You are on page 1of 2

‫علم االجتماع بين الفيزياء الكالسيكية وفيزياء الكوانتم‬

‫سلمى فجاج‪ .‬جامعة القاضي عياض‪ .‬المغرب‪.‬‬

‫طالبة باحثة بسلك الدكتوراه‪ ،‬تخصص علم االجتماع‪ ،‬تحت إشراف ذ ‪.‬علي جعفري‪.‬‬

‫منذ نشأ ة علم االجتماع وهو يتخذ من الفيزياء نموذجا ابستيمولوجيا لفهم الظواهر االجتماعية‪ .‬ولعل‬
‫هذا التأ ثر يظهر أساسا من خالل باراديغم الحتمية والسببية الذي تبناه المؤسسون كقاعدة ميثودولوجية‬
‫لضمان الصفة العملية لعلم االجتماع‪ ،‬والذي يقضي بضرورة تشييء الظواهر االجتماعية وتفسيرها من‬
‫خالل قوانين عامة (كونت) أو سببيا (دوركاي م) كما تفسر الظواهر الفيزيائية‪ .‬اليوم‪ ،‬ومع تطور العلوم‬
‫وأساليب البحث فيها‪ ،‬فإن النظرة للعالم القائمة على الفيزياء الكالسيكية تم استبدالها بنظرة جديدة تستند‬
‫إلى الفيزياء الحديثة‪ ،‬وبشكل أساسي فيزياء الكوانتم‪.‬‬

‫هذا االنتقال من الفكر الكالسيكي إلى الفكر الكمومي‪ ،‬وما صاحبه من تغيرات ابستيومولوجية‬
‫وميثودولوجية‪ ،‬انعكس بدوره على الفكر السوسيولوجي وأساليب بحثه في الظواهر االجتماعية‪ .‬أسعى‬
‫من خالل هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على أشكال تأثر علم االجتماع منذ نشأته إلى اليوم‬
‫بالفيزياء‪ :‬الكالسيكية (علم االجتماع الكالسيكي) وبشكل أساسي الحديثة (علم االجتماع الكوانتم)‪.‬‬

‫‪ )1‬تأثر علم االجتماع الكالسيكي بالفيزياء لم يكن فقط نتيجة اعتماد رواد من علماء االجتماع‬
‫باراديغمات ونظريات وأساليب بحث معتمدة في الفيزياء لتفسير الظواهر االجتماعية‪ .‬بل أيضا ألن‬
‫علماء فيزياء حاو لوا بدورهم تفسير االجتماعي انطالقا من "الهابتوس المعرفي" أو "التطبع الذهني"‬
‫الذي يحكم نظرتهم للعالم الفيزيائي واالجتماعي‪ .‬على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬فكرة "الفيزياء‬
‫االجتماعية" التي تبناها كونت وبعده دوركايم لمأسسة علم االجتماع تعود للفيزيائي كيتلي‬
‫(‪ ،)Quételet‬كما أن أول من قام بالربط بين نظرية الكوانتم والعلوم االنسانية ‪-‬بما فيها علم االجتماع‪-‬‬
‫كان أيضا فيزيائيا‪ :‬بيتبول (‪ .)M. Bitbol‬سأحاول في موضع أول الكشف عن أن هذا التأثر لم يكن فقط‬
‫مجرد استعارات لمفاهيم و"مخادعات فكرية" تسعى من خاللها العلوم االجتماعية إلى تقمص هيبة العلوم‬
‫الطبيعية إلضفاء "طالء" من الصرامة والدقة على خطاباتها ( ‪،)Alan Sokal, Jean Bricmont‬‬
‫بل إنه كان تأثرا على مستوى أعمق‪ :‬على مستوى منطق الفكر وأساليب البحث‪ ،‬وكان نتاجا ألخذ ورد‬
‫من متخصصين في المجالين حالوا تفسير االجتماعي‪ ،‬وبالتالي كانت له الشرعية الكافية لدحض الطرح‬
‫السابق‪.‬‬

‫‪ ) 2‬سأستحضر مثاال لدراسة ظاهرة اجتماعية انطالقا من فيزياء الكوانتم‪ .‬ظاهرة الحركات‬
‫االحتجاجية التي تظهر وتتغدى أساسا من شبكات التواصل االجتماعي‪ .‬كلينيكوف (‪ )Klennikov‬في‬
‫عام ‪ 2016‬الحظ أنه بالرغم من أن األسباب والظروف التي تؤدي لهذه الظواهر تختلف من نسق‬
‫اجتماعي آلخر ‪ ،‬إال أنها تخضع لنفس النموذج من حيث الميكانيزمات التحتية‪ ،‬وأن هذا النموذج كان‬
‫مشاب ًها جدًا لنموذج تشكيل الليزر في فيزياء الكوانتم‪ .‬نموذج اإلثارة االجتماعية‪ :‬حيث )‪ (1‬يتحول الفرد‬
‫الى "ذرة اجتماعية" )‪ (2) ، (Social atom‬وبفعل غزارة المعلومات على وسائل اإلعالم حول‬
‫موضوع االحتجاج يحدث اكتظاظ للمعلومات (‪ )Information overload‬يعطل قدرة الفرد على‬
‫التحليل واتخاذ قرارات عقالنية ويجعله فقط "يتبع التدفق"‪ )3( .‬يتم إنشاء رنان اجتماعي ( ‪Social‬‬
‫‪ )resonator‬قوي يعتمد على غرفة صدى اإلنتر نت‪ .‬في مثل هذا الرنان‪ ،‬تؤدي التغذية الراجعة‬
‫المستمرة للمعلومات إلى تحفيز "الطاقة االجتماعية" للذرات االجتماعية وتماسكها مما يؤدي لتولد‬
‫الحركات االجتماعية واستمرارها لمدة من الزمن‪.‬‬

‫‪ )3‬سأحاول بعد ذلك عرض التغيرات االبستيمولوجية التي نتجت عن االنتقال من الفكر الكالسيكي‬
‫إلى الفكر الكمومي‪ .‬بعد أن كان علم االجتماع منذ نشأته يسعى للتحلي بمقاييس علمية الفيزياء والعلوم‬
‫الطبيعية (الموضوعية ‪-‬فصل الذات عن الموضوع‪ ،-‬الحتمية وصياغة قوانين عامة‪ ،‬القدرة على التنبؤ‪،‬‬
‫القابلية للدحض)‪ ،‬وكان يعاب على عدم بلوغه مستوى أعلى من هذه المقاييس مما جعل بعض‬
‫االبستيمولوجيين يشكك في علميته ويصنفه كتخصص شبه علمي (‪ .)Pseudoscience‬اليوم‪ ،‬فيزياء‬
‫الكوانت م قامت بمساءلة مقاييس العلمية تلك المعتمدة في الفيزياء الكالسيكية وتبنت مقاييسا جديدة تبدو‬
‫أكثر مالئمة لدراسة واستيعاب تعقد الظواهر االجتماعية ‪ ،‬وأكثر انسجاما مع ما وصل إليه علم االجتماع‬
‫من مبادئ ابستيمولوجية ملموسة‪ .‬تعمل فيزياء الكوانتم‪ ،‬كما هو حال علم االجتماع‪ ،‬على مجال بحث‬
‫يصعب فيه الفصل بين ما يتم استكشافه ووسيلة االستكشاف‪ ،‬بين فعل المالحظة وما تتم مالحظته مما‬
‫يؤثر على مجال ومخرجات الدراسة (‪ ،)M. Bitbol‬ويستدعي تغييرا في المبادئ العلمية المؤسسة‬
‫(التخلي عن الحتمية الكونية لصالح الحتمية النسبية‪ ،‬عن القوانين العامة لصالح القوانين االحتمالية‪ ،‬وعن‬
‫مبدأ التنبؤ لصالح االحتمالية)‪.‬‬

‫‪ )4‬انفتاح علم االجتماع ‪-‬والعلوم االجتماعية بصفة عامة‪ -‬على فيزياء الكوانتوم جعل منه تخصصا‬
‫متداخل التخصصات (‪ )Interdisciplinary discipline‬يتجاور ال منهج االختزالي ليقارب الظواهر‬
‫االجتماعية من أبعاد متعددة‪ ،‬وب ميثودولوجيا جمع معطيات وتحليل متقدمة‪ :‬سأتحدث هنا عن اعتماد‬
‫البيانات الضخمة والذكاء االصطناعي لتحليل الظواهر االجتماعية في إطار ما يسمى بعلم االجتماع‬
‫الحاسوبي كتخصص قرين ساهم في نشوء وتطور علوم اجتماع الكوانتوم‪.‬‬

You might also like