You are on page 1of 13

‫محاضرات في مقياس ‪:‬النظريات السوسيولوجية الحديثة‬

‫السنة ‪ 2‬ليسانس علم االجتماع‬

‫السداسي الرابع‬

‫مجموعة‪( 1‬فوج‪)3+2+1‬‬

‫األستاذ‪ :‬سبعون سعيد‬

‫المحــاضرة األولى‪ :‬مساهمة مدرسة شيكاغو في دفع " النظرية " السوسيولوجية‬

‫هناك عالقة وطيدة بين بروز علم االجتماع في الواليات المتحدة األمريكية و مدرسة‬
‫شيكاغو‪ ،‬حيث تم إنشاء هذه المدرسة عام ‪ ،2981‬حيث كانت هذه المدرسة مهيمنة على‬
‫البحث السوسيولوجي الميداني سيما في الوسط الحضري‪ ،‬و هذا إلى غاية ‪،2891‬‬
‫و اعتبرت شيكاغو بمثابة مخبر اجتماعي‪ ،‬سمح بانطالق تخصص علم االجتماع الحضري‪،‬‬
‫و علم االجتماع االنحراف‪.‬بحيث االفتراض الذي كان سائدا لدى الباحثين في مدرسة‬
‫شيكاغو هو وجود عالقة بين التطور الحضري و تنامي المشاكل المرافقة لهذا التطور‬
‫الحضري‪ ،‬هذه المشاكل التي يترتب عنها ما سماه هؤالء الباحثين بغياب التنظيم االجتماعي‬
‫)‪ «:(désorganisation sociale‬هناك عالقة وطيدة بين مدرسة شيكاغو و نشأة علم‬
‫االجتماع األمريكي و الدراسات األولى عن المدينة‪.‬‬

‫لقد تم إنشاء قسم لعلم االجتماع بشيكاغو سنة ‪ 2981‬من طرف ألبيون سمـــول‬
‫‪ ،)2811-2981(Albion Small‬الذي أشرف على هذا القسم إلى غاية ‪ ،2811‬و يعتبر‬
‫ألبيون سمول أول من أعطى إطارا تنظيميا لعلم االجتماع‪ ،‬و هو ذاته الذي انشأ المجلة‬
‫األمريكية لعلم االجتماع‪ .‬إلى غاية ‪ 2891‬كانت شيكاغو اكبر مركز في التعليم و البحث‬
‫في علم االجتماع في الواليات المتحدة‪ ،...‬و انطالقا من عشرينيات القرن الماضي‪،‬‬
‫أصبحت جامعة شيكاغو مركزا لدفع البحوث التي كانت تتم حول مدينة شيكاغو‬
‫و إحيائها‪.‬لقد قام كل من ويليام إسحاق توما و روبرت بارك و لويس فيرت‪ .‬خاصة‪،‬‬
‫ببحوث ميدانية حول نمط حياة سكان شيكاغو في تلك الفترة‪ ،‬مدينة شيكاغو كانت بمثابة‬
‫فسيفساء حضرية تتكون من عدة مجموعات سكانية مهاجرة‪:‬بولونيين‪ ،‬ايرلنديين‪،‬ايطاليين‪،‬‬
‫يهود و سود قدموا من جنوب الواليات المتحدة‪.‬‬

‫و في هذا " المخبر االجتماعي"‪ ،‬عبارة لروبرت بارك‪ ،‬يباشر الباحثين في علم‬
‫االجتماع مجموعة من البحوث المونوغرافية التي سيكون لها شأن كبير في تاريخ علم‬
‫االجتماع‪ :‬وليام إسحاق توما‪ ، William Isaac Thomas‬فلوريان زنانيشي‪،‬‬
‫‪" Florian Znanieci‬الفالح البولوني في أوروبا و في أمريكا‪ ،"2828 ،‬نيلس‬
‫أندرسون‪" ، Niels Anderson‬الهوبو‪.‬سوسيولوجية البدون مأوى‪ ،"2819،‬هارفي‬
‫وارن زوربوغ‪" ، Harvey warren Zorbogh‬الساحل الذهبي و الكوخ‪،"2819،‬‬
‫فريدريك مبلتون تراشر‪" ، Fredric Mibelton Trasher‬العصابة ‪،"2818‬‬
‫كليفورد شاو‪" ، Shaw Clifford‬قصة حياة جانح‪ ،"2891،‬لويس فيرت ‪Louis‬‬
‫‪" ،Wirth‬الغينو‪ ،"2819،‬الذي خصصه للحي اليهودي بشيكاغو ‪ ،‬سان كالردراك‪،‬‬
‫هوراس دوسكوكايتون ‪ ،‬بالك ميتروبوليس "دراسة حياة السود بشمال المدينة‪،"2818،‬‬
‫‪.‬‬
‫و هو عبارة عن دراسة مونوغرافية ألحد أحياء السود بمدينة شيكاغو»‬

‫إن الشيء المميز لمدرسة شيكاغو منذ البداية هو توجهها نحو البحوث الميدانية‪ ،‬حيث‬
‫احتلت ضمنها الدراسات المونوغرافية القائمة أساسا على تقنية المالحظة حيزا كبيرا‪،‬‬
‫و سعت هذه البحوث أن تبين أن التوسع الحضري و النمو الصناعي يرافقهما نوع من‬
‫االختالل االجتماعي « فبالنسبة إلى الباحثين في علم االجتماع بمدرسة شيكاغو‪ ،‬فمن‬
‫الواضح أن التمركز الحضري‪ ،‬و االختالل االجتماعي " ال يمكن لهما إال أن يؤديا إلى‬
‫االنحراف و الجريمة‪ .‬و هذا هو واحد من المواضيع الرئيسية " لاليكولوجيا الحضرية "‪.‬‬
‫و نعني بـ " االيكولوجيا " أن الوسط االجتماعي يكون مالئما أم ال لهذا النوع من‬
‫التصرفات و لشخصية حضرية نمطية »‪.‬‬

‫لقد ساهمت مدرسة شيكاغو في إرساء تقليد ممارسة سوسيولوجية جعلت من‬
‫الدراسات االمبريقية الميدانية القائمة أساسا على المالحظات و المونوغرافيات دعامتها‬
‫األساسية‪ ،‬و لم تكترث إلقامة انساق نظرية و بناء مفاهيم مجردة‪ .‬فالتراكم المعرفي الذي‬
‫رافعت من أجله تمثل من خالل النزول أو التوجه نحو الميدان للحصول على المعلومات‬
‫و البيانات و إقامة أنظمة تفسيرية ال تكون بالضرورة مستمدة و مستوحاة من اطر نظرية‬
‫مفاهيمية تم تحديدها من قبل‪.‬‬

‫لقد سعت الدراسات و البحوث منذ عشرينيات القرن الماضي ضمن مدرسة شيكاغو إلى‬
‫االهتمام أكثر بظاهرة اختالل التنظيم االجتماعي‪ ،‬حيث تمحورت جل البحوث التي تمت من‬
‫طرف الباحثين المنضوين تحت مضلة مدرسة شيكاغو ضمن هذا االتجاه‪ .‬فكان مصطلح‬
‫اختالل التنظيم االجتماعي )‪ (désorganisation sociale‬إطارا موجها لجل تلك‬
‫البحوث و هذا المصطلح كان من ابتكار وليام إسحاق توما و فلوريان رنانيتشي في‬
‫مؤلفهما‪ :‬الفالح البولوني في أمريكا‪ .‬الذي صدر عام ‪ ،2821‬و هو المؤلف الذي يؤسس‬
‫النطالق العمل االمبريقي الميداني‪...« :‬إن مؤلف الفالح البولوني في أوروبا و أمريكا‬
‫سيعتبر نموذجا للعمل االمبريقي‪ .‬حيث قام هذا المؤلف بإدخال مصطلح " اختالل التنظيم‬
‫االجتماعي" الذي سيميز كل أعمال هذا الجيل األول من الباحثين السوسيولوجيين في مدينة‬
‫شيكاغو‪ .‬و يتعلق األمر بتبيان أن ثمة تخل عن المعايير و الممارسات و التمثالت الجماعية‬
‫لدى الفالحين عندما يصبحون مهاجرين في شيكاغو‪...‬إن كل الباحثين السوسيولوجيين في‬
‫مرحلة نهاية القرن التاسع و بداية القرن العشرين يتساءلون في العمق و بنوع من القلق‬
‫حول التغير التاريخي الذي يحدث تحت أعينهم‪ :‬نهاية المجتمعات العشائرية الفالحية‬
‫و تعميم أساليب حياة جديدة خاصة بالمدن الكبرى » ‪.‬‬

‫هكذا نرى أن االنشغال العملي االجتماعي كان حاضرا في اتجاهات عمل مدرسة‬
‫شيكاغو‪ .‬و هذا االنشغال العملي االجتماعي سينعكس أيضا على طريقة و منهجية العمل‬
‫لدى الباحثين المنتسبين إلى مدرسة شيكاغو‪ «:‬في ‪ ،2829‬قام وليام توما بإستقدام عن‬
‫طريق الجامعة روبرت بارك ‪ )2811-2911( Park Robert‬كمختص في " مسألة‬
‫السود في أمريكا" و سيقوم هذا األخير‪ ،‬رفقة ارنست بورجس‪Ernest Burgess‬‬
‫( ‪ ، )2811-2991‬بوضع أو صياغة منهج بحث في علم االجتماع‪ ،‬و التي سيتم تعليمها‬
‫إلى جيل بكامله من الطلبة التي منحت أعمالهم سمعة لمدرسة شيكاغو‪...‬و هذه األعمال‬
‫كانت موجهة نحو المدينة و نحو مختلف المجموعات االجتماعية التي تعيش فيها‪ .‬أنهم‬
‫يوجهون اهتمامهم نحو السيرورات التي نسميها اليوم بالتمايزات االجتماعية الفضائية‪ ،‬و‬
‫نحو العالقات و " أنواع التفاعالت " ( تنافس‪ ،‬نزاع‪،‬اتفاق‪،‬إدماج) بين المجموعات‬
‫االجتماعية ‪ .‬و هم يبينون ان ظواهر مثل االنحراف و االنتحار‪ ،‬و انطالق‪ ،‬و إقامة نوع‬
‫معين من المؤسسات هو خاص ببعض المناطق الحضرية و ليس بهذا النوع من السكان‬
‫الذين يعرفون بأصولهم اإلثنية‪ .‬كما أنهم يحددون كمفهوم مركزي مفهوم " الضبط‬
‫االجتماعي‪ ،‬الذي يحددون من خالله جملة الميكانيزمات التي تنظم الحياة االجتماعية بين‬
‫المجموعات و التي تتهيكل على أساسها التصرفات الفردية داخل هذه المجموعات‪ " .‬من‬
‫المحتمل أن تكون القطيعة مع الروابط المحلية و ضعف أشكال القهر و الكبح من طرف‬
‫المجموعات األولية تحت تأثير الوسط الحضري هي المسؤولة بصفة واسعة عن تنامي‬
‫غياب األخالق و الجريمة في المدن الكبرى " مثلما أشار إلى ذلك روبرت بارك في مؤلفه‬
‫المدينة (‪.)2818‬‬

‫فاالنشغال النظري لم يكن من ضمن برنامج عملها و بدت السوسيولوجيا في مدرسة‬


‫شيكاغو كانشغال براغماتي ‪ «:‬هناك سمة بارزة لهذه السوسيولوجيا البراغماتية أساسا‬
‫و هي أنها تمنح لنفسها الدور األول في صياغة " تكنولوجيا اجتماعية من شأنها أن تكون‬
‫قادرة على حل المسائل التي تؤدي إلى وجود هذه اإلشكاليات‪ :‬معالجة الظواهر التي تتعلق‬
‫بالتهميش‪ ،‬و بالجريمة و بالتمييز االجتماعي و التي يتم االهتمام بها في مشاريع البحث‬
‫المتعلقة بالفضاءات الحضرية و التي انكب عليها الباحثين في شيكاغو»‪.‬‬

‫المحــاضرة الثانية‪ :‬التفاعليـــة الرمزيـــة‬

‫بروز التفاعليـــة الرمزيـــة‬

‫ترجع تسمية التفاعلية الرمزي وإلى هربرت بلومر‪-2811( Herbert Blumer‬‬


‫‪ )2891‬الذي صاغها سنة ‪.2891‬ينتمي بلومر إلى مدرسة شيكاغو الثانية في علم‬
‫االجتماع‪ .‬و عرف هذا االتجاه حيوية متميزة في البحث السوسيولوجي‪ ،‬و حاول أن يأخذ‬
‫مكانه‪ ،‬و يعيد التقليد السوسيولوجي لمدرسة شيكاغو األولى‪ ،‬و كرد فعل على هيمنة االتجاه‬
‫البنيوي الوظيفي لبارسونز و الذي يستند إلى الجانب النظري‪ ،‬و على االتجاه االمبريقي‬
‫القائم على الطابع الكمي و اإلحصائي للبحث‪.‬‬

‫و عرفت التفاعلية الرمزية رواجها و انطالقتها الفعلية في نهاية خمسينيات القرن الماضي‬
‫)‪ ،‬ثم في الستينيات مع أرفين قوفمان‬ ‫سيما مع بحوث هوارد ساموبل بيكر(‪-2819‬‬
‫(‪ )2891-2811‬و تقوم التفاعلية على « معارضة الوظيفية‪ ،‬و يضع التفاعليون الرمزيون‬
‫أن الفعل االجتماعي غير معطى‪ ،‬لكنه عبارة عن سيرورة يتم بناؤها في إطار وضعيات‬
‫ملموسة‪ ،‬و إن هذه الفكرة تم تطويرها منذ بداية القرن مع الباحث النفساني االجتماعي‬
‫جورج هربرت ميد ‪.)2892-2919( Georges Herbert Mead‬ففي حركية‬
‫التبادالت بين األشخاص (التفاعالت) و من خالل المعنى الذي يعطيه األفراد ألفعالهم ( من‬
‫هنا تأتي تسمية رمزية)‪ ،‬يمكن لنا أن نفهم و ندرك جوهر الفعل االجتماعي‪ ،‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬يرى هوارد بيكر أن فعل تدخين التحشيش ال ينم عن حتمية سوسيولوجية أو‬
‫إحصائية‪ ،‬أنه نتيجة لسيرورة تفاعلية معقدة (تعلم‪ ،‬تطبيق لمعايير‪ ،‬االتهام من طرف‬
‫اآلخرين ‪ ،‬الخ)‪ ،‬مما يسمح لنا بإعادة تشكيله بفضل المالحظة الميدانية »‪.‬‬

‫و كما نالحظ فإن التفاعلية الرمزية تعيد النظر في الحتمية االجتماعية التي يتأسس عليها‬
‫تفسير الواقع االجتماعي عند دوركايم‪ ،‬فليس ثمة مكان للحتمية في نظام تفسير التفاعلية‬
‫الرمزية ‪ .‬و إن الدالالت التي يمنحها األفراد ألفعالهم و تمثالتها ال تعتبر كأفكار مسبقة‬
‫مثلما كان يرى ذلك دوركايم‪ .‬و من جهة أخرى‪ ،‬فإن تقنية المالحظة بالمباشرة تكتسي‬
‫أهمية بالغة في فهم التفاعالت االجتماعية‪ ،‬و هنا نرى أن التفاعلية ال ترى في طابع التكميم‬
‫اإلحصائي أداة ال تسمح بالتعرف على الواقع االجتماعي‪.‬‬

‫إن التفاعلية الرمزية هي عبارة عن كيفية جديدة للتحليل االجتماعي و تقوم هذه الكيفية‬
‫على معرفة حركية التفاعل بين األشخاص من أجل فهم الواقع االجتماعي « سواء تعلق‬
‫األمر بمداوالت لجنة المحلفين‪ ،‬أو طقوس الحب لدى المراهقين أو يوميات مستشفى‬
‫األمراض العقلية‪ ،‬فإن الواقع االجتماعي ليس معطى‪ ،‬لكنه سيروره يسعى الباحث إلى فك‬
‫خيوطه عن طريق المالحظة في عين المكان‪.‬تجمع التفاعلية الرمزية اتجاهين عرفا تطورا‬
‫معزوال عن بعضها في الواليات المتحدة‪ :‬و هما تحليل االتصال ما بين األشخاص ( مدرسة‬
‫بالوألتو) و االتجاه السوسيولوجي المشتق من مدرسة شيكاغو‪...‬و بالنسبة إلى التفاعلية‬
‫الرمزية‪ ،‬فإن األفراد هم من ينتجون الظواهر االجتماعية (عوضا أن يتلقوها‪ ،‬مثلما يفترض‬
‫ذلك أصحاب االتجاه البنيوي و الوظيفي) ‪ ...‬ومن خالل التفاعالت و المعنى الذي يمنحه‬
‫األفراد ألفعالهم أمكن لنا أن نفهم هذه السيرورة‪ .» .‬و من هذا المنظور تعتبر التفاعلية‬
‫الرمزية الواقع االجتماعي على أنه مكون من مجموع األفعال الفردية التي يقوم األفراد‬
‫باللجوء في وضعيات اجتماعية‪.‬‬

‫و مرة أخرى تبدو المعارضة لدوركايم الذي كان ال يرى المجتمع بأنه مكون من جمع‬
‫بسيط لألفراد المكونين له‪ ،‬و إن كان هذا شرط مادي ضروري لوجود المجتمع‪ ،‬و لكن‬
‫المجتمع هو ما ينتج من اجتماع هؤالء األفراد‪ «:‬فليس المجتمع مجرد جمع بسيط لألفراد‪،‬‬
‫بل هو تلك البنية المكونة من اتحاد هؤالء األفراد و التي يمثل واقعا نوعيا لديه مميزاته‬
‫الخاصة‪ :‬أكيد ‪ .‬أننا ال نحصل على ما هو جماعي إن لم تكن هناك ضمائر فردية‪ ،‬لكن هذا‬
‫الشرط الضروري غير كاف ‪.‬يجب أن تتحدد هذه الضمائر و تتركب فيما بينها‪ ،‬بكيفية‬
‫معينة ‪ ،‬من هذا التركيب تنتج الحياة االجتماعية ‪ ،‬و نتيجة لذلك‪ ،‬فإن هذا التركيب هو الذي‬
‫يفسر الحياة االجتماعية‪. ».‬فسيرورة التفاعل التي يتواجد فيها األفراد هي التي تؤدي إلى‬
‫إعطاء دالالت و معان لألفراد و ليس الثقافة المشتركة أو ما يعرف بالضمير الجمعي‪.‬‬
‫فاألفراد يقومون بإعادة صياغة الواقع االجتماعي بدالالت حاالت التفاعل الموجود فيها‬
‫األفراد‪ .‬فالسياق الموجود فيه هؤالء هو من يطبع الدالالت و المعاني المقدمة لألفعال‪،‬‬
‫و ليس ما يحمله هؤالء األفراد من أشكال وعي اجتماعية محددة مسبقا‪.‬‬

‫المحاضرة الثالثة‪ :‬علم االجتماع عند بيار بورديو أو سوسيولوجية الهيمنة‬


‫يعتبر بيار بورديو من أهم علماء االجتماع في القرن العشرين منذ ستينيات هذا القرن‪.‬‬
‫إسهامه و إنتاجه في علم االجتماع يتميز بالغزارة و التنوع ‪ .‬فليس هناك مجال اجتماعي لم‬
‫يقتحمه بورديو ترك عدد كبير من المؤلفات و الدراسات و المقاالت ال تزال متداولة بصفة‬
‫واسعة بعد ‪ 21‬عاما من وفاته‪ .‬على ماذا تستند سوسيولوجيته إذن‪ ،‬و ما هي دعائمها و ما‬
‫هي مقوماتها‪.‬‬

‫النظرية السوسيولوجية عند بيار بورديو ‪)2112-1331( Pierre Bourdieu‬‬

‫لم يكن بورديو في األصل ذا تكوين سوسيولوجي بل كان لديه تكوين فلسفي‪ ،‬حيث كان‬
‫قد حصل على ليسانس في الفلسفة من المدرسة النظامية العليا بفرنسا عام ‪ .2882‬تم بدأ‬
‫مشواره المهني كأستاذ في الفلسفة بإحدى الثانويات‪ ،‬شمال فرنسا في ‪.2888‬جاء بورديو‬
‫للجزائر إلجراء الخدمة العسكرية ‪ ،‬لكنه حول إلى الخدمة المدنية بتوصية من احد األقارب‬
‫للعائلة ‪ :‬حيث حول إلى الحكومة العامة في ‪ ،2881‬بدأ مشواره التعليمي في جامعة‬
‫الجزائر‪ -‬الجامعة المركزية‪ -‬كأستاذ مساعد في مادة علم اجتماع اإلسالم ‪ .‬بدا بورديو‬
‫يتحول من صاحب تكوين فلسفي إلى باحث انثر وبولوجي و سوسيولوجي نتيجة احتكاكه‬
‫بجزء من المجتمع الجزائري‪ ،‬و كان له أول إصدار مع مؤلف سوسيولوجية الجزائر عن‬
‫منشورات ? ‪ Que Sais Je‬العدد ‪ ،911‬ثم توالت الدراسات االنثروبولوجية‬
‫و السوسيولوجية حول المجتمع الجزائري خالل فترة الستينيات سيما مع الجزائري عبد‬
‫المالك صياد ( ‪ . )2889-2899‬فكانت أولى المؤلفات حول المجتمع الجزائري تحمل‬
‫العناوين اآلتية ‪ :‬االجتثاث أو االقتالع من الجذور‪ ،‬أزمة الفالحة التقليدية في الجزائر الذي‬
‫صدر عام ‪ ،2811‬مع العلم أن الدراسة الميدانية تمت و حرب التحرير الوطنية لم تنته بعد‪.‬‬

‫العمل و العمال في الجزائر الذي صدر عام ‪ ،2819‬و كذلك مؤلف هام تحت عنوان‪:‬‬
‫" معالم في نظرية الممارسة " الذي صدر عام ‪ .2811‬و هذا الكتاب مخصص لدراسة‬
‫المجتمع القبائلي‪ ،‬و تأتي أهميته كون أن بورديو يصيغ فيه أهم المفاهيم السوسيولوجية‪،‬‬
‫سيما مفهوم السيطرة أو الهيمنة الرمزية الذي سيكون له شأن كبير في النظام السوسيولوجي‬
‫عند بورديو‪.‬‬

‫لقد كان فضل الجزائر كبيرا في انتقال بورديو من الفلسفة إلى علم االجتماع‪ ،‬كباحث‬
‫ملتزم بتحليل أشكال الهيمنة التي يكون موضوعا لها الفئات الموجودة في أسفل الهرم‬
‫االجتماعي‪.‬‬
‫السيطرة الرمزية عند بورديو‬

‫يمكن القول أن النظام السوسيولوجي عند بورديو يقوم على مفهوم السيطرة الرمزية‪ .‬لذى‬
‫يمكننا أن نقول أن بورديو هو صاحب نظرية السيطرة الرمزية‪ ،‬فيرى بورديو أن الفئات‬
‫التي تكون محل سيطرة مادية ستصبح حتما محل سيطرة رمزية‪ ،‬و يصيغ بورديو أمثلة‬
‫عن هذه األشكال من السيطرة من خالل النظام التعليمي‪ ،‬أو اآلداب و الفنون أو األذواق‬
‫التي تظهر فيها هذه السيطرة الرمزية بامتياز‪ .‬و تؤدي هذه السيطرة الرمزية إلى الحفاظ‬
‫على حالة عدم المساواة االجتماعية‪ ،‬هذه المساواة التي يلعب فيها األصل االجتماعي لألفراد‬
‫دورا كبيرا في إنتاجها و إعادة إنتاجها و بالتالي بنائها‪.‬‬

‫و يأتي إسهام بورديو في مفهوم السيطرة الرمزية أساسا من خالل عدم توقفه عند‬
‫المكاسب المادية فقط‪ ،‬و لجوئه إلى العوامل الثقافية كعوامل تكرس هذه السيطرة و تحافظ‬
‫عليها مثلما يالحظ ذلك مع "جون كلود باسرون" في دراستهما لمميزات الطلبة الجامعيين‬
‫في فرنسا في مرحلة الستينيات « فحسب بيار بورديو و جون كلود باسرون‪ ،‬فإن األصل‬
‫االجتماعي للطلبة هم أهم عامل للتمييز( و هو في ذلك أكثر من الجنس‪ ،‬السن‪ ،‬االنتماء‬
‫الديني‪ ،)...‬و األسباب في ذلك ترجع أكثر إلى العوامل الثقافية منها إلى العوامل‬
‫االقتصادية‪ .‬فعند أبناء المهن الحرة و اإلطارات السامية فالثقافة يتم اكتسابها بصفة طبيعية‬
‫‪...‬و هذا بفضل المحيط العائلي‪ :‬مكتبات‪ ،‬زيارة المتاحف و المسارح ( جمع مسرح)‪،‬‬
‫و حضور حفالت غنائية‪ ...‬و لكن على أبناء الطبقات المحرومة‪ ،‬تبقى المدرسة السبيل‬
‫الوحيد للحصول على هذه الثقافة التي يحملها و يثمنها النجاح في الدراسة» ‪ .‬فالهيمنة‬
‫الرمزية تأتي من التموقع االجتماعي لألفراد عن طريق األصل االجتماعي الذي تلعب فيه‬
‫العوامل الثقافية دورا رئيسيا في بلورة هذه الهيمنة أو السيطرة‪.‬‬

‫و يرى بورديو أن السيطرة الرمزية تؤدي إلى إحداث نوع من العنف الرمزي الذي‬
‫تمارسه الفئات التي تحوز على المواد الرمزية التي تسمح لها بممارسة هذه السيطرة‬
‫الرمزية ‪ .‬فعلى سبيل المثال فهو يرى أن اللجوء إلى استعمال معايير لغوية معينة من‬
‫طرف الفئات المحظوظة لهو نوع من العنف الرمزي تجاه الفئات التي ال تمتلك و ال يمكنها‬
‫أن تتوصل إلى امتالك هذه القواعد و المعايير اللغوية التي تؤدي إلى السيطرة الرمزية‬
‫و بالتالي إلى العنف الرمزي‪ ،‬و يأتي مفهوم السيطرة الرمزية و بالتالي إلى العنف الرمزي‪،‬‬
‫و يأتي مفهوم السيطرة الرمزية من كون أن بورديو يرى أن « الواقع االجتماعي هو عبارة‬
‫عن مجموعة من عالقات القوى بين مجموعات اجتماعية تكون من الناحية التاريخية في‬
‫صراع مع مجموعات أخرى‪...‬و أن أخذ بعين االعتبار البعد الرمزي للواقع االجتماعي‬
‫سيكون له عواقب على الكيفية التي تفكر بها عالقات السيطرة ‪...‬بين األفراد و الجماعات‬
‫هنا يتدخل مفهوم العنف الرمزي‪ .‬و إن مختلف أشكال السيطرة‪ ،‬اللهم إن لجأنا حصريا‬
‫و باستمرار إلى العنف المسلح ( و الذي يفترض هو ذاته بعدا رمزيا‪ ،‬ألنه يدرك و يتم‬
‫التكلم به بكيفية معينة) ‪ ،‬يجب عليها أن تكون لها شرعية ‪ ،‬و معترف بها على أنها شرعية‪،‬‬
‫أي أنها تأخذ معني ايجابيا ا وان تصبح على كل حال " طبيعية "‪ ،‬بكيفية ينخرط فيها‬
‫المسيطر عليهم للنظام المسيطر‪ ،‬مع جهلهم آلليات السيطرة تلك و طابعها التعسفي ( غير‬
‫طبيعي‪،‬غير ضروري‪ ،‬فهو تاريخي‪ .‬إذا و قابال للتحويل)‪ .‬إن هذه السيرورة المزدوجة‬
‫لالعتراف و التجاهل هي التي تشكل مبدأ العنف الرمزي‪ ،‬و بالتالي منح شرعية لمختلف‬
‫أنواع السيطرة ‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬فإن األستاذ الذي يدرس اللغة الفرنسية و يضع على‬
‫ورقة المراقبة للتالميذ عبارة " ممتاز" أو " ثقيل" فيما يتعلق باألسلوب اإلنشائي‪ ،‬فإنه يقوم‬
‫بفعل يعود به إلى التدرج االجتماعي ( " فالممتاز" هي تقدير عادة ما يخص حاملي رأسمال‬
‫ثقافي شرعي ‪ ،‬أما " ثقيل " فهو النعت الذي يخص أولئك الذين هم مقصيين من الرأسمال‬
‫الثقافي هذا ) الذي يتم االعتراف به عادة من طرف التلميذ على انه حكم على كفاءته‬
‫الشخصية في اللغة الفرنسية ‪ ،‬و التي يتم تجاهله كتعبير لسيطرة اجتماعية »‪ .‬و يمكن أن‬
‫تقدم تعريفا للسيطرة حسب بورديو على النحو اآلتي‪ « :‬انه مفهوم السيطرة عند بورديو‬
‫يعوض المفهوم الماركسي لالستغالل‪ ،‬الذي يحمل بعدا اقتصاديا يرفضه بورديو‪...‬و يمكن‬
‫أن نقارن هذا المفهوم في بعض الجوانب بمفهوم السلطة عند فوكو‪ ،‬سيما لكون أن هذه‬
‫السيطرة يتم ممارستها حسب بورديو على األجساد و على الضمائر ( يتبادر إلى أذهاننا "‬
‫تقنيات االنضباط " عند فوكو التي يتم اللجوء إليها من اجل إعطاء عالمات للجسد‬
‫و ترويضها) ‪.‬‬
‫مفهوم السمت‬

‫إلى جانب مفهوم السيطرة‪ ،‬الذي بني على أساسه بورديو تضامنه السوسيولوجي‪ ،‬هناك‬
‫مفاهيم أخرى‪ ،‬ال يمكن أال نتوقف عندها لفهم معالم نظرية بورديو في علم االجتماع‬
‫المعاصر‪ .‬و من هذه المفاهيم نجد مفهوم السمت )‪ ، (habitus‬حيث يعتبر من المفاهيم‬
‫التي يستند إليها علم االجتماع عند بورديو‪.‬‬

‫و يمكن أن نحدده على النحو اآلتي‪ « :‬يعني مفهوم )‪ (Habitus‬نظاما من االستعدادات‬


‫و التصورات يرجع تشكله عند األفراد إلى ديناميات البنية المجتمعية فيما تمليه عليهم من‬
‫تأطير مجتمعي و اقتصادي و نفسي و تاريخي‪ .‬و عمليات التأطير هذه ذات بعد معرفي‬
‫شامل يرسم بالتأكيد المناخ العام ألفكار الفرد و نزوعاته و استعداداته الواعية و غير‬
‫واعية‪ .‬و هكذا فنظام االستعدادات يتشكل كبنية منظمة يمكنها أن تقوم بدور بنية منظمة‪ ،‬أي‬
‫ان تتدخل في عملية تشكيل و تنظيم السلوكات و التصورات‪.‬انه بتعبير آخر مبدأ مولد أو‬
‫فكر مولد ألفكار و ممارسات و استراتيجيات و مواقف‪ .‬فالفرد يجدد أفكاره و يبني‬
‫مواضعه ثم يعيد بناءها‪ .‬و يخلق أفكارا و ممارسات منسجمة و منظمة لكونه ينطلق من‬
‫عقالنية معينة في رسم مخططاته و تحقيقها‪ .‬فهذه العقالنية هي التي تضفي صفة التنظيم‬
‫و اإلنسجام على سلوكه‪...‬هنا يرتبط مفهوم االستعدادات و التصورات بالوضع المادي‬
‫للفرد‪ .‬و ينجلي الربط في انعكاس هذا الوضع على شخصية صاحبه و تصرفاته من خالل‬
‫عالقة مباشرة بالواقع تتسم بأشكال محددة من المعرفة على هذا النحو يربط المفهوم بين‬
‫البني الفكرية و البني المجتمعية الموضوعية التي تشمل مواقع مختلفة و متفاوتة‪ ،‬هي غير‬
‫منفصلة عن تصورات األفراد و أذواقهم و مشاعرهم‪ ،‬و غير منفصلة كذلك عن مبادئهم في‬
‫الرؤية و التحليل و التصنيف التي هي في أساس هذه التصورات يعتبر إذن مفهوم‬
‫االستعدادات و التصورات مفهوما عالئقيا‪ ،‬أي مفهوما يتمثل بعالقات بين البني الداخلية‬
‫و البني الخارجية‪ .‬أو بعالقات غير مرتبطة بالذات الفردية لوحدها أو بالواقع الخارجي‬
‫لوحده‪.‬‬
‫و نظرا لما يعكسه المفهوم من خصائص تتسم بها البني الخارجية‪ ...‬فهو ينزع عنه صفة‬
‫الفردية و يكتسب بالتالي صفة مجتمعية بامتياز »‪ ،‬ليس من السهل فهم هذا المفهوم عند‬
‫بورديو و حتى نبسطه نقول انه عند بورديو بمثابة مبدأ تتهيكل على أساسه إدراكات‬
‫الفاعلين و أفعالهم‪ .‬و هو في نفس الوقت شكل مدمج لفعل البنيات االجتماعية و بخاصة‬
‫طبقة االنتماء االجتماعي‪ ،‬و عليه كلما كان األفراد ينتمون إلى مجموعات اجتماعية متماثلة‬
‫أو متشابهة كلما كانت جملة استعداداتهم و تصوراتهم أو سمتهم مشتركة‪ .‬فعلى سبيل المثال‬
‫يرى بوردي وان عادات و سلوكات و ممارسات االستهالك تحكمها أذواق تحدد اجتماعيا‬
‫بجملة من االستعدادات الطبقية المكتسبة‪ ،‬أي أن أذواقنا تحدد على أساس ما اكتسبناه من‬
‫منعكسات و تأثيرات المجموعة االجتماعية التي تنتمي إليها‪ ،‬حيث يرى بورديو أن‬
‫االختيارات الفدائية تختلف من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى‪.‬فعلى سبيل المثال نجد‬
‫الطبقات االجتماعية عبر المخطوطة يكون اختيارها قائما على اختيارات وظيفية ( تحدد‬
‫أساسا بالحاجة ) ‪ ،‬أما الطبقات الراقية فيكون اختيارها قائما على اعتبارات المظاهر‪.‬‬
‫باإلضافة إلى مفهوم السمت‪ ،‬هناك مفهوم آخر‪ ،‬يستخدمه بورديو في محاوالت تفسيره‬
‫للواقع االجتماعي‪ .‬و هو مفهوم الحقل أو الحقول و « الحقول هي مجموعات فرعية للفضاء‬
‫االجتماعي و التي تمارس بداخلها سيرورات التنافس من اجل امتالك فوائد و مزايا خاصة‬
‫بهذا الحقل أو ذاك »‪ ،‬كما يمكن أن يعرف الحقل كذلك بأنه « فضاء الحياة المجتمعية فيه‬
‫يجري استخراج الداخل‪ ،‬أي الخارج الذي يحتمل داخل الذات الفردية ‪.‬لذا كان من الطبيعي‬
‫أن ينظر بورديو إلى البني و المؤسسات المجتمعية‪ ،‬إال بوصفها بني قائمة أو مستقلة عن‬
‫األفراد‪ ،‬إنما بطريقة عالئقية أو بوصفها هيئات من العالقات بين الفاعلين المجتمعيين سواء‬
‫كانوا أفراد آم جماعات‪...‬فالحقل‪ ،‬المجال أو المساحة هو عالم صغير يتشكل من قوى‬
‫مجتمعية غير متكافئة في مواقعها و أوضاعها‪ ،‬و في مواردها و في وسائل حيازتها على‬
‫الثروة‪ ،‬كما في أنظمة استعداداتها و تصوراتها و في رؤاها و مبادئها ‪ ،‬مما يجعل العالقات‬
‫بينها تقوم على التجاذب و التنافس و الصراع و يحول الحقل إلى نظام لعالقات القوة بين‬
‫مسيطرين و مسيطر عليهم‪ ،‬بحيث يتواجه الفاعلون إما للحفاظ على واقع السيطرة أو‬
‫لتغييره‪ ،‬و بذلك تسود في الحقل جدلية توحد بين الموضوعي و الذاتي و تتميز بين حقل‬
‫و آخر»‪ .‬و على العموم‪ ،‬الحقل هو فضاء اجتماعي من اجل التموقع و التنافس يكون‬
‫الرهان فيه الحفاظ على مكاسب و مصالح أو البحث على حيازتها‪ ،‬و هذا يعني البحث على‬
‫الشرعية‪ .‬فالصراعات التي هي عبارة عن عالقات قوى بين المسيطرين و المسيطر عليهم‬
‫يكون رهانها األساسي لالستحواذ على الشرعية‪ ،‬أي الحفاظ على امتيازات ما أو اكتساب‬
‫فائدة ما‪.‬‬

‫مفهوم الرأسمال‬

‫هناك مفهوم آخر يهيكل علم االجتماع عند بورديو و هو مفهوم الرأسمال الذي أخذ بورديو‬
‫عن ماركس‪ ،‬لكنه لم يكتف به في معناه االقتصادي و أرفقه بظواهر أخرى‪ ،‬حاول به أن‬
‫يفسرها‪ «.‬و الرأسمال كما في الماركسية‪ ،‬بل يدل على أنواع متعددة بتعدد الحقول‬
‫االجتماعية‪.‬ففي الحقل االقتصادي يوجد رأسمال اقتصادي‪ ،‬و في الحقل الثقافي‪ ،‬رأسمال‬
‫ثقافي‪ ، »...‬و من جهتنا نضيف رأسمال اجتماعي في الحقل االجتماعي‪ « ،‬فالرأسمال‬
‫الثقافي يتكون من مجموعة من األمالك الرمزية التي تخص‪ ،‬من جهة‪ ،‬المعارف المكتسبة‬
‫التي نتقدم" في الحالة المدمجة في شكل استعدادات مستدامة للعضوية " ( أن تكون ذو كفاءة‬
‫في هذا المجال أو ذاك من المعرفة‪ ،‬أن تكون مثقفا أن تتحكم جيدا في الكالم‪ ،‬و في فن‬
‫الخطابة‪ ...‬و من جهة أخرى‪ ،‬أن تكون هناك انجازات مادية‪ ،‬رأسمال في حالة موضوعية‪،‬‬
‫حيازة أمالك ثقافية ( لوحات فنية‪ ،‬كتب‪ ،‬قواميس‪ ،‬وسائل ‪ ،‬آالت‪.)...‬‬

‫و كما يمكن للرأسمال الثقافي أن يتمثل اجتماعيا في حالة المؤسسة في ألقاب‪ ،‬شهادات‪،‬‬
‫نجاح في مسابقات‪ ،‬الخ‪ .‬التي تعطي بعدا موضوعيا لالعتراف بالكفاءات من طرف‬
‫المجتمع‪ ،‬هذا المجتمع ( أو الدولية في غالب األحيان ) الذي يشهر بهذا االعتراف‪،‬‬
‫و يؤسسه‪ ،‬و الذي يمنحه مكانة في الغالب ( معلم‪ ،‬أستاذ‪،‬قاض‪ ،‬موظف بالوظيف‬
‫العمومي‪ )...‬و هذا الرأسمال الثقافي ال يتم اكتسابه‪ ،‬و ال توريته من دون جهود فردية‪ ،‬أنه‬
‫يتطلب من طرف الفاعل عمال مطوال مستمرا و مدعما بالتعلم و التثاقف‬
‫بهدف " إدماجه‪."...‬‬
‫أما الرأسمال االجتماعي فيمثل مجموع االتصاالت و العالقات و المعارف‬
‫و الصداقات‪ ...‬التي يمنح للفاعل أكثر أو أقل حجما اجتماعا‪ ،‬و سلطة فعل ورد فعل أكثر أو‬
‫أقل أهمية و هذا بداللته نوعية و كمية االرتباطات التي يجوز عليها هذا الفاعل‪ ،‬و روابطه‬
‫مع أشخاص آخرين و الذين يكون ملمحهم فيما يخص الرأسمال في مختلف أشكاله يبدي‬
‫تشابها قويا و تماثال مع ملمح الفاعل‪ " .‬فالرأسمال االجتماعي هو جملة الموارد الحالية أو‬
‫الممكنة التي ترتبط بالحصول على شبكة مستمرة ( مستدامة ) من العالقات األكثر أو األقل‬
‫مؤسسة للمعارف بين األشخاص أو االعتراف بين هؤالء األشخاص‪ ،‬أو بصيغة أخرى‪،‬‬
‫لالنتماء إلى مجموعة‪ ،‬كمجموعة من الفاعلين الذين يحوزون ليس فقط على خصائص‬
‫مشتركة‪...‬لكنهم مرتبطين فيما بينهم بروابط مستمرة و مفيدة ‪...‬و الرأسمال االجتماعي‬
‫للفاعل هو ما من شأنه أن يضم له االعتراف‪...‬فشبكة العالقات هي نتاج " الستراتيجيات‬
‫االستثمار االجتماعي التي يقوم بها الفاعل‪ ،‬عن وعي أم من دون وعي‪ ،‬من أجل أن يخلق‪،‬‬
‫و يعزز‪ ،‬و يقيم‪ ،‬و يعيد سياقة ‪ ،‬و ينشط من جديد روابط يأمل من خاللها في كل لحظة أن‬
‫يحصل على منافع مادية و رمزية‪ ،‬و يمكن أن تساعده في ذلك عدة ممارسات مؤسسة‬
‫( حضور أمسيات‪ ،‬و دعوات‪ ،‬دعوات لمعارض فنية‪ ،‬مدارس انتقائية‪ ،‬نشاطات رياضية‬
‫من الطراز العالي‪ ،‬ملتقيات ‪ ،‬مؤتمرات) ‪ «،‬و التي تهدف إلى تسهيل المبادالت الشرعية‬
‫و إقصاء المبادالت غير الشرعية‪ ،‬و بذلك إقامة اتصال بين الفاعلين الذين تكون أكثر‬
‫‪.‬‬
‫مصلحة‪ ،‬بفعل رأسمالهم و موقعهم في االتصال‪» .‬‬

‫هذه بصفة وجيزة بعض معالم النظرية السوسيولوجية التي صاغها بورديو‪ ،‬و هي تستند‬
‫إلى أربعة مفاهيم أساسية أقام عليها كل نظامه السوسيولوجي و هي مفهوم السيطرة‪ .‬الذي‬
‫تتطابق نظريته معه بصفة خاصة‪ ،‬و مفهوم السمت و مفهوم الحقل‪ ،‬و مفهوم الرأسمال‪.‬مع‬
‫اإلشارة إلى وجود صعوبة في قراءة إنتاج بورديو في علم االجتماع‪ ،‬نظرا إلى اللغة التي‬
‫جاء بها هذا اإلنتاج ‪ .‬و هو ما يزيد األمر تعقيدا بالنسبة إلى طلبتنا هو غياب ترجمة لكل‬
‫أعمال بورديو ما عدا اثنان منها‪ :‬السيطرة الذكورية‪ ،‬و إعادة اإلنتاج‪.‬‬

You might also like