Professional Documents
Culture Documents
السؤال عن سؤال التنوير في السياق العربي الإسلامي
السؤال عن سؤال التنوير في السياق العربي الإسلامي
de/print/45036
23.08.2021
اإلسالم والتنوير
يثير طرح سؤال التنوير في السياق العربي اإلسالمي ردود فعل تتميز غالبا بالتنافر ،وبإجابات متناحرة تّدعي صفة التنوير لنفسها بشكل احتكاري نافية إّياها
عن اآلخرين ،ومكّرسة من خالل ذلك أسلوًبا سجالًّيا في املقاربة ينزلق بيسر إلى فضاء املناظرات الكالمية كما عهدناها في السياق القروسطي بني مختلف الفرق
والّنحل .ويتجاذب مسار اإلجابات املتحققة في سياق الفكر العربي اإلسالمي املعاصر حسب رأيي قطبان أو طرفان أساسّيان* 1يهيمنان على فضاء السؤال
واجلواب أو تشّكل اخلطاب فيما يتعّلق بقضايا التنوير.
فالطرف األّول يحيل إلى االنقطاع عن ذات تاريخية متحققة وعالقة االغتراب معها كسبب رئيس للّتيه عن اإلجابة ويّدعي األسبقية التاريخية واملعرفية في حيازة
اجلواب الشافي ملتعّلقات التنوير وما على الباحث املعاصر إّال الّنبش واحلفر في طبقات التاريخ وحتقيق العودة إلى الذات بشكل ارجتاعّي إحيائّي واضح.
تّتسم مقاربة هذا الطرف ملوضوع التنوير بأّنها ُتَناظر دوما بشكل انتقائي بني إجابات متقابلة أو متوازية ترتبط من قريب أو بعيد بقضايا التنوير ،فألّن الطرف اآلخر
املقابل يعتمد العقل كمرجعية والعقالنية كمنهج ،وجندهم ينبشون ويبرزون كّل ما من شأنه أن يشير إلى إعالء ملكانة العقل وقيمته في التراث العربي اإلسالمي،
ليس ملا للعقل من مكانة حقيقة ولكن جملّرد مواجهة اخلصم ،وقْس على ذلك مواضيع وقضايا احلرية وحقوق اإلنسان وغيرها.
هذا التعامل التبريري واالنتقائي السطحي يوهم متعاطيه بامتالك إجابة ذات مرجعية ضاربة جذورها في أعماق الذات املستعادة املّتسمة بطبيعة ماهوّية
صلبة ،غير أّنها في احلقيقة تعّبر عن عمق حالة االغتراب واالستالب اُملَعاَنى منها ،التي تعطي اإلحساس بتحقيق الَغَلبة ضّد اخلصم املفتَرض ولو حلني ،وتدفع إلى
سلوك يشبه ممارسة الّدعارة في حتقيقه لنشوة تنويرية عابرة ،فترى صاحب هذا اخلطاب ينام حينا مع اجلاحظ وأحيانا أخرى مع املعّري أو التوحيدي أو اإلثنني معا
ومّرة مع الّرازي و أخرى مع إخوان الصفا وإلى غير ذلك.
ونرى الّتنادي برموز العقل ومالمحه في التاريخ العربي اإلسالمي يتعالى ،ويطفو فجأة ذكر طبقات املعتزلة والفالسفة القدامى وكّل ما ميكن التقاطه من هذا التاريخ
في شّتى مجاالت األدب والعلوم ّمما ميكن أن يدّل ولو من بعيد على أصالة مواضيع التنوير في سياقنا العربي اإلسالمي.
تقف هذه املقاربة غالبا عند هذا املوقف االرجتاعي التبريري ،الذي ال يخلو من َنَفس تبجيلّيّ ،مما يجعلها عقيمة على مستويني :املستوى األّول في العالقة
بتاريخ الفكر العربي اإلسالمي التي متيل إلى جعله ميتاتاريخا منفصال عن شبكة اإلحداثيات املرّكبة التي أّدت إلى حتّققه وتكّرس تعاطيا التاريخيا مع هذا التاريخ،
فيصير التاريخ املستعاد مبا هو بنية مرّكبة حاضرا بل مستقبال منشودا وتختلط التعريفات في سياقاتها وحدودها.
واملستوى الثاني في العالقة الّراهنة مع احلاضر مبا هو سياق تعريفّي وفضاء لإلبداع والتجاوز ،حيث يكّرس احلضور الضاغط واملهيمن للماضي أو التاريخ فيه عالقة
مأزومة مشدودة مغتربة بالذات الراهنة ّمما يعّسر من إمكانية الفكاك من أسر املاضي في تعريف احلاضر وتشكيله .ويصير اخلصم املفترض هنا ،وهو التنوير الغربّي
موِّجًها لردود الفعل متحِّكًما فيها مبا يضعه من حتّديات ويفرضه من إرادات الهيمنةّ ،مما يجعل أفق اجلواب منحصرا في ردود األفعال ،مّتسًما بالتبريرّية والذرائعّية.
يبقى اخلطاب املنَتُج ضمن هذا السياق خطابا يوهم بالتأسيس ،وقد يرفعه كهدف ُمعَلن ،غير أّنه يبقى دون القدرة على حتقيقه جّدَّيا ،وهنا يكمن عقُمه البنيوّي.
أّما الطرف الثاني فُيِحيل مباشرة إلى منوذج الّتنوير في مسار حتققه التاريخي في السياق األوروبي منذ القرن السابع عشر ميالدي ،ويغرف منه نازعا عنه تاريخانّيته
مبا هو نتاج فكرّي ضمن إحداثّيات وصيرورة تاريخية معّينة ،ال ميكن التعاطي معها بطريقة استنساخية حّتي ضمن فضائها السياقي .فالتنوير كما ّمتت مقاربته في
القرون الثالثة األخيرة قبل القرن العشرين في الّسياق األوروبي ،ال يعطي انطباعا مسّطحا بسيطا في تعريفه بل ُيحيل إلى سيرورة جدلّية ال تخلو من نتوءات يتحّقق
من خاللها التجاوز الذاتي.
فتحّرر العقل من سلطة األكليروس و سلطان خطاب الّالهوت و االنعتاق من ربقه ،وبالتالي قدرة العقل على وضع قواعده و تعريفاته بشكل متحّرر عن ال ّ
الهوت،
كان محّددا هاّما لبلوغ هذا العقل ُرشده املبتغَى على قول فيلسوف التنوير إميانويل كانط ،فالتنوير عنده ليس إّال "خروج اإلنسان من حالة العجز و القصور )عدم
الرشد( و حتقيقه للّرشد من خالل اعتماده على عقله وحده دون اخلضوع ألقوال اآلخرين *3ويختصر املقصد األقصى للتنوير في القدرة على التفكير بشكل ذاتي
مستقّل * 4و في القدرة على املمارسة النقدية املتواصلة ،فهو عنده متماثل مع النقد الذي يعني النقد الذاتي .فالتنوير متّيز في سياقه األوروبي على املستوى
الهوت* 5وتأكيده على مطلب االنعتاق منها واخلروج عليها.
املفاهيمي في رفضه لسلطة ال ّ
أّما عالقة التنوير في متظهراته التاريخية باآلخر خارج السياق األوروبي ،فهي عالقة ال تخلو من الوقوع في حاالت تناقض بني التنوير من جهة كمفهوم نظرّي ونسق
قيمي ُيْعِلي من شأن اإلنسان و يرفع من مقامه و يثّبت مطلب حّريته كحّق تكوينّي له كإنسان ال ميكن إسقاطه عنه من أّي سلطة مهما كانت.
ومن جهة أخرى كممارسة تاريخية بدعوى نشر التنوير وذريعة حتضير شعوب وثقافات أخرى ،فكانت هنا احلركة اإلستعمارية مع روافدها املسيحية التبشيرية
والتنويرية التحضيرية خاصة في القاّرتني األمريكية واإلفريقية ذات مالمح مغرقة في اإلقصائية اإللغائية والدموية وإنكار وجود اآلخر بقّوة الهيمنة وفتك السالح
وليس باحلّجة والبرهان العقلّيني.
ضمن هذا السياق كان التقاء العالم العربي في أواخر القرن الثامن عشر مع أحد متظهرات التنوير من خالل النموذج الفرنسي لتحّققه و ذلك بعد الثورة
الفرنسية التي نادت بقيم التنوير و سيادة العقل بأقّل من عقد واحد في 1798م حيث هاجمت أساطيل نابوليون بونابرت و مدافعه سواحل فلسطني و نزلت
جيوشه مبصر ،و بعد أقّل من أربعة عقود من جناح ثورة العقل و التنادي بقيم اإلخاء و املساواة و العدالة ،قام نابوليون الثالث في عام 1830م باحتالل اجلزائر
احتالال استيطانّيا دام 132سنة حاول فيه منذ البدء طمس معالم الثقافة العربية اإلسالمية و إلغاءها ،فقام بتحويل أحد أعرق املساجد في اجلزائر العاصمة مسجد
كتشاوة إلى كاتدرائية حتمل إسم الّرئيس ثّم اإلمبراطور الفرنسي املتنّور .
هذا التالقي والتماّس األّول بني السياق العربي ومتظهرات التنوير وإفرازاته التاريخية املتمّيزة بنزعة هيمنة توّسعية و النظرة املركزية األوروبية جعلت حركة تنزيل و
تطبيق األمناط العملية املعّبرة عن التنوير في السياق األوروبي تفقد مصداقيتها اإلقناعية واألخالقية وتستفّز على طرف املتلّقي العربي مشاعر احلذر والشّك.
إّن محاوالت االستنساخ لتمظهرات التنوير وتنزيلها في السياق العربي اإلسالمي دون األخذ بعني االعتبار هذه اُملْسَبقات التاريخيةُ ،يعتبر في رأيي إصرارا على
تكريس إفشال الرغبة في حتقيق التنوير كمشروع منتٍم للسياق احلضاري والثقافي االجتماعي العربي اإلسالمي ومعّبر عنه ،ويغّذي من حيث يدري أو ال يدري
النزعات املعادية للتنوير حتت ذريعة الهوية املهّددة .هذا الطرف الثاني يقود أيضا إلى تكريس خطاب ُيحيل وُيؤّكد على استحالة حتقيق وتأسيس مفهوم للّتنوير
ينتمي للسياق العربي اإلسالمي ينبثق منه ويعّبر عنه.
إّن اخملرج من مأزق هذين الطرفني املهيمنني على فضاء تشّكل اخلطاب في السياق العربي اإلسالمي يكمن في رأيي في املمارسة التنويرية في ذاتها أي في طرح سؤال
التنوير واإلجابة املباشرة عنه بشكل ينبع ويتولّد من السياق التاريخي والثقافي احلضاري لطرح التساؤل ،فلنجب إذن عن سؤال ما هو التنوير بالنسبة لنا ضمن
سياقنا؟
جمال الدين بن عبد اجلليل ،دكتوراة في الفلسفة من جامعة فيينا بالنمسا في مجال البحوث والتخصص األكادميي :الفلسفة اإلسالمية ،الفلسفة التثاقفية وفلسفة
التنوير واحلداثة الغربية ،تيارات العقلنة والتحديث في الفكر العربي اإلسالمي املعاصر ،أستاذ جامعي في اختصاص الدراسات اإلسالمية بجامعة لودفيغسبورغ
لعلوم التربية بأملانيا ،باحث ومحاضر زائر بالعديد من اجلامعات مثل جامعة فيينا )النمسا( وجامعة فو جتان تايباي )تايوان( وجامعة مونستر وجامعة فرانكفورت
)أملانيا( ،وله كتابات منشورة في املواضيع املذكورة باألملانية واالنكليزية والعربية.
----------------------------------------
الهوامش
.1أسقطت من األخذ باالعتبار هنا طرفا ثالثا يتميز برفض التنوير كمفهوم وكخطاب فكري جملة و تفصيال بشكل مسبق و يعتمد فهما تقليدوّيا ماضوّيا في
التعاطي مع الهوّية و في تعريف املفاهيم ،سبب إسقاطي لهذا الطرف التقليدوي هو غياب األرضية املشتركة لبناء حوار فكري معه يشترط القبول املبدئي
باالختالف في وجهات النظر و طرق املقاربة دون ممارسة التكفير و االلغاء لآلخر املغاير.
.2األنسنة أو األنسنية أو اإلنسانوية أو النزعة اإلنسانية أو املذهب اإلنسانوي يقابل في اللغات األوروبية مبصطلح Humanism
.3أنظر مقالة كانط التي أصدرها في سنة 1784في صحيفة برلني الشهرية الدورية حتت عنوان :اإلجابة عن سؤال ماهو التنوير.
„Aufklaerung ist der Ausgang des Menschen aus seiner selbst verschuldeten Unmündigkeit. Unmündigkeit ist
das Unvermoegen, sich seines Verstandes ohne Leitung eines anderen zu bedienen... Habe Muth dich deines
eigenen Verstandes zu bedienen! ist also der Wahlspruch der Aufklaerung.“ Beantwortung der Frage: was ist
.Aufklaerung? Immanuel Kant
.Die Maxime, jederzeit selbst zu denken, ist die Aufklaerung“ Immanuel Kant„ .4
الهوت أو الثيولوجيا و هو التمظهر التاريخي املدرساني النسقي املمأسس للدين في سياقه األوروبي و أجد أّن اإلستعمال واإلسقاط املباشر لهذا املصطلح في
.5ال ّ
السياق العربي اإلسالمي يسّبب الكثير من سوء الفهم واإلشكال و اخللط املفاهيمي ،حيث أّن ما يقابلها في السياق العربي اإلسالمي هو مصطلح أصول الدين أو
مباحث العقيدة و يختلف هذا مع اإلحاالت املفاهيمية السيميائية و الداللية ملصطلح الالهوت أو اإلالهيات ،و تنبغي هنا اإلشارة إلى التمايز املفهومي و التعريفي
الهوت و عدم التماثل و التطابق بينهما و التفصيل في هذا األمر يحتاج بذاته مقاال آخر.
ال من الدين و ال ّ
بني مصطلحي و مفهومي ك ّ
%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-
%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1
%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A