You are on page 1of 5

‫وحدة‪" :‬الفكر العربي المعاصر"‬ ‫المدرسة العليا لألساتذة بالرباط‬

‫الفصل الخامس‬ ‫مسلك اإلجازة في التربية‬


‫‪2023 - 2022‬‬ ‫تخصص‪ :‬التعليم الثانوي – الفلسفة‬

‫‪......................................................................‬‬

‫الدرس الثالث‪ :‬العالقة مع "التراث" في الفكر العربي المعاصر‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫تعتبر إشكالية "العالقة مع التراث" من أهم القضايا التي اهتم بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر‬
‫القرن ‪ 19‬وبدايات القرن ‪ . 20‬وما يزال النقاش حول التراث مستمرا إلى يومنا هذا‪ .‬عبر طرح مفاهيمه‬
‫وقضاياه وإشكاالته ومناهج قراءاته‪ ...‬ذلك أن مصطلح "التراث" لم يطرح في ساحة النقاش الفكري العربي‬
‫المعاصر إال في ارتباط بإشكالية النهضة‪ ،‬بمعنى أنه استعمل استعماال نهضويا‪.‬‬

‫قدم المفكرون العرب المعاصرون في عالقتهم مع "التراث" ثالثة مواقف متباينة‪ :‬موقف عبَّر عن قطيعة‬
‫تامة مع التراث (نموذج عبد هللا العروي)؛ وموقف ثان دعا إلى مراجعة التراث واستثمار العناصر الجيدة‬
‫في إطار سيرورة النهضة والحداثة (نموذج محمد عابد الجابري)؛ وأخيرا موقف ثالث حث على التعامل‬
‫مع التراث اإلسالمي واإلحاطة به كلية دون تجزيء (نموذج طه عبد الرحمن)‪.‬‬

‫المواقف الثالثة سالفة الذكر ذات منطلقات ورهانات متباينة‪ ،‬لكنها تلتقي على أرضية مشتركة قوامها النقد‬
‫الفلسفي‪ .‬وهذا ما جعل المفكرين العرب المعاصرين يقدمون تلك المواقف في شكل مشاريع فكرية مختلفة‬
‫في سياق العالقة مع التراث‪ ،‬بدءا من تحديد مفهوم "التراث"‪ .‬إذ يعني هذا األخير حسب عبد هللا العروي‬
‫<<كل موروث في مجتمع معين من األجيال الغابرة‪ :‬العادات‪ ،‬األخالق‪ ،‬اآلداب والتعابير‬
‫والتنظيمات‪ .1>>...‬في حين يعني "التراث" في منظور محمد عابد الجابري ذلك الموروث الثقافي والفكري‬
‫والديني واألدبي والفني‪ 2.‬وأخيرا يرى طه عبد الرحمن أن التراث مرتبط بالزمن الماضي‪ ،‬وهو ليس مجرد‬
‫ِف‪ ،‬إنه موجود يالزمنا في واقعنا‪ ،‬وهو ماض يعيش في الحاضر ومتحكم فيه‪ ،‬وحاضر فينا ال يمكن‬ ‫ما َخل َ‬
‫‪3‬‬
‫إقصاؤه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -1‬القطيعة مع التراث‪ :‬نموذج عبد هللا العروي‬
‫يُعد المفكر المغربي عبد هللا العروي من أهم دعاة الحداثة في الفكر العربي المعاصر‪ ،‬إذ اشتغلت إنتاجاته‬
‫الفكرية‪ ،‬الممتدة منذ ستينيات من القرن العشرين إلى اليوم‪ ،‬بقضايا النهضة باعتبارها المدخل الموضوعي‬
‫والضروري لتجاوز حاالت التخلف والتردي ‪ .‬فاعتبر العروي أن تحقيق النهضة المنشودة يتم عبر القطيعة‬
‫مع التراث‪ .‬حيث دعا إلى هذه القطيعة لسببين‪ :‬تجلى السبب األول في اعتبار التراث معطى ميتا‪ ،‬انتهت‬

‫عبد هللا العروي‪ ،‬ثقافتنا في ضوء التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪ ،1988 ،2‬ص‪192.1911 .‬‬
‫محمد عابد الجابري‪ ،‬التراث والحداثة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1991 ،‬ص‪232 .‬‬
‫طه عبد الرحمن‪ ،‬تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬المركز العربي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ .2005 ،‬ص‪3 19.‬‬

‫‪ 4‬عبد هللا العروي‪ :‬مفكر مغربي ولد سنة ‪ ، 1933‬تلقى تعليمه بالرباط‪ ،‬وتابع دراسته الجامعية بفرنسا ‪ ،‬حيث حصل على الدكتوراه سنة ‪1976‬‬
‫في موضوع "األصول االجتماعية والثقافية للحركة الوطنية المغربية"‪ .‬درَّ س في جامعة محمد الخامس بالرباط إلى غاية تقاعده سنة ‪,2000‬‬
‫من مؤلفاته التي لها عالقة بالموضوع‪ :‬اإليديولوجيا العربية المعاصرة (‪)1967‬؛ و"العرب والفكر التاريخي" (‪)1973‬؛ و"ثقافتنا في ضوء التاريخ" (‪.)1983‬‬

‫‪1‬‬
‫صالحيته بانتهاء الظروف التاريخية والحضارية التي أنتجته‪ ...‬والسبب الثاني تمثل في اعتبار التراث مرتعا‬
‫‪5‬‬
‫خصبا للتناقضات اإليديولوجية العربية المعاصرة‪ ،‬وخاصة اإليديولوجية السلفية‪.‬‬

‫هكذا أصبحت القطيعة مع التراث‪ ،‬في نظره‪ ،‬قضية واقعية يمليها االنقطاع التاريخي‪ ،‬لوجود مسافات زمنية‬
‫شاسعة بين العرب والموروث الماضي‪ ،‬بحيث ال يفيد فيها النقد الجزئي‪ .‬فما يفيد هو طي الصفحة‪ ،‬وهو ما‬
‫‪6‬‬
‫يسميه بالقطيعة المنهجية‪.‬‬

‫القطيعة مع التراث هي إذن‪ ،‬حسب العروي‪ ،‬حتمية واقعية يفرضها منطق التاريخ ومنطق الواقع العربي‬
‫المتردي‪ .‬ذلك أن العالقة مع التراث في الظرف الراهن لم يعد لها وجودا إال في أذهان الحالمين بها‪ .‬ذلك‬
‫أن هذه القطيعة مع التراث تحققت على أرض الواقع في جميع مجاالت الحياة‪ .‬وما استمرارية لهذا التراث‬
‫‪7‬‬
‫إال ضرب من الحنين الرومانسي واالنخداع السيكولوجي‪ ،‬بعيد كل البعد عن الواقع الحقيقي على حد قوله‪.‬‬
‫ذلك أن القطيعة المادية قد تحققت من خالل التطور المؤسساتي والتقني‪ ،‬يلزم فقط‪ ،‬في نظره‪ ،‬أن توازيها‬
‫قطيعة فكرية تقطع مع التراث والتقليد‪.‬‬
‫يرتكز منهج العروي‪ ،‬في تحقيق النهضة المأمولة‪ ،‬على منطلقات فكرية حداثية‪ ،‬مرجعياتها أوروبية مستمدة‬
‫من فلسفة التنوير‪ ،‬ومن التراث الماركسي‪ .‬للحداثة‪ .‬فرغم اختالف تلك المنطلقات إال أنها تتخذ‪ ،‬على حد‬
‫قوله‪ ،‬صورة واحدة واتجاها واحدا‪ ،‬وفق قانون التطور التاريخي الحتمي‪ .‬وهذا ما يستلزم تبني الفكر‬
‫التاريخي التقدمي كحل ألزمة الحداثة‪.‬‬
‫من هنا كانت القطيعة مع التراث اختيار تاريخي‪ ،‬دفعته إلى التصريح بتوجهه التاريخاني‪ ،‬حيث يقول في‬
‫كتابه "السنة واإلصالح"‪<< :‬ال أرى نفسي فيلسوفا ً ـ من يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟ ـ وال أرى‬
‫نفسي متكلما ً وال حتى مؤرخا ً همه الوحيد استحضار الواقعة‪ ،‬كما وقعت في زمن معين ومكان محدد>>‪.‬‬
‫ويضيف قائال في نفس المرجع‪ << :‬لم أرفع أبدا ً راية الفلسفة وال الدين‪ ،‬وال التاريخ‪ ،‬بل رفعت راية‬
‫‪8‬‬
‫التاريخانية‪ ،‬في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية‪ ،‬لكثرة ما فُنّدت وسُفهت‪>>.‬‬
‫التاريخانية‪ ،‬كما يوضحها العروي‪ ،‬تعتمد على أربعة مبادئ‪ ،‬وهي‪ :‬ثبات قوانين التطور التاريخي (حتمية‬
‫التحول)؛ أحادية االتجاه التاريخي (التطور الخطي)؛ إمكانية اقتباس الثقافة (التطور)؛ دور المثقف على‬
‫‪9‬‬
‫تحقيق التطور (دور اإلنسان في صناعة التاريخ)‪.‬‬
‫إن تبني العروي للمنهج التاريخاني التطوري‪ ،‬جعله يطبق هذا المنهج على مستويين‪ :‬تحقيق القطيعة المعرفية‬
‫مع التراث‪ ،‬واستيعاب الحداثة‪ .‬وندد‪ ،‬في المقابل‪ ،‬بالتردد وعدم الحسم مع العقل التراثي داعيا ً إلى تبنى‬
‫نموذج العقل الحداثي التنويري‪ .‬فالحاجة إذن أصبحت ملحة‪ ،‬على حد قوله‪ ،‬بسبب ما يعيشه العقل التراثي‬
‫من تناقضات ومفارقات‪ ،‬كانت سبب تخلف هذا العقل التراثي‪ ،‬وعجزه عن تعقل الواقع ومسايرة التقدم‪ .‬هذا‬
‫فضال عن كون هذا العقل أصبح موضوعا للتوظيف السياسي واإليديولوجي في خوض معارك الحاضر‬
‫على مختلف الجبهات‪ .‬ذلك أن القراءات المنطلقة من التراث قراءات إيديولوجية تحركها مصالح سياسية‬
‫ضيقة‪.‬‬
‫إن اإلشكال ال يكمن إذن‪ ،‬حسب العروي‪ ،‬في التراث ذاته‪ ،‬وإنما مع أعداء الحداثة الذين يرفضونها بدعوى‬
‫أنها نتاج الحروب واالستعمار ومناهضة للدين‪ .‬لهذا السبب انتقد الفكر السلفي واصفا إياه بالرجعي‪ ،‬أي‬
‫النقيض المباشر للفكر التاريخي التقدمي‪.‬‬
‫إن دعوة العروي ليست إيديولوجية محضة‪ ،‬بل هي دعوة معرفية‪ ،‬نسج خاللها مفاهيم ومناهج وأدوات‬
‫معرفية‪ ،‬في مواجهة العقل التراثي المطلق الالتاريخي‪ ،‬في مقابل عقل نسبي منفتح على الواقع والتاريخ‪.‬‬
‫لهذه االعتبارات حث العروي على إحداث القطيعة مع الماضي والحسم مع التراث وطي الصفحة‪ ،‬والرهان‬
‫على النخبة المثقفة في المقام األول‪ ،‬ما دامت العامة توجهها التقاليد التراثية‪ .‬بحيث يقول‪<< :‬ال يستطيع أحد‬
‫عبد هللا العروي‪ ،‬مفهوم العقل‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪ .1996 .6‬ص‪155 .‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪106 .‬‬
‫عبد هللا العروي‪ ،‬العرب والفكر التاريخي‪،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ص‪7 .61.‬‬

‫عبد هللا العروي‪ ،‬السنة واإلصالح‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ .2008 ،‬ص‪898 .‬‬
‫عبد هللا العروي‪ ،‬العرب والفكر التاريخي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪ .1998 ،4‬ص‪207 - 206 .‬‬
‫‪9‬‬

‫‪2‬‬
‫أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية موضوعية‪ ،‬إذا بقي في مستوى ذلك التراث‪ 10>>.‬على المثقفين‬
‫إذن‪ ،‬حسب العروي‪ ،‬إحداث قطيعة مع التراث والتخلص منه من أجل تحقيق الثورة الثقافية المنشودة من‬
‫أجل الدخول في عصر الحداثة واالندماج فيه ‪ .‬ذلك أن كل ثورة‪ ،‬على حد قوله‪ ،‬تتجه نحو األمام وليس‬
‫الخلف‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ -2‬التعامل االنتقائي مع التراث‪ :‬نموذج محمد عابد الجابري‬
‫يعتبر الجابري أن كلمة التراث‪ ،‬في الخطاب العربي المعاصر‪ ،‬تتميز بخصوصية‪ ،‬لما تحمله من شحنات‬
‫وجدانية ومضامين إيديولوجية‪ .‬بحيث ال يمكن ترجمتها‪ ،‬في نظره‪ ،‬بما يقابلها في اللغات األخرى‪.‬‬
‫(‪ .)Patrimoine – héritage‬وعليه يشير التراث عنده إلى كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي‬
‫سواء ماضينا أو ماضي غيرنا‪ ،‬القريب منه أو البعيد‪ 12.‬ليس التراث إذن هو ما ينتمي إلى الماضي البعيد‬
‫وحسب‪ ،‬بل ما ينتمي أيضا إلى الماضي القريب وله عالقة بالحاضر‪ .‬فالتراث العربي اإلسالمي هو مجموعةُ‬
‫عقائد ومعارف وتشريعات‪ ...‬يمتد من القرن الثاني للهجرة (عصر التدوين) إلى حدود القرن ‪ 15‬الميالدي‬
‫مع قيام النهضة األوروبية الحديثة إبان نفوذ اإلمبراطورية العثمانية‪.‬‬
‫تساءل الجابري عن إمكانية تحقيق النهضة المنشودة انطالقا من العودة إلى التراث؟ فأكد على استحالة‬
‫تحقيق نهضة عربية إسالمية معاصرة بدون االنطالق من التراث العربي اإلسالمي‪ .‬شريطة تملك منهجية‬
‫فعالة عند قراءة هذا التراث‪ ،‬باعتماد منهج عقالني نقدي يسمح بانتقاء التراث العقالني التنوري (نموذج ابن‬
‫رشد والمعتزلة) هذا التراث العقالني الذي يخدم مشروع النهضة ويُبعد التراث الذي يعرقل مسيرة التقدم‬
‫والنماء‪( .‬نموذج الفيلسوف ابن رشد)‪ .‬المطلوب إذن هو فهم التراث فهما عقالنيا من خالل التعامل مع‬
‫النصوص التراثية بشكل عقالني‪ .‬لهذا اهتم الجابري بالعقل كأداة لتحديث التراث‪ .‬واهتمامه هذا نابع من أن‬
‫الحداثة مرتبطة عنده بالعقالنية‪.‬‬
‫يمكن تلخيص موقف الجابري من إشكالية التراث في ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -‬تحقيق النهضة المأمولة ال ينطلق من فراغ‪ ،‬بل ال بد من االنتظام في التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬وليس‬
‫‪13‬‬
‫تراث الغير‪.‬‬
‫‪ -‬يستوجب على العرب قراءة تراثهم وتراث غيرهم قراءة نقدية قائمة على العقل <<فمن لم يؤسس ماضيا‬
‫‪14‬‬
‫تأسيسا عقالنيا‪ ،‬فلن يستطيع أن يؤسس حاضرا وال مستقبال بصورة معقولة‪.‬‬
‫هكذا يتبين أن الجابري يوجه نقدا مزدوجا؛ لدعاة القطيعة مع التراث من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى لهؤالء‬
‫الذي يرفضون االستغناء عنه كلية‪ 15.‬ومن تم يمكن اعتبار توجهه في تناول موضوع التراث‪ ،‬توجها توفيقيا‬
‫تركيبيا‪ .‬الغاية إذن حسب الجابري هي تحديث التراث؛ وتحديثه ال يكون برفضه ونفيه‪ ،‬بل بالتعامل معه‬
‫تعامال نقديا من أجل صياغته في حلة جديدة‪.‬‬
‫في نقده لألطروحتين األصولية والحداثية يرى الجابري أن الفريقين معا يعيشان وعيا مغتربا‪ :‬وعي‬
‫األصوليين المؤسس على االغتراب الذي يقرأ في التراث العربي كل إيجابيات الحضارة الحديثة من علوم‬
‫وتقنيات ومؤسسات اجتماعية؛ ووعي الحداثيين المؤسس على االغتراب الرافض للتراث هو أيضا وعي‬
‫مقلوب نتيجة االستالب الثقافي والحضاري للغرب المتقدم‪ .‬ويطرح الجابري البديل في تجاوز األطروحتين‪،‬‬
‫وذلك بأن نقوم بقراءة التراث قراءة عقالنية استمالكية ‪ ،‬بحيث نتعامل مع تراثنا بمعقولية وموضوعية‬
‫بطريقة تجعله معاصرا لنا‪ ،‬وذلك عن طريق وصله بنا‪ ،‬ومعاصرا لنفسه ربما يقتضي فصله عنا‪ .‬وإذن‬
‫فتعامل الجابري مع التراث يكون كتعامل الغرب مع تراثه‪ ،‬مبنيا على أساس قاعدة الفصل والوصل‪<< .‬فمنذ‬

‫عبد هللا العروي‪ ،‬مفهوم العقل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪1110 .‬‬


‫‪ 11‬محمد عابد الجابري‪ :‬مفكر مغربي ولد سنة ‪ 1936‬وتوفي عام ‪ ،2010‬حصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة سنة ‪ .1970‬عمل معلما في‬
‫االبتدائي ثم أستاذا للفلسفة بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ .‬ومن مؤلفاته التي لها عالقة بالموضوع‪" :‬نحن والتراث (‪)1980‬؛ و"إشكاليات‬
‫الفكر العربي المعاصر" (‪)1986‬؛ و" التراث والحداثة" (‪)1991‬؛ و"المشروع النهضوي العربي" (‪.)1996‬‬
‫محمد عابد الجابري‪ ،‬التراث والحداثة‪ ،‬دراسات ومناقشات‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،1991 ،‬ص‪12 .45.‬‬

‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪3313 .‬‬


‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪10314 .‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪3715 .‬‬

‫‪3‬‬
‫بيكون وديكارت‪ ،‬والفكر األوروبي يعيد قراءة تاريخه على أساس من االنفصال واالتصال من النظر وإعادة‬
‫‪16‬‬
‫النظر من النقد ونقد النقد‪>>.‬‬
‫ينك ر الجابري على القراءات األصولية والحداثية للتراث القراءة اإليديولوجية‪ ،‬حيث توظيف التراث كسالح‬
‫إيديولوجي في الساحة السياسية واالجتماعية من أجل مطامع ومصالح حزبية أو شخصية‪.‬‬
‫عندما يوجه الحابري نقدا مزدوجا للتراثيين والحداثيين على حد سواء‪ ،‬فألنه يرى من جهة ضرورة تحرير‬
‫النظرة إلى التراث من النظرة اإليديولوجية والوجدانية التي تنزع من التراث طابع النسبية والتاريخية‪ ،‬كما‬
‫يرى من جهة ثانية عدم مشروعية اجتثاث الفكر السلفي من المحيط العربي بدعوى أنه يشكل عائقا أمام‬
‫تحقيق حلم الحداثة المنشودة‪ ،‬ذلك أن الفكر ال سلفي فكر متجذر في الوطن العربي‪ ،‬وهو مكون من مكونات‬
‫الفكر العربي المعاصر‪ .‬هكذا يوجه الجابري نقده إلى العروي‪ ،‬فمن جهة ألن هذا األخير تبنى موقف القطيعة‬
‫التامة مع التراث‪ ،‬ومن جهة أخرى رفض الفكر السلفي بشكل مطلق‪ ،‬بحجة أن السلفية تشكل عائقا أمام‬
‫تحقيق النهضة المتوخاة‪ .‬في حين اعتبر الجابري أن الفكر السلفي ليس فكرا دخيال‪ ،‬بل متأصال في التراث‬
‫العربي‪ .‬ذلك أن رفض السلفية معناه رفض جزء هام من التراث‪ ،‬وهذا غير مقبول بل غير ممكن في نظره‪.‬‬
‫المطلوب ف قط هو غربلة التراث من خالل إعادة قراءته قراءة موضوعية ومنهجية‪ .‬وهذا ما يطرح‪ ،‬حسب‬
‫الجابري‪ ،‬مشكلتين متالزمتين في التعامل مع التراث؛ أوال‪ ،‬مشكلة الموضوعيّة‪.‬أي كيف يمكن فصل الذّات‬
‫أن التّراث‬
‫عن الموضوع في التّعامل مع تراثنا العربي اإلسالمي؛ وثانيا‪ ،‬مشكلة االستمراريّة‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫مستمرا في ثقافتنا المعاصرة‪ ،‬ومازال يحتاج إلى تجديد وقراءات مغايرة لفهمه وتفسيره‪ ،‬وتمثل‬ ‫ّ‬ ‫مازال‬
‫إيجابياته ومواقفه الهادفة والبنّاءة‪.‬‬
‫هكذا يتبين أن الجابري ال يدعو إلى قطيعة راديكالية مع التراث‪ ،‬وإنما يتوسم قراءة نقدية للتراث موصولة‬
‫بأسئلة العصر مما يجعل هذا التراث قابال للتطوير والتحديث وفق منطق إعادة تأصيل التراث ال من خالل‬
‫الرجوع إلى األصول‪ ،‬وإنما من خالل إعادة التأصيل بفكر منفتح على حد قوله <<تحديث أصالتنا وتأصيل‬
‫‪17‬‬
‫حداثتنا>>‬

‫‪18‬‬
‫‪ -3‬القراءة التراثية للتراث‪ :‬نموذج طه عبد الرحمن‬
‫التراث حسب طه عبد الرحمن <<عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد‬
‫الوجود اإلنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية واإلنسانية حيّة كانت أم‬
‫‪19‬‬
‫ميتة‪>>.‬‬
‫انطالقا من هذا التعريف المركز‪ ،‬يتبين أن التراث بالنسبة لطه عبد الرحمن يشمل مختلف المجاالت من لغة‬
‫ونقد وبالغة وعلم الكالم وعلوم القرآن‪ .‬هكذا يوسع من دائرة مصادر التراث اإلسالمي لتشمل القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فضال عن اجتهادات المسلمين‪ .‬إال أن إدماج القرآن ضمن التراث معناه إضفاء القدسية على هذا‬
‫التراث‪ .‬وهو ما عرض هذا الموقف إلى العديد من االنتقادات من قبل المشتغلين بالحقل الديني‪ ،‬وفي مقدمتهم‬
‫األزهر الشريف‪ ،‬الذي أكد في توصياته على عدم قدسية التراث‪ .‬ذلك أن هذا األخير هو مجرد اجتهاد بشري‬
‫قابل للنقد والمراجعة‪ ،‬في حين أن القرآن وحي إلهي مقدس‪.‬‬
‫تتجلى أهمية التراث عند طه عبد الرحمن في اعتباره أداة لتعزيز الهوية ودعم اإلبداع‪ ،‬حيث يقول‪ << :‬فال‬
‫إبداع بغير تراث وال هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح لإلنسان أن يستجمع قواه‬

‫محمد عابد الجابري‪ ،‬إشكالية الفكر العربي المعاصر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ .1990 ،‬ص‪3516 .‬‬
‫محمد عابد الجابري‪ ،‬نحن والتراث‪ ،‬قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،1993 ،‬ط ‪ .6‬ص‪5117 .‬‬
‫‪ 18‬طه عبد الرحمن‪ :‬مفكر مغربي ولد سنة ‪ ،1944‬حصل على دكتوراه الدولة عام ‪ ، 1985‬عمل أستاذا في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ‬
‫‪ 1970‬إلى حين تقاعده سنة ‪ ، 2005‬متخصص في المنطق وفلسفة اللغة واألخالق‪ .‬ومن مؤلفاته التي لها عالقة بالموضوع‪ :‬كتاب "تجديد المنهج‬
‫في تقويم التراث" (‪ ،)1994‬وكتاب "روح الحداثة‪ ،‬المدخل إلى تأسيس الحداثة اإلسالمية" (‪)2006‬‬
‫طه عبد الرحمن‪ ،‬حوارات من أجل المستقبل‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2000 ،‬ص‪1619 .‬‬

‫‪4‬‬
‫ليمتدّ في المستقبل‪ ،‬فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز لالندفاع بقوة إلى المستقبل‪ ...‬ففي الماضي وفي‬
‫‪20‬‬
‫إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه‪>>.‬‬
‫في الوقت الذي أقر فيه طه عبد الرحمن بأهمية التفكير النقدي‪ ،‬شكك في جدوى القراءات النقدية للتراث‬
‫التي اعتمدها بعض المفكرين العرب المعاصرين‪ ،‬وهم يدعون إلى القطيعة الجزئية أو الكلية مع التراث‪،‬‬
‫بحجة الدخول إلى عالم الحداثة‪ .‬فانتقدوا التراث اإلسالمي بأدوات ومفاهيم غربية دخيلة‪ ،‬مثل العقالنية‬
‫والتاريخانية‪ ...‬في حين تقتضي قراءة التراث االستعانة بأدوات مأصولة وليس منقولة‪ ،‬على حد تعبيره‪.‬‬
‫بمعنى اللجوء إلى اآلليات والوسائل االستداللية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية؛ آليات أطلق عليها‬
‫أن األصل في الكالم هو الحوار‪ ،‬والحوار‪ ،‬عنده‪،‬‬ ‫"المناظرة العقالنية" أو "العقالنية الحوارية" انطالقا من ّ‬
‫موصول بالفطرة والوجود‪ ...‬وهذا يستلزم حسب طه عبد الرحمن قراءة التراث بالتراث‪ ،‬أي اعتماد مبدأ‬
‫"القراءة الشمولية التكاملية" للتراث اإلسالمي‪ ،‬رافضا القراءات التجزيئية والتفاضلية‪ .‬وفق منهجية محددة‬
‫تقتضي‪ :‬أوال قراءة التراث كلية من غير حذف وال استثناء؛ و ثانيا‪ ،‬إعادة االعتبار لجوانب من التراث‬
‫تعرض لتشنيع باطل وإهمال فاحش على حد قوله‪ .‬و ثالثا‪ ،‬استعمال األدوات التراثية في قراءة التراث‪،‬‬
‫باالعتماد على اللغة والبالغة والحجاج‪ ...‬بمعنى االحتكام إلى المجال التداولي اإلسالمي‪ ،‬والتحرر من أي‬
‫قراءة للتراث بمفاهيم ومناهج دخيلة‪.‬‬
‫استند طه عبد الرحمن‪ ،‬في مسألة النظر إلى التراث‪ ،‬إلى دعامتين‪ :‬الدعامة األولى تتمثل في نقده للخطابات‬
‫التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث‪ ،‬والتي نعتها بخطابات العقالنية المجردة‪ ،‬بمعنى أنها مفصولة عن‬
‫ا لسياقات التداولية‪ ،‬أي خطابات مجردة للمحتوى التراثي‪ .‬نتيجة تركيزها على المضامين أكثر من اعتمادها‬
‫على الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلغت بها هذه المضامين؛ في حين ترتكز الدعامة الثانية على‬
‫تجديد النظر وإبداعه‪ ،‬أي تجديد عطاء التراث واستئناف بنائه‪ ،‬بمعنى إحياء التراث‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫هكذا يتحدد الفرق بين عبد هللا العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن في التعامل مع التراث من‬
‫منطلق تحقيق النهضة المنشودة ‪ .‬فإذا كان مشروع عبد هللا العروي يتأسس على القطيعة مع التراث‪ ،‬من‬
‫أجل ركب قطار الحداثة بهدف تطوير المجتمع دون هدر المزيد من الزمن بحثا عن نماذج للنهضة في‬
‫الماضي‪ ،‬هي في الواقع متضاربة ال توجد إال في أذهان أصحابها من التراثيين‪ .‬فإن الجابري يدعو إلى‬
‫تحقيق النهضة بالموازاة مع الحفاظ على الهوية‪ ،‬مما يقتضي التعامل مع التراث كوسيلة لتحقيق غايات‬
‫التقدم‪ ،‬من منطلق نقدي انتقائي تجزيئي تفاضلي‪ ،‬في سياق واقعي جدلي وإيديولوجي‪ .‬في حين يدعو طه‬
‫عبد الرحمن إلى قراءة التراث بالتراث‪ ،‬أي قراءة التراث من الداخل‪ ،‬من منطلق نقدي شمولي تكاملي يبتغي‬
‫تحقيق الوصل مع التراث في كليته‪ ،‬بمعنى التعامل معه باعتباره يشكل غاية وليس مجرد وسيلة‪ .‬في ضوء‬
‫رؤية لغوية منطقية وتداولية‪ ،‬بعيدا عن الواقع وتعقيداته‪.‬‬

‫طه عبد الرحمن‪ ،‬الحوار أفقا للفكر‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،2013 ،‬ص‪6020 .‬‬

‫‪5‬‬

You might also like