You are on page 1of 45

‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬

‫جامعة العقيد أكلي محند أولحاج‪-‬البويرة‪-‬‬

‫كلية العلوم االنسانية واالجتماعية‬

‫قسم علوم االعالم واالتصال‬

‫محاضرات في مقياس‪:‬‬

‫ابستمولوجيا علوم االعالم واالتصال‬

‫السنة األولى ماستر‪ :‬تخصص عالقات عامة‬

‫إعداد‪ :‬د‪ .‬ليلى كرفاح تيطاح‬

‫الرتبة‪ :‬أستاذ مساعد‪-‬ب‪-‬‬

‫السنة الجامعية‪2024/2023:‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-1‬أهداف التعليم‪:‬‬

‫يهدف إلى تعريف الطالب بالطابع المعرفي والعلمي لعلوم اإلعالم واالتصال من حيث نشأتها وتطورها‬
‫ومساهمة مختلف النظريات االجتماعية واالتصالية في تأطير الفعل االتصالي وإبراز علمية هذه العلوم كحقل‬
‫مستقل‪.‬‬

‫‪-2‬المكتسبات القبلية‪:‬‬

‫يكون الطالب على دراية باالبستمولوجيا ونماذج االتصال‪.‬‬

‫‪-3‬برنامج المقياس‪:‬‬

‫المحاضرة (‪ :)1‬مدخل إلى االبستمولوجيا‪:‬‬


‫مفهوم االبستمولوجيا‬ ‫‪-‬‬
‫مهام االبستمولوجي‬ ‫‪-‬‬
‫عالقة االبستمولوجيا بالعلوم األخرى‬ ‫‪-‬‬

‫المحاضرة ‪ :2‬أهم االتجاهات االبستمولوجية‬

‫ديكارت‬

‫ايمانويل كانط‬

‫غاستون باشالر‬

‫ميشال فوكو‬

‫كارل بوبر‬

‫المحاضرة (‪ :)3‬طبيعة البحث في االتصال‬ ‫‪-‬‬


‫المحاضرة (‪ :)4‬تصاريح البحث في االتصال وميالد علوم اإلعالم واالتصال‬ ‫‪-‬‬
‫المحاضرة (‪:)5‬ثالوث النماذج االتصالية ( الوضعاتية‪ ،‬النسقية والبنائية)‬ ‫‪-‬‬
‫المحاضرة (‪ :)6‬النماذج الوضعاتية‪ ( :‬نموذج نظرية اإلعالم‪ ،‬نموذج " الرياضية‪ -‬المعلومات"‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫االتصال على مستويين)‬
‫المحاضرة (‪ :)7‬النماذج النسقية ( النموذج السوسيومتري‪ -‬التفاعلي‪ -‬التبادلي‪ -‬الدرامي)‬ ‫‪-‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫يهتم هذا المقياس بالوضعية االبستمولوجية لعلوم اإلعالم واالتصال‪ ،‬ويدرس كيفية تشكل هذا المجال‬
‫ومعرفة موقعه في خارطة العلوم‪ .‬فمجال اإلعالم واالتصال حديث النشأة‪ ،‬ومن الدارسين من يعتبره علما‬
‫قائما بذاته‪ ،‬ومنهم من يعتبره مجال بحث مفتوح‪ .‬كما يهتم هذا البحث ببراديغم التعقيد المطروح بقوة في‬
‫اإلعالم واالتصال ذلك ألن هذا المجال نما انطالقا من حقول معرفية عديدة في العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬
‫مثل الفلسفة‪ ،‬وعلم االجتماع‪ ،‬وعلم النفس االجتماعي‪ ،‬والفيزياء والرياضيات‪ .‬وهذا ما يجعل القضايا البحثية‬
‫والتعليمية في اإلعالم واالتصال قضايا مركبة ال تعمل ببراديغم التبسيط‪ .‬ويطرح هذا البحث مسألة التناهج‬
‫بين العلوم كشكل من أشكال التحاور بين العلوم من أجل إيجاد الحلول للمشكالت اإلنسانية والبيئية ‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫المحاضرة األولى‪ :‬مدخل إلى االبستمولوجيا‪:‬‬

‫‪-1‬مفهوم االبستمولوجيا‪:‬‬

‫لقد كان للتحوالت العلمية على الدوام صداها على الفلسفة حيث كانت مناسبات النتعاشها وميالدها من‬
‫جديد‪ ،‬وإعادة النظر في أسسها وفحص مفاهيمها‪ .‬فالعلم يخلق فلسفة والفلسفة مضطرة ألن تكون مفتوحة‬
‫تتلقى دروسها من العلم وال تأتي إليه بأحكامها وإسقاطاتها‪.‬‬

‫األبحاث االبستمولوجية نشطت أعقاب الثورة العلمية الحديثة المرتبطة بحركات نقدية نابعة من داخل األنساق‬
‫العلمية ذاتها‪ ،‬بما يعني أنه من الحقائق الثابتة في نطاق العلوم وتاريخها أن النقد الدائم أصل من أصول‬
‫الحياة اإلنسانية الواعية وشرط من شروط حركية الواقع البشري‪ .‬بذلك يعتبر النقد حالة صحية‪ ،‬فهو بمثابة‬
‫مساءلة وتحليل ومراجعة لألفكار والواقع واألفعال التي تنطلق من معايير معينة وشروط محددة من أجل خلق‬
‫سياقات معرفية جديدة‪.‬‬

‫أ‪-‬ايتيمولوجية المفهوم‪:‬‬

‫يعتبر مصطلح االبستمولوجيا مصطلحا يونانيا يتألف من شقين " ‪ "Epistime‬وتعني العلم أو المعرفة‪،‬‬
‫و"‪"Logos‬وتعني دراسة‪ ،‬نقد أو نظرية‪ .‬لذلك بحكم االشتقاق اللغوي فإن مصطلح االبستمولوجيا يعني‬
‫"نظرية العلم أو "نظرية المعرفة"‪.‬‬

‫ب‪-‬اصطالحا‪ :‬البدايات األولى لتداول مصطلح االبستمولوجيا‬

‫أول من تبنى المصطلح هو الفيلسوف االسكتلندي "جيمس فريدريك فريرر"(‪ ،)1864-1808‬وهو أستاذ‬
‫الفلسفة األخالقية في جامعة سانت أندروز من أشهر مؤلفاته كتابه المعنون " مقدمة في فلسفة الوعي"والذي‬
‫كان في حقيقته سلسلة مقاالت نشرها مابين العامين ‪ 1838‬وفي ‪ 1839‬في مجلة " بالك وود" ‪( black‬‬
‫)‪ wood‬وهو كتاب نقدي للفالسفة وذلك لتجاهلهم الوعي في أبحاثهم النفسية‪ .‬ومن مؤلفاته األخرى كتابه "‬
‫أزمة التأمل الحديث"الذي ظهر في العام ‪.1841‬‬

‫يعرف "الالند" )‪ (Lalande‬في معجمه االبستمولوجيا بأنها "فلسفة العلوم"ثم يضيف ولكن بمعنى آخر‬
‫أكثر خصوصية فهي ليس بالضبط دراسة المناهج العلمية‪ ،‬هذه الدراسة التي لها موضوع الميتودولوجيا‪،‬‬
‫والتي تشكل جزءا من المنطق‪ ،‬وليس كذلك تركيبا أو استنباطا للقوانين العلمية وإنما هي أساس الدراسة‬
‫النقدية لمبادئ مختلف العلوم ولفروضها ونتائجها بقصد تحليل أصلها المنطقي ال السيكولوجي وبيان قيمتها‬
‫وحصيلتها الموضوعية‪ .‬ما يعني أن االبستمولوجيا بصفة جوهرية هي الدراسة النقدية للمبادئ والفرضيات‬
‫والنتائج العلمية‪ .‬الدراسة الهادفة إلى بيان أصلها‪ ،‬وقيمتها الموضوعية‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫أما "بول موري" فيرى أن االبستمولوجيا هي النقد العلمي للمعرفة ‪ ...‬ومهمتها دراسة المنهج العام للعلوم‬
‫والعمليات التي يطبقها العقل البشري على العلوم‪ .‬يضفي "بول موري" في تعريفه الطابع الفلسفي لماهية‬
‫االبستمولوجيا من خالل تركيزه على دور العقل البشري بملكاته ومقوماته التحليلية النقدية وما يمارسه من‬
‫عمليات فكرية على مختلف المعارف‪.‬‬

‫يعرفها محمد قاسم أن االبستمولوجيا هي " دراسة نقدية واعية لطبيعة ومناهج العلم وتصوراته ومبادئه فتناول‬
‫بالفحص والتدقيق والمبادئ واألسس والبناء المنطقي ألي نسق علمي باستعمال االستقراء واالستنباط‬
‫والتحقيق‪.‬‬

‫إن االبستمولوجيا–انطالقا‪ -‬من تعريفها‪ -‬تهتم بالدراسة النقدية لقضايا "العلم" القديمة والحديثة‪ ،‬فهي في حوار‬
‫فلسفي ومنهجي مستمر مع القضايا العلمية داخل النسق الفكري العلمي‪ ،‬وخارجيا في اكتشاف العالقات‬
‫المختلفة التي تربط مختلف المعارف وفق تصور فلسفي معين‪ ،‬ينطلق من الحقيقة ليعود إليها في جدال‬
‫وحوار مستمر بحثا عنها‪.‬‬

‫تعد نظرية المعرفة أقرب المباحث من االبستمولوجي حيث تعد االبستمولوجيا اشتقاقا منها‪،‬فنظرية‬
‫المعرفة تهتم بدراسة المشكالت التي تثيرها العالقة بين الذات والموضوع‪ .‬واالبستمولوجيا تتناول مشكالت‬
‫وقضايا خاصة بالمعرفة العلمية فقط ولذلك فلكل علم أو اختصاص ابستمولوجيته والتي يدرسها أهل‬
‫االختصاص من علماء‪ ،‬عكس نظرية المعرفة التي تعالج موضوعاتها فالسفة‪ ،‬والتي ال تقتضي إلماما بالعلم‬
‫أو االختصاص المدروس‪.‬‬

‫يقول "بياجي"‪ " :‬إن المناسبات التي يزهر فيها التفكير االبستمولوجي هي األزمات التي يمر بها هذا العلم أو‬
‫ذاك‪ ،‬وأن علة هذه األزمات هي التغيرات المتعلقة بالمناهج التي تستخدم في هذه العلوم ‪ ،‬وأن تجاوز هذه‬
‫األزمات مشروط باختراع "مناهج جديدة"‪ .‬فالتفكير االبستمولوجي داخلي يبحث عن األسس والتركيبات‬
‫الداخلية لنسق المعرفة‪.‬‬

‫تحاول االبستمولوجيا اإلجابة عن أسئلة مهمة‪:‬‬

‫أ‪-‬هل المعرفة ممكنة أم غير ممكنة ؟‬

‫ب‪-‬ما لذي يمكن أن نعرفه؟‬

‫ج‪-‬كيف نعرف ما نعرفه؟‬

‫د‪-‬كيف يمكن توظيف ما نعرفه؟‬


‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫قدمت االبستمولوجيا نفسها على أنها الناقد لإلنتاج العلمي‪ ،‬بإبراز أسسه المعرفية التي ينطلق منا ومراجعة‬
‫مقوالته ومفاهيمهن ونظرياته‪ ،‬بالتالي إبراز عوائقه وأزماته والقطيعات التي تحدث خالل مسيرته‪ ،‬وبذلك‬
‫اعتبرت االبستمولوجيا حدثا تاريخيا‪ ،‬غير ميكانيزمات التفكير التقليدي‪.‬‬

‫يقول "كارل مانهيم ")‪" (Karl Mannheim‬عملت االبستمولوجيا على إنهاء الشك باعتمادها على نقطة‬
‫انطالق ال تستند إلى تلقين وثوقي لنظرية الوجود‪ ،‬وال إلى نظام كوني يستمد مصداقيته من نوع متعال من‬
‫المعرفة‪ ،‬لكن تعتمد على تحليل الذات العارفة"‬

‫االبستمولوجيا كحقل معرفي‪ :‬لماذا نحتاج لحقل معرفي مثل االبستمولوجي؟ا‬

‫قدم أرسطو(‪ 322-384‬قبل الميالد) اإلجابة عندما قال أن الفلسفة تبدأ بنوع من التعجب أو الحيرة‪.‬‬
‫بحيث يرغب جميع البشر تقريبا في فهم العالم الذي يعيشون فيه ويقوم العديد منهم ببناء نظريات من مختلف‬
‫األنواع لمساعدتهم على فهم العالم‪ .‬وألن العديد من جوانب العالم تتحدى التفسير السهل‪ ،‬فمن المرجح أن‬
‫يتوقف معظم الناس عن جهودهم في مرحلة ما ويكتفون بأي درجة من الفهم تمكنوا من تحقيقها‪ ،‬على عكس‬
‫معظم الناس‪ ،‬فإن الفالسفة مفتونون ‪ are captived‬كما يقول البعض مهووس بفكرة فهم العالم بأكبر‬
‫المصطلحات العامة الممكنة‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإنهم يحاولون بناء نظريات إجمالية‪ ،‬ودقيقة وصفيا وقوية‬
‫من الناحية التفسيرية‪.‬‬

‫تعتبر نظرية المعرفة قلب الفلسفة حيث بدأ بعض الفالسفة األوائل مشروعهم بطرح أسئلة نعتبرها اليوم‬
‫ذات طبيعة معرفية‪.‬وهذا أمر منطقي عندما تفكر في األمر‪ ،‬ألن التفكير األعمق في الطبيعة الدقيقة للمعرفة‬
‫من شأنه أن يوفر للفيلسوف وسيلة أفضل لتصنيف ما يتعلمونه من خالل عملية الفلسفة‪.‬ولكن لماذا حتى‬
‫طرح هذه األسئلة؟أال نستخدم المعرفة كل يوم؟أليس من الهزيمة الذاتية حتى طرح أسئلة مثل هذه؟ماذا‬
‫تعرف؟ … هذا ألن الفالسفة‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬ال يحبون اعتبار أي شيء أم ار مفروغا منه‪ ،‬يحب الفالسفة أن‬
‫يضعوا أمام المجهر االفتراضات األساسية التي يتم تطبيقها دون وعي في حياة معظم الناس اليومية‪ .‬ويمكن‬
‫مالحظة ذلك في بعض كتابات الفلسفة األكثر شهرة‪ ،‬مثل رمزية الكهف ألفالطون ووساطات رينيه ديكارت‬
‫كالهما أبدعا في دعوة قرائهما لالنغماس في نوع غريب من الشك حول الواقع ‪.‬‬

‫إن اإلنسان مجبول بالفطرة على غريزة المعرفة والفضول واالستكشاف‪ ،‬فهو دائما يريد أن يعرف ما هو وراء‬
‫األشياء المحسوسة التي يراها أمام عينه وما هي أسباب حدوثها بهذا الشكل وليس بآخر‪ ،‬كما أنه يريد أن‬
‫يعلم ما هو غير مدرك بالحس‪ ،‬وهي األمور والمعاني المعنوية المجردة مثل القيم واألخالق وغيرها من‬
‫األمور غير المحسوسة‪ .‬فاإلنسان دائم البحث عن المعرفة وهو دائم التساؤل‪ ،‬ومبحث االبستمولوجيا أو‬
‫نظرية المعرفة يبحث في هذه األشياء‪ .‬فقديما تطرق الفالسفة إلى ماهية المعرفة وكيف يمكن أن تكتسب؟‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫وما هي قيمة المعرفة؟ وما الفرق بين العلم والمعرفة؟ بل وما عالقة العلم بالمعرفة؟ فهذه هي المباحث التي‬
‫تبحث فيها االبستمولوجيا والتي حاولت العديد من المدارس الفلسفية الرد على هذه األسئلة محاولين تفسير‬
‫ما توصلت إليه البشرية من علوم ومعارف واكتشافات ونتائج غيرت الكثير من مالمح العالم سواء على‬
‫صعيد العلم الطبيعي أو الرياضي أو اإلنساني‪.‬‬

‫ويمكن تسجيل استنتاجين من تعريف االيبستيمولوجيا‪:‬‬

‫‪ -‬االيبستيمولوجيا هي خطاب حول العلم ‪ ،discours sur la science‬أي أنها ال تسبق العلم وإنما تأتي‬
‫بعده‪.‬‬

‫‪ -‬االيبستيمولوجيا هي خطاب نقدي حول المعرفة العلمية‪ ،‬أي حول كيفية تشكلها وتطورها‪.‬‬

‫ولذلك يجب على طلبة االيبستيمولوجيا التحكم في تعريف العلم والمعرفة العلمية باعتبارهما يمثالن موضوع‬
‫االيبستيمولوجيا‪ .‬ونشير أيضا إلى ضرورة التمييز مفاهيميا بين ماهو معرفة علمية وماهو معرفة غير علمية‪.‬‬

‫وبهذا يصبح هناك مجالين أو اهتمامين لالبستيمولوجيا‪:‬‬

‫‪ -‬جانب وصفي ‪ :aspect descriptif‬ويجيب هذا الجانب على سؤال ما هي البنية والحركية الداخلية‬
‫لمجال أو حقل علمي معين؟‪.‬‬

‫‪ -‬جانب معياري ‪ :aspect normatif‬ويهتم هذا الجانب بتعريف ما هو العلم‪ ،‬أو تحديد حقل ما هو علم‬
‫ويجيب هنا على سؤال‪ :‬ما هو العلم أو متى نكون بصدد حقل علمي؟‪.‬‬

‫وتستعين االيبستيمولوجيا بمنهجين أساسيين‪:‬‬

‫‪ :La méthode synchronique -‬وهو منهج مباشر ال يربط المعرفة بتطورها التاريخي وإنما يدرسها في‬
‫لحظتها الحالية من خالل دراسة محتواها ومناهجها‪ ،‬وهذا ما يسمى بالمنهج المباشر أو التحليل المباشر‬
‫‪.analyse direct‬‬

‫‪ :La méthode diachronique -‬وهو منهج يربط تحليل االختصاصات العلمية بتاريخ تطورها ابتداء‬
‫من ميالدها ثم تطورها وتحولها إلى نظريات علمية‪ ،‬وهو بهذا عبارة عن تحليل جينيتيكي ‪analyse‬‬
‫‪ génétique‬مقابل للتحليل المباشر في المنهج األول‪ ،‬وهذا التوجه يطرح سؤال التطور العلمي‪ ،‬أو ما سمته‬
‫األعمال الكبرى بتاريخ العلوم وهنا ندرس‪:‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫*تاريخ التخصصات العلمية‪.‬‬

‫*تاريخ النماذج والنظريات‪.‬‬

‫‪-2‬خصائص اإلبستيمولوجيا‪:‬‬

‫تكتسب اإلبستيمولوجيا بناء على تعريفها خاصيتين بارزتين‪ ،‬فهي‪:‬‬

‫‪ -1‬خطاب تدبُّري ‪ ،réflexif‬بمعنى خطاب يسقط نفسه على العلوم‪ ،‬ذلك أنها تفترض مسبقا وجود العلم‪،‬‬
‫وتأتي بعده لزاما‪.‬‬

‫‪-2‬خطاب نقدي ‪ ،critique‬حيث ال تكتفي بوصف العلوم دون محاكمتها‪ ،‬أي مناقشة سالمة األسس التي‬
‫قامت عليها‪.‬‬

‫‪ -3‬االبستمولوجيا والعلم‪:‬‬

‫يرتبط ظهور مصطلح االبستمولوجيا بتاريخ الحركة العلمية خاصة خالل القرنين الثامن والتاسع عشر‪.‬‬
‫ولئن كان المصطلح جديدا فإن الحركة العلمية والممارسات النقدية الفلسفية المنطقية على العلم قديمة قدم‬
‫الفكر اليوناني‪ ،‬فأول من تعرض لها كان الفيلسوف اليوناني" بارميندس" من خالل مقولته "أن هناك وجودا‬
‫يتعدى كل ما تعرفه التجربة العادية" ليتطور األمر تدريجيا مع سقراط وأفالطون خاصة من خالل مؤلف هذا‬
‫األخير الموسوم ب" محاورة ثياتينوس" التي شغلت المعرفة وتعريفها حي از واسعا منها"‪.‬‬

‫بعدها تتوالى تطورات المسار العلمي في هذا الشأن إلى أن ظهر مؤلف الفيلسوف " جون لوك " سنة ‪1690‬‬
‫والموسوم ب" مبحث في الفهم اإلنساني" الذي تناول بإسهاب موضوع االبستمولوجيا في حيز كبير‪ .‬وبعد أن‬
‫تراكم نتاج الحركة النقدية للعلوم التي تناولت طبيعة القوانين ونظريات الفيزياء وقوانين الرياضيات عندها‬
‫اجتمعت الكفاءة العلمية مع التفكير الفلسفي وجدت االبستمولوجيا نفسها قد تكونت بوصفها مبحثا أصيال‪.‬‬

‫وقد أكد "بوبر" من جهته أن مشكالت االبستمولوجيا مرتبطة بمشكلة نمو المعرفة لذلك وجب التركيز على‬
‫تتبع حركات نمو هذه المعرفة ودراستها‪ ،‬فالمعرفة ليس لها حدود نهائية ألن العلم قائم على تصحيح العلم‪،‬‬
‫ألنه وكما يرى "باشالر" يجب النظر إلى المعرفة من زاوية تطويرها في الزمان كتكوين من ناحية وباعتبارها‬
‫لم ولن تكتمل من ناحية أخرى وهو ما أسماه "باشالر" الفلسفة المفتوحة‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪ -4‬المعرفة‪:‬‬

‫عبارة عن مجموعة المعاني والتصورات‪ ،‬اآلراء‪ ،‬المعتقدات والحقائق التي تتكون لدى اإلنسان نتيجة‬
‫لمحاوالته المتكررة لفهم الظواهر واألشياء المحيطة به‪ ،‬والمعرفة مفهومها ليس مرادفا لمفهوم العلم‪ ،‬فالمعرفة‬
‫تتضمن معارف علمية وأخرى غير علمية‪ ،‬فكل علم معرفة إال أنه ليس بالضرورة أن كل معرفة علما‪ .‬يكمن‬
‫الفرق بين العلم والمعرفة على أساس األسلوب والمنهج التفكيري الذي من خالله يتم تحصيل المعرفة‪.‬‬

‫يمكن تعريف العلم وفق ما ذهب إليه فيلسوف العلم الفرنسي "هنري بوانكاريه"‪ ،‬في كتابه قيمة العلم بأنه‪:‬‬
‫"طريقة في تقريب الحوادث التي تفصل بينها المظاهر‪ ،‬رغم أنها مرتبطة بقرابة طبيعية وخفية‪ ،‬فالعلم هو‬
‫نسق من العالقات‪ .‬هو عبارة عن المعرفة المنسقة التي تنشأ من المالحظة والدراسة والتجريب‪ ،‬وهو مجموع‬
‫الخبرات اإلنسانية التي تجعل اإلنسان قاد ار على التقدير أو فهم الظواهر الكونية من أسباب وآثار"‪.‬‬

‫الفرق بين العلم والمعرفة‪ :‬يكمن الفرق بين العلم والمعرفة في كون األخيرة إدراك للجزئي‪ ،‬في حين أن العلم‬
‫علمت هللا‪ ،‬ألن من شروط العلم أن يكون العالم‬
‫ُ‬ ‫فت هللا وال تقول‬
‫هو إدراك للكلي‪ ،‬ولذلك تقول مثال عر ُ‬
‫محيطا بأحوال المعلوم إحاطة تامة‪.‬‬

‫مصادر المعرفة‪:‬‬

‫الحسية‪ :‬هي المرحلة التي كان اإلنسان يعتمد فيها على حواسه كمعرفة كل ما يدور حوله‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬ ‫‪-1‬المعرفة‬
‫التزال مستمرة لوقتنا الحالي‪ ،‬ويمكن تسميتها بمرحلة طفولة العلم‪ ،‬وهي أولى المصادر التي اعتمد عليها‬
‫اإلنسان في تفسير الظواهر‪".‬حواسنا تخدعنا"‬

‫‪-2‬مرحلة االعتماد على التقاليد ومصادر الثقة‪ :‬كانت تفسر الظواهر تبعا ألفكار بعض الحكماء والقدامى‪،‬‬
‫وهي معارف متوارثة تتحول في كثير من إلى تقاليد يحافظ عليها األجيال كما قد تكون المعرفة مفروضة من‬
‫طرف القبيلة أو السلطة بشكل أعم‪ ،‬وهذا ما نجده في العصور الوسطى مع سيطرة الكنيسة وفرضها للحقائق‪.‬‬

‫‪-3‬المعرفة الفلسفية‪:‬وهي معرفة تعتمد على التأمل والحوار والتدليل‪ ،‬فهي مرحلة اعتمد فيها على التدليل‬
‫المنطقي من خالل استنتاجات منطقية وهذا ما نجده في أفكار أفالطون وأرسطو إال أن هذه المعرفة تخدع‬
‫الباحث أحيانا ألنها ترتكز على العمليات العقلية والحوار الماهر‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-4‬مرحلة المعرفة العلمية‪:‬وهي مرحلة التحقيق العلمي من خالل وضع الفروض وإجراء التجارب‬
‫واستخالص النتائج وهي مرحلة تحويل الظاهرة الكيفية إلى كمية وهي ال تقف عند المفردات الجزئية التي‬
‫يقوم اإلنسان ببحثها بل تتجاوز ذلك حتى يصل إلى قوانين ونظريات عامة وهذا ما عبر عنه "أوغست‬
‫كونت"‬

‫سر الظواهر تفسيرا علميا"‪.‬‬ ‫« ّ‬


‫أن المعرفة العلمية جاءت في مرحلة متأخرة من تطور العقل اإلنساني‪ ،‬حينما استطاع أن يف ّ‬

‫‪ -‬مصدر المعرفة العلمية‪:‬الغالب في ميدان اإلبستيمولوجيا هو القول بطريقتين للحصول على المعرفة‬
‫العلمية‪ ،‬وتتمثالن في أطروحتي االستقراء واالستنباط‪ ،‬أما االستقراء فهو استدالل مستمد من مالحظة وقائع‬
‫خاصة‪ ،‬بهدف استخالص افتراضات عامة‪ ،‬في حين أن االستنباط هو استدالل مستمد من افتراضات عامة‪،‬‬
‫بغية التحقق من صحتها في الواقع‪.‬‬

‫‪ -5‬عالقة االبستمولوجيا بالحقول المعرفية األخرى‪:‬‬

‫من الصعب إقامة حدود فاصلة بين االبستمولوجيا ومختلف الدراسات واألبحاث الدراسات واألبحاث‬
‫المشابهة‪ .‬كما حاول"الالند" التمييز بينها في تعريفه لالبستومولوجيا‪ ،‬فالغالب أن االبستمولوجيا تعالج مسائل‬
‫هي باألصالة من ميدان الميتودولوجيا أو المنطق أو فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة‪.‬‬

‫أ‪ -‬االبستمولوجيا ونظرية المعرفة‪:‬‬

‫تهتم نظرية المعرفة بتحليل طبيعة المعرفة‪ ،‬كما تهتم بدراسة المشكالت التي تثيرها العالقة بين الذات‬
‫العارفة والموضوع‪ ،‬لذلك فنظرية المعرفة هي مصطلح مركب من لفظين وهما نظرية وهي تركيب عقلي‬
‫مؤلف من تصورات منسقة تهدف إلى ربط النتائج بالمبادئ والمقدمات أو هي فرض علمي يربط عدة قوانين‬
‫ببعضها‪ .‬أو ب تعبير آخر فالمعرفة هي ذلك الفعل الذي تستطيع بواسطته الذات أن تسيطر عقليا على‬
‫موضوع معين بهدف اكتشاف خصائصه المميزة‪.‬‬

‫والثاني المعرفة في التحليل الفلسفي هي ثمرة التقابل واالتصال بين ذات مدركة وموضوع مدرك‪ ،‬ومعنى ذلك‬
‫أن المعرفة عملية إدراك‪ ،‬فعندما يدخل الموضوع في عالقة معرفية يصبح معروفا أي مدركا‪ ،‬أو هي العلم‬
‫الذي يبحث في المسائل المتصلة بطبيعة العلم اإلنساني‪.‬‬

‫تقر أغلب المسوح األدبية ضرورة التمييز بين االبستمولوجيا ونظرية المعرفة‪ ،‬استنادا أن االبستمولوجيا تهتم‬
‫بنظرية المعرفة العلمية‪ ،‬في حين تتناول نظرية المعرفة كل أنواع المعارف‪ .‬محاولة تفسير العالقة بين‬
‫االبستمولوجيا ونظرية المعرفة نجد أنفسنا أمام أمام ثالث اتجاهات‪:‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫▪ االتجاه األول‪ :‬يعتمده الناطقون باللغة االنجليزية فقد ساوى هؤالء في االستخدام بين لفظ ابستمولوجيا‬
‫ونظرية المعرفة ولم يقيموا أي تفرقة بين الميدانين‪ .‬يقول كاتب مادة " االبستمولوجيا" في دائرة المعارف‬
‫الفلسفية )‪ (Encyclopedia of philosophy‬مايلي‪" :‬االبستمولوجيا أو نظرية المعرفة هي ذلك الفرع‬
‫من فروع الفلسفة الذي ينصرف إلى دراسة طبيعة المعرفة وحدودها‪ ،‬ويهتم بتحديد األسس والفروض التي‬
‫تستند اليها" وإلى نفس هذا المعنى تقريبا ذهب كاتب مادة االبستمولوجيا في دائرة المعارف البريطانية(‬
‫‪.)1961‬‬
‫▪ االتجاه الثاني‪ :‬يمثل موقف االبستمولوجيين الفالسفة الذين يؤكدون على وجود تقارب بين االبستمولوجية‬
‫ونظرية المعرفة‪ ،‬فالعالقة بينهما حسب هؤالء هي عالقة الجنس بالنوع‪ ،‬ألن االبستمولوجيا تبحث في‬
‫صورة معينة من المعرفة وهي المعرفة العلمية‪ .‬وعلى الرغم من ذلك فالتمييز سرعان ما يمحى عندما‬
‫نرجع النوع إلى هذا الجنس وحده‪ ،‬حيث هناك من الفالسفة الذين يطلقون تعبير المعرفة على المعرفة‬
‫العلمية ويرون أن كل ماعدا ذلك فهو لفظ خال من المدى المعرفي‪.‬‬
‫▪ االتجاه الثالث‪ :‬يمثله الفالسفة الذي ينتمون إلى الوضعية المنطقية والذي يرفضون أن تكون هناك‬
‫عالقة بين االبستمولوجيا ونظرية المعرفة وإن حاولنا أن نعبر عن العالقة بين االبستمولوجيا ونظرية‬
‫المعرفة‪ ،‬فنقول أن االبستمولوجيا تهتم بالدراسات العلمية وتحاول التملص من مصيدة الفلسفة‪ ،‬أما نظرية‬
‫المعرفة تشمل العلوم العامية والعملية معا وبذلك فالعالقة بينهما هي عالقة الجزء بالكل أي االبستمولوجيا‬
‫هي الجزء واالتصال هي الكل‪.‬‬
‫ب‪ -‬العالقة بين االبستمولوجيا وفلسفة العلوم‪ :‬فلسفة العلوم أحد فروع الفلسفة الذي يهتم بدراسة األسس‬
‫الفلسفية واالفتراضات والمضامين الموجودة ضمن العلوم المختلفة‪ ،‬بما فيها العلوم الطبيعية مثل‬
‫الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والعلوم االجتماعية‪.‬‬
‫ظهرت تسمية فلسفة العلوم في بداية القرن ‪ 19‬وهي التسمية التي أطلقت على التيار الفلسفي الذي‬
‫تزامن مع ظهور الوضعية‪ ،‬كما أنه تيار يسعى إلى إخضاع التأمل الفلسفي إلى المسعى العلمي‬
‫بهدف تقريبه إلى الدقة والواقع الحسي ومن ثم فتح أمامه آفاقا علمية واسعة‪ .‬يعتبر الفيزيائي الفرنسي‬
‫" أندري آمبير" )‪ )1836-1775( (André Ampére‬أول من استخدم المصطلح في كتابه "‬
‫بحث قي فلسفة العلوم" سنة ‪ .1834‬والشك في أن الوضعية هي السبب الرئيسي في ظهور‬
‫مصطلح فلسفة العلوم‪.‬‬
‫يرى "بالنشيه"أن محاولة التمييز ٌبدقة بين االبستمولوجيا وفلسفة العلوم يزداد عسرا‪ ،‬وذلك من جراء‬
‫مرونة هذه العبارة األخيرة فصاحب كتاب" قراءات في فلسفة العلوم" يميز بين أربع وجوه مختلفة‬
‫لفلسفة العلم‪:‬‬
‫‪-‬دراسة عالقته بالعلم والمجتمع‬
‫‪-‬السعي لوضع العلم وطرح مجموعة القيم اإلنسانية‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-‬المحاوالت الفكرية التي تنطلق من نتائج العلم وتجاوزها لبلوغ ما يمكن تسميته فلسفة الطبيعة‪.‬‬
‫‪-‬التحليل المنطقي للغة العلم‪.‬‬

‫وهدف القائلين بعدم وجود أية عالقة بين االبستمولوجيا وفلسفة العلوم فهو أال تختلط االبستمولوجيا‬
‫بالمشكالت الفلسفية‪ .‬ولو صح القول أن هناك عالقة بين االبستمولوجيا والفلسفة لصح بالتالي القول أن لكل‬
‫فلسفة مقهومها الخاص من العلم ابتداء من فلسفة أفالطون وصوال إلى الفلسفة الوضعية هذه األخيرة التي‬
‫جعلت للعلم مكانا خاصا وممي از في نسق المعارف المختلفة وهذا ما قد يجعل الفلسفة الوضعية تتصدر فلسفة‬
‫العلوم‪.‬‬

‫إن أهم ما يميز االبستمولوجيا المعاصرة‪ ،‬كما يقول االستاذ "روبير بالنشيه" هو االنتقال التدريجي بمشكالتها‬
‫من أيدي الفالسفة إلى أيدي العلماء المتخصصين‪ ،‬انتقاال ليس مرده إلى رغبة عابرة ولكن سببه تلك األزمات‬
‫األخيرة التي هزت العلوم من جذورها‪ ،‬وماتلي ذلك من ثورات علمية كان على العلوم نفسها ان تستوعبها‪.‬‬
‫نتج عن ذلك أن العلماء أنفسهم أعادوا النظر في مبادئ علومهم‪ ،‬ووضعوا األسس التي تقوم عليها موضع‬
‫التساؤل‪ ،‬ولقد تم كل هذا بين العلماء أنفسهم وبعيدا عن الفلسفة والفالسفة‪.‬ما يعني أنه يمكن القول أن‬
‫االبستمولوجيا باتت تفلت أكثر فأكثر من قبضة الفالسفة‪.‬‬

‫لكن هل هذا يعني أننا ننفي أي عالقة بين االبستمولوجيا وفلسفة العلوم؟ ال يمكن أن ننكر أن مشكالت‬
‫االبستمولوجيا الخاصة بكل علم على حده غالبا ما تتطلب هي األخرى خلفية فلسفية عند العلماء أنفسهم‪.‬‬
‫لذلك نجد عدة ابستمولوجيات كبرى في زمننا كما يحلل "روبرت بالنشي" ظلت مرتبطة في الواقع بالفلسفة‬
‫مثل أبحاث غاستون باشالر ومايرسن وكسيوار‪ .‬يضيف بالنشي أننا إذا مافرقنا بين االبستمولوجيا وفلسفة‬
‫العلوم‪ ،‬فيجب أن نؤكد بأن هذا الفارق في درجة االتساع فقط‪ .‬فليست االبستمولوجيا إال جزء من فلسفة‬
‫العلوم‪ ،‬إنها ذلك الجزء األكثر قربا بدون شك من العلم‪،‬إال أنها بروحها ومناهجها تمتد في منطقة وسطى بين‬
‫العلم والفلسفة فتتسع على جوانبها على حساب كالهما‪.‬‬

‫ج‪ -‬عالقة االبستمولوجيا بعلم المناهج‪:‬‬

‫الميتودولوجيا اشتقاقا تأتي من ‪Méthode‬وهي مشتقة من‪ Méthodos‬اليوناني ومعناها الطريق إلى أو –‬
‫الحقا‪ -‬المنهج المؤدي إلى ‪..‬‬

‫وبعد تطور الكلمة باتت تدل على مجموعة العمليات العقلية والخطوات العملية التي يقوم بها العالم من بدئ‬
‫عمله أو بحثه حتى نهاية بحثه من أجل كشف الحقيقة والبرهنة عليها‪.‬‬

‫يعرف "أندريه الالند"قاموسه الفلسفي الذي صدر سنة ‪1906‬الميتودولوجيا على "أنها جزء من المنطق‬
‫وفحواها أنه ا تدرس المناهج العلمية على خالف االبستمولوجيا " التي تعني الدراسة النقدية للمبادئ‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫والفرضيات ونتائج مختلف العلوم" ما يعني أن الميتودولوجيا تقتصر فقط على دراسة المناهج العلمية دراسة‬
‫وصفية تحليلية لبيان عملية الكشف العلمي وطبيعة العالقة التي تقوم بين الفكر والواقع‪ .‬فهناك فرق بينها في‬
‫مستوى التحليل في الميتودولوجيا مقصورة في الغالب على الدراسة الوضعية في حين أن االبستمولوجيا فهي‬
‫في مستوى البحث النقدي‪.‬‬

‫يعبر "بياجيه" عن العالقة بين الميتودولوجيا واالبستمولوجيا بقوله "إن المناسبات التي يظهر فيها دائما‬
‫التفكير االبستمولوجي هي األزمات التي يمر بها هذا العلم أو ذاك‪ ،‬وأن علة هذه األزمات هي التغيرات‬
‫المتعلقة بالمناهج التي تستخدم في هذه العلوم وأن تجاوز هذه األزمات مشروط باختراع مناهج جديدة" مايعني‬
‫أن العالقة العضوية الموجودة بين المنهجية والنتائج العلمية ال تسمح بالتفرقة بينهما‪ ،‬فالمنهج إذا كان سليما‬
‫خالصا تكون نتائجه سليمة خالصة والعكس‪ ،‬فالتفاعل والتجانس بين هذا وذاك هو عماد المعرفة الصحيحة‪.‬‬

‫يشدد "بياجيه" على التكامل بين العلمين فاالبستمولوجيا ال يمكن أن تستغني في دراستها النقدية على دراسة‬
‫مناهج العلوم ألن دراسة المناهج العلمية مهمة في بيان مراحل عملية الكشف التي تعتبر في المجاالت‬
‫األساسية للدراسةاالبستمولوجية‪.‬‬

‫فعلم المناهج يقدم الدراسة الوصفية المستخدمة في تحصيل المعارف العملية ثم تتعدى االبستمولوجيا ذلك‬
‫الى الدراسة النقدية الرامية الستخالص المبادئ التي ينطوي عليها التفكير العلمي‪ .‬وبالتالي اليمكن الفصل‬
‫فصال تاما مابين علم المناهج ونظرية المعرفة العلمية‪ ،‬فمن الصعب أن يدرس االبستمولوجيمبادئ وقوانين‬
‫أي علم من العلوم دراسة نقدية دون أن يتساءل حول طبيعة وقيمة الوسائل التي تستخدمها هذه العلوم‬
‫للوصول إلى النتائج والقوانين‪.‬‬

‫د‪ -‬العالقة بين االبستمولوجيا وتاريخ العلوم‪:‬‬

‫يعتبر تاريخ العلوم ذلك التسلسل الذي تمر به الحقائق العلمية بشتى أنواعها عبر العصور‪ ،‬ويقول "بيير‬
‫بوترو""إن تاريخ العلوم المدروس بشكل مالئم يزيد من حظوظنا في اكتشاف أسس التفكير العلمي‬
‫واتجاهاته"‪ .‬ويعتبر تاريخ العلوم مبحث ضروري للتفكير االبستمولوجي‪ ،‬وهذا االخير يحاول أن يبحث في‬
‫تأسيس المعرفة العلمية ‪ ،‬وذلك ال يكون إال بالرجوع إلى تاريخ المعرفة بصفة عامة وتاريخ العلم بصفة‬
‫خاصة‪.‬‬

‫يعتبر "كونغليم" )‪ (Conguilham‬تاريخ العلوم مخب ار لالبستمولوجيا أين تقوم بتحقيق فرضياتها ونتائجها‬
‫وبذلك تكون مهمة تاريخ العلم الكشف عن العالقة المنطقية التي تربط الحقيقة بالعلم عبر المراحل التاريخية‬
‫المختلفة والتي تمد االبستمولوجيا بالعناصر األساسية والضرورية لتحليالتها ونقدها للمعرفة العلمية‪ .‬إذن‬
‫مايهم االبستمولوجيا من تاريخ العلوم هو تطور المفاهيم وطرق التفكير العلمية‪ ،‬وماينشأ عن ذلك من قيام‬
‫نظريات معرفية جديدة‪ .‬وبذلك تكون مهمة تاريخ العلم الكشف عن العالقات المنطقية التي تربط الحقيقة‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫بالعلم عبر عبر المراحل التاريخية المختلفة والتي تمد االبستمولوجيا بالعناصر األساسية والضرورية‬
‫لتحليالتها ونقدها للمعرفة العلمية ‪ ،‬ذلك أن صنع سياقات تكون المعارف ونموها يقتضي بالضرورة العودة‬
‫إلى تاريخها وتلك وظيفة المنهج التاريخي –النقدي‪.‬‬

‫‪-6‬المقاربة اإلشكالية لالبستمولوجيا‪:‬‬

‫إن موضوع العلوم اإلنسانية أثار جدال قويا بين كل من اهتم بهذه المعرفة العلمية التي كانت آخر معرفة‬
‫انفصلت عن الفلسفة‪ ،‬الشيء الذي جعل من المهتمين باالبستمولوجيا ضمن العلوم اإلنسانية يعيدون النظر‬
‫في كل المقاربات التقليدية التي تحاول اختيار مناهج جاهزة لفهم الظاهرة اإلنسانية‪ .‬تتمحور ابستمولوجيا‬
‫العلوم االنسانية حول سؤال أساسي أال وهو كيف يمكن الحديث عن الحقيقة ضمن مجال العلوم اإلنسانية؟‬
‫لذلك ظهرت مقاربات ابستمولوجية معاصرة تقوم على تصور جديد يستقطب عدة مقاربات تتعايش فيما بينها‬
‫لكي تقدم شكال متكامال للحقيقة في العلوم اإلنسانية‪ ،‬وهذا بترجيح "المقاربة المنفتحة" التي تأخذ بعين‬
‫االعتبار التغيرات المتعددة التي تطال موضوع العلوم اإلنسانية‪ ،‬ألن الوضعية والتي كان يشغل المنهج‬
‫التجريبي مكانا متميزا‪ ،‬اتضح بأن الموضوعية وإن كانت جد مهمة وال يمكن تجاوزها لكنها غير كافية لفهم‬
‫العالم االجتماعي بذاتيته‪ ،‬ودوافعه وأهدافه وكذا ضمن انشغاالته اليومية وتفرده‪ ،‬هي أبعاد ال يمكن تجاهلها‪.‬‬

‫المحاضرة الثانية‪ :‬التموجات االبستمولوجية الكبرى لدراسة التحوالت المعرفية‪.‬‬

‫إن سعي اإلنسان إلى مباحثة العلم أفرز في النهاية مبحثا علميا جديدا في مظهره قديما في مخبره‪ ،‬وهو‬
‫بال شك ما اصطلح على تسميته ب "االبستمولوجيا أو علم المعرفة وكان الغرض منه تحديدا الفهم‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫الموضوعي للواقع‪ .‬إال وأنه وبسبب المشاكل التي تنشأ بين الذات العارفة والموضوع المعروف‪ ،‬فقد تعددت‬
‫العدة االبستمولوجية‪ ،‬وهو تعدد ينشأ من األساس بسبب اختالف الفهوم البشرية‪ ،‬التي التنفك‪ -‬عادة‪-‬‬
‫تستخدم أدواتها ضمن إطار إدراكي مخصوص‪ ،‬تتساءل وفقه وتجيب وفقه أيضا‪ ،‬وهو ( أي اإلطار) ما‬
‫يمكن أن يشمله اصطالح الطرح (أو االتجاه) االبستمولوجي‪ ،‬وبناء عليه فهناك الكثير من الطروحات‬
‫االبستمولوجية التي يمكن تناولها السيما ضمن سياق الحضارة الغربية‪.‬‬

‫‪ -1‬رونيه ديكارت‪(1650- 1596 :René Descartes‬هو فيلسوف‪ ،‬ورياضي‪ ،‬وفيزيائي فرنسي‪ ،‬يلقب بـ"أبو‬
‫الفلسفة الحديثة"‪ ،‬من أبرز مؤلفاته تأمالت في الفلسفة األولى‪ ،1641‬وهو صاحب المقولة الشهيرة "أنا‬
‫أفكر إذا فأنا موجود"‪.‬‬

‫يعد من أهم فالسفة القرن ‪17‬م‪ ،‬ومن أوائل من ارتادوا االتجاه العقلي؛ حيث مجد العقل الذي قال عنه‬
‫"أنه أعدل األشياء قسمة بين الناس كما أن حظوظهم منه على العموم متساوية بغض النظر عن اختالفهم‬
‫في األجناس واللغات والعقائد واألوطان"‪.‬وبذلك يعد من رواد المصدر العقلي وهو الذي يعتمد على تفسير‬
‫العقل فقط دون القيام بأية تجارب من أجل الوصول إلى المعلومات المعرفية‪.‬‬

‫تجاوز بذلك مجالي الفلسفة والسياسة إلى مجالي العلوم والرياضيات‪ ،‬فالمالحظ أن مجمل أعماله والتي‬
‫تشكل عدة مجلدات تعد ست مجلدات‪ ،‬تنصب أساساً على الموضوعات الرياضية والهندسية وال تحتل‬

‫أعماله الفلسفية التي اشتهر بها سوى جزء ضئيل ال يكاد يصل إلى نصف مجلد‪ .‬لقد كان ديكارت رياضياً‬
‫في األساس‪ ،‬ولم يكن فيلسوفاً إال في أوقات فراغه من دراساته الرياضية‪ .‬لكن هذا الجزء الفلسفي الصغير‬
‫نسبياً من مؤلفاته هو السبب في شهرته كفيلسوف وهو الذي صنع منه مؤسس الفلسفة الحديثة‪.‬‬

‫لقد أراد" ديكارت"‪-‬الذي شهد درجة النجاح المذهل الذي حققته الرياضيات في عصره من دقة المنهج ويقين‬
‫النتائج التام‪ -‬للفلسفة أن تصل إلى نفس الدقة المنهجية واليقين المطلق الذي وصلته الرياضيات في عصره‬
‫وعلى يديه هو شخصياً‪ .‬ويتمثل تأثر ديكارت بالمنهج الرياضي في فلسفته في سعيه نحو الوصول إلى‬
‫نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها يؤسس عليها فلسفته كلها‪ ،‬وهي وجود األنا المفكر‪ ،‬فهذا األنا المفكر كان‬
‫بالنسبة له المبدأ األول الشبيه بمبادئ الرياضيات التي تؤسس لكل المبرهنات الرياضية التالية عليها‪.‬‬
‫نادى ديكارت إلى تخليص العقول مما علق بها من معارف مدرسية موروثة عن طريق االستدالل العقلي‬
‫الخالص" الذي يعتبر مصد ار للمعرفة‪ ،‬ما يعني أن اإلنسان بإمكانه الوصول إلى معرفة جوهرية عن العالم‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫بدون الرجوع إلى أي مقدمات تجريبية‪ .‬كما يقف في مواجهة الدعاوي الدينية‪ ،‬فهو ينكر خوارق الطبيعة‬
‫والمعجزات محاوال اختبارها بمحك عقلي‪.‬‬
‫لقد أسس ديكارت لمرحلة أو عهد جديد للفلسفة في أوروبا كان غائبا فيها متأث ار بذلك باألفكار التي كانت‬
‫سائدة في الفلسفة اإلسالمية من أمثال الفيلسوف "ابن رشد"‪ .‬وهذه المرحلة يعود فيها العقل إلى ذاته‪ ،‬يفكر‬
‫ويعتبر أفكاره يتخيرها وينقيها‪ ،‬يشك فيها ويتيقنها‪ ،‬وهكذا يبدأ العقل من جديد في اختبار قضاياه الماضية‬
‫وأرائه الموروثة المنقولة‪ ،‬بمنهج الشك‪ .‬وبهذه الطريقة لم ينسلخ ديكارت كلية عن ماضي فكره‪ ،‬ولم يهدمه‬
‫بتعسف إنما تخير منه ما صلح واستبعد ما فسد‪.‬‬
‫ويقوم المنهج الديكارتي على أساسين‪ ،‬هما‪:‬‬

‫االستنباط الرياضي والحدس العقلي المباشر وهما فعالن عقليان يمارسها أي إنسان بالفطرة‪.‬‬

‫الحدس‪ :‬هو الرؤية العقلية المباشرة التي يدرك بها الذهن بعض الحقائق ويسلم بها العقل تسليما‪.‬‬

‫االستنباط‪ :‬أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة‪.‬‬

‫أسس المنهج الفلسفي عند ديكارت‪:‬‬

‫فكر ديكارت في وضع منهج في الفلسفة أقامه على أساس أسلوب التفكير الرياضي والهندسي‪ .‬وهذا هو‬
‫المعنى الحقيقي لقواعد المنهج األربعة التي وضعها في كتابه «مقال عن المنهج» متمثلة فيما يلي‪:‬‬

‫‪-1‬قاعدة البداهة والوضوح‪ :‬تؤكد أن اإلنسان حين يبحث عن الحقيقة في أي موضوع عليه أن يحرر نفسه‬
‫من كل سلطة إال سلطة العقل‪ .‬يشرح ذلك فيقول" أال أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك‪،‬‬
‫بمعنى أن أتجنب بعناية التهور‪ ،‬والسبق إلى الحكم قبل النظر‪ ،‬وأال أدخل في أحكامي إال ما يتمثل أمام‬
‫عقلي في جالء وتميز‪ ،‬بحيث ال يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك‪".‬‬

‫وتسمى هذ القاعدة بقاعدة اليقين ‪،‬ألنها تدخل إلى يقين بديهي بسيط ال يتطرق إليه شك‪ .‬ويتضح ارتباط‬
‫هذه القاعدة بالهندسة الرياضية من األمثال التي يضربها ديكارت عليها‪ ،‬فاليقين عنده هو القول بأن المثلث‬
‫هو الشكل المكون من ثالث أضالع‪ ،‬وأن المساويان لشيء ثالث متساويان‪ .‬وال يهدف ديكارت من هذه‬
‫القاعدة تأسيس الرياضيات أو الهندسة على أسس يقينية‪ ،‬ذلك ألنهما مؤسسان على اليقين بالفعل‪ ،‬بل‬
‫يهدف استعارة هذا اليقين الرياضي والهندسي لتطبيقه على موضوعات الفلسفة‪ .‬وعندما نطبق هذه القاعدة‬
‫على الفلسفة تبدأ باعتبارها شكاً منهجياً‪ ،‬ذلك ألنها تنص على «أال أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أكن على‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫يقين أنه كذلك»‪ ،‬فنص القاعدة يبدأ بالسلب‪ ،‬أي بأال يقبل شيئاً‪ ،‬وهذا هو الشك الذي هو الخطوة األولى في‬
‫المنهج الفلسفي عند ديكارت‪ .‬ومعنى هذا أن قواعد المنهج عامة وكلية‪ ،‬وعندما تتم مناسبتها كموضوعات‬
‫الفلسفة لوضع منهج خاص بالفلسفة تنقسم القاعدة األولى إلى خطوتين ‪،‬الخطوة األولى هي الشك في كل‬
‫شيء شكا منهجياً للوصول منها إلى يقين أول‪ .‬فبعد أن يشك ديكارت في وجود العالم‪ ،‬ينطلق من هذا‬
‫الشك نفسه ليتوصل إلى أول يقين وهو أن الشك يتضمن التفكير‪ ،‬والشخص الذي يفكر يجب أن يكون‬
‫موجوداً‪ :‬أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود‪.‬‬

‫‪-2‬قاعدة ال ّتحليل والتقييم‪ :‬مايعني أن كل مشكلة نقوم بدراستها هي مشكلة مركبة‪ ،‬وذات جوانب متعددة‬
‫لذلك لدراسة أي مسألة يجب علينا أن نقوم بتحليل وتقسيم المشكالت بقدر مانستطيع على قدر ما تدعو‬
‫الحاجة إلى حلها على ذلك‪ .‬وهذه القاعدة تشبه التحليل الرياضي‪.‬‬

‫‪-3‬قاعدة الترتيب والتأليف‪ :‬التحليل عند ديكارت في الواقع عملية تمهيد للتركيب‪ .‬تعني هذه القاعدة "أن‬
‫أ سير أفكاري بنظام‪ ،‬بادئاً بأبسط األمور وأسهلها معرفة‪ ،‬كي أتدرج قليالً قليال حتى أصل إلى معرفة أكثر‬
‫تعقيدا‪ ،‬وأفرض بذلك ترتيباً بين األمور التي ال يسبق بعضها اآلخر بالطبع"‬

‫‪-4‬قاعدة اإلحصاء والمراجعة‪ :‬وتتم في هذه المرحلة مراجعة كل الخطوات السابقة حتى تكون على ثقة من‬
‫أننا لم نغفل أي عنصر من موضوع البحث‪ ،‬أي لم نغفل أي جزء من أجزاء المشكلة التي نريد حلها‪ ،‬إنها‬
‫عملية استقراء نريد أن نتجنب فيها السهو والخطأ‪.‬‬

‫حر‪ ،‬وذو‬
‫منهج ديكارت عقلي بحت يبدأ بالبداهة واليقين وهو ال يفرض قيودا على العقل بل يجعله مستقال ا‬
‫سلطان‪ .‬بحيث يرد األشياء إلى أسباب معقولة ويطبق فيها نفس طريقة التفكير في الرياضيات والهندسة‪،‬‬
‫ويريد تطبيقها في الفلسفة واألخالق والسياسة‪ .‬وبذلك يؤسس لنظرية معرفية تفسر الظواهر في ضوء مبادئ‬
‫أولية وضرورية ترى أنه ال سبيل إلى أي معرفة بدونها‪ ،‬ألن الحواس ال تستطيع أن تزودنا إال بمعلومات‬
‫غامضة ومؤقتة‪.‬‬

‫الشك المنهجي عند ديكارت‪:‬‬


‫ّ‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫شك ديكارت في المعرفة الحسية سواء منها الظاهرة أو الباطنة‪ ،‬وكذلك في المعرفة المتأتية من عالم‬
‫اليقظة‪ ،‬كما شك في قدرة العقل الرياضي على الوصول إلى المعرفة‪ ،‬وشك في وجوده‪ ،‬ووجود العالم‬
‫الحس ي‪ ،‬إلى أن أصبح شكه دليال عنده على الوجود‪ ،‬فقال "كلما شككت ازددت تفكي ار فازددت يقينا‬
‫بوجودي‪ ".‬ويقصد ديكارت بقوله أنه لن يقبل بأي شيء على أنه حقيقي ما لم ُيخضع المتحان الشك‪ ،‬الذي‬
‫يستطيع به الوصول إلى شيء يقيني عن طريق برهان عقلي‪ ،‬ويذهب إلى أننا سوف نتمكن من التأكد من‬
‫صحة ويقين أشياء كثيرة ومنها العلوم بعد أن نمارس خطوة الشك‪ ،‬وليس ذلك إال ألننا تمكنا من تأسيسها‬
‫على أسس من اليقين والوضوح العقلي‪ ،‬ولذلك فهو عندما يضع موضع الشك كل العلوم بما فيها الرياضية‬
‫والهندسية فليس ذلك إال بغرض تأسيسها على أسس يقينية واضحة‪ ،‬والحقيقة أنه يقوم بذلك بالفعل ابتداء‬
‫من التأمل الرابع‪ ،‬حيث يثبت يقين العلم الطبيعي من منطلق أنه في العقل فكرة واضحة ومتمايزة ويقينية‬
‫عن االمتداد الذي هو جوهر العالم الطبيعي‪.‬‬

‫أشياء أخرى كثيرة محل الشك وتسقط في هذا االختبار وبالتالي يستبعدها تماماً ألنها لم‬
‫ً‬ ‫لكن يضع ديكارت‬
‫تصل إلى درجة اليقين والوضوح والتمايز الذي يبتغيه‪ .‬ومن هذه األشياء كل ما تعلمناه سواء من الحواس‬
‫أو من خاللها ‪،‬أي أنه يرفض كل ما تأتي به الحواس من إدراكات ويرفض اإلدراك الحسي نفسه كأداة‬
‫معرفية وهذا يتضمن كل شيء نعرفه عن العالم الخارجي وكذلك عن أنفسنا باعتبارنا أجساداً‪ .‬وهو يرفض‬
‫شهادة الحواس ألنها دائماً ما تخطئ‪ ،‬ودائماً ما تكون الحواس عرضة لألوهام أو االعتقادات الخاطئة‪.‬‬

‫وعندما يبحث في أفكاره عن المادة واألجسام المادية يدرك أن أفكاره عنها ليست واضحة‪ ،‬ذلك ألن مصدر‬
‫هذه األفكار الحواس واإلدراك الحسي وهي غالباً ما تخطئ في المعرفة وتتعرض للزيف واألوهام‪ .‬ونظ اًر ألن‬
‫ديكارت يشك في قدرة اإلدراك الحسي على إمداده بمعرفة واضحة يقينية فهو أيضاً يشك في إمكان‬
‫الحصول على أفكار واضحة عن موضوعات هذا اإلدراك الحسي مثل المادة والجسد‪ .1‬فموضوعات اإلدراك‬
‫الحسي دائماً ما تكون مختلفة بطبيعتها‪ ،‬فهي دائمة التغير والتحول‪ .‬وينتهي ديكارت إلى القول بأن معرفة‬
‫الفكر أيسر وأوضح من معرفة المادة‪ ،‬ومعرفة النفس أيسر وأوضح من معرفة الجسد‪ ،‬ذلك ألنه من اليسير‬
‫على اإلنسان مالحظة ما يدور في عقله من عمليات فكرية‪ ،‬فالفكر هو النشاط األساسي لإلنسان‪ ،‬وما‬
‫الجسد سوى ملحق بالعقل والفكر‪ ،‬كما أن الجسد نفسه يعرف بوضوح ويقين عن طريق الفكر ذاته‪ ،‬أما إذا‬
‫استعملنا الجسد لمعرفة الجسد فسوف نخطئ ونقع في األوهام‪ ،‬مثل استخدامنا لإلدراك الحسي لمعرفة‬

‫‪1‬‬
‫‪Descartes: “Meditations on Metaphysics”, in the Philosophical works of Descartes‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫أجسادنا‪ .‬كل ما نعرفه عن الجسد هو آثاره العقلية‪ ،‬أي ما يثار في العقل من إحساسات وانفعاالت‪ .‬وبالتالي‬
‫فالعقل هو الذي يعرف الجسد‪ ،‬ومن هنا فإن له األولوية على الجسد‪.‬‬

‫‪:‬‬
‫‪-2‬إيمانويل كانط )‪1804- 1724( Emanuel Kant‬‬

‫هو فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر‪ ،‬عاش كل حياته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا‪.‬‬
‫كان آخر الفالسفة المؤثرين في الثقافة األوروبية الحديثة‪ ،‬وأحد أهم الفالسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة‬
‫الكالسيكية‪ .‬كان "إيمانويل كانت" آخر فالسفة عصر التنوير الذي بدأ بالمفكرين البريطانيين "جون لوك"‬
‫و"جورج بيركلي" و"ديفيد هيوم "وغيرهم‪.‬‬

‫طرح "إيمانويل كانط" منظو ار جديدا في الفلسفة أثر وال زال يؤثر في الفلسفة األوربية حتى اآلن أي أن تأثيره‬
‫امتد منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الواحد والعشرين‪ .‬نشر كانط أعماال هامة وأساسية عن نظرية‬
‫المعرفة وأعماال أخرى متعلقة بالدين وأخرى عن القانون والتاريخ‪.‬‬

‫يعد تأسيس ميتافيزيقا األخالق ثمرة ناضجة من ثمار المرحلة النقدية في فلسفة كانط بعد ظهور كتابه "نقد‬
‫العقل الخالص"‪ .‬كان عام ‪1770‬م‪ ،‬العام الحاسم في نشأة فكره النقدي كله والذي ظهرت رسالته الالتينية‬
‫"صورة ومبادئ العالم الحسي والعالم العقلي" متضمن لنظريته في الزمان والمكان‪.‬‬

‫كان هذا العام هو عام الكشف الخطير‪ ،‬الذي سيؤدي إلى ثورة في العلوم العقلية تشبه الثورة التي أحدثها‬
‫كوبرنيكوس في علم الفلك؛ ثورة في منهج الفكر اإلنساني‪ ،‬بدأت من "نقد العقل الخالص" وامتدت إلى جميع‬
‫العلوم‪ ،‬فهدمت بذلك صرح الميتافيزيقا السائدة في عصره ووضعت مكانها بناء محكما متماسمكا وأرست‬
‫أسس أخالق جديدة‪.‬‬

‫كان مذهبه نتيجة طبيعية لبناء عالمه النقدي‪ ،‬يصحو وينام وهو يسأل نفسه أسئلة كهذه‪ :‬كيف تصبح‬
‫القضايا التركيبية القبلية ممكنة؟ كيف أستطيع أن أجمع بين عنصرين متنافرين كالمحسوس والمعقول؟ كيف‬
‫يضع العقل قوانين العالم؟ وماذا يستطيع أن يعرف؟ وماهي الحدود التي عليه أن يقف عندها؟ فال يتعداها؟‬
‫وهذا ما صاغه في كتابه "نقد العقل المجرد" الذي نشره سنة ‪ .1781‬يبحث "كانط" في هذا الكتاب‬
‫ويستقصي محدودات وبنية العقل البشري ذاته‪ ،‬وقد قام في كتابه هذا بالهجوم على الميتافيزيقا التقليدية‬
‫ونظرية المعرفة الكالسيكية‪ .‬نشر كانط أعماال رئيسية أخرى في شيخوخته‪ ،‬منها كتابه "نقد العقل العملي"‬
‫الذي بحث فيه جانب األخالق والضمير اإلنساني‪ ،‬وكتابه "نقد الحكم" الذي استقصى فيه فلسفة الجمال‬
‫والغائية‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫ثنائية الميتافيزيقا والعقل المجرد عند "كانط‪":‬‬

‫تطرح الميتافيزيقا أسئلة عديدة حول الحقيقة المطلقة لألشياء‪ ،‬اعتقد "كانط" أن باإلمكان إصالح وتهذيب‬
‫الميتافيزيقا الكالسيكية عن طريق تطبيق نظرية المعرفة عليها‪ ،‬حيث زعم أنه يمكننا باستخدام هذه الطريقة‬
‫مواجهة األسئلة التي تطرحها الميتافيزيقا‪ ،‬واألهم من ذلك أن نعرف المصادر التي نستقي منها معرفتنا وأن‬
‫نعرف ماهية حدود المعرفة التي يمكن الوصول إليها‪.‬‬

‫وعليه اقترح "كانط" أنه بعد أن نفهم ونعرف مصادر وحدود المعرفة اإلنسانية والعقلية يمكننا طرح أي أسئلة‬
‫ميتافيزيقية والحصول على أجوبه مثمرة‪ .‬وسأل "كانط" سؤاال خطي ار هو‪ :‬هل لألشياء والمواضيع التي نعرفها‬
‫خصائص معينة سابقة على تجربتنا وعلى إحساسنا؟ وأجاب على ذلك بأن جميع المواضيع واألشياء التي‬
‫يمكن للعقل معرفتها تتم بطريقة يختارها العقل‪ .‬ويضرب مثاال على ذلك أنه إذا استعد العقل للتفكير قبل أي‬
‫موضوع واختار العقل التفكير بطريقة السببية فإننا بالتالي نعلم قبل أن نتعرف على أي موضوع أن‬
‫الموضوع سيكون إما سببا أو نتيجة‪.‬‬
‫ليصل "كانط" إلى نتيجة مفادها أن هناك مواضيع ال يمكن للعقل معرفتها عن طريق السببية‪ ،‬وأن مبدأ‬
‫السببية هو طريقة في التفكير ال يمكن أن تستقل عن التجربة واإلحساس‪ ،‬بعبارة أخرى ال يستطيع مبدأ‬
‫السببية اإلجابة عن جميع األسئلة‪ ،‬وبالتالي فإن أسئلة الميتافيزيقا األساسية ال يستطيع العقل اإلنساني‬
‫اإلجابة عنها‪ ،‬لكن العقل يفهم ويعرف ويجيب عن أسئلة العلوم المادية ألنها تخضع لقوانينه‪.‬‬

‫‪-‬المثالية الّنقدية عند كانط‪:‬‬

‫يعتبر استقالل العقل هو المبدأ العام للفلسفة في عصر "كانط"‪ ،‬ولقد ابتدع "ايمانويل كانط" نظاما مبتك ار‬
‫في نظرية المعرفة هو مزيج بين المدرستين التجريبية والعقلية‪ .‬ففي حين أن رواد المدرسة التجريبية يرون‬
‫أن المعرفة ال تكون إال عن طريق التجربة ال غير‪ ،‬ويعتقد أصحاب المدرسة العقلية أن الشك والعقل وحده‬
‫من يمدنا بالمعرفة‪ ،‬خالفهم "كانط" في ذلك بقوله إن استخدام العقل وحده دون التجربة ال يقود إلى المعرفة‬
‫بل يقود إلى األوهام‪ ،‬أما استخدام التجربة فال يقود إلى معرفة دقيقة وال تعترف بوجود مسبب أول الذي‬
‫يعترف به العقل المجرد‪ .‬هكذا حاول "كانط" بطريقة ما أن يؤسس نظرية معرفية انطالقا من خلق تركيب‬
‫من المذهب التجريبي‪-‬الحسي والمذهب العقلي‪ ،‬وذلك على أساس تجنب الشك التجريبي‪-‬الحسي من جهة‪،‬‬
‫وتجنب العقيدة العقلية الجامدة من جهة أخرى‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫فالعقل أداة فكرية تحول اإلدراك الحسي إلى أفكار‪ ،‬وتمنح التجربة وحدة الفكر‪.‬افترض "كانط" وجود ثنائية‬
‫مؤلفة من ذات ومن شيء‪ .‬وبما أن القوة المنظمة ال يمكن أن تكون في الشيء‪ ،‬فيجب أن تكون في الذات‪،‬‬
‫تلك كانت النقلة االبستمولوجية في نظرية المعرفة عند "كانط"‪ ،‬أي إن كل ما ينظم ويبني خبرتنا ال يصدر‬
‫عن األشياء التي هي موضوع معرفتنا‪ ،‬وإنما من أنفسنا‪.‬‬

‫لقد عكس الرأي األساسي الذي قال إن المعرفة تحدث عندما تتأثر الذات بالشيء‪ ،‬إلى القول بأن الشيء هو‬
‫الذي يتأثر بالذات‪ ،‬أي أن الشيء كما نعرفه هو الذي يتشكل ويتألف ويتكون بطريقة الذات‪ .‬هذه النقلة‬
‫باالفتراضات االبستمولوجية في الفلسفة هي جوهر نظرية المعرفة عند "كانط"‪ ،‬فالعقل ال يعكس العالم‬
‫الخارجي كما هو‪ ،‬بل إنه في الواقع يخلق هذا العالم من حيث تركيبه المنطقي‪ ،‬فالتجربة بدون نشاط العقل‬
‫ال تستطيع أن تقدم إلينا إال سلسلة من األحوال العقلية المتتابعة مثل الصور الفوتوغرافية‪ .‬وبطريقة أخرى أن‬
‫كل معرفة تبدأ بالتجربة ال تنشأ عنها‪ ،‬فلو اكتفى اإلنسان بالتجربة وحدها‪ ،‬ما حصل إال على صور متفرقة‬
‫خالية من أي عالقات مكانية أو زمانية‪.‬‬
‫لن تستيقظ قدرتنا المعرفية إلى العمل إن لم يتم قبول ذلك من خالل موضوعات تصدم حواسنا‪ ،‬فتسبب من‬
‫جهة حدوث التصورات تلقائيا‪ ،‬وتحرك من جهة أخرى نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها‪ ،‬وربطها أو فصلها‪،‬‬
‫وبالتالي تحويل خام االنطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات تسمى التجربة‪.‬‬
‫في المثالية العقلية هناك ظواهر عقلية قبلية تسبق كل تجربة قبلية‪ ،‬فاألفكار سابقة على محسوساتها هذا ال‬
‫يقبله الماديون التجريبيون ألن الظواهر لديهم تكتسب بعد كل تجربة بعدية وهذا اليرضاه كانط‪ ،‬حيث أقر‬
‫كانط بوجود المعرفتين وميز بينهما‪ ،‬فالمعرفة القبلية (العقل) السابقة على كل تجربة ضرورية إلدراك األشياء‬
‫واثبات المحمول للموضوع واستحالة نفيه‪ ،‬من غيرها مستحيل على العقل اإلنساني أن يحصل على المعرفة‪.‬‬
‫بين كانط "بالعقل النظري" مغالطات أنصار النظرة العقلية المجردة نحو الوجود‪ ،‬ووضح أخطاء الماديين‬
‫لقولهم إن الوجود مادة محسوسة وال شيء سوى ذلك‪ ،‬لكنه لم ينف وجود المادة‪.‬‬
‫أثبت كانط أن العقل مقوالت "ذهنية مجردة" غير مادية تحتاج إلى مواد لتقوم بتحليلها والكشف عن خواصها‬
‫وعالقتها المجهولة‪ ،‬فالمقوالت هي الصور القبلية "األولية" للمعرفة أطلقها كانط على المبادئ األساسية للفكر‬
‫الخالص تمثل األساس للفكر االستداللي‪ ،‬فهي ال ترجع إلى التجربة‪.‬‬
‫تطبق المقوالت على موضوعات الحواس عامة بوصفها ظواهر‪ ،‬وقرر كانط وجود مرحلة وسيطة بين الوعي‬
‫الحسي والفهم الخالص‪ ،‬ال هي تجريبية مثل اإلدراك الخالص‪ ،‬وال هي قبلية مثل اإلدراك العقلي بل تتوسط‬
‫التجريبي والعقلي وتربط بينهما‪ ،‬وأطلق عليها كانط " المخيلة الترانسندنتالية"‪ .‬المخيلة هي حلقة الوصل بين‬
‫الحسي والتجريبي من جهة والقبلي والعقلي من جهة أخرى‪ ،‬فالمخيلة هي قدرة تصور موضوع حتى دون‬
‫حضوره في الحدس‪.‬‬
‫الحس من غير عقل أعمى يسيطر عليه عالم المادة"‬ ‫" العقل بدون ّ‬
‫حس فارغ‪ ،‬و ّ‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫المعرفة واإليمان عند "كانط"‬ ‫‪-‬‬

‫بسبب تنشئته الدينية في أسرة مسيحية محافظة‪ ،‬أولى "إيمانويل كانط" عكس "ديكارت" اهتماما بمسألة‬
‫اإليمان والعقيدة كمسائل ميتافيزيقية‪ .‬فالعالم كما يعرفه العقل‪ ،‬حسب "كانط" هو بالضرورة عالم يتكون من‬
‫العلة والمعلول بشكل مطلق‪ ،‬عالم ال محل فيه للسحر وال للمعجزات ‪‹‹،‬فلكل حدث سبب››‪ .‬وعليه فإن‬
‫العقل العلمي يعمل بواسطة طرق خاصة في التفكير ال تصلح إال لتناول الوقائع العلمية وحدها‪ ،‬وهي طرق‬
‫يجب أال تستعمل ألغراض دينية أو ميتافيزيقية‪ .‬فالفكر العلمي ليس بمقدوره أن يتوقع حياة أخرى بعد‬
‫الموت أو أي شيء ينتمي إلى عالم الميتافيزيقا من خوارق وأساطير‪.‬‬

‫غير أنه يرى أننا عاجزون عن البرهان على المسائل الدينية األساسية أو دحضها‪ ،‬فنحن ال نستطيع‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫أن نثبت بطرق علمية وجود عالم آخر بعد الممات‪ ،‬وال أن نثبت عدم وجوده‪ ،‬لكننا نستطيع أن نؤمن بهذا‬
‫الموقف أو ذاك‪ ،‬هكذا اعتبر أن اإلجابة عن المسائل الدينية يجب أن تقوم على اإليمان‪ ،‬وبذلك قد ترك‬
‫فسحة للدين‪.‬‬
‫ميز بذلك "كانط" بين المعرفة واإليمان ليظل وفيا ومنسجما مع نظريته المعرفية التي ترى أن ال معرفة‬
‫دون خبرة قادمة من الواقع الملموس‪ .‬ففي الوقت ذاته الذي حافظ فيه "كانط" على ‹‹العقل›› في العلوم‬
‫الطبيعية وفي الرياضيات ‪،‬فقد ترك أيضا فسحة للمعرفة الدينية عبر اإليمان‪.‬‬
‫لقد كان للفلسفة الكانطية أثرها الكبير في مجال الميتافيزيقا كونها أعادت النظر في أبنيتها وأدوارها‪ ،‬وسعت‬
‫إلى إعادة تشييدها وفق رؤية جديدة‪ ،‬لكن األثر الذي ال يقل أهمية إنما يكمن في نظرية المعرفة الكانطية‪،‬‬
‫التي توصف بأنها نقدية؛ فلقد َّ‬
‫دشن "كانط" مرحلة جديدة في هذا المجال عبر تقديمه تفسي اًر مغاي اًر يطوي‬
‫توصل إليه الفالسفة من قبله‪ ،‬خصوصاً أصحاب االتجاه العقلي على رأسهم "ديكارت"‪،‬‬
‫بين جناحيه ما َّ‬
‫وأصحاب االتجاه التجريبي ‪،‬ومنهم‪ :‬جون لوك(‪ ،)1704-1632‬و(ديفيد هيوم) )‪.(1776–1711‬‬

‫لقد استطاع "كانط" أن يتجاوز األزمة التي تهاوت بها الفلسفات وأحادية االتجاه كالفلسفة التجريبية‪ ،‬والفلسفة‬
‫العقالنية كالً على انفراد في التوصل إلى صياغة تركيبية تكاملية يتواشج فيها الحس مع الفهم على نحو‬
‫مقبول لتوليد المعرفة تواصالً دقيقاً ُمحكم البناء‪ ،‬مما أضفى على فلسفته في المعرفة النقدية قيمة تاريخية‬
‫ُمهمة في مجال الفلسفات الحديثة‪.‬‬
‫‪ -2‬غاستون باشالر )‪:1962-1884 (Gaston Bachelard‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫تشكل نظرية المعرفة عند غاستون باشالر خطا فاصال للمعرفة العلمية ككل بين الفلسفة التقليدية‬
‫وفلسفة العلوم المعاصرة‪ .‬كما أن المشروع الباشالري هو مشروع يسعى لتأسيس فكر علمي جديد يتجاوز‬
‫الفكر العلمي التقليدي‪ ،‬وهذا ما تعكسه جل مؤلفاته العلمية والتي تطرق فيها إلى العديد من المواضيع‬
‫التي كان لها صدى كبير على معاصريه ومن جاء من بعده في هذا المجال‪.‬‬
‫"غاستون باشالر" فيلسوف فرنسي‪ ،‬من أبرز المتخصصين بفلسفة العلوم‪ ،‬حيث درس بعمق الوسائل‬
‫التي يحصل بها اإلنسان على المعرفة العلمية عن طريق العقل‪.‬‬
‫‪ -1‬التقدم العلمي متتالية من القطائع‪:‬‬

‫سجل ظهور الهندسات الالاقليدية ثورة في علم الهندسة وتجاوز مبادئ إقليدس الرياضية والتي لم يتطرق‬
‫إليها الشك واعتبرت مثاال للوضوح حيث سادت أكثر من ألفي عام‪ ،‬باإلضافة إلى الثورات العلمية في حقل‬
‫الفيزياء وظهور الالنيوتينية ‪ ،‬باإلضافة إلى نظرية النسبية ألنشتاين وغيرها من النظريات العلمية في‬
‫الميكانيكا‪ .‬هذه الثورات التي شهدتها الرياضيات والفيزياء كانت سابقة لباشالر إال أنها ساهمت بشكل جلي‬
‫في تشكيل فلسفته العلمية‪.‬‬

‫لقد استفاد باشالر كثي ار من االنجازات العلمية‪ ،‬ففي سنة ‪ ،1929‬صدر كتابه "القيمة االستقرائية للنظرية‬
‫النسبية" حاول فيه إبراز القيم االبستمولوجية الجديدة التي أفرزتها الفيزياء المعاصرة‪.‬‬

‫وانعكس ذلك في الفلسفة المعاصرة حيث أصبحت تتميز بطغيان النزعة التجريبية وتقليص نفوذ المثالية‬
‫المحضة‪ .‬لقد تماشت التجريبية مع النظريات الحاصلة في العلم التجريبي‪ ،‬وهي نزعة معادية للتيار‬
‫الميتافيزيقي والتي حاولت استبدال الفلسفة بالمنهج العلمي القائم على أساس المالحظة والتجربة قصد الكشف‬
‫عن العالقات بين الظواهر دون االهتمام بالبحث في الغايات وطبائع األشياء‪ .‬يقول رائد هذه النزعة "فرانسيس‬
‫بيكون" " ينبغي أال نغزو أي قيمة حقيقية إال للمعرفة العلمية القائمة على االستقراء والتجريب‪ ،‬العلم قوة يجب‬
‫إبعاد البحث عن الغايات خارج النطاق العلمي"‪ .‬وبهذا نظرت التجريبية اإلنجليزية نظرت للمعرفة كمعطى‬
‫مستمد من التجربة الحسية وكان شعارهم " الشيء في العقل لم يكن خارج الحواس"‪.‬‬

‫أما في فرنسا ساد تيار النقد العقلي أو التيار الوضعي الذي يرجع لمؤسسه "اوغست كونت" ‪1757-1798‬م‬
‫في كتابه "محاضرات في الفلسفة الوضعية " الصادر عام ‪ 1842‬حاول فيه تحديد معنى للعلم يختلف عن‬
‫المعنى الشائع في عصره وهو المعرفة المنظمة المتعلقة بموضوع واحد فكلمة علم ال تطلق إال على المعرفة‬
‫التي تكتفي باكتشاف العالقات الظاهرة بين الظواهر وهذه المعرفة ال تكون ممكنة إال في المرحلة األخيرة من‬
‫التطور الذي يمر به العقل البشري‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫أراد باشالر أن يربط االبستمولوجيا بتطور العلوم فاستلهم وقائع العلم وفروض الرياضيات وبدأ بالعلوم‬
‫الفيزيائية حتى تأتى له أن يضع المادة موضعا جديدا‪ .‬وهذا هو الطريق الذي ضمن لباشالر تأسيس مذهبه‬
‫في المادية العقالنية‪ ،‬فقد بهر باشالر بالعلم وبتطوراته وبأثر العلم في إنتاج مفاهيم حيوية قائمة على التجديد‬
‫وتصحيح وعلى نبذ القديم من التصورات التقليدية التي لم تعد تنفع وال تثري الحياة الفكرية‪.‬‬

‫يعبر المشروع الباشالري عن الموقف الفلسفي الجديد عن الموقف الفلسفي الجديد الذي يسعى إلى تأسيسه‬
‫وتحديد أسسه وأهدافه‪ .‬لذلك يمكن القول بأنه دعوة تجديدية وتجاوزية للموقف الفلسفي التقليدي حتى يكون‬
‫متوافقا مع راهن العلوم‪ .‬ويتأتى ذلك بتأسيس فلسفة علمية مختلفة يمكنها أن تكون ندا لفلسفة شاملة للفالسفة‪.‬‬

‫إن باشالر صاحب دعوة صريحة لمسايرة العلم المعاصر ويشترط هذا المسعى إبراز للقيم االبستمولوجي‬
‫المتجددة للعلم من العلم وليس من الفلسفة‪ ،‬وأن تبحث عن أثر المعارف العلمية في بنية العقل وتطوره القابل‬
‫للتشكل باستمرار‪ ،‬ويتأتى ذك إثر القيام بتحليل نفسي للمعرفة الموضوعية‪.‬‬

‫‪-‬مفهوم القطيعة االبستمولوجية‪:‬‬

‫يعتبر مفهوم القطيعة االبستمولوجية مفهوم باشالر بامتياز‪ ،‬فهو الذي أسس له في مجاله العلمي‪.‬‬
‫وتعكس القطيعة االبستمولوجية بالمعنى الباشالري انتقاال نوعيا وطفرة فكرية سيكولوجية تعبر عن قطيعة‬
‫فاصلة بين نمطين في التفكير‪ ،‬فكر علمي قديم وفكر علمي جديد‪ ،‬فالعلوم الجديدة ليست تطوي ار مباش ار‬
‫للعلوم السابقة‪.‬‬

‫ولتحديد صور القطيعة وأشكالها في العلم قام بتحديد مراحل تطور لعقل الفكر العلمي‪ ،‬وقد قسمها إلى ثالث‬
‫مراحل وهي‪:‬‬

‫‪-1‬المرحلة األولى‪ :‬هي مرحلة ما قبل الفكر العلمي‪ ،‬وتمتد زمنيا من القدم حتى نهاية القرن ‪17‬م وبداية‬
‫القرن ‪18‬م‪ ،‬وكان يسودها حسب باشالر معرفة زائفة‪.‬‬

‫‪-2‬المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة الفكر العلمي‪ ،‬ويؤرخ لها زمنيا من القرن ‪18‬م إلى غاية القرن ‪20‬م‪ .‬وسادت فيها‬
‫معرفة عقالنية كالسيكية موضوعها فحص وتشخيص للمعطى الطبيعي لكشف قوانين الظواهر وعالقاتها‬
‫الثابتة‪.‬‬

‫‪-3‬أما المرحلة الثالثة‪ :‬هي مرحلة الفكر العلمي الجديد‪ ،‬والتي بدأت مع ظهور النسبية أي بداية سنة ‪،1905‬‬
‫والتي أحدثت انقالبا ثوريا في مفاهيم العلم الكالسيكي‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫إن كل لحظة من هذه اللحظات الثالث سادها نمط خاص من الوعي ففي اللحظة األولى ساد الفكر الواقعي‬
‫بما يعنيه من التصاق بالظاهرة وحرص على نقلها والتعاطي معها من خالل دوافع الحاجة والمنفعة المباشرة‪،‬‬
‫أما اللحظة الثانية ساد الوعي الواقعي التجريدي‪ ،‬حيث تمت المزاوجة بين المقاربة الواقعية للظواهر والفكر‬
‫التجريدي‪ .‬فكان التجريد في هذه اللحظة العلمية مشدودا ومرتك از على المعطى الواقعي‪ ،‬ولم يكن متحر ار منه‪،‬‬
‫بل مرتهنا لقيوده وشروطه واقترنت هذه المرحلة بنشأة العلم الكالسيكي الذي يعتبره باشالر امتداد للحس‬
‫المشترك والعقل المشترك‪ ،‬حيث كان يوضح اآلراء العامة ويدقق التجارب ويؤكد المعارف البسيطة‪ .‬بمعنى‬
‫العلم الكالسيكي هو معرفة منقحة ومهذبة صاغها العالم في قوانين علمية باالستناد إلى العقالنية الكالسيكية‬
‫الحتمية‪ .‬ويرى أن موضوع علم القرن ‪19‬م ( مرحلة الفكر العلمي) ينحصر في فحص وتشخيص الظواهر‬
‫والوقائع كمعطى طبيعي والكشف عن عالقاتها الثابتة باالستناد إلى مبدأ الحتمية‪ ،‬ومحاولة تقنين البحث‬
‫وإقامة حواجز أمامه ال يجوز تخطيها‪ ،‬حاصرة مجال المعرفة البشرية في الظواهر والعالقات التي بينها‪ ،‬وكذا‬
‫تحقيق الفرضيات األولى وفقا لمراحل المنهج االستقرائي (مالحظة‪ ،‬فرضية‪ ،‬تجريب)‪ .‬ويمكن القول مع‬
‫باشالر أن علم القرن ‪19‬م يعتبر تطوي ار وامتداد للمعرفة العامة مادام أنه يوضحها ويدققها‪.‬‬

‫أما اللحظة الثالثة فهي اللحظة فهي لحظة الوعي التجريدي التي يبدع فيها العقل العلمي الجديد مفاهيمه‬
‫ونظرياته على نحو يقطع مع التجربة المباشرة‪ ،‬وينشئ بناءاته النظرية في استقالل عن ضغط الحاجة‬
‫والنزعة النفعية وهو يمثل معرفة مغايرة للمعرفة السابقة‪ .‬وتعتبر طفرة نوعية تتجاوز مبادئ العلم الكالسيكي‬
‫إلى مبادئ كلها جديدة‪ ،‬ولذلك يبرز مفهوم القطيعة االبستمولوجية كشكل آخر من أشكال التجاوز وكفعل‬
‫يعبر عن حالة االنتقال الكيفي من المرحلة السابقة إلى المرحلة الجديدة‪.‬‬

‫إن الفكر العلمي الجديد‪ ،‬كمصطلح يوظفه باشالر يدل على مظاهر التفكير الجديدة والنظريات التي ترتبت‬
‫عن الثورة العلمية المعاصرة‪.‬‬

‫وكانت القطيعة التي أعادت النظر في المفاهيم األساسية وأعادت بناء العلوم على صرح جديد‪ .‬وتعني‬
‫القطيعة ثالث حاالت‪:‬‬

‫أ‪ -‬قيام فكر علمي أكثر شموال‬


‫ب‪ -‬مراجعة للمفاهيم األساسية للعلم السابق عليها‬
‫ت‪ -‬قيام فكر علمي أكثر تفتحا‬

‫يرتبط مفهوم القطيعة االبستمولوجية عند "غاستون باشالر" بتصوره لتاريخ العلوم‪ ،‬بحيث أن التطورات‬
‫السابقة ال تفسر بالضرورة الحالة الراهنة للعلم‪ ،‬وهو بذلك يعارض بهذا الطرح نظرية االستم اررية لتاريخ العلم‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫وارتبط كذلك مفهوم القطيعة بالطفرة التي أحدثتها التطورات العلمية المعاصرة أي االنقالبات العلمية التي‬
‫شهدها الثلث األول من القرن العشرين دفعت ب"باشالر" إلى اإلحساس بضرورة تشكيل منهجية جديدة‬
‫تتجاوز كتاب ديكارت الشهير" في المنهج"‪.‬‬

‫القطيعة إذن في ابستمولوجيا باشالر هي مفهوم يعبر عن فترات االنتقال الكيفي في تطور العلوم‪ ،‬ومنه تاريخ‬
‫العلوم البد أن ينظر إليه كتاريخ قفزات كيفية تتمخض عنها نظريات جديدة ليست بأي صورة من الصور‬
‫مجرد استمرار للفكر السابق‪ ،‬والمعنى أن الجديد في العلم ال يكون من التاريخ السابق له في مجاله‪ ،‬ألن‬
‫تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلوم ففي رأيه أن هناك بالنسبة لباشالر مفهوم علمي خطأ يتوجب تصويبه‪.‬‬

‫والقطيعة االبستمولوجية بالمفهوم الباشالري تتم على مستويين قطيعة بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية‪،‬‬
‫وأخرى تتم داخل الفكر العلمي ذاته أي بين األنساق والنظريات العلمية أو بين الفكر العلمي الجديد والفك‬
‫الفكر العلمي‪.‬‬

‫تتخذ القطيعة في المستوى األول شكل " االنفصال التام بين العلم كعلم وبين كل مسبقات الفكر الطبيعية‪.‬‬
‫ويتقدم هذا االنفصال على أنه الحد الفاصل بين نوعين من المعرفة العامة المشتركة والمعرفة العلمية‪ .‬يعتبر‬
‫انفصال باشالر بمثابة مصادرة أساسية بالنسبة للتفكير االبستمولوجي ويعتبر هذا الموقف كرد فعل نقدي ضد‬
‫النظرية االستم اررية في العلم والتي ترى أن هناك استمرار من التفكير العامي إلى التفكير العلمي‪ .‬وبذلك فإن‬
‫القطيعة االبستمولوجية بين هذين النمطين من التفكير قطيعة ابستمولوجية شاملة تمتد من المنهج إلى‬
‫التصورات والمفاهيم‪.‬‬

‫أما المستوى الثاني للقطيعة فيكون بين فرضيتين أو نسقين علميين وهي قطيعة ال تصل إلى حد االنفصال‬
‫التام والكلي‪ ،‬ألن الفرضية العلمية الجديدة تدحض وتفند الفرضية العلمية السابقة عنها‪ ،‬وتثور قيم جديدة على‬
‫القيم السابقة وتتحول بموجبه المعرفة القديمة إلى حالة تتكامل مع المعرفة الجديدة رغم نفي األخيرة " فالمعرفة‬
‫الجديدة لم تأت إضافة معرفية تراكمية إلى المعرفة القديمة بل بقطيعة معرفية حولت القديم الذي كان عاما‬
‫إلى حالة خاصة تتكامل مع الحالة الجديدة‪ .‬ويصبح العلم الجديد يتضمن العلم السابق عنه ألنه أوسع وأشمل‬
‫ولذلك يمكن وصفها بأنها قطيعة احتواء وتضمن‪.‬‬

‫‪-‬عوائق تطور الفكر العلمي عند غاستون باشالر‪ :‬العائق االبستمولوجي عند باشالر هو كل ما يبقي الفكر‬
‫سجينا لتصورات المعرفة العامة ويمنعه بالتالي من بلوغ معرفة موضوعية بالظواهر التي ندرسها‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-1‬عائق التجربة األولى‪ :‬يتمثل في التجربة الحسية بمعنى ما تقدمه الحواس يفرض على العقل التصديق‬
‫الكلي ويلغي دوره في التفكير والنقد أي أن التجربة األولى ال تقدم الصورة الصحيحة للظواهر وال حتى وصف‬
‫الظواهر المنتظمة بدقة وعليه فإن التجربة الحسية تشكل عائق ابستمولوجي من الصعب إخضاعها لمنهج‬
‫التحليل النفسي‪ .‬ويتضح هذا في المرحلة قبل العلمية‪ ،‬والتي طغى عليها الطرح الذاتي أي األفكار الذاتية‬
‫التي تفتقر إلى النزعة العلمية‪.‬‬

‫‪-2‬عائق المعرفة العامية‪ :‬تعميم وتكييف نتائج العلم يشكل عائقا للمعرفة العلمية‪ ،‬فهذه التعميمات التي‬
‫كانت سائدة في المرحلة قبل العلمية لم يعد لها جدوى اليوم‪ ،‬ألن العلم في تطور مستمر‪ ،‬وما كان سائدا في‬
‫السابق ال يمكن تعميمه في الوقت الراهن‪ .‬ينبغي لكل تجربة موضوعية حقة أن تجري تصحيحا لخطأ ذاتي‪،‬‬
‫وهنا يوضح أن األفكار السابقة هي األخرى تشكل عائقا ابستمولوجيا أمام تطور الفكر العلمي‪.‬‬

‫‪-3‬العائق الّلفظي‪ :‬العادات اللفظية تشكل عائق ابستمولوجي تعيق تطور الفكر العلمي‪ ،‬ففي المرحلة قبل‬
‫العلمية لم يكن هناك تمي از بين المفهوم واللفظ‪ ،‬وال تميز بين الكلمة التي تصلح للتفكير أي نجد نفس اللفظ‬
‫يصف الظاهرة ونفس اللفظ يشرحها‪ ،‬ففي المرحلة قبل علمية كانت الكلمة الواحدة تشكل قاعدة للتفسير‬
‫الشامل‪ ،‬ولهذا فإن اللفظ عند باشالر عائق يجب تجاوزه‪.‬‬

‫‪-4‬عائق المرحلة الموحدة‪ :‬يشير إلى أن المعرفة ما قبل العلمية التي كان يسودها الفكر الموحد بمعنى أن‬
‫جميع الموجودات أرجعت إلى مبدأ واحد‪.‬‬

‫‪-5‬العائق اإلحيائي البيولوجي‪ :‬إن العائق اإلحيائي يحصره في الظواهر اإلحيائية التي كذبتها المرحلة قبل‬
‫العلمية‪ ،‬فالمادة الحسية في المعرفة الساذجة أبسط وأوضح من المادة الجامدة وهذه النظرة ناقضها الفكر‬
‫العلمي المعاصر‪ ،‬ففي البيولوجيا يواجه الباحث عوائق ابستمولوجية أكثر من التي يواجهها في المادة‬
‫الجامدة‪.‬‬

‫العائق اإلحيائي هو حدس عن الحياة امتد حضوره إلى العلم الفيزيائي وهو امتداد اعتباطي غير مشروع ‪،‬‬
‫حيث تمتد معارف بيولوجية أو فيزيولوجيا إلى غير ميدانها‪ ،‬فالمعادن تمرض كاإلنسان وتخضع لدورة الحياة‬
‫والموت مثله‪ ،‬بمعنى أن األمر ال يتعلق بدراسة الحياة في الحقل المعرفي البيولوجي‪ ،‬إنما عندما ينحرف هذا‬
‫العلم ليقدم جوابا على أسئلة وينبهنا باشالر أن فكرة الحياة إذا علقت بسذاجة فسينشأ عنها تقييمات كونت‬
‫مثال كان يعتقد أنه ال يمكن فهم مبادئ تصنيف العلوم إذا لم يكن لنا إلمام دقيق بعلم الحياة‪ ،‬ويدعو عالم‬
‫الكيمياء ليستخلص الدروس من علوم الطبيعة‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-6‬العائق الجوهراني‪ :‬يشير غاستون باشالر إلى أن الموضوع إلى أن الموضوع في مرحلة قبل العلمية كان‬
‫يشكل جوهر ثابت‪ ،‬كما يبين لنا أن الجواهر كنموذج تفسيري تعتبر عائق متعدد األوجه يقف كحائل أمام‬
‫تطور الفكر العلمي‪ ،‬وهذا ما يوضح قوله أن التالعب باأللفاظ في تسمية الظواهر‪ ،‬يرضي الفكر الساذج‬
‫بسهولة ولفظ عمق الجواهر من منظور ابستمولوجي معاصر ال يعبر عن العمق فعال فالمعرفة العامة هي‬
‫معرفة سطحية‪ .‬إن الفكر الجوهراني فلسفة ميتافيزيقية دقيقة وهي تفسير رتيب لخصائص الجوهر يعتقد أن‬
‫للظاهرة خفي وجي‪ ،‬باطن وظاهر‪ ،‬وتجليات هذه العقبة في الفكر ما قبل العلمي‪ ،‬انشغال علماء وفالسفة‬
‫تلك المرحلة بالباطن أو الداخل اعتقادا منهم أن المعرفة الصحيحة تكمن في استخراج الباطن ودراسته‪ ،‬ويتولد‬
‫لدى هؤالء ما يسميه باشالر " وهم الداخل" أو أسطورة "الذات األعمق‪.‬‬

‫كما أشار باشالر إلى فلسفة الالّ أو فلسفة النفي‪ ،‬وهي الفلسفة التي تقول ال لعلم األمس وال للطرق المعتادة‬
‫في التفكير وال تأخذ األفكار البسيطة كما هي بل إنها تجتهد في نقد هذه البسائط لتكتشف عما تنطوي عليه‬
‫من غموض‪ ،‬لكن ذلك ال يعني أنها فلسفة سلبية تقود إلى تبني العدمية إزاء الطبيعة فهي بالعكس من ذلك‬
‫فهي فلسفة بناءة سواء األمر تعلق بنا نحن أو بما هو خارج عنا‪ .‬فالتفكير في الموضوعات الواقعية معناه‬
‫االستفادة مما يكتنفها من لبس وغموض قصد تعديل الفكر وإغنائه‪ ،‬وإحياء جميع المتغيرات المهمة التي كان‬
‫العلم والفكر الساذج قد أهملها في الدراسة األولى وبذلك فلسفة النفي ترف كل تصور علمي يعتبر نفسه كامال‬
‫نهائيا‪.‬‬

‫‪-‬منهج التحليل الّنفسي للمعرفة‪ :‬ويعني التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية أي العلمية‪ ،‬ويهدف إلى‬
‫الكشف عن المكبوت ليبحث عن مدى أثرها على العمل العلمي‪ .‬تجري المعرفة العلمية ضمن شروط نفسية‬
‫ويؤكد نتيجة لذلك أن التفكير في هذه الشروط يمكننا أن نضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عوائق‪.‬‬

‫التحليل النفسي للمعرفة العلمية فهو يتجه إلى المالحظ العلمي للبحث عن المكبوتات العقلية التي تلعب دور‬
‫العائق االبستمولوجي‪ .‬والمكبوت العقلي هو المفاهيم العامة الشائعة واللغة المعتادة‪.‬‬

‫يمنح المنهج السيكولوجي فلسفة العلم منهجا تحقق به كيفية تكون العقل العلمي والكشف عن العوامل الذاتية‬
‫المؤثرة فيه‪.‬‬

‫‪ -‬كارل بوبر‪:‬‬
‫أ‪ -‬نظرية المعرفة عند كارل بوبر‪:‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫يعد كارل بوبر من أهم فالسفة في القرن ‪20‬م‪ ،‬انطالقا من تميز النظام النسقي الذي طرحه في فلسفة وتاريخ‬
‫العلم‪ ،‬حيث جاء هذا النسق بعناصر نابعة من طبيعة المعرفة اإلنسانية النسبية‪ ،‬وطبيعة الذات العارفة‬
‫الخطاءة فكان ذلك على أسس منطقية ابستمولوجية‪ .‬وعليه فقد أخذ بوبر ذلك بعين االعتبار منطلقا من‬
‫العقالنية النقدية‪ ،‬كمنهج مالئم للمعرفة والذات العارفة‪ ،‬على أساس النزعة الخطيئة ومنهج المحاولة كما سماه‬
‫هو‪ ،‬ثم تأطيره لمفهوم المعرفة الموضوعية ضمن نظرية العوالم الثالث إلى مفهوم الصدق كمبدأ تنظيمي‬
‫والذي بدوره يالئم ويتناسق من الشروط االبتدائية للنسق‪ ،‬ثم إلى توظيف التكذيب والنقد ليتناسب أيضا مع‬
‫المعرفة الموضوعية مع إمكانية نموها وتقدمها باتجاه الصدق فكيف إذا كان بناء هذا النسق االبستمولوجي‬
‫في نظرية المعرفة كارل بوبر؟‬

‫شكلت الفوضى الفكرية للفيزياء الجديدة في الربع األول من القرن العشرين وطروحات الفلسفة الوضعية البيئة‬
‫الثقافية التي نشأت فيها فلسفة كارل بوبر‪ ،‬ويمكن القول أن فلسفة العلوم المعاصرة متصلة اتصاال مباش ار‬
‫بالمتغيرات االفهومية الجذرية التي أدخلتها نظرية أنشتاين في النسبية الخاصة والعامة وميكانيكا الجسيمات‬
‫الكوانتية‪ ،‬وكان لهذه الثورات المتعلقة بالتصور الفيزيائي للكون أثر واضح للعلماء أنفسهم فتحولوا من دون‬
‫التخلي عن الحقل العلمي إلى فالسفة ومنظري معرفة‪ ،‬لعلهم يمسكون باألمواج الفكرية العاتية والتي بدأت‬
‫تحيط بعلمهم منذ أواخر القرن التاسع عشر ومن هنا مثلت فلسفة كارل بوبر نقطة تحول حاسمة في فلسفة‬
‫العلم بنقله من منطق التبرير إلى منطق الكشف العلمي والمعالجة المنهجية له على أساس قابليته المستمرة‬
‫لالختبار التجريبي والتكذيبي لتعيين الخطأ لكي يحل محله يوما ما كشف أفضل أكفأ وأقرب إلى الصدق‬

‫أ‪-‬العقالنية النقدية كأساس ابستمولوجي‪:‬‬

‫يجسدها كالم بوبر بأنها ذلك الموقف االستعدادي لإلنصات للحجج النقدية والتعلم من التجربة‪ ،‬وهو‬
‫باألساس موقف اإلقرار بأني قد أكون على خطأ‪ ،‬وقد تكون أنت على صواب‪ ،‬وبجهد ما يمكن أن نصبح‬
‫أقرب إلى الحقيقة‪.‬‬

‫والتي يمثلها أفالطون وديكارت وغيرهم في عدة أمور‬ ‫تختلف العقالنية النقدية عن العقالنية التقليدية‬
‫جوهرية‪:‬‬

‫‪-‬العقالنية التقليدية تجعل األولوية للعقل البشري قبل التجربة في اكتساب المعرفة‪.‬‬

‫‪-‬تقول أن العقل يبرر اعتقاداتنا‪ ،‬تقريراتنا ونظرياتنا‪.‬‬


‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-‬تؤكد العقالنية النقدية على أنه من الممكن اكتساب معرفة يقينية ثابتة‪ ،‬ذات أسس عقلية‪ ،‬بينما العقالنية‬
‫النقدية تعترض على ذلك‪ ،‬ال العقل وال التجربة ذو أفضلية على اآلخر في اكتساب المعرفة‪ ،‬وال االثنين معا‬
‫كأساس ثابت لها‪ ،‬فهي في موقف االستعداد لتصحيح األخطاء‪ .‬فيكون هنا العقل ملكة لدى جميع األفراد‪،‬‬
‫ولكن التفكير النقدي هو مسألة اجتماعية تنمو بها الملكة والمعارف بالتفاعل مع اآلخرين‪ ،‬أي أن هاته‬
‫الفلسفة البوبرية هي بناء نسقي يرسخ أفكاره المنهجية االبستمولوجية‪ ،‬ويؤكد أولوية النقاش والطابع الجدلي‬
‫لألفكار وال عصمة للعقل البشري‪.‬‬

‫ب‪ -‬منطق التكذيب والقابلية للتكذيب لكارل بوبر‪:‬‬

‫تم التحول مع العقالنية النقدية عند كارل بوبر من التبرير إلى منطق الكشف العلمي‪ ،‬إذ بعد أن كان‬
‫ينظر إلى النظرية العلمية ‪-‬وتحديدا مع الفالسفة الوضعيين المناطقة‪ -‬على أنها يقينية ألنها ناتجة عن‬
‫الخبرة الحسية أصبحت النظرية العلمية مع بوبر خاضعة لمبدأ جديد أطلق عليه اسم "القابلية للتكذيب‪ ،‬فإذا‬
‫كان الوضعي يسلم بصدق المعرفة العلمية ويعمل على تبريرها‪ ،‬فإن المهمة الحقيقية لفيلسوف العلم حسب‬
‫بوبر هو تبيان خطأ النظرية العلمية من خالل إخضاعها لمحك النقد‪ ،‬وهو موقف حاول من خالله كارل‬
‫بوبر تقديم حل لما يعرف بمشكلة االستقراء التي اعتبرها من رواسب الفلسفات السابقة‪ ،‬وهنا يقول كارل بوبر‬
‫مشخصا موقف الوضعية المنطقية من االستقراء ومعقبا عليه عادة ما يسمى االستدالل "استقراء" إذ ينتقل من‬
‫قضايا جزئية كتلك التي تلين نتائج المالحظات والتجارب‪ ،‬اتجاه القضايا الكلية كالفروض والنظريات واآلن‬
‫فإننا نقوم بتبرير استدالل القضايا الكلية من القضايا الجزئية من وجهة النظر المنطقية‪ ،‬ذلك ألن أي نتيجة‬
‫تحصل عليها بمقتضى هذه الطريقة قد تصبح كاذبة كذلك‪ ،‬مثل مهما كان عدد حاالت البجع األبيض التي‬
‫سبق أن الحظناها‪ ،‬فإن ذلك اليبرر النتيجة القائلة "كل البجع أبيض"‬

‫تقوم نظرية العلم عند كارل بوبر على الموقف القائل بأن الحكم المطلق على النظريات العلمية على أنها‬
‫صادقة لمجرد تحقق بعض القضايا الجزئية ال يمكن قبوله منطقيا ولم يعد معموال به ألن أكبر خطأ االكتفاء‬
‫بدراسة عدد محدود من القضايا الجزئية ثم االنتقال إلى الحكم العام الذي يتمثل في النظرية العلمية‪ ،‬ومنه‬
‫انتقل كارل بوبر من مبدأ القابلية للتحقيق إلى القابلية للتكذيب كمعيار جديد للتمييز بين النظريات العلمية‪.‬‬

‫لم يعد العلم التجريبي مع كارل بوبر عبارة عن مجموعة من النظريات العلمية اليقينية والتي تبقى على الدوام‬
‫كذلك‪ ،‬وإنما أصبح عبارة عن مجموعة من النظريات العلمية بحيث يمكن تفنيدها في أية لحظة إذا ظهرت‬
‫قضية جزئية تناقضها‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫يؤكد كارل بوبر على ضرورة البحث في الواقع عن ما ينفي صدق النظرية ال ما يثبته‪ ،‬مع التأكيد على أن‬
‫النظرية العلمية يجب أن تبقى دائما خاضعة لمحك النقد‪ ،‬فإذا صمدت أمامه ولم يظهر ما يناقضها تعتبر‬
‫نظرية علمية مؤقتة إلى حين سقوطها أمام اختبارات التفنيد‪.‬‬

‫نحكم بالتكذيب على النظرية إذا لم تكن نتيجة االختبارات في مصلحتها‪ ،‬أي إذا تناقضت النتائج المستنبطة‬
‫منها مع الواقع ألن تكذيب النتائج هو تكذيب للنظرية ذاتها‪ ،‬فتستبعد من نسق العلم‪.‬‬

‫لقد كان الحل الذي قدمه كارل بوبر والمتمثل في مبدأ القابلية للتكذيب تجاو از لمفهوم العلم الطبيعي أو‬
‫منهجه أو كيفية التمييز بين القضايا الصادقة والقضايا الكاذبة‪ ،‬إذ لم تعد هناك إمكانية للتنبؤ بحدوث‬
‫الظواهر في المستقبل بناء على مشاهدة بعض الظواهر الجزئية في الحاضر‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نتخلى مباشرة‬
‫عن النظرية العلمية السائدة‪.‬‬

‫لكن بعد أن تصمد النظريات العلمية أمام محاوالت تكذيبها‪ ،‬وتنجح أمام عمليات االختبار قد يجد العالم نفسه‬
‫أمام مجموعة من النظريات التي تنجح في االختبارات تنتقل إلى ما يسمى مبدأ التعزيز والتعزيز هو تجاوز‬
‫النظرية لالختبار وكلما كانت االختبارات أقسى حازت النظرية درجة تعزيز أعلى‪.‬‬

‫توماس كوهن‪:‬‬ ‫‪-‬‬


‫أ‪ -‬تبولوجيا توماس كوهن‪:‬‬

‫اإلسهام األهم لتوماس كوهن هو استحداث مفهوم البراديغم‪ ،‬وهو وحدة ماوراء النظرية تتجاوز انشغال‬
‫بوبر بالفروض والحدوس واعتبارها الوحدات األساسية المحركة للتقدم العلمي‪.‬‬

‫قام بشرح الموجة التطورية للعلم أو كيفية تطور المعارف العلمية‪ ،‬فقام بتقسيم تاريخ أي علم من العلوم إلى‬
‫قسمين‪ .‬أو أن تاريخ أي علم البد وعليه من أن يمر بمرحلتين تفصلهما مرحلة انتقالية‪ ،‬وهما مرحلة العلم‬
‫غير الناضج )‪ ،(immature sciences‬والعلم الناضج أو ما يصطلح عليه بالعلم السوي أو العادي أحيانا‬
‫أخرى بالعلم القياسي‪.‬‬

‫والمتفرقة ووجهات النظر‬ ‫‪-‬مرحلة العلم غير الناضج‪ :‬هي مرحلة سادت فيها النظريات المتضاربة‬
‫المختلفة‪ .‬تشكلت فيها أيضا مجموعة من المدارس ذات الخلفيات الفكرية المتباينة والتي ساد فيها نوع من‬
‫الجدل واألفكار المختلفة وعدم وجود تصور واضح وموحد لهاته المدارس وحتى ال يمكننا معرفة أي مدرسة‬
‫من المدارس ألن كل مدرسة تستند إلى خلفية ميتافيزيقية أو فلسفة معينة‪ ،‬كما تتميز بعدم توفرها على أسس‬
‫معيارية عامة وعقالنية حتى تمكن الباحث من أن يخضع لها (نفس الظاهرة تفسيرات عديدة)‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫ستنتهي في األخير مرحلة العلم غير الناضج وذلك بتفوق وانتصار إحدى المدارس المتجادلة وغير المتفقة‬
‫فيما بينهما؛ كل واحدة بمعتقداتها وأفكارها على تأسيس نموذج إرشادي أول يقود مرحلة البحث العلمي إلى‬
‫مرحلة العلم الناضج‪.‬‬

‫السوي‪:‬‬
‫‪-‬مرحلة العلم الناضج أو ّ‬
‫هو البحث الذي يرشح بنيانه على إنجاز أو أكثر من انجازات الماضي العلمية والتي تعتبر بأنها تشكل‬
‫األساس لممارسته العلمية مستقبال‪ .‬ربط توماس كوهن بين العلم السوي ومصطلح البراديغم والذي يرى أنه هو‬
‫الشرط الضروري له فمن خالله يتم التمييز بين العلم (غير الناضج) والعلم الناضج‪ ،‬وهذا األخير هو الذي‬
‫ينجح في وضع براديغم معين ألنه إذا تم نجاحه في وضع براديغم فهي داللة واضحة على نضجه حيث يقول‬
‫كوهن " العلم الناضج هو النشاط الذي يهتم بحل المشكالت العلمية بالطرق التي يحددها النموذج المعمول‬
‫به‪ ،‬أي أن العلم السوي يحاول دائما أن يدرس ويدقق في القضايا العلمية التي وضعها النموذج‪ ".‬كما أنه‬
‫مبني وبشكل أساسي على فهم وحل األلغاز التي ظلت غامضة وشائكة داخل المعرفة العلمية‪ .‬ولعل أهم‬
‫الخصائص التي يصف بها كوهن العلم السوي إجماال‪:‬‬

‫‪-‬العلم العادي ذو طابع تراكمي أي يتميز بالتراكم الهدف منه الزيادة في محتوى المعرفة العلمية من خالل‬
‫تسلسل جملة من االكتشافات‪.‬‬

‫العلم العادي في هذه المرحلة يكون في حالة استقرار وهدوء ألن النموذج يكون متمسكا بزمام النشاط العلمي‪.‬‬

‫يشكل العلم السوي الجزء األكبر من تاريخ العلم وألنه يعتبر أطول مرحلة من مراحل تطور العلم‪ ،‬إنه ليس‬
‫من اليسير تغيير قواعد وقوانين وأسس ومبادئ العلم‪ ،‬فالعلماء يحاولون التشكيك في النظريات العلمية وفقا‬
‫ألطر وضعها النموذج اإلرشادي أو البراديغم وبالتالي المرحلة الثورية تكون نادرة‪.‬‬

‫‪-‬العلم الثوري‪:‬‬

‫‪-‬األزمة كمدخل للثورة العلمية‪:‬‬

‫عندما تظهر حاالت شاذة في العلم وال يستطيع العلماء فهم هذا الخلل والفوضى التي أصابت العلم‪ ،‬وال‬
‫يمكن استيعابها وفق النموذج اإلرشادي القائم‪ ،‬ألنه غير مهيأ لهذه الوقائع التي تحدث‪ .‬ينتج عنه ما يسمى‬
‫بأزمة في العلم والتي يقصد بها عجز الحلول القديمة والتقليدية على مواجهة واحتواء حاالت الخلل المستجدة‬
‫الحادثة غير المعروفة أو المتوقعة‪ .‬واألزمة هي تراكم المشكالت والفوضى وظهور التناقضات والصراعات‪.‬‬
‫عندما يدخل العلم في حالة من األزمة فإنه يؤدي بالضرورة إلى ظهور نظريات جديدة‪ ،‬فاألزمات تقودنا إلى‬
‫التعبير ألنها نتجت عن فشل التوقعات‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫األزمات ماهي إال‪- :‬تعبير عن إخفاق العلم عن حل األلغاز وعجزه إلى التوصل إلى نتائج متوقع‪.‬‬

‫‪-‬األزمة هي الوعي بالشذوذ‬

‫‪-‬دورها هو اإلعالن عن إفالس وفشل القواعد القائمة‬

‫‪-‬الثورة العلمية‪ :‬يعرفها توماس على أنها سلسلة من األحداث التطورية غير التراكمية التي يستبدل فيها‬
‫نموذج إرشادي قديم كليا أو جزئيا بنموذج إرشادي متعارض معه‪ ،‬الثورة العلمية هي االنتقال من نموذج‬
‫إرشادي أو براديغم قديم إلى براديغم آخر يختلف معه سواء من ناحية المبادئ أو األسس‪ .‬فال يمكن أن يكون‬
‫هناك ثورة علمية إال إذا كان هناك تحول وتغير ما هو قائم‪.‬‬

‫‪-‬أنواع الثورات العلمية عند كوهن‪:‬‬

‫‪-‬الثورة الصغرى‪ :‬التي يعني بها االكتشافات العلمية الثورية التي ال تدخل ضمن توقعات النظام ‪ ،‬البراديغم‬
‫السائد‪ ،‬والتي تحدث ضمن نطاق ضيق بين عدد محدود من العلماء‪ ،‬الذين ال يتجاوز عددهم العشرين وهنا‬
‫يختلف مع بوبر الذي يقول أن واقعة واحدة قادرة على إثبات زيف وإبطال النظرية المعنية‪.‬‬

‫في حالة فشل النموذج في الوصول إلى نتائج مرتقبة في حل األلغاز من خالل العلم القياسي تحدث الثورة‬
‫الكبرى‪.‬‬

‫‪-‬الثورة الكبرى‪ :‬هي التي تؤسس تقليدا بحثيا جديدا وتفرض رؤية جديدة وتهدم النظام السابق ويتجاوز تأثيرها‬
‫المجال الذي حدثت فيه إلى مجاالت أخرى من النشاط اإلنساني‪ .‬إال أن عملية نقل العلماء والءهم ألسس‬
‫علمية معينة إلى أسس أخرى جديدة ليس باألمر اليسير‪.‬‬

‫يوضح مراحل بناء براديم ومبدأ الالمقايسة المعرفية‬


‫هذا الشكل ّ‬

‫لقد سلم توماس كوهن بكون العلم ماض في طريق التقدم المستمر‪ ،‬لكنه يتحدث عن خطأ االعتقاد السائد بأن‬
‫هذا التقدم يأخذ منحنى تراكمي في مسار خطي بحيث أن التقدم المعرفي الالمقايسي لكوهن بحسب تصوره‬
‫ينبني على براديغمات ال متقايسة‪ .‬ويقول كوهن أن البراديغمات الجديدة تتبنى بعض مكتسبات القديمة وفق‬
‫مسار غير تراكمي‪.‬‬

‫يحمل مصطلح الثورة جانبين مهمين في تفكير كوهن‪:‬‬


‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫‪-‬يشير إلى الطبعة الحلقية للتقدم في تاريخ العلم حيث أن تبني براديغم جديد يكون نتيجة لثورة علمية تدشن‬
‫مرحلة جديدة من العلم القياسي‪ ،‬هذه األخيرة ينتهي بها المطاف إلى أزمة جديدة يليها حدوث ثورة تؤدي إلى‬
‫تبني براديغم جديد وهكذا‪.‬‬

‫‪-‬يجري كوهن تشبيها بين الثورة العلمية والثورة السياسية حين يشبه البراديغم بالنظام السياسي القائم الذي‬
‫يتولى معالجة المشاكل االجتماعية والسياسية داخل المجتمع‪ ،‬فإذا ما عجز النظام السياسي عن حل هذه‬
‫األزمات القائمة تحدث ثورة الستبدال هذا النظام بنظام جديد بنفس الطريقة التي يتم فيها استبدال البراديغم‬
‫القديم ببراديغم جديد‪ ،‬فعندما تحدث األزمة المعرفية بظهور أعراض اإلخفاق في الحصول على فهوم متبصرة‬
‫للواقع عن طريق أدوات تقليد البحث المهيمن ‪ ،‬وعندما يصعب التخفيف من حدة هذه األزمة عبر تنقيح‬
‫البراديغم المهيمن تحدث الثورة المعرفية‪ .‬ما يعني االنتقال إلى نموذج قياسي موجه والذي ينطوي عليه أيضا‬
‫التغير في النظرة إلى القديم‪ .‬ما يجعل الحديث عن إمكانية عقد مقارنة بين البراديغم الجديد والقديم غير‬
‫متيسرة ‪ ،‬فكل يستعمل لغة وأدوات تحليلية متمايزة ويطرح حجج علمية متميزة وهذه الوضعية يطلق عليها‬
‫توماس كوهن الالمقايسة‪.‬‬

‫‪ -‬مقاربة ميشال فوكو‪:‬‬

‫لقد حققت مقاربة فوكو المعرفية وثبة تقدمية يشهد لها العلم المعاصر‪ ،‬ولقد انصب اهتمام فوكو في‬
‫مواضع محددة بتفكيك وتحليل الداللة المفهومية والبعد البنيوي لمعنى وحقيقة االبستمولوجيا‪.‬‬

‫يرى فوكو أن االبستمولوجيا عبارة عن بنية معرفية متعددة ومتغايرة وهي وحدات معرفية متقطعة وكل وحدة‬
‫معرفية لها نظام فكري خاص بها اصطلح عليها بالخطاب المعرفي أو الحقبة المعرفية أو المراحل التاريخية‬
‫للمعرفة‪.‬‬

‫قسم فوكو الفكر الغربي إلى ثالث عصور متتابعة‪ ،‬تتعاقب على أساس انقطاعات ابستمولوجية‪ ،‬تنتقل بها‬
‫المعرفة من حقبة إلى أخرى دون أن يكون بينها أي استمرار أو تواصل بل مجرد فواصل وتقطعات‪ .‬تتمثل‬
‫هذه العصور كما يلي‪ :‬أول هذه العصور هو عصر النهضة وثانيها هو العصر الكالسيكي الذي يؤرخ‬
‫"فوكو" بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر وثالثها هو العصر الحديث الذي يبدأ‬
‫مع مطلع القرن ‪19‬م بظهور مفهوم " اإلنسان" من حيث هو ذات تاريخية‪.‬‬

‫‪-1‬األركيولوجيا عند فوكو‪:‬‬

‫تعني كلمة أركيولوجيا "علم اآلثار" وهي مشتقة من اليونانية أركه ‪ Arché‬أو "أرخايوس" ‪Arkhaios‬‬
‫الذي يعني قديم ونحن نعرف أن دراسة اآلثار القديمة تستلزم القيام بحفريات من أجل استخراج آثار الماضي‬
‫من طبقات األرض والعمل على إعادة تركيب تاريخ الحضارات القديمة‪ .‬ولكن فوكو ال يستخدم هذا‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫االصطالح بهذا المعنى المعروف‪ ،‬بل هو يرمي إلى دراسة أرشيف كل عصر من أجل الكشف عن المجال‬
‫االبستمولوجي‪ .‬فإذا كانت األركيولوجيا تحليال الخطابية والوضعيات والمعارف من حيث عالقتها بالعلوم‪،‬‬
‫فهي كذلك تحليل لألنظمة المعرفية‪.‬‬

‫لقد نزع فوكو إلى ممارسة عملية الحفر المعرفي من خالل النبش في فعاليات الحياة ووثائق الحفظ‬
‫والخطابات كمنهج ووسيلة من أجل كشف النظم المعرفية التي تحكمها وتنظمها في سياق واحد أي االشتغال‬
‫على الخطابات بالحفر في طبقاتها وتفكيك بنياتها أو بتعرية بداهاتها وكشف طياتها متجاو از بذلك المقاربة‬
‫االبستمولوجية التي تعمل بثنائية الصدق والخطأ أو العقلي وغير العقلي‪ ،‬نحو ثنائية جديدة المفكر فيه والغير‬
‫مفكر فيه‪ ،‬كاشفا بذلك عما تمارسه الذات المفكرة‪ -‬فيما هي تفكر‪ -‬من الصمت والجهل والنسيان‪ ،‬وعما‬
‫يتيسر عليه العقل فيما يعقل‪ ،‬ويستدل عليه من ضروب الحمق والجنون‪.‬‬

‫ولهذا تتحدد وظيفة المنهج االركيولوجي في كونه يسعى للكشف عن األسس المعرفية التي قامت عليها معرفة‬
‫عصر معين من خالل تحليل سلسلة العالقات القائمة بين مختلف العلوم‪ .‬هذا ما يؤدي إلى تنقية التاريخ‬
‫الميتافيزيقي من مختلف مقوالته‪ ،‬ومن جل المظاهر التي توحي بالذاتية‪ ،‬وبالتالي إلغاء القداسة التي تعطي‬
‫لمقولة الذات في التحليالت التاريخية‪.‬‬

‫يعطي فوكو مفهوما مركزيا للتاريخ وهو االنقطاع الذي يعرفه فوكو بقوله " هو أداة البحث وموضوعه في‬
‫نفس الوقت يعين حدود الحقل الذي يتولد فيه ويسمح بتعيين تفرد الميادين التي ال يمكننا تحديده إال بفضل‬
‫المقارنة بينها‪ ،‬وألنه في نهاية األمر ليس مجرد مفهوم قائم حاضر في خطاب المؤرخ ‪ ،‬بل يفترضه هذا‬
‫األخير وينطلق من ذلك االنفصال الذي يمده بالتاريخ كموضوع وبتاريخه هو"‪ .‬لذلك فإن التاريخ ليس تاريخ‬
‫االستمرار والتسلسل فق‪ ،‬بل هو تاريخ االنقطاعات واالنفصاالت كذلك تسمح له بتحليل المعارف كممارسات‬
‫خطابية تتجسد في تشكيالت خطابية وتميزه عن باقي المقاربات التاريخية‪ .‬وهذا االنقطاع الذي يشير إليه‬
‫فوكو يتضح من خالل رسم قطعتين كبيرتين‪ ،‬القطيعة التي فصلت العصر الكالسيكي عن عصر النهضة‬
‫والقطيعة التي فصلت العصر الحديث عن العصر الكالسيكي‪ ،‬األولى حصلت في بداية القرن السابع عشر‬
‫مع اللحظة الديكارتية والثانية مع بداية القرن التاسع عشر والتي عرفت ميالد العلوم االنسانية‪.‬‬

‫‪-2‬الذات وتحطيم أحادية السلطة‪:‬‬

‫إن محور مشروع فوكو هو تاريخ نقدي للفكر‪ ،‬أي تحليل الظروف التي تشكلت ضمنها عالقة الذات‬
‫بالموضوع ‪.‬وعليه قدم "فوكو" دحضا عميقا للفلسفة الحديثة من "ديكارت" إلى "كانت" القائمة على "األنا‬
‫أفكر إذن انا موجود" كمصدر للمعرفة‪ .‬إن إشكالية الذات عند "فوكو" تبرز من خالل طرحه للسؤال التالي‪:‬‬
‫مارس عليها عالقات السلطة؟ بهذا المعنى‪ ،‬تغدو الذات تمثل بؤرة‬
‫مارس أو تُ ُ‬
‫كيف تم تشكيلنا كذوات تُ ُ‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫انطالق السلطة نحو موضوعها المتجسد في المناطق المتاخمة‪ ،‬ومن التخوم التي ارتحلت إليها السلطة نجد‬
‫السياسي‪.‬‬

‫وفي العالقة بين السلطة والمعرفة )الحقيقة(‪ ،‬قام "فوكو" بقلب مقولة ان المعرفة أداة في يد السلطة واإلنسان‬
‫إلى التساؤل عن مدى السلطة التي تمارسها المعرفة والتي تشكل العالقة بين الفرد وأفكاره وصوال إلى سؤال‬
‫إشكالي آخر حول‪ :‬ماهي اآلليات المنتهجة من قبل المجتمعات الغربية لممارسة السلطة؟ كيف وفي أي‬
‫مكان عمل ت الحقيقة؟ وكيف كانت السلطة مولدة للمعرفة؟‬

‫إن فعل السلطة ينتج المعارف وعلى رأسها العلوم اإلنسانية‪ ،‬فاالمتزاج بين السلطة والمعرفة ساهم في ميالد‬
‫مؤسسات عقابية كالسجون والمالجئ وغيرها‪ ،‬ويرى "فوكو" ان التقدم الحاصل في المؤسسات ما بعد‬
‫الحداثية سببه تطور في تقنيات المراقبة‪ ،‬فكلما علت مكانة المعرفة في المجتمع زادت سلطتها فيه وصار‬
‫لها نفوذ معرفي قوي‪ ،‬لكنه ال يقوم على اإلكراه بل على اإلقناع واالقتناع ألن هذه السلطة تنبني على تقديم‬
‫الحجة والدليل العلمي إلقناع الطرف اآلخر بالفاعلية اإليجابية لها والقيمة المضافة ألي معلومة في حياة‬
‫األفراد في المجتمع‪ .‬وعليه تعد المعرفة خطابا قابال للنفي أو اإلثبات في ممارسته من قبل السلطة‪ .‬إن‬
‫المعرفة في جوهرها خطاب ‪ Discours‬لما يتحول هذا الخطاب إلى حيز الممارسة نكون بصدد فعل‬
‫المعرفة‪ ،‬تكون إرادة المعرفة هي حلقة الوصل بين الفكر والفعل ألنها عقل بالقوة في خطابها وعقل بالفعل‬
‫في ممارستها‪ .‬وعليه جاءت حاجة السلطة إلى خطاب يميزها من التحول في أساليبها الممارساتية عبر‬
‫الزمان‪ ،‬فلكل مجتمع في فترة محددة بنية خطاب تبرر أعمال السلطة بداخله‪ ،‬وهذا الخطاب له لغة‪.‬‬

‫بالصلب والتمثيل واإلعدام في الساحات العامة‪ ،‬لكن ابتكرت‬


‫فالسلطة في العصور الوسطى مارست عنفها َّ‬
‫الثورة الفرنسية بمبادئها آليات جديدة هي االتهام أمام المأل والتشهير وإنزال الحكم وعقوبة السجن‪ ،‬فكانت‬
‫الفترة األولى قا ئمة على بنية خطاب ردعي تخويفي يمنع من معاودة ارتكاب الخطأ‪ ،‬أما الفترة الثانية فبنية‬
‫خطابها أخالقية ألنها تراعي الكرامة اإلنسانية‪ .‬لكم هل نحن أمام خطاب سلطة؟ أم سلطة خطاب؟ إن‬
‫السلطة موجودة في الخطاب وفي التأثير الذي يحدثه‪ ،‬في الوقت ذاته فإن الخطاب هو تأكيد لسلطة ما‬
‫باء عليه‪ ،‬نستنتج أن‬
‫ترمز له‪ ،‬فالخطاب ينقل السلطة وينتجها ويقويها ولكنه أيضا يلغمها ويفجرها ويلغيها‪ً .‬‬
‫الخطاب السلطوي للدولة يستهدف ذاته ويستهدف اآلخر‪ ،‬الذات من حيث أن سلطة الدولة تقع في مأزق‬
‫التهديد األمني من العنف المضاد ‪ La contre violence‬واآلخر من حيث إنه جسد األفراد في المجتمع‬
‫الذي يعاني من أضرار اإلكراه المادي‪ :‬السجن‪ ،‬العقاب ‪،‬التوجيه القسري‪...‬إلخ‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫كان الجسد إذن عرضة لقوى متعددة ساهمت في إخضاعه وترويضه‪ ،‬وقام "فوكو" بتفكيك اآلليات والنظم‬
‫المساهمة في عملية اإلخضاع وكيف تمارس السلطة على الجسد في المدرسة والسجن والمصنع‬
‫والمستشفى؟ أصبح الجسد ذاك الكائن المنضبط ‪.‬‬

‫لقد أحدث "فوكو" قطيعة مع مفهوم السلطة الذي كان سائدا إلى حينه إذ قام بنقله من وحدة معرفية إلى‬
‫وحدة معرفية أرقى من حيث االستعمال والتداول‪ ،‬هذا االنتقال من وحدة إبستمية إلى أخرى الذي ال يتم إال‬
‫عبر االنقطاع أو الطفرة أو الحدث الراديكالي أو الكسر على حد تعبيره ‪.‬‬

‫المحاضرة الثالثة‪ :‬مأسسة علوم اإلعالم واالتصال‪:‬‬

‫تعتبر الظاهرة االتصالية ظاهرة قديمة صاحبت في جل مراحل تكوين المجتمع البشري‪ .‬لذا فإن‬
‫بهذه الظاهرة كظاهرة مستقلة من طرف الباحثين في شتى العلوم االجتماعية‪،‬حيث كان ينظر إلى االتصال‬
‫(كظاهرة مستقلة) على أنه محتوى في إطار الفعل االجتماعي وكان يؤخذ على أنه مسلمة من المسلمات أنه‬
‫التوجد ضرورة لدراسته بصفة مستقلة عن الفعل االجتماعي‪.‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫شهد القرن ‪19‬م ظهور عدد كبير من وسائل االتصال استجابة لعالج بعض المشكالت الناجمة عن‬
‫الثورة الصناعية‪ .‬فقد أدى التوسع في التصنيع إلى زيادة الطلب على المواد الخام‪ ،‬وكذلك التوسع في فتح‬
‫أسواق جديدة خارج الحدود‪ ،‬كما برزت الحاجة إلى استكشاف أساليب سريعة لتبادل المعلومات التجارية‪ ،‬كما‬
‫برزت الحاجة إلى استكشاف أساليب سريعة لتبادل المعلومات التجارية وبالتالي أصبحت األساليب التقليدية‬
‫لالتصال ال تلبي التطورات الضخمة التي يشهدها المجتمع الصناعي‪.‬‬

‫علم االتصال علم حديث نسبيا‪ ،‬خرج من تحت عباءة علم االجتماع وعلوم أخرى فأصبح له قواعده وأصوله‬
‫ونظرياته المستمدة من العلوم االجتماعية التي سبقت ظهوره‪ ،‬وقد تطور علم االتصال تاريخيا حسب المراحل‬
‫التي شهدت االتصالية الرائدة التي غيرت من نمط االتصال السائد وأثرت على أشكال الحضارة والمدنية‪.‬‬

‫‪-1‬تاريخ التكوين في االتصال‪:‬‬

‫تعود األصول التاريخية لكلمة االتصال للعصور القديمة تحت مسميات الخطابة البالغة‪ ،‬فإنها لم تشتهر في‬
‫الخطاب الحديث العادي إال منذ أواخر القرن ‪19‬م‪ ،‬حيث بدأت الدراسات األكاديمية‪ ،‬حيث بدأت الدراسات‬
‫األكاديمية في مجال الفنون واآلداب تهتم بموضوعات متفرقة مثل سلوك الجماهير المجتمع والصحافة‬

‫لكن تحديث الصحافة بإضفاء الطابع المهني عليها سبقته دعوات عدة كان أولها اقتراح األمريكي" روبرلي"‬
‫الذي دعا إلى تكوين جامعي لمهنة اإلعالميين في عام ‪1869‬م‪ ،‬وبدأت هذه الفكرة تنتشر بين المؤتمرين‬
‫الدوليين حول الصحافة اللذين عقدا في بوردو وبرلين‪ ،‬كللت بأول برنامج دراسي في ميدان اإلعالم تم‬
‫ضبطه عام ‪1901‬م ثم جامعات أخرى‪ .‬فتح أول تخصص جامعي لالتصال في ألمانيا عام ‪ 1916‬وكانت‬
‫محتويات المواد الدراسية في كل هذه الهيئات ذات طابع مهني ترتكز أساسا على التقنيات الخاصة بممارسة‬
‫مهنة الصحافة‪ ،‬ثم أصبح ابتداء من العشرينات يتضمن كذلك وحدات نظرية مثل التاريخ أخالقيات‬
‫الصحافة؛ الرأي العام؛ إدارة الصحيفة؛ اإلشهار وذلك بفعل عدة عوامل منها التفاعل بين علم اإلعالم والعلوم‬
‫االجتماعية التي تمثل المحيط الثقافي لمثل هذا التخصص باإلضافة إلى بعض التكنولوجيات الحديثة الهاتف‬
‫اإلذاعة التلفزيون الذي أصبح تأثيرها يتزايد في الحياة السياسية االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪.‬‬

‫تم فتح دراسات ما بعد التدرج في بعض الجامعات األمريكية بين عامي ‪ 1935-1934‬ثم اتسع مجال‬
‫البرامج اإلعالمية كما وكيفا بعد الحرب العالمية ‪ 2‬ليساهم في تأصيل علم اإلعالم كعلم قائم بذاته في أمريكا‬
‫ثم أوروبا وبقية أنحاء العالم‪.‬‬

‫‪ -2‬هوية علوم اإلعالم واالتصال‪ :‬هل هو علم أم مجرد مجال للبحث؟‬

‫إن االهتمام بالوضعية االبستمولوجية لعلوم اإلعالم واالتصال‪ ،‬يهدف إلى فهم كيفية تشكل هذا‬
‫المجال ومعرفة موقعه في خارطة العلوم‪ .‬فمجال اإلعالم واالتصال حديث النشأة‪ ،‬ومن الدارسين من‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫يعتبره علما قائما بذاته‪ ،‬ومنهم من يعتبره مجال بحث مفتوح‪ ،‬خاصة أن هذا المجال نما انطالقا من‬
‫حقول معرفية عديدة في العلوم اإلنسانية واالجتماعية مثل الفلسفة‪ ،‬وعلم االجتماع‪ ،‬وعلم النفس‬
‫االجتماعي‪ ،‬والفيزياء والرياضيات‪.‬‬

‫أ‪-‬طبيعة البحث في االتصال‪ :‬لقد اختلف عديد الباحثين حول طبيعة علوم اإلعالم واالتصال‪،‬‬
‫لذلك كان من الصعب تقديم عرض حال عن هذا التخصص‪ ،‬وسنحاول أن نفسر هذا االختالف من‬
‫خالل عرض التوجهات والتي ستكون من خالل األطروحات واألطروحات المضادة‪.‬‬

‫‪-1‬األطروحة األولى‪ :‬االتصال من أكثر المجاالت األكاديمية تطو ار‬

‫يتميز االتصال بديناميكية ال تنافسه فيها سوى قلة من التخصصات مثل المعلوماتية والتكنولوجيا‬
‫الحيوية‪ ،‬وهذا ارجع لألسباب التالية‪:‬‬

‫‪-‬تزايد أهمية المعلومات في كل جوانب حياة الفرد ونجاحاته الفردية واالقتصادية‪.‬‬

‫‪-‬األهمية المتزايدة للمهارات االتصالية في العالقات العامة التي أصبحت أكثر التخصصات نموا في مجال‬
‫االتصال‪.‬‬

‫‪-‬اتساع مساحة التعرض لوسائل االتصال واالستخدام الواسع لوسائل التواصل االجتماعي‪.‬‬

‫‪-‬التزايد المستمر في اعتبار وسائل اإلعالم مصد ار أساسيا لفهم وإدراك الواقع‪.‬‬

‫‪ -‬تزايد الترابط بين النظام اإلعالمي وباقي األنظمة االجتماعية وخاصة السياسية منها‪ ،‬إلى وسيلة للسلطة‬
‫السياسة‪.‬‬

‫‪-‬إن أهمية تأثير وسائل اإلعالم الجماهيرية في نوعية التواصل الجماهيري والخاص يجعل من تخصص‬
‫االتصال ذو أهمية كبرى ال تخفى على أحد‪.‬‬

‫‪-2‬األطروحة المضادة األولى‪ :‬االتصال تخصص عاجز ذاتيا بل فاقد للهوية‬

‫يتميز عادة أي تخصص أكاديمي ببعض االنسجام في مواضيع دراساته وفي نظرياته‪ ،‬فمثال الفيزياء كعلم‬
‫أو تخصص يعتبر واضح المعالم وموضوعها هو الطبيعة ونظرياتها تبنى واحدة فوق األخرى( نظرية نسبية‬
‫أينشتاين على نظرية ميكانيكا نيوتن‪)...‬وال يوجد جدل كبير حول ماهية النظريات التي تنتمي إليها‪.‬‬

‫بالمقابل من ذلك هناك جدل كبير حول اعتبار االتصال تخصصا أم مجاال للبحث‪ ،‬وحول كونه موضوعا‬
‫محددا أو واسعا‪ ،‬فكل شيء في الحياة يتضمن االتصال‪ ،‬ومع ذلك هناك من يرى أن ليس كل ماله عالقة‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫بوسائل االتصال يعتبر بحثا في االتصال‪ ،‬فمثال البحث في التشوهات النفسية الناتجة عن التعرض إعالمية‬
‫عنيفة بحثا نفسيا‪ ،‬والبحث في أسباب احتكار وسائل اإلعالم يعتبر بحثا اقتصاديا وليست بحوث اتصالية‪.‬‬

‫ولقد رافقت أزمة الهوية التي يعرفها ميدان علوم اإلعالم واالتصال المسار األكاديمي للباحثين‪ ،‬فمثال عندما‬
‫طالب المهتمين بهذا الميدان بمأسسة االتصال في ألمانيا إلى جانب علم االجتماع في النظام األكاديمي‬
‫األلماني رفض رئيس جمعية علماء االجتماع األلمان إدماجه بحجة تهكمية مقارنة مفادها "عدم حاجتنا لعلم‬
‫الدجاج أو البط داخل البيولوجيا‪"...‬‬

‫يضاف إلى هذا حداثة عهد هذا المجال الذي لم تتمكن فيه األعمال التأصيلية من رسم حدود نظرية واضحة‬
‫له‪ ،‬ويقول في هذا األمر " دانيال بونيو")‪ ( Daniel Bougnoux‬أن االتصال حقيقة موجود في كل العلوم‪،‬‬
‫ولكنه كعلم‪ ،‬حقيقة مفقودة‪ ،‬ثم أن انفجار المناهج والمقاربات داخل هذا الحقل‪ ،‬والنازحة من تخصصات‬
‫متأصلة الجذور في التاريخ‪ ،‬يجعل مهمة المشتغلين بتاريخ علوم اإلعالم عملية مشوشة ومعقدة في ذاتها‪.‬‬
‫وتعتبر حدود علوم اإلعالم واالتصال غير واضحة ويعود لسببين رئيسين هما‪:‬‬

‫‪-‬وضعية التناهج‪ :‬تعتبر علوم اإلعالم واالتصال علوم "إدماجية" )‪ ، (integrative‬تجميعية‬


‫)‪ ،(Synoptical‬أو على حد تعبير"ليتلجون" هو "متعدد التخصصات"‪ ،‬مع العلم أن هناك فروقا طفيفة بين‬
‫المصطلحات الثالثة‪ :‬فهو إدماجي إلتاحته استعمال نظريات أو مناهج أي تخصص لديه ما يفيد في وصف‬
‫موضوعه االتصالي‪ ،‬وهو تجميعي الستعماله معارف عدة تخصصات‪ ،‬وهو متعدد التخصصات لقيامه‬
‫باألمرين معا‪.‬‬

‫إن الخارطة االبستمولوجية لعلوم اإلعالم واالتصال جعلت منه حقال تسكنه تخصصات علمية مختلفة‬
‫وتتفاعل معه علوم عديدة‪ ،‬فقد أحصى "كرايغ" سبعة تقاليد أكاديمية في نظريات االتصال تقوم بالتنظير‬
‫لالتصال بطرق مختلفة‪ :‬البالغة‪ ،‬السيميائية‪ ،‬الظاهراتية‪ ،‬السيبرنتيكية‪ ،‬علم النفس االجتماعية‪ ،‬علم االجتماع‬
‫الثقافي وعلم االجتماع النقدي‪ .‬بينما نجد أن لعلوم الطبيعة تقليدا نظريا واحدا‪ ،‬ولعلم اثنين ( السلوكية‬
‫والتحليل النفسي) ونحن لدينا سبعة أو أكثر‪.‬‬

‫إن التفكير في التوجه نحو اندماج العلوم ينبثق من واقع ابستمولوجي نظري مركب تتفاعل في حدوده‬
‫حقيقتان‪ :‬حقيقة التناهج ‪ Interdisciplinary‬بين العلوم‪ ،‬وحقيقة ظهور فلسفة التعقيد‪ .‬أما األولى فهي قائمة‬
‫على تداخل مجاالت العلوم وتداولها لمفاهيم ومصطلحات بعينها‪ ،‬ويتحدث "ادغار موران" عن ترحال المفاهيم‬
‫وهجرتها من حقل آلخر لتكون لها بنيات أساسية في كل حقل من الحقول‪ .‬نجد مثال مصطلح‬
‫التشويش(الضوضاء)الذي تحول من مجال الفيزياء إلى الحديث عن التشويش السيميائي أو الداللي في علوم‬
‫اإلعالم واالتصال وكذلك في بقية علوم االجتماعية األخرى‪ .‬ونجد كذلك مصطلح األنتروبيا ‪ Entropie‬الذي‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫نشأ في مجال الدينامية الح اررية‪ ،‬ليظل في ما بعد مصطلحا مركزيا في مجال اإلعالم واالتصال‪ ،‬والذي‬
‫يرمي إلى قياس أهمية المعلومات واألخبار المتداولة في المحيط االجتماعي‪.‬‬

‫هذا األمر يقودنا إلى ضرورة تبني براديغم التعقيد القائم على فهم الجزء من خالل الكل‪ ،‬وفهم الكل من خالل‬
‫الجزء‪ ،‬من دون الفصل بين الجزء والكل‪ ،‬ومثل هذا التحاور ال يحتمل فصل الجزء عن الكل وفصل الجزء‬
‫عن الكل‪ .‬وبهذا يمكن اعتبار براديغم التعقيد فتحا جديدا في مجال العلوم إذ يقر بمحدودية العلم وبعد اليقين‬
‫وبحقيقة الظواهر الطارئة واالضطراب‪.‬‬

‫لكن اعتبار علوم اإلعالم واالتصال علوم متعددة التخصصات أو علوم إدماجية أو تجميعية ال يحل المشكلة‬
‫كون هوية هذا التخصص غير واضحة المعالم‪ ،‬وهناك من يعتبر أن مجال االتصال‪ ،‬بوصفه حقال معرفيا‬
‫تتقاطع عنده تخصصات عديدة‪ ،‬إلى مرتبة العلم‪ ،‬حتى لو أن هناك بعض اإليجابية التي تسمح باالستفادة‬
‫دائما من المداخل النظرية لتخصصات أخرى وإدماج أحسن النظريات والمناهج لوصفها موضوعنا‪ ،‬وكان‬
‫يأتي ذلك بداية من علماء االقتصاد والتاريخ ثم أتت الموجة الثانية من علماء النفس والتخصصات‬
‫األخرى(الزارسفيلد‪ ،‬هوفالند‪ ،)..‬ثم أتت مقاربات علماء االجتماع المهتمين بالثقافة مثل (هابرماس‪ ،‬وبورديو‪،‬‬
‫وغتلين"‪.‬‬

‫لقد أحصى"كرايغ" سبعة تقاليد أكاديمية في نظريات االتصال تقوم بالتنظير لالتصال بطرق مختلفة‪ :‬البالغة‪،‬‬
‫السيميائية‪ ،‬الظاهراتية‪ ،‬السيرنتيكية‪ ،‬علم النفس االجتماعي‪ ،‬علم االجتماع وعلم االجتماع النقدي‪ .‬بينما نجد‬
‫أن لعلوم الطبيعة تقليجا نظريا واحدا‪ ،‬ولعلم النفس اثنين( السلوكية والتحليل النفسي)‪.‬‬

‫‪-‬ازدواجية التركيب‪ :‬تحدث هذه االزدواجية في "اإلعالم واالتصال" نوع االضطراب والتشويش‪ ،‬كلما تعلق‬
‫األمر بتاريخ علوم اإلعالم واالتصال‪ ،‬كمجال بصدد البحث هن تأسيس هوية علمية وتاريخية لكيانه‪ .‬إن‬
‫ازدواجية التركيب التي تختزلها كلمة"إعالم" وكلمة "اتصال" تحيل إلى مجالين متصلين منفصلين في الوقت‬
‫ذاته‪ :‬مجال الميديا والصناعات اإلعالمية‪ ،‬ومجال السلوك والتفاعالت االجتماعية‪.‬‬

‫فمجال اإلعالم فقد قاربته تيارات فكرية ونظرية مختلفة‪ ،‬منها التيار الوظيفي الذي اهتم بدراسة وظائف الميديا‬
‫الجماهيرية وتأثيرها في المجتمع‪ ،‬وهنالك أيضا التيار اللساني البنيوي كمنهج يختص باستخراج المضامين‬
‫اإلعالمية‪.‬‬

‫أما المجال الثاني فهو مجال السلوك والتفاعالت االجتماعية والمعروف بمجال االتصال‪ ،‬ومن بين األعمال‬
‫التي اهتمت به أعمال مجموعة )بالو ألتو ‪ )Palo Alto‬ضمن مقاربتهم النسقية ألنماط السلوك البشري‪.‬‬

‫إن الطبيعة التعددية لعلم االتصال‪ ،‬أدت بالباحثين إلى محاوالت إدماجية‪ ،‬أهمها محاولة "بينغر" عام ‪1993‬‬
‫‪(connaissance, culture,‬‬ ‫والذي عرف التخصص بالسينات األربعة‪ :‬المعرفة‪ ،‬الثقافة‪ ،‬الضبط‪ ،‬واالتصال‬
‫)‪.contrôle, communication‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫ويعتبر هذا التصنيف تصنيفا عاما وذو حدود غامضة قد تسمح له بأن يشمل أي نوع من أنواع البحوث‬
‫المتعلقة باإلنسان‪ ،‬وال يصلح كمصدر لتمييز هوية تخصص واحد‪.‬‬

‫إن تحقيق هوية التخصص يعتبر ضرورة ألسباب خارجية وداخلية‪:‬‬

‫خارجيا‪ ،‬من المهم تبرير وجود ونمو التخصص من أجل تمويل مشاريع االستقاللية واإلدارية والتعليم والبحث‪،‬‬
‫وذلك من أجل المحافظة عل كيان تكويني مستقل للطلبة وهوية علميو متميزة‪ .‬أما داخليا‪ ،‬فالهوية مهمة‬
‫بالنسبة للوظيفة العلمية للتخصص والتي تتمثل في التراكم المعرفي المعترف به‪.‬‬

‫‪-3‬األطروحة الثانية‪ :‬تراكم أعداد كبيرة من الحقائق اإلمبريقية حول عملية االتصال‪:‬‬

‫اإلمبريقية تعني أساسا الخصائص التالية‪:‬‬

‫‪-‬تحقيق معارف ذاتية‪.‬‬

‫‪-‬وصف وتفسير السلوك اإلنساني‪.‬‬

‫‪-‬من خالل بعض المناهج العلمية‪.‬‬

‫‪-‬ترك الواقع يقرر مصير الفرضيات‪.‬‬

‫وهذا المعنى يقوم على افتراضين‪:‬‬

‫‪-‬إن إنتاج المعرفة الذاتية المعترف بها يعتبر أكثر العوامل الحاسمة في الفصل بين العلوم وبين باقي‬
‫األنظمة االجتماعية‪ ،‬مثل الصحافة‪ ،‬السياسة أو األدب‪.‬‬

‫‪-‬إن البشر بالرغم من اختالفهم عن مواضيع العلوم األخرى‪ ،‬يمكن دراستهم بنفس المنهجية المعتمدة على‬
‫نفس االبستمولوجيا‪ ،‬على غرار مواضيع الفيزياء والكيمياء‪.‬‬

‫لقد واجها هذين االفتراضين منذ عصر التنوير األوروبي معارضة قوية من الفكر الكنسي ومن التخصصات‬
‫التقليدية التي رأت أن تطبيق هذه القوانين على السلوك اإلنساني سيحد من حرية تصرف األفراد حسب‬
‫طبيعتهم أو رغبتهم‪ ،‬وبالتالي سيتعارض مع مصلحتهم‪ ،‬واستمرت هذه لمواجهة وازدادت قوة مع تطور العلوم‬
‫االجتماعية‪ ،‬أوال علم النفس التجريبي وال حقا علم االجتماع‪ .‬إن ما يسمى بالجدل حول الوضعية الذي قاده‬
‫كارل بوبر باسم العقالنية النقدية و"أدرنو" و" هابرماس" باسم النظرية النقدية كان يعتبر أبرز المعالم‬
‫االبستمولوجية‪ ( .‬أنظر غلى النقد الذي وجهه بوبر ألصحاب الوضعية المنطقية)‪.‬‬

‫فتحن نعرف كم يلزم من المدخالت لوسائل اإلعالم إلقرار موضوع سياسي جديد ضمن أجندتها العامة‪،‬‬
‫وحتى كم يلزم من المقاالت والتقارير التلفزيونية لرفع الوعي العام من حيث عدد النقاط بالنسب المئوية(وفقا‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫ألبحاث "رسل نيومان "‪ ،‬عشر مقاالت في صحيفة نيويورك تايمز أو أي مجلة إخبارية ترفعه بنسبة ‪%0.3‬‬
‫إلى ‪ .)%0.9‬باإلضافة غلى قوة تأثير الصور على اإلدراك الحسي للناس أو على تهييج عاطفتهم‪،‬‬
‫بالمقارنة مع النص المكتوب( وفقا لبحث أجراه "دولف زلمان" وآخرين ‪ ،‬يمكن للصور أن تدير إدراك إدراكنا‬
‫للقضايا واألشخاص بغض النظر عن النص المرافق لها)‪ .‬ونحن نعرف أيضا كمية التباين الموجودة في‬
‫عملية اتخاذ الق اررات اإلخبارية للصحافيين حيث تفسرها عوامل إخبارية شبه موضوعية أو معتقداتهم‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫‪-4‬األطروحة المضادة الثانية‪ :‬يعاني المجال بشكل متزايد من التآكل المعرفي‬

‫المشكلة البسيطة التي تكمن في االتصال‪ ،‬تتمثل في قرب موضوعه من واقع جميع الناس وتجربتهم‪ ،‬مما‬
‫يجعلهم يتحدثون بثقة في كل المواضيع وألنهم يشاهدون التلفاز كثي ار فلديهم الكثير لقوله في هذا المجال‪.‬‬
‫وهذه المشكلة ال تنطبق على الفيزيائي أو طبيب األعصاب‪ ،‬لكنها تحدث في حقل االتصال مما يجعل من‬
‫الصعب الدفاع عن البحث ضد الحكمة العامة أو رغبات األطراف المعنية بالظاهرة المدروسة‪.‬‬

‫إال أن التآكل المعرفي من الداخل هو األشد‪ ،‬فالمناقشات المعرفية حول طبيعة الطريق الحقيقي المؤدي إلى‬
‫المعرفة العلمية سايرت الحقل منذ بدايته‪ .‬حيث كان "أدورنو" أول من انتقد االمبريقي "الزارسفيلد" حيث‬
‫تحدث عن البحوث النقدية‪ ،‬ولقد رد عليه "الزارسفيلد" بعد بضع سنوات ب"مالحظات حول بحوث االتصال‬
‫اإلدارية والنقدية" والتي أظهر فيها أن البحوث يمكن بالطبع أن تكون نقدية‪ ،‬وربما أكثر نقدية من البحوث‬
‫غير اإلمبريقية‪ ،‬اذا استعملت بيانات صحيحة ومقنعة‪ ،‬ولكن النقطة الرئيسية ل"الزارسفيلد" كانت تكمن في‬
‫تأكيده على عدم وجود بديل للتفاعالت الذاتية‪.‬‬

‫رأى عالم االجتماع األلماني "نيكالس لومان" بأن الوظيفة االجتماعية للعلم تكمن في تحديد المعايير التي‬
‫تفضل التأكيدات العلمية عن التأكيدات التي وردت في سياقات أخرى وألغراض أخرى‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فالتنوع في‬
‫حد ذاته ال قيمة له في العلم‪ .‬إن العلوم ومنها العلوم االجتماعية موجودة ألن المجتمع يتوقع منها الق اررات‬
‫التي تحدد أي من النظريات هي مقبولة وأيها غير مقبولة‪ ،‬ويبدو هذا واضحا وجيدا بالنسبة للعلوم الطبيعية‬
‫ومعظم علم النفس‪ ،‬ولكنه ليس كذلك لمعظم العلوم االجتماعية بما فيها علوم االتصال‪.‬‬

‫ب‪ -‬تاريخ البحث في علوم اإلعالم واالتصال‪:‬‬

‫كان السبق للمثقفين األوروبيين في مساءلة سلطة الصحافة أثناء القرن التاسع عشر‪ ،‬وبالموازاة جعلوا من‬
‫حقل االتصال مجاال للبحث المنتظم‪ .‬أما في أمريكا وفي سياق عملية التصنيع والتحضر سريعة للمجتمع‬
‫وخاصة الريفي منه‪ ،‬بدأ علماء االجتماع يهتمون مجددا ببعض التساؤالت‪ ،‬مما أدى إلى ظهور انشغاالت‬
‫جدية حول هذه إلى هذه المؤسسة الجديدة المسماة بالصحافة التي يفترض أنها المسؤول األول عن تكوين‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫رأي عام‪ ،‬وهو ما تطرق إليه ولتر ليبمان" في كتابه الرأي العام الذي يعتبر أول كتاب معاصر حول وسائل‬
‫االتصال‪.‬‬

‫لقد أعطت الحرب العالمية األولى فرصة التفكير في كيفية استخدام تقنيات‪ ،‬إذ قام الباحث السياسي األمريكي‬
‫هارولد الزويل سنة ‪ 1927‬بنشر أول بحث منتظم في هذا المجال تحت عنوان "تقنيات الدعاية في الحرب‬
‫العالمية" وانطالقا من التجارب البريطانية والفرنسية واأللمانية المستخدمة في الدعاية ومزاوجتها بنظرية‬
‫إجرائية (االستراتيجيات‪-‬التكتيكات)‪ ،‬وذلك بهدف القدرة على توجيه هذه المواد‪ .‬تطرق أيضا إلى البعد‬
‫المنظماتي في استخدام تقنيات الدعاية (مركزية وال مركزية التنظيم اإلداري التنظيم اإلداري الداخلي والتنسيق‬
‫األفقي المتبادل األطراف الخ)‪.‬‬

‫شكل هذان النموذجان من األعمال المعاصرة في البحث حول وسائل االتصال (أي المساءلة السياسية‬
‫للصحافة‪ ،‬الرأي العام والديمقراطية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى البحث المنتظم حول استخدام تقنيات الدعاية)‬
‫صورة التجاهين فكريين وإيديولوجيين ( النقدي واالمبريقي) واللذين طغيا على حقل البحوث حتى الستينيات‬
‫وبعدها‪.‬‬

‫‪-1‬التقليد االمبريقي‪ :‬يستمد هذا التقليد أصوله من روافد الوضعية واإليديولوجية العلموية )‪،(scientiste‬‬
‫والذي بدأ يقتحم بالتدريج مجال البحث في العلوم االجتماعية‪ ،‬حيث انصب البحث على التقييم المنتظم آلثار‬
‫وسائل اإلعالم على توجهات السلوك‪.‬‬

‫يمكن القول أن هذا االتجاه برز في نهاية الثالثينيات‪ ،‬حيث بدأت في هذه الفترة نخبا جديدة في المجال‬
‫السياسي‪ ،‬الصناعي والتجاري تبحث عن توسيع وتنويع وسائل المراقبة االجتماعية‪ ،‬وذلك بتكييف تقنيات‬
‫القياس الجديدة في مجال العلوم االجتماعية مع االستخدام المراقب لوسائل اإلعالم (الصحافة‪ ،‬السينما‪،‬‬
‫الراديو)‪ .‬لقد كانت األسئلة التي شغلت هذه النخب مصاغة كما يلي‪ :‬ماهي اآلثار التي يسببها استخدام‬
‫وسائل الجديدة على يلوك األفراد(تصويت‪ ،‬مشتريات‪)..‬وعلى أرائهم؟ هل هناك إمكانية التعديل المنتظم‬
‫لمحتويات الرسائل التي تبث من طرف وسائل االتصال بهدف إقناع جمهور ذو طبيعة مختلفة؟‬

‫ويعتبر االتجاه االمبريقي اتجاه ذو طبيعة نفعية تالعبية حيث يسعى إلى التعبير وإذ أمكن األمر إلى قياس‬
‫ظروف االستعمال األمثل لوسائل اإلعالم في سياق إقناعي على المدى القصير‪.‬‬

‫لقد ارتبط االتصال في الواليات المتحدة في بداياته بمشروع بناء علوم اجتماعية مؤسسة على قواعد امبريقية‪،‬‬
‫حيث مثلت مدرسة شيكاغو نقطة االنطالق لهذا المشروع‪ ،‬فمقاربتها الميكروسوسيولوجية لدور أساليب‬
‫االتصال في تنظيم الجماعات البشرية‪ ،‬تتناغم مع فكرها حول دور األدوات العلمية المعرفية في الوصول إلى‬
‫حلول لالختالالت االجتماعية الكبرى‪ ،‬وقد سادت أطروحات هذه المدرسة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية‪.‬‬
‫وقد اخ تارت مدرسة شيكاغو المدينة فضاء لممارستها البحثية التجريبية‪ ،‬إذ اعتبرتها "مختب ار اجتماعيا"‪،‬‬
‫ليىل كرفاح‬ ‫الس تاذة‪:‬‬ ‫حمارضات س نة أوىل ماسرت‪ :‬مقياس ابس متولوجيا علوم الإعالم والتصال‬

‫بدالالته التي تحمل عدم التنظيم والتهميش والمثاقفة واالندماج‪ ،‬وحيث أن المدينة أيضا فضاء الحراك‬
‫االجتماعي‪.‬‬

‫‪-2‬التقليد النقدي‪ :‬يمكن إرجاع التقليد النقدي في الواليات المتحدة األمريكية إلى فكر الفيلسوف االجتماعي‬
‫جون ديوي ‪ ،)1952-1859(J.DEWEY‬القائم على أن االتصال ‪-‬بمعنى التبادل الرمزي‪ ،‬التوزيع الجمعي‬
‫لألفكار والمنافع المشتركة‪ ،‬كان الخاصية األساسية والمركزية للحياة االجتماعية‪.‬‬

‫كان جون ديوي يرى أن تسخير وسائل االتصال في عملية التحديث تشكل بهذه الثقة إمكانات باهرة في‬
‫مجال إبداع وخلق "جالية كبيرة" و"ذكاء منتظم" ولكن في الوقت ذاته يمكن أن تطرح وسائل االتصال مخاطر‬
‫جدية مثل تداعي القيم المجتمعية وابتعادها عن الحياة السياسية والديمقراطية‪.‬‬

‫كولي‬ ‫لقد ساهم عالم النفس االجتماعي جورج (هربرت ميد ‪ )1931-1863‬وعالم االجتماع شارلز‬
‫(‪ )1929-1864‬وروبرت بارك (‪ )1944-1864‬بدورهم في تطور هذا التقليد النقدي اإلصالحي الذي‬
‫يهدف إلى غاية قيمية ‪ normative‬أي إصالح الحياة الديمقراطية وخاصة المدن األمريكية الصغيرة المهددة‬
‫بتنامي ظاهرة التصنيع‪ .‬لقد توجه هؤالء الباحثين إلى مساءلة وتحليل إمكانيات وسائل اإلعالم في الحفاظ‬
‫على الديمقراطية والتوعية السيميترية للرأي العام بالمخاطر التي يمكن أن تخفيها وسائل اإلعالم والتي قد‬
‫تؤدي إلى هدم الديمقراطية‪.‬‬

‫مالحظة‪ :‬على الطلبة االطالع أكثر على المدرسة اإلمبريقية والمدرسة النقدية‪.‬‬

‫بالتوفيق للجميع‬

You might also like