Professional Documents
Culture Documents
مراحل استحالة العقلية من الإسلام إلى المسلمانية
مراحل استحالة العقلية من الإسلام إلى المسلمانية
*** ***
PART-08
مراحل استحالة العقلية من اإلسالم إىل املسلمانية
)Phases Mental change From Islam to Muslumanism (Müslümanlık
أتليف
فريد صالح اهلامشي
Copyright©2018 by
Feriduddin AYDIN
feriduddin@gmail.com
إسطنبول2018-م.
al_ibar.publishing@yahoo.com
مراحل استحالة العقلية من اإلسالم إىل املسلمانية
قد وردت تعريفات خمتلفة ملفهوم (العقليَّ ِّة) على لسان خرباء ِّ
اللغة .أما تعريفها الذي اقرتبت
تلخيصهُ على النحو التايل:
ُ آراؤهم فيه ،فيمكن
الناس من العاطفة ،واملتعة ،واملثالية ،والتفاهم، عما تَشرتك فيه أكثريةُ ِّ العقليةُ :مصطلح يُ َع َّربُ به َّ
ِّ
واالجتماعية ِّ
السياسية آباثره على احلياةِّ
اجملتمع ِّ
ِّ والتفكري اجلماعي ،وميثِّ ُل قامسًا مشرتًكا بني أفر ِّاد
ص َّد ُق عندما نفحص ِّ
واالقتصادية والدينية ...وانطالقًا من هذا التعريف ،فإننا نشاه ُد تناقضات ال تُ َ
عقليات اجملتمعات اليت تتظاهر حتت اهلوية اإلسالمية اليوم؛ وعندما نقارن بني اجملتمعات اإلسالمية
اليوم على قيد الوجود ،نشاهد فجوات عميقةً وفوار َق رهيبةً بينهما على ال َ ت واليت ال تز ُ اليت َخلَ ْ
ِّ
اإلسالم اليوم بدعوى
َ الناس
ُ ميارسها
ُ إن احلياةَ الدينيةَ اليت املستوايت العقليَّ ِّة والسلوكيَّ ِّةَّ .ِّ
ِّ
احملمدية قبل األو ُل ِّ
لألمة اجليل َّ كياتم ،فهي وال َّ ويستعرضوهنا بسلو ِّ
متاما مما كان عليه ُ ختالف ً ُ شك
ِّ
والتشويه ِّ
التحريف واملفاهيم اإلسالميةُ إىل حدود تثري الدهشة من قرن .ولقد بلغ ِّ
القيَ ُم أربعة عشر ً
ُ
ظهرت على ِّ
أنقاضه داينت بديلة عنه ْ احلنيف يتبلور مبعالِّ ِّم ِّه يف ِّخ َ
ض ِّمها ،وقد ُ الدين
حيث ال يكاد ُ
أرجاء الوطن اإلسالمي الكبري .وعلى سبيل (وعلى حسابه!) حتت أمساء خمتلفة وأشكال متباينة يف ِّ
الرتكِّيَّةَ ) (Müslümanlıkوما انبثق منها حتت شعار الصوفية من تيارات شبه ِّ املثالَّ :
فإن ال ُْم ْسلُ َمانيَّةَ رْ
متاما ،مثل
وتطور كداينت مستقلة ً رس وما تفرع منه َّ الشيعي الذي اختلق ْتهُ الف ُ
َّ واملذهب
َ سرية؛
ت عنها اإلابضيةُ
تشعبَ ْ ِّ
والزيدية ِّ
وغريها؛ كذلك اخلارجيةَ العربيةَ اليت َّ ص ِّْرييَِّّة، ِّ
اإلمساعيلية ،والنر َ
ب إىل اإلسالم دون أي مربر. َّ ِّ
نس ُ
والتنظيمات التكفرييةُ ،كلها ُمتث ُل هذه الفوضى اليت تُ َ
ُ والوهابيةُ
مر القرون، لضرابت قاصمة على ِّ ِّ ض تدل على َّ ِّ هذه اإلستحالةُ اليت ر
تعر َاحلنيف قد َّ
َ ين
أن الد َ
ِّ
واملسيحية ِّ
اليهودية سة من هجمت عليه جراثيم ِّ
الوثن ،كما زاحتمْتهُ سيل من معتقدات مقتَ بَ َ العهد ِّ ُ ْ ف
فرق ْتهُ إىل ِّ
اإلسالم وأهنك ْتهُ مثَّ َّ صفوف اجملتمع ،ففتكت ِّ
جبسم ِّ والداينت اهلنديَِّّة بفعل املدسوسني يف
ِّ
الصوفية ،فانقلبت األمةُ جراءها إىل فِّ َرق وأحزاب ِّ ِّ
واملذاهب والطر ِّ
ائق ِّ
الداينت أشكال غريبة من
َّض هذا التف ركك عن تبعات وعواقب خطرية أمههاَّ :
أن ضها البعض ..لقد متخ َ يذبح بع ُ
تتناحر اليومُ ،
ختالف العقليةَ الوسطية ُ اإلسالم ،إمنا جاءت بعقلية جديدة ِّ كل داينة قامت مجاعة ابختزاهلا من َّ
نفسه ِّ ِّ
الناس إىل االىستقامة هبا .فصار كل حزب يرى َ احلنيف ويدعو َ ُ ين
ينصح هبا الد ُُ السليمةَ اليت
الباطل ،كما قال تعاىل" :فَتَ َقطَّعُوا أ َْم َرُه ْم بَ ْي نَ ُه ْم ُزبُ ًرا ُك رل ِّح ْزب ِّمبَا
ِّ اب على احلق ،وبقيةَ األخز ِّ
على ِّ
اب كلَّهم ك َفار ،وخونة، اد ب ِّ
قية األحز ِّ كل حزب :أ َّن أفر َ لَ َديْ ِّه ْم فَ ِّر ُحو َن ".فضالً عما يرى أفر ُ
اد ِّ 1
***
للا تعاىل ،وصفاتِِّّه األزلية ذات ِّ رد من سن ِّة احلياةِّ ،لذا ،ك رل شيء (سوى ِّ والتحو َل والتجد َ
ر رل
إن التبد َ
وسنَّتِّ ِّه الفطرية العامليَّ ِّة) ك رل شيء معرض للتبديل َّسةُ ،
األبدية ،وأمسائِِّّه العظيمة ،وكلماتِِّّه املقد ِّ
َ
ِّ ات 2".و" َال تَب ِّد ِّ والتغيريَ " .ال تَ ْب ِّديل لِّ َكلِّم ِّ
يل لسنة للا .قال تعاىلُ " :سنَّةَ يل خلَل ِّْق للا ".أي َال تَ ْبد َ
3
ْ َ َ َ
ت ِّم ْن اّلل تَب ِّديالً 4".وقال تعاىل" :سنَّةَ َِّّ
اّلل الَِّّيت قَ ْد َخلَ ْ ُ
اّلل ِّيف الَّ ِّذين َخلَوا ِّمن قَ بل ولَن ََِّت َد لِّ ِّ ِّ
سنَّة َّ ْ ُ َ ْ ْ ُْ َ ْ
َِّّ
وب الشرق أوسطيَّةَ ويف مقدمتها األتراك ،يكرهون أ ْن يتعرفوا على على رغم ذلك َّ
فإن الشع َ
ماضيهم ،لسببنيَّ :أوهلما أن األتراك خباصة ،مل يهت رمو بكتابة التاريخ من قدمي الزمان ،فإذا عثروا
القصةُ
على قصة ألسالفهم كتبها مؤرخ من غري قومهم وفيها ما اليُرضيهم ،ال يثقون به وإن كانت َّ
أن اترخيهم كتاريخ أي أمة قد سج َل ما هلم وما عليهم .لكنَّهم مطابقةً للواقع .والسبب الثاينَّ :
ني بكرامتِّهم مما تلبَّس ْ ِّ
ت به طائفة من أسالفهم .فعلى سبيل املثال، يكرهون أن يطَّلعوا على ما يَش ُ
الرتكِّيَّ ِّة ،فال ِّ ِّ ِّ
معظم األحداث اليت يشتمل عليها اتري ُخ الدولة السلجوقية رْ احلكومات الرتكيةُ َ
ُ تتجاهل
السالجقة فحسب ،و ُتم ُل ما يف اتريهم من ِّ شاه َد من ِّ
أجماد تُذ َكر يف الكتب املدرسية منها إالَّ م ِّ
َ ُ
اإلنسان الرتكي .فعلى سبيل املثال :إ َّن اللغةَ الفارسيةَ كانت ِّ ضمري ِّ
َ ائم وإمور يُ ْؤملُ
اضطراابت وهز َ
ت يومئذ ،فلم تكن صاحلةً ض َج ْ هي اللغةَ الرمسيةَ للدولة السلجوقِّيَّ ِّةَّ ،
ألن اللغةَ الرتكيةَ مل تكن قد نَ ِّ
أن صناعةَ إن هذا املوقف من التاريخ قد أسفر عن عقلية سائدة يف اجملتمع الرتكي جعلتهم يعتقدون َّ
أن هذه ِّ
اخلاصةَ وإن كانت راسخةً فيهم ِّ
األقوام ،كما يعتقدون َّ خاصيَّة ينفردون هبا دون ِّ
بقية ِّ
األجماد ِّ
رمزا
دل على ذلك اختاذُ ُهم من التكبري (للا أكرب) ً اإلسالم قد أكسبها قوةً ،ي ر َ قبل اإلسالم ،إالَّ َّ
أن
رمزا للقومة الرتكية ِّ
صا لإلعالن عن الغلبة وهتافًا يف الصولة واجلولة .كما جعلوا من األذان ً خا ا
ط العلم! Ezan susmaz, يسكت األذا ُن ،ولن يهب َ
َ كي يف ُهتَافِّ ِّه ْم" :لنيذكرونه مع الْ َعلَ ِّم الرت ِّ
الصلة بني ماضيهم وبني جيل الصحابة والتابعني ِّ
اترخيياا، ِّ ،"bayrak inmezلكنهم يتجنَّبون عن ِّ
مد
حياتم كلَّها كانت صلوات ،ودعاءُ، أن َ بدافع هذه العقلية ،بل يعتقدون يف جيل السلف الصاحل َّ
يربهن
فحسبُ ، ُ ِّ
الشعوب الشرق أوسطية اليوم ِّ
حساب س ِّجلُهُ التاري ُخ على
ع الذي يُ َ
املرو َ َّ
إن املشه َد ِّ
ِّ
الثالث 8وبني ِّ
الصلة بني هذه الداينت أن َّ
مد أحناء هذه املنطقة من الفتَّ ، بكل ما جيري يف ِّ
اعتمادا على
ً اإلسالم مستحيل إطالقًا ،وإ ْن تكابر املستشرقون احملليِّون عن اإلعرتاف ابألمر الواقع
ِّ
ِّ
هؤالء املستشرقني أن شخصيةً من ما يتمتعون به من حصانة مراكزهم األكادميي ِّة .من الغريب َّ
ِّ
أوساط كاألستاذ أمحد ايشار أوجاك Ahmet Yaşar Ocakالذي يتمتع مبكانة مرموقة يف
أن هذه التيارات الثالث إمنا تُ ِّ
عربُ عن فروق بسيطة األكادمييني األتراك ،يتجاهل هذه احلقيقةَ فريى َّ
التعبري عن رأيه بصيغة ملتوية يقول فيهاَّ " :
إن َ يف الرؤية إىل مفهوم اإلسالم .حياول األستاذ أوجاك
الناس إىل مفهوم اإلسالم قد ختتلف من منطقة جغرافية ألخرى ،وقد ختتلف حىت داخل نظر ِّوجهةَ ِّ
نفسها بدافع اختالف أمناط احلياةِّ االجتماعية والثقافية .وهذا شيء طبيعي .كما
املنطقة اجلعرافية ِّ
هو الواقع على مستوي العامل اإلسالمي اليوم إذ يتقاسم املسلمون ثالثةَ تفسريات إسالميَّة متباينة
لالسالم :وهي اإلسالم السن ،واإلسالم الشيعي ،اإلسالم اخلارجي 9".وعلى عكس ذلك ،فإن
املذهب
َ وميدحهُ يف ُكتُبِّ ِّه) يصف
ُ العالََّمةَ األستاذ الدكتور فؤاد كوبرولو (الذي يُط ِّْر ِّيه األستاذ أوجاك،
رس مبزج العقائد الزرادشتية مع أجزاء من اإلسالم ،وأخف ْتها ِّ
الشيع َّي أبنه داينة مزورة اختلق ْتها ال ُف ُ
وهي :املسلمانية الرتكية ،والشيعة الفارسة واخلارجية العربية 8
مدارهِّ
رعا ،قد وقعت على ِّ ِّ التارخيي هلذه ِّ
الف َر ِّق اليت َّ
قسرا وتصن ً
انضمت إىل اإلسالم ًَّ َّ سار
إن امل َ
السلطة ،واحتالالت (حتت مسة الفتوحات!) ِّ أحداث كثرية كحروب ،وثورات ،وصراعات على
وحركات صوفية (يف ظاهرها) وإرهابية (يف حقيقتها )...لذا ال ميكن اإلطالعُ على ُك ِّنه العقلية
بط بني تطوِّرها ،والر ِّ
احل ر ِّ
والوقوف على مر ِّ حتليل أسب ِّاهبا، كشف غايتِّها إالَّ بعد ِّاليوم و ِّالسائدة َ
واعتمادا على الدالئل ً وحاضرها عرب دراسات وحبوث على أساس املنهجية واملوضوعية، ِّ ماضيها
واحلجج والواثئق املعتربة ...وهذا يتطلب أن تتوفَّ َر يف الباحث كفاءات متعددةَ ،كأَ ْن يكو َن ذا خربة
ِّ
األكادميية، ِّ
األوساط القبول يف وم ْت ِّقنًا لِّلُغَات ْ
نلت
َ اإلجتماعُ ،
ِّ ابرعا يف علم
وثقافة عامليَّة واسعةً ،
ضاابللغة الفارسيَّ ِّة أي ً
انية ،والفرنسية ...ويستَحسن أن يكون عارفًا ِّ
ُ ُ
بية واإلجنليز ِّية ،واألمل ِّ
كاللغة العر ِّ
ِّ
أوسطية ،وذا رصيد وافر يف اتريخ األداين واملذاهب .لكنه من سوء ِّ ِّ
ابلثقافة الشرق ِّ
القوية لصلتِّها
عددهم قليل جداا يف اجملتمع الرتكي ،وهذا إمنا ِّ
ميه ُد العالية ُ ِّ ِّ
الكفاءات أن املتصفني هبذه احلظ َّ
اإلسالميَّةَ الساميةَ لتحقيق أغراضهم ،وهم كثرةِّ الفرصةَ للمتجرين ابلدين ،والذين يستغلرون ِّ
القيَ َم
عصر الرسول عليه السالم ،وهي قوهلم "عصر ضمن القطاع الشعيب احملافظ ،هلم مقولة يصفون هبا َ
10وهذه كلماته ابللغة الرتكية:
«İrânîlik Hz. Hüseyn evlâdını Sâsânîler’in vâris ve takipçisi sayarak Ehl-i beytin hukukunu müdâfaa
perdesi altında Arap milliyetine ve İslâm dinine dehşetli darbeler vurdu ve eski bir medeniyetin
kolayca yok edilemeyeceğini, -Zerdüşt akidelerini İslâm kisvesi altına sokmak suretiyle- açıkça
gösterdi.» See: Fuad Köprülü, Türk Edebiyatında İlk Mutasavvıflar, Diyanet İşleri Başkanlığı
yayınları, 8. Baskı. S. 15. Ankara-1993
األو ِّل يف كتب مجاعة من املؤرخني األوائل الذين هم موضع ثقة على الصعيد العلمي ،وهذه أمساء عدد منهم: أخبار ِّ
اجليل َّ وردت ُ
ْ لقد 11
قانعا،
صابراً ، عاش الرسول صلى للا عليه وسلم حياةً فطريةً خالصةً منذ طفولته رابه للا كرميًاً ، لقد َ
ولسان صادقًا، ً وظاهرا ،وجرأةً على صناديد الشرك، ً عفي ًفا ،شفي ًقا على خلق للا ،ورزقه قلبًا ِّيقظًا ِّ
كصادعا ابحلق والعدل واملعروف ،وأرشده إبهلاماته اإلهلية إىل أقوم الطريق ،فقال تعاىلَ " :وَك َذلِّ َ ً
ورا َهنْ ِّدي بِّ ِّه َم ْن ِّ
اإلميَا ُن َولَك ْن َج َعلْنَاهُ نُ ًاب َوَال ِّْ ِّ
ت تَ ْد ِّري َما الْكتَ ُ وحا ِّم ْن أ َْم ِّرَن َما ُك ْن َ ك ُر ً أ َْو َح ْي نَا إِّل َْي َ
13
ك ل ََعلَى ُخلُق َع ِّظيم". ص َراط ُم ْستَ ِّقيم ".وقال تعاىلَ " :وإِّنَّ َ
12 ك لَتَ ْه ِّدي إِّ َىل ِّ شاء ِّمن ِّعب ِّ
اد َن َوإِّنَّ َ نَ َ ُ ْ َ
واإلقناع، ِّ
واألداء ابرعا يف خطابه وتعامله ،منقطع النظري يف الذوق
ِّ مارس التجارة فكان لني اجلانب ً
حكيما يف تبليغ رسالته ودعوته وتعليمه، ً اجلأش يف عالقاته األسرية ومع اجلوار ،أديبًا ِّ طهادءًا راب َ
وارا يف معاركه ونضاله ،وفَّ َقهُ للا يف تربية جيل صاحل وفارسا مغ ًً شجاعا على رأس جيوشه، ً قائ ًدا
كل هذه ولكن الصوفيةَ الْ ُم ْسلُ َما َن Müslümanكتموا وال يزالون َّ َّ وم ْنتِّج... عابد جماهد ،نري ُ
ِّ
الرسول اب ِّ
صوفية األتراك ِّجلَنَ ِّ قم ِّة
رتى ين رم يف احلقيقة عن كراهية َّ ب َّ
أن هذا التصوير الْ ُم ْف ََ ال َريْ َ
مدار الزمانصفة "الوالية العظمى" على ِّ املتخفيةَ وراء ِّ
ِّ ولكن هذه العصابةَ صلى للا عليه وسلمَّ ،
َ َ
الزندقة تظهر يف كل مرحلة زمنية تتعاقب تِّب عا) ُخت ِّفي مقاص َد َها حتت ستار ِّ
وصف َها ِّ (وهم ثلَّة من
ًَ
والرعاع الذين يستحيل عليهم أن يدركوا شيئًا من ِّ ِّ
البسطاء الشك يف ِّ
نفوس ماليني َّ للنيب مبا ال يثري
اإلنسان اجلاه ِّل ونظرتِِّّه
ِّ عظمته عليه الصالة والسالم ،تتناغم هذه العصابةُ (يف توجيهاتا) مع ِّ
ذوق
مفهوم العنصر ِّ اجلوفاء إىل "الشخصية املقدسة" يف عرف األتراك .و"الشخصيةُ َّ
املقدسةُ" (يف ِّ
ِّ
واهليئة ِّ
واملسكن ِّ
وامللبس واملتاع واملأوى
ِّ جنس ِّ
املال الرتكي) تتمثل يف إنسان ال يعت َّد أب ًدا بشيء من ِّ
اإلهتمام بكل هذه األمور اليت تعتمد عليها ِّ
للكسب؛ بل يرفض ِّ
والنشاط ِّ
واملعيشة والعمل والتدبري
َ
البشر لذلك ال حيتاج إىل ِّ اإلنسان بتمامها .و"الشخصية املقدسةُ" عندهم إله على صورة ِّ حياةُ
يبتل شيء ِّ
البحار دون أن َّ اهلواء ،ومشى على سطح شيء من مقومات احلياةِّ ،فهو إذا شاء طار يف ِّ
َ َ
والرايح ،يتصرف يف تسيري الوحوش ِّ
ُ ُ من جسمه ،وقطع مسافات شاسعةً يف ملح البصر ،تُطيعُهُ
األنبياء واملرسلني ،تشهد على هذه العقيدةِّ مقولة هلم ِّ حداث الكون ،فهو إذ ْن أعظم مكانةً من أ ِّ
خطرية أسروهُ على مدى قرون ،إىل أن عثر عليها الباحثون وكشفوها مؤخ ًرا.
ولكن العقليةَ املنبثقةَ عنها شائعة يف اجملتمع الرتكي أبشكال من هذه العقي ُدة اخلطريةُ ما زالت خمفيةًَّ ،
الشذوذايتا املنحدرةِّ من عهد ما قبل اإلسالمَ ،تمعها الداينةُ ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ Müslümanlıkوتبثها
ِّ
اجلماعات الصوفية استجابةً ملا أتتيها من تعليمات من قم ِّة "الشخصيات املقدسة" عرب قنواة ال
يقف عليها إالَّ رموز مرتبطة هبذه القمة الشبحية .هذه العصابة إمنا متنع اجملتمع من التعرف على
بطلت ِّطلَّ ْس ُم الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة وافتضحت
ْ ِّ
حقيقته الناس إذا عرفوه على
َ
ِّ
الرسول ،ألن شخصية
أندادا من دون للا .كانت الناس ً ُ ِّ
القباب الذين يتخذهم "الشخصيات املقدسة" املدفونون حتت
هذه خالصة أسرار املقولة املشهورة "عصر السعادة "Asr-ı saadetوالشائعة على لسان األتراك.
نقول ابلتأكيدَّ :
إن املشف َرةِّ اليت فضحنا نبذةً من أسر ِّارها آن ًفا ،نستطيع أن َ فانطالقًا من هذه املقولة َّ
ِّ
اإلسالم الداينة ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة Müslümanlıkبطريق استغالل
ِّ ي إنسان لِّ َد ْع ِّم
كل ِّدعاية يقوم هبا أ ر َّ
ِّ
احلقائق ال ِّ
وتشويه ِّ
املفاهيم ِّ
وقلب ِّ
األدمغة ولة ِّ
غسل أشكال حما ِّ
ِّ هي شكل من ِّ ِّ ِّ
وقيَمه السامية إمنا َ
جماالت احلياةِّ على مستوى الساحة الرتكية. ِّ هنار يف ِّ
كل ليل َ احملاوالت مستمرةٌّ َ
ُ حمالةَ ،وهذه
والستيعاب أكرب قدر من الدالئل واملعلومات عن هذه احملاوالت الدائبة ،من الضروري متابعةُ ِّ
ِّ
ونتائجها جرت على مسرح التاريخ منذ فجر اإلسالم إىل اليوم ،ومعرفةُ أسبا ِّهبا ِّ
األحداث اليت قد ْ
الدينية واملذهبيَّ ِّة اليت
ِّ الوصول إىل أسر ِّار التيار ِّ
ات ُ ميكن
وبرويَّة .إمنا هبذه الطريقة ُ تيب الزمن ِّ ابلرت ِّ
ظهر عدد منها الستئصال االسالم من أساسه مباشرةً (كالقرمطية ،واالمساعيلية ،والنصريية،
مفاهيمهُ ومصطلحاتَهُ
َ ِّ
اإلسالم واستغل ضها انصبغ بصبغة
والدرزية ،والقاداينية ،والبهائية)..؛ وبع ُ
ابلتحريف والتشويه وقضمه من الداخل ،أري َد بذلك تدمري اإلسالم بطريقة غري مباشرة ،ك ِّ
الداينة ُ
الرتكِّيَّ ِّة .Müslümanlıkلكنه ال تتيسر هذه املعرفة ألي ابحث إالَّ إذا كان دقي ًقا ِّ ِّ
ال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ
ومهتما ابستحالة العقليات والتغريات اليت طرأت عليها من مرحلة ألخرى.
ً
شك هو النزعةُ األمويَّةُ وما أسفر عنها اإلسالم وقصد َوأْ َدهُ وهو يف مهده؛ ال َّ
َ استهدف
َ َّ
إن َّأو َل تيَّار
الدفاع عن الوثنيَّ ِّة يف حماربة اإلسالِّم تعميةً ،كطريقة
َ العقلية ال َقبَلِّيَّ ِّة .وإمنا استغلَّت األسرةُ األمويةُ
ِّ من
ِّ
األمامية) ِّ
صورته العرب أبمجعها على اهلامشيني ،فظهر هذا الدفاعُ (يف ِّ ِّدعائية إلاثرة قريش ،بل
ِّ ِّ
لت إىل حرب بني الكفر واإلميان ،واسترتت النزعةُ األمويةُ وراءَ حتو ْ
اجلاهلي ،مث َّ
ِّ الشرك كعقلية
ِّ
احلقيقية بعد ِّ
مقتل عثمان بن ع َفان. ضوضاء هذا النز ِّاع أربعني عاما ،إىل أ ْن ظهرت يف ِّ
صورتا ِّ
ً
هذه شجرة نسب الرسول عليه الصالة والسالم حسب ما جاءَ يف املصادر املعتربة :حممد بن عبد للا ،بن عبد املطلب ،بن هاشم ،بن عبد مناف ،بن 14
قصي ،بن كالب ،بن مرة ،بن كعب ،بن لؤي ،بن غالب ،بن فهر ،بن مالك ،بن نضر ،بن كنانة ،بن خزمية ،بن مدركة ،بن إلياس ،بن مضر ،بن نزار ،بن معد،
بن عدنن ،بن إمساعيل ،بن إبراهيم .قد اجتمعت كلمة املؤخني على هذه السلسلة النسبية وقد ذكرها النيب عليه السالم يف بعض أحاديثه.
ِّ
مشاهري مشركي قريش إىل االسالم يف أي حلظة قبل فتح مكة ،على عكس ما جلأ عدد منِّ العتناق
الرسول عليه السالم وأعلنوا إسالمهم قبيل الفتح ،أييت يف ِّ
مقد َمتِّهم خالد بن الوليد ،وعمرو بن َ
العاص وعبد للا بن عمرو بن العاص ...يبدو َّ
أن أاب سفيان وأهلَه إمنا أسرعوا إلعالن إسالمهم
صبيحةَ يوم الفتح خوفًا من أن يتعرضوا للقتل ،وقد أمجع املؤرخون على ما كان قد انتاهبم من
مهراب من اعالن إسالمهم على كراهية منهم. اخلوف والذعر يف تلك اللحظات احلساسة إذ مل جيدوا ً
وهذا يع رد من أهم الدالئل على ِّ
سوء طويَّتِّهم ،وعلى العداوة اليت أ َكنَّ ْت َها األسرةُ األمويَّةُ ضد
مقتل عثمان بن عفان فور ِّ عاما إىل أن سنحت هلا الفرصةُ مرةً أخرى َ اهلامشيني على مدى أربعني ً
رضي للا عنه.
ينجح يف استيعاب
َ مهمتِّ ِّه ،فإنه لن أي ابحث مهما كان حاذقًا يف مهنتِّ ِّه ،دقي ًقا يف تتبر ِّ
عات َّ َّ
إن َّ
قرن واالطالع على
جرت عرب مراحل التاريخ اإلسالمي على مدار أربعة عشر ً ِّ
األحداث اليت قد ْ
أسباهبا ونتائجها واقعياا ،إالَّ بعد أ ْن يكون حميطًا بدقائق اتريخ التخاصم بني بن أمية وبن هاشم وما
انبثق عنه من عقلية التشتيت والتفكيك والتفريق ...وقليل ما هم .كما أنه من الصعوبة مبكان
ِّ
األحداث اليت قد وقعت خالل هذه احلقبة املديدة إىل اليوم ،وهذه الصعوبةُ قد اإلحاطةُ بدقائق
لوان من الفت والشغب، أسفرت عن جهل مطبق على مستوى الشعوب الشرق أوسطية مما أاثر أ ً
واإلقتتال والتناحر يف هذه املنطقة كما جعل من املستحيل أن يتفاهم التجمعات العرقية والطائفية
مر القرون .إن هذا اجلهل هو السبب والدينية واملذهبية اليت تكتلت يف هذه الساحة الشاسعة على ِّ
اب وأشعل نريان الفتنة بينها منذ انطالقة ِّ ِّ
ض هذه اجلماعات والتنظيمات واألحز َحر َ
الرئيس الذي َّ
وتتوس ُع وتُدم ُر وحترق اليابس واألخضر دون بصيص أمل يظهر يف
َّ تشتعل
ُ الربيع العريب ،وما زالت
األفق بعودة السالم.
ِّ
والشيعة ،والوهابيني، السن،
كاجملتمع ِّ
ِّ ِّ
األوسط؛ ِّ
الفئات الدينيَّةَ واأليديولوجيَّةَ املبعثرة يف الشرق َّ
إن
ِّ
والصوفية مبختلف شرائحها، دعى ب "االسالميني" ،واإلخوانيني،
والسلفيني ،والتجمعات اليت تُ َ
والفرقة الْ َعلَ ِّويَِّّة األنضولية ،والنصريية ،واإلمساعيلية ،والقاداينية ،والبهائية ،والدرزية ،واألاتتوركيني،
ِّ
ِّ
كالعرب، الطوائف العرقيَّةَ؛
َ والبعثيني ،والعلمانيني ،واليمينيني ،واليساريني ،واإلشرتاكيني؛ كذلك
والبلوج،
ِّ ني ،والبشتون ،والبنجابيني ،والسنديني، ِّ
والطوارق ،والباكي َ
ِّ
والكرد ،والرببر، والرت ِّك،
رس ر وال ُف ِّ
واألمياك ،والبشائيني ،والنورستانيني ،وسكان ابمري؛ كل هذه الطوائف ِّ ِّ
والطاجيك، واهلزارةِّ،
ِّ
االسالم وفهم تعاليمه ،وتطبيق أمره وهنيه واجلماعات الدينية والعرقية خمتلفة فيما بينها يف تفسري
مسألة من مسائل العقيدةِّ ،أو العبادةِّ
ِّ اختالفًا رهيبًا ،حبيث يستحيل أن تتحد كلمتُها يف أي
تبعا لداينتا القدمية ،وثقافاتا ،وعاداتا ...واألهم من ذلك أن أكرب ِّ
الختالف عقلياتا اليت نشأت ً
ِّ
واجلماعة" اليت ترى نفسها أهنا الفرقةُ الوحيدةُ طائفة من هذه اجلماعات املعروفة بسمة "أهل السنة
َّ ِّ ِّ ِّ
ن عليهنفسها ب "الفرقة الناجية" ،تتنك ُر ألعظم قاعدة بُِّ َ تصف َ ُ االسالم ،وهي بتعاليم املتمسكةَ
الدعاء والعبادةِّ ،وَتعل من القرآن ِّ اإلسالم وهي "مؤسسة اخلالفة الراشدة" ،وترفض "التوقيفية" يف
كتااب لألموات يُتلى يف املسجد واملقربةِّ ال عالقة له بناحية من نواحي احلياة ...كل ذلك الكرمي ًِّ
ِّ
الوثنية .كذلك ِّ
اجلاهلية ألمو ِّيَ ،والْ ُمتَ غَ ِّذيَِّة من العقلية ال َقبَلِّيَّ ِّة
نشئ من عقليتِّها الْ ُم ْمتَ َّدةِّ من العهد ا ِّ
أثر "أهل البيت" من عرتة الرسول عليه السالم، الطائفة املعروفة بسمة "الشيعة" اليت تزعم أهنا تتبع َ
أصال ،بسبب عقليتِّها ال ُْم ْمتَدَّةِّ من العهد اجملوسي، هي األخرى ال تؤمن هبذه القاعدة العظمى ً
أايم خالفته. ِّ بالد ال ُف ِّ الناشئة من كراهيتها للخليفة الراشد عمر بن اخلطاب الذي فُتِّ َح ْ ِّ
اجملوس َ رس ت ُ
يم ِّه ،وهلاذا أطلِّ َق عليهم صفةُ "الروافض". الرفض لتعالِّ ِّ
ِّ الثأر من اإلسالم وعقليةُ فهي إذن عقليةُ ِّ
فجملة القول :أ َّن هذه اجلماعات ستأخ ُذ ابلعقلية األموية كمشكلة أساسية وبدون معرفة شاملة
قرن حىت عصرن ،ويبدو مع غالب الظن
ابلعالقات بني األحداث اليت وقعت على مدار أربعة عشر ً
أن هذه ِّ
الف َر َق سوف تظل على اختالف إىل ما شاء للا.
اإلسالم ،إذا أتم َل فيها من له ضلوع وإملام ِّ وجه الدعوةِّ إىل
كأو ِّل حتد يف ِّ إن العقليةَ األمويَّةَ َّ َّ
الف َر ِّق رف مجيع ِّ إن هذهِّ العقليَّةَ سائدة يف ُع ِّ ابلتاريخ ،وجد فيها ميِّزتَني :القبليةَ ،واتباع دين ِّ
اآلابءَّ . َ َْ
الرتكِّيَّ ِّة ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
املختزلَة عن اإلسالم (كالوهابيَّة ،واإلخوانيَّة) أو املختلَ َقة حلرب اإلسالم (كال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ
ِّ
َ
شير َع ليسا من اإلسالم يف أن ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةَ والتَّ َ يدل على َّ شير ِّع اإليراينَّ) .وهذا ر ،Müslümanlıkوالتَّ َ
سة ابلعصبية اجلاهلية ،ومتمسكة بداينت ِّ َّ ِّ ر
شيء ،كما يدل على أن الف َر َق املذكورة آن ًفا ،كلها ُمتَ لَب َ
إن هذه اجملتمعات كلَّها ترى القرآ َن الكرمي مبعزل عن احلياةِّ اإلجتماعية ،تراه ِّ
اإلسالمَّ . آابئِّها قبل
والبيوت ،ويُتلى يف املقابر لتهدئة أرواح املويت ِّ ك به يف املساجد سُ ِّ
واإلبتهال ،يُتَ نَ َّ ِّ
للدعاء كتااب
ً
ِّ
أن هذا املوقف من كتاب للا يعربُ عن عقلية متخلفة جاهليَّة ،وتُنبِّ ُئ عن صلتها شك َّفحسب .وال َّ
ابلتيارات الصوفية اخلرافية املمتدَّةِّ من العهد العباسي ،وأهنا نشأت حتت أتثريات سياستها اليت
قضت على ينابيع احلياةِّ املتفجرة من الكتاب العزيز.
***
الرسول عليه السالم من بن أمية بعد الفتح ،وال آذاهم أبدىن كلمة رغم ما لقي منهم من
ُ مل ينتقم
ف الظلم والعد ِّ
وان أايم الدعوة يف مكة ...بل عاملهم برفق ولطافة فائقة ،فعهد إليهم بوظائف وأل َ
قلوهبم بزايدة أسهمهم من الغنائم ،أراد أن يُ َه ِّد َ
ئ غيظَهم ،فَ َر َد َع ُه ْم هكذا مبعاملته احلكيمة حىت ال
لكن بن أميةَ استرتوا وراءَ صمت غامض ِّ
وبكل ِّ
اإلسالم ِّيَّ . جيدوا ذريعةً فيُثِّريوا هبا فتنةً يف اجملتمع
والبارح ألجل الوقيعة ابهلامشيني مىت أاتحت هلم الفرصة .فتوفر األمن ،وكان
َ السانح
َ لباقة يرتقبون
اإلسالمي خبري وأمور الدولة منضبطة مابني أعوام (632-622م ).بفضل رعاية النيب صلى
ر اجملتمع
للا عليه وسلم للجيل األول من املسلمني وسياسته املتينة ،وعدله ،وإنصافه للمظلزمني ،ورأفته
ِّ ابملؤمنني ...قال تعاىل" :لََق ْد جاء ُكم رسول ِّمن أَنْ ُف ِّس ُكم َع ِّزيز َعلَْي ِّه م َ ِّ
رم َح ِّريص َعلَْي ُك ْم ِّابل ُْم ْؤمنِّ َ
ني اعنت ْ َ ْ ْ َ َ ْ َُ
والنظام،
ُ التاريح حبروف ذهبية ،سادت خالهلَا الواقعيةُ، ُ َرءُوف َرِّحيمَّ 15".
إن هذا العق َد الذي َس َّجلَهُ
ِّ ِّ ِّ
س َماملتبادل ،والفضيلةُ يف كل جمال ،كصورة واضحة ومشرقة للعقلية القرآنية النرية اليت اتَّ َ ُ ام
واالحرت ُ
ت مكانةً هبا الصحابةُ أبمجعهمَّ .أما هذه الفرتةُ السعيدةُ -وإن كانت قصرية ج ًدا -فقد احتلَّ ْ
مصطلح العاملية واإلنسانية .لذلك ،فإن ِّ فريدةً يف اتريخ البشرية كمرحلة مثالية من حيث ميِّز ِّاتا
َ
الزمنية مواف ًقا ومناسبًا إذا كان ِّ "عصر السعادة "Asr-ı saadetقد يكون إطالقُهُ على هذه املرحلة
لتعبري عن هذه الصورة املشرقة .لكنه ملا بُويِّ َع علي بن أيب طالب كرم للا تعاىل وجهه الغرض منه ا َُ
ات نوااي بن أميةَ تلوح يف األفق ،وما لبث حىت انتكست
ابخلالفة يف 17يونيو 656م .بدأت أمار ُ
عاما من وفاة النيب عليه السالم ،وانكشفت سريرتم.
روح القبلية واجلاهلية والوثنية بعد ً 24
فتمر َد على يوم كان واليًا على املنطقة الشاميةَّ ، اختذ معاويةُ من مقتل عثمان بن عفان ذريعةًَ ،
ات آالف من صفني ذهبت ضحيتَها عشر ُ اخلليفة علي بن أيب طالب ،فاندلعت بينهما حرب ِّ ِّ
ُ
األرواح أكثر من ستني أل ًفا ،ومن اجلدير ابلذكر أنه مل يشهد معركةَ صفني إالَّ قلة من الصحابة كانوا
احتج بقوله تعاىل " َوإِّ ْن مع أمري املؤمنني علي بن أيب طالب ،وامتنع جلرهم من املشاركة ،وهلذا من َّ
َصلِّ ُحوا بَ ْي نَ ُه َما 16"...من احتج هبذه اآلية الكرمية ِّ ِّ طَائَِّفت ِّ ِّ
ليربر أن علياا ني اقْتَ تَ لُوا فَأ ْ ان م َن ال ُْم ْؤمنِّ َ َ
األشهاد وال يعدو قدرهُ ،يؤكد على ِّ ومعويةَ كليهما كان على حق فقد افتضح جبهله على رؤوس
ني ا ْحلَِّق َوا ْحلَِّق هذه احلقيقة قاعدة عظيمة هلا أساس من الدين والعقل والفطرة ،وهيَّ " :
أن املَْع َرَكةَ بََْ
اط ِّل الَ تَنْ تَ ِّهي .ويستحيل أن اط ِّل والْب ِّ
ِّ ِّ
ني الْبَ َ َ ني ا ْحلَِّق َوالْبَاط ِّل الَ تَ ُد ُ
ومَ .وال َْم ْع َرَكةَ بََْ ومَ ،وال َْم ْع َرَكةَ بََْ
الَ تَ ُق ُ
وحسبَ ،وا ْحلَ رق يَ ْعلُو َوالَ
ُ يكون متنازعان كالمها على حق ،بل أيىب احل رق إالَّ أن يكون عند أحدمها
بدأت الكوارث تنزل ابهلامشيني واحدةً تلو األخرى ،فأغتيل علي بن أيب طالب على يد إرهايب من
سن معاويةُ سبَّه على املنابر ،دامت هذه العادةُ إىل زمن عمر بن عبد العزيز رمحه للا، اخلوارج ،مث َّ
احلسن على التخلي عن منصب فإبطله .والدالئل على ذلك أكثر من أن ُحتصى ،أ ِّ َ
ُجرب جنلُهُ
17
ُ
بن علي واثنان وسبعون من أسرته س ِّم يف طعامه ،وقُتِّ َل ِّ
اخلالفة ملعاوية ،مث أغتيل بِّ َد ِّ
احلسني ُ
ُ س ال ر
كانوا معه يف مذحبة كربالء ،فتطورت العقليةُ األمويةُ بعد هذه الوقائع إىل عقلية جديدة جيوز
متاما فلم تبق أمامهم عقبة ،فجاءوا بعقلية تسميتُها ب " عقلية القطيع" ،ألهنم ختلصوا من اهلامشيني ً
أخرى لتنومي اجملتمع وتسيري الناس يف الالوعي ،وتعميتهم وإلباس احلق عليهم ابلباطلَ ...حتَ َّك َم
أغلب ِّ
الناس الذين ُ بكل ما يف وسعهم ،فأصبح امللوك األمويون يف نشر هذه العقلية وترسيخها ِّ
ُ
علم هلم ِّ كانوا حتت ح ِّ
سريو َن بسياسة ال َ
جمر َد آليات يعيشون حياةً موهومةً م َّ
املرحلة َّ كمهم يف هذه ُ
حبقيقة أهدافها.
لقد كانت السياسة يف العهد الراشدي ترتكز على توحيد األمة واحلفاظ على وحدتا إذ كانت غاية
اخللفاء الراشدين رضى للا عنهم تتمثل يف قوله تعاىل "إِّ َّن ه ِّذهِّ أ َُّمت ُكم أ َُّمةً و ِّ
اح َدةً َوأ ََن َربر ُك ْم َ ُ ْ َ
ون 18".أما احلكام األمويني فإهنم تبنوا العصبيةَ القرشيَّةَ يف سياستهم مما أفضى إىل املنافسة فَا ْعب ُد ِّ
ُ
ابألنساب ،فعادت عقلية البداوة وتقاليد اجلاهلية ِّ الناس إىل التمسك
ُ القبلية يف اجملتمع ،فجنح
راجع :صحيح مسلم 120 :7كتاب الفضائل ابب من فضائل علي؛ املستدرك على الصحيحني 541 :1؛ وقال ابن حجر يف (فتح الباري) :57 :7 17
"مث اشتد اخلطب فتنقصوه واختذوا لعنه على املنابر سنة ،ووافقتهم اخلوارج على بغضه".
استأصل العباسيون شأفة هذه األسرةِّ وأقاموا على أنقاضهم حكومةً جديدةً لكن العقليةَ اليت جائت
ِّ
اإلسالم ،فما لبث حىت انتشر الفسو ُق والفجور واجملون هبا العباسيون كانت أسوءَ وأخطر منها على
والبدع بتشجيع من الشعوبيني والصوفية الذين كانوا يلبسون جلود الضأن على قلوب الذائب ،إذ
أي إنسان يريد تشويه اإلسالم السياسة عند العباسيِّني أهنم كانوا يتساهلون مع ِّ ِّ كان من ِّ
أهم ر ِّ
كائز
ض للمالحقة واملقاضاةِّ والعقوبة .وإمنا قُتِّ َل رمى ابلزندقة فال يتعر َ ابستخدام مصطلحاته ،حىت ال يُ َ
احلكم
َ الناس وحثِّ ِّه َّإايهم على الكفر البواح .إن ِِّّ
احلسني بن منصور اخلالج ،خلطورة أفاعيله وإلغرائه َ
امللوك العباسيِّني على حكمهم يف قلوب ِّاخلوف يف ُِّ دب
مل يكن أصالً بيد األسرة العباسية ،ذلك ملا َّ
ِّ
هؤالء األجانب ،فما لبث وجنودا ،فكان احلكم بيد ً مواجهة التحدايت اختذوا من األعاج ِّم وزراءَ
ِّ
اخلطاب حىت زالت هيبة العباسيني ،وطغت الثقافة العجمية على الثقافة العربية ،وتغريت أساليب
ِّ
والتملق يف أسلوب املداهنة رس ِّ
َ الكتاب واملؤلفون ال ُف ُ ُ طابعا فارسياا ،انتهج
والكتابة فأخذت ً
والطبقات أبشكال غريبة من اإلطر ِّاء واملدح والث ِّ
تاء ِّ خطاابتم فامتألت كتب السري والرتاجم
ِّ
املرحلة زندقة بدءًا تباعا ،كما ظهر يف هذه واملبالغة ،فانتشر الكالم املسجوع واستعمال املرت ِّ
ادفات ً ِّ
ُ
من إبراهيم بن األدهم (777-718م) ،وشاعت الزندقةُ جبهود طائفة من الروحانيني كان اجلنيد
ب ب "سيد الطائفة" .فقد ذكرهم أبو القاسم ِّ
البغدادي (910-830م) يف مقدمتهم ولذلك لُق َ
الناس مع َّ
أن شخصا ،فدخلوا يف قائمة الصاحلني يف نظر ِّ وع َّد َد ُه ْم ثالثةً ومثانني ِّ
رسالته َ ي يف القشري ر
ً
أكثرهم كانوا زندقةً من أصول فارسية اهتموا إبعداد تدل على َّ وشطحاتم ر ِّ
أن َ سريتم وسلوَكهم َ
ِّ
العلوم ِّ
وآداهبا كما برعوا يف اللغة العر ِّ
بية أنفسهم ألغراض خاصة ،فنال كلٌّ منهم حظًا وافرا من ِّ
ً
الناس ووقفوا مندهشني أمام بالغتهم ُ وحديث وتفسري وحكمة حىت انبهر هبم ِّ اإلسالميَّ ِّة من فقه
العامة ،كما استشاط الفالسفةُِّ ِّ
الغامضة وتعبرياتم املزخرفة مجاهريُ من وحتَْزلَُق ِّاتِّ ْم ،فاغرتَّ مبقوالتم
َ
ِّ
والتشبيه ،والتعطيل ،والتأويل، ِّ
التجسيم، نفسها ،فانتشر ألوان من اهلرطقة؛ ك املرحلة ِّ
ِّ والكالميرون يف
جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر السيوطي املصري ،اتريخ اخللفاء ،ص ،102 :برتقيم الشاملة آليا. 19
ِّ
السامية يف وتشوي ِّه ِّ
القيَ ِّم ِّ
واإلرجاء ...هكذا متكن املغرضون من حتر ِّ ِّ
والرفض والتج ره ِّم ،واالعتز ِّال
الناس وقضوا على ما بقي من آاثر العقلية القرآنية بكل سهولة. ِّ بعد أ ْن سيطروا على عقول
حتوالت وتبدرالت جذرية يف احلياةِّ اإلجتماعية واإلقتصادية والثقافِّيَّ ِّة؛
ات عن راسفرت تلك التطور ُ
اإلسالم ،بُنِّيَ ْ
ت تكااي وزوااي وأربطة يف ِّ ِّ
الصوفية يف مجيع البلدان من أرض إنتشرت عقائ ُد مالحدةِّ
الناس على شيوخ الطرائق الروحانيني ،واعتقدوا أهنم رجال صاحلون هلم كرامات ِّ
أحناء البالد ،تافت ُ
ابلعلماء وأمهلوهم وعدوهم من أهل الرسوم ،مث أ ِّ
ُنشأت ِّ وبركات ال يشقى جليسهم ،،واستهانوا
الناس يعكفون على أعتاهبا ويتربكون هبا ويطلبون منها
القباب على أضرحة شيوخ الصوفية ،فأخذ ُ
ُ
حوائجهم...
لكن هذا املعتقد اخلرايف مىت نشأ ،وما مدى موقف األتراك اليوم منه؟ تدعو املناسبةُ هنا أ ْن نركِّ َز َّ
تكشف يف الوقت ذاته واح ًدا من أسرار الداينة ُ على حقيقة تقودن إىل اإلجابة على هذا السؤال و
أن األتراك غالبًا َّما يؤكِّدون أهنم "مل يعيشوا أب ًدا حتت نري
الرتكِّيَّ ِّة :Müslümanlıkذلك َّ ِّ ِّ
ال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ
احتل أوطاهنم وقبض على زمام
أجنيب ،ألهنم أمة مغرمة ج ًدا بشرفها القومي ،فلم يسبق لقوم أن َّ
أن ِّ
احلقيقة َّ يدعون ،مع َّ
أن التأري َخ ُخيربن بعكس ذلك ،وكمثال على هذه احلكم عليهم ".هكذا َّ
املصدر .Hasan Lûtfi Şuşud, İslâm Tasavvufunda Menâkıb -ı Evliya s.163 İstanbul-1958. :وهذه كلمات املؤلف 20
ابللغة الرتكية:
«Velâyet, fenâya varmış kimsenin hâlidir. Nübuvvet mertebesinden uludur. Bazı enbiyâ hazerâtı
velâyete de sâhib olmuşlardır. Lâkin her velîde nübuvvet-i tarifiyye veya tebliğiyye mevcûd
»olagelmiştir.
بعض ِّ
جيوش الدولة األموية احتلت بالدهم عام 707م .ودام العرب حيكموهنم فرتةً ،كما كانت ُ
َ
دويالتم حتت حكم األمويني والعباسيني إىل أ ْن وثب البويهيون الفرس على احلكومة العباسية
زعيم األتراك
العباسي (1075-1001م) أن دعى َ ر القائم أبمر للا
ُ واستضعفوا ملوَكهم مما اضطر
األمر لِّيُ ْن ِّق َذهُ من إهانة البويهيني. َّ ِّ
السالجقة طُغْ ُر ْل بك (1063-990م) وسل َمهُ َ
كية خالية من ذكر هذه ات التعليميَّةَ للدول ِّة الرت ِّ أن املناهج الدراسيَّةَ واملقرر ِّ من املثري لالهتمام َّ
َ
ب الناشئةُ بصدمة إذا ِّ ِّ
متاما؛ تكتمها احلكومةُ الرتكيةُ خمافةَ أ ْن تُصا َ لوقائع التارخيية وتفاصيلها ً ا ِّ
اجليوش الرتكية مل َ ائم يف اترخيها َّ
"ألن ضت هلز َ تعر ْ أن األمةَ الرتكيةَ قد َّ األخبار وعلمت َّ ِّ فوجئت هبذه
اعتقاد األتراك!)، ِّ مدار الدهور ،ذلك مستحيل!"( ،على ِّ
حد أي معركة على ِّ ت يف ِّ تكن قد ُه ِّزَم ْ
أي العام وُمتلي على الناشئة ما ال يستقيم مع هكذا تزعم األفواه الرمسية وطاملا حتاول اغتيال الر ِّ
اإلسالم -رغم كل السلبيات والفوضى اليت تسود َ بعض احملافظنيَّ " :
أن الثوابت التارخيية ،قد يتعل ُل ُ
السالم واألُ ُخ َّوة والفضائل ،قد مجع بني شعوب متباينة حتت ِّ دين ِّ
الوطن اإلسالم َّي اليوم -هو ُ َ
الدهر،
ُ األحداث الْ ُم ْؤلِّ َم ِّة اليت طواها
ِّ فإن إعادةَ ذكر مظلَّتِّ ِّه ،فاكتسبت بذلك صفةَ (أَُّم ِّة حممد)َّ ،
ذات ِّ
البني، النفور ،وتفر ِّيق ِّ ِّ العقول مبا ال طائل فيه سوى إاثرةِّ ِّ وإشغال
َ وأصبحت نسيًا منسياا،
َ
تشتيت مشل ِّ العظيم لِّ َما فيه من
ِّ ِّ
واخلطر ِّ
العبث إن ذلك من ِّ
الشعوبَّ ، وتعميق الفجوةِّ بني هذهِّ ِّ
ت (اليوم) لو مل تكن أسالفُها قد ألْغَ ِّ ِّ
اإلسالم تزعم انتماءَ َها إىل
َ الشعوب اليت ُ َّ لكن
املسلمنيَّ ".
واستبدلت عنه دينًا َمسَّْتهُ الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة Müslümanlıkب (األمس) ،لكان ح اقا من الواجب ْ اإلسالم
َ
الباطل من ابطنها. اد هباالصواب يف ظاهرها ،لكنه يُر ُ ِّ احرتام هذه الكلمات اليت تُعِّرب عن ِّ
وجه
ُ َُ ُ
مق هذه الكلمات املزخرفة كل مؤمن ابهلل واليوم اآلخر أ ْن يتنبَّهَ إىل ُع ِّ لذلك من الواجب على ِّ
إلخفاء أسرار الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة Müslümanlıkوتعمية ِّ
الناس هبا،ِّ ويفطن إىل َّأهنا أصالً تُتَّ َخ ُذ ً
قناعا َ
ليتمك َن الْ ُمتَ َخ رفون وراءَها من تعزيز هذه اإلسالمَّ ، ُ وتشتيت اإلنتباهِّ إىل الرسالة اخلالدة اليت أتى هبا
ِّ
حقيقة القومية الرتكيَّ ِّة منذ قرونَّ .
وألن اإلنتباهَ إىل ِّ أسس ِّ ِّ ِّ
الداينة اخلرافية الباطلة اليت تعتمد عليه ُ
تتبىن هذه الدين احلنيف معناه :كشف القناع عن وجه الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة Müslümanlıkوإفشاءُ ما َّ
والقضاء على تعامليه بِّ ُرَّمتِّها .كما َّ
أن ِّ كان اإلميان بتوحيد للا ،واستأصالِّ ِّه، تدمري أر ِّالداينةُ اخلطريةُ من ِّ
يالدفاع عن وحدة األمة منقوضة من أصلِّها ،ألن األمةَ مل يع ْد هلا أ ر َ الذكر يف صدد الكلمات اآلنفةَ ِّ ِّ
أي معىن ضا ال ميثِّ ُل َّ صعاليك األعجام أي ً ُ كيان يف الواقع ،ومقولة "األ ُخ َّوةِّ اإلميانية" اليت يُ َدنْ ِّد ُن هبا
يطمس دالئل اجلناايت اليت ارتكبها رهبا ُن َ يستطيع أحد بعد اليوم أن َ يف ظروف اليوم .إذ لن
آاثر هذه اإلسالم قبل مثانية قرون .بل ستظ رل ُ ِّ الشامانية والبوذية يف مدينة خبارى الستئصال
لناس يعتنقون الداينة الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة ،Müslümanlıkويشمتون
ماليني ا ِّ
ُ اجلناايت ظاهرةً ُم ْعلَنَةً ما دام
ابملسلمني بقوهلم "احلمد هلل حنن ُم ْسلُ َمان ،"Elhamdülellah biz müslümanızوأييب أح ُدهم أ ْن
يقول "احلمد هلل أن مسلم "Elhamdülellah ben Müslimimوهكذا يظهر بوضوح ودون ِّ
إقامة َ
اإلسالم مل يكن قد سادت دولتُهُ يف اجملتمع الرتكِّ َّي أصالً ،ولكن أشرقت عليه حزمة من
َ أي دليل َّ
أن ِّ
أشعَّتِّ ِّه فما لبست حىت اختفت بسرعة ،فمألت الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ Müslümanlıkفراغها منذ قرون
وعادت العقليةَ الوثنيَّةَ وهي ُختَيِّ ُم بظلماتِِّّه على هذه الداير اليوم.
***
ألن هذه الفوضى ضى اليت قضت على نظام اخلالفة الراشدةَّ . ِّ
مرحلة الفو َ ال بد هنا العودةُ برهةً إىل
ب عقائ َد ابطلة إىل تعاليم اإلسالم ،وإراب ِّك األعجام خباصة يف فهم ت السبيل لتسر ِّ
َ
مه َد ِّ
هي اليت َّ
افات واألساطريُ وانتشرت عقب الفتوحات اليت ال واألابطيل واخلر ُ
ُ الدين احلنيف .ف َكثُ َرت البِّ َدعُ
العاطفة اإلنسانيَّ ِّة
ِّ جيوز أصال وص ُفها ابلفتوحات ،بل كانت احتالالت ومدامهات مهجية وخالية من
تعاليمهُ بروية ويتمسكو هبا ِّ
ابإلسالم حىت يفهمو واحلكمة ،فلم تدع الفرصةَ حلديثي العهد ِّ و ِّ
الرفق
َ
خملصني هلل يف دينه.
ِّ
ابنسحاب احلسن بن علي بن أيب أخريا من املعلوم ِّ
اهلامشي انتهت ً
األمويَّ -
َّ اترخيياا ،أن التخاصم
لكن هذا التخاصم مل ينتهي يف
طالب من منصبه ملعاوية بن أيب سفيان يف سبتمرب عام 661مَّ ،.
ومذاهب
َ الواقع إىل اليوم ،بل اكتسب أشكاالً متباينةً واختفى وراءَ صراعات ونزاعات وحروب
انبثقت
ْ إن َّأول عقليَّة أولدت عقليات ومعتقدات اكتظَّت جملدات كتب التاريخ بسرد تفاصيلهاَّ .
بن أيب سفيان ،وهي عقلية اجلاهلية الثانية اليت من هذا التخاصم هي اليت حر َك َع َجلَتَهُ معاويةُ ُ
جوف توحي ًدا لكن َّعا يراه اجلاهل األ ُ ِّ
اك مقن ً
إسالمي مصطنع ،فاستمر اإلشر ُ حجبت الوثنيةَ بستار
املتبقيَةُ لإلسالم بعد فرتة وجيزة ،فظهرت تركيبة لالسالم ت اآلاثر احليةُ ِّ املؤمن الفطن مل يغفله .امنح ْ
ُ
السبيل لظهور منط آخر مزيَّف يف الفرتة التالية (وهي الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ ِّ
مهدت الفارسي املزيَّف
َ
اجليوش األمويةُ يف آسيا الوسطى. ارتكبت َها
ْ املذابح اليت
ِّ ِّ )Müslümanlık
كرد فعل على
ُ
ظهر التيار الصويف الرتكي (األَ ْولِّيَائِّ ري) يف القرن الثالث عشر امليالدي يف بالد آسيا الوسطى َك َرِّد
ِّ
"األولياء"، الرت ِّك وهو يعتمد على أتليه
فعل هلذه العقلية ،نشأ هذ النمط للتصوف املعرتض يف بالد ر
خبالف التصوف احللويل العراقي .وأما أهم الفروق بني التيارين ،فإنه يستقطب يف نظرية اإلله
إن التصوف عند قدماء صوفية الفرس كان وعالقته مع اإلنسان؛ وخالصة مع َّم ِّ
يات هذه النظريةَّ : َُ
اخلالق فيهم ،وكان هلم مصطلحات وتعريفات ِّ ِّ
حبلول ِّ
االعتقاد الداينة الزر ِّ
ادشتية و ِّ يعتمد على
ِّ
واإلنزواء واملكث يف األماكن اخلربة ِّ
التقشف وشطحيات ومقوالت غامضة وجماهدات نفسية من
الزواج وعن املعارف والعلوم ...جيهل أسر َارها العامةُ قدميًا وحديثًا مما جعل منهم ِّ واإلعراض عن
الناس يف تعظيمهم وتوقريهم ،وخيافون لعنتَهم .وأما التصوف الرتكي ،فإنه طبقةً مقد َسةً يبالغ أغلب ِّ
صا لرتقية اإلنسان إىل منهجا خا ا ِّ ِّ ِّ
يستمد يف أغلب تعاليمه من الداينتني :الشامانية والبوذية ،ويقد ُم ً
ِّ
"الفناء يف للا" ،فيكون ري والسلوك" ،ويس رمو َن هناية هذا السفر املوهوم ب مقام األلو ِّهيَّ ِّة يس رمونَهُ َّ
"الس ْ َ
الرحلة "فانيًا يف للا ،مث ابقِّيًا به!" ،أي حاالا فيه تعاىل للا عما يصفهِّ الفائز منهم يف هناية هذه
مقام األلوهية" يف معت َقد األتراك، كبريا .هذا هو املنهج الذي "يُ ْرقِّي اب ِّ
لويل إىل ِّ
علوا ً
الفاسقون ا
املاء وتكليم الصخور وهنا ب "الكرامات") كاملشي على ِّ و"تصدر منه أفعال خارقة للعادةِّ (يس رم َ
ات ومعتقدات األتر ِّ
اك واألقليَّ ِّ ِّ ِّ
أفكار الوحوش وما أشبه "...هذه العقلية ال تزال سائدةً على ِّ وإرغام
ِّ
التابعة هلم منذ ألف عام إىل اليوم؛ متثِّلها الداينة الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ .Müslümanlıkوأما القاسم املشرتك
أن كِّالَ التيارين خيلوان الرتكِّ ِّي كليهما :فهو اإلحلاد .ذلك َّ ِّ ِّ ِّ ِّ
القدمي والتصوف رْ الفارس ِّي التصوف بني
ِّ
الوجود، قائم بذاتِِّّه ،ال ِّ
واجب فاعل املدب ِّر ال ِّ
عادل ،ال ِّ ابإلله ال ِّ
واحد ،ال ِّ
قادر ال ِّ متاما من مفهوم اإلميان ِّ
ً
واجلدير هنا ابلتنبيهَّ :
أن ِّ
للحوادث... خلق ِّه ،امل ِّ
غاير بائن عن ِّ ِّ
واحللول ،ال ِّ ِّ
والعجز امل َّنزهِّ عن احل ِّ
دوث
ُ
احملبية بال ِّ
اإلابحيَّ ِّة اليت تعتم ُد على دعامتنيِّ : َّ
يستمدان أصالً من الفلسفة هذين التيارين كليهما
خباصة – ِّ
األوسط َّ ِّ
الشرق ِّ
سكان ِّ
اإلسالم ِّي – األكثريةَ من اجملتمع معظم القول بسهولة َّ
ِّ أن َ ميكننا ُ
اجليل
ألن َ األموي والفرتةِّ األوىل من احلكم العباسيَّ . ِّ ِّ
احلكم خالل
بوحدانية للا تعاىل َ ِّ كانوا يؤمنون
اس مؤسسة اإلميان - ِّ
والثالث (التابعني وتبع التابعني) من علماء السلف الذين كانوا ُح َّر َ َ الثاينَ
عاشوا ما بني 700و 850من امليالد .قد وردت تسميتُهم يف مصادر الرتاث ب "املتقدمني".
جبهود هذين اجليلني املتميزين ِّ اشد ِّي أكثر من قرن العهد الر ِّ
ِّ َّ
املمتدةُ من دامت العقليةُ التوحيديَّةُ
العام واملتنوع ،فإنه بدأ يتفاقم بعد هذه اإلحلاد مبعناه ِّ
ُ ابالستقامة رغم اإلحلاد األموي الوثن .أ َّما
ظهرت داينت قائمة على أساس اإلشراك ،ولكنها ُم َو َّش َحةً أبقْنِّ َعة خمتلفة من ْ الفرتةِّ ابلتدريج إىل أن
الناس عما ينايف قاعدةَ التوحيد من تعاليمها ،خمافةَ وصرف انتباه ِّ ِّ ِّ
للتعمية التأويل الفلسفي .وذلك
الرتكِّيَّةُ )(Müslümanlık ِّ ِّ
ردود فعل املؤمنني املوحدين .أتيت يف مقدمة هذه الداينت :ال ُْم ْسلُ َمانيَّةُ رْ
اخلالص ،كما قضتِّ لفهم التوحيد املتاح ِّقضت على املنطق السليم ِّ اليت ظهرت حواىل 1200م .و ْ
على العقلية التوحيدية الراشدةِّ يف أعقاب هذه التطورات.
هل ِّ
بيت الرسول عليه كانت هناك ميِّ َزَات ِّن رئيستان للجاهلية األموية :العنصريةُ العربيةُ ،ومعاداةُ أ ِّ
وردود الفعل اليت نشأت وتفاقمت ضدها مثرية حداا؛ انتهجت ِّ
اجلاهلية آاثر هذه السالمَّ .
َ إن َ
اهلمج ،فخرجوا على ِّ
نظامها اب ِّ ِّ
التمرد يف األعر ِّ السياسةُ األمويةُ أشكاالً من التضليل فأاثرت روح
اآلاثر فاستنزفوا ِّ
لكن َ طاقاتا يف أمد قصري وأهنكوها حىت اهنارت حتت ضرابت قاصمة للخرسانينيَّ .
يتغريُ من مرحلة إىل أخرى حبكم ِّ
القرون وهو َّ استمر على ِّ
مدار َّ اخلارجي
ِّ ِّ
األموي ِّ
للتخاصم السلبيةَ
الرهيب قد أسفر عن دمار وآالم التخاص َم س َّميَات متباينَة إىل يومنا هذاَّ .
إن هذا ِّ
َ ُ ظروفها وحتت ُم َ
وجروح وفجوات سحيقة يف اتريخ الشعوب الشرق أوسطية ما يَكِّ رل اللسا ُن عن وصفها .ومن جهة
السبيل فأهنَ َك ْت َها خالل ثالثة عقود ،فمه ِّ
دت اخلوارج على الدولة األموية ْ
ِّ أخرى انفجرت بركان
َ
لظهور قوة أخرى عمالقة يف خرسان ،تتأهب البتالعها ،فقضت على هذه الدولة الفتية ابسم
ال إىل
قرن من الزمان ،لكن الروح اخلارجيَةَ دامت وال تز ُ
األسرة العباسية يف أمد قبل أ ْن يبل َغ عمرها ً
اليوم.
الناس عليها. إن "اخلارجية" مصطَلَح ِّ ِّ َّ
مروع أُطل ُق على حركة مهجية قاومت الفطرةَ الىت فطر للاُ َ
ألو ِّل مرة ِّ
أشقياء األعر ِّ
اب الذين خرجوا َّ أُطلِّقت هذه التسميةُ على فكرة خطرية تَبَ نَّ ْتها طائفة من
على اخلليفتني عثمان بن عفان وعلي بن أيب طالب رضي للا عنهما واغتالوا األخري منهما.
اخلوارج ال
َ احلوار أب ًدا .وهلذا ،فإن
َ يعرف
العقل وال ُ دين عنيف ال حيرتم َ
سياسيٌّ -
ٌّ فاخلارجيةُ إذن تيار
وأسرعهم إزهاقًا لألرواح ،وأخطرهمِّ ِّ
اخلصوم عن ًفا، ُميهلون املخاطَب حىت يكلمهم ،بل إهنم من ِّ
أشد َ
تدمريا للحياةِّ واحلضارةِّ ...لذلك ،غالبًا ما تستحيل معاملتهم ،إالَّ بنفس اللغة واألسلوب .احندرت
ً
عادت وتكررت
ْ هذه احلركةُ اإلرهابيَّةُ على مدار القرون فاستشاطت يف بعض املراحل مث اختفت مث
وه ِّايب من أعراب جند ،امسه أسامة بن هكذا إىل أ ْن ظهرت عصابة منها يف عصرن جبهود ِّ
إرهايب َّ
ِّ
وأروعها ذحبًا ِّ
للحرمات، ِّ
أخطرها انتها ًكا الدن ،مث تفرعت إىل ُش َعب ،فكانت عصابة داعش من
ِّ
ملواصلة هينمتِّها على الشعوب الشرق ِّ
العصابة أُلْعُوبةً وتقتيالً ...اختذت القوى العومليةُ من هذه
أوسطية مث قضت على قائدها (أيب بكر البغدادي) فأمخدت ثورتا .إن اخلوارج أكثرهم من العرب
رد ،وخالصة القولَّ :
أن الرتك وال ُك ِّ اجلاهليِّني يف كل عصر ،وقد تلتحق هبم مجاعات من أعجام ر
الرتكِّيَّةُ )،(Müslümanlık ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
الفكر اخلارج َّي يُع رد من الداينت البدعية اإلحلاديَّة على مثال ال ُْم ْسلُ َمانيَّةُ رْ
َ
أن هذه الداينت الثالث ال صلة هلا ابالسالم، والتيار الشيعي الرافضي اجملوسي الفارسي ...على َّ
إالَّ أننا ال نكف ُر بعض الشخصيات من اخلوارج املعروفني بعقيدتم السليمة رغم انزالقهم مع هذه
احلركة اإلرهابية البغيضة!
ظهر منط آخر من ردود الفعل يف مواجهة التضليل األموي حتت مسة الشيعة .انتشر هذا التيار
ِّ
العرب ،معظمهم كانوا من ِّ
أهل التوحيد بدايةً يف اجملتمع العريب .إالَّ أن اجليل َ
األول من شيعة
ِّ
مواجهة النظام األموي اجلاهلي) خملصني هلل ،وكانت قرارا ُتم السياسيةُ وحركا ُتم العسكريَّةُ (يف
ضا ،فتحامل عليهم صبة الطيبة غر ً ي من هذه الع ِّ موافقةً للفقه اإلسالمي ،لذا اختذ النظام األمو ر
ُ
ِّ
األشهاد ِّ
رؤوس ِّ
واالضطهاد والتخويف ،فأمر معاوية والتَه أن يسبوا علياا يف ُخطَبِّ ِّه ْم على ِّ
ابجلور
نزل عليهم ضربةً قاصمةً ،وفعالً تتسىن له الفرصةُ بذلك فيُ َ
ريُه ْم يف وجهه حىت َّ ِّ ِّ
مشاتةً بشيعته ليُث َ
ض على صاحب النيب ُحجر بن َعدي الكندي الكويف وأخيه هانئ بن عدي رضي حدث ذلك ،ف ُقبِّ َ
للا عنهما ،فقتله معاويةُ واستشهد أخوه هانئ بن عدي مع مسلم بن عقيل .كان ُحجر بن َعدي
املقربِّني إىل أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي للا عنه.
أحد َّ
ضةُ ،فيجب اإلنتباهُ إىل أهنا طائفة رجعية ،عاطفية ،متباكية ومتلونة ،تتصنع س الراف َ َّأما شيعةُ ال ُف ْر ِّ
االنتماء إىل أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي للا عنه وهو براء ِّ البيت ،و َّ آل ِّ حمبَّةَ ِّ
تتسرتُ وراءَ
اإلمام الذين عاصروه ووقفوا معه يف ِّ
بشيعة ِّ أن هذه الطائفةَ ال صلةَ هلا منهم ،كما جيب اإلنتباهُ إىل َّ
إن احلُْل َم امليجالو- السبَئِّيَّ ِّة املنافقني اإلرهابيِّني بهَّ .
مواجهة اجلاهليَّ ِّة األمويَِّّة ،كما ال صلة للشيعة َّ ِّ
أساس سالم ،هي ِّ
الضغينة لال ِّ إضمار ِّ ِّ
ُ العرب ،و َ فارس َّي ) ،(Persian Empire dreamواحلق َد على
لم هذا ،هو الدافع الذي أولدت العقليةَ الشعوبيةَ (أي فكرةَ ِّ ِّ التشيع اإلير ِِّّ
اين الفارس ِّي اجملوس ِّي .وا ْحلُ ُ ِّ
رد" يف بداية الفارسية) اليت بدأت متزامنةً مع َّأول حركة صوفية إحلادية حتت شعار "التَّزه ِّ ِّ ِّ
العصبية
َ
ابستخدام مصطلحاتِِّّه ،وتشويِّ ِّه قِّيَ ِّم ِّه وتعاليمه .هذا ا ْحلُْل ُم ِّ ِّ
اإلسالم تدمري
َ
ِّ
العباس ِّي ،فتبنَّتا العهد
استمر وهو يتلو ُن حتت عوامل الظروف املتغرية عرب َّ الذي بدأ يشغِّل األذها َن منذ ِّ
مثانية قرون، ُ ُ
س ْل َم ِّاينَّ" كدين بديل وآلية يف ِّ املراحل الزمنية إىل يومنا .لقد َّاخت َذ
املذهب الشيع َّي ومساه "الْ ُم َ َ الفرس
ُ
الرتكِّيَّ ِّة ِّ ِّ
احلرب الشعواءُ دامت متوازيةً مع ال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ ُ حربه على الدين احلنيف .هذه
) ،(Müslümanlıkبال هوادة حىت هذه الساعة .طاملا تلجأ الشيعة إىل التقية منذ قرون ابستخدام
مصطلحات إسالمية كثيفة ابالضافة إىل اعتمادها األجبديةَ العربيةَ يف التدوين .هذه املواقف للشعية
احلرب
َ لكن هذه شك تُع رد من أهم االسرتاتيجيات يف حرهبا على اإلسالم منذ ثالثة عشر ً
قرنَّ . ال َّ
تكررت بزخم متفاوت إىل أن اشتدت يف بداية القرن السادس عشر امليالدي خاصةًالغري مباشرة َّ
مع قيام الدولة الصفوية.
***
ِّ
والشيعة من نحية، اخلوارج
ِّ وردود ِّ
فعل َ ِّ
املستبد، عوامل الظروف َّأايم النظام األموي العنصري َّ
إن
َ
الصويف الذي توارى أبدبيات الزهد املتصنع ،كذلك الشعوبيةَ املعاديةَ للعروبيَّ ِّة من نحية ِّ َّ والتيار
َ
ِّ
األداين. رسوابت عديد من ُ النزعات اخلطريةُ يف العهد العباسي بعقلية فيها
ُ أخرى؛ جاءت هذه
نيد البغدادي ( )910-830وأيب بكر الشيبلي (-861 وكمثال على ذلك ،فقد حاول كلٌّ من اجل ِّ
)946واحلسني بن منصور احلالج ( ،)922-858وأمثا ِّهلم من صوفية الفرس املستعربني ،حاولوا
تعاليمهُ ،فخلقت هذه احملاوالت ثغرات يف يف بداية العهد العباسي أن ينالو من اإلسالم ِّ
ويدم ُروا
َ
ِّ
والوهم ابالسفاف العدل والرمحةُ والفضائل يف تلك البيئة املفعمة ِّ ُ صرح الدين احلنيف .فاختفت
ُ
ورسوله ،فسادت البلبلةُ على اجلو الدين والسياسي ،أسفرت ِّ والفسوق واجلرأةِّ على ِّ
للا ِّ ِّ
واملروق
عن ظهور كل من الداينة الفارسية والرتكية .كان العلماءُ يف أايم األمويني يشعرون بقلق شديد إزاءَ
ِّ
اإلسالم ،فنهضوا إباثرة حركة جدلية ليقفوا هذه التيارات اخلطرية اليت تفاقمت وطغت على تعاليم
مدافعني يف وجه تلك التيارات غريةً على العقيدة احلنيفة.
ظهرت فرقة من العقالنيني أوالً يف البصرةِّ مثَّ انتشرو يف أرجاء البالدُِّ ،مسيَت فكرتُم ب "االعتزال"،
العقل على كتاب للا وسنة رسولِّ ِّه ،وزعموا "أن القرآ َن ِّ
ولكن هؤالء كانوا مفرطني يف آرائهم؛ قدَّموا َ َّ
ِّ
احلاكمة وأصبحت النخبة ووجدت قبوالً بني الطبقةِّ خملوق" .سادت هذه الفكرةُ على ضمري
املذهب املتَّبَ َع يف عهد كل من املأمؤن بن هارون الرشيد (833-786م ).وأخيه املعتصم بن
َ
هارون الرشيد (842-796م ).إمنا ظهرت هذه اهلرطقة ِّ
كرد فعل على التيار الصويف املتهاون
ادهِّ
اّلل الَِّّيت أَ ْخرج لِّعِّب ِّ
ومجاهلا وطيباتا اليت جاء وصفها يف قوله تعاىل" :قُل من ح َّرم ِّزينَةَ َِّّ
بنضرةِّ احلياةِّ ِّ
ََ َ ْ َْ َ َ
تصل ْاآلاي ِّ
ك نُ َف ُ َ َ َْ َ َ َ َ ََ َ َ ات ِّم َن ِّ
الرْز ِّق قُل ِّهي لِّلَّ ِّذين آمنُوا ِّيف ا ْحلياةِّ الدرنْ يا َخالِّصةً ي وم ال ِّْقيام ِّة َك َذلِّ َ ِّ والطَّيِّب ِّ
َ َ
ْ َ
إن صوفيةَ ذلك العهد كانوا يتظاهرون ابلزهد ،والتواضع ،والقناعة ابلقليل، لَِّق ْوم يَ ْعلَ ُمو َنَّ ".
22
ِّ
الفساد يف العقيدة، الناس خاصةً ،ويقدسوهنم ،ويقتدون هبم .أسفر ذلك عن فيعجب هبم رعاع
ُ
ِّ
هؤالء وقطع األمل من املستقبل .إذ كانت عقيدة ِّ وعرقلة مسار احلياةِّ املثمرةِّ، ِّ ِّ
النشاط، ِّ
وتعطيل
تستم رد من الفلسفة الكلبيَّ ِّة اليت أسسها الفيلسوف اليونين أنتيستنيس Antisthenesيف القرن
الرابع قبل امليالد ،وهو أحد أتباع سقراط احلكيم .كانت هذه الطائفةُ معروفةً بشطحياتم،
ِّ
القرآن والسخريتهم واستهزاءهم جبناب للا سبحانه عما يصفه وأتويالتم اجلريئة ،وتالعبهم آبايت
اجملتمع مل حيفل هبا،
َ عاما من الزمنَّ ،
فإن الفاسقونَّ .أما فكرةُ االعتز ِّ
ال اليت دامت مائةً ومخسني ً
فأُ ِّمهلَت واختفت من غري رجعة .ألهنا كانت تعتمد على قاعدة علمية يف الظاهر مع بطالهنا يف
لكن
األساس ،والعامةُ غري مبالية ابلعلمية قدميًا وحديثًا ،سلوكيا ُتا وعقليتُها بسيطة وهبيميةَّ .
املذهب اإلعتز ِّ َّ
ايل إمنا تراجع َوَابءَ ابلفشل يف عهد القادر ابهلل أمحد بن إسحاق العباسي (-947 َ
ِّ
العلماء النابغني ِّ
انتعاش العقيدة القرآنية الناصعة بفضل مجاعة من 1031م ).وذلك نتيجة
أفكارها ،فعمل بعض فِّ َرق كالمية أخرى تفاقمت ِّ ِّ
ُ البارعني .وقبل هذه الفرتة ،كانت قد ظهرت ُ
صناديدها على متييع احلقائق القرآنية يف مسائل اإلميان ،فكانت من أمهها :املرجئةُ ،واجلهميةُ،
واملشبِّهةُ...
أمري العراقني هلشام بن عبد امللك األموي ،وويل قبل ذلك مكة للوليد بن عبد امللك مث لسليمان .ظهر يف عهده رجل 24
كان خالد بن عبد للا القسرى َ
امسه اجلعد بن درهم .قيل" :كان اجلعد يعيش يف حي للنصارى بدمشق ،حيث أتثر هناك جبو اآلراء الفلسفية املسيحية اليت كانت تثار حول طبيعة اإلله".
وقيل" :كان اجلع ُد يبالغ يف توحيد للا وتنزيهه ،مما دفعه إىل القول بنفي الصفات اليت توحي ابلتشبيه .فلما استفحل أمره وأوشك أن يتطور فيفتت به الناس يف
ِّ
خيطب ،فنزل من فوق املنرب فقال :أيها الناس انصرفوا إىل
ُ الكوفة يوم عيد األضحى .كان خالد بن عبد للا القسرى ض عليه ِّ
وأويتَ به إىل مسجد دينيهم ،قُبِّ َ
منازلكم وضحوا -ابرك للا لكم ىف ضحاايكم ،-فإىن مضح الي وم ابجلعد بن درهم ..مث محل "سيفه" وذحبه أمام املصلني وهم ينظرون .لقد كان اجلعد رجال
يبغض أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي للا عنه ،فأهلكه للا
ُ ضاالا ،إال َّ
أن خال َدا كان أضل منه .فقد مقته العلماءُ فقالوا فيه" :إنه رجل سوء" ألنه كان
ضا .استنابه هشام بن عبد امللك على العراق سنة ست ومائة إىل سنة عشرين ومائة مث عزله وسلَّ َمه إىل يوسف بن عمر الذي واله مكانه ،فعاقبه وأخذ منه مبغو ً
ضخما كان قد حصل عليه بطريق
ً أمواال مث أطلقه ،وأقام بدمشق إىل احملرم من هذه السنة فسلمه الوليد الفاسق إىل يوسف بن عمر يستخلص منه مبلغًا
صدره ،فمات. ِّ
الفساد ،فمات حتت العقوبة الشديدة؛ ُحط َم قدماه مث ساقاه مث فخذاه ،مث ُ
جعد بن درهم قد أخذ هذه العقيدة عن فالسفة َح َّرا َن .ومن مشاهري اجلهميِّني بشر بن غياث
25
املريسي (ت 218.ه).
يؤولون ِّ
والسنة .كانوا ِّ َّ
إن اجلهميةَ كانوا عقالنيني للغاية ،مفرطني يف تقدمي ِّ
العقل على الكتاب
الوحي هو الذي خلق العقل .كانوا يزعمون:
ِّ نز َل مبحض ميزان العقل وال يدركون َّ
أن ُم ِّ ِّ النصوص
َ
ضا وهبذه ذات اإلهليةَ ،فإنه ال جيوز أي ً يتصوَر ويُ ِّ
در َك ال َ «أن اخليال البشري مادام يستحيل عليه أن َّ
يتصوَر له من صفات كالعقل ،واملعرفة ،واحلياة ،والسمع ،والبصر اليت هي من ِّ
الدامغة أن َّ القر ِّ
ينة
علم له مبا سيأيت،صفات املخلوق .لكنه جيوز وصفه أبنه خالق وفاعل ".وزعم اجلهمية" :أن للا ال َ
"أن ِّ
الكالم ،كما نَ َف ْوا رؤيةَ للا يف اآلخرة .وزعمواَّ : علم له مبا مل خيلُ ْقه بعد ".ونَ َف ْوا عنه صفةَ وال َ
والنار مؤقَّتًا
َ "إن للاَ سوف خيلق اجلنةَ اإلرادةَ البشريةَ غريزيَّة ".وكفروا بوجود املالئكة ،وقالوَّ :
ليظل هو ابقيًا وحي ًدا وسرمد ااي".
كل شيء َّ ك َّ والعقاب ،مث يُهلِّ ُ
ِّ لتنفيذ اجلز ِّاء
ِّ
***
"م ْسلُ َمانْلِّك ،"Müslümanlıkمل يكن أحد قد
"م ْسلُ َما ْن " Müslümanو ُ
يت ُ
يغلب الظ رن َّ ِّ
أن َكل َم َْ
"م ْسلُ َمانْلِّك ،"Müslümanlıkمن املؤَّكد أهنا قد
ظ هبما قبل عام 850م .غري أن كلمة ُ
تلف َ ِِّّ
ت منذ عام 900م .إذ نعثر على هذه الكلمة يف وثيقة امسها " Satuk Buğra Han خدم ْ
استُ َ
."Tezkiresiحتتوي هذه الوثيقة على معلومات هامة جداا ،تناوهلا الدكتور حممد ترغوت بربرجان
Dr. Mehmet Turgut Berbercanيف مقالة أكادميية له ،وهو واحد من الباحثني األتراك .قد
عصرن .كان وردت هذه الكلمةُ يف الوثيقة آنفة الذكر بشكل خيتلف عن شكلها املستخ َدِّم يف ِّ
ك "Müselmançilikيف القرن الذي بدأ األتراك يُطلِّقوهنا اجنلِّ ْ
"مسل َْم ِّْ ِّ
الكلمة على ِّ
شكل ُ َ ط هذه
ضب ُ
اجنيلِّك
لم ِّْ
سَ "م َ
سل َْما ْن "Muselmanو ُ "م َ
على دينهم (كإسم بديل عن اإلسالم) ،وقد وردت كلمتا ُ
سبعا وعشرين مرةً.
"Muselmançilikيف هذه الوثيقة ً
25التجهم يف اللغة صفة ،يقالَ :تهَّم له :أي استقبله بوجه كريهَ ،عبَس يف وجهه .وقد ورد يف دعاء الرسول الكرمي صلى للا عليه وسلم يوم آذاه بنو ثقيف
ِّ
َّم ِّن أو إىل قريب ملكته أمري!" والتجهم يف االصطالح :يطلق على عقيدة اجلهمية الذين يَنْ ُفو َن يف طائف قال وهو يناجي ربه" :إِّ َىل َم ْن تَكل ُِّن؟ إِّ َىل َع ُدو يَتَجه ُ
والصفات اإلهليةَ وهم خمتلفون؛ منهم املعتزلة واألشاعرة والكالبية واملاتريدية ...كان جهم بن صفوان يعتقد خلق القرآن ،ويقول ابجلرب ،أي بنفي حرية ِّ
األمساءَ
بني البطالن ،بل خلق للا اإلنسا َن ورزقه ِّ ِّ
س َّري ،مُرغَم على فعله ،وهذا ابطل ُ اإلنسان يف أفعاله .إن اجلهمية يزعمون أبن الفاعل الوحيد هو للا ،وأن اإلنسا َن مُ َ
ب ُك رل ِّ
ملكةَ التمييز بني احلق والباطل ،ومصدرها العقلُ ،وجعله خمريًا فيما يفعلُهُ من خري وشر وهو مسؤول عن فعله ،غري مسؤول عن فعل غريه " َوَال تَكْس ُ
ص َر فَلِّنَ ْف ِّس ِّه ِّ
صائُِّر م ْن َربِّ ُك ْم فَ َم ْن أَبْ َ
اء ُك ْم بَ َ
ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
نَ ْفس إ َّال َعل َْي َها َوَال تَ ِّز ُر َو ِّازَرة ِّوْزَر أُ ْخ َرى ُمثَّ إ َىل َرب ُك ْم َم ْرجعُ ُك ْم فَيُ نَ بئُ ُك ْم مبَا ُك ْن تُ ْم فيه َختْتَل ُفو َن( .األنعام )164 :قَ ْد َج َ
يد( .فصلت )46 :من َع ِّمل ص ِّ
احلًا ك بِّظ ََّالم لِّلْعبِّ ِّ
َساءَ فَ َعل َْي َها َوَما َربر َ ومن َع ِّمي فَعل َْي َها وما أ ََن َعل َْي ُكم ِّحب ِّفيظ( .األنعام )104 :من َع ِّمل ِّ ِّ ِّ ِّ
َْ َ َ َ صاحلًا فَلنَ ْفسه َوَم ْن أ َ
َْ َ َ ْ َ ََ ْ َ َ ََ
َساءَ فَ َعل َْي َها ُمثَّ إِّ َىل َربِّ ُك ْم تُ ْر َجعُو َن( .اجلاثية)15 : ِّ ِّ ِّ
فَلنَ ْفسه َوَم ْن أ َ
الرتك منذ أايم القائد األموي نصر بن سيار ()748-663 اإلسالم اخلالص يف بالد ر
ُ مل يستقر
املشوه يف هذه الداير منذ احتلها
االسالم َّ
ُ دام
الذي كا َن يومئذ واليًا على هذه املنطقة ،بل انتشر و َ
للباحث الرتكِّ ِّ
ي اإلستاذ الدكتور زكراي كتاجبي Prof. ِّ ِّ
حبسب ما ورد يف كتاب العرب مدةَ مائة عام،
االسالم املطابق للكتاب
َ فحسب اعتنقوا ُ أن أقليةً من األتراك .Dr. Zekeriya Kitapçıكما يبدو َّ
الرتكِّيَّةَ Müslümanlıkالىت َر َمسَْت َها هلم عصابة من رهبان ِّ ِّ
والسنة ،وأما اكثريتُهم اعتنقوا ال ُْم ْسلُ َمانيَّةَ رْ
ِّ
"األولياء الصاحلني!" كما اشتهروا بعنوان ادها بني األتراك بِّ ِّس َم ِّة الشامانية والبوذية الذين اشتهر أفر ُ
ِّ
العلماء هؤالء الرهبان الذين اند رسوا يف صفوف اجملتمع يف زي ِّ "خواجگان" وأييت يف مقدمة
وأفسدوا العقيدةَ القرآنيةَ ،أييت يف مقدمتهم :أمحد اليسوي (راهب شاماين) ،وعبد اخلالق الغجدواين
يق لظهور الداينة ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة قد حدثت مه َد ِّ
ت الطر َ ض َّ
أن معظم الوقائع اليت َّ فرت ُ
(راهب بوذي) .يُ ََ
اندالع «ثورة الزنج» عام 869م؟ ملدة ثالثة قرون.
ِّ قبل هذه الفرتة بداية من
وأما ثورة الزنج؛ فإهنا كانت وليدةَ الظروف ،ألنه من ُسنَّ ِّة احلياة ،أينما ساد اجلور والقهر واختفت
العدالة وتعرضت كرامة اإلنسان لالهانة فإن االنتفاضة واقعة ال حمالةَ .شاهد العصر العباسي
أكتاف مئات آآلف من العبيد البائيسني من زنوج البانتو ،استوردهم املالك ِّ ازدهارا على
ً
قسرا يف تنقية املستنقعات لتحويلها إىل أراضي صاحلة
اإلقطاعيون من أفريقيا الشرقية وسخروهم ً
اثيم وفريوسات خطرية قضت على حياةِّ آآلف من للزراعة .كانت هذه املناطق الوعرة بؤرةً جلر َ
اإلزدهار مثرةَ ِّ
ظلم ميارسه الطغمة احلاكمة والنخبة التابعة هلا من السادة ِّ
هؤالء العبيد ،إذ كان هذا
ُ
قلوهبم متحجرةً
الذين أسكرهم الغىن وابطرتم الرفاهيةُ وأزالت الرمحةَ من ضمائرهم .لقد كانت ُ
ِّ
العذاب بتسخريهم يف أعمال ِّ
خاليةً من خمافة للا والعاطفة اإلنسانية ،فساموا هؤالء العبي َد سوءَ
هار عن اهنيار كبري يف األخالق وانتشار ِّ
شاقة ومحلهم مامل يكونوا يطيقونه ،لذلك أسفر هذا اإلزد ُ
االعتقاد ابآلهلةً من األضرحة
َ فظيع يف التزمت الصويف الذي أذهب اإلميان من القلوب وأحل
للزوال بسبب هذه املمارسات ِّ القيم املقدسة ِّ
والقباب حمل اإلميان ابهلل الواحد األحد .فتعرضت ُ
اجملوسي الفارسي،
ِّ ِّ
والكفر والعمل الصالِّ ُح يف غمر الضالل الصويف،
ُ اإلخالص
ُ الظاملة وضاع
ِّ ِّ
والشرك الشاماين الرترك ِّي ،فعادت اجلاهليةُ العربيةُ بكل معال ِّمها الوثنية .كان ذلك ً
دافعا النتفاضات
عاما ،زعزعت أركان الدولة العباسية من أساسها ،وتركتها
عشر ً
وثورات قام هبا الزنوج مدةَ أربعةَ َ
هشةً عرب قرون إىل أن سطى عليها املغول فاستأصلوا شأفتها ودحروها من مسرح التاريخ.
فاختلطت هبا
ْ ِّ
املرحلة إىل ممارسات شكلية جافة خالية من معانيها احلقيقية، حتولت العبادةُ بعد هذه
واالَتار ابلدين ،والفسوق ،واإلجرام ...وبنِّ ِّ
يت كيات ،وشاع التملر ُق ،والرايء ،والرهبنةُِّ ،
البِّ َدعُ والشر ُ
ُ ُ ُ
الزوااي والتكااي جبنبات املساجد ،فلم يعد للتعبد أثر يف الضمائر ،حيث أصبح من العادةِّ أن يصلِّ َي
أبسا ِّ ِّ
ينصرف إىل مكان فجوره فال يرى ً َ حاجتَهُ ،مث
يتضرعُ إلىه ليقض َي له َ
الرجل مث يتوجهَ إىل ضريح َُّ
الطاعة ألويل األمر ،فلم يكن هناك هيبة ِّ من كل ذلك! لقد اهنارت األخالق إىل حدود قطعت صلةَ
"خللفاء" وامللوك إالَّ حبكم السيف والعصى ،مما أدى إىل انتفاضات ِّ واحرتام يف قلوب الرعااي ل
وثورات استنزفت قدرات الدولة وأضعفتها وجعلت منها هدفًا للتحدايت والصرارعات واهلجمات
ضهم األفرنج ِّ
وحير ُ َ ش ِّج ُع
العباسي هارون الرشيد كان يُ َ
َّ لك يف الداخل واخلارج .يدل على ذلك َّ
أن امل َ
على عبد الرمحن الداخل (ملك األنْدلُس) ،وهذا حدث يف املرحلة الزاهرة للدولة العباسية ،وما
لكم مبا حدث بعدها من الثورات ،والعصيانت ،واملذابح ،واالقتتال ،والفساد الذي ساد على
مجيع جماالت احلياةِّ إىل أن جعل هذه الدولةَ العمالقةَ لقمةً سائغةً ابتلعها وحوش املغول عام
إن هذه اهلشاشةَ اليت سادت على الدولة واجملتمع هي اليت فتح اجملال لظهور داينت 1258مَّ .
والق ِّ
رم ِّطيَّ ِّة ،واالمساعيليَّ ِّة ،والنرصرييَِّّة ...فكان اخلَُّرِّميَّ ِّة ِّ
خطرية على أرض األسالم يف وقت مبكر ،مثل ْ
ِّ
لظهور طت الوس َ س ْل َمانِّيَّ ِّة الفاريسة من جهة ،كما َّ
مه َد ِّ ِّ
هلذه الداينت أثر كبري يف نشوء الْ ُم َ
الرتكِّيَّ ِّة Müslümanlıkيف بالد ماوراء النهر من جهة آخرى .لقد كان من أهم أحداث ِّ ِّ
ال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ
أن األزمةَ اإلميانيَّةَ بلغت ذروتا مع حركة «إخوان الصفا» ،وظهور صوفية األتراك يف هذه الفرتة؛ َّ
علما أن هذه احلركة كانت وال تزال
منطقة تركستان اليت بدأت يف القرن الثالث عشر امليالديً ،
خاليةً من اإلميان بوحدانية للا تعاىل!
أما حركة إخوان الصفا ،فإهنا كانت مبادرةً ثوريَّةً فكريَّةً ِّس ِّريَّةً بدأت ألول مرة يف مدينة واسط
ابلعراق بعد هزمية الزنج وقمعهم عام 980م .قد تناول هذه احلركةَ كثري من أهل املعرفة والبحث
املدماك
َ العلمي يف دراساتم ،فقد ذهب بعضهم" :أهنا كانت مدرسةً عقالنِّيَّةً أصبحت مبرور الزمن ِّ
املعتقدات الباطنية الفلسفية التوحيدية يف االسالم ،واليت تألألت وأينعت ُ ارتكزت عليه
ْ الذي
ِّ 26 مثارها ،م ِّ
ضا ابحثون اإلسالم ري" كما أن هناك أي ً بدعةً خالقةً ألكرب هنضة عرفانية عرفها التاريخ ُ ُ
ِّ
األذهان إىل ِّ
العقول وتوجيهَ ت إاثرةَ
يفسرون هذه املبادرة على أهنا كانت ثورةً روحيةً وأخالقيةً تَبَ نَّ ْ
بناء جمتمع طاهر مؤمن متحل ابلفضائل ،متعاون فيما بينه على أساس احلكمة والعدل واملساواةِّ ِّ
الدكتور مصطفى غالب ،إخوان الصفا وخالن الوفا ،مقتبَس من َّأو ِّل سطور املقدمة ،ص ،5/دار ومكتب اهلالل ،بريوت1989-م 26
ِّ
اإلنسان وإقامة ِّ
دولة اخلري ألجل سعادة ِّ واإلخاء ،يهدف إىل ِّ
إهناء "دولة الشر" أي الدولة العباسية،
وحريَّتِّ ِّه وكرامتِّ ِّه.
ِّ
إخوان الصفا، مهمةً جداا :هناك قاسم مشرتك يلوح بني كل من حر ِّ
كة حندد هنا نقطةً َّ دعون ِّ
ص ِّْرييَِّّة؛ آال وهو "الوالءُ ألهل بيت الرسول صلى للا عليه ِّ ِّ ِّ ِّ
واخلرميَّة ،والقرمطيَّة ،واالمساعيلية ،والنر َ
الفارسي االزدواجي
ِّ ِّ
الوجه اخلفي للتشيع ائف ينبِّ ُهنا على
اجملوسي الز َ
َّ القناع
َ وسلم" ...إن هذا
خالل عالقتِّها هبذه التيارات الباطنية .وهذا يكفي للتعبري عن مدى عمق اهلوةِّ بني املموه من ِّ َّ
النريةِّ الرفيعة جملتمع السلف الصاحل ،وبني عقلية القرن الرابع اهلجري (العاشر العقلية القرآنيبة ِّ
العباسيِّ .فليس إذَ ْن من الشطط أن نقول :أن هذه املرحلةَ اتسمت هبجرة ِّ امليالدي) ل لمجتمع
ِّ
القلوب مع ظهور تنظيم احلشاشيني يف قلعة املوت عام اإلميان بوحدانية للا تعاىل من أكثر
1090م ،الذي مل يقتصر كونه على قيامه أبعمال اإلرهاب واإلغتياالت وسفك الدماء فحسب،
عقلية اإلشر ِّ
اك املُعلَ ِّن بكل بل آذن مبحو كل آاثر اإلسالم احلقيقية تقريبا من الضمائر ،فبدأت فرتةُ ِّ
ً
معاملها.
انفصمت العروة السياسية لألمة يف هذه املرحلة بصورة قطعيَّة ،وتداعت أواصر اإلخاء اليت كانت
احلكم (949-905م ،).فبدأت وط بعد أن توىل املستكفي تكفل وحدتا ،وآذنت الدولة ابلسق ِّ
َ
يل ِّ
ُخرى على الساحة اليت كانت تسيطر عليها الدولة العباسية قُبَ َ ت دويالت ،واحدةً تل َْو األ َ
تَ ْن بُ ُ
حكم املستكفي ،منها :الدولةُ السامانيةُ الفارسيَّةُ يف منطقة ماور ِّاء النهر (999-875م)؛ والدولةُ
ِّ
أعجام الصفاريَّةُ ( ،)1003-861يف منطقة سجستانُ ،ح َّك ُامها َع َرب ،ورعاايها كانوا أخالطًا من
الرت ِّك ،ورعاايها من ِّ
والرتك؛ والدولةُ الطرولُونيَّةُ يف مصر (905-868م)ُ ،ح َّك ُام َها كانوا من رْ
رس ر ِّ
ال ُف ِّ ْ
عدةِّ منَ ِّ العرب؛ والدولةُ البُ َويْ ِّهيَّةُ الفارسيةُ (1062-932م ).بسطت
اط َق منها سلطاهنا على َّ َ
َ
اط ِّميَّةُ يف مشال إفريقيا ومصر (-921 الفارس ،وخوزستان ،وكرمان ،واجلبال ،والعراق؛ والدولةُ ال َف ِّ
الرت ِّك ،ورعاايها من ِّ ِّ
1171م).؛ والدولةُ اإل ْخشيديَّةُ يف مصر (ُ )969-938ح َّك ُام َها كانوا من رْ
العرب؛ والدولةُ األياوبِّيَّةُ يف مصر (1341-1174مُ ).ح َّك ُام َها كانوا من ال ُك ْرِّد ،ورعاايها من
ت أجزا ُؤها عن اإلسالم ،فكان ُح َّك ُ
ام ت أوصا ُهلا ،وانشق ْ العرب ...هكذا تشرذمت األمةُ َّ
وتفك َك ْ
امتداد الداينت القدمية؛ يعتقدون ِّاب َّلزَن ِّدقَ ِّة
ِّ مبذاهب ابطنيَّة من
َ هذه الدويالت ورعاايها يدينون
ومنَاقِّبِّ ِّهم املكذوبَِّة ،إالَّ قلةً مستضعفةً ثبتت على الدين احلنيف على ِّ ِِّّ وأ ْ ِّ
ض ِّر َحت ِّه ْم وَك َر َاماتم املزعومة َ
أساس توحيد للا تعاىل واإلميان اخلالص من شوائب اإلشراك .وهكذا اهنارت األَُّمةُ ومل يعد للوحدة
قلوب أبنائِّها أثر منذ بداية العصر الثاين للدولة العباسية .بدأت تتفاقم البِّ َدعُ واخلرافات
اإلميانية يف ِّ
االمساعيلية خاصةً ،فانتشر اإلحتفال ابملولد النبوي (حتت ستار حمبَّ ِّة
ِّ ِّ
الفاطمية بتشجيع الدول ِّة
احلاكم أبمر للا (1021-985م). ِّ األذان ،وظهرت فتنةُ ِّ
أتليه ِّ بعض ِّ
ألفاظ الرسول!) ،ومت تغيريُ ِّ
عتوها
الذي يصفه السيوطي يف اترخيه ب "احلاكم أبمر إبليس" وهو أحد ملوك الفاطميني ،كان م ً
27
ِّ
املنشقة عن الدين ِّ
اإلسالم وانقر ِّ
اض آاثره ،والشقاق السائد يف اجملتمعات ملا انتبه الغرب إىل ِّ
انتفاء ُ
ِّ
لالنقضاض عليها ،فبدأت َّ
واستعد احلنيفَ ،علِّ َم أ ْن ال قِّبَ َل هلا يف مواجهته .فطمع يف احتوائها
ِّ
األوسط عام 1096م. أحناء أورواب على الشرقاجليوش العارمةُ للنصارى الكاثوليك تنهال من ِّ
ُ
جالل الدين عبد الرمحن السيوطي ،اتريخ اخللفاء ،ص ،797/دار املنهاج -جدة 27
أن ذلك مل يكن عجبًا، استجابةً للفتوى الصادر من البااب أورابنوس الثاين (ت1099 .م ،).واحل رقَّ ،
املنطقة ،إذ أن النصارى يعبدون ثالث آهلة ِّ عذااب أنزله للا على مجوع املشركني يف هذه لعله كان ً
واح ًدا، فحسب (األب واإلبن والروح القدس) ،بل يعرتض كثري منهم على أهنم ال يعبدون إالَّ إهلا ِّ
ً ُ
اآلهلة ،لكنهم ال يصفون ِّ األوسط يعبدون عشرات ،بل مئات من ِّ ِّ
الشرق ِّ
منطقة بينما ُس َّكا ُن
ْرا َوَم َك ْرَن َمك ًْرا ِّ معبوديهم ب ِّ
"اآلهلة ".بل يع رد َ
مكراَ " .وَم َك ُروا َمك ً
وهنُ ْم من "أولياء للا" رمجًا ابلغيب و ً
لكن هذه النقمةَ مل َو ُه ْم َال يَ ْشعُ ُرون" 28دامت احلروب الصليبية ما بني أعوام 1270-1096مَّ .
متاما ومتادوا يف غيِّهم ،إذ بدأت ِّ ِّ
تردع املشركني عن ارتكاب جرمية اإلشراك ،بل عدلوا عن الرشد ً
عصابة يف حياكة داينة جديدة يف هذه املرحلة احلالكة .هذه العصابةُ معروفة ابسم "خواجگان" يف
يتنك ُرو َن يف ِّ
العصابة َّ اد هذه اللغة الرتركِّيَّ ِّة ،تُقابِّلُها كلمةُ "الشيوخ" أو "األساتذة" يف العربية .كان أفر ُ
ِّ الناس من ِّ ت إليهم صفةُ ِّ الزهد والورع والتقوى ،بل نُ ِّسبَ ْ أهل ِّ لباس ِّ ِّ
العلماء مع كبار العلم َو َع َّد ُهم ُ
العلم بل كانت قلوهبم خالية من اإلميان بوحدانية للا تعاىل! ساحة ِّ ِّ أهنم كانوا أبعد اخلليقة من
"االسالم" هبذاِّ اسم ِّ ِّ
استُ ْبد َل ُ نسجوا داينةً يف مدينة خبارى بعنوان ُم ْسلُ َمانْلك ْ ،Müslümanlık
لغ شيئًا من تعاليم احليلة ،ألن هذه العصابةَ مل تُ ِّ اك إىل حقيقة هذه ِّ االسم املُختَ لَق .مل ينتبه عامةُ األتر ِّ ِّ
تشويهها إبضافات دخيلة ،وأتويالت غريبة ،وتفسريات احلنيف ،بل كانوا يقتصرو َن على ِّ ِّ الدين
مفهوم ِِّّ
"الويل"، َ شوهوا يف بداية أمرهم الداينة الشامانيَّ ِّة والبوذيَِّّة والزرادشتيةَّ . ِّ ِّ
مستمدين من شاذة
والتقشف واحلياةِّ املنبوذة ،يلتمس ِّ ت ف ابلز ِّ
ندقة والتزم ِّ الويل على ُك ِّل َم ْن عُ ِّر َفصار تُطْلَ ُق صفةُ ِِّّ َ
الناس على اشتغل هبا ُ َ ت له كرامات وسرية ن على قربه قُبَّة ،ونُ ِّس َج ْ الناس منه الربكة ،وإذا مات بُِّ َ ُ
الناس على ضرحيه يف أايم معينة يذحبون القرابني ابمسه ،وحيتفلون لذكراه، ُ امتداد القرون ،واجتمع
ويتضرعون على عتبة مقامه يلتمسون منه قضاءَ حاجاتم وكشف غُ َّمتهم...
فات ِّ
العلماء الذين نبغوا يف املنطقة الرتكية ،فلم يعد أحد حيتفل مبؤل ِّ آاثر
يف غضون ذلك اندرست ُ
األئمة من أمثال اإلمام املاتريدي (944-862م) ،وعمر النسفي (1142-1069م) ،وفخر
الدين الرازي (1209-1149م) ،وسعد الدين تفتازاين (1390-1322م) .بل انتشرت الداينة
طغيان شدي ًدا ،وانتشر
ً ذريعا وطغت على اإلسالم انتشارا ً
ً الرتكِّيَّةُ Müslümanlık ِّ
ال ُْم ْسلُ َمانيَّةُ رْ
التصوف ،والتعصب ،فركدت احلياةُ العلمية وتدهور املستوى املعريف يف مدارس خبارى ومسرقند اليت
ِّ
بتسليط كانت مشتهرةً بتخريج علماءَ راسخني يف شىت صنوف العلم .فإذاقهم للا وابل أمرهم
ضا مل تُ ِّ
غن عنهم شيئًا ،فلم تُوقظْهم لكن هذه اآلايت والنذر أي ً
املغول (التتار) عليهم عام 1256مَّ .
ِّ
االستعمار، رت والتيهُ على كيان اإلنسان الشرق أوسطي خاصةً بعد فرتة اإلرتباك والتشت ُ
ُ بدأ يسيطر
ستطيع
ُ كاد ي
ابلغرب ،وألنه دخل يف مأزق ال ي ُِّ ِّ
واالنبهار ِّ
مستغرقًا يف التماهي ألنه أصبح بعد ذلك
ش ِّل أبايم ِّ
عقلية الْ َف َ توصف ِّ
خاصيَةُ هذه املرحلة ِّ َ فتحو َل إىل مسخ من البشر .فيجدر َّ
أن اخلروج منهَّ ،
ُ
ِّ
املنطقة ِّ
شعوب الغرب بعد هذا النجاح الباهر من إحكام سيطرتِِّّه على ُ
ِّ
والضيَ ِّاع ،حيث َّ
متك َن
ِّ
اجملتمعات الغرب يف ِّ
رقاب هذه ِّ
للغرب يف أايمنا .إذ يتصرف فهبطت إىل قعر جحيم العبودية
ُ
ِّ
األضرحة ِّ
األولياء املقبورين يف بتسليط بعضها على بعض ،وال تكاد تنفعها آهلتُها التعيسةُ من ِّ
اب يف مواجهة فنون الغرب وتقنياته ،إذ مل تكن هذه اآلهلةُ أصالً تنفعهم من ذي والراقدين حتت القب ِّ
حلة من احلروب والفوضى .يقال أهنم ظهروا ألول مرة يف مدينة حلب ،عقب اجتياح املغول 29القلندرية :مجاعة من مالحدة الصوفية ،أفرزتا ظروف املر ِّ
على الوطن اإلسالمي ،معظمهم كانوا من األتراك ،فجاءوا بداينة جديدة فيها غموض مل يتثبَّت الباحثون من حقيقتِّها بعد .كان القلندريون على منط غريب من
العيش ،وهيئة مقززة ومروعة ،وكان هلم سلوكيات عجيبة ،عليهم مظاهر من الوحشة ،يكرهون احلياةَ الرغيدةَ والعيش اهلنء ،ميتنعون عن اقتناء املسكن واملتاعِّ،
شعر رؤوسهم حيرمون االستحمام ،يرتدون ما يشبه اجللباب من قماش خشن فيسهل ظهور عوراتم يف كثري من األحيان ،يتَّكؤون على عصا خشبية ،وحيلقون َ
وحلاهم وشوارهبم حىت أهنم كانوا حيلقون حواجبهم! يشربون اخلمر ويتعاطون احلشيش وحيرصوا على إظهار مساويهم للعموم ُمدَّعني أهنم يتجنبون بذلك الرايءَ
والنفا َق ...يفرتض أهنم كانوا من امتداد عصابة احلشاشني يف قلعة املوت ،فتبعثرو بعد سقوطها مث انضموا إىل اجليش املغلوي يف معركة كوسداغ
ِّ
األسباب لسقوط الدولة السلجوقية. Kösedağعام 1243م .وكانوا من أهم
والضياع اليت تعاين منها اجملتمعات الشرق
ِّ قبل .وهذا من أصطع الرباهني على هيمنة عقلية التيه
والفرس وغريهم .إن هذه العقلية إمنا هي وليدة ِّ والعرب واألكر ِّاد
ِّ أوسطية اليوم من األتر ِّ
اك
املوسوم «Türk’ün
َ الكتاب
َ الرتكِّيَّ ِّة .Müslümanlıkومن شك يف ذلك عليه أن يقرأ ِّ ِّ
ال ُْم ْسلُ َمانيَّة رْ
األسبق). ِّ
والسياحة ِّ
الثقافة (وزير َّ
ُ » İnancıالذي أل َفهُ نمق كمال زيبك ُ
30
***