينً�ا َو َولاَ ًء َو َب َ�را‬ ‫َو َص َ‬
‫ف‬‫الو ْه ِم َي ْأتِي في الخَ َل ْ‬
‫�ان َ‬‫َحت َّٰى ز ََم ِ‬ ‫ف‬ ‫الم ْص َط َف ٰى َو َم ْن َخ َل ْ‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْن َب ْعد َم ْوت ُ‬
‫ِ‬

‫يشير الناظم أيضا إلى ما ترتب من ثورة وصراع دموي بعد مقتل اإلمام الحسين عليه السالم‬
‫‪ ،‬وخاصة من طرف المفرطين ‪ ،‬الذين حولوا (مقتل اإلمام الحسين ) إلى قضية ثار وانتقام من‬
‫التاريخ اإلسالمي كله على غير تميز وال تفصيل واع ‪ ،‬ومثل هؤالء قد أصدروا من قبل مقتل‬
‫اإلمام الحسين أحكام البطالن على مرحلة الخالفة كلها ‪.‬‬
‫وألهمية هذا الموضوع أخذ الناظم في تفصيل األمر حسب مجرياته الصحيحة بعيدا عن‬
‫الغلو وعن الجفاء ‪ ،‬فالغلو قد أفسد الحقائق وصار وسيلة تبرير للظلم والعدوان ‪ ،‬ولذا‬
‫يشير الناظم إلى أسباب اتخاذ الثأر شعارا لدى البعض وهو ما سماه بـ(عقدة الذنب) ‪،‬‬
‫وهي العقدة التي أصابت المتخاذلين عن نصرة اإلمام الحسين وآل بيته فحولوها إلى شعار‬
‫انتقام وثورة كانت بادئ ذي بدء على الظالمين البغاة ‪ ،‬ثم تحولت بفعل اختالط األفكار‬
‫والطموحات السياسية إلى ردة فعل معاكسة لم تنقطع بانقطاع السبب وذهاب المسؤولين‬
‫عن القتل والبغي ‪ ،‬بل صارت دينا ووالء وبراء وغضبة تمسخ معالم التاريخ الشرعي وتشمل‬
‫حتى من كان من (آل البيت أنفسهم) ممن نهج منهج اإلمام الحسن في الصلح ومنهج علي‬
‫زين العابدين رضي الله عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫فاإلفراط المسيس لم يسمح لهؤالء حتى بتبرئة (آل البيت األطهار ) بل جعلوهم جزأ ال‬
‫يتجزأ من (سياسة الملك العضوض) وخلطوا بين أهل السنة والجماعة األبوية الشرعية وبين‬
‫ال وتعصب ًا وجاهلية ‪ ،‬حتى صارت نصوصهم تكفر وتقصي‬
‫أهل السنة المصنعة السياسية جه ً‬
‫عن الديانة كل مراحل السالمة األبوية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد اإلمام‬
‫المنتظر ‪ ،‬وهو عهد في منهج اإلسالم ال مراء عليه وال خالف في مسألة وقوعه ‪ ،‬ولكن ‪#‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪290‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫إلزالة آثار الجور والظلم في موقع قرار الحكم واالقتصاد ‪ ،‬وما ترتب على ذلك من هيمنة‬
‫الملك العضوض وسياسة االستعمار واالستهتار واالستثمار‪.‬‬
‫أما حملة قرار العلم والشريعة والجهاد في سبيل الله على طريق االتباع المتصل فهم الطائفة‬
‫المنصورة في كل زمان ومكان ‪ ،‬بصرف النظر عن مبدأ الحكم والسياسة ‪ ،‬وال يدخلون في‬
‫حكم أهل اإلفراط القائل‪ :‬كل ما بني على باطل فهو باطل ‪ ،‬ويقصدون بهذه المقولة كل ما‬
‫ترتب على الخالفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها باطل على غير تمييز وال‬
‫تفصيل ‪ .‬وهذا ظلم أشد من ظلم أهل التفريط وأخطر على األمة واإلسالم كله ‪.‬‬

‫�ل َق�دْ ُقتَِلَ‬


‫َ�ال ك َُّل َقاتِ ٍ‬
‫َين ُ‬ ‫َوال َّث ْأ ُر في ا ِ‬
‫إل ْس اَل ِم َم ْحدُ و ُد ال َبل‬
‫بِس�ي ِف ِه َأو مالِ ِ‬
‫�ه َأ ْو َو َار َب�ا‬ ‫�ن ت ََو َّل ٰى ال َقت َْل َأ ْو َم ْن َح َار َبا‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َأ ْو َم ْ‬
‫وب‬
‫ان في الدُّ ُر ْ‬ ‫ِم ْن َب ْع ِد َأ ْن َم َّر الز ََّم ُ‬ ‫وب‬ ‫َولاَ َي ُجو ُز ِم ْث ُل ٰه َذا في ُّ‬
‫الش ُع ْ‬
‫يشير الناظم إلى ما تقرر شرع ًا حول مسألة القصاص واألخذ بالثأر ‪ ،‬وأهل البيت النبوي‬
‫هم أولى الناس بالشرع وتطبيقه ‪ ،‬فالثأر في االسالم مقيد بقتل القاتل وحده ‪ ،‬أومن وافقه‬
‫وتواله ‪ ،‬أو من حمل معه السيف أو ساعده بالمال أو وارى به ‪ ،‬أي‪ :‬تكتم عليه وأعانه ‪،‬‬
‫فهؤالء شرع ًا يستحقون القتال ‪.‬‬
‫ورث هذا الثأر والدم من جيل إلى جيل ومن مرحلة‬
‫وال يمكن بأي حال من األحوال أن ُي َّ‬
‫إلى أخرى حتى يصبح كل المسلمين منذ عهد مقتل الحسين إلى الساعة اإلمام المنتظر‬
‫مسؤولين عن دمه ودماء آل البيت ‪ ،‬وال أن يتحول األمر من شرع أبوي نبوي إلى تسييس‬
‫وضعي أنوي يهدد حصون اإلسالم من داخله ويهدمها باسم الثأر وباسم نصرة آل البيت‬
‫عليهم السالم ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪291‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫تحَ ُّوالت َعرص بني ُأم ّية‬

‫الش ُّح ا ُمل َطاع‪ ..‬ا َهلوى ا ُمل َّت َبع‪..‬‬


‫العضوض‪ُّ ..‬‬ ‫ا ُمللك َ‬
‫أي برأيِ ِه‪..‬‬ ‫جاب ُك ِّل ذي َر ٍ‬ ‫الدُّ نيا ا ُملؤْ َثرة‪ ..‬إِ ْع ُ‬

‫ُأغيلمة من ُقريش»‬ ‫« َه اَل ُك ُأ َّمتِي عىل َيدْ‬


‫أخرجه احلاكم يف «املستدرك» عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‬

‫بالقسط َحتَى يكون َأ َّو ُل َم ْن َي ْل ُث ُم ُه َر ٌ‬


‫جل‬ ‫ِ‬ ‫الدين قائ ًام‬ ‫«ال َي ُ‬
‫زال َهذا ِّ‬
‫من َبنِي ُأمية»‬

‫رواه أبو يعىل والبزار عن أبو عبيدة اجلراح‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪292‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪293‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والت عىل عَ هْ ِد بني أُمَ ي ََّة‬
‫ظاهِ ُر التَّحَ ِ‬
‫مَ َ‬

‫قال الناظم‪:‬‬
‫�ان ال َقتِ ْي ِ‬
‫�ل األَ َّو ِل‬ ‫ِمن بع ِ‬
‫�د ُع ْث َم َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫�ن ت ََح ُّو ِل‬ ‫ِ‬
‫إل ْسَل�اَ ُم م ْ‬ ‫ىا ِ‬ ‫َوك َْم َر َأ ْ‬
‫الر َدى‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الع ْل� ِم ِم ْيز ِ‬
‫اب ِ‬ ‫َو َب ْعدَ َب ِ‬
‫َو َم�ا َج َرى م ْن َبع�ده م َن َّ‬ ‫الهدَ ى‬‫َان ُ‬
‫ُ�ن َبرائِ ِق‬ ‫ُم ْل ٌ‬
‫�ك َع ُض ٌ‬
‫وض لم َيك ْ‬ ‫الل ِح ِق‬ ‫�ر الخُ َل َف ِ‬
‫�اء اَّ‬ ‫َف�ك ُُّل َع ْص ِ‬

‫تشري األبـيات إىل مرحلة جديدة من مراحل التحول من تاريخ اإلسالم‪ ،‬إذ هي مربوطة بام‬
‫ِ‬
‫األول»‪ .‬فبهذا احلدث طرأت‬ ‫سبقها من التحوالت كام أشار إليها الناظم‪« :‬من بعد عثامنَ القتيلِ‬
‫حتوالت جديدة‪ ،‬وكذلك بمقتل اإلمام عيل ؤ‪.‬‬
‫عىل املسرية اإلسالمية ّ‬
‫َوكأ ِّنـي باألمة مع هذه التحوالت اخلطرية حتتاج إىل موقف جديد حيمل كل معاين التضحية‬
‫يف سبـيل اهلل‪ ،‬فكان موقف احلسن بن عيل ؤ ‪-‬وهو من أجىل املواقف اهلامة يف مرحلة‬
‫التحوالت‪ -‬حيمل يف طياته عل ًام هام ًا ومشهد ًا جديد ًا يف التعامل مع األحداث‪ ،‬وهو ما ُع ّرف‬
‫بس َّنة املواقف‪.‬‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫أحاديث عديدة حول مرحلة بني أمية يف احلكم‪ ،‬باعتبارها حلقة‬ ‫كتب الس َّنة‬
‫رصدت ُ‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫يف سلسلة التداعيات والتحوالت املوعودة‪ ،‬وهذه األحاديث ال تنفي خريية األمة واستمرار‬
‫فضلها‪ ،‬وإنام هي تقرير حالة رشعية حول مسألة القرار‪.‬‬
‫ومن هذه األحاديث ما رواه أبو يعىل واحلاكم والبـيهقي عن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫رأيت يف النو ِم بني َ‬
‫احل َكم ينـزون عىل منربي كام تنـزوا القردة» قال‪ :‬فام رؤي‬ ‫رسول اهلل ﷺ‪ُ « :‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪294‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫النبـي ﷺ ضاحك ًا مستجمع ًا حتى تويف(((‪.‬‬
‫لقد كانت هذه الرؤيا عالمة من العالمات التي أبرزت يف حياة رسول اهلل ﷺ موقف ًا ملظهر‬
‫من مظاهر التحوالت من بعده‪ ،‬إذ كان ﷺ يتفاعل مع األحداث ويعيشها قبل حدوثها‪ ،‬ومع‬
‫هذا فقد جاء يف رواية ابن املسيب ما خفف عىل رسول اهلل ﷺ املوقف‪.‬‬
‫فقد روى البـيهقي عن ابن املسيب ؤ‪ ،‬قال‪« :‬رأى النبـي ﷺ بني أمية عىل منربه فساءه‬
‫ذلك‪ ،‬فأوحي إليه‪ :‬إنام هي دنيا ُأ ْع ُطوها‪َ ،‬ف َق َّرت عينه» (((‪.‬‬
‫وعن احلسن بن عيل عليهام السالم قال‪ :‬إن رسول اهلل ﷺ قد رأى بني أمية خيطبون عىل‬
‫ال رج ً‬
‫ال فساءه ذلك‪ ،‬فنـزلت‪( :‬ﮆ ﮇ ﮈ) ‪ ،‬ونـزلت (ﭑ ﭒ ﭓ‬ ‫منربه رج ً‬

‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ) يملكها بنو أمية»‪ .‬قال‬


‫القاسم بن الفضل‪:‬فحسبنا مدة حكم بني أمية فإذا هي ألف شهر ال تزيد وال تنقص(((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫عن عا ِم ِست ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األم ِر ال َقبِ ْ‬
‫ـيح‬ ‫ِّين م َن ْ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫وا ْذك ُْر أبا ه ِّ�ر ا َّلذي كان َيص ْ‬
‫يح‬
‫اللهم ال تبلغني عام الستني‪ ،‬قالوا‪ :‬وما عام‬
‫يشري الناظم إىل ما كان يقوله أبو هريرة ؤ‪ّ « :‬‬
‫ٍ‬
‫قريش»‪،‬‬ ‫الستني؟» قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ﷺ يقول‪« :‬يكون هالك أمتي عىل يد ُأ َغ ْي ِل َم ٍة من‬
‫وكأنه يشري إىل ما جرى من الفتن عىل يد أمراء بني أمية‪ ،‬وكان خلفاء بني أمية كام ورد يف‬
‫«اإلشاعة» غيرَّ وا س َّن َة النبـي ﷺ يف احلكم‪.‬‬

‫((( رواه أبو يعىل والبيهقي يف «الدالئل» عن أيب هريرة ‪ .‬املصدر السابق ص‪.63‬‬
‫((( رواه ابن عساكر وابن أيب حاتم وابن مردويه يف «الدالئل» عن سعيد املسيب‪.‬‬
‫((( وهذا القول يف بني أمية ال يشمل صاحلي هذا البـيت ومن استقام منهم‪ ،‬وإنام خيتص بشأن القرار واحلكم‪،‬‬
‫حيث برز يف بني أمية من العلامء والدعاة والصاحلني من ال يعاب شأهنم وال يستنقص دينهم؛ بل حيرتم‬
‫موقفهم ورأهيم ويستند إليهم يف خدمة اإلسالم إىل اليوم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪295‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫املرحلة اليَزي ِديّة‬ ‫ُ‬
‫ونهاية‬ ‫املرحلة املرواني ِّة‬
‫ِ‬ ‫بَ ْد ُء‬

‫َ‬
‫مروان بن احلكم‪ ،‬وخرج هبم إىل دمشق من فلسطني‪ ،‬واقتتلوا مع عامل‬ ‫وبايع بنو أمية‬
‫ابن الزبـري فقتلوه‪ ،‬وهو الضحاك بن قيس‪ ،‬وغلب مروان عىل الشام‪ ،‬ثم توجه إىل مرص‪،‬‬
‫وغلب عليها سنة مخسة وستني‪ ،‬وتويف مروان يف تلك السنة‪ ،‬وعهد إىل ابنه عبدامللك فقام‬
‫مقامه‪ ،‬واستمر يف حماربة ُعماَّ ِل ابن الزبـري حتى مل يبقَ معه إلاَّ احلجاز واليمن‪ ،‬وجهز عبدامللك‬
‫ملحاربته احلجاج بن يوسف الثقفي‪ ،‬فحارص بن الزبـري حتى قتله بمكة(((‪.‬‬
‫ثم توىل بعد عبد امللك ابنه الوليد ثم ابنه اآلخر سليامن بن عبد امللك‪ ،‬ثم توىل عمر بن‬
‫عبدالعزيز‪ ،‬وهو موضوع الفصل التايل‪.‬‬

‫((( كانت مدة حكم ابن الزبـري تسع سنني وزيادة‪ ،‬وقد ذكرت كتب السري والتاريخ نامذج من املواقف‬
‫السلبـية التي جرت عىل يد احلجاج‪ ،‬فقد هدم الكعبة وقتل ابن الزبـري‪ ،‬وبلغت ضحاياه من الناس مئة‬
‫ألف وعرشين ألف‪ ،‬وأربعة آالف قتلهم صرب ًا‪ ،‬وأهان مجلة من الصحابة منهم أنس بن مالك‪ ،‬ودس عىل‬
‫عبداهلل بن عمر َمن رضبه بحربة مسمومة وهو يف الطواف فكانت سبب موته‪ ،‬وقد أشارت األحاديث إىل‬
‫موقع احلجاج يف التحوالت‪ ،‬منها ما رواه البـيهقي يف «الدالئل» عن حبـيب بن ثابت قال‪ :‬قال عيل ريض‬
‫اهلل عنه لرجل‪« :‬إنك تدرك رجل ثقيف»‪ ،‬قيل‪ :‬ما رجل ثقيف ؟ قال‪« :‬ليقا ُل َّن له يوم القيامة‪ :‬ا ِ ْك ِفنا زاوي ًة‬
‫من زوايا جهنم‪ٌ ،‬‬
‫رجل يملك عرشين أو بضع ًا وعرشين سنة‪ ،‬ال يدع هلل معصية إلاَّ ارتكبها‪ ،‬حتى لو مل َ‬
‫تبق‬
‫إلاَّ معصية واحدة وكان بـينه وبـينها باب مغلق لكرسه حتى يرتكبها‪ ،‬يقتل من أطاعه بمن عصاه»‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪296‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز (الخليفة السادس)‬
‫ِ‬ ‫الصدُ ِ‬ ‫ُم َجدِّ ِد الدِّ ِ‬ ‫إلم�ا ِم الع ِ‬
‫اد ِل‬
‫الفاض ِل‬ ‫وق‬ ‫ين َّ‬ ‫َ‬ ‫َحتَّ�ى أتَى َع ْه�دُ ا ِ َ‬
‫المعروف‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بالعدل في الحك ِم هو‬ ‫الموصوف‬
‫ُ‬ ‫عم�ر‬ ‫ِ‬
‫العزيز‬ ‫ِ‬
‫نج�ل‬
‫َ‬
‫وش�ر َع القواع�دَ المنش�ود ْة‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫المواق�ف المحمود ْة‬ ‫َ‬
‫وقف‬ ‫قد‬

‫((( هو أمري املؤمنني عمر بن عبدالعزيز القريش األموي‪ ،‬أبوحفص‪ ،‬تابعي جليل‪ ،‬روى عن أنس بن مالك‬
‫والسائب بن يزيد ويوسف بن عبداهلل بن سالم وغريهم ‪ ،‬وروى عنه مجاعات من التابعني منهم حممد بن‬
‫املنكدر والزهري وغريمها‪ ،‬صنف بعضهم يف مناقبه جملدا‪ ، ،‬وعن عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه أنه قال‪:‬‬
‫يولد يل رجل بوجهه شني ييل‪ ،‬فيأل األرض عدال‪ ،‬قال نافع‪ :‬ال أحسبه إال عمر بن عبدالعزيز‪ ،‬والشني‬
‫الذي بوجهه شجة من أثر حافر فرس وهو غالم‪ ،‬ملا أصابه الفرس جعل أبوه يمسح الدم عن وجهه‬
‫أشج بني أمية‪ ،‬أمه بنت عاصم بن عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه‪ ،‬اسمها حفصة‪ ،‬وأمها‬
‫ويقول‪ :‬إن كنت ّ‬
‫البنت التي قالت ألمها‪ :‬إن مل يعلم أمري املؤمنني فإن ربه يعلم ويرى‪ ،‬أطيع أمره يف العالنية وأعصيه يف‬
‫الرس‪ ،‬تعني عمر بن اخلطاب‪ ،‬وسمعها عمر فأمر ولده عاصام يتزوجها‪ ،‬وقال‪ :‬لعل اهلل أن يرزقك منها‬
‫نسمة مباركة‪ ،‬فجاءت بأم عمر بن عبدالعزيز‪.‬‬
‫ومن مظاهر عدله يف مدة خالفته زيادة أموال بيت مال املسلمني حتى شكا عامله كثرهتا ‪ ،‬فأمر مناديا ينادي يف‬
‫األمصار‪ :‬من كان عليه دين فقضاؤه عىل بيت مال املسلمني‪ ،‬فقىض يف ذلك العام ديون املسلمني أمجعني‬
‫ومل يبق أحد عليه ألحد دين ‪ ،‬ثم نادى مناديه يف األمصار‪ :‬من مل يتزوج من شباب املسلمني فعىل بيت‬
‫املال زواجه ومؤنته حتى يتوفر له من العمل ما يكفيه‪ ،‬فلم يبق من العزاب إال من كان معذورا أو مريضا‬
‫أو غازيا أو مسافرا‪.‬‬
‫وقد أثبت اخلليفة العادل عمر بن عبدالعزيز إمكانية إقامة العدل االجتامعي وتوزيع الثروة املالية واالقتصادية‬
‫عىل الرعايا دون خلل يف اقتصاد الدولة وال حصول عجز أو مديونيات للغري‪ ،‬ويعترب حكمه حجة عىل‬
‫كافة مراحل عصور احلكم يف البالد العربية واإلسالمية من بعده‪ ،‬إذ حتقق بحكمه رغم قرص الزمان ما مل‬
‫يتحقق يف العصور التي طالت مرحلة حكامها يف الشعوب‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪297‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ونَص�ر الدِّ ي�ن بَِل�اَ ِخَل�اَ ِ‬ ‫�ف األَسَل�اَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ف‬ ‫َأ ْح َي�ا َلنَ�ا َم َواق َ ْ‬
‫َي�ر ِع ْل� ِم‬
‫�م بِغ ِ‬‫الس َّ‬
‫ِ‬ ‫َب ْ‬
‫�ل ُس�ق َي ُّ‬ ‫َو َل�م َي ُط ْ‬
‫�ل ُم َق ُام� ُه ف�ي ُ‬
‫الحكْ� ِم‬
‫الم�ي األَ ْم َث ِ‬ ‫�و ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ل‬ ‫ِّ‬ ‫�ن ال َّط ِر ْي ِ‬
‫�ق ال َع‬ ‫َع ِ‬ ‫َف َع�ا َدت األَ ْو َض ُ‬
‫�اع للت ََّح ُّ‬

‫يشري الناظم إىل عهد اخلليفة اخلامس عمر بن عبدالعزيز ؤ‪ ،‬والذي متيز عرصه بنموذج متفرد‬
‫من التحوالت واملواقف وخصوص ًا يف قرار احلكم‪ ،‬والذي مكث يف اخلالفة سنتني ومخسة أشهر‪،‬‬
‫وكانتبـيعتهيفصفرسنةتسعوتسعنيعىلماذكره«تاريخاخللفاء»للسيوطيص‪.214‬‬
‫وقد بدأت حتوالت عمر بن عبدالعزيز ومواقفه قبل أن يكون خليفة فهو قد اختذ موقف ًا من تنعمه‬
‫ورفاهيتهالتيكانيألفها‪،‬قالالسيوطييف«تاريخاخللفاء»ص‪:313‬كانقبلاخلالفةعىلقدمالصالح‬
‫إلاَّ أنه كان يبالغ يف التنعم واالختيال يف املشية حتى َع ْ‬
‫زَف بعد ذلك عن ذلك كله‪ .‬اهـ‪ .‬وبدأ بأهل بـيته‬
‫وأقاربه فأخذ ما بأيدهيم وأعادها إىل بـيت مال املسلمني‪ ،‬ثم أخذ ما بـيد زوجته فاطمة بنت عبدامللك‪.‬‬
‫قال السيوطي يف «تاريخ اخللفاء» ص‪ 316‬عن خالفة عمر بن عبد العزيز‪ :‬مأل فيها األرض عد ً‬
‫ال ورد‬
‫مهدي فهو عمر بن‬
‫ٌ‬ ‫وهب بن منبه‪ :‬إن كان يف هذه األمة‬ ‫السن ََن َ‬
‫احل َسنة‪ .‬اهـ‪ ،‬ح َّتى كان يقول ُ‬ ‫املظامل َو َس َّن ُّ‬
‫ٍ‬
‫خلمس بقنيَ من شهر‬ ‫عبدالعزيز‪ ،‬وقد تويف عمر بن عبدالعزيز بدير سمعان من أعامل محص لع ٍ‬
‫رش أو‬
‫رجب سنة إحدى ومائة وله حينئذ تسع وثالثون سنة وستة أشهر‪ ،‬وكانت وفاته بالسم‪ ،‬ألن عشريته‬
‫من بنيأمية َتبرَ َّ ُموا منهلتشديده عليهم وانتزاع ما َغ َص ُبوهمن أموال الناسومن بيت مال املسلمنيرمحه‬
‫اهلل رمحة األبرار‪ ،‬وقد كان عهده القصري زمنا أنموذجا متفردا يف مراحل حكم بني أمية كلها‪.‬‬
‫كم بعده يزيد بن عبدامللك بن مروان‪،‬‬ ‫قال السيوطي يف «تاريخ اخللفاء» ص‪ :229‬وتوىل ُ‬
‫احل َ‬
‫ومكث أربعني يوم ًا يسري بسرية عمر بن عبدالعزيز‪ ،‬ثم عدل عن ذلك‪.‬‬
‫وكان قد كتب له عمر بن عبدالعزيز وصية قبل وفاته‪ ،‬قال له فيها‪« :‬سالم عليك‪ ،‬أما بعد فإين‬
‫ال أراين إلاَّ ملا بـي‪ ،‬فاهلل اهلل يف أمة حممد‪ ،‬فإنك تدع الدنيا ملن ال حيمدك‪ ،‬وتقيض إىل من ال يعذرك‪،‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪298‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والسالم» ‪ ،‬و ُقتل يزيد بموضع قرب َك ْر َبالء لدى خروج يزيد بن ا ُمله َّلب عىل اخلالفة يف أواخر‬
‫شعبان سنة مئة ومخس‪ ،‬وتوىل بعده أخوه هشام‪ ،‬ثم الوليد بن يزيد بن عبدامللك‪ ،‬وكان فاسق ًا منتهك ًا‬
‫حلرمات اهلل‪ُ ،‬قتل يف مجاد اآلخر سنة ست وعرشين ومائة‪ ،‬وقد ورد يف مسند اإلمام أمحد حديث‬
‫ليكونن يف هذه األمة رجل ُيقال له الوليد‪ ،‬هلو أرش عىل هذه األمة من فرعون لقومه» (((‪ ،‬وهو الذي‬
‫َّ‬ ‫«‬

‫رشق املصحف بالسهام(((‪.‬‬


‫أنقص ُ‬
‫اجلندَ من أعطياهتم‪ ،‬ومات من العام الذي‬ ‫ثم توىل بعده يزيد الناقص‪ ،‬ولقب بالناقص ألنه َ‬
‫توىل فيه سابع ذي احلجة سنة ست وعرشين بعد املائة‪ ،‬وقد مات بالطاعون‪ ،‬ثم توىل بعده إبراهيم بن‬
‫الوليد بن عبدامللك‪ ،‬بويع له باخلالفة سبع سنني‪ ،‬ثم ُخلع‪ ،‬خرج عليه مروان بن حممد امللقب باحلامر‪،‬‬
‫وتنازل إبراهيم ملروان وبايعه‪ ،‬وعاش إبراهيم حتى سنة اثنتني وثالثني‪ ،‬و ُقتل فيمن قتل من بني أمية‬
‫عىل يد السفاح العبايس‪ ،‬وكان مروان احلامر آخر خلفاء بني أمية‪ ،‬ولقب باحلامر لصربه وقوة جالده‬
‫يف القتال‪ ،‬وقتل مروان مع ظهور بني العباس‪ ،‬وكان مقتله يف مرص بقرية بوصري هارب ًا من العباسيني‬
‫يف ذي احلجة سنة اثنتني وثالثني‪.‬‬
‫عرص جديدٌ ‪ ،‬ومع كل مرحلة تزول‬
‫وبمروان احلامر اختتمت مرحلة احلكم لبني أمية‪ ،‬وبدأ ٌ‬
‫والض ْع ِ‬
‫ف واختالل‬ ‫تبقى آثارها يف األجيال بصورة وأخرى بام ينغرس يف الشعوب ِم َن َ‬
‫الو َه ِن َّ‬
‫املواقف‪.‬‬

‫((( رواه أمحد يف مسنده وابن حبان عن عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( «تاريخ اخللفاء» ص ‪.334‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪299‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪300‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪301‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ص بني ال َع ّب ِ‬
‫اس‬ ‫َع رْ ُ‬

‫لوك َي ُلون َأمر أ َّمتي‪ُ ،‬ي ُّ‬


‫عز‬ ‫ولد العباس ُم ٌ‬
‫ليكونن يف ِ‬
‫َّ‬ ‫«‬

‫الدين»‬ ‫اهلل تعاىل هبم ِّ‬


‫الدارقطني يف األفراد عن جابر ‪« .‬كنز العامل» (‪)701/11‬‬
‫أخرجه َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪302‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪303‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عرص بني العباس‬

‫ِ‬ ‫�و ِة‬ ‫وج ِ‬


‫م�ر ِ‬
‫اس‬ ‫َوال َ‬ ‫السَل�اَ حِ‬
‫ِّ‬ ‫بِ ُق َّ‬ ‫لحكْ� ِم َبنُ�و العب ِ‬
‫َّ�اس‬ ‫�اء ل ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫�ة‬‫�ال وال ُّطم�وحِ والرياس ِ‬ ‫َوالم ِ‬ ‫�ة‬‫وعا َلـج�وا األُم�ور بِالسياس ِ‬
‫َ ُ ْ َ ِّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ِّ َ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫�م‬ ‫مر ُه ْ‬
‫ٍ‬ ‫لِ َب ْع ِ‬
‫�ض َأ ْج َي�ال َتتَا َل�ى َأ ُ‬ ‫هم‬ ‫ِ‬
‫َب األَ ْم ُر ف ْي ِه ْم َو َل ْ‬‫َحتَّى ْاس� َتت َّ‬
‫إل َد َار ِة‬ ‫الع ْل� ِم َواألَ ْش� َع ِ‬
‫ار َوا ِ‬ ‫و ِ‬
‫َ‬ ‫الح َض َار ِة‬ ‫دم�ة َ‬
‫و َأبدَ ع�وا ف�ي ِخ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫�وا َف ْل َس� َف َة ال ُي ْون ِ‬
‫َ�ان‬ ‫َوت َْر َج ُم ْ‬ ‫ان‬ ‫الر ْو َم ِ‬‫س َو ُّ‬ ‫َوا ْندَ َم ُجوا فِي ال ُف ْر ِ‬
‫�ر ِ‬
‫الم ْس ِ‬ ‫َو َق َال فِي ال ُق ْر ِ‬ ‫و َأوغ ََل الم ْأمو ُن فِي ال َّت َف ْلس ِ‬
‫ف‬ ‫آن َق ْو َل ُ‬ ‫�ف‬ ‫ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ ْ‬
‫َّاس َب ْع َض البِدَ ِع‬ ‫َو َأ ْظ َه ُر ْوا ِ‬
‫في الن ِ‬ ‫ف�ي الت ََّمتُّ� ِع‬ ‫َو ُأغ ِ‬
‫ْ�ر َق ُ‬
‫الح�كَّا ُم ِ‬
‫و َعدَ ُلوا فِي الن ِ‬
‫َّاس َحتَى َص ُل ُحوا‬ ‫�ن َأ ْص ُ‬
‫لحوا‬ ‫�م َم ْ‬
‫إِلاَّ ال َق َ ِ‬
‫لي�ل من ُْه ُ‬

‫يشري الناظم إىل مرحلة حكم بني العباس‪ ،‬وهي إحدى مراحل حتول القرار داخل اخليمة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومن املراحل التي أشارت إليها أحاديث التحوالت‪.‬‬
‫فمن هذه األحاديث ما أورده السيوطي يف «تاريخ اخللفاء»‪:‬‬
‫أخرج أمحد يف مسنده عن أبـي سعيد اخلدري ؤ‪ ،‬قال‪« :‬خيرج ٌ‬
‫رجل من أهل بـيتي عند‬
‫انقطاع الزمان وظهور من الفتن‪ ،‬يقال له‪ :‬السفاح‪ ،‬يكون إعطاؤه املال حثي ًا» اهـ(((‪.‬‬
‫وقد ذكر صاحب كتاب اإلشاعة أحاديث شديدة الوقع عىل مرحلة بني العباس‪ ،‬وقال‬
‫ُ‬
‫األحاديث ‪-‬إن صحت‪ -‬عىل رشارهم‪.‬‬ ‫الربزنجي بعد إيرادها‪َ :‬ف ُت ْح َم ُل‬

‫((( أخرجه البيهقي يف «الدالئل» عن أيب سعيد اخلدري‪ .‬املصدر السابق ص‪.238‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪304‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وأول خلفائهم أبوالعباس السفاح‪ ،‬ثم توىل بعده أبوجعفر املنصور‪ ،‬وكانت له مميزات‬
‫يف احلكم وهو الذي رضب أبا حنيفة عىل القضاء ثم سجنه حتى مات بعد أيام لكونه أفتى‬
‫باخلروج عليه(((‪.‬‬
‫وأول من أحدث ميش الرجال بـني يديه بالسيوف واألعمدة والقيس املوترة اهلادي أبوحممد‬
‫موسى بن املهدي املتويف سنة سبعني ومئة‪ ،‬وكثرت الفتوحات يف عهد الرشيد هارون‪ ،‬الذي‬
‫غزا نقفور صاحب الروم بعد نقضه للهدنة‪ ،‬حيث كتب إليه يقول‪( :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬
‫من هارون أمري املؤمنني إىل نقفور ِ‬
‫كلب الروم‪ ،‬قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة‪ ،‬واجلواب ما‬
‫تراه ال ماتسمعه) ثم غزاه وق َت َل ُه‪.‬‬

‫ظهور مدرسة االعتزال‬


‫ومن خلفاء بني العباس املأمون ابن الرشيد‪ ،‬ومل يكن يف بني العباس ٌ‬
‫رجل أعلم منه‪ ،‬كان‬
‫وحكم ِه َق ْو ُل ُه بخلق القرآن ومحل الناس عىل ذلك‪ ،‬وسار عىل هنجه من‬
‫ِ‬ ‫من حتوالت عرصه‬
‫بعده مجلة من اخللفاء‪ ،‬ومنهم املعتصم الذي كان أول من أدخل األتراك إىل الديوان‪ ،‬وكان‬
‫يتشبه باألعاجم‪ ،‬وبنى مدينة (رس من رأى) وانتقل إليها مع علامئه وعساكره األتراك‪.‬‬
‫َو َأ َّو ُل َمن ع ِّي َ‬
‫ـن سلطان ًا من األتراك يف بالط اخلالفة الواثق ابن الرشيد‪ ،‬وهو حفيد هارون‬
‫كجدِّ ِه املأمون‪ ،‬وامتحن الناس هبذه الفتنة َأ َّي امتحان‪،‬‬
‫الرشيد‪ ،‬وسار عىل عقيدة خلق القرآن َ‬
‫حتى إنه قتل الشيخ أمحد بن نرص اخلزاعي ‪-‬وهو من علامء احلديث‪ -‬قائ ًام بالبرصة عىل نرش‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬فامتحنه يف مسائل القول بخلق القرآن‪ ،‬ثم قتله بـيده وعلقه‬
‫يف (رس من رأى) ست سنني مصلوب ًا‪ ،‬وكان له وزير مبتدع وهو أمحد بن أيب داود املعتزيل الذي‬

‫((( املصدر السابق ص‪.241‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪305‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫كان أيض ًا وزير ًا لسلفه‪.‬‬
‫ِ‬
‫الواثق رجع عن فتنة القول بخلق القرآن‪ ،‬وكان سبب ذلك كام ذكره‬ ‫ويف أخريات ُع ْم ِر‬
‫السيوطي يف «تاريخ اخللفاء» ص‪ :219‬أنه دخل عليه أبو عبدالرمحن عبداهلل بن حممد اإلدرييس‬
‫تنة القول بخلق القرآن‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬أخربين‬ ‫شيخ أبـي داود والنسائي وهو ُم َق َّيدٌ باحلديد يف ِف ِ‬

‫يشء لمَ َيع َل ْم ُه؟‬


‫اس إليه أم ٌ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ فلم َيدْ ُع ال َّن َ‬ ‫عن هذا الرأي الذي دعوتم إليه‪َ ،‬أ َع ِل َم ُه‬
‫قال ابن أيب داود‪ :‬بل َع ِل َم ُه‪ ،‬قال‪ :‬فكان يسعه أال يدعو الناس إليه وأنتم يسعكم؟ قال‪ :‬فبهتوا‪،‬‬
‫وضحك الواثق وقام قابض ًا عىل فمه ودخل بـيت ًا ومد رجليه وهو يقول‪ :‬وسع النبـي ﷺ أن‬
‫وم ِق َت‬
‫يسكت وال يسعنا‪ ،‬فأ َمدَّ ُه بثالثامئة دينار وأعاده إىل بلده ومل يمتحن الواثق بعدها أحد ًا‪ُ ،‬‬
‫ابن أبـي داود من يومه‪ ،‬مات الواثق سنة مائتني وثالثني من اهلجرة‪.‬‬
‫حتو ٌل‬
‫وبويع بعده باخلالفة للمتوكل عىل اهلل جعفر أيب الفضل ابن املعتصم‪ ،‬وكان عىل يده ُّ‬
‫هام مل يس َبق له مثيل‪ ،‬وهو مي ُل ُه ِ‬
‫آلل البـيت النبوي وإكرامهم‪ ،‬وقطع القول ببدعة خلق القرآن‪،‬‬
‫قال السيوطي يف «تاريخ اخللفاء» ص‪ :320‬بالغوا يف الثناء عليه حتى قال قائلهم‪ :‬اخللفاء ثالثة‬
‫أبوبكر الصديق يف قتل أهل الردة‪ ،‬وعمر بن عبدالعزيز يف رد املظامل‪ ،‬واملتوكل يف إحياء السنة‬
‫وإماتة ال َّت َج ُّه ِم (بدعة اجلهمية)‪.‬‬
‫ومن املآخذ عليه هدمه لقرب اإلمام احلسني ‪-‬عليه السالم‪ -‬يف كربالء وحتويله إىل مزرعة‪،‬‬
‫ومنع الناس من زيارته‪ ،‬وبعد موته وتولية ولده املنترص باهلل َر َّد زيارة احلسني وأعاد آلل البـيت‬
‫َفدَ ك التي كانت هلم‪ ،‬ومل يتمتع باخلالفة إلاَّ أشهر ًا معدودة‪ ،‬ثم ُقتل سنة ثامن وأربعني بعد‬
‫املائتني‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪306‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ظهور فتن القرامطة والزنج‬
‫ويف عرص خالفة املعتمد عىل اهلل أبـي العباس أمحد املتوكل ظهرت فتنة الزنج َو ُقتِ َل ٌ‬
‫آالف‬
‫ِمن املسلمني‪ ،‬كام ظهرت القرامطة يف آخر خالفته‪ ،‬ويف عهد املقتدر ُ‬
‫ضع َ‬
‫ف شأن اخلالفة‬
‫العباسية واختل نظام الدولة‪ ،‬ويف عهد املقتدر أيض ًا ُقتل َ‬
‫احللاّ ج‪ ،‬وظهر الفاطميون َو َغزَ ْوا‬
‫مرص واستولوا عىل أكثرها‪ ،‬وبرزت ُأ ُّم املقتدر ونساؤه وحريمه يف القبض عىل شؤون الدولة‪،‬‬
‫احلج‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬
‫جيوش املقتدر باهلل وانقطع ُّ‬ ‫ويف سنة ستة عرش وثالثامئة ظهرت القرامطة وهزمت‬
‫سنة سبعة عرش وثالثامئة ُخلع املقتدر و ُبويع ملحمد بن املعتضد ولقب بالقاهر باهلل‪ ،‬ويف اليوم‬
‫وخ َل ُعوا القاهر وأعادوا املقتدر باهلل(((‪.‬‬
‫الثاين قام العسكر َ‬

‫رحلة املهاجر أمحد بن عيسى إىل حرضموت‬


‫ويف هذا العام أيض ًا خرج اإلمام املهاجر أمحد بن عيسى من العراق إىل املدينة املنورة‪ ،‬ويف‬
‫اج‪ ،‬واستباحوا احلرم الرشيف‪ ،‬ونـزعوا احلجر‬
‫احل َّج َ‬ ‫ِ‬
‫القرام َط ُة ُ‬ ‫سنة ثامنية عرش بعد الثالثامئة قتل‬
‫األسود وأخذوه معهم مدة اثنني وعرشين سنة‪ ،‬ويف عهد املطيع باهلل أبـي القاسم الفضل بن‬
‫جل َي ُف ومات الناس عىل الطريق‪ ،‬ويف عهده ُأعيدَ‬
‫املقتدر اشتد الغالء واجلوع حتى ُأكلت ا ِ‬
‫األسود إىل مكانه‪ ،‬ويف عهده أيض ًا بدأ العمل عىل إقامة املآتم عىل احلسني بسنة اثنتني‬
‫ُ‬ ‫احلجر‬
‫ُ‬
‫ومخسني بعد الثالث مئة‪ ،‬ويف ثاين عرش من ذي احلجة من ذات العام عمل عيد ديرخم حتت‬
‫رعاية معز الدولة‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.355‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪307‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫صالح الدِّين يف املرحلة(((‬ ‫الصليبيَّة ودَو ُر َ‬ ‫الحُ روب َّ‬
‫َل ْولاَ َص اَل ُح الدِّ ْي ِن َأ ْح َيا لِ ِ‬
‫لج َها ْد‬ ‫ون َعا ُث ْوا فِي البِ اَل ْد‬
‫الصلِ ْيبِ ُّي َ‬
‫ك ََذا َّ‬

‫((( ولد صالح الدين عام ‪532‬هـ ‪1137 -‬م من أرسة كردية عاشت يف بلدة َد ِو ْين وهي من أطراف أذربيجان‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه من أصل عريب ألن قبائل العرب كانت تنزل عند األكراد وتتزوج منهم‪ ،‬واألرجح أنه من أرسة‬
‫كردية األصل استعربت بنزوهلا إىل العراق‪.‬‬
‫يت ضارب ًا يف األرض‬ ‫وكان ميالد صالح الدين يف مدينة تكريت بالعراق وخرج به والده ليلة ميالده من َت ْك ِر َ‬
‫وصل ونزال عند صاحبهام ( عامد الدِّ ين زنكي ) وايل‬ ‫توجه إىل املَ ِ‬
‫بعد خالف جرى مع حاكم البالد‪ ،‬ثم َّ‬
‫وحاكم املوصل آنذاك‪ ،‬فأحسن وفادهتام وأعطاهم أرض ًا يعيشون فيها‪ ،‬واشتغل نجم الدين والد صالح‬
‫الدين وأخوه يف جيش عامد الدين وأخلصا له اخلدمة وأحرزا انتصارات عديدة ‪ ،‬وعهد عامد الدين إىل‬
‫نجم الدين إدارة َب ْع َل َب ّك عند سقوطها بأيدهيم عام ‪534‬هـ (‪1139‬م)‪ ،‬وحني تويف عامد الدين زنكي‬
‫انتقل نجم الدين وأرسته إىل قرى استقطعها من أيدي الدمشقيني بعد أن سلمهم بعلبك‪ ،‬والتحق بخدمة‬
‫(طغتكني) الذي رفعه إىل قيادة اجليش‪.‬‬
‫وكان صالح الدين يف هذه األثناء يرتبى عىل النسك والصالح وقضاء احلياة بني التعلم والتنقل بني دمشق‬
‫وبعلبك حتى اكتملت فروسيته‪ ،‬وعندما أرسل أسد الدين شريكوه عىل رأس محلة إىل مرص اصطحب ابن‬
‫أخيه صالح الدين‪ ،‬وقد بلغ من العمر ستة وعرشين عام ًا‪ ،‬واستطاع اجليش أن َيدْ َحر املرصيني وحيارص‬
‫القاهرة ودخلها فاحت ًا‪ ،‬وكان صالح الدين معه مشارك ًا منذ تلك اللحظة؛ ولكن اخلليفة الفاطمي خدع‬
‫َ‬
‫شريكوه ونفاه خارج القاهرة وألب عليه اإلفرنج ملحارصته؛ ولكنه حارهبم مستعين ًا برأي صالح الدين‬
‫حتى َصدَّ هم‪.‬‬
‫وخرج شريكوه من مرص إىل الشام ثم عاود الكرة ملحاربة الصليبيني بمرص وخاصة بعد أن اصطلح الفاطميون‬
‫مع الفرنجة عىل أن يدفع الفاطميون خراج ًا سنوي ًا هلم‪.‬‬
‫وحاول شريكوه أن يستميل الوايل الفاطمي (شاور) إىل جانبه ملحاربة الصليبيني؛ إلاَّ أن شاور أبى وأبلغ‬
‫الصليبيني موقف شريكوه‪ ،‬واستعد اإلفرنج وشاور ملحاربة الفريقني‪ ،‬وجعل شريكوه عىل قلب جيشه‬
‫صالح الدين ابن أخته‪ ،‬واتفق معه عىل خطة الستدراج الصليبيني خارج القاهرة‪ ،‬ثم ذهب شريكوه‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪308‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫واحتل اإلسكندرية ووقف معه أهلها وجاء اإلفرنج حلصاره ومل يظفروا بطائل‪.‬‬
‫وطالت املعارك بني الفريقني وزاد قلق اإلفرنج من مناوشة نور الدين بالشام لقالعهم وحصوهنم‪ ،‬وسارت‬
‫الرسل بني املعسكرين للصلح فاتفق اجلميع عىل أن يرحل اإلفرنج‪ ،‬ويرحل أيض ًا شريكوه وصالح الدين‬
‫من مرص‪ ،‬ويقدم شاور لشريكوه خسارته يف املعركة‪ ،‬وأن يقدم ملك اإلفرنج السفن لشريكوه كي حيمل‬
‫فيها بعض جنوده إىل الشام‪.‬‬
‫ورفع احلصار وغادر صالح الدين وشريكوه مرص إىل الشام؛ إلاَّ أن الصليبيني عاودوا محلتهم عىل مرص وعاثوا‬
‫فيها الفساد فاستنجدت مرص بنور الدين يف الشام فأرسل محلة فرد املعتدين بقيادة شريكوه وانسحبوا عن‬
‫مرص وبقي شريكوه يف مرص وتعرض لعدد من الدسائس لقتله ولكن اهلل سلمه وخاصة أن ولد شاور‬
‫(شجاع) كان يميل إىل شريكوه أسد الدِّ ين مي ً‬
‫ال كبري ًا‪.‬‬
‫واستطاع أسد الدين شريكوه بعد ذلك أن يتخلص من شاور بقتله ومجع األمر يف يده حتت إمرة اخلليفة العبايس‬
‫ببغداد‪ ،‬وتويف أسد الدين بعد شهرين وخلفه يف منصب الوزارة ابن أخيه صالح الدين وهو يف سن الثانية‬
‫والثالثني‪ ،‬وأحسن سياسة الرعية وأحبه الناس‪ ،‬وبدأ يعمل يف توطيد سلطته يف مرص‪ ،‬وتنفيذ رغبته يف‬
‫مجع كلمة بالد العرب واملسلمني‪.‬‬
‫ومع ازدياد الفتن بني أمراء الشام بعث إليه بعضهم ليقدم إىل الشام إلنقاذهم من اخلطر فلبى الطلب‪ ،‬وجهز‬
‫جيوشه لذلك وأيده اخلليفة العبايس عىل ذلك حتى بلغ دمشق يف ربيع األول سنة ‪570‬هـ أكتوبر‬
‫‪1174‬م‪ ،‬ودخلها من غري مدافعة ثم فتح حلب وبعلبك بعد معارك ضارية‪ ،‬وبعلبك هي البلد التي قىض‬
‫فيها سنني حياته األوىل‪ ،‬وواصل فتحه يف الشام مع ما لقيه من املنازعة واحلرب وحماوالت االغتيال حتى‬
‫أتم اهلل له فتح الشام كلها‪ ،‬ثم توجه إىل جبال الالذقية حيث يقيم احلشاشون الذين كان هلم دور يف التآمر‬
‫ال‪ ،‬ثم صاحلهم وأعطاهم األمان عىل رشوط اشرتطها معهم‪ ،‬وكان هلذا الصلح‬ ‫عىل قتله ونال منهم منا ً‬
‫أثر بعيد يف سري احلروب الصليبية‪ ،‬فنارص اإلسامعليون صالح الدين من حروبه وعاد إىل مرص موطد ًا‬
‫ملكه ومشيد ًا للكليات واجلسور واملستشفيات واحلدائق وتقوية وسائل الدفاع وزيادة األسطول‪ ،‬وأثناء‬
‫ذلك بلغته األنباء بمهامجة الفرنجة لبعلبك وأطراف دمشق وهزموا أخاه (توران شاه)‪ ،‬فسارع بجيوشه‬
‫نحو جنوب فلسطني لفتح الطريق الساحل بني مرص وفلسطني‪ ،‬وتوسع صالح الدين يف َب ِّث جنده يف‬
‫األنحاء مما تسبب إرباك ًا ملن بقي معه‪ ،‬وكادت اهلزائم حتل هبم‪ ،‬وقد تركت هذه الرحلة موقع ًا وأثر ًا عميق ًا‬
‫يف نفس صالح الدين‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪309‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ومل ِ‬
‫يأت عام ‪573‬هـ حتى جهز صالح الدين جيشه وسار نحو الشام وقاتل الفرنجة قتا ً‬
‫ال شديد ًا حتى‬
‫اضطرب موقفهم وتقهقروا واضطروا ملصاحلة صالح الدين عام ‪576‬هـ مدة سنتني وعاد إىل مرص‪،‬‬
‫وأثناء هذا متت له أيض ًا عقد مصاحلات عديدة مع ملوك اإلفرنج ومع ملك بيت املقدس ‪ 580‬هـ ‪.‬‬
‫األرد ّن جنوب طربية‬
‫ُ‬ ‫وتواجه جيش صالح الدين مع الفرنجة الذين حتالفوا عىل القتال وعرب بجيشه هنر‬
‫واستوىل عليها‪ ،‬وحترك الفرنجة للمواجهة‪ ،‬والتقى هبم صالح الدين بني (لوبني ِ‬
‫وح َّطني) ومحلت عليهم‬
‫جيوش املسلمني‪ ،‬وهم –أي‪ :‬الفرنجة‪ -‬يف غاية من االهنيار والتعب‪ ،‬فنالوا منهم منا ً‬
‫ال حتى غروب‬
‫الشمس وباتوا يف أتالل حطني وهم عىل أسوأ حال‪ ،‬وزحف صالح الدين لي ً‬
‫ال عىل التالل وحارصها‪،‬‬
‫ويف يوم ‪ 26‬ربيع الثاين ‪-‬وكان يوم مجعة‪ -‬التحم اجليشان وأطبق جيش املسلمني عىل الفرنجة وقطعوا‬
‫منهم املاء واستداروا عليهم من كل جهة وقاتلوهم وأرسوهم‪ ،‬وبقي ملك الفرنجة عىل التل وحوله‬
‫جمموعة من األمراء والنبالء وبضع مئات من اجلنود وهامجهم ثلة من املسلمني عدة مرات فاستسلم‬
‫الفرنجة مجيع ًا ويف طليعة املأل (غي دي لو سينان) و(رينودي شانيون) ِ‬
‫و(جفري) أخو امللك‪ ،‬وهرب‬
‫امللك ريموز ملك طرابلس هائ ًام عىل وجهه مع ثلة من الفرسان حتى بلغ إىل صور ثم إىل طرابلس ومات‬
‫بعد ثالثة شهور‪.‬‬
‫وأحسن صالح الدين معاملة األرسى الفرنجة إال رينو الذي طعنه صالح الدين يف كتفه بعد أن أثاره‪ ،‬ثم‬
‫أجهز عليه اجلند‪ ،‬وكان األرسى ثالثة آالف والقتىل مثل ذلك‪.‬‬
‫وجهز صالح الدين جيشه بعد ذلك نحو فلسطني وجنوب لبنان ومل جيد مقاومة تذكر بعد معركة حطني‪ ،‬وفتح‬
‫والفو َلة وما حوهلا ثم اجته إىل َصيدا وبريوت ُم َسل ًام بعد حصار‪ ،‬ثم فتح‬ ‫وحي َفا َ‬
‫وص ُّفو ِر َية ُ‬ ‫النارص و َق ْي َس َ‬
‫ار َّية َ‬
‫ُصور وتوجه إىل باب القدس واستسلمت بعد أيام من احلصار ثم الرملة واخلليل وبيت حلم‪.‬‬
‫ويف ‪ 15‬رجب ‪583‬هـ وصل إىل مشارف القدس وطلب من أمرائها املصاحلة فأبوا فهامجها بعد حصار وقتال‪،‬‬
‫ودخلوا املدينة يوم السابع والعرشين من رجب سنة ‪ 583‬هـ من ثقب فتحوه يف السور واستسلمت‬
‫احلامية اإلفرنجية وكره صالح الدين إراقة الدماء فاشرتط عليهم أن خيرج املحاربون من املدينة خالل‬
‫أربعني يوم‪ ،‬وسمح للروم ونصارى القدس باإلقامة باملدينة والتمتع بحقوقهم كاملة‪ ،‬ومن شاء من‬
‫الرعايا أن خيرج إىل موقع من مملكته فله اخلروج كرعايا للسلطان‪ ،‬وقبل الفرنجة الرشط وبدؤوا يغادرون‬
‫القدس مع كامل معداهتم وأدواهتم واجلنود املسلمون حيرسوهنم إىل حيث يريدون من غري أذى وال هنب‬
‫وال استفزاز‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪310‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وظل موقف صالح الدين وجنده يف معاملة األرسى والرعايا مرضب األمثال لدى الفرنجة‪ ،‬وملا خرج‬
‫البطريرك الالتيني (إيرا كلوس) وكان حيمل مقدار ًا كبري ًا من املال واجلواهر قيل للسلطان‪ :‬خذ ما معه‬
‫لتقوي به املسلمني‪ ،‬فقال‪ :‬ال أغدر به‪ ،‬ومل يأخذ منه غري عرشة دنانري كغريه من األرسى‪.‬‬
‫واجتمعت نساء الفرنجة للخروج من بيت املقدس وطلبن منه أن يصفح عن أزواجهن وآبائهن وأبنائهن‪،‬‬
‫فتأثر صالح الدين وأطلق كل زوج وأب وابن وخرجوا مجيع ًا‪.‬‬
‫وكم من أخبار فتح بيت املقدس من صور ونامذج تشري إىل عظمة صالح الدين وشفقته ورمحته وفروسيته‬
‫(صور) التي استعصت‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وأقام صالح الدين شهر ًا كام ً‬
‫ال يف القدس ثم جهز جيوشه ملحارصة ُ‬
‫عىل جنوده‪ ،‬وخاصة بعد أن فرحوا باالنتصار يف بيت املقدس واستهانوا بالفرنجة‪ ،‬وكان للفرنجة دراية‬
‫يف حروب البحار وقد باغت الفرنجة املسلمني وقتلوا منهم عدد ًا كبري ًا وأصابوا سفنهم وغنموا مغانم‬
‫كبرية‪.‬‬
‫ورأى صالح الدين أن رفع احلصار عن صور أقرب إىل السالمة من استمرار القتال حتى تتهيأ اجليوش‬
‫للحرب‪ ،‬فرفع عنهم احلصار واستمرت احلروب مع الفرنجة يف أنحاء أخرى من الشام حتى أطلت سنة‬
‫‪ 1190‬ومل يبقَ بأيدي الصليبيني غري مدينة صور وطرابلس وقلعة طرطوش بعد أن أخذ عليه حاكمها‬
‫عهد ًا وقس ًام باإلنجيل أهنم ال يشهدون حرب ًا عليه؛ ولكنهم خلفوا الوعد ونكثوا العهد وذهبوا جيهزون‬
‫للحرب ويرتاسلون مع أوروبة إلقامة احلرب مرة أخرى أو كام سميت (احلملة الصليبية الثالثة)‪.‬‬
‫ويف ُصور أعدّ اإلفرنج عدهتم للحرب الثالثة واستفادوا كثري ًا من تسامح صالح الدين يف إطالق أرساهم‬
‫وع َّكا) ‪ ،‬ففي عكا كان صالح الدين وجيوشه‬
‫(صور َ‬
‫وأمرائهم حيث أعادوا جتمعهم وأعدوا عدهتم يف ُ‬
‫حتارص اجليوش الصليبية من خارج املدينة وظل احلصار سنتني كاملتني واملسلمون يف داخل املدينة‪،‬‬
‫وحصنوها حتصين ًا منيع ًا‪ ،‬وملا التحم معهم صالح الدين يف أول معركة من شهر شعبان ‪585‬هـ زحزحهم‬
‫ودخل أطراف املدينة‪ ،‬ثم انسحب عنها وتوقف القتال عدة شهور كان كل من الفريقني يعيد ترتيب‬
‫نفسه‪ ،‬وملا عاد صالح الدين لقتاهلم وجدهم أكثر عدد ًا وعدة‪ ،‬واستمر القتال عامني يف الرب والبحر تكبد‬
‫فيها كل من الفرنجة واملسلمني اخلسائر الكبرية كان منها املعركة املسامة (بالوقفة الكربى) التي خرس فيها‬
‫وجال ومجع فلول املسلمني وحثَّهم عىل‬
‫وصال َ‬
‫املسلمون مخسة اآلف جندي لوال أن صالح الدين ثبت َ‬
‫العهد حتى َق َه ُروا جيوش اإلفرنج‪.‬‬
‫وتوعكت صحة صالح الدين وعانى من التوعك كثري ًا ولكنه كان ال يتأخر عن تنظيم جيوشه وترتيب أمور‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪311‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫دولته وكانوا يلومونه عىل ما يفعل‪ ،‬فيقول‪( :‬إذا ركبت للجهاد زال عني األمل حتى أنزل)‪.‬‬
‫ومع طول املدة وطول احلصار ضيق اإلفرنج حصارهم عىل املسلمني يف عكا واستوىل اجلند عليها‪ ،‬وكانت‬
‫مصيبة عظيمة عىل املسلمني وكانت أول معركة كربى خيرسها صالح الدين بعد أربعة عرش عام ًا من‬
‫الفتوحات‪ ،‬ويعزو بعض املؤرخني أن من أسباب ضعف جند صالح الدين عدم تعاون اخلليفة العبايس‬
‫مع اجليوش اإلسالمية املجاهدة حيث رأى أن ما يفعله صالح الدين نوع من التوسع لنفسه وخاصة بعد‬
‫أن أطلق عىل نفسه (امللك النارص)‪ ،‬وعمد صالح الدين يف آخر األمر إىل حرب العصابات التي ظ ّلت‬
‫تشاغل اإلفرنج يف عكا وصور ومن حوهلا‪ ،‬حتى عام ‪587‬هـ سبتمرب ‪1191‬م وكان املسلمون قد أخ َلوا‬
‫َقيسار َّية َ‬
‫وحيفا واشتبكوا مع اجليوش الصليبية يف معركة طاحنة ذهب فيها من املسلمني أكثر من سبعة‬
‫اآلف مقاتل وتشتت اجليش واحتموا بغابة كثيفة الشجر واستطاع صالح الدين محاية من بقي بحسن‬
‫تدبريه وصربه‪ ،‬وانسحب إىل القدس بعد أن حطم كافة قالع عسقالن ويافا واللد والرملة لئال يستفيد‬
‫منها الصليبيون‪.‬‬
‫وزحف ريتشارد قلب األسد إىل القدس ببطء واحتل كافة القالع التي ختلىّ عنها املسلمون وأعاد إعامرها‬
‫وبدأت املفاوضات بينه وبني صالح الدين وأبدى كل منهام اإلعجاب باآلخر وحسن تدبريه‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن احلملة الصليبية الثالثة اشرتك فيها ما ال يقل عن مخس مئة اآلف أو ست مئة ألف مقاتل صليبي‬
‫وذهب فيها ما ال يقل عن مئة وعرشين ألف مقاتل؛ ولكنها مل ِ‬
‫تؤت أكلها بل واجهت قوى املسلمني ومهة‬
‫صالح الدين يف صموده ومعاركه‪ ،‬وثقل عىل ريتشارد قلب األسد عدم قدرته عىل استعادة القدس من‬
‫يد صالح الدين فوافق ريتشارد أخري ًا عىل إقامة صلح دائم مع صالح الدين ليسود السالم بني الفريقني‬
‫ثالث سنوات وتم الصلح وألقت احلرب أوزارها‪.‬‬
‫وعاد ريتشارد إىل أوروبا يف أكتوبر ويف البحر غرقت سفينته وخرج إىل الشاطئ سامل ًا متنكر ًا يف أرض النمسا‬
‫وهم أعداء ألداء له‪ ،‬حيث اكتشفوا أمره وأرسوه ثم أطلق رساحه وعاد إىل بالده‪ ،‬و هبا قتل يف معركة مع‬
‫بعض خصومه عام ‪1199‬م‪.‬‬
‫أما صالح الدين فعزم عىل احلج ولكن أتباعه طلبوا منه االهتامم باحلصون والدفاع وتأخري احلج‪ ،‬فتأخر للغرض‬
‫املذكور ورجع إىل دمشق وهبا بقي يدير شؤون الدولة واجليوش حتى وفاته يوم السابع والعرشين من‬
‫صفر عام ‪589‬هـ مارس ‪1193‬م وقد بلغ السابعة واخلمسني من عمره‪.‬‬
‫رس عظمة صالح الدين ودعامة جمده هي األخالق التي امتاز‬
‫قال مؤلف كتاب «صالح الدين» ‪ :‬والواقع أن ّ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪312‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫لي�ب َد َح َر ْه‬
‫الص َ‬ ‫َو َي�و َم ح َّط َ‬
‫ي�ن َّ‬ ‫َو َخ َّل َص ال ُقدْ َس َو َص�دَّ ال َك َف َر ْه‬

‫ُسميت تلك احلروب باحلروب الصليبية؛ ألن حماريب اإلفرنجة كانوا يرسمون الصليب عىل‬
‫ثياهبم وأسلحتهم‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وكانت فكرة احلروب الصليبية ناجت ًة عن اهتامم األوروبيني بإقصاء األتراك السالجقة من‬
‫حوض البحر األبيض‪ ،‬وكان األتراك مسلمني آنذاك فانترشت فكرة احلرب عىل اإلسالم‪،‬‬
‫وذئاب اإلنسانية‬
‫ُ‬ ‫وكان دعاة احلرب يصورون املسلمني ألبناء أوربا عىل أهنم َأ َك َل ُة لحَ ِم البرش‪،‬‬
‫وأعداء املسيح‪ ،‬وغري ذلك من الصور التي عبرّ عنها املؤرخ اإلنجليزي (جيبون) بقوله‪ :‬ومل‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫عصب‪ ،‬وهي صور ينفيها القرآن ويكذهبا تاريخ الفاحتني‬ ‫تكن هذه ال ُّتهم سوى نتيج َة َ‬
‫اجل ْهلِ وال َّت‬
‫العرب وتساحمهم مع املسيحية يف احلياة العامرة ويف الرشائع والقوانني‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ويقول املؤرخ (رنسيامن)‪ :‬إن املسيحيني كانوا أسعدَ َّ‬
‫حظ ًا يف الغالب حتت حكم مجاعات‬
‫املسلمني منهم حتت حكم ملوك الرومان حيث متتعوا بحرية التجارة والعيش يف ظالل األمن‬
‫بالرضائب َكماَ كا ُنوا يعانون‪ .‬اهـ‬
‫ِ‬ ‫ومل ُي ْر ِه ْق ُه ُم املسلمون‬
‫والر ِ‬
‫غبة‬ ‫اجل َش ِع االقتصادي والسيايس َّ‬ ‫الص ِل َّ‬
‫يبي ُة من أول أمرها بصبغة َ‬ ‫احلر َك ُة َّ‬
‫وقد اصطبغت َ‬
‫السيطرة‪ ،‬وجعلوا من إنقاذ بيت املقدس شعار ًا ُمزَ َّي َف ًا َوسبب ًا يف حتريك العاطفة الدينية‬ ‫ِ‬
‫اجلاحمة يف َّ‬
‫لدى الدَّ مهاء والعامة‪ ،‬وهلذا فإن احلروب الصليبية كانت َ‬
‫أول جتربة يف االستعامر الغريب خارج‬
‫حدود بالدها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق وهي كام عرف عنها أول حروب عاملية‬
‫َع َر َفها التاريخ(((‪.‬‬

‫هبا يف وقت تفسخت فيه األخالق واهنارت القيم‪.‬‬


‫((( «الفتنة املعارصة» ص‪ ،164‬ص ‪ 51‬صالح الدين‪ ،‬قلعبي‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪313‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مة التَّتَار‬ ‫مَ ْرحَ ُلة الدُّويالت َ‬
‫وهجْ ِ‬

‫وم�ا ج�رى ِم�ن فِ ْتن ِ‬


‫َ�ة ال َّت َب�دُّ ِل‬ ‫�و ِل‬ ‫�ت مر ِ‬
‫اح ُ‬
‫ْ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫�ل الت ََّح ُّ‬ ‫َو َا ْحتَدَ َم ْ َ َ‬
‫إل ْف َرنْ�جِ َتغْ�ز ُْو َوت َِف ْ�ر‬
‫َو ُع ْص َب� ُة ا ِ‬ ‫اع ُم ْس�ت َِم ْر‬ ‫الص َر ُ‬‫�م َي�ز َْل َه َذا ِّ‬ ‫َو َل ْ‬
‫ِ‬ ‫ُتن ِ‬
‫ب َع َلى ك ُِّل الدُّ ُر ْ‬
‫وب‬ ‫الر ْع َ‬
‫َو َتز َْر ُع ُّ‬ ‫الح ُر ْو ْب‬ ‫الش�ا َم َوم ْص َر بِ ُ‬ ‫َاز ُع َّ‬
‫وفِ ْتن ٍ‬
‫َ�ة َذ َّل ْ‬
‫الح�كام‬ ‫ُ‬ ‫َو َأغ ُ‬
‫ْل�ب‬
‫ال�رؤُ ْ‬
‫وس‬ ‫�م ُّ‬ ‫ت َلها ُش ُّ‬ ‫َ‬ ‫وس‬ ‫َض ُ�ر ْ‬ ‫ب‬ ‫َح ْ�ر ٍ‬ ‫فِ�ي‬
‫ِ ِ‬
‫�وش َيغْ�ز ُْو ال َب َل�دَ ا‬
‫الج ُي َ‬
‫ُي َجنِّ�دُ ُ‬ ‫�م َو َب�دَ ا‬ ‫َو ْاس� َت ْط َم َع الكَاف ُ�ر ف ْي ُه ْ‬
‫�ن ِج َه ِة َّ‬
‫الش ِ‬
‫�رق بِن ٍ‬
‫َ�ار ت َْض َط ِر ْم‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫َالس ْي ِل ال َع ِر ْم‬
‫غول ك َّ‬ ‫الم ُ‬ ‫اءت َ‬
‫إِ ْذ ج ِ‬
‫َ َ‬
‫ف َونِ�زَا ٍع َم ْذ َهبِ ْي‬‫اختَِل�اَ ٍ‬
‫َوفِ�ي ْ‬ ‫ب‬ ‫ون فِي ِص َرا ٍع ُم ْر ِع ِ‬ ‫مس�لِ ُم ُ‬ ‫َوا ُل ْ‬

‫كان املسلمون آنذاك يف حا َل ٍة من االختالف والتجزؤ؛ بل حتى إهنم ال يدركون طبيعة‬


‫احلركة الصليبية وهدفها‪ ،‬فالفاطميون يف مرص ذهبوا يفكرون يف التحالف مع الصليبني ضد‬
‫خصومهم من أهل السنة أي اخلالفة العباسية يف بغداد‪ ،‬واألتراك السالجقة يف الشام‪ ،‬وكان‬
‫صاحب السلطة الفعلية يف مرص آنذاك هو الوزير األفضل شاهنشاه بن بدر اجلاميل الذي ظل‬
‫حيكم البالد طوال عهد اخلليفة الفاطمي املستعيل (‪1101 – 1094‬م) والسنوات العرشين‬
‫األوىل من حكم اخلليفة اآلمر‪ ،‬أي‪ :‬حتى سنة ‪1121‬م‪ ،‬ويظهر عدم إدراك الوزير األفضل‬
‫للحركة الصليبية من أنه عندما رأى الصليبيني هيامجون السالجقة (أعداء الدولة الفاطمية‬
‫قيم تحَ ا ُل َف ًا بينه وبني الصليبيني بحيث تكون أنطاكية للصليبيني وتكون بيت‬‫آنذاك) َف َّك َر َأ ْن ُي َ‬
‫الوضع يف أواخر القرن احلادي‬
‫ِ‬ ‫فضل الفرص َة أمام هذا‬ ‫األ ُ‬‫املقدس للفاطميني‪ ،‬وانتهز الوزير َ‬
‫ُ‬
‫املشاورات مع الصليبني حول‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كانت‬ ‫متك َن من فتح بيت املقدس‪َ ،‬و ِم ْن َث َّم‬
‫عرش وأرسل جيش ًا َّ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪314‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اك َية‪ ،‬إلاَّ َأ َّن الصليبينيَ أعادوا ترتيب أنفسهم وجردوا حمَ ْ َلت َُهم عىل القدس بعد فتح بريوت‬‫َأن َْط ِ‬

‫الرملة ثم اقتحموا القدس بعد حصارها ودخلوها يف ‪ 11‬رمضان‬ ‫س َو ُصور َو َع َّكا َو َّ‬ ‫َ‬
‫وط َرا ُب ُل َ‬
‫دت بيت املقدس مملك ًة التيني ًة‬
‫‪463‬هـ ‪ 14/‬يوليو ‪1099‬م وأعملوا السيف يف أهلها‪ ،‬وهكذا َغ ْ‬
‫باإلضافة إىل ما حوهلا من البالد‪ ،‬وبقيت بعض البلدان الساحلية ُتقاوم الصليبيني من جهة‬
‫وبني ُأمرائها ووالهتا حروب داخلية من جهة أخرى حتى متكن الصليبيون من السيطرة عىل‬
‫األمراء املسلمون ضد الصليبية واجهوها‬
‫ُ‬ ‫بقية البالد‪ ،‬قال (ريف غرورس)‪ :‬وبد ً‬
‫ال من أن يتحدَّ‬
‫الواحدَ تلو اآلخر وتغلغلت الصليبية بينهم(((‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فس ِحقوا‬ ‫ُفرادى وفرادى ُ‬
‫إل ْع َم ِ‬
‫�ار‬ ‫اه َ�ر ا ِ‬‫م�ن دم�روا م َظ ِ‬ ‫حتَّ�ى ا ْنتَه�وا بِهجم ِ‬
‫�ة ال َّتت ِ‬
‫َ�ار‬
‫َ ْ َ َّ ُ َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ال خطري ًا يف تاريخ كل‬‫وحتو ً‬
‫يشري الناظم إىل مرحلة التتار التي كانت بال ًء عظي ًام عىل األمة‪ُّ ،‬‬
‫وخرب‬
‫ٌ‬ ‫هجمة كام سبق‪ ،‬وأزم ًة َع َّبـر عنها يف «تاريخ اخللفاء» فقال‪ :‬هو حديث يأكل األحاديث‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وفادحة تطبق األرض‪،‬‬ ‫تصغر َّ‬
‫كل نازلة‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ونازلة ِّ‬ ‫ٌ‬
‫وتاريخ ُينيس التواريخ‪،‬‬ ‫يطوي َّ‬
‫كل األخبار‪،‬‬
‫الصني‪ ،‬وهم سكان برا ٍر ومشهورون‬
‫والعرض‪ ،‬يسكنون بأطراف ِّ‬ ‫ومتلؤها ما بـني ُّ‬
‫الطول َ‬
‫بالرش والغدر‪ ،‬وكان َّأو ُل خروجهم يف سنة ست وستامئة من بالدهم إىل نواحي الرتك وفرغانة‬
‫وأخذوها‪ ،‬واستمروا يف اجتياح البالد حتى سنة مخس عرش وستامئة‪ ،‬فاستباحوا مملكة خوارزم‬
‫وس َمر َق ْند‪ ،‬حتى وصلوا إىل مهدان‬
‫خارى َ‬
‫شاه‪ ،‬وهي مملكة إسالمية جهة نيسابور‪ ،‬وأخذوا ُب َ‬
‫وقزوين وأذربـيجان وما حوهلا‪ ،‬وقتلوا غالب ِ‬
‫أهلها رجا ً‬
‫ال ونسا ًء‪ ،‬وديانتهم عبادة الشمس‪،‬‬
‫الدواب وليس هلم نكاح ُي ْع َر ُف ْو َن به‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ويأكلون مجيع‬
‫وملا دخلت سنة ست ومخسني بعد الستامئة وصل التتار إىل بغداد يقدمهم هوالكو‪ ،‬قال‬

‫((( «صالح الدين» ص‪ 54‬لقلعبي‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪315‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الناظم‪:‬‬
‫(((‬

‫َت َعق ِ‬
‫ُّ�ل‬ ‫ُيدَ ِّم ُ�ر األَ ْر َض بَِل�اَ‬ ‫ش َج ْح َف ِل‬ ‫إِ ْذ َج َ‬
‫اء ُه ْولاَ ك ُْو بِ َج ْي ٍ‬

‫احتِ َ�ر ْاق‬


‫�ار ًا َو ْ‬ ‫َق ْت ً‬
‫لا َون َْه َب� ًا َو َد َم َ‬
‫�ه إِ َلى ِ‬
‫الع َر ْاق‬ ‫حتَّى ا ْنتَهى بِجي ِش ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫الم ْس� َت ْع ِص َم الخَ ليِ َف� ْة‬ ‫َو َقت َ‬
‫َ�ل ُ‬ ‫الش ِ‬
‫�ري َف ْة‬ ‫َّ‬ ‫الم َس ِ‬
‫�اجدَ‬ ‫َو َه�دَّ َم َ‬
‫َ�اء َوالسِّ� َف َ‬
‫احا‬ ‫َو َر َّو َج الخَ ن َ‬ ‫َو َأ ْخ َ�ر َب البَِل�اَ َد َو ْاس� َت َب َ‬
‫احا‬
‫ودخلت سنة سبع ومخسني وستامئة واألمة بال خليفة‪ ،‬واجتمع يف الشام األمراء واألعيان‬
‫وكذلك بمرص‪ ،‬وقام األمري ُق ُطز بحضور الشيخ عزِّ الدين عبدالسالم ودار احلديث حول ما يجُ َ ابِ ُه‬
‫العدَّ ِة ملالقاة التتار‪.‬‬
‫املسلمني‪ ،‬ويف هذه األثناء َتس ْل َط َن ُق ُطز ولقب «بامللك املظفر» وأخذ ُي ِعدُّ ُ‬
‫ودخلت سنة ثامن ومخسني والبالد بال خليفة‪ ،‬والتتار يتقدم‪ ،‬ووصلوا يف تقدمهم إىل أطراف‬
‫الشام‪ ،‬ودخلوا دمشق وقد حترك املرصيون إىل الشام للقتال‪ ،‬ويف مقدمتهم امللك املظفر‪ ،‬فالتقى‬
‫وه ِز َم ُ‬
‫التتار‬ ‫ُّ‬
‫واصطفوا للقتال يوم اجلمعة خامس عرش من رمضان‪ُ ،‬‬ ‫اجليشان عند َعني َجالوت‪،‬‬
‫األدبار‪ ،‬ودخل املظفر إىل دمشق مؤيد ًا منصور ًا‪،‬‬
‫َ‬ ‫شرَ َّ هزيمة‪ ،‬وقتل من التتار مقتلة عظيمة َو َو َّل ُوا‬
‫وساق الظاهر بـيربس وراء التتار إىل بالد حلب وطردهم عن البالد‪ ،‬واختلف الظاهر مع‬
‫ُ‬
‫وبعض من معه عىل قتل املظفر فقتلوه يف طريق العودة‬ ‫املظفر حول بعض األمور فاتفق بـيربس‬
‫لقبه إىل «امللك الظاهر»‪.‬‬
‫إىل مرص وغري ُ‬
‫ودخلت سنة تسع ومخسني بعد الستامئة والبالد ال زالت بال خليفة‪ ،‬فأقيمت اخلالفة بمرص‬
‫وبويع اخلليفة املستنرص‪ ،‬وكان مدة انقطاع اخلالفة ثالث سنني ونصف‪.‬‬

‫(( ( يبدأ منذ هذا العهد عهدٌ جديدٌ يف تاريخ التحوالت‪ ،‬قال ابن األثري يف تارخيه‪ :‬إن أحداث سنة ‪617‬‬
‫عج بأعظم كارثة َح َّلت باإلنسانية‪« .‬الفتنة املعارصة» لفؤاد عيل خميمر‬
‫هـ التي وقع فيها غزو املغول َت ُّ‬
‫ص‪161‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪316‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َع َلى بِ اَل ِد الغ َْر ِ‬
‫ب َحتَّى ُأ ْر ِج ُفوا‬ ‫اع َيز َْح ُ‬
‫ف‬ ‫�ج ُ‬ ‫َو َق�ا َم بِ ْي َب ُ‬
‫�رس ُّ‬
‫الش َ‬
‫ْ�ر ال َع ِس ْ�ر‬ ‫ِ‬
‫َ�ل أ ْن َطاك َّي� َة ال َّثغ َ‬
‫احت َّ‬
‫َو ْ‬
‫�ش م ْقت ِ‬
‫َ�د ْر‬ ‫ِ‬
‫َو َد َّك َأ ْرميني�ا بِ َج ْي ٍ ُ‬
‫واخلليفة املستنرص باهلل هو أمحد أبو القاسم ابن الظاهر بأمر اهلل أبـي نرص حممد ابن النارص‬
‫لدين اهلل أمحد العبايس‪ ،‬وكان حمبوس ًا ببغداد‪ ،‬فلام أخذ التتار بغداد ُأطلق فهرب إىل عرب‬
‫العراق‪ ،‬فلام َت َس ْل َط َن الظاهر بـيربس وفد عليه فتلقاه السلطان خارج مرص وأدخله يف حفلٍ‬
‫مهيب‪ ،‬ثم بويع له باخلالفة‪ ،‬ثم ارحتل إىل العراق وودعه السلطان بـيربس وخرج معه مجلة‬
‫عسكر من التتار فتصافوا له فقاتلهم وقتل مجاعة من‬
‫ٌ‬ ‫من األمراء واحلكام‪ ،‬ويف الطريق َل ِق َي ُه‬
‫املسلمني و ُقتل اخلليفة املستنرص‪ ،‬وذلك يف الثالث من حمرم سنة ستني بعد الستامئة‪ ،‬وكانت‬
‫خالفته دون الستة األشهر (((‪.‬‬
‫�م ال َقائِدُ‬ ‫ِ‬ ‫فِي َع ْي ِ‬
‫�ن َجا ُل ْو َت َون ْع َ‬
‫واجتَه�دَ الم َظ َّف�ر المج ِ‬
‫اه�دُ‬ ‫ُ ُ ُ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫�ج َب ْعدَ َم�ا ت ََح َّط ُم ْ‬
‫�وا‬ ‫ف�ي ك ُِّل َف ٍّ‬ ‫إِ ْذ َد َح َ�ر َ‬
‫المغ ُْو َل َحتَّ�ى ان َْهز َُم ْوا‬
‫يشري الناظم إىل دور دولة املامليك بمرص يف الوقوف أمام املد املغويل اجلارف حيث أشارت‬
‫أن هوالكو كتب إىل َ‬
‫املظ َّف ِر كتاب ًا يدعوه فيه إىل طاعته فأجاب عليه املظفر بقتل‬ ‫كتب التاريخ َّ‬
‫رسله وتعليق رؤوسهم عىل باب زويله أحد أبواب القاهرة‪ ،‬وكتب اىل أمراء الشام بعزمه عىل‬
‫قتال املغول‪ ،‬وتوجه ركن الدين بيربس البندقداري حتى لقي طالئع املغول وأخذ ُينَا ِو ُش ُه ْم‬
‫ويشاغلهم ريثام يصل السلطان املظ َّفر ويف سبتمرب ‪1260‬م التقى اجليشان وألقى السلطان‬
‫ورا َء ُه يف‬
‫جنود ُه َ‬
‫ُ‬ ‫ُخ ْو َذ َت ُه عىل األرض وصاح بجيشه (وا إسالماه) ثم حمَ َ َل َعلىَ العدو واندفع‬
‫وتقهقر املَ ُغ ُ‬
‫ول‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الص ُف ُ‬
‫وف‬ ‫ت ُّ‬‫واخ َت َّل ِ‬
‫ري ُهم (كتبغا) ْ‬ ‫ٍ‬
‫ضارية ح َّتى هزموا املغول وقتلوا أم َ‬ ‫معر َك ٍة‬
‫َ‬
‫واملسلمون خلفهم وواصل بيربس ُه ُجومه عىل املغول يف الشام واسرتجع منهم كافة حصوهنا‬

‫((( «تاريخ اخللفاء» ص ‪ 440 - 339‬باختصار وترصف‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪317‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ٌ‬
‫خالف شديد َّأدى إىل قتل املظفر وتلقب‬ ‫وعاد إىل مرص إلاَّ أنه حصل بينه وبني امللك املظفر‬
‫بيربس الظاهر وحكم مرص واستمر يف فتوحاته وأحيا اخلالفة العباسية‪ ،‬ومن ثم َمدَّ نفوذه‬
‫وهونني وتِ ْبنِينْ والرملة يف فلسطني‬
‫واجته يف سنة ( ‪665‬هـ ‪1266 -‬م) لالستيالء عىل َص َفد ُ‬
‫وعىل القليعات وحلب ِ‬
‫وعر َقه يف ساحل الشام‪ ،‬وأرسل األمري قالوون وامللك املنصور الثاين‬
‫اليور إىل ْإر ِم ْينِ َية الصغرى‪.‬‬
‫وواصل فتوحاته وبعث بغارات إىل أرمينيا وغزاها‪ ،‬وعاد جيشه بأربعني ألف ًا من األرسى‬
‫وما ال حيرص من الغنائم‪ ،‬وكذلك أحرز بيربس نرص ًا عظي ًام باحتالل أنطاكية بعد حصا ٍر مل َي ُط ْل‬
‫ِ‬
‫وحصون‬ ‫ِ‬
‫األكراد‬ ‫ِ‬
‫وحصن‬ ‫وحصن َع َّكا‬
‫ِ‬ ‫طرابلس‬
‫َ‬ ‫أكثر من مخسة أيام ثم عاد لالستيالء عىل‬
‫ِ‬
‫اإلسامعيلية‪ ،‬وتويف الظاهر بيربس يف حمرم ‪676‬هـ وهو يف الطريق من حلب إىل دمشق‪.‬‬
‫املستنرص اخلليفة احلاكم بأمر اهلل أبو العباس أمحد بن أبـي عيل احلسن بن أبـي بكر‬
‫ُ‬ ‫وبويع‬
‫َ‬
‫بن حسن ابن عيل القبـي ابن اخلليفة املسرتشد باهلل ابن املستظهر باهلل‪ ،‬وكان قد اختفى أيام‬
‫التتار ثم نجا‪ ،‬وخرج من العراق ودخل دمشق‪ ،‬فلام جاء امللك املظفر بعد هزيمة التتار يف‬
‫جالوت اجتمع به وبايعه باخلالفة‪ ،‬وبقي يف أنحاء الشام يقاتل التتار‪ ،‬واستنرص عليهم‬
‫َ‬ ‫ع ِ‬
‫ني‬
‫يف عدة مواقع‪ ،‬وملا رجع الظاهر بـيربس إىل مرص أرسل إليه؛ ولكنه تأخر يف اجلهاد فبويع‬
‫للمستنرص باخلالفة‪ ،‬وملا قدم املستنرص طلبه الظاهر بـيربس للدخول إىل مرص فدخل وأكرمه‬
‫وبايعه باخلالفة وامتدت أيامه نيفا وأربعني وسنة(((‪.‬‬
‫ويف حمرم من عام إحدى وستني بعد الستامئة جاء إىل مرص مجاعة من التتار مسلمني‬
‫وك َفا َي ِة شرَ ِّ هم(((‪ ،‬ويف سنة ثالث وستني وستامئة‬
‫أمره ْم ِ‬
‫ت ِ‬ ‫مستأنسني‪ ،‬وكان ذلك بداية ُخ ُف ْو ِ‬

‫((( املصدر السابق ص‪.441‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪318‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مات الطاغية هوالكو‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلرجاف‪ ،‬وخرج السلطان‬ ‫ويف سنة ثامنني بعد الستامئة عاد جيش التتار إىل الشام وحصل‬
‫لقتاهلم وانترص املسلمون(((‪.‬‬
‫ويف سنة أربعة وتسعني وستامئة دخل إىل اإلسالم «قامزان بن أرغون بن ابغابن بن هوالكو»‬

‫ملك التتار‪ ،‬ففرح الناس بإسالمه وفشا اإلسالم يف جيشه‪.‬‬


‫ويف سنة ست وثالثني بعد السبعامئة‪ ،‬مات ملك التتار أبو سعيد‪ ،‬وهو ِ‬
‫آخر ملوكهم عد ً‬
‫ال‪،‬‬
‫ومل تقم هلم بعد موته قائمة(((‪.‬‬
‫ويف مجادى األوىل سنة ثالث وستني بعد السبعامئة توىل اخلالفة املتوكل عىل اهلل أبو عبداهلل‬
‫حممد بن املعتضد‪ ،‬وامتدت أيام خالفته مخس ًا وأربعني سنة‪ ،‬وويل اخلالفة من ولده مخسة‪.‬‬
‫ُ‬
‫إحداث العالمة اخلرضاء عىل عامئم الرشفاء من آل البـيت سنة ثالث‬ ‫وكان من أعامله‬
‫وسبعني وسبعامئة‪ ،‬وقال يف ذلك أبو عبداهلل ابن جابر األعمى صاحب رشح األلفية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ه ِر‬
‫�ن ل�م ُي ْش َ‬
‫�أن َم ْ‬ ‫إِ َّن ال َع َ‬
‫الم� َة َش ُ‬ ‫الم� ًة‬ ‫َج َع ُل�وا ألَ ْبنَ�اء َّ‬
‫الر ُس�ول َع َ‬
‫يف َع ِن ال ِّط َر ِاز األَ ْخ َض ِر‬ ‫ُيغْنِي َّ‬
‫الش ِر َ‬ ‫�وة فِ�ي كَريِ� ِم وج ِ‬
‫وه ِهم‬ ‫ُ ُ‬
‫نُ�ور النُّب ِ‬
‫ُ ُ‬
‫ويف سنة ثامن وثامنامئة مات اخلليفة املتوكل‪ ،‬وما جاء بعد هذه املرحلة كان ُضعف ًا مستطري ًا‬
‫وبالء ًا متفشي ًا‪ ،‬وقد سمى املؤرخون عرص اكتساح املغول لبغداد وسقوط اخلالفة (مرحلة‬
‫االهنيار)‪ ،‬وما جاء بعدها يطلق عليه « َع ْهد الدُ ويالت» لعدم انتظام العامل اإلسالمي والعربـي‬
‫حتت دولة واحدة وقرار موحد‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬

‫((( املصدر السابق ص ‪.443‬‬


‫((( املصدر السابق ص ‪.446‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪319‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫�ل بالعا َل� ِم ك ُُّل آ َف ِ‬ ‫الخ اَل َف ِ‬
‫ِ‬ ‫�ت َث َوابِ ُ‬
‫�ة‬ ‫َو َح َّ َ َ‬ ‫�ة‬ ‫�ت‬ ‫َو ُم ِّز َق ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫إل ْسَل�اَ ِم ْي‬
‫�جا ِم‬ ‫�ع ُد َو ْيَل�اَ ت بَِل�اَ انْس َ‬
‫بِ ْض َ‬ ‫َو َص َار ُحك ُْم ال َعا َل ِم ا ِ‬
‫ممزق األوصال‪ ،‬كل دويلة‬ ‫أصبح العامل اإلسالمي َ‬ ‫َ‬ ‫بعد أن أجهز املغول عىل اخلالفة العباسية‬
‫عيش َحيا َة البؤس وا َهلوان‪.‬‬
‫مغلوب عىل أمرها َت ُ‬
‫ٌ‬ ‫حيكمها حاكم له أطامعه ورغباته‪ ،‬والشعوب‬
‫وكام سبق ذكره يف األحداث اجلارية بعد سقوط دولة بغداد فإن الدويالت املتنازعة ال‬
‫يستقيم هلا أمر وال يستقر هلا كيان‪ ،‬ال َّلهم إذا استثنينا مرحلة هزيمة املغول عىل يد املامليك‬
‫وانتصار صالح الدين األيوبـي عىل الصليبـيني وتطهري بـيت املقدس منهم‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪320‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫إِعِ اد ُة قرار الخِ َ‬
‫الفة اإلسالمية عىل يَ ْد بَنِي عُ ثْمان‬
‫إل ْف ِ‬
‫�ك َوال ُب ْهت ِ‬ ‫ُ�و ُع ْث َم ِ‬
‫َدك ُّْوا ُص ُ�ر ْو َح ا ِ‬ ‫ِ‬
‫َان‬ ‫�ان‬ ‫لحكْ� ِم َبن ْ‬
‫�اء ل ُ‬
‫َو َج َ‬
‫الخ اَل َف ِة‬
‫ي�ن و ِ‬ ‫َح�ت ِش� َع ِ‬
‫ار الدِّ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫و َأجمع�وا ع َل�ى َق�ر ِار األُم ِ‬
‫�ة‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫األ َّم ِة‪ ،‬حيث عاشت األمة‬‫جديد ِم ْن عهود ال َّتحول يف تاريخ ُ‬
‫ٍ‬ ‫أشارت األبـيات إىل ٍ‬
‫عهد‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫اإلسالمية منذ سقوط اخلالفة عىل عهد اكتساح ال ّتتار لبغداد وما بعدها تشتيت ًا للقرار‪ ،‬وعاشت‬
‫حالة من التفكك والفوىض والرصاع سواء كانت فوىض ورصاع الغزاة واملتنافسني من املسلمني‬
‫والصليب ِّينيَ وغريهم من الطامعني‪.‬‬
‫ضد بعضهم البعض‪ ،‬أو رصاعهم مع الروم وال ّتتار َّ‬
‫إىل أن جاء َقدَ ُر اهلل لدولة بني عثامن يف تركيا‪ ،‬إذ بدأ العثامنيون يقاتلون الروم وينا ِو ُشوهنم‬
‫الق ْس َطنطينية» عام ‪ 874‬هـ (‪1453‬م)‪،‬‬
‫حتى انترصوا عليهم واستَو َلوا عىل عاصمتهم وهي « ُ‬
‫املفك َك ِة والتي‬
‫وجعلوها عاصم ًة هلم‪ ،‬ومتكنوا أيض ًا من االستيالء عىل كثري من البالد العربـية َّ‬

‫طمع فيها الربتغاليون‪ ،‬ووحدوا قرار العامل العربـي واإلسالمي بإعالن اخلالفة العثامنية عىل‬
‫انتكاس ِه‬
‫ِ‬ ‫أنقاض اخلالفة العباسية‪ ،‬وكان ذلك تحَ َ ُّو ً‬
‫ال هام ًا يف تاريخ القرار اإلسالمي العاملي بعد‬
‫وتفك ِك ِه‪.‬‬
‫ُّ‬

‫تأسست الدولة العثامنية نسبة إىل صاحبها ومؤسسها األول عثامنَ بن أرطغرل بن سليامن‬
‫شاه الرتكامين الذي انترص يف حربه عىل مجلة من القبائل يف آسيا الصغرى‪ ،‬فارتفع أمره عند آخر‬
‫امللوك السالجقة السلطان عالء الدين فقربه وولاّ ه عىل البالد‪ ،‬ولقب بامللك‪ ،‬ويف سنة ‪699‬‬
‫هـ تويف السلطان عالء الدين وصفا اجلو لعثامن وغزا بالد الروم وحارب التتار وأخرج الروم‬
‫من آسيا الصغرى‪ ،‬وتواتر بنو عثامن عىل امللك وحارهبم تيمورلنك مع بداية استقرار ملكهم‪،‬‬
‫وعاث يف مملكته الفساد‪ ،‬وثبت آل عثامن يف حرهبم ضد تيمورلنك وجيوشه‪ ،‬كذلك حرهبم مع‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪321‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫املسيحيني من جرياهنم يف املجر والرصب وغريها‪ ،‬واستطاع السلطان مراد العثامين فتح العديد‬
‫من البلدان رغم اخلسائر واملناوشات الكبـرية التي عانتها بالده‪.‬‬
‫ويف عهد حممد الفاتح العثامين استطاع أن يدافع عن مملكته ويسرتد ما أخذ منها‪ ،‬ويفتح‬
‫القسطنطينية بعد أن ُأخذت منهم‪ ،‬وعاد إىل بالد رّ‬
‫الصب وما حوهلا ليفتحها‪ ،‬واستمرت‬
‫فتوحاته يف البالد اليونانية وغريها‪ ،‬ومات السلطان الفاتح يف ربـيع األول سنة ‪886‬هـ ودفن‬
‫باآلستانة‪.‬‬
‫وتوىل بعده احلكم ابنه السلطان بايزيد‪ ،‬ويف عرصه استقرت أمور الدولة‪ ،‬ومات بايزيد‬
‫يف ربـيع أول سنة ‪ 918‬هـ‪ ،‬وتوىل احلكم سليم األول بن بايزيد الثاين بن حممد الفاتح الذي‬
‫حارب الدولة الصفوية بإيران واحتل بـرييز‪ ،‬ثم حتول إىل فتح بالد الشام ومرص‪.‬‬
‫وكان عرص السلطان حسن الغوري‪ ،‬والتقى جيشه مع العثامنيني قريب ًا من حلب يف َم ْرج‬
‫َدابق‪ ،‬و ُقتل السلطان الغوري يف املعركة‪ ،‬واستلم السلطان سليم بالد الشام وأعاد إعامرها‬
‫وأكرم علامءها‪ ،‬ثم سار إىل مرص ودخلها‪ ،‬وقامت معارك مع املامليك حتى قتل سلطاهنا‬
‫طومان‪ ،‬ودخلت مرص يف طاعة الدولة العثامنية (((‪ ،‬واستبدلت العاممة َ‬
‫بالط ْر ُبوش‪ ،‬وأرسلوا‬
‫لرشيف مكة الرشيف بركات يف شأن الدخول يف طاعة الدولة العثامنية فقبل الرشيف‪ ،‬وأخذوا‬
‫للسلطان البـيعة يف احلرمني الرشيفني‪ ،‬وعاد السلطان إىل تركيا ومات يف ثامنية شوال ‪ 926‬هـ‬
‫وعمره أربع ومخسون سنة‪.‬‬
‫وتوىل بعده سليامن باشا القانوين وهو عارش ملوك العثامنيني‪ ،‬وسمي بالقانوين ألنه سن‬

‫العديد من القوانني املدنية املوافقة للرشيعة اإلسالمية‪ ،‬ويف عهده فتحت بِ َ‬


‫لغراد‪ ،‬وفتح جزيرة‬
‫ُر ِ‬
‫ودس يف البحر األبـيض‪ ،‬وهي حصن منيع استعصت عىل من قبله‪ ،‬ووقع معهم معاهدة‬

‫((( «رشح أشعة األنوار» للبـيحاين (‪ )208 :2‬باختصار وترصف‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪322‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫استسالم‪ ،‬وخرجوا من اجلزيرة إىل َمالِ َطة‪ ،‬ودخلت اجليوش اإلسالمية اجلزيرة‪ ،‬ثم احتل‬
‫العثامنيون بالد ِ‬
‫الق َرم‪ ،‬وطالت احلرب مع النمسا ومل يتمكن السلطان من فتحها لشدة الربد‬
‫وبعد املسافات عىل التموين(((‪.‬‬
‫وفتح العثامنيون بالد العجم من أرض فارس بعد متردهم وبالد املجر‪ ،‬ثم تقدم إىل بغداد‬
‫وكانت حتت حكم العجم‪ ،‬ورفع عليها علم اخلالفة العثامنية‪ ،‬وأصلح املنشآت والقبور واملآثر‪،‬‬
‫وعاد إىل تربيز‪ ،‬ومنها وصله اخلرب بفتح اجلزائر‪ ،‬وبداية غزو السواحل اإليطالية والفرنسية‬
‫واألسبانية‪ ،‬ويف سنة ‪1534‬م احتل تونس؛ ولكن األسبان أعادوا تونس مرة أخرى‪.‬‬
‫وجهز القانوين جيش ًا من السويس بمرص ملطاردة الربتغاليني يف مياه املحيط اهلندي‪ ،‬ولتعزيز‬
‫ُ‬
‫اجليش االستيال َء عىل عدن وأخرج آخر‬ ‫قوته يف اليمن‪ ،‬وجتديد احلملة عىل عدن‪ ،‬واستطاع‬
‫حكام الطاهريني منها‪ ،‬وأصبح معظم اليمن بل كله تابع ًا لبني عثامن اللهم إلاَّ بعض أجزائه‬
‫التي كان حيكمها أئمة الزيدية(((‪.‬‬
‫وبعد فتح عدن توجه العثامنيون إىل اهلند ملقاتلة الربتغاليني َب َّر ًا َو َب ْح َر ًا‪ ،‬ولكنهم اهنزموا‬
‫وعادوا إىل عدن(((‪ ،‬وتواترت احلروب بـني العثامنيني والزيدية حول صنعاء حتى تويف السلطان‬
‫سليم القانوين يف سنة ‪974‬هـ‪.‬‬
‫سليم الثاين وواصل فتوحاته وحروبه عىل َن َس ِق أبـيه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وتوىل احلكم بعد سليامن القانوين‬
‫وكان من أعامل سليم الثاين غزو ُق ْبـرص‪ ،‬واستمرت حتت احلكم العثامين إىل سنة ‪1295‬هـ‪،‬‬
‫ثم تنازلت عنها تركيا لإلنجليز أيام السلطان عبداحلميد الثاين‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)217 :2‬‬


‫((( املصدر السابق (‪.)222 :2‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪323‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املرحل ُة ال ُغ َث ِائ َّيةُ‬
‫األحالس‪ ،‬السرَّ اء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫روز الفتن‪ْ :‬‬ ‫اهنيار دولة اخلالفة و ُب ُ‬ ‫بد ُء‬
‫الصماَّ ُء ال َع ْم َيا ُء‬
‫الد َهيامء‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫( الاِ ْستِ ْع اَمر‪ ،‬الاِ ْستِ ْهتَار‪ ،‬الاِ ْستِ ْث اَمر )‬

‫وش ُك َأنْ َتداعى عليكم األمم كام َتداعى َ‬


‫األ َك َل ُة عىل‬ ‫« ُي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نحن يا رسول اهلل؟‬ ‫أم ْن ِق َّل ٍة ُ‬
‫َق ْص َعتِها» قالوا‪ِ :‬‬
‫السيلِ ‪،‬‬
‫ثاء َّ‬ ‫كغ ِ‬ ‫كثري ؛ ولك َّنكم ُغ ٌ‬
‫ثاء ُ‬ ‫يومئذ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫قال ‪« :‬ال‪ ..‬أنتم‬
‫الوهن يا رسول اهلل؟‬ ‫ُ‬ ‫الو َه ُن» قالوا ‪ :‬وما‬ ‫ُيلقى َع َل ْي ُك ُم َ‬
‫ب الدنيا وكراهي ُة املوتِ»‬ ‫قال‪ُ « :‬ح ُّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪324‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪325‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ظهُ ور مَ ْرحَ لة ُ‬
‫الغثَائية‬ ‫ضعف الدَولة العُ ثْمانِية و ُ‬
‫بد ُء َ‬
‫االن ِ‬
‫َت فِي َها ُش�رو ُط ِ‬ ‫ف بِدَ و َل ِ‬
‫�ة ال َق َر ْار‬
‫ْح َس ْار‬ ‫ُ ْ‬ ‫َو َب َرز ْ ْ‬ ‫الض ْع ُ ْ‬ ‫لما َب�دَ ا َّ‬ ‫َّ‬
‫َت بِ َها ا ِ‬
‫إل َد َار ْة‬ ‫ب َوا ْز َدان ْ‬‫فِي الغ َْر ِ‬
‫�ار ْة‬
‫الح َض َ‬ ‫ـ�م َ‬
‫ِ‬
‫َو َظ َه َ�ر ْت َم َعال ُ‬
‫اك نَح ِ ِ‬
‫َفدَ َخ َل النَّخْ ُر إِ َلى ُع ْم ِق األَ َس ْ‬
‫اس‬ ‫اس‬ ‫�و اال ْقت َب ْ‬‫ْ�ر ُ ْ َ‬ ‫ت ََو َّج� َه األَت َ‬
‫يشري الناظم إىل بدء ما َح َّل بدولة اخلالفة‪ ،‬حيث تواتر سالطني آل عثامن من بعد سليم‬
‫الثاين يف مرحلة بدأت فيها أطامع الدول األوروبـية‪ ،‬واكتشاف رأس الرجاء الصالح‪ ،‬وكانت‬
‫الربتغال مملكة أوروبـية يف اجلنوب الغربـي من أسبانيا عىل املحيط األطلنطي وعاصمتها‬
‫« َلشْ ُب ْو َنة»‪ ،‬وشعبها شعب ًا استعامري ًا‪ ،‬وهلذا طمعوا يف السيطرة عىل البحار‪ ،‬ووجدوا يف دولة‬
‫آل عثامن َض ْعف ًا يف التسليح احلربـي مما َيسرَّ للربتغاليني غزو الشواطئ‪ ،‬ومل ينتبه العثامنيون هلذا‬
‫اخلطر إلاَّ يف عهد سليامن باشا القانوين‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫اك َج ْو َه ُ�ر ْه‬ ‫ِد ْينَ� ًا َو ُد ْن َي�ا َوك َ‬
‫َ�ذ َ‬ ‫ي َم ْظ َه ُ�ر ْه‬ ‫�د َق ِ‬
‫�و ٌّ‬
‫و َأو ُل العه ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الح ْك ِم م ْن ت َْحت ِّ‬
‫الست َْار‬ ‫َو َد َخ ٌن في ُ‬ ‫�ار َوان ِْه َي ْ‬
‫�ار‬ ‫َوآخ ُ�ر ال َع ْه�د انْح َس ٌ‬
‫ودع ِم ِه�م ِسياس� َة التَّج ِد ِ‬ ‫�ل اليه ِ‬
‫ي�د‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫�ود‬ ‫َأ ْف َض�ى إِ َل�ى تَدَ ُّخ ِ َ ُ‬
‫�ن‬‫إِ ْذ َأ ْس� َل ُم ْوا ز ُْو َر ًا بَِل�اَ َي ِق ْي ِ‬ ‫الح ْك ِم بِ ْ‬
‫اس� ِم الدِّ ْي ِن‬ ‫�وا ف�ي ُ‬
‫َت َغ ْل َغ ُل ِ‬
‫ْ‬
‫�ؤ ْوا األَ ْو َط َ‬
‫�ان للخَ َ�ر ِ‬
‫اب‬ ‫َو َه َّي ُ‬ ‫َاب‬‫اس� َة األَ ْح�ز ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ�وا س َي َ‬ ‫َوك ََّون ْ‬
‫تشري األبـيات إىل مرحلة الدولة العلية العثامنية‪ ،‬وما كانت عليه يف بداية أمرها من القوة‬
‫واملَن ََع ِة والعزة‪ ،‬مما جعل هلا يف نفوس األعداء هيب ًة ومكان ًة يف شؤون الدين ملا كانت عليه من‬
‫ِ‬
‫اهليبة انترش املذهب الس ّني يف أطراف العامل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫نرص ملنهج اإلسالم عىل منهج أهل السنة‪ ،‬وهبذه‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪326‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مآخ ِذ البعض عىل ِعلاَّتهِ ِ ْم‬
‫وسا َد رجا ُل ُه وعلامؤُ ُه َبر ْغ ِم ِ‬
‫وتعزز مذهب أهل الذوق «ال َّتصوف» َ‬
‫ٍ‬
‫وتفريط يف‬ ‫ٍ‬
‫إفراط‬ ‫مذهب ُ‬
‫رؤية‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ولكل‬ ‫إل ْف َر ِ‬
‫اط وال َّتفريط؛ ولك َّنها كانت مرحلة ذات أبعاد‪،‬‬ ‫ِم َن ا ِ‬

‫الغالب‪ ،‬واملرتبصون دائ ًام ال يقفون إلاَّ عند َّ‬


‫الس ِّي ِئ أو الوجه املظلم ال غري‪.‬‬
‫وكفى َّ‬
‫أن هذه اإلفراطات والتفريطات مع غريها من العوامل كانت من أهم أسباب‬
‫ِ‬
‫أضدادها‬ ‫ِ‬
‫وسياسة‬ ‫ِ‬
‫رضبات أعدائها‬ ‫أمام‬
‫ضعف الدولة فيام بعد‪ ،‬وبدء انحدارها يف العد التنازيل َ‬
‫ُ‬
‫وأبواق الدعوات التحررية‪ ،‬ففتحوا‬ ‫مظاهر احلضارة الغربـية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومؤامرات أبنائِها الذين هَ َب َرتهْ ُ م‬
‫ِ‬
‫أبواب ِّ‬
‫كل يشء‪ ،‬فكانت من أخطر األمور املؤدية إىل االهنيار‪ ،‬وتتلخص هذه‬ ‫َ‬ ‫عىل أنفسهم‬
‫العوامل فيام ييل‪:‬‬
‫‪ )1‬تأثر الدولة باحلضارة الغربـية والتمتع بالشهوات‪.‬‬
‫‪ )2‬اتصال املفكرين واملثقفني املسلمني باألوربـيني‪ ،‬وكثرة ال َب َع َث ِ‬
‫ات إىل أوربا واالنغامس‬
‫يف احلريات األوروبـية‪.‬‬
‫‪ )3‬تغلغل هيود الدونمة يف اجلمعيات والتكتالت السياسية‪ ،‬ووصوهلم من خالل احلزبـية‬
‫إىل مواقع القرار‪ ،‬وتشجيع هذه اجلمعيات عىل النمو واخرتاق الواقع التقليدي‪.‬‬
‫روج هلا اليهود‪ ،‬كسياسة الترتيك ((( والتعريب‬
‫‪ )4‬التأثر األعمى بسياسة القوميات التي َّ‬
‫وحركة االنفصال‪ ،‬وخاصة يف شعوب البلقان املسيحية(((‪.‬‬
‫واجل ْن ِد بدعوة العلامنية «فصل الدِّ ين‬
‫‪ )5‬تأثر العديد من احلكام وبطانات البالط العثامين ُ‬
‫ِ‬
‫مرحلة الثَّورة الصناعية‪.‬‬ ‫عن الدولة»‪ ،‬وهو ما كانت تروج له الدول األوروبـية إِ َّب َ‬
‫ان‬
‫قال الناظم‪:‬‬

‫((( الترتيك‪ :‬مبدأ تركيا لألتراك‪ ،‬وهي ما تسمى بالدعوة إىل الطورانية ( القومية الرتكية )‪.‬‬
‫((( كانت هناك دعوة تسمى ( السالفية )‪ ،‬وهي توحيد صفوف نصارى ال َب ْلقان ضد املسلمني‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪327‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َّاس‬ ‫ك ََم�ا َأتَى فِ�ي َق ْو ِل َخ ْي ِ‬
‫�ر الن ِ‬ ‫س‬‫َ�ة األَ ْحَل�اَ ِ‬ ‫ت بِ ِف ْتن ِ‬
‫َف ُس ِّ‬
‫�م َي ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫وح ْر ٌب َوانْتِ َق ُ‬
‫اض الدُّ َو ِل‬
‫الم َب َّج ِ‬
‫�ل‬ ‫�ن ال َق َ�ر ِار َ‬
‫الواح�د ُ‬ ‫َع ِ‬ ‫َه ْر ٌب َ‬
‫األح اَلس» وهي من أمارات الساعة‪ ،‬وقد‬ ‫تشري األبـيات إىل ما َسماَّ ه الرسول ﷺ « ِ‬
‫بف ْتنَة ْ‬
‫ص َّنف العلامء هذه الفتن َة بأهنا من الفتن التي قد َعبرَ ت يف ِفت َِن املراحل املتقدمة‪ ،‬جاء يف ذيل‬
‫«اإلشاعة» قال اإلمام الشاه ويل اهلل رمحه اهلل‪ :‬يشبه واهلل أعلم أن تكون فتنة األحالس قتال أهلِ‬
‫الشام عبدَ اهلل بن الزبـري ؤ‪ .‬ذكر ذلك يف «احلجة البالغة» (‪.)196 :3‬‬
‫قال يف «بذل املجهود» (‪ )132 :18‬يف رشح معنى «األحالس»‪ ،‬قال‪ :‬مجع حليس وهو ما‬
‫س‪ :‬هو ِ‬
‫الك َس ُاء عىل ظهر البعري حتت‬ ‫يبسط حتت ُح ِّر الثياب فال تزال ُملقا ًة حتتها‪ ،‬وقيل ِ‬
‫احل ْل ُ‬
‫ال َقت ِ‬
‫َب‪.‬‬
‫قال يف املتن‪ :‬كنا قعود ًا عند رسول اهلل ﷺ فذكر الفتن فأكثر يف ذكرها حتى ذكر فتنة‬
‫وح َر ٌب» قال يف رشح‬
‫األحالس‪ ،‬فقال قائل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وما فتنة األحالس‪ ،‬قال‪« :‬هَ َر ٌب َ‬
‫وح َرب»‪:‬‬
‫بذل املجهود‪« :‬هَ َرب» بفتحتني‪ :‬أي‪ :‬يفر بعضهم من بعض ملا بـينهم من العداوة‪َ « ،‬‬
‫بفتحتني أي أخذ مال وأهل بغري استحقاق‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ‪ :‬والذي أظن أهنا ٌ‬
‫فتنة حدثت يف آخر خالفة عثامن ؤ وثارت بعد‬
‫املسلمني‪ ،‬حتى متادت وبقيت إىل زمن معاوية‪ ،‬واتفق عليه بعد صلح اإلمام احلسن بن عيل ؤ‪.‬‬
‫الشيخ الشاه و ُّيل اهلل الدهلوي‬
‫ُ‬ ‫قال يف «بذل املجهود» ص (‪ :)396 :18‬فتنة األحالس حمَ َ َل َها‬
‫يف «حجة اهلل» (‪ )159 :3‬عىل ِ‬
‫قتال أهلِ الشام َ‬
‫ابن الزبـري ؤ‪.‬‬
‫ويف «بذل املجهود» (‪ )88 :5‬عىل مقتل عثامن ؤ‪ :‬قلت‪ :‬وإذا كان املفرسون للحديث‬
‫قد جعلوا «فتنة األحالس» هي ما جرى البن الزبـري أو مقتل عثامن‪ ،‬فإن سياق احلديث يشري‬
‫ٌ‬
‫طويل وال عهدٌ متقادم‪ ،‬فاحلديث الرشيف جيمع بـني‬ ‫إىل تالزم فئتني مع ًا ال يفصل بـينهام ٌ‬
‫زمن‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪328‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مرحلتني متقاربتني كام هو يف النص‪« :‬فقال قائل يا رسول اهلل وما فتنة األحالس؟ فقال‪« :‬هَ َر ٌب‬
‫وح َر ٌب‪ ،‬ثم فتنة الرساء َد َخنُها من حتت َق َد َم ْي َر ُجلٍ من أهل بـيتي يزعم أنه مني وليس مني‪،‬‬
‫َ‬
‫وإنام أوليائي املتقون»‪ ،‬قال الشيخ حممد زكريا الكاندهلوي يف «رشح اإلشاعة» للربزنجي عند‬
‫الرساء»‪ :‬قال يف «حجة اهلل» (‪ :)159 :3‬هو تغلب املختار أو‬
‫هذا احلديث‪ :‬وقوله‪« :‬ثم فتنة ّ‬
‫خروج أبـي مسلم اخلراساين لبني العباس‪ ،‬ويف «بذل املجهود» (‪ :)89 :5‬عىل فتنة رشيف‬
‫ارن ُْفوري رمحه اهلل‪ :‬والذي يظهر يل أهنا‬
‫الس َه َ‬
‫مكة سنة ‪ 1334‬هـ‪ ،‬قال يف احلاشية‪ :‬قال اإلمام َّ‬
‫هي الفتنة التي حدثت يف رمضان سنة ألف وثالث مئة وأربع وثالثني‪ ،‬ومنشؤها َّ‬
‫أن الرشيف‬
‫حسني بن عيل كان يف زمن حكومة األتراك وحكومة النرصانية فلحق باحلكومة النرصانية رس ًا‬
‫ووافق معهم عىل حرب األتراك‪ ،‬فقتل األتراك الذين كانوا يف مكة املكرمة َو َس َبى نساءهم‪ ،‬ثم‬
‫وسمى نفسه « َ‬
‫ملك احلجاز»‪ ،‬وبقيت حكومته قريب ًا من عرش سنني‪ ،‬ثم‬ ‫توىل احلكومة بنفسه َّ‬
‫كو ِر ٍك‬
‫اضمحل أمره واصطلح الناس عىل حكومة ابنه عيل بن احلسني‪ ،‬ومل ينتظم له أمر‪ ،‬فبقي َ‬
‫عىل ِض ْل ٍع‪ ،‬وإنام سمي هذه الفتنة فتنة الرساء؛ ألن مبناها وأسباب حديثها كان يف الرس‪ ،‬فإن‬
‫احلكومة النرصانية أحالته إليها وأرسلت إليه من اجلنيهات ألوف ًا يف الرس ليبغي عىل حكومة‬
‫اإلسالم وينحرف عنها‪ ،‬فقسم من هذه اجلنيهات يف البدو وتوافق معهم عىل قتال األتراك‬
‫املسلمني وكل ذلك يف الرس‪ ،‬واتفق أن قائد األتراك الذي كان بمكة ُأخرب بيشء من تلك الفتنة‬
‫فسأل الرشيف عنها فحلف له عند الكعبة أنه ال أصل هلا‪ ،‬حتى اطمأن قائد األتراك‪ ،‬ثم وقع‬
‫ما وقع» (((‪.‬‬
‫قلت واهلل أعلم‪ :‬وعىل هذا التعليل الذي فرسه الشيخ السهارنفوري رمحه اهلل يكون أيض ًا‬
‫معنى فتنة «األحالس»‪ :‬مرحلة اهنيار الدولة العثامنية وما طرأ يف أخرياهتا من مؤامرات غري‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.397‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪329‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫واضحة وال معلومة‪ ،‬ألهنا سبقت فتنة الرساء التي ذكرها الشارح‪ ،‬وبـينهام تالزم زمني‪،‬‬
‫فاألقرب عىل هذا املعنى املشار إليه أن «فتنة األحالس» ‪-‬ويف اللغة‪ :‬احللس ما يبسط حتت‬
‫الثياب إشارة إىل اخلفا والتمويه‪ -‬هي تلك املرحلة احلرجة التي حتركت فيها قوى االستعامر‬
‫عيدَ ظهور الثورة الصناعية لتعمل عىل االستبداد امل َب َّطن عىل ما سمي بترَ ِ َك ِة الرجلِ‬
‫األوروبـي ُب ْ‬
‫املريض‪.‬‬
‫ففتنة األحالس شملت العالمَ َينْ ِ العربـي واإلسالمي بمؤامرة الدول األوربـية عليها‬
‫بأسلوب م َب َّط ٍن وخفي‪.‬‬
‫ِ‬
‫للقضاء عىل قرار احلكم‪،‬‬ ‫رس ًا مع الدول األوروبـية‬
‫جتاوب حكام املسلمني فيها ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وفتنة الرساء‬
‫هتو َك ِ‬
‫ات اليهود والنصارى يف املطالبة بالقوميات واحلريات وغريها‪ ،‬وما جرى بعدها‬ ‫واستتباع ُّ‬
‫ِ‬
‫من احلروب العاملية واملؤدية إىل تغيري خريطة العامل العربـي واإلسالمي وظهور القوى اجلديدة‬
‫يف العامل‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫إلس�ر ِ‬ ‫كَما َأتَى عن ص ِ‬ ‫َ�ة الس�ر ِ‬
‫وج�اء عه�دُ (فِ ْتن ِ‬
‫اء‬ ‫با ِ ْ َ‬
‫اح ِ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫اء)‬ ‫َّ َّ‬ ‫َ َ َ َْ‬
‫�ق ا ِ ِ‬ ‫ِض�دَّ ِ‬
‫الهَل�اَ ِل بِ َط ِر ْي ِ‬
‫�وا‬
‫إللت َ‬ ‫الش ْ�ر ِق َس َ‬
‫�وا‬ ‫َ�ر ُب َم َع َّ‬
‫َآم َ�ر الغ ْ‬
‫ت َ‬

‫الرساء التي أرشنا إليها سلف ًا‪ ،‬وأهنا املرحلة التي خطط فيها‬
‫(((تشري األبـيات إىل فتنة ّ‬
‫رسية تفصل العالقة بـني‬
‫املستعمرون مع زعامء الدول العربـية ومشايخ العشائر بمعاهدات ّ‬
‫هذه الدول وقرار دولة اخلالفة العثامنية‪.‬‬
‫وقد متيزت هذه املرحلة مع سابقتها بام ييل‪:‬‬

‫((( اهلالل‪ :‬هو الشعار العاملي لدولة اخلالفة‪ ،‬كام أن الصليب هو الشعار العاملي للمسيحية‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪330‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أ) فتنة األحالس‪:‬‬
‫الرسي ا ُمل َب َّطن من الدول األوربـية ضد قرار دولة اإلسالم املتمثل يف تركيا‪.‬‬
‫العمل ّ‬ ‫‪- 1‬‬
‫إثارة العرقيات والقوميات‪ ،‬وبدء نشاط هيود الدُّ ونمة يف تركيا والعامل‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬
‫إنشاء اجلمعيات الرسية والعلنية واألحزاب السياسية‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬
‫‪ -4‬بداية األطامع التوسعية يف البالد العربـية واإلسالمية بعد اكتشاف رأس الرجاء‬
‫الصالح‪ ،‬وظهور مرحلة الثورة الصناعية‪.‬‬
‫‪ -5‬حترك العصبـية الصهيونية ضمن هذه الفتنة إلجياد وطن قومي لليهود عرب املؤامرات‬
‫والدسائس‪.‬‬
‫العالمَ َينْ ِ اإلسالمي واألوروبـي الرشقي‬
‫‪ -6‬ظهور احلركة املاسونية وحتريك أتباعها يف َ‬
‫والغربـي‪.‬‬
‫ب) فتنة الرساء‪:‬‬
‫‪ -1‬استجابة محلة القرار العريب واإلسالمي لسياسة القوميات وال َّتخيل عن دولة القرار‬
‫الواحد دولة اخلالفة‪.‬‬
‫األوربـية الغا ِز َي ِة‪ ،‬ومشايخ وسالطني البالد‬
‫ِ‬ ‫‪ -2‬بدء املعاهدات الرسية بـني الدول‬
‫العربـية واإلسالمية لنقض العالقة بـني الدولة العثامنية وهذه الدويالت باملعاهدات‬
‫املتنوعة‪.‬‬
‫‪ -3‬اللقاءات الرسية بـني زعامء الدول واألحزاب واجلمعيات العربـية واإلسالمية مع‬
‫الدول الغربـية‪.‬‬
‫‪َ -4‬ت َأ ُّث ُر املفكرين والقادة العسكريني واملثقفني باحلياة الغربـية والعمل المُ َب َّط ِن من العائدين‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪331‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫عىل تطبـيق نامذج الغرب يف األوطان العربـية واإلسالمية(((‪.‬‬
‫‪ -5‬نشاط احلركة الصهيونية وعقد املؤمترات املتتالية واملؤلفات ذات الصلة املبارشة باحلرب‬
‫ضد اإلسالم((( واستقطاع أرض فلسطني للقومية اليهودية والعمل عىل حتقيق ذلك‬
‫بشتى السبل واألساليب‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ون ال َق َر ْار‬
‫َان َم ُأم َ‬ ‫عب�دُ الح ِم ِ‬
‫يد ك َ‬ ‫الح�كَّا ِم َر ْم� َز ًا َو ِش� َع ْار‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َوآخ ُ�ر ُ‬
‫اض�ي لِل َي ُهو ْد‬ ‫لم�ا َأبى منْح األَر ِ‬
‫ّ َ َ َ َ‬ ‫الجنُو ْد‬ ‫َحتَّى ُأ ِز َ‬
‫ي�ح بِ ِّ‬
‫السَل�اَ حِ َو ُ‬
‫الع َّلية السلطان «عبد احلميد» الثاين‪ ،‬وهو السلطان‬ ‫آخر ُخل َف ِ‬
‫اء الدَّ ولة َ‬ ‫تشري األبـيات إىل ِ‬
‫ُ‬
‫املنقذ للدولة العثامنية ولقرار اخلالفة يف العامل العربـي واإلسالمي‪َ ،‬ر ْغ َم ما أحاط به من‬
‫املؤامرات واخلديعة‪ ،‬وما كانت عليه الدولة من الضعف واإلحباط والديون الكبـرية(((‪.‬‬

‫((( كتب هرتزل لعبد احلميد الثاين يف هذا الشأن يقول‪ :‬يل الرشف أن أقدم االقرتاح التايل‪ :‬إين أدرك الصعوبة‬
‫التي تواجه حكومت َُكم بسبب ذهاب شباب تركيا لتلقي العلم يف اخلارج وما يتعرضون له من ضياع‪،‬‬
‫وبخاصة يف تأثرهم باألفكار الثورية‪ ،‬إننا معرش اليهود نلعب دور ًا هام ًا يف احلياة اجلامعية يف مجيع أنحاء‬
‫العامل‪ ،‬وهبذا نستطيع أن نقيم جامعة يف إمرباطوريتكم ولتكن يف القدس مث ً‬
‫ال‪ ،‬وهبذا نخدم العلم والطالب‬
‫ونخدمكم أيض ًا‪ .‬اهـ ص‪« 39‬اليهود يف الوطن العربـي» لداود عبدالغفور‪.‬‬
‫((( عقد يف حياة هرتزل ستة مؤمترات صهيونية كان آخرها مؤمتر عام ‪1903‬م وعام ‪1904‬م‪ ،‬تويف هرتزل‬
‫ونقل رفاته إىل فلسطني عام ‪ 1949‬م بعد احتالل فلسطني‪ ،‬ودفن عىل جبل يف القدس سمي باسمه «جبل‬
‫هرتزل»‪.‬‬
‫((( كان السلطان عبداحلميد السلطان الرابع والثالثني من سالطني الدولة العثامنية‪ ،‬توىل عرش الدولة وهو‬
‫يف الرابعة والثالثني من عمره‪ ،‬إذ ولد يف ‪ 16‬شعبان عام ‪ 1258‬هـ (‪1842‬م) وتربى عىل يد زوجة أبيه‬
‫بعد وفاة أمه وهو يف العارشة من عمره‪ ،‬وأحسنت زوجة أبيه تربيته وتأثر عبداحلميد هبا وأعجب بوقارها‬
‫وتدينها‪ ،‬كام تلقى صنوف التعليم يف القرص السلطاين وتعلم اللغات العربية والفارسية‪ ،‬كام درس التاريخ‬
‫ونظم الشعر باللغة الرتكية العثامنية‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪332‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وكان يميل إىل االهتامم بالسالح واستخدامه ورياضاته‪ ،‬واعتنى باملطالعة واالطالع عىل ما تكتبه املجالت‬
‫والصحف يف عرصه‪ ،‬وتزوج زوجة واحدة وعاش يف بساطة وتقشف‪ ،‬وكان يميل إىل النجارة‪ ،‬واختذ‬
‫لنفسه ورشة نجارة يف قرصه‪ ،‬وعارص مراحل التحوالت عىل يد سالطني عرصه‪ ،‬ومنهم السلطان‬
‫عبدالعزيز ومراد‪.‬‬
‫ويف ‪ 18‬شعبان ‪1293‬هـ تقلد السلطان عبداحلميد احلكم وكانت الدولة مضطربة ومثقلة بالديون وبخزانة‬
‫مالية مفلسة وأطامع عاملية حميطة ببالده ومؤامرات سياسية القتسام ما يسمى برتكة الرجل املريض‪ ،‬وهي‬
‫مقاطعات ودويالت وإمارات الدولة العثامنية املرتامية إبان ضعفها‪.‬‬
‫وأول ما اختذه عبداحلميد من قرارات حاسمة حتجيم نفوذ العديد من الوزراء والكرباء والقادة‪ ،‬وخاصة بعد‬
‫أن تسبب بعضهم يف الزج برتكيا يف حروب خارسة مع روسيا سنة ‪1878-1877‬م‪ ،‬وكانت نتيجة‬
‫هذه احلرب اكتساح اجليوش الروسية لألرايض التابعة للدولة العثامنية‪ ،‬ووصلت القوات الروسية إىل‬
‫ضاحية العاصمة العثامنية (إستانبول) وأجربت الدولة العثامنية عىل توقيع معاهدة (إياستفانوس) يف ما‬
‫رس ‪1878‬م بني الدولة العثامنية والروس‪ ،‬ودفع تعويضات احلرب الباهظة واقتطاع مساحة واسعة من‬
‫الدولة العثامنية سميت بعدها باململكة البلغارية‪ ،‬وهلذا عطل عبداحلميد املجلس الربملاين العثامين ورفض‬
‫التوقيع عىل هذه املعاهدة ونشط عبداحلميد مع الدول األوروبية للضغط عىل روسيا إليقاف تنفيذ بنود‬
‫املعاهدة حتى نجح يف ختفيف وطأة املعاهدة وأثرها‪.‬‬
‫وشهد عبداحلميد تداعيات يف جسد الدولة ‪ ،‬ومن أخطرها ظهور حزب تركيا الفتاة أو ما تسمى بجمعية‬
‫االحتاد والرتقي‪ ،‬وفيها مجلة من هيود الدونمة الذين أسلموا صوريا وتغلغلوا يف مواقع النفوذ يف الدولة‪،‬‬
‫وشهد متردات األرمن وحماولتهم اغتياله‪.‬‬
‫وأمام ذلك كله قام السلطان بإجراءات عديدة إلعادة الثقة بموقع القرار يف داخل تركيا ويف العاملني العريب‬
‫واإلسالمي‪ ،‬وقام بعدة رحالت إىل مرص وأوروبا وخرج من هذه الرحالت بانطباعات مهمة عرف‬
‫فيها مواقف وأحوال تلك الدول وكيف جيب االستفادة منها فيام لدهيا من التقدم العلمي‪ ،‬ولذلك اهتم‬
‫بإدخال املخرتعات العرصية يف دولته‪ ،‬وركز عىل النواحي التعليمية والصناعية والعسكرية واالتصاالت‬
‫وغريها من الوسائل إال أنه وقف ضد االمتداد الفكري للغرب يف بالده‪.‬‬
‫وكان اليهود هم األعداء الطبيعيون للسلطان عبداحلميد‪ ،‬ووصفوه بوصوف سيئة كام هو يف وصف هرتزل‬
‫حيث قال‪ :‬عبداحلميد سلطان ماكر خبيث جدا وال يثق بأحد‪ ،‬وقال أيضا‪ :‬إنني أفقد األمل يف حتقيق‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪333‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أماين اليهود يف فلسطني‪ ،‬وإن اليهود لن يستطيعوا حتقيق أمانيهم يف (األرض املوعودة) طاملا كان السلطان‬
‫عبداحلميد قائام يف احلكم مستمرا فيه‪ ،‬وكان موقف اليهود ضد عبداحلميد نتيجة ملواقفه الثابتة من عدم‬
‫حتقيق مطالبهم يف فلسطني‪.‬‬
‫كام اعتنى عبداحلميد بالرتبية والتعليم وطور املدارس السلطانية وأسس املدرسة التجارية احلميدية وأكاديمية‬
‫الفنون واملدرسة احلربية‪ ،‬وافتتح مدارس أخرى للاملية واجلامرك والرشطة‪ ،‬وزاد عدد مدارس املعلمني‪،‬‬
‫وطور املناهج الدراسية وفتح األبواب للنرش ووسائله وللصحافة‪ ،‬وأصدر قرارا بمنع مظاهر اإلرساف‬
‫يف الدولة عموما ويف القرص احلاكم خصوصا‪ ،‬واستامل العديد من أعضاء املعارضة يف منظامت االحتاد‬
‫والرتقي وغريها إىل املناصب احلكومية‪ ،‬وعفا عن البعض حتى شتت شملهم وأضعف شوكتهم وتتبع‬
‫دعاة الفكر القومي وطارد أصحابه ورصد حركاهتم حتى أوقف نشاطهم املشبوه‪ ،‬كام جهز األساطيل‬
‫احلربية ملحاربة الدول االستعامرية العابثة بشواطئ الدولة العثامنية كام هو احلال يف األطامع الربيطانية يف‬
‫اليمن واخلليج العريب واألطامع الروسية واإليطالية والفرنسية واألملانية واليونانية‪ ،‬وأقام التدابري الالزمة‬
‫أمام هذه األطامع كي يستفيد من العالقة مع بعض هذه الدول دون احلاجة لتحقيق مآرهبا التوسعية‪،‬‬
‫وسعى بجد واجتهاد إلقامة ما يسمى باجلامعة اإلسالمية كتحصني سيايس واجتامعي أمام املد القومي‬
‫واالستعامري العاملي‪ ،‬وأعاد للمسلمني يف العاملني العريب واإلسالمي الثقة يف القيادة اإلسالمية احلكيمة‪،‬‬
‫فهرولت الوفود اإلسالمية من خمتلف بقاع األرض لتهنئته بام هتيأ عىل يده من االنتصارات وخاصة يف‬
‫النزاع العثامين اليوناين وانتصاره يف احلرب عليهم‪ ،‬ومجع السوريون التربعات لتمويل احلرب وكونوا‬
‫جلان اهلالل األمحر ملعاجلة اجلرحى ومواساة أهلها وعمت البهجة يف مسلمي أفريقيا واهلند وغريها من‬
‫بالد العامل‪.‬‬
‫وكل هذا ساعد اخلليفة عبداحلميد عىل خمالفة أساليب سلفه املرتبطني بأوروبا ارتباطا أعمى‪ ،‬وعمل عىل إجياد‬
‫مبدأ (االجتاه إىل داخل األمة إلصالح الدولة) عوضا عن االجتاه إىل اخلارج لإلصالح‪ ،‬وهبذه اجلامعة‬
‫اإلسالمية عمل عىل تقريب وجهة نظر املسلمني‪ ،‬وتبادلت الدول الدعاة واملفكرين من كافة األجناس‬
‫واستفاد البعض من البعض اآلخر‪ ،‬ونرش يف أرجاء العامل اإلسالمي أسباب التواصل كاملراكز اإلسالمية‬
‫يف الداخل واخلارج وطبع الكتب اإلسالمية واختاذ اللغة العربية لغة الدولة ألول مرة يف تاريخ الدولة‬
‫العثامنية‪ ،‬واعتنى باملساجد واجلوامع وعمل عىل ترميمها وإصالحها‪ ،‬واستامل زعامء القبائل العربية‬
‫وأنشأ مدرسة خاصة يف عاصمة اخلالفة لتعليم أوالد رؤساء العشائر والقبائل وتدريبهم عىل اإلدارة‪،‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪334‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫كام استامل شيوخ الطرق الصوفية وتأثر باملنهج الذوقي الصويف‪ ،‬واستفاد من الصحافة اإلسالمية يف‬
‫الدعاية‪ ،‬وقام عىل تطوير النهضة العلمية والتقنية يف الدولة‪ ،‬وأنشا معهدا لتدريب الوعاظ واملرشدين‪،‬‬
‫كام اعتنى بالدول ذات األقلية املسلمة كالصني وغريها واهتم بخدمة احلرمني الرشيفني وتعمريمها‪.‬‬
‫واعتنى بمرشوع خط سكة حديد احلجاز لريبط بني العاصمة استانبول ويربط أيضا دمشق باملدينة املنورة‪،‬‬
‫وقد خدم هذا اخلط احلديدي حجاج تركيا ومرص والشام وغريهم‪ ،‬كام أقام خطا حديديا بني استانبول‬
‫وبغداد‪،‬وعمل أيضا عىل تقليص سلطات املخالفني حلكمه واحلاملني بالثورة أو االنفصال‪ ،‬وكان منهم‬
‫رشيف مكة الذي كانت له اتصاالت خفية مع بريطانيا ووقع يف شباكهم ووعودهم الزائفة حتى إن‬
‫السلطان عبداحلميد ملا شعر بذلك وخيش من ترصفاته عينه عضوا يف جملس شورى الدولة يف إستانبول‬
‫ليمنعه من العودة إىل مكة‪ ،‬وقال السلطان يف بعض تعليقاته عن الرشيف حسني‪ :‬إن الرشيف حسينا ال‬
‫حيبنا‪ ،‬إنه اآلن ساكن وهادئ لكن اهلل يعلم ماذا يمكن أن يفعله الرشيف غدا‪.‬اهـ وهبذا احلجز الذي‬
‫صنعه عبداحلميد تأخر قيام الثورة العربية إىل ما بعد سقوط عبداحلميد الثاين عىل يد االحتاديني‪ ،‬وملا حكم‬
‫االحتاديون الدولة العثامنية أعادوا الرشيف حسينا إىل مكة ومن هناك قام بثورته وحدث بذلك االنفصال‬
‫عن العثامنيني والعرب‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫كام واجه عبداحلميد الثاين محالت واسعة من عصابات اليهود ومفكرهيم‪ ،‬وهم الذين استغلوا الصحافة املحلية‬
‫واخلارجية‪ ،‬وعىل رأسهم اليهودي (ثيودور هرتزل) الذي استطاع مجع التأييد األورويب للمسألة اليهودية‬
‫وجعل منها قوة للضغط عىل عبداحلميد الثاين متهيدا ملقابلته والتفاوض معه يف شأن فلسطني‪ ،‬وملا قابله‬
‫وتفاوض معه كان هرتزل يطالب بتسهيالت كبرية لليهود مقابل خدمات وتسهيالت للدولة العثامنية‬
‫وحل مشاكلها املالية؛ إال أن عبداحلميد الثاين أغلق الباب عىل احللم اليهودي ومل يسمح هلم بيشء مما‬
‫طلبوه عىل أن يعيش اليهود مثل غريهم من اجلنسيات األخرى يف املقاطعات والبالد اإلسالمية‪ ،‬وملا‬
‫أسقط يف يد هرتزل أخذ يعمل مع اليهود عىل تشويه سمعة اخلليفة وتدعيم أعداء السلطان واملتمردون‬
‫عىل احلكم وجتنيد الصحافة واإلعالم يف الداخل واخلارج هلذا الغرض‪.‬‬
‫وحترك (القوميون واملاسونيون والعلامنيون ودعاة اإلنسانية األوروبية والعقالنيون الوضعيون «العلمنة»)‬
‫ضد عبداحلميد الثاين وسياسته اإلسالمية ‪ ،‬واستفادوا من بعض العلامء املناوئني لعبداحلميد من أمثال‬
‫مجال الدين األفغاين وحممد رشيد رضا وجمدي عاكف‪ ،‬وقد منع السلطان جملة املنار من الدخول إىل البالد‬
‫اخلاضعة بصورة مبارشة له‪ ،‬وكان للسيد حممد رشيد رضا موقف من بعض الطرق الصوفية ونقد بعض‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪335‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫صح التفسري تدور حول سياسة األطامع العاملية‪،‬‬
‫وقد كانت فتنة األحالس وفتنة الرساء إذا ّ‬
‫وتفكيك الدولة العثامنية‪ ،‬واإلحاطة هبا وتفكيك شملها واقتسام ثرواهتا وحدودها‪ .‬كتب‬
‫الدكتور عبد الودود شلبـي يف كتابه «أفيقوا أيهُّ ا املسلمون» ص‪ 14‬ما مثاله‪:‬‬
‫َ‬
‫أسوأ من كل القرون التي تقدمته‪ ،‬ألنه القرن الذي‬ ‫وقد كان القرن التاسع عرش وال ريب‬
‫نبعت فيه «املسألة الرشقية»((( من بقايا احلروب الصليبـية‪ ،‬وكانت املسألة الرشقية متخضت‬

‫أساليب التصوف مما أدى إىل املشاحنة بينه وبني الشيخ أيب اهلدى الصيادي الذي كان مقربا من السلطان‬
‫عبداحلميد‪.‬‬
‫وأخذ حممد رشيد رضا يدعو إىل إصالح الدولة العثامنية وحماربة ما سامه باالستبداد الفردي‪ ،‬وكان حممد رشيد‬
‫رضا يرى رضورة وجود دولة عربية منفصلة عن دولة اخلالفة العثامنية ويقول‪ :‬إهنا مصلحة العرب‬
‫السياسية أن يكون هلم دولة مستقلة‪ .‬اهـ‪ .‬بل وامتدح مجعية تركيا الفتاة وسمح يف مرص بانتشار عمل‬
‫عمل اجلمعية ودعمها‪ ،‬وكان يؤيد ويمتدح الزيدية يف اليمن ألهنم قاتلوا العثامنيني ومل خيضعوا هلم مما‬
‫اضطر الدولة العثامنية إىل إقامة الصلح مع الزيدية وأقروا اإلمام عىل حكمه وإمامته‪.‬‬
‫ومما يؤسف له أن أعضاء مجعية االحتاد والرتقي كانوا حتت تأثري األملان وخاصة العسكريون منهم‪ ،‬وخيضع‬
‫اجلناح املدين يف اجلمعية للتأثري املاسوين‪ ،‬وهلذا فقد نشط هؤالء يف صفوف اجليش واملثقفني ضد السلطان‬
‫وحكمه واستخدموا الدين ملحاربة السلطان وافرتوا عليه باسم الدين ‪ ،‬وافتعلت قوى االحتاد والرتقي‬
‫مجلة من اإلشكاالت لتغيري األوضاع يف الدولة‪ ،‬ومنها مترد األرمن عىل املسلمني مما متخض عن فتنة بني‬
‫املسلمني واألرمن وبعد أيام قتل فيها من العثامنيني قرابة ألفي فرد‪.‬‬
‫وخالهلا دبرت اغتياالت أخرى من بعض اجلنود ضد ضباطهم وأوعزوا أن هذه العملية من فعل عبداحلميد‬
‫الثاين‪ ،‬وهلذا قامت عنارص اجليش بالزحف عىل إستانبول إلجبار السلطان عىل التنازل‪ ،‬وأخرج مع مجلة‬
‫من أرسته وعائلته إىل سالنيك‪ ،‬ومل يسمحوا له بأخذ يشء من متاعه‪ ،‬وسيطر االحتاديون عىل القرص‬
‫وأعلن إسقاط اخلليفة عبداحلميد الثاين يف ‪ 27‬نيسان ‪1909‬م‪ ،‬ويف سالنيك ظل عبداحلميد ومن معه‬
‫حتت احلراسة املشددة حتى وفاته يف ‪ 10‬فرباير ‪ 1918‬م‪ ،‬قىض فيها ثامنية سنوات وتسعة أشهر وسبعة‬
‫وعرشين يوما يف السجن رمحه اهلل‪.‬‬
‫((( كانت املسألة الرشقية تعني َّ‬
‫أول األمر ختليص املاملك املسيحية من أيدي الدولة العثامنية‪ ،‬ويف مرحلة ثانية‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪336‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عن دور آخر إضافة إىل دور احلروب الصليبـية‪ ،‬وهو دور التفاهم بـني دول االستعامر عىل‬
‫تركة الرجل املريض(((‪ ،‬وتبادل األعضاء عن كل طرف متفق عليه يقع يف قبضة الطامعني فيه‬
‫من املتنازعني عىل الرتكة وصاحبها عىل قيد احلياة‪.‬‬
‫والدولة العثامنية كان هلا دور ال ُي ْست ََهان به يف تاريخ القرار اإلسالمي‪ ،‬كتب أنور اجلندي‬
‫يف كتابه «اإلسالم والغرب»‪ :‬وال ريب َّ‬
‫أن الدولة العثامنية هي القوة اإلسالمية التي نشأت بعد‬
‫احلروب الصليبـية وحمَ َ ت العامل اإلسالمي من الغزو الغربـي مدة مخسة قرون كاملة (((‪.‬‬
‫ويعزو بعض الباحثني نجاح الدولة العثامنية كون تشكيلها يف جوهره كان (حربـي ًا)(((‪،‬‬
‫وكانت جيوش الدولة ختوض احلرب بحامسة دينية شديدة‪ ،‬وكانت عبارهتم املشهورة‪« :‬إما‬
‫غازي وإما شهيد»(((؛ ولكن هذه املبادئ واملواقف تالشى أمرها يف هناية األمر مع اضطراب‬
‫بح ِرية النرش وإنشاء املدارس اخلاصة لكل‬
‫والسامح هلا ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جماراة الطوائف املتنوعة‪،‬‬ ‫الدولة إىل‬
‫ِ‬
‫استعانة السلطان حممود باشا‬ ‫وجنس من الكفار واملسيحيني دون ضوابط‪ ،‬وأيض ًا‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قومية‬ ‫ذي‬
‫أثبت َف َش َله «إن الطريق الوحيد‬
‫يف مرحلة خالفته بالعقل األوروبـي يف املناهج حتت شعار َ‬
‫ِ‬
‫خطة إصالح اجليش طبق ًا للنظام‬ ‫ملحاربة الغرب هي استعامل أسلحته»(((‪َ ،‬و َف ْت ِح ِه أيض ًا َ‬
‫باب‬
‫األوروبـي عام ‪1821‬م مما فتح الطريق أمام الشباب العثامين أن يقع فريس َة ُ‬
‫الق َوى التغريبـية‬

‫تقسيم الدولة العثامنية والدول اإلسالمية التابعة هلا من قبل الدول األوربـية‪ .‬اهـ «أهيا املسلمون‬
‫َ‬ ‫أصبحت‬
‫أفيقوا» ص‪.14‬‬
‫((( اصطالح أطلقته الدول األوروبـية عىل الدولة العثامنية يف مرحلتها األخرية‪.‬‬
‫((( «اإلسالم والغرب» ص‪.126‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.132‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.133‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.146‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪337‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫األوروبـية حتت شعارات اإلخاء واملساواة واحلرية وما إليها(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫اجلمعيات الرسية واملحافل‬ ‫وقيام‬
‫َ‬ ‫نفتاح الثقا َّ‬
‫يف الغربـي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الفرص الاِ‬
‫ُ‬ ‫وقد أتاحت هذه‬
‫املاسونية حتت نفوذ االمتيازات(((‪ ،‬وملا تنبه السلطان عبداحلميد إىل هذا املخطط الرهيب كان‬
‫الوقت متأخر ًا‪ ،‬فالذين ُسموا َ‬
‫باأل ْح َرا ِر قد َن ُّم ْوا نفوذهم يف داخل اجليش(((‪ ،‬وأصبحوا خطر ًا عىل‬ ‫ُّ‬
‫الدولة له مقوماته التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬هيود الدّ ونمة يف سالونيك وحمافلهم املاسونية‪.‬‬
‫‪ - 2‬اإلرساليات التبشريية يف فروعها املختلفة وما حتتوي من شباب املسلمني والعرب‪.‬‬
‫‪ -3‬مجعية االحتاد والرتقي واحتواء حمافلها املاسونية لألقليات األجنبـية وتعاوهنا الداخيل‬
‫واخلارجي‪.‬‬
‫‪ -4‬مرشوع هرتزل للبحث عن وطن قومي لليهود‪.‬‬
‫وتكاد هذه املقومات تشري إىل ما أثمرته «فتنة األحالس» املذكورة يف احلديث والتي َم َّهدَ ْت‬
‫«لفتنة الرساء» الالحقة‪.‬‬
‫وسمح بحرية املطبوعات‪ ،‬وبرز دور مجعية االحتاد والرتقي التي لعبت دور ًا خطري ًا يف حماربة‬
‫بوطن ِ‬
‫قوم ٍّي لليهود‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قرار اخلالفة وتغريب الدولة العثامنية‪ ،‬كام برز دور هرتزل يف املطالبة‬
‫ِ‬
‫اإلطاحة باخلليفة‪ ،‬وكانت مدة حكم‬ ‫اخلليفة َط َل َب ُه َو َح َّذ َر ُه من ذلك‪ ،‬فعمل يف الرس عىل‬
‫ُ‬ ‫ورفض‬
‫السلطان عبد احلميد ثالث ًا وثالثني سن ًة قدم خالهلا خدمات جليلة لإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫التنازل‪َ ،‬و ُن ِق َل إىل والية سالنيك مع‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السلطان عبدُ احلميد عىل‬ ‫ويف ‪ 27‬إبريل ‪1909‬م ُأ ْجبرِ َ‬

‫((( املصدر السابق ص‪.147‬‬


‫(( ( املصدر السابق ص‪.147‬‬
‫((( «اإلسالم والغرب» ص‪.147‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪338‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َب هناك ُم َذ ِّك َراتِ ِه َق ْب َل وفاته يف‬
‫أرسته وبعض مرافقيه ثم ُن ِق َل إىل أحد قصور إستانبول‪ ،‬حيث َكت َ‬
‫ٍ‬
‫كبـرية‬ ‫ٍ‬
‫بمظاهرة‬ ‫يوم وفاته عيد ًا هلم ساروا فيه‬
‫اليهود واملاسونيون َ‬
‫ُ‬ ‫رب‬
‫‪ 10‬شباط ‪1918‬م‪ ،‬واعت َ‬
‫يف مدينة ( سالنيك ) وطبعوا صور املظاهرات يف بطاقات بريدية‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫�وا ال َعا َل َم َك ْي َ‬
‫ف َش�اؤُ وا‬ ‫َو َحك َُم ْ‬ ‫األَ ْع�دَ ُاء‬ ‫ت ََس� َّل َط‬ ‫َو َب ْع�دَ ُه‬
‫ت ِ‬ ‫وط فِي م ِض اَّل ِ‬
‫عهدُ الس ُق ِ‬ ‫ِ‬
‫الفت َْن‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُّ‬ ‫�ن‬ ‫اءنَ�ا َع ْه�دُ ال ُغ َث�اء َو َ‬
‫الو َه ْ‬ ‫َو َج َ‬
‫يشري الناظم إىل ما كسبه العامل اإلسالمي والعربـي من اإلطاحة بالسلطان عبداحلميد‪ ،‬حيث‬
‫وتسمى باسم السلطان حممد اخلامس‪ ،‬وكان‬
‫ّ‬ ‫ُس ِّلم ُ‬
‫احلكم من بعده إىل شقيقه (حممود رشاد)‬
‫ِ‬
‫االحتاد والرتقي‪ ،‬وبدأت‬ ‫أعضاء‬
‫ُ‬ ‫احلكم‬
‫َ‬ ‫خصية إذ كان ال ِ‬
‫يمل ُك وال حيكم‪ ،‬وتسلم‬ ‫ِ‬ ‫الش‬ ‫َ‬
‫ضعيف َّ‬
‫ٌ‬
‫مرحلة جديد ٌة من اخلداع والقرارات الكافرة‪ ،‬ووقعت فوىض داخلية تقلبت فيها الوزارة‪،‬‬
‫ُو ُع ِقدَ مؤمتر لوزان عام ‪1921‬م حرضه وفد مصطفى أتاتورك(((‪ ،‬وضع الوفد اإلنجليزي‬
‫أربعة رشوط لالعرتاف باستقالل تركيا‪:‬‬
‫‪ -1‬إعالن إلغاء اخلالفة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ -2‬طرد اخلليفة خارج احلدود‪.‬‬

‫احلياتي ِة‪ ،‬ودرس يف املدارس‬


‫َّ‬ ‫ِ‬
‫العالقة‬ ‫(( ( هو مصطفى كامل أتاتورك‪ُ ،‬ولدَ سنة ‪1296‬هـ برتكيا‪ ،‬ونشأ ُمش َّت َت‬
‫كون مجعية الوطن واحلرية يف اخلارج‪ ،‬ثم انضم مع مجعيته‬
‫احلربـية‪ ،‬وخترج من الكلية احلربـية برتبة رائد‪ّ ،‬‬
‫إىل حزب االحتاد والرتقي‪ ،‬وكان مستهرت ًا بالقيم مدمن ًا للخمر‪ ،‬ترقى يف مناصب عسكرية عديدة أمهها‪:‬‬
‫نائب ًا لقيادة اجليش الثاين املرابط يف رشق تركيا‪ ،‬عند هناية احلرب العاملية عينّ مفتش ًا عام ًا للجيوش‪ ،‬وكان‬
‫له دور يف مساومة احللفاء إلنجاح طموحاهتم مقابل الوصول إىل احلكم‪ ،‬وجرت بـينه وبـني السلطان‬
‫عبداحلميد مناوشات عديدة حتى متكن مع هيود الدونمة من حتريك اجليش ضد اخلليفة وعزله‪ ،‬ثم القيام‬
‫والزج بالدولة يف حروب خارسة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بالتنازالت املتتالية للحلفاء للسيطرة عىل مقدرات الدولة وحدودها‬
‫تويف مصطفى أتاتورك بعد حكم رئايس استمر ‪ 15‬عام ًا‪ ،‬وكانت وفاته عام ‪1938‬م‪ .‬راجع يف ذلك‬
‫«البيان واإلشارة يف ما أصاب األمة من هزائم السقوف املنهارة» مطبوع‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪339‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪ -3‬إعالن علامنية الدولة‪.‬‬
‫‪ -4‬مصادرة أمالك بني عثامن‪.‬‬
‫ومنذ تلك اللحظة والدولة العثامنية حتت قبضة العلامنية وهيود الدونمة‪ ،‬وكالمها يؤدي‬
‫دور ًا هام ًا يف إنجاح اللعبة‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين‬‫َو ْاس َت ْث َم ُر ْوا ُحدُ و َد ُه ْم بِ ْض َع سن ْ‬ ‫ين‬‫الم ْسلم ْ‬ ‫اس َم ال ُك َّف ُار َأ ْر َض ُ‬ ‫َت َق َ‬
‫�ال بِال َّت ْعتِي� ِم‬
‫جه ُل�وا األَ ْج َي َ‬ ‫َو َّ‬ ‫�وا البَِل�اَ َد بِال َّت ْق ِس�ي ِم‬ ‫َو َط َّب ُع ْ‬
‫�ة)‬‫�ة (ال َقو ِمي ِ‬‫و َأبدَ ع�وا فِ�ي ُلعب ِ‬ ‫ب َما فِي ال َق ْص َع ِة‬
‫َو َأ ْو َغ ُلوا فِي ن َْه ِ‬
‫ْ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫يشري الناظم إىل ما أثمرت عنه فتنة األحالس وما صنعته بعدها فتنة الرساء من خيانات‬
‫مبطن ٍَة َأودت باخلالفة الرشعية‪ ،‬وبدأ عهد الطورانية القومية‪ ،‬القائمة عىل إثارة العصبـية لدى‬
‫َّ‬

‫العرب من جهة واألتراك وبقية األمم من جهة أخرى‪ ،‬حتى انفصلت كثري من البلدان عن‬
‫دولة القرار املنهارة‪.‬‬
‫وارتكز حمور االنقسام والتجزؤ بثورة رصبـيا والبلقان والبلغار بحجة القوميات ضد‬
‫وإنشاء الدول األوروبـية ِحلف ًا دفاعي ًا مشرتك ًا ملجاهبة الدولة العثامنية‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬ ‫الدولة اإلسالمية‪،‬‬
‫معاهدات ِ‬
‫جمح َف ٍة ضد الدولة‬ ‫ٍ‬ ‫نشوب حرب بـني روسيا وتركيا أدى إىل هزيمة تركيا وتوقيع‬
‫العثامنية‪ ،‬حصلت بموجبها الدول األوروبـية عىل نصيب من أرايض الدولة العثامنية‪.‬‬
‫ويف هذه األثناء انتهزت إيطاليا فرصة انشغال الدولة العثامنية بمشاكلها الداخلية‪ ،‬فهامجت‬
‫ِ‬
‫بمساعدة فرنسا‪ ،‬واحتلت طرابلس وبرقة َر ْغ َم مقاومة الشعب الليبـي‪،‬‬ ‫ليبـيا عىل حني غرة‬
‫واحتلت فرنسا أرض اجلزائر وتونس ُمدَّ ِع َي ًة أهنا تدافع عنها عام ‪1299‬هـ‪.‬‬
‫مرص عام ‪1299‬هـ ثم السودان‪ ،‬وتقاسمت بريطانيا رشق إفريقيا مع‬
‫واحتلت بريطانيا َ‬
‫فرنسا وإيطاليا واحلبشة‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪340‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وكانت هذه احلروب بد َء اشتعال احلرب العاملية األوىل َو َو ُقو َدها‪ ،‬وهي التي انترش أوارها‬
‫يف العامل كله‪ ،‬وجاءت أثناء ذلك ثور ُة البالشفة يف روسيا عام ‪1917‬م عندما وصل الشيوعيون‬
‫الروس هذه الثَّور ُة أعوام ًا طويل ًة‪ ،‬حتى ملَّا تم للبالشفة السيطرة‬
‫ُ‬ ‫حمل القيارصة‪ ،‬وقاوم املسلمون‬
‫زعامء املسلمني ُ‬
‫وأح ِر َقت ُ‬
‫ديار ُهم‬ ‫ُ‬ ‫مجهوريات‪ُ ،‬‬
‫وأ ْع ِد َم‬ ‫ٍ‬ ‫قوميات َو َأ َ‬
‫سم ْو َها‬ ‫ٍ‬ ‫عىل املناطق فرقوها إىل‬
‫احلج‪ُ ،‬‬
‫وأ ْغل َقت‬ ‫والسفر إىل ِّ‬ ‫ُ‬
‫اجلمعة‬ ‫ليلية‪َ ،‬و ُمنِ َع ِ‬
‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫بعضها إىل ٍ‬
‫نواد‬ ‫َو ُهدِّ َم ِ‬
‫ت املساجدُ َو ُح ِّول ُ‬
‫ُ‬
‫والتعليم الرشعي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مدارس القرآن‬
‫ُ‬
‫الصورية كثري ًا من أراضيها(((‪ ،‬وبدأ العمل‬ ‫ِ‬
‫بخسارة الدولة العثامنية ُّ‬ ‫ُ‬
‫العاملية األوىل‬ ‫احلرب‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وانتهت‬
‫ال إليه ُ‬
‫احللفاء‪،‬‬ ‫عن اإلسال ِم‪ ،‬و َم َ‬ ‫ِ‬
‫العلامنية بدي ً‬
‫ال ِ‬ ‫ِ‬
‫الدولة‬ ‫ِ‬
‫إلعالن‬ ‫عىل ِ‬
‫هتيئة مصطفى كامل أتاتورك‬
‫ودعموه يف كل مشاريعه الداخلية‪ ،‬ودعت بريطانيا إىل مؤمتر لندن ِّ‬
‫حلل املسائل الرشقية حرضه‬
‫َ‬
‫مندوبون من كافة األطراف‪ ،‬ورجع املؤمتر دون اتفاق‪ ،‬وحترك مصطفى أتاتورك لقلب احلكومة‬
‫عديدة حتى كان ِ‬
‫آخ ُر َها احلكو َم َة التي قررت إلغاء السلطنة وإعالن اجلمهورية يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مرات‬ ‫يف أنقرة‬
‫‪ 20‬ربـيع األول ‪1342‬هـ ‪ 30‬ترشين األول ‪1923‬م‪َ ،‬وان ُت ِخ َب مصطفى أتاتورك رئيس ًَا حينها‬
‫لح مع احللفاء‪ ،‬وأصدر مرسومات علامنية الدولة‪ ،‬كام ختىل أتاتورك‬
‫الص َ‬
‫باإلمجاع وهو الذي وقع ُّ‬
‫وسواحلها و َم َضايِ ِق َها للحلفاء‪ ،‬وأعلن اإلجراءات التالية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عن ٍ‬
‫مجلة من أرايض تركيا‬
‫الطربوش الرتكي رم ِز اخلالفة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫استعامل ُّ‬ ‫‪ُ -1‬ي ْمن َُع‬
‫‪ -2‬إلغاء حجاب املرأة‪.‬‬
‫‪ -3‬حتويل العطلة من اجلمعة إىل األحد‪.‬‬

‫الصورية إشارة إىل أن احلكم الفعيل بعد تنحية عبد احلميد الثاين مل يعد حكام‬
‫((( ُعبرِّ هنا بالدولة العثامنية ُّ‬
‫إسالمي ًا‪ ،‬وإنام كانت دولة إسالمية صورية‪ ،‬واحلقيقة أن األمر كان بـيد هيود الدونمة وأعضاء حزب‬
‫الصاع بـني القوميات عىل مدى‬
‫االحتاد والرتقي‪ ،‬وهم الذين هيؤوا الدولة للمرحلة الغثائية‪ ،‬وهبم بدأ رِّ َ‬
‫العجاف التي شهدت احلرب‪.‬‬ ‫السنوات ِ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪341‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪ -4‬حتويل األذان من العربـية إىل الرتكية‪.‬‬
‫‪ -5‬منع التعامل باألبجدية العربـية واستبداهلا باإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ -6‬إلغاء القوانني الرشعية‪ ،‬وإقامة الدستور املدين‪.‬‬
‫‪ -7‬تعميق مفهوم الطورانية‪ ،‬وترشيك الوظائف واالمتيازات‪.‬‬
‫ومن ثمرات فتنة الرساء قيام احلرب العاملية الثانية يف ‪ 1‬أيلول ‪1939‬م‪ ،‬وكانت تركيا‬
‫ِ‬
‫جبهات القتال‪ ،‬وتشهد التحول الداخيل يف ُمؤَ َّس َساتهِ َا‪ ،‬ويف هذه‬ ‫يف هذه احلرب معزول ًة عن‬
‫احلرب عمل احللفاء عىل ما ييل‪:‬‬
‫‪ -1‬تقسيم وجتزئة دولة اخلالفة رسمي ًا‪ ،‬ورسم خرائط مناطقية جديدة‪.‬‬
‫‪ -2‬إعطاء اليهود أرض قومية يف فلسطني واالعرتاف هبا‪.‬‬
‫‪ -3‬تثبـيت السياسة العلامنية يف تركيا‪.‬‬
‫ريه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫السالمة الوطني وغ ُ‬ ‫حزب‬
‫وظهر ُ‬
‫َ‬ ‫وقد نشط اإلسالميون يف تركيا ملحاربة هذه التقسيامت‪،‬‬
‫وكون‬ ‫ِ‬
‫االنقالبات يف تركيا حتى َث َّب َت سياس َة « َف ِّر ْق َت ُسدْ »‪َّ ،‬‬ ‫األحزاب َ‬
‫وك َّر َر‬ ‫َ‬ ‫الغرب َعدَّ َد‬
‫َ‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬
‫عات سياسي ًة بلغت َأ َحدَ َعشرَ َ حزب ًا وتجَ َ ُّم َع ًا أسهموا يف اإلغراب بسياسة‬
‫وجتم ٍ‬ ‫تك ُّت ٍ‬
‫الت حزبـي ًة ُّ‬
‫ُ‬
‫األ َّم ِة إىل ُأتون الرصاع والسياسة الغربـية‪.‬‬
‫ِ‬
‫سقوط‬ ‫ِ‬
‫وحقوق ِهم اإلسالمية منذ‬ ‫اإلسالم واملسلمون يف أعز ُم َقدَّ َراتهِ ِم الرشعية‬
‫ُ‬ ‫لقد أصيب‬
‫اس ِة ال َّتط ِو ِ‬
‫يع‬ ‫ول ِس َي َ‬ ‫ِ‬
‫دولة ال َق َرا ِر وسقوط قرار الدولة‪ ،‬ومنذ ذلك احلني وهم َيترَ َ َّو ُض ْو َن عىل َق ُب ِ‬
‫ٍ‬
‫مرحلة وعرص ًا بعد عرص‪ ،‬ويف ذلك حتقيق ما قد أخرب عنه من ال ينطق‬ ‫ـيع مرحل ًة بعد‬
‫وال َّتطبِ ِ‬
‫املراحل َو َحدَّ د َعلاَ َماتهِ ا َو َف َّندَ هو َّيت ََها وهو َّي َة ُش ُعوهبا‬
‫َ‬ ‫عن اهلوى ﷺ‪ ،‬وهو الذي َع َ‬
‫اش هذه‬
‫وع َلام َئها‪.‬‬
‫ومواقف ُح َّكا َمها ُ‬
‫َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪342‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ُّالت ُ‬
‫الغثَا ِئي َِّة‬ ‫عَ هْ ُد فِ تْن َ ِة الد َُّهيْمَ ا ِء ومَ ا َر َافقهَ ا ِم ْن التَّحَ و ِ‬
‫الر َس�ا َل ِة‬ ‫َأ ْخ َب َ�ر َعن ََه�ا َس� ِّيدُ ِّ‬ ‫�اء ا َّلتِي‬
‫وجاءنَ�ا عص�ر الدُّ هيم ِ‬
‫َ ْ ُ ََْ‬ ‫َ‬
‫ي‬ ‫�ت م�ع الب ِ‬ ‫وتَدْ ُخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫اض ٍ‬‫َت ْلطِ�م ك َُّل ح ِ‬
‫�واد ْ‬ ‫�ل ال َبـ ْي َ َ َ َ َ‬ ‫ي‬ ‫�ر و َب�اد ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫�و ِن‬ ‫إل ْسَل�اَ َم بِال َّت َل ُّ‬
‫�ف ا ِ‬ ‫َو َتن ِْس ُ‬ ‫�ث بِالتَّدَ ُّي ِ‬
‫�ن‬ ‫ِ‬
‫�ي ا َّلت ْ‬
‫�ي َت ْع َب ُ‬ ‫َو ْه َ‬
‫حالس والسرَّ َّ ِاء‪ ،‬وكانت‬ ‫ِ‬ ‫يشري الناظم إىل مرحلة الغثائية التي جاءت إىل احلياة بعد ِف ْت َنت َِي َ‬
‫األ‬
‫واحدة منها هتيئ ًة لظهور األخرى‪ ،‬فبمقدار ما حصل من التحوالت العاملية واملحلية يف‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫كل‬
‫جاد ِة‬
‫مرحلة األحالس‪ ،‬فقد حصل أيض ًا يف مرحلة الرساء حملي ًا وعاملي ًا ما أغرب بالسفينة عن َّ‬
‫الطريق‪ ،‬وأدخل العامل العربـي واإلسالمي إىل مرحلة الغثاء وما فيها من الفتن املتنوعة‪.‬‬
‫واملعتقد ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن فتنة الدهيامء ‪-‬وهي مرحلة االستعامر‪ -‬جزء من حتوالت مرحلة‬
‫راهي ُة املَوت»‪.‬‬
‫وك ِ‬‫الوهَ ُن َو ُح ُّب الدُّ نيا َ‬
‫الغثائية التي يغلب فيها عىل املسلمني « َ‬
‫وإليها تشري األحاديث الواردة يف عالمات الساعة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪« -1‬كيف بك يا ثوبانُ إذا تداعت عليكم األمم كتداعيكم عىل قصعة الطعام تصيبون‬
‫منه؟»‬

‫قال ثوبان‪ :‬بأبـي أنت وأمي يا رسول اهلل‪َ ..‬أ ِمن ِق َّل ٍة بنا؟‬
‫يومئذ كثري‪ ،‬ولكن ُيلقى يف قلوبكم َ‬
‫الوهَ ُن»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪« :‬ال‪ ..‬أنتم‬
‫الو َه ُن يا رسول اهلل؟‬
‫قال‪ :‬وما َ‬
‫قال‪ُ « :‬ح ُّبكم للدُّ نيا‪ ،‬وكراهيت ُُكم ِ‬
‫للقتال»‪.‬‬
‫األ َمم كام َت َد َاعى َ‬
‫األ َك َل ُة عىل قصعتها»‪.‬‬ ‫عليكم ُ ُ‬
‫ُ‬ ‫وش ُك أن َت َد َاعى‬
‫‪ُ « -2‬ي َ‬
‫قال‪ :‬قلنا‪َ :‬أ ِمن قلة بنا يومئذ؟‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪343‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نـزع املهابة من قلوب عدوكم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ كثري‪ ،‬ولكن تكونون كغثاء السيل‪ُ ،‬ت ُ‬ ‫قال‪« :‬أنتم‬
‫ويجُ ْ َع ُل يف قلوبكم َ‬
‫الوهَ ُن»‪.‬‬
‫الو َهن؟‬
‫قال‪ :‬قلنا‪ :‬وما َ‬
‫حب ُكم الدنيا‪ ،‬وكراهي ُة املوت» (((‪.‬‬
‫قال‪ُّ « :‬‬
‫وتكاد تكون هذه األحاديث النبوية تنطبق عىل هذه املرحلة اخلطرية من حياة األمة‪ ،‬وقد‬
‫برزت هذه املرحلة باملظاهر التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬سقوط دولة اخلالفة‪ ،‬وإعالن علامنية الدولة‪.‬‬
‫‪ -2‬تقسيم تركة الرجل املريض بـني الدول الغاز َي ِة‪.‬‬
‫‪ -3‬ظهور النظام الشيوعي‪.‬‬
‫عاملي بـيد االستعامر‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫كسقف‬ ‫‪ -4‬ظهور األمم املتحدة‬
‫‪ -5‬غرس إرسائيل يف الوطن العربـي‪.‬‬
‫‪ -6‬تغيري أنظمة احلكم داخل األوطان العربـية‪.‬‬
‫‪ -7‬ترسيم خرائط احلدود وربط األنظمة بالسياسة الغربـية‪.‬‬
‫‪ - 8‬نشوء الرصاع الداخيل باالنقسامات واألحزاب والتكتالت الدينية والدنيوية واألطامع‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ِد ْينَ� ًا َو ُدن َيا فِ�ي النِّ َظ�ا ِم ال َعا َل ِمي‬ ‫ُ�م ال َي ُه�و ُد ك َُّل ال َعا َلـ� ِم‬
‫َو َي ْحك ُ‬
‫إشارة من الناظم إىل اخلطوط البعيدة التي يرسمها الكافر ضد اإلسالم وأوطان املسلمني‪،‬‬
‫فالسياسة اليهودية هي املؤثرة يف مسرية التحول وألجلها تتحرك الدول واملنظامت‪ ،‬وهبا تتشكل‬
‫اخلطوط املستقبلية لكل ِ‬
‫الفتن الساحقة املاحقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والءات املستقبل‪ ،‬ومن داخلها ُو ِض َع ِ‬
‫ت‬ ‫ُ‬

‫((( رواه أمحد والطرباين يف «األوسط» بنحوه وإسناد أمحد جيد‪« ،‬جممع الزوائد» (‪.)318 :3‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪344‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ب‬ ‫ع َلى الح َطا ِم والسَل�اَ ِم الك ِ‬
‫َاذ ِ‬ ‫�ع ال َّتكَا ُل ِ‬
‫�ب‬
‫َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�و ُر َي� ْز َدا ُد َم َ‬
‫الج ْ‬
‫َو َ‬
‫يشري الناظم إىل نامذج من عالمات الساعة يف مرحلة الغثائية‪ ،‬وهو «اجلور والتكالب» عىل‬
‫«احلطام» والكالم كذب ًا وزور ًا وهبتان ًا عن السالم‪ ،‬حتقيق ًا لقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬يكون‬
‫ِ‬
‫الصبـيان‬ ‫وصعود‬
‫ُ‬ ‫ناء َخ َو َنة‪ ،‬وإمار ُة النِّساء‪ ،‬ومشاور ُة اإلماء‪،‬‬ ‫راء َف َس َق ٌة‪ُ ،‬‬
‫وأ َم ُ‬ ‫ُأ َم َر ُاء َج َو َر ٌة‪ُ ،‬‬
‫وو َز ُ‬
‫املنابر»(((‪.‬‬
‫َ‬
‫اخلاصة(((‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تسليم‬
‫َ‬ ‫اع ِة‬ ‫وروى أمحد والبخاري واحلاكم عن ابن مسعود‪« :‬إنَّ بـني َي َد ْي َّ‬
‫الس َ‬
‫ار ِة‪َ ،‬و َق ْط َع َ‬
‫األ ْر َحا ِم‪َ ،‬و ُف ُش َّو ال َق َل ِم‪َ ،‬و ُظ ُه ْو َر‬ ‫التجار ِة حتى ُتع َ‬
‫ني املرأ ُة َ‬
‫زوج َها عىل الت َِّج َ‬ ‫َ‬ ‫َو ُف ُش َّو‬
‫َش َها َد ِة ُّ‬
‫الزور‪ ،‬وكتامنَ شهادة احلق» (((‪.‬‬
‫�وت والح َثا َل ِ‬
‫�ة‬ ‫وس� ْل َط ُة التُّح ِ‬ ‫الج َها َل ِة‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫�ع َ‬‫الم ْ�ر ُج َم َ‬
‫اله ْ�ر ُج َو َ‬
‫َو َ‬
‫َ�اء َوا ْعتِ�دَ ا‬
‫َ�اء َو َخن ٌ‬
‫ك َ ِ‬
‫َ�ذا غن ٌ‬
‫�ض وا ِّتب�اع لِ ِ‬
‫لع�دَ ا‬ ‫�ض َو َق ْب ٌ َ َ ٌ‬
‫َن ْق ٌ‬
‫من مظاهر مرحلة الغثاء كثرة ا َهل ْرج واملرج‪« ،‬وا َهل ْر ُج» كثرة القتل وإراقة الدماء‪« ،‬واملَ ْرج»‬
‫ِ‬
‫خالد بن عمر ؤ أن النبـي ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬يا‬ ‫ُ‬
‫حديث‬ ‫كثرة اخلوض يف الباطل‪ ،‬يشري إىل ذلك‬
‫ٌ‬
‫واختالف‪ ،‬فإذا كان ذلك فإذا استطعت أن تكون‬ ‫أحداث ِ‬
‫وفت ٌَن و ُفر َق ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫خالد‪ ..‬ستكون بعدي‬
‫عبداهلل املقتول ال القاتل فافعل»(((‪.‬‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪ 172‬عن سلامن ؤ‪.‬‬


‫((( أي‪ :‬السالم عىل من تعرفه فقط‪.‬‬
‫يم الخْ َ َّ‬
‫اص ِة‬ ‫الساعَ ِة َت ْس ِل َ‬‫((( أخرجه احلاكم يف «املستدرك» (‪ )211 :8‬عن ابن مسعود ؤ‪« :‬إنَّ َبينْ َ َيدَ ْي َّ‬
‫ار ِة َو َق ْط َع الأْ َ ْر َحا ِم َو َش َها َد َة ُّ‬
‫الزو ِر َو ِك ْت اَمنَ َش َها َد ِة الحْ َ ِّق‬ ‫ني المْ َ ْر َأ ُة َز ْو َج َها عَ ىَل الت َِّج َ‬
‫ار ِة َح َّتى ُت ِع َ‬
‫َو ُف ُش َّو الت َِّج َ‬
‫ور ا ْل َق َل ِم» ‪ ،‬وكذا أخرجه أمحد يف مسنده عن طارق بن شهاب‪.‬‬
‫َو ُظ ُه َ‬
‫((( رواه أمحد وابن أبـي شيبة ونعيم بن محاد يف الفتن ‪ ،‬والطرباين واحلاكم عن خالد بن عرفطة‪ .‬انظر‬
‫اهلرج‬
‫ِ‬ ‫«اإلشاعة» ص‪ ،186‬وورد يف احلديث عن معقل بن يسار قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬العياذ ُة يف‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪345‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وروى الطرباين يف األوسط من حديث أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬والذي‬
‫خل‪َ ،‬ويخُ َ ونَ َ‬
‫األ ِمينْ ُ ‪َ ،‬و ُيؤْ تمَ َ َن َ‬
‫اخلائِ ُن‪َ ،‬وتهَ ْ ِل َك‬ ‫حش وال ُب ُ‬ ‫يظهر ُ‬
‫الف ُ‬ ‫نفيس بـيده ال تقوم الساعة حتى‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫الوعول وما ال ُّتحوت؟ قال‪ :‬الوعول‪:‬‬ ‫وتظهر ال ُّت ُحوت‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ..‬وما‬
‫َ‬ ‫الو ُعول‪،‬‬
‫ُ‬
‫حتت أقدام الناس ال ُي َ‬
‫عل ُم بهِ م» (((‪.‬‬ ‫وجو ُه الناس وأرشا ُف ُهم‪ ،‬وال ُّت ُح ُ‬
‫وت‪ :‬الذين كانوا َ‬
‫لتنقضن ُعرى اإلسالم‬
‫َّ‬ ‫والو َهن قول رسول اهلل ﷺ‪« :‬‬ ‫قض» َفدليله يف مرحلة ُ‬
‫الغثاء َ‬ ‫وأما «ال َّن ُ‬
‫الص اَلة‪،‬‬ ‫متس َك الناس بالتي تليها‪َ ،‬أ َّو هُل َّن نقض ًا احلكم‪َ ،‬و ِ‬
‫آخ ُر ُه َّن َّ‬ ‫ُع ْر َو ًة ُع ْر َو ًة‪ُ ،‬ك َّلم نقضت عرو ٌة َّ‬
‫َو ُر َّب ُم َص ٍّل ل َأ َما َن َة َل ُه» (((‪.‬‬
‫العلم‪َ ،‬و َي ْك ُث ُر َ‬
‫اجل ْه ُل»‬ ‫َو َأ َّما َدلِ ْي ُل «القبض» قوله ﷺ‪« :‬يأيت عىل الناس زمان ُي ُ‬
‫قبض ِ‬
‫فيه ِ‬

‫ض ا ْل ُع َل اَم ِء‬ ‫اد َو َل ِك ْن َي ْقبِ ُ‬


‫ض ا ْل ِع ْل َم بِ َق ْب ِ‬ ‫ض ا ْل ِع ْل َم انْتِزَ ًاعا َي ْن َت ِز ُع ُه ِم ْن ا ْل ِع َب ِ‬ ‫الل ل َي ْقبِ ُ‬ ‫وحديث‪« :‬إِنَّ هَّ َ‬

‫وسا ُج َّهال َف ُسئِ ُلوا َف َأ ْفت َْوا بِ َغيرْ ِ ِع ْل ٍم َف َض ُّلوا َو َأ َض ُّلوا»(((‪.‬‬ ‫اس ُر ُؤ ً‬ ‫ات َذ ال َّن ُ‬‫َح َّتى إِ َذا لمَ ْ ُي ْب ِق َعالمِ ًا خَّ َ‬

‫وحديث رواه الطرباين يف األوسط من حديث أبـي سعيد اخلدري قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫بعض ُه ْم َعل َبعض نـزو العري‬ ‫ٌ‬
‫أحداث ينـزو ُ‬ ‫ُ‬
‫فينشأ‬ ‫لم منهم‪،‬‬ ‫قبض ِ‬
‫العلامء و ُي ُ‬ ‫ﷺ‪ُ « :‬ي ْق َب ُ‬
‫الع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫عىل العري‪ ،‬يكون الشيخ فيهم مستضعف ًا»‪.‬‬
‫�ي َوا ْبتِ َ‬
‫�ذ ْال‬ ‫ِ‬
‫�اء ُأ َمم ٌّ‬ ‫ك َ‬
‫َ�ذا ُغ َث ٌ‬ ‫ْ‬
‫مجال‬ ‫ٍ‬
‫انتكاس�ات على ك ُِّل‬ ‫َم َع‬
‫يشري الناظم إىل ما حيل باملسلمني يف مرحلة االستعامر واالستهتار من االنتكاس يف الثقافة‬
‫واالقتصاد واإلعالم والسياسة والرتبـية والتعليم وغريها من مقومات احلياة حتى يبلغ األمر إىل‬

‫ُ‬
‫ينـزل‬ ‫ِ‬
‫الساعة أيام ًا‬ ‫كهجرة إِليَ َّ » رواه مسلم والرتمذي‪ ،‬وعن أبـي موسى األشعري ؤ ‪« :‬إِنّ بـني ِ‬
‫يدي‬ ‫ٍ‬
‫واهلرج» رواه البخاري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العلم‪ ،‬و َي ْك ُث ُر فيها ُ‬
‫املرج‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلهل‪ ،‬و ُيرفع فيها‬ ‫فيها‬
‫((( ورواه احلاكم عن أيب هريرة ؤ‪ .‬انظر «كنز العامل» (‪.)242 :14‬‬
‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫((( رواه البخاري يف باب العلم‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪346‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ري هذا الغثاء لدى املسلمني حسن ًا وتقدم ًا وحضارة وتطور ًا‪،‬‬
‫استتباع غثاء األمم األخرى‪ ،‬فيص ُ‬
‫وقد أشار ﷺ إىل ذلك بقوله‪َ « :‬ل َت َّتبِ ُع َّن َسن ََن من كان قبلكم شرب ًا بِ ِشبرْ ٍ َو ِذ َر َاع ًا بِ ِذ َر ٍ‬
‫اع حتى لو‬
‫دخلوا ُج ْح َر َض ٍّب َل َد ْخ ْلت ُُمو ُه»‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ..‬اليهود والنصارى؟ قال‪َ « :‬ف َمن؟»(((‪.‬‬
‫لال وأخٌ ف�ي ال َّل ِ‬
‫�ه َع� ّز‬ ‫�ال َح ٌ‬
‫َم ٌ‬ ‫اء ت َِع� ْز‬
‫ث َأ ْش�ي ٍ‬ ‫ِ‬
‫وم ْث ُل َه�ا ثََل�اَ ُ‬
‫َ‬
‫مس َتبِدْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مس�تَنِدْ‬ ‫الع ْل� ِم ِ ِ‬‫و ُن�دْ ر ُة ِ‬
‫م ْن َغ ْي ِر ع ْل ِم الخَ دَ َمات ا ُل ْ‬ ‫المف ْيد ا ُل ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫حالل‪،‬‬ ‫درهم من‬
‫ٌ‬ ‫صورة من صور الغثائية يف األمة‪ ،‬وهي ُندْ َر ُة ثَلاَ َث ِة أشياء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫يشري الناظم إىل‬
‫مستفاد‪ ،‬وقد ورد ذلك يف حديث حذيفة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫وعلم‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وأخ يف اهلل‪،‬‬
‫وعل ًام ُمستفاد ًا‪َ ،‬‬
‫وأخ ًا يف اهلل»‬ ‫الساعة حتى ُي ِع َّز ُ‬
‫اهلل َع َّز وجل فيه ثالث ًة‪ :‬درمه ًا من َحالل‪ِ ،‬‬ ‫«ال َت ُ‬
‫قوم َّ‬
‫(((‪.‬‬
‫وعن أبـي داود وابن ماجه واحلاكم من حديث أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫الر َبا‪َ ،‬ف َم ْن لمَ ْ َي ْأ ُك ْل ُه َأ َصا َب ُه ِم ْن ُغ َبا ِر ِه»(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ﷺ‪َ « :‬ل َي ْأتِينَ َّ َعل ال َّن ِ‬
‫اس َز َمانٌ ل َي ْب َقى أ َحدٌ ِم ْن ُه ْم إِل أ َك َل ِّ‬
‫الش ُب َهات واحلرام‬ ‫ِ‬
‫وسيادة ُّ‬ ‫االنحراف االقتصادي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫واضحة إىل‬ ‫ويف هذه األحاديث إشار ٌة‬
‫الوضوح من خالل النظر إىل سياسة املال ورجال‬
‫ِ‬ ‫واضح َّ‬
‫كل‬ ‫ٌ‬ ‫يف املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وذلك‬
‫العاملية واملرصفية اليهودية البنكية‪.‬‬
‫وق َ‬‫الس ِ‬ ‫األعامل املرتبطني َطوع ًا َ‬
‫وكره ًا إىل ُّ‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫اط فِي ك ُِّل َم ِض ْيق‬
‫ِمن حاملِي األَسو ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّار فِي َب ْع ِ‬
‫ض ال َّط ِر ْيق‬ ‫أهل الن ِ‬
‫ان ُ‬‫ِصنْ َف ِ‬

‫«ل َت ْت َب ُع َّن َسن ََن َم ْن َكانَ َق ْب َل ُك ْم ِشبرْ ً ا ِشبرْ ً ا‬‫((( رواه البخاري ومسلم من حديث أبو سعيد اخلدري ؤ بلفظ َ‬
‫ال َف َمن» ‪.‬‬ ‫ارى َق َ‬ ‫اللِ ا ْل َي ُه ُ‬
‫ود َوال َّن َص َ‬ ‫ول هَّ‬
‫اع َح َّتى َل ْو َد َخ ُلوا ُج ْح َر َض ٍّب َتبِ ْعت ُُموهُ ْم ُق ْلنَا َيا َر ُس َ‬
‫َو ِذ َر ًاعا بِ ِذ َر ٍ‬
‫((( رواه الديلمي‪.‬‬
‫((( عن «االخرتاعات العرصية» للغامري ص‪.37‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪347‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫المائَِل�اَ ْت‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫�ن َف َت َي�ات ُ‬
‫الم ْس�لم ْي َن َ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫�ات‬ ‫ات ال َع ِ‬
‫ار َي ْ‬ ‫و ِمث ُله�ن الك ِ‬
‫َاس� َي ُ‬ ‫َ ُ َّ‬
‫إشارة من الناظم إىل انفالت أمور العامة‪ ،‬مما يلزم املسلمني اختاذ الشرُّ َ ط التي ُت َع ِّذ ُب ال َّناس‬
‫وحتمل السياط كأذناب البقر‪ ،‬ترضب هبا الناس يف تفريق املظاهرات‪ ،‬ومحاية احلكام يف املناسبات‪،‬‬
‫واحتواء املسريات‪ ،‬وما ماثلها من صنوف العذاب والتعذيب يف املعتقالت‪ ،‬والصنف الثاين النساء‬
‫«الكاسيات» يف ظاهر األمر‪« ،‬العاريات» يف حقيقة احلال عن األدب واألخالق‪ ،‬والعاريات أيض ًا‬
‫بضيق اللباس الذي يصف العورة َويحُ َ ِّج ُم َها َوكأنهَّ ا ليست البسة ثوب ًا‪.‬‬
‫وهذا كله يصل إىل األمة بسبب االستتباع لغثائية األنظمة الكافرة وقوة تأثريها عىل املسلمني‬
‫ٌ‬
‫رجال معهم‬ ‫ِ‬
‫صنفان من أهل النار مل أرمها‪:‬‬ ‫بالوسائل اإلعالمية وغريها‪ ،‬وشاهد ذلك حديث‪« :‬‬

‫سياط مثل أذناب البقر يقفون عىل أفواه السكك يرضبون هبا الناس ونساء كاسيات عاريات‬
‫مائالت مميالت عىل رؤوسهن مثل أسنمة البخت‪ ،‬ال يدخلن اجلنة وال جيدن رحيها‪ ،‬وإن رحيها‬
‫ليوجد من مسافة كذا وكذا» (((‪.‬‬
‫الم ْس�لِ ِم‬
‫�ار ُ‬ ‫َحالِ َق� ُة الدِّ ِ‬
‫ي�ن َد َم ُ‬ ‫داء األُ َم ِم‬ ‫�م فِ�ي الدِّ ِ‬
‫ي�ن ُ‬ ‫َأ َصا َب ُه ْ‬
‫�يء ِمن ِق َي�ا ٍم َو ُقعو ْد‬
‫ف�ي ك ُِّل َش ٍ‬
‫ِ‬ ‫ى َوال َي ُه�و ْد‬
‫�ار ْ‬
‫ِ‬
‫�ع ا ِّت َب�ا ٍع للن ََّص َ‬
‫َم َ‬
‫�ن ُو ُه�و ٍم َوان ِْفتَ�احٍ ُم ْش�كِ ِل‬ ‫ِ‬
‫َوم ْ‬ ‫َ�ر ُّذ ِل‬
‫�ن ت َ‬
‫�د م�ا ه ِ ِ ِ‬
‫َت ْقل ْي َ ُ ْ‬
‫�م ف ْي�ه م ْ‬
‫ِ ِ‬

‫يشري الناظم إىل ما حتدث عنه من ال ينطق عن اهلوى ﷺ يف شأن «داء األمم» الذي حيل‬
‫باملسلمني يف مرحلة الغثاء والوهن‪ ،‬وهو األمراض االجتامعية الكافرة املعرب عن بعضها يف‬
‫الد ِ‬
‫ين)‪:‬‬ ‫(حالِ َق َة الشعر)؛ ولكنها َ‬
‫(حالِ َق ُة ِّ‬ ‫احلديث من قوله ﷺ‪« :‬أصابكم َد ُاء ُ‬
‫األ َم ِم‪ ،‬ال أقول‪َ :‬‬

‫((( رواه مسلم يف صحيحه وأمحد يف مسنده عن أيب هريرة ؤ‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪348‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫البغضاء واحلسد» (((‪.‬‬
‫وعي‬
‫ري ٍ‬ ‫ومن هذا الداء رغبة األجيال رجا ً‬
‫ال ونسا ًء وكبار ًا وصغار ًا يف تقليد األعداء عىل غ ِ‬
‫بـي ﷺ ذلك بقوله فيام رواه البزار واحلاكم من حديث ابن عباس‪:‬‬ ‫أو متيي ٍز‪ ،‬حتى َو َص َ‬
‫ف ال َّن ُّ‬
‫«لرتك ُب ّن َسن ََن الذين من قبلكم شرب ًا بشرب‪ ،‬وذراع ًا بذراع‪ ،‬وباع ًا بباع‪ ،‬حتى لو أن أحدهم دخل‬
‫ُج َحر َض ٍّب لدخلتم‪ ،‬وحتى لو أن أحدهم جامع أمه بالطريق لفعلتم» (((‪ ،‬وهذا ما يعرب عنه‬
‫بالتقليد األعمى‪.‬‬
‫الجلِ ْ‬
‫يل‬ ‫َع ْن َد ْع َو ِة ا ِ‬
‫إل ْس اَل ِم َو َّ‬
‫الشر ِع َ‬ ‫�ث َك َب ِد ْ‬
‫يل‬ ‫الع ْل� ِم الح ِدي ِ‬
‫َ ْ‬
‫�ذ بِ ِ‬
‫واألَ ْخ ِ‬
‫َ‬
‫يشري الناظم إىل استحسانات األجيال املسلمة يف عرص الغثائية إىل دعوات العلم احلديث‬
‫ودراسته بدي ً‬
‫ال عن اإلسالم ورشائعه العادلة‪ ،‬بحيث يصري الدين والرشيعة نقص ًا وعار ًا‪،‬‬
‫وتعلم النظريات الغربـية تقدم ًا وتطور ًا‪ ،‬ويف ذلك يقول رسول اهلل ﷺ يف ما رواه أبو موسى‬
‫اإلسالم َغريب ًا‪َ ،‬و َت ْبدُ و‬
‫ُ‬ ‫كتاب اهلل َعار ًا‪َ ،‬ويكونَ‬
‫ُ‬ ‫اع ُة َحتى يجُ َ‬
‫عل‬ ‫األشعري ؤ‪« :‬ال َتقوم َّ‬
‫الس َ‬
‫السنُون‬ ‫ص ُّ‬ ‫ص ُع ْم ُر ال َبشرَ ِ ‪َ ،‬و َت ْن ُق َ‬
‫الز َمانُ ‪ ،‬و َي ْن ُق َ‬
‫لم‪ ،‬ويهَ َر َم َّ‬ ‫ض ِ‬
‫الع ُ‬ ‫وحتَى ُي ْق َب َ‬
‫الشحنَاء بـني ال َّناس‪َ ،‬‬ ‫َّ‬
‫الصادق‪ ،‬و َي ْكثر ا َهل ْر ُج‬ ‫الكاذب‪ ،‬و ُيكذب َ‬ ‫األمناء‪ ،‬و ُيصدق َ‬ ‫وال َّثمرات‪ُ ،‬يؤتمَ ن ال ُّتهامء‪ُ ،‬وي َّتهم ُ‬

‫وهو ال َق ْتل» الخ‪.(((...‬‬


‫الش ْر َك َأ ْخ َشى إِن ََّما َأ ْخ َشى َّ‬
‫الض َر ْر‬ ‫لاَ ِّ‬ ‫�ح فِ�ي َع ْي ِ‬
‫�ن األَ َث ْر‬ ‫َو ِم ْث ِ‬
‫�ل َم�ا َقدْ َص َّ‬

‫((( رواه أمحد بلفظ‪َ « :‬د َّب إِ َل ْي ُك ْم َد ُاء الأْ ُ َم ِم َق ْب َل ُك ْم‪ :‬الحْ َ َسدُ َوا ْل َبغْ َض ُاء‪َ ،‬وا ْل َبغْ َض ُاء ِه َي الحْ َ الِ َق ُة َحالِ َق ُة الدِّ ينِ لاَ‬
‫س حُ َم َّم ٍد بِ َي ِد ِه لاَ ُتؤْ ِمنُوا َح َّتى حَ َتا ُّبوا‪َ ،‬أ َف اَل ُأ َن ِّبئ ُُك ْم بِشيَ ْ ٍء إِ َذا َف َع ْلت ُُمو ُه حَ َتا َب ْبت ُْم؟ َأ ْف ُشوا‬
‫الش َع ِر‪َ ،‬وا َّل ِذي َن ْف ُ‬
‫َحالِ َق ُة َّ‬
‫الس اَل َم َب ْين َُك ْم»‪ ،‬دب ِإليكم‪ :‬سار إليكم‪ ،‬مسند أمحد (‪.)347 :3‬‬ ‫َّ‬
‫((( «السنة» (‪ )31 :1‬ملحمد بن نرص املروزي ‪.‬‬
‫(( ( رواه الطرباين يف «الكبـري» ‪ ،‬راجع «كشف األقنعة عن الوجوه الغثائية املقنعة» للمؤلف ص‪.97‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪349‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫�ك ال َّطنَافِ ِ‬
‫�س‬ ‫َ�ت َم َمالِ َ‬
‫َق�دْ َأ ْه َلك ْ‬ ‫�ع ال َّتنَا ُف ِ‬
‫�س‬ ‫ِ‬
‫�ن ز َْه َ�رة الدُّ ْن َي�ا َم َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬

‫تشري األبـيات إىل ما َح َّذر منه ﷺ يف خطورة التنافس عىل ُح َطام الدنيا‪ ،‬وأنه ال خيشى من‬
‫خطر الشرِّ ك يف هذه األمة‪ ،‬إنام الذي خيشاه عليها الدنيا والتنافس فيها‪ ،‬ففي احلديث‪« :‬إين‬
‫لست أخشى عليكم أن ترشكوا بعدي‪ ،‬ولك ّني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا‬ ‫ُ‬
‫األرض وإين‬‫خزائن َ‬
‫ِ‬ ‫مفاتيح‬
‫َ‬ ‫َفت َْه ِل ُكوا َكم هَ َل َك َم ْن َكانَ َق ْب َل ُك ْم»((( وحديث‪« :‬وإين قد ُأ ْع ِط ُ‬
‫يت‬
‫واهلل ما أخاف عليكم أن ترشكوا بعدي ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها (((»‪ ،‬ويف‬
‫الغثائية بحيث‬
‫َّ‬ ‫جلية يف عرص‬ ‫(((‬
‫رواية‪ُ « :‬‬
‫لست أخشى عليكم الفقر‪ ، »..‬وهذه الظاهرة قد برزت َّ‬
‫ِ‬
‫رشيك والتبديع صفتان متالزمتان‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وقطيعة ال َّت‬ ‫ُ‬
‫عالقة الدنيا‬ ‫صارت‬
‫فالرسول ﷺ عندما أشار إىل اطمئنانه حول اخلوف عىل األمة من الرشك ؛ إنام يبعث برسالة‬
‫الشبهة واحلرام‪ ،‬ويملك أسباب الدنيا‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن الوسيلة املتخذ َة‬ ‫إىل مستقبل الزمان ملن يمتطي ُّ‬
‫ٌ‬
‫باطلة من أساسه‪،‬‬ ‫يف هذه املرحلة من اخلوف أو القلق الصوري عىل األمة من الوقوع يف الرشك‬
‫وإنام حقيقة األمر عند التمحيص ال يتعدى املنافسة عىل احلكم واملظهر واجلاه والتملك‪.‬‬
‫وقد كشف اهلل لنبـيه ما سيصل إليه حال األمة يف هذه املرحلة اخلطرية‪ ،‬و َل َبـى رسول اهلل‬
‫ندا َء األمة املتهمة عند بعض الفئات‪ ،‬وأبرز احلقيقة الناصعة‪.‬‬
‫نفي الرسول مادة الرشك عن األمة‬
‫ولكن ومع هذا البـيان النبوي فهناك من يستغرب َ‬
‫مع وجود بعض الظواهر املشرية إليه لدى بعض املسلمني‪ ،‬واجلواب احلاسم‪ :‬أن الظواهر‬
‫القائمة لدى بعض املسلمني ليست رشك ًا‪ ،‬وإنام هي حالة من حالتني‪َّ :‬إما إفراط أو تفريط‪،‬‬

‫(( ( «منتخب الصحيحني» ص‪ ، 71‬رواه مسلم عن عقبة بن عامرؤ‪.‬‬


‫((( املصدر السابق ص ‪ ، 70‬رواه أمحد وابن ماجة من حديث عقبة بن عامرؤ‪.‬‬
‫((( أخرجه احلاكم والبيهقي من حديث أيب هريرة ؤ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪350‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫معاجلات رشعية‪َ ،‬و َأهمَ ُّ َها نرش‬
‫ٌ‬ ‫توج ِه األمة املحمدية‪ ،‬ولإلفراط والتفريط‬
‫وكال النقيضني ِعلة يف ُّ‬
‫الدعوة إىل اهلل باحلكمة واملوعظة احلسنة‪ ،‬ويف مدرسة اإلسالم من الوسائل ما يغني الصادق‬
‫عن تكفري األمة‪ ،‬إلاَّ أننا نعتقد َّ‬
‫أن كال ال َّنقيض ِ‬
‫ني إذا برزا يف رشائح املجتمع وصار هلام َم ْن‬
‫ُي َغذِّيهْ ِماَ فهناك ِع ٌلة أخرى أكرب من اإلفراط أو التفريط‪ ،‬وهي السياسة‪ ،‬ولنا مع السياسة وأر َب هِابا‬
‫ود قريب‪.‬‬
‫َع ٌ‬
‫الم ْسلِ ِم‬ ‫معبود َأه ِل الع ِ ِ‬
‫صر ع ْج ُل ُ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ُْ ُ ْ‬ ‫ْ�و الدِّ ْر َه� ِم‬ ‫ِ‬
‫َ�ار صن ُ‬
‫ِ‬
‫َوم ْث ُل� ُه الدِّ ين ُ‬
‫ِ‬ ‫َف ٍ‬ ‫�ع ِدينَ� ًا بِ َع َ�ر ْض‬
‫�يء بِالغ َ‬
‫َ�ر ْض‬ ‫�ان َق ٍ‬
‫لي�ل لاَ َيف ُ‬ ‫َأ َحدُ ُه ْ‬
‫�م َيبِـ ْي ُ‬
‫ظهور الوباء العام وهو‬
‫ُ‬ ‫من ظواهر مرحلة الغثاء والوهن ِ‬
‫ذات العالقة بعالمات الساعة‬
‫ٍ‬
‫واحدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لعملة‬ ‫حب الدنيا‪ ،‬وهو يضارع ما سبق ذكره يف شأن السياسة‪ ،‬فكالمها يمثل وجهني‬
‫ُّ‬
‫واحلب َ‬
‫اجل ُّم يعني اإلفراط ا ُملطلق يف ال َّتعلق هبا حتى‬ ‫ُّ‬ ‫قال تعاىل‪( :‬ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) ‪،‬‬
‫يؤدي ذلك إىل انفراط ثوابت أخرى‪ ،‬وهذا ما سامه النبـي ﷺ بعبادة ِ‬
‫الع ْجل‪ ،‬أو ما يفرس‬
‫منحى حساس ًا وخطري ًا لكون املرحلة قد خرجت‬
‫ً‬ ‫بـ(صنمية املادة)‪ ،‬وتكاد هذه الشؤون َت َّت ِخ ُذ‬
‫عن الضوابط اإلسالمية األوىل‪.‬‬
‫فعبادة العجل وصنمية املادة وبـيع الدين بالدنيا ظواهر خطرية تنشأ يف أجيال املسلمني‬
‫بفعل فاعل‪ ،‬ويبدأ بروزها بوضوح مع مرحلة الغثائية‪.‬‬
‫نقض قرا ِر اإلسالم املعبرَّ عنه باخلال َف ِة وانتقاله إىل الكافر املعرب عنه بالعدو‪ ،‬وتبدأ‬ ‫ِ‬
‫وس َم ُت َها ُ‬
‫لتنشئ َ‬
‫جيل ُ‬
‫الغثائية من داخل الربامج القارصة‬ ‫َ‬ ‫املراحل ا ُملعادية للمبادئ اإلسالمية الرشعية‬
‫السنون‬ ‫ٍ‬
‫سنوات طويلة سامها النبـي ﷺ بـ» ُ‬ ‫واملنهجية الكافرة عرص ًا بعد آخر‪ ،‬وعىل مدى‬
‫واخلداع َم ْك ٌر ِ‬
‫وح َي ٌل َو َت ْسيِ ْي ٌس‪ ،‬ومن ظواهرها ُح ُّب الدُّ نيا وال َفنَاء يف سبـيلها‪ ،‬ويف‬ ‫اخلداعة» ‪ِ ،‬‬

‫هذا يقول ﷺ‪« :‬يصبح الرجل مؤمن ًا ويميس كافر ًا‪ ،‬ويميس مؤمن ًا ويصبح كافر ًا‪ ،‬يبـيع أحدهم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪351‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪-‬ويف رواية‪ :‬يبـيع قوم ‪ -‬دينهم بعرض من الدنيا قليل‪ ،‬املتمسك عىل دينه كالقابض عىل اجلمر»‬

‫ويف رواية‪« :‬كالقابض عىل الشوك» (((‪.‬‬


‫وقد ظهرت هاتان الصفتان يف أمة اإلسالم بشكل واضح يف حمورين‪:‬‬
‫* االقتصاد والسياسة‬
‫* االعتقاد واحلقوق املتبادلة‬
‫وقد أبرز الرسول ﷺ هذه األحوال يف ٍ‬
‫مجلة من أحاديث‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ُ‬
‫نساؤ ُهم‪ ،‬ودين ُُهم‬ ‫بطونم‪ ،‬ورش ُف ُهم ُ‬
‫متاع ُهم‪ ،‬وقبلت ُُهم‬ ‫هُ‬ ‫«يأيت عىل الناس زمانٌ مَ ُّ‬
‫ه ُهم‬ ‫* ‬

‫ري ُهم‪ ،‬أولئك رشار اخللق عند اهلل» (((‪.‬‬ ‫درا ُ‬


‫مه ُهم ودنان ُ‬
‫ض ا ُملوسرِ ُ َعل َما ف َي ِده» (((‪.‬‬
‫«يأيت عىل الناس زمان عضوض َي َع ُّ‬ ‫* ‬

‫«يأيت زمان ال َي ْس َل ُم لذي ِد ٍ‬


‫ين دينُه إل من فر من شاهق إىل شاهق أو من جحر إىل جحر‬ ‫* ‬

‫كالثعلب يفر بأشباله‪ ،‬وذلك يف آخر الزمان إذا مل ُتنَل املعيشة إل بمعصية اهلل‪ ،‬فإذا كان كذلك‬
‫حلت ُ‬
‫الغربة‪ ،‬يكون يف ذلك الزمان هَ الك الرجل عىل يد أبويه إن كان له أبوان‪ ،‬وإل فعىل يد‬
‫زوجته وأوالده‪ ،‬وإل فعىل يد األهل واألقارب واجلريان‪ ،‬يعريونه بضيق املعيشة ويكلفونه ما ال‬
‫ُيطيق حتى يورد نفسه املوارد التي هيلك فيها» (((‪.‬‬
‫* «إذا كثر خطباؤكم ومنابركم‪ ،‬وركن علامؤكم إىل والتكم‪ ،‬فأحلوا هلم احلرام وحرموا‬
‫عليهم احلالل َفأ ْفت َْوهم بام يشتهون»(((‪.‬‬

‫((( رواه أمحد من حديث أيب هريرة ؤ (‪.)255 :18‬‬


‫((( رواه السلمي عن عيل ؤ‪.‬‬
‫((( رواه أمحد عن عيل ؤ‪.‬‬
‫((( رواه أبو نعيم يف «احللية» والبيهقي يف «السنن» عن ابن مسعودؤ ‪« ،‬كنز العامل» (‪.)154 :11‬‬
‫((( رواه الديلمي عن عيل ؤ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪352‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫«إذا تعلم علامؤكم ليجلبوا به دنانريكم ودرامهكم‪ ،‬واختذتم القرآن جتارة» (((‪.‬‬ ‫* ‬

‫ٍ‬
‫ورصاحة يف‬ ‫بوضوح‬
‫ٍ‬ ‫وكأنيِّ هبذه األحاديث وأمثاهلا تروي قصة املراحل التي نعيشها‬
‫ال َّتشخيص أكثر من تشخيص أحاديث العلامء واملفكرين والساسة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الو َب�ا‬
‫�ون َ‬ ‫َو َخ ْل ُف� ُه ال ُك َّف ُ‬
‫�ار َي ْح ُم َ‬ ‫الر َب�ا‬ ‫َي ُس�و ُد ف�ي ال َعا َل� ِم من َْه ُ‬
‫�اج ِّ‬
‫اله ِّي ِ‬
‫ـ�ن‬ ‫�ار َ‬ ‫�ن ُمكْثِ ٍ‬
‫�ر َأ ْو كَال ُغ َب ِ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫�ق َو ُم ْؤ ِم ِ‬
‫�ن‬ ‫�ت َف ِ‬
‫اس ٍ‬ ‫َيدْ ُخ ُ‬
‫�ل َبـ ْي َ‬
‫إشارة يف األبـيات إىل انتكاس العامل اإلسالمي والعربـي من سياسة االقتصاد الرشعي‬
‫إىل سيادة االقتصاد الربوي الكافر‪ ،‬حيث َم َّهدَ الكافر بعد امتالك القرار إىل إدخال سياسة‬
‫البنوك واملصارف الربوية إىل كل بالد‪َ ،‬‬
‫وش َّجع عىل االستثامر الربوي‪ ،‬وما أسامه بالتسهيالت‬
‫وز َي َ‬
‫ف ُسقوفها العلمية والسياسية‬ ‫وك َشف َز ْي َفها َ‬
‫اش النبـي ﷺ هذه املرحلة َ‬
‫االقتصادية‪ ،‬وقد َع َ‬
‫واالقتصادية‪ ،‬فقال فيام رواه أبو داود وابن ماجة واحلاكم من حديث أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫الربا‪ ،‬فمن مل يأكله‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ليأتنيَّ عىل الناس زمان ال يبقى منهم أحد إل أكل ِّ‬
‫أصابه من ُغباره»‪ ،‬ويف رواية أخرى‪« :‬سيأيت عىل الناس زمان يأكلون فيه ك ّلهم ِّ‬
‫الربا»‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل‪ :‬كلهم؟ «قال‪ :‬نعم‪ ،‬ومن مل يأكله أصابه من غباره»‪.‬‬
‫�ل‬‫الر َذائِ ِ‬ ‫ون ذو َّ‬ ‫�ؤ ُ‬‫�ن الخَ ُ‬
‫ُي َؤ َّم ُ‬ ‫الم َحافِ ِ‬
‫�ل‬ ‫ِ‬
‫ُي َص�دَّ ُق ال�كَاذ ُب ف�ي َ‬
‫�و ِن‬ ‫وير َف�ع ال َف ِ‬ ‫�ل ِ‬
‫الع ْل� ِم َوالتَّدَ ُّي ِ‬ ‫�ان َأ ْه ُ‬
‫�ق ُذ ْو ال َّت َل ُّ‬
‫اس ُ‬ ‫َُْ ُ‬ ‫�ن‬ ‫ُي َه ُ‬
‫ومن ظواهر مرحلة الغثاء والوهن انقالب ِ‬
‫القيم واألخالق؛ لكثرة التأثر بالكفر والكافر‪،‬‬
‫ِ‬
‫بسياسة االستعامر وما يليه من‬ ‫طباع ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونفثات‬ ‫سموم ِه‬
‫ِ‬ ‫وما يفرزه يف الواقع االجتامعي من‬
‫االستهتار واالستثامر‪ ،‬واللعب بعقول األجيال يف املدارس واجلامعات واإلعالم والثقافة‬
‫بوضوح تصديق الكاذب‬
‫ٍ‬ ‫يربز‬ ‫والفنون وغريها من أحابـيل االنحالل والضالل المُ َس َّي ِ‬
‫س‪َ ،‬ح َّتى َ‬

‫((( رواه الديلمي عن عيل ؤ‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪353‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اخلائِ ُن عىل األموال واألعراض والعلم‪َ ،‬و ُخي َّو ُن األمني‬
‫ادق ِج َهار ًا‪َ ،‬و ُي ْؤتمَ َ ُن َ‬ ‫َع َلن ًا‪َ ،‬و ُي َك َّذ ُب َّ‬
‫الص ُ‬

‫ويحُ َ اصرَ ُ و ُي ْعزَ ُل‪.‬‬


‫الرحم خَ ْ‬
‫وتوين‬ ‫الفحش وال َّتفحش و َقطيع ُة َّ‬
‫قال ﷺ واصف ًا هذه احلال‪« :‬من أرشاط الساعة ُ‬
‫األمني وائتامن َ‬
‫اخلائن» (((‪.‬‬
‫وقوله‪« :‬يأيت عىل الناس زمان القابض عىل دينه كالقابض عىل اجلمر» (((‪ ،‬كناية عن عدم‬
‫املساعدة وعدم التعاون عىل الدين(((‪.‬‬
‫وقوله‪« :‬يكون يف آخر الزمان ُع ّب ٌاد ُج ّه ٌ‬
‫ال و ُق ّر ُاء َف َس َقة»(((‪ ،‬والعباد اجلهال الزمر واجلامعات‬
‫علم وال َت َع ُّر ٍ‬
‫ف عىل دخائل‬ ‫وعي وال ٍ‬
‫الكثرية من عباد اهلل الغيورين عىل الديانة ولكن من غري ٍ‬
‫العدو وحيله املنترشة يف احلياة االجتامعية؛ بل ربام كان العابد الزاهد أحد عامل مؤسسات‬
‫احلرام والشبهة واإلفساد ومساعد ًا عىل إنجاح عمل هذه املؤسسات التي تعمل عىل هدم دينه‬
‫وهو ال يعلم من األمر شيئ ًا‪.‬‬
‫وأما القراء الفسقة فالعرشات من املثقفني وطالب املعرفة ومحلة الشهادات القادرين عىل‬
‫التحليل والتعليل لألمور واملطلعني عىل الكثري من ثقافة اإلسالم واإلعالم؛ ولكن ظواهر‬
‫سلوكهم ال متت إىل اإلسالم بصلة‪ ،‬يقعون يف احلرام والشبهة واإلثم من كل نوع وصورة‪ ،‬وال‬
‫يتورعون عن ذلك علنا وجهارا والعياذ باهلل‪.‬‬
‫املؤمن يف القبـيلة َأ َذ َّل من النقد»(((‪ ،‬والنقد‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وقوله‪« :‬إن من أعالم الساعة وأرشاطها أن يكون‬

‫((( رواه الطرباين يف «األوسط» عن أنسؤ‪.‬‬


‫((( رواه الرتمذي عن أنسؤ بلفظ‪« :‬يأيت عىل الناس زمان الصابر فيهم عىل دينه كالقابض عىل اجلمر» ‪.‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.153‬‬
‫((( رواه احلاكم يف «املستدرك» وأبو نعيم يف «احللية» عن أنس ؤ‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪ ،155‬رواه الطرباين من حديث ابن مسعود ؤ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪354‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫صغار الغنم‪ ،‬وهذه ظاهرة مالحظة يف العائالت واألرس‪ ،‬فرتى الصالح فيهم أكثر عزلة وضعفا‬
‫وصمتا‪ ،‬وربام ارتفعت أصداء الفتيات املثقفات باجلدل واحلوار يف جمالس العائلة والصالح‬
‫مضطر أمام هذا اإلسفاف أن يسكت ويبتعد أو يسحب من لغط العائالت وأحاديثهم املنكرة‪،‬‬
‫سواء يف للدين أو يف تعليل شغفهم بالدنيا واالندفاع يف تربير حاجتهم إليها‪.‬‬
‫�ع‬ ‫ي ِهم�ه الدُّ ْني�ا وك ِ‬ ‫َو َأ ْس� َعدُ الن ِ‬
‫َّ�اس َع َل�ى الدُّ ْن َيا ُلك َْع‬
‫َ�م من َْه�ا َج َم ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ُّ ُ‬
‫�و ِن‬ ‫وير َف�ع ال َف ِ‬ ‫الع ْل� ِم َوالتَّدَ ُّي ِ‬ ‫�ل ِ‬‫�ان َأ ْه ُ‬
‫�ق ُذ ْو ال َّت َل ُّ‬
‫اس ُ‬ ‫َُْ ُ‬ ‫�ن‬ ‫ُي َه ُ‬

‫ُ‬
‫األمحق‬ ‫اس بالدُّ نيا ُل َك ٌع ُ‬
‫ابن ُل َكع» (((‪ ،‬وال ُّل َك ُع‪ :‬العبدُ أو‬ ‫أسعد ال َّن ِ‬
‫َ‬ ‫«ال َت ُ‬
‫قوم َّ‬
‫الساعة حتى يكون‬
‫اللئيم‪ ،‬أي‪ :‬حتى يكون اللئام واحلمقاء والعبـيد رؤساء الناس‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�م‬‫لم�ال َوا َلج�اه األَ َع ْ‬ ‫َو َس� َب َب ًا ل َ‬ ‫�م‬‫�ار ًا َوت َُه ْ‬
‫ي�ن الل�ه َع َ‬
‫ي�ر د ُ‬‫َيص ُ‬
‫�ر الز ََّم ِ‬
‫�ان‬ ‫ع اَلم� ٌة فِ�ي ِ‬
‫آخ ِ‬ ‫َو َي ْك ُث ُ�ر ال ُق َّ�ر ُاء لِل ُق ْ�ر ِ‬
‫آن‬
‫َ َ‬
‫المت ِ‬
‫َاج ِ‬
‫�ر‬ ‫َ‬ ‫دعا َي� ًة لِ ِس� ْل َع ِة‬ ‫الحن ِ‬
‫َاج ِ‬
‫�ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُمنْح َص�ر ًا ف�ي َنغ َْم�ة َ‬
‫والو َهن يف هذه املرحلة أن ُي َعيرَّ َ املؤمن بالدِّ ين والتدين‪ ،‬ويكون التدين‬ ‫ومن ظواهر ُ‬
‫الغثاء َ‬
‫والديانة تهُ ْ َم ًة‪ ،‬وهذه ِ‬
‫ظاه َر ٌة َع َر َف َها العامل العربـي واإلسالمي يف مرحلتني‪:‬‬
‫يشء ِمن احلذر وال َّت َل ُّط ِ‬
‫ف‪ ،‬فيسمى املتدين ُمت ََح ِّج َر ًا متخلف ًا‬ ‫ٍ‬ ‫األوىل‪ :‬مرحلة االستعامر مع‬
‫منغلق ًا‪ ،‬وعمل الكافر عىل اصطفاء وتقريب املتحررين من الديانة أو ما يسمونه بالتعصب‬
‫الديني وحجز العلامء من املدارس ومواقع التأثري الرتبوي والتعليمي حتى خترج جيل الوهن‬
‫والغثاء‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬مرحلة االستهتار‪ ،‬وفيها كشف الكافر اللثام عن خبث نيته وفعله ضد الدين‬

‫((( رواه أمحد والرتمذي عن حذيفة ؤ عن عيل كرم اهلل وجهه‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪355‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والديانة‪ ،‬وبلغت ال ُّتهمة يف هذه املرحلة َأ َ‬
‫وجها ‪َ .‬فاملتد ِّي ُن َك َهن ٌ‬
‫ُوت‪ ،‬وعنرص فاسد‪َ ،‬و َت َر َّد َد عىل‬
‫اجل َه َل ِة ِش َع ُار املرحلة‪َ :‬‬
‫«س ْحق َ‬
‫الك ْهنُوت َو ِ‬
‫اجب»‪ .‬والكهنوت يف قاموس‬ ‫ألسنة َ‬
‫األحرا ِر والثُّوا ِر َ‬ ‫ِ‬

‫اجلهلة بالدين كل مصل وزاهد وعامل‪.‬‬


‫الغثاء بصورة أخرى بحيث‬ ‫ٍ‬
‫متجاورة ترى فيها ُ‬ ‫ٍ‬
‫إسالمية‬ ‫ٍ‬
‫وحدود‬ ‫جانب آخر ٍ‬
‫وبلد أخرى‬ ‫ٍ‬ ‫ويف‬
‫يكون الدِّ ين والتدين عىل املنهج اإلعالمي املرسوم سبب ًا يف الثراء والنفوذ واالستعالء‪َ ،‬‬
‫أل َّن ِكلاَ‬
‫ال َّنقيضني‪ :‬ا ُمل ْل ِحد الفاجر واملتد ِّين القارص يحُ ا ِر َب ِ‬
‫ان هدف ًا واحد ًا‪ ،‬ويواليان كفر ًا واحد ًا‪ ،‬وإن‬
‫ات‪ ،‬ومن مظاه ِر هذه املرحلة كام أشار الناظم كثر ُة القراء للقرآن‪ ،‬وانحصار‬
‫املسم َي ُ‬
‫َّ‬ ‫تعددت‬
‫املعرفة يف اللحن‪ ،‬وحتسني األصوات به ليصري مصدرا للفخر والعزة والتفاخر ال للمعاجلة‬
‫والتآزر‪.‬‬
‫وإىل هذا يشري ﷺ فيقول‪« :‬مما أخافه عليكم رجل قرأ القرآن‪ ،‬حتى إذا رؤيت هبجته عليه‬
‫وكان رداؤه اإلسالم انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى عىل جاره بالسيف ورماه بالرشك» ‪،‬‬
‫الر ِم ّي؟ قال‪« :‬الرامي»(((‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت يا نبـي اهلل‪ ..‬أهيام أوىل بالرشك الرامي أو َّ‬
‫من حديث أبـي سعيد اخلدري أن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬إن بعدي من أمتي قوم ًا يقرؤون‬
‫القرآن ال جياوز تراقيهم‪ ،‬يقتلون أهل اإلسالم َو َي َد ُع ْونَ َأ ْه َل األوثان‪ ،‬يمرقون من اإلسالم كام‬
‫يمرق السهم يف الرمية لئن أدركتهم ألقتلنهم قتل عاد» (((‪ ،‬وأما قول الناظم عن القرآن يف آخر‬
‫الزمان‪« :‬دعاية لسلعة املتاجر» إشارة إىل ما ورد يف احلديث‪« :‬واختذتم القرآن جتارة»(((‪.‬‬
‫وقد رأينا يف عرصنا من يطبع القرآن للدعاية اإلعالمية ويتخذ بعض اآليات لالستفادة منها‬

‫((( قال احلافظ ابن كثري‪ :‬إسناده جيد‪ ،‬انظر «السنة والبدعة» للشيخ عبد اهلل حمفوظ احلداد ص‪.19‬‬
‫((( رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أيب سعيد‪ ،‬نق ً‬
‫ال عن «االخرتاعات العرصية» للغامري‬
‫ص‪.77‬‬
‫((( احلديث رواه الديلمي عن عيل‪ ،‬راجع «اإلشاعة» ص‪.161‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪356‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يف ترويج البضاعة واملواقف‪ ،‬وهناك مؤسسات كربى قائمة عىل ترويج القرآن يف سوق العرض‬
‫والطلب جللب األرباح من بيع األرشطة واألجهزة وأصوات القراء طلبا للامل والثراء‪.‬‬
‫الر َس�ا َل ِة‬
‫�ن َو ِّ‬‫�اء الدِّ ْي ِ‬
‫�م ُخ َط َب ُ‬‫ُه ْ‬
‫�ر والح َثا َل ِ‬
‫�ة‬ ‫�ات ال َع ْص ِ َ ُ‬ ‫ُر َو ْيبِ َض ُ‬
‫ط ن َِه� ِم‬ ‫�د س�لِي ٍ‬ ‫الح ْق ِ‬
‫ِ‬ ‫ُم َب َّط ِ‬
‫�ن‬ ‫ي زَنِ� ِم‬ ‫�ن ك ُِّل ِغ ٍّ�ر َج ْع َض ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫�ر ٍّ‬ ‫م ْ‬
‫ٍ‬
‫ظاهرة أخرى من ظواهر مرحلة الغثاء والوهن تدور يف املجتمعات‬ ‫يشري الناظم إىل‬
‫واألنظمة املتحدثة باسم الدين‪ ،‬وهذه الظاهرة ختدم سياسة الكفر‪ ،‬ومتهد للدجال‪ ،‬وهي‬
‫ظاهرة الرويبضات التي عرب عنها ﷺ يف آخر الزمان كقوله‪َ « :‬و ُيؤْ تمَ َ ُن َ‬
‫اخلائِ ُن َويخُ َ َّونُ األمنيُ‬
‫الر َويبضة»‪ .‬قالوا‪ :‬وما الرويبضة؟ قال‪« :‬يتكلم يف الناس من مل يكن يتكلم‪ ،‬وينكر احلق‬
‫ويتكلم ُّ‬
‫تسعة أعشارهم» (((‪ ،‬ويف رواية‪ :‬قالوا‪ :‬وما الرويبضة يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬ال َّت ِاف ُه ُي ِد ْي ُر شؤون‬
‫العا َّم ِة»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬الفاسق يتكلم يف شؤون العامة»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬الفويسق يتكلم يف شؤون‬
‫العامة»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬السفيه»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬الوضيع من الناس» (((‪.‬‬
‫والغر‪ :‬اجلاهل غري املجرب‪ ،‬واجلعرضي‪ :‬اجلبار املتعجرف‪ ،‬والزنم الكذاب‪ ،‬والسليط‬
‫كثري الكالم‪ ،‬يقال‪ :‬سليط اللسان‪ ،‬أي‪ :‬ال يضبط مقاله بالفحش‪ ،‬وهذه كلها ظواهر مرحلتنا‬
‫املعارصة وشواهد كثرية ومثرية‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪ ،169‬واحلديث عن سلامن‪.‬‬


‫((( «عقيدة املسيخ» لسعيد أيوب ص‪ ،151‬ويتابع يف بقية الصفحات رشح الكلامت يف البـيت‪ :‬الغر‪،‬‬
‫اجلعرضي‪ ،‬الزنم‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪357‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ُغثَائية الحُ ْكم ِ‬
‫والس َ‬
‫ياسة‬
‫اس‬ ‫ِم َن ال ُع َرى فِي الدِّ ْي ِن َوا ِ‬
‫إل ْح َس ِ‬ ‫ي�ر الن ِ‬
‫َّ�اس‬ ‫�ال َخ ُ‬ ‫�ن َق َ‬
‫َل ُت ْن َق َض َّ‬
‫الح ِق ْي َق� ْة‬ ‫َن ْق َض� ًا بِنَ ْق ٍ‬
‫�ض َفا ْف َه� ِم َ‬ ‫الوثِي َق� ْة‬ ‫َع َل�ى َ‬
‫الم�دَ ى ُع ْر َو ُتنَ�ا َ‬
‫يشري الناظم إىل أخطر ظواهر مرحلة الغثائية‪ ،‬وهي نقض القرار وسقوط دولته‪َ ،‬و َأ َّن‬
‫لإلسالم رأي ًا ثابت ًا وموقف ًا عاملي ًا من هذا التحول السيايس‪ ،‬وال ُيعالج اإلسالم القضية بام‬
‫أعم من النظر يف‬ ‫َ‬
‫التعليل الشرَّ َّ‬
‫عي ُّ‬ ‫ِ‬
‫ضعف َها ا ُمل َج َّر ِد‪ ،‬بل إن‬ ‫يعتقده البعض من قوة الدولة أو‬
‫الض ْع ِ‬
‫ف‪ ،‬وإنام هناك عوامل هامة تربط أول الزمان بآخره‪ ،‬وأحداث آخره‬ ‫سقوط الدولة ملجرد َّ‬
‫بام سبق التنبؤ عنها يف أوله‪ ،‬وشاهدُ ذلك قوله ﷺ‪ُ « :‬ب ِعث ُْت أنا والساعة كهات ِ‬
‫ني» (((‪َ ،‬ف َكأ َّنه‬
‫والسالم قد جعل املراحل املتقلبة من عرصه إىل قيام الساعة حتت جمهره الرشعي‬
‫الصالة ّ‬
‫عليه ّ‬
‫ٍ‬
‫حادث يف مستوى ال َقرار إلاَّ وهو ﷺ ُي َفنِّدُ َه ِو َّيت َُه وهوي َة عالقته‬ ‫ودعوته الشاملة‪ ،‬فام حيدث من‬
‫باإلسالم أو بالكفر إن كان قرار ًا منحرف ًا عن اجلادة‪ ،‬منذ بروز ذاته وتعبـريه عن ذلك بقوله‬
‫والساعة كهاتني» زمان ًا ومكان ًا‪ ،‬ومن هذا‬
‫ﷺ‪ ،‬حتى تأيت الساعة بعالماهتا فيام َع َّبـر عنه بلفظ « َّ‬
‫املنطلق يشري ﷺ إىل موقفه من مرحلة نقض القرار العاملي الشامل‪ ،‬وما يلحق من نواقض‬
‫خطرية يف مسرية األمة اإلسالمية بعمومها‪.‬‬
‫وقد أشارت األبـيات إىل مدلول احلديث‪َ « :‬ل ُت ْن َق َض َّن ُع َرى ا ِ‬
‫إل ْس اَل ِم ُع ْر َو ًة ُع ْر َو ًة‪ُ ،‬ك َّلم نقضت‬
‫الص اَل ُة‪َ ،‬و ُر َّب ُم َص ٍّل ل َأ َما َن َة َل ُه»‬ ‫كم ِ‬
‫وآخ ُر ُه َّن َّ‬ ‫ُعرو ٌة تمَ َّس َك ال َّناس بالتي َتليها‪َّ ،‬أو هُل َّن نقض ًا ُ‬
‫احل ُ‬
‫(((‪.‬‬

‫((( سبق خترجيه‪.‬‬


‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪358‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وهذا احلديث الرشيف أعظم شاهد عىل معايشة الرسول ﷺ لألحداث اجلارية يف مستوى‬
‫العرى عاملي ًا‪ ،‬كام كان ُم َعايش ًا هلا خالل مراحل ِ‬
‫الفتن داخل اخليمة‬ ‫القرار والسياسة عند نقض ُ‬
‫اإلسالمية من قبل‪ ،‬فقوله ﷺ‪َ « :‬ل ُت ْن َق َض َّن ُع َرى اإلسالم» إشار ٌة إىل تفكك عرى الدين والرشع‬
‫َ‬
‫بِأ ْي ٍد ُم َتن َِّو َع ٍة غري مرئية‪ ،‬ألن الفعل ‪-‬كام هو مالحظ‪ٌّ -‬‬
‫مبني للمجهول «ل ُت ْن َق َض َّن ُعرى اإلسال ِم‬
‫ات املس َب َح ِة‪َ ،‬ف َبدَ أ ال َّن ُ‬
‫قض هلا من مستوى‬ ‫كح َّب ِ‬
‫ُع ْر َو ًة ُع ْر َو ًة»‪ ،‬وكأنهَّ ا يف األصل ُعرى منتظمة َ‬
‫أوهلن نقض ًا احلكم»‪ ،‬وبنقض احلكم وسقوط دولته يبدأ العمل اخلفي والظاهر بصو ٍر‬
‫القرار‪ُّ « :‬‬
‫مالح َق ِة َّ‬
‫بقية ُعرى اإلسالم‪ ،‬وال َّناس يف املجتمعات اإلسالمية ال يستطيعون إعادة ما‬ ‫َش َّتى عىل َ‬
‫وس ْل َط ٍة خارجية مهيمنة‪ ،‬فيلتزمون ما بعدها حمافظني‬
‫نقضه الفاعلون‪ ،‬ألهنم حتت قرار فاعلٍ ُ‬
‫عليها ما استطاعوا‪ ،‬حتى يتم نقض العرى متتابعة‪.‬‬
‫ام يف حياة األمة‪ ،‬والصالة‬ ‫ٍ‬
‫سقف َه ٍّ‬ ‫الص اَلة»‪ ،‬واحلكم أعىل‬
‫وآخرهن َّ‬
‫َّ‬ ‫هلن َن ْق َض ًا احلكم‪،‬‬
‫« َّأو َّ‬
‫أطول شرِ ْ َع ٍة َيت ََع َّبدُ الناس هبا موالهم عرب العصور‪ ،‬حتى َ‬
‫يقع الفساد املتالحق يف املصيل ذاته‬
‫صل ال أمانة له»‪.‬‬ ‫« َو ُر َّب ُم ٍّ‬

‫وهذا احلديث اهلام يضع القيادات احلاكمة يف قفص االهتام‪ ،‬ويشري باإلصبع إىل موقع‬
‫الفساد والتعفن يف مسرية احلياة‪ ،‬خالف ًا ملا يفعله احلكام والسياسيون اليوم من إهلاء العوام‬
‫والصاع َّ‬
‫الطبقي والسيايس واالعتقادي‪ ،‬ليحجبوا خطر‬ ‫والرشائح االجتامعية باملتناقضات رِّ‬
‫بعلم أو‬ ‫ال ُّتهمة عن أنفسهم‪ ،‬وهم يصنعون املستقبل الدَّ َجالِـي يف العامل مع َّ‬
‫الشيطان وأعوانه ٍ‬
‫بغري علم‪.‬‬
‫�ت‬‫�ذا َثابِ ُ‬‫َّ�اس َو َه َ‬
‫�ك الن ُ‬ ‫ت ََم َّس َ‬ ‫ال َّث َوابِ ُ‬
‫�ت‬ ‫ُتنْ َت َق ُ‬
‫�ض‬ ‫َف ِعنْدَ َم�ا‬

‫�ه ِد ْينَ� ًا َغ�دَ ا َم ْط ُعونَ�ا‬


‫حك ِْم ِ‬‫بِ ِ‬ ‫الم ْفتُونَ�ا‬
‫�م َ‬
‫ِ‬
‫الحاك َ‬
‫�م َ‬‫إِ ْذ لاَ ُي ِه ُّ‬
‫الصَل�اَ ُة ُد ْو َن َف ْه� ِم‬ ‫ِ‬ ‫الح ْك ِم‬ ‫ِ‬ ‫َو َأ َّو ُل النَّ ْق ِ‬
‫َواآلخ ُ�ر َّ‬ ‫�ض َج َ�رى في ُ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪359‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اال ْرتِ َب ْ‬
‫�اك‬ ‫�ان ِمنْ�ه ِعنْ�دَ ِ‬
‫ُ‬ ‫َولاَ َأ َم َ‬ ‫الم َص ِّلي آن ََذ ْ‬
‫اك‬ ‫إِ ْذ لاَ ائْتِم َ ِ‬
‫�ان ف�ي ُ‬ ‫َ‬
‫َّ�ك كَ�ذا ِ‬
‫الخ َيانَ� ْة‬ ‫َي ُش�و ُب ُه الش ُّ‬ ‫�ل َم�ا َل� ُه َأ َمانَ� ْة‬
‫َ�م ُّم َص ٍّ‬
‫َوك ْ‬
‫يشري الناظم إىل مدلوالت حديث النقض للعرى‪ ،‬وقد أشارت مجلة من أحاديث املصطفى‬
‫ين إِ َذا َولِ َي ُه َأ ْه ُل ُه َو َل ِك ْن ا ْب ُكوا َع َل ْي ِه إِ َذا َولِ َي ُه َغيرْ ُ‬ ‫ﷺ إىل معنى ذلك‪ ،‬فيقول ﷺ‪« :‬ل َت ْب ُكوا َعل ِّ‬
‫الد ِ‬
‫َأ ْه ِل ِه» (((‪ .‬وهذه إشارة إىل موقع قرار الديانة وخطورة امتالك القرار ِق َبل غري أهله‪.‬‬
‫المفسدون‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫الزمان‬ ‫ِ‬
‫والسوق ت َُّج ُار‬ ‫المنافق�ون‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫القبائ�ل‬ ‫َي ُس�و ُد ف�ي‬
‫اع ِة َو َأشرْ َ ِ‬
‫اط َها َأنْ َي ُسو َد ُك َّل‬ ‫َ‬
‫وروى الطرباين عن ابن مسعود قوله ﷺ‪« :‬إِنَّ ِم ْن أ ْعال ِم َّ‬
‫الس َ‬
‫َقبِ َيل ٍة ُمن ِ‬
‫َاف ُقوهَ ا‪َ ،‬و ُك َّل ُس ٍ‬
‫وق ُف َّج ُارهَ ا» (((‪ .‬وفيه إشارة إىل قرار األرسة والقبيلة وقرار االقتصاد‬
‫واملعامالت وخطورة انتقال القرار من أهله املعتربين إىل سامرسة األسواق ودجاجلة األخالق‪،‬‬
‫وهذا أيض ًا من مظاهر الغثائية‪ ،‬وقد سبق إيراد هذا احلديث الشاهد عىل هذا املظهر‪ ،‬وكال‬
‫وأتباع ِه أن يتجنبوا وجود الصالح يف سيادة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للكاف ِر‬ ‫الغ َثائِ َّي ِة التي تخُ َ ِّو ُل‬ ‫ِ‬
‫ملرحلة ُ‬ ‫احلالتني َرمزٌ‬
‫القبائل أو تسيري أمورها‪ ،‬وكذلك يف مسرية االقتصاد‪ ،‬ويأيت هذا يف مرحلة يكون فيه املنافقون‬
‫العلم النظري يف االقتصاد والسياسة وقضايا احلكم‪ ،‬كام يكون املفسدون‬
‫ِ‬ ‫عاملي من‬
‫مستوى ٍّ‬
‫ً‬ ‫عىل‬
‫والفجار هم حمركو األسواق ومحلة األرصدة املالية‪ ،‬فيكون هلم الرأي والكلمة‬
‫َّ‬ ‫من ال ُّتجار‬
‫الفاصلة‪.‬‬
‫ويف إطار احلكم واحلاكمية الغثائية يشري ﷺ إىل ظهور املؤسسات القائمة عىل ا َهل ْمز وال َلمز‬
‫اع ِة‬ ‫س وغريها‪ ،‬فيقول عليه الصالة والسالم‪« :‬إِنَّ من أعال ِم َّ‬
‫الس َ‬ ‫والوق َيع ِة والترَ ُّب ِ‬
‫ص وال َّت ِج ُّس ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫والغ ْمز‬

‫((( رواه أمحد والطرباين يف «الكبري» و «األوسط» ‪ ،‬وفيه كثري بن زيد وثقه أمحد وغريه وضعفه النسائي‪.‬‬
‫((( أخرجه الطرباين من حديث ابن مسعود‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪360‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وأرشاطها أن تكثر الرشط وا َهل اَّمزون اَّ‬
‫والغمزون اَّ‬
‫واللمزون‪ ،‬وأن يكثر أوالد الزِّنا»(((‪.‬‬
‫وقوله يف املنظومة‪« :‬ال ائتامن يف املصيل» إشارة إىل احلديث‪َ « :‬و ُر َّب ُم َص ٍّل ل َأ َما َن َة َل ُه» حيث‬
‫يس ِعلاَ َج ًا َوتهَ ِذيب ًا وإصالح ًا‬
‫ف بِ ِه َو َل َ‬
‫للواجب املك َّل ِ‬
‫ِ‬ ‫تبقى الصالة يف الناس جمر َد َعا َد ٍة أو إس َقاط ًا‬
‫اس َّية‪( :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ )‪.‬‬ ‫كام هي وظيف ُتها َ‬
‫األ َس ِ‬
‫املص ِّلنيَ ُم ْس َتشرْ ٍ َو َظ ِ‬
‫اه ٌر يف مرحلتنا املعارصة‪ ،‬ويؤيد ذلك قوله ﷺ‪« :‬ال‬ ‫وهذا ال َّن ُمو َذ ُج يف َ‬
‫تقوم الساعة حتى تتناكر القلوب‪ ،‬وختتلف األقاويل‪ ،‬وخيتلف َ‬
‫األ َخ ِ‬
‫وان من األب واألم يف‬
‫الدين» (((‪.‬‬
‫ور َّب ُم ٍّ‬
‫صل ال أمانة له»‪ :‬أي ال يؤدي الصالة عىل وجهها‬ ‫ويف بعض املعاين عن قوله‪ُ « :‬‬
‫ل مخسون َن ْف ٌس ال ُ‬
‫يقبل‬ ‫الرشعي‪ ،‬ويؤيد هذا املعنى قوله ﷺ‪« :‬من اقرتاب الساعة أن ُت َص يِّ َ‬

‫لأِ َ َح ِد ِه ْم َص اَل ٌة» (((‪ ،‬ومعناه‪ :‬أهنم ال يأتون برشوطها وأركاهنا‪ ،‬فال تصح ألحدهم صالة فال‬
‫يقبل منهم‪.‬‬
‫َغي�ر َفتَ�اوى الرؤَ س ِ‬
‫�اء ت َْس� َتبِدْ‬ ‫�ن ت ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َج�دْ‬ ‫�م َل ْ‬
‫�م ُث َّ‬ ‫َو ُي ْق َب ُ‬
‫�ض ال َعال ُ‬
‫َي�ر ِع ْل� ٍم ف ُي ِض ُّل�وا َم�ن َس َ‬
‫�أ ْل‬ ‫بِغ ِ‬ ‫جي ُبوا فِ�ي َع َج ْل‬
‫ون ف ُي ِ‬ ‫�ن ُي ْس َ‬
‫�أ ُل َ‬ ‫َم ْ‬
‫إشارة إىل ما سبق من حديث النقض للعلم وقبض العلامء آخر الزمان‪ ،‬وهي إحدى ظواهر‬
‫يس الدَّ ِ‬
‫عوة اإلسالمية التي جتاوزت هذا املدلول من‬ ‫املرحلة الغثائية وثمرة من ثمرات تسيِ ِ‬
‫قبض العلامء‪.‬‬
‫القبض علي ِهم وسجن ُُهم‪ ،‬ومنه ال َق ْب ُ‬
‫ض أي‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بمعان عديدة‪ ،‬فمنه‬ ‫وقد َفسرَّ العلامء القبض‬

‫((( رواه الطرباين عن ابن مسعود‪.‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪ ،162‬رواه الديلمي عن حذيفة بن اليامن‪.‬‬
‫((( «كتاب الفتن» عن ابن مسعود‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪361‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فيعتزلون ِ‬
‫الواق َع‪ ،‬ويظهر‬ ‫َ‬ ‫يس للدِّ ِ‬
‫ين‬ ‫ِ‬
‫اجلرأة وال َّتسيِ ِ‬ ‫فيس ممَّا َيشهدونه يف الواقع من‬ ‫الاِ ن ِْق َب ُ‬
‫اض ال َّن ُّ‬
‫علامء املؤسسات الذين يكونون رؤوس ًا أو رؤسا َء ُيفتون َف َي ْفتِن َ‬
‫ُون َو ُي ْف َتن َ‬
‫ُون يف ذلك‪.‬‬
‫فيها ال ُيستحيا‬ ‫املسي ِ‬
‫سة‪َ ،‬و َ‬ ‫وهذه ظاهر ٌة خطري ٌة تشمل املجتمع اإلسالمي يف هذه املرحلة َّ‬
‫الص ِ‬
‫ادق‪ ،‬يقول فيها ﷺ‪« :‬يأيت عىل الناس زمان ال ُي َّت َب ُع فيه‬ ‫العالِ ُ‬
‫ـم َّ‬ ‫ـم َ‬
‫احلقِّ ‪ ،‬وال ُي َّت َب ُع َ‬ ‫من العالِ ِ‬
‫بعضهم‬
‫ُ‬ ‫ري‪َ ،‬يقت ُُل‬ ‫رح ُم َّ‬
‫الصغ ُ‬ ‫ري‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫العالِ ُ‬
‫ـم‪ ،‬وال ُيستحيا فيه من احلليم‪ ،‬وال ُي َو َّق ُر فيه الكبـ ُ‬
‫ب‪ ،‬ل يعرفون معروف ًا وال‬ ‫اج ِم‪ ،‬وألسنت ُُهم ألسن ُة َ‬
‫الع َر ِ‬ ‫وب َ‬
‫األ َع ِ‬ ‫بعض ًا عىل الدنيا‪ ،‬قلوبهُ ُ م ُق ُل ُ‬
‫َ‬
‫ينكرون منكر ًا‪ ،‬يميش الصالح فيهم مستخفي ًا‪ ،‬أولئك رشار خلق اهلل‪ ،‬ال ينظر اهلل إليهم يوم‬
‫القيامة» (((‪.‬‬
‫املعرفة ا َهل َّش ِة بِ ُو ُج ْو ِد مظاهر القرآن والسنة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ظواهر‬
‫ُ‬ ‫ويف هذا اجلو ا ُمل َع َّتم من العلم والدِّ ين تربز‬
‫ووجود رموز العلم والعلامء الذين يصفهم احلديث بوصف حاهلم‪« :‬ال تذهب األيام والليايل‬
‫حتى يخَ ْ َل َق القرآنُ يف صدور هذه األ َّمة كام خَ ْت َل ُق الثياب‪ ،‬ويكون ما ِسواه أعجب هلم‪ ،‬يكون أمرهم‬
‫َط َمع ًا ُك ُّله ال خيالِ َط ُه َخ ْو ٌف‪ ،‬إن َقصرَّ َ يف ِّ‬
‫حق اهلل تعاىل َم َّن ْت ُه ُ‬
‫نفسه األماين‪ ،‬وإن جتاوز إىل ما هنى اهلل‬
‫نفس ِه‬ ‫وب ِّ‬
‫الذ َئاب‪ ،‬أفض ُل ُهم يف ِ‬ ‫أن َعل ُق ُل ِ‬
‫الض ِ‬ ‫َجاو َز ُ‬
‫اهلل َعنِّي‪َ ،‬يل َب ُسونَ جلو َد َّ‬ ‫عنه قال‪ :‬أرجو أن َيت َ‬
‫اه ُن ا َّل ِذ ْي ل َيأمر َ‬
‫باحل ِّق وال ينهى عن املنكر» (((‪.‬‬ ‫ا ُمل َد ِ‬
‫َّ�اس فِ ْق َه� ًا ُم ْغت ِ‬
‫َـر ْب‬ ‫َو ُي ْل ِز ُم ْ‬
‫�و َن الن َ‬ ‫�ون الك َِذ ْب‬ ‫�اء الدِّ ْي ِ‬
‫�ن ُي ْل ُق ْ‬ ‫َو ُخ َط َب ُ‬
‫ٍ‬
‫حديث َط ِو ْيلٍ ‪...« :‬‬ ‫والو َهن يف املَنَابر من قولِ ِه يف‬ ‫إشارة إىل قولِ ِه ﷺ عن مظاهر ُ‬
‫الغ َثاء َ‬
‫وتقوم اخلطباء بالكذب‪ ،‬فيجعلون ح ِّقي لرشار أمتي‪ ،‬فمن صدقهم بذلك وريض به مل يرح‬

‫((( املصدر السابق ص‪ ، 166‬رواه الديلمي عن عيل كرم اهلل وجهه‪.‬‬


‫((( يف «احللية» أليب نعيم عن معقل بن يسار‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪362‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رائحة اجلنة» (((‪.‬‬
‫بأساليب‬
‫َ‬ ‫لم ِة‬ ‫عن َّ‬
‫الظ َ‬ ‫َ‬
‫ويدافعون ِ‬ ‫ِ‬
‫نحراف‬ ‫أوضاع الاِ‬
‫َ‬ ‫وهؤالء اخلطباء هم الذين ُيزَ ِّين ُْو َن للناس‬
‫اع ُة‬
‫الس َ‬‫النبـي ﷺ‪« :‬ل َت ُق ْو ُم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّب واملَ َقا ِم َلدَ ى هؤالء‪ ،‬وقد وصفهم‬ ‫ظيفة وا ُمل َرت ِ‬‫للو ِ‬ ‫ملتوية ط َلب ًا َ‬‫ٍ‬

‫َح َّتى يخَ ْ ُر َج َق ْو ٌم َي ْأ ُك ُل ْونَ بِ َأ ْل ِسنَتِ ِهم َكم َت َأ ُك ُل ال َب َق ُر بِ َأ ْل ِسنَتِ َها» (((‪.‬‬
‫ون ُح َّجت َُه ْم نِ َفا َق ًا‪َ ،‬و ُي ْط ُرونهَ ُ م‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :162‬ومعناه‪ :‬يمدحون الناس و ُيظ ِه ُر َ‬
‫أنفس ُهم حتى يتسولوا إىل أخذ األموال منهم‪.‬‬
‫ويمدحون َ‬
‫القل�ب وال ِّني ِ‬
‫�ات‬ ‫ِ‬ ‫�ع َخ ِ‬
‫�راب‬ ‫�اجدُ الص ِ‬
‫�ت َم َس ِ‬
‫وز ُْخ ِر َف ْ‬
‫َّ‬ ‫َم َ‬ ‫لاة‬ ‫َّ‬
‫بارز يف هذه املرحلة الغثائية‪ ،‬وبصورة متميزة‪ ،‬فحتى ُ‬
‫القرى والبوادي التي‬ ‫وهذا املظهر ٌ‬
‫ظهرت فيها املساجد املتعددة واجلديدة ذات الطابع الزخريف والفن العمراين املتميز جتدها حتوي‬
‫شعوب ًا ومص ِّلنيَ َخ ِر َب ْت قلوهبم بالدنيا واختلفت يف الدين‪ ،‬وهذا ما أشار إليه املصطفى ﷺ يف‬
‫اح َف ُكم َفالدَّ َم ُار َع َل ْي ُكم»(((‪.‬‬
‫اج َد ُك ْم‪َ ،‬و َح َّل ْيتُم َم َص ِ‬
‫حديث أبـي الدرداء‪« :‬إ َذا َز ْخ َر ْفت ُْم َم َس ِ‬
‫الكنائس والبِـ َي ُع‪ ،‬وتطول املنابر‬
‫ُ‬ ‫ويف رواية أخرى‪« :‬فعند ذلك تزخرف املساجد كام تزخرف‬
‫وتكثر الصفوف مع قلوب متباغضة وألسن خمتلفة وأهواء مجة» (((‪.‬‬
‫ويف بعض القرى من بالد املسلمني جتد املساجد الثالثة واملساجد األربعة يف القرية الصغرية‬
‫التي ال يتجاوز عدد أهلها مئتي فرد إال أن كل فئة من هؤالء هلم مسجدهم اخلاص وإمامهم‬

‫((( املصدر السابق ص‪ ،162‬رواه بن أيب الدنيا‪ ،‬والطرباين وأبو نرص السجزي يف «اإلبانة» وابن عساكر عن‬
‫أيب موسى‪ ،‬وال بأس بسنده‪« ،‬كنز العامل» (‪.)245 : 14‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬رواه أمحد عن سعد بن أيب وقاص‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪ ،167‬رواه احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول» عن أيب الدرداء ‪ ،‬ووقفه ابن املبارك‬
‫يف الزهد‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.169‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪363‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ومذهبهم مما يزيد الواقع اضطرابا وقلقا عىل غري عمق يف الديانة‪.‬‬
‫ويف هذا املعنى حديث أنس بن مالك ؤ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة‬
‫حتى يتباهى الناس يف املساجد» (((‪.‬‬
‫وحديث‪« :‬إذا ساء عمل األمة زينوا مساجدهم» (((‪ ،‬وحديث ابن عباس‪« :‬ما كثرت ذنوب‬
‫قوم إل زخرفت مساجدها‪ ،‬وما زخرفت مساجدها إل عند خروج الدجال»(((‪.‬‬
‫وهذه الظاهرة عن املساجد تلحقها ظواهر عديدة تشري إىل هبوط اإليامن‪ ،‬وسوء عالقة‬
‫املصلني بالديانة مع التزام احلضور للصالة وكثرة الصفوف‪ ،‬وفسرّ هذه الظواهر قوله ﷺ‪:‬‬
‫«ويكثر ولد الزنى‪ ،‬وتفشوا الغيبة‪ ،‬ويعظم َر ّب املال‪ ،‬وترتفع األصوات يف املساجد‪ ،‬ويظهر‬
‫أهل املنكر‪ ،‬ويظهر البناء»(((‪ .‬ومن الظواهر أيض ًَا ما قال عنه ﷺ‪« :‬يأيت عىل الناس زمان يكون‬
‫حديثهم يف مساجدهم يف أمر دنياهم‪ ،‬فال جتالسوهم فليس هلل فيهم حاجة»(((‪.‬‬
‫املساجدُ ُط ُر َق ًا َفل ُي ْس َجدُ هللِ ِف َيها»(((‪ ،‬وهذه الظاهرة‬
‫ِ‬ ‫ومن هذه الظواهر‪« :‬وح َّتى ُت َّت َ‬
‫خذ‬
‫ٍ‬
‫ببعيد‬ ‫ري من بالد املسلمني‪ ،‬وهي اختاذ املسجد للعبور من شارع إىل غريه‪ ،‬وليس‬ ‫مالح َظ ٌة يف كث ٍ‬
‫َ‬
‫أيض ًا أن حيمل املعنى عىل ما يفعله بعض اجلهالء من أصحاب الطرق ‪-‬هدانا اهلل وإ َّي ُ‬
‫اه ْم‪-‬‬
‫ٍ‬
‫ملناسبة ما؛ ولكنهم ال يعمرون هذه‬ ‫حيث َي ْس ُم ُرون و ُي ْن ِشدُ ون يف بعض املساجد حتى الفجر‬

‫((( أخرجه أمحد والرتمذي وأبو داود من حديث أنس ‪ ،‬انظر «السنن الواردة يف الفتن» ألبـي عمرو الداين‬
‫ص‪ 195‬طبعة بـيت األفكار الدولية‪.‬‬
‫((( أخرجه البيهقي يف باب الصالة ‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.196‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.167‬‬
‫((( رواه البـيهقي عن احلسن مرس ًَ‬
‫ال‪ ،‬املصدر السابق ص‪.165‬‬
‫((( أخرجه الطرباين عن ابن مسعود ‪ ،‬املصدر السابق ص‪« ،164‬فاختذوا املساجد ُط ُرق ًا» أي‪ :‬ملا َألِ َف ْت ُه الطرق‬
‫من ذكر أو حلقات إنشاد وغريه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪364‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املساجد بالعبادة‪ ،‬بل ربام أخروا صال َة الفج ِر لِ َس َه ِر ِه ْم وسمرهم يف املسجد ذاتِ ِه‪ ،‬وهذه ظاهر ٌة‬
‫قبـيحة وإن كان فاع ُل َها حمب ًا للخري والدِّ ين‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وهناك يف بعض بالد املسلمني ُتتخذ املساجد طرق ًا للسري فيها والتفرج عىل زخارف البناء‬
‫ومظاهر النقوش‪ ،‬وقد يرتدد عليها ُس َّواح أجانب ونساء ُح َّيض‪ ..‬وهلم من أبناء املسلمني أدالء‬
‫ِ‬
‫ظاهرة السياحة‪.‬‬ ‫ومتخصصون يف تشجيع‬
‫َ�ذا النِّس�اء فِ�ي الخَ نَ�ا ال َب َّط ِ‬
‫ك َ‬ ‫�ال بِالر َج ِ‬
‫الر َج ُ‬ ‫ِ‬
‫�ال‬ ‫َ ُ‬ ‫�ال‬ ‫ِّ‬ ‫َو َي ْكتَف�ي ِّ‬
‫َ‬
‫وحيصل‬ ‫وهذه أيض ًا إحدى ظواهر املرحلة الغثائية وشموهلا حتى تدخل بالد املسلمني‪،‬‬
‫نيس لدى الرجال والنساء‪ ،‬ويتفشى هذا الدمار بـني األبناء والبنات حتى يبلغَ يف‬
‫جل ُّ‬ ‫الش ُذ ُ‬
‫وذ ا ِ‬ ‫ُّ‬
‫عبـر عنه القرآن يف ذم قوم لوط‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بعض البلدان إىل اختاذ النوادي اخلاصة هبذه املفاسد‪ ،‬كام َّ‬
‫(ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ) وقد انتقل هذا الوباء إىل بالد املسلمني من أوروبا‪،‬‬
‫وكثرة املرتددين إليها من املسلمني‪.‬‬
‫ويف هذا املعنى ثالثة نامذج أشارت إليها األحاديث من حتوالت األخالق‪:‬‬
‫األول‪ :‬اكتفاء الرجال بالرجال‪ ،‬والنساء بالنساء‪.‬‬
‫الثاين‪ُ :‬يتغاير عىل الغلامن كام يتغاير عىل املرأة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬نكاح املرأة يف دبرها‪.‬‬
‫وكل هذه الظواهر االجتامعية داللة عىل مدى التأثر باالنحراف القادم من بالد الكفر‬
‫وضعف القيم الداعية إىل العفة والنزاهة‪.‬‬
‫قال ﷺ‪« :‬إذا استغنى النساء بالنساء‪ ،‬والرجال بالرجال‪ ،‬فبرشهم بريح محراء خترج من قبل‬
‫بعضهم و ُخيسف ببعض‪ ،‬ذلك بام عصوا وكانوا يعتدون» (((‪.‬‬
‫املرشق ف ُيمسخ ُ‬

‫((( رواه الديلمي عن أنس‪ ،‬املصدر السابق ص‪.157‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪365‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وحديث الطرباين‪« :‬إن من أعالم الساعة وأرشاطها أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء‬
‫بالنساء» (((‪ ،‬وحديث‪« :‬ال تقوم الساعة حتى ُيتغا َير عىل الغالم كام ُيتغاير عىل املرأة»(((‪.‬‬
‫ومنها أن تكون يف آخر األمة عند اقرتاب الساعة أشياء منها‪« :‬نكاح الرجل امرأته يف دبرها‬
‫أو أمته يف دبرها» ‪ ،‬وذلك مما َح َّرم اهلل ورسوله ويمقت اهلل عليه ورسوله(((‪.‬‬
‫ويف بعض معاين هذا احلديث انتشار الفتوى اخلاطئة يف هذا املعنى وترويج بعض الفئات‬
‫حلية هذه االنحرافات والطعن يف فتاوى العفة والرشف الرشعي‪.‬‬

‫َوت ُْش َ�ر ُب الخَ ْم ُ�ر بِ�ك ُِّل ُص َ‬


‫�ور ْة‬ ‫المح ُظ َ‬
‫�ور ْة‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫الم َع ِ‬
‫�از ُ‬ ‫َو َت ْظ َه ُ�ر َ‬
‫ويف هذا البـيت إشارة ملظاهر الغثائية فيام يسمى بالفنون واإلبداعات‪ ،‬فالغالب عىل بالد‬
‫املسلمني يف هذه املرحلة كثرة الفنانني والفنانات‪ ،‬وكثرة احلفالت الغنائية والرقص واملوسيقى‬
‫واملعاهد اخلاصة هبذه الفنون تبع ًا ملا جاء به الغرب‪.‬‬
‫والو َهن‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫عالمة من عالمات الساعة يف مرحلة الغثاء َ‬ ‫وقد َّنبه النبـي ﷺ إىل أن هذه الظاهرة‬
‫أن هذا مخُ الِ ٌف ملا هو معروف يف عهد العباسيني‬
‫َوأنهَّ ا ليست َم ْط َلب ًا رشيف ًا‪ ،‬وقد يعتقد البعض َّ‬
‫واألمويني ومن جاء من بعدهم‪ ،‬حيث كان هلم اعتناء بالفن ويشء من الرقص واملنادمة‪،‬‬
‫والصحيح أن هذه العصور وإن كانت أقرب إىل عرص اإلسالم األول من حيث الزمن؛ ولكنها‬
‫نموذج من عالمات الساعة وتعترب من وجهة نظر اإلسالم لون ًا من ألوان ُ‬
‫اجلنوح‬ ‫ٍ‬ ‫تعرب أيض ًا عن‬
‫يف جوانب التساهل يف ِ‬
‫الغناء واملَ ُجون‪ ،‬وليست حج ًة َعلىَ اإلسالم وإنام يحُ ت َُّج باإلسالم عليها‬
‫ُ‬
‫واملعازف»‪ ،‬ويف حديث آخر‬ ‫القينات‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫من خالل ما ثبت عن رسول اهلل ﷺ قوله‪ « :‬خُّ ِ‬
‫وات َذ ِ‬

‫((( رواه الطرباين من حديث ابن مسعود ‪ ،‬املصدر السابق ص‪.155‬‬


‫((( رواه الديلمي عن أبـي هريرة‪ ،‬املصدر السابق ص‪.163‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.164‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪366‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الق ُل ُ‬
‫وب‪ ،‬واختذوا القينات‪،‬‬ ‫ت ُ‬ ‫َابر‪ ،‬و َف َس َد ِ‬ ‫املساجدُ ‪َ ،‬و ُط ِّو َل ِ‬
‫ت املَن ُ‬ ‫ِ‬ ‫وز ْخ ِر َف ِ‬
‫ت‬ ‫عن عيل ؤ‪ُ « :‬‬
‫ُ‬
‫املعازف» (((‪ ،‬وقوله‪« :‬واستُحلت» إشارة إىل استحالل ما كان حرام ًا إما بفتاوى‬ ‫واست ُِح َّل ِ‬
‫ت‬
‫العلامء وإما باجلرأة والكذب عىل اهلل ورسوله‪.‬‬
‫املئات من أهل‬
‫ُ‬ ‫وأما رشب اخلمر فهو أيض ًا من ظواهر مرحلة الغثائية‪ ،‬واهنمك فيها‬
‫اإلسالم‪ ،‬وظاهرهتا مقرونة بنقض عرى كثرية أدت إىل رشب اخلمر وتسميتها بغري اسمها‪،‬‬
‫حتى فتح هلا يف العديد من عواصم بالد املسلمني املصانع واملستودعات الكبـرية لتلبـية حاجة‬
‫بعض الروايات إىل ظاهرة رشب اخلمور إطالق ًا دون تعيني مكان‪ ،‬ويف‬
‫السوق‪ ،‬وقد أشارت ُ‬
‫أحاديث أخرى‪« :‬ورشبت اخلمور يف الطرق» وكأنهَّ ا إشارة إىل احلوانيت والبارات اخلاصة وإىل‬
‫ات هلا حيث ال يخَ َش ْو َن َر ِقي َب ًا َع َلي ِهم‪ ،‬ويف رواية‪« :‬ورشبتم‬ ‫واملتس ِّك ِعينْ َ فيِ ُّ‬
‫الط ُر َق ِ‬ ‫َ‬ ‫املارة‬
‫رشب َّ‬
‫اخل ْم َر بِال َّنبِ ْـي ِذ» ((( أي‪:‬‬ ‫استح َّل ْت هَ ِذ ِه ُ‬
‫األ َّمة َ‬ ‫َ‬ ‫اخلمور يف ناديكم» (((‪ ،‬ويف رواية أخرى‪« :‬إذا‬
‫َيرشبونهَ ا َويسموهنا النبـيذ يتحيلون عىل اهلل يف تغيري اسمها‪ ،‬وحديث الطرباين‪« :‬إن من أعالم‬
‫اخلمور»(((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املعازف َوتُشرْ َ َب‬ ‫الساعة وأرشاطها أن َ‬
‫تظه َر‬
‫�از وهم ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ُش�ر َط ٌة لِ َضب ِ‬
‫�ط َأ ْح َ ِ‬
‫�از َلس ْ‬
‫�ن‬ ‫�ن ك ُِّل غ ََّم ٍ َ َ َّ‬
‫م ْ‬ ‫الم�دُ ْن‬
‫�وال ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫وقد سبق تناول هذا املعنى يف رشح حديث «صنفان من أهل النار»‪.‬‬
‫�ب‬ ‫�اه ٍق ُم َجانِ ِ‬
‫�اه ٍق لِ َش ِ‬
‫ِم�ن َش ِ‬
‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ى َله ِ‬
‫�ار ِ‬ ‫�و ْ‬
‫ِ‬
‫لاَ َي ْس� َل ُم الدِّ ُ‬
‫ي�ن س َ‬
‫َ�ار ِة‬
‫لمغ َ‬‫ل َ‬
‫ِ‬ ‫َي ِف ُّ�ر‬ ‫َك َث ْع َل ٍ‬
‫�ب‬ ‫�ار ِة‬
‫الح َض َ‬
‫ِ‬
‫الح َي�اة َو َ‬
‫َ‬ ‫�ع‬ ‫ِ‬
‫َم َواق َ‬

‫ٍ‬
‫حديث طويلٍ رواه الرتمذي‪ ،‬وأورده صاحب «اإلشاعة» ص‪.177‬‬ ‫((( من‬
‫((( رواه الديلمي عن ابن مسعود‪.‬‬
‫((( رواه الديلمي عن حذيفة بن اليامن‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.155‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪367‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫تشري األبـيات إىل ما ذكره ﷺ من اختالط األمور يف عرص الغثاء حتى يضطر الراغب يف‬
‫حفظ الدين من مضالت الفتن أن يبحث عن ملجأ أو معاذ يلجأ بدينه إليه‪.‬‬
‫اهق‪ ،‬أو‬ ‫ـر ِم ْن َش ِ‬
‫اه ٍق إىل َش ِ‬ ‫قال ﷺ‪« :‬يأيت عىل الناس زمان ال يسلم لِ ْ‬
‫ذي ِد ْي ٍن ِد ْي ُن ُه إل َم ْن َف َّ‬
‫ِ‬
‫معصية‬‫مان إذا مل ُتن َْل املَ ِع ْي َش ُة إل بِ‬
‫الز ِ‬ ‫ب يفر بأشبالِ ِه‪ ..‬وذلك يف ِ‬
‫آخ ِر َّ‬ ‫من ُج ْح ٍر إىل ُج ْح ٍر‪َ ،‬كال َّث َ‬
‫عل ِ‬
‫اهلل» (((‪.‬‬
‫ان َب اَل ٌء شديدٌ ل َي ْن ُجو من ُه إل َر ُج ٌل‬
‫الز َم ِ‬ ‫يصيب أ َّمتي يف ِ‬
‫آخ ِر َّ‬ ‫ُ‬ ‫وحديث أبو نعيم عن عمر‪َ « :‬س‬
‫السوابِ ُق‪َ ،‬و َر ُج ٌل عرف َ‬
‫دين اهلل‬ ‫يه بلسانِ ِه وقلبِ ِه‪َ ،‬‬
‫فذلك ا َّلذي سبقت له َّ‬ ‫دين اهلل َف َجاهَ َد َع َل ِ‬
‫َع َر َف َ‬
‫َف َّص َد َق بِ ِه» (((‪.‬‬
‫�ش فِ�ي الن ِ‬
‫َّ�اس‬ ‫�ن َي ِع ْ‬
‫َو َم ْ‬
‫ْ�ل ال�كِ اَل ْب‬
‫�و ُه َح َن َق� ًا َقت َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ت‬
‫ََ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫َع َ‬
‫اب‬ ‫َر‬
‫ت‬ ‫�‬
‫ُ ْ َ ْ‬‫س‬ ‫م‬ ‫�اش‬
‫يشري الناظم ملن حاول التعايش من الصاحلني مع الناس يف عواصمهم وأسواقهم وأسباب‬
‫تطور حضاراهتم‪ ،‬فإنه يعيش يف قلق وحذر ملا يدور حوله من التهم والشكوك‪ ،‬بل قد يؤدي‬
‫ذلك يف بعض األحوال واالضطرابات إىل أن يقتلوه حنق ًا كام تقتل الكالب‪.‬‬
‫وهذه الظاهرة قد لوحظت يف بعض البالد التي غزهتا الغثائية الرشقية إ َّبان مرحلة الرصاع‬
‫بـني ُ‬
‫الق َّوتني العامليتني الغربـية والرشقية‪ ،‬فقد جعلت تلك القوى هلا من املعاذير والسياسة ما‬
‫ِ‬
‫تستأص ُل به العلامء والصاحلني من خالل تلك ال ُّتهم والشكوك‪ ،‬حتى بلغ األمر إىل سحل العلامء‬
‫ِ‬
‫العاملة للقوى األجنبـية لتربير‬ ‫ِ‬
‫كاحلزبـية أو‬ ‫ٍ‬
‫سياسية‬ ‫وقتلهم يف شوارع املدن‪ ،‬وحينا بإصدار هتم‬
‫اس َز َمانٌ‬
‫الصالح‪ ،‬ويؤيد هذه الظواهر وحدوثها يف األمة قوله ﷺ‪« :‬يأيت َعل ال َّن ِ‬
‫قتلِ العالمِ أو َّ‬

‫((( رواه أبو نعيم يف «احللية» والبيهقي يف «السنن» عن ابن مسعودؤ ‪« ،‬كنز العامل» (‪.)154 :11‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.165‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪368‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ان حَ َتا َم ُقوا» (((‪.‬‬ ‫الع َل اَم َء ف َذلِ َك َّ‬
‫الز َم ِ‬ ‫الع َل اَم ُء َكم ُت ْقت َُل ِ‬
‫الك اَل ُب‪َ ،‬ف َي َال ْي َت ُ‬ ‫ُي ْقت َُل ِف ْي ِه ُ‬
‫وحديث‪َ « :‬ي ْأيت َعل ال َّن ِ‬
‫اس َز َمانٌ َي ْست َْخ ِف ْي ا ُملؤْ ِم ُن ِف ْي ِه ْم َكم َي ْست َْخ ِف ْي ا ُملن ِ‬
‫َاف ُق ِف ْي ُكم»(((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫الما ُع ِ‬ ‫ِ‬ ‫�و ِن‬ ‫وب َم ْ‬ ‫الش� ُع ِ‬
‫ون‬ ‫الم ْعدُ ْو ُد في َ‬
‫ف َ‬ ‫َو َّ‬
‫الش َ�ر ُ‬ ‫�أك َُل ال ُب ُط ْ‬ ‫�م ُّ‬ ‫َه ُّ‬
‫المخْ ت ِ‬ ‫�اء َع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َه َ‬ ‫�ن فِ�ي الدِّ ْر َه� ِم َوالدِّ ْين ِ‬
‫َ�ار‬ ‫�ن ُ‬ ‫�ذا ا َّل�ذ ْ‬
‫ي َج َ‬ ‫َ�ار‬ ‫َوالدِّ ْي ُ‬
‫والو َهن التي ُتصيب شعوب امل ِ َّلة يف‬ ‫إشار ٌة إىل ما أخرب عنه ﷺ من ظواهر مرحلة ُ‬
‫الغثاء َ‬
‫َاع ُهم‪َ ،‬و ِق ْب َلت ُُهم‬
‫ه ُهم ُب ُط ْو هُن ُْم‪َ ،‬وشرَ َ ُف ُهم َمت ُ‬
‫قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬يأيت عىل الناس زمانٌ مَ ُّ‬
‫اخل ْل ِق ل َخ اَل َق هَلم ِع ْن َد اهلل» (((‪.‬‬ ‫اه ُهم َو َد َنانِيرْ ُ ُهم‪ُ ،‬أ ْو َلئِ َك شرَ ُّ َ‬
‫اؤ ُهم‪َ ،‬و ِد ْين ُُه ْم َد َر مِ ُ‬
‫نِ َس ُ‬
‫وقد برزت هذه الظاهرة يف بعض البالد اإلسالمية وهي متني عودة احلكم الشيوعي‬
‫االشرتاكي فيها ألن تلكم املرحلة كانت أسعار األغذية أقل مما هي عليه اآلن‪ ،‬معتقدين أن‬
‫رخص األسعار مرهون بالنظام االشرتاكي فيتمنى أحدهم عودته ال خوفا عىل دين وال خلق‬
‫وإنام رغبة يف حصول طعامه ورشابه ولو عىل إهانة دينه وملته‪.‬‬
‫وي ْك ُث�ر ِ‬ ‫تَخْ تَلِ ُ‬
‫ُ�وب‬ ‫�ان َو ُ‬
‫الذن ُ‬ ‫الع ْص َي ُ‬ ‫ََ ُ‬ ‫�و ُب‬ ‫�و ُال َوال ُق ُل ْ‬
‫�ف األ ْق َ‬
‫َواألَ َمانَ� ْة‬ ‫�ان‬ ‫ا ِ‬
‫إل ْي َم ُ‬ ‫َو ُي ْر َف ُ‬
‫�ع‬ ‫ان فِ�ي الدِّ يانَ� ْة‬
‫�و ُ‬‫إل ْخ َ‬ ‫َيخْ تَلِ ُ‬
‫�ف ا ِ‬

‫يشري الناظم إىل ما يربز جلي ًا من التداعيات األخالقية يف احلياة االجتامعية إبان املرحلة الغثائية‪،‬‬
‫هدم ًا ملا جاء به خري الربية من األخالق والقيم واآلداب النبوية‪ ،‬وإىل ذلك أشار ﷺ يف َح ِد ْيثِ ِه الذي‬
‫ان ِم َن َ‬
‫األ َخ َو ِ‬ ‫وب َو خَ ْتت َِل َف َ‬
‫األ َقا ِو ْي ُل َويخَ ْ ت َِل َف َ‬ ‫الق ُل ُ‬ ‫اع ُة َح َّتى َت َتن َ‬
‫َاك َر ُ‬
‫األ ِ‬
‫ب‬ ‫رواه الديلمي «ل َت ُق ْو ُم َّ‬
‫الس َ‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬رواه الديلمي عن ابن عباس‪.‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬رواه ابن السني عن جابر ريض اهلل عنه‪« .‬كنز العامل» (‪.)176 :11‬‬
‫((( رواه السلمي عن عيل ريض اهلل تعاىل عنه‪« ،‬كنز العامل» (‪.)192 :11‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪369‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الد ْي ِن» (((‪ ،‬وقال عن األمانة ورفعها ما ورد يف البخاري من حديث حذيفة‪« :‬قال ويصبح‬ ‫َو ُ‬
‫األ ِّم ف ِّ‬
‫الناس يتبايعون فال يكاد َأ َحدٌ يؤدي َ‬
‫األ َما َن َة‪َ ،‬ف ُي َقال‪ :‬إِنَّ ف بني ُف اَلن َر ُج اَ ً‬
‫ل أمين ًا‪ ،‬ويقال َّ‬
‫للرجل‪ :‬ما‬
‫أعقله وما أظرفه وما أجلده وما يف قلبه مثقال حبة خردل من إيامن»(((‪.‬‬
‫ولوحظ مثل هذا فيام يسمى باالنتخابات والرصاع عليها حيث ينتفي لدى الكثري مفهوم‬
‫األمانة بمعناها الصحيح حتى يذهبون يف مناطق شتى باحثني عن رجل أمني يرشح‪.‬‬
‫ِّ‬
‫للشك أنه املقصود يف األحاديث‬ ‫وهذه الظواهر قد برزت يف احلياة االجتامعية بام ال يدع جما ً‬
‫ال‬
‫الرشيفة‪ ،‬فنسأل اهلل العفو والعافية واللطف فيام جتري به املقادير‪.‬‬
‫ُ�ودي إ َل�ى س� ْف ِ‬
‫ك ال�دَّ ِم‬ ‫بِ ُش�به ِة ت ِ‬ ‫الم ْس�لِ ِم‬ ‫�لم َقت َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ�ل ُ‬ ‫الم ْس ُ‬
‫ُي َباش ُ�ر ُ‬
‫�ي َوالت ََّوالِ�ي‬ ‫ِ‬ ‫ُم ْس ِ‬
‫�ر َع ًة ف�ي ال َّط ِّ‬ ‫ي األَ َّي�ا ُم َوال َّل َيالِ�ي‬ ‫َو َتنْ َط ِ‬
‫�و ْ‬
‫الز َمان وحتوالته‪ ،‬بحيث حيصل بـني‬ ‫يشري الناظم إىل إحدى ظواهر ال َّت َغيرُّ يف مستوى َّ‬
‫املسلمني « َس ْفك ِدماء» مع أن الرسالة املحمدية قد أعطت قيم ًة ومكان ًة لدم املسلم‪ ،‬فقد ورد‬
‫اض ُكم َو َأ ْب َش َ‬
‫ار ُك ْم‬ ‫يف الصحيح قوله يف يوم النحر وهو خيطب‪َ « :‬فإِنَّ ِد َم َاء ُكم َو َأ ْم َو َال ُكم َو َأ ْع َر َ‬
‫َع َل ْي ُك ْم َح َر ٌام َك ُح ْر َم ِة َي ْو ِم ِك ْم هَ َذا ف َش ْه ِر َكم هَ َذا ف َب َل ِد ُك ْم هَ َذا‪َ ..‬أل هَ ْل َب َّلغْ ُت؟»‪ ،‬قلنا‪ :‬نعم‪،‬‬
‫ض ُب َب ْع ُض ُكم ِر َق َ‬
‫اب َب ْعض»(((‪،‬‬ ‫اش َهد»‪ ..‬إىل أن قال‪« :‬ل َت ْر ِج ُع ْوا َب ْع ِد ْي ُك َّف َ‬
‫ار ًا َي رْ ِ‬ ‫قال‪« :‬ال َّل ُه َّم ْ‬
‫وهذا األمر بارز يف نامذج القتل يف الثأرات والرصاعات احلزبـية والفكرية واالغتياالت‪.‬‬
‫اع ُة‬
‫الس َ‬ ‫الز َم ِ‬
‫ان حتقيق ًا‪ ،‬لقوله ﷺ‪« :‬ل َت ُق ُ‬ ‫وأما « َطي َ‬
‫األ َّيا ِم َوال َّل َيال» فظاهرة تربز يف ُأ ْخ َر َي ِ‬
‫وم َّ‬ ‫ات َّ‬ ‫ُّ‬

‫((( رواه الديلمي عن حذيفة ‪« ،‬كنـز العامل» (‪ ،)49 :14‬و «اإلشاعة» ص‪.162‬‬
‫((( رواه أمحد والرتمذي وابن ماجة والبيهقي من حديث حذيفة بن اليامن‪ ،‬راجع «فتح الباري» (‪)42 :13‬‬
‫كتاب الفتن‪ ،‬طبعة دار الفرات‪ ،‬و «كنز العامل» (‪.)60 :3‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪370‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اع ٍة‬ ‫اجل ْم َع ِة َو ُ‬
‫اجل ْم َع ُة َكال َي ْو ِم َو َي ُك ْونُ ال َي ْو ُم َك َس َ‬ ‫الش ْه ُر َك ُ‬ ‫الز َمانُ َفت َُكونَ َّ‬
‫الس َن ُة َك َش ْه ٍر َو َّ‬ ‫ار َب َّ‬‫َح َّتى َي َت َق َ‬
‫واحلق أن املراد نـزع الربكة من كل‬ ‫ُّ‬ ‫الس ْع َف ِة»(((‪ .‬قال شارح احلديث‪:‬‬ ‫اع ُة َكاحترِ َ ِ‬
‫اق َّ‬ ‫َو َت ُكونُ َّ‬
‫الس َ‬
‫يشء حتى من الزمان(((‪ ،‬وقيل‪ :‬قرص األعامر بالنسبة إىل كل طبقة‪ ،‬وقيل‪ :‬تقارب أحواهلم يف‬
‫الرش والفساد واجلهل‪.‬‬
‫ِ‬
‫احلياة العلمية َو َط َّي املسافة الزمنية بالوسائل احلديثة يبدي معنى من معاين‬ ‫ويبدو أن تقدم‬
‫التقارب املشار إليه يف احلديث واهلل أعلم‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫بـين الجيو ِ ِ‬ ‫الم اَل ِح� ِم‬
‫المحيِط ال َع َ‬
‫المي‬ ‫ش في ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ُْ‬ ‫الح ُ�ر ْو ِ‬
‫ب َو َ‬ ‫ُ‬ ‫َو َك ْث َ�ر ُة‬
‫من مظاهر التحوالت يف املرحلة الغثائية «كثرة احلروب واملالحم بـني اجليوش» ‪ ،‬وأعتقد‬
‫أن هذه احلروب ال تتحدد بالغثائية كمرحلة‪ ،‬وإن كانت يف هذه املرحلة أشد َف ْت َك ًا وضرَ َ او ًة‬
‫الستخدام الوسائل املتطورة يف احلروب‪ ،‬فاحلرب العاملية األوىل والثانية وما جرى بعدها من‬
‫ٍ‬
‫إقليمية هلا ِص ٌلة بأطامع الدول العاملية تعترب جزء ًا ال يتجزأ من اإلشارات النبوية عن‬ ‫ٍ‬
‫حروب‬
‫فتن وحروب ومالحم آخر الزمان‪ ،‬كحرب ِف ْيتنَام وحرب اخلليج وحرب أفغانستان وحرب‬
‫الشيشان وغريها‪.‬‬
‫اك فِي الشَّ�ا ِم َو ِم ْص َر ال ْ‬
‫يطاق‬ ‫ك ََذ َ‬ ‫�ر ِحصار فِ�ي ِ‬
‫الع َر ْاق‬ ‫ِ‬
‫َوآخ ُ�ر األَ ْم ِ َ ٌ‬
‫ات ال َّن ِ‬
‫بوية عن مستقبل الزمان‪ ،‬فاحلصار يف العراق قد امتد أثره إىل‬ ‫فيه إشارة لعظمة ال َّت َن ُبؤَّ ِ‬
‫ٍ‬
‫بحديث رواه اإلمام مسلم عن جابر بن عبداهلل األنصاري ؤ‪،‬‬ ‫املعني‬
‫ُّ‬ ‫ساعتنا هذه؛ وكأ َّنه‬
‫العراق أن ال يجُ َبى إليهم َق ِف ْيزٌ َول ِد ْرهَ ٌم»‪ ،‬قلنا‪ :‬من أين ذلك ؟ قال‪« :‬من ِق َبلِ‬
‫أهل ِ‬
‫وشك ُ‬
‫قال‪ُ « :‬ي ُ‬

‫دينار وال ُمدى»‪ ،‬قلنا‪ :‬من‬ ‫الع َج ِم‪َ ،‬ي ْمن َُع ْونَ َذ َ‬
‫اك»‪ ،‬ثم قال‪ُ « :‬يوشك أهل الشام أن ال يجُ بى إليهم ٌ‬ ‫َ‬

‫((( أخرجه أمحد يف مسنده وأبو نعيم يف «احللية» عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( املصدر السابق (‪ )19 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪371‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ثم َس َك َت ُهن َْي َه ًة (((‪ ،‬وللحديث بقية‪.‬‬ ‫أين ذاك ؟ قال‪ِ « :‬م ْن ِق َبلِ ُّ‬
‫الر ْو ِم»‪َّ ،‬‬
‫آيات اهلل يف إعجاز النبوة‪ ،‬وقد أبرزت لنا وقائع األحوال نموذج ًا مما أشار‬ ‫آية من ِ‬ ‫واحلديث ٌ‬
‫ُ‬
‫ٌ‬
‫عالمة‬ ‫شك أن ما ذكره ﷺ َكائِ ٌن لاَ حَمَا َلة‪َ ،‬و َك ْين ُْو َن ُت ُه‬ ‫إليه احلديث‪ ،‬وهو ِح ُ‬
‫صار العراق‪ ،‬وما من ٍّ‬

‫جل من أهلِ َبـيِتي َي ْم َلؤُ هَ ا‬


‫أتم ﷺ احلديث بعد سكوته هنيهة‪ ،‬فقال‪ُ « :‬ث َّم يخَ ْ رج َر ٌ‬
‫وملحظ‪ ،‬وقد َّ‬
‫َعدْ ًال َكم ُم ِلئ ْ‬
‫َت َج ْو َر ًا‪ »...‬ويف رواية أبـي هريرة يف صحيح مسلم أيض ًا قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫الش ُام ُم ِديهَّ ا ودينارها‪ ،‬ومنعت مرص إردهبا ودينارها‪،‬‬
‫ت َّ‬‫مهها َو َق ِف ْيزَ هَ ا‪َ ،‬و َمن ََع ِ‬ ‫ُ‬
‫العراق در َ‬ ‫« ُمنِ َع ِ‬
‫ت‬
‫وعدتم من حيث بدأتم‪ ،‬ثم قال‪ :‬شهد عىل ذلك حلم أبـي هريرة ودمه‪ »..‬قال اإلمام النووي‬
‫وم سيتولون عىل البالد يف آخر الزمان فيمنعون‬
‫الر َ‬ ‫أن َمعنَا ُه َأ َّن َ‬
‫الع َج َم َو ُّ‬ ‫واألشهر َّ‬
‫ُ‬ ‫يف رشحه‪:‬‬
‫وعدْ ُت ْم من حيث َب َد ْأ ُت ْم» فهو بمعنى احلديث اآلخر‬
‫حصول ذلك للمسلمني‪ .‬وأما قوله ﷺ‪ُ « :‬‬
‫«بدأ اإلسالم غريب ًا وسيعود غريب ًا كام بدأ»(((‪.‬‬
‫قال صاحب كتاب «هرجمدون‪ ..‬آخر بـيان يا أمة اإلسالم‪ »..‬ص‪ 13‬عن اهلنيهة أو الربهة‬
‫التي وردت يف احلديث‪« :‬ثم سكت هنيهة»‪ :‬هي الفرتة الزمنية الطويلة‪ ،‬فا ُهلن َْي َه ُة متتد آحاد‬
‫السن ََو ِ‬
‫ات َو َقد تمَ تَدُّ إِلىَ َعشرَ اتهِ َا‪.‬‬ ‫آحا َد َّ‬ ‫ُ‬
‫تكون َ‬ ‫ُ‬
‫الربهة فقد‬ ‫السنوات‪َ ،‬أ َّما‬
‫المغَانِ� ِم‬
‫الر ْب�حِ َو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوق َّل� ٌة ف�ي ِّ‬
‫َت َق�ارب األَس�و ِاق فِ�ي العو ِ‬
‫اص ِم‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫الو َهن ُ‬
‫والغ َثاء يف العواصم العربـية‬ ‫بالعيان من عالمات َ‬
‫إشارة إىل ما قد لوحظ اليوم َ‬
‫بالربا ُّ‬
‫والشبهة‪ ،‬وصارت هي‬ ‫واإلسالمية‪ ،‬فقد فتحت التسهيالت التجارية ذات االرتباط ِّ‬
‫املثال األوحد يف أغلب املعامالت الدولية‪ ،‬وترتب عىل هذا االنفتاح االقتصادي زيادة يف‬
‫األسواق واملَ َعا ِر ِ‬
‫ض وتقارهبا يف املوقع الواحد والشارع الواحد؛ بل بلغ ببعض البالد أن يكون‬ ‫ِ‬

‫((( رشح صحيح مسلم (‪ )38 :6‬كتاب الفتن وأرشاط الساعة‪.‬‬


‫((( رشح صحيح مسلم (‪ )30 :16‬كتاب الفتن وأرشاط الساعة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪372‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الشارع ُك ُّل ُه من صنف واحد للبضاعة‪ ،‬مع شكوى اجلميع من قلة الربح وسوء الدخل وكثرة‬
‫ُ‬
‫اق»‪ ،‬قلت‪ :‬ما تقارب األسواق؟ قال‪:‬‬ ‫اع ِة َت َق ُار ُب َ‬
‫األ ْس َو ِ‬ ‫الس َ‬ ‫املصاريف‪ ،‬قال ﷺ‪ِ « :‬م ْن َأشرْ َ ِ‬
‫اط َّ‬
‫اإلصا َب ِة» أي‪ :‬الربح ((( ومن حديث سلامن‪َ « :‬و ُت َشا ِر ُك‬
‫ض ِق َّل َة َ‬ ‫« َأنْ َيشْ ُكو ال َّن ُ‬
‫اس َب ْع َض ُهم إِل َب ْع ٍ‬
‫اق» قال‪ :‬ما تقارهبا ؟ قال‪َ « :‬ك َس ُادهَ ا َو ِق َّل ُة َأ ْر َب ِ‬
‫اح َها»‬ ‫ار ُب َ‬
‫األ ْس َو ُ‬ ‫املَ ْر َأ ُة َز ْو َج َها ف الت َِّج َ‬
‫ار ِة‪َ ،‬و َت َت َق َ‬
‫ب‬ ‫اهلل َت َعال‪َ ،‬و َم َذ َّمت ُُه ْم إِ َّيا ُه َأنْ َيشْ ُكو ُه‪َ ،‬و َذلِ َك ِع ْن َد َت َق ُار ِ‬
‫(((‪.‬وحديث آخر‪َ « :‬و َأ َر ْى َق ْو َم ًا َي ُذ ُّمونَ َ‬

‫ول‪َ :‬ما َأبِ ْـي ُع َول َأ ْشترَ ِ ْي‬ ‫ادهَ ا‪ُ ،‬ك ٌّل َي ُق ُ‬ ‫اق»‪ ،‬قال‪ :‬وما تقارب األسواق ؟ قال‪ِ « :‬ع ْن َد َك َس ِ‬ ‫َ‬
‫األ ْس َو ِ‬
‫ض َفل‬ ‫اف َ‬
‫األ ْر ِ‬ ‫اهلل َت َعال»((( وعن سلامن حديث‪َ « :‬ح َّتى َي ْب ُل َغ إِل َأ ْط َر ِ‬ ‫َول َأ ْر َب ُح‪َ ،‬ول َرا ِز َق إل ُ‬
‫يجَ ِدُ ِر ْب َح ًا»(((‪.‬‬

‫َار ِة‬
‫ال�وز َ‬
‫وفِ�ي ال َق َض ِ‬
‫�اء َوك َ‬
‫َ�ذا َ‬ ‫َ‬ ‫�ار ِة‬ ‫ِ‬ ‫ت َُش ِ‬
‫�ار ُك َ‬
‫الم ْ�رأ ُة ف�ي الت َِّج َ‬
‫إشارة إىل ما ورد يف حديث ابن مسعود فيام رواه أمحد والبخاري واحلاكم «إن بـني يدي‬
‫عني املَ ْر َأ ُة َز ْو َج َها َعل الت َِّج َ‬
‫ار ِة»(((‪ ،‬ويف حديث‬ ‫ار ِة‪ ،‬حتى ُت َ‬
‫اخلاص ِة‪ ،‬و ُف ُش َّو الت َِّج َ‬
‫َّ‬ ‫تسليم‬
‫َ‬ ‫الساعة‬
‫آخر‪« :‬وتكون املخاطبة للنساء»(((‪ ،‬ويف حديث آخر‪« :‬وأمارة النساء» (((‪.‬‬
‫َوال ُع ُل ْو َج�ا‬ ‫ال ُك َّف َ‬
‫�ار‬ ‫ُت َق ِّل�دُ‬ ‫َ�ب البِ ْ�ر َذ ْو َن َوالس ُ‬
‫ُّ�ر ْو َجا‬ ‫َوت َْرك ُ‬
‫إشار ٌة إىل تحَ َ ُّر ِر املرأة كام يقال «عن اجلدران األربعة» كظاهرة من ظواهر مرحلة الغثائية‪ ،‬وتركب‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.167‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.170‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.174‬‬
‫((( رواه الطرباين عن ابن مسعود‪.‬‬
‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.169‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.169‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪373‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الع َظام» ‪/‬البرَ َ ِاذ ْين‪/‬‬‫بثالثة َأ ْسماَ َء «السرُّ ُ وج ِ‬
‫ِ‬ ‫املراكيب‬
‫َ‬ ‫النبـي‬
‫ُّ‬ ‫ما يركبه الرجل من الوسائل‪ ،‬وقد سمى‬
‫ين» (((‪َ « ،‬و َت ْر َك ُب َذ َو ُ‬
‫ات‬ ‫املَ َياثِر‪َ ،‬كام هو يف نصوص األحاديث‪ ،‬منها قوله‪َ « :‬و َر ِك َب الن َِّس ُاء ال َب َ‬
‫ـر ِاذ َ‬
‫وج» (((‪ ،‬وهو إشارة إىل السيارات والعربات الفاخرة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الف ُر ْو ِج السرُّ ُ َ‬
‫اء‪َ ،‬و ُس ْل َطانُ الن َِّس ِ‬
‫اء‪َ ،‬وإِ َم َار ُة‬ ‫استِ َش َار ُة ا ِ‬
‫إل َم ِ‬ ‫وحول إمارة النِّساء حديث‪َ «:‬ل َيأتِينَ َّ َعل ال َّن ِ‬
‫اس َز َمانٌ ِف ِ‬
‫يه ْ‬
‫الس َف َه ِ‬
‫اء»(((‪ .‬وهذه كلها ظواهر يؤيدها سري املرحلة وما يروج له الساسة والقادة املعارصون‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ُّ�م َع ِة‬
‫للر َي�ا َوالس ْ‬
‫ِّ‬ ‫َوال ُع َل َم ُ‬
‫�اء‬ ‫وال ُّزعم�اء حجه�م لِلنُّـزْه ِ‬
‫�ة‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ ُّ ُ ْ‬
‫عي موس ًام‬ ‫يكون َ‬
‫احل ُّج ا لشرَّ ُّ‬ ‫َ‬ ‫والو َهن حتى‬ ‫َ‬ ‫إشارة إىل تأثر مظاهر العبادة بالغثائية‬
‫ـزه ِة ملا حيملو َن ُه معهم من وسائل الراحة والرتفيه‪،‬‬
‫احلكام لِل ُّن َ‬
‫ُ‬ ‫لغري مقصده‪ ،‬فيحج‬
‫وينالوه يف ا ملَن ِ‬
‫َاس ِ‬
‫ك من االحرتام وال َّتعظيم والتسهيل‪ ،‬فال يتعرضون ملا يتعرض له‬

‫س َو َو ْط َأ ِة الزِّ َحا ِم ‪ ،‬ويكون ُّ‬


‫حج األواسط من‬ ‫الش ْم ِ‬
‫ب َو َح ِّر َّ‬ ‫ِ‬
‫اإلهناك وال َّت َع ِ‬ ‫اج من‬ ‫ُ‬
‫احل َّج ُ‬
‫وإظهار‬
‫َ‬ ‫الناس للتجارة (((‪ ،‬وعلامؤهم للرياء والسمعة‪ ،‬أي‪ :‬طلب ًا للمكا َن ِة بـني الناس‬
‫ري من أحوال‬ ‫للم ْس َأ لة‪ ،‬وهذا ُم َش َ‬
‫اهدٌ يف كث ٍ‬ ‫اء َ‬‫الف َق َر ِ‬
‫حج ُ‬‫والش ْه َر ِة ‪ ،‬ويكون ُّ‬
‫ُّ‬ ‫اجل ِ‬
‫اه َو ا ملَ َقا ِم‬ ‫َ‬

‫أحاديث يف املوضوع منها‪ « :‬حَي ُّج أمراء الناس هلو ًا و َت َنـ ُّز هَ ًا ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العرص‪ ،‬ويؤيد ذلك‬
‫الس ْم َع ِة » (((‪.‬‬ ‫لم ْس َأ َل ِة ‪َ ،‬و ُق َّر ُاء ال َّن ِ‬
‫اس للرياء َو ُّ‬ ‫اس لِ َ‬
‫ار ِة ‪َ ،‬و ُف َق َر ُاء ال َّن ِ‬
‫اس لِلت َِّج َ‬ ‫َو َأ َ‬
‫وس ُ‬
‫اط ال َّن ِ‬
‫ويف رواية‪ « :‬حَي ُّج ُأ َم ُ ُ‬
‫والسمعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زهة ‪ ،‬وأواسطهم للتِجارة‪ ،‬وعلامؤهم ِّ‬
‫للر ياء‬ ‫للنـ ِ‬ ‫راء أ َّمتي ُّ‬

‫((( رواه الديلمي من حديث طويل لإلمام عيل ريض اهلل عنه‪« ،‬كنز العامل» (‪.)573 :14‬‬
‫((( من حديث سلامن عن «اإلشاعة» ص‪.174‬‬
‫((( رواه ابن املنادي عن عيل كرم اهلل وجهه‪« ،‬اإلشاعة» ص‪.164‬‬
‫((( أي‪ :‬لالستفادة من ظروف احلج وكثرة الناس يف سوق العرض والطلب ‪،‬مما يشغل أواسط الناس ‪-‬وهم‬
‫سامرسة التجارة‪ -‬بـني املستوردين واملستهلكني‪.‬‬
‫(( ( «اإلشاعة» ص‪ 173‬عن سلامن‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪374‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اخل ْل ِق ِع ْند اهلل » (((‪.‬‬ ‫سألة ‪ُ ،‬أ َ‬
‫ولئك شرِ ُار َ‬ ‫للم ِ‬‫وفقراؤهم َ‬
‫�اء‬
‫الو َب ُ‬
‫َو َ‬ ‫الهَل�اَ ُك‬
‫َ‬ ‫َو َي ْظ َه ُ�ر‬ ‫َ�اء‬
‫َوالخَ ن ُ‬ ‫الطََّل�اَ ُق‬ ‫و َي ْك ُث ُ�ر‬
‫إشارة إىل ظاهرة الطالق التي تغزو األرسة املسلمة يف املرحلة الغثائية‪ ،‬وأن هذه‬
‫اك ِة‪ ،‬وهذه األوبئة‬ ‫ِ‬
‫واألوبئة ال َف َّت َ‬ ‫الظاهرة تكثر حتى يكون الغضب اإلهلي باألمراض‬
‫ري‬
‫والز ْه ِّ‬ ‫قد َب َر َز يف عرصنا َخ َط ُر َها وهي َت ْفتِك بالناس يف كث ٍ‬
‫ري من بالد العامل كاإليدْ ز ُّ‬
‫َو َسارس الذي َظ َهر جديد ًا وغريها‪ ،‬ونسأل اهلل السالمة‪.‬‬
‫�احتِ َها‬ ‫ِ‬
‫�و ِق ف�ي َس َ‬
‫َو َك ْث َ�ر ُة ال ُع ُق ْ‬ ‫�ن َأ ْو َقاتِ َه�ا‬ ‫ِ‬
‫إِ َماتَ� ُة الصََّل�اَ ة َع ْ‬
‫الز ِ‬
‫مان‪َّ ،‬‬
‫وأن من نامذج ذلك تأخريها‬ ‫بالصالة يف آخ ِر َّ‬
‫إشارة إىل ما ذكره ﷺ من ظاهرة ال َّت َهاون َّ‬
‫عن وقتها حتى يكاد أن خيرج‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إذا رأيتم ال َّناس َأ َما ُتوا َّ‬
‫الصالة‪ ،‬وأضاعوا األمانة‪َ ،‬‬
‫وأكلوا‬
‫ٍ‬
‫وآيات» (((‪.‬‬ ‫الربا إلخ احلديث‪ ...‬فلريتقبوا عند ذلك رحي ًا محراء وخسف ًا ومسخ ًا وقذف ًا‬
‫ِّ‬
‫العقوق فظاهر ٌة منترشة‪ ،‬وأخرب ﷺ عن ُف ُش ِّو ِه يف مرحلة الغثاء النعدام ا ُمل َر ِّبـنيَ‬ ‫وأما ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وا ُمل َع ِّل ِمنيَ ‪ ،‬فقال‪َ « :‬وأ َطاعَ َّ‬
‫الر ُج ُل امرأ َت ُه َو َعقَّ أ َّم ُه َو َق َّر َب َص ِد ْي َق ُه» ‪ .‬ويف رواية‪َ « :‬و َعقَّ َّ‬
‫الر ُج ُل‬ ‫(((‬

‫الع َم ُل‪،‬‬‫َأ َبا ُه‪َ ،‬و َج َفا ُأ َّمهُ‪َ ،‬و َب َّر َص ِد ْي َقهُ‪َ ،‬و َأ َطاعَ ا ْم َر َأ َت ُه»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬إِ َذا َظ َه َر ال َق ْو ُل‪َ ،‬و ُخزِنَ َ‬
‫اهلل َف َأ َص َّم ُه ْم‬
‫وب‪َ ،‬و َق َط َع ُك ُّل ِذ ْي َر ِح ٍم َرحمِ َ هُ‪َ ،‬ف ِع ْن َد َذلِ َك َل َعن َُه ُم ُ‬
‫الق ُل ُ‬
‫ت ُ‬ ‫اخت ََل َف ِ‬ ‫وائتلفت َ‬
‫األ ْل ُس ُن‪َ ،‬و ْ‬ ‫ِ‬

‫َو َأ ْع َمى َأ ْب َص َ‬
‫ار ُه ْم» (((‪.‬‬

‫((( رواه الديلمي عن أنس ريض اهلل عنه‪.‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.175‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪ 177‬من حديث طويل‪.‬‬
‫((( رواه أمحد وابن أبـي حاتم عن سلامن موقوف ًا ‪ ،‬املصدر السابق‪ .‬واملقصود بخزن العمل تركه‪ ،‬وبائتالف‬
‫األلسن ما يسمى اليوم بالنفاق االجتامعي واملجامالت املبنية عىل املصالح‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪375‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الس� ْل َط ِ‬ ‫والحكْم إِر ٌ ِ ِ‬ ‫ف�ي ال ُب ْن َي ِ‬ ‫�او ٌل َي ْظ َه ُ�ر‬
‫ان‬ ‫ث في َبن ْي ُّ‬ ‫َ ُ ُ ْ‬ ‫�ان‬ ‫ِ‬ ‫َت َط ُ‬
‫ومن ظواهر الساعة عىل مدى حتوالت األزمنة ظاهرة التطاول يف البنيان‪ ،‬وهي ا ُمل َف َ‬
‫اخ َر ُة‬
‫وا ُملنَا َف َس ُة يف ُ‬
‫احل ُص ِ‬
‫ون الناطحة للسحاب ‪-‬كام ُتسمى‪ ،-‬أو ما هو اآلن بارز يف بعض الدول‬
‫العربـية من بناء األبراج الكربى التي يبلغ بعضها إىل عرشات األدوار طو ً‬
‫ال رأسي ًا كام هو احلال‬
‫لدى الكفار يف عواصمهم‪ ،‬وكان األوىل ألولئك العرب أن يوسعوا مساحة اإلعامر األفقي يف‬
‫الصحراء ملا فيه النفع لألمة مجيع ًا‪.‬‬
‫ومن مظاهر الساعة وعالماهتا توارث احلكم كحقٍّ ُأرسي بعيد ًا عن َم ْق َصد اإلسالم‬
‫يف وضع الرجل املناسب‪ ،‬وهذا الشأن قد استرشى كثري ًا يف العرصين األموي والعبايس‪،‬‬
‫وصارت‬
‫ْ‬ ‫واسترشى اآلن يف املرحلة الغثائية يف بعض الدول واملاملك‪ ،‬ويف ذلك يقول ﷺ ‪« :‬‬

‫اإلمارة مواريث»(((‪.‬‬
‫�ار لِ َ‬
‫أل ْنغَ�ا ِم‬ ‫الض�رب بِ ِ‬
‫المز َْم ِ‬ ‫َو َّ ْ ُ‬ ‫الح َ�را ِم‬
‫َ‬ ‫بالم ْي ِس ِ‬
‫�ر‬ ‫َ‬ ‫�ب‬ ‫ِ‬
‫و َلع ٌ‬
‫إشارة إىل بعض مظاهر عالمات الساعة عند ضعف األمر يف املسلمني وما يرتتب عىل هذا الضعف‬
‫من جتاوز للرشيعة بظهور القامر وتداول اللعب به دون رادع وال مانع‪ ،‬وقد حصل هذايفبعض عواصم‬
‫عائدات هذه‬
‫ُ‬ ‫وت ِ‬
‫القام ِر حتت رعاية األنظمة والدول‪ ،‬وصارت‬ ‫العرب واملسلمني اآلن‪َ ،‬و ُفتِ َح ْت ُبـ ُي ُ‬
‫البـيوتجزء ًااليتجزأمنالدخلالقوميللدولشأنهشأنحركةالبنوكاحلرام‪.‬‬
‫الرضب» عىل آلة املزمار وغريها من اآلالت املرصح بحرمتها‪« ،‬واملزمار»‪ :‬آ َل ٌة ُم ْو ِس ْي ِق َّي ٌة‬
‫ُ‬ ‫ومثله «‬

‫حرم ألوان ًا من املعازف األخرى ورد ُ‬


‫ذكرها يف‬ ‫اإلسالم‪ ،‬كام َّ‬
‫ُ‬ ‫َش ْعبِ َّـي ٌة ُع ِر َف ْت َقبل اإلسالم َو َح َّر َم َها‬
‫العالمات من مثل قوله ﷺ‪« :‬ولعبتم املَ ْيسرِ َ ‪َ ،‬وضرَ َ ْبتُم َ‬
‫الكب والتعزفة واملزامري»(((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪ 177‬من حديث سلامن‪ ،‬وفيه قال‪ :‬وأول من أحدث هذا بنوأمية‪.‬‬
‫((( رواه الديلمي من حديث طويل عن عيل كرم اهلل وجه ‪« ،‬كنز العامل» (‪ ،)574 :14‬املصدر السابق‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪376‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫إليه يف َم َظا ِّن ِه ِمن كتب العلم‪ ،‬حيث نعتني‬
‫ود ِ‬ ‫ويف هذه املسألة ِخلاَ ٌف َبـينْ َ ُ‬
‫العلَماَ ِء يمكن َ‬
‫الع ُ‬
‫اه َر ٍة وليس ك َف ْت َوى‪ ،‬وأصل اجلرأة التي حصلت يف تاريخ التحوالت‬ ‫كظ ِ‬‫العلاَ مة َ‬
‫هنا بشأن َ‬
‫اهلِ يف الفتاوى إضاف ًة إىل وجود احلامية الكافرة والرضا المُ َب َّطن من قادة‬
‫كانت بسبب ال َّت َس ُ‬
‫حتولت مسألة التحريم للميرس واملزامري‬
‫بعض األنظمة التي برزت يف املراحل املتقلبة‪ ،‬حيث َّ‬
‫وغريها إىل جانب معريف وأدبـي يسمى « ُ‬
‫بالفن ِ‬
‫ُون»‪ ،‬وصار هلذه الفنون أساتذ ٌة َو ُمت ََخ ِّص ُص ْو َن‬
‫س يتعلم فيها ا ُملو َل ُع َ‬
‫ون هبذه الفنون‪ ،‬و َي َت َف َّق ُهون يف ضرَ ْ ب اآلالت‪ ،‬وينالون‬ ‫َو َم َع ِ‬
‫اهدُ َو َمدَ ا ِر ُ‬
‫عليها اجلوائز واألوسمة والشهادات‪ ،‬ومل تعرف األمة العربـية واإلسالمية مثل هذا االنحراف‬
‫العالمَ‬ ‫بس ُق ِ‬
‫وط دولة اخلالفة‪ ،‬وتقسيم َ‬ ‫ا ُمل ْع َلن وبصورة رسمية إلاَّ بعد أن ظهرت مرحلة الغثائية ُ‬
‫العربـي واإلسالمي َت ِر َك ًة للدول الغازية واملستعمرة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و َق َ ِ‬ ‫�ر ِق‬ ‫ِ‬
‫المن َط َل ِ‬
‫�ق‬ ‫�ال‪ :‬من َْه�ا ف ْتنَ� ُة ُ‬ ‫َ‬ ‫لم ْش ِ‬
‫مص َط َفى ل َ‬ ‫َو َقدْ َأ َش َ‬
‫�ار ا ُل ْ‬
‫الش� ْي َط ِ‬
‫ان َواألَ ْط َم�ا ِع‬ ‫َّ‬ ‫وفِ ْتن ِ‬
‫َ�ة‬ ‫الص َ�را ِع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫�ن ِّ‬
‫�ير َم�ا َيأتـِ�ي م َ‬
‫ُيش ُ‬
‫العرى يف العاملني العربـي واإلسالمي يف مرحلة فتنة‬
‫يشري الناظم إىل الربط بـني انتقاض ُ‬
‫األحالس والرساء‪ ،‬وبـني ما َسماَّ ه الرسول ﷺ بفتنة الدهيامء‪« ،‬ل َت َد ُع َأ َح َد ًا ِم َن هذه ُ‬
‫األ َّم ِة إل‬
‫َل َط َم ْتهُ‪ ...‬ح َّتى َي ِصيرْ َ ال َّن ُ‬
‫اس ُف ْس َط َ‬
‫اطينْ ِ »‪ ،‬رواه أمحد وأبو داود واحلاكم من حديث ابن عمر‪،‬‬
‫انظر «اإلشاعة» ص‪. 398‬‬
‫َو َك َأ ِّنـي بمدلول هذه الفتنة ‪-‬حسب اعتقادي‪ -‬من خالل استقراء املراحل ومقارنتها‬
‫باألحاديث ‪ -‬واهلل أعلم‪ :-‬أهنا ترتبط بمرحلة « ِف ْتنَة َق ْرن َّ‬
‫الشيطان» التي قال فيها ﷺ وهو يشري‬
‫الش َ‬
‫يط ِ‬
‫ان‪ ،‬ويف‬ ‫ض ِ‬
‫الفت َِن»((( وأشار إىل املرشق‪ ،‬يعني حيث َي َط َل ُع َق ْر ُن َّ‬ ‫إىل املرشق‪« :‬هَ اهَ نا َأ ْر ُ‬

‫ص‪.182‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي عن ابن مسعود كتاب الفتن‪ ،‬رقم احلديث (‪ ،)2268‬وقال ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪377‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الش ْي َط ِ‬
‫ان(((‪.‬‬ ‫حيث َيط ُل ُع َق ْر ُن َّ‬ ‫رواية شعيب‪َ « :‬أل إِنَّ ِ‬
‫الف ْت َن َة هَ ُ‬
‫اهنَا» ((( يشري إىل املرشق ُ‬
‫الصاع املَدْ ُعوم من ُ‬
‫القوى العاملية‬ ‫قلت‪ :‬وفتنة الدُّ هيامء ْ‬
‫إن َص َّح هذا الفهم هي مرحلة رِّ‬
‫متيزت بالثورات واالنقالبات‬
‫ُبعيد مرحلة االستعامر داخل البالد العربـية واإلسالمية‪ ،‬والتي َّ‬
‫ف ِ‬
‫وآل‬ ‫ضد اهلياكل السلطوية القديمة‪ ،‬وكذلك احلرب الفكرية ضد كلٍ ِم َن املَ ْذ َهبِ َّـي ِة وال َّت َص ُّو ِ‬

‫ه ُاء)‪ ،‬وتصغريها (الدُّ َه ْيماَ ء) ‪.‬‬ ‫ِ‬


‫البـيت‪ ،‬وكان َو ُق ُ‬
‫ود َها (الدَّ مْ َ‬
‫العاملية َو َسماَسرِ َ تهُ َا ِم َن «الطبقات‬
‫ُ‬ ‫َوالدَّ همْ َ ُاء‪ :‬عامة الناس‪ ،‬وهم من استخدمتهم القوى‬
‫االجتامعية» حلرب املدارس واهلياكل التقليدية (((‪.‬‬
‫واملعلوم أن لفظة «الدُّ هيامء» مرحلة خطرية ولو َأ َّن تنفيذها جاء عىل يد بعض أبناء األرس الصاحلة‪،‬‬
‫اجتِماَ ِع ٍّي ُم َعينَّ ٍ كانت‬
‫ات اعتِ َبا ٍر ْ‬ ‫وراتهِ َا وانقلاَ َباتهِ َا َش ْخ ِص َّي ٌ‬
‫ات َذ ُ‬ ‫كام هو يف بعض البالد التي َقا َد َث َ‬
‫هلم مواقف ضد سلبـيات اهلياكل احلاكمة‪ ،‬أو هلم مواقف حركية تتالءم مع التحوالت اجلديدة‪،‬‬
‫ورغبات يف حتديث األساليب والوسائل سواء يف مستوى العلم أو مستوى احلكم‪ ،‬ألهنا كانت‬
‫ِ‬
‫بتطويعها‬ ‫للعرى»‪ ،‬وهذه املرحلة شملت ُب ْلدَ ان ًا عديدة من بالد اإلسالم قام الغرب‬
‫ض ُ‬ ‫«مرحلة َن ْق ِ‬
‫ِ‬
‫وتطبـيعهالتتالءممعسياسةاالستعامروسياسةالتجزئة‪،‬بلوتتالءمأيض ًامعتبنيالسياسةاإلقليمية‬
‫اإلسالمية التقليدية وتقسيامهتا اإلدار ّية املنهارة‪ ،‬ومنها ما عمل‬
‫ّ‬ ‫بجذورها املصطنعة بدي ً‬
‫ال عن اجلذور‬
‫الكافر عىل حتقيقه من سياسة الترتيك والتعريب‪.‬‬

‫((( أخرجه مسلم عن ابن عمر ‪ ،‬كتاب االيامن ‪ ،‬باب تفاضل أهل االيامن برقم (‪.)48‬‬
‫((( «فتح الباري» (‪ )50 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫استخدام القوى العاملية حلرب املدارس التقليدية‪ ،‬واملقصود هنا‬
‫ُ‬ ‫اع بأنه‬
‫الص ِ‬
‫((( يستغرب البعض أن يعبرَّ َ َعن رِّ‬
‫باالستخدام إطالق اليد وتوفري املناخ السيايس واالقتصادي والعسكري أحيان ًا‪ ،‬وعدم االعرتاض عىل‬
‫ما تضعه القوى املتعارضة ضد بعضها البعض مادام الرصاع حيقق شقة اخلالف بـني املسلمني ويسهم يف‬
‫استثامر الكافر ألبعاد الرصاع‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪378‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الط َب ِق َّي ُة‬
‫ات َّ‬ ‫ومو ِر َست رِّ َ‬
‫الص َاع ُ‬ ‫ونشأت الكراهية لدى العرب األتراك وكذلك العكس ُ‬
‫اخللاَ َف ِة ا ُمل َت َل ِّب ِسنيَ بِاإلسالم‪.‬‬
‫حكا ِم َدا ِر ِ‬ ‫س َو ِ‬
‫اس ٍع من َّ‬ ‫ِ‬
‫املرحلة بِت َْسيِ ٍ‬ ‫واالجتامعية يف هذه‬
‫�ع َح َّق� ًا َق ْ�ر ُن َش� ْي َط ِ‬
‫ان األَنَ�ا‬ ‫َي ْط ُل ُ‬ ‫�ن ن َْج ِدنَ�ا‬ ‫ِ‬
‫�ال َطـ� َه‪َ :‬ه ُ‬
‫اهنَ�ا م ْ‬ ‫َف َق َ‬

‫�ن‬ ‫َوتِ ْس� َع ُة األَ ْع َش ِ‬


‫�ار ُك ْف ٌ�ر َوإِ َح ْ‬ ‫�ن‬ ‫َ�ن ُط ْ‬
‫�و َل الز ََّم ْ‬
‫ِ‬
‫َزلاَ ِز ٌل َوفت ٌ‬
‫تشري األبـيات إىل ٍ‬
‫مجلة من األحاديث التي تناولت أحاديث املرشق حيث يطلع قرن‬
‫هم بارك لنا يف َش ِ‬
‫امنا وبارك لنا يف يمننا»‪ ،‬قالوا‪ :‬ويف نجدنا‪ ...‬ويف‬ ‫الشيطان‪ ،‬ومنها قوله‪« :‬ال َّل َّ‬
‫ُ‬
‫القرن‬ ‫الثالثة أو الرابعة قال‪« :‬هبا الزالزل والفتن‪ ،‬ومنها يطلع قرن الشيطان» (((‪ .‬قال اخلطابـي‪:‬‬
‫أهل املرشق يومئذ َ‬
‫أهل كفر‪ ،‬فأخرب ﷺ َّ‬
‫أن‬ ‫ان ُ‬‫آخ ِرين‪َ ،‬و َك َ‬ ‫األم ُة من الناس يحَ ْدُ ُثون بعد َفن ِ‬
‫َاء َ‬ ‫َّ‬
‫الفتنة تكون من تلك الناحية‪ ،‬وأصل ال َّن ْج ِد‪ :‬ما ارتفع من األرض‪ ،‬وهو خالف َ‬
‫الغ ْو ِر‪ ،‬فإنه ما‬
‫انخفض منها‪ ،‬وهتامة كلها من الغور‪ ،‬ومكة من هتامة‪ .‬ص‪« 51‬فتح الباري»‪.‬‬
‫الش ْي َط ِ‬
‫ان»‪،‬‬ ‫قلت واهلل أعلم‪ :‬قوله ﷺ‪َ « :‬ن ْج ِد َنا»‪ ،‬قال‪« :‬بهِ َ ا الزَّلاَ ِز ُل َو ِ‬
‫الفت َُن‪َ ،‬و ِم َنها َيط ُل ُع َق ْرنُ َّ‬
‫تي ل َت َد ُع َأ َح َد ًا إل َل َط َم ْت ُه»‪.‬‬
‫ملرحلة من مراحلِ الدُّ َه ْيماَ ِء «ا َّل ْ‬
‫ٍ‬ ‫هام‬ ‫ٌ‬
‫ملحظ ٌّ‬ ‫فيه‬
‫شك‪ ،‬وكذلك ما ذكره بعضهم من أن‬ ‫َفن َْجدُ العراق عىل ما ذكره اخلطابـي أحد املعاين بال ّ‬
‫إن ُك َّل يشء ارتفع بالنسبة إىل ما يليه يسمى نجد ًا واملنخفض‬
‫هم؛ بل َّ‬
‫خمصوص َت َو ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫موضع‬
‫ٌ‬ ‫نجد ًا‬
‫غور ًا‪ ..‬وال بأس يف االستدالل عند احلاجة هبذه املعاين إذ هي قياسية لزماهنا‪.‬‬
‫ومعنى قول الناظم‪« :‬قرن شيطان األنا» إشار ٌة إىل املدرسة َ‬
‫األ َن ِو َّي ِة التي َو َضع الشيطان‬
‫َم ْبدَ أها عند قوله‪( :‬ﯭ ﯮ ﯯ )‪ ،‬وهي املدرسة ا ُملعادلة للمدرسة األبوية التي رسمها آدم عليه‬
‫السالم بأمر مواله (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)‪.‬‬
‫إل ْب ِل ْي ِس َّي ُة من مبادئها‪ :‬البرت واإلقصاء واجتثاث اآلخرين‪ ،‬وقد برزت هذه‬ ‫واملدرسة َ‬
‫األ َن ِو َّي ُة ا ِ‬ ‫ُ‬

‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه وأمحد يف مسنده والنسائي يف سننه عن ابن عمر‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪379‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املعاين جلي ًة يف وسائل الدعوة املمتدة من هذه املنطقة وخاصة يف مرحلة امتدادها ‪ ،‬كام أن من‬
‫وسائلها‪ :‬القسم باهلل كذب ًا وهبتان ًا كام أقسم إبليس آلدم وحواء بالنصيحة الكاذبة (ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)‪ ،‬وقد كان هذا أحد أساليب املدارس األنوية كلها‬
‫يف مرحلة الدُّ هيامء التي عبرَّ عنها ﷺ‪ ،‬ويبدو َّ‬
‫أن فتنة الدهيامء قد مجعت ثالث مراحل خطرية‬
‫يف أرجاء العامل العربـي واإلسالمي‪:‬‬
‫مرحلة االستعامر‪ ،‬وبدأت بعد انتهاء مرحلة السرَّ اء‪ ،‬ونجاح احلرب العاملية األوىل‬ ‫‪ )1‬‬
‫والثانية يف تفكيك حدود العامل العربـي واإلسالمي‪ ،‬ومن مظاهرها‪:‬‬
‫‪ -1‬بروز املدرسة الشيوعية َ‬
‫األ َنو َّي ِة بالثورة ال َب ْل َش ِفية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ -2‬إقامة الكيان الصهيوين األنوي‪.‬‬
‫‪ -3‬بروز األمم املتحدة كغطاء عاملَي أ َن ِوي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وحدود متنازع عليها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قومية‬ ‫ٍ‬
‫دويالت‬ ‫‪ -4‬تقسيم العاملني العربـي واإلسالمي إىل‬
‫‪ -5‬دعم الربنامج القبيل يف جزيرة العرب لنقض عرى املدارس التقليدية ( املذهبـية وآل‬
‫البـيت والصوفية ) ذات العالقة بالقرار اإلسالمي عىل عهد اخلالفة‪.‬‬
‫مرحلة االستهتار‪ ،‬ومن مظاهرها‪:‬‬ ‫‪ )2‬‬
‫احل ِ‬
‫ادي‪.‬‬ ‫العالمَ العربـي واإلسالمي إىل‪ :‬رأس مايل ‪ -‬شيوعي َ‬
‫‪َ -1‬ش ْط ُر َ‬
‫‪ -2‬الدفع باالنقالبات والثورات الشعبـية‪.‬‬
‫‪ -3‬تشكيل األحزاب السياسية‪.‬‬
‫‪ -4‬دعم االقتصاد الربوي العاملي وفتح مصارفه يف العامل‪.‬‬
‫الصاع َّ‬
‫الطبقي واالعتقادي يف بعض البالد العربـية واإلسالمية‪.‬‬ ‫‪ -5‬إشعال رِّ‬
‫مرحلة االستثامر‪ ،‬ومن مظاهرها‪:‬‬ ‫‪ )3‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪380‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪ -1‬إعادة تشكيل النظام العاملي ا ُمل َو َّح ِد وإسقاط النظام الشيوعي العاملي‪.‬‬
‫بقي ُّ‬
‫الشيوعي حتت مسمى‬ ‫العدَ ِاء َّ‬
‫الط ِّ‬ ‫ال عن ِ‬
‫س بدي ً‬
‫املسي ِ‬
‫االعتقادي َّ‬
‫ِّ‬ ‫اع‬
‫الص ِ‬ ‫ُ‬
‫إحالل رِّ‬ ‫‪ -2‬‬
‫«الصحوة»‪.‬‬
‫‪ -3‬توحيد القوى االقتصادية العاملية حتت سياسة العوملة‪.‬‬
‫العامل ِ‬
‫ني العربـي‬ ‫بـيع َ‬ ‫املسي َس ِة ‪ -‬إسالمي ًة أو غ َ‬
‫ري إسالمية – َو َت ْط ُ‬ ‫‪ -4‬اجتثاث القوى احلركية َّ‬
‫اح ِد (((‪.‬‬
‫الو ِ‬
‫طب َ‬ ‫ات ُ‬
‫الق ِ‬ ‫الع ْولمَ ِة َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫بمرحلة َ‬ ‫واإلسالمي‬

‫((( ربام ال تروق هذه التحليالت املطروحة هنا لبعض الباحثني والعلامء املهتمني بعالمات الساعة وتناول‬
‫املالحم والفتن‪ ،‬وخاصة أن هذه التحليالت ال متلك الدليل القطعي يف مطابقتها لرشح الواقع املتحدث‬
‫عنه‪ ،‬واحلقيقة التي وددت طرحها هنا أنني أقدمت عىل هذا التحليل ومل أعتربه جزم ًا قاطع ًا‪ ،‬ولكنِّي‬
‫ٌ‬
‫ففضل‬ ‫اعتربت االستنتاجات املشار إليها إحدى االحتامالت القريبة من مطابقة الواقع‪ ،‬فإن صح ذلك‬
‫من اهلل‪ ،‬وإن مل يصح فاحلق ما عبرَّ عنه من ال ينطق عن اهلوى ﷺ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪381‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫الرابِعة‪ :‬ال َع ْم َياء ال َب ْكماَ ء َّ‬
‫الصماَ ء‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ن‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫الف‬

‫قال الناظم‪:‬‬
‫مس�لِ ِم َي ِن ال َك َف َر ْة‬
‫�و ُس َأ ْم َ�ر ا ُل ْ‬
‫َي ُس ْ‬ ‫ُمدَ ِّم َ�ر ْة‬ ‫َرابِ َع� ٌة‬ ‫َوفِ ْتنَ� ٌة‬

‫ُمثِ ْي َ�ر ْة‬ ‫َو ِر ْجلِ َه�ا‬ ‫بِ َي ِد َه�ا‬ ‫الج ِز ْي َ�ر َة ال َكبِ ْي َ�ر ْة‬
‫َ‬ ‫َوتَخْ بِ ُ‬
‫�ط‬
‫ع َل�ى الح َط�ا ِم والزِّم�ا ِم و ِ‬
‫الم َه ْن‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�ن‬ ‫ُ�و ٍن وإِ َح ْ‬ ‫�اح َش ٍّ�ر َو ُفت ْ‬ ‫ِر َي ُ‬
‫ف َد ِار ِه‬‫�و َ‬ ‫ِ‬
‫الص�اد ُق َج ْ‬ ‫َويختَف�ي َّ‬
‫ِ‬ ‫ي�ن ف�ي َق َ�ر ِار ِه‬ ‫�ان الدِّ ُ‬
‫َحتَّ�ى ُي َه َ‬
‫�ر‬‫�اد ٍم لِل ُك ْف ِ‬‫�ض و َخ ِ‬
‫�ن َراف ٍ َ‬
‫ِ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫�ر‬ ‫الج ْح ِ‬ ‫�و ُ‬ ‫�ير ك ُُّل الن ِ‬
‫َّ�اس ن َْح َ‬ ‫َيس ُ‬
‫ِ‬

‫�ر َن�دَ ْم‬ ‫�ن َغ ْي ِ‬ ‫لِس� ْل َط ِة ال ُك َّف ِ ِ‬ ‫كِ اَلهم�ا فِ�ي س�ي ِر ِه َق ِ‬
‫�د ا ْلتَ� َز ْم‬
‫�ار م ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ َ‬
‫�ي‬ ‫ِ‬ ‫ُم َ�ر ِاو ٍغ‬ ‫َو َأ ْح َم ٍ‬ ‫�ة لِلنِّس ِ‬ ‫الخدْ م ِ‬
‫ِ‬ ‫َو َأ ْك َث ُ�ر‬
‫ُم َرائ ْ‬ ‫�ق‬ ‫�اء‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫�ان فِ ْينَ�ا َو ْاه ِدنَ�ا‬ ‫�ت ا ِ‬
‫إل ْي َم َ‬ ‫و َثب ِ‬
‫َ ِّ‬ ‫اح َف ْظنَ�ا َوك ُْن َع ْونَ� ًا َلنَا‬
‫َي�ا َر ِّب َو ْ‬
‫يشري الناظم إىل ما سامها ال َّنبِ ُّي ﷺ «بالفتنة الرابعة»‪ :‬العمياء الصامء البكامء‪ ،‬وهذه األوصاف‬
‫وردت يف أحاديث متفرقة أوردها أصحاب السنن وعلامء التأليف يف الفتن‪ ،‬وقد حاولنا اجلمع‬
‫بينها للخروج هبذه الفائدة‪.‬‬
‫وهذه األحاديث بمجموعها تربز خطر هذه املرحلة التي حتددت من خالل استقراء‬
‫احلوادث بالتحوالت العاملية التي شهدهتا األمة متهيد ًا لسياسة العوملة يف العامل‪ ،‬وما ترتبت‬
‫عليها من إجراءات ومواقف حملية وعاملية عىل مستويات كثرية‪ ،‬كان املحرك والقابض عىل‬
‫زمامها (الكافر) بال منازع‪ ،‬وقد برزت مدلوالهتا التي أشار النبي ﷺ بحصوهلا خطوة خطوة‪،‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪382‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ال يعلم أحد ًا مداها وال مدهتا إلاَّ الذي يعلم الرس وأخفى‪ ،‬وقد بينت األبيات بعض هذه‬
‫والعون‪.‬‬
‫الظواهر‪ ،‬وما خفي كان أعظم‪ ،‬ونسأل اهلل احلفظ َ‬
‫ويبدو أن هذه املرحلة قد بدأت حسب االستقراء للحوادث باأللفية الثانية (مرحلة العوملة)‬
‫حيث ترتب عىل حدوثها مواقف جديدة إذا نظرنا إليها دون انفعاالت وتأملنا ما ترتب عليها‬
‫ؤول َأ ْمر ُ‬
‫األ َّم ِة فيها‬ ‫األمة وخارجها‪ ،‬وخاصة أن من مظاهرها قوله ﷺ‪َ « :‬ي ُ ُ‬
‫من مواقف داخل َّ‬
‫إىل َ‬
‫الكافر»‪.‬‬
‫وأما أحاديث الفتنة الرابعة فهي‪:‬‬
‫‪ -1‬عن أيب هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪- :‬وذكر الفتنة الرابعة‪:-‬‬
‫الغرق‪ ،‬أسعد أهلها كل َت ِقي َخ ِفي‪ ،‬إذا َظ َهر مل‬
‫«وال َي ْن ُجو من شرَ ِّ ها إل من َد َعا كدعاء َ‬
‫طيب ُمصقع أو راكب ُموضع» (((‪.‬‬ ‫عرف‪ ،‬وإن جلس مل ُيفتقد‪َ ،‬‬
‫وأ ْش َقى أهلها ُكل َخ ٍ‬ ‫ُي ْ‬
‫‪ -2‬عن أرطأة بن املنذر قال‪ :‬بلغني أن رسول اهلل ﷺ قال يف الفتنة الرابعة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫يومئذ من جيلس يف بيته‪ ،‬والكافر من َس َّل سيفه‬ ‫«تصريون فيها إىل ُ‬
‫الكفر‪ ،‬فاملؤمن‬
‫وأهرق دم أخيه ودم جاره» (((‪.‬اهـ‪.‬‬
‫‪ - 3‬عن أيب هريرة ؤ‪ ،‬قال‪« :‬الفتنة الرابعة َعمياء ُمظلمة تمَ ور َمور البحر‪ ،‬ال‬
‫يبقى بيت من العرب والعجم إل مألته ً‬
‫ذال وخوف ًا‪ ،‬تطيف بالشام وتغشى العراق وختبط‬
‫اجلزيرة بيدها ورجلها‪َ ،‬ت ْعرك األمة فيها َع ْرك األديم‪ ،‬ويشتد فيها ال َبالء‪ ،‬حتى ينكر فيها‬
‫املعروف ويعرف املنكر‪ ،‬ال يستطيع أحد أن يقول‪َ :‬م ْه‪َ ..‬م ْه‪ ..‬وال يرقعوهنا من ناحية إل‬
‫تفتقت من ناحية‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمن ًا ويميس كافر ًا‪ ،‬وال ينجو منها إل من دعا‬

‫((( «الفتن» لنعيم بن محاد (‪.)82 :1‬‬


‫((( «الفتن» لنعيم بن محاد (‪.)148 :2‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪383‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫كدعاء الغرق يف البحر‪ ،‬تدوم اثني عرش عام ًا‪ ،‬تنجيل حني تنجيل وقد انحرس الفرات عن‬
‫جبل من ذهب‪ ،‬فيقتتلون عليها حتى تقتل من كل تسعة سبعة» (((‪ .‬اهـ‬
‫‪ -4‬عن أيب هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬الفتنة الرابعة ثامنية عرش‬
‫عام ًا ثم تنجيل حني تنجيل وقد انحرس الفرات عن جبل من ذهب‪ُّ ،‬‬
‫تكب عليه األمة‬
‫فيقتتل عليه من كل تسعة سبعة» (((‪.‬‬
‫وهذه األحاديث وغريها عىل اختالف صحتها وضعفها توجه العقل املسلم إىل خطورة‬
‫ما يدور يف املرحلة‪ ،‬شأهنا شأن األحاديث السالفة التي تناولت املراحل السابقة كالدهيامء‬
‫وقبلها األحالس‪ ،‬وألننا نحن اآلن نعيش املرحلة الرابعة فاإلفصاح املطلق عنها يدخل حتت‬
‫احللقوم‪ .‬ويف هذا إشارة واضحة إىل‬
‫ُ‬ ‫ما عرب عنه أبوهريرة ريض اهلل عنه‪ :‬لو َب َث ْث ُت ُه َل ُق ِط َع مني هذا‬
‫السكوت والسكون‪ ،‬مع أن املتتبع بروية وحسن نظر ملا تكلم عنه من ال ينطق عن اهلوى جيد‬
‫الصورة اجللية عن املرحلة وسريها اإلجباري نحو جحر الضب‪ ،‬وألجل هذا وذلك البد من‬
‫التلميح دون الترصيح‪ ،‬ويف التلميح غنية للمحفوظ بحفظ اهلل‪ ،‬وتتلخص خطورة املرحلة يف‬
‫أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬أهنا ثمرة حتمية من انحدارات املرحلة السابقة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن شعوب األمة وموقع قرارها ال يملك فيه أحد من األمر شيئا‪ ،‬يؤول أمر األمة إىل‬
‫الكافر‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يعمل اجلميع بوعي وبغري وعي عىل تنفيذ الربامج العاملية وحتت سمع وبرص‬
‫العلامء واملنتسبني والغيورين عىل الدين وال حيركون ساكنا‪ ،‬ألهنم يشغلون الناس‬

‫((( «الفتن» (‪.)230 :1‬‬


‫((( «الفتن» (‪.)336 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪384‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ويشغلون أنفسهم بام ال حاجة هلم به غري رصف النظر عن اخلطر الداهم والعمل‬
‫املشرتك عىل تنفيذ املرشوع القادم بوعي وبغري وعي‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يبلغ اجلهل املسيس باألمة إىل الرىض بام عليه من مظاهر الديانة الصورية والتدين‬
‫القائم عىل التحريش والرصاع املذهبي والفئوي‪ ،‬وتفاخر كل جمموعة بام هي عليه‪،‬‬
‫دون اكتشاف خطورة الضعف والوهن الذي سقط فيه اجلميع والذي أدى ويؤدي‬
‫إىل الفشل الذريع يف مواقف األمة‪.‬‬
‫‪ -5‬استغالل العدو املهيمن لكافة الظروف املالئمة إلسقاط األمة يف االجتاه اإلجباري‬
‫نحو جحر الضب‪ ،‬سواء يف مستوى احلكم أو العلم أو االقتصاد أو الرتبية أو اإلعالم‬
‫أو األخالق أو أي يشء آخر‪ ،‬ومن مل يساهم يف مسرية العوملة جيب أن خيرج عن دائرة‬
‫احلركة إىل السكون بكل معانيه‪.‬‬
‫نسأل اهلل احلفظ والسالمة‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪385‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ور الفِ تن والتَّحوَّالت ُ‬
‫الغثَائيَّة‬ ‫ا َملواقِ ف رَ‬
‫الشعِ ية عِ ن ْ َد ُ‬
‫ظهُ ِ‬

‫الع َجالة ووصلنا إىل مرحلة‬


‫بعد بسط مظاهر الفتن والتحوالت حسبام تيرس لنا يف هذه ُ‬
‫والو َهن باعتبارها مرحلة جتمع الكثري من العالمات والشواهد التي نراها يف حياتنا‬ ‫ُ‬
‫الغثاء َ‬
‫املعارصة‪ ،‬وسيلحقها أيض ًا مرحلة الدَّ جال واملنتظر وغريها‪.‬‬
‫ولكن هنا نضع فص ً‬
‫ال هام ًا من فصول ال َّتحول‪ ،‬وهو ما يتضمن املواقف الرشعية التي أمرنا‬
‫هبا ﷺ عند هذه التحوالت اخلطرية‪ ،‬فقد ثبت يف السري أن كثري ًا من أصحاب رسول اهلل ﷺ‬
‫توقفوا عن كثري من األمور ملا قرؤوا أو سمعوا أو تذكروا شيئ ًا من العالمات‪.‬‬
‫السلف‪ ،‬فحمل ذلك بعضهم عىل العموم‪ ،‬وهم من قعد عن الدخول‬
‫قال الطربي‪ :‬اختلف َّ‬
‫يف القتال بـني املسلمني مطلق ًا كسعد وابن عمر وحممد بن مسلمة وأبـي بكرة وآخرين‪،‬‬
‫ومتسكوا بالظواهر املذكورة وغريها‪ ،‬ثم اختلف هؤالء‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬بلزوم البـيوت‪ ،‬وقالت‬
‫طائفة‪ :‬بالتحول عن بلد الفتن أص ً‬
‫ال‪ ..‬الخ‪ .‬وقد استطرد بعض أهل العلم يف هذا الباب كثري ًا‬
‫مما ال حاجة لنا به وليبحث عنه من يريده يف موقعه‪.‬‬
‫والصواب أن يقال‪ :‬إن الفتنة أصلها االبتالء‪ ،‬وإنكار املنكر واجب ملن قدر‬
‫قال الطربي‪َّ :‬‬
‫عليه‪ ،‬فمن أعان املحق أصاب ومن أعان املخطئ أخطأ‪ ،‬وإن أشكل األمر فهي احلالة التي ورد‬
‫النهي عن القتال فيها‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن أحاديث النهي خمصوصة بآخر الزمان حيث حيصل التحقق أن املقاتلة إنام هي يف‬
‫طلب امللك‪ ،‬وقد وقع يف حديث ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل ومتى ذلك؟ قال‪« :‬أيام‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪386‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫جل َج ِل َ‬ ‫ْ‬
‫يس ُه» (((‪.‬‬ ‫وقلت‪ :‬ومتى؟ قال‪ِ « :‬حني ال َيأ َم ُن َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا َهل ْرج»‪،‬‬
‫وفِ ْتنَ� ُة ِ‬
‫الع ْل� ِم بِ َغ ْي ِ‬
‫�ر ال َع َم ِ‬ ‫�و ِل‬ ‫ِ‬ ‫إِ َذا َطغ ْ‬
‫�ل‬ ‫َ‬ ‫�م الت ََّح ُّ‬ ‫َ�ت َع اَلئ ُ‬
‫�وب‬ ‫ان َع َل�ى ال ُق ُل ِ‬ ‫َو َك ُث َ�ر َّ‬
‫ال�ر ُ‬ ‫وب‬ ‫الش ُع ِ‬ ‫ان فِي ُّ‬ ‫الش ْي َط ُ‬‫َو ْاست َْحك ََم َّ‬
‫ُ�ون الم�رء عب�دَ رانِ ِ‬ ‫َفالمص َط َف�ى ي ِش�ير فِ�ي بـيانِ ِ‬
‫�ه‬ ‫َألاَّ َيك َ َ ْ ُ َ ْ َ‬ ‫�ه‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫الع ْل ِم َّ ِ‬ ‫َفالسر فِي ِ‬ ‫�ع َع َل�ى ال َبـ َي ِ‬ ‫ِ‬
‫ي‬ ‫الشريِف األَ َب ِو ْ‬ ‫ِّ ُّ‬ ‫ي‬ ‫�و ْ‬ ‫�ان النَّ َب ِ‬ ‫َو ْل َي َّطل ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الح ْك ِم الت ََّأنِّ�ي الدَّ ائِ ُم‬
‫�م‬ ‫ي َمخْ َ�ر ٌج ُم اَلئ ُ‬ ‫إِ ْذ ف�ي الت َ‬
‫َّـ�ر ِّو ْ‬ ‫َو ُم ْقت ََض�ى ُ‬
‫�ن َب ْع ِد َه�ا َم�ا ا ْعت ََمدَ ْه‬ ‫َّخ ْ ِ‬
‫�ذ م ْ‬
‫و ْليت ِ‬
‫َ َ‬ ‫الم َح�دَّ َد ْه‬ ‫ُ‬ ‫�م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ْل َي ْق َ�رأ ال َع اَلئ َ‬
‫�ن‬‫�ت ال َي ِق ْي ِ‬
‫ـ�ر َثابِ ِ‬ ‫�ن ك ُِّل َح ْب ٍ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫�ن‬‫�ل الدِّ ْي ِ‬ ‫�أ َل َأ ْه َ‬ ‫ِم�ن بع ِ‬
‫�د َأ ْن َي ْس َ‬ ‫ْ َْ‬
‫الح َذ ْر‬
‫�ع َ‬‫ب َم َ‬ ‫َوال ُب ْع�دُ َعن َْه�ا َو ِ‬
‫اج ٌ‬ ‫�ن َبَل�اَ ٌء َو َض َ�ر ْر‬ ‫َف ِف ْتنَ� ُة الدِّ ْي ِ‬

‫يشري الناظم إىل ما جيب عىل املسلم اخلائف الوجل عىل نفسه أن يفعله أمام بروز عالمات‬
‫التحول يف العرص الذي هو فيه‪ ،‬وخاصة إذا برزت عالمات الفتن املشار إليها‪ ،‬واملطلوب من‬
‫املسلم «اإلطالع عىل البـيان النبوي»‪ ،‬واملقصود به التأمل الواعي يف األصلني الكتاب والسنة‬
‫إذ إن يف هذين األصلني «رس العلم الرشيف األبوي»‪ ،‬ويقصد به رس األخذ بالتسلسل العلمي‪،‬‬
‫حيث إن كثري ًا ممن يتحدث هبذه العلوم ال يمتلك رس األسانيد األبوية‪ ،‬فيكون يف الغالب مزلة‬
‫للشيطان رغم علمه ووعيه(((‪.‬‬

‫((( «فتح الباري» (‪ )35-34 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬


‫((( أفضنا القول عن هذا املدلول األبوي يف كتابنا «الدالئل النبوية املعربة عن رشف املدرسة األبوية» مطبوع‪،‬‬
‫وفيه تفصيل ٍ‬
‫واف عن الفرق بـني املدرسة األبوية املسندة واملدرسة األنوية األبليسية املبعدة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪387‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫نماذج األحاديث املعربة عن املواقف‬

‫عن الزبـري بن عدي قال‪ :‬شكونا إىل أنس ما نلقاه من احلجاج‪ ،‬فقال‪ :‬اصربوا‪ « ..‬إنه‬
‫ال يأيت عليكم زمان إل والذي بعده رش منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبـيكم ﷺ (((‪.‬‬
‫قال يف « فتح الباري» (‪ )23 :13‬من كتاب الفتن عند رشح هذا احلديث‪ :‬وقد ذكر‬
‫الزبـري يف املوفقيات من طريق جمالد عن الشعبـي قال‪ :‬كان عمر فمن بعده إذا أخذوا‬
‫العايص أقاموه للناس ونـزعوا عاممته‪ ،‬فلام كان زياد رضب يف اجلنايات بالسوط أو‬
‫بالسياط‪ ،‬ثم زاد مصعب بن الزبـري حلق اللحية‪ ،‬فلام كان برش بن مروان َس َّمر َكف اجلاين‬
‫بمسامر‪ ،‬فلام قدم احلجاج قال‪ :‬هذا كله لعب‪ ،‬فقتل بالسيف‪.‬‬
‫قال ابن بطال‪ :‬هذا اخلرب من أعالم النبوة إلخباره ﷺ بفساد األحوال‪ ،‬وقد اس ُتشْ ِك َل‬
‫ُ‬
‫اإلطالق مع أن بعض األزمنة تكون يف الرش دون التي قبلها‪ ،‬كعهد عمر بن عبدالعزيز‪،‬‬
‫وهو بعد زمن احلجاج بوقت قصري‪ ،‬وقد محله احلسن البرصي عىل األكثر األغلب‪،‬‬
‫فسئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد احلجاج‪ ،‬فقال‪ :‬البد للناس من تنفيس‪ ،‬وأجاب‬
‫بعضهم‪ :‬إن املراد بالتفضيل تفضيل جمموع العرص عىل العرص‪ ،‬فإن عرص احلجاج كان‬
‫فيه كثري من الصحابة أحياء‪ ،‬ويف عرص عمر بن عبدالعزيز انقرضوا والزمان الذي فيه‬
‫الصحابة خري من الزمان الذي بعده‪ ،‬لقوله ﷺ‪ « :‬خري القرون قرين» (((‪.‬‬
‫وقوله‪ « :‬أصحابـي َأ َمن ٌَة ألمتي‪ ،‬فإذا ذهب أصحابـي أتى أمتي ما يوعدون» (((‪.‬‬

‫((( رواه البخاري والرتمذي‪.‬‬


‫((( أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصني‪.‬‬
‫((( أخرجه مسلم يف صحيحه وأمحد يف مسنده عن أيب موسى‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪388‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫�ار لِل َبَلَ‬ ‫ِ‬ ‫َو َأ َّو ُل األَ ْم ِ‬
‫�ن َس� ْي ٍر في الع�دَ اء َو َ‬
‫الول‬ ‫َو ُح ْس ُ‬ ‫اصط َب ٌ‬
‫�ر ْ‬
‫يشري الناظم إىل أن أول مواقف املرء عند الفتن‪ :‬الصرب عىل ما كتبه اهلل مع حسن املعاملة مع‬
‫عدو ًا أو صديق ًا‪ ،‬إذ إن أساس املعاملة األدب مع قضاء‬
‫الناس حاك ًام أو حمكوم ًا حمب ًا أو مبغض ًا ّ‬
‫اهلل وقدره يف العباد‪ ،‬قال اهلل تعاىل يف سورة فصلت‪( :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) ‪.‬‬
‫�رب واض�حِ الكِ َفاحِ‬ ‫م�ن غ ِ‬
‫َير َح ٍ‬ ‫للسلاحِ‬ ‫ِ‬
‫الحم�ل ِّ‬ ‫اجتن�اب‬
‫ُ‬ ‫ث�م‬

‫�ن َأ َج�ا َد َم ْق ِص�دَ ْه‬ ‫إلاَّ لِ ِ‬


‫�ذي َأ ْم ٍ‬ ‫الج ِ‬
‫ه�اد َم ْف َس�دَ ْة‬ ‫فحم ُل�ه دون ِ‬

‫تشري األبـيات إىل إحدى أبواب الفتن التي جيب االبتعاد عنها بادئ ذي بدء‪ ،‬وهي «محل السالح»‪،‬‬
‫وقد خصصت األحاديث النبوية حيز ًا كبـري ًا ملعاجلة هذه املسألة معاجلة وافية‪ ،‬منها قوله ﷺ‪« :‬من محل‬
‫عليناالسالحفليسمنا»(((‪.‬‬
‫وحديث مهام عن أبـي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا هريرة عن النبـي ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬ال يشري أحدكم عىل‬
‫أخيه بالسالح‪ ،‬فإنه ال يدري لعل الشيطان ينـزع يف يديه فيقع يف حفرة من النار»(((‪.‬‬
‫ـر يف املسجد بأسهم قد بدا نصوهلا‪ ،‬فأمر أن يأخذ بنصوهلا ال خيدش‬ ‫واحلديث عن جابر أن رج ً‬
‫ال َم َّ‬
‫مسل ًام‪ ،‬وحديث أبـي بردة عن أبـي موسى عن النبـي ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬إذا ّ‬
‫مر أحدكم يف مسجدنا أو يف سوقنا‬
‫فليقبض َ‬
‫بك ِّف ِهأنيصيبأحد ًامناملسلمنيمنهابيشء»(((‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ومعه َن ْب ٌلفليمسكعىلنِصاهلا‪،‬أوقال‪:‬‬
‫ويف األحاديث إشارة واضحة إىل خطر استعامل السالح يف غري اجلهاد وتثبـيت األمن‪،‬‬

‫((( رواه البخاري عن عبداهلل بن عمر‪.‬‬


‫((( رواه أمحد والبيهقي عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( رواه البخاري ومسلم عن أيب موسى‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪389‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫سواء كان احلمل له يف عرص الرسالة أو فيام تالها من املراحل‪ ،‬ويف احلديث أيض ًا إشارة إىل أن‬
‫يف محل السالح رعب عىل الناس سواء بقتاهلم أو بتخويفهم‪ ،‬وهلذا عبـر ﷺ‪ ،‬بقوله‪« :‬من محل‬
‫علينا فليس منا»‪ ،‬قال يف «فتح الباري»‪ :‬ألن من حق املسلم عىل املسلم أن ينرصه ويقاتل دونه‪،‬‬
‫ال أن يرعبه بحمل السالح عليه إلرادة قتله أو قتاله(((‪.‬‬
‫وقد انترشت يف املسلمني اليوم ظاهرة محل السالح دون حاجة ماسة له‪ ،‬وترتب عىل ذلك‬
‫مفاسد كثرية‪ ،‬ومنها هتديد األحداث بعضهم لبعض‪ ،‬والعبث باألسلحة النارية بقصد التعرف‬
‫والتنظيف أو التجربة مما كان به َح ْتف الكثري‪ ،‬وقد ورد يف احلديث «املالئكة تلعن أحدكم إذا‬
‫أشار إىل آلخر بحديدة وإن كان أخاه ألبـيه وأمه»(((‪ ،‬وحديث «هنى رسول اهلل ﷺ أن ُيتعاطى‬
‫ً‬
‫مسلوال»(((‪ ،‬ويف رواية‪« :‬لعن اهلل من فعل هذا»(((‪.‬‬ ‫ُ‬
‫السيف‬
‫المحن ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الف ْتن ِ‬
‫و ِعنْدَ م�ا يع�م َأم�ر ِ‬
‫َ�ة‬ ‫�و ِل ْ‬
‫َّ�اس ل َه ْ‬ ‫َو ْار َت َب َ‬
‫�ك الن ُ‬ ‫َ�ة‬ ‫َ ُ ُّ ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫اجتِ َذا ْذ‬ ‫ٍ ِ ِ ِ‬
‫َأ ْو َم ْل َج�أ َي ْحم ْيه م ْن َش ِّ�ر ْ‬ ‫�ل بِ َم َع�ا ْذ‬ ‫َف ْليس�ت َِع ْذ م�ن فِي ِ‬
‫�ه َع ْق ٌ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َْ‬
‫تشري األبـيات إىل ما أمر به ﷺ عند اجتياح الفتن وصعوبة الوقوف أمامها‪ ،‬فالواجب عىل‬
‫املسلم العاقل أن يبحث له عن ملجأ وعياذ‪ ،‬حتقيق ًا لقوله ﷺ‪َ « :‬ست َُكونُ ِفت ٌَن ا ْل َق ِ‬
‫اعدُ ِف َيها َخيرْ ٌ‬

‫((( «فتح الباري» (‪ )27 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬


‫((( رواه أمحد يف مسنده وأيب شيبة عن أيب هريرة ‪ ،‬املصدر السابق (‪ )28 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫((( أخرجه أمحد يف مسنده (‪ )13685‬والرتمذي ‪ ،‬برقم (‪ )2164‬كتاب الفتن وأبو داود برقم (‪)2588‬‬
‫كتاب اجلهاد وقال الرتمذي ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫((( رواه أمحد والطرباين عن أيب بكرة‪ ،‬وفيه مبارك ابن فضالة وهو ثقة ولكنه مدلس‪ ،‬وبقية رجال أمحد رجال‬
‫الصحيح‪ ،‬ومتام احلديث‪ :‬عن أيب بكرة قال أتى رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم عىل قوم يتعاطون سيف ًا‬
‫مسلو ً‬
‫ال‪ ،‬فقال ‪« :‬لعن اهلل من فعل هذا ‪-‬أو‪ :‬ليس قد هنيت عن هذا‪ -‬ثم قال‪ :‬إذا َس َّل أحدكم سيفه فنظر‬
‫إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم يناوله إياه» ‪ .‬اهـ املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪390‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِم ْن ا ْل َقائِ ِم َوا ْل َقائِ ُم ِف َيها َخيرْ ٌ ِم ْن املَاش َواملَاش ِف َيها َخيرْ ٌ ِم ْن َّ‬
‫الس ِ‬
‫اعي َم ْن تَشرَ َّ َف هَ َلا َت ْس َتشرْ ِ ْف ُه َف َم ْن‬
‫َو َج َد ِم ْن َها َم ْل َج ًأ َأ ْو َم َعا ًذا َف ْل َي ُع ْذ بِ ِه»(((‪.‬‬
‫قال يف «الفتح» (‪ :)34 :13‬ووقع تفسريه عند مسلم يف حديث أبـي بكرة‪ ،‬ولفظه‪« :‬فإذا‬
‫أرأيت‬
‫َ‬ ‫نـزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله‪ »..‬وذكر الغنم واألرض‪ ،‬قال رجل‪ :‬يا رسول اهلل‪:‬‬
‫لينج إن استطاع» اهـ‪.‬‬
‫حده بحجر ثم ُ‬ ‫إن مل يكن له ؟‍‍‍‍‍ قال‪َ « :‬ي ْع ِمدُ إىل ِ‬
‫سيفه فيدق عىل ِّ‬
‫قال يف «اإلشاعة» تعليق ًا عىل هذا احلديث‪ :‬واملراد بالفتنة ما ينشأ عن االختالف يف طلب‬
‫املحق من املبطل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫امللك حيث ال ُيعلم‬
‫ويؤيد معنى االعتزال عن اخللق يف الفتنة حديث حذيفة الذي رواه البخاري‪ :‬كان الناس‬
‫يسألون رسول اهلل ﷺ عن اخلري‪ ،‬وكنت أسأله عن الرش خمافة أن يدركني‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫إنا كنا يف جاهلية ورش فجاءنا اهلل هبذا اخلري‪ ،‬فهل بعد هذا اخلري من رش ؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫وهل بعد ذلك الرش من خري ؟ قال‪« :‬نعم وفيه َد َخ ٌن»‪ ،‬قلت‪ :‬وما دخنه ؟ قال‪ٌ « :‬‬
‫قوم يهَ ْ دُ ونَ بغري‬
‫هَ دْ يِي َت ْع ِر ُف منهم و ُت ْن ِك ُر»‪ ،‬قلت‪ :‬فهل بعد ذلك اخلري من رش؟ قال‪« :‬نعم‪ ،‬دعا ٌة عىل أبواب‬
‫جهنم من أجاهبم إليها قذفوه فيها»‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل ِص ْف ُه ْم لنا‪ ،‬قال‪« :‬هم من َج ْل َدتِنا‪،‬‬
‫ويتكلمون بألسنتنا»‪ ،‬قلت‪ :‬فام تأمرين إن أدركني ذلك ؟ قال‪« :‬تلزم مجاعة املسلمني وإمامهم»‪،‬‬
‫قلت‪ :‬فإذا مل يكن هلم مجاعة وال إمام؟ قال‪« :‬فاعتـزل تلك ِ‬
‫الف َر َق ك َّلها ولو أن َتعض بأصلِ‬
‫املوت وأنت عىل ذلك»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫شجرة حتى ُيدركك‬
‫الدخن‪ :‬فساد القلب ‪ .‬ويشري املعنى‬
‫ُ‬ ‫قال يف «اإلشاعة» يف رشح احلديث عند قوله‪« :‬وفيه َد َخن»‪:‬‬
‫إىل أن اخلري الذي جييء بعد الرش ال يكون خري ًا خالص ًا بل فيه َكدَ ر‪ .‬وقوله‪« :‬هيدون هبديي» قال‪ :‬ويف‬

‫((( رواه البخاري وأمحد عن أيب هريرة ريض اهلل عنه‪ ،‬املصدر السابق (‪ )33 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪391‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رواية‪« :‬يكون بعدي أئمة هيتدون ُهبداي وال يستنون بس ّنتِي»(((‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ويف هذه العبارة معنى عظيم ملا يرد من الدخن عىل األئمة‪ ،‬فاهلدي النبوي‬
‫ُ‬
‫فيهم وهو اتّباع الكتاب والسنة وخدمة ثمراهتام بحث ًا وتصنيف ًا ودراسة وتعلي ًام ؛ ولكن‬
‫السنة غري قائمة‪ ،‬واملقصود بالسنة ‪-‬حسب ما أعتقد واهلل أعلم‪ -‬أهنا سنة املواقف‪،‬‬
‫وهي مواقفه ﷺ وإنصافه من نفسه وعدم انتصافه من أضداده‪ ،‬وهي « س ّنة األخالق» ‪.‬‬
‫وقوله‪َ « :‬ت ْع ِر ُف منهم و ُت ْن ِكر» قال يف حديث أم سلمة عند مسلم‪ « :‬فمن أنكر َب ِر َئ‬
‫ومن َك ِر َه َس ِل َم» (((‪.‬‬
‫قوله‪ « :‬من جلدتنا» إشارة إىل أهنم من العرب‪ ،‬وقوله‪ « :‬ويتكلمون بألسنتنا» ‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫مل يفصح صاحب «اإلشاعة» فيه بأمر‪ ،‬وأعتقد أن معنى قوله‪ « :‬يتكلمون بألسنتنا» أي‪:‬‬
‫يعربون ويتحدثون عام نحن نريده ظاهر ًا ‪ ،‬أي‪ :‬يتكلمون بلسان رسول اهلل والرشيعة‬
‫وتنطق بذلك ألستنهم وأجهزة إعالمهم ويف الباطن هم خمالفون‪.‬‬
‫ُ�و َن فِ�ي ِح َم�ا بِ َطانَتِ� ْه‬
‫َأ ْو َأ ْن َيك ْ‬ ‫�ار ْك َأ َح�دَ ًا فِ�ي فِ ْتنَتِ� ْه‬
‫َولاَ ُي َش ِ‬
‫َ‬
‫رشيك َمن‬ ‫إشارة إىل قوله ﷺ‪َ « :‬من َك َّث َر سوا َد قو ٍم فهو منهم‪ ،‬ومن َر يِ َ‬
‫ض عمل قوم كان‬
‫َع ِم َل به» (((‪.‬‬
‫َّاس إِ ْن ِش�ئ َ‬
‫ْت الخَ اَل ْص‬ ‫َوات ُْر ْك َع َوا َم الن ِ‬ ‫اص‬ ‫�ك بِالخَ َ‬
‫�و ْ‬ ‫َوإِ ْن ُبلِ ْي َ‬
‫�ت َف َع َل ْي َ‬
‫والو َهن من الضياع والشتات وسوء‬ ‫يشري الناظم إىل ما يصيب األمة يف عرص ُ‬
‫الغثاء َ‬
‫االستتباع لألعداء‪ ،‬وكيف يكون موقف املؤمن الوجل؟! وإىل ذلك تشري األحاديث‬

‫((( رواه مسلم يف صحيحه عن حذيفة بن اليامن‪.‬‬


‫((( رواه مسلم وأمحد والرتمذي من حديث أم سلمة ‪ ،‬املصدر السابق (‪.)39 :13‬‬
‫((( رواه أبو يعىل عن ابن مسعود‪ ،‬املصدر السابق (‪.)41 :13‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪392‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من مثل ما رواه أبو هريرة يف قوله‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ « :‬كيف َ‬
‫بك يا عبداهلل بن عمرو‬
‫عهودهم وأماناهتم واختلفوا فصاروا هكذا‬
‫ُ‬ ‫بقيت يف ُح ٍ‬
‫ثالة من الناس وقد مرجت‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫؟» َ‬
‫وش َّبك بـني أصابعه‪ ،‬قال‪ :‬فام تأمرين ؟ قال‪ « :‬عليك بخاصتك و َد ْع عنك عوا ّمهم» ‪،‬‬
‫ويف رواية سهل ابن سعد قال‪ :‬خرج علينا رسول اهلل ﷺ ونحن يف جملس فيه عمرو بن‬
‫العاص وأبناؤه‪ ،‬قال‪ :‬وذكر احلديث وزاد‪ « :‬وإياكم والتلون يف دين اهلل» (((‪.‬‬
‫ويف معاين هذه األحاديث إشارة واضحة إىل رضورة االعتزال عن مواقع الظهور‬
‫واالختالط بالعوام‪ ،‬ومظاهر الناس العامة وخاصة عند شمول االفتتان‪ ،‬ويقترص‬
‫املرء عىل اخلواص‪ ،‬وهم الذين يطمئن إليهم املرء ويعلم استفادهتم منه وصدقهم معه‪،‬‬
‫وخاصة يف شأن الدين والعمل به‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َو ْل َي ْعت َِز ْل فِ�ي ال َبدْ ِو َأ ْو َب ْع ِ‬
‫ك ََم�ا َأتَى في الن َِّّص َع ْن َخ ْي ِر َ‬
‫الو َرى‬ ‫ض ال ُق َرى‬
‫يشري الناظم إىل ما جيب عىل املسلم فعله عند اشتباك الفتن‪ ،‬حيث ورد يف الصحيح مجلة‬
‫ال‬ ‫وش ُك َأنْ َي ُكونَ َخيرْ َ َم ِ‬
‫ال المْ ُ ْس ِل ِم َغن ٌَم َي ْت َب ُع بهِ َ ا َش َع َف الجْ ِ َب ِ‬ ‫من األحاديث منها قوله ﷺ‪ُ « :‬ي ِ‬

‫َ َم َو ِاق َع ا ْل َق ْط ِر َي ِف ُّر بِ ِدينِ ِه ِم ْن ا ْل ِفت َِن» (((‪.‬‬


‫واملعلوم ّ‬
‫أن اإلسالم حيث عىل بقاء املسلم يف حوارض اإلسالم‪ ،‬واعترب التعرب بعد اهلجرة‬
‫أي العودة إىل البداوة بعد السكنى يف املدينة أو مكة من الكبائر عىل عهد صدر اإلسالم‪،‬‬
‫حلديث‪« :‬من رجع بعد هجرته أعرابـي ًا»‪ ،‬وأخرج النسائي يف حديث ابن مسعود «لعن اهلل آكل‬
‫الربا وموكله» وفيه‪« :‬واملرتد بعد هجرته أعرابـي ًا»‪ ،‬قال ابن األثري يف «النهاية»‪ :‬كان من رجع‬
‫بعد هجرته إىل موضعه من غري عذر يعدّ ونه كاملرتد‪.‬‬

‫((( رواه الطرباين عن سهل بن سعد‪ ،‬املصدر السابق (‪.)43 :13‬‬


‫((( رواه البخاري وأمحد عن أيب سعيد اخلدري ‪ ،‬املصدر السابق (‪ )44 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪393‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وقد أخرج الطرباين من حديث جابر بن سمرة رفعه «لعن اهلل من بدا بعد هجرته» إلاّ يف‬
‫الفتنة فإن البدو خري من املقام يف الفتنة(((‪.‬‬
‫وقد أذن النبـي ﷺ لبعض الصحابة يف البدو‪ ،‬ومنهم سلمة بن األكوع‪ ،‬فقد ورد يف البخاري‬
‫ارتددت عىل عقبـيك‪..‬‬
‫َ‬ ‫عن سلمة بن األكوع أنه دخل عىل احلجاج فقال‪ :‬يا ابن األكوع‪..‬‬
‫تعربت؟ قال‪ :‬ال؛ ولكن رسول اهلل ﷺ أذن يل يف البدو‪.‬‬
‫ّ‬
‫ارتددت عن هجرتك؟! فقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ويف رواية‪ :‬قدم سلمة املدينة فلقيه بريدة بن اخلصيب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫معاذ اهلل‪ ..‬إن ّ‬
‫يف إذن ًا من رسول اهلل ﷺ‪ ،‬سمعته يقول‪« :‬ابدوا يا أسلم» القبـيلة املشهورة التي‬
‫منها سلمة وأبو برزة وبريدة املذكور‪ ،‬قالوا‪ :‬إنا نخاف أن يقدح ذلك يف هجرتنا‪ ،‬قال‪« :‬أنتم‬
‫مهاجرون حيث شئتم» (((‪.‬‬
‫قال يف «الفتح» عند قوله‪« :‬يفر بدينه من الفتن»‪ :‬فمن يتحتم عليه املخالطة ممن كانت له‬
‫قدرة عىل إزالة املنكر فيجب عليه‪ ،‬إما عين ًا وإما كفاية بحسب احلال واإلمكان‪ ،‬وممن يرتجح‬
‫من يغلب عىل ظنه أنه يسلم يف نفسه إذا قام يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وممن يستوي‬
‫من يأمن عىل نفسه ولكنه يتحقق أنه ال يطاع‪ ،‬وهذا حيث ال تكون هناك فتنة عامة فإن وقعت‬
‫الفتنة ترجحت العزلة ملا ينشأ فيها غالب ًا من الوقوع يف املحذور‪ ،‬وقد تقع العقوبة بأصحاب‬
‫الفتنة‪ ،‬فمنهم من ليس من أهلها‪ ،‬كام قال تعاىل‪( :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ) (((‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ويؤيد ذلك أيض ًا ما رواه أبو داود والنسائي عن عبداهلل بن عمرو بن العاص ريض اهلل‬

‫((( املصدر السابق (‪.)45 :13‬‬


‫((( رواه أمحد عن سلمة‪ ،‬املصدر السابق‪.‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)47 :13‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪394‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عنهام‪ ،‬قال‪ :‬قال النبـي ﷺ‪« :‬كيف بِ َك إذا بقيت يف ُحثالة من الناس َم ْرجت عهودهم وأماناهتم‬
‫وش َّب َك بـني أصابعه‪ ،‬قال‪َ :‬فبِ َم تأمرين؟ قال‪« :‬الزم بـيتك وأهلك‪،‬‬
‫واختلفوا وكانوا هكذا ؟» َ‬
‫َ‬
‫وأ ْم ُلك عليك لسانك‪ُ ،‬‬
‫وخ ْذ ما تعرف و َد ْع ما تنكر‪ ،‬وعليك بأمر خاصة نفسك‪ ،‬و َد ْع عنك أمر‬
‫العا ّمة» (((‪.‬‬
‫َ‬
‫وعن أبـي موسى ؤ نحوه‪ ،‬ويف آخره‪ :‬قالوا‪ :‬بم تأمرنا ؟ قال‪« :‬كونوا أحالس بـيوتكم»‬

‫رواه الرتمذي وابن ماجه‪.‬‬


‫ٍ‬
‫حثالة؟»‬ ‫كنت يف‬
‫وعن أبـي ذر ؤ‪ ،‬قال له رسول اهلل ﷺ‪« :‬يا أبا ذر كيف أنت إذا َ‬
‫وشبك بـني أصابعه‪ ،‬قال‪ :‬ما تأمرين يا رسول اهلل ؟ قال‪« :‬اصرب‪ ..‬اصرب‪ ..‬اصرب‪ ..‬خالقوا‬
‫الناس بأخالقهم وخالفوهم يف أعامهلم» (((‪.‬‬
‫ويف هذا احلديث إشارة إىل مصانعة الواقع والصرب عىل أهله ما استطاع إىل ذلك سبـي ً‬
‫ال من‬
‫غري جتاوز وال افتئات أو مذلة أو إهانة أو نقص يف الدين‪ ،‬وعن أبـي الدرداء ؤ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تقربوا الفتنة إذا محيت‪ ،‬وال َت َع َّر ُضوا هلا إذا َع َر َض ْت‪ ،‬وارضبوا أهلها إذا‬
‫أقبلت» (((‪ ،‬ويف هذا احلديث أيض ًا إشارة إىل نموذج من نامذج التعامل مع التحوالت‪ ،‬بحيث‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫املدمرة حقائقَ الدين‪ ،‬وإذا‬ ‫يستطيع العاقل املؤمن أن يتجنب االنخراط املبارش يف رياح التغيري‬
‫ما اضطر إىل املواجهة عند إقباهلا عليه فال خمرج من حسن الترصف مع أهلها‪ ..‬إما بالتجاوز‬
‫أو االشتباك‪ ،‬وللرضورة أحكام كام يقال‪ ..‬وقد فرس حديث خالد بن عرفطة ؤ أن النبـي‬
‫ﷺ‪ ،‬قال له‪« :‬يا خالد إهنا ستكون بعدي أحداث وفتن وفرقة واختالف‪ ،‬فإذا كان ذلك فإن‬

‫((( سبق خترجيه‪« ،‬اإلشاعة» ص‪.184‬‬


‫((( رواه احلاكم والبـيهقي يف الزهد‪ ،‬املصدر السابق ص‪.185‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.185‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪395‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫استطعت أن تكون عبد اهلل املقتول ال القاتل فافعل» (((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ال لِل َفتَ�ى إِ ْح َس ُ‬
‫َو َخي�ر َح ٍ‬
‫�ع إِ ْح َي�اء ُّ‬
‫الس�ن َْن‬ ‫ف ْي َم�ا ْاس� َت َط َ‬
‫اع َم َ‬ ‫�ان َظ ْ‬
‫�ن‬ ‫ْ ُ‬
‫يشري الناظم إىل أن «إحسان الظن» بالناس فيام هو الزم فيه ُحسن الظن ما استطاع اإلنسان‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أخالق مع الرب والفاجر‪ ،‬وجتنبه للفتن ومضالهتا كل‬ ‫َ‬
‫ومواقف‬ ‫«وإحياءه للسنن» أعام ً‬
‫ال صاحل ًة‬
‫بني إن َق َد ْر َت عىل أن‬
‫أمر يفي بال َّنجاة يف احلياتني‪ ،‬حتقيق ًا لقوله ﷺ ألنس ؤ‪« :‬يا ّ‬
‫ذلك ٌ‬
‫تصبح ومتيس ليس يف قلبك ٌّ‬
‫غش ألحد فافعل»‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا بني وذلك من سنتي‪ ،‬ومن أحيا‬
‫سنتي فقد أحبني‪ ،‬ومن أحبني كان معي يف اجلنة» (((‪.‬‬
‫ويف سياق معنى احلديث إشارة لطيفة إىل حسن املعاملة وكامل اإلعراض عن رصاع احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬إذ هي سبب كل فتنة وغش وكدورة‪.‬‬
‫وإحياء السنن هبذا املفهوم العايل يربط حق ًا بـني السنة واملواقف فيجعلها شيئ ًا واحد ًا‬

‫فتصبح حق ًا «سنة املواقف» هذه السنة التي ال تكون إال من ّ‬


‫حمب صادق لرسول اهلل ﷺ يليق‬
‫به هذا املصري العظيم يف اجلنة مع رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫((( رواه أمحد وابن أبـي شيبة ونعيم بن محاد والطرباين وغريهم ‪ ،‬املصدر السابق ص‪.186‬‬
‫((( رواه الرتمذي ‪ ،‬املصدر السابق ص‪.187‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪396‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مَ وْقِ ُع ّ‬
‫الشا ِم واليَمَ ِن ِمن فِ ْق ِه التُّحَ وُّالت‬

‫تناول بعض العلامء والباحني مسألة األحاديث النبوية التي تناولت بعض املواقع اجلغرافية‬
‫يف الكرة األرضية ودورها يف الفتن واملالحم سلبا وإجيابا‪ ،‬ومن هذه املواقع حارضتا الشام‬
‫واليمن‪ ،‬ويبدو من خالل االستقراء واملتابعة للنصوص املتنوعة أن العالقة بني الشام واليمن‬
‫ترجع إىل ما يطرأ وما قد يطرأ من حتوالت كونية ذات عالقة مبارشة باليقينيات الكربى من‬
‫العالمات واألرشاط‪ ،‬فالشام كام ورد يف األحاديث‪ :‬أرض املحرش واملنرش‪ ،‬واليمن أرض املدد‬
‫واإلسناد لإلسالم يف املايض واملستقبل‪.‬‬
‫وقد أشارت كتب السري والتاريخ إىل وجود اجلزيرة التي نشأ فيها الدجال ورتبى وتعلم‬
‫عىل يد اجلساسة (يف البحر اليمن)‪ ،‬وأشار احلديث إىل معنى من ذلك عندما وصف متيم الداري‬
‫خرب الدجال املوثق يف اجلزيرة فقال صىل اهلل عليه وآله وسلم بعد أن طعن بمخرصته‪« :‬أال إنه‬
‫يف بحر الشام أو بحر اليمن‪ ،‬ال بل قبل املرشق ما هو» وأوحى بيده إىل املرشق‪.‬اهـ‪.(((.‬‬
‫وتكمل حلقة االرتباط بني الشام واليمن واملرشق يف أخريات الزمان من جهتني‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬ما ورد من أحاديث النار وظهورها يف نواح من اليمن أو املرشق‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ما ورد من أحاديث احلرش واالجتامع يف أرض الشام‪.‬‬
‫واألمران يعربان عن هدف واحد‪ ،‬وهو ما عرب عنه الباحث حممد عصام احلسني يف كتابه‬
‫«ظهور الدجال مسيخ الضاللة» بقوله‪ :‬وليس املراد بالنار احلارشة نار اآلخرة وال باحلرش النرش‬
‫الذي بعد املوت إىل احلساب‪ ،‬وإنام هي نار خترج يف الدنيا قبل يوم القيامة أنذر النبي بخروجها‬

‫((( مسند أمحد و «كنز العامل» ‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪397‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وذكر كيفية ما تفعل‪ ،‬وإضافة احلرش إىل النار لكوهنا بتفجرها وحتريكها هلذه املحركات سواء‬
‫كانت برتولية أو كهربائية أو غازية أو ذرية أو حجرية أو غريها(((‪.‬‬
‫وقد حتددت النار يف اخلروج من املناطق التالية يف اليمن‪:‬‬
‫‪ -1‬حرضموت‪« ،‬ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حرضموت حترش الناس» قالوا‪:‬‬
‫فام تأمرنا يا رسول اهلل ؟ قال صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬عليكم بالشام» وروي هذا‬
‫احلديث بألفاظ خمتلفة‪.‬‬
‫‪ -2‬اليمن بالعموم ‪« ،‬توشك نار خترج من اليمن تسوق الناس إىل الشام ‪ ،‬تغدو معهم‬
‫إذا غدوا وتقيل معهم إذا قالوا وتروح معهم إذا راحوا‪ ،‬فإذا سمعتُم هبا فاخرجوا إىل‬
‫الشام» (((‪.‬‬
‫‪ -3‬املرشق‪« ،‬خترج نار من املرشق وأخرى من املغرب حيرشان الناس – بني أيدهيم القردة‬
‫– يسريان بالنهار ويكمنان بالليل حتى جيتمعا يف جرس منبج(((» قال الشارح‪ :‬الضمري‬
‫يف «جيتمعا» يعود عىل املحشورين بالنار وإخواهنم القردة الذين سبقوهم إىل أرض‬
‫املحرش ‪.‬اهـ‪ .‬وقد كان اكتشاف النفط يف القوقاز وهي من املرشق ثم يف الواليات‬
‫املتحدة وهي من املغرب‪ ،‬وقد دلت األحاديث عىل نارين‪ ،‬وعسى أن ينكشف‬
‫بفضل اهلل تعاىل ومنحته أن النار هي هاتان الناران (النفط والكهرباء) ومشتقاهتام‪..‬‬

‫((( «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.134‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.136‬‬
‫((( قال ابن أيب جرادة يف «بغية الطلب يف تاريخ حلب»‪ :‬قلت‪ :‬وجرس منبج اآلن حتت قلعة نجم و هي‬
‫قلعة صغرية عىل الفرات واجلرس يف ذيلها‪ ،‬و هي قلعة حسنة املنظر حممودة املخرب كان هلا ربض صغري‬
‫ومسجد لطيف فأقطعها امللك الظاهر بدر الدين ايدمر عتيقه عند موته و أخذ والية قلعة حلب منه ‪.‬اهـ‬
‫(‪ ،)111 :1‬وذكر يف موضع آخر أن بني اجلرس وبني حلب مسرية يومني‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪398‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫واهلل أعلم(((‪ .‬وأخرج أبونعيم يف احللية عن حذيفة بن اليامن ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة يف واد يقال هلا‬
‫(برهوت) تغشى الناس فيها عذاب أليم‪ ،‬تأكل األنفس واألموال‪ ،‬تدور الدنيا كلها‬
‫ثامنية أيام تطري كطري الريح والسحاب‪ ،‬حرها بالليل أشد من حرها بالنهار‪ ،‬وهلا بني‬
‫كدوي الرعد القاصف‪ ،‬هي من رؤوس اخلالئق بالنهار أدنى‬
‫ِّ‬ ‫السامء واألرض َد ِو ٌّي‬
‫ٌ‬
‫أسليمة يومئذ عىل املؤمنني واملؤمنات؟ قال‪« :‬وأين‬ ‫من العرش» ‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫رش من ُ‬
‫احل ُمر يتسافدون كام تتسافد البهائم وليس فيهم‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ ّ‬ ‫املؤمنون واملؤمنات‬
‫ف‪ُ ..‬ا ْك ُف ْ‬
‫ف‪ ..‬قال الشارح‪ :‬وهذه كناية عن الطائرات‬ ‫رجل يقول‪َ :‬م ْه‪َ ..‬م ْه‪ »..‬أي‪ُ :‬ا ْك ُف ْ‬
‫التي تكلف األموال الباهظة ‪.‬اهـ‪ .‬ويبدو من سياق احلديث أن هذا سيكون يف مستقبل‬
‫الزمان ويظهر من بئر برهوت نوع من وقود الطائرات أو املركبات اجلوية‪ .‬ويف نص‬
‫احلديث نوع من اإلعجاز النبوي يف قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم‪« :‬حرها بالليل‬
‫أشد من حرها بالنهار» قال الشارح‪ :‬سألت العديد من الطيارين عن ذلك فلم يكن‬
‫هلم علم حتى قدر يل االجتامع بأحد املهرة منهم فسألته فاستمهلني اجلواب ثم أرسل‬
‫اجلواب نقال عن كتاب «طريان املدى واملدة» املرتجم عن الروسية وهذا نصه‪:‬‬
‫‪ -1‬تزداد كثافة اهلواء كلام نقصت درجة احلرارة‪.‬‬
‫‪ -2‬بتناقص درجة احلرارة يقل استهالك الوقود‪.‬‬
‫‪ -3‬إذا كانت درجة احلرارة عىل االرتفاع املطلوب تنقص بمقدار مخس درجات‬
‫مئوية‪ ،‬ويقل استهالك الوقود بنسبة ‪ %1‬واحد باملئة‪.‬‬
‫‪ -4‬إذا كانت درجة احلرارة هنارا عىل األرض ‪ 30‬درجة فتتكون احلرارة هنارا‬

‫((( املصدر السابق ص‪.41‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪399‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عىل ارتفاع مخسة كيلومرت (‪ )2.5-‬درجتني ونصف سالب‪ ،‬عىل اعتبار أن‬
‫ارتفاع كل كيلومرت واحد تقل درجته بـ(‪ )6.5‬ستة درجات ونصف عن‬
‫األرض‪.‬‬
‫‪ -5‬تكون احلرارة ليال عىل ارتفاع مخسة كيلومرتات أنقص بـ (‪ )12.5‬اثني‬
‫عرشة ونصف درجة منها عىل األرض‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪400‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪401‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اج َلة‪ ..‬الدَّ َّجال‪)..‬‬
‫بـني َي َد ِي الدَّ ّجال ( الدَّ ْجل‪ ..‬الدَّ َج ِ‬
‫عن ابن ماجه قال‪ :‬سمعت الطنافيس يقول‪ :‬سمعت ا ُملحاربـي يقول‪« :‬ين َْب ِغي َأنْ ُيدْ َف َع هَ َذا‬
‫اب»‪.‬‬ ‫ب َح َّتى ُي َع ِّل َم ُه ِّ‬
‫الص ْب َيانَ ف ا ْل ُك َّت ِ‬ ‫َ‬
‫احل ِد ُ‬
‫يث– يعني حديث الدَّ جال‪ -‬إِل ا ُملؤَ ِّد ِ‬
‫«اإلشاعة» ص‪286‬‬

‫عن عبداهلل بن مغفل ؤ أن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬إن الدَّ جال َقدْ َأ َ‬
‫كل و َمشْ ى يف‬
‫َ‬
‫األ ْسواق»‪،‬‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري ريض اهلل تعاىل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ « :‬أال أن الدَّ جال قد‬
‫الطعام و َم َشى يف َ‬
‫األ ْسواق»‪.‬‬ ‫َأ َكل َّ‬

‫أخرجه الطرباين يف «املعجم»‬

‫ينجو أحدٌ مما قب َلها إال نَجا منها‪ ،‬وما‬


‫أخوف عندي من فتنة الدّ ّجال‪ ،‬ولن َ‬ ‫ُ‬ ‫«ألنَا لفتنة بعضكم‬
‫نعت فتن ٌة منذ كانت الدنيا صغري ٌة وال كبري ٌة إال ِ‬
‫لفتنة الدَّ ّجال»‬ ‫ُص ْ‬
‫ذكره يف «جممع الزوائد» وقال‪ :‬رواه أمحد والبزار ورجاله رجال الصحيح‬

‫ِ‬
‫عذاب جهنّم‪ ،‬ومن‬ ‫اللهم إين أعوذ بك من‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫فليستعذ باهلل من أرب ٍع يقول‪:‬‬ ‫«إذا ت ََش َّهدَ أحدُ كم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪402‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ِ‬
‫املسيخ الدَّ ّجال»‬ ‫رش فِ ْتن َِة‬ ‫ِ‬
‫عذاب القرب‪ ،‬ومن فتنة املحيا واملامت‪ ،‬ومن ِّ‬
‫رواه مسلم‬
‫ِ‬
‫«ما ُبع َث نَبِ ٌّي إال َأن َْذ َر ُأ َّم َت ُه األَ ْع َو َر الك َّذ َ‬
‫اب»‬
‫رواه البخاري عن أنس‬
‫اه ِرين عىل ناو َأهم حتّى يقاتِ َل ِ‬
‫آخ ُر ُه ُم الدَّ ّجال»‬ ‫احلق َظ ِ‬ ‫«ال ُ‬
‫تزال طائف ٌة من أ ّمتي يقاتلون عىل ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫أخرجه أبوداود يف سننه واحلاكم يف مستدركه‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪403‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪404‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫َي الدَّجَ ال‬ ‫بَـ َ‬
‫ني يَد ِ‬

‫قال الناظم‪:‬‬
‫�ن َوالدُّ ْن َي�ا ت ََأ َّم ْ‬ ‫ِ‬ ‫بـي ِ ِ‬
‫�ل َوا ْع َتبِ ْ�ر‬ ‫ف�ي الدِّ ْي ِ‬
‫ِ‬ ‫ي الدَّ َّج�ال َأ ْخ َط ٌ‬
‫�ار ُك ُث ْ�ر‬ ‫�ن َي�د ْ‬ ‫َ ْ‬
‫إشارة إىل ذات املراحل التي سبق ذكرها‪ ،‬وأن بـينها وبـني مرحلة ظهور الدَّ جال عالقة‬
‫وطيدة‪ ،‬وخاصة ما تسمى ( بفتنة الدُّ هيامء ) التي «ال تدع أحد ًا إ َّال لطمته‪َ ،‬حتى يصري الناس‬
‫فسطاطني‪ :‬إيامن ال نفاق فيه ونفاق ال إيامن فيه‪ ،‬فانتظروا الدجال من يومه أو غده»(((‪.‬‬
‫ومع أن األحاديث تشري إىل بدء زمن الفتنة الصانعة مرحلة الدَّ جال بدء ًا من عرص آدم إلاَّ أن‬
‫املسافة تتقارب جد ًا‪ ،‬وتتضح عالئمها بعد مبعث رسول اهلل ﷺ لتتوجه قضية الدَّ جال يف إطا ٍر‬
‫وحصاد هذا التالحق تغريات املراحل وتقلباهتا وجمريات األحداث داخلية‬
‫ُ‬ ‫واضح ومتالحق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وخارجية وقديمة وحديثة لتصب جمملها يف هتيئة العامل لربوز فتنته الساحقة املاحقة والعياذ‬
‫باهلل‪ ..‬وال شك أن قضاء اهلل كائن وال مرد منه؛ ولكن الديانة تقف من التحوالت موقف الوعي‬
‫واإليضاح والبـيان واإلفصاح‪( ،‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ)‪.‬‬
‫ورس إتباع األنبـياء الكتساب احلصانة بعد توفيق اهلل (ﯹ ﯺ‬
‫رس الرساالت‪ّ ،‬‬
‫وهذا هو ّ‬
‫ﯻ ﯼ )‪.‬‬
‫ومل هيتم رسول اهلل ﷺ بيشء بعد قضية التعبد وهداية الناس إليها اهتاممه بشأن ِ‬
‫الفتن‬
‫رس هذا التعبد‪ ،‬وخاصة تلك الفتن املمهدة لفتنة املسيخ الدَّ جال؛ ولكن هذا االهتامم‬ ‫ِ‬
‫السالبة َّ‬
‫متالزم مع العلم بعالمات الساعة وربط البرشية بركنية هذه العالمات‪ ،‬إذ أشار ﷺ إىل أن‬

‫((( املصدر السابق ص‪.398‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪405‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مشكلة املشاكل يف قضية الدجال هي غياب ِ‬
‫الصيغ الرشعية يف الواقع االجتامعي من خالل‬
‫انحرافات علمية وعقيدية داخل اخليمة اإلسالمية ذاهتا‪ ،‬وترتاكم هذه االنحرافات مرحلة بعد‬
‫ٍ‬
‫كذات ومرحلة‪.‬‬ ‫مرحلة أخرى حتى يكون العامل بـني يدي الدجال‬
‫ومع تطور االنحراف تتطور أساليب التمويه والعامية يف القلوب والعقول وختتلط األوراق‪،‬‬
‫وابتهاج وحيوية‪ ،‬وفق‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحامس‬ ‫لتحمل اجلميع نحو قبول املرحلة الدَّ جالية‪ ،‬والدخول إليها‬
‫الربنامج الدعائي للطابور الدَّ جايل املَ ْف ُتون‪ ،‬وهكذا تكون ال َف ِ‬
‫اجعة‪.‬‬
‫ويف ذلك يقول صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬يأيت عىل الناس زمانٌ َيت ََم َّن ْونَ الدّ ّج َ‬
‫ال ممّا َي ْل َق ْونَ‬
‫من ِ‬
‫الفتَن» (((‪.‬‬
‫ال�و َرى َم َش�اتِ َل ْه‬ ‫ِ‬
‫�و َن في َ‬
‫�ن َيز َْر ُع ْ‬
‫َم ْ‬ ‫�ل َوالدَّ َج ِ‬
‫اج َل ْه‬ ‫�م ْو ُل الدَّ ْج ِ‬ ‫ِ‬
‫من َْه�ا ُش ُ‬
‫ويف هذا البـيت كام يقولون (بـيت القصيد) وأهنا مرحلة (ما بـني يدي الدَّ جال)‪ ،‬ومن أخطر‬
‫مظاهرها «الدَّ ْجل»‪ ،‬وهو الصيغة العقالنية لقلب موازين احلق إىل باطل‪ ،‬وقبول ذلك لدى‬
‫الناس‪ ،‬وقلب موازين الباطل لتصبح حق ًا مقبو ً‬
‫ال أيض ًا لدى الناس فيتعلمون أو يتضافرون‬
‫عىل حتقيق هذا االنقالب الفكري يف ثالثة قوى‪:‬‬
‫‪ -‬الدجل‪ ،‬وهي مادة ِ‬
‫الفكر املعدّ ة للتطبـيع‪.‬‬
‫اسخ ِسلب ًا وإجياب ًا ما بـني تسييس الدِّ ين(((‪ ،‬أو علمنة الدِّ ين‬
‫(((‬ ‫الفكر املَ ِ‬
‫‪ -‬الدجاجلة‪ ،‬حمَ َ َلة ِ‬

‫(( ( ذكره السيوطي يف «اجلوامع» ونقله املتقي اهلندي يف «كنز العامل» ‪ ،‬وأخرج ابن أيب شيبة يف مصنفه عن‬
‫حذيفة قال‪« :‬ال خيرج الدجال حتى يكون خروجه أشهى إىل املسلمني من رشب املاء عىل الظمأ» فقال‬
‫رجل‪ :‬ومل؟ قال‪« :‬من شدة البالء والرش» ‪.‬‬
‫(( ( معنى تسييس الدين‪ :‬إرضاخ الدين ورجاله لتنفيذ سياسة دينية معينة مضادة ألخرى مثلها‪.‬‬
‫(( ( معنى علمنة الدين‪ :‬إضعاف منهج التدين كليا وترجيح العقالنية املجردة ضد الغيبـيات واخلوارق‬
‫وقوانني الرشيعة‪ ،‬أو استبدال الديانة والتدين بالفكر املادي املجرد القائم عىل نظرية ال إله والكون مادة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪406‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أو عوملته(((‪.‬‬
‫‪ -‬الدَّ جال‪ ،‬املخلوق املستثمر ُ‬
‫لكل أشكال االنحراف يف تاريخ الشعوب واملتحالف مع‬
‫َّ‬
‫الشيطان إلنجاح برنامج االحتناك يف األدمية‪.‬‬
‫وغالب أحداث مرحلة ما بـني يدي الدجال قد وردت ضمن ما سمي « ِ‬
‫بفتنة الدَّ هيامء التي ال‬
‫تدع أحد ًا إل َل َطم ْت ُه»‪ ،‬وآخر مراحلها ا ُمل َ‬
‫فض َية إىل إعداد العقل اإلنساين عموم ًا واإلسالمي خصوص ًا‬
‫إعالمية َط ُ‬
‫ويلة‬ ‫ٌ‬ ‫للهيمنة الفاجعة هي عند كون الناس يف « ِخ ّف ٍة ِمن الدِّ ين»‪ِ ،‬‬
‫واخلفة يف الدين‪َ :‬م ْن َه ِج ّي ٌة‬
‫املدَ ى بدأت قبـيل مرحلة ِفتنة َ‬
‫األ ْحلاَ س التي حددت عند بعض أهل العلم بانخراط هيود الدونمة‬
‫وأشباههم يف جسد الدولة اإلسالمية‪ ،‬ورسم خطوط املؤامرات العلامنية للدول الكافرة‪ ،‬إ ّبان امتداد‬
‫الدولة اإلسالمية العثامنية رمز اخلالفة ومصدر القرار املسلم‪ ،‬واستمرت خالل مرحلة ِفتنة السرَّ اء‬
‫التي َطوت ُ‬
‫احلكام املسلمني والعرب يف دوامة احلربـني العامليتني األوىل والثانية‪ ،‬حتى َر َس َخ ْت‬
‫ثوابت مرحلة الدُّ هيامء القائمة عىل رسم سياسة االستعامر واالستهتار واالستثامر‪ .‬وها نحن اليوم يف‬
‫جـة‪،‬‬ ‫آخر مرحلة االستثامر أخطر مراحل فتنة الدُّ هيامء التي ال تدع أحد ًا إلاَّ لطمته‪ ،‬فاللطم له ٍ‬
‫معان مَ َّ‬
‫وال يأيت اللطم هلذا العدد اهلائل من البرش واملسلمني يف زمن معني وأيام قالئل‪ ،‬ولك َّنه تتابع يف َل ِ‬
‫طم‬
‫والعقول والوجوه ِ‬
‫بعدة وسائل‪ ،‬والوسائل هي آلة اللطم املؤثرة والتَاركة َخ ْل َفها بصامت‬ ‫ُ‬
‫القلوب ُ‬
‫الالطم ال حقيقته‪.‬‬
‫ِ‬
‫وفتنة الدُّ هيامء‪ :‬مرحلة التحوت واألسافل من الناس الذين يتبعون كل َناعق‪َ ،‬سامهم النبـي‬
‫ﷺ‪« :‬هَ ي َشات َ‬
‫األ ْسواق»‪ ،‬وهؤالء هم مطايا احلركة املاسخة أجيا ً‬
‫ال بعد أجيال‪ ،‬بدأ تركيبهم‬ ‫ْ‬
‫العلمي والنفيس والعقيل والعاطفي واإليامين والدَّ جايل مع بداية الغزو االستعامري العاملي‪،‬‬

‫((( عوملة الدين‪ :‬تطبيعه ليخدم املصالح العاملية لعصبة االستثامر يف العامل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪407‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ليتحقق فيهم مرحلة بعد مرحلة مدلول ِ‬
‫اخلفة يف الدِّ ين و اإلدبار من العلم‪ ،‬بدء ًا من رموز‬
‫احلكم والعلامء محلة األمانة ولسان الرشيعة ومحاة التوحيد‪ ،‬وهناية بطالب املدارس واجلامعات‬
‫رج الدَّ جال يف ِخ ْف ٍة من‬
‫وج َحافل النساء ذوات العالقة املبارشة بفتنة الدَّ جال‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬يخَ ُ‬
‫َ‬
‫اس يف ذكره‪ ،‬وإن أكثر‬ ‫اجه يف أكثر األرض‪ ،‬و ُي ُ‬
‫ذهل ال َّن ُ‬ ‫الدين وإدبا ٍر من ِ‬
‫العلم فال َي ْب َقى أحدٌ حُ َي ُّ‬ ‫ِّ‬
‫األعراب والنِّساء» (((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ما َي ْت َب ُع ُه‬
‫إذن فنحن يف حاجة إىل النظر فيام بـني يدي الدجال بدقة وموضوعية‪ ،‬والدقة واملوضوعية‬
‫تشريان حسب استقرائنا لألحداث واهلل أعلم إىل أهنا مرحلة االستثامر بمسمياهتا املألوفة يف‬
‫واقعنا اإلعالمي‪:‬‬
‫«القطب الواحد» النظام العاملي املوحد‪ ..‬بكتلته السياسية والفكرية‪.‬‬ ‫* ‬

‫الص ْحوة بعنارصها وأنظمتها وجمموعاهتا الغثائية‪.‬‬


‫َ‬ ‫* ‬
‫العوملة بمظاهرها االجتامعية واالقتصادية والسياسية‪.‬‬
‫* َ‬
‫وبإمكان الباحث احلصيف أن يتعمق يف متابعة هذه النقاط املجتمعة أزمتها بـيد «قوة عاملية‬
‫واحدة» َي ْقبع خلف جدراهنا املصفحة «املسيخ الدّ جال»‪.‬‬
‫وبإمكان الباحث احلصيف أيض ًا أن يتعمق يف متابعة ظواهر العالمات التي تك َّلم هبا من ال‬
‫ينطق عن اهلوى ﷺ ليفصح عن حقائق الرتدي املتعمد يف أجيال األمة املسلمة‪ ،‬ومن مثل قوله‬
‫حمذر ًا‪« :‬ال تزال األمة عىل رشيعة حسنة ما مل تظهر فيهم ثالث‪:‬‬
‫ّ‬
‫ما لـم يقبض منهم العلم‪.‬‬ ‫‪ )2‬‬
‫ويكثر فيهم ولد اخلنث‪.‬‬ ‫‪ )3‬‬

‫((( هؤالء هم وأشباههم محلة فك ِره وأطروحاتِه قبـيل ظهوره بام يف أيدهيم من مقدرات احلركة ومراكز التأثري‬
‫يف مرحلة «فتنة الدّ هيامء» الطويلة‪ ،‬ثم يكتسح صنائعه ورموزه نظام ًا بعد نظام وجمموعة خلف أخرى‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪408‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ويظهر فيهم السقارون‪.‬‬ ‫‪ )4‬‬
‫قالوا ‪ :‬وما السقارون ؟ قال ‪ُ « :‬ن ُشوء ‪-‬مجع نشء‪ -‬يكونون يف آخر الزمان تكون حتيتهم‬
‫بـينهم إذا تالقوا ال َّتالعن»(((‪.‬‬
‫والتعمق املشار إليه يف حديثنا هذا أن نرى كيف رسم املصطفى ﷺ صفة الرتدي يف سياسة‬
‫والغ ْفلة‪.‬‬
‫العامية َ‬
‫الدجل واألمة يف غاية َ‬
‫ُ‬
‫فقبض العلم من املسلمني‪ ،‬قد جرى بأطروحات السياسة التعليمية الغربـية والرشقية يف‬
‫وك ُثر يف املجتمعات العربـية واإلسالمية انتشار َ‬
‫اخلنَاء والزِّ َنا‬ ‫مؤسسات البلدان املستعمرة‪َ ،‬‬
‫الراعية هلم ا ُملفضية إىل استغالل ُع ْقدهتم‬
‫وتكونت هلم املالجئ والدور َّ‬
‫ْ‬ ‫وعلن ًا‪،‬‬
‫رس ًا َ‬
‫وأبنائه ّ‬
‫النفسية لالنتقام من البناء األخالقي يف األرسة املسلمة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عظيمة من دالالت النبوة‪ ،‬حيث إن الكثري من أهل عرصنا‬ ‫ٌ‬
‫فداللة‬ ‫وأما ظهور «السقارون»‬

‫ص السيجار‬ ‫يسمون السيجارة (سقارة)‪ ،‬والسقارة من هذا املعنى أهنا من يرشب التنباك‪َ ،‬‬
‫وخ َّ‬ ‫ّ‬
‫منه لكثرة من حيمله يف الطرقات واملواصالت والبـيوت حتى يصبح ظاهرة من ظواهر املجتمع‬
‫العربـي واإلسالمي له « جُ َّت ُاره» السقارون بمواقعه ورشكاته ومسمياته وأسواقه ودعاياته‬
‫وجوائزه ومواهبه‪.‬‬
‫بالعيان‬ ‫وهذه الظاهرة َغزت بالد اإلسالم واملسلمني خالل (مرحلة الدُّ هيامء)‪ُ ،‬‬
‫وشوهد َ‬
‫َتالعن املدخنني عند لقائهم ورفع أصواهتم بال َّتالعن يف املالعب والشوارع واملؤسسات‪ ،‬مع‬
‫ٍ‬
‫اختالف بسيط بـني جمتمع وآخر‪.‬‬
‫لقد كان حضور املصطفى ﷺ مرحلة االستعامر واضح ًا كام هو حضوره يف سابق املراحل‬
‫والحقها ؛ ولكن وقفات مع التحليل النبوي لظاهرة انعدام العلم من أهله‪ ،‬وكيف يكون‬

‫((( رواه أمحد والطرباين واحلاكم عن معاذ بن أنس‪ ،‬انظر «اإلشاعة» ص‪.161‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪409‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ذلك؟‬
‫يكون ذلك فيام بـني يدي الدجال‪ ،‬فنراه حارض ًا يقول‪« :‬إن من أرشاط الساعة أن ُيلتمس‬
‫العلم عند األصاغر»(((‪.‬‬
‫ويستطرد شارح احلديث فيقول‪ :‬ومعناه أن األكابر((( من أوالد املهاجرين واألنصار‪ ،‬بل‬
‫ومن قريش يشتغلون بطلب الدنيا واجلاه‪ ،‬ويبقى األصاغر من املوايل وأخالط الناس هم الذين‬
‫يتعلمون‪ ،‬فيطلب منهم الفتاوى يف الواقعات‪.‬‬
‫وقد أرشنا سلف ًا إىل الثالثة املحاور ذات العالقة باالنقالب الفكري يف هذه األمة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الدجل‪ ،‬والدجاجلة‪ ،‬والدجال‪..‬‬
‫ويبدأ العمل عىل ترسيخ الفتنة من عهد آدم ونوح‪ ،‬وما من دجل إلاَّ وله دجاجلة‪ ،‬لقوله‬
‫ﷺ‪« :‬ما من فتنة من عهد آدم إل وهي تصنع ‪-‬أو قال‪ :‬تضع‪ -‬لفتنة الدجال» ((( ‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫حذر‬
‫األنبـياء أقوامهم من فتنته العظمى‪ ،‬فقد ورد يف صحيح البخاري‪« :‬ما من نبـي إل وقد أنذر‬

‫((( رواه الطرباين عن أبـي أمية اجلمحي‪.‬‬


‫((( لعل بعض القراء يتأففون من إيراده لفظتي «األكابر واألصاغر»‪ ،‬ويرون يف هذا التعبـري فارق ًا طبقي ًا‪،‬‬
‫ولكني أعيد اجلميع إىل املعلم األكرم ﷺ الذي أمرنا بوضع كل إنسان يف مرتبته من املعرفة والعلم‪،‬‬
‫وفيها أكابر وفيها أصاغر؛ ولكنه سوى بـني اجلميع يف التقوى وكرامتها وبـني احلقوق والواجبات‬
‫واملسؤوليات‪ ،‬وبـني أن من عالمات الساعة أن يتساوى العلامء بغري العلامء‪ ،‬والقرآن ينفي ذلك (ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ )‪.‬‬
‫((( قال اإلمام أمحد يف مسنده (‪ )389 :5‬ثنا وهب بن جرير‪ ،‬ثنا أيب‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت األعمش‪ ،‬عن أيب وائل‬
‫عن حذيفة‪ ،‬قال‪ُ :‬ذكر الدجال عند رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬ألنا لفتنة بعضكم أخوف‬
‫عندي من فتنة الدجال‪ ،‬ولن ينجو أحد مما قبلها إال نجا منها‪ ،‬وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغرية‬
‫وال كبرية إال لفتنة الدجال»‪ ،‬قال احلافظ نور الدين اهليثمي يف «املجمع» (‪ :)338 :7‬رواه أمحد والبزار‬
‫ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪410‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قومه الدَّ جال» (((‪ ،‬وعند أبـي داود والرتمذي عن أبـي عبـيدة ؤ‪ ،‬قال‪« :‬لـم يكن نبـي‬
‫بعد نوح إل وقد أنذر قومه الدَّ جال»‪ ،‬وعند أمحد‪« :‬لقد أنذر نوح أ َّمته والنبـيون من بعده»‪.‬‬
‫ومع هذا اإلنذار والتحذير من فتنة املسيخ الدجال وأثرها عىل العقل اإلنساين فقد أخرب ﷺ‬
‫أن يف حوادث األزمنة وسري قضاء اهلل وقدره عرب التاريخ ما هو أكرب من الدجال‪.‬‬
‫عن عمران بن حصني ؤ‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ﷺ يقول‪« :‬ما بـني خلق آدم إىل‬
‫قيام الساعة أمر أكرب من الدجال‪.((( »..‬‬
‫والفتنة الكربى يف مسرية الدجال حتى ظهوره هي (قلب احلقائق) «الدَّ ْجل»‪ ،‬والدجال‬
‫مشتق من الدجل‪ ،‬وهو اخللط واللبس واخلدع‪ ،‬والعني جمبولة التأثر بام ترى‪ ،‬وكذلك بقية‬
‫اجلوارح‪ ،‬والتمويه يؤثر عىل العواطف واملبادئ واملواقف إال من ّثبت اهلل (ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ )‪ ،‬ال َّلهم َث ْبتنا بقولِ ِ‬
‫ك الثَّابت يف َ‬
‫احلياة‬
‫الدنيا واآلخرة‪ .‬آمني‪.‬‬
‫ناجح التأثري وال َف َعالية ُبع ْصبة الدجاجلة‪ ،‬والدجاجلة أفراد تتبعهم األقوام‬
‫ُ‬ ‫والدجل‬
‫عالمات ودالئل‪ ،‬وتبدأ مالحمهم يف خيمتنا اإلسالمية بوضوح من خالل‬
‫ٌ‬ ‫والشعوب وهلم‬
‫مواقفهم التي َر َصدَ ها رسول اهلل ﷺ مقرونة ِ‬
‫بالفتن‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ِ -‬ف ٌ‬
‫تن عامة غري حمددة املكان والزمان‪ ،‬كقوله ﷺ‪« :‬لست أخشى عليكم الدَّ جال وإنام‬
‫َأ ْخ َشى ُعلامء الفتنة»‪ ،‬وعن ثوبان ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إنام أخاف عىل أمتي‬
‫األئمة املضلني» (((‪.‬‬

‫((( رواه الطرباين عن معاذ بن جبل‪« ،‬كنز العامل» (‪.)233 :14‬‬


‫((( رواه مسلم ‪« ،‬اإلشاعة» ص ‪.256‬‬
‫((( أخرجه الرتمذي ‪ ،‬كتاب الفتن ‪ ،‬باب ما جاء يف األئمة واملضلني برقم (‪ )2229‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪،‬‬
‫املصدر السابق ص‪.184‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪411‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪ -‬ومنها‪ِ :‬ف ٌ‬
‫تن َخاصة حمددة الزمان واملكان كان ﷺ يصفها‪ ،‬بقوله‪« :‬إين أرى مواقع الفتن‬
‫بـني بـيوتكم كمواقع القطر» (((‪ ،‬ويفصح عن هويتها يف الفتنة التي صاحبت خالفة عثامن بن‬
‫عفان ؤ‪ ،‬فيقول ﷺ فيام يرويه حذيفة‪« :‬أول الفتن قتل عثامن‪ ،‬وآخرها خروج الدجال»‪،‬‬
‫زاد ابن عساكر يف روايته‪« :‬والذي نفيس بـيده ما من رجل يف قلبه مثقال حبة من قتل عثامن إال‬
‫تبع الدجال إن أدركه‪ ،‬وإن مل يدركه آمن به يف قربه» (((‪.‬‬
‫ويتحدد يف هذا اخلطر موقع املنافقني ودورهم يف السياسة الدجالية‪ ،‬عن أنس ؤ‪،‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬يا عثامن إنك ستيل اخلالفة من بعدي‪ ،‬وسرييدك املنافقون عىل خلعها‬
‫فال ختلعها‪ ،‬وصم يف ذلك اليوم تفطر عندي»(((‪.‬‬
‫الدجالية منطلقة بوضوح عىل أيدي الدجاجلة «دجاجلة ُ‬
‫احلكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومنذ تلك اللحظة ومعامل‬
‫ودجاجلة ِ‬
‫العلم‪.»..‬‬
‫وكال الطرفني أوضح عالماهتم ِ‬
‫وسامهتم من ال ينطق عن اهلوى ﷺ عرب مسرية التاريخ‪،‬‬
‫ومنهم الذين ادعوا النبوة‪ ،‬وقد أخرب النبـي ﷺ عن الكذابـني من أمته‪ ،‬واختلفت األحاديث‬
‫يف حتديد العدد‪ ،‬ونحن هنا نرى أن اخلطورة ال تكمن يف العدد وإنام يف هوية األفكار التي‬
‫حيملها هؤالء املدَّ عون للنبوة‪ ،‬وقد أرشنا يف سابق الرشح إىل نموذج من هذه الفتنة الدَّ جالية‬
‫املسيلمية من أخطر ِفتن الكذابـني يف اإلسالم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وهو « ُمسيلمة َّ‬
‫الكذاب» حيث كانت فتنته‬
‫�ل ك َُّل َعائِ َل� ْة‬ ‫ت َْح ِر ْي ُف ُه ْ‬
‫�م َيدْ ُخ ُ‬ ‫الدَّ َج ِ‬
‫اج َل� ْة‬ ‫ال َّث اَل َث� ُة‬ ‫َو ِم ْث ُل� ُه‬
‫�اض ِ‬
‫�ار ُع ْو َن فِ�ي انْتِ َق ِ‬
‫ُي َس ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِالم ِ‬
‫الع ْ ِ‬
‫ل�م‬ ‫الج�اه َأ ْو بِ ُ‬
‫الحكْ� ِم‬ ‫�ال َأ ْو بِ َ‬ ‫َ‬

‫((( رواه البخاري ومسلم وأمحد عن أسامة بن زيد‪.‬‬


‫((( سبق خترجيه‪.‬‬
‫((( رواه ابن عدي وابن عساكر ‪ ،‬املصدر السابق ص‪.39‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪412‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫إشارة إىل ما ورد يف احلديث النبوي عن الدجالني الثالثة الذين يظهرون يف فتنة الدُّ هيامء‪،‬‬
‫وقد مجعهم النبـي يف عبارة واحد داللة عىل ظهورهم يف عرص واحد‪ ،‬وقد ظهروا وانترشت‬
‫الربانية النبو َّية األبو َّية فيمن‬
‫َّ‬ ‫فتنتهم يف سائر األقطار‪ ،‬كام أوضح وأبرز اجلانب امليضء يف املسرية‬
‫َسماّ هم‪ُ :‬‬
‫(اخللفاء) «عليكم بسنتي وسنة اخللفاء الراشدين املهديني من بعدي»(((‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كذات فقد بالغت األحاديث الرشيفة يف وصفه ووصف مرحلته وفتنته‬ ‫وأما الدَّ جال‬
‫َّ‬
‫وعالماته‪ ،‬وكان ﷺ ُم ْهت ًام كل االهتامم بكشف َزيفه َ‬
‫وكذبه وخطورة مسريته يف اخليمة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حتى قال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن خيرج وأنا فيكم فأنا حجيجه‪ ،‬وإن خيرج‬
‫حجيج ِ‬
‫نفسه»(((‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫فامرؤ‬ ‫ولست فيكم‬

‫((( راجع هذا املدلول يف أول املنظومة‪.‬‬


‫((( رشح مسلم (‪ )65 :13‬كتاب الفتن ‪ ،‬وأخرجه احلاكم يف «املستدرك» عن عبدالرمحن نفري عن أبيه عن‬
‫جده ‪ ،‬وقال‪ :‬حديث صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪413‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اح ُب َ‬
‫اجل ِز َيرة‬ ‫ال َص ِ‬
‫الدَّ ّج ُ‬
‫َخ ْف َض� ًا ور ْفع� ًا فِي ِ‬
‫�ه َحتَّ�ى َأ ْك َث َ�را‬ ‫�ث َأ َّن َطـ� َه َأن َ‬
‫ْ�ذ َرا‬ ‫وفِ�ي الح ِدي ِ‬
‫ََ َ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ‬
‫اك ُش�غْلِي‬ ‫�ال‪ :‬إِ ْن ّيخْ ُ�ر ْج َف َ‬
‫�ذ َ‬ ‫َف َق َ‬ ‫�ل‬‫�وا َظنَنَّ�ا أنَّ� ُه فِ�ي النَّخْ ِ‬
‫َقا ُل ْ‬
‫�س فِ�ي َأ َم ِ‬
‫�ان‬ ‫ٍ‬
‫َف�ك ُُّل َف ْ�رد َل ْي َ‬ ‫�ق الز ََّم ِ‬
‫�ان‬ ‫َوإِ ْن َأتَ�ى فِ�ي الَ ِح ِ‬
‫اك َنعلِ ِ‬
‫واألَم�ر َأدنَ�ى ِم�ن ِش�ر ِ‬ ‫�ه و َأهلِ ِ‬ ‫جي�ج َن ْف ِس ِ‬
‫�ه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬ ‫�ه‬ ‫َ ْ‬ ‫ك ٌُّل َح ِ ْ ُ‬
‫(((يشري الناظم إىل ما كان منه صىل اهلل عليه وآله وسلم من حتريك مستوى القلق منه ﷺ يف‬
‫أصحابه كام ذكره ال َّنواس بن َسمعان يف قوله‪ :‬ذكر رسول اهلل ﷺ الدَّ جال ذات َغداة‪ ،‬فخ َّفض‬
‫فيه ور َّفع حتى ظنناه يف طائفة النخل‪ ،‬فلام رحنا إليه عرف ذلك فينا‪ ،‬فقال‪« :‬ما شأنكم؟»‪ ،‬قلنا‪:‬‬

‫حجيج نفسه» إشارة إىل ما يكون عند ظهور الدَّ جال من متحالت الناس واستتباعهم‬
‫ُ‬ ‫((( وقوله ﷺ‪ُ :‬‬
‫«ك ُّل ا ْم ِر ٍئ‬
‫«ليصحبن الدَّ جال‬
‫َّ‬ ‫للمصالح رجاء ما يف يده‪ ،‬ويف ذلك روى نعيم بن محاد يف الفتن عن عبـيد بن عمر‪:‬‬
‫أقوام يقولون‪( :‬إنا لنصحبه وإنا لنعلم أنه لكافر‪ ،‬ولكنا نصحبه نأكل من طعامه ونرعى من الشجر)‪ ،‬فإذا‬
‫نـزل غضب اهلل نـزل عليهم كلهم» ‪ ،‬واألمر املطلوب رشع ًا أمام الدجال عند ظهوره الوقوف بصالبة‬
‫عىل نامذج وصور أخرب عنها ﷺ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يتفل يف وجهه‪ ،‬حلديث أبـي أمامة ريض اهلل عنه مرفوع ًا‪« :‬فمن لقيه منكم فليتفل يف وجهه» رواه‬
‫الطرباين‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يثبت ويصرب‪ ،‬حلديث «وليكثر من التسبـيح والتهليل فإنه قوت املؤمن يف ذلك ال َق ْحط‪ ،‬وأن من ابتيل‬
‫به فليثبت وليصرب‪ ،‬وإن رماه يف النار فليغمض عينيه وليستعن باهلل تكن عليه برد ًا وسالم ًا»‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يلتجئ إىل أحد احلرمني فإنه ال يدخلهام أو إىل املسجد األقىص أو إىل مسجد طور‪ ،‬ففي بعض الروايات‬
‫أنه ال يدخله‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يقرأ اآليات العرش من أول سورة الكهف‪ ،‬حلديث «فمن ابتيل بناره فليستغث باهلل وليقرأ فواتح الكهف‬
‫فتكون عليه برد ًا وسالم ًا كام كانت النار برد ًا وسالم ًا عىل إبراهيم»‪ ،‬انظر «اإلشاعة» ص‪.277‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪414‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يا رسول اهلل ذكرت الدَّ جال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه يف طائفة النخل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وساق احلديث»(((‪.‬‬
‫ري الدَّ جال أخوفني عليكم‪َ ..‬‬
‫«غ ُ‬
‫بعثت أنا والساعة كهاتني»((( فيفصح هلم أن مرحلة الدجال‬
‫وكأنّه ﷺ يعترب معنى قوله‪ُ « :‬‬
‫أخشاها عليكم أنتم بقدر ما أخشى عليكم فتن ًا أخرى‪ ..‬وكأ َّنه يشري إىل ما حصل بعد‬
‫َ‬ ‫لست‬
‫ُ‬
‫ذلك من الفتن يف عهود التحوالت‪.‬‬
‫الض َي�ا ِع فِ�ي البِ َح ِ‬
‫�ار‬ ‫فِ�ي ِقص ِ‬
‫َّ�ة َّ‬ ‫ي‬ ‫�ث ال�دَّ ِار ْ‬ ‫ى َح ِد ْي َ‬ ‫ِ‬
‫َو ُم ْس�ل ٌم َر َو ْ‬
‫�م ُيثِ ْي َ�ر ْه‬ ‫ِ‬
‫َع َل ْي�ه َأ ْغَل�اَ ٌل َف َل ْ‬ ‫�ف َع َل�ى َج ِز ْي َ�ر ْه‬ ‫رآه فِ�ي كَه ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫�ر؟‬ ‫اه ِ‬ ‫َان ِم�ن الم َظ ِ‬ ‫َه ْ‬ ‫اه ِ‬‫�أ َل ال�دَّ ِاري ع�ن َظو ِ‬ ‫َو َس َ‬
‫َان َم�ا ك َ َ َ‬ ‫�ل ك َ‬ ‫�ر‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ‬
‫�ن األَ ْق�دَ ِار‬ ‫ِ‬
‫خش�ا ُه م َ‬ ‫َان َي َ‬‫َم�ا ك َ‬ ‫المخْ ت ِ‬
‫َ�ار‬ ‫ى ُ‬ ‫�ق األَ ْم َ�ر َل�دَ ْ‬
‫َو َوا َف َ‬
‫تشري األبـيات إىل رواية اإلمام مسلم عن الدَّ جال من خرب متيم الدَّ اري‪ ،‬وهي مبسوطة يف‬
‫كتب احلديث‪ ،‬وأهم ما يمكن التعيني له هنا ثوابت التفرد يف الرواية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬قوله ﷺ ألصحابه‪َ « :‬و هَّ‬
‫اللِ َما جمَ َْعت ُُك ْم لِ َر ْغ َب ٍة َوال لِ َر ْه َب ٍة َو َل ِك ْن جمَ َْعت ُُك ْم ألنَّ تمَ ِيم‬
‫وأس َل َم َو َحدَّ َثنِي َح ِدي ًثا َوا َف َق ا َّل ِذى ُك ْن ُت ُأ َح ِّد ُث ُك ْم َع ْن املَ ِس ِ‬
‫يخ‬ ‫ال َنصرْ َ انِ ًّيا َف َج َاء ْ‬
‫الدَّ ا ِر َّي َكانَ َر ُج ً‬
‫الدَّ َّج ِ‬
‫ال»‪.‬‬
‫ِ‬
‫ويلك‬ ‫‪« .2‬فدخلوا اجلزيرة َف َل ِق َي ْت ُهم َدابة أهلب»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬فإذا أنا بامرأة ّ‬
‫جتر شعرها‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫من أنت؟ قالت‪ :‬أنا َ‬
‫اجلساسة» (((‪.‬‬
‫إنسان رأينا َق ُّط َخلق ًا وأشدُّ ُه و َثاق ًا»‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أعظم‬
‫ُ‬ ‫«دخلنا الدير فإذا فيه‬ ‫‪ .3‬‬

‫((( أخرجه مسلم وأمحد عن النواس بن سمعان‪ ،‬املصدر السابق (‪ )64 :13‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫((( سبق خترجيه‪ ،‬املصدر السابق (‪.)89 :16‬‬
‫((( «كنز العامل» (‪.)605 :14‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪415‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪ .4‬قال‪« :‬أخربوين عن نخل بـيسان هل ُتثْمر؟ قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أما إهنا توشك أن ال تثمر‪،‬‬
‫قال‪ :‬أخربوين عن بحرية َطبرَ ية‪ ،‬هل فيها ماء؟ قالوا‪ :‬هي كثري ُة املاء‪ ،‬قال‪ :‬أما إن ماءها يوشك‬
‫أن يذهب‪ ،‬قال‪ :‬أخربوين عن َعني ُز َغر‪ ،‬هل يف العني ماء وهل يزرع أهلها بامء العني؟ قلنا‪:‬‬
‫نعم هي كثرية املاء وأهلها يزرعون من مائها‪ ،‬قال‪ :‬أخربوين عن نبـي األميني ما فعل؟ قالوا‪ :‬قد‬
‫خرج من مكة ونـزل يثرب»‪.‬‬
‫«إين خمربكم أن َأ َنا املسيح وأين أوشك أن ُيؤ َذنَ يل يف اخلروج‪ ،‬فأخرج فأسري يف األرض‬ ‫‪ .5‬‬

‫أدع قري ًة إل هبطتها يف أربعني ليلة غري مكة وطيبة فهام حمرمتان ع ّ‬
‫يل كلتامها»‪.‬‬ ‫وال ُ‬
‫‪ .6‬قال رسول اهلل ﷺ وطعن بمخرصته‪« :‬أل إنه يف بحر الشام أو بحر اليمن ال بل من‬
‫قبل املرشق ما هو‪ ،‬وأوحى بـيده إىل املرشق» (((‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ال فِ�ي ك ُِّل َب َلدْ‬ ‫�ن َخ َط ِر الدَّ َّج ِ‬
‫َع ْ‬ ‫مص َط َفى فِ ْي َما َو َر ْد‬ ‫َو َقدْ َأ َش َ‬
‫�ار ا ُل ْ‬
‫ْ�ذ ُر ْوا‬ ‫ألنَ�ا ِم َأن َ‬‫الم ِس� ْيخِ لِ َ‬ ‫�ن َ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬ ‫�ذ ُر ْوا‬‫�اء َح َّ‬ ‫و َأ َّن ك َُّل األَ ْنبِـي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫�خ َق ِ‬ ‫و َأ َّن م�ا ِم�ن فِ ْتن ٍ‬
‫�اد ُم‬ ‫�ي َم ْس ٌ‬ ‫عي�ش إِلاَّ َو ْه َ‬‫َي ُ‬ ‫َ�ة َوآ َد ُم‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫���ة ُم��ثِ�� ْي��ر ْة‬
‫���ادم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ل��ف��تْ��نَ��ة َق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫اع�دَ الخَ طِ ْي�ر ْة‬ ‫ت ََؤس�س ال َقو ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ ُ‬
‫اب آ َد ِمي‬ ‫�ق َو َخ َ�ر ِ‬ ‫َم�ا َبـ ْي�ن فِ ْس ٍ‬ ‫ات األُ َم� ِم‬ ‫�ك فِ ْي َه�ا َع َش َ�ر ُ‬ ‫َي ْهلِ ُ‬

‫((( مجيعها رواه أمحد ومسلم عن فاطمة بنت قيس‪ ،‬اهـ «كنز العامل» (‪ )289 :14‬ثم قال‪ :‬قال الشيخ جالل‬
‫الدين السيوطي ريض اهلل عنه يف قسم األفعال‪ :‬زاد الطرباين يف آخر هذا احلديث‪ :‬بل هو يف بحر العراق‪،‬‬
‫خيرج حني خيرج من بلدة يقال هلا أصبهان من قرية من قراها يقال هلا رستقاباد ‪ ،‬وخيرج حني خيرج عىل‬
‫مقدمته سبعون ألفا عليهم التيجان‪ ..‬إىل آخر احلديث‪ ،‬ويف سياق األحاديث إشارة إىل أن تعدد مواقعه‬
‫التي يتحرك فيها‪ ،‬فحينا يف بحر الشام وحينا يف بحر اليمن‪ ..‬وحينا قبل املرشق حيث أشار صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪416‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ال َحتَّى فِي ال َك َف ْن‬
‫ن ََجا ِم َن الدَّ َج ِ‬ ‫�ن ن ََج�ا َبـ ْي َن َيدَ يه�ا َوا ْط َم َأ ْن‬
‫َف َم ْ‬
‫ح�د ِه‬
‫ف�ي َل ِ‬ ‫ُ�ن ِ‬ ‫�و َيك ْ‬ ‫ُي َع ِّذ ُب ْ‬
‫�و ُه َل ْ‬ ‫ي َو ْع ِد ِه‬ ‫ى فِي َم َه ِ‬
‫�او ْ‬ ‫َ�ر َّد ْ‬
‫�ن ت َ‬
‫َو َم ْ‬
‫يشري الناظم يف هذه األبـيات إىل خطورة املسيخ الدَّ جال ذات ًا وفكر ًا ومرحل ًة‪ ،‬وقد سبق‬
‫تناول َشتَى املواضيع عن ذلك‪ ،‬وبقي النظر يف بعضها من مثل نجاة من نجا مما قبلها‪ ،‬قال‬
‫ﷺ‪« :‬لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة املسيخ الدجال‪ ،‬ولن ينجو أحد من مثلها إل نجا‬
‫وم يف ُق ُبو ِر ِهم»(((‪.‬‬
‫آلمن بِ ِه َق ٌ‬
‫جال َ‬‫املسيخ الدَّ ُ‬
‫ُ‬ ‫منها»(((‪ ،‬وحلديث‪َ « :‬لو َخ َ‬
‫رج‬
‫ويف هذا احلديث إشارة واضحة إىل خطورة العذاب عىل كافة أعوان املرحلة الدَّ جالية‪،‬‬
‫فاإلشكال ليس يف خروج الدَّ جال؛ ولكن اإلشكال األعظم يف أثر فتنته ورؤيته الفكرية‬
‫ومشاريعه العاملية يف تاريخ املسرية البرشية‪ ،‬وهي التي تسبق مرحلة ظهوره كذات‪ ،‬وهي مرحلة‬
‫بروز دور الدجاجلة‪ ،‬ومنهم الذين ادعوا النبوة‪ ..‬سواء كانت دعوى رسالة أم دعوة انحراف‬
‫فكري ضد مسرية احلق الرشعي‪ ،‬ويؤيد ذلك ما أورده صاحب «الفتح» يف رشح البخاري عند‬
‫حديث‪« :‬وحتى ُيبعث دجالون قريب من ثالثني ك َّلهم َي ْز ُعم أنه رسول اهلل‪.(((»..‬‬
‫قال يف الرشح‪ :‬وحيتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثالثني أو نحوها‪،‬‬
‫وأن من زاد عىل العدد املذكور يكون كذاب ًا فقط لكن يدعو إىل الضاللة كغالة الرافضة والباطنية‬
‫وأهل الوحدة واحللولية وسائر ِ‬
‫الفرق الدَّ اعية إىل ما يعلم بالرضورة أنه خالف ما جاء به حممد‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ويؤيد أن يف حديث عيل ؤ عند أمحد‪« ،‬فقال عيل ريض اهلل عنه لعبد اهلل بن‬

‫((( رواه أمحد والبزار ورجاله رجال الصحيح عن حذيفة بن اليامن‪ ،‬ومتام احلديث ‪« :‬وما صنعت فتنة منذ‬
‫كانت الدنيا صغرية وال كبري ة إلاَّ لفتنة الدجال» «جممع الزوائد» (‪.)335 :7‬‬
‫((( رواه ابن أبـي شيبة عن حذيفة بن اليامن‪.‬‬
‫((( رواه البخاري ومسلم وأمحد وأبو داود والرتمذي عن أيب هريرة‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪417‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫النبوة وإنام كان يغلو يف الرفض(((‪.‬‬
‫يدع ّ‬ ‫ا ْل َك َّواء‪ :‬وإنك ملنهم» وابن الكواء مل ِ‬
‫ويفهم من األحاديث املتنوعة أن الدَّ جال أحد النامذج اآلتية‪:‬‬
‫ٌ‬
‫موثق بسبعني حلقة يف بعض جزائر اليمن‪ ،‬وهذا القول ‪-‬كام قال احلافظ‪-‬‬ ‫ٌ‬
‫شيطان‬ ‫‪ -1‬‬
‫لعل أصحابه تلقوه من بعض كتب أهل الكتاب‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن صياد الذي احتار يف أمره ﷺ ومل يؤمر بقتله‪ ،‬وحيلف بعض الصحابة أنه‬
‫الدَّ جال‪.‬‬
‫‪ -3‬صاحب اجلساسة املحبوس يف اجلزيرة كام ذكره متيم الداري لرسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫‪ -4‬أحد ولد شق الكاهن أو شق الكاهن نفسه(((‪ ،‬قال احلافظ‪ :‬وهذا ٍ‬
‫واه جد ًا‪.‬‬
‫وغاية ما جيمع به بـني ما تضمنه حديث متيم وكون ابن صياد هو الدجال‪ :‬أن الذي شاهده‬
‫متيم موثق ًا هو الدَّ جال بعينه‪ ،‬وأن ابن صياد َش ْي َط ٌ‬
‫ان له َظ َهر يف صورة الدَّ جال يف تلك املدة التي‬
‫قدر اهلل تعاىل خروجه فيها‪ ،‬واهلل أعلم‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬هو قابيل بن آدم‪ ،‬وليس يف هذا القول‬
‫ما يصح‪.‬‬
‫السامري صاحب موسى هو‬
‫‪ -5‬وهناك قول آخر ذكرته بعض املصادر احلديثة وهو أن َّ‬
‫الدَّ جال بعينه‪ ،‬ودليل ذلك أن موسى مل يقدر عليه عندما َد َعا بني إرسائيل لعبادة ِ‬
‫العجل بل قال‬
‫له‪( :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ )‪ ،‬ومل يقتله إشارة إىل أن الدجال له موعد قادم يقتل فيه‪ ،‬كام قال‬
‫ﷺ لعمر بن اخلطاب «إِنْ َي ُك ْن ُه فلن ُت َس َّل َط ِ‬
‫عليه»‪ .‬وسنتناول هذه الرؤية بتفصيل الحق‪.‬‬
‫حكمة ٌ‬
‫إهلية تتالءم مع‬ ‫ٌ‬ ‫وكل هذه األقوال املتضاربة كام هي يف النصوص ال شك أن وراءها‬

‫((( «فتح الباري» (‪.)93 :13‬‬


‫((( قال يف «اإلشاعة»‪ :‬يقال‪ :‬إن الدَّ جال من ولد ِشق الكاهن‪ ،‬وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها شق ًا‪،‬‬
‫وكان الشيطان يعمل له العجائب‪ ،‬فأخذه سليامن عليه السالم فحبسه يف جزيرة من اجلزر؛ ولكن هذا‬
‫القول ٍ‬
‫واه ال يعتمد عليه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪418‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫جزء من ال َّتمويه الرشعي الذي يخُ في به اهلل َم َعالـم َ‬
‫احلدث‬ ‫احلدث ذاته‪ ،‬وأن اختالف األقوال ٌ‬
‫ويصعب به التمييز حتى يقيض اهلل أمر ًا كان مفعو ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وهلذا فإن اجلدل يف هذه املسائل ال خيدم اهلدف املرجو من ذكر اآلية بقدر ما يظلم القلب‬
‫ُ‬
‫والشأن كل الشأن يف اإليامن باحلدث‬ ‫ويشوش صفاء الذهن‪ ،‬ويزيد يف ضبابـية اإلفصاح‪،‬‬
‫ووقوعه يف الساعة التي هيأها اهلل هلا وبالصورة التي وضعها اهلل يف عجائب خملوقاته‪.‬‬
‫واملتأمل هلذا اإلغراب يف وصف األحداث ِ‬
‫العظام يرى اإلغراب يشمل أغلب آيات الساعة‬
‫ُ‬
‫فالعقل اإلنساين ال يملك القول الفصل‬ ‫كاملهدي املنتظر ويأجوج ومأجوج والدابة وغريها‪،‬‬
‫وإنام يمتلك َع ْرض النصوص وفق حدود املعقول واملنقول والعلم ِ‬
‫بـيد اهلل (ﯞ ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ )‪ ،‬وأهم ما نحن بصدد بعد عرض النصوص أن نعلم خطورة املراحل التي‬
‫هتيء ملرحلة ظهور الدجال وكشف مالبساهتا وتبـني ثغراهتا خلطورة الوقوع فيها‪.‬‬
‫قال الناظم‪((( :‬‬
‫�ة ُتز ِْع ُج� ُه َف َي ْظ َه َ�را‬
‫َضب ٍ‬
‫�ن غ ْ َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫الم ْص َط َف�ى َو َح َّذ َرا‬
‫ُث َّم ْاس� َت َعا َذ ُ‬
‫الل�ه ُذكِ ْر‬
‫�د ِمن ِ‬
‫َ‬
‫ي ْأتِ�ي ع َل�ى وع ٍ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْل َفه�و م ْق�دُ ور ُق ِ‬
‫�د ْر‬ ‫ي َش�ك ٍ ْ َ َ ْ ٌ‬ ‫بِ َ‬
‫�أ ِّ‬
‫إشارة إىل ظهور الدَّ جال واكتساحه العامل يف غضبة َيغْ َض ُبها‪ ،‬وهنا َم ْل َح ٌظ هام أرشنا إليه‬
‫فالظهور املشار إليه غري متصلٍ بدوام آثار فتنته العاملية‬
‫ُ‬ ‫سلف ًا‪ ،‬وهو ظهور املسيخ الدَّ جال‪،‬‬

‫((( ظهور الدَّ جال يأيت متأخر ًا عن ظهور اإلمام املهدي‪ ،‬وقد بـينت ذلك دالالت األحاديث النبوية ؛ ولكن‬
‫س بـني مسريات ِ‬
‫الفتن؛‬ ‫سياق ِ‬
‫الفتن املتالحق منذ عهد آدم إىل َفنَاء الدَّ جال جتعل مرحلة املهدي مرحلة تن ّف ٍ‬
‫بل وتكون هي ا ُهلنَيهة األخرية لغضبته التي يغضبها فيخرج‪.‬‬
‫وقد أشار بعض العلامء إىل أن سبب غضبته هي عودة اخلالفة اإلسالمية إىل العامل وسقوط القسطنطينية ثم‬
‫سقوط دول العامل بأيدي املسلمني شيئا فشيئا‪ ،‬فعندها يكرش الدجال عن أنيابه وما علم أن ظهوره فيه‬
‫هنايته‪.‬اهـ «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.123‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪419‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫التارخيية؛ بل إن «اهلنيهة» التي يظهر بعدها اإلمام املنتظر يمأل األرض َعدْ ًَ‬
‫ال كام ُملئت َجور ًا‬
‫تقطع متام ًا بـني ظواهر الفتن املتالحقة وبـني ما يأيت من ظهور املسيخ الدَّ جال‪ ،‬وكأ ِّنـي هبذه‬
‫الفرتة القصرية يف ُعمر الدنيا ال تتجاوز املتنفس للناس كام هو يف عرص عمر بن عبدالعزيز الذي‬
‫ُأقيم فيه َ‬
‫العدل مدى سنتني فقط أو قريب ًا منها وعاد تيار امللك املعضوض‪ ،‬وهلذا كان تناولنا‬
‫للدجال والدجل وكذلك الدجاجلة قبل تناولنا املوضوع املتنظر لعاملية فتنة الدجال وطول‬
‫حوالت‪.‬‬
‫استمرارها‪ ،‬حتى صارت قاعدة احلركة يف بعض أزمنة ال َّت ُّ‬
‫ويشري الناظم إىل هذه َ‬
‫الغ ْض َبة التي يغضبها الدَّ جال نتيجة مراقبته ما َيدور يف العالـم من‬
‫انتصارات لإلسالم عىل يد اإلمام املهدي وجيوشه‪ ،‬فيبدأ ُطوفا ُن ُه َ‬
‫العارم أربعني يوم ًا تنشط فيها‬
‫خالياه الدَّ جالية الكافرة‪ ،‬و َتبرْ ُ ُز فيها عىل سطح املدن والقرى عفونة التيارات واجلامعات التي‬
‫كان وجودها يف العامل عىل نزغات مدرسته املنحرفة‪ ،‬وتهَ ُّب العقليات املركبة من زخم الرصاع‬
‫والنـزاع والطبقية والعرقية ل ُتساند ُحر َّية املنطلقات الدَّ جالية حاملة لواء الربنامج العاملي حلرية‬
‫اإلنسان املمسوخ‪ ،‬وتبدأ املعارك ‪-‬كام سيأيت الحق ًا يف حديثنا‪ -‬عن اإلمام املنتظر ومالمحه‪،‬‬
‫وظهور عيسى عليه السالم وكيف ينتهي الدَّ جال عيل يديه‪.‬‬
‫�و َو َي ِف ْ�ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َل ْي�ه بِاآل َي�ات َين ُْج ْ‬ ‫�ن َرآ ُه َأ ْو َأتَ�ا ُه َف ْل ُي ِش ْ�ر‬‫َف َم ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫�ف َف ِف ْي َها َم ْأ َمنُ ْه‬
‫ِمن س�ور ِة الكَه ِ‬
‫َوالح ْف ُظ م ْن َم ْولاَ َ‬
‫ي َح َّق ًا ت َْض َمنُ ْه‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َْ‬
‫�اد َع َملِ� ْه‬
‫وم�ا يس�ود ِم�ن َفس ِ‬
‫ََ َ ُ ْ ُ ْ َ‬ ‫ى ِم ْن ِح َيلِ ْه‬‫ب َما ت ََر ْ‬ ‫َوا ْن ُظ ْر َع ِ‬
‫ج ْي َ‬
‫ِش� َع ُار َها ال َّتزْيِ ْي ُ‬
‫�ف َوالخَ اَل َع� ْة‬ ‫ى َخدَّ ا َع ْة‬ ‫ال�و َر ْ‬
‫ين في َ‬
‫وكَم ِس�ن ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫يشري الناظم إىل ما يفعله الدجال مع ظهوره من التموهيات واإلغراءات وانفعاالت الظواهر‬
‫كام ورد يف احلديث من أن الدجال يبعث معه من الشبهات ويفيض عليها من التموهيات ما‬
‫يسلب ذوي العقول عقوهلم‪ ،‬وخيطف من ذوي األبصار أبصارهم‪ ،‬ويكون الصعود يف املعارج‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪420‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫التي يتوصل هبا إىل السامء واألسباب املوصلة إىل أقطار األرض والسابقة يف سفرها الشمس‬
‫إىل مغرهبا‪ ،‬واألقامر الصناعية والتلفاز واإلنرتنت يف نقل األخبار وصورها وتركيب الصور‬
‫واألفالم لترُ ى بأهنا حقائق من تصورات اإلنس واجلن‪ ،‬وال خفاء أنه سحر السحرة‪ ،‬خييل‬
‫للناس قتل إنسان وإحياؤه كام يدعيه‪ .‬اهـ ص‪« 121‬ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ‪.‬‬
‫ويف عهد الدجال جيتمع اإلنس واجلن عىل العمل الكوين املشرتك بحيث يقومون مجيعا‬
‫بغزو الفضاء الكوين حتقيقا ملا قاله تعاىل يف سورة الرمحن‪( :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) وتشري اآلية إىل العمل املشرتك‬
‫بني اجلن واإلنس‪ ،‬كام تشري اآلية األخرى إىل هزيمة الفريقني معا (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ) ‪.‬‬
‫وهذا ما جيعل الدجال وخربه يف تاريخ الرسالة اإلسالمية خربا عظيام وخطريا منذ عهد‬
‫صاحب الرسالة صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪ ،‬وفيه يقول صىل اهلل عليه وآله وسلم فيام روي‬
‫وتفهموه وتعوه‪ ،‬فاعملوا عليه وحدثوا به من‬
‫عن حذيفة‪« :‬إنام حدثتكم هذا لتعقلوه وتفهموه ّ‬
‫خلفكم‪ ،‬وليحدث اآلخر اآلخر‪ ،‬فإن فتنته أشد الفتن» أخرجه نعيم بن محاد‪.‬‬
‫واخلطر كل اخلطر يف فتنته‪ ،‬وهي سلسلة االنحرافات املتالحقة التي ينفذ هبا منهج الكفر‬
‫يف األمة ويزين بالوسائل واإلغراءات والعلوم النظرية واستدراج عقول الشعوب واحلكام‬
‫والرجال والنساء هبا وبالدعاية املادية هلا وحماربة الفضائل واألخالق الرشعية والتقليل من‬
‫شأهنا وإثارة الكوامن والغرائز والطباع كي ترسف يف نيل الرغبات واالمتالك ملظاهر الدنيا‬
‫والشهوات من احلرام‪ ،‬وتتحقق رغبات الشيطان يف إفساد ذرية بني آدم واحتناكهم للرش‬
‫ووسائله‪ ،‬حتى يكونوا من أصحاب السعري‪ ،‬والسعري يف معناه املعروف املصري األخري جلهنم‪،‬‬
‫ويف معنى آخر السعري من التسعري وهو اإلثارة والتحريش‪ ،‬فحزب السعري حزب شيطاين‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪421‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫أنوي يتاثر بالقوى اإلبليسية فيعمل عىل إثارة األفراد واألرس والشعوب ومحلة القرار لتامرس‬
‫القتل واهلتك والقطيعة والعقوق والشتم واللعن والسخرية وغريها من وسائل التحريش‬
‫الشيطانية‪ ،‬سواء يف املسلم إلخراجه من دائرة إسالمه الصحيح‪ ،‬أو الكافر الستخدامه يف دائرة‬
‫الكفر الرصيح‪ ،‬قال تعاىل يف سورة مريم‪( :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) ‪.‬‬
‫فالدّ ّجال‪ُ ..‬م َر ِّو ُج الكف ِر يف العامل هو املخلوق اإلنساين املتحالف عىل هذا املرشوع مع‬
‫الشيطان‪ ،‬والضحية هو اإلنسان مسلم وكافر‪ ،‬واخلالص من هذا كله االلتزام بمنهج الرمحن‬
‫وإثارة مبدأ العداوة للكفر والدجال والشيطان (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ) نسأل اهلل احلفظ‬
‫والسالمة‪.‬‬
‫َّ�ى ن َْأ َمنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن َْس َ‬
‫ح ْف َظ� ًا م َ‬
‫�ن الدَّ َّجال َحت ْ‬ ‫�أ ُل َم ْولاَ نَ�ا الك َِر َ‬
‫ي�م َر َّبنَ�ا‬
‫هذه األبـيات تكملة موضع املسيخ الدجال‪ ،‬وفيها اإلشارة إىل ما ينبغي أن يفعله املؤمن‬
‫ليحفظه اهلل من فتنة املسيخ الدجال‪ ،‬وأيض ًا دعوة للنظر يف كتب السنة من كل مسلم لريى‬
‫أعاجيب األخبار املقررة عن مرحلة الدجال وفتنته وما يسبقه من اخلداع والتزييف واخلالعة‪،‬‬
‫نسأل اهلل لنا وللمسلمني السالمة ظاهر ًا وباطن ًا‪ ..‬آمني(((‪.‬‬

‫((( سيأيت تفصيل مهم عن شخصية الدجال عند مرحلة ظهوره يف آخر عهد اإلمام املنتظر‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪422‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وظهور الدَّجّ ِ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫القة بني حَ رْ ِ‬
‫ش بَنِي إرسائي َل يف فِ َل ْس ِط َ‬ ‫العَ ُ‬

‫ذكر بعض الباحثني املعارصين أن من عالمات اقرتاب موعد خروج الدجال جتمع هيود‬
‫العامل يف فلسطني‪ ،‬وهو ما أطلق عليه يف القرآن والسنة (احلرش) يف أول سورة احلرش (ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) قال قتادة رمحه اهلل‪ :‬وهذا أول احلرش‪،‬‬
‫واحلرش الثاين نار حترشهم من املرشق إىل املغرب‪.‬‬
‫وأخرج عبدالرزاق يف مصنفه يرويه عن معمر عن قتادة قال‪« :‬خترج نار من مشارق األرض‬
‫تسوق الناس إىل منازهلا‪ ،‬تسوق الناس سوق الربق‪ ،‬تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث‬
‫باتوا‪ ،‬وتأكل من ختلف» ‪.‬اهـ‪.‬‬
‫قال الشارح ‪ :‬ومعنى (سوق الربق) كناية عن الطريان برسعة‪ ،‬وعند قوله صىل اهلل عليه‬
‫نار حترشهم من املرشق إىل املغرب» قال الباحث حممد‬
‫الناس ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حيرش‬ ‫ٍ‬
‫يشء‬ ‫وآله وسلم ‪ُ « :‬‬
‫أول‬
‫عصام ‪ :‬قلتك ويؤيد ذلك ما ذكر (وايزمان) يف مذكراته عن مجعية عشاق صهيون‪ :‬إن احلركة‬
‫الصهيونية يف حقيقتها وجوهرها نشأت يف روسيا‪ ،‬وكان هيود روسيا العمود الفقري للكيان‬
‫الصهيوين يف فلسطني ‪.‬اهـ‪.‬‬
‫وأخرج البخاري يف صحيحه واإلمام أمحد يف مسنده عن أنس‪ :‬أن عبداهلل بن سالم بلغه‬
‫مقدم النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم املدينة‪ ،‬فأتاه فساله عن أشياء قال‪ :‬إين سائلك عن أشياء‬
‫ال يعلمها إال نبي ‪ ،‬فال‪ :‬ما أول أرشاط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل اجلنة؟ وما بال الولد‬
‫ُ‬
‫جربيل‬ ‫هبن‬
‫ينزع إىل أبيه والولد ينزع إىل أمه؟ قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬أخربين ّ‬
‫آنف ًا» ‪ ،‬فقال عبداهلل بن سالم‪ :‬فذاك عدو هيود من املالئكة‪ ،‬فقال صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪« :‬أما‬
‫فنار ُ‬
‫حترشهم –أي‪ :‬اليهود‪ -‬من املرشق إىل املغرب‪ ..‬إلخ» ‪.‬‬ ‫أول أرشاط الساعة ٌ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪423‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وتكون كلمة (احلرش) عىل هذا املعنى (اجلمع) ‪ ،‬واملراد به مجعهم بالشام قبل يوم القيامة‪.‬‬
‫اهـ ص‪« 25-22‬ظهور املسيخ الدجال» ‪.‬‬
‫كام فرس الباحث املذكور مفهوم الدابة يف القرآن بمفهوم استقرائي آخر‪ ،‬وهو ما يربز من‬
‫خمرتعات املراحل من وسائل النقل الرسيعة فقال‪ :‬وثبت يف الصحيح أن احلرش الثاين هو‬
‫سوقهم بالنار أحياء إىل الشام قرب يوم القيامة‪ ،‬كام ذكره القايض عياض رمحه اهلل يف كتابه‬
‫«مشارق األنوار» وعربت السنة املطهرة عنه باحلرش‪ ،‬فيتطابق مع ما سمى اهلل باحلرش ملا وقع‬
‫ليهود بني النضري‪ ،‬وهبذا يقوى االحتامل بأن ما خلق اهلل من خمرتعات كائنة من األرض تسوقها‬
‫النار أهنا الدابة املذكورة يف قوله تعاىل‪( :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ)‬
‫ويفرسها من وجهة نظر الباحث قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم الذي أخرجه أمحد يف مسنده‬
‫سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫عن عبداهلل بن عمرو ريض اهلل عنهام قال‪:‬‬
‫رشار أهلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫هجرة إىل مهاج ِر أبيكم إبراهيم حتى ال يبقى يف األرض إال‬ ‫لتكونن هجر ٌة بعد‬
‫ّ‬ ‫«‬
‫النار مع القردة واخلنازير‪َ ،‬ت ِق ُ‬
‫يل حيث‬ ‫َ‬
‫وحترشهم ُ‬ ‫روح الرمحن‬
‫ذرهم ُ‬ ‫و َت ْل ِف َظ ُهم َأ َر ُض ُ‬
‫وهم و َت ْق َ‬
‫وتبيت حيث َيبِي ُتون‪ ،‬وما سقط منهم فلها» ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َي ِقي ُلون‬
‫قال الباحث يف تفسري احلديث‪« :‬حترشهم النار مع القردة واخلنازير ‪،‬أي ‪ :‬مع اليهود ‪،‬‬
‫وقد وقع الغيب الذي أخرب عنه صىل اهلل عليه وآله وسلم بإطالع اهلل له عليهم‪ ،‬فإنه بانتشار‬
‫اإلسالم يف األرض انقطعت مساعي الصهيونية قبل اإلسالم يف العودة إىل فلسطني وانعدمت‬
‫مشاريعهم إىل قبيل القرن املايض‪ ،‬وتركزت جهودهم يف تثبيت فكرة العودة إىل فلسطني حتى‬
‫القرن العارش‪ ،‬ثم عاودوا نشاطهم للعودة فكانوا كام أخرب عنهم صىل اهلل عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫قرن ُق ِط َع‪ ،‬وكلام ُق ِط َع َق ْر ٌن َن َش َأ َق ْر ٌن» أكثر من عرشين مرة‪.‬‬
‫«كلام َخ َر َج ٌ‬
‫يتحقق ذلك من توارخيهم والكتب املؤلفة يف هذا الشأن حتى قبيل ظهور النار احلارشة‪،‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪424‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وذلك يف القرن التاسع عرش امليالدي‪ ،‬فواصلوا مساعيهم واستعملوا وسائلهم املتنوعة‬
‫من أجل استيطان فلسطني‪ ،‬وأعلنت انكلرتا محايتها لليهود املقيمني يف فلسطني‪ ،‬وتأسست‬
‫عرشات اجلمعيات وبذلوا اآلالف املؤلفة من األموال‪ ،‬ونافقوا بإظهار اإلسالم وقرؤوا القرآن‬
‫وتسللوا إىل فلسطني لوذا باإلسالم‪ ،‬وكثري من أحبارهم ورهباهنم متذهبوا بغري اليهودية‬
‫وزاروا فلسطني ليتمكنوا من خدمة اليهود من وراء ستار‪ ،‬واشرتوا هلا األرايض الواسعة‬
‫واملزارع الضخمة للحمضيات واستخدموا لإلرشاف عليهاعامال من اليهود فقط‪ ،‬ثم بنوا يف‬
‫القدس مساكن خاصة باليهود عرفت باملستعمرات‪ ،‬ثم يف غريها من البلدان والقرى‪ ،‬وصاروا‬
‫يتسللون واستقروا هبا كأفراد خاضعني لنظام الدولة العثامنية‪.‬‬
‫وبعد املذابح الكثرية التي نزلت هبم يف روسيا سنة ‪ 1300‬هـ قاموا بإنشاء مجعية تدعى‬
‫(عشاق صهيون) واهلدف منها ترحيل اليهود لفلسطني من هيود الرشق‪ ،‬وسموها اهلجرة‬
‫األوىل‪ ،‬وأنشؤوا هلا املستعمرات الزراعية بالقرب من مدينة يافا‪ ،‬ثم أسسوا احلزب الشيوعي‬
‫ومتادوا فيه وكانوا قادة الشيوعيني‪ ،‬كام كانوا رشار أهل األرض وأثاروا احلامس إلعادة بناء‬
‫دولة إرسائيل‪ ،‬واستجاب هلم الرشق والغرب قاصدين من هذه االستجابة إبعادهم عن‬
‫ديارهم واخلالص منهم للجاجهم وحتكمهم يف كل مرافقهم‪ ،‬وإىل هذا كله أشار احلق سبحانه‬
‫يف سورة األعراف‪( :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) ‪.‬‬
‫أرض شرِ َ ُار‬
‫ٍ‬ ‫وظهرت النار احلارشة ف َل َف َظ ْت ُهم َأ َر ُضوهم كام يف احلديث‪« :‬و َي ْب َقى يف ُك ِّل‬
‫وه ْم» أي‪ :‬تقذفهم وترميهم‪ ،‬فنبذهتم الدول واألمم والشعوب يف األرض‬ ‫َأ ْه ِلها َت ْل ِف ُظ ُه ْم َأ َر ُض ُ‬
‫كلها وحاربتهم وأقصتهم من بالدهم‪ ،‬فأصبحوا مضطهدين يف العامل بأرسه ‪ ،‬وكام قال تعاىل‪:‬‬
‫(ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) أي‪ :‬إذا جاءت‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪425‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫هنايتهم أتينا هبم مجاعات مجاعات من بالد شتى حمشورين لفلسطني تدفعهم النار‪ ،‬أي‪ :‬وسائل‬
‫املواصالت النارية احلديثة‪ ،‬وحترشهم مع القردة واخلنازير‪ ،‬وقد أشار النبي صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم هبذا االسم إىل اليهود كام جاء عند أمحد يف مسنده‪ :‬إن النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم ملا‬
‫ِ‬
‫القردة واخلنازي ِر» ‪ ،‬وأما قوله يف احلديث‪« :‬وما َس َق َط منهم‬ ‫َ‬
‫إخوان‬ ‫أتى بني قريظة قال هلم‪« :‬يا‬
‫فلها» أي‪ :‬إهنا حترش املرأة والسقط والشيخ الفاين واملريض املرشف عىل املوت‪ ،‬وكون أهنا تأكل‬
‫َ‬
‫واألموال» أي‪ :‬إن هذه الوسائل كالطائرات‬ ‫األنفس‬
‫َ‬ ‫ف فهو كام يف احلديث بعد « َت ْأ ُك ُل‬
‫من تخَ َ َّل َ‬
‫وغريها ذات أثامن باهظة‪ ،‬ونتيجة للدهس واالصطدام الكوارث يموت من بداخلها ‪-‬يف‬
‫بطنها‪ -‬بني رأسها وذنبها كام هو عند احلاكم عن عبداهلل بن عمرو ريض اهلل عنه يف وصف دابة‬
‫دابة األرض ترسي إليهم‪ ..‬فيصبحون وقد َج َع َل ْتهم بني رأسها وذنبها»‬
‫تبيت ُ‬
‫األرض قال‪ُ « :‬‬
‫وهو ما يعرف هبيكل الطائرة ما بني مقدمتها ومؤخرهتا‪ .‬اهـ «ظهور املسيخ الدجال» ص‪-30‬‬
‫‪.35‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪426‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫اإلمام ا ُمل ْن َتظر‬
‫ُ‬
‫»‬ ‫«ال يخَ ْ ُر ُج املَ ْه ِد ُّي َح ّتى َي ْب ُص َق َب ْع ُض ُك ْم يف َو ْج ِه َب ْع ٍ‬
‫ض‬

‫»‬ ‫«ال يخَ ْ ُر ُج املَ ْه ِد ُّي َح ّتى ُي ْقت ََل ُث ُل ٌث و َي ْم َ‬


‫وت ُث ُل ٌث و َي ْب َقى ُث ُل ٌث‬
‫«الفتن» لنعيم بن محاد ص‪ 333‬عن عيل كرم اهلل وجه‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪427‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪428‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ُّالت عَ هْ ِد اإلمام ا ُملنْتَظر‬
‫تَحو ُ‬

‫إلمام ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس�ا َع ِة‬ ‫ات ا ْقتِ َر ِ‬


‫و ِم�ن ع اَلم ِ‬
‫�ة‬ ‫َخل ْي َف� ٌة َي ْع�د ُل ف�ي ا ِ َ َ‬ ‫اب َّ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫�ق َق�دْ َج�اء فِ�ي النُّ ُق ِ‬ ‫الر ُس ْو ِل‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫�ول‬ ‫َ‬ ‫ُم َح َّق ٌ‬ ‫الم ْص َط َفى َّ‬‫م ْن آل َبـ ْيت ُ‬
‫تَصونُ�ه ع�ن صو َل ِ‬
‫�ة ال ُك َّف ِ‬
‫�ار‬ ‫�ار فِ�ي اآل َث ِ‬
‫�ار‬ ‫�و ُه األَ ْخ َب ِ‬
‫ُ ْ ُ َ ْ َ ْ‬ ‫ُم َم َّ‬
‫يشري الناظم إىل مرحلة عظيمة األمن واألمان‪ ،‬وستأيت يف الحق الزمان‪ ،‬يكون فيها سيادة‬
‫العدل واالنتصاف وحثي املال عىل الناس بالتساوي لتغطية احلاجة املاد ّية‪ ،‬ولكن هذه املرحلة‬
‫ٍ‬
‫وحروب‬ ‫وه ْر ٍج و َم ْر ٍج‬ ‫ٍ‬
‫وحتوالت َ‬ ‫املعرب عنها بعهد اإلمام املنتظر تربز يف هذا العامل عىل أثر ِف ٍ‬
‫تن‬
‫والو َهن وأحزاهبا وتكتالهتا عاجزة عن رسم حلول ألوبئة‬
‫الغثاء َ‬ ‫ك و َب ٍ‬
‫الء‪ ،‬وتكون أنظمة ُ‬ ‫وه ْت ٍ‬
‫َ‬
‫الواقع وتداعياته‪ ،‬إذ هي أنظمة إعالمية وشبه إسالمية متخر عباب برامج الدجل والدجاجلة‬
‫الكفر َ‬
‫والكافر‪.‬‬ ‫وترزح حتت َنيرِّ ُ‬

‫الع ْر ِقي من آل بـيت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وكأ َّنه َعود عىل‬


‫ويأيت اإلمام من بـيت رشيف يف تركيبه ِ‬

‫الذل وا َهلوان ذكر أخبار آل البـيت النبوي‪ ،‬وشككت مرقوماهتا‬


‫بدء بعد أن لفظت جمتمعات ُّ‬

‫ومعلوماهتا يف علمهم وعقائدهم‪ ،‬وصنعت مقابل ذلك رصاع ًا أنوي ًا يف قضايا الوالء والرباء‬
‫بام فيها قضية آل البيت حتى مل يعد يف جمتمعات املسلمني من يطمئن ملسألة الوالء واحلب‪ ،‬ملا‬
‫الع ْن َجهية‬
‫شاب األمر من اخللط واخلبط والتسييس واإلثارة‪ ،‬وفجأة تأيت آيات اهلل إلخضاع َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ (((‬
‫وتناقض‬ ‫وقلق‬ ‫اإلنسانية املستبدة لتعلم أن وعد اهلل حق‪ ،‬ويكون بروز هذا اإلمام بعد متويه‬

‫((( قوله‪« :‬بعد متويه» إشارة إىل ما يشتغل به الباحثون والعلامء عادة من االختالف حول النص املعرب عن‬
‫عالمات املهدي وأرسته ولونه وموقع خروجه‪ ،‬ومتى خيرج ومظاهر عالمات خروجه‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪429‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الرابعة‪.‬‬ ‫الفتن ِ‬
‫بالف ْتنَة َّ‬ ‫أخبا ٍر وآثا ٍر َحدَّ دها رسول اهلل ﷺ يف تاريخ ِ‬

‫وأعتقد ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن الفتنة الرابعة هي املرحلة الفاصلة بـني (مرحلة الدهيامء) وحتوالت‬
‫عرصي اإلمام املهدي واملسيخ الدَّ جال‪ ،‬وقد حتددت بام ييل‪:‬‬
‫ِ لاِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح ْش�دٌ َخط ْي ٌ�ر ْجت َم�ا ٍع َح ْربِ ْ‬
‫ـ�ي‬ ‫ب‬ ‫َ�ر ِ‬ ‫�ن بَِل�اَ د الغ ْ‬‫�و ٌش م َ‬ ‫ت َْأت ْ‬
‫�ي ُج ُي ْ‬
‫الم ْر َح َل ْة‬
‫ض َ‬ ‫ب فِي َع ِر ْي ِ‬
‫ب َو َس� ْل ٌ‬
‫ن َْه ٌ‬ ‫َو َم ْق َت َل� ْة‬ ‫َعظِ ْي َم� ٌة‬ ‫َ�ن‬ ‫ِ‬
‫َوفت ٌ‬
‫وهذه األبـيات تشري إىل مسمى الفتنة الرابعة الواردة يف األحاديث‪ ،‬منها ما ذكره نعيم بن‬
‫محاد يف «كتاب الفتن» عن كعب ؤ قال‪« :‬عالمة خروج املهدي ألوية تقبل من املغرب‬
‫عليها رجل أعرج من كندة»‪ ،‬وعن أبـي هريرة ؤ قال‪« :‬الفتنة الرابعة عمياء مظلمة متور‬
‫مور البحر‪ ،‬ال يبقى بـيت من العرب والعجم إل مألته ً‬
‫ذال وخوف ًا‪ ،‬تطيف بالشام وتغشى‬
‫العراق وختبط اجلزيرة بـيدها ورجلها‪ ،‬تعرك األمة فيها عرك األديم‪ ،‬ويشتد فيها البالء حتى‬
‫ينكر فيها املعروف ويعرف فيها املنكر‪ ،‬ال يستطيع أحد أن يقول فيها‪ :‬مه‪..‬مه‪ ..‬وال يرقعوهنا‬
‫من ناحية إال انفتقت من ناحية أخرى‪ ،‬يصبح الرجل مؤمنا ويميس كافرا‪ ،‬وال ينجو منها إل‬
‫من دعا كدعاء الغريق يف البحر‪ ،‬تدوم اثني عرش عام ًا‪ ،‬تنجيل حني تنجيل وقد انحرست الفرات‬
‫عن جبل من ذهب‪ ،‬فيقتتلون عليها حتى يقتل من كل تسعة سبعة» (((‪.‬‬

‫وهذه االختالفات يف النصوص إنام هي يف حقيقتها رس من أرسار اهلل يف متويه األمر عىل أعداء اإلسالم حتى‬
‫ال جيدوا يف ظاهر النصوص ما يمكن تتبعه بوضوح وتأكد‪ ،‬حتى يظهر أمر اهلل يف حينه‪ ،‬مع أن اآليات‬
‫ب املرحلة ومظاهر بروزها‪ ،‬فقد ورد يف كتاب «الفتن» لنعيم بن محاد ص ‪153‬‬ ‫واملالحظ ت ِ‬
‫ُبينان َهوية ُق ْر ِ‬
‫طبعة املكتبة العربـية ما مثاله‪ :‬عن حذيفة بن اليامن ؤ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬لن تفنى أمتي حتى‬
‫يظهر فيهم التاميز والتاميل واملعامع» فقلت‪ :‬يا نبـي اهلل ما التاميز ؟ قال‪« :‬عصبـية حيدثها الناس بعدي يف‬
‫اإلسالم»‪ ،‬قلت‪ :‬فام التاميل ؟ قال‪« :‬يميل القبـيل عىل القبـيل فيستحل حرمتها»‪ ،‬قلت‪ :‬فام املعامع؟ قال‪:‬‬
‫«مسري األمصار بعضها إىل بعض ختتلف أعناقها يف احلرب»‪.‬‬
‫((( «الفتن» (‪.)239 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪430‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ويف رواية أخرى ألبـي هريرة ؤ‪« :‬الفتنة الرابعة ثامنية عرش عام ًا‪ ،‬ثم تنجيل حني تنجيل‬
‫وقد انحرس الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬تكب عليه األمة فيقتل عليه من كل تسعة سبعة»(((‪.‬‬
‫ويبدو من خالل استقراء األحاديث عن الفتنة الرابعة أهنا متتد حتى يظهر الدجال ال‬
‫يفصل فيها إلاَّ مرحلة اإلمام املنتظر التي حتدد بسنوات خالهلا‪ ،‬فعن حذيفة ؤ قال‪« :‬خيرج‬
‫الدجال يف الفتنة الرابعة‪ ،‬بقاؤه أربعون سنة خيففها اهلل عىل املؤمنني فتكون السنة كاليوم»(((‪.‬‬
‫�ل َتغْ�زُو َل�ه ِ‬ ‫َاء َه�ا َين َْح ِس ُ�ر ال ُف َ�ر ُ‬
‫َ�ات‬
‫الفئ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫�ن َج َب ٍ‬‫َع ْ‬ ‫ات‬ ‫َأ ْثن َ‬
‫�ن َأتَ�ى لِلم ِ‬
‫�ال َوالدِّ ْين ِ‬
‫َ�ار‬ ‫ِ‬
‫م َّم ْ‬ ‫�م تِ ْس� َع ُة األَ ْع َش ِ‬
‫�ار‬ ‫ي ْقت ُ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ�ل من ُْه ْ‬ ‫ُ‬
‫تشري األبـيات إىل ما حيصل من بداية الفتن الكائنة يف املرحلة الرابعة‪ ،‬ومنها انحسار الفرات‬
‫عن جبل من ذهب‪ ،‬كام ورد يف حديث أبـي هريرة ؤ قال‪« :‬يوشك الفرات أن ينحرس عن‬
‫كنـز من ذهب‪ ،‬فمن حرضه فال يأخذ منه شيئا» ويف صحيح مسلم عن أبـي هريرة ؤ قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة حتى ينحرس الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬يقتتل الناس‬
‫عليه‪ ،‬فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون‪ ،‬ويقول كل رجل منهم‪ :‬لعيل أكون أنا أنجو»‪ ،‬وزاد يف‬
‫رواية «إن رأيته فال تقربنه»‪ ،‬ويف رواية «فإن استطعت يا أباهر أن ال تكون منهم فافعل»‪ ،‬ويف‬
‫رواية أخرى ملسلم عن أبـي هريرة ؤ‪« :‬تقيء األرض أفالذ أكبادها أمثال األسطوان من‬
‫الذهب والفضة‪ ،‬فيجيء القاتل فيقول‪ :‬يف هذا َق َت ْل ُت‪ ،‬وجييء السارق فيقول‪ :‬يف هذا ُق ِط َع ْت‬
‫يدي‪ ،‬ثم يدعونه فال يأخذون منه شيئا»‪.‬‬
‫وقد أبرز النبـي ﷺ خطورة الفتنة الرابعة وحدد سلوك املؤمن فيها‪ ،‬كمثل قوله ﷺ عن‬
‫أبـي هريرة ؤ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ ‪-‬وذكر الفتنة الرابعة‪« :-‬ال ينجو من رشها إل من‬

‫((( املصدر السابق (‪.)236 :1‬‬


‫((( املصدر السابق (‪.)555 :2‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪431‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫دعا كدعاء الغريق‪ ،‬أسعد أهلها كل نقي خفي‪ ،‬إذا ظهر مل يعرف‪ ،‬وإن جلس مل يفتقد‪ ،‬وأشقى‬
‫أهلها كل خطيب مصقع أو راكب موضع»(((‪.‬‬
‫وعن أرطأة بن املنذر‪ ،‬قال‪ :‬بلغني أن رسول اهلل ﷺ قال يف الفتنة الرابعة‪« :‬تصريون فيها إىل‬
‫الكفر‪ ،‬فاملؤمن يومئذ من جيلس يف بـيته‪ ،‬والكافر من سل سيفه وأهرق دم أخيه ودم جاره»‪.‬‬
‫وورد أيض ًا عن كعب ؤ قال‪ :‬إذا كانت رجفتان يف شهر رمضان انتدب هلا ثالثة نفر‬
‫من أهل بـيت واحد‪ ،‬أحدهم يطلبها باجلربوت‪ ،‬واآلخر يطلبها بالنسك والسكينة والوقار‪،‬‬
‫والثالث يطلبها بالقتل واسمه عبداهلل‪ ،‬ويكون بناحية الفرات جمتمع عظيم يقتتلون عىل املال‪،‬‬
‫يقتل من كل تسعة سبعة (((‪.‬‬
‫وجاء يف «اإلشاعة» ص‪ 201‬حديث‪« :‬إذا سمع الناس به –أي‪ :‬الكنـز‪ -‬ساروا إليه‪،‬‬
‫واجتمع ثالثة كلهم ابن خليفة‪ ،‬يقتتلون عنده ثم ال يصري إىل واحد منهم‪ ،‬فيقول من عنده‪:‬‬
‫واهلل لئن تركت الناس يأخذون منه ليذهبن كليته‪ ،‬فيقتتلون عليه حتى يقتل من كل مئة تسعة‬
‫وتسعون»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬فيقتل تسعة أعشارهم»‪ ،‬ويف «اإلشاعة» أيض ًا حديث عن خسف آخر يف أثناء‬
‫هذه املرحلة عند معدن من املعادن‪ ،‬وهو حديث ابن عمر ريض اهلل عنهام قال‪« :‬خترج معادن‬
‫خمتلفة‪ ،‬معدن منها قريب من احلجاز‪ ،‬يأتيه أرشار الناس يقال له‪( :‬فرعون) فبـينام هم يعملون‬
‫فيه إذ حرس عن الذهب فأعجبهم معلمه‪ ،‬فبـينام هم كذلك إذ خسف به وهبم» (((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)148 :1‬‬


‫((( املصدر السابق (‪.)291 :1‬‬
‫((( رواه احلاكم وصححه‪« ،‬اإلشاعة» ص‪ ،241‬وأورد صاحب كتاب «هرجمدون‪ ..‬آخر بـيان يا أمة اإلسالم»‬
‫حول هنر الفرات وانحساره‪ :‬روى أبونعيم حديثا برقم (‪ )971‬يبـني أن السفياين حيول هنر الفرات‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقد حدث هذا وتم حفر جمرى جديد للنهر بطول ‪ 650‬كيلومرت وحتول جمرى النهر واألهوار‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪432‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وتتالحق بعد هذا العالمات السابقة ملرحلة املهدي‪.‬‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫َع اَل َمت ْ‬
‫َ�ان‬ ‫َأ َّو ُل� ُه َونِ ْص ُف� ُه‬ ‫�ف ال َبدْ ُر َل َيالِ�ي َر َم َض ْ‬
‫ان‬ ‫َو ُيخْ َس ُ‬
‫فِ�ي َقع�دَ ٍة وحج ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ة َح ْ�ر ٌب َط َما‬ ‫ْ َ َ َّ‬ ‫�و َال َأن َْه ُ‬
‫�ار الدِّ َما‬ ‫تَس� ْي ُل ف�ي َش َّ‬
‫ب‬‫ي فِي الدُّ ُر ْو ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْهد ِّ‬ ‫�ن َ‬ ‫َب ْح َث ًا َع ِ‬ ‫ب‬‫اله ُر ْو ِ‬
‫ى ُ‬
‫ِ‬
‫َّاس س َو ْ‬ ‫ك الن ُ‬ ‫لاَ ت َْملِ ُ‬
‫يشري الناظم إىل العالمات التي تربز بعد انحسار الفرات‪ ،‬وحصول املقتلة العظيمة هناك‪،‬‬
‫كخسوف القمر وكسوف الشمس يف شهر رمضان‪ ،‬كإحدى العالمات املرتبطة بقرب ظهور‬
‫مرحلة اإلمام املهدي‪ ،‬قال يف «اإلشاعة»‪ :‬ينكسف القمر أول ليلة من رمضان‪ ،‬والشمس ليلة‬
‫النصف منه‪ ،‬وهذان مل يكونا منذ خلق اهلل السموات واألرض‪.‬‬
‫وعن برش بن مرة احلرضمي‪ ،‬قال‪ :‬آية احلوادث يف رمضان عالمة يف السامء‪ ،‬بعدها اختالف‬
‫الناس‪ ،‬فإذا أدركتها فأكثر من الطعام ما استطعت‪.‬‬
‫ومعنى اإلكثار من الطعام هنا إما إلزام الناس باملكث يف منازهلم وختزين حوائجهم إىل‬
‫أطول الفرتات املتاحة‪ ،‬لشدة الفتن وحدوث ا َهل ْرج واملَ ْرج‪ ،‬مما قد يؤدي إىل انعدام األمن‪ ،‬أو‬
‫ربام يصطحب احلدث قرارات من كل صاحب حكومة بحظر التجوال أو حدوث الشدة وق ّلة‬
‫املؤن‪ ،‬ألن هذا احلدث سيكون له آثار سلبـية ومدمرة خطرية ستمتد فرتة تؤثر عىل مطاعم‬
‫الناس‪.‬‬
‫وعن عبداهلل بن مسعود ؤ قال يف حديث‪« :‬إذا كانت صيحة يف رمضان فإنه يكون‬
‫معمعة يف شوال‪ ،‬ومتيز القبائل يف ذي القعدة‪ ،‬وتسفك الدماء يف ذي احلجة‪ ،‬واملحرم وما‬
‫املحرم؟ يقوهلا ثالث ًا‪ ،‬هيهات هيهات‪ ..‬يقتل الناس فيها هَ ْر َج ًا هَ ْر َج ًا‪ ،‬قال‪ :‬قلنا‪ :‬وما الصيحة يا‬
‫رسول اهلل؟ قال‪ :‬هدة يف النصف من رمضان ليلة مجعة‪ ،‬وتكون هذه توقظ النائم وتقعد القائم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪433‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫خدورهن يف ليلة مجعة من سنة كثرية الزالزل‪ ،‬فإذا صليتم الفجر من يوم‬
‫ّ‬ ‫وخترج العواتق من‬
‫اجلمعة فادخلوا بـيوتكم وأغلقوا أبوابكم وسدوا كواكم ودثروا أنفسكم وسدوا آذانكم‪ ،‬فإذا‬
‫أحسستم بالصيحة فخروا هلل ساجدين‪ ،‬وقولوا‪ :‬سبحان القدوس سبحان القدوس‪ ،‬فإنه من‬
‫فعل ذلك َن َجا ومن مل يفعل ذلك هَ َلك»‪.‬‬
‫وقد وقف مؤلف كتاب «املفاجأة» الدكتور حممد عيسى داود مع معطيات هذا احلديث‬
‫وقفة حتليلية مفيدة‪ ،‬مفادها‪ :‬أن «اهلدة» يكون هلا تأثري يف جوانب الكرة األرضية ك َّلها‪ ،‬فمن‬
‫الناس من يشعر هبا ومنهم من يسمعها ومنهم من يشاهدها بالعني املجردة‪ ،‬وعالمة اهلدة أهنا‬
‫سنة كثرية الزالزل‪ ،‬وإذا وقعت َّنبه النبـي ﷺ إىل رشوط السالمة كااللتزام بصالة الفجر‬
‫وسدَّ النوافذ والكوى‪ ،‬والسجود هلل وذكر اهلل باسم القدوس‪ ،‬ألن‬
‫وإغالق املنازل واألبواب َ‬
‫له من اخلصوصية ما ال مثيل له‪ ،‬وأن هذا االسم أكثر شيوع ًا يف الكتاب املقدس وورودا عند‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬فكأنهَّ ا ملحة أن اهلدة ببالد هلم‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬فإذا أحسستم الصيحة» يعني أن هلا آثار ًا مادي ًة واقع ًة بالصوت واحلركة‪ ،‬ولكن‬
‫األمة العربـية اإلسالمية وبالذات منطقة احلديث‬
‫املعنى خيفي بعض الطمأنينة بأن (أرايض َّ‬
‫الرشيف احلجاز وما جياورها من بالد العرب واملسلمني بعيدة عن بؤرة احلدث)‪ ،‬وهذا يوافق‬
‫ماورد يف (اجلفر) عن اإلمام عيل كرم اهلل وجهه وؤ بأهنا (بالد األمريك)‪ ،‬كام أن قول‬
‫رسول اهلل ﷺ‪« :‬فإذا صليتم الفجر» تعني أن وقعتها بدء النهار يف العامل العربـي‪ ،‬ويقابله الليل‬
‫يف األمريكيتني بحكم فوارق التوقيت‪ ،‬وهذا يعني كام قال املؤلف‪ :‬أهنا ارتطام نيزك أو كوكب‬
‫باألمريكيتني يؤدي إىل دمار هائل وحرق وطوفان وعذاب‪ ،‬وهلذه اهلدة شواهد ذكرها املؤلف‬
‫نق ً‬
‫ال عن اإلمام عيل ؤ يف علم اجلفر (((‪.‬‬

‫((( راجع كتاب «اجلفر» حتقيق د‪ .‬حممد عيسى داود ص‪.178-172‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪434‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ويف كتاب «الفتن» لنعيم بن محاد((( حديث عن أبـي هريرة ؤ قال‪« :‬يف رمضان هد ٌة‬
‫توقظ النائم وخترج العواتق من خدورها‪ ،‬ويف شوال معمعة‪ ،‬ويف ذي القعدة متيش القبائل‬
‫بعضها إىل بعض‪ ،‬ويف شهر ذي احلجة هتراق الدماء‪ ،‬ويف املحرم وما املحرم ‪-‬يقوهلا ثالث ًا –‬
‫قال‪ :‬وهو انقطاع ملك هؤالء»‪ ،‬وربام كان قوله ﷺ‪« :‬عند انقطاع ملك هؤالء» يشري إىل آخر‬
‫مملكة تشهدها أرض احلجاز يف آخر الزمان‪ ،‬فبانقطاعها تربز هذه اآليات واهلل أعلم‪.‬‬
‫ويف هذه اآلونة أيضا برز دور العديد من البالد العربية واإلسالمية ما بني دول وشعوب‬
‫معينة منا من ينرص اإلمام املهدي ومنهم من يكون مع الدجال‪.‬‬
‫ومن البالد من ذكرت يف جممل أحاديث املالحم والعالمات كأحد املواقع الساخنة بالفتن‬
‫أو البشارات‪ ،‬فاليمن‪/‬حرضموت ‪/‬عدن يشار إليها بظهور النار احلارشة ‪ ،‬واختلف يف‬
‫تفسريها‪ ،‬فمنهم من اعتربها الرباكني واحلمم والنار عىل صفة احلرق واالشتعال‪ ،‬ومنهم من‬
‫فرسها بمواد البرتول والغاز وما شاكلها من وسائل الوقود املحرك لوسائل املواصالت يف آخر‬
‫الزمان‪.‬‬
‫ُ‬
‫وذكرت أرض الشام وبيت املقدس يف أخبار الدجال وعيسى املنتظر وأهنا احلارشة التي‬
‫حترش الناس إليها‪ ،‬وفرس بعضهم احلرش باجتامع اليهود يف آخر الزمان حتى يكون هالكهم مع‬
‫الدجال‪.‬‬
‫ومع هذه اآليات الدالة عىل قرب ظهور اإلمام املنتظر تربز أيض ًا عالمات ظهور السفياين‬
‫األول يف وقت متقارب‪.‬‬
‫أخرج ابن عساكر يف تارخيه عن أيب هريرة ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫ِ‬
‫أبواب‬ ‫س وما حوهلا‪ ،‬وعىل‬ ‫بيت ِ‬
‫املقد ِ‬ ‫أبواب ِ‬
‫ِ‬ ‫وآله وسلم ‪« :‬ال ت ََز ُال طائف ٌة من ُأ ّمتي ُيقاتِ ُلون عىل‬

‫((( ص‪ 153‬طبعة املكتبة العلمية‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪435‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫الطالقان وما حوهلا‪ ،‬ظاهري َن‬ ‫ِ‬
‫أبواب‬ ‫اك َي َة وما حوهلا‪ ،‬وعىل أبواب ِد َم ْش َق وما حوهلا‪ ،‬وعىل‬ ‫َأ ْن َط ِ‬

‫َص ُه ْم‪ ،‬حتّى يخُ ِْر َج اهللُ َكن َْز ُه من ال ّطالقان ف ُي ْح ِيي هبم‬ ‫عىل احلَ ِّق‪ ،‬ال ُي َبا ُل َ‬
‫ون َمن َخ َذلهَ م وال َمن ن رَ َ‬
‫يت ِمن َق ْب ُل» «كنز العامل» (‪ )284 :12‬برقم (‪ ،)35054‬انظر ص‪ 109‬من كتاب‬ ‫ِدينَه كام ُأ ِم َ‬
‫«ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ملحمد عصام عرار احلسني‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪436‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الس ْفيَان ِِّي األَو َِّل‬
‫ظهو ُر ُّ‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫�ن َي ْل َق�ا ُه بِال ُق ْض َب ِ‬
‫�ان‬ ‫َي ْق َ�ر ُع َم ْ‬ ‫الس� ْف َيانِي‬
‫ف بِ ُّ‬ ‫َو َي ْظ َه ُ�ر َ‬
‫الم ْع ُ�ر ْو ُ‬
‫يف هذه املرحلة املعروفة يف احلديث بالفتنة الرابعة يظهر السفياين مرافق ًا وموافق ًا ملرحلة‬
‫ظهور اإلمام املهدي‪ ،‬يؤيد ذلك حديث رواه أبو ُنعيم يف «الفتن»(((‪« :‬خيرج السفياين واملهدي‬
‫كفريس رهان‪ ،‬فيغلب السفياين عىل ما يليه‪ ،‬واملهدي عىل ما يليه»‪ ،‬وقد ورد أيض ًا عرض مجلة‬
‫ٌ‬
‫عالمة يف َص َفر‪،‬‬ ‫من العالمات اخلاصة بالسفياين منها‪ :‬عن ابن مسعود ؤ‪ ،‬قال‪« :‬تكون‬
‫عمود من نار يطلع من قبل‬
‫ٌ‬ ‫ويبتدأ نجم له ُذناب»‪ ،‬وعن خالد بن معدان‪ ،‬قال‪ :‬إنه ستبدو ٌ‬
‫آية‬
‫املرشق‪ ،‬يراه أهل األرض كلهم‪ ،‬فمن أدرك ذلك ف ْل ُي ِعدّ ألهله طعام سنة‪ ،‬وعن خالد بن معدان‬
‫أيض ًا‪« :‬إذا رأيتم عمود ًا من نار من قبل املرشق يف شهر رمضان يف السامء فأعدوا من الطعام ما‬
‫استطعتم‪ ،‬فإهنا سنة جوع» (((‪.‬‬
‫ومن عالمات ظهور السفياين قبـيل ظهور املهدي‪ :‬أن خيسف بقرية من قرى دمشق‪ ،‬ولعلها‬
‫«حرستا»‪ ،‬ويسقط اجلانب الغربـي من مسجدها (((‪.‬‬

‫((( «الفتن» (‪ ،)233 :1‬وقد جاء يف تقرير وزع باإلنرتنت مكتوب عليه مالمح عام ‪1424‬هـ‪ ،‬يشري فيه إىل‬
‫تزايد احتامالت مرور كوكب مذنب باألرض يبدأ ظهوره يف صفر ‪1424‬هـ‪ ،‬ويربز واضح ًا للعني املجردة‬
‫قبل وصوله إىل أقرب نقطة يف األرض يف منتصف ربـيع األول ‪1424‬هـ (‪ 15( )15-14‬مايو)‪ ،‬ويتوقع‬
‫أن يكون ملروره آثار مدمرة عىل بعض أنحاء من األرض كالزالزل والرباكني واألعاصري واألمطار‪ ،‬وقد‬
‫ظهر املذنب ورافق مروره عرشات الفيضانات والزالزل يف جمموع األرض‪.‬‬
‫((( املصدر السابق (‪.)231 :1‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.202‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪437‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والسفياين املشار إليه هو من ولد خالد بن يزيد بن أبـي سفيان‪ ،‬ويكون‬
‫خروجه من ناحية دمشق يف ٍ‬
‫واد يقال له (وادي اليابس)‪ ،‬ويكون خروجه بإشارة‬
‫تظهر له ويلقى سبعة أو تسعة يقولون له‪ « :‬نحن أصحابك » ‪ ،‬فريفع لواء معقود ًا‬
‫ال ‪ ،‬ال يرى ذلك العلم أحد إ لاَّ اهنزم‪ ،‬فيخرج فيهم‬
‫يستفرش بـني يديه ثالثني مي ً‬

‫ويتبعه ناس من قريات الوادي‪ ،‬وبـيده ثالث قضبان ال يقرع هبا أحد ًا إ لاَّ مات‪،‬‬
‫فيسمع به الناس‪ ،‬فيخرج له صاحب دمشق ليقاتله‪ ،‬فإذا نظر إىل رايته اهنزم‪،‬‬
‫فيدخل السفياين يف ثالثامئة وستني راكب ًا دمشق‪ ،‬وما يميض عليه شهر حتى جيتمع‬
‫عليه ثالثون ألف ًا من قبيلة كلب‪ ،‬وهم أخواله‪.‬‬
‫وتبدأ مالحم السفياين بعد ذلك‪ ،‬وذكر أبو نعيم يف كتابه « الفتن » عن مدة‬
‫خروج السفياين حديث ًا عن يزيد بـني أبـي حبـيب‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫« خروج السفياين سنة سبع وثالثني‪ ،‬كان ملكه ثامنية وعرشين شهر ًا ‪ ،‬وإن خرج‬
‫يف تسع وثالثني كان ملكه تسعة أشهر » ‪ ،‬وعن ابن عباس قال‪ :‬إن كان خروج‬
‫السفياين من سبع وثالثني ( (( ‪.‬‬
‫جَلَ‬ ‫�ب َي ْأتِ�ي َع ِ‬‫َ�ذا األَ ْص َه ُ‬
‫�ش ك َ‬‫َج ْي ٍ‬ ‫�ن ِم ْص َ�ر َع َل�ى‬ ‫ِ‬
‫�ع م ْ‬‫َو َيخْ ُ�ر ُج األَ ْب َق ُ‬
‫الم ْي�دَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان‬ ‫�و َر ف�ي َ‬ ‫المن ُْص ْ‬
‫�وا َ‬ ‫ُي َح ِ‬
‫ار ُب ْ‬ ‫ان�ي‬
‫َوال َي َم ْ‬ ‫َواألَ ْع َ�ر ُج الكنْ�د ُّ‬
‫ي‬
‫لم َع ِ‬
‫�ار ْك‬ ‫�ذر ِم�ن التَّجيِي ِ ِ‬ ‫ت َُش ِ‬
‫�ار ْك‬ ‫�م َولاَ‬
‫�ش ل َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫اح َ ْ‬‫َو ْ‬ ‫ُ�ن ّمن ُْه ْ‬
‫َتك ْ‬ ‫فََل�اَ‬

‫هذه إشارة إىل نامذج من املالحم القتالية التي جتري عىل عهد السفياين األول‪،‬‬
‫ويبدو أن هذه املسميات « األبقع‪ ،‬األصهب‪ ،‬املنصور‪ ،‬األعرج » ك ّلها ُو ُصوف‬
‫وعالمات ألولئك القادة املحاربـني للسفياين األول‪ ،‬وقد ورد يف احلديث عن‬

‫((( «الفتن» ص‪.364‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪438‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أرطأة قال‪ « :‬السفياين الذي يموت الذي يقاتل أول يشء الرايات السود والرايات‬
‫الصفر يف رسة الشام خمرجه من « املندرون » رشقي بـيسان عىل مجل أمحر عليه تاج‬
‫هيزم اجلامعة مرتني ثم هيلك‪ ،‬يقبل اجلزية ويسبـي الذرية ويبقر بطون َ‬
‫احل َباىل » (((‪.‬‬
‫قال يف « اإلشاعة » ‪ :‬يدوم القتال بـينهم سنة كاملة‪ ،‬فيغلب السفياين ويظهر‬
‫عىل الرايات الثالث‪ ،‬ثم يقاتل الرتك والروم وهيزمهم‪ ،‬قال يف « الفتن » ‪ « :‬إذا ظهر‬
‫السفياين عىل األبقع واملنصور خرج الرتك والروم فيظهر عليهم السفياين » ‪.‬‬
‫ويبدأ السفياين يف هذه املرحلة بتوجيه األذى ضد بني هاشم‪ ،‬ربام ملا يراه من‬
‫عن عيل‬ ‫(((‬
‫تعلق الناس باملهدي وانتظار خروجه‪ ،‬قال نعيم بن محاد يف « الفتن »‬

‫كرم اهلل وجهه وؤ‪ ،‬قال‪ :‬يكتب السفياين إىل قائده الذي دخل الكوفة بخيله‬
‫بعدما عركها عرك األديم يأمره باملسري إىل احلجاز‪ ،‬فيسري إىل املدينة فيضع السيف‬
‫يف قريش فيقتل منهم ومن األنصار أربعامئة رجل‪ ،‬وهيرب رجال من قريش إىل‬
‫القسطنطينية فيبعث السفياين إىل عظيم الروم أن يبعث هبم فيبعث هبم إليه فيرضب‬
‫أعناقهم عىل باب دمشق‪.‬‬
‫ويف رواية‪ :‬ويبعث رجاله وجنوده يف البالد فتبلغ عامة املرشق وأرض خراسان‪،‬‬
‫ويبعث السفياين بعث ًا إىل املدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل حممد ويقتلون‬
‫من بني هاشم رجا ً‬
‫ال ونسا ًء ‪ ،‬ويؤتى بجامعة منهم إىل الكوفة ويتفرق بقيتهم يف‬
‫الرباري‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)279 :1‬‬


‫((( املصدر السابق (‪.)232 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪439‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫ظهُ ور ا َملهْ دِي ثم اختفا ُؤه يف الجبال‬
‫ُ‬

‫قال يف «اإلشاعة» ص ‪ ( :204‬عند مقتل وسبـي آل حممد باملدينة املنورة هيرب املهدي‬
‫واملبـيض ‪-‬ويف رواية‪ :‬واملنصور‪ -‬إىل مكة‪ ،‬ويستخفون هناك‪ ،‬وال يطلع عىل موضوع املهدي‬
‫أحد‪ ،‬ثم جيتمع عليه بجبال الطائف مجاعة يقاتل هبم مجاعة السفياين يف مكة وهيزمهم‪ ،‬ثم خيتفي‬
‫بجبال مكة وال يطلع عليه أحد)‪ ،‬ويؤيد هذا ما أورده اإلمام أبوجعفر حممد بن عيل الباقر‪:‬‬
‫«يكون لصاحب هذا األمر ٌ‬
‫غيبة يف بعض الشعاب» وأومأ بـيده إىل ناحية ذي طوى(((‪.‬‬

‫((( عن عيل كرم اهلل وجهه وؤ قال‪« :‬يبعث ‪ -‬أي السفياين – بجيش إىل املدينة فيأخذون من قدروا عليه‬
‫ونساء فعند ذلك هيرب املهدي واملبـيض من املدينة إىل مكة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رجاال‬ ‫من آل حممد ﷺ ويقتل من بني هاشم‬
‫فيبعث يف طلبهام وقد حلقا بحرم اهلل وأمنه» الفتن (‪.)323 :1‬‬
‫(( ( «اإلشاعة» ص ‪.204‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪440‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اإلما ِم ا َملهْ دِي‬ ‫ُ‬
‫ظهُ و ُر ِ‬

‫عن اإلمام عيل كرم اهلل وجهه وؤ قال‪« :‬إذا نـزل جيش يف طلب الذين خرجوا إىل مكة‬
‫فنـزلوا البـيداء خسف هبم وببادهيم‪ ،‬وهو قوله عز وجل‪( :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ) من حتت أقدامهم‪،‬‬
‫وخيرج رجل من اجليش يف طلب ناقة له ثم يرجع إىل الناس فال جيد منهم أحد ًا وال حيس هبم‪،‬‬
‫وهو الذي حيدث الناس بخربهم»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬ال يفلت منهم أحد إل بشري ونذير‪ ،‬فأما البشري فإنه يأيت املهدي بمكة وأصحابه‬
‫فيخربهم بام كان من أمرهم‪ ،‬ويكون شاهد ذلك يف وجهه‪ ،‬ويعلمون أن القوم قد خسف هبم‪،‬‬
‫والثاين يأيت السفياين فيخربه بام نـزل بأصحابه فيصدقه ويعلم أنه حق ملا يرى فيه من العالمة»‬

‫(((‪.‬‬
‫ويؤيد هذا حديث عائشة رض اهلل عنها الذي رواه البخاري «يغزو جيش الكعبة حتى إذا‬
‫كانوا ببـيداء من الطريق خيسف بأوهلم وآخرهم‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسول اهلل خيسف بأوهلم وآخرهم‬
‫وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ قال‪ :‬خيسف بأوهلم وآخرهم ويبعثون عىل نياهتم»‪.‬‬

‫((( «الفتن» (‪.)331 :1‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪441‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ُمب ُ‬
‫َايعة اإلمَ ا ِم ا َملهْ دِي‬

‫عن عمرو بن شعيب عن أبـيه عن جده‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬يف ذي القعدة حَ َت ُاز ُب‬
‫احلاج‪ ،‬فتكون ملحمة بمنى‪ ،‬فيكثر فيها القتىل حتى تسيل دماؤهم عىل‬
‫ّ‬ ‫القبائل‪ ،‬وعامئذ ُينهب‬
‫عقبة اجلمرة‪ ،‬حتى هيرب صاحبهم ‪ -‬أي املهدي ‪ -‬فيؤتى به بـني الركن واملقام فيبايع وهو‬
‫كاره‪ ،‬ويقال له‪ :‬إن أبـيت رضبنا عنقك‪ ،‬فيبايعه مثل عدة أهل بدر‪ ،‬يرىض عنه ساكن السامء‬
‫وساكن األرض»‪.‬‬
‫ويف رواية عن ابن عباس ؤ‪« :‬يبعث اهلل تعاىل املهدي بعد إياس وحتى يقول الناس‪:‬‬
‫املهدي‪ ،‬وأنصاره أناس من أهل الشام عدهتم ثالث مئة ومخسة عرش رج ً‬
‫ال عدة أصحاب بدر‪،‬‬
‫يسريون إليه من الشام حتى يستخرجوه من بطن مكة من دار عند الصفا‪ ،‬فيبايعونه كره ًا‪،‬‬
‫فيصيل هبم ركعتني صالة املسافر عند املقام‪ ،‬ثم يصعد املنرب»(((‪.‬‬
‫ويف رواية أخرى عن عبداهلل بن مسعود ؤ قال‪ :‬إذا انقطعت التجارات والطرق‬
‫وكثرت الفتن خرج سبعة رجال علامء من آفاق شتى عىل غري ميعاد‪ ،‬يبايع لكل رجل منهم‬
‫ثالثامئة وبضعة عرش رج ً‬
‫ال‪ ،‬حتى جيتمعوا بمكة فيلتقون‪ ،‬فيقولون بعضهم لبعض‪ :‬ما جاء‬
‫بكم ؟ فيقولون‪ :‬جئنا يف طلب هذا الرجل الذي ينبغي أن هتدأ عىل يديه هذه الفتن‪ ،‬وتفتح له‬
‫القسطنطينية‪ ،‬قد عرفناه باسمه واسم أبـيه وأمه وحليته‪ ،‬فيطلبونه فيصيبونه بمكة‪ ،‬فيفلت منهم‬
‫ويلحق باملدينة‪ ،‬فيطلبونه فيخالفهم إىل مكة‪ ،‬فيصيبونه عند الركن فيبايع (((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق (‪.)342 :1‬‬


‫((( املصدر السابق (‪.)367 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪442‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫(((‬
‫يتُ ُه‬ ‫ِص َف ُ‬
‫ات اإلمَ ا ِم ا ُملنْتَظر ِ‬
‫وس رْ َ‬

‫َّردي ِ‬
‫ِ‬ ‫�ئ فِ�ي ال َّت ْعبِـ ْي ِ‬‫ِ‬ ‫اء بِالت َّْأكِي ِ‬
‫�د الزَّه�ر ِ‬
‫ِم�ن و َل ِ‬
‫�د‬ ‫�ر بِالت ْ‬ ‫ُي ْبط ُ‬ ‫�د‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬
‫الحدَ ْق‬
‫�ن َ‬ ‫�م َأ ْب َل ٌ‬
‫�ج َز ْي ُ‬ ‫َ�ى َأ َش ُّ‬
‫َأ ْقن ْ‬ ‫�ف َلح� ٍم ُم ْس�تَدَ ْق‬‫َوآ َد ٌم َخ ِف ْي ُ‬
‫أشارت كتب السري واحلديث إىل أن اإلمام املهدي من ولد فاطمة عليها السالم‪ ،‬وأما ثقل‬
‫لسانه‪ ،‬فقد جاء نص احلديث‪« :‬يف لسانه ثقل‪ ،‬وإذا أبطأ عليه الكالم رضب فخذه األيرس بـيده‬
‫اليمنى»‪ ،‬وأما حليته فآ َد ُم رضب من الرجال َر ْب َع ٌة أجىل اجلبهة أقنى األنف َأ َش َّم ُه َأ َز ّج َأ ْب َل ُج َأ ْعينَ ُ‬
‫َأ ْك َح ُل العينني ّبراق الثنايا َأ ْف َر ُقها‪ ،‬يف خده األيمن خال أسود‪ ،‬ييضء وجهه كأنه كوكب دري‪،‬‬
‫كث اللحية‪ ،‬يف كتفه عالمة(((‪.‬‬
‫الح َ�را ِم‬
‫َ‬ ‫�ج ِد‬ ‫بـيعتَ�ه بِ ِ‬
‫الم ْس ِ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫الم َق�ا ِم‬ ‫الرك ِ‬
‫ْ�ن َو َ‬ ‫�ن ُّ‬ ‫�ذ َبـ ْي َ‬ ‫َي ْأ ُخ ُ‬
‫�ن ك ُِّل َب َلدْ‬ ‫عصائِ�ب ِ ِ ِ‬ ‫�ل َب�دْ ٍر فِ�ي ال َع�دَ ْد‬
‫َأ ْت َبا ُع� ُه ك ََأ ْه ِ‬
‫الج َه�اد م ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫سبقت اإلشارة إىل ظهور اإلمام بمكة وبـيعته بـني الركن واملقام‪ ،‬ويف املوضوع روايات‬
‫كثرية يمكن العود إليها يف مراجعها املتفرقة‪.‬‬
‫�ل ُي ِه ْين َُه�ا‬ ‫ويس ِ‬
‫�ق ُط البِدْ َع� َة َب ْ‬ ‫يم َه�ا‬ ‫�ل بِالس�ن َِّة ب ْ ِ‬ ‫َي ْع َم ُ‬
‫َُْ‬ ‫�ل ُيق ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫�ب‬ ‫َو َي ْملِ ُ‬
‫�ك الدُّ ْن َي�ا بِ�دُ ْو ِن َت َع ِ‬ ‫�و ُم بِالدِّ ْي ِ‬
‫�ن ك ََم�ا َق�ا َم النَّبـ ِْي‬ ‫َي ُق ْ‬
‫ح�ر ِد‬
‫ْ�ل ا َل َ‬ ‫ُ�ل الخَ نـ ِْز َ‬
‫ي�ر َقت َ‬ ‫َو َي ْقت ُ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ب ك َْس�ر ًا َأ َبد ْ‬
‫ِ‬
‫الصل ْي َ‬
‫ِ‬
‫َو َيكْس ُ�ر َّ‬

‫((( قيل‪ :‬إنام سمي املهدي ألنه يهَ ِدي ألمر قد خفي‪ ،‬ويستخرج التوراة واإلنجيل من أرض يقال هلا «أنطاكية»‪.‬‬
‫«الفتن» (‪.)355 :1‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.194-190‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪443‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫من وصوف اإلمام أنه يعمل سنة النبـي ﷺ‪ ،‬قال يف «اإلشاعة» ص‪« :196‬ال يوقظ نائ ًام‪،‬‬
‫الس ّنة‪ ،‬ال يرتك س ّنة إلاَّ وأقامها‪ ،‬وال بدعة إلاَّ ووضعها‪ ،‬يقوم بالدِّ ين‬
‫وال هيريق دم ًا‪ ،‬يقاتل عىل ُّ‬
‫آخر الزمان كام قام به النبـي ﷺ‪ ،‬يملك الدنيا ك َّلها كام ملك ذو القرنني وسليامن‪ ،‬يكرس‬
‫الصليب‪ ،‬ويقتل اخلنـزير» «اإلشاعة» ص‪.196‬‬
‫ويف األبـيات إشارة إىل ما يعرتي اإلمام من « َ‬
‫احل َرد» أي‪ :‬الغضب يف ذات اهلل حتى يكرس‬
‫الصليب‪ ،‬أي‪ :‬يقطع عقيدة التثليث املسيحية املنحرفة‪ ،‬ويقتل اخلنـزير‪ ،‬وكالمها رمز االنحراف‬
‫املحرفة‪ ،‬فيجمع بـني تصويب العقيدة واقتالع أكل املحرم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف الديانة املسيحية‬
‫�ن َغ ْي ِ‬
‫�ر َح�دْ‬ ‫اج ٍ ِ‬ ‫لم ْؤ ِم ٍ‬
‫�ن َو َف ِ‬ ‫ي ْح ُث ْو َج ِمي َع الم ِ‬
‫ال َح ْث َي ًا ُد ْو َن َعدْ‬
‫�ر م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫من صفات اإلمام املهدي يف معاجلة انحراف العرص والزمن الوفاء بحاجة الناس املادية‪،‬‬
‫إذ هي رأس الفتنة وسبب احلروب والرصاع‪ ،‬وقد شهد الناس قبل ظهوره حرب إبادة عىل‬
‫كنـز الفرات وفيها بعض املنتمني إىل آل البـيت النبوي‪ ،‬كلهم يقول‪« :‬لعيل أنا أنجو»‪ ،‬فالعلة‬
‫املسيطرة عىل الواقع االجتامعي هي األزمة االقتصادية‪ ،‬فيأيت اإلمام املنتظر ليحثو املال حثي ًا‬
‫دون حد وال عد‪.‬‬
‫المدَ ائِنَ�ا‬ ‫َ�ح ال ُب ْل�دَ َ‬
‫ان َو َ‬ ‫َو َي ْفت ُ‬ ‫َي ْس�تَخْ ِر ُج ال ُكنُ�و َز َوالدَّ َفائِنَ�ا‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :196‬تنعم األمة برها وفاجرها يف زمن نعمة مل يسمع بمثلها قط‬
‫ترسل السامء عليهم مدرار ًا ال تدخر شيئ ًا من قطرها‪ ،‬تؤيت األرض ُأكلها‪ ،‬ال تدخر عنهم شيئ ًا‬
‫من بذرها‪ ،‬جتري املالحم عىل يديه‪ ،‬ويستخرج الكنوز ويفتح املدائن ما بـني اخلافقني‪ ،‬يؤتى‬
‫بملوك اهلند مغلغلني‪ ،‬وجتعل خزائنهم حلي ًا لبـيت املقدس‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�و ِع‬‫الر ُج ْ‬‫�ن ُّ‬‫َوالف ْتنَ� َة ال َع ْم َي�ا م َ‬ ‫�ن ال ُبـ ُي�و ِع‬
‫الر َب�ا م َ‬
‫�ع ِّ‬ ‫َو َي ْق َط ُ‬
‫َّ�اس َوالدِّ َي َارا‬
‫ح�ب َيغْ�ز ُْو الن َ‬ ‫بِا ُل ِّ‬ ‫�و َب َواألَ ْف�ك َ‬
‫َارا‬ ‫ُي َو ِّح�دُ ال ُق ُل ْ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪444‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ومن أجل مهامت اإلمام املهدي إيقاف التعامل بالربا‪ ،‬والشبهات املرصفية والبنكية التي‬
‫سيطرت عىل العامل إبان مرحلة الغثاء والوهن‪ ،‬ويكون ذلك بإسقاط البنوك‪ ،‬ومنع التعامل‬
‫االقتصادي الربوي السائد‪ ،‬كام يوحد آراء الناس بإيقاف احلزبـية والفئوية والتيارية‪ ،‬وقطع‬
‫سياسة االستعامر واالستهتار واالستثامر القائمة عىل مبدأ (فرق تسد) ليحل حملها الوئام‬
‫والتفاهم‪ ،‬ويرد إىل املسلمني ألفتهم ونعمتهم‪ ،‬يمأل قلوب أمة حممد ًا غنى‪ ،‬حتى إنه يأمر منادي ًا‬
‫ينادي‪ :‬أال من له حاجة يف املال‪ ،‬فال يأتيه إال رجل واحد‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا‪ ،‬فيقول‪ :‬ائت اخلازن فقل‬
‫له‪ :‬إن املهدي يأمرك أن تعطيني ما ً‬
‫ال‪ ،‬فيقول له‪ :‬احث‪ ،‬حتى إذا جعله يف حجره ندم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫كنت أجشع أمة حممد ﷺ – أي‪ :‬أحرصهم‪ -‬واجلشع أشد احلرص‪ ،‬ويقول‪ :‬أعجزت عام‬
‫وسعهم‪ ،‬فريد املال فال يقبل منه‪ ،‬ويقال له‪ :‬إنا ال نأخذ شيئ ًا أعطيناه(((‪.‬‬
‫ويرفع الربا الوبا والزنا ورشب اخلمر وتطول األعامر وتؤدى األمانة وهتلك األرشار‪ ،‬وال‬
‫يبقى من يبغض آل حممد ﷺ (((‪.‬‬
‫َّ�اس ت َْح َيا فِي ظَِل�اَ ِل َد ْع َوتِ ْه‬
‫َوالن ُ‬ ‫�و َال ُمدَّ تِ� ْه‬ ‫َوت َْأ َم ُ‬
‫�ن األَ ْر ُض َط َ‬
‫يم ِ‬
‫�ان‬ ‫�م الن َّْص َ�ر لِ ِ‬
‫إل َ‬
‫ِ‬
‫َحتَّ�ى ُيت َّ‬ ‫الس� ْف َيانِ ْي‬
‫ف بِ ُّ‬ ‫�رو َ‬
‫الم ْع ْ‬
‫�ل َ‬‫ُي َقاتِ ُ‬
‫(((يشري الناظم إىل أول مالحم اإلمام املهدي مع السفياين‪ ،‬قال يف «اإلشاعة» ص‪:206‬‬
‫ويبلغ السفياين خروجه‪ ،‬فيبعث إليهم بعث ًا من الكوفة فيأتون املدينة فيستبـيحوهنا ثالث ًا‪،‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.196‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.197‬‬
‫((( إشارة ملا روي عن اإلمام عيل ؤ قال‪ :‬قلت‪« :‬يا رسول اهلل‪ ..‬املهدي منا أئمة اهلدى أم من غرينا؟»‬
‫قال ﷺ‪« :‬بل منا‪ ،‬خيتم الدين كام بنا فتح‪ ،‬وبنا سينقذون من ضاللة الفتنة كام استنقذوا من ضاللة الرشك‪،‬‬
‫وبنا يؤلف اهلل بـني قلوهبم يف الدين بعد عداوة الفتنة كام اهلل ألف بـني قلوهبم ودينهم بعد عداوة الرشك»‬
‫«الفتن» (‪.)370 :1‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪445‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ويقصدون املهدي‪ ،‬فإذا خرجوا من املدينة وكانوا ببـيداء من األرض خسف بأوهلم وآخرهم‪،‬‬
‫ينج أوسطهم‪ ،‬فال ينجو منهم إلاَّ نذير إىل السفياين وبشري إىل املهدي‪ ،‬فإذا سمع املهدي‬
‫ومل ُ‬
‫بذلك‪ ،‬قال‪ :‬هذا أوان اخلروج‪ ،‬فيخرج ويمر باملدينة‪ ،‬فيتسنقذ من كان أسري ًا من بني هاشم‪،‬‬
‫وتفتح له أرض احلجاز كلها (((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لآِ‬
‫ُجنْ�دٌ ِل ال َبـ ْي�ت لاَ َيخُ ْ‬
‫�و ُر ْوا‬ ‫�و ُر‬
‫المن ُْص ْ‬‫ث َو َ‬ ‫الح ِ‬
‫�ار ُ‬ ‫َو َي ْظ َه ُ�ر َ‬
‫�ج َع ِ‬ ‫�ة األَ ْب َط ِ‬ ‫بهم ِ‬ ‫الس� ْف َيانِي‬ ‫ُي َح ِ‬
‫ان‬ ‫�ال َو ُّ‬
‫الش ْ‬ ‫ِ َّ‬ ‫�و َن ُع ْص َب� َة ُّ‬
‫ار ُب ْ‬
‫إشارة إىل ظهور الرجل من وراء النهر بخراسان يسمى « احلارث » أو « احلراث »‬

‫عىل مقدمته رجل يقال له‪ « :‬املنصور » يمكن آلل حممد ﷺ كام مكنت قريش ملحمد‬
‫ﷺ‪ ،‬وجب عىل كل مؤمن نرصه‪ ،‬وتطول املعارك بـني هؤالء وجيوش السفياين يف‬
‫مواطن عديدة‪ ،‬ثم يبايع الناس رج ً‬
‫ال من بني هاشم بكفه اليمنى خال هو أخو‬
‫املهدي من أبـيه أو ابن عمه‪ ،‬وهو حينئذ املرشق‪ ،‬فيخرج بأهل خراسان وطالقان‬
‫ومعه الرايات السود الصغار‪ ،‬عىل مقدمته رجل من متيم من املواىل اسمه « شعيب بن‬
‫صالح » يمهد األمر للمهدي عليه السالم (((‪.‬‬
‫وفيه يقول ﷺ‪ « :‬إذا سمعتم برايات سوداء قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪ ،206‬ويف ص‪ 245‬ذكر حديث عن أبـي هريرة ريض اهلل عنه قال‪« :‬يكون باملدينة وقعة‬
‫احلرة عندها إال كرضبة سوط‪ ،‬فينحى عن املدينة بريدين ثم يبايع املهدي»‬
‫تغرق فيها أحجار الزيت‪ ،‬ما ّ‬
‫الكبس‬
‫ُ‬ ‫فعال‬
‫رواه نعيم‪ ،‬وأحجار الزيت كانت عند مشهد مالك بن سنان يضع عليها الزياتون رواياهم‪َ ،‬‬
‫عليها فاندفنت‪ ،‬وألبـي داود والرتمذي وغريمها عن موىل أبـي اللحم‪« :‬أنه رأى النبـي ﷺ يستسقي عند‬
‫أحجار الزيت قريب ًا من الزوراء قائ ًام يدعو»‪ ،‬ويبدو أهنا موضع باحلرة بمنازل بني عبد األشهل‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.207 – 206‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪446‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫حبو ًا عىل الثلج » (((‪ ،‬وعن أمري املؤمنني عيل بن أبـي طالب كرم اهلل وجهه‪ « :‬لو كنت‬
‫يف صندوق مقفل فاكرس ذلك القفل والصندوق واحلق هبا‪ ،((( » ..‬ويف رواية‪ « :‬فإن‬
‫فيها خليفة اهلل املهدي – أي فيها نرصه وأنصاره – وإ ّال فاملهدي حينئذ بمكة » ‪.‬‬
‫وتبعث الرايات السود بـيعتها إىل املهدي‪ ،‬وتقاتل جيش السفياين بالعراق‪ ،‬ويقبل السفياين‬
‫من الكوفة يريد الشام فيهلك يف الطريق‪ ،‬قال يف «الفتن» ألبـي نعيم‪ :‬يقاتل السفياين من ينازعه‬
‫ويظهر عليهم مجيع ًا‪ ،‬ثم يسري إىل الكوفه‪ ،‬ويخُ رج بني هاشم إىل العراق‪ ،‬ثم يرجع إىل الكوفه‬
‫فيموت يف أدنى الشام‪ ،‬ويستخلف رج ً‬
‫ال آخر من ولد أبـي سفيان تكون له الغلبة ويظهر عىل‬
‫الناس‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.207 – 206‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪447‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الس ْفيَانِي الثَانِي‬ ‫ُ‬
‫ظهُ ور ُ‬

‫قال الزهري‪ :‬خيرج ‪-‬أي السفياين األول‪ -‬هارب ًا من الكوفة من قرحة تصيبه فيموت‪ ،‬ثم‬
‫ييل بعده رجل منهم اسمه اسم ابـيه واسمه عىل ثامنية حروف‪ ،‬متزلج املنكبـني محش الذراعني‬
‫والساقني مصفح الرأس غائر العينني‪ ،‬فيهلك الناس بعده‪ ،‬وتستمر املعارك بـني جند السفياين‬
‫الثاين وجنود املهدي القادمة من خراسان والعراق‪ ،‬ويرسل السفياين جيش ًا ملقاتلة املهدي يف‬
‫احلجاز‪ ،‬ولكنهم يبايعون املهدي ويقبلون معه الشام(((‪ ،‬ويفسد السفياين يف األرض(((‪ ،‬ويسري‬
‫املهدي إىل الشام ويكاتب السفياين مطالب ًا له بالبـيعة‪ ،‬ف ُيلزمه أصحابه البـيعة لإلمام‪ ،‬ويذكرونه‬
‫بخسف اجليش يف البـيداء‪ ،‬فيقبل أن يبايع ويلتقي باإلمام يف بـيت املقدس‪ ،‬ويعيد املهدي‬
‫املظامل إىل الناس‪ ،‬وبـينام هم كذلك إذ نقض السفياين العهد وخرج مع مجلة من أتباعه من قبـيلة‬
‫كلب يقاتلون املهدي‪ ،‬فيقاتلهم ويأرس السفياين ويذبحه كام تذبح الشاة(((‪.‬‬
‫ثم تتمهد األرض لإلمام املهدي ويدخل يف طاعته ملوك األرض‪ ،‬وهيادن الروم يف صلح‬
‫يدوم تسع سنني‪ ،‬حلديث رواه نعيم بن محاد يف «الفتن» عن ابن مسعود مرفوع ًا‪« :‬يكون بـني‬

‫(( ( «اإلشاعة» ص‪.208‬‬


‫((( يشري إىل ذلك حديث رواه جراح بن أرطأة قال‪« :‬يف زمان السفياين الثاين املشوه اخللق هدة بالشام حتى‬
‫يظن كل قوم أنه خراب ما يليهم»‪ .‬انظر «الفتن» لنعيم بن محاد ص‪ 153‬طبعة دار الكتب العلمية‪ ،‬وقد‬
‫أشارت بعض األحاديث إىل إشارة يف السامء تكون عالمة أيضا خلروج السفياين الثاين‪ ،‬فقد روى نعيم‬
‫بن محاد يف «الفتن» ص ‪ :151‬قال الوليد‪ :‬أخربين شيخي عن الزهري قال‪« :‬يف والية السفياين الثاين‬
‫وخروجه عالمة ُترى يف السامء» ‪.‬‬
‫(( ( «اإلشاعة» ص‪.112‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪448‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املسلمني وبـني الروم هدنة وصلح‪ ،‬حتى يقاتلوا معهم عدوهم فيقاسموهنم غنائمهم‪ ،‬ثم إن‬
‫الروم يغزون مع املسلمني فارس فيقتلون مقاتلهم ويسبون ذرارهيم‪ ،‬فتقول الروم‪ :‬قاسمونا‬
‫الغنائم كام قاسمناكم‪ ،‬فيقاسموهنم األموال وذراري الرشك‪ ،‬فتقول الروم‪ :‬قاسمونا ما أصبتم‬
‫من ذراريكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬ال نقاسمكم ذراري املسلمني أبد ًا‪ ،‬فيقولون غدرتم بنا‪ ،‬فرتجع الروم‬
‫إىل صاحب القسطنطينية‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن العرب قد غدرت ونحن أكثر عددا وأتم منهم عدة‬
‫وأشد منهم قوة‪ ،‬فأمدّ نا نقاتلهم‪ ،‬فيقول‪ :‬ما كنت ألغدر هبم ولقد كانت هلم الغلبة يف طول‬
‫الدهر علينا‪ ،‬فيأتون صاحب رومية فيخربونه بذلك‪ ،‬فيوجه ثامنني غاية حتت كل غاية اثنا عرش‬
‫ألف ًا يف البحر‪ ،‬ويقول هلم صاحبهم‪ :‬إذا رأيتم سواحل الشام فأحرقوا املراكب لتقاتلوا عن‬
‫أنفسكم‪ ،‬فيفعلون ذلك ويأخذون أرض الشام كلها برها وبحرها ما خال مدينة دمشق واملعتق‪،‬‬
‫وخيربون بـيت املقدس»‪.‬‬
‫قال ابن مسعود ؤ فقلت‪ :‬كم تسع دمشق من املسلمني؟ فقال النبـي ﷺ‪« :‬والذي‬
‫نفيس بـيده لتتسعن عىل من يأتيها من املسلمني كام يتسع الرحم عىل الولد» قلت‪ :‬وما املعتق‬
‫يا نبـي اهلل؟ قال‪« :‬جبل بأرض الشام من محص عىل هنر يقال له (األريط)‪ .‬فتكون ذراري‬
‫املسلمني يف أعىل املعتق واملسلمون عىل هنر األريط يقاتلوهنم صباح ًا ومسا ًء‪ ،‬فإذا أبرص صاحب‬
‫القسطنطينية ذلك وجه يف الرب إىل قنرسين ثالث مائة ألف‪ ،‬حتى جتيئهم مادة اليمن ألف ألف‪،‬‬
‫ف ُ‬
‫اهلل بـني قلوهبم باإليامن معهم‪ ،‬أربعون ألف ًا من حمِ ري‪ ،‬حتى يأتوا بـيت املقدس‪ ،‬فيقاتلون‬ ‫َأ َّل َ‬
‫الروم فيهزموهنم وخيرجوهنم من جند إىل جند حتى يأتوا قنرسين (((‪.‬‬
‫وتطول املعارك واحلروب من املسلمني والروم يفنى فيها من املسلمني الكثري الكثري‪ ،‬وحتى‬
‫تثب الروم عىل من بقي يف بالدهم من العرب فيقتلوهنم حتى ال يبقى بأرض الروم عربـي و ال‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪ ،216‬راجع بقية املالحم‪ ،‬وقد تركناها لطول أخبارها‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪449‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عربـية وال ولد عربـي إلاَّ ُقتل‪ ،‬فيبلغ ذلك املسلمني فريجعون غضب ًا هلل جياهدون حتى يفتح‬
‫هلم ويدخلون ( القسطنطينية ) فيكيلون الذهب باألترسة ويقتسمون الذراري حتى يبلغ سهم‬
‫الرجل ثالث مئة عذراء‪ ،‬وخيرج عندها الدجال‪.‬‬
‫ويف حتديد الزمن إشكال‪ ،‬إذ ورد يف «اإلشاعة» ص‪ :222‬وعن عبداهلل بن برس املازين أنه‬
‫قال‪ :‬يا ابن أخي لعلك تدرك فتح القسطنطينية‪ ،‬فإياك إن أدركت فتحها أن ترتك غنيمتك منها‪،‬‬
‫فإن بـني فتحها وبـني خروج الدجال سبع سنني ‪ .‬رواه نعيم بن محاد يف «الفتن» (((‪.‬‬
‫وسيخرج كنـز بيت املقدس وحليته التي أخذها طاهر بن إسامعيل‪ ،‬حني غزا إرسائيل‬
‫فسباهم وسبا حيل بـيت املقدس وأحرقها بالنريان‪ ،‬ومحل منها يف البحر ألف ًا وسبع مئة سفينة‬
‫حتى أوردها رومية‪.‬‬
‫ليستخرجن املَ ِ‬
‫هدي ذلك حتَى َير َّد ُه إىل‬ ‫َّ‬ ‫قال حذيفة ؤ سمعت رسول اهلل ﷺ‪ ،‬يقول‪« :‬‬

‫بـيت املقدس»‪.‬‬
‫قال يف «عقد الدرر»‪« :‬رومية» أم بالد الروم‪ ،‬فكل من ملكها يقال له الباب‪ ،‬وهو احلاكم‬
‫عىل دين النرصانية‪ ،‬بمنـزلة اخلليفة يف املسلمني‪ ،‬وليس يف بالد املسلمني مثلها‪.‬‬
‫كتب حمقق «اإلشاعة» ص‪ 223‬يف احلاشية‪ :‬الظاهر أن املراد برومية هي (الفاتيكان)‪ ،‬وأن‬
‫من يطلق عليه الباب هو ما يسمى اآلن بالبابا‪ ،‬فهو احلاكم عىل دين النرصانية كام هو معروف‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.223-222‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪450‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ال ُ‬
‫ظهُ و ُر األخريُ للدَّجّ ال‬

‫قال الناظم‪:‬‬
‫ِ‬
‫�ال‬‫الر َج ُ‬
‫�و ُال َو ِّ‬‫تُع ْينُ� ُه األَ ْم َ‬ ‫�ذا َي ْظ َه ُ�ر الدَّ ج ُ‬
‫َّ�ال‬ ‫َأ ْثن َ‬
‫َ�اء َه َ‬

‫�م َل� ُه ُجن ْ‬


‫ُ�و ُد‬ ‫�و َن ُه ْ‬ ‫الم ِ‬
‫رج ُف ْ‬ ‫َو ُ‬ ‫�و ُد‬ ‫َأ ْت َبا ُع� ُه الن ََّس ُ‬
‫�اء َوال َي ُه ْ‬
‫تشري األبـيات إىل بروز الدجال وبدء مرحلة ظهوره يف األرض‪ ،‬وخيرج من هيود أصبهان‬
‫وقد عاد اإلمام املهدي من أرض الروم بغنائمه إىل بـيت املقدس يف ألف سفينة (((‪ ،‬ويقيم‬
‫املهدي يف بـيت املقدس متتبع ًا أخبار الدجال ومنتظر جميئه‪.‬‬
‫جاء يف «اإلشاعة» ص‪ 225‬حديث‪« :‬امللحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال‬
‫يف سبعة أشهر»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬سبع سنني»‪ ،‬قال أبو داود يف «سننه»‪ :‬وهذه ‪-‬يعني رواية سبع‬
‫سنني‪ -‬أصح‪ ،‬يعني‪ :‬من رواية سبعة أشهر‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ويكون خروجه بادئ ذي بدء يدَّ عي اإليامن والصالح ويدعو إىل الدين ف ُيتبع ويظهر فال‬
‫يزال حتى يقدم الكوفة‪ ،‬ويظهر الدين وحيبه الناس ويتبعونه‪ ،‬ثم يدَّ عي أنه نبـي فيفارقه من‬
‫حوله‪ ،‬ثم يدَّ عي اإلهلية‪ ،‬ويقول‪( :‬أنا اهلل) فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بـني عينيه (ك ف‬
‫ر)‪ ،‬فال خيفى عىل مسلم فيفارقه كل أحد من اخللق يف قلبه مثقال ذرة من إيامن‪.‬‬
‫�ل ال ُب ْل�دَ ِ‬
‫ان‬ ‫اق َ‬‫يغْ�زُو بِ ِه�م مع ِ‬ ‫�و ِد َأ ْص َب َه ِ‬
‫�ان‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫�ن َي ُه ْ‬ ‫َيخْ ُ�ر ُج م ْ‬
‫س‬ ‫ض ِم ْث ُل َّ‬
‫الش ْم ِ‬ ‫َو َعدْ ُل ُه فِي األَ ْر ِ‬ ‫س‬‫�م َي�ز َْل َم ْه ِد ُّينَ�ا فِ�ي ال ُقدْ ِ‬
‫َو َل ْ‬
‫�ف ا َّل ِذي يو ِ‬
‫اص ُل ْه‬ ‫ي ُيقاتِ ُل� ْه‬ ‫ِ‬
‫ْ َُ‬ ‫َو َي ْر ُق ُ‬
‫ب الز َّْح َ‬ ‫�ش ا َّل�ذ ْ‬
‫الج ْي َ‬
‫ُي َج ِّه� ُز َ‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.224‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪451‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ات‬ ‫ف األَ ْر ُض َث اَل َ‬
‫ث َر َج َف ْ‬ ‫َوت َْر ُج ُ‬ ‫ات‬ ‫ث َس�ن ََو ْ‬ ‫�ط ثََل�اَ ُ‬‫َي ْس�بِ ُق ُه َق ْح ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ُع ُّم َه�ا بِال ُك ْف ِ‬
‫�ر َحت َْم ًا َوال َف َس�ا ْد‬ ‫ي َل� ُه البِ اَل ْد‬
‫�و ْ‬ ‫ف�ي َأ ْر َبع ْي َ‬
‫�ن َت ْن َط ِ‬

‫َ�و ِن َي ِق ْي ْن‬ ‫و َأنَّ�ه المعب ِ‬


‫�و ُد في الك ْ‬ ‫َ ُ َ ُْ ْ‬ ‫�ن‬ ‫ويدَّ ِع�ي بِ َأنَّ�ه ال�رب ِ‬
‫المت ْي ْ‬
‫ُ َّ ُّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫الر َج�ال‬ ‫ي بِ َه�ا الن َِّس َ‬
‫�اء َو ِّ‬ ‫ُيغ ِ‬
‫ْ�ر ْ‬ ‫ُ�و َز َواألَ ْم َ‬
‫�وال‬ ‫َو ُيخْ ِ‬
‫�ر ُج ال َكن ْ‬
‫ي فِي َخ ْي ِ‬
‫�ر َب َلدْ‬ ‫ِ‬
‫الم ْهد َّ‬
‫ِ‬
‫ُي َحاص ُ�ر َ‬ ‫الش�ا َم بِ َج ْي ٍ‬
‫�ش َو َع�دَ ْد‬ ‫َو َي ْب ُل�غُ َّ‬
‫ويتبعه سبعون ألف ًا من هيود أصبهان وثالثة عرش ألف امرأة‪ ،‬وعامة من يتبعه اليهود والرتك‬
‫والنساء(((‪.‬‬
‫طي فروة الكبش‪ ،‬وأنه يسيح األرض كلها يف أربعني يوم ًا‪.‬‬ ‫وتطوى له األرض مه ً‬
‫ال مهال َّ‬
‫خيرج يف ِخفة من الدين‪ ،‬وإدبار من العلم‪ ،‬فال يبقى أحد يحُ اجه يف أكثر األرض‪ ،‬ويذهل‬
‫الناس عن ذكره‪ ،‬وإن أكثر من يتبعه األعراب والنساء‪.‬‬
‫وبعثت لك أمك؟ أتشهد أين ربك؟‬
‫ُ‬ ‫بعثت لك أباك‬
‫أرأيت أن ُ‬
‫َ‬ ‫وإنه يأيت األعرابـي‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيتمثل له شيطان عىل صورة أبـيه وآخر عىل صورة أمه‪ ،‬فيقوالن‪ :‬أي بني اتبعه‬
‫فإنه ربك‪ ،‬فيتبعه‪.‬‬
‫قال صاحب «اإلشاعة» ص‪ :267‬املراد باألعراب هنا كل بعيد عن العلامء ساكن يف البادية‬
‫واجلبال‪ ،‬سواء كان من األعراب أو األتراك أو األكراد أو غري ذلك‪ ،‬ألهنم ليس عندهم ما‬
‫يميزون به بـني احلق والباطل‪ ،‬وأكثر النفوس مائلة إىل تصديق اخلوارق‪.‬‬
‫رب‬
‫وروى احلاكم يف «املستدرك» عن ابن مسعود ؤ بلفظ‪« :‬وتأتيه املرأة‪ ،‬فتقول‪ :‬يا ّ‬
‫أحي ابني وأخي وزوجي‪ ،‬حتى إهنا تعانق شيطان ًا‪ ،‬وبـيوهتم مملوءة شياطني‪ ،‬ويأتيه األعرابـي‬
‫فيقول‪ :‬يا رب أحي لنا إبلنا وغنمنا‪ ،‬فيعطيهم شياطني أمثال إبلهم وغنمهم سواء بالسن‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.264‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪452‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والسمة ‪ -‬أي‪ :‬اللون واحلجم ‪ -‬فيقولون‪ :‬لو مل يكن هذا ربنا مل حيي لنا موتانا»(((‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬إنه يأيت عىل القوم فيدعوهم فيؤمنون‪ ،‬فيأمر السامء فتمطر واألرض فتنبت‬
‫فرتوح وعليهم سارحتهم ‪-‬أي‪ :‬ماشيتهم‪ -‬أطول ما كانت ذرى ‪-‬أي‪ :‬أسمنه‪ -‬وأسبغه ‪-‬أي‪:‬‬
‫أطوله رضوع ًا وأمده خوارص‪ -‬ثم يأيت عىل القوم فيدعوهم فريدون عليه قوله‪ ،‬فينرصف عنهم‬
‫فيصبحون ممحلني‪ ،‬أي‪ :‬مقحطني ليس بأيدهيم يشء من أمواهلم»(((‪.‬‬
‫يمر عىل اخلربة‪ ،‬فيقول هلا‪ :‬أخرجي كنوزك‪ ،‬فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل»‬
‫وروي‪« :‬أنه ّ‬
‫ُ‬
‫(((‪.‬‬
‫وروي أن قبل خروجه ثالث سنوات شدائد يصيب الناس فيها جوع شديد‪ ...‬إىل أن قال‪:‬‬
‫ذات ظلف إل هلكت إل ما شاء اهلل»‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل فام يعيش الناس إذا كان‬
‫«فال تبقى ُ‬
‫ذلك ؟ قال‪« :‬التسبـيح والتكبـري جيري ذلك منهم جمرى الطعام» (((‪.‬‬
‫ومن عجائب مظاهر عرص الدجال (اختزال الوقت واختالل ترتيبه)‪ ،‬وهي من أعجب ما‬
‫ورد يف األحاديث عن ذلك‪ ،‬واختلف العلامء يف تأويل األحاديث فمنهم من قال‪ :‬هو كناية‬
‫عن اشتغال الناس بأنفسهم من الفتن حتى ال يدرون كيف يميض النهار‪ ،‬فيكون ميض النهار‬
‫عندهم كميضّ الساعة والشهر كاليوم والسنة كالشهر‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬بل هو عىل ظاهره‪ ،‬فقد ورد من حديث أنس ؤ عند أمحد والرتمذي‬
‫يف أرشاط الساعة‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان‪ ،‬فتكون السنة كشهر‪ ،‬ويكون الشهر‬
‫كجمعة‪ ،‬وتكون اجلمعة كاليوم‪ ،‬ويكون اليوم كالساعة‪ ،‬وتكون الساعة كالرضمة بالنار»‪ ،‬قال‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.269‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪ 270‬رواه مسلم عن النواس بن سمعان‪.‬‬
‫((( رواه مسلم عن النواس بن سمعان‪.‬‬
‫((( رواه ابن ماجه وابن خزيمة واحلاكم عن أبـي أمامة ‪ ،‬املصدر السابق ص‪.271‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪453‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫يف «اإلشاعة»‪ :‬فإن مجعنا بـني معاين األحاديث فعىل وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن أيامه أربعون سنة‪ ،‬وسمى السنني أيام ًا جماز ًا‪ ،‬ثم إن أول أيام سنته األوىل كسنة‬
‫وثانيها كشهر وثالثها كجمعة وباقي أيامها كأيامنا‪ ،‬ثم تتناقص أيام السنة الثانية حتى تكون‬
‫السنة كنصف سنة‪ ..‬وهكذا إىل أن تكون السنة كشهر والشهر كجمعة حتى يكون آخر أيامه‬
‫كالرشارة‪ ،‬يصبح أحدهم عىل باب املدينة فال يبلغ باهبا اآلخر حتى يميس‪.‬‬
‫قال يف كتاب «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪ : 132‬إن األربعني سنة التي يعمرها‬
‫الدجال شمسية وفتنته حمصورة أوال يف اليهود اخلارج فيهم ومن لف لفهم من السحرة‬
‫واألعراب والنساء وأوالد الزنا‪ ،‬حتى إذا مل يبق من األربعني سنة إال أربعون يوما خيرج‬
‫الدجال بنفسه وشخصه عىل الناس يسيح يف األرض فتطوى له يف أربعني يوما جيوهبا بوسائل‬
‫االخرتاعات احلديثة فال يأمن من رشه مؤمن وال خيلو من فتنته مأمن وال موطن كام ورد يف‬
‫احلديث «ينزو فيام بني السامء واألرض» واهلل سبحانه وتعاىل العاصم من دجله وخطله‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ويف املصدر السابق ص‪ 149‬قال‪ :‬عن سليامن بن شهاب العبيس قال‪ :‬نزل عىل عبداهلل بن‬
‫مغنم رجل من أصحاب عيل ريض اهلل عنه فزعم أنه ذكر عن النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم أنه‬
‫جييء من قبل املرشق فيدعو ِ‬
‫لنفسه ف ُيتبع ويقاتل أناس ًا فيظهر‬ ‫ُ‬ ‫خفاء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫الدجال ليس به‬ ‫قال‪« :‬إِنّ‬
‫عليهم‪ ،‬ال يزال ذلك حتى َيقْدُ َم الكوف َة فيظهر عليهم» ويؤيد ذلك أن الغلبة للدجال ابتداء ما‬
‫والع ْي ُث‪ :‬أن‬ ‫وعاث ِش ً‬
‫امال‪ ..‬يا عبا َد اهللِ اث ُبتُوا‪َ »..‬‬ ‫َ‬ ‫اث يمين ًا‬
‫فع َ‬
‫ورد يف حديث مسلم وغريهم‪َ « :‬‬
‫يركب األمر ال يبايل ما وقع‪ ،‬منه وهذا حال الغاضب فهو كالذئب يعيث يف الغنم‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال الكاتب ص‪ :155‬فيغلب عىل أهل فارس (إيران) حتى يغلب عىل هيود من أصفهان‬
‫فيخرج منها ومهته املدينة املنورة عىل ساكنها أفضل الصالة وأتم التسليم‪ ،‬ويمر من العجم إىل‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪454‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ملتقى البحرين((( من العراق ثم إىل الكوفة ثم إىل اجلزيرة العربية فيقاتل املسلمني ويقاتلونه‬
‫عىل شط الفرات حتى يأيت املدينة املنورة دون أن يدخلها ثم يتابع مسريته إىل الشام فيدخل‬
‫دمشق ثم إىل (فيق) ثم إىل اللد مقر قتله‪.‬اهـ‪.‬‬
‫ويقربه رواية ُنعيم واحلاكم املارة عن ابن مسعود ؤ أنه ‪-‬أي الدَّ جال‪ -‬يقول‪ :‬أنا رب‬
‫العاملني وهذه الشمس جتري بإذين‪ ..‬أفرتيدون أن أحبسها ؟ فيحبس الشمس حتى جيعل اليوم‬
‫كالشهر واجلمعة كسنة‪ ،‬ويقول‪ :‬أتريدون أن أسريها ؟ فيحصل اليوم كساعة(((‪.‬‬
‫ويف حديث عائشة ريض اهلل عنها عند ابن حبان يف صحيحه‪« :‬فيسري حتى ينـزل بناحية‬
‫املدينة‪ ،‬وهي يومئذ هلا سبعة أبواب عىل كل باب ملكان‪ ،‬فيخرج اهلل رشار أهلها‪ ،‬فيتوجه قبله‬
‫رجل من املؤمنني ويقول ألصحابه‪ :‬واهلل ألنطلقن إىل هذا الرجل فألنظرن أهو الذي أنذرنا‬
‫رسول اهلل ﷺ أم ال ؟‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬فينطلقون به إىل الدَّ جال‪ ،‬فإذا رآه املؤمن عرفه ِ‬
‫بنعت رسول‬
‫اهلل ﷺ‪ ،‬فيقول‪ :‬أيهُّ ا الناس هذا الدَّ جال الذي ذكر رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فيأمر به الدجال فيشج‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪َ :‬لت ُِط َيعنِّي فيام أمر ُتك أو لت َُش َّق َّن ِش َّق ِ‬
‫ني‪ ،‬فينادي املؤمن‪ :‬أيهُّ ا الناس هذا املسيخ الكذاب‪،‬‬
‫من عصاه فهو يف اجلنة ومن أطاعه فهو يف النار‪ ،‬فيؤمر به فيوسع ظهره وبطنه رضب ًا‪ ،‬فيقول له‬
‫الدجال‪ :‬والذي أحلف به لتطيعني أو ألشقنك شقني‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت املسيخ الكذاب‪ ،‬فيؤمر به‬
‫فينرش باملنشار من مفرقه حتى يفرق بـني رجليه»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬ويبعد بـينهام قدر رمية الغرض‪ ،‬ثم يميش الدجال بـني القطعتني‪ ،‬ويقول‬
‫تعلمون أين ربكم؟ قالوا‪ :‬بىل‪ ،‬فيرضب أحد شقيه أو الصعيد‬
‫ألوليائه‪ :‬أرأيتُم إن أحييتُه ألستُم ُ‬

‫((( البحرين موضع بني البرصة وعامن‪ ،‬وإنام ثنوا البحرين ألن من ناحية قراها بحرية عىل باب األحساء وقرى‬
‫َه َج َر‪ .‬اهـ «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.155‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.274‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪455‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عنده ويقول له‪ :‬قم‪ ،‬فيستوي قائ ًام‪ ،‬فلام رآه أولياؤه صدقوه وأيقنوا أنه رهبم وأجابوه واتبعوه‪،‬‬
‫ازددت فيك إل بصرية»‪ ،‬ثم ينادي‪ :‬أال إن هذا املسيخ‬
‫ُ‬ ‫وقال للمؤمن‪ :‬أال تؤمن بـي‪ ،‬فيقول‪ :‬ما‬
‫الكذاب‪ ،‬فيأخذ الدجال ليذبحه فال يستطيع إليه سبـيال‪ ،‬فيأخذ بـيديه ورجليه ويقذف به‬
‫فيحسب الناس إنام قذفه يف النار‪ ،‬وإنام ُألقي يف اجلنة»(((‪ ،‬زاد يف رواية مسلم يف الصحيح‪ :‬قال‬
‫أبوإسحاق‪ :‬فيقال‪ :‬إن هذا الرجل هو اخلرض ريض اهلل عنه(((‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬هذا أقرب امرئ درجة مني وأعظم الناس شهاد ًة عند رب العاملني»‪.‬‬
‫وترجف املدينة يومئذ ثالث رجفات فال يبقى منافق وال منافقة إلاَّ خرج إليه‪ ،‬فتنفي املدينة‬
‫يومئذ خبثها كام ينفي الكري خبث احلديد‪.‬‬
‫أحد ًا فيطلع فينظر إىل املدينة‪ ،‬ويقول ألصحابه‪ :‬أال ترون إىل هذا‬
‫وجييء الدجال فيصعد ُ‬
‫القرص األبـيض‪ ،‬هذا مسجد أمحد(((‪.‬‬
‫ـرف(((‪ .‬اهـ ‪.‬‬ ‫قب من أنقاهبا َملك ًا ُم ْص ِلت ًا‪ ،‬فيأيت َس ْب َخ َة ُ‬
‫اجل ْ‬ ‫ثم يأيت إىل املدينة فيجد بكل َن ٍ‬
‫وجاء يف مسند اإلمام أمحد عن فاطمة بنت قيس قالت‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم ‪ :‬إن طيبة املدينة إن اهلل عز وجل حرم عىل الدجال أن يدخلها واهلل الذي ال إله إال هو ما‬
‫هلا من طريق شيق وال واسع يف سهل وال جبل إال عليه ملك شاهر بالسيف إىل يوم القيامة‪ ،‬ما‬
‫يستطيع الدجال أن يدخلها عىل أهلها ‪ ..‬احلديث» ‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ‪ :‬وقد سقط من أعني كثري ممن اتبعه بعجزه عن اقتحام‪ ،‬ويف ذلك أحاديث‬
‫كثرية‪ ،‬وأول من يتبعه اليهود والنساء‪ .‬ويف رواية الطرباين يف «الكبري» عن سلمة بن األكوع‬

‫((( املصدر السابق ص‪ 279‬خمترص ًا‪.‬‬


‫((( «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.178‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.279‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.281‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪456‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال‪ :‬أقبلت مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم من قبل العقيق حتى إذا كنا عىل الثنية‬
‫التي يقال هلا ثنية احلوض التي بالعقيق أومأ بيده نحو املرشق فقال‪« :‬إين ألنظر إىل مواقع عدو‬
‫اهلل املسيح‪ ،‬إنه يقبل حتى ينزل من كذا حتى خيرج إليه غوغاء الناس‪ ،‬ما من نقب من أنقاب‬
‫املدينة إال عليه ملك أو ملكان حيرسانه‪ ،‬معه صورتان صورة اجلنة وصورة النار‪ ،‬معه شياطني‬
‫ألست قد‬
‫ُ‬ ‫يتشبهون باألموات‪ ،‬يقولون للحي‪ :‬تعرفني؟ أنا أخوك أنا أبوك أنا ذو قرابة منك‪..‬‬
‫مت؟ هذا ربنا فاتبعه ‪ ،‬فيقيض اهلل ما يشاء منه‪.‬اهـ ص‪.171‬‬
‫ُّ‬
‫قالت أم رشيك بنت أبـي العكر‪ :‬يا رسول اهلل‪ ..‬فأين العرب يومئذ ؟ قال‪ :‬يومئذ قليل‪،‬‬
‫وج ُّلهم ببـيت املقدس وإمامهم املهدي‪ ،‬فيتوجه ‪-‬الدَّ جال‪ -‬إىل الشام فيفر املسلمني إىل جبل‬
‫الدخان بالشام‪ ،‬فيأتيهم فيحرصهم ويشد حصارهم وجيهدهم جهد ًا شديد ًا‪.‬‬
‫حتى إذا طال احلصار يتبايعون عىل القتال بـيعة يعلم اهلل أهنا الصدق من أنفسهم‪ ،‬ثم‬
‫تأخذهم ظلمة ال يبرص أحدهم كفه‪ ،‬فينـزل ابن مريم عليه السالم‪ ،‬ف ُيحرس عن أبصارهم‬
‫وبـني أظهرهم رجل عليه ألمة‪ ،‬فيقولون‪ :‬من أنت؟ فيقول‪ :‬أنا عبداهلل وكلمته عيسى‪.‬‬
‫وأخرج البخاري يف تارخيه والطرباين يف معجمه وابن منده من طريق ربيعة بن ربيعة عن‬
‫نافع بن كيسان عن أبيه قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم يقول‪« :‬ينزل عيسى‬
‫بن مريم عند املنارة البيضاء رشقي دمشق» ذكره احلافظ ابن حجر يف «اإلصابة» ‪ ،‬قال يف كتاب‬
‫«ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪« :205‬فبينام هم عىل هذا احلال يأتيهم اهلل تعاىل بأمره وما‬
‫أتاكم الغوث‪ ..‬ثالثا»» ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من هَ َر ٍج إال وبعده َف َر ٌج‪ ،‬فيسمعون النداء من السحر «يا أهيا الناس‬
‫قيل‪ :‬ينزل عيسى عليه السالم يف الساعة السادسة من النهار عند املنارة البيضاء رشقي دمشق‬
‫ثم خيرج من يمنة املنارة البيضاء يميش وعليه السكينة واألرض تقبض له‪ ،‬ويأيت املسجد ويؤذن‬
‫له مؤذن من املسلمني‪ ،‬ثم خيرج بمن معه يطلب الدجال‪ ،‬وللمسلمني معسكران يف القدس‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪457‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الرشيف ويف األردن‪ ،‬فيجيء أوال سحر ًا إىل القدس الرشيف وحيرض املؤمنني عىل القتال»‬

‫اهـ‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪458‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫وهالك ال َيهود‬ ‫ُنـزول ِع َ‬
‫يسى ومقتل الدجال َ‬

‫ٍ ِ‬ ‫نـ�ز ُل ِع ْي َس�ى َع َل َم�ا‬


‫َو ِعنْدَ َه�ا َي ِ‬
‫�ما‬‫الس َ‬ ‫َع َل�ى َجنَ�احِ َم َل�ك م َ‬
‫�ن َّ‬
‫ْ�ك بِاألَعدَ ِ‬
‫اء‬ ‫ف ال َفت ِ‬
‫َي ْح ِم ُل َس� ْي َ‬ ‫�ب المنَ�ار ِة البـي َض ِ‬
‫�اء‬ ‫بِ َجانِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫ُم َّتبِ َع� ًا لِن َْه�جِ َط� َه َأ ْح َم�دَ ا‬ ‫الم ْقتَ�دَ ى‬ ‫�ع ا ِ‬
‫إل َم�ا ِم ُ‬ ‫�ي َم َ‬
‫ِ‬
‫َو َيلتَق ْ‬
‫ِ‬
‫�ن األَغ ْ‬
‫َ�ر‬ ‫َو َين ُْص ُ�ر الل� ُه بِ�ه الدِّ ْي َ‬ ‫المن َت َظ ْر‬
‫�ف ُ‬ ‫الصَل�اَ َة َخ ْل َ‬ ‫َيلت ِ‬
‫َ�ز ُم َّ‬
‫ِ‬ ‫ُ�ل لِلدَّ َّج ِ‬
‫�اب ُل�دٍّ َت ْعت َِري�ه َ‬
‫اله َلكَ� ْة‬ ‫ف�ي َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ال ُد ْو َن َم ْع َركَ� ْة‬ ‫َي ْقت ُ‬
‫وف ال َع�دْ ِل‬ ‫�ود بِس�ي ِ‬ ‫ِم�ن اليه ِ‬ ‫�ل‬‫�وش الدَّ ْج ِ‬ ‫َو َي ْه ِ‬
‫�ز ُم الل� ُه ُج ُي َ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ َُ‬
‫�ذا يه ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َتنْطِ ُ‬
‫ي َل� ُه ال َفن ُ‬
‫َ�اء‬ ‫َه َ َ ُ ْ‬
‫�ود ُّ‬ ‫�اء‬
‫الص َّم ُ‬‫�ار ُة َّ‬
‫�ق الح َج َ‬
‫الهدَ ى َوال ُك ْف ُر ُيفنَى بِالت ََّما ْم‬ ‫ِ‬ ‫نص ُ�ر الل� ُه بِ ِع ْي َس�ى َوا ِ‬
‫ين ُ‬
‫د َ‬ ‫إل َم�ا ْم‬ ‫َو َي ُ‬

‫يشري الناظم إىل مرحلة جديدة من مراحل التحول يف هذا العرص واملهدي قد التجأ مع‬
‫أصحابه إىل جبل الدخان فرار ًا من هجمة الدَّ جال‪ ،‬ورغب ًة يف إعداد أنفسهم ملنازلته‪ ،‬فبـينام‬
‫إمامهم املهدي وقد تقدم يصيل هبم الصبح إذ نـزل عليهم نبـي اهلل عيسى بن مريم عليه السالم‪،‬‬
‫فريجع املهدي ال َق ْه َق َرى ليتقدم عيسى عليه السالم ل ُيصيل بالناس‪ ،‬ويقال له‪ :‬يا روح اهلل تقدم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫فليصل بكم‪ ،‬ويضع عيسى عليه السالم يده بـني كتفي املهدي‪ ،‬ويقول‬ ‫فيقول‪ :‬ليتقدم إمامكم‬
‫له‪ :‬تقدم فإهنا لك ُأقيمت‪ ،‬فيصيل هبم إمامهم‪ ،‬فإذا انرصف‪ ،‬قال عيسى عليه السالم‪ :‬افتح ‪-‬‬
‫وكأنه شعار املعركة‪ -‬فيفتح ووراء الدَّ جال سبعون ألف هيودي‪ ،‬فإذا نظر إليه الدجال َذ َ‬
‫اب كام‬
‫َيذوب امللح يف املاء وانطلق هارب ًا‪ ،‬فيقول له عيسى عليه السالم‪ :‬إن يل فيك رضبة لن تسبقني‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪459‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫هبا‪ ،‬فيدركه عند باب لدّ الرشقي فيقتله وهيزم اهلل اليهود (((‪.‬‬
‫واجلمع بـني الروايات املتعددة يف هذا املضامر كتب شارح «اإلشاعة»‪« :‬طريق اجلمع بـني‬
‫هذه الروايات أن عيسى عليه السالم ينـزل أو ًال بدمشق عىل املنارة البـيضاء ‪-‬وهي موجودة‬
‫اليوم‪ِ -‬‬
‫لست ساعات من النهار‪ ،‬وقد ّ‬
‫مر يف الفتوحات أنه يصيل بالناس صالة العرص فيحتمل‬
‫أنه ينـزل بعد الظهر‪ ،‬ثم مع اشتغاله بالقرعة((( بـني اليهود والنصارى يدخل وقت العرص فيصيل‬
‫هبم العرص كام يف رواية‪ ،‬ثم يأيت إىل بـيت املقدس غوث ًا للمسلمني ويلحقهم يف صالة الصبح‬
‫وقد أحرم املهدي والناس كلهم أو بعضهم مل حيرموا فيخرج إليه بعض من مل حيرم بالصالة‬
‫فيأيت واملهدي يف الصالة فيتقهقر‪ ،‬ويقول بعض الناس لعيسى‪ :‬تقدم‪ ،‬فيضع يده عىل كتف‬
‫املهدي أن تقدم‪ ،‬ويقول للقائل‪ :‬ليتقدم إمامكم‪ ،‬فيجيب املهدي‪ ،‬ثم إذا أصبحوا رشد أصحاب‬
‫الدجال فتضيق عليهم األرض فيدركهم بباب لدّ فيصادف ذلك صالة الظهر‪ ،‬فيتحيل اللعني‬
‫إىل اخلالص منه بإقامة الصالة‪ ،‬فلام عرف أنه ال يتخلص منه بذلك ذاب خوف ًا منه كام يذوب‬
‫امللح‪ ،‬وهيزم اهلل اليهود وأصحاب الدجال‪ ،‬فال يبقى يشء مما خلق اهلل يتوارى به هيودي إل‬
‫أنطق اهلل ذلك اليشء‪ ،‬ال شجر وال حجر وال حائط وال دابة إل قال‪« :‬يا عبداهلل املسلم هذا‬
‫هيودي»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬هذا دجال فتعال فاقتله؛ إال الغرقد فإهنا من شجر اليهود ال ينطق»‪.‬‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.282‬‬


‫(( ( قال يف «اإلشاعة» ص‪ :301‬ينـزل عند املنارة البـيضاء رشقي دمشق واضع ًا كفيه عىل أجنحة ملكني‬
‫لست ساعات مضني من النهار‪ ،‬حتى يأيت مسجد دمشق‪ ،‬يقعد عىل املنرب‪ ،‬فيدخل املسلمون املسجد وكذا‬
‫النصارى واليهود وكلهم يرجونه‪ ،‬حتى لو ألقيت شيئ ًا مل ُيصب إال رأس اإلنسان من كثرهتم‪ ،‬ويأيت مؤذن‬
‫املسلمني‪ ،‬وصاحب بوق اليهود‪ ،‬وناقوس النصارى‪ ،‬فيقرتعون فال خيرج إال سهم املسلمني‪ ،‬وحينئذ‬
‫يؤذن مؤذهنم‪ ،‬وخترج اليهود والنصارى من املسجد ويصيل باملسلمني صالة العرص‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪460‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال ﷺ‪« :‬فيكون عيسى عليه السالم يف أمتي حك ًام وعد ًال وإمام ًا مقسط ًا» (((‪.‬‬

‫ليوشكن أن‬
‫ّ‬ ‫وعن أبـي هريرة ؤ أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬والذي نفيس بـيده‬
‫ينـزل ابن مريم حك ًام عد ًال فيكرس الصليب ويقتل اخلنـزير ويضع اجلزية» (((‪.‬‬
‫قال تعاىل‪( :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ) (((‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬ﭑ ﭒ‬
‫(لع َل ٌم) بفتح العني والالم بمعنى العالمة (((‪.‬‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ) ((( و ُقرئ يف الشواذ َ‬
‫ومن عظيم سريته أنه يدق الصليب ويقتل اخلنـزير والقردة ويضع اجلزية فال يقبل إلاَّ‬

‫اإلسالم‪ ،‬ويتحد الدين فال يعبد إلاَّ اهلل ويرتك الصدقة ‪-‬أي‪ :‬الزكاة‪ -‬لعدم من يقبلها‪ ،‬وتظهر‬
‫الكنوز يف زمنه وال يرغب يف اقتناء املال للعلم بقرب الساعة‪ ،‬ويرفع الشحناء والتباغض لفقد‬
‫أسباهبام غالب ًا‪ ،‬وينـزع سم كل ذي سم‪ ،‬ويرعى الذئب والشاة‪ ،‬ويمأل األرض سل ًام وينعدم‬
‫القتال‪ ،‬وتنبت األرض بنبتها كعهد آدم حتى جيتمع النفر عىل القطف من العنب فيشبعهم وكذا‬
‫مقرر ًا للرشيعة النبوية‬
‫الرمانة‪ ،‬وترخص اخليل ويغلو الثور ألن األرض حترث كلها‪ ،‬ويكون ِّ‬
‫ال رسو ً‬
‫ال هلذا األمة(((‪.‬‬
‫ويف حتديد مدة إقامته يف األرض وردت أقوال‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬ما ورد يف حديث الطرباين وابن عساكر عن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‬
‫قال‪« :‬ينـزل عيسى بن مريم فيمكث يف الناس أربعني سنة إمام ًا»‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.285‬‬


‫((( رواه الشيخان‪.‬‬
‫((( النساء ‪.159 :‬‬
‫((( الزخرف‪.61 :‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص ‪.296‬‬
‫((( املصدر السابق ص ‪.299‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪461‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫واملعتقد أن احلكم واخلالفة تكون يف هذه املرحلة لإلمام املهدي ‪-‬عليه السالم‪-‬‬
‫حتى يموت‪ ،‬ومل حتدد كتب احلديث فرتة موته إال أن املشار اليه أن أحد ًا من آل بـيته‬
‫يتوىل اخلالفة من بعده‪ ،‬قال اإلمام الربزنجي يف « اإلشاعة» ص‪ :333‬إن املهدي الكبـري‬
‫هو الذي يفتح الروم وخيرج الدجال يف زمنه ويصيل عيسى عليه السالم خلفه وإن‬
‫اخلالفة تكون له ولقريش من بعده‪ ،‬وأن عيسى عليه السالم ال يسلب قريش ًا ملك ًا رأس ًا‪،‬‬
‫وإنام تكون إليه املشورة وهو احلكم فيهم يعلمهم الدين‪ ،‬ثم ييل بعد املهدي رجل من‬
‫أهل بـيته يف سريته‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ويف لفظ للطرباين‪« :‬خيرج الدَّ جال فينـزل عيسى بن مريم عليه السالم فيقتله‪ ،‬ثم يمكث يف‬
‫ً‬
‫عادال وحك ًام مقسط ًا» (((‪.‬‬ ‫األرض أربعني سنة إمام ًا‬
‫وأخرج ابن عساكر يف تارخيه عن ابن عباس ريض اهلل عنهام قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم «ال تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم عىل ُذ ْر َو ِة (أفيق) ((( بيده َح ْر َب ٌة َي ْقت ُُل‬
‫الدَّ ّجال» ويف رواية أخرى «ينزل عيسى بن مريم من املساء عىل (جبل أفيق) إمام ًا هادي ًا وحك ًام‬
‫ً‬
‫عدال عليه ُب ْر ُن ٌس له‪ ..‬احلديث» وأخرج أمحد يف مسنده عن عائشة ريض اهلل عنها قالت‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم (عن الدجال)‪« :‬حتى يأيت الشا َم مدينة فلسطني بباب ُلدّ‬
‫ُ‬
‫يمكث‬ ‫–وقال أبوداود‪« :‬مرة حتى يأيت فلسطني باب ُلدّ » – فينزل عيسى عليه السالم فيقتُله‪ ،‬ثم‬
‫عدال وحك ًام ُم ْق ِسط ًا»(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫عيسى عليه السالم يف األرض أربعني سن ًة إمام ًا‬
‫وأخرج ابن أيب شيبة يف مصنفه عن عبداهلل بن عمر ريض اهلل عنهام قال‪« :‬ينزل عيسى بن‬

‫((( املصدر السابق ص‪.303‬‬


‫((( اسم جبل‪.‬‬
‫((( «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» ص‪.210‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪462‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اليهود فيقتلون»(((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مريم فإذا رآه الدجال ذاب كام تذوب الشحمة‪ ،‬فيقتل الدجال و ُي َف َّر ُق عنه‬
‫ويف هذا داللة واضحة عىل أن أبناء العنرص اليهودي يعملون بوعي أو بغري وعي منذ بداية‬
‫وجودهم عىل تنفيذ مشاريع الدجال يف العامل كام سبق ذكره‪ ،‬وأن مصريهم يف هناية األمر هو‬
‫مصري الدجال يقتلون معه حتت رايته‪ ،‬ويؤكد ذلك ما ذكره أبوحيان يف تفسريه «البحر املحيط»‬
‫عند اآلية يف سورة النساء (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ‬
‫ﮠ) ‪:‬‬
‫قال عبدالرمحن بن يزيد‪ :‬الوجوه هي أوطاهنم وسكناهم يف بالدهم التي خرجوا إليها‪،‬‬
‫وطمسها إخراجهم منها‪ ،‬والرد عىل األدبار رجوعهم إىل الشام من حيث أو ً‬
‫ال‪ ،‬وحسن‬
‫الزخمرشي هذا القول ‪.‬اهـ‪.‬‬
‫قال الشيخ مؤلف «ظهور الدجال مسيخ الضاللة» تعليقا عىل ما ذكر‪:‬‬
‫قلت‪ :‬ففي هذه اآلية الكريمة إخبار عام سيقع يف مستقبل الزمان‪ ،‬فقد حكى اهلل عز وجل عن‬
‫اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم‪ ،‬ثم عقب ذلك األمر باملبادرة إىل سلوك حمجة اهلدى مشفوعا‬
‫بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد عىل املخالفة بقوله تعاىل‪( :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ) ‪ .‬ذكر القرطبي يف تفسريه‪ :‬قال املربد‪ :‬إنه منتظر بعد والبد من طمس اليهود‬
‫ومسخ قبل قيام الساعة يوم حترشهم النار إىل الشام أرض املحرش (أي‪ :‬االجتامع) ويظهر‬
‫الدجال عليه اللعنة‪ ،‬وينزل عيسى عليه السالم وكان أمر اهلل مفعوال‪ ،‬أي‪ :‬وعده الذي قضاه‬
‫وحكم به مفعوال نافذا واقعا كائنا ال حمالة‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.121‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪463‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫مَ راح ُل التَحوَّالت بـيَأْجُ وجَ ومَ أجُ وج‬

‫ت َْأتِي جي�و ُش الهت ِ‬


‫ْ�ك َوال َّت ْقبِ ْيحِ‬ ‫ت الس�ي ِد ا َل ِ‬
‫�ل م�و ِ‬
‫َ‬ ‫ُُ ْ‬ ‫مس� ْيحِ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫َوق ْب َ َ ْ‬
‫َالس� َبا ِع فِ�ي الخَ َلَ‬ ‫ٍ‬
‫ك ُِّل بَِل�اَ د ك ِّ‬ ‫�و َج َو َم ْأ ُج ْو َج َع َلى‬
‫�و ُع َي ْأ ُج ْ‬
‫ُج ُم ْ‬
‫تشري األبـيات إىل ما حيصل من التحول يف آخر عهد عيسى عليه السالم وما يبتيل اهلل به أهل‬
‫اإليامن من خروج يأجوج ومأجوج(((‪ ،‬قال يف «اإلشاعة»‪« :‬وهي من الفتن العظام‪ ،‬وقد أشري إليهم‬
‫يف غري آية‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ)‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬ﮃﮄ‬
‫ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ)‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يكون‬
‫عرش آيات‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬والدخان‪ ،‬والدابة‪ ،‬ويأجوج ومأجوج‪ ،‬ونـزول عيسى بن مريم‪،‬‬
‫وثالث خسوفات‪ ،‬ونار خترج من قعر عدن أبـني‪ ...‬احلديث»(((‪ ،‬وليس الرتتيب رشط ًا يف بروز هذه‬
‫اآليات وإنام منها ما يتقدم عىل اآلخر‪ ،‬واختلف يف أصل نسبتهم‪ :‬فقيل‪ :‬هم من بني يافت بن نوح‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬هم من الرتك‪ ،‬وقيل‪ :‬يأجوج من الرتك‪ ،‬ومأجوج من الديلم‪.‬‬
‫وأخرج أمحد والطرباين عن خالد بن عبداهلل بن ِحرملة‪« :‬إنكم تقولون ال عدو‪ ،‬وإنكم‬
‫ال تزالون تقاتلون عدو ًا حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج‪ ،‬عراض الوجوه صغار العيون صهب‬

‫((( أخرب ﷺ عن بداية ظهور يأجوج ومأجوج منذ مرحلته ﷺ وهو يف املدينة‪ ،‬حيث قال فيام رواه البخاري‬
‫وغريه ‪ُ « :‬فتِ َح اليوم من َر ْد ِم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وح َّلق بني أصبعيه السبابة واإلهبام‪ .‬ويف هذا‬
‫احلديث داللة عىل بروز العديد من الفتن وهو ﷺ عىل قيد احلياة كظاهرة‪ ،‬ثم ما لبث أن حتقق خطرها‬
‫فيام بعد ذلك ‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫((( رواه ابن ماجه عن حذيفة بن أسيد ؤ ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪464‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الشعور‪ ،‬من كل َح َد ٍ‬
‫ب ينسلون‪ ،‬كأنَّ وجوههم املجان املطرقة» «اإلشاعة» ص‪.318‬‬
‫وأخرج الرتمذي وحسنه ابن حبان واحلاكم وصححه عن أبـي هريرة ؤ ورفعه‪:‬‬
‫«يف السدّ حيفرونه كل يوم حتى إذا كادوا خيرقونه قال الذي عليهم‪ :‬ارجعوا فتخرقونه غد ًا‪،‬‬
‫فيعيده اهلل كأشد ما كان‪ ،‬حتى إذا بلغ مدهتم وأراد اهلل أن يبعثهم عىل الناس قال الذي عليهم‪:‬‬
‫(ارجعوا فستخرقونه غد ًا إن شاء اهلل تعاىل) واستثنى‪ ،‬قال‪ :‬فريجعون فيجدونه كهيئته حني‬
‫تركوه‪ ،‬فيخرجون عىل الناس» اهـ «اإلشاعة» ص (((‪.320‬‬
‫وقد فرس بعض الباحثني املعارصين((( هذا احلديث بعد طول دراسة معاينة للموقع ذاته‬
‫(((‬

‫ومقارنة بينه وبني ما جاء يف القرآن‪ ،‬وما أثبتته احلفريات واآلثار بأن هذا السد (ردم حمكم وحاجز‬
‫عظيم)‪ ،‬كام وصفه القرآن يف سورة الكهف (ﯾﯿﰀﰁﰂﰃ)فهو مرشوع مكون‬
‫من عدة نشاطات وعدة أعامل ووظائف وعدد كبري من العامل واآلالت والوسائل واملواد املتنوعة‬
‫من العنارص املعدنية كاحلديد والقطر (الطني) واخلشب والوقود وغريها عىل مدى أعوام كثرية‬

‫((( ورد يف «اإلشاعة» حديث يتعلق بوصول الرسالة املحمدية إليهم‪ ،‬وهو ما رواه أبو نعيم بن محاد يف «الفتن»‬
‫عن ابن عباس ريض اهلل عنه مرفوع ًا قال‪« :‬بعثني اهلل حني أرسي بـي إىل يأجوج ومأجوج فدعوهتم إىل‬
‫دين اهلل وعبادته فأبوا أن يـجيبوين‪ ،‬فهم يف النار مع من عىص من ولد آدم وولد إبليس» ص‪.321‬‬
‫((( هو الباحث محدي بن محزة أبوزيد من مواليد ينبع بأرض احلجاز حامل ماجستري يف االقتصاد والعلوم‬
‫السياسية من جامعة امللك سعود – الرياض ‪ 1388‬هـ (‪ 1968‬م) وعضو جملس الشورى وله وظائف‬
‫عديدة ذكرت يف آخر صفحة من كتابه القيم املسمى «فك أرسار ذي القرنني ويأجوج ومأجوج» طبعة‬
‫‪1425‬هـ‪2004/‬م‪.‬‬
‫((( املوقع املشار إليه يقع كام ذكر الباحث ص‪ 485‬يف مدينة (جنج جو) وهي إحدى املدن الصينية القديمة‬
‫جدا‪ ،‬وقد فصل الباحث صفة الردم وارتفاعه وما تبقى منه يف عدة صفحات‪ ،‬وأشار إىل أن مدينة (جنج‬
‫جو) هي عاصمة منطقة (هينان) التي تقع يف وسط اجلزء الرشقي من الصني ويف اجلنوب من النهر‬
‫األصفر‪ .‬اهـ‪« .‬فك أرسار ذي القرنني» ‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪465‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قدرها بعضهم بثامنية عرش سنة‪ ،‬بناه ذوالقرنني يف عهد أحد ملوك الصني من أرسة (شانغ) يف الفرتة‬
‫(‪ )1050 – 1330‬ق‪.‬م‪ .‬وهو أول ردم بني يف الصني‪.‬‬
‫وتتلخص االستنتاجات التي توصل إليها الباحث فيام ييل‪:‬‬
‫‪ -1‬إن مضامني اآليات الكريمة من سورةالكهف(ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)إىل قوله تعاىل‪(:‬ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ‬
‫ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ) جاءت موافقة‬
‫(كإعجاز قرآين) لرتمجتها بالغة الصينية متفقة مع أحداث ووقائع تارخيية وقعت يف بالد‬
‫الصني خالل فرتة دخول ذي القرنني إليها‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الوصول إىل معرفة مضمون كلمتي (يأجوج ومأجوج) الصينية األصل بعد ترمجتها‬
‫إىل اللغة العربية ييرس الوصول إىل تفسري العديد من األحداث التارخيية املاضية ‪ ،‬ويؤكد‬
‫احلقائق القرآنية والنبوءات املحمدية حول هذه القضية‪.‬‬
‫‪ -3‬إن هذه املعجزة القرآنية عن يأجوج ومأجوج ليست قارصة عىل البعد اللغوي فقط؛‬
‫ولكنها بصورة أهم وأخطر معجزة ملا حتمله من مضامني وأبعاد تارخيية وديمغرافية‬
‫وعلمية هتم البرشية كلها يف ماضيها وحارضها ومستقبلها‪.‬‬
‫‪ -4‬إن ترمجة ( ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ) تعني أن سكان قارة آسيا وسكان قارة‬
‫اخليل مفسدون يف األرض‪ ،‬ومعنى سكان قارة اخليل ‪-‬أي‪ :‬من يسمون (شعب اخليل)‬
‫وكذلك شعب الرماة‪ -‬هم الدول املحيطة بالصني يف تلك احلقبة من الزمن والتي كانت‬
‫للصني معها حدود وعالقات وقتها‪ ،‬وهي اليابان وكوريا ومنشوريا وسيبرييا ومنغوليا‬
‫ودول آسيا الوسطى‪ ،‬وهم الذين يصفهم الصينيون بيأجوج أو بني يأجوج‪ ،‬وهؤء‬
‫اعتادوا عىل شن احلروب قديام عىل الصني حتى قرون قريبة‪ ،‬وكان آخرها ما حدث‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪466‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫يف القرن الثالث عرش امليالدي عىل يد جنكيز خان وهوالكو الذين اعتدوا وعاثوا يف‬
‫األرض فسادا‪.‬‬
‫‪ -5‬بناء عىل املعطيات واملعلومات والتحليالت التي توصل إليها البحث صار من املتوقع‬
‫واملمكن أن يكون ما يسمى (بني السدين) مكانا حمددا ومعروفا يف بالد الصني‪ ،‬وإن‬
‫االحتامل األكرب ملوقع ذلك املكان هو يف جبال معينة شامل مدينة (جنج جو) يف مقاطعة‬
‫هينان ‪.Henan‬‬
‫‪ -6‬بتطبيق معنى اآلية القرآنية األخرى يف سورة األنبياء (ﮃ ﮄﮅﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ) تصبح ترمجتها من اللغة الصينية إىل اللغة العربية (حتى‬
‫إذا فتحت شعوب قارة آسيا وشعوب قارة اخليل وهم من كل حدب ينسلون) فهم‬
‫مفسدون يف األرض‪ .‬وهذا يعني أن شعوب وسكان قارة آسيا (يأجوج) وسكان قارة‬
‫اخليل (مأجوج) مفسدون يف األرض حقا‪.‬‬
‫ويشري تاريخ الصني القديم والوسيط واحلديث مؤكدا أن الصينيني كانوا دائام هدفا‬
‫العتداءات جرياهنم من سكان آسيا (اليأجوجيني) وسكان قارة آسيا األوروبية وسكان‬
‫آسيا الوسطى وسكان قارة اخليل (املأجوجيني) (((‪.‬‬
‫‪ -7‬هناك أسباب وعوامل هامة هي التي جعلت (سكان قارة آسيا «يأجوج» وسكان‬
‫قارة اخليل «مأجوج») برابرة ومتوحشني كام جاء وصفهم يف القرآن يف سورة الكهف‬
‫( ﯪ ﯫ ﯬ )((( منها قسوة الظروف اجلعرافية والبيئية واملعيشية‪ ،‬وتوفر أدوات‬
‫ووسائل وموارد التفوق القتايل كاملهارات واخليول وأدوات القتال وروح الغرور‬

‫((( املرجع السابق ص‪.362‬‬


‫((( الكهف‪. 94 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪467‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫والشعور بالقوة‪ ،‬إضافة إىل الولع الطبيعي بشن احلروب واكتساب املعيشة بالبطش‬
‫والوحشية وانعدام الرمحة يف معاملة األعداء واخلصوم‪.‬‬
‫‪ -8‬انعدام الديانة الصحيحة ووقوعهم يف اخلرافات اجلاهلية منذ القدم‪.‬‬
‫‪ - 9‬اتصاف هذه الشعوب بصفات متميزة كصفة البرشة وميلها إىل اللون األصفر‪ ،‬والوجوه‬
‫العريضة‪ ،‬وبروز عظام اخلدود والوجنات‪ ،‬والعيون السوداء الضيقة والشعر األسود‪.‬‬
‫وقد جاءت بعض هذه الصفات يف مثل قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم كام رواه‬
‫اإلمام أمحد‪« :‬إنكم تقولون ال عدو لكم‪ ،‬إنكم ال تزالون تقاتلون عدوا حتى خيرج‬
‫يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب من كل حدب ينسلون كأن‬
‫وجوههم املجان املطرقة(((»‪.‬‬
‫إن هذا التطابق يف الوصف النبوي ليأجوج ومأجوج مع ما تم استخالصه من‬
‫البحث حول صفاهتم هلو معجزة نبوية بدون ريب(((‪.‬‬
‫‪ -10‬تفرد القرآن الكريم يف رشح معلومات (يأجوج ومأجوج) برواية صحيحة مطابقة‬
‫للواقع خالفا ملا جاء عن (يأجوج ومأجوج) يف الرتاث الغريب‪ ،‬بل وجيد الباحث‬
‫أن مجيع التفسريات التي طرحت من قبل منسويب الدين املسيحي ومن قبل الكتاب‬
‫الغربيني جاءت عىل اخلرص والظن‪ ،‬بينام نجد عبارة (يأجوج ومأجوج) يف القرآن‬
‫حقيقة واضحة جاءت بلسان قوم معروفني قديام وحديثا وأن اللفظ واملضمون جاءا‬
‫مطابقني متاما ملفاهيم وقواعد اللغة الصينية‪ ،‬ومطابقني أيضا ألحداث ووقائع تارخيية‬

‫((( املرجع السابق ص‪.375‬‬


‫((( املرجع السابق ص‪. 376‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪468‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وجغرافية أثبتتها االكتشافات واحلفريات عرب العصور املختلفة(((‪.‬‬
‫‪ -11‬وفقا لرتمجة اآلية الكريمة للغة الصينية فإن معناها (حتى إذا فتحت ديار بلدان سكان‬
‫قارة آسيا وديار بلدان سكان قارة اخليل وهم من كل حدب ينسلون) فهناك سؤال عن‬
‫ماهية وطبيعة هذا الفتح؟ ومن هم الفاحتون؟ ومتى زمن ذلك الفتح؟ وما هي عالمات‬
‫وآثار ذلك الفتح؟ وهل فتحت بالد يأجوج ومأجوج؟ وما هي العالمات؟‬
‫قال املؤلف‪ :‬من املعروف تارخييا منذ آالف السنني بأن مجيع دول يأجوج ومأجوج‬
‫–أي‪ :‬دول قارة آسيا ودول قارة اخليل‪ -‬هي دول تتصف بالعزلة واالنغالق عن مجيع‬
‫دول العامل‪ ،‬ولعل السبب يف ذلك هو أن هذه الدول تقع يف أقىص الطرف الشاميل‬
‫لألرض وأن بينها وبني القارات األخرى بحار ومساحات شاسعة يصعب الوصول‬
‫إليها بوسائل املواصالت القديمة‪ ،‬كام أن طبيعة شعوب هذه الدول كانت متيل إىل‬
‫العزلة ضمن نطاقها اإلقليمي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معان منها‪:‬‬ ‫ويأيت (الفتح) عىل‬
‫الفتح بمفهوم اإلسالم يعني دخول البلدان والشعوب يف دين اإلسالم‪،‬‬ ‫‪ -‬‬
‫وفتح مكة ودخول أهلها يف اإلسالم منذ حوايل ‪ 1420‬سنة يعطي مثاال واضحا هلذا‬
‫املعنى‪ ،‬فهل تعني اآلية الكريمة (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬
‫ﮋ ﮌ ) أن شعوب هذه الدول سيدخلون يف اإلسالم؟‬
‫أم أن الفتح الوارد يف اآلية يعني احتالل هذه الدول من قوى أجنبية بقوة‬ ‫‪ -‬‬
‫السالح؟ فإن كان هذا هو املقصود فإن مجيع دول هاتني القارتني تعرضت يف القرن‬
‫التاسع عرش والعرشين للحروب واالحتالل من قوى أجنبية أو من قوى داخل هاتني‬

‫((( املرجع السابق ص‪. 405‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪469‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫القارتني‪.‬‬
‫أم أن الفتح الوارد يف هذه اآلية يعني انفتاح دول قارة آسيا ودول قارة‬ ‫‪ -‬‬
‫اخليل (يأجوج ومأجوج) عىل العامل كام هو احلال يف هذا العرص املعروف (بالعوملة)‪،‬‬
‫والذي هتيمن عليه قوى متصارعة تعلو كل منها عىل األخرى وتلعب عىل ساحتها‬
‫دول قارة آسيا ودول قارة اخليل دورا حموريا متصاعدا كام هو احلال يف عرصنا‪ ،‬واملتتبع‬
‫لتطور وصعود دول (يأجوج ومأجوج) وبروز بعضها كقوة مؤثرة عىل املرسح الدويل‬
‫كالصني واليابان وكوريا يالحظ ويلمس الكثري من اإلشارات والعبارات التي تشري إىل‬
‫مدلوالت مرتبطة بمضمون عبارة الفتح‪.‬‬
‫‪ -1‬حتدثت شعوب األمم األوروبية وغريها عن ظاهرة يأجوج ومأجوج بأكثر من فكرة‬
‫ومفهوم‪ ،‬ونقل املؤلف نامذج عديدة منها ما جاء يف املوسوعة الربيطانية حيث قال‪ :‬فقد‬
‫جاء بأن اإلنجيل يعترب (جوج) قوة عدوانية يتحكم فيها الشيطان وأن هذه القوة ستظهر‬
‫يف آخر الزمان‪ ،‬كام جاء يف مقاطع إنجيلية ويف أسفار مسيحية وهيودية أن (جوج) مقيد‬
‫بقوة عدوانية أخرى هي (مأجوج) بينام جاء يف مواضع أخرى بأن مأجوج هو مكان‬
‫ومنشأ أصل جوج‪.‬‬
‫‪ - 2‬أما بالنسبة للرتاث األورويب فإن قصة ما يسميه املسيحيون والغربيون بصفة عامة (جوج‬
‫ومأجوج) قد اختذت أبعادا واهتاممات كبرية ‪ ،‬وبينام أصبح وجود ما سمي (جوج ومأجوج)‬
‫جزءا من العقيدة الدينية لدى األوروبيني‪ ،‬فإن االدعاء بموطنهم يف شامل الكرة األرضية كان‬
‫موضع خالف ملدة طويلة‪ ،‬األمر الذي جعل مصدر اهلجوم الرببري الذي تعرضت له أوروبا‬
‫يف القرن الثالث عرش امليالدي عىل يد املنغول أكثر غموضا وأكثر هتديدا‪.‬‬
‫إن مجيع الذين بحثوا يف هذا الشأن من علامء الدين املسيحي وعلامء اجلغرافيا‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪470‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫الطبيعية واجلغرافيا البرشية الغربيني مل يستطيعوا الوصول حتى الوقت احلارض إىل ماهية‬
‫ما سموه (جوج ومأجوج) وظلت هذه املسالة يف تراث الشعوب املسيحية والغربية لغزا‬
‫غامضا وحمريا وباعثا عىل اخلوف واجلزع‪.‬‬
‫أما العبارة القرآنية فقد تم التوصل بفضل اهلل وعونه ألساسها وأصلها اللغوي‬
‫املتمثل يف اللغة الصينية وأمكن بعد ذلك فك لغزها ومعرفة مضامينها‪.‬‬
‫‪ -3‬إن صح بأن عبارة (جوج ومأجوج) قد جاءت ضمن اإلنجيل فهي إذن يف منزلة وحي‬
‫من عند اهلل‪ ،‬لكن عدم إمكانية الكشف عن أساسها وأصلها اللغوي سبب حتريفها‬
‫عن مدلوهلا ونطقها األصيل‪ ،‬أو أهنا مل تنزل ضمن اإلنجيل ولكنها اقتبست من القرآن‬
‫الكريم ثم حرف نطقها ليتالءم مع طبيعة األلسنة الغربية‪.‬‬
‫ويف مجيع احلاالت فإن ما جاء يف القرآن الكريم حول قصة يأجوج ومأجوج لفظا‬
‫ومضمونا وأحداثا هو يف احلقيقة احلق بعينه‪ ،‬وهذا يؤكد إعجاز القرآن العظيم وأنه‬
‫موحى من عند اهلل وأنه الكتاب املهيمن عىل كل الكتب التي سبقته(((‪.‬‬

‫((( املرجع السابق ص‪. 419‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪471‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عيىس عليه السالم ويَأجوج ومَ أجوج‬

‫اله ِام ْي َد َما‬


‫الم َط َ�ر َ‬
‫َحتَّى َي َ�ر ْو َن َ‬ ‫�اب َأ ْر َض ًا َو َس َ‬
‫�ما‬ ‫َي ْر ُم ْو َن بِالن ََّّش ِ‬
‫�ي كَائِ ِ‬
‫�ن‬ ‫�و َن ك َُّل َح ٍّ‬ ‫ُي َق ِّت ُل ْ‬ ‫�اء َبائِ ِ‬
‫�ن‬ ‫وي ْش�ربو َن ك َُّل م ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ َُْ‬
‫ُ�وا غ ََر َضا‬‫َّ�ى َيكُون ْ‬ ‫ُيبِـ ْيدُ ُه ْ‬
‫�م َحت ْ‬ ‫�ل الل� ُه َع َل ْي ِه ْ‬
‫�م َم َر َض�ا‬ ‫َو ُي ْر ِس ُ‬
‫ار اله ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ث الل�ه ُطي�ور ًا ك ِ‬
‫�اد َر ْة‬ ‫ت َْحم ُل ُه�م إِ َل�ى البِ َح ِ َ‬ ‫َاس َ�ر ْة‬ ‫ُ ُ َْ‬ ‫َو َي ْب َع ُ‬
‫ِمن زَه� ِم األَمو ِ‬
‫ات َحتَّ�ى َتنْ َع َما‬ ‫الس َما‬ ‫�ل األَ ْر ُض بِ َأ ْم َط ِ‬
‫َو ُتغ َْس ُ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ار َّ‬
‫أخرج مسلم من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وهالكه عىل يد عيسى عليه‬
‫السالم‪ ،‬قال‪« :‬ثم يأتيه ‪-‬أي عيسى عليه السالم‪ -‬قوم قد عصمهم اهلل من الدجال فيمسح‬
‫وجوههم‪ ،‬وحيدثهم بدرجاهتم يف اجلنة‪ ،‬فبـينام هم كذلك إذ أوحى اهلل إىل عيسى‪ :‬أن قد‬
‫أخرجت عباد ًا يل ال يدان ألحد بقتاهلم‪ ،‬فاحزر عبادي إىل الطور‪ ،‬ويبعث اهلل يأجوج ومأجوج‬
‫فيخرجون عىل الناس‪ ،‬فينشفون املاء ويرشبون مياه األرض‪ ،‬حتى إن بعضهم ليمر بالنهر‬
‫فيرشبون ما فيه حتى يرتكوه يبس ًا‪ ،‬ويمرون ببحرية طربية فيرشبون ما فيها‪ ،‬وحيرص عيسى‬
‫نبـي اهلل أصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس احلامر ألحدهم خري ًا من مائة دينار» إشارة إىل‬
‫احلاجة إىل الطعام‪.‬‬
‫لم فلنقتل من يف السامء‪،‬‬
‫ويف رواية ملسلم وغريه‪« :‬فيقولون‪ :‬لقد قتلنا من يف األرض هَ ُ‬
‫فريمون بنشاهبم إىل السامء فريدها اهلل عليهم خمضوبة دم ًا‪ ،‬فريغب نبـي اهلل عيسى وأصحابه‬
‫فريسل عليهم النغف يف رقاهبم»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬دود ًا كالنغف يف أعناقهم(((‪ ،‬فيصبحون موتى‬

‫(( ( النغف‪ :‬دود يكون يف أنوف اإلبل والغنم‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪472‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫كموت نفس واحد ال يسمع هلم حس‪ ،‬فيقول املسلمون‪ :‬أال رجل يشرتي لنا نفسه فينظر ما‬
‫فعل هذا العدو‪ ،‬فيتجرد رجل منهم حمتسب ًا نفسه قد وطنها عىل أنه مقتول‪ ،‬فينـزل فيجدهم‬
‫موتى بعضهم عىل بعض‪ ،‬فينادي‪ :‬يا معرش املسلمني‪ ..‬أال أبرشوا‪ ..‬إن اهلل عز وجل قد كفاكم‬
‫عدوكم‪ ،‬فيخرجون من مدائنهم وحصوهنم ويرسحون مواشيهم فام يكون هلا وعي إل حلومهم‪،‬‬
‫َ‬
‫فتشكر عنه‪ -‬أي تسمن – بأحسن ما شكرت عن يشء‪ ،‬وحتى إن دواب األرض لتسمن‪،‬‬
‫وهيبط نبـي اهلل عيسى وأصحابه إىل األرض فال جيدون موضع شرب إل مأل زمههم –أي‪ :‬نتنهم‬
‫من اجليف‪ -‬فيؤذون الناس بنتنهم أشد من حياهتم‪ ،‬فيستغيثون باهلل‪ ،‬فيبعث رحي ًا صامنية غرباء‬
‫فتصري عىل الناس غ ًام ودخان ًا وتقع عليهم الزكمة‪ ،‬ويكشف اهلل ما هبم بعد ثالث‪ ،‬وقد قذفت‬
‫جيفهم يف البحر»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬فريغب نبـي اهلل عليسى عليه السالم وأصحابه إىل اهلل فريسل طري ًا كأعناق‬
‫البخت حتملهم فتطرحهم حيث شاء اهلل تعاىل‪ ،‬ثم يرسل اهلل مطر ًا ال يكن منه بـيت مدر وال‬
‫وبر فيغسل األرض حتى يرتكها كالزلقة – املرآة – ثم ُيقال لألرض‪ :‬أنبتي ثمرتك وردي‬
‫قيس يأجوج‬
‫بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها‪ ،‬ويوقد املسلمون من ّ‬
‫ومأجوج ونشاهبم وأترستهم سبع سنني»(((‪.‬‬
‫الم ْو ِق ِن‬
‫�اء ُ‬ ‫�و َن َم ْولاَ ُه ْم ُد َع َ‬
‫َيدْ ُع ْ‬ ‫�ن‬ ‫ؤم ِ‬ ‫و َل�م ي�ز َْل ِعيس�ى وك ُُّل م ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ٍ‬ ‫وم�ا َأز ِ‬ ‫الح َّق فِ ْي َما َقدْ َصن َْع‬
‫�ع‬‫�ن َبَل�اَ ء َو َر َف ْ‬ ‫َاح م ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َو َي ْش�ك ُُر ْو َن َ‬
‫اج� ًا َب ْعدَ إِ ْهَل�اَ ٍل َوبِ ْر‬
‫�ل‪َ :‬ح َّ‬‫َو ِق ْي َ‬ ‫اء ِع ْي َس�ى ُم ْعت َِم ْر‬ ‫نـز ُل َّ‬
‫الر ْو َح َ‬ ‫َو َي ِ‬

‫ـ�ي َوزَائِ َ�ر ْه‬‫ُم َس� ِّلم ًا َع َل�ى النَّبِ ْ‬ ‫ن�و َر ْة‬
‫الم َّ‬‫المد ْينَ� َة ُ‬
‫ِ‬
‫�ل َ‬ ‫َو َيدْ ُخ ُ‬
‫َّحي ِ‬
‫ِ‬ ‫يرك ِ‬ ‫�ة الب ِهي ِ‬ ‫وفِ�ي م َق�ا ِم الرو َض ِ‬
‫�ة‬ ‫َ�ع ع ْي َس�ى َر ْك َع� َة الت َّ‬
‫َْ ُ‬ ‫�ة‬ ‫َ ّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫(( ( «اإلشاعة» ص ‪.324‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪473‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫�ة َت ْظ َه ُ�ر ِ‬
‫ف�ي ك ُِّل َب َل�دْ‬ ‫وصو َل ٍ‬ ‫وو َل�دْ‬ ‫َو َب ْع�دَ ُع ْم ٍ‬
‫َ َ ْ‬ ‫�ر َوز ََواجٍ َ‬
‫المن ِ ْي َف� ْة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َق ْب ُ�ر ُه ف�ي ُ‬
‫الح ْج َ�رة ُ‬ ‫ُي ْس�لِ ُم ِع ْي َس�ى ُر ْو َح ُه َّ‬
‫الش ِ‬
‫�ري َف ْة‬
‫تشري األبـيات إىل حال عيسى عليه السالم بعد َهالك يأجوج ومأجوج‪ ،‬ومكثه يف الشام‪،‬‬
‫ثم توجهه إىل مكة واملدينة‪ ،‬وأدائه فريضة احلج‪ ،‬وكذلك زيارة قرب املصطفى ﷺ‪ ،‬يؤيد ذلك ما‬
‫ً‬
‫عدال وإمام ًا مقسط ًا‪،‬‬ ‫ليهبطن ابن مريم حك ًام‬
‫َّ‬ ‫أخرجه احلاكم وصححه ورواه ابن عساكر عنه‪« :‬‬
‫وليسلكن فج ًا حاج ًا أو معتمر ًا‪ ،‬وليأتني قربي حتى يسلم ع ّ‬
‫يل‪ ،‬وألردنّ عليه»(((‪.‬‬
‫وكان أبو هريرة يقول‪ :‬أي َبنِي أخي‪ ،‬إن رأيتموه فقولوا‪ :‬أبو هريرة يقرئك السالم(((‪.‬‬
‫وأخرج احلاكم عن أنس ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال ﷺ‪« :‬من أدرك منكم عيسى بن مريم فليقرئه مني‬
‫السالم»(((‪.‬‬
‫ويف مسند أمحد ومصنف ابن أيب شيبة عن أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله‬
‫مريم عليه السالم‪ ،‬فإِ ْن َع َّج َل يب َم ْو ٌت‬
‫بن َ‬ ‫وسلم ‪« :‬إِنيّ لأَ َ ْر ُجو إِ ْن طال يب ُع ْم ٌر أن َأ ْل َقى عيسى َ‬
‫الم» ‪.‬‬ ‫فمن َل ِق َي ُه ِم ْن ُك ْم َف ْل ُي ْق ِرئ ُْه ِمنِّي َّ‬
‫الس َ‬ ‫َ‬
‫وورد أن عيسى يتزوج بعد نـزوله ويولد له ثم يموت باملدينة ولعل موته عند حجه وزيارته‬

‫((( يالحظ يف هذا اللفظ للحديث شدّ عيسى للرحل لزيارة القرب‪ ،‬وليس كام يدعيه أهل النقض يف تبديع من‬
‫ذهب لزيارة قرب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬كام أن عيسى عليه السالم يقبل بوجود قربه بجانب أبـي بكر وعمر‪ ،‬مع‬
‫أن طائفة من املسلمني يمتنعون من زيارة املواجهة ألن قربي أبـي بكر وعمر بجانب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وإذا‬
‫كان دفنهام خطأ فبالبدهية أن يقوم عيسى عليه السالم بنبش القربين أو منع الزيارة كام يعتقده هوالء؛‬
‫ولكن احلقيقة غري هذا؛ ولكن من الذي يعترب أو إىل احلق يأمتر؟ (الذي عليه الروايات عند الشيعة أن‬
‫املهدي هو الذي سيقوم بذلك بأشنع صورة‪ ..‬وال وجود للدجال أو عيسى عليه السالم يف كتبهم)‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.304‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪ ، 305‬وأقول اقتداء بفعل رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وأيب هريرة‪ :‬فمن أدرك‬
‫اإلمام املهدي وعيسى عليه السالم فليقرئهام مني السالم‪ ،‬وليطلب الدعاء واالستغفار‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪474‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫النبـي ﷺ (((‪.‬‬
‫وأخرج الرتمذي وحسنه وابن عساكر عن عبداهلل بن سالم قال‪ :‬مكتوب يف التوراة صفة‬
‫حممد ﷺ وعيسى يدفن معه(((‪.‬‬
‫وأخرج البخاري يف تارخيه والطرباين وابن عساكر األثر‪ُ « :‬يدْ َفن عيسى بن مريم مع رسول‬
‫اهلل ﷺ وصاحبـيه فيكون قرب ًا رابع ًا»(((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ‪.‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪475‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫تَحوالت مَ ا بَعد عِ يْسىَ عليه السالم‬

‫�ل بِال َّت ْع ِم ْي� ِم‬


‫�ش ِق ْي َ‬ ‫ِ‬
‫َأ ْو م ْ‬
‫�ن ُق َر ْي ٍ‬ ‫�ن ت َِم ْي� ِم‬ ‫ِ‬
‫الم ْق َع�دُ م ْ‬ ‫َو َي ْظ َه ُ�ر ُ‬
‫ِ‬ ‫ه�م ّم َج ٌ‬ ‫�م َو ِم ْث ُل� ُه‬
‫�ع َو َج�ا ُه‬ ‫�ال َواس ٌ‬ ‫َل ْ‬ ‫الج ْه َج�ا ُه‬
‫َ‬ ‫َو َه ْي َث ٌ‬
‫ان‬‫إل ْسَل�اَ َم فِ�ي ال ُب ْل�دَ ِ‬ ‫ُي َج�دِّ ُد ا ِ‬ ‫�ي‬ ‫ِ‬
‫�ذا َي ْظ َه ُ�ر ال َق ْح َطان ْ‬ ‫َو َب ْع�دَ َه َ‬
‫وي ْفتَ�ح ال�روم بِ�آلاَ ِ‬
‫ف الغُ�زَا ْه‬ ‫َي ُس ْو ُق ك َُّل الخَ ْل ِق َس ْوق ًا بِ َع َصا ْه‬
‫َ َ ُ ُّ ْ َ‬
‫تشري األبـيات إىل مظاهر التحوالت اجلارية بعد عيسى عليه السالم‪ ،‬وقد ورد يف السري‬
‫أن اخلالفة عىل عهد عيسى عليه السالم تكون للمهدي ثم من خيلفه ولقريش من بعده‪ ،‬وأن‬
‫عيسى عليه السالم ال يسلب قريش ًا ملكها رأس ًا‪ ،‬وإنام تكون إليه املشورة‪ ،‬وهو احلكم فيهم‪،‬‬
‫يعلمهم الدين‪.‬‬
‫ثم ييل بعد املهدي رجل من أهل بـيته يف سريته ويكون «القحطاين» مع املهدي يف زمانه‪،‬‬
‫ويكون أمري ًا عىل الرسية التي يرسلها املهدي إىل فتح مدينة الروم‪ ،‬فيفتحها يف حال تابعيته‬
‫للمهدي ال يف حال خالفته‪ ،‬ثم يموت عيسى عليه السالم كام تقدم ويتوىل بعد عيسى رجل من‬
‫قريش يسمى «املقعد»‪ ،‬فإذا مات توىل من قريش من ال حيسن سريته‪ ،‬فيخرج عليه املخزومي‪،‬‬
‫ولعله «اجلهجاه»‪ ،‬ويدعو إىل الفرقة‪ ،‬فيخرج عليه القحطاين بسرية املهدي‪ ،‬وهو امللقب‬
‫املنصور‪ ،‬ويمكث إحدى وعرشين سنة‪ ،‬ثم تنتقص الدنيا ويملك املوايل ويغلب الرش إىل أن‬
‫تطلع الشمس من مغرهبا واهلل أعلم(((‪.‬‬
‫واختلفت الروايات يف عرض هذا املتسلسل املذكور‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫((( املصدر السابق ص ‪.333‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪476‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ينـزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال ويمكث أربعني عام ًا يعمل فيهم بكتاب اهلل تعاىل‬
‫وسنتي ويموت‪ ،‬فيستخلفون بأمر عيسى رج ً‬
‫ال من بني متيم يقال له «املعقد»‪ ،‬فإذا مات املقعد‬
‫مل ِ‬
‫يأت عىل الناس ثالث سنني حتى يرفع القرآن من صدور بعضهم ويبدو النقض فيهم‪.‬‬
‫وأخرج نعيم بن محاد عن سليامن بن عيسى‪ ،‬قال‪ :‬بلغني أن املهدي يملك أربع عرشة‬
‫سنة ببـيت املقدس ثم يموت ثم يكون من بعده رجل من قوم َّتبع‪ ،‬يقال له‪ :‬املنصور‪- ،‬أي‬
‫هو القحطاين‪ -‬يمكث ببـيت املقدس إحدى وعرشين سنة‪ ،‬ثم يقتل‪ ،‬ثم يملك رجل من‬
‫املوايل ويمكث ثالثة سنني ثم يقتل‪ ،‬ثم يملك بعده «هيثم» ثالث سنني وأربعة أشهر وعرشة‬
‫أيام(((‪.‬‬
‫وروى مسلم عن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪« :‬ال تذهب األيام والليايل حتى يملك رجل‬
‫يقال له‪« :‬اجلهجاه»‪ ،‬وأخرج الشيخان عنه‪« :‬ال تقوم الساعة حتى خيرج رجل من قحطان‬
‫يسوق الناس بعصاه»‪.‬‬
‫ويبدو من استقراء األحاديث املتعارضة أن القحطاين يعيش يف زمن املهدي‪ ،‬كام ذكر ذلك‬
‫اإلمام الربزنجي يف «اإلشاعة» ص ‪ 333‬قال‪ :‬يكون ‪-‬أي القحطاين‪ -‬أمري ًا عىل الرسية التي‬
‫يرسلها املهدي إىل فتح مدينة الروم‪ ،‬فيفتحها حال تابعيته ال يف حال خالفته ومسؤوليته ثم‬
‫يموت عيسى عليه السالم ويتوىل باستخالفه (املقعد) وهو من قريش‪ ،‬فإذا مات توىل من‬
‫قريش من ال حيسن سريته‪ ،‬فيخرج عليه القحطاين بسرية املهدي‪ ،‬وهو امللقب باملنصور‪ ،‬وهو‬
‫املراد بـ «رجل من تبع»‪ ،‬وبـ «رجل من اليمن» يف األحاديث‪.‬‬
‫وي ْقلِ�ب العال�م َظه�ر ِ‬ ‫ول ِ‬ ‫ِ‬
‫الم َج ِ‬
‫�ن‬ ‫ََ ُ َ ُ ْ َ‬ ‫الفت ِ‬
‫َ�ن‬ ‫َو َب ْع�دَ ُه ت َْأت�ي ُش ُ‬
‫�م ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ي َأ ْف َج�حٍ َي ْطم ُس َ‬
‫�ها‬ ‫بِ َح َبش ٍّ‬ ‫�ن َأ َساس َ‬
‫�ها‬ ‫َوت ُْه�دَ ُم ال َك ْع َب� ُة م ْ‬

‫((( هكذا يف «اإلشاعة»‪ ،‬ورد اسم (هيثم) ص‪.331-330‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪477‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫�اج َمنْ َع� ًا ُم ْع َلنَ�ا‬ ‫وتُخْ رج ال ُكنُو ُز ِم�ن تَح ِ‬
‫ت البِنَا‬
‫الح َّج ُ‬
‫َ�ع ُ‬
‫َو ُي ْمن ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ‬
‫تشري األبـيات إىل مظهر من مظاهر التحوالت بعد عيسى واملهدي عليهام السالم‪ ،‬وهو‬
‫غزو الكعبة وهدمها‪ ،‬فقد أورد الشيخان والنسائي عن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪« :‬خيرب‬
‫الكعبة ذوالسويقتني من احلبشة»‪ ،‬وأخرج أمحد عن ابن عمر نحوه زاد‪« :‬ويسلبها حليتها‬
‫وجيردها كسوهتا‪ ،‬ولكأ ِّنـي أنظر إليه‪ُ :‬أ َف ْي َد ُع يرضب عليها بمسحاته ومعوله»‪.‬‬
‫وأخرج األزرقي عنه‪ ،‬قال‪« :‬جييش البحر بمن فيه من السودان‪ ،‬ثم يسيلون سيل النمل‪،‬‬
‫حتى ينتهوا إىل الكعبة فيخربوهنا‪ ،‬والذي نفيس بـيده إين ألنظر إىل صفته يف كتاب اهلل تعاىل‬
‫أفيجع((( أصيلع((( أفيدع(((» «اإلشاعة» ص ‪.332‬‬
‫ويف الصحيحني‪« :‬كأن به أسود أفجح هيدمها حجر ًا حجرا»(((‪.‬‬
‫ارفِ ْه‬
‫َّاس ت َْأ َب ْى األَ ْخ َذ ِم ْن َم َع ِ‬
‫َوالن ُ‬ ‫اح ِف� ْه‬
‫آن ِم�ن مص ِ‬
‫�ع ال ُق ْ�ر ُ ْ َ َ‬
‫َو ُي ْر َف ُ‬
‫حتقيق ًا ملا ورد يف احلديث عن ابن عمر عن النبـي ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يرفع الركن‬
‫والقرآن»‪ ،‬وروى األزرقي يف «تاريخ مكة»‪« :‬أول ما يرفع الركن والقرآن ورؤيا النبـي ﷺ يف‬
‫املنام»(((‪.‬‬
‫وروى الديلمي عن حذيفة وأبـي هريرة ريض اهلل عنهام مع ًا‪ ،‬قاال‪ُ « :‬يرسى عىل كتاب اهلل‬
‫ٍ‬
‫جوف إل نسخت»‪ .‬وروي عن ابن عمر ريض‬ ‫لي ً‬
‫ال فيصبح الناس وليس منه آية وال حرف يف‬
‫اهلل عنهام‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء فيكون له دوي حول العرش‬

‫((( أفيجح تصغري أفجح‪ ،‬أي يف رجليه إعوجاج‪.‬‬


‫((( أصيلع تصغري أصلع‪ ،‬وهو من ذهب مقدمة شعر رأسه‪.‬‬
‫((( أفيدع تصغري أفدع‪ ،‬أي‪ :‬يف يديه اعوجاج‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪334‬‬
‫((( «اإلشاعة» ص‪.370‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪478‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫عدت ُأتىل فال ُيعمل‬
‫خرجت وإليك ُ‬
‫ُ‬ ‫كدوي النحل‪ ،‬فيقول الرب عز وجل مالك؟ فيقول‪ :‬منك‬
‫بـي‪ ،‬فعند ذلك رفع القرآن»(((‪.‬‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.370‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪479‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫طلو ُع َّ‬
‫الشمْ ِس ِمن مَ ْغ ِر ِبها‬ ‫ّــة و ُ‬ ‫ُ‬
‫ظهو ُر الدّاب ِ‬

‫ِم�ن الص َف�ا بِمك ٍ‬


‫َّ�ة َت ْق ُف ْو ال َب َش ْ�ر‬ ‫َو َب ْعدَ َه�ا الدَّ ابَّ� ُة ت َْأتِ�ي كَال َق�دَ ْر‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫الم ْس�لِ ُم بِال َّت ْعيِ ْي ِ‬
‫�ن‬ ‫ُ‬ ‫َو ِم ْث َل� ُه‬ ‫الجبِـ ْي ِ‬
‫�ن‬ ‫ِ ِ‬
‫�م الكَاف َ�ر ف�ي َ‬
‫ِ‬
‫َفتَس ُ‬
‫�ات فِ�ي الز ََّم ِ‬
‫ان‬ ‫عن س�ابِ ِق اآلي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫�ن ال َبـ َي ِ‬
‫�ان‬ ‫�ل َع ِ‬ ‫�ف النَّ ْق ُ‬
‫اخ َت َل َ‬
‫َو ْ‬
‫َت ْل َح ُق َه�ا الدَّ ابَّ� ُة َس� ْي َر ًا َع ِ‬
‫جَلَ‬ ‫َّ�م َس ت َْأتِ�ي َأ َّول‬
‫�ل‪ :‬إِ َّن الش ْ‬ ‫َف ِق ْي َ‬
‫تشري األبـيات إىل إحدى عالمات التحول يف آخر الزمان وهو ظهور الدابة‪ ،‬ويشري إىل‬
‫اإلشكال الوارد عند أهل العلم يف شأن تقدم الدابة عىل طلوع الشمس‪ ،‬ففي بعض الروايات‬
‫أن الشمس تطلع من مغرهبا أو ً‬
‫ال ثم تلحق الدابة‪ ،‬وقد رجحنا هنا تبع ًا ملا هو وارد يف بعض‬
‫الروايات سبق الدابة عىل طلوع الشمس كام سيأيت‪.‬‬
‫أخرج نعيم ابن محاد يف «الفتن» واحلاكم يف «املستدرك» عن عبداهلل بن مسعود ؤ‪،‬‬
‫قال‪« :‬ال يلبثون الناس بعد مأجوج ويأجوج حتى تطلع الشمس من مغرهبا‪ ،‬وجفت األقالم‬
‫وطويت الصحف‪ ...‬إلخ احلديث» (((‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة»‪ :‬وهذا يدل عىل تأخر الدابة عن الشمس‪ ،‬ويتمتع املؤمنون بعد ذلك‬
‫أربعني سنة ال يتمنون شيئ ًا إلاَّ أعطوه‪.‬‬
‫وأما خروج الدابة‪ ،‬فقد قال تعاىل‪( :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ) (((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق ص ‪.356‬‬


‫((( النمل‪. 82 :‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪480‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال أهل التفسري يف معنى اآلية‪ :‬إذا مل يأمروا باملعروف وينهوا عن املنكر‪ ،‬وقرئ « َت ْك ُل ُمهم»‬

‫بفتح التاء وسكون الكاف‪ ،‬أي‪ :‬جترحهم‪.‬‬


‫وسأل أبو احلواري ابن عباس ريض اهلل عنهام‪َ :‬ت ْك ُل ُم ُه ْم أو ُت َك ِّل ُم ُه ْم ؟ فقال‪ِ :‬كال ذلك تفعل‪،‬‬
‫تكلم املؤمن وتكلم الكافر‪.‬‬
‫وجزم البـيضاوي أهنا اجلساسة‪ ،‬وورد أهنا تسم الناس املؤمن والكافر‪ ،‬فأما املؤمن فريى‬
‫وجهه كأ َّنه كوكب دري ويكتب بـني عينيه مؤمن‪ ،‬وأما الكافر فيكتب بـني عينيه نكتة سوداء‬
‫(كافر) «اإلشاعة» ص‪.360‬‬
‫ويف رواية‪« :‬فتلقى املؤمن لتسمه يف وجهه ولكنه يبـيض له وجهه‪ ،‬وتسم الكافر ولكنه يسود‬
‫فارفض – أي تفرق – الناس عنها شتى ومع ًا‪ ،‬وتثبتت عصابة املؤمنني‬
‫ّ‬ ‫وجهه»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬‬

‫وعرفوا أهنم لن يعجزوا اهلل‪ ،‬فبدأت هبم وحلت وجوههم حتى جعلتها كأهنا الكوكب الدري‬
‫وولت يف األرض ال يدركها طالب وال ينجو منها هارب‪ ،‬حتى إن الرجل ليتعوذ منها يف صالته‬
‫فتأتيه من خلفه‪ ،‬فتقول‪ :‬يا فالن اآلن تصيل‪ ،‬فيقبل عليها فتسمه يف وجهه ثم تنطلق» (((‪.‬‬
‫قيل‪ :‬خترج دابة األرض من صدع يف الصفا((( معها عىص موسى وخاتم سليامن بن داود‬
‫تنادي بأعىل صوهتا‪ ( :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) (((‪ ،‬ويف رواية‪« :‬ال يبقى مؤمن إل نكتت‬
‫يف مسجده ‪-‬أي موضع سجوده‪ -‬بعصا موسى نكتة بـيضاء فتفشو تلك النكتة حتى يبـيض هلا‬
‫وجهه‪ ،‬وال يبقى كافر إل نكتت يف وجهه نكتة سوداء بخاتم سليامن‪ ،‬فتفشو تلك النكتة حتى‬
‫يسود هلا وجهه‪ ،‬حتى إن الناس ليتبايعون يف األسواق‪ :‬بكم ذا يا مؤمن‪ ،‬وبكم ذا يا كافر»‪ ،‬ويف‬

‫((( املصدر السابق ص‪.361‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.357‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.360‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪481‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رواية‪« :‬تأيت الرجل وهو يصيل يف املسجد‪ ،‬فتقول‪ :‬ما الصالة من حاجتك؟ ما هذا إل تعوذ‬
‫ورياء‪ ،‬فتخطمه وتكتب بـني عينيه كذاب»(((‪.‬‬
‫وأما خروجها فقد ورد أن هلا ثالث خرجات يف الدهر‪:‬‬
‫خترج خرجة يف أقىص البادية‪ ،‬ويف رواية‪ :‬من أقىص اليمن‪ ،‬وال يدخل ذكرها القرية (أي‬
‫مكة) ثم متكث زمان ًا طوي ً‬
‫ال‪ ،‬ثم خترج خرجة أخرى دون تلك‪ ،‬فيعلموا ذكرها يف البادية‪،‬‬
‫ويدخل ذكرها القرية (أي‪ :‬مكة) (((‪.‬‬
‫قال ﷺ‪« :‬ثم بـينام الناس يف أعظم املساجد عىل اهلل حرمة وأكرمها املسجد احلرام مل ترعهم‬
‫إال وهي ترغو بـني الركن واملقام تنفض عن رأسها الرتاب فارفض الناس عن شتى» اهـ‬
‫«اإلشاعة» ص‪.362‬‬
‫وعن أبـي هريرة وابن عمر وعائشة ئ ‪« :‬أهنا خترج بأجياد»‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :363‬ووجه اجلمع بـني الروايات((( أن هلا ثالث خرجات‪ ،‬ففي‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.362‬‬


‫(( ( وورد عن ابن عباس ريض اهلل عنهام‪ :‬أهنا خترج يف بعض أودية هتامة‪ ،‬أي‪ :‬وهذا يف بعض خرجاهتا‪.‬‬
‫«اإلشاعة» ص‪.362‬‬
‫(( ( اخرتنا من األوجه املذكورة يف الكتاب ما أثبتناه هنا‪ ،‬ويمكن مراجعة الوجه الثاين يف األصل من «اإلشاعة»‬
‫ص ‪ ،263‬وذكر صاحب «درجات مرقى الصعود» ص‪ 184‬ترتيب اآليات هكذا فقال‪ :‬ذكر القرطبـي‬
‫عن بعض العلامء ترتيبها هكذا‪ ،‬أوهلا اخلسوفات‪ ،‬فالدجال‪ ،‬فنـزول عيسى عليه السالم‪ ،‬فخروج يأجوج‬
‫ومأجوج‪ ،‬فريح تقبض أرواح املؤمنني‪ ،‬فتقبض روح عيسى عليه السالم مع من معه‪ ،‬فتهدم الكعبة‪،‬‬
‫ورفع القرآن‪ ،‬واستيالء الكفر عىل اخللق‪ ،‬فتطلع الشمس من مغرهبا‪ ،‬فتخرج الدابة‪ ،‬وذكر البـيهقي عن‬
‫احلاكم مثله‪ ،‬إال أنه جعل خروج الدابة قبل طلوع الشمس‪ .‬اهـ‪ ،‬قال يف «اإلشاعة»‪ :‬ينبغي خروج الدابة‬
‫قبل الريح القابضة‪ ،‬كام ال خيفى أهنا هي التي تسم املؤمن والكافر‪ ،‬فإذا مل يبقَ مؤمن ألجل الريح فمن‬
‫ِ‬
‫تس ُمه؟‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪482‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بعض الروايات خترج من مدينة قوم لوط ويصدق عليها أهنا من أقىص البادية‪ ،‬ويف بعضها‬
‫خترج من أودية هتامة ويصدق عليها القول من وراء مكة‪ ،‬ومن اليمن ألن احلجاز يامنية‪ ،‬ومن‬
‫ثم قيل‪ :‬الكعبة يامنية‪ ،‬ويف املرة األخرية خترج من مكة‪.‬‬
‫فِ�ي تَوب ٍ‬
‫الم�ر َء الن ََّج�ا‬
‫ْ‬ ‫�ة ُت َب ِّل�غُ‬ ‫َْ‬ ‫الر َجا‬ ‫اب َّ‬‫�و ُ‬ ‫�ق األَ ْب َو ُ‬
‫اب َأ ْب َ‬ ‫َو ُت ْغ َل ُ‬
‫ول األَ َمدْ‬
‫العذاب وانْتهى ُط ُ‬ ‫َح َّق‬ ‫�يطان ِ‬
‫لل�ه َو َق�دْ‬ ‫�جدُ َّ‬
‫الش‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َو َي ْس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َينْت َِه ْي َو ْس َو ُاس� ُه في ال َعا َلم ْ‬
‫ين‬ ‫بلي�س ال ّلع ْ‬
‫ي�ن‬ ‫ُ�ل الدّ اب� ُة إِ َ‬ ‫َف َت ْقت ُ‬
‫�ي َم ِص ُير ُه‬‫ج ْ‬
‫ِم�ن ِجن ِْس ِ‬
‫�ه َحتَّى َي ِ‬ ‫ْ‬ ‫�و ُت َغ ْي ُ�ر ُه‬ ‫َو ِق ْي َ‬
‫�ل‪َ :‬ي ْب َق ْ‬
‫�ى َو َي ُم ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْس َغ َب ْة‬ ‫الصال َ‬
‫حين ُ‬ ‫َت ْقبِ ُض ُر ْو َح َّ‬ ‫َوعنْدَ َه�ا ت َْأت�ي ِر َي ٌ‬
‫�اح َط ِّي َب� ْة‬
‫(((تشري األبـيات إىل آخر مراحل التحوالت يف حياة األرض وهي طلوع الشمس من‬
‫مغرهبا‪ ،‬إذا كنا أخرنا ذكرها عن الدابة‪ ،‬وفيه إشكال بسبب اختالف الروايات‪ ،‬قال احلافظ‬
‫ابن حجر‪ :‬وطريق اجلمع بـني الروايات‪ :‬أن الدجال أول اآليات العظام ِ‬
‫املؤذنة بتغري األحوال‬

‫((( هذا يفرس معنى احلديث‪« :‬يبعث اهلل رحي ًا طيبة فيتوىف هبا كل مؤمن يف قلبه مثقال حبة من إيامن‪ ،‬فيبقى‬
‫من ال خري فيه فريجعون إىل دين آبائهم»‪ ،‬قال ص‪ :365‬وأخرج أمحد ومسلم عن أبـي عمرو ريض‬
‫اهلل عنهام قال‪« :‬ثم يرسل اهلل ‪-‬يعني بعد موت عيسى‪ -‬رحي ًا باردة من قبل الشام فال يبقى عىل وجه‬
‫األرض أحد يف قلبه مثقال ذرة من إيامن إلاَّ قبضته ‪-‬إىل أن قال‪ -‬فيبقى رشار الناس يف خفة الطري وأحالم‬
‫السباع ال يعرفون معروف ًا وال ينكرون منكر ًا‪ ،‬فيتمثل هلم الشيطان فيقول‪ :‬أال تستحيون ؟ فيقولون‪ :‬ما‬
‫دار رز ُقهم َح َس ٌن ُ‬
‫عيشهم حتى ُينفخ يف الصور»‬ ‫تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة األوثان فيعبدوهنا‪ ،‬وهم يف ذلك ٌّ‬
‫«اإلشاعة» ص‪ ، 365‬قال‪ :‬وهذا ينايف ما قيل من قتل الدابة إلبليس‪ ،‬ويمكن أن يقال عىل ُبعد‪ :‬إن هذا‬
‫حي ًا بدليل هذا احلديث حتى‬
‫الشيطان ليس إبليس‪ ،‬ويقصد أنه شيطان آخر قتلته الدابة‪ ،‬ويبقى إبليس ّ‬
‫النفخ يف الصور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعىل هذا فالريح التي تقبض أرواح املؤمنني عىل وجهني‪ :‬فإن كان إبليس قد قتلته الدابة فالريح الباردة‬
‫التي تقبض أرواح املؤمنني قد حصلت قبل ذلك‪ ،‬وإن صح أن إبليس مل تقتله الدابة فيمكن أن تكون‬
‫الريح الباردة فيام بعد قبل نفخ الصور‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪483‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫العامة يف األرض‪ ،‬أي‪ :‬فال ينايف تقدم املهدي عليه‪ ،‬قال‪ :‬وينتهي ذلك بموت عيسى عليه‬
‫السالم ومن بعده القحطاين وغريه‪ ،‬وأن طلوع الشمس من مغرهبا هو أول اآليات املؤذنة‬
‫بتغيري أحوال العامل العلوي‪ ،‬وينتهي ذلك بقيام الساعة‪ ،‬أي والدابة معها‪ ،‬فهي والشمس كيشء‬
‫واحد‪ ،‬وأن النار أول اآليات املؤذنة بقيام الساعة(((‪.‬‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :340‬ومن األرشاط العظام طلوع الشمس من مغرهبا وخروج‬
‫الدابة‪ ،‬وهذان أهيام سبق اآلخر فاآلخر عىل إثره‪ ،‬فإن طلعت الشمس قبل خرجت الدابة‬
‫ضحى يومها أو قريب ًا من ذلك‪ ،‬وإن خرجت الدابة قبل طلعت الشمس من الغد‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبـي شيبة وأمحد وعبد بن محيد وأبو داود وابن ماجة وابن املنذر وابن مردويه‬
‫حفظت من رسول اهلل ﷺ أن أول‬
‫ُ‬ ‫والبـيهقي‪ ،‬ك َّلهم عن عبداهلل بن عمرو ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪« :‬‬

‫ضحى‪ ،‬فأيتهام كانت قبل صاحبتها‬


‫ً‬ ‫اآليات خروج ًا طلوع الشمس من مغرهبا وخروج الدابة‬
‫فاألخرى عىل إثرها» قال أبو عبداهلل احلاكم‪ :‬والذي يظهر أن طلوع الشمس من مغرهبا قبل‬
‫خروج الدابة‪ ،‬قال احلافظ ابن حجر معتمد ًا ما قاله احلاكم‪ :‬ولعل احلكمة يف ذلك أن بطلوع‬
‫الشمس من مغرهبا ينسد باب التوبة فتجيء الدابة فتميز بـني املؤمن والكافر تكمي ً‬
‫ال للمقصود‬
‫من إغالق باب التوبة(((‪.‬‬
‫قال تعاىل‪( :‬ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ) أمجع املفرسون أو مجهورهم عىل أنه طلوع الشمس من مغرهبا‪.‬‬
‫ويف قوله‪( :‬ﯔ ﯕ ﯖ ) قال‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا مقرتنني كالبعريين القرينني‪.‬‬
‫اهـ «اإلشاعة» ص‪ 341‬باختصار‪.‬‬

‫(( ( انتهى وهذا أمجع وأحسن‪ ،‬انظر «اإلشاعة» ص‪.350‬‬


‫(( ( املصدر السابق ص‪.341‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪484‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫وعن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة حتى تطلع الشمس‬
‫من مغرهبا‪ ،‬فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أمجعون‪ ،‬فذلك حني ال ينفع نفس ًا إيامهنا‪ ،‬ثم قرأ‬
‫اآلية(((‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪« :‬آية تلكم الليلة أن تطول قدر ثالث ليال» ويف رواية‬
‫البـيهقي عن عبداهلل بن عمرو ريض اهلل عنهام بلفظ‪« :‬قدر ليلتني أو ثالث»‪ ،‬فيستيقظ الذين‬
‫خيشون رهبم فيصلون ويعملون كام كانوا‪ ،‬ثم يرقدون ثم يقومون‪ ،‬ثم يقضون صالهتم من‬
‫ِ‬
‫ينقض فيضطجعون‪ ،‬حتى إذا استيقظوا والليل مكانه حتى يتطاول عليهم الليل‪،‬‬ ‫الليل كأنه مل‬
‫وهاج بعضهم يف بعض‪،‬‬
‫فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بـني يدي أمر عظيم‪ ،‬ففزع الناس َ‬
‫فيفزعون إىل املساجد فإذا أصبحوا طال عليهم طلوع الشمس فبـينام هم ينتظرون طلوعها من‬
‫املرشق إذا هي طلعت عليهم من مغرهبا‪َ ،‬‬
‫فض َّج الناس َضجة واحدة حتى إذا صارت يف وسط‬
‫السامء رجعت فطلت من مطلعها(((‪.‬‬
‫وروى أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس ؤ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬صبـيحة تطلع‬
‫الشمس من مغرهبا يصري يف هذه األمة قردة وخنازير‪ ،‬وتطوى الدواوين وجتف األقالم‪ ،‬ال يزاد‬
‫يف حسنة وال ينقص من سيئة‪ ،‬وال ينفع نفس ًا إيامهنا مل تكن آمنت من قبل أو كسبت يف إيامهنا‬
‫خري»(((‪.‬‬
‫وأخرج الطرباين وابن مردويه عن ابن عمرو بن العاص ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪« :‬إذا طلعت‬
‫الشمس من مغرهبا َخ َّر إبليس ساجد ًا ينادي وجيهر‪ :‬إهلي مرين أسجد ملن شئت‪ ،‬فتجتمع إليه‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.342‬‬


‫(( ( املصدر السابق ص‪.342‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪485‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫سألت ربـي أن ينظرين إىل الوقت‬
‫ُ‬ ‫زبانيته‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا سيدنا ما هذا الترضع؟ فيقول‪ :‬إنام‬
‫املعلوم‪ ،‬وهذا الوقت املعلوم»‪ .‬ويف رواية نعيم بن محاد واحلاكم‪« :‬وال يزال إبليس ساجد ًُا باكي ًا‬
‫حتى خترج الدابة فتقتله وهو ساجد»‪ ،‬وال يموت إبليس إلاَّ وقد فرغ من العمل وينقطع دوره‬
‫يف احلياة‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪486‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مس من مَ ْغ ِربها‬ ‫لوع َّ‬
‫الش ِ‬ ‫ط ِ‬‫اس بعد الدابّة و ُ‬
‫ُم ْك ُث الن َّ ِ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ف ال�ر َوا ُة فِ�ي ُط ْ ِ‬


‫الهدَ ى‬‫َ�م َي ْب َقى ُ‬
‫م ْن َب ْعد ع ْي َس�ى ك َْم َوك ْ‬ ‫الم�دَ ى‬‫�ول َ‬ ‫اخ َت َل َ ُّ‬ ‫َو ْ‬
‫�و األَ َث ِ‬
‫�ر‬ ‫ث�ل َم ْح ِ‬ ‫�و تِ َبا َع� ًا ِم َ‬
‫َت ْت ُل ْ‬ ‫�ه ِر‬ ‫ِ‬
‫�وى ُك ُّل َه�ا ف�ي َأ ْش ُ‬ ‫َف ِق ْي َ‬
‫�ل‪ُ :‬ت ْط َ‬
‫َق اَلئَِلَ‬ ‫َب ْع�دَ ُه‬ ‫وس�نَو ٍ‬
‫ات‬ ‫َ َ َ‬
‫�ل يب َق�ى النَّ�اس َقرنَ� ًا ك ِ‬
‫َامَلَ‬ ‫ُ ْ‬
‫ِ‬
‫َوق ْي َ َ ْ‬
‫تشري األبـيات إىل ما حيل بالعامل بعد أن جتري آخر التحوالت الكربى‪ ،‬وكم يبقى الناس‬
‫حتى النفخ يف الصور‪ ،‬فقد روي عن ابن عمر ريض اهلل عنهام‪ ،‬قال‪« :‬يمكث الناس بعد طلوع‬
‫الشمس من مغرهبا عرشين ومائة سنة»(((‪.‬‬
‫وروى عبد بن محيد عنه أيض ًا‪ ،‬قال‪ :‬يبقى رشار الناس بعد طلوع الشمس من مغرهبا عرشين‬
‫ومائة سنة‪ .‬وعن ابن املنذر‪ ،‬قال‪« :‬اآليات ك َّلها يف ثامنية أشهر»‪.‬‬
‫قال يف فتح الباري‪ :‬وطريق اجلمع بـني الروايات أن املدة متر َمر ًا رسيع ًا كمقدار عرشين‬
‫ومائة شهر كام يف صحيح مسلم عن أبـي هريرة ؤ رفعه‪« :‬ال تقوم الساعة حتى تكون‬
‫السنة كالشهر‪ ...‬احلديث»‪ ،‬وفيه‪ :‬اليوم كالساعة والساعة كاحرتاق السعفة‪.‬‬
‫وعىل هذا فيكون تقارب األزمان وتقارص األيام مرتني‪ ،‬مرة يف زمن الدجال‪ ،‬ثم ترجع‬
‫بركة األرض وطول األيام إىل حاهلا األوىل‪ ،‬ثم تتناقص بعد موت عيسى عليه السالم إىل أن‬
‫تصري يف آخر الدنيا إىل ما ذكر (((‪.‬‬
‫وبعد الدابة وطلوع الشمس من مغرهبا‪« :‬يبقى رشار الناس يتهارجون – أي يتسافدون‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.346‬‬


‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪487‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫– هتارج ُ‬
‫احلمر‪ ،‬فعليهم تقوم الساعة» وعن ابن مسعود ؤ‪ ،‬قال‪« :‬إن املؤمنني يتمتعون‬
‫بعد الدابة أربعني سنة‪ ،‬ثم يعود فيهم املوت ويرسع فال يبقى مؤمن‪ ،‬ويبقى الكفار يتهارجون‬
‫يف الطرق كالبهائم»‪ ،‬قال‪« :‬فيكونون عىل مثل ذلك حتى ال يولد أحد من نكاح‪ ،‬ثم يعقم اهلل‬
‫النساء ثالثني سنة ويكونون كلهم أوالد الزنا رشار الناس‪ ،‬عليهم تقوم الساعة» (((‪.‬‬
‫ي ال َفاتِ َك ْة‬ ‫وم�ا بِه�ا َغي�ر الع ِ‬
‫�واد ْ‬
‫ْ ُ َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫الم َب َاركَ� ْة‬ ‫ِ‬
‫المد ْينَ� ُة ُ‬
‫َوتُخْ َ�ر ُب َ‬
‫َ��ة ال��غَ��ر ِ‬ ‫��دي��ن ِ‬
‫ِ‬ ‫��م��نْ�� َب ِ‬ ‫حتَّ�ى ينَ�ام َثع َل�ب الصح�ر ِ‬
‫اء‬ ‫َّ‬ ‫ال��م ْ‬
‫��ر َ‬ ‫بِ َ‬ ‫اء‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :327‬ومن األرشاط القريبة خراب املدينة قبل يوم القيامة بأربعني‬
‫سنة‪ ،‬وخروج أهلها منها‪ ،‬أخرج أبو داود عن معاذ ؤ مرفوع ًا‪« :‬عمران بـيت املقدس‬
‫خراب يثرب‪ ،‬وخراب يثرب خروج امللحمة‪ ،‬وخروج امللحمة فتح القسطنطينية‪ ،‬وفتح‬
‫القسطنطينية خروج الدجال»(((‪.‬‬

‫وروى الطرباين‪« :‬سيبلغ البناء سلع ًا‪ ،‬ثم يأيت عىل املدينة زمان ّ‬
‫يمر السفر عىل بعض أقطارها‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬قد كانت هذه مدة عامرة من طول الزمان وعفر األثر»‪ ،‬وروى أيض ًا رجال ثقات‪:‬‬
‫«املدينة يرتكها أهلها وهي مرطبة»‪ ،‬قالوا‪ :‬فمن يأكلها ؟ قال‪( :‬السباع والعوايف) (((‪.‬‬
‫وروى عن أبـي هريرة ؤ‪ ،‬قال‪« :‬ال تقوم الساعة حتى جييء الثعلب فريبض عىل منرب‬
‫رسول اهلل ﷺ فال ينهضه أحد» ص‪« 327‬اإلشاعة»‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسبب خراهبا ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أهنم خيرجون مع املهدي إىل اجلهاد‪ ،‬ثم ترجف بمنافقيها‬
‫وترميهم إىل الدجال‪ ،‬ثم يبقى فيها املؤمنون ُ‬
‫اخل َّلص فيهاجرون إىل بـيت املقدس‪ ،‬فقد ورد‪:‬‬

‫((( املصدر السابق ص‪.366‬‬


‫((( املصدر السابق ص‪.367‬‬
‫((( املصدر السابق ص‪.366‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪488‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫«ستكون هجرة بعد هجرة‪ ،‬وخيار الناس يومئذ ألزمهم مهاجر إبراهيم» (((‪.‬‬
‫ِم�ن ع�دَ ٍن تَس�و ُقهم بِ ِ‬
‫الح َم� ِم‬ ‫�ر األُ َم� ِم‬
‫لح ْش ِ‬
‫ُ ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ�ار َ‬
‫َوتَخْ ُ�ر ُج الن ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫و ِقي َل‪:‬تَأتِي ِمننَّو ِ‬
‫وت‬ ‫وص ْ‬ ‫م ْن بِئ ِْر َب ْر ُهوت لها َب ْر ٌق َ‬ ‫وت‬ ‫اح ْي َح ْض َر َم ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫قال يف «اإلشاعة» ص‪ :371‬ومن األرشاط العظام ‪-‬وهي آخرها‪ -‬نار خترج من قعر عدن‬
‫حترش الناس إىل حمرشهم‪.‬‬
‫وأخرج أمحد والبخاري عن أنس ؤ‪« :‬أما أول أرشاط الساعة َفن ٌ‬
‫َار خترج من املرشق‬
‫فت َْحرش الناس إىل املغرب»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولعل قوله‪« :‬أول أرشاط الساعة» أي‪ :‬أول ما تبدأ به ظاهرة القيامة‪.‬‬
‫وأخرج الستة غري البخاري عن حذيفة بن أسيد ريض اهلل عنهام مرفوع ًا‪« :‬لن تقوم الساعة‬
‫حتى تروا قبلها عرش آيات»‪ ...‬احلديث‪ ،‬وفيه‪« :‬وآخر ذلك نار خترج من اليمن تطرد الناس إىل‬
‫سوق ال َّناس إىل املحرش»‪ ،‬ويف لفظ «من َق ْع ِر َعدْ ن‬ ‫نار خَت ُ‬
‫رج من َق ْع ِر َعدن َت ُ‬ ‫حمرشهم»‪ ،‬ويروى « ٌ‬
‫َأ ْبي»‪.‬‬
‫وأخرج أمحد والرتمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح عن ابن عمر ريض اهلل عنهام‪« :‬ستخرج نار‬
‫من حرضموت أو بحر حرضموت قبل يوم القيامة حترش الناس»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل فام تأمرنا؟‬
‫قال‪« :‬عليكم بالشام‪ ،‬وهذا هو املراد بمهاجر إبراهيم عليه السالم»‪.‬‬
‫نار هي اليوم‬
‫وأخرج الطرباين وابن عساكر عن حذيفة بن اليامن ؤ‪ ،‬قال‪« :‬لتقصدنكم ٌ‬
‫فيها عذاب أليم‪ ،‬تأكل األنفس واألموال‪ ،‬وتدور عىل الدنيا كلها يف ثامنية أيام‪ ،‬تطري طري الريح‬
‫حرها بالنهار‪ ،‬وهلا بئر بـني السامء واألرض‪ ،‬ودوي كدَّ وي‬
‫والسحاب‪َ ،‬ح ُّرها بالليل أشدّ من ِّ‬
‫ِّ‬
‫ٌ‬
‫أسليمة يومئذ‬ ‫العرش»‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل !‬
‫الرعد القاصف‪ ،‬وهي من رؤوس اخلالئق أدنى من َ‬

‫((( «اإلشاعة» ص‪.328‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪489‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫رش من ُ‬
‫احل ُمر‪ ،‬يتسافدون‬ ‫عىل املؤمنني واملؤمنات؟ قال‪« :‬وأين املؤمنون واملؤمنات يومئذ؟ هم ٌّ‬
‫كام يتسافد ال َبهائم وليس فيهم ٌ‬
‫رجل يقول‪َ :‬م ْه‪َ ..‬م ْه‪ ،((( »..‬وقد فرس بعض العلامء مسألة احلرش‬
‫والنار بتفسري أرشنا إليه يف حديثنا عن اقرتاب موعد الدجال‪ ،‬وعىل هذا التفسري تكون النار‬
‫أسبق من ظهور الدجال(((‪.‬‬
‫الحش�ر ي ِس�ير ِ‬ ‫ِ‬
‫�كان‬
‫خي�ر َم ْ‬ ‫َ‬ ‫َحتَّ�ى إذا م�ا َب َلغَ�ا‬ ‫�ان‬
‫راع َي ْ‬ ‫ِ َ ُ‬ ‫وآخ ُ�ر‬
‫الس�كِين ْة‬ ‫َّ‬ ‫َخ َّ�را ل َن ْف�خٍ َب�دَّ َد‬ ‫ال�و َدا ِع ف�ي المدين� ْة‬
‫َ‬ ‫َثن ِ َّي� َة‬
‫�خ‬ ‫ِ‬
‫للفن�اء ق�د َر َض ْ‬ ‫ٍ‬
‫ش�يء‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬ ‫الص ِ‬
‫ور َن َف ْخ‬ ‫َ‬
‫إسرافيل في ُّ‬ ‫صوت‬
‫ُ‬ ‫إذ‬
‫ِ‬
‫باليقي�ن‬ ‫ِ‬
‫أم�ر الل�ه‬ ‫وج�اء‬
‫ِ‬
‫والتكوي�ن‬ ‫ِ‬
‫الك�ون‬ ‫جمي�ع‬
‫ُ‬ ‫َي ْفن�ى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اآلم�ر ب�ل والن ِ‬
‫َّاه�ي‬ ‫س�بحانَه ِ‬ ‫ِ‬
‫الل�ه‬ ‫ِ‬
‫وج�ه‬ ‫غي�ر‬
‫ُ‬ ‫ولي�س يبق�ى ُ‬
‫تشري األبـيات إىل هناية احلياة البرشية يف هذا الكون‪ ،‬كام ورد يف الصحيحني عن أبـي هريرة‬
‫ؤ‪« :‬إن آخر من حيرش راعيان من مزينة يريدان املدينة ينعقان بغنمهام فيجداهنا وحوشا‪،‬‬
‫حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا عىل وجوههام»‪ ،‬وثنية الوداع قرب املدينة إىل جهة الشام عىل‬
‫األصح(((‪.‬‬
‫ويف رواية ابن أبـي شيبة عنه‪« :‬رجالن رجل من جهينة وآخر من مزينة‪ ،‬فيقوالن‪ :‬أين‬

‫(( ( املصدر السابق ص‪.373‬‬


‫((( راجع فصل (العالقة بني حرش بني إرسائيل وظهور الدجال)‪.‬‬
‫(( ( علق املحقق عىل حتديد الثنية بأهنا إىل جهة الشام‪ ،‬وقال‪ :‬للمدينة أكثر من ثنية‪ ،‬فتحديد ثنية الوداع بالشامية‬
‫بناء عىل الشهرة‪ ،‬واملوقع قبالة مزينة من قبل املضف‪ ،‬أما احلكم بأن ال ثنية إال الثنية الشامية فهذا حمل نظر‪.‬‬
‫اهـ «اإلشاعة» ص ‪.383‬‬
‫قلت‪ :‬وقد كانت ثنية الوداع خارج املدينة كام يف كالم صاحب «اإلشاعة»‪ ،‬وأما اآلن فقد دخلت ثنية الوداع‬
‫ُ‬
‫داخل املدينة مع التوسع العمراين احلايل‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪490‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫الناس؟ فيأتيان املدينة فال جيدان إال الثعلب‪ ،‬فينـزل إليهام ملكان فيسحباهنام عىل وجومها حتى‬
‫يلحقاهنام بالناس»‪ ،‬قال يف «اإلشاعة» ‪ :‬وهذا احلرش هلام من نفخ الصور‪ ،‬فإن بعد النار املذكورة‬
‫ينفخ يف الصور وتقوم الساعة‪.‬‬
‫الساعة وقد َنرش الرجالن ثوهبام‬
‫لتقومن َّ‬
‫َّ‬ ‫وروى الشيخان عن أبـي هريرة ؤ مرفوع ًا‪« :‬‬

‫يتبايعان فال يطويانه‪ ،‬ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه (أي‪ :‬يلطخه بالطني) فال يسقي فيه‬
‫إبله ودوابه‪ ،‬ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إىل فيه فال يطعمها»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬ثم ينفخ يف‬
‫الصور فال يسمع أحد إال أصغى ليتا ورفع ليتا ‪-‬الليت صفحة العنق‪ -‬وأول من يسمعه رجل‬
‫يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» (((‪.‬‬

‫((( رواه مسلم وأمحد عن ابن عمرو ‪« ،‬كنز العامل» (‪ ، )289 :14‬املصدر السابق ص ‪.384‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪491‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ملاذا يجبُ أ َ ْن نَتَعَ َّل َم فِ ْق َه التُّحَ وُّالت؟‬

‫ِ‬
‫الش�ؤون الواعد ْة‬ ‫من ال�كال ِم ف�ي‬ ‫أي فائ�د ْة‬ ‫ِ‬
‫الن�اس ُّ‬ ‫ُ‬
‫بع�ض‬ ‫ُ‬
‫يق�ول‬
‫ب�اب ِم�ن ص�را ٍع ِ‬
‫وم َ�را‬ ‫ٍ‬ ‫وفت�ح‬ ‫ال�و َرى‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫إقلاق َ‬ ‫غي�ر‬
‫فلي�س فيه�ا ُ‬
‫الش ْ‬
‫كوك‬ ‫العبادات التي َتن ِْفي ُّ‬
‫ِ‬ ‫وفي‬ ‫الس ْ‬
‫لوك‬ ‫والحق أن ُي ْكت َ‬
‫َب في عل ِم ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫الموص َل ْة‬ ‫يس�ير في ال ّط ِ‬
‫ري�ق‬ ‫حتّى‬ ‫ِ‬
‫جي�ل المرحل ْة‬ ‫ِ‬
‫الجي�ل‬ ‫وف�ي ِ‬
‫بن�اء‬
‫َ‬
‫وم�ا َر َج ْون�ا َأ ْن ُي َ‬
‫ش�اع بـينَن�ا‬ ‫ُقلن�ا وه�ذا م�ا َأ َر ْدن�ا ُه ُهن�ا‬
‫يك�ن تحويلا‬ ‫ِ‬
‫الس�لوك أو‬ ‫ع�ن‬ ‫يك�ن بديَل�اَ‬ ‫فم�ا ُيق�ال ل�م‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫األوالد‬ ‫ف معن�ى العل ِم في‬ ‫أو صر ِ‬ ‫ِ‬
‫واألج�داد‬ ‫ِ‬
‫اآلب�اء‬ ‫ع�ن س�ن َِّة‬
‫َ ْ‬
‫الف ِ‬
‫ق�ال ح�و َل ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس�ن َِّة‬
‫تن�ة‬ ‫ش�أن م�ا ُي ُ َ ْ‬ ‫ف�ي‬ ‫ات ُّ‬‫�و َ‬
‫�ي َم َ‬‫وإنم�ا نُحيِ ْ‬
‫َش�ف َم ِ‬
‫ظهر ْه‬ ‫صر وك ِ‬ ‫�ر ال َع ِ‬
‫آخ ِ‬ ‫عن ِ‬ ‫�ر ْه‬‫َ�دي بالمصطف�ى ف�ي َخ َب ِ‬ ‫و َن ْقت ِ‬
‫بـي�ن ِ‬
‫ي�دي الدَّ ّج ِ‬
‫�ال تأت�ي ُمنْك ََر ْة‬ ‫المدَ ِّم َ�ر ْة‬ ‫ِ‬
‫الفتن�ة‬ ‫عي�ن‬ ‫ألن‬
‫ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الم َغ َّل َف� ْة‬
‫ُ‬ ‫بالفتن�ة‬ ‫�م‬‫ل َج ْهل ِه ْ‬ ‫الم ْع ِر َف ْة‬
‫انح�راف َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫البعض‬ ‫و َيخْ دُ ُم‬
‫حي�ث س ِ‬ ‫َينْ ُظ ُ�ر لإلسلا ِم ِم�ن‬ ‫�ان قد ُخ ِد ْع‬ ‫ال في الز ََّم ِ‬
‫�م ْع‬ ‫ُ َ‬ ‫�ص جي ً‬ ‫وخ َّ‬‫ُ‬
‫ولي�س َي�دْ ِري م�ا َيدُ ور ف�ي َ‬
‫المال‬ ‫�وال‬ ‫َّاري�خ والت ََّح ُّ‬
‫�م الت َ‬ ‫ال َي ْع َل ُ‬
‫َو َم�ا َيك�ون ِم�ن ِرض�ا َق َو ِاق ِع� ْه‬ ‫واق ِع� ْه‬ ‫ي�رى ال ّليالِ�ي ُك َّله�ا ِم�ن ِ‬
‫َ َ‬
‫�ل لِ�ك ُِّل ُم ْش�كِ ِل‬ ‫الج ْه َ‬
‫�ج َ‬
‫ِ‬
‫ُيعال ُ‬ ‫�و ِل‬ ‫�م بال َّتغ ِ‬
‫ْيي�ر والت ََّح ُّ‬
‫ِ‬
‫والع ْل ُ‬
‫الر َض�ا‬ ‫مفهوم�ه حتّ�ى ِّ‬
‫َ‬ ‫و َي ْرت َِق�ي‬ ‫مدل�ول ال َق َض�ا‬ ‫َ‬ ‫اإلنس�ان‬
‫ُ‬ ‫و َي ْف َه ُ‬
‫�م‬
‫األم�ر فإيمان�ي َر َب�ا‬‫ُ‬ ‫َل�و ك ُِش َ‬
‫�ف‬ ‫�ال ب�اب ِ‬
‫الع ْل� ِم َم�ا ا َز َد ْد ُت َن َبا‬ ‫إِ ْذ َق َ َ ُ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪492‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫َ‬
‫وأ َّول‬ ‫ِ‬
‫آخ�ر ًا‬ ‫يك�ون‬ ‫وم�ا‬ ‫�ولاَ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫الت ََّح ُّ‬ ‫�م‬
‫َعل َ‬ ‫ق�د‬ ‫ألنّ� ُه‬
‫يشري الناظم يف هذه األبـيات إىل رضورة تعلم فقه التحوالت‪ ،‬وخاصة يف مرحلتنا املعارصة‪،‬‬
‫ألهنا جزء من السنة الرشيفة‪« :‬من أحيا ُسنتي عند فساد ُأ َّمتي فله أجر مئة شهيد»‪ ،‬وهناك‬
‫العرشات بل املئات من عامل اخلدمات وطالب املدارس واجلامعات خيدمون االنحراف‪،‬‬
‫ويتعاونون يف سبـيل إظهاره وإشهاره وهم ال يعلمون‪.‬‬
‫ففي علم فقه التحوالت معاجلة للجهل بركن من أركان الدين أمهله الناس‪ ،‬وهو (فقه‬
‫عالمات الساعة) كام سيأيت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ين حتم� ًا أ ُّيه�ا‬ ‫ف�ي الدِّ ِ‬ ‫ْ�ن رابِ ُع‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫المناز ُع‬ ‫باألش�راط ُرك ٌ‬ ‫َفالع ُ‬
‫ل�م‬
‫�د ُم ك َُّل َف�دْ ِم‬ ‫�ه يخْ ِ‬ ‫لجهلِ ِ‬ ‫ه�ل ِ‬
‫الع ْل ِم‬ ‫بع�ض َأ ِ‬
‫َ‬ ‫َو َق�د رأين�ا‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫�ار ف�ي األَو َط ِ‬
‫�ان‬ ‫أو َخ�دَ ِم ال ُك ّف ِ‬ ‫ِ‬
‫�يطان‬ ‫ِ‬
‫زم�رة ّ‬
‫الش‬ ‫ُ�ن ِم�ن‬
‫وإن ّيك ْ‬
‫الم ْة‬ ‫م�ن ك ُِّل م�ا قد َش َّ ِ‬ ‫فن ُ‬
‫َس�أل الل� َه لن�ا السَّلام ْة‬
‫�ذ م�ن َع َ‬
‫والفج ِ‬
‫�ار‬ ‫َّ‬ ‫وس� ْط َو ِة ال ُك ّف ِ‬
‫�ار‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫باألخطار‬ ‫ِ‬
‫المحفوف‬ ‫في ِ‬
‫عصرنا‬
‫�و ِه فيم�ا َأ َرا َد و َق َض�ى‬ ‫وح ْل ِ‬
‫ُ‬
‫والحم�دُ ِ‬
‫لل�ه عل�ى ُم ِّ�ر ال َق َضا‬
‫ِ‬
‫الم�وت إلينا ق�د أتَى‬ ‫م�ا َم َل ُ‬
‫�ك‬ ‫أس�أ ُله الخت�ا َم بالحس�نى متَ�ى‬
‫مست َْم ِسكِ ِ‬
‫ين بال ُع َرى َف ْه َي ُ‬
‫المنى‬ ‫وهنا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خي�ر و ُل ْط�ف َ‬ ‫�وت في‬‫ن َُم ُ‬
‫ِ‬
‫اإلحس�ان‬ ‫كذا الت ََّر ِّق ْي في ُذرى‬ ‫ِ‬
‫واإليم�ان‬ ‫ِ‬
‫ش�هادة اإلسلا ِم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪493‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بعض فقها ِء عِ ْل ِم التَّحَ وُّالت‬
‫ُ‬

‫الم ْر َس ِل‬ ‫ِ‬ ‫�و ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫باب عل ِم ُ‬
‫الرسول ُ‬ ‫بعدَ‬ ‫م�ن فقه�اء العل� ِم بالت ََّح ُّ‬
‫ع�ال م�ا ل�ه ِم َثا ُل� ُه‬
‫ٍ‬ ‫ف�ي العل� ِم‬ ‫عل�ي ش�أنُه‬
‫ٌّ‬ ‫الح ْب ُ�ر‬
‫إمامن�ا َ‬
‫ُ‬
‫ُروي عن اإلمام عيل كرم اهلل وجهه وؤ قوله يف خطبة له‪« :‬أهيا الناس إين قد فقأت عني‬
‫الفتنة‪ ،‬ومل يكن ليجرتئ عليها غريي‪ ،‬فاسألوين قبل أن تفقدوين‪ ،‬فوالذي نفيس بـيده ال تسألوين‬
‫عن يشء فيام بـينكم وبـني الساعة إال أنبأتكم»‪.‬‬
‫واإلمام غني عن التعريف وخاصة يف شأن العلم بالتحوالت‪ ،‬فقد كان ؤ مطلع ًا عىل‬
‫علوم الرشع ظاهر ًا وباطن ًا‪ ،‬وهو الذي يقول‪ :‬لو كشف ِ‬
‫الغطا ما ازددت يقين ًا‪ ،‬وكان ﷺ يلمح‬
‫يف أكثر من موقف إىل قدراته العلمية والروحية َّ‬
‫الفذة وصدق عزيمته ومضاء وعيه وإمكاناته‬
‫القادرة عىل إصالح حال األمة ومحلها عىل االستقامة عىل هذا الدين القويم‪ ،‬فانظر إليه يف خيرب‬
‫وهو أرمد‪ ،‬وكيف َّنبه النبـي ﷺ مجيع الصحابة إىل مكانته وقدراته اإليامنية وخاصة أمام اليهود‬
‫ألدّ أعداء األمة يف التاريخ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عظيمة من فقه التحول ملن ألقى السمع وهو شهيد‪ ،‬وكذلك يف قصة‬ ‫مالمح‬
‫ٌ‬ ‫ويف هذا الشأن‬
‫األعرابـي الذي وصف بالعبادة واخلري بـني يدي رسول اهلل ﷺ فأنكر النبـي معرفته ويف الثالثة‬
‫ذكرتم يل رج ً‬
‫ال يف وجهه سفع ُة الشيطان»‪ ،‬ودخل‬ ‫ُ‬ ‫جاء الرجل بنفسه‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬‬

‫الرجل املسجد فقال ﷺ‪« :‬من يقتل الرجل؟» فذهب أبوبكر ثم عمر ثم قام عيل ؤ فقال‪:‬‬
‫«أنت صاحبه إن أدركتَه»؛ ولكنه مل يدركه فقال ﷺ‪« :‬لو ُقتل هذا ما اختلف اثنان من أمتي»‪،‬‬
‫وكان يف هذا احلديث ملمح إىل تأخر موقع اإلمام عيل كرم اهلل وجهه وؤ يف احلكم حتى‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪494‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫مل يعد يقدر أن يدرك قطع الفتنة التي َش َّب ْت بعد مقتل عمر يف عهد عثامن مع أنه كام ورد يف‬
‫احلديث «أنت صاحبه لو أدركته»‪.‬‬
‫ويف األمر كله حكمة إهلية‪ ،‬وقد علم يف صحيح األحاديث أن اإلمام ؤ يف معركته‬
‫مع اخلوارج كان يطلب البحث عن عالمة يف أحد املقتولني‪ ،‬وهو ذو الثديتني لعلمه أنه من‬
‫املنافقني‪ ،‬فلام وجده هتلل وجهه وفرح‪ ،‬إذ علم أن معركته مع اخلوارج كانت عادلة ورشعية‪.‬‬
‫وكان ؤ يقول‪« :‬ما من ثالثامئة خترج إل ولو شئت سميت سائقها وناعقها إىل يوم‬
‫القيامة» (((‪.‬‬
‫بل إن اإلمام علي ًا كرم اهلل وجهه وؤ قد تكلم عن انفالق الذرة كأول معبرَّ يف تاريخ‬
‫اإلنسانية عن أثر هذا العلم‪ ،‬ويعرتف الباحث (جون أونيل) يف كتابه «القصة احلقيقية للهندسة‬
‫الذرية» قائ ً‬
‫ال‪ :‬إن أحد النقط املتألألة يف القرون الوسطى تأيت من العامل اإلسالمي حيث نجد‬
‫ما َس َّطره قلم أبواحلسن صهر حممد ‪-‬ويعني به سيدنا عيل بن أبـي طالب كرم اهلل وجهه زوج‬
‫أي َذ َّر ٍة جتدُ يف‬ ‫ت َّ‬
‫الذ َّرة َّ‬ ‫بنت املصطفى صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪ -‬الذي كتب يقول‪« :‬إذا َف َل َق ِ‬

‫قلبها َش ْمس ًا» ‪ ،‬وأن هذا ببصريته الصافية قد استطاع أن يلمح حقيقة النظام الشميس احلديث‬
‫يف الذرة(((‪.‬‬
‫�ر‬ ‫ك�ذا أب�و ِه ٍّ�ر َس ُ‬
‫�ليل َصخْ ِ‬ ‫ظي�م ال َقدْ ِر‬ ‫ٍ‬
‫عب�اس َع ُ‬ ‫اب�ن‬
‫ك�ذا ُ‬
‫وعبداهلل بن عباس ريض اهلل عنهام َحرب األمة وإمام ال َّتأويل‪ ،‬دعا له النبـي ﷺ وقال‪:‬‬
‫«ال َّلهم َع ْلمه ال َّتأويل»‪ ،‬كان أحد فقهاء العلم بعالمات الساعة‪ ،‬وروى العديد من األحاديث‬
‫عنها‪ ،‬وكان سند ًا لإلمام عيل كرم اهلل وجهه وؤ يف جمادلة اخلوارج َ‬
‫وح ْر هِبم‪ ،‬بل ويف كافة‬

‫((( «الفتن» لنعيم بن محاد (‪.)34 :1‬‬


‫((( ص ‪ 142‬من كتاب «أرسار اهلاء يف علم اجلفر» ملحمد عيسى داود‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪495‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫املواقف التي وقفها اإلمام عيل بعد توليته اخلالفة‪ ،‬لعلمه بسالمة منطلق اإلمام عيل بالنص يف‬
‫فقه التحوالت‪ ،‬وبعث به اإلمام ملجادلة اخلوارج وإعادهتم إىل حظرية احلق‪ ،‬فجادهلم وعاد‬
‫معه أربعة اآلف‪ ،‬وبرغم صغر سنه كان عمر بن اخلطاب يقدمه عىل األشياخ لوفرة علمه كام‬
‫ِ‬
‫رسول‬ ‫هو يف قصة (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) ‪ ،‬قال ابن عباس عندما سئل‪« :‬هو ُ‬
‫أجل‬
‫اهلل ﷺ»‪ ،‬وهذا من فقه التحوالت‪ ،‬خالف ًا ملا اعتقده اآلخرون يف فهم اآلية وإن كان فهمهم‬
‫ألحد معانيها‪ ،‬وملا سئل عن قوله تعاىل يف سورة الكهف‪( :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ) قال ابن عباس‪ :‬أنا من القليل‪.‬‬
‫ويف قوله تعاىل‪( :‬ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ‬
‫ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ) ‪ ،‬ويف ذات اآلية قال ابن عباس لرجل‪« :‬ما يؤمنك‬
‫إن أخربتك هبا تكفر ؟» وقال لرجل آخر يف نفس اآلية‪« :‬أعلم فيها عل ًام لو ُب ْحتُه َ‬
‫لك َّف ْر ُمتوين»‬

‫‪.‬اهـ((( ‪.‬‬
‫وأبوهريرة عبدالرمحن بن صخر الدويس كان أحد الصحابة احلاملني علم التحوالت وفقه‬
‫عالمات الساعة‪ ،‬وله مالمح ومالحظ كثرية يف هذا الشأن كقوله ؤ‪« :‬أعطاين خلييل‬
‫جرابـني من العلم‪ ،‬أما أحدمها فقد بثثته بـينكم وأما اآلخر فلو بثثته ُلق ِط َع مني هذا احللقوم»(((‪،‬‬
‫وروي أنه كان يقول‪« :‬ال َّلهم ال تبلغني عام الستني وال إمارة الصبـيان» ‪.‬‬
‫ويف رواية‪ « :‬أعوذ باهلل من إمارة الصبـيان‪ ،‬قالوا‪ :‬وما إمارة الصبـيان ؟ قال‪ :‬إن أطعتموهم‬
‫هلكتُم يف دينكم وإن عصيتموهم أهلكوكم» (((‪.‬‬

‫((( الطالق‪ :‬آية ‪.12‬‬


‫((( ص‪« 26‬املفاجأة» ملحمد عيسى داوؤد‪.‬‬
‫بثثت منها جرابـني‪ ،‬ويف رواية‪:‬‬
‫«حفظت ثالثة أجربة ُ‬
‫ُ‬ ‫(( ( وروي احلديث بروايات متعددة‪ ،‬ففي مسند أمحد‪:‬‬
‫مخسة أجربة» «فتح الباري» (‪ ، )261 :1‬قال احلافظ ابن حجر‪ :‬حيتمل أن يكون أراد مع الصنف املذكور‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪496‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫قال يف «فتح الباري»‪ :‬كان أبوهريرة يعلم أسامء السالطني واألمراء وأسامء آبائهم‪ ،‬وقد كتم‬
‫هذا العلم ثم حدَّ ث به قبل موته تأث ًام أن يكون كتم عل ًام‪.‬‬
‫الش ِ‬
‫�ان‬ ‫عظي�م َ‬ ‫ِ‬
‫الفق�ه‬ ‫وكان ف�ي‬ ‫��ذي�� َف�� ُة ال َيماني‬ ‫ِ‬
‫ومث ُلهم ُح َ‬
‫َ‬
‫من أفاضل الصحابة وأكثرهم عل ًام بفقه التحوالت وعالمات الساعة‪ ،‬كان يسمى أمني رس‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬إذ كان عليه الصالة والسالم خيصه بأخبار املنافقني ومواقفهم وحتى أسامئهم‪،‬‬
‫وكان يقول عن نفسه فيام رواه مسلم‪ ،‬قوله‪ :‬واهلل إين ألعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيام بـيني‬
‫وبـني الساعة ما بـي إلاَّ أن يكون رسول اهلل ﷺ أرس إ َّيل يف ذلك شيئ ًا مل حيدثه غريي ‪ ،‬ولكن‬
‫رسول اهلل ﷺ قال وهو حيدث جملس ًا أنا فيه عن الفتن‪ ،‬فقال ﷺ وهو يعد الفتن‪« :‬منهن ثالث‬
‫ال يذرن شيئ ًا‪ ،‬ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار»‪ ،‬قال حذيفة‪ :‬فذهب أولئك‬
‫الرهط ك ُّلهم غريي(((‪..‬‬
‫ويف هذا الباب من علم حذيفة أحاديث كثرية‪.‬‬
‫الح ْس� ِم‬ ‫ٍ‬
‫َر َوى فأوعى من علو ِم َ‬ ‫غزي�ر العل ِم‬
‫ُ‬ ‫مس�عود‬ ‫اب�ن‬
‫ك�ذا ُ‬
‫هو عبداهلل بن مسعود أحد العبادلة يف اإلسالم وأحد محلة كتاب اهلل وكتاب وحيه‪ ،‬كان‬
‫لزي ًام لرسول اهلل ﷺ وسمع منه عرشات األحاديث يف العلوم‪ ،‬ومنها أحاديث يف علم الساعة‬
‫وحتوالهتا‪.‬‬
‫الذ ِ‬
‫كر‬ ‫ِ‬
‫كثي�ر ِّ‬ ‫ِ‬
‫العاص‬ ‫ُينمى إل�ى‬ ‫نج�ل َع ْم ِ‬
‫�رو‬ ‫ِ‬ ‫ومث�ل ِ‬
‫عبدالل�ه‬ ‫ُ‬
‫ومنهم يف العلم بفقه عالمات الساعة الصحابـي اجلليل عبداهلل بن عمرو بن العاص ريض‬

‫ما يتعلق بأرشاط الساعة وتغري األحوال واملالحم يف آخر الزمان‪ ،‬فينكر ذلك من مل يألفه ويعرتض عليه‬
‫من ال شعور له به‪.‬‬
‫((( رشح مسلم ص‪ ،15‬كتاب الفتن‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪497‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫اهلل عنهام‪ ،‬وقد روى يف هذا الباب أحاديث كثرية‪ ،‬ويبدو أن روايته هلذا العلم جاءت من كثرة‬
‫يدون ويكتب‪ ،‬فقد روي أنه كان يكتب احلديث بـني يدي رسول اهلل ﷺ َ‬
‫وش ِهد له‬ ‫ما كان ّ‬
‫أبوهريرة بذلك‪.‬‬
‫عل�ي ِ‬ ‫م�ع ابن ِ ِ‬
‫العابدي�ن‬
‫ْ‬ ‫زي�ن‬ ‫ِّ‬ ‫�ه‬ ‫َ‬ ‫سين‬ ‫الس ْب ُط كذلك ُ‬
‫الح ْ‬ ‫والحسن ِّ‬
‫ُ‬
‫حوالت سيدنا اإلمام احلسن بن عيل ؤ‪ ،‬وقد كان مطلع ًا عىل كثري‬
‫ومن علامء فقه ال َّت ُّ‬
‫من حتوالت املراحل‪ ،‬ويعد عند فقهاء التحوالت ؤ وأرضاه أحد رجال املواقف‪ ،‬إذ كان‬
‫له دور عظيم يف إطفاء فتنة الرصاع عىل احلكم بـني فئتني من املسلمني مع كونه ؤ يف موقفه‬
‫حمق ًا وغريه مبط ً‬
‫ال؛ ولكنه اختذ موقف ًا حاس ًام َو َصفه النبـي ﷺ يف احلديث‪ ،‬بقوله‪« :‬إن ابني هذا‬
‫سيد وسيصلح اهلل به بـني فئتني من املسلمني»(((‪.‬‬
‫ومثله أخوه اإلمام احلسني بن عيل ؤ‪ ،‬وكان من أكابر العلامء بالتحوالت حمدث ًا عن‬
‫أخبارها‪ ،‬وقد اجتهد واختذ موقف ًا ظل ُج ْرح ًا ُيدْ َمى يف تاريخ اإلنسانية إىل يوم الدِّ ين‪ ،‬ومن‬
‫موقفه الشجاع أمام التحوالت إلعادة احلق إىل نصابه حسبام اجتمع لديه من األدلة والرشوط‬
‫َ‬
‫مواقف جديدة وتكتالت عنيدة تثار عواصفها بـني احلني واحلني كثمرة من‬ ‫رسم بالدم الطاهر‬
‫ثمرات التحوالت وما يطرأ حياهلا من املواقف؛ بل كان مقتله ؤ مسج ً‬
‫ال يف دائرة األخبار‬
‫عن حوادث املستقبل وما يطرأ منها يف احلكم والعلم‪.‬‬
‫السجاد عيل زين العابدين الذي قرأ الفقه‬
‫ومن رجال العلم بفقه التحوالت كذلك سيدنا َّ‬
‫بكل معانيه وعارص العديد من أحداثه اجلارية‪ ،‬فحفرت الظروف واحلروف يف قلبه لوحة األمل‪،‬‬
‫وكان يعرب عنها ويقول‪« :‬إنّ يعقوب عليه السالم َب َكى حتى ابيضت عيناه عىل يوسف؛ ومل يعلم‬
‫رأيت بضعة عرش من أهل بيتي ُيذبحون يف َغ ِ‬
‫داة يوم واحد‪ ،‬أ َفترَ َ ونَ حزهنم‬ ‫ُ‬ ‫أ ّنه مات‪ ،‬وإن‬

‫((( رواه أمحد وابن عساكر عن أيب بكرة‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪498‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ذهب من قلبي؟»‪ ،‬وهو القائل عن مثل هذا العلم‪:‬‬
‫َي ُ‬
‫كي ال َيراه ذو جهل فيفتتنا‬ ‫ألكتم من علمي جواهره‬
‫ُ‬ ‫إين‬
‫إىل احلسني وأوىص بعده احلسنا‬ ‫وقد تقدَّ م يف هذا أبو حسن‬
‫لقيل يل‪ :‬أنت ممن َيعبدُ الوثنا‬ ‫علم لو َأ ُبوح به‬
‫فر َّب جوه ِر ِ‬
‫ُ‬
‫يرون أقبح ما يأتونه َحسنا‬ ‫َ‬
‫والستحل رجال مسلمون دمي‬
‫(((ومثله يف هذا العلم اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬وخيرب عنه إنه ملا أراد بنو هاشم أن يبايعوا حممدا‬
‫وإبراهيم ابني عبداهلل املحض بن احلسن املثنى وذلك يف أواخر دولة بني مروان وضعفهم‬
‫فأرسلوا جلعفر الصادق فلام حرض أخربوه بسبب اجتامعهم فأبى‪ ،‬فقالوا‪ :‬مدَّ يدك لنبايعك‬
‫ليلعبن هبا صبياهنم‬
‫َّ‬ ‫فامتنع‪ ،‬وقال‪« :‬واهلل إهنا ليست يل وال هلام وإهنا لصاحب القباء األصفر واهلل‬
‫وغلامهنم» ‪ ..‬ثم هنض وخرج وكان املنصور العبايس يؤمئذ حارض ًا وله قباء أصفر‪ ،‬قال‪ :‬فام‬
‫يف حتى َم َل ْك ُت‪ .‬اهـ((( ‪.‬‬
‫الكلمة َت ْع َم ُل َّ‬
‫ُ‬ ‫زالت تلك‬
‫قال الناظم‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الو ِ‬ ‫�ن ِ‬ ‫ِ‬
‫كالحراثة‬ ‫فالعل�م‬
‫ُ‬ ‫�م‬
‫م�ن َب ْعده ْ‬ ‫راث�ة‬ ‫�ه ٌم م َ‬ ‫وم�ن ّل�ه َس ْ‬
‫�زد ل�ه فتح� ًا بلا ْاش�تِ ِ‬ ‫�رد بالعل� ِم وج�ه ِ‬
‫باه‬ ‫َي ِ ْ ُ‬ ‫الل�ه‬ ‫َ‬ ‫�ن ُي ِ ْ‬
‫فم ْ‬
‫َ‬
‫ومنـز َِع� ْه‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ََج ُّ�رد ًا ع�ن ذات�ه َ‬ ‫�ذ ُه ِم�ن َمنْ َب ِع� ْه‬ ‫بِ َش�ر ِ‬
‫ط َأ ْن َي ْأ ُخ َ‬ ‫ْ‬
‫َأ ْو َي ْس�ت َِف ُّز ِّ‬
‫الض�دَّ فيم�ا َي ِ‬
‫عر ُف� ْه‬ ‫ي�ل ِض�دَّ َم�ن يخالِ ُف�ه‬
‫فلا َي ِم ُ‬

‫بن‬
‫يل َ‬‫سمعت ع ّ‬ ‫ُ‬ ‫((( وكان له موقف واضح من غلو ا ُمل ْف ِر ِطني يف املحبة ‪ ،‬فقد روي عن حييى بن سعيد قال‪:‬‬
‫الناس َأ ِح ُّبونا ُح َّب اإلسال ِم‪ ،‬فام َب ِر َح بنا ُح ُّب ُك ْم ح ّتى‬
‫ُ‬ ‫هاشمي أدركتُه‪ -‬يقول‪« :‬أهيا‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫أفضل‬ ‫احلسني ‪-‬وكان‬
‫ار علينا عار ًا» «أعالم أهل البيت» ص‪ 14‬تأليف د‪ .‬عبدالقادر حممد منصور‪.‬‬
‫َص َ‬
‫((( «املرشع الروي» ص‪.83‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪499‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫أتب�اع ِدي�ن ال َب َركَ� ْة‬
‫َ‬ ‫جامع� ًة‬ ‫القواس�م المش�تر َك ْة‬
‫َ‬ ‫ب�ل َي ْل�ز ُم‬
‫يشري الناظم إىل استمرار عطاء اهلل يف هذا العلم اخلاص بفقه التحوالت‪ ،‬وأنه كاحلراثة‬
‫املوروثة‪ ،‬ولكل من احلراثة بعد الوراثة سهم و َنصيب‪ ،‬خالف ًا ملن يصادر األرض أو‬
‫يغتصبها من أهلها‪ ،‬فليس لديه من الرشعية نصيب‪ ،‬إذ إن العلم من رشوطه اإلخالص‬
‫والتجرد هلل‪ ،‬وحسن االرتباط املتصل بسنده األبوي النبوي‪ ،‬فمن العلوم علوم يتفقه‬
‫فيها الناس عىل خمتلف نامذجهم وعقوهلم وأفكارهم وحتى دياناهتم‪ ،‬فيمتلكون زمام‬
‫املعرفة بجدارة العلم واإلطالع عليه‪ ،‬أما هذا العلم فال يتحصل بالنظر ومداومة القراءة‬
‫واإلطالع‪ ،‬وإنام هو كام عبرَّ عنه ﷺ يف دعائه البن عباس ؤ‪ « :‬ال َّلهم علمه ال َّتأو َيل» ‪،‬‬
‫وكام ورد معناه يف اآلية الكريمة‪( :‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ )‪،‬‬
‫ٌ‬
‫رشط ملعرفة احلروف وما حتمله من النصوص الستقراء معانيها‪.‬‬ ‫والنظر واإلطالع‬
‫ِ‬
‫واحل ْقد ألحد من املسلمني ولو‬ ‫الغل ِ‬
‫والغش‬ ‫كام أن من رشوطه‪ :‬سالمة الصدر عن ِ‬

‫كان معارض ًا له أو ضد ًا‪ ،‬فأصل العلم ال َّلدين سالمة الصدر‪( ،‬العقل السليم يف القلب‬
‫السليم)‪ ،‬وجامع السالمة معاملة اجلميع بام يسمى « بالقواسم املشرتكة» يف اإلسالم من‬
‫غري إفراط وال تفريط‪ ،‬وهذا املوقف ليس من السهولة بمكان‪ ،‬وإنام هو ارتياض يتأتى‬
‫باألخذ وال َّتلقي عن أهله‪ ،‬حيمله معنى قول اهلل تعاىل‪( :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [فصلت‪.]35-34 :‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪500‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫بـيت النُّبُ َّو ِة بفِ ْق ِه التَّحَ وُّالت‬
‫ِ‬ ‫آل‬ ‫عَ َ‬
‫الق ُة ِ‬

‫حوالت يف ديننا احلنيف تعيني آثار مراتب العالقات الرشعية بـني‬


‫من وظائف فقه ال َّت ُّ‬
‫اخللق‪ ،‬كرب الوالدين أو عقوقهام واألرحام واجلريان وعموم الناس‪ ،‬حيث إن هذه العالقات‬
‫جزء ال يتجزأ من الرتابط االجتامعي الرشعي الذي ُيثاب فاعله ويؤثم تاركه‪ ،‬بل يرتتب عىل‬
‫تب ال َقاطع َ‬
‫والعاق‪ ،‬وهذه هي‬ ‫عقوق الوالدين –مث ً‬
‫ال‪ -‬وقطيعة األرحام فساد العمل ك ّله إذا مل َي ْ‬
‫مفصل االلتقاء مع بقية أركان الدِّ ين‪.‬‬
‫وبمثل هذه العالقات اخلطرية جعل اهلل سبحانه وتعاىل العالقة يف فقه التحوالت بـني‬
‫عموم املسلمني وآل البـيت النبوي وبـني عموم املسلمني‪ ،‬ومثل هذا يدل عىل أن موازين فساد‬
‫القبول عند اهلل مما ابتىل به العباد ليس حمصور ًا يف ال َّتعبد وفرائضه املعروفة من صالة وصوم‬
‫وحج وزكاة وحدها‪ ،‬بل ُيبتىل املسلمون بشأن الوالء واملحبة للرسول ﷺ وآل بـيته كجزء من‬
‫مسؤوليات العلم الفريض الواجب‪ ،‬وبفقدان هذا العلم َت ْن َفرط ُعرى العالقات بـني رشائح‬
‫املجتمع الرشعي‪ ،‬وحتل حملها عالقات اجتامعية أخرى ربام أوجدت خل ً‬
‫ال وكراهي ًة وعداو ًة‬
‫مع من ال يستحق العداوة‪ ،‬وأوجدت أيض ًا مي ً‬
‫ال قلبـي ًا وحمب ًة واستئناس ًا بمن ال يلزمنا املحبة‬
‫له واالستئناس به كاملنافق والكافر‪ ،‬وهبذا االنقالب يف العالقات والوالء ينتكس اإلسالم‬
‫يف أهله كعالقات تنشأ عن العالقات االجتامعية الفاسدة ا ُمل ْف ِسدة‪ ،‬فمن مل يوايل رسول اهلل‬
‫وآل بـيته َي ْبت َِليه اهلل بمواالة ُ‬
‫الك َّفار واملنافقني‪ ،‬ومن مل َي ِّ‬
‫عظم والديه وأرحامه ويؤدي حقوق‬
‫وح ِّب الدنيا وزينتها‬
‫السفهاء واألراذل ُ‬
‫جريانه يبتليه اهلل بتعظيم الزوجة واألوالد ومالحقة ُّ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪501‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ومظاهرها عىل غري ضابط رشعي وال أدب َم ْر ِعي(((‪ ،‬وهي العقوبة احلتمية والبديل املناسب‬
‫ُ‬
‫واملتأمل اليوم يف أحوال‬ ‫لفساد طبـيعة العالقة‪ ،‬وهذا هو عني ال َّتحول وال َّتبدل والعياذ باهلل‪،‬‬
‫املسلمني ووالءاهتم وعالقاهتم االجتامعية واخلاصة يرى مدلوالت ال َّتحول بارز َة األثر والتأثري‬
‫برص وال تبصري‪ ،‬مما يؤدي بال ِّ‬
‫شك‬ ‫وشمول الستتبا ٍع عشوائي ال َينِ ُّم عن ٍ‬
‫عدل وال َت ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫غفلة‬ ‫مع‬
‫إىل نفاذ قضاء اهلل وقدره وحتقيق ما وعد به من التنكيل وال َت ْقتِيل واألذى آلل البـيت والوقوع‬
‫وسوء َّ‬
‫الظن هبم يف مراحل اإلضالل والتضليل‪ ،‬والحول وال قوة إال باهلل العيل‬ ‫يف أعراضهم ُ‬
‫العظيم‪.‬‬

‫(( ( وقد امتألت أحاديث عالمات الساعة بذكر هذه الظواهر وانتشارها يف آخر الزمان كشاهد عىل التحول‬
‫واالنتكاس‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪502‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫بالذات النَبويَّة‬
‫ِ‬ ‫فِ ْقه العَ القة‬

‫ألن الذات النبوية هي مصدر الترشيع والقدوة احلسنة لألمة ومرجعية النسك واألخالق‬
‫واملواقف‪ ،‬فالنظر يف فقه الذات النبوية واجب ومتحتم‪ ،‬وال يزال علامء امللة منذ قرون البعثة‬
‫والرسالة وهم حيدون الناس ويفقهوهنم يف ما جيب علمه عليهم نحو الذات النبوية من املحبة‬
‫واالقتداء والوالء‪ ،‬وصدق اخلدمة يف الدين‪ ،‬باتباع األوامر واجتناب املناهي‪ ،‬وبذل املعروف‬
‫وأداء احلقوق ودراسة نسب النبـي ورشف حمتده وفضل الصالة والتسليم عليه وزيارة قربه‬
‫ومسجده وغريها من املآثر املعربة عن الرشف املوهوب له من مواله؛ بل إن جزء ًا من حوادث‬
‫السرية بينت موقف العديد من الكائنات كاجلذع واحلجر والشجر من رشف الذات النبوية‬
‫وأبرزت بأمر اهلل تعاىل رس االنفعال الوجداين املعرب عن عمق التعلق واحلب له عليه الصالة‬
‫والسالم حتى يف غري بني اإلنسان‪ ..‬وهذا نوع خاص من فقه التحول وسنن املواقف‪.‬‬
‫وهلذا فإن من كوارث العرص الفصل بني الكتاب والسنة وثمراهتام وبني الذات النبوية‪..‬‬
‫ودراسة اخلصوصيات املوهوبة‪ ..‬وهذا ما تعانيه املدارس اإلسالمية املعارصة سواء كانت‬
‫أكاديمية أو مؤسسات تعليمية وثقافية‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪503‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫فِ ْق ُه العَ القة ِ‬
‫بآل البـيت النبوي‬

‫وقلب ظه ِر امل ِ َج ّن هلم‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫إمهال الناس بشأن آل البـيت النبوي‬ ‫قد تناول فقه التحوالت‬
‫وحماربتَهم حين ًا بام َي َق ُعون فيه من تِ ٍ‬
‫رات ونقائض وحين ًا ملجرد نسبتهم لرسول اهلل ﷺ‬
‫فقط كعالمة من عالمات الساعة‪ ،‬لقوله ﷺ‪« :‬إن أهل بـيتي سيلقون بعدي من أمتي قت ً‬
‫ال‬
‫وترشيد ًا»(((‪ ،‬ورفع النبـي ﷺ وترية التحذير يف شأن أمهية االعتناء بأهل بـيته خصوص ًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«أذكركم اهلل يف أهل بـيتي ثالث ًا»‪« ،‬أال إن عيبتي التي آوي إليها أهل بـيتي»‪« ،‬إين تارك فيكم‬
‫الثقلني كتاب اهلل وأهل بـيتي وإهنام لن يفرتقا حتى يردا عيل احلوض»(((‪ ،‬وأخرج الطرباين‬
‫سألت ربـي ذلك هلام‪ ،‬فال َت َقدَّ ُمومها فتهلكوا‬
‫ُ‬ ‫بزيادة‪« :‬وإهنام لن يفرتقا حتى يردا عيل احلوض‪،‬‬
‫وال تقرصوا عنهام فتهلكوا وال ِّ‬
‫تعلموهم فإهنم أعلم منكم»(((‪ ،‬وربط بـني الوالء هلم وال َّنجاة‬
‫من النار‪ ،‬فقد روى احلاكم يف «املستدرك» عن عبداهلل بن عباس ريض اهلل عنهام أن رسول اهلل‬
‫سألت اهلل لكم ثالث ًا‪ :‬أن يثبت قائمكم‪ ،‬وأن هيدي ضالكم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ﷺ قال‪« :‬يا بني عبد املطلب إين‬
‫وأن يعلم جاهلكم‪ ،‬وسألت اهلل أن جيعلكم جوداء نجداء رمحاء‪ ،‬فلو أن رج ً‬
‫ال صفن بـني‬
‫الركن واملقام وصىل وصام ثم لقي اهلل وهو مبغض ألهل بـيت حممد دخل النار»‪ ،‬وعن أبـي‬
‫سعيد اخلدري ؤ‪ ،‬قال‪« :‬والذي نفيس بـيده ال يبغضنا َ‬
‫أهل البـيت أحدٌ إل أدخله اهلل‬
‫النار»‪ ،‬وروى الديلمي يف مسند الفردوس عن أبـي سعيد قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬اشتد‬

‫((( رواه نعيم بن محاد يف الفتن ‪ ،‬احلاكم يف «املستدرك» عن أيب سعيد اخلدري ريض اهلل عنه‪.‬‬
‫((( من حديث زيد بن أرقم خمترص ًا‪« ،‬ارتقاء الغرف» للسخاوي ص‪.63‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪504‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫غضب اهلل عىل من آذاين يف عرتيت»‪.‬‬
‫مراتب آل البـيت‬
‫‪ -1‬الوالء لقريش‪ :‬بدأ الرسول ﷺ يضع مقايس الوالء بادئ ذي بدء بقريش‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«أمان ألهل األرض من االختالف املواالة لقريش‪ ،‬قريش أهل اهلل فإذا خالفتها قبـيلة من‬
‫أحب ُه اهلل» (((‪.‬‬ ‫العرب صاروا حزب إبليس» ‪ .‬وحديث‪« :‬أح ُبوا قريش ًا فإن من َّ‬
‫أحبهم َّ‬
‫(((‬

‫ويف هذا الباب أحاديث كثر ال نطيل بذكرها‪ ،‬ومنها ما أورده البخاري يف صحيحه‪« :‬إن‬
‫هذا األمر من قريش ال يعادهيم أحد إل أكبه اهلل عىل وجهه ما أقاموا الدين» (((‪.‬‬
‫واملقصود باملعاداة‪ :‬املعاداة هلم باعتبار عالقتهم برسول اهلل ﷺ وارتباطه هبم وارتباطهم ال‬
‫اجلنُوح َ‬
‫واخلطأ‪.‬‬ ‫من حيث ما قد يقعون فيه من ُ‬

‫‪ -2‬الوالء آلل البـيت عموم ًا‪ :‬وهم بنو هاشم وبنواملطلب‪ ،‬وهم أيض ًا من ثبتت الصالة‬
‫عليهم وحرموا من الصدقة مع تعويضهم بخمس ُ‬
‫اخلمس من بـيت مال املسلمني‪.‬‬
‫فعن عامر وأبوهريرة ريض اهلل عنهام قالوا‪ :‬قدمت درة بنت أبـي هلب املدينة مهاجر ًة فنـزلت‬
‫جئن إليها من بني زريق‪ :‬ابنة أبـي هلب الذي أنـزل اهلل فيه‪:‬‬
‫يف دار رافع بن املعىل‪ ،‬فقال هلا نسوة َّ‬
‫(ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) فام تغني هجرتك! فأتت درة رسول اهلل ﷺ فبكت وذكرت ما َّ‬
‫قلن هلا‬

‫((( أخرجه الطرباين واحلكم يف «املستدرك» عن ابن عباس ريض اهلل عنهام‪ .‬قال املناوي يف «فيض القدير»‬
‫(‪ : )182 :2‬ور ّد الذهبي تصحيح احلاكم يف «املستدرك» (‪ ، )75 : 4‬ويف «اجلامع الصغري» ‪« :‬أمان ألهل‬
‫األرض من الغرق ال َق ْو ِ‬
‫س» ‪ ،‬واملراد هنا بالقوس كام رشحه املناوي ‪ :‬أي ظهور القوس املسمى بقوس‬
‫قزح‪ .‬اهـ‪« .‬كنز العامل» (‪.)25 :12‬‬
‫((( رواه أمحد يف مسنده وابن حبان واحلاكم يف «املستدرك» والطرباين يف «املعجم الكبـري» عن سهل بن سعد‪.‬‬
‫اهـ من «ارتقاء الغرف» للسخاوي‪.‬‬
‫((( أخرجه البخاري يف صحيحه وأمحد يف مسنده عن معاوية‪ .‬اهـ ص‪ 76‬من «ارتقاء الغرف» للسخاوي‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪505‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫فسكنها رسول اهلل ﷺ وقال‪ :‬اجليس‪ ،‬ثم صىل بالناس الظهر ثم جلس عىل املنرب ساعة‪ ،‬ثم‬
‫قال‪« :‬يا أهيا الناس ما يل أوذى يف أهيل ؟ فواهلل إن شفاعتي تنال قرابتي حتى إن صداء وحكم‬
‫وحاء وسهلب لتناهلا يوم القيامة» (((‪.‬‬
‫وعن عبداهلل بن عباس ريض اهلل عنهام أن رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬أحبوا اهلل ملا يغدوكم به من‬
‫نعمه‪ ،‬واحبوين حلب اهلل‪ ،‬وأحبوا آل بـيتي حلبـي» (((‪.‬‬
‫وعن زيد بن أرقم ؤ قال‪ :‬خطبنا رسول اهلل ﷺ يف دير خم فقال‪« :‬وأهل بـيتي أذكركم‬
‫اهلل يف أهل بـيتي‪ ..‬أذكركم اهلل يف أهل بـيتي‪ ،»..‬قيل لزيد‪ :‬ومن أهل بـيته ؟ قال‪ :‬الذين حرموا‬
‫الصدقة‪ :‬آل عيل وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس‪ ،‬قيل لزيد‪ :‬أكل هوالء أهل بـيته؟ قال‪:‬‬
‫نعم»(((‪.‬‬
‫‪ -3‬الوالء ألهل الكساء‪ :‬عن أم سلمة ريض اهلل عنها أن رسول اهلل ﷺ قال لفاطمة‪ :‬أريني‬
‫زوجك وابنيك‪ ،‬فجاءت هبم‪ ،‬فألقى عليهم رسول اهلل ﷺ كساء كان حتتي خيربي ًا (أصبناه من‬
‫خيرب) ثم رفع يديه فقال‪ :‬اللهم إن هوالء آل حممد فاجعل صلواتك وبركاتك عىل آل حممد كام‬
‫جعلتها عىل آل إبراهيم إنك محيد جميد»‪ ،‬فرفعت الكساء ألدخل معهم فجره رسول اهلل ﷺ من‬
‫يدي وقال‪« :‬إنك عىل خري» (((‪..‬‬
‫عن العباس بن عبداملطلب ؤ ؤ قال‪ :‬كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون‬
‫فيقطعون حديثهم‪ ،‬فذكرنا ذلك للنبـي ﷺ فقال‪« :‬واهلل ال يدخل قلب رجل اإليامن حتى‬

‫((( رواه الديلمي‪.‬‬


‫((( رواه احلاكم يف «املستدرك» عن عبداهلل بن العباس ريض اهلل عنهام‪.‬‬
‫((( رواه مسلم وأمحد والنسائي عن زيد بن أرقم‪.‬‬
‫((( رواه الرتمذي وأبو يعىل وابن عساكر‪.‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪506‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫حيبكم هلل ولقرابتي» ويف لفظ‪« :‬لقرابتكم مني» (((‪.‬‬
‫وروى اإلمام أمحد والرتمذي وغريمها عن أم سلمة أن هذه اآلية ملا نـزلت أدار النبـي ﷺ‬
‫كساءه عىل عيل وفاطمة واحلسن واحلسني ئ‪ ،‬فقال‪« :‬ال َّلهم هؤالء أهل بـيتِي فأذهب‬
‫عنهم الرجس وطهرهم تطهري ًا»‪.‬‬

‫حقوق آل البـيت‬
‫‪ -1‬كفالتهم بمنحهم اخلمس املقرر هلم رشع ًا‪ ،‬وإذا تعذر اخلمس لقلة مال أو لظلم من‬
‫يتوىل عىل حقوقهم فيعطون من الصدقة املفروضة ما يكفيهم‪ .‬اهـ‪ .‬وقال بذلك أبو سعيد‬
‫االصطخري‪ ،‬قال الرافعي‪ :‬وكان حممد بن حييى صاحب الغزايل يفتي هبذا(((‪.‬‬
‫‪ -2‬تقديمهم يف العلم والفتوى واملكانة واملجلس‪.‬‬
‫‪ -3‬موالهتم باملحبة واخلدمة وطلب الدعاء منهم والدفاع عن أعراضهم ونرش فضائلهم‬
‫َ‬
‫والغ َّ‬
‫ض عن معايبهم وبذل ال ُّنصح هلم‪.‬‬
‫وهذه احلقوق املطلوبة من اخللق إنام هي تكليف رباين ال اختيار إنساين‪ ،‬وهلذا فإن من‬
‫واجب أهل البيت أال يتكلفوا املطالبة باحلقوق من الناس‪ ،‬إذ إن الناس تبع حلملة القرار‬
‫واالستقرار‪.‬‬
‫وإنام جيب عىل أهل البيت معرفة األخالق التي متيزهم عن سائر الناس وتساعدهم عىل‬
‫خدمة املجتمع بكافة رشائحه وجمموعاته‪،‬‬
‫كام أن عليهم اخلروج عن دوائر التكتل وأسباب الرصاع املذهبي والسيايس واالجتامعي‬

‫((( رواه ابن عساكر وابن النجار‪ .‬اهـ عن «رسالة آل البـيت» البن تيمية ص‪.142‬‬
‫((( اهـ «املهذب» للنووي (‪ )227 :6‬نق ً‬
‫ال عن «رسالة آل البـيت» البن تيمية ص‪.25‬‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪507‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ليكونوا حقا سفن النجاة ساعة الطوفان؛‬
‫ولكن الشيطان ومن يف دائرته قد عملوا عىل حجب سالالت البيت الطاهر عن حقائق‬
‫هذا الدين وشغلوهم بام شغلوا به ضحايا املسلمني يف مرحلة الغثاء والوهن‪ ،‬فكان البد هلذه‬
‫السالالت الطاهرة إال أن تتفاعل مع الواقع وتعمل عىل ترسيخ ما فيه ‪.‬‬
‫وهذا ما نعانيه مجيعا يف مرحلتنا املعارصة ولألسف‪ ،‬ونسأل اهلل التوفيق والسالمة ‪ ،‬وأن‬
‫يدل األمة عىل ما فيه املخرج من املالمة‪ ،‬إنه سميع قريب‪.‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪508‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫ـم ُة‬‫ِ‬
‫اخلَات َ‬
‫(((‬
‫م�والي دوا َم النّف� ِع‬ ‫س�ألت‬
‫ُ‬ ‫الجم� ِع‬ ‫ِ‬
‫وآخ ُ�ر النَّظ� ِم له�ذا‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫طاع�ة وأن يزي�د األَ ْج�را‬ ‫ف�ي‬ ‫ع�ت و ُيطِ ُ‬
‫ي�ل ال ُع ْم�را‬ ‫جم ُ‬ ‫بم�ا َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫�ن َأن َ‬
‫َ�ارا‬ ‫وم ْ‬
‫َ‬ ‫عل�ي بالنَّظ� ِم‬
‫َّ‬ ‫�ن َأ َش َ‬
‫�ارا‬ ‫ي�ب ك َُّل َم ْ‬
‫وأ ْن ُيث َ‬ ‫َ‬
‫وم�ن َهدان�ي لل ّط ِ‬
‫ري�ق الجامع� ْة‬ ‫َ‬ ‫طري�ق َو ْعيِ ِ‬
‫�ي بِال ُعل�و ِم النّافع� ْة‬ ‫َ‬
‫ب�اب ال َفه� ِم‬ ‫وم�ن به�م َد َخ ْل ُ‬ ‫رج�ال ِ‬
‫العل� ِم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫�ت َ‬ ‫أش�ياخي‬ ‫�ص‬
‫وخ َّ‬
‫ُ‬
‫واردي‬ ‫عي�ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ش�هور‬
‫ُ‬ ‫الم‬
‫عل�ي َ‬ ‫ٌّ‬ ‫م�والي ذاك وال�دي‬
‫َ‬ ‫َأ َّو ُل ُه ْ‬
‫�م‬
‫ِ‬
‫الهاد ِر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ن َأ ْح َمدَ‬ ‫ِ‬ ‫وس� ِّي ِدي‬
‫المحي�ط‬ ‫البح�ر‬ ‫بِ ْ‬ ‫الق�ادر‬ ‫م�والي عبدُ‬
‫َ‬
‫�ت من�ه ِس َّ�ر ِع ْل� ٍم و َق�دَ ْم‬ ‫َم�ن نِ ْل ُ‬ ‫ّمان المفرد البحر ِ‬
‫الخ َض ْم‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫شيخ الز ِ‬
‫ُ‬
‫ج�زاء َأ ْع َظم�ا‬‫ً‬ ‫�م َربـ�ي‬ ‫َاه ُ‬‫َجز ُ‬ ‫وجمل� ٌة م�ن الش�يوخِ الك َُر َم�ا‬
‫ِ‬
‫المخت�ار نهج� ًا صاد َق�ا‬ ‫لس�ن َِّة‬
‫ُ‬ ‫يك�ون منهج�ي مواف َق�ا‬
‫َ‬ ‫وأن‬
‫وال أوال�ي ف�ي الملا أذنا َبه�ا‬ ‫وال أرى الفتن� َة أو أربا َبه�ا‬
‫ِ‬
‫خدم�ة الدِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ي�ن اتِّباع� ًا ُّ‬
‫للس�ن َْن‬ ‫ف�ي‬ ‫ّم�ن‬
‫وأن أعي�ش م�ا َبق�ي م�ن الز ْ‬
‫ِ‬
‫الق�رآن‬ ‫�ج‬ ‫َمن َْه َ‬ ‫ونس�تعيدُ‬ ‫ِ‬
‫واإليم�ان‬ ‫م�وات العل� ِم‬
‫َ‬ ‫ن ُْحيِ�ي‬
‫طول المدى‬ ‫دين المصطفى َ‬‫أحباب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أجي�ال اله�دى‬ ‫َ‬
‫األجي�ال‬ ‫ونصن�ع‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ح�ال ال ن�رى َندَ َام� ْة‬ ‫ف�ي ِّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫الص�دق والسلام ْة‬ ‫م�ع الت�زا ِم‬
‫النبـ�ي س� ِّي ِد األن�ا ِم‬
‫ِّ‬ ‫عل�ى‬ ‫ِ‬
‫بالصلاة والسلا ِم‬ ‫والخت�م‬
‫ُ‬

‫(( ( القدم هو السري عىل الطريق إىل اهلل تعاىل‪.‬‬


‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪509‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫ِ‬
‫الغاي�ة‬ ‫ِ‬
‫س�بـيل‬ ‫ِدين� ًا و ُدني�ا ف�ي‬ ‫ِ‬
‫بالهداي�ة‬ ‫ِ‬
‫المبع�وث‬ ‫ِ‬
‫محم�د‬
‫ِ‬
‫غي�ر ْامت�را‬ ‫لل�ه ِم�ن‬
‫ِ‬ ‫وطاع� ٌة‬ ‫إصلاح ال�ورى‬
‫ُ‬ ‫فغاي� ُة اإلسلا ِم‬
‫الج ِ‬
‫ن�ان‬ ‫ِ‬ ‫وراح� ٌة ف�ي أوس� ِع‬ ‫ِ‬
‫إيم�ان‬ ‫ٍ‬
‫خي�ر عل�ى‬ ‫والم�وت ف�ي‬
‫ُ‬
‫النبـ�ي ف�ي المق�ا ِم ال َّط ِّي ِ‬
‫�ب‬ ‫م�ع‬ ‫واه ِ‬
‫�ب‬ ‫والنظ�ر األجل�ى ل�رب ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫المز ِْن َس�قا‬ ‫ِ‬
‫َب�دْ ء ًا وختم� ًا م�ا َح َي�ا ُ‬ ‫لل�ه عل�ى م�ا َو َّفق�ا‬ ‫والحم�دُ‬
‫�د َو ْد ٍق َهانِ ٍ‬
‫�ئ ق�د َأ ْم َط�را‬ ‫ِم�ن بع ِ‬
‫ْ َْ‬ ‫أو ما جرى َس� ْي ُل الروابـي َس َ‬
‫�ح َرا‬

‫واحلمد هلل رب العاملني‬

‫تم رشح املنظومة يف يوم األربعاء‬


‫‪ 27‬صفر عام ‪ 1424‬هـ‬
‫بمدينة جدة املحروسة‬

‫ومتت اإلضافات والزيادات والتنقيح للطبعة الثالثة‬


‫يوم اخلميس ‪ 27‬ربيع ثاين ‪1427‬هـ‬
‫بمدينة عدن املأنوسة‬

‫ومتت اإلضافات والزيادات والتنقيحات مرة أخرى‬


‫يوم اخلميس فاحتة شهر ذي القعدة ‪ 1427‬هـ‬
‫بمدينة جدة املحروسة‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪510‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫املراجع‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪ )1‬‬
‫فتح الباري رشح البخاري اجلزء الثالث عرش‪.‬‬ ‫‪ )2‬‬
‫رشح مسلم لإلمام النووي اجلزء السادس‪.‬‬ ‫‪ )3‬‬
‫اإلشاعة يف أرشاط الساعة للربزنجي‪ ،‬الطبعة املحققة‪.‬‬ ‫‪ )4‬‬
‫تاريخ اخللفاء للسيوطي‪.‬‬ ‫‪ )5‬‬
‫اجلواهر والدرر يف أخبار املنتظر للشافعي‪.‬‬ ‫‪ )6‬‬
‫هرجمدون آخر بـيان يا أمة اإلسالم لعجاج‪.‬‬ ‫‪ )7‬‬
‫بـني يدي الدجال للمؤلف‪.‬‬ ‫‪ )8‬‬
‫كشف األقنعة عن الوجوه الغثائية املقنعة للمؤلف‪.‬‬ ‫‪ )9‬‬
‫اإلحاطة واالحتياط للمؤلف‪.‬‬ ‫‪ )10‬‬
‫بذل املجهود رشح سنن أبـي داؤود اجلزء الثامن‪.‬‬ ‫‪ )11‬‬
‫حتقيق مواقف الصحابة من الفتنة للدكتور حممد أحمزون‪.‬‬ ‫‪ )12‬‬
‫أفيقوا يا أمة اإلسالم قبل أن تدفعوا اجلزية‪.‬‬ ‫‪ )13‬‬
‫كنـز العامل للهندي‪.‬‬ ‫‪ )14‬‬
‫عقيدة املسيخ الدجال لسعيد أيوب‪.‬‬ ‫‪ )15‬‬
‫الفتنة املعارصة لفؤاد عيل خميمر‪.‬‬ ‫‪ )16‬‬
‫املفاجأة ملحمد عيسى داوود‪.‬‬ ‫‪ )17‬‬
‫اجلفر ملحمد عيسى داوود‪.‬‬ ‫‪ )18‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪511‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫املرشع الروي يف أخبار السادة بني علوي للشيل‬ ‫‪ )19‬‬
‫ارتقاء الغرف للسخاوي‪.‬‬ ‫‪ )20‬‬
‫‪ )21‬مجع الفوائد ملحمد بن حممد بن سليامن‪.‬‬
‫الفتن لنعيم بن محاد اخلزاعي‪.‬‬ ‫‪ )22‬‬
‫أشعة األنوار للشيخ حممد البـيحاين‪.‬‬ ‫‪ )23‬‬
‫وريقات مأخوذة من االنرتنت باسم (ساري الليل)‪.‬‬ ‫‪ )24‬‬
‫تاريخ اخلميس يف سرية أنفس نفيس لألستاذ حممد بن حممد بكري‪.‬‬ ‫‪ )25‬‬
‫قرة كل عني للكابيل‪.‬‬ ‫‪ )26‬‬
‫سرية أمري املؤمنني املرتىض أليب احلسن الندوي‪.‬‬ ‫‪ )27‬‬
‫سبل اهلدى والرشاد للصاحلي‬ ‫‪ )28‬‬
‫خمترص السرية النبوية البن هشام‬ ‫‪ )29‬‬
‫جممع الفوائد ملحمد بن حممد بن سليامن‪.‬‬ ‫‪ )30‬‬
‫امللل والنحل للشهرستاين‬ ‫‪ )31‬‬
‫فك أرسار ذي القرنني ويأجوج ومأجوج حلمدي بن محزة أبوزيد‬ ‫‪ )32‬‬
‫ظهور الدجال مسيخ الضاللة ملحمد عصام عرار احلسني‬ ‫‪ )33‬‬
‫إحتاف اجلامعة يف أرشاط الساعة حلمود بن عبداهلل التوجيريي‬ ‫‪ )34‬‬
‫أعالم أهل البيت للدكتور عبدالقادر حممد منصور‬ ‫‪ )35‬‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪512‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‏‪Contents‬‬
‫‪5‬‬ ‫ ‬ ‫التَّمهيد‬
‫‪14‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫ا َملدْ َخ ُل إىل شرَ ْ ِح ا َملنْ ُظو َمة‬
‫ِ‬
‫‪21‬‬ ‫ ‬ ‫ـوالت‬ ‫َّـح ُّ‬ ‫ف ْق ُه الت َ‬
‫‪24‬‬ ‫ ‬ ‫كان الدِّ ين‬ ‫الت و َعالقتُه بأر ِ‬ ‫فِقه التَّحو ِ‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫‪34‬‬ ‫ ‬ ‫األر َب َعة)‬ ‫ِ‬
‫َان الدِّ ين ْ‬ ‫(أرك ُ‬ ‫األركَان ْ‬ ‫خل إىل ُر َباعية ْ‬ ‫َمدْ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َمدْ ُل ُ‬
‫‪37‬‬ ‫ ‬ ‫َّحوالت‬ ‫ول إ ْحياء ُسنَّة ا َملواقف يف ف ْقه الت ُّ‬
‫‪43‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والسنّ ُة الشرّ يف ُة املصدران األساس ّيان‬ ‫ال ُق ْر ُ‬
‫العظيم ّ‬ ‫ُ‬ ‫آن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪46‬‬ ‫ ‬ ‫السماَ و َّية‬‫الر َساالت ّ‬ ‫النبي ﷺ تحَ َ ُّو ٌل َعالمَ ٌّي يف َسيرْ ِّ‬ ‫رسال ُة ِّ‬
‫‪48‬‬ ‫ ‬ ‫اإلسالم‬‫فقه التَّحول من َع رْص ما َق ْب َل ْ‬ ‫ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪49‬‬ ‫ ‬ ‫الرسول ﷺ‬ ‫ف ْق ُه الت ََّحوالت بميالد َ‬
‫ِ‬
‫‪50‬‬ ‫ ‬ ‫الوحي‬ ‫ّحوالت ُقبيل َم ْرحلة َ‬ ‫فق ُه الت َّ‬
‫‪51‬‬ ‫ ‬ ‫الوحي‬ ‫ُزول َ‬ ‫الت ال َغار ون ُ‬ ‫ِ‬ ‫تحَ ُّو ُ‬
‫‪52‬‬ ‫ ‬ ‫واستمراره‬
‫ُ‬ ‫الو ِ‬
‫حي‬ ‫َتابع َ‬ ‫ت ُ‬
‫‪53‬‬ ‫ ‬ ‫الوحي‬ ‫ِ‬
‫الت َما َبعد نُزول َ‬ ‫تحَ ُّو ُ‬
‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫الت ما َقبل اهل ْجرة‬ ‫تحَ ُّو ُ‬
‫‪57‬‬ ‫ ‬ ‫ف‪..‬‬ ‫ِ‬
‫الت و َمواق ُ‬ ‫اهل ْج َرةُ‪ ..‬تحَ َّو ٌ‬ ‫ِ‬
‫‪60‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املرحلة امل ِّك َّي ِة من االقتداء واالهتداء‬ ‫ِ‬ ‫َم ْو ِق ُع‬
‫‪62‬‬ ‫ ‬ ‫اهل ْجرة‬ ‫لة ما بعد ِ‬ ‫ف مرح ِ‬ ‫ِ‬ ‫تحَ َّو ُ‬
‫َ‬ ‫الت و َمواق ُ َ ْ َ‬
‫‪64‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للم ْجت ََم ِع ا َملدَ ِّ عىل َح َياة َر ُسول اهللِ ﷺ‬ ‫نيِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قرا َء ٌة َجديدَ ٌة ُ‬
‫‪66‬‬ ‫ ‬ ‫ماين‬
‫وز ٌّ‬ ‫كاين َ‬ ‫َداخل َم ٌّ‬ ‫والساع ُة‪ ..‬ت ٌ‬ ‫ال َب ْع َث ُة َّ‬
‫ِ‬
‫الر َسا َلة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َامذ ُج ِ‬ ‫ن ِ‬
‫‪70‬‬ ‫ ‬ ‫ُوح ا ُمل َتن َِّو َعة من َع ْهد َصدْ ر ِّ‬ ‫ملدارس اجلُن ِ‬
‫‪77‬‬ ‫ ‬ ‫دارس النِّ َفاق‬ ‫َم ُ‬
‫‪94‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫َمدْ َر َس ُة الفتَن ا ُمل َعـماّ ة‬ ‫ِ‬
‫‪100‬‬ ‫ ‬ ‫النبوة‪:‬‬ ‫ب‪ُ ..‬مـدَّ ُعو ّ‬ ‫َمدارس الك َِذ ِ‬
‫ِ‬
‫‪100‬‬ ‫األسود ال َعنْسيِ ‬ ‫األسدي‪ْ ،‬‬ ‫ُم َس ْيل َمة الك َّذاب‪ُ ،‬ط َليحة َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪110‬‬ ‫ ‬ ‫َّحوالت‬ ‫َموق ُع ابن ص ّياد من ف ْقه الت ُّ‬
‫‪119‬‬ ‫ ‬ ‫موقع الغزوات من فقه التحوالت‬
‫‪120‬‬ ‫ ‬ ‫نامذج من الغزوات اإلسالمية‬
‫‪120‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة بدر الكربى‬
‫‪122‬‬ ‫ ‬ ‫مظهر التحوالت يف غزوة أحد‬
‫‪129‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة بني النضري‬
‫‪132‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة اخلندق (األحزاب)‬
‫‪134‬‬ ‫ ‬ ‫نكث بني قريظة لعهد الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪513‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬


‫‪137‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة بني قريظة‬
‫‪139‬‬ ‫ ‬ ‫أمر احلديبية وخروج النبي صىل اهلل عليه وسلم للعمرة‬
‫‪143‬‬ ‫ ‬ ‫موقف الصحابة ودور أم سلمة الواعي‬
‫‪146‬‬ ‫ ‬ ‫بعث النبي بالرسائل إىل امللوك واختاذه اخلاتم‬
‫‪147‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة خيرب وآثارها التارخيية‬
‫‪152‬‬ ‫ ‬ ‫عمرة القضاء‬
‫‪154‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة مؤتة‬
‫‪157‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة فتح مكة رمضان سنة ثامن‬
‫‪163‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة حنني‬
‫‪167‬‬ ‫ ‬ ‫غزوة تبوك‬
‫‪172‬‬ ‫ ‬ ‫اه ُر فِقه الت ََّحوالت قبيل موت النبي ﷺ‬ ‫ِ‬ ‫م َظ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫االجتماَ ِع َعىل ال َقرار َبعدَ ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪175‬‬ ‫ ‬ ‫َموق ُف ُه ﷺ مـن َقضية ْ‬
‫‪177‬‬ ‫ ‬ ‫الصالة بالنّاس‬ ‫موقفه ﷺ من َّ‬
‫‪178‬‬ ‫ ‬ ‫موقفه ﷺ من اللغط واالختالف عنده‬
‫ووصاياه عند موته التي َر َفع هبا َصوته ﷺ‬ ‫ِِ‬
‫‪182‬‬ ‫ ‬ ‫َمواقف أخرية ُقبيل َموته َ‬
‫ِ‬ ‫النبي ﷺ تحَ ٌ‬
‫‪183‬‬ ‫ ‬ ‫َّحوالت‬ ‫طري يف فقه الت ُّ‬ ‫ول َخ ٌ‬ ‫موت َّ‬ ‫ُ‬
‫‪184‬‬ ‫ ‬ ‫الر َسالة‬ ‫ِ‬ ‫تحَ‬
‫َم َظاه ُر َ ُّو ُ‬ ‫ِ‬
‫الت ما َب ْعدَ َع رْص ِّ‬
‫‪187‬‬ ‫ ‬ ‫اختالف الصحابة حول موضع القرب الرشيف‬
‫ِ‬
‫‪188‬‬ ‫ ‬ ‫الو ْحي‬ ‫َبي ﷺ وانقطاع َ‬ ‫تحَ والت ما َبعد َموت الن َّ‬
‫‪197‬‬ ‫ ‬ ‫أمهية تثبيت مرحلة اخلَالفة الراشدة‬
‫‪199‬‬ ‫ ‬ ‫الراشدة‬ ‫ُصوص رصحي ٌة فيِ َسالمة ا َمل ْر َحلة َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ن‬
‫‪205‬‬ ‫ ‬ ‫ُمبايع ُة اخلليفة األول ؤ‬
‫‪209‬‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصديق بعد تويل اخلالفة‪ :‬إ ْن َفا ُذ َج ْيش أ َسا َمة‬ ‫مواقف ّ‬
‫‪211‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫َموقفه من َصدقات رسول اهللِ ﷺ من َبعده‬
‫‪211‬‬ ‫ ‬ ‫وما َج َرى َحوهلا من الت َّْحريش واإل َثارة‬
‫‪213‬‬ ‫ ‬ ‫الر َّد ِة ُأن ُْمو ُذ ٌج َخطِ ٌري فيِ الت ََّح ُّوالت‬ ‫ف َأ ْه ِل ِّ‬ ‫َم َو ِاق ُ‬
‫‪216‬‬ ‫ ‬ ‫مج ِع ال ُقر ِ‬
‫آن‬ ‫ْ‬ ‫ف أبـي بكر ٍمن َق َر ِار َ‬ ‫َم ْو ِق ُ‬
‫‪218‬‬ ‫ ‬ ‫الصد ّي ِق َمل ْر َح َل ِة الت ََّح ُّو ِل ِمن َب ْع ِد ِه‬ ‫دادات ّ‬ ‫ُ‬ ‫اِ ْستِ ْع‬
‫‪223‬‬ ‫ف عىل َع ْه ِد اخلَلي َفة ال َثانيِ ‬ ‫الت وبِناء ا َملو ِاق ِ‬
‫ُ َ‬
‫م ْظهر التَّحو ِ‬
‫َ َ ُ َ ُّ‬
‫‪231‬‬ ‫ ‬ ‫مقتل سيدنا عمر بن اخلطاب ُمؤامر ٌة ُمشرتك ٌة‬
‫‪237‬‬ ‫ ‬ ‫واقف يف َع ْه ِد َس ِّي ِدنا ُعثامن ؤ‬ ‫الت وا َمل ِ‬ ‫م ْظهر التَّحو ِ‬
‫َ َ ُ َ ُّ‬
‫‪247‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫الص َحابة من َقتْل ُع ْثماَ ن‬ ‫ِ‬ ‫َم ْو ِاق ُ‬
‫ف َّ‬
‫‪253‬‬ ‫ ‬ ‫واقف عىل َع ْه ِد اإلما ِم‬ ‫مظاهر التَّحوالت وبناء ا َمل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ُ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪514‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪253‬‬ ‫ ‬ ‫عيل بن أيب طالب كرم اهلل وجهه‬
‫‪270‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تحَ ُّوالت َع رْص اإلمام َعيل ؤ و َمواقفه من َْها‬
‫‪275‬‬ ‫ ‬ ‫ِخال َف ُة اإلما ِم احلَ َس ِن و َتن َُازلِ ِه َع ِن احلُ ْك ِم‬
‫‪281‬‬ ‫ ‬ ‫ف اإلما ِم احلُسني بِ ْن َع ٍّيل ؤ‬ ‫َم ْو ِق ُ‬
‫‪284‬‬ ‫ ‬ ‫عيل ؤ‬ ‫الص َحابة من ُخ ِ‬ ‫ِ‬
‫روج اإلمام احلُسني بن ٍّ‬ ‫َموقف بعض َّ‬
‫‪288‬‬ ‫ ‬ ‫بروز مدرسة النمط األوسط وأمهية ذلك يف فقه التحوالت‬
‫‪292‬‬ ‫ ‬ ‫تحَ ُّوالت َعرص بني ُأم ّية‬
‫‪294‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫والت عىل َع ْهد بني ُأ َم َّي َة‬ ‫ِ‬ ‫اه ُر الت ََّح‬ ‫م َظ ِ‬
‫َ‬
‫‪296‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َبدْ ُء املرحلة املروان ّية وهناي ُة املرحلة ال َيزيد ّية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪297‬‬ ‫ ‬ ‫عهد اخلليفة العادل عمر بن عبدالعزيز (اخلليفة السادس)‬
‫‪302‬‬ ‫ ‬ ‫اس‬ ‫ص بني ال َع ّب ِ‬ ‫َع رْ ُ‬
‫‪304‬‬ ‫ ‬ ‫عرص بني العباس‬
‫‪308‬‬ ‫ ‬ ‫ور َصالح الدِّ ين يف املرحلة‬ ‫الصليب َّية و َد ُ‬ ‫احلُروب َّ‬
‫ِ‬
‫‪314‬‬ ‫ ‬ ‫وه ْجمة ال َّتتَار‬ ‫َم ْر َحل ُة الدُّ ويالت َ‬
‫‪321‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫اخلال َفة اإلسالمية عىل َيدْ َبني ُع ْثامن‬ ‫إِ ِعاد ُة قرار ِ‬
‫‪324‬‬ ‫ ‬ ‫املرحل ُة ال ُغ َث ِائ َّي ُة‬
‫‪324‬‬ ‫الصماَّ ُء ال َع ْم َيا ُء ‬ ‫اهنيار دولة ِ‬ ‫ِ‬
‫األحالس‪ ،‬السرَّ اء‪ ،‬الدُّ َهيامء‪َّ ،‬‬ ‫روز الفتن‪ْ :‬‬ ‫اخلالفة و ُب ُ‬ ‫بد ُء‬
‫‪326‬‬ ‫ ‬ ‫بد ُء َضعف الدَ ولة ال ُع ْثامنية و ُظ ُهور َم ْر َحلة ال ُغ َثائية‬‫ِ‬
‫‪343‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫َعهدُ فِ ْتن َِة الدُّ هي ِء وما را َفقها ِمن التَّحو ِ‬
‫الت ال ُغ َث ِائ َّية‬ ‫َ ْماَ َ َ َ ْ َ ُّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫‪358‬‬ ‫ ‬ ‫ياسة‬ ‫ُغ َثائية احلُكْم والس َ‬
‫ِ‬
‫‪382‬‬ ‫ ‬ ‫الصماَ ء‬ ‫الرابِعة‪ :‬ال َع ْم َياء ال َب ْكماَ ء َّ‬ ‫الفتْن ُة َّ‬
‫‪386‬‬ ‫ ‬ ‫َّحوالت ال ُغ َثائ َّية‬ ‫واقف الشرَ ِعية ِعنْدَ ُظه ِ ِ‬ ‫ا َمل ِ‬
‫ور الفتن والت َّ‬ ‫ُ‬
‫‪388‬‬ ‫ ‬ ‫نامذج األحاديث املعربة عن املواقف‬
‫‪397‬‬ ‫ ‬ ‫الشا ِم وال َي َم ِن ِمن فِ ْق ِه الت َُّح ُّوالت‬ ‫َم ْو ِق ُع ّ‬
‫‪405‬‬ ‫ ‬ ‫ـني َيدَ ِي الدَّ َجال‬ ‫َب َ‬
‫‪423‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني وظهور الدَّ ّجال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إرسائيل يف ف َل ْسط َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َعالق ُة بني َحشرْ َبني‬
‫‪429‬‬ ‫ ‬ ‫الت َع ْه ِد اإلمام ا ُملنْتَظر‬ ‫تحَ ُّو ُ‬
‫‪437‬‬ ‫ ‬ ‫الس ْف َيانيِ ِّ األَ َّو ِل‬ ‫ظهور ُّ‬ ‫ُ‬
‫‪440‬‬ ‫ ‬ ‫اختفاؤه يف اجلبال‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ُظ ُهور ا َمل ْهدي ثم‬
‫‪441‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫اإلما ِم ا َمل ْهدي‬ ‫ُظهور ِ‬
‫ُ ُ‬
‫‪442‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫ُم َبايع ُة اإل َما ِم ا َمل ْهدي‬
‫‪443‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫ات اإل َما ِم ا ُملنْتَظر وسيرْ َ ُت ُه‬ ‫ِص َف ُ‬
‫الس ْف َيانيِ ال َثانيِ‬
‫‪448‬‬ ‫ ‬ ‫ُظ ُهور ُ‬
‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪515‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬
‫‪451‬‬ ‫ ‬ ‫األخري للدَّ ّجال‬‫ُ‬ ‫ال ُظ ُه ُ‬
‫ور‬
‫‪464‬‬ ‫ ‬ ‫أجوج‬ ‫وج و َم ُ‬ ‫ْ‬
‫َحوالت بـ َيأ ُج َ‬ ‫راحل الت َّ‬ ‫َم ُ‬
‫‪472‬‬ ‫ ‬ ‫عيسى عليه السالم و َيأجوج و َمأجوج‬
‫‪476‬‬ ‫ ‬ ‫تحَ والت َما َبعد ِع ْي َسى عليه السالم‬
‫‪480‬‬ ‫ ‬ ‫س ِمن َم ْغ ِر هِبا‬ ‫الش ْم ِ‬‫لوع َّ‬ ‫ِ‬
‫هور الدّ ا ّبــة و ُط ُ‬ ‫ُظ ُ‬
‫‪487‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشمس من َم ْغرهبا‬
‫ ‬ ‫ْث النَّاس بعد الدا ّبة و ُطلو ِع َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُمك ُ‬
‫‪492‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫جيب أ ْن َن َت َع َّل َم ف ْق َه الت َُّح ُّوالت؟‬ ‫َ‬ ‫ملاذا ُ‬
‫‪494‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫بعض فقهاء ع ْل ِم الت ََّح ُّوالت‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫‪501‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعال َق ُة آل بـيت النُّ ُب َّوة بف ْقه الت ََّح ُّوالت‬ ‫ِ‬
‫‪503‬‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫بالذات النَبو َّية‬ ‫فِ ْقه ال َعالقة‬
‫‪504‬‬ ‫ ‬ ‫بآل البـيت النبوي‬ ‫فِ ْق ُه ال َعالقة ِ‬
‫‪509‬‬ ‫ ‬ ‫ـم ُة‬ ‫ِ‬
‫اخلَات َ‬

‫نسخة قيد التعديل واملراجعة ‪1434‬‬ ‫‪516‬‬ ‫ ‬ ‫التليد والطارف‬

You might also like