You are on page 1of 312

‫شعبيّة ال ّديمقراطيّة‬

‫الجمهورية الجزائرية ال ّ‬
‫وزارة التّعليم العالي و البحث العلمي‬

‫جامعة أحمد بن بلّة ‪ 1‬ـ وهران ـ‬


‫كليّة اآداب والف ون‬
‫قسم اللّغة العربية وآدابها‬

‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬


‫تخصص تحليل الخطاب السردي‬
‫بحث مق ّدم ل يل شهادة دكتورا علوم في ّ‬

‫عز ال ّدين ب ـاي‬


‫إشراف‪ :‬أ‪.‬د‪ّ .‬‬ ‫إعـ ــداد الطّالب‪ :‬مصطفى برب ــارة‬

‫أعضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء لج ة الم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاقشة‪:‬‬


‫أ‪ .‬د‪ .‬أحمد مسع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود ‪ ...........‬جامعة وهران‪........................1‬رئيسا‪.‬‬
‫ومقررا‪.‬‬
‫عز ال ّدين بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاي‪ ...........‬جامعة وهران‪.................1‬مشرفا ّ‬
‫أ‪ .‬د‪ّ .‬‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عبد القادر بوشيبة‪............‬جامعة وهران‪.................1‬عضوا م اقشا‪.‬‬
‫عميش ‪...........‬جامعة غليزان‪..................‬عضوا م اقشا‪.‬‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عبد القادر ّ‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬أحمد بوزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ‪...........‬جامعة تيارت‪...................‬عضوا م اقشا‪.‬‬
‫د‪.‬محمد سعيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدي ‪...........‬جامعة مستغانم‪.................‬عضوا م اقشا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ‪.‬‬

‫الس ة الجامعيّة‪.2018-2017 :‬‬


‫ّ‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫المق ّدمـ ـ ـ ـ ـة‬


‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫رغنثىىم رغيىىي ع رغالىىم رغا د ىىد طىىر ى ر ى ر‪ ،‬وبل ى‬ ‫علىىا رغىىمن ن ى‬


‫ؤدّىرل علىا رغ ىام بد ىدعادبأ مخدلى رماىد‬ ‫ن رغنضج ورغغزر ة نىد ؤهّلىأ‬
‫رم دكمة ورمرمة آنذرك‪ ،‬فإ رمد لع علا وفر رغ ح ث رأكددمعة رغي خلى‬
‫رغ ام دونأ ؤادّر خا ذغك‪.‬‬

‫ن ّند‪ُ ،‬وِجرت رغمن ة ع ضمو ة راّدمدل بدغنثم رغيي عم ند‪ ،‬وند الق‬
‫بدغالمؤ رغا د د ورأنرغسىد علىا وجىأ رولى ص‪ .‬وباىر لغّىدن نةىمة فد لىة‬
‫علىىا ّىىذر رغىىزخ رغىىذه ؤزخىىم بىىأ رغىىررث رأدي عنىىر رغاىىم ‪ ،‬ؤسىىرعد راند ىىد‬
‫د رغنّرؤة رغمرئرة –علىا طلد ىد‪ -‬رغىي دوغى را ىدغدل علىا رمرونىة‬ ‫لك ر‬
‫رغامبعة غلنثم رغيي رغّرم‪ ،‬حدوغة طمرنهد وفق آغعدت لجمرئعة رؤثة‪.‬‬

‫ع عدق ّذر رغد جأ رغالمد‪ ،‬مد غ بدغررث رغنثمه رغامي رغّىرم‪ ّ ،‬دفىأ‬
‫دنل ؤلم علا ضمو ة ر دنيدد ر ر غلمسىدةة –وغى ه ىر رمّىل‪ -‬ع طىمرنة‬
‫رغنلى ى ص رغنثمؤ ىىة رغّرم ىىة ض ىىم فض ىىدن رمن ىىدّج رغنّرؤ ىىة رماد ىىمة نى ى نن ىىد ر‬
‫نداردة‪.‬‬
‫دي غ ىع رماىمة‪ ،‬ا زرل‬
‫ىم ي‬ ‫هذر كلىأ‪ ،‬ؤسىاا ّىذر رغ حى لو حدوغىة وغى‬
‫ؤسدالىىد ع را ىىد دبة لو كثىىر نى رلىىدوات رغنّرؤىىة‪ ،‬وغاىىل كى ّىىذر رأ ىىم‬
‫جمىىع بىىا نّىىدنا دليىىا ‪ -‬ف ى رغر ل‪/‬رغسىىمد رغّللىىد‪ -‬جاىىل آ رن رغنّىىدد‬
‫ند دؤنة ع ناةم د‪.‬‬

‫‌أ‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ر علا يمد ع فى رغدىيغع ‪ ،‬وغاىل ىدغة‬ ‫دئل ي رغاان‬ ‫ازرغ‬


‫رغغيمر ندغ ر ظ رأوفم ن راّدمدل‪ ،‬فم حدوات طأ سا ع يسىرّد‬
‫وفق رمن ا رغدد خد وراجدمدعد‪ ،‬وحدوات رغاّدد وفق رمن ج رغنيسىد‪ ،‬لو‬
‫عدئ ة بن رغ دطئ رغي ا لو لد رج د ع جنس رغنص رمسىم د‪ ،‬حدوغىة‬
‫فك غغز جنس د رأدي‪.‬‬

‫ن ىىد ىىرؤثد‪ ،‬فّ ىىر ر ى ىأ رغ حى ى غدحلع ىىل بنعد ىىد رغّلل ىىعة ع ىىل رم ىىن ج‬
‫رغ نع ى ه‪ ،‬وكدن ى د ر ىىة سىىا رغ ى رد فداىىة هىىذر را ىىد ‪ ّ .‬لد ىىد حدوغىىة ع ىىر‬
‫ك ىىرت‬ ‫رمل ىىك نم ىىدا ع جال ىىد ول طل ىىة فلس ىىيعة ب ىىرع د رغا ىىم ‪ ،‬لو‬
‫ىىكل‬ ‫ث ىىد «ا ى ل رغم ىىدغة وبىىزو‬ ‫غي ى كمىىدل رغىىموي ّىىذر رغ ىىم ‪ ،‬وو ى‬
‫طللد ع دغة رغغيمر »‪.‬‬

‫رلدوغىة رغىىي يىمد لىىد رغ د ثىىد رغد نسىعد ع ىىر رغ ّىىد رغمطعىق وّنىىر بى‬ ‫لا‬
‫دليىىة‬ ‫ىىد طىىر ر ىىدن ّ ّىىذ رمرونىىة رغنثمؤىىة ن ى ج رنى‬ ‫ىىدي ؤىىمب رغ ح ى‬
‫رجدما ا عن ر ‪ « :‬دبعة رغم لة ع دغة رغغيمر »‪.‬‬

‫ىل‬ ‫ثىىد‬ ‫ه ىذر‪ ،‬ؤسىىاا ّىىذر رغ ح ى لو نندط ىىة باىىا رغّضىىدؤد رغىىي ازرغ ى‬
‫نيمر ي رغاان وفق ل كدغعة حردة‪ ،‬مثل ع‪:‬‬

‫ب‬
‫‌‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬نىىد رغىىذه جاىىل بىىد رغاىىان جىىنح لو ّىىذ رغم لىىة رغسىىمدوؤة‪ ،‬علىىا رغىىمن نى‬
‫ك ى خ دبىىأ ىىدغة ن ج ىىة لو نم ىىل لغعىىأ‪ ،‬ذه خلىىعة ورطاعىىة هىىد وج دّىىد‬
‫رغدد خد؟‬

‫ددباأ ورندةدنأ؟‬ ‫‪ ،ّ -‬مدذر كسم خط ر رغزن وفق نيد طة خلخل‬

‫غع ىىدت الع ىىل رو ىىد‬ ‫س ىىد ع‬ ‫‪ -‬و خى ىرر‪ ّ ،‬ىىل مكى ى غم ىىدغة رغغيى ىمر‬
‫رغسمده؟‬

‫ن ّند‪ ،‬ل رمّدل خلعص جدن ا غل ح ؛ رةد نةمه‪ ،‬اا ن‬


‫خاغأ لو عما ّ نيدّع ونّ ات نةمؤة رغسمد ر رؤثة‪ ،‬ور خم‬
‫رغسمده‪ ،‬وطمرئق‬ ‫عّد‪ ،‬دول ن خاغأ لبمرز ّ نك ندت رو د‬
‫ر دغدهد ع نرونة رغ ح ‪.‬‬

‫بدإضدفة لو ّذر كلأ‪ ،‬فإ فكمة رغ ح ع نثل ّذر رم ض ع ثر ربدررن‬


‫‪ ،‬وامك فعأ ن ة رغ ح ‪ ،‬و كثع‬ ‫رغارؤر ن رأ ئلة رغي سديز رغ د‬
‫ر ر‪ ،‬خد ة لذر الق رأنم بّضعة ن طضدؤد رو د رغسمده‪ ،‬رغذه ند‬
‫ؤزرل ع ط رغدنةر‪ ،‬ندّعك ع ارد نندّ د رغنّرؤة‪ ،‬وعرل ر دّمر‬
‫ط رعرّد‪.‬‬

‫ت‬
‫‌‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫رإ كدغعة رم مو ة ض ط خ ة دنلة ضمن‬ ‫غذر‪ ،‬فّر رطدض‬


‫يمع عن د عند م عرؤرة ‪ ،‬وجرهد‬ ‫رلدو رغكرب غل ح ‪ ،‬ند غ ث‬
‫لو حدو ئعسة‪،‬‬ ‫نمر ل رغر ر ة‪ ،‬وعلا ّذر رأ دس ت ّسع رغ ح‬
‫وفق رو ة رغددغعة‪:‬‬
‫د عة فخدمة‪ّ .‬ذر‪ ،‬وطر‬ ‫نّرنة‪ ،‬ؤد ا د نرخل نةمه‪ ،‬و ا ة فل ل‬
‫رغذه ّ ل علعأ نن عة رغ ح‬ ‫وعد ع ّسع رلدو ن ر رغدر‬
‫رأكددمد‪ ،‬ورغي نص‪ ،‬وا علا ضمو ة ض ط رميدّع ورمل لحدت‪ ،‬وّ‬
‫ؤ ضح رأ س رغي ؤّ ل علع د رغ ح ‪ ،‬ورميدّع‬ ‫ينأ‬ ‫ند ن‬
‫رمل لحعة رغي ؤادمر علع د‪ ،‬ن د غكل كدل رغدندطا ورغغم ا‪ ،‬نع‬
‫كثم ن ه‬ ‫نمرعدة مط رم ض ععة ع رغ م ‪ ،‬ورا كدز علا رو د‬
‫عنلم آخم خد عنأ‪.‬‬
‫رغسمده‬ ‫فيند رمرخل رغنةمه‪ ،‬فعاما آغعدت العل رو د‬
‫والعل رو د‬ ‫رؤر‪ ،-‬وفق ند ؤدند‬ ‫وآغعدت ر دغدغأ–بدطدضد‬
‫رغسمده غم دغة رغغيمر ‪.‬‬

‫فخلص غدّنعي رغمؤؤة ورغزن ع رو د‬ ‫و ند رغيلل رأول‪ُ ،‬‬


‫رغسمده غم دغة رغغيمر ؛ ع كيل رغّس رأول ننأ بدحرؤر زروؤة‬

‫ث‬
‫‌‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫رغمؤؤة رغسمدؤة رغي رخذّد رغسد د ن طاد غأ‪ ،‬فد لا‪ ،‬بندن علعأ‪ ،‬ع‬
‫لد‪ ،‬وّ رم عم علا‬ ‫رغغيمري د در ‪ ،‬رأول نن مد د د‬ ‫رو د‬
‫نسد ة كر ن رغ ررت رغسمدؤة رغكرب‪ ،‬و دنع مد د د فمعد كسم‬
‫ور دحدل رغزن ر رجدعد‪ ،‬وع رغّس‬ ‫نةدل رغسمد بدّنعة رغمؤؤة ن رول‬
‫رغثدي ن رغيلل ت طعدس مكة رغسمد ن ع معدُ د وب هّد رعدمددر‬
‫علا نادؤنة رغدّنعدت رغي ّع ع نسد ب رمرة ن نسد ؤدت رغزن‬
‫رغسمده‪ ،‬ورغي ؤُ لق علع د – ؤضد‪ -‬مكدت رغسمد‪ ،‬نةمر ا دط د بّعدس‬
‫رغسمعة‪ ،‬وّد بع مكدت مدؤة‪ :‬رغدلخعص‪ ،‬ور ذ غدسمؤع رغزن ‪،‬‬
‫غأنكنة غد عئأ‪ ،‬ون ّ‪ ،‬فضا‬ ‫ور ر با خلعدت رغم لة ورغ‬
‫ن طاأ‬ ‫ع‬ ‫رغغيمري ن‬ ‫لو نسدنغة رو د‬ ‫رمن د بدغ ح‬ ‫رغدر‬
‫رأجندس رأدبعة‪ ،‬وند بلغأ رغنّر ر رؤ ورماد م ع ي ل كدغعة‬ ‫ن‬
‫نن ّأ رغسمده‪ ،‬ول كدغعة ط عاة رغااطدت رغسمدؤة رغي مبط رغ ررت‬
‫رغسمدؤة رغكرب مرونة رغ ح ‪.‬‬

‫رغلغة رغسمدؤة ع خ د‬ ‫ع رغيلل رغثدي و دئ‬ ‫ّ ندول رغ ح‬


‫دغة رغغيمر ‪ ،‬للد طسمأ رأول غلميد طة رغلغ ؤة‪ ،‬لذ كل رغلغة ع‬
‫دّمة جال كثرر ن رغنّدد ؤادرو د عدئّد ع لد رك‬ ‫خ د رغغيمر‬

‫‌‬
‫ج‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فخلص غةدّمة رغدندص ع‬


‫رمدلّد مض د‪ .‬و ند رغّس رغثدي ن رغيلل ُ‬
‫رغغيمر ع خ دبأ علا ر درعدن‬ ‫رعدمر نهغ‬ ‫رغغيمر ‪ ،‬ع‬ ‫خ د‬
‫نل ص دبّة (رغّمآ رغكمم‪ ،‬وطلة رمامر ) بلغدا دليدا؛ فيند رأوو‬
‫فعنزع فع د لو رم د مة ورا د دد‪ ،‬و ند رغثدنعة فعنزع فع د لو راطد دس‪،‬‬
‫رمسدر‬ ‫خ دبأ رغسمده بي كدل نداردة ن رغ‬ ‫و مّد ع ل‬
‫و د ر خم‪.‬‬

‫و خ ىرر ىىمق رغ ح ى ع فلىىلأ رغثدغ ى لو لّىىد رو ىىد رغسىىمده ىىدغة‬


‫رغغي ىمر وفىىق فّىىأ رغّمرئىىد‪ :‬ر ّعّد‪/‬رافررضىىد‪ ،‬نسىىدرععد ط ىمرنرت رغّىىررنا‬
‫ورل ىىر ا‪ ،‬ب ىىرنر بال ىىم ي رغا ىىان نيس ىىأ‪ ،‬ورند ىىدن اّى ى ات رأد رمّ ىىد‬
‫ّل رغدي ر ورغدي م‪ .‬وع رغّس رأخر نى ّىذر رغيلىل‪ ،‬آ ىم رغ حى‬ ‫ضم‬
‫خد باما خ د رغغيمر علا نمآة رغدلّد نى خىال نانسىة ىرود‬
‫رغديوؤىىل وفىىق نسىىد ؤدت ىىاث ّىىد‪ :‬رغدلّىىد رإؤىىرؤ غ جد‪ ،‬ورغدلّىىد رمامف ى ى ىىد‪،‬‬
‫ورغدلّد رغد لعغد‪.‬‬

‫ىىا بدت ون ىىدق‪ ،‬ف ىىإ‬ ‫ولذر كدنى ى ط عا ىىة رغ حى ى ث ا خلى ى نى ى‬


‫ىىدغة رغغي ىمر نيس ى د ا زرغ ى‬ ‫بمزّىىد مثل ى ع رم ض ى ع نيسىىأ‪ ،‬ذغىىك‬
‫ج دهد و ارد نند ر ؤؤد د سديم ر ر‬ ‫رغ ح ث رأكددمعة اخدل‬

‫‌‬
‫ح‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ع ر ىىدن دق خ دلىىد رغس ىمده‪ ،‬و ا ى ُ ع رأجعىىدل رماد ىىمة ةىىة رغ ح ى‬


‫ورغ ط ى ى على ىىا يس ى ىررت جرؤى ىىرة‪ ،‬غال ى ىىد ك ى ى ع ى ى باددّى ىىد رغينعى ىىة‬
‫ور مدغعىىة‪ ،‬وع نّدبىىل ّىىذر‪ ،‬فىىإ آغعىىدت العىىل رو ىىد رغسىىمده‪،‬م كىىر‬
‫دحرد نادم د ع مد دت نّرؤة كثرة كسى أ وضى د ودطىة‪ ،‬ندّعىك عى‬
‫ىىدز رمي ىىدّعمد‪ ،‬وذغ ىىك‬ ‫ر د ىىل ب ىىا رمل ى لحدت رغض ىىدب ة‬ ‫رغدض ىىد‬
‫اخدا رغرمدت غلمل لح رغ ر ر‪.‬‬

‫ولطى ىمر ر بدغيض ىىل‪ ،‬وج ىىأ جزؤ ىىل رغ ىىكم ورغامف ىىد غلم ىىم رأ ىىددذ‬
‫ىحذر غل مىىة‬ ‫رغىىركد ‪ :‬عىىز رغىىرؤ بىىده علىىا جع د ىىأ رغثمعن ىة رغىىي كدن ى‬
‫عنر رنسررد رغس ل‪ ،‬و يؤعرر وفدحد عنر لجدز رغ ح ولمدنأ‪ ،‬ولو كل نى‬
‫و ن ى باعىىر‪ ،‬فل ى معاىىد خىىدغص رغ ىىكم‬ ‫كىىد ع نىىد و ىىنرر‪ ،‬ن ى طمؤ ى‬
‫ورغ فدن‪.‬‬

‫‌‬
‫خ‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املدخل النظري‬
‫آليات حتليل اخلطاب السردي‬

‫‪1‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1‬مفهوم السرد‪:‬‬
‫يستغرق السرد مساحة كبرية من املوروث الثقايف واالجتماعي لإلنسان‪،‬‬
‫وذلك بوصفه أداة تعبريية حاضرة يف اللغة الشفوية واملكتوبة‪ ،‬ويف كل ما يقرأ‬
‫أو يسمع‪ ،‬سواء أكان كالما عاداي أم فنيا‪ ،‬ومنه احندرت األجناس األدبية‬
‫املعروفة قدميا‪.‬‬
‫‪ -1-1‬السرد لغة‪:‬‬
‫بعد استقراء مادة (س‪.‬ر‪.‬د) يف الرتاث اللغوي عند العرب‪ ،‬مل حتد عن‬
‫معىن «ت قدمة شيء إىل شيء أتيت به متسقا بعضه يف إثر بعض متتابعا»(‪،)1‬‬
‫يفسره‬
‫لعل هذا ّ‬
‫فالتتابع هنا يشرتط معه االتساق أي االنتظام والرتتيب‪ ،‬و ّ‬
‫قول ابن منظور‪« :‬سرد احلديث وحنوه يسرده سردا إذا اتبعه‪ ،‬وفالن يسرد‬
‫احلديث سردا إذا كان جيد السياق له»(‪ .)2‬و ّأما يف قوله‪« :‬ويف صفة كالمه‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬مل يكن يسرد احلديث سردا‪ ،‬أي يتابعه ويستعجل‬
‫فقد أحلق صاحب لسان العرب إضافة ملعىن السرد تفيد‬ ‫فيه»(‪)3‬‬

‫االستعجال‪ ،‬و ّأما يف قوله تعاىل‪﴿ :‬وقدر يف السرد﴾ (‪ )4‬فيقول ابن منظور‪:‬‬
‫‪ -1‬أبو الفضل مجال الدين‪ ،‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪1955 ،‬م‪ ،،‬اجمللد الثالث‪،‬‬
‫ص‪.211.‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.211.‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.211.‬‬
‫‪ -4‬سورة سبأ‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬

‫‪2‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫«هو أن ال جيعل املسمار غليظا والثقب دقيقا‪ ،‬في فصم احللق وال جيعل‬
‫يتقصف‪ ،‬اجعله‬
‫املسمار دقيقا‪ ،‬دقيقا والثقب واسعا فيتقلقل أو ينخلع أو ّ‬
‫على القصد وقدر احلاجة»(‪ ،)1‬وهنا‪ ،‬ميكن استنباط من معىن التقدير‬
‫والقصد معىن احلذق واملهارة يف سرد احللق‪.‬‬
‫السرد يف اللغة هو‪ :‬التت ابع واالنس جام (االنتظ ام)‬
‫ومّا سبق‪ ،‬ميكن القول أبن ّ‬
‫دون تر ٍاخ أو انقطاع‪ ،‬إىل جانب التقدير والقصد حبذق ومهارة‪.‬‬
‫‪ -2-1‬السرد اصطالحا‪:‬‬
‫السرد مصطلحا يعتمده الناقد ليوضح الطريقة اليت اعتمدها املبدع أو‬ ‫يعترب ّ‬
‫الكاتب يف تصوير العامل‪ ،‬فالسرد «هو الذي ي عتمد عليه يف متييز أمناط احلكي‬
‫أساسي»‪)2(.‬‬
‫بشكل‬
‫ّ‬
‫فهو إضافة حلقل الدراسات النقدية احلديثة إذ يعمل على إثرائها‪ ،‬بوصفه‬
‫جامعا ملختلف املعارف والثقافات اإلنسانية‪.‬‬
‫فعل يقوم به الراوي الذي ينتج‬
‫املتخصصة فهو‪ٌ « :‬‬
‫ّ‬ ‫ّأما يف املعجمات النقدية‬
‫القصة‪ ،‬وهو فعل حقيقي أو خيايل مثرته اخلطاب»(‪ ،)3‬فاخلطاب‪ ،‬إذن‪ ،‬هو‬
‫ّ‬
‫‪ -1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬بريوت‪ ،‬مج ‪ ،3‬ص‪.211.‬‬
‫‪ -2‬ينظر‪ :‬حلميداين‪ ،‬محيد‪ :‬بينة النص السردي من منظور النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪2003 ،3‬م‪ ،‬ص‪.45.‬‬
‫‪ -3‬زيتوين‪ ،‬لطيف‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬عريب‪ -‬إنكليزي‪ -‬فرنسي‪ ،‬دار النهار للنشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬مادة (سرد)‪ ،‬ص‪.105 .‬‬

‫‪3‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫القصة‬
‫املادة احلكائية‪ ،‬وبه تتش ّكل‪ ،‬لذلك فإ ّن « ّ‬
‫القالب الذي تسكب يف ّ‬
‫نفسها ميكن أن تروى رواايت خمتلفة بتب ّّن خطاابت خمتلفة‪ ،‬وابلعكس فإ ّن‬
‫واحد»‪)1(.‬‬ ‫قصصا عديدة ميكن أن تروى وفقا ملقتضيات خطاب‬

‫يفرقون بني اخلطاب السردي األديب وغري األديب‬


‫هذا ما جعل كثريا من الن ّقاد ّ‬
‫املادة التخييلية مؤشرا للخطاب األديب‪ ،‬ومن أجل«التمييز بني‬
‫أبن جعلوا ّ‬
‫وجمرد وصف واقعة فإ ّن بعض السرديني (البوف‪ ،‬برنس‪ ،‬رميون‪ ،‬كينان)‬
‫السرد ّ‬
‫األقل»‪)2(.‬‬
‫عرفوه أبنّه رواية حدثني خياليني أو روائيني على ّ‬
‫قد ّ‬
‫والسرد يكون وفق عملية سردية‪ ،‬حيث تتحقق هذه العملية عن طريق الراوي‬
‫قصة‪ .‬وأ ّن‬
‫كل السرد يعرض لنا ّ‬
‫أو عن طريق القصة حبد ذاهتا‪ ،‬وذلك أل ّن « ّ‬
‫القصة هي تتابع أحداث تستلزم شخصيات‪ .‬لذا فإ ّن السرد هو وسيلة اتّصال‬
‫ّ‬
‫والذي ينتج‬ ‫الشخصيات»‪)3(.‬‬
‫جربتها‬
‫تعرض تتابع أحداث تسببت فيها أو ّ‬
‫لغوي‪.‬‬
‫عن هذه العملية هو جتسيد احلادثة أو سردها من الواقع إىل تعبري ّ‬
‫بكل إجياز الكيفية اليت تروى هبا القصة عن طريق قناة‬
‫فالعملية السردية هي ّ‬
‫الراوي واملروي له وما ختضع له من مؤثرات‪ ،‬بعضها متعلق ابلراوي واملروي له‪،‬‬

‫‪ -1‬برنس‪ ،‬جريالد‪ :‬املصطلح السردي‪ -‬معجم مصطلحات‪ ،‬تر عابد خزندار‪ ،‬مراجعة وتقدمي حممد بريري‪،‬‬
‫اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬املشروع القومي للرتمجة‪ ،2003 ،‬ط‪ ،1‬ع‪ ،386‬ص‪.147 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.146 .‬‬
‫‪ -3‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪ ،2015 ،2‬ص‪.28‬‬

‫‪4‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫والبعض اآلخر متعلق ابلقصة ذاهتا‪ ،‬و العملية هذه ليس من مهمتها «عرض‬
‫واقع معطى أو التعبري عن أفكار مسبقة‪ ،‬وإّمنا إعادة خلق الواقع بنقله من‬
‫صعيد الواقع ووضعه على صعيد اخليال والتعبري واألسلوب»(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬مكوانت اخلطاب السردي‪:‬‬

‫ال يربح السردانيون احلديث عن التواشج احلاصل بني مصطلحات السرد‬


‫واحلكاية والقصة‪ ،‬فهذا جينيت يبدي وجهة نظره النقدية يف هذا الشأن‬
‫القصة والسرد ال يوجدان يف نظران إالّ بوساطة احلكاية‪ ،‬لكن‬
‫قائال‪ّ « :‬‬
‫العكس صحيح أيضا‪ :‬فاحلكاية (أي اخلطاب السردي) ال ميكنها أن تكون‬
‫ألّنا تروي قصة‪ ،‬وإالّ ملا كانت سردية»(‪ ،)2‬فالسرد إذن‪،‬‬
‫حكاية إالّ ّ‬
‫ابلضرورة قصة حمكية‪ ،‬وهذه القصة تفرتض وجود شخص حيكي وآخر‬
‫حيكى له‪ ،‬وال يتم التواصل إال بوجود هذين الطرفني‪ ،‬ويدعى الطرف األول‬
‫ساردا والطرف الثاين مسرودا له‪ ،‬والسرد هو الكيفية اليت تروى هبا أحداث‬
‫القصة‪ ،‬والسرد يتشكل عن طريق العناصر الثالثة اليت تعترب أساسيات‬
‫السرد‪)3(.‬‬

‫‪ 1‬جينيت‪ ،‬جريار‪ :‬خطاب احلكاية –حبث يف املنهج‪ ،-‬تر حممد معتصم وعبد اجلليل األزدي وعمر‬
‫حلّي‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪/‬اهليئة العامة للمطابع األمريية‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،1997 ،2‬ص‪.09 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.40 .‬‬
‫‪ -3‬ينظر‪ :‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪1993‬م‪ ،‬ص‪.386‬‬

‫‪5‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1-2‬الرؤية السردية‪:‬‬
‫‪ -‬الرؤية يف االصطالح النقدي‪:‬‬
‫ّأدى االخ تالف احلاص ل ب ني احلق ول العلمي ة إىل تع ّدد يف املص طلحات‬
‫املقابلة ل «الرؤية» من جهة‪ ،‬وتع ّدد يف الرتمجات العربية م ن جه ة أخ رى‪ .‬فق د‬
‫أوىل النق اد الع رب هل ا اهتمام ا ابلغ ا يف ص ياغتها‪ ،‬ومواكب ة لل زخم اهلائ ل م ن‬
‫املص طلحات التقني ة والفني ة املتعلق ة ابلس ردايت يف لغاهت ا األعجمي ة‪ ،‬وه ذا‬
‫انت ج ع ن انف راد جه ود ه ؤالء الب احثني وع دم تك تلهم ض من هيئ ة علمي ة‬
‫أكادميي ة لتوحي د اجله از املف اهيمي‪ ،‬وم ن اش توحي د الش بكة االص طالحية يف‬
‫تمخض ع ن ه ذا كلّ ه تض ارب يف ترمج ة املص طلح‬
‫مع اجم متخصص ة‪ ،‬ف ّ‬
‫الواح د‪ ،‬وه ذا م ا عطّ ل النت ائج املرج وة م ن ك ّل م ا اس تفرغوا م ن جه ود يف‬
‫عامة‪ ،‬والسردايت على وجه اخلصوص‪.‬‬
‫سبيل التأسيس املعريف للنقد األديب ّ‬
‫فق د جي د الباح ث ملص طلح «الرؤي ة» مص طلحات أخ رى م ن قبي ل «‬
‫التبئ ري»‪ ،‬و« الب ؤرة»‪ ،‬و«الرؤي ة الس ردية»‪ ،‬و«زاوي ة الرؤي ة»‪ ،‬و«وجه ة‬
‫النظ ر»‪ ،‬و«املوق ع»‪ ،..‬فه ي مجيعه ا متعلّق ة لج ال النق د الس ردي حتم ل ب ني‬
‫طيّاهت ا فروق ا طفيف ة راجع ة إىل طبيع ة احلق ل املع ريف ال ذي وف دت من ه ميكنه ا‬
‫تضبط‪)1(.‬‬ ‫أن‬
‫‪ -1‬ينظر‪ :‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬ص ص‪.46-45 .‬‬

‫‪6‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السردي‪ ،‬بله‬
‫ّ‬ ‫يعترب تودوروف من املنظرين األوائل الذين احتفوا ابخلطاب‬
‫السردي إىل‬
‫ّ‬ ‫الرؤية السردية‪ ،‬فهو يرى أ ّن الرؤية هي عماد نزوع اخلطاب‬
‫الفضاء املتخيّل‪« ،‬فالوقائع اليت يتألّف منها العامل التخيلي ال تق ّدم لنا أبدا يف‬
‫معني وانطالقا من وجهة نظر معيّنة ‪ ،‬وهذه األلفاظ‬ ‫ذاهتا بل من منظور ّ‬
‫برمته‪ ،‬ولكنّها‬
‫حمل اإلدراك ّ‬
‫حتل هنا ّ‬ ‫فالرؤية ّ‬
‫استعاريّة أو ابألحرى جمازية‪ّ ،‬‬
‫للرؤية احلقيقية كلّها ما يعادهلا يف‬
‫املتنوعة ّ‬
‫استعارة مالئمة‪ ،‬أل ّن للخصائص ّ‬
‫التخيّل»‪)1(.‬‬ ‫ظاهرة‬
‫الرؤية «بدأ‬
‫اكتسب هذا الناقد البلغاري قناعة راسخة جتعله ي ّكد أب ّن مفهوم ّ‬
‫الروائي وهو بدوره يش ّدد على هذا‬ ‫أيخذ كامل أبعاده يف حتليل اخلطاب ّ‬
‫ويبني أمهيته يف التحليل وقيمته اإلبداعيّة منذ الكلو يف القرن الثامن‬
‫العنصر ّ‬
‫الراهن»‪)2(.‬‬
‫عشر إىل الوقت ّ‬
‫للرؤايت فإنّه قد اتّكأ على مناذج قد طرحها من سبقه يف الساحة‬
‫ّأما تصنيفه ّ‬
‫النقدية‪ ،‬أمهّهم بويون مع إدخال تعديالت جزئيّة وهي «منذجة ذات ثالثة‬
‫الرؤية من خلف»‪ ،‬ويرمز إليه‬ ‫يسميه بويون « ّ‬
‫عناصر يطابق ّأوهلا ما ّ‬
‫السارد أكثر ما تعرفه‬
‫الشخصية (حيث يعرف ّ‬ ‫السارد< ّ‬‫تودوروف بصيغة ّ‬
‫الشخصيات‪ ،‬ويف‬
‫الشخصية)‪ ،‬أو بتعبري أدق‪ ،‬يقول أكثر ما تعرف مجيع ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -1‬ت ودروف‪ ،‬تزفيت ان‪ :‬الش عرية‪ ،‬ت ر‪ :‬ش كري املبح وث ورج اء ب ن س المة‪ ،‬دار توبق ال‪ ،‬املغ رب‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪1990‬م‪ ،‬ص‪.50 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.293 .‬‬

‫‪7‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السارد إالّ ما تعرفه‬


‫الشخصية (حيث ال يقول ّ‬
‫السارد= ّ‬
‫النّموذج الثّاين ّ‬
‫الشخصيات‪ ،‬وهو احملكي ذو وجهة النّظر ‪-‬حسب لوبوك‪ ،-‬ذو‬
‫إحدى ّ‬
‫الراوي مع»‪- ،‬حسب بويون‪ -‬ويف‬
‫«احلق املضيف» ‪-‬حسب بلني‪ ،-‬أو « ّ‬
‫السارد أقل ما تعرفه‬
‫الشخصية (حيث يقول ّ‬
‫السارد> ّ‬
‫النموذج الثّالث ‪ّ :‬‬
‫الرؤية‬
‫يسميه بويون « ّ‬
‫الشخصية)‪ ،‬إنّه «احملكي املوضوعي» أو «التجرييب» ّ‬
‫ّ‬
‫اخلارج»»‪)9(.‬‬ ‫من‬
‫صب اهتمامه على القارئ‬
‫الشعرية» أبن ّ‬‫عمق تودوروف طرحه يف كتابه « ّ‬ ‫ّ‬
‫وضوعي من األحداث املعروضة‪ ،‬واملدرك‬
‫ّ‬ ‫املعريف امل‬
‫ّ‬ ‫الذي مييّز بني املدرك‬
‫عريف الذايتّ املتعلّق ابلسياقات اخلارجية لناقل هذه األحداث‪.‬‬
‫امل ّ‬
‫الرؤية اخلارجية‬
‫أما االمتداد فيقوم عندع على رؤية داخلية وأخرى خارجية‪ ،‬و ّ‬
‫«تكتفي بوصف أفعال لنا أن ندركها دون أن يصاحب ذلك أي أتويل وأي‬
‫تدخل من فكر البطل الفاعل‪ ،‬ال توجد أبدا يف حالة خام وإال ّأدت إىل‬
‫الرؤية الداخلية فهي «تلك اليت تق ّدم لنا أفكار‬
‫الالمعقول»(‪ّ ،)10‬أما ّ‬
‫ّ‬
‫الرؤية وعمقها ليس كبريا فيمكن ّأال‬
‫الشخصيات‪ ،‬كما أ ّن الفرق بني زاوية ّ‬
‫ّ‬
‫ابلسطح سواء كان فيزايئيا أم نفسانيا‪ ،‬بل أن تنفذ إىل نوااي‬
‫تكتفي ّ‬
‫‪ -1‬جمموعة من املؤلفني‪ :‬نظرية السرد من وجهة النظر إىل التبئري‪ ،‬تر انجي مصطفى‪ ،‬منشورات احلوار‬
‫األكادميي‪ ،‬ط‪ ،1989 ،1‬ص‪.59 .‬‬
‫‪ -2‬تودوروف‪ :‬الشعرية‪ ،‬ص‪.52 .‬‬

‫‪8‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الشخصيات الالواعية وأن تقدم تشرحيا لفكرها‪ ،‬وهو ما ال تستطيعه‬


‫نفسها»‪)1(.‬‬ ‫الشخصيات‬
‫‪ -2-2‬السارد‪:‬‬
‫يرجع االهتمام البالغ للنقاد ابلسارد لكونه يع ّد من مكوانت اخلطاب‬
‫سردي األساسية‪ ،‬والسارد‪/‬الراوي هو «الشخص الذي يقوم ابلسرد‪ ،‬والذي‬
‫ال ّ‬
‫لكل سرد ماثل يف‬
‫األقل سارد واحد ّ‬
‫يكون شاخصا يف السرد‪ ،‬وهناك على ّ‬
‫مستوى احلكي نفسه‪ ،‬مع املسرود له الذي يتل ّقى كالمه‪ ،‬ويف سرد ما قد‬
‫يكون هناك ع ّدة ساردين يتح ّدثون لع ّدة مسرودين هلم أو مسرود واحد‬
‫بذاته»‪)2(.‬‬

‫فكل‬
‫كما أ ّن هلذا السارد تفاوات يف درجة حضوره من رواية إىل أخرى‪ّ ،‬‬
‫«الرواايت تربز صوت سارد‪ ،‬ويف بعض الرواايت يكون الصوت جليا أكثر‬
‫النص‬
‫من غريها وتتفاوت درجات صوت السارد من رواية إىل أخرى‪ ،‬وأل ّن ّ‬
‫يربز صوت السارد فسوف نشري إليه بوصفه خطااب سرداي»‪)3(.‬‬

‫غري أ ّن القضية اليت أاثرت جدال واسعا بني الن ّقاد السرديني‪ ،‬هي طريقة‬
‫‪ -1‬تودوروف‪ :‬الشعرية‪ ،‬ص‪.52 .‬‬
‫‪ -2‬برنس‪ ،‬جريالد‪ :‬املصطلح السردي‪ -‬معجم مصطلحات‪ ،‬ص‪.158 .‬‬
‫‪ -3‬مانفربد‪ ،‬اين‪ :‬علم السرد‪ -‬مدخل إىل نظرية السرد‪ ،‬تر أماين أبو رمحة‪ ،‬دار نينوى للدراسات والتوزيع‬
‫والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوراي‪ ،2011 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.13 .‬‬

‫‪9‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ظهور واختفاء السارد ابلنسبة للمسرود له‪/‬املتلقي‪ ،‬إذ يرى مانفريد –مثال‪-‬‬
‫أ ّن السارد «بعيد عنّا زمانيا ومكانيا ووجوداي‪ ،‬بعيد عنّا وجوداي تعّن أنّه‬
‫ينتمي إىل عامل خمتلف‪ ،‬عالم خيايل‪ ،‬وعامل خيايل تعّن‪ :‬خمرتع‪ ،‬متخيشل‪ ،‬غري‬
‫القصة كلّها كائنات‬
‫ّ‬ ‫حقيقي‪ .‬السارد‪ ،‬واملتلقي‪ ،‬والشخصيات يف‬
‫ّ‬
‫خيالية»‪)1(.‬‬

‫ّأما عن درجة ظهوره واختفائه فإن املؤشر على ذلك يدعو املتلقي إىل معاينة‬
‫يوجه فيه السارد خطابه‬
‫الضمائر‪ ،‬فمانفريد جيزم أ ّن اخلطاب الروائي الذي ّ‬
‫للمتلقي ابلضمري«أنت» منلك فيه دالئل غنية على لغة السارد وتكوينه‬
‫فيقرر قائال‪« :‬إنّنا لن نعرف اسم‬
‫العاطفي(‪ ،)2‬غري أنّه يستدرك حكمه هذا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫السارد مطلقا‪ ،‬ذلك أنّه مل يستخدم ضمري املتكلّم لعىن أنّه لن يشري إىل‬
‫نفسه‪ ،‬ولن يتح ّدث مباشرة إىل الذي خياطبه ولكن على الرغم من هذا‬
‫جلي للظروف الزمكانية اليت‬
‫نعرف جيّدا أ ّن هذا السارد قد بدأ إييضاح ّ‬
‫القصة»‪)3(.‬‬
‫حدثت فيها وقائع ّ‬
‫إذا كانت الضمائر تفشي التكوين العاطفي للسارد فإ ّن هذا ال جيعل املتلقي‬
‫على دراية دقيقة هبذا السارد‪ ،‬كما أنه ميكن أن يكون «الساردون متوارين أو‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.16 -15 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.18.‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.19.‬‬

‫‪10‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ظاهرين بدرجات متفاوتة»‪ )1(.‬وميكن قياس درجة اختفاء السارد ابلظهور‬


‫الباهت لصوته إذ «يتميّز السارد املتواري بصوت غري ميّز أو حم ّدد بصورة‬
‫نتعرف حىت اآلن عن السرد املتواري بوصفه ظاهرة‪،‬‬
‫كبرية‪ ،‬وعلى الرغم أنّنا مل ّ‬
‫نتأمل كيف يبدو مكنا عن طريق عكس تعريفنا للظهور‪،‬‬
‫ّإال أنّه ميكننا أن ّ‬
‫جلي‪،‬‬
‫فيمكننا أن نقول أ ّن السارد املتواري ميكن أن يكون غري واضح أو ّ‬
‫ميوه نفسه‪ ،‬ويلوذ يف‬
‫وغري ميّز‪ ،‬السارد الذي يتوارى يف اخللفية‪ ،‬رّلا ّ‬
‫االختفاء»‪)2(.‬‬

‫ويف مقابل هذا الطرح‪« ،‬قد فهم ابختني يف الغرب على هذا النّحو ابل ّذات‪،‬‬
‫أي إنّه يقول حبياد الكاتب املطلق‪ ،‬هذا احلياد الذي ال ميكن معه أبدا أن‬
‫املعربة عن قصديّة‬
‫للرواية ‪-‬يف مجلتها‪ -‬داللة إيديولوجية واحدة هي ّ‬
‫تكون ّ‬
‫املؤلّف»(‪.)3‬‬
‫الروائية التعبري‬
‫إ ّن دعوة ابختني إىل حياد املؤلّف وترك احلريّة لشخصياته ّ‬
‫جمرد انقل‬
‫عن إيديولوجياهتا حبريّة ال يفهم منه غيابه املطلق‪ ،‬وال أن يصبح ّ‬
‫ملواقفها‪ ،‬بل هو يدعو إىل تناغم أصواهتا يف تقاطع اترة ويف تواز اترة أخرى‪،‬‬

‫‪ -1‬مانفربد‪ ،‬اين‪ :‬علم السرد‪ -‬مدخل إىل نظرية السرد‪ ،‬ص‪.19.‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪.19 ،‬‬
‫الروائي‪،‬‬
‫الرواية إىل سوسيولوجيا النّص ّ‬
‫الروائي و اإليديولوجيا‪ ،‬من سوسيولوجيا ّ‬
‫‪ 3‬حلمداين‪ ،‬محيد‪ :‬النّقد ّ‬
‫املركز الثّقايف العريب‪ ،‬الطّبعة األوىل‪1990 ،‬م‪ ،‬ال ّدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ص‪.82 .‬‬

‫‪11‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابلشخصيات ويل ّفها‬


‫حىت «ينتشر أيضا ويتخلّل خطاب املؤلّف الذي حييط ّ‬
‫ابلشخصيات حم ّددة ومتميّزة‪ .‬وتتش ّكل هذه النّطاقات‬
‫خاصة ّ‬ ‫خالقا نطاقات ّ‬
‫البث املسترت‬
‫الشخصيات‪ ،‬ومن أشكال متع ّددة من ّ‬ ‫من أشباه خطاابت ّ‬
‫خلطاب اآلخر‪ ،‬ومن الكلمات والتّعبريات املتناثرة يف هذا اخلطاب‪ ،‬ومن‬
‫عجب)‪،‬‬ ‫املعربة الغريبة خلطاب املؤلّف (احلذف‪ ،‬األسئلة‪ ،‬الت ّ‬
‫اقتحام العناصر ّ‬
‫الشخصيّة املمتزج‪ ،‬بطريقة أو‬ ‫ومثل هذا النّطاق هو جمال فعل صوت ّ‬
‫أبخرى‪ ،‬بصوت املؤلّف»(‪.)1‬‬
‫‪ -3-2‬املسرود‪:‬‬
‫يعرف املسرود أبنه «كل ما يصدر عن الراوي‪ ،‬وينتظم لتشكيل جمموعة من‬
‫األحداث تقرتن أبشخاص حيكمها فضاء من الزمان واملكان‪ ،‬وتعد احلكاية‬
‫جوهر املروي واملركز الذي تتفاعل فيه كل عناصر املروي حوله بوصفها‬
‫له»‪)2(.‬‬ ‫مكوانت‬
‫كما أن املروي يقوم على تفاعل الراوي‪ ،‬وما أنتجه من أقوال وما قدمه من‬
‫تقنيات ومن وظائف ليتسىن له بث الرسالة إىل املروى له‪ ،‬ولتتكامل أركان‬
‫اخلطاب السردي وكأن املروي يتخذ صورة شفاهية وأخرى حتريرية‪ ،‬فإن‬
‫‪ -1‬تودوروف‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.142 .‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬السردية العربيه‪(،‬حبث يف البنية السردية يف املوروث احلكائي) املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪2000 ،3‬م‪ .‬ص‪.12 .‬‬

‫‪12‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املروايت الكتابية هي اليت تنطلق منها‪ ،‬فتتعامل مع املروي بوصفه جسدا‬


‫نصيا منتجا هلذه احلكاية‪ ،‬ومن خالل هذا املنجز احلكائي تتحد بقية‬
‫األركان والعناصر السردية‪ ،‬واملروي املقيد ابلزمان واملكان وبوصفهما مكونني‬
‫أساسيني من التجليات السردية وخباصة الزمن لكون األدب فنا زمانيا يف‬
‫حتققه‪ ،‬وهناك أزمنة خارجة عن النص مثل زمن الكتابة وزمن القراءة وأزمنة‬
‫داخلية تتناول مدة األثر األديب أو ترتيب األحداث فيه‪ ،‬أو وضع الراوي‬
‫األحداث‪)1(.‬‬ ‫ابلنسبة لوقوع‬

‫وميكن التفريق بني املنت احلكائي واملبىن احلكائي ويعود التفريق إىل قيمة كل‬
‫منهما يف العمل‪ .‬واملروي ميثل املادة احلكائية اليت هي بني يدي الراوي الذي‬
‫يسرد تفاصيلها وأحداثها ولذلك يكون املروي دائما ضمن وعي مسبق لدى‬
‫املؤلف‪.‬‬
‫‪ -4-2‬املسرود له‪:‬‬
‫ابإلضافة إىل العنصرين السابقني (السارد واملسرود) فاملسرود له يثلثهما‪ ،‬وهو‬
‫«الشخص الذي يكون يف تعارض مع الراوي وال يلتبس ابلقارئ‪ ،‬كما‬
‫يلتبس الراوي ابلكاتب»(‪ ،)2‬واملسرود له هو الشخص الذي تصنع القصة‬
‫من أجله‪ ،‬وهو جتلي من التجليات السردية‪ ،‬وميكن أن يكون عنصرا معلوما‬
‫‪ -1‬عل و ‪ ،‬س عيد‪ :‬معج م املص طلحات األدبي ة‪ ،‬دار الكت اب اللبن اين‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬ط ‪ 1985 ،1‬م‪،‬‬
‫ص‪.111‬‬
‫‪ -2‬حلميداين‪ ،‬محيد‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص‪.45‬‬

‫‪13‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أو جمهوال‪ ،‬وهو الذي يتلقى ما يرسله السارد‪ ،‬حيث أن صانع الرواية أو‬
‫السارد هدفه هو املتلقي أو املروي له‪ ،‬والتأثري فيه عن طريق الرواية‪ ،‬وال يهم‬
‫إن كان املتلقي شخصا واحدا أو جمموعة من األشخاص فاملهم هو التأثري‬
‫واإلقناع ابلفكرة اليت يريد املرسل توصيلها عرب مرويه‪.‬‬

‫وجمسد عضواي‪ ،‬فهو‬‫ائي غري حم ّدد ّ‬‫وجه املؤلّف اخلطاب إىل أفق قر ّ‬
‫ي ّ‬
‫اضي‪ ،‬وهلذا وجب أن «ننظر إىل املستقبل كما ينظر إليه املؤلّف نفسه‪،‬‬
‫افرت ّ‬
‫الشخص الذي يو شجه إليه العمل وهو الذي حي ّدد‪،‬‬
‫فهو [أي املستقبل] ذلك ّ‬
‫السبب ابل ّذات‪ ،‬بنية العمل ال اجلمهور احلقيقي الذي قرأ عمل هذا‬
‫هلذا ّ‬
‫الكاتب أو ذاك بصورة فعليّة»(‪.)1‬‬

‫الروائي على أفق قرائي مفرتض مي ّكن املتل ّقي من مشاركة‬


‫إ ّن انفتاح اخلطاب ّ‬
‫املؤلّف يف تشكيل خطابه‪ ،‬ويكون حضور اآلخر (املتلقي) ماثال يف الكلمة‬
‫حترر‬
‫الروائية املشحونة أبفكاره ومواقفه‪ ،‬فتتقاطع أصواهتم وتستطيع «أن ّ‬ ‫ّ‬
‫حرية واسعة يف احلركة داخل‬
‫الروائيّة من رقابة املؤلّف‪ ،‬ومنحتها ّ‬
‫الشخصيّة ّ‬
‫ّ‬
‫الروائي بعد أن ختلّصت من التّوجهات اإليديولوجية املباشرة‬ ‫العمل ّ‬
‫للمؤلّف»(‪)2‬‬

‫اري‪ ،‬ص‪.100 .‬‬ ‫‪ 1‬تودوروف‪ :‬املبدأ احلو ّ‬


‫العامة‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪ 2‬اثمر‪ ،‬فاضل‪ :‬الصوت اآلخر‪ ،‬اجلوهر احلواري للخطاب األديب‪ ،‬دار الشؤون الثّقافيّة ّ‬
‫‪ ،1992‬ص‪.30 .‬‬

‫‪14‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الروائيّة ينبثق املعىن املتج ّدد الذي مل يصاحب املؤلّف قبل إجناز‬
‫وشخصياته ّ‬
‫ائي‪ ،‬ف «احلقيقة ال ميكن أن تنبثق من إنسان واحد‪ّ ،‬إّنا تولد بني‬
‫الرو ّ‬
‫عمله ّ‬
‫اري»(‪.)1‬‬
‫الذين يبحثون عنها معا‪ ،‬يف عمليّة تواصلهم احلو ّ‬
‫نص يقع يف مفرتق طرق‬ ‫كل ّ‬ ‫ّأما فليب سولرس ‪ P. Sollers‬فريى أ ّن « ّ‬
‫نصوص ع ّدة‪ ،‬فيكون يف آن واحد إعادة قراءة هلا‪ ،‬وامتدادا وتكثيفا ونقال‬
‫وتعميقا»(‪ .)2‬وهبذا التّعريف يؤّكد سولرس على ال ّدور اإلجيايب الذي مينحه‬
‫فيتجسد ذلك يف دالالت ال ّنائيّة‬
‫ّ‬ ‫املتلقي للنّص من خالل تفاعله معه‪،‬‬
‫يتحرر من‬
‫تتج ّدد وفق منظ ور الق ارئ‪ ،‬ال منظ ور الك اتب‪ ،‬أي أ ّن الق ارئ ّ‬
‫الكالسيكي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سلطة الكاتب اليت كّرست يف النّقد‬

‫يقول روالن ابرت «إن اخلطاب ينتج الشخصيات فينتج منها ظهريا»(‪،)3‬‬
‫وهذا يدل على أن الشخصية هلا عالقة مع القارئ الذي أصبح املنتج الثاين‬
‫للنص‪ ،‬حيث أنه لثابة الوجه الثاين للشخصية‪ ،‬وذلك لتفاعل القارئ مع‬
‫الشخصية داخل اخلطاب الروائي‪.‬‬

‫‪1 – M. Bakhtine: La poétique De Dostoïevski, Trad.Kolit Cheff, Ed Seuil,‬‬


‫‪1970, p.155.‬‬
‫قدي اجلديد‪ ،‬ترمجة و تقدمي أمحد املديّن‪ ،‬دار‬‫‪ 2‬أجنينو‪ ،‬مارك ‪ :Angenot Marc‬أصول اخلطاب النّ ّ‬
‫العامة‪ ،‬الطبعة الثّانيّة‪ ،1989 ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪ ،‬ص‪.105 .‬‬
‫الشؤون الثّقافيّة ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -3‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬يف نظرية الرواية ‪ -‬حبث يف تقنيات السرد‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطّن للثقافة‬
‫واآلداب والفنون‪ ،‬الكويت‪ ،‬ع‪ ،240‬ديسمرب ‪1998‬م‪ ،‬ص‪.72 .‬‬

‫‪15‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -5-2‬الشخصيات السردية‪:‬‬
‫تعترب الشخصية من أبرز عناصر اخلطاب السردي‪ ،‬و«هي موضوع القضية‬
‫ألّنا لثابة النقطة املركزية أو البؤرة األساسية اليت يرتكز‬
‫السردية»(‪ ،)1‬وذلك ّ‬
‫عليها العمل السردي‪ ،‬وهي عموده الفقري‪ ،‬كما أّنا عنصر حموري يف كل‬
‫تصور رواية بدون شخصيات ألمهيتها البالغة‪.‬‬
‫سرد‪ ،‬فال ميكن ّ‬
‫والشخصية هي اليت تتشكل بتفاعلها مالمح الرواية‪ ،‬وتتكون هبا‬
‫األحداث لذلك ينتقي الروائي شخوص روايته حبكمة اتمة‪ ،‬حبيث جيعل كل‬
‫شخصية يف مكاّنا املناسب وقد تكون صادقة ميثلها البشر أو كاذبة تتجسد‬
‫يف احليواانت أو اجلمادات كما ميكن أن جيمع بينهما يف احلالتني يف خياله‪،‬‬
‫كما يظهر الروائي بعض امليزات أو العيوب ابإلضافة إىل األبعاد اجلسمية‬
‫والنفسية واالجتماعية املرتبطة ابلرواية‪ ،‬ومن أهم هذه العناصر‪ ،‬البعد اجلسمي‬
‫والذي يشمل شكل اإلنسان‪ :‬طوله‪ ،‬وقصره‪ ،‬وحسنه‪ ،‬ووسامته‪ ،‬ولون بشرته‬
‫وكل صفاته‪ ،‬وأيضا البعد النفسي االجتماعي الذي يشمل اجلانب العقلي‬
‫االنفعايل (الرتبية‪ ،‬البيئة) إىل آخره من املؤثرات‪ .‬لذلك علينا أن نستعرض‬
‫بعض املفاهيم والقراءات اللغوية العربية من أجل تبيان املعىن الصحيح والشامل‬
‫ملصطلح الشخصية وفهمه‪.‬‬
‫‪ -1‬تودوروف‪ ،‬تزيفيطان‪ :‬مفاهيم سردية‪ ،‬تر عبد الرمحن مزاين‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬وزارة الثقافة‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.73.‬‬

‫‪16‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أ ‪ -‬لـ ـغـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬


‫ورد مفهوم الشخصية من الناحية اللغوية يف معظم املعاجم العربية‪،‬‬
‫منها ما جاء يف لسان العرب البن منظور يف مادة ( ‪.‬خ‪،‬ص) واليت تعّن‬
‫«شخص الشخص‪ :‬مجاعة شخص اإلنسان وغري ذلك‪ ،‬واجلمع أشخاص‬
‫وشخوص‪ ،‬وشخاص سواد اإلنسان تراه من بعيد‪ ،‬وكل شيء رأيت جسمانه‬
‫فقط رأيت شخصه‪ ،‬والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور واملراد به إثبات‬
‫الذات فاستعري هلا لفظ الشخص وكالم متشاخص أي متفاوت»(‪ ،)1‬وبناء‬
‫على هذا فالشخصية تعّن الفرد بكل ما يتميز به عن غريه من صفات‬
‫فيزيولوجية ووجدانية وعقلية‪ ،‬فهي تشمل كافة الصفات اجلسمية والعقلية‬
‫واخللقية ومدى تفاعلها مع بعضها بعضا ويف تكاملها يف شخص معني‪.‬‬
‫كل ما‪« :‬ارتفع‬
‫مادة ( ‪.‬خ‪.‬ص) عند صاحب القاموس احمليط فهي ّ‬ ‫ّأما ّ‬
‫ع ن اهل دف‪ ،‬ش خص بص وته ف ال يق در عل ى خفض ه وش خص ب ه كمع ىن أاته‬
‫بغض النظ ر‬
‫أمره أقلقه وأزعجه»(‪ ،)2‬فلفظ الشخص هنا يطلق على كل ذات ّ‬
‫ع ن اجل نس أذك را ك ان أم أنث ى‪ ،‬وك ل م ا رأي ت ش كله أو جس مه فق د رأي ت‬
‫شخصه‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬اجمللد ‪ 1997 ،8‬م‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ -2‬الف ريوزآابدي‪ :‬الق اموس احمل يط‪ ،‬دار الكت ب العلمي ة‪ ،‬ب ريوت‪-‬لبن ان‪ ،‬ج‪( ،1‬د‪ ،‬ط)‪1999 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪.469.‬‬

‫‪17‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وجاء يف قوله تعاىل‪﴿ :‬واقَتب الوعد اْلق فإذا هي شاخصةٌ أبصار‬


‫الذين كفروا﴾(‪ ،)1‬حيث دل اسم الفاعل بشخص شاخص على االرتفاع‬
‫والعلو‪ ،‬حيث يصبح ظاهراً‪ ،‬فيتعاىل شاخص البصر إذا ارتفع بصره عالياً‪.‬‬
‫وم ن مع اين ه ذه امل ادة اللغوي ة ( ‪.‬خ‪.‬ص) –أيض ا‪« -‬التعب ري ع ن قيم ة حي ة‬
‫عاقل ة انطق ة فك أن املع ىن إظه ار ش يء وإخراج ه ومتثيل ه وعك س قيمت ه»(‪،)2‬‬
‫ينح و ه ذا العري ف منح ى جدي دا جيع ل اللف ظ أكث ر جتري دا فه و متثي ل الش يء‬
‫وإبرازه‪ ،‬ابإلضافة إىل عكس قيمته فهو بذلك التعبري عن القيم ة اجلوهري ة احلي ة‬
‫العاقلة‪.‬‬
‫ب‪ -‬اصطالح ـ ــا‪:‬‬
‫الشخصية هي كلمة حديثة االستعمال استخدمت لتدل على ما متيّز‬
‫الشخص عن غريه‪ ،‬وهي –أتثيليا‪ -‬لفظ فرنسي مشتق «من القناع الذي‬
‫كان يبدو فيه املمثل على املسرح‪ ،‬فإن الشخصية ال تقتصر على ما يبدو به‬
‫الشخص‪ ،‬بل تتناول اجلوانب العميقة اليت قد تتجلى أاثرها يف السلوك أو‬
‫وغريها»(‪.)3‬‬ ‫اليت تكشف االختبارات ووسائل الدراسة النفسية‬

‫‪ -1‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية‪.96 .‬‬


‫‪ -2‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬يف نظرية الرواية ‪ -‬حبث يف تقنيات السرد‪ ،‬ص‪.85 .‬‬
‫‪ -3‬حممد‪ ،‬نصر الدين‪ :‬الشخصية يف العمل الروائي‪ ،‬جملة فيصل‪ ،‬دار الفيصل الثقافية للطباعة العربية‪،‬‬
‫السعودية‪ ،‬ع ‪ ،37‬جوان ‪1980‬م‪ ،‬ص‪.20 .‬‬

‫‪18‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اّ أخذت‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬هتيمن على العمل الروائي لتصبح «العصب احلي‬
‫واملؤثر يف البناء الفّن للرواية كلّها»(‪ ،)1‬فهي القطب الذي يتمحور حوله‬
‫اخلطاب السردي‪ ،‬وأهم أداة يستخدمها الروائي لتصوير األحداث حيث‬
‫تؤدي«دوراً رئيسيا ومهما يف جتسيد فكرة الروائي‪ ،‬وهي من غري شك عنصر‬
‫ّ‬
‫مؤثر يف تسيري أحداث العمل الروائي»(‪ ،)2‬أي أن الشخصية هي قطب‬
‫مكوانت العمل الروائي‪ ،‬فالشخصية هي اليت‬
‫الرحى الذي تدور حوله بقية ّ‬
‫تبّن العمل ألمهيتها البالغة‪ ،‬حيث أن أتثريها واضح يف سري األحداث‪.‬‬
‫وهذا ما سبق أن أشار إليه تودروف بقوله «هي جمموع الصفات اليت كانت‬
‫حممولة للفاعل من خالل حكي‪ ،‬وميكن أن يكون هذا اجملموع منظما أو غري‬
‫منظّم»(‪.)3‬‬
‫كما خيتلف مفهوم الشخصية يف الرواية ابختالف االجتاه الروائي الذي‬
‫يتناوهلا‪ ،‬فهي عند الواقعيني التقليديني شخصية من حلم ودم حتاكي الواقع‬
‫اإلنساين يف احمليط‪ ،‬وأما ابلنسبة للرواية احلديثة فهي كائن من ورق‪،‬‬
‫المتزاجها ابلتخييل الفّن للمؤلف‪ ،‬فالشخصية هي حمرك األحداث ومصدر‬
‫تطورها‪ .‬هذا‪ ،‬وبفضل خمزون املؤلف الثقايف يستطيع أن يضيف وحيذف‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ع‪ ،37‬ص‪.20 .‬‬
‫‪ -2‬بدري‪ ،‬عثمان‪ :‬بناء الشخصية الرئيسية يف رواايت جنيب حمفوظ‪ ،‬دار احلدائية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1986‬م‪ ،‬ص‪.7 .‬‬
‫‪ -3‬تودوروف‪ ،‬تزفيطان‪ :‬مفاهيم سردية‪ ،‬ص‪.74 .‬‬

‫‪19‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ويبالغ ويضخم يف تكوينها وتصويرها‪ ،‬فهي‪ ،‬إذن‪« ،‬شخصية من اخرتاع‬


‫الروائي فحسب»(‪.)1‬‬
‫يتضح ‪-‬مّا سبق‪ -‬مدى أمهية الشخصية يف العمل الروائي من جهة‪ ،‬ومدى‬
‫أتثريها يف احلدث الروائي من جهة أخرى‪ ،‬على أساس أنه –أي احلدث‪ -‬مثرة‬
‫من مثرات تصارعها وتطاحنها‪ ،‬فالشخصية «هي فعل وحدث وهي يف الوقت‬
‫موضوع»‪)2(.‬‬ ‫ذاته وظيفة أو‬

‫كما تعترب‪ ،‬أيضا‪ ،‬بدعة من ابتكار خيال األديب تش ّكل ‹‹أحد‬


‫املكوانت احلكائية اليت تسهم يف تشكيل بنية النص الروائي‪ ،‬حيث حياول‬
‫منجز النص بواسطة أسلبة اللغة وفق نسق ميز مقاربة اإلنسان الواقعي‪ ،‬وهذا‬
‫ال يعّن أن الشخصية هي اإلنسان كما نراه يف الواقع املرئي‪ ،‬ألّنا توجد‬
‫للبعدين اإلنساين واألديب فهي صورة ختيليية‪ ،‬استمدت وجودها يف مكان‬
‫وزمان معينني‪ ،‬وانصهرت يف بنية الكاتب الفكرية املمزوجة لوهبته‪ ،‬مش ّكلة‬
‫فوق الفضاء الورقي األبيض‪ ،‬ليسهم يف تكوين بنية النص الروائي الدال‪،‬‬
‫وتنجز وظيفتها املسندة إليها أتليفا‪ ،‬وتعكس بعالقتها مع البىن احلكائية‬
‫األخرى ظروفا اجتماعية واقتصادية وسياسية‪ ،‬مسهمة بذلك يف تكوين‬

‫‪ -1‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬ص‪.36 .‬‬


‫‪ -2‬مرشد‪ ،‬أمحد‪ :‬البنية والداللة يف رواايت إبراهيم نصر هللا‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪ 2005 ،1‬م‪ ،‬ص ص ‪.36-35‬‬

‫‪20‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فعاال يف املتلقي‪ ،‬دافعة إايه إىل إنتاج‬


‫املدلول احلكائي واحتوائه‪ ،‬ومؤثرة أتثرياً ّ‬
‫الداللة»(‪ ،)1‬كما أن هوية الشخصية تتحدد من خالل بعض املصادر‬
‫اإلخبارية املساعدة واليت هي ‪-‬على سبيل الذكر ال احلصر‪:-‬‬
‫‪ -1‬ما خيرب به الروائي‪.‬‬
‫‪ -2‬ما خترب به الشخصيات ذاهتا‪.‬‬
‫‪ -3‬ما يستنتجه القارئ من أخبار عن طريق سلوك الشخصيات‪.‬‬
‫يقرر‪‹‹ :‬أّنا هي اليت تسرد لغريها أو يقع عليها‬
‫لعل هذا ما جعل مراتض ّ‬ ‫و ّ‬
‫سرد غريها‪ ،‬وهي هبذا املفهوم أداة وصف أي أداة السرد والعرض»(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬الزمن السردي‪:‬‬
‫يعد الزمن عنصرا مهما من عناصر النص السردي‪ ،‬ألنه الرابط احلقيقي‬
‫لألحداث والشخصيات واألمكنة‪ ،‬والرواية من أكثر الفنون األدبية التصاقا‬
‫ابلزمن‪ ،‬كما أنه من املقوالت األساسية اليت شغلت ابل الدارسني‪ ،‬واستقطبت‬
‫اهتمامهم‪ ،‬الرتباطه ابألدب والفلسفة والعلم‪ ،‬بل بكل ما ميت لإلنسان‬
‫بصلة‪ ،‬سواء من قريب أو من بعيد‪ ،‬يف ماضيه وحاضره‪ ،‬أو حىت مستقبله‪ ،‬إال‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪.36-35‬‬


‫‪ -2‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬القصة اجلزائرية املعاصرة‪ ،‬املؤسسة الوطنية للكتاب‪ ،‬اجلزائر‪1990 ،‬م‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.67‬‬

‫‪21‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أن الزمن يبقى ملخصا ومقيدا يف ثالثة أبعاد هي‪ :‬املاضي‪ ،‬احلاضر‪،‬‬
‫املستقبل‪ ،‬وهذه األبعاد حنسها يف ذواتنا ونفكر وفق حتديداهتا‪ ،‬لكن ال نلمس‬
‫أحدها حىت يغيب بعضها عن اآلخر‪ .‬وابلتايل يستحيل وجود عمل روائي‬
‫خال من الزمن‪.‬‬
‫أ‪ -‬الزمن لغة‪:‬‬
‫ورد تعريف الزمن من الناحية اللغوية يف معظم املعاجم العربية‪ ،‬ومن‬
‫أمهها ما جاء يف لسان العرب‪« :‬الزمن والزمان اسم لقليل الوقت وكثريه‪،‬‬
‫واجلمع أزم ٌن وأزمان وأزمنة‪ ،‬وأزمن الشيء طال عليه الزمان‪ ،‬وأزمن ابملكان‬
‫أقام به زمان‪ ،‬والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى والية الرجل‬
‫وما أشبهه»(‪.)1‬‬
‫ميكن حصر املعاين اليت أوردها ابن منظور يف‪ :‬امل ّدة من حيث الطول والقصر‪،‬‬
‫واإلقامة يف املكان بقدر معلوم‪ ،‬وأنّه فصل من فصول السنة‪.‬‬
‫وقد أورد صاحب القاموس إضافة بقوله «ولقيته ذات الزمني كزبري‪ :‬تريد‬
‫بذلك تراخي الوقت»(‪ ،)2‬أي أ ّن اشتقاق البنية اللغوية من مفردة‪ :‬الزمن‪،‬‬
‫دلّت على االستغراق يف املاضي القريب حلظة اخلطاب‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬ص‪.60 .‬‬


‫‪ -2‬الفيزوآابدي‪ :‬قاموس احمليط (مادة‪ :‬ز‪.‬م‪.‬ن)‪ ،‬ص‪.225 .‬‬

‫‪22‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫كما وردت مادة (ز‪.‬م‪.‬ن) يف (الصحاح) حتمل معىن «اسم لقليل الوقت‬
‫وكثريه وجيمع على أزمان وأزمنة وأزمن كما يقال لقيته ذات العومي أي‪:‬‬
‫بني األعوام»(‪ ،)1‬ما يعّن أن الزمن أو الزمان يدل على األعوام‪ ،‬واليت تعّن‬
‫حبد ذاهتا السنوات الطويلة أي املدة الزمنية الطويلة‪.‬‬

‫أما يف (معجم الفروق اللغوية)‪ ،‬فإن أاب هالل العسكري قد تناول‬


‫مفهوم الزمن بقوله‪« :‬اسم الزمان يقع على كل مجع من األوقات‪ ،‬وأن الزمان‬
‫أوقات متتالية خمتلفة أو غري خمتلفة»(‪ ،)2‬يوحي تتابع األوقات ائتالفا‬
‫واختالفا عند أيب هالل لا حيمله بني طياته من أحداث وصروف متباينة‪.‬‬
‫ابإلضافة إىل هذا‪ ،‬هناك من أحصى مرادفات للزمن يكمن وجه االختالف‬
‫بينها من حيث قصرها وطوهلا‪ ،‬ف «الزمن والزمان والدهر واحلني واألزل‬
‫تتدرج ابلزمن ليستغرق م ّدة تفوق تقدير العقل‬
‫والسرمد»(‪ ،)3‬فهي كلّها معان ّ‬
‫البشري احملدود‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلوهري‪ ،‬أبو نصر محاد‪ :‬الصحاح (اتج اللغة وصحاح اللغة)‪ ،‬تح‪ :‬إميل بديع يعقوب وحممد نبيل‬
‫طريفي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪1999 ،5‬م‪ ،‬ص‪.55 .‬‬
‫‪ -2‬العسكري‪ ،‬أبو هالل‪ :‬الفروق اللغوية‪ ،‬تح‪ :‬حممد إبراهيم سليم‪ ،‬دار العلم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪،‬‬
‫‪ 1979‬م‪ ،‬ص‪.270 .‬‬
‫‪ -3‬رشيد‪ ،‬كمال عبد الرحيم‪ :‬الزمن النحوي يف اللغة العربية‪ ،‬عامل الثقافة‪ ،‬عمان‪ ،‬دط‪2008 ،‬م‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.12‬‬

‫‪23‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ويف سياق احلديث عن الفروق اللغوية للفظ الزمن وما يرادفه‪ ،‬جاء يف لسان‬
‫العرب‪‹‹ :‬قال شّر الدهر والزمان واحد»(‪ ،)1‬أي أن الدهر والزمان لفظني‬
‫لداللة واحدة هي الزمن‪ ،‬ا يذكر بعد ذلك االختالف احلاصل يف‬
‫االستعمال العريب بني اللفظني‪ ،‬حيث جاء فيه أن أاب منصور قال «الدهر‬
‫عند العرب يقع على الفصل من فصول السنة»(‪ ،)2‬ويظهر الفرق من كون‬
‫ال ّدهر لفظا أع شم من حيث داللته‪ ،‬وأ ّن الزمان هو حقبة من أحقابه‪.‬‬
‫حسان فإنّه ينتبه للداللة الفارقة بني لفظي (زمن) و(زمان)‪ ،‬وجيعلهما‬
‫ّأما متّام ّ‬
‫اليل نفسه‪ ،‬فهو يرى‬
‫مقابلني للفظني خمتلفني يف اإلنكليزية ينتميان للحقل ال ّد ّ‬
‫‪Time‬‬ ‫أ ّن «الزمان للزمن الفلسفي الذي يعرفه الناس مجيعا‪ ،‬وهو يقابل كلمة‬
‫يف اللغة اإلنكليزية كما أنه يعطي اصطالح الزمن للزمن النحوي اللغوي الذي‬
‫يقابل كلمة ‪.)3(»Tense‬‬
‫ب‪ -‬الزمن اصطالحا‪:‬‬
‫لقد حظي الزمان ابهتمام الفالسفة والعلماء واألدابء ملا له من عالقة‬
‫ابحلياة والكون واإلنسان‪ ،‬فيه يتشكل الوجود والعدم‪ ،‬املوت واحلياة‪ ،‬احلركة‬
‫والثبات‪ ،‬احلضور والغياب‪ ،‬والزوال والدميومة‪ ،‬فالزمن «كأنه هو وجودان‬
‫نفسه‪ ،‬هو إثبات هلذا الوجود أوال‪ ،‬ا قهره رويدا رويدا ابإلجالء آخرا‪ ،‬إن‬
‫‪ -1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬ص‪.199 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.199 .‬‬
‫‪ -3‬رشيد‪ ،‬عبد الرحيم‪ :‬الزمن النحوي يف اللغة العربية‪ ،‬ص‪.14 .‬‬

‫‪24‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الزمن هو موكل ابلكائنات ومنها الكائن اإلنساين‪ ،‬يتقصى مراحل حياته‪،‬‬


‫ويتوجل يف تفاصيلها‪ ،‬حبيث ال يفوته منها شيء وال يغيب منها فتيل‪ ،‬كما تراه‬
‫يغري من وجهه‪ ،‬ويبدل من مظهره‪ ،‬فإذا‬
‫موكال ابلوجود نفسه‪ ،‬أي هبذا الكون ّ‬
‫هو اآلن ليل وغدا ّنار وإذا هو الفصل شتاء ويف ذاك صيف»(‪ ،)1‬أي أن‬
‫الزمن هو وعاء تتجلّى من خالله املتناقضات يف آتلف عجيب‪ ،‬له فاعلية‬
‫التغري‬
‫التحول و ّ‬
‫معينة تتح ّدد حسب ظروف مراحله‪ ،‬فهو السريورة والدميومة و ّ‬
‫بني املاضي واحلاضر واملستقبل‪ ،‬هو روح الوجود ونسيجها الداخلي ميثل فينا‬
‫على شكل حركة ال مرئية نعيشها وتعكس وجودان‪.‬‬
‫( ‪Le‬‬ ‫ولذلك يعترب من بني املفاهيم الكربى حيث أن «الزمن أو الزمان‬
‫‪ )temps‬أو (‪ )Time‬أو (‪ )Tempus‬أو (‪ )Tempo‬هو يف التصور‬
‫الفلسفي ولدى أفالطون حتديدا كل مرحلة متضي حلدث سابق إىل حدث‬
‫الحق»(‪ ،)1‬فالزمن عنده عبارة عن فرتة تتضمن حادثتني مها احلدث السابق‪،‬‬
‫واحلدث الالحق‪ ،‬فهو ينتقل من احلدث األول إىل احلدث الثاين يف مرحلة‬
‫معينة‪ ،‬وابلتايل فهو مرتبط حبركة األشياء وتغريها املستمر‪.‬‬

‫‪ -1‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬يف نظرية الرواية‪ ،‬ص‪.199 .‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.172 .‬‬

‫‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ّأما غيو فينظر إىل الزمن على أنه «ال يتشكل إال حني تكون األشياء‬
‫مهيأة على خط حبيث ال يكون إال بعد واحد‪ :‬هو الطول»(‪ ،)1‬زايدة على‬
‫هذا‪ ،‬فإن الزمن «يؤثر يف العناصر األخرى وينعكس عليها‪ ،‬فالزمن حقيقة‬
‫جمردة سائلة ال تظهر إال من خالل مفعوهلا على العناصر األخرى»(‪ ،)2‬ما‬
‫يعّن أن للزمن الفاعلية يف التأثري على العناصر األخرى املكونة للرواية‪،‬‬
‫حيث أن هذا التأثري ال يظهر إال من خالل تفاعل العناصر األخرى مع‬
‫الزمن‪ ،‬حيث يعترب هذا األخري املركز الرئيسي يف الرواية املعاصرة‪،‬‬
‫فالشخصيات واألحداث تتشكل وتتحرك يف فضاء زمّن‪ ،‬فال يتم السرد إال‬
‫بوجود الزمن‪.‬‬
‫كما ميكن للسارد أن يسرتجع املاضي أو يستشرف املستقبل‪ ،‬ألن الرواية‬
‫ليست بنية اثبتة الكيان والتشكيل ميكن التقاطها بوضوح‪ ،‬بل هي«سريورة‬
‫حتول‪ ،‬وشكلها يف سريورة‪ ،‬وهدفها غري معروف مسبقا‪ ،‬فكما أن الزمان يف‬
‫خمتلف جتلياته متجدد ومتحول‪ ،‬فإن الرواية اليت هي خطاب الزمان ابمتياز‪،‬‬
‫بنية تلتقط التحوالت وهي نفسها بنية حتويل»(‪ ،)3‬فحركة الزمن املصاحبة‬
‫للتحول والتبدل تكمن يف تغيري األشياء لتنبثق أشكال جديدة على غرار‬
‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.199 .‬‬
‫‪ -2‬قاسم‪ ،‬سيزا‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص‪.38 .‬‬
‫‪ -3‬برادة‪ ،‬حممد‪ :‬أسئلة الرواية (أسئلة النقد)‪ ،‬الرابطة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ 1996 ،1‬م‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.61‬‬

‫‪26‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اّنيار األشكال القدمية‪ ،‬كما يساهم يف التعبري عن موقف الشخصيات‬


‫الروائية من العامل فيكشف عن مستوى وعيها ابلوجود الذايت اجملتمعي‬
‫وجتسيد رؤية الراوي أيضا‪.‬‬

‫كما أن الزمن هو زمن ختيلي انبع من عمق النص الروائي وداخله‪،‬‬


‫فيظهر لنا الزمن الطبيعي (املوضوعي) بكل دالالته الطبيعية كالفصول‬
‫والسنة والشهر واألسبوع واليوم‪ ،‬حيث يتحرك الزمان ويتعاقب جمددا نتيجة‬
‫للحركة الطبيعية لألرض‪ ،‬أما الزمن الذايت فهو انبع من التجربة الشعورية‬
‫لإلنسان املتصلة بوعيه ووجدانه وخربته الذاتية‪ ،‬ألنه «يرادف معىن الزمن يف‬
‫الرواية معىن احلياة اإلنسانية العميقة‪ ،‬معىن احلياة الداخلية‪ ،‬معىن اخلربة‬
‫الذاتية للفرد ورغم جتذرها يف أغوار النفس الفردية‪ ،‬هي خربة مجاعية والزمن‬
‫الروائي هو الصورة احلقيقية هلذه اخلربة»(‪ ،)1‬حيث ال يقاس ابلزمن الفلكي‬
‫وال حتكمه حلظات واحدة‪ ،‬بل ميكن له أن ميتلك أزمنة متفرقة يف حلظة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫لقد شغلت قضية الزمن العديد من النقاد والروائيني‪ ،‬فاجتهدوا يف ضبط‬
‫مفاهيمه وصياغة تعاريفه‪ ،‬وهلذا‪ ،‬تباينت جهودهم وفق اختالف اجتاهاهتم‪،‬‬

‫‪ -1‬سويريت‪ ،‬حممد‪ :‬النقد البنيوي والنص الروائي‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ج‪1991 ،2‬م‪،‬‬
‫ص‪.10 .‬‬

‫‪27‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫لعل أبرز تعريف هو ما تعلّق بتصور الشكالنيني الروس‪ ،‬ألّنم يع ّدون من‬
‫و ّ‬
‫األوائل الذين اشتغلوا على الزمن يف الرواية‪ ،‬حيث أدرجوه يف دراساهتم‬
‫تصور‬
‫ّ‬ ‫السردية‪ ،‬مرتكزين يف أعماهلم حول العمل الروائي على‬
‫توماشفسكي‪ ،‬الذي مييّز فيه بني ما أمساه‪ :‬املنت احلكائي واملبىن احلكائي‬
‫على مستوى العمل الروائي‪ ،‬حيث أن املنت احلكائي هو «جمموع األحداث‬
‫املتصلة فيما بينها‪ ،‬واليت يقع إخباران هبا خالل العمل»(‪ ،)1‬يف حني يتألف‬
‫املبىن احلكائي (‪ )Sujet‬من األحداث نفسها‪ ،‬لكنه «يراعي نظام ظهورها‬
‫يف العمل كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا»(‪ ،)2‬فهو مييز بني‬
‫نوعني من العمل يف الزمن السردي مها‪ :‬زمن املنت احلكائي وزمن احلكي إذ‬
‫«يقصد ابألول افرتاض‪ ،‬كون األحداث املعروضة قد وقعت يف مادة‬
‫احلكي‪ ،‬أما زمن احلكي فريى فيه الوقت الضروري لقراءة العمل أو مدة‬
‫عرضه»(‪ ،)3‬ومن هنا ميكن القول‪ ،‬إن املنت احلكائي هو الزمن الطبيعي‬
‫الذي وقعت فيه األحداث‪ ،‬أو الذي حيتاجه حدث ما حىت ينتهي‪ّ ،‬أما‬
‫‪ -1‬تودوروف‪ ،‬تزيفيتان‪ :‬نظرية املنهج الشكلي‪ ،‬نصوص الشكالنيني الروس‪ ،‬تر‪ :‬إبراهيم خطيب‪ ،‬الشركة‬
‫املغربية للناشرين املتحدين‪ ،‬مؤسسة األحباث العربية‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪1982 ،1‬م‪ ،‬ص‪.70 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.70 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.71 .‬‬

‫‪28‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السارد من أجل وصف جمموع األحداث‬


‫زمن احلكي فهو الذي يتح ّكم فيه ّ‬
‫وفق نظام معني‪ ،‬وفيه يتح ّدد مدى مت ّكن املؤلّف فنيا من صقل نصه‬
‫يهتم بكيفية عرض األحداث وتقدميها‬
‫السردي‪ ،‬خاصة وأ ّن املبىن احلكائي ّ‬
‫للقارئ‪ ،‬تبعا للنظام الذي ظهرت به يف العمل الروائي‪.‬‬
‫ّأما تودوروف فقد قسم الزمن إىل قسمني‪ :‬خارجي وداخلي‪ ،‬وقسم‬
‫األزمنة الداخلية بدورها إىل ثالثة أنواع هي‪ :‬زمن القصة‪ ،‬زمن الكتابة‪ ،‬زمن‬
‫القراءة‪.‬‬
‫وكي يضبط تقسيمه هذا‪ ،‬سعى إىل التمييز بني هذه األزمنة الداخلية‪،‬‬
‫«فزمن القصة هو الزمن اخلاص ابلعامل التخيلي‪ ،‬وزمن الكتابة أو السرد‬
‫مرتبط بعملية التلفظ‪ ،‬ا زمن القراءة‪ ،‬أي ذلك الزمن الضروري لقراءة‬
‫النص»(‪ ،)1‬ومن هنا‪ ،‬يتبني أن هذه األزمنة ختتلف فيما بينها‪ ،‬فزمن القصة‬
‫هو الزمن السابق للكتابة‪ ،‬وزمن السرد هو الزمن احلاضر أو زمن التدوين‪،‬‬
‫ويقصد به كذلك املدة الزمنية اليت يتطلبها فعل سرد األحداث‪ ،‬والزمن‬
‫الثالث يتمثّل يف زمن القراءة‪ ،‬وهي املدة اليت يستغرقها القارئ عند قراءته‬
‫الرواية‪.‬‬
‫‪ -1‬حبراوي‪ ،‬حسن‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬ص‪.114 .‬‬

‫‪29‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ّأما األزمنة اخلارجية‪ ،‬فهي‪ ،‬حسب تقسيم تودوروف‪ ،‬ثالثة أيضا‪ ،‬وتتمثل يف‬
‫‹‹زمن الكاتب أي املرحلة الثقافية واألنظمة التمثيلية اليت ينتمي إليها املؤلف‪،‬‬
‫وزمن القارئ وهو املسؤول عن التفسريات اجلديدة اليت تعطى ألعمال‬
‫املاضي‪ ،‬وأخريا الزمن التارخيي ويظهر يف عالقة التخيل ابلواقع»(‪ ،)2‬لعىن أن‬
‫للمؤلف زمنا خاصا به‪ ،‬وللقارئ أو املتلقي زمنا هو اآلخر‪ ،‬وللمرحلة اليت‬
‫جرت فيها أحداث الرواية زمنا‪ ،‬أي اتريخ الرواية‪ ،‬ولكل هذه األزمنة زمن‬
‫واحد تندرج حتته‪ ،‬أال وهو زمن الرواية‪ ،‬حيث يعترب هذا الزمن املكون الرئيسي‬
‫هلا‪.‬‬
‫وإىل جانب هذا التقسيم‪ ،‬اقرتح بوتور تقسيما آخر يقوم على ثالثة‬
‫أزمنة يف مسار اخلطاب الروائي‪ ،‬وهي «زمن املغامرة‪ ،‬وزمن الكتابة وزمن‬
‫القراءة»(‪ ، )1‬ولكل زمن دور يف سري أحداث الرواية‪.‬‬
‫أمام كل هذه التقسيمات الثالثية للزمن‪ ،‬يظهر تقسيم آخر يقوم على الطرح‬
‫الثنائي‪ ،‬اندى به غري واحد من الدارسني الغربيني‪ ،‬فهذا فينريخ مييّز «بني زمن‬
‫احملكي»(‪ ،)2‬أي زمن سرد األحداث داخل الرواية وزمن احملكي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السرد وزمن‬
‫وهو الزمن الذي حيكي فيه السارد روايته‪.‬‬

‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.114 .‬‬


‫‪ -2‬بوتور‪ ،‬ميشال‪ :‬حبوث يف الرواية اجلديدة‪ ،‬تر‪ :‬فريد أنطونيوس‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪ 1982 ،2‬م‪ ،‬ص‪.101 .‬‬
‫‪ -3‬حبراوي‪ ،‬حسن‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬ص‪.114 .‬‬

‫‪30‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وابإلضافة إىل هذا‪ ،‬فإن تودوروف يقرتح تقسيما ثنائيا آخر‪ ،‬يبدو على حنو‬
‫أكثر دقة‪ ،‬مثال يف «زمن القصة وزمن اخلطاب‪ ،‬وفيه تتاح اإلمكانية للكاتب‬
‫يف سوق القصة ويف التصرف يف ترتيب وتنظيم أحداثها حسب ما متليه‬
‫للقصة»(‪ ،)1‬يعّن أن ترتيب الزمن يف القصة خاضع‬
‫الغاايت النفسية واجلمالية ّ‬
‫ملا تقتضيه املقاصد النفسية واجلمالية للكاتب‪.‬‬
‫‪ -1-3‬مستوايت الزمن‪:‬‬
‫أ‪ -‬مستوى الَتتيب الزمين‪:‬‬
‫إ ّن عدم التطابق بني زمن احلكاية وزمن السرد‪ ،‬أو زمن القصة وزمن‬
‫اخلطاب هو ما يولّد مفارقات سردية‪ ،‬جتعل املتلقي يعيش مغامرة القراءة‬
‫اخلارجية والداخلية للزمن حبذر شديد‪.‬‬
‫واملقصود بدراسة النظام الزمّن حلكاية ما هو «مقارنة نظام ترتيب‬
‫األحداث أو املقاطع الزمنية يف اخلطاب السردي بنظام تتابع هذه األحداث‬
‫القصة»(‪ ،)2‬إذ ال يتطابق نظام ترتيب األحداث‬
‫أو املقاطع الزمنية نفسها يف ّ‬
‫يف الزمنيني‪ :‬زمن السرد وزمن احلكاية‪ ،‬بسبب تعدد األبعاد يف زمن احلكاية‪،‬‬
‫الذي يسمح بوقوع أكثر من حدث حكائي يف وقت واحد‪ ،‬يف حني أن زمن‬
‫السرد ال يسمح بوقوع عدد من األحداث يف وقت واحد بل يقتضي االختيار‬
‫والرتتيب‪.‬‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.114 .‬‬
‫‪ -2‬جينيت‪ ،‬جريار‪ :‬خطاب احلكاية‪ ،‬ص‪.47 .‬‬
‫‪31‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وابلتايل‪ ،‬فقد أصبح إبمكان الراوي أن يتابع تسلسل األحداث طبقا لرتتيبها‬
‫يف احلكاية‪ ،‬ا يتوقف راجعا إىل املاضي‪ ،‬ليذكر أحدااث سابقة للحظة اليت‬
‫بلغها يف سرده‪.‬‬
‫مهمة الكاتب يف القصة تقوم على تنظيم األحداث طبيعيا يف‬
‫وهذا يعّن أن ّ‬
‫اخلطاب السردي‪ ،‬حماوال احلفاظ على ترتيبها وتسلسلها املوجود يف واقع‬
‫القصة‪ ،‬لكن مثل هذا األمر ال يتأتى يف كل احلاالت‪ ،‬إذ يفرض املقام على‬
‫التقدمي والتأخري يف األحداث‪ ،‬وتقدميها تباعا‪ ،‬بعد أن كانت جتري يف وقت‬
‫واحد يف القصة‪ ،‬فيحدث تذبذاب يف ترتيب األحداث وخلخلة يف وترية الزمن‪،‬‬
‫القصة»(‪،)1‬‬
‫وهذا ما يسمى ابملفارقة الزمنية‪ ،‬أي «مفارقة زمن السرد مع زمن ّ‬
‫فالتالعب ابلنظام الزمّن الذي يتبناه الكاتب له غاايت فنية ومجالية‪ ،‬حيث‬
‫ميكن أن «منيز فيه بداهة بني نوعني رئيسيني‪ :‬االسرتجاعات أو العودة إىل‬
‫الوراء واالستقباالت أو االستباقات»(‪ ،)2‬حيث يتجه النوع األول من الزمن‬
‫احلاضر إىل الوراء أي ماضي األحداث‪ ،‬أما النوع الثاين فيتجه من حاضر‬
‫الرواية لكن اجتاهه يكون إىل املستقبل وهذا ما يسمى استباقا‪ .‬إذن فالنظام‬
‫عبارة عن ترتيب أحداث إما إىل األمام (استباقا)‪ ،‬وإما إىل الوراء (اسرتجاعا)‬
‫أو أن يتنبأ هبا فتكون (استشرافا)‪.‬‬
‫‪ -1‬حلميداين‪ ،‬محيد‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص‪.73 .‬‬
‫‪ -2‬تودروف‪ ،‬تزفيطان‪ :‬الشعرية‪ ،‬ص‪.48 .‬‬

‫‪32‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬االسَتجاع*‪:‬‬
‫االسرتجاع من أبرز التقنيات اليت استفادت منها الرواية‪ ،‬حيث استطاعت من‬
‫خالله أن تتالعب ابلزمن وحترره من خطيته اخلانقة‪ ،‬واالسرتجاع هو ذاكرة‬
‫النص وشكل من أشكال الرجوع إىل املاضي‪.‬‬
‫تطور توظيف االسرتجاع بتطور الفنون السردية‪ ،‬إىل أن أصبح من‬
‫خصوصيات األعمال الروائية احلديثة‪ ،‬حىت حيقق املأربني الفّن واجلمايل على‬
‫السواء‪ ،‬فهو يسهم يف سد الثغرات‪ ،‬ويساعد على فهم مسار األحداث‬
‫وتفسري داللتها‪ ،‬و«يرتك الراوي مستوى القص ويعود إىل بعض األحداث‬
‫املاضية‪ ،‬ويرويها يف حلظة الحقة حلدوثها»(‪ ،)1‬أي أنه يتوقف عن متابعة‬
‫السرد يف حاضره ليعود إىل الوراء مسرتجعا أحدااث‪ ،‬ا يعود من جديد إىل‬
‫األحداث الواقعة يف حاضر السرد إلمتام مسارها السردي‪.‬‬
‫*‪ -‬هلذه التقنية(‪ )Analépse‬مصطلحات عديدة‪ ،‬حيث هناك من يفضل تسميتها «اللواحق»‪ ،‬وهناك من‬
‫آثر مصطلح «االستذكار»‪ ،‬كما فعل حسن البحراوي‪ ،‬يف حني ترمجته سيزا قاسم إىل «االسرتجاع»‪ ،‬أما‬
‫سعيد يقطني‪ ،‬فيفضل تسميته«اإلرجاع»‪ ،‬ولكن رغم تعدد هذه الرتمجات واختالفها إال أن مفهومها واحد‬
‫يف الغالب‪ ،‬والبحث سيعتمد األكثر تداوال وهو االسرتجاع‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪ -‬عباس‪ ،‬إبراهيم‪ :‬تقنيات البنية السردية يف الرواية املغاربية (دراسة يف بنية الشكل)‪ ،‬املؤسسة الوطنية‬
‫لالتصال والنشر واإلشهار‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬دط‪ 2002 ،‬م‪ ،‬ص‪.105 .‬‬
‫‪ -‬حبراوي‪ ،‬حسن‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬ص‪.119 .‬‬
‫‪ -‬قاسم‪ ،‬سيزا‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص‪.58 .‬‬
‫‪ -‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي‪ ،‬ص‪.77 .‬‬
‫‪ -1‬قاسم‪ ،‬سيزا‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص‪.58 .‬‬

‫‪33‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫و يف السياق نفسه‪ ،‬يؤكد جريار جينيت أ ّن االسرتجاع هو «كل ذكر الحق‬


‫القصة»(‪ ،)1‬وهذا معناه اسرتجاع‬
‫حلدث سابق للنقطة اليت حنن فيها من ّ‬
‫موقف أو أحداث سبق وقوعها يف احلدث احملكي‪ ،‬أي أنه يذكر حدث سبق‬
‫وقوعه داخل أحداث الرواية‪ ،‬وابلتايل تصبح «كل عودة للماضي تشكل‬
‫ابلنسبة للسرد استذكار يقوم به ملاضيه اخلاص‪ ،‬وحييلنا من خالله على‬
‫القصة»(‪.)2‬‬
‫أحداث سابقة عن النقطة اليت وصلتها ّ‬
‫كما حدد جريار جينيت ثالثة أنواع من االسرتجاعات هي‪:‬‬
‫‹‹ االسرتجاعات اخلارجية‬
‫االسرتجاعات الداخلية املختلطة»(‪.)3‬‬
‫وهذه االسرتجاعات أبنواعها الثالثة ذات وظائف بنيوية متعددة ختدم السرد‬
‫وتسهم يف منو أحداثه وتطورها‪ ،‬مثل «ملء الفجوات اليت خيلفها السرد وراءه‪،‬‬
‫سواء إبعطائنا معلومات حول سوابق شخصية جديدة‪ ،‬دخلت عامل ابطالعنا‬
‫على حاضر شخصية اختفت على مسرح األحداث ا عادت للظهور من‬
‫جديد»(‪.)4‬‬
‫‪ -1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.51 .‬‬
‫‪ -2‬حبراوي‪ ،‬حسن‪ :‬بنية الشكل الروائي ( الفضاء‪ ،‬زمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬ص‪.121 .‬‬
‫‪ -3‬الفيصل‪ ،‬مسر روحي‪ :‬الرواية العربية (البناء و الرؤاي)‪ ،‬مقارابت نقدية‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫دط‪ 2003 ،‬م‪ ،‬ص‪.121 .‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.121 .‬‬

‫‪34‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفصل األول‬
‫آليات اشتغال الرؤية والزمن‬
‫يف اخلطاب السردي لرسالة‬
‫الغفران‬

‫‪35‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1‬الرؤية السردية يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫‪ -1-1‬الرؤية «مع»‪:‬‬
‫عند اس تقراء تقني ات الس رد يف خط اب رس الة الغف ران يتض ح أن الس ارد‬
‫ينتقل إىل العامل العلوي وهو عامل خبري بكل تفاصيل أحداث مسروده وعل يم‬
‫بدواخل شخص ياته‪ ،‬ف ريى مج يعهم داخ ل قص ورهم وخارجه ا‪ ،‬ه ذا م ا جيع ل‬
‫القص ة أ ّن نظ ام الس رد خيض ع لتقني ة «الرؤي ة‬
‫تهل ّ‬‫الق ارئ يس تنتج يف مس ّ‬
‫ألّن ا تت يح ل ه معرف ة ك ل ش يء‪ ،‬ه ذا م ا جيع ل من ط الس رد موض وعيا‬
‫م ع »‪ّ ،‬‬
‫بدءا من اللحظات األوىل من ارتقاء ابن القارح إىل عرصات اجلنّة وذلك يف‬
‫قول ه‪« :‬فق د غ رس مل والي الش يخ اجللي ل ‪ ،)1(» ...‬فض مري امل تكلّم يف لف ظ‬
‫أي أ ّن‬
‫«م والي» ينب ن ع ن الس ارد احلقيق ي إذ ه و نفس ه املؤلّ ف الض مّن ّ‬
‫«الضمري «أان» ال ذي يظه ر يف مق ّدم ة الرس الة‪-‬ال ّرّد ل يس إالّ«أان» املؤلّف‪،‬‬
‫القص ة‪ ،‬يتم ازج م ع‬
‫ص احب الرس الة‪-‬ال ّرّد ه ذه‪ ،‬ف إ ّن أان‪/‬الس ارد‪ ،‬يف ّ‬
‫أان‪/‬املؤلّ ف كات ب الرس الة‪-‬ال ّرّد»(‪ ،)2‬إ ّن من ط الس رد ال ذي اعتم ده الس ارد‬
‫املهيمن بتقدميه يف خطاب الغفران هو «من نوع السرد املتساوق‪ ،‬أي السرد‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬


‫‪ّ -1‬‬
‫وحي بن يقظان‪ ،‬مكتبة الشركة اجلزائرية‬
‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -2‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬
‫بوداود‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪ .‬ص‪.46 .‬‬

‫‪36‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فثمة ما يوهم القارئ آبنية األحداث‬


‫الذي يتطابق فيه احلكاية مع اخلطاب‪ّ ،‬‬
‫دل عل ى ذل ك‬
‫اليت تقع البن الق ارح يف رحلت ه األخروي ة إىل الع امل اآلخ ر‪ ،‬وي ّ‬
‫استخدام الفعل املضارع يف السرد املتعلّق ببطل السرد اب ن الق ارح‪ ،‬فكث ريا م ا‬
‫يقول السارد‪ :‬فيقول الشيخ‪ ،‬فينظر الشيخ‪ ،‬وينصرف موالي الشيخ اجللي ل‪،‬‬
‫نزهة‪)1(.»...‬‬ ‫وميضي يف‬

‫تويل عملية السرد كائن‬


‫اّ خيتفي هذا «السارد‪/‬أان» ليوهم القارئ عن ّ‬
‫غائب عن احلكاية اليت يسردها‪ ،‬ذلك أ ّن السارد الغائب ميارس «وجودا‬
‫السردي‪ .‬فهو ال يستخدم الكالم للتواصل مع‬ ‫ّ‬ ‫متميّزا يف اخلطاب‬
‫شخصيات اجلنّة بل ليح ّدثنا عنها وعن مغامراهتا املاضية وجتربتها احلاضرة‪.‬‬
‫ينفك‬
‫إالّ أ ّن املتلقي ال ّ‬ ‫مطلقا»( ‪)2‬‬ ‫وهو غائب عن مسرح األحداث غيااب‬
‫حيرك األحداث قدما إىل املستقبل‪،‬‬
‫أن يسمع صوته يف الوقت ذاته خفيا ّ‬
‫فهو «ال يستعمل ضمري املتكلّم أبدا‪ ،‬وال يتحاور مع الشخصيات أبدا وال‬
‫يقوم ابحلدث أبدا»(‪ ،)3‬وهذا ما جيعل املتلقي‪ ،‬كذلك‪ ،‬يص ّدق غياب‬
‫املؤلف الضمّن غيااب كلّيا‪ ،‬وإن شاء أن يفعل خالف ذلك‪ ،‬فهو يبحث‬
‫تدل على أ ّن له كياان‬
‫عبثا يف خطاب الغفران عن وجود «قرينة واحدة ّ‬

‫‪ -1‬واتر‪ ،‬حممد رايض‪ :‬أطراف اخلطاب السردي يف رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.227-226 .‬‬
‫‪ -2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪39 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪.39 ،‬‬

‫‪37‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫االجتماعي‪ .‬إنّه كائن‬


‫ّ‬ ‫فسي واالنتماء‬
‫جمرٌد من العنصر النّ ّ‬
‫شخصانيا‪ ،‬أي أنّه ّ‬
‫حيتل من األحداث موقعا خارجيّا‪ ،‬يق ّدم األفعال ويعرض‬
‫خالص ّ‬
‫ٌ‬ ‫أديب‬
‫ّ‬
‫األحوال وينقل األقوال دون أن يكون طرفا فيها أو معنيّا هبا بصورة‬
‫اللهم إالّ إذا استثىن هذا املتل ّقي عبارات األدعية اليت ختلّلت‬
‫مباشرة»‪ّ )1(.‬‬
‫يفسر هذه‬
‫يؤجل إىل حني‪ّ ،‬‬ ‫خط سري العملية السردية‪ ،‬ويف هذا حديث ّ‬
‫حمل نقا‬
‫الظاهرة العالئية‪ ،‬وهي متعلّقة بقضية االستطرادات اليت كانت ّ‬
‫السردي يف رسالة الغفران‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كبري بني الن ّقاد وال ّدارسني املهتمني ابخلطاب‬

‫ابلقوة غائب ابلفع ل –إن ج از تعب ري‬


‫الضمّن‪ ،‬إذن‪ ،‬حاضر ّ‬
‫ّ‬ ‫فالسارد‪/‬املؤلّف‬
‫املناطق ة‪ ،-‬فه و يرص د حرك ة بط ل الغف ران دون أن حي اوره أو يس توقفه‪،‬‬
‫احلري ة يف التن ّق ل أ ّ ش اء يف اجلن ان‪ ،‬دون أن‬
‫فالظ اهر للمتلق ّي أنّ ه ت رك ل ه ّ‬
‫حترك ه‪ ،‬إالّ أنّ ه يف حقيق ة األم ر «ق د تتبّ ع الس ارد‬
‫يش عر ابلق ّوة اخلفيّ ة ال يت ّ‬
‫امله يمن أي املؤلّ ف الض مّن اب ن الق ارح يف رحلت ه إىل الع امل اآلخ ر‪ ،‬وانتق ل‬
‫مع ه م ن مك ان إىل آخ ر‪ ،‬ورص د ك ّل حرك ة م ن حركات ه‪ ،‬وك ان مع ه يف ك ّل‬
‫خط وة‪ ،‬مؤّك دا ب ذلك انتم اءه إىل ن وع السارد‪/‬الش اهد‪ ،‬أي الس ارد ال ذي ال‬
‫األحداث»‪)2(.‬‬ ‫القصة‪ ،‬ولكنّه شاهد على‬
‫يكون من شخصيات ّ‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪.39 ،‬‬


‫‪ -2‬واتر‪ ،‬حممد رايض‪ :‬أطراف اخلطاب السردي يف رسالة الغفران‪ ،‬الرتاث العريب‪ ،‬جملة تصدر عن‬
‫احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوراي‪ ،‬العددان ‪ ،126/125‬ربيع وصيف ‪ ،2012‬ص‪.226 .‬‬

‫‪38‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫موحدا سلكه على املستوى‬ ‫الضمّن لنفسه منهجا ّ‬ ‫ّ‬ ‫اختذ السارد‪/‬املؤلّف‬
‫السردي يف تطواف الشخصية البطلة بني اجلنّة واجلحيم‪ ،‬ابستثناء ما ورد يف‬
‫ّ‬
‫املتضمنة موقف احملشر‪ّ ،‬أما ما تبّقى من الوحدات‬
‫ّ‬ ‫الوحدة السردية الكربى‬
‫السردية الكربى فإ ّن السارد «قد التزم [‪ ]...‬ابتباع ابن القارح وابلنظر إىل‬
‫كي يف الرحلة‬
‫التدرج احلر ّ‬
‫األشياء من خالل ابن القارح نفسه‪ ،‬ف روعي بذلك ّ‬
‫مراعاة كبرية»‪)1(.‬‬
‫وإ ّن الشواهد لكثرية يف خطاب الغفران اليت تدعم هذا القول‪ ،‬إذ يبدو‬
‫تدرج دون سبق لألحداث إالّ ما‬
‫السارد متأنيّا يف عرض املقاطع السردية يف ّ‬
‫عدي بني اجلنان‪،‬‬
‫جاء اندرا‪ ،‬ومثال ذلك ما ورد يف نزهة ابن القارح مع ّ‬
‫فإذا هبما يلمحان شخصية تظهر عرضا يف املشهد‪ ،‬فيقول السارد‪:‬‬
‫عدي بن زيد العبادي(‪ )2‬فإذا‬
‫«وينصرف موالي الشيخ اجلليل وصاحبه ّ‬
‫مها برجل حيتلب انقة يف إانء من ذهب‪ ،‬فيقوالن من الرجل؟ فيقول‪ :‬أبو‬
‫املهمة البن القارح وصاحبه لبادرة‬
‫اهلذيل‪ ،)3(»...‬فالسارد يرتك ّ‬
‫ذؤيب ّ‬

‫‪ -1‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.70 .‬‬

‫جاهلي نصراينّ‪ ،‬من بّن زيد مناة بن متيم‪ ،‬كان يسكن احلرية‪ .‬ينظر‪ :‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬شاعر‬
‫هامش ص‪.146 .‬‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.199 .‬‬


‫‪ّ -3‬‬

‫‪39‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أيب ذئيب ابلسؤال عن هويته‪ ،‬ابعتباره شخصية طارئة مل تظهر يف صلب‬


‫مر‬
‫السردي من قبل‪ ،‬وكذلك يف قوله‪« :‬فبينما هم كذلك‪ ،‬إذ ّ‬
‫اخلطاب ّ‬
‫شاب يف يده حمجن ايقوت(‪ ،)1‬ملكه ابحلكم املوقوت‪ .‬فيسلّم عليهم‬
‫ّ‬
‫فيقولون‪ :‬من أنت؟ فيقول‪ :‬أان لبيد بن ربيعة بن كالب‪ : ،)2(»...‬وكذلك‬
‫يف قوله‪« :‬فيهتف هاتف‪ :‬أتشعر أيّها العبد املغفور له ملن هذا الشعر؟‬
‫فيقول الشيخ‪ :‬نعم‪ ،‬ح ّدثنا أهل ثقتنا‪)3(»...‬‬

‫ويف هذا‪ ،‬يتأ ّكد «حرص الراوي على عدم سبق األحداث‪ ،‬يف الكشف‬
‫التصرفات‬
‫عن شخصية هذا الرجل‪ ،‬يف حني أ ّن التفاسري اليت أوردها لبعض ّ‬
‫تبني أنّه قادر على ذلك‪ ،‬بل أنّه قد سبق األحداث يف بعض‬ ‫يف اجلنّة‪ّ ،‬‬
‫حسان بن اثبت فيقول‪ :‬أهال اي‬
‫مير ّ‬
‫األحيان»(‪ ،)4‬ومثال ذلك يف قوله‪« :‬و ّ‬
‫عرف ابلشخصية تزامنا‬ ‫الضمّن قد ّ‬
‫ّ‬ ‫أاب عبد الرمحان»(‪ ،)5‬فالسارد‪/‬املؤلّف‬
‫مع ظهورها يف املنت السردي‪ ،‬إذ مل مل أيت على ذكرها يف ما سبق‪ ،‬وكأ ّن‬

‫‪ -1‬احملجن واحملجنة‪ :‬العصا املنعطفة الرأس‪ ،‬ويقال‪ :‬حجن العود‪ ،‬عطفه‪ .‬ينظر‪ :‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪،‬‬
‫هامش ص‪.215 .‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.215 .‬‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫‪ -3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.176 .‬‬
‫‪ -4‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.71-70 .‬‬
‫املعري‪ :‬الغفران‪ ،‬ص‪.234 .‬‬
‫‪ّ -5‬‬

‫‪40‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫بطل الغفران قد اهتدى إىل معرفة امسها من خالل مالحمها ال ّدالة عليها‪.‬‬
‫التعجل يف التعريف ابلشخصيات مل أيت إالّ اندرا‪ ،‬فاألصل أن‬
‫إالّ أ ّن هذا ّ‬
‫«يتب ّدى حضور السارد من خالل تقدمي الشخصيات اليت التقى هبا ابن‬
‫اآلخر»‪)1(.‬‬ ‫القارح يف رحلته إىل العامل‬
‫يتوهم أ ّن يدا‬
‫الضمّن جعل املتلقي ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا احلضور واخلفاء للسارد‪/‬املؤلّف‬
‫خفيّة حترك املقاطع السرديّة يف االجتاه الذي تريده دون عناء‪ ،‬وذلك لسببني‬
‫مها‪:‬‬
‫السردي‪ ،‬إذ يتن ّقل فيه بطل‬
‫ّ‬ ‫• انفتاح الرحلة األخروية‪ ،‬وفساحة الفضاء‬
‫الغفران على غري منهج كما أعلن ذلك السارد‪.‬‬
‫• دافع السخرية من بطل الغفران‪ ،‬إذ جعله السارد حلوحا فضوليا‪ ،‬يسأل‬
‫عن أمور ال يدرك عواقبها‪.‬‬
‫حىت على‬‫هذا ما جعل «السارد املهيمن أكرب من الشخصيات مطّلعا ّ‬
‫كل شيء عن بطل السرد ابن القارح‪ ،‬وكذلك عن‬ ‫دخائلها‪ ،‬فهو يعرف ّ‬
‫الشخصيات اليت ظهرت يف السرد‪ .‬إنّه سارد كلّي املعرفة‪ ،‬يف حني بدا ابن‬
‫القارح حمدود املعرفة‪ ،‬وأصغر من الشخصيات يف كثري من األحيان»‪)2(.‬‬

‫‪ -1‬واتر‪ ،‬حممد رايض‪ :‬أطراف اخلطاب السردي يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.225 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪،‬ص‪227 .‬‬

‫‪41‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إ ّن هيمنة السارد على الشخصيات أمكنته م ن الوق وف خ ارج احلك ي‪ ،‬ه ذا‬
‫ما أفضى بكثري من املشتغلني على اخلطاب السردي للغف ران بتص نيف زاوي ة‬
‫الرؤي ة ال يت اخت ذها الس ارد موقع ا ل ه يف ج ّل الوح دات الس ردية الك ربى ه ي‬
‫«الرؤي ة م ع»‪ ،‬وه ذا م ا جيعل ه «ل يس اثبت ا‪ ،‬وإّمن ا ه و متح ّول فه و‬
‫[التبئري‪/‬الرؤي ة] يف اجل زء م ن أح داث الرحل ة ال ذي يتك ّف ل ب ه الس ارد خ ارج‬
‫ارجي كون ه يبئّ ر م ن خ ارج أح داث‬
‫احلك ي ال‪-‬متماث ل احلك ي تبئ ري خ ّ‬
‫الرحلة»‪)1(.‬‬

‫الضمّن عن‬
‫ّ‬ ‫هذا‪ ،‬دون إغفال الوحدة السردية اليت ختلّى فيها السارد‪/‬املؤلّف‬
‫مهم ة الس رد لشخص يته البطل ة يف موق ف احملش ر –كم ا أش ار البح ث إىل‬
‫ّ‬
‫ذل ك آنف ا‪ ،-‬فالس ارد –ماع دا ه ذه الوح دة‪ -‬فه و«عل يم بك ّل ش يء حي يط‬
‫عنه»‪)2(.‬‬ ‫يعربوا‬
‫قصته‪ ،‬ويعلم ما يدور يف خواطرهم قبل أن ّ‬
‫بشخصيات ّ‬
‫يرتتّب على هذه الزاوية من الرؤية (أي الرؤية م ع) مت اهي املؤلّف الض مّن يف‬
‫الس ارد‪ ،‬فه و ال يك اد يس مع ص وته وال ي ديل برأي ه –بطريق ة مباش رة عل ى‬
‫السماع‪ ،‬اّ نقل ما‬
‫عامة‪ ،‬يف «املشاهدة و ّ‬
‫فيتلخص دوره‪ ،‬بصفة ّ‬
‫األقل‪ّ ،-‬‬
‫ّ‬
‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص‪.56 .‬‬‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -1‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف رسالة‬
‫‪ -2‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.90 .‬‬

‫‪42‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مّن للخط اب‪ ،‬وه و م ا ميك ن أن جني ب ب ه‬


‫يش اهد ويس مع إىل املتلق ي الض ّ‬
‫مّن ض من فض اء‬
‫على السؤال املتعلّ ق بفت ور حض ور أان‪/‬الس ارد‪ /‬املؤلّف الض ّ‬
‫الس رد يف رحل ة الغف ران ال ذي ي رد إىل غ رض ص احبها يف إعط اء م ا تتض منّه‬
‫ال‪-‬ذاتيا»‪)1(.‬‬ ‫متنوعة طابعا‬
‫عن موضوعات ّ‬
‫‪ -2-1‬الرؤية «من اخللف»‪:‬‬

‫وردت الوح دات الس رديّة متعاقب ة‪ ،‬وف ق ترتي ب ارآته مؤل ف الغف ران مناس با‬
‫لرحل ة بطل ه‪ ،‬وال ي راد مناقش ة ه ذا الرتتي ب وعل ة جميئ ه هب ذه اهليئ ة يف ه ذا‬
‫املقام‪ ،‬بل سريجئه البحث إىل حمطّة الحقة من أقسام ه ذا الفص ل‪ ،‬وه و م ا‬
‫يتعلّ ق ابملفارق ات الزمني ة يف اخلط اب الس ردي للغف ران‪ ،‬ولك ن املالح ظ أ ّن‬
‫السارد استثىن وحدة سردية دون غريها من الوح دات الس ردية ليس ند مهمت ه‬
‫بقص حكايت ه‪ ،‬ال يت أعل ن فيه ا مباش رة ابم تالك زم ام‬
‫لبطل الغفران‪ ،‬ويكلّفه ّ‬
‫ص يت‪ :‬مل ا ّنض ت م ن‬‫ّ‬ ‫ص علي ك ق‬
‫ّ‬ ‫الس رد وذل ك بقول ه حمل اوره‪« :‬أان أق‬
‫ّ‬
‫ال شرمي»(‪ ،)2‬وك ي تتض ح الرؤي ة هل ذا التحلي ل‪ ،‬ال ض ري م ن إدراج تعاق ب‬
‫الوحدات السردية املدرجة يف خطاب الرحلة العالئية‪ ،‬وهي كالتايل‪:‬‬
‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص‪.58 .‬‬
‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -1‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬
‫‪ - 2‬املرجع رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.248 .‬‬

‫‪43‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1‬املع راج‪« :‬ولعلّ ه س بحانه ق د نص ب لس طورها [رس الة اب ن الق ارح]‬


‫الفض ة أو ال ذهب‪ ،‬تع رج هب ا املالئك ة م ن‬
‫املنجي ة م ن اللّه ب‪ ،‬مع اريج م ن ّ‬
‫السماء»‪)1(.‬‬ ‫األرض الراكدة إىل‬

‫‪ - 2‬النّزه ة يف اجلنّ ة‪« :‬وخيط ر ل ه ح ديث ش يء ك ان يس ّمى النّزه ة يف ال دار‬


‫الفانية»‪)2(.‬‬

‫الشرمي»‪)3(.‬‬ ‫قصيت‪ :‬ملا ّنضت من‬ ‫ّ‬ ‫أقص عليك‬


‫ّ‬ ‫‪ - 3‬الوقوف يف احملشر‪« :‬أان‬
‫ّ‬
‫‪ - 4‬االطّالع عل ى اجلح يم‪« :‬ويب دو ل ه أن يطّل ع إىل أه ل الن ار فينظ ر م ا‬
‫النّعم»‪)4(.‬‬ ‫هم فيه ليعظم شكره على‬
‫‪ - 5‬الع ودة إىل اجلنّ ة‪« :‬ف إذا رأى قلّ ة الفوائ د ل ديهم‪ ،‬ت ركهم [أه ل اجلح يم]‬
‫اجلنان»‪)5(.‬‬ ‫يف الشقاء السرمد وعمد حمللّه يف‬
‫يالحظ من خالل تعاقب الوحدات السردية الك ربى للغف ران أن موق ف اب ن‬
‫توس ط الرحل ة‪ ،‬إذ يش ّكل ب ؤرة اخلط اب الس ردي‬
‫الق ارح يف احملش ر ق د ّ‬
‫ككل‪ ،‬اّ‪ ،‬أال‬
‫للغفران‪ ،‬وكأ ّن املؤلّف كان يريد إخفاءها بني ثنااي الرحلة ّ‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.140 .‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.175 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.248 .‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.289 .‬‬
‫‪ -5‬املرجع‪ ،‬نفسه ‪ ،‬ص‪.360 .‬‬

‫‪44‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يالحظ أ ّن املوقف يتلوه اطّالع الشخصية البطلة على اجلحيم؟‬


‫يف هذا إماءة خفية من املؤلّف الضمّن م ن أ ّن اب ن الق ارح غ دا يت أرجح ب ني‬
‫متوجس ا ق د‬
‫األول يظه ر في ه بط ل الغف ران خائف ا ّ‬
‫م وقفني متناقض ني متام ا ف ّ‬
‫أغرقه العرق من هول احلش ر ومغبّ ة احلس اب‪ ،‬يرج و النج اة م ن اجلح يم أبي‬
‫ك التوب ة م ن ذنوب ه الكث رية‪ ،‬و ّأم ا الث اين‬
‫وخاص ة مل ا أض اع ص ّ‬
‫ّ‬ ‫طريق ة كان ت‪،‬‬
‫فب دا متش ّفيا ش امتا م ن س ّكان اجلح يم‪ ،‬يس تعرض عل يهم ملكت ه الفائق ة يف‬
‫حفظ األشعار وقدرته على استحضارها‪.‬‬
‫تهل الس ارد الفرع ي (اب ن الق ارح) قص ته يف موق ف احلش ر بقول ه‪« :‬أان‬
‫اس ّ‬
‫قصيت»(‪ ،)1‬اّ تتابعت أفعال السرد يف زم ن املاض ي كلّه ا‪ ،‬فه و‬
‫أقص عليك ّ‬
‫ّ‬
‫يستحضر مواقف قد انقضت وأصبحت حمفوظة يف ذاكرته ال يت ال تض عف‪،‬‬
‫ويس تعني يف ه ذا كلّ ه ابلتواص ل اللفظ ي‪ ،‬فل ه احلري ة الكامل ة –يف نظ ر‬
‫دخل م ن الس ارد األص لي‬
‫املتل ّق ي‪ -‬يف انتق اء امللفوظ ات ال يت يش اء‪ ،‬دومن ا ت ّ‬
‫مّن)‪ ،‬فه و‪ ،‬إذن‪ ،‬يف وض عية الس ارد ال ذي «يواج ه يف س رده‬
‫(املؤلّ ف الض ّ‬
‫لقص ته زمنيت ني‪ :‬زمنني ة معاش ة‪ ،‬وزمني ة أخ رى يص نعها ال تل ّفظ‪ .‬إذا كان ت‬
‫ّ‬
‫ضيُّها قد أودعها الذاكرة‪،‬‬
‫الزمنية الوقائعية (أو املعاشة) ماضية‪ ،‬وإذا كان م ّ‬

‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.248 .‬‬


‫املعر ّ‬
‫‪ّ -1‬‬

‫‪45‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ف إ ّن الزمني ة التلفظّيّ ة حاض رة‪ ،‬أي حال ة ص نع‪ .‬والعالق ة ب ني ال زمنيتني‬


‫تكاملي ة‪ :‬فاألح داث املاض ية –ل رتوى‪ -‬تقتض ي إخراجه ا م ن املاض ي‬
‫ري‪ .‬ويص عب حتدي د الط ابع‬
‫إي داعها مس تقبال موهوم ا بواس طة العم ل الت ذ ّك ّ‬
‫املستقبلي للوقائع يف الذكرى ال يظه ر إالّ‬
‫ّ‬ ‫التكاملي هلذه العالقة أل ّن الوجود‬
‫ّ‬
‫يف احلاض ر التلفط ّي‪ .‬ولك ن التص ّرف يف زمني ة الوق ائع‪ ،‬ع ن طري ق احلي اد‬
‫واإلطن اب وااللتف ات (وه ذا التص ّرف ين تج ع ن ترتي ب الوق ائع يف مس احة‬
‫اخلطيّة»‪)1(.‬‬ ‫التل ّفظ‬
‫املي للعالق ة املوج ودة ب ني الزمني ة املاض ية‬
‫إ ّن ص عوبة حتدي د الط ابع التك ّ‬
‫لي يف خطّي ة الس رد‪ ،‬فه و‬
‫رس خها الس ارد األص ّ‬
‫والزمني ة ال يت يص نعها ال تل ّفظ ّ‬
‫وحيرك ه كدمي ة يش ّد حباهل ا‬
‫ي ت ّكلم م ن خ الل الس ارد الفرع ّي‪/‬ابن الق ارح‪ّ ،‬‬
‫خلف ستار‪ ،‬وعني القارئ ال تربح هذه املشاهد الكرنفالية اليت يس ردها اب ن‬
‫القارح بلسانه‪ ،‬فهذه الثنائي ة‪( :‬زم ن الوق ائع ‪/‬زم ن ال تل ّفظ) حتم ل ب ني طيّاهت ا‬
‫مس افة زمنيّ ة كش فت «الف روق اجلوهري ة ب ني اب ن الق ارح الشخص ية واب ن‬
‫الق ارح ال راوي‪ .‬فهن اك عام ل مه قم أثّ ر يف ص ورة اب ن الق ارح ال ّراوي ه و‬
‫مطمئن‪ ،‬م ّنع ٌم‪ ،‬ر ٍ‬
‫اض‪ .‬وق د أاتح ت‬ ‫ّ‬ ‫القص يف اجلنّة‪ :‬مغفور له‬
‫وجوده‪ ،‬حلظة ّ‬
‫له هذه األرحييّة النّفسيّة أن يعيد صياغة مغامرته احملشريّة من منظور‬

‫‪ -1‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.75-74 .‬‬

‫‪46‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابلش رح والتّفس ري والتّأوي ل‬


‫ص أن يو ّش ح كالم ه ّ‬
‫جدي د خ ّول ل ه حلظ ة الق ّ‬
‫عيوبه»‪)1(.‬‬ ‫حيمل نفسه مؤونة إخفاء‬
‫واحلكم دون أن ّ‬
‫لي بط ل الرحل ة‪ ،‬م ن خ الل تقني ة «الرؤي ة م ن اخلل ف»‪،‬‬
‫أظه ر الس ارد األص ّ‬
‫متعامل ا منافق ا مس تهرتا يف الوح دات الس ردية ال يت كان ت اجلنّ ة واجلح يم‬
‫مهمة السرد البن القارح وغ دا‬
‫مسرحا هلا تلميحا ال تصرحيا‪ ،‬ولكن ملا آلت ّ‬
‫ارد مض ادق‪ ،‬ألنّ ه‬
‫س اردا فرعيّ ا جعل ه يكش ف ع ن س وء طويّت ه‪ ،‬فه و «س ٌ‬
‫تفوق ه وطرافت ه‪ ،‬أألنش ه‪ ،‬فع ال‪،‬‬
‫ينفض ح عيب ه ابخلط اب ال ذي يس ّخره لرس م ّ‬
‫ي‪ -‬فرض ت‬
‫متهافت أم أل ّن هناك إرادة خفيّةٌ –هي إرادة املع ّر ّ‬
‫ٌ‬ ‫غيب‪،‬‬
‫ساذج‪ ،‬ق‬
‫ٌ‬
‫نفسه؟»‪)2(.‬‬ ‫القص‪ ،‬أن يكون هو وغريه يف اآلن‬
‫عليه‪ ،‬حلظة ّ‬
‫مل خيط ن أح ٌد م ن املش تغلني عل ى خط اب الغف ران م ن النّ ّق اد‪ ،‬وغ ريهم م ن‬
‫ي املوارب ة‪ ،‬ب ل هن اك م ن ي رى‬
‫املهتم ني ب ه م ن الق ّراء‪ ،‬يف معرف ة مقاص د املع ّر ّ‬
‫ي إزاء‬
‫ألّنم ا كلتيهم ا‪ ،‬يف خدم ة املع ّر ّ‬
‫أن ال فرق عنده «بني االس رتاتيجيتني ّ‬
‫ريي ض مري الغيب ة‪ ،‬والس رد‬
‫لي الغ ّ‬
‫داعي‪ .‬أن يس تخدم ال ّراوي األص ّ‬
‫عمل ه اإلب ّ‬
‫ارجي‪ ...‬وأن يس تعمل ال ّراوي الفرع ّي ال ذايتّ‬
‫احلاض ر املتواق ت واملوق ع اخل ّ‬
‫اخلي مل يغ ّري ش يئا م ن‬
‫دي واملوق ع ال ّد ّ‬
‫ض مري امل تكلّم والس رد املاض ي البع ّ‬
‫الراوي»‪)2(.‬‬
‫حاضر حيثما وجد ّ‬
‫ٌ‬ ‫ي‬
‫فاملعر ّ‬
‫مجالية األثر كلّه‪ّ .‬‬
‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬وبن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.42 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.43 .‬‬

‫‪47‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫متحمال املسؤولية اليت‬


‫وهكذا يستمر ابن القارح يف رحلته اخليالية هذه ّ‬
‫هرب منها املعري يف اجلمع بني قدسية املكان وطرافة املواقف واألحداث‪،‬‬
‫املعري يف استحضار‬ ‫«فقد نشأت عن حرية ابن القارح يف اجلنّة حرية ّ‬
‫متقمصا هيئات الشخصيات‪ .‬معىن هذا أ ّن حلرية البطل‬ ‫الرتاث الفكري ّ‬
‫يقصها وفق‬
‫ففوض لسارده أن ّ‬ ‫حدودا جيهلها البطل لكن الكاتب يعرفها ّ‬
‫الثقافيّة»‪)1(.‬‬ ‫ّنج (التتابع) يتالءم مع أسلوبه يف مساءلة الذاكرة‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.18 .‬‬

‫‪48‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2‬رسالة الغفران ومقولة اجلنس األديب‪:‬‬


‫حظي ت إش كالية حتدي د اجل نس األديب لرس الة الغف ران اهتمام ا ابلغ ا م ن‬
‫قب ل الدارس ني الع رب ح ديثا‪ ،‬وم ا ميك ن مالحظت ه ح ول ه ذه الدارس ات ّأّن ا‬
‫تباينت يف نتائجها لتع ّدد الزوااي النقدية املنظور من خالهلا إىل رسالة الغفران‪،‬‬
‫وميكن رصد أمهّها كأرضية ملناقشة إشكالية جوهرية تتعلّق بتقنيات السرد‪.‬‬
‫‪ -1-2‬خطاب الغفران بني املقام الَتسلي والفن القصصي‪:‬‬
‫احنص رت نظ رة الدارس ني الع رب ح ديثا‪ ،‬م ن خ الل م ا أمك ن للبح ث‬
‫الوقوف عليه‪ ،‬يف وجهات ثالث‪:‬‬
‫‪ّ -‬أم ا األوىل فتمثّله ا الناق دة بن ت الش اطن‪ ،‬ض من دراس ة مب ّك رة‪ ،‬اقرتح ت‬
‫رحي‪ ،‬وعلي ه‪ ،‬كان ت‬‫فيه ا أ ّن رس الة الغف ران تس تجيب لقواع د ال نص املس ّ‬
‫دراس تها املوس ومة ب «جدي د رس الة الغف ران‪ :‬ن ص مس رحي م ن الق رن اخل امس‬
‫نص‬
‫م يالدي»‪ ،‬وص ّدرت دراس تها بقوهل ا‪« :‬أعج ب كي ف ف اتّن ه ذا ال ّ‬
‫املسرحي فيها‪ ،‬وكيف فات الدارسني معي‪ ،‬فمض وا ومض يت‪ ،‬نبح ث هل ا ع ن‬
‫ّ‬
‫ريب‪ ،‬ونعرض ها عل ى املقام ات والقص ص واألم ايل‪،‬‬
‫مك ان ب ني فن ون األدب الع ّ‬
‫وعلى الرسائل اإلخوانية الطوال اليت جتري جمرى الكتب املصنّفة‪ )1( ».‬وما‬

‫ص مس رحي م ن الق رن اخل امس‬


‫الش اطن‪ ،‬عائش ة عب د ال رمحن‪ :‬جدي د يف رس الة الغف ران‪ ،‬ن ّ‬
‫‪ -1‬بن ت ّ‬
‫اهلجري‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪1403 ،‬ه ‪1983 -‬م‪ ،‬ص‪.10 .‬‬ ‫ّ‬

‫‪49‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يلف ت االنتب اه يف ق ول الناق دة‪ّ ،‬أّن ا عكس ت ح رية جي ل م ن النّق اد يف حتدي د‬


‫أتصور حبيث أ ّن أاب العالء نفسه ق د‬
‫جنس الرسالة‪ ،‬اّ تتح ّفظ قائلة‪« :‬ولست ّ‬
‫قصته على‬
‫التمثيلي‪ ،‬أو خطر على ابل إمكان إخراج ّ‬
‫ّ‬ ‫ّاجته ابلغفران إىل العرض‬
‫املس رح‪ )1( ».‬ولك ي جتع ل نظرهت ا تنص رف إىل النق د املوض وعي‪ ،‬رأت أ ّن‬
‫رحي «بعق دهتا الرمزي ة يف املعادل ة الش اقّة ب ني ص وفية‬
‫الرسالة تن زع إىل الف ّن املس ّ‬
‫أيب الع الء وش هوانية اب ن الق ارح‪ ،‬ويف امل أزق احل رج ال ذي يص ّور في ه أب و الع الء‬
‫الدينية»‪)2( .‬‬ ‫عامله اآلخر‪ ،‬وهو يتقي مظنّة التباسه ابحلياة اآلخرة يف عقيدتنا‬
‫مل تس تقم ه ذه النظ رة عن د بن ت الش اطن إالّ حب ذف الش روح اللغوي ة ال يت‬
‫رأهتا اس تطرادا خم الّ بتض افر األح داث ال يت يكتس ب الس رد م ن خالهل ا انس يابه‬
‫وتتابعه‪ ،‬فتقول عن أيب العالء‪« :‬ويعرض عليك فيما يعرض من صور الغف ران‪،‬‬
‫تتأمله ا معجب ا مفت وان‪ ،‬لكنّ ه ال يلب ث أن يفس د‬
‫لوح ات ابرع ة اندرة املث ال‪ّ ،‬‬
‫الشكلي»‪)3( .‬‬ ‫رواءها أبلوان صارخة مبتذلة من الصنعة اللفظية والزخرف‬
‫ّ‬
‫ويف دراسة مب ّكرة هي األخرى‪ ،‬ي رى عب د املل ك م راتض أ ّن رس الة الغف ران‬
‫أي أدب من‬
‫قصة فلسفية كتبت يف العربية على حنو مل يكتب قبلها يف ّ‬
‫« ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.227 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.227 .‬‬
‫‪ 3‬بنت الشاطن‪ :‬الغفران أليب العالء‪ :‬دراسة نقدية‪ ،‬دار املعارف لصر‪1962 ،‬م‪ ،‬ص‪.42 .‬‬

‫‪50‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اآلداب اإلنس انية»‪ّ )1(.‬أم ا ع ن أس لوهبا القصص ّي‪ ،‬فك ان يس تقيم «ل و أ ّن‬
‫قص ة ص رحية وقع ت ل ه يف النّ وم»‪ )2(.‬ولع ّل ه ذا‬
‫ري كت ب رس الة الغف ران ّ‬
‫املع ّ‬
‫االفرتاض ما جعل عبد الفتاح كيليطو يربطها لنامات وردت يف كتب الت اريخ‬
‫القدمية‪)3(.‬‬

‫ريد عب د املل ك م راتض عل ى م ن زع م‬


‫ظ الغف ران م ن اخلي ال‪ ،‬ف ّ‬
‫ّأم ا ح ّ‬
‫انعدام ه (‪ )4‬بقول ه‪« :‬وأعتق د أ ّن اخلي ال ال ذي يق ودك وأن ت يف ال دنيا إىل‬
‫ّن خص يب» (‪،)5‬‬
‫اآلخ رة فتص ّورها للن اس‪ ،‬ل يس خي اال فق ريا‪ ،‬ولكنّ ه خي ال غ ّ‬
‫فمرده إىل مالمستها بع ض القض ااي الفكري ة ال يت‬
‫توهم خالف ذلك‪ّ ،‬‬
‫وأ ّن من ّ‬
‫جنح ت فيه ا إىل التجري د الفلس في‪ ،‬وتظه ر جليّ ة «يف الس خرية ابحلي اة‬
‫واألحي اء‪ ،‬ويف التش اؤم أش ّد التش اؤم وأقبح ه‪ ،‬هب ذا الوج ود ال ذي يكتنف ه‬
‫كل رجا من أرجائه‪ ]...[ ،‬وعلى ذلك‪ ،‬ف إ ّن التش اؤم الق ا‬
‫الشقاء املربح من ّ‬
‫تمر يف مجي ع جوان ب أيب الع الء‪ ،‬ه و ال ذي يش ّكل الناحي ة الفلس فيّة يف‬
‫املس ّ‬
‫احلياة»‪)6( .‬‬ ‫عقليته وتفكريه ومذهبه يف‬
‫الشركة اجلزائرية‪ ،‬ط‪ ،1968 ،1‬ص‪.‬‬
‫القصة يف األدب العريب‪ ،‬دار ومكتبة ّ‬
‫‪ -1‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ّ :‬‬
‫‪.247‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.259 .‬‬
‫‪ -3‬ينظر‪ :‬كيليطو‪ ،‬عبد الفتاح‪ :‬أبو العالء املعري أو متاهات القول‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫املغرب‪ ،‬ط‪ ، ،2000 ،1‬ص‪.22 .‬‬
‫‪ -4‬مّن زعموا أ ّن رسالة الغفران ال خيال فيها‪ :‬العقاد‪ ،‬وطه حسني‪.‬‬
‫‪ -5‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬القصة يف األدب العريب القدمي‪ ،‬ص‪.260 .‬‬
‫‪ -6‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.263 .‬‬

‫‪51‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إىل جانب هاتني الدراستني املب ّكرتني‪ ،‬ش ّكلت حماولة حس ني ال واد فاحت ة‬
‫داثي‪ ،‬ح اول فيه ا النّاق د اس تنطاق‬
‫تؤس س لط رح ح ّ‬
‫حماول ة مرحل ة جدي دة‪ّ ،‬‬
‫وي‪ ،‬فكان ت دراس ته منص بّة‬
‫املدون ة أبدوات إجرائي ة حمّض ها م ن امل نهج البني ّ‬
‫ّ‬
‫على البنية القصصية يف الغفران‪.‬‬
‫جيي ب حس ني ال واد ع ن تس اؤالت ح اول م ن خالهل ا اإلمس اك ابلبني ة‬
‫القصص ية املش ّكلة للغف ران‪ ،‬ورأى ّأّن ا تق وم عل ى كلم ات مفتاحي ة‪ ،‬كان ت‬
‫جتس دت أبفع ال أف ادت‬
‫مس تهالّ للرحل ة األخروي ة‪ ،‬وم ن أمهّه ا‪ :‬احلركي ة ال يت ّ‬
‫ابلنص القرآين‪ ،‬الذي كان‬
‫ّ‬ ‫احلركة من أسفل إىل أعلى‪ ،‬إىل جانب االستشهاد‬
‫س ببا يف املع راج م ن خ الل ص عود الك الم الطيّ ب إىل الس ماء وتش بيه الكلم ة‬
‫اللغة‪)1(.‬‬ ‫الطيّبة ابلشجرة الطيّبة‪ ،‬ومنه استنتج أ ّن االنتقال ّ طريق‬
‫نص ال ذي استخلص ه م ن‬
‫عكف من بعد ه ذا‪ ،‬انطالق ا م ن مب دإ اس تنطاق ال ّ‬
‫ردي للرحل ة(‪ ،)2‬وخل ص إىل‬
‫الطريقة الشكالنية والبنيوية على إب راز املنط ق الس ّ‬
‫أ ّن الرحل ة تب دو «يف ظاهره ا النص ّي‪ ،‬جمموع ة م ن امل و ّاد الروائيّ ة‪ ،‬ض ّم بعض ها‬
‫إىل بع ض‪ ،‬بواس طة واو العط ف وإذا الفجائي ة‪ .‬ولق د أض فت ه ذه الظ اهرة‬
‫االنفصامية على الرحلة لوان اعتباطيا يف ما يتصل ابلعالقات بني مقطوعاهتا‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬الزيدي‪ ،‬توفيق‪ :‬أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث‪ ،‬من خالل بعض مناذجه‪ ،‬ص ص‪.‬‬
‫‪.105-104‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.106 .‬‬

‫‪52‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املقطوعات»‪)1(.‬‬ ‫الكربى‪ ،‬وبني املراحل داخل تلك‬


‫دي ال ذي‬ ‫ش‬
‫متك ن الناق د التونس ّي حس ني ال واد م ن جت اوز الط رح التقلي ّ‬
‫اس تهلك األبع اد اجلماليّ ة لرس الة الغف ران بوص فها ‪ -‬يف نظ ره ‪ -‬أث را أدبي ا‬
‫ال يق رأ إالّ م ن منظ ور حق ل الت أثري والت أثّر‪ ،‬فق د ح اول ال واد توجي ه املس ار‬
‫ردي لقس م الرحل ة يف الغف ران‪ ،‬وإن اتس مت‬
‫النق دي إىل تفس ري املنط ق الس ّ‬
‫نظرته بشيء من القصور يف نظر بعض النقاد‪ ،‬فال يغم ط ل ه فض ل املغ امرة‬
‫الكالسيكي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األوىل يف إخراج غفران أيب العالء من دائرة الطرح‬
‫وم ن اّ‪ ،‬كان ت دراس ته الس ياقية ال يت قام ت عل ى ط رح روالن ابرت يف‬
‫السردي عند حتديده ملقطوع ات الرحل ة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دراسة الشخصيات‪ ،‬ويف املستوى‬
‫ويف حتديد مفهوم الراوي(‪ ،)2‬بل اعتمد فيه ا ك ذلك عل ى الق راءة الوظائفي ة‬
‫يف حتلي ل «ظ اهرة االس تتباع اخلاض عة ملنط ق األح داث وهيمن ة مب دإ‬
‫زمّن يف الرحل ة‪ ،‬ف ريى أ ّن زم ن‬
‫(النتيج ة والس بب)» (‪ ،)3‬وحتلي ل العنص ر ال ّ‬
‫األح داث وزم ن ال تل ّفظ «مت وازاين عن د رواي ة األح داث املعيش ة يف نف س‬
‫الوقت‪ ،‬ومها‬

‫‪ 1‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ط‪ ،3‬تونس‪1988 ،‬م‪،‬‬
‫ص ص‪.47-46 .‬‬
‫‪ 2‬الزيدي‪ ،‬توفيق‪ :‬أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث‪ ،‬من خالل بعض مناذجه‪ ،‬ص‪.108 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.106 .‬‬

‫‪53‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫متف اواتن عن د اإلجي از أو اس رتجاع أح داث املاض ي م ن قب ل‬


‫الشخصيات»‪ )1(.‬كما وقف على ظاهرتني ابرزتني تؤطّران املكان مها‪:‬‬
‫‪ -‬ظاهرة «الفساحة» (اجلنّة‪ ،‬املدائن‪ ،‬األقاصي‪)...‬‬
‫‪ -‬ظاهرة «السرت» (األشجار‪ ،‬اجلنّة‪)...‬‬
‫فأم ا وظيف ة الظ اهرة األوىل فه ي تربي ر لكث رة األح داث‪ ،‬فتك ون الرحل ة‬
‫ّ‬
‫ب ذلك مكن ة‪ّ ،‬أم ا الظ اهرة الثاني ة‪ ،‬فه ي تربي ر لعنص ر املفاج أة و«منطق ة»‬
‫األحداث‪)2(.‬‬ ‫منطقيّة‬
‫ري‬
‫خي تم حس ني ال واد قراءت ه الوظائفيّ ة ال يت اعتم د فيه ا عل ى الط رح النظ ّ‬
‫ل تودوروف ملفه وم ال راوي ابلتع ّرض إىل أن واع شخص يات الرحل ة ال ذين‬
‫حيك ون قصص هم الب ن الق ارح‪ ،‬فيص نفهم إىل آدمي ني وحي واانت ومج اد‬
‫حتكمهم عالقات مشرتكة هي‪:‬‬
‫التقديري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الوجود‬
‫لكل واحد منهم حيااتن‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.106 .‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.107 .‬‬

‫‪54‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫»(‪)1‬‬ ‫‪ -‬علمهم ابألدب‪.‬‬


‫إ ّن أه ّم م ا و ّج ه إىل ه ذه الدراس ة م ن انتق اد ّأّن ا متيّ زت بط رح أس ئلة مل‬
‫توض ع م ن أج ل رس الة الغف ران‪ ،‬و ّأّن ا أبع د م ن أن يك ون فيه ا إرهاص ا‬
‫طبيعتها كرسالة‪)2(.‬‬ ‫للرواية إذ أمهل‬
‫عل ى ال رغم م ن دع وة ص الح فض ل إىل اعتب ار أ ّن دراس ة البني ة القصص ية‬
‫لرسالة الغفران متيّ زت ابالرجت ال وجمانب ة الدقّة(‪ ،)3‬وذل ك حس ب زعم ه أنّن ا‬
‫النص [رسالة الغفران] عمل روائي فس وف مني ل إىل حماول ة‬
‫«لو افرتضنا أ ّن ّ‬
‫املطول ة يف‬
‫قي اس ه ذه الوح دات اللغوي ة املتك اثرة [اس تطرادات املع ّري ّ‬
‫املسائل اللغويّة واخلالفات الشعرية والداللية] فنجدها عائقا واضحا يف من ّو‬
‫اص ه‬‫احلكاي ة وتط ّور الس رد‪ ،‬وعندئ ذ نف رض علي ه م ا ال ينبث ق م ن خو ّ‬
‫الداخلي ة احلميم ة»‪ )4(.‬فإنّ ه يق رتح يف موض ع آخ ر ق ائال‪« :‬وابل رغم م ن‬
‫ذلك فإ ّن هناك بعض الوحدات الداخلية‪ ،‬أو األبنية الصغرى اليت‬

‫‪ -1‬ينظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.107 .‬‬


‫‪ -2‬ينظر‪ :‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أشكال التخيّل‪ ،‬من فتات األدب و النقد‪ ،‬الشركة املصرية العاملية للنشر‪،‬‬
‫لوجنمان‪ ،1996 ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ص ص‪.2-1 .‬‬
‫‪ -3‬ينظر‪ - :‬الزيدي‪ ،‬توفيق‪ :‬أثر اللسانيات يف النق د الع ريب احل ديث‪ ،‬م ن خ الل بع ض مناذج ه‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.108‬‬
‫األديب‪ ،‬مكتبة األجنلو املصرية‪ ،1978 ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬نظرية البنائية يف النقد ّ‬
‫‪ -4‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أشكال التخيّل‪ ،‬ص‪.09 .‬‬

‫‪55‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫شائق»‪)1( .‬‬
‫سردي‬
‫ّ‬ ‫تتضمنها رسالة الغفران ذات طابع‬
‫ّ‬
‫إ ّن احلك م عل ى حماول ة حس ني ال واد ابالرجت ال م ن قب ل ص الح فض ل‬
‫فيها بعض القسوة مصدرها عدم األخذ بعني االعتب ار الف رتة الزمنيّ ة املب ّك رة‬
‫التونسي دراسته‪ ،‬واليت كانت «بعد سنني قليلة ج ّدا‬
‫ّ‬ ‫اليت أصدر فيها الناقد‬
‫م ن ظه ور الت اليف والبح وث البنيوي ة الغربيّ ة يف الغ رب نفس ه‪ ]...[ ،‬وق د‬
‫املوجهة إليها] إىل قص ور املنهجي ة البنيويّة نفس ها‬
‫يعود ذلك [أي النقائص ّ‬
‫وه و م ن عيوهب ا الرئيس يّة»(‪ ،)2‬وك ان إبمك ان حس ني ال واد أن جيتن ب‬
‫اقتص اره عل ى الش كل دون املض مون «عن د الق راءة الوظائفي ة للرحل ة إذ أ ّن‬
‫هذه القراءة تعتمد املستوى الداليل أحياان وق د ك ان إبمكان ه أن يث ري حبث ه‬
‫ابالس تفادة م ن دراس ة عملي ة ال تل ّفظ (‪ )Enonciation‬ملعرف ة حض ور‬
‫رحلته»‪)3(.‬‬ ‫املعري يف‬
‫ّ‬
‫ردف ا عل ى ه ذا‪ ،‬مت ّكن ت ألف ت ال رويب ‪ -‬فيم ا بع د‪ -‬م ن تق دمي مالحظ ة‬
‫منهجي ة س لكت هب ا منح ى مغ ايرا‪ ،‬إذ وفق ت يف تفس ري ماهي ة اجل نس‬
‫األديب خلطاب الغفران وفق قراءة استقرائية للنثر الفّن يف العصر العباسي‪،‬‬

‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.09 .‬‬


‫‪ 2‬الزيدي‪ ،‬توفيق‪ :‬أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث‪ ،‬من خالل بعض مناذجه‪ ،‬ص‪.109 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،،‬ص‪.109 .‬‬

‫‪56‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فقد أاثر انتباهها «وجود نوع من التالزم ب ني الرس الة والن وع القصص ي –من ذ‬
‫وق ت مب ّك ر‪ -‬قب ل ظه ور رس اليت االتواب عا واالغف رانا يف الق رن اخل امس‬
‫اهلج ري حي ث اش تملت بع ض رس ائل ب ديع الزم ان اهلم ذاينّ عل ى ن وع م ن‬
‫بعيد»‪)1(.‬‬ ‫التمثيل القصصي‪ ،‬وهو أمر أاثر بعض الدارسني احملدثني منذ زمن‬

‫ّأما الدراسة األخرية اليت يزعم البحث ّأّنا تتّفق إىل ح ّد بعيد م ع أه ّم حم اوره‪،‬‬
‫تل ك ال يت أجنزه ا الباحث ان التونس يان عب د الوه اب الرقي ق وهن د ب ن ص احل‪ ،‬إذ‬
‫دي خلط اب رس الة الغف ران‪ ،‬ودفع ا ابلبح ث إىل‬
‫استطاعا أن يث راي الرص يد النّق ّ‬
‫ّاجتاه يتّسم ابلعمق يف التحليل والدقّة يف املقاربة املنهجي ة‪ .‬وك ان م ن أه ّم مث ار‬
‫دراستهما يف شأن اجلنس األديب لرس الة الغف ران أ ّن ط ابع الس خريّة ال ذي ميّ ز‬
‫العام ة فيه ا جعله ا « ّأول ابروداي [‪ ]Parodie‬عربي ة‪ ،‬ح اكى فيه ا‬
‫الص ياغة ّ‬
‫نص ا رئيس يا إط ارّاي ه و الق رآن نصوص ا فرعي ة س ياقيّة ه ي‬
‫املع ّري ابلس خريّة ّ‬
‫الشعر»‪)2( .‬‬

‫عل ى أ ّن وجه ة نظ ر البح ث أتخ ذ مس لكا مغ ايرا هل ذه الدراس ة يف كوّن ا‬


‫جتسد فيها التناص مع رسالة الغفران بشكل‬
‫نصيّة ّ‬
‫قصة املعراج كبؤرة ّ‬
‫أمهلت ّ‬

‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف رسالة‬


‫‪ -1‬كمال الرويب‪ ،‬ألفت‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫الغفران‪ ،‬ص ص ‪.72-71‬‬
‫‪ 2‬الرقيق الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.109 .‬‬

‫‪57‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫النص ّي ي ربز يف العناص ر الك ربى لل رحلتني‪ ،‬كم ا يتجلّ ى يف‬


‫أعم ق‪ ،‬فالتع الق ّ‬
‫فتوجهت‬
‫أدق األجزاء ‪ -‬كما سيظهر يف الفصل الثاين‪ّ ،-‬أما دراسة الباحثني ّ‬
‫ّ‬
‫ؤدي إىل] فك رة أخ رى‬
‫النص ني [ال يت ت ّ‬
‫اص] اخلي ايل ب ني ّ‬
‫إىل «التناف ذ [التن ّ‬
‫القرآين»‪)1( .‬‬
‫أديب للعجيب‬
‫ّ‬ ‫مؤداها أ ّن العجيب الغفراين تكرار ال ّ‬
‫ّ‬
‫اص ابملنط ق‬
‫ولع ّل اإلف ادة م ن جه د الب احثني يف العنص ر امل وايل اخل ّ‬
‫ردي يف رس الة الغف ران يك ون أج دى وأث رى للبح ث ح ىت تظه ر املقارن ة‬
‫الس ّ‬
‫التحليليّة بني وجهة نظريهما وما يزعمه البحث بصورة أجلى وأوضح‪.‬‬
‫يتوجب على البحث اإلقرار به يف هذا الشأن‪ ،‬أ ّن رسالة الغفران كم ا‬
‫ما ّ‬
‫موجه ة م ن مرس ل‬
‫يبدو ظاهرا من خالل عنواّنا ّأّنا من جنس الرسالة‪ ،‬فهي ّ‬
‫معل وم (أيب الع الء) إىل مرس ل إلي ه معل وم ه و اآلخ ر (عل ّي ب ن منص ور)‪ ،‬إالّ‬
‫أ ّن م ا جي ب اإلش ارة إلي ه‪ ،‬أيض ا‪ ،‬أ ّن نقط ة التح ّول يف ه ذه الرس الة أ ّن أاب‬
‫صري املرسل إلي ه م ن ق ارئ إىل موض وع للس رد فس ارد‪ ،‬والقرين ة‬
‫العالء‪ /‬املرسل ّ‬
‫اللفظي ة الدال ة عل ى ذل ك‪ ،‬تع ويض ض مري املخاطب ة «فق د غ رس هللا مل والي‬
‫الش يخ اجللي ل» بض مري الغيب ة القصص ّي ال ذي حيي ل إىل ع امل جمه ول‪ ،‬فص ار‬
‫تتحرك منذ الصفحات األوىل يف اجلنّة‪ ،‬وهذا‬
‫شخصية ذات طبيعة ختييليّة ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.93 .‬‬

‫‪58‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫القصصي‪)1(.‬‬
‫الرتسلي إىل‬ ‫التحول من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لدليل قاطع على ّ‬
‫التحول الذي قصده أبو العالء من بداية الرسالة جعلها تنفتح على‬
‫هبذا ّ‬
‫األديب [يب دو] أ ّن‬
‫اجل نس الروائ ي انفتاح ا جليّ ا‪ ،‬و«أتسيس ا عل ى ه ذا الواق ع ّ‬
‫مرتس ل مباش ر‬
‫حتول فيها من ّ‬
‫الرحلة الغفرانيّة نظام خارق لسنن األدب» (‪ّ ،)2‬‬
‫ردي‪ ،‬وم ن املقام ة أس جاعها‬
‫إىل أدي ب فنّ ان‪ ،‬اس تعار م ن الرواي ة بناءه ا الس ّ‬
‫واي لشخص ياته‬‫ادة غنائيّ ة وترف ا معن ّ‬
‫وأجراس ها‪ ،‬وش ّكل م ن الش عر م ّ‬
‫الفردوس يّة(‪ ،)3‬وجعله ا تت داخل وتتن اغم للتح ّق ق منوذج ا فري دا يف ال رتاث‬
‫العريب‪ ،‬متيّز دون غريه عرب األزمان‪.‬‬
‫ّ‬
‫تقرر يف هذا السياق بقوهلا‪« :‬وحني‬
‫لعل ألفت الرويب كانت أكثر جرأة إذ ّ‬
‫و ّ‬
‫أقدم –أبو العالء‪ -‬على اختيار هذا الشكل‪ ،‬كان واعيا أبنّه مقدم على‬
‫التقليدي‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فصل‬
‫ّ‬ ‫أديب جديد مغاير للرسالة لعناها‬
‫أتسيس خطاب ّ‬
‫القصصي والقسم الذي يعرض فيه آراءه فيما‬
‫ّ‬ ‫بني قسمي الرسالة القسم‬
‫طرحته رسالة ابن القارح»(‪ ،)4‬والشاهد على ذلك قوله يف خامتة الرحلة‬

‫‪ 1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬وبن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.11 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.8.‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.8.‬‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف رسالة‬
‫‪ 4‬كمال الرويب‪ ،‬ألفت‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.84.‬‬

‫‪59‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫األخروية القصصية‪«:‬وقد أطلت يف هذا الفصل‪ ،‬ونعود اآلن إىل اإلجابة عن‬
‫‪.)1(»...‬‬ ‫الرسالة‪:‬‬

‫وأصبحت رسالته أقرب ما تكون إىل ما دعا ابختني حني قال‪« :‬تسمح‬
‫[الرواية] بدخول أجناس خمتلفة‪ ،‬فنيّة (كالقصص االستطرادية‪ ،‬والتمثيليات‬
‫الفن (كاألجناس‬
‫الغنائيّة‪ ،‬والقصائد واملشاهد الدراميّة‪...‬اخل) وخارجة عن ّ‬
‫احلياتيّة اليوميّة والبالغيّة والعلميّة والدينيّة وغريها) يف قوامها»‪ )2(.‬ويزداد‬
‫جتلّي مالمح اخلطاب الروائي وضوحا يف الغفران‪ ،‬حينما نقابلها لا أ ّكد عليه‬
‫ابختني‪ ،‬يف زمن متأخر عن أيب العالء‪ ،‬أنّه ميكن أن يكون هناك «جمموعة‬
‫جوهري ج ّدا‪ ،‬بل ّإّنا حت ّدد‬
‫ّ‬ ‫بنائي‬
‫من األجناس اليت تضطلع يف الرواايت بدور ّ‬
‫خاصة مثال ذلك‬
‫ائي إذ ختلق أجناسا روائيّة جديدة ّ‬ ‫الكل الرو ّ‬
‫أحياان بناء ّ‬
‫االعرتافات اليوميّة‪ ،‬الرحالت‪ ،‬السرية الذاتيّة‪ ،‬الرسائل وغريها» (‪ ،)3‬يضيف‬
‫مؤّكدا أ ّن متيّز هذه األجناس الدخيلة يف صلب الرواية قد حي ّدد صياغة‬
‫شكلها‪ ،‬فيقول‪« :‬هذه األجناس قد ال تدخل بوصفها جزءا بنائيا جوهراي‬
‫ككل (رواية االعرتافات‪ ،‬رواية‬
‫منها وحسب‪ ،‬بل قد حت ّدد أيضا شكل الرواية ّ‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفرا ّن‪ ،‬ص‪.379.‬‬
‫‪ 2‬ابختني‪ :‬الكلمة يف الرواية ترمجة يوسف حالّق‪ ،‬منشورات وزارة الثّقافة‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوراي‪ ،‬الطّبعة‬
‫األوىل‪1988 ،‬م‪ ،‬ص‪.93 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.93 .‬‬

‫‪60‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الرسائل‪...‬اخل)»‪)4(.‬‬ ‫املذ ّكرات‪ ،‬الرواية يف‬

‫تنوع ا يف‬
‫إ ّن استحض ار األجن اس األخ رى يف ص لب الرواي ة يعك س ابلض رورة ّ‬
‫وتعم ق عل ى حن و‬
‫أش كال ال وعي‪ ،‬وهل ذا «فه ي تف ّك ك الوح دة اللغويّة للرواي ة ّ‬
‫الكالمي‪ ،‬وكثريا ما تكتسب لغات األجناس اخلارج ة ع ن الف ّن‬
‫ّ‬ ‫تنوعها‬
‫جديد ّ‬
‫اليت تدخل الرواية أمهيّة حبيث ينشن إدخال جنس ما (كالرسائل مثال) عصرا‬
‫أيضا»‪)1(.‬‬ ‫كامال ليس يف اتريخ الرواية وحسب‪ ،‬بل يف اتريخ اللغة األدبيّة‬
‫إ ّن إدراج ابخت ني الرس الة مث اال دون غريه ا كج نس خ ارج ع ن الف ّن يف ّك ك‬
‫الوحدة اللغويّة للرواية ويكسبها فرادة ميّزة لعصر جديد من اجلنس الروائ ّي يف‬
‫اتري خ اللغ ة األدبيّ ة ليغ ري البح ث عل ى وض ع رس الة الغف ران ‪ -‬وه ي م ن‬
‫ريب ‪ -‬منوذج ا تنس حب علي ه آراء ه ذا‬
‫الفن ون األدبي ة النثريّ ة يف ال رتاث الع ّ‬
‫تعسف‪.‬‬
‫الروسي‪ ،‬دون ّ‬
‫ّ‬ ‫املنظّر‬
‫لي ‪-‬كم ا س بق‪ -‬تنف تح عل ى لغ ات خمتلف ة‬
‫فه ي إىل جان ب طابعه ا الرتس ّ‬
‫وابملادة الغنائي ة‬
‫ابلرحلة األخروية على قصة املعراج‪ ،‬وأبسجاعها على املقامة‪ّ ،‬‬
‫على الشعر‪ ،‬ولشاهدها على املسرح‪ ،‬وفوق هذا‪ ،‬فرادهتا يف النزعة االحتفالية‬
‫ترس خ م ن فه م قاص ر لل ّدين عن د الع و ّام‪،‬‬
‫القائم ة عل ى احملاك اة الس اخرة مّا ّ‬
‫فهي حماولة إىل إعادة بناء العقل املكبّل أبوهام اخلرافة واألحكام اجلاهزة‪،‬‬
‫‪ 4‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.93 .‬‬
‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.94.‬‬

‫‪61‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ف أبو الع الء بغفران ه يتع الق م ع األدي ب الفرنس ّي‪ ،‬إذ يتّفق ان يف ك ون كليهم ا‬
‫اعي‬
‫يهزأ «ابلثابت واملمثّل الصارم وأحادي احلركة كما لو ك ان الض حك اجلم ّ‬
‫تبشر ابلس كون‪)1(».‬‬
‫لكل قاعدة ّ‬
‫تقرر التماثل والثبات وشجبا ّ‬ ‫كسرا لقاعدة ّ‬
‫م ن هن ا‪ ،‬دف ع اهتم ام ابخت ني ابألعم ال الروائي ة لرابلي ه إىل اإلش ادة ب ه ق ائال‪:‬‬
‫«يف روايت ه يف تح رابلي ه عيونن ا بطريق ة معيّن ة عل ى كرونوت وب ك وينّ غ ري حم دود‬
‫اإلنسانيّة»‪)2(.‬‬ ‫للحياة‬
‫استئناسا هبذا كلّه‪ ،‬ميك ن أن يعت رب أب و الع الء‪ ،‬م ن خ الل أس لوبه الفري د‬
‫يف احلي اة العزل ة اإلجيابي ة‪ ،‬ويف التفك ري خمالف ة م ألوف النّ اس وتفكي ك‬
‫األحك ام اجل اهزة‪ ،‬ويف األدب اإلغ راب يف اللغ ة والتخيي ل املبتك ر‪ ،‬انهي ك‬
‫عن سخريته اليت ه ي لثاب ة «مهج ة الف ّن ال يت حيمله ا ال وعي ل ألدب بواس طة‬
‫العقل»‪)3(.‬‬

‫‪ -1‬دراج‪ ،‬فيص ل‪ :‬نظري ة الرواي ة والرواي ة العربي ة‪ ،‬املرك ز الثّق ايف الع ريب‪ ،‬البيض اء‪ ،‬املغ رب‪ ،‬الطّبع ة األوىل‪،‬‬
‫‪1999‬م‪ ،‬ص‪.77 .‬‬
‫املؤسس ة‬
‫‪ 2‬تودوروف‪ ،‬تزفيتان‪ :‬ميخائيل ابختني واملبدأ احلواري‪ ،‬ترمجة‪ :‬فخري ص احل‪ ،‬الطّبع ة العربي ة الثّاني ة‪ّ ،‬‬
‫العربيّة لل ّدراسات والنّشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪1996 ،‬م‪ ،‬ص‪.174 .‬‬
‫‪ 3‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.125 .‬‬

‫‪62‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2-2‬املنطق السردي يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫ردي أليب الع الء يف رس الة الغف ران إش كالية‬
‫تش ّكل قض ية املنط ق الس ّ‬
‫األديب‪ ،‬فالرس الة مثقل ة ابألس جاع واالس تطرادات‬
‫مركزي ة يف حتدي د جنس ها ّ‬
‫اللغويّة اليت متثّل عائقا يف تط ّور الس رد‪ .‬وم ن هن ا‪ ،‬ك ان لزام ا عل ى البح ث أن‬
‫يويل هذه اإلشكالية قدرا أك رب م ن االهتم ام‪ ،‬حم اوال رص د التفاس ري املس اعدة‬
‫احملري الذي جعل رسالة الغف ران مستعص ية عل ى انض وائها‬
‫فك هذا اللغز ّ‬
‫على ّ‬
‫هويتها‪.‬‬
‫أديب حي ّدد ّ‬
‫حتت جنس ّ‬
‫وهري‬
‫ما ي راهن علي ه اآلن يف ه ذا القس م م ن الفص ل‪ ،‬اإلجاب ة ع ن س ؤال ج ّ‬
‫يسعى البحث إىل رسم حدوده‪ ،‬واملتمثّل يف‪:‬ماهية الق وانني ال يت حتك م املنط ق‬
‫ردي يف رس الة الغف ران؟ ومن ه ه ل يتجلّ ى يف الغف ران مالم ح اخلط اب‬
‫الس ّ‬
‫ائي أم هو بعيد عن ذلك؟‬
‫السردي الرو ّ‬
‫لإلجابة عن هذه التساؤالت ينبغ ي التط ّرق إىل عنص رين خياهلم ا البح ث‬
‫مهمني يف بلورة النتائج اليت يس عى إىل حتقيقه ا‪ ،‬ومه ا إش كالية االس تطراد يف‬
‫ّ‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬وإشكالية طبيعة العالقات اليت تربط وحداهتا السرديّة الكربى‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1-3-2‬االستطرادات يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫جيم ع النّق اد املش تغلون عل ى رس الة الغف ران أ ّن االس تطرادات اللغويّة والش عريّة‬
‫تش ّكل ظاهرة يف متنها‪ ،‬واعتربوا أ ّن هذا عائقا ابرزا يف ّكك الوحدات السرديّة‬
‫الك ربى للغف ران‪ ،‬إىل جان ب اعتم اد أيب الع الء عل ى انض مامها وتت ابع ه ذه‬
‫الوح دات جيعله ا بني ة مفتوح ة ميك ن اإلنق اص منه ا أو ال زايدة عليه ا دون‬
‫إخ الل لض موّنا‪ ،‬وه ذا ال زعم تبنّ اه حس ني ال واد ق ائال‪« :‬نع ّن ابالنض مام‬
‫نص‪ ،‬م ن غ ري أن تك ون‬
‫ياقي لل ّ‬
‫وص ل مقطوع ات أبخ رى يف التسلس ل الس ّ‬
‫هلا»‪)1(.‬‬ ‫املقطوعة األوىل متسبّبة يف وجود املقطوعة التابعة‬
‫يب دو أ ّن ال واد وج د نفس ه أم ام ه ذه االس تطرادات ح ائرا‪ ،‬ومل هتت د إىل تفس ري‬
‫خيرج ه م ن ه ذا الع ائق‪ ،‬ولع ّل الش عور انت اب بن ت الش اطن م ن قب ل‪ ،‬ف دعت‬
‫ص الرس الة‬
‫نص ا مس رحيّا‪ ،‬مس ّوغة لنفس ها إخ راج ن ّ‬
‫إىل اعتب ار رس الة الغف ران ّ‬
‫دون االس تطرادات لتس تخلص احل وار ب ني شخص يات الرحل ة‪ ،‬فتعرض ها عل ى‬
‫متتابعة‪)2(.‬‬ ‫شكل مشاهد‬
‫تتأس ف عل ى تقيّ د ص احب الغف ران بتل ك‬
‫و ّأم ا الناق دة ألف ت ال رويب فه ي ّ‬
‫االستشهادات والشروح اللغوية‪ ،‬وترى أنّه «على الرغم من جرأة أيب العالء يف‬
‫‪ 1‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.44 .‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬بنت الشاطن‪ :‬جديد رسالة الغفران‪ ،‬نص مسرحي من القرن اخلامس هجري‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫القص يف رس الة الغف ران‪ ،‬وعل ى ال رغم م ن اإلجن از ال ذي ح ّقق ه‬


‫اختيار موضوع ّ‬
‫وي‬
‫فكري ولغ ّ‬
‫القصصي‪ ،‬فإنّه بدا مقيّدا هو اآلخر إبرث ّ‬
‫ّ‬ ‫يف توليد هذا الشكل‬
‫حم افظ‪ ،‬بوقوع ه يف النّص يّة أحي اان –استش هاده آبايت الق رآن والش عر‪-‬‬
‫وإبسقاطه الشعراء احملدثني‪ ،‬وبغوصه يف حبار الغري ب وغ ري امل ألوف يف ص ياغته‬
‫النص يف الشروح والتفسريات اليت أوشكت أن جتهض السمة‬
‫اللّغويّة‪ ،‬وإبغراقه ّ‬
‫للنص»‪)1(.‬‬ ‫القصصيّة‬

‫ردي‬
‫اق إب راهيم فق د أوىل اهتمام ا ابلغ ا ابل رتاث الس ّ‬ ‫و ّأم ا النّاق د العراق ّي عب د ّ‬
‫ريب الق دمي‪ ،‬وح اول جتدي د الق راءة يف أجناس يّة كث ري م ن اخلط اابت الس ردية‬‫الع ّ‬
‫توص ل إلي ه مّن س بقه م ن النّق اد‬
‫عم ا ّ‬
‫العربي ة القدمي ة‪ ،‬إالّ أنّه مل حي د قي د أمنل ة ّ‬
‫املش تغلني عل ى عل ى خط اب رس الة الغف ران‪ ،‬ومّ ا ورد يف موس وعته للس رد‬
‫ك يف أ ّن احتش اد الرس الة ابألفك ار‪،‬‬
‫ريب‪ ،‬يف ه ذا الش أن‪ ،‬قول ه‪« :‬وال ش ّ‬
‫الع ّ‬
‫واملناقش ات اللغويّة واألدبيّ ة‪ ،‬أض عف إىل ح ّد كب ري بنيته ا الس رديّة‪ ،‬وعل ى م ن‬
‫الرس الة‪ ،‬إالّ أ ّن اإلغ راق يف ش ؤون اللّغ ة‪ ،‬أف رغ‬
‫أ ّن رحل ة ال ّراوي أطّرت أح داث ّ‬
‫فتحولت إىل مشاهد متتاليّة ال ينتظمه ا س وى ال ّراوي‬
‫الرسالة من ّقوة احلكاية‪ّ ،‬‬
‫الذي يقف على األشياء‪ ،‬ويصفها مشهدا بعد آخر»(‪)2‬‬

‫‪ 1‬كم ال ال رويب‪ ،‬ألف ت‪ :‬بالغ ة التوص يل وأتس يس الن وع‪ ،‬حت ّول الرس الة وب زوغ ش كل قصص ي يف رس الة‬
‫الغفران‪ ،‬ص ص‪.114-113‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬موسوعة السرد العريب‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬األردن‪ ،‬طبعة جديدة‬
‫موسعة‪2008 ،‬م‪ ،‬ص ص‪.291-290 .‬‬
‫ّ‬
‫‪65‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ض من ه ذا اجل دل ال ذي أخ ذ مس احة كب رية م ن النق ا عن د كث ري م ن‬


‫حمم د ع ّزت نص ر هللا لرس الة الغف ران‪ ،‬وك ان‬
‫الن ّقاد‪ ،‬وقف البحث عل ى حتقي ق ّ‬
‫النس اخ‬
‫م ن ب ني م ا أاثر انتب اه احملق ق ظ اهرة االس تطرادات‪ ،‬ف تفطّن إىل تقني ة ّ‬
‫الق دامى ال يت تغ ّريت ل رور ال زمن‪ ،‬حي ث ك ان م ن ع ادهتم «كتاب ة الش روح‬
‫والتفسريات والتعليقات لداد لونه يغاير لون املداد املكتوب به املنت‪ ،‬أو وضع‬
‫ّنايته»‪)1(.‬‬ ‫الشرح أو التفسري‪ ،‬ووضع عالمة ماثلة يف‬
‫خاصة يف بداية ّ‬
‫عالمة ّ‬
‫يق ّر احمل ّق ق‪ ،‬يف ه ذا التنبي ه امله ّم‪ ،‬أ ّن تفطّن ه ك ان نتيج ة مالحظت ه لطريق ة‬
‫البديعي يف عرض جزء من رسالة الغفران على الطريق ة احلديث ة‪ ،‬يق ول‬
‫ّ‬ ‫يوسف‬
‫إ ّن اعتم اد ج ّل الدارس ني يف ق راءة رس الة الغف ران عل ى الطبع ة ال يت ح ّققته ا‬
‫يتومهون هم اآلخرون أ ّن ه ذه االس تطرادات‬
‫بنت الشاطن –جلودهتا‪ -‬جعلهم ّ‬
‫من صلبها‪ ،‬وأّنا ج زء أص يل منه ا‪ ،‬فرتتّب علي ه إمج اعهم عل ى انع دام التط ّور‬
‫ردي وتت ابع األح داث وف ق منط ق حمك م‪ ،‬وأض حت الالّئم ة تلق ى عل ى‬ ‫الس ّ‬
‫ع اتق أدي ب املع ّرة أبن «ل و س لم ف ّن أيب الع الء م ن نك ر العص ر‪ ،‬ملض ى يف‬
‫حلم ه املله م واس تغرق يف عامل ه النّفس ّي اخل الص‪ ،‬ولس لمت لن ا تل ك املتع ة‬
‫الثقيل»‪)2( .‬‬ ‫الفنيّة من شوائب هذا االعرتاض السمج‬

‫املعري‪ ،‬املكتبة الثقافية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬مق ّدمة‬


‫عزت‪ :‬رسالة الغفران أليب العالء ّ‬
‫حممد ّ‬
‫‪ -1‬نصر هللا‪ّ ،‬‬
‫احمل ّقق‪ ،‬ص‪.17 .‬‬
‫‪ 2‬بنت الشاطن‪ :‬الغفران‪ :‬دراسة نقدية‪ ،‬ص‪.46 .‬‬

‫‪66‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الش روح ليس ت‬


‫رد احتمال أن تكون هذه ّ‬
‫عزت نصر هللا من « ّ‬
‫حممد ّ‬
‫يتعجب ّ‬
‫ّ‬
‫م ن ص لب امل نت‪ ،‬وأ ّن أاب الع الء مل ميله ا لتكت ب يف رس الته إىل اب ن الق ارح‪،‬‬
‫يفسر هبا لتالميذه‪ ،‬الذين كانوا حييطون به ويكتبون عنه‪ ،‬ما يع رض‬
‫وإّمنا كان ّ‬
‫ل ه م ن مس ائل لغويّ ة‪ ،‬أو يش رح هل م م ا يظنّ ه غامض ا عل ى بعض هم فكتبه ا‬
‫فيه»‪)1(.‬‬ ‫التالميذ يف املنت‪ ،‬ومل يكن مقصد أيب العالء أن تكون‬
‫مل يغف ل احمل ّق ق‪ ،‬يف ه ذا الس ياق‪ ،‬ال ّرد عل ى املالحظ ات املنهجي ة ال يت‬
‫أب دهتا بن ت الش اطن‪ ،‬وق د يتب ادر إىل ك ّل ق ارئ الغف ران‪ ،‬أ ّن أاب الع الء ك ان‬
‫يوج ه يف مواض ع كث رية خط ااب مباش را الب ن الق ارح‪ ،‬كاألدعي ة‪ ،‬أو الش روح‬
‫ّ‬
‫ل بعض األلف اظ الغريب ة‪ ،‬أو تعقي ب عل ى بي ت ش عر‪ ،‬ويتجلّ ى ذل ك بوض وح‬
‫عندما أراد شرح بيت األعشى يف قوله‪«:‬‬
‫أغار لعمري يف البالد و أجندا‬ ‫بّن يرى ما ال ترون و ذكره‬
‫ّ‬
‫وهو – أكمل هللا زين ة احملاف ل حبض وره – يع رف األق وال يف ه ذا البي ت‪ ،‬وإّمن ا‬
‫أذكرها ألنّه قد جيوز أن يقرأ ه ذا اهل ذاين انش ن مل يبلغ ه‪ :‬حك ى الف ّراء وح ده‬
‫صح هذا البيت لألعشى فل م ي رد‬
‫(أغار) يف معىن غار‪ ،‬إذا أتى الغور – وإذا ّ‬
‫اإلجناد‪)2( .»...‬‬ ‫ابإلغارة إالّ ض ّد‬

‫املعري ‪ ،‬مق ّدمة احمل ّقق‪ ،‬ص‪.15 .‬‬


‫عزت‪ :‬رسالة الغفران أليب العالء ّ‬
‫حممد ّ‬
‫‪ -1‬نصر هللا‪ّ ،‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.180-179 .‬‬ ‫املعر ّ‬
‫‪ّ -2‬‬

‫‪67‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وجهه أبو الع الء إىل‬


‫يورد نصر هللا قول بنت الشاطن حول هذا الشرح الذي ّ‬
‫اب ن الق ارح‪/‬احلقيقي‪ ،‬ال اب ن القارح‪/‬بط ل الغف ران‪ ،‬حي ث يق ول عل ى لس اّنا‪:‬‬
‫نص‪ ،‬مل ميل ه أب و الع الء حاش ية‪ ،‬وال ك ان‬
‫«فه ذا الش رح املقح م يف م نت ال ّ‬
‫يوجه ه إىل تالمي ذه وح دهم‪ ،‬وإّمن ا خاط ب ب ه اب ن الق ارح‪ ،‬حمتاط ا ع ن ّاهتام ه‬
‫ّ‬
‫اجله ل [‪ ،]...‬اّ تنته ي الدارس ة اجلليل ة إىل الق ول‪ :‬ه ي إذن ظ اهرة م ن‬
‫الظ واهر األس لوبيّة للغف ران‪ .‬وال تك اد ختطئه ا يف ص فحة م ن ص فحاهتا إالّ‬
‫قليال‪ ،‬وقد بلغ م ن ول ع أيب الع الء هب ا‪ ،‬أ ّن ض ّحى يف س بيلها – كم ا فع ل يف‬
‫االس تطراد‪ -‬بوح دة الس ياق ونس ق اجلم ل‪ ،‬وترتي ب املع اين لريض ي رغبت ه يف‬
‫استيفاء تلك الشروح»‪ )1( .‬اّ يع ّقب على مالحظاهتا قائال‪« :‬أواف ق الدارس ة‬
‫ي كان يقصد حني أملى تفسرياته وشروحه يف رس الته إىل‬
‫املعر ّ‬
‫اجلليلة على أ ّن ّ‬
‫وإين أرفض تبعا ل ذلك‪ ،‬االحتم ال القائ ل أب ّن التالمي ذ كتبوه ا يف‬
‫ابن القارح‪ّ ،‬‬
‫ي ق د أورد ه ذه االس تطرادات وتل ك‬
‫امل نت‪ .‬ولك ّّن أرف ض أن يك ون املع ّر ّ‬
‫املعرتضات يف ثنااي املنت‪ ،‬فأبو العالء ال يرتكب ه ذا الغل ط الش نيع‪ ،‬وم ا ه ذا‬
‫الذي ظنّته صاحبتنا الفاضلة اس تطرادا وش روحا معرتض ة إالّ ش روح أيب الع الء‬
‫احلديثة»‪)2( .‬‬ ‫اخلاصة اليت جيب أن توضع يف اهلامش حسب طريقتنا‬
‫ّ‬
‫املعري ‪ ،‬مق ّدمة احمل ّقق‪ ،‬ص‪.16 .‬‬
‫عزت‪ :‬رسالة الغفران أليب العالء ّ‬
‫حممد ّ‬
‫‪ 1‬نصر هللا‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.17-16 .‬‬

‫‪68‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ري ق د‬
‫التحليلي‪ ،‬خيتم قوله مؤّكدا يف موض ع آخ ر أ ّن‪« :‬املع ّ‬
‫ّ‬ ‫وبعد هذا العرض‬
‫أمل ى رس الته ل ا فيه ا م ن ش روح هامش يّة‪ ،‬وك ان يقص د أن يطّل ع اب ن الق ارح‬
‫الشروح»‪)1( .‬‬ ‫على تلك‬
‫عزت نصر هللا ال ذي‬
‫حممد ّ‬
‫يهيب البحث‪ ،‬يف هذا الصدد‪ ،‬بفطنة احمل ّقق ّ‬
‫أسهم جبهوده املوفّقة‪ ،‬ال يت مل تل ق ح ّقه ا م ن الت دبّر‪ ،‬يف إبع اد هتم ة االس تطراد‬
‫ردي‪،‬‬
‫تطوره ا الس ّ‬
‫ط ّ‬ ‫ّن‪ ،‬وكس رت خ ّ‬
‫ال يت أفق دت رس الة الغف ران هباءه ا الف ّّ‬
‫وعليه‪ ،‬كان من واجب اإلقرار بفضله أن يض م البح ث ص وته إىل قول ه‪« :‬إنّن ا‬
‫يف هذه املناس بة‪ ،‬نض ع أي دينا عل ى ّأول تط ّور علم ّي لطريق ة النّس خ والت أليف‬
‫ودراستها»‪)2(.‬‬ ‫وجدير أبويل االختصاص االعتناء هبذه الظاهرة‬
‫وإّنا ملهمة منوطة أبهل التحقيق من املتخصصني إلنص اف ه ذا احملق ق ال ذي‬
‫بقي جهده مكتوما وال يعت ّد به‪ ،‬وإن حت ّقق ذلك لكان فتحا مبين ا جيل ي هتم ة‬
‫االس تطراد ع ن ش يخ املع ّرة‪ ،‬وجيع ل م ن غفران ه خط ااب روائي ا رائ دا للخط اب‬
‫السردي القدمي‪.‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.19 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬هامش ص‪.19 .‬‬

‫‪69‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2-3-2‬املفارقات الزمنية يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫أ‪ -‬املفارقة الزمنية يف الوحدات السردية الكربى‪:‬‬
‫واجه ت الدارس ني‪ ،‬إىل جان ب قض ية االس تطرادات اللغوي ة والش عرية‪،‬‬
‫ّن‬
‫رتددين أم ام التفس ري الف ّ‬
‫قض ية أخ رى ال تق ّل عنه ا أمهيّ ة‪ ،‬إذ وقف وا م ّ‬
‫للعالق ات ال يت ت ربط الوح دات الس رديّة الك ربى للغف ران‪ ،‬فأس فرت ه ذه‬
‫الدراس ات عل ى رؤي ة مش رتكة‪ ،‬ق د وق ف البح ث أوفره ا حظّ ا م ن الدقّ ة‬
‫والوض وح‪ ،‬وه ي تل ك ال يت ق ّدمها حس ني ال واد يف دراس ته الس ابقة ال ذكر‪،‬‬
‫وانتهى به البحث إىل أ ّن الوحدات السردية الكربى يف قس م الرحل ة «تب دو‬
‫النص ّي‪ ،‬جمموع ة م ن امل و ّاد الروائيّ ة‪ ،‬ض ّم بعض ها إىل بع ض‬
‫يف ظاهره ا ّ‬
‫بواس طة واو العط ف وإذا الفجائي ة ولق د أض فت ه ذه الظ اهرة االنفص اميّة‬
‫على الرحلة لوان اعتباطي ا يف م ا يتّص ل ابلعالق ات ب ني مقطوعاهت ا الك ربى‪،‬‬
‫املقطوعات»‪)1( .‬‬ ‫وبني املراحل داخل تلك‬
‫يلم ح إىل ع ائق االس تطرادات اللغويّة وحص ره‬
‫ّأم ا ص الح فض ل‪ ،‬فإنّه ّ‬
‫يف كثاف ة اللّغ ة ال يت حال ت دون الرؤي ة الواض حة‪ ،‬مّا جعل ه يص در حكم ا‬
‫القص‬
‫مؤداه أ ّن «البنية العليا لرسالة الغفران ال تنتمي إىل جمال ّ‬
‫عاما ّ‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.47-46 .‬‬

‫‪70‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫والس رد‪ ،‬أل ّن النم وذج القصص ّي ‪ -‬كم ا نعرف ه اآلن‪ -‬يعتم د عل ى خل ق‬
‫ع امل مبتك ر‪ ،‬حيف ل بش خوص ال وج ود هل م يف اخل ارج‪ ،‬وإن ك انوا ميثّل ون‬
‫ارجي‪ ،‬عل ى أن ي ّتم التعب ري ع ن ذل ك بلغ ة ش ّفافة‪،‬‬
‫بطريقة ما هذا الع امل اخل ّ‬
‫ال تبلغ من الكثافة وش ّدة اخلصوبة ما جيعله ا تع وق اتّض اح الرؤي ة»‪ )1( .‬اّ‬
‫سردي شائق»‬
‫ّ‬ ‫يعرج على الوحدات الداخليّة للغفران فيجدها «ذات طابع‬ ‫ّ‬
‫(‪ ،)2‬وبع د عرض ه لنم وذج وق ف في ه املالح اة ال يت نش بت ب ني األعش ى‬
‫دي(‪ ،)3‬خي رج ابس تنتاج ي رى في ه أ ّن ه ذه اخلص ومة متيّ زت‬
‫والنابغ ة اجلع ّ‬
‫ب «تلك النهاية الساخرة [اليت] تضع ذروة للحدث املسرود ختتم ب ه الوح دة‬
‫القصص يّة‪ ،‬ال يت أض فى عليه ا تع ّدد األص وات والص راع واحت دام وجه ات‬
‫الناجحة»‪)4(.‬‬ ‫النظر طابعا دراميا يقرتب هبا من الوحدات السرديّة‬
‫يب دو‪ ،‬م ن خ الل ه ذه الزاوي ة ال يت نظ ر منه ا ص الح فض ل‪ ،‬أنّ ه ق د‬
‫ب اهتمام ه عل ى بع ض املق اطع م ن قس م الرحل ة ليع زو هل ا حتقي ق البن اء‬
‫ص ّ‬
‫العامة هلا‪ ،‬فقد جعلته مقتنعا ّأّنا ال ختضع للمنطق‬
‫السردي‪ّ ،‬أما نظرته ّ‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أشكال التخيّل‪ ،‬ص‪.07 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.09 .‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.234-225 .‬‬
‫‪ 4‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أشكال التخيّل‪ ،‬ص‪.10 .‬‬

‫‪71‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ردي‪ ،‬وأ ّن تل ك الوح دات الداخلي ة أو األبني ة الص غرى ال تغ ّري «م ن‬


‫الس ّ‬
‫أدبيّة»‪)1( .‬‬ ‫بنيتها الكليّة ابعتبارها رسالة‬
‫السردي لرسالة الغفران على تفسريين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يراهن البحث يف حتقيق املنطق‬
‫عزت نصر‬‫حممد ّ‬
‫توصل إليها ّ‬
‫األول فهو ما تعلّق ابلنتائج القيّمة اليت ّ‬
‫ّأما ّ‬
‫هللا‪ ،‬م ن خ الل حتقيق ه لرس الة الغف ران إىل أ ّن االس تطرادات تثب ت يف‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفّن‬
‫وتطوره ّ‬
‫السردي انسيابه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اهلامش‪ ،‬وبذلك يكتسب التتابع‬
‫ّأم ا الث اين م ا تعلّ ق ابلدراس ة ال يت توص ل إليه ا الب احثني التونس يني‪ ،‬وال يت‬
‫ظ ه ذه الق راءة [ال يت تق ول ابعتباطي ة‬
‫أفض ت نتائجه ا إىل أتكي د أ ّن «ح ّ‬
‫انض مام الوح دات الس ردية الك ربى] م ن الص واب قلي ل أل ّن ظ اهرة‬
‫االس تطراد ال يت ب ىن عليه ا خص وم الغف ران م وقفهم مل تق ض عل ى التن اغم‬
‫الداخلي‬
‫ّ‬ ‫الفّن يف الرحلة عن كثب‪ ،‬ومن زاوية حترتم قواعد جنسها ومنطقه‬
‫ّّ‬
‫لتبيّن اّ ّأّن ا قام ت ع ل رس ة مق اطع قصص ية رئيس يّة رغ م تف اوت‬
‫أحجامها»‪)2(.‬‬

‫وق د أورد الباحث ان الوح دات الس رديّة الك ربى لرس الة الغف ران عل ى النح و‬
‫التايل(‪:)3‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.10 .‬‬


‫‪ 2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.10 .‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.11-10 .‬‬

‫‪72‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ - 1‬املع راج‪« :‬ولعلّ ه س بحانه ق د نص ب لس طورها [رس الة اب ن الق ارح]‬


‫الفض ة أو ال ذهب‪ ،‬تع رج هب ا املالئك ة م ن‬
‫املنجي ة م ن اللّه ب‪ ،‬مع اريج م ن ّ‬
‫السماء»‪)1(.‬‬ ‫األرض الراكدة إىل‬
‫يسمى النّزهة يف الدار‬
‫‪ - 2‬النّزهة يف اجلنّة‪« :‬وخيطر له حديث شيء كان ّ‬
‫الفانية»‪)2(.‬‬

‫قص يت‪ :‬مل ا ّنض ت م ن‬


‫ّ‬ ‫ص علي ك‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬الوق وف يف احملش ر‪« :‬أان أق‬
‫ّ‬
‫الشرمي»‪)3(.‬‬

‫‪ - 4‬االطّالع على اجلحيم‪« :‬ويب دو ل ه أن يطّل ع إىل أه ل الن ار فينظ ر م ا‬


‫النّعم»‪)4(.‬‬ ‫هم فيه ليعظم شكره على‬
‫‪ - 5‬الع ودة إىل اجلنّ ة‪« :‬ف إذا رأى قلّ ة الفوائ د ل ديهم‪ ،‬ت ركهم [أه ل‬
‫اجلنان»‪)5(.‬‬ ‫اجلحيم]يف الشقاء السرمد وعمد حمللّه يف‬
‫م ا جت در التنبي ه إلي ه قب ل احل ديث ع ن طبيع ة العالق ات ال يت حتك م‬
‫الوحدات السردية الكربى‪ ،‬أ ّن الب احثني مل يبلغ ا م ا بلغ ه البح ث م ن نت ائج‬
‫فك طالسم لغز االستطراد‪،‬‬
‫ظ ّ‬‫حتقيق نصر هللا لرسالة الغفران‪ ،‬ففاهتما ح ّ‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.175 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.248 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.289 .‬‬
‫‪ 5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.360 .‬‬

‫‪73‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وبقيت دراستهما ت تحفظ من ه بقوهلم ا‪« :‬رغ م ّأّن ا [االس تطرادات] عطّل ت‬
‫املشاهد»‪)1(.‬‬ ‫السردي يف بعض‬
‫ّ‬ ‫اإلنشاء‬
‫ّأم ا ع ن طبيع ة العالق ات ال يت ت ربط الوح دات الس رديّة الك ربى يف‬
‫الغف ران‪ ،‬ف إ ّن ج ّل الب احثني جيمع ون عل ى ّأّن ا ختض ع للفوض ى واالعتباطي ة‬
‫وخاص ة م ا تعلّ ق برؤي ة حس ني ال واد وص الح فض ل‪ ،‬ويب دو‬
‫‪ -‬كم ا س بق ‪ّ -‬‬
‫أ ّن اإلش كال األك رب ال ذي ح دا هبم ا إىل ه ذا ال رأي‪ ،‬ه و أ ّن «ال راوي ق د‬
‫خ رق النّظ ام الطبيع ّي يف وق وع األح داث» (‪ ،)2‬وكان ت الوح دات الس رديّة‬
‫الك ربى ال يت تل ي املع راج يف نزه ة اب ن الق ارح يف اجلنّ ة‪ ،‬وك ان م ن األوىل أن‬
‫يليه ا موقف ه ابحملش ر فيتط ّور الس رد‪ ،‬وتتن امى العق دة‪ ،‬وتتش ّكل اإلاثرة‬
‫وعنصر التشويق عند القارئ‪.‬‬
‫ب‪ -‬االسَتجاعات يف خطاب الغفران‪:‬‬
‫ل و س لّم البح ث هب ذا االف رتاض ‪ -‬أي أن يك ون الوق وف ابحلش ر‬
‫ابت داء اّ تلي ه النزه ة يف اجلنّ ة ‪ -‬لك ان ه ذا الرتتي ب «س يلغي التواش ج‬
‫همش تل ك املق ّدم ة الس اخرة ال يت‬
‫األخاذ بني املعراج والنزهة من جه ة‪ ،‬وس ي ّ‬
‫ّ‬
‫افتتحت هبا الرسالة من جهة أخرى»‪ )3(.‬ولو تلقى نظرة فاحصة على‬

‫‪ 1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.10 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.11 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.11 .‬‬

‫‪74‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مقاص د أيب الع الء ون واايه املوارب ة جت اه بط ل الغف ران لعل م أنّه يس تحيل أن‬
‫جيعل ه خمفق ا يف بعب ور الص راط‪ ،‬ويس قطه‪ ،‬بع دها‪ ،‬يف مه اوي اجلح يم‬
‫ويفس د مق ّدمت ه الس اخرة ال يت يق ول فيه ا ع ن رس الة اب ن الق ارح‪« :‬ومثله ا‬
‫ش فع ونف ع‪ ،‬وق ّرب عن د هللا ورف ع‪ ]...[ ،‬ولعلّ ه‪ ،‬س بحانه‪ ،‬ق د نص ب‬
‫الفض ة أو ال ذهب تع رج هب ا‬
‫لس طورها املنجي ة م ن الله ب‪ ،‬مع اريج م ن ّ‬
‫بشرت‬
‫املالئكة من األرض الراكدة إىل السماء»‪ )1(.‬فكلمة «املنجية» قد ّ‬
‫بنج اة اب ن الق ارح‪ ،‬وعلي ه ابت معلوم ا ه ذا اخل رب عن د الق ارئ‪ ،‬وال تنتاب ه‬
‫مش اعر اإلاثرة يف ه ذا الش أن‪ ،‬وم ن خ الل مقاص د أيب الع الء الس اخرة يف‬
‫مق ّدمته‪ ،‬يبعد‪ ،‬أيضا‪ ،‬أن يسقط يف فضاضة اخلطاب املباشر‪ ،‬ويتش ّفى من‬
‫اب ن الق ارح إبدخال ه انر الس عري‪ ،‬فيك ون االنتق ام هب ذه الص ورة أزرى أبيب‬
‫الع الء نفس ه م ن خص مه املن افق ال ذي قص د افت زازه وإيقاع ه يف ف خ ال ّرد‬
‫املباشر إلدانته‪.‬‬
‫تعمد السارد تقدمي مشهد النزهة يف اجلنّة‪ ،‬وأتخري مشهد املوقف يف‬
‫ّ‬
‫احملشر‪ ،‬وذلك أل ّن «موقف احلشر‪ ،‬فضال عن أنّه منوذج رائع للبنية‬
‫حتول‪ ،‬ووضع اختتام) جاء رجعا أو‬
‫الثالثية (وضع ابتداء‪ ،‬ومسار ّ‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬

‫‪75‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يدل على وعي صميم‬ ‫اسَتجاعا ّ‬


‫كسر به الكاتب خطّية التّتابع مّا ّ‬
‫القصصي»(‪ ،)1‬وقد أشارت ألفت الرويب –كذلك‪ -‬إىل‬
‫ّ‬ ‫الفن‬
‫أبصول ّ‬
‫توظيف السارد الفرعي هذه التقنيّة بقوهلا‪« :‬ويف هذا املشهد (احلشر)‬
‫الذي يرويه البطل عن نفسه –عن طريق االسرتجاع‪ )2(»... -‬هذا من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬حىت حي ّقق غرضا آخر‪ ،‬لطاملا أفصح عنه من‬
‫خالل حتاور شخصيات اجلنّة‪ ،‬ومن ش ّدة الرتكيز عليه ش ّكل بؤرة نصيّة يف‬
‫الرحلة كلّها‪ ،‬وغدا السؤال‪« :‬مب غفر لك؟» و«مب مل يغفر لك؟» أمرا‬ ‫ّ‬
‫مألوفا متوقّعا عند القارئ‪ ،‬ومن اّ‪ ،‬ينمو عنصر التشويق ملعرفة الطريقة‬
‫اليت جنا هبا بطل الغفران من احملشر والصراط‪ ،‬وجعله حيظى بنعيم اجلنان‪،‬‬
‫فّن متألّق‪ ،‬كسر ذلك النّسق‬
‫وهبذا الرتتيب فإ ّن «أاب العالء‪ ،‬نتيجة وعي ّّ‬
‫الزمّن حىت ترتبط مفاصل احلكاية ارتباطا عضواي منسجما وحىت جيعل‬
‫ّ‬
‫البنيوي‪ -‬الفّن املناسب»‪)3(.‬‬
‫ّ‬ ‫االضطراب يف املوقع‬
‫ّ‬
‫ج‪ -‬املفارقة السردية يف الوحدات السردية الصغرى‪:‬‬

‫أما تقنية الزمن فقد كسر السارد خطيّتها ليجعل املتلقي مشاركا له يف‬

‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.22 .‬‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف‬
‫‪ -2‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.98 .‬‬
‫‪ -3‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬وبن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.13 .‬‬

‫‪76‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إعادة ترتيب سريورهتا الطبيعية‪ ،‬فاملاضي واحلاضر واملستقبل ق د يس تحيالن‬


‫ردي للغف ران إىل مس تقبل فحاض ر فم اض‪ ،‬وض رب ه ذا‬
‫يف اخلط اب الس ّ‬
‫املثال يؤّكد هذا الزعم‪ ،‬فمثال على سبيل الذكر ال احلص ر بينم ا ك ان بط ل‬
‫الغف ران يط وف يف اجلنّ ة‪ ،‬إذ ب ه يلتق ي ب زهري ب ن أيب س لمى وق د اس تحال‬
‫شااب ايفعا‪ ،‬متسائال كعادته عن سبب تدراك الغفران والفوز بنعيم اجلن ان‪،‬‬
‫فيعلّ ل زه ري مستحض را س لوكه يف احلي اة العاجل ة ق ائال‪ :‬ع ن س بب دخول ه‬
‫اجلن ة مس رتجعا ص ورته يف احلي اة ال دنيا «فيق ول‪ :‬كان ت نفس ي م ن الباط ل‬
‫»‪)1(.‬‬ ‫نفورا ‪ ،‬فصادفت ملكا عظيما غفورا ‪... ،‬‬
‫الطبيعي تكون‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فاألحداث برتتيبها الزمّن‬
‫زه ري نفس ه أتا الباط ل← ←‪ 1‬زه ري ش يخ ه رم يلق ى رب ه عل ى الكف ر←‬
‫‪ ← 2‬تدركه املغفرة ببيت هو قائله← ‪ ← 3‬يتقلّب يف نعيم اجلنان← ‪.4‬‬
‫لقصة زهري يف رسالة الغفران فهو‪:‬‬
‫ولكن بعد عرض السارد ّ‬
‫يتقلّب يف نعيم اجلن ان ← ←‪ 4‬زه ري نفس ه أتا الباط ل← ←‪ 1‬تدرك ه‬
‫‪.2‬‬ ‫املغفرة ببيت هو قائله← ‪ ← 3‬زهري يروي حلظة موته على الكفر←‬
‫مّن تقني ة االس رتجاع عل ى‬
‫املؤل ف الض ّ‬
‫إ ّن هذا املثال هل و عيّن ة عل ى انته اج ّ‬
‫مستوى الوحدات السردية الصغرى‪ ،‬هذا ما جعل خطاب الغفران ينماز‬
‫‪ -1‬املعري‪ ،‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.183 .‬‬

‫‪77‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫عن غريه من النصوص الرتاثية القدمية يف سبقه إىل توظيف هذه التقنية اليت‬
‫الس رد مثّل ة يف‬
‫لعل «ه ذه التقنيّ ة يف ّ‬
‫ع ّدت من مؤثّثات الرواايت احلديثة‪ ،‬و ّ‬
‫اختالف نظ ام ترتي ب األح داث عل ى مس توى اخلط اب (الس رد) ع ن نظ ام‬
‫ترتيبه ا يف الواق ع التّخيّيل ّي تع ّد مس ة ميّ زة لرحل ة الغف ران إزاء جمم وع اآلاثر‬
‫العريب القدمي ما جيع ل أاب الع الء كاتب ا‬
‫ردي ّ‬ ‫الس ّ‬
‫الرتاث ّ‬
‫السرديّة اليت شهدها ّ‬
‫الس رد القصص ّي ذل ك أ ّن نظ ام ترتي ب األح داث‪ ،‬عل ى‬‫جم ّددا يف جم ال ّ‬
‫مس توى اخلط اب يف جمموعتل ك اآلاثر‪-‬إن تعلّ ق األم ر بتل ك ال يت س بقت‬
‫عص ر أيب الع الء أو عاص رته أو أت ت بع ده‪ -‬ق د اتّس م ابعتم اد الرتتي ب‬
‫املنطقي»‪)1(.‬‬ ‫التسلسلي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص ص‪.133-123 .‬‬


‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -1‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬

‫‪78‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -3‬تقنيات اْلركة السردية يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫ميك ن قي اس حرك ة الس رد م ن حي ث س رعتها أو بطؤه ا م ن خ الل معاين ة‬
‫ردي‪ ،‬وال يت‬
‫التقني ات ال يت تق ع يف مس توى امل ّدة م ن مس توايت ال زمن الس ّ‬
‫الس رعة‪ ،‬وه ي‬
‫يطلق عليها –أيضا‪ -‬حركات السرد‪ ،‬نظرا الرتباطه ا بقي اس ّ‬
‫أرب ع حرك ات س رديّة‪ :‬اثنت ان ترتبط ان بتس ريع الس رد‪ ،‬وأخ راين مرتبطت ان‬
‫بتبطيئه‪)1(.‬‬

‫‪ -1-3‬تسريع السرد‪:‬‬
‫مهم ة تس ريع الس رد إىل الس ارد‪ ،‬وذل ك أبن يق وم‬
‫مّن ّ‬
‫يس ند املؤلّ ف الض ّ‬
‫ه ذا بتلخ يص األح داث الس ردية الطويل ة يف م ّدة زمني ة حم دودة‪ ،‬ك أن‬
‫خيتص ر الس نة يف عب ارة‪ :‬وبع د س نة ح دث ك ذا وك ذا‪ ،...‬دون أن يتع ّرض‬
‫مهم ا‪ ،‬وه ذا لغ رض‬
‫الس ارد ّ‬
‫للتفاص يل ابل ذكر‪ ،‬ب ل يكتف ي بس رد م ا ي راه ّ‬
‫ختصص ها‬
‫ّ‬ ‫تق دمي شخص ية جدي دة‪ ،‬م ثال‪ ،‬دون اإلطال ة يف ذك ر تفاص يل‬
‫تكس ر التط ّور الس ردي للحكاي ة‪ ،‬أو اإلش ارة الس ريعة إىل الثّغ رات الزمنيّ ة‬
‫وم ا وق ع فيه ا م ن أح داث‪ ،‬أو ع رض أح داث س ابقة –اس رتجاعا‪،-‬‬
‫وابلتايل يستحيل‪ ،‬هبذا التسريع وفق التقنيتني‪ :‬التلخيص‪ ،‬واحلذف‪ ،‬زمن‬

‫‪ -1‬ينظر‪ :‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2015 ،2‬م‪ ،‬ص‪.121 .‬‬

‫‪79‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫(‪)1‬‬ ‫السرد أقصر من زمن احلكاية‪.‬‬


‫أ‪ -‬تقنية التلخيص‪:‬‬
‫كم ا تب ّني م ن خ الل تن اول تقني ة ال زمن وآلي ات اش تغاهلا يف خط اب‬
‫الس ردية الب ن الق ارح يف‬
‫مهمت ه ّ‬
‫لي تن ازل ع ن ّ‬
‫الغفران‪ ،‬م ن أ ّن الس ارد األص ّ‬
‫لقصة جناته من أهوال احلساب والعقاب يف احملشر‪.‬‬
‫موقف عرضه ّ‬
‫لك ن بع د تتبّ ع أح داث احلكاي ة الغفراني ة يتب ّني‪ ،‬ك ذلك‪ ،‬أ ّن ظه ور‬
‫الشخص يات خيض ع للعب ة فني ة واح دة اعتم دها الس ارد يف معظ م مش اهد‬
‫الرحل ة الغفراني ة‪ ،‬إذ «ال يتح ّق ق وج ود الشخص ية ختييلي ا إالّ حبض ور اب ن‬
‫الق ارح ول ه‪ .‬عل ى أ ّن انص راف البط ل عنه ا م رادف للفن اء القصص ّي» (‪،)2‬‬
‫فه ي تظه ر ف رادى ك امللكني «زف ر» و«رض وان» يف احملش ر‪ ،‬ومث ىن‬
‫ك «محدونة» و«توفيق»‪ ،‬ومجاعات ك «عوران قيس» و«املأدبة»‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫يفهم من هذا أ ّن ابن القارح‪/‬بطل الغفران مل يعش حداث واحدا‪ ،‬متّصال‬
‫بعضه ببعض‪ ،‬بل إنّه عند التقائه أبي شخصية من الشخصيات ينشأ عن‬
‫اجملسدة هلذا‬
‫الشخصيات ّ‬ ‫هذا اللقاء حداث‪ ،‬اّ ختتفي الشخصية أو ّ‬
‫تتضمن‬
‫املتلقي اثنية‪ ،‬فرحلة الغفران‪ ،‬إذن‪« ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫احلدث وتفىن‪ ،‬وال يراها‬

‫‪ -1‬ينظر‪ :‬قاسم‪ ،‬سيزا‪ :‬بناء الرواية (دراسة مقاربة يف ثالثية جنيب حمفوظ) دار التنوير للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪ ،‬ص‪.78 .‬‬
‫‪ -2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪80‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حداث منتهي ا واح دا‪ ،‬ب ل تتض ّمن أح دااث منتهي ة ع ّدة‪ .‬وعل ى ه ذا األس اس‬
‫ميك ن معاجل ة تل ك الش بكة م ن األح داث ال يت تق وم فيه ا‪ ،‬انطالق ا م ن‬
‫انتظامه ا يف ص ور س رديّة‪ ،‬تض ع عل ى مس رح األح داث شخص يات ع ّدة‬
‫فاعليّة»‪)1(.‬‬ ‫تؤدي أدوارا‬
‫ّ‬
‫ردي للغف ران‪،‬‬
‫تتجلّ ى تقني ة التلخ يص يف مواض ع كث رية م ن اخلط اب الس ّ‬
‫مهم ة الس رد‪،‬‬
‫وىل فيه ا بط ل الغف ران‪/‬ابن الق ارح ّ‬
‫ولع ّل أمهّه ا تل ك ال يت ت ّ‬
‫وأخ ذ يس رد م ا وق ع ل ه يف احملش ر‪« :‬فغ ربت بره ة‪ ،‬حن و عش رة ّأايم م ن ّأايم‬
‫الفاني ة»(‪ ،)2‬وك ذلك يف قول ه‪« :‬وك ان مق امي يف املوق ف م ّدة س تّة أش هر‬
‫م ن ش هور العاجل ة‪ ،‬ف ذلك بق ي عل ّي حفظ ي م ا نزفت ه األه وال‪ ،‬وال ّنك ه‬
‫ت دقيق احلس اب»(‪ ،)3‬ف «الربه ة» يف موق ف احلش ر تع ادل عش رة ّأايم م ن‬
‫أايم احلياة ال ّدنيويّة‪ ،‬و ّأم ا م ّدة املوق ف كلّ ه فه ي تع ادل س تّة أش هر م ن ّأايم‬
‫العاجل ة‪ ،‬ومل ي ذكر الس ارد الفرع ّي األح داث ال يت وقع ت يف ه ذه امل ّدة‬
‫ّ‬
‫الزمنيّ ة الطويل ة‪ ،‬و«يعل ن الس ارد ع ن نفس ه م ن خ الل التلخ يص‬
‫الزمّن»‪ )4(،‬ويالحظ أ ّن هذا التلخيص اقرتن ابسرتجاع‪ ،‬وهذه التقنية يف‬

‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص‪.128 .‬‬


‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -1‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.250 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -2‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.262 .‬‬
‫‪ -4‬واتر‪ ،‬حممد رايض‪ :‬أطراف اخلطاب السردي يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.225 .‬‬

‫‪81‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫االسرتجاعي»(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫تسمى «التلخيص‬
‫السردي للخطاب ّ‬
‫ّ‬ ‫التحليل‬
‫لي والفرع ّي‪ ،‬ت وحي‬
‫الس اردان‪ :‬األص ّ‬
‫وإ ّن كث ريا م ن األلف اظ ال يت أورده ا ّ‬
‫ابلدقّ ة الزمنيّ ة يف ظاهره ا‪ ،‬مث ل‪ :‬ده ر‪ ،‬أب د‪ ،‬س رمد‪ ...‬إالّ ّأّن ا مفتوح ة ال‬
‫منتهى هلا‪ ،‬فه ي «ال حت ّدد زم ن احلكاي ة ب ل تعتّم ه وتطمس ه فيك تس ص فة‬
‫املطل ّق‪ ،‬فاألص ل أن حت ّدد تل ك الق رائن م ا تس تغرقه األح داث م ن زم ن‪،‬‬
‫يعممه ويطلقه بفضل تلك التّحديدات‪ .‬يومهنا أنّه‬
‫الراوي ّ‬
‫لكن املفارقة أ ّن ّ‬
‫و ّ‬
‫يض بط ال ّزمن بواس طة تل ك املقاس ات‪ ،‬ولك ّن تل ك العمليّ ة زائف ة زيف ا‬
‫مض اعفا‪ ،‬ف املقيس جمه ول واملق يس علي ه جمه ول ك ذلك‪ ،‬كالمه ا نك رة‪،‬‬
‫اإلطالق»‪)2(.‬‬ ‫وابلتّنكري يتح ّقق‬
‫ب‪ -‬تقنية اْلذف‪:‬‬
‫ّأما احلذف فينقسم إىل نوعني‪ :‬أحدمها حم ّدد معلن‪ ،‬واآلخر غري حم ّدد‪،‬‬
‫قص ته يف موق ف احلش ر‪ ،‬ق ال‪« :‬مل أت رك‬
‫فم ثال‪ ،‬مل اّ أخ ذ اب ن الق ارح ي روي ّ‬
‫وزان مقيّ دا وال مطلق ا جي وز أن يوس م ب (زف ر) إالّ ومست ه ب ه‪ ،‬فم ا جن ع وال‬
‫غري»(‪ ،)3‬فهذا ابن القارح بعدما يئس من استعطاف امللك رض وان‪ ،‬ان ربى‬
‫ّ‬
‫يتقرب إليه أبلوان من املديح شعرا‪ ،‬إالّ أ ّن هذه احملاولة‬
‫إىل امللك زفر ّ‬
‫‪ -1‬ينظر‪ :‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2015 ،2‬م‪ ،‬ص‪.127 .‬‬
‫‪ -2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.36 .‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.251 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -3‬‬

‫‪82‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ردي أ ّن اب ن الق ارح‬


‫الس ّ‬
‫الشاهد يف ذكر ه ذا املقط ع ّ‬‫لكن ّ‬‫ابءت ابلفشل‪ّ ،‬‬
‫أخ رب املتلق ي أنّ ه مل ي رتك قافي ة مقيّ دة‪ ،‬وال أخ رى مطلق ة إالّ وق د نظمه ا‬
‫للملك زفر‪ ،‬إالّ أنّه مل يذكر وال بيتا من تلك األشعار لسببني مها‪:‬‬
‫الفرعي ابب التخيّل للمتلق ي يف فخام ة الش عر ال ذي‬
‫ّ‬ ‫• ّ‬
‫حىت يفتح السارد‬
‫قال ه‪ ،‬فيتش ّوق ه ذا املتل ّق ي إىل معرف ة بع ض من ه‪ ،‬ويف ه ذا ض رب م ن‬
‫املبالغة‪.‬‬
‫الس رد‬ ‫• أو ألنّه يقفز على األح داث ح ّىت ّ‬
‫يتعج ل الوص ول إىل نقط ة م ن ّ‬
‫فيبطّئها‪.‬‬
‫ويف ك ال احل التني‪ ،‬ف إ ّن «ال ّزمن ال ذي يس تغرقه ه ذا احل دث أط ول ل ا ال‬
‫قص ه‪ ،‬ولك ّن زم ن اخلط اب يتج اوز بكث ري‬
‫يق اس م ن ال ّزمن ال ذي اس تغرقه ّ‬
‫االستطراد»‪)1(.‬‬ ‫دميومة احلكاية يف مواطن متواترة يطلق عليها اسم‬
‫‪ -2-3‬تبطيء السرد‪:‬‬
‫أهم التقنيات اليت يعتمدها الروائيون يف تبطيء السرد أو إيقافه متاما مها‬
‫إ ّن ّ‬
‫تقنيت ا احل وار والوص ف‪ ،‬فبفض لهما تبق ى األح داث س اكنة اثبت ة‪ ،‬وخط اب‬
‫أساسي يف تنظيم‬
‫ّ‬ ‫الغفران يزخر هباتني التقنيتني ملا هلما من دور‬

‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.37 .‬‬

‫‪83‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املش اهد ب ني خمتل ف الشخص يات الس رديّة ال يت اس تدعاها املؤلّ ف الض مّن‬
‫ردي‪ ،‬ول و رج ع الق ارئ إىل تفاص يل ك ّل مش هد عل ى‬
‫الس ّ‬
‫يف صلب خطابه ّ‬
‫الس مة‬
‫الس مة الرئيس ية ال يت تكتس ب هب ا ه ذه املش اهد ّ‬
‫ح دة‪ ،‬لوج د «أ ّن ّ‬
‫والوصف»‪)1( .‬‬ ‫القصصيّة ّأّنا تقوم على التوازي بني السرد واحلوار‬
‫‪ -1-2-3‬اْلـ ـ ـ ـ ـ ـوار‪:‬‬
‫إىل جان ب تقني ة الوص ف‪ ،‬طغ ى عل ى خط اب الغف ران تقني ة احل وار‪،‬‬
‫مّن اخت ار لعب ة حش د مج ع كب ري م ن‬
‫ديهي‪ ،‬وذل ك أل ّن املؤلّ ف الض ّ‬
‫وه ذا ب ّ‬
‫الش عراء‪ ،‬واللّغ ويّني‪ ،‬واألدابء‪ ،‬وغ ريهم م ن الشخص يات ال يت س يأيت البح ث‬
‫لي أن يعتم د عل ى ص يغة‬
‫الس ارد األص ّ‬
‫عل ى ذكره ا‪ ،‬فه ي كلّه ا تقتض ي م ن ّ‬
‫واحدة‪ ،‬هي «صيغة اخلطاب املباش ر القائم ة عل ى احل وار ب ني الشخص يات‪،‬‬
‫اآلخر»‪)2(.‬‬ ‫أي أ ّن هذه الصيغة هي كالم الشخصيات بعضها مع بعضها‬
‫الش اطن خت رج خط اب الغف ران يف قال ب‬
‫ولع ّل ه ذا م ا جع ل بن ت ّ‬
‫كل مشاهد الرحلة الغفرانيّة أضعف البنية‬
‫مسرحي(‪ ،)3‬فامتداد احلوار على ّ‬
‫ّ‬

‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف‬


‫‪ -1‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.95 .‬‬
‫‪ -2‬واتر‪ ،‬حممد رايض‪ :‬أطراف اخلطاب السردي يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.228 .‬‬
‫نص مسرحي من القرن‬
‫‪ -3‬ينظر‪ :‬بنت الشاطن‪ ،‬عائشة عبد الرمحن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ّ ،‬‬
‫اهلجري‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪1403 ،‬ه ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اخلامس‬

‫‪84‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الشخص يات وتب ادل‬


‫دخالت ّ‬
‫الس ارد «يكتف ي بتنض يد ت ّ‬
‫احلدثي ة‪ ،‬وجع ل ّ‬
‫الكلم ة بينهم ا‪ ،‬ينقله ا م ن شخص يّة إىل أخ رى‪ ،‬وي ربط بينه ا ابالعتم اد‬
‫أساسا على فعل قال»(‪ ،)1‬ففعل القول ه و‪ ،‬إذن‪ ،‬مرتك ز الس ارد يف نس ج‬
‫اري الت ايل إالّ دلي ل عل ى اكتن از‬
‫ردي‪ ،‬وم ا املش هد احل و ّ‬
‫خي وط خطاب ه الس ّ‬
‫الرحل ة الغفراني ةّ بتقني ة تبط يء الس رد ع ن طري ق تب ادل األق وال ب ني‬
‫الشخصيات‪ ،‬واملشهد هو كالتايل‪:‬‬
‫عرفه هللا الغبطة يف ك ّل س بيل‪ -‬ف إذا ه و ببي ت يف أقص ى اجلنّ ة‬
‫«فيذهب – ّ‬
‫كأنّ ه حف ش أم ة راعي ة‪ ،‬وفي ه رج ٌل ل يس علي ه ن ور س ّكان اجلنّ ة‪ ،‬وعن ده‬
‫شجرة قميئة مثرها ليس بز ٍاك‪ ،‬فيقول‪ :‬اي عبد هللا‪ ،‬لقد رضيت حبقري ش ق ٍن‪.‬‬
‫فيق ول‪ :‬وهللا م ا وص لت إلي ه إالّ بع د هي اط ومي اط‪ ،‬وع رق م ن ش قاء‪،‬‬
‫وش فاعة م ن ق ريش وددت ّأّن ا مل تك ن‪ .‬فيق ول‪ :‬أان احلطيئ ة العبس ّي‪.‬‬
‫أي ش يء؟‬
‫ابلص دق‪ .‬فيق ول‪ :‬يف ّ‬
‫الش فاعة؟ فيق ول ّ‬
‫فيق ول‪ :‬مب وص لت إىل ّ‬
‫إالّ تكلّما‪)2(.»...‬‬ ‫فيقول‪ :‬يف قويل‪ :‬أبت شفيت اليوم‬
‫األصلي هذا املشهد بتقنيتني مها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يستهل السارد‬
‫ّ‬
‫• الفعل [فيذهب] ّ‬
‫الدال على استئناف احلركة السردية‪.‬‬

‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.51 .‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.307 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -2‬‬

‫‪85‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫• والعب ارات [ف إذا ه و ببي ت يف أقص ى اجلنّ ة‪ /‬كأنّ ه حف ش‪ /..‬وفي ه‬


‫دل عل ى‪:‬‬
‫رج ٌل‪ /...‬وعن ده ش جرة قميئ ة‪ ]...‬فه ي عب ارات وص فية ت ّ‬
‫مفاج أة املتلق ي لش هد ص ادم‪ /‬حتدي د مك ان البي ت م ن اجلنّ ة فه و يف‬
‫أقص ى اجلنّ ة لل ّدالل ة عل ى بس اطة ص احبه‪ ،‬ف اجلزاء م ن ج نس‬
‫العمل‪/‬حىت الشجرة القريبة م ن البي ت ختتل ف ع ن أش جار وس ط اجلنّ ة‬
‫ّ‬
‫فهي قميئة‪ ،‬أي حقرية‪.‬‬
‫اري بني ابن القارح واحلطيئة‪ ،‬فبدت حركة‬
‫وبعد هذا‪ ،‬أدرج املقطع احلو ّ‬
‫قصة األقوال‪.‬‬
‫السرد متباطئة إىل أن أوقفها احلوار بسرد ّ‬
‫فابن القارح هو من يطلعنا على الشخصية اجلديدة يف الرحلة الغفرانية‪،‬‬
‫األصلي هو من يضمن‬
‫ّ‬ ‫كل مشهد‪ ،‬فالسارد‬
‫وهو من يبادرها الكالم يف ّ‬
‫اشرتاك «هذه املشاهد املتوالية يف مستني أساسيتني مها‪ :‬حضور البطل‪،‬‬
‫وبروز عنصر احلوار‪ .‬وحضور البطل واحلوار متالزمان‪ ،‬ألنّه (أي البطل)‬
‫دائما صاحب املبادرة يف بدء احلوار مع من يلقاه»(‪ ،)1‬وال تنشط احلركة‬
‫السردية من عقال احلوار املشحون لشاهد األقوال‪ ،‬إالّ بتوايل املشاهد‬
‫احلدثية ال ّدالّة على األفعال‪.‬‬

‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف‬


‫‪ -1‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.95 .‬‬

‫‪86‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2-2-3‬تقنية الوصف‪:‬‬
‫أ‪ -‬وصف املكان‪:‬‬
‫مل يق ّدم املؤلّف الضمّن ابلوصف دفعة بل جشزأ «فضاءاته حبسب‬
‫حركة البطل وتن ّقله فيه‪ ،‬ال يكشف القارئ أطراف اجلنّة إالّ عندما جيتازها‬
‫القارح»‪)1(.‬‬ ‫ابن‬
‫وي إالّ ذك ر‪ ،‬عل ى س بيل التقري ب‬
‫ما فتن املؤلّف ي ذكر مك اان يف عامل ه العل ّ‬
‫للق ارئ‪ ،‬م ا يقابل ه م ن احلي اة ال ّدنيوي ة‪ ،‬ف األرض‪ ،‬يف الرحل ة األخروي ة‬
‫وم ابملاض ي فتحض ر ابل ّذاكرة‪ ،‬وه ي حمكوم ة‬
‫خلطاب الغف ران‪« ،‬مك ان حمك ٌ‬
‫تتم ل الواق ع‬
‫الشخصيات ما ب ه ّ‬
‫ابحلاضر على اعتبار ّأّنا مرجع تستم ّد منه ّ‬
‫اآلين»‪)2(.‬‬

‫أ‪ -‬اجلنة‪:‬‬
‫م ن خ الل تط واف الشخص ية البطل ة يف جنّ ة الغف ران‪ ،‬يس تطيع املتل ّق ي أن‬
‫مّن‪ ،‬لعظ م‬
‫يرس م ص ورة متكامل ة للجنّ ة‪ ،‬فه ي‪ ،‬وف ق م ا تص ّوره املؤلّف الض ّ‬
‫ضم مواضع ثالثة هي‪:‬‬
‫فساحتها هلا مشارق ومغارب‪ ،‬وت ّ‬
‫أ‪ -1-‬وسط اجلنة‪ :‬وهو مركزها‪ ،‬خترتقه أّنار ووداين من العسل واللنب‬

‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.29 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.30 .‬‬

‫‪87‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫واخلمر‪ ،‬ومظلل ابألشجار الوارفة السامقة‪ ،‬ذات الثمار اليانعة‪ ،‬وأوصافها‬


‫«لذي ذ اجتن اء»‪ ،‬و«تقط ر أغص انه ل اء ال ورد ق د خل ط ل اء الك افور»‪،‬‬
‫يسمى«شجر احلور»‪ .‬ومن مظاهر نع يم وس ط اجلنّ ة أن تق ام في ه‬
‫ومنها ما ّ‬
‫ال والئم الف اخرة‪ ،‬وامل أدابت الص اخبة‪ ،‬يف القص ور العالي ة‪ ،‬وال رايض‬
‫كالص حاف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفض ة‬
‫الشاس عة‪ ،‬تكث ر فيه ا األواين املص نوعة م ن ال ذهب و ّ‬
‫ّ‬
‫واألابري ق‪ ،‬والك ؤوس‪ ،‬ويس مع في ه آالت الع زف ك الرابب والزاه ر‪ ،‬خ دمها‬
‫الولدان املخلّدون‪ ،‬وجواريها احلور العني‪.‬‬
‫فك ّل ه ذه املؤثّث ات ت وحي إىل «أ ّن احلي اة يف مرك ز اجلنّ ة س عادة خالص ة‬
‫الشخص يّة والبيئ ة‬
‫جيس مها التّن اغم ب ني ّ‬
‫ادي)‪ :‬ألف ة م ع املك ان ّ‬
‫(لعناه ا امل ّ‬
‫الروح‪ ،‬رضا العقل‪ ،‬فرح ط افح‪ ،‬نع يم خال د‪ ...‬ه ي‬
‫الطّبيعيّة‪ ،‬راحة اجلسد و ّ‬
‫ّالرفاهي ة الكامل ة وال ّرتف ال ذي م ا بع ده ت رف»(‪ ،)1‬وخ ري م ا يعك س ه ذا‬
‫ادي مّ ا ورد يف الرحل ة الغفرانيّ ة قول ه‪« :‬فق د غ رس مل والي‬
‫ال ّرتف امل ّ‬
‫الش يخ اجللي ل –إن ش اء هللا‪ -‬ب ذلك الثن اء‪ ،‬ش جرا يف اجلنّ ة لذي ذ اجتن اء‪،‬‬
‫اط ليس ت يف األع ني‬ ‫كل شجرة منه أتخذ ما ب ني املش رق واملغ رب بظ ل غ ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الش جر قي ام وقع ود‬
‫اط[‪ ]...‬والول دان املخلّ دون يف ظ الل تل ك ّ‬ ‫ك ذات أن و ٍ‬
‫الشجر أّنار من ماء احليوان والكوثر مي ّدها‬
‫[‪ ]...‬وجتري يف أصول ذلك ّ‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.33 .‬‬

‫‪88‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫كل أوان من شرب منها النّغبة فال موت قد أمن هناك الفوت‪ .‬وسع ٌد‬
‫يف ّ‬
‫الرحيق‬
‫تغري أبن تطول األوقات‪ ،‬وجعافر من ّ‬ ‫متخرقات ال ّ‬
‫من اللّنب ّ‬
‫الراح ال ّدائمة‪ ،)1(»...‬يبدو‬
‫كل حمتوم‪ ،‬تلك هي ّ‬
‫عز املقتدر على ّ‬
‫املختوم‪ّ ،‬‬
‫حس ّي يتناىف مع صورة‬
‫دنيوي ّ‬
‫ّ‬ ‫تصور‬
‫تصور شخصية البطل للجنّة هو « ّ‬
‫ّ‬
‫حتولت‬
‫حق الوصاية على اجلميع‪ .‬لقد ّ‬
‫رجل العلم الذي أعطى لنفسه ّ‬
‫اجلنّة على يد هذا البطل إىل جمالس شراب ورقص وغناء أو مادب طعام‬
‫تنزه وصيد‪ ،‬ابإلضافة إىل هذا أ ّن البطل لا يتمتّع به من وضع‬
‫أو رحالت ّ‬
‫اجلنّة»(‪)2‬‬ ‫خاص يف التمتّع حبور‬
‫حق ّ‬‫متميّز‪ ،‬له ّ‬
‫حمــيط اجلنــة‪ :‬وه ي أطرافه ا وأقص اها‪ ،‬ومس اكنها ص غرية حق رية بني ت‬ ‫▪‬

‫الشقاء‪ ،‬ال ي ربح الض جر‬


‫حيس أصحاهبا ابلبؤس و ّ‬
‫على أرض جرداء قاحلة‪ّ ،‬‬
‫السخط من حي اهتم األبدي ة‪ ،‬ح ّىت أ ّن بعض هم ي رى أن ال ف رق بينه ا وب ني‬
‫و ّ‬
‫م ا ي راه س ّكان اجلح يم (مثلم ا ه و علي ه احلطيئ ة واخلنس اء) و ّأم ا ش عراء‬
‫اجلنّة»‪)3(.‬‬ ‫الرجز‪ ،‬فهي «أبيات ليس هلا مسوق أبيات‬
‫ّ‬

‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.142-141 .‬‬


‫املعر ّ‬
‫‪ّ -1‬‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف‬
‫‪ -2‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.100 .‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.373 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -3‬‬

‫‪89‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫جنـة الففاريـ ‪ :‬و ّأم ا إذا ك ان احل ديث ع ن اجل ّن‪ ،‬ف إ ّن املؤلّف جي نح إىل‬ ‫▪‬

‫إضفاء هالة من الغرابة تناس با م ع ه ؤالء األق وام‪ ،‬فجنّ تهم تق ع عل ى ح دود‬
‫من س ّكان اجلح يم م ن ع ل‪ ،‬ومل ا دان منه ا بط ل الغف ران‪« ،‬ف إذا ه و ل دائن‬
‫الشعش عاينّ‪ ،‬وه ي ذات أدح ا ٍل‬
‫ليس ت كم دائن اجلنّ ة‪ ،‬وال عليه ا النّ ور ّ‬
‫(‪)1‬‬ ‫وغماليل»‪.‬‬

‫عل ى قلّ ة أس طر ه ذا املش هد‪ ،‬إالّ أ ّن الق ارئ ال يع دم إعج ااب هب ذا الرس م‬
‫الشعش عاينّ‪ /‬أدحال‪/‬غمالي ل‪ ،‬كلّه ا غريب ة‬
‫العجي ب‪ ،‬فاأللف اظ‪ :‬م دائن‪ّ /‬‬
‫تنسجم مع غرابة املنظر‬

‫‪ -‬فال ششعش عاينّ‪ :‬يق ال‪« :‬ظ لق شعش ٌع أي ل يس بكثي ف‪ ،‬ومشعش ٌع أيض ا‬
‫الشعش ع الظّ ّل ال ذي مل يظلّ ك كلّ ه ففي ه ف ر ٌج»(‪ ،)2‬فه ذه‬
‫ك ذلك‪ ،‬ويق ال‪ّ :‬‬
‫الش مس يف مك ان ش به مظل م‪ ،‬ه و‬
‫الفتح ات ال يت خي رج م ن خالهل ا ش عاع ّ‬
‫الذي حيدث يف النّفس روعة ورهبة من خملوقات غيبيّة‪.‬‬

‫ب ض يّ ٌق فم ه اّ يتّس ع أس فله ح ّىت ميش ى‬


‫ال‪( :‬ج) «ال دشحل‪ :‬ن ق ٌ‬
‫‪ -‬أدح ٌ‬
‫السدر‪ ،‬وقيل‪ :‬هو مدخ ٌل حتت اجلرف أو يف عرض‬
‫فيه‪ ،‬ورّلا أنبت ّ‬

‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.290-289 .‬‬


‫املعر ّ‬
‫‪ّ -1‬‬

‫‪90‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫خش ب البئ ر يف أس فلها وحن و ذل ك م ن امل وارد واملناه ل»(‪ ،)1‬و«ال دشحل‪:‬‬
‫اخلبيث»‪)2(.‬‬ ‫ال ّداهية اخل ّداع للنّاس‬
‫‪ -‬الغمالي ل‪( :‬ج) «الغمل ول‪ :‬بط ن غ امض م ن األرض ذو ش جر‪ ،‬وقي ل‪:‬‬
‫ف‪ ...‬وقي ل‪ :‬ه و جمتم ع م ن‬
‫الش جر والنشب ت امللت ّ‬
‫ه و ال وادي الض يّق الكث ري ّ‬
‫غملوال»‪)3(.‬‬ ‫تسمى‬
‫حىت ّ‬
‫الشجر والظلمة والغمام إذا أظلم وتراكم ّ‬
‫ّ‬
‫بع د ه ذا احلش د م ن املع اين‪ ،‬ذات احلق ل املعجم ّي ال ّد ّال عل ى األمكن ة‬
‫الض يّقة ال يت‬
‫املوحشة‪ ،‬اليت تكون فيه ا الرؤي ة ش به منعدم ة‪ ،‬ذات الفتح ات ّ‬
‫الش وكية املتش ابكة‪ ،‬وت دفّق املي اه‬
‫ف حوهل ا الش جر الكث ري والنب ااتت ّ‬
‫الت ّ‬
‫مّن «ك ان واعي ا ابلوظيف ة‬
‫الض حلة‪ ،‬ميك ن اخلل وص إىل أ ّن املؤلّ ف الض ّ‬
‫ّ‬
‫نص الغف ران‪ ،‬مل ا يتّس م ب ه م ن عجائبيّ ة‬
‫الرمز يف ّ‬
‫سيؤديها هذا ّ‬
‫اجلماليّة اليت ّ‬
‫املدهشة»‪)4(.‬‬ ‫خاصة الرتياده مثل هذه العوامل اخلفيّة‬
‫ص مجاليّة ّ‬
‫تكسب النّ ّ‬
‫يتوقف املؤلّف من إاثرة ال ّدهشة يف روع املتلقي هبذا الوصف فحسب‪،‬‬
‫مل ّ‬
‫مادة (شعع)‪ ،‬اجمللّد الثامن‪ ،‬ص‪.181 .‬‬
‫‪ -1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ّ ،‬‬
‫مادة (دحل)‪ ،‬اجمللّد احلادي عشر ‪ ،‬ص‪.237 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ّ ،‬‬
‫مادة (غمل)‪ ،‬اجمللّد احلادي عشر ‪ ،‬ص‪.506 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ّ ،‬‬
‫العام ة‬
‫طوري‪ ،‬سلس لة كت اابت نقدي ة‪ ،‬اهليئ ة ّ‬
‫عمار‪ ،‬هجرية لع ور‪ :‬الغف ران يف ض وء النق د األس ّ‬
‫‪ -4‬بنت ّ‬
‫لقصور الثقافة‪ ،‬ع‪ ،179‬القاهرة‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪ ،‬ص‪.193 .‬‬

‫ّن «أيب ه در‬


‫ب ل تع ّداه إىل ح وار عجي ب تواص ل في ه بط ل الغف ران ابجل ّّ‬
‫اخليتع ور»‪ ،‬ال ذي حت ّول إىل س ارد يلق ي عجائ ب األش عار جعل ت م ن‬
‫‪91‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الرحل ة الغفرانيّ ة مش حونة ابلعناص ر األس طورية‪ ،‬وعل ى ال ّرغم «م ن وج ود‬


‫ص عليه ا الق رآن الك رمي ف إ ّن أاب الع الء رغ م حماكات ه‬
‫اجل ّن كحقيق ة دينيّ ة ن ّ‬
‫يّن إىل‬
‫للق رآن الك رمي اس تطاع أن خي رج هب ذا الرم ز م ن إط ار العجي ب ال ّد ّ‬
‫املمتع»‪)1(.‬‬ ‫األسطوري ليصل إىل اجلميل‬
‫األديب و‬
‫ّ‬ ‫إطار العجيب ّ‬
‫▪ اجلحيم‪:‬‬
‫إذا كان ت اجلنّ ة لختل ف مواض عها (املرك ز واحمل يط) تتّص ف ابلعل ّو‬
‫فلي س حيق‪ ،‬يق ع يف‬
‫واالخض رار‪ ،‬وكث رة امل اء وعذوبت ه‪ ،‬ف إ ّن اجلح يم س ق‬
‫ائي‪ ،‬أدخ ل في ه املؤلّ ف أص نافا م ن‬
‫منته ى اجلنّ ة‪ ،‬وه و ع امل الع ذاب الالّّن ّ‬
‫الش عراء اجل اهليّني واملخض رمني واملولّ دين‪ ،‬يتق ّدمهم إبل يس اللّع ني‪ ،‬فه و‬
‫ّ‬
‫السالس ل‪ ،‬ومق امع احلدي د أتخ ذه م ن أي دي‬
‫«يض طرب يف األغ الل و ّ‬
‫الشعراء املولّدين م ن ه و «يف أص ناف الع ذاب‬
‫الزابنية‪ ،)2(»...‬اّ يرى من ّ‬
‫ي غ ّم ض عيني ه ح ّىت ال ينظ ر إىل م ا ن زل ب ه م ن ال نّقم‪ ،‬فيفتحهم ا الزابني ة‬
‫بش ار ب ن ب رد ق د أعط ي عين ني بع د الكم ه‪،‬‬ ‫بكاللي ب م ن انر‪ ،‬وإذا ه و ّ‬
‫الشعراء اجلاهليّني‪ ،‬فريى‬
‫لينظر إىل ما نزل به من النّكال»(‪ ،)2‬و ّأما من ّ‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.194 .‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.309 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -2‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.310 .‬‬
‫لي م ن اإلع راب ع ن حمنت ه يف‬
‫«أوس ب ن حج ر» ق د م ّكن ه الس ارد األص ّ‬
‫انر توق د‪ ،‬وبن ا ٌن يعق د‪ ،‬إذا غل ب‬
‫فأم ا أان فق د ذهل ت‪ٌ :‬‬
‫السعري‪ ،‬فيق ول‪ّ « :‬‬
‫ّ‬

‫‪92‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫علي الظمأ‪ ،‬رفع يل شيءٌ كالنّهر‪ ،‬فإذا اغرتفت منه ألشرب‪ ،‬وجدت ه س عرياً‬
‫ّ‬
‫رما»‪)1(.‬‬
‫مضط ً‬
‫مّن أن يزي د‬
‫عل ى فظاع ة مش اهد الع ذاب يف اجلح يم‪ ،‬مل يش أ املؤلّ ف الض ّ‬
‫عل ى ه ذا‪ ،‬وك ان إبمكان ه أن يتف نّن يف أل وان التع ذيب‪ ،‬ب ل إ ّن وق وف اب ن‬
‫عم ا الت بس علي ه م ن ص ّحة بع ض‬
‫الق ارح يف اجلح يم مل يك ن إالّ ليستفس ر ّ‬
‫يتفرد بروايته‪ ،‬فها هو ذا يفصح عن نيّت ه‬
‫األشعار‪ ،‬ويطمح إىل حصد سبق ّ‬
‫فيق ول ألوس ب ن حج ر‪« :‬إّمن ا أرت أن آخ ذ عن ك ه ذه األلف اظ‪ ،‬ف أحتف‬
‫شري ٍح»‪)2(.‬‬ ‫أوس‪ ،‬أخربين أبو‬
‫هبا أهل اجلنّة فأقول‪ :‬قال يل ٌ‬
‫▪ احملشر‪:‬‬
‫و ّأما احملش ر ال ذي ورد ذك ره اس رتجاعا‪ ،‬فه و مك ان ض نك وت دافع‪ ،‬فاحلرك ة‬
‫في ه ال تنقط ع م ن بط ل الغف ران‪ ،‬فه و يه رع ب ه ميمن ة وميس رة للنّج اة م ن‬
‫ه ول احلس اب‪ ،‬و ّأم ا ع ن موقع ه م ن اجلنّ ة‪ ،‬فه و «يع دُّ‪ ...‬ح ّدا فاص ال ب ني‬
‫اجلنّة والنّار‪...‬فهو أقرب إىل الالّمكان»(‪ ،)3‬وهو خيتلف عن اجلنّة مساحة‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.341 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.341 .‬‬
‫‪ -3‬ينظر‪ - :‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.30 .‬‬
‫الوه اب‪ :‬املك ان يف رس الة الغف ران‪ ،‬أش كاله ووظائف ه‪ ،‬دار ص امد للنّش ر‬
‫‪ -‬زغ دان‪ ،‬عب د ّ‬
‫والتّوزيع‪ ،‬تونس‪ ،1994 ،‬ص‪.34 .‬‬
‫ومناخ ا فه و ض يّق األرج اء‪ ،‬يرم ز إىل الغ نب واالب تالء‪ ،‬يص فه اب ن الق ارح‪،‬‬
‫فيق ول‪« :‬وجعل ت تل ك اخلي ل ختلّ ل النّ اس وتنكش ف هل ا األم م واألجي ال‪،‬‬
‫‪93‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابلرك اب»(‪ ،)1‬و ّأم ا ع ن‬


‫الزح ام ط ارت يف اهل واء‪ ،‬وأان متعلّ ٌق ّ‬
‫فلم ا عظ م ّ‬
‫ّ‬
‫قساوة املن اخ‪ ،‬فيق ول‪« :‬فط ال عل ّي األم د‪ ،‬واش ت ّد الظّم أ والوم د ‪-‬والوم د‪:‬‬
‫الفرعي‪/‬بط ل‬
‫ّ‬ ‫الس ارد‬
‫ش ّدة احل ّر وس كون ال ّريح‪ ،)2(»-‬واحملش ر‪ ،‬كم ا ص ّوره ّ‬
‫ينعم ون نعيم ا مؤقّت ا‪،‬‬
‫فاملبش رون ابجلنّ ة ّ‬
‫الغف ران‪ ،‬ه و مك ان ب ني مك انني‪ّ ،‬‬
‫املبش رون ابجلح يم م ن «الكف رة حيمل ون‬
‫مييّ زهم ع ن غ ريهم م ن العص اة‪ ،‬و ّ‬
‫الزابنيّ ة بعص ٍّي تض طرم انرا‪ ،‬فريج ع أح دهم‬
‫أنفس هم عل ى ال ورد فت ذودهم ّ‬
‫وث بوٍر»‪)3(.‬‬ ‫وقد احرتق وجهه أو يده وهو يدعو بويل‬
‫فاحملشر‪ ،‬من خالل رحلة ابن القارح‪ ،‬هو أحد اثنني إم ا ّأول النع يم فريق ى‬
‫ص احبه إىل اجلنّ ة‪ ،‬وإم ا ّأول الع ذاب فيه وي ص احبه إىل اجلح يم‪ ،‬ومن ه‬
‫فلي م ن أب رز العالق ات ب ني الفض اءات‬
‫الس ّ‬
‫وي و ّ‬
‫يس تخلص «أ ّن ثنائي ة العل ّ‬
‫ألّن ا علويّ ة‪ ،‬وه ي أفض ل م ن اجلح يم‬
‫املكانيّ ة‪ ،‬فاجلنّ ة أفض ل م ن األرض ّ‬
‫فلي‪ّ .‬أم ا احملش ر ف ال ي دخل ه ذه املفاض لة ألنّ ه‬
‫ألنّ ه‪ ،‬ك األرض س ّ‬
‫الالمكان»‪)4(.‬‬
‫ي‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.259 .‬‬
‫املعر ّ‬
‫‪ّ -1‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.248 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.257 .‬‬
‫‪ -4‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.30 .‬‬

‫ودي فاجلنّ ة علوي ة‪،‬‬


‫فاملكان‪ ،‬إذن‪ ،‬يف خطاب الغفران حمكوم ابالجتاه العم ّ‬
‫سفلي‪ ،‬واحملشر بينهما مل تتح ّدد معامله‪.‬‬
‫واجلحيم ّ‬
‫‪94‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ب‪ -‬وصف الشخصيات‪:‬‬


‫اترخيي‪ ،‬وأخرى قد اقتبسها‬
‫ّ‬ ‫يضم خطاب الغفران شخصيات هلا تواجد‬ ‫ّ‬
‫ف‬‫املؤلّف من النّصوص الدينيّة لكوّنا غيبيّة‪ ،‬إالّ أ ّن املدار كلّه كان يلت ّ‬
‫أي شخصية دون النظر إليها من‬
‫حول الشخصية البطلة‪ ،‬فلن يتأتّى ظهور ّ‬
‫الرحلة حمكوم‬
‫خالل عيّن ابن القارح‪ ،‬ويالحظ «أ ّن توزيع الشخصيات يف ّ‬
‫وأ ّن حضورها هذا‬ ‫منها»‪)1(.‬‬
‫كزي‬
‫حيتل املوقع املر ّ‬
‫ابلبطل ابن القارح الذي ّ‬
‫يعادل حضورها يف احلياة ال ّدنيا‪ ،‬إالّ أ ّّنا تعجن بتخيّيل املؤلّف الضمّن‬
‫فتستحيل شخصية من ورق‪ ،‬ف «الشخصية التارخييّة‪ ،‬إذ تقحم يف العمل‬
‫يلي‪ ،‬هبذه الطّريقة أو تلك‪ ،‬حبيث جيعلها صاحب العمل تفعل‬ ‫التخيّ ّ‬
‫ص‬
‫تتعرض إىل املسخ والتشويه حيث تبلورها اآللة املنتجة للنّ ّ‬
‫وتتكلّم‪ّ ،‬‬
‫»‪)2(.‬‬ ‫وتقودها إىل اخليال من حيث كون العمل عمال ختيّيليّا‬

‫على كثرة الشخصيات يف اخلطاب الغفراينّ‪ ،‬إالّ أ ّن ظهورها خيضع‬


‫للعبة فنية واحدة اعتمدها السارد يف معظم مشاهد الرحلة الغفرانية‪ ،‬إذ «ال‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.25 .‬‬
‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص‪.187.‬‬
‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -2‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬

‫يتح ّقق وجود الشخصية ختييليا إالّ حبضور ابن القارح وله‪ .‬على أ ّن انصراف‬
‫القصصي»‪)1(.‬‬ ‫البطل عنها مرادف للفناء‬
‫ّ‬
‫‪95‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تتعرض ملث ل ه ذا املس خ‬


‫ومن هنا‪ ،‬ميكن القول أب ّن الشخصيّة التارخييّة اليت ّ‬
‫األديب‪ ،‬أي‬
‫والتشويه «ال ميك ن أن ت درس انطالق ا مّا عرف ت ب ه يف التّ اريخ ّ‬
‫انطالق ا مّ ا قالت ه وقي ل عنه ا يف جم ال األدب‪ ،‬فحس ب‪ ،‬ولكنّه ا ت درس‪،‬‬
‫ك ذلك‪ ،‬انطالق ا مّ ا تقول ه وتفعل ه‪ ،‬ه ي ذاهت ا‪ ،‬يف العم ل التّخيّيل ّي» (‪،)2‬‬
‫وأل ّن تركي ز املؤلّ ف عل ى شخص ية اب ن الق ارح نتيج ة كون ه احمل ّف ز املباش ر‬
‫الفّن‪ ،‬يرى البحث أن ي درج‪ ،‬يف ه ذا الس ياق‪،‬‬
‫ي هذا اخلطاب ّّ‬
‫املعر ّ‬
‫إلنتاج ّ‬
‫ك بع ض األلغ از‬
‫عرض ا مقتض ب لرس الة ه ذا البط ل‪ ،‬لعلّه ا تس اعد عل ى ف ّ‬
‫الشخصية التارخيية‪.‬‬
‫املعرة عن هذه ّ‬
‫ضمنها شيخ ّ‬
‫اليت ّ‬
‫‪ -1‬ابن القارح‪ /‬املرسل‪:‬‬

‫رد م ن ش يخ املع ّرة عل ى رس الة‬


‫كما هو معلوم‪ ،‬أ ّن خط اب الغف ران ه و ّ‬
‫قد بلغته‪ ،‬وينتظر منه صاحبها جوااب‪ ،‬هلذا كان لزاما على البح ث أن يع ّرف‬
‫هبذا املرسل‪/‬املتلقي‪ ،‬الذي جعل منه أبو العالء بطال لرحلته السماوية‪.‬‬

‫بطل الغفران هو علي بن منصور بن طالب احلليب «امللقب دوخلة يعرف‬


‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ، ،‬ص‪.25 .‬‬
‫وحي بن يقظان‪ ،‬ص‪.187.‬‬
‫القصة وداللتها يف رسالة الغفران ّ‬
‫‪ -2‬قجور‪ ،‬عبد املالك‪ّ :‬‬
‫اببن القارح‪ ...‬يك شىن أاب احلسن»(‪ ،)1‬ونقل احلموي عن غريه أخباره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«هو شيخ م ن أه ل األدب ش اهدانه ببغ داد‪ ،‬راوي ة لألخب ار وحافظ ا لقطع ة‬
‫كبرية من اللغ ة واألش عار‪ ،‬قؤوم ا ابلنح و‪ ،‬وك ان م ن خ دم أاب عل ي الفارس ي‬
‫‪96‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ومساعات ه»‪)2(.‬‬ ‫يف داره وهو صيب‪ ،‬ا الزم ه وق رأ علي ه عل ى زعم ه مجي ع كتب ه‬
‫ودرس كذلك على اب ن خالوي ه كم ا ج اء يف رس الته أليب الع الء‪ ،‬ويب دو م ن‬
‫خ الل اس تعراض مراح ل حيات ه الغامض ة أّن ا كان ت غ ري مس تقرة‪ ،‬فق د ك ان‬
‫كثري الرتحال‪ ،‬وكانت «معيشته م ن التعل يم ابلش ام ومص ر‪ ،‬وك ان حيك ي أن ه‬
‫كان مؤداب أليب القاسم املغريب الذي وزر ببغداد»(‪ ،)3‬وهذا ما يؤكد حظوته‬
‫عن د الف اطميني‪ ،‬وألس باب عرض ها يف رس الته أليب الع الء‪ ،‬س اءت العالق ة‬
‫بينه ساءت العالقة بينه وبني الوزير املغ ريب‪ ،‬وأخ ذ ين ال من ه ويتن ّقص ه‪ ،‬و«ل ه‬
‫يذمه ويع ّدد معايبه‪ ،‬وشعره جيري جمرى ش عر املعلّم ني‪،‬‬
‫فيه هجو كثري‪ ،‬وكان ّ‬
‫الطالوة»‪)4(.‬‬ ‫قليل احلالوة خاليا من‬

‫مل يكن ابن القارح نكرة يف الوسط الفكري آنذاك‪ ،‬بل كان جيالس كبار‬
‫العلماء يف زمنه‪ ،‬ويطرق أبواب الوزراء والوجهاء‪ ،‬ويبدو أنّه من خالل‬
‫‪ 1‬احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم ألدابء‪ ،‬إرشاد األريب إىل معرفة األديب‪ ،‬حتقيق إحس ان عب اس‪ ،‬دار الغ رب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪1993 ،1‬م‪ ،‬ص‪.1974.‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.1974 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.1974 .‬‬
‫‪ - -4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.1974 .‬‬
‫ت رداده عل ى ه ذه اجمل الس ق د اكتس ب ج رأة ش ّجعته عل ى مناقش ة أيب‬
‫ووج ه إلي ه رس الته‬
‫الع الء يف مس ائل ش رعية‪ ،‬وأدبي ّة‪ ،‬ولغوي ة‪ ،‬وفلس فية‪ّ ،‬‬

‫‪97‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املعروف ة ب «رس الة اب ن الق ارح»‪ ،‬يطم ح فيه ا إىل وق وع ش يخ املع رة يف هف وة‬
‫يظفر من خالهلا على إجابة تدينه ابلكفر و اإلحلاد‪.‬‬

‫ص ّدرت بن ت الش اطن رس الة الغف ران ‪-‬يف طبعته ا اخلامس ة‪ -‬لقدم ة‬
‫هم ة لرس الة اب ن الق ارح‪ ،‬اّ أوردهت ا كامل ة‪ ،‬وتق ع يف س بع وأربع ني ص فحة‪،‬‬
‫م ّ‬
‫الرسالة ليست خبفية‪ ،‬مل ا‬
‫ذيّلتها احمل ّققة بشروح وافية وتراجم لألعالم‪ .‬وفائدة ّ‬
‫هلا من دور جليل يف قراءة رسالة الغفران‪ ،‬فهي امتداد طبيع ي هل ا م ن حي ث‬
‫خص ص اجل زء الث اين م ن‬
‫أفكاره ا‪ ،‬أل ّن أاب الع الء ‪-‬كم ا س يأيت بيان ه‪ّ -‬‬
‫للرّد عن استفسارات وآراء ابن القارح بطريق ة مباش رة‪ ،‬وتتبعه ا س طرا‬
‫خطابه ّ‬
‫سطرا إىل أن استوىف اإلجابة ح ّقها‪.‬‬

‫جع ل اب ن الق ارح ال وزير أاب القاس م املغ ريب حم ور رس الته‪ ،‬فه و ال يك اد‬
‫ينتق ل م ن حديث ه عن ه ح ىت يع ود إلي ه ك ّرة أخ رى‪ ،‬وكأن ه لع رض استحض ار‬
‫ج ّل مواقف ه مع ه‪ ،‬وإن فات ه ش يء من ه جع ل ل ه وص لة اس تدركه هب ا‪ ،‬وه و يف‬
‫ذلك كله ب ني التص ريح اترة والتلم يح اترة أخ رى‪ ،‬يطع ن ال وزير هب ذه‪ ،‬ويغم ز‬
‫أاب العالء بتلك‪ ،‬ومن قول ه يف ال وزير‪« :‬وك ان أب و القاس م مل وال‪ ،‬واملل ول رل ا‬
‫تنحل‬
‫ميل أن مي ّل‪ ،‬وحيقد حقد من ال تلني كبده‪ ،‬وال ّ‬
‫مل املالل‪ ،‬وكان ال ّ‬‫ّ‬
‫عق ده»(‪ّ ،)1‬أم ا تعريض ه أبيب الع الء ك ان ض من حديث ه ع ن الزاندق ة‬
‫وامللح دين‪ ،‬وأدرج املتن يب وس يف الدول ة يف ق ائمتهم‪ ،‬وه و يعل م‪ ،‬ال حمال ة‪،‬‬
‫مكان ة ه ذا الش اعر م ن قل ب ش يخ املع رة‪ ،‬فيق ول‪« :‬ولك ّن أغت اظ عل ى‬
‫‪98‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الش به عل ى‬
‫الزاندق ة وامللح دين ال ذين يتالعب ون ابل ّدين‪ ،‬وي روم ون إدخ ال ُّ‬
‫املسلمني‪ ،‬ويستعذبون القدح يف نبوة النبيني صلوات هللا عليهم أمجعني‪.‬‬
‫ويتظرف ون ويبت دئون إعج ااب ب ذلك امل ذهب»(‪ ،)2‬ا طف ق يع رض م وجزا‬
‫يب ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬وكأنّه يعرض اإلسالم على من حاد‬
‫لسرية النّ ّ‬
‫ع ن جادت ه‪ ،‬وتل بس ابلكف ر واإلحل اد‪ ،‬ليخ تم رس الته حبديث ه ع ن املتص وفة‬
‫وطريف أخبارهم‪.‬‬

‫تل ّقى أبو العالء رسالة ابن القارح‪ ،‬وأوالها من االهتمام بقدر ما حتمل من‬
‫ورد عليه برسالة جعل نواهتا الغفران‪ ،‬ارتقى فيها ابلشيخ‬
‫سخرية وتعريض‪ّ ،‬‬
‫احلليب إىل عرصات اجلنّة‪ ،‬وقد اختذ املعري من ابن القارح «وسيلة للربط‬
‫كل مشهد عن مسة‬
‫بني املشاهد املتجاورة كما اختذ منه ذريعة للكشف يف ّ‬
‫من مساته»(‪.)3‬‬

‫‪ -1‬رسالة ابن القارح‪ :‬نقال عن‪ :‬بنت الشاطن‪ ،‬عائشة عبد الرمحن‪ :‬مقدمة رسالة الغفران‪ ،‬أبو العالء‬
‫املعري‪ ،‬حتقيق بنت الشاطن‪ ،‬دار املعارف لصر‪ ،‬ط‪1388 ،5‬ه ‪1969 /‬م‪ ،‬ص‪.61.‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.30.‬‬
‫‪ -3‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬وبن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.18 .‬‬

‫‪ -2‬الشخصيات بني الواقع التارخيي والسرد التخييلي‪:‬‬


‫متيّ ز أب و الع الء يف أدب ه ‪-‬ش عرا ونث را ‪ -‬ابإللغ از واإلغ راب يف لغت ه‪ ،‬وال‬
‫ي رتك للق ارئ منف ذا ي ركن في ه للس طحية والبس اطة يف تن اول القض ااي ال يت‬
‫‪99‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يثريه ا‪ ،‬وه و أيس ره م ن ّأول كلم ة خيطّه ا عن واان ألعمال ه اإلبداعي ة‪ ،‬فم ن‬
‫الزن د»‪ ،‬و«اللزومي ات» و«ال ّدرعيات»‪ ،‬وم ن‬
‫دواوين ه الش عرية‪« :‬س قط ّ‬
‫مؤلفات ه النثري ة «الفص ول والغ اايت» و«األي ك والغص ون» و«رس الة‬
‫املالئك ة» و«الرس الة اإلغريض ية»‪ ،‬و«رس الة الغف ران» (مدون ة البح ث)‪.‬‬
‫فم ن خ الل ه ذه العن اوين‪ ،‬يب دو جلي ا أ ّن ش يخ املع ّرة مج ع فيه ا ب ني الدق ة‬
‫اللغوي ة وعم ق املع ىن م ن جه ة‪ ،‬وب ني اإلغ راب واجل رس املوس يقي م ن جه ة‬
‫أخ رى‪ ،‬وه و يف ذل ك كل ه‪ ،‬جيعله ا كلم ة جامع ة ملض امني نصوص ه له ارة‬
‫وحذق ابلغني‪.‬‬
‫‪ -1-2‬عتبة اخلطاب الغفراين‪:‬‬
‫ّأم ا ع ن عتب ة الرس الة ال يت يتناوهل ا البح ث‪:‬الغفران‪ ،‬فيحي ل الق ارئ إىل‬
‫معاين متشعبة‪ ،‬جعلها أبو العالء اثوي ة يف ك ل كلم ة م ن كلم ات شخص ياته‬
‫السماوية‪ ،‬تنبثق عنها أسئلة ال حصر هلا‪ ،‬منها م ا عالق ة غف ران أيب الع الء‬
‫بغفران القرآن؟ وما املعيار الذي احتكم إليه أبو العالء يف إدخال‬

‫شخص ياته اجلن ة أو الن ار؟ ومل أدرك اب ن الق ارح ابلش فاعة يف غفران ه وه و يف‬
‫نظره منافق أفّاك؟‬

‫‪100‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أول م ا ميك ن تس جيله يف ش أن عالق ة غف ران أيب الع الء بغف ران الق رآن‪،‬‬
‫ّ‬
‫تومه وا أ ّن أدي ب‬
‫أ ّن كث ريا مّن اطّلع وا عل ى رس الة الغف ران ‪ -‬ق دميا وح ديثا ‪ّ -‬‬
‫املع ّرة ق د جت ّرأ عل ى املعتق دات اإلس الميّة ابس تخفاف كب ري‪ ،‬وأنّ ه خ اض‬
‫ابحلديث يف م االت البش ر ي وم القيام ة‪ ،‬وه و م ن املتعلق ات ابلغي ب‪ ،‬وف ات‬
‫اص‪ ،‬كم ا‬
‫ه ؤالء أ ّن الرس الة بدع ة فنيّ ة «يط ّل هب ا أب و الع الء عل ى عامل ه اخل ّ‬
‫أتمالت ه وأحالم ه‪ ،‬وكم ا ص اغته ل ه هواجس ه وأش واقه و خماوف ه‬
‫متثّل ه يف ّ‬
‫ظل شخصية ابن الق ارح عل ى وجدان ه‪ ،‬وم ا‬
‫حيسه من ّ‬
‫ومواجعه‪ ،‬مع ما كان ّ‬
‫رسالته»‪)1( .‬‬ ‫يرتدد يف مسعه من صدى صوت هذا الرجل يف‬
‫ّ‬
‫ف ات ه ذا الق ارئ أ ّن رس الة الغف ران رحل ة ختييلي ة‪ ،‬افتتحه ا ص احبها‬
‫بكلمات تربطها مباشرة أبفق ختييلي جنح به إىل العامل األخروي‪ ،‬فهو يق ول‬
‫يف مستهلّها‪« :‬فقد غرس مل والي الش يخ اجللي ل‪ ،‬إن ش اء هللا‪ ،‬ب ذلك الثن اء‪،‬‬
‫شجر يف اجلنّ ة لذي ذ اجتن اء‪ ،)2( »...‬ف أبو الع الء ي ورد عبارت ه عل ى س بيل‬
‫ابدع اء من ه أ ّن ه ذا ه و ح ّق‬
‫التّم ّن واملعلّ ق لش يئة هللا ‪-‬ع ّز و ج ّل‪ -‬ول يس ّ‬
‫اليقني‪ ،‬وأ ّن من أوردهم اجلحيم فمن وحي ملكته الفنية ال غري‪ ،‬لذلك‬
‫‪ 1‬بنت الشاطن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ ،‬نص مسرحي من القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬ص‪.71 .‬‬
‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬
‫تعرض ه مل ا ش اع ع ن زندق ة‬
‫فه و يقيّ د كالم ه لش يئة الب اري م ّرة أخ رى عن د ّ‬
‫بش ار ب ن ب رد‪ ،‬فيس وقه إىل النّ ار م ع طائف ة م ن الش عراء‪ ،‬اّ يس تدرك ع ن‬

‫‪101‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قص د ل درء وص مه بش بهة التج ّّن عل ى م االت اخلالئ ق ق ائال‪« :‬وال أحك م‬
‫ألين عقدته لش يئة هللا‪ ،‬وإ ّن‬
‫عليه أبنّه من أهل النّار‪ ،‬وإّمنا ذكرت فيما تق ّدم ّ‬
‫وهاب» (‪ ،)1‬ويردف عبارات ماثلة يف سياق حديثه عن زندق ة أيب‬
‫هللا حلليم ّ‬
‫الغيوب»‪)2(.‬‬ ‫نواس وأمثاله قائال‪« :‬وسرائر النّاس مغيّبة‪ ،‬وإّمنا يعلم هبا عالّم‬

‫ليس هذا فحسب‪ ،‬بل إ ّن من النّقاد من رأى أ ّن حيلة الثواب والعقاب ال يت‬
‫علي بن منصور‪ /‬املرسل إلي ه‪ ،‬جعله ا‬
‫الضمّن للنيل من ّ‬
‫ّ‬ ‫اهتدى إليها املؤلّف‬
‫ع زاء للتغاض ي ع ن كث رة االس تطرادات اللغويّ ة‪ ،‬ذل ك أ ّن «م ا ش فع لرس الة‬
‫خاصة هو أ ّن فضاء اآلخرة‪ ،‬وم ا يفرتض ه م ن أح داث‬
‫الغفران ومنحها أمهّيّة ّ‬
‫متخيّ ل ة‪ ،‬نفحه ا بق ّوة س واء تعلّ ق ذل ك بغراب ة املك ان وج ّدت ه‪ ،‬وم ا يس تدعيه‬
‫يّن ح ول اجلنّ ة والنّ ار‪ ،‬أو‬
‫م ن احتم االت تس تم ّد وجوده ا م ن امل وروث ال ّد ّ‬
‫لح اوالت ال ّراوي املس تميتة للول وج إىل ه ذا الفض اء الغري ب ووقوف ه عل ى‬
‫اآلخرة»‪)3(.‬‬ ‫أعمال الثواب والعقاب اليت يلقاها البشر يف‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.432 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.432 .‬‬
‫‪ -3‬إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬موسوعة السرد العريب‪(، ،‬حبث يف البنية السردية يف املوروث احلكائي) املؤسسة‬
‫العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2000 ،3‬م‪ ،‬ص‪.291 .‬‬
‫‪ -2-2‬شخصيات اجلنان‪:‬‬

‫مّن يف إدخ ال شخص ياته‬


‫الفّن ال ذي اح تكم إلي ه املؤلّف الض ّ‬
‫ّأما املعيار ّ‬
‫إىل اجلنّ ة أو الن ار‪ ،‬فه و ّإم ا‪ :‬أن ت درك الشخص ية املغف رة ‪ ،‬ابلرمح ة أو‬
‫‪102‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وإم ا أن تس تحق العق اب‪ ،‬واخلل ود يف الن ار‪ ،‬وس يقف‬


‫ابلش فاعة أو ابلتوب ة‪ّ ،‬‬
‫البحث على مناذج للتوضيح أكثر‪:‬‬

‫أ‪ -‬بني الغفران والرمحة‪:‬‬


‫ال يك اد اب ن الق ارح يف اتح أح دا م ن شخص يات الغف ران ابحل ديث إالّ‬
‫عج ل إلي ه ابلس ؤال‪« :‬مب غف ر ل ك؟» أو «مب مل يغف ر ل ك؟» ح ىت أص بح‬
‫ّ‬
‫متوقع ا م ن الق ارئ أن تق ع عين ه عل ى الس ؤال كلّم ا انتق ل م ن مش هد إىل‬
‫آخر‪ ،‬ويف إج اابت م ن س ئلوا م ن أه ل اجلنّ ة تك ون وس يلة الرمح ة ّإم ا ابل رؤاي‬
‫الصاحلة‪ ،‬أو ابلكلمة الطيّبة‪ ،‬أو ابتّباع دين مساوي‪:‬‬
‫• سرد األقوال‪ /‬الرؤاي الصاْلة‪:‬‬
‫يعجب ابن القارح من دخول زهري بن أيب سلمى (‪ )1‬إىل اجلنّة‪ ،‬لكونه م ات‬
‫يف اجلاهلية ومل يدرك اإلسالم‪ ،‬فما كانت إجابة الشاعر املزين إالّ بقوله‪:‬‬

‫‪ 1‬زهري بن أيب سلمى املزين‪ ،‬ورث الشعر عن خاله بشامة بن الغدير‪ ،‬وكان زهري راوية أوس بن حجر‪،‬‬
‫ا قال الشعر فوثب إىل الطبقة األوىل من فحول الشعراء اجلاهليني‪ .‬ينظر‪ :‬هامش الغفران‪ ،‬ص ص‪.‬‬
‫‪.183-182‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.182 .‬‬
‫«ولك ن رمح ة ربّن ا وس عت ك ل ش يء»‪ )2(.‬اّ يق رتب من ه ليس أله‪« :‬مب غف ر‬
‫الس ماء‪ ،‬فم ن تعلّ ق ب ه م ن س ّكان‬
‫ل ك؟ فيجيب ه زه ري أنّ ه رأى ح بال م ن ّ‬
‫ّن وقل ت هل م عن د‬
‫األرض س لم‪ ،‬فعلم ت أنّ ه أم ر م ن أم ر هللا‪ ،‬فأوص يت ب ّ‬

‫‪103‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حمم دا‬
‫امل وت‪ :‬إن ق ام ق ائم ي دعوكم إىل عب ادة هللا ف أطيعوه‪ .‬ول و أدرك ت ّ‬
‫لكن ت ّأول امل ؤمنني»‪ )1(.‬ويف ه ذا إش ارة إىل أ ّن أاب الع الء جع ل ال رؤاي‬
‫الصاحلة وسيلة إىل املغفرة‪ .‬وم ا جي در اإلش ارة إلي ه أ ّن م ا رآه زه ري ه و حيل ة‬
‫فني ةاخرتعها ص احب الغف ران‪ ،‬ومل تثب ت ال رؤاي رواي ة ع ن ص احبها ‪ -‬فيم ا‬
‫وقف عليه البحث ‪ -‬يف الرتاجم القدمية‪.‬‬
‫• سرد األقوال‪/‬الكلمة الطيبة‪:‬‬

‫وجل‪،-‬‬
‫عز ّ‬‫شلت الرمحة عبيد بن األبرص(‪ )2‬ببيت من الشعر جمّد فيه هللا ‪ّ -‬‬
‫فكان سببا يف ختفيف العذاب عن ه كلّم ا أنش د يف ال دار العاجل ة بع د موت ه‪،‬‬
‫أين‬
‫إىل أن أعتق ه م ن انر الس عري‪ ،‬يف ه ذا يق ول الب ن الق ارح‪« :‬أخ ربك ّ‬
‫دخلت اهلاوية وكنت قلت ّأايم احلياة‪:‬‬

‫و س ائل هللا ال خييب‬ ‫من يسأل النّاس حيرموه‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.183 .‬‬


‫عمر طويال حىت قتله املنذر بن ماء السماء‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪ 2‬عبيد بن األبرص‪ ،‬شاعر جاهلي من بّن أسد‪ّ ،‬‬
‫هامش الغفران‪ ،‬ص‪.182 .‬‬

‫ف ع ّّن الع ذاب ح ىت‬


‫وس ار ه ذا البي ت يف آف اق ال بالد ومل ي زل ينش د و خي ّ‬
‫أطلق ت م ن القي ود واألص فاد‪ ،‬اّ ك ّرر إىل أن شلت ّن الرمح ة بربك ة ذل ك‬
‫قص ة اب ن األب رص ه ذه إش ارة م ن‬
‫البي ت‪ ،‬وإ ّن ربّن ا لغف ور رح يم»‪ )1( .‬ويف ّ‬
‫‪104‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أيب العالء إىل أ ّن يف التزام الشاعر برسالته األخالقي ة والكلم ة الطيّب ة مطمع ا‬
‫يف النجاة والفوز ابلرمحات‪.‬‬

‫• سرد األقوال‪/‬الدين السماوي‪:‬‬

‫انل عدي بن زي د العب ادي(‪ )2‬رمح ة ربّه يف غف ران أيب الع الء ألن ه ك ان عل ى‬
‫ط‪ ،‬وب ذلك يق ّرر ع دي ب ن زي د‬
‫دي ن املس يح يف حيات ه‪ ،‬ومل يس جد لص نم ق ّ‬
‫حمم د ف ال‬
‫ؤداه أ ّن «م ن ك ان م ن أتب اع األنبي اء قب ل أن يبع ث ّ‬
‫عاما م ّ‬
‫حكما ّ‬
‫لألصنام»‪)3(.‬‬ ‫أبس عليه‪ ،‬وإّمنا التبعة على من سجد‬

‫• سرد األقوال‪/‬الشفاعة‪:‬‬
‫الشفاعة يف رسالة الغفران حمفوفة بسخرية طافحة‪ ،‬لكن‬
‫كانت مواقف ّ‬
‫الساخرة الداعي ة للض حك جتع ل‬
‫امللفت للنظر أ ّن اإلسراف يف هذه املواقف ّ‬
‫الرحلة‬
‫الظن إىل اليقني ّأّنا كانت الدافع األساس هلذه ّ‬
‫يرجح ّ‬
‫املتأمل ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.186 .‬‬


‫‪ -2‬عدي بن زيد العبادي‪ ،‬من شعراء اجلاهلية‪ ،‬كان على دين املسيح‪ .‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬هامش‬
‫ص‪.186 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.186 .‬‬
‫ابلش فاعة يف‬
‫الش اعرين األعش ى واحلطيئ ة ّ‬
‫الس ماوية‪ ،‬إذ مل ي درك أب و الع الء ّ‬
‫ّ‬
‫دس من خالله ابن القارح بينهم‪.‬‬
‫موقف احملشر إالّ متويها ّ‬

‫‪105‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يب ‪ -‬ص لّى هللا علي ه و س لّم ‪ -‬بع د‬


‫الش فاعة م ن الن ّ‬
‫ّأما األعشى فقد أدركنه ّ‬
‫قص ته‬
‫صراخ وص ياح يف وس ط مج ع م ن اآلمل ني ل ا أيم ل‪ ،‬ويف س ياق ع رض ّ‬
‫على ابن القارح يقول‪« :‬سحبتّن الزابنية إىل سقر‪ ،‬فرأيت رجال يف عرصات‬
‫القيام ة‪ ،‬ي تألأل وجه ه تألل ؤ القم ر‪ ،‬والن اس يهتف ون ب ه م ن ك ّل أوب‪ :‬اي‬
‫ت بك ذا‪ .‬فص رخت يف‬
‫ت بك ذا ومن ّ‬
‫الش فاعة!! من ّ‬
‫الش فاعة‪ّ ،‬‬
‫حمم د ّ‬
‫حمم د‪ ،‬اي ّ‬
‫ّ‬
‫حممد أغثّن فإ ّن يل ب ك حرم ة! فق ال‪ :‬اي عل ّي ابدره ف انظر‬
‫أيدي الزابنية‪ :‬اي ّ‬
‫يب ‪ -‬ص لّى هللا علي ه‬
‫م ا حرمت ه؟» (‪ )1‬وكان ت حرم ة األعش ى أنّ ه م دح الن ّ‬
‫يب مرس ل‪ ،‬لك ّن قريش ا ص ّدته وحبّ ه للخم ر‪ ،‬يق ول‬
‫وس لّم ‪ -‬وش هد أنّ ه ن ّ‬
‫الشفاعة‪« :‬فأدخلت اجلنّة على أن ال أشرب فيها ررا‪،‬‬
‫األعشى وقد أدركته ّ‬
‫بذلك»‪)2(.‬‬ ‫فقرت عيناي‬
‫ّ‬
‫تعج ب اب ن الق ارح م ن‬
‫و ّأم ا احلطيئ ة فيع رض موق ف إدراك ه الش فاعة بع د ّ‬
‫حقارة مسكنه يف أطراف اجلنّة قائال‪« :‬وهللا ما وصلت إليه إالّ بعد هياط‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.178 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.181 .‬‬

‫ومي اط وش فاعة م ن ق ريش وددت ّأّن ا مل تك ن»‪ )1(.‬وه و ب ذلك يع ّرب ‪،‬‬
‫بطريقة شحنها أبو العالء بسخرية الذعة‪ ،‬عن زهده فيما آل إلي ه م ن وض ع‬
‫مهني يف اجلنّة‪ ،‬ويبغي اجلحيم عنه بدال‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫و ّأم ا بط ل الغف ران‪ ،‬فق د أخ ربان أب و الع الء يف بداي ة الرحل ة أنّ ه ق د ف از‬
‫ابلشفاعة بسبب رسالته اليت بعثها إليه‪ ،‬إذ يقول عنها «ومثله ا ش فع ونف ع‪،‬‬
‫وق ّرب عن د هللا ورف ع‪ ،‬وأليفيته ا مفتتح ة بتمجي د‪ ،‬ص در م ن بلي غ جمي د‪ ،‬ويف‬
‫قدرة ربن ا ‪ -‬جلّ ت عظمت ه ‪ -‬أن جيع ل ك ّل ح رف منه ا ش بح ن ور‪ ،‬ال ميت زج‬
‫لق ال ال زور‪ ،‬يس تغفر مل ن أنش أها إىل ي وم ال ّدين»‪ )2(.‬لك ّن الق ارئ يتش ّوق‬
‫إىل معرفة الطريقة اليت حاز هبا على الشفاعة‪ ،‬وحبرمة من تل ّقاها؟‬

‫جتاذب ت اب ن الق ارح يف احملش ر مواق ف جعلت ه موض ع س خرية مل يش هده‬


‫أي واح د م ن شخص يات الغف ران‪ ،‬فه و ال يفل ح يف اس تمالة امللك ني‬
‫ّ‬
‫«رض وان» و«زف ر» الق ائمني عل ى حراس ة أب واب اجلنّ ة بش عره ال ذي جعل ه‬
‫حتص ل علي ه أبعجوب ة‪ ،‬وبع د‬
‫ك التوب ة ال ذي ّ‬
‫بض اعة للم ديح‪ ،‬اّ يض يع ص ّ‬
‫مغامرة طويلة حيظى بشفاعة بنت رسول هللا فاطمة الزهراء ‪-‬عليها السالم‪-‬‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.307 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.140 .‬‬

‫ويعج ز يف األخ ري أن يع رب الص راط إالّ جبذب ة م ن أخيه ا إب راهيم ‪-‬علي ه‬


‫اجلنّة‪)1(.‬‬ ‫السالم‪ -‬إىل‬

‫‪107‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫• سرد األقوال‪/‬التوبة‪:‬‬
‫ك ان م ن املف رتض أن ي ذكر اب ن الق ارح يف ه ذا العنص ر‪ ،‬إالّ أ ّن الرج ل‬
‫ك توبت ه يف وس ط حش ود اخلالئ ق يف احملش ر‪ ،‬وح از الش فاعة‬
‫ق د أض اع ص ّ‬
‫ابلطريق ة ال يت ذك رت‪ّ ،‬أم ا أبل غ مث ال عل ى التوب ة يف رس الة الغف ران م ا تعلّ ق‬
‫ابملغنيت ني اجل رادتني(‪ ،)2‬وذل ك حينم ا ابدرمه ا اب ن الق ارح ابلس ؤال‪« :‬كي ف‬
‫خلص تما إىل دار الرمح ة بع دما خبطتم ا يف الض الل؟ فتق والن‪ :‬ق درت لن ا‬
‫واملرسلني»‪)3(.‬‬ ‫التوبة ومتنا على دين األنبياء‬
‫وبناء على ما سلف ذكره من مشاهد الغفران اليت حازها أصحاهبا ع ن‬
‫يتقرر عند أيب الع الء‬
‫طريق الرمحة أو الشفاعة أو التوبة يف احلياة الدنيا‪ ،‬فإنّه ّ‬
‫حيجره ا إالّ ك ّل حس ود بغ يض‪ ،‬ي رى الص الح يف‬
‫أ ّن رمح ة هللا واس عة وال ّ‬
‫نفس ه دون اخلالئ ق غ رورا‪ ،‬وم ا املقص ود هب ذا إالّ اب ن الق ارح ال ذي نع ت‬
‫أصنافا من الشعراء وأصحاب الطوائف والفرق الدينية ابلكفر والزندقة‪.‬‬

‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.262-248 .‬‬


‫‪ -2‬اجلراداتن‪ :‬قيل أ ّّنما قينتان مشهوراتن غنّتا لوفد عاد إىل م ّكة‪ ،‬أو مها مغنيتان إطالقا‪ .‬ينظر‪ :‬رسالة‬
‫الغفران‪ ،‬هامش الصفحة‪.242 .‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.274 .‬‬
‫‪ -3-2‬شخصيات اجلحيم‪:‬‬

‫‪108‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أهم القضااي الشائكة يف املعتقدات‪ ،‬وهي تل ك املتعلق ة‬


‫يطرح أبو العالء ّ‬
‫ابلقض اء والق در‪ ،‬وق د تناوهل ا عل ى ألس نة م ن خلّ دوا يف النّ ار‪ ،‬وأظه ر‬
‫ترسخ من فهم خ اطن للع دل اإلهل ي‬
‫سخطهم على ما آلوا إليه‪ ،‬إمياء إىل ما ّ‬
‫كل الطوائف والفرق الدينية وأتباعهم من العوام‪ّ ،‬أما النم اذج‬
‫عند الغالة من ّ‬
‫اليت تعكس موقف سكان اجلحيم من اجلزاء الذي انلوه‪ ،‬فيؤثر البح ث ذك ر‬
‫قصة الشاعرين األخطل التغليب وأوس بن حجر التميمي‪.‬‬
‫ّ‬
‫• موقف األخطل التغليب من اجلزاء‪:‬‬
‫يش ت ّد ت وتّر البني ة الس ردية بش كل جل ّي يف املق اطع ال يت ع رض فيه ا أب و‬
‫الع الء مواق ف متباين ة تعك س تع ارض أش كال م ن ال وعي املختلف ة‪ ،‬فه و‬
‫جتس د‬
‫يصور ذلك الفهم القلق من ع وام الن اس لقض ية القض اء والق در‪ ،‬وق د ّ‬
‫ّ‬
‫هذا التص ّور يف إجاب ة األخط ل‪ ،‬عن دما أظه ر ل ه اب ن الق ارح الش ماتة مل ا رآه‬
‫ّ‬
‫إين ج ررت ال ذارع‪ ،‬ولقي ت ال دارع‪،‬‬ ‫يتخ بّط يف أص ناف الع ذاب‪ ،‬فيق ول‪ّ « :‬‬
‫وهجرت اآلبدة‪ ،‬ورجوت النفس العابدة‪ ،‬ولكن أبت األقضية»‪)1(.‬‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.274 .‬‬

‫‪109‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يلقي األخطل ابلالئم ة عل ى األقض ية ال يت عارض ت م ا ك ان يرج وه م ن توب ة‬


‫ترسخ يف وعي كثري م ن الن اس‬
‫وصالح‪ ،‬ويف هذه العبارة حيضر القارئ معىن ّ‬
‫ظ يف اجن م ن غ رق يف املعاص ي دون س ابق ن دم من ه أو إع الن‬
‫أ ّن املغفرة ح ّ‬
‫ع ن توب ة‪ ،‬وك أ ّن ه ذا يتفاع ل لفه وم املخالف ة م ع قول ه تع اىل‪﴿ :‬إن هللا ال‬
‫أبنفسهم﴾ (‪)1‬‬ ‫يغّي ما بقوم حّت يغّيوا ما‬
‫• موقف أوس بن حجر من اجلزاء‪:‬‬
‫يعلو صوت السخط عن د أوس ب ن حج ر بن ربة أش ّد‪ ،‬يع ارض فيه ا م ا ح ّل‬
‫ب ه م ن عق اب‪ ،‬فيق ول‪« :‬ولق د دخ ل اجلنّ ة م ن ه و ش ّر م ّّن‪ ،‬ولك ّن املغف رة‬
‫العاجلة»‪)2(.‬‬ ‫كأّنا النّشب يف الدار‬
‫أرزاق‪ّ ،‬‬
‫ال خيف ى عل ى الق ارئ أ ّن أاب الع الء يل ّوح ل ا ب در م ن األخط ل وأوس ب ن‬
‫حجر اببن الق ارح ال ذي حلّ ت ل ه الش فاعة يف رحل ة فنيّ ة إىل ال دار اآلخ رة‪،‬‬
‫لعلّه ا ت وقظ في ه مش اعر الن دم م ن س وء ظنّ ه ابلنّ اس‪ ،‬ونع تهم ‪ -‬أحي ائهم‬
‫لعل هللا أدركهم برمحته يف خواتيم ّأايمهم‪.‬‬
‫وأمواهتم ‪ -‬ابلكفر والزندقة‪ ،‬و ّ‬
‫األصلي أن يقف طويال عند مشاهد العذاب يف اجلح يم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مل يشأ السارد‬
‫وعج ل ابنتق ال بط ل‬
‫كما حصر مساحة احلوار فيها بشكل الفت لالنتب اه‪ّ ،‬‬
‫ليجسد مظاهر التل ّذذ ابلنّعيم‬
‫الغفران قافال إىل الفردوس ّ‬
‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.341 .‬‬
‫‪ -2‬سورة‪ :‬الرعد‪ ،‬اآلية‪.11 .‬‬

‫‪110‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫احملسوس‪ ،‬تلك املظاهر اليت ألفها األمراء واألثرايء يف دني اهم فه ي أص ناف‬
‫خمتلف ة م ن األطعم ة واألش ربة‪ ،‬وجم الس الله و والغن اء‪ .‬وك أن أاب الع الء‬
‫يكشف ما يف بواطن النفس البشرية من نزوع إىل إش باع الغرائ ز والن زوات يف‬
‫احلي اة ال دنيا‪ ،‬فاإلنس ان «كث ريا م ا مي ّّن ال نّفس ابجلنّ ة واللّذائ ذ ونع يم اخلل ود‬
‫وال ميكنه أن حيلم بغري ذلك‪ ،‬و ّأما استحضاره اجلحيم وعذابه لا هو رادع له‬
‫النفسي والرق ي الروح ي الل ذين‬
‫ّ‬ ‫السمو‬
‫ّ‬ ‫يف سلوكه‪ ،‬فهذا أمر يقتضي نوعا من‬
‫ال يت وفران إالّ للق ادرين عل ى جماه دة ال نفس وترويض ها عل ى القناع ة والرض ا‬
‫أي عص ر م ن‬
‫وك بح الش هوات‪ ،‬ومل يك ن ه ذا الص نف م ن الن اس كث ريا يف ّ‬
‫العصور»‪ )1(.‬وابن القارح‪ ،‬بشهادة منه‪ ،‬يع رتف ق ائال‪« :‬ومض يت إىل مص ر‬
‫فأمرج ت نفس ي يف األغ راض البهيمي ة‪ ،‬واألع راض املومثي ة‪ ،‬وأردت بزعم ي‬
‫وخديعة الطبع املليم أن أذيقه ا ح الوة الع يش‪ ،‬كم ا ص ربت يف طل ب العل م‪،‬‬
‫اللطيفة»‪)2(.‬‬ ‫ونسيت أ ّن العلم غذاء النفس الشريفة وصقيل األفهام‬
‫إ ّن أاب العالء يدرك متام ا أ ّن علي ا ب ن منص ور س يتلقى رس الته عل ى الوج ه‬
‫الذي أراده هلا‪ ،‬وابملقاصد اليت شحنها هبا‪ ،‬فهو خياطبه لا يفه م م ن مض مر‬
‫دس ل ه يف ك ّل كلم ة مع ىن خفي ا يوجع ه ب ه‪ ،‬ألنّه ه و املخاط ب‬
‫الك الم‪ ،‬وي ّ‬
‫القوي ابلطرف املقابل‬
‫املباشر هبا‪ ،‬فرسالة الغفران «متتاز [‪ ]..‬إبحساسها ّ‬
‫‪ -1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.174 .‬‬
‫‪ -2‬ابن القارح‪ :‬اجلزء اخلاص برسالته ضمن رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.64-63 .‬‬

‫‪111‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫موجهة إىل إنسان حم ّدد‬


‫يف احلوار [‪ ]...‬الرسالة شأّنا شأن الردود يف احلوار ّ‬
‫املتوقع»‪)1(.‬‬ ‫وأتخذ يف اعتبارها ردود أفعاله احملتملة وجوابه‬

‫‪ -1‬ابخت ني‪ ،‬ميخائي ل‪ :‬قض ااي الف ن اإلب داعي عن د دوستويفس كي‪ ،‬ترمج ة مجي ل نص يف التك رييت‪ ،‬وزارة‬
‫اإلعالم‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪ ،1986 ،‬ص‪.299 .‬‬

‫‪112‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفصل الثاين‬
‫وظائف اللغة السردية يف خطاب‬
‫رسالة الغفران‬

‫‪113‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1‬املفارقة اللغوية‪:‬‬
‫تش ّكل اللغة يف خطاب الغفران ظاهرة جعلت كثريا من النقاد يعرتوّنا عائقا‬
‫يف إدراك املتلق ي ملض وّنا‪ ،‬انهي ك ع ن اإلحاط ة لقاص د أيب الع الء املوارب ة‪،‬‬
‫وهلذا ف «كثري من صفحات رسالة الغفران اليت خيي ل إلين ا أ ّن ص احبها جت اوز‬
‫اإلطار الفّن يف هذه ال زايرة اخليالي ة يف النع يم واجلح يم إىل م و ّاد لغوي ة وأدبي ة‬
‫حرص عليه ا ك ّل احل رص‪ .‬وك أ ّن ذل ك ك ان أه ّم أغراض ه يف حتري ر ه ذا األث ر‬
‫الفّن األديب»(‪.)1‬‬
‫ّ‬
‫املعرة وأمثاله من هؤالء‬ ‫لعل هذا ما جعل عبد امللك مراتض ينتصر لشيخ ّ‬ ‫و ّ‬
‫الذين يولون للغة اهتماما ابلغا يف كتاابهتم النثرية الفنية‪ ،‬وال يتعاملون معها‬
‫جمرد وسيلة وليست ركنا أصيال يف إبداعاهتم‪ ،‬فهو حي ّذر من أنه‬
‫على ّأّنا ّ‬
‫«قد تعالت أصوات انشزة‪ ،‬ونداءات صاخبة‪ ،‬تطالب بعدم العناية ابللغة‪،‬‬
‫أي بتحقري شأّنا يف الكتابة األدبية بعامة‪ ،‬والكتابة الروائية خباصة وذلك‬
‫ف‪ ،‬وي رود وال يركض‪.‬‬
‫ابدعاء أّنا تثقل كاهل ا ملنت األديب في نوء وال خي ُّ‬
‫ويود هؤالء األعيياء أن تكون هذه اللغة جمرد أداة‪ ،‬مثلها مثل األدوات‬
‫ّ‬
‫األخرى من املكوانت السردية األخرى‪ :‬من دون امتياز‪ ،‬ودون أن تكون‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬سيدة املوقف يف هذا اإلجناز السردي ا ملع ّقد الذي يقوم إجنازه على‬
‫العمل هبذه اللغة واللعب هبا أساسا‪ ،‬وعلى تشكيلها فيه حتما‪ .‬إّنم اندوا‬

‫‪ -1‬السامرائي‪ ،‬إبراهيم‪ :‬مع املعري اللّغوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1984 ،1‬ص‪.08 .‬‬

‫‪114‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أبن ال تسود اللغة‪ ،‬أي ال تسود أانقتها‪ ،‬وال تشكيالهتا الشعرية اليت تنهض‬
‫حات لو ٍ‬
‫حات فنية ال شيء فيها غري مجال اللغة‪ ،‬وعطائها الث ّر»(‪.)1‬‬ ‫لو ٍ‬
‫لعل استنطاق خطاب الغفران وفق آلي ات بالغي ة خي ّف ف م ن غلوائه ا‪ .‬وإذا‬
‫و ّ‬
‫ك ان الب ّد م ن ذل ك فاملفارق ة اللغوي ة (بالغي ا) ه ي أه ّم مؤثّث ات اللغ ة عن د‬
‫أيب العالء‪.‬‬
‫ّأم ا املفارق ة اللغوي ة م ن حي ث تعريفه ا فه ي«لعب ة لغوي ة ج اهزة و ذكي ة ب ني‬
‫طرفني (ص انعها وقارئه ا)‪ ،‬يق ّدم ص انع املفارق ة ال نص بطريق ة تس تثري الق ارئ‬
‫وتدعوه إىل رفضه لعناه احلريف لصاحل املعىن اخلفي»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وال تتض ح املفارق ة إالّ م ن خ الل‪« :‬س ياق ثق ايف فك ري مش رتك ب ني من تج‬
‫القول ومتلقيه»(‪.)2‬‬
‫جتسد هذا املعىن‪ ،‬ذل ك املوق ف ال ذي أدرج ه املؤلّف‬ ‫ومن أبرز املشاهد ّ‬
‫احلقيقي‪/‬االفرتاض ّي‪ ،‬ل ريى‬
‫ّ‬ ‫املتلقي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الضمّن بطريقة إيهامية‪ ،‬امتحن فيه فطنة‬
‫ّ‬
‫م دى قدرت ه عل ى بل وغ مقاص ده الثاوي ة يف ظ الل املع اين‪ ،‬فبع د ع رض ه ذا‬
‫املوق ف يتس ّىن للبح ث الوق وف عل ى املفارق ة اللغوي ة ال يت تعك س تالع ب‬
‫املؤلّف ابأللفاظ ومعانيها‪.‬‬

‫‪ -1‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬يف نظرية الرواية ‪ -‬حبث يف تقنيات السرد‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطّن للثقافة‬
‫واآلداب والفنون‪ ،‬الكويت‪ ،‬ع‪ ،240‬ديسمرب ‪1998‬م‪ ،‬ص‪.254 .‬‬
‫‪ -2‬رشيد‪ ،‬أمينة‪ :‬املفارقة الروائية والزمن التارخيي‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬اجمللّد‪ ،11‬ع‪ ،1993 ،04‬ص‪.‬‬
‫‪.132‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.132 .‬‬

‫‪115‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬بني أيب علي الفارسي(‪ )1‬ويزيد بن اْلكم الكاليب(‪:)2‬‬

‫س اق املؤلّ ف يف غفران ه مواق ف كث رية‪ ،‬كان ت القض ااي اللغوي ة موض وع‬
‫احل وار فيه ا بش كل ملف ت‪ ،‬م ا جعله ا تب دو ‪ ،‬للوهل ة األوىل‪ ،‬جم ّرد‬
‫اس تطرادات يس تعرض فيه ا كاتبه ا معارف ه الغزي رة‪ ،‬وهب ذا‪ ،‬ميك ن للق ارئ أن‬
‫يس تغّن عنه ا حفاظ ا عل ى بني ة الس رد وتت ابع األح داث يف س ياق متص ل‬
‫للرحل ة العالئي ة‪ ،‬ولك ن ل و أمع ن املتلق ي النظ ر قل يال‪ ،‬لوج د ش يخ املع ّرة‬
‫يتقص د ذل ك بك ّل وع ي وح ذق‪ ،‬فه و يف أغل ب اللّق اءات ال يت ك ان اب ن‬ ‫ّ‬
‫شك ومقاصد مواربة‪.‬‬
‫القارح بطلها جيعله موضع ّ‬
‫ومن أبرز املواقف اليت تًوهم القارئ أ ّن صاحب الغف ران اختلقه ا عل ى س بيل‬
‫احلش و‪ ،‬تل ك ال يت واجهه ا اب ن الق ارح يف احملش ر‪ ،‬وذل ك عن دما أوم أ ل ه‬
‫ش يخه أب و عل ّي الفارس ي ابإلقب ال علي ه وه و واق ف ب ني ق وم يلومون ه عل ى‬
‫الرواي ة ألش عارهم‪ ،‬ومل ا دان من ه «ف إذا عن ده طبق ة‪ ،‬م نهم يزي د ب ن‬
‫إس اءة ّ‬
‫عّن هذا البيت برفع املاء‪ ،‬يعّن‬
‫احلكم الكاليب وهو يقول‪ :‬وحيك‪ ،‬أنشدت ّ‬

‫أئمة النحويني‪ ،‬أخذ عن ابن‬


‫‪ -1‬أبو علي الفارسي‪ ،‬هو احلسن بن أمحد بن عبد الغفار الفارسي‪ ،‬من ّ‬
‫جّن‪ ،‬تويف سنة ‪377‬ه يف خالفة‬‫السرج والزجاج‪ ،‬وأخذ عنه مجاعة من خ ّذاق النحويني‪ ،‬ك ابن ّ‬
‫الطائع‪ .‬ينظر‪ :‬هامش الغفران‪ ،‬ص‪.254 .‬‬
‫‪ -2‬يزي د ب ن احلك م الك اليب‪ ،‬إس المي أم وي‪ ،‬والّه احلج اج ك ورة ف ارس ا استنش ده يري د أن ميدح ه‪،‬‬
‫رتد العه د‪ ،‬فلح ق يزي د بس ليمان ب ن عب د املل ك‪ .‬ينظ ر‪ :‬ه امش‬
‫فأنش ده قص يدة فخ ر‪ ،‬فق ام مغض با واس ّ‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.254 .‬‬

‫‪116‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قوله‪:‬‬

‫عّن ما ارتوى املاء موترى‬


‫وخريك ّ‬ ‫شرك كلّ ه‬
‫فليت كفاف ا كان ّ‬
‫أين فتحت امليم يف قويل‪:‬‬
‫ومل أقل إالّ املاء‪[،‬بفتح اهلمزة]‪ ،‬وكذلك زعمت ّ‬
‫فإين خليال صاحا بك مقتوى‬
‫ّ‬ ‫تب ّدل خليال يب‪ ،‬كشكلك شكله‬

‫امليم»‪)1(.‬‬ ‫بضم‬
‫وإّمنا قلت‪ :‬مقتوى ّ‬
‫ينتهي هذا احلوار بسكوت غريب من أيب عل ي الفارس ّي‪ ،‬ومل يعلّ ل س بب‬
‫رفعه «املاء»‪ ،‬ونص به «مقت وى»‪ ،‬ويف ذل ك فض ول ح ديث ال طائ ل من ه‪ ،‬إالّ‬
‫ك يف س بب ذك ر‬
‫أ ّن جن وح أيب الع الء إىل اإللغ از والتل ويح جيع ل الق ارئ يش ّ‬
‫ه ذا احل وار أص ال‪ ،‬وك ان النف وذ إىل مقاص د أيب الع الء اخلفي ة ع ن طري ق‬
‫الوق وف عل ى مع ىن البي ت نفس ه‪ ،‬وعن دها يظه ر أن ه بي ت م ن قص يدة طويل ة‬
‫عمه‪ )2(،‬يقول يف بعض أبياهتا‪:‬‬
‫وجهها يزيد بن احلكم إىل ابن ّ‬
‫ّ‬
‫وعين ك تب دي أ ّن صدرك ل ي دوى‬ ‫تكاش رين كره ا كأنّك انص ح‬

‫وش ّرك مبسوط‪ ،‬وخي رك منطوى‬ ‫اذي‪ ،‬و عينك علق م‬


‫لس انك م ّ‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.254 .‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬هامش الصفحة‪.254 .‬‬

‫‪117‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫عّن ما ارتوى امل اء موترى‬


‫وخريك ّ‬ ‫فليت كفاف ا كان ش ّرك كلّ ه‬

‫دوي ليس ذاك لست وى‬


‫وأنت ع ّ‬ ‫عدوك خيش ى صولت ي إن لقيت ه‬
‫ّ‬
‫وغي بني عيني ك من زوى‬
‫صف اح ا‪ّ ،‬‬ ‫تص افح من القيت ل ي ذا ع داوة‬

‫حىت ك دت ابلغي ظ تنش وى‬


‫بك الغي ظ ّ‬ ‫لي فلم ي زل‬
‫متألت من غي ظ ع ّ‬
‫ّ‬

‫تذيب ك حتّ ى قي ل‪:‬هل أنت مكت وى‬ ‫وما برحت نفس حسود حسبتها‬

‫وى(‪)1‬‬ ‫كأنّك أفع ى كدي ة ف ّر حمج‬ ‫أ فحشا وجنبا واختناء عن النّدى‬

‫بع د س رد ه ذه األبي ات تنجل ي بع ض الغراب ة ع ن علّ ة إي راد أيب الع الء لبي يت‬
‫يزي د ب ن احلك م‪ ،‬ف املراد منهم ا التلم يح لض مون أبي ات القص يدة الطافح ة‬
‫ابهلج اء ال الّذع‪ ،‬وه ذه اإلحال ة أغن ت أدي ب املع ّرة ع ن مس افهة اب ن منص ور‬
‫يب خبط اب مباش ر‪ .‬ولك ن ه ل هن اك قرين ة تؤّك د إدراك بط ل الغف ران هل ذه‬
‫احلل ّ‬
‫املفارقة اللغوية؟‬

‫الشعر‪ ،‬ويكثر م ن االستش هاد ب ه يف‬


‫علي بن منصور أديبا حيفظ ّ‬
‫لقد كان ّ‬
‫رس الته ال يت بع ث هب ا إىل أيب الع الء‪ ،‬وه ذا ص احب معج م األدابء ينق ل ع ن‬
‫غريه أخباره‪ ،‬فيقول‪« :‬هو شيخ من أهل األدب شاهدانه ببغداد‪ ،‬راوية‬
‫‪ 1‬مح د‪ ،‬أم ني ف وزي‪ :‬رس الة الغف ران ب ني التلم يح و التل ويح‪ ،‬دار املعرف ة اجلامعي ة‪ ،‬مص ر‪ ،1993 ،‬ص‬
‫ص‪.66-65 .‬‬

‫‪118‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫لألخب ار وحافظ ا لقطع ة كب رية م ن اللغ ة واألش عار‪ ،‬قؤوم ا ابلنح و‪ ،‬وك ان م ن‬
‫خ دم أاب عل ي الفارس ي يف داره وه و ص يب‪ ،‬ا الزم ه وق رأ علي ه عل ى زعم ه‬
‫ول يس ببعي د‪ ،‬إذن‪ ،‬أن يك ون حافظ ا ألبي ات‬ ‫ومساعات ه»‪)1(.‬‬ ‫مجي ع كتب ه‬
‫القص يدة أو مطّلع ا عليه ا عل ى األق ّل‪ ،‬وإن مل يك ن‪ ،‬فهن اك م ا يدفع ه إىل‬
‫البح ث عنه ا‪ ،‬وذل ك لعلم ه ل ا ش اع ع ن تلميح ات أيب الع الء يف خطاب ه‪،‬‬
‫تقص ى أخب اره م ن‬
‫الش ريف املرتض ى(‪ )2‬ليس ت خبافي ة عل ى م ن ّ‬
‫وحادثت ه م ع ّ‬
‫مك ان إىل آخ ر ك ابن الق ارح‪ ،‬وملخ ص احلادث ة أوجزه ا ايق وت احلم وي يف‬
‫معج م األدابء ق ائال‪« :‬ودخ ل عل ى املرتض ى أيب القاس م‪ ،‬فعث ر برج ل‪ ،‬فق ال‬
‫م ن ه ذا الكل ب؟ فق ال املع ري‪ :‬الكل ب م ن ال يع رف للكل ب س بعني امس ا‪،‬‬
‫ومسعه املرتضى فاستدانه‪ ،‬واختربه فوجده عاملا مش بعا ابلفطن ة وال ذكاء‪ ،‬فأقب ل‬
‫(‪)3‬‬
‫عليه إقباال كثريا»‪.‬‬

‫ي ع ن اإلعج اب الكبي ر ب ه‪ ،‬وه ذا م ا زاد‬


‫الش ريف عل ى املع ّر ّ‬
‫ينب ن إقب ال ّ‬
‫أب االعالء وثوقا بنفسه وتعصبا ألرائه الفكرية والنقدية‪ ،‬وكان ال يضمر إعجابه‬

‫‪ 1‬احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬ص‪.1974.‬‬


‫‪ - 2‬أبو القاسم علي بن طاهر املرتضى‪ ،‬نقيب الطالبيني‪ ،‬وكان إماما يف علم الكالم واألدب والشعر‪،‬‬
‫هو وأخوه الشريف الرضي‪ ،‬وله تصانيف على مذهب الشيعة ومقالة يف أصول الدين‪ ،‬وله ديوان شعر‬
‫كبري‪ ،‬ينظر‪ :‬ابن خلكان‪ :‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،03‬ص‪.03.‬‬
‫‪ - 3‬احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬اجمللد ‪ ،03‬ص‪.406.‬‬

‫‪119‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املفرط أبيب الطيب املتن يب وك ان يقدم ه عل ى بش ار‪ ،‬وأيب ن واس‪ ،‬وأيب مت ام‪ ،‬إال‬
‫أن املرتض ى ك ان ي بغض املتن يب ‪« ،‬فج رى يوم ا حبض رته ذك ر املتن يب‪ ،‬فتنقص ه‬
‫املرتض ى‪ ،‬وجع ل يتب ع عيوب ه‪ ،‬فق ال املع ري‪ :‬ل و مل يك ن للمتن يب م ن الش عر إال‬
‫قوله‪:‬‬

‫لك ي ا منازل ف ي القلوب من ازل‬


‫لكفاه فضال‪ ،‬فغضب املرتضى وأمر فسحب برجله‪ ،‬وأخرج من جملسه‪ ،‬وق ال‬
‫أي ش يء أراد األعم ى ب ذكر ه ذه القص يدة؟ ف إ ّن‬
‫مل ن حبض رته‪ :‬أت درون ّ‬
‫للمتنيب ما هو أجود منه ا مل ي ذكرها‪ ،‬فقي ل‪ :‬النقي ب الس يّد أع رف‪ ،‬فق ال أراد‬
‫ّ‬
‫قوله يف هذه القصيدة‪:‬‬
‫أبين كام ل»(‪)1‬‬ ‫فهي الشه ادة يل‬ ‫مذمت ي من ن اقص‬
‫وإذا أتتك ّ‬
‫الش اهد‪ ،‬يرتس م جان ب م ن شخص ية أيب الع الء اإلبداعي ة‪،‬‬
‫م ن خ الل ه ذا ّ‬
‫فه و «ال يعط ي نفس ه لقارئ ه بس هولة‪ ،‬وإّمن ا عل ى الق ارئ أن خي رتق حجب ا‬
‫عدي دة لع ّل أيس رها حج اب غري ب اللّغ ة‪ّ ،‬أم ا وراء ذل ك ف ألوان م ن التموي ه‬
‫والتّخ ّف ي‪ ،‬وص رف الق ارئ ابلظ اهر ع ن الب اطن‪ ،‬والتلفي ف ال ذي ق د يض ّل‬
‫القارئ يف غماليله ومساريه»(‪ ،)2‬وميكن صرف ه ذه الظ اهرة إىل ك ّل مؤلفات ه‬
‫تعزز يذهب إليه هذه احلكم‪،‬‬
‫النّثرية والشعرية‪ ،‬وشهادة ابن السيّد البطليوسي ّ‬
‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.406.‬‬
‫‪ -2‬محد‪ ،‬أمني فوزي‪ :‬رسالة الغفران بني التلميح و التلويح‪ ،‬ص‪.63 .‬‬

‫‪120‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فه و أح د ش راح ش عره ال ذين متكن وا م ن س رب أغ واره‪ ،‬والوق وف عل ى ظ اهرة‬


‫التلم يح واملوارب ة يف أدب ه عموم ا‪ ،‬وه اهو ذا ي دافع ع ن منهج ه يف تع اطي‬
‫أدب ش يخ املع رة ردا عل ى م ن زعم وا أنّ ه س لك في ه مس لكا ال يواف ق ع رف‬
‫فرد عليه بكتاب مسّاه‬
‫الشعراء‪ ،‬ومن هؤالء «القاضي أيب بكر بن العريب»(‪ّ ،)1‬‬
‫ّ‬
‫«االنتص ار ّم ن ع دل ع ن االستبص ار» دح ض في ه ك ّل حجج ه ال يت اعرتض ه‬
‫الش رح ق ائال‪« :‬وك ذلك‬
‫وض ح ل ه س بب انتهاج ه تل ك الطّريق ة يف ّ‬
‫هب ا‪ ،‬اّ ّ‬
‫الش رح ل بعض الفالس فة املتق ّدمني م ن الطّبيعي ني‬
‫رأين اك ق د عبتن ا ب ذكران يف ّ‬
‫الرج ل يبع ث علي ه ألنّه‬
‫واإلهليني‪ ،‬وذلك أمر اضطرران إليه‪ ،‬إذ كان ش عر ه ذا ّ‬
‫الش عراء‪ ،‬وض ّمنه نكت ا م ن امل ذاهب واآلراء‪ ،‬وأراد‬
‫س لك بش عره غ ري مس لك ّ‬
‫أن ي ري النّ اس معرفت ه ابألخب ار واألنس اب وتص ّرفه يف مجي ع أن واع اآلداب ومل‬
‫حىت خلطها لذاهب املتفلس فني‪ ،‬فت ارة‬
‫املتشرعني‪ّ ،‬‬
‫يقتصر على ذكره مذاهب ّ‬
‫خيرج ذلك خم رج م ن ي ّرد عل يهم واترة خيرج ه خم رج م ن ميي ل إل يهم‪ ،‬ورّل ا ص ّرح‬
‫ابلشيء تصرحيا‪ ،‬ورّلا ّلوح به تلوحيا‪ ،‬فمن تعاطي تفسري كالمه وشعره وجه ل‬ ‫ّ‬
‫يفس ر‬
‫ظن عثر عليه‪ ،‬وهلذا ال ّ‬
‫هذا من أمره ب عد عن معرفة ما يومن إليه‪ ،‬وإن ّ‬
‫حق تفسريه‪ ،‬إالّ من له تصّرف يف أنواع العلوم‪ ،‬ومشاركة يف احلديث‬
‫شعره ّ‬

‫حممد بن عبد هللا املعروف اببن العريب‪ ،‬رحل إىل املشرق مع أبيه سنة ‪485‬ه ‪ ،‬وأخ ذ ع ن‬
‫‪ 1‬هو أبو بكر ّ‬
‫زي‪ ،‬ومج ع ش يئا كث ريا ع ن أدب املش رق اّ ع اد إىل األن دلس س نة‬
‫خباص ة التربي ّ‬
‫ط الّب أيب الع الء‪ ،‬و ّ‬
‫‪493‬ه ‪ .‬ينظر ‪ :‬شاعرية أيب العالء عند القدامى‪ ،‬حممد مصطفى ابحلاج‪ ،‬هامش ص‪.81 .‬‬

‫‪121‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫منه ا والق دمي‪ ،‬فل م يك ن ب ّد م ن ذك ر املع اين ال يت أوم أ إليه ا‪ ،‬وح ام فك ره‬
‫عليها»‪)1(.‬‬

‫ما ميكن أن يستنبط من خالل هذين الشاهدين هو أ ّن أاب العالء يورد اللفظ‬
‫ل دلولني خمتلف ني أح دمها ظ اهر وه و لإليه ام‪ ،‬والث اين مض مر وه و املقص ود‪،‬‬
‫وكأ ّن كالمه كله ضرب من التورية‪ ،‬فاللّفظ الظاهر ما ورد يف مق ّدمة رسالته‪:‬‬

‫عن د قول ه‪« :‬وأ ّن يف طم ري حلض با [الض خم م ن ذك ور احليّ ات] وّك ل أبذايت‬
‫[‪ ]...‬يض مر م ن حمبّ ة م والي الش يخ ‪ -‬ثبّ ت هللا أرك ان العل م حبيات ه ‪ -‬م ا ال‬
‫السم»(‪ ،)2‬ويريد أن يق ول‬
‫تضمره للولد ّأم‪ ،‬أ كان مسّها ي ّدكر أم فقد عندها ّ‬
‫ألوالدهن‪ ،‬س واء ك ّن‬
‫ّ‬ ‫إ ّن ما يضمره للشيخ من حمبّة‪ ،‬فوق ما تضمره األمهات‬
‫ريهن‪ ،‬ولك ي ميح و أب و الع الء املع ىن الظ اهر للحيّ ة م ن‬
‫م ن ذوات الس ّم أو غ ّ‬
‫رس الته أردف ق ائال‪« :‬وق د عل م [‪ ]...‬أ ّن احلض ب ض رب م ن احليّ ات‪ ،‬وأنّه‬
‫يق ال حلبّ ة القل ب حض ب»(‪ ،)3‬فجع ل املع ىن املثبّ ت كتاب ة ه و احملب ة ال يت‬
‫السامة‪ .‬و ّأما املعىن املضمر الذي جيعل ابن‬
‫تصيب صميم القلب ال احلية ّ‬
‫حمم د مص طفى‪ :‬ش اعرية أيب الع الء يف نظ ر الق دامى‪ ،‬ال ّدار العربيّ ة للكت اب‪ ،‬ت ونس‪،‬‬
‫‪ 1‬ابحل اج‪ّ ،‬‬
‫‪1396‬ه ‪1976 /‬م ‪ ،‬ص‪.82 .‬‬
‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.132-131 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.132 .‬‬

‫‪122‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الق ارح متأك دا م ن تع ريض أيب الع الء ب ه ه و م ا ل ّوح ب ه م ن أبي ات يزي د ب ن‬
‫وخاصة يف قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫احلكم‪،‬‬
‫كأنّك أفع ى كدي ة[األرض الغليظة الصلبة] ف ّر حمجوى‬
‫يعكس لفظ [احلضب] مدلولني خمتلفني‪:‬‬
‫‪ 1‬الظاهر‪/‬احلضب = احملبة‪/‬السارد‪،‬‬
‫السامة= األذية‪(/‬يزيد بن احلكم‪ ،‬املؤلف)‪.‬‬
‫‪ 2‬املضمر‪/‬األفعى ّ‬
‫ذك ر أب و الع الء بي ت يزي د ب ن احلك م الص ريح يف هجائ ه‪ ،‬وه و يف ذل ك كلّ ه‬
‫يص غي إىل رس الة اب ن الق ارح «ل ا تنض ح ب ه م ن ش ّر وخب ث ومداهن ة ونف اق‬
‫الس امة‪ ،‬فج اءت حتيت ه الرمزي ة‬
‫وتلويها ونعومته ا ّ‬
‫بتلوّنا ّ‬
‫ورايء الثّعابني واحليّات ّ‬
‫اس تهالال تلقائي ا لرس الته»(‪ ،)1‬و بلغ ت‪ ،‬هب ذا‪ ،‬م ن الغراب ة م ا خ الف ب ه‬
‫ودة واحملبّ ة يف الرس ائل اإلخواني ة ال يت زخ ر هب ا ت راث‬
‫م ألوف التعب ري ع ن امل ّ‬
‫األدب العريب‪.‬‬

‫وهب ذا تتجلّ ى املفارق ة ال يت س عى املؤل ف إىل حبكه ا بك ّل ذك اء ومه ارة‪،‬‬


‫وه ي تعك س‪ ،‬يف الوق ت نفس ه‪ ،‬أش كاال م ن ال وعي املختلف ة ال يت تث وي يف‬
‫البنية العميقة للخطاب السردي الغفراين‪ ،‬فهي‪:‬‬

‫‪ -1‬بنت الشاطن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ ،‬نص مسرحي من القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬ص‪.65 .‬‬

‫‪123‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪« -‬وأ ّن يف طمري حلضبا»‪ [ .‬املعري]‬

‫‪« -‬كأنّك أفع ى كدي ة»‪[ .‬يزيد بن احلكم]‬

‫‪« -‬لك اي منازل يف القلوب‪ /...‬إذا أتتك مذميت من انقص‪[ »....‬املتنيب]‬

‫وإذن‪ ،‬فاملفارق ة اللغوي ة املتمثل ة يف أبي ات يزي د ب ن احلك م وفاحت ة رس الة أيب‬
‫ودة يف ظاهره ا‪ ،‬وش حنها لع اين املك ر‬
‫الع الء ال يت و ّش حها بعب ارات احملب ة وامل ّ‬
‫واخل داع يف ابطنه ا‪ ،‬إىل جان ب القرين ة املعنوي ة املتمثل ة يف حادث ة أيب الع الء‬
‫اليت طرد فيه ا م ن جمل س الش ريف املرتض ى بتل ك الطريق ة‪ ،‬ت وحي أب ّن أط راف‬
‫اخلط اب ش ّدت خبي وط ش ّفافة‪ ،‬يك اد الق ارئ ال يراه ا إالّ بع د تركي ب القط ع‬
‫املتناثرة منها يف مواضع خمتلفة‪.‬‬

‫م ن خ الل ه ذه النم اذج‪ ،‬ميك ن الق ول إ ّن أاب الع الء اعتم د عل ى لغ ة‬


‫رس لي إخ واين‪ ،‬ظ اهره‬
‫أش ّعت كلماهت ا ل دلولني متعارض ني األول‪:‬يف مق ام ت ّ‬
‫ودة واحملبّ ة اخلالص ة‪ ،‬والث اين‪ :‬يف مق ام س ردي ف ّّن‪ ،‬ابطن ه‬
‫مو ّش ح لع اين امل ّ‬
‫مشحون لعاين اهلجاء الالذع الذي يسمو ع ن اخلط اب الف ّج املباش ر‪ ،‬وميت زج‬
‫أبص وات شخص يات ختييلي ة ليح افظ املؤل ف احلقيق ّي عل ى نط اق بين ه وب ني‬
‫ن واايه املعلن ة جيعله ا خمتفي ة يف البني ة العميق ة خلطاب ه‪ ،‬وب ذلك ي ّتم «اقتح ام‬
‫العناص ر املع ّربة الغريب ة خلط اب املؤل ف [أب و الع الء] (احل ذف‪ ،‬األس ئلة‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫التعج ب)‪ .‬ومث ل ه ذا النط اق ه و جم ال فع ل ص وت الشخص ية املمت زج‪،‬‬


‫ّ‬
‫املؤلف»‪)1(.‬‬ ‫بطريقة أو أخرى‪ ،‬بصوت‬

‫‪ 1‬تودوروف‪ :‬ميخائيل ابختني‪ ،‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.142 .‬‬

‫‪125‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1-1‬املفارقة اللغوية واحملاكاة الساخرة‪:‬‬

‫يطغ ى عل ى رس الة الغف ران ط ابع الس خرية ال ذي أحك م أب و الع الء‬
‫نسيجه بص نعة م اهر‪ ،‬فه و جينّ د ك ّل األلف اظ لعانيه ا الظ اهرة واخلفي ة‪ ،‬وك ّل‬
‫املواق ف حبركاهت ا املتالف ة واملتن افرة م ن أج ل خدم ة مقاص ده العابث ة ببط ل‬
‫رحلت ه الفنيّ ة‪ ،‬ولع ّل ه ذه الس مة الب ارزة يف رس الته جعلته ا موض ع اهت ام ن تج‬
‫عن ه إع راض أجي ال متالحق ة ع ن قرائته ا‪ ،‬فه ي يف نظ ر بع ض امل ؤرخني‬
‫الق دامى‪ -‬كم ا س بق‪« -‬ق د احت وت عل ى مزدك ة واس تخفاف»(‪ ،)1‬وأ ّن أاب‬
‫الع الء ق د «أس بغ عل ى نفس ه م ن عل وم اللغ ة دروع ا تعص مه م ن وص مة‬
‫اإلحل اد‪ ،‬و[‪ ]...‬ض ّحى م ن زاندق ة العباس يني بض حااي ل يعلن أنّ ه مس لم‪،‬‬
‫له»‪)2(.‬‬ ‫لكن هذا الكيد كلّه مل يزد النّاس إالّ علما به‪ ،‬و ّاهتاما‬
‫و ّ‬
‫يتص ّور البح ث أن حتلي ل عناص ر املفارق ة عل ى مس توى املش هد ال يت‬
‫تش ّكلت منه ا رس الة الغف ران‪ ،‬ه و الس بيل األمث ل إىل إع ادة تفس ريها م ن‬
‫ص ل فيه ا‬
‫مقوماهت ا اجلمالي ة‪ ،‬فط ابع الفكاه ة متأ ّ‬
‫ّن يس تجلي ّ‬
‫منظ ور ف ّ‬
‫وضارب جبذوره يف أعماقها‪ ،‬و«كث ريا م ا ح ّد منه ا[أبو الع الء] وخ ّف ف م ن‬
‫نربهتا دون إرادة منه [‪ ]...‬لكنّه‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬حاول إبخالص أن‬
‫‪ 1‬الراجكويت‪ ،‬امليمّن‪ :‬أبو العالء و ما إليه‪ ،‬ص‪.217 .‬‬
‫‪ 2‬حسني‪ ،‬طه‪ :‬جتديد ذكرى أبو العالء‪ ،‬ص‪.218 .‬‬

‫‪126‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يض ع ه ذه الق ّوة اهلائل ة للض حك يف اإلط ار الرمس ّي»‪ )1(.‬وه ذا م ا جع ل‬


‫اص ة يف ش ّق‬
‫رس الته‪ ،‬أيض ا‪ ،‬يف موق ف س ليب م ن املتلق ني هل ا يف عص ره‪ ،‬وخب ّ‬
‫تعالقها معا النصوص املق ّدسة (القرآن الكرمي‪ ،‬واحلديث النبوي الشريف)‪.‬‬

‫ولك ن م ا جي در ابلبح ث اإلش ارة إلي ه‪ ،‬ه و أ ّن أاب الع الء مل يه و إىل‬
‫حض يض الس خرية املباش رة املبتذل ة ال يت جتع ل املتلق ي ينفج ر بض حك‬
‫جملج ل‪ ،‬وإّمن ا «يض حك ض حكا خفيف ا‪ ،‬س رّاي‪ ،‬م ّرا إذ ال يتق اطع مفه وم‬
‫الض حك هن ا م ع مع ىن الف رح والس رور بوص فهما ح التني نفس يتني وإّمن ا‬
‫خ الص»‪)2(.‬‬ ‫يتق اطع م ع اغتب اط العق ل ويقظت ه‪ ،‬الض حك هن ا عق الين‬
‫وللبحث وقفات مع مشاهد خمتلف ة التحم ت فيه ا عناص ر الس خرية التحام ا‬
‫شديدا مع مواقف الوقار واجل ّد وكأ ّن القارئ عند تفاعله مع أح داث الرحل ة‬
‫تتجل ى ل ه شخص ية أيب الع الء ‪-‬م ن خالل ه‪ -‬مبتس ما هب دوء العابس ني‪،‬‬
‫وذل ك أل ّن «اهل شج اء املض حك‪ ،‬ل يس ابلض رورة دائم ا شخص ا مرح ا‪ .‬إنّ ه‬
‫ما»‪)1(.‬‬ ‫كئيب عبوس بدرجة‬

‫حمم د إب راهيم‪،‬‬
‫‪ 1‬ابختني‪ ،‬ميخائيل‪ :‬رابليه و جوجول‪ :‬فن الكلمة و ثقافة الفكاهة الشعبية‪ ،‬ترمجة‪ .‬أنور ّ‬
‫جملّة النقد األديب افصولا‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬مصر‪ ،‬شتاء و ربيع ‪ ،2004‬ص‪.236 .‬‬
‫‪ 2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و ‪،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.110-109 .‬‬

‫‪127‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تتجلّ ى عناص ر املفارق ة اللغوي ة يف خط اب رس الة الغف ران م ن خ الل‬


‫مس تويني ابرزي ن مه ا‪ :‬احملاك اة الس اخرة عل ى مس توى اللف ظ (الكلم ة)‪،‬‬
‫واحملاكاة الساخرة على مستوى الدور‪.‬‬

‫األول فه و م ا تعلّ ق ابلكلم ات ال يت تتش ّكل منه ا لغ ة املؤلّ ف‪ ،‬فه و‬


‫ّأم ا ّ‬
‫«يعكسها بشكل موارب‪ ،‬إنّه ال يتض امن م ع ه ذه الكلم ات تض امنا ك امال‪،‬‬
‫س اخرة»‪)2(.‬‬ ‫خاصة‪ ،‬نربة فكاهة أو سخرية أو حماك اة‬
‫فرتاه يضفي عليها نربة ّ‬
‫يتقمص ها البط ل يف مش اهد خمتلف ة‪،‬‬
‫و ّأم ا الث اين فه و م ا تعلّ ق ابألدوار ال يت ّ‬
‫وزع عل ى أقنع ة ث الث ابرزة ه ي احملت ال‪ ،‬والغ يب‪ ،‬وامله ّرج‪ ،‬وتتح ّدد‬
‫وه ي تت ّ‬
‫ص اب [احملت ال] امل رح احمل اكي للغ ات الرفيع ة‬
‫أدواره ا م ن خ الل «خ داع النّ ّ‬
‫حماك اة س اخرة‪ ،‬وتش ويهها اخلبي ث وقلبه ا عل ى قفاه ا م ن قب ل امله ّرج وأخ ريا‬
‫يب‪ ،‬ه ذه املق والت احلواري ة ال ثالث املنظم ة للتن ّوع‬
‫ع دم فهمه ا م ن قب ل الغ ّ‬
‫يب‬
‫النص اب وامله ّرج و الغ ّ‬‫وتتجس د يف ص ور ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكالم ي يف الرواي ة [‪]...‬‬
‫الرمزية»‪)3(.‬‬

‫‪ 1‬ابختني‪ ،‬ميخائيل‪ :‬رابليه و جوجول‪ :‬فن الكلمة و ثقافة الفكاهة الشعبية‪ ،‬ص‪.240 .‬‬
‫‪ 2‬ابختني‪ ،‬ميخائيل‪ :‬الكلمة يف الرواية‪ ،‬ص ص‪.60-59 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.207 .‬‬

‫‪128‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أ‪ -‬احملاكاة الساخرة على مستوى الكلمة‪:‬‬

‫يب دو أ ّن أدي ب املع ّرة ق د اس تقرأ رس الة اب ن الق ارح م ّرات عدي دة‪،‬‬
‫استشف ما أض مر فيه ا م ن نف اق وتع ريض‪ ،‬فاهت دى إىل ه ذه الرحل ة الفنيّ ة‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫يب‪ ،‬وك ان ج زاؤه م ن ج نس قول ه‪ ،‬فالق ارئ‬
‫ردا شافيا عل ى األدي ب احلل ّ‬
‫لتكون ّ‬
‫ري «مل يبخ ل عل ى بطل ه‪ ،‬طيل ة الرحل ة‪ ،‬بلفظ ة‬
‫لرس الة الغف ران ي درك أ ّن املع ّ‬
‫وخبه‪ ،‬وأذلّه‪ ،‬وح ّق ره‪،‬‬
‫إطراء واحدة‪ ،‬عظّمه‪ ،‬وأجلّه على سطح الكالم‪ ،‬ولكنّه ّ‬
‫يف عمق ه‪ ]...[ ،‬ل ذلك ال يطل ب منّ ا أب و الع الء أن ن ؤمن ل ا يق ول حرفي ا‪،‬‬
‫وإّمنا يطلب منّا أن نفهم ابلتأويل أحكامه االنتقادية اليت يتخذ هلا اب ن الق ارح‬
‫موضوعا»‪)1(.‬‬

‫تتجس د الس خرية العالئي ة عل ى مس توى اللف ظ يف األدعي ة‪ ،‬وال تك اد‬


‫ّ‬
‫ختط ن ص فحات الرس الة كلّه ا‪ ،‬انهي ك ع ن قس م الرحل ة ال يت كان ت هل ا‬
‫مالزم ة‪ ،‬إذ «يعم د أب و الع الء إىل اختي ار مف ردات حتتم ل ك ّل منه ا أكث ر م ن‬
‫معىن‪ .‬ومع أنّه حي ّدد املعىن الذي يقصده داخل املنت‪ ،‬ف إ ّن ظ الل املع ىن األ ّول‬
‫ماثلة»‪)2( .‬‬ ‫تظل‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و ‪،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.108 .‬‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف رسالة‬
‫‪ 2‬كمال الرويب‪ ،‬ألفت‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.85‬‬

‫‪129‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وهذا ما جيعل وج ه الس خرية فيه ا يكم ن يف املفارق ة ال يت حتمله ا‪ ،‬فه ي قائم ة‬
‫عل ى تن اقض املق ام واملق ال‪ ،‬فال دعاء‪ ،‬م ن جه ة‪ ،‬يعك س «عالق ة إخواني ة‬
‫الرتسل األدبية‪ .‬ولكن‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أييت‬
‫فن ّ‬ ‫ودية‪ ،‬وهو فعال‪ ،‬من دعائم ّ‬
‫ّ‬
‫ال دعاء تزكي ة مزيّف ة مل ا س يتبعه م ن أعم ال‪ .‬وهك ذا حيم ل ال دعاء م ن املع ىن‬
‫له»‪)1(.‬‬ ‫عكس ما وضع‬

‫جتس د الس خرية يف رس الة الغف ران‪ ،‬تع رض العناص ر اللغوي ة‬


‫وم ن األدعي ة ال يت ّ‬
‫التالية ‪ -‬على سبيل التمثيل فقط –‪:‬‬

‫• الدعاء ابلتمكني‪:‬‬

‫ال يك اد املع ري يف تح مش هدا م ن مش اهد الرحل ة إالّ ق رن اس م بط ل‬


‫الغفران بدعاء مسجوع بني معرتض تني ع ن وع ي ليمح و املنطق ة الفاص لة بين ه‬
‫(املؤلف) وبني شخصياته السردية‪ ،‬ويغ دو اخلط اب مباش را مل واله اجللي ل عل ّي‬
‫ب ن منص ور‪ ،‬وك ان يف أغل ب األدعي ة يرج و ل ه بعل ّو الش أن يف العل م وال دين‬
‫وبطول العلم‪ ،‬كقوله‪« :‬وأيّد هللا العلم حبياته»(‪ ،)2‬و«أعلى هللا العلم‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.113 .‬‬


‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.171 .‬‬

‫‪130‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حبيات ه»(‪ ،)1‬وك ذا قول ه «خلّ د هللا ألفاظ ه يف دي وان األدب»(‪ ،)2‬وه ذه‬
‫األدعية‪ ،‬ومثلها كثري‪ ،‬يدرجها املؤلف عموما يف سياق جيعل فيه بطل الغفران‬
‫أديب ا‪ ،‬راوي ة للش عر‪ ،‬عارف ا بعل وم اللغ ة العربي ة‪ ،‬ويف ه ذا تع ريض ل ا ف اخر ب ه‬
‫علي بن منصور يف رسالته أديب املعرة‪ ،‬إذ سرد عليه مسرية تلقيّه ه ذه العل وم‬
‫عن أئمة اللغة يف عصره‪ ،‬فيقول‪« :‬كنت أدرس عل ى أيب عب د هللا ب ن خالوي ه‬
‫رمح ه هللا‪ ،‬وأختل ف إىل أيب احلس ن املغ ريب‪ ،‬ومل ا م ات اب ن خالوي ه س افرت إىل‬
‫الفارسي وكنت أختلف إىل علماء بغداد‪ :‬إىل أيب‬
‫ّ‬ ‫علي‬
‫بغداد ونزلت على أيب ّ‬
‫وعلي بن عيسى الرماينّ‪ ،‬وأيب عبيد هللا امل رزابينّ‪ ،‬وأيب حف ص‬
‫ايف‪ّ ،‬‬
‫سعيد السري ّ‬
‫الكتّ اين ص احب أيب بك ر ب ن جماه د‪ .‬وكتب ت ح ديث رس ول هللا ص لّى هللا‬
‫عاذر»‪)3(.‬‬ ‫عليه وسلّم‪ ،‬وبلّغت نفسي أغراضها جهدي واجلهد‬

‫فباستعراض ه ه ذا‪ ،‬دع ا ل ه أب و الع الء بقول ه‪« :‬خلّ د هللا ألفاظ ه يف دي وان‬
‫أي ألف اظ يقص د أب و الع الء ومل خيلّ ف عل ّي ب ن منص ور أث را أدبي ا‬
‫األدب»! و ّ‬
‫واحدا؟ بل الطريف أن يقرأ هذا ال ّدعاء يف سياق ما أثبته صاحب معجم‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.206 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.246 .‬‬
‫‪ -3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص ص‪.57-56 .‬‬

‫‪131‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫األدابء يف ترمجت ه ل ه ق ائال‪[« :‬كان ت] معيش ته م ن التعل يم ابلش ام ومص ر‪،‬‬


‫الط الوة»(‪)1‬‬ ‫[‪ ]...‬وشعره جيري جمرى شعر املعلّمني‪ ،‬قلي ل احل الوة خالي ا م ن‬
‫وتقربه من األمراء واحلكاّم‪.‬‬
‫على الرغم من جمالسته لألدابء والعلماء ّ‬
‫ومن األدعية‪ ،‬كذلك‪ ،‬الطافحة ابلته ّكم والسخرية‪ ،‬ما جاء يف الغفران‪:‬‬

‫«وخيلو ‪-‬ال أخاله هللا من اإلحسان‪ -‬حبوريتني من احلور العني [‪ ]...‬ويقبل‬


‫على واحدة منهم ا يرت ّش ف رض اهبا ويق ول‪ :‬إ ّن ام رأ الق يس ملس كني مس كني!‬
‫حترتق عظامه يف السعري»‪ )2(.‬ومل ا يعل م أم ر احل وريتني ّأّنم ا كانت ا دميمت ني يف‬
‫ال ّدنيا يسأله ينصرف عنهما للبحث عن ضالته يف مكان آخ ر‪ ،‬وإذ ب ه يلتق ي‬
‫هن عل ى ض ربني‪ :‬ض رب خلق ه‬
‫للك يسأله عن احلور العني‪ ،‬فيجيبه امللك‪ّ « :‬‬
‫هللا يف اجلنّ ة مل يع رف غريه ا‪ .‬وض رب نقل ه هللا م ن ال دار العاجل ة مل ا عم ل‬
‫ّ‬
‫أي عج ب‪ -‬ف أين الل وايت مل‬‫األعم ال الص احلة‪ .‬فيق ول وق د هك ر مّ ا مس ع ‪ّ -‬‬
‫غريهن؟» (‪)3‬‬
‫ّ‬ ‫يكن يف الدار الفانية؟ وكيف يتميزن عن‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬ص‪.1974 .‬‬


‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.285-284 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.285-287 .‬‬

‫‪132‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تكمن املفارقة يف ه ذا املش هد يف تع ارض اب ن الق ارح الش هواين م ع ال دعاء ل ه‬


‫ابإلحس ان‪ ،‬وهب ذا «ينفض ح فس اده األخالق ي حبك م التن اقض ب ني الص فة‬
‫الديني ة ‪ -‬اإلحس ان‪ -‬والس لوك الش هواينّ ‪-‬خيل و حب وريتني‪ ،)2(»-‬اّ الرغب ة‬
‫عنه ا يف ح وريتني مل تك وان م ن اإلن س‪ ،‬مت اداي يف انقي اده الس افر لن وازع نفس ه‬
‫البهيمي ة‪ ،‬وه ذا املش هد حيي ل عل ى ق ول اب ن الق ارح ع ن نفس ه يف رس الته‪:‬‬
‫«ومض يت إىل مص ر فأمرج ت نفس ي يف األغ راض البهيمي ة واألغ راض‬
‫املومثية»‪)3(.‬‬

‫• الدعاء له بسداد الرأي وهالك أعدائه‪:‬‬

‫غم ز ش يخ املع ّرة‪ ،‬يف مواض ع كث رية‪ ،‬اب ن الق ارح ابلتوفي ق يف جمادل ة‬
‫خص ومه وإفح امهم‪ ،‬ولك ن م ا يعق ب ه ذا املق ال (ال دعاء) مق ام خم ز يص ّريه‬
‫ه زأة عن د س كان اجلنّ ة والنّ ار‪ ،‬وم ن ه ذه األدعي ة‪ ،‬قول ه‪« :‬كب ت هللا ع د ّوه‪،‬‬
‫وغدوه»‪ ،)4(.‬وقوله‪« :‬ال فت ن خص مه مفحم ا»(‪،)5‬‬ ‫ّ‬ ‫وأدام رواحه إىل الفضل‬
‫كت هللا أنف مبغضه»(‪ ،)6‬ومن أطرف املشاهد اليت حتمل معىن‬
‫وقوله‪ّ « :‬‬
‫‪ 2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و ‪،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.113 .‬‬
‫‪ 3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص‪.63 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.130-129 .‬‬
‫‪ 5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.216 .‬‬
‫‪ 6‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.204 .‬‬

‫‪133‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫املفارق ة ب ني املق ال واملق ام مش ه ٌد س عى في ه اب ن الق ارح لإلص الح ب ني النابغ ة‬


‫اجلع دي واألعش ى بع د مالح اة نش بت بينهم ا يف جمل س منادم ة‪ ،‬فيق ول أب و‬
‫الع الء‪« :‬فيق ول ‪-‬أص لح هللا ب ه وعل ى يدي ه‪ :-‬ال عرب دة يف اجلن ان»(‪ ،)1‬ا‬
‫يق رتح عل ى ندمائ ه أن خيتل ي ك ّل واح د م نهم بواح دة م ن احل ور الع ني الل وايت‬
‫إوزا‪ ،‬حماوال أن يلطّف اجمللس بعد تلك اخلصومة‪ ،‬فيعارضه لبيد بن ربيعة‬
‫كن ّ‬‫ّ‬
‫ق ائال‪« :‬إن أخ ذ أب و ليل ى [النابغ ة] قين ة‪ ،‬وأخ ذ غ ريه مثله ا‪ ،‬أل يس ينتش ر‬
‫اإلوز؟ فتض رب‬
‫خربه ا يف اجلنّ ة‪ ،‬ف ال ي ؤمن أن يس شمى ف اعلو ذل ك أزواج ّ‬
‫القيان»‪)2(.‬‬ ‫اجلماعة عن اقتسام أولئك‬

‫خييب رجاء اب ن الق ارح يف اإلص الح ب ني املتخاص مني‪ ،‬وين زوي ذل يال بع زوف‬
‫ندمائه عن اقرتاحه‪ ،‬بنربة ساخرة من لبي د‪ ،‬وكأنّه يفض ح س وء تق ديره لعواق ب‬
‫وخ از‪ ،‬وه ذا النّ وع‬
‫األم ور أم ام النّ دامى‪ ،‬ويتح ّول ال ّدعاء ابلتوفي ق إىل هج اء ّ‬
‫من التعبري هو م ا اص طلح علي ه ابخت ني ابلرتكي ب اهلج ني‪ ،‬وه و إدراج املؤل ف‬
‫«لط ريقتني م ن ال تل ّفظ‪ ،‬ومنظ ورين داللي ني واجتم اعيني حي ث ي ّتم اقتس ام‬
‫األص وات واللغ ات يف ح دود جمموع ة تركيبي ة واح دة‪ ،‬يف مجل ة بس يطة‬
‫عادة»‪)3(.‬‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.231 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.234 .‬‬
‫‪3 - Bakhtine )Mikhaïl(: Esthétique et théorie du roman, Trad. Daria‬‬
‫‪Olivier, Paris, Ed Gallimard. , pp. 125-126.‬‬

‫‪134‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ب‪ -‬احملاكاة الساخرة على مستوى الدور‪:‬‬


‫مج ع أب و الع الء حش ودا م ن الش عراء واللغ ويني يف رحلت ه الغفراني ة‪ ،‬جع ل‬
‫اب ن الق ارح حموره ا‪ ،‬فه و يعق د امل ادب وجم الس الغن اء والله و‪ ،‬ويس تدعي م ن‬
‫يش اء هل ا‪ ،‬فتتق اطع األص وات ويس مع ض جيجهم وه و مي ّزق س كون اجلنّ ة‪،‬‬
‫جتمع وا فيه ا للتعب ري ع ن ف رحتهم‪ ،‬ويطلق ون‬
‫أّنم يف مناس بات احتفالي ة ّ‬
‫وك ّ‬
‫العنان أله وائهم ورغب اهتم املعلن ة واملكبوت ة إىل ح ّد العرب دة‪ ،‬ف األدابء يرص دون‬
‫ه ذه الع وامل وكأّن ا ج زء مفق ود م ن حي اهتم االجتماعي ة يف األدب‪ ،‬ف األمر‬
‫نفس ه جع ل ابخت ني يش يد إعج ااب ابألدي ب الفرنس ي «رابلي ه» ف ريى أنّه ق د‬
‫عما أراد حمتفيا ابلضحك الشعيب الذي يفصح عن جمموع بشري يطلق‬
‫عرب « ّ‬
‫ّ‬
‫أحادي احلرك ة‬
‫الصارم و ّ‬
‫عفويته املعتقلة يف ضحك طليق‪ ،‬يهزأ ابلثابت واملمثل ّ‬
‫كم ا ل و ك ان الض حك اجلم اعي كس را لقاع دة تق ّرر التماث ل والثب ات وش جبا‬
‫ابلسكون»‪)1(.‬‬ ‫تبشر‬
‫لكل قاعدة ّ‬
‫ّ‬
‫وإذا ك ان ه ؤالء يطلق ون عف ويتهم املعتقل ة يف ض حك طلي ق‪ ،‬ويتخ ذون م ن‬
‫األقنع ة وس يلة للس خرية م ن احلي اة الص ارمة الرتيب ة‪ ،‬ف إ ّن أاب الع الء احتف ى‬
‫ببطل الغفران احتفاء خاصا‪ ،‬وألبسه أقنعة تنسجم مع مقاصده ونواايه‬

‫‪ 1‬دراج‪ ،‬فيصل‪ :‬نظرية الرواية و الرواية العربية‪ ،‬ص‪.77 .‬‬

‫‪135‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يب حل وح‪ ،‬يتع امل وه و ل ا ين بس جاه ل‪ ،‬واترة أخ رى‬


‫املض مرة‪ ،‬فه و اترة غ ّ‬
‫نصاب حمتال‪ ،‬يكيد وميكر‪ ،‬حتقيقا ملاربه وأطماع ه ال يت ال تنته ي إالّ ابنته اء‬
‫ّ‬
‫الرحل ة واخلل ود يف النع يم الس رمدي‪ ،‬وه و بينهم ا مه ّرج يقف ز عل ى أواتر أيب‬
‫الع الء‪ ،‬فيه رول ه اراب‪ ،‬ويتماي ل خائف ا‪ ،‬ويس تلقي عل ى األرائ ك آم را انهي ا‪،‬‬
‫جتس د ه ذه األدوار الطافح ة ابلس خربة‪ ،‬س يقف البح ث‬
‫وم ن املش اهد ال يت ّ‬
‫على أبرزها‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫• دور الغيب‪:‬‬

‫يب يف أط وار م ن الرحل ة غبيّ ا‪ ،‬ويتض ح‬


‫أظه ر أب و الع الء األدي ب احلل ّ‬
‫ذلك من خالل قرائن لغوية وتراكيب حم ّددة‪ ،‬كم ا تتجلّ ى م ن خ الل الس ياق‬
‫املفخخ الذي ينصبه له مؤلّف الغفران‪.‬‬
‫العام للموقف ّ‬
‫ب األدب‪ ،‬وتلفظ ه بغري ب الك الم‬
‫ومن تلك املواقف تظاهره ابملعرف ة وح ّ‬
‫إدهاش ا حملاوري ه‪ ،‬فه ا ه و ذا يتن ّزه ب ني كثب ان العن رب‪ ،‬متطي ا فرس ا م ن ايق وت‬
‫ودر‪ ،‬ي رتّ أبش عار لألعش ى‪« ،‬فيهت ف ه اتف‪ :‬أتش عر أيّه ا العب د املغف ور ل ه‬
‫ّ‬
‫ملن هذا الشعر؟ فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬ح ّدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم‪ ،‬يتوارثون‬

‫‪136‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ذلك كابرا عن كابر‪ ،‬حىت يصلوه أبيب عمرو بن العالء‪ ،‬فريويه هلم عن أش ياخ‬
‫ب] يف ال بالد الكل دات [األرض‬
‫الع رب‪ ،‬حرش ة الض باب [ص ائد الض ّ‬
‫الغليظ ة]‪ ،‬وجن اة الكم أة يف مغ اين الب داة‪ ،‬ال ذين مل أيكل وا ش رياز األلب ان‪ ،‬ومل‬
‫جيعل وا الثم ر يف الثب ان‪ ،‬أ ّن ه ذا الش عر مليم ون ب ن ق يس ب ن جن دل أخ ي ب ّن‬
‫ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عل ّي ب ن بك ر ب ن‬
‫وائل»‪)1(.‬‬

‫ال خيف ى م ا يف ه ذا الق ول م ن غري ب األلف اظ ال يت تظه ر اب ن الق ارح أعرابي ا‬


‫يب قض ى‬
‫ع ا يف الفي ايف القف ار ومل يل ن لس انه كس اكّن احلواض ر‪ ،‬فه و حل ّ‬
‫عم را مت ن ّقال ب ني بغ داد ومص ر‪ ،‬ف أ ّ ل ه هب ذه الكلم ات البائ دة؟ ولع ّل أق رب‬
‫يلمح ملا ذكره أبو سعيد السريايف (وهو مّن‬ ‫تفسري هلذا اإلغراب أ ّن أاب العالء ّ‬
‫زع م اب ن الق ارح أنّ ه ق د أخ ذ ع نهم عل وم اللغ ة) م ن ش أن مف اخرة البص ريني‬
‫للكوفيني على سالمة لغتهم من األلفاظ املس تهجنة يف قول ه‪« :‬وم ا افتخ ر ب ه‬
‫البصريون على الكوفيني أن قالوا‪ :‬حنن أنخذ اللغة ع ن حرش ة الض باب وأكل ة‬
‫الكواميخ»‪)2(.‬‬ ‫الريابيع‪ ،‬وأنتم أتخذوّنا عن أكلة الشواريز وابعة‬

‫يتعجب يف موضع آخر من شروح النابغة الذبياين‬


‫بعد هذا التحذلق اللغوي‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.177-176 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.206 .‬‬

‫‪137‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مرة [النابغة]‪ ،‬ولقد‬


‫درك اي كوكب بّن ّ‬
‫لبعض أشعاره‪ ،‬فيقول مقاطعا له‪« :‬هلل ّ‬
‫صحف عليك أهل العلم من الرواة‪ ]...[ ،‬كيف يروون‪ ،‬وأن ت ش اهد‪ ،‬ل تعلم‬
‫ّ‬
‫أين غ ري املتخ ّرص وال والّغ»‪ )2(.‬فيتض اءل حجم ه م ن راوي ة للش عر إىل م تّ هم‬
‫ّ‬
‫يدفع شبهة الكذب عن نفسه‪ ،‬وحذا ب ه احل رج أن ينف ي أن يك ون «والّغ ا»‪،‬‬
‫وه و كم ا ج اء معن اه يف أس اس البالغ ة أ ّن‪« :‬ول غ‪ :‬ول غ الكل ب اإلانء ويف‬
‫اإلانء‪ ]...[ ،‬ومن اجملاز‪ :‬فالن أيكل حلوم الن اس ويل غ يف دم ائهم»‪ )3(.‬وم ن‬
‫هن ا‪ ،‬ي نهض ذل ك التض ارب ب ني مواق ف اب ن الق ارح‪ ،‬فه و يظه ر عامل ا لغ واي‬
‫اترة يفح م خص ومه ويظه ر غبي ا ع دمي الف م اترة أخ رى‪ ،‬وه ذا الض رب م ن‬
‫التع ابري ال ذي يق وم عل ى «اجلم ع ب ني ع دم الفه م‪ ،‬والفه م‪ ،‬ب ني الغب اء‪،‬‬
‫الروائي»‪)4(.‬‬ ‫البساطة‪ ،‬السذاجة والغباء ظاهرة منتشرة ومنوذجية جدا يف النثر‬

‫ّأم ا املوق ف الث اين‪ ،‬فه و انش غاله ع ن أه وال احلش ر لحادث ة اللغ ويني والش عراء‬
‫صك توبته الذي ينجيه‪ ،‬ومن اّ تبدأ رحلة اخلوف واجلزع‬
‫الذي كلّفه إضاعة ّ‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪،‬‬ ‫‪ 1‬السامرائي‪ ،‬إبراهيم‪ :‬املدارس النحوية‪ ،‬أسطورة و واقع‪ ،‬دار الفكر للنشر والتوزيع‪ّ ،‬‬
‫ط‪ ،1997 ،1‬ص‪.19 .‬‬
‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.206 .‬‬
‫حمم د أمح د قاس م‪ ،‬املكتب ة العص رية‬
‫‪ 3‬الزخمش ري‪ ،‬ج ار هللا‪ :‬أس اس البالغ ة‪ ،‬ق ّدم ل ه وش كله وش رح غريب ه ّ‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬صيدا‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1423 ،1‬ه ‪2003/‬م‪ ،‬ص‪ .921 .‬مادة‪ :‬ولغ‪.‬‬
‫‪ 4‬ابختني‪ :‬الكلمة يف الرواية‪ ،‬ص‪.204 .‬‬
‫أبي وس يلة ختط ر عل ى ابل ه‪ ،‬فيفش ل يف ك ّل حماول ة‬
‫للبح ث ع ن اخل الص ّ‬
‫بسبب سذاجته وفرط غبائه‪ ،‬ليثبت أ ّن صفة الغب اء أص يلة يف طبع ه‪ ،‬ومالزم ة‬
‫‪138‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الغيب «ميك ن أن يك ون ه و نفس ه موض وع س خرية الكات ب بص فته‬


‫لفهم ه‪ ،‬ف ّ‬
‫ابلضرورة»‪)1(.‬‬ ‫غبيّا‪ ،‬فاملؤلّف ال يتضامن معه تضامنا كامال‬

‫مهمة سرد قص ته يف موق ف احملش ر‪ ،‬وإمع اان‬


‫أسند أبو العالء إىل بطل الغفران ّ‬
‫من ه يف ال ته ّكم من ه‪ ،‬جعل ه جي ّرد نفس ه م ن ك ّل خل ق فاض ل‪ ،‬فض مري امل تكلّم‬
‫يوحي أ ّن أاب العالء ال صلة له هبذا املشهد‪ ،‬واختفى مؤلفا وراواي‪ ،‬لتب دأ قص ة‬
‫ابن القارح من قول ه‪« :‬مل ا ّنض ت م ن ال شرمي [الق رب]‪ ]...[ ،‬فط ال عل ّي األم د‬
‫واشت ّد الظم أ [‪ ]...‬وأان رج ل مهي اف‪ ،‬أي س ريع العط ش‪ ،‬وافتك رت‪ ،‬فرأي ت‬
‫أمرا ال قوام ملثلي به‪ .‬ولقيّن امللك احلفيظ لا زب ر [كت ب] يل م ن فع ل اخل ري‪،‬‬
‫فوج د حس نايت كالنُّف إ [القط ع املتفرق ة م ن النب ات] يف الع ام األرم ل‬
‫[األج دب] إالّ أ ّن التوب ة يف آخره ا كأّن ا مص باح أبي ل‪ ،‬رف ع لس لك الس بيل‪،‬‬
‫فلم ا أقم ت يف املوق ف زه اء ش هر أو ش هرين‪ ،‬وخف ت يف الع رق م ن الغ رق‪،‬‬
‫ّ‬
‫زيّن ت يل نفس ي الكاذب ة أن أنظ م أبي اات يف رض وان»‪ )2(.‬وبع د إفن اء الق وايف‬
‫اليت نظمها يف مدح امللكني‪ ،‬وهي كما قال‪« :‬ما لو مجع لكان ديواان»‪،‬‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.205 .‬‬
‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.249-248 .‬‬

‫فيق ول ل ه املل ك األول‪« :‬إنّ ك لغب ني ال رأي»‪ ،‬و ّأم ا الث اين في بخس بض اعته‪،‬‬
‫ويق ول ل ه إ ّن ه ذا ‪« :‬ق رآن إبل يس امل ارد وال ينف ق عل ى املالئك ة»‪ ،.‬اّ يتّج ه‬

‫‪139‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫خائ ب الرج اء إىل مح زة ب ن عب د املطل ب ‪-‬رض ي هللا عن ه‪ -‬طامع ا يف‬


‫فيوخبه على سوء تقديره للموقف الذي هو فيه‬
‫استعطافه لا يفهم من الشعر‪ّ ،‬‬
‫ق ائال‪« :‬وحي ك! أيف يف مث ل ه ذا امل وطن جت يء ابمل ديح؟» (‪ )1‬وه و يف غم رة‬
‫البح ث ع ن ش فيع ل ه‪ ،‬يلتق ي جبماع ة بي نهم ش يخه أب و عل ّي الفارس ّي‪ ،‬وبع د‬
‫انص رافه‪ ،‬يق ول‪« :‬وش غلت خبط اهبم [‪ ،]...‬فس قط م ّّن الكت اب ال ذي في ه‬
‫واجلزع»‪)2(.‬‬ ‫ذكر التوبة‪ ،‬فرجعت أطلبه فما وجدته‪ ،‬فأظهرت الوله‬

‫يشتغل أبو العالء يف هذا املوقف على إظه ار بطل ه يف ذروة الغب اء‪ ،‬فه و‬
‫وي لأللف اظ‪،‬‬
‫احل ريص عل ى الص حة يف رواي ة الش عر‪ ،‬والدقّ ة يف التخ ريج اللغ ّ‬
‫يقصر يف أمر توبته‪ ،‬ا يضيع كتاهبا ويف هذا تعقيب من أيب الع الء عل ى بي يت‬
‫ّ‬
‫رسالته‪)3( :‬‬ ‫علي بن منصور يف‬
‫شعر متثّل هبما ّ‬
‫شرت ي(‪ )4‬كفن وحل د‬
‫ّ‬ ‫وا حسرت ي يف يوم جيمع‬

‫ابل ذي ل ي منه ب ّد‬ ‫ضيّعت م ا ال ب ّد من ه‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.253 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.257 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص‪.51 .‬‬
‫الشرة‪ :‬النشاط والطيش‪.‬‬
‫‪ 4‬شّريت‪ّ :‬‬
‫ك توبت ه‪ :‬اح رص عل ى توبت ك قب ل‬
‫وكأ ّن أاب العالء يقول لصاحبه بتضييعه ص ّ‬
‫موت ك ودع س رائر اخلل ق موكل ة إىل ابرئه ا‪ ،‬وكف اك تظ اهرا ابل ورع والول وع‬
‫‪140‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مقص ر عل ى جهت ني بنص ح غ ريك وأن ت أح وج الن اس إلي ه‪،‬‬


‫ابألدب‪ ،‬فإنّك ّ‬
‫وخيانتك للرسالة األخالقية اليت جي ب أن يلت زم هب ا رج ل األدب‪ ،‬وجع ل منه ا‬
‫للتكسب والتملّق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وسيلة‬

‫• دور احملتال‪:‬‬

‫يش ي دور النص ب واالحتي ال يف ه ذه الرحل ة العالئي ة بن وااي اب ن الق ارح‬


‫السيئة اليت جهد نفسه على إخفائها يف رسالته‪ ،‬فهو يطعن يف الزاندق ة‪ ،‬وه و‬
‫من افق ويش ّهر ابمل اجنني‪ ،‬وه و ش هواينّ‪ ،‬وي ّدعي ح ب الص الح لغ ريه‪ ،‬وه و‬
‫أانينّ‪ ،‬ف أبو الع الء ق د «فض ح ابملع ىن اخلف ّي م ن أس لوبه احلق ائق ال يت خيفيه ا‬
‫سلوكه»‪)1(.‬‬ ‫ابن القارح بظاهر‬

‫وأب رز املش اهد ال يت تفض ح احتي ال اب ن الق ارح‪ ،‬وتكش ف طابع ه‬


‫االنتهازي‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -‬احتياله يف احملشر‪ :‬يورد أبو العالء موقف الشفاعة البن القارح على‬

‫‪ 1‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬وبن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.124 .‬‬

‫لس انه‪ ،‬فبع د م ا ي ئس م ن ال دخول إىل اجلنّ ة لدحي ه للملك ني‪ ،‬يل تمس غرض ه‬
‫م ن عل ّي ب ن أيب طال ب ‪ -‬ك ّرم هللا وجه ه‪ ،-‬فيع رض عن ه ق ائال‪« :‬إنّك ل رتوم‬
‫ح ددا [منوع ا] متنع ا» (‪ ،)1‬ومل يرع و هب ذا التقري ع‪ ،‬ب ل يرتك ب محاق ة أش ّد‬
‫‪141‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تنبن ع ن وص وليته‪ ،‬فه و ال يس تحي أن يق ول‪« :‬ومهم ت ابحل وض فك دت ال‬


‫أصل إلي ه‪ ،‬اّ نغب ت من ه نغب ات ال ظم أ بع دها»‪ )2(.‬ويف ه ذا‪ ،‬ت وبيخ ل ه م ن‬
‫أيب الع الء‪ ،‬أل ّن ورود احل وض ال يك ون إالّ عل ى رس ول هللا ‪-‬ص لّى هللا علي ه‬
‫وس لّم‪ -‬فيتم ايز أتباع ه ع ن غ ريهم بس يماهم‪ ،‬ب دليل قول ه ‪-‬ص لّى هللا علي ه‬
‫وسلّم‪:-‬‬
‫ّأما ابن القارح فهو حمتال مراوغ مي ّد ي داه إىل احل وض بغ ري ح ّق ع ن غفل ة م ن‬
‫الزابني ة ال يت ت ذود الكف رة «بعص ّي تض طرم انرا‪ ،‬فريج ع أح دهم وق د اح رتق‬
‫وجه ه أو ي ده وه و ي دعو بوي ل وثب ور»‪ )3(.‬ومل ا ب ني ي دي رس ول هللا ‪-‬علي ه‬
‫األاتوي‬
‫ّ‬ ‫الص الة والس الم‪ -‬يص بح نك رة‪ ،‬إذ يق ول ل ه‪« :‬م ن ه ذا‬
‫[الغري ب]»‪ )4(.‬ويف ه ذا تع ريض عل ى ع دم متيّ زه بس مة جتعل ه م ن أه ل‬
‫الصالح‪.‬‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.257 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.257 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.257 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.260 .‬‬
‫اّ يقاب ل أب و الع الء‪ ،‬بع د ه ذا‪ ،‬ب ني س لوك آل البي ت األطه ار وس لوك بط ل‬
‫الغف ران‪ّ ،‬أم ا الع رتة املنتجب ون‪ ،‬فه م ب دليل ق وهلم لفاطم ة الزه راء ‪-‬رض ي هللا‬
‫عنها‪« :-‬إ ّان نتل ّذذ بتحف أهل اجلنّة‪ ،‬غ ري أ ّان حمبوس ون للكلم ة الس ابقة‪ ،‬وال‬
‫نتسرع إىل اجلنّة من قبل امليقات»‪ )1(.‬و ّأما ابن القارح‪ ،‬فهو متهاف ت‬
‫نريد أن ّ‬

‫‪142‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الس الم‪-‬‬
‫الزه راء ‪-‬عليه ا ّ‬
‫وحل وح‪ ،‬يتظ اهر ابل ورع أم امهم فيش فعون ل ه عن د ّ‬
‫ويل م ن أوليائن ا‪ ،‬ق د ص ّحت توبت ه‪ ،‬وال ري ب أنّ ه م ن أه ل‬
‫فيقول ون‪« :‬ه ذا ّ‬
‫ابلفوز»‪)2(.‬‬ ‫فيتعجل‬
‫اجلنّة ّ‬
‫ت نعكس الس خرية يف ه ذا املش هد‪ ،‬إذن‪ ،‬م ن خ الل تض افر جمموع ة م ن‬
‫األلفاظ املتنافرة لتح ّدد موقع ابن القارح من الشفاعة‬

‫(آل البي ت‪:‬مّن مل يش رب ر را‪ ،‬وال ع رف منك را(‪/ )3‬حمبوس ون‪/‬ال نري د أن‬
‫نتسرع‪).‬‬
‫ّ‬
‫‪/‬فيتعج ل‬
‫ّ‬ ‫توس ل بن ا إلي ك‬
‫(اب ن الق ارح‪:‬أمرج نفس ه يف األغ راض اآلمث ة(‪ّ / )4‬‬
‫الفوز‪).‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.258 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.259 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.259 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص‪.63 .‬‬
‫‪ -‬إفراطه يف طلب املتع املادية‪ :‬ال ختلو املشاهد الغفرانية من جمون وخالعة‬
‫اب ن الق ارح‪ ،‬فه و ال يف ّك ر إالّ يف جم الس اللّه و واخلم ر‪ ،‬وال يس أل إالّ ع ن‬
‫احلور واجل واري والقين ات الل وايت جي دن الغن اء‪ ،‬فانكش فت طب اع نفس ه الس يئة‬
‫اليت أمرجت يف األغراض البهيمية‪ ،‬ومن أبرز املشاهد ال ّدالة على استهتاره‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أيخذ مثرة من مثار اجلنّة «فيكسرها‪ ،‬فتخرج منها‪ ،‬جارية ح وراء عين اء‪ ،‬وت ربق‬
‫حلس نها ح ورايت اجلن ان [‪ ]...‬فعن د ذل ك يس جد إعظام ا هلل الق دير‪]...[ ،‬‬
‫وخيط ر يف نفس ه وه و س اجد‪ ،‬أ ّن تل ك اجلاري ة ‪ -‬عل ى حس نها ‪ -‬ض اوية‬
‫[حنيفة] »‪ )1(.‬وبعد تط واف يف أط راف اجلنّ ة املطلّ ة عل ى أه ل اجلح يم‪ ،‬يع ود‬
‫فلما قضيت م ن‬
‫إليها قائال‪« :‬كانت يف نفسي مارب من خماطبة أهل النّار‪ّ ،‬‬
‫ذلك وطرا عدت إليك‪ ،‬ف اتبعيّن ب ني كث ب العن رب وأنق اء املس ك‪ ،‬فيتخلّ ل هب ا‬
‫أهاض يب الف ردوس ورم ال اجلن ان‪ :‬فتق ول‪ :‬أيّه ا العب د املرح وم‪ ،‬أظنّ ك حتت ذي‬
‫الكندي [امرؤ القيس] يف قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يب فعال‬

‫مرحل‬
‫على إثران أذايل مرط ّ‬ ‫جتر وراءها‬
‫فقمت هبا أمشي‪ّ ،‬‬

‫[‪ ]...‬فيقول‪ :‬العجب لقدرة هللا لقد أصبت ما خطر يف السويداء»‪ )2(.‬اّ‬
‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.288 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.373-372 .‬‬

‫خيط ر ل ه أن يض اهي ام رأ الق يس يف (دارة جلج ل)‪« ،‬فينش ن هللا‪ ،‬جلّ ت‬


‫لهن كص احبة ام رئ‬
‫يهن م ن تفض ّ‬
‫عظمته‪ ،‬حورا عينا يتماقلن يف ّنر اجلنّة‪ ،‬وف ّ‬
‫الق يس‪ ]...[ ،‬ويعق ر هل ّن الراحل ة‪ ،‬فيأك ل وأيكل ن م ن بض يعها م ا ل يس تق ع‬
‫ولذائذ»‪)1(.‬‬ ‫الصفة عليه من إمتاع‬
‫ّ‬

‫‪144‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫جيس د نف اق وزندق ة اب ن الق ارح يف ه ذا املش هد بطريق ة‬


‫استطاع أبو العالء أن ّ‬
‫عجيبة‪ ،‬فهو حيرمه من سجود الشكر محدا على عبوره الص راط ودخول ه اجلنّ ة‬
‫تعجب ت حلس نها ح ورايت‬
‫وجيعل ه يس جد إعظام ا هلل ش كرا عل ى احلوري ة ال يت ّ‬
‫اجلن ان‪ ،‬وإمع اان من ه يف ال ته ّكم ب ه جيعل ه ينش غل ع ن متجي د هللا أثن اء س جوده‬
‫رد عل ى ّادعائ ه ابلص الح‬
‫بنحاف ة احلوري ة وقلّ ة جس مها‪ ،‬ويك ون‪ ،‬هب ذا‪ ،‬ق د ّ‬
‫بطريقة فنية كثيفة املعاين واإللغاز‪ ،‬تومن إىل أ ّن ما يظهر اإلنسان ل يس ص ورة‬
‫ص ادقة مل ا يض مر‪ ،‬وأ ّن ص الحه معق ود عل ى اتف اق اجل وهر واملظه ر يف‬
‫اإلخ الص والص دق‪ ،‬وم ا قول ه للحوري ة‪« :‬ف اتبعيّن ب ني كث ب العن رب»‪ ،‬وق ول‬
‫الس ارد «فيتخلّ ل هب ا أهاض يب»‪ ،‬وأبي ات ام رئ الق يس وعق ر راحلت ه للح ور‬
‫على شاكلة األمري الضلّيل إالّ سرب ألغواره املكتن زة بن وازع غريزي ة جتس دت يف‬
‫هتافته على هذه املت ع املادي ة عل ى حس اب املتع ة الروحي ة ال يت ال جت د إىل قلب ه‬
‫سبيال‪.‬‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.373 .‬‬

‫‪ -‬اســتهتارو ونونــه‪ّ :‬أم ا املش هد ال ذي يعك س جم ون واس تهتار اب ن الق ارح‪،‬‬


‫فه و حبّ ه جمل الس اللّه و‪ ،‬وولع ه بش رب اخلم ر‪ ،‬ومل أيت أب و الع الء عل ى ذك ر‬
‫أمس اء ك ّل أن واع اخلم ور وأش هر امل دن ال يت تنتجه ا (‪ )1‬إالّ اس تثارة لك وامن‬
‫املش تهيات عن د أيب احلس ن ‪-‬عل ّي ب ن منص ور‪ ،-‬وعلي ه‪ ،‬مل حي رم ص احب‬

‫‪145‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الغف ران بط ل رحلت ه م ن التل ذذ ابمل دام يف مق ام وتط واف‪ ،‬فه و إذا خط رت ل ه‬
‫النزهة يف اجلنّة على فرس من أفراسها‪ ،‬ال حيل و ل ه ذل ك إالّ «ومع ه إانء ف يهج‬
‫اخلل ود»(‪)2‬‬ ‫[ر ر]‪ ،‬فيس ري يف اجلنّ ة عل ى غ ري م نهج‪ ،‬ومع ه ش يء م ن طع ام‬
‫الس عري»‪ ،‬ويف خت ام رحلت ه‬
‫عل ى طريق ة الش عراء الص عاليك ال ذين خلّفه م يف ّ‬
‫«يذكر [‪ ]...‬ما كان يلح ق أخ ا النّ دام‪ ،‬م ن فت ور اجلس د م ن امل دام‪ ،‬فيخت ار‬
‫خب‪ ،‬فإذا هو خيال يف‬
‫يتغري عليه ّ‬
‫ب وال ّ‬
‫أن يعرض له من غري أن ي ن زف له ل ّ‬
‫رمل»‪)4(.‬‬ ‫العظام النّاعمة دبيب منل‪ ،‬أسرى يف املقمرة على‬
‫ال تعدو هذه األوصاف إالّ شوارد اقتنص ها ش يخ املع ّرة م ن رس الة اب ن الق ارح‬
‫علي بعض النّ اس ك أس ر ر‪ ،‬فامتنع ت منه ا وقل ت‪:‬‬
‫اليت يقول فيها‪« :‬عرض ّ‬
‫خلّوين واملطبوخ على مذهب الشيخ األوزاعي»(‪.)5‬‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.152-149 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.176-175.‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.359-358 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.378-377 .‬‬
‫‪ 5‬املرجع نفسه‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص‪.52 .‬‬

‫علي بن منصور يبيح لنفسه شرب املطبوخ من اخلم ور زعم ا من ه ّأّن ا‬


‫إذا كان ّ‬
‫تس قط منه ا علّ ة اإلس كار‪ ،‬ف إ ّن أاب الع الء جييب ه أبس لوب أق ّل تلميح ا يف‬
‫القس م الث اين م ن الرس الة‪ ،‬فيق ول‪« :‬ق دما طل ب النّ دامى مطبوخ ا‪ ،‬ش بّاان‬

‫‪146‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وش يوخا‪ ،‬ين افقون ابلص فة وي وارون‪ ،‬وع ن الص هباء العاتق ة ي دارون»‪ّ )1(.‬أم ا‬
‫ع ن تعلّل ه ابنته اج م ذهب الش يخ األوزاع ي‪ ،‬فيق ول ل ه‪« :‬وم ن النّف اق أن‬
‫يظه ر اإلنس ان ش رب م ا أج از ش ربه بع ض الفقه اء ويعم د إىل ذات‬
‫مقرع ا مسع ه‪« :‬وأع وذ ابهلل م ن ق وم‬
‫األقه اء»‪ )2(.‬ويق ول يف موض ع آخ ر‪ّ ،‬‬
‫كأّن ا املنجي ة م ن بن ت طب ق‬
‫حي ثّهم املش يب عل ى أن يس تكثروا م ن ّأم زنب ق ّ‬
‫[ال دواهي]» (‪ ،)3‬اّ يكش ف ل ه تالعب ه ابألمس اء‪ ،‬وتس مية م ا ح ّرم هللا بغ ري‬
‫أمسائه ا فيق ول‪« :‬واملطب وخ إن أس كر فه و جم رى اخلم ر [‪ ،]...‬وإّمن ا ل ذة‬
‫الش رب فيم ا يع رض هل م م ن الس كر‪ ،‬ول وال ذل ك لك ان غريه ا م ن األش ربة‬
‫وأدفأ»‪)4(.‬‬ ‫أعذب‬

‫أمل ي ربح اب ن الق ارح يف اجلنّ ة تطواف ا ح ىت يص يب فيهج ا؟ وخي تم وخ زه ال الذع‬


‫منهجا»‪)5(.‬‬ ‫بقوله‪« :‬من اصطبح فيهجا‪ ،‬فقد سلك إىل الداهية‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.515 .‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.516 .‬‬ ‫‪2‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.522 .‬‬ ‫‪3‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.513-512 .‬‬ ‫‪4‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.556 .‬‬ ‫‪5‬‬
‫• دور املهرج‪:‬‬

‫يس تغل أب و الع الء ان دفاع اب ن الق ارح الس اذج واحتيال ه امل اكر ليؤلّ ف‬
‫ادة‪ ،‬وقل ب الك الم‬
‫شخص ية جدي دة تق وم حبرك ات هزلي ة‪ ،‬تش ّوه الص ورة اجل ّ‬

‫‪147‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الرص ني عل ى قف اه ليص بح تس لية ولغ وا‪ ،‬فاحل دود مائع ة ب ني شخص ييت الغ يب‬
‫والنّصاب‪ ،‬لذلك تنص ب ص ورة «ص ورة امله ّرج بوص فها أتليف ا أص يال بينهم ا‪،‬‬
‫الغيب»‪)1(.‬‬ ‫نصاب يضع قناع‬
‫املهرج هو ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫طغت على هذا الدور مشاهد ال تهكم القائم ة عل ى الق ول‪ ،‬واحلرك ة‪ ،‬واملفارق ة‬
‫الداللي ة ال يت تس تكنه م ن الس ياق ومقاص د أيب الع الء املض مرة‪ .‬ولع ّل أب رز‬
‫مهرجا ما يلي‪:‬‬
‫املواقف اليت أظهرت ابن القارح ّ‬
‫‪ -‬صراخ أمام خازن اجلنة‪:‬‬

‫يق ف اب ن الق ارح أم ام خ ازن اجلنّ ة املل ك رض وان يس تعطفه لختل ف الق وايف‬
‫طمعا يف السماح له بدخول اجلنّة‪ ،‬فيقول‪« :‬فلم أزل أتتبّ ع األوزان ال يت ميك ن‬
‫أن يوسم هبا (رضوان) حىت أفنيته ا‪ ،‬وأان ال أج د عن ده مغوث ة‪ ،‬وال ظننت ه فه م‬
‫فلما استقصيت الغرض فما أجنحت‪ ،‬دعوت أبعلى صويت‪:‬‬
‫ما أقول‪ّ .‬‬
‫‪ 1‬ابختني‪ :‬الكلمة يف الروية‪ ،‬ص‪.206 .‬‬

‫اي رض وان‪ ،‬اي أم ني اجلبّ ار األعظ م عل ى الف راديس‪ ،‬أمل تس مع ن دائي ب ك‬


‫إليك؟»(‪)1‬‬ ‫واستغاثيت‬
‫أضفت بعض األلفاظ على وقاحة ابن القارح نربة هتريج يف هذا املشهد‪ ،‬فهو‬
‫يرف ع ص وته ويص رخ وكأنّ ه ين ادي خادم ا ق د امتلك ه‪ ،‬ال ملك ا حظ ي لرتب ة‬

‫‪148‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫«أمني اجلبار على الفراديس»‪ ،‬وهذا التداخل بني س خافة املق ال وه ول املق ام‬
‫ادة واملروع ة بع ني‬
‫انت ج ع ن نظ رة بع ض الس ّذج (ك ابن الق ارح) للمواق ف اجل ّ‬
‫االس تهتار والس طحية‪ ،‬فه ي‪ ،‬إذن‪ ،‬مع ان عميق ة منبعه ا اجل الل والقداس ة‬
‫حت اكى حماك اة س اخرة‪ ،‬هت بط هب ا إىل مس توى املع ىن ال دنيوي املش ّوه ابحل واس‬
‫اخلادعة‪.‬‬
‫‪ -‬عبور ابن القارح الصراط‪:‬‬
‫يص ف اب ن الق ارح طريق ة اجتي ازه الص راط‪ ،‬فيق ول‪« :‬فبل وت نفس ي يف العب ور‬
‫الزه راء) ص لّى هللا عليه ا‪ ،‬جلاري ة م ن‬
‫فوج دتّن ال أستمس ك‪ ،‬فقال ت ( ّ‬
‫جواريه ا‪ :‬اي فالن ة أجيزي ه‪ .‬فجعل ت متارس ّن وأان أتس اقط ع ن مي ني وش ال‪،‬‬
‫فقل ت‪ :‬اي ه ذه‪ ،‬إن أردت س الميت فاس تعملي مع ي ق ول القائ ل يف ال ّدار‬
‫العاجلة‪:‬‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.250 .‬‬

‫فامحليّن زقف ونة‬ ‫ست إن أعياك أمري‬


‫ّ‬

‫‪149‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فقال ت‪ :‬وم ا زقفون ة؟ قل ت‪ :‬أن يط رح اإلنس ان يدي ه عل ى كتف ي اآلخ ر‪،‬‬


‫وميس ك احلام ل بيدي ه وبطن ه إىل ظه ره‪ ،‬أم ا مسع ت ق ول (اجلحجح ول) م ن‬
‫أهل (كفر طاب)‪:‬‬
‫صرت أمشي إىل الورى زقفونة‬ ‫حىت‬
‫صلحت حاليت إىل اخللف ّ‬
‫فقال ت‪ :‬م ا مسع ت بزقفون ة‪ ،‬وال اجلحجح ول‪ ،‬وال كف ر ط اب إالّ الس اعة‪،‬‬
‫اخلاطف»‪)2(.‬‬ ‫فتحملّن وجتوز كالربق‬
‫يش ّكل هذا املش هد ب ؤرة الس خرية العالئي ة يف رس الته‪ ،‬فه و مفص ل حاس م يف‬
‫جناة ابن القارح من أهوال القيامة‪ ،‬وانتقاله إىل دار النعيم‪ ،‬والشاهد يف ذل ك‪،‬‬
‫عرة ص اغه م ن عناص ر كرنفالي ة تق وم عل ى احلرك ات البهلواني ة ال يت‬
‫أ ّن أديب امل ّ‬
‫تص در ع ن ش يخ يش كو عج زه فيق ول ع ن نفس ه‪« :‬فل و كن ت إايس ا ص رت‬
‫ابق ال‪ ،‬وأض ع كت ايب ع ن ميي ّن وأطلب ه ع ن ش ايل‪ ،‬وأري د م ع ض عفي‪ ،‬أراتد‬
‫لنفس ي معاش ا بظه ر غ ري ظه ري‪ ،‬ب ل كس ري عقري[ج ريح]‪ ،‬وص لب غ ري‬
‫دماميل»‪)2(.‬‬ ‫كالدمل‪ ،‬وإن جلست فجماليت‬
‫صليب‪ ،‬إن جلست فهو ّ‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.261-260 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء اخلاص برسالة ابن القارح‪ ،‬ص‪.64 .‬‬

‫ويف مقابلة هذه األوصاف اليت نسبها اب ن الق ارح إىل نفس ه يف رس الته م ع م ا‬
‫وصفه به أبو العالء‪ ،‬تربز املفارقة طافحة ابلسخرية‪:‬‬

‫‪150‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫رسالة ابن القارح ≠ رسالة الغفران‬

‫‪... -‬صرت ابقال(مضرب املثل يف الغباء) ≠ فبلوت نفسي يف العبور‪/‬ال أستمسك‬

‫‪ -‬أض ع كت ااب ع ن ميي ّن وأطلب ه ع ن ش ايل ≠ جعل ت متارس ّن‪ /‬أتس اقط ع ن مي ني‬
‫وشال‬

‫‪ -‬م ع ض عفي‪/‬ظهر غ ري ظهري‪/‬مجل يت دمامي ل ≠ ح ىت ص رت أمش ي إىل ال ورى‬


‫زقفونة‬

‫اّ‪ ،‬م ن ه و ه ذا اجلحجح ول(‪)1‬؟ وم ن أي ن أت ى بلف ظ زقفون ة؟ (‪ ،)2‬إن مل‬


‫يكن الغرض منه إالّ إضفاء شحنة مضاعفة من الته ّكم والسخرية الالذعة؟‬

‫‪ -‬شيخ هرم يهرول يف اجلنة خائفا‪:‬‬

‫بعدما أن يزهد أبن القارح يف احلوريتني اللت ني كانت ا ام رأتني ذميمت ني يف احلي اة‬
‫الدنيا (محدونة احللبية‪/‬توفيق السوداء)‪،‬يتعرض ملوقف آخر أش ّد غرابة وأبدع‬
‫‪ 1‬قال ت حم ّقق ة الغف ران بن ت الش اطن إ ّن اجلحجح ول‪ :‬مل نعث ر علي ه فيم ا ب ني أي دينا م ن مراج ع‪ ،‬ولعلّ ه‬
‫رجح أن يك ون ه ذا الش اعر م ن اخ رتاع أيب الع الء‪ ،‬و ه و م ن خ الل اش تقاقه‬ ‫ش اعر مغم ور‪ .‬و البح ث ي ّ‬
‫يكون إىل جحا ونوادره أقرب‪ ،‬إمعاان يف السخرية اببن القارح‪.‬‬
‫‪ّ -2‬أم ا ازقفون ةا ال أث ر هل ا يف املع اجم ال يت أمك ن للبح ث الوق وف عليه ا‪ ،‬وبن ت الش اطن تع رض رأاي‬
‫يرجح أ ّّنا كلمة سرايلية‪ .‬ينظر‪ :‬هامش الغفران‪ ،‬ص ص‪.261-260 .‬‬

‫‪151‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ختي يال‪ ،‬ف اليت تتص ّدى ل ه ابلول ه وتع رض علي ه مطارح ة اهل وى حيّ ة تق ول ل ه‪:‬‬
‫إين إذا ش ئت انتفض ت م ن إه ايب فص رت‬
‫«أال تقيم عندان برهة م ن ال دهر؟ ف ّ‬
‫مثل أحسن غواين‬

‫اجلنّ ة‪ ،‬ل و تر ّش فت رض ايب لعلم ت أنّ ه أفض ل م ن الدرايق ة [اخلم ر]‪]...[ ،‬‬
‫فيذعر منها [‪ ]...‬و يذهب مهروال يف اجلنّة ويقول يف نفسه‪ :‬كيف ي ركن إىل‬
‫هلم إن شئت اللّذة [‪ ]...‬و ل و‬
‫هم؟ فتناديه‪ّ :‬‬
‫السم‪ ،‬وهلا ابلفتكة ّ‬
‫حيّة رشفها ّ‬
‫ودان وإنص افنا‪ ،‬لن دمت إن كن ت يف ال ّدار العاجل ة‬
‫أقم ت عن دان إىل أن خت رب ّ‬
‫قتلت حيّة أو عثم اان‪ ،‬فيق ول وه و يس مع خطاهب ا الرائ ق‪ :‬لق د ض يّق هللا عل ّي‬
‫شف هذه احليّة»‪)1(.‬‬ ‫مراشف احلور احلسان‪ ،‬إن رضيت برت ّ‬
‫يش ّد الق ارئ هل ذا املش هد مواق ف بلغ ت ذروة الس خرية م ن خ الل التقاب ل‬
‫التضادي لأللفاظ والرتاكيب‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬موقف احليّة ≠ رد فعل ابن القارح‬

‫‪ -‬انتفضت من إهايب ≠ فيذعر منها‬


‫‪ -‬فصرت من أحسن غواين اجلنّة ≠ يذهب مهروال يف اجلنّة‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.372-370.‬‬

‫‪152‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫علي مراشف احلور احلسان‬ ‫‪ّ -‬‬


‫ترشفت رضايب‪ /‬كاخلمر ≠ قد ضيّق هللا ّ‬
‫هلم إن شئت اللذة‪/‬خطاهبا الرائق ≠ إن رضيت برت ّشف هذه احلية‬
‫‪ّ -‬‬
‫تهل أب و الع الء ب ه رس الته‪ ،‬ذل ك الش رتاك لف ظ‬
‫يفس ر ه ذا املش هد لغ ز م ا اس ّ‬
‫ّ‬
‫احليّ ة بينهم ا‪ ،‬فه و يق ول‪« :‬وأ ّن يف طم ري حلض با وّك ل أبذايت‪ .‬ل و نط ق ل ذكر‬
‫ش ذايت»‪ )1(.‬ا يش رح لف ظ (حض ب) فيق ول‪« :‬وق د عل م [‪ ]...‬أ ّن احلض ب‬
‫ض رب م ن احليّ ات‪ ،‬وأنّه يق ال حلبّ ة القل ب حض ب»‪ )2(.‬فيحي ل اللف ظ عل ى‬
‫مدلولني متناقضني‬
‫سامة‪ /‬حضب = حبّة القلب‪،‬‬
‫حضب = حيّة ّ‬
‫يب خائف ا ين تج‬
‫وبع د إدراج أيب الع الء مش هد احلي ة ال يت ف ّر منه ا الش يخ احلل ّ‬
‫الس ّامة يف‬
‫املع ىن امل راد وه و أ ّن نفاق ك يش به احليّ ة الناعم ة يف ظاهره ا‪ّ ،‬‬
‫ابطنها‪.‬‬

‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.131 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.132 .‬‬

‫‪153‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬بطل الغفران يتقلب يف النفيم السرمدي‪:‬‬

‫خ تم أدي ب املع رة الرحل ة الغفراني ة لش هد احتف ايل‪ ،‬حي يط ابب ن الق ارح كوكب ة‬
‫م ن الول دان واحل ور اجلم يالت وه م حيملون ه عل ى س رير م ن ذه ب وأحج ار‬
‫رمدي‪ ،‬يق ول أب و الع الء يف وص ف ه ذا‬
‫كرمي ة إىل قص ره ليهن أ ابلنع يم الس ّ‬
‫املش هد‪« :‬ويتّك ن عل ى مف ر م ن الس ندس‪ ،‬وأيم ر احل ور الع ني أن حيمل ن‬
‫ذل ك املف ر ‪ ،‬فيض عنه عل ى س رير م ن س رر أه ل اجلنّ ة‪ ،‬وإّمن ا ه و زبرج د أو‬
‫عسجد‪ ]...[ ،‬فيحمل على تلك احلال إىل حملّه املش يّد ب دار اخلل ود‪ ،‬فكلّم ا‬
‫مر بشجرة نض حته أغص اّنا ل اء ال ورد ق د خل ط ل اء الك افور‪ ]...[ ،‬وتنادي ه‬
‫ّ‬
‫الثمرات م ن ك ّل أوب و ه و مس تلق عل ى الظه ر‪ :‬ه ل ل ك اي أاب احلس ن ه ل‬
‫ل ك؟ ف إذا أراد عنق ودا م ن العن ب أو غ ريه‪ ،‬انقض ب م ن الش جرة لش يئة هللا‪،‬‬
‫»‪)1(.‬‬ ‫ومحلته القدرة إىل فيه‪ ،‬وأهل اجلنّة يلقونه أبصناف التحيّة‪...‬‬

‫املعرة بطل الغف ران لش هد يزخ ر ابألل وان الزاهي ة لس رير حيمل ه م ن‬
‫يودع أديب ّ‬
‫ّ‬
‫زبرج د أو ذه ب حم اط بول دان كال ّد ّر املكن ون واحل ور املش بّهات‬
‫ابجلمان[اللؤلؤ]‬

‫واألشجار اخلضراء املختلفة مثارها تقرتب منه بلطف كي يصيب منها ما‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.379-378 .‬‬

‫‪154‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يشاء دون جهد أو عن اء‪ ،‬والعط ور العبق ة ل اء ال ورد مزاج ه الك افور واملس ك‪،‬‬
‫وأه ل اجلنّ ة يلقون ه أبص ناف التحيّ ة‪« ،‬وتص بح ال والئم املق ّدم ة ابلوس ائل‬
‫الكالمي ة ق ادرة عل ى ف تح الش هيّة‪ ،‬أض ف إىل ذل ك التص وير التخييل ي ل بعض‬
‫احلرك ات ال يت م ا ت زال حت تفظ بقيمته ا‪ .‬ك ّل ش يء يص بح حقيقي ا ومعاص را‬
‫وواقعيا»‪)1(.‬‬

‫إالّ أ ّن النّش از الوحي د يف ه ذا املنظ ر كلّ ه ش يخ بل غ م ن العم ر عتي ا‪ ،‬مت ّكن ت‬


‫من ه األدواء فأقعدت ه ال ّدمامل أرض ا‪ .‬وعل ى م ا تزخ ر ب ه رس الة الغف ران م ن‬
‫مش اهد جعل ت اب ن الق ارح ه زءا ع رب أزم ان متالحق ة‪ ،‬ف أبو الع الء «آث ر أن‬
‫وخ ازا هبم س ال وديعني عل ى أن يك ون س بّااب ش امتا جبلجل ة‬
‫يك ون مق ذعا ّ‬
‫اهلج اءين‪ ،‬وآي ة ذل ك أنّ ه مل يف ّك ر يف الغاي ة م ن دون‬
‫اهلج ائني‪ .‬فك ان أودع ّ‬
‫ّ‬
‫الص يغة األق در عل ى‬
‫الوس يلة‪،‬مل يتس ّرع إىل التش هري واإلدان ة قب ل التفك ري يف ّ‬
‫معا»‪)2(.‬‬ ‫أدائها‪ ،‬ففاز الغاية والوسيلة‬

‫‪ 1‬ابختني‪ :‬رابليه و جوجول‪ :‬فن الكلمة و ثقافة الفكاهة الشعبية‪ ،‬ص‪.239 .‬‬
‫‪ 2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.115 .‬‬

‫‪155‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2‬التن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاص‪:‬‬
‫‪ -1-2‬يف مفهوم املصطلح‪:‬‬
‫إن مفهوم التناص تتصل جذوره املعرفية لقوالت املنظّر الروسي ميخائيل‬
‫كل خطاب‪ ،‬عن قصد أو عن غري قصد‪ ،‬يقيم ح وارا مع‬ ‫ابختني‪ ،‬إذ أ ّن « ّ‬
‫الس ابقة له‪ ،‬اليت تشرتك معه يف املوضوع نفسه‪ ،‬كما يقيم‪ ،‬أيضا‪،‬‬
‫اخلط اابت ّ‬
‫حوارات مع اخلطاابت اليت ستأيت واليت يتنبّأ هبا وحيدس ردود فعلها»(‪.)1‬‬
‫السابقة والالّحقة يف‬
‫فاخلطاب‪ ،‬يف نظره عندئذ‪ ،‬هو امتداد للخطاابت ّ‬
‫جمرد نسق‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬على خالف ما كان سائدا من أ ّن اخلطاب هو ّ‬
‫اخلي الذي خيضع للمعياريّة اجلاهزة‪.‬‬
‫مغلق‪ ،‬حتتكم فيه الكلمة إىل سياقها ال ّد ّ‬
‫مثّة اتّفاق بني النّ ّقاد املهتمني بفكر ميخائيل ابختني على أ ّن النّاقدة‬
‫السبق يف التّعريف به من خالل ترمجة‬
‫البلغاريّة جوليا كريستيفا كان هلا ّ‬
‫تبّن املفهوم ابصطالح جديد هو «التّناص»‬
‫أعماله‪ ،‬وتع ّدى األمر منها إىل ّ‬
‫(‪ )L'intertextualité‬ضمن ع ّدة أحباث هلا كتبت بني ‪ 1966‬و‪،1967‬‬
‫صدرت يف جمليت «كما‪-‬هو ‪ ،»Tel-Quel‬و«نقد ‪ ،»Critique‬وأعيد‬
‫‪Le Texte du‬‬ ‫الرواية‬
‫نشرها يف كتابيها «‪ »Séméiotiké‬و«نص ّ‬
‫‪ ،»roman‬ويف مق ّدمة كتاب «دوستويفسكي» لباختني(‪.)2‬‬
‫‪ -1‬تودوروف‪ :‬ميخائيل ابختني و املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.16 .‬‬
‫قدي اجلديد‪ ،‬ترمجة وتقدمي أمحد‬
‫‪ -2‬ينظر‪ :‬أجنينو مارك ‪ :Angenot Marc‬أصول اخلطاب النّ ّ‬
‫العامة‪ ،‬الطبعة الثّانيّة‪ ،1989 ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪ ،‬ص‪.102 .‬‬
‫الشؤون الثّقافيّة ّ‬
‫املديّن‪ ،‬دار ّ‬

‫‪156‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ق ّدمت كريستيفا مفهوم التّناص يف دراستها «سيميوتيك»‬


‫كل نص هو عبارة‬
‫ص‪ ،‬ورأت «أ ّن ّ‬
‫«‪ ،»Séméiotiké‬من خالل تعريفها للنّ ّ‬
‫نص هو امتصاص وحتويل لنصوص‬
‫كل ّ‬
‫عن فسيفساء من االقتباسات‪ ،‬وأ ّن ّ‬
‫أخرى»(‪ .)1‬ما يثري االنتباه يف هذا التّعريف توظيفها للفظ «فسيفساء» اليت‬
‫حتيل إىل التّ ّنوع والتّع ّدد واالنسجام يف الوقت نفسه‪ّ ،‬أّنا قد تكون استعارهتا‬
‫الرواية‪ ،‬وذلك يف‬
‫من كالم ل باختني‪ ،‬يف سياق حديثه عن تع ّدد األصوات يف ّ‬
‫قوله‪ « :‬كانت احلدود بني كالم املؤلّف وكالم اآلخر مائعة‪ ،‬غامضة‪ ،‬وكثريا‬
‫ومشوشة عن عمد‪ ،‬وبغض أنواع املؤلّفات كانت‬
‫ّ‬ ‫متعرجة‬
‫ما كانت ّ‬
‫كالفسيفساء تبىن من نصوص غريبة»(‪.)2‬‬
‫طرحت كريستيفا مفهوم التّناص‪ ،‬يف مراحلها األوىل‪ ،‬كإجابة إلشكالية‬
‫جوهريّة‪ ،‬متثّلت يف قضي ة استقاللية النّص أو تبعيته‪ ،‬أو لعىن آخ ر‪ ،‬قضية‬
‫نص يقع‬
‫كل ّ‬‫انغالق ه أو انفتاح ه أو انفتاحه‪ ،‬فمن وجهة نظرها ترى أ ّن « ّ‬
‫من البداية حتت سلطة كتاابت أخرى تفرض عليه كوان و عاملا بعينه»(‪.)3‬‬

‫‪1 – J. Kristéva: Séméiotiké, recherches pour une sémanalyse, Paris, Ed.‬‬


‫‪Seuil, 1969, p.. 85‬‬
‫الرواية‪ ،‬ص‪.267 .‬‬
‫‪ 2‬ابختني‪ :‬الكلمة يف ّ‬
‫‪3 - J. Kristéva: La révolution du langage poétique, Paris, Ed. Seuil, 1985, p.‬‬
‫‪105‬‬

‫‪157‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫نص‬
‫كل ّ‬‫وهي بقوهلا هذا حتيل إىل رأي ابختني‪ ،‬وتتّفق معه ضمنيّا على أ ّن ّ‬
‫يتوالد من نصوص سابقة عليه‪ ،‬ويتداخل معها ليتش ّكل يف النّهاية فضاء‬
‫متع ّدد األصوات‪ ،‬مينحه االنفتاح على اخلطاابت األخرى‪« ،‬فالكلمة (النّص)‬
‫(نصا آخر) تكون‬
‫هي ملتقى كلمات (نصوص) حيث تقرأ كلمة أخرى ّ‬
‫السابقة»(‪ .)2‬ويف هذا املعىن‪ ،‬ال حتصر‬
‫مسكونة أبصداء استعماالهتا ّ‬
‫السابقة عليه فحسب‪ ،‬بل إ ّن‬
‫كريستيفا تقاطع النّص مع غريه من النّصوص ّ‬
‫النّصوص ‪-‬يف نظرها‪« -‬يفرتض أن تتش ّكل من طبقات من اخلطاابت‬
‫معاصرة أو سابقة متتلكها لتؤّكدها أو لرتفضها»(‪.)3‬‬

‫وسع دائرة‬
‫مسح هذا املفهوم‪ ،‬الذي تبنّته كريستيفا عن التّناص‪ ،‬من أن ت ّ‬
‫النّقا ‪ ،‬وتربطه بشبكة من املفاهيم النّقديّة اليت تدور يف فلكه‪ ،‬فطرحت‬
‫إشكالية العملية اإلبداعيّة وعالقتها إبنتاجيّة النّص‪ ،‬انطالقا من جتاوزها‬
‫ص‬‫الروسيّة‪ ،‬ورأت أن النّ ّ‬
‫الشكالنيّة ّ‬
‫أسست له ّ‬ ‫ملفهوم النّص املغلق الذي ّ‬
‫بوصفه متع ّدد ال ّدالالت اليت يكتسبها من التقاء منتج النّص ابلقارئ‪ ،‬فإ ّن‬
‫التّناص يراهن استمرارية انفتاحه وتع ّدد قراءاته‪ ،‬فمثلما «ي قدم الكاتب على‬
‫ص من خالل بنائه ّإايه‪ ،‬فكذلك القارئ يفتح هذه ال ّداللة‬
‫إنتاج دالالت النّ ّ‬
‫‪2 - J. Kristéva: Séméiotiké, p. 114.‬‬
‫‪3 - J. Kristéva: La révolution du langage poétique, p. 388.‬‬

‫‪158‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اخلاصة»(‪ .)1‬لعىن‬
‫ّ‬ ‫صيّة‬
‫تصوره وخلفيّته النّ ّ‬
‫ص وفق ّ‬ ‫عن طريق إعادته بناء النّ ّ‬
‫نصا من عدم‪ ،‬فهو قب ل الكت ابة كان ق ارائ‪،‬‬ ‫تصور كاتب أنتج ّ‬ ‫آخر‪ ،‬ال ميكن ّ‬
‫ص حياة أخرى‪ ،‬ويف هذا املعىن‪،‬‬‫وإذن‪ ،‬فاملم ارسة القرائيّ ة هي الت ي متنح النّ ّ‬
‫االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫ص إبحالته على اجلانب‬ ‫أطّرت كريستيفا مفهوم إنتاجيّة النّ ّ‬
‫ص حيمل دالالت متواصلة لنصوص‬
‫للتمدلل(‪ ،Signifiance )2‬ذلك أ ّن النّ ّ‬
‫(‪Phéno-‬‬ ‫ص الظّاهر»‬
‫ص املكتوب اصطلحت عليه ب «النّ ّ‬
‫سابقة عليه‪ ،‬فالنّ ّ‬
‫ص املضمر الذي تنتج داللته بفعل القراءة فاصطلحت عليه‬
‫‪ّ ،)Texte‬أما النّ ّ‬
‫ص الظّاهر ال يصبح‬
‫املكون» (‪ ،)Géno-Texte‬لكن «هذا النّ ّ‬
‫ص ّ‬ ‫ب «النّ ّ‬
‫ص ديناميا‬
‫قابال للقراءة إالّ إذا صعدان عموداي عرب التّكوين‪ ،‬وهبذا يغدو النّ ّ‬
‫فسي‬
‫السيميوطيقا والتّحليل النّ ّ‬
‫اليل مستفيدا من ّ‬ ‫فيه التّحليل ال ّد ّ‬ ‫يبحث‬
‫الرايضيّة واملنطقيّة واللّسانيّة‪ ،‬هذه املعارف مجيعا تق ّدم للتّحليل‬
‫ّ‬ ‫والعلوم‬
‫النماذج واملفاهيم اإلجرائيّة‪ ،‬وإىل جانبها يستفيد من العلوم‬ ‫اليل‬
‫ال ّد ّ‬
‫ماد ّاي ضمن ابقي املعارف»(‪.)3‬‬
‫حيتل موقعا ّ‬
‫االجتماعيّة والفلسفيّة اليت جتعله ّ‬
‫العريب‪ ،‬ال ّدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬الطّبعة الثّانيّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قايف‬
‫ائي‪ ،‬املركز الثّ ّ‬
‫الرو ّ‬
‫ص ّ‬‫‪ -1‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬انفتاح النّ ّ‬
‫‪ ،2001‬ص‪.76 .‬‬
‫نسي ا‪ Signifiance‬ا‪ ،‬ب ‪:‬االتّمعّنا‪ ،‬اال ّداللة املتواصلةا‪ ،‬يف حني‬
‫‪ -2‬هناك من ترجم املصطلح الفر ّ‬
‫الغريب آت من جذر ا‪Singe‬ا‬ ‫ّ‬ ‫يرى اعبد امللك مراتضا أ ّن االتمدللا هو األنسب‪ ،‬أل ّن املصطلح‬
‫وليس من ا‪Sens‬ا‪ .‬ينظر‪ - :‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬الكتابة من واقع العدم (مساءالت حول نظرية‬
‫الكتابة)‪ ،‬دار الغرب للنشر والتوزيع‪ ،‬وهران‪ ،‬اجلزائر‪2003 ،‬م‪ ،‬هامش الصفحة‪.251 .‬‬
‫ائي‪ ،‬ص‪.21 .‬‬ ‫الرو ّ‬
‫ص ّ‬‫‪ -3‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬انفتاح النّ ّ‬

‫‪159‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ص ليس ذات مستقلّة أو‬


‫ناص بقوله‪« :‬إ ّن النّ ّ‬
‫فيعرف التّ ّ‬
‫أماّ ليتش ‪ّ ،Leitch‬‬
‫موحدة‪ ،‬ولكنّه سلسلة من العالقات مع نصوص أخرى‪ ،‬ونظامه‬
‫مادة ّ‬‫ّ‬
‫كما من اآلاثر‬
‫وي‪ ،‬مع قواعده ومعجمه‪ ،‬مجيعا تسحب إليها ّ‬ ‫اللغّ ّ‬
‫ص يشبه يف معطاه جيش خالص‬ ‫واملقتطفات من التّاريخ‪ ،‬وهلذا فإ ّن النّ ّ‬
‫ثقايف جملموعات ال حتصى من األفكار واملعتقدات واإلرجاعات اليت ال‬ ‫ّ‬
‫ص‪ ،‬فهو‪ ،‬إذن‪،‬‬ ‫تتالف«»(‪ .)1‬وهبذا تنتفي املقولة القائمة على سكونية النّ ّ‬
‫دائما يف حالة تفاعل‪ ،‬تتقاطع وتتداخل فيه األصوات املختلفة وغري املتالفة‪.‬‬

‫السابقة ال ّذكر‪ -‬عند‬


‫ناص منحصرا يف هذه املعاين ‪ّ -‬‬
‫ويبقى مفهوم التّ ّ‬
‫دومنيك ماجنينو (‪ )Dominique Maingneneau‬هو اآلخر‪ ،‬حيث‬
‫تطرق يف دراسته‪« :‬مدخل إىل مناهج حتليل اخلطاب»‪ ،‬ساعيا إىل تبسيط‬ ‫ّ‬
‫مفهومه‪ ،‬وحتديد معناه إىل أنّه ال خيرج عن كونه «جمموع العالقات اليت تربط‬
‫نصا ما لجموعة من النّصوص األخرى وتتجلّى من خالله»(‪ .)2‬ومعىن‬ ‫ّ‬
‫املكون» (‪ )Géno-Texte‬الذي‬ ‫ص ّ‬ ‫التّجلية هذا‪ ،‬يرتبط لفهوم «النّ ّ‬
‫اقرتحته كريستيفا من ذي قبل‪ ،‬وهو يوحي إىل اإلضمار واالستتار‪.‬‬
‫حممد‪ :‬اخلطيئة و التّكفري‪ ،‬من البنيويّة إىل التّشرحييّة‪،‬‬
‫امي‪ ،‬عبد هللا ّ‬
‫‪ 1‬ليتش ‪ :Leitch‬نقال عن‪ :‬الغ ّذ ّ‬
‫قايف‪ ،‬الطّبعة األوىل‪ ،1985 ،‬ص‪.321 .‬‬
‫يب الثّ ّ‬
‫األد ّ‬
‫ج ّدة‪ ،‬النّادي ّ‬
‫‪ 2‬بيار دو بيازي ‪ :Pierre De Biazi‬نظرية النّص‪ ،‬ترمجة املختار احلسيّن‪ ،‬جملّة فكر و نقد‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫عدد ‪ ،28‬أبريل ‪2000‬م‪ ،‬ص‪.111 .‬‬

‫‪160‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫نسي روالن ابرت (‪ ،)R. Barthes‬فبعدما‬


‫و ّأما عن أستاذ كريستيفا الفر ّ‬
‫ليقرر أ ّن‬
‫ص املغلق‪ ،‬تراجع عن موقفه‪ّ ،‬‬
‫مر لرحلة البنيويّة ال ّداعية إىل النّ ّ‬
‫أن ّ‬
‫تناص‪ ،‬والنّصوص األخرى ترتاءى فيه لستوايت متفاوتة‪،‬‬ ‫نص هو ّ‬ ‫كل ّ‬‫« ّ‬
‫نتعرف فيها‬
‫أبشكال ليست عصيّة على الفهم بطريقة أو أبخرى إذ ّ‬
‫نص ليس إالّ نسيج ا جديدا من‬
‫فكل ّ‬
‫السالفة واحلاليّ ة‪ّ :‬‬
‫النّصوص ّ‬
‫ص إمكانيّة التع ّدد واالنفتاح‬
‫استشهادات سابق ة»(‪ ،)1‬وبذلك مينح ابرت النّ ّ‬
‫ثقايف تتقاطع فيه األصوات من‬
‫على القراءة االحتماليّة اليت جتعله خمتزان لزخم ّ‬
‫ص على‬ ‫ناص تكمن يف مساعدة نظريّة النّ ّ‬‫أزمنة خمتلفة‪ ،‬ويرى أ ّن وظيفة التّ ّ‬
‫وتسهل قراءته‪« ،‬فالتّناصيّة قدر‬
‫ص‪ّ ،‬‬ ‫استكشاف األصول اليت تش ّكل منها النّ ّ‬
‫للصيغ اجملهولة اليت‬
‫عام ّ‬
‫ناص جمال ّ‬
‫نص مهما كان جنسه [‪ ]...‬والتّ ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫ّ‬
‫ناص هو الذي يعطي أصوليّا‬
‫ومتصور التّ ّ‬
‫ّ‬ ‫اندرا ما يكون أصلها معلوما ‪...‬‬
‫االجتماعي»(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫ص جانبها‬
‫نظريّة النّ ّ‬
‫ناص‪ ،‬وجعله أداة‬
‫توجهاته املعرفيّة‪ ،‬مفهوم التّ ّ‬
‫األديب‪ ،‬لختلف ّ‬
‫ّ‬ ‫تل ّقف النّقد‬
‫ص‪ ،‬وحتيله على أصوله التكوينية من خالل بنيته‬
‫إجرائيّة‪ ،‬تستنطق النّ ّ‬

‫العريب‪ ،‬مركز اإلمناء‬


‫ّ‬ ‫البقاعي‪ ،‬جملّة العرب و الفكر‬
‫ّ‬ ‫حممد خري‬
‫ص‪ ،‬ترمجة ّ‬
‫‪ 1‬ابرت‪ ،‬روالن‪ :‬نظرية النّ ّ‬
‫القومي‪ ،‬بريوت‪ ،‬العدد‪ ،1988 ،3‬ص‪.96 .‬‬
‫ّ‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.96 .‬‬

‫‪161‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الرغم من تع ّدد املفاهيم اليت تؤطّر التّناص وفق‬


‫ال ّداخليّة واخلارجيّة‪ ،‬وعلى ّ‬
‫العام‪،‬‬
‫مرجعياهتا املعرفيّة‪ ،‬إالّ ّأّنا حافظت على نزعته احلواريّة يف مبدإه ّ‬
‫وللتّأكيد على هذا احلكم‪ ،‬جيزم روبرت شولز «أب ّن معىن التّناص خيتلف من‬
‫ناص اصطالح أخذ به السيميولوجيون قبل ابرت‬
‫انقد آلخر [‪ ]...‬وأ ّن التّ ّ‬
‫وجنيه وكريستيفا وريفارتري‪ ،‬وهو اصطالح حيمل معاين وثيقة اخلصوصية‪،‬‬
‫العام فيه أ ّن النّصوص تشري إىل نصوص‬
‫ختتلف بني انقد وآخر‪ ،‬واملبدأ ّ‬
‫أخرى»(‪ .)1‬بنظرة أكثر شولية‪ ،‬جيعل جريار جينيت (‪)G. Genette‬‬
‫ناص عنصرا ضمن رسة أنواع‪ ،‬ش ّكلت ما اصطلح عليه ب «املتعاليات‬
‫التّ ّ‬
‫النّصيّة» (‪ )Transcendance textuelle du texte‬يف كتابه «أطراس»‬
‫كل‬
‫(‪ )Palimpsestes‬الذي نشره سنة ‪ ،1982‬ويقصد هبذا االصطالح « ّ‬
‫نصا ما يف عالقة ظاهرة أو خفيّة بنصوص أخرى»(‪ ،)2‬ليتعاىل هذا‬
‫ما جيعل ّ‬
‫نصا أدبيّا أو غري ذلك‪،‬‬
‫النّص عن ذاته ابحثا عن شيء آخر‪ ،‬قد يكون ّ‬
‫ليشهد ميالدا جديدا من خالل تلك احملاورة‪.‬‬
‫صنّف جينيت املتعاليات النّصيّة كتحديد ملفهوم «ما وراء النّصيّة»‬
‫تصاعدي من التّجريد (‪)Abstraction‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )Taranstextualité‬وفق نظام‬
‫الغذامي‪ :‬اخلطيئة و التّكفري‪ ،‬ص ص‪.321-320 .‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 1‬شولز‪ ،‬روبرت‪ ،‬نقال عن‪:‬‬
‫‪ 2‬بيار دو بيازي ا‪Pierre De Biazi‬ا ‪ :‬نظرية النّص‪ ،‬ترمجة املختار احلسيّن‪ ،‬جملّة فكر ونقد‪ ،‬ع‬
‫‪ ،28‬ص‪.115 .‬‬

‫‪162‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إىل التّض مني (‪ )Implication‬إىل اإلمج ال (‪ ،)1()Globalité‬وتض ّم ه ذه‬


‫األنواع اخلمسة اليت اقرتحها‪ ،‬ما يلي‪:‬‬
‫ناص ‪ L'intertextualité‬ابملعىن الذي صاغته جوليا كريستيفا وهو‪:‬‬‫‪ 1‬التّ ّ‬
‫نص آخر‪.‬‬
‫لنص ما يف ّ‬
‫حضور ّ‬
‫ص مع‬‫النص ّي ‪ :Paratextualité‬وهو العالقة اليت ينشئها النّ ّ‬
‫‪ 2‬التّوازي ّ‬
‫اخلي‪ ،‬التّصدير‪،‬‬
‫الفرعي‪ ،‬العنوان ال ّد ّ‬
‫ّ‬ ‫ص ّي املباشر (العنوان‪ ،‬العنوان‬
‫حميطه النّ ّ‬
‫التّنبيه‪ ،‬املالحظة‪...،‬اخل)‪.‬‬
‫صيّة الواصفة ‪ :Métatextualité‬وهي عالقة نقد‪.‬‬
‫‪ 3‬النّ ّ‬
‫املتفرعة ‪ :Hypertextualité‬وهي العالقة اليت من خالهلا ميكن‬
‫صيّة ّ‬ ‫‪ 4‬النّ ّ‬
‫نص سابق عليه بوساطة التّحويل البسيط أو احملاكاة‪،‬‬
‫لنص ما أن يشت ّق من ّ‬
‫ّ‬
‫الساخرة واملعارضات‪.‬‬
‫ويف هذا النّوع ينبغي تصنيف احملاكاة ّ‬
‫‪ 5‬النصيّة اجلامعة ‪ :Architextualité‬وهي عالقة بكماء ضمنية أو‬
‫لنص ما يف طبقته النّوعيّة(‪.)2‬‬
‫تصنيفي خالص ّ‬
‫ّ‬ ‫خمتصرة هلا طابع‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.115 .‬‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬املرجع ّ‬
‫‪ 2‬ينظر‪:‬‬
‫‪- G. Genette: Palimpseste, La littérature au second degré, Ed. Seuil, Paris,‬‬
‫‪1982.‬‬
‫‪ -‬دو بيازي‪ ،‬بيار ‪ :Pierre De Biazi‬نظرية النّص‪ ،‬ترمجة املختار احلسيّن‪ ،‬جملّة فكر ونقد‪ ،‬ع‪،28‬‬
‫ص‪.116 .‬‬

‫‪163‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يتجسد‬
‫تصور جينيت ّ‬ ‫ناص وفق ّ‬ ‫يالحظ‪ ،‬من خالل هذا التّصنيف‪ ،‬أ ّن التّ ّ‬
‫نص آخر‪ ،‬ويؤّكد يف كاتبه «أطراس»‬
‫لنص يف ّ‬ ‫عموما يف احلضور الظّاهر ّ‬
‫بنص أو نصوص أخرى‪...‬وتكون يف‬ ‫نصا ّ‬ ‫على «عالقة احلضور اليت تربط ّ‬
‫نص بصفة ظاهرة»(‪ّ .)1‬أما العالقات‬
‫لنص يف ّ‬
‫األعم حضورا فعليّا ّ‬
‫الغالب ّ‬
‫فإّن ا ترصد يف األنواع األخرى‪ .‬وعلى العموم‪ ،‬فإ ّن‬
‫اخلفيّة‪ ،‬ابلنّسبة إلي ه‪ّ ،‬‬
‫يهم ه من هذه األدوات اإلجرائيّ ة إالّ استكش اف مستوي ات‬
‫جينيت ال ّ‬
‫صوصي وأمناطه‪ ،‬وأ ّكد على‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬يف كتابه «مدخل‬
‫ّ‬ ‫التّف اعل النّ‬
‫يهمّن حاليا إالّ من‬
‫ص بقوله‪« :‬ال ّ‬ ‫جلامع النّص» يف سياق حديثه عن النّ ّ‬
‫كل ما جيعله يف عالقة‪ ،‬خفيّة أم جليّة‪،‬‬
‫ص ّي‪ ،‬أي أن أعرف ّ‬ ‫حيث تعاليه النّ ّ‬
‫ضمنه‬
‫ص ّي» وأ ّ‬ ‫مع غريه من النّصوص‪ :‬هذا ما أطلق عليه «التّعايل النّ ّ‬
‫الكالسيكي منذ جوليا كريستفا)‬
‫ّ‬ ‫ص ّي»(‪ )2‬ابملعىن ال ّدقيق‪( ،‬و‬
‫«التّداخل النّ ّ‬
‫نص‬
‫لنص يف ّ‬
‫غوي (سواء أكان نسبيا أم كامال أم انقصا) ّ‬‫أضمنه التّواجد اللّ ّ‬
‫و ّ‬
‫لنص مق ّدم وحم ّدد يف آن واحد‬
‫آخر‪ ،‬ويعترب االستشهاد‪ ،‬أي اإليراد الواضح ّ‬
‫بني هاليل مزدوجتني‪ ،‬أوضح مثال على هذا النّوع من الوظائف»(‪.)3‬‬
‫‪1- G. Genette: Palimpseste, p. 08.‬‬
‫ص ّي» مقابال للمصطلح الغريب‬ ‫الرمحن أيوب املصطلح «التّداخل النّ ّ‬
‫‪ -2‬اعتمد املرتجم عبد ّ‬
‫ناصا‪،‬‬
‫ا‪L'intertextualité‬ا الفرنسي‪ ،‬ويبدو أ ّن اشتقاقه هذا كان قبل شيوع استعمال مصطلح االتّ ّ‬
‫واالتّفاق عليه من قبل النّ ّقاد العرب‪.‬‬
‫الرمحن أيوب‪ ،‬دار توبقال للنّشر‪ ،‬ط‪ ،1‬ال ّدار‬‫‪ -3‬جينيت‪ ،‬جريار‪ :‬مدخل جلامع النص‪ ،‬ترمجة عبد ّ‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،1985 ،‬ص‪.90 .‬‬

‫‪164‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تضمنته صفحات هذا الفصل‪،‬‬


‫حليلي الذي ّ‬
‫من خالل هذا الوصف التّ ّ‬
‫ميكن تسجيل املالحظات التّاليّة‪:‬‬
‫‪ -‬انعكاس احلركة النّقديّة املتسارعة ‪ -‬اليت يشهدها الغرب عموما‪ -‬سلبا‬
‫الزخم املتدفّق ‪،‬‬
‫على ال ّدراسات النّقدية العربيّة‪ ،‬وذلك لعدم مواكبتها هلذا ّ‬
‫انهيك عن عكوف النقاد العرب على املمارسات الفرديّة اليت ّأدت إىل‬
‫التّجاذب والتّعارض يف أغلب األحيان‪.‬‬

‫‪ -‬إذا كان مفهوم التناص يف مراحله األوىل هو تفاعل املؤلّف مع نصوص‬


‫تتّصل أبزمنة ثالثة‪ :‬سابقة‪ ،‬وآنية‪ ،‬ومستقبليّة (الذي جعله مثّال يف أفق‬
‫تتوجه إىل‬
‫املتل ّقي) فاخلطاابت السردية ال تلتقي «يف املوضوع فقط‪ ،‬بل ّ‬
‫جواب‪ ،‬وال ميكنها تفادي التّأثري العميق الذي للكلمة اجلوابية املتوقّعة»(‪،)1‬‬
‫كل خطاب‪ ،‬عن قصد أو‬ ‫ويف معىن قريب من هذا يقول تودوروف‪« :‬إ ّن ّ‬
‫السابقة له‪ ،‬اخلطاابت اليت تشرتك‬
‫عن غري قصد‪ ،‬يقيم حوارا مع اخلطاابت ّ‬
‫معه يف املوضوع نفسه‪ ،‬كما يقيم‪ ،‬أيضا‪ ،‬حوارات مع اخلطاابت اليت ستأيت‬
‫واليت يتنبّأ هبا و حيدس ردود فعلها»(‪ .)2‬وينقل يف موضع آخر قوال ل باختني‬
‫الرواية‪ ،‬ص‪.34 .‬‬
‫‪ 1‬ابختني‪ :‬الكلمة يف ّ‬
‫‪ 2‬تودوروف‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.16 .‬‬

‫‪165‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مضمونه‪« :‬سوف ننظر إىل املستقبل كما ينظر إليه املؤلّف نفسه‪ ،‬فهو [أي‬
‫السبب‬
‫يوجه إليه العمل والذي حي ّدد‪ ،‬هلذا ّ‬
‫الشخص الذي ّ‬
‫املستقبل] ذلك ّ‬
‫ابل ّذات‪ ،‬بنية العمل ال اجلمهور احلقيقي الذي قرأ عمل هذا الكاتب أو‬
‫ذاك بصورة فعليّة»(‪.)1‬‬

‫فإ ّن كريستيفا ومن سار يف ركاهبا من بعد‪ ،‬قد اقتصروا يف تفاعل بني‬
‫اخلطاابت على زمنني فقط‪ ،‬سابق وراهن‪ ،‬فهي ترى أ ّن اخلطاابت السردية‬
‫«تتش ّكل من طبقات من اخلطاابت معاصرة أو سابقة متتلكها لتؤّكدها أو‬
‫لرتفضها»(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.100 .‬‬


‫‪2- J. Kristéva: La révolution du langage poétique, p. 388.‬‬

‫‪166‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2-2‬التناص يف خطاب الغفران‪:‬‬


‫اعتم د مؤل ف الغفران‪/‬أب و الع الء يف خطاب ه عل ى اس تدعاء نص وص أخ رى‬
‫بلغتني خمتلفتني ف ّأما األوىل فينزع فيها إىل املباش رة واالستش هاد (يض ع ال نص‬
‫املستش هد ب ه ب ني عالم يت تنص يص)‪ ،‬و ّأم ا الثاني ة فين زع فيه ا إىل االقتب اس‬
‫وص هرها يف بني ة خطاب ه الس ردي أبش كال متع ّددة م ن الب ث املس ترت خلط اب‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫وهو يف اللغتني على اختالفهما ستجيب ملقولة املنظر الروسي ابختني‪ ،‬فك ّل‬
‫خط اب ابلنس بة إلي ه «ع ن قص د أو غ ري قص د‪ ،‬يق يم ح وارا م ع اخلط اابت‬
‫السابقة له‪ ،‬اخلط اابت ال يت تش رتك مع ه يف املوض وع نفس ه‪ ،‬كم ا يق يم‪ ،‬أيض ا‪،‬‬
‫أفعاهل ا»‪)1( .‬‬ ‫ح وارات م ع اخلط اابت ال يت س تأيت وال يت يتنبّ أ هب ا وحي دس ردود‬
‫وال يت أتى اس تجالء تل ك اخلط اابت اخلارجي ة إالّ م ن خ الل اكتش اف‬
‫خاص ة ابلشخص يات وم ن أش كال متع ّددة م ن الب ث املس ترت‬
‫انطاق ات ّ‬
‫اخلطاب»‪)2(.‬‬ ‫خلطاب اآلخر‪ ،‬ومن الكلمات والتعبريات املتناثرة يف هذا‬
‫انطالق ا م ن ه ذا التص ور‪ ،‬يتجلّ ى التن اص يف رس الة الغف ران م ن خ الل‬
‫ارتك از املؤل ف عل ى التص وير ال ديّن (اإلس المي)‪ ،‬واس تلهام مادت ه التخييلي ة‬
‫من القرآن الكرمي والسنّة النبوية الشريفة‪.‬‬

‫‪ 1‬تودوروف‪ :‬ميخائيل ابختني‪ ،‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.16 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.142 .‬‬

‫‪167‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1-2-2‬التناص بني الغفران والقرآن‪:‬‬


‫وقص ة اإلس راء واملع راج مص درين أساس ني يف‬
‫جع ل املؤل ف الق رآن الك رمي ّ‬
‫استلهام املشاهد األخروية اليت جسدها يف قسم الرحل ة م ن غفران ه‪ ،‬وال يك اد‬
‫خيتفي التص وير الق رآين يف ه ذه الرحل ة إالّ يف مق اطع يس رية أطل ق فيه ا أدي ب‬
‫املعرة العنان لتخييله املبتكر‪.‬‬

‫يش كل التن اص الق رآين يف بني ة اخلط اب الغف راين ظ اهرة س ردية تتمظه ر‬
‫عل ى امت داد اخل ط الس ردي‪ ،‬و ق د ورد لفظ ا ص رحيا مباش را‪ ،‬م درجا يف س ياق‬
‫االستش هاد ب ه يف موق ف م ن مواق ف شخص ياهتا‪ ،‬كم ا ورد يف مواض ع أخ رى‬
‫مع ىن مقتبس ا دون لفظ ه الص ريح‪ ،‬ويغل ب ذل ك يف مع رض الوص ف الف ّن‬
‫ملش اهد الرحل ة العالئي ة‪ ،‬وه و انت ج ع ن اج رتار النص وص احملفوظ ة(‪ )1‬وعل ى‬
‫سبيل التمثيل ال احلصر سيعرض مناذج منهما‪.‬‬
‫أ‪ -‬التناص القرآين املباشر‪:‬‬
‫إ ّن املتص فح لقس م الرحل ة يف رس الة الغف ران ينتب ه ال حمال ة لكث رة استش هاد‬
‫أه ل اجلن ة آبي ال ذكر احلك يم‪ ،‬ف أغلبهم حيفظون ه ويتمثلّون ه يف أح اديثهم‪،‬‬
‫وإما دحضا وتقريعا‬
‫وتدرج هذه اآلايت ّإما أتكيدا وأتييدا خلرب أو موقف‪ّ ،‬‬

‫‪ – 1‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬حتليل اخلطاب السردي‪ ،‬ص‪.279 .‬‬

‫‪168‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ملوق ف م ن مواق ف اآلخ ر‪ ،‬تناس با م ع املق ام ال ذي ذك رت في ه‪ ،‬وس يعرض‬


‫البح ث اقتباس ات شخص يات الغف ران يف مواض ع خمتلف ة للوق وف عل ى م دى‬
‫انسجامها مع السياق الذي ذكرت فيه يف اجلنة‪ ،‬واحملشر‪ ،‬والنار‪.‬‬
‫• االستشهاد ابلقرآن يف اجلنة‪:‬‬
‫‪ -‬املوقف األول‪:‬‬

‫جيم ع املؤل ف ب ني طائف ة م ن اللغ ويني ال ذين ش اع ع نهم اخل الف يف مس ائل‬
‫لغوي ة كث رية (اخل الف امل أثور ع ن أع الم مدرس يت الكوف ة والبص رة) يف منادم ة‬
‫يردد ‪ -‬إخبارا ّأّنم‬
‫اصطفى أصحاهبا لبطل غفرانه ابن القارح‪ ،‬فيسمع صوت ّ‬
‫ودة وتص افيا‪ -‬قول ه تع اىل(‪﴿ :)1‬ونزعنــا مــا يف صــدورهم مــن ــل‬
‫يتب ادلون م ّ‬
‫جخـرجني﴾‪.‬‬ ‫إخواان على سرر متقابلني ال ميسهم فيهـا نصـب ومـا هـم منهـا‬
‫(‪)2‬‬

‫‪ -‬املوقف الثاين‪:‬‬

‫قوله تعاىل (‪﴿ :)3‬قـل اي عبـادي الـذين أسـرفوا علـى أنفسـهم ال تقنطـوا مـن‬

‫رمحة هللا‪ ،‬إن هللا يغفر الذنوب مجيفا‪ ،‬إنه هو الغفور الرحيم﴾ (‪ّ ،)4‬‬
‫ردد‬
‫سورة احلجر‪ :‬اآلية‪.48 - 47 .‬‬ ‫‪1‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.169 .‬‬ ‫‪2‬‬
‫سورة النساء‪ :‬اآلية‪.116 .‬‬ ‫‪3‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.219 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪169‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اب ن الق ارح ه ذه اآلي ة دل يال عل ى مقابل ة هللا ع ّز وج ّل عظ يم ال ذنوب ابلرمح ة‬


‫الواسعة‪ ،‬وهو يقصد األعشى هبا‪ ،‬هذا املدلول يف ظاهر ق ول اب ن الق ارح‪ ،‬إالّ‬
‫أ ّن أاب الع الء أدرجه ا يف س ياق التع ريض ب ابن الق ارح نفس ه‪ ،‬فه و يف نظ ره‬
‫م ن نظ ر بع ني اآلم ل يف رمح ة هللا وه و غ ارق يف الش هوات واق رتاف املعاص ي‬
‫املوبقات دون ندم أو تعجيل للتوبة‪.‬‬
‫• االستشهاد ابلقرآن يف احملشر‪:‬‬
‫مل أيت يف احملشر ذكر آايت من القرآن الكرمي إالّ يف موضعني مها‪:‬‬

‫األول‪ :‬وهو عند مساع داع من قبل العر يهتف على مجوع البش ر‬
‫‪ -‬املوضع ّ‬
‫يف احلش ر يتل و قول ه تع اىل (‪﴿ :)1‬أو مل نفم ــركم م ــا يت ــذكر في ــه م ــن ن ــذكر‬
‫وجــاءكم النــذير فــذوقوا فمــا للظــاملني مــن نصــّي﴾‪ ،‬لق د ج اءتكم الرس ل يف‬
‫زم ان بع د زم ان‪ ،‬وب ذلت م ا وّك د ‪.‬م ن األم ان‪ ،‬وقي ل لك م يف الكت اب(‪:)2‬‬
‫﴿واتقــوا يومــا ترجفــون فيــه إ هللا تــوس كــل نفــس مــا كســب وهــم ال‬
‫يظلم ــون﴾‪ )3( ».‬وه ذه اآلايت تناس بت م ع موق ف احلش ر ال ذي تق شرع في ه‬
‫أمساع الظاملني وتن ّكس فيه أعناق املتجربين‪ ،‬والذي جيعل وقعها عل ى القل وب‬
‫لعل عليا بن منصور‬
‫أش ّد إدراجها يف سياق يضفي عليها جوا من الواقعية‪ ،‬و ّ‬
‫‪ 1‬سورة فاطر‪ :‬اآلية‪.37 .‬‬
‫‪ 2‬سورة البقرة‪ :‬اآلية‪.28 .‬‬
‫‪ 3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.248 .‬‬

‫‪170‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قد عاشها ش هادة عن د قراءت ه لرس الة الغف ران ‪ ،‬ويص بح بتخييل ه م ا س يحدث‬
‫يوم القيام ة واقع ا‪ ،‬وذل ك لتفاعل ه معه ا (بوص فه بط ال هل ا)‪ ،‬وجي د نفس ه جم ردا‬
‫م ن الش عور ابلفض اء احمل يط ب ه‪ ،‬وك ان م ن املف رتض علي ه إذا ق رأ الرس الة أن‬
‫يتفاع ل م ع ه ذه اآلايت ابعتباره ا غيب ا و ّأّن ا أنزل ت للوعي د والن ذير أبه وال‬
‫القيام ة ومش هد احلس اب‪ ،‬وم ن هن ا‪ ،‬ينف تح خط اب أيب الع الء عل ى ش كلني‬
‫م ن ال وعي املتق اطعني فينش أ م ن خالهل ا ح وار ب ني بط ل الغف ران (الك ائن‬
‫ال ورقي عل ى ح د تعب ري ابرت) وب ني عل ي ب ن مص ور األدي ب احلل يب (الك ائن‬
‫الواقعي)‪.‬‬

‫و ّأما املوض ع الث اين‪ :‬فق د ذك رت آايت ه يف س ياق ح وار ب ني اب ن الق ارح وس يّد‬
‫الشهداء محزة بن عبد املطل ب ‪-‬رض ي هللا عن ه‪ ،-‬عق ده املؤل ف لبط ل غفران ه‬
‫الذي كان يس تجدي الش فاعة م ن ع ّم الن يب ‪-‬ص لّى هللا علي ه وس لّم‪ -‬متخ ذا‬
‫مدحيه بضاعة مقابل جناته‪ ،‬فيقول‪« :‬وجئت حىت وليت منه فناديت‪ :‬اي سيد‬
‫فلم ا أقب ل‬
‫الش هداء‪ ،‬اي ع ّم رس ول هللا ص لى هللا علي ه‪ ،‬اي اب ن عب د املطل ب! ّ‬
‫عل ّي بوجه ه أنش دته األبي ات‪ .‬فق ال‪ :‬وحي ك! أيف مث ل ه ذا امل وطن جت يء‬
‫ابملديح؟ أ ما مسعت اآلية(‪﴿ :)1‬لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه﴾ فقلت‪ :‬بلى‬

‫‪ 1‬سورة عبس‪ :‬اآلية‪.37 .‬‬

‫‪171‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قد مسعتها ومسعت ما بع دها (‪﴿ :)1‬وجوو يومئـذ مسـفرة حـاحكة مستبشـرة‬
‫الفجرة﴾»‪)2( .‬‬ ‫ووجوو يومئذ عليها ربة ترهقها قَتة أولئك هم الكفرة‬
‫جعل املؤلف موقف احلش ر خالي ا م ن االستش هاد ابلق رآن الك رمي لفظ ا إالّ يف‬
‫هذين املوضعني‪ ،‬فاألول صوت ال ّداعي الذي وّكل بتذكري اخلالئق ل ا ت وع دوا‬
‫ب ه يف دني اهم م ن أه وال احلس اب‪ ،‬والث اين ص وت اب ن الق ارح ال ذي أخ ذ‬
‫تلمس الش فاعة بك ّل وس ائل املك ر والتحاي ل‪ ،‬وك أ ّن أاب الع الء يق ول الب ن‬
‫ي ّ‬
‫الق ارح‪/‬املتلقي الفعل ي‪ :‬إن ذهل ت العق ول ل ا حي يط هب ا م ن ج الل ورهب ة ف إن‬
‫طبع ك اللئ يم ال ذي جب ل عل ى الك ذب والنف اق يف ال دنيا مينع ك ع ن مفارق ة‬
‫اختاذ الشعر وسيلة تقضي هب ا مارب ك دون الت زام بقيم ه األخالقي ة‪ ،‬وإن كن ت‬
‫شاخص ا ب ني ي دي ربّ ك تن ازل أه وال القيام ة ال يت وص فها البي ان اإلهل ي يف‬
‫قول ه‪﴿ :‬يــوم ترو ــا تــذهل كـل مرحــفة عمــا أرحــف وت ــع كــل ذات محــل‬
‫شـديد﴾‬ ‫محلها وترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكـن عـذاب هللا‬
‫(‪.)3‬‬

‫‪ -1‬سورة عبس‪ :‬اآلية‪.42-38 .‬‬


‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.253 .‬‬
‫‪ 3‬سورة احلج‪ :‬اآلية ‪.02‬‬

‫‪172‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫• االستشهاد ابلقرآن يف اجلحيم‪:‬‬


‫ورد االستش هاد يف س ياق وص ف مش اهد الع ذاب يف انر اجلح يم م ّرة‬
‫واحدة على لسان اب ن الق ارح عن د وقوف ه عل ى مش ارفها يطّل ع عل ى س ّكاّنا‪،‬‬
‫فريمق إبليس مص ّفدا يف األغ الل والسالس ل‪ ،‬وا ّلزابني ة تض ربه لق امع احلدي د‪،‬‬
‫وهم بط ل‬‫وبع د حت اور بنيهم ا يل تمس إبل يس اللع ني من ه إس داء خدم ة ل ه‪ ،‬فيت ّ‬
‫إين ال أق در عل ى نف ع‪،‬‬‫الغف ران أنّه ي روم م اء يطف ن ظم أه‪ ،‬فيع رتض ق ائال‪ّ « :‬‬
‫ف إ ّن اآلي ة س بقت يف أه ل الن ار‪ ،‬أع ّن قول ه(‪﴿:)1‬و اندى أص ــحاب الن ــار‬
‫أص ــحاب اجلن ــة أن أفي ــوا علين ــا م ــن امل ــاء أو ق ــا رزقك ــم‪ ،‬ق ــالوا إن هللا‬
‫حرمها على الكافرين﴾» (‪ ،)2‬فيخطن حدس ابن القارح فيما ّ‬
‫توهم و يصرفه‬
‫حرم ت عل يهم يف‬
‫إبل يس للح ديث ع ن ح ال أص حاب اجلنّ ة م ع اخلم ر ال يت ّ‬
‫دنياهم‪.‬‬
‫بع د ع رض ه ذه الش واهد القرآني ة ال يت و ّش ح هب ا أب و الع الء غفران ه ع ن‬
‫قص د‪ ،‬يقف ز إىل األذه ان تس اؤل يس تغرب س بب وروده ا يف رحل ة أدبي ة تن زع‬
‫إىل التخيّ ل أكث ر منه ا إىل الواق ع وم ا ه ي األواص ر املعنوي ة ال يت تش ّد ال نص‬
‫القرآين ابلنص الغفراين؟‬

‫‪ 1‬سورة األعراف‪ :‬اآلية‪.50 .‬‬


‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.309 .‬‬

‫‪173‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تناقل ت كت ب الس ري وال رتاجم خ رب زندق ة أيب الع الء وكف ره بس بب‬
‫جترئه على القرآن الكرمي ‪-‬عل ى ح ّد زعمه م‪-‬‬
‫استخفافه ابملعتقدات الدينية‪ ،‬و ّ‬
‫‪ ،‬فجعلوا من كتابه «الفصول والغ اايت» معارض ة للق رآن‪ ،‬وأنّه مل ا س ئل‪ :‬أي ن‬
‫ّ‬
‫هذا من القرآن؟ أجاهبم بقوله‪ :‬مل تصقله احملاريب أربعمائة سنة(‪ّ .)2‬أم ا رس الة‬
‫الغفران ففيها مزدكة واستخفاف!(‪ )1‬وإذا كان حتام ل ه ؤالء عل ى أيب الع الء‬
‫ب دافع سياس ي أو ط ائفي م ذهيب راه ن‪ ،‬فل م بق ي الص مت مطبق ا عل ى فه م‬
‫مقاصد أيب العالء من استشهاده آبي الذكر احلكيم يف غفرانه؟‬

‫ال ميك ن اإلجاب ة ع ن ه ذه التس اؤالت دون رب ط رس الة الغف ران بس ياقها‬
‫االجتم اعي‪ ،‬فالق ارئ‪ ،‬وه و يف غم رة قراءهت ا يش رد ع ن ذهن ه ّأّن ا ج واب‬
‫خلط اب بلغ ه م ن األدي ب احلل يب عل ي ب ن منص ور ال ذي ك ان الب ادئ إباثرة‬
‫مجلة من القضااي‪ ،‬خاض فيها ابحل ديث ع ن م االت بع ض الش عراء واللغ ويني‬
‫وأصحاب الفرق والطوائف‪ ،‬وعن تقص ريهم يف التعجي ل ابلتوب ة‪ ،‬ومل يك ن م ن‬
‫ش يخ املع ّرة إالّ أن ع رض إجابت ه ابلش كل ال ذي أم اله علي ه خ اطره ك ّرد ال‬
‫غ ري‪ ،‬فالرتاس ل ب ني األديب ني حيي ل الباح ث إىل رص د ذل ك التع الق النص ّي‬
‫الناشن بني الرسالتني‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬الراجكويت‪ :‬أبو العالء و ما إليه‪ ،‬ص‪.205 .‬‬

‫‪174‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وعليه‪ ،‬فإ ّن حتديد معامل رسالة الغفران يكون إبعادة تشكيل أقطاهبا الثالثة‪:‬‬
‫[املعري‪/‬عل ي اب ن منص ور (املتلق ي الفعل ي)‪ /‬اب ن الق ارح (الشخص ية الفني ة)]‬
‫يف تفاع ل تناص ي ب ني اخلط ابني‪ ،‬لتكتس ب أمهيته ا الك ربى م ن خ الل جتلّ ي‬
‫ثالثة مظاهر م ن ه ذا التفاع ل‪ّ :‬أم ا األول فه و القيم ة الرتاتبي ة للشخص ية (أو‬
‫احلدث) اليت تش ّكل حمتوى التل ّفظ‪ ،‬و ّأما الثاين‪ ،‬فينحصر يف درجة ق رب ه ذه‬
‫العناصر من املؤلّف‪ ،‬و ّأم ا الثال ث‪ ،‬فه و العالق ة املتبادل ة ب ني املتلق ي واملؤلّف‪،‬‬
‫أخرى‪)1(.‬‬ ‫من جهة‪ ،‬واملتلقي والشخصية من جهة‬
‫املتأم ل خلط اب اب ن الق ارح يكتش ف بس هولة ن واايه االس تفزازية اجلارح ة‬
‫إ ّن ّ‬
‫ال يت قابله ا أب و الع الء بك ّل ب رودة وأانة‪ ،‬ول ّفه ا حبج اب كثي ف م ن املش اهد‬
‫الس اخرة املقنّع ة جب الل ال نص الق رآين املق ّدس ال ذي أض فى عليه ا ج ّدا جيع ل‬
‫ّ‬
‫مراس له وامج ا أمام ه‪ ،‬و ّأم ا ع ن «م ا يغل ب عليه ا م ن الس خرية وال ته ّكم ل يس‬
‫س خرية ابملعتق دات الديني ة‪ ،‬وإّمن ا الس خرية كلّه ا ابب ن الق ارح‪ ،‬وال ته ّكم كلّ ه‬
‫عليه»‪)2(.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬تودوروف‪ :‬ميخائيل ابختني‪ ،‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.99 .‬‬


‫‪ 2‬بنت الشاطن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.74 .‬‬

‫‪175‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وإذا اف رتض البح ث م ن جه ة أخ رى أ ّن أاب الع الء افت تح رس الته بعب ارة‬
‫توحي أ ّن بطل الغفران رأى نفسه يتقلّب يف نعيم اجلنّة وهو يف ن وم يتل ّذذ في ه‬
‫االهتام؟‬
‫أبحالمه‪ ،‬فهل كانت رسالة الغفران تسلم من الطعن و ّ‬
‫حفل الرتاث العريب لؤلفات يف كتب التاريخ القدمية و الرتاجم‪ ،‬كان م ن‬
‫عادة مؤلّفيها أن يسألوا عن مصري امل رتجم ل ه بع د امل وت فيأنس ون بس رد رؤى‬
‫تص ف م االهتم يف اآلخ رة‪ ،‬وم ن ب ني تل ك الكت ب‪« :‬املن تظم» الب ن اجل وزي‪،‬‬
‫و«البداي ة والنهاي ة» الب ن كث ري(‪ ،)1‬وعن دما خي تم الواح د م نهم ترمج ة ص احب‬
‫م ذهب م ن امل ذاهب أو أك ابر تل ك احلقب ة «ي ربز أحي اان س ؤال ع ن مص ريه‬
‫بعد أن فارق احلياة‪ :‬هل غفر ل ه أم ال؟ ه ذا الس ؤال ي ّتم ع رب مش هد يكتس ي‬
‫صبغة حلم أو رؤاي‪ :‬أحد مع ارف امليّ ت أو م ن ال ذين مسع وا ب ه‪ ،‬ي راه يف املن ام‬
‫أمره»‪)2(.‬‬ ‫عما آل إليه‬
‫و يسأله ّ‬
‫أليست رس الة الغف ران رحل ة فنيّ ة نس ج أب و الع الء مادهت ا م ن وح ي عقل ه وم ا‬
‫ايف؟ فالش واهد‬
‫يّن والثق ّ‬
‫عل ق يف ذاكرت ه م ن تفاع ل وج داين م ع موروث ه ال ّد ّ‬
‫القرآنية اليت استدعاها من القرآن الكرمي «ال تعدو أن تكون مادة سخية‪،‬‬

‫‪ 1‬كيليطو‪ ،‬عبد الفتاح‪ :‬أبو العالء املعري أو متاهات القول‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫ط‪ ،2000 ،1‬ص‪.22 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.22 .‬‬

‫‪176‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫صاغ منها أبو العالء مع غريها من مواد‪ ،‬عامله األخر‪ ،‬وما كان يستطيع‪ ،‬وما‬
‫عم ا رس خ يف عقيدت ه ووجدان ه‬
‫ينبغ ي ل ه‪ ،‬أن يتمثّ ل جنّت ه وانره‪ ،‬لع زل ّ‬
‫ألي مس لم‪ ،‬ص ادق‬
‫الص ورة القرآني ة للحي اة اآلخ رة‪ ،‬وم ا ميك ن ّ‬
‫وثقافت ه‪ ،‬م ن ّ‬
‫ال دين أو مف ّرط في ه‪ ،‬أن يص ّور لنفس ه عامل ه اآلخ ر‪ ،‬ول يس في ه مالم ح م ن‬
‫األخرى»‪)1(.‬‬ ‫الديّن للحياة‬
‫تصوره ّ‬‫ّ‬
‫ب‪ -‬التناص القرآين ّي املباشر‪:‬‬

‫بع د الوق وف عل ى االستش هاد آبي ال ذكر احلك يم يف رس الة الغف ران‪،‬‬
‫يرص د البح ث يف ه ذا املق ام االقتباس ات ال يت ص ّور م ن خالهل ا أب و الع الء‬
‫ص هب ا وص ف مظ اهر‬
‫مش اهد رحلت ه األخروي ة‪ ،‬ولع ّل أبرزه ا تل ك ال يت خ ّ‬
‫النّع يم يف جنّت ه التخييلي ة‪ ،‬وبش كل أق ّل ب روزا م ا وص ف ب ه مش اهد املوق ف‬
‫ابحملشر وعذاب اجلحيم‪.‬‬

‫• وصف نفيم اجلنة‪:‬‬


‫‪ -‬يف وصف األشجار واأل ار‪:‬‬
‫تهل أب و الع الء رس الته ب ذكر األش جار ال يت كان ت ترم ز إىل العط اء‬
‫اس ّ‬
‫احلر بظلّها‬
‫اجلليل الذي يهيّأ البن القارح يف اجلنّة‪ ،‬فهي مصدر لألمان من ّ‬

‫‪ 1‬بنت الشاطن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.72 .‬‬

‫‪177‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الوارف‪ ،‬ومن اجلوع بثمرها اللذيذ‪ ،‬ويف هذا يقول‪« :‬فقد غرس ملوالي الشيخ‬
‫اجلليل ‪-‬إن شاء هللا‪ -‬شجر يف اجلنّة لذيذ اجتن اء‪ ،‬ك ّل ش جرة من ه أتخ ذ م ا‬
‫بني املشرق إىل املغرب بظ ّل غ اط»‪ )1( .‬وخي تم الرحل ة ب ذكرها فتص بح مص درا‬
‫للطّي ب والعط ر الع ابق‪ ،‬فيق ول‪« :‬فكلّم ا م ّر بش جرة نض حته أغص اّنا ل اء‬
‫الورد‪ ،‬قد خلط لاء الكافور‪ ،‬ولسك ما جّن من دماء الفور‪ ،‬بل ه و بتق دير‬
‫هللا الكرمي‪ .‬وتناديه الثم رات م ن ك ّل أوب وه و مس تلق عل ى الظه ر‪ :‬ه ل ل ك‬
‫اي أاب احلس ن ه ل ل ك؟ ف إذا أراد عنق ودا م ن العن ب أو غ ريه‪ ،‬انقض ب م ن‬
‫الشجرة لشيئة هللا‪ ،‬ومحلته القدرة إىل فيه»‪ )2(.‬ويف هذه األوص اف لألش جار‬
‫إحالة إىل قوله تعاىل‪﴿ :‬وندخلهم ظال ظليال﴾ (‪ )3‬وقول ه ع ّز وج ّل‪﴿ :‬جـزاهم‬
‫جا صربوا جنة وحريرا‪ ،‬متكئني فيها علـى األرائـك ال يـرون فيهـا سـا وال‬
‫زمهري ـرا‪ ،‬وداني ـةي علــيهم ظالّــا وذلل ـ قطوفهــا تــذليال﴾ (‪ )4‬وقول ه تع اىل‪:‬‬
‫دان﴾‪)5(.‬‬ ‫﴿وجنا اجلنتني‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.378 .‬‬
‫‪ 3‬سورة النساء‪ :‬اآلية‪.57 .‬‬
‫‪ -4‬سورة اإلنسان‪ :‬اآلايت‪.14-12 .‬‬
‫‪ -5‬سورة الرمحن‪ :‬اآلية‪.54 .‬‬

‫‪178‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ّأم ا وص ف األّن ار يف الغف ران‪ ،‬ف ورد يف ق ول أيب الع الء‪« :‬وجت ري يف‬
‫أصول ذلك الشجر أّنار ختتلج من ماء احليوان‪ ،‬والك وثر مي ّدها يف ك ّل أوان‪،‬‬
‫م ن ش رب منه ا النّغب ة ف ال م وت ق د أم ن هن اك الف وت‪ ،‬وس ع ٌد م ن اللّ نب‬
‫املخت وم‪)1( »...‬‬ ‫الرحي ق‬
‫متخرقات‪ ،‬ال تغ ّري أبن تط ول األوق ات‪ ،‬وجع افر م ن ّ‬
‫ّ‬
‫ص أدي ب املع رة أّن ار جنّت ه اجلاري ة ل اء احلي وان‪ :‬العس ل‪ ،‬واللّ نب‪ ،‬ال ذي ال‬
‫خي ّ‬
‫يفس د طعم ه م ع م رور ال زمن‪ّ ،‬أم ا ا ّلرحي ق املخت وم‪ :‬فه و ر ر عتي ق‪ ،‬ويف ه ذه‬
‫األوصاف استدعاء ملعىن اآلية يف قوله تع اىل‪﴿ :‬مثل اجلنة الـ وعـد املتقـون‬
‫فيها أ ار مـن لـمل مل يتغـّي طفمـه وأ ـار مـن ـر لـذة للشـاربني وأ ـار مـن‬
‫عســل مصــفى وّــم فيهــا مــن كــل الثم ـرات ومغفــرة مــن ر ــم﴾(‪ ،)2‬وقول ه‬
‫تع اىل‪﴿ :‬إن األب ـرار لفــي نفــيم‪ ،‬علــى األرائــك ينظــرون‪ ،‬تفــرف يف وجــوهم‬
‫مسك﴾‪)3(.‬‬ ‫ن رة النفيم‪ ،‬يسقون من رحيق خمتوم‪ ،‬ختمه‬
‫‪ -‬يف وصف اجلواري والولدان‪:‬‬
‫جي نح أب و الع الء بتخييل ه يف وص ف مظ اهر املتع ة يف اجلنّ ة‪ ،‬فيض في عل ى‬
‫مشاهدها بعض التفاصيل املقتبسة من القرآن الكرمي‪ ،‬وينقلها هبذا من العامل‬

‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.142-141 .‬‬


‫حممد‪ :‬اآلية‪.15 .‬‬
‫‪ -2‬سورة ّ‬
‫‪ -3‬سورة املطففني‪ :‬اآلايت‪.26-22 .‬‬

‫‪179‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ائي اجلمي ل‪ ،‬وم ن تل ك الص ور وص فه‬


‫الغي يب اجللي ل إىل غراب ة عامل ه العج ّ‬
‫للجواري اللوايت ينشأن من الثّمار اللذيذة‪ ،‬فيقول‪« :‬ينشن هللا القادر بلطف‬
‫حكمته شجرة م ن عف ز ‪ -‬والعف ز اجل وز ‪ -‬فتون ع لوقته ا‪ ،‬اّ ت نفض ع ددا ال‬
‫تنشق ك ّل واح دة ع ن أرب ع ج وار ي رقن ال ّرائني‪ ،‬مّن‬
‫حيصيه إالّ هللا سبحانه‪ ،‬و ّ‬
‫ق رب والن ائني»(‪ ،)1‬ويف موض ع بع ده يق ول‪« :‬فيج يء ب ه [اب ن الق ارح] إىل‬
‫حدائق ال يعرف كنهها إالّ هللا‪ ،‬فيقول‪ :‬خذ مثرة من هذا الثّمر فاكسرها فإ ّن‬
‫ه ذا الش جر يع رف بش جر احل ور‪ .‬فيأخ ذ س فرجلة‪ ،‬أو ّرمان ة‪ ،‬أو تفاح ة‪ ،‬أو‬
‫م ا ش اء هللا م ن الثم ار‪ ،‬فيكس رها‪ ،‬فتخ رج منه ا جاري ة ح وراء عين اء ت ربق‬
‫اجلنان»‪)2(.‬‬ ‫حلسنها حورايت‬

‫يتقصد أبو العالء اإلغراب يف الوصف والقول بدليل قوله‪( :‬يرقن الرائني‪ ،‬مّن‬
‫ّ‬
‫ق رب والن ائني‪ /‬ال يعل م كنهه ا إالّ هللا‪ /‬ت ربق حلس نها ح ورايت اجلن ان) ك ي‬
‫خيل ب عق ل اب ن الق ارح‪/‬املتلقي الفعل ي‪ ،‬وجيعل ه مأس ورا ابل ّدهش ة مل ا ي رى م ن‬
‫العجائب يف جنان الرحلة الغفرانية‪.‬‬
‫ال خيفى أ ّن هذه املشاهد العجائبية تتعالق نصيّا مع قوله تعاىل‪﴿ :‬عندهم‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.279 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.288 .‬‬

‫‪180‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫مكنــون﴾ (‪ ،)1‬وم ع قول ه تع اىل‪﴿ :‬إان‬ ‫قاص ـرات الطــرف عــني‪ ،‬كــأ ن بــي‬
‫أنشأ ن إنشـاء‪ ،‬فجفلـنهن أبكـارا‪ ،‬عـراب أتـرااب‪ ،‬ألصـحب اليمـني﴾‪ّ )2( .‬أم ا‬
‫وص ف الول دان املخلّ دين يف رس الة الغف ران‪ ،‬فه م يف خدم ة أص حاب اجلنّ ة‬
‫بدليل قوله‪« :‬والولدان املخلّدون يف ظالل تلك الشجرة قيام وقعود‪ ،‬وابملغفرة‬
‫السعود‪ ،‬يقول ون‪ ،‬وهللا الق ادر عل ى ك ّل عزي ز‪ :‬حن ن وه ذه الش جرة ص لة‬
‫نيلت ّ‬
‫الص ور»‪ )3(.‬وك ذلك يف قول ه‪:‬‬
‫م ن هللا «لعل ّي ب ن منص ور» خنبّ أ ل ه إىل نف خ ّ‬
‫أّنم اللّؤل ؤ املكن ون«‪ )4(.‬ومص در ه ذا‬
‫«ف إذا أت ت األطعم ة‪ ،‬اف رتق غلمان ه ك ّ‬
‫م ن الق رآن يف قول ه ع ّز وج ّل‪﴿ :‬ويطــوف علــيهم ولــدان خملــدون إذا رأيــتهم‬
‫منثورا﴾‪)5(.‬‬ ‫حسبتهم لؤلؤا‬
‫‪ -‬يف وصف القصور ومظاهر الَتف‪:‬‬

‫املؤم ل يف جنّ ة‬
‫أغ دق أب و الع الء عل ى س كان جنت ه ج زيال م ن النع يم ّ‬
‫اآلخ رة‪ ،‬إالّ أ ّن الف ارق يكم ن يف حص ر ش يخ املع ّرة مظ اهر ال رتف يف املت ع‬
‫احلسية اليت تنسحب على حياة األمراء واألثرايء يف ال ّدنيا‪ ،‬وخاصة تلك اليت‬
‫سورة الصافات‪ :‬اآليتان‪.49-48 .‬‬ ‫‪1‬‬
‫سورة الواقعة‪ :‬اآلايت‪.38-35 .‬‬ ‫‪2‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.141 .‬‬ ‫‪3‬‬
‫املرجع نفسه‪.272 ،‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪ 5‬سورة اإلنسان‪ :‬اآلية‪.19 .‬‬

‫‪181‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ك ان حيل م هب ا البس طاء ل ا ي بلغهم م ن مظ اهر الب ذخ يف قص ور خلف اء ب ّن‬


‫كأّنا ه ي األخ رى ض رب م ن اخلي ال‪ .‬وأييت ذك ر القص ور يف رس الة‬
‫العبّاس‪ ،‬و ّ‬
‫الغف ران يف س ياق وص ف نزه ة اب ن الق ارح يف الف ردوس‪ ،‬وإذ ب ه «ينظ ر [‪]...‬‬
‫ألبلغن ه ذين القص رين‬
‫ّ‬ ‫يف رايض اجلنّة فريى قصرين منيفني‪ ،‬فيقول يف نفسه‪:‬‬
‫فأس أل مل ن مه ا؟ ف إذا ق رب إليهم ا رأى عل ى أح دمها مكت واب «ه ذا القص ر‬
‫ل زهري ب ن أيب س لمى امل زين» وعل ى اآلخ ر «ه ذا القص ر لعبي د ب ن األب رص‬
‫األس دي»»(‪ّ ،)1‬أم ا ذك ر القص ور يف الق رآن ف ورد يف س ورة «الفرق ان» عن د‬
‫قول ه تع اىل‪﴿ :‬تبــارك الــذي إن شــاء جفــل لــك خـّيا مــن ذلـك جنــات يــري‬
‫قصورا﴾‪)2(.‬‬ ‫من حتتها األ ار وجيفل لك‬
‫تتجسد مظاهر الرتف يف رسالة الغفران بصورة أجلى‪ ،‬عن د ذك ر امل ادب‬
‫ال يت يش رف عليه ا اب ن الق ارح بنفس ه‪ ،‬وه ي‪ ،‬يف الب دء‪ ،‬كان ت جم ّرد خ اطرة‬
‫بدت له فتهيأت وسائلها يف ملح البصر‪ ،‬يقول أبو العالء‪« :‬ويب دو ‪ -‬أيّد هللا‬
‫جم ده ابلتأيي د ‪ -‬أن يض ع مأدب ة يف اجلن ان‪ ،‬جيم ع فيه ا م ا أمك ن م ن ش عراء‬
‫اخلض رمة واإلس الم‪ ]...[ ،‬فيخط ر ل ه أن تك ون كم ادب ال دار العاجل ة‪ ،‬إذ‬
‫ك ان الب ارئ جلّ ت عظمت ه ال يعج زه أن أيت يهم جبمي ع األغ راض‪ ،‬م ن غ ري‬
‫كلفة وال إبطاء‪ ،‬فتنشأ أرجاء الكوثر‪ ،‬جتعجع لطحن ّبر من اجلنّة»‪ )3(.‬وبعد‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.181 .‬‬
‫‪ 2‬سورة الفرقان‪ :‬اآلية‪.10 .‬‬
‫‪ 3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ‪.268‬‬

‫‪182‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إع داد الطع ام «توض ع اخل ون م ن ال ذهب والف واثري م ن اللج ني وجيل س عليه ا‬
‫الس قاة أبص ناف األش ربة‪،‬‬
‫اآلكل ون ف إذا فض وا األرب م ن الطع ام ج اءت ّ‬
‫املطربة»‪)1(.‬‬ ‫واملسمعات ابألصوات‬
‫تنبثق هذه املعاين من البيان اإلهلي الذي ّقرب للعقل البشري مش اهد اجلن ان‪،‬‬
‫وإن كانت أوصافها ال ختطر على قلب بشر‪ ،‬وذلك يف قول ه تع اىل‪﴿ :‬أولئـك‬
‫ّ ــم رزع مفل ــوم‪ ،‬فواك ــه و ه ــم مكرم ــون‪ ،‬يف جن ــات النف ــيم‪ ،‬عل ــى س ــرر‬
‫متقــابلني‪ ،‬يطــاف علــيهم بكــأس مــن مفــني‪ ،‬بي ــاء للشــاربني﴾ (‪ ،)2‬وك ذلك‬
‫يف قول ه تع اىل‪﴿ :‬يطــاف علــيهم ننيــة مــن ف ــة وأكــواب كان ـ قــواريرا‪،‬‬
‫قـ ــواريرا مـ ــن ف ـ ــة قـ ــدروها تقـ ــديرا‪ ،‬ويسـ ــقون فيهـ ــا كأسـ ــا كـ ــان مزاجهـ ــا‬
‫زجنبيال﴾‪)3(.‬‬

‫• يف وصف عذاب اجلحيم‪:‬‬


‫أبدق‬
‫إذا ك ان املع ري ق د تف نّن يف أوص اف مت اع النع يم يف اجلنّ ة ّ‬
‫التفاص يل‪ ،‬فإنّ ه تغاف ل ع ن ذل ك يف جتس يد مظ اهر الع ذاب يف اجلح يم‪،‬‬
‫واقتصر على بعض املشاهد عائدا بصاحبه إىل رحاب الفراديس‪.‬‬
‫خص هبا وصف عذاب أهل النّار‪ ،‬ما جاء يف‬
‫ومن تلك املشاهد اليت ّ‬
‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.272 .‬‬
‫‪ 2‬سورة الصافات‪ :‬اآلايت‪.47-41 .‬‬
‫‪ 3‬سورة اإلنسان‪ :‬اآلايت‪.17-15 .‬‬

‫‪183‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وصف «إبليس»‪ ،‬فيقول أبو العالء‪« :‬فيطّلع [ابن القارح] فريى إبليس‪ ،‬لعنه‬
‫الزابني ة»‪)1(.‬‬ ‫هللا‪ ،‬وهو يضطرم يف األغالل والسالس ل ومق امع احلدي د أتخ ذه‬
‫ليجعل ه مق ابال يف تفاع ل ح واري لقول ه تع اىل‪﴿ :‬إذ األ ــالل يف أعن ــاقهم‬
‫يسجرون﴿﴾‪)2(.‬‬ ‫والسالسل يسحبون‪ ،‬يف اْلميم يف النار‬

‫ّأم ا املش هد الث اين فه و جتس يد لنق يض م ا وج د أه ل اجلنّ ة م ن مت ع وت رف يف‬


‫املأك ل واملش رب‪ ،‬فأه ل اجلح يم يش ربون محيم ا يغل ي يف البط ون‪ ،‬وج اء ذل ك‬
‫فأم ا أان فق د ذهل ت‪ :‬انر توق د‪ ،‬وبن ان‬
‫عل ى لس ان أوس ب ن حج ر يف قول ه‪ّ « :‬‬
‫علي الظمأ‪ ،‬رفع يل شيء كالنّهر‪ ،‬فإذا اغرتفت منه ألشرب‪،‬‬
‫يعقد‪ ،‬إذا غلب ّ‬
‫وجدت ه س عريا مض طرما»‪ )3(.‬و ّأم ا ص خر أخ و الش اعرة املخض رمة اخلنس اء‪،‬‬
‫رأسه»‪)4(.‬‬ ‫فهو «كاجلبل الشامخ والنار تضطرم يف‬

‫وردت هذه املعاين‪ ،‬اليت اعتم دها ص احب الغف ران‪ ،‬يف قول ه تع اىل‪﴿ :‬فالـذين‬

‫كفروا قطف ّم ثياب من انر يصب من فوع رؤوسهم اْلميم‪ ،‬يصهر‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.309 .‬‬


‫‪ 2‬سورة غافر‪ :‬اآليتان‪.20-19 .‬‬
‫‪ 3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.341 .‬‬
‫‪ 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.308 .‬‬

‫‪184‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حديد﴿﴾‪)1(.‬‬ ‫به ما يف بطو م واجللود‪ ،‬وّم مقامع من‬

‫م ا يالح ظ م ن خ الل ه ذه االقتباس ات ال يت اعتم دها أب و الع الء يف‬


‫صياغة بناء رسالته أنّه عدل عن حماكاة وصف القرآن ألهل النار‪ ،‬فه و يعق د‬
‫رحلت ه الس ماوية لب ؤرة نص ية تق وم عل ى الغف ران‪ ،‬كم ا وفّ ق إىل ح ّد بعي د م ن‬
‫ميتص س لطة امل ّروع ال ّديّن ليض ع حملّ ه مت ع‬
‫جهة أخرى «بواسطة التخيّل‪ ،‬أن ّ‬
‫الرهي ب ليدخل ه يف احتفالي ة اجلمي ل‪.‬‬
‫األدب‪ ،‬حاول أن خيرج قارئه من جدية ّ‬
‫وه و ال ين وي ب ذلك أن ي دنّس املق ّدس وإّمن ا يرغ ب يف أن ي زرع يف روح‬
‫ؤدي ب ه إىل تع ويض الرهب ة الديني ة ابلش هادة‬
‫الق ارئ‪ ،‬ويف عقل ه ش ّكا ق د ي ّ‬
‫املعرفية»‪)2( .‬‬

‫‪ -2-2-2‬بني الغفران وقصة املفراج‪:‬‬

‫إذا ك ان اعتم اد أيب الع الء عل ى الق رآن ‪ -‬استش هادا واقتباس ا ‪ -‬يتص ّدر‬
‫قص ة املع راج للنّ يب الك رمي‬
‫املن ابع ال يت ّن ل منه ا مادت ه الفني ة يف غفران ه‪ ،‬ف إ ّن ّ‬
‫حمم د ‪-‬ص لّى هللا علي ه وس لّم‪ -‬تض رب جب ذورها يف معظ م أقس ام الرحل ة‬
‫ّ‬
‫العالئية‪ ،‬فهي يف نسيجها لستوايت خمتلفة‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة احلج‪ :‬اآلايت‪.21-19 .‬‬


‫‪ 2‬الرقيق‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬و‪ ،‬بن صاحل‪ ،‬هند‪ :‬أدبية الرحلة يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.95 .‬‬

‫‪185‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أ‪ -‬املراقي بني الغفران وقصة املفراج‪:‬‬

‫إ ّن ّأول ما يلفت االنتباه عند وضع رسالة الغفران وقصة املعراج جنبا إىل‬
‫جن ب‪ ،‬طريق ة االرتق اء إىل الس ماء‪ ،‬ف أبو الع الء‪ ،‬وه و يق رأ رس الة عل ّي ب ن‬
‫منصور‪ ،‬استحضر قصة املعراج من بدايتها‪ ،‬وطفق يسقط جزئياهتا على رحلة‬
‫اب ن الق ارح ال يت ك ان منطلقه ا م ن قول ه‪« :‬ويف ق درة ربن ا ‪ -‬جلّ ت عظمت ه ‪-‬‬
‫أن جيع ل ك ّل ح رف ش بح ن ور‪ ،‬مل ميت زج لق ال زور‪ ،‬يس تغفر مل ن أنش أها إىل‬
‫ي وم ال دين [‪ ]...‬ولعلّ ه‪ ،‬س بحانه‪ ،‬ق د نص ب لس طورها املنجي ة م ن الله ب‪،‬‬
‫الفض ة وال ذهب‪ ،‬تع رج هب ا املالئك ة م ن األرض الراك دة إىل‬
‫مع اريج م ن ّ‬
‫السماء‪ ،‬وتكش ف س جوف الظلم اء»‪ )1(.‬فيظه ر أ ّن أاب الع الء ق د وق ع‪ ،‬م ن‬
‫البداي ة‪ ،‬حت ت س لطة قص ة املع راج‪ ،‬مّا جعل ه يهت دي إىل حيل ة فني ة ش ّكلت‬
‫مادة الرحلة الغفرانية‪.‬‬
‫ّ‬
‫حتي ل رس الة الغف ران إىل سلس لة م ن األحادي ث املروي ة ع ن الن يب ‪ -‬ص لّى هللا‬
‫علي ه وس لّم ‪-‬متعلق ة لعراج ه إىل الس ماء العلي ا‪ ،‬حي اول البح ث الوق وف عل ى‬
‫بعضها‪:‬‬

‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.140 .‬‬

‫‪186‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اق ص لّى هللا علي ه وس لّم ق ال‪...« :‬اّ‬‫عن أيب س عيد اخل دري ع ن رس ول ّ‬
‫أتي ت ابملع راج ال ذي تع رج علي ه أرواح ب ّن آدم‪ ،‬فل م ي ر اخلالئ ق أحس ن م ن‬
‫يشق بصره طاحم ا إىل الس ماء‪ ،‬فإّمن ا يش ّق بص ره‬
‫املعراج‪ ،‬أما رأيت امليّت حني ّ‬
‫ابملعراج»‪)1(.‬‬ ‫طاحما إىل السماء عجبه‬

‫فس ر ه ذا العج ب ببه اء املع راج رواي ة أخ رى وردت يف وثيق ة املع راج‬
‫‪ -‬وي ّ‬
‫املنس وبة إىل اب ن عب اس ‪ -‬رض ي هللا عنهم ا ‪ )2(-‬ع ن رس ول هللا ‪ -‬ص لّى هللا‬
‫علي ه وس لّم ‪ -‬يق ول فيه ا‪« :‬اّ إ ّن جربي ل علي ه الس الم أت ى يب إىل الص خرة‪،‬‬
‫وإذا ابملع راج ق د نص ب إىل الص خرة م ن عن ان الس ماء‪ ،‬فل م أر ش يئا أحس ن‬
‫الفضة ومرقاة من الزبرج د ومرق اة‬
‫من املعراج وهو مرقاة من الذهب ومرقاة من ّ‬
‫األمحر»‪)3(.‬‬ ‫من الياقوت‬

‫‪ 1‬ابن كثري‪ ،‬عماد الدين أبو الفداء إمساعيل(ت‪774‬ه )‪ :‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ج‪ ،3‬تفسري اآلايت األوىل من سورة اإلسراء‪ ،‬ص‪.12 .‬‬
‫‪ 2‬اعتم د البح ث عل ى امللح ق ال ذي أثبت ه ص الح فض ل يف كتاب ه‪ :‬أتث ري الثقاف ة اإلس المية يف الكومي داي‬
‫اإلهلية لدانيت‪ ،‬مجع في ه سلس لة م ن األحادي ث و األخب ار ع ن مع راج الن يب ص لّى هللا علي ه و س لّم منه ا‬
‫وثيقة معراج حممد البن عباس‪ ،‬اليت عثر عليها خمطوطة‪.‬‬
‫‪ 3‬نقال عن‪ :‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أتثري الثقافة اإلس المية يف الكومي داي اإلهلي ة ل دانيت‪ ،‬وثيق ة مع راج حمم د الب ن‬
‫عباس (ملحق)‪ ،‬ص‪.283 .‬‬

‫‪187‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬ويف رواي ة أخ رى يق ول‪« :‬اّ أيت ابملع راج ال ذي تع رج علي ه األرواح عن د‬


‫حل ول املني ة‪ ،‬مل ت ر اخلالئ ق أحس ن من ه‪ ،‬مل ا في ه م ن العس جد [ال ذهب]‬
‫منض د وع ن ميين ه مالئك ة وع ن يس اره‬
‫واللج ني [الفض ة] مرق اة ف وق مرق اة‪ّ ،‬‬
‫فصعدا»‪)1(.‬‬ ‫مالئكة‬

‫تتجلّ ى نص وص املع راج يف رس الة الغف ران م ن خ الل ألف اظ تش ي ابلتع الق‬
‫الفض ة‪ ،‬واملالئك ة‪ ،‬كلّه ا ألف اظ وردت‬
‫النص ي بينهم ا‪ ،‬فاملع اريج‪ ،‬وال ذهب‪ ،‬و ّ‬
‫يف الغف ران عل ى ش كل تركي ب هج ني أخرجه ا ع ن س ياقها األص لي لتش حن‬
‫يدس فيها البن الق ارح م ا ال خيط ر عل ى‬
‫املعري الساخرة‪ ،‬فهو ّ‬
‫بنوااي ومقاصد ّ‬
‫ابله من املشاهد العابثة به‪.‬‬
‫ب‪ -‬احملشر بني الغفران وقصة املفراج‪:‬‬

‫جيس د أب و الع الء مظ اهر الغ نب والف زع ال يت انتاب ت اب ن الق ارح وه و يف‬
‫ّ‬
‫ص م ا لق ي م ن ض نك بنفس ه أم ام‬
‫موق ف احملش ر‪ ،‬وم ن الطري ف أن جيعل ه يق ّ‬
‫طائف ة م ن الش عراء يف اجلنّ ة‪ ،‬فيق ول‪« :‬مل ا ّنض ت أن تفض م ن ال شرمي [الق رب]‬
‫ّ‬
‫وحضرت حرصات اجلنّة واحلرصات مثل العرص ات [‪ ]...‬فط ال عل ّي األم د‬
‫واشت ّد الظمأ والومد [‪ ]...‬وأان رجل مهياف‪ ،‬أي سريع العطش‪ .‬فافتكرت‪،‬‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.283 .‬‬

‫‪188‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فرأيت أمرا ال قوام ملثلي به‪ ،‬ولقيّن امللك احلفيظ لا زب ر [كت ب] يل م ن فع ل‬


‫اخل ري‪ ،‬فوج دت حس نايت قليل ة كالنّف إ يف الع ام األرم ل ‪ -‬والنّف أ ال رايض‪،‬‬
‫كأّن ا مص باح أبي ل [راه ب]‪،‬‬
‫واألرم ل قلي ل املط ر‪ -‬إالّ أ ّن التوب ة يف آخره ا ّ‬
‫رف ع لس الك الس بيل [‪ ]...‬أقم ت يف املوق ف زه اء ش هر أو ش هرين‪ ،‬وخف ت‬
‫يف العرق من الغرق‪ )1( .»...‬من خالل هذا الوصف تربز مقاصد أيب الع الء‬
‫ال يت أض مرها يف بداي ة الرس الة‪ ،‬فبع دما أن ك ّرم أاب احلس ن ابلرق ّي إىل الس ماء‬
‫فض ة وذه ب‪ ،‬كش ف ل ه ع ن حقيقت ه فه و رج ل كث ري ال ذنوب‬
‫لع اريج م ن ّ‬
‫واملعاصي مل ا اجرتح ه م ن س ّيء األفع ال‪ ،‬ح ىت غ دت حس ناته ك أرض ج دابء‬
‫شحت مساؤها‪ ،‬فأ ّ هلا من زرع واخضرار؟ فهي تكاد تنعدم‪ ،‬وبدت‬ ‫يف سنة ّ‬
‫كض وء خاف ت يل وح م ن بعي د‪ ،‬وإىل جان ب ه ذا كلّ ه فه و خيش ى الغ رق يف‬
‫عرقه الذي بلغ إىل ص دره‪ ،‬م ن خ الل ه ذه املش اهد تتجلّ ى احملاك اة الس اخرة‬
‫قصة املعراج‪ ،‬بدليل م ا ورد يف بع ض‬
‫اببن القارح ملوقف احلشر يوم القيامة يف ّ‬
‫نص ه‪« :‬واخلل ق تت داخل وين درج بعض هم يف بع ض‪ ،‬يعل و الق دم‬
‫ال رواايت م ا ّ‬
‫ألف قدم لش ّدة الزحام‪ ،‬وخيوض الناس يف العرق على أن واع خمتلف ة إىل اآلذان‬
‫الركبتني»‪)2(.‬‬ ‫وإىل الصدر وإىل احللقوم وإىل املنكبني وإىل‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.249 .‬‬
‫‪ 2‬نقال عن‪ :‬فضل‪ ،‬ص الح‪ :‬أتث ري الثقاف ة اإلس المية يف الكومي داي اإلهلي ة ل دانيت‪ ،‬ص‪ .372 .‬نقل ه ع ن‪:‬‬
‫الدرة الفاخرة يف كشف علوم اآلخرة‪ ،‬أليب حامد الغزايل‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وتتف اقم س خرية أيب الع الء إىل ذروهت ا يف مش هد اجتي از اب ن الق ارح‬
‫افلم ا خلص ت م ن تل ك الطم و‬
‫جيس د ذل ك عل ى لس انه ق ائال‪ّ :‬‬
‫الص راط‪ ،‬و ّ‬
‫[الزح ام] قي ل يل‪ :‬ه ذا الص راط ف اعرب علي ه‪ ،‬فوجدت ه خالي ا ال عري ب عن ده‪،‬‬
‫الزه راء‪ ،‬ص لّى هللا‬
‫فبل وت نفس ي يف العب ور فوج دتّن ال أستمس ك‪ .‬فقال ت ّ‬
‫عليه ا‪ ،‬جلاري ة م ن جواريه ا‪ :‬اي فالن ة أجيزي ه‪ .‬فجعل ت متارس ّن وأان أتس اقط‬
‫ع ن مي ني وش ال‪ ]...[،‬فتحمل ّن ك الربق اخل اطف»‪ )1(.‬وم ا أق رب ه ذا‬
‫الوص ف مّ ا ورد يف «خمتص ر ت ذكرة الق رطيب» لإلم ام الش عراين يف وص ف‬
‫الص راط عن د قول ه‪« :‬والعص اة يتس اقطون ع ن اليم ني والش مال‪ ،‬والزابني ة‬
‫يتلق وّنم ابلسالس ل واألغ الل وتن اديهم املالئك ة أم ّني تم ع ن األوزار‪ ،‬أم ا‬
‫خ ّوفكم نب يّكم م ن ع ذاب الن ار‪ ،‬أم ا أن ذرتكم ك ل اإلن ذار»‪ )2(.‬لك ن أاب‬
‫الع الء ك ان رحيم ا ببط ل الغف ران فأنق ذه م ن سالس ل وأغ الل الزابني ة جباري ة‬
‫جتتاز به الصراط وهي حتمله كدمية على ظهرها‪.‬‬
‫ج‪ -‬مشاهد اجلنة بني الغفران وقصة املفراج‪:‬‬
‫أدق التفاصيل واجلزئيات‪،‬‬
‫يربز التناص بني جنة الغفران وجنة املعراج يف ّ‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.261-260 .‬‬
‫‪ 2‬الش عراين‪ ،‬اإلم ام عب د الوه اب‪ :‬خمتص ر ت ذكرة الق رطيب‪ ،‬مطبع ة ص بيح‪ ،‬الق اهرة‪ ،‬مص ر‪ ،1968 ،‬ص‪.‬‬
‫‪.95‬‬

‫‪190‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫دل عل ى ت رف أه ل اجلنّ ة يف األحادي ث النبوي ة املتص لة‬


‫فم ا م ن كلم ة ت ّ‬
‫ابملع راج‪ ،‬ص حيحها وموض وعها‪ ،‬إالّ اقتنص ها أدي ب املع ّرة لي درجها يف س ياق‬
‫ف ّّن مبتك ر وجيعله ا تن تج مع اين جدي دة متقاطع ة حين ا ومتعارض ة حين ا آخ ر‪،‬‬
‫مش حنة بن واايه ومقاص ده‪ ،‬فالكلم ات املعراجي ة ه ي حتقي ق ملظ اهر املتع ة‬
‫الغيبية‪ ،‬فهي أمساء مشرتكة ملسميات خمتلفة‪.‬‬
‫فيم ا ي رى ه ذا البح ث م ن مش اهد حتي ل إىل التن اص بينهم ا‪ ،‬ه و املش هد‬
‫السردي الذي ورد يف الغفران على لس ان الس ارد يف قول ه‪« :‬وجت ري يف أص ول‬
‫أوان»‪)1(.‬‬‫كل‬
‫ذلك الشجر‪ ،‬أّنار ختتلج من ماء احليوان‪ ،‬والكوثر مي ّدها يف ّ‬
‫يقابل ما ورد عند السيوطي يف ذكر األحاديث املوض وعة‪ ،‬وذل ك يف احل ديث‬
‫امل روي ع ن رس ول هللا ‪ -‬ص لّى هللا علي ه وس لّم ‪« :-‬وإذا ّن ر جي ري م ن أص ل‬
‫در‬
‫الشجرة ماؤه أش ّد بياضا م ن الل نب وأحل ى م ن العس ل جم راه رض راض م ن ّ‬
‫الياقوت وزبرجد حافتاه مسك أذفر يف بياض الثلج»‪)2(.‬‬

‫ّأم ا املش هد الث اين فف ي وص ف الثم ار ال يت تنبث ق عنه ا ج وار حس ان‪،‬‬


‫وذلك يف قول صاحب الغفران‪« :‬فينشن هللا القادر بلطف حكمته‪ ،‬شجرة‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.141 .‬‬
‫‪ 2‬الس يوطي‪ ،‬ج الل ال دين‪ :‬اليفل ن املص نوعة يف األحادي ث املوض وعة‪ ،‬دار املعرف ة‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬لبن ان‪،‬‬
‫‪ ،1975‬ج‪ ،1‬ص‪.78 .‬‬

‫‪191‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫م ن عف ز ‪-‬والعف ز اجل وز‪ -‬فتون ع لوقته ا‪ ،‬اّ ت نفض ع ددا ال حيص يه إالّ هللا‬
‫س بحانه‪ ،‬وتنش ّق ع ن ك ّل واح دة من ه ع ن أرب ع ج وار ي رقن لل رائني‪ ،‬مّن ق رب‬
‫والن ائني»‪ )1(.‬وك ذلك يف قول ه ‪« :‬فيج يء ب ه [اب ن الق ارح] إىل ح دائق ال‬
‫يع رف كنهه ا إالّ هللا‪ ،‬فيق ول‪ :‬خ ذ مث رة م ن ه ذا الثّم ر فاكس رها ف إ ّن ه ذا‬
‫الش جر يع رف بش جر احل ور‪ .‬فيأخ ذ س فرجلة‪ ،‬أو ّرمان ة‪ ،‬أو تفاح ة‪ ،‬أو م ا‬
‫شاء هللا من الثمار‪ ،‬فيكسرها‪ ،‬فتخرج منها جاري ة ح وراء عين اء ت ربق حلس نها‬
‫ح ورايت اجلن ان‪ ،‬فتق ول‪ :‬م ن أن ت اي عب د هللا؟ فيق ول‪ :‬أان ف الن ب ن ف الن‪.‬‬
‫فتق ول‪ :‬إ ّين أم ّىن بلقائ ك قب ل أن خيل ق هللا ال دنيا أبربع ة أالف س نة‪ .‬فعن د‬
‫القدير»‪)2(.‬‬ ‫ذلك يسجد إعظاما هلل‬

‫إ ّن تش ّكل ه ذه املع اين يف خميّل ة أيب الع الء ال حيي د قي د أمنل ة أن يك ون‬
‫امتصاصا ملا ورد يف حديث رس ول هللا ‪ -‬ص لّى هللا علي ه وس لم ‪ -‬ح ني ق ال‪:‬‬
‫ّ‬
‫«ي دخل امل ؤمن وه و ي ّنعم ويتف ّرج يف اجلنّ ة فيس ري إىل وس ط جنّت ه فينظ ر إىل‬
‫در في ه ش جرة م ن ج وهرة ح امال حل ال وورقه ا حل ل وفيه ا‬ ‫قص ر م ن ذه ب و ّ‬
‫مثرة أحلى من العسل‪ ،‬فإذا أكلها بقيت حبّتها‪ ،‬فتخرج منها جارية مكتوب‬
‫‪ 1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.279 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.288 .‬‬

‫‪192‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الس الم‬
‫عل ى خ ّدها اس م ص احبها أحس ن م ا الش امة عل ى اخل دود وتق ول ّ‬
‫إليك»‪)1(.‬‬ ‫عليك اي ويل هللا قد طال شوقي‬

‫إ ّن السياق اجلديد الذي أدرجت في ه مش اهد املع راج يف رس الة الغف ران أمك ن‬
‫الق ارئ االنتق ال م ن املتع ة املعنوي ة املرتبط ة بع امل الغي ب إىل املتع ة احلس يّة‬
‫املرتبطة بعامل الشهادة‪ ،‬ويف هذا إبداع فّن مبتكر‪ ،‬يقول عنه ابخت ني‪« :‬حي اول‬
‫ميتص ه‬
‫س ياق املؤل ف أن يب ّدد كثاف ة خط اب اآلخ ر وانغالق ه عل ى ذات ه لك ي ّ‬
‫حدوده»‪)2(.‬‬ ‫وميحو‬

‫‪ 1‬نقال عن‪ :‬فضل‪ ،‬ص الح‪ :‬أتث ري الثقاف ة اإلس المية يف الكومي داي اإلهلي ة ل دانيت‪ ،‬ص‪ .237 .‬نقل ه ع ن‪:‬‬
‫حممد إبراهيم السمرقندي‪ّ :‬قرة العيون و مفرح القلب احملزون‪.‬‬ ‫الشيخ نصر بن ّ‬
‫‪ 2‬تودوروف‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬ميخائيل ابختني‪ ،‬ص‪.136 .‬‬

‫‪193‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفصل الثالث‬
‫تلقي خطاب رسالة الغفران‬

‫‪194‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1‬تلقي اخلطاب الفالئي‪ ،‬بني اإلنصاف واإلجحاف‪:‬‬


‫إ ّن املتص ّفح للمؤلّفات القدمية اليت تناول ت ت راث أيب الع الء ابحل ديث‪ ،‬ال‬
‫يص عب علي ه أن خي رج حبك م مف اده أ ّن أاب الع الء األدي ب «ق د ض اعت‬
‫شخص يته وأغرقته ا س يول م ن ال ّرواايت واألخب ار املتناقض ة ح ول عقيدت ه‬
‫وعجائ ب ذكائ ه وعادات ه‪ ،‬وغ دا م ن النّ ادر أن يعث ر عل ى لفت ات أدبي ة أو‬
‫الض وء عل ى أدب ه»‪ )1(.‬وأطب ق‬
‫ش ذرات فنيّ ة نقدي ة‪ ،‬تس لّط بصيص ا م ن ّ‬
‫الص مت عل ى تراث ه ردح ا م ن ال ّزمن‪ ،‬وبق ي عرض ة للق دح ال الّذع يف دين ه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وق د‪« :‬ح دث ج دل طوي ل ح ول عقي دة أيب الع الء يف حيات ه وه و وإن مل‬
‫يعدم من ي دافع عن ه‪ ،‬فق د ع ّده الكث ريون م ن معاص ريه زن ديقا‪ ،‬وش اعت عن ه‬
‫الوقت»‪)2(.‬‬ ‫الصفة منذ ذلك‬
‫هذه ّ‬
‫تناق ل ال رواة خ رب زندقت ه م ن مص در واح د‪ ،‬وك ان « ّأول م ن نش ر إحل اده‬
‫غ رس النّعم ة ق ال‪ ]...[ :‬ك ان يًرم ى ابإلحل اد يف ش عره»‪ )3(.‬كم ا مل يس لم م ن‬
‫هذه التّهمة اخلطرية من أقرب النّاس إليه‪ ،‬وخرب تلميذه أيب زكراي التربي زي خ ري‬
‫متعمدا إىل استدراج شيخه ليعرف حقيقة‬
‫شاهد على ذلك‪ ،‬حيث سعى ّ‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعرية أيب العالء يف نظر القدامى‪ ،‬ص‪.37 .‬‬ ‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫األول‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‪.382 .‬‬
‫‪ 2‬دائرة املعارف اإلسالمية‪ ،‬اجمللّد ّ‬
‫الراجكويت‪ :‬أبو العالء وما إليه‪ ،‬ص‪.217 .‬‬ ‫‪ّ 3‬‬

‫‪195‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫معتق ده‪ ،‬فق ال‪« :‬ق ال يل املع ّري‪ :‬م ا ال ذي تعتق د؟ فقل ت يف نفس ي‪ :‬الي وم‬
‫شيخك»‪)1(.‬‬ ‫شاك‪ ،‬فقال‪ :‬وهكذا‬
‫أقف على اعتقاده‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما أان إالّ ّ‬

‫صحت روايته‪ ،‬أن ي دين أاب الع الء ابلكف ر‬


‫املتبصر هلذا اخلرب‪ ،‬إن ّ‬
‫ال يستطيع ّ‬
‫ك قص ده‬
‫أي ش ّ‬
‫واإلحل اد‪ ،‬فظ اهره ي وحي بس ذاجة م ن الش يخ وتلمي ذه‪ ،‬و ّ‬
‫ك فيم ا ألف ه الع وام م ن اعتق اد؟ وه و ال ذي ك ان حي ّرض عل ى‬
‫ري؟ ه ل ش ّ‬
‫املع ّ‬
‫إعمال العقل ودفع اجلمود الذي كان يركن إليه كثري من النّاس‪ ،‬اّ ال يس تبعد‬
‫دس ها علي ه بع ض احلاق دين‪،‬‬
‫الرواي ة مكذوب ة عليهم ا‪ ،‬ويك ون ق د ّ‬
‫أن تك ون ّ‬
‫تقول بعض الرواة عليه‪.‬‬
‫وسيقف البحث ‪-‬الحقا‪ -‬على ّأدلة تثبت ّ‬
‫الزم ت عب ارة التربي زي أغل ب املؤلّف ات ال يت ترمج ت أليب الع الء‪ ،‬واعتم د‬
‫الس ابق يف نق ل أخب اره دون تثبّ ت أو حتقي ق حيف ظ لش يخ املع ّرة‬
‫الالّح ق عل ى ّ‬
‫يتقرب ون‬
‫الس ري وال رتاجم ك انوا ّ‬
‫وخاص ة إذا عل م أ ّن كث ريا م ن أص حاب ّ‬
‫ّ‬ ‫مكانت ه‪،‬‬
‫الص الت واألعطي ات‪ ،‬وه م يف‬
‫لؤلف اهتم عن د املل وك واألم راء واحل ّك ام لني ل ّ‬
‫وذم معارضيهم‪ ،‬ومل يكن أبو العالء وحده م ن‬
‫آتليفهم حيرصون على إرضائهم ّ‬
‫حلقه هذا التّلفيق‪ ،‬بل كثري من األعالم مل ينصفهم من نقلوا أخبارهم‬
‫احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬اجمللّد الثالث‪ ،‬ص‪.407 .‬‬
‫ّ‬ ‫‪1‬‬

‫‪196‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫األندلسي الذي شاع عنه قوله‪:‬‬


‫ّ‬ ‫كأيب حيّان التّوحيدي‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬وابن حزم‬
‫أابيل»‪)1(.‬‬ ‫احلق وال‬
‫ألين أقول ّ‬
‫«أان طريد امللوك ّ‬
‫الس بب نفس ه جع ل ش يخ املع ّرة حمفوف ا هبال ة م ن األكاذي ب نس جها‬
‫ولع ّل ّ‬
‫حول ه م ن أض مروا ل ه احلس د‪ ،‬وابت وا ي فرق ون مّ ا بلغ ه م ن رس وخ يف العل م‪،‬‬
‫وتبحر يف فنونه‪ ،‬وميكن حصر هؤالء يف جبهتني‬
‫ّ‬
‫ّأم ا األوىل‪ ،‬فتمثّل جبه ة األدابء والفقه اء وش يوخ امل ذاهب والطّوائ ف‪ ،‬ال ذين‬
‫حمرض ا أتب اعهم عل ى إعم ال العق ل‬
‫ض مض اجعهم‪ ،‬وكش ف ح يلهم‪ّ ،‬‬
‫ق ّ‬
‫وال تّخلص م ن أوه ام ال والء هل م يف احل ّق والباط ل‪ ،‬فه امجهم «متّهم ا ّإايه م‬
‫اخلاص ة يف ص لب ال ّدين‪ ،‬وه ذا ّاهت ام ابلتّزيي ف‪ ،‬ف ّردوا‬
‫ص راحة إبقح ام آرائه م ّ‬
‫بتكفريه»‪ )2( .‬وكان مّن قدح يف معتق ده ال ّذهيب ال ذي يع ّرف ب ه ق ائال‪« :‬ه و‬
‫الزندق ة امل أثورة‪ ،‬ل ه رس الة الغف ران يف جملّ دة ق د‬
‫ص احب التّص انيف املش هورة و ّ‬
‫الرج ل م ات متح ّريا مل‬
‫احت وت عل ى مزدك ة واس تخفاف‪ ...‬وال ذي يظه ر أ ّن ّ‬
‫األداين»‪)3(.‬‬ ‫حيتم بدين من‬
‫الراجكويت‪ :‬أبو العالء وما إليه‪ ،‬ص‪.221 .‬‬ ‫‪ 1‬ينظر‪ّ :‬‬
‫الرئيس ة لكت اابت املع ّري‪ ،‬جملّ ة‬
‫‪ 2‬خليف ات‪ ،‬س حبان (اجلامع ة األردنبّ ة)‪ :‬دراس ة نقدي ة ل بعض املعاجل ات ّ‬
‫األول ‪-‬رمض ان ‪1403‬ه ‪ /‬ك انون الث اين‪-‬‬ ‫جمم ع اللّغ ة العربي ة األردين‪ ،‬الع دد امل زدوج‪ ،20/19 :‬ربي ع ّ‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ص‪.64.‬‬
‫حزيران ‪1983‬م‪ ،‬شركة الشرق األوسط للطّباعة‪ّ ،‬‬
‫الراجكويت‪ :‬أبو العالء وما إليه‪ ،‬ص‪.217 .‬‬
‫‪ّ 3‬‬

‫‪197‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫و ّأما الثّانية‪ ،‬فتمثّلت يف احل ّكام واألمراء ال ذين س عوا س عيا حثيث ا إىل اس تمالته‬
‫إىل ص فوفهم‪ ،‬طمع ا يف جعل ه وس يلة توطّ د ملكه م عن د الع وامّ مل ا ل ه م ن‬
‫اطمي ال ذي ك ان يض ع‬
‫تقدير ومهابة يف قلوهبم‪ ،‬وم ن ه ؤالء داع ي ال ّدعاة الف ّ‬
‫أاب الع الء موض ع اهتم ام وتق دير كب ريين‪ ،‬ون تج ع ن ذل ك رس ائل ض ّمت‬
‫مطارح ات فكري ة‪ ،‬ومذهبي ة‪ ،‬وسياس ية‪ .‬ومل يقتص ر األم ر عل ى داع ي ال ّدعاة‬
‫حمل اهتمام كثري من احل ّكام واألم راء‪ ،‬وم ن ه ؤالء‬
‫الفاطمي فحسب‪ ،‬بل كان ّ‬
‫ّ‬
‫وزي ر احل اكم أبم ر هللا عل ّي ب ن جعف ر ب ن ف الح يكت ب إىل وايل حل ب عزي ز‬
‫خاص ة ب ه‪ ،‬ومس ح ل ه‬
‫ال ّدول ة «أن حيم ل أاب الع الء إىل مص ر ليب ّن ل ه دار عل م ّ‬
‫ذلك كلّه»‪)1(.‬‬ ‫املعرة طوال حياته فأا‬
‫خبراج ّ‬
‫تقرب ه م ن احل ّك ام و ّاهت امهم «ابلطّغي ان وّن ب األم وال‬
‫إ ّن رف ض املع ّري ّ‬
‫اص‪ ،‬والفس ق»(‪ )2‬جعله م يرمون ه‬
‫واملغ االة يف مج ع الض رائب لص احلهم اخل ّ‬
‫اطمي أش ّدهم غيظ ا علي ه‪ ،‬إذ س عى‬
‫ابلزندق ة واإلحل اد‪ ،‬وك ان داع ي ال ّدعاة الف ّ‬
‫ّ‬
‫إىل تش ويه ص ورته يف جمالس ه «املؤيّديّ ة» ال يت ك ان يعق دها ابس م اخلليف ة‬
‫الضرير‬
‫الفاطمي‪ ،‬ومّا جاء يف إحدى خطبه قوله‪« :‬قد انتهى إليكم خرب ّ‬
‫ّ‬
‫‪ 1‬موس ى ابش ا‪ ،‬عم ر‪ :‬نظ رات جدي دة يف غف ران أيب الع الء‪ ،‬دار ط الس‪ ،‬دمش ق‪ ،‬س ورية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1979‬م‪ ،‬ص‪.39 .‬‬
‫املعري‪ ،‬ص‪.64 .‬‬
‫الرئيسة لكتاابت ّ‬ ‫‪ 2‬خليفات‪ ،‬سحبان‪ :‬دراسة نقدية لبعض املعاجلات ّ‬

‫‪198‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ال ذي نب غ لع ّرة النّعم ان وم ا ك ان يع زى إلي ه م ن الكف ر والطّغي ان‪ ،‬عل ى ك ون‬


‫متقش فا‪ ،‬وع ن كث ري م ن املاك ل ال يت أح ّل هللا متع ّفف ا‪ .‬وك ان ج رى‬‫الرج ل ّ‬ ‫ّ‬
‫النّ اظر ال ذي ينظ ر يف ذل ك الوق ت ف تكلّم في ه احلاض رون وأغ روا بدم ه‪ ،‬وق الوا‬
‫قتله»‪)1(.‬‬ ‫إ ّن الغرية على ال ّدين تبيح‬

‫ودد إىل أيب الع الء ابلك الم اللّ ني‬


‫اطمي يت ّ‬
‫بع دما أن ك ان داع ي ال ّدعاة الف ّ‬
‫عدو يطلب دم ه حت ت غط اء الغ رية عل ى ال ّدين‪ ،‬وم ا‬
‫مستميال له‪ ،‬انقلب إىل ّ‬
‫الساس ة واحل ّك ام‪ ،‬و ّاخت ذ‬
‫ك ان ذن ب ش يخ املع ّرة إالّ إحجام ه ع ن جم اراة أه واء ّ‬
‫من معتزله عزاء يغنيه عن هتاف ت غ ريه م ن العلم اء واألدابء‪ ،‬ومل ين ّوه أح د مّن‬
‫ت رجم ل ه ع ن ع ّفت ه كال ّذهيب يف قول ه‪« :‬وكان ت ل ه نف س قويّ ة‪ ،‬ال حيم ل منّ ة‬
‫ورايسة»‪)2(.‬‬ ‫ابلشعر واملديح لكان ينال بذلك دنيا‬
‫أحد‪ ،‬وإالّ لو تكسب ّ‬
‫ري‪ ،‬أش ار علي ه أح د‬
‫الفاطمي العزم على إابح ة دم املع ّ‬
‫ّ‬ ‫وملا عقد داعي ال ّدعاة‬
‫ّ‬
‫الرج ل م ن‬
‫احلاض رين يف جملس ه ق ائال‪« :‬إ ّن كالمك م عل ى غ ري موض وع‪ ،‬وإ ّن ّ‬
‫طت‬
‫الص رب ابلغاي ة القص وى‪ ،‬وإنّ ه م ىت بس ّ‬
‫الض عف واإلش راف عل ى ّ‬ ‫العج ز و ّ‬
‫السبيل اكتسب من ال ّذكر اجلميل والثّناء بعد املوت ما ال‬
‫إليه اليد على هذه ّ‬
‫املعرة‪ ،‬درس افتتاحي جبامعة ابن زهر‪ ،‬كليّة اآلداب و العلوم اإلنسانيّة‪،‬‬
‫‪ 1‬الطرابلسي‪ ،‬أجمد‪ :‬مأساة شيخ ّ‬
‫الرابط‪1997 ،‬م‪ ،‬ص‪.07.‬‬ ‫أكادير‪ ،‬اململكة املغربيّة‪ ،1990/1989 ،‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ّ ،‬‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.47 .‬‬
‫‪ 2‬ابحلاج‪ّ ،‬‬

‫‪199‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫احملاج ة س رته‪،‬‬
‫حاج ة لن ا ب ه‪ ،‬ب ل الواج ب أن جي ّرد ل ه م ن يهت ك ابملن اظرة و ّ‬
‫درجته»‪)1(.‬‬ ‫ط من‬
‫ويكشف للنّاس عواره‪ ،‬لينقص يف عيوّنم وينح ّ‬

‫استجاب داعي ال ّدعاة هل ذا ال ّرأي‪ ،‬وابدر لناظرت ه مكاتب ة يف األش هر األخ رية‬
‫م ن حي اة أيب الع الء‪ ،‬ي روم فيه ا هت ك س رت إحل اده‪ ،‬كم ا زع م‪ ،‬إالّ أ ّن م وت‬
‫املعرة بعد مرض أقعده حال دون ذل ك‪ ،‬ول يس م ن الغراب ة‪ ،‬بع د ال ّرتويج‬
‫شيخ ّ‬
‫االجت اه نفس ه فيق ّرر‬
‫هل ذه املواق ف املعادي ة‪ ،‬أن يس لك علم ا ك ابن اجل وزي ّ‬
‫قائال‪ّ « :‬أما أبو العالء فأشعاره ظاهرة اإلحلاد وكان يبالغ يف عداوة األنبياء ومل‬
‫خبسرانه»‪)2(.‬‬ ‫يزل متخبّطا يف تعثّره خائفا من القتل إىل أن مات‬

‫األديب لقي هتميشا مقصودا بس بب‬


‫لقد سبق القول أب ّن إنتاج أيب العالء ّ‬
‫م ا حي ك ح ول معتق ده‪ ،‬ومل ين ل ح ّق ه م ن ال ّدراس ة الفنيّ ة م ن قب ل البالغي ني‬
‫رتي وأيب متّام وغ ريهم‬
‫والنّ ّقاد الق دامى‪ ،‬مقارن ة ل ا حظ ي ب ه ش عر املتن ّيب والبح ّ‬
‫مّن يض اهيهم ج ودة وإب داعا‪ ،‬وميك ن أن يس تثىن قلّ ة م ن ه ذا احلك م‪ ،‬ك ابن‬
‫الس يّد البطليوس ي ال ذي تف ّرد‪ ،‬م ن حي ث اإلج ادة‪ ،‬بش رحه للّزومي ات وس قط‬
‫ديعي فق د‬
‫يب ويوس ف الب ّ‬
‫الص احب كم ال ال ّدين اب ن الع دمي احلل ّ‬
‫الزن د‪ّ ،‬أم ا ّ‬
‫ّ‬
‫الرد على خصومه وتربئته مّا حلق به من تكفري‪.‬‬
‫جتشما عناء ّ‬
‫ّ‬
‫املعرة‪ ،‬ص‪.08 .‬‬
‫‪ 1‬الطرابلسي‪ ،‬أجمد‪ :‬مأساة شيخ ّ‬
‫الراجكويت‪ :‬أبو العالء وما إليه‪ ،‬ص‪.216 .‬‬
‫‪ّ 2‬‬

‫‪200‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أ‪ -‬حتريف مقصود ألدبه‪ :‬ال يوجد من شرح اللّزوميات‪ ،‬قدميا‪ ،‬دون أيب‬
‫خص (ابن السيّد)‬‫العالء نفسه‪ ،‬وابن السيّد البطليوسي من بعده‪ ،‬إذ ّ‬
‫ابلشرح‪ ،‬وأبدى مالحظة يف غاية األمهيّة‪ ،‬مفادها أ ّن إقبال‬
‫خمتارات منها ّ‬
‫النّ ّقاد على شرح اللّزوميّات كان متهافتا يف املشرق‪ ،‬على خالف ما لقيته يف‬
‫األندلس من إنصاف‪ ،‬وأ ّكد أنّه قد «شاعت آاثر أيب العالء يف األندلس‪،‬‬
‫ومل تكن له خصومة كما حدث يف بغداد وغريها‪ ،‬فأقبل العلماء واألدابء‬
‫على هذه اآلاثر‪ ،‬ولقيت هناك بيئة صاحلة حلفظها‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وحماكاهتا‪،‬‬
‫وشرحها»‪)1(.‬‬ ‫ومعارضتها‬

‫وقف احمل ّقق حامد عبد اجمليد يف مق ّدمته اليت ص ّدر هبا الكتاب عل ى ش واهد‬
‫املعرة من حتريف مقصود من قبل بع ض ال ّرواة‬
‫شعريّة تؤّكد ما حلق بشعر شيخ ّ‬
‫يف بغداد‪ ،‬يرومون من خالله تشويه معتقده‪ ،‬فالثّابت يف شرح البطليوسي م ن‬
‫الش عر يبع د التّهم ة أص ال ع ن املع ّري‪ ،‬يق ول احمل ّق ق‪« :‬وحس بنا أن نش ري إىل‬
‫ّ‬
‫كل ذكر من بعده نسيان) ونقف عند هذا البيت‪:‬‬
‫لزوميته اليت مطلعها ( ّ‬
‫واستوت يف الضاللة األداين‬ ‫قد رامت إىل الفساد الرباي ا‬

‫الرواية ورد البيت الذي نسخ اللّزوم اخلطّيّة واملطبوعة‪ ،‬ولكن رواية البيت‬
‫هبذه ّ‬
‫‪ 1‬البطليوس ي‪ ،‬اب ن الس يّد‪ :‬ش رح املخت ار م ن لزوميّات أيب الع الء‪ ،‬حتقي ق‪ :‬حام د عب د اجملي د‪ ،‬مطبع ة دار‬
‫الكتب‪ ،‬مصر‪ ،1970 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.25 .‬‬

‫‪201‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫عند البطليوسي يف النّسخ اليت وصلت إىل األندلس‪:‬‬

‫األدي ان» (‪)1‬‬ ‫وّنتنا ‪-‬لو ننتهي‪-‬‬ ‫قد ترامت إىل الفساد الرباي ا‬

‫س‬
‫الش اهد‪ ،‬وال يس تبعد أن يك ون ق د م ّ‬
‫يبدو التّحريف جليّ ا م ن خ الل ه ذا ّ‬
‫وإم ا بش رح‬
‫ج ّل آاثر أيب الع الء‪ّ ،‬إم ا ابس تبدال األلف اظ لتش ويه املع ىن‪ّ ،‬‬
‫طحي ال يرق ى إىل مقاص د املع ّري‪ ،‬ولع ّل ه ذا م ا جع ل اب ن الس يّد يعلّ ل‬
‫س ّ‬
‫س بب ش رحه للّزومي ات بقول ه‪« :‬وإّمن ا تكلّفن ا ش رحه ألنّن ا رأين ا النّ اس خيبط ون‬
‫واألحناء»‪)2(.‬‬ ‫ويفسرونه بغري األغراض اليت أراد‬
‫فيه خبط العشواء ّ‬
‫ع ارض كث ري م ن األدابء م نهج البطليوس ّي يف ش رحه زعم ا م نهم أنّ ه س لك‬
‫الع ريب‪)3(،‬‬ ‫الش عراء‪ ،‬وم ن ه ؤالء القاض ي أب و بك ر ب ن‬
‫مس لكا اليواف ق ع رف ّ‬
‫فرد عليه بكتاب مسّاه «االنتصار ّم ن ع دل ع ن االستبص ار» دح ض في ه ك ّل‬ ‫ّ‬
‫الش رح‬
‫وض ح ل ه س بب انتهاج ه تل ك الطّريق ة يف ّ‬
‫حججه ال يت اعرتض ه هب ا‪ ،‬اّ ّ‬
‫الشرح لبعض الفالسفة املتق ّدمني‬
‫قائال‪« :‬وكذلك رأيناك قد عبتنا بذكران يف ّ‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.35 .‬‬
‫‪ 1‬املرجع ّ‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.83 .‬‬
‫‪ 2‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫حممد بن عبد هللا املعروف اببن الع ريب‪ ،‬رح ل إىل املش رق م ع أبي ه س نة ‪485‬ه وأخ ذ ع ن‬
‫‪ 3‬هو أبو بكر ّ‬
‫يزي‪ ،‬ومجع شيئا كث ريا ع ن أدب املش رق اّ ع اد إىل األن دلس س نة ‪493‬ه ‪.‬‬
‫وخباصة الترب ّ‬
‫ّ‬ ‫طالّب أيب العالء‪،‬‬
‫ينظر ‪ :‬شاعرية أيب العالء عند القدامى‪ ،‬حممد مصطفى ابحلاج‪ ،‬هامش ص‪.81 .‬‬

‫‪202‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الرج ل‬
‫م ن الطّبيعي ني واإلهلي ني‪ ،‬وذل ك أم ر اض طرران إلي ه‪ ،‬إذ ك ان ش عر ه ذا ّ‬
‫الش عراء‪ ،‬وض ّمنه نكت ا م ن امل ذاهب‬
‫يبعث عليه ألنّه سلك بشعره غ ري مس لك ّ‬
‫واآلراء‪ ،‬وأراد أن يري النّاس معرفته ابألخب ار واألنس اب وتص ّرفه يف مجي ع أن واع‬
‫اآلداب ومل يقتص ر عل ى ذك ره م ذاهب املتش ّرعني‪ ،‬ح ّىت خلطه ا ل ذاهب‬
‫املتفلس فني‪ ،‬فت ارة خي رج ذل ك خم رج م ن ي ّرد عل يهم و اترة خيرج ه خم رج م ن ميي ل‬
‫ابلش يء تص رحيا‪ ،‬ورّل ا ل ّوح ب ه تلوحي ا‪ ،‬فم ن تع اطي تفس ري‬
‫إل يهم‪ ،‬ورّل ا ص ّرح ّ‬
‫كالمه وشعره وجهل هذا من أمره ب عد عن معرف ة م ا ي ومن إلي ه‪ ،‬وإن ظ ّن عث ر‬
‫يفس ر ش عره ح ّق تفس ريه‪ ،‬إالّ م ن ل ه تص ّرف يف أن واع العل وم‪،‬‬
‫علي ه‪ ،‬وهل ذا ال ّ‬
‫ومش اركة يف احل ديث منه ا والق دمي‪ ،‬فل م يك ن ب ّد م ن ذك ر املع اين ال يت أوم أ‬
‫عليها»‪)1(.‬‬ ‫إليها‪ ،‬وحام فكره‬

‫كش ف اب ن الس يّد اللّث ام ع ن كث ري م ن عل ل القص ور يف فه م ش عر أيب الع الء‪،‬‬


‫يتسىن ل ه س رب‬
‫لما لختلف العلوم كي ّ‬
‫واشرتط فيمن يتعاطى شرحه أن يكون م ّ‬
‫أغوار معانيه‪ ،‬واقتناص شوارد أفكاره‪.‬‬
‫ّأم ا اب ن العدي م احللب ّي(‪ )2‬فق د ألّ ف اب ن الع دمي كتاب ه «اإلنص اف‬
‫املعري» منتصرا أليب العالء‬
‫جري عن أيب العالء ّ‬
‫حري يف دفع الظلم والتّ ّ‬
‫والتّ ّ‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.82 .‬‬
‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫احلليب‪ ،‬تويف سنة ‪ 660‬ه ‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫‪ 2‬هو كمال ال ّدين‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬عمر بن أمحد بن أيب جرادة العقيلي ّ‬
‫احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬ج‪ ،16‬ص‪.575 .‬‬

‫‪203‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫م ن خص ومه احلاس دين ال ذين ش نّعوا ب ه أبش ع تش نيع‪ ،‬ومل يص ل إىل النّ ّق اد‬
‫احمل دثني م ن الكت اب إالّ مق ّدمت ه‪ ،‬حي ث أتلف ت مجي ع أجزائ ه‪ ،‬ويعلّ ل اب ن‬
‫الع دمي س بب أتليف ه أبنّه وج د نفس ه «يف ف رتة اتّض حت فيه ا رواس ب أجي ال‬
‫متتالية قالت يف أيب العالء‪ ،‬وتفنّنت يف الق ول في ه‪ ،‬وظه رت فيه ا أيض ا نت ائج‬
‫تل ك املق االت وآاثره ا»‪ )1(.‬فق ام بتحليله ا ودراس تها‪ ،‬متح ّراي يف ذل ك‬
‫الرواية عن أيب العالء إبسناد متّصل إليه‪.‬‬
‫استقصاء ّ‬
‫يب دو م ن خ الل عن وان الكت اب وم ا بق ي م ن مق ّدمت ه‪ ،‬أ ّن اب ن الع دمي ق د‬
‫حمم د‬
‫س اق أدلّ ة ي دين هب ا م ن ش ّوه ص ورة ش يخ املع ّرة‪ ،‬ولعلّ ه‪ ،‬كم ا يص ّرح ّ‬
‫اهلام الضائع من الكتاب‪ ،‬ق د‬
‫مصطفى ابحلاج‪ ،‬أ ّن «الذين تناوهلم ذلك اجلزء ّ‬
‫فمزق وه وقض وا علي ه لتظ ّل آراؤه م س ارية ب ني النّ اس» (‪ ،)2‬ومّا بق ي‬
‫أت وا علي ه ّ‬
‫الش ائعة ال يت تناقلته ا كث ري م ن ال ّرتاجم قول ه‪« :‬وق رأت‬
‫م ن عب ارات اب ن الع دمي ّ‬
‫ط أيب الع الء املع ّري يف ذك ره‪ ،‬وك ان ‪ -‬رض ي هللا عن ه ‪ -‬يرم ى م ن أه ل‬
‫خب ّ‬
‫احلس د ل ه ابلتّعطي ل‪ ،‬وتعم ل تالمذت ه وغ ريهم عل ى لس انه األش عار يض ّمنوّنا‬
‫نفسه»‪)3(.‬‬ ‫أقاويل امللحدة قصدا هلالكه‪ ،‬وإيثارا إلتالف‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.66 .‬‬
‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.67 .‬‬
‫‪ 3‬احلموي‪ ،‬ايقوت‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬اجمللد ‪ ،03‬ص ص‪.417 .416 .‬‬

‫‪204‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إ ّن ه ذه العب ارات لتكف ي أن تك ون دل يال عل ى أمهيّ ة الكت اب يف دف ع‬


‫وتبني‪ ،‬يف الوقت نفس ه‪ ،‬ص دق آراء‬
‫التجّن الذي حلق أبيب العالء حيّا وميّتا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الش اعر‪« ،‬م أخوذا أبعم ال أيب الع الء‬
‫اب ن الع دمي‪ ،‬ال ذي ك ان‪ ،‬وه و األدي ب ّ‬
‫أبّنا مشحونة ابلفصاحة والبيان‪ ،‬و ّأّنا مودعة فن وان م ن الفوائ د‬
‫حيث وصفها ّ‬
‫احلس ان‪ ،‬وحمتوي ة عل ى أن واع اآلداب‪ ...‬ال يوج د الطّ امع فيه ا س قطة‪ ،‬وال‬
‫غريب»‪)1(.‬‬ ‫بكل معىن‬
‫يدرك الكاشح فيها غلطة‪ ،‬و ّأّنا متتاز ّ‬
‫حري ع ن‬
‫البديعي (ت ‪1073‬ه )‪ ،‬فقد ألّف كتااب مسّاه «أوج التّ ّ‬‫ّ‬ ‫و ّأما يوسف‬
‫مفص لة ع ن ش يخ املع ّرة‪ ،‬مض ّمنة‬
‫حيثي ة أيب الع الء املع ّري»‪ ،‬تن اول في ه ترمج ة ّ‬
‫بقدر غري قليل من أدبه املنظوم واملنثور‪ ،‬وكان مييل يف غالب أحكامه إىل نوع‬
‫املتأم ل‬
‫الش مولية والعم وم عل ى طريق ة املرتمج ني أليب الع الء ق دميا‪ ،‬إالّ أ ّن ّ‬
‫من ّ‬
‫للش عر ومتيي زه ب ني‬
‫ذوق املؤلّ ف ّ‬
‫هل ذا الكت اب «ال يفوت ه اإلحس اس حبس ن ت ّ‬
‫والقصائد»‪)2(.‬‬ ‫جيّده ورديئه‪ ،‬وحسن اختياره ملا استشهد به من األبيات‬

‫مل يضف البديعي على جهود ابن الع دمي جدي دا يس تدعي االهتم ام ب ه إالّ م ا‬
‫عق ده م ن مقارن ة ب ني ش عر املع ّري وش عر أيب متّام واملتن يب م ن حي ث حس ن‬
‫كل‬
‫التأليف بني اللّفظ واملعىن‪ ،‬ومّا قال يف هذا‪« :‬وشعر أيب العالء كثري يف ّ‬
‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.67 .‬‬
‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.68 .‬‬

‫‪205‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فن‪ ،‬وميل النّاس على طبقاهتم من شاعر مفلق‪ ،‬وكاتب بلي غ إىل ه ذا ال ّديوان‬ ‫ّ‬
‫أكثر‪ ،‬ورغب تهم في ه أص دق‪ ،‬وه و أش به بش عر أه ل زمان ه مّا س واه ألن ه س لك‬
‫ائي وأيب الطّيّ ب املتن ّيب‪ ،‬ومه ا مه ا يف جزال ة اللّف ظ‬
‫في ه طريق ة أيب متّ ام الطّ ّ‬
‫وحسن املعىن»‪)1(.‬‬

‫عل ى ال ّرغم م ن احمل اوالت النّبيل ة ال يت أف ىن فيه ا ك ّل م ن اب ن الس يّد‬


‫البطليوسي‪ ،‬واب ن الع دمي‪ ،‬والب ديعي أعم ارهم يف درء ال تّهم ال يت حلق ت أبدي ب‬
‫الس عي إىل إب راز مكانت ه األدبي ة ال يت تلي ق ب ه‪ ،‬إالّ ّأّن ا بقي ت حمص ورة‬
‫املع ّرة‪ ،‬و ّ‬
‫وطوق ت بكث ري م ن اإلمه ال‬
‫األديب‪ّ ،‬‬
‫يف دائ رة ض يّقة م ن دروس النّق د ّ‬
‫والتهميش‪.‬‬
‫يسجل املالحظات التاليّة‪:‬‬
‫ويف ختام هذا املبحث‪ ،‬جيدر ابلبحث أن ّ‬
‫‪ -‬اعتم اد ج ّل املرتمج ني أليب الع الء عل ى عب ارات ج اهزة تناقلوه ا‪ ،‬تدين ه‬
‫ابلكفر دون التّح ّقق منها ولو على وجه التشكيك فيها‪.‬‬
‫‪ -‬توجي ه هتم ة الكف ر أليب الع الء جبري رة ش عر منح ول ‪ -‬يف أغلب ه ‪ -‬ثب ت‬
‫وضعه من قبل بعض من أراد به األذيّة (شواهد البطليوسي وابن العدمي)‪.‬‬
‫‪ -‬اإلعراض املريب من قبل النّقاد القدامى (كأسامة بن منقذ‪ ،‬وعبد القاهر‬

‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.68 .‬‬


‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬

‫‪206‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اجّن‪ ،‬واب ن رش يق‪ ،‬واب ن ش رف الق ريواين‪،‬‬


‫اجلرج اين‪ ،‬واب ن ح زم القرط ّ‬
‫وغ ريهم)(‪ )1‬ع ن دراس ة أدب ه م ن النّاحي ة الفنّ يّ ة‪ ،‬عل ى ال ّرغم م ن ذي وع ص يته‪،‬‬
‫الرتكيز على معتقده‪ ،‬يف ح ني تناول ه ابل ّدراس ة‬
‫وانتشار أشعاره مشرقا ومغراب‪ ،‬و ّ‬
‫حىت وإن كانت هتمة اإلحلاد اثبتة يف ح ّقه‪ ،‬افرتاض ا‪،‬‬
‫ال يعارض رسالة النّاقد‪ّ ،‬‬
‫و قد أولوا اهتماما أبدب من هو يف الزندقة من اجملاهرين‪.‬‬

‫املهتم ني أبدب ه رس م ص ورة‬


‫‪ -‬احتف اء املنص فني ل ه بش عره دون نث ره ف ّوت عل ى ّ‬
‫املعرة األديب‪.‬‬
‫متكاملة عن شيخ ّ‬
‫‪ -‬مص ادرة نث ر أيب الع الء‪ ،‬ويف مق ّدمتهم رس الة الغف ران‪ ،‬ردح ا م ن ال زمن‪،‬‬
‫للسخرية والتّه ّكم‪.‬‬
‫مادة خصبة ّ‬
‫وجعله ّ‬
‫‪ -2‬تلقي خطاب الغفران يف الفصر اْلديث‪:‬‬

‫لق ي أدب أيب الع الء ‪-‬كم ا أش ري آنف ا ‪ -‬إعراض ا ش ديدا م ن قب ل معاص ريه‬
‫وم ن ت بعهم إىل بداي ة الق رن العش رين‪ ،‬وبق ي ق روان حماص را منوع ا‪ ،‬مل يتع ّد‬
‫الشكل فلم يو شجه النظ ر إلي ه‬
‫احلديث عن مضمونه إالّ القدح يف املعتقد‪ّ ،‬أما ّ‬
‫إطالقا‪)2(.‬‬

‫حممد مصطفى‪ :‬شاعريّة أيب العالء عند القدامى‪ ،‬ص‪.84 .‬‬


‫‪ 1‬ابحلاج‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.35 .‬‬

‫‪207‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ويف العص ر احل ديث‪ ،‬وم ع ّناي ة الق رن التاس ع عش ر‪ ،‬اق رتن ظه ور رس الة‬
‫الغف ران ابملستش رق اإلنكلي زي نيكلس ون‪ ،‬إذ ق ّدمها للع امل الغ ريب يف «جملّ ة‬
‫اجلمعي ة األس يوية امللكيّ ة»(‪ ،)1‬ويف س نة ‪1917‬م‪ ،‬ه ّز املستش رق اإلس باين‬
‫س ميك ال أس ني بالثي وس ‪ Miguel Asin Palacios‬العال م األديب يف‬
‫الق ّ‬
‫ادة التخييلي ة للكومي داي اإلهليّ ة م ن‬
‫أوراب بنظريت ه يف أخ ذ دان يت اإليط ايل امل ّ‬
‫قص ة املع راج ورس الة الغف ران‪ ،‬وه ي نظري ة ش غلت‬
‫أص ول عربي ة‪ ،‬يف مق ّدمتها ّ‬
‫املقارن‪)2(.‬‬ ‫دارسي حقل التأثري والتّأثّر يف األدب‬

‫حاد‪ ،‬فنّد فيه كثري من الغربيني مزاعم‬


‫ّ‬ ‫عقب هذا الظهور لرسالة الغفران نقا‬
‫بالثي وس‪ ،‬يف ح ني ك ان األم ر إجيابي ا ابلنّس بة لل ّدارس ني الع رب‪ ،‬إذ التفت وا إىل‬
‫مؤرخ و‬
‫ظل حمجواب عنهم بظالم كثيف ف رتة م ن ال ّزمن‪ ،‬ش غل فيه ا ّ‬
‫أديب ّ‬
‫عمل ّ‬
‫األدب ابلكالم عن معتقد صاحبه‪ ،‬مغرين بذلك األجيال الالّحقة بنبذه‪.‬‬

‫ك ان لط ه حس ني املب ادرة األوىل يف إع ادة ق راءة اخلط اب العالئ ّي ‪ -‬عموم ا‬


‫‪ ،-‬وتق ّدم ببحثه «جتديد ذكرى أيب العالء» سنة ‪1914‬م إىل اجلامعة املصريّة‬
‫لنيل شهادة العامليّة ولقب دكتور يف األدب‪ .‬اعتمد طه حسني يف حبثه على‬
‫نص مسرحي من القرن اخلامس‬
‫الشاطن‪ ،‬عائشة عبد الرمحن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ّ ،‬‬
‫‪ -1‬ينظر‪ :‬بنت ّ‬
‫اهلجري‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪1403 ،‬ه ‪1983 -‬م‪ ،‬ص‪.9 .‬‬‫ّ‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.9 .‬‬

‫‪208‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وتوص ل‬
‫ارخيي‪ ،‬ل ذلك مل أيت عل ى ذك ر رس الة الغف ران إالّ عرض ا‪ّ ،‬‬
‫امل نهج التّ ّ‬
‫م ن خ الل امل نهج ال ذي س لكه إىل تص نيف أدب أيب الع الء‪ ،‬وف ق مراحل ه‬
‫الزمنيّة‪ ،‬إىل طورين‪:‬‬

‫األول فيمثّل مرحلة شباب أيب العالء‪ ،‬قبل عزلته‪ ،‬ويرى أ ّن‬ ‫‪ّ -‬أما الطور ّ‬
‫السمة البارزة لشعره أنّه كان متكلّفا فيه‪ ،‬قليل املتانة‪ ،‬ويعلّل ذلك بقوله‪:‬‬
‫ّ‬
‫فوق‪ ،‬والظّفر‬
‫«إّمنا كثر يف كالمه التكلّف حني حرص على إظهار التّ ّ‬
‫و ّأما النثر فتجلّت مظاهر‬ ‫النّبوغ»‪)1(.‬‬ ‫ابإلجادة‪ ،‬فكأنّه ميلي عن ميله إىل‬
‫والغريب‪)2(.‬‬ ‫السجع‬
‫التّكلّف فيه من خالل ّ‬
‫‪ -‬و ّأما الطّور الث اين فيمثّل عزلت ه‪ ،‬وي رى ط ه حس ني أ ّن وج ه االخ تالف ب ني‬
‫الطّورين يكم ن يف أ ّن الثّاين متيّ ز في ه أب و الع الء بنزوع ه إىل «أن خيف ي نفس ه‬
‫عل ى الق ارئ يف بع ض رس ائله‪ ،‬ولك ّن شخص ه ك ان أيا إالّ الظه ور‪ ،‬ك ان‬
‫الص ور ال ّديني ة‪،‬‬
‫يلق ي بين ه وب ني الق ارئ أس وارا منيع ة م ن املباح ث اللّغوي ة و ّ‬
‫ادة‪ ،‬أتا إالّ أن خت رتق ه ذه املوان ع كافّة‪ ،‬لتص ل إىل الق ارئ‬
‫ولكن عواطفه اجل ّ‬
‫احتماال»‪)3(.‬‬ ‫أخف منها وقعا‪ ،‬وأهون منها‬
‫فترتك فيه ندواب‪ ،‬لذعات اجلمر ّ‬
‫يومن طه حسني إىل املواربة اليت اعتمدها أبو العالء يف عرض آرائه‪ ،‬فهو‬
‫‪ 1‬حسني‪ ،‬طه‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬دار املعارف لصر‪ ،‬ط ‪ ،1976 ،8‬ص‪.214 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.214 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.218 – 217 .‬‬

‫‪209‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫عام ة‬
‫يكاد خيفيها حبجب كثيفة من األلفاظ الغريبة‪ ،‬اليت ش ّكلت ح ائال دون ّ‬
‫الشخص يات ليجعله ا جس را مي ّرر عربه ا م ا يري د‪،‬‬
‫النّ اس م ن الق ّراء‪ ،‬ويبتك ر ّ‬
‫الش عراء اجل اهليني جن ودا ي ذودون عن ه ويناض لون م ن‬
‫«فك م ّاخت ذ حول ه م ن ّ‬
‫دونه‪ ،‬وكم أسبغ على نفسه من علوم اللّغة دروعا تعصمه من وصمة اإلحل اد‪،‬‬
‫ضحى من زاندقة العبّاسيني بضحااي ليعلن أنّه مس لم‪ ،‬ولك ّن ه ذا الكي د‬
‫وكم ّ‬
‫كلّه مل يزد النّاس إالّ علما به و ّاهتاما له»‪ )1(.‬ومل يكتف أبو العالء ّاخت اذ تل ك‬
‫الشخصيات مطيّة له‪ ،‬بل عكف يف غفران ه حريص ا «عل ى االستقص اء التّ ّام‪،‬‬
‫ّ‬
‫حبي ث إذا ع رض ملس ألة لغوي ة أو حنوي ة يف طريق ه مل يس تطع أن ينص رف عنه ا‬
‫الش عراء وال ّرواة ب ه‪،‬‬
‫ح ّىت يستقص يها‪ ،‬ولق د اش ت ّد ض يق أه ل اجلنّ ة والنّ ار م ن ّ‬
‫واملناظرة»‪)2(.‬‬ ‫لكثرة ما أ ّحل عليهم يف النّقد‬
‫األول م ن رس الة الغف ران ‪-‬‬
‫ومل ا وج د ط ه حس ني تباين ا أس لوبيا ب ني القس م ّ‬
‫الرحل ة ‪ -‬والقس م الث اين ال ذي يش ّكل ال ّرّد املباش ر عل ى رس الة‬
‫ال ذي يتض ّمن ّ‬
‫فأم ا م ا ك ان م ن وص ف اجلنّ ة أو نعيمه ا‪ ،‬أو النّ ار وجحيمه ا‪،‬‬
‫اب ن الق ارح « ّ‬
‫الزاندق ة فس هل‬
‫فالس جع في ه الزم‪ ،‬والغري ب في ه موف ور‪ ،‬و ّأم ا م ا وص ف ب ه ّ‬
‫ّ‬
‫الطّبع»‪)3(.‬‬ ‫السمع وال ينبو عنه‬
‫مرسل يصيغه ّ‬
‫‪ 1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.218 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.218 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.219 .‬‬

‫‪210‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫جت اوز ط ه حس ني بع د ذل ك ح دود األس لوب لينف ذ إىل مض مون رس الة‬


‫الغفران‪ ،‬ويلتمس فيها مواطن النّقد‪ ،‬فوج د ص احبها يع ّول عل ى ملك ة قويّة يف‬
‫نق د م ألوف النّ اس‪ ،‬وع اداهتم‪ ،‬وأخالقه م‪ ،‬ولكنّ ه «س لك إىل النّق د طري ق‬
‫وخ از اللّ ذع»‪ )1(.‬ومت ّك ن م ن خ الل‬
‫السخريّة‪ ،‬فكان مع خصومه ش ديد الوق ع ّ‬
‫ّ‬
‫سخريته أن يوهم املتل ّقني خلطابه أنّه ق د بل غ ذروة اجل ّد في ه‪ ،‬و ّأّن م ق د ظف روا ‪-‬‬
‫حس ب م ا ذه ب إلي ه ط ه حس ني ‪ -‬بكت اب م ن أق وم كت ب ال ّدين‪ ،‬إالّ أنّ ه‬
‫س لك في ه «مس لكا خفيّ ا‪ ،‬تك اد ال تبلغ ه الظّن ون‪ ،‬ول وال أ ّن مؤرخي ه ق د ك انوا‬
‫يس يئون الظ ّن ب ه‪ ،‬مل ا اهت دوا إىل م ا يف رس الة الغف ران م ن النّق د‪ ،‬عل ى ّأّن م مل‬
‫ك في ه‪ :‬كاألش عار‬
‫الص ريح ال ذي ال يش ّ‬
‫يفهموا من ه إالّ الظّاهر ال ذي يلم س‪ ،‬و ّ‬
‫له»‪)2(.‬‬ ‫اخلاص فقلّما فطنوا‬
‫ّ‬ ‫فأما نقده‬
‫الزاندقة‪ّ ،‬‬
‫اإلابحية اليت رواها عن بعض ّ‬
‫ّأم ا موق ف ط ه حس ني م ن عنص ر اخلي ال يف الغف ران‪ ،‬فإنّ ه يك اد جيعل ه‬
‫الرس الة ش يئا كث ريا‪ ،‬وإّمن ا وردت‬
‫منع دما‪ ،‬وزع م أ ّن أاب الع الء مل خي رتع «يف ّ‬
‫الرس الة ش يء فه و التّنس يق‬
‫الوع اظ أبكث ر م ا فيه ا‪ ،‬ف إذا ك ان يف ّ‬
‫أقاص يص ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫حىت أتى لا خيالفه يف‬
‫السخرية»‪ .‬وما يكاد طه حسني جيزم حبكمه هذا ّ‬
‫و ّ‬
‫‪ 1‬حسني‪ ،‬طه‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.220 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.221 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.223 .‬‬

‫‪211‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قص ة خيالي ة عن د‬
‫الرس الة ه ي ّأول ّ‬
‫حمطّ ة الحق ة‪ ،‬وق ّرر يف النّهاي ة «أ ّن ه ذه ّ‬
‫العرب»‪)1(.‬‬

‫ويف دراسة أخرى‪ ،‬عاجل عبّاس حممود الع ّقاد فصول رس الة الغف ران‪ ،‬وانته ى‬
‫الرس الة‬
‫الص واب يف أم ر ه ذه ّ‬
‫ب ه البح ث إىل م ا بلغ ه ط ه حس ني‪ ،‬وأ ّك د أ ّن « ّ‬
‫ّأّنا كت اب أدب واتري خ ومث رة م ن مث ار ال ّدرس واالطّالع ليس ت ابلبدع ة الفنّ يّ ة‬
‫وال ابلتّحلي ل املبتك ر»‪ )2(.‬وإذا كان ت الغف ران ال تتب ّوأ مقع دا ب ني األعم ال‬
‫الفنيّة ‪-‬حسب وجهة نظ ره‪ -‬فإنّه ي رى ّأّن ا ال تع دو أن تك ون عرض ا «لطائف ة‬
‫الش عراء ونتف ا م ن أش عارهم وملحه م ويض يف إليه ا ح وارا ك ان يق ع‬
‫م ن أخب ار ّ‬
‫الشعراء أنفسهم وجيعل أولئك‬
‫مثله بني النّحاة والرواة مّن تق ّدمه فيعزوه هو إىل ّ‬
‫الش عراء مرجع ه ال ذي يفص ل ل ه فيم ا ك ان م ن اخل الف عل ى حل ن عب اراهتم‬
‫ّ‬
‫وض بط ألف اظهم ون وادر ت رامجهم‪ ،‬في نحلهم آراءه يف اخل الف ويل ّق نهم حكم ه‬
‫الرواة»‪)3(.‬‬
‫فيما حيسبه هو صوااب أو خطأ من أقاويل النّ ّقاد أسانيد ّ‬
‫وسعى الع ّق اد إىل دع م ه ذا ال ّرأي جبمل ة م ن العل ل‪ ،‬ارأتى فيه ا أ ّن أاب الع الء‬
‫مل خيالف مألوف النّاس من أخبار املخلّدين يف اجلنّة والنّار وصفاهتم‪ ،‬وكأنّه‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.224 .‬‬
‫‪ 2‬الع ّقاد‪ ،‬عبّاس حممود‪ :‬مطالعات يف الكتب واحلياة‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬اجمللّد اخلامس والعشرون األدب‬
‫والنّقد دار الكتاب اللّبناين‪ ،‬ط‪1403 ،1‬ه ‪1983 ،‬م‪ ،‬ص‪.117 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.118 .‬‬

‫‪212‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ك ان يف رتض م ن ش يخ املع ّرة أن أييت ابلعجي ب ال ذي يتج اوز ح دود املعه ود‪،‬‬
‫الص فات م ا أس هب وأج اد فيه ا م ا أج اد‪،‬‬
‫ففي نظره أنّه «قد أس هب يف ه ذه ّ‬
‫أي خ رب‬
‫أي ش يء م ن ه ذه األش ياء مل يك ن م ن قب ل معروف ا موص وفا؟ و ّ‬
‫ولكن ّ‬
‫م ن أخب ار اجلنّ ة امل ذكورة مل يك ن يف عص ره معه ودا للنّ اس مألوف ا؟ ك ّل أولئ ك‬
‫كان عندهم من حقائق األخبار ووقائع العيان ينتظرون ه ويؤمن ون ب ه ويص ّدقون‬
‫ؤداي‬
‫ظ املع ّري يف غفران ه إالّ أن يك ون « ّإم ا م ّ‬
‫ّأّن م مالق وه»‪ )1(.‬ومل يك ن ح ّ‬
‫ؤداة‬
‫ألخب ار م ن س بق انق ال ألح اديثهم أو معلّق ا برأي ه عل ى تل ك األخب ار امل ّ‬
‫واالخرتاع»‪)2(.‬‬ ‫كل هذا عمل كبري للتّخيّل‬
‫واألحاديث املنقولة‪ ،‬وليس يف ّ‬
‫م ا ميك ن أن يس تدرك عل ى الع ّق اد يف آرائ ه ه ذه‪ ،‬أ ّن أاب الع الء مل ينق ل‬
‫أخبار من سبق نقال واقعيا ات ّما‪ ،‬بل نقل أخبار شخصيات منطلق بعض ها م ن‬
‫الواق ع‪ ،‬اّ ج نح خبيال ه فجعله ا حتي ا حي اة أخ رى غ ري ال يت عاش وها يف دني اهم‪،‬‬
‫وي؟ وكي ف‬
‫فسر لقاء شعراء من اجلاهلية آبخ رين م ن العص ر األم ّ‬
‫وإالّ فكيف ي ّ‬
‫كلها مّا جادت ب ه‬
‫فسر تلك األحوال اليت آل إليها س ّكان اجلنّة والنّار؟ فهي ّ‬
‫ت ّ‬
‫ظ الغفران من اخليال‪،‬‬
‫خميّلة صاحب الغفران‪ .‬وملا فرغ الع ّقاد من حديثه عن ح ّ‬
‫يبدو أنّه وجد نفسه حمتارا ‪-‬من جديد‪ -‬يف حتديد جنسها‪ ،‬فبعدما أن ّقرر‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.118 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.118.‬‬

‫‪213‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫آنفا‪ّ ،‬أّنا كتاب أدب واتريخ‪ ،‬وجدها‪ ،‬من وجهة نظر أخ رى‪ّ ،‬أّن ا «أق رب إىل‬
‫الشعر وخمرتعات‬
‫الرحالت املشاهدة منها إىل أفانني ّ‬
‫الكتب اجلغرافيّة وأوصاف ّ‬
‫املس تظرفة»‪)1(.‬‬ ‫املؤمل ة والغرائ ب‬
‫املدون ة منه ا ابلنّب وءات ّ‬
‫اخليال وأشبه ابلت واريخ ّ‬
‫حىت أص در حكم ا أخ ريا ي راتح إلي ه‪ ،‬جع ل‬
‫يدون حكمه هذا‪ّ ،‬‬
‫وما فتن الع ّقاد ّ‬
‫في ه رس الة الغف ران حكاي ة قدمي ة‪ ،‬لك ّن أاب الع الء «أعاده ا علين ا كأنّ ه خط ا‬
‫خطواهت ا بقدمي ه وروى لن ا أحاديثه ا كأّمن ا ه و ال ذي ابت دعها ّأول م ّرة‪ ،‬فق د‬
‫فهش ت هل ا جواحن ه‪ ،‬ومت ّىن فأعان ه التم ّّن عل ى‬
‫أعاره ا ه واه وأش رهبا روح ه‪ّ ،‬‬
‫ومن اّ‪ ،‬كان من املناسب للع ّقاد أن يرى يف رسالة الغفران‪ ،‬بعد‬ ‫التخيّل»‪)2(.‬‬

‫الذي قاله‪ّ ،‬أّنا «منط وحدها يف آدابنا العربية وأس لوب ش يّق ونس ق طري ف يف‬
‫إليها»‪)3(.‬‬ ‫املعري‬
‫الرواية‪ ،‬وفكرة لبقة ال نعلم أ ّن أحدا سبق ّ‬
‫النّقد و ّ‬
‫أهم ما‬
‫ظ الغفران من اخليال قليال‪ ،‬يف نظر الع ّقاد‪ ،‬فإنّه يرى أ ّن ّ‬
‫إذا كان ح ّ‬
‫الس خرية الطّافح ة‪ ،‬فه و‬
‫مييّ ز أاب الع الء يف رس الته م ن النّاحي ة الفنيّ ة نزوع ه إىل ّ‬
‫الس خر خي رج التش اؤم خم رج التّف اؤل‪ ،‬ويع رض‬‫ادا يف ّ‬
‫جي زم أنّه ك ان «س اخرا ج ّ‬
‫الي أس يف ث وب األم ل ويبتس م م ن آم ال النّ اس يف ال ّدنيا واآلخ رة اّ يع ود‬
‫ويعرض هبم يف ظاهر القول وهو‬
‫فيبتسم من ابتسامه‪ ،‬ويعبث ابلكافرين ّ‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.119 -118 .‬‬
‫‪ 2‬الع ّقاد‪ ،‬عبّاس حممود‪ :‬مطالعات يف الكتب و احلياة‪ ،‬ص‪.121 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.122 .‬‬

‫‪214‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابمل ؤمنني أش ّد عبث ا وأبل غ تعريض ا»‪ )1(.‬م ن خ الل ه ذه العب ارات مت ّك ن الع ّق اد‬
‫ابلس خرية إىل‬
‫م ن الغ وص يف أعم اق أيب الع الء النّفس يّة‪ ،‬وأرج ع س بب متيّ زه ّ‬
‫انطوائه عل ى نف س غارق ة يف التّش اؤم‪ ،‬و ذل ك «الجتم اع ث الث خص ال‪ :‬ه ذا‬
‫الش عور النّ ادر ابلواج ب [‪ ]...‬واالس تخفاف ابل ّدنيا ودقّ ة اإلحس اس‪ ،‬وك ّل‬
‫ّ‬
‫هذه اخلصال من دواعي التّشاؤم‪ ،‬وكلّها أيضا من دواعي السخر»‪)2(.‬‬
‫ّ‬
‫عل ى ال ّرغم م ن متيّ ز األحك ام النّقدي ة لك ّل م ن ط ه حس ني والع ّق اد بن وع م ن‬
‫الش مولية‪ ،‬إالّ ّأّن ا تبق ى حم اوالت رائ دة يف إخ راج أدب أيب الع الء م ن ظ الم‬
‫ّ‬
‫القطيعة اليت مارسته عليه أجياال متعاقبة إىل الذائقة العربية يف القرن العشرين‪.‬‬

‫خل ف ط ه حس ني والع ّق اد جي ل م ن النّق اد‪ ،‬جع ل ت راث أيب الع الء م دار‬
‫اهتمام وحبث‪ ،‬وكانت عائش ة عب د ال ّرمحن يف مق ّدم ة رك بهم ملعاص رهتا هلم ا م ن‬
‫وتفرغها الكامل لتحقيق ونشر أدب شيخ املع ّرة م ن جه ة أخ رى‪ ،‬وك ان‬
‫جهة‪ّ ،‬‬
‫لرس الة الغف ران ح ظ واف ر م ن جم ال اختصاص ها ‪ ،‬وتعلّ ل ذل ك بقوهل ا عنه ا‪:‬‬
‫«لقد كنت من بني الطّالّب الذين قرأوها ‪-‬يف طبعة غري حم ّققة‪ -‬على األستاذ‬
‫نصها سبع‬
‫تفرغت لتحقيق ّ‬
‫الدكتور طه حسني يف كليّة اآلداب‪ .‬بعد أن ّ‬
‫‪ . 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.133 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.133 .‬‬

‫‪215‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫دأاب»‪)1(.‬‬ ‫سنوات‬

‫انص بت جه ود‬
‫الش اطن رس الة الغف ران يف طبع ة حمق ّق ة‪ّ ،‬‬
‫بع د إخ راج بن ت ّ‬
‫النّقاد‪ ،‬من جيلها‪ ،‬على حتديد جنس ها األديب‪ ،‬فاختلف ت آراؤه م الخ تالف‬
‫الرس الة‪ ،‬يف ح ني تق ّرر النّاق دة قائل ة يف‬
‫ال زوااي الفنّي ة ال يت تن اولوا م ن خالهل ا ّ‬
‫تخصص ة للغف ران‪ ،‬كم ا‬
‫الش أن‪« :‬وح ني أنظ ر الي وم إىل دراس يت امل ّ‬
‫ه ذا ّ‬
‫ص‬
‫ق دمتها إىل اجلامع ة من ذ عش رين عام ا‪ ،‬أعج ب كي ف ف اتّن ه ذا ال نّ ّ‬
‫رحي فيه ا‪ ،‬وكي ف ف ات ال ّدارس ني مع ي فمض وا‪ ،‬نبح ث هل ا ع ن مك ان‬
‫املس ّ‬
‫العريب‪ ،‬ونعرضها عل ى املقام ات والقص ص واألم ايل‪ ،‬وعل ى‬
‫بني فنون األدب ّ‬
‫املصنّفة»‪)2(.‬‬ ‫الرسائل اإلخوانيّة الطوال اليت جتري جمرى الكتب‬
‫ّ‬
‫الش اطن النتق ادات تقلّ ل م ن ش أن دراس تها‪ ،‬واجهته ا‬
‫تعرض ت بن ت ّ‬
‫ومل ا ّ‬
‫ص الغف ران أن يك ون عم ال مس رحيا‪،‬‬
‫تؤهل ن ّ‬
‫املقومات الفنيّة اليت ّ‬
‫أهم ّ‬ ‫إببراز ّ‬
‫الص عبة ب ني زه د مؤلّفه ا وش هوانية‬
‫وارأتت أ ّن العق دة تكم ن «يف املعادل ة ّ‬
‫بطله ا أو يف التّوري ة ال ّدقيق ة لس خرية أيب الع الء ابن الق ارح‪ ،‬ويف ه ذا ال ّدور‬
‫الرجاء‪ ،‬من‬
‫مّن و ّ‬
‫العجيب الذي اختاره له وفرضه عليه‪ ،‬وعلى وجه التّ ّ‬
‫نص مسرحي من القرن اخلامس‬
‫الشاطن‪ ،‬عائشة عبد الرمحن‪ :‬جديد يف رسالة الغفران‪ّ ،‬‬
‫‪ 1‬بنت ّ‬
‫اهلجري‪ ،‬ص‪.09 .‬‬
‫ّ‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.10 .‬‬

‫‪216‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اآلخرة»‪)1(.‬‬ ‫صديق يطمع له يف حسن املاب ونعيم‬

‫ص الغف ران يف نس خة‬


‫م ن ه ذا املنطل ق‪ ،‬عكف ت النّاق دة عل ى إخ راج ن ّ‬
‫رحي‪ ،‬وحرص ت يف إص دارها عل ى‬
‫ص املس ّ‬
‫تس تجيب للقواع د التّقليدي ة لل نّ ّ‬
‫أي مس اس بص ياغة املؤلّ ف لفظ ا وس ياقا‬
‫عرض ها‪ ،‬كم ا تص ّرح‪« ،‬دون ّ‬
‫ظ الغف ران م ن‬
‫وح وارا»‪ )2(.‬وأردف ت حماولته ا بدراس ات نقدي ة تن اقش فيه ا ح ّ‬
‫اخلي ال‪ ،‬وخالف ت فيه ا رأي أس تاذها ‪-‬ط ه حس ني‪ -‬ورأت أ ّن «خلي ال املع ّري‬
‫الصورة اجلديدة من املو ّاد القدمية‪ ،‬وطريقت ه املبتدع ة يف‬
‫أسلوبه الف ّذ يف أتليف ّ‬
‫شخص املعاين‬
‫ع رض هذه األخب ار واألق وال‪ ،‬يف ذلك القالب اخليايل الذي ي ّ‬
‫الصورة»‪)3(.‬‬
‫ّ‬ ‫وجي ّسم‬

‫املتخصصة لرتاث أيب العالء أن تدرأ‬


‫ّ‬ ‫الشاطن يف دراساهتا‬
‫مل يفت بنت ّ‬
‫عنه املزاعم اليت حيك ت ح ول معتق ده‪ ،‬ورأت أّن ا كان ت س ببا يف حجب ه ع ن‬
‫وتعجب ت م ن «العص ور ال يت رمجت ه ‪ -‬وكان ت عص ور‬
‫أجيال من أبناء العربيّ ة‪ّ ،‬‬
‫غرب ة لإلس الم ‪ -‬وأنك رت علي ه م ا ح ّرم عل ى نفس ه م ن طيّب ات ال ّرزق‪ ،‬ومل‬
‫احملرم ات وانته اك املق ّدس ات ورأت يف امتناع ه ع ن أك ل اللّح وم‬
‫تنكر إابح ة ّ‬
‫السكارى‪ ،‬وأكل‬
‫وشرب اللّنب إمثا‪ ،‬ومل تر يف حمافل اجملون وحاانت ّ‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.14 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.13 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.65 .‬‬

‫‪217‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حقوق النّاس وشرب دمائهم‪ّ ،)1(»...‬أما عن عزلته‪ ،‬فقد اختارها وهو ق ادر‬
‫عل ى أن يش ارك مه وم أمت ه ع ن كث ب‪ ،‬ويق ّدم هل ا م ن وراء اجل دران أداب حيّ ا‬
‫انبض ا ب روح العص ر‪ ،‬فانس حابه ‪-‬يف نظره ا‪ -‬مل يك ن س لبيا‪« ،‬ب ل ك ان‬
‫احتجاج ا عملي ا عل ى فس اد البيئ ة‪ ،‬ورفض ا ص ارما ألوض اع لئيم ة تس ود‬
‫عصره»‪)2(.‬‬

‫‪ -4‬خطاب الغفران من منظور حقل التأثّي والتأثر‪:‬‬

‫ص‬
‫إىل جان ب ه ذه التّفس ريات ال يت حاول ت إب راز املالم ح الفنيّ ة يف ن ّ‬
‫س‬
‫الغف ران‪ ،‬ظه رت حم اوالت عربيّ ة أخ رى تفاع ل فيه ا أص حاهبا بدراس ة الق ّ‬
‫بالثيوس الذي أ ّكد أتثري املصادر العربية يف الكوميداي اإلهليّة ألديب إيطالي ا‬
‫دانيت (‪ )Danté‬ضمن كتابه «املعراج اإلسالمي والكومي داي اإلهلي ة»‪ ،‬ال ذي‬
‫نش ره س نة ‪1919‬م‪ ،‬ش رح في ه كي ف أتثّر دان يت أتثّرا مباش را حبكاي ة املع راج‪،‬‬
‫العالء‪)3(.‬‬ ‫ورسالة الغفران أليب‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.45 .‬‬
‫‪ 1‬املرجع ّ‬
‫العريب‪ ،‬القدمي واحلديث‪ ،‬دار املعارف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرمحن‪ :‬قيم جديدة لألدب‬
‫الشاطن‪ ،‬عائشة عبد ّ‬
‫‪ 2‬بنت ّ‬
‫مصر‪ ،1970 ،‬ص‪.224 .‬‬
‫حممد‪ :‬األدب املقارن‪ ،‬دار العودة ودار الثّقاف ة‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬ط‪ ،1981 ،3‬ص‪.‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬غنيمي هالل‪ّ ،‬‬
‫‪.153‬‬
‫اخلطي ب‪ ،‬حس ام‪ :‬حماض رات يف تط ّور األدب األورويب ونش أة مذاهب ه واجتاهات ه النّقدي ة‪،‬‬
‫مطبعة طربني‪ ،1975 -1974،‬ص‪.84 .‬‬

‫‪218‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اعتم د ه ؤالء الب احثون يف دراس اهتم عل ى نظري ة الت أثري والت أثر ال يت أنتجه ا‬
‫املتخصص ني يف ه ذا‬
‫ّ‬ ‫حمم د غنيم ي ه الل ّأول‬
‫حق ل األدب املق ارن‪ ،‬وك ان ّ‬
‫وجهه ا‬
‫اجمل ال ض من كت ابه األدب املق ارن‪ ،‬وبع د ع رض االنتق ادات الت ي ّ‬
‫س اإليط ايل‪ ،‬إذ زعم وا أ ّن حجج ه ابطل ة‬
‫املتعص بني م ن األوربي ني ل لق ّ‬
‫بع ض ّ‬
‫من جهتني مها‬

‫‪ّ -‬أوال‪ :‬أ ّن التّشابه بني الكوميداي واملصادر العربية تشابه سطحي‪.‬‬

‫ذلك كلّه‪)1(.‬‬ ‫حىت يطّلع على‬


‫‪ -‬اثنيا‪ :‬أ ّن دانيت مل يكن يعرف العربية‪ّ ،‬‬
‫توص ل فيهم ا الباحث ان تش ريويل اإلس باين‪ ،‬وموني وس‬
‫أدرج نت ائج دراس تني ‪ّ ،‬‬
‫س ندينو اإليط ايل س نة ‪1949‬م‪ ،‬يف حبث ني مس تقلني ع ن بعض هما‪ ،‬إىل أ ّن‬
‫الرس ول ‪ -‬ص لّى هللا علي ه‬
‫قص ة مع راج ّ‬
‫دانيت قد استقى موضوع كومي دايه م ن ّ‬
‫عريب قد ترمجت إىل الالّتينية واإلس بانية اّ إىل‬
‫وسلّم ‪ ،-‬وهي خمطوطة أصلها ّ‬
‫الفرنسية‪)2(.‬‬

‫توص ل إليه ا الباحث ان بقول ه إ ّن‪« :‬يف‬


‫أيّ د غنيم ي ه الل ه ذه النت ائج ال يت ّ‬
‫الكومي داي اإلهلي ة نفس ها م ا يثب ت اطّ الع «دانت ه» عل ى الثّقاف ة اإلس المية‬
‫[‪ ]...‬فإنّه يذكر ما يؤيّد تقديره للفلسفة اإلسالميّة وفالسفتها‪ ،‬فقد أنزل‬
‫حممد‪ :‬األدب املقارن‪ ،‬ص ص‪.154 – 153 .‬‬
‫‪ 1‬هالل غنيمي‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.154 .‬‬

‫‪219‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اب ن س ينا واب ن رش د م ع احلكم اء ال ذين س اعدوا عل ى تق ّدم الفك ر‬


‫خيص اطّالع دان يت عل ى رس الة الغف ران فق د اس تبعده‬
‫اإلنساينّ»‪ّ )1(.‬أما فيما ّ‬
‫متام ا‪ ،‬وعلّ ق عل ى ه ذا بقول ه‪« :‬إ ّن رس الة الغف ران تش به «الكومي داي اإلهلي ة»‬
‫الرحل ة وأقس امها وكث ري م ن مواقفه ا‪ ،‬وق د دف ع ه ذا التّش ابه‬
‫لدانت ه‪ ،‬يف ن وع ّ‬
‫بعض الباحثني إىل القول أب ّن أاب العالء أثّر يف دانته‪ .‬وهذا خطأ‪ ،‬إذ ال يوجد‬
‫وفس ر ه ذا التّش ابه ب ني‬
‫دلي ل عل ى اطّالع «دانت ه» عل ى رس الة الغف ران»‪ّ )2(.‬‬
‫العمل ني أنّ ه ‪ -‬رّل ا ‪ -‬راج ع إىل أ ّن كليهم ا ق د أف اد م ن حكاي ة املع راج كم ا‬
‫وردت يف األحاديث غري املوثوق هبا‪ ،‬وأنّه مل يبق أليب العالء إالّ فضل اإلفادة‬
‫دانيت‪)3(.‬‬ ‫اإلسالمي قبل‬ ‫أدبيا من الرتاث‬
‫ّ‬
‫غري بعي د عن ه ذا املوق ف‪ ،‬ينف ي حس ام اخلطي ب أن يك ون «هن اك‬
‫الرس الة (الغف ران) فيم ا كتب ه ه و (دان يت) أو‬ ‫أد إش ارة إىل ه ذه ّ‬
‫معاص روه»‪ )4(.‬وبع د مقارن ة عق دها النّاق د ب ني العمل ني م ن حي ث املض مون‬
‫الرحل ة‬
‫القص تني‪ ،‬وإن كانت ا تلتقي ان يف موض وع ّ‬
‫وج د «اختالف ا ش ديدا ب ني ّ‬
‫املتخيّلة إىل العامل اآلخر‪ ،‬فملهاة «دانيت» قصيدة دينية صوفية ترمي إىل‬
‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪.155 .‬‬ ‫‪1‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.230 .‬‬ ‫‪2‬‬
‫ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.230 .‬‬ ‫‪3‬‬
‫تطور األدب األورويب‪ ،‬ص‪.84 .‬‬
‫اخلطيب‪ ،‬حسام‪ :‬حماضرات يف ّ‬ ‫‪4‬‬

‫‪220‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الروح ي والتّق ّرب م ن هللا يف ح ني أ ّن رس الة أيب الع الء تق وم عل ى‬


‫اخل الص ّ‬
‫والتّشكيك»‪)1(.‬‬ ‫السخرية‬
‫التّهكم و ّ‬
‫الص ريح ملقول ة الت أثري والت أثّر ب ني العمل ني إىل‬
‫وم ن ال ذين تبنّ وا ه ذا النّف ي ّ‬
‫الش اطن‪ ،‬إذ اس تبعدت اطّ الع دان يت عل ى‬
‫جان ب م ن س بق ذكرمه ا‪ ،‬بن ت ّ‬
‫ادي وأ ّن الثّاب ت ه و اطّالع ه عل ى‬
‫رس الة الغف ران لع دم وج ود ال ّدليل امل ّ‬
‫وىل النّاق د عب د املل ك م راتض ال ّرّد‬
‫«إلي اذة» و«أوديس ا» ه ومريوس‪ ،‬وق د ت ّ‬
‫الشاطن أن يكون دانيت ق د اطّل ع عل ى‬ ‫عليها قائال‪« :‬وإ ّان ال ننكر على بنت ّ‬
‫إلياذة وأديسا هومريوس‪ ،‬ولكنّ ا ننك ر عليه ا تعنّته ا ومغاالهت ا يف ك ون دان يت مل‬
‫يطّل ع عل ى الغف ران‪ ،‬م ع أ ّن (أس ني بالثي وس) يؤّك د العالق ة القائم ة ب ني‬
‫مضى رسا وعشرين س نة يف البح ث قب ل أن يص در ه ذا‬
‫اإلنتاجني‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫احلكم»‪)2(.‬‬

‫إ ّن عب د املل ك م راتض ينك ر عل ى الباحث ة إغالقه ا ابب البح ث يف فرض ية‬


‫اطّالع دان يت عل ى غف ران أيب الع الء‪ ،‬وك ان م ن األوىل هل ا‪ ،‬كناق دة عربي ة‪ ،‬أن‬
‫تتجه حنو نقيض مسارها‪ ،‬دومن ا أن حتي د ع ن مب ادئ البح ث العلم ّي‪ ،‬س اعية‬
‫الصلة بني العملني‪ ،‬وأ ّن ما سعت إليه ‪ -‬حسب‬
‫تعزز ّ‬
‫للبحث عن شواهد ّ‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.84 .‬‬
‫الش ركة اجلزائري ة‪ ،‬ط‪ ،1968 ،1‬ص‪.‬‬
‫القص ة يف األدب الع ريب‪ ،‬دار ومكتب ة ّ‬
‫‪ 2‬م راتض‪ ،‬عب د املل ك‪ّ :‬‬
‫‪.254‬‬

‫‪221‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫نط ره ‪ -‬ك ان جي در هب ا «أن تنك ر العالق ة العلميّ ة واألدبيّ ة ال يت كان ت ب ني‬


‫الشرق من جانب‪ ،‬وبني األندلس وما جاورها م ن أق اليم أوروبيّ ة‪،‬‬
‫األندلس و ّ‬
‫اثن»‪)1(.‬‬ ‫ومنها إيطاليا‪ ،‬من جانب‬

‫ص انع دام إش ارة دان يت لرس الة الغف ران يف كومي دايه‪ ،‬حس ب م ا‬
‫ّأم ا فيم ا خي ّ‬
‫ذهب إليه حسام اخلطيب‪ ،‬فإ ّن البح ث يف األدب املق ارن مل يق ل ‪ -‬إطالق ا‬
‫‪ -‬بتأث ّر ش اعر إيطالي ا أتثّ را مباش را ابلغف ران‪ ،‬ومل يق ل أبنّ ه استنس خها‬
‫استنس اخا‪ ،‬ب ل يكف ي أن يك ون‪ ،‬م ن ابب الت أثّر غ ري املباش ر‪ ،‬ق د اس تلهم‬
‫بعض ا م ن األفك ار العالئي ة‪ ،‬و«أ ّن االخ تالف الظ اهر ال ذي يوج د ب ني‬
‫العريب ال ين ايف أ ّن أح دمها أتثّر اآلخ ر‪ ،‬ذل ك أب ّن ال ذين‬
‫الشاعرين اإليطايل و ّ‬
‫ّ‬
‫يرون أ ّن دان يت أتثّر املع ّري‪ ،‬ال ي رون ه ذا الت أثّر تقلي دا أعم ى فك رة وأس لواب‪.‬‬
‫الش اعر أن مت ّر خب اطره‬
‫فدانيت ه و م ن ه و‪ ،‬وش عره ه و م ا ه و‪ ،‬وإّمن ا حس ب ّ‬
‫ينسج»‪)2(.‬‬ ‫فكرة فينسج عليها خبياله ما شاء أن‬

‫توص ل إلي ه‬
‫إالّ عل ى ال رغم م ن ك ّل م ا قي ل ح ول ه ذا الش أن‪ ،‬ف إ ّن م ا ّ‬
‫النّاقد لويس عوض بع د مقارن ة عق دها ب ني مض مون العمل ني‪ ،‬يؤّك د التش ابه‬
‫الكبري املوجود بني كوميداي دانيت وبني املصادر اإلسالمية‪ ،‬وقد حصره يف‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.255 -254 .‬‬
‫القصة يف األدب العريب القدمي‪ ،‬ص‪.253 .‬‬
‫‪ 2‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ّ :‬‬

‫‪222‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫النّقاط التالية‬
‫‪ -‬أخ ذ دان يت ع ن املس لمني تقس يم األرض ني إىل س بع و ك ذلك تقس يم‬
‫السموات‪.‬‬
‫ّ‬
‫المي فك رة تص نيف امل ذنبني يف خمتل ف طبق ات‬
‫الرتاث اإلس ّ‬
‫‪ -‬أخذه من ّ‬
‫اجلحيم لا يتناسب مع فظاعة آاثمهم‪.‬‬
‫‪ -‬فك رة دان يت األساس ية ع ن النّع يم يف الف ردوس‪ ،‬كفكرت ه األساس يّة ع ن‬
‫الرم اين‪ ،‬و ال م ن ال رتاث‬
‫اجلح يم‪ ،‬ليس ت م أخوذة م ن ال رتاث الي وانين و ّ‬
‫اإلسالمي‪)1(.‬‬
‫الرتاث‬
‫املسيحي‪ ،‬بل من ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خ تم ل ويس ع وض كتاب ه «عل ى ه امش الغف ران» بوض ع رس الة الغف ران يف‬
‫قص ة املع راج م ن حي ث أتثريه ا يف الكومي داي اإلهلي ة‪ ،‬وم ن‬
‫املق ام الثّ اين بع د ّ‬
‫الش واهد ال يت س اقها ك دليل يؤّك د دع واه‪ ،‬يق ف البح ث عل ى إح داها يف‬
‫ّ‬
‫قول ه‪« :‬أخ ذ دان يت ع ن املع ّري تص ويره إلبل يس وك ذلك أس لوب التّن ّق ل ب ني‬
‫طبق ات اجلح يم ال ذي ي ذ ّكر أبس لوب اب ن الق ارح املض حك يف عب ور‬
‫الص راط‪ ،)2(» ...‬وه و هب ذه ال ّدراس ة‪ ،‬مت ّك ن م ن جت اوز التّفس ري الت ارخيي‪،‬‬
‫ّ‬
‫الذي يعتمد على الشواهد املادية اخلارجية‪ ،‬ضمن نظرية التأثري والتأثر ليلج‬

‫تطور األدب األورويب‪ ،‬ص ص‪.84-83 .‬‬


‫‪ 1‬ينظر‪ :‬اخلطيب‪ ،‬حسام‪ :‬حماضرات يف ّ‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.85 .‬‬

‫‪223‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إىل مضامني اإلنتاجني‪ ،‬لكن دومنا أن يربز م واطن الق يّم الفنّي ة فيهم ا‪ ،‬ذل ك‬
‫الرائدة يف األدب املقارن‪.‬‬
‫العتبار حماولته من البحوث ّ‬
‫وجه ت دراس ة ل ويس ع وض أنظ ار املهتم ني بقض ية الت أثري والت أثّر ب ني‬
‫ّ‬
‫الش واهد الفني ة م ن خ الل مض مون‬
‫الغفران والكومي داي اإلهلي ة إىل استقص اء ّ‬
‫العملني‪ ،‬وكانت دراسة النّاقد صالح فضل م ن أب رز البح وث ال يت أس همت‬
‫يف أتكي د أتث ري ال رتاث اإلس المي يف ش اعر إيطالي ا‪ ،‬وغ ري بعي د ع ن ه ذا‬
‫املعىن‪ ،‬وسم كتابه ب «أتثري الثّقافة اإلسالميّة يف الكوميداي اإلهليّة لدانيت»‪.‬‬
‫حمم د» ‪ -‬ص لّى هللا علي ه وس لّم –‬
‫اعت رب ص الح فض ل وثيق ة «مع راج ّ‬
‫األول الذي‬
‫املنسوبة إىل عبد هللا بن عباس ‪ -‬رضي هللا عنهما ‪ )1(-‬املصدر ّ‬
‫أثّر يف الكوميداي‪ ،‬والغريب يف األمر‪ ،‬أنّه مل أيت على ذكر رسالة الغفران إالّ‬
‫يف ص فحات قليل ة مقارن ة حبج م كتاب ه‪ ،‬عل ى ال ّرغم م ن اعرتاف ه أب ّن «األث ر‬
‫المي األك رب ال ذي ص اغ ملحم ة املع راج أوائ ل الق رن احل ادي‬
‫األديب اإلس ّ‬
‫ّ‬
‫ي ال يت تع ّد م ن أنض ج‬
‫عش ر امل يالدي ه و رس الة الغف ران أليب الع الء املع ّر ّ‬
‫العربية»‪)2(.‬‬ ‫مناذج الثّقافة‬
‫حمم دا ‪-‬ص لّى هللا علي ه وس لّم‪ -‬ملحق ا لكتاب ه‪ ،‬وص ّرح أنّه عث ر‬
‫‪ -1‬ض ّم ص الح فض ل اوثيق ة مع راج ّ‬
‫عليها خمطوطا‪.‬‬
‫مؤسس ة ش باب اجلامع ة‪،‬‬
‫‪ -2‬فضل‪ ،‬ص الح‪ :‬أتث ري الثّقاف ة اإلس الميّة يف الكومي داي اإلهليّ ة ل دانيت‪ ،‬النّش ر ّ‬
‫ط‪1985 ،1‬م‪ ،‬ص‪.72 .‬‬

‫‪224‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫خصص ها للغف ران‪ ،‬مت ّك ن م ن إنش اء مقارن ة بينه ا‬


‫الص فحات ال يت ّ‬
‫عل ى قلّ ة ّ‬
‫الش كل‪،‬‬
‫وب ني الكومي داي‪ ،‬وق ف فيه ا عن د التّش ابه الع ّام بينهم ا م ن حي ث ّ‬
‫وأردف هذا ابستقصاء مشاهد ترقى إىل ح ّد التّطابق بينهما‪ ،‬وكأنّه ‪ -‬و إن‬
‫ك‪ .‬ومّ ا أورده‬
‫مل يص ّرح ب ه ‪ -‬يؤّك د اطّ الع دان يت عل ى الغف ران دون ش ّ‬
‫كش اهد عل ى اتّفاقهم ا م ن املنظ ور الع ّام كوّنم ا «رحل ة للع امل اآلخ ر تتميّ ز‬
‫خبلوها من عناصر اخلوارق واملعجزات اليت حتف ل هب ا رواايت اإلس راء واملع راج‬
‫ّ‬
‫للرحل ة ‪ -‬ال يت تق ع يف نط اق املعج زات ‪-‬‬
‫عادة‪ ،‬فباستثناء الفكرة األساس يّة ّ‬
‫متض ي احل وادث بع د ذاك عل ى نس ق أق رب م ا يك ون إىل منط ق احلي اة‬
‫امل ألوف»‪ )1(.‬فشخص يات أيب الع الء واقعي ة دنيوي ة‪ ،‬وك ذلك األم ر ع ن‬
‫شخصيّ ات دانت ي‪ ،‬كم ا س عى كالمه ا إل ى ع رض معارف ه العلميّ ة بطريقت ه‪،‬‬
‫املعري قد انتهج لنفسه خطّة الكش ف ع ن معارف ه األدبيّ ة واللّغويّة‬
‫فإذا كان ّ‬
‫ملخص ا‬
‫الش عراء ف إ ّن دان يت ت رك يف ملحمت ه ّ‬
‫وأحكام ه النّقدي ة عل ى كب ار ّ‬
‫وعي يك اد‬
‫السياس يّة بش كل موس ّ‬
‫ملعارف ه العلميّ ة والتّارخييّ ة وجتارب ه ال ّدينيّ ة و ّ‬
‫عصره»‪)2(.‬‬ ‫كل ما عرف به‬
‫يستغرق ّ‬
‫اص‪ ،‬فق د ع رض ص الح فض ل ش واهد تعك س م دى‬
‫ّأم ا م ن املنظ ور اخل ّ‬
‫خاصة مشهد لقاء ابن القارح يف اجلنّة حبوريتني‪،‬‬
‫التّطابق بني العملني‪ ،‬و ّ‬
‫السابق‪ ،‬ص ص‪.73 -72 .‬‬
‫‪ 1‬املرجع ّ‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.75 .‬‬

‫‪225‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اكتشف بعد حوار طويل دار بي نهم أ ّن األوىل ه ي «محدون ة» ال يت أاثهب ا هللا‬
‫ابجلنّ ة ج زاء زه دها يف ال ّدنيا بع دما طلّقه ا زوجه ا بس بب رائح ة فمه ا‬
‫الس وداء» ال يت كان ت خت دم دار العل م‬
‫الكريه ة‪ ،‬وأ ّن الثّاني ة ه ي «توفي ق ّ‬
‫ببغ داد‪ )1(،‬وق ّرر‪ ،‬يف النهاي ة‪ ،‬أن ه يوج د يف ه ذه الواقع ة «ش بها بعي دا بينه ا‬
‫وب ني بع ض الوق ائع عن د دان يت‪ ،‬مث ل لقائ ه م ع «بياس ينا» يف املطه ر‪ ،‬وم ع‬
‫«بيك اردا دو انيت» الفلورنس ية يف مس اء القم ر‪ ،‬وم ع «ك وينزا دي ابدوا» يف‬
‫أوالهن ‪ -‬مثل محدون ة ‪ -‬حظّه ا التّع يس وش قاءها‬
‫ّ‬ ‫مساء الزهرة حيث تنعي‬
‫يف حياهت ا الّزوجي ة‪ ،‬وم ا تب دو علي ه «بيك اردا» م ن مج ال رائ ع وجس م فت ان‬
‫ألّن ا مل تك ن ك ذلك أب دا يف احلي اة ال ّدنيا مث ل توفي ق‬
‫ي دهش دان يت ّ‬
‫السوداء»‪)2(.‬‬
‫ّ‬
‫عل ى ال ّرغم م ن وق وف ص الح فض ل عل ى ش واهد ملموس ة تق ّرب ب ني‬
‫العمل ني‪ ،‬وت ربز م دى أتثّر دان يت ب بعض املش اهد يف غف ران أيب الع الء‪ ،‬بق ي‬
‫التش ابه ب ني اإلنت اجني‪،‬‬
‫وفيّ ا للبح ث املق ارينّ ورآه األق در عل ى تفس ري ه ذا ّ‬
‫خصصها للغفران بقوله‪« :‬لئن كانت البح وث املقارن ة مل‬
‫وختم صفحاته اليت ّ‬
‫الرتاث‬
‫املعري ودانيت‪ ،‬فإ ّن وجود ّ‬
‫حىت اآلن صلة اترخيية مباشرة بني ّ‬
‫تثبت ّ‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.287-286 .‬‬ ‫‪ّ 1‬‬


‫‪ 2‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أتثري الثّقافة اإلسالميّة يف الكوميداي اإلهليّة لدانيت‪ ،‬ص ص‪.79 -78 .‬‬

‫‪226‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اإلسالمي املتّصل ابإلس راء واملع راج كمص در مش رتك واحتم ال اطّالع دان يت‬
‫ّ‬
‫ملخ ص لرس الة الغف ران وتواف ق بع ض املش اهد واملواق ف ك ّل‬
‫عل ى ترمج ة أو ّ‬
‫ه ذا يص لح للنّه وض هب ذا الف رض وطرح ه كس ؤال ال ي زال يل تمس األدلّ ة‬
‫املستقبل»‪)1(.‬‬ ‫اليقينية يف البحوث املقارنة يف‬

‫إذا ك ان ص الح فض ل يعق د آم اال كب رية عل ى نظريّة الت أثري والت أثّر يف‬
‫الص لة ب ني اآلداب العامليّ ة‪ ،‬ف إ ّن النّاق د داود س لّوم ي رى ّأّن ا قاص رة‬
‫حتدي د ّ‬
‫تفس ر‬
‫ختصص ها أن ّ‬
‫عن جتاوز احلدود اخلارجيّ ة لألعم ال األدبيّ ة‪ ،‬ول يس م ن ّ‬
‫األبع اد اجلماليّ ة فيه ا‪ ،‬فه ي ‪ -‬حس ب وجه ة نظ ره ‪« -‬تعج ز ع ن تفس ري‬
‫العبقريّة أو الق درة الفنّي ة العاليّ ة ال يت يتميّ ز هب ا كات ب م ا‪ ،‬وهتم ل ال ّدراس ات‬
‫هتتم ب ه إّمن ا يق وم عل ى‬
‫الشعراء وأ ّن ما ّ‬
‫املقارنة احلديث عن قابليّة الكتّاب أو ّ‬
‫فس ر ذل ك التّش ابه ال ذي‬
‫مقدار ما أخذه وأعطاه فقط»‪ )2(.‬كما ميكن أن ي ّ‬
‫ق د يك ون ب ني األعم ال األدبيّ ة وف ق نظريّ ة التّ أثري والت أثّر‪ ،‬وذل ك أل ّن‬
‫الص دف احملض ة ق د تلع ب دوره ا يف ظه ور أعم ال تك اد تك ون م ؤثّرة أو‬
‫« ّ‬
‫مت أثّرة يف بل دان أخ رى‪ ،‬يف الوق ت ال ذي جي زم في ه البح ث العلم ّي بع دم‬
‫والتأثّر»‪)3(.‬‬ ‫وجود هذا التأثري‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.83 .‬‬‫‪ 1‬املرجع ّ‬
‫مؤسسة املختار للنّشر والتّوزيع‪،‬‬
‫‪ 2‬سلّوم‪ ،‬داود‪ :‬األدب املقارن يف ال ّدراسات املقارنة التطبيقيّة‪ّ ،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2003 ،1‬ص‪.15 .‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.22 .‬‬

‫‪227‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ميك ن الق ول م ن خ الل م ا وق ف علي ه البح ث م ن تفس ريات احمل دثني‬


‫لرس الة الغف ران‪ّ ،‬أّن ا بقي ت مالزم ة لل ّدراس ات املقارن ة دون أن يص ل‬
‫املتخصصون فيها إىل أدلّة دامغ ة تؤّك د ص لتها ابلكومي داي اإلهليّ ة‪ ،‬وال ينتظ ر‬
‫ّ‬
‫م نهم أكث ر م ن ه ذا‪ ،‬ف األدب املق ارن ‪ -‬كم ا يؤّك د أح د ّرواده ‪ -‬تنحص ر‬
‫مهمت ه يف أنّ ه «يكتف ي بت اريخ العالق ات اخلارجي ة ل ألدب‪ ،‬وال يتط ّرق إىل‬
‫ّ‬
‫وجل م ا يفعل ه‬
‫اجلوانب واألبعاد اجلماليّة الذوقيّة‪ :‬فهو ال حيلّلها وال يقيّمها‪ّ ،‬‬
‫بش أّنا ه و أن يب ّني العالق ات اخلارجيّ ة والوس ائط و امل ؤثّرات املرتبط ة‬
‫هبا»‪)1(.‬‬

‫‪ -5‬تلقي خطاب الغفران وحدود التأويل‪:‬‬


‫رس الة الغف ران خط اب ش ديد الث راء تتنازع ه جم االت ع ّدة مث ل عل وم‬
‫اللغ ة‪ ،‬واتري خ الش عر وامل ذاهب الفلس فية‪ ،‬واملعتق دات الديني ة‪ ،‬وغريه ا م ن‬
‫اجملاالت املتشابكة اليت حظيت بعض اهتمامات الدارسني م ن قب ل‪ ،‬لتجل ي‬
‫بعض وظائفها السردية‪.‬‬
‫‪ -1-5‬التلقي اإليديولوجي‪:‬‬
‫تفزه اب ن الق ارح برس الته‪ ،‬فه و مت ذمر مّ ا‬
‫وج د أب و الع الء ض الته مل ا اس ّ‬
‫لألمة اإلسالمية‪ ،‬فكان عليه أن يبدي رأيه‬
‫آلت إليه األحوال السياسية ّ‬
‫‪ 1‬عب ده‪ ،‬عبّ ود‪ :‬األدب املق ارن‪ ،‬مش كالت وآف اق‪ ،‬منش ورات ّاحت اد الكتّ اب الع رب‪ ،1999 ،‬ص‪.‬‬
‫‪.25‬‬

‫‪228‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫رده ه ذا متن ّفس ا ينف ث م ن خالل ه م ا أملّ ب ه م ن‬


‫أبي دافع ك ان‪ ،‬فجع ل م ن ّ‬
‫ّ‬
‫لعل هذا ما جعل أحد الن ّقاد ينفي نفيا قطعيا أ ّن رسالة ابن القارح‪:‬‬
‫كدر‪ ،‬و ّ‬
‫«ه ي ال يت دفع ت فيلس وف املع ّرة إىل إنش اء الغف ران دفع ة واح دة دون أن‬
‫تك ون مق ّدماهتا حاض رة يف نفس ه من ذ زم ن بعي د‪ ،‬ول و أ ّن اب ن الق ارح مل‬
‫ما»‪)1(.‬‬ ‫يكتب رسالته لكان ال ب ّد لرسالة الغفران أن تكتب على حنو‬

‫ك ان أب و الع الء ي دين لعتق ده اخل اص ال ذي يواف ق طبيع ة تكوين ه‬


‫الشخص ي‪ ،‬ويتجلّ ى ذل ك يف رس الة الغف ران م ن خ الل م ا أورده‪ ،‬تلميح ا‪،‬‬
‫عند حديثه عن مصري امللوك واجلبابرة ونسائهم وأوالدهم يف احملشر ومنها م ا‬
‫يرق ى إىل التص ريح كحديث ه ع ن يزي د ب ن معاوي ة اخلليف ة األم وي ومنادمت ه‬
‫لشاعره األخطل التغليب يف اجلحيم‪.‬‬
‫يب عن دما‬
‫الضمّن مشهد امللوك على لسان متيم ب ن أ ّ‬
‫ّ‬ ‫أورد السارد‪/‬املؤلّف‬
‫ح ّدث اب ن الق ارح ع ن ه ول م ا لقي ه يف احلس اب‪ ،‬يق ول‪« :‬ومن ادي احلش ر‬
‫الش وس اجلب ابرة م ن املل وك جت ذهبم الزابني ة إىل‬
‫يق ول‪ :‬أي ن ف الن ب ن ف الن‪ ،‬و ّ‬
‫روعهن‬
‫اجلح يم‪ ،‬والنّس وة ذوات التيج ان يص رن أبلس نة م ن الوق ود‪ ،‬فتأخ ذ ف ّ‬
‫الش باب م ن‬
‫ادهن‪ ،‬فيص حن‪ :‬ه ل م ن ف داء؟ ه ل م ن ع ذر يق ام؟ و ّ‬
‫وأجس ّ‬
‫أوالد األكاسرة يتضاغون يف سالسل النّار ويقولون‪ :‬حنن أصحاب الكنوز‪،‬‬

‫‪ 1‬عباس‪ ،‬إحسان‪ :‬حماوالت يف النقد‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2010 ،2‬ص‪.228.‬‬

‫‪229‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حن ن أرابب الفاني ة‪ ،‬ولق د كان ت لن ا إىل النّ اس ص نائع و ٍ‬


‫أايد ف ال ف ادي وال‬
‫داع م ن قب ل الع ر ‪﴿ :‬أو مل نفمــركم مــا يتــذكر فيــه مــن‬
‫مع ني!! فهت ف ٍ‬
‫ت ــذكر وج ــاءكم الن ــذير ف ــذوقوا فم ــا للظ ــاملني م ــن نص ــّي﴾(‪ ، )1‬لق د‬
‫الرسل يف زمان بعد زمان‪ ،‬وبذلت ما وّكد من األمان‪ ،‬وقيل لك م يف‬
‫جاءتكم ّ‬
‫الكت اب ‪﴿ :‬واتقوا يوماي تـرجفون فيه إ هللا تـوس كل نفس ما كسـب و‬

‫ه ــم ال يظلم ــون﴾(‪ )2‬فكن تم يف ل ّذات ّ‬


‫الس اخرة واغل ني‪ ،‬وعنأعم ال اآلخ رة‬
‫العباد»‪)3(.‬‬ ‫متشاغلني‪ ،‬فاآلن ظهر النّبأ‪ ،‬ال ظلم اليوم إ ّن هللا قد حكم بني‬
‫ص املع ري هب ذا املش هد املل وك وع ائالهتم‪ ،‬فاس تعمل أوص افا نس بها‬
‫لق د خ ّ‬
‫الش وس‪ ،‬واجلب ابرة‬
‫ف ب ه م ن قبي ل‪ّ :‬‬
‫إليهم تنتم ي إىل معج م اجل ربوت أو م ا ح ّ‬
‫والظ املني‪ ،‬ووق ف عن د جان ب م ن س لوكهم يف مع رض دف اعهم ع ن أنفس هم‬
‫تعودوا عل ى افت داء أنفس هم ابمل ال‪ ،‬وه م أرابب الفاني ة وأص حاب الكن وز‬
‫فقد ّ‬
‫يعطون منها ومينعون‪ ،‬وينفقوّنا يف بذخهم على النّساء ذوات التيجان‪.‬‬
‫وق د قاب ل الس ارد ص ورة املل وك يف ال ّدنيا ل وقفهم يف احملش ر‪ ،‬فه م ال ينتظ رون‬
‫احلساب وإّمنا يتلقون تعذيب الزابنية‪ ،‬كأن األمر اإلهلي قد صدر يف ح ّقهم‪،‬‬
‫‪ -1‬سورة فاطر‪ :‬اآلية‪.37 .‬‬
‫‪ 2‬سورة البقرة‪ :‬اآلية‪.281 .‬‬
‫‪ 3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪ .‬ص‪.248 -247 .‬‬

‫‪230‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وعل م ك ّل واح د م نهم مال ه‪ ،‬وينه ي أدي ب املع ّرة مش هد الع ذاب بس ماع‬
‫ص واتهلاتف يق ول‪« :‬ال ظل م الي وم» يقين ا من ه أ ّن للظّل م ّناي ة حتمي ة مهم ا‬
‫طال املدى‪.‬‬
‫لقد ورد مشهد التعذيب يف احملش ر طافح ا ابلنّقم ة عل ى املل وك دون اس تثناء‪،‬‬
‫فك أ ّن املنص ب السياس ي يع ادل الظل م واجل ربوت يف نت اج املع ري كلّ ه‪ ،‬ولعلّ ه‬
‫يري د االنتق ام أدبي ا م ن ه ذه الطّائف ة‪ ،‬ونظ ري ذل ك يف غ ري النث ر‪ ،‬قول ه يف‬
‫لزومياته‪)1(:‬‬

‫كل مصر من الوالني شيطان‬


‫يف ّ‬ ‫ساس األانم شياطني مسلّطه‬
‫ال و غيطان‬
‫فتعرف العدل أجي ٌ‬ ‫مىت يقوم إم ام يستقيد لن ا‬
‫الساس ة إذا م ا قوب ل ه ذا الع ذاب‬
‫تتض ح نقم ة املع ري بش دة عل ى املل وك و ّ‬
‫السابق‪ -‬ل ا ص ّور ب ه إبل يس يف اجلح يم‪ ،‬فه و‪:‬‬
‫وتلك االستغاثة ‪-‬يف املشهد ّ‬
‫«يض طرب يف األغ الل والسالس ل‪ ،‬ومق امع احلدي د أتخ ذه م ن أي دي‬
‫الزابنية»‪)2(.‬‬

‫إذا ك ان إبل يس عل ى عظم ة جرم ه وعص يانه ق د وص ف هب ذه العجل ة‪ ،‬ف إ ّن‬


‫الساس ة وطغي اّنم‪ ،‬و ّأّن م م ن ش ّدة‬
‫جرمه ال يقاس ‪-‬حسب أيب العالء‪ -‬جب رم ّ‬
‫العذاب احنصر مهّهم يف طلب الفداء واإلعانة لعلّهم ينقذون من هذا‬
‫‪ 1‬املعري‪ ،‬أبو العالء‪ :‬اللّزوميات‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪ ،1986 ،‬ص‪.352.‬‬
‫‪ 2‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.309.‬‬

‫‪231‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الع ذاب اجلس دي ال ذي انل ف روعهم وأجس ادهم‪ّ ،‬أم ا إبل يس ف ال يطل ب م ن‬
‫متحريا ع ن‬
‫خريات اجلنّة شيئا‪ ،‬وال يكرتث للعذاب املسلّط عليه‪ ،‬بل يتساءل ّ‬
‫احلكم ة اإلهلي ة وع ن م ال الول دان وحك م اخلم ر‪ ،‬وبع د ه ذا‪ ،‬يس تحيل إىل‬
‫التكس ب‬
‫عاق ل يهنّ ن اب ن الق ارح عل ى س المته‪ ،‬وورع ينك ر ص ناعة األدب و ّ‬
‫ب ه‪ ،‬كم ا يك ره الفض ول والش ماتة اللّ ذين أب دامها (اب ن الق ارح) جت اه أه ل‬
‫اجلحي م‪ ،‬فيق ول‪« :‬م ا رأي ت أعج ز م نكم أال تس معون ه ذا املتكلّ م ل ا ال‬
‫الش مات اي ب ّن آدم؟ ولك نّكم‪ ،‬حبم د‬
‫يعني ه؟»(‪ ،)1‬اّ يض يف‪« :‬أمل تنه وا ع ن ّ‬
‫إالّ وركبتموه‪)2(».‬‬ ‫هللا‪ ،‬ما زجر عن شيء‬
‫السخط املفرط على الظاملني من احل ّك ام واملل وك‪ ،‬ي دعو‬
‫يف مقابل هذا ّ‬
‫التأين يف مواجهتهم‪ ،‬وجماهبة األخطار وفق منهجه الذي‬
‫أبو العالء النّاس إىل ّ‬
‫رسم حدوده يف لزومياته(‪:)3‬‬
‫دوا فداره‬
‫إذا أنت مل ت درأ ع ّ‬ ‫يقول لك العقل الذي ّبني اهل دى‬
‫إىل قطعها و انظر قطع جداره‬ ‫وقبّل يد اجلاين الذي لست واصال‬
‫يبدو أ ّن أاب العالء جعل من املداراة منهجا إصالحيا يه ادن ب ه الظ املني اتق اء‬
‫لبطش هم‪ ،‬وحفاظ ا عل ى حال ة ال رفض جل ور املل وك واجلب ابرة ح ّىت ال ختب و‬
‫جذوهتا ويذهب رحيها‪.‬‬
‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.349.‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.350 .‬‬
‫املعري‪ :‬اللّزوميات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.359 .‬‬
‫‪ّ 3‬‬
‫‪232‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ينتقل أبو العالء ابلسارد من هذا التعميم إىل إيراد مشهد يزيد ب ن معاوي ة‬
‫يف اجلح يم كش اهد اترخي ي ميثّ ل حي اة اللّه و والب ذخ‪ ،‬وعل ى ال رغم م ن أنّ ه مل‬
‫يظه ره بشخص يته الناطق ة‪ ،‬إال أنّ ه اهت دى إىل إب راز س لوكه م ن خ الل‬
‫األخطل‪ ،‬شاعره الذي عا يف كنفه وعرف حياته الالّهية‪.‬‬
‫اس تعان املع ري ببط ل الغف ران اب ن الق ارح يف حم اورة األخط ل إذ جعل ه‬
‫يستفس ره ق ائال‪« :‬أخط أت يف أم رين‪ ،‬ج اء اإلس الم فعج زت أن ت دخل في ه‪،‬‬
‫ولزم ت أخ الق س فيه‪ ،‬وعاش رت يزي د ب ن معاوي ة‪ ،‬وأطع ت نفس ك الغاوي ة‪،‬‬
‫اق‪ ،‬فكي ف ل ك ابإلب اق؟ فيزف ر األخط ل زف رة تعج ب‬‫وآثرت ما فّن عل ى ب ٍ‬
‫هل ا الزابني ة‪ ،‬فيق ول‪ :‬آه على ّأايم «يزيد»‪ ،‬أسوف عن ده عن ربا‪ ،‬ال أع دم لدي ه‬
‫سيس نربا(‪ ،)1‬وأم زج مع ه م زج خلي ل‪ ،‬فيحتمل ّن احتم ال اجللي ل‪ ،‬وك م ألبس ّن‬
‫أين ابلقي ان الص ادحة ب ني يدي ه‬
‫م ن موش ي‪ ،‬أس حبه يف البك رة أو العش ي وك ّ‬
‫تغنّي ه[‪ ]...‬ولق د فاكهت ه يف بع ض األايم وأان س كران مل ت قخ(‪ ]...[ )2‬فم ا‬
‫للصلة كاهتزاز احلس ام‪ .‬فيق ول ‪ -‬أدام هللا متكين ه‪: -‬‬
‫اهتز ّ‬
‫زادين عن ابتسام‪ ،‬و ّ‬
‫الرج ل عان د‪ ،‬ويف جب ال املعص ية س اند؟‬
‫م ن اش أتي ت‪ ،‬أم ا علم ت أن ذل ك ّ‬
‫ملحدا؟»(‪)3‬‬ ‫فعالم اطّلعت من مذهبه‪ ،‬أكان موحدا‪ ،‬أم وجدته يف النّسك‬

‫‪ -1‬السيسنرب‪ :‬نوع من الرحيان‪ ،‬فارسية‪ .‬ينظر‪ :‬هامش رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.247.‬‬


‫التخ األمر عليه‪ :‬اختلط‪ .‬ينظر‪ :‬هامش‬
‫ملتخ‪ :‬طافح ال يفهم شيئا الختالط عقله‪ ،‬من ّ‬‫‪ -2‬سكران ّ‬
‫رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.248 .‬‬
‫‪ -3‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص ص‪.349 347 .‬‬

‫‪233‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يتأوه أمل ا عل ى‬
‫أتوه األخطل خمالفا لتوقعات القارئ‪ ،‬فهو ال ّ‬
‫جيعل املعري ّ‬
‫وقرب ه‬
‫م ا انل ه م ن ع ذاب اجلح يم‪ ،‬ب ل يت ّأوه حس رة عل ى أايم ح اكم أكرم ه ّ‬
‫وأج زل ل ه العط اء‪ ،‬وهب ذا املش هد يكش ف أب و الع الء ع ن أم رين ه امني مه ا‪:‬‬
‫س لوك يزي د ب ن معاوي ة الالّه ي ال ذي درج عل ى إقام ة جم الس اللّه و واخلم ر‪،‬‬
‫حمرم من ال ّدين‪ ،‬فشاعره األخطل يشهد من خالل ح واره م ع اب ن‬
‫كل ّ‬‫وإابحة ّ‬
‫القارح أبنه‪«:‬كانت تعجبه هذه األبيات(‪:)1‬‬
‫سر التناجي ا‬
‫إين ال أ ّ‬
‫حديثك‪ّ ،‬‬ ‫خربيّن و أعلن ي‬
‫أ خالد هايت ّ‬
‫حىت أق ام الب واكي ا‬ ‫إىل أح ٍ‬
‫د‬ ‫حديث أيب سفيان مل ا مسا هبا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السعيد معاوي ا‬ ‫و أورثه ُّ‬
‫اجلد ّ‬ ‫و كيف بغى أم راً عل قي ففات ه‬
‫العيسي كرما ش امي ا‬
‫ُّ‬ ‫حتلّبها‬ ‫و قومي فعلّيّن على ذاك قهوة‬
‫وجدان حالالً شرهبا املتوالي ا‬ ‫إذا ما نظران يف أم ور قدمي ة‬
‫ا‬ ‫تبوأ رم ًسا يف املدينة ث اوي‬
‫ّ‬ ‫حممدا‬
‫فال خلف بني النّاس أ ّن ّ‬
‫الش اعر امل ّداح ال ذي جي ّم ل س رية‬
‫ه ذا م ن انحي ة‪ ،‬وم ن انحي ة أخ رى ص ورة ّ‬
‫العام ة‪ ،‬وحيظ ى‪ ،‬بع د ذل ك‪ ،‬لنادمت ه ون وال ص الته الف اخرة م ن‬
‫اخلليف ة عن د ّ‬
‫بي ت م ال املس لمني ج زاء عل ى ش عره و مفاكهت ه‪ ،‬وال ري ب أ ّن يزي دا مل يهت ّز‬
‫الشاعر أدبه بلون من التمادي يف اجملون واالستهتار‪ ،‬وهذا‬ ‫طراب إالّ إذا صبغ ّ‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.349 .‬‬

‫‪234‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الش عر ك ان يع اين أزم ة يف‬


‫ك يف أ ّن ّ‬
‫ما جيعل املتلقي جيزم أبنّه «ليس هن اك ش ّ‬
‫عص ر أيب الع الء‪ ،‬ورّل ا أس هم يف تعمي ق ه ذه األزم ة بداي ة حت ّول ال ذوق الع ّام‬
‫ري أبش كال أدبيّ ة جدي دة ت دخل كلّه ا حت ت‬ ‫واش تغاله من ذ الق رن الراب ع اهلج ّ‬
‫القصصي»‪)1(.‬‬
‫النّوع‬
‫ّ‬
‫الس اخط‬
‫لق د ح اول املع ري م ن خ الل ه ذا املش هد أن يع ّرب ع ن موقف ه ّ‬
‫م ن فس اد السياس ة واألدب‪ ،‬يف زم ن آل ت فيه ا اخلالف ة اإلس المية إىل غ ري‬
‫أهله ا‪ ،‬ون تج ع ن ذل ك يف زم ن الح ق ‪-‬عص ر أيب الع الء نفس ه‪ -‬متزقه ا إىل‬
‫دوي الت ض عيفة‪ ،‬أنفق ت أم وال خزائنه ا عل ى مظ اهر ال رتف والتهتّ ك‪،‬‬
‫الرخية واجلاه الذي ال ينتظ ر من ه محاي ة ألرزاق‬
‫وقصرت مهم امللوك على احلياة ّ‬
‫األمة‪.‬‬
‫العامة وتقوية لكيان ّ‬
‫ّ‬
‫مل يكت ف املع ري بتس ليط الس ارد عل ى الساس ة واألدابء فق ط‪ ،‬ب ل وق ف‬
‫تقل خطرا عن غريها‪ ،‬فهو يرى أ ّن املذاهب الديني ة ه ي‬
‫عند طائفة أخرى ال ّ‬
‫ؤد واجبه ا اإلص الحي‪ ،‬ومل تع ّرف‬
‫جم ّرد غط اء انط وى حتت ه الع ابثون‪ ،‬و ّأّن ا مل ت ّ‬
‫النّ اس حبقيق ة األداين العملي ة‪ ،‬وغاايهت ا األخالقي ة‪ ،‬و جعل تهم يقبل ون عل ى‬
‫حىت‬
‫العبادة إسقاطا لواجب مفرغ من حمتواه‪ ،‬غري مدركني ألبعاده ومقاصده‪ّ ،‬‬
‫مل يعد للمساجد قيمة يف نفوسهم مّا ساهم يف انتشار الزندقة و اخلرافة‪.‬‬

‫‪ -1‬كم ال ال رويب‪ ،‬ألف ت‪ :‬بالغ ة التوص يل وأتس يس الن وع‪ ،‬حت ّول الرس الة وب زوغ ش كل قصص ي يف رس الة‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.82‬‬

‫‪235‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اعترب أبو العالء العقل أصال من أصول املعرفة‪ ،‬ومن خالل ترجحيه هذا‪،‬‬
‫هاجم أنصار التقليد والتلقني‪ ،‬ودعا إىل عرض أصول املعتقدات عل ى العق ل‪،‬‬
‫احلج ة‪ ،‬ف إذا‬
‫الص ناعة‪ ،‬بليغ ا يف النّظ ر و ّ‬
‫الرج ل حاذق ا يف ّ‬
‫فهو خيشى أن «جت د ّ‬
‫يعتاد‪)1(».‬‬ ‫مقتاد‪ ،‬وإّمنا يتبع ما‬
‫رجع إىل ال ّداينة ألفي كأنّه عريٌ ٌ‬
‫كل مقلّد ال يعمل حذقه ونظ ره يف فه م املس ائل ال ّديني ة‬
‫يسخر أبو العالء من ّ‬
‫وأيخ ذها ع ن غ ريه ب بالدة وس ذاجة‪ ،‬فيق ع «يف ش ّر اعتق اد وإن أودع وديع ة‬
‫خان‪ ،‬وإن سئل عن شهادة مان‪ ،‬وإن وصف لعليل صفة‪ ،‬فما حيفل أقتله لا‬
‫ق ال‪ ،‬أم ض اعت علي ه األثق ال‪ ،‬ب ل غرض ه فيم ا يكتس ب‪ ،‬وه و إىل احلكم ة‬
‫منتسب‪)1(».‬‬

‫يفسر املعري تظ اهر أص حاب امل ذاهب ابلتّ دين احتي اال عل ى ع وام النّ اس‬
‫ّ‬
‫كس ب‪ ،‬ف بالد ال يمن ‪-‬حس ب رأي ه‪ -‬م ازال «مع دان للمتكس بني ابلت ديّن‬ ‫للتّ ّ‬
‫الس حت ابلت زيّن [‪ ،]...‬وأ ّن ب ه الي وم مجاع ة‪ ،‬كلّه م ي زعم أنّه‬
‫واحملت الني عل ى ّ‬
‫» (‪)2‬‬ ‫القائم املنتظر‪ ،‬فال يعدم جباية من مال‪ ،‬يصل هبا إىل خسيس اآلم ال‪.‬‬
‫وليست اليمن فحسب‪ ،‬بل تكاد األمة اإلسالمية ال ختلو من ه ؤالء احملت الني‬
‫عام ة النّ اس عل ى جهله م مقلّ دين‬
‫الذين يسعون جاهدين أنفسهم على إبقاء ّ‬
‫منقادين‪.‬‬
‫‪ -1‬املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.463 .‬‬
‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.465 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.442 .‬‬

‫‪236‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وي زعم ش يخ املع ّرة أ ّن ج ّل الف رق مل تس لم م ن تغيي ب العق ل وركن ت إىل‬


‫تقرب وا‬
‫اجلم ود والتبلّ د‪ ،‬وم ن ه ؤالء بع ض أتب اع «اإلماميّ ة»‪ ،‬فه و ي رى ّأّن م « ّ‬
‫أانس ط اغون‪،‬‬
‫ابلتعفري‪ ،‬فع ّده بعض املتدينة ذنب ا ل يس بغف ري‪ ،‬وحيض ر اجمل الس ٌ‬
‫أّنم للشرش د ابغ ون‪ ،‬وأولئ ك ‪-‬عل م هللا‪ -‬أص حاب الب دع واملك ر‪ )1(».‬إذا‬
‫ك ّ‬
‫كان ت البدع ة مطي ةً بل غ هب ا بع ض «اإلم اميّني» م راميهم‪ ،‬ف إ ّن أاب الع الء‬
‫الش يعة ال ذين اعتم دوا يف نق ل رواايت‬
‫يتعج ب س اخرا م ن بع ض أتب اع ّ‬
‫ّ‬
‫معتقداهتم‪)3(.‬‬ ‫الصادق» (‪ )2‬عن رجل ارت ّد وطعن يف‬
‫«اإلمام جعفر ّ‬
‫الص غائر‬
‫ّأما املعتزل ة فل م خي ف أب و الع الء هت ّكم ه م نهم يف ختلي د مرتك ب ّ‬
‫ألّن م يقرتف ون م ن الكب ائر م ا‬
‫يف النّ ار‪ ،‬ووج دهم أوىل النّ اس هب ذا العق اب ّ‬
‫شاؤوا دون ورع أو رادع‪ ،‬ف «كم متظاهر ابعتزال‪ ،‬وه و م ع املخ الف يف ن زال‪،‬‬
‫ك‬
‫ي زعم أ ّن ربّ ه عل ى ال ّذ ّرة خيل د يف النّ ار‪ ،‬بل ه ال ّدرهم وبل ه ال ّدينار‪ ،‬وم ا ينف ّ‬
‫حيتقب من املاا عظائم‪ ،‬ويقع هبا يف أطائم‪ ،‬وينهمك على العهار والفسق»‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫مل يكن هذا السلوك انمجا عن أتب اع املذهب فحسب‪ ،‬بل يؤّك د أبو العالء‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.465 .‬‬
‫‪ّ -1‬‬
‫األئم ة االث ىن‬
‫الص ادق‪ :‬ه و أح د أحف اد رس ول هللا ‪-‬ص لّى هللا علي ه وس لّم‪ -‬وم ن ّ‬
‫حمم د ّ‬
‫‪ - 2‬جعف ر ب ن ّ‬
‫عشر‪ .‬ينظر هامش رسالة الغفران ‪ ،‬ص‪.467.‬‬
‫النبوة‪ ،‬مات حوايل سنة ‪260‬ه ‪ ،‬ينظر‪ :‬هامش رسالة‬
‫‪ - 3‬الرجل هو‪ :‬عبد هللا بن ميمون الق ّداح‪ّ ،‬ادعى ّ‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.467 .‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.465.‬‬‫‪ّ -4‬‬

‫‪237‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أنّه ح ّدث «عن إمام هلم يوقّر ويتبع وكأنّه من اجلهل ربع‪ ،‬أنّه ك ان إذا جل س‬
‫الش رب‪ ،‬ودارت عل يهم املس كرة ذات الغ رب‪ ،‬وج اءه الق دح ش ربه‬
‫يف ّ‬
‫اقتفاه»‪)1(.‬‬ ‫واستوفاه‪ ،‬وأشهد من حضره على التوبة لما‬
‫أعق ب املع ري ه ذه الطّائف ة حب ديث ع ن األش اعرة‪ ،‬فه م يف نظ ره عل ى‬
‫يقل عن سابقيهم‪ ،‬فالواحد منهم «إّمنا مث ل ه مث ل ر ٍاع حطم ٍة‪،‬‬
‫جهل كثيف ال ّ‬
‫خيبط يف ال ّدمهاء املظلمة‪ ،‬ال حيفل ع الم هج م ابلغ نم‪ ،‬وأن يق ع يف الي نم‪ ،‬وم ا‬
‫أجدره أن أتيت هبا سراحني‪ ،‬تضمن جلميعه ا أن حي ني! فم ن أيس ر ل ه حج ى‪،‬‬
‫الس لف‪ ،‬وحت ُّم ل م ا يش رع‬
‫كأّمن ا وض ع يف دج ى‪ ،‬إالّ م ن عص مه هللا ابتّب اع ّ‬
‫الكلف»‪)2(.‬‬ ‫على‬
‫عري ب ر ٍاع س اذج يس وق غنم ه إىل املراع ي اجل دابء ال يت‬
‫ش بّه أب و الع الء األش ّ‬
‫أص بحت مس رحا لل ّذائب املرتبص ة‪ ،‬وال يق ّدر حج م األخط ار احملدق ة ب ه‪،‬‬
‫واس تثىن م ن ه ذا الوص ف م ن حفظ ه هللا أبن مج ع ب ني حس ن االتّب اع‬
‫وضرورة االجتهاد الذي يكسر به أغالل التقليد العقيم‪.‬‬
‫إذا ك ان املعتزل ة واألش اعرة يف نظ ر ص احب الغف ران أص حاب قص ور‬
‫الص وفية ال حيي د ع ن‬
‫وتقص ري نتيج ة انغالقه م وتبلّ د عق وهلم‪ ،‬ف إ ّن رأي ه يف ّ‬
‫أقل ما يقال عن شيوخهم‬
‫ذلك‪ ،‬فهم ‪-‬حسب زعمه‪ -‬أهل بدعة وافرتاء‪ ،‬و ّ‬

‫‪ - 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.466.‬‬


‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.467.‬‬

‫‪238‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ّأّن م أق رب إىل اجله ل واإلحل اد م نهم إىل اإلمي ان واليق ني‪ ،‬وم ا احل الّج يف رأي ه‬
‫الص وفية تعظّم ه‬
‫إالّ «أن يكون شعوذاي‪ ،‬ال اثقب الفهم وال أخ وذاي‪ ،‬عل ى أ ّن ّ‬
‫شائفة‪)1(».‬‬ ‫منهم طائفة‪ ،‬ما هي ألمره‬
‫يع زو املع ري املكان ة ال يت حظ ي هب ا احل الّج عن د أتباع ه إىل جهله م وب الدة‬
‫اس هم‪ ،‬فه م «ينتظ رون خروج ه‪ ،‬و ّأّن م يقف ون حبي ث ص لب عل ى دجل ة‬
‫حو ّ‬
‫يتوقعون ظهوره‪ )2(».‬مص ّدقني قوله عند صلبه‪« :‬أتظنّ ون أنّك م ّإايي تقتل ون؟‬
‫مقتولة»‪)3(.‬‬ ‫إّمنا تقتلون بغلة املادراين‪ ،‬وأ ّن البغلة وجدت يف إصطبلها‬
‫ي ربط أب و الع الء‪ ،‬بطريق ة عجيب ة‪ ،‬ب ني ق ول احل الّج عن د ص لبه وم ذهب‬
‫التناس خ واحللولي ة‪ ،‬فه و ي رى أ ّن اجل امع ب ني ه ذه امل ذاهب غي اب عق ول ب ّن‬
‫آدم وولعهم ابألراجيف واألساطري منذ القدم‪ ،‬ويستغرب قول بعضهم(‪:)4‬‬
‫فسبحانك سبحاين‬ ‫ك‬
‫أان أنت ب ال ش ّ‬
‫راين‬ ‫وغفرانك غف‬ ‫وإسخاطك إسخاطي‬
‫الزان ي‬
‫إذا قيل هو ّ‬ ‫ومل أجلد اي ربّ ي‬
‫تؤدي إىل التناسخ‪ ،‬وهو «مذهب عتيق يقول به‬
‫زعم املعري أ ّن هذه النّحلة ّ‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران ‪ ،‬ص‪.463 .‬‬
‫‪ّ -1‬‬
‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.454 .‬‬
‫‪ - 3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.453 .‬‬
‫‪ - 4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.457.458 .‬‬

‫‪239‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الش يعة» (‪ ،)1‬ويؤّك د ط ه حس ني ‪ -‬م ن‬


‫أه ل اهلن د‪ ،‬وق د كث ر يف مجاع ة م ن ّ‬
‫جه ة أخ رى‪ -‬أ ّن أاب الع الء «ع رف التّناس خ ودرس ه‪ ،‬وأش ار إلي ه يف س قط‬
‫الرسائل واللّزوميات ورسالة الغف ران‪ ،‬والتّناس خ مع روف عن د الع رب‬
‫الزند ويف ّ‬
‫ّ‬
‫الش يعة ت دين ب ه وب بعض امل ذهب ال يت تق رب من ه‬
‫األول‪ ،‬و ّ‬
‫من ذ أواخ ر الق رن ّ‬
‫والرجعة»‪)2(.‬‬
‫كاحللول ّ‬
‫املعري واض ح املع امل م ن خ الل س خطه عل ى‬
‫ال يبدو االنتماء املذهيب عند ّ‬
‫امل ذاهب ال ّديني ة كلّه ا‪ ،‬ويص عب عل ى ال ّدارس حتدي د مرجعيت ه ال ّديني ة‪ ،‬فه و‬
‫جيعل من العقل هاداي وإماما‪ ،‬ويرى أ ّن النّ اس يف مجي ع األداين والف رق تتل ّق ى‬
‫الرواي ة والنّق ل فحس ب‪ ،‬دون حب ث عقل ي أو‬
‫أص وهلا ال ّديني ة ع ن طري ق اخل رب و ّ‬
‫جهد فكري (‪:)3‬‬
‫خب ر يقلّ د مل يقس ه قائس‬ ‫الشرائع كلّ ها‬
‫والعقل يعجب و ّ‬
‫رسائس(‪)4‬‬ ‫متنصرون وهائدون‬ ‫متمجسون ومسلمون ومعش ر‬
‫تعصب أيب العالء للعقل وجعله أصال للبحث عن احلقيقة‪،‬‬
‫على الّّرغم من ّ‬
‫حىت ضاع بينها‬
‫الشمولية ّ‬
‫إالّ أ ّن سخريته جعلت آراءه تتّسم ابلتعميم و ّ‬
‫مهمة الباحثني على‬
‫صعبت ّ‬
‫وضوح القصد‪ ،‬وتوارى املعىن خلف مداراة ّ‬

‫‪ - 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.458.‬‬


‫‪ - 2‬حسني‪ ،‬طه‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬دار املعارف لصر‪ ،‬ط ‪ ،1976 ،8‬ص‪.268.‬‬
‫املعري‪ :‬اللزوميات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.28.‬‬ ‫‪ّ -3‬‬
‫السابق‪ ،‬اهلامش‪ ،‬ص‪.28.‬‬
‫‪ - 4‬رسائس‪ :‬اثبتون يف أدايّنم‪ ،‬املرجع ّ‬
‫‪240‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابلش يء وينتص ر لض ّده يف الوق ت نفس ه‪،‬‬


‫التمييز ب ني ج ّده وهزل ه‪ ،‬فه و يق ول ّ‬
‫يف ظاهر األمر على األقل‪.‬‬
‫‪ -2-5‬التلقي املفرفـ ـ ــي‪:‬‬
‫الرحلة ليجعلها وسيلة يطرح من خالهل ا آراءه‬
‫اهتدى املؤلف إىل فكرة ّ‬
‫يف قض ااي الك ون واإلنس ان بطريق ة فني ة مبتك رة‪ ،‬واعتم د يف ه ذا كلّ ه عل ى‬
‫العق ل كأص ل م ن أص ول املعرف ة‪ ،‬ليف تح مناف ذ عل ى ش واغل املس لمني وج دال‬
‫العلماء وحرية املفكرين يف عصره‪.‬‬
‫عم ق م نهج‬
‫كل ما يدعو إىل اجلمود وتص ديق األس اطري‪ ،‬و« ّ‬
‫انتقد املعري ّ‬
‫العقل يف بيئة تقيم علومها وآداهبا وفنوّنا وشرائعها وسلوكها على النّق ل فق ّدم‬
‫وظروفه ا»(‪)1‬‬ ‫أداب يق اس لق اييس ال رتاث اإلنس اين وال يق اس لق اييس أمت ه‬
‫وس خر م ن س ذاجة الع وام يف تص ديقهم لك ّل م ا ي روى م ن خراف ات‪ ،‬ولع ّل‬
‫اجلن‪ ،‬ويطارح ه أس ئلة تض منت اعتق ادات س ادت عن د‬
‫عجيبا بينه وبني أحد ّ‬
‫للجن‪.‬‬
‫الرواة‪ ،‬نسبوا فيها اخلوارق القولية والفعلية ّ‬
‫ّ‬
‫اجلّن بسؤاله عن امس ه‪ ،‬فيق ول اجل ّّن‪« :‬أان اخليتع ور أح د‬
‫يبادر ابن القارح ّ‬
‫اجلن الذين كانوا يسكنون‬
‫بّن الشيصبان‪ ،‬ولسنا من ولد إبليس ولكنّا من ّ‬

‫الش اعر املثق ف‪ ،‬جمل ة البص ائر‪ ،‬جملّ ة علمي ة حم ّكم ة تص در ع ن عم ادة‬
‫املعري وأزم ة ّ‬
‫‪ -1‬انفع‪ ،‬عبد القادر‪ّ :‬‬
‫البح ث العلم ي‪ ،‬جبامع ة البن ات األردني ة األهلي ة‪ ،‬اجمللّ د ‪ ،2‬الع دد ‪ ،01‬ذو القع دة ‪1418‬ه ‪ /‬آذار‬
‫‪1998‬م‪ ،‬ص‪.71 .‬‬

‫‪241‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫هذا ما جعله يقفز اببن القارح من اجلحيم إىل جنّة العفاريت لينشن حوارا‬
‫األرض قب ل ول د آدم ص لّى هللا علي ه» (‪ ،)1‬اّ يس أل اب ن الق ارح ع ن أخب ار‬
‫اجلن اليت مجع منها قدرا غري يسري «امل رزابين»(‪ )2‬يف كتاب ه «يف أش عار‬
‫أشعار ّ‬
‫اجل ّن»‪ ،‬ويف ه ذا إش ارة إىل ش يوع أخب ار ش عراء اجل ّن ب ني ال رواة م ن األدابء‪،‬‬
‫الشعراء امللهمني فه و النّ زر القلي ل‪ ،‬واخليتع ور يص ّدق اخل رب بقول ه‪:‬‬
‫وأ ّن ما بلغ ّ‬
‫«إّمنا كان ت ختط ر هب م أطيف ال منّ ا ع ارمون‪ ،‬فتنف ث إل يهم مق دار الض وارة م ن‬
‫النّعمان»‪)3(.‬‬ ‫آراك‬
‫يهزأ أبو العالء بطريق ة فني ة م ن م زاعم ال ّرواة ال يت أرس ت عن د الع و ّام فك رة‬
‫التحول م ن ش كل‬
‫وخباصة قدرهتم على ّ‬
‫ّ‬ ‫للجّن يف القول والفعل‪،‬‬
‫القوة اخلارقة ّ‬
‫ّ‬
‫إىل آخ ر‪ ،‬ومتثّل ت تل ك الطريق ة يف إدراج ح وار ب ني بط ل الغف ران واخليتع ور‪،‬‬
‫حيث س أل اب ن الق ارح اجل ّّن ع ن س ّر بقائ ه أش يب عل ى خ الف أه ل اجلنّ ة‪،‬‬
‫فيجيبه أبو هدر (اخليتعور) قائال‪« :‬إ ّن اإلنس أكرموا بذلك وأحرمن اه‪ ،‬أل ّان‬
‫أعطينا احلولة يف ال ّدار املاض ية‪ ،‬فك ان أح دان إن ش اء ص ار حيّ ة رقش اء‪ ،‬وإن‬
‫ش اء ص ار عص فورا و إن ش اء ص ار محام ة‪ ،‬فمنعن ا التص ّور يف ال ّدار اآلخ رة‪،‬‬
‫الصور‪.‬‬
‫نتغري‪ ،‬وع ّوض بنو آدم كوّنم فيما حسن من ّ‬
‫وتركنا على خلقنا ال ّ‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.291.‬‬
‫‪ّ -1‬‬
‫‪ - 2‬ه و حمم د ب ن عم ران ب ن موس ى‪ ،‬أب و عب د هللا الكات ب امل رزابن ول د ببغ داد س نة‬
‫‪297‬ه ‪ ،‬وت ويف هب ا س نة ‪384‬ه ‪ ،‬مؤل ف مش هور‪ ،‬وراوي ة ثق ة‪ .‬ينظ ر‪ :‬ه امش رس الة‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.291.‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.291.‬‬
‫‪ّ -3‬‬
‫‪242‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وك ان قائ ل اإلن س يق ول يف ال ّدار ال ّذاهب ة‪ :‬أعطين ا احليل ة‪ ،‬وأعط ي اجل ّن‬
‫احلولة»‪)1( .‬‬

‫يقاب ل أب و الع الء‪ ،‬بس خرية طافح ة‪ ،‬حول ة اجل ّن حبيل ة اإلن س وكأنّ ه أراد أن‬
‫يق ول أ ّن اإلنس ان ال يع دم مك را‪ ،‬وأنّ ه بنفاق ه وتزوي ره للحق ائق اس تطاع أن‬
‫اجلن فعله‪.‬‬
‫يفعل ما مل تستطع عفاريت ّ‬
‫الش عر‪ ،‬في أيت‬
‫ينتق ل أب و الع الء م ن خ الل ه ذا احل وار إىل احل ديث ع ن ّ‬
‫بقص يدة «س ينية» عل ى لس ان اجل ّّن رص د فيه ا غري ب األلف اظ ح ىت يض في‬
‫جوا من الغرابة يوهم هبا القارئ أّنا من نظم خملوق من غري بّن البشر‪،‬‬
‫عليها ّ‬
‫الش عرية ليبه ر اب ن‬
‫وهو يف الوقت نفسه يفسح لنفسه جماال الستعراض قدراته ّ‬
‫القارح وأيسره ابل ّدهشة البالغة‪ ،‬بقصيدة بلغت سبعة وستني بيتا‪ .‬ويدعم هذا‬
‫ابلس خرية املؤمل ة م ن‬
‫ال ّزعم ط ه حس ني‪ ،‬حي ث يق ول‪« :‬ورس الة الغف ران مل وءة ّ‬
‫الشعر يف رسالة الغف ران عل ى ألس نة‬
‫اجلن واملالئكة مجيعا‪ ،‬وقد ق ّدمنا أنّه نظم ّ‬
‫ّ‬
‫الس خرية‪ :‬وه ي قص يدة طويل ة‬
‫اجلن ال ذين دخل وا اجلنّ ة فق ال وإّمن ا يري د اهل زء و ّ‬
‫ّ‬
‫اجلن»‪)2(.‬‬
‫ّ‬ ‫ملئت ابلغريب‪ ،‬واشتملت على ما شاع يف النّاس من أخبار‬
‫‪ - 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.293.‬‬
‫‪ - 2‬حسني‪ ،‬طه‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.269.‬‬

‫مل يكت ف أب و الع الء ب ذكر أخب ار اجل ّن تعريض ا‪ ،‬ب ل أمع ن يف اهل زء م ن‬
‫اعتق اد الع و ّام تص رحيا‪ ،‬فه م يف نظ ره س ّذ ٌج يص ّدقون ال ّرواايت الكاذب ة دون‬

‫‪243‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أو تثبّت‪ ،‬وقد بلغ هبم األمر أن يوجد «يف النّ اس م ن يظ ّن أ ّن‬ ‫شك‬
‫ّ‬ ‫أد‬
‫العام ة‪ :‬اإلرج اف ّأول الك ون‪.‬‬
‫الش يء إذا قي ل ج از أن يق ع ول ذلك قال ت ّ‬
‫ويقال‪ :‬إ ّن النّيب‪ ،‬صلّى هللا عليه و سلّم‪ ،‬متثّل هبذا البيت ومل يتممه‪:‬‬
‫ا من حسيس‬ ‫جلّن هب‬
‫فم ا ّ‬ ‫م ّكة أقوت ن بّن ال ّدردبيس‬
‫إالّ حت ّققا(‪)1‬‬ ‫يقال لشيء كان‪،‬‬ ‫تفاءل لا هتوى‪ ،‬فلقلّم ا‬
‫يتقص د املع ّري يف غفران ه إي راد امل روايت املكذوب ة عل ى النّ يب ‪-‬ص لّى هللا علي ه‬
‫ّ‬
‫أي حتقي ق‬
‫وس لم‪ -‬ح ّىت يكش ف م دى ش يوعها ب ني النّ اس وتن اقلهم هل ا دون ّ‬
‫تفش ت‪ ،‬حس ب رأي ه‪« ،‬مل ا ض رب اإلس الم جبران ه‪،‬‬
‫أو توثي ق‪ ،‬وه ي ظ اهرة ّ‬
‫واتّس ق ملك ه عل ى أركان ه م ازج الع رب غ ريهم م ن الطّوائ ف‪ ،‬ومسع وا ك الم‬
‫األطبّاء وأصحاب اهليئة وأهل املنط ق‪ ،‬فمال ت م نهم طائف ة كث رية» (‪ ،)2‬وأف رز‬
‫تفش ت م ن ج ّراء إغف ال فاعلي ة‬
‫اجملتمع مناذج تنساق وراء خرافات ومبالغ ات ّ‬
‫اإلنسان يف الكون و تقصريه يف أداء الواجبات‪.‬‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.477 .‬‬


‫‪ّ -1‬‬
‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.420 .‬‬

‫املعري أ ّن املؤثرات اخلارجية هي وحدها اليت جتعل اإلنسان بليدا‪،‬‬


‫ال يرى ّ‬
‫بل يرجع األمر كذلك إىل فساد العقائد وانفصام عرى التوحيد وزعزعة‬
‫مفهوم القضاء والقدر عنده والنّزوع إىل هواجس النّفس ووساوسها‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫جيسد ب ه انطب اق اجله ل عل ى الع و ّام‪،‬‬


‫السياق يدرج أبو العالء مثاال ّ‬
‫ويف هذا ّ‬
‫الس نة‪ ،‬فق ال‪ :‬إن س افرت يف احمل ّرم‬
‫السفر يف ّأول ّ‬
‫وذلك حينما «أراد بعضهم ّ‬
‫كن ت ج ديرا أن أح رم‪ ،‬وإن رحل ت يف ص فر خش يت عل ى ي دي أن تص فر‪،‬‬
‫فلم ا م رض ومل حي ظ بطائ ل‪ ،‬فق ال‪ :‬ظننت ه م ن‬
‫الربي ع‪ّ ،‬‬
‫أخر س فره إىل ش هر ّ‬
‫ف ّ‬
‫(‪ )1‬األمراض»‪)2(.‬‬ ‫الرايض‪ ،‬فإذا هو من ربع‬
‫ربيع ّ‬
‫يطفح هذا احلوار بسخرية امتزجت لرارة شديدة تبطنه ا لغ ة املع ري‪ ،‬فه و‬
‫التوجس ات والتط ّريات‪،‬‬
‫تربم ه م ن عص ر س ادت في ه « ّ‬
‫يض مر م ن خالهل ا ّ‬
‫وفق دت الض وابط ال يت حتم ي الثقاف ة املثقف ني واألدابء مّ ا يس ّمى ب ذوق‬
‫اجلماهري‪ ،‬وس قط املثق ف ض حية ه ذا ال ّذوق وخض ع للعق ل الع ام للجمه ور‪.‬‬
‫عقل متضادق مع نفسه حيرتم املاضي يف إسراف يف حني ه و قلي ل املب االة‬
‫وهو ٌ‬
‫ويتجاهله»‪)3(.‬‬ ‫به إىل ح ّد العقوق‪ ،‬يق ّدس املاضي‬
‫كل رابع يوم‪ .‬ينظر‪ :‬هامش رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.482.‬‬‫الربع‪ ،‬و هي اليت تنوب ّ‬
‫‪ -1‬ربع األمراض‪ :‬محّى ّ‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.482 .‬‬
‫الشاعر املثقف‪ ،‬جملة البصائر‪ ،‬اجمللّد ‪ ،2‬العدد ‪ ،01‬ص‪.71 .‬‬
‫املعري وأزمة ّ‬
‫‪ -3‬انفع‪ ،‬عبد القادر‪ّ :‬‬

‫يب دو أب و الع الء م ن خ الل غفران ه‪ ،‬حريص ا عل ى إقن اع قارئ ه بك ّل م ا‬


‫ي ؤمن ب ه وي دعوه إىل التح ّق ق م ن ك ّل املعطي ات التارخيي ة وف ق مس ار منطق ي‪،‬‬
‫ألنّ ه ي رى أ ّن العدي د م ن املتح ّدثني ابس م ال ّدين ينقل ون األخب ار ع ن طري ق‬
‫السماع‪ ،‬ويف هذا سبيل إىل امتزاجه ا ابألراجي ف املدسوس ة‪ ،‬بقص د أو ب دون‬
‫ّ‬
‫‪245‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قص د‪ ،‬فينع دم فيه ا التناس ب م ع األحك ام العقلي ة والواق ع املش اهد‪ ،‬ومّ ا‬
‫يدعمه يف اللّزوميات قوله(‪:)1‬‬
‫بل تكذب العلم اء و األخبار‬ ‫آليت ما احلرب املداد بك اذب‬
‫هم أشبار‬ ‫ومعاش ر أ ّم اتّ‬ ‫زعموا رجاال كالنّخيل جسومهم‬
‫يش ري أب و الع الء م ن خ الل البيت ني إىل رواي ة أذاعه ا بع ض ال ّرواة‪ ،‬ت ر ّس خ يف‬
‫الوعي اجلماعي مقولة وجود رجال عمالقة يف املاضي‪ ،‬عاشوا عشرات القرون‬
‫تغريت األمور‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬ألسباب جيهلها العقل‪.‬‬
‫اّ ّ‬
‫يك ّذب املع ّري يف الغف ران ه ذه االف رتاءات بطريق ة عقليّ ة‪ ،‬إذ ي ربط األش ياء‬
‫احلاضرة ابملاضي وفق ض رورة وس ببية حتمي ة‪ ،‬وي رى أ ّن ك ّل م ا ال يتقبل ه عق ل‬
‫احلاضر فهو غري مكن الوقوع يف األزمنة الغابرة‪ ،‬أل ّن القانون الكوينّ واحد ال‬
‫يتغ ّري بتغ ّري األش ياء‪ ،‬ب ل األش ياء ه ي ال يت تتغ ّري لقتض اه و«ال ّزمن كلّ ه عل ى‬
‫سجيّة واحدة‪ ،‬فالذي شاهده مع ّد بن عدانن كالذي شاهده نضاد ولد‬

‫املعري‪ :‬اللّزوميات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.309 .‬‬


‫‪ّ -1‬‬

‫آدم»‪)1(.‬‬

‫سلك أبو العالء يف أدبه ‪-‬شعرا ونث را‪ -‬مس ارا واح دا‪ ،‬فه و حي اول التميي ز‬
‫الزائ ف املكتس ب م ن اجملتم ع‬
‫ب ني العق ل احلقيق ي وه و فعالي ة املعرف ة والعق ل ّ‬
‫الزي ف‬
‫يتم جتلية العقل من ه ذا ّ‬
‫وهو جمموعة معارف قبلت دون فحص‪ ،‬وكي ّ‬
‫‪246‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ال ب ّد أن يق وم الف رد ابلنّظ ر يف تل ك املعطي ات االجتماعي ة‪ ،‬وحتليله ا وف ق‬


‫الص دأ الفك ري ال ذي «حي ول ب ني الف رد والفك ر‬
‫تناسب منطقي‪ ،‬فين زاح ذل ك ّ‬
‫الصحيح وينبع م ن خمالط ة العق ل لألابطي ل واملس لّمات واألفك ار والفلس فات‬
‫ّ‬
‫صدإ كثيف»‪)2(.‬‬ ‫اليت ترتاكم عليه مثل‬
‫لق د اس تطاع املع ّري أن يعك س ذل ك التج اذب املري ر ب ني قط يب العق ل‬
‫والنق ل ال ذي ش هدته الثقاف ة العربي ة واإلس المية يف عص ره‪ ،‬فه و ي رفض قب ول‬
‫التفاس ري اجل اهزة ‪ ،‬وي دعو ‪-‬يف مقاب ل ذل ك‪ -‬إىل ض رورة التس اؤل حبري ة‬
‫ئن للمس لّمات ال يت تق وم عل ى‬
‫للبح ث ع ن اليق ني وزعزع ة املعرف ة ال يت تطم ّ‬
‫وخباص ة املعرف ة الديني ة‪« ،‬وم ن هن ا‪ ،‬يكش ف ع ن املكب وت يف‬
‫ّ‬ ‫حق ائق ّنائي ة‬
‫عصره‪ ،‬ويدعو إىل التفكري يف ما ال يتاح بيسر‪ ،‬التفكري فيه‪ ،‬إنّه رمز للخ روج‬
‫أتت»‪)3(.‬‬ ‫عن املذهبيات ّأاي كانت‪ ،‬واليقينيات من أيّة جهة‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.359 .‬‬ ‫‪ّ –1‬‬
‫‪ - 2‬الش يخ العاليل ي‪ ،‬عب د هللا ‪ :‬املع ّري ذل ك اجمله ول‪ ،‬رحل ة يف فك ره و عامل ه النّفس ي‪،‬دار اجلدي دة‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1995 ،3‬ص‪.124.‬‬
‫‪ -3‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬حماضرات ألقيت يف الكوليج دو فرانس‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬لبن ان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫حزيران (يونية)‪ ،1985 ،‬ص‪.68.‬‬
‫سعى أبو العالء من خ الل رس الة الغف ران إىل التش كيك يف ك ّل املف اهيم‬
‫اليت رسخت يف أذهان العوام يف عص ره‪ ،‬وي دعو‪ ،‬يف الوق ت نفس ه‪ ،‬إىل تن اول‬
‫جريء للمسكوت عنه يف املعارف ال ّدينية والسياسية واألدبية‪ ،‬لكنّه سلك يف‬
‫ذلك سبيال جعلته حمفوفا بكثري م ن الغم وض واملفارق ات‪ ،‬ح ّىت أ ّن هن اك م ن‬

‫‪247‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ي رى أ ّن«عقالنيّ ة أيب الع الء ال يت تكش ف عنه ا إاثرت ه موض وع اجلنّ ة الن ار‪،‬‬
‫والثّواب والعقاب يف اآلخرة‪ ،‬ع رب ه ذه الرحل ة اخليالي ة‪ ،‬تص له ابلتي ار العق الين‬
‫ايل الق ائم‬
‫في‪ ،‬وميك ن الق ول ّإّن ا تص له ابلفك ر االعت ز ّ‬
‫ري والفلس ّ‬
‫يف تراثن ا الفك ّ‬
‫ومتجيده»‪)1(.‬‬ ‫على اإلعالء من شان العقل‬
‫‪ -3-5‬التلقي الفين‪:‬‬
‫ط اف أب و الع الء ع ن طري ق الس ارد ابب ن الق ارح يف رحل ة مساوي ة‪ ،‬التق ى فيه ا‬
‫الش عراء‪ ،‬واللّغ ويني‪ ،‬ب دءا م ن اجلاهلي ة‪ ،‬وانته اء ابلق رن اخل امس‬
‫لعظ م ّ‬
‫اهلجري‪ ،‬وهبذا «مي ّدان النص أيضا بعم ل آخ ر لل راوي‪ ،‬وه و املتمثّل يف تفس ري‬
‫ّ‬
‫بع ض االس تعماالت اللّغوي ة‪ ...‬ويف تعلي ل بع ض اخل وارق»(‪ ،)2‬فق د ّاخت ذ م ن‬
‫الش عر‬
‫س األدب و ّ‬
‫الرحل ة مطيّ ة للتّعب ري ع ن مواقف ه إزاء بع ض القض ااي ال يت مت ّ‬
‫ّ‬
‫خاصة‪ .‬وكي يتأتّى له ذلك‪ ،‬ارتضت خميّلته أن جيمع هؤالء األدابء يف جمالس‬
‫ّ‬
‫متع ّددة ووالئم فاخرة‪ ،‬وما هي إالّ لعبة فنيّة ابتكرها املؤلف الضمّن خلطاب‬
‫‪ -1‬كم ال ال رويب‪ ،‬ألف ت‪ :‬بالغ ة التوص يل وأتس يس الن وع‪ ،‬حت ّول الرس الة وب زوغ ش كل قصص ي يف رس الة‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.77 .‬‬
‫‪ -2‬الواد‪ ،‬حسني‪ :‬البنية القصصية يف رسالة الغفران‪ ،‬ص‪69 .‬‬

‫أهم وظائف ه أنّه‬


‫القص‪ ،‬ومن ّ‬
‫مهما يف عملية ّ‬
‫يؤدي الشعر دورا ّ‬
‫حىت « ّ‬
‫الغفران ّ‬
‫بنعيمها»‪)1(.‬‬ ‫جواز مرور لدخول اجلنّة والتمتّع‬
‫وع ّرب ع ن ه ذا اجلم ع التخييل ي بقول ه‪« :‬ويب دو ‪-‬أيّ د هللا جم ده ابلتأيي د‪ -‬أن‬
‫يض ع مأدب ة يف اجلن ان‪ ،‬جيم ع فيه ا م ن أمك ن م ن ش عراء اخلض رمة واإلس الم‬
‫‪248‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أص لوا ك الم الع رب وجعل وه حمفوظ ا يف الكت ب وغ ريهم مّ ن يت انس‬


‫وال ذين ّ‬
‫األدب»‪)2(.‬‬ ‫بقليل‬
‫الشعراء واللّغويني‪ ،‬بوص فها جم ّرد رغب ة‬
‫مهد أبو العالء لفكرة حشد هؤالء ّ‬
‫ّ‬
‫خط رت لبط ل الغف ران‪ ،‬وه و هب ذه احليل ة الفنيّ ة مت ّك ن م ن مج ع م ا أمك ن م ن‬
‫الش عراء وم ن ل ه اهتم ام ابألدب‪ ،‬م ن قري ب أو م ن بعي د‪ ،‬ليفس ح جم اال رحب ا‬
‫ّ‬
‫ملناقشة أه ّم القضااي النّقدية املطروحة يف عصره‪ ،‬فهو «ي ورد طائف ة م ن أخب ار‬
‫الش عراء واألدابء ونتف ا م ن أش عارهم وملحه م ويض يف إليه ا ح وارا ك ان يق ع‬
‫ّ‬
‫الش عراء أنفس هم وجيع ل‬
‫مثل ه ب ني النّح اة وال ّرواة مّ ن تق ّدم ه فيع زوه ه و إىل ّ‬
‫الش عراء مرجع ه ال ذي يفص ل ل ه م ا فيم ا ك ان م ن اخل الف عل ى حل ن‬
‫أولئ ك ّ‬
‫ترامجهم‪)3( ».‬‬ ‫عباراهتم وضبط ألفاظهم ونوادر‬

‫‪ -1‬كم ال ال رويب‪ ،‬ألف ت‪ :‬بالغ ة التوص يل وأتس يس الن وع‪ ،‬حت ّول الرس الة وب زوغ ش كل قصص ي يف رس الة‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.105 .‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.268.‬‬
‫‪ّ -2‬‬
‫‪ -3‬الع ّقاد‪ ،‬عبّاس حممود‪ :‬مطالعات يف الكتب واحلياة‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬اجمللّد اخلامس والعشرون‪،‬‬
‫األدب والنّقد‪ ،‬دار الكتاب اللّبناين‪ ،‬ط‪1403 ،1‬ه ‪1983 /‬م‪ ،‬ص‪.118 .‬‬

‫الش عراء يف جنّ ة الغف ران قض ية‬


‫وم ن أه ّم القض ااي النّقدي ة ال يت ش غلت ّ‬
‫الس رقات‬
‫الش عر‪ ،‬وقض يّة مع ايريه‪ ،‬ومق اييس اجل ودة في ه‪ ،‬وقض يّة ّ‬
‫تعري ف ّ‬
‫أهم ما شغل اللّغويني بع ض خترجي ات النّح اة‬
‫الشعر‪ .‬ومن ّ‬
‫الشعريّة‪ ،‬وموسيقى ّ‬
‫ّ‬
‫املتكلّف فيها‪ ،‬وال يت ب دت يف كث ري م ن املواض ع ‪-‬يف نظ رهم‪ -‬قلق ة‪ ،‬وم ن اّ‪،‬‬
‫‪249‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السماع والقي اس‪ ،‬والتحقي ق يف فص احة‬


‫كان من املناسب عرض مواقفهم من ّ‬
‫بعض األلفاظ مبىن ومعىن‪.‬‬
‫الش واهد ال واردة يف رس الة‬
‫وعل ى ه ذا الرتتي ب‪ ،‬س يتعرض البح ث أله ّم ّ‬
‫الش عراء‬
‫الغف ران‪ ،‬ال يت تناول ت ه ذه القض ااي والتّع رف عل ى أص حاهبا م ن ّ‬
‫واللّغويني‪.‬‬
‫أ‪ -‬مفهوم الشـ ـ ـ ــفر‪:‬‬
‫للش عر مييّ زه ع ن‬
‫اس تفرغ النّ ّق اد اجله د ‪-‬ق دميا وح ديثا‪ -‬يف وض ع ح ّد ّ‬
‫غي ره م ن الفن ون األدبي ة‪ ،‬وم ن أه ّم التعريف ات ال يت ت ّرددت عن دهم تعري ف‬
‫دل عل ى‬
‫فالش عر عن ده‪« :‬ق ول م وزون مق ّف ى ي ّ‬
‫«قدامة بن جعفر» (‪327‬ه )‪ّ ،‬‬
‫الشعر يف الغفران‪ ،‬قد ورد يف موقف احلشر على لسان‬
‫معىن»(‪ّ ،)1‬أما تعريف ّ‬
‫الس ارد الفرع ّي عن دما رام التّق ّرب م ن خ ازن اجلن ان املل ك «رض وان» ب بعض‬
‫األبيات‪ ،‬فيسأله امللك مستغراب «ما األشعار؟»‪ ،‬فيجيبه قائال‪« :‬األشعار‬
‫حممد عبد املنعم خ ّفاجي‪ ،‬دار الكتب العلميّة‪،‬‬
‫الشعر‪ ،‬حتقيق ّ‬
‫‪ - 1‬قدامة بن جعفر‪ ،‬أبو الفرج‪ :‬نقد ّ‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.64.‬‬

‫الش عر ك الم م وزون تقبل ه الغري زة عل ى ش رائط إن زاد أو نق ص‬


‫مج ع ش عر‪ ،‬و ّ‬
‫والسادات»‪)2(.‬‬
‫يتقربون به إىل امللوك ّ‬
‫احلس‪ ،‬وكان أهل العاجلة ّ‬
‫أابنه ّ‬
‫الش عر مّا حص ره في ه قدام ة ب ن جعف ر‪ ،‬م ن كون ه ق ول‬
‫خي رج املؤل ف تعري ف ّ‬
‫دل عل ى مع ىن‪ ،‬إىل تعري ف جدي د حيت ّل في ه ال ّذوق مكان ة‬
‫مقيّد بوزن وقافية‪ّ ،‬‬
‫‪250‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الص فية‪ ،‬والفط رة النّقيّ ة عن د‬


‫أوىل‪ ،‬ويرج ع احلك م عل ى اجل ودة إىل القرحي ة ّ‬
‫الش عر‬
‫حبس ه‪ ،‬وإن ش ابت ه ذه الفط رة ش ائبة جعل ت م اء ّ‬
‫املتلق ي‪ ،‬فه و يبين ه ّ‬
‫ينضب منه‪.‬‬
‫ب‪ -‬طبقات الشفراء‪:‬‬
‫الشعر إىل مقياسني ابرزين‪:‬‬
‫الشعراء بينهم يف ّ‬
‫أرجع املؤلّف تفاضل ّ‬
‫الس بك‬
‫ّأوهلم ا غ زارة ال نّظم وط ول ال نّفس في ه‪ .‬و ّأم ا اثنيهم ا فإيث ار حس ن ّ‬
‫واجل ودة يف ال نّظم عل ى اإلكث ار واإلطال ة‪ .‬وق د أورد ه ذين املقياس ني يف ح وار‬
‫دي واألعش ى‪ ،‬ي دافع ك ّل واح د‬
‫شائق بني شاعرين مع روفني‪ ،‬مه ا النّابغ ة اجلع ّ‬
‫وإين ألط ول من ك نفس ا‪ ،‬وأكث ر‬
‫األول يتب اهى ق ائال‪ّ « :‬‬
‫منهم ا ع ن رأي ه‪ ،‬ف ّ‬
‫قبل ي»‪)2(.‬‬ ‫تص ّرفا ولق د بلغ ت بع دد البي وت م ا ال يبلغ ه أح د م ن الع رب‬
‫الش عر إّمن ا تع ود إىل ط ول ال نّفس وس عة‬
‫دي ي رى أ ّن ج ودة ّ‬
‫فالش اعر اجلع ّ‬
‫ّ‬
‫الرأي الثّ اين‬
‫صرف يف اللّغة واملعاين‪ ،‬والق درة على متطيط الق ول‪ّ .‬أم ا ّ‬
‫التّ ّ‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.250.‬‬
‫‪ّ -1‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.229.‬‬

‫الش عر ال يق اس‬
‫ال ذي ميثّل ه األعش ى فه و خمتل ف ع ن س ابقه‪ ،‬فه و ي رى أ ّن ّ‬
‫الص يغ‬
‫الش اردة و ّ‬
‫بطول النّفس‪ ،‬أل ّن الطول يفسد على صاحبه اقتناص املعاين ّ‬
‫املبتك رة‪ ،‬فيق ع يف اإلس فاف واالبت ذال‪ ،‬وه ذا ش بيه حباط ب لي ل‪ ،‬إذ جيعل ه ال‬
‫الش عر ورديئ ه‪ ،‬ويلجئ ه ه ذا إىل لغ ة مرتاكم ة تفتق ر إىل‬
‫مييّ ز ب ني اجليّ د م ن ّ‬
‫‪251‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فإّن ا‬
‫التمح يص والتّنق يح‪ .‬وإذا كان ت القص يدة الطّويل ة هب ذه األوص اف ّ‬
‫السبك واإلتقان‪ ،‬وهبذه املع اين ي ّرد‬
‫تضمحل وتتالشى أمام بيت واحد حسن ّ‬
‫ّ‬
‫أبو بصري على النّابغة قائال‪« :‬وإ ّن بيتا مّا بنيت ليعدل لائة من بنائك وإن‬
‫اللّيل‪)1( ».‬‬ ‫أسهبت يف منطقك فإ ّن املسهب كحاطب‬
‫دي ش اع عن د‬
‫مل ح املع ّري‪ ،‬م ن خ الل ه ذه املن اظرة الطّريف ة‪ ،‬إىل رأي نق ّ‬
‫النّ ّق اد‪ ،‬ومل يص ّرح ابس م ص احبه‪ ،‬وه و ‪-‬عل ى األرج ح‪ -‬اب ن س الّم اجلمح ّي‪،‬‬
‫الش عراء (‪ )2‬يواف ق م ا ذك ره املع ّري عل ى لس ان النّابغ ة‬
‫أل ّن رأي ه يف طبق ات ّ‬
‫دي يف قول ه لألعش ى‪« :‬أغ شرك أن ع شدك بع ض اجل ّه ال راب ع ّ‬
‫الش عراء‬ ‫اجلع ّ‬
‫الش عراء الفح ول‪:‬‬
‫األربع ة؟» (‪ ،)3‬واب ن س يفّم ق د جع ل يف الطّبق ة األوىل م ن ّ‬
‫امرأ القيس وانبغة بّن ذبيان وزهري بن أيب سلمى واألعشى‪ ،‬ا وقف عند‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.229.‬‬
‫ابلرجوع إىل مؤلّف‬
‫رجح هذا ّ‬‫الشاطن املالحظة‪ ،‬والبحث ّ‬
‫‪ -2‬أبدت حم ّققة رسالة الغفران الدكتورة بنت ّ‬
‫الشعراء)‪ ،‬ينظر املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬هامش ص‪.229 .‬‬
‫ابن سالّم اجلمحي (طبقات ّ‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.229 .‬‬
‫‪ّ -3‬‬

‫خص ائص ك ّل ش اعر م ن األربع ة فق ال ع ن األعش ى‪« :‬ه و أكث رهم عروض ا‬
‫الشعر‪ ،‬وأكثرهم طويل ة جيّ دة وأكث رهم م دحا وهج اء ونظ را‬
‫وأذهبهم يف فنون ّ‬
‫وصفة»‪ّ )1(.‬أما النّابغة اجلعدي فق د جعل ه يف الطّبق ة الثّالث ة لكون ه جيم ع ب ني‬
‫الشعر ورديئه‪ ،‬وأييت على وصفه يف طبقات ه بقول ه‪« :‬وك ان النّابغ ة ش اعرا‬
‫جيّد ّ‬

‫‪252‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قدمي ا مفلق ا ف ي اجلاهلي ة واإلس الم [‪ ]...‬مثل ه مث ل ص احب اخللق ان ت رى‬


‫مسل كساء»‪)2(.‬‬ ‫خز إلل ى جنبه‬
‫عنده ثوب ّ‬
‫الش اعرين‪ ،‬أن ي ربز مقي اس‬
‫قص د املع ّري م ن خ الل عرض ه هل ذا التّفاض ل ب ني ّ‬
‫الش عر‬
‫النّقد عند العرب‪ ،‬فابن سالّم سعى يف طبقاته إىل مواكبة حركة تّدوين ّ‬
‫الش عر م ن األدابء وال ّرواة‪ ،‬وح اول متح يص األخب ار‬
‫متذوق ة ّ‬
‫بتجمي ع م ا قال ه ّ‬
‫الش عراء معتم دا عل ى املخ زون الثّق ايف جملتمع ه‪ ،‬وعل ى‬
‫وت دقيقها‪ ،‬وق د ص نّف ّ‬
‫قدي اخلاص به‪.‬‬
‫رأيه النّ ّ‬
‫ويف وس ط ه ذه اخلص ومة يس مع ص وت املع ّري اخلاف ت ال ذي ي ؤمن ابجل ودة‬
‫االجت اه يف‬
‫السهولة‪ ،‬وم ا لزوميات ه إالّ ش اهد عل ى ولع ه هب ذا ّ‬
‫ويكره اإلسفاف و ّ‬
‫اإلب داع‪ ،‬فق د تف نّن يف وض ع القي ود إظه ارا ملهارت ه يف ال نّظم اجليّ د ش كال‬
‫ومضموان‪.‬‬

‫الشعراء‪ ،‬دار الكتب العلميّة‪ ،‬ط ‪ ،2‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1988 ،‬ص‪.‬‬


‫‪ -1‬اجلمحي‪ ،‬ابن سالّم‪ :‬طبقات ّ‬
‫‪.53‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.53 .‬‬
‫الش اعرين‪ ،‬أن ي ربز مقي اس‬
‫قص د املع ّري م ن خ الل عرض ه هل ذا التّفاض ل ب ني ّ‬
‫الش عراء ال ذين أخلّ وا بقواع د‬
‫الص ارم م ن ه ؤالء ّ‬
‫ولتأكي د املع ّري عل ى موقف ه ّ‬
‫مير أببيات ليس هل ا‬
‫فّن‪ ،‬جعل فيه بطل الغفران « ّ‬
‫الفن‪ ،‬اهتدى إىل خمرج ّ‬
‫هذا ّ‬
‫جز»‪)1(.‬‬
‫الر ش‬
‫ُّ‬ ‫مسوق أبيات اجلنّة‪ ،‬فيسأل عنها فيقال‪ :‬هذه جنّة‬

‫‪253‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الر ّج از إىل اجلنّ ة‪ ،‬إالّ أنّ ه ميّ زهم بقص ر‬


‫فعل ى ال ّرغم م ن إدخ ال أيب الع الء ّ‬
‫الس خرية واالمته ان‪ ،‬فه م يف جنّ ة ط اب نعيمه ا‬
‫بي وهتم‪ ،‬ويف ه ذا إمع ان يف ّ‬
‫وكثرت قص ورها‪ ،‬وال جي د هل م إالّ ه ذه البي وت القص رية‪ ،‬ويقاب ل ض الة الثّواب‬
‫روي‬
‫ب رداءة الشرج ز‪ ،‬وي رى أ ّن ه ذا النّ وع م ن ال ّش عر ينس حب علي ه احل ديث امل ّ‬
‫ب مع ايل األم ور ويك ره‬
‫ع ن رس ول هللا ‪-‬ص لّى هللا علي ه وس لّم‪« :-‬إ ّن هللا حي ّ‬
‫الرج ز مل ن سفس اف الق ريض»(‪ ،)1‬وإ ّن انظمي ه ال يرتق ون إىل‬
‫سفسافها وإ ّن ّ‬
‫الشعراء‪.‬‬
‫مرتبة الفحول من ّ‬
‫ذم هل م‪ ،‬س خرية اب ن الق ارح م ن رؤب ة ب ن‬
‫وم ن أط رف م ا ورد يف الغف ران م ن ّ‬
‫العج اج بقول ه‪« :‬ل و س بك رج زك ورج ز أبي ك مل خت رج من ه قص يدة‬ ‫ّ‬
‫مستحس نة‪ ]...[،‬ولق د كن ت أتخ ذ ج وائز املل وك بغ ري اس تحقاق‪ ،‬وإ ّن غ ريك‬
‫الصالت‪)2( ».‬‬
‫و ّ‬ ‫أوىل ابألعطية‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.373.‬‬


‫‪ّ 1‬‬
‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.375 .‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.376 375 .‬‬

‫الش اعر رؤب ة وأمثال ه دون‬


‫موج ة إىل ّ‬
‫يبدو للوهل ة األوىل أ ّن س خرية أيب الع الء ّ‬
‫س واهم‪ ،‬إذ ين الون أبرج ازهم األعطي ات‪ ،‬ولك ّن يف ذل ك ق دح لس المة أذواق‬
‫الش عر وس يلة‬
‫م ن ج ادوا عل يهم أبم واهلم‪ ،‬وطرب ت أمس اعهم لقريض هم‪ .‬وجع ل ّ‬

‫‪254‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فالش عر‪،‬‬
‫الش اعر يف جنّ ة أيب الع الء‪ّ ،‬‬
‫كس ب ه و اآلخ ر ي زري لكان ة ّ‬
‫للتّ ّ‬
‫ابلنّسبة إليه‪ ،‬رسالة أخالقية يلتزم هبا صاحبها‪.‬‬
‫الشعر‪ ،‬إذن‪ ،‬بسالمة النّية‪ ،‬وش رف املقص د‪ ،‬فوج د يف‬
‫ربط املؤلف جودة ّ‬
‫هذا فرص ة س احنة لإليق اع ببط ل غفران ه يف ش رك اإلس فاف واالبت ذال‪ ،‬وذل ك‬
‫حينم ا س ّولت ل ه نفس ه (اب ن الق ارح) أن يس تعطف خ ازين اجلنّ ة «رض وان»‬
‫الش عر ق د نظمه ا يف م دحهما مقاب ل أن يفتح ا ل ه ابب‬
‫و«زف ر» أببي ات م ن ّ‬
‫الرج اء‪ ،‬وم ا يزي د اب ن الق ارح‬
‫اجلنّة لل ّدخول‪ ،‬فاستعجما قوله‪ ،‬وص رفاه خائ ب ّ‬
‫مسخا وجيعله مدع اة لالستهزاء إعالنه عن ش قائه يف ال ّدني ا وخب ل م ن تق ّرب‬
‫إل يهم أبدب ه‪ ،‬فق ال‪« :‬لق د ش قيت يف ال ّدار العاجل ة جبم ع األدب‪ ،‬ومل أح ظ‬
‫الرؤس اء‪ ،‬فأحتل ب م نهم د شر بك يء‪ ،‬وأجه د‬
‫أتقرب ب ه ّ‬
‫منه بطائل‪ ،‬وإّمنا كنت ّ‬
‫أخالف مصور»‪ )1(.‬أي أن يطمع يف عطاء رئيس أشبه ما يك ون بناق ة خبيل ة‬
‫اللّنب بطيئته(‪ ،)2‬ويؤّكد أبو العالء املعىن ذاته يف موضع آخر‪ ،‬يف سياق‬
‫السابق‪ ،‬ص ص‪.293 -292 .‬‬ ‫‪ 1‬املرجع ّ‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬هامش ص‪.293 .‬‬

‫الرج ل؟» جييب ه‬


‫حديث ابن القارح مع إبليس يف اجلحيم‪ ،‬فيسأله ه ذا‪ « :‬م ن ّ‬
‫اب ن الق ارح‪« :‬أان ف الن اب ن ف الن م ن أه ل حل ب‪ ،‬كان ت ص ناعيت األدب‪،‬‬
‫الص ناعة‪ّ ،‬إّن ا هت ب غ شف ة م ن الع يش ال‬
‫أتق ّرب ب ه إىل املل وك! فيق ول‪ :‬ب ئس ّ‬

‫‪255‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫وإّنا ملزلّة ابلقدم وكم أهلكت مثلك! فهنيئ ا ل ك إذ جن وت‪،‬‬


‫يتّسع هبا العيال‪ّ ،‬‬
‫اّ أوىل!» (‪)1‬‬ ‫فأوىل لك‬
‫ف إبليس اللّع ني يلع ن ص ناعة اب ن الق ارح‪ ،‬ويراه ا هت ب ص احبها ش ظفا يف‬
‫ورث ص احبها‬
‫الع يش‪ ،‬وتض ييقا عل ى م ن يع ول‪ ،‬واألخط ر م ن ذل ك ّأّن ا ت ّ‬
‫وقل من ينجو من مزالقها‪.‬‬
‫النّدامة يف ال ّدنيا واآلخرة‪ّ ،‬‬
‫ج‪ -‬يف رواية الشفر‪:‬‬
‫أظه ر عل قي ب ن منص ور‪ ،‬م ن خ الل رس الته إىل املع ّري‪ ،‬قدرت ه عل ى‬
‫الش عر واالستش هاد أبق وال ال ّرواة والنّ ّق اد‪ ،‬فل م يش أ أن حيرم ه أب و‬
‫استحض ار ّ‬
‫الس ماوية‪ ،‬فجعل ه أحف ظ س ّكان‬
‫الرحل ة ّ‬
‫الع الء م ن ه ذه النّعم ة وه و بط ل ّ‬
‫اجلنّ ة والنّ ار‪ ،‬وه و يفتخ ر هب ذا ويش كر هللا علي ه‪ ،‬وق د بل غ ب ه األم ر أن ك ان‬
‫الش عراء عل ى س المة ذاكرت ه م ن النّس يان‪ ،‬ومتيّ زه‬
‫تعج ب كث ري م ن ّ‬
‫مص در ّ‬
‫عرب عن‬
‫أيب الذي ّ‬
‫حبافظة قويّة‪ ،‬ومن هؤالء الشعراء الذين أهبرهم متيم بن ّ‬

‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.309 .‬‬

‫تعجب ه بقول ه‪« :‬وإ ّن حفظ ك ملب ًق ى علي ك‪ ،‬كأنّ ك مل تش هد أه وال‬


‫ّ‬
‫احلساب»‪)1(.‬‬

‫الشماخ بن ضرار ال ّذبياينّ من بقاء ذاكرته ساملة على ال ّرغم‬


‫يتعجب منه ّ‬
‫كما ّ‬
‫عم ا أرض عت‪ ،‬وجتع ل ك ّل ذات مح ل‬ ‫كل مرضعة ّ‬ ‫من أهوال احلشر اليت تذهل ّ‬
‫‪256‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫تض ع محله ا‪ ،‬فيق ول‪« :‬وق د ش هدت املوق ف‪ ،‬فالعج ب ل ك إذ بق ي مع ك‬


‫إين كن ت أخل ص ال ّدعاء يف‬
‫الش يخ [اب ن الق ارح]‪ّ :‬‬
‫ش يء م ن روايت ك! فيق ول ّ‬
‫الصلوات‪ ،‬قبل أن أنتقل من تلك ال ّدار‪ ،‬أن ميتّعّن هللا أبديب يف ال ّدنيا‬
‫أعقاب ّ‬
‫احلميد»‪)2(.‬‬ ‫واآلخرة‪ ،‬فأجابّن إىل ما سألت وهو‬
‫اعتم د أب و الع الء عل ى حافظ ة اب ن الق ارح ليح ّرك هب ا احل وار الق ائم ب ني‬
‫األديب‪ ،‬ل ا في ه م ن‬
‫شخصيات الغفران‪ ،‬وجيعله وعاء يعرض من خالله خمزونه ّ‬
‫الش عر والنّق د‪ ،‬وم ن آراء لغويّ ة خمتلف ة‪ ،‬ه ذا م ن جه ة‪ ،‬وم ن جه ة‬
‫آراء يف ّ‬
‫ص‬
‫أخ رى جعل ه حم ّل س خرية عن د إبدائ ه جه ال وس ذاجة‪ .‬وق د ت داخل يف ن ّ‬
‫الغف ران اجل ّد واهل زل‪ ،‬وال يفص ل بينهم ا إالّ حج اب ص فيق حي دث اللّ بس‬
‫املعرة يرفع ابن القارح حينا وخيفضه أحياان‪.‬‬
‫بينهما‪ ،‬وإ ّن القارئ ليجد شيخ ّ‬

‫املعري‪ :‬رسالة الغفران ‪ ،‬ص‪.246 .‬‬


‫‪ّ -1‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.241.‬‬

‫الراوية الذي ينقل ال ّرواايت دون‬


‫الشيخ ّ‬
‫ي ابن القارح يف صورة ّ‬
‫املعر ّ‬
‫عرض ّ‬
‫الش عراء‪ ،‬وم ن‬
‫حتقيق أو ضبط‪ ،‬فيقع هبذا يف مواقف استه زاء واهتّ ام من قب ل ّ‬
‫الس الم ‪ ،-‬فينش أ بينهم ا ح وار يف غاي ة‬
‫يب آدم ‪ -‬علي ه ّ‬
‫أمهّه ا لق اؤه ابلنّ ّ‬

‫‪257‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابلس ؤال ع ن ش عر ينس ب إىل أيب البش ريّة ق ائال‪:‬‬


‫الطّرافة‪ ،‬إذ يبادر ابن القارح ّ‬
‫«اي أابان‪ ،‬صلّى هللا عليك‪ ،‬قد روي لنا عنك شعر منه قولك‪:‬‬
‫منه ا خلقن ا‪ ،‬وإليه ا نع ود‬ ‫حنن بن و األرض و س ّكاّنا‬
‫السعود‬
‫والنّحس متحوه ليايل ّ‬ ‫السعد ال يبق ى ألصحاب ه‬
‫و ّ‬
‫حق‪ ،‬وما نطق ه‬
‫متعجبا‪ :‬إ ّن هذا القول ّ‬
‫السالم‪ّ -‬‬
‫الصالة و ّ‬
‫فيجيبه آدم ‪ -‬عليه ّ‬
‫الس اعة»‪ )1(.‬إالّ أ ّن اب ن الق ارح‬
‫إالّ بع ض احلكم اء‪ ،‬ولك ّّن مل أمس ع ب ه ح ّىت ّ‬
‫الس الم‪ -‬هل ا بنس يانه‬
‫الرواي ة‪ ،‬ويعلّ ل إنك ار آدم ‪ -‬علي ه ّ‬
‫يص ّر عل ى ص دق ّ‬
‫الس الم‪-‬‬
‫املعه ود‪ ،‬ويس عى إىل إي راد األدلّ ة ك ي يقنع ه‪ ،‬فيجيب ه آدم ‪-‬علي ه ّ‬
‫فلم ا‬
‫مغض با‪« :‬أبي تم إالّ عقوق ا وأذيّة! إّمن ا كن ت أتكل م ابلعربيّ ة وأان يف اجلنّ ة‪ّ ،‬‬
‫الس راينية‪ ،‬فل م أنط ق غريه ا إىل أن‬
‫هبط ت إىل األرض‪ ،‬نق ل لس اين إىل ّ‬
‫أي‬
‫ردين هللا‪ ،‬س بحانه وتع اىل‪ ،‬إىل اجلنّ ة ع ادت عل ّي العربي ة‪ .‬ف ّ‬
‫فلم ا ّ‬
‫هلكت‪ّ ،‬‬
‫الشعر‪ :‬يف العاجل ة أم اآلجل ة؟ وال ذي ق ال ذل ك‪ ،‬جي ب أن‬ ‫حني نظمت هذا ّ‬
‫املاكرة»‪)2(.‬‬ ‫يكون قاله وهو يف ال ّدار‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.360 .‬‬
‫‪ -1‬املرجع ّ‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.362 .‬‬

‫يظه ر اب ن الق ارح يف ه ذا املش هد حلوح ا‪ ،‬جلوج ا‪ ،‬مس يئا ل ألدب م ع أيب‬
‫وخاصة ملا أمع ن يف اس تفزازه ب ذكر رواي ة أخ رى‬
‫ّ‬ ‫السالم‪،-‬‬
‫ّ‬ ‫البشريّة آدم ‪-‬عليه‬
‫ّ‬
‫يقول فيها‪« :‬وكذلك يروون ‪-‬صلّى هللا عليك‪ -‬ملا قتل «قابيل»«هابيل»‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪258‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫فوج ه األرض مغب ّر قبي ح‬ ‫تغيّ رت البالد و م ن عليه ا‬


‫وغودر يف الثّرى الوجه املليح(‪)1‬‬ ‫وأودى رب ع أهلي ها فب ان وا‬
‫رد م ن‬
‫أدى ب ه ذل ك إىل مس اع ّ‬
‫أف رط اب ن الق ارح يف إغض اب أيب البش ريّة‪ ،‬ف ّ‬
‫الص الة‬
‫الدعاءات ه وأابطيل ه‪ ،‬فق ال ل ه آدم ‪-‬علي ه ّ‬
‫ج نس إس اءته‪ ،‬ح ّدا ّ‬
‫متهوك ون! آلي ت م ا‬
‫الض اللة ّ‬
‫ّن! إنّك م يف ّ‬
‫علي بكم معشر أبي ّ‬
‫السالم‪«:‬أعزز ّ‬
‫و ّ‬
‫نطق ت ه ذا النّظ يم‪ ،‬وال نط ق يف عص ري‪ ،‬وإّمن ا نظم ه بع ض الف ارغني‪ ،‬ف ال‬
‫ح ول وق ّوة إالّ ابهلل! ك ذبتم عل ى خ القكم و ربّك م‪ ،‬اّ عل ى آدم أب يكم‪ ،‬اّ‬
‫عل ى ح ّواء ّأمك م‪ ،‬وك ذب بعض كم عل ى بع ض‪ ،‬وم الكم يف ذل ك إىل‬
‫األرض»‪)2(.‬‬

‫مل يقص د أب و الع الء‪ ،‬م ن خ الل ه ذا ال ّرد‪ ،‬اب ن الق ارح عل ى وج ه اخلص وص‪،‬‬
‫وجه نقده إىل تيار م ن املف ّس رين ال ذين اعتم دوا التّفس ري ابمل أثور‪ ،‬وأوردوا‬
‫وإّمنا ّ‬
‫صحتها وختريج نصوصها إالّ يف زمن‬
‫الرواايت املختلفة اليت مل ينظر يف درجة ّ‬
‫ّ‬
‫السابق ‪ ،‬ص‪.362 .‬‬
‫‪ -1‬املرجع ّ‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.364 .‬‬
‫ربي(ت ‪310‬ه )‪ ،‬وأخذ عنه من‬
‫حممد بن جرير الطّ ّ‬
‫متأخر‪ ،‬ويتق ّدم هذا التّيار ّ‬
‫ّ‬
‫يوطي (ت ‪911‬ه )‪.‬‬
‫الس ّ‬‫بعده احلافظ ابن كثري (ت ‪774‬ه )‪ ،‬وجالل ال ّدين ّ‬
‫الس الم‪ -‬رواي ة ع ن عل ّي ب ن‬
‫ربي البيتني املنسوبني إىل آدم ‪-‬عليه ّ‬
‫أورد الطّ ّ‬
‫أيب طال ب ‪ -‬ك ّرم هللا وجه ه‪ -‬دون تعقي ب أو تعلي ق (‪ ،)1‬يف ح ني‪ ،‬يطع ن‬

‫‪259‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫يب هللا آدم‬


‫صحة نسبة هذه األشعار إىل ن ّ‬
‫خمشري (ت ‪538‬ه ) يف ّ‬
‫الز ّ‬‫جار هللا ّ‬
‫الس الم‪ -‬بقول ه‪« :‬روي أ ّن آدم مك ث بع د قت ل ابن ه مائ ة س نة ال‬
‫‪-‬علي ه ّ‬
‫الشعر إالّ منحول وملح ون‪،‬‬
‫يضحكن وأنّه راثه بشعر‪ ،‬وهو كذب حبت‪ ،‬وما ّ‬
‫الشعر‪ )2( ».‬وأ ّكد هذا الق ول‪ ،‬م ن جه ة‬
‫صح أ ّن األنبياء معصومون من ّ‬
‫وقد ّ‬
‫األلوسي (ت ‪ 1270‬ه ) يف تفسريه‪ ،‬حيث يقول‪« :‬وروي ع ن‬
‫ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬اإلمام‬
‫ميم ون ب ن مه ران ع ن احل رب اب ن عبّ اس ‪-‬رض ي هللا عن ه‪ -‬أنّه ق ال‪ :‬م ن ق ال‪:‬‬
‫حمم دا ‪-‬ص لّى هللا علي ه‬
‫الس الم‪ -‬ق د ق ال ش عرا فق د ك ذب‪ .‬إ ّن ّ‬
‫آدم ‪-‬علي ه ّ‬
‫الشعر سواء‪ )3( ».‬ويقصد ابلنّ هي إشارة‬
‫وسلّم‪ -‬واألنبياء كلّهم يف النّهي عن ّ‬
‫حممد بن جرير‪ :‬جامع البيان يف تفسري القرآن‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫‪ -1‬ينظر‪ :‬الطربي‪ ،‬أبو جعفر ّ‬
‫الرابع‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.122 .‬‬ ‫‪1412‬ه ‪1992 /‬م‪ ،‬اجمللّد ّ‬
‫الكش اف ع ن حق ائق التّنزي ل وعي ون‬
‫ارزمي ‪ ،‬أب و القاس م ج ار هللا حمم ود ب ن عم ر‪ّ :‬‬
‫ري اخل و ّ‬ ‫الزخمش ّ‬
‫‪ّ -2‬‬
‫يب وأوالده ‪ ،‬مص ر‪ ،‬الطّبع ة األخ رية‪،‬‬
‫األقاوي ل يف وج وه التأوي ل‪ ،‬ش ركة مكتب ة ومطبع ة مص طفى الب ايب احلل ّ‬
‫‪1392‬ه ‪1972 /‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.608.‬‬
‫دادي‪ ،‬أب و الفض ل ش هاب ال ّدين الس يّد حمم ود‪ :‬روح املع اين يف تفس ري الق رآن العظ يم‬
‫‪ -3‬األلوس ّي البغ ّ‬
‫الس بع املث اين‪ ،‬حتقي ق األس تاذ س يّد عم ران‪ ،‬دار احل ديث‪ ،‬الق اهرة‪ ،‬طبع ة ‪ 1426‬ه ‪2005 /‬م‪ ،‬اجمللّ د‬
‫و ّ‬
‫الثالث‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص‪.402 .‬‬
‫إىل قول ه تع اىل‪﴿ :‬ومــا علمنــاو الشــفر ومــا ينبغــي لــه إن هــو إال ذكــر وقــرآن‬
‫مبني﴾‪)1(.‬‬

‫ويلخص هذه اآلراء اليت توافق ما ذهب إليه أبو العالء على لسان آدم‬
‫ّ‬
‫حممد أبو شهبة يف كتابه «اإلسرائيليات‬‫حممد بن ّ‬ ‫السالم‪ّ -‬‬‫‪-‬عليه ّ‬
‫الشعر منحول و«أنّه يف‬
‫يرجح أ ّن هذا ّ‬
‫واملوضوعات يف كتب التّفسري»‪ ،‬إذ ّ‬
‫‪260‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ائيلي‪ ،‬ليس له‬


‫الشعر من اختالق إسر ّ‬
‫الركاكة‪ ،‬واألشبه أن يكون هذا ّ‬ ‫غاية ّ‬
‫قصاص يريد أن يستويل على قلوب النّاس لثل‬
‫ظ قليل‪ ،‬أو ّ‬
‫من العربيّة إالّ ح ّ‬
‫اهلراء»‪)2(.‬‬ ‫هذا‬
‫نص الغفران‪ ،‬سبّاقا إىل الطّع ن يف‬
‫كان أبو العالء‪ ،‬هبذه اآلراء املبثوثة يف ّ‬
‫الش عر املنح ول‪ ،‬بك ّل ج رأة‪ ،‬حم ّكم ا عقل ه‪ ،‬ومس تنريا للكات ه‬
‫ص ّحة ه ذا ّ‬
‫الراس خني يف العل م‪ ،‬و ق د ص ّرح يف غفران ه‬
‫املفس رين ّ‬
‫األدبي ة‪ ،‬قب ل كث ري م ن ّ‬
‫تردد يف قوله‪ « :‬كذبتم على آدم أبيكم‬
‫السالم‪ -‬دون ّ‬
‫على لسان آدم ‪-‬عليه ّ‬
‫‪)3(.»...‬‬

‫‪ 1‬سورة يس‪ :‬اآلية‪.69 .‬‬


‫الس لفية‬
‫حمم د‪ :‬اإلس رائيليات واملوض وعات يف كت ب التّفس ري‪ ،‬مكتب ة الس نّة‪ ،‬ال ّدار ّ‬
‫حممد بن ّ‬
‫‪ 2‬أبو شهبة‪ّ ،‬‬
‫لنشر العلم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪1408 ،4‬ه ‪ ،‬ص‪.184 .‬‬
‫املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬ص‪.364 .‬‬
‫‪ّ 3‬‬

‫الش عر‪ ،‬ب ل جع ل اب ن‬


‫مل يكت ف أب و الع الء لوق ف أيب البش ر م ن رواي ة ّ‬
‫الشعر يف‬
‫الشعراء ويثري قضااي كثرية مطروحة يف كتب نقد ّ‬
‫القارح يطوف على ّ‬
‫الس رقات‪ ،‬وم ن ذل ك‪ ،‬م ا نس ب إىل ام رئ الق يس م ن ش عر أس اء ال ّرواة‬
‫ابب ّ‬
‫الرواي ة‪ ،‬وإذا‬
‫الرواي ة بنفس ه ق ائال‪« :‬أبع د هللا أولئ ك! لق د أس اؤوا ّ‬
‫نقل ه‪ ،‬ويفنّ د ّ‬
‫الشعر؟ وإّمنا ذلك شيء فعله من ال غريزة له‬
‫فأي فرق بني النّظم و ّ‬
‫فعلوا ذلك ّ‬

‫‪261‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أخرون أص ال يف املنظ وم‪ ،‬وهيه ات‬


‫يف معرف ة وزن الق ريض‪ ،‬فظنّ ه املت ّ‬
‫هيهات!»‪)1(.‬‬

‫اّ يعلّق امرؤ القيس‪ ،‬يف موضع الحق من حواره مع ابن الق ارح‪ ،‬عل ى أبي ات‬
‫ري مل أس لكه وإ ّن‬
‫ط‪ ،‬وإنّ ه لق ّ‬
‫نس بت إلي ه فيق ول‪« :‬ال وهللا م ا مسع ت ه ذا ق ّ‬
‫الك ذب لكث ري‪ ،‬وأحس ب ه ذا ل بعض ش عراء اإلس الم‪ ،‬ولق د ظلم ّن وأس اء‬
‫إيل»‪)2(.‬‬
‫ّ‬
‫الش واهد لكث رية يف خط اب الغف ران يع رض فيه ا املؤل ف الض مّن موقف ه‬
‫إ ّن ّ‬
‫الرواي ات‬
‫الش عر‪ ،‬وإذاع ة ّ‬
‫الشعر‪ ،‬ال ذين يتفنّن ون يف انتح ال ّ‬
‫الصريح من رواة ّ‬
‫ّ‬
‫املكذوب ة واملوض وعة‪ ،‬دون أد حت ّق ق واحتك ام مل نهج علم ّي يرض اه العق ل‬
‫السليم‪.‬‬
‫وال ّذوق ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.314 .‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.319 .‬‬
‫مّن م ن ع رض كث ري م ن املس اءالت العقلي ة ع ن طري ق‬
‫مت ّك ن املؤلّ ف الض ّ‬
‫السارد‪ ،‬لكنه مت ّكن –يف الوقت نفس ه‪ -‬له ارة فائق ة م ن الت واري خل ف بط ل‬
‫املتحرك ة إاثرة عق ل املتلق ّي‪ ،‬ف «م ع أ ّن ع امل‬
‫الغف ران والشخص يات الثابت ة و ّ‬
‫ص يف رس الة الغف ران ي دور ح ول الش عراء وع املهم‪ ،‬فالغاي ة النقدي ة تب دو‬
‫الق ّ‬
‫القص»‪)1(.‬‬
‫ّ‬ ‫متوارية متاما خلف اإلاثرة العقليّة املقصودة من وراء هذا‬

‫‪262‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫م ن خ الل م ا تط ّرق إلي ه البح ث مقارب ة حل دود أتوي ل خط اب الغف ران‪،‬‬


‫الضمّن كان يسعى منذ البدء إىل إاثرة عقل املرسل إليه‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫يتبني أ ّن املؤلّف‬
‫ّ‬
‫مّن‪ ،‬لك ّن ال ذي ح ّقق ه ه ذا املؤلّف جت اوز اللحظ ة الراهن ة‬
‫الفعلي‪/‬الض ّ‬
‫ّ‬ ‫املتلقي‬
‫ّ‬
‫حقيقي‪/‬عل ّي‬
‫ّ‬ ‫موجهة إىل مرسل إليه‬ ‫جمرد رسالة ّ‬ ‫اليت جتعل من خطاب الغفران ّ‬
‫ب ن منص ور‪ ،‬ب ل جتع ل م ن ه ذا اخلط اب أث را أدبيّ ا خال دا‪ ،‬مل ي تم ّكن الق ّراء‪،‬‬
‫عل ى اخ تالف اجتاه اهتم ومش ارهبم‪ ،‬م ن بل وغ مقاص د ص احبه‪ ،‬وعلي ه‪ ،‬ف «إ ّن‬
‫ص‬
‫توج ه الق ّ‬
‫اإلاثرة العقليّ ة ال يت يطرحه ا أب و الع الء يف ه ذا العم ل ه ي ال يت ّ‬
‫وتت وازى مع ه‪ ،‬وه ي‪ ،‬يف الوق ت نفس ه‪ ،‬اهل دف من ه‪ ،‬وليس ت آراءه النقديّة يف‬
‫الشعراء‪ ،‬وإن كان هذا ال ينف ي وج ود بع ض اآلراء النقدي ة ال يت ميك ن‬
‫الشعر و ّ‬
‫ّ‬
‫إليها»‪)2(.‬‬ ‫االلتفات‬
‫حتول الرسالة وبزوغ شكل قصصي يف رسالة‬
‫‪ -1‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫الغفران‪ ،‬ص‪.84 .‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.84 .‬‬

‫‪263‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اخلامتـ ـ ــة‬

‫لعل أبرزها‬
‫يف اخلتام‪ ،‬يسعى هذا البحث –على هناته‪ -‬أن جيّن مثاره املتوخاة‪ ،‬و ّ‬
‫تكمن فيما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬أ ّن رسالة الغفران كما يبدو ظاهرا من خالل عنواّنا ّأّنا من جنس الرسالة‪،‬‬
‫(علي‬
‫موجهة من مرسل معلوم (أبو العالء) إىل مرسل إليه معلوم هو اآلخر ّ‬
‫فهي ّ‬
‫التحول يف هذه‬
‫بن منصور)‪ ،‬إالّ أ ّن ما جيب اإلشارة إليه‪ ،‬أيضا‪ ،‬أ ّن نقطة ّ‬

‫‪264‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫صري املرسل إليه من قارئ إىل موضوع للسرد‬


‫الرسالة أ ّن أاب العالء‪ /‬املرسل ّ‬
‫فسارد‪ ،‬وقد وقف البحث على القرائن اللفظية الدالة على ذلك‪ ،‬إذ عوض‬
‫القصصي الذي حييل إىل عامل‬
‫ّ‬ ‫املؤلف الضمّن ضمري املخاطبة بضمري الغيبة‬
‫تتحرك منذ الصفحات األوىل يف‬
‫جمهول‪ ،‬فصار شخصية ذات طبيعة ختييليّة ّ‬
‫القصصي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرتسلي إىل‬
‫ّ‬ ‫التحول من‬
‫اجلنّة‪ ،‬وهذا لدليل قاطع على ّ‬
‫التحول الذي قصده أبو العالء من بداية الرسالة جعلها تنفتح على‬
‫‪ -‬هبذا ّ‬
‫مرتسل مباشر إىل أديب فنّان‪،‬‬
‫حتول فيها من ّ‬ ‫اجلنس الروائي انفتاحا جليّا‪ ،‬إذ ّ‬
‫السردي‪ ،‬ومن املقامة أسجاعها وأجراسها‪ ،‬وش ّكل‬
‫ّ‬ ‫استعار من الرواية بناءها‬
‫معنواي لشخصياته الفردوسيّة‪ ،‬وجعلها تتداخل‬
‫ّ‬ ‫مادة غنائيّة وترفا‬
‫من الشعر ّ‬
‫ريب‪ ،‬متيّز دون غريه عرب األزمان‪.‬‬
‫وتتناغم للتح ّقق منوذجا فريدا يف الرتاث الع ّ‬

‫الرتسلي ‪-‬كما سبق‪ -‬تنفتح على لغات خمتلفة‬


‫ّ‬ ‫فهي إىل جانب طابعها‬
‫وابملادة‬
‫ّ‬ ‫ابلرحلة األخروية على قصة املعراج‪ ،‬وأبسجاعها على املقامة‪،‬‬
‫الغنائية على الشعر‪ ،‬ولشاهدها على املسرح‪.‬‬
‫‪ -‬عند استقراء تقنيات السرد يف خطاب رسالة الغفران يتضح أن‬
‫السارد ينتقل إىل العامل العلوي وهو عامل خبري بكل تفاصيل أحداث‬
‫مسروده‪ ،‬وعليم بدواخل شخصياته‪ ،‬فريى مجيعهم داخل قصورهم وخارجها‪،‬‬
‫القصة أ ّن نظام السرد خيضع لتقنية‬
‫مستهل ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا ما جيعل القارئ يستنتج يف‬
‫‪265‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ألّنا تتيح له معرفة كل شيء‪ ،‬هذا ما جيعل منط السرد‬


‫«الرؤية مع»‪ّ ،‬‬
‫موضوعيا بدءا من اللحظات األوىل من ارتقاء ابن القارح إىل عرصات اجلنّة‪،‬‬
‫املتضمنة موقف احملشر‪ّ ،‬أما ما‬
‫ّ‬ ‫ابستثناء ما ورد يف الوحدة السردية الكربى‬
‫تبّقى من الوحدات السردية الكربى‪ ،‬فإ ّن السارد قد التزم ابتباع ابن القارح‬
‫وابلنظر إىل األشياء من خالل ابن القارح نفسه‪.‬‬
‫يتوهم أ ّن يدا‬
‫الضمّن جعل املتلقي ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬هذا احلضور واخلفاء للسارد‪/‬املؤلّف‬
‫خفيّة حترك املقاطع السرديّة يف االجتاه الذي تريده دون عناء‪ ،‬وذلك لسببني‬
‫السردي‪ ،‬إذ يتن ّقل فيه بطل‬
‫ّ‬ ‫مها‪ :‬انفتاح الرحلة األخروية‪ ،‬وفساحة الفضاء‬
‫الغفران على غري منهج كما أعلن ذلك السارد‪ ،‬وبدافع السخرية من بطل‬
‫الغفران‪ ،‬إذ جعله السارد حلوحا فضوليا‪ ،‬يسأل عن أمور ال يدرك عواقبها‪.‬‬

‫إ ّن هيمنة السارد على الشخصيات أمكنته من الوقوف خارج احلكي‪ ،‬هذا‬


‫ما أفضى بكثري من املشتغلني على اخلطاب السردي للغفران بتصنيف زاوية‬
‫جل الوحدات السردية الكربى هي‬
‫الرؤية اليت اختذها السارد موقعا له يف ّ‬
‫«الرؤية مع»‪ ،‬وردت الوحدات السرديّة متعاقبة‪ ،‬وفق ترتيب ارآته مؤلف‬
‫الغفران مناسبا لرحلة بطله‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن املالحظ أ ّن السارد اس تثىن وح دة س ردية دون غريه ا م ن الوح دات‬
‫بقص حكايته‪ ،‬ال يت أعل ن فيه ا‬
‫السردية ليسند مهمته لبطل الغفران‪ ،‬ويكلّفه ّ‬

‫‪266‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫لي بط ل الرحل ة‪ ،‬م ن‬


‫مباشرة ابمتالك زم ام الس رد‪ ،‬حي ث أظه ر الس ارد األص ّ‬
‫خ الل تقني ة «الرؤي ة م ن اخلل ف»‪ ،‬متعامل ا منافق ا مس تهرتا يف الوح دات‬
‫الس ردية ال يت كان ت اجلنّ ة واجلح يم مس رحا هل ا تلميح ا ال تص رحيا‪ ،‬ولك ن مل ا‬
‫مهم ة الس رد الب ن الق ارح وغ دا س اردا فرعيّ ا جعل ه يكش ف ع ن س وء‬
‫آل ت ّ‬
‫طويّته‪.‬‬
‫‪ -‬يالح ظ م ن خ الل تعاق ب الوح دات الس ردية الك ربى للغف ران أن موق ف‬
‫توس ط الرحل ة‪ ،‬إذ يش ّكل ب ؤرة اخلط اب الس ردي‬
‫اب ن الق ارح يف احملش ر ق د ّ‬
‫للغف ران‪ ،‬وك أ ّن املؤلّ ف ك ان يري د إخفاءه ا ب ني ثن ااي الرحل ة كك ّل‪ .‬ليظه ره‬
‫متوجسا‬
‫متأرجحا بني موقفني متناقضني يظهر فيهما بطل الغفران خائفا ّ‬

‫م ن ه ول احلش ر‪ ،‬ويف الوق ت نفس ه‪ ،‬متش ّفيا ش امتا م ن س ّكان اجلح يم‪،‬‬
‫يستعرض عليهم ملكته الفائقة يف حفظ األشعار وقدرته على استحضارها‪.‬‬
‫املي للعالق ة املوج ودة ب ني الزمني ة املاض ية‬
‫‪ -‬إ ّن ص عوبة حتدي د الط ابع التك ّ‬
‫لي يف خطّي ة الس رد‪ ،‬فه و‬
‫رس خها الس ارد األص ّ‬
‫والزمني ة ال يت يص نعها ال تل ّفظ ّ‬
‫ي ت ّكلم م ن خ الل الس ارد الفرع ّي‪/‬ابن الق ارح ل ا جيع ل بط ل الغف ران حم ّل‬
‫سخرية طافحة‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ّ -‬أم ا ع ن مقول ة اجل نس األديب ال ذي ينتم ي إلي ه خط اب الغف ران‪ ،‬ف إ ّن‬
‫البحث يزعم أ ّن الدراسة اليت أجنزها الباحث ان التونس يان عب د الوه اب الرقي ق‬
‫وهن د ب ن ص احل‪ ،‬تتّف ق إىل ح ّد بعي د م ع أه ّم حم اوره‪ ،‬إذ اس تطاعا أن يث راي‬
‫دي خلط اب رس الة الغف ران‪ ،‬ودفع ا ابلبح ث إىل ّاجت اه يتّس م‬
‫الرص يد النّق ّ‬
‫ابلعمق يف التحليل والدقّة يف املقاربة املنهجية‪ .‬وكان م ن أه ّم مث ار دراس تهما‬
‫يف شأن اجلنس األديب لرسالة الغفران أ ّن ط ابع الس خريّة ال ذي ميّ ز الص ياغة‬
‫العام ة فيه ا جعله ا ّأول ابروداي [‪ ]Parodie‬عربي ة‪ ،‬ح اكى فيه ا املع ّري‬
‫ّ‬
‫نصا رئيسيا إطارّاي هو القرآن نصوصا فرعية سياقيّة هي الشعر‪.‬‬
‫ابلسخريّة ّ‬
‫‪ -‬ردف ا عل ى ه ذا‪ ،‬مت ّكن ت ألف ت كم ال ال رويب م ن تق دمي مالحظ ة منهجي ة‬
‫سلكت هبا منحى مغايرا‪ ،‬إذ وفق ت يف تفس ري ماهي ة اجل نس األديب خلط اب‬
‫الغفران وفق قراءة استقرائية للنثر الفّن يف العصر العباسي‪ ،‬فقد أاثر انتباهها‬
‫وجود تالزم بني فن الرسالة والنوع القصصي –منذ وقت مب ّكر‪ -‬قب ل ظه ور‬
‫رساليت االتوابعا واالغفرانا يف القرن اخلامس اهلجري‪.‬‬

‫يتوجب على البحث اإلقرار به يف هذا الشأن‪ ،‬أ ّن رسالة الغفران كم ا‬


‫‪ -‬ما ّ‬
‫موجه ة م ن‬
‫يب دو ظ اهرا م ن خ الل عنواّن ا ّأّن ا م ن ج نس الرس الة‪ ،‬فه ي ّ‬
‫مرس ل معل وم (أيب الع الء) إىل مرس ل إلي ه معل وم ه و اآلخ ر (عل ّي ب ن‬
‫منص ور)‪ ،‬إالّ أ ّن م ا جي ب اإلش ارة إلي ه‪ ،‬أيض ا‪ ،‬أ ّن نقط ة التح ّول يف ه ذه‬
‫صري املرسل إليه من ق ارئ إىل موض وع للس رد‬
‫الرسالة أ ّن أاب العالء‪ /‬املرسل ّ‬
‫‪268‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫لفن الرواية حيس ب لش يخ املع ّرة دون مبالغ ة‬


‫فرعي‪ ،‬ويف هذا إرهاص ّ‬
‫فسارد ّ‬
‫أو ّادعاء‪.‬‬

‫ردي خلط اب الغف ران‪ ،‬فه و يش ّكل قض ية‬


‫ص املنط ق الس ّ‬
‫‪ّ -‬أم ا فيم ا خي ّ‬
‫األديب‪ ،‬فالرس الة مثقل ة ابألس جاع واالس تطرادات‬
‫مركزي ة يف حتدي د جنس ها ّ‬
‫اللغويّة ال يت متثّل عائق ا يف تط ّور الس رد‪ .‬وم ن هن ا‪ ،‬ك ان لزام ا عل ى البح ث‬
‫أن يويل هذه اإلشكالية قدرا أكرب من االهتمام‪.‬‬
‫‪ -‬إىل جانب هذه اإلشكاليّة‪ ،‬انقش البحث إشكالية طبيعة العالق ات الس رديّة‬
‫تطرقوا إليه ا‬
‫فجل الدارسني الذين ّ‬‫اليت تربط الوحدات السرديّة الكربى للغفران‪ّ ،‬‬
‫انتهى هب م البح ث إىل أ ّن ال راوي ق د خ رق النظ ام الطبيع ّي يف وق وع األح داث‪،‬‬
‫اعتباطي للوحدات السرديّة الكربى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جمرد انضمام‬
‫فكانت ّ‬
‫‪ -‬وعل ى س بيل االس تئناس العلم ّي‪ ،‬ارأتى البح ث يف حماول ة حم ّق ق رس الة‬
‫تحق االهتم ام‪ ،‬إذ تفطّن‪ ،‬م ن خ الل‬
‫حمم د ع زت نص ر هللا ّأّن ا تس ّ‬
‫الغفران ّ‬
‫النس اخ الق دامى ال يت تغ ّريت‬
‫اطّالعه على نسخة خطّيّة للغفران‪ ،‬أ ّن طريقة ّ‬
‫لرور الزمن‪ ،‬حيث كان من عادهتم كتاب ة الش روح والتفس ريات والتعليق ات‬
‫خاص ة يف‬
‫ل داد لون ه يغ اير ل ون امل داد املكت وب ب ه امل نت‪ ،‬أو وض ع عالم ة ّ‬
‫الش رح أو التفس ري‪ ،‬ووض ع عالم ة ماثل ة يف ّنايت ه‪ ،‬وإن حت ّق ق ذل ك‬
‫بداي ة ّ‬
‫لكان فتحا مبين ا جيل ي هتم ة االس تطراد ع ن ش يخ املع ّرة‪ ،‬وجيع ل م ن غفران ه‬
‫خطااب روائيا رائدا للخطاب السردي القدمي‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السردي لرسالة الغفران‪ ،‬فرياهن البحث على تفسريين‪:‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬و ّأما عن املنطق‬
‫حممد‬‫توصل إليها ّ‬‫األول فهو ما تعلّق ابلنتائج القيّمة اليت ّ‬
‫‪ّ o‬أما ّ‬
‫عزت نصر هللا‪ ،‬من خالل حتقيقه لرسالة الغفران إىل أ ّن‬ ‫ّ‬
‫السردي‬
‫ّ‬ ‫االستطرادات تثبت يف اهلامش‪ ،‬وبذلك يكتسب التتابع‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفّن‬
‫وتطوره ّ‬
‫انسيابه‪ّ ،‬‬
‫‪ّ o‬أما الثاين ما تعلّق ابلدراسة اليت توصل إليها الباحثان التونسيان‪،‬‬
‫واليت أفضت نتائجها إىل أتكيد أ ّن القراءة اليت تقول ابعتباطية‬
‫انضمام الوحدات السردية الكربى خلطاب الغفران جانبت‬
‫الصواب‪ ،‬أل ّن ظاهرة االستطراد اليت بىن عليها خصوم الغفران‬
‫ّ‬
‫الرحلة عن كثب‪ ،‬ومن زاوية‬
‫الفّن يف ّ‬
‫موقفهم مل تقض على التّناغم ّّ‬
‫لتبني ّأّنا قامت على رسة‬
‫الداخلي ّ‬
‫ّ‬ ‫حترتم قواعد جنسها ومنطقه‬
‫مقاطع قصصية رئيسة رغم تفاوت أحجامها‪.‬‬
‫تعمد السارد تقدمي مشهد النزهة يف اجلنّة‪ ،‬وأتخري مشهد املوقف يف‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الضمّن اعتمد تقنية االسرتجاع‪ ،‬هذا من جهة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احملشر‪ ،‬وذلك أل ّن املؤلّف‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬حىت حي ّقق غرضا آخر‪ ،‬لطاملا أفصح عنه من خالل‬
‫الرحلة‬
‫حتاور شخصيات اجلنّة‪ ،‬ومن ش ّدة الرتكيز عليه ش ّكل بؤرة نصيّة يف ّ‬
‫كلّها‪ ،‬وغدا السؤال‪« :‬مب غفر لك؟»‪ ،‬و«مب مل يغفر لك؟»‪ ،‬أمرا مألوفا‬

‫‪270‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫متوقّعا عند القارئ‪ ،‬ومن اّ‪ ،‬ينمو عنصر التشويق ملعرفة الطريقة اليت جنا‬
‫هبا بطل الغفران من احملشر والصراط‪ ،‬وجعله حيظى بنعيم اجلنان‪.‬‬
‫‪ -‬أما تقنية الزمن فقد كسر السارد خطيّتها ليجعل املتلقي مشاركا له يف‬
‫إعادة ترتيب سريورهتا الطبيعية‪ ،‬فاملاضي واحلاضر واملستقبل قد يستحيالن‬
‫السردي للغفران إىل مستقبل فحاضر فماض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف اخلطاب‬

‫‪ -‬وقف البحث على قياس حركة السرد من حيث سرعتها وبطؤها من‬
‫خالل معاينة التقنيات اليت تقع يف مستوى امل ّدة من مستوايت الزمن‬
‫السردي‪ ،‬واليت يطلق عليها –أيضا‪ -‬حركات السرد‪ ،‬نظرا الرتباطها بقياس‬
‫ّ‬
‫السرعة‪ ،‬وهي أربع حركات سرديّة‪ :‬التلخيص‪ ،‬واخلذف لتسريع الزمن‪،‬‬
‫ّ‬
‫واحلوار والوصف لتبطيئه‪.‬‬

‫‪ -‬أوىل البح ث ق درا م ن االهتم ام لوص ف الفض اءات املكاني ة للرحل ة‬


‫الغفراني ة‪ ،‬وم ن خ الل تط واف الشخص ية البطل ة يف جنّ ة الغف ران‪ ،‬يس تطيع‬
‫املتل ّق ي أن يرس م ص ورة متكامل ة للجنّ ة‪ ،‬فه ي‪ ،‬وف ق م ا تص ّوره املؤلّ ف‬
‫مّن‪ ،‬لعظ م فس احتها هل ا مش ارق ومغ ارب‪ ،‬وتض ّم مواض ع ثالث ة ه ي‪:‬‬
‫الض ّ‬
‫فضاء اجلنّة‪ :‬وسطها‪ ،‬وأطرافها‪ ،‬وجنّة العفاريت‪ ،‬فهي علويّة ترم ز للس عادة‬
‫الض يق والش قاء‪،‬‬
‫واحلري ة‪ .‬و ّأم ا فض اء اجلح يم فه و س فلي‪ ،‬يرم ز للع ذاب و ّ‬
‫الشقاء املؤقّتني‪.‬‬
‫و ّأما فضاء احملشر فهو الالّمكان يرمز إىل النعيم و ّ‬

‫‪271‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬م ا جي در اإلش ارة إلي ه بوص فه مث رة جنيّ ة هل ذا البح ث‪ ،‬ه و تن اول‬


‫الشخص يّة م ن وجه ني مه ا‪ :‬الواق ع‬
‫الشخصيات الغفرانية تناوال ثنائيا‪ ،‬يرص د ّ‬
‫ّ‬
‫التارخيي والسرد التخيّيلي‪.‬‬
‫الس رديّة‬
‫توص ل إلي ه الفص ل الث اين م ن نت ائج ح ول وظ ائف اللّغ ة ّ‬
‫‪ -‬و ّأم ا م ا ّ‬
‫ك بع ض األلغ از ال يت جعل ت‬ ‫خلط اب الغف ران‪ ،‬فق د س عى إىل حماول ة ف ّ‬
‫سليب‪ ،‬فش ّكلت حجااب كثيفا بينه وبني املتل ّقي‪:‬‬
‫خطاب الغفران يف موضع ّ‬
‫‪ o‬املفارق ة اللغوي ة إذ تش ّكل اللغ ة يف خط اب الغف ران ظ اهرة‬
‫جعل ت كث ريا م ن النق اد يعتربوّن ا عائق ا يف إدراك املتلق ي ملض وّنا‪،‬‬
‫انهيك ع ن اإلحاط ة لقاص د أيب الع الء املوارب ة‪ .‬فه ي يف ظاهره ا‬
‫مدح وثناء‪ ،‬ويف ابطنها حماك اة س اخرة ّإم ا عل ى مس توى الكلم ة‪،‬‬
‫وإما على مستوى ال ّدور‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ o‬التناص يف خطاب الغفران‪ ،‬حيث اعتمد مؤل ف الغفران‪/‬أب و‬
‫الع الء يف خطاب ه عل ى اس تدعاء نص وص أخ رى (الق رآن الك رمي‪،‬‬
‫وقصة املعراج) بلغتني خمتلفتني ف ّأما األوىل فينزع فيه ا إىل املباش رة‬
‫ّ‬
‫واالستشهاد‪ ،‬و ّأما الثانية فينزع فيها إىل االقتب اس وص هرها يف بني ة‬
‫ث املس ترت خلط اب‬
‫خطاب ه الس ردي أبش كال متع ّددة م ن الب ّ‬
‫اآلخر‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬و ّأما الفصل الثالث واألخري‪ ،‬فيمكن اعتبار تلقي اخلطاب العالئي‪-‬قدميا‪-‬‬
‫قد لق ي ط ائفتني م ن الق ّراء‪ :‬طائف ة منص فة‪ ،‬وطائف ة جمحف ة‪ ،‬وم ن أه ّم نت ائج‬
‫هذا القسم من الفصل‪:‬‬
‫‪ -‬اعتم اد ج ّل املرتمج ني أليب الع الء عل ى عب ارات ج اهزة تناقلوه ا‪،‬‬
‫تدينه ابلكفر دون التّح ّقق منها ولو على وجه التشكيك فيها‪.‬‬
‫‪ -‬توجي ه هتم ة الكف ر أليب الع الء جبري رة ش عر منح ول ‪ -‬يف أغلب ه ‪-‬‬
‫ثب ت وض عه م ن قب ل بع ض م ن أراد ب ه األذيّة (ش واهد البطليوس ي واب ن‬
‫العدمي)‪.‬‬
‫‪ -‬اإلعراض املريب من قبل النّقاد القدامى (كأسامة بن منقذ‪ ،‬وعبد‬

‫اجّن‪ ،‬واب ن رش يق‪ ،‬واب ن ش رف‬


‫الق اهر اجلرج اين‪ ،‬واب ن ح زم القرط ّ‬
‫الرغم من‬
‫القريواين‪ ،‬وغريهم عن دراسة أدبه من النّاحية الفنّ يّة‪ ،‬على ّ‬

‫الرتكيز على معتقده‪.‬‬


‫ذيوع صيته‪ ،‬وانتشار أشعاره مشرقا ومغراب‪ ،‬و ّ‬
‫املهتم ني أبدب ه رس م‬
‫‪ -‬احتف اء املنص فني ل ه بش عره دون نث ره ف شوت عل ى ّ‬
‫املعرة األديب‪.‬‬
‫صورة متكاملة عن شيخ ّ‬
‫‪ -‬مص ادرة نث ر أيب الع الء‪ ،‬ويف مق ّدمتهم رس الة الغف ران‪ ،‬ردح ا م ن‬
‫للسخرية والتّه ّكم‪.‬‬
‫مادة خصبة ّ‬
‫الزمن‪ ،‬وجعله ّ‬

‫‪273‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -‬و ّأم ا يف مع رض احل ديث ع ن خط اب الغف ران يف النق د األديب احل ديث‬
‫فقد رّكز البحث على احملاوالت النّقدية األوىل اليت أخرجت خط اب الغف ران‬
‫للقس اإلسباين«أس ني بالثي وس» ال ذي‬
‫طي النسيان‪ ،‬والفضل كلّه يعود ّ‬
‫من ّ‬
‫األورويب‪ ،‬لحك اة ش اعر إيطالي ا «دان يت» يف‬
‫ّ‬ ‫دي‬
‫اندى‪ ،‬يف الوس ط النق ّ‬
‫كوميدايه اإلهليّة بغفران أيب الع الء‪ ،‬اّ تس ّىن للن ّق اد الع رب‪ ،‬م ن بع د‪ ،‬تن اول‬
‫الس بق لط ه حس ني والع ّق اد‪ ،‬اّ م ن‬
‫الغف ران درس ا وش رحا وحتل يال‪ ،‬وك ان ّ‬
‫الش اطن‪ ،‬ول ويس ع وض‪ ،‬وعب د املل ك م راتض‪ ،‬وحس ني ال واد‪،‬‬
‫بع دمها بن ت ّ‬
‫الشباب آنذاك‪.‬‬
‫وغريهم من الن ّقاد ّ‬
‫ظ‬
‫الس ياق‪ ،‬مناقش ة موق ف الن ّق اد م ن ح ّ‬
‫‪-‬ومّا وق ف علي ه البح ث يف ه ذا ّ‬
‫خطاب الغفران من املادة التخيّيلية‪ ،‬فجاءت مواقفهم متباينة لتباين وجهات‬
‫النظر‪ ،‬واختالف املناهج النّقدية املعتمدة يف ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬و ّأم ا آخ ر الثّم ار اجملني ة‪ ،‬فك ان ع رض خط اب الغف ران عل ى م رآة التل ّق ي‬
‫م ن خ الل مالمس ة ح دود التأوي ل وف ق مس توايت ث الث ه ي‪ :‬التل ّق ي‬
‫تبليغي‪.‬‬
‫لوجي‪ ،‬والتلقي املعرف ّي‪ ،‬والتلقي ال ّ‬
‫اإليديو ّ‬
‫يقر البحث أب ّن ولوج عامل أيب العالء املنفتح على اللغ ة املتع ّددة‬
‫يف اخلتام‪ّ ،‬‬
‫ال دالالت‪ ،‬انهي ك ع ن مؤلش ف ه و رس الة الغف ران س لك في ه ص احبه أوع ر‬
‫ردي وف ق آلي ات حم ّددة‪،‬‬
‫املسالك من التعمية واملواربة‪ ،‬حملاولة حتلي ل خطاب ه الس ّ‬
‫اخت ار البح ث منه ا م ا يس تجيب هل ذه املغ امرة العلميّ ة‪ ،‬ال يت ال ختل و يقين ا م ن‬
‫‪274‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قصور‪ ،‬وعلي ه‪ ،‬ف إ ّن ص احب ه ذا البح ث ال ي ّدعي إطالق ا أنّه ق د أض اف لبن ة‬


‫تحق ال ّذكر‪ ،‬و لك ن ع ذره يف ذل ك أنّه يس عى جاه دا لرس م طري ق للبح ث‬
‫تس ّ‬
‫اجلاد‪ ،‬و أنّه‪ ،‬إىل جانب هذا‪ ،‬مل ي ّدخر وسعا من أجل إجنازه عل ى الوج ه ال ذي‬
‫ّ‬
‫الشعراء وشاعر الفالسفة‪.‬‬
‫خياله الئقا بفيلسوف ّ‬

‫‪275‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫امللخص‬

‫ملخص األطروحة‬
‫نظري‪ ،‬وثالثة فصول أساسية‬
‫اقتضت اإلشكاليّة املطروحة ضبط خطة تضمنت مقدمة‪ ،‬يتبعها مدخل ّ‬
‫السردي لرسالة الغفران حيث‬
‫ّ‬ ‫صص لتقنييت الرؤية والزمن يف اخلطاب‬
‫األول‪ ،‬فخ ّ‬
‫فأما الفصل ّ‬
‫فخامتة‪ّ .‬‬
‫السارد موقعا له‪ ،‬ويف القسم الثّاين من‬
‫السردية اليت ّاختذها ّ‬
‫األول منه بتحديد زاوية الرؤية ّ‬
‫تك ّفل القسم ّ‬
‫الفصل ّ قياس حركة السرد من حيث سرعتها وبطؤها اعتمادا على معاينة التقنيات اليت تقع يف‬
‫املنهجي ابلبحث إىل مساءلة‬
‫ّ‬ ‫التدرج‬
‫السردي‪ ،‬ومن اّ‪ ،‬أفضى ّ‬‫ّ‬ ‫مستوى امل ّدة من مستوايت الزمن‬

‫‪276‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫اخلطاب الغفراينّ من حيث موقعه من األجناس األدبيّة‪ ،‬اّ خصص الفصل الثاين لوظائف اللّغة‬
‫األول للمفارقة اللغوية‪ ،‬و ّأما القسم الثّاين من الفصل‬
‫خمصصا قسمه ّ‬
‫السرديّة يف خطاب رسالة الغفران‪ّ ،‬‬
‫تطرق البحث يف فصله الثالث إىل تل ّقي اخلطاب‬
‫صص لظاهرة التناص يف خطاب الغفران‪ ،‬وأخريا ّ‬
‫فخ ّ‬
‫اضي‪ ،‬مستدعيا قراءات القدامى واحملدثني‪ ،‬ويف‬
‫احلقيقي‪/‬االفرت ّ‬
‫ّ‬ ‫ائي‪:‬‬
‫السردي رسالة الغفران وفق أفقه القر ّ‬
‫ّ‬
‫القسم األخري من هذا الفصل‪ ،‬آثر البحث أن خيتم بعرض خطاب الغفران على مرآة التل ّقي من خالل‬
‫لوجي‪ ،‬والتلقي املعرف ّي‪ ،‬والتلقي‬
‫مالمسة حدود التأويل وفق مستوايت ثالث هي‪ :‬التل ّقي اإليديو ّ‬
‫التبليغي‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪277‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ ‬مكتبة البحث‬
‫‪ -‬القرآن الكرمي‪ ،‬برواية حفص عن عاصم‪.‬‬

‫‪‬ـ قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬

‫‪‬ـ املراجع الفربية‪:‬‬

‫‪278‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬السردية العربيه‪(،‬حبث يف البنية السردية يف‬ ‫‪-1‬‬


‫املوروث احلكائي) املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫أدونيس‪ :‬الشعرية العربي ة‪ ،‬حماض رات ألقي ت يف الك وليج دو ف رانس‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬حزيران (يونية)‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫دادي‪ ،‬أب و الفض ل ش هاب ال ّدين الس يّد حمم ود‪ :‬روح‬
‫األلوس ّي البغ ّ‬ ‫‪-3‬‬
‫الس بع املث اين‪ ،‬حتقي ق األس تاذ س يّد عم ران‪،‬‬
‫املعاين يف تفسري الق رآن العظ يم و ّ‬
‫دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبعة ‪ 1426‬ه ‪2005 /‬م‪.‬‬
‫حمم د مص طفى‪ :‬ش اعرية أيب الع الء يف نظ ر الق دامى‪ ،‬ال ّدار‬
‫ابحلاج‪ّ ،‬‬ ‫‪-4‬‬
‫العربيّة للكتاب‪ ،‬تونس‪1396 ،‬ه ‪1976 /‬م‪.‬‬
‫ائي (الفضاء‪-‬الزمن‪-‬الشخصية)‪،‬‬
‫الشكل الرو ّ‬
‫حبراوي‪ ،‬حسن‪ :‬بنية ّ‬ ‫‪-5‬‬
‫العريب‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪1990 ،1‬م‪.‬‬
‫قايف ّ‬ ‫املركز الثّ ّ‬

‫ب دري‪ ،‬عثم ان‪ :‬بن اء الشخص ية الرئيس ية يف رواايت جني ب حمف وظ‪،‬‬ ‫‪-6‬‬
‫دار احلدائية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1986 ،1‬م‪.‬‬
‫ب رادة‪ ،‬حمم د‪ :‬أس ئلة الرواي ة (أس ئلة النق د)‪ ،‬الرابط ة‪ ،‬ال دار البيض اء‪،‬‬ ‫‪-7‬‬
‫املغرب‪ ،‬ط‪1996 ،1‬م‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫البطليوس ي‪ ،‬اب ن الس يّد‪ :‬ش رح املخت ار م ن لزوميّ ات أيب الع الء‪،‬‬ ‫‪-8‬‬
‫حتقيق‪ :‬حامد عبد اجمليد‪ ،‬مطبعة دار الكتب‪ ،‬مصر‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫ص‬
‫الش اطن‪ ،‬عائش ة عب د ال رمحن‪ :‬جدي د يف رس الة الغف ران‪ ،‬ن ّ‬
‫‪ -9‬بن ت ّ‬
‫ري‪ ،‬دار الكت اب الع ريب‪ ،‬ب ريوت‪1403 ،‬ه ‪-‬‬ ‫مسرحي من القرن اخلامس اهلج ّ‬
‫‪1983‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬بنت الشاطن‪ :‬رسالة الغفران أليب العالء‪ :‬دراسة نقدية‪ ،‬دار‬
‫املعارف لصر‪1962 ،‬م‪.‬‬
‫العريب القدمي‬
‫الرمحن‪ :‬قيم جديدة لألدب ّ‬
‫الشاطن‪ ،‬عائشة عبد ّ‬
‫‪ -11‬بنت ّ‬
‫واحلديث‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫األسطوري‪ ،‬سلسلة‬
‫ّ‬ ‫عمار‪ ،‬هجرية لعور‪ :‬الغفران يف ضوء النقد‬
‫‪ -12‬بنت ّ‬
‫العام ة لقص ور الثقاف ة‪ ،‬ع‪ ،179‬الق اهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫كت اابت نقدي ة‪ ،‬اهليئ ة ّ‬
‫‪2009‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬تيم ور‪ ،‬أمح د ‪ :‬أب و الع الء املع ري‪ ،‬جلن ة نش ر املؤلّف ات التيموريّ ة‪،‬‬
‫النّاشر مكتبة األجنلو املصريّة‪ ،‬ط‪1970 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬حب راوي‪ ،‬حس ن‪ :‬بني ة الش كل الروائي(الفضاء‪،‬الزمن‪،‬الشخص ية)‪،‬‬
‫الناشر املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪.1990 ،‬‬
‫‪ -15‬حس ن غ ا ‪ ،‬حمم د‪ :‬دراس ات يف الشخص ية والص حة النفس ية‪ ،‬دار‬
‫غريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اجلزء األول‪2006 ،‬م‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -16‬حس ني‪ ،‬ط ه‪ :‬جتدي د ذك رى أيب الع الء‪ ،‬دار املع ارف لص ر‪ ،‬ط ‪،8‬‬
‫‪1976‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬حس ني‪ ،‬ط ه‪ :‬م ع أيب الع الء يف س جنه‪ ،‬دار املع ارف لص ر‪ ،‬ط‪،11‬‬
‫‪1976‬م‪.‬‬
‫احلك يم‪ ،‬س عاد‪ :‬أب و الع الء املع ري‪ ،‬ب ني حب ر الش عر وايبس ة‬ ‫‪-18‬‬
‫الناس‪،‬دار الفكر اللبناين‪،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬مح د‪ ،‬أم ني ف وزي‪ :‬رس الة الغف ران ب ني التلم يح والتل ويح‪ ،‬دار املعرف ة‬
‫اجلامعية‪ ،‬مصر‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫الش عراء‪ ،‬دار الكت ب العلميّ ة‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫‪ -20‬اجلمح ي‪ ،‬اب ن س الّم‪ :‬طبق ات ّ‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫تطور األدب األورويب ونشأة مذاهب ه‬
‫‪ -21‬اخلطيب‪ ،‬حسام‪ :‬حماضرات يف ّ‬
‫واجتاهاته النّقدية‪ ،‬مطبعة طربني‪1975 -1974 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬دراج‪ ،‬فيص ل‪ :‬نظري ة الرواي ة والرواي ة العربي ة‪ ،‬املرك ز الثّق ايف الع ريب‪،‬‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬الطّبعة األوىل‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -23‬الراجك ويت‪ ،‬عب د العزي ز امليم ّن‪ :‬أب و الع الء وم ا إلي ه‪ ،‬دار الكت ب‬
‫العلمية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬رش يد‪ ،‬كم ال عب د ال رحيم‪ :‬ال زمن النح وي يف اللغ ة العربي ة‪ ،‬ع امل‬
‫الثقافة‪ ،‬عمان‪ ،‬دط‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -25‬الرقي ق‪ ،‬عب د الوه اب‪ ،‬وب ن ص احل‪ ،‬هن د‪ :‬أدبي ة الرحل ة يف رس الة‬
‫حممد علي احلامي‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪.‬‬
‫الغفران‪ ،‬دار ّ‬
‫حتول الرسالة‬
‫‪ -26‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫وبزوغ شكل قصصي يف رسالة الغفران‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬كتاابت‬
‫نقدية ‪ ،112‬مصر‪ ،‬يوليو ‪2001‬م‪.‬‬
‫الوهاب‪ :‬املكان يف رسالة الغفران‪ ،‬أشكاله ووظائفه‪،‬‬
‫‪ -27‬زغدان‪ ،‬عبد ّ‬
‫دار صامد للنّشر والتّوزيع‪ ،‬تونس‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫ارزمي ‪ ،‬أب و القاس م ج ار هللا حمم ود ب ن عم ر‪:‬‬
‫ري اخل و ّ‬
‫الزخمش ّ‬
‫‪ّ -28‬‬
‫الكش اف ع ن حق ائق التّنزي ل وعي ون األقاوي ل يف وج وه التأوي ل‪ ،‬ش ركة مكتب ة‬
‫ّ‬
‫يب وأوالده ‪ ،‬مص ر‪ ،‬الطّبع ة األخ رية‪1392 ،‬ه ‪/‬‬
‫ومطبع ة مص طفى الب ايب احلل ّ‬
‫‪1972‬م‪.‬‬
‫‪ -29‬زيتوين‪ ،‬لطيف‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬عريب‪-‬إنكليزي‪-‬‬
‫فرنسي‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2002 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -30‬الزيدي‪ ،‬توفيق‪ :‬أثر اللس انيات يف النق د الع ريب احل ديث‪ ،‬م ن خ الل‬
‫بعض مناذجه‪ ،‬تونس‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫حمم د ب ن جري ر‪ :‬ج امع البي ان يف تفس ري الق رآن‪،‬‬
‫‪ -31‬الطربي‪ ،‬أبو جعف ر ّ‬
‫دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪1412 ،‬ه ‪1992 /‬م‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -32‬الطرابلس ي‪ ،‬أجم د‪ :‬مأس اة ش يخ املع ّرة‪ ،‬درس افتت احي جبامع ة اب ن‬


‫زه ر‪ ،‬كليّ ة اآلداب و العل وم اإلنس انيّة‪ ،‬أك ادير‪ ،‬اململك ة املغربيّ ة‪،‬‬
‫الرابط‪1997 ،‬م‪.‬‬
‫‪ ،1990/1989‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ّ ،‬‬
‫‪ -33‬عب اس‪ ،‬إحس ان‪ :‬حم اوالت يف النق د‪ ،‬دار اب ن ح زم‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ -34‬عباس‪ ،‬إبراهيم‪ :‬تقني ات البني ة الس ردية يف الرواي ة املغاربي ة (دراس ة يف‬
‫بني ة الش كل)‪ ،‬املؤسس ة الوطني ة لالتص ال والنش ر واإلش هار‪ ،‬اجلزائ ر‪ ،‬دط‪،‬‬
‫‪2002‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬عب ده‪ ،‬عبّ ود‪ :‬األدب املق ارن‪ ،‬مش كالت وآف اق‪ ،‬منش ورات ّاحت اد‬
‫الكتّاب العرب‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -36‬العجيمي‪ ،‬حممد انصر‪ :‬يف اخلطاب السردي‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬
‫بريوت – لبنان‪ ،‬د ط‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫حممد‪ :‬شعرية اخلطاب السردي ‪-‬دراسة‪ ،-‬من منشورات‬
‫عزام‪ّ ،‬‬
‫‪ّ -37‬‬
‫احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -38‬الع ّق اد‪ ،‬عبّ اس حمم ود‪ :‬مطالع ات يف الكت ب واحلي اة‪ ،‬اجملموع ة‬
‫الكامل ة‪ ،‬اجمللّ د اخل امس والعش رون ‪-‬األدب والنّق د‪ -‬دار الكت اب اللّبن اين‪،‬‬
‫ط‪1403 ،1‬ه‪1983 ،‬م‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -39‬العاليل ي (الش يخ)‪ ،‬عب د هللا ‪ :‬املع ّري ذل ك اجمله ول‪ ،‬رحل ة يف فك ره‬
‫وعامله النّفسي‪،‬دار اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1995 ،3‬‬
‫حمم د‪ :‬اخلطيئ ة والتّكف ري‪ ،‬م ن البنيويّ ة إىل‬
‫امي‪ ،‬عب د هللا ّ‬
‫‪ -40‬الغ ّذ ّ‬
‫قايف‪ ،‬الطّبعة األوىل‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫يب الثّ ّ‬
‫األد ّ‬
‫التّشرحييّة‪ ،‬ج ّدة‪ ،‬النّادي ّ‬
‫حمم د‪ :‬األدب املق ارن‪ ،‬دار الع ودة ودار الثّقاف ة‪،‬‬
‫‪ -41‬غنيم ي ه الل‪ّ ،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1981 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -42‬فض ل‪ ،‬ص الح‪ :‬أتث ري الثّقاف ة اإلس الميّة يف الكومي داي اإلهليّ ة ل دانيت‪،‬‬
‫مؤسسة شباب اجلامعة‪ ،‬ط‪1985 ،1‬م‪.‬‬
‫النّشر ّ‬
‫‪ -43‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬أش كال التخيّ ل‪ ،‬م ن فت ات األدب و النق د‪ ،‬الش ركة‬
‫املصرية العاملية للنشر‪ ،‬لوجنمان‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -44‬الفيص ل‪ ،‬مس ر روح ي‪ :‬الرواي ة العربي ة (البن اء و ال رؤاي)‪ ،‬مق ارابت‬
‫نقدية‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬دط‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -45‬قاسم‪ ،‬سيزا‪ :‬بناء الرواية (دراسة مقاربة يف ثالثية جنيب حمفوظ) دار‬
‫التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪.‬‬
‫القص ة وداللته ا يف رس الة الغف ران وح ّي ب ن‬
‫‪ -46‬قج ور‪ ،‬عب د املال ك‪ّ :‬‬
‫يقظان‪ ،‬مكتبة الشركة اجلزائرية اجلزائرية بوداود‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪.‬‬
‫حمم د عب د امل نعم‬
‫الش عر‪ ،‬حتقي ق ّ‬
‫‪ -47‬قدام ة ب ن جعف ر‪ ،‬أب و الف رج‪ :‬نق د ّ‬
‫خ ّفاجي‪ ،‬دار الكتب العلميّة ‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -48‬الس امرائي‪ ،‬إب راهيم‪ :‬امل دارس النحوي ة‪ ،‬أس طورة وواق ع‪ ،‬دار الفك ر‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪1997 ،1‬م‪.‬‬
‫للنشر والتوزيع‪ّ ،‬‬
‫‪ -49‬السامرائي‪ ،‬إبراهيم‪ :‬مع املعري اللّغوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪1984 ،1‬م‪.‬‬
‫مؤسسة‬
‫‪ -50‬سلّوم‪ ،‬داود‪ :‬األدب املقارن يف ال ّدراسات املقارنة التطبيقيّة‪ّ ،‬‬
‫املختار للنّشر والتّوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -51‬س ويريت‪ ،‬حمم د‪ :‬النق د البني وي وال نص الروائ ي‪ ،‬إفريقي ا الش رق‪ ،‬ال دار‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ج‪1991 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -52‬السيوطي‪ ،‬جالل ال دين‪ :‬اليفل ن املص نوعة يف األحادي ث املوض وعة‪،‬‬
‫دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪1975 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -53‬الس يوطي‪ ،‬ج الل ال دين‪ :‬األش باه والنظ ائر النحوي ة‪ ،‬دار الكت ب‬
‫العلمية‪،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -54‬الش عراين‪ ،‬اإلم ام عب د الوه اب‪ :‬خمتص ر ت ذكرة الق رطيب‪ ،‬مطبع ة‬
‫صبيح‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫حمم د‪ :‬اإلس رائيليات واملوض وعات يف كت ب‬
‫حمم د ب ن ّ‬
‫‪( -55‬أب و) ش هبة‪ّ ،‬‬
‫الس لفية لنش ر العل م‪ ،‬الق اهرة‪ ،‬مص ر‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫التّفس ري‪ ،‬مكتب ة الس نّة‪ ،‬ال ّدار ّ‬
‫‪1408‬ه ‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫حتول الرسالة‬
‫‪ -56‬الرويب‪ ،‬ألفت كمال‪ :‬بالغة التوصيل وأتسيس النوع‪ّ ،‬‬
‫وبزوغ شكل قصصي يف رسالة الغفران‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬كتاابت‬
‫نقدية ‪ ،112‬مصر‪ ،‬يوليو ‪2001‬م‪.‬‬
‫‪( -57‬ابن) كثري‪ ،‬عماد الدين أبو الفداء إمساعي ل‪ :‬تفس ري الق رآن العظ يم‪،‬‬
‫دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -58‬كيليط و‪ ،‬عب د الفت اح‪ :‬أب و الع الء املع ري أو متاه ات الق ول‪ ،‬دار‬
‫توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪2000 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -59‬حلميداين‪ ،‬محيد‪ :‬بينة النص السردي من منظور النقد األديب‪ ،‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪2003 ،3‬م‪.‬‬
‫الروائ ي و اإلي ديولوجيا‪ ،‬م ن سوس يولوجيا‬
‫‪ -60‬حلم داين‪ ،‬محي د‪ :‬النّق د ّ‬
‫الروائ ي‪ ،‬املرك ز الثّق ايف الع ريب‪ ،‬ال ّدار البيض اء‪،‬‬
‫الرواي ة إىل سوس يولوجيا ال نّص ّ‬
‫ّ‬
‫املغرب ط‪1990 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -61‬مأمون صاحل‪ ،‬الشخصية (بناؤها‪ ،‬تكوينها‪ ،‬أمناطها‪ ،‬اضطراابهتا)‪،‬‬
‫دار أسامة‪ ،‬عمان‪،‬األردن‪ ،‬ط‪2008 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -62‬م راتض‪ ،‬عب د املل ك‪ :‬الكتاب ة م ن واق ع الع دم (مس اءالت ح ول‬
‫نظرية الكتابة)‪ ،‬دار الغرب للنشر والتوزيع‪ ،‬وهران‪ ،‬اجلزائر‪2003 ،‬م‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -63‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬يف نظرية الرواية‪ ،‬حبث يف تقنيات السرد‪ ،‬عامل‬
‫املعرفة‪ ،‬ع ‪ ،240‬اجمللس الوطّن للثقافة والفنون واآلداب ‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫ديسمرب ‪.1998‬‬
‫الش ركة‬
‫القص ة يف األدب الع ريب‪ ،‬دار ومكتب ة ّ‬
‫‪ -64‬م راتض‪ ،‬عب د املل ك‪ّ :‬‬
‫اجلزائرية‪ ،‬ط‪1968 ،1‬م‪.‬‬
‫ردي‪ ،‬معاجلة تفكيكيّة سيمائيّة‬
‫الس ّ‬‫‪ -65‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬حتليل اخلطاب ّ‬
‫مرّكبة لرواية ازقاق املدقا‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعيّة‪ ،‬اجلزائر‪1995 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -66‬مراتض‪ ،‬عبد امللك‪ :‬القصة اجلزائرية املعاصرة‪ ،‬املؤسسة الوطنية‬


‫للكتاب‪ ،‬اجلزائر‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -67‬مرشد‪ ،‬أمحد‪ :‬البنية والداللة يف رواايت إبراهيم نصر هللا‪ ،‬املؤسسة‬
‫العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -68‬املع ري‪ ،‬أب و الع الء‪ :‬الفص ول والغ اايت‪ ،‬ض بطه وفس ر غريب ه حمم ود‬
‫حسن زانيت‪ ،‬منشورات دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬د ت‪.‬‬
‫‪ -69‬املعري‪ :‬شروح اللزوميات‪ ،‬إش راف ومراجع ة د‪ .‬حس ني نص ار‪ ،‬اهليئ ة‬
‫املصرية العامة للكتاب‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -70‬املع ري‪ ،‬أب و الع الء‪ :‬اللّزومي ات‪ ،‬دار الكت ب العلمي ة‪ ،‬ط‪ ،2‬ب ريوت‪،‬‬
‫‪1986‬م‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -71‬موس ى ابش ا‪ ،‬عم ر‪ :‬نظ رات جدي دة يف غف ران أيب الع الء‪ ،‬دار‬
‫طالس‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪1979 ،1‬م‪.‬‬
‫حمم د ع ّزت‪ :‬رس الة الغف ران أليب الع الء املع ّري‪ ،‬املكتب ة‬
‫‪ -72‬نص ر هللا‪ّ ،‬‬
‫الثقافية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -73‬ال واد‪ ،‬حس ني‪ :‬البني ة القصص ية يف رس الة الغف ران‪ ،‬ال دار العربي ة‬
‫للكتاب‪ ،‬ط‪ ،3‬تونس‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -74‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪1993 ،2‬م‪.‬‬
‫ريب‪ ،‬ال ّدار‬
‫ايف الع ّ‬
‫الروائ ّي‪ ،‬املرك ز الثّق ّ‬
‫ص ّ‬ ‫‪ -75‬يقط ني‪ ،‬س عيد‪ :‬انفت اح ال نّ ّ‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪2001 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -76‬يوسف‪ ،‬آمنة‪ :‬تقنيات السرد يف النظرية والتطبيق‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2015 ،2‬م‪.‬‬

‫‪ ‬املفاجم و املوسوعات‪:‬‬

‫‪288‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫ابن خلكان‪ :‬وفيات األعيان وأنباء أبناء الزم ان‪ ،‬حتقي ق‪ ،‬د‪.‬إحس ان‬ ‫‪-77‬‬
‫عباس‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -78‬احلم وي‪ ،‬ايق وت‪ :‬معج م ألدابء‪ ،‬إرش اد األري ب إىل معرف ة األدي ب‪،‬‬
‫حتقيق إحسان عباس‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬ط‪1993 ،1‬م‪.‬‬
‫األول‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -79‬دائرة املعارف اإلسالمية‪ ،‬اجمللّد ّ‬
‫الش ركة املص ريّة العامليّ ة‪،‬‬
‫‪ -80‬راغ ب‪ ،‬نبي ل‪ :‬موس وعة النّظريّ ة األدبيّ ة‪ّ ،‬‬
‫لوجنمان‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -81‬زيت وين‪ ،‬لطي ف‪ :‬معج م مص طلحات نق د الرواي ة‪ ،‬ع ريب‪ -‬إنكلي زي‪-‬‬
‫فرنسي‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2002 ،1‬م‪.‬‬
‫حمم د‬
‫‪ -82‬الزخمشري‪ ،‬جار هللا‪ :‬أساس البالغة‪ ،‬ق ّدم له وشكله وشرح غريبه ّ‬
‫أمح د قاس م‪ ،‬املكتب ة العص رية للطباع ة والنش ر‪ ،‬ص يدا‪ ،‬ب ريوت‪ ،‬لبن ان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1423‬ه ‪2003/‬م‪.‬‬
‫‪ -83‬الف ريوز أابدي‪ :‬الق اموس احمل يط‪ ،‬دار الكت ب العلمي ة‪ ،‬ب ريوت‪-‬لبن ان‪،‬‬
‫ج‪( ،1‬د‪ ،‬ط)‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -84‬العسكري‪ ،‬أبو هالل‪ :‬الفروق اللغوية‪ ،‬تح‪ :‬حممد إبراهيم س ليم‪ ،‬دار‬
‫العلم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -85‬علّو ‪ ،‬س عيد‪ :‬معج م املص طلحات األدبي ة‪ ،‬دار الكت اب اللبن اين‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1985 ،1‬م‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪( -86‬اب ن) منظ ور‪ ،‬أب و الفض ل مج ال ال دين حمم د ب ن مك رم‪ ،‬لس ان‬
‫العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1994 ،3‬م‪1414/‬ه ‪.‬‬

‫‪ ‬املراجع املَتمجة‪:‬‬

‫‪ -87‬ابختني‪ ،‬ميخائيل‪ :‬قضااي الفن اإلبداعي عن د دوستويفس كي‪ ،‬ترمج ة‬


‫مجيل نصيف التكرييت‪ ،‬وزارة اإلعالم‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -88‬ابختني‪ :‬الكلمة يف الرواية ترمجة يوسف حالّق‪ ،‬منشورات وزارة الثّقافة‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬سوراي‪ ،‬الطّبعة األوىل‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -89‬برنس‪ ،‬جريالد‪ :‬املصطلح السردي‪ -‬معجم مصطلحات‪ ،‬تر عابد‬
‫خزندار‪ ،‬مراجعة وتقدمي حممد بريري‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬املشروع القومي‬
‫للرتمجة‪ ،‬ط‪ ،1‬ع‪2003 ،386‬م‪.‬‬
‫‪ -90‬بوتور‪ ،‬ميشال‪ :‬حبوث يف الرواية اجلديدة‪ ،‬تر‪ :‬فريد أنطونيوس‪،‬‬
‫منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1982 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -91‬تودوروف‪ ،‬تزيفيطان‪ :‬مفاهيم سردية‪ ،‬تر عبد الرمحن مزاين‪،‬‬
‫منشورات االختالف‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -92‬ت ودوروف‪ ،‬تزفيت ان‪ :‬ميخائي ل ابخت ني واملب دأ احل واري‪ ،‬ترمج ة‪ :‬فخ ري‬
‫املؤسس ة العربيّ ة لل ّدراس ات والنّش ر‪ ،‬ب ريوت‪،‬‬
‫ص احل‪ ،‬الطّبع ة العربي ة الثّاني ة‪ّ ،‬‬
‫لبنان‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -93‬تودوروف‪ ،‬تزيفيتان‪ :‬نظرية املنهج الشكلي‪ ،‬نصوص الشكالنيني‬


‫الروس‪ ،‬تر‪ :‬إبراهيم خطيب‪ ،‬الشركة املغربية للناشرين املتحدين‪ ،‬مؤسسة‬
‫األحباث العربية‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪1982 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -94‬تودروف‪ ،‬تزفيطان‪ :‬الشعرية‪ ،‬تر‪ :‬شكري املبحوث ورجاء بن سالمة‪،‬‬
‫دار توبقال‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪1990 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -95‬جنيت‪ ،‬جريار‪ :‬خطاب احلكاية‪ ،‬تر‪ :‬حممد معتصم وآخرون‪،‬‬
‫منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪2003 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -96‬مانفربد‪ ،‬اين‪ :‬علم السرد‪ -‬مدخل إىل نظرية السرد‪ ،‬تر أماين أبو‬
‫رمحة‪ ،‬دار نينوى للدراسات والتوزيع والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوراي‪ ،‬ط‪2011 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ ‬املراجع األجنبية‪:‬‬ ‫✓‬
‫‪97- Bakhtine )Mikhaïl(: L'œuvre de F. Rabelais et la‬‬
‫‪culture populaire au moyen âge et sous la renaissance,‬‬
‫‪Paris, Gallimard, 1970.‬‬
‫‪98- Bakhtine )Mikhaïl(: Le Marxisme et la philosophie du‬‬
‫‪,‬ا‪Marina Yaguello‬ا ‪langage, trad du Russe et présenté par‬‬
‫‪1977.‬‬
‫‪99- Bakhtine )Mikhaïl(:: Esthétique et théorie du‬‬
‫‪roman, Trad. Daria Olivier, Paris, Ed Gallimard.‬‬

‫‪291‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

100- Bakhtine )Mikhaïl(: La poétique De Dostoïevski,


Trad. Kolit Cheff, Ed Seuil, 1970.
101- Kristéva )Julia(: La révolution du langage poétique,
Paris, Ed. Seuil, 1985.
102- Kristéva )Julia(: Séméiotiké, recherches pour
une sémanalyse, Paris, Ed. Seuil, 1969.
103- Kristéva )Julia( Présentation de Poétique de
Dostoïevski, M. Bakhtine, Paris, Ed Seuil, 1970 .
104- Genette )Gérard(: Palimpseste, La littérature au
second degré, Ed. Seuil, Paris, 1982.

:‫ اجملالت و الدورايت‬

‫ ف ن الكلم ة وثقاف ة الفكاه ة‬:‫ رابلي ه وجوج ول‬:‫ ميخائي ل‬،‫ ابخت ني‬- 96
‫ اهليئ ة املص رية‬،‫ جملّ ة النق د األديب فص ول‬،‫حمم د إب راهيم‬
ّ ‫ أن ور‬.‫ ترمج ة‬،‫الش عبية‬
.‫م‬2004 ‫ شتاء وربيع‬،‫ مصر‬،‫العامة للكتاب‬

،‫ جمل ة فص ول‬،‫ املفارق ة الروائي ة وال زمن الت ارخيي‬:‫ أمين ة‬،‫ رش يد‬-97
.‫م‬1993 ،04‫ ع‬،11‫اجمللّد‬

292
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الش اعر املثق ف‪ ،‬جمل ة البص ائر‪ ،‬جملّ ة‬


‫‪ -98‬انف ع‪ ،‬عب د الق ادر‪ :‬املع ّري وأزم ة ّ‬
‫علمي ة حم ّكم ة تص در ع ن عم ادة البح ث العلم ي‪ ،‬جبامع ة البن ات األردني ة‬
‫األهلية‪ ،‬اجمللّد ‪ ،2‬العدد ‪ ،01‬ذو القعدة ‪1418‬ه ‪ /‬آذار ‪1998‬م‪.‬‬

‫‪ -99‬بي ار دو بي ازي ‪ :Pierre De Biazi‬نظري ة ال نّص‪ ،‬ترمج ة املخت ار‬


‫احلسيّن‪ ،‬جملّة فكر ونقد‪ ،‬املغرب‪ ،‬عدد ‪ ،28‬أبريل‪2000‬م‪.‬‬

‫اص ال واعي‪ :‬ش كوله‬ ‫‪ -100‬درابل ة‪ ،‬ف اروق عب د احلك يم‪ :‬التّن ّ‬
‫األديب ‪ ،‬جملّ ة فص ليّة تص در ع ن اهليئ ة‬
‫وإش كالياته‪ ،‬جملّ ة فص ول‪ :‬جملّ ة النّق د ّ‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬العدد ‪ ،63‬شتاء وربيع ‪2004‬م‪.‬‬
‫املصريّة ّ‬
‫‪ -101‬خليف ات‪ ،‬س حبان (اجلامع ة األردنبّ ة)‪ :‬دراس ة نقدي ة ل بعض‬
‫الرئيس ة لكت اابت املع ّري‪ ،‬جملّ ة جمم ع اللّغ ة العربي ة األردين‪ ،‬الع دد‬
‫املعاجل ات ّ‬
‫األول ‪-‬رمض ان ‪1403‬ه ‪ /‬ك انون الث اين‪-‬‬
‫امل زدوج‪ ،20/19 :‬ربي ع ّ‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫حزيران‪1983‬م‪ ،‬شركة الشرق األوسط للطّباعة‪ّ ،‬‬
‫‪ -102‬نص ر ال دين‪ ،‬حمم د‪ :‬الشخص ية يف العم ل الروائ ي‪ ،‬جمل ة فيص ل‪،‬‬
‫دار الفيصل الثقافية للطباعة العربية‪ ،‬السعودية‪ ،‬العدد ‪ ،37‬جوان ‪1980‬م‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرس‬

‫‪294‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرس‬
‫‪ -‬املقدمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬
‫املدخل النظري‬
‫آليات حتليل اخلطاب السردي‬
‫‪ -1‬مفهوم السرد‪02 .......................................‬‬
‫‪ -1-1‬السرد لغة‪02.............................................‬‬
‫‪ -2-1‬السرد اصطالحا‪03.......................................‬‬
‫‪ -2‬مكوانت اخلطاب السردي‪05...........................‬‬

‫‪ -1-2‬الرؤية السردية‪06..........................................‬‬
‫‪ -‬الرؤية يف االصطالح النقدي‪06..............................‬‬
‫‪ -2-2‬السارد‪09 ...............................................‬‬
‫‪ -3-2‬املسرود‪12..............................................‬‬
‫‪ -4-2‬املسرود له‪13 ...........................................‬‬
‫‪ -5-2‬الشخصيات السردية‪16...................................‬‬
‫أ ‪ -‬ل غ ة‪17 ..................................................‬‬
‫ب‪ -‬اصطالح ا‪18...............................................‬‬

‫‪295‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -3‬الزمن السردي‪21.............................................‬‬
‫الزمن لغة‪22..............................................‬‬
‫أ‪ّ -‬‬
‫الزمن اصطالحا‪24.........................................‬‬
‫ب‪ّ -‬‬
‫‪ -1-3‬مستوايت الزمن‪31........................................‬‬
‫مّن‪31....................................‬‬
‫الز ّ‬
‫‪ -‬مستوى الرتتيب ّ‬
‫الفصل األول‬
‫آليات اشتغال الرؤية والزمن يف اخلطاب السردي لرسالة الغفران‬
‫‪ -1‬الرؤية السردية يف خطاب الغفران‪36 ...................‬‬
‫‪ -1-1‬الرؤية «مع»‪36...........................................‬‬
‫‪ -2-1‬الرؤية «من اخللف»‪43...................................‬‬

‫‪ -2‬رسالة الغفران ومقولة اجلنس األديب‪49 .................‬‬


‫‪ - 1-2‬خطاب الغفران بني املقام الَتسلي والفن القصصي‪49.....‬‬
‫‪ -2-2‬املنطق السردي يف خطاب الغفران‪63.....................‬‬
‫‪ -1-3-2‬االستطرادات يف خطاب الغفران‪64...................‬‬
‫‪ -2-3-2‬املفارقات الزمنية يف خطاب الغفران‪70...............‬‬
‫السرديّة الكربى‪70.............‬‬
‫الزمنيّة يف الوحدات ّ‬
‫أ‪ -‬املفارقة ّ‬
‫ب‪ -‬االسرتجاعات يف خطاب الغفران‪74......................‬‬

‫‪296‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫السردية يف الوحدات السردية الصغرى‪76...........‬‬


‫ج‪ -‬املفارقة ّ‬
‫‪ -3‬تقنيات اْلركة السردية يف خطاب الغفران‪79............‬‬
‫‪ -1-3‬تسريع السرد‪79...........................................‬‬
‫أ‪ -‬تقنية التلخيص‪80...........................................‬‬
‫ب‪ -‬تقنية احلذف‪82.............................................‬‬
‫‪ -2-3‬تبطيء السرد‪83..........................................‬‬
‫‪ -1-2-3‬اْلـ ـ ـ ـ ـ ـوار‪84..........................................‬‬
‫‪ -2-2-3‬تقنية الوصف‪87.......................................‬‬
‫أ‪ -‬وصف املكان‪87..........................................‬‬
‫• حميط اجلنّة‪89..........................................‬‬
‫• جنّة العفاريت‪90.......................................‬‬
‫• اجلحيم‪92.............................................‬‬
‫• احملشر‪93..............................................‬‬
‫ب‪ -‬وصف الشخصيات‪95.....................................‬‬
‫‪ -1‬ابن القارح‪ /‬املرسل‪96................................‬‬

‫‪ -2‬الشخصيات بني الواقع التارخيي والسرد التخييلي‪100...‬‬

‫‪297‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -1-2‬عتبة اخلطاب الغفراين‪100......................‬‬


‫‪ -2-2‬شخصيات اجلنان‪103..........................‬‬

‫أ‪ -‬بني الغفران والرمحة‪103............................‬‬


‫الصاحلة‪103..................‬‬
‫• سرد األقوال‪ /‬الرؤاي ّ‬
‫• سرد األقوال‪/‬الكلمة الطيبة‪104...................‬‬
‫ماوي‪105.................‬‬
‫الس ّ‬‫• سرد األقوال‪/‬ال ّدين ّ‬
‫• سرد األقوال‪ّ /‬‬
‫الشفاعة‪105........................‬‬
‫• سرد األقوال‪/‬التّوبة‪108 ..........................‬‬

‫‪ -3-2‬شخصيات اجلحيم‪109 ..........................‬‬


‫• موقف األخطل التغليب من اجلزاء‪109............‬‬
‫• موقف أوس بن حجر من اجلزاء‪110.............‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫وظائف اللغة السردية يف خطاب رسالة الغفران‬
‫‪ -1‬املفارقة اللغوية‪114....................................‬‬
‫‪ -1-1‬املفارقة اللغوية واحملاكاة الساخرة‪126....................‬‬

‫‪298‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫أ‪ -‬احملاكاة الساخرة على مستوى الكلمة‪129......................‬‬

‫• الدعاء ابلتمكني‪130.............................‬‬
‫• الدعاء له بسداد الرأي وهالك أعدائه‪133..........‬‬

‫ب‪ -‬احملاكاة الساخرة على مستوى الدور‪135.......................‬‬

‫• دور ّ‬
‫الغيب‪136..................................‬‬
‫• دور احملتال‪141..................................‬‬

‫‪ -‬احتياله يف احملشر‪141 .........................‬‬

‫‪ -‬إفراطه يف طلب املتع املادية‪144.................‬‬

‫‪ -‬استهتاره وجمونه‪146...........................‬‬

‫• دور ّ‬
‫املهرج‪148..................................‬‬

‫‪ -‬صراخ أمام خازن اجلنّة‪148 ....................‬‬

‫‪ -‬عبور ابن القارح الصراط‪149 ..................‬‬


‫‪ -‬شيخ هرم يهرول يف اجلنّة خائفا‪151.............‬‬

‫السرمدي‪154.....‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬بطل الغفران يتقلّب يف النعيم‬

‫‪299‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫‪ -2‬التن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاص‪156.........................................‬‬
‫‪ -1-2‬يف مفهوم املصطلح‪156..................................‬‬
‫‪ -2-2‬التناص يف خطاب الغفران‪167.............................‬‬
‫‪ -1-2-2‬التناص بني الغفران والقرآن‪168........................‬‬
‫أ‪ -‬التناص القرآين املباشر‪168...............................‬‬
‫• االستشهاد ابلقرآن يف اجلنّة‪169........................‬‬
‫• االستشهاد ابلقرآن يف احملشر‪170.......................‬‬
‫• االستشهاد ابلقرآن يف اجلحيم‪173......................‬‬
‫ب‪ -‬التناص القرآين غري املباشر‪177............................‬‬

‫• وصف نعيم اجلنّة‪177..................................‬‬


‫• يف وصف عذاب اجلحيم‪183...........................‬‬
‫‪ -2-2-2‬بني الغفران وقصة املفراج‪185...........................‬‬

‫أ‪ -‬املراقي بني الغفران وقصة املعراج‪186..........................‬‬

‫وقصة املعراج‪188..........................‬‬
‫ب‪ -‬احملشر بني الغفران ّ‬
‫وقصة املعراج‪190...................‬‬
‫ج‪ -‬مشاهد اجلنّة بني الغفران ّ‬

‫‪300‬‬
‫الخطاب السردي في رسالة الغفران‬

‫الفصل الثالث‬
‫تلقي خطاب رسالة الغفران‬
‫‪ -1‬تلقي اخلطاب الفالئي‪ ،‬بني اإلنصاف واإلجحاف‪195...........‬‬
‫‪ -2‬تلقي خطاب الغفران يف الفصر اْلديث‪207....................‬‬

‫‪ -4‬خطاب الغفران من منظور حقل التأثّي والتأثر‪218................‬‬

‫‪ -5‬تلقي خطاب الغفران وحدود التأويل‪228.........................‬‬


‫‪ -1-5‬التلقي اإليديولوجي‪228.....................................‬‬
‫‪ -2-5‬التلقي املفرفـ ـ ــي‪241........................................‬‬
‫‪ -3-5‬التلقي الفين‪248 ...........................................‬‬
‫الش عر‪250 .....................................‬‬
‫أ‪ -‬يف مفهوم ّ‬
‫الشعراء‪251.........................................‬‬
‫ب‪ -‬طبقات ّ‬
‫الشعر‪256..........................................‬‬
‫ج‪ -‬يف رواية ّ‬
‫‪ -‬اخلامت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪265......................................‬‬
‫‪ -‬امللخص ‪276..................................................‬‬
‫‪ -‬قائمة املصادر واملراجع‪293....................................‬‬
‫‪ -‬الفه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرس‪294..........................................‬‬

‫‪301‬‬
‫اﻟﻣﻠﺧص‬
‫اﻗﺗﺿت اﻹﺷﻛﺎﻟﯾّﺔ اﻟﻣطروﺣﺔ ﻓﻲ اﻟﺑﺣث ﺿﺑط ﺧطﺔ ﺗﺿﻣﻧت ﻣﻘدﻣﺔ‪ ،‬ﯾﺗﺑﻌﮭﺎ ﻣدﺧل‬
‫ﻧظريّ ‪ ،‬وﺛﻼﺛﺔ ﻓﺻول أﺳﺎﺳﯾﺔ ﻓﺧﺎﺗﻣﺔ‪ .‬ﻓﺄﻣّﺎ اﻟﻔﺻل اﻷوّ ل‪ ،‬ﻓﺧُ ﺻّص ﻟﺗﻘﻧﯾﺗﻲ اﻟرؤﯾﺔ‬
‫واﻟزﻣن ﻓﻲ اﻟﺧطﺎب اﻟﺳرديّ ﻟرﺳﺎﻟﺔ اﻟﻐﻔران؛ ﺣﯾث ﺗﻛﻔ ّل اﻟﻘﺳم اﻷوّ ل ﻣﻧﮫ ﺑﺗﺣدﯾد زاوﯾﺔ‬
‫اﻟرؤﯾﺔ اﻟﺳّردﯾﺔ اﻟﺗﻲ اﺗّﺧذھﺎ اﻟﺳّﺎرد ﻣوﻗﻌﺎ ﻟﮫ‪ ،‬وﻓﻲ اﻟﻘﺳم ّاﻟﺛﺎﻧﻲ ﻣن اﻟﻔﺻل ﺗ ّم ﻗﯾﺎس‬
‫ﺣرﻛﺔ اﻟﺳرد ﻣن ﺣﯾث ﺳرﻋﺗُﮭﺎ وﺑطؤھﺎ اﻋﺗﻣﺎدا ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﯾﻧﺔ اﻟﺗﻘﻧﯾﺎت اﻟﺗﻲ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ‬
‫ﻣﺳﺗوى اﻟﻣدّة ﻣن ﻣﺳﺗوﯾﺎت اﻟزﻣن اﻟﺳرديّ‪ ،‬وﻣن ﺛمّ‪ ،‬أﻓﺿﻰ اﻟﺗد ّرج اﻟﻣﻧﮭﺟﻲّ ﺑﺎﻟﺑﺣث‬
‫إﻟﻰ ﻣﺳﺎءﻟﺔ اﻟﺧطﺎب اﻟﻐﻔراﻧﻲّ ﻣن ﺣﯾث ﻣوﻗﻌﮫ ﻣن اﻷﺟﻧﺎس اﻷدﺑﯾّﺔ‪ ،‬ﺛ ّم ﺧﺻص اﻟﻔﺻل‬
‫اﻟﺛﺎﻧﻲ ﻟوظﺎﺋف اﻟﻠ ّﻐﺔ اﻟﺳردﯾّﺔ ﻓﻲ ﺧطﺎب رﺳﺎﻟﺔ اﻟﻐﻔران‪ ،‬ﻣﺧﺻّﺻﺎ ﻗﺳﻣﮫ اﻷوّ ل ﻟﻠﻣﻔﺎرﻗﺔ‬
‫اﻟﻠﻐوﯾﺔ‪ ،‬وأﻣّﺎ اﻟﻘﺳم ّاﻟﺛﺎﻧﻲ ﻣن اﻟﻔﺻل ﻓﺧُ ﺻّص ﻟظﺎھرة اﻟﺗﻧﺎص ﻓﻲ ﺧطﺎب اﻟﻐﻔران‪،‬‬
‫وأﺧﯾرا ﺗطرّق اﻟﺑﺣث ﻓﻲ ﻓﺻﻠﮫ اﻟﺛﺎﻟث إﻟﻰ ﺗﻠﻘ ّﻲ اﻟﺧطﺎب اﻟﺳرديّ رﺳﺎﻟﺔ اﻟﻐﻔران وﻓق‬
‫أﻓﻘﮫ اﻟﻘراﺋﻲّ ‪ :‬اﻟﺣﻘﯾﻘﻲّ ‪/‬اﻻﻓﺗراﺿﻲّ‪ ،‬ﻣﺳﺗدﻋﯾﺎ ﻗراءات اﻟﻘداﻣﻰ واﻟﻣﺣدﺛﯾن‪ ،‬وﻓﻲ اﻟﻘﺳم‬
‫اﻷﺧﯾر ﻣن ھذا اﻟﻔﺻل‪ ،‬آﺛر اﻟﺑﺣث أن ﯾﺧﺗم ﺑﻌرض ﺧطﺎب اﻟﻐﻔران ﻋﻠﻰ ﻣرآة اﻟﺗﻠﻘ ّﻲ ﻣن‬
‫ﺧﻼل ﻣﻼﻣﺳﺔ ﺣدود اﻟﺗﺄوﯾل وﻓق ﻣﺳﺗوﯾﺎت ﺛﻼث ھﻲ‪ :‬اﻟﺗﻠﻘ ّﻲ اﻹﯾدﯾوﻟوﺟﻲّ ‪ ،‬واﻟﺗﻠﻘﻲ‬
‫اﻟﻣﻌرﻓــﻲّ ‪ ،‬واﻟﺗﻠﻘﻲ اﻟﺗﺑﻠﯾﻐﻲّ ‪.‬‬

‫اﻟﻛﻠﻣﺎت اﻟﻣﻔﺗﺎﺣﯾﺔ‪:‬‬
‫اﻟﺧطﺎب اﻟﺳردي؛ اﻟﺗﻧﺎص؛ رﺳﺎﻟﺔ اﻟﻐﻔران؛ اﻟﺗﻠﻘﻲ؛ اﻟﻣﻔﺎرﻗﺔ اﻟﻠﻐوﯾﺔ؛ اﻟﻣﺣﺎﻛﺎة اﻟﺳﺎﺧرة؛‬
‫اﻷﻓق اﻟﻘراﺋﻲّ ؛ اﻟزﻣن اﻟﺳردي؛ اﻟﺗﻠﻘﻲ اﻟﺗﺑﻠﯾﻐﻲّ ؛ اﻟﺗﺄوﯾل‪.‬‬

‫ﻧوﻗﺷت ﯾوم ‪ 09‬ﯾﻧﺎﯾر ‪2019‬‬

You might also like