Professional Documents
Culture Documents
*** ***
PART-02
إشكالية الدين في تركيا
problematic of religion in Turkey
أتليف
فريد صالح اهلامشي
Copyright©2018 by
Feriduddin AYDIN
feriduddin@gmail.com
إسطنبول2018-م.
al_ibar.publishing@yahoo.com
Copyrigh©2019
كافة حقوق الطبع والنشر حمفوظة للمؤلف .فريد الدين آيدن
الد ِّ
ين يف تركيا بشكل جذري من اآلن فصاع ًدا ،جيب إذا تناول أح ُد خرب ِّاء ِّ
علم اإلجتماع إشكاليةَ ِّ
على مثل هذا الباحث أن يتناول يف املقام األول التيارات الصوفية والفكرية املنحدرة من عهد ما
قبل األسالم ،اليت قد أتثرت هبا ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ Müslümanlıkإذ هي الداينة الرئيسة يف البالد .كما
جيب توثيق التطور التارخيي هلذه الداينة وتنوعها حتت دوافع الوثنية القدمية.
التغاضي عن البلبلة اليت أصابت احلياة الدينية لألتراك منذ قرون ،وما أسفر عنها من سلبيات َ إ َّن
والتجاهل عن عواقبها الوخيمة اليت ظهرت بصورة فادحة يف َ على سلوك األجيال طوال ألف سنة،
املرحلة األخرية ،إن التغاضي عن هذا الوضع يُ ْعتَ َربُ استخفافًا ابلواقع ،وعدم اإللتزام ابملسئولية.
كذلك التساهل يف املوقف من الفوضى السائد على املعتقدات ومن الفساد املتفشي يف الدين
والفكر على الساحة الرتكية ،أبنه من تداعيات ظروف العصر فحسب ،دون أن تكون قد تسربت
من أايم عصور الظالم هلذا القوم ،إمنا هو اكتتام حمض للحقيقة .لذا ،ليس من اخلطأ أن نقول أن
الْمسلُمانِّيَّةَ ،Müslümanlıkاليت هي الداينة املنتشرة يف تركيا ،قد أتثرت بكل حادثة ذات ٍ
وطئة ُْ
على مدار التاريخ ،كما أهنا تتأثر ابلظروف احلالية وبكل فكرة سائدة.
1أحد مشاهري األكادمييني األتراك األستاذ الدكتور أمحد ايشار أوجاك Prof Dr. Ahmet Yaşar Ocakيشكو فراغ اجملال العلمي يف تركيا من
ويعرب عن شدة آالمه يف مواطن كثريةٍ
قروان بوجه خاصِّ ..
البحوث التارخيية للمجتمع الرتكي بوجه عام ،وللحياة الدينية لألتراك قبل تعرفهم على اإلسالم وبعده ً
من كتابه ،Türk Sûfîliğine Bakışlarيقول يف مقطع منه ما نصه ابلعربية " :خاصة منذ ستينيات القرن املاضي ،عانت تركيا من االضطراب
االجتماعي واأليديولوجي ،وهذه االضطراابتَ ،ل تقتصر ضمن اإلطار الشعيب يف كتابة التأريخ ،بل جتاوزته إىل اهليمنة حىت على اجملال األكادميي يف كتابة
التأريخ .فأدت تلك إىل حتريف احلقائق التارخيية )"(déformation historique
متاما عن اإلسالم ،ولشتان ما بينهما وبعدت الشقة بُعد ما بني ٍ
معن وصفات خمتلفةً ً
فأكسبَوها ً
السماء واألرض.
جذاب لالنتباه ،ال شك هي الداينة ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ ( )Müslümanlıkاليت متثِّ ُل ِّ
إن أح َد األمثلة األكثر ً
س ِّة
كاما من املعتقدات اخلليظة .وهلذا السبب ،فإنه على الرغم من وجود العديد من األجزاء املقتبَ َ ُر ً
عن اإلسالم خاصة يف املظهر اخلارجي هلذه الداينة (كالوضوء والصالة والصوم واحلج والزكاة
بتاًت .هناك بكل عناصرها ،وال عالقة هلا ابإلسالم ً وخمْتَ لَ َقة ِّ
والتضحية) ،فإن هذه الداينةَ ُجمَ َّم َعة ُ
العديد من األسباب وراء اخرتاع هذا الدين .على رغم ما يُ ْعتَ َق ُد أنه كان للجهل املطبق دور رئيس
يف ظهوره ،إال أن معظم أسرار هذه الداينة اليت ما زالت ختتفي ور ِّاء ضباب التاريخ ،بعضها الذي
سبب أكثر خطورةً .لكنه ال ميكن حصر هذه املشكلة ذات تسرب يف األوان األخرية تشري إىل ٍ
الوجوه املتعددة يف عدة أسطر أو حىت يف عدة مقاالت ،وال ميكن اإلحاطةُ بِّ ُك ْن ِّه هذه األسرار إال
بعد العثور على أجزائها املتناثرة على صفحات آالف من املخطوطات والواثئق األثرية.
َّ
إن أمهية دراسة هذه املسألة تتسم ابألولوية يف الظروف احلالية .وملاذا؟ لإلجابة على هذا السؤال،
جيب علينا أوالً الرتكيز على عامل الدين ودوره احلاسم يف توجيه األمة الرتكية من خالل حبث علمي
ئما يف طليعة العوامل
أساسي شامل حول الطبيعة االجتماعية لألتراك ..يف واقع األمر ،كان الدين دا ً
حنو حتقيق أهدافهم عرب التاريخَ .مثَّ
اليت أاثرت األتراك يف اجملاالت السياسية واالجتماعية ودفعتهم َ
2هذا املصطلح يعرب عن التوفيقية بني عناصر خمتلفة املصدر وائتالفها ويظهر يف سياقات مثل "األداين التوفيقية" " ،اجملتمعات التوفيقية" ،وحىت "املوسيقى
ضا على تطبيق حمدد يف علم اللغة ،حيث يشري إىل اندماج األشكال
التوفيقية" وكلها تصف األشياء اليت تتأثر بطريقتني أو أكثر أو التقاليد :حتتوي الكلمة أي ً
النحويةhttps://www.merriam-webster.com/dictionary/syncretic .املصدر:
شيوعا يف تركيا هو اإلسالم ،وأن
ً إدعاء يزعم القائلون به كما هو معروف "أن الداينة األكثر
السجالت واإلحصاءات السكانية تُظ ِّْهر ذلك ".وهذا يف واقع األمر ليس من احلقيقة يف ٍ
شيء ُ
شيوعا يف هذا البلد (ابللغتني الرتكية والكردية) ،واسم
على اإلطالق .ألن اسم دين آخر هو األكثر ً
هذا الدين يف اللغة الرتكية هو » ،«Müslümanlıkويف اللغة الكردية هو » «Musulmaniوليس
هو اإلسالم!
من املثري أن كلمة (اإلسالم) غري واردة على أصلها الصحيح حىت يف ترمجة القرآن اليت نشرهتا
رائسة الشؤون الدينية اليت جيب عليها أن تلتزم جانب اجلد واألدب حيال كتاب للا .على رغم ما
ت عن تسمية اإلسالم بكلمة » ،«Müslümanlıkيف نص الرتمجة اليت نشرها ،لكنها
تور َع ْ
يبدو أهنا َّ
ارتكبت جنحة فأوردهتا مع تشويه جزئي على شكل » .«İslâmiyetواحلال هذه ،فإن لكل من
ألفاظ ،«İslâm» :و» «İslâmiyetو» «Müslümanlıkمعن خمتلف .عالوة على ذلك ،فأن كلمة
"اإلسالم" ملا كان اسًا علما على الدين احلنيف خاصا به ومشهورا ج ًدا – فإن ترمجتها غري جائزةٍ
ً ً
وف ًقا لقوانني الرتمجة ،كما هي خمالفة لنصوص الكتاب والسنة.
يتضح عرب هذه احلقائق أن اجملتمع الرتكي قد غرق يف دوامة إىل هذا الدرك اخلطري من الفوضى،
وحىت يف مسألة الدين الذي يعتنقه؛ تُرى كيف استقبل األتراك اإلسالم قبل ألف عام ،وكيف أدركوه
وم ِّن الذين بلَّغوهم رسالةَ هذا الدين؟ ..إن هذه األسئلة تفرض نفسها على حممل وفهموا تعاليمهَ ،
األكثر ِّدقَّةً على هذا األسئلة يف عبارات أحد األكادمييني املشهورين
َ اجلد هنا .رمبا جند اإلجابةَ
سقة واملوثوقة .وإن َك ْو َن هذه الشخصية من العنصر الرتكي مما يُلغي أي رأي خيالف أبحباثه املن َّ
خاص ٍةَّ .
إن بيا َن املؤلف الذي يقوم مقام اإلجابة على األسئلة السابقة هو كما َّسم ِّ
أبمهيَّ ٍة َّ ِّ
احلياد ،ويت ُ
يلي:
واآلن ،يتبادر إىل الذهن سؤال آخر حول كيفية قيام اإليرانيني بنقل اإلسالم إىل األتراك .ميكن
ضا من كلمات الباحث نفسه .يقول فيما يلي: استخالص اإل ِّ
جابة على هذا السؤال أي ً ُ
"نظر الفرس إىل احلسني بن علي وأبنائه بعني القومية اإليرانية ابعتبارهم ورثةً للساسانيني ،وحتت
ٍ
ضرابت قاصمةً على القومية العربية والدين اإلسالمي، قناع الدفاع عن حقوق أهل البيت أنزلوا
فإثبتوا بذلك أنه ال ميكن تدمري حضارة قدمية بسهولة ،وذلك بدس العقائد الزرادشتية حتت ستار
4
اإلسالم".
البعض من قبيل تنويهات أو تعليقات غري ُ على الرغم من موثوقية هذه املعلومات ،قد يَعتربها
وجهة نظ ٍر شخصي ٍة حبتة ،لكنها ليست إالَّ نتاج حبو ٍ
ث علمية متينة يف جديرة ابالهتمام ،أو يعدُّها ك ِّ
الواقع .وقد أُثبِّتَ ْ
ت يف ضوء ما مت حياكتُهُ يف تنسيق هذا الدين وتركيبه من أجزاءَ متضافرة اقتبسها
أشخاص من عقائد امللل والنحل ،ومن أشكال طقوسها وتعبُّ ِّد َها ،فمزجوا بعضها يف بعض بطر ِّ
يقة
مشروع هذه الداينة أهنا ت الدقيقةُ حول نبئ التحليال ُ ِّ ِّ ِّ
ِّ والتأويل والتحريف ...تُ ُ والعديل التكييف
ثثالثة استقى منها املتآمرون يف ختطيطها .وهي :التصوف ،والعصبية القومية ،والتشبُّ ُوليدةُ عوامل ٍ
َ
مبعتقدات األسالف .هذه العوامل الثالثة اليت دامت تُغَ ِّذي «املسلمانيةَ الرتكيَّةَ» طيلة ألف عام،
تربهن على أن تقديس املوتى كان من أهم معتقدات األتراك قبل اإلسالم ،فهو حمور التقاليد عندهم
3راجعOrd. Prof. Dr. Fuad Köprülü, Türk Edebiyatında İlk Mutasavvıflar, Diyanet İşleri :
Başkanlığı yayınları, 8. publishing. Pg. 21. Ankara-1993.
رجل صويف روحاين من األتراك مشهور بلقب "نقشبند" ولد يف خبارى عام 1318م .ورد يف مصادر
جدتِِّّه وهو طفل يومئذ ،أنه رآها ذات ليلة يف منامه وهي تنصحه قائلةً:
قص على َّ
النقشبنديني أنه َّ
فه ُم من هذه األلفاظ بسهولة :أن فكرة املثالية الرتكية قد َمحَّلَت الطريقةَ النقشبنديةَ دوًرا هاما قبل
يُ َ
مستقل يتأقلم مع طبيعة اجملتمع الرتكي .إن هذا ٍ قالب ِّ
اإلسالم َّي يف ٍ الدين مثانية ٍ
تصب َ َّ قرون لكي
النموزج يربهن على أن نزعيت الصوفية والعصبية قد امتزجتا ألجل اإلنتاج املشرتك يف ضمري اجملتمع
الرتكي منذ قرون.
من اجلدير ابإلشارة أن مصطلحي » «Müslümanlıkو »َ ،«Müslümanل جيراين أب ًدا على ألسنة
العرب يف املاضي وال يف أايمنا احلالية ،كما ال علم هلم عن استخدام األتراك هلما .فال يَعلم اإلنسا ُن
اإلسالم » ،«Müslümanlıkيف حني َّ
أن َ يسم ْون العرب (وحىت كثري من علماءُ العرب) َّ
أن األتراك َّ ِّ ُّ
طرح ِِّّ كي ِّ
يعربُ عن انتمائه الديَن بقوله :أان ُم ْسلُمان » .«Ben Müslümanımوَل يتم ُ اإلنسا َن الرت َّ
ِّ
املسألة للنقاش يف البيئات العربية حىت اليوم .ومع ذلك ،فقد انتشرت ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ على هذه
لقرون اليت كانت فيها دولتا السلجوقية خالل ا ِّ
َ نطاق واسع خاصةً يف مصر وسوراي والعراق
العرب على مسرح التاريخ .مث تطورت هذه املعتقدات اخلليطة لألتراك مبرور والعثمانية حتكمان العاَلَ ِّ َّ
داينة قوميَّ ٍة َّ
تسمى (املسلمانيةَ الرتكيَّةَ األانضوليَّةَ) على مدار ألف عام قالب ٍ ت يف ِّ الوقت ،فتجسد ْ
املاضية.
أما ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ األانضوليةُ هذه ،فإن عبادةَ املوتَى تُ ْعتَ َربُ من أهم ميِّزاهتا .إن هذه الداينة
والصوم
َ اس ِّه ...لذا فإن الصالةَ ِّ
وختليد ِّ وأتليه ِّه،
ِّ قائمة يف أصلها على تقديس اإلنسان ِّ
امليت،
والنوافل وأمثا َهلا من املناسك ،كذلك الفضائل اإلنسانية كاإلهتمام َ واحلج ،والزكاةَ والتضحيةَ َّ
ابلنظافة ،وإغاثة امللهوف ،وإكرام الضيف ،كلها مأخوذة من اإلسالم .أما الذين قاموا يف بداية
األمر بتخطيط هذا املشروع وتصميمه وتنسيقه بغرض التفريق بني اجملتمع الرتكي والعرب يف التدين
والتعبد ،ال بد وأهنم قد احتفظوا أبسرا ٍر كتموها وحالفتهم الظروف حىت غفل عنهم العلماءُ وأولو
عام ِّة الناس من اجملتمع وبني هؤالء املتآمرين ،ودامت ال ِّس ِّريَّةُ ً
قروان حالت ِّس ِّريَّةُ ِّ
األمر بني َّ ْ األمر ،مث
نفرا قليال من قدمائهم تواطؤوا يومئذ فيما بينهم
حىت أصبح ال يكاد أحد من األتراك اليوم يعلم أن ً
على حياكة هذه املؤامرة لتدمري اإلسالم .ابإلضافة إىل أن هذه الغفلة قد دفعهم حىت إىل تقديس
أفراد تلك العصابة ،كما سوف نكشف القناع عن وجوههم فيما يلي إن شاء للا تعاىل.
على قاعدتني رئيستني يف مرحلة أنشاء هيكلتها. الرتكِّيَّ ِّة ِّ ِّ
لقد مت بناءُ الْ ُم ْسلُ َمانيَّة ُّْ
()Müslümanlık
ومها :الطبيعة القومية ،والتقليد الوثَن ..ميكننا أن نتطرق ابختصار إىل األدلة اليت تربهن على أن
القارئ يف صحة هذا اإلسناد.
ُ كش َّ
ت على هاتني القاعدتني حىت ال يَ ُ املُ ْسلُ َمانِّيَّةَ الرتكيةَ قد بُنِّيَ ْ
إن األتراك منذ أايم دخوهلم إىل حظرية اإلسالم (؟) ،حتولوا على الفور إىل اجتاه معاكس يتمثل يف
نزعة ابطنية -قومية (ولكن ابسم هذا الدين اجلديد يف الوقت ذاته ).يبدو أن هذا التحول قد جتلَّى
نيب من أصل تركي .لقد جنح األتراك قبل قرون يف إشباع هذا التله ِّ
ُّف شو ٍق إىل ٍ
يف البداية كت ُّ
مقاما من األنبياء (هذا هو اعتقاد ُنْبَ ٍة من كبار شيوخ ِّ
يه ْم (أوليائ ِّه ْم) أهنم أعلى ً
ابعتقادهم يف قِّ ِّد ِّ
يس ِّ
تفوهَ هبا قدماءُ القوم
ظ اخلطريةَ اليت قد َّ النقشبندية األتراك خباصة وإن كتموها تقيةً!)َّ .
إن هذه األلفا َ
ب يف ت يف طي الكتمان على سبيل التقيَّ ِّة ،تربهن بصراحة على حن ٍ
ني يَ ُد ُّ مرحلة مبكِّرةٍ قد ظلَّ ٍْ يف
أصل تُ ْركِّ ٍي ،كما يشري إىل حقائق كثرية يصعب شرحها؛ وهذه ترمجة نصها قلوهبم إىل نَِّ ٍيب من ٍ
املنقول من اللغة الرتكية القدمية:
"أن الوالية ( يعَن :املرتبة املعنوية اليت يصعد إليه الويل) هي مقام الشخص الذي ينصهر يف ذات
للا (عقب جماهداته الروحية اليت ال تُطاق) .هذا املقام هو أعلى من مقام األنبياء .على أي حال
منصب النبوة كل ويل ،ال حمالة قد انل
أن َّ ِّ
األنبياء قد فازوا مبقام الوالية ،إالَّ َّ عددا قليالً من
َ فإن ً
5
التعريفية والتبليغية".
«Velâyet, fenâya varmış kimsenin hâlidir. Nübüvvet mertebesinden uludur. Bazı enbiyâ hazerâtı
velâyete de sâhib olmuşlardır. Lâkin her velîde nübüvvet-i tarifiyye veya tebliğiyye mevcûd
olagelmiştir.» Hasan Lütfü Şuşud, İslâm Tasavvufunda Menakıb-ı Evliyâ, s, 163 İstanbul-1958.
بد هنا من اإلشارة إىل أن اإلسالم إىل جماالت احلياة االجتماعية ككل يف البيئة الرتكية .فال َّ
والصواب واخلطأ، ِّ تشتمل على احلق والباطل ،واحلالل واحلرام، بتساحم ِّه الالَّ ِّ
حمدود ُِّ الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةَ
ُ
ضا إىل أن الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةَ اليت جتدر اإلشارةُ أي ً
والصاحل والفاسد ،والواقع واملوهوم يف آن وحدُ .
أصبحت داينةً مستقلةً عن اإلسالم ،حىت لو أهنا تظهر للصورة يف لباس اإلسالم ،فهي يف احلقيقة
عبارة عن ِّدي ٍن حمصوٍر بني جدران املساجد وأسوار املقابر .كانت (الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ) هكذا على مدى
ًترخيها ،خاصة منذ املائيت سنة السابقة.
ِّ
ابلنداء إىل التسامح بني األتراك من منطلق التصوف الذي هو يف اف يف رفع الصوت
لقد بلغ اإلسر ُ
احلقيقة فلسفة روحية مستقلة عن اإلسالم ،كما َل يرد لفظُهُ يف القرآن الكرمي ولو مرة واحدة؛ بلغ
الغلو حبيث غاب اإلسالم حتت وطأة هذا اللغط واالضطراب ،لذلك، هذا اإلسراف إىل درجة من ِّ
اإلسالم يف مفهوم العامة إىل دين قاس وعنيف ،خباصة يف خميِّلة املفكر الرتكي (على
ُ حتولفقد َّ
عكس الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة) .إن البهتان العتيد املتمثل يف "اإلرهاب اإلسالمي" املُختلَق ،الذي انتشر َّ
مؤخراً
يف العاَل اخلارجي ،إمنا كان بدافع هذا التصور اخلاطئ .وإليكم اآلن مثال صارخ على التسامح
الذي يدعو إليه التصوف ،والذي أبعد اإلسالم عن املسرح يف األوساط الرتكية منذ قرون.
ب إىل جالل الدين الرومي ،إهنا يف الواقع ليست من أقواله ،بل هي كلمات الشاعر الصويف اإليراين ،أبو سعيد فضل للا
نس ُ
هذه الكلمات اليت تُ َ
بن أب اخلري أمحد بن حممد امليهَن ،الذي عاش بني عامي 1049-967م .وملا َل يكن األتراك جمتمع معرفة ،فإن احلشود العادية منهم كثريا ما
يقعون يف مثل هذا األخطاء ،مثلما التبس عليهم اإلسالم ابملسلمانية !Müslümanlık
ورسخت يف
ْ مؤس ِّس ٍي شائ ٍع
املعتقدات الصوفيةُ إىل طاب ٍع َّ
ُ األمر مع الزمان وحتولت تطوَر ُ ول ََّما َّ
اجلاليات الرتكيةَّ يف اجتاهٍ من اإلشراك ابهلل مثل ما
ِّ اجلمهور ،أصبحت منذ قرون تُ َوجهُ ِّ ِّ
غالبية ِّ
ضمائر
كانوا عليه قبل اإلسالم .فولِّ َد ِّ
ت الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ الوثنيةُ الرتكيةُ قبيل غزوات املغول واستيالئهم على ُ
ِّ
مقوالت الروحانيِّني األتراك املشهورين ،أييت على ثر وبالد ماوراء النهر ..هذه الداينة تتمثيل يف مآ ِّ
س ِّوي ،وعبد اخلالق الغجدواين ،وحممد هباء الدين البخاري (الذي يعد مؤسس الطريقة رأسهم أمحد يَ َ
النقشبندية) ،وعبيد للا األحرار ،وأمحد السرهندي ،واحلاج بكتاش ويل ،وجالل الدين رومي
ومتتد القائمةُ هكذا ...إن الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةَ املنتشرة
(املعروف بني األتراك ابسم موالان) ويونس أ ْم َرْهُّ ،
على الساحة الرتكية اليوم ُّ
تعد ُشعبةً من هذه الداينة.
مانعا من ارتكاب املعصية واإلصرار عليها إطالقًا كما مر ذلك يف أن العقيدة الصوفية ال ترى ً
مقوالت أب سعيد أمحد بن حممد امليهَن (املعزو إىل جالل الدين الرومي) .فاملذنب يكفيه أن يتوب
إىل ربه بعد كل خطيئة أو جرمية ارتكبها ولو أعادها مرارا دون هوادة .عالوة على ذلك فإن جالل
الدين الرومي الصويف الذي شاع أنه كان يؤمن بوحدة الوجود ،فإن اإلميان ابإلله الواحد ال يبدو
ضا تسمح له من واضحا يف عقيدته .لذا ،فإن فلسفة التصوف هكذا تفتح للوافد عليه اباب عري ً
قحم نفسه يف تفسريات غري حمدودة حول الذات اإلهلية .ويبدو أن فكرة تعدد اآلهلة يف خالله أن ي ِّ
ُ
ِّ
العقيدة الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّة إمنا هي انبعة من هذه التفسريات الالحمدودة هلؤالء الذين يعتنقون التصوف.
مجيع األبواب مغلقة يف اإلسالم أمام أي شكل من أشكال التفكري والتأويل والتفسري فيما يتعلق
بذات للا سبحانه وصفاته املقدسة إذا كانت تتعارض مع نصوص الكتاب والسنة .ومع ذلك ،فإن
التأويالت التجسيمية والتشبيهية يف حق للا ،والتأليهية يف حق البشر مسموحة يف التصوف.
طئ فيما لو نقول :أن هناك العديد من األمثلة على أتليه البشر يف الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة
وابخلالصة ،لن ُن َ
الرتكية اليت أتخذ روحها من الصوفية بشكل خاص.
***
ابلنسبة لآلاثر اليت قد تركتها الْ ُم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ على احلياة اإلجتماعية ،فإنه ابالمكان تصنيف
خلفياهتا يف ثالثة أشكال من التيارات :املذهبية ،والتصوف ،واإليديولوجية الرسية.
)1املذهبية:
ي ( 944-852م) العقيدةَ اإلسالميَّةَ منذ قرون ،فأقحم ِّ
السمرقند ُّ ي
يد ُّتناول أبو منصور املاتر ِّ َ
الس َِِّّننفسهُ يف تفصيلها بطريقة جدلية ُمستفي ًدا من إحياءات الفلسفة اليواننية ،فاختزل من املذهب ُّ َ
ات .وهذا ما دفع السلفيني ملواجهته حىت ِّ
العقالنية للمغَيَّ ب ِّ ِّ
بتأويالته مذها جدي ًدا متميِّ ًزا وأفْ َر َدهُ
ً
ُ َ
كالمي .وقد انتشر مذهبُهُ خاصةً بني األتراك ،وبلغ متس ُك ُه ْم به إىل حدود ِّ
الغلو ٌّ َّعوهُ على أنه
بَد ُ
َن كمدرسة خاصة الس ِّ َّ
اإلسالم ُّ
َ دخلت املاتريديَّةُ
ْ والتعصب يف عصران على وجه اخلصوص .هكذا
اقي املعاصر له األشعري العر ُّ
ُّ املدرسة األشعر ِّية اليت أنشأها أبو احلسن ِّ يف العقيدة ،إىل جانب
( .)941-879ولكن املاتريديَّةَ ما لبثت حىت تعرضت للتشويه عرب الزمان ،فتحولت إىل
لم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة ٍ ِّ ِّ ِّ ِّ
"الْ َماتُ ِّري َدانيَّة ".يف هناية املطاف .تَبَ َّن األتراك من هذين املذهبني "املاتريد َّاينيَّةَ" كفلسفة ل ُ
الرتكيَّ ِّة التوافُِّقيَّ ِّة ،syncreticمذ كانوا يف تركستان اليت هي موطنهم األصلي.
إن األتراك -ابلتوازي مع هذا التطور -تبنوا املدرسة احلنفية يف الفقه ،وهو واحد من املذاهب
ِّ
األصل مثل األئمة عرب
ف هبا عند مجهور أهل السنة ،رمبا ألن أب حنيفة َل يكن َّ األربعة املعرت ِّ
ِّ
َ
املذهب للتشو ٍيه حتت ضغط فتاوى ُ تعرض عنصرا فارسيا .هذا ،وقد َّ ً الثالثة اآلخرين ،بل ألنه كان
عصبية ،فتحول إىل ا ْحلَنَ َفانِّيَّ ِّة مع مرور الزمان .وهكذا بُنِّيَت
ٍ ٍ
قومية ٍ
بصبغة رجال الدين فاصطبغ
أساس الْ َماتُ ِّري َدانِّيَّ ِّة يف العقيدة ،وعلى أساس ا ْحلَنَ َفانِّيَّ ِّة يف الفقه .إن
ِّ ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ على
املستشرقني احملليني (األتراك) يصفون هذا الدين ب "اإلسالم األرثوذكسي" .أييت على رأسهم األستاذ
الدكتور أمحد ايشار أوجاك.
إن ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةَ الرتكيةَ اليت تعتنقها أكثرية اجملتمع الرتكي واليت بينها وبني اإلسالم فجوة كبرية مع ما
احلاد بينها وبني التيار العلوي يف الوقت ذاته ،ال جيوز وال يستقيم وصفها هناك من اخلالف ِّ
إلباس
َ ب "اإلسالم األرثوذكسي" حبجة أهنا تتعارض مع العلوية أو هي بديلة عنها .إذ ال َّ
شك أن
أن كِّالَ التيَّارين "ال ُّ
سَن" احلق ابلباطل .كما َّ
إلباس ِّ
ُ بوجه من الوجوه ،معناه اإلسالم ابلْمسلُمانِّيَّ ِّة ٍ
ِّ ُ ْ َ
ٍ
عالقة البحث عن أي العب ِّ
ث ِّ ِّ ِّ
ُ و"العلوي" مها شكالن خمتلفان من ال ُْم ْسلُ َمانيَّة الرتكيَّة ..لذلك من ََ
بني هاتني الداينتني وبني إلسالم.
ٍ
علمية بينه وبني اإلسالم ال ُق ْر ِِّّ
آين جد ٍية
العلوي؛ فإنه الميكن العثور على أي عالقة ِّ ِّ أما الت يار
َن" ،تعتمد على "س ِّ ٌّ ِّ
اخلالص .ذلك على الرغم من أن ال ُْم ْسلُ َمانيَّةَ الرتكيَّةَ القوميَّةَ اليت هلا مظهر ُ
أن العلويةَ تكاد تكون خاليةً من ِّ
والسنة .إال َّ ِّ
القرآن س ٍة من ٍ ٍ ٍ
مصطلحات إسالمية كثيفة للغاية ُمقتَ بَ َ
إن العلويِّني األتراك واألكراد (على عكس الواقع) قد اختذوا من َعلِّي ابن أب ٍ
طالب هذه امليِّزة .مث َّ
ضوا له من اإلضطهاد والتهميش والسحق من قِّبَ ِّل السنيني ،وقد عزلوه عن تعر ُ
رمزا للتعبري عما َّ ً
حقيقته اليت تتمثل يف كونه شخصيةً ًترخييةً ،فجعلوا منه شخصيةً دينيَّةً حبتةً .إن وصف هذه الفكرة
مذهب ،ال تتفق مع املعايري العلمية يف الواقع .أما وصف هذه الفكرة كمنهج ٍ الرمزية كدي ٍن أو
متت بِّ ٍ
صلة إىل ِّ
العلوية اليت ال ُّ روحي أو طريقة صوفية ،فإن العلويني غري راضني بذلك .إن تسميةَ
العفوي املرَّكب
ِّ ِّ
"اإلسالم اإلسالم بوجه من الوجوه وال بعلي ابن أب طالب ،تَ ْس ِّميَ تَ ُه ْم هلا ب
أي قيمة علمية .لذلك ،من ” “Heterodox İslamمن قِّبَ ِّل بعض األكادمييني األتراك ال متثل َّ
األصح اعتبار العلوية كتقليد شعيب للرتكمان الفالحني الذين ال يزالون معتنقني للداينة الشامانية.
)2الصوفيانية
لقد قام األتراك إبنشاء عديد من الطرائق الصوفية على مدى ًترخيهم بعد تعرفهم على اإلسالم.
واجلراحية ريِّميَّ ِّة ،واجلولْ َ
شنِّيَّ ِّة ،واملالمية ،والشعبانية ،واخل ْلوتيةَّ ، كالطريقة النقشبندية ،واملولوية ،والبَ ْ َ
وغريها ...هذا من دأهبم عرب ماضيهم .إهنم يقومون إبنشاء طريقة صوفية جديدة من فرتة ألخرى؛
كالطريقة النورجية ،Nurculukاليت تُعزى إىل سعيد النورسي ،كذلك العجزمندية ،Aczmendilik
اليت ابتدعها متطرف يُدعى مسلوم جندوز Müslüm Gündüz7يف التسعينيات من القرن املنصرم،
القبض عليه وعلى عدد من أنصاره ،مث
ُ وأصبح يهدد احلكومة الرتكية ،فلم يلبس طويال حىت أُلقي
ضا
أمخد النظام أعماهلَم .واحلركة اجلولنية Gülencilikأو الفتوشية (اليت أسسها فتح للا جولن) أي ً
لكن هذه األخرية "تلبَّست ابخليانة ضد حكومة أردوغان" فأُحبط
عد من هذه الطرائق الصوفيةَّ . يُ ُّ
أعماهلا هي األخرى.
تدافع هذه املنظمات عن أهنا مدارس أخالقية .غري أن هذا الدفاع ال أساس له من الصحة ،على
الرغم من أهنا أخذت مصطلحاهتا من الرتاث اإلسالمي .هذه املنظمات املشبوهة إمنا هي يف واقع
ت عليها ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكية.
األمر لَبِّنَات ابطنية ُخمْتَ لَ َقة بُنِّيَ ْ
رجل متهور طائش عدواين من سكان مدينة معمورة العزيز ،Elazığمجع حوله زمرة من جهلة الشبان ،ظهروا عام 1985م .يبثون الرعب هبيئاهتم ،ففزع 7
منهم العامةُ ،وتوجست احلكومة منه خيفةً أن يثريوا الشغب فاعتقلتهم ،فاختفوا من غري رجعة.
)3اإليديولوجية الرسية
ظهرت يف تركيا داينة رسية مستقلة كأمر واقع وذلك بعد عام 1938م عقب وفات مصطفى كمال
فاختبأت وراء ستارها اليت
ْ الدولة الرتكيَّ ِّة بطقوسها الرسية،
ِّ حتدي ًدا ،ومثَّلَ ْ
ت هذه الداينةُ أيديولوجيةَ
َّه َم أبهنا داينة يف حقيقتها، ُِّسيت (األًتتوركية )Kamalismطوال قرن من الزمن لكي ال تُت َ
فرعا من ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة الرتكية ،ولكن يف ثوب
ت بطريقة أساسية إىل اليوم .تُعتَ َربُ هذه الداينةُ ًواستقر ْ
َّ
رسي حبت .هذه الداينةُ مستوحاة بشكل أساسي من ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةَ الرتكيَّ ِّة .لعل من األمور امللفتة
الديَن الذي يزعم معتنقوه أنه قلعة العلمانية ،لكنه هو األكثر انتها ًكا َّ وامللفقة؛ أن هذا التيار
للعلمانية ابملقارنة مع كافة الطرائق الصوفية والتيارات الدينية يف الواقع ،إذ هلا معبد عمالق مت
أنشاؤه ما بني أعوام (1953-1944م ).يف أنقرة كبديل عن كعبة املسلمني يف مكة ،وعلى سبيل
التحدي لالسالم ،كما هلذه الداينة األيديولوجية ماليني من املنتسبني املتعصبني يف مجيع ِّ
أحناء تركيا.
اد عند بداية وهناية كل أسبوع حىت املاضي القريب.
قام يف مجيع املدارس ،وتُ َع ُ
كانت طقوسها تُ ُ
إن األيديولوجية القومية الرتكية والسائدة على مستوى اجملتمع الرتكي ،هي أصال نتاج "ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة
أدت إىل فوضى ال الرتكية" ،وأن التيارات الدينية والصوفية املنبثقة عن ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّ ِّة الرتكية قد َّ
تصدق يف العقيدة والفكر على الساحة الرتكية يف الوقت الراهن .إن السلفيِّني اجلهاديِّني الذين
ظهروا يف السنوات األخرية واثروا " من منطلق القلق حلماية اإلسالم الذي يضمه القرآن بني دفتيه"
يوما َّما إىل استخدام آلية العنف على غرار أسالفهم اخلوارج،
(على حد مزاعمهم!) ،إ ْن هم عمدوا ً
حروب دينيَّ ٍة على الساحة الرتكية حيث
ٍ اندالع
ِّ واستهدفوا ال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةَ الرتكية ،سيكون ذلك شرارةَ
ال مفر منها.
صفوف مجهوٍر من أهل هذه َ خالقي الذي اجتاح ٍ كان لل ُم ْسلُمانِّيَّ ِّة الرتكيَّ ِّة دور كبري يف االهنيا ٍر األ
املنطقة يف السنوات األخرية ،فإن البالد واجملتمع على وشك من الوقوع يف خطر عظيم .وقد يتطور
هذا اخلطر بشكل غري متوقع ألي سبب .وال ُْم ْسلُ َمانِّيَّةُ الرتكيةُ العفويةُ ال ُْمرَّ
كبَة «Syncretic
َ
ِّ
النتيجة بال شك. » Muslumaismسوف تكون هي املمسؤولة يف الْ ُمقام األول عن هذه
***