Professional Documents
Culture Documents
......................................................................
تمهيد:
تعتبر إشكالية "العالقة مع التراث" من أهم القضايا التي اهتم بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر
القرن 19وبدايات القرن . 20وما يزال النقاش حول التراث مستمرا إلى يومنا هذا .عبر طرح مفاهيمه
وقضاياه وإشكاالته ومناهج قراءاته ...ذلك أن مصطلح "التراث" لم يطرح في ساحة النقاش الفكري العربي
المعاصر إال في ارتباط بإشكالية النهضة ،بمعنى أنه استعمل استعماال نهضويا.
قدم المفكرون العرب المعاصرون في عالقتهم مع "التراث" ثالثة مواقف متباينة :موقف عبَّر عن قطيعة
تامة مع التراث (نموذج عبد هللا العروي)؛ وموقف ثان دعا إلى مراجعة التراث واستثمار العناصر الجيدة
في إطار سيرورة النهضة والحداثة (نموذج محمد عابد الجابري)؛ وأخيرا موقف ثالث حث على التعامل
مع التراث اإلسالمي واإلحاطة به كلية دون تجزيء (نموذج طه عبد الرحمن).
المواقف الثالثة سالفة الذكر ذات منطلقات ورهانات متباينة ،لكنها تلتقي على أرضية مشتركة قوامها النقد
الفلسفي .وهذا ما جعل المفكرين العرب المعاصرين يقدمون تلك المواقف في شكل مشاريع فكرية مختلفة
في سياق العالقة مع التراث ،بدءا من تحديد مفهوم "التراث" .إذ يعني هذا األخير حسب عبد هللا العروي
<<كل موروث في مجتمع معين من األجيال الغابرة :العادات ،األخالق ،اآلداب والتعابير
والتنظيمات .1>>...في حين يعني "التراث" في منظور محمد عابد الجابري ذلك الموروث الثقافي والفكري
والديني واألدبي والفني 2.وأخيرا يرى طه عبد الرحمن أن التراث مرتبط بالزمن الماضي ،وهو ليس مجرد
ِف ،إنه موجود يالزمنا في واقعنا ،وهو ماض يعيش في الحاضر ومتحكم فيه ،وحاضر فينا ال يمكن ما َخل َ
3
إقصاؤه.
4
-1القطيعة مع التراث :نموذج عبد هللا العروي
يُعد المفكر المغربي عبد هللا العروي من أهم دعاة الحداثة في الفكر العربي المعاصر ،إذ اشتغلت إنتاجاته
الفكرية ،الممتدة منذ ستينيات من القرن العشرين إلى اليوم ،بقضايا النهضة باعتبارها المدخل الموضوعي
والضروري لتجاوز حاالت التخلف والتردي .فاعتبر العروي أن تحقيق النهضة المنشودة يتم عبر القطيعة
مع التراث .حيث دعا إلى هذه القطيعة لسببين :تجلى السبب األول في اعتبار التراث معطى ميتا ،انتهت
عبد هللا العروي ،ثقافتنا في ضوء التاريخ ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط ،1988 ،2ص192.1911 .
محمد عابد الجابري ،التراث والحداثة ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،1991 ،ص232 .
طه عبد الرحمن ،تجديد المنهج في تقويم التراث ،المركز العربي العربي ،الدار البيضاء .2005 ،ص3 19.
4عبد هللا العروي :مفكر مغربي ولد سنة ، 1933تلقى تعليمه بالرباط ،وتابع دراسته الجامعية بفرنسا ،حيث حصل على الدكتوراه سنة 1976
في موضوع "األصول االجتماعية والثقافية للحركة الوطنية المغربية" .درَّ س في جامعة محمد الخامس بالرباط إلى غاية تقاعده سنة ,2000
من مؤلفاته التي لها عالقة بالموضوع :اإليديولوجيا العربية المعاصرة ()1967؛ و"العرب والفكر التاريخي" ()1973؛ و"ثقافتنا في ضوء التاريخ" (.)1983
1
صالحيته بانتهاء الظروف التاريخية والحضارية التي أنتجته ...والسبب الثاني تمثل في اعتبار التراث مرتعا
5
خصبا للتناقضات اإليديولوجية العربية المعاصرة ،وخاصة اإليديولوجية السلفية.
هكذا أصبحت القطيعة مع التراث ،في نظره ،قضية واقعية يمليها االنقطاع التاريخي ،لوجود مسافات زمنية
شاسعة بين العرب والموروث الماضي ،بحيث ال يفيد فيها النقد الجزئي .فما يفيد هو طي الصفحة ،وهو ما
6
يسميه بالقطيعة المنهجية.
القطيعة مع التراث هي إذن ،حسب العروي ،حتمية واقعية يفرضها منطق التاريخ ومنطق الواقع العربي
المتردي .ذلك أن العالقة مع التراث في الظرف الراهن لم يعد لها وجودا إال في أذهان الحالمين بها .ذلك
أن هذه القطيعة مع التراث تحققت على أرض الواقع في جميع مجاالت الحياة .وما استمرارية لهذا التراث
7
إال ضرب من الحنين الرومانسي واالنخداع السيكولوجي ،بعيد كل البعد عن الواقع الحقيقي على حد قوله.
ذلك أن القطيعة المادية قد تحققت من خالل التطور المؤسساتي والتقني ،يلزم فقط ،في نظره ،أن توازيها
قطيعة فكرية تقطع مع التراث والتقليد.
يرتكز منهج العروي ،في تحقيق النهضة المأمولة ،على منطلقات فكرية حداثية ،مرجعياتها أوروبية مستمدة
من فلسفة التنوير ،ومن التراث الماركسي .للحداثة .فرغم اختالف تلك المنطلقات إال أنها تتخذ ،على حد
قوله ،صورة واحدة واتجاها واحدا ،وفق قانون التطور التاريخي الحتمي .وهذا ما يستلزم تبني الفكر
التاريخي التقدمي كحل ألزمة الحداثة.
من هنا كانت القطيعة مع التراث اختيار تاريخي ،دفعته إلى التصريح بتوجهه التاريخاني ،حيث يقول في
كتابه "السنة واإلصالح"<< :ال أرى نفسي فيلسوفا ً ـ من يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟ ـ وال أرى
نفسي متكلما ً وال حتى مؤرخا ً همه الوحيد استحضار الواقعة ،كما وقعت في زمن معين ومكان محدد>>.
ويضيف قائال في نفس المرجع << :لم أرفع أبدا ً راية الفلسفة وال الدين ،وال التاريخ ،بل رفعت راية
8
التاريخانية ،في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية ،لكثرة ما فُنّدت وسُفهت>>.
التاريخانية ،كما يوضحها العروي ،تعتمد على أربعة مبادئ ،وهي :ثبات قوانين التطور التاريخي (حتمية
التحول)؛ أحادية االتجاه التاريخي (التطور الخطي)؛ إمكانية اقتباس الثقافة (التطور)؛ دور المثقف على
9
تحقيق التطور (دور اإلنسان في صناعة التاريخ).
إن تبني العروي للمنهج التاريخاني التطوري ،جعله يطبق هذا المنهج على مستويين :تحقيق القطيعة المعرفية
مع التراث ،واستيعاب الحداثة .وندد ،في المقابل ،بالتردد وعدم الحسم مع العقل التراثي داعيا ً إلى تبنى
نموذج العقل الحداثي التنويري .فالحاجة إذن أصبحت ملحة ،على حد قوله ،بسبب ما يعيشه العقل التراثي
من تناقضات ومفارقات ،كانت سبب تخلف هذا العقل التراثي ،وعجزه عن تعقل الواقع ومسايرة التقدم .هذا
فضال عن كون هذا العقل أصبح موضوعا للتوظيف السياسي واإليديولوجي في خوض معارك الحاضر
على مختلف الجبهات .ذلك أن القراءات المنطلقة من التراث قراءات إيديولوجية تحركها مصالح سياسية
ضيقة.
إن اإلشكال ال يكمن إذن ،حسب العروي ،في التراث ذاته ،وإنما مع أعداء الحداثة الذين يرفضونها بدعوى
أنها نتاج الحروب واالستعمار ومناهضة للدين .لهذا السبب انتقد الفكر السلفي واصفا إياه بالرجعي ،أي
النقيض المباشر للفكر التاريخي التقدمي.
إن دعوة العروي ليست إيديولوجية محضة ،بل هي دعوة معرفية ،نسج خاللها مفاهيم ومناهج وأدوات
معرفية ،في مواجهة العقل التراثي المطلق الالتاريخي ،في مقابل عقل نسبي منفتح على الواقع والتاريخ.
لهذه االعتبارات حث العروي على إحداث القطيعة مع الماضي والحسم مع التراث وطي الصفحة ،والرهان
على النخبة المثقفة في المقام األول ،ما دامت العامة توجهها التقاليد التراثية .بحيث يقول<< :ال يستطيع أحد
عبد هللا العروي ،مفهوم العقل ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط .1996 .6ص155 .
نفس المرجع ،ص106 .
عبد هللا العروي ،العرب والفكر التاريخي،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ص7 .61.
عبد هللا العروي ،السنة واإلصالح ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء .2008 ،ص898 .
عبد هللا العروي ،العرب والفكر التاريخي ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط .1998 ،4ص207 - 206 .
9
2
أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية موضوعية ،إذا بقي في مستوى ذلك التراث 10>>.على المثقفين
إذن ،حسب العروي ،إحداث قطيعة مع التراث والتخلص منه من أجل تحقيق الثورة الثقافية المنشودة من
أجل الدخول في عصر الحداثة واالندماج فيه .ذلك أن كل ثورة ،على حد قوله ،تتجه نحو األمام وليس
الخلف.
11
-2التعامل االنتقائي مع التراث :نموذج محمد عابد الجابري
يعتبر الجابري أن كلمة التراث ،في الخطاب العربي المعاصر ،تتميز بخصوصية ،لما تحمله من شحنات
وجدانية ومضامين إيديولوجية .بحيث ال يمكن ترجمتها ،في نظره ،بما يقابلها في اللغات األخرى.
( .)Patrimoine – héritageوعليه يشير التراث عنده إلى كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي
سواء ماضينا أو ماضي غيرنا ،القريب منه أو البعيد 12.ليس التراث إذن هو ما ينتمي إلى الماضي البعيد
وحسب ،بل ما ينتمي أيضا إلى الماضي القريب وله عالقة بالحاضر .فالتراث العربي اإلسالمي هو مجموعةُ
عقائد ومعارف وتشريعات ...يمتد من القرن الثاني للهجرة (عصر التدوين) إلى حدود القرن 15الميالدي
مع قيام النهضة األوروبية الحديثة إبان نفوذ اإلمبراطورية العثمانية.
تساءل الجابري عن إمكانية تحقيق النهضة المنشودة انطالقا من العودة إلى التراث؟ فأكد على استحالة
تحقيق نهضة عربية إسالمية معاصرة بدون االنطالق من التراث العربي اإلسالمي .شريطة تملك منهجية
فعالة عند قراءة هذا التراث ،باعتماد منهج عقالني نقدي يسمح بانتقاء التراث العقالني التنوري (نموذج ابن
رشد والمعتزلة) هذا التراث العقالني الذي يخدم مشروع النهضة ويُبعد التراث الذي يعرقل مسيرة التقدم
والنماء( .نموذج الفيلسوف ابن رشد) .المطلوب إذن هو فهم التراث فهما عقالنيا من خالل التعامل مع
النصوص التراثية بشكل عقالني .لهذا اهتم الجابري بالعقل كأداة لتحديث التراث .واهتمامه هذا نابع من أن
الحداثة مرتبطة عنده بالعقالنية.
يمكن تلخيص موقف الجابري من إشكالية التراث في ما يأتي:
-تحقيق النهضة المأمولة ال ينطلق من فراغ ،بل ال بد من االنتظام في التراث العربي اإلسالمي ،وليس
13
تراث الغير.
-يستوجب على العرب قراءة تراثهم وتراث غيرهم قراءة نقدية قائمة على العقل <<فمن لم يؤسس ماضيا
14
تأسيسا عقالنيا ،فلن يستطيع أن يؤسس حاضرا وال مستقبال بصورة معقولة.
هكذا يتبين أن الجابري يوجه نقدا مزدوجا؛ لدعاة القطيعة مع التراث من جهة ،ومن جهة أخرى لهؤالء
الذي يرفضون االستغناء عنه كلية 15.ومن تم يمكن اعتبار توجهه في تناول موضوع التراث ،توجها توفيقيا
تركيبيا .الغاية إذن حسب الجابري هي تحديث التراث؛ وتحديثه ال يكون برفضه ونفيه ،بل بالتعامل معه
تعامال نقديا من أجل صياغته في حلة جديدة.
في نقده لألطروحتين األصولية والحداثية يرى الجابري أن الفريقين معا يعيشان وعيا مغتربا :وعي
األصوليين المؤسس على االغتراب الذي يقرأ في التراث العربي كل إيجابيات الحضارة الحديثة من علوم
وتقنيات ومؤسسات اجتماعية؛ ووعي الحداثيين المؤسس على االغتراب الرافض للتراث هو أيضا وعي
مقلوب نتيجة االستالب الثقافي والحضاري للغرب المتقدم .ويطرح الجابري البديل في تجاوز األطروحتين،
وذلك بأن نقوم بقراءة التراث قراءة عقالنية استمالكية ،بحيث نتعامل مع تراثنا بمعقولية وموضوعية
بطريقة تجعله معاصرا لنا ،وذلك عن طريق وصله بنا ،ومعاصرا لنفسه ربما يقتضي فصله عنا .وإذن
فتعامل الجابري مع التراث يكون كتعامل الغرب مع تراثه ،مبنيا على أساس قاعدة الفصل والوصل<< .فمنذ
3
بيكون وديكارت ،والفكر األوروبي يعيد قراءة تاريخه على أساس من االنفصال واالتصال من النظر وإعادة
16
النظر من النقد ونقد النقد>>.
ينك ر الجابري على القراءات األصولية والحداثية للتراث القراءة اإليديولوجية ،حيث توظيف التراث كسالح
إيديولوجي في الساحة السياسية واالجتماعية من أجل مطامع ومصالح حزبية أو شخصية.
عندما يوجه الحابري نقدا مزدوجا للتراثيين والحداثيين على حد سواء ،فألنه يرى من جهة ضرورة تحرير
النظرة إلى التراث من النظرة اإليديولوجية والوجدانية التي تنزع من التراث طابع النسبية والتاريخية ،كما
يرى من جهة ثانية عدم مشروعية اجتثاث الفكر السلفي من المحيط العربي بدعوى أنه يشكل عائقا أمام
تحقيق حلم الحداثة المنشودة ،ذلك أن الفكر ال سلفي فكر متجذر في الوطن العربي ،وهو مكون من مكونات
الفكر العربي المعاصر .هكذا يوجه الجابري نقده إلى العروي ،فمن جهة ألن هذا األخير تبنى موقف القطيعة
التامة مع التراث ،ومن جهة أخرى رفض الفكر السلفي بشكل مطلق ،بحجة أن السلفية تشكل عائقا أمام
تحقيق النهضة المتوخاة .في حين اعتبر الجابري أن الفكر السلفي ليس فكرا دخيال ،بل متأصال في التراث
العربي .ذلك أن رفض السلفية معناه رفض جزء هام من التراث ،وهذا غير مقبول بل غير ممكن في نظره.
المطلوب ف قط هو غربلة التراث من خالل إعادة قراءته قراءة موضوعية ومنهجية .وهذا ما يطرح ،حسب
الجابري ،مشكلتين متالزمتين في التعامل مع التراث؛ أوال ،مشكلة الموضوعيّة.أي كيف يمكن فصل الذّات
أن التّراث
عن الموضوع في التّعامل مع تراثنا العربي اإلسالمي؛ وثانيا ،مشكلة االستمراريّة ،بمعنى ّ
مستمرا في ثقافتنا المعاصرة ،ومازال يحتاج إلى تجديد وقراءات مغايرة لفهمه وتفسيره ،وتمثل ّ مازال
إيجابياته ومواقفه الهادفة والبنّاءة.
هكذا يتبين أن الجابري ال يدعو إلى قطيعة راديكالية مع التراث ،وإنما يتوسم قراءة نقدية للتراث موصولة
بأسئلة العصر مما يجعل هذا التراث قابال للتطوير والتحديث وفق منطق إعادة تأصيل التراث ال من خالل
الرجوع إلى األصول ،وإنما من خالل إعادة التأصيل بفكر منفتح على حد قوله <<تحديث أصالتنا وتأصيل
17
حداثتنا>>
18
-3القراءة التراثية للتراث :نموذج طه عبد الرحمن
التراث حسب طه عبد الرحمن <<عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد
الوجود اإلنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية واإلنسانية حيّة كانت أم
19
ميتة>>.
انطالقا من هذا التعريف المركز ،يتبين أن التراث بالنسبة لطه عبد الرحمن يشمل مختلف المجاالت من لغة
ونقد وبالغة وعلم الكالم وعلوم القرآن .هكذا يوسع من دائرة مصادر التراث اإلسالمي لتشمل القرآن
الكريم ،فضال عن اجتهادات المسلمين .إال أن إدماج القرآن ضمن التراث معناه إضفاء القدسية على هذا
التراث .وهو ما عرض هذا الموقف إلى العديد من االنتقادات من قبل المشتغلين بالحقل الديني ،وفي مقدمتهم
األزهر الشريف ،الذي أكد في توصياته على عدم قدسية التراث .ذلك أن هذا األخير هو مجرد اجتهاد بشري
قابل للنقد والمراجعة ،في حين أن القرآن وحي إلهي مقدس.
تتجلى أهمية التراث عند طه عبد الرحمن في اعتباره أداة لتعزيز الهوية ودعم اإلبداع ،حيث يقول << :فال
إبداع بغير تراث وال هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح لإلنسان أن يستجمع قواه
محمد عابد الجابري ،إشكالية الفكر العربي المعاصر ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت .1990 ،ص3516 .
محمد عابد الجابري ،نحن والتراث ،قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،1993 ،ط .6ص5117 .
18طه عبد الرحمن :مفكر مغربي ولد سنة ،1944حصل على دكتوراه الدولة عام ، 1985عمل أستاذا في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ
1970إلى حين تقاعده سنة ، 2005متخصص في المنطق وفلسفة اللغة واألخالق .ومن مؤلفاته التي لها عالقة بالموضوع :كتاب "تجديد المنهج
في تقويم التراث" ( ،)1994وكتاب "روح الحداثة ،المدخل إلى تأسيس الحداثة اإلسالمية" ()2006
طه عبد الرحمن ،حوارات من أجل المستقبل ،منشورات الزمن ،الدار البيضاء ،2000 ،ص1619 .
4
ليمتدّ في المستقبل ،فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز لالندفاع بقوة إلى المستقبل ...ففي الماضي وفي
20
إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه>>.
في الوقت الذي أقر فيه طه عبد الرحمن بأهمية التفكير النقدي ،شكك في جدوى القراءات النقدية للتراث
التي اعتمدها بعض المفكرين العرب المعاصرين ،وهم يدعون إلى القطيعة الجزئية أو الكلية مع التراث،
بحجة الدخول إلى عالم الحداثة .فانتقدوا التراث اإلسالمي بأدوات ومفاهيم غربية دخيلة ،مثل العقالنية
والتاريخانية ...في حين تقتضي قراءة التراث االستعانة بأدوات مأصولة وليس منقولة ،على حد تعبيره.
بمعنى اللجوء إلى اآلليات والوسائل االستداللية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية؛ آليات أطلق عليها
أن األصل في الكالم هو الحوار ،والحوار ،عنده، "المناظرة العقالنية" أو "العقالنية الحوارية" انطالقا من ّ
موصول بالفطرة والوجود ...وهذا يستلزم حسب طه عبد الرحمن قراءة التراث بالتراث ،أي اعتماد مبدأ
"القراءة الشمولية التكاملية" للتراث اإلسالمي ،رافضا القراءات التجزيئية والتفاضلية .وفق منهجية محددة
تقتضي :أوال قراءة التراث كلية من غير حذف وال استثناء؛ و ثانيا ،إعادة االعتبار لجوانب من التراث
تعرض لتشنيع باطل وإهمال فاحش على حد قوله .و ثالثا ،استعمال األدوات التراثية في قراءة التراث،
باالعتماد على اللغة والبالغة والحجاج ...بمعنى االحتكام إلى المجال التداولي اإلسالمي ،والتحرر من أي
قراءة للتراث بمفاهيم ومناهج دخيلة.
استند طه عبد الرحمن ،في مسألة النظر إلى التراث ،إلى دعامتين :الدعامة األولى تتمثل في نقده للخطابات
التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث ،والتي نعتها بخطابات العقالنية المجردة ،بمعنى أنها مفصولة عن
ا لسياقات التداولية ،أي خطابات مجردة للمحتوى التراثي .نتيجة تركيزها على المضامين أكثر من اعتمادها
على الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلغت بها هذه المضامين؛ في حين ترتكز الدعامة الثانية على
تجديد النظر وإبداعه ،أي تجديد عطاء التراث واستئناف بنائه ،بمعنى إحياء التراث.
الخاتمة:
هكذا يتحدد الفرق بين عبد هللا العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن في التعامل مع التراث من
منطلق تحقيق النهضة المنشودة .فإذا كان مشروع عبد هللا العروي يتأسس على القطيعة مع التراث ،من
أجل ركب قطار الحداثة بهدف تطوير المجتمع دون هدر المزيد من الزمن بحثا عن نماذج للنهضة في
الماضي ،هي في الواقع متضاربة ال توجد إال في أذهان أصحابها من التراثيين .فإن الجابري يدعو إلى
تحقيق النهضة بالموازاة مع الحفاظ على الهوية ،مما يقتضي التعامل مع التراث كوسيلة لتحقيق غايات
التقدم ،من منطلق نقدي انتقائي تجزيئي تفاضلي ،في سياق واقعي جدلي وإيديولوجي .في حين يدعو طه
عبد الرحمن إلى قراءة التراث بالتراث ،أي قراءة التراث من الداخل ،من منطلق نقدي شمولي تكاملي يبتغي
تحقيق الوصل مع التراث في كليته ،بمعنى التعامل معه باعتباره يشكل غاية وليس مجرد وسيلة .في ضوء
رؤية لغوية منطقية وتداولية ،بعيدا عن الواقع وتعقيداته.
طه عبد الرحمن ،الحوار أفقا للفكر ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،بيروت ،2013 ،ص6020 .
5