Professional Documents
Culture Documents
دور الرواية والقصة القصيرة
دور الرواية والقصة القصيرة
المـــقـــدمـــة :
تركــز الدراســة في هــذا القســم على الــدورـ الــذي اضــطلعت بــه األعمــال
الروائية والقصصية اليمنية في عملية التغيير السياسيـ واالجتماعي ،وهو الــدور الــذي تنبهت
إليه منذ وقت مبكر – معظم الكلمات التي قدمت لهذه األعمال ،فمن مقدمــة ( النــاب األزرقـ )
– مثالً نقتطف ":كما تشير هذه المجموعة أيضا َ إلى طبيعة الدور النضالي الذي اضطلعت بــه
القصة اليمنية ،في حشد الهمم وإيقاظ الوعي الجمــاهيري وإلهــاب الضــمائرـ الوطنيــة للنضــال
1
ضد القوى الرجعية واالستعمار في اليمن الطبيعية"
1أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) دار ابن خلدون /بيروت 1980م (ص) 7
ومن مقدمة ( اإلنذار الممزق ) نقتطف " على حــداثتها تعــد واحــدة من أبــرز الكتابــات األدبيــة
التي ساهمت بهذه الصورة أو تلك ،في التبشير باندالع ثورتيـ السادس والعشرين من ســبتمبر
والرابع عشر من أكتوبرـ الخالدتين ،وذلك بتنديدها فنيا ً باألوضــاعـ المجتمعيــة المتخلفــة آنــذاك
الــتي صــاغ خارطتهــا السياســية واالجتماعيــة واالقتصــادية والثقافيــة المســتعمرون اإلنجلــيز
وعمالؤهم في الداخل والخــارج " 1ومن مقدمــة ( ثــورة البركــان) نقتطــف " وفي أيامنــا الــتي
خلت قاسيناـ صنوفاًـ من اآلالم ،وكثيرا من الكبت في الرأي والقول والفعــل ،وقـدـ انطبــع كثــير
من ذلك في بعض القصص التي وردت في هذه المجموعة ،راسما ً فيها ما أحسست وما يحسه
كــل مــواطن في تلــك األيــام الســابقة من تــاريخ شــعبنا المجيــد ،أيــام الكفــاح من أجــل الحريــة
واالستقالل وقد وضعت ونشرتـ بعض هذه القصــص في ظـل تلـك الفــترة الكئيبـة ثم تفجـرت
الثــورة ،وعرفنــا صــنوفاًـ جديــدة من الكفــاح اإليجــابي وتضــحيات جمــة ،وبطــوالت خالــدة ،
وصمتت األقالمـ ،وخرست األلسن لتحل محلها طلقــات مــدافع البازوكــا ودويـ القنابــل ولعلعــة
الرصاص ،ليسمع الغاصب صوت الشعب ( صوت الحق) .2
ويتحددـ المجال الزمني للدراســة في هــذا القســم بــالفترة الممتــدة مــا بين نشــأة الروايــة والقصــة
القصيرة اليمنية منذ أواخر ثالثينات القرن العشرين وحتى وقتنا الراهن .
ونتيجة لطول الفترة مجال لدراسة ،وتمفصلهاـ محطات شكلت نقاط تحول مهمة في تــاريخ
اليمن الحديث وفي فكر اإلنسان اليمــني الـذي عـايش ظرفـا ً تاريخيـا ً اختلفت طبيعتــة بــاختالف
الظرفـ السياسي واالجتماعي مــا بين واقعين مختلفين أحــدهما يقــع قبــل انفجــار ثــورة الشــمال
واستقالل الجنوب ،واآلخرـ يقع بعد انفجار ثورة الشمال واســتقالل الجنــوب ونتيجــة الختالف
الرؤية إلى هذا الواقع ،واختالف الغاية من وراء تصويره وإبرازـ مالمحــه بين كــاتب يســجل
لفترة ال يزال يحيا ظرفهـاـ ويضـطرب فيمـا يضــطرب فيــه واقعهـاـ الـذي يجــري عليـه أحــداث
روايته ،وكاتب يقف خارج فترته التي يدون لها موقف المتأمل الذي يتصور جريان األحــداث
ويتخيل التفاصيل من موقعه األمن .
التغيير
1هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر /صنعاء 1996م ط( 1ص) 13
2جابر عصفور( زمن الرواية ) دار المدى للثقافة ( .ص ) 260
وكون الرواية تستمد مادتها من الحراك االجتماعي والسياسي ألي مجتمع ،فإن عالقــة
جدلية من التأثير والتأثرـ تستمر ناشطة الوشائج بينها وبين المجتمع الذي تنبت فيه ،فكل تطورـ
اجتماعي أو سياسيـ هو منعكس عليها ومــؤثر على تطورهاـ وعلى تطــور األدب بعامــة ،وقــد
يكون هذا التأثير منصــبا َ على المضــامين والقضــايا المتناولــة ،أو منعكسـا َ من خالل األشــكال
والبنى الفنية ،فطبيعــة البنــاء الــروائي لــه عالقــة بالبنــاء االجتمــاعي الــذي يولــد فيه ،واألبنية
الروائية المختلفة تعكس تغييرات بنائية في مجتمعهاـ ،ويكون هذا االنعكاس أكثر وضــوحاَـ مــع
الروايــة الــتي تتســم " بمرونــة شــكلية هائلــة ســوا َء في التعبــير عن الفــرد وعن المجتمــع أو
االحتجــاج على الفــرد أو المجتمــع ،ولــذلك يصــفها نقادهــا بأنها نــوع ال يخضــع إلى قواعــد
ومواصــفاتـ وقــوانين ثابتــة ،وأن التغــير والتحــولـ والمرونــة الالنهائيــة هي أهم صــفاتها
خصوصا َ من حيث هي شكل مفتوح يظل دائمـا َ في حالــة صــنع ،فهي مغــامرات كتابيــة أكــثر
منها كتابة مغامرات " 1حتى يمكننا الذهاب في القول إلى أن األعمال الروائية لم تكن في جلها
إالَّ نماذج فنية تجسد بقوة لديناميات التغيــيرـ ،فــالحراكـ الــروائي يحيــل بالضــرورة إلى حــراك
اجتماعي وسياسيـ يسري في حـال تفاعــل متـوائم معــه ،فالروايـة العربيــة مثالَ س ظلت منـذ
بداياتهاـ " تسعى في إصــرارـ ال يلين إلى أن تكــون مــرآة المجتمــع المــدني الصــاعد ،وســالحه
اإلبــداعي في مواجهــة نقائضــه الــتي ال تــزال إلى اليــوم مقترنــة بتخلــف التعصــب والتســلط
2
والتطرف ".
وبينما ترتكز األعمال الروائية على مرتكز من الوعي الجمعي المتحقق بحركة المجتمع
الـذي تنشـأ ضـمن زمانـه ومكانـه االجتمـاعيين ،وفي الـوقت الـذي تشـكل فيـه حركتهـا ضـمن
ديناميــات التغيــير وأثرهاـ المتبلــور في الواقــع االجتمــاعي ،إذ هي تجربــة واقعــة في الــوعي
الجمعي وموقف نابع منه بالحتمية فال رواية بغير مجتمع تتشكل فيــه وال روايــة بال رؤيــة لمــا
يحدث فيه من تغييرات ،فإن حركة التغير االجتماعي الـتي تتجسـد عنهـا األعمـال الروائيـة ال
تشكل مجـرد موضـوعـ اجتمـاعي في تجربتهـاـ ،وإنما هي سـياق يحتضـنها تولـد فيـه وتتشـكلـ
وتنموـ متطورة ومطورة " ،فالرواية تبدأ حين يبدأ المجتمع الحديث في التكون ،عندما يتحول
المجتمع من جماعة مغلقة كلية متماثلة وثابتة إلى مجتمع مركب ومتفجــر ،مكــون من طبقــات
وفئات وإفرادـ ومصالح ومشاريع متعارضــة ومتصــارعة ،تبــدأ الروايــة عنــدما يفقــد المجتمــع
سكونه التقليدي وتراتـبيته وهامشية قواه ،ويبــدأ في التمــايز والتحــددـ تاريخيـاَـ واجتماعيـا َ " ، 3
تؤكــد على ذلــك طبيعــة التغيــيرات البنائيــة لمجتمعاتها الــتي تنبت فيهــا ،فهكــذا كــانت الروايــة
األوربية ،وهكذا كانت الرواية العربية " ملحمة الطبقة الوســطىـ ،ولكن في البحث عن هويــة
لها داخل مجتمع ينقسم على نفسه فيتمزقـ حاضره بين تقاليد ماضي ه وآفاق مستقبله بالقدر الذي
تتمزقـ به هوية هذا المجتمع بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثــالي منــاقض في وعــد المســتقبل ،
هذا البحث عن الهوية هو الذي جعل الرواية العربيـة تنطلـق من مفارقـة التغـير الـتي تفصـل
الماضي عن الحاضر من ناحية ،والحاضر عن تطلعات المستقبل من ناحية ثانيــة ،وفي هــذه
1د .محبة حاج معتوق ( أثر الرواية الواقعية الغربية في الرواية العربية ) دار الفكر اللبناني /بيروت 1994م ،ط( 1ص)28
2جابر عصفور ( زمن الرواية ) مرجع سابق (ص) 53
3خيري دومة ( تداخل األنواع في القصة القصيرة المصرية 1990 -1960م ،الهيئة المصرية العامة للكتاب /القاهرة 1998م (ص
) .79
ولئن كانت فلسفة الرواية تقوم على تدوين حركة التاريخ اإلنساني غير الرسميـ عبر
زمن يستطيلـ ليحتوي حياة كاملة لشخصية أو لجيل أو لمجموعة أجيال ،معتمدة في ذلــك على
مبدأ التجميع والحشد واإلسهاب في التفاصيل إلرواء عطش القــارئ الشــغوف بــاالطالعـ على
حيوات إنسانية مختلفة ،وتقديم عالم فني هو في آخر األمر عالم مشابه للعالم الواقعي ،وحيــاة
ال تختلف كثيراَ عن الحياة الواقعية إالًّ من زاوية كونها حياة تنتهي بالحتمية إلى معنى تم بنــاؤه
عبر عمليــات مختلفــة من االنتقــاء واالســتبعادـ والحــذف والــترتيبـ وتوظيـفـ اآلليــات المشــكلة
واستثمار اإلمكانات التي يقدمها البناء الــروائي للكــاتب الحــاذق ،فـإن فلســفة القصــة القصــيرة
تقوم على منطق مغاير تماما َ ،فهي لم تنشأ -كفن أدبي – إالَّ لتغطيــة تلــك اللحظــات والمواقـفـ
والوقــائع الــتي يتخطاهاـ البنــاء الــروائي ويتعــالى عليهــا حدثــه وهي لحظــات ومواقـفـ ووقــائعـ
يهددها الطمس نتيجة لعاديتها وبساطتها الظاهرة الــتي ال تثــير مــدون التــاريخ الرســميـ وغــير
الرسميـ .إلى تسجيلها .
فتأتي القصة القصيرة -التي ترى فلسفتها أن في الحياة لحظات عادية وبسيطة وعابرة
وربماـ هي في نظر الرجـل العـادي لحظـات تافهـة ،لكنهـا في نظـر المبـدع المرهـف لحظـات
عميقة مشبعة بمعنى كثيف وفريدـ -فتتلقف هذه اللحظات المنفلتة ،وتقبض عليهــا لتنتشــلها من
الضياع ،وتنقذها من الطمس والنسيان ،وتخلدها لوحات إنســانية خالــدة عــبر عمــل قصصــي
مثير ومدهش .
وبينما تهتم الرواية ببناء الحــدث وتشــكيل الشخصــية وتتبــع أوصــافهاـ واستقصــاء مالمح
المكان وأوصافه ،تبني القصة القصيرة عالمها الخاص على معنى أثيري يستقطبهاـ ،فــالمعنى
هو المكون األساس المتحكم ببنيتها وحركة إيقاعها الذي ينسل خفيا َ ،إليه تــذهب كــل مكوناتهــا
التي تنشط متواثبـة في اتجـاه نقطـة كشـفه ،نقطـة التنـوير عنـد نهايتهـا الـتي تتشـكل -دومـا َ -
مفارقة ومفاجئة ومنقلبة ،وتحرص القصة القصــيرة في ســعيها إلى مغزاهــا بقــوة على وحــدة
األثر واالنطباع الذي تكرس إلحداثه جميع عناصرها ،و تساعد على تحقيقه بنيتهــا القصــيرة
وإيقاعها المسيطر لحظة القراءة الــتي تتم في جلســة واحــدة على األكــثر ،هــذا األثر ال يتحقــق
موحداَ مع عالم الراوية بحكم احتوائها على وقائعـ كثيرة ،وشخصيات متعددة تتشعب عالقاتهــا
ضمن زمن ممتد ،ومع هذا التشــعب والتعــدد والحشـدـ يصـعب أن تشــكل لــدى جميــع القــراء -
الذين تختلف مشاربهمـ وتراكماتهم ومواقفهم -أثراً واحداَ .
والقصة القصيرة هي بناء رأسي يتنــاولـ قطاعـا َ عرضــيا َ من الحيــاة ،وتكتفي بتصــوير جــانب
واحد من حياة فرد أو زاوية من زوايا شخصية إنسانية ،أو موقفـ من مواق ـفـ الحيــاة ،تســلط
عليـه الضـوء دقيقا تمامـا َ كاألشـعة المقطعيـة ،والقـارئ يجـد نفسه -مـع وحـدة مقـام القـراءة
مضــافاَـ إليها قصـرـ النص -متمكنـا َ من جميــع المعطيــات المقدمــة والمعروضــة فيهــا ،المكــان
بتفاصيله وحدوده ،والزمن الذي يصبح بين يديه تشـكيالَ مدهشـا َ ،إذ هـو حضـور آني للحظـة
قصيرة وعابرة قد غدت خالدة دائمة الحضورـ ،لتنبسط أمام ناظريه يتأملها ويفتش في خباياهـا
ليخرج في آخر األمر أكثر عطشا َ وشغفا ،فبنية القصة القصيرة بنيــة مراوغــة تــوهم بالكشــف
وغايتها اإلخفاء ،فهذا المكتــوب يخفي أكــثر ممــا يبــدي ويكشــف ،وهكــذا هــو الفن العظيم مــا
يقولــه " يســتمد قيمتــه ممــا ال يقولــه ممــا يــوحي بــه " الفن العظيم :هــو الــذي يــدرك روح
األشياء ،وهو الذي يدرك ما يربـطـ الفــرد بالكــل ،مــا يربـطـ كــل جــزء من اللحظــة بالديمومــة
األبدية " . 1وإذا كانت الرواية ابنــة اللحظــات المتعاقبــة تمامــا كــالنهر المتــدفقـ من المنبــع إلى
المصب ،وحيث االمتداد األفقي للمنظورـ والمتابعة المتعاقبة يكــون عــالم يتحقــق فيــه اإلشــباع
واالرتــواء ،ولـذلك تنتهي الروايـة إلى نهايتهـا المسـتقرة الـتي تسـتحيل بعـدها إلى صـفحة من
صفحات الخبرة المحتواة في الذاكرة ،فإن القصــة القصــيرة -كمــا يــرى نقادهــا -ابنــة اللحظــة
العــابرة تمامـا َ كدوامــة طــرأت على جسد هــذا النهــر أو على صــفحته تشــكلها لحظــة محــدودة
المساحة قصيرة الـوقت مهــددة بـالأفول واالنطفـاء ،وحـدثهاـ الجـزئي ينشــأ مبتـورـ الصـالت ،
مقطوعا َ عما كان قبله أو ما يأتي بعده ،واالجتزاءـ هو أحد الحلــول الموضــوعية لبنــاء ســرديـ
يتــوزع بين رغبــتي الرصــد والتأمــل " ومــا يفرضــه هــذا التأمــل من تحديــد المســاحة الحاويــة
للتفاصــيل ذاك أن مســاحة تمتــد نحــو العمــق ليســت بحاجــة إلى مزيــد من التفصــيل الظــاهري
الضاج قدر حاجتها إلى التبصر العميق الصامت .2
وتقوم البنية الروائية على توغل الزمن ،بينما تقوم البنية القصصية على توغل الشخصية
اإلنسانية التي تصور موقفها في لحظة من الوعي الحاد شديد الدقــة ،وشخصــيتها تختلــف عن
الشخصية في العمل الروائي فليس للقصة القصيرة ذلك البطل النموذج المعروفـ في الرواية "
ففي القصة القصيرة شخص عادي ومغمور ،فالقصة ال تتمركزه وإنما تتمركز المعنى ،وهــو
3
أحد اآلليات التي تؤدي إلى معنى "
ومبتدأـ هذه الشخصية ومصيرهاـ يقعان خارج الزمن المحدودـ باللحظــة المختــارة ،غــير أن
هــذه الشخصــية الــتي تظهــر تحت تهميشــها وانهزامهــاـ وانســحاقها واضــطرابها أحيانــا ً هي
شخصية مثيرة إلى حد بعيد ،تقدم لنا " انطباعا ً مثل االنطباعـ الذي كثيراً مــا نأخــذ ه من أنــاس
في حياتنا ،فهؤالء النــاس يــأتون من أوســاط ال نعرفهـاـ ،ويعيشــون معنــا فــترة من الــزمن ثم
يختفون إلى مكان غير معروفـ ،وال يتركون معنا إالَّ انطباعا ً يثبت حقيقة وجــودهمـ وشـعوراً
4
بحب االستطالعـ المحير الناتج من غموض بداية ونهاية وجودهم .
وتسهمـ القصة القصيرة كما تسهم الرواية في إحداث تغييرات حقيقية على مســتوى الواقــع
االجتماعي والسياسيـ ،فكال الفنين مصدر مادتهماـ واحد هـو الحيـاة ،وحـراك الواقـع الحيـاتي
المعيش ،وعناصرـ التكوين وآليات البناء -رغم اختالف التوظي ـفـ بينهمــا -هي في جوهره ـاـ
واحدة ،وبقدر ما تمتلك الرواية والقصة القصيرة من أســاليب التمثيــل الكنــائي وآليــات اإليهــام
بالواقعـ التي تقوي الشعور بحقيقة ما يجري وواقعية ما يحدث ،بقدر مــا تمــدان أهــدافهما عــبر
خطوطـ مختلفة بعضها ينطلق في اتجاه الواقع الــذي تســعيان إلى تغيــيره عــبر تســليط الضــوء
على مناطقـ السواد والعتمة فيه ،ولفت االنتباه إلى مساوئه واقــتراح الحلــول أحيانًــا وعرضــهاـ
عرضا ً حاذقا ً ،وبعضهاـ اآلخر يمتد باتجاه واقع تسعيان إلى خلقه وتمكينه .
1جان ماري جويو ( مسائل فلسفة الفن المعاصر ) دار التغطية العربية /بيروتـ د .ت (ص) 14
. 2حفيظة قاسم سالم من دراسة بعنوان ( بينية التكوين في القصة اللوحة ) مجلة كلية اآلداب جامعة الحديدة ،العدد الثاني 2011 /م .ص
15
3شاكر عبد الحميد ( األسس النفسية لإلبداع األدبي في القصة القصيرة خاصة ) الهيئة المصرية العامة للكتاب /القاهرة 1992م .ص
431
آيان رايد ( القصة القصيرة ) ت .منى نؤنس /الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990م .ص124 4
فالشخصيات المعروضة والعالئقـ القائمة بينها والمكان الذي تتحركـ فيه والحوارات الــتي
تنشب بينها مهما تكون قريبة إلى الواقع ليست سوى عوالم افتراضية ،كما يطبعها هذا العــالم
التخيلي بهذه السمة ،ومن هنا فإن فرصة تغيير الواقع المحيط عبرهما تبــدو كبــيرة ،فمســاحة
الحريــة المتاحــة خاللهمــا تمكنهم ـاـ من طــرق مــا اليمكن طرقــه وتنــاول مــا ال يمكن تناولــه ،
فعرض الشخصية وهي تتفاعل مع األحداث وكيف يمكن أن تؤثر فيهــا وتحولهـاـ ،هي صـورة
حيه مقدمة كنمــوذجـ للفعــل اإليجــابيـ لإلنســان في واقعــه ،ذلــك الفعــل الــذي يــدفعنا لالنتفــاض
لنخرج مما نحن فيه .ومع كون القصة والروايــة فــنين يرتقيــان ويزدهــران حيث تســود حريــة
الرأي وقبولـ اآلخر ،فإنهما ال بد واجدان لنفسيهما مكانا ً تساعدهما في ذلك آلياتهما المخاتلــة ،
وما تتسمان به من توغل في الشــعبية والجماهيريــة ،فالشخصــياتـ المنتقــاة لعمــل قصصــي أو
روائيـ هي -في العــادة -من بين أوســاط بســطاء الطبقــة الشــعبية والمتوســطة ،وهي الطبقــة
االجتماعيــة األغلب وجمهــورـ القــراء يتشــكل في معظمــه من أبنائهــا ،ممــا يشــعرهم بقربهــا
وتمثيلهاـ لهم ،ويعززـ شعورهم بأهميــة دورهمـ ،إذ وهــذه الشخصــيات هي المجتمــع المتحــرك
والمسيطر في هذا العالم المعروض ،تؤثر وتتأثر وهذا العالم هو عالمهم ،أو هو يشبه عالمهم
الفعلي والحياتيـ الذي يضطربون في معاناته ،فما تعانيه هذه الشخصية هي معاناتهمـ وحركتها
هي حركتهم ،وما تفعله بالتأكيد ليس بعيداً عما يمكنهم فعله .
كــذلك تصــويرـ المكــان بتفصــيالته الدقيقــة ،بحفــره وأوحالــه وذبابــه وقاذوراتــه ،أزقتــه
وحواريــه ،دروبــه وأحيائــه ومقاهيــه ،ومــا وراء جدرانــه المغلقـة ،ومعتقالتــه وســجونه هــو
مكانهم ،وما تخلص إليه حركة الناس هو نفسه الذي بإمكانهمـ أن يخلصواـ إليه ،هذا اإلحساس
بحميمة المكان يجعل للرواية أثراً أقوىـ .
فالرواية والقصة القصيرة هما بالفعل المجال الحيوي لحركة األفــراد والمجتمعــات بتشــكيالتها
المختلفة ،وهما الساحة والفضاء الذي يتحرك فيه مجتمع ما بكــل تشــكيالته ،عمالــه وفالحــوه
وجنوده وصيادوه ومعلموه ومثقفوه .......الخ .
فالفضــاء الكنــائي في هــذه األعمــال ،وفيـ الروايــة على وجــه الخصــوص لــه خصوصــية
أثيرية ،إذ هي تجسد وتصورـ أماكن تحتشد بالحركة والحياة ،هذه األمــاكن هي هــدف التغيــير
ومنبعه الحقيقي وأناسهاـ هم فعل التغيير وقوته بـل ومادتــه ،وبالتــالي فــإن هــذا الفضـاء يشــهد
حركة دائمة وتحوالً مستمراً .
وتلعب اللغة القصصية والروائية -بما تتسم بــه من بســاطة وسالســة وتلقائيــة تمكنهــا من
الخوض في شــؤون الحيــاة اليوميــة ،وتفســح لهــا مكانـا ً أوســع بين بســطاء النــاس الــذين قــد ال
يمتلكون من أدوات التذوقـ الشعري ما يؤهلهم لتذوقه -دورها في ذلــك ،وببســاطة شــديدة هي
لغة داعمة لهم .
فالرواية والقصة القصيرة تخاطبهمـ بلسانهمـ وبمستوى لغتهم التي يجيدون فهمهاـ والتعامل
معها .فقيمة أي نص أدبي ترد إلى " ما تتجسد به رؤاه في الحيــاة وبالحيــاة ،وإلى مــا يرســمه
القاص بواسطة معطيات الحياة الحية من عوالم إبداعية يراها ويحسها عامة أهل الحياة ،ألنها
متصلة بعواطفهم ومشاعرهمـ وبالواقع المحسوسـ في الكون الـذي ال يستعصــي على اإلدراك ،
وال يحتاج إلى انقطاع ودراسة قد يحــوالن بين الشــخص وبين أن يــدرك كثــيراً ممــا في الحيــاة
1
غير ما انقطع له واختص به "
خصوصية الدور التغييري للرواية والقصة القصيرة في اليمن :
ونتيجة لما يتمتع به الخطاب الروائيـ والقصصي من إمكانات أصبحت معها " لغــة األدب ال
تنفر من الخوض في شــؤون الحيــاة العاديــة واليوميــة أو مشــاكل الطبقــات الــدنيا ،بــل تتســع
2
مفرداتها وأساليبها لتصويرـ كل زاوية والدخولـ إلى أزقة الحياة الشعبية "
وهي إمكانات غذته بها الرؤية الواقعية التي تحول إليها بعد بداياتـه الرومانسـية ،فـاألدب
الواقعيـ " كان وال يزال أدبا ً موجها ً مباشرة إلى القارئ ،ألنه يعالج قضاياه ومشاكله وأزماتــه
النفســية في مختلــف مراحــل حياتــه ،وهــذا األدب قــريب من مفهــوم القــارئ ألنــه يكتب عن
موضوعاتـ يعيشها في واقعه اليومي ال يمكن أن يتخطاها أو يتجاهلها ما دام اإلنسان حيا ً " .3
فإنــه وحــده الخطــاب القــادر على أن يلعب دوراً مؤسسـاًـ لخلــق قاعــدة من جــودة االتصــال
وفاعليــة االســتجابة المتبادلــة بين األدب وجمهــورـ القــراء " فهــو من أكــثر العوامــل الفعالــة
والمؤثرة في أي مجتمع وتحديدـ نفســياته " 4بتجســده حركتــه واســتيعابه ظــواهره ،وهــو -بال
شك -ال يولد في فراغ ،وال يصنع نفسه منفصالً عن المهيئــات ،فال يمكن ألي عاقــل أن يفهم
لحظة ميالد فن كفن الروايــة أو القصــة القصــيرة وهي فنــون تســتقي مادتهــا من حركــة الحيــاة
وتفاعل الجمهورـ إالًّ من خالل كونها تجربة واقعـة في الـوعي الجمعي لمجتمـع مـا ،أو موقفـا ً
نابعا ً من هذا الــوعي أو رؤيـة لمـا يحــدث من تغيــيرات في البــنى االجتماعيـة والسياســية الـتي
يحتويهاـ ،فالروايــة والقصــة القصــيرة ال تنشــآن ضــمن عوامــل خارجــة عن الزمــان والمكــان
االجتماعيان ،وإنما تتشكالن ضمن دينياميات التغيير وأثرهــا المتبلــور في الواقــع االجتمــاعي
بمضامينها المختلفة ،فتأتيان مستجيبان لقوة تأثيرات خطابات أخرى تسبقهما أو تعاصــرهماـ ،
فالصيغـ الفنية القصصية والروائية ال تولد إال ضمن بنيات سياســية واجتماعيــة وثقافيــة تتــواءم
معها ،فهناك دوما ً عالقة تناظر حاصلة بين بنية الشكل الروائي والبنى المعاصرة له .
وألن هذه البنى في المجتمع اليمني بــني شــديدة التقليديــة والصــالبة ،فــإن ظهــورـ مثــل هــذه
األبنية الفنية لم يتحقـق إالَّ بعـد أن تـآزرـ -وإن بشـكل غـير مقصـود -الشـعر بنوعيـه العـامي
والفصيح اآلخذ بأسباب الجديد مــع المقالــة عــبر الصــحافة ،الــتي لعبت دوراً مهمـا ً في تنشــيطـ
الهمم نحو حركة بعث جديدة وكانت وسيلة ناجحة لتغذية العقل وتربيــة الــرأي وإثــارة الفكــر ،
فهيأا معا ً الوعي الشعبي واألدبيـ لتقبل األدوار التي نهضت بمهامها الرواية والقصــة القصــيرة
في اليمن بعد ذلك .
ومــع تفهمنــا حقيقــة أن التغيــيرـ الــذي تحدثــه الروايــة والقصــة القصــيرة ال يكــون مباشــرا
وسريعا ً ،ومع قناعتنا بحقيقة العالقة األكيدة بينهما والتغيــير الــذي يشــهد كـل يــوم تسـارعا ً في
مجتمعنا ،فإن هذا ال يصرف اعتقادنا إلى أن اتجاه التغييرـ يتخذ مساراً واحداً ،فقد يحدث أوالً
واع ،وقدـ يحدث فجأة ،وقد يحدث كحصيلة في وعي اإلنسان وتصوره وقد يحدث بشكل غير ٍ
1جابر عصفور ( زمن الرواية ) (ص) 111
2محمد زكي العشماوي ( األدب وقيم الحياة المعاصرة ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ،اإلسكندرية ،د ،ت (ص) 186
3محبة حاج معتوق ( اثر الرواية الواقعية ) (ص) 15
4المرجع السابق (ص) 28
آلالف ردود األفعال الصغيرة وما ينشأ عنها ،لكننا نعلم أكيداً أن التغيير الذي تحدثانــه في أي
مجتمع يوم أن تحدثانه يصبح ضاربا ً جذوره في أعماقه مما يكشف عن قدرة هذين الفــنين ليس
فقط في استيعاب حركة التغيير واحتواء ظوهراهاـ ،وإنما في هضمها وتمثلها وتغذيـة دوافعهـاـ
التي تدفعها نحو األمام واستقصاء معيقاتها والوقوف في وجه كوابحهاـ .
وفيـ اليمن حيث تكشــف التجربــة الروائيــة والقصصــية عن عالقــة قويــة بحركــة التغيــير
االجتماعي السياسي ،وهي عالقة تشير إلى اكتساب هــذه التجربــة طابعــا سوســيولوجياـ يتمــيز
بتشابكه العضوي مــع الظــرف التــاريخي لهــذه الحركــة ،فــالتغييرـ في اليمن قــد أوجــد الروايــة
والقصة القصيرة اللتين استوعبتاه كما لم يســتوعبه فن آخــر حــتى تجســدتا بــه حالــة ممــيزة من
احتفاء الفن بالمتغيرات االجتماعية ،بل وحالة من سعيه إلى خلــق هــذه التغيــيرات وإحــداثها ،
فلم تكونا مجرد مستودعـ أو نموذج فـني يعكس هـذه التغـيرات ،وإنمـا تشـكلتا منبعـا َ ومصـدراَـ
لها ،وألنهماـ قد حددتا مجالهما الذي يضمن لهما حالــة من التجــاوب في بيئــة ذات خصوصــية
يمنية .
فقــد ســعتا من تشــكيالتهماـ -في بــادئ أمرهمــا -إلى أن تصــبح هــذه التشــكيالت نموذجـا َ
الستيعاب الواقــع ومواءمـة حركتـه مـع مــا يتقبلــه من مســتويات فنيــة ،متنـازلتين في صـياغة
أهدافهماـ عن بعض القيم الفنية من أجل خلق أرضية من التقبل لــدى جمهــور القــراء ،فتــذرعتا
برؤىـ ال تقدم كثيراَ لمقاييس
األبنية الروائية والقصصية المتطورة ،كتلــك البــدايات الرومانســية المضــخمة بنقــد بعض
التقاليد والسلوكيات االجتماعية ،والهادفة إلى خلق مجتمع يتسم بعالقات إنسانية أفضل ،والتي
نجــدها في ســياق القصــة القصــيرة والروايــة في مراحلهمــا األولى ،وهــو ســياق لم تنفــرد بــه
التجربة اليمنية ولم تختلف فيه عما جرى على المشهد األدبي في بقيـة األقطــار العربيــة حين "
كان األسلوب االبتداعي أو الرومانسي هو األسلوب الغالب على المشاعر واألذواق في الشرق
العربي في أوائل هذا القرن ،ألنه األسلوب الذي يجمع بين الفكر والعاطفة والخيال في صــور
جميلة عن الفن ،وألن حياتنا االجتماعية كانت ال تــزال بســيطة لم تتعقــد بعــد ،فال تحتــاج من
الكاتب التحليل والتعليل والكشف ،ثم كنا وكان النـاس يومئـذ انفعـاليين نتـأثر بسـبحات الخيـال
أكثر مما نتأثر بصـدق الواقــع ونطـربـ للصـورـ البيانيـة الـتي تهـز القلب والوجــدان أكـثر ممــا
نطرب للصورـ الواقعية التي تحرك العقل والذهن .1
ثم أخذت تركز مضامينهاـ الموجهة إلى نقد العادات والتقاليد االجتماعية والوقوفـ في وجــه
الســلوكيات المرفوضــة من خالل تجــارب تهــدف إلى خلــق مجتمــع ينعم بعالقــات اجتماعيــة
وإنسانية أفضــل ممــا هي عليــه ،وإن ظلت الشخصــية فيهــا تمثــل فــرداَـ يعيش أزمتــه الخاصــة
وهمومه الذاتية بعيداَ عن التفاعل مع أحداث البيئة االجتماعية والتأثرـ بها .
ثم أخذت تــدخل في قضـاياـ اجتماعيـة وسياســية هي أقــرب إلى القضـايا الحقوقيــة العامــة ،
هادفة من وراء عرضــها إلى نقــد واقــع هــذه القضــايا وإثــارة االنتبــاه إليهــا ،كحــق اليمــني في
الحرية وحق الفالح في العيش بسالم على أرضــه ،وحــق المــرأة في اختيــار شــريك حياتهــا ،
وحقها في التعليم والعمل .
1عبد المحسن طه بدر ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1938 -1870م دار المعارف ،القاهرة ( .ص) 229
ثم تطور األمر لتصبح الزواياـ المتناولـة أكـثر تحديـداَ وتصـبح التنـاوالت -مـع اإلقـرار
بحال التباين بين الكتاب في مستوى اإلفادة من التكنيك القصصي والروائيـ -أكثر دقة ومهارة
حيث أخذ الكتاب يسلطون أضواءهم الكاشفة على حيــاة بعض الشــرائح االجتماعيــة حين تجلى
لهم أنه " في كل مجتمع أنواع من الناس ،وفي كل نوع أناس متشابهون فيمــا بينهم ،يتحــدون
في أحوال ميالدهم ونشأتهمـ ويتفقون في مصالحهم وحاجاتهم وأذواقهم وعاداتهمـ وثقافاتهم كمــا
يتفقون في بواطنهمـ ،فإذا رأى المرء واحدا منهم فقد رآهم جميعا َ " 1فظهر العمال والفالحون
والصيادون وتجلت حياتهم بما يعانون فيها من ظلم وقهـرـ ومــا ينشــدون من إنصــاف ،وتجــرأ
الكتاب حتى أخذ الواحد منهم يشير بإصبع اإلدانة إلى النظامـ االجتماعي والسياسي الذي غابت
عن برامجه كافة الضمانات التي تضمن للفقراء والمعدمين والعاجزين حياة كريمــة ،كــل هــذا
في أعمال جاءت نهاياتها في أغلب األحيان مضمنة بحلول مقترحة مبشرة ومتفائلة .
كما لم تغفل هذه األعمال في معالجتها زواياهاـ تصوير بعض مظاهر الكفاح الوطنيـ الذي
خاضته الطبقات الشعبية ضد االحتالل البريطانيـ في الجنــوب ،مقدمــة خالل هــذه المعالجــات
شخصيات هي أقرب إلى النمـوذج االجتمــاعي الـذي يحمـل خصـائص طبقـة اجتماعيــة بـذاتها
ويعبرـ عن أفكارها وقيمهاـ ،ومن ثم يمكن أن يكون هذا النــوع من األعمــال مصــدراَـ -إلى حــد
2
ما -من مصادر التاريخ للحقبة الزمنية التي تقع فيها أحداثها
وقدـ حملت الرواية والقصة القصيرة اليمنية على الدوام هما َ اجتماعيا َ وسياســيا َ كشــفت
عنه عناوينهاـ بوضوح ،ووقفت على مشــكالت يعــاني منهــا النــاس ،معتمــدة في ذلــك على
إحساســهاـ العميــق بــالواقع الــذي تنتقي منــه تجاربهــا الــتي تعكســها بــوعي يمــتزج فيــه الهم
السياس ـيـ بــالهم االجتمــاعي لــدى كتابهــا الــذي عكســت كتابــاتهمـ عميــق االنتمــاء الوطــني
والتضامن االجتماعي ،وتحددت رؤيتهمـ في كون التغيير ال يتم عبر التأمل والعزلة ،وإنما
من خالل ممارسة الفكرة والســعي إلى ترجمتهـاـ لتخلــق الواقــع الــذي نريــد ونحلم ،والــذين
تفتقت أذهــانهم وتفتحت أعينهم خــارج نطــاق األدب الفــردي الســلطوي المتصــل بتصــوير
العالقات الشخصية ،ذلك األدب الذي ذهبت بعض الرؤى إلى كونه أدبا َ ال يصور المفهوم
3
الصادقـ للحياة وال يحمل القوة الخالقة التي تكمن وراء بناء المجتمعات وتطويرهاـ
فبعد ما اشتدت مآسي الواقع وعال بؤسه ،وانكشف بوضوحـ تخلـف وتسـلطـ وتـزمت نظــام
الحكم القائم عليه ،وسعيه الملح في الحفــاظ على حــال الثبــات االجتمــاعي والجمــودـ الفكــري ،
وعدم االعتراف بالواقعـ وما يعانيه ،تجلت لعيون هؤالء الكتاب أهدافهم بوضوح فاتجهوا إلى
زعزعة هذه الحال ،بااللتفات إلى الواقع وفضح ما فيــه من فســاد بــالنظر إلى مشــكالته نظــرة
فاحصة ،والتطلع إلى آفاق جديدة في محاولة منهم لتغيير الواقع وكشــف قيمــه الــتي عــاش في
ظلها النظام القديم ،وإحالة هذه القيم عبر المعالجات األدبية إلى قوة إيجابية دافعة نحو التحــرر
واالنعتاق ،ليعــود الفكــر حــراَ بعــد تقليديــة ،وواقعيـاَـ بعــد مثاليتــه الهروبيــة ،واالعتمــاد على
تجارب حياتية تكشف عري هذا الواقع وعفنه ،وتنظرـ إلى الجماعة اإلنسانية كعامل فعــال في
1د .محمد غنيمي هالل ( .النقد االدبي الحديث ) دار نهضة مصر ،د .ت (ص) 549،548
2محمد زكي العشماوي ( االدب وقيم الحياة المعاصرة ) مرجع سابق (ص) 118
3محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) دار الكلمة ،صنعاء 1985م ،ط( 2ص)270
التاريخ والتطورـ ،وهي الجماعــة الــتي رأى الكتــاب فيهــا تعزيــزاَـ لمــوقفهم الســاعي إلى قــول
الحقيقة الخالقة ،التي تمكنهمـ من بناء المجتمــع والمشــاركة في تطــويره ،فاألعمــال األدبيــة ال
ينظر إليها في ظروفـ كظروف المجتمــع اليمــني إالَّ من حيث اعتبارهــا أعمــاال تــؤديـ وظيفــة
اجتماعية وسياسية ،تنهض من خاللها عـامالَ من عوامــل التطــوير المجتمعي المحفــز لحركــة
التغيير والكفاح من أجل تحرير اإلنسان من قاهريه ،ووسيلة من وسائل بناء الحياة وتطويرهاـ
في مجتمع هو بأشد الحاجة إلى الجهود الموجهة لعملية التغيير والباعثة على الطاقــة اإليجابيــة
في النفوس عبر عرض النماذج البشرية المختلفة في تفاعلها وتجاوزها و انتصارها .
ولــدى شخصــياتها المختــارة الــتي قــدمت رؤيــة واضــحة للشخصــية اليمنيــة ،في إحباطهــا
وعجزها وقمعها وفقرها وجهلها ومرضها وتعطلها وانهيارهاـ ومقاومتهاـ وتمردهاـ وتحررها ،
فأصبحتـ حياة هذه الشخصــيات صــورة من صــور المعانــاة واالضــطراب والســعي في البحث
عن هوية ،بل وغدت شهوة تغيير الحياة برمتها وقلب معادلتهــا لــدى بعضــها تعبــيراَ عن هــذه
الهوية ،وغداَ تغيير الواقع هو من يحقق لهــا هويتهــا حــتى أصــبحت خالل معالجتهــا الروائيــة
والقصصية -بأدوارها التي قامت بتأديتها والتي تكاد أن تصــبح أدواراِ نمطيــة -نمــاذج قويــة
للرفض ترقى بما اكتسبته من عمق معنويـ وأدبي إلى مستوىـ الرموز الخالدة .
فالفالح :يتمسك بأرضه متحليا َ بالصبر ،متحديا َ ضغوطـ السلطات وتحدياتـ الطبيعــة
القاسية حتى إذا ما تفاقمت الظروفـ وتكالبت الضغوط ترك أرضه وقريته إلى مكان آخــر في
شكل من أشكال الــرفض ،ورغم أن صــلته بأرضــه -الــتي يظــل يتطلــع إلى أخبارهــا من كــل
القادمين منها -ال تنقطع أبــداَ ،كمــا أن صــلته بأهلــه تســتمر من خالل مــا يرســله من مــال من
غربته ،فـإن الموقـفـ من هـذا الحـل الـرافض قـد اختلـف إلى حـد التبـاين بين من يتوجـه إليـه
باإلدانة كما في معظم أعمال محمد عبدالوليـ ،ومن يتعاطفـ مع حاله كما في أعمال قصصــية
وروائية أخرى كقصة السؤال لكمال الدين محمد وقصة الكراتين لمحمد مثنى وغيرها .
والمرأة :تظل تعمل طوال الوقت متحديــة كــل الظــروف ،صــابرة على بعــد زوجهـاـ ،تــربى
األبناء ،وتهتمـ باألرض وبأسرة الزوج في انتظار الفرج المتمثل بعودته ،ووضعها في القصة
والرواية اليمنية وضع مثير للتعاطفـ .
والمثقف :وهو شخص يعاني من غياب الظرف الطبيعي الــذي يســتوعب وعيــه ،وهــو غــير
متوائمـ مع مجتمعه في الريف والمدينة ،رافض لكل ما فيه ،لكنه مع هذا الرفض يحمل رسالة
يؤديـ خاللها للقارئ دوراَ تنويرياَـ يضيء وعيــه بواقعــه ويوجــه طاقتــه اإليجابيــة ،وإن انتهى
في بعض األحيان إلى حال من الضياع الوجوديـ .
ويظهرـ العمــال مسـلوبيـ الحقـوق ،محـاربين في وطنهمـ وفي أرزاقهمـ ،فســوا َء كـانوا من
أبناء الجنوب أو من أبناء الشمال الذين يظهرونـ خالل هذه األعمال وعيا َ واضحا َ بممارســات
التفرقة بين أبناء الشمال والجنوبـ ،تلك الممارسات التي كانت تذكي باشتدادها عميق قناعتهم
بواحدية الوطن أرضا َ وإنسانا َ .فهم يواجهون نفس التحــدي حيث االســتعمارـ يحــاول اســتبدالهم
وإحالل القادمين من أبناء الجاليات األجنبية في وظائفهم ،وهم دائما َ تجمعهمـ رغبــة االنتفــاض
على ما يواجهون من تحديات ،وفي كثــير من األعمــال يتحــرك هــؤالء العمــال لوضــع حســم
لمعاناتهمـ ،لتنتهي حركتهم إلى نمط من الكفاح البطولي في سبيل الجماعة ،ليصبح تصويرـ ما
يقومون به أو يقدمون على فعله نمطا َ من التعبير المرتــد إلى الحيــاة ليحث خطاهــا نحــو التقــدم
والتطور .
وحتى االنتهازيين وتجــار الحــروب والخــائنين والمتــآمرين والخونة ،لم تغفلهم األعمــال
الروائية والقصصية بل سعت إلى كشفهم وتمزيق األقنعــة الــتي تتــوارى خلفهــا مالمح أوجههم
القبيحة ،وكان موقفـ هذه األعمال منهم محدداَ بصرامة .
فأما الحاكم فهو سر المأساة وسببها األوحد ،وهو الخائن لشــعبه القاســي غــير الملتفت إال إلى
مصالحة ،المهمل لحقوق مواطنيه ومصالحهم المتعالي على عذاباتهم ،الجاهل القامع النزق ،
إنه باختصـار الكــابوس الـذي ال يـأتي ذكــره إالًّ واســتجلب معـه كــل معـاني القسـوة والبطش ،
وعماله هم سلطاته المتنفذه وأدواته التي يتنزل بها كالصواعق على أقوات الناس وأرزاقهمـ بل
ومصائرهمـ .
وهم إلى جانب وعيهم بتعليمات الحـاكم وسـعيهمـ إلى تنفيـذ أوامـره ،هم أيضـا َ إقطـاعيون
يعون مصالحهم ،يملكون األرض ويستبدون بالبسطاءـ مضاعفين همهم و معاناتهم .
هكذا كانت األعمال الروائيــة والقصصــية والتـزال نموذجــا فنيا يجســد لـديناميات التغيــير
بمضامينها المواكبة والمتجاوزة والتي صورت أحـداثا َ سياسـية مهمـة ،ودونت لمالمح الـزمن
السياسيـ الذي تتحرك فيه أحداثها ،مذكية من خالل ذلك الوعي بحقيقية
الواقع البــائس الحــزين ،حيث فســاد الســلطة وتعنتهـاـ وجهلهــا وســوء إدارتها همــا على الــدوام
أسباب تقف وراء استمرار المعاناة ،وكانت ميدانا َ اجتماعيا لممارسة الحرية ،وبــديالَ صــانعاَـ
للحريــة الغائبــة أكــثر من كونهــا مجــرد تعبــير يرصــد حركــة الواقــع كمــا هي عليــه ،فــالواقع
المصورـ فيها هو هدف لعملية التغيير التي يعلن عنها صراحة في بعض األحيان
وبذلك أسست هذه األعمال لخطاب يــدل على الواقــع ويفارقــه في نفس الــوقت ،فــالوعي الــذي
يتكشــف في الواقــع عناصــره الســلبية يتحــول فيهــا إلى وعي يبحث عن عناصــر التغيــير في
الواقع ،حتى وإن تمثل بإظهارـ حالة عدم االندماج بين شخصية العمــل وواقعهــا ،فــالتغيير هــو
أهم ما حرصت عليه هــذه األعمــال ،وهــو مــردد على لســان أكــثر من شخصــية فيهــا ،ونحن
كقراء نصل إلى قمة التعبيرـ المقاوم من خالل الواقع المتحرك والشخصية المتحركة فيه بتمرد
،والمتحولة بمقاومة .
الواقع السياسي واالجتماعي هدف التغيير :
لقد اجتذب الواقـع السياسـي واالجتمـاعي في اليمن كتـاب الروايـة والقصـة القصـيرة ،فال
تكاد رواية أو قصة تنشأ بعيداَ عن مالمح هذا الواقع ،أو تشغل بغـير مـا شـغل بـه سـوا َء قبـل
قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر أو بعد قيامهماـ ،فأبناء الطبقة المتوسطة الــتي تشــكل لب المجتمــع
اليمني وجماهيره العريضة ،هم من يتحركــون خالل هــذه األعمــال ومشــكالتهمـ الــتي يعــانون
منها في ريفهم أو مدنهم أو مهاجرهم ،وما يضطرم في دواخلهمـ من نــوازع التمــرد والــرفض
ورغبات التغيير هو ما انشغلت به هذه األعمال ،فمن هذه الطبقة جاءت الطليعة التي أيقضــت
فكر النضال ،ومن مجموعها اضطرمت حركة الكفاح الوطنيـ في ســبيل التحــرر ،فكــان منهــا
العمال والفالحون والصيادون والطلبة في المدارس الذين انخرطواـ في تعــز وعــدن على وجــه
الخصوص في تنظيمــات وأحــزاب سياســية أمالَ في التضــامن ووحــدة الحركــة النضــالية لنيــل
الحرية واالستقالل ،فمن هذا الواقع االجتماعي ومن هذا الحراك السياسي اســتلهمت األعمــال
الروائيــة والقصصــية اليمنيــة مادتهــا وهــو مــا دونتــه هــذه األعمــال خالل صــفحاتها ،فقيــاس
أثرالواقـــع االجتمـــاعي والسياســـيـ المعيش باعتبـــاره المرجعيـــة األســـاس في تشـــكيل البـــنى
والمعالجات الروائية والقصصية ،يبدو أمراَ ممكنا َ مع ما سلف تقديمه غير أن قيــاس أثــر هــذه
البنى والمعالجات في عالمها الواقعيـ يبدو أكــثر صــعوبة ،ذاك أن انعكــاس الســياق الخــارجي
على البنى المعالجة الروائية والقصصية يشـكل مكونـا َ ثابتـا َ فيهـا ،ووجـودـ قـارا مسـطراَ على
مساحة من الورقـ ،واألمرـ ال يستدعي معه أكثر من دراسة المتخيــل الــروائي أو القصصــي ،
وفك شفرات بيئته الداخلية والوقــوف على عالئقــه الــتي يرتبــط بهــا مــع المــرجعي الحي الــذي
يحيل إليه.
بينما يشكل قياس أثر الرواية والقصة القصيرة في عالمهما الواقعيـ صعوبة من زاوية كون
هذا األثر مسألة دينامية متحركة ،وحركتها ال تنمو متصاعدة بالضرورة ،كمــا أنهمــا ال تنمــو
في اتجاه واحد ،مما يفرض على مستكنة حقيقة
هــذا التــأثير القيــام بدراســات ميدانيــة مختلفــة ،يتشــعب تنوعهــا إلى علــوم أخــرى كالتــاريخ
والجغرافيا والدراسات النفسية واالجتماعية التي تستهدف المهتمين فتستطلع آراءهم ووجهــات
نظرهمـ في مقدار و مدى التأثير الحاصل .
ولكي تتغلب الدراســة على صــعوباتها ،فإنهــا ســتركن إلى حقيقــة تعلنهــا طبيعــة تشــكيل
األعمال الروائيــة والقصصــية اليمنيــة في مضــامينهاـ وبناهــا التكوينيــة ،تلــك هي حقيقــة كــون
الواقع المتحرك فيها والذي مثل تغييره همها األوحد وألجله وظفت إمكاناتها التكوينية هو واقع
له وجوده الموضوعي خارجهاـ .منطلقة إلى بلوغ غايتها من الوقوفـ على حقيقة الــدور الــذي
يمكن أن تكــون الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة قــد لعبتــاه في حركــة التغيــير السياســي
واالجتماعيـ عبر فرضيتين ،إحــداهما جزئيــة تقــوم على تأويــل النص الــروائي والقصصـيـ
عبر المزاوجة بين رصــد انعكـاس السـياقـ الخـارجي على النص وفــك شـفرات بيئتـه الداخليــة
بهدف الوصولـ إلى الكيفيــة الــتي يســتجيب بهــا النص الــروائي لواقعــه الــذي ينبت فيــه ،وهنــا
تظهر قراءة العناصر البانية من زمان ومكان وشخصياتـ .
وثانيتهما كلية تفضي إليها الفرضية األولى ،وعليها تدير الدراسة حركتهاـ حيث تحــاول تلمس
التجليات الخاصة لشفرات النص الداخلية من أجل الوقوف على غاياته التغييرية ،وهنا تظهــر
الموضوعاتـ المطروقة وغاياتها المتدرجة .
الفــصـــل األول:
الزمن السياسي واالجتماعي
)1الزمن السياسي واالجتماعي في أعمال تم وضعها قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب .
)2ال$$زمن السياسي واالجتم$$اعي في أعم$$ال تم وض$$عها بعد ث$$ورة الش$$مال واس$$تقالل الجن$$وب ،وهي
نوعان :
أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب
أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب
1عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) دار الهمداني للطباعة والنشر /عدن 1983م ،ط( 2ص) 7
2المرجع السابق (ص)22
3علي باذيب ( ممنوعـ الدخول ) مؤسسة الصبان ،عدن 1968م (ص)7
4محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق) مرجع سابق ()218
5صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص)28
6محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص) 28
)3إنه زمن الجمود الفكري والتأخر الثق!!افي ،فيه ك!!انت تك!!ال التهم الج!!اهزة ال!!تي تصك بطريقة ذكية
تت!!واءم مع حالة الجهل والتخلف! وما يفرزانه من وعي مت!!دن ،ح!!تى تتجلى تهم مرعبة ،تقض
مضاجع من تكال لهم ،كتهمة الشيوعية ،ال!!تي نلتقيها في قصة ( أنت ش!!يوعي ) " و في الي!!وم
الث!اني ط!رق ب!اب ال!بيت ال!ريفي ط!ارق وعن!دما فتح الب!اب وج!دها فص!يلة من الجن!ود قوامها!
عشرون جنديا َ ببنادقهم ودخلوا وطلبوا أحمد صائحين :فين الش!!يوعي ..يخل!!وه يج!!اوب المق!!ام
وأع!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!ادوا الص!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!وت م!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!رة أخ!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!رى :
--إيه ..أحمد ..أحمد الشيوعي ،وقال لهم أحمد :
-أعوذ باهلل من الشيوعية – أنا مسلم مثلكم ...ماذا حدث ؟
-أنت كنت تسفه اإلمام موالنا أمس في بيت صهركـ الحاج أحمد يــا شــيوعي ،إيـه أنت
شيوعي ،فقال لهم أحمد باختصارـ :واآلن ..فأجابوه " -:جاوب المقام الشريف !ولم
1
يدعو له فرصة الرد بل جروه "
فقد كانت التهمـة توظـفـ لتأديـة أكـثر من معـنى وبحسـب الحاجـة ،فهي عنـد االسـتعمار نعت
للقبائل المحاربة يعني االنحالل واإلرهاب ،وهي عند البرجوازيــة العربيــة والرجعيــة اليمنيــة
مبدأ مستوردـ ،وهي عند اإلمام إلحاد وردة تستوجب تطبيقـ حكم المرتد في الشريعة اإلسالمية
2
على من يتهم بها .
)4إنه زمن يبدو عليه تأثير المد القومي لث!!ورة يوليو! 1952م على األح!!رار والمناض!!لين
في اليمن ،وقد تجسد هذا التأثير في أكثر من ص!!ورة خالل األعم!!ال القصص!!ية ،وقد!
أش!!رنا إلى ه!!ذا في موضع س!!ابق ،غ!!ير أن الت!!أثير األك!!بر يكمن في اعتب!!ار الوح!!دة
العربية هدفا أسمى لحركة النضال التي تبدأ من اختيار نظام حكم يمثل الش!!عب ويحقق
له وحدته الوطنية ،يقول زعيم العدين الذي م!ات كم!داَ في الس!!جن " :ف!أي تفك!ير في
وحدة البالد العليا والسفلى المحتلة والمعتلة ،بل وأي تفكير في الوحدة العربية ،سوف!
تك!!!ون دعامته في المس!!!تقبل اختي!!!ار نظ!!!ام حكم ش!!!عبي يمثل الش!!!عب كله على أسس
ديمقراطية ،وي!!ترتب! على النظ!!ام ال!!ديمقراطي! الش!!عبي حي!!اة للمواط!!نين على ق!!دم
المس!!اواة في كل ش!!أن من ش!!ؤون الحي!!اة ،كما ي!!ترتب عليه أيضا ق!!درتهم! على تحقيق
الوح!!دة العربية ،إن نظ!!ام الحكم هو الض!!مانة الوحي!!دة الق!!ادرة على خلق ش!!عور! من
االطمئنان المطلق إلى العيش بأمان في ظل وحدة محلية في ال!!وطن الص!!غير! ،كما أنه
3
الضمانة الوحيدة التي تمكن الشعب وتتيح له أن يختار طريق الوحدة العربية "
إنه زمن حراك سياسي! وإض!!رابات ش!!ملت قطاع!!ات وش!!رائح مختلفة من أبن!!اء الجن!!وب ال!!ذين )5
أظهروا! خالل هذه الفترة وعيا َ بقيمة التض!!امن واالنتم!!اء للحركة الش!!عبية الجماعية ،وتص!!ور!
ساللتي .....ساللتي ....؟ وهل لي أو لغيري ساللة تتميز بشريعة خاصة بهــا ،وهــل أنــزل
هللا على محمد عليه الصالة والسالمـ شــريعتين اثنــتين ،شــريعة لســاللته وشــريعة ألمتــه ...إن
مثل هذا الكالم ال يقوله الملحدون وال الوثنيون وال المجانين .2
-4وهو زمن إلى جانب كونه تشطيرياَـ ،هو أيضا زمن التفــرق بين أبنــاء الشــعب الواحــد إلى
فرقـ ومذهبيان ظلت تغذيها اإلمامة طوال فترة حكمهــا ،يخــاطب زعيم حاشــد اإلمــام علي بن
أبي طالب ،فيقول معرضا َ بالظالمين " :لقد اتخذوا من اســمك وقدســيتكـ في قلوبنــا أداة للعبث
وسالحاَـ للبطش بشعبنا وتمزيقــه واســتعباده فقســموناـ أقســاما ليضــربواـ بعضــنا ببعض ،نســبوا
البعض منا إليهم فقالوا زيدية ،ونسبوا البعض اآلخــر إلى غــيرهم فقــالوا شــافعية ،لقــد جعلــوا
الزيدية جنــوداَ لهم ينهبــون القســم اآلخــر باســمهم ،ويبطشــون بهم ويســتبيحون أمــوالهمـ ،وقــد
زعمــوا لنــا أنهم كفــار تأويــل وســلطوناـ عليهم ظلم ـا َ وعــدوانا َ ،إنهم يجيعونن ـاـ ويفقرونن ـاـ ،ثم
يسلحونناـ ويطلقونناـ كالوحوش الكاسرة النهمة على إخواننا وأبناء جلدتنا في بالدنــا الجنوبيــة ..
اســتعبدونا بالعقيــدة والفقــر ،واســتعبدواـ إخواننــا اآلخــرين بســالحنا ،وجعلــوا منــا أداة للنهب
3
والسلب "
)5إنه زمن يشهد على حكم أفقد المجتمع كثيراَ من قيمه العربية والدينية األصلية حيث
تفشت فيه -بفعل القمع المفرط -قيم سلبية من الخيانة والخذالن والغــدر وبيــع الــذمم ،وألجــل
ذلك طفحت عاطفة الشاعر وانفعاله ،فأخذ ينشئ على يد أحــد الشــهداء متحفـا َ مصــمماَـ لمقــبرة
تبرز صورة ميتة عن الشعب الذي استكان واألسر التي خــذلت الثــوار وخــانت األمانــة منهــا :
علماء صنعاء ،بيت آل شرفـ الدين ،وآل العمري ،وآل زبارة وغــيرهم .ومن عتــاب شــهيد
حاشد حميد األحمر ألشراف الجوف يذكرهمـ بالعهد الذي في أعناقهم نسوق " :إنني أشكو إلى
اإلمام الهادي ما فعله األشراف في الجوف معي ،إنني حينما اشتد الخطــر عل ًّى في المشــرق ،
قررت أن الجأ إلى شهامة أشراف الجوف ،وأن أضع رأسي وحيــاتيـ وحيــاة أســرتي كلهــا في
أيديهم ،ألني أعتقد أنهم قبائل أشــراف وأوفيــاء ،وأنهمـ سـيقاتلون في سـبيل الـدفاع عن كلمتهم
ووجههم وذمتهمـ ،وقــد أعطــونيـ وجــوههمـ وعهــودهمـ بأنــه لن ينــالني ســوء وال مكــروه ،
واعتبرت هذا عهداَ منهم ووجهاَـ شريفا َ لم يعطوه لي وحدي ،وإنما أعطوه لحاشــد كلهــا ،وقــد
1محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص) 201
2المرجع السابق (ص)201،202
3محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص) 241
سلمت نفسي إليهم بناء على هــذه الثقــة ،وقــالوا أنهم ســيأخذون لي أمانــا من الحكومــة يصــون
1
وجوههمـ وشرفهم ،وقد أعطاهم الطغيان كلمة وسلمونيـ إليه ولكنه ذبحني "
ومن القيم التي رأى الكاتب تهددها في مجتمع مقموع قيمه نجــدة الملهــوف وحمايــة الالجئ
والوفــاءـ بالعهــد ورد الحــق إلى أصــحابه ،والشــجاعة واإلقــدامـ والتضــحية ،والرضــى بقليــل
الجزاء ،يقول :منوها َ إلى هذه القيم ومستنهضا َ همم القبائل على لسان اإلمام الهــادي " :أنت
قبيلي نعم ......وفي هذا فخر كبير ،ومن أيد الحــق ورفــع رايــة العروبــة واإلســالم إلى أقطــار
المعمورة غير القبائــل ؟ إنهم الفئــة الــتي تعمــل لوجــه هللا ،وتبــذل أرواحهــا وأعمارهــا ،وتقيم
الممالك وتحمل أعباء المعارك ،وتسكب كل دم جديد في عروق المجتمع المتحضرـ كلما شــاخ
وأصــابه الهــرم ،ومــع ذلــك فهي تبقى راضــية بالقليــل من الجــزاء ،وبالخشــن من العيش
وبالشظف من الحياة ،وتظل مجندة بالفطرة والغريزة طوال العصورـ ،فهي الحامية المانعــة ،
وهي المعقل والحرزـ ،وهي السالح في يمين الشــعب يهــزه كلمـا ألمت بـه الملمــات ،ولوالهـا
لفني العرب وانقرضواـ ،وانحلت قواهم في ســمومـ المدنيــة وانســحقوا تحت أقــدامـ الغــزاة ،إن
القبائــل هي ينبــوع العروبــة تتفجــر بــه الصــحاريـ والجبــال منــذ القــدم ،يتــدفقـ كــالنهر العظيم
ويتسلل إلى كل مصــب من مصــباته في المــدنيات البابليــة واألشــورية والفينيقيـة والمصــرية ،
ويغذيهاـ بعناصر العروبة المتجددة القوية النامية على مر العصورـ ،حتى جــاء اإلســالم ووجــد
في هذه البالد قاعدة شعبية عريضة من العروبة القديمة األصيلة ،تجاوبت ســريعا َ مـع جيـوش
الفتح ،وطردت فلول الرومان والفرس ،واتحدت كلها والتحمت وانسجمت كمــاء البحــر تحت
2
راية واحدة "
هكذا تبدى لنا هذا الزمن بكل عيوبه ونواقصه ،وهكــذا ظهــرت أعمالــه المنشــأة في ظالل
فترته متحركة في مربــع السياسـية ،مركـزة رؤيتهـاـ على فسـاد األنظمــة االســتبدادية الحاكمــة
راصدة ممارستهاـ من منطقة قريبة ،يحتل منها اإلمام والمستعمرـ جانبا َ ،ويحتل الجانب اآلخر
المعارضون الرافضون والمتمردون الثائرون .
وحركة األحداث في هذه األعمال ال تبتعد عن هذا المربع إالًّ لترتــد إليــه ،فقــد يــذهب الكــاتب
من عمله الروائيـ أو القصصي إلى رصـد معانــاة المجتمــع ومشــكالته ،غــير أن هـذه المعانـاة
وتلك المشكالت ال ينظر إليها إالًّ من زاوية كونها انعكاسا َ حتمي ـا َ لممارســات األنظمــة الفاســدة
وما يترتب عليها من ترد فكري وتراجع اجتماعي .
وأما رؤيتها التغييرية -وهي ما ستتناوله الدراسة في فصل الحق منها -فقد اس!!تهدفت! في جلها
المواطن البسيط ،وتوجهت إليه تكوٍّ ن وعيه الرافض أو تثير هذا الوعي بض!!رورة القي!!ام بفعل
رافض .
)3الزمن السياسي واالجتماعيـ في أعمال تم وضعها بعد ثورة الشمال واستقالل لجنوب :
)1أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب :
? 1مجلة المعرفة العدد ( 25 /24مارس يونيوـ فرع اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين بتعز (ص)110،112
2عبد المالك مرتاض ( القصة الجزائرية المعاصرة ) المؤسسة الوطنية للكتاب /الجزائر 1990م (ص) 41
وقدـ اختارت الدراسة لبلورة فكرتهاـ خالل هذا المبحث روايتين هما :رواية الرهينة لزيد مطيــع
2
دماج 1ورواية صنعاء مدينة مفتوحة
لمحمد أحمد عبد الــولي ،وهمــا روايتــان تكمالن بعضــهما في تغطيــة قيم مجتمعين بينهمــا
قدر كبير من التفاوت ،هما مجتمع السلطة في روايـة الرهينـة ،ومجتمـع المواطـنين البسـطاء
في الريــف والمدينــة في روايــة صــنعاء مدينــة مفتوحــة ،وبــذلك تعطيــان رؤيــة متكاملــة عن
المجتمع اليمني بمختلف شـرائحه وفئاتـه بمــا في ذلــك مجتمــع الحكــام وأربـاب الســلطة ،فهـذا
المجتمع رغم انعزاله وانغالقه وعزلته فإنه موجودـ وقائم في سياق الفترة التي تســجل لهــا هــذه
األعمال .
كما تغطيان حقبة زمنية تبدأ من أربعينيات القــرن العشــرين وتنتهيـ في أواخــر خمســينياته
عام 1958م تقريبا َ ،وهذه فترة تقع ما بين أخريات حكم اإلمــام يحــيى وكــل حكم اإلمــام أحمــد
تقريبا َ فيما عــدا ســنواته األخــيرة ،أمــا القصــة القصــيرة فنتيجــة لتطــور وعي الكتــاب -الــذين
سجلوا حضورهم على المساحة الزمنية القائمة بعد انفجار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب -
بطبيعة البنية القصصية واختالفـ تعاملها مع الزمن بالقياس إلى التعامل الــروائي معــه ،حيث
الزمن فيه لحظة قصيرة ال تــتيح الفرصــة أمــام بنيتهــا ألن تحتــوي من المعطيــات ذات الداللــة
الزمنية التي تبني تحددها متعالقة بوضوح مع زمن الواقع من حولهــا كمــا في البنــاء الــروائي-
فإن الدراسة ستعتمد في اختيارها األعمال القصصية التي ســتركن إليهــا كنمــاذج ممثلــة -على
تواريخ صدورهاـ أوالَ ،وعلى طبيعة الزمن الذي تجري عليه أحداثها .
ثانيا َ :مع التأكيد على أن األعمال القصصــية في طبيعتهــا – ال تقــدم " إجابــات محــددة ،لكنهــا
تثير قضاياـ معينة تبحث لنفسها عن حل على صعيد الواقع االجتماعي الــذي أوجــد هــذه القضــايا
وخلق تلك المواضيع الحياتية اليومية ، 3.وعلى أن هذه المعالجات إن صح لنا تعميم الحكم " ال
تحمـل أبعـاداً ومضـامين تاريخيـة اجتماعيـة واسـعة ،لكنهـا تتغلغـل في قـاع الحيـاة وشـوارعها
الخلفية التي تحمل الكثير من األسرار ،وإشكاالتـ الحياة اليوميــة وإرهاصــاتـ الواقــع الــذي أخــذ
يتبدل ويتحولـ ويخرج عن القاعدة السائدة ،وهذا أمر طبيعي ينسجم مع مواصفات هذه األعمال
القصيرة .إنها مشاهد من الحياة من هنا وهناك ،قد تبدو مبعثرة ال يربطهاـ رابــط مــا ،لكننــا إذا
دققنــا في مجموعهــا وقرأناهــا على أنهــا حلقــات تكمـل الواحـدة منهــا األخـرى ،لوجـدناـ أن هــذه
األقاصيصـ قائمة على أساس الربط المحكم بين أجزائها ،تشكل الحاجــة والتطلــع إلى األفضــل
4
واألمثل معنى من معانيها الهامة "
وبداية برواية الرهينة حيث يتحدد الزمن السياسيـ واالجتماعي فيها بـأواخر حكم اإلمـام يحـيى
وبداية حكم اإلمام أحمد بما يعني أربعينياتـ القرن العشرين بما حفلت بــه من أحــداث محليــة ،
كانت البذور الحقيقة لحركــة التغيــير السياسـي في اليمن ،وقـدـ تحـددت المحطـة األخـيرة لهــذا
الزمن بإخفاق ثورة 1948م ،والتنكيل بأحرارها وانتصار اإلمــام أحمــد ،وهي المحطــة الــتي
شكلت نقطة زمنية فارقة ،أو هي النقطة الزمنية الــتي بــني عليهــا الكــاتب مفارقتــه العظيمــة ،
1زيد مطيع دماج ( الرهينة ) رياض المريس للكتب والنشر /بيروت 1997م ،ط1
2محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) دار العودة /بيروت 1986م
3عبدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الحشب ) د.م /دمشق 1991م ،ط 1من تقديم الدكتور /أحمد على الهمداني للمجموعة (ص) 9
4المرجع السابق (ص) 87
والتي نفذ منهـا إلى غايتـه التغيريـة ،فعلى الـرغم من سـيطرة شـعورـ الهزيمـة ،وتعاظمـه في
نفوس أبناء الشعب المكلوم ،يكون تحقق فعل الخالص بتنفيذ الرهينة قراره بــالفرار ،ليصــبح
هذا الفرار صورة نموذجية لفعل الخالص اإليجابي الذي يحدث في أحلك الظــروف ،وتصــبح
رواية الرهينة عمالَ " يــدور حــول الحريــة والخالص الفــردي ،وهي توضــح بجالء كيــف أن
1
اإلنسان يستطيع االحتفاظ بروحه المعنوية العالية بالرغم من األذى الملحق بجسمه وعقله "
وهو زمن يمكن تحديــده بدقــة من خالل مجموعــة المعطيــات ذات الداللــة الزمنيــة الــواردة في
الرواية ومنها :
-1الصورالمعلقة على جدار غرفة الدويدارـ عبادي ،الذي يظهرـ في الرواية شخصــية مهتمــة بمــا
يجري من أحداث عالمية ،يطلع عليها من خالل " الراديو"ـ ذلـك الجهـاز الـذي يتفـاخر بكونـه
الوحيد الذي يمكنه إدارته وتشغيلـ محطاته ،يقول الرهينة " :كان مزهــواَ بأنــه يعــرف الكثــير
مما أجهل ،فيزداد تعاليا َ عنــدما يكلمــني عن ســماعه ألخبــار العــالم من مــذياع النــائب ،وبأنــه
الوحيد الذي يقوم بتشغيل ذلك الجهاز الذي يلتف لسماعه حشد كبــير من النــاس داخــل القصــر
2
وخارج أسواره أيضا ً ،يعرف كل األوقات وجميع المحطات والرموزـ واأللغاز "
وهي صــورـ لشخصــيات ســجلت حضــورهاـ التــاريخي األبــرز خالل فــترة األربعنيــات من
القرن العشرين ،كصورة " هتلر " و "موسوليني " و " عمــر المختــار" ،يتحــدث الرهينــة
عن صاحبه الدويدارـ قائالَ " :كان يقول كالمعلم العارف :هذه صورة (الفوهر) هتلــر ..وهــذا
( موسوليني) ملك الطليان أما هذا الشيخ الوقورـ فهــو ( المختــار ) ..عمــر المختــار"ـ 3وكــذلك
يرد اسم المذيع " يونس بحري " الذي كان على ما يبدو يعلق على األحداث المهمة خالل هذه
الفترة من إذاعة برلين .
وأسماء لفنانين يمنيين شهروا في تلك الفترة أمثــال ( القعطــبي و العنــتريـ و الماســي والشــيخ
علي أبو بكر ) .
-2اإلشــارة إلى انشـغال اإلمـام أحمــد بقضــية األحـرارـ ،يخــاطب النـائب شــاعر اإلمــام قـائالَ " :
وتعرفـ سيديـ انشغال موالنا حفظه هللا هذه األيام بقضية هؤالء الذين يدعون األحرار اليمنيين
في عدن ".
-3قول الدويدارـ ( عبادي ) مخاطبـاَـ الرهينــة " :وأبــوك الهــارب يلهب الــدنيا بلســانه الطويــل على
4
اإلمام في الجرائد في عدن "
-4مقتل اإلمام يحيى ،يقول الرهينة واصفا َ ما يحدث " :كان مقيــل اليــوم متــوتراَـ ،فالنــائب ظــل
خارجا َ داخالَ وحالته ليست مستقرة ،بل وحالة الضيوفـ المعتــادين في المقيــل أيضـا ً ،أدركت
بأن هناك شيئا َ ربما حــدث أو هــو في طريقــه للحــدوث قــد أزعج الجميــع ،قــال أحــد المقــربين
للنائب وقد تأكد من معرفته التامة لوجوه الموجدين :
-ما الذي حدث في صنعاء ؟
-قتل اإلمام .
1زيد مطيع دماج ( الرهينة ) ،من تعليقـ سلمى الخضراء الجيوسي على الرواية
2المرجع السابق (ص) 29
3المرجع السابق ص
4زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع السابق (ص) 85
-من قتله ؟
1
-حزب األحرار الدستوريين .
-5فشــل االنقالب وعــودة اإلمــام أحمــد منتصــراَ ،يقــول الرهينــة ":تــوهجت المدينــة والقــرى
المحيطة بها في الجبال والسـهولـ بأضـواء هائلـة على أسـطح المنـازل تـدل على وقـوعـ حـدث
هــام ،انتصـرـ اإلمــام الجديــد الســيف األمــير ،ولى العهــد الســابق على الدســتوريين األحــرار
2
الثوريين "
و الزمن السياسي واالجتماعيـ ألحـداث روايـة ( صـنعاء مدينـة مفتوحـة ) لمحمـد أحمـد عبـد
الولي يقع في الفترة ما بعد الزمن الــذي تغطيــة روايــة ( الرهينــة ) أي فــترة حكم اإلمــام أحمــد
ابتدا َء من إخفاق انقالب 1948م واقتحامه مدينــة صــنعاء ،وحـتىـ مـا بعــد النصـف الثــاني من
خمسينيات القرن العشرين .
وهــو زمن يمكن تحديــده بدقــة من خالل مجموعــة المعطيــات ذات الداللــة الزمنيــة الواضــحة
ومنها :
]1حـديث الصـنعانيـ عن انتهـاء الحـرب العالميـة الثانيـة الـتي لم تهـز صـنعاء كثـيراَ ،حيث
يقول :
" ومــرت األحــداث الكبــيرة الــتي هــزت العــالم ولكنهــا لم تهــز مــدينتنا كثــيراَ ولم أشــعر أنــا
بوجودها ". 3
]2حديثه عن وقوعـ حادثة مقتل اإلمام يحيى وسقوط صنعاء ،حيث يقــول " :ففي ذات يــوم
سمعت أن " اإلمام " قد قتل ولم أبــك ولم أضــحك ألن ذهابــه أو وجــوده لم يكن يهمــني كثــيراَ
" . 4ثم يضيفـ " :وتركت صنعاء بعد أن سقطت في يد اإلمام الجديد بعد أن تحطم كل شــيء
5
فيها حتى اإلنسان .
]3تحديده بداية قصــته مــع اجتيــاح اإلمــام أحمــد لصــنعاء وهي قصــة يرويهـاـ قبيــل انتهــاء
الحدث الروائي ،حيث يقول ":بدأت قصتيـ يا بني منذ عشرة أعوام ".6
]4حديث نعمان وهو يصف خوف أهل قريته من تكرار مجاعة 1948م يقول :
" وهكــذا لم تــنزل األمطــارـ ....وازداد خــوف النــاس أكــثر من ذي قبــل ،وبــدأ شــبح
المجاعة يعود إلى أذهانهم خاصة أن مجاعـة (1948م) مـا زالت ماثلـة في أذهــانهم ،ولم
يزل الكبار يذكرون كيف كانوا يأكلون ( العاص) وحده ....وكيف كانت حبــة ( الغــرب )
7
أغلى من الذهب "
]5إعالن بعض الشــركات في عــدن إفالســهاـ بعــد تصــريفـ عمالهــا مســلوبيـ الحقــوق ،يتحــدث
صاحب المقهى ( الحاج علي ) إلى نعمان ،فيقول مبرراَ عودة الصنعاني إلى معاقرة الخمــرة " :
1المرجع نفسه(ص)55
2نفسه (ص)65
3زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص) 37
4محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص) 75
5المرجع السابق (ص) 89
6زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص) 198
نحـو علي بن علي ليطوقـوه ....ولمـا اقـتربواـ منـه دوت طلقـة ناريـة سـقط على أثرهـا الشـيخ
1
مضرجاَـ بدمه .
ب)) أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب.
يتحدد الزمن السياسيـ واالجتماعي لهذه األعمال بالفترة الواقعــة مــا بعــد انفجــار ثــورة الشــمال
واستقالل الجنوب حــتى وقتنـاـ الــراهن ،وهي فــترة طويلــة بالقيــاس للفــترة الداخلــة في اهتمــام
المعالجات الروائية والقصصية قبل هذين الحدثين .
ونتيجة لطول الفترة الزمنية لهذا المبحث من الدراسة ،فإنها ســتعمد إلى التنقــل عــبر أعمالهــا
المحتشدة على ساحة زمنها لتأخذ منها ما يــبرز بوضــوح أهم مالمح هــذه الفــترة ،ويبلــور أهم
األهــداف المتضــمنة خالل التنــاوالت الروائيــة والقصصــية الــتي شــغلت بهــا ،وبدايــة بروايــة
( وسام الشرف ) 2لمحمد مثنى ،وهي الرواية التي التقت فيها الدراسة تغطية للمســاحة األكــبر
من زمن هذه الفترة وإلماما ً أوسع باألحداث والتغــيرات الــتي شــهدتها ،فيتحــددـ زمن األحــداث
فيها بالفترة الممتدة مما بعد حصار الســبعين وحــتىـ أواخــر الثمانينــات ،ومن المعطيــات الــتي
تعين داللتها الزمنية على تحديد الزمن الذي تجري على ساحاته أحداث الرواية ما يـــــلـــي :
]1لم يرد في الرواية ما يشير إلى حدث الوحدة اليمنية التي تحققت عام 1990م ،وهو حــدث
محوريـ وتحوليـ كبير في تاريخ اليمن ما بعد ثوريتهـاـ ،ولم يكن لكــاتب يظهــر هـذا القــدر من
الرغبة في اإللمام والسعي إلى اإلحاطة أن يغفل مثل هذا الحدث المهم لوال أنه لم يدخل ضــمن
الزمن المختارـ ألحداث روائية .
]2أننــا ظللنــا نضــطرب في ظالل الحــدث الــروائيـ فيهــا ضــمن زمن سياســي يحــرم الحزبيــة
ويطارد المتحزبين ،هذه الحزبية التي أصبحت معلنه متاحة وغير محظــورة فيمــا بعــد تحقيــق
الوحدة اليمنية .
]3تتحدد بداية األحداث فيها بانتهاء القتال مــع الملكــيين الــذين حاصــروا صــنعاء ،وأرادوا
العودة باليمن إلى نظام الملكية وهـذا ( نـور ) بطـل الروايـة العائـد لتـوه من المعركـة يحـدث
أصدقاءه عنها فيقول " :لقد كان القتال في الليلتين األخــيرتين مــع الملكــيين الــذين بــدوا رغم
معرفتهم بالهزيمة المحققة أكثر شراسة " ، 3ونسمع على لسان الراوي " :لم تمهلهم الساعة
الثامنــة من ليلــة الثــامن من فــبراير 1968م حــتى دوّى الرصــاص من أعــالي الجبــال ،ومن
مختلف جهات صنعاء مشتعالَ كأنما المدينة ترفل في عرس ....فذعر العمــال األربعــة الــذين
4
لم يكونوا على علم مسبق بذلك ،ولكن(نور) ضــحك وهــو يطمئنهم " إنــه رصــاص الفــرح
]4اإلشـارة إلى إشــاعة فكــرة ميالد دســتور جديــد يحـرم الحزبيــة سيفصــح عنـه بعـد مـرورـ
عشرين عامـا َ في إشــارة إلى دســتورـ 1948م ،حيث نقــرأ " :دســتور البالد الــذي هــو رهن
الوالدة الجديدة بعد أيام لتحريمـ الخوض في الحزبية ،وممارســتهاـ إلى األبــد ،وسيفصــح عن
1نفسه (ص)55
2نفسه (ص) 65
3محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص) 97،96
4المرجع السابق (ص) 124
1945المرجع نفسه(ص)109
إلى جيوبهم بالربع مثله ،لكن خير الثورة في أن ال شيء للبرجوازيين المستغلين يبقى وصــمة
في جبينهــا ،فقــد جعــل هــؤالء الصــيادين يســجلون ثــورة المبــادرة ،وقــد دون في مانشــيتات
الصــحف الصــباحية بالخــط األحمــر واألحــرف األولى ( مبــادرة الصــيادين المباركــة في يــوم
حافل ) وفي تعليق طريف إلحدى هذه الصحف " :إنه في يوم لن تغرب عنه الشمس أبداً كمــا
1
غربت شمس بريطانياـ "
]10اإلشارة إلى المرحلة المسماة بمرحلة إحراق المراحل ،وهي المرحلة التي أصــبح فيهــا
السباق مع الوقت محموماَـ ،حتى أن بلدية العاصمة صنعاء ،وبسبب الزحف المتســارعـ على
العاصمة من األرياف والمدن األخرى ،ألغت مخططهاـ المعد لخمس سنوات قادمــة ،وأحلت
2
محله مخططات جديدة وقتية وقصيرة لتتمكن من مواكبة هذا التسارع .
]11اإلشارة عند منتصفـ الحدث الروائيـ إلى العيد الخامس عشر للثـورة بمـا يعـني أننـا في
عام 1977م ،فعندماـ كان ( نور) يسير في شارع القيادة الواســع ،راشــقت عيونــه األضــواء
الملونة والثريات المضـيئة " لم يفطن بـأن تلـك األضـواء والحركـة الكثيفـة كأنمـا عـرس في
الشـارع بأنـه سـبتمبرـ " ".........فتـذكرـ بعـد جهـد وصـعوبة أن ليلـة الغـد سيشـعلون خمس
3
عشرة شمعة ويطفئونها "
]12اإلشارة إلى االنتخابات الثانيــة لمجلس الشــورىـ " :لــذلك صــحا النــاس مستبشــرين على
حقائق االنتخابات الديمقراطية الثانية لمجلس الشورىـ ..عنــدما رأوا صــورـ المرشــحين معلقــة
على األجــدرة وأبــواب المصــالح والمــدارس والنقابــات والجمعيــات والمستوصــفات وحوائــط
4
السجون و المستودعات و المعارض ومختلف نواحي العاصمة "
]13اإلشارة إلى الذكرى الثامنة عشــر للثــوارـ بمــا يعــني إننــا في عــام 1980م ،فنــور الــذي
يتطلع إلى تكريمه بوسام الشرفـ يستمع في نفس الليلة " الذاوية بأضواءـ وابتهاجــات الــذكرى
الثامنــة عشــر للثــورة من شاشــة التلفزيــون إلى صــوت المــذيع المبتهج الــذي كــان يتلــو أســماء
5
مكرمة بهذه المناسبة بأوسمة شرف البطولة للثورة من الدرجة األولى "
]14وتتحدد نهاية الزمن الذي يجري على ساحاته حدث الرواية بحركــة بطلهــا ومــا تقدمــه
هــذه الحركــة من دالالت زمنيــة ،فنحن نلتقي ( نــور) بطــل الروايــة في بــدايتها وهــو ينــوي
التوجه إلى الشمال للمشـاركة في الـدفاع عن الثـورة ،حينهـا كـان عمـره سـتة عشـر عامـا َ ،
يخاطبه والده الحاج محبوب المعسلي ،يومها ،فيقول " :اسمع يا نور فــأنت لم تعــد طفالَ ،
وإنما في السادسة عشر من عمرك " ، 6ثم تنشر له لوحة في ملحق صــحيفة الثــورة ،وكــان
حينهــا لم يتعــد الخامســة والثالثين من عمــره 7.وفي حســبة بســيطة نعــرفـ إن الــوقت الــذي
انقضى ما بين مشاركته في الدفاع عن الثورة وبين نشر لوحة لــه في ملحــق صــحيفة الثــورة
هو تقريبا َ تسعة عشر عاما َ ،غير أننــا نعلم أنــه قــد زج بــه في المعتقــل -قبيــل نهايــة الحــدث
1نفسه (ص) 125
2نفسه (ص) 127
3محمد مثنى ( وسام الشرف) مرجع سابق (ص) 137
4المرجع السابق (ص) 146
5المرجع نفسه (ص) 193
6نفسه (ص) 38
7نفسه (ص) 166
الروائيـ ،وبعد حادثة نشر لوحته في ملحق صـحيفة الثـورة -مـرتين ،ممـا يعـني أننـا نقـف
على أواخر فترة الثمانينات ،وهي الفترة التي تحـدد نهايــة الـزمن الــذي جــرى عليــه الحـدث
الروائيـ .
وبالنسـبة للقصـة القصـيرة الـتي أجـرت حوادثهـاـ على مسـاحات زمن هـذه الفـترة ،فـإن
الوقوف على محدداتها الزمنية ال يكــون -بحكم تعاملهــا المختلـف مــع الـزمن -من خالل
المعطيات الزمنية ذات الداللة المحددة والمعلنة أحيانـا ً كــالتي وجــدناها في الروايــة ،وإنمــا
تتكشفـ هــذه المحــددات من خالل تجاربهــا المعالجــة والــتي تتنــاولـ قضــايا تشــير بقــوة إلى
فترتهاـ ففي قصة (الدائرة ) مثالَ :نطلع على تجربة تقف بتجسيدها لواقع المأساة المترتبــة
عن قرارـ حظر السفر على مواطنيـ الجنوب داللة على فترتهاـ الزمنية ،حين كان ( الحزب
) ممسكا َ بزمام السلطة هنــاك وفيهــا نقــرأ " :حمــل ( أبــو الصــبر ) جــوازـ ســفره وحمــد هلل
تعالى على أن جواز سفره جاهز وال ينقصه إالً تأشيرة الخروج " ".....وما إن وصل حتى
طالعته جموع غفيرة من النــاس منتشــرين أمــام مبــنى اإلدارة ،كــان البعض منهم قــد جلس
تحت ظل سور وزارة الداخلية المقابل لها ،والبعض اآلخر كان خارجا َ من الصالة ملتمس ـا َ
لــه بعض التهويــة ،وعنــدما خطــا إلى داخــل الصــالة ورأىـ الجمــع الكبــير من المواطــنين
صدم ،فهذه الكثرة من الوجوه التي ارتسمت عليها المعاناة واالنتظــار الثقيــل قــد ثبطت من
1
همته وحدت من تفاؤله "
وفيـ قصة ( التفــاح المــر) نقــف على تجربــة تــدل على ذات الفــترة الزمنيــة بمــا تحكيــه من
معاناة البسطاء المحرومين من أبناء الجنــوب ،حيث خصــتهم الســلطات بأســواقـ تعربــد فيهــا
الريح ،خاوية إالً من كل ما يؤصل للشح والحرمــان والجــوع واالفتقــارـ ألبســط الضــروريات
التي تعين على استمرار الحياة ،بينما خصص للدبلوماسيين والمسئولين الكبار ســوقهم العــامر
والمكدس بأنواعـ الخضار والفواكه الــتي ينعمــون بهــا وحــدهم ،والــتي لم تــدخل حــتى ضــمن
خبرة الصغار من أبناء البسطاء ،حيث نسمع هذا الحــوار الــدائر بين الطفــل الــذي رأى تفاحــة
في يد طفل أخر يبدو أن أباه هو أحد هــؤالء الكبــار الممــيزين وبين والــده الحــائر أمــام إلحــاح
طفله على طلبه :
" – أنا ما أحبك يا بابا .
-قلت :
-ليه يا ابني ؟
-قال :
-ألنك لم تحضر لي تفاحة
-قلت :
-ومن فين ؟ .....لقد دخلنا السوق ولم نجد شيئا َ .
-قال مشيراَ إلى جهة الطفل .
-وده ..من فين له ؟
-قلت :
1عبدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الخشب) د .م /دمشق 1991م (ص) 96،97
-من أبيه .
-قال :
-وانته ليه ما عندك تفاحة ،هو أبوه مش زيك ؟
-قلت :
-ال
-قال :
-ليه ؟
-قلت في حيرة :
-هكذا ...
-وسكت ابني لحظة ثم قال :
-التفاح طعمه حلو يا بابا ؟
-قلت :
-ال ...مر .
-قال :
-خالص ،أنا ما أشتيش .
1
-وانفلت مني وراح يلعب "
وفيـ قصة ( قف على جنب ) لزيد مطيــع دمــاج ،نقــف على تجربــة تنتمي فكرتهـاـ إلى قلــق
االعتقاالت غير المبررة ،التي كــانت خالل عقــدي الســبعينات والثمانينــات تشــكل ظــاهرة أمنيــة
خطــيرة ،تتضــمن حــاالت من االســتفزازـ الــذي تمارســه أجهــزة األمن -عــبر جنودهـاـ المكلفين
بحراسة المدن -مع المواطنين األبرياء ،وهذا مواطن ينصرف قافالَ إلى منزله بعد قيلولــة مــع
بعض الصحاب ،تفاجئه ثلة من الجنود ،تقوم بتوقيفه وتفتيش سيارته ،وحينم ـاـ وجــد أن األمــر
قد ينتهي إلى مجرد االبتزازـ المالي -إذ لم يجدوا بحوزته قرينة يستغلونها في إدانتــه -فكــر في
الهرب ،لكنه تراجع عن ذلك ،يقول " :توقعي كان أنني إذا أقدمت على ذلك فــإنهمـ على األقــل
سيقومون بإطالقـ زخات من أسلحتهم على الســيارة وعلى إطاراتهــا بالتحديــد ،وكنت على يقين
بأنهم سيبررون ذلك حتى ولو نتج عن تصــرفهمـ مقتلي ،بــأنني مخــرب خــارج عن القــانون ، ..
وقدـ عثر بداخل سيارتيـ على أسلحه ومنشوراتـ وخمور أيضا ،وبــأن أربعــة رفــاقـ كــانوا معي
في السيارة استطاعوا الفرار وما يزال رجال اآلمن يبحثون عنهم ،وربما قد عــثر على بعضــهمـ
2
وسيقدمونـ إلى محكمة أمن الدولة العليا "
أو من خالل مــا تتضــمنه ســياقاتها من تلميحــات تشــيرـ بقــوة إلى واقــع اجتمــاعي وسياســي
اختبره المجتمــع اليمــني خالل الفــترة الزمنيــة المحــددة لهــذا المبحث من الدراســة ،ففي قصــة
( الزهور تموت شنقاَ) مثالَ ،نقف على تلميح واضح إلى مخاطرة الفكــرة الشــيوعية في أرض
الجنوب ،ومسؤولية االنفراد بتطبيقهــا ،وصــعوبة مســار الحــزب الــذي تبــني تنفيــذها ،وقلـقـ
المجتمع غير المهيأة معطياته ال ستقبالها " :بعيداَ .....تعيش وجوداَـ ....انطلق .....ولكن أين
1عيدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الخشب ) مرجع سابق (ص) 41
2زيد مطيع دماج ( أحزان البنت مياسه ) دار االداب /بيروت 1990م ،ط( 1ص)20
الفنار لعله ينير لنا السبيل والمسيرـ ...ودنوت فــوق الشــط أرقب اآلتي ومــا يحمــل ...بعيــداَ لم
يقــرب ...والســيرـ خطــأ .أصــرخ يــا رب األربــاب .....أهــو الربــان يقــود الســفينة إلى بــر
األمان ....لكنه يقودها خطأ في خطأ ....السير عكس تماما َ .....يــا ربــان البوصــلة معــك......
اتجاه الشمال ....أين الجنوب ....أين .....؟ أين منك الشرق..
أين منــك ...؟ نــوركـ ال شــرقي وال غــربي ،ولكنــه نــور ســماوي ...الســفينة بال نــور ....
والفنــار بعيــد منــك ...ســترمي بــالقوم في ( بحــر لجي يغشــاه مــوج من فوقــه مــوج من فوقــه
سحاب ،ظلمات بعضها فوقـ بعض ) .....ارحمنا ستذهب وسنذهب معك .
لم يسمع ،فاألمواج المتالطمة غلفت أذنيه :فلم يصل إليه الصوت ،والفنار بعيد ،والسير إليه
1
صعب ،والرؤية عكسية ( ...ومن لم يجعل هللا له نوراَ فماله من نور )"
وألجل ذلك ســتعتمد الدراســة تلــك التجــارب والتلميحــات الدالــة كمحــددات تسترشـدـ بهــا على
فترتهاـ الزمنية التي تجري عليها حوادثها ،ومنها تستنبطـ مالمح تلك الفترة ،تســاندهاـ في ذلــك
تواريخ أول صدور لألعمال التي تضمنت تجاربهاـ وسياقاتها هذه المالمح .
ومن مالمح الــزمن السياســي واالجتمــاعي لهــذه الفــترة كمــا جســدتها األعمــال الروائيــة
والقصصية نذكر :
)1إنــه زمن تمــيزت بداياتــه بتشــابك الخطــوطـ واختالط الــرؤى بشــكل يصــعب معــه إمكــان
الوقوف على حدود فاصلة ومميزة بين المعطيات المتداخلــة ومــا تفــرزه من متغــيرات ،يقــول
هشـام علي " :لقـد كـانت األمـورـ في السـابق أكـثر تحديـداَ ،اإلمامـة ،االسـتعمار ثمـة تمـايز
ووضوح ،شعب مقابل قويـ استعمارية واستبدادية ،لكن األمر تغير بعــد ذلــك ،ثــورة وثــورة
مضادة .
ثوار وقبائلـ ،مرتزقة وقوات عربية ،شمال وجنوب ،وحــدودـ وفواصــل ،ثــورة مغــدورة
بواسطة الثوار ،تــداخل األيــدولوجياـ والوطنيــة في مســيرة البحث عن مســار " ، 2وفيـ قصــة
( الزهور تموت شـنقا َ ) نقـرأ " :وحينهـاـ تصـارع النفس كـوامن النزعـة الموعـودة كموميـا ء
فرعونيـ محنط الجثة المتهالكة ...هذا ما نؤكده ،والصوت يعيد :إنها جثة فقــط ،ونحن نؤكــد
إنها عفنة نخرة ،والصوت يعيد :إنها جثة وكفى .
وتلهب الشمس الطريقـ ...وأقدام القادمين تتوضح كمســارـ كــوكب بعيــد لم يتم رصــده بدقــه
3
متناهية ..لكن ربما في الغد ....نرصده .
وفيـ رواية ( وسام الشرف) يخــاطب ( نــور) (أمين الزئبــق) قــائال " :وعلى رغمــك في هــذا
4
البلد ال تستطيع أن تميز بين السير والمنامـ وال بين الحلم واليقظة "
ومع هذا الختالط الذي شاب بدايات هذه الفترة ،ظلت هناك نظرة تتشبث بتفاؤلها ،ففي رواية
( وسام الشــرف ) تبــدو صــنعاء عنــد هــذه البــدايات مدينــة تعــد بــالكثير إنهــا " صــنعاء الثــورة
1منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مطبعة الشريفين /القهرة 1981م (ص) 25
2هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر صنعاء 1996م (ص) 159
3منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار) مرجع سابق (ص) 24
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ( ص) 12
وصــنعاءـ المطــر والخضــرة والنــاس والمــدارسـ والحلم والتطلــع ،صــنعاء الحركــة والفعــل
1
واألمل ،إنها لتعد بالشيء الكثير "
وإذا ما ظهرت خالل مسارهاـ مالمح من تعطل أو تــأخر عن تحقيــق األهــداف المأمولــة ،فــإن
األمر ال يزال يلقى ما يستحقـ من التماس المبررات للثورة التي ال تزال وليــده " :لقــد طــرأت
أشياء وتبدلت أشــياء وثمــة أشــياء لم تتغــير ،ولكن ال أحــد يطــالب الثــورة الجنينيــة بانطالقــه
الصــاروخـ في اســتحداث التغيــير ،هــاهي األمــور تســير والحركــة بطيئــة بفعــل الحــرب الــتي
2
اصطنعهاـ األعداء ،ولكنها الحركة رغم كل شيء"
وهذا إبراهيم الكاف ،يرى أن انتصار الثورة هو فرصــة يتوجــه من خاللهــا داعيـا َ إلى تــرميم
الصدوعـ ومعالجة الجروح وتحقيق مزيد من الحرية .
" تباشيرـ الفجر تغزو األفقـ ،وأنت ال زلت على السرير منطرحة ،تتسلل خيوطـ الشمس برقة
إلى غرفتــك ،تغمــرك ،تنتفضــين كعصــفورـ بللــه المطــر ،تتســاءلين في حــيرة مــا جــدوى
االنتظارـ ،يصل مسمعيك هاتف من واقع ماضــيك الحافــل بــالعبر ...يــتردد صــداه في أرجــاء
حاضركـ :انهضي ،أفسحيـ للشمس طريقا َ لتغــزو كــل الزنزانــات الرطبــة ،المظلمــة ،دعيهــا
3
تمتد إلى أعماقك تنظفها من المرارة واأللم "
غير أن هذا التفاؤل لم يســتمر طــويالَـ ،فســرعان مــا الحت بــوادرـ االنحــدار المنــذر بالتــدهور
والسقوطـ .
)2إنــه زمن اختالف التوجهــات بين الشــطرين :ففي الشــمال كــان النظــام الجمهــوريـ ،وكــانت
سياسة االنفتاح التي أعطت في البدايــة انطباعـا َ بانتعــاش حقيقي وثمــارـ ملموســة ،فقــد طــرأت
مستجدات كثيرة على مدينة صنعاء فمحالت فتحت أبوابها ودكـاكين جديـدة وأطفـال يتوجهـون
إلى المدارس في زيادة ملحوظة ،وفتياتـ صار لهن بعد الثورة حظ من التعليم ومدارس لمحــو
األمية ،
وشروع للمرأة في المشاركة في العمل ،وحركة من الوافدين الجـدد على العاصـمة ،والعمـال
الباحثين عن عمل والفالحين الباحثين عن أسواقـ جديدة .
والتجــار البــاحثين عن توســيع ســبل تجــارتهمـ ،وحركــة للمواصــالت ،وبنــاء للمستوصــفات
ومرافق الخدمة العامة كالكهرباءـ ومصالح الجماركـ والضرائب ،وقدومـ الوافــدين من الخــارج
4
والتجارـ المستثمرين المغتربين اليمنيين والعرب واألجانب "
وســرعان مــا الحت " بــوادر المضــاربين الجــدد في السياسية بوجهه ـاـ القبلي والحــديث ،
والمضاربين في األراضي والمشايخ ،والوجاهات المتعددة والمصاهرات يجربــون حظــوظهم
في مضارباتـ أخرى أكثر حظا َ وإدرا ًراـ للربح السريع ،لذلك ظهرت الفتات لشــركات وبنـوكـ
جديدة ومساهمات وأسواقـ عجالن وضبعان وذهبـان سـوبر مـاركت ،وشـركات شـق الطـرق
1منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص) 5
2عبدهللا سالم باوزير ( سفينة نوح ) مركز عبادي للدراسات والنشر /صنعاء ،2001ط( 1ص) 45
فتح الباب ...فإذا عيناه تكتحالن بمجموعة من الرجــال ملثمين ال يكــاد يلحــظ من وجــوههمـ إال
أعينهم ،التي كانت حينهــا تقــدح شــرراَ مســتطيراَـ ،وغضــبا َ يتقــد ،وأيــديهمـ تمســك مسدســات
شهرتهاـ في وجهه ،وواحد منهم قد أمسك برشاش خفيف .
-سألهم برباطة جأش معهودة :
-عمن تبحثون .
-رد عليه أقرب الخمسة أنفار إليه .
-عنك ،أليس اسمك علي ؟
-أجاب
-نعم !
-إذن هيا بنا ...أنت مطلوب ....
-ومن هم الذين يطلبونيـ ...وما األمر ....ومن أنا حتى أطلب ...؟
-لم يجد إجابة ألسئلته القلقــة ..فقــد اقتيــد من معصــمه ..ووضـعـ المســدس في مــؤخرة رأســه ،
واقتادوه أمامهم إلى خلــف منزلــه حيث كــانت تقـف سـيارة جيب مطفــأة األنـوار ...فرمــوه في
1
الخلف بعد أن وضعواـ القيد في معصمه "
كمــا جــدت على الســاحة السياســية في ظــل األنظمــة شــديدة القمــع أســاليب أخــرى كأســلوب
التصفيات الجسدية الذي يمثل في قصة ( الموت قبل الوجود) أحد االحتماالت القريبــة لمصــير
معتقل :
" إنــه المعتقــل أو ربمــا ســيحملونه إلى ناحيــة منعزلــة من أطــرافـ الشــعاب غــير المطروقــة ،
ويطلقون عليه بضع رصاصاتـ تنتزع حياته ،أو ربما حفروا له حفرة مســبقة ومــا بقي إال أن
يهيلوا التراب عليه " 2ليس هذا فحسب ،فقد امتد األمر إلى تزييـفـ التـاريخ ونسـب البطــوالت
إلى غير أهلها
وهذا ( نور ) أحد أبطال معركة السبعين يعلم بموعد توزيع األوسمة تكريماَـ ألبطال الســبعين ،
فيذهب إلى مبنى القيادة " ولكنه حين صعد المبنى ومن طابقـ إلى طابق ومن بهو إلى بهو ،فلم
يجد أحداً يسأله أو يقول له شيئا َ قدر ما وجد أرتاالَ من طيور الرخمــة ذات األلــوان المختلفـة ،
وكذا بعض البوم يحتالن نوافذـ وشــرفاتـ وثقــوب المبــنى ،لتخبــط بأجنحتهــا ومناقيرهــا اللــتين
أهالتــا عليــه وابالَ -من جــراء فزعهــا وتخبطهـاـ -من خرائهــا المعتــق والطــازجـ وبعضـاَـ من
بيوضهاـ المنقورة قيــد الفقس ،ليعــود ملطخـا َ بخالئــط فضــالتهاـ ،كأنمــا انــتزع من بيــارة ،ثم
يستمع من نفس الليلـة ،الذاويـة بأضـواء وابتهاجــات الـذكرىـ الثامنـة عشــر للثــورة من شاشـة
التلفزيون إلى صوت المذيع المبتهج الذي كان يتلو أسماء ال يعرفها وال يدري عنها شــيئا َ ،ولم
يسمع أو يقرأ بأنها قد شاركت في أي بطولة ،وهو الذي يعرف الكثــير ومن بين هــذه األســماء
اسم شاب وهو يرى صورته لم يتعد سنه العشرين ،وقد علق على ذلــك ضــاحكا َ البــد أن هــذا
3
الطفل قد دافع عن الثورة وهو خلية منوية في ظهر أبيه "
1منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص) 76 ،66
2المرجع السابق (ص) 1
3محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص) 193
ونفس الموضوعـ تناوله عبدهللا باوزيرـ في قصته الساخرة ( الحمار الحائز على الوســامـ ) حين
يتكتشفـ للجنة البحث في ادعاء " الحالمي " بأن الحمار هــو البطــل الــذي يســتحق الوســام ،إذ
كــان يحمــل المــاء على ظهــره للثــوار في الجبــال والكهــوف ،وحين همت اللجنــة بــالبحث عن
الحمار مستحق الوسامـ ،اهتدت بعد طول تقص إلى شيخ مسن أفاد بــأن الحمــار المقصــودـ قــد
استشهدـ بالقرب من مدينة صنعاء ،وهنا سأل أحد أفراد اللجنة وقد عظم الحمار في نظرها بعد
ما سمعته عنه من بطوالت ،إذا ما كان يعلم للحمار الشهيد أقارب يمكنهم تسلم الوســام عنــه ،
أفاد الشيخ قائالَ " :نعم أعرف أن للحمــار أخـا ً من الرضــاعة ،وهــو يعمــل اآلن في التهــريب
على الحدود لحساب إحدى القبائل " ،وهنــا انتقلت اللجنــة إلى مكــان إقامتــه وتم تقليــده " ذلــك
الوســام الرفيــع في حفــل مهيب حضــره عــدد كبــير من الحمــير والبغــال وحشــدـ من القبائــل
1
والمهربين وقطاع الطرق "
)4إنــه زمن قمــع الحريــات ومطــاردة أصــحاب األفكــارـ والــرؤى المخالفــة ،حيث قضــت سياســية
النظامين في الشمال والجنوبـ بحظر العمل الحزبي ،وهو العمل الذي كــانت ممارســته تتم في
الشمال بشكل سريـ ،ففي رواية ( وسام الشرف ) نقرأ عن نادي التقدم الذي كان لــه أعضــاؤه
الذين يؤمونه " من القدماء والجدد الذين التحقوا به من مختلف األهواء واألفكــار والمشــارب ،
ومن غير السياسيين والمنتمين لألحزاب المعروفة للسلطة وللمنظماتـ الناشئة التي تعمل تحت
2
األرض "
ونقــرأ عن عيــون تبثهــا الســلطة لتمنــع المنتمين السياســيين من ممارســة لعبتهم الفكريــة
واإليديولوجيــة ،ومــع ذلــك نلتقي ( علــوان ) و ( كــردة) " لم يقلعــا عن عادتهمــا في اصــطياد
بعض العمال وبعض الطلبة والشباب ممن يظفرون بهم إلى اقتيادهمـ فرادى بعد ساعة الغروب
،وأحيانا ً في الليل إلى قهوة التيسير " 3و ( علوان ) نفسه يقول ( لنور) " بأن ثمة اآلن منظمــة
للشباب ال يعرف الجني األزرق عنها شيئا َ منظمة تعمل تحت األرض في غاية الدقــة والســرية
4
"
أما في الجنوب ،فقد حالت القبضة األمنية القوية وشدة التعامل وصرامته ،التي كان يتمتع بها
الحزب دون ممارسة العمل الحزبي المعارض .
وبلغ األمر أبعد من ذلك حين أصبح المناضلون الحقيقيون الــذين خــاطروا بــأرواحهمـ ،وبــذلوا
كل نفيس في سبيل إنجاح الثورة هدفا ألجهزة القمع ،تتعقبهم وتنكــل بهم وتطــاردهم لــتزج بهم
في غياهيب السجون متذرعــة بتهم كثــيرة ،منهــا النشــاط السياسـيـ غـير المشــروع واالنتمــاءـ
الحزبي غير المباح مطوقة محيط حياتهم بالعيون والمخبرين ،وهذا (نور) أحد أبطال السبعين
،يفاجأ بتفتيش منزله في غيابه ،فحينما عاد وجد غرفته قــد انقلب نظامهــا " اللوحــات مكدســة
على ظهورهاـ في أماكن متفرقة من الغرفة ،والكتب منزوعة من على األرفف .
ومكومــة على ظهورهـاـ وجنوبهـاـ وعلى الحصــائرـ ،وبعض صــفحاتها منتوشــة ،الفرشــاة
واألصباغـ والحصائرـ مندوشة كأنما آالف الفئران قد غزت الغرفة ،وحين توجس السرقة ،
1عبدهللا سالم باوزير ( سفينة نوح ) مرجع سابق (ص) 51 -49
2محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص) 66
3المرجع السابق (ص) 66
4المرجع نفسه (ص) 66
فلم يجد أنه قد حدث شيء من ذلك " "........لقد كــانوا يريــدون أن يقولــوا فقــط على ســبيل
1
إيصال رسالة ما إليه في مهمة محدودة ...فقط للتأكد إن كان ال يتدخل فيما ال يعنيه "
كما يقبض عليه ويزج به في السجن مرتين رغم تأكيده لهم على إقالعه عن ممارسة العمل
الحربي ،ففجأة وجد نفسه في الغرفة التي بسعة مترين طول ومتر وخمسة وعشرين سنت
عرض كما قدر ،ولئن كان قد قال في حضرة الخمسة كما يتذكر .......بأنــه ألي األســباب
يقتادونه ،وأنه لم يفكر في يوم من أيامــه حــتى عنــدما غدرتــه هــذه األيــام فأرســلت لرأســه
2
الشيب المبكر ،لم يفكر مع ذلك باالنتماء الحزبي وال في السياسة "
وهــذا العم صــخر في قصــة ( الكرنفــال ) وهــو المناضــل القــديم ،يفضــي إلينــا بأمنيتــه
البسيطة وحلمه بحياة هادئة بعيـداَ عن قلـق االعتقـال ،في ليلـة كـان الجميـع يحتفلـون بعيـد
الثورة التي أفني أيامه في الدفاع عنها ،بينما كان هو يصارع في زنزانته ليلته األخيرة " :
ليست مطالبنا كبيرة ،فقط لو يترك لنا الخيار في أن نحيا كما نريد وأن نحدد معالم الطريقـ
إلى المستقبل ،أن نجلس في بيوتنا في اطمئنان ونشربـ القهوة في هدوء ،فقط لو تعطى لنا
3
الحرية في أن نحب وطنناـ وأن نعبر عن هذا الحب "
4
ومن هؤالء المناضلين من اختفى ولم يعرف أحد مكانه كعلوان وكردة .
ومنهمـ من يفقــد عقلــه نتيجــة لتزايــد الضــغوطـ وتكاثفهــا ،وكــثرة الــتردد على المعتقالت
5
ووحشية عذاباتها مثل الدباسيـ والسريحيـ .
وهذا نور يعود من سجنه األول " محطما َ بشكل لم يسبق له نظيرـ كأول تجربة جادة وقاسية لــه
بعدها لن يسمح اإلنسان لنفسه أن يمارس السياسية ،وال يجب حــتى الحــديث عنهــا فض ـالَ عن
6
الخوض فيها "
وهكذا تنتهي أعمال هذه الفترة من معالجاتهاـ الــتي شــكل الواقــع فيهــا المرجعيــة األســاس الــتي
سلطت الضوء خاللها على الممارسات الفاسدة من قبل األنظمــة الــتي تــدعي ثوريتهـاـ ،والــتي
أدت إلى تفاقم المعاناة وتعقد المشكالت ،لتبلغ من هذه المعالجات غايتها التي تهدف إلى إثــارة
الوعي بانحراف مسار الثورة وتبدد أهدافها .
في االعمال التي وضعت قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب )1
في االعمال التي وضعت بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب )2
أ) في االعمال التي اهتمت بالمكان السياسي واالجتماعي مثل ثورة الشمال واستقالل الجنوب
ب) في االعمال التي اهتمت بالمكان السياسي واالجتماعي بعــد ثــورة الشــمال واســتقالل
الجنوب .
أوالً :في األعمال التي وضعت قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب :
-صورة المكان السياسي واالجتماعي :
نعتمد الدراسة في تغطية مبحثيها لهذا الفصل على روايتي ( سعيد ) لمحمد علي لقمان و ( مأساة واق الواق ) لمحمد
محمود الزبيريـ ،كــون الروايــة األولى تركــز على المكــان من زاويتــه االجتماعيــة وتركـزـ الثانيــة عليــه من زاويتــه
السياسية ،هذا باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية المنتمية إلى مجموعات وضعت في المرحلة التاريخية الــتي
تحدد حركة الدراسة في هذا الفصل .وبداية برواية ( سعيد ) باعتبارهـاـ الروايــة األســبق من الناحيــة الزمنيــة ،فــإن
المكان الذي تتحركـ عليه وقائع الحـدث الـروائيـ هـو مسـتعمرة ( عـدن ) الـتي يـرد ذكرهـا صـراحة في الروايـة ،فـ
(سلمان ) والد ( سعيد ) بطل الرواية كان قد انخراط في الحــرب اإليطاليــة الحبشــية في إرتيريــا " وبعــد أن وضــعت
الحرب أوزارهاـ عاد إلى عدن واشترى بيوتا ً كثيرة وأسس تجارة واسعة النطـاق ،وعمـر داراً كبـيرة سـكن فيهــا مـع
أفراد عائلته" ، 1وزهراء خطيبة سعيد هي " أجمل بنات عدن قاطبة " . 2
والسيد األعجم " ظهرت بركته وانتشرت أخباره في عدن " 3والناس في عدن يتحــدثون عن " قــرب زيــارة
الملك جورج الخامس إلى عدن " ، 4كما يرد ذكر ( عدن ) صراحة في سياق ذكر أسماء بعض الشخصــيات
التي كانت تترأس بعض الــدوائر الرســمية فيهــا " ، 5وفي عــدن أقيم " مهرجــان عظيم ســنة 1911م احتفــاالً
بتتويج جالله جورج الخامس ملك إنجلترا وإمبراطورـ الهند ،وقد أقلته الباخرة ( مدينة ) إلى عدن " ، 6كمــا
يرد ذكـر بعض أحيائهــا وحواريهــا ،كحـارة القطيــع أقـدم حــواري عـدن " 7وجبــل شمسـان الـذي بـنيت دار
( سلمان ) من أحجاره السوداء ، 8وواجهة دار سلمان تطل على طريق العيدروسـ ، 9ومدينــة التــواهي الــتي
تقاطر عليها أغنياء عدن وسادتهاـ ورجال المحميات المشهورين للحظوة بمقابلة جاللة الملك جورج الخــامس
10وقبر هابيل على سلسلة جبال المنصوري المعروفة بجبل حديــد الــذي ذهب الملــك جــورج لزيارتــه ورأى
النفق ومر بالعقبة إلى المعلى ، 11وحارة حسين التي تسكنها عائلة عبدهللا الجمال ،12وحينما شد سعيد رحال
السفر مر بطريق النفقين وبستان جبل حديد ،وذهب لرؤية الخنــدق الــذي يحيــط بعــدن من بحــر صــيرة إلى
بحر المعلى والذي أنشأته حكومة بريطانياـ في مكـان درب الحريـبيـ ،ثم مـر بطريـقـ بـاب السـلب بــالمجراد
الذي كان مقفراً إالّ من بضع عمارات ومقهى وإصطبلـ يبدل سواقوـ العربات فيــه خيلهم الــتي تجــر العربــات
1محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ،ص6
2المرجع السابق ص8
3المرجع نفسه ص9
4نفسه ص9
5نفسه ص11
6نفسه ،ص17
7نفسه ،ص6
8نفسه ،ص6
،9نفسه ص6
10نفسه ،ص17
11نفسه ،ص18،19
12نفسه ،ص 19
إلى قرية الشيخ عثمان ،1ثم زار بستان حسن وقبرـ الولي هاشم بحر ثم استأجر هجينا ً ركب عليــه إلى لحج ،
ومنها توجه إلى تعز التي لم يرد ذكرها إالّ في موضعين هذا ثانيهماـ ،أمــا األول فجــاء في معــرض الحــديث
عن مجلس سلمان الذي يستقبل فيه عمالءه وزبائنه كمصدر للقات المجلوب إلى عدن ، 2ثم إلى الحديدة التي
أقام فيها متجراً عظيما ً بمساعدة التجار الذين كانوا يعرفون والده .3
أما عن صورة ( عدن ) السياسية واالجتماعية ،فمن الواضح أنه وحتى تلك الفترة كــان المكــان ال يــزال مســتقراً
تحت أقدام المحتل اإلنجلــيزي ،ولم تكن بعــد قــد نشــأت في ( عــدن ) حركــات تمــرد تعلن عن نفســها بوضــوح ،
فالملك جورج الخامس يأتي إلى عــدن ويزورهـاـ كمحميــة تابعــة ألمالك دولتــه ،والنــاس تســتجيب باالحتشــاد لــه
واالحتفــال بقدومــه ،حيث نقــرأ ":أقيم في عــدن مهرجــان عظيم ســنة 1911م ،احتفــاالً بتتــويج جاللــة الملــك
الخامس ملك إنجلترا وإمبراطور الهند ،وقدـ أقلته الباخرة ( مدينة ) إلى عدن ورافقت الرحلة الملكية عدة بــوارج
حربية ،وذهب من عدن إلى التواهي للحظوة بمقابلته أغنياء عدن وسادتهاـ ومناصــبهاـ ،وحض ـرـ هــذا االجتمــاع
رجال المحميات المشهورين في ذلك الزمان كالسلطان السر أحمد فضل محســن العبــدلي ســلطان لحج ،واألمــيرـ
شايف أمير الضالع ،والشــيخ علي مــانع أمــير الحواشــب ،والشــيخ علي محســن عســكر نقيب يــافع ،وآل فضــل
والعقارب " ".........وقد رفعت األعالم وصدحتـ الموسيقا بالسالم ،واصطفت الجنــود وانفجــرت أفــواه المــدافع
بالتحية وتوافدت الوفــودـ من كــل فج ومكــان ،وقــد قــام النــاس على األقــدامـ وخطب الــوالي (جميس بــل ) مرحبـا ً
بالضيفين العظيمين تحت تمثال الملكة فيكتورياـ الذي أقيم في تلك السنة بمناسبة زيارة حفيدها لعدن ،وألن عــدن
أول مستعمرة ملكت في حكم الملكة المشار إليها ،ثم قام الملك ووعد أهالي عدن خـيراً ،ومن جملـة مـا قالـه أنـه
سيرفع مستوىـ المعارف في عدن وسوف يحتفظ بساحات التواهي المقابلة للهالل األحمر للرياضة ،وهناك اليوم
ثالثة بساتين للتنزه " ".......تفرقت الجموع ،وركب الناس إلى عــدن مــرافقين الملــك لزيــارة الخزانــات األثريــة
" ".....ثم عاد الملك إلى التواهي بطريقـ كنيسة الكاثوليكـ التي ســاعد على عمارتهــا ( اللــورد بالمرســتون ) ســنة
1840م أي في السنة الثانية بعد االحتالل ،وكانت عدن قد لبست في يوم زيارة الملك حلة قشيبة وتزينت ورفعت
األعالم وأقواس النصرـ في أكبر الطرقات " ، " .......وتفرقـ الناس وال حديث لهم إالَّ مــا وعــدهم بــه جاللتــه من
4
رفع مستوى التعليم في عدن وإسعادـ العدنيين "
ومع بروزـ بعض المظاهر التي أخذت تنذر بسعي األجــانب الحــثيث إلى احتالل مكــانتهمـ من الســوق ومزاحمــة أبنــاء
الوطن األصليين في تجارتهم ووظائفهم ،نقرأ في الرواية " :كـانت عـدن في يســر في أوائـل هـذا القــرن ،فقــد كــان
أهلها العرب قابضين على زمام التجارة ،يملكون عشرات اآللــف من حيوانــات النقــل واألبقــار والمــاعز والضــان ،
يصرفون ما يكسبونه على راحتهم ورفاهيتهم ويدخرون أمواالً طائلة ألبنـائهم ،أمـا اليـوم فقـد تبـدلت الحـال وأصـبح
الناس في عدن في حالة أقرب إلى الفقر منهــا إلى الغـنى " ، 5ويفنـد الكــاتب أســباب هــذا التبـدل في كـثرة مــا تســتنفذه
الكماليات من أموال ،وعدم توفيرـ حكومة المستعمرـ وسائل الكسب لسكان عــدن من المســلمين " ،فكــانت النتيجــة أن
المســلمين من ســكان عــدن أصــبحوا غالب ـا ً يتضــورون جوع ـا ً واســتثمر خــيرات البالد الرأســماليون من األجــانب ،
واألسباب الجوهرية للفقر الحاصل بين المسلمين هو نظام الحكم من جهة ،والجهل المنتشر وتفــرق الكلمــة ،فقــد آن
لعدن أن يكون لها مجلس تشريعي ومدرسـة عاليـة وبنـك قـومي وشـركاتـ تجاريـة وطنيـة تنهض بـالبالد من كبوتهـا
1نفسه ،ص26
2محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ،ص8
3المرجع السابق ،ص27
4المرجع نفسه ،ص19،18،17
5نفسه ص3
وتنــافس الــدخالء الــذين أرهقــوا البالد وابتلعــوا مصــالحهاـ ويتحتم على من بقي من ذوي اليســار أن يفيقــوا من غفلتهم
ويقوموا بتشجيع شركات تجارية وقومية ،ويكفي هنا أن نشير إلى ما خسرته البالد إلضاعتها العمل الذي اســتحوذت
1
عليه شركة ( ديوجي دارس وولده ) ولو تضامن المقنطرون الوطنيون لما أضاعوا هذه الصفقة الرابحة "
إالَّ أن الوعي بخطر هذه المظاهر لم يظهرـ حتى تلك الفترة ما يثير قلق هؤالء األجانب من تحركات أبناء عــدن الــذين
انصرف اهتمامهم بشكل رئيس إلى محاولة الحفاظ على مكـانتهم التجاريـة وتثـبيت أقـدامهم فيهـا مـدفوعين بقلقهم من
فقدان مراكزهم ،وأن يسحب البساط من تحت أقدامهم ،وهو ما عبر عنه ســلمان في رده على السمســار الــذي بــادره
يقـول -":إن هـذا المشـتريـ هـو الخواجـة كاراكــا كانـدة ،وهــو عميلكم الــدائم يـا شــيخ سـلمان ،وهــو فـوقـ ذلـك من
المخلصين لكم ،فأجابه سلمان بصوت هادئ له نبرات حادة بقوله :
-إننا نعرفه ونعرفـ أن هؤالء التجار األوربيين ال بد أن يستغنوا عنــا يومـا ً من األيــام بعــد أن تتوطــد
أقدامهم في هذه البالد وتنكشف لهم أسرار التجارة ،فصداقتهم لنا مؤقتة ،وسوفـ يذكر كالمي هــذا
من طالت أيام حياته .
-فقال السمسار :وأني لهم ذلك ومثلكمـ لهم بالمرصاد .
فابتسم سلمان ابتسامه صفراء واجابه :
-بل إن مثلي لن يعيش اال أمداً قصيراً ،فإنما أرى لهؤالء الخواجات وسائل هدامــة عديــدة تضــمن
2
فوزهمـ وتقهقرنا إذا لم تنتبه .
وقد نجد في الرواية من يتجاوز مستوىـ هــذا الــوعي إلى مســتوى أعلى يــدعو إلى التســلح بالوســائلـ
التي تضمن التفوق ألبناء الوطن األصليين كالتســلح بــالعلم ونبــذ الخرافــات والتمسـكـ بالفضــائل ،بــل
وتكــوين موقــف سياســي من المســتعمر يقــوم على رفض دعــاوي االســتكانة والخضــوعـ والتــذرعـ
بالقدرية ،والدعوة إلى وحدة األمة اإلسالمية التي أخذ منها التمزق مأخذه حتى كــاد أعــداؤها يفتكــون
بها ،كسعيد الذي يظهر متميز بوعي أكثر نباهة ونضجا ً ،غير أن هذا الوعي يبدو – حتى تلك الفترة
– ال يــزال يبث أنــواره على مســاحات محــدودة من المكــان السياســي في عــدن ،حيث تظهــر معظم
شخصيات الرواية ضعف استجاباتها له ،كسلمان وزوجته نــور وابنهمـاـ حسـن ،والمجتمـع المحتشــد
لالحتفال باألجنبي ،والناس الذين اعتادواـ اللقاء ببعضهمـ في مجلس سلمان ،بينما يظهر القليلون فقــط
استجابة إيجابية إزاءه ،منهم عثمان وعائشة وزهراء .
أما عن صورة عدن في تشكيلتهاـ االجتماعية الفريدة حينها ،فمن الواضح أنهــا تظهــر مدينــة ال تــزال
تحــوي بقيــة من تــرف ،فــدار ســلمان كــانت " قصــراـ مبني ـا ً من الحجــر األســود المجلــوب من جبــل
شمسان ،مؤلفا ً من طابقين ،ممتداً من أول الزقاقـ إلى آخره ،متركزاً بقعــة مســتطيلة الشــكل تكتنفهــا
من جوانبهــا األربعــة ،فلم تــترك لغــيره أرضـا ً يعمرهــا بقــرب داره ،تشــرف واجهتهـاـ على طريــق
العيــدروس ،وفي مقــدم هــذه الــدار رواقـ طويــل مفتــوح تهب عليــه الريــاح ،ويلعب النســيم بســتائره
المدالة وعلى نوافـذـ الغـرف الـتي وراءه وقـدـ بـدت مظـاهر الـترف على سـاكني هـذا القصـر ،ودلت
3
الحركة بين جوانبه ليالً ونهاراً على العمل والنشاطـ "
والناس في عدن يتنقلـون بالعربـات الـتي تجرهـا الجيـاد ،فعلى بـاب دار سـلمان الفخمـة وقفت بعض
العربات التي تجرها الجياد " ، 4وعائشة تستقلها في زيارتها لزهراء ،5وسـعيدـ يبـدأ رحلتـه من عـدن
1نفسه ،ص26
2محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد) ،ص27
3المرجع السابق ،ص3
4المرجع نفسه ،ص26
5نفسه ،ص10
6نفسه،ص18
7نفسه ،ص8
8نفسه ،ص10
9نفسه ،ص9
10نفسه ،ص26
والمسلمين من سكان عدن ،نجدها مبثوثة في سياق الرواية وهي تشــير -بال شــك -إلى التعبــيرات المقابلــة
من أجانب ويهود ونصارى ،وإن كانت هذه الجنسيات -قبل هذا التاريخ -أكثرقدرة على التعايش فيما بينها
،حيث نقرأ " :فقد كانت عدن في أول هذا القــرن غنيــة بأهلهــا وكــانت أكــثر العــائالت من العــرب والهنــود
والبهرة والصومال في نعيم وغنى ،وقــد اشــتهرـ العــدنيون بــالكرمـ والضــيافة واللطــف والنجــدة ،ولكن تلــك
العائالت التي تألقت نجومها في السنوات الماضية أصبح أبناؤهاـ اليوم في حالــة يــرثى لهــا من الفقــر والفاقــة
وقد انقرض أفرادها في أمد قصير ". 1
وتشكل اليمن بامتدادها واتساعها المكان االجتماعي والسياسيـ الذي جرت عليه األحداث المدونــة في روايــة
( مأساة واق الواق ) غير أن الجزء الشمالي منها يمثل المحتوىـ األهم فما تسترجعه شخصــيات الروايــة من
أحــداث هي أحــداث وقعت في الجــزء الــذي كــان واقعـاًـ تحت ظلمــة الحكم الكهنــوتي اإلمــامي ،أمــا الجــزء
الجنوبي فال يرد ذكره إالَّ في آخر الرواية ،حين يطل علينا بطــل من الجنــوب هــو ( الشــيخ عــواس ) الــذي
يعترض في حديثة على إخمال ذكره بين الناس ،وعدم إنصــافه في بطولتــه الــتي لم يجــد في بــني وطنــه من
يتحدث عنها ،حيث يقـول ":إن الحـاكم المسـتعمرـ تحـدى كرامـتيـ ذات يـوم ،وجـاء مـدالً بقوتـه وغـروره
وعساكره ،وفي يده حبل يهددني بأنه سيربطنيـ به ،وفيـ يده األخرى بندقيته ومن حوله جنــوده ومــا كــدت
2
أسمع تهديده حتى أطلقت عليه الرصاص وقتلته ،وانتقم الجنود حاالً وقتلونيـ ومنحونيـ شرف الشهادة "
أما عن صورة هذا المكان السياسي واالجتماعي :
إنه مكان أشبه بمعبد في مذبح أسطوري ،الحاكم فيه إله ،والشعب كله قرب!!ان ي!!ذبح يومي!ا ً بال رحمة ، -
حتى يخيل لقارئ هذه الرواية من كثرة ما يطالع من الدماء المس!!فوكة والأع!!داد الكب!!يرة من الش!!هداء المتت!!الي
سقوطهم على طريق! الحرية أنه يسبح على صفحات هذه الرواية المدفوقة حروفها بالدم الف!!ائر في بح!!يرة من
دم ،وهاهم األئمة الظالمون يستحضرون فيتذكرون! فيما بينهم بعض ما اقترفوه في حق هذا الشعب المظلوم! :
" قالت جمجمة منها لصاحبتها :
......ومع ذلك فما جدوى ملكنا العريض الذي فرضناه بالسيف وباسم ال!!دين وبالعنعن!!ات! العائلية ،لقد -
سحقنا الشعب ،واعتصرنا ثروته ودمه ،وحكمناه طويالً ،قروناً! وقروناً! ،فلم نص!!نع له ش!!يئا ً ،وكل ما ك!!ان
يفعله أح!!دنا ويتركه من بع!!ده قبة مس!!جد يبنيها من م!!ال الش!!عب ،وض!!ريح يواصل به حكم الش!!عب روحي!ا ً ،
وإقطاعيات نخلفها ألبنائنا وذرارينا فالتجلب لهم غير الفقر والبؤس وغير الشعور! باالنفصال عن الشعب .
قالت جمجمة ثانية :
واألمر المخجل أن تأتي امرأة من الصليحيين ومن ص!!ميم ش!!عبنا فتخلف من آث!!ار اإلص!!الح والتعم!!ير -
والبر وتعبيد! الطرقات! مالم يصنعه عشرات من الملوك أمثالنا .
وقالت جمجمة ثالثة :
ولو كان األمر أيها الزمالء أمر تقص!!ير في إص!!الح ،له!!ان األمر ..ولكنا كنا نجعل نصب أعيننا أن -
نسحق الشعب ونلغي آدميته ونحطم كل رأس كريم من رؤوس! أبنائه ،إنني أعترف لكم بأني كنت قد أج!!برت
كل قبيلة أن ترهن أبناءها في سجوني! ،وح!!دث م!!رة أن أح!!رق مجه!!ول باب!ا ً خش!!بيا ً من أب!!واب عاص!!متي ،
يقصد بأمير المؤمنين 0علي بن ابي طالب كرم هللا وجهه ،الذي تم استحضاره في المؤتمرـ الكبير الذي تخيله الكاتب 1
1محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص 254
2المرجع السابق ص223،112
3المرجع نفسه ص 280
الظالمون الكبار ،وهم الذين قتلوا أخي برصاص بنادقهم! ،وهو أسير في سجونهم ،وهم الذين غدروا بالشيخ
1
جارنا العظيم بعد أن أعطوه العهود والمواثيق! "
بل وتشهد! هذه القيم -داخل هذا المكان المرعب -تبدلها األسوأ ،وه!!ؤالء أش!!راف الج!!وف يخ!!ذلون رجالً قد
منحوه األمان ويسلمونه إلى الطاغية ،وهذا نقيب األشراف الشريف الضميم يستنكر! ما فعلته قبيلته فيقول :
" ماذا أص!اب عق!ول أش!راف الج!وف ح!تى يقبل!وا بتس!ليم رأس من رؤوس حاشد لجأ إليهم واحتمى! بش!رفهم
وشهامتهم! فيقدمونه إلى جزار متعطش لل!!دماء يذبحه ؟ ....إن الع!!رب ال يقبل!!ون ه!!ذا على أنفس!!هم ،ولو ك!!ان
الذي لجأ إليهم ألد أعدائهم ،أيخاف األشراف! من هذا الطاغية الذي يحكمهم وما قيمته وأهميته وخط!!ره ؟ إنه
ش!!يخ مسن ،وس!!يزول! قريب !ا ً وي!!زول! عرشه ،ويبقى األش!!راف وسط بحر من القبائل ال!!تي البد أن تك!!رههم!
وتحقد عليهم بس!!بب ه!!ذا الح!!ادث ،إن الطاغية ف!!رد زائل ،أما حاشد فهي خال!!دة باقية ،وعلى األش!!راف أن
2
يصفوا حسابهم! مع الطاغية الذي سود وجوههم وإال فالويل لهم والعار "
وتض!!!في! القصة القص!!!يرة -بحكم تعاملها المختلف مع المك!!!ان -مزي!!!داً من التفاص!!!يل على
صورة المكان التي التقينا تفصيالتها في األعمال الروائية السابقة ،فهي ت!!برز ص!!ورة مك!!برة
لمساحة محدودة من المكان أو قطاعا ً عرضيا ً يمنح تفصيالت ال تس!!فر عن دقتها! إالَّ لمثل ه!!ذه
الرؤية المركزة ،وهي صورة تصلح ألن تنهض نموذجاً! مصغراً! يخ!!تزل في خطوطه مالمح
المكان السياسي! واالجتماعي! الذي تنضوي! ضمن مساحاته ،وه!!ذا أمر يتكشف! بش!!كل أوضح
لدى تلك األعمال التي استطاعت أن تمتلك ناصية الرؤية القصصية ،وتحقق نضج تناولها! في
سياق تجربتها! المتط!!ورة ع!!بر ال!!زمن ،أما في تلك األعم!!ال ال!!تي تنسب إلى مراحل الب!!دايات
حيث الخلط ال يزال قائما ً بين مفه!!وم البن!!اء ال!!روائي ومفه!!وم البن!!اء القصصي ،ف!!إن األمر ال
يبدو على هذه الدرجة من الوضوح .
ففي القصة (أنت ش!!!!!!!يوعي ) مثالً ،نلتقي مكان!!!!!!!ا ً متنقالً بين بيت في القرية ،ومدينة تعز
( مدرس!!تها! ربيت فيها ) وجمهورية مصر العربية ،وهو تنقل يمتد على ف!!ترة زمنية يمكن ان
يق!!وم على اس!!تطالتها ح!!دث في بن!!اء روائي! لكننا مع ذلك يمكن لنا أن نقع من ه!!ذا العمل على
مكان قد نعتمده مكانا ً محورياً! فيها ،ذاك هو هذا البيت ال!!ريفي المتواضع في القرية الص!!غيرة
في ضاحية من ضواحي صبر الذي يقدمه لنا الراوي في قوله ":يا لها من حياة ساذجة ! أناس
اتخ!!ذوا من جح!!ورهم الض!!يقة م!!أوى لهم وألبق!!ارهم وأغن!!امهم ومواش!!يهم يض!!طجعون حيث
تتب!!ول األبق!!ار والمواشي ،وحيث تتغ!!وط وتتجشأ ،كل ه!!ذا بينهم ،يش!!تمون ه!!ذه ال!!روائح
الكريهة ح!!تى ليخيل إليك أنهم يحي!!ون بح!!واس أربع م!!اتت حاسة الشم ! وإذا أت!!وا إلى المائ!!دة
سترى ما يدعو إلى البكاء على هذه األسرة ،ستراهم قد افترش!!وا الحص!!ير ،وال!!ذباب يتط!!اير!
في الفض!!!اء ليهبط على حافة الق!!!دور الخزفية ،وأحيان!!!ا ً يغطس وسط! الأكل وي!!!دخل ض!!!من
المأكوالت إلى البطون دون أن يشعروا! أو يحسوا ،ألنهم يعيشون في ظالم دامس إذا اس!!تثنينا
1نفسه ص203
2محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص208
لمبة صغيرة يخرج منها ضوء باهت أحمر ،ال يعطي للناظر صورة واضحة لما ي!!دور! على
المائدة !
وإذا نظرت إلى الماء ستراه ملوثا ً باألوساخ! ،مليئا ً بالجراثيم ،والتي ال ترى واضحة النع!!دام
1
الضوء الكافي ،وألن األواني خزفية وليست زجاجية شفافة "
وتكشف لنا األلفاظ الدالة على الجمع في هذا الوصف! – الذي يق!!دم مكان!ا ً هو نم!!وذج مص!!غر
عن المكان السياسي واالجتماعي الف!!ارق في قذارته وأوحاله – عن ح!!ال ال تخص ً
بيت بعينها
،وإنما تشمل كل البيوت التي تنتمي الي هذا المكان ،ويتأكد ذلك في ق!!ول ال!!راوي ":في مثل
هذه البيوت عاش أحمد مع أبيه وأمه وإخوانه واخواته الصغيرات ،ومع اخته الكب!!يرة حمي!!دة
ومع األبقار والمواشي! " 2غ!!ير أنه يمكننا أن نص!!نفه مكان!ا ً في قرية من ق!!رى الش!!مال الواقعة
تحت ظلم واستبداد اإلمامة .
ومع أن المكان – وهو أحد عناصر الواقع السياسي! واالجتماعي الذي تهدف االعمال الروائية
والقصص!!!ية إلى تغي!!!يره – قد يتسع ويمتد! ليش!!!مل اليمن كله ش!!!ماله وجنوبه ،كما في قصة
( ش!!يء أس!!مه النف!!اق ) 3حيث نلتقي ش!!ابا ً ي!!زج بوال!!ده في س!!جن حجة الش!!تراكه في ث!!ورة
1948م ،فيتوجه إلى عدن ،وهناك يعاني ضغوطاً! كثيرة ،وتهدي!!دات! بإخراجه من المدرسة
التي كان طالبا ً فيها ،بينما تظل أسرته تضطرب تحت ويالت الجوع والفقر في قرية من قرى
الش!!مال ،لكنه – في كث!!ير من األحي!!ان – يحقق تم!!ايزه الواضح تبع !ا ً لوقوعه في قرية أو في
مدينة ،قريبا من مراكز تأثير األنظمة أو بعي!!داً عنها ،في الش!!مال حيث الرجعية المتخلفة ،أم
في الجنوب حيث بريطانيا! ابنة الغرب المتحضر .
فالقرية في الش!!!!مال تظهر بمالمح مختلفة عن تلك ال!!!!تي تظهر بها قرية في الجن!!!!وب ،ففي
الش!!مال حيث المك!!ان اشد ظلمة وت!!أخراً! ،وحيث س!!طوة الحكم األم!!امي وقبض!!ته ،وقس!!وته
ووطأة ظلمه تمتد لتبلغ حتى تلك القرى البعي!!دة الرابضة في عزلتها وظالمها ،ع!!ادة ما تل!!وح
لنا صورة القرية وهي ص!!ابرة على بؤس!!ها! مستس!!لمة لرعبها وخوفها منطوية تحت ص!!متها ،
وهي الصورة ال!!تي نلتقيها في قصة ( أنت ش!!يوعي ) ال!!تي عرض!!نا لمقتطف منها في الس!!ياق
السابق ،وال!!تي تأص!!لت مالمحها بش!!كل أوثق في األعم!!ال القصص!!ية والروائية ال!!تي اهتمت
بالواقع االجتماعي والسياسي قبل الثورة واالستقالل .
أما قرى الجنوب ،فتظهر ق!!رى تش!!تعل بمقاومة المحتل المغتصب ،وربما ك!!ان الس!!بب وراء
ذلك أن المس!!تعمر لم يكن مهتم!ا ً به!!ذه الق!!رى ل!!ذاتها ،وإنما ك!!ان يح!!اول إخض!!اعها وف!!رض
الحماية عليها لت!!أمين ( ع!!دن ) المين!!اء التج!!اري االهم لإمبراطوريتها! ال!!تي ال تغ!!رب عنها
الش!!مس ،ثم إن وعي أبن!!اء الجن!!وب بك!!ون ه!!ذا ال!!ذي ج!!اء ليف!!رض هيمنته ما هو إال غ!!ريب
ومحتل ،قد رفد قناعتهم بواجب المقاومة بيقين أكبر ،وطبعها! بط!!ابع الص!!البة والثب!!ات ،ولم
يكن الأمر كذلك عند أبناء الشمال ال!!ذي اس!!تطاع اإلم!!ام يح!!يى ومن بع!!ده أحمد أن يغ!!رر بهم
1صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ،ص 12
2المرجع السابق ،ص 13
3المرجع نفسه ،ص24
ويق!!وه عليهم حقيقة ،فيتزيأ! بأردية متنوعة تح!!ول دون تفك!!يرهم ب!!الخروج عليه ،منها أردية
الدين باعتباره ولي األمر والحاكم! بأمر هللا ،ومنها أردية الوطنية والسياسة باعتبار رأس ه!!ذا
النظام قد قاد حركة التحرر الوطني ضد الأتراك .
وفي قصة ( الإن!!ذار المم!!زق ) نلتقي قرية تش!!تعل تحت وابل الق!!ذائف البريطانية بعد أن ق!!رر!
أهلها المقاومة ،ومزق شيخها إنذار الحكومة البريطانية باإلذعان ألمر الحماية أو ترقب حملة
عس!!كرية ،وص!!مم! أن يخ!!وض بتلك القرية ح!!رب مقاومة آل على نفسه فيها أن يعلم الطغ!!اة
أقس!ى ال!!دروس ،ويض!!رب لهم مثالً في ال!!دفاع عن حرية ال!!وطن مهما ص!!غرت رقعته ،و -
فج!اة -ب!رزت ثالث ط!!ائرات في س!ماء القرية م!زقت ص!متها ،وأخ!ذت ترسل قنابلها! الثقيلة
وص!!واريخها المحرقة ،وتس!!قطها! على من!!ازل القرية المبنية من القش واللبن الق!!ديم المتآكل ،
وتحيلها إلى ركام ،ثم قفلت راجعة ،لكن الشيخ توقع أن ال يكتفي العدو ب!!ذلك ،أو أنه قد يتبع
ه!!!!ذه الغ!!!!ارة الجوية بعملية حربية أوسع ،فأخذ ينظم ص!!!!فوف رجاله للمعركة المص!!!!يرية
الحاسمة :
" والتفت إلى رجاله ح!!!ائراً مش!!!دوها ً وهم في ش!!!به غيبوبة من ه!!!ول المص!!!اب ...رأى في
عيونهم سهوماً! ،وفي! قلوبهم! حقداً وكراهية ،وتملأ خاليا أذهانهم فكرة االنتقام ..وص!!اح فيهم
أن يس!!تعدوا لكل ط!!ارئ! جديد ...وب!!دأت الأي!!دي المعروقة تقبض بق!!وة على البن!!ادق الخش!!بية
القديمة ويحشونها بالرصاص ،وامتدت الأصابع تالمس الزناد استعداداً لمالقاة العدو الغ!!ازي
.
وكانت الرؤوس! تطل من بين الصخور في ترقب وتحفز ،ومع خيوط الفجر الأولى لتلك الليلة
المش!!ؤومة انتظم رتل طويل من الس!!يارات الكب!!يرة ال!!تي احتشد فيها جن!!ود كث!!يرون يحمل!!ون
أس!!لحة جدي!!دة وكث!!يرة ،وخلف ه!!ذه الس!!يارات مص!!فحة يختفي فيها القائد للفرقة ،وش!!ارف
الطابور العسكري القرية المدمرة ،ودقات! القلوب تكاد تعلو على ض!!جيج الس!!يارات ،وما إن
توسطها! الجنود حتى انهمر الرص!!اص من ج!!انب الم!!دافعين كالس!!يل ال!!دافق ،وتس!!اقط! جن!!ود
المعتدي إلى الأرض كسقوط أوراق! الشجر في فصل الخريف .
واستمر إطالق النار بين الجانبين ،ولكن أين التعادل ؟ إن رجال القرية يملكون س!!الحا ً ق!!ديماً!
ومعدات قليلة بينما الخصم يملك الكثير من الأسلحة الحديثة ويتفوق! عدداً ايضا ً ،وما إن ب!!دأت
الش!!!مس تبسط رداءها المن!!!ير على جنب!!!ات المعم!!!ورة ح!!!تى خفت إطالق الن!!!ار من ج!!!انب
المدافعين وأطل قائد الحملة برأسة من خلف سيارته المصفحة ،وعندما تأكد من نجاح العملية
العسكرية نزل بحذر شديد يتأبط مدفعه الرشاش ،وتقدم بخطوات وئيدة وهو يح!اذر كل حركة
،وقام بجولة تفتيشية مع كبار قواده بين الجثث ،وأخذ يبحث عن شيء مجهول ،وك!!ان يقلب
كل جثة مجفية على وجهها بقدمه ح!!تى يتع!!رف على الش!!خص المطل!!وب وك!!ان بمعيته ذلك
الرسول الذي قام بتقديم اإلنذار إلى الشيخ ،وخلف صخرة كب!!يرة وقف القائد ف!!وق جثة يس!!قط
ال!!دم من أج!!زاء عدي!!دة منها ،لقد ك!!انت جثة الش!!يخ ..وقبل أن ينطفئ بريق عينيه إلى الأبد ،
دس الضابط! يساره في جيبه ثم أخذ يلوح بورقتين أمام عيني الشيخ ،وفهم الشيخ قصده ،فزاد
في ثورته ،وأراد أن يقوم فأخفق ألنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ،واحتشدت الآالم في رأسه ،ف!!أراد
أن يرفع يمنية إلى ش!!عر لحيته كعادته في الأزم!!ات ..ولكن الض!!ابط! أراد أن ينتقم من تلك اليد
التي مزقت الإنذار ،فأخذ يض!!حك بجن!!ون ،بينما مدفعه الرش!!اش يلفظ ما ببطنه من رص!!اص
على يمين الشيخ التي تفجرت شذروا!نا من الدماء ،واختلط! أزيز الرصاص بالضحك المجنون
1
..ولم تكن الورقتان سوى اإلنذار الممزق "
وفي قصة ( لم يكن مجنونا ً ) نرقب قرية من قرى! الجنوب تلتف بليلها الأسود الحالك وهدوئها
المخيف ،قد تأهب أهلها لمعركة وش!!يكة مع المحتل الأجن!!بي ،وه!!اهم يجتمع!!ون ح!!ول رزمة
من الحطب والن!!ار المتص!!اعدة في س!!احة القرية حيث تعقد اجتماع!!اتهم ،ون!!راهم! يرس!!مون
خطتهم ويوزعون الأدوار فيما بينهم ،ويكمنون! لعدوهم! في سفوح الجبال التي تط!!وق ق!!ريتهم!
في انتظار! إشارة بدء الهجوم ،لكن فجأة يشق سماء القرية قصف مدافع ثقيلة ،وبنادق! س!!ريعة
الطلقات ،وتق!!اوم! القرية بعتادها البس!!يط ،ويظهر أحد أبنائها واس!!مه ( عن!!تر) بطولة ن!!ادرة ،
حيث اعتمد حيلة أفقد بها العدو كل ذخيرته ،حين أطلق لحم!!اره العن!!ان وتركه يج!!وب أرج!!اء
الساحة محدثا ً جلبة كب!!يرة ظنها الع!!دو تحرك!!ات رج!!ال القرية " وك!!انت تلك المعركة الوهمية
التي خاضها العدو وخسر فيها كل شيء ،وخسرنا! نحن عنتر وحماره ...
وهنا لم يكن منا إال أن أمطرنا! العدو وابالً من الرصاص أخذ يرسله عليه رجالنا من كل اتج!!اه
،وك!!انت مفاج!!أة كب!!يرة له أفقدته الس!!يطرة على نفسه ،فلم يس!!تطع أن يص!!ور أم!!ام هجومنا
المف!!اجئ ،ف!!أركن إلى الف!!رار بعد أن خلف وراءه ع!!دداً كب!!يراً من القتلى والج!!رحى! ،وك!!ان
2
انتصاراً لم تشهد له القرية مثيالً من قبل "
وفي قصة ( البيت السعيد ) 3تخوض قرية معركتها! مع مدير مستبد ،امتدت أطماعه لتسلب
( العم س!!عيد ) حقه في بيته ال!!ذي دفن فيه جهد عم!!ره ح!!تى أقامه من اللبن الق!!ديم وتفنن في
تفصيله حسب معلوماته الهندسية ،فالطابق الأرضي! قسمة إلى ثالث غرف ضيقة وفي! أعاله
بنى كبن !ا ً ص!!غيراً ت!!دخل الش!!مس من بابه ونافذتيه الص!!غيرتين ،كل ذلك ليه!!رب من عش!!ته
الض!!يقة الرطبة ال!!تي ك!!ان وأس!!رته فيها ه!!دفا ً س!!هالً للأم!!راض فيجتمع أه!!الي القرية وتتوحد!
كلمتهم على طرد المدير وإعادة البيت لأصحابه .
وتظهر مدينة ( ع!!!دن ) مدينة متم!!!يزة بمظاهرها الحض!!!ارية عن غيرها من الم!!!دن اليمنية
الأخ!!رى ،ففي ال!!وقت ال!!ذي ك!!انت مدينة تعز ال ت!!زال تقبع تحت تخلفها وتأخرها ،فمدرس!!تها!
الوحيدة ال تقدم للمتعلم سوى بعض العلوم السطحية ،وأحمد في قصة ( أنت شيوعي ) لم يكن
ينسى أن يبصق! عليها بصقة احتقار في نهاية كل ي!!وم دراسي ،نس!!معه يق!!ول -":تف!ا ً لك أيتها
4
المدرسة ! دخلتك وأنا جوعان ،وخرجت منك وأنا جوعان "
وهو دائم التساؤل عمَّا تقدمه هذه المدرسة من علوم ال تغني وال تسمن .
1نفسه ،ص50
الأسطورة كفن من الفنون الشعبية الشائعة ولكنهما! لقنتانيها الكأسطورة بل كعقي!!دة وحقيقة
،ولذلك فإنما أنا أجاريكم وأجاملكم في تس!!ميتها! أس!!طورة ،وإال ف!!إنني أؤمن بها أك!!ثر من
إيماني بوجود! الشمس والقمر ،قد اك!!ون مخ!!دوعا َ في إيم!!اني ه!!ذا ،ولك!!ني أنا ال تهم!!ني
الحقيقة خ!!ارج نفسي ،وأنا أش!!عر أن ه!!ذا البلد -كما لقنت!!ني أمي على الأقل -هو التربة
الطاهرة الحبيبة التي جبل منها جسدي وصيغ من طينها قل!!بي وعقلي ،فهو وإن لم يكن له
وج!!ود! في خريطة الأرض موج!!ود في دمي وفي إحساسي ومتجسد في ه!!ذا الك!!ائن ال!!ذي
1
يحدثكم الآن بلسان عربي مبين
لكنه ومع هذا االعتقاد اليقيني يستبد به شعور! الخوف من تالشي صورة هذا المكان وتب!!دد
مالمحه من ذاكرته ،كما تالشت وتبددت من وعي الحاضر وذاكرته و أنزوت في ذاك!!رة
الت!!اريخ الإنس!!اني مج!!رد ص!!ورة لمك!!ان ن!!ابت على أرض يتأصل انتماؤها! مع اس!!تمرار
الجهل بها إلى عالم الأساطير! ،يحدثنا قائالً :
" ما ك!!ادت تق!!وم حركة 48وتنتكس ح!!تى أص!!بت بإغم!!اءه الص!!لة بي!!ني وبين وط!!ني
وتاريخي! وخرجت إلى أهل الأرض ،فكنت أجزع حين ال أرى وطني في مس!!رح الزحف
التاريخي للبشر ،وال أرى الناس يعرفونه ،وال يشهدون له وج!!وداً إال اس!!مه الأس!!طوري!
الذي تناقلته كتبهم وأقاصيص أس!!الفهم ،من ثم أنك!!روا أن له وج!!وداً! حقيقي!ا َ ،ل!!ذا كاب!!دت
المرارة الرهيبة ،ودخلت في نقاش مع الناس كأنني مجن!!ون عقالء أو عاقل بين المج!!انين
". 2
وحيث الواقع الق!!ائم ال ت!!دل حركته على وج!!ود ه!!ذا المك!!ان المنط!!وي بص!!مت على همه
وحزنه ،فإن البحث عنه ال بد أن ينطلق مرتاداً أشرعة الحلم محموالً على س!!فن الخي!!ال ،
فهناك حيث ترسو يمكن التماس الأدلة والقبض على البراهين ال!!تي ت!!دل عليه وعلى حقيقة
وجوده الفعلي .
ومع ذك!!اء ه!!ذه الحيلة ال!!تي ذهب إليها المؤلف ،إال أننا نستش!!عر! كم الح!!زن ومق!!دار الألم
الذي أقل مركبه ليرسو عليها ،فهو الغريب المبعد الغ !ارق مكانه تحت رك!!ام ،ده!!ور من
النسيان ،كتب هشام علي يقول " :من االنقطاع الت!!اريخي إلى الض!!ياع الجغ!!رافي! ،ه!!ذه
هي قصة بطل ( مأساة واق الواق ) فالأمل الذي كان يح!!دوه في نهضة مرتقب !ة ينطفئ في
المهد عقب فشل حركة 1948م ،يخ!!رج البطل إلى الع!!الم منفي!!ا ً ومغترب!!ا ً ،وفي الغربة
يح!!اول أن ينس تلك الص!!ورة المؤلمة لبالده ال س!!يما أنه مولع بالمقارن!!ات التاريخية ،إنه
يرى العالم يتقدم ويسير! إلى االمام بقوة ،بينما ال تقف بالده في مكانها ،بل تن!!دفع مهرولة
إلى ال!!وراء ،تط!!ول س!!نوات الغربة ،وينسى! البطل ص!!ورة ال!!وطن تلك الص!!ورة الباهتة
المؤلمة ،وينسى الع!!الم وك!!ذلك موقع واق ال!!واق وال يبقى س!!وى الأس!!طورة ،إزاء قس!!وة
العالم المعاصر ال يكفي أن ينتمي شعب إلى بقعة من الأرض حتى تسمى وطناً! ،فجغرافيا
1نفسه ،ص102
2نفسه ،ص105
3ا محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص109
4المرجع السابق ،ص109
5المرجع نفسه ،ص111
6نفسه ،ص112
7نفسه ،ص 128
8نفسه ،ص 133
9نفسه ،ص102
ج) الشخصيات من التاريخ الديني واالجتماعي :
وأول ما يهل علينا من ه!!ذه الشخص!!يات ،الإم!!ام اله!!ادي يح!!يى بن الحس!!ين ،ال!!ذي يب!!ادر ب!!إعالن
براءته ممن يقترفون هذه المظالم ويدعون أبوته لهم ،فيقول -" :أعوذ باهلل من ( يا جناه ) وعرشه
الباغي ،إنه ليس من أهلي إنه عمل غير صالح ،ثم رفع الإمام الهادي ص!!وته منفعالً ق!!ائالً :عجب!ا ً
عجبا ً ! ماذا تستطيع الأيام أن تفعل ،من قال لكم أن مثل ه!!ذا الطاغية يمكن أن يعت!!بر من أبن!!ائي أو
من خلفائي ! إن من يقول هذا يشتمني دون أن ي!!دري ،ومن ق!!ال لكم أني جئت إلى ص!!عدة لتأس!!يس
عرش لأسرتي! أو ذريتي! ،وإذن فلماذا ث!!ار اإلم!!ام زيد على ب!!ني أمية ؟ وث!!ار! الإم!!ام الحس!!ين على
يزيد ؟ لقد ث!!ار آب!!ائي الأطه!!ار على ال!!ذين حول!!وا الخالفة إلى ملك يتوارثنه الأبن!!اء ويعتم!!دون على
القوة والسيف! ،ويعت!!برون الأمة تركة يرثونها عن آب!!ائهم ،كما يرث!!ون الض!!يعة أو الماش!!ية إن كل
الأصول في مذهبي الذي حملته إليكم تناقض أشد المناقضة وج!!ود! ه!!ذه الع!!روش الش!!يطانية الباغية
1
إنني أستغفر هللا وأبرأ إليه من هؤالء فليسوا مني وال أنا منهم "
واستحضار هذه الشخصية التي كان لها حض!!ورها! الفعلي على أرض ه!!ذا المك!!ان ،وإنطاقها! به!!ذه
الشهادة التي أدلت بها ،يمثل ذكاء كبيراً من كاتب هذا العمل الذي يعلم مقدار تأثيرها في نف!وس كل
من عمرت قلوبهم بحب آل البيت .
ويحضر! الإمام زيد بن علي رضي هللا عنه ،وهو ال يكتفي ببراءته من هؤالء الطغاة كما فعل الإمام
الهادي ،وإنما يركز على جريمة هؤالء الطغاة في حق آل ال!!بيت ،إذ هم يس!!لبونهم قدس!!ية الش!!رف
الإنساني بادعائهم االنتساب إليهم " :إن هذا الشخص يدعى أنه من آل ال!!بيت ،وأدهى من ذلك أنه
يدعي الحكم بمذهب آل البيت ،فهو لايكتفي أن يكون طاغية كس!!ائر طغ!اة الأرض ال!ذين يبطش!ون
بالن!!اس ويرتكب!!ون الج!!رائم ويع!!ترفون للت!!اريخ ب!!أن ذلك على مس!!ؤوليتهم! الشخص!!ية ،أو على
مسؤولية القوانين التي يضعونها! أو يختارونها ،بل إنه يفعل أشنع ما يفعله الطغ!!اة ن ويس!!تتر! وراء
مبادئ الإسالم ،بل ويا لسخرية القدر ! إنه يستتر! وراء مذهبي أنا الذي قاتلت هش!!اما ً ح!!تى الم!!وت
لأنه طاغية ودعوت الناس إلى قتله وقتاله ،وقررت في مذهبي وجوب الخ!!روج على الظ!!المين من
أية ساللة وفي! أي عصر ". 2
وال يخفى على الق!!ارئ ما في ه!!ذا الكالم من ترك!!يز! على مب!!دأ الخ!!روج على الح!!اكم ،وحث على
الخروج على هذا الطاغية في رسالة تستمد قوتها! وتأثيرها من مرجعيتها! الكبيرة .
أما الإمام علي كرم هللا وجهه ،فيكون تركيزه على قض!!ية أك!!ثر ش!!موالً ،إنها رس!!الة الإس!!الم ال!!تي
تقف ضد العصبيات القبلية والعائلية ،نسمعه يخاطب محدثة الذي استسمحه أن يتحدث ب!!الحق ضد
من ينتسبون إليه ،فيقول " :أو تظنني كسرى! أو قيصر! حتى تتحرج من الصراحة ضد من ينتسب
إلى ..؟
ومالي وللنسب ،إن رس!!الة الإس!!الم ضد العص!!بيات القبلية والعائلية ،ولقد ق!!اتلت أنا أهلي بالس!!يف
وق!!اتلتهم! جنب!!ا ً إلى ج!!انب مع الأوس والخ!!زرج! ...أال ف!!اعلم أنكم أولى بي من أي ظ!!الم ي!!دعي
الثانية :الخطأ الذي ارتكبه بهدم قصر غمدان ،وتحول قاعدته بفعل هذا اله!دم إلى س!جون وكه!وف
رهيبة ،وهو ي!!رد على ذلك بقوله -":ولكن القصر لم يعد له وج!ود في بل!دكم لأن ع!!امالً من عم!!الي
هدمه خطأ ،ولهذا تراني عند سيف بن ذي يزن أتردد عليه كثيراً ،بعد أن جئت إليه م!!رة أ!عت!!ذر إليه
3
عن صنيع عاملي وقد أولعت بهذا القصر وصاحبه "
ويحضر! عبد المطلب -كأحد الأعراف التي تنسب إليها فئة ضخمة من اليمن!!يين ،كي ي!!درأ عن نفسه
ما يتهم به من سلبية أورثها! لأحفاده ،حين ترك الكعبة للغزاة ،وهو يقول في ذلك ":وأنا ماذا يعنيني
من هذا كله ؟ وما دخل!!ني فيه ،إن!!ني رجل مس!!الم ،وال أميل إلى الص!!راع ،وليس أدل ذلك من أن!!ني
ت!ركت الكعبة لحماية ربها وبحثت عن إبلي ،وقلت للغ!زاة أنا رب إبلي وللكعبة رب يحميها ،ك!ذلك
4
كنت وأنا في الدنيا ،فكيف تطمعون أن أعلن الحرب على مزاجي المسالم وأنا في دار السالم"
أما سيف بن ذي يزن وهو الشخصية الأسطورية التي يتفاخر اليمنيون بما أقدمت عليه ،فهو يحضر!
-أيضا ً -متهما ً بتوريثه هذا الشعب ما يسمي بالعقدة اليزنية التي دائما ً ما تش!!عرهم! ب!!العجز وانتظ!!ار!
المس!!اعدة من الغ!!ير وهي عق!!دة اس!!تفاض في تفس!!يرها وش!!رح أثارها على إخف!!اق ث!!ورة 1948م
1محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص179 ، 180
ع!!دن خالل ف!!ترة الخمس!!ينات من الق!!رن العش!!رين ،فمس!!كنه ال!!ذي تستض!!يف جدرانه حش!!وداً! من
الصراص!!ير! (مخ!!زن ) مج!!دور! القاعة يش!!به خريطة للعمي!!ان " كله نت!!وء وحفر ،أما ( ال!!دارة )
فحدث وال حرج ،أكوام من الرمل كث!!يراً ما غ!!رقت ( قراحيفه ) فيها ،وج!!دران من الطين مأكولة
الساس هي في الواقع أشبه بلوحة نقوش ،يراها كل ص!!باح ومس!!اء ،وكث!!يراً! ما وقف! يتأملها حين
تقع عيناه عليها ،كلما أخ!!رج رأسه من فتحة قميصه ،عن!!دما يلبس ثيابه ،ف!!يرى خطوط!اً! خارجية
قريبة في تص!!ميمها! من خريطة الهند وص!!ورة ث!!ور ه!!ائج ال يع!!رف من كسر قرنه و ......و......
وما الى ذلك ،فال ي!!دري أيعجب بها أم يعجب منها ،آلن أح!داً ممن في ال!!بيت لم يتعمد رس!مها! ولو
1
تعمد ما استطاع! "
وفي قصة ( بقية الحساب ) يضغط المكان من حول الشخصية عليها بإحساس الغربة ،إذ هي ترى
األجنبي يتوسع كل يوم مزحزحا ً أبناء البلد األص!!ليين ح!!تى ي!!بزهم من أم!اكنهم ،وي!!تربع! م!!دعوما ً
بسياسة استعمارية تمكنه وتمنحه صكوك االستحقاق الكامل ،نقرأ على لسان الشخص!!ية " :وكنت
كاتبا ً في إحدى اإلدارات الحكومية ،وفي! السنوات القليلة الماضية بدأ س!!يل من األج!!انب ،يفد على
إداراتنا من كل حدب وصوب! ،وكنت أتخيل هذه اإلدارة مزيجا ً من ألوان متع!!ددة ولغ!!ات مختلفة ،
ولسوء الحظ أن أحد الكتبة األجانب الذي عرف بميله الشديد وحبه المفرط لرج!!ال اإلدارة رقي إلى
م!!!دير ب!!!دالً من م!!!ديرنا األول ال!!!ذي ذهب إلى بالده بعد انته!!!اء مدته منذ ذلك الحين ،وأنا أرى
تحركات خطيرة في سماء حياتي العملية ،تحركات من ن!وع جديد أرى تعس!فا ً وض!غطاً! واس!تبداداً!
وتمي!!يزاً بين األف!!راد! ،ومنذ ذلك الحين أيض!!ا َ وأنا أرى أص!!دقائي الق!!دامى يت!!وارون عن اإلدارة
ح!!املين بقية الحس!!اب ،وس!!رعان ما يحل محلهم أج!!انب حض!!روا! من بالدهم طبق!!ا ً لسياسة لعينة
حاكها الم!!دير المبجل ،وكنت فعالً أنتظر ه!!ذا ال!!دور ال!!ذي ك!!ان ينتظ!!رني بف!!ارغ الص!!بر ،وكلما
تذكرته يزداد قلبي وجيبا ً ،فأسال نفسي ب!!برود هل يس!!تطيع أن يط!!ردني في ي!!وم ما ؟ وهل ت!!راوده
الفكرة لتنفيذ هذه المهزلة .من الجائز أن يكون الجواب نعم ،يستطيع! ذلك وأك!!ثر من ذلك ،ألم يكن
2
هو المدير وحامل السلطة العليا في اإلدارة "
وبعد أن تتحقق كل مخاوفها! ،وي!!!دفع! إليها ببقية حس!!!ابها عن خ!!!دمتها الطويلة تنس!!!حب به!!!دوء ،
وتنزوي! مشمولة بإحباطها! وته!!دمها في مكانها الم!!تزاحم! الخ!!ائف ،نق!!رأ على لس!!انها " :قبعت في
وقت الظه!!يرة ،ب!!ركن قصي! من م!!نزلي وكنت مبه!!ور! األنف!!اس ألهث ك!!الثور الم!!ذبوح ،مش!!تت
األفكار ،ضائع الحواس ،وفي! أثناء هذا الشرود! الذهني كنت أنقل بصري إلى كل شيء في المنزل
،فأرى ع!ائلتي المكونة من ثالث عش!!رة نس!!مة ،وهي تس!ير هنا وهن!اك ،في!وحي! لي ه!!ذا المنظر
أنني أعيش حق!ا ً في ( الس!!وق! الطويل ) وه!!ذه الس!!رر المبع!!ثرة المهترئة الحب!!ال ال!!تي تش!!غل ثالثة
أرب!!اع الم!!نزل ....وه!!ذه ( األكب!!ان ) األربعة ال!!تي نص!!بت في كل ركن منه لبعض أف!!راد العائلة
المتزوجين ،كل هذا في منزل يحوي ( مخزنا ً ) و ( دارة ) فقط ...هذا عالوة على أرض الم!!نزل
3
المكتظة بشتى القاذورات وبراز األطفال التي أكل الزمن عليها وشرب "
1مجلة الحكمة .العدد ( )42اغسطس ،1975اتحاد االدباء والكتابـ اليمنيينـ
2أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ،ص62
3المرجع السابق ،ص61
ويصبح المكان في قصة ( تاكسي لمن جاء تعبر ) مثاال لالستغالل والضياع ،فهو وكر فسادي في
شعب العي!!دروس تض!!يع فيه الشخص!!ية بعي!!داً من مركز الن!!ور والحض!!ارة في ( ع!!دن ) ،نق!!رأ ":
يالهذا الظالم !أما آن له أن يزول ؟ يا لهذا الش!!قاء الج!!اثم ف!!وق حي!!اتي و كأنه س!!رطان ال ي!!رحم ! يا
لهذه الهموم السوداء والمخاوف التي تنتابني وتمتص قواي! ! يا لهذه األقدار! !يا لهذه الحي!!اة .أت!!رى
ولد الشقاء يوم مولدي! ؟ وهل أنا الوحيد الذي يشقى في هذا العالم ! ،
ومع ذلك المس!!اء الحالك البهيم ،ومع الظالم المخيم على المدينة ،ومع وحشة الك!!ون ،ك!!ان أحمد
يس!!رح في ه!!ذه الخ!!واطر! المفزعة كل له ذكرياته وخ!!واطره ،ولكن ما أقسى ه!!ذه الخ!!واطر! ال!!تي
ت!آلبت على أحمد ،وال!تي زجرها وهو ي!دلف باب!ا ً ص!غيراً فتحه ببطء ،ودخل في اطمئن!ان كالف!أر
الجبان يس!اق إلى المص!ير الحاسم ،وتوقف عند م!دخل الب!اب كي يخ!رج علبة الك!بريت ،وأض!اء
1
الشمعة التي على مدخل الباب كي تساعده على الوصول! ،ووصل! الى منتصف! الغرفة الحقيرة "
وفي ( ثالثة أي!!ام في الس!!جن ) يطغى على الشخص!!ية ش!!عور! ب!!اإلذالل واالض!!طهاد! وفي! مكانها ،
فعليها أن تعود إلى منزلها في ساعة يحددها الدخيل المحتل ،لذا تراها تشق طريقها مندفعة في أحد
األزقة الضيقة والمزدحمة بالكتل البشرية التي أخذت تهرول مس!!رعة كأنها مش!!دودة بعنف وقس!!وة
إلى خي!!وط! ال ت!!رى ،لتتحاشي ب!!ذلك الوق!!وع في قبضة جن!!ود المس!!تعمر ،وت!!رى! حالة الهلع تعم
الش!!!ارع وتس!!!يطر عليها ف!!!ترافق حركتها الوجلة حركة إغالق أب!!!واب المحالت الواحد تلو اآلخر
2
وبعصبية واضحة
وعندما تصل إلى منزلها المؤلف من غرفة يسكن فيها أك!!ثر من عش!!رة أش!!خاص نص!!يب كل واحد
منها ال يزيد عن م!!تر واحد ،وتح!!اول! أن تطل من الناف!!ذة وتنظر إلى ط!!رف الش!!ارع كتعب!!ير! عن
اختناقها وضيقها بمكانها المك!!دس ال!!ذي وص!!لت إليه بعد رحلة عودتها الش!!اقة ،يتص!!اغر الش!!ارع
ح!!تى يب!!دو كممر ض!!يق طويل بأحد الس!!جون المظلمة ،وتتض!!اءل العم!!ارات الش!!اهقة ح!!تى تغ!!دو
كزنزانات
ضــيقة ،ويلــوح المحتــل من بعيــد يطــرقـ أرض اإلســفلت بقدميــة الغليظــتين ،فتشــعرـ هي بضــآلتهاـ
وحقارتها حتى تحسد بقرة لمحت تسير في هدوء وثقة وتتحسرـ على نفسها من أن تعامــل معاملــة تقــل
3
عن تلك التي تحظى بها البقرة
وفي قصة ( الزائر ) يتجلى المكان المتسع مكانا ً خاليا ومظلما وموحشا ،يشعر الشخصــية بضــآلتها ،
ويثير فيها هواجس مرعبة ،فماذا لو وقعت في قبضة دورية بريطانية ،هل ستطلق عليها الرصاص
؟ الشك في ذلك ،وتتحقق هذه الهواجس ،وتفاجأ الشخصية بعين الــرعب مــاثالً أمامهــا ،تحــدثنا " :
وعلى حين غرة وجهت إل ّي أنوار قوية أعمت عيني ،ووقفت مذهوالً في مكاني ال أستطيع حراكا ً ...
ولم أشعر إال وأنــا بين ســيارتين من ســيارات الدوريــة العســكرية البريطانيــة وقــد تقــافز منهــا الجنــود
شاهرين بنادقهم ورشاشــاتهمـ في وجهي ،وأحـاطـ بي سـتة من الجنـود كـانت أسـلحتهمـ تكفي لمواجهـة
مائة من أمثالي ،وأمسك بي أحدهم من الخلف وفرد ساعده حــول صــدري وشــدنيـ إليــه شــداً عنيفـا ً ،
1صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ،ص5
2عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ،ص25
3المرجع السابق ،ص28
بينما أفرد آخر ما بين قدمي حتى أوشكت أن أنشــطرـ شــطرين ،وجعــل يفتشــني تفتيشـا ً دقيقـا ً بقســاوة
1
وعنف ،وأخذت يداه تعبثان بي من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل "
]2أنها عادة ما تربط األوضاع الصعبة لمكانها الذي تعيش فيه بنظامي الحكم في الشمال والجنــوبـ ،
اللذين شكال عامالً يضــغطـ عليهــا بــالنفور والضــيق واالختنــاق ففي قصــة ( تاكســي لمن جــاء تعــبر )
تشــكل الظــروف الصــعبة المتســببة عن الضــرائب الباهضــة الــتي تفرضــها اإلمامــة على األرض في
مغادرة الشخصية قريتهاـ إلى عدن بحثا ً عن سبيل للرزق ،كما يشكل جنود اإلمامة الذين جروا عليهــا
العار ،عامل طرد وتنفير يلغي من ذهنها التفكير بالعودة " :تذكر كيف أعلمه الوافــدون من اليمن أن
العساكر ربضــت في دارهم خمســة أيــام ،تــدك الجــدران دكـا ً وتهــددهمـ بــالموت إن عجــزوا عن دفــع
(الفطرة ) و( الباطنية ) ،وتذكر كيف اضطرـ إلى تطليق زوجته من جراء جلوســهم في الــدار خمســة
2
أيام أعلنت بعدها الفضيحة "
وفي قصة ( الناب األزرقـ ) تحول واقعة اشتباك ( الحاج سعيد ) مع أحــد جنــود اإلمامــة دون تفكــيره
بالعودة إلى قريته ،وهــو يتــذكر كيــف أنــه " :عنــدما ذهب مــرة إلى عائلتــه في القريــة وجيبــه منتفخ
باألوراقـ المالية و( الرياالت ) ،وكيف تاهت هذه النقود بين المسؤولين ومن ينطق كلمــة حكومــة ...
وكيف اضطرفي النهاية -وعندما جاءوا على آخر ما يملك -أن يشتبك مــع أحــد الجنــود في معركــة
مصيرية ،واستطاع أن يدميه في عدة أماكن من جسمه ،وشد الرحال هربـا ً إلى هنــا ...وبقي يرســل
بين وقت وآخر نقوداً إلى أسرته دون أن يفكر في العودة إليها مرة أخرى طالمــا ( النــاب األزرق ) ال
ً 3
يزال مسيطراـ "
وفي قصة ( أنت شيوعي ) يشكل نظام اإلمامة المتخلف عامالً يضغط على الشخصية بمشاعر النفور
من مكانها الذي تجده مكانا ً ال يليق حتى لعيش الحيوان ،فجحورهم مأوى لهم ولحيواناتهم ،والقــذارة
والذباب ،والماء الملوث باألوساخـ والجراثيمـ والظالم الدامس ،إنهــا حيــاة لشــعب ال زال يعيش تحت
4
مستوى البشرية "
وفي ( بقية الحساب ) تشكل سياسة المستعمرـ عامل ضغط يسرح الشخصية من وظيفتها ليحل محلها
األجنــبي ،ويضــغط عليهــا في مســكنها الــذي يتحــول إلى مســاحة صــغيرة وضــيقة مكدســة بالبشــر
والقاذورات ،بينما األجنبي يرتع ويمرحـ في باقيـ المساحة التي تركت باتساعها وشساعتها له وحده ،
حتى نسمع الشخصية تقول " :وحبذا لو أن ضيفوناـ األعزاء تكرمـوا وأفسـحواـ لنـا بعض الشـيء في
الحياة ...ماذا سيخسرون ؟ ألسنا بشراً مثلهم لنا كل الحقوق التي لهم ؟ لم نأت من بالد بعيده ،لم نأت
5
من وراء الجبال بل نبعنا وعرفنا النور فيها وتغلغل اإليمان في صدورناـ من تربتها "
وفي قصة ( سالم كثير ) نجد المستعمر يضغطـ على أبناء البلد بالرصدـ والمراقبة والتتبع وأخذهم إلى
6
المعتقالت لتحقيق معهم دون أسباب واضحة "
وهكذا أينما بحثنــا في هــذه القصــص نجــد اإلمامــة والمســتعمر يشــكالن الســبب األوحــد للضــغط على
شخصياتهاـ وتنفيرها من أماكنها وتضييقـ الخناق عليها فيه .
1المرجع نفسه ،ص62،61
2صالح عبد دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ،ص7
3أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجه سابق ،ص39
4صالح عبده دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ،ص14،12
5أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجه سابق ،ص61
6عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ،ص35
]3أنها على األغلب تتمسـك بمكانهـاـ ،وقـد تبقى فيـه على مضـض ،لكنهـا عـادة مـا تتطلـع منـه إلى
األفضل .
ففي قصة ( االنذار الممزقـ ) تتمسك القرية بمكانها رغم علمهــا بمــا كــان يحــدق بــه من خطــر داهم ،
1
وتصمد في الدفاع حتى آخر رصاصة تمتلكها .
وفي قصة (المبروكـ )يجاهد الشاب المستنيرـ كي يعيد أهالي قريتــه إلى أمــاكنهم ،ويكشــف لهم حقيقـة
الزيف الذي أوقعهم في الروع وأدى بهم إلى ترك منازلهم ،فكان أن قــررـ العــودة ومواجهــة الموقــف
بحزم ،وبالفعل يتمكن من القبض على سبب هذا الروع وكشفه ومواجهته ،ولم يكن هذا السبب سوى
( المبروكـ ) الذي أوهم أهــالي القريــة بســكن العفــاريت في منــازلهمـ حــتى يتســنى لــه ابــتزاز أمــوالهم
وسرقة ممتلكاتهمـ ،بعدها عاد السكان إلى قريتهم وأشرقت الشمس عليهــا وســطح نورهـاـ يمأل أرجــاء
2
القرية طمأنينة وأمنا ،بينما رحل المبروكـ مجبراً وزحف أهالي القرية يستعبدون ما نهبه منهم "
وقد تبقى الشخصية في مكانها رغم رفضها لما فيه ،كما في قصة ( أنت شيوعي ) حيث نقــرأ ":إنــه
اآلن بحكم ثقافته العالية يعيش في بيتهم الريفي يرى الواقع أمامه وجها ً لوجه يســتمع قهقهتــه العاليــة ،
التي ليست قهقهة احتقار بل قهقهة إشفاق ،وكأنــه يصــرخ بــه :مالــك يــا أحمــد ...عــادت حليمــة إلى
3
عادتها القديمة "
وقد تعود إليه لتحدث تغييراً فيه ،كما في قصة ( الناب األزرق ) حيث اقتنع العم سعيد باالنخراطـ في
صفوف المدافعين عن الثورة والمشاركة في تدعيم النظام الجديد ،فـ" ماذا تساوي الحياة في ظل هـذه
األوضــاعـ الخانقــة ،فهــو ال يحيــا اآلن ..وإن كــان يعيش فعالً ...فالحيــاة ال تعــني لإلنســان أن يأكــل
ويشرب فقط ...وإنما تعني بالدرجة األولى االرتفاع عن مستوىـ الحيوان والشعور باآلدمية ويصون
4
كرامته وحقه فيها ،وإال فإن الموت أجدى مليون مرة له "
وربما حاولت أن تحسن أوضـاعها فيـه ،كمـا في ( الـبيت السـعيد ) إذ يحـاول رب األسـرة أن ينتقـل من
مسكنه غير الالئق إلى مسكن أفضل ،لكنه حينما يواجه بترصدـ المستغل وتتبعه إياه يقيمها ثــورة عليــه ،
5
لينتهي مطروداًـ غير مأسوف عليه .
وقد تنتهي الشخصية من رفضها لمكانها إلى تدميره وهدمه كما في قصة ( تاكسي لمن جاء تعبر ).
ثانياً :في األعمال التي وضعت بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب :
أ ) في األعمال التي اهتمت بالمكان السياسيـ واالجتماعي قبلهما :
وتركز الدراســة في هــذا المبحث وتحت هــذا العنـوان على نقطـتين أساســيتين ،تتوقـفـ أوالهمـا على
مالمح المكان السياسي واالجتماعي في هذه االعمال ،وتكشف ثانيتهماـ على طبيعــة العالقــة الرابطــة مــا
بين الشخصيات والمكان .
وأما عن صورة المكان السياسي واالجتماعي :فسوف تستعين الدراسة بروايتيـ ( الرهينة ) و ( صــنعاء
مدينة مفتوحة ) وهما الروايتان اللتان اختارتهما كي تمثالن – وفقا ً لمعيار زمن الكاتب – هــذا النــوع من
خ!!رج فج!!أة من الغرفة ف!!راش ص!!غير ،قد ب!!رز التبن المحشو به من ثق!!وب ع!!دة ،ولح!!اف ش!!به
صوفي! أسود اللون معطف عند مرقد! رأسه ،ف!!وق مخ!!دة متس!!خة يكسل أن يغسل كيس!!ها القط!!ني
المزركش ،يحف بزاويته تلك صندوق خشبي ملون بأصباغ! رخيصة فقد وضعه بج!!انب الف!!راش
المه!ترئ! لمنعه من االن!!زالق أثن!اء الن!!وم ،ويس!!هل عليه فتحه م!!تى ش!اء ،ويحفظ بداخله مالبسه
6
وأشياءه االخرى "
وهن!!!اك المك!!!ان المعت!!!اد للعس!!!كر بج!!!وار! البوابة الرئيس!!!ية ، 7وغرفة ( الب!!!ورزان ) المم!!!يزة
8
باستدارتها! وترتيبها ونظافتها .
فهذا المكان بالرغم من تعدد قصوره وغرفة فإنه يتشكل مكانا ً معزوالً لمجتمع منعزل عن المك!!ان
االجتماعي للمجتمع كله ،والحصار هو أهم ملمح لهذا المكان الذي يظهر حيزاً محاصراً! يحيا في
داخله مجتمع منقسم إلى قسمين ،قسم يحيا حصاراً إضافيا ً في جزره المعزولة مبتورة العالقات ،
فليس بين القلعة وبيت الن!!ائب س!!وى ممر ع!!ابر ،وك!!ذا هو الطريق بين بيت الن!!ائب وقصر! ولي
العهد ،وأما الطريق! من قصر ولي العهد إلى بيت الن!!ائب فهو ممر ع!!ابر احت!!وى محاولة اله!!رب
1نفسه ،ص90
2زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ،ص30
3المرجع السابق ،ص67
4المرجع نفسه ،ص142
5نفسه ،ص27
6نفسه ،ص29،28
7نفسه ،ص67
8نفسه ،ص137
األولى ،وكذا هو الطريق من بيت النائب إلى المقبرة التي وقفت بين هذه األم!!اكن المنعزلة – في
مفارقة عجيبة – طريقا ً إلى المجهول ومنطلقا ً مهما ً إلى المك!!ان االختي!!اري! ،وقسم! ي!!دور! في فلك
القسم األول ويرتبط! ظهوره به ،وعليه ينعكس هذا الحص!!ار بأبشع ص!!وره ،فيحكم! حركته ويحد
من حريته ويكبل أقدامه بقيود الرهانة .
ثم تأتي قلعة القاهرة ثاني أهم األماكن في الرواية ومنها انطلقت حركة الرهينة ،وهي عبارة عن
سجن محاط باألسوار! ،هو معقل الرهائن والمدافع! وبعض الحرس ،يطل على مدينة تعز ،وفيها
يتم تربية الرهائن على الخضوع! والطاعة ،فمهما يقول الفقيه يصيح الص!!غار! بنش!!يدهم المعت!!اد "
غفر هللا لك يا سيدنا ولوالديك مع والدينا! " ، 1وهو نشيد يعني فيما يعنيه أن الصمت أولى وأل!!زم ،
كما يتم فيها إعداد الدوادرة واستقبال بعض الرهائن الذين مارسوا أعمال الدويدار! ،ثم عادوا إليها
م!!رة أخ!!رى لبل!!وغهم الحلم ، 2.وكل من فيها س!!جناء ح!!تى الفقيه نفسه " :هك!!ذا يق!!ول أس!!تاذنا
( الفقيه ) الس!!جين أيض!!ا ً معنا ،والمكلف بتعليمنا الق!!رآن والف!!روض والطاعة في قلعة الق!!اهرة
معقل الره!!ائن " ، 3لكنها رغم ذلك تب!!دو س!!جنا ً أك!!ثر رحمة من بيت الن!!ائب ألن الره!!ائن فيها ال
يزالون في طور! اإلعداد كما أنها أكثر رحابة منه ،فهي تس!!مح على األقل بإطاللة تمتد على تلك
القرى المتناثرة على الجبال التي جاء منها الرهائن ،فقد كان الرهائن بعد أن ينفض!!وا من ال!!درس
" يتجه!!ون إلى الس!!ور المطل على المدينة يمرجح!!ون س!!يقانهم في اله!!واء وينظ!!رون! إلى األفق
4
البعيد ،كل يبحث عن قريته وراء الجبال "
5
ويطل قصر! سيف اإلسالم بساحته التي يتمخطر! فيها عكفته بزيهم! التقليدي وصياحهم الدائم .
وال!!!ذي لم يفصل الك!!!اتب في وصف أقس!!!امه ومحتوياته ،ذاك أنه لم يبلغ منه إال حوشه وبه!!!وه
المكش!!وف ال!!ذي يتم الوص!!ول إليه ع!!بر ممر طويل ،وال!!ذي يعرضه من خالل مقارنته بقصر
النائب ،وهي المقارنة ال!!تي توضح جانب!ا ً من التم!!ايز المتحقق بفعل اختالف م!!راتب الس!!لطة " :
اخ!!ترق بي مم!!راً ط!!ويالً ثم وص!!لنا! إلى بهو مكش!!وف تهمس فيه أص!!وات مي!!اه ( الش!!ذروان )
6
الصافية وسط! فسقية مدورة واسعة أكبر بكثير من فسقية قصر! النائب "
ثم إن ما وقف عليه من وصف! ه!!!!ذا القصر هو فقط ما ك!!!!ان يتطلع إلى رؤيته ،مما يتفق مع ما
ذهبنا إليه من كون الكاتب يذهب إلى تركيزحدثه واقتضاب أوص!!افه كأنما به ينظر من خالل ثقب
ص!!غير ض!!يق كترجمة إلحساسه بس!!يطرة الحص!!ار ،يق!!ول " :س!!أتعرف! على أش!!ياء جدي!!دة لم
أعرفها! من قبل ،س!!!أتعرف! على عكفة ولي العهد بلباس!!!هم! األزرق! وأس!!!لحتهم الحديثة األلمانية
الصنع ،كذلك عبيده السود المرد ذوي األنوف! الفطس واألجسام الطويلة المهابة !سأتعرف! أيض !ا ً
على األسود والضباع! والنمور! الكاسرة الرابضة في أقفاصها الحديدية داخل بهو قصر! ولي العهد
،وسأتعرف! ك!!ذلك على ذلك الحي!!وان العجيب ،ال!!ذي يطلقونه عليه اسم ( الوض!!يحي! ) أوالمه!!اة
1نفسه ،ص111
2زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ،ص112
3المرجع السابق ،ص65
4المرجع نفسه ،ص115
5نفسه ،ص115
وهي ترسف! تحت تأخرها وظلمتها! ،لم تع!!!رف الكهرب!!!اء بعد إليها س!!!بيالً ،ففي رمض!!!ان توقد
( األتاريك! ) في بيت الن!ائب ،وه!ذه ال يمتلكها بس!طاء الن!اس ،فأس!رة الرهينة مثالً ك!انت تمتلك
واح!!داً منها حصل عليه ج!!ده من حملة لحج مع س!!عيد باشا ال!!تركي ،وك!!ان يس!!مح بإيق!!اده في
1
رمضان فقط ،ومع ذلك فقد جاء العكفة والسواري! وأخذوه مع ما أخذوه من بيت الرهينة .
وعندما تحتفل المدينة بانتصار! اإلمام الجديد ( أحمد الوشاح ) على الدس!!توريين األح!!رار تت!!وهج
2
مع القرى المحيطة بها بمشاعل معجونة من رماد وجاز!
وتشكل المقبرة المحطة األخيرة للمكان المتنقل في هذه الرواية ،وهي تبدو متسعة تستقبل كل يوم
ض!!يوفا ً ج!!دد بفعل واقع الب!!ؤس وإهم!!ال الرعاية الص!!حية ال!!ذي يعيشه أهاليها ،ومع أن ص!!متها
مطبق لكنها تتش!!كل في الرواية منطلق !ا ً لهجره!!ذا الواقع المحاصر! ب!!الموت والم!!روق! منه ،ه!!ذا
الواقع ال!!ذي ك!!انت الش!!ريفة حفصة أحد أش!!راكه المقي!!دة ،يح!!دثنا الرهينة " :ومر ال!!وقت وك!!اد
الصمت أن يهجم علينا .
قالت :
إليك فكرة ؟ -
كان الصمت يطبق على كل أرجاء المقبرة واألص!!يل! يك!!اد ينتهي بشمسه الحالمة الم!!ؤثرة المحببة
إلى نفسي ،ليت حياتنا كلها أصيل دائم ،نحلم فيه بمرح الحشائش ،وخيال وطموح!!ات! الس!!كارى!
وبحرارة توقد! أفكار! المقيلين بالقات ! أجبتها :
نعم -
الهروب ؟ -
نعم -
ال يمكن ! -
وما المانع ؟ -
صمت لحظة ثم قالت بتحد سافروجاد : -
لن أتركك . -
هذه المرة سأفلت منك -
لن تستطيع -
تأملتها قليالً ،ثم قالت سافرة : -
هذا منك مجرد طموح ال تقوى على تنفيذه . -
بل تصميم! -
سأضطر! لرميك بالحجارة حتى أدميك -
حتى لو بالقنابل ""...... -
لن أتركك . -
ستتركينني! كرها منك . -
1نفسه ،ص30
2نفسه ،ص178
ووثبت قائمة حيث أخذت حجراً من األرض لتق!!ذفني به ،لكن!!ني كنت قد أطلقت لس!!اقي العن!!ان ،
فابتع!!دت! وانه!!الت خلفي الحج!!ارة المقذوفة منها ،لم أتوقف ب!!رغم إش!!فاقي عليها وعال ص!!ياحها
بص!!وتها! المبح!!وح ال!!ذي أحبه يط!!رق مس!!امعي! ،وتلقفت!!ني ظلم!!ات الجب!!ال المطلة على ال!!وادي
الموحش المنحدر إلى المس!!تقبل المجه!!ول ،وأنا أتوقع ص!!وتها! أو حج!!راً مق!!ذوفاً! منها س!!يقع على
1
ظهري ..لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤدي! إلى المستقبل .
ويتجلى المكان في رواية ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مقبرة كبيرة " إنها مسكينة يا أصدقاء هذه األرض
2
،فهي تتحمل آالم الناس فوقهاـ ،وتحمل أآلمهم تحتها ،إنهم أحياء وأموات في كل جزء "
فالمكان السياسي هــو الــوطن المشــطور بين نظــامين جــاثمين ،اتفــق تأمرهــا على تــدميره وحصــاره
واستنزافـ مقدراته حتى استحال مكانا ً خانقـا ً مجــدبا ً طــارداً ألهلــه عــاجزاً عن كفــايتهم ،فســوا ًء كــان
المرء في الجنوب أوفي الشمال ،فإنه يعيش المأساة رغم طبيعة األرض المعطاءة ،والكرمـ متجــذر
في أخالق أهلها لكن هي الظروف الني انعكست على كل شيء ،دمرت كل جميل
" جبال لشمال ،آه ما أروعها ...حيث ينـام الثلج على القمم ..تـترقرق الغـدران ملتويـة كالثعبـان ،ثم
الغابات الخضراء ،واألراضيـ المنبسطة الالنهائية كلها يا أصدقاء سمراء غنية ،حبيبة ..الصــحراء
تــترامى في النهايــة في أحضــان البحــر ولكن يــد اإلنســان الخالقــة شــقت في تلــك الصــحراء واحــات
3
خضراء ،كنت أجد فيها المأوى والمأكل ألن األرض كريمة في بالدنا الشمالية ،وأهلها أكرم .
وأما المساحة بينهما فليست سوى طريقا ً يوصل بين الجحيم والجحيم ،وهذا ( نعمــان ) بطــل الروايــة
يكتب إلى صديقه عن آخر مارأته عيناه في طريقـ مغادرته قريته إلى عدن ،فيقول ":وتغيب أشــجار
النخيل ،حين تقطــع الســيارة طريقهــا إلى قلب الصــحراء ولكن الجبــال ال تغيب ،إنهــا تقــف كالمــارد
كبيرة ،مخيفة سوداء ،بعد أن غابت عنها الشمس ،كأنها تذكرنا أنها موجودة فعالً ،وأن في داخلهــا
ذلك العلم الغريب المجهول ،ومما يزيد في رهبتهــا ياصــديقي ســكون الصــحراء ،هنــاك في الشــمال
الجبال والضوء والموت والسيل ...وهنا الرمال والسكون ،عالمان مختلفان ،يؤدي الثاني إلى األول
..ويهرب اإلنسان من األول عن طريق الثاني ،الصـحراء هي الطريـق يـا صـديقي إلى الجحيم ومن
4
الجحيم "
وعلى اتساعه وتنقله بين الصحراء والبحر والجبل ،وتغيرـ مالمحه إلى حدود التبدل أحيانا ً ،فإن كــل
بقعة يحتويهاـ تتشكل على مساحته محتوى للضياع والفراغ والخواء المحفوف بمالمح الموت وأشــباح
الهالك ،فمن الحوار الذي دار بين الصنعانيـ ونعمان نقتطف :
" -لقد عدنا إلى الضياع من جديد ...حتى أنت ،وأشار بإصبعه حتى أنت هذه المرة .
-إن أمامنا العالم كله فلماذا تحزن ..وهز رأسه :
5
- -نعم ...ولكن هذا العالم ليس هنا ...آه ما أتعسنا "
1نفسه ،ص48
2نفسه ،ص27
3نفسه ،ص44
4محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص40
5المرجع السابق ،ص24
6المرجع نفسه ،ص75
7نفسه ،ص39
8نفسه ،ص39
9نفسه 86 ،
( حافة اليهودي ) ودفعتنيـ قــدماي إلى الــداخل وهنــاك ،وجــدت الصــنعانيـ يبتســم ،وهــو يــراني
وأشار إلي أن أجلس معه وحين جلست اتسعت ابتسامته وقال :
-وأخيراً تغلبت على نفسك .
1
-كال ،فالقلق هو الذي قادني! إلى هنا ..لم أكن أدرى أين أسير فوجدت نفسي هنا "
2
وها هو يقضي أيامة الفارغة متنقالً بين عشة ( زينب ) فتاته الجديدة والمقهى والحانة "
وهكذا تتبدل ص!!ورة ه!!ذه المدينة ال!!تي غ!!دت في نظ!!رة مدينة بال قلب ت!!ؤوي أناس!ا ً بال قل!!وب
أيضا ً ":أما هنا يا صديقي فال ش!!يء س!!وى جسد ميت بال قلب ،مج!!رد آلة كب!!يرة تلتهم الن!!اس
والجبال والمعادن ،كل ش!!يء فيها س!!واء ،بال تمي!!يز ألنها كما قلت بال قلب مطلق!ا ً ،وأظن أن
3
جميع من فيها أيضا ً فقدوا قلوبهم "
وعلى اتساع هذه المدينة ،فإنها عاجزة عن اس!!تيعاب آم!!ال أبنائها " :مدينة كب!!يرة ج!!داً ...ح!!تى أن!!ني
أع!!!!!!!رف حقيقة خفاياها ،وفي! الليل تلمع المدينة تحت أض!!!!!!!واء ال نهائية ،ويلتهم البحر في أعماقه
ضجيجها ومآسيها ،كما يبتلع الن!!اس ال!!ذين فق!!دوا األمل في حي!!اة س!!عيدة " ، 4وقاس!!ية ال ت!!رحم ،إنها "
كعمالق فتح ذراعيه القويتين ليخطف كل شيء في أعماقه ،ثم يبتلعها أو يق!!ذف بها إلى الخ!!ارج اله!!ائج
" ، 5وأناسها! ضائعون محاصرون باأللم يرتمون على بعضهم! البعض كل يبحث عن الدفء عند اآلخر
،يقول نعمان " :هذا هو استنتاجي بعد كل ليلة ش!!اقة مرعبة ،ثم أجد نفسي بين أحض!!ان ام!!رأة ...من
هي ؟ ال أعرفها! مجرد امرأة وجدتها! في الطريق ،فأخذتها لكي أصب عليها لعناتي ". 6
وآالم الن!!اس فيها ال تنتهي " ،هنا نج!!تر ليالينا الس!!وداء ...تحت أض!!واء خافته في الجبل أو في السيس!!بان في
أحضان عاهرة أو في مضغ أعشاب خضراء من القات أو في احتس!!اء خم!!رة ال تنتهي كلما ش!!ربنا ازددنا ظمأ
" ، 7وكلما حاول اإلنس!!ان إنه!!اء ألمه فيها بإية وس!!يلة انقلبت تلك الوس!!يلة إلى أداة إليق!!اده وإض!!رامه ،يح!!دث
نعمان نفسه " :دعني أنسيك آالمك ،إنه ن!!داء مغر ،ولك!!ني أمقته ،أل أدري لم!!اذا ؟ هل ألن!!ني أدوس بق!!دمي
هذه فتاة في عمر الربيع ،ولكني ال أصدق ،ألن المدينة بص!!متها! وض!!جيجها! ت!!دوس كل ليلة االف الفتي!!ات ..
كما أنها تسحقنا نحن الذين نتصبب عرقا ً طوال النهار ". 8
إنها في آخر األمر مدينة قاتلة ،نسمعه ي!!دعوها ت!!دمر أخ!!اه " :دعه يم!!وت هن!!اك في المدينة ،دعها تحطمه ،
إنها تنتقم لي ب!!دون أن تش!!عر ،آه يا فاطمة ،كم أنت جب!!ارة ...حطميه ال ت!!تركي! منه ش!!يئا ً " 9ومحاص!!رة
بالموت المطبق من كل جانب ،وهي ال تختلف في ذلك عن غيرها من المدن اليمنية ،يقول نعم!!ان ":وهن!!اك
تحت هذه العشة التي أعيش فيها مع ( زينب ) تمتد إلى ماالنهاية إلى أطراف! البحر طي!!ور ال تنتهي ،وفي كل
يوم أشهد إنسانا ً جديداً يدفن " "........هناك تمتد أمامي المقابر ،فأخالها! مدينة كبيرة ،ع!!امرة يعيش!!ها موتاها
1نفسه ،ص43
2نفسه ،ص83،82
3محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص75
4المرجع السابق ،ص75
5المرجع نفسه ،ص76
6نفسه ،ص76
7نفسه ،ص77
8نفسه ،ص78
9نفسه ،ص26
،وليست تلك القبور سوى مكان يأوون إليه حين يشعرون بالتعب ،إنها حياة ويزيدها صخبا ً وضجة األم!!وات
،والزبد األبيض الذي يمتد إلى أطرافها! ،حياة أشاهدها كما شاهدها من قبل ( البحار ) هناك في الش!!مال على
1
أبواب زبيد "
وتطل القرية ثاني األماكن المهمة في الرواية ،وهي قرية من قرى! الشمال اليمني ،تربض – على ما يب!!دو –
على أحد جبال الحجرية ،كما تدل على ذلك أسماء الشخصيات المنتمية إليها ( :محمد مقبل ،سيف ،نعمان ،
درهم ،علي األغبري ،الحاج مقبل ) وكونها! إحدى ق!!رى! الش!!مال اليم!!ني ،ف!!إن لها معاناتها! الخاصة في ظل
واقع سياسي! يختلف نوعا ً ما عن الواقع السياسي الذي تض!طرب! فيه مدينة ع!دن ،إذ هي ت!!دخل ض!من نط!!اق
نظام اإلمامة ال!ذي دأبت سياس!تة على إهم!ال الق!رى والم!دن اليمنية وس!لبها كامل حقوقها ،والنظر إليها على
أنها موطن لجباية األموال والضرائب مهما كانت الظروف! التي تمر عليها :
" لو ترى الخراب الذي عم هذه األرض ...ألمتالت عيناك بالدوع! ولرثيت لحال ه!!ذا الش!!عب ال!!ذي أنهكه كل
شيء حتى حكومته ،تصور ..وصل باألمس إلى قريتنا! أكثر من عشرة " عساكر " من " العكفة " مع جابيي
الضرائب " وطلب من قريتنا ضرائب هذا العام ..بل أنه طلب ض!!رائب األرض ...وإنتاجها! ،أتتص!!ور! ذلك
،الناس ال يجدون نقوداً لشراء حبوب تقيهم عامهم القادم كله من المجاعة والحكومة تطالبهم! بضرائب زرع لم
2
يجنوه ..وضرائب على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات يوم "
كما أنها مك!!!ان له تم!!!يزه من حيث بيئته الطبيعية واالجتماعية المختلفة عن مدينة ع!!!دن ببحرها وش!!!واطئها!
ومجتمعها المتمدن .
وتتجلى القرية -التي يغلب على مالمحها طابع البؤس والحزن والم!!وت وأش!!باح الهالك ،ففي لحظة وص!!ول!
نعم!!ان إليها ك!!انت هادئة ..ميتة ...ال حي!!اة فيها ألمثاله ، 3وح!!تى إقامته القص!!يرة فيها قد أص!!بحت كابوس!ا ً
ثقيالً عليه واصبح وجوده فيها شيئا ً ال فائدة منه ، 4وعند مغادرته كانت كئيبة محزونة " كانت األراضي! تبدو
كعجوز تحطم كل شيء فيها ،وبانت األخاديد على وجهها بشكل بشع ،وك!!انت األش!!جار الجميلة ال!!تي تغطي
قريتنا قد تحطمت بفعل الري!!!اح واألمط!!!ار ،فن!!!امت على ج!!!انبي الطريق! كجثث القتلى بعد معركة رهيبة ،
والمياه تشق طريقها وسط كل شيء حتى الصخر ،إن النعمة الوحي!!دة لألمط!!ار! هي أن كل امرأة تس!!تطيع! أن
تأخذ ماءها من أمام باب المنزل ،بدالً من ال!!ذهاب إلى الب!!ئر " ، 5من خالل منظ!!ورين ،بيئتها الطبيعية ال!!تي
تتقلب بين أحوال مختلفة من الجمال الطبيعي األخاذ ،والجدب الذي يولد الخوف والمجاعة فتعم الكارثة ال!!تي
لم تستثن حتى البهائم .
فهي في طبيعتها جميلة " كان الوقت ليالً ،والقمر يرسل أشعته الفضية على قريتنا وعلى الجب!!ال المحيطة بها
6
فيصغ جماالً رائعا ً وهدوءاً غريبا ً جعلني أحس بالجمال الحقيقي لطبيعة بالدنا "
وتكون أجمل عند المطر ،إذ تتفجر المشاعر البكر التي لم تلوثها أدخنة المدينة ،ف يحدثنا نعمان " :ب!!األمس
أدركتني األمطار وأنا أنظر من األكمة إلى ال!!وادي األخضر تح!!تي والم!!درجات! الزراعية تكس!!وها! األعش!!اب
1نفسه ،ص79،78
2محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص28
3المرجع السابق ،ص6
4المرجع نفسه ،ص7
5نفسه ،ص30
6نفسه ،ص17
الخضراء التي تتفتح لموسم جديد ،ورأيت عدة فتيات في الوادي يمألن جرارهن من الماء العذب ،ولم أهرب
من األمطار! ،بل وجدت لذة ال حدود لها ،وأنا أرى الفتيات يتسابقن في اله!!روب واالختب!!اء ،وابتس!!مت رغم
أن!!ني كنت مبلالً والمي!!اه تغم!!رني! ،وش!!عرت بطفول!!تي! كلها تتجمع وتجعل!!ني أقفز وأج!!ري! وألعب بالمي!!اه ،
1
ورفعت رأسي نحو السماء ،وفتحت قميصي! أستقبل به مياه األمطار قبل أن تصل إلى األرض "
لكن إذا ما انقطع المطر وشحت السماء أجدبت األرض مثيرة مشاعر الخ!!وف من شح المجاعة " :وهك!!ذا لم
تنزل األمط!!ار ..وازداد خ!!وف الن!!اس أك!!ثر من ذي قبل وب!!دأ ش!!بح المجاعة يع!!ود إلى أذه!!انهم ،خاصة وان
مجاعة 1948م ما زالت في أذه!!انهم ،ولم ي!!زل الكب!!ار ي!!ذكرون كيف ك!!انوا ي!!أكلون ( الع!!اص ) وح!!ده ...
2
وكيف كانت حياة " الغرب" أغلى من الذهب "
غير أن األمطار! ،إذا ما سقطت فإنها ليس بالضرورة أن تكون حاملة للخير ،فقد يولد س!!قوطها كارثة عظيمة
3
":وهكذا ترى يا صديقي أن السيل ...األمطار! ...كانت ال تحمل الخير هذا العام ،بل إنها كانت فظيعة "
فس!!قوط! المطر تس!!بب بس!!يل ج!!رف أمامه األرض ،وه!!دم المن!!ازل على رؤوس أص!!حابها! " األمط!!ار! ...
األمطار ....لقد انقلبت إلى جحيم ،كل ذلك التلهف والترقب ...والدعاء ..كله يا صديقي ذهب هب!!اء ،إال أن
األمطار لم تعد الخضرة إلى البراعم التي كانت قد بدأت تتفتح فوق الم!!درجات ،بل لقد حملت تلك الم!!درجات
ورصتها! بعضها فوق بعض وحملت الطينة السمراء إلى الوادي ،لقد أصبحت األرض الخضراء تسيل فوقها
المياه ،لقد خرب كل شيء وذهب تعب األجداد في بناء هذه المدرجات ...وربما! إلى األبد ..باألمس خرجت
كعادتي إلى الجبل ،رغم أ األمطار! لم تنقطع منذ أس!!بوع ،ووج!!دت الطريق قد أص!!بح كله بركا ...من الطين
الذي حملته المياه من المدرجات ،ووجدت الجبل قد تغيرت مالمحه ..فأصبح مجرد أحج!!ار ص!!ماء ال حي!!اة
فيها ،ووجدت! أن فتاة الجبل لم تكن هناك ،وعدت إلى القرية لم أرها منذ أس!!بوع ..منذ ب!!دأت األمط!!ار ،لبعد
منزلنا عن القرية كما تع!!رف ،أت!!دري ما رأيت ؟ ك!!انت خالية ...ح!!تى األطف!!ال لم يع!!ودوا! يمألونها! حي!!اة
بضجيهم ولعبهم ،بل إنني رايتهم! جالسين في وجوم ينظرون ناحية الجبل الصغير! ..حيث المن!!ازل القديمة ،
واستمريت في طريقي ووج!دت! أن جميع س!!كان القرية تقريب!ا ً ،قد ذهب!وا إلى تلك المن!ازل القديمة النائمة في
حضن الجبل الصغير .
وأسرعت أنا أيضا ً إليها ،وسالت بعض من قابلتهم ،فقيل لي أن هناك منزالً قد انه!!ار ب!!األمس بفعل األمط!!ار!
4
الشديدة ،وقد دفن تحته حين انهار كل سكانه من النساء ،واألطفال "
حتى األطفال والبهائم يشملهم غضب السماء " ففي يوم من أيام الشهر الماضي خ!!رجت األغن!!ام والماش!!ية مع
صغار أطفال القرية إلى الجبل يرعونها ،خاصة وإن الجو ك!!ان ص!!افيا ً نوع!ا ً ما ...ولم يكن هن!!اك دليل على
أن األمط!ار قد تس!قط ،وغ!رهم الجو وجم!ال ال!وادي ..وخاصة وأن هن!اك بركة كب!يرة ص!نعتها! األمط!ار! ،
فنزلوا مع أغنامهم وماش!!يتهم إلى ال!!وادي ...وذهب!!وا إلى البركة يلعب!!ون ويس!!بحون ,ك!!أن كل ش!!يء عادي!ا َ ،
األغن!!ام في وسط ال!!وادي حيث وج!!دت الكث!!ير من األعش!!اب بفعل الطين ال!!ذي حمله الس!!يل من ف!!وق! الجبل ،
والصغار! في البركة يسبحون ...السماء صافية ..والجو هادئ ،وبدون مقدمة س!!مع األطف!!ال ه!!ديراً ص!!اخبا ً
1نفسه ،ص8
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص17
3المرجع السابق ،ص29
4المرجع نفسه ،ص19
يأتي من الناحية العليا من الوادي ،وخرج الصغار من البركة ه!!اربين إلى كل ناحية من ن!!واحي ال!!وادي ،ولم
يكن هناك وقت كاف ليسوقوا األغنام والماشية من داخل الوادي وأقبل السيل ....وفي! مقدمته ك!!انت األش!!جار
والماشية ...بل األطفال الذين خطفهم من القرى األخرى ومن ضفاف الوادي العليا ،وذهبت معظم حيوان!!ات
القرية ،وك!!!ذلك أخذ الس!!!يل ابن ( علي الزغ!!!ير) وابن ( مقبل الح!!!اج ) ال!!!ذين كانا من س!!!وء حظها ..ومن
إحساسهما بالواجب أن بقوا يكافحون! من أجل إخراج أغنامهم وماشيتهم من الوادي ،فكان أن ذهبوا أيض!!ا ً مع
السيل ،ح!!تى مالبس بعض الص!!غار! لم يرحمها! الس!!يل ،فع!!ادوا! عرايا يرتجف!!ون من ال!!برد والخ!!وف وك!!انت
1
دموعهم ال تهدأ "
وأما القرية من منظور! طبائع أهلها وعاداتهم ،فيجري! تكشفها ضمن رؤية تغلب عليها االنطباعات السلبية
-فأهلها بائسون يعيشون على هامش الحياة ،وسرعان ما تذبل أيامهم " ح!!تى وال!!دي ...ذلك اإلنس!!ان
البسيط الذي كنت أحبه من قبل أص!!بحت أتحاشي مقابلته كث!!يراً ،خاصة وأنت تعلم موقفه من خالفي
مع أخي ( سيف ) ،
أما أمي المسكينة فهي تعيش على ه!!امش الحي!!اة ،لقد أص!!بحت يا ص!!ديقي عج!!وزاً محطمة بل إن!!ني
أخاف أن تفقد بصرها ،وهكذا نرى أن منزلنا أصبح يسوده الوجوم ...والحزن .
أما زوجتي تلك الفتاة الجميلة ال!!تي همت بها حب!ا ً حين كنا ن!!رعى األغن!!ام على جب!!ال قريتنا ،وال!!تي
2
أثارت ضجة حتى تزوجيها ،فقد أصبحت اآلن عوداً يابسا ً ...الحياة فيه "
وهم هاربون متخلون ،وهذا والد نعمان يح!!دث زوجته العج!!وز! وزوجة ابنه الباكية ق!!ائالً -":ال
فائدة منهم إن طلعوا رجال ..فليفيدوا أنفسهم ..أما أنا فسأموت غداً ...وال أحد سيذكرني وأرى!
أن م!!وتي أمر محقق إن اس!!تمرت الح!!ال على م!!اهي عليه ،وأجابته أمي وال!!دموع تتس!!اقط من
3
عينيها الكفيفتين قائلة له : :هللا ....وال كأنهم يعرفوننا ! "
وح!!تى عن!!دما يطلب المس!!اعدة من ابنه اآلخر س!!يف ال يجيب على طلبه " لقد أراد وال!!دي أن ال
يجعلني أتحمل عبء األسرة وحدي فكتب ألخي أن يرسل له قليالً من النق!!ود .ح!!تى يس!!تطيع أن
يواجه المجاعة التي سببها عدم سقوط األمطار! ،ولكنه لم يرد بكلمة ...وهكذا ك!!ان على وح!!دي!
4
تحمل كل أعباء المجاعة لماذا ؟ ال أدري "
وكلهم مه!!اجرون أو قد جرب!!وا! الهج!!رة قبالً ،فوالد نعم!!ان قد قضي ش!!بابه مه!!اجرا ومحمد! مقبل
قضى حياته مهاجرا ،وحينما ع!اد إلى القرية لم يعد له أحد فيها ،يق!ول نعم!ان " إن محمد مقبل
يعيش معنا في الم!!!!نزل ..ف!!!!أنت تعلم أنه لم يتبق له من أهله بعد أن م!!!!اتت زوجته -وهو في
الح!!!رب –-وه!!!اجر ابنه الوحيد بحثا عنه ولم يعد ،واس!!!تولت الحكومة باسم الوقف! على كل
أمالكه ،أما داره فقد تهدم " ،5وس!يف قد ه!اجر إلى ج!ده ،وبي!وت القرية لم يعد فيها إال النس!اء
والعجائز " فال!!دار ال!ذي انه!!ار ليس فيه رجل واحد ،ألنهم كلهم في الخ!ارج ، ..كمعظم! من!!ازل
ق!!رى بالدنا ،هن!!اك ح!!ول ال!!دار المنه!!ار رأيت النس!!اء ،يبكين وجلس الش!!يوخ ف!!وق! ع!!دد من
1محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص28
2المرجع السابق ،ص7
3المرجع نفسه،ص13
4المرجع نفسه ،ص14
5نفسه ،ص25
الصخور يدعون ( هللا ) ان ينجي المدفونين تحت األنقاض ،وكان هناك خمسة رج!!ال فقط ،هم
كل من تبقى في القرية .1
وحتى نعمان يعت!!بر مش!!اركته أهله هم!!ومهم انهزام!ا ً لنفسه ،ويص!!مم! على المغ!!ادرة " س!!أغادر
القرية ،ه!!ذا هو ش!!عاري! ،إن حي!!اتي أص!!بحت الج!!دوى منها هنا ،فال بد من الرحيل " ، 2بل
وينوي الهجرة بعيداً
يخاطب صديقه قائالً " :واجعل رسائلكـ دائما ً مليئة بالحياة ،وصفـ لي ما سيحدث لك فربمــا ...
3
ربما فقط أهرب من حياتي وأرافقكـ "
ومتخلفون يسهل االحتيال عليهم وخــداعهم ،وهــذا أحــد المحتــالين يــدعى قدرتــه على كشــف
السر وراء ،احتبــاس المطــر وشــيوع الجــدب " ،فقــد ذهب ذلــك الرجــل إلى المســجد وأوهم
الناس أن شخصا ً ما قد وضع فوق األكمة رسمة وورقــة تمنــع نــزول المطــر ،وأنــه يعــرف
4
مكان هذه الرسمة إذا دفع له مبلغ معين من قبل الجميع "
وبعد أن دفع المبلغ ،وذبح خروف أبيض كما طلب " شـمر الرجـل سـاعده وبـدأ يحفـر ..ورأيت
أنه يحفر بخطة مرسومة ..والجموعـ من حولة تنظر بلهفة خاصة األطفال والنســاء ،بينمــا جلس
الكبار يتمتمون ...وينظرون إلى الرجل بأطرافـ عيونهم ....وأخــيراً أخــرج الرجــل من الــتراب
شيئا ً ما ..وسجد بنفس حركاته التمثيلية وصاح " :الحمد هلل ...الحمــد هلل ،أتى الفــرج وضــاعت
صيحته وسطـ صيحات الناس الذين أدركتهم المفاجــأة ،وضــحكت في نفســي ألنــني رأيت الرجــل
5
أمام عيني وهو يخرج تلك الرسمة "
وحيــاتهمـ فارغــة يمألونهـاـ باالنشــغال بتتبــع أخبــار اآلخــرين ":النــاس يــا صــديقي هم أنــاس
بالدنا ...بدون تفكير بدون أمــل في المســتقبل ،بــدون شــيء ،يــأكلون القــات ..مرتــاحون ،
والحديث لهم إال عن ( فالن ) الذي عاد إلى القرية وبجيبة الرياالت التي التنتهي ...وعن (
فالنه ) التي الحظوا أنها تنزين وتلبس مالبس نظيفــة رغم غيــاب زوجهــا عنهــا منــذ ســنوات
6
أربع "
والقرية بهم ( مقبرة للموتىـ ) الذين ال يستشعرون حياتهمـ إال بهذه القصص التي يختلقونها " أفواه
الموتى الــتي التصــمت والــتي تصــنع كــل يــوم قصــة جديــدة لتجــدد إحساســها ،على حســاب آالم
اآلخرين ،إن الحياة عند هؤالء الناس هي في موت اآلخرين ،وإن الطيب لديهم هو من يســرقهم
7
ويضحك على لحاهم البيضاء الوقورة "
وأما كرمهم فمجرد زيف ومحض ادعاء .
1نفسه ،ص19
2محمد أحمد عبدالولي )صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص10
3المرجع السابق ،ص12
4المرجع نفسه ،ص15
5نفسه ،ص16
6نفسه ،ص8
7نفسه ،ص12
" المهم لم تسقط األمطار طوال شهر كامل ..وشعرـ الناس أن المأساة قد أصبحت حقيقية وأنــه ال
مفر منها ،وهنا تـرى الجشـع يظهـر ألول مـرة ..فهـؤالء النـاس الـذين كـانوا بـاألمس أصـدقاء
يعيشون ..ويتحدثون ويصلون قد انقلبوا إلى أناس ال يعرف بعضهم بعضــا ،لقــد كــان كــل واحــد
منهم يخاف أن يطلب منه اآلخر نقودا لشراء حبوب ألسرته أو يسلفه قليالً من الحبوب المخزونــة
لديه ،وصارتـ األفواه التي كانت تنادي بالتعاون ضد الزنادقة والمارقينـ أمثالي .تنادي اآلن بأن
يجنبها شر كل الناس ،آه لكم كنت أحب أن تكون هنا في القرية لعلك ترى كل مــادار ومــا ســوفـ
يدور ،تصور أن والدي ذهب يطالب بعض الناس دينا ً كان عليهم فأنكرواـ .بــل أشــد من ذلــك أن
شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت هللا الحرام أكثر من مرة ،أنكر جميع النقــود الــتي أرســلت
معــه من المهــاجرين بقريتنــا ،والــتي هي مرســلة بواســطته إلى زوجــاتهمـ وأوالدهمـ ،إن هنــاك
ً 1
عشرات غيرها من القصص التي تضحك وتبكي معا "
وتطل زبيد ثالث أهم األماكن التي ورد ذكرها في الرواية كمدينة منسية " :في كال الجــزأين
من المدينة ..خارج األسوارـ وداخلها ..تشهد حياة غريبة ،ولوال وجــودـ عــدد من الســيارات
التي تمر بزبيد في طريقها من الحديد ة إلى تعز وبالعكس لقلنا أنها مدينة تاريخية ..ال وجود
2
لها "
ومقطوعة عن تاريخهاـ ،غارقة في نوامهاـ ومواتها :
" كانت ( زبيد ) منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم ..وظلت قرونا ً شــعلتها ،لكن حين أشــرفتـ
عليها كانت نائمة في وسط سهل ممتد ..مآذنها القديمة وبيوتهـا ذات البنـاء التـاريخي ،ثم عشـش
من اللبن وعشش أخرى من مخلفات الماشية وسعف النخيل ،وهناك خارج أسوار المدينة -تلــك
األسوار التي صدت عن زبيد غارات المتوحشــين وحفظت لهـا شـعلة العلم ،وهي األســوار الـتي
صدت عن المدينة تدفق شعاع العلم الحديث خارج تلك األسوار القديمة ..الصــلدة الــتي مــا زالت
3
تقاوم الزمن – تقبع ( المقبر ) ميدان واسع ال نهاية له ،كأن أموات العالم كله متجمعون هناك "
وزبيد من خالل الرؤية المتباعدة مدينتان يفصل بينهما سور " :ومن فوقـ ربوة عاليــة خــارج
زبيد تــرى المكــانين ،زبيــد داخــل ســورهاـ ،والمقــابر بشــواهدهاـ وقببهــا البيضــاء ،مــدينتان
لألحيــاء واألمــوات ،وأي إنســان ال يعــرف زبيــد اليســتطيعـ أن يمــيز بين المــدينتين ألنهمــا
4
متشابهتان "
لكنك إذا ما اقتربت منها ،رأيت المشهد على حقيقته .
" وحين ينزل اإلنسان من فـوقـ ذلـك التـل الـذي شـاهد فيـه المدينـة ألول مـرة بجزأيهـا ،يختلـف
5
المنظر ،ألنه يرى كل شيء عندئذ عن قرب "
فأهل المدينة فقراء و مشـردون يحــدثنا علي الزغـير فيقـول " :كــانت أبــواب الــدكاكين مقفلـة ،
وتحت ظالل بنيانها كــان أنــاس مهلهلــو المالبس قــذرو الخلقـة تفــوح من أجسـامهمـ رائحـة نتنــة ،
1نفسه ،ص56
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص57
3المرجع السابق ،ص57
4المرجع نفسه ،ص59،60
5نفسه ،ص61
وجعل يهز رأسه ،لقد ذهب العلم والعلماء يا بني ..ولم يبقى هنــا شــيئا ً ،ونظـرـ إلي ..من الــذي
1
خدعك وقال لك أن هنا علم ..من أين أتيت يا بني ! "
" وجعل يحدثني عن زبيد قائالً :إنها مدينة بسيطة كانت قديما ً يا بني عامرة بأشياء كثيرة ،كانت
المساجد ال كما تراها اليوم ( قذرة ) ال يعتني بها أحد ،كــانت قــديما ً تتألأل بــالنور ،وكــان طالب
العلم يفدون إليها من كل أنحاء اليمن ،و يجدون هنــا الخــير ،كــانت األوقــافـ الــتي للمســاجد تــرد
أمواالً طائلة ،تكفي لكي يعيش الطالب هنا ويتعلم ما يريد ،أما اليوم ،فأين األرض يا بـني ؟ أين
األوقافـ لقد أخذتها الحكومة بدعوى أنها سـتتكفل بكـل شـيء ،فـذهبت األرض ،وذهب العلم فال
2
يستطيع الطالب إال أن ينفق على نفسه ولكن ال يوجد طالب اليوم "
وتبدل حال علمائها ،وهذا الشــيخ العــالم قــد امتهن مهنــة جديــدة ال عالقــة لهــا بــالعلم والعلمــاء ،
يحدثنا عنـه علي الزغــير ،فيقــول " :وعشــت يــا أصــدقائيـ مــع الرجــل العجــوزـ في بيتــه ،كــان
يعلمني قراءة القرآن وكان يغيب كثــيراً عن المــنزل ألنــه يــذهب إلى مــنزل الحــاكم ..وغــيره من
3
رجال حكومة حيث يسليهم بأحاديثه وحكاياته عن األقدمين "
ليس هذا فحسب ،بل إنه كان يدعي العمى في هذا الزمن الذي أعمى فيه هللا بصائرـ الحكام وأطفأ
عقولهم :
" كان الشيخ يدعي العمى ويقول إنه ال يرى ،ولكن حياتي معه أثبتت العكس ،وقال مفسراً ذلك
:عندما تعيش يا بني مع ناس أعمى هللا بصــائرهم ..يعيشــون في الفســق والفجــور ويــدعون أنهم
4
أتقياء ،البد وأن تعمى بصرك ،حتى تكشف حقيقتهم لتستطيع أن تعيش "
وأهل زبيد في هذا الزمن شحاذون وليسـواـ طالب علم ففي حـوار بين البحـار والشـيخ " :لقـد
رأيت كثيرين اليوم يأخذون نصيبهم من األكل في صحن المسجد ،فمن هم إذن إذا لم يكونــوا
طالبا ً .
اتسعت عينا الرجل الشيخ ،وهو يجيب :
-إنهم أهالي المدينة يا بني ،وهذا الذي وزع اليوم هــو صــدقة من حــالكم المدينــة ...ألن إحــدى
ً 5
زوجاته قد ماتت باألمس ،فال تظن أنه للطلبة وأن أولئك طالبا "
وطالب العلم يصبح قلقا ً على مصيره كقلق علي الزغير الــذي يخــاطب نفســه " :أين أمضــي إذن
إذا لم أجد ماالً وملبساًـ وتعليما ً " ، 6فهوـ يعلم من خالل ما ســمع من حكايــات عن مصــير من تكبــد
وا المعاناة مثله من أجل العلم " وفي صحن المســجد الكبــير ،حيث ســمعت قصــص اآلالف ممن
كانوا ينامون ويتعلمون في هــذا الصــحن ،حكايــات بســيطة كبالدنــا عنيفــة كبالدنــا أيضـا ً ،نــاس
بسطاء تكبدوا كل شيء من أجل العلم ،ثم قادهمـ علمهم ذلك إلى غياهيب السجون هناك في حجة
7
وفي صعدة ،وفيـ غيرها من السراديب السوداء المظلمة تحت أرض بالدنا "
1نفسه ،ص62
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص63
3المرجع السابق ،ص64
4المرجع نفسه ،ص62
5نفسه 62،
6نفسه ،ص59،58
7نفسه ،ص59
هكذا يتبادل أحياء زبيد حيــاتهم مــع أمواتهــا " :ونــامت المدينــة ولكن المقــابر لم تنم ،لعلهــا تجــد
الحياة في الليل حيث ال يكون في تهامة أنجاس وال قيود ،لعل الموتى يجدون الحرية والتنفس في
الليل فقط ،مع كل هذا الكم من األلم يكتسيـ كــل شــيء حزنـا ً و .........حــتى شــمس زبيــد كــانت
دامية وهي تخلق األفقـ الرملي ،يقولون هنا أنها تغــوص في الميــاه لكي تغســل جراحهــا ،كــانت
دماء الشمس تغمر الصحراء والمدينة والمقابر ،وكانت تتخلل مآذن المسجد ،وبيت الحاكم الــذي
يبدو كقلعة قديمة ،وكانت دماء أخرى ،لكنها سوداء تغرق قلب المدينة ،ماتت الشمس ،ومــاتت
معها حركات الناس في المدينة ..ولكنك تسمع همسات صغيرة ...تتحول إلى أنين كلها تــأتي من
1
خارج األسوارـ ...لعلها األموات تتحدث أو تبكي "
وحينما تغادر الرواية هذا المكان ال تنسى أن تضمخ أنظارناـ بمأساة إضــافية يعيشــها البســطاء من
أبناء زبيد المهمشين ،وهذا ما تسوقه الرواية على لسان البحار وهو يغادر زبيد ،حيث يقول " :
ومضيت يا أصدقاء أقطع الطريقـ نحو الشمال ،وفي ذات ليلة مســودة ،أضــاء لي الطريـقـ وهج
أحمر ،يتصاعد إلى عنان السماء ..أهذه هي الحديدة ،تستقبلني باألنوار .وخطوت خطوات إلى
أبواب المدينة كــانت تنــام في ســهل ســاحلي ضــيق ..يحيــط بهــا البحــر والصــحراءـ تلتهم الجــزء
الخلفي منها ،وكانت تنقسم الى قسمين ،قسم مبني بالحجــارة واللبن حيث األســواق وبيت الحــاكم
ودار الضيافة ،والميناء القديم المهدم ومبنى كبير للسيارات ،وعدة مخازن كبيرة لتجارة الحديدة
،أما القسم اآلخر ،فهو مبنى كله من الحشيش وسعف النخيــل ،كــان ســكن ( األخــدام ) والطبقــة
الفقيرة ،ومـا أكثرهـا هنـاك ،وكـان القسـم اآلخـر الـذي اسـتقبلني بلهيبـه األحمـر المتصـاعد إلى
السماء كان يحترق ،وجلست يا أصدقاء على باب المدينة بعيــداً عن كــل شــيء ،عن الضوضــاء
والحريق والصراخـ ،كان كل شيء يحـترقـ وكـان الجميـع ينظـرون هــل باسـتطاعتهمـ أن يعملــوا
شيئا ً لوقف الحريق ،ويهــز معظمهمـ رؤوســهمـ قــائلين ...كال ...ال أمــل ،ولكن أتحــترق المدينــة
كلها ..فتعودـ الرؤوس تهتز مرة أخرى ..من قال ذلك ،إن الذي يحــترق دائمــا هــو ملــك الفقــراء
أما ملك األغنياء ، ....ويرتفع اللهب ،ويلتهم عششا ً أخــرى ..ويتصــارخ األطفــال والنســاء ،إن
كل ما كانوا يملكون يحترق اآلن ،حتى األمل ،ويمضيـ اللهب ولكنــه يــا أصــدقاءـ ال يقــترب إلى
2
القسم اآلخر من المدينة ،كأن هللا قد حصن ذلك القسم بقوة غيبية لكن العشش تحترق وتحترق .
وتظهر صنعاء وهي المكان الذي حملت هذه الرواية اسمه عنوانا ً لها مدينة منكوبة بســقوطهاـ بين
يدي إمامها الجديد ،الذي افتتح فترة حكمه بالمجازر والمذابح :
" كانت صنعاء حقا ً مدينة مفتوحة للغجر ،للهمج " ، ".............وكانت صنعاء جميلة يا بني ...
والجبال تحيط بها من كل جانب واألشــجار الخضــراء تــرف في شــوارعها ومنازلهـاـ ،والشــمس
ترسل أشعتها من خلف السحب المجتمعة فوق ســماء المدينــة ،فتخــترقـ األشــعة تلــك الســحب ...
حمراء من الطين والدم ،لو لم تكن صنعاء مدينــة ممطــرة ..النمحت في تلــك األيــام من الوجــودـ
3
والحترقـ كل سكانها "
1نفسه ،ص51
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص32
3المرجع السابق ،ص37،36
صورة كلية لمكان متصل ومتجانسـ تســود على إبــرازه ،وتركــيز الضــوء عليــه رؤيــة موحــدة ،
تسعى إلى إعادة اكتشافه وبلورتــه وتكــثيف الــوعي بــه لتبلــغ منــه غاياتهــا الــتي تنشــدها من وراء
إنشائها تجاربها التي عادة ما يتشكل فيها المكان عنصراً قصصيا ً له فرادته وتميزه ،
فالمكان الذي يحتل من سياق تجربة ( العم مسفر ) مساحة بــارزة يتجــاوزـ بحضــوره لقــوي دورة
التقليدي كمحتوىـ تجري على صفحته حركة الحدث ،وال يكتفي بمجردـ تشكله عنصراً تثير قسوة
العيش فيه حركة الشخصيات وتدفعهاـ إلى القيام بفعـل مـا ،وإنمـا ينـبريـ لعنـة تطاردهــا بالسـخط
والويل ،وتترصدهاـ بــالبرد والجــوع والجفــاف والمــوت المطبــق من كــل اتجــاه ،ومن أوصــافه
نقتطف ":القرى تقشعر جوعا ً وبرداً ،والجفاف هوة سحيقة تبتلــع الضــحايا ،والفقــراء يودعــون
القدر مصيرهمـ ،واألرض العطشىـ صارت كالقطة تأكل أوالدها الفاجعة ،طردت حــتى الــدموع
من العيون ،وأكلت األحزان القلوب " "........الجـوع يحفـر المقـابر في بطـون الفقـراء ويحصـدـ
الوبــاء المواش ـيـ والــدواجن واألفــراخ ،تصــارع النــاس على األعشــاب وبقايــا أوراقـ الشــجر ،
األجساد تذوي واألسنان تصطك على فراغ قــاتم ،النـور يتآكــل في العيــون ويحتــل الفــراغ المقيم
1
النظرات بجزع ال يوصف ،إنه الجوع واإلمامـ والعسكر "
فهذه أوصافـ -كما نرى -مثقلة بالمعاناة ،وهي لم تختص بمكان بعينه إال من حيث كونــه مكانـا ً
ممثالً لبقية األمكنة التي تشترك معه في ذات المعاناة ،فهي إذن مأساة وطن بأكمله ،ويؤكــد على
ذلــك مــا ورد في المقتطــف الســابقـ من الفــاظ دالــة على الجمــع ( القــرى ،الضــحايا ،الفقــراء ،
العيون ،األحزان ،القلوب ،المقابر ،بطون ،مواشـيـ ،دواجن ،أفــراخ ،النــاس ،األعشــاب ،
األجساد ).
وتختزل صورة القرية في قصة ( العائد من البحر ) صــورة المكــان األعم ،فهــو من حيث كونــه
مكانا ً طبيعيا ً ال يختلف عن غيره من األماكن في دنيا هللا ،نقرأ " :كان الفجر قد بزغ وبدأ القمــر
في االنسحاب من الكون تاركاًـ مكانه للشمس التي بــدأت أشــعتها الحمــراء تنســاب من قمم الجبــال
الخضراء ،وتساقطت قطــرات النــدى من على األغصــان الهامــدة وبــدأت صــيحات الــديوك تعلــو
وزقزقــة العصــافيرـ ترتفــع في أرجــاء الجبــال وتــراكمت طبقــة من الــدخان الصــادرة من مطــابخ
البيوت تخترقـ األجواء ،وخرج كل إلى عمله في الحقول واألسواقـ " ، 2لكنه يحفـل بالمنغصـات
التي تروعـ حياة اإلنسان وتقلق استقراره فيه ،فهو قطاعـ يحتضن قيما ً طغى عليها العسف والقهر
بالتبدل والتحول ،هي صورة من قيم المكان األكبر ،فالشيخ يضرب القرويين بعضهمـ ببعض .
وبطانته تسانده في غيه وغلوائه ،والقرويون أذالء ال يخالفون له أمــراً ،بـل وال يتوانــون عن أن
يشهدوا لصالحه زوراً ،خوفا ً وتحاشياًـ ألذاه .
أما ما يجريـ عليه من صراع فهو -أيضاً -صورة مصغرة عن الصراع الذي يمكن أن يحتــدمـ في
أي مكان من مساحة الوطن الكبير ،فالسبب قائمـ هنا وهناك ،ورموزـ السلطة بكــل مــا تمثلــه من
طغيان وجشع تضغطـ على المواطن البسيط المغلوب على أمره بكل وسائلهاـ الممكنة حتى ال تتيح
له فرصة يهنأ فيها عيشه وتهدأـ فيها روحه على أرضه التي قرر أن يستقر عليها بعد مــا لقيــه من
غربته الطويلة
وفيما يخص الكشف عن طبيعة العالقة الرابطة بين الشخصيات والمكان :
فقد احتوت الرهينة على عدد كبير من الشخصـياتـ ،فهنــاك الرهينـة والدويـدار والنــائب وابنـه وأختــه الشــريفة
حفصة والزهراء وبقية النساء وفيـ القصــر ، ،والبــورزان والطبشــي ،وهنــاك ولي العهــد واإلمــام و دوريــداره
وخادمة األسود ،وابنة غير الشرعي ،ونساوه وجنوده ،وهناك الرهائن في القلعــة والعائــدون إليهــا ،والجنــودـ
والفقيه ،وهناك أهالي المدينة أطفاال وكباراـ ،غــير أن الشخصــيات الــتي شــكلت حضــوراًـ كثيفـا ً داخــل الروايــة
محدودة ،ومعظمـ الشخصيات لم تظهرـ على صفحة األحــداث إال مــرة واحــدة ثم تختفي ،وهي على الــرغم من
أن ظهورها عابر فإنهاـ تضيء بإطاللتهاـ القصيرة ،جانبا ً مهما ً من جوانب الشخصيات كثيفة الحضــورـ ،وهــو
جانب لم يكن له أن يضاء إال بها .
فدويـدارـ ولي العهـد بأوصـافه الـتي وردت في الروايـة يكشـف عن جـانب من تعامـل أربـاب
الحكم في دولة اإلمامة مع هــؤالء الصــغارـ ،هــذا الجــانب لم يتكشــف لنــا من خالل شخصــية
الدويدار عبادي ،يصف الرهينة هذا الدويدارـ قائالً " :واتجهت خلفه والعبــد األســود خلفنــا ،
وكنت أالحظ حركات جسمه الرخو من خالل ثوبه الحريريـ الشفاف ،يبدو أنه لم يعد يتصنع
3
تلك الحركات المائعة ،فقد أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية "
والرهائن العائدون إلى القلعة يكشفون عن جانب من واقع الرهـائن الـذين أخـذوا قبالَ ليعلمـوا
دوادرة في بيــوت أربــاب الســلطة " وكنت أالحــظ أن معظم العائــدون منهم إلى القلعــة قــد
تغيرت مالمحهم ،حيث غدو مصفري الوجوه بالرغم من ظهورـ نعومة شــاملة في أجســامهم
مع شيء من الترهل والذبول في غير أوانـه ،كنت أالحــظ أيضـا ً اهتمــام حــرس القلعـة بهم ،
هؤالء ناعمي الملمس ،رقيقي األصوات ،بمالبســهم النظيفــة المرســلة حــتى األرض وبتلــك
الكــوافيـ المزركشــة الــتي حاكتهــا نســاء القصــر ،فوضــعوها على رؤوســهم لتخفي شــعرهم
1محمد أحمد عبد الولي ( شيء اسمه الحنين ) دار العودة بيروت 1981 ،م ،ط ،3ص98
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص98،97
3زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ،ص101
3المرجع السابق ص20
المجعد الممشط الذي تفوح منه رائحة الدهون المعطرة الــتي يستنشــقها بلــذة أفــراد الحــرس ،
والفقيه أيضا ً الذي يبالغ في مراعاته لهم بسماجة أكثر مما يلزم "3
مع مالحظة ما في هــذا الســياق من تلميح إلى شـذوذـ شخصـية الفقيــه ،الــذي لم يردعـه تفقهـه في
الدين ولم تقوم أخالقه معرفته بالحالل والحرام .
وأما ظهور ابن اإلمام غير الشرعي ،ذلك الفتى الوسيم المدلل ،الــذي يتحــرك تحت هــذه الصــفة
بكل حرية في أرجاء القصــر ،بــل وعلى العكس من ذلــك فقــد غــدا هــو الممــيز لــدى اإلمــام على
مرأى ومسمع ،فيضيء لنا جانبا ً من شخصية اإلمام وجرأته في اقتراف المحرمات رغم ادعائــه
القداسة وتفاخره باالنتساب إلى آل البيت .
وعلى الرغم من هذا االحتشاد للعدد الكبير من الشخصيات التي تقيم بشكل دائم تقريبا ً في قصــور
وبيوت أرباب الحكم وأصحاب السلطة ،فإن معظم هذه الشخصياتـ يقع على هامش الواقــع الــذي
تعيش فيه ،والعالقات التي تقوم بينها هي أيضا ً عالقات تبنى على هامش الخــط األصــلي لعالقــة
وجودها داخل المكان ،فهي كلها موجودة هنا لتأدية أدوار منوطة بهــا ،وتظــل تــدور خاللهــا في
فلك مركزـ واحد ،تسخر طاقتهاـ لخدمته وتلبية طلباته وتنفيذ أوامــره ،تمامـا ً كم يحـدث في بيــوت
النمل ،حتى إذا ما استنفذت طاقتها وأكملت دورتها تم اسـتبدالهاـ بشـخوص أخــرى غيرهــا تــؤدي
نفس أدوارها ،فالدويدارـ حينما بلغ منه المرض مبلغة تم استبداله من قبــل نســاء القصــر والنــائب
بالرهينة ،يقول الرهينة " :مارست مع صاحبي جميــع هواياتــه ورذائلــه القــذرة ،وانــدمجت في
عالمه الغريب ،حتى كاد يغــار مــني ،فقــد تعلقت بي النســوة المتعــددات المــواهب والمتنــافرات
أشكاالً وألوانا ً وأعماراً ،وقدـ سئمن من صاحبي لســعاله الشــديد ونحولــه الشــاحب ،وخــوفهن من
ذلك المرض المرعب ،كنت أوهم نفسـي وباقتنـاعـ تـام بـأنني أدرأ عنـه أعبـاء لم يعـد قـادراً على
تنفيذها ومواكبة السير فيهــا ،كمــا كــان في أيامــه الســابقة ،ومــع ذلــك أحسســت باحتقــار لنفســي
1
ولمسلكي المشين "
وفي قلعة الرهائن مزيد من الصغارـ الذين يتم إعدادهم لتأدية أدوار الدوادرة الذين يُــرمى بهم بعــد
استنزاف صحتهمـ واستهالك طاقتهمـ في القلعة كصفحة تم طيهــا وتجربــة انتهت لتفتح البــاب أمــام
تجربة جديدة تتشكل على تفاصيلها مأساة طفل آخــر تشــبه مأســاة الدويــدار ( عبــادي) ،وتجربــة
الرهينــة الــتي ال تــزال في بــداياتها ،وفي المقابــل يبقى الحــاكم وأســرته في نقطــة الثبــات عنــد
المركز ،وهكذا تتراتب الدوائرـ حسب قربها وبعــدها عن هــذا المركــز ،ففي مركـزـ الــدائرة يقــع
النــائب وأســرته ،وحولــه تــدورـ دوائرعــدة ،أقربهــا من يقومــون -شخصــياـ -على خدمــة النــائب
وأسرته كالدويدارـ والرهينة ،ثم من يقومون بعمليات التأمين والحراسة ،ونالحظـ أنه كلمــا ابتعــد
موقع الشخصية عن مركز الدائرة كلما اتســعت الــدائرة وخــف الحصــار ،وعلى العكس من ذلــك
كلما اقترب موقع الشخصية من مركز الدائرة كلما ضاقت أكثر دائرة الحصار يقول وهب رومية
" :في رواية الرهينة تدخل إلى عالم كــثيف الحضــورـ ،عــالم فيــه كثــير من االختالف والتفــرد ،
عالم يبدو غريبا ً عليك وبعيداًـ عنك ،ولكنك تكاد تجزم بأنك قد رأيتــه أو ســمعت بــه من قبــل إنــه
عالم الحكايات الموغلة في القدم ،حكاية بنت السلطان ،وجواريه وامرأته وما يتصل بهذا العــالم
1نفسه ،ص137
2زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ص162
3المرجع السابق ،ص6
ومع ذلك لكأن صوتك الرنان ينزلقـ برفق فيحول الصدى القاسي إلى موسيقىـ ذات نغم ( حــالي )
1
"
وبسبب هذا الشغف تفشل تلك المحاولة ويعودـ أدراجه خلفها ،يقول " :ومضيت بعدها بخطــوات
رتيبة كأنني أسير حرب ،وهي تخطو نحــو مــدخل القصــر ،ومــا إن دخلنــا من البوابــة الرئيســية
حتى قام بعض العسكر باحتجــازي عن أمــر صــدر من الشــريفة حفصــة !وقــام بعضــهمـ بــدق قيــد
2
حديدي على ساقي ثم انصرفت الشريفة حفصة نحو دارها "
ثم محاولته الثانية التي استطاع فيها أن يتغلب على شــغفه بالشــريفة حفصــة رغم إصــرارـ جهــدها
وإلحاحها عليه بالعودة معها ،لكنه ينتصرـ على هذا الضغط ويهرب ،يقول :
" لم أتوقفـ برغم إشفاقي عليها ..وعال صياحها بصوتهاـ المبحوح الــذي أحبــه ،يطــرق مســمعي
وتلقفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول ،وأنا اتوقعـ
صوتها أو حجراً مقذوفاـ منها سيقع على ظهري ..لكنني كنت قد قطعت مســافة كافيــة في طري ـقـ
جديــد مــؤد إلى المســتقبل ،مخلفــا ورائيـ صــوتها المبحــوح المحبب إلى قلــبي ،وذكريــاتيـ مــع
صاحبي المرحومـ والبورزان والطبشي الذي فدغت البغلة رأســه ،وزمالءه الجنــد المنشــدين :يــا
3
رهينة قد أمك فاقدة لك ..دمعها كالمطر "
ونساء القصر ،وهن تشــكيالت من مختلــف األعمــار واأللـوان ،محكــوم عليهن -تبعـا ً لنـواميس
مجتمعهن الخاص بقيمه األبوية التسلطية -بالقبوع خلف جدران غرف القصرفيـ انتظــارـ تــآكلهن
وتبدد أيامهن ،فال يستطعن أن يحيين حياة طبيعية كالنساء خارج أسوار القصــر ،لكنهن يقــاومن
استالبهن بخرق المحظور واالحتيال على حصارـ المكان وكسر حاجز الرصد والرقابة المستمرة
من النائب الذي يظل بجـوارـ نافذتـه يـراقب مــا يجــري على سـاحة قصــره ،وهن يتقـاطرن تحت
أســدال الظلمــة على غرفــة الدويــدارـ ( عبــادي) ،وذهــابهن إليــه هــو شــكل من أشــكال مقاومــة
االستالب ،وإن مثل -كما اسلفنا -إيغاالً في استالب الدويدارـ ،وهن بذلك يقــاومن تعفنهن وتآكــل
أيامهن وتحلل شبابهن بهذا السلوك المخترق .حتى غدا هذا الســلوك شــرعتهن الــتي يتحــدين بهــا
كبتهن والتي يقر بها جميع العاملين داخل القصر فيما عدا النائب الغافل عما يدورـ فيه ،فالدويدارـ
هو عند الجميع الدويدار الحالي تبعا ً لهذا السبب ،وفي حــوار الرهينــة معــه ع ّمــا فعلــه الطبشــي
جاء " :قلت لصاحبيـ :
-ال ألومه إذا أقدم على ما أقدم عليه .
-أتعني الطبشي العجوز ؟
-نعم .
-كان لديه في القصر عوانس كثيرات .
-إنه عجوز ولن تقبله أي واحدة منهن .
-كان سيجد .
-ال أعتقد ..وخصوصا ً بوجودكـ ووجودـ المتصابي البورزان وبقية العساكرـ الشبان .
1المرجع نفسه،ص170
2زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ،ص135
3المرجع السابق ص198
-ونسيت نفسك ...ألست منا ؟
1
-أنا هائم بواحدة فقط ..ولن أصل إليها مطلقا ً "
ويكشف هذا الحوار على أن األمر غير مقصور على الدويدارـ وحده ،وإنما يشترك معه فيــه كــل
الذكور المتواجدين في أرجاء القصر بمن فيهم العساكر الشبان المرابطين أمام بوابته .
وفي الحوار الدائر بين نساء القصر أثناء عودتهن من قصرـ ولي العهد ،تقــول الشــريفة حفصــة :
" -حسدتمونيـ عليه لجلوسه بجواريـ ،ولم أحسدكن وهو في فراشكن كل ليلــة ! قــالت إحــداهن ،
وقد تمالكت أعصابها :
-ال تغتري بأنك الزليخا زوجة عزيز مصر ! فأجابت الشريفة حفصة بسرعة :
2
-وليس هو يوسف يا غبية "
-لكننا في آخر األمر نجـد هـؤالء النسـوة -رغم مقــاومتهن واقـع اســتالبهن داخــل قصــورهن
المحاطة بالحرس -يعشن قلقا ً يتولد عن هذه الطريقة الشــاذة من اإلشــباع ،وهــو قلــق يرجــع
أوالً إلى حال الحصار والرصدـ المفروض وإن كانت هذه الحال -كما راينا -يجري تجاوزها
وفق اتفاق ضمني بين جميع األطرافـ العاملة والمتواجــدة في القصــر ،ثم إلى حــال التنــافس
الشديد على هذا المشترك ( الدويدار ) .
فبسبب الظروفـ الخاصة التي تحياهـا هـؤالء النسـوة ،فـإن فـرص االلتقـاء بالـذكور محـدودة
للغاية ،ومن هنا يصبح كل من وجد في القصر منهم فرصة إشباع ممكنه ال يسهل عليهن تفويتها
.
والطبشــي العجــوز كغــيره من الجنــود ،بعيــد عن أســرته ،ومقضــي عليــه وفــق نــاموس إمــامي
بالحرمان الدائم ومالزمة القصر ،يحــاول أن يخــترق هــذا النــاموس بطريقتــه الشــاذة والغريبــة ،
3
فيبوء برفسة من البغلة ( زعفرانة ) شجت رأسه األصلع وأسالت دمه "
وأما العسكري الذي ضرب القيد على قدميـ الرهينة بأمر من الشريفة حفصة ،فيعبرـ عن رفضــه
القرار القهري بإبقائه داخل القصر في الوقت الذي أطلق زمالءه من العساكر وفي أيديهمـ أوامــر
من النائب يتنفذون بها على المواطنين البسطاء ،بالتعامل العنيف القاسي مــع الرهينــة الــذي كــان
يرفض االستسالم لقيده .
هكذا نجد أن جميع الشخصيات التي تقاوم استالبهاـ داخل القصــر فيمــا عــدا الرهينــة ،قــد انطلقت
من قناعة كون هذه الحال الــتي تعيشــها ليســت حــاالً وقتيــة ،وإنمــا هي حــال مســتديمة ،تقتضــي
ابتداع حلول تتوافقـ مع واقع الحصار المقيم ،وألجل ذلــك جــاءت الحلــول عبــارة عن محــاوالت
إلشباع الحرمان باالختراقـ المتسربل بالطرقـ الساترة .
وهكـــذا هي عالقـــات الشخصـــيات ببعضـــهاـ داخـــل القصـــر ،تقـــوم على النفعيـــة واالنتهازيـــة
واالستغالل وما يستتبعها من تنافس وتبــاغض ،باسـتثناء العالقــة القائمـة بين الرهينــة والدويــدارـ
عبادي .
1محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص 76،75
2المرجع السابق ،ص78
3المرجع نفسه ،ص26
4نفسه ،ص27
-هل هذا هو هدف مشرف أن أعمل آلكل وأعمل ألطعم اآلخرين ،إن المشكلة ليست بسيطة ،
ولكنها تبدوـ لك أنت كذلك ..ألنك ال تعرفـ المشاكل وال تعرف في حياتك سوى األكل والنومـ
1
والسكر "
سرعان ما يفقد ثباته وقدرته على التمسك بموقفه التحولي ،وينهزمـ بســهولة أمــام ضــغوطـ الحيــاة
وإلحاح الصنعانيـ الذي يعاني هو اآلخر من الضياع ،ليعود إلى الحانة معتقداً أنه يجد فيها ســلواه
وراحته ،ليبدأ انحداره من جديــد يقــول " :ومــاذا أعمــل إذن هنـا ...إذا لم أســكر ؟ إنـني أريـد أن
أنسى ،أفهمت ؟ أنسى نفسي وعــالمي وأنســاك أيضـا ً ،من أنت ،من أين أتيت ،مااســمك ،ومن
2
أنا ،ومن أين أتيت ،وما اسمي ،كل هذا أريد أن أنساه "
ويستسلمـ بعدها لضياعه الالنهائي " تحدثني زينب :إنك تموت نفسك يا صــديقي ،فــالخمر تعبهــا
بال طعم ،والجسد تمضغه بال شهية ،حتى النوم ال تعرفه جيداً ،دعني أصـنع قليالً من الهــدوء ،
فأجيبها :إنني يا صديقي أريد أن أعيش ،أن أسكر وأضاجع ،وأنام واعمل كــل ذلــك لكي أعيش
3
"
ونعمان شخصية مضطربة العالقات ،يعاني من الغربة ،وفقدان القــدرة على التكيــف ،فمجتمــع
القرية مجتمع منفر ،يقول " :أنا ال أحب مجالسهمـ ،وال أحـاديثهم ...وال أحضـر معهم الصـالة
في المسجد ،ألنني ال أحب الصالة حتى صالة الجمعــة ،وإنــني فـوقـ ذلـك كلـه ،أحب أن أكــون
وحيــداً ،بال أي إنســان ،إنــني أكــره أيــا منهم يحــاول تعكــير حيــاتي الــتي رســمتهاـ " 4وعــاداتهم
وطباعهم غير مستحبة لديه ،يقول " أما هنا ،فال شيء سوى النوم حتى منتصف النهار والكســل
وأكــل القــات وحيــداً ،حيث أنــني ال أحب الــذهاب إلى منــازل اآلخــرين ،حيث تجتمــع عشــائر
القرية ،ويتحدثون حديثا ً مســئما ً ،ال أعــرف منــه شــيئا ً " . ".........حــتى والــدي ،ذلــك اإلنســان
ً 5
البسيط الذي كنت أحبه من قبل أصبحت أتحاشيـ مقابلته كثيرا "
وهو اليســتطيع أن يلتمس لنفــوره مــبرراً مقنعـا ً ،يقــول " :إنــني يــا صــديقي ال أســتطيعـ أن أجــد
لتصرفاتي تبريراً معقوالً ،إن الفارق بين جيل أنتمى إليه وجيل سكان القرية هو السبب أن حياتنا
6
معا ال تحتمل ،فال بد ألحدنا أن يخلي السبيل ،ولن نكون نحن "
وهو نافر من كل شيء حوله .
ونـادراًـ مـا نجـده يحقــق مــع مكانـه اسـتجابة إيجابيـة ،من هـذا النـادر قولــه ":بــاألمس أدركتــني
األمطـار وأنـا أنظـر من ( األكمـه ) إلى الـوادي األخضـرـ تحـتي ،ومـدرجاتـ الزراعـة تكسـوهاـ
األعشاب الخضراء التي بدأت تتفتح لموسمـ جديد ،ورأيت عدة فتيات في الوادي يمألن جــرارهن
من الماء العذب ،ولم أهرب من األمطارـ بل وجدت لذة ال حدودـ لها وأنا أرى الفتيات يتسابقن في
الهروب واالختباء ،وابتســمتـ رغم أنــني كنت مبلالً والميــاه تغمــرني ،وشــعرت بطفولــتي كلهــا
1نفسه ،ص45
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة)ـ مرجع سابق ص44
3المرجع السابق ،ص77
4المرجع نفسه ،ص10
5نفسه ،ص9
6نفسه ،ص7
تتجمع وتجعلنيـ أقفز وأجري وألعب بالمياه ورفعت رأسي نحو السـماء ،وفتحت فمي أسـتقبل بـه
مياه األمطار قبل أن تصل إلى األرض "، 1
ووصفه إحدى ليالي القرية ،حيث نقرأ " :كــان الــوقت ليالً والقمــر يرســل أشــعته الفضــية على
قريتنا وعلى الجبال المحيطة ،فيصنعـ جماالً رائعا ً وهدوءاً غريبا ً جعلــني أحس بالجمــال الحقيقي
لطبيعــة بالدنــا ،كنت جالســا أنظــر إلى الســماء وإلى القريــة والجبــال ذات المــدرجات الزراعيــة
البديعة الهندسة ،وبجانبيـ زوجــتيـ ،تصــب لي قــدحا ً من ( القشــر) ،وأشــعة القمــر تنعكس على
وجهها األصفر الضعيف فتبدوـ لي جميلة إلى حدود بعيدة ،وبدا لي ثوبها األسود الحــزين آيــة في
الروعة والتناسق مع جسمها وأحسست أني أملك جماالً نادراً ،لم أشعر بوجوده من قبل ،وبدون
شعور وبعد أن غلبني سحر القمر والليل احتويتهاـ بين ذراعي وقبلتهاـ ..وأخذتها المفاجأة ،فأنا لم
أتعود أن أفعل ذلك ،بل إنني لم أشعرها مرة واحدة منذ سنوات ثالث بحبي لها ..فكان أن بكت ،
2
وشعرت بدموعها الحارة تلهب صدريـ "
وأما عن عالقته بأصدقائه ،فمن الواضح أنها عالقة شديدة الحــذر والتحفــظ ،يقــول " :تســاءلت
كثــيراً قبـــل أن أكتب لـــك ،فأنـــا عــادة ال أحب مطلقـــا ً أن أكتب حــتى ألقــرب النـــاس إلي "، 3
ويعــترفـ ":فأنــا لم أتعــود أن أهب أصــدقائي الكثــير " ، 4وتبلــغ عالقتــه مــع أخيــه ســيف حــدود
الكراهية بسبب التنافس على فتاة ليل يقول " :دعه يموت هناك في المدينة ،دعها تحطمه ،إنهــا
ً 5
تنتقم لي بدون أن تشعر ،آه يا فاطمة كم أنت جبارة ،حطميه وال تتركي منه شيئا "
وهو شخصية مشوشة العواطف ،فزوجته التي اقترن بها بعد أن هام بها حبا ً وأثار ضجة بزواجه منها
6
"
أصبحت عالقته بها شبه مقطوعة " :أو في حكم المقطوعة ،إننا ال نرى بعضنا إال في ساعات المســاء
وأحيانا ً ال أراها طوال النهار " ، 7ولم يعد يعرفـ اآلن حقيقة مشاعره تجاهها " أما اآلن ،فأنا ال أعرف
ماهي تصرفاتيـ إزاء زوجتي ،لعل أهل القرية على حق في قولهمـ ،إنني ال أهتم بهــا ،ولكم تســاءلت :
لماذا ال أحاول خلق ذلك الحب القديم ؟ ويكون جوابي سلبيا ً في معظمـ األوقات ،اليصــدقـ أن في داخلي
شيئا ً إزاءها " ، 8وحينماـ يتعرف على فتاة الجبل ذات الجمال المثــير يقــرر " : :ولكــني كمــا تعــرفـ لن
9
أجعل عالقتي معها أكثر من تمتعي بجمالها ،ألن الحب يا صديقي ال أعرفه ،بل ال أحس بوجوده "
ويبرز هذا التشوش أكثر حينما تنمو عالقته بفتاة الجبل التي قرر أال يحبها ويشعرـ بخطورة ما ينشــأ في
داخله " :نعم يا صديقي إنني أشعر أن بداخلي شيئا يتحرك شيئا ً سيحطم حياتي كلهــا ،وربم ـاـ حيــاة من
أعيش بينهم " ، 10وعندما تموت ،زوجتــه ( هنــد) ،رغم صــدمته الكبــيرة -إذ لم يكن ينتظــر منهــا هي
بالذات أن تموت -فإنه لم يستطيع أن يذرف ألجلها دمعه واحدة ،يقول ":يــا إلهي ! مــا الــذي حــدث ،
1نفسه ،ص10
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص16
3المرجع السابق ،ص17
4المرجع نفسه ،ص5
5نفسه ،ص5
6نفسه ،ص26
7نفسه ،ص7
8نفسه ،ص10
9نفسه ،ص10
10نفسه ،ص9
العيــون تلتهمــني ،البــد أن أهــرب إلى أين ؟ ال بــد أن أبكي ،أبكي ،نعم ...إنــني لم أبــك حين علمت
بالخبر ،حقيقة لقد أصبت بالدهشة ،ألنني لم أكن أنتظرـ من ( هند ) بالذات أن تمــوت ،لكــني لم أبــك ،
لماذا ،البــد أن أبكي ،نعم ال بــد ،أيتهــا الــدموع لمــاذا ال تــنزلين ،إنــني أرجــوك ،ولكنهــا تــأبى ،هــل
جفوني مصنوعة من الزجاج ال تتأثر ،ورأيت قطرات من الــدموع تتسـاقط من عين الصــنعاني ،تـرى
ما الذي جعله يبكي ،إن الذي مات لم تكن زوجته ،بل زوجتيـ أنا ،ولم يكن طفله بل طفلي أنا ،فلمــاذا
يبكي إذن ؟ ال بد أن هناك أمرا ،نعم لعله تذكر زوجته ،إن ذلــك جــائز ،وهــذا البحــار أليس لديــه أحــد
1
يتذكره فيبكيـ ،لعلي أستطيع أن أجد من دموعمها مساعداً لدموعي أن تنزل "
ويظل يسائل نفسه ،إن كان يحبها حقا ً أم ال ،ويكتشفـ أنه بالفعل قد فقد حبها " آه لقد ثبتت الحقيقة إنني
ال أحبهــا " "........هــل أصــنع لهــا ثمثــاالً في قلــبي حــتى أتــذكرها إلى األبــد ،وصــعقتنيـ هــذه الكلمــة
األخيرة ،أتذكرها ،أتراني سأتذكرها حقا ً ،أنا الذي لم أتكلم عنها مدة األشهر الخمسة التي قضــيتهاـ في
عدن ،كأنهــا لم تكن موجــودة في الحيــاة ،نعم لقــد كنت مقصــراً في حقهــا وهي حيــة ،ولكن مــا العمــل
اآلن ؟ وكيفـ أستطيع تـذكرها ؟ ونظــرت حــولي ،كــانت الوجــوه الــتي تحيطــني قــد تحـولت إلى ألــوان
شاحبة حزينة ،لماذا يحزن هؤالء؟ هل مات ألحدهم إنسان كان يحبه ؟ كان يحبه .نعم ،لقــد كنت أحب
( هند ) منذ زمن بعيد ولكن هذا الحب مات بعد فترة قصيرة ،لست أدري لماذا؟ أم ألن نساء المدينة قد
أثرن في إلى درجة نسيت فيها كيف تكون نساء القرية ،ولكن هل كنت أحب ( هندا ) ذلك سؤال البــد
أن أجيب عليه " ، 2ثم وبعدـ معاناة طويلة يكتشفـ حقيقة أخرى يقول " :ثم أنكب على الفراش ألغســله
بالدموع ،ويخلو المكان ،وأشعرـ أن جميع األخطاء التي ارتكبتها قد انزاحت ،إنني أسقطت دمعة على
( هند ) لم تكن شفقة أو رحمة ولكن دمعة حب ،فألول مرة أدرك مدى حاجتي لوجودهاـ ،لقد كانت كل
شيء في حياتي ،دون أن أحس بها " . 3وحينما تسأله ( زينب ) التي يقضي معها أيامه ،هــل يحبهــا ،
ً 4
يجيب " :كال فأنا ال أحب أحدا "
ويظهر الصنعانيـ -وهو إحدى الشخصيات المهمة في الروايــة ،حيث تشــكل الحادثــة التاريخيــة الــتي
ارتبطت بها مأساتهاـ والتي سميت بها الرواية ضابطاًـ تاريخيا ً لوقائعهاـ ،ورباطا يجمــع إليــه كــل خيــوط
المأساة المتشكلة على جسد الحــدث الـروائيـ -شخصــية تكتـوي بمــرارات السـلبية ،فبعــد أن دمــر بيتـه
ودكانه ،وقتلت زوجته وابنته الوحيــدة في صــنعاء ،خــرج إلى الشــارع منفعالً بصــدمته ،يقتــل ويقتــل
بدون تمييز " :فلم أستطع أن أمزق الواقع ،ألنه كان بشــعا ً رهيبـا ً ،نعم رهيبـا ً يــا بــني ،أن تنظـرـ إلى
أحب مخلوقات لديك مزقا ً دموية ،يشع من عينيها الرعب القاتل ،وأنت ال تستطيع إزاءها إال أن تغطي
عينيك وتهرب ،وهز رأســه بحــزن وانفعــال :وخــرجت أبحث عن انتقــام ،لقــد تحطم القيــد الــذي كــان
يقيدني ،وأصبحت طليقا ً ولكن بعد أن فقدت كل شيء ،وال أتصور من أين أتتني تلك القوة الرهيبة وأنا
أصارع أول إنسان قابلته ألنتزع منه أداة الموت ،بندقيتــه ،وبــدأت أطلــق النــار على كــل من أراه دون
تتميز ،كنت أريد أن أقتل و أقُتل ،لم أكن أنظر إلى صنعاء وهي تتــألم ،ألنــني كنت أتـألم أشــد منهــا ،
ولم أنظر إلى الجمــال والروعــة ، ..ولم تعــد أحالمي ملكـا ً لي ،ألنهــا كلهــا مــاتت ،بمجــردـ أن أدركت
1محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص11
2المرجع السابق ،ص73،72
3المرجع نفسه ،ص72
4نفسه ،ص74
الخرافة الكبيرة التي كنت أعيش فيهــا " ، 1ثم يهــرب إلى عـدن معتقـداً أنـه من هنـاك يسـتطيع أن يقـاوم
بشكل أفضل ":خرجت من صنعاء يا بني ،وقـد رسـمت خطـة ألن أغـادر هـذه األرض ،وأشـارـ بيـده
مبينا ً ،وتلك هي الغلطة األولى الـتي ارتكبتهـا ..مغـادرتي لتلـك األرض ،وأشـارـ إلى الشـمال ،ألنـني
حسبت أنني أستطيع أن أنتقم حين أصل هنا " 2لكنه سرعان ما يستسلم لإلحباط واليــأس ":ومضــت بي
الحياة ..كنت أعمل من قبل لكي أنتقم ،أما اآلن فقد أنســتني الحيــاة كــل شــيء ،وأصــبح لزامـا ً علي أن
3
أنسى مأساتي ألنها بسيطة بالنسبة لآلخرين "
ونحن نراه في البداية شخصا ً منطوياًـ على ذاته كتومـا ً حــذراً ،حــتى أن نعمــان يصــفه بالمنــافقـ " :أمــا
الصنعاني ،فلم أكن أتوقع أن أجد منه رسالة ،خاصة وأنه لم يكتب لي منذ مغــادرتيـ عــدن ،إنــه يقــول
أنه متشوق إلى لقائي ،لعنه هللا ،إنــه منــافق كبــير " ، 4ثم نجــده يقضــي أيامــه مــتردداًـ على الحانــة في
شارع اليهوديـ ،يصفه نعمان " :إنه كما تعرف رجل فوضويـ ،اليهتم بشيء ما في حياته سوى النوم
5
وأكل القات ،وشرب الخمر في حافة اليهودي "
ومن الواضح أن إدمانه البقاء في الحانة كان شكالً من أشكال الهروب ومحاولــة من محــاوالت النســيان
يقول نعمان " :وسمعت صوت الصنعانيـ وقد بدأ يسكرـ :لماذا تحاول أن تعود دائمـا ً كئيبـا ً ،فتفقــد لــذة
الحياة ،تمتع يا بني واضحك ،وإال فإن باب الحانـة مفتـوح ،فـاخرج إن أردت " ، 6ومـع أنـه انفتح في
آخر أمره ،حتى أصبح نعمان ككتاب مفتوح ،يقول نعمان " :لقد أدركت فجــأة أن الصــنعانيـ إنســان ،
ً 7
وإنسان عميق أيضا ،إنه يتحدث إلي اآلن دون تردد ،لقد أصبح كتابا ً مفتوحا ً وكتابا ً ضخما "
فإن انفتاحه وإفصاحه عن حقيقة مأساته لم يأت إال بعــد أن أدرك أن هــذه المأســاة تســكنه حــتى في حــال
هروبه وسكره ،وبعد أن استفز بكلمة أطلقها نعمان حين قـال لـه ":إن المشـكلة ليسـت بسـيطة ولكنهـا
8
تبدو لك أنت كذلك ،ألنك ال تعرف المشاكل ،وال تعرف في حياتك سوى األكل والنومـ والسكر"ـ
وتتجلى سلبية البحار ( علي الزغير ) وهو ثــالث الشخصــيات المهمــة في الروايــة ،والــذي نقــل إلينــا
المأساة التي تعيشها ( زبيد) مدينة العلم والعلماء ! ،في تمضية عمره هاربا ً خارج الــوطن ،مهــاجراً
بعيداً عما يعج به من مأساة ،فقد كان بحاراً فوقـ إحدى بواخرـ شركة إنجليزية ،غــاب عن بالده مــدة
عشر سنوات ،أي منذ أن كان في العشرين من عمره ،وعمل في موقد الباخرة الــتي أعطتــه بشــرته
السمراء الجميلة وقدـ زار خالل رحالته معظم بالد العالم " ،9وهو عندما يعــود ال يعلم شــيئا َ عن أهلــه
ووطنه ،يحدثنا نعمان " :ولكن الذي عرفته منه ،أنه ال يعرف عن مشاكلنا الوطنية شيئا ً ،بل ابتســم
حين قال له الصنعاني :
-هل كنتم مجموعة فوق! الباخرة ؟
1نفسه ،ص79
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص50،51
3المرجع السابق ،ص51
4المرجع نفسه ،ص52،51
5نفسه ،ص24
6نفسه ،ص24
7نفسه ،ص45،44
8نفسه ،ص52
9نفسه ،ص 45
-كال ،فأنا ال أحب اليمنيين ،وسألته ..لماذا ؟ وأجابني بقوله :إن اليمني ،ال تستطيع! أن تعيش
معه ،ألنه س!!يجعل حي!!اتكم كلها جحيم!ا ً ،وهو س!!يخلق لك المش!!اكل من ال ش!!يء " ،1ومع أنه
كان ذلك الرجل الذي ذهب إلى زبيد ليطلب العلم قبل أن يه!!اجر ،لكنه وبعد عش!!رين س!!نة من
هجرته عاد ولم تقدم الغربة له شيئا ً ح!!تى الق!!راءة والكتابة ال يجي!!دها ،يق!!ول الص!!نعاني! ":إن
اإلنسان وخاصة من ذهبوا إلى الخارج يجدون هناك فرصاَ! كثيرة لكي يعمل!!وا ولكن انظر إلى
هذا ،وأشار إلى البح!!ار ،إنع ع!!اد دون أن يفه ش!!يئا ،إن ذلك يظه!!رمن أحاديثه ،ومن تقاس!!يم
وجهه ،وابتسم البحار ،وقال :
2
-ال تظلمني! يا صديقي ...فأنا ال أعرف القراءة والكتابة ،حتى أتابع الحركة "
وسيف أخو نعمان ال يختلف في ضياعه عن اآلخ!رين ،فهو يتن!افس مع أخيه ليف!وز بع!اهرة ،
وهو صديق! الصنعاني! الذي يقضي معه أيامه في السقوط ،يقول نعمان عن الص!!نعاني! " :إنه
اآلن ينافقني! وأظن أن بينه وبين أخي سيف س!!وء تف!اهم ،ألنه يمت!دحني! كث!!يراً ،وأنت تع!!رف
موقفه من قض!!!يتنا! أنا وأخي ،وأنه ك!!!ان من ال!!!واقفين في ص!!!فه ،ألنه أحد أف!!!راد مجموعة
( سيف) التي تقضي س!!هراتها! الحم!!راء في ( السيس!!بان) عند فاطمة ،خاصة بعد أن اختطفها
أخي مني ،آه كلما تذكرت ذلك التهبت نفسي ،لقد ه!!زمت في تلك المعركة ال لش!!يء ،إال ألن
أخي كان يملك مبلغا ً من المال لم أملكه أنا "، 3
وهو شخص متخل عن أسرته ،متنصل عن مشكالتها التي تعانيها في قريتها ،يق!!ول نعم!!ان ،
لقد أخبرني! محمد مقبل " بأن أخي سيف أصبح هذه األيام ال يذهب إلى العمل كثيراً ،ح!!تى أنه
قد يفصل ،وأن فاطمة قد اس!!تحوذت على كل ما يملك ،نق!!وده لها ،ش!!بابه لها ح!!تى مالبسه ،
وأخبرني! أنه ترك ( المقهاية) وسكن في منزلها ،لقد أصبح س!!بة ،أما زوجته فقد ع!!ادت م!!رة
أخرى إلى منزلنا بعد أن نفد كل ما كانت تملكه من حبوب ،عادت مع ابنها الصغير واس!!تقبلها
أبي بدموعه " ، 4ثم يغ!!ادر في آخر أم!!ره هارب !ا ً ناف!!ذاً بجل!!ده إلى بالد النفط " :أخي (س!!يف)
كنت أود أن أراه هنا ولك!!!ني وص!!!لت مت!!!أخراَ ،فقد فصل عن عمله بس!!!بب إهماله وبس!!!بب
االضطرابات ولم يجد بدأ من أن يغادر ( عدن ) فسافر إلى ( جدة ) لعله يجد هناك حظا ً أسعد
5
"
وهذه هي حال معظم الشخصيات في هذه الرواية ،فهي أما شخصيات أفنت ش!!بابها في الغربة
،ثم ع!!ادت في أخري!!ات أيامها مثل البح!!ار ،ووالد! نعم!!ان ،ال!!ذي ع!!اد من هجرته ض!!عيفا ً
محطما ً بعد أن استنفذ كل شبابه وطاقته في بالد اآلخرين ،يحدثنا نعم!!ان فيق!!ول ":أما وال!!دي
فقد أصبح المسكين ال يستطيع! التحدث معي ،إنني أرثي لحالة هذا اإلنسان القوي الجبار ال!!ذي
1نفسه ،ص53
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص54
3المرجع السابق ،ص55
4المرجع نفسه ،ص24
5المنفسه ،ص25
م!!ارس حي!!اة عنيفة في بالد اآلخ!!رين حين ك!!ان في الخ!!ارج ،أص!!بح الي!!وم إنس!!انا ً محطم!ا ً ال
يستطيع تقويم حياته هو وحده " 1ومحمد مقبل الذي أصبح اليوم يعيش في منزل نعم!!ان ،بعد
أن لم يتبق له أحد من أهله " بعد أن م!!اتت زوجته وهو في الح!!رب وه!!اجر ابنه الوحيد بحث!!ا ً
عنه ولم يعد ،واستولت! الحكومة باسم الوقف على كل أمالكه ،أما داره فقد ته!!دم " ، 2ومعظم
شيوخ القرية .
أو هي اآلن في الهجرة مثل صديق! نعمان وأخيه س!!يف وزوج فت!!اة الجبل الس!!مراء ،ومعظم
شباب القرية ، ،أو هي شخصيات تفكر في الهجرة مثل نعمان .
والفقيه في صحن المسجد في زبيد الذي على ما يبدو كان معلما للقرآن ،ثم امتهن مهنة أخرى
تناسب األوضاع المقلوبة التي يعيشها الوطن ،فقد كان يغيب كثيراً عن الم!!نزل ،ألنه ي!!ذهب
إلى منزل الحاكم وغيره من رج!!ال الحكومة حيث يس!!ليهم بأحاديثه وحكاياته عن األق!!دمين ،
وهوي!!دعي العمى م!!بررا ذلك بقناعته " :عن!!دما تعيش يا ب!!ني مع أن!!اس أعمى هللا بص!!ائرهم
يعيش!!ون في الفسق والفج!!ور ،وي!!دعون أنهم أتقي!!اء ،البد وأن تعمى بص!!رك! ح!!تى ال تكشف
3
حقيقتهم لتستطيع أن تعيش "
وأهالي زبيد هم أيضا أناس خاملون جاهلون قــذرواـ الخلقــة مهلهلــو المالبس " ينــامون وقــد ارتســمت
على شفاههم بسمات سعيدة ،وهم ال يعملون وحياتهم تســريـ بين النــوم واألكــل والــذهاب إلى مســجد
مــدينتهم الكبــير ثم يعــودون لينــاموا ،وال تســتطيعـ أن تحــدد أين ينــام النــاس ،ففي كــل مكــان تــراهم
متمددين داخل األسواقـ ذات الشوارع الحجرية ،والدكاكين المبنية من حجارة متراكبة فوق بعضها
بــدون تماســك ومن ســعف النخيــل أو في المقــاهي حيث الســرر الخشــبية المربوطــة بحبــال بــدالً من
الكراسي في المساجد وداخل البيوت أو على أسطحها ،وفي دارتها ،وفي كل مكان في المدينــة تــرى
الناس ينامون ويأكلون ويصلون ،وفي كل مكان تـرى النـاس عرايـا إال من مـئزر أبيض إلى الـركب
وقلنسوة مصنوعة من األلياف " ، 4ومعظمهمـ يعتاش من الصدقاتـ على الموتىـ في المقابر والمســاجد
،وهم متعايشونـ مع هؤالء الموتى حتى أنهم أحيانا يقيمون بعض احتفاالتهم في المقـابر ،ففي" الليـل
أو في النهار ينام الناس ويأكلون ويصلونـ فــوق المقــابر ،بــل إن المقــابر تشــهد في فــترات من الســنة
أعيادا يشترك فيها الجميع ويجدون فيها المأكل والمشربـ ،ثم في النهاية يصــلون على روح من كــان
السبب في إحياء ذلك الحفل " ، 5وهم صامتون حتى يشك المرء أنهم فقدوا القدرة على الكالم . 6
أما النساء الالئي يظهرن في الرواية فجميعهن ضحايا هذا الواقع بمعطياته الزمانيــة والمكانيــة ،وهن
يستحققن العطف والرثاء ،ف (هند) تلك الفتاة التي أشعلت قلب نعمان حبا ً قد عادت عوداً يابسا ً بفعــل
1نفسه ،ص39
2محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص10
3المرجع السابق ،ص25
?
3 4المرجع نفسه ،ص
?
4 5نفسه ،ص6
56نفسه ،ص58
المهام الثقيلة التي تؤديها بين رعاية األرض والــدار ووالــديـ نعمــان في القريــة اللــذين غــدت بالنســبة
إليهما أكثر فائدة من ابنيهما . 1
يحدثنا نعمان قائالً ":إنني أعرف أن حبنا القديم لن يعود إلى الحيــاة ،ألنــه مــات بعــد زواجنـاـ ،ألنــه
كان مجرد رغبة عابرة انتهت ،إن الزواج والحب في بالدنا ليسـا سـوىـ مجـرد لعبـة الرجــل بــالمرأة
التي ليست سوى خادمة لألرض والبيت والزوج ،إنها مجرد زهرة تتفتح قليالً ثم تموت حين ينهكها
العمل ،وكذلك زوجتي كــانت ناضــرة كزهــرة ،فأصــبحت اآلن عــوداً يابسـا ً وأصــبحت رغم أنهــا لم
2
تتجاوز الخامسة والعشرين عجوزاً كأنها على أبواب قبرها ،إنها منهكة مريضة "
وهي صابرة وتعمل بصمت ،وكأن ما يجرى عليها هو ناموس قدريـ ليس لها أن تتبرم منه ،ومهمــا
فعل زوجهاـ هي راضية ومحبة ،وبابتسامتها تحيل كل شيء كئيب إلى جميل " " 3البــد وأنهــا مــاتت
وهي تشكو من الجوع ،إنها تتحمل كل شيء من أجل سعادة اآلخرين ،كم كانت صموته ،التتحــدث
كثيراً ،ولكنهاـ تبتسم وال تتألم وال تشكو ،كانت في المنزل ،وكأنهــا ليســت موجـودة ،دون صــوت ،
دون ضجة ،حتى عندما نخلو كانت هادئة دائما ً .:
هل أنت سعيدة ؟ فتهز رأسها ...كال
هل تشكين من شيء ؟ فتهز رأسهاـ ...كال
هل تردين شيئا ً ؟ فتهز رأسها ...كال
كانت تعمل في صمت ،وتنام في صمت ،وتبتسمـ في صمت ،كانت مثل أرضــنا شــابة وخطهــا الشــيب
سريعا ً ،ولكنها تعمل في هدوء وصمت وال تتألم وال تشكو ،ولكنها تبتســم وتعمــل وتنتج بال توقــف ،
4
وبال امتنان "
لكن هند التي كانت أما حتى للحجارة 5لم تمت ميتة صامتة ،بل كــانت وهي تمــوت تحــاول إن تبــدع
عملية خلق " :كانت مسرورة أنها ستلد ،وكانت تقول لي دائما ً إنها تتمنى أن تلد ( ولداً ) يكون مثلي
قويا ً ،وسيما ً ،ثم يموت كل ذلك التوقدـ والقوة الخارقة " ".......كل ذلك النشاط يموت إنني ال أصــدق
ً 6
مطلقا "
ومع كل ذاك الصبر والعطاء لم تلق من زوجها ( نعمان ) إال اإلهمال والنكران ،يـؤنب نعمـان نفســه
فيقول " :يا الهي أكثر من عشر ساعات وهي ميتة في جيبي ،آه لقد ثبتت الحقيقة إنني ال أحبها أثنــاء
حياتها أو بعد موتها ،لقد ماتت ولكنها كانت تقــوم حــتى أثنــاء موتهــا بعمليــة خلــق كعملياتهــا الخالقــة
7
طول حياتها ،ولكن هذه العملية أدت إلى هزيمتها ألول مرة "
139
تحاول اقتناص لحظة من المتعة مع البحــار ( علي الصــغير ) -الــذي جــاء ليعلمهــا وبقيــة النســاء
حفظ القرآن الكريم -خلسة من زوجهــا العجــوز ذي الســتين خريفـا ً ،وابنــة الحــاكم الجميلــة الــتي
تحاول نفس الفعـل ،يقـول (علي الزغـير) " :وتـرددتـ بعـد ذلـك على المـنزلين ،مـنزل العامـل
1
ومنزل الحاكم وفي كليهما كان لي سريرـ دافئ وامرأة تمنحني ما أشاء "
هكــذا حفلت هــذه الروايــة بعــدد من الشخصــياتـ يتســم أغلبهــا بالســلبية ،إذ هي تفقــد قــدرتها على
الصمود والمقاومة في أوضاع سياسية واجتماعية تفوق احتمالها ،وقد نجد -على نــدرة -بعض
هذه الشخصيات ال يزال يتحلى بروح المقاومــة واإليجابيــة منهــا ( الحــاج علي ) صــاحب المقهى
الذي ظل متمسكا ً بموقفــه الناصــح للشــباب بالمقاومــة وعــدم االستســالم ،وعــدم االكتفــاء بمجــرد
االنفعال ،فاخذ يحفزهم إلى ضرورة القيام بفعل ما ،وعندما سمع احتداد لصنعانيـ في حواره مع
( علي الزغير ) حين أخذ ينعته ومن معه ممن يهاجرون ،بأنهم السبب الرئيس في تــأخير قضــية
بلدهم الوطنية ،تدخل قائالً له :
" -وأنت ماهي األعمال التي قمت بها لوطنك .
فأجبته * -أنه على األقل يشعر بأن عليه أن يعمل
-ليس بالشــعورـ وحــده نســتطيع أن نخلص بالدنــا ،فأنــا منــذ عشــرين عامــا أمتلــك هــذه المقهى ،
ومرت علي الوجــوه الكثــيرة ،كلهــا كــانت تتحــدث أحيانــا ،وخاصــة عنــدما يــأكلون ( القــات ) ،
ويتحدثون يا بني عن الوطنيــة وعن بالدهم ،ولكــنيـ لم أر واحــداً منهم يحــاول أن يعمــل -فعالً -
عمالً إيجابيـا ً لتحطيم الجمــود الــذي يســيطر على بالده ،نعم يــا نعمــان ليس شــعورناـ بــأن بالدنــا
2
مظلومة يكفي "
و ( محمد مقبل ) الذي يتمتع اآلن في القرية بطاقة إيجابية خالقة تدفع بنعمان إلى االســتغراب ":
إنه ينفعنا كثـيراً ،فهـو ال يسـأم العمـل مطلقـا ً ،إنـني ألعجب كيـف أسـتطاع أن يحبس هـذه القـوة
العملية الخالقة مدى عشر سنوات في ( عــدن ) بــدون عمــل ،إنــه يبتسـمـ كلمــا ســألته عن ذلــك ،
ويجيب قائالً ":نحن ال نعجز أبدا ....انظر إلى هذه القرية ،إن أجدادنا هم الذين حملوها إلى هنــا
في هذه المدرجات ،وهي رغم السنين الطويلة ،ومازالت شابة تنتج كل عـام ،فلمـاذا تريـدنا نحن
3
أبناء هذه التربة أن نعجز"
وهو اليريد أن يترك القرية ويغادرها إلى عدن يــرد على ســؤال نعمــان قــائال ":كال إن المســجد
سيكون مكاني المفضل ،سأعمل وسأعيش وسأموت في هــذه القريــة ،لن أتركهــا بعــد اآلن ،لقــد
4
آمنت إن اإلنسان يجد الهدوء في آخر حياته "
وقد الحظ نعمان من حديثه " أن في صوته شيء جديد ...ينبئ عن الحزن واأللم ،كانت التجربة
5
التي يعيشها في القرية قاسية ،لكنها بالنسبة إليه كانت درسا ً ألنه أصبح أكثر جدية من ذي قبل "
ونسمع صوته يتردد على مسامع نعمان وهو في طريقه إلى عدن مغــادراً قريتــه " :عــد يانعمــان
6
وال تهرب ،سواء كنت في عدن أو في القرية ،فأنت تمارس المأساة "
وكما أشرنا في موضع سـابق من هـذه الدراسـة ،بـأن القصـة القصـيرة -بحكم بنيتهـا المركـزة -
توجــه اهتمامهــا -في بنــاء عالقــات شخصــياتهاـ مــع أماكنهــا الــتي تضــطربـ في داخلهــا -إلى
1 1محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص23
22المرجع السابق ،ص7
33المرجع نفسه ،ص77
44نفسه ص24
5 5نفسه ،ص65
66نفسه ،ص66
140
الوجدانات الداخلية لها ،فكـل مــايظهر من حركتهـاـ أو تفاعلهـا يصـب في طريــق هــدفها السـاعي
حثيثا ً عبر خط صارمـ اليقبل التزيد أو التلكؤ في اتجاه إجالء جوهرها العميق كشخصية إنســانية ،
أو في اتجاه الكشف عن المعنى اإلنساني العميق المتجلي عن تفاعلها في موقفها الذي تظهر فيه .
فمن الشخصــيات من يحــاول قهــر نفســه كي تتكيــف مــع مكانهــا الــذي توجــد فيــه وتقبــل مســايرة
أوضاعه مهما كانت هذه األوضاع ،ومهما خسرت مــع محاولتهـاـ التكيــف من كرامتهــا وإرادتهــا
اإلنسانية ،فـ(حمادي الحــاج ) ،ومعــه بقيـة ســكان القريـة الــذين انسـحبواـ خـائفين وانصــرفوا عن
إكمال بناء بيت ( علي بن علي ) حينما علموا بتهديدات الشيخ له ،
في قصة ( العائد من البحر ) يعلم زيف وكذب ما يدعيه الشيخ وأعوانه ،لكنه يحاول إقنــاع (علي
بن علي ) بالخضــوع ألوامــره كونــه من يملــك الرعيــة أيض ـا ً ،فبعــد أن تــدخل ومعــه لفيــف من
القــرويين لفض الــنزاع بين علي بن علي والعســكري المرســل من الشــيخ يــدور بينهمــا الحــوار
التالي :
" -هل جننت يا ولدي ...؟
-لم أجن
-هل تريد جلب المصائب لنفسك ؟
-دعك من الخوف يا عمي فما هو إال مجرد عسكري ( ضمرته ) وانتهىـ أمره ...
-لست أعني العسكري ،وإنما أعني الشيخ ..
-وماذا سيفعل الشيخ ؟
-يا ولدي الشيخ يملـك نصـف هـذه األرض بمـا عليهـا من أشـياء ،حـتى الرعيـة هم ملـك
الشيخ يا ولدي ..
-ولكنني لست من أمالكه ...
-أعرف ذلك ولكنك تعيش فوقـ أرضه .
-إنني أعيش على األرض التي عاش عليها أبي وجديـ ،إنها أرض هللا .
-لقد عاش جدك على أرض يملكها جده وعاش أبوك على أرض يملكها أبوه ..
-ولكنني لن أعيش مثلما عاشوا ويجب أن تفهم ذلك .
-إذن بعنادك هذا ستجلب لنا الخراب والدمارـ وستحيل هذه القرية إلى بؤس وشقاء .
-أتخافونه إلى هذه الدرجة ؟
-اسمع ياولديـ لقد كنت غائبا ً فترة طويلة ،أما نحن فعشناـ هنا ونعرفـ كل شيء ،فقم معي
أرض العسكري وسأتوجه معك إلى الشيخ .
1
-لن أذهب "
2
وحينما لم يستطيعـ إقناعه ،قال له بجزع " -انتهى األمر إذن ،فتحمل نتيجة عملك "
وحينما أفاد ( علي بن علي ) بأنه سيتحمل مسؤولية تصرفه ،قال لــه " :ولكنــك ســتجر علي
3
المشاكل والشيخ يترقب لي أدنى هفوة للبطش بي " ...
وحينما خرجا ولم يجدا أحداً من العمال في أرض المبنى دار بينهما الحوار التالي :
" -هل رأيت ...لم يحضر أحد من عمالك .
-ولماذا ؟
141
-ال تسلني .
-ولكنيـ أسألك عن السبب.
-ألنهم خافواـ .
-إلى هذه الدرجة ...يالكم من جبناء ...إلى هذه الدرجة !
-ال تقل ذلك .إنك تحمل على كتفــك ســالح وعلى وســطكـ حزامـا ً مليئـا ً بالــذخيرة ،وخنجــراً
ذهبيا ً ،لكن هذا هو الواقع .
-دعك من ذلك
-هذا هو الواقع ،وتأكد أن ذلك لن يفيدك في شيء ،فأنت وحيــد والشــيخ لديــه العشــرات من
أمثالك ،يحملون البنادق ويحتزمونـ بالذخيرة والخناجرـ المذهبة .
-الحق بجانبي يا عمي .
وكأنما سئم حمادي الحاج كالمه ،فقال:
-اسمع يا ولدي ...قم معي ونأخذ كبشا ً ونتوجه إلى دار الشيخ .
-لن أفعل ذلك .
ً 1
-اسمع مني ذلك ولن يضركـ شيئا "
وحينما اقترب موكب الشيخ ،ونزل الشيخ عن بغلته ،هــرول حمــادي الحــاج يقبــل ركبتيــه ،
فقال له الشيخ -" :وهل لديك يا حمادي بندقية مثلها؟
وبهت حماديـ الحاج لقول الشيخ فقال متلعثما ً :
-نحن رعيتك يا شيخنا ...وأنت حامينا ..
-ولكني سمعت أن معك بندقية ...
-ومن أين لي المال لذلك ..
-من صهرك علي بن علي .
2
-ولكننا رعية ال نحمل السالح يا شيخنا "
ومنها من يحاول المقاومة ،ورفض قيم المكان السلبية التي ترسخت فيه ،متدرجاًـ في رفضه
عــبر المحاولــة المتعقلــة في إقنــاع النــاس ،وإجالء الحقيقــة أمــام أعينهم ،غــير أن صــعوبة
أوضاع الواقع قد ال تهيئ أحيانا ً لنجاح هذا األسلوب ،ومن هنا قد تلجــأ الشخصــية إلى إعالن
التمــرد الصــارخ ،واالنفجــارـ بثــورة عارمــة في وجــه الظــالم المســتبد ،كمــا انتهت الى ذلــك
شخصــية ( علي بن علي ) في قصــة ( العائــد من البحــر ) حين اجتثت روح الشــيخ من على
وجه المكان بطلقة نارية مدوية سقط على إثرها مضرجا ً بدمه ". 3
ومنها من يحاول اجتياز صــعوباتـ المكــان المطبــق عليهــا بامتحاناتــه العســيرة وإن بمغــامرة
صعبة كالتي خاضها العم مسفر حين قــرر ومعــه أصـحابه هـادي وغــثيم وناصـرـ العـودة إلى
العمل والعسكريـ ،رغم صعوبة تنفيذ هذا القرار باألخص وأنه قد تجاوزـ الستين من عمره ،
وهو ما أثار استنكار زوجته ( عاتكة ) ،نقرأ فيما دار بينهما من حوار :
" نعم ....أدري أننا هالكان ال محالة ...ولكن ما العمل .
وقبل أن يسمع الجواب :
-وأنت ال تتركين لي وقتاًـ للتفكير .
142
-وأي وقت هذا الذي تريده ؟
-كنت باألمس أفكر طيلة الليل ..وهذا الصباح .
ومقاطعه بسخرية :
-أي تفكير هذا ...تفكر وأنت نائم ! ربما في والئم الدجاج والخبز الدافئ وفتة البرالناعمــة
و....و......
-دعينا من الكالم الفارغ ...سنموت جوعا ً !
نباح كالب يتردد من بعيد ...
-ستنهش جثثنا ً الكالب ،وأنت قابعة هنا تلوكين كالما ً فارغا .
وهي بأصابعها قاع اإلناء وتمصمصهاـ :
-حسن ! إالم توصلت بعد هذا التفكير؟
أطرق هنيهة ثم رفع رأسه ،وعالمات الحزم في جبينه :
-لقد قررت أمراً وال بد لي من تنفيذه !
توقفت برهة وقبل أن تسبقه بالسؤال ،واصل :
-عزمت أن أعود إلى عملي .
-أي عمل تعنى ؟ أتقصد أن تعود للعسكري ؟
وأضافت بحنق وفتور :
-هيه بعد هذا العمر ..وفي حالك هذه .
-أجل وسأزورهاديـ وغثيم وناصر لينضمواـ معي ..وليس غير هــذا طريق ـا ً للنجــاة من الهالك
1
"
لكن العم مسفراً أص َّر على تنفيذ ما عزم عليه مما أوقعه في مشقة كبــيرة ،أســلمته في آخــر أمــره
إلى نهايته .
ومن الشخصيات من يفضل الهرب ومغادرة المكان الذي ال يوفر لهــا الراحــة واألمــان ،بــل وقــد
يصل بها األمر إلى التنازل عنه كلية ،كمــا في قصــة ( خلــف الشــمس نحبس ) ،فحينمـاـ انســاقت
قدما ً الرجل في السائلة العظمى المتجهة إلى بالد أخرى :
" صاح به أخوه :
-إلى أين أنت ذاهب ؟
( -عصب ) ! ....
-ماذا تقول ؟
..... -خيرة البنادر ...
-أخذته الحيرة وقد ترك ( مفرسه ) وانتصبـ ثم صاح :
-إلى أين يا مجنون ...؟
-قلت لك إلى ( عصب ) ...
-وتتركنيـ ؟
-ستجد غيري !...
-واألرض ...والبيت ...والبقرة والثورة ؟!
-كلها لك ...
143
-و( الشريعة ) التي نحن مع ابن عمك القذر المشاغل لنا ...؟
-سيحلها وكيل الشريعة ..
-يريد ماالً مقابل ذلك ! ...
-دبر له ذلك ...
ولم يجب ،وقدـ فكر قليالً ومسح العرق عن جبينه ..ثم اندفع إثره قائالً :
-سأحسب عليك كل غرامته ...
-قلت لك بأن األرض وكل شيء لك !..
-لم ( تبصر ) بذلك بوثيقة شرعية عند الفقيه ...؟!
1
-ال تحتاج لكل هذا ،فقد تنازلت لك عن كل شيء " ....
ومنهــا من يشــتد بــه اليــاس مــع عذاباتــه فــيرىـ أن خالصــه لن يتحقــق لــه في مكانــه طالمــا وأن
المشكالت التي تؤرق مكانه التزال ماثلة ،فهند التي هاجر زوجهاـ بعيداً حــتى يئسـت من عودتــه
في قصة ( قل له يزو قبري ) تقع فريسة المرض في قرية ليس بهــا طــبيب ،ويزيــد من معاناته ـاـ
مع مرضها ذلك األسلوب من العالج المتخلف ،الذي تتبعه مشعوذة عجوز استقدمها أبوها معتقداً
بقدراتها الخارقة على شفاء المرضى ،نسمعها تــودع قريتهــا وتتشــوقـ إلى حيــاة أخــرى في عـالم
الموت -":افتحوا فردتيـ الشباك ،أريد أن أرى المطر آلخر مرة ...أشم رائحة الــتراب ..أنظــر
إلى الجبل ،أكمة قريتي ...افتحواـ .
فُتح الشباك وكانت آخر قطرات المطر تتساقط بتكاسل ،سقطت أشــعة شــمس الغــروب على ميــاه
السوائل المنحدرة ،فأحالتهاـ إلى ثعابين فضية .
-الحمد هلل ..هذه آخر رائحة للمطر تدخل أنفي بعرف التراب .قريبا ً سأحضن تــراب قريــتيـ .
اسمع يا ولد .أنا ..خالص ذاهبة إلى عالم آخر .
-إلى أين ؟
-إلى الجنة ..أو إلى النار ،ال أدري ،سأبحث هناك عنه ،سأجده ،سأقتل جميــع الحوريــات ،
سأفني المومسات ،سأمنعه عن الشراب من مياه األنهار ،سأكون له برداً من النـار ،سـأنزع
2
قلبي من موضعه واضعه في مكانه "
ومنهم من تتبرع بغلة بخالصة الذي كان ميؤوساًـ منه ،ففي ( ثورة بغلة ) نقرأ :
" في القلعــة عشــنا حياتنــا ..نتجــول بين أزقتهــا كســجناء ،وبقيــود حديديــة ..وتمنعنـاـ عن العــالم
الخارجي بوابة منيعة ،وعساكر غالظ الوجوه والقلوب ..نحن سجناء بقيود حديدية ،والنادرـ منا
ال قيود له !!..
وربما أن السجين العادي يرتأى له الخالص من قيوده باألمل ..أما نحن كرهائن في حوزة اإلمام
فال أمل لنا ...ولو وجد فهو أمل بعيــد ..ألن علينــا أن ننتظــر مولــوداًـ جديــداً يخلصــنا ويشــب عن
3
الطوق ..ليحل محلنا !!..أما أن يكون الرهينة وحيد أبويه فسجنه مؤبد !.
فحين ثارت البغلة في الميدان ،وهاجت ناسفة بهيجانها كل الزيف القــائم فيــه ،وقلبت رأســه على
عقبه ،وجد الرهينة الفرصة سانحة للهرب ،كي ينعم باإلقامة مع أسرته مـدى الحيـاة " :وجـدت
نفسي خارج الميدان ،وما زالت صورة رئيس حرس قلعة القاهرة أمام وجهي ،فقد أصيب بركلة
مباركة من حوافرـ البغلة ..أخمدت أنفاسه إلى األبد ..
144
وشعرت بقدمي تقودني نحو وادي الحوبان ،وبين آكامه وعمقه وأثله ،أجري منطلقا ً وبال توقــف
1
مخلفا ً ورائي كارثة ال أستطيع شرحها ألفرادـ أسرتي الذين سأنعم في البقاء بينهم مدى الحياة "
ومنهم من يعبر عن قناعته -التي ترى بأن القاعدة الميكافيليــة ( الغايــة تــبرر الوســيلة ) يمكن أن
تصبح شرعة سليمة في مكان مطوقـ بالموت والمشانق مثل سجن الــرادع في قصــة ( الــذماريـ )
الذي تحفل غرفه وتزدحم ساحته بأناس أبرياء تم اقيــادهم إليـه ،والــزج بهم في دهـاليزه المرعبـة
بدون دليل يدينهم -بفعل يترجمـ به عن موقفـه الـرافض لمـا يجـري ،فالشـيخ في قصـة الـذماري
يقنع مدير السجن بالتدليس على العامل الجديد ،واستغالل جهله -حين أمر باإلفراج عن الذماريـ
الذي لم يكن متحققا ً من شخصيته ومن تهمته التي بنيت على باطل -في إنقاذ صديقه الذماري من
سجنه تحت تهمة كان يعلم مقدار صعوبة نجاته فيها من سيف اإلمام ،فالذماري الذي كان قلقا من
قبول مراجعته لدى العامل الجديد ،يلح بالسؤال على الشــيخ ":وفيـ يــوم ألح على صــديقه الشــيخ
بسؤال المدير وكان ( المقيل ) قد تأخر قليالً لتأخر قات الشيخ الذي هدأت أعصابه حــال وصــول
رسوله بالقات ،فقال الشيخ مخاطبا ً المدير ،وقد قام بتوزيع هباته من القات كالمعتاد :
-هل وصلت إفادة بخصوص ( الذماري ) ...؟
-وصلت ..وتفيد باإلفراجـ عنه .
-هزته الفرحة وهنأه الجميع ،ولكن المدير قال :
-لكنها معلقة بشرط الضمان والكفالة عنه ...ومغادرة صنعاء نهائيا ً .
قال الشيخ بحماس ظاهر :
-ال يهم ذلك فأنا على استعداد للضمانة والكفالة عليه وبمغادرته صنعاء فوراًـ
-وهل تضمن عليه بأن ال يعود إلى توريدـ الحبوب إلى صنعاء أو االتجار بها ..
واندهش الجميع لذلك بينما قال المدير :
-لقد دهشت أنا أيضا ً من شرط العامل ،ولذلك أخرتها لدي حتى نجيب على العامل بأن الرجــل
ال يورد الحبوب ،وإنما قضــيته تختلــف عن ذلــك ،واحتــار الــذماري لهــذا الموقــف المفــاجئ
العجيب ،وقد شعر أن أمنية الرجل الوقورـ ببقائه تكاد تتحقق ،فنظر إلى الشــيخ فوجــده يفكــر
مليا ً ،وفجأة قال مخاطباًـ المدير :
-لقد ضمنت وكفلت على الذماري بما هو مطلوب منه .
-لكن
-لكن إذا أرجعت اإلفادة إلى العامــل ..فأنــا على يقين بــأن الــذماريـ ســيعرقلـ مــرة أخــرى إلى
األبد ..
وأنتم تعرفــون قضـيته تمامـا ً ،فال داعي للعـرض مـرة أخــرى على العامـل ،فربمــا يكــون هنــاك
ذماري آخر يورد الحبوب في سوق الطعام ،قد عرضت قضيته صــدفة عنــد العامــل الجديــد عنــد
وصول شكية األخير ،فهذا من حسن حظ صاحبناـ .
اقتنع المدير بذلك ونظرـ إلى الذماري الذي تملمــل بــألم لمغــادرة صــنعاء ،وقــد اقــترب من الشــيخ
وهمس له قائالً:
-لكن ما السبب لمغادرتيـ صنعاء ؟
-وما الفائدة لبقائك ؟
-أريد أن أعمل ؟
1زيد مطيع دماج ( العقرب ) مرجع سابق ص22
145
1
-لقد نفذت بجلدك وال داعي لبقائك "
أما الذماري الذي رأى في شرط العامل مغادرته صنعاء ظلما ً كبيراً وإشعاراً له بغربتــه فيهمــا فال
زال يحاول مع صديقه الشيخ -الذي كان يـرى أن في خروجـة من صـنعاء نجـاة لـه -كي يقنعـه
ببقائه فيها ،وحينما علم الشيخ سر إصراره على عدم مغادرتها وضعف إدراكه لما هو محدق به
من شر فيها ،اختلق كذبه ،دفعت به إلى التسليم بقرار المغادرة :
" قال له صديقه الشيخ وقدـ تهيأ للنوم :
-ال تبدو عليك مالمح السعادة لمغادرتكـ السجن صباحا ً
-لقد آلمني األمر بالمغادرة من صنعاء وكأنني أجنبي .
-قد يكون ذلك خيراً لك .
-لكن عشت فيها لحظات سعيدة .
-في السجن .
-ال .........وإنما في سمسرة وردة ""...........
-هل أستطيع رشوة العساكر لكي يسمحواـ لي بالبقاء في صنعاء ؟
-لقد رفضت أن ترشو العامل وكاتبه من قبل ..
-كان ذلك موقفا ً آخر ..
-واآلن
-في سبيل الحب ..ثم ما الضرر من بقائي ..
-لم تخبرنيـ من قبل عن حبك هذا فمن هي ؟
( -وردة ) يا عزيزي ( ...وردة ) أو لم تسمع بها ...
-أسمع وأعرف ( سمسرة وردة ) فقط .
-لقد ماتت منذ زمن بعيد"........." .
ونهض وقد رافقه نفران من الحرس لكي يصحبوه إلى خارج صنعاء ،فخرج معهما من البوابة
الخارجية ،وعاد كمن تذكر شيئا ً نسيه ونادىـ على صديقه الشيخ الذي ما زال واقفا ً على البوابة :
-أصحيح ما قلت مساء البارحة عن ( وردة ) ؟
-وضحك الشيخ مودعا ً ،قائالً :
-كل ما قلت لك صحيحا ً ،وإذا أحببت التأكد فاسأل العساكرـ المرافقين لك .
2
والتفت نحو العساكر المرافقين له ،فنهروه بسرعة العزم ،فأذعن "
ومن الشخص!!!يات من يظهر تكيف!!!ا ً مع مكانة بكل ما يحويه ه!!!ذا المك!!!ان من مالمح الق!!!ذارة
والعفونة ،مثل ذلك العجوز اإلمامي الخرف ،الذي يستمر في قصة ( البش!!ارة ) في لعن قتلة
اإلمام من الدس!!توريين ،ويتش!!فى بهم ويبشر ب!!ذبحهم على يد اإلم!!ام الجديد ،وتكيفه ن!!ابع من
كونه شخصا ً مغيبا ً تماما ً عن الوقت ومصابا ً بزكام يعيقه عن التنفس ،وعيناه مرمودتان ال
تمكنانه من رؤية الحقيقة بوضوح! ،ووجه!ه المجدورال تزال آثار عهود الظالم ماثلة عليه .
وإما دكانه فمالمحه تشابهه ،فهو دكان هرم كأنه مقبرة عتيقة ،خال من الزب!!ائن ،وبض!!ائعه
التي يغطيها الغبار ترقد! فيه بغير ترتيب ،وفي داخله صورة لإلمام قد علقت بمحاذاة ح!!زم
التبن وسم الف!!ئران ،وقد! غطى ونيم ال!!ذباب زجاجها ،وطمس العين!!يين منها والفم والعمامة ،
146
فبدت وكأن بثوراً! متقرحة ،قد انفجرت فيها ،وهو يقبع فيه طوال ال!!وقت ،ويس!!تظل بظالمه
هارب!!!ا ً من أش!!!عة الش!!!مس ،مس!!!تنكراً! كل محاولة تق!!!وم لزعزعة الموقف! الالبد على هرمه
ورتابته ،نسمعه يقول " :لقد أفسدت الكتب عقولكم أيها الشباب ،م!!اذا اس!!تفاد الدس!!توريون ؟
ما هو اله!!!دف من انتفاضة طالب الم!!!دارس ضد جاللة موالنا اإلم!!!ام الق!!!ديم ؟ لم!!!اذا ه!!!ذه
الفوضى ال!!تي عمت البالد في اآلونة األخ!!يرة " ".......إن س!!يف الوش!!اح بت!!ار ،لقد ذاق لحم
1
رقاب أعداء اإلمامه ،نصرهللا إمامنا الجديد "
ومنها من يعلن رفضه لكل المعطي!!ات القائمة في مكانه وبش!!كل ص!!ريح ،ك!!ذلك الش!!اب في
قصة ( البشارة ) الذي يرد على العجوز! اإلمامي حين يسأله :
" -قل لي ماذا تريدون بالتحديد! ؟
- "2-ثاء ،واو ،راء ،هاء .....وأن تموت
ومن الشخص!يات من يجد نفسه مض!طراً! إلى الص!مود! في وجه مكانه الع!دائي ،المعلن لنوايا
الفتك وشرور الدمار .
كما في قصة ( األطفال يشيبون عند الفجر ) حيث يطبق المك!!ان على الص!!بية الص!!غار كفكي
كماشة ،فعلى الربوة البرد القارس والجوع ،والرصاص المباغت والقذائف تنهال من جهات
غير معلومة ،وتحت الربوة امتداد للصمت المميت ،وكأنما هن!!اك اتف!!اق ض!!مني بينهما على
الفتك به!!ؤالء الص!!غار " :األعين ت!!دور بامتع!!اض على المدينة ال!!تي تقبع وراءهم ،الرب!!وة
تشرف على سهل والسهل أجرد أغبر ،ألوان الموت ،ال لون آخر للسهل ،كل ش!!يء أغ!!بر ،
الناس ،التراب ،الصخور ،الشجر القليل المتن!!اثر! ،العي!!ون تتع!!ود! على الظالم ،لكن ال!!برد
يجمد الرؤيا! ،ولكنه ال يبلد اإلحساس ،كانوا سبعة وضابط! ،كانوا نعم سبعة وضابط ،ولكن
3
الليل هز رأسه بهزء "
ومع أن الصبية قد أبدوا شجاعة نادرة في مواجهة موقفهم الصعب ،فإن ه!!ذه الش!!جاعة وذلك
الص!!مود! قد انتهى ب!!الموقف! إلى نهاية مأس!!اوية فيها ينتصر! المك!!ان وتنه!!زم! إرادة اإلنس!!ان
وتسحق رغبته في االنتصار " :الدماء بركة حمراء ،وكانت أيديهم على البنادق والم!!دافع ،
لم تكن هناك ذخيرة ،وغطى العدو وجهه وهو يشاهد األطفال أمامه ،فوق! شفتي يحيى حزن
مؤلم ألنه لم يقاتل ح!!تى ينهيهم ،وفي! ش!!فتي علي ابتس!!امة ألن أمه ك!!انت تس!!قيه كأسا من لبن
الغنم ،وإما الضابط! فقد كان فاتح!ا ً ذراعيه ينظر إلى الس!!ماء طالب!ا ً أن تحفظ أطفاله ال!!ذين هم
في مثل عم!!ره ،تجمع!!وا ح!!ول المك!!ان ولم يص!!دق! أحد ما ي!!راه ،ك!!انوا س!!بعة من األطف!!ال
وضابط! وقد! شابوا عند الفجر ،ومن يومها لم يمر الشفق فوق! بالدنا .
ب) صــورة المكــان :في األعمــال الــتي اهتمت بــالواقع السياســي واالجتمــاعيـ بعــد ثــورة الشــمال
واستقالل الجنوب .
وهذه أعمال تتجلى عن أمكنة مغايرة تماما ً لألمكنة التي ظهرت في األعمــال الــتي اهتمت بواقــع مــا
قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ،فحالة الركــود والمــوات الــتي كــانت تكتســح المكــان في الجــزء
الشمالي الواقع تحت ظلم اإلمامة ،قد تبدلت إلى نقيضها تماما ً ،حيث نشهد مكانـا ً مشــحوناًـ بالحركــة
147
الفوضوية يجري عليه ســباق محمــوم على المــال والجــاه والســلطة بين القــوى المختلفــة الــتي تســعى
لتقوية مراكزها عند هذه الفرصة الذهبية التي توفرها هــذه الفــترة الحرجــة من االنتقـال بين واقعين ،
واقع العزلة المطبقة ليس عن العالم فقـط وإنمــا بين القــرى وبعضــهاـ البعض ،وواقــع االنفتــاح غـير
المشروطـ على العالم شرقه وغربه ،والتي شهدت اضطرابا ً سياسيا ً وتغييراًـ مستمراً للحكومات التي
ذهب بعضها بانقالب عسكري .
وحالة الحركة التجارية النشطة لميناء عدن ،وما أضفته من أثر على حياة سكان المدينة الــتي تــوفر
لهـا قـدر من التحضــر والمدنيـة وجــانب من الحريــة الـتي كـانت الدسـاتيرـ البريطانيـة تكفلهــا لســكان
المحميات ،إذا ما قورنت بما كان قائما ً في الشمال ،قد تبــدلت -أيضــا -إلى نقيضــها تحت ســيطرة
الحــزب الواحــد وتشــديدـ قبضــته على مــدن وقــرى الجنــوب كلــه ،فقــد ســعى هــذا الحــزب إلى تنفيــذ
مشروعه السياسيـ عبر نظام اقتصاديـ صارم ،كتأميم الممتلكــات الخاصــة ومنــع االســتيراد وحظـرـ
التبادل التجاري ،وفرض طوق مشدد على ذلك ،وحصرـ شأن النشاط االقتصاديـ ممارسته وإدارته
-إن كان هناك نشــاط اقتصــادي -على الحكومــة وحــدها ،حــتى لم يعــد بإمكــان األفــراد والشــركات
الخاصة ممارسة أي نــوع من النشــاط االقتصــاديـ ،ممــا أدى إلى هجــرة أصــحاب رؤوس األمــوال
وركــود حركــة االقتصــاد ،واضــطرارـ حكومــة الحــزب إلى االعتمــاد على دعم الــدول االشــتراكية
واستهالك ما تبقى مما وفرته مصادر الثروة القديمة وامتصاصه حتى العظم .
وبنا ًء على ذلك كلــه ،فإنــه يمكننــا الوقــوف على صــورة المكــان بتفصــيالتها الموزعــة بين األعمــال
الروائية والقصصية التي نبدأها برواية ( وسام الشرفـ )
فالمكان السياسي في رواية ( وسام الشرف ) هو مدينتاـ صنعاء وعدن تحت واقع التشــطير ،وتشــكل
منه مدينة صنعاء المحتوى الرئيس لجريان الحدث الروائيـ ،فهي تظهر بأحيائها المختلفة كــالتحرير
وباب السباح وشارعـ اإلذاعة وخزيمة وشارعـ القيادة ،وحي بــئر العــزب ،والــدائريـ ،والحصــبة ،
أما مدينة عــدن فينحسـرـ ظهورهــا على بعض األحيــاء ،كحي خــور مكســر ،وحي التــواهي ،وحي
المعلى ،وحي القلوعة ،ومدرسة البادريـ .
وتظهر -أيضا -بعض األماكن المغلفة التي تنتقل بينها الشخصــيات في مدينــة صــنعاء ،منهــا قهــوة
التيسير قرب مبنى السينما ،ونــادى التقــدم ومطعمـ السـعادة خلـف أرصـفة التحريــر ،ومحـل الــذهب
الخاص بكريم عاطف إحدى شخصــيات الروايــة ،وهنــاك مبــنى اإلذاعــة الــذي تــرددت عليــه بعض
الشخصيات ،وكذا دار اإلصالح السياسي وقصــر دار البشـائر الـذي تحـول إلى سـجن يـؤوي خلـف
جدرانه المعارضين ،وأما عن مالمح المكان الذي يطل علينا من خالل هذه الرواية ،فهي كالتالي :
]1إنه مكان ترسخ فيه قواعد الشطرية بشكل غير مسبوقـ ،فلم يقتصر على مجرد الدعاية السياســية
لكل من النظامين المختلفين ،وإنما غدا هناك سعي حثيث إلى ترجمة ذلــك االختالف في التوجهــات
الفكرية والسياسية ترجمة فعلية ،عبر خلق واقع يحمل من مالمح االختالف والتباين أكثر مما يحمل
من مالمح االتفاق والتقارب ،فصنعاء يغلب عليها طابع التحول السريع والحركة المتواثبة التي تدفع
بها إلى حدود التبدل الكامل ،فعماراتـ تقوم فيها مــا بين غمضــة عين وانتباهتهـاـ ،وشــوارعـ تشــق ،
وأســواقـ تفتتح ومحالت تجاريــة بال حصــر أو عــد ،ومدينــة تنمــو كعمالق شــب من الفــراغ ،فأخــذ
يكتسح بخطواته العريضة مساحات األرض الزراعية ،ويدمر الخضرة والعشب ويحل محلها الحديد
واإلسمنت ،ف ( نور) الذي كان يمشي مع حورية بين األعشاب التي تفترش الساحة الشاسعة خلــف
المبنى العتيق لإلذاعة ،تستوقفه صفوف من العمارات الحديثة ،قد اكتسحت فجــأة مســاحات العشــب
148
األخضر ،كما تلفت انتباهه نتوءات الحفر التي تبرزـ في وقت الغروب كأفواه حيوانات خرافية ،فال
1
تفتأ تتسع لتلتهم ما تبقى من مساحات الخضرة والعشب "
كما تلحــظ على ســاحاتها وشــوارعها -الــتي تتســع كــل يــوم -حركــة العاصــمة الــتي تمــوج بالبشـرـ
المتزاحمين على طرقاتهاـ والقادمين من الريف في هجرات واسعة ،وأولئكـ الفارين من قسوة النظــام
الشمولي في الجنوب ،والقادمين من خارج الوطن من التجــار والمســتثمرين ،ممــا يــدفع إلى حركــة
ناشطة لتعمير المدينة بالمساكن والفنادقـ حتى " ال يمضي يوم واحد دون أن تكــون هنــاك عمــارة قــد
شطبت أو عمارة قيد الحفر والتأســيس ،ليواكبهــا فتح عــدد من الــدكاكين ،وانتصــابـ عــدد آخــر من
الفتات النيون المضيئة ..التي ستبدو معها بعد أشهر قهوة التيسيرـ ليست آخر حدودـ العاصمة ،وإنما
في قلبها ،وانسياقا ً مع ذلك ،فقد كانت حركة الوافدين والالجئين السياســيين والتجــارـ من الجنــوب
والقبائل الذين هجرواـ مزارعهم أو يهجرونها في ازدياد ...لتستقبل العاصمة مع إشــراقة كــل صــباح
فيها وفوداـ أخرى جديدة بعضهم لم يتسن له من زحف الوقت إزالة غبــار األرض من أقدامــه الحافيــة
2
"
كما ظهرت مسميات متعجلة للشوارعـ واألحياء ،ففي محاولة للحاق بحركة البناء والتوســع الســريع،
ذهبت بلدية العاصمة إلى إطالق األرقامـ كمسميات للشوارع واألحياء ،فهذا شارع ،21وذاك شارع
3
27وأخر 43و 45و 59وهكذا............
وفي المقابل عادت ( عدن ) تلك المدينة العصرية الحيـة الناشـطة بتجارتهــا وحركـة مينائهـا ،مدينـة
ترضخ -مابين جبالها الجرداء وبحرها الطافح عليها قيظا ً وملوحة -تحت حالة من الركودـ المميت ،
فالشوارعـ والمباني هي نفسها في أيام االستعمار لم يزد عليها شارع أو مبنى ،والنشاط التجاريـ شبه
متوقفـ بعد أن آل كل شيء ،من الممتلكات والمحالت والمساكن إلى ملكية الدولة بعد صدورـ قــانون
التأميم ،وتبعاًـ لذلك توقفـ البناء واإلعمار بعد أن نفر منهــا أبناؤهــا الــذين كــانت لهم أنشــطة تجاريــة
وأمالك واسعة فيها ،واستمرت تقتات على ما تم إنجازه في أيام االستعمارـ ،وهــذا مـا توقعــه الحـاج
المعسلي في حديثه إلى ولده ( نور ) حيث قال " :فلســت أنــا مــع اإلنجلــيز في كــل مــا يفعلــون ،وال
عندما يتدخلون في شؤون البلد ...فيما يعنيهم عمله ومــا يعــني األهــالي ...فهــذا التــدخل أنــا أكرهــه،
وأمقته من الرجل األجنبي ،ولكن يظل لهؤالء النــاس فضــيلة واحــدة ...إنهــا الحركــة ،العمــل اللــذين
أحيوا بهما هذه الجزيرة الهامدة ...أما ماعدا هذا ...فال ،ولكن لهــؤالء ولكن ...ولكن ...كــان يشــدد
على الكلمات ،ولكن بالثالث كأنها الطالق ،ولكن صدقنيـ ،ليصدقني كل هــؤالء ّ
الصـيع الــذين ال
يفرقون بين حالوة العلم وبركة الحركة ،وبين بطالة المصطلحات التي يلوكونها اآلن كاللبان ...بأن
هؤالء األجانب ،وليكونوا المستعمرينـ كما يحلوا لكم ...إن تركوا هذه الجزيــرة فإنهــا ستصــبح خــواء
وخرابا " ".......وتأمل شيئا ً ما بهـدوء كأنمـا يسـتقرئ نبـوءة أكيـدة في الغيب ..ثم نـزع نظراتـه من
الزجاج ضاحكاًـ " :طيب وربي أنا أقولها هكذا ،وربيـ ..إن رحل هؤالء اإلنجليز عن هــذه ( مدينــة
البراكين والصيدـ ) فلن يأكل الناس بعدها غير ..ظل يتخبـط بحثـا ً عن كلمـة مناسـبة بهـدوء "".......
4
فقال :نفايات المصافيـ "
]2إنه في الوقت الذي يتشكل مساحة خانقــة تحاصـرـ المناضـلين الحقيقين وترصــدهم وتتبــع خطـاهم
حتى تلقي بهم إلى الجنون أو الضياع في شوارعـ المــدن ،أو الغيــاب في دهــاليز الســجون وغيــاهيب
المعتقالت بما يجريـ فيهــا من عــذابات مرعبــة ،أو التخلص منهم بالتصــفيات الدمويــة الــتي تتم -في
1محمد مثنى ( وسام الشرف ) ،مرجع سابق ،ص5
2المرجع السابق ،ص127
3المرجع نفسه ،ص128
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ،ص41،40
149
األغلب -بطرق سرية وغامضة ،ينجلي ملعبا ً يرتع فيه المتمصلحونـ ويمرح على سـاحاته المـدعون
الزائفون من مجيدي اقتناص الفرص من رجال السياسة وأصحاب الوجاهات والمناصب الرفيعة في
الدولة ،ومراكز القوى القبلية والمشيخية والعســكرية ،فقصـرـ البشــائر الــذي قــامت الثــورة على من
كانوا فيه ،قد أصبح سجنا ً يــترددـ على زنزاناتــه الضــيقة المناضــلون الثوريــون بين الحين واآلخــر ،
وهذا ( نور ) يثير اقتياده إلى هذا القصر بتهمة االشتباه غير المبرر جدل المقارنــة الــذي يــذكي روح
المفارقة ،عند المقابلة بين بركته بمحيطها الدائريـ ومائها اآلسن اليوم وما كانت عليه في عهــد آخــر
األئمة الطغاة فقد تصور " بأن ماءهــا كــان صــافياًـ وعــذبا ً ،وعلى حوافهــا رتــل من أطفــال الطاغيــة
وفوقـ نوافيرهاـ أسراب من الطيور والحمامـ ..وربما أحاطت بالحواف شتالت من الزهورـ واألشجار
والخضرة ...ظل األطفال يلعبون ويصهبون بشقاوة بينها لتسخين أجســادهمـ ...ثم يغطســون في قلب
مياهها الصافية بمرح ...أليس ذلك جــزءا من فــردوس هللا المصــغرـ على األرض ! فتــأتيـ الثــورة ..
الثورة نفسها التي دافع عنها هو وسقط من أجلها البصير وحــزامـ اليعــربي وأطفــال وصــبية من البلــد
1
كثر لتلغي هذا الفردوس األمامي !؟ وتستبدله بفردوس استبداد أشد ! "
وهذا أحد اللصوص الذين ينظرون إلى الوطن من زاوية كونه مجموعة من اإلقطاعيات يســتثمرونها
ليحققوا بها مصالحهم األنانيــة الضــيقة ،لكنهم يتشــدقون بالوطنيــة كي يمــررواـ أطمــاعهم عــبر ســبل
يدعون فيها خدمة الوطن وحمايته يقول في تحذلق ألحد المناضلين الوطــنين ويــدعى رفيــق " :نحن
في الحقيقة وطنيين منذ نعومة أظفارنا ،ألننا قد تربينا في وحدة الكفاح ضــد اإلنجلــيز ،ونحن اليــوم
بعد أن شاءت أقدارناـ أن نكــون هنــا ،ولكننــا في الحقيقــة لســنا مــع " س" من النــاس وال مــع " ص"
وإنما هذا الوطن في الشمال والجنوب ...جنود ....جنود يا رفيق ...لذلك فإنا سنتوجه أينمــا يــدعونا
لحمايــة ســيادته ومجــده وليس من شــيء غــير ذلــك " ، 2ويســتمر في التــذمر من أوضــاع الفســاد
والمفسدين حتى علق رفيقـ بقولة " :يا نور هذا بهيج ....بهيج حقيقي .....وليس باالسمـ فقط ،تــرى
3
هو يتحدث بكل هذا وهو أكبر -طبعا ً ما دون الكبار -لص في البلد "
]3إن المكــان الــذي يكشــف عن حــال من تنــاقض المســار بين سياســة تقــود إلى الجمــود والركــود
االقتصاديـ ،يكشف -أيضا -عن مستوى آخـر من حـال التبـدل الـداخلي الـذي تشـهده مـدن الشـمال
ومدن الجنوب كل على حده .
ففي الوقت الذي كانت صنعاء تسلخ جلدها وتبدل مالمحها متأهبة في اتجــاه طريـقـ الــثروة والمــال ،
فتظهر مدينة مجللة باألضواء والبهرجة والصخب ،وهذا ( نور ) يسير في شارع القيــادة فترشــق "
عيونه األضواء الملونة والثريات المضيئة ...لقد كان الشارع كأنه الظهر بأضوائه رغم إن الــوقت
ليالً ،لم يفطن بأن تلك األضواء والحركة الكثيفة ،كأنما عرس في الشارع بأنه سبتمبر ...إال عندما
رأى طوابير السيارات لنقل النســاء واألطفــال المــرحين وســطها ..إذ اعتــادوا على ذلــك كــل عــام .
وحين اقترب من التحريرـ في طريقه إلى مطعم السعادة ،لم يستطع أن يشق طريقه ما بين الزحام إال
بصعوبة ،لقد كان الناس والسيارات ..الطبول وحلقات الرقص وحديدـ وأخشاب المنصة المتنــاثرة ،
وشموع الذكرىـ المعدة مسبقا ً 4"...وهو يصف لنا نشاط الحركة التجاريــة في مدينــة صــنعاء فيوقفنـاـ
على محالت جديدة تفتح ،ومســتويات لألجهــزة المنزليــة من أحــدث مــوديالت المصــانع العالميــة ،
وأسواقـ جديدة ،لبيع الفواكه والخضارـ ومدارس تبنى ومستوصفاتـ ،وحافالتـ ووسائل مواصــالت
جديدة ،ومرافقـ للخدمات العامة كالكهرباءـ والجمارك والضرائبـ و " فاتريناتـ الدعاية واإلعالنــات
1المرجع السابق ،ص229
2المرجع نفسه ،ص217
3نفسه ص217
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ،ص137
150
،منها ماهو على نسيج الفاترينات القديمة ،ومنهاـ ما هو جديد باألضــواءـ والبلونــات الملونــة الــتي لم
يرهــا ســكان المدينــة من قبــل ..فاترينــات قديمــة تعلن عن مــواد المعيشــة والبقــاالت والمســتودعات
والغذاء ،وأخرىـ نيون ملون لأليسكريمـ وماء الصحة والبســكويت والمليم والزبــادي اللبن واألكيــاس
1
التي تطيرهاـ غضبات الرياح المتناوبة على العاصمة "
كانت عدن تبدل مالمحها في اتجاه آخر ،تظهر خالله مدينــة مســكونة بيوتهــا وشــوارعها بالصــبر ،
تنظر وقد أخرسها القمع إلى مسار حياتها الذي تسيره سياسة حزب يتفرد ويســتحكمـ ،وتتجــه بــه في
طريق مرسومـ نحو التراجع إلى مصير الفقر والكفاف .
وهذا محبوب المعسلي ملك البن واللبان والعسل الذي تبدل كـل شــيء فيــه " لقـد كـان كــل عضـو في
جسده مذل وممتهن ،وبائس أشد ما يكون البؤس ،وحتىـ صــوته الــذي كــان آمــراً على الــدوام وفتيـآـ
بهت هو اآلخر " 2يضطره الوضــع الجديــد الــذي أدى إلى فقــره بعــد كســاد تجارتــه وتــأميمـ عماراتــه
الثالث في حي المعلى -إلى نقل مكان إقامته من ( خور مكسر ) ذلك الحي الراقي بمساكنه الفســيحة
ومتنفساته وحدائقه إلى حي القلوعة البائس الفقــير ،المعــروف بمســاكنه الشــعبية الضــيقة ،والــتي لم
يكن يدور بخلده أو بخلد ابنه نور -الذي كان يمــر على هــذا الحي عنــدما كــان طفالً " مــروراً عــابراً
دون أن يعمد ولو للحظة واحدة إلى المقارنة العابثة بين ما كان ومــا هــو كــائن اآلن ،ومــا ال يعــرف
على وجه التحديد ما سيكون " -3أنه سيضطرـ إلى االنتقال إلى السكن فيه .
وال تختلف صورة المكان في القصـة القصـيرة المنتميـة إلى هـذا المبحث عن صـورته في الروايـة ،
لوال أنه أشد تركيزاً وأكثر تنويعاًـ ،فيظهرـ المكان -الذي تختفي منه صورة القرية وتســتأثر المدينــة
التي ازدادت أهميتها كمكان للقــرار السياســي يحتضــن أهم األحــداث والوقــائعـ المــؤثرة على حركــة
الحياة في المجتمع الجديد بعد الثورة -بكامل المســاحة تقريبـا ً -رغم ترســيخ شــطريته مكانـا ً مختنقـا ً
موحداً لهم العذاب ،مفتوحة بوابته على كوابيس الرعب والقمع واالمتهان ،فمع تزايد ســلطة الدولــة
واشتداد قبضتهاـ االمنية وآلتها العسكرية التي سخرت لحمايتها ومع المواطـنين ،لم يعــد هنـاك جـدار
أو بيت أو حتى ليل يحمي ،فالحاكمـ قادر الن يمد أذرعه ويحكم قبضــته مهمــا ابتعــد المكــان وفي أي
وقت أراد .
ففي قصة ( خطوات في الليل ) تظهر مدينة تعز ،وقد اكتنفهــا الــرعب وأحــاطت الوحشــة بمســاءتها
الحزينة التي عـادة مــا تــأتي مبكــرة كهمومهــا الكتيمــة ،وأمــا لياليهــا المرتعشــة البــاردة ،فتجثم على
صدرها ثقيلة وطويلة ،وعلى زوايـا شـوارعها المظلمـة الممتلئـة بـالحفر الـتي يضـيف إليهـا المطـر
خطــراً آخــر يكمن المخــبرون الــذين ال يجيــدون القــراءة ،يســتوقفون أناســها ويفتشــون في هويــاتهم
ويتعقبــون خطــواتهمـ ":كنت أعــرف ...بــأن المســاء يــأتي بــاكراً ،وكنت أعــرف بــأن الحــزن يــأتي
باكراً ...وحــدها فقــط ال تــأتي بــاكراً ...؟! تتبعــثرـ خطــاي ،الليــل القــادم من عمــق المدينــة يشــعرنيـ
بالوحشة ،تتوغل ساعاته مع خطواتي المبعثرة تجاه وجه المدينة النائمة .
-شارع ،وآخر وأصل إلى البوابة "
-انت !
الصــوت النــاخر في العظم المتســوس يخــترقـ الليــل وصــمت المدينــة ،أتســمر في مكــاني ،للخــوف
وجهان ..وجه يجعلك تتصلب " كما أنا عليه اآلن" ،وآخر يجعلك تبــل الــثرى ...وفي كال األمــرين
أنت مقهور حتى العظم المتسوسـ !
151
-أنت ...إلى أين ؟!
سؤال يبـدو سـاذجا ً ...التفت أنـا المتعب بترحـاليـ نحـو الصـوت ...كـان يقـف بجـانب الشـجرة على
الرصيف المظلم ..أخفت الظلمة تقاسيم الوجه ...عندما تقــدم انقشــت الظلمــة ليظهــر وجهـا ً معروفـا ً
وفكا ً متسوساًـ ...أغرت وقفتي تلك شهيته فزاد بالسؤال .
-البطاقة ...؟
كان المعطف الكاكي ،والمقبض الخارج من خاصــرته دليالً ،إن لم أصــدق هــذا الوجــه المعــروقـ ،
1
والفك المتسوس ..قلب البطاقة ،وأعادها ،أدركت تماما ً أنه ال يقرأ !"
وأما أهلها المسكونون بالخوف والقهر ،فهم مترددون باستمرار بين غرف التحقيق وغرف االنتظار
" :حالة أخرى مشابهة ..كانت غرفة االنتظارـ ملحقة بغرفة التحقيق ،وكانت الوجــوه يومهــا بــاردة
ومعروقة ،وضحكة الفك المتسوس تبث الرعب ..وكانت ساعات االنتظارـ قاسية ،نرقب القــادم من
خلـف البـاب المغلـق ونسـمع آهــات قادمـة من عمـق الظلمــة والخــوف وتبــدد إيقـاع ملـل الخــوف
والترقب صرخة قوية معلنة رحيل آخر ،ليحل محلة جديد منا "، 2
وفي مكان كهذا تطل السجون والمعتقالت ومصحات األمراض العقلية
ففي قصة ( أول المنتحرين ) نلتقي مكانا ً قلقا ً مضطرباًـ قد سيطرت عليه حالة الطــوارئـ المســتديمة ،
وعلى إثر ذلك تطل السجون المزدحمة بالمأخوذين بتهم ال يعلمون عنها شيئا ً ،حتى ال يجد الســجين
الجديد ( شخصية العمل ) مكانا ً خاليا ً ليلقي بنفسه فيه سوى الحيز الذي يشغله باب الغرفة أثناء فتحــه
وفيها نقرأ ":تم اعتقالي بطريقة عشوائية قبل ظهر ذلك اليــوم ،حيث اقتــادونيـ إلى الســجن ،من
مقر عملي بدون سبب سوى إن اسمي كان ما يــزال ضــمن القائمــة القديمــة الــتي تظهــر كلمــا دعت
الحاجــة إلى ذلــك ،وفق ـا ً لظــرف طــارئ أو حــادث يجتــاح البالد ،كمحاولــة انقالب مثالً أو اغتيــال
شخصية مهمة في الدولة أو لظهورـ منشورات ثورية في الشوارع أو أي شــيء آخــر كاختطــافـ ،أو
إعدام أو اغتيال شيخ كبير ظالم .
وفي قصة ( القادم من خلف الغيوم ) يتحول المكان -الذي غدت فيــه المعتقالت والتصــفيات الدمويــة
حالً لكل من ال يرغب في وجوده – إلى مكان مظلم ملبد بالغيوم ،ويصبح السير فيــه مخــاطرة تنــذر
باحتماالت الموت الغامض ،وفيهاـ نقف على هذا المشهد ":السماء ملبدة بالغيوم ..يتحدثون بصــمت
وهم قابعون خلف الصخرة الواقعة في مدخل القرية ،كانت كلمات اآلمر تــرن في آذانهم ،تصــاحب
صوت الرعد الساكن فوقهم ":يجب أن ال تطأ قدماه أرض القريــة ،حــاولوا قتلــه وإخفــاء جثثــه لكن
بصــمت دون أن تشــعر القريــة بمــا حــدث ،الســماء ملبــدة بــالغيومـ ،وصــوتـ الرعــد ،يشــق ســكون
القرية ،والليل في أوج حلكته وهم يتهامسون في انتظار القادم ..كـان يسـير بهـدوء متجهـا ً صـوب
القريــة ..عشــر ســنوات وهــو يحلم وهــو مكبــل بــالقيود ،بتهمــة كاذبــة لفقت ألمرمــا ،يســير بهــدوء
وصوت الرعد يشق سكون الطريق ،أضاء الــبرق الطريـقـ ،فالحت الصــخرة لناظريــه من بعيــد ،
وغمرت الفرحة قلبه ..أسرع في خطواته يحاول الوصول إليهــا ليقبلهــا قبــل دخولــه القريــة ،يتــذكر
عندها أيام الطفولة وسنوات الصبا .
توقف عن السير ،خيل إليه بأن هناك عيونا ً ترقبه ،سرت الرعدة في أوصاله ..تجمدت خطواتــه ،
وظل يرهف السمع ،ضاقت عينــاه وهــو يحــاول اخــتراق الظالم ،كــانت على بعــد عشــرة أقــدام من
? 1عزالدين سعيد أحمد ( خطوات في الليل دار الحادي للطباعة والنشر /تعز 1993م ،ط )2ص5،4،3
2المرجع السابق ،ص10
152
الصخرة ،ظل يصيخ السمع ،وأضاء البرق بقــوة ،وانكشــفت الصــخرة ولمح أشــباحا ً ســوداء قابعــة
1
قربها ،بدأ الموقفـ الغامض ينجلي "
وفي قصة( الحوش رقم )7تظهر مصحة األمــراض العقليــة ســجنا ً مثاليـا ً لكــل من يحــاول أن يتنفس
حريته أو ينشــد التغيــير والحيــاة في مكــان مكتســح بــالقمع واالضــطهاد ،فبســهولة تصــمه الســلطات
بالجنون وبسهولة يتم تكبيلــه واقتيــاده ،وتحت تهديــدات القمــع والتنكيــل تتخلى عنــه أســرته ( فعنــبر)
الذي قررـ أال يستمر في الغناء بنــا َء على رغبـة غـيره وتتخلىـ عنـه أســرته خوفـا ً من أن تطــال بقيــة
أفرادها يد السلطة المستبدة ،فيقول له والده " :ما دمت تغني وتسهرـ فلن يتسع لك مــنزلي ،اتركــنيـ
أعتني بإخوتك قبل أن تنتقل العدوى إليهم "يختار لنفسه طريقا مختلفا عن ذلك الطريـق الــذي اختـاره
زمالؤه ،فنراه في حوش العنبر حيث " الجميع يغط في نوم عميق ،البعض افترش ،أرض الحوش
الذي ينضح بالنتانة ،والبعض اآلخر فضل النـوم داخـل الغـرف رغم حـرارة يونيـوـ ( ،عنـبر) هـو
الوحيد الذي لم ينم ،فقد قرر أن يغني إرضا ًء لرغبته هــذه المــرة ،وليس لرغبــة أحــدا آخــر ،لمــا لم
يجد من يسمع غناءه أخذ يذرع الحوش جيئة وذهابا ً بطريقة يحاكي فيها زمالءه الذين اعتــادوا الســير
2
لتبديد الهم المتراكمـ في النفوس "
وتخــتزلـ قصــة ( المومســات والمنظــرون ) صــورة المكــان الــذي يضــيقـ ليتحــدد في حي من أحيــاء
الدعارة ،فحينماـ تنصب التبدالت الالمعقولــة المجــانين عقالء يقــودون البالد ،ويصــبح المهووســون
منظرين وأصحاب فلسفة ورؤيــة يســيرون بتأييــد مزيــف شــؤون اإلدارة والسياســة يختــل كــل شــيء
فيهــا ،وينتهي المكــان في كليتــه إلى حي صــغير يعج بالســقوطـ ويطفح بالقــذارة ،إليــه يقــذف كــل
المهمشين والمقموعين ومسلوبيـ الحقوق واإلرادة ،لينهزمواـ في أكواخ تواري ســوأتها خلــف أســتار
الظالم ،يؤدون أدوار مفروضة عليهم ،تسلب خاللها عفتهم ،وتبعثر كرامة اإلنســان فيهم ،يصــف
لنا الكاتب هذا المكان الذي آلت إليه شخصيات عمله بعد أن تحولت إلى ضحاياـ الهجمة الشرسة الــتي
يمارسها زبانية البطش المستغلين نفوذهم ومراكزهم للوصولـ إلى مآربهم الدنيئة ،ومتنفــذوـ الســلطة
من أصحاب العقد والنفوس المريضة والمتشربة بأفكارـ شاذة وغريبة ،فيقول ":األكــواخ المهزومــة
في جوف الظلمة العتيقة ،وقناديلـ معلقة في متن الليل الدامس تحملــك في أبعادهــا الشــاحبة لتتكــاثفـ
الظلمات والشحوبـ المرسوم ..وترسم صورة لشظف العيش وبدائية النفس المتعايشــة مــع مرضــهاـ
المتجمع فوقـ تلك األرض الصغيرة والمستحلة منها بقعة متعارفـ عليها بين الناس بحي المومسات .
المومسات يتلقفن الزبائن في بهمة الليل على اختالف ألــوانهم ...وهن أيضــا مجموعــة متناقضــة من
األعمار ،وجوهن مليئة باإلحباط والبؤس والشقاء ومفرزة لمشاكل عديدة حملتهن وساقتهن إلى تلــك
البقعة المنعزلة عن البلد .
وهنــاك في كــوخ مدســوس بين األكــواخ العديــدة ...ارتخت على ســريرها الخشــبي الفتــاة الجميلــة ،
والجديدة على مهنة الدعارة ،والقادمة غريبة إليها ،تعربدـ في ذهنها شتى األفكار المتأزمــة والقاتمــة
3
يظلها في أول أسبوع لها في حي المومسات "
وفي قصة ( الصبر في مدينة جميلة ) تطل مدينة إب مكانا َ مجهوالًـ ،اســمه لغــز غــامض ،وتاريخــه
غير مدون وال يعرف اسم بانيه ،إال أن جمال طبيعته ال يخفى على نــاظر ،فاألمطــارـ تهطــل عليــه
بغزارة ،وعلى مدرجات جباله ترقص الخضرة وســنابلـ الموسـمـ الشــاب متعانقــة كحوريــات ،وأمــا
كالبه الجرباء ،فتهرب إلى األزقة ،تاركة للمطر فرصة غسل وجه المدينة بهدوء .،
153
لكن إنسان هذا المكان يعيش كالفأر في أبنية قد ألغت من خريطتها النوافذـ ،منفصال عن ذلك الجمــال
الذي تحفل به مدينته ،تشبه حياته حياة إنسان الكهف ،ينام هاربـا ً من البــق والقمــل والبعــوض في
أكياس تغلق عليه من الداخل ،ويصحوـ على مشارعات مســتطيلة يــذهب عمــره هبــاء وال يبت فيهــا
أبدا ،نسمع شخصية العمل تصفـ مكان إقامتها فيه ،فتقوول ":الباب ال يتسـع لـدخول ابن آدم بحجم
إنسان مدينتنا طبعا ً !! ذكرنيـ ذلك بالعداء القائم بين عين اإلبرة والخيط الرفيع .
من سعف النخيل وخشب السدر صنعت األسرة التي وضعت في طارودـ طويــل ،وعليهــا نــام زبــائن
الفندق .
-الصبر مفتاح الفرج !
النوافــذ ال وجــودـ لهــا ،ســبق وأن ألغيت من خارطــة المبــنى ،ألن الطقس هنــا بــارد أحيانــا ،وألن
الرواد ألفوا النوم في أكياس من القماش المتين تغلق من الــداخل خوفـاًـ من البــق والقمــل والبعــوض ،
كما أكد ذلك الحاج صابرـ الذي ال يفــارق مقعــده الواقــع جــوار البــاب إال ألداء الصــالة الــتي دومـا ً ال
تــؤدى في أوقاتهـاـ أو قضــاء الحاجــة ،المداعــة جــزء من شــفتيه الجــافتين ،يمضــغ القــات ويحكي
الحكايات الطريفة والحزينة ،عن الناس والمدينة وقضايا العدل التي يسمعهاـ من رواد فندقه العديدين
""......
سعال ...سعال ...صدر جاري يكاد ينفجر ......
-ماء ....ماء يا جماعة ....يا حاج صابر أين الماء ؟
جدران الفندق تردد شخير النيام الصاخب ،إنه عزف على آالت لم يكتشفها علماء األصوات بعد .
أمسكت بخيط الظالم ومشيت متروبصا ً عبر الطارود الطويل ،وفي زاوية مجهولة قضيت حــاجتي
وعدت للنوم تاركا ً رائحة من روائح الناس خلفي .
أسمع جاري الذي كان يسعل بشده قبل قليل ،يمارس الحب مع الوسادة ،وهناك آخر يحلم ..يصرخ
شاتما ً القاضي ووكيل الشريعة .
-أســبوعـ يــا جماعــة ،مضــى أســبوعأ أنفقت خاللــه كــل مــا أملــك ،لقــد بعت أرضــي وذهبت قيمتهــا
رشوات ،سجنت خمس سنوات من أجل هذه القضية ،إن غريمي ذو جاه ومال ،وأنا ...
أسمعه يبكي .
أشعر بجسم بارد يتحرك عند قدمي ،مددت يدي بخفة وأمســكت بــه ،حــاول المقاومــة ،ولكن بــدون
جدوي ...
1
– نم يا فأري العزيز في حضني ،هنا حيث الدفء ،حتى يأتي الصباح "
وفي قصة ( الجبل يبتسمـ أيضا ) يظهر المكان مدينة تعربد فيهــا األعاصــيرـ والزوابــع قاســية ســاحقة
للبسطاء محطمة ألحالمهم باالســتقرار ":الشــارع طويــل ،والرحلــة -بال محطــة عــبر امتداداتــه -
أطول ،ثمة أكوام من الحجارة ،والعراقيلـ تسد منافذـ الشارع ..يتسلقها ،وعمــارات تخطــف العين ،
2
لم تكتمل بعد ،وحريقـ الظهيرة المتحذلق بجلد األقدام العارية "
وهي تؤوي تفاوتا ً طبقيا ً مؤلما ً بين فقراء ،إذا ما استمر العيش بهم ،عاشوا مهــددين بعــدم االســتقرار
والمبيت في الشارعـ في أية لحظة قرر مالك العقار إخالءه ":كان أبوه مبروكـ قبل موته ..منــذ زمن
بعيد ..قال له :الدينا لخالقهــا واألرض والبشــر مــيراث هللا فلمــاذا العبث ...؟ وقــال ":أي عبث أن
يشتري المرء بيتا ً يــا أبي ...؟ وقــال هــو ":عين العبث ومعصــية المشــيئة ..حين تنــثر نقــود هللا في
بيوت هي مسخرة بالمجان ،كانت األيام متواضعة ،واللقمة بسيطة ،والتفكيرـ معصية يــا مصــلح ،
1منير حسن مسيبللي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق ،ص51
2عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق ،ص28،27
154
وحين ناءت أنفاسه بالبقاء ،تركها مبتسما ً ،وخرج منهـا بثالثـة لاير ..نثرتهـاـ المرحومـة على قـبره
بخوراً وثمراً " ، 1وإذا ماتوا فهم ميتون باألمراض وسوء التغذية ،يلفظون أنفاســهم وهم يحلمــون
بقطرات الحليب تبلل شفاههم الجافة ،كما كان حلم ( حسن) قبل موته ،فقد " نازع قبل موته خمســة
أيام ،وقبل أن ينازع اشتهى لبن البقر وسألهم أثناء النزاع أن يبللوا شفتيه بقطرات منــه ،لكن الــزمن
زمن الجفاف وموت البركات ،وفقــر الغيث ،لفــظ أنفاســه ،وظلت عينــاه مفتوحــة ربمــا في انتظــار
قطرات اللبن "،2
وأغنياء يقيمون القصورـ والعمارات الشاهقة والفلل الــتي تشــمخ بأحجارهــا الجبليــة الملونــة في وجــه
الشمس ":مرة أخرى ترامى تحت رؤوس الشجر من لهيب الشمس وحماقة الزوابــع محتميـا ً وســار
متخفيا ً برأسه الذي تثقله اإلخفاقات ومئات األسئلة ...آالفها بال إجابــة ،إلى يمينــة ( فلــة ) المــدير ،
شمخت على أشعة الشمس بأصلب األحجار الجبلية الملونة ،بيضاء متوهجة كصفحة النهر الهاجعة
3
"
وفي قصة ( الموت قبل الوجودـ ) تتكشفـ الصورة عن مكان قد تبدلت مالمحه ضمن تحــول مجنــون
يحرق في طريقه األخضر واليابس ن حتى استحال إلى شرك للهالك ومعتقل كبير يفقد فيــه اإلنســان
مالمحــه ،وتشــنق على ســاحاته حريتــه ،فتغيم الرؤيــة ،وتغيب الثــوابت وتتمــاهيـ المحــددات " :
الروائح الكريهة تحيط بالمدينة وأزقتها ،ووجدان البشر ولدم تغرق فيه مدينة الجمــال ليحلب الحــاكم
وجوده وأمره واستقالله وبقاءه ...واآلهة تحملها العقائر لتموت مع النكــران للحيــاة الحاليــة والطمث
الــذي يولــد مــع شــعلة كــانت الحلم لهم لتمــوت مــع النكــران للحيــاة الحاليــة ،والحب األخضــر
ألطفالهم ...األسماء تقذف بعيداً ،ويؤتي بأسماء جديــدة للشــوارعـ ،لألزقــة ،للمعاهــد ،ولإلنســان ،
والبلد تحمل أفواجا ً أخرى ال يعرفون من أين قدمواـ ،أو أي أرض بــرقت بهم ... ،التعبــير يتغــير
" "......ماذا وجدت البارحة في أعشــاب القمح ...شــخص مقتــول مــنزوع الــرأس ..حادثــة الســيارة
الممتلئة باألطفال ...هــل حقـا ً حــادث !....؟ مــاذا عن أخبــار الطــائرة ...؟ هــل انفجــرت ..أم تــوقيت
زمــني لمتفجــرات وضــعت فيهــا ...؟ مالمح وجزئيــاتـ جســمك هــل وجــدتهاـ بعــد خروجــكـ من
المعتقل ...؟ العيون تتفجر فيها ألف حكاية وحادثة ،تستشف منهــا دمعــة ألم وحــزن مكتــوم ...وحب
4
مذبوح وحياة مشنوقة "
وفي قصة ( السفر عبر الحلم واليقظة ) تبرز المدينة -التي تبدو من معالمها أنها مدينة تعــز -لعيــون
أولئــك الــذين اســتدرجتهمـ بإغرائهــا فــالتحقواـ بهــا مخلفين وراءهم ريفهم بكــل مــا لحيــاة الريــف من
عالقات حميمة -مكانا يؤوي غرباء ،بارداً خاليا ً من اإلحساس ،في داخله يفقــد المــرء لــذة الشــعورـ
باالنتماء ،ويصبح مجرد فرد غريب فاقدـ ارتباطاته ،منسحقا كحشرة ،ضائعا كنفايــة تافهــة ،وهــذا
أحــدهم ال يعــرف عن نفســه إال أنــه " جســد في حاض ـرـ المدينــة يتــأزر ثوب ـا ً مهلهالً وبقايــا فــانالت
صــوفية ،ويتمعطــفـ لفــة قديمــة ،وروح في ماضــي القريــة ،وملكــة المــدرجات ،حمــل الفــأس
والمنجل ..حفر الشقوق الصــغيرة في بــاطن األرض ،وشــق الجــداول لعيــون الميــاه ،وقــديماًـ غــنى
لألرض والصخور والبيوت أسرار العشب والمطر ". "....
في زاوية الباب الكبير كان ضائعا ً كالنفاية ...قطعــة متحركــة قــدت من جبــل في شــكل آدمي ..أهــل
الحــارة ال يعلمــون من أي جبــل انحــدر ،وال زمن العاصــفة الــتي دحرجتــه إليهم ،وال أي واد قذفــه
كالرواسب العائمة ..كل ما يعرفونه عنه أنه رجل طيب ووادع يجيد الحراسة كالكالب األليفة .
1محمد مثنى ( والحبل يبتسمـ ايضاً) مرجع سابق ،ص56
2المرجع السابق ،ص57
3المرجع نفسه ،ص56
4نفسه 75 ،
155
5
وهو يعرف أيضا أنهم أناس طيبون يقدمون له اللقمة والقهوة "
وللشخصيات تحت هذا المبحث طرقهاـ في بناء عالقاتها مــع أماكنهــا ،وفي تفاعلهــا مــع مــا تتضــمنه
هذه األماكن من معطيات ،وهو تفاعل ال يمثلها وحــدها كحــاالت فرديــة وحســب ،إانمــا يعكس حالــة
عامة لإلنسان بنماذجه المختلفة في تفاعله مع مكانه ومقدار ما يشهده هذا التفاعل من أنواء تؤثر فيــه
سلبا ً أو إيجابا.
ففي رواية ( وسام الشرف ) نلتقي عدداً كبيراَ من الشخصيات ،كــان لكــل منهــا طريقتــه الخاصــة في
التفاعل مع مكانه الذي يتحرك فيه ( ،فنور ) بطل الرواية ،يستمر في تفاعله مع مكانــه الــذي ينتمي
إليه ،مشاركاـ في أحداثه مخلداَ هذه األحــداث في لوحــات فنيــة تســتخدم التقطيــع والرمــز واإليحــاء ،
وهي لوحـات تسـتلهم موضــوعاتها ممـا يحـدث على أرض الواقـع لكنهـا تتشـكل عـبر رؤيتـه الـتي
صقلتها مشاركاته الكثيرة حيث أدى دورة في الثورة األم ،وكان في طالئع الفدائيين ضد اإلنجليز ،
ثم التحق بجبهة الدفاع عن الثورة والجمهورية
وعند عودته من جبل األسودـ وحزيز بعد هزيمة الملكيين ،شرع ينظر في لوحاته ويتفقــد منهــا تلــك
التي أنجزها قبل قدومه من عدن وتلك التي رسمها عند قدومه إلى صنعاء قبــل التحاقــه كمتطــوعـ في
الدفاع عن الثورة ،ثم أخذ يكمل لوحته التي كان قـد بـدأها قبالً ،لحي المعلى في عـدن ،حيث بـدت
العمارات المتناسقة العالية مقلوبة أسـطحهاـ متجهـه نحــو األسـفل ،وقـدـ وقـفـ منهـا ضـابطـ إنجلـيزي
مهــزوزاً على جبــل هيــل الــذي يطــل على حي التــواهي ،ومن خلــف الضــباب الرمــاديـ المشــوب
باألزرقـ والبني يتوارى قرص الشمس كسيفا ً وغائما ً "**
وهو يجد نفسه ممتلئا ً باألمل ،وبطاقة تدفعه إلى إبداع مالم يبدعه قبالً ،فيشــرع في وضــع الخطــوطـ
األولى للوحته الجديدة ،حورية ( فتاة المطر ) اسم جميل ،وعنوان موسيقيـ ألجمل لوحة تكــافح من
أجل الخروج من قمقم الجدران ،والرنوـ إلى عالم الضوء والحب "
ويستشعرـ حالة من التواؤمـ واالنسجامـ مع طبيعة المكان حــتى أخــذ يــرقب بحب سالســل المطــر الــتي
أخذت تنقر زجاج النافذة بإيقاع موسيقىـ أخاذ منجذبا ً بشكل فطري إلى صوت تلك النقرات ":همس
لنفسه وهو يقترب من النافذة الجنوبية المطلة على السـاحة الشاسـعة الـتي وضـع جبهتـه في زجاجهـا
البارد ،وراح يتطلع إلى رؤوسـ األشجار الندية المهتزة في امتنان لألمطار التي غسلتها قبل لحظات
،وكذلكـ أعمل نظراته في فسحات العشب الالمع بالقطرات العالقــة ببعض كأنمــا يضــحك ممتنـا ً هــو
اآلخر من خالل رؤوسه المستقيمة ..لقد كان يابسا ً عندما رآه قبل أيام ومستسلما ً لضياعه وظمئــه في
قلب الساحات ،وفجأة يهطل المطر وبال مقدمات فينهضه مرتوياًـ وحيويا ً وأخضراـ "***
وهذه صنعاء تتجلى لناظرية " صنعاء الثورة وصنعاء المطــر والخضــرة والنــاس والمــدارس والحلم
والتطلع ،وصنعاء الحركة والفعل واألمل ،إنها لتعد بالشيء الكثير "***
وبعد عودته من جبهة الدفاع عن الثورة ،وقبل ذهابــه إلى المعســكر لتســليم المهمــات وإخالء طرفــه
كمجنــد " انتظــر بقيــة الــوقت يتملى بمنظــر الصــباح وحركــة المــارة واســتيقاظ األعشــاب وأغصــان
الخضــرة في الســاحات الخضــراء القريبــة ،وبعــد المقارنــة بين مــا رآه من قبــل التحاقــه بــالحرس
الوطني والمستجداتـ التي طرأت على المدينة من بعد ،كأنما يرى كل شيء اآلن ألول مــرة ""......
لقد كان كل شيء يتبدل ويتغير ويزحف على ما قبله في قلب المدينة ،ولكن أكثر ما استأثر باهتمامــه
من كل ما رأى هو لون الصباح الفضي ،وأشعة الشــمس الصــافية الــتي تتكــاثف في سالســل مشــعة
156
على أسطح البيوت والنوافذـ و ( التحرير) ورؤوسـ الناس المتوافــدين للعمــل بجالء وحيويــة ال كتلــك
األشعة المحروقة باالنفجارات "×××
لكن نور – الذي يظهر في بداية الرواية محبا ً لمكانه ،مفتونا ً بما فيه ،متحمسا ً لمالمحه التي وجــدت
عليه ،والتي كانت توحي له بأن حركة التغيير تشق طريقها نحو األفضل – يشهد شعوره بمكانــه
انحداراً في اتجاه السلب ،مما يوجـه تفاعلـه في هـذا االتجـاه التنـازلي الـذي يسـتمر مـع تقـدم حركـة
الحدث الروائي حتى يبلغ نقطة الصفر عند نهايته التي جاءت محصلة لهذه الحركة .
حيث بدأ يداخل نفسه الشك مما تعكسه حركة التغيير من مظاهر مريبة على المكــان ،فالمكــان يشــهد
تبــدالً فوضــوياًـ وغــير مفهــوم ،وتظه ـرـ عليــه بــوادر تنــذر بخطــورة تهــدد مســار التغيــيرـ الثــوري
باالنحراف ،فصنعاء تتبدل مالمحها في اتجاه مــريب ،كأنمــا مــرده من جن عبقــر تحــل فيهــا ، 1
وجدرانهاـ قد اختلطت على مساحاتها األلوان األزرق واألحمر واألخضر و ،........بما يشــي بخالف
فكري ينذر بصراع سياسيـ يطبخ سراً ،فذاك لون االشتراكية ،وذاك لــون الرأســمالية ،وذلــك لــون
القومية ،وكل يدعي لفريقه الحق الكامل ،وأسواقهاـ تتسع بسرعة الحرائق ،مما يشــي بنشــوء طبقــة
جديدة من المستغلين الذين أخذوا يمدون سيطرتهم على مساحات األرض والســماء فيهــا ،ومــع هــذا
االتساع ،فإن جيوش العاطلين -الذين ال يجــدون ألنفســهم من عمــل ســوى التســلي بــالنظر إلى مــا
يبدعه المجانين على أرصفة التحرير -في تزايد مستمر .
ومجانين صــنعاء يتكــاثرون بشــكل الفت ،ترصــدهم يــذرعون أرصــفتها وطرقاتهــا وميادينهــا جيئــة
وذهابا ً ،وهم أنواع مختلفة ،منهم من يمارس على هذه الطرقات هذيانه السياسي على إثر تعرضــه
لعذابات االعتقال فيظل يعلن على المسامع شعارات مبهمـة ،ومنــه من تبثهم السـلطة كعيــون لهــا في
أوساط الناس ،وهم يستمرون بأداء حركاتهم الغريبة ،ومنهمـ رفقاء نضال األمس ( كماجد اليعربي
) الذي ال يعرف حتى اآلن سبب كارثته ،والذي كــان يكثــف من جريــه على غــير العــادة ومن خلفــه
العاطلين والمسرحين من الخدمة ويتلفظ بكلمـات كالسـباب والشـتائم غـير الجليـة إلى أن سـمعوه في
أصيل يوم مشعث
2
يصرخ قائالً :ارحبوا سرق الملكية فوق سرقـ الجمهورية
ومساحات األرض الخضراء تكتسح بعمــارات عاليــة وفلــل فخمــة ،وشــوارعـ رئيســية وفرعيــة تمــد
أسـفلتها ملتهمـة التربـة وخصــوبتها ،ثم وابــل من الســيارات الفارهــة بمـوديالتـ مبهـرة من مختلــف
مصانع العالم ،حتى لم يعد الوطن مع كل هـذه البهرجـة المظهريـة للمكـان فيـه سـوى فقاعـة جوفـاء
غبية ،يرد ( نور ) على أمين الزئبق الذي حاول أن يستشعر فيه حماسة الوطني القديم ،فيقول :
" – الوطن ...الـوطن ...ولمـاذا ؟ قـال نـور ذلـك ضـاغطا ً الكلمـات وعيونـه تتملى في نيـون ملـون
حديثا ( قطعة من سويسراـ ألحدث الساعات السويسرية ) " "....ثم رفــع إلحدى المحالت المنشأة
صوته في القراءة بشكل مقصود ومحرف :قطعــة من سويســرا ألحــدث الفقــاقيع المريخيــة ،الــوطن
ألحــدث المــوديالت الوطنيــة ،هــل تــرى يــا صــاحبيـ من فــرق بين الفقــاقيع الــتي يخترعهــا هــؤالء
3
لمحالتهم وبين الفقاقيع الوطنية !؟"
157
ثم تزداد الرؤية غيامه وتشوشاًـ ،ويصبح المستقبل شيئا ً يصعب التكهن بــه حين تبــدأ نــذر بتبــدل القيم
واختاللها ،وغلبة النفعية المادية والسقوطـ األخالقي تلوح في األفــق ،حــتى تســمع ( نــور ) يصــرح
1
بقوله إن هذا البلد ال تستطيع أن تميزفيه بين السير والمنام ،وال بين الحلم واليقظة "
فحورية تلك الفتاة التي أحب نورـ فيها براءتها ،والــتي لم يكمــل بعــد خطــوطـ لوحتهــا الــتي شــرع في
رسمها من قبل ،تنذر مالمحها بكارثة السقوط في وحل الرذيلة ،فهي تكثر من الخــروج وزيــارات
التفرطـة ،وتـداوم على فترينـاتـ قاصـد كـريم للمجـوهرات وقـدـ بـدت على مالمح وجههـا تشـوهات
وكدمات ،كما غزا جسمها االسترخاء والترهل والــذبول ،ثم أن نظرتهـاـ قــد اختلفت ،إذ هي تظهــر
قدراً كبيراً من التحلل من العذرية الرومانسية الحالمة ،وهــا هي تعــرض جســدها كمــادة لالســتهالك
لمن يدفع ، ،وهو ما يحدث لنور صدمة كبيرة " فقد أحس أنه لم يعد في موقف الطاووسـ المحلق في
2
سماوات الحب ،وإنما منكوب على رأسه وقدميه على أرض الواقع "
والخالة زهراء ،بدأت تفتح أعينها على ما يحفــل بــه المكــان من بهرجــة ،ومــا يملكــه اآلخــرون من
متاع وأجهزة حديثة ،ولم تعد تقتنع بما لديها ،وهي تدفع بزوجها الذي ظل يناضل رغبتها في اتجــاه
الوقوع في طريقـ االنحراف .
ومحبوبة أيضا ً تغلب على نظرتها النفعية التي انعكست عن تبدل الواقع وتبدل مظــاهر المكــان فيــه ،
فلم تعد تؤمن بمشاعر الحب الرومانسية ،وإنما أخذت تسير حياتها ،وفق مبدأ يقــول " فأمــا الــزواج
وأما يومك يومك ،وليلتك ليلتك ،وساعة البسط ال تفوتك ،ولو كــان بقطــع رأســك " ، 3وهكــذا يفقــد
وجهها حيويته وتظهـرـ عليــه كــدمات ونمــوش تعجــز المســاحيقـ عن إخفائهــا ،وحــتى شــفيقة تلــك
المناضلة القديمة التي أصبحت الجئة في صنعاء بعد هروبهاـ من سياســة الحــزب في عــدن – التســلم
من الوقوع في هذا الشرك مع مناضل قديمـ أيضا ً .
هو (أمين الزئبق) القيادي الجبهويـ الذي تحول أيضا ً – إلى واحد من عسـس أجهــزة االسـتخباراتـ ،
وهو اليوم ناشط كبير في استقطاب المناضلين القدامى لتجنيدهم ،ومسخهم إلى أدوات تساعد السلطة
في قمعها للمعارضين .
وأما قاصد كريم ،فقد كان لمحل مجوهراته أنشطة أخرى مشبوهة ،وقد اجتنح لهذه األنشطة غــرف
خاصة في مبــنى ممــيز من عــدة طوابــق من الحجــر المــوقص والطــوب األحمــر ،يقــع شــمال مبــنى
اإلذاعة العتيق ،غرفة أرادها " ما بين بهوين في مداخل مموهة ...بمعنى عندما تقدم الغزالة ،وأي
غزالـة مصــطادة من البــاب العمــوميـ للعمــارة ذات الشــقق المــؤجرة ..فإنهــا ستصــعدـ بعــد ذلــك في
الســاللم ،وأي ســاللم دون أن تعــرف أي أســرة إلى أي أســرة أخــرى هي ستصــعد ،و أي بــاب من
األبواب ستطرقه ،كلها أسر محترمة ..فضالَ عن أولئــك الــذين في الشــارع وعيــونهمـ على بعضــهم
البعض من التلصص على اللحظات المماثلة المختلسة ...لن يتبادر إلى ذهن أي عين من عيــونهم إال
أن ربة الصون والعفاف في طريقها من الباب العمومي إلى شقة أي ربة للصون والعفــاف مماثلــة ،
4
والقاطنون من األسر الجديدة المتحررون إلى حد ...كثر كالجراد "
أما عدن فتظهر مدينة تشهد تحولهاـ العجيب إلى عجوز غبراء خاملة مقفرة شــوارعها إال من الكالب
الضالة ،وهذا نور يمشي في ظهيرة أحد األيام التي ذهب فيها لزيارة أسرته في عدن في حي المعلى
158
الذي كان دائما َ حيا ً عامراً بحركة التجــارة والســيارات والبشــر ،فتفــزع مشــيته طــابور الكالب الــتي
نبحث مستنكرة إقالقه هدوءها وراحتهاـ ". 1
لقد غــادر أهلهــا وأخلــوا محالتهم وصــفوا مصــالحهمـ فيهــا ،مهــاجرين إلى مــواطن أخــرى غيرهــا ،
يلتمسون فيها سبل الرزق والعيش الكريم .حتى أثارت شوارع المدينة الخاليــة في عقــل نــور ذكــرىـ
قديمة ،حين كان والده يردد على مسامعه قوله ":الحركة بركة والعمل رزقـ ومجلبة للعيش الفضيل
،ولن يعجن الناس شعاراتهمـ وأحالمهم ويأكلونها ". 2
وهو مع حبه الواضح لمدينة عدن ،موطن ذكرياته ومرابع طفولتــه ،بحرهـا المتــدفق دفئـا ً وحنانـاًـ ،
وشاطئـ ( خور مكسر) الذي حفر على وجهه أقدام طفولته ،وتلك الصخرة التي كان يقعد عليهــا مــع
شقيقه حبه الطفولي البريء ،يراقب الزبد وتالطمـ األمواج ،فإنه عند زيارته األخيرة لها وجــد أشــياء
كثيرة فيه قد تبدلت بشكل غير مرغوب فيه .
غير أن أكثر ما أثاره ،هو ذلك البؤس الذي أصاب عائلته بعد نجاح الثــورة على المســتعمرـ ،فوالــده
قد شاخ وافتقر دفعة واحدة ،وأمــه لم يبــق منهــا إال صــوتها ،وإخوتــه قــد عــادوا فقــراء يتقلبــون بين
الحرمان والشقاء ،وذلك البيت الشعبي الضيق الذي – انتقلت إليه أسرته في حي القلوعــة ،بعــد مــا
ألم بها من ظروف التبدل .
" لفحت أنفه نسمة بــاردة برائحــة الســمك فاستنشــقتهاـ مطــوالً ...ثم راح يــدوس بأقدامــه على الرمــل
الناعم كيفما اتفق ...لقد كانت هنا أيام وذكرياتـ ال تزال محفورة كالوشم ،ســار بعــدها يضــرب كــل
يوم أنحاء من المدينة ،ويتوقفـ حيث كان له عبق من الطفولة والصــبا أريج ذكريــات هنــا ،وشــقاوة
طفولة هناك ،وعلى هامش الثورة والتصحيحـ والسياسية التي ما أثاره قط شــيء منهــا قــدر مــا أثــاره
بؤس أسرة المعسلي الــتي أضــحت بعــد أن كــانت في يــوم من األيــام ترفــل في نعيم كــان هنــا ،وقــد
اقتادتـاه فيمــا اقتادتـاه يومـا ً لحي المعلى ...فتوقــف قــرب الثالث عمــارات الالتي تـراءت لـه جميلـة
ومنسقة وشــاهقة أكــثر ممــا مضــى ..تلــك الــتي كــانت ملــك المعســلي ملــك البن واللبــان والعســل لــه
وإلخوانه أيضا ً ...ثم آلت إلى حيازة دولة الثورة ..فتأملها للحظات خاشعة ومــأخوذة ووقــورة ...ثم
3
قال بأسى دون أن يرفع نظراته منها " :لقد كانت لنا "
وهذه حال تثير في عقله تساؤالت حائرة ،تتردد إجاباتهاـ بين احتماالت متناقضة ،فـ" هل يكــون هللا
الواحد الذي أراد أن يكافئ قسوة التجارة وعنفها بقسوة أي شيء آخــر وعنفــه ..قــد يكــون الثــورة أو
غيرها ؟ ومسح دموعه ،لقد كان الحاج المعسلي يستخدمـ ما هو مشروع وغـير مشـروع في التجـارة
" "......لعل هللا قد بعث هذه الضــراوة في الثــورة ...هــذه مقابــل ضــراوة الحجــارة في البن ،ولعلــه
4
الشيطان وحده الذي "....
ومع تأكيده على وقوفه في صف الثورة ،وأن ثورة الجنوب قد حققت بعض المكتســبات ال يســتطيع
منكر إنكارهـا ،كالسـيطرة على كامـل تـراب اليمن الجنوبيـة في دولـة واحـدة ،وإنهـاء المحميـات ،
ومقاطعات السلطنات التي كان يستحوذـ عليها شرذمة من الســالطين المتحكمين ،والنهــوض بــالمرأة
وارثة الحريــة واالنطالق ،فــإن ذلــك لم يمنعــه من التصــريح بتســاؤالته المضــمخة بمعــانيـ الــرفض
لبعض ما يحدث هنـاك ،فنسـمعه يتسـاءل مسـتثاراًـ بتلـك العمـارات المؤممـة الـتي أخـذ ينظـر إليهـا
والحسرة تمأل قلبه ،فيقول ":ولكن هل كان يتوجب القيــام بتــأميم العمــارات وتنفــير النــاس ؟ وســار
يهذي بعد ذلك في شوارع المعلى الخلفية بعد أن نزع نظراته بقسوة من العمارات ،هل كان يتــوجب
1المرجع السابق ص 34
2المرجع نفسه ،ص37
3نفسه ص 38،37
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع السابق ،ص32
159
ذلك !؟ بدالً من أن تســتفز هــذه الثــورة العمــال والفالحين والمجتمــع مثالً في ثالثمائــة كيلــو مــتر من
ً 1
األرض بالفؤوس في وادي حضرموتـ مثالً ...مثال "
ثم يلمح إلى انحراف المسار الثوريـ وغياب الرؤية والهدف بسوق تلك الواقعة المثيرة للغرابة والتي
شاهدها بأم عينيه تجري في شوارع عدن ،حين تفاجأ بجيش من المتظــاهرين يســدون الطرقــات في
الشــوارعـ واألحيــاء تســاندهم قــوات األمن والجيش يهتفــون ( واجب علينــا واجب تخفيض الــرواتب
2
واجب ) "
وهكذا يستمر المكان -الــذي تضــطربـ في أرجائــه الشخصــية -في تأديــة دورة المــؤثر على تنــامي
تفاعلها من خالل ما يكشف من مظاهر وما يتضمن في معطيات ،حتى ينتهي بهــا إلى حقيقتهــا الــتي
تقنع بها ،فما كان شكا ً يصبح مع نمو الحدث واستمرار التفاعل يقينا ً راسخا ً .
فنور الذي بدا متفائالً بما يعكسه المكــان من مالمح التغيــير ،ثم أخــذ الشــك يتســرب إلى نفســه شــيئا ً
فشيئا ً ،حتى تجلت أمام ناظريه حقيقة البشاعة التي أخذت تتأصل في قلب المكان مع انحراف مســار
التغيير الثوري ،ليتكشف مكانا ً ضــاغطا َ يــدفع بــه دفعـاًـ قويـا ً في اتجــاه إحباطــه ويأســه ،فلم يعــد
المكان فضاء للحرية واالنطالقـ كما كان يؤمل ومعه كل المناضلين ،وإنما غــدا أشــبه بســجن خــانق
يحاصر حركته ويقيد حريته ،فمسكنه الذي يتم تفتيشه في غيابه واقع تحت المراقبة وبإمكانهم اقتياده
في أية لحظة من النهار أو الليل ،ففي إحدى الصباحات " وبعد أن دلك أسنانه وغسل وجهه وتنــاول
وجبة من البصل المحروق من الفاصوليا في مطعم السعادة ،كـان اثنـان من العيـون -كمـا قـدر -في
انتظاره خارج المطعم " "......وعندما خرج بسرعة أمسكا به من قبضتيـ يديه وســاعديه ،ودون أن
يتيحا له لحظة من الكالم أو التساؤل اقتاداه إلى سيارة جيب حبة وربع ياباني بها ثالثة من الحــرس
المسـلحين " ، 3وحركتـه مرصـودة فيـه حـتى أصـبح يحـاذر إضـاءة المصـباح ،فحين أعلنت سـاعة
التحرير الثانية عشرة " أطفأ السيجارة وأطفأ النور في إحساس ال يخيب من أن العيــون الســاهرة في
4
ضروب التحرير الشك تتطلع إلى النور المشتعل في الغرفة "
ومطعم السعادة الذي كان حافالً بالرفاق ،عـاد خاليـا ً بفعــل تتبـع األجهـزة األمنيـة لهم ،فبعضـهمـ قـد
اختفى بطريقة غامضة كالدباسي والسريحي ،وبعضهمـ زج به في المعتقل كعلوان ،وبعضهم رحل
كعبد الواحد ،وبعضهمـ يرى مجنونا ً في ميدان التحريرـ كماجد اليعربيـ .
وهو دائم الزيارة للمعتقل ،حتى كان به وهم يأخذونه إليه – يتأهب لزيارة أصدقائه ،لوال أن جــدت
على هذا المعتقل في اآلونة األخيرة أشكال من التعذيب اليقدم على ممارستها حتى الوثنيين أو عبدة
5
النارمن المجوس "
وفي الطريقـ إلى المعتقل ،يستخدم المكان ساحة للتمويه ،حين تأخذ السيارة التي تحمله طريقهــا في
6
شوارع وأحياء وأزقة متشعبة ،تموه إدراكه فال يعرف من أين جاء وال إلى أين سيصل "
فهذا مكان يصعب على المرء الصمود فيه ،وألجل ذلك نشــهد ( نــور) يتــدرج نحــو نقطــة انهيــاره ،
7
فيعتزل الصحاب ،ويفقد لذة الحياة ،حتى يصبح للماء عنده طعم الطين والتراب "
" لقد كان محطما ً بما فيه الكفاية ،ومهانا ً ومذالً إلى أبعد ما كان يتصور بطل أن يجد نفســه فجــأة في
هذا الهول من المأزقـ ،وبعد أن كان ينتظر أو ال ينتظر في كل أيامه التي مضــت حــتى كلمــة شــكر
1المرجع السابق ،ص21،20،19
2المرجع نفسه ،ص89
3نفسه ،ص88،99
4نفسه ،ص114،113
5محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ،ص112
6المرجع السابق ،ص102
7المرجع نفسه ،ص102
160
أي شكر على التضحية وليس وســام الشــرفـ " 1ثم تــأتي لحظــة إعالن تكــريم المناضــلين من أبطــال
الثورة وأبطالـ السبعين ،فيتأهب معتقداً أنه أحــدهم ،وهنــا اجتمــع الصــحاب وراحــواـ يعــدون شــرابا ً
وعشــا ًء احتفــاالً بالوســامـ المنتظـرـ ،ثم ذهب إلى مبــنى القيــادة لالطمئنــان فقــط ،لكنــه يكافــأ مكافــأة
أخرى ،فحين صعد طوابق المبنى لم يجد أحدا يسأله أو يقول له شيئا ً " قدرـ ما وجد أرتاالً من طيور
الرخمة ذات األلوان المختلفة ،وكذا بعض البوم يحتالن نوافذ وشرفات وثقــوب المبــنى ..ولتتخبــط
بأجنحتها ومناقيرها اللتين أهالتا عليه وابالً من جراء فزعها وتخبطهـاـ من خرائهــا المعتــق والطــازجـ
وبعض بيوضها المنقورة قيد الفقس ،ليعود ملطخا ً بخالئط فضــالتهاـ ،كأنمــا انــتزع من بيــارة ،ثم
يستمع في نفس الليلة الذاوية بأضواءـ وابتهاجات الذكرى الثامنة عشر للثورة من شاشة التلفزيون إلى
صوت المذيع المبتهج ،الذي كان يتلو أسماء مكرمة بهذه المناسبة بأوسمة شرف البطولة للثــوارـ من
2
الدرجة األولى -إلى أسماء ال يعرفها وال يدري عنها شيئا ً "
هكذا تنتهي هذه الشخصية مستسلمة ليأسها منطوية على هزائمها ،ال تجد أمامها سوىـ أعمالها الفنية
التي رافقتها طوال حياتها والتي برزت تجسيداً واضحاًـ ألهمية المكان وأثره ،حيث تحول كل ما دار
عليه من أحـداث ،ومــا حفــل بـه من مظـاهر ،ومــا احتضــن من تجــارب لشخصــيات عاصـرتهاـ في
حياتها إلى لوحات فنية تخلد هذه األحداث كمدركات مكانية حافلة باللون والخط والظالل .
فألن مالمح هذا المكان يطغى عليها النقص لم تكتمل جميع اللوحات ،وألن األمل مســمول في وجــه
هذا المكان ،سملت عيون هذه اللوحات ،وألن كل ما في هــذا المكــان شــائه ال يســتحق إال الطمس ،
كان ذلك الفعل الذي اتخذته من لوحاتها :
" أغطش الفرشــاة في الصــبغة الحمــراء ،وأخــذ يطــرطشـ بهــا في وجــوه الثالث على غــير هــدى ،
ويرسمـ أقواساًـ صغيرة فيها وأشكال همزات صغيرة أيضا ً أراد بها تكثيف خربشات الغضون والنمش
،وقدـ تساقطت من ســرعة الفرشــاة والخطــوط نقطـا ً من األصــبغة الحمــراء ،تم ينتبــه لهــا كلطخــات
وانفرشت ما بين العيون والوجوه واألقواس والهمزات كأنما دمــوع ،وحين انتهى من الرســم وضــع
3
شخطات في األسفل عند األقدام كأنما لمدينة عاهرة يقفن عليها البغايا "
لكن هذا الفعل لم يكن الفعل الذي تبلغ به الشخصية موقفها الذي ينهى عــذاباتها ،ولم يكن بإمكانــه أن
ينهى تفاعلهــا ،فال تــزال تعيــد النظــر في مالمح وخطــوطـ تلــك اللوحــات باحثــة فيهــا عن جواهرهـاـ
الخالدة واألصلية .
ولشخصيات القصة القصيرة – أيضا ً – طرقها الخاصة في بناء عالقاتها مع أمكنتها .
ففي قصة ( خطوات في الليل ) 4نلتقي شخصية يختزل تكوينهـاـ صــورة كــل الحــزاني والطيــبين من
أناس المدينة التي تنتسب إليها ،فهي محبة لمدينتها ":بيني وبين هذه المدينة عشق ال ينتهي ،حتى
نكاد نتوحد ألمـا ً وفجيعــة " ،5ومتوحــدة بهــا ،متعبــة وحزينــة ،ومقهــورة وخائفــة -تمامـاً -مثلهــا "
ترتعش المفاصل بفعل نسمات خفيفة تهب مع الليل الجــاثم على صــدريـ وقلب المدينــة ،وعواصــف
من الخوف تجتاح كلينا " ".....هذا الجسد المتعب وهــذه المدينــة أيضـا ً مثلي تمامـا ً - ،قلت كالنــا ...
واحد ...أنا وهذه المدينة " "....وأذكر بأني كنت وحيداً وحزيناًـ والمدينة مثلي حزينة "........" !....
،1نفسه ،ص104،103
2نفسه ،ص 124
3نفسه ،ص124
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ،ص 123ـ122
5المرجع السابق ،ص123
161
والليــل والمطــرـ المتســاقط علي وعلى صــدر المدينــة أيضــا ً " "..........وتفتح زوجــتيـ ....خائفــة
1
مثلي ....وهذه المدينة ! " "........هي مثلي ومثل هذه المدينة ....جميعنا ً ...خائف ومقهور "
والمدينة التي تظهر في هذا العمــل مهجــورة ،صــامته ،ال صــوت فيهــا ســوى وقــع خطــوات رتيبــة
ومخيفة كإيقاع ساعة قديمة لجندي بمعطف كاكي وفك متسوس يتتبع خطــوات الشخصــية ،تجتاحهــا
البرودة وعواصف الخوف ،ويجثم على صدرها ليل أسود ثقيل ،لم تختلف حالهــا ع ّمــا كــانت عليــه
قبالً بل ربما هي اآلن أشد سوءاً مما كانت عليه " :يأتي األمر مع هــذا الليــل وصــمت المدينــة أكــثر
فزعا ً مما كان عليه في تلك األيام " 2وكما كانت محكومة بجاهل متخلف ال يصدق إال عصاه الغليظة
التي يخرس بها كل األلسـنة ،هي كــذلك محكومــة بعصـابة جهـل وتخلــف ":حــل في عمــق الــذاكرة
األلم ..كان اآلخــر أيضـا ً ال يقــرأ ،ويصـرـ على تكــذيب الصــفحات المســودة ،ويــدمغ الليــل بعصــاه
3
الغليظة "
وأما صوت المغني الذي يتردد بين حين وآخر ليكسر صمت المدينة ،فهو جـرس إنـذار ينبــه أناسـها
إلى عدم االكتفاء بذلك االنتفاض الــذي حــدث حين تفجــرت الثــورة ،ألن الثــورة عمــل دائب وتغيــير
مستمر ،وألن األوضاع على ما يبدو لم تتغير بل ربما ازدادت سوءاً .
ولذلك كانت األغاني منتقاه بشكل يشير بقوة إلى هذه الغاية ،وهو صوت تشعر معه الشخصــية بأنهـا
ليست وحيدة ،وأن حزنهاـ وحزن مدينتها البد أن ينتهي في يوم من األيــام ،تقــول كلمــات األغنيــة
األولى :
وعاد وجه الليل عابس يا قافلة عاد المراحل طوال
واستنفريـ كل الفوارس يا قافلة رصي صفوف الرجال
4
ال تأمنوا شر الدسائس قولي لهم :عاد الخطر ما يزال
وتقول كلمات األغنية الثانية :
هذه األخبار من دار اليقين يا حزاني يا جميع الطيبين
بالعشاياـ الصفر بالصبح الحزين قررواـ الليلة أن يتجروا
5
من شعاع الشمس ما يكفي سنين فافتحواـ أبوابكم واختزنوا
ومع هذا الصمت المطبق والخوفـ والرصدـ والمعتقالت ،تظـل الشخصـية متمســكة باألمــل ،وتظـل
تعمل ليالً ،ترص حروفـ النور على آلة مهترئة ينساب صوتها عبر أزقة المدينة الخائفة دافئا ً حنونا ً
،حتى إذا ما أطل الصبح ،وشق شعاع الشمس امتدادات األفق ،رن صوت قادم من أزقــة المدينــة ،
وأوحالها ،لطفل ينادي :الصحيفة ،والصحيفة " :للصبح وجه آخر ،مع وحل المدينــة ،وآهــات
المتعبين ! " آه يا حزاني يا جميع الطيبين " ،رنين الطفــل القــادم من األزقــة ووحــل المدينــة يبعث
على االنتعاش .وأنهض مسرعا ً على نداء الصوت ..
-الصحيفة ....الصحيفة .
أخطف منه النسخة األولى ...أشعر بدفئها وأبدا أتصــفح األســطر كمــا لــو كنت ال أعرفهـاـ ،
6
بعض من الفرحة تسلل مع شعاع الشمس القادم وهذا الفجر "
162
وتظهر الشخصية في قصة ( الصبر في مدينة جميلة ) قدراً عاليا ً من السلبية حين تنتهي إلى
إقامة عالقتها مع مكانها وفقا ً لمنطق يجنح إلى التعايش السلبي مع ما يحف بــه المكــان الــذي
تقيم فيه من مظاهر القبح والبشاعة ،تحدثنا قائله ":أمسكت بخيط الظالم ومشيت متروبصاًـ
عبر الطارودـ الطويل ،وفيـ زواية مجهولة قضيت حــاجتي وعــدت الى النــوم تاركـا ً رائحــة
من روائح الناس خلفي " ".......أشعر بجســم بــارد يتحــرك عنــد قــدمي ،مــددت يــدي بخفــة
وأمسكت به ،حاول المقاومة ،ولكن بدون جدوى ..
1
-نم يا فأري العزيز في حضني ،هنا حين الدفء ،حتى يأتي الصباح "
لكنها على الرغم من سلبيتهاـ ،فإنها ال تغادرنا إال وقدـ أثارت فينا روح المفارقة الناجمــة عن
تلك المقابلة التي تقيمها مـا بين صـورة المكـان الـذي تقدمـه ،وصـورة ناسـه المقيمين فيـه ،
وهي المقابلة التي تشكلت عليها تجربة هذا العمل .
فالمدينة – في طبيعتها الجغرافية – غاية في الجمال :
" المدينة صغيرة جميلة ،قابعة فوقـ ربوة خضراء بقلب تفوح منه عطور وريحان ،سنابلهاـ
ذهبية مائجة ،نسمات صباحهاـ ندية " ".......األمطار تهطل بغزارة على المدينة وجباله ـاـ ،
2
ترقص سنابل قمح الموسم الشابة في المدرجات المتعانقة فوق بعضهاـ كحوريات "
أما أناسها فهم واجمون بوجوههمـ المتغضنة الشاحبة ،التي حفــر القبح على صــفحتها شــقوقا ً
تحيل ابتساماتهم إلى تكشيرات ذئاب جائعة ،ودواخلهمـ جافة مســكونة بالجــدب ،وأعمــارهم
تفنى في أتون المشارعات والمراجعات حتى أن من وقع أقدامهمـ شارع الشــيطان المنبطح
أمام دار الحكومة :
" تجاعيد الوجوه تحيل االبتسامات إلى تكشيرات ذئاب جائعة أسنانهم الشــبيهة بأصـواتـ آلـة
خياطة ،أخــال أصــواتهمـ تخــرج من آبــار جافــة مســكونة " "........لــون النــاس يختلــف عن
مدينتهم ،ألنهم كشاحنات مينــاء المخــاء القديمــة ،وجــوههمـ شــاحبة وأجســامهمـ نحيلــة ،أمــا
3
مشاكلهم فهي كثيرة معقدة النهاية لها "
فعجيب أمر هذه المدينة الصــابرة ،كيــف تكــون بكــل هــذا الجمــال األخــاذ ،وتحتضــن -في
الوقت نفسه -كل هذا القبح ؟ كيف ال تهب وتنفضه عنها ؟ كيــف ال يــؤثرـ جمالهــا في نفــوس
أهلها ؟ كيف يتحركون بين كل هذا الجمال المثير وال تستجيب له أنفسهم
وفي قصة ( القادم من خلف الغيوم ) نلتقي شخصية تنتصر على خوفهاـ في مكانها المــوحش
المظلم على بوابة قريتهاـ ،بمواجهة مصــدرـ ذلــك الخــوف " :خيــل إليــه بأنــه يســمع صــوت
خطــوات قادمــة ...تصــلبت أصــابعه على الزنــاد ،وتجهم وجهــه ،وبــدأ ينظــر أصــحاب
الخطوات ،أضاء البرق المكان بقوة ،وتبين عدد األشباح المتربعة ،كانوا سبعة منطلقين
نحوه بعد أن أضــيئت المنطقــة بلمعــان الــبرق ،شــد الزنــاد بقــوة وهــو يحــرك البندقيــة يمينـا ً
وشماالَ ،ساد السكون ،وبدأ المطــر يــنزل بغــزارة ،وهــو متصــلب وبندقيتــه مصــوبة نحــو
الصخرة والدخان يخرج منها ..انقشــعت الغيــوم ورأى األشــباح مجندلــة على األرض الــتي
4
ارتوت "
163
وفي قصــة ( المومســات والمنظــرون ) نلتقي نموذجـاًـ لشخصــيات هي ضــحايا وجودهــا في
مكان يستأسد فيــه القهــر ويتعملــق التســلط والخــداع ،لكنهــا على الــرغم من انخراطهــا في
طريق فرض عليها ليرسخ لضياعها وغرقهاـ في يأســها وإحباطهــا ،فإنهــا ال تــزال قــادرة
على تلمس ما بقي من كرامتهاـ ،فتساندـ بعضها كي ترمم شقوق أنفسها .
وتنتصرـ على تهدمها ،سـاعية إلى خالصـهاـ ،متعاليـة على مـا مضـى من تجربتهـا البائسـة
المحطمة ،متجــاوزة ذلــك الطريــق الــذي فــرض عليهــا ،فمن وكــر الــدعارة ،ذلــك المكــان
الحافل بالقذارة والسقوط ،يأتي هذا الفعل المنتقض ليردم هوة التبعثر والضياعـ :
" اللقاء متقارب ...المكان لم يكن مهيأ لمثل هذه الجلسة وهذا النقاش ..الوجهان متقــابالن ،
األعمار مجرد ندبات بسيطة خطها الزمن ،االجتماع ..كل واحــد رمتــه مأســاة إلى حضــن
الرذيلة ...وهي ....و ....هو ،يدها تحت ذقنهاـ ،وهي ساهمة معه في كلماتـه ،واســتطراده
المؤلم عن نواقيس البداية المهلكة للحكايات الكثيرة التي تلم بالجميع ...ومــاهوـ إال واحــد من
مليون محبط بالعذاب والتسخير والمشقة " "......فلتمحي دموعك ،ولتحــرقي كــل مــا جلبتــه
مهنة الدعارة القذرة والموسومة بها أفعالهم النتنة ...ولتذهبيـ معي " ".....جرحي كجرحــك
ال ينــدمل ،فجــرح الكرامــة ،ســيظل يــنزفـ إلى أن يــرى مصــرعـ الظالم والمتســلطين على
رقاب البشر ،والمستغلين نفوذهم للوصولـ إلى مآربهمـ الدنيئة ،لن يندمل الجرح ولن يطيب
إال مــتى أشــرقت اإلشــراقة الحقيقــة وأعــادت الــروح إلى األرض ،واغتســلت الوجــوه بمــاء
السماء المملوء بالحب واإلخاء – ونبذت األشرار المتلذذين بلعق دماء الناس الطيبين .
1
فلتذهبي معي ...ولنبعد عن هذا الحي الحالك ولنخط السير معا ً ...هيا ...هيا "
وفي قصــة ( في الحــوش رقم )7اليــؤدي الــزج بالشخصــية – الموصــومة ظلمــا ً وبهتانــا ً
بالجنون – في مصحة عقليــة إلى انقطاعهــا عن الغنــاء ،وإنمــا نلقاهــا مســتمرة في غنائهــا ،
تصدح يصوتها – الذي صار أكثر تميزاً – من داخل حوش المصــحة ":اســترق الســمع إلى
الغناء الذي تبينه أكثر كلما قطعت السيارة مسافة أكثر إلى األمام ،نظر الى مرافقيه فبــادراه
باالبتســام وهمــا يشــيران لــه إلى بوابــة المصــحة الــتي ابتعلت الســيارة ،فاحتضــنته الســاحة
وأشجار الريحان ،وصار صــوته ممــيزاً دون غــيره من المغنــيين ،وكــان يتعمــد أن يرســل
2
صوته شطرـ الحوش رقمـ (" )7
وفي قصة ( أول المنتحــرين) تثــور الشخصــيات داخــل الســجن متخــذه موقفـا ً جماعيـا ً تغــير
مصيرها ،حين اخترقت حواجز المكــان وأســواره بمســاعدة الجنــود الــذين فــروا أيضـا ً بعــد
انضمامهم إلى فريق السجناء .
أما ( علي ) الشخصية الرئيسية ،فقد حكمت على نفســها بالبقــاء في الزنزانــة الــتي انســحب
اليهــا بهــدوء رغم ســنوح فرصــة الهــرب بعــد انتحــار مــدير الســجن ،وهــو حكم لــه أبعــاده
العميقة ،فــذاك هـو المصـير الــذي تســتحقه هــذه الشخصــية المتخليــة عن تاريخهــا النضــالي
والوطنيـ الطويل ،والمتخذة موقفا ً مهادنا ً يمسك العصا من المنتصف .
" وقف المدير فجأة في صحن السجن المرصوفـ بالحجــارة الصــماء ..وفيـ يــده مسدســه ،
وصاح بي :
-أستاذ علي !........
-نعم !...
1منير حسن مسيبلي ( اطوار حلم االبحار ) مرجع سابق ،ص62،55
2صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) مرجع سابق ،ص 91
164
هل هرب المساحين ؟ -
كما قلت لي ...نعم ! -
والحرس ....؟ -
أيضا ً كما يبدو !.... -
والكتبة في القصر ..؟؟ -
نعم ... -
ولم يبق سواناـ ؟؟! -
نعم . -
تحفزت عندما أشهر مسدسه ..لم يكن أمــامي أي مفــر للنجــاة من إصــابته المباشــرة إذا اقــدم
على ضغط الزناد ....
ودوت طلقة نارية ..هزت بصداها صحن الســجن المرصــوفـ بالحجــارة الصــماء وجوانبــه
الرفيعة ..كانت الطلقة قد استقرت في صدغه األيمن ..وخــر صــريعا ً كلــوح خشــبي محــدثا ً
صوتا ً رنانا ً على قارعة صحن السجن المرصوفـ بالحجارة الصماء ...
اتجهت إلى باب زنزانتي المنفردة التي أكل درف بابها الدهر وشـرب عليهـا ،وهجعت فيهــا
1
خامداً "
165
الـفصـل الـثالــث
الموضوع والغايات
التـغـيـريــة
166
والحيادية في تعاملــه مـع موضــوعه المختـار أو قضـيته المنتقــاة الــتي تمثــل أيضـا ً قضـية
مجتمع هو ينتمي إليه بقوة ،لكنه قد يخفق في بعض األحيان فيعجز عن تنحيــة ذاتــه الــتي
تفرض حضورها على أعماله ،والتي تظهر متأثرة بقوة الزمن الذي وضــعت فيــه القصــة
والروايــة ،ويظــل الجــدل بين ذات الكــاتب بمــا تمثلــه هــذه الــذات من فكــر ووجــدان وبين
الموضوع المتناول بما يتضمنه من إحــاالت على الواقــع ومتغيراتــه المختلفــة ،وفي كثــير
من األحيان نجد الــذات وقــد وقعت رهنـا ً لإلحبــاط واليــأس والتشــاؤمـ لشــعورهاـ بمحدوديــة
قدرتهاـ على تغيــير واقــع مجتمعهــا المحفــوف بصــورـ القمــع ووأد التطلعــات ،وإلحساســها
بخلل العالقات التي تحكم حركة المجتمع من حولها ،وخلل عالقتها به ،ومن هنا نجد بأن
صوت الذات قد يرتفع ويعلوـ في بعض األحيان حتى يغيب موضوعية هــذه األعمــال وفي
أحيان أخرى نجدها تــذهب إلى الحلم حيث يصــبح الحلم تقنيــة فنيــة تســتطيعـ أن تحقــق بهــا
ومن خاللها ماال يمكنها تحقيقيه على أرض الواقع ،فتخلق عبره عالقاتها وعالقات الواقع
المحيط في محاولة منها اللتماس حالة من التوازن تســتطيع معــه أن تســتمر في ممارســتهاـ
حياتها .
ومع إن األعمال الروائية والقصصية اليمنيــة ال تفـرز -إإل فيمــا نـدر – قيمـا ً معينــة يمكن
الوقوف عليهــا كحــدودـ فاصــلة لتصــنيفـ هــذه األعمــال بحســب موضــوعهاـ ،حيث يكــون
حضــورـ الموضــوعـ االجتمــاعي إلى جــانب الموضــوعـ السياســي والعكس ،فــإن تصــنيفها
بحسب موضوعها يكون خاضعا ً لغلبة بروز مالمح أي من الموضوعين على اآلخر ،مــع
األخــذ بعين االعتبــار أن هــذا الــبروزـ ال يقلــل من أهميــة حضــورـ الموضــوعـ اآلخــر ،
فالموضوعـ السياسي ال تتم معالجته بمعزل عن تأثيره على حياة بسطاء الناس في المجتمــع
،والموضــوع االجتمــاعي ال ينشــأ متناســيا تــأثير األوضــاعـ السياســية وإســهامها في خلــق
مشكالت يعاني منها أبناء المجتمع .
تبعا َ لهذا المنطلقـ ،فإن معالجتناـ الموضوع في الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة ســتلتزمـ
معيار الزمن الذي وضعت فيه الرواية ،زمن الكاتب حيث – كمــا أســلفنا – يشــكل الــزمن
معياراَ محدداَ لطبيعة تناول الكاتب لموضوعه ،فاألعمــال الــتي توضــع في خضــم زمنهــا
المحفوف بكثير من المشكالت والمخــاطرـ هي – بال شــك – تختلــف عن تلــك الــتي تتنــاول
موضوع زمن قد تجاوزته وتحررتـ من ضــغوطه وتهديداتــه ،إذ تنعكس حضــور الــزمن
الــواقعيـ على الموضــوعـ المتنــاول كمــا ينعكس على حضــور الــذات ،ودرجــة انفعالهــا
بموضوعها ودرجة تحسبها للمخــاطر المحدقــة ،ومقــدار الحريــة الممنوحــة للحــديث حــول
موضوع ما في زمنه أو في زمن آخر قد تجاوزه ،وعلى هذا فـإن تنـاول الموضـوعـ سـيتم
عبر المحاورـ اآلتية :
الموضوع السياسي واالجتماعي في األعمال القصصية والروائية التي وضعت في زمن ما قبل
ثورة الشمال واستقالل الجنوب :
وسوف تستعين الدراســة في هــذا الموضــع بروايــتي ( ســعيد) ،و ( مأســاة واق الــواق )
1
1محمد علي إبراهيم لقمان المحامي ( سعيد ) المطبعة العربية /عدن 1939م .
2محمد محمود الزبيري ( واق الواق ) مرجع سابق
167
وأمــا حضــورـ روايــة ( ســعيد ) فــذلك ألنهــا تســهم بالمشــاركة مــع روايــة ( مأســاة واق
الواق ) في تقديم صــورة واضــحة عن مســتوى وعي الروايــة اليمنيــة لواقعهــا االجتمــاعي
والسياسي والدورـ الذي يمكن أن تلعبه في التأثير على المجتمع بهدف تغييره .
فالروايتــان تغطيــان موضــوعين منفصــلين يمثالن الموضــوعين األهم ،اللــذين اســتمر
حضورهما مجتمعين في تجربة الروايــة اليمنيــة بعــد ذلــك ،فروايــة ســعيد تبــني تجربتهـاـ
خالصة للموضوع االجتمــاعي ،إذ تركــز على قيم المجتمــع اليمــني في الجنــوب ومظــاهرـ
سلوكياته في أواخر الثالثينيات ،بينما تبني رواية ( مأســاة واق الــواق ) تجربتهــا خالصــة
للموضوع السياسي ،إذ تركزـ على األوضاعـ السياســية في شــمال اليمن بعــد إخفــاق ثــورة
1948م ،وهذه حالة ال نكاد نصادفها في تجربة الرواية اليمنية في فتراتهاـ الالحقة ،والتي
كما – أسلفنا – يجتمع فيها الموضوعان االجتماعي والسياســي إلى حــد االمــتزاج ،وبدايــة
برواية ( سعيد) التي قدم لها كاتبها بنبذة عن واقع عــدن االجتمــاعي في أواخــر الثالثينيــات
تحت عنــوان ( عــدن بين األمس واليــوم ) حيث بــدأ حديثــه عن تبــدل حــال أبنــاء عــدن
( العدنيين ) من الغنى إلى الفقر خالل الفترة التي تسجل عليها الرواية أحــداثها ،يقــول " :
كانت عدن في يسر في أوائل هذا القرن ،فقد كان أهلها العرب قابضين على زمام التجارة
يملكون عشرات اآلالف من حيوانــات النقــل واألبقــار والمــاعز والضــان ،ويصــرفون مــا
يكسبونه على راحتهم ورفاهيتهمـ ،ويدخرون أمواالً طائلة ألبنــائهم ،أمــا اليــوم فقــد تبــدلت
1
الحال ،وأصبح الناس في عدن في حالة هي أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى
وهو اليغفل اإلصــالحات الــتي قــامت بهــا حكومــة بريطانيــا ،لكنــه يــرى أنهــا إصــالحات
ناقصة ،كانت نتيجتها أن أبناء عدن قد وجدواـ أنفسهم فقــراء ،نســمعه يقـول " :وال مــراء
أن عدن قــد تقــدمت تقــدما ً محسوسـا ً من حيث العمــران ،فطرقاتهـاـ مرصــوفة باإلســفلت ،
وماؤهاـ يجلب إلى الدور باألنابيب ،والكهربــاء تنــير البالد ،وقــد تحســنت قواعــد التعليم ،
ونظمت إدارة المعـــارف ،وأصـــلح المينـــاء وزاد عـــدد البـــواخرـ الواصـــلة إلى عـــدن ،
وتضاعفـ عدد السكان ،وقضى على كثير من األمراض المعدية وعلى المالريا لمــا تقــوم
به الــدوائر الصــحية من وســائل الوقايــة والمناعــة ،ولكن كــل هــذه اإلصــالحات ال تــزال
ناقصة نقصا ً فاضحا ً لعدم اعترافها بتوفيرـ وسائل الكسب وأسباب الرخاء ،فكــانت النتيجــة
أن المســلمين من ســكان عــدن أصــبحوا غالبـا ً يتضــورون جوعـا ً و اســتثمر خــيرات البالد
2
الرأسماليون من األجانب "
كما يشرح في هذه المقدمة األسباب الجوهرية للتبدل غير المرغوب فيها ويحصرها في :
-1كثرة الكمالي!ات وما تس!تنفذه من أم!وال الع!دنيين " ال!تي تتس!رب إلى الخ!ارج ثمن!ا ً
للس!!!يارات والب!!!نزين ،وكهرب!!!اء! وثلج ،وس!!!ينما! ،وماله وأث!!!واب ال تعيش إالًّ أيام!!!ا ً
3
معدودات ثم تصبح موضة قديمة ،ومشروبات روحية ومكيفات أخرى .
-2نظام الحكم الذي أباح للدخالء منافسة أبناء عدن األصليين الذين أرهقوا البالد وابتلع!!وا
مصالحها! .
-3الجهل المنتشر بين الناس ،وبين النساء على وجه الخصوص ":أما الجهل بين النس!!اء
فحدث وال حرج ،فإنهن يعتقدن بسفاسف األمور من زار وحروز! وتمائم! ون!!ذور وزي!!ارات
1محمد علي إبراهيم لقمان المحامي ( سعيد ) مرجع سابق (ص)3
2محمد علي إبراهيم لقمان (سعيد ) مرجع سابق (ص) 3
3المرجع السابق (ص) 3
168
وأضرحة ،ولطالما شددن الرحال إلى البلدان المج!!اورة ليت!!داوين من العقم أو الهس!!تيريا أو
1
حتى من الداء السكري! والتدرن الرئوي عند أضرحة األولياء !!"
-4ت!!أخر التعليم في ع!!دن ،وع!!دم ج!!دوى! ما يفعله الع!!دنيون ال!!ذين اهتم!!وا في الس!!نوات
األخيرة بالتعليم " فبعثوا! بأوالدهم! إلى بغداد والقاهرة والهند وإنجلترا! ،ولكن هذه الجهود لم
تثمر الثمر النافع لعدم وجود! مدرسة عالية في عدن تمكن خريجيها! من االلتحاق بالجامع!!ات
رأسا ً ،فيضطر! التالميذ من عدن لصرف! عشرات السنين في الخارج الرتش!!اف! المع!!ارف!
مبتدئين من أولها ،وهذا ال يستطيع! تحمله والصرف! عليه األغنياء ،أما الفقراء فال يقدرون
2
على شيء منه ،واألغنياء ال يريدون مفارقة أبنائهم "
وتب!!ني! الرواية تجربتها! على موض!!وع! اجتم!!اعي ،فيتم تس!!ليط الض!!وء على القيم الس!!لبية
والسلوكيات غير المرغوب فيها ،وال!!تي تفشت – كما ي!!رى الك!!اتب – في أوس!!اط! المجتمع
العدني ،إلث!!ارة االنتب!!اه إليها وتك!!وين وعي يقف منها موقف! ال!!رفض ويس!!عى! إلى تجنبها ،
وتحمل الرواية ( سعيد ) رسالتها! ،وهي رس!!الة تخلص إلى ك!!ون الش!!باب هم أمل أية أمة ،
وخالصها! ال يكون إال بجهودهم! المخلصة ومثابرتهم! ،فإذا ما ضاع الشباب ،ضاعت األمة
.
وسعيد! شاب " في أطروان شبابه ،جميل الطلعة وس!!يم! ًّ
المحيا ،كث!!ير النش!!اط ذكي الف!!ؤاد ،
عليه سيماء الطهر والصالح ،ترعرع في بيت نعمة ونشأ في أحضان الترف ،وك!!ان محط
آمال والده ،فجاءه باألساتذة وغذاه بالمعرفة ،فشب محبا ً للعلم مغرم!ا ً ب!األدب كث!ير البحث
منقبا ً عن الحكمة ،يشعر بحاجة أبناء وطنه إلى العلوم والمعارف! ،ويرى! بنظره الث!!اقب أن
3
البد من يوم يندم فيه العدني على إهماله لدور العلم ومعاهد! الثقافة "
يهاجر إلى الشمال كي يحقق ذاته ،ويثبت ألبيه – الذي أوغر الحاسدون صدره عليه بسبب
" اندفاعه في النقد المر على بعض المعتق!!دات وتس!!فيهه آلراء بعض الن!!اس " -4كفاءته في
تحمل المس!!ؤولية ،وهن!!اك في الش!!مال وفي ( الحدي!!دة ) على وجه التحديد ،يقيم متج!!راً
عظيما ً بمساعدة التج!!ار ال!!ذين ك!!انوا على معرفة بوال!!ده ، 5.ولكن وال!!ده افتق!!ده فأرسل! إليه
يطلب عودته ،ورغم موافقته على الع!!!ودة إال أن " حرب!!!ا ً انفج!!!رت في البلق!!!ان ،وطلبت
الحكومة العثمانية تجنيد بعض الشباب من اليمن ،وأجبر! حاكم الحدي!!دة س!!عيداً على مرافقة
الجنود إلى أرويا ،وعبثا ً حاول سعيد الخالص ". 6
ونتيجة لما يتم!!يز به من ص!!فات يتف!!رد بها على أقرانه ،لم تصل الفرقة إلى المدينة إالًّ وقد
أصبح من ضباط الجيش وأركان حرب القائد العثماني ،ثم اشترك في الحرب وجاهد جه!!اد
األبطال في عدة مواقع حربية حتى سقط جريحا ً .
وبعد توقف الحرب رأى األطباء ض!رورة بعثه إلى ب!رلين للعالج وهن!اك بقى س!نتين درس
فيهما فلس!!فة األخالق ،واألدي!!ان واالقتص!!اد! والحق!!وق! ،وع!!اد إلى األس!!تانة ح!!تى ق!!ررت
169
الوزارة إرساله إلى الشرق للدعاية لطرابلس الغرب ال!!تي س!!طا عليها الطلي!!ان ،فس!!افر! إلى
العراق والهند ،وقام! بدوره خير قيام .
لكنه عندما ذهب إلى ( بمباي ) علم أن والده قد أصبح في ح!ال ي!رثى لها بس!بب س!لوكيات
أخيه ( حسن ) الذي كان شابا ً غراً مستهتراً ،مدمنا ً الخمرة ،مستغالً أسوأ استغالل من قبل
( سالم ) الذي نشأت لديه بسبب وضعه .االجتماعي وسوء تربيته نزعات شيطانية خبيثة .
كما علم ب!أن محاكمة قريبة س!!تعقد لوال!ده في قض!ية اتهم فيها ب!التزوير ،وهنا ق!!رر الع!ودة
فوراً! إلى عدن ،وبعودته تم إنقاذه والده وإثبات حقوق أسرته .
ومع سطحية الع!!رض وبس!!اطة حبكة الرواية ورومانس!!ية نهايتها ،فإنها تق!!دم لنا في طريق!
بنائها الكثير مما يلزمنا كي نحيط بواقع المجتمع العدني في تلك الفترة ،من ذلك :
]1أن هذا المجتمع كان مجتمعا َ يعج باألجانب الذين وجدوا! في ع!دن مدينة تجارية يحقق!ون
فيها أحالمهم فع!!!دن كما يق!!!ول المؤلف ك!!!انت " نقطة ال!!!دائرة لليمن والحج!!!از والس!!!ودان
1
والصومال والحبشة وجنوب الجزيرة العربية "
وأن سكان عدن لم يتضجروا! منهم إال بعد أن تبدى خطر منافس!!تهم الشرسة لهم في أرزاقهم
،وه!!ذا ك!!اتب الرواية يع!!دد أس!!ما ًء بعض!!ها يش!!ير إلى ع!!ائالت هندية يعت!!بر ك!!اتب الرواية
أبناءها من العدنيين ،حيث يقول ":وكانت التجارة بأي!!دي الع!!دنيين الع!!رب ال!!ذين ك!!ان لهم
الق!!دح المعلى واليد الط!!ولي! والغ!!نى ال!!وافر والنعيم المقيم ،وك!!ان ي!!ترأس أك!!ثر ال!!دوائر
الرسمية أبناء الع!!دنيين ،كالس!!يد خ!!ان به!!ادر رس!!تم! علي الح!!اكم في محكمة ع!!دن ،وخ!!ان
بهادر علي إبراهيم لقمان مدير إدارة األرباح السنوية ،وخان صاحب السيد حمود بن حسن
مدير المعارف ،وعبد الحبيب رئيس الجمرك ،وخان بهادر عبد القادر مكاوي رئيس إدارة
البلدية ،والحاج عبدهللا خليفة مدير الش!!ؤون الص!!عبة ،وخ!!ان ص!!احب يوسف! خ!!ان رئيس
البورت.
]2أن أبناء عدن كانت لهم تجارة ناشطة في بلدان عربية وش!!رقية ،منها الع!!راق والك!!ويت
والهند ،وه!!ذا س!!لمان يتح!!دث عن حاله ،فيق!!ول ":ولما افتق!!دت الي!!وم أوراقي ال!!تي تثبت
براءتي من ديون شركة اللؤلؤ في بمباي والكويت ،وحقوقي! في بساتين الثمر في البصرة "
2
]3أن أبناء عدن كانوا يرون في مشاركتهم في حروب الدولة العثمانية شرفا ً لهم ،نق!!رأ ":
وقد! كان سعيداً محبا ً للدولة العثمانية ،وقد كان يرغب في أن تتكاتف! هذه الدولة مع الع!!رب
3
لرفع شأن اإلسالم "
وقد! نجد ما يش!!ير إلى أن اش!!تراكهم في الح!!روب هو الس!!بب ال!!ذي يقف وراء ال!!ثروة ال!!تي
يجمعونها! ،نقرأ عن ( سلمان ) والد س!!عيد " :ك!!ان س!!لمان عربي!ا ً ج!!اء من المخ!!اء بعد أن
جمع ث!!!روة طائلة في ش!!!رخ ش!!!بابه من الح!!!رب اإليطالية الحبش!!!ية في إيطاليا ،وبعد أن
وضعت الحرب أوزارها عاد إلى عدن واشترى بيوتا ً كث!!يرة وأسس تج!!ارة واس!!عة النط!!اق
4
وعمر داراً كبيرة سكن فيها مع أفراد عائلته "
170
]4أن المجتمع الع!!!دني يظهر بقيم زائفة دخيلة ،فالتف!!!اوت الطبقي حاض!!!ر ،وهن!!!اك أسر
رفيعة وأخرى وضيعة ،ومعيار! هذا التقسم هو المستوى! الم!!الي له!!ذه األسر .وه!!ذا ح!!وار
يدور! بين ( سالم ) الذي صرح ( لحس!!ن) عن رغبته في ال!!زواج بأخته عائشة ،يكشف عن
هذا الملمح االجتماعي -" :صدقت يا حسن ،فال يعرف س!!عير الن!!وى إال من ذاق اله!!وى ،
وإن الحب الذي طرق! قلبك قد طرق! قلبي مثله .
-حتى أنت يا سالم ؟
-نعم يا حسن
-ولكنك متزوج !
-الزواج ش!!يء والحب ش!يء آخر ،وأنا على اس!!تعداد ألن أطلق زوج!!تي الحاض!رة إذا
وصلت إلى مالكة وحبيبة قلبي !
-ومن هي ؟
-هي أختك عائشة .
في!!ذهب حسن منفعالً ،وقد ث!!ارت في نفسه مراحل الغضب عن!!دما ت!!ذكر أن س!!الما ً وض!!يع
األصل ،فقال له :
أتتجاسرـ أن تتطاولـ إلى عائشــة ،أمــا تــدري أن في وســعها أن تخنقــك لــو ســمعت كالمــك
1
هذا ،وكيف ترضىـ بك وأنت مجهول األصل ؟ "
]5أنه مجتمع ال تزال تبدو عليه مظاهر الترف والرفاهية ،يحدثنا كــاتب الروايــة واصــفا ً :
" اتخذ سلمان لنفسه مقعداً على فراش وثير واضــعاًـ تحت مرفقــه األيســر بعض األرائــك ،
وبجانبه كمية من القات المجلوب من مدينة تعز ،وأمامه صندوق من األبنوس األســودـ من
صنع منيبار في الهند ،وبقربه مداعته الثمينة وكوز مــاء معطــرة وشــيء من الثلج ،وقــد
وضعت الكراسـيـ في تلــك الغرفــة الواســعة وجلس عليهــا عــدد من األصــدقاءـ واألضــيافـ
وفاح في جوانب ( المبرز) عبير العود والعنبرـ والعطر وأخذ المقيلــون في مضــغ القــات ،
2
ثم شرعوا يتحدثون عن الكمية التي وردت منه في ذلك اليوم
وهكذا هو مقعده في بيته " :جلس سلمان على مقعــد طويــل امتــدت على جوانبــه األرائــك
الحريرية وفي غرفة فرشتـ بالسجاد الرومي الثمين وأثثت بالــدواليبـ األبنوســية والمقاعــد
المصنوعة من خشــب الســاج ،وقـدـ زينت الجــدران بالرســوم القديمــة واألواني الصــينية ،
3
ووضعتـ على بعض الموائد أوان أثرية من الصفر والنحاس "
وهذه عائشة عابسة ،ووالدها يسألها عن سبب عبوسهاـ فترد - " :كيف ال أحــزن
وقدـ رأيت بنات الناس يلبسن افخر من لباس " ،4هذا في الوقت الذي كانت ترتــديـ فيــه
5
عقد من اللؤلؤ يخطف البصر اشتراه والدها من الهند بعشرة آالف روبية .
كما يظهر هذا الترف من وصف الكاتب للباسها حيث بـرزت " وقـد ارتـدت ثوبـا ً
إفرنجيــا ً على زي القــرن التاســع عشــر يســتر الســاعدين والســاقين ،ووضــعت على
صــدرهاـ زهــرة حمــراء من الــورد الصــناعي ولبســت بعض الحلي من الــذهب الوهــاج
1نفسه(ص)33
2نفسه (ص) 8
3محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد) مرجع سابق (ص) 6
4المرجع السابق (ص)8
5المرجع نفسه (ص) 8
171
يكسو صدرهاـ العاجي ،وإسوارة مرصعة بالجوهرـ النفيس وعلى أذنيها قرطان ثمينــان
1
"
حتى زهراء التي يصفها الكاتب بــالفقر وضــيقـ الحــال ،نراهــا " وقـدـ لبســت على
جيدها عقدا من اللؤلؤ الصناعي فيه حبــات من الــذهب ،وعلى معصــميها ســواران من
2
الذهب أهدتهما لها سعاد "
ويظهرـ هذا الترف في تعدد ألوان الطعام الذي أعدته ( نور) لضيوفـ زوجهــا ( ســلمان ) :
" -نعم ،فقــد ذبحنــا خــروفين وســبعا َ من الــدجاج وســمكا ً ،وطبخنــاـ كثــيراً من األرز
والعيش ،وسنقدم لكم عسالً مما وصلنا اليوم مــع الهــدايا ،ولــدينا بعض الســلل من الخــوخ
3
البيضانيـ والتين والعنب الصنعاني "
]6إنــه مجتمــع ال تــزال تظهرفيــه جماعــة من اليهــود ،ويظه ـرـ اليهــودي تــاجرا مرابيــا
ومستغال ،وهذا حسن وسالمـ قد ركبا وذهبــا إلى أحــد اليهــود فاقترفنـاـ منــه ألفي ربيــه بربــا
ً 4
فاحش اشترط عليهما أن يخصمه مقدما "
]7إنه مجتمع ينتشر بين أوساطه االعتقاد بالدجل والشعوذة ،فبينما اتخذ سلمان مكانــه من
مقيله الذي اجتمع إليـه عـدد من األصــدقاء واالضــيافـ -فجــأة -قـدم رجــل قصــير القامـة
عريض المنكبين بدين الجسم يحمل مسبحة سوداء تفوح من أردائــه رائحــة منعشــة ،ولمــا
توسطـ الغرفة أدنــاه سـلمان منـه وقـدم لـه شــيئا ً من القـات ،وقــام النــاس يقبلـون يـده وهـو
يباركهمـ ويرفع يديه بالدعاء لهم ،ألنه كــان الســيد األعجم الــذي ظهــرت بركتــه وانتشــرتـ
أخباره في عدن حتى لم تبق عاقر إالَّ حملت وال مجنون إالَّ رجــع إلى صــوابه وال مصــاب
بصرعـ أو داء إالَّ شـفاه هللا ببركتـه ! وبعـد لحظـة رفـع يديـه فرفـعـ الجميـع أيـديهم بابتهـال
وتضرع حتى صفق داللة على االنتهاء فقرأ الفاتحة ،وغادرهم السيد وقـدـ نفحـه سـلمان
5
بهدية سنية "
وعندما مرضت زهراء استدعى أبوها رجالً من أهل هللا لو صف دواء وكتابة حرز لها ،
فقدم الرجل ووضع " يده على كتاب كان يتأبطه وأخرج مسبحة طويلة وأخذ يغمغم ويعزم
ويتلوـ أموراً غير واضحة حتى تصبب العــرق من جســمه ،فقــال :إن هــذه البنيــة أصــيبت
بمس من شيطان بين طريقين وهي تحمل لبنا ً أو بيضا ً ،فقالت أمها لقد صدق الســيد ،فــإن
زهراء عادت بشيء من اللبن والبيض من بيت خالتها سعاد قبل بضعة أيام ،وهي طريحة
الفراش منذ ذلك اليوم ،وقد وقفت بسبب الزحامـ أمــام دار الشــرطة حيث مفــترق الطــرق ،
فطلب السيد من أهل زهراء ديكا ً أبيض اللون وزعفرانا ً ومسكا ً ووعد أن يكتب لهــا حــرزاً
6
ومحواًـ وأمرهم أن يحجبوها عن كل إنسان ثالثة أيام !"
ليس هذا فحسب ،بل يبدو أن أ فكارا غريبة وبدعا ً قد أخــذت طريقهــا إلى عقــول النــاس
ونفوســهمـ ،وهــو موقـفـ يلتقي فيــه نــور على البــاخرة العائــدة إلى عــدن بشــيخ الطريقــة
المرجانية ،والتي -كما يقول المؤلف -كان لها مركزها في عدن ، 7حيث أخبره الشيخ
بأنــه عائــد من الهنــد بعــد زيــارة الــولي المشــهورـ في دلهي ( نظــام الــدين أوليــاء ) وهــذه
1نفسه (ص.) 9
2نفسه (ص) 13
3نفسه (ص) 7
4نفسه (ص) 37
5نفسه (ص) 9
6محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق (ص)20
7المرجع السابق (ص) 43
172
الطريقة -على ما يبدو من الحوار الذي دار بينهمــا -تــرى وجــوب االستســالم لإلنجلــيز
وعدم المطالبة باالستقالل حتى يظهر المهدي المنتظر ،يردد هذا الشــيخ قــول أحــد كبــار
شيوخ الطريقة فيقـول " :اعلم يـا رجـل أن اإلنجلـيز يملكـون الـدنيا بـدون منـازع حـتى
1
يخرج المهدي المنتظر فال تقاومهم "
أما موضوع رواية ( مأساة واق الواق ) فهـوـ موضــوع سياسـيـ بالدرجــة األولى يتمحــورـ
حول ما تعانيه اليمن من قمع سياسي وما يقاســيه أحرارهــا من اضــطهاد وقتــل وتنكيــل في
ظل استبداد الحكم األمامي الكهنوتيـ ،فالكاتب الذي عاش ظــروفـ اليمن ومآســيه في تلــك
الفترة لم يستطيعـ أن يعزل قلمه ع َّما يجري حوله .
وإذا كانت اليمن قد عانت الكثــير من المشــكالت االجتماعيــة المنعكســة عن طبيعــة النظــام
السياسيـ الجاثم عليها ،وهي المشكالت التي احتلت مركزاً مهما ً من اهتمام كتــاب الروايــة
بعــد ذلــك ،فــإن الكــاتب الــذي عــاش ظــروف اليمن ومآســيه في تلــك الفــترة المظلمــة من
تاريخه ،وشهد ما حدث لثوار 1948م من قتل وتنكيل -وهو الحدث الجوهري الذي فجــر
الطاقة اإلبداعية لخياله الروائي -قد ارتأىـ أن موضوعاًـ كموضوعـ روايته يقــف على قمــة
الموضوعاتـ المهمة في ظرفها التاريخي ،وألجل ذلك كان االنصرافـ إليــه دون غــيره "
وإذن فال ينبغي أن أطلب إلى كاتب ما أن يعــالج لنـا قضــايا اجتماعيــة ونحن نناضــل أعظم
2
النضال من أجل التحرر السياسي قبل أي شيء "
ونحن إذا ما حاولنا البحث عن سبب االلتفات إلى هذا الموضوعـ سنجد بأنه كان مسببا ً أوالً
بما يحدث في اليمن من قمع وتنكيل ومجازر وتعذيب تزايد مداه وارتفعت حدته بعد فشــل
ثورة 1948م الدستورية ،وما نال هذه الثورة من تشــويه ومــا طــال شــهداءها من تنكيــل ،
حيث قام اإلمام أحمد مع من يسانده بشن حملة شــعواء تســتعطفـ أبنــاء الشــعب إزاء جــرأة
الثوار في أقدامهمـ على قتل إمام طاعن في السجن ،وتشهرـ بقتلته ( شهداء الثوار ) مستغالً
الوازع الديني الــذي كــان يلـوح بـه في الـوقت الــذي يريــد والمناسـبة الــتي يشــاء ،فهـؤالء
الثائرون لم يكونوا – وفقا ً لحملته – سوى مختصرين للقرآن الكريم ،وثانيا
بما لقيه من خضوع واستسالم صادم ،وخيبة أمل سيطرت على أبناء الشــعب اليمــني كلــه
إثر فشل االنقالب ،حتى كادت تميت فيهم إرادة الحياة ،وثالثا
بما قابله من جهل عربي وتغافل دولي لما يجريـ في اليمن من مذابح تقشعر لها األبدان .
ومن هنا فقد كان للكاتب أن يعبر عن موقفه مما جرى ويجــري فيبحث في األســباب ويفنــد
النتائج ،مشيراً إلى المتسببين ،موجها ً االتهام واللومـ إلى أطرافـ مختلفة شهدت الحـدث ،
كان أوسعهاـ الشعب اليمني بزخمه وامتداده .
وألن الموضوع متصل بالتجربة الشخصية للكاتب باعتبــاره أحــد النــاجين من أحــرار هــذا
االنقالب ،فقد انعكس ذلك على طريقة تناوله موضوعه ،حيث نلمس في أكثر من مــوض
ع ارتفاع صوت الذات إلى الحد الذي يشوش على موضوعية هــذا العمــل ،وهــو مــا أكــده
الدكتورـ عبد الحميد إبراهيم في تقديمه للرواية حيث يقول ":إن الزبيريـ يــذكر في مقدمــة
ديوانه ( ثورة الشعر ) أنه جــرب اســتعطاف اإلمــام ومدحــه بقصــائد حــاول من خاللهــا أن
يشرح مآسي المواطنين ،وأنه جرب وسيلة الدين الذي كان يتسترـ اإلمام تحته ،ودعــا إلى
إصالحه عن طريـقـ الــدين حــتى يقتنــع بهــا المواطنــون ،ولكن شــيئا ً من ذلــك لم يصــلح ،
1المرجع نفسه (ص)44
2عبد المالك مرتاض ( القصة الجزائرية المعاصرة ) المؤسسة الوطنية للكتاب /الجزائر 1990م ( .ص)18
173
فاإلمامـ ماض في غلوانه ،ال يقتنع بمديح أو استعطافـ ،المواطنونـ ماضون في سباتهم ال
يسمعون لصوت سوى صوت اإلمام ،ولكن كل هذه المحاوالت لم تذهب عبثا ً ،فقد أعطته
اليقين الثوري وأقنعته بأن كل طريقـ مسدود ،سوى طريقـ الثورة ومن هنا جاءت الرواية
تحمل أفكاره بعد تجربة طويلة ،وبعد تعثرات هنا وهناك ،فهو يحاول فيهــا أن يســتعرض
تاريخ بالدة ،وأن يحلل ثوراتها وأن يكشفـ عن أسباب فشلها ،وأن يضــع يــده على عقــدة
1
اليمنيين التي ترسبت خالل التاريخ "
وهو الصوت الذي نلتقيه في أكثر من موضع في سياق الرواية ،منها تلــك المواضــع الــتي
يستعرض فيها صنوفـ العذاب الذي يلقاه الظالمون والبغاة في جهنم ،ومــع أن اســتناده في
ذلك على قاعدة الجزاء من جنس العمل ،قد جعل ذلك العذاب مبرراً ،غير أننا نلمس ذلــك
في تفننه في ابتداع أساليب العـذاب تفننـا ً يحيـل الخيـال الـروائيـ في هـذا العمـل إلى مجـرد
خيال تنفيسي ينتقم خالله لنفسه الجريحة ولشعبه المكلوم ،مما يعطي انطباعا ً بغلبــة الــذات
التي كانت تبحث عبر هذه الصــورـ المبتكــرة ع َّما يشــفي غليلهــا ممن تســببوا في مأســاتها ،
كأن يعد لإلمام موضعا ً فريداً في جهنم أسماه الصنارة الجهنمية ،وهي جبل عــال يخــترق
أجواء الفضاء ،في شكل صنارة محمية معقوفة في أعالها كأنما التوت من حرارة النار، 2
وفيهاـ يمارس لون من العذاب المخصوص ،في " بحيرة من شوب الجحيم يقــذف الزبانيــة
فيها جثــة الطاغيــة ،فتغــوص ثم تظهــر ،ويبــدوـ أنهــا غاصــت ألن عيــون النظــارة كــانت
شاخصة إلى سطح البحيرة ،وما هــو إالًّ قليــل حــتى تظهـرـ الجثــة وقـدـ حــال لونهــا وتغــير
صـنعت على وأصبحت كأنها كتلة من العجين الرخو ،وهنا مد أحد الزبانية ملعقة ضــخمة ُ
شكل وحش ،وأخذت أحشاء هذه اآللة تدق دقا ً عنيفا ً ثم وقفت وتقيأت قطعــة " " .......إنــه
وجه الطاغية ومالمحه وجسمه كله تحول إلى شكل لاير نمسـوي – وهـو العملـة المتداولـة
في مملكة هذا الحاكم ،وقد كتبت علي أحد وجهي هذه القطعة :الطبعة الواحــدة والســتون
3
بعد األلف !"
ومنه أيضا ً ما نجده من انفعال ترتفع حدته بشكل مثير للتساؤل عند الحديث عن أسر
بعينها ،وما حدث لشهدائها من تنكيل ،ومنه أسرة ( آل األحمر ) التي ميزهــا الكــاتب عن
غيرها ،وأفردـ لها صفحات خاصة من المديح والتمجيد ،ومثل ذلك حديثه الممجد بحماس
كبــير لبعض القبائــل دون غيرهــا ،وهــو تمجيــد يتكــرر وروده في أكــثر من موضــع من
الروايــة ،وفي المقابــل ال نجــد على صــفحات الروايــة مســاحة تختص بجمــوع البســطاء
أصحاب المصلحة الحقيقية من وراء عمليات التغيــير ،والشــريحة الــتي يمكنهــا وبإرادتهــا
وحدها أن تجرف كل الصخورـ التي تقف في الطريقـ مما يعطي صورة واضــحة عن فكــر
الكاتب التقليدي واعتقاده بصوت األسرة والقبيلة وترجيحــه على أي صــوت أخــر ،وبــذلك
تكون الرواية قد تعالت على الطبيعة األخرى لليمن أرضا ً وإنسانا ً ،تلك التي تؤكد بقــوة أن
اليمن ليست كلها تشكيالت قبلية وأسرية كما نلمس هــذا الحس الــذاتي الضــاغط في إغفالــه
ذكر تمردات بعض المناطق خارج دائرة اهتمامه ،والتي بادرت إلى مقاومة الطغيان قبــل
غيرها ،وإغفاله حدث مهم كثورة 1955م التي لم تحتل من روايته مكانتهـاـ الــتي تســتحقها
رغم أنها تقع ضمن محتوىـ الفترة التي يجري عليه الحدث الــروائي ،وكــذا إهمالــه مكانــه
174
شهدائهاـ الذين قـاموا بــأدوار ال يمكن إغفالهـا ،ومنهم الشـهيد ( أحمـد يحــيى الثاليــا) الــذي
تثيرقلة حضوره في سياق السرد الروائيـ وتأخير ذكره تســاؤل القــارئ ،حــتى يهيــأ لــه أن
الكاتب نفسه قد تنبـه إلى ذلـك فتـداركـ األمـر وذكـره مـرتين قبيـل بلـوغ الروايـة نهايتهـا ،
إحداهما في ذيل صف طويل من الشهداء ،حيث يقول " :وأذكر من شهداء الثــورة الثانيــة
الشهداء :يحيى بن أحمد السياغي وشقيقه حمودـ الســياغي ،ومحمــد حســين عبــد القــادر ،
وعبد الرحمن الغولي ،وعلي حسن المطــري ،ومحمـدـ ناصــر الجــدري ،وعبــد الــرحمن
باكر ،وعلي حمود السمة ،وقائــد أحمــد معصــار ،وحســين الخبــاني ،ومحســن الصــعر ،
وأحمد الدفعيـ ،وأحمد الثاليا وغيرهم " ، 1واألخــرىـ حين أبــرزه وهــو ينــبريـ متحمسـا ً
داعيا ً الشعب اليمني إلى نصرة قبيلـة خـوالن ،وهي القبيلـة الـتي اسـتأثرت بعنايـة الكـاتب
وحماسته ،ومعها قبيلتي همدان وحاشدـ ،حيث يقول " :وهنا نهض ألول مــرة قائــد ثــورة
1955م الشهيد أحمد يحيى الثاليا ،فقال :أراكم يا إخوتي قد ذهبتم بعيداً عن الخنجــر الــذي
ينهش صدر الشعب وهو الوشاح يا جناه ،إنه يعلنها اليوم حربا ً شعواء على خوالن الباسلة
2
المناضلة ،فلماذاـ ال تصدرواـ قراراً إلى الشعب كي يتحرك مع هذه القبيلة األبية "
وربماـ يبرر موقف الزبيريـ من الثاليا ،أنه كان على رأس من وقف ضد انقالب 1955م
،يقــول الــدكتورـ أحمــد قايــد الصــايديـ " :وقــد تســبب االنقالب بحــدوث صــدع في جســم
الحركة الوطنية ،فقد وقـفـ بعض رجاالتهـا إلى جـانب االنقالب ،في حين وقـف بعضـهم
اآلخر ضد االنقالب ،وكان على رأس من وقــف ضــد االنقالب محمــد محمــود الزبــيريـ ،
الذي انسجم موقفه مع موقف مصر ،فقد خشيت مصر وخش ـيـ المعارضــون لالنقالب من
3
شخصية اإلمام عبدهللا بن يحيى الذي كان في نظرهم رجل أمريكا في اليمن "
وعلى الــرغم من هـــذا التغليب للجـــوانب الذاتيــة على الســـياق الســردي الـــتي نـــالت من
موضوعية هذا العمل ،فإن الكاتب قد أظهر درجة من الــوعي بــدواعي الموضــوعية الــتي
يقوم عليها هذا النوع من األعمال األدبية ،فحبكة هذا العمــل مصــاغة بطريقــة تكشــف عن
قدر من الحرفية ،ففي المنطقة ما بين غياب الوعي تحت تأثير عملية التنــويم المغناطيس ـي
وبين االستفاقة ،تم االطالع على جميع الوقائع التي تــواردت تباعـا ً خالل أســلوب الســرد
االسترجاعيـ وهو األسلوب الذي اعتمد عليه الســياقـ الســردي في كليتــه ،كمــا أن تمســك
الكاتب بربط األسباب بالمسبباتـ كعماد تقوم عليه حبكة هذا العمــل ،قــد شــكل رافــداً يــدعم
موضوعيته ويؤدي دوره في بلوغ غاية اإلقناع بفكرتة وبآلية تناوله ومنطقـ عرضه ،ممـا
خلــق قــدراً مقبــوالً من التــوازن بين الجــانبين .فربــط األســباب بالمســببات كــان أحــد أهم
وأبرزـ جوانب الموضوعية فيه وهو الربط الذي نلتقيه في مواضع مختلفة منه ،من ذلك :
إنشاء العمل على فكرة الرحلة الخيالية ،وهي الفكرة التي مكنته من حرية الحركة ،والتنقل
ع!!بر الزم!!ان ال!!ذي استحضر منه شخص!!ياته ذات المواقف! التاريخية الخال!!دة ،وأما المث!!ير
المباشر! لقيام هذا العمل على فكرة الرحلة الخيالية ،فكان :
-1المناس!!بة الدينية المح!!ددة بليلة الق!!در بما تث!!يره ه!!ذه الليلة من روحاني!!ات عالية وتجلي!!ات
تتسامى! لتبلغ عوالم الروح ،وهي مناسبة تداخلت مع تك!!وين الك!!اتب الثق!!افي ،ال!!ذي يش!!كل
1المرجع السابق (ص)226
2المرجع نفسه (ص)283 ،284
3مجموعة مؤلفين ( وثائقـ وأدبيات ندوة الثورة اليمنية سبتمبر ،أكتوبر ،نوفمبر ن التحوالتـ السياسية واالجتماعية والثقافية )
صنعاء 23/24نوفمبر 2008م ،مركز الدراسات والبحوث اليمني /صنعاء من دراسة لـــ.أ.د .أحمد قايد الصايدي بعنوان ( البعد
التاريخي للثورة اليمنية – سبتمبر وأكتوبرـ .ص
175
التراث األدبي منه جانبا ً مهم !ا ً ،حيث التقى في موروثة األدبي ما يحت!!وي حالته من الس!!مو
الروحي! والتجلي المتسامي -كمسلم يتأثر بقداسة هذه الليلة -ضمن ق!!الب قصصي! خي!!الي
يرتكز! على أرضية دينية كما في رسالة الغف!!ران ألبي العالء المع!!ري ،يرف!!ده عمل ت!!راثي
آخر يستند إلى أرضية من الخيال الغرائ!!بي تمثله رحالت الس!!ندباد في ألف ليلة وليلة ،ه!!ذا
باإلضافة إلى وجود عمل قصصي! ح!!ديث في أدبنا اليم!!ني ،ارت!!اد ه!!ذه المنطقة من الخي!!ال
الغرائبي! في فترة الخمسينيات ،ذاك هو قصة ( إنسي في عالم الجن ) التي كتبها (دن!!دان) .
)2 .وجوده خالل ف!!ترة إنش!!اء ه!!ذا العمل في ( أرض الكنانة ) ،وارتي!!اده الج!!امع األزهر
بحكم تنشئته الدينية ،فكان له أن يستغل ه!!ذا المك!ان -بماله من مكانة في نف!!وس المس!لمين
في شتى بقاع األرض -ويحرك بطل روايته منه مستثاراً بما رآه من جهل عربي وإسالمي
ودولي! بما يحدث في اليمن من كوارث عظيمة ،كان من المتوقع! أن تقوم الدنيا لها وال تقعد
،باألخص وأنه قد تبادر إلى علم الجامعة العربية ما يحدث في اليمن ،فأرس!لت! وف!!دها إلى
الري!!اض في محاولة منها للت!!دخل في الص!!راع بين النظ!!ام الجديد وبين المط!!الب ب!!العرش
( اإلمام أحمد بن يحيى حميد الدين ) .1
فافتعــل لقــاء بين بطــل روايتــه وبين شــيوخ األزهــر لــيرتكن عليــه في كشــف مفارقتــه
العظيمة ،حيث شيوخ وعلماء األزهر يحيطون علما َ بكل ما يجــري على أرض اإلســالم ،
بل ويتعدىـ األمر إلى اإلحاطة بأمور تتعلق بأمم بعيدة ،لكنهم -ومن خالل حديثهم الدائر-
لم يتطرقواـ إلى مــا يجــري على أرض اليمن من مــآثم ،وفجــائع عظيمــة " سـمعهمـ العـزي
محمــود يتحــدثون عن قضــاياـ الــدنيا واآلخــرة ،ويخوضــون في مشــاكل األمم البعيــدة
والقريبــة ،ويضــعون كــل هــذه المشــاكل في معــايير اإلســالم ،ويقضــون فيهــا قضــاءهمـ
ويصــدرون فيهــا فتــاواهم ،ويعلنــون في ثقــة واعــتزاز بــأن اإلســالم يجب أن يعــني بكــل
صغيرة وكبيرة وأن يصدر فيها حكم هللا .
وعجب العزي محمودـ لسعة االطالع عند هؤالء العلمــاء ،ولشــعورهمـ الغيــور المرهــف
إزاء كل مأساة إنسانية على وجه األرض ،مأساة الكونغوـ مثالَ ،ومأساة التفرقة العنصرية
في جنـوب أفريقيـا ،ومأسـاة الهنـودـ الحمـر في أمريكـا ،وحـتى محنـة األخالق في فنـادق
الشرق األقصىـ التي تعرض لها الصحفي أنيس منصور أصدرواـ فيها فتاواهم .
ولم يبق مكان في األرض إالَّ طارت إليه المناقشة وصدرت إليه األحكام ،وتطلعـ العــزي
محمودـ إلى هؤالء واستشـرقـ أحـاديثهم الجريئـة المنـيرة ،وانتظـر أن يتحـدثوا عن بالده
وفيهاـ أحداث ضخمة تعتبر موضوعا َ خصبا َ ألحكــام هللا ،ولكن الحــديث يمضــي ويمضــي
2
ويكتسح آفاق األرض وينتهي منها ويعلن الختام "
ومن هنا شرع يحرك بطل روايته لمبادرتهمـ بالحديث عن ( واق الواق ) ،تلــك الجزيــرة
التي ظل يبحث عنها الســندباد في أســفاره الطويلــة ولم يجــدها ،مــدعيا َ في مفارقــة يثيرهــا
ساخرة مستفزة بأنها بلده الضائعة ،ومن هنا كان اســتخدامه هــذا الترمــيز الســاخر عنوانـا َ
لعمله وسيلة الستفزاز القارئ ( صاحب الشأن ) الذي يتوجه إليه بهذا العمــل ،فيحثــه على
1مجموعة مؤلفين ( وثائق وادبيات ندوة الثورة اليمنية سبتمبرـ وأكتوبر) من مقال د .قايد الصايدي ،مرجع سابق (ص)53
2محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق)( ص)22،21،
176
ضرورة التحــرك والقيــام بفعــل يــبرهن بــه عن رفضــه لهــذا الــذي يجــري ،وهــو أســلوب
معروفـ في أدب الزبيري القائل :
قدرت على حمل العصا األجساد و إذا ثوت تحت الضلوع بهائم
فــــ ( واق الــواق /اليمن) تعيش مأســاة مضــاعفة ،تتحــدد مالمحهــا أوالَ في مجهوليــة
الوجــودـ الجغــرافي والتــاريخ لهــذا البلــد ،فــاليمن هي البالد المغيبــة الغائبــة على خريطــة
الوجودـ المعاصر ،وهو الغياب الذي يمتد ليلقى بظلمته الكثيفة على األعمــاق الســحيقة من
التاريخ ،فذلك الحضــور القــوي الــذي كــان في التــاريخ البعيــد قــد غيب هــو أيضـا ً ،حيث
امتدت ظالمات الغياب واكتسحت بكثافتهاـ كــل نقطــة إشــراق ،ليغــدو ذلــك التــاريخ البعيــد
مجــرد ضـرب من ضـروبـ األسـاطيرـ ،وألجــل ذلـك تكـون رحلــة البحث منبتــة في عـالم
خيــالي غرائــبي أقــرب إلى عــوالم األســاطيرـ ،حيث ال يمكن الوصــولـ إلى تلــك الجزيــرة
المكتنفة بالظلمة والغائبة تحت ظالل األساطيرـ إالَّ بهذه الوسيلة الغرائبية ،وهكذا نهضــت
فكرة الرحلة مبرراَ للتحليق في عوالم الغيب البعيدة ،التي من خاللها نسج الكاتب طريقــه
إلى غايته التي تبلغ حد إثارة الوعي بضرورة قيام الفعل الرافض .
أما عن رحلة العودة إلى التاريخ البعيد الممتد حتى فأرـ سبأ الــذي هــدم الســد العظيمـ ،فقــد
كان لها ما يبررها أيضا ً .
فكاتب العمل يذهله ما يرى خضوع وتخاذل استشرى في نفوس اليمنيين حتى يبدو لنفسه
الحائرة المضطربة وكأنه قد غدا سمة في شخصياتهمـ ،وهو يتوجه إلى التــاريخ باحث ـا َ عن
مبرر يقف وراء هذا الجانب السلبي من الشخصية اليمنية الذي أعياه تفسيره ،فأخ ـذـ يســلط
الضوء على مناطق السواد من هذا التاريخ الــتي ربمــا تكشــف عن ســبب مقنــع يقــف وراء
هذه الظاهرة الكارثية .
وهنا يلتقي بشخصيات تاريخية عرف لها التاريخ مواقف مشرفة ،لــوال أنــه يرك ـزـ على
هدفه متحركا َ وفق رؤية تشاؤمية تشعرنا باقترابها من رؤيا المذهب الطبيعيـ للشـر الكـامن
في الطبيعية البشرية ،إذ يدفعـه هـذا اإلحسـاس المتنـامي إثـر عجـزه عن التمـاس تفسـير
منطقي مقبول يفسر تلك الحالة من الخنــوع ،فتظهـرـ الشخصــيات الــتي يــرى الكــاتب أنهــا
مسؤولة ع ًّمــا مــنيت بــه الشخصــية اليمنيــة اليــوم ،حيث يقــوم مخاطبـا َ ســيف بن ذي يــزن
وعثمان بن عفان وعبد المطلب بن هاشم ،وهي الشخصيات التي ظهرت متهمــة بجنايتهــا
على الشخصــية اليمنيــة ،فيقــول " إننــا خلفــاؤكم في أرضــنا ،ورثنــا أعــراقكم ودمــاءكم
وأدواءكمـ ومشاكلكمـ وخالفاتكمـ وأخطاءكم وصوابكم ،لقد انحدرت إلينا حياتكمـ كلهــا عــبر
األجيال وتطورتـ في كل عصر ،وأضيف إليها رواســب كــل جيــل مــرت بـه ،ولم تصــل
إلينا إال بعد أن بلغ العسر فيها والتعقيد مبلغا َ ال بـد لنـا معـه من مناقشـة الممثلين الرئيسـيين
1
لكل تيارات األجيال منذ حضارتنا األولى حتى اليوم "
وتحضر الشخصيات في قفص االتهام ،كل يبوء بتهمته ،فالضابط العراقيـ جمال جميــل
يواجه سيف بن ذي يـزن قـائالَ " :إنــك تنكـر التقليــد على شــعبك وتنكــر تشــاغله عن بنـاء
حضارته باالتجاه إلى الرومان والفــرس ولكنــك تنس مســؤوليتكـ الكــبرى ،إنــك اســتقدمت
الفــرس إلى بالدك وســممت روح الشــعب باالتكاليــة ،وتــركت فيــه عقــدة االعتمــاد على
اآلخــرين في حــل مشــاكله ،وقــد رأيت آثــار هــذه العقــدة بنفس عــام 48م فقــد كــان الثــوار
177
يسـيطرون على البلـد سـيطرة تامـة ،ولكنهم كـانوا يشـعرون شـعوراَـ غريبـا َ بـأن الجامعـة
العربية يجب أن تحضرـ إلى عاصمة الثورة ولو لمجرد الضيافة ،بل وكانوا يصرونـ على
1
أن يشترك في حكومة الثورة وزراء من دول الجامعة "
ويحضر عبد المطلب بن هاشم مدافعا َ عن نفسه من تهمة التخاذل التي شملته مــع غــيره ،
فيقول :وإنا ماذا يعنينيـ من هذا كله ،ومــا دخلي فيــه ،إنــني رجــل مســالم ،وال أميــل إلى
الصــراع ،وليس أدل على ذلــك من أنــني تــركت الكعبــة لحمايــة ربهــا وبحثت عن إبلي ،
وقلت للغزاة أنا رب إبلي وللكعبة رب يحميها ،كذلك كنت وأنا في الـدنيا فكيـف تطمعـون
أن أعلن الحرب على مزاجي المسالم ،وأنا في دار السالم ...؟ كال يا أبنائي كال " .
ويحضر عثمان بن عفــان الــذي قــام عاملــه بهــدم قصـرـ غمــدان جهالَ منــه ،إذ اعتقــد أن
اإلسالم يهدم ما قبله حتى الحضارة والعمران ،فنسـمع على لســان العـزي محمــود " :إن
الهدم كان خطــأ جســيما َ وال شــك ،وكــان في لحظــة من لحظــات الحمــاس األهــوج ،ولكن
األفظع من ذلك أن تتحول قاعدة القصر إلى سجون وكهـوف رهيبــة ،وأن يـذهل الحكــام ،
وتنحطـ مشــاعرهم وآدميتهم ،فلم يســتطيعواـ أن يتــذكروا مجــداَ وال أن يــروا عــبرة ،وإنمــا
تتلمس أيديهم كالعميان ترابا َ وحجارةَ في أصول هذا القصر ،فال يجــدون فرقـا َ بينهــا وبين
القيــود ،ولقــد جعلــوا منــه ســجونا َ تعتــبر مقــبرة لألحيــاء ،وتمــر على الحكــام العشــرات
والعشــراتـ من الســنين ،فال يخجلــون من التــاريخ وال ينظــرونـ إلى الهــوة الشاســعة الــتي
2
تفصل بين آدميتهم وآدمية الذين بنوا هذا القصر منذ قرون بعيدة .
أما فأر السد فيأتيـ حضوره بداع من دواعي التتبع واالستقصاءـ الذي ال يترك ســببا َ مهمــا
كان صغره ،فهوـ يعاقب في جهنم ليس فقــط بتهمــة إقدامــه على هــدم ســد مــأرب العظيم ،
وإنما أيضا ً من سنه شرعة الهدم والتخريبـ ،إذ أن معظم الذين حكمــوا مــأرب خالل ألــف
3
عام اضطلعواـ بمهمة التخريب المستمر تشبها َ به .
أمــا عن قاعــدة الجــزاء من جنس العمــل الــتي يتجلى فيهــا إدراك الكــاتب ألثــر اســتغالل
الوازع الديني على شعب مجهل ،فأخذ يقارع الطغيان بوسـيلته الــتي ظــل يســتغلها ويلـوح
بها طوال فترة حكمه ،كما يتجلى خيال القاص في أبدع صوره ،حيث يفــرد لكــل شــريحة
ظالمة طريقة من العذاب تخصها وتتناسب مع طبيعــة الظلم الــذي كــانت تمارســه ،ونحن
نلمس أثر رحله اإلسراء والمعراج وما شاهده الرسول عليه الصالة والسالم ،وأطلع عليه
في السماوات العال -كما تحكي ذلك كتب السيرة -فيما أبدعه خيال الكــاتب من اســتنباط
شكل العقوبة ونوعها ونوع الجرم المقترف ،في مقياس يوحي بالدقة والعــدل ،وإن ســعى
الكاتب قصداَ إلى المبالغة أحيانا ً في تصويرـ عذابات هؤالء الظالمين ،كأسلوب من أساليب
الردع لمن ال يزال يدأب دأبهم أو يقتفي أثرهم أوال ،ثم للتنفيس عن نفسه المكلومة والتلذذ
بسوقـ عذاباتهم حركة وصوتاَـ في محاولة لتحقيق ما لم يتحقق على أرض الواقع ،فالخونة
المعممون والقضاة الذين كــانوا يتظــاهرون بالــدين فيلبســون العمــائم واألحزمــة والخنــاجرـ
ليكســبواـ أنفســهم مظهــراَـ من الحصــافة ،بينمــا هم يضــطهدونـ البســطاء والمــزارعين ،
ويأكلون الرشــوة ويضــللون الجنــود والقبائــل ويســلطونهمـ على إخــوانهم األبريــاء العــزل ،
ويضــربون القبائــل ببعضــهاـ ،كــان جــزاؤهمـ أنهم " يقومــون ثم ينصــرعون ويقومــون
178
وينصرعون " ".........على رؤوسهم عمائم من اللهب وفيـ أوســاطهمـ أحزمــة من الحيــات
رؤوســهاـ تشــبه الخنــاجر ( الجنــابي ) فهي تطعنهم وتنهشــهمـ فيســقطون على األرض ،ثم
1
تتداخل جراحهم فوراَـ فينهضون على أقدامهمـ من جديد .....وهكذا "
وأذنــاب الطغيــان من الزراني ـقـ الــذين تحولــوا من مجلــودين إلى جالدين بعــد أن تكيفت
جثثهم العنيدة مع بيئة اإلذالل الرهيب الذي أنزله بهم ( الوشاح يا جناه) حــتى تعايشــوا مــع
الفئران واألقذار ،ففسدت ذممهم وضمائرهمـ حتى أصبحواـ مخلوقات كأنما صــنعتهاـ روح
الوشاح ،فلما ُز ًّج باألحرار إلى سجونهم لم يجد الوشاح أفضــل منهم ســفاحين يــذبحون لــه
األحرار ،فعذابهمـ أن وضعت على أقــدامهم وأيــديهم وأعنــاقهم أغالل من نــار ،وســخرت
لعذابهم مخلوقاتـ نارية بشعة تشبه الفئران " وإن كان يبدو عليهــا أنهــا لهب ،وكــانت هــذه
المخلوقــاتـ تنــدفع إلى أفــواه هــؤالء القــوم ،فســرعان مــا تتحــول طبيعــة أجســامهمـ بفعــل
االحــتراق ،ويمســخون إلى صــور فــئران كبــيرة فظيعــة ثم يعــودون إلى ســابق صــورهم
2
اآلدمية .......وهكذا .
أما الشــيخ الخــائن الــذي يظهـرـ العنايــة بالصــالة ،وهــو شــيخ ســوء ذليــل مــرتش ِ ،بــاع
ضميره للطاغية العماد ومن بعده ابنه الوشاح ،وما يزال الطغاة يطمعون في شــرائه كلمــا
دعتهم الحاجــة إلى خيانــة أو جريمــة ،والــذي أبلــغ زبانيــة العــذاب بموتــه القــريب فأخــذوا
يعدون العدة الستقباله ويصنعون لـه آلـة رهيبـة للتعـذيب تشـبه أمـاكن الصـالة سـخرية بـه
واحتقاراَ لصالته ،يخــاطب أحــد الزبانيــة العــزي محمــود ،قــائالَ -" :تعــال معي ،انظــر
هاهو أوالَ مكان الوضوء مملو ًء بماء الحميم ،وسيأتيـ هذا الشـيخ الخـائن فيتوضـآ فيشـوي
الحميم أعضاء وضوئه ،فتتساقط ثم تعود وسيظل في تعذيب الوضــوء أعوامــا وأعوام ـا ً ،
ثم ينتقل إلى هذا المحراب الجهنمي ،انظر إليه فإنــك ال تــراه محرابـا ً ،وإنمــا هــو صــورة
للطاغية صيغت صياغة جهنمية لتكون صنما ً يعبده هذا الشيخ العبد ،فينحنيـ كالراكع ومــا
هو براكع ،ثم يخر كالساجدـ وما هو بساجد ،وتمتد يد الصنم الجهنميــة فتجــذب الشــيخ من
رأسه ليركع للصنم ويقبل ركبتيـه ،كمـا كـان يفعـل في الـدنيا حينمـا يجيء الطاغيـة فيقبـل
3
ركبتيه راكعا ً ثم يبيع شرف قبيلته ويقبض الثمن بخسا ً حقيراً دراهم معدودات "
أمــا األئمــة الظــالمون :الــذين فرضــوا ملكهم بالســيف وباس ـمـ الــدين ،فســحقوا الشــعب
واعتصرواـ ثروته ودمه ،وحكموه قروناًـ دون أن يصنعواـ له شيئا َ ،وكل مــا يفعلــه أحــدهم
أن يــترك من بعــده قبــة مســجد يبنيهــا من مــال الشــعب وضــريح يواصــل بــه حكم الشــعب
وإقطاعياتـ يخلفونها ألبنائهم ،فقد رآهم العزي محمــودـ " قبابـا ً شــنيعة شــاهقة تشــبه قبــاب
المساجد الكبيرة ،ودناـ منها فلما سدد نظرة إليها إذا بــه يراهــا جمــاجم آدميــة تضــخمت في
شكل مرعب ،وتراجعـ قليالَ من صــدمة الفــزع ثم تشــجع وأقــدمـ فســمعهاـ تئن أنينــا موجعـا َ
4
وتتشاكى فيما بينها وتتذكرـ ماضيها "
وهذا أمير النهب الذي حرض القبائل على نهب العاصمة وغرر بها ،فأباح لهم األمــوال
واألعراض واألرواح البريئة ،وهو األخ الذي ذبحه اإلمام أحمد بعد ذلك بتهمة االشــتراك
في ثورة 1955م ،والتي اشترك فيها للتخلص من سلطان أخيــه وليتمكن من نهب الشــعب
بطريقة مستديمة منظمة ،قد عاد لهبا ً مخيفا ً يتهادى من بعيد ،وقد أخــذ يــدنو شــيئا َ فشــيئاَـ ،
1المرجع السابق ( .ص )95،94
2المرجع نفسه (ص)97
3ا محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق(ص) 101 ،100
4المرجع السابق (ص)112
179
فلما وقع في متناول البصر تأمله العزي محمود " فإذا هو لهب طويل متراكم بعضــه فــوقـ
بعض إلى ما يتجاوزـ مد البصر في األفق ،وهذه الكتلــة الضــخمة من اللهب كلهــا محمولــة
على رأس إنســان من المعــذبين ،وتــبين أن اللهب منــدلع من أثــاث وأدوات ال يــأتي عليهــا
الحصر ،وهي مختلفة األنواع واألشــكال واألحجــام منهــا الســجادات والمــراتب والوســائدـ
والكنب واألبواب والمالبس واألحذية وغيرها ....وغيرها ...أصبحت كلها مركومة على
رأس هذا المخلوق التعس بطريقة فوضــوية غـير منتظمــة وهــو يصــيح ويتــأوه ،ال يــدري
1
الناظر إليه أيتألم لشدة العبء الذي يحمله ،أم لهول الحريق الذي يطبق على جثته "
أمــا أولئــك الــذين يحتشــدون يطلقــون الهتافــات المؤيــدة لطــواغيت الظلم واالســتبداد فلهم
نصيبهمـ من العذاب ،هاهي أصوات " تشــبه الهتافــات الثوريــة تــدوي كالرعــد القاصـفـ ،
وفجأة ظهـرت جمـوع غفـيرة تزحـفـ وشـعورهاـ منكوشـة وألسـنتهاـ مندلعـة إلى صـدورهاـ
واللهب يتطاير من عيونها وخياشيمهاـ ،فلمــا بصــرت بحامــل األخشــاب واألبــوابـ عرفتــه
على الفور ،وانـدفعت إليــه كـالوحوشـ ،ولم تكن األصــوات واضـحة الداللـة إالَّ أن بعض
أصوات منها كان يعلو أحيانا ً فتنجليـ معانيه منها صوت يقول :
-ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا! السبيال ،ربنا آتهم ض!!عفين من الع!!ذاب والعنهم!
لعنا ً كبيراً ،ومنها صوت يقول :
-ربنا هؤالء أضلونا! فآتهم! عذابا ً ضعفا ً من النار . 2 " ....
وهذا فأر السد ومن تبعه من أفواج المخ!!ربين يس!!رد عقابه بلس!!انه فيق!!ول مخاطب!ا ً الع!!زي
محم!!ود! ":أنا محس!!وبك ف!!أر سد م!!أرب الش!!هير ،وه!!ؤالء تالمي!!ذي وخلف!!ائي ،إننا عوقبنا
وكلفنا أن نظل أبداً نهدم هذا الجبل الجهنمي -وأش!!ار إلى جبل هن!!اك ش!!اهق رهيب -على
أن نقرضه بأفواهنا! ،ونحفر في أعماقه جحوراً تتغلغل حتى تنفذ إلى الجانب اآلخر ،وم!!تى
بلغنا بجهدنا الجهيد نهاية هذه المهمة انفجرت بح!!يرة من الجحيم محج!!وزة وراء ه!!ذا الجبل
فدكته دكا ،واكتسحتنا معه ،وصهرتنا ،ثم ال تلبث سنة الجحيم أن تعي!!دنا إلى خلقنا األول ،
ً 3
وتعيد! بناء الجبل من جديد ...هكذا عذابا ً مكرراً معاداً أزليا "
أما ( الوش!!اح يا جن!!اه ) وهو ح!!ارس اإلم!!ام أحمد ،ال!!ذي تط!!ورت مهمته إلى جالد ي!!ذبح
األبرياء ممن يأمره مواله اإلمام أحمد ب!!ذبحهم ،فقد رآه الع!!زي محم!!ود " وك!!انت ص!!ورته
غ!!ير واض!!حة ،فإنما هو كتلة من اللحم المح!!ترق! المس!!موم! وال يخ!!رج أنينه وص!!ياحه إالَّ
4
مبعثراً من شقوق جسده المتصدع .
أما عماد الطغيان فقد استعرضنا! عقابه سلفا ً في الصنارة الجهنمية ص.135
وبالنس!!بة لألعم!!ال القصص!!ية القص!!يرة المنتمية إلى ه!!ذه الف!!ترة وما دار في تناوالتها! من
موضوعات! ،فقد كان لها إسهامها ً في تقديم ص!!ورة عن الواقع االجتم!!اعي والسياسي ال!!ذي
180
تب!!ني تجاربها! هادفة إلى تغي!!يره ،فلم يختلف حالها كث!!يراً عمَّا قدمته الدراسة في ص!!فحاتها
السابقة ،فيما يخص الموضوعات التي دارت حولها التناوالت الروائية .
وألن القصة القص!!يرة بن!!اء يح!!رص بق!!وة على وح!!دة األثر ،ال!!تي هي " من خص!!ائص
البن!!اء األساس!!ية والنت!!اج الط!!بيعي ل!!وعي الك!!اتب بحرفته ومهارته في توظيف! كل عناصر
األقصوصة لخلق ه!!ذا األثر " ، 1فإنها ال يمكنها أن تتن!!اول موض!!وعاً! يحت!!وي! حي!!اة كاملة
كما في البناء الروائي ،وإنما ال بد لكاتبها من دقة االنتقاء و" وأن يختار دائما ً الزاوية ال!!تي
2
يتناولها! منها "
فقد وجدت على مس!!احة ه!!ذه الف!!ترة قصص مختلفة بعض!!ها يل!!تزم الترك!!يز على قض!!ية
تس!!!جل انتماءها الواضح إلى موض!!!وع بعينه ،مثل قصة ( س!!!عيد الم!!!درس ) ال!!!تي تق!!!دم
تجربتها! صورة عن الظرف! االجتماعي واالقتصادي الذي تحياه شريحة اجتماعية في مدينة
ع!!دن في ف!!ترة الخمس!!ينات ،تلك هي ش!!ريحة المدرس!!ين ،ومن رؤية ترتكز على التجربة
الشخصية لكاتبها الذي ينتمي إلى هذه الشريحة ،فمسكنه " ( مخزن ) مج!!دور القاعة يش!!به
خريطة للعميان ،كله نتوء وحفر ،أما ( الدارة ) فحدث وال حرج ،أك!!وام من الرمل كث!!يراً
3
ما غرقت ( قراحيفه ) فيها ،وجدران من الطين مأكولة الساس "
وكرسيه الذي يقعد عليه اليوم ليص!!حح دف!!اتر! طالبه هو " ص!!ديقه في عهد الدراسة ،كث!!يراً
ما سهر معه ليالي االمتحان وكث!!يراً! ما أوسع ص!!دره لفانوسه ال!!ذي عاصر جدته المرحومة ،
وكتبه المدرسية التي لم تكن تصله إالًّ بقائمة من األسماء في أغلفتها وأوراقها! ،وها هو الي!!وم
وبعد ما يق!!رب من ثالث س!!نوات يع!!ود فيلق!!اه ،وقد أنهكت قوائمه روم!!اتيزم ال!!زمن فأفقدته
إح!!دى أرجله وع!!اثت باس!!تقامته المتزنة ال!!تي عه!!دها ص!!احبنا " ،4وراتبه ال يك!!اد يغطي
مصروفات األسرة ،ويوم ( المشاهرة ) هو ي!وم الك!وابيس ،ففي غفوته القص!يرة ت!راءت له
خص!!ومة مع الداللة حين خصم ربي!!تين من ( الهفت!!ه) ومناقشة ح!!ادة مع أخيه ال!!ذي يصر في
5
كل مناسبة على إشعاره بقرب الفصل الدراسي! الجديد وما يستتبعه من مصروفات .
ومثل قصة ( إنسي في ع!!الم الجن ) ال!!تي تجسد تجربتها! رغبة كاتبها في تغي!!ير كث!!ير من
القيم االجتماعية التي شاعت في فترة الخمسينيات في أوساط المجتمع الع!!دني ،وهي تجربة
تقوم على رحلة خيالية يقوم بها رجل من اإلنس إلى مدينة ( عجاب الزمان ) في ع!!الم الجن
،فيس!!!تمر ط!!!وال رحلته في عقد مقارناته بين المجتمعين وهي مقارن!!!ات يؤكد خاللها على
تقدم مجتمع الجن وتف!!وق! قيمه في مقابل ت!!أخر مجتمع اإلنس وتخلف! قيمه ،ومنها نقتطف "
إلى أحد ،ولم يحقق نظ!!ره في مررت مع ( ض!!وء المك!!ان ) بين رهط من الجن ،فلم يلتفت ًّ
ش!!خص س!!وى طفل ص!!غير السن ،ابتسم لما ش!!اهدني! ولكن س!!رعان ما التفت إلى لعبه و
رفاقه ،أدرك القوم بثاقب الفكر ما يجول في نفسي من الخوف ،وبما أش!!عر به من الغربة ،
1مجلة فصول سبتمبر ، 1982الهيئة المصرية العامة للكتاب ،من 8مقال لصبري حافظ بعنوان ( خصائص األقصوصة البنائية ) .
(ص)22
2فرانك أوكو نورا ( الصوت المنفرد ) ترجمة د .محمود الربيعي ،الهيئة المصرية العامة للكتاب /القاهرة 1993م ،ط(، 1ص)16
3مجلة الحكمة العدد ( )42أغسطس 1975م اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين /عدن ( ،ص)12
4مجلة الحكمة العدد 42أغسطس 1975م ،مرجع سابق (ص)10
5المرجع السابق ص10
181
وعرفوا! أن أقل حركة مفزعة قد تهد كياني وتزعزع! ثقتي بنفسي وتقتل!!ني ،فلزم!!وا! اله!!دوء
1
ولم يعيروني! التفاتهم لئال يؤثر ذلك على ثباتي أو يقلق بالي فأتعثر في سيري! "
وبعضها! اآلخر – الذي يمثل االتجاه األب!!رز للمعالج!!ات القصص!!ية له!!ذه الف!!ترة – يق!!وم
على قاعدة المزج بين الموض!!وعين السياسي واالجتم!!اعي! ،ولكنه الم!!زج ال!!ذي ي!!راعي
طبيعة البناء القصصي للقصة القصيرة وما يتطلبه من تركيز! التجربة المنتقاة على قض!!ية
يرجح انتماؤها! إلى الموضوع بعينه بينما يتوارى الموضوع! اآلخر ويتنحى إلى الخلف فال
يكون ظهوره إالَّ مبرراً .من ذلك قصة ( ش!!يء اس!!مه النف!!اق ) ال!!تي يتم ترك!!يز معالجتها
على مرض اجتماعي يبدو كان ظ!!اهراً في تعامل بعض تج!!ار ع!!دن وعالقتهم! ببعض!!هم!
البعض ،ذاك هو ما يبديه ه!!ؤالء التج!!ار األص!!دقاء! من مش!!اعر ال!!ود لبعض!!هم! في أي!!ام
الصفاء ،والتي تتكشف! مظهراً خادعا ً في أوقات الش!!دة ،حيث تتب!!دل القيم ويظهر التخلي
والخذالن ،غير أن شخصية العمل -ال!!تي ك!!انت دائمة الخالف مع وال!!دها بس!!بب إهمالها
المظ!!اهر الدالة على احترامها! له!!ؤالء التج!!ار -ال يتم لها اكتش!!اف! حقيقة ه!!ذا الم!!رض
المستش!!ري! بين ه!!ؤالء الن!!اس إالَّ بعد أن دخل وال!!دها الس!!جن بس!!بب اش!!تراكه في ث!!ورة
1948م ،نقرأ على لسان ( أحمد ) شخصية العمل :
" اشترك والدي في انقالب 48وضحى! بماله وبما ملكت ي!!داه ،ووصل! إلى أعم!!اق حجة
..ووقفنا! أنا وأمي وأخوتي وجدي وج!!دتي وجه!ا ً لوجه!ا ً أم!!ام ش!!بح الفقر والج!!وع ،وكنت
آنذاك في المدرسة الثانوية " ".......وأصبحت! م!رة أخ!رى مه!دداً ب!الخروج! من المدرسة ،
وكنت جريئا ً نوعا ً ما ،ففكرت أن ألبي أص!!دقاء كث!!يرين من األثري!!اء ،لم!!اذا ال التجئ إلى
أح!!دهم وأش!!رح له األمر الواقع وأطلب منه المعونة ...لم!!اذا ؟ نعم لم!!اذا؟ أو لم يقل لي أبي
في يوم ما " ما أحد يستغني عنهم " وذهبت إلى أحدهم ،وقابلته في مكتبه األنيق بعد إج!!راء
التمهيد للمقابلة ،وبعد إج!راء الرس!!ميات س!!اد المكتب جو من الس!كون وكنت بين كل لحظة
وأخ!!رى! انتظر منه أن يس!!أل عن حالتنا أو أن يعزينا! على األقل ،ولكنه لم يفعل ...وأخ!!يراً
تجرأت ،فش!!رحت! له كل ش!!يء ،وذكرته بتلك الص!!داقة ،ولكنه لم يأبه لكالمي !! وقلت له
أن يتكرم! أو يتعطف! بتحويل بعض الش!!يء إلى أس!!رة أحد أص!!دقائه المنك!!وبين ولو س!!لفه أو
منحة ،ولكنه شمخ بأنفه وقال في لهجة كلها ازدراء :
-ومن يض!!!من لي ؟ أب!!!وك محب!!!وس ،وأرض!!!كم ما فيش ،وأنت يعلم هللا أي مس!!!تقبل
ينتظ!!رك! ،وأدخل ي!!ده في جيبه وأخ!!رج لي نصف روبية ،أي وهللا نصف روبية ،أخ!!ذتها
2
مضطراً! وانصرفت "
ومنه قصة ( تاكسي لمن جاء تعبَّر ) ال!!تي تع!!الج قض!!ية ش!!اب ش!!مالي يعيش في ع!!دن في
فترة الخمسينيات ،تضيق به سبل العيش ليقع في شرك عاهرة ال ت!!رحم ،مب!!دأها في حياتها
من يدفع الم!!ال يحظ ب!!الفراش تمام!ا ً كالتاكسي لمن ج!!اء تعبَّر ،وه!!ذه قض!!ية تب!!ني انتماءها
ال!!دقيق إلى الموض!وع االجتم!اعي لكن ظ!!روف! المعان!!اة ال!تي يعيش!!ها ه!!ذا الش!اب ،تظهر
منعكسة عن الوضع السياسي! .فحياته الفارغة مع ظ!!روف! العيش الض!!اغطة في أوض!!اع!
سياسية تسعى إلى تسريح أبن!اء ال!!وطن من وظ!!ائفهم تدفعه إلى الوق!وع! في ه!ذا الفخ ،نق!!رأ
1عبد الحميد إبراهيم ( ألوان من القصة اليمنية المعاصرة ) دار العودة /بيروت 1981م ،ط( 1ص)26
2صالح عبد الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص)29،27
182
فيها " :تعطل عن العمل ،وذات مساء عاد من الس!!وق ،فوج!!دها في أحض!!ان رجل آخر ،
وك!!انت ص!!دمة ثانية ،وكما انس!!حب الوفد! الفرنسي في ذلك الي!!وم بال!!ذات من اجتم!!اع هيئة
األمم المتحدة انسحب أحمد إلى خارج البيت بأحسن نظ!!ام ،لقد هاله منظر الرجل الس!!مين ،
وتخيل نفسه وهو -أي أحمد -يصارعه فيصرع ،وجلس أم!!ام الب!!اب في االنتظ!!ار! ،نعم !
وأين يذهب وهو الذي يعيش عالة عليها ،ولكنه البد أن يحتج .
وعندما خرج الرجل السمين دخل وبدأ في تقديم احتجاجه :
-هكذا تعملي يا سعاد ،تاكسي لمن جاء تعبَّر ! وهللا إننا مخدوع ومظل!!وم ،كنت أعاملك
كزوجة ،وكنا أزواج!اً! ولكن بال عقد بال ق!!اض ،بال أي حاجة ،ولكن هك!!ذا الج!!زاء ....آه
1
حتى أنت يا سعاد ؟!!"
وفي! قصة ( بقية الحساب ) يسيطر! الموضوع السياسي ،حيث سلطات المس!!تعمر تك!!رس
الستقدام األجانب إلى عدن كي يحلوا محل أبناء البلد األصليين ،فهذا رجل يتم استبعاده من
وظيفته بقرار جائر وبدون سابق إنذار ،ليفاجأ باستالم بقية حسابه ثمن!ا ً للم!!دة الطويلة ال!!تي
قضاها! في خدمة الشركة ،يق!ول " :وفي ه!ذا الي!وم ذهبت ألخذ بقية الحس!اب ،وكم ك!انت
دهش!!تي كب!!يرة عن!!دما رأيت أحد األج!!انب يحتل مكت!!بي ،وبه!!ذه الس!!رعة ،مكت!!بي ال!!ذي
عاصرني ع!دة س!نوات ش!هدت أثناءها ألوان!ا ً من حي!اتي الحافلة كش!ريط طويل من المآسي
المختلفة ،وها أنا اليوم أغادر للم!!رة األخ!!يرة ،أغ!!ادر في إج!!ازة طويلة الم!!دى بال نهاية ،
وبدأت شفتاي تختلجان واعتلى وجهي إربداد مخيف ،وأخ!!ذت أحملق في وجهه المغضن ،
وهو يناولني حسابي األخير ،..فكنت ت!!ارة أرسل نظ!!رات الحقد والبغض!!اء! وت!!ارة نظ!!رات
التوسل والرج!!اء ولكن أي رج!!اء " ، 2وال يطل الموض!!وع االجتم!!اعي فيها إالَّ من زاوية
انعكاس هذا الوضع المقلوب على حياة أسرة عدنية بسيطة ،هي نموذج لكل األسر أمثالها ،
ذات ال!!دخل المح!!دود وإلجالء المفارقة العظيمة ال!!تي ق!!امت عليها ه!!ذه القصة ،ففي مقابل
توافد! هؤالء األجانب وانفتاح عدن بساحاتها! الواسعة في وجوههم ،نلتقي أسرة عدنية تعيش
من أزمة السكن ذروتها ،تح!دثنا شخص!ية العمل فتق!ول " :قبعت في وقت الظه!يرة ب!ركن
قصي! من م!!نزلي ،وكنت مبه!!ور! األنف!!اس الهث ك!!الثور الم!!ذبوح مش!!تت األفك!!ار! ض!!ائع
الحواس ،وفي! أثناء هذا الشرود! الذهني كنت أنقل بص!!ري إلى كل ش!!يء في الم!!نزل ف!!أرى
عائلتي المكونة من ثالث عشرة نسمة وهي تسير هنا وهناك ،فيوحي لي ه!!ذا المنظر أن!!ني
أعيش حقا ً في ( السوق الطويل ) ،وهذه السرر المبعثرة المتهرئة الحبال ال!!تي تش!!غل ثالثة
أرب!!اع الم!!نزل ،...وه!!ذه ( األكب!!ان ) األربعة ال!!تي نص!!بت في كل ركن منه لبعض أف!!راد
3
العائلة المتزوجين ،كل هذا في منزل يحوي ( مخزنا َ ) و( دارة ) فقط "
هكذا أسهمت المعالجات الروائية والقصصية له!ذه الف!ترة في ط!رق! موض!وعات! مهمة
س!!!لطت الض!!!وء على مش!!!كالت البس!!!طاء وهم!!!ومهم! ،وس!!!اعدت في كشف مفاسد الواقع
االجتماعي والسياسي! بهدف تكوين وعي الرفض لدى هؤالء البس!!طاء ال!!ذين ي!!دفعون الثمن
غاليا ً من أقواتهم ومعاشهم! ،وإثارتهم كي ينتفضوا على هذه األوضاع المقلوبة .
183
]2الموضوع! السياسي! واالجتماعي! في األعم!!ال القصص!!ية والروائية ال!!تي وض!!عت بعد
ثورة الشمال واستقالل الجنوب
أ) أعم!!ال روائية وقصص!!ية اهتمت ب!!الواقع السياسي واالجتم!!اعي! قبل ث!!ورة الش!!مال
واستقالل الجنوب :
وه!!ذه أعم!!ال لها ظرفها الت!!اريخي! الخ!!اص ،إذ هي تش!!تغل بقض!!ايا اإلنس!!ان اليم!!ني
ومش!!كالته ال!!تي ك!!ان يع!!اني منها زمن اإلمامة ،دافعها إلى ه!!ذا االش!!تغال غايتها التغييرية
الس!!اعية إلى تفعيل وعي ال!!رفض في ذهن اإلنس!!ان وتعزيز قناعته بأهمية الفعل ال!!رافض ،
وذلك من خالل تنشيط ذاكرته وإثارتها! بذلك الواقع المؤلم ال!!ذي ك!!ان ومنذ وقت ليس بالبعيد
حقيقة حية وحاضرة ،ثم استهجانها فك!!رة أن تمر ف!!ترة من ت!!اريخ إنس!!ان ه!!ذه األرض لقي
فيها ألوان من العذاب لم يلقها أحد قبله وال بعده .دون أن يشار إليها .
ففي عهد القمع األمامي والتسلط االستعماري! لم يكن باإلمكان تس!!ليط الض!!وء على قض!!ايا
اإلنسان واضطرابه في واقعه الصعب وألس!!باب كث!!يرة أهمها أنه ك!!ان في ش!!غل عن تبصر
حقيقة حياته ،فهو في كد دائم وسعي الهث يصارع! من أجل تأمين قوت يومه الذي تتنازعه
في الشمال أياد كث!!يرة تب!!دأ من اإلم!!ام والعامل والمخمن وتنتهي! بالعس!!كري ،وفي الجن!!وب
تزاحمه عليه جنس!!يات أجنبية كث!!يرة ما بين هن!!ود وص!!ومال وبنجاله وأورب!!يين ،أت!!اح لها
المستعمر! فرض العمل واالس!!تثمار! والبق!!اء ،أما وقد! ق!!امت الث!!ورة وانتهت عه!!ود التس!!لط
واالس!!تبداد ،ف!!إن على األقالم إالَّ تغفل تلك الص!!فحة الدامية من ت!!اريخ ش!!عبها ،وأن تغمس
ألسنتها في مادتها الثرية التي تشكل إحدى الصفحات المهمة في ذاكرة كتابها الذي ال يُستبعد!
أن يكونوا! قد عايشوها أو خبروا! عن قرب من اكتوي بمعاناتها! ،لتبنى ركنا ً ركينا ً في خ!!برة
األجيال القادمة .
وبداية برواية ( الرهينة ) فهي تع!!الج -رغم تمح!!ور أح!!داثها ح!!ول شخص!!ية فردية هي
الرهينة بطل العمل -موض!!وعا ً تمتد خيوطه إلى أك!!ثر من بعد ،في!!برز البعد السياسي من
كون الرهانة موضوعاً! مرتبطاً! بأوضاع سياسية معينة عاش!!تها اليمن في عهد اإلمامة القلق
المضطرب! ،والتي اتخذت سياستها من الرهانة وسيلة تضمن بها استمرار! بقائها على س!!دة
الحكم ،فك!!انت تن!!تزع من األسر الكب!!يرة ومش!!ايخ القبائل ال!!تي ترت!!اب منها أحد ص!!غارها
لتتخ!!ذه رهينة تض!!من بوقوعه تحت تص!!رفها! خض!!وع تلك األسر والقبائل ،وإذعانها ال!!ذي
يؤكد استمرار والئها .
ومن هنا يمكن أن ينظر إلى هذه التجربة بأبعد من كونها رواية تتناول حركة ش!!خص هو
الرهينة ،وتقلبه في حالته المتم!!ردة بين األحج!!ام واإلق!!دام ،وإنما يمكن أن ينظر إليها على
أن الرهينة ليست صورة بطل الرواية وحده ،وإنما هي ص!!ورة المجتمع اليم!!ني في كليته ،
المجتمع الواقع رهينة لنظام اإلمامة المستبد ،يقول هشام علي ":ولهذا يمكن أن نقرأ رهينة
دم!!اج في مس!!تويات متع!!ددة ،وأن نتج!!اوز! فض!!اء الحكي المح!!دود داخل القصر ،لتص!!بح
اليمن كلها فض!!!اء للرواية ،ويص!!!بح اليم!!!نيون جميعهم ره!!!ائن اللحظة التاريخية في ه!!!ذا
1
الوطن "
1هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مركز عبادي للدراسات والنشر /صنعاء 2000م ،ط( 1ص)17
184
ويتخذ! البعد االجتماعي لنفسه في موض!!وع الرواية مس!!ارين تتضح من اختالف اتجاههما
عمق المفارقة ال!!تي يتجلى معها المجتمع اليم!!ني في كليته رهينة ض!!خمة ،فالس!!جان ال!!ذي
يدفعه الخوف من تمرد شعبه إلى التفنن في أساليب قمعه ،هو أيضا ً يحيا س!!جن خوفه وتحيا
معه أسرته سجنا ً مشابها َ ،وهكذا ال تستثني حالة الرهانة هذه أحداً .
وأما المس!!ار األول فيتجه إلى المجتمع خ!!ارج مجتمع الس!!لطة ،وهو المجتمع المش!!مول
بحالة التهديد والقلق من انتزاع أبنائه في أية لحظة يرتئي الس!!لطان ذلك ،ومن ه!!ذا المس!!ار
تطل لنواظرنا أحزان األمهات الثكالى المفزوعات الالئي انتزع جنود اإلمامة صغارهن من
أحض!!انهن ،يق!!ول الرهينة " :ت!!ذكرت أمي ال!!تي ه!!ربت بي من ( عكفة ) و ( س!!واري! )
سيف اإلسالم األمير ولي العهد بين مزارع القصب والذرة خوف!ا ً من خطفي في تلك األثن!!اء
ألسجن كرهينة ،ومع ذلك فقد انتزعت من حضنها بقوة وقسوة لم تعهدها المس!!كينة من قبل
،وأركبت ف!وق حص!ان مق!وس الظهر يخص وال!دي وأس!رته إلى المدينة " ، 1ه!ذا الح!زن
الذي تحول عند العساكر! -الذين -كما يبدو -قد أدرك!!وا! مق!!دار ما يحف!!ره في نفس الرهينة
من ألم -إلى زامل أخذوا يرددونه على مسامعه كلما رأوه في شكل من أشكال االستفزاز! ":
2
يا دويدار! ،قدامك فاقده لك .دمعها كالمطر ! "
ومما يضاعف الهم االجتم!!اعي الن!!اجم عن ه!ذه الوس!يلة السياس!!ية البلي!دة ،وق!وع! ه!!ؤالء
الصغار! بين يدي سلطان ال ي!رعى هلل حق!ا ً وال ذمة ،فه!ؤالء الص!غار ي!دخلون بانض!مامهم!
إلى قص!!ور الحك!!ام ع!!والم مغلقة معزولة فال يعلم ما يالقونه إالَّ هللا ،وه!!ذا الرهينة يصف
دويدار! قصر! سيف اإلسالم .
وصفا يشي بما قد يكون قد تعرض له من انته!!اك فاضح ،فيق!!ول " :اتجهت خلفه والعبد
األسود! خلفنا ،كنت أالحظ حركات جسمه الرخوة من خالل ثوبه الحريري! الشفاف ،يب!!دو
3
أنه لم يعد يتصنع تلك الحركات المائعة فقد أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية ! "
وأما المس!!ار اآلخر فيتجه إلى مجتمع الس!!لطة حيث القص!!ور والبواب!!ات والعس!!اكر! ،حين
نلتقي انقالب السحر على الساحر ،فهذه المجتمعات التي يوحى انغالقها! وعزلتها بحصانتها
ومنعتها! ،تبدو هي األخرى واقعة ضمن صورة من ص!!ور! الكبت والقمع األب!!وي ال تختلف
في جوهرها عن الرهانة ،فـ " رهينة دم!!!!اج تح!!!!ول القصر إلى حلقة حلزونية ،متاهة
4
تاريخية ،واجتماعية ،ما إن يدخل أحد إلى أول طريقها حتى يضيع في سراديبها! "
ويتبل!!ور البعد الت!!اريخي في ك!!ون الرواية -على ما ح!!وت من قيم فنية -تس!!جل لظ!!اهرة
سياسية اجتماعية كانت قائمة ح!!تى الت!!اريخ الق!!ريب من عهد اإلمامة ،وهو البعد ال!!ذي دفع
بسلمى الخضراء الجيوسي! -كما تصرح لص!!حيفة 26س!بتمبر -إلى اختي!ار ه!ذه الرواية ،
ذاك أنها تنط!!!وي! على معرفة عالمية بالتج!!!ارب المتف!!!ردة لعصر مضى ،وهي في الحقيقة
الرواية الرابعة ال!!تي أع!!دتها ( بروتا ) عن وج!!وه الحي!!اة العربية ال!!تي تالشت الي!!وم ،ولقد
185
وجدت أن أمثال هذه الروايات غنية جداً بالمعلومات ،التي إما أن تكون غ!!ابت عن ال!!ذاكرة
1
أو أنها ظهرت في كتاب ذات طبيعة علمية وال يستثيرها سوى عدد قليل من القراء "
وهكذا هو بن!!اء الس!!رد في كتاب!!ات زيد مطيع دم!!اج " يق!!وم دائم!ا ً أو في الغ!!الب على ه!!ذا
2
التضافر بين السرد والتاريخ "
أما البعد اإلنساني! فيتمثل في حالة الره!!ائن األطف!!ال المن!!تزعين من أج!!واء أس!!رهم الدفيئة
إلى س!!جن القلعة حيث القس!!وة والعس!!كر! والبن!!ادق ،ثم فج!!أة يؤخ!!ذون دون أن يستش!!اروا!
كالعبيد تماما ً إلى قصور أرباب الحكم ورموز! السلطة ،وهناك يسحق ما تبقى من إنسانيتهم
" فالحياة في داخل القصر تخلو من لذة العيش ،إنها كدح دائم ،حتى أشكال ملذاتها الجنسية
تغدو ش!!قاء وعن!!اء ،ألنها ترتبط بطاحونة الس!!لطة وحجر! رحاها ال!!دائر دوم!ا َ ليس!!حق ه!!ذه
3
العالقة اإلنسانية الجميلة "
وهكذا يجدون أنفسهم مجرد أدوات يتم استخدامها لتأدية جميع المهام حتى الفاضحة منها ،
فإذا ما استنزفت قواهم وخارت عزيمتهم قذف بهم ليالق!!وا حتفهم وحي!!دين بال رحمة ،فه!!ذا
الدويدار! السابق ال يعفى من أداء مهمته في فرك قدمي! الحاكم وهو في أصعب حاالته ،لكنه
حينما يقع فريسة الم!!رض ال يجد من يهتم ألم!!ره س!!وى ص!!ديقه الرهينة "،ك!!ان ص!!احبي
( الدويدار الحالي ) قد زاد لونه ش!!حوبا َ وجس!!مه ه!!زاالً وأص!!بح س!!عاله الح!!اد يوقظ!!ني! من
من!امي أك!ثر من م!رة في كل ليلة ،ك!ان يس!عل ح!تى يك!اد يغمى عليه ،وال يفيق إالَّ بعد أن
4
أضمه إلى صدري ويداي مطبقتان على صدره المتهاوي! نتيجة لذلك السعال"
وحينما! يموت الدويدار! ال يمشي في جنازته س!!وى من هم على ش!!اكلته من ال!!واقعين تحت
س!!نابك الرهانة بص!!ورها! المختلفة " رقد! ص!!احبي! الدوي!!دار! الح!!الي ،ورق!!دت! معه رقدته
األخيرة ،ميت!ا ً ك!!ان وهام!!داً ،ب!!ارد الجسم وبش!!كل أوحش!!ني! " "........احتض!!نته وغس!!لته
بنفسي ،وهو عار شبه هيكل عظمي بجلده الباهت اللون الذي تبرز كل نت!!وءات العظ!!ام من
5
خالله "
ويلفت االنتباه لدى هذا الموقف! األخير من حياة الدويدار ،حالة الغياب التام ألس!!رته ال!!تي
لم نجدها عند مرضه أو في جنازته ،مما يعني أن ه!!ذه األسر قد اس!!تقر في وعيها العميق ،
أن طفلها المأخوذ! منها عنوة كي يص!!بح رهينة لن تك!!ون له ع!!ودة إليها أب!!داً ،فكيفت حياتها
ليس على غيابه فقط ،وإنما أيض!!!!ا ً على فق!!!!دان األمل في عودته ،فكأنما! قد وهبته هبة أو
قرباناً! يشبه تماما ً تلك القرابين التي كان يق!دمها ق!دماء المص!ريين ل!نيلهم مع الف!ارق العظيم
بين الموقفين .
هك!!ذا يكشف لنا موض!!وع الرهينة عن أبع!!اده المختلفة " ،والواقع أن أهمية الرهينة ال
تكمن في تاريخيتها وحسب ،على ال!!رغم من أهمية البعد الت!!اريخي فيها ،فالرواية ال تق!!دم
ش!!هادة تاريخية عن ف!!ترة من الحكم في اليمن ولكنها تح!!ول ه!!ذه المرحلة من الت!!اريخ إلى
186
قض!!ية إنس!!انية عامة ،والرهينة المحاصر في القصر يتح!!ول إلى حالة إنس!!انية مع!!برة عن
1
تعليق الحرية وما يتبع ذلك من تعليق العيش والحب والحياة "
واختيار الكاتب لهذا الموضوع قد أثار – على ما يبدو – الكثير من التساؤالت التي تتجه
إلى العالقة الشخصية للك!!اتب بموض!!وعه ،وهو ما أش!!ار إليه ال!!دكتور عبد العزيز المق!!الح
حين قال ":منذ صدور! ( الرهينة ) والتساؤل! ال يكاد يتوقف عن وج!!ود مالمح لس!!يرة ذاتية
2
،وهل هي سيرة الكاتب نفسه ،أم سيرة متخيلة "
وإذا كان طرق! مثل هذا التساؤل -وإن دل على مقدار ما بلغه هذا العمل من الص!!دق
ال!!واقعي -يفتح الب!!اب أم!!ام ط!!رق! ذات الس!!ؤال مع كل عمل روائي يقع على مس!!احة من
الصدق عند القارئ ،وهذا أمر غير مقب!!ول مع عمل نعلم يقينا أنه ق!!ائم على التخيل ،وعلى
إيهام القارئ بواقعية ما يحدث فيه ،هذا أوالً :
ثم إن هذا العمل صادر! عن كاتب مل!!تزم بقض!!ايا ش!!عبه وأمته ،وال يس!!تبعد! أن تك!!ون ه!!ذه
إحدى قضاياه ،فكان هذا اللق!!اء الجميل عند مش!!ارف الت!!اريخ هو ش!!كل من االل!!تزام األدبي
لمثقف يمني عاش أزمنة الثورة وتحوالتها! ،فامتزجت! ذاكرته بذاكرة الوطن وانفتحت آفاقه
وغاياته لذلك التاريخ ال!!ذي يتش!!كل ويتك!!ون بما يض!!يفه الس!!ارد من مع!!ان ودالالت إلى تلك
3
األحداث والوقائع "
لكننا في الحقيقة نجد أن لهذا السؤال المطروق وجاهته من عدة زوايا! :
أولها :ما أنارته ه!!!ذه التجربة من زوايا! ظلت مجهولة على عم!!!وم ال!!!وعي المجتمعي ،
حيث ارتادت دهاليز عالم خاص مغلق وغامض ومع!!زول لم يكن مس!!موحاً! لأحد أن يخترقه
،وتغلغلت تفاص!!يله المحرجة بأس!!لوب يتسم بالحص!!افة المح!!يرة ،أو المؤي!!دة الحتم!!ال أن
تكون تجربة الرواية إحدى التجارب الشخصية لكاتبها .
ثانيتهما! :محدودية ع!!دد األش!!خاص ال!!ذين اس!!تقرت في وعيهم ه!!ذه التجربة أو عايش!!وها
بشكل شخصي كما في تجربة الرواية ،فعلى الرغم من كون الرهانة مثلت مشكلة اجتماعية
حقيقية هددت كل من اس!!تظلهم! حكم اإلمامة في تلك الف!!ترة ولم تس!!تثن أح!!داً إالَّ أن تفاص!!يل
تجربتها! لم تصبح مشاعا ً في وعي الناس ،فالذين مروا بهذه التجربة وعايشوها بشكل فعلي
هم -بال شك -أعداد مهما اتسعت تظل محدودة ،فكم هم الذين اس!!تطاعت قص!!ور! الحك!!ام
وأصحاب السلطة ورموزها! أن تستوعبهم! بين جدرانها .
غير أن هذا العدد على محدوديته ال يقلل من حجم المشكلة وجسامة وطأتها! ،ألجل ذلك
كله قد ن!!ذهب إلى أنه ربما يك!!ون الك!!اتب قد ع!!اش ه!!ذه التجربة بش!!كل شخصي وأخجلة
االعتراف بذلك ،أو ربما عايش عن قرب من عاشها أو قد تكون أحداث الرواية كما ي!!ذهب
إلى ذلك الدكتور! المقالح ":استحضار! لماضي منصرم له في نفس الكاتب حضور من ن!!وع
خاص ،وال تخلو أعمال زيد القصصية األخرى من اس!!ترجاعات غامضة ،ومماطلة لع!!الم
4
الطفولة المترع بالذكريات! واألحزان "
1هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص)45
2زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق( ص)13
3هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص)11
4زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص)13
187
وأيا ما كان األمر ،ف!!إن األهم أن موض!!وع! ه!!ذه التجربة وبالطريقة ال!!تي تمت معالجته قد
كان أحد الموضوعات المهمة والمثيرة في نفس الوقت ،كتب أمين العيوطي! لمجلة الع!!ربي
يق!!ول " :أنت مع رهينة من ن!!وع فريد ،لم يخطر لك على ب!!ال ،رهينة ترسف! في أغالل
القرون الوسطى! في ليل اإلمامة البائ!!دة في اليمن ،والفجر يوشك أن يل!!وح ،والرهينة ت!!دق
باب الحرية ركالً بقدمين يدميهما قيد ثقيل ودق!اً! بقبض!!تين مغلول!تين من أجل الوث!وب بقف!!زه
واح!!دة إلى أعت!!اب الق!!رن العش!!رين " ، 1وم!!روراً برواية ( ص!!نعاء مدينة مفتوحة ) ال!!تي
تتن!اول تجربتها موض!وعا ً سياس!يا ً تتجلى مالمحه من خالل األوض!اع االجتماعية المتردية
التي ينعكس عليها في شمال الوطن وجنوبه ،وهو موضوع يشكل قاسما ً مش!!تركا ً بين ع!!دد
من الروايات اليمنية التي أنشئت بعدها ،حيث تتك!!الب ظ!!روف! القمع األم!!امي واالس!!تغالل!
االستعماري والظروف الطبيعية القاسية على سحق اإلنسان اليمني وقتل الروح فيه ح!!تى ال
يبقى في حياته سوى صور الموت وأشباح الدمار ،وهذا ( نعمان) بطل الرواية ،يكتب إلى
صديقه من مدينة عدن " حيث الحر والفراغ ،أكتب إليك بعد أن نجوت من الموت بأعجوبة
...نعم ...كل شيء في بالدنا أص!بح ه!ذه األي!ام ي!ؤدي إلى الم!وت ،األرض ،األمط!ار ،
الجبال ،الصحراء ،وكل شيء " ، 2وهي الصور التي يضل يتقلب فيها متنقال ساعيا باحثا
آمال في الوصول من سعيه إلى حال أفضل ليجد الواقع يش!!مله بمأس!!اته ويتعقبه أينما ذهب ،
تستوي! في ذلك مدينة تاريخية كصنعاء التي تم تدميرها على يد جي!!وش اإلم!!ام أحمد ،مه!!ذا
الص!!نعاني يحكي لنعم!!ان بطل الرواية كيف س!!حقت أحالمه البس!!يطة في العيش بس!!الم مع
أسرته الصغيرة ،فيقول :
" ذات ي!!وم رأيت المعركة على أب!!واب ص!!نعاء ....إذن ف!!الوداع ألحالمك ،هك!!ذا قلت
لنفسي ،وحين عدت إلى المنزل رأيت زوجتي! وفي! عينيها نوع من التساؤل والخوف .
وكذلك كانت ابنتي الصغيرة متشبثة بمالبس أمها تطلب الحماية كلما سمعت أص!!وات
الرصاص تتص!!اعد في أرج!!اء المدينة وش!!ددت على يد زوج!!تي ،وهمست لها في حب " :
إنهم لن يمس!!ونا! ألننا لم نعمل لهم أي ش!!يء " ".........واش!!تعلت المدينة ذات ي!!وم وابت!!دأت
تلتهم منازلها! النيران ،وذهبت أجري ألرى ما حل بدكاني! ،وهناك كانت البقايا تتحدث عن
الوحشية ،ورأيت الجيش الغ!!ازي ،مج!!رد أن!!اس ال يعرف!!ون س!!وى النهب ،ك!!ان ش!!عارهم
قائدهم! " ص!!نعاء مدينة مفتوحة " "........وان!!دفعت ال نقد ما اس!!تطيع من بقايا أحالمي ،
ونسيت كل شيء حولي ،الرصاص والهمج والنار ،وكنت أجري هنا وهناك ،ألعن كل ما
قابلته ،وكل من قابلته ،ك!!!انت ص!!!نعاء حق!!!ا ً مدينة مفتوحة للغجر ...للهمج ،وش!!!عرت
بالتعب ،وشعرت! أن لي بيتا ً وعائلة وطفلة جميلة انه!!ار مس!!تقبلها بانهيار ما كنت أملكه من
م!!ال ،وأحسست ب!!برودة تس!!ري! في داخلي حين تص!!ورت أنه قد يح!!دث لم!!نزلي ما ح!!دث
ل!!دكاني ،وكنت عندئذ بعي!!داً عن الم!!نزل ،ف!!أطلقت س!!اقي لل!!ريح دون أن أعبأ بمن أق!!ابلهم!
" ، ".........ووص!لت! يا ب!!ني إلى الم!نزل ،وقد! ه!!دني التعب ،وهنا تجم!!دت ق!دمي! ،ك!!ان
المنزل مهدما ً ،محطما ً ،كان هناك عدوانا ً قد ح!!دث ،ودخلت الم!!نزل ،ب!!ان كل ش!!يء في
الداخل مبعثراً ممزقا ً ،السرير والمالبس ، .....وبحثت عن زوجتي وطفل!!تي ""..........
1المرجع السابق ( .ص) 202 -201
2محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص)30
188
أصبت بصدمة عنيفة وأنا أرى زوجتي وطفل!!تي ،وقد م!!زق جس!!ميهما! الرص!!اص وال!!دماء
تتدفق! حارة ثائرة ،ورأيت في نظرتيهما الخ!!وف ،الغضب ،ك!!انت الطفلة متمس!!كة بأمها ،
ال تريد فكاكا ً ،واألم متش!!بثة بها أيض!ا ً ،وك!!انت مالبس األم ممزقة ،ك!!أن ع!!دوانا ً أبشع قد
وقع عليها " . 1أو حاض!!رة حديثة كمدينة ع!!دن ال!!تي لم تكن في ذلك ال!!وقت رغم ش!!هرتها
وشهرة مينائها المفتوح على العالم إالَّ مدينة معطلة ،وهذا نعمان يخاطب صديقه ،فيق!!ول :
" إن سكان مقهى الحاج علي أصبحوا كلهم تقريبا ً بدون عمل ،فقد فصلوا! وتوقفت! األعم!!ال
في كث!!ير من الش!!ركات ،وأس!!مع بعض الحكاي!!ات ال!!تي ق!!ام بها العم!!ال ،ولكنك تع!!رف أن
ه!!ؤالء العم!!ال ليس ل!!ديهم أي تنظيم! حقيقي يس!!تطيع أن يق!!ودهم ،ويحقق لهم أي انتص!!ار ،
فذهب الكثيرون ضحايا لإلضرابات " . 2
أو مدينة علم وعلم!!!!اء كمدينة زبيد ،وه!!!!ذا البح!!!!ار يحكي رحلته إليها وقد! تب!!!!دل حالها
وصارت! مدينة للموت ليس إالَّ ":ومن فوق! ربوة عالية خارج (زبي!!د) ت!!رى المك!!انين ....
زبيد داخل سورها ....والمقابر! بشواهدها! ...وقببها! البيضاء ،مدينتان لألحي!!اء واألم!!وات
،وأي إنسان ال يعرف زبيد ،ال يستطيع أن يميز بين المدينتين ألنهما متش!!ابهتان ""........
والمدينة يا أصدقاء تحترق! من أشعة الشمس وتحترق من الناس الذين ال يعملون ،وتح!!ترق
من الدعوات التي تتصاعد كل يوم إلى السماء حارة أحيانا ً وباردة أخ!!رى ،وخ!!ارج أس!!وار!
المدينة ترى الناس أيضا ً وسط! شواهد المقابر ،منهم من يبكي ،ومنهم! من يذهب يبحث عن
من يريد أن يس!!تأجره ليق!!رأ ( الق!!رآن ) على ق!!بر ،وفي! الليل أوفي النه!!ار ،ين!!ام الن!!اس
ويأكلون ويصلون! فوق المقابر ،بل إن المقابر تشهد في فترات من السنة أعياداً يشترك! فيها
الجميع ،ويجدون فيها المأكل والمشرب! ،ثم في النهاية يصلون على روح من ك!!ان الس!!بب
في إحياء ذلك الحفل " . 3أو قرية حزينة تنام على جبال الحجرية تط!!وي! جوعها وهمها ،
وهذا نعمان يكتب إلى صديقه يقول ":لو ترى الخراب ال!!ذي عم األرض ،المتألت عين!!اك
بالدموع! ،ول!!رثيت لحالة ه!!ذا الش!!عب ال!!ذي أنهكه كل ش!!يء ح!!تى حكومته ،تص!!ور وصل
باألمس إلى قريتنا! أكثر من عشرة ( عس!اكر ) من ( العكفة ) مع ج!ابي الض!رائب ،وطلب
من قريتنا ض!!رائب ه!!ذا الع!!ام ...بل إنه طلب ض!!رائب األرض وإنتاجها! ،أتتص!!ور! ذلك ،
الناس ال يجدون نقوداً لشراء حبوب تقيهم عامهم الق!!ادم كله من المجاعة والحكومة تط!!البهم
4
بضرائب زرع لم يجنوه ،وضرائب! على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات يوم "
ومع أن معالجة ه!!!ذا الموض!!!وع! تنهض نموذج!!!اً! فني!!!ا ً ل!!!ذلك الج!!!دل المحت!!!دم بين ال!!!ذات
والموضوع! ،ال!!ذي يبلغ احتدامه ح!!داً من ال!!ذوبان ال!!ذي يص!!عب معه الوق!!وف على ال!!ذات
مستقلة عن موض!!وعها ،فال!!ذات والموض!!وع! يظه!!ران هنا في حالة انص!!هار ت!!ام ،فإننا قد
نلتقي مظهراً بسيطا ً من ارتفاع صوت الذات في مواضع قليلة ،من ذلك :
-1السخط المعه!!ود! عن ه!!ذا الك!!اتب في معظم أعماله القصص!!ية والروائية وال!!ذي يت!!نزل به
على مفارق اآلباء ،يق!!ول " :ح!!تى وال!!دي ذلك اإلنس!!ان البس!!يط ال!!ذي كنت أحبه من قبل ،
189
أصبحت أتحاشى مقابلته كثيراً " ، 1وحديثه عن حياة البؤس والشقاء التي يعيشها الن!!اس في
قريته هو حديث مضمخ بمشاعر النفور ليس فقط من األوضاع وحدها ،ففي خطاب نعم!!ان
نق!!رأ " :لقد وص!!لت القرية ،بعد ي!!وم كامل من اإلره!!اق ،آه كم أتم!!نى أن ال أت!!ذكره ألنه
يذكرني! ب!واقعي! الق!ذر ال!ذي أعيش فيه ،ويعيش فيه كل أبن!اء وط!ني " ، 2وإنما -أيض!ا ً –
منهم " :أنا لم أكن أريد أن أعود إلى القرية ،حتى لو مات كل من فيها ،م!!اذا يهم!!ني منم ؟
ولماذا أعيش بينهم ،الناس يا صديقي هم أناس بالدنا ،بدون تفكير بدون أمل في المستقبل ،
بدون شيء ،ي!!أكلون الق!!ات مرت!!احون ،وال ح!!ديث لهم إالَّ عن فالن ال!!ذي ع!!اد إلى القرية
وبجيبه الرياالت التي ال تنتهي وعن فالنة التي الحظ!!وا أنها ت!!تزين وتلبس مالبس نظيفة ،
رغم غي!!اب زوجها عنها منذ س!!نوات أربع ،أح!!اديث تص!!يبني بالغثي!!ان كلما اس!!تمعت إليها
3
فأهرب من الناس ومن نفسي إلى الجبل "
-2التعب!!يرات ال!!تي تش!!ير إلى ت!!أثير النظرية الفكرية ال!!تي اعتقد بها على رؤيته لبعض
الشعائر! الدينية ،فهو يصرح بكرهه للص!!الة ،وال يجد فيها إالَّ فراغ!ا ً يمأل فراغ!ا ً " :أنا ال
أحب مجالس!!!هم .....وال أح!!!اديثهم! ،وال احضر معهم الص!!!الة في المس!!!جد ألني ال أحب
الصالة حتى صالة الجمعة ،وأنا فوق! ذلك كله أحب أن أكون وحيداً ،بال أي إنسان ،إن!!ني
4
أكره أيا ً منهم يحاول تعكير حياتي التي رسمتها "
-3التأثر باالعتقادات السلبية للمجتمع ،حيث يسوق علينا الواقعــة الــتي جــرف الســيل
فيها الخادم إلى سوق السـبت وفيهـاـ يظهـر تـأثره باعتقـاد المجتمـع وتصـوره ،ألبنـاء هـذه
الشـريحة حيث جـرى االعتقـاد أنهم كثـيراً مـا يؤخـذواـ بالحمـاس الـذي قـد يغيب في بعض
المواقفـ عقولهم ،وهي واقعة على الرغم من مأساويتها فإن التصــور قــد تكفــل بتضــمينهاـ
بحس السخرية غير المقبول هنا ،نقرأ في سرد الواقعة " :أما القصة الثانية فقد حدثت في
اليوم التالي حين كان الوادي ممتلئا وكان قد قلب إحدى الســيارات الــتي كــانت في طريقهــا
إلى " المصلى " تحمل تنــك مليئــة بالجــاز ،وحملت الميــاه هــذه التنــك معهــا ،وكــان على
الشاطئـ أحد (األخدام) ،فرأى تنك الجاز تتدحرج فوقـ المياه ،وكان ال يخاف الســيل مثــل
كثيرين من ( أخدام ) بلــدنا ،فغــاص حــتى منتصــفه يلتقــط التنــك ،ويخرجهـاـ إلى الضــفة
ويتركها ،ليعود ويلتقط غيرها ،وكان كلما ازدادت عــدد التنــك الــتي يلتقطهــا أزداد طمعـا ً
في أن يلتقط غيرها ،خاصة وأن سعر الجـاز قـد ارتفـع النقطـاع الطريـقـ بين ( عـدن ) و
( الداخل ) ،وقبلـ أن يتم العشر تنك ،كان السيل قد التهمه ،فقــد شــعر الرجــل بــالتعب فلم
5
يستطيعـ المقاومة ،والتقطت جثته في ( سوق السبت )"
-4الموقفـ االنسحابي الذي ينتهي إليه بطــل الروايــة ،والــذي يمكن أن ينهض ملم ًحــا من
ذاتية الكاتب الذي عادة ما تنتهي شخصياته في معظم أعماله إلى نهاية انسحابية ،وإن
كان لهذه النهاية ما يبررها في هــذه الروايــة ،حيث تنتظم حركــة أحــداثها ثنائيــة الحلم
والموت .
190
فكل إطالله للحلم تجابه بوثبة قاسية للموت ،فنعمان الذي كان يحلم بالعودة إلى قريتــه
ليرتاح من ضغوط المدينة ،وجد الموت ينشــب أظفــاره في قلب كــل بــادرة للحيــاة فيهــا ،
والصنعاني حطم الموت المدمر في صنعاء كل أحالمه في لحظة غضــب أرعن من اإلمــام
أحمد ،والبحار ( علي الزغير ) تالشى حلمه في الحصول على علم جيد بمجرد ذهابه إلى
زبيد التي تحولت من مدينة العلم إلى مدينة الموت المقيم ،حـتى غـدا هـذا العمـل في كليتـه
صورة من هــذه المقابلــة الضــدية بــاألخص ،إذا مــا قابلنــا بين بدايــة الروايــة الــتي تتشــكل
بتشكل حلم بطلها بنهايتهاـ التي تنتهي بانسحابه واستسالمه للموت .
ومع ذلك فقد استطاع الكاتب أن ينهض بموضوعه المتناول ليجعل منه شاهداً واقعياًـ
على فترتــه باعتمــاده أوال على جزئيــات ووقــائع تكتســب موضــوعيتها من حقيقــة عالقــة
اإلنسان المحصور ما بين المطرقة والسندان بواقعه ،والذي يبــدو -رغم انهزامــه في كــل
مرة -مرتبطا ً به ارتباطاًـ عضويا ً فسيولوجيا ً ،فهكذا هو األمر وهكذا يكون وال شيء غــير
ذلك .
ولكي يــتيح الكــاتب لمعالجتــه أن تتحــول إلى صــورة كليــة شــاملة مــأخوذة من زوايــا
ومناطق مختلفة في خليط تتعرىـ خالله النفــوس ويتكشـفـ مجتمــع يحيــا حالــة من االنهيــار
التام ،اتخذ من الخطاب الذي تتم كتابتــه لحظــة بلحظــة ليتم إرســاله إلى صــديق غــادر إلى
فرنساـ وسيلة تتيح لهذا الموضوعـ أن يعدد جزئياته ويفرعهــا ويتنقــل بهــا عــبر مكــان أكــثر
اتساعا َ ،كما أعفته من التماس الحتمية السببية الرابطــة للوقــائع المتفرقــة والمنميــة للحــدث
خالل البناء الروائي سوى ما يكفيــه لهــذه الوقــائعـ من روابـطـ كــان محورهــا الــرئيس تنقــل
الراويـ ( بطل الرواية ) بين الشخصيات وعبر حواراته التي يديرها معها .
وتشتركـ القصة القصيرة المنتمية إلى هذا المحور من الدراسة مع الرواية في كثير من
الموضــوعات الــتي تتناولهــا في معالجاته ـاـ ،ذاك أن الواقــع الــذي تســتمدان منــه مادتهمــا
واحد ،غير أن للقصة القصيرة طريقتها في تناول الموضوعات كمــا أن لهــا موضــوعاتهاـ
التي تستقطبها والتي تنفرد بها معالجاتهاـ .
فنحن نقــف مــع القصــة القصــيرة -بحكم بنيتهــا المركــزة -على منطقــة من المــزج
الكثيف الذي تتداخل خالله الموضوعات وتتماهىـ إلى الحد الذي ال يســمح بترســيم الحــدود
وإقامة الخطوطـ بينها ،حتى يصبح الموضوع السياسي اجتماعيا ً والعكس .
ثم إن تسليطهاـ الضـوء على زاويـة واحـدة من قضـية جزئيـة ،ومـا يسـتدعيه ذلـك من
تركيزـ وتكــثيف بقــدر ممــا يــثري خبرتنـاـ ويمنحنــا شــعوراًـ بالســيطرة على كامــل المســاحة
المكانية والزمانية التي تجري عليها أحداثها ،بقدر ما يتيح لها فرصة إضاءة نقــاط يتعــالى
على إضاءتها البنــاء الــروائيـ ،فموضــوعـ مثــل العالقــة المأزومــة بين المــواطن وعســاكر
اإلمامة ،قد عرضت له في معرض تناولها أكثر من رواية يمنيــة ،كمــا عالجتــه أكــثر من
قصة قصيرة ،ومع تقارب ما قدمته هذه التناوالت عن صــورة هـذه العالقــة بمـا يضـمخهاـ
من مشاعر نابعة من حقيقة الشرخ الهائل الـذي صـنعته اإلمامـة ورسـخت لـه ،فإنـه يظـل
للقصة القصيرة بصمتهاـ الخاصة فيه ،فقصة ( العم مسفر ) لزين السقاف مثالً :تقدم لهذا
الموضــوعـ معالجتهــا الفريــدة ،حين اتخــذت لنفســها زاويــة أنــارت من هــذه القضــية بعــداً
جديداً ،فعرضت علينــا جانبـا ً كثيفـا ً من معانــاة المنتســبين إلى هــذه المهنــة ،لم يكن لنــا أن
191
نستشــعره بغــير هــذا العــرض ممــا أدى إلى تبــدل مشــاعرنا تجــاههم حــتى وجــدناـ أنفســنا
نتعاطفـ معهم تعاطفا ً حقيقيا ً .
فالعم مسفر هو أحد عساكر التنافيذ أيام اإلمام ،وجد نفسه وقد استهلكت اإلمامة شــبابه
مقــذوفا ً على قارعــة الجــوع بال ضــمانات أو حقــوق ففكــر في الــذهاب إلى المركـزـ ليطلب
عودته إلى العمل العسكري مرة أخرى ،غير أن هذه الفكرة .
ونتيجة لبعد الطريق بين القرية والمركز ،ولشدة وعورتها وثقل الرحلة على ســنة الكبــيرة
– كانت الفكرة التي أودت بحياته ،نقرأ :
" ويحاولـ العم مسفر أن يساير الجمع .....ويجف حلقــة ويســتنجدـ بالزمزميــة ،يســتحلبهاـ
رحيق الحياة ،ويداه ترتعشان وقلبه يخفق ،ويغلبه التعب واإلرهاقـ ،يتهاوىـ ككومــة قش
على الطريــقـ ..يشــهق ويــردد الــدعوات ويــده على بندقيتــه ...تمتــد رجاله النحيلتــان
1
وتسترخي أعضاؤه المكدودة "
ومع كون هذا الموضوع هو موضوعـ سياسي بالدرجـة األولى ،يتعلـق بسياســية دولـة
تحقر شعبها وتبتزه ،وتسعىـ إلى ترسيخ الفرقة بين أبنــاء الشــعب الواحــد بتســليطـ بعضــهمـ
على بعض ،فإنه تجلى خالل هذه المعالجة موضوعا َ اجتماعيا ً أيضا ً ،من زاوية اســتجابة
أبناء هذه المهنة للسياسية التي يتبعها النظامـ في هذا الشأن ،حين أخذوا يوطــدون بســلوكهم
العدوانيـ المريب تجاه المواطن لشرخ يتحول مع تناسي صــالت وروابــط هــذه المهنــة إلى
شرخ يضرب في قلب المجتمــع ،ويفت في عضــده ،وألجــل ذلــك لم تكن إزالتــه مرتبطــة
بزوال النظام الذي أوجده .
ثم من حيث كــون أبنــاء هــذه المهنــة لم تكن لهم في تلــك الفــترة من الضــمانات االجتماعيــة
والتأميناتـ التي تكفل لهم حياة كريمة بعد تسريحهم من مهنتهم .
وفيـ قصة ( العسكري ذبح الدجاجــة ) لزيــد مطيــع دمــاج ،نلتقي هــذا الموضــوع وقــد
تجســد في صـورة غـدت أيقونــة ترمـز إلى هـذه العالقـة المأزومـة الــتي تمــد بأذرعهــا إلى
الموضوع السياسي ،باعتبار العسكري هو رمز السلطة ،والدجاجة هي كل وف ـرـ األســرة
ومدخرهاـ ضمن حالة الفقر العميم ،وهي العالقــة الــتي يســعى الكتــاب من خالل معالجتهــا
عبر أكثر من تجربة قصصية إلى تفعيل وعي الرفض لكل القيم السـلبية الـتي تبـنى عليهـا
أو تنجم عن هذه العالقة .
والقصة تحكي تجربتهاـ كيف تســتكثر الســلطة الظالمــة على المــواطن امتالك أي شــيء
مهما كان بسيطا ً ،وكيف يتنزل عسكرها كاللعنات على مفارق الفالحين ،لينــتزعوا عنــوة
ممتلكاتهمـ كي يرسخواـ لعبوديتهمـ ويشعروهم بــأنهم ومـا ملكــوا ملكـا ً للحــاكم وحـده ،ونحن
عادة مع معالجة القصة القصيرة لتجارب هـذا الموضـوع نشـهد موقفـا ً مضـمخا ً بالسـخرية
نتتبع خالله إصرار العسكري الجائع على ذبح الدجاجة عشــاء لــه ،وتنحي األســرة جانبـا ً
تــرقب بخــوف ووج ـلـ عمليــة المطــاردة الــتي تــترك خاللهــا الدجاجــة تخــوض معركتهــا
المصيرية مع العسكريـ ،وهي المعركة التي تنتهي عادة بخيبة أمل األســرة وحزنه ـاـ على
هزيمة دجاجتها ،ففي القصة المشار إليها سابقا ً ،نقــرأ " :اتجــه العســكريـ نحــو الدجاجــة
التي كانت تغفو فوق أحد عيدان الحطب المشوكة ،وحاول اإلمســاك بهــا ولكنهــا أجفلت ثم
قفزت نحو الباب هاربة ،فحاول اللحاق بها ولكنه تعثر في عتبة البــاب فكــاد أن يقــع على
192
األرض لوال أن أمسك بعارض الباب ،بينمــا كــانت بندقيتــه قــد ارتمت من على كتفــه إلى
األرض فلم يعرها انتباها ً ،وقد ازداد غيظه من الدجاجة فاتجه نحوها وهي تصــيح ،ولمــا
اقترب منها ،وثب عليها ولكنهــا مــرقت من بين يديــه بينمــا ســقطت عمتــه وتــدحرجتـ في
الوحل فلم يعرهــا انتباهـا ً أيضـا ً ،بــل زاد في غضــبه فاتجــه صــوب الدجاجــة مــرة ثالثــة ،
وحاصرها في زاوية في عرض المنزل وأطبق بيده عليها حتى كتم أنفاسها ،ورجع نحو (
الرعوي ) وعينيه تقدحان بالشرر بينما كــان األخــير قــد أخــذ البندقيــة من األرض ثم لحــق
بالعمامة في تدحرجها ،فالتقطها وبدأ في تنظيف ما علق بها من الوحل ،ومد ( الرعوي )
يده بالبندقيـة نحو العسكريـ الذي جذبها منه ،ثم أخذ عمته وهو يلهث ،واتجه نحو الزوجة
،وصاح بها وهو يعطيهاـ الدجاجة قائالً - :قســماًـ باهلل – إن لم تــذبحيها ألنحــر هــذه البقــرة
اآلن .
وارتاعـ الرعوي وزوجته لقــول العســكري ،فمــا كــان من الرعــوي إال أن خــاطب زوجتــه
بحسرة قائالً - :أمري هلل ،اذبحيها يا امرأة وأمري هلل .
1
-وحاولت الزوجة أن تتردد ولكنهاـ انصاعت بإشارة صارمة من زوجها "
وفيـ قصة ( العم مسفر ) حيث تشكل هذه المطاردة حلم ليلته األخيرة نقرأ:
" صوت المرأة العجوزـ يعلو في أذنه وهي تصرخ في أطفالها ليطاردوا الديك األحمــر
فوقـ السطوح :
-عشاء للعسكري يا أوالد !
الصبية الحفاة يتصايحون ....يتراكضون ....القرية كلها تتبارىـ لتهيئة الطعام للشــاوش
مسفر ،الدخان يتصــاعد من تنــورـ المــنزل والكــل منهــوكـ ،والعم مســفر وحــده قــابع في
صدر الديوان ،يمسك بيده فنجان قهوة القشر وباليدـ األخرى ،قصبة المداعــة المنصــوبة
في وسط الديوان والدخان يتصاعد ليغمــره بفــرح طفــولي ،وانتظــار لذيــذ لوجبــه الغــذاء
يدغدغ جوفه فيبث الطمأنينة في نفسه فيمد ساقاًـ ،ويتأمل في دخــان المداعــة ،وأصــوات
الصـبية تتعـالى في الخـارج مختلطـة بأصـواتـ الـديك األحمـر فـوقـ السـطوح ،ويتكـاثر
الهرج ،ويعلوـ الصراخ ،ويسلب الفضول طمأنينة العم مسفر ،يقوم ملسوعا ً إلى النافــذة
يتبين األمر ،يهبط الديك في نفس اللحظة على أطراف النافذة ،يتطلع إلى الصــبية أســفل
الدار وعيونهم معلقة تتابع الديك ،بهدوء يشمر العم مسفر عن ســاعده رافع ـا ً كم القميص
إلى أعلى ،الديك المطارد متعلق بطرفـ الشباك يلهث من التعب ،ويــد متلصصــة تــدلف
بهدوء لتمسك به ،وعيون الصبية وعيون كثيرة ،تشخص بلهفة ،وبسمة مــاكرة ترتس ـمـ
فوقـ شفتي العجوزـ ،واليد تمتد لتقارب عنق الديك وأصوات الصبية تتعالى داوية ونقرة
. في ظاهر اليد الممدودة قوية ومفاجئة كطلقة صــائبة .
)2وموضوع كموضوع االستغالل الذي يتعرض لـه لمــواطن البســيط من قبـل أصـحاب
النفوذ ،فنجد تفصيالته موزعة بين تناوالت القصة القصــيرة الــتي أضــاءت جوانبــه في
أكثر من تجربة ،فالعسكريـ في قصة ( العسكري ذبح الدجاجــة ) لم يــأت ليحــل خالفـا ً ،
وإنمــا جــاء مســتغالً شــكوىـ تافهــة من ( مســعد النجــار ) بجــاره الرعــوي ليحقــق مآربــه
الخاصة ،التي وقع معها الرعوي حائراً بين الرمضاء والنار ،العسكري يبتزه من جهــة
193
ويهدده بمزيد من االبتزاز ،والشيخ يستمر في مراباته مستغالً حاجة المواطن وعجــزه ،
فبعد أن سمع الرعوي تهديد العسكريـ الذي التهم دجاجته الوحيدة :
" – هل اشتريت لي ( القات ) ألقيل به
-ليس لدي قات
-هه....أتريد أن تعيد الكرة مرة ثانية
-ولكن ليس لدي قات وأقسمـ على ذلك
-وبصوت غاضب قال العسكري :
-ال ينفع معكم إال القوة ....قم واشتري لي قاتا ً وال تدفعنيـ الستعمال العنف معك ،فأنــا
1
منهك من الطريق "
-انطلق مسرعا ً إلى عدل القرية :
" -أريد شراء قات منك
-هل جننت يا هذا ،أتريدنيـ أن أتلفه وما زالت غصونه صغيرة
-إنه العسكريـ
وما أن سمع ( العدل ) ذلك حتى قام من مكانه ،وخرج معه صوب مدرج زراعي صــغير
قد امتأل بشجيراتـ القات خلف منزله ،وشرعـ في قطف األغصان التي بانت له كبيرة ،ثم
قال متذمراً :
-اليأتي منكم سوى المتاعب ...
-وماذا جنيت
-ولم يحبه بل ناوله حزمة القات وهو يقول :
-اعلم أن ثمن هذه الحزمة رياالن ...
-ونهض الرعوي من على الحجر الذي جلس عليه ثم قال محتجا
-إنه ال يساوي رياالً واحداً ...
-ولم يجبه العدل ،بل خطف حزمة القــات من يــد الرعــوي ،واتجــه نحــو منزلــه وهــو
يقول :
-إذاً اذهب عني وابحث لعسكريك عن قات ...
-يوجد منه الكثير في قرية ( جلب ) وهو صالح للقطف .
-ولكنها بعيد ...
-وماذا أفعل لك ؟
-ولحق به وقد غلب على أمره وقال :
-سأدفع لك ما قلت به
2
وابتسمـ العدل لسماع ذلك وناوله حزمة القات "
لكن الرعوي لم ينته همه بعد ،وال يزال مهموماًـ بأجرة العسكري التي وجد فيها ( العــدل )
فرصة أخرى لمزيد من المراباة ،يشرحها الموقفـ الحواري التالي :
" -كم أدفع أجرة العسكريـ ؟
ألم تتفقوا ؟ -
ال -
1زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص)30
2زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص) 30،31
194
ادفع ريالين كغيرك من الرعية -
إذاً أقرضنيـ الريالين -
الحق ورائيـ إلى البيت -
ودخال المنزل ثم اتجه العدل صوب صندوقه الخشبي حيث فتحــه وأخــرج -
ريالين وقال :
يبقى عندك لي خمسة رياالت .. -
ولكنها أربعة رياالت فقط -
ال تعارضنيـ إن لم يرضك ذلك ......فقد قلت خمسة رياالت ...... -
ال داعي لقد قبلت وأمري إلى هللا ... -
وأخذ الرعوي القات واألجرة ،واتجــه صــوب منزلــه وهــو يلعن ( مســعد -
1
النجار )
-وكما تحكي هذه القصة مقدار ما حل ( بالرعوي ) من دمار ،تحكي قصة ( العائد من
البحر ) دماراً أكبر يتعرض له ( علي بن علي ) من قبل شيخ قريته الجشع ،الــذي يمعن
في اســتعدائه مســتثاراً بقيامــه بشــراء أرض من أحــد األهــالي كي يفلحهــا ويبــني عليهــا
منزالً ،مستغالً جبروته ونفاذ ســلطته على الفالحين الضــعفاء ،عامــداً إلى حيلــة يحــاول
فيها تجريد هذا العائد اآلمل في االستقرار بعد غربته الطويلة من كل ما يملك .
وفيهاـ نقرأ " :وفيـ منتصف المقيل قال الوكيل ليبدد الصمت مخاطبا ً الشيخ :
-لقد علمنا يا شيخ أن ( علي بن علي ) يريد شراء أرض هنالــك ليفلحهــا ،وقـدـ رحب
الرعية بأن يبيعوا له ...
-وكأنما بهت الشيخ لذلك ،فقال غاضبا ً ...
-يشتري أرضا َ ...؟ هل بلغت به الجرأة إلى هذا الحد ؟
-لقد عرض عليهم أي ثمن يريدونه .
-ومن باع له أرضا ً ...؟
-لم يبع إلى اآلن سوى ( محمد حسن ) فقط
وتجهم وجه الشيخ وتنــاول ورقــة في يــده ثم كتب فيهــا ،وهــو يقــول مــا يكتبــه بصــوت
غاضب :ينفذ عسكري حاالً على محمد حسن إلحضاره .
وأمضي الورقة بعصبية ثم طواها بينما كــانت أعنــاق عســكره ترتفــع ،وكــل يتمــنى أن
يرميها الشيخ إليه ...وطوحت يده بالورقة إلى عسكري من خبرته وقال :
اآلن احضره على وجه السرعة
وانطلقـ العسكري كالبرقـ وقد أخذ بندقيته ،وما كــاد الليــل يخيم بظالمــه على تلــك الجبــال
حتى دخــل العســكريـ ومعــه الرعــوي المــدعو ( محمــد حســن ) يلهث وعلى وجهــه أمــارة
الفزع ،فرمىـ لحفته في األرض واتجه مسرعا ً صـوب الشـيخ وارتمىـ على ركبتيـه يقبلهـا
بحرارة ،بينما كانت يدا الشيخ تهوي على ظهره العاري وهو يقول مازحا ً :
2
-مازال جلده قوياًـ كجلد الثور "
وبوصول ( محمد حسن ) إلى ديوان الشيخ تبدأ مناورة تهديديه مضمخة بحس االســتخفاف
بعقل هذا الرعوي الضعيفـ ،فما كاد يدخل القات إلى فمه حتى بادره الشيخ قائالً :
1المرجع السابق ( ،ص)32،31
2زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ( ،ص)45،46
195
" –كيف حال ( علي بن علي )؟
-على ما يرام يا شيخنا .
وصمت الشيخ بينما قال الرعوي متسائالً :
-لماذا أنفذت علي عسكري يا شيخنا ،وأنا رعويك المطيع المخلص ؟
-أريد أن أراك فقد اشتقت لذلك
وقهقه الحاضرون بينما ابتسم الرعوي بسذاجة واضحة ،ولكن الشيخ صاح به :
-لقد بعت لعلي بن علي أرضا ً ....هه ....
وذابت ابتسامة الرعوي ....ووجمـ وقد أحس بالحرج ولكنه تشجع وقال :
-لقد كنت محتاجا ً يا شيخنا .
وكأنماـ زاد قولــه الشــيخ غضـبا َ على غضـب ،فصـاح بــالجميع متسـائالً أرايتم ..؟ أنــا هـل
اختفيت من الوجودـ يا محمد حسن !.؟
-ال سمح هللا بذلك يا شيخنا.
-أال تدري أنني أعين كل محتاج .من يكون علي بن علي هذا ،ووجمـ الحاضرون والشيخ
ثائر يهدد ويرعد ويتوعد ،ثم هدأ وقال :
-بكم بعت له القصبة
-بأربعين رياالً يا شيخنا .
-كنت سأدفع لك في القصبة خمسين رياالً
لم أكن أعرف ذلك ،وكنت أحسب أنك ستدفع لي ما دفعت ألحمد ناجي جاريـ في األرض
.
-وكم دفعت ( ألحمـــــــــــــد نـــــــــــــاجي ) يـــــــــــــا ( محمـــــــــــــد حســـــــــــــن ) ؟
لقد قال أنك دفعت له خمسة رياالت ثمن القصبة .
-كذاب ...عليه اللعنة أيكذب علي ؟
وهنا تدخل الوكيل ألول مرة وقال مخاطبا ً الرعوي :
-ربما لم تسمعه جيداً ،فقد دفعنــا لــه خمســين ريــاالً في القصــبة الواحــدة ،وربمـاـ ســمعت
الخمسين على أنها خمسة
-ولكني متأكد من قوله .
-إنك لست متأكدا ،بل غبيا ً
ولم يكن بيد الرعوي إال أن يسلم باألمر الواقع ،فانمكش في زاويته وقد جف حلقه ،فرمىـ
بالقات من فمه والعرقـ يتصبب من جبينه " . 1
ولكي تتم الحيلة حبك شباكها ،البــد من إشــعارـ الرعــوي بالجريمــة الكــبرى الــتي اقترفهــا
حينما باع أرضه لعلي بن علي ،وهذا دور يقوم به -هنا -وكيل الشيخ
" وبعدـ أن خال المكان قال الوكيل مخاطبا ً الشيخ بصوت أراد به أن يسمعه الرعوي :
-أنا متأكد أن ( محمد حسن ) رعوي طيب ويحبك كثيراً .
وهنا صاح الرعوي في شبه بكاء :
-نعم لقد خدمته ،وخدمت والده هللا يرحمه ،وأنا دائما ً تحت الخدمة وصاح الوكيل بغضب
...
196
-اسكت وال تتكلم أبداً
وحول الوكيل نظره عن الرعوي ،ثم قال مخاطباًـ الشيخ :
-إنه مستعد أن ينفذ ما تقول له ..
-أنا مستعد يا شيخنا لكل ما تأمر به ،فأنا رعويك المطيع ...
1
-لقد قلت لك اسكت وإالَّ أخرجتك من المكان "
وهكذا يستدرج الرعوي ليصبح األداة التي ينفذ بها الشيخ حيلته القاضية باتهام (علي بن
علي ) بنهب أرضه ،وهنا تبدأ المعركة الحقيقية بين الشيخ وعلي بن علي الــذي يــرفض
هذا االستعداء غير المبرر ،ويطلب برغم تدخل األهالي ال قناعه بالتراجع أمــام جــبروت
الشيخ والمثولـ أمام الحكومة ،فحينماـ أرسل الشيخ عسكري إليه ،امتنع عن مرافقتــه إلى
منزل الشيخ وهنا تدخل عمه ( حمادي الحاج ) قائالً :
" –ال يصح ذلك ...اذهب مع العسكريـ إلى عند الشيخ ...
-وهل نهبت أرض ( محمد حسن ) يا عمي ؟
-اذهب وقل الحقيقة للشيخ ونحن سنتشهد بذلك معك .
2
-لن أذهب إال إلى الحكومة "
لكن مثوله أمام الحكومة -الممثلة هنا بالحاكمـ -لم تســتطيع أن تــرد لــه حقـا ً ،بــاألخص
وأن الشيخ الذي قضت حيلته االستعانة بمن يتكفل بتغيير الواقع على األرض ،وإزالــة كــل
الدالئل التي تثبت ملكية ( علي بن علي ) لألرض المشتراة ،وتخويفـ األهالي ،وتهديدهم
كي يمتنعوا عن اإلدالء بشهاداتهم ،أمام الحاكم ،قد أغلق في وجهــه كــل الســبل ،فلم يبــق
أمامه سوى سبيل قتل الشيخ والتخلص من ظلمة واستعدائه ،فحينما خرج الحـاكم لمعاينـة
الموق ـفـ ،وطلب من ( علي بن علي ) أن يريــه منزلــه ،ذهــل ( علي بن علي ) حينمــا لم
يجد لمنزله أثراً ،وهنا صاح الحاكم :
" -أين دارك يا علي بن علي ...؟
وتلعثمـ علي بن علي وقال وهو تائه :
-هنا كانت داري يا سيدي الحاكم .
-وأين ذهبت ...؟
-ال أدري ..
وهنا قال الشيخ مخاطبا ً الحاكم وهو يبتسم:
-وهل حدثكم علي بن علي أنه يملك داراً هنا يا سيديـ الحاكم ؟
-نعم يا شيخ مصلح وقد خرجت على هذا األساس !! ...
-هذه أرضي يا سيدي الحاكم أزرعها منذ األزل ...
وهنا صاح علي بن علي والدموعـ تكاد تخرج من عينيه ..
-لقد خرب الشيخ داري يا سيدي الحاكم .
وأجابه الحاكم بهدوء
-وأين آثارها ..ال بد من حجارة أو خشب لتثبت ذلك يا علي بن علي !...
وتلفت غلي بن علي بين القوم عساه يجد أثراً لداره تحت أقدامهم دون جدوىـ فقال بتأثر:
-ال أدري يا سيدي الحاكم ولكن كلهم يعرفونـ ذلك .
1المرجع السابق ( ،ص)48،49
2المرجع نفسه ،ص53
197
وقاطعه الشيخ قائالً :
-يا سيدي الحاكم ...اسال أي رعوي هنــا عن ذلــك ...إذا أخــبرك أحــد بــأن لعلي بن علي
داراً هنا ،فأنا مستعد أن أعطيه داري وكل ما أملك
وقال الحاكم مخاطبا ً الجموع :
ماذا تقولون ؟
-ال نعرف علي بن علي هذا وال يملك هنا داراً .
وأظلمت الــدنيا في عين علي بن علي عنــدما ســمعهم يقولــون ذلــك ،وتلفت حولــه فلمح
( محسن ) بين الجموع تكاد تذرفـ من عينيه الدموع ،فقال بتأثر مخاطبا ً الجموع :
-يا لكم من جبنــاء ،إلى هــذه الدرجــة تخــافون الشــيخ ..إلى درجــة قــول الباطــل وشــهادة
الزورـ ...أالَّ تعرفونني ...؟
ولم يجبه أحد ،فوجه كالمه نحو محسن قائال :أال تعرفنيـ يا محســن ....يــا لــك من بــائس
مسكين .
ولم يجبه محسن بل خرج من بين الصفوف مهروالًـ نحو الطاحون ،وألقى علي بن علي
نظرة على دار حمادي الحاج فوجدها هامدة ال حياة لها ،و سمع صوت الطاحون يــدوي ،
محدثا ً ذلك الصوت المتقطع ،واقترب من الحاكم وبندقيته متدليــة إلى اإلمــام بيــده تــترنح ،
وأشارـ الحاكم نحو عساكره فتحركوا نحو علي بن علي ليطوقوه ...ولما اقتربوا منــه دوت
1
طلقة نارية سقط على أثرها الشيخ مضرجا ً بدمه.
وأما عن موضوع الهجرة ،ومغادرة القريــة واألهــل ،ومشــقة االســتمرار والبقــاء في
ظل ضغوط األنظمة وفسادهاـ ،وهو موضوع الرواية اليمنية األثير ،فإن للقصة القصــيرة
منه منطقتها الخاصة التي تتواجد على مسـاحاتهاـ ،ففي الـوقت الـذي انصـرفـ فيـه اهتمـام
الروايــة على الحــدث باعتبــاره محــورـ البنــاء الــروائي ،ركــزت القصــة القصــيرة على
الوجــدانات الداخليــة للشخصــية ،وتعمقت اضــطرابها وتقلبهــا ،لتضــيء لنــا بــذلك نقاط ـا ً
إضافية ،فمن قصة ( غداً تهطل األمطار ) لعلي صالح عبدهللا ،نقتطف :
" األرض تبحث عن نفسها في جوف السماء فال تجدها ،والعيون تباشر وظائفها بال هدف
،نظراتها دوائرـ مفرغة في الشكل ،رحلة ماجالن ،نقطة البداية والنهايــة ،والجــوهرـ بال
معنى ،واألفكارـ ترسل ما يطرأ عليها إلى المركز ،فال تجد ما يشــفي غليلهــا ،والبســمات
تحجبها ظالل األلم الرتيبة ...والظمأ والجــوعـ الوحيــدان اللــذان يعمالن عمــل الســيف في
الرقاب ،فتشرئب األعناق إلى السماء داعية ،تواقــة إلى الرحمــة ،الرحيــل ،فكــرة وليــدة
اليأس والقنوط ،خاتمة الرواية لم تكتمل بعد ،تظل تبحث عن موضــع لنفســها بين أحــرف
آلــة الطباعــة الصــماء ،يــتردد الكــاتب ولكنــه ال يغض الطــرف عنهــا ،يمعن النظــر في
ســطورهاـ حــائراً ،فتظــل الروايــة ماثلــة إزاءه بال نهايــة " ، ".......يحــاول اإلجابــة على
السؤال الماثل بين السطور ولكن الخوار يداخله والضعف ينال منه ،وعلى بعد أمتار قليلة
تظهر فجأة هوة سحيقة بال قرار .....أصوات متواشجة متناقضة تصيح في أذنــه ،ســر....
توقف...ـ امض ،تدفعه عنها لم يبق إالَّ النزر اليسير سيسقط ال محالة أثره .
2
اليرى أو يبصر ؟ األبيض واألسود في عينيه لون واحد "
ومن قصة ( الليل ينصهر ببطء ) لمحمد مثنى نقتطف :
1زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ،ص70،71
2علي صالح عبدهللا ( وجه حبيبتي ،والوجه االخر ) دار الفارابي ،بيروتـ 1980م ط ، 1ص49
198
" فقدت الحياة مآثرها ،ولم يعد شيئا ً يوحي فيها بالحياة ،أخ ...لقد مضــت على هربــه من
القرية سنوات ،وذلك الكائن الذي تركه يركض في أحشاء الزوجة ،ال يعــرف من رؤيتــه
أكثر من ساعات مخضلة بالخوفـ يلوذ خاللها باآلكام كأنه قرد من قرودـ الجبال .
سنوات من الفرقة والشوقـ ...وتستيقظ في دواخله لمحات من المواجع تضيئه لحظات ،ثم
تفلت كالســديم ....ويصــغي لداخلــه ....أكــل هــذا بســبب العســاكرـ والجبــاة ،وعصــيهم
الغليظـــة ،ومـــع ذلـــك يضـــللون اإلمـــام ؟ أخ .....ال أدري ....لقـــد دارت الـــدنيا تقلبت
الموازين ...الحريق في داخله ،وأشـواق مغلفـة ،ولكنـه ال يعـثر على مخـرج ،وتمضـيـ
1
السنين العجاف شحيحة باردة كيدية اللتين افتقرتاـ إلى حرارة الفأس منذ زمن بعيد "
هكذا شكلت المعالجات الروائيـة والقصصـية تحت هـذا المبحث إضـافة نوعيـة إلى تجربـة
الكتابة الروائية والقصصــية في اليمن ،حيث طــرقت هــذه المعالجــات موضــوعات لم تكن
مطروقة قبالً ،واستوعبت قضاياـ لم تكن مستوعبة ضمن المعالجات الروائيــة والقصصــية
قبل ذلك ،وأظهرت قدراً من الهدوء والبعد عن االنفعال الذي سمح لها بأن تتعمق وتتوغل
وتضــيء زوايــا جديــدة ،تعــددت على أثرهــا المضــامين وزوايــا الــرؤى وااللتقــاطـ بين
مضامين أفاض فيها التناول الروائيـ ،ومضامين أشار إليها أو دل عليها ،أو ترك المجـال
فيها للمعالجات القصصــية تعمــل فيهــا عملهــا وتســلك خاللهــا ســبلها بين الكشــف والتعمـقـ
والتوغل إلكمال ما نقص من خطوطـ المشهد ،ضــمن قاعــدة من المــزج بين الموضــوعين
السياسيـ واالجتماعي .
)2أعمــال روائيــة وقصصــية اهتمت بــالواقعـ السياســي واالجتمــاعي بعــد ثــورة الشــمال
واستقالل الجنوب
وهــذه أعمــال أنشــأت تجاربهــا ضــمن واقعهــا االجتمــاعي والسياسـيـ المحفــوف بالشــك
المطبوعـ بالتشوشـ وانعدام الوضوح ،وهي إذ تسلط أضواءها الكاشفة على واقع ال تزال
تختلج في مجريات أحداثه وال يزال كاتبها يعافرـ صعوباته وتحدياته ،ولسان حاله يقــول
ما أشبه اليوم بالبارحة .
فقد كتب عليه كما كتب على كل أبناء جيله أن يعيش ظرفـاًـ سياســيا ً واجتماعيـا ً مشــابها ً
لذلك الظرف الذي عاشه كتاب الرواية والقصة القصيرة مـع أبنـاء جيلهم في واقـع مـا قبـل
انفجــار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب ،بــل ربمــا هــو أقســى وأصــعب حيث تحــرص
األنظمة ( المسماة ثورية وحديثة ) في سعيها إلى قمع شــعوبهاـ وخنــق حرياتهــا إلى اقتنــاء
كل جديد ومحدث من آالت القمع والتتبع ،وألجل ذلك -ومع ارتفاع الشعور بخيبة الرجاء
-يعود صوت السياسة ليحتل مكانه من جديد في تناوالت هذه ،فيعلوـ حينا ً ويتوارى خلف
األساليب التضمينية والرامزة حينا ً آخر.
وســوف تعتمــد الدراســة في إشــباع موضــوعهاـ لــدى هــذه المبحث على روايــة ( وســامـ
الشرف ) لمحمد مثنى باعتبار تجربتهاـ المعالجة تقوم على تغطية مســاحة واســعة من زمن
هذه الفترة ،كما تطرق قضاياـ متعددة مثلث القضايا األهم في واقعها
السياسيـ واالجتماعي ،باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية التي شهدت خالل الفترة
المحددة لهذا المحور من الدارسة تطوراً وتنامياًـ مطرداً .
1ص 48،49محمد مثنى ( رحلةالعمر )الهيئة العامة للكتاب /صنعاء 2001م ط1
199
وموضوعـ رواية ( وسام الشــرف ) هــو موضــوع سياسـيـ ،يســلط فيــه الكــاتب ضــوءا
كاشفا على مالمح انحراف مسار التغيير وتبدد أهداف الثورة في الشمال والجنوب .
فلم تعد الثورة تشكل -وفقا ً لرؤية أغلب أعمال هــذه الفــترة -محطــة انطالق نحــو تغيــير
إيجــابي ينتقــل بالشــعب اليمــني نحــو األفضــل ،وإنمــا غــدت محطــة يقعــد إليهــا أصــحاب
الحسابات المصلحية الضيقة يراجعــون مقاســمهمـ ومغــانمهمـ ،وأصــبحت حركتهــا المختلــة
حينا ً وغــير المحســوبة أحيانـا ً أخــرى وبــاالً على هــذا الشــعب حين انتهت إلى مجــرد نقلــة
مفرغة نحو مجتمع استهالكي محمومـ ،يركض في ظــل سياســة االنفتــاح في اتجــاه تطــور
شكلي تحكمه النفعية البحتة ،وال يضع لإلنسان وتغييره والوصول به إلى مستوىـ معيشــي
وثقافيـ أفضل مكانا ً من مساحاته الــتي انشــغلت بظــواهر ســلبية بعضــها يمتــد بخيوطــه إلى
تاريخناـ البائد ،وبعضــها يبــني تشــكله على إيقــاع عصــرنا الحــديث ،وهي الظــواهرـ الــتي
شــكلت مــادة خصــبة نهلت منهــا الروايــة والقصــة القصــيرة ومنهــا اختــارت موضــوعاتهاـ
ومضامينها .
وبدءاَ برواية ( وسامـ الشرف ) التي احتوى سياقهاـ حشداً من هذه الظواهر الــتي تم تقــديمها
من خالل مضامين لقضايا حقيقيــة مســت وبشــكل مباشــر اإلنســان البســيط الثــائر الحقيقي
والمناضلـ ضد الظلم واالستبداد واالستغالل ،والذي يزداد كل يوم انسحاقاًـ وضــياعا ً ،من
هذه القضايا :
)1انحراف المسارـ التغيــيري للثــورة في الشــمال والجنــوب رغم اختالف النهج السياســي
لنظامين يوصم أحدهما بالراديكالية ،ويتشدقـ ثانيهما بالتقدمية .
ففي الشــمال كــانت سياســية االنفتــاح توقــع أنغامهــا المرتبكــة على أوجــاع البســطاء الــذين
فوجئوا بحركة محمومة لمجتمع يتوجه في هجــرات جماعيــة نحــو العاصــمة صــنعاء الــتي
كانت تستقبل مع إشراقة كل صباح وفوداًـ جديدة ،
و تركض الهثة كي تستوعب ضغط السيل البشري المتدفق عليها ،
ومع تزايد الوافدين الجدد كثر العاطلون في رصيف التحرير ،فهناك طابورـ طويل منهم ،
2
بعضه قد استسلمـ بعد أن أعيته البطالة للهذيان والجنون .
،وانتشرت السلع المستوردة حتى غدت صنعاء مجرد سوق اســتهالكيـ كبــير ،وبــرز
3
االستقواء على بسطاء الناس ظاهرة واضحة ،وهذه مجموعة من البشر قــد هــرعت ببقايــا
عظامها هربا ً من سيارة مسرعة يقودها طفل ،كانت ستدهسهمـ " قــال أحــد الهــارعين إنهــا
من نوع الشبح التي لم يكن قد رآها أحد من قبل ،وإنما سمع عن مثل هــذا االســم في قائمــة
4
الموضة األحدث للسيارات التي أضحت تستخدمـ في بالدنا "
1محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص154
2محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ( ص)115
3المرجع السابق (ص)202
4المرجع نفسه (ص)234
200
وقال آخر " لم يكن ينقصنا في هذا البلد إالَّ أن يهبر هؤالء الهمج البقايــا من جلودنــا
ويشترون بها سيارات الشبح لمالعبة أطفــالهم " ، 1وكــثرت التجــاوزات وهــاهم النــاس
يرقبون أحد الواصلين يحمل أمراً ال يرد في ورقة رسمية ومختومة بلون كلــون الشــمع
األحمر :يسمح للمذكورـ فاعل خــير باســتيراد أربعمائــة ألــف طن من الحديــد معفى من
الجمارك والضريبة لبناء أعمال خيرية وبملحوظة ملحقة في أسفل الورقــة ال يعرفــون
من وضعهاـ " كما يعفى من أي مترتبات أخــرى للجهــات أو الدولــة ،وقـدـ علــق أحــدهم
على اآلمر قائالً في تندر " لــو أن فاعــل الخــير هــذا ســيعمر الكــرة األرضــية كلهــا لمــا
احتاج إلى أربعمائة ألف طن من الحديد " ، 2ثم أخذت موجه الغالء التي تفتعلها جماعة
من المضاربين بأقوات الناس 3.تشتد ،وبرز الغــنى المفــاجئ ألنــاس " يــدخلون بغــبرة
أقــدامهم الحافيــة من مختلــف األطــراف في العاصــمة ليالً ثم يتجولــون في المصــالح
والمنشآت الحكومية الحديثة صباحاًـ بحواالتهم ومن أي أحد حتى في زئبقات ســجاير ال
ترد ....فيكونون في األيــام القليلــة التاليــة لهــا في -أنحــاء العاصــمة المتســعة بالحركــة
والتطور -بصوالين من السيارات آخر موديل ....فضالً عن النعمة السريعة التي تطردـ
من وجوههمـ الغبار ،4وتراجع سعر العملة ، 5،وتبدى التفاوت الطبقي بأوضح صــوره،
6
فغدت صنعاء مدينة يجهلها حتى القاطنين فيها .
وفيـ عدن كانت قضية أخرى نجمت عن تطبيقـ سياســية النظــامـ الشــمولي الــتي عملت
على تنفيذ حلول اقتصادية غــير مقبولــة ،كــان أهمهــا تــأميم الممتلكــات ووضــعها تحت
حيازة الدولة 7.مما تسبب في :
-1جمود حركة السوق وركود االقتصادـ ف " بدالً من أن تستنفر هــذه الثــورة العمــال
والفالحين والمجتمع في ثالثمائة كيلومترـ من األرض بالفؤوس في وادي حضرموت
" ، 8قــامت بتــأميم العمــارات والمعامــل والمصــانعـ الصــغيرة ،بــل وشــجعت على
حركات هي أقرب إلى الفكاهة منها إلى تنفيذ رؤية سياسية أو مشروعـ وطــنيـ ،مثــل
انتفاضة الصيادين الثالثة التي ذكرتها الدراسة في موضــع ســابق منهــا ،ومثــل تلــك
التظاهرة التي أخذت تسد الشوارعـ ،وتهتف مسنودة باألمن والجيش " :واجب علينا
9
واجب تخفيض الرواتب واجب "
ب ) مغادرة الكثيرين من أصحاب رؤوسـ األموال إلى الشمال ،هربا ً من جــبروت
النظام ذي القبضة الحديديــة ،ففي هــذه الحقبــة " وفي الجــانب اآلخــر من اليمن ...
كانت العاصمة التاريخية تستفيد -لمن يشــاهد ذلــك -من أخطــاء جزئهــا الثــاني في
حركتهاـ النشطة المتسعة من جراء االنفتاح ،الذي اتخذته كأفضل وســيلة لالســتفادة
10
والرد واإلغاضة في نفس الوقت "
1نفسه( ص)235
2نفسه ص146
3نفسه ص201
4نفسه ص146
5نفسه ص203
6نفسه ص206
7نفسه ،ص203
8نفسه ،ص124
9محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع السابق ص124
10المرج السابق ص126
201
يخاطب ( الحاج محبوب المعسلي ) ولده ( نور) متحدثا ً عن عدن في ظل هــذه السياســة ":
أتوقع أن يهرب منها حتى اللذين سنوا قانون الحيازة الجديد ،وإنه ليساورني في هذه األيام
مــا قلت لــك في األيــام األخــيرة عنــدما كنت بيننــا ،ولعلــك تتــذكر جيــداً من أن النــاس في
1
المطاف األخير ستحال إلى نفايات المصافي "
ج) وقوع من بقي منهم تحت طائلة الفقر غير المبرر والذي كانت أسرة محبــوب المعســلي
2
نموذجاـ بارزا عليه
)2اعتماد النظامين في الشمال والجنوب في ترســيخ بقائهمــا على آليــات القمــع السياسـيـ
بين تكميم األفــواه وإصــدارـ دســتورـ يحــرم الخــوض في الحزبيــة ، 3.ولجــوء الناشــطين
الحزبيين إلى العمل السري ،ففي " هذه الفترة رأى ( نور) ( علوان وكــردة ) و ( رفيـقـ
وخالد المهيــوب ) كــل على طريقتــه وفيـ عجلــة من أمــره يتصــيدون العمــال والطلبــة أو
الشباب كل بمفــرده " ... " ،فيأخــذونهمـ إلى قهــوة التيســير أو غيرهــا ليشــربوا الشــاي
الملبن ،ويقولون لهم من خلف سحاب الدخان ما قال لــه علــوان الــذي ال زال يتــذكره بال
نسيان وإن بشيء مختلف ،وفقا ً لأليديولوجيات التي يتقنها كل واحد ،وال بأس أن يكــون
4
عامل القهوة 0معروفـ مرهف اآلذان ومفتح العيوب يصغي ويستوعب ذلك "
وهذا ( نور ) يعبر عن التزامه اإلقالع عن الحديث في السياسة بعد ما رآه من عــذابات ،
فقد أدرك أن ما يتحدث به راكبو سيارة األجرة التي كان يستقلها " ما هــو إالًّ في السياســة
وهو من وقع على نفسه في ورقة شهادة الخروج بخط يده وتوقيعـه المفخم الواضـح " :أ ن
ال أتدخل فيما ال يعنيني " ،5وحينماـ تم اقتيــاده من قبــل ثالثــة من الحـرس المسـلحين ،ظــل
6
يردد " واهم من يظن أني أثرثر حتى في األحالم عن السياسة "
وتتبع مناضليـ الثورة ومالحقتهمـ والزج بهم في الســجون والمعتقالت ،فقــد بــدأت الســلطة
7
تبث عيونها المريبة في كل مكان
في المقهى حيث النادل كله عيون راصدة وآذان صــاغية ، 8وفي الشــارع حيث المخــبرين
يمارسون كمجانين أفرزتهم الحقبة هـذيانهمـ السياسـي ،9وقــرب المــنزل ،وبجــوار المطعم
10
يقف اثنان يرصدان حركة المتتبع كجزء من واجبهما اليومي
حتى غدا المرء مقيداً في بيته ،وهذا نــور يــدلف إلى الحمــام دون أن يشــعل نــوره ويتجنب
إشعال نور الغرفة ،11ويطفئـ السيجارة مطوقا ً بإحساس ال يخيب من أن العيون الساهرة -
ال شك -تتطلع إلى آية بادرة نور من غرفته 12،وحمالت تفتيش المنــازل تشــن في غيــاب
أصحابهاـ حتى غدت كالزيارات المعتادة . 13
202
ثم تجلت ظاهرة أخرى هي غيــاب بعض الصــحاب وبطريقــة غامضــة ،1يخــاطب أحــدهم
( نور ) حينما وجد السؤال يعلو وجهه ،فيقول " :كردة منذ غيابك لم يعد أحد يعرف عنــه
2
شيئا ً ،وعلوان شرف بيت خاله "
تم تكـــرار حمالت االعتقـــاالت واقتيـــادـ مناضـــلي الثـــورة الحقيقين وتعـــذيبهم بـــدون تهم
واضحة ،وهذا ( نور) يقبض عليه ليجــد نفســه بعــد دوران التمويــه في نفس المكــان الــذي
اقتيد إليه قبالً وفي الغرفة التي بسعة مترين طول ،ومترـ وخمسة وعشــرين ســنت عــرض
– كما قدر 3 -ثم يعرض على ضابط التحقيق الذي يبادر بالســؤال - " :كم تبقى معــك من
المنشوراتـ التي قمت بتوزيعهاـ ؟ كان صوت الضابطـ الــذي نــزل على أذنيــه بمثابــة الهــزة
األرضية وقد قلب يديه ،وهز رأسه كالمنصعق بلدغة كهرباء ثم قال :
-أي منشـورـ يـا حضـرة ...فليس لي في المناشـير نصـيب وال أيضـا ً في السياسـة ،فقـال
المحقق بعد ضحكة مختصرة ساخرة وخفيفة - :هه ليس لك في المناشــيرـ وال في السياســة
التي ظللت تتمنجه بها لسنوات في ظل تسامح األمن وصبره هه ؟
-أنا ؟
-نعم أنت ،والدالئل كثيرة ،ولكن إذا لم تعترف ...فسأعرفـ كيــف أجعلــك ترضــع الليلــة
من لبن أمك ". "........
-أنا ال اعرف أي شيء عن كل هذا ،ولكن إذا كان بأيديكمـ أي شيء أدان به فرقبتيـ سدادة
يــا حضــرة ...ولم يعــرف بــأي صــفة يخاطبــه كونــه أعمى من لعبــة الخــرق المعصــوبة
"".............
-أنظر أنا لست بخائف من آبائكم ،ورأى رتبة النسر الطائر المنقوشة على كتفيــه بغمامــة
عندما فتح عينيه ،وقد أمر
الضابطـ الجندي أن يبطحه على ظهره أيضا ً ويرفع قدميه ...ففعل ،وانهالت العصي على
حفى قدميه ...حتى أحس بالنار تشتعل في كل عضو من جسده .
-أتعترف اآلن ....أم بعد أن تكسرـ عظمتي ساقيكـ ؟ فصرخـ بألم وهو يتوسل .
-ياحضرة الضابط أنا عمــري وهللا مـا حملت منشـوراًـ وال مارسـت أي سياســة إال عنــدما
كنت طفالً ،وضدـ اإلنجلــيز ،أمــا بعــدها فلم أعــد أعــرف شــيئا ً عــدى جبهــة ، ....وأحس
عندها باإلغماءة من شدة وطأة األلم ،فلم يكمل وكان يريــد أن يقــول جبهــة القتــال ،ولكنــه
استسلم لإلغماءة ،فقال الضابط للجندي " :ارفعه ورش على وجهه المــاء حــتى تــرى أي
جبهة ؟ وحين أفاق قال وهو ينتزع نفســه من اشــتعال الحريــق في قدميــه ،وإحســاس بثقــل
جسده ولسانه وشعور بأذى المنــة -الــذي تجنبــه طــوال المــدة -للثــورة في أن يقــول ألحــد
وبصوتـ ":أنا كنت أحد جنود الثورة " ،ولكنه اآلن يجد الضرورة للتلفظ بما لم يقله حتى
لنفسه .
-أقصــد جبهــة القتــال من أجــل الثــورة ،وقــد هطلت من عينيــه دمــوع وانبعثت من جســده
قشعريرة لحظتها كانت أشد من أي وطأة ألم .
-جبهة القتال من أجل الثورة هه !؟ قالها الضابطـ بنفس السخرية السابقة ....ولكنه أضافـ
:
1نفسه ص163
2نفسه ص165
3نفسه ص244
203
-إن من قائل من أجل الثورة ...ال يتـدنى إلى أســاليب المنشــورات والمــؤامرات بعــد ذلـك
العمل الشريف ،خذه اآلن وسأعرفـ كيف أجعله غــداً يرضــع حقيقــة من لبن أمــه ،إن لم
يأتي وقد اعترف كم وزعـ من المنشوراتـ وإلى أي الفصــائل اليســارية ينتمي ...خــذه رغم
أننا نعرف كل شيء ،خاطب الضابط الجندي ،فرفعة الجندي بانفعال كأنما يرفع ديكا ً أعد
1
للذبح "
هكذا يتعرض هؤالء المناضلين لضغوط الســلطة وعــذابات المعتقالت دونمــا ذنب اقــترفوه
سوى أنهم دافعواـ بشــرف في ســبيل انتصــارـ الثــورة ،وهي ضــغوط وعــذابات قــد أســلمت
الكثير منهم إلى الجنون بينما استسلم آخرون لإلحباط واليأس ،كما توضح
الرواية ف (ما جد العربي ) رفيقـ ( نور ) في جبهة القتـال هـو اآلن مجنـون على أرصـفة
التحريرـ ،فـ " كيف تدهور بعد أن أبدى كل تلك الشجاعة والبطولة والــذي كــان سيحصــل
على وسامـ رفيع للجمهوريــة الفتيــة مــع مرتبــة الشــرف الرفيعــة هي األخــرى بال منــازعـ ،
ً 2
ولكنه اآلن يتدحرج بين األرصفة دون أن يميز شيئا "
فهل يكون مصيره هو نموذج للمصيرـ المجهول المنتظر لكـل من هم أمثالـه ، .وهـذا نــور
3
تقذف به هــذه الضــغوطـ إلى بــراثن اإلحبــاط فيلطخ لوحاتــه الــتي أمضــي في إبــداعها وقتـا ً
طويالً " :أغطس الفرشاة في الصبغة الحمراء ،وأخذ يطرطش بها في وجوه الثالث على
غير هـدى ويرسـمـ أقواسـا ً صـغيرة فيهـا وأشـكال همـزات صـغيرة أيضـا ً أراد بهـا تكـثيف
خربشات الغضون والنمش ،وقد تساقطت من سرعة الفرشاة والخطوط نقطا ً من األصبغة
الحمراء لم ينتبه لها كلطخات وانفرشت ما بين العيون والوجوه واألقواسـ والهمزات كأنمــا
دموع ،وحين انتهى من الرسم وضع شخطات في األسفل عند األقدام كأنما لمدينــة عــاهرة
4
يقفن عليها البغايا " .
وإما أولئك الذين تشعر السلطات بخطرهم عليها ،فإن التخلص منهم وتصفيتهمـ هــو الحــل
5
األمثل وهذا أبو نضال يلقى حتفه على يد الرفاقـ في عدن
)2تعمــد تزييــف الحقــائق التاريخيــة ،ونســب البطــوالت إلى غــير أصــحابها ،حــتى أن
بعضهمـ تتنافى سنه الصغيرة وإمكان قبــول احتمــال مشــاركته في الحــدث الــذي تنســب
6
إليه المشاركة في صنعه " .
)4غلبة التفكير النفعي وإحالل القيم السلبية ،ف ( حورية ) تســقط أمــام إغــراءات المــال ،
وحين نظر إليها نور ،لم ير ذلك الوجه الطفولي البريء " :وإنما تــراءى لــه وجههـاـ من
7
خلف المغمق كوجه مومس "
وهكذا هي ( محبوبة ) حاول أن يظهر اهتمامه بها بعد أن مر وقت طويــل على لقائهمــا "
8
لكن المرأة عبرت في أبهتها من قربة دون أن تعيره نظرة من نصف عين"
والخالة زهراء ما عادت راضـية عن عيشـتها ،وهي تلح على زوجهـا وتضـغط عليـه كي
تدفعه إلى االنحرافـ والسرقة ،نسمعها تخاطبه " :كل الناس تعيش عيشة متنفسة متوسعة
204
من خارج مرتباتهــا إال أنــا في هــذا الــبيت المنحــوس ،على المــرتب الــذي ال يكفي لتأكيــل
ثالث دمم من عشرين سنة ياناصر...ـ عشرين سنة وأنت معطى للدنيا قفاك ،بدل وجهــك ،
وتجهش كأنما ستبكي - :الناس معها غساالت ،وأنا أغسل بيدي ،الناس امتلكت "".......
.
-قولي اسرق وسكهينا .
-ما قلت شيء ،ولكن تفعل ما يفعل الناس ،وأنت اليــوم أمين صــندوق ،ومثلــك مثلهم ...
من جيزهم ،ترد جاهشة .
-يا امرأه من ثالثة شهور وأنا أقول لــك إني مش أمين صــندوقـ وال يحزنــون ...ســلمونيـ
أمين عهد .....أمين عهد ...يومية فهمتيها و إالَّ بعد عشر سنين ...أجلس أقريهاـ لك .
-أمين عهد ...أمين صندوقـ .....مدير ....خازن النار ما يهمني ...أنا يهمني فقــط أكــون
مثل الناس ومن جيزهم ".1
هكذا تجلى الواقع السياسيـ واالجتماعي من خالل هذه الرواية مزدحماًـ بالوقائع محتشــداً
بقضايا تصـلح ألن تقـف كـل جزئيـة فيهـا أساسـا ً لعمـل قصصــي يتعمـق معانيهـا ويتوغـل
بواطنهاـ ،وهذا هو ما قامت به القصة القصيرة التي اتخــذ بعض تجاربهــا من هــذه الوقــائع
السريعة مرتكزاً تبنى عليه أحداثا ً متكاملة .
فمجموعة ( أطوارـ حلم اإلبحار) -مثالً -تشكل كل تجاربهاـ
المنشأة تحت غاية إثارة الوعي بــذلك الهم الكبــير الــذي احتــوىـ اليمن بشــطريه بعــد نجــاح
ثوريته ،ذاك هو ضياع الثورة وتبددـ أهــدافها تحت إصــرار أصــحاب األفكــار الملونــة في
الجنوب على سرقتهاـ واالنفراد بتوجيه دفتها -على جانب من تلك القضايا التي أشرناـ إليها
سابقا ً في الرواية المدروسة .
ففي قصة ( الموت قبل الوجــود ) نقــف على جــانب واقــع التبــدل المجهض ألحالم الشــعب
المغلوب الذي وجد نفسه يفكر بنفس الوســائل الــتي كــان يجــد فيهــا حلــوالً لمشــكالته قبال ،
وفيهاـ نقرأ :
" الوقت يتخذ ملفات متعرجة بين السنوات السالفة والســنين الحاليــة ،الــرجس يتطــايرـ بين
الفتنة واألسلوب ...حوادث التغيير الفكري والعقائدي تتوسع وتتخذ أقمصة وأرديــة عــدة ،
يحاورون بها ويفرشــون لهــا ،وأذهــان الشــعب المغلــوب على أمــره تطــرق حلــول اليــأس
واالنهيــار ،تتــوالى بين المــوت والهجــرة واالحــتراقـ بــاألحزان ،ونهب الماضــي الــدفين
2
الحالم باآلمال الجميلة والغرسات الباسقة "
بل ويعانيـ مشكالت أكبر من تلك التي كــان يعانيهــا قبالً ،مشــكالت تتــوزع مــا بين التتبــع
والترصد والمعتقالت ،والتصفياتـ الدموية ،وفي نفس القصــة نقــرأ " :الــروائح الكريهــة
تحيط بالمدينة وأزقتهاـ ،ووجــدان البشــر ،والــدم تغــرق فيــه مدينــة الجمــال ليجلب الحــاكم
وجوده وأمره و اســتقالله ،وبقــاءه ،واآلهــة تحملهــا لتمــوت مــع النكــران للحيــاة الحاليــة ،
والطمث الذي يولد من شعلة كانت الحلم لهم والحب األخضرـ ألطفــالهم ...األســماء تقــذف
بعيداً ،ويؤتى بأسماء جديدة للشوارعـ لألزقة ،للمعاهد ،ولإلنسان ،والبلــد تحمــل أفواجـاـ
أخرى ال يعرفون من أين قدمواـ أو أي أرض برقت بهم ...التعبير يتغــير ...الكلمــة لألخــذ
للعطاء ...للضمير .
1نفسه ص207،208
2منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم االيجار ) مرجع سابقا ً ص3
205
المدينة ذات اليوم الجديد تمتلئ بالصراخ والعويلـ والنواح ..القتل ،التسمم الفكري ،حــتى
النساء أصبحن يقذفن باألطفال قبل الميالد ...يا للعار ...؟ لماذا ....؟
العلماء ينحتون بين الماضي والحاضر ،فكانوا مذبذبين ال إلى هــؤالء وال إلى هــؤالء .....
الصراعات تتمحور حول القوة والعقيدة والغرض ....لكن التغيير سائر يحرق األخض ـرـ ،
ويرفعـ األحمر ،ويكتسح السواد ،عبارات وجود حتمي ...الشعب تتناهى منه أصوات ...
همسات ،الويل يعم البالد ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرهــا – ليــذوقواـ العــذاب
1
"
وفيـ قصة ( الزهور تموت شنقا ً ) نقرأ عن هذا الجموح السياسي األرعن :
" السوقـ يعج بالمزايدين ،وتظهـرـ بين الجمــوع صــورـ عديــدة وافتهــا المطبعــة اليــوم ...
وكانت تتسم معــالمهم ،أنهم بين األطفــال العـابثين ....بين نسـاء قاصـراتـ ....أم شـباب
مهووسـ لم يستطع شاهد عيان كان موجوداًـ أن يتحقق من هويتهم ،ولون بشــرتهمـ ضــاع
بين ألــوان الطباعــة الســريعة واألصــباغ الرديئــة المجلوبــة ،فلهــذا ظهــرت ألــوانهم بين
2
األحمر واألصفرـ واألسمر واألبيض "
وفيـ قصة ( أطوار حلم اإلبحار ) نقف على مواجهة صريحة من كاتبها يدعونا فيهــا إلى
ترك االستمرارـ في مخادعة النفس ،فالحقيقة قد أعلنت عن نفسها بقوة حيث نقرا :
" وتتوه األقدامـ فوق مربعــات شــطرنجية تــوحي بالهزيمــة المبكــرة ،وانــدحارـ الــبزوغ ،
وتجدفـ األماني في رحم اللحظــة الحرجــة الــتي مــنيت بهــا أرواحهمـ ،والمشــاهدـ كثــيرة
حين تلم بها عقولنا ،لكننا نأباها مــرغمين أنفســنا بأنهــا خــداع وجــوالت تصــنف ببراعــة
لنشنق التطلع إلى الحقيقة ومجابهتها بكــل أعـذارهم والتمحــورـ الـدائري المتأبــط السـراب
واألخيلة الكاذبة المتعلقة بالحجج ،وما أكثر الحجج المتهالكة الكاذبة نشفي بها أنفســنا من
مرض تعودنا عليه ،ومهادنته بالحلم من موجات البحورـ الكثيرة المليئة بالقهر واإلحبــاط
3
والغرقـ "
وتركزـ قصة ( قتل ولم يدفن ) على ما أبدعه هذا التوجه أحادي الرؤية من أســاليب التتبــع
والتصفيات الدموية ،وفيها نقرأ :
" القرية كادت تخلو معظم منازلهــا من الرجــال ..الرجــال تــاهوا منــذ زمن الــويالت الــتي
عمت هــذه الناحيــة ،البعض رمي في العــالم الســفلي ،واآلخــرون رحلــوا إلى النــواحي
األخرى ....والبعض انتهت لهم الحياة على يد عتاة التحقيق المســتهجن وقساوســة التفكــير
اإللحادي واالستهجان واالستنتاج والتأمل الديالكتيكيـ ...المنازل المهجورة ما زالت قائمــة
تصفر الرياح في منافذها ومخارجهاـ تحكي وتسطرـ بشاعة ما وصلت إليــه تلــك القريــة من
4
استنكال واستنزاف "
وتضيءـ لنا قصة ( خطوات في الليـل ) جانبـا ً من معانـاة النـاس مـع أجهــزة االســتخبارات
التي شغلت -طوال الفترة ما بين نجاح الثورة وقيــام الوحــدة -بعمليــات الرصــد والتتبــع ،
وفيهاـ نقرأ :
" تتبعثرـ خطاي ...الليل القادم من عمق المدينــة يشــعرني بالوحشــة ،تتوغــل ســاعاته مــع
خطواتيـ المبعثرة تجاه وجه المدينة النائمة .
1المرجع السابق ص3،4
2المرجع نفسه ص27
3منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار ) مرجع سابق ص33
4المرجع السابق ،ص65
206
" -شارع .وآخر وأصل البوابة "
أمني النفس وأبعد هم المدينة والليل .
-أنت !
الصوت الناخر في العظم المتسوس يخترق الليــل وصــمت المدينــة ،أتســمر في مكــاني ...
للخوف وجهان ....وجه يجعلك تتصلب " كما أنا عليه اآلن " وآخر يجعلك تبل الثرى ....
وفيـ كال األمرين أنت مقهور حتى العظم المتسوس !
-أنت ...إلى أين ؟
سؤال يبدو ساذجا ً ...التفت أنا المتعب بترحالي نحو الصوت ،كــان يقــف بجــانب الشــجرة
على الرصيفـ المظلم ...أخفت الظلمة تقاسيم الوجه ،عندما تقدم انقشــعت الظلمــة ليظهــر
وجها ً معروقا ً وفكاًـ متسوسا ً ....أغرت وقفتي تلك شهيته فزاد بالسؤال :
-البطاقة ! ....
كان المعطــف الكــاكي ....والمقبض الخــارج من خاصــرته دليال إن لم أصــدق هــذا الوجــه
المعـــروقـ والفـــك المتســـوسـ " ...قلب البطاقـــة ،وأعادهـــا ....أدركت تمامـــا ً أنـــه ال
1
يقرأ"...........،
وفيـ قصة ( الجسر) نطلع على جانب من عذابات غرف التحقيق ولحظاتهاـ المؤلمــة ،
حيث نقرأ :
" وتتألمـ لجار لك في زنزانة يئن أول المســاء ،ويصــيح بصــوت مبحــوح يصــك أذنيــك من
هول ما يقاسيه ،وتتألم أكثر عندما يهمد في آخر المساء .
وتسمع وإياه صوت نباح كلب متشرد تتمنى أن تكون هو .....هذا الكلب الشــريد ،وفعالًـ
أحسد مع جاري ذلك الكلب الشــريد ،أحســده ألنــه رغم جوعــه وتعرضــه للمخــاطر ينبح
بصــوته العــادي .....حــتى الحشــرة في مواجهتهــا للحيــاة ومخاطرهــا ،أعتقــد بأنهــا لن
تتعرض ألذى أكبر مما تعرضت له وتعرض له جاري في الزنزانة المجــاورة ،وأمثالنـاـ
في عشرات بــل مئــات الزنزانــات " ، 2أمــا ع َّما لقيــه المناضــلون الثوريــونـ من إرهــاب
وتعذيب ،فتحكيه قصة (الجندي عبــده مقبــل) الــذي شــارك في فــك الحصــار عن مدينــة
صنعاء ،وتعلق مختاراً سبعين يوما ً على الجبــال المميتــة ،وكــان شــعاره الجمهوريــة أو
الموت ،يفاجأ -أثناء خروجــه من المعســكر ليملي ناظريــه بمالمح صــنعاء المنتصــرة ،
صنعاء التي اســتقبلته ورفاقــه بمشــاعل النصــر -برصــاص يطلــق في اتجاهــه مســتهدفاًـ
حياته ،يحدث نفسه مستغرباًـ " كان يمكن لواحدة منهــا فقـط أن تخلــع عينيـك المفتوحـتين
وترسلكـ إلى حيث ال تعلم يا عبده مقبل ،ربما تركت جثتك للكالب ". 3
وحينماـ داهمته األسئلة عن مصدرهاـ ،لم يجد إجابــة شــافية " الملكيــون " ؟!اســتبعد ذلــك
بشــدة ،لقــد تصــدت لهم القفــار واألطفــال والرجــالـ والجبــال ،أ لجمهوريــون يطلقــون
الرصاص على أنفسهم ؟ إذا ولكن أي شياطين اآلن تحل في المدينــة !؟ ال :إجابــة شــافية
وحقيقية ،ولكن حينما ارتدى بدلته العسكرية واعتمر رشاشه وقبعته تحسبا،
4
قال أحد أعوان القائد " :حسن يا عبده مقبل يبدو أنك من الشيوعيين "
1عزالدين سعيد احمد 0خطوات في الليل 9دار الحادي للطباعة والنشر /تعز 1993/م ط 2ص5-3
2زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة اإلعالم والثقافة /صنعاء 1986م ،ص7
3محمد مثنى ( الرجل الحشرة ) مركز عبادي للدراسات والنشر /صنعاء 2001م ،ط ، 1ص75
4المرجع السابق ،ص75
207
وهذا ( العم صخر ) في قصة الكرنفــال وهــو المناضــل القــديم ،يكابــد ليلتــه األخــيرة في
زنزانة ضيقة ال يعلم سببا ً لرميه فيها ،وفيـ الوقت الذي تشتعل في ذهنه تساؤالت كثــيرة
عن جدوىـ ما قدم ،وعن فرحته المسروقة ،وسنواتـ عمره الذاويــة ،وذكريــات نضــاله
المنسية ،كان الناس يحتفلون مبتهجين بعيد الثورة ،وهنا ال يبقى في قناعته من كل ذلك
شيء ،فقط حقيقة واحدة تؤصل لوجودها في ذهنه ":عاجز ومصــاب ،عالجــك معــدوم
وشفاؤكـ مستحيل ،كل ما تمتلك أن تقدمه هو الثرثرة والخمول ،حياتــك صــارت عبئـا ً ،
1
فلماذا ال تفسح الطريق" "........فاهدأ وتشجع ومت كما يمت الناس الطيبون "
وتوقفنا قصة ( الحديقة ) على تجربة تبين من خاللها التأثيرات السلبية لسياسة االسترضاء
التي اتبعتها حكومات الشمال مع مراكز القوى وأصــحاب النفــوذ القبلي والمشــيخيـ ،وهي
السياسة التي جعلت منهم حجراً عثراء في طريق التطورـ والتقدم .
فأطفــال الحي أخــذوا ينســجون أحالمهم حــول الخرابــة الــتي ســتتحولـ إلى حديقــة غنــاء ،
باألخص وأن ( مرزوق ) وهو األكبر سنا ً ،قــد أخــبرهم بــذلك ،فمن حــالم بســورهاـ الــذي
سيكون مثل سور الصين العظيم ،ومن حالم بنافورتها التي تزفـرـ المــاء الملــون إلى عنــان
الســماء ،ومن حــالم ببحيرته ـاـ الــتي يغطس فيهــا معــه كــل الرفــاق ،ومن حــالم بــالحلوى
واأليسكريم الذي سيباع في بوفيتها و ، .........وهكذا استغنىـ األطفال عن حكايــا األمهــات
وهدهداتهن ،كما استغنواـ عن عشاء تلك الليلة ،فقد ناموا مبكــرين دون أن يثقلــوا بطــونهم
"2 .بالخبز ...لقد كانت بطون األطفال في هذه الليلة مثقلة بشيء ال يعرفونه
غير أن ثلة من وجهـاء البلـد تحرسـهم البنـادق قـد جـاءوا يحيطـون بالحديقـة ،يخططونهـاـ
ويرصدونها ،ثم بعد أيام دلفوا فيها وأخذوا يذرعون مســاحاتهاـ ويمــدون حبــالهم وعصــيهم
ويشيرون بأيديهمـ وأصابعهم إلى المواقع ،حينها حدث األطفال أنفسهم بأن هؤالء ليسوا إال
مجموعة من رجال الحكومة جاءت لتخطط إلنشاء الحديقــة ،لكن ثمــة حركــة من الرجــال
المختصمين بـأمر الحديقـة غـير مسـتحبة ...إذ الحـظ األطفـال أن فيهـا من الشـد والجـذب
والخشــونة وذلــك مــالم يكونــواـ يتمنونــه وال يحبــذون رؤيتــه في طــاقمـ المحبــة المختص ،
ومعهمـ جنود من الحكومة كان شغبا ً غـير واضــح ،ولكنهم ســمعوا الســمين األكـثر وجاهــة
يقول للرجــل الــذي بآثــار الجــدري الملــتئم في وجهــه األكــثر نحافــة واألقــل منــه وجاهــة "
حق ....حق وال فيها شيء ،وكل واحد فينا يأخذ حقه " .ولكن الرجل الذي بآثار الجــدري
واألكثرـ نحافة ،نظر إليه بحقد وتحد الحظه األطفال كالشرر األحمر يتطايرـ من عيونه ...
قال بصوت أعلى ":ما هو الحق يا شيخ أنــا آخــذ العظمــة وتأخــذ اللحم ؟ " " ...من ؟.....
لما ترى " قالها السمين المتأنق بحدة لحظها سعيد ومرزوق
وفرحـــان في وجهـــه ...لكن الرجـــل المعمم والـــذي بأكمـــام واســـعة ال يلتفت إلى أي من
المختصمين ،وإنما يمد حباله وينقل العالمات ويسوي األشياء بســرعة ،كــان كنحلــة تطــيرـ
في ضوء الشمس وتتحركـ لتنجز مهمتها بإخالص ومحبة ،جعل أنظار األطفـال تتجـه إليـه
دون غيره كفارس مخلص ،خفتت األصوات لحظــة ،ثم احتــدت ،لم يفهم األطفــال من كــل
ذلك شيئا ً ،نظراتهمـ وأعماقهم مع الفارس المخلص ،لكن شــيئا ً مــا أنجلــط فجــأة وتفرقــع في
الهواء من يد الرجل الطيب ،كان بدويـ رصاصة جدير بأن يجفل الطيور في أوكارها .
208
خلد األطفال بذعر في أحضــان أمهــاتهم لليــال طويلــة ،ســمعواـ فيهــا أنين ســالي الكلب
حقيقة وهو يخفض رأسه إلى األرض ،وحلموا بالرعد الــذي يفتح فمــه بألســنة اللهب فيعقبــه
طوفــان المطــر الــذي يغــرق المدينــة ،بعــد ســنوات نســوا ذعــرهم فعــادواـ ليواصــلواـ لعبهم
1
وقفزهمـ ،لكنهم شاهدواـ الساحة وقد عمرت بالبيوت والحواجزـ والخرائب "
كما ركزت القصة القصــيرة على كثــير من القضــايا االجتماعيـة الــتي أرادت التنويـه إليهـا
وتفعيل وعي الرفض تجاهها ،منها قضاياـ التأمينات والضمان االجتماعي ،كمــا في قصــة
( المروحة ) التي نلتقي فيهــا العجــوز ســليمان الصــياد ،الــذي كــان في شــبابه ينطلــق قبــل
شروقـ الشــمس صــادحاًـ بأغنيتــه المفضــلة متوجهـا ً صــوب البحــر يعــافرـ أمواجــه ويــركب
أخطاره فـ " منذ سنوات عشر كان يتفجر قوة وفتوة ،يسير بال قميص أكثر األوقات ،مثل
غالبيــة الصــيادين عنــدنا ...فخــوراًـ بالنصــف األعلى من جســده الــذي لوحــه وهج الشــمس
المحرقة وزادته ملوحة البحر سمرة قاتمة وصالبة " ، 2قد تحــول بفعــل شــيخوخة الجســد
وغياب الضمان االجتماعي إلى متسول يتقصد الناس ،تنخر رأسه المتعب همــوم العيش ،
وهاهو " يجلس بين األحذية ،ووجهة معفر بتراب السنين الكثيرة ،ولعابه المختلط بــدقيق
تبغ ملتوت داكن اللون ،ينحدر من خلف شــفته الســفلى ،ويســيح على الجــانب األيســر من
فكــه ،ولســانه يتحلب الســائل بين فــترة وأخــرىـ ....عينــاه تثقبــان بالط الغرفــة بنظــرات
منطفئة ،ورأسه الذي وخطه الشيب منكس إلى أسفل ...وهو يجوب بذكرياته فــوقـ أطالل
رحالت عمره الغابرة ،أصبح مجهوالً بين هؤالء الناس ،يتسقط مــا تجــودـ بــه األيــدي من
قطع النقود الصغيرة ،ويكابـدـ الفقــر والمغبــة " ، 3نعم ،عشــر من الســنوات بــدلن حالــه ،
وأجبرنه على أن يتعيش الضياع في غفلة من قانون الضمان االجتماعي المحفوظ في قلب
أوراقـ صدئة .وقضية العدالة االجتماعية فحال التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع الواحــد
تستحقـ االلتفات إليها ،وتناولهاـ عبر معالجات تثير الوعي بها وتعززـ قناعته بأهمية اتخــاذ
فعل يحول دون استمرارهاـ .
وفيـ قصة ( المجنـون ) نلتقي تجربـة تعـالج هـذه القضـية وتتخـذـ منهـا فعلهـا الـرافض
بطريقتهاـ الخاصة .
فالحصاد الــذي تم جمعــة في جــرن القريــة يــدل بقــوة على هــذا التفــاوت الطبقي الــذي
يستتبعه بالطبع تفاوت في الحقوق والمكانة ،فهناك من يملك أرضا ً كثــيرة ،وهنــاك -وهم
األغلب -من يملكون أرضا ً أقل ،فقد " تجمع في ذلك المجران كل محاصيل أهالي القريــة
في وقت واحد ،وكان كل فالح قد وضع محصول أرضـه في مكـان معلـوم ومعـروف من
المجران بحسب العادة المتوارثة ،وكان المحصول محاطاًـ برزم معصوبة من قصب الذرة
لكي ال تشد ســنبلة من كومــة إلى أخــرى ...األكــوام ذات الحجم الصــغير هي األكــثر وهي
السائدة ،أما األكوام الكبيرة جــداً ،فهي قليلــة ،ومــع ذلــك فهي تطغي بمســاحتهاـ على تلــك
األكوام الكثيرة العدد "" ......
في القريــة يوجــد الشــيخ ....وكومتــه معروفــه في المجــران بكــبر حجمهــا واحتاللهــا
لمساحة واسعة ...كذلك يوجد ( عدل القرية ) وكومته تقترب في حجمها من كومة الشيخ
...يوجـــد أيضـــا ً في القريـــة ( العاقـــل ) وبعض األعيـــان من كبـــار المـــالكين ،وتـــأتي
209
محاصيلهمـ بعد الشيخ والعدل ،وفي القرية فقيه القرية الذي يقوم بتدريسـ األطفــال ،ولــه
مردودـ ال باس به من المحصول قد كــوره في كومــة منحــازة على جــانب من المجــران ،
هــؤالء يحتلــون بمحاصــيلهم المســاحة الثانيــة من المجــران ...أمــا بقيــة المســاحة فهي
مخصصـــة لصـــغار المـــزارعين مالكـــا ً أو إجـــراء أو شـــركاء ،حيث تشـــكل كومـــات
محاصيلهمـ أحجامـا ً صــغيرة متفاوتــة نســبيا ً ،ثم تــأتي في زوايــا المجــران بعض األكــوامـ
األصــــغر حجمــــا ً ربمــــا ال تلفت النظــــر ....وهي لفئــــة ( المزاينــــة ) و( الدواشــــن)
و( واألخدامـ ) وهذه الفئة تحصل على تلــك الغالل من عملهــا الــذي تؤديــه لســكان القريــة
طول العام " . 1
هذا التفاوت الذي ال يقبله عقل وال يقيمــه منطــق قــد دفــع ( بحمــادي ) وهــو المجنــون فاقــد
العقل إلى حله وإزالته ،وهاهوـ يتوسط جــرن القريــة " واالبتســامة المحببــة مــا زالت على
شفتيه ،ونظره يتجول بين أكوام الذرة المتنافرة األحجام ،هذه كومة كبيرة وتلك صــغيرة
وأخرىـ أصغر فاصغرـ ،وانهال بكل طاقته وقوته على األكوام المتفرقة يساويها بيديه لكي
2
يدمجها مع بعضها البعض وتصبح كومة واحدة "
وعن قضية المهمشين ( األخدام ) تلك الفئة التي ال يزال الناس ينظرون إليها نظرة ازدراء
،ويتحاشـونـ التعامـل معهـا ويـأنفون توطيـد الصـالت بهـا ،تحـدثنا قصـة ( الكشـك ) عن
( هديش حسن ) ،وهو أحد األميين الذين حرمتهمـ قســوة الحيــاة من فرصــة التعلم فتــأبطواـ
المكانس مهنة آبائهم وأجدادهم من قبل ،فـ" عنــدما تحــدب ظهــر أبيــه ،والتصــقت عيونــه
باألرض بحيث لم يعد ينظر أمامه أكثر من خطوات دفع نظره ذات مرة في وجهه عنــوة ،
وقال كمن يلقي حكمة في جملة وجيزة :هديش ....هديش ...انظـر هــذه مكنســتين قـوة ...
محشوة ( بالثر ) العريض ...مليئة وخاصة ،صنعتها يا هديش أمك عندما كــانت عروس ـا ً
رحمها هللا ،وال زالت تذكرني بها حــتى اآلن ...أغمض نصــف عينيــه ،هــديش ،ال أرى
فيك إالَّ رجالً ومن خيرة الرجال ،ثم نكس الرجــل بصــره ولم يــزد ،وتحســس هــو ظهــره
الذي كاد أن يتحدب هو اآلخر ،وحين أوطــأه المــوت فجــأة في أحــد الشــوارعـ المظلمــة ...
جبهته السمراء الملوحة ،لم تستسلمـ أبداً إلسفلت الشارع والسقوطـ ،بــل ظــل يقــاوم ويســند
صدره بالمكانس ...وحين حملـوه كـانت المكـانس على جانبيـه مسـجاة بحسـرة كـأحلى مـا
تجود بها آصل الرفيقات ". 3
بني ( هـديش كشــك أحالمـه الــذي ســيبيع فيــه األرز والــدقيق والقمح والحلــوى " :اليـوم
وضع على ذلك الكشك اللمسات األخيرة ،وحدق للمرة الخمسين في مختلــف الجــوانب ،
القوائم ،والدائرة ،وكــل شــيء يخطــف العين ...األخــدام في حــارة جــابر لم يعهــدوا في
الحي مثله ،تال بعض األدعية التي يحفظهــا عن الفقهــاء بتكســيرـ واضــح ،ومســح بيديــه
على وجهه كما يفعلون عقب الدعاء ". 4
وألنه -مثل كل أبناء شريحته -اعتادوا أن يقيموا مساكنهمـ المشكلة من الحشــيش وهياكــل
السيارات القديمة في معابر السيول ،وهي األماكن الوحيدة الخالية الــتي يتركهــا اآلخــرون
لهم يكتوون بكوارثهاـ .فحين زمجـرت السـماء وأرعـدت ،وقـذفت وابالً من ويلهـا لم يفـق
هــديش ،ومعـه جيـوش من األخـدام إالَّ على الكارثــة ،عنـدها " كـانت الشـمس قـد فتحت
1زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة اإلعالم والثقافة 1986م ،ط ، 1ص52،51
2المرجع السابق ص58،57
ً
3محمد مثنى ( والجبل يبتسمـ أيضا ) دار العودة م بيروت 1978م ص22،21
4المرجع السابق ص19
210
عيونها على قرية جابر ،فتوهجت برك المياه وأضاءت البيوت الخيشية والهياكل الســابحة
بوضوحـ ،وعاد األصيل أكثر إشراقاً.ـ
ظل ( هديش حسن ) معلقا ً في السيارة الــتي نقلــوه تــواً إليهــا كســحابة مهــددة في بحــور من
الظالم ...لقد قذفته الحياة اآلن ...كما يقــذف البحــر في هياجــه أســماكا ميتــة ،ولم تصــدق
عيناه التي ظلت معلقة في حطام الكشك العائم كنقطة واهية حميمــة ...كــل مــا يحــدث اآلن
1
"
وقضايا المرأة الكثيرة ،كتزويجها رغما ً عنها وبوعد من والدها وهي ال تزال في المهد
أحيانا ً ،وهذا ما تقدمه تجربة ( أو تعود أمه ) لعبد المجيد القاضي ،حيث تنتزع سعاد من
زوجهاـ ووليدها بخدعة أراد فيها أهلها تصويب خطأ ،وتنفيذ وصية كــان قــد كتبهــا والــدها
في وريقة صغيرة قبل أن يرحل ،وهي تعبر عن رفضها هذا التصـرفـ الـذي يجعـل منهـا
مخلوقاًـ بال رأي وال إرادة فتقول -" :أنا ملك نفسي يــا "ســرحان" لم تلــدني نعجــة " ، 2أو
تزويجها من رجل يكبرها سنا ً ،يدفعها االشمئزازـ منه إلى طريق الرذيلة ،بينما يظــل هــو
يتجرع الهوان بصمت ،ففي قصة ( القسط األخير ) نقرا :
" إلى الشيطان ،اذهبي أيتها العاهرة ..جعل يصرخ في نفســه والثــورة الكبيتــة تتــأجج في
صدره الالهث المتحشرج ،إلى الشيطان ،اذهبي أيتها األفعى الماجنة المستهترة ،اغربي
عن وجهيـ ،إني ألعنك اذهبي ولكنك لن تعثري عما يلزمك أن تحمليه إليــه ،ليس ثمــة مــا
تحملينه إليه إالَّ جسدك الرخيص ،إمــا المــال فلقــد أفلســت ،حملــتي ثــروتي إليــه كالنملــة
السوداء ،ولكنه كان كالنار يلتهم األخضر واليابس ويــذروهاـ رمــاداً مــع الــريح ،لقــد كنت
على علم بعالقتك اآلثمة به ،ومع ذلك كنت أغض الطرفـ متجاهالً حــتى مــا وضــح منهــا
وضوحـ الشمس ،ذلك حرصا ً على سعادتيـ الوهمية معك كي ال تهجرينيـ وتتركيـنيـ أكابـد
من بعدك ،كنت تبيعيني جسدك لقاء ما تدفعينه ثمنا ً للجســد اآلخــر ،كــانت الغــيرة كالنــار
تشتعل في نفسي ،ولكنــك كنت تعـرفين كيــف تطمرينهـاـ بوحـل همســاتك وقبالتـكـ الزائفـة
الباردة برود الجثة الهامدة ".3
أو تزويجهاـ طفلة صغيرة ،ففي قصة ( الليل كالغول يفترس الشمس )
نقرأ :
" في ثوب الزفاف األبيض الناصع رفلت ( نعمــة ) الصــغيرـ ة ،وعلى صــخب األغنيــات
واألهــازيج رفعهــاـ الكبــار على المنصــة ،في تلــك اللحظــات كفت الريــاح عن مطــاردة
الصغارـ ...فاستيقظت الشمس وفرحـ األصيل ،ولذلك انتفض األطفال في الخلف وأرســلوا
مرحهمـ .
نظر الكبار في عيني ( نعمة ) ...فرأواـ دموعا ً لؤلؤية صغيرة حبيسة ...فأكدواـ أنها دموع
الفرح ،كانت زغاريد ،وكان غنــاء وصـخب ،لكن األذنــان الصــغيرتان تظـل مشـدودتان
إلى وصوصت العصافير وأصوات الحمائم في الخلف وال تستوعب شيئا ً من ذلك الضجيج
،ترهق أذنيها أكثر ...تعــرف اآلن ....واحــد من األطفــال ســيرتكن جانبـا ً ،ثم يقلــد ( ابن
آوي ) وحينذاك تذعر األصوات الموصوصة وتلوذـ بعيداً بالفرار .
211
قريبة حميمة كانت األصوات ،لقد وصوصت حتى األمس هي أيضا ً وغردت ومشت على
أربع كما تفعل كلبة القريــة ( محروســة ) ،ولكن لمــاذا اآلن ...؟ إنهــا ال تســتطيع أن تفهم
شيئا ً " ...رشواـ عطور الكاذية " ،صرخ ( اإلمبر يفاير) بالقرب
تحس اآلن برغبة في البكاء ،ورغبة في الهرب ،األصوات الصـغيرة في الخـارج تـدفعهاـ
1
النسمات للداخل ،واألذنان الصغيرتان مرهفتان كأنما عقدتا وفاقاًـ معها "
-1أعمال تكتفي من إنشاء تجاربهــا بغايــة تنتهي عنــد حــدود تكــوين وعي رافض لما
يجــري في واقعهــا من تجــاوزاتـ ،وهي غايــة تــوافر عليهــا جــانب من األعمــال
الروائية والقصصية الــتي تم وضــعهاـ قــل انفجــار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب
وعند بواكيرـ الكتابة الروائية وريادة الكتابات القصصية للقصة القصــيرة على وجــه
التحديــد ،ومنهـاـ روايــة ( ســعيد ) لمحمــد علي لقمــان ،و ( حصــان العربــة ) لعلي
محمد عبده ،وأعمال قصصية تضمنتهاـ المجاميع األولى كـ ( أنت شيوعي ) لصالح
دحان و ( الرمال الذهبية ) و ( ثــورة البركــان ) لعبدهللا ســالم بــاوزير ،و ( ممنــوع
الدخول ) لعلي باذيب ،و ( اإلنــذار الممــزق ) و ( النــاب األزرق ) ألحمــد محفــوظ
عمر .
وبدايــة بروايــة ( ســعيد ) الــتي تشــكلت بنيتهــا ذات التيمــة البســيطة وانطلقت رؤيتهـاـ الى
موضوعها ذي المضمون الواضح – الذي يراعي مستوى الوعي الثقافي عن الناس
حينها -من منطلق تحقيق هذه الغايــة من تكــوين الــوعي الــرافض ،فلكي تنجح في
تكوين رأى ما من أية قضية ال بد لك من معرفــة الطريقــة المثلى الــتي تخــاطب بهــا
212
الناس وتثر التفاتهم ،وهذا ما تتوخاه هذه الرواية التي تكشف معالجتهاـ عن مســتوى
وعي مؤلفها الدقيق لهذه القضــية ،فــالمؤلفـ -الــذي أراد لعملــه أن ينتهي في كليتــه
إلى رسالة اجتماعية تدق جرس إنذار بخطر قريب يدهم المجتمع الغافل وعيه عمــا
يختلج فيه من تجـاوزاتـ ونـواقص ،ومــا يحــدق بـه من أخطـارـ وجب التنويــه إليهــا
وإبرازها ،وتضغطـ في طريق تكوين وعي يرفض كــل ذلــك – قـد قــدم أفكــره فيهــا
بطريقة سهله وغير مستعصية على الفهم ،وهــذا مــا الحظــه الــدكتور /عبــد الحميــد
إبراهيم ،حيث قال " :والمؤلف يعتصر فيها كل شيء ويقدمه جاهزاَ للقارئ ،دون
1
أن يترك له شيئا ً عصيا ً يحاول أن يستكشفه "
وعلى هذا األساس تتشكل غاية الرواية عبر جزيئاتهاـ التي تضمنها السياقـ ومنها :
- 1نبذ الجهل والتوعية بأهمية العلم ،وهذه جزئية نجدها مبثوثة في مناطق متعددة من
السياق الروائي من ذلك قول الراوي يتحدث عن العائالت العدنية ":فقــد كــانت عــدن في
أول هذا القرن غنية بأهلها ،وكانت أكثر العائالت من العــرب والهنــودـ والبه ـرة والصــومالـ
في نعيم وغنى ،وقد اشتهرـ العدنيون بالكرمـ والضيافة واللطف والنجدة ،ولكن تلك العائالت
التي تألقت نجومهاـ في السنوات الماضية أصبح أبناؤهــا اليــوم في حالــة يــرثي لهــا من الفقــر
والفاقة وقد انقرض أفرادها في أمد قصيرـ ،لأن اآلبــاء خلفــوا أمــواالً طائلــة لألبنــاء الــذين لم
2
تتثقف عقولهم ،فبددوا تلك الثروات في الحانات وبيوت الدعارة "
وهو يتحدث عن سعيد بطل الرواية ،فيقول أنه كان " يشعر بحاجة أبناء وطنه إلى العلــوم
والمعارفـ ،ويرىـ بنظره الثاقب أن البد من يوم يندم فيه العدني على إهمالــه لــدور
3
العلم ومعاهدـ الثقافة "
وهذا جبل شمسان تصفر رياحه معلنة على مسامع العدنيين ما أصــابه من الكــدر والغضــب
4
لوصولهمـ إلى ذلك الحد من الجهل المشين "
وهذا نداء موجه إلى األمهات جاء فيه " :أيتها األمهات ،مــا هكــذا تكــون التربيــة ،
إنما التربية الصالحة هي مراقبة أخالق األبناء والبنات ،وإرشــادهم وتشــديد النك ـير
في أغالطهم بغــير إجحــاف ،وتثقيــف عقــولهم وصــقلها بــالعلم وفــراقهم في ســبيل
المعرفة إلى الجامعات في الخارج حتى يعــودواـ وقــد اســتعدوا للــزمن وفهمــوا كيــف
يدرأون عن أنفسهم عاديات الأيام ويجتنبون مايسودـ الوجه ويقود المــرء إلى الهاويــة
5
"
]2نبذ االعتقاد بالخرافات التي على ما يبدو كانت شائعة بين النــاس في زمن إنشــاء
الرواية ،وقدـ أوردنا في موضع ســابق من هــذا البحث وقــائع اشــتمل عليهــا الحــدث
الروائي قد جسدت ذلك بوضوح ،منها تلك الواقعة الــتي قــدم فيهــا أحــد المشــعوذين
6
على مجلس قات ،ولم يخرج حتى بلغ غايته من ابتزاز المقيلين فيه .
غير أن هناك مواقفـ واضـحة من هـذه الظـاهرة تسـجلها بعض شخصـياتـ الروايـة
منها عائشة التي تناضل في سبيل إقناع والدتها بترك هذه االعتقادات ،ويكش ـفـ لنــا
1عبد الحميد ابراهيم ( القصة اليمنية المعاصرة 1976 -1939م ) مرجع سابق ،ص . 128
2محمد علي ابراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ،ص 23
3محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع السابق ص 25
4المرجع السابق ص37
5المرجع نفسه ص37
6نفسه ص9
213
الموقف الحواريـ التالي عن جانب من هــذا الموقـفـ الــرافض ،حيث تبادرهــا أمهــا
بالسؤال -" :هل استصحبتـ حرزك الذي خسرت عليه عشرات الربيــات ،فســكتت
عائشة ،ثم قالت -:إن النــافع هــو هللا وحــده ،وال خــوف علي إن لم اتخــذ حــرزاً ال
فائدة منه سوى الكسب للدجال الذي كتبه !
فاستثشاطت نور غضبا ً لهذا التصريح وقالت لعائشة :
-هل أص!!!بحت تكف!!!رين بأس!!!ماء هللا ؟ ألم تك!!!وني! أخ!!!وف الن!!!اس من الصراص!!!ير
والفراشات والوزغ والعضاء والجرذان ،وأنه لم ينفعك دواء طبيب من الحمى سوى
1
هذا الحرز الثمين ؟ فاحذري جحود فضل أولياء هللا !"
وهن!!اء ج!!اء رد عائش !ة محص!!نا ً ب!!العلم ،مس!!تنداً في تفس!!ير ما ألم بعائشة إلى رؤية
علمية ،تقول -":أما خوفي! من الصراص!!ير! وغيرها ،ف!!إن أخي س!!عيدا أفهم!!ني! أن
تلك عادة اكتسبتها لمجرد استلفات نظرك نحوي واكتساب عطفك وحن!!وك! ،والحمى
2
زالت بتعاطي الكينا التي كان يأتيني بها سعيد "
وحينما مرضت زهراء ،ولجأ والدها إلى الشعوذة سبيال للعالج ، 3
وقفت عائشة ترفض بق!وة ه!ذه الخراف!ات " :ولما دخلت عليها وج!!دت النوافذ! مغلقة
وال!!دخان يك!!اد أن يخنق المريضة لكثافته وحرار!ته ،ورأت حالتها من!!ذرة ب!!الخطر
الش!!!ديد ،ووصل عندئذ السيد الط!!!بيب ،فما ك!!!ان من عائشة إال أن تنفجر في وجهه
تهدده بالشرع والق!!انون على انتحال!ه الطب وتعريضه خطيبة أخيها للم!!وت ،فخ!!اف
السيد الطبيب ،وغادر البيت يجر أذياله من شدة الهلع ،واس!!تغرب! أهل ال!!بيت ج!!رأة
عائشة التي كانت ترغي وتزبد حنًقا على أولئك القوم البسطاء ال!!ذين يقتل!!ون أبن!!اءهم
4
بمثل هذه الخرافات "
ومنها ( س!!عيد ) الشخص!!ية ال!!تي ت!!برز في الرواية نموذجا للش!!اب المتعلم اإليج!!ابي
الذي يسجل لنفسه موقفا واض!!حا مما يح!!دث وي!!ؤثر! فيمن هم حوله فيتخ!!ذون موقفه ،
وهو ينتقد زوار ق!!بر ال!!ولي ( الس!!يد هاشم بحر ) على انح!!راف مفه!!ومهم! عن ه!!ذه
الزي!!ارات ،حيث يق!!ول ":ولكنهم! ترك!!وا! الفض!!ائل واتبع!!وا! الش!!هوات ،وجعل!!وا من
الزيارات وسيلة القتراف! المنكرات واجتراح الموبقات مخمنين أنهم بتعف!!ير جب!!اههم
5
بتراب القبور سوف! يغفر هللا لهم تلك الذنوب التي ال تغسلها مياه البحار "
]3التنويه إلى ما يضطرب فيه المجتمع من شرور التهتك واالنجراف! خلف الملذات
وهذا ( عثمان ) يسال ( سعيد ) عمَّا ألم بأخيه حسن فيقول " :كان عه!!دي بحسن أنه
ذكي الفؤاد ،فما الذي طرأ على أخالقه حتى أفسدها ؟
-إنهم رف!!اق! الس!!وء ياعثم!!ان ،إنها البيئة الفاس!!دة والأمه!!ات الج!!اهالت والغ!!رور
الممق!!!وت والع!!!ادات الرديئة ال!!!تي تس!!!ري! في الش!!!باب كما يس!!!ري السم في الجسم
1نفسه ص10
2نفسه ص10
3نفسه ص20
4محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص20
5المرجع السابق ص26
214
الص!!!حيح ،فيقضي عليه القض!!!اء الم!!!برم ،بل هو الجهل المخيم على ه!!!ذا ال!!!وطن
1
البائس المحكوم عليه بالموت العاجل !"
وه!!!ذه زه!!!راء تتص!!!دى! لش!!!ابين تعرضا لها في طريق! عودتها إلى منزلها ،وك!!!ان
أص!!!غرهما ثمال قد لعبت الخم!!!رة برأسه وهي تح!!!دث عثم!!!ان في أمرهما قائلة " :
وإنني ال أب!!الي بعش!!رة من أمث!!ال ه!!ؤالء المهابيل ال!!ذين ذهبت أعم!!ارهم في الإدم!!ان
على مضغ الق!!ات وش!!رب ال!!دخان والمس!!كرات ح!!تى اص!!فرت وج!!وههم وذبلت
أجسامهم وترهلت أبدانهم واسودت أسنانهم وعميت أبصارهم بسبب ال!!دخان المنبعث
إلى عيونهم في الغرف المظلمة ،وأنت يا عثمان قد أحسنت صنعا ً بمقاطعتك القات "
2
ويشير عثمان إلى ما ينفقه أهالي عدن على القات والمسكرات ق!!ائالً " :فقد أثبت لي
أن أه!!!الي ع!!!دن يص!!!رفون على الق!!!ات ما يق!!!رب من مائة ألف روبية في الس!!!نة
ويصرفون على المسكرات عشرة أض!!عاف ه!!ذا المبلغ ،والخمر مح!!رم عليهم بنص
دينهم ،ولطالما! فكر س!!عيد في سن ق!!انون يمنع ش!!رب الخمر بين المس!!لمين ،ولكن
العدنيين يحتاجون إلى التكتل والتعاضد لإفهام الناس وجوب االنقطاع عن المسكرات
3
والمكيفات "
ونس!!مع عثم!!ان يش!!رح للزه!!راء في محاض!!رة طويلة عن أثر البيئة والتربية في
4
توجيه السلوك .
]4التوعية بفض!يلة االعتم!!اد على ال!!ذات والإخالص في العمل ونبذ التكاسل ،وه!!ذا
سعيد يخاطب عائشة ق!!ائالً -" :ال يا عائشة ،إن الحاجة أم االخ!!تراع ف!!دعيني اعتمد
ً 5
على نفسي ،فإن من يعتمد على غيره ال يفلح أبدا "
ويتحدث عن ساكني ( الشيخ عثم!!ان ) " :وقد بقيت الش!!يخ عثم!!ان قرية ال أهمية لها
طوال هذه السنين يعتمد سكانها في معيشتهم! على شركة الملح ،وهم لو انصرفوا! إلى
العمل لأ مكنهم أن يعيش!!وا! في أس!!عد ح!!ال ،ولكن الب!!ؤس إذا خيم على ق!!وم اجت!!احهم
6
حتى ليصعب قيامهم من تحت أنقاضه "
]5رفض بعض العادات االجتماعية التي كانت سائدة حينها كالزواج المبكر ،نس!!مع
( سلمان ) يخاطب زوجته ( نور ) التي ألحت عليه بطلب زواج ابنها حسن ،فيق!!ول
" :ال!!زواج الب!!اكر يا ن!!ور ي!!ودي بص!!حة الش!!اب وبزوجته ،آلن جس!!ميهما لم يتم
نموهما الط!!بيعي! ،فيقضي! ذلك على الزوجة ع!!ادة بفقر ال!!دم والإجه!!اض ،وأك!!ثر
الوفيات بين النساء هي بسبب هذه العادة السخيفة ،ولقد قال علم!!اء النفس أن ال!!زواج
الباكر المزدوج ينتهي بالطالق! في أس!!رع حين لحص!!ول التن!!افس بين ال!!زوجين على
7
السيطرة ،فهذه الأسباب هي التي تعيقني عن تنفيذ رغبتك "
215
وتقييم الناس من خالل ما يمتلكون من مال ،فزه!!راء ال!!تي تق!!ول عائشة أنها " مث!!ال
العفة والنزاهة والشرف ،وهي أجمل بنات عدن قاطبة ومن ذا يل!!وم ( س!!عيد ) على
1
حبه لها وهي من عائلة كريمة وإن كانت فقيرة "
هي غ!!ير مرض!!ية بالنس!!بة لن!!ور كونها من أس!!رة فق!!يرة ،نس!!معها تح!!ذر عائشة " :
فاحذري! زهراء لئال تغرر بك فقد بلغني أنك تمتدحينها! كث!!يراً وتص!!افينها .ألم تعلمي
2
أنها ليست من بيت يساوي بيتك في العالء ؟ "
]6التنويه إلى خطر الوجود! الأجنبي ،والوقوف ضد الدعوات المهادنة لالستعمار .
وهذا سلمان يرد على السمسار! الذي أخذ يثني على أحد العمالء الأج!!انب ،فيق!!ول " :
-إن ه!!ذا المش!!ترى! هو الخواجة كاريكا! كان!!دة ،وهو عميلكم ال!!دائم يا ش!!يخ س!!لمان
وهو فوق! ذلك من المخلصين لكم ،فأجابه سلمان بصوت هادئ له نبرات ح!!ادة بقوله
:
-إننا نعرفه ونعرف! أن هؤالء التجار االوربيين ال بد أن يستغنوا عنا يوم !ا ً من الأي!!ام ،
بعد أن تتوطد أق!!دامهم! في ه!!ذه البالد ،وتتكشف! لهم أس!!رار التج!!ارة ،فص!!داقتهم! لنا
مؤقتة ،وسوف يذكر كالمي هذا من طالت أيام حياته
فقال السمسارـ :وأنى لهم ذلــك ومثلكمـ لهم بالمرصــادـ ،فابتســم ســلمان ابتســامة
صفراء وأجابه :
-بل إن مثلي لن يعيش إال أم!!داً قص!!يراً ،ف!إني أرى له!!ؤالء الخواج!!ات وس!!ائل هدامة
3
عديدة تضمن فوزهم وتقهقرنا إذا لم نتنبه "
وأما عن توعية الن!!اس بتلك الحرك!!ات المدعومة من قبل اإلنجل!!يز وال!!تي ت!!دعو إلى
مهادنتهم ،فنقرأ عن لقاء ( سعيد ) -أثناء عودته إلى عدن ،على السفينة ( ساليسيت
) الش!!هيرة بال!!ديك الفضي -بش!!يخ الطريقة المرجانية ،وهي الطريقة ال!!تي ك!!ان لها
ف!!روع في أم!!اكن كث!!يرة ولها مركز في ع!!دن ،حيث أخذ يحدثه عما ينزله الطلي!!ان
بعرب طرابلس من فضائع ،فدار بينهما حوار يطلعنا عليه السياق التالي :
" تأثر الشيخ ،فقال :هللا يؤيدهم هناك ويؤيدنا! هنا
فقال سعيد :وهال أنتم يا موالنا قائمون بحركة أيضا ً ؟
-نحن ال ننصح بمثل ذلك ،لأن أحد كب!!ار أهل هللا ك!!ان يس!!كن في ( ح!!اجي ) في بالد
الصومال ،وجاء مرة إلى ( بربرة ) فقابله رجل مهم من رؤساء الصومال! ،وقال له
ياش!!!يخ موسى! ما ق!!!ولكم في الح!!!رب بج!!!انب ال!!!وداد محمد بن عبدهللا حسن الث!!!ائر
الص!!ومالي ،فق!!ال له الش!!يخ موسى! :اعلم يا رجل أن الإنجل!!يز يملك!!ون ال!!دنيا ب!!دون
منازع حتى يخرج المهدي المنتظر فال تقاومهم ،وهكذا كان ف!!إن ال!!وداد غ!!الب على
أمره كما تعلم - ،وكيف حق للش!!يخ موسى! وهو كما ت!!ذكرون من أهل هللا أن يخ!!ذل
جهاداً في سبيل هللا ويمنع الرئيس المذكور من الأخذ بناصر! الوداد المجاهد ؟
-آلن الوقت لم يحن للجهاد
1نفسه ص8
2نفسه ص10
3محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص5
216
أتعتقدون بوجوب االستسالم! وعدم المطالبة باالستقالل حتى يخرج المهدي ؟ -
نعم . -
ولكن كيف نستطيع! أن نساعد المهدي ضد الب!!وارج الحربية والم!!دافع والقنابل وغ!!ير -
ذلك ؟
هللا هللا ،إن هللا يسلحه بقول " كن " فإذا قال للشيء كن كان . -
فاستغرب سعيد وقال :ولكن محمداً صلى هللا عليه وس!!لم لم يعطه هللا ه!!ذا الس!!الح ،
واضطره إلى المهاجرة من وطنه إلى الحرب والنض!!ال! والج!!دال ح!!تى ش!!جت رأسه
1
الشريفة وكسرت! ثنيتاه ،فهل يكون المهدي أحب إلى هللا من محمد ؟"
ويستمر! الح!وار ط!ويالً يفند فيه ( س!عيد ) آراء الش!يخ المختلفة ،ح!ول أم!ور كث!يرة
منها :
إن ال!!!!!!!!!!!!!دنيا ال فائ!!!!!!!!!!!!!دة منها فما الفائ!!!!!!!!!!!!!دة من االس!!!!!!!!!!!!!تقالل إذن .
وحول اتخاذه زهد الرسول عليه الصالة والس!!الم دليالً على خن!وعهم واستس!!المهم! ،
وحول ما يتعلق بالمهدي من خوارق! ،حتى ينتهي الحوار إلى حكاية الشيخ الغرائبي!ة
ال!!تي س!!اقها على مس!!امع س!!عيد حيث ق!!ال ":فقد ج!!اء عن أحد أهل هللا أنه لما س!!مع
بحديث " الهمة اسم هللا األعظم "
ق!!رر! أن ي!!ذهب وي!!تزوج ببنت ملك البالد فطلب الملك ج!!واهر كث!!يرة من س!!رندي!ب ،
فس!!افر الرجل ،وهن!!اك ج!!اء إلى البحر ،وع!!زم على نزحه ،فخ!!افت الحيت !ان على
نفس!!!!ها إن هو فعل ،فش!!!!كت إلى ربها ف!!!!أوحى! إليها أن تعطي الرجل ما ش!!!!اء من
2
الجواهر فأعطته وذهب بها وتزوج! ببنت الملك ،وقد! روى! الجبلي هذا الخبر.
استغرب سعيد ه!!ذه الحكاي!!ات وأدرك! أننا في عصر محت!!اج إلى ش!!باب نش!!يط مفكر
3
يعمل لرفع مستوى! البالد وال يركن إلى الخيال الساحر "
]7الدعوة إلى تفهم روح العصر والأخذ بأسباب العلم الحديث ،يقول ( س!!عيد ) " :
إن الحضارة الحاضرة تتطلب الجد والكد والسير! في ض!!وء الحق!!ائق العلمية المالئمة
لروح الدين الإسالمي ومقتضيات! التمدن الصحيح "
يخاطب (عثمان) زهراء قائالً ":إنك تعلمين يا زهراء أن االخالق هي ولي!!دة التربية
،ولكن أساتذتنا ومعلمينا! في عدن ال يهتمون بعلوم التربية والأخالق ويحرمون علوم
4
الفلسفة ،حتى لقد سمعت عالما ً كبيراً ينتقد على سعيد درسه لعلم الفلسفة "
ونسمع الراوي! يق!!ول ":إن للتم!!دن مقتض!!يات ،وإن من متطلب!!ات العصر الحاضر
التخصص في العلوم والفنون وارتش!!اف! لب!!ان العل!!وم الجدي!!دة ودرس عل!!وم الأخالق
والنفس واالجتم!!اع! ،ول!!ذلك ال بد لنا في ع!!دن من مدرسة عالية ،بل كلية إذا أمكن ،
وشد الرح!!!ال إلى الجامع!!!ات في الخ!!!ارج قبل أن يعم الفقر البالد ونص!!!بح ال نملك
5
شروي نقير ....والعلم وحده يكفل لنا السعادة واالحتفاظ! بها "
217
هك!!ذا اكتفت ه!!ذه الرواية من معالجتها موض!!وعها االجتم!!اعي ب!!التوقف عند غاية
تكوين الوعي الرافض ،وهي غاية توقفت عندها مجموعة من المعالجات القصص!!ية
التي وضعت خالل الف!!ترة المح!!ددة له!!ذا البحث ،فمن الغاي!!ات المتش!!كلة عن معالجة
بعض القض!!!ايا االجتماعية تحت ه!!!ذه الرؤية ،غاية تك!!!وين وعي رافض لتلك القيم
النفعية التي تس!!للت إلى أوس!!اط! المجتمع اليم!!ني حينها ،ف!!زيفت الكث!!ير من أخالقياته
وشوهت قيمة الإنسانية الراقية ،كقيمة الصداقة التي ينوه ك!!اتب قصة ( ش!!يء اس!مها
النفاق ) إلى ما داخلها من تش!!ويه ،فبعد أن لقى مع أس!!رته ما لقيه من أص!!دقاء وال!!ده
أثناء وقوعه في الأسر ،يعود والده غير مسلح بقناعة االنتقام أو الث !أر لنفسه ب!!التخلي
عن ه!!ؤالء الأص!!دقاء في أوق!!ات ش!!دتهم ،وإنما يس!!تمر في تعامله ال!!راقي! معهم ،
مستنداً إلى ما يمليه عليه ضميره ،وما تقتض!!يه قيم الص!!داقة الحقة وأخالقياتها وه!!ذا
ما انتهت اليه قناعة ( أحمد ) شخص!!ية العمل ،ال!!ذي ك!!ان له موقف! مختلف من ذلك
قبالً ،فنسمعه يقول " :أما أنا فلم أنسهم ولن أنسى أبداً منظر النهر والزجر! والتحقير
،ولن أنس!!!!ى منظر النصف روبية ،لن أنسى ش!!!!يئا ً فأنا – والحمد هلل – من ال!!!!ذين
يتمتعون بذاكرة قوية " "....ولكن أبي يأبى النس!!يان* ،وي!!أبى أن يعت!!بر ويتعظ ،فقد
نكب الدهر بأحد أصدقائه ،وشتت أس!!رته بعد موته وأتى إليه أحد أبن!!اء ذلك الص!!ديق
بثياب رثة وحذاء قد أكل الدهر عليه .
وشرب .ووجه قد كساه الغبار .
ولم يزج!!!ره وال!!!دي .ولم يمد له نصف روبيه ،وإنما أكرمه وأع!!!زه وواس!!!اه بمبلغ
محترم
ولأول مرة في حي!!اتي أدركت أن أبي لم يخطئ ،بل أنه يعمل وفق!ا ً لخطة مرس!!ومة
1
يضعها له ضميره الذي لم يمت ،ضميره الحي "
وقيمة الحب الص!!ادق ال!!ذي غ!!دا مع ه!!ذه النفعية المقيتة – ال!!تي ت!!ذهب غاية ه!!ذه
التج!!ارب إلى تش!!كيل وعي يرفض!!ها – مرض !ا ً ال بد للإنس!!ان من الش!!فاء منه ،ففي
قصة ( الكافر! ) نسمع ( أحمد ) شخصية العمل الذي خاض مع الحب مغامرة ص!!عبة
،يقول -" :أنا لم أعد أؤمن بالحب ،وإذا أحببت س!!أحب على الطريقة الحديثة ،حب
على أساس المادة ...سأحب كما يجب الآخ!!رون في ه!!ذا ال!!زمن ...ولكن ليس كمثل
هذا الحب الذي كاد أن يهلكني " ، 2وهنا يتوجه ال!!راوي! المش!!ارك لي!!بين لنا مأس!!اوية
هذه القناعة ،بذلك التحول الكوني الذي يصفه في قوله " :وقبل أن أنهض التفت إلى
الناف!!ذة ،ك!!انت الش!!مس قد اختفت تمام!ا ً ،وك!!ان الظالم حين!!ذاك قد أخذ يزحف على
3
الكون زحفا ً حثيثا َ "
وقيمة الحرية ال!!تي يمكن للفتي!!ات المتعلم!!ات أن يفهمنها بطريقة خاطئة ،ففي قصة
( طريق! الخطيئة ) تش!!ترط! ( ابتس!!ام ) على ( أحمد ) ال!!ذي تق!!دم لخطبتها أن يمنحها
حرية الدخول والخروج! كيفما شاءت ومتى شاءت ،وهو الشرط ال!!ذي وج!!ده ص!!عبا ً
1صالح عبد دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ص30
*يقصد المؤلف هنا نسيان أصدقائه
2عبد هللا سالم باوزير ( ثورة البركان )دار الهمداني للطباعة والنشر /عدن ص99
3المرجع السابق ص99
218
على نفسه ،إذ للمجتمع عادات وتقاليد من الواجب عليه احترامها! فكان ذلك سببا ً في
إحجامه عن االستمرار في هذه الخطبة ،لكنه يكتشف! في آخر الأمر أن هذا الشرط لم
يكن إال نتيجة للجهل المس!!!يطر على تفكيرها ،فابتس!!!ام ال!!!تي رفض!!!ته زوج!!!ا ً ،قد
ارتضت به خاطئ!!!ا ً ،فبعد أن عقد موعد اللق!!!اء في طريق! الخطيئة ،يستقل الش!!!ابان
( أحمد ) وصديقه السيارة ترافقهما فتات!!ان إح!!داهما (ابتس!!ام) ال!!تي لم يكن أحمد يعلم
أنها في رفقته ،وتأخ!!ذهم عجالت الس!!يارة إلى ذلك الفض!!اء الشاسع في ( س!!احل
أبين ) ،وهنا التفت أحمد في حي!!!اء إلى الجسم ال!!!ذي يش!!!اطره الس!!!يارة ،وقد! ألجم
الخوف لسانه ،وعاله ارتباك مفاجئ لم يدري ما سببه ،وك!!ان كلما ه َّم أن يرفع إليها
رأسه خفضه إلى الأرض ،والفتاة جالسة بارتباك ال تدري م!!اذا تفعل ،وم!!رت ف!!ترة
من الس!!كون ،لم يقع نظر أح!!دهما على وجه الآخر ...ولما رفع ( أحمد ) عينيه إلى
الفتاة لم يصدق ما رأى ،فلم تكن الفتاة التي أمامه س!!وى ( ابتس!!ام ) ...ابتس!!ام! الفت!!اة
المثقفة التي رفضته زوجا ً لها ...وارتضت به خاطئا ً في طريق الخطيئة " . 1
وقيمة التراحم االجتم!!اعي ومس!!اندة الفق!!راء ،حيث نلتقي في قصة ( بائعة الخم!!ير )
تجربة تسعى إلى غاية تكوين وعي يرفض استغالل الفقراء واإلساءة إليهم ،في ظل
هذه الحال من فق!دان ال!تراحم االجتم!اعي في مجتمع يحيا تفاوت!ا ً طبقي!ا ً ،بين أغني!اء
ينعمون بكل ما حال وطاب من مل!!ذات الحي!اة ،وفق!راء يبوؤون بحرم!انهم وج!وعهم!
يقتاتون بصمت ألم الإساءة إليهم وانتهاك! كرامتهم! بل و أعراضهم ،فالرجل صاحب
المتجر ذو المظهر الخ!!ادع بالص!!الح والتق!!وى " في ح!!والي الخامسة والأربعين من
عمره ،ذو لحية مهيبة ،وعلى راسه عمامة جليلة " ، 2يس!!تدرج الطفلة الفق!!يرة ال!!تي
انسرب إلى نفسها اليأس من كساد بضاعتها ،حتى أخذت تفكر م!!اذا س!!تقول لوال!!دتها!
المريضة عند عودتها بال نقود ،وكيف! ستدفع ثمن ما استدانته من سكر ودقيق لصنع
الخمير ،ويستدعيها! إلى متجره موهما ً إياها بشراء بعض خميرها ،فيطلب منه!!ا عد
ه حتى يدفع ثمنه ،وتقعد الفتاة على شوال البس!باس وبينما هي منهمك!ة بالعد ،يغلق
باب المتجر " ولم تدر إال وقد لف الظالم الدكان برداء حالك حتى تعذر عليه!!ا رؤية
الخمير ،ووقفت مذعورة ،وهي لم تعد ت!رى أمامها س!وى عي!ني الرجل ال!ذي هجم
عليها تلك اللحظة ك!!الثور اله!!ائج ...وخ!!ارت قواها دفعة واح!!دة ....ووقعت على
الش!!وال وقد! أحست بالبس!!باس ينهد من تحتها ،حينها ه!!وى الرجل بجس!!مه عليها ...
وأفاقت بعد شبه غيبوبة وقفت في تخ!!اذل وفي رأس!ها ما يش!به ال!دوار وبجس!مها! آالم
مبرحة ،وقفت وقد أصبحت غ!!ير ق!!ادرة على التفك!!ير ...وم!اذا عس!!اها أن تفكر ...
هل تشكوه ؟ أم تصرخ ؟ وماذا س!!يجدي ص!!راخها! غ!!ير كلم!!ات االزدراء أو الش!!ماتة
من الن!!اس ...وفطنت إلى أن أمها اآلن في انتظارها! ...وفي انتظ!!ار! الغ!!داء ،وقبل
أن تقف على رأي ،مد لها الرجل ورقة نقدية من فئة الخمسة ش!!!لنات ،أخ!!!ذتها منه
وحملت معها طبق الخمير وهي تعلم جي!!داً أنه اليريد خم!!يراً ...بل إنه لم ي!!دعها إال
لذلك الشيء الذي أخذه إلى غير رجعة .
1المرجع نفسه ص43
2عبد هللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ص105
219
لقد ك!!!انت مغفلة إذ أنها لم تفطن من أول الأمر ...ثم أخ!!!ذت تخطو في خطا متع!!!ثرة
إلى باب ال!!دكان ...ودلف إلى ال!!دكان تلك اللحظة ش!!اب مر بجانبها وس!!معت الرجل
يخاطبه :
" اجلس يا بني ريثما أصلي الظهر وأعود " . 1 -
وحينما ع!!!!!ادت إلى منزلها ك!!!!!انت قد أدركت حقيقة قادتها! بعد ذلك إلى طريق! آخر
،استبدلت فيه طبق الخمير بجسدها التي أخذت تبيعه للناس كما كانت ت!!بيع الخم!!ير ،
قالت لها أمها " -مالك يا بنيتي ....ألم تبيعي شيئا ً اليوم
وأجابتها الفتاة في حدة وانفعال :
الناس يا أماه لم يعودوا! يري!!دونني أن أبيع لهم خم!!يراً ،الن!!اس يري!!دون ش!!يئا ً آخر ... -
يريدونني! أن أبيع لهم شرفي! ...يريدون شرفي يا أماه ....
أتسمعين -
وش!!رعت البنت تبكي وعين!!ا ً أمها ت!!دوران في محجريهما! وكأنها! تريد تفس!!يراً لكالم
ابنتها ،وأضافت! البنت :
بعته لهم يا أماه ...وسأبيعه لأنهم يريدون مني ذلك ،س!!أبيعه لكي نعيش ،لكي نعيش -
2
يا أماه "
وغي!!اب ق!!انون الض!!مان االجتم!!اعي ،والق!!وانين الحامية للأس!!رة ،فقصة ( جري!!رة
الع!!دل ) تن!!اقش قض!!ية أس!!رية تس!!عى من خاللها إلى غاية تك!!وين وعي رافض لتلك
المعالجات الناقصة التي قد تدفع إلى مشكالت أكبر من المشكلة الحقيقة ،فالمرأة التي
ب!!دأت تع!!اني بعد م!!وت وال!!دها من انح!!راف زوجها! المش!!ين حين أراد أن يحيلها إلى
بغي يتاجر بجسدها وي!!تربح من ورائه ،ته!!رب من بيت الزوجيه ،وت!!رفض الع!!ودة
إليه ،ض!!!!!امة أوالدها اليها ،وهنا تب!!!!!دأ قض!!!!!يتها! تشق طريقها في أروقة العدالة
والمحاكم ،لكن هذه العدالة تحكم عليها بالنش!!وز! ،تق!!ول " :إن العدالة ال!!تي ح!!رمت
على الزواج الحالل حتى أعول أطف!!الي ،بل جعلت!!ني " ناش!!زاً " بينما أهملت رعاية
3
أطفالي ولم تيسر لي العيش الشريف ...هل هذه عدالة ؟"
وهي نفس العدالة ال!!تي حبست زوجها بعد أن تخلى عن س!!داد النفق!!ة الش!!هرية ،ولم
توفر لها بديالً ،تحكي المرأة ص!!احبة المش!!كلة في تجربة ه!!ذه القصة فتق!!ول " :ولم
يدفع زوجي! النفقة الش!!هرية المق!!ررة ،بل أص!!حب رفضه ب!آلاف األع!!ذار معلالً كل
ذلك بقلة راتبه وت!!!راكمت االش!!!هر عليه ،و مثل أم!!!ام المحكمة ،وعجز عن تس!!!ديد
الديون ،وأودع السجن لهذا السبب ،ولكن ماذا يفيدني سجنه ؟ إنه س!!جين الآن ،ذلك
حسن ،لكن ما مصير أطفالي ؟ وما مصيري أنا ؟ لم أتل!ق عون!ا ً من المحكمة بل إنها
4
أدت واجبها كامالً حسب قولها! ،وذلك بحبس زوجي "
ونتيجة لفق!!دان الض!!مان االجتم!!اعي ال!!ذي يحمي الأس!!رة من الوق!!وع! من الم!!زالت
والمخاطر! ،لم تجد المرأة بدا -بعد أن جربت أعماالً كثيرة لم يكن عائدها كافيا ً لس!د
1المرجع السابق ص107
2المرجع نفسه ص 109
3أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ص30
4المرجع السابق ص 29
220
الرمق -من الوقوع! في قعر الرذيلة ،تصف لنا هذا الوق!!وع ،قائلة " :ب!!دأت ق!!دماي
تس!!!يران في الطريق! المغ!!!اير لكل القيم الش!!!ريفة ،وب!!!دأت أعمل كل ليلة مع كل من
يملك سيارة مارة مثلك تماما ً ،عارضة جسدي مقابل دريهمات تش!!بع بط!!ون أطف!!الي
وتط!!رد! عنهم الحاجة ...وفي! كل م!!رة يلمس ي!!دي رجل ما ،أتخيل ص!!ورة أبي تسد
على كل ف!!راغ ،وهو يوص!!يني! وكلمة الش!!رف تم!!وت ف!!وق! ش!!فتيه ،ولكن مباش!!رة
1
أتذكر حاضري! المذل وأستشعر آالمي كلها فأدوس بقدمي على كل شيء ".
تكوين وعي رافض لالنج!!راف وراء إدم!!ان الخم!!رة والمس!!كرات ،ففي قصة ( لعنة
الكأس ) يفقد على شخصية العمل استقراره الأسري ،ويطلق زوجته مج!براً ،ويك!اد
يفقد حياته على يد مدمن آخر كان قد اتخذ من مشاركته مس!!كنة ملجأ له بعد أن ط!!رده
والده نتيجة تعاطيه الخمرة ،فحين تنحى ذلك الصديق بزجاج!!ات الخم!!رة إلى مكان !ه
الذي اعتاد أن يقبع فيه ،ويس!!تمتع! بخمرته ،لحقه علي ال!!ذي اس!!تبد به ش!!عور! الظمأ
إليها ،أمالً في أن يشاركه بعض ما يشربه ،وحينما ناوله الزجاجة خط!!رت في باله
فكرة نفذها على الفور ،يقول " :ولعب الشيطان برأسي وزين لي فكرة ط!رأت على
فك!!ري حين!!ذاك ،وما أن ق!!اربت العالمة ح!!تى أمسك بالزجاجة بش!!دة بعنف ،فأقنعته
أنني لم أصل بعد إلى العالمة المحددة ...واقتنع وبدأ يرقب بص!!بر! نافذ ...وح!!اولت
أن أنفذ الفكرة التي م!!رت بي ...فأخ!!ذت الزجاجة ،وج!!ريت لعلي أجد مكان !ا ً أختفي
فيه بين تلك الأك!!!وام الرملية وأش!!!رب ما بالزجاجة من ش!!!راب وظننت أن المس!!!الة
ستنتهي بالمزاح كما هو الحال بيننا ،ولكنه تبعني وبي!!ده الأخ!!رى الزجاجة الفارغة ،
وهو يغم!!رني! بما عن له من س!!باب ،وما أن وص!!لت إلى رب!!وة مرتفعة ح!!تى قع!!دت
خلفها أشرب بينما صدري! يهبط ويعلو من شدة الجري ...وفجأة شعرت بش!!يء ثقيل
يه!!!!وي على رأسي وبم!!!!ادة لزجة تنس!!!!اب على وجهي وتختلط! بقط!!!!رات الخمر
المتس!!اقطة على مالبسي ،وقبل أن أغيب عن الوج!!ود ودع!!ني بعب!!ارات غليظة من
2
أقذع السباب "
لكنه في آخر أمرة يقر بخطر هذا الشراب ودوره في تدمير سعادته ،فنسمعه يخاطب
صديقه الذي جاء ليطمئن عليه " :لن أعود لشربه مرة أخ!!رى ،كن يا ص!!ديقي على
يقين من ص!!دق ق!!ولي ،فلقد حطم ه!!ذا الش!!راب س!!عادتي المنزلية ،وك!!ان الس!!بب
3
المباشر لهذه المهزلة التي وقعت لي "
وتبين لنا قصة ( السكران ) كيف تذهب الخمرة العقل حتى ال يعود المرء ق!!ادراً على
التمي!!!!يز بين طفلته وأية أن!!!!ثى أخ!!!!رى ،وكيف! تقف الخم!!!!رة بداية لسلس!!!!لة من
االنحرافات الخلقية التي تتردى فيها شخصية ه!!ذا العمل ،حين تهمل ال!!بيت والأس!!رة
وتتدهور! حالتها المادية حين أخ!!ذت الخم!!رة تس!!تنزف كل الم!!دخول ،وت!!تراكم! عليها
الديون ،حتى تجد نفسها في آخر الأمر تأوي إلى الشارع تمام !ا ً مثل كالبه الش!!اردة ،
فبينما يغرق الرجل
221
( السكران ) -في ه!ذا العمل – في س!!كره يبصر أمامه ش!!بحا ً لفت!!اة في مقتبل العمر
تسير أمامه ،لينقض عليها لكنها تدفعه وتفلت من بين يديه ،وت!!روح في الع!!دو وهو
يعدو خلفها ،وفجأة تمر سيارة مسرعة لترديه قتيالً " :وفي الصباح لم يبك عليه أحد
سوى شخص واحد تقرحت عيناه بمن البكاء عليه ،ذلك الشخص هو تلك الفت!!اة ال!!تي
1
أراد اغتصابها! تلك الليلة ألنها ابنته "
ومن الغايات المتشكلة عن الموضوع السياسي تحت هذا المبحث ،ما يلي :
** التنويه إلى خطر ظاهرة التوافد! غير المسبوق للأج!!انب إلى مدينة ع!!دن وتك!!وين
وعي رافض لما يحدث من مزاحمتهم! ألبناء البلد األصليين في وظائفهم وتج!!ارتهم ،
تروي علينا شخص!!ية قصة ( بقية الحس!!اب ) جانب !ا ً من ه!!ذا الوضع ،فنق!!ول ":فقد
كنت كاتبا ً بسيطا ً في إحدى اإلدارات الحكومية ،وفي السنوات القليلة الماض!!ية ،ب!!دأ
سيل من األجانب يفد على إدارتنا من كل ح!!دب وص!!وب! ،وكنت أتخيل ه!!ذه اإلدارة
مزيجا ً من ألوان متعددة ولغ!!ات مختلفة ،ولس!!وء الحظ أن أحد الكتبة األج!!انب ال!!ذي
عرف بميله الشديد وحبه المفرط لرجال الإدارة رقي! إلى مدير بدالً من مديرنا! الأول
ال!!ذي ذهب إلى بالده بعد انته!!اء مدته ،ومنذ ذلك الحين وأنا أرى تحرك!!ات خط!!يرة
في سماء حياتي العملية ،تحركات من نوع جديد ،أرى تعس!فا ً وض!غطا ً واس!تبداداً ،
وتمييزا بين االفراد! ،ومنذ ذلك الحين أيض!ا ً ،وأنا أرى أص!!دقائي! الق!!دامى يت!!وارون
عن الإدارة ح!!املين بقية الحس!!اب ،وس!!رعان ما يحل محلهم أج!!انب حض!!روا! من
بالدهم طبقا ً لسياسة لعينة حاكها المدير المبجل ،وكنت فعالً أنتظر ه!!ذا ال!!دور ال!!ذي
كان ينتظرني بفارغ الصبر ،وكلما تذكرته يزداد قلبي وجبيا ً ،فأسال نفسي ب!!برود! :
هل يس!!تطيع! أن يط!!ردني في ي!!وم ما ،وهل ت!!راوده الفك!!رة لتنفيذ ه!!ذه المهزلة ؟ من
الجائز أن يكون الج!!واب نعم ،يس!!تطيع! ذلك وأك!!ثر! من ذلك ،ألم يكن هو الم!!دير ...
2
وحامل السلطة العليا في الإدارة "
وفي (لعنة الكأس ) يحدثنا الراوي عن الإدارة التي يعمل فيها ( علي ) كاتب!ا ً عادي!ا ً ،
وكيف أنها تكتظ بالكتبة الهندوس الذين تزخر بهم البالد ،والذين جاءوا من كل حدب
وصوب ،حتى أن عليا ً كان العربي الوحيد الذي يعمل بينهم ،ومع ذلك هم يستمرون
3
في مضايقته ويسعون! إلى التخلص منه في أقرب فرصة سانحة "
وفي قصة (اللص والضمير! ) تكون ه!ذه المزاحمة من قبل الأج!!انب س!ببا ً في لج!!وء
أحدهم إلى احتراف السرقة حين أقفلت أبواب ال!!رزق في وجهه ،وفيها! نق!!رأ " :وأنا
لم أصبح نشاالً إال بعد أن قاسيت آلام الجوع والتش!!رد! وبعد أن رفض!!ني! الجميع ،كم
ً 4
من شركة رفضت! توظيفي! وطرقت كل أبواب الرزق فلم أجد عمال "
.التنويه إلى تلك الممارس!!ات الإرهابية ال!!تي ك!!ان المس!!تعمر! يمارس!!ها! على أبن!!اء
الوطن األصليين ،ففي قصة ( سالم كثير ) يصاب أحدهم ( شخص!!ية العمل ) بحكة
في أذنه اليم!ني مما جعله يك!!ثر في رفع ي!!ده إلى أذنه ،وقد نجم عن ه!!ذا أن تلقى ه!ذا
1المرجع نفسه ص33
2أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ص 22
3المرجع السابق ،ص45
4صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ،ص42
222
الرجل سالمات كثيرة حتى من أناس ال يعرفهم! ،فقط هم يظنون أنه يحييهم ،غير أن
المس!!تعمر! بعقليته البلي!!دة فكر في أن ه!!ذا الرجل ث!!ائر وله ص!!لة بجمع من الث!!وار ،
ودليل ذلك أن مخ!!برهم قد راه يوم!ا ً يس!!لم عليهم ،وك!!ان ذلك – في نظ!!رهم! – كافي!ا ً
العتقاله ،نقرأ فيها " :وقادني جنديان مسلحان إلى السيارة الصفراء ص!!فرة الم!!وت
،ألقوني بداخلها ،وكأنهم يلقون بي في مغ!!ارة مظلمة ،وتح!!ركت الس!!يارة وتح!!رك
معها ذهني " :ترى ؟ هل صحيح س!!يعتقلونني ؟ لقد ق!!ال لي أح!!دهم عند ب!!اب ال!!بيت
بأن ذلك مجرد إجراءات بسيطة وس !أعود بع!!دها ،ولكن كل من اعتقل!!وه من قبل قيل
له نفس هذا الكالم ،وقد! مرت عليهم الآن شهور! طويلة دون أن يعودوا! إلى منازلهم! ،
ولكن هل أنا المقص!!!ود حق!!!ا ً أم أن هن!!!اك مج!!!رد خطأ ،فأنا لست ممن تبحث عنه
بريطانيا! ،إذ ليس لي أي نش!!اط سياسي أمارسه عملي !ا ً ،ص!!حيح أن!!ني أتع!!اطف مع
الثوار ،ولكن ذلك شعور! عام ،شعور كل فرد عرف بريطانيا! على حقيقتها ،ش!!عور
1
كل الشعب فهل كل من يحمل هذا الشعور! يزج به في السجون "
)2أعم$$ال تصل غايتها إلى إث$$ارة ال$$وعي بض$$رورة قي$$ام الفعل ال$$رافض :وه$$ذه غاية
تتوافر! عليها بعض األعمال الروائية والقصص!!ية ال!!تي تم وض!!عها! قبل انفج!!ار ث!!ورة
الش!!مال واس!!تقالل الجن!!وب ،ذاك أنها أوال غاية تثويرية لعبت دورا محف!!زا النفج!!ار
الثورة من حيث كون هذه الغاية قد ش!!هدت تح!!وال واض!!حا! ت!!رجمت له كل الرواي!!ات
واألعمال القصصية التي وضعت بعد انفج!!ار الث!ورة ،وهي األعم!ال ال!تي تح!!ركت
تجاربها تحت قلق من نوع مختلف ،ذاك أن كتابها ومنذ ذلك الت!!اريخ ينطلق معظمهم
من مب!!دأ اعتب!!ار ح!!دث انفج!!ارالثورة واالس!!تقالل الح!!دث األهم في الت!!اريخ اليم!!ني
الح!!ديث كله ،والمكتسب األغلى ال!!ذي ف!!رض حض!!وره الق!!وي على كل تن!!اوالتهم ،
فعليه أخذوا يبنون تجاربهم! ويشكلون! عوالمهم التي تمثلت غايات أخرى انعكست عن
واقع التحول السياسي واالجتماعي الذي ش!هدته اليمن بعد الث!ورة ،ومع قلة األعم!ال
التي ذهبت إلى هذه الغاية بالقياس إلى األعم!!ال ال!!تي اكتفت من إنش!!ائها بغاية تك!!وين
ال!!وعي ال!!رافض ،وذلك نتيجة لظ!!روف! الجهل والقمع والخ!!وف! ال!!تي ك!!انت تكتنف
طريق ه!!ذه األعم!!ال وتح!!دق! بكتابها ،ف!!إن ذلك الينفي وجودها! وأهمية ال!!دور ال!!ذي
قامت به في تحفيز النفوس وتوجيه األوضاع نحو الحل الثوري .
وبداية برواية ( مأس!!اة واق ال!!واق ) ال!!تي تمثلت الواقع قبل الث!!ورة واالس!!تقالل ،وش!!قت
طريقها إلى الوج!!ود في ظ!!روف ذلك الواقع ،كما ك!!ان كاتبها أحد الشخص!!يات ال!!تي لعبت
دورا مهما في األح!!!داث حينها وعايشت مش!!!كالت ال!!!وطن وقض!!!اياه ،فرص!!!دت الحركة
الجدلية بين الواقع واإلنس!!!!!!ان متفهمة إقدامه وإحجامه ،متلمسة أس!!!!!!باب تفاعله ودواعي
تقاعسه ،ف!!إن غايتها التغييرية تب!!دأ تكش!!فها من قيامها! على رؤية حلمية فحين تختنق الحي!!اة
بظالم!!ات الواقع وقي!!وده قد يص!!بح اللج!!وء إلى الحلم مهربا مناس!!با إلنش!!اء واقع تتنفس في
فضاءاته حياة أخرى بديلة باس!!تفزاز! ال!!وعي الن!!ائم أو الغافل بص!!دمة قوية تعمل على إفاقته
223
على حقيقة ال!!وطن المغيبة عنه لينضح في وجهه به!!ذه الحقيقة الم!!رة المؤلمة ،حيث اليمن
بكل ماله من مجد وت!!!اريخ طويل ليس س!!!وى بلد ض!!!ائع تائه مجه!!!ول الهوية تماما كتلك
الجزيرة الوهمية التي ظل السندباد! يبحث عنها في رحالته ،والتي دل عليها عن!وان الرواية
ال!ذي يشق ببنيته الس!اخرة المس!تفزة أول خط!وة في اتج!اه غايتها التغييرية ،ونحن في ه!ذا
العمل نقف على رؤية حلمية تغييرية مس!!كونة بهم!!وم! ال!!وطن مض!!مخة بأوج!!اع! الواقع ،ال
يحلق الحلم فيها مبتع!!دا وإنما يرتد إلى ه!!ذا الواقع فيتش!!كل عام!!دا في ص!!لب مادته وج!!وهر!
روحه " فليس هذا الحلم سوى مشروع للتغيير مش!روع! ينشأ في ذهن الش!اعر وينفح ويك!بر!
في كل ما يسرد على مسامعهم! ،ألم تكن المشاريع الكبرى في التاريخ مج!!رد أحالم في أول
األمر ولكنها حتى ترتبط! ب!!الواقع ال تغ!!دو مج!!رد أض!!غاث بل تص!!بح دافعا للتغي!!ير وه!!ذا ما
1
قصد! إليه الزبيري! في بحثه الحالم عن بالد واق الواق"
وقد! أتاحت الرؤية الحلمية لهذا المؤرق بقض!!ايا وطنه ومش!!كالت ش!!عبه على أن يحقق م!!الم
يستطيع! تحقيقه على أرض الواقع من المساءلة والمحاسبة والبحث عن إجابا ألس!!ئلة مح!!يرة
والنبش في أدمغة وبط!!ون من يمتلك!!ون اإلجابة الش!!افية والوق!!وف على األس!!باب وال!!دوافع
وراء الكثير من السلوكيات االجتماعية والممارسات السياسية التي تسببت في ض!!ياع ش!!عبه
وامتداد! معاناته ،كما أتاحت له هذه الرؤيه أن يبث لواعج نفسه واختالج فكرة ،وأن يكشف
ويعري! ويفضح ويجلي حقائق لش!!عب ي!!درك مق!!دار ما يس!!تبد به من جهل ،ويص!!وب رؤى
ويصحح قناعات ومفاهيم ويدحض عن األذهان ما يالبس!!ها من ش!!كوك إزاء بعض المواقف!
ال!!تي ت!!آزرت عوامل مختلفه داخلية وخارجية كي تحيطها بض!!بابات الغم!!وض وغيام!!ات
الشك ال!!تي غلفت حقيقتها وك!!ادت أن تطمس!!ها! طمسا ،كل ذلك في خط!!وه تمهيديه يبلغ بها
غايته الكبرى المعتمدة على هذا الوعي الجديد الرافض لكل ما هو قائم والمتشكل خالل ه!!ذا
المجهود! التمهيدي! ركيزة لها ،حتى إذا ما أراد بعده أن يص!!رح بغايته ويض!!غط ال!!وعي في
اتج!!اه بلوغها غ!!دا ذلك م!!بررا بما اتبعه من أس!!لوب مت!!درج في منطق إقناعه ،ومن هنا
يمكن له!!ذا المبحث أن يبل!!ور لمراحل ت!!درج الك!!اتب كي يبلغ غايته الك!!برى من تح!!ريض
الشعب الذي يتوجه إليه في هذا العمل في كليته إلثارة وعيه بض!!رورة القي!!ام بفعل رافض ،
وهي كتالي :
أوال :الذهاب إلى تشكيل وعي اإلنسان بواقع بلده وبحقيقه ما يجري فيها عبر خطوات منها
:
)1إثارة ال!!وعي بقض!!يه مجهولية اليمن وعزلتها وبترها! ليس من عص!!رها وعالمها الك!!وني فقط
وإنما من عالمها العربي الذي تنسب إليه وينسب إليها عبر تس!!ليط ض!!وء كاشف على حقيقه
-رغم اهميتها البالغة -تب!!دو غائبه بش!!كل كلي عن وعي اإلنس!!ان في اليمن ،ال!!ذي ع!!اش
حقبه طويله حياة من العزلة المطبقة جعلته يتحرك خارج الوقت وبعيدا عن خارطة الوج!!ود
اإلنساني! ،فكل دقيقه من سني حكم اإلمام يحيى مثال " :كانت طاحونة هائلة تس!!حق عظ!!ام
الش!!عب وتنهش لحمه وتف!!ري جل!!ده وت!!ترك! لها س!!مة مس!!تديمة في خالي!!اه وفي! دمه وفي
أعصابه وفي صحته العقلية والنفسية وفي قدرته على مواجهة المستقبل البعيد ،فالشعب في
1هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر /صنعاء 1996م ،ط،1ص148
224
عهده حي ك!!الميت وميت ك!!الحي لم يدعه يحيا إال في ج!!انب تافه حق!!ير من حياته ،وهو أن
يجمع له ثروة يخلفها ألسرته فلم يس!!مح أن تب!!نى مدرسة أو مستش!!فى أو يعبد طريق! ،بل لم
يكن يسمح للمؤسسات العالمية أن تقاوم وباء من األوبئة أو مجاعة من المجاعات التي كانت
تحصد األلوف من أبن!اء الش!عب الفينة بعد الفينة ،ك!ان حليف الج!راد وال!تيفوس والج!دري
والمجاعات والظالم! والجهل والس!!جون واألغالل ،وقد! ربى خالل حكمه المش!!ؤوم! الطويل
جيال من الن!!!اس ال يملك!!!ون أي خ!!!برة في الحي!!!اة وفي! معايشه البشر إال خ!!!برة الحرك!!!ات
الغريزية من المشي والقعود وحمل األحجار واالثقال واالنحناء لعبء النير وااللت!!واء تحت
السياط والفرار من الوطن لكسب القوت والخ!!وف والنف!!اق والمحافظة على رمق الحي!!اة في
خدمه ع!!دو الحي!!اه ،وهن!!اك فئه قليله من الن!!اس كس!!بت خ!!برة في ش!!يء واحد فحسب وهو
التفنن في وس!!ائل تع!!ذيب الش!!عب وص!!ناعة القي!!ود له ونهبه عن طريق! الرش!!وة واالختالس
والمحاكمات! المأجورة والضرائب الدينية وااللتزام!!ات ،وفئه أخ!!رى لم يس!!تطع أن يش!!ملها
هذا الشؤم فواص!!لت! حياتها عن طريق! الوراثة لتج!!ارب اآلب!!اء في الزراعة والعل!!وم! الدينية
1
واآلداب القديمة "
وهذه الحقيقة هي وضع بالده الصادم! ،ومكانتها! المغيبة تاريخا وواقعا! معاصرا! ،
وتلك هي حقيقه الحالة االغترابية ال!!تي يج!!دها اليم!!ني أمامه إذا ما خ!!رج خ!!ارج
وطنه الصغير! حيث يفاجأ أنه يعيش وهما كب!يرا يعتقد بت!اريخ بالده المجيد ،بينما
ذلك التاريخ يعود وهما وخياال أسطوريا ،ويكتشف! أن ذلك البعد الذي في اعتقاده
لم يعد موجودا! على خارطة الوجود ،وأن بل!!ده غ!!دا بل!!دا مختفيا مطموسا ض!!ائعا
هائما في ع!!!الم خي!!!الي وعلى أرض ال توجد إال في القصص الخيالية ،فه!!!ؤالء
ش!!!!يوخ األزهر وعلم!!!!اؤه وهم المع!!!!ول عليهم -بفعل مكانة األزهر وتاريخه -
االهتمام بشؤون األمة ،يهتمون بكل ش!!أن يخص األمم القريبة والبعي!!دة ،بينما ال
تكون اليمن ذلك البلد الموجوع الن!!ازف واح!!دة منها ،فال تش!!كل في وعي أح!!دهم
هما أو حتى وجودا! يستحق! االهتمام " سمعهم! العزي محمود يتحدثون عن قض!!ايا
الدنيا واآلخرة ويخوضون في مشاكل األمم البعيدة و القريبة ،ويض!!عون كل ه!!ذه
المش!!اكل في مع!!ايير! اإلس!!الم ويقض!!ون فيها قض!!اءهم ويص!!درون فيها فت!!اواهم
ويعلنون فيها في ثقه واعتزاز بأن اإلسالم يجب أن يعنى بكل صغيرة وكبيرة وأن
يصدر! فيها حكم هللا ،وعجب الع!!زي محم!!ود! لس!!عه االطالع عند ه!!ؤالء العلم!!اء
ولش!!عورهم! الغي!!ور! المرهف إزاء كل مأس!!اة إنس!!انيه على وجه األرض ،مأس!!اة
الكونغو! مثال ،ومأس!!اة التفرقة العنص!!رية في جن!!وب أفريقيا ،ومأس!!اة الهن!!ود
الحمر في أمريكا ،وحتى محنة األخالق في فنادق الشرق األقصى! ال!!تي تع!!رض
لها الصحفي أنيس منصور! أصدروا! فيها فتاواهم ،ولم يبقى مكان في األرض إال
ط!!ارت إليه المناقشة وص!!درت! إليه األحك!!ام ،وتطلع الع!!زي محم!!ود إلى ه!!ؤالء
واستشرف أحاديثهم الجريئة المث!!يرة ،انتظر أن يتح!!دثوا! عن بالده وفيها! أح!!داث
225
ض!!خمة تعت!!بر موض!!وعا! خص!!با ألحك!!ام هللا ،ولكن الح!!ديث يمضي ويمضي
1
ويكتسح آفاق األرض وينتهي! منها ويعلن الختام "
ف " أين ت!!راه ال!!وطن ؟ هل تض!!يع جغرافية البالد كما ض!!اع الت!!اريخ من قبل ؟
ف!!أرض الجن!!تين ال!!تي مألت ص!!در الع!!الم في ي!!وم من األي!!ام تتح!!ول إلى أرض
2
مجهولة الموقع والتاريخ "
)2التأكيد على أن التغيير لن يك!!ون إال من ال!!داخل ،ومن هنا يتح!!رك الس!!ؤال األول في
ض!!مير! ه!!ذا العمل ،فهل تك!!ون إع!!ادة ه!!ذا ال!!وطن إلى مكانه على خارطة الوج!!ود!
اإلنساني بالتواكل والخنوع! وانتظار تحرك اآلخ!!رين ؟ يح!!دثنا بطل الرواية ق!!ائال " :
فج!!دير باإلنس!!ان ال!!ذي نبت في تربة أرضه أن يحمل في ب!!ذور خالي!!اه ج!!نين وطنه
الكب!!ير وكل ما هو في حاجه إليه أن ال يخ!!ون الحقيقة ،فينح!!رف! عن مهمته في ه!!ذا
الوج!!!!ود! بل عليه أن يضع نفسه في بيئة الن!!!!واميس الطبيعية لتطلق عواملها فيه كما
تفعل بنواة الثم!!رة تحت ال!!تراب ،وليست الخيانة في رأيي إال خيانة المخل!!وق لطاقته
الهائلة ال!!تي تكمن فيه ،فن!!واة الثم!!رة ال!!تي تس!!قط في التربة وال تنغ!!رس فيها خائنة
لجنينها الض!!خم ال!!ذي تحمله ،وب!!دال من أن ت!!ؤدي! دورها! وتتفاعل مع أرض!!ها! األم
3
تضع نفسها لعبة في يد األطفال والمجانين يتراشقون بها في عرض الطريق "
فانتظار العون من اآلخر ال يحل مشكله أبدا ،ألن ه!ذا اآلخر المنتظر -بال ش!ك-
لن تحركه إال مصالحه وما يتحقق له من من!!افع فأمريكا " قد اليك!!ون لها مص!!لحه
في اكتش!!اف! ه!!ذا البلد الغ!!امض إال في ال!!وقت المناسب لها ،فربما! ك!!انت ت!!رى
بعيونها! العلمية أن في جوانح أرض واق ال!!واق ث!!روات س!!رية أو ذهبا أو ب!!تروال
فال يوثق! برأي الهيئات العلمية في هذا المج!ال " " ...وأمر بريطانيا! كأمريكا! في
ه!!ذا الش!!أن ،قد ال يك!!ون من مص!!لحتها! أن توجه أنظ!!ار الع!!الم إلى اكتش!!اف بلد
األساطير! واألسرار! حتى يأتي الوقت المناسب لها فتستغله على انفراد ،ثم هي قد
تكون واض!عه ي!دها الخبيثه على ه!ذا البلد أو ج!زء من ه!ذا البلد وهي تمتصه في
هدوء فلماذا تثير إليه اهتمام العالم ! " ،4أما روسيا! لو أنها استطاعت " أن تتسلل
من محبسها وأن تضع قدمها أو ت!!دس أنفها في أرض واق ال!!واق لكتمت أنفاس!!ها
من ش!!ده الف!!رح ول!!ترفقت في كل خطواتها وتحركاتها! ح!!تى ال يش!!عر أحد ،وهي
بعد ذلك أقدر الدول قاطبة على األساليب السرية ،ولو استعان بها الوشاح ح!!اكم
واق الواق وطلب منها معونة فنية لصناعة طاقية إخف!!اء ي!!دفن بها ش!!عبه في مزيد
5
من الخفاء والغموض لبادرت روسيا! وأعطته ما يريد "
)3إن التأكيد على أن التغ!!ير هو مس!!ؤوليه كل إنس!!ان ينتمي إلى ه!!ذا المك!!ان ،وأن
التراخي والخنوع ليس باألمر الهين ،وهذا التاريخ يشهد على ذلك واألق!!دار كلها
تدفع الشعب ألن يعتمد على نفسه ،يقول العزي محم!!ود! قبل أن يش!!رع في رحلته
226
" :لو كنت ذاهبا إلى وطني! فال يهمني أن ال أعود منه ،أما وأنا ذاهب إلى مك!!ان
آخر ولو في الجنة فأني أشفق أن أتخلى عن المعركة التي سخرت عمري لها ،ثم
هو ال يشرفني! أن أكون متطفال على الشهداء بدون اس!!تحقاق ودون أن أدفع الثمن
الذي دفعوه " 1فهؤالء الشهداء ومبادؤهم! " وأهدافهم! المحددة ومثلهم! العليا ال!!تي
م!!اتوا ألجلها ،كل ه!!ذه االعتب!!ارت هي ص!!احبة الحق األول في تقرير مص!!ير
2
بالدنا على النحو الذي يقرره الشهداء أنفسهم "
وأما اإلمساك بالعصا من المنتصف! ،فإن جزاءه أال يس!!تحق! الم!!رء جنة وال ن!!ار "
ولكن إيق!!!افهم بين الطمع في الجنة والهلع من الن!!!ارهو في حد في ذاته ع!!!ذاب أشد
آالف المرات من العذاب الذي ك!!انوا يجبن!!ون في ال!!دنيا عن المس!!اهمة في المع!!ارك
خوفا! منه " ، 3وهللا س!!بحانه وتع!!الى! قد " أمر الن!!اس بالجه!!اد وب!!النهي عن المنكر
بالدفاع! عن النفس والشرف! ،فإذا هم استس!لموا! لل!!ذل والع!!ار ولم يس!!تجيبوا ألمر هللا
فهم يستحقون أن يكونوا عبيدا ،واذا ك!!ان هللا جل وعال ال يس!!اعد العبيد األذالء وهو
خالقهم وموجدهم فكيف تريد من الدول أن تساعدهم " 4ف " من ك!!ان في ي!!ده الحق
5
فال يمكن أن يكون ضعيفا ،فإن الحق فوق! القوة "
وحي!!اة اليم!!ني ال يختلف همها عن الهم في جهنم ال!!تي ق!!ام بزيارتها! الع!!زي محم!!ود ،
فاليمني! " يعيش في جحيم من القلق واألسى والحزن على بالده وعلى مصير القض!!ية
6
التي ال يزال يحمل عبء رسالتها! رسول جهنم بجديد من الهم "
وال بد لهذا الشعب البائس من صحوة ألنه " بس!!كوته عن قتل واحد من بنيه إنما يع!!ني
بموقفه ه!!ذا أنه قد أقر مب!!دا اإلباحية لل!!دماء ومنح الح!!اكم حق ال!!ذبح لمن يش!!اء وم!!تى
يشاء " ،7وحق الحي!!اة ش!!يء مق!دس " بل هو أق!دس المقدس!ات ،ف!!اذا تن!!ازل الش!!عب
لحاكمه عن هذا الحق ،وسمح له أن يقتل إنسانا واح!!دا ،فقد تن!!ازل عن قدس!!يه الحي!!اه
ذاتها لحاكمه ،ويس!!توي في ذلك أن يزهق الح!!اكم روحا! واح!!دة أو آالف األرواح ألن
قدسيه الحياة تسقط لمج!!رد قتل اإلنس!!ان الواحد ومن قتل نفسا فكأنما! قتل الن!!اس جميعا
8
"
فهذا نظام ال يتحرك مع الزمن وال يتيح للشعب أن يختار وكل الذين يؤي!!دون بق!!اءه هم
في الواقع يح!!اولون توطيد! ح!!اجز أب!!دي يمنع الش!!عب اليم!!ني عن تحقيق أمانيه ،و "
ن!!واميس الت!!اريخ واالجتم!!اع ال تف!!رق بين الجاهل والع!!الم ،إن عقوبة الجهل به!!ذه
9
األمور! هي الموت ،وسم الحية ال يفرق بين من يعرف الحية ومن يجهلها "
)4االستناد! في كشف حقيقه ما جرى ويجري على أرض اليمن من ظلم وقمع وعبث
ب!!!العقول وإش!!!اعة روح الفرقة المذهبية إلى ش!!!هادات حية تتسم بق!!!در كب!!!ير من
1المرجع نفسه ،ص55
2نفسه ،ص52
3نفسه ،ص64
4نفسه ،ص81
5نفسه ،ص81
6نفسه ،ص81
7نفسه ،ص157
8محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص158
9المرجع السابق ،ص157
227
المصداقية ل!!دى شخص!!يات لها ق!!در كب!!ير من الموثوقية ،أو هي تكتسب موثوقية
شهادتها! من دورها التي لعبته في األحداث ،ومن هذه الشهادات :
)1شهادات الشهداء الذين قدموا أرواحهم! فداء لهذا الوطن ،ومن تضحيتهم! التي
قدموها! تكتسب ش!!هاداتهم! مص!!داقيتها ،حيث ب!!ذل النفس والتض!!حية ب!!الروح
هي أسمى ما يستطيع المرء تقديمه ،وت!!أتي ش!!هادات الش!!هداء لفضح حق!!ائق
تاريخية يقرعون بها مسامع األحياء المغيبين الماضين في سباتهم! ال يسمعون
سوى صوت اإلمام ،وشهاداتهم! على هذا النحو تسهم بخالص الوطن وهداية
الن!!اس الى ن!!ور الحقيقة ،ثم أن حض!!ور ه!!ؤالء األطه!!ار يس!!تفز في األحي!!اء
الشعور! بالمسؤولية إزاء دمائهم التي سفكت ظلما وعدوانا
)2شهادات المجرمين في حق الشعب ال!!ذين أفس!!دوا حياته وعك!!روا ص!!فو أيامه
بألوان الش!!قاء ،وتكتسب ش!!هادات ه!!ؤالء مص!!داقيتها! من ك!!ونهم شخص!!يات
لعبت دورا حقيقيا في حياة الن!!اس ،ثم من ك!!ون ه!!ذه الش!!هادات تص!!در! عنهم
وهم في أس!!وأ ح!!االتهم من الن!!دم والتض!!رع تحت وقع الع!!ذاب الجهنمي كما
تخيل الكاتب ،ومن بين هذه الشخصيات شخصيه اإلمام نفسه .
االستناد! في الحكم على اإلمام ونظامه الفاسد إلى حكم شرعي يصدر! عن مرجعية )5
دينية كب!!!يرة لها ثقلها في الت!!!اريخ اإلس!!!المي ،ولها مكانتها العظيمة في قل!!!وب
اليمنين تلك هي شخصية علي كرم هللا وجه ،وقد! استدعى الكاتب هذه الشخص!!ية
العظيمة دون غيرها من الشخصيات ليدحض بحكمها ادعاء اإلمام االنتس!!اب إلى
آل بيت النبي عليه الصالة والسالم والحكم بمذهبهم! ،وهو االدع!!اء ال!!تي اس!!تغلته
اإلمامه ال!!تي تعلم بمق!!ام بيت الن!!بي في نف!!وس اليم!!نين لتوطيد حكمها ،واكتس!!اب
مكانة وص!!لت بها إلى ح!!دود القداسة ،اعتقد فيها اليم!!نيون بحرمة الخ!!روج على
حكمها ،ففي مؤتمر عظيم حضره كل شهداء واق الواق ،وعلماؤها ،ومفكروها
،يتم تصويب هذا االعتقاد عبر محكمة تق!!ام لمحاكمة الطاغية غيابيا وهي محكمة
يرأسها! اإلمام علي كرم هللا وجهه ويك!!ون الم!!دعي الع!!ام فيها اإلم!!ام زيد بن علي
رضي! هللا عنه .
وعبر هذه المحاكمة يتدرج األمر في اتج!!اه ن!!زع ه!!ذا الش!!رف عن اإلم!!ام الظ!!الم
ب!!دءا بإقامة مقابلة بين أفعاله وادع!!اءه ش!!رف االنتس!!اب آلل بيت الن!!بي ،فنس!!مع
اإلمام زيد بن علي رضي! هللا عنه يقول " :إنه يوجد في ش!!عوبنا! الي!!وم في الحي!!اه
ال!!دنيا ش!!عب ع!!ربي مح!!روم من حق الحي!!اة على وجه األرض ،س!!لبه ه!!ذا الحق
شخص واحد اغتصب الحكم ب!!القوة والعنف! واإلره!!اب والخديعة ،ومن المخجل
والمحزن أن هذا الشخص يدعي أنه من آل البيت وأدهى من ذلك أنه يدعي الحكم
1
بمذهب آل لبيت "
ثم يستمر! يع!!دد فض!!ائع الطاغية ال!!ذي يبطش ويقتل ويس!!فك ال!!دماء متس!!ترا! وراء
مبادئ اإلس!!الم ،بل وتتجلى المفارقة األعظم في ك!!ون ه!!ذا الطاغية يتس!!تر وراء
228
مذهب اإلم!!ام زيد بن علي ال!!ذي قاتل هش!!اما بن عبد الملك ودعا الن!!اس للخ!!روج
عليه وقتاله ألنه طغى .
فلم يسلب هذا الطاغية شعبه حق الحياة فقط بل وحاول أن يسلب آل بيت الرس!!ول
قدس!!ية ش!!رفهم! اإلنس!!اني! وما يفعله -من وجهة نظر االم!!ام زيد -هو أخطر مما
فعله هش!!!ام بن عبد الملك بجثته حين أخرجها من قبرها وص!!!لبها! وأحرقها ،ذاك
أنه يستهدف! الوجود! األكبر آلل ال!!بيت ،إنه مب!!دؤهم ،فينسب كل إثم يرتكبه إليهم
،وأشد من خطر ال!ذين يطلب!ون الحكم باسم آل ال!بيت كالعباس!يين والقرامطة فهو
يح!!ارب اسم هللا وش!!ريعته ويحقر الهاش!!ميين ،ويالحق آل ال!!بيت ب!!األذى ،من
خالل ممارس!!!ته لس!!!لطته اآلثمة باسم الوراثة العائلية ،فهل يرضي آل ال!!!بيت أن
يتحولوا! إلى أسر كسروية أو قيصرية تتوارث ملكية الشعوب ؟
وألجل ذلك يتم في ه!!!ذه المحكمة تق!!!ديم ه!!!ذا الطاغية للمحاكمة غيابيا ،هو ومن
ومعه ممن س!!ار على طريقة الحكم المت!!وارث من آبائه وأش!!باهه وأش!!باه أبيه من
الحكام المتسترين وراء آل البيت ،ومع كثرة ج!!رائم ه!!ذا الطغي!!ان ف!!إن المحاكمة
ستقتصر! على تهمتين :
األولى :الكيد ضد مقدسات آل البيت ،وعند هذه التهمه يستعرض اإلم!!ام زيد بن
علي مفارقات هذا النظام ،فيقول " :لقد زعم هذا الحاكم ( الوشاح يا جن!!اه ) بأنه
ينتسب إلى مذهبي ،وهذه الدعوة تعتبر سخرية واحتقارا وأذى ألقدس ما أقدسه ،
ذاك أن ألمع المب!!!!!ادئ في ت!!!!!اريخي هو األمر ب!!!!!المعروف والنهي عن المنكر
ووجوب! الخروج على الظالمين فما أفظعه من كيد وس!!خرية أن ي!!زعم الظ!!المون
العتاة بأنهم يلتزمون م!!ذهبي وأنا ال!!ذي ال يع!!ني وج!!ود م!!ذهبي أك!!ثر ما يع!!ني إال
إلغاء وجود هؤالء الظالمين وتطهير! األرض من وجودهم! ".1
فهذا الحاكم يقتل كل من يحاول التقريب بين الفئات التي بذر الطغيان بذور الفرقة
واالنقسام! بينها ،ويسعى إلى الكيد لألبرياء والبسطاء! من آل البيت ،فيوهمهم ب!!أن
وجودهم مستمد من وجوده ،وأن تهديد بقاءه هو تهديد لبقائهم ،فيفصلهم! بذلك عن
بقية أبناء الشعب ،ويزج بهم في معركة أبدية مع الماليين ،وينتهي اإلمام زيد من
عرضه ه!!!ذه التهمة بقوله " :ل!!!ذلك ف!!!إني إذ أدين ه!!!ذا الطغي!!!ان بجريمة الكيد
لمقدساتنا وألبنائنا ،وأطالب بتوقيع! أقصى! عقوبة علي!!ه ،أدعو األح!!رار األذكي!!اء
والعلماء من أبنائنا إلى أن تتولى صفوة منهم عالج هذا الجرح العميق الذي أحدثه
الطغي!!ان في قلب الش!!عب ب!!الطرق الناجحة ،وأن تخ!!زي وجه الطغي!!ان ووجه
الشيطان بإثبات وجودها! في قلب الش!!عب ،وبإثب!!ات أن ه!!ذا الطاغية ليس منا وال
يمت إلى رسالتنا من قريب أو من بعيد " .2
والثانية :حرمان الشعب من حق الحياة :
بعد أن يقدم المدعي كيف حرم الش!!عب من حق الحي!!اة في بلد يحكمه ق!!انون أس!!وأ
من قانون الغاب ،فقانون الغاب يحفظ للحيوان حق الصراع والقتال واله!!رب في
229
حال الضعف ،وبذلك تحتفظ حيوانات الغاب بفطرتها! ال!!تي فطرها هللا عليها دون
أن ينالها مسخ وال تشويه " ولكن شعب واق الواق الذي يحكمه ( الوشاح يا جناه)
محروم! من حق الحياة ومحروم من حق الصراع على الحي!!اة ..إن ه!!ذا الح!!اكم ال
يقتل الن!!اس جميعا وال يف!!نيهم ،وال يس!!تطيع! ذلك بطبيعة الح!!ال ،ولكنه يفعل بهم
شيئا يساوي قتلهم جميعا ..إنه ينتزع من كل فرد من أف!!راد الش!!عب حق الحي!!اة ،
وحق الص!!راع من أجل المحافظة على الحي!!اة فيش!!ملهم ب!!الخوف وال!!رعب وفقد
الطمأنينة على األمن والبقاء ،وينكبهم بمشاعر اله!!وان والمذلة والعبودية والعجز
أم!!ام ف!!رد واحد منهم ،وب!!ذلك ين!!تزع خص!!ائص فط!!رتهم وآدميتهم! ويح!!دث فيهم
1
أشنع مسخ وأبشع تشويه ،وينحط! بهم إلى ما هو أدنى من حياة الغاب "
والشعب الذي ينتزع منه حق الحياة " ال يستطيع أن يحتفظ لنفسه بشيء وراء هذا
الحق الم!!نزوع! ،فالش!!رف وال!!دين والكرامة والذمة والحرية والم!!روءة واألرض
والمسكن والملبس ولقمة العيش ،كلها أشياء أقل من الحياة ،الش!عب ال يملك ش!يئا
منها إال ما رضي له الطاغية أن يملك ،ف!!!!!دعك من التعليم والعالج وض!!!!!روب
اإلص!!الح ومط!!الب الحي!!اة الكث!!يرة ال!!تي تك!!افح من أجلها ش!!عوب األرض ،فتلك
2
تفاهات تافهة إلى جانب حق الحياة "
وفي! آخر الح!!ديث يع!!بر عن حيرته كيف يمكن للعدالة أن تخ!!ترع عقوبة تك!!افئ!
بشاعة ما فعله اإلمام وجسامته ،ثم ينتهي إلى قوله " وس!!وف! أت!!رك لك يا أبت!!اه يا
أمير المؤم!!نين مهمة العث!!ور على طريقة ناجحة للتعب!!ير عن العدالة ال!!تي ترضي!
3
هللا ورسوله وترضي! الشعب "
فاإلمام! علي الذي يرى أن رسالة اإلسالم ضد العصبيات القبلية والعائلية ،يقول :
"ولقد قاتلت أنا أهلي بالسيف ،وقاتلتهم! جنبا إلى جنب مع األوس والخزرج! ..أال
فاعلم أنكم أولى بي من أي ظالم يدعي االنتساب إلي ،فإنه ليس في االنتس!!اب إلي
أو إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شافع يش!!فع له ،بل إن فيه زي!!ادة في الحجة
ومض!!اعفة للمالمة والعقوبة ،ولو ك!!ان في االنتس!اب إلى األنبي!اء والص!!ديقين ما
يعصم من اإلثم أو من عقوبة اإلثم وع!!!اره وش!!!ناره لك!!!ان أبن!!!اء ن!!!بي هللا آدم في
4
عاصم أبدي من المعصية أو من عقابها "
وبعد نقاش طويل وج!!دل دار بين المنص!!ور! ال!!ذي أب!!دى اس!!تعداده في ال!!دفاع عن
الوشاح وبين اإلمام علي تخلص المحاكمة إلى :
)1حكم اإلمام علي بإسقاط شرعية الخالفة عن اإلمام :
" إن الوشاح ياجناه ليس خليفة شرعيا ،وال حاكما شعبيا واليمثل سلطة دينية
وال دنيوية ،وإنما هو رجل اس!!!تولى! على أم!!!وال الش!!!عب بالحيلة والوراثة
المجرمة واإلره!!اب ،وس!!فك ال!!دماء ،وهو اليجمع ش!!روط الخالفة الدينية
والشروط! الحكم الحديث ،وهو ي!!رتكب الفض!!ائع والمنك!!رات! ،ويحمي! نفسه
1المرجع السابق ،ص 236
2المرجع نفسه 238 ،
3نفسه ،ص239
4محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص 242
230
من الش!!عب بال!!دول األجنبية ،ويع!!رض البالد ألخط!!ار التحصى وإذا ك!!ان
يجني على الشعب كله بصفة عامة ،فهو يجني على آل البيت بصفة خاصة "
1
231
وسكوته عن قتل أبنائه ،وقبوله المساومة بدمائهم! ينحدر بهذا الشعب إلى مس!!توى
الحيوان ،يقول الشهيد ( نعمان ) :
" لقد ذبح!!!ني الطاغية الكب!!!ير في أرض حاشد أو ق!!!ريب منها ،وقد! رأى الطاغية أنه لم
يتحرك لمصرعي رجل من رجاالت الشعب وال قبيلة من قبائله ،وأن أبناء الش!!عب تلق!!وا
خبر نهايتي كما تتلقى السائمة خبر مصرع واحدة منها ،إنه موقف واح!!د ،موقف! الش!!عب
وموقف الس!!!ائمة ..بل قد يك!!!ون األمر أس!!!وأ من ذلك فالس!!!وائم ت!!!ذبح لبالهتها فقط ،أما
اآلدميون في بالدنا فإنهم! يذبحون ألنهم منافقون وأنانيون وألنهم بله ومجانين ،لو أنكرت
هم!!دان في ذلك الحين البعيد مص!!رعي ،بل لو س!!ألت عن الس!!بب وط!!البت ببين!!ات الحكم
وحيثياته وأدلته لت!!وقفت يد الج!!زار عن ال!!ذبح ..ولت!!بين للج!!زار أنه ال يملك قطعانا من
الش!!!ياه ،وإنما يحكم ش!!!عبا من األح!!!رار ،ولو ح!!!دث ذلك ما قتل حميد وال وال!!!ده وال
عبداللطيف وال غيرهم ،أال ترون بعد ه!!ذا أن حمي!!دا قتل ي!!وم قتلت ؟ إن الش!!عب بس!!كوته
عن قتل واحد من بنيه إنما يع!!ني بموقفه ه!!ذا أنه قد أقر مب!!دأ اإلباحية لل!!دماء ومنح الح!!اكم
حق الذبح لمن يشاء ومتى يش!!اء ..وه!!ذا يع!!ني ب!!الطبع أن الش!!عب قد ص!!بغ نفسه بص!!بغة
الماشية متجنس بجنسيتها! ورضي أن يكون له مصير كمصيرها وبالهة كبالهتها وأص!!بح
1
لسان حال كل فرد من أبنائه يقول للحاكم الجزار :إن لك الحق أن تذبحني! متى شئت "
وأما انقسامه واختالفه وتن!!احره إلى فئ!!ات وطوائف تجاوبا مع دع!!اوى زائفة من المذهبية
أو الساللية أو غيرها ،فيجعله يتدنى بعقله إلى أدنى من عقول الحش!!رات " :إن الحج!!ارة
الصماء في بالدكم والتراب والنبات والحيوانات أهدى منكم وأدنى إلى الرشد والحق فإنها
كلها تنطق بالوحدة وتذعن لناموسها وسلطانها ،فال توجد في أرضكم! حجرة يقال لها إنها
زيدية أو ش!!!افعية ،كما ال توجد حش!!!رة تقبل أن تنتمي أو تتعصب لإلم!!!ام زيد أو لإلم!!!ام
2
الشافعي! "
ويتخذ! التحريض باألسلوب المباشر والص!!ريح ص!!ورا! مختلفة كمخاطبة كل قبيلة ب!!أخص
ص!!فة ل!!ديها ،أو اس!!تنهاض قيم النخ!!وة والش!!هامة فيها ،أو مالها من م!!آثر تفتخر بها بين
القبائل ،أو مخاطبتها بلس!!ان أحد أبنائها ال!!ذي ق!!دمتهم ش!!هداء في س!!بيل الحرية ،يخ!!اطب
أهل رداع فيقول " :يا أهل رداع لقد أصبحتم! قوة شريفة رهيبة من قوى التحرر ،فما لكم
وجمتم! واستسلمتم والدنيا تغلي من حولكم ..؟ ألم تكون!!وا! أنتم من ع!!والم اليقظة وال!!وعي "
،3ويخاطب أهل الحجرية فيقول " :يا أحرار الحجرية .لقد كنتم أنتم وما تزالون المشعل
األول للحرية واألح!!رار !،في أحض!!انكم ول!!دت القض!!ية ،وعلى أكت!!افكم! ق!!امت دعائمها ،
وبعد ربع قرن من كف!!احكم وجه!!ادكم! وس!!هركم! المتصل تج!دون الثم!!رة يانعة ،واألس!!لحة
4
قاطعة واألضواء ساطعة فإذا بكم تتمطون وتذهبون إلى مضاجعكم! "
ويخاطب! أهل البيضاء ،قائال " :يا رجال البيضاء لقد عرف الكثيرون منكم بالد الع!!الم ،
وعرف!وا! كيف تعيش األمم ،فعليكم مس!ؤولية ك!برى نحو إخ!وانهم! في ق!بيلتهم وفي غيرها
من القبائل ،عار عليكم أن يتح!!رك الج!!يران وأنتم ني!!ام ،وأن يكبل إخ!!وانكم ب!!القيود وأنتم
1المرجع نفسة ،ص156 ،157
2نفسه ،ص122
3محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص222
4المرجع السابق ،ص223
232
طلقاء أحرار ،إنكم معروفون بأنكم متضامنون متحدون ومتع!!اونون أينما حللتم ،ولكن ال
يكفي أن تتع!!اونوا فيما بينكم فقط ،بل عليكم أن تض!!عوا! أي!!ديكم في أي!!ادي القبائل األخ!!رى
1
وأن تكونوا يدا واحدة في خدمة الشعب وإنقاذ الوطن مما يعانيه "
ويذكر! أهل بالد الرصاص بمقتلة شيخهم ( حس!!ين الرص!!اص ) غيلة وغ!!درا ،فيق!!ول " :
أنتم تعرف!!ون كيف غ!!در به الغ!!ادرون ووض!!عوه في الس!!جن بعد أن اطم!!أن إليهم ووثق!
بعه!!ودهم وم!!واثيقهم ،إن العص!!افير والغرب!!ان تالحق من يأخذ واح!!دا منهم وقد تقاتله
بأجنحتها! ومناقيرها! بق!!در ما تس!!تطيع! ،أ فيأخذ الطاغية الغ!!ادر رئيس!!كم العظيم البطل وال
2
ينبض فيكم عرق وال يتحرك فيكم رجل "
ويخاطب! مراد بلسان الشهيد ( أحمد القردعي ) فيقول " :يا قبيلة م!!راد يا أس!!ود المش!!رق!
أنتم تعرف!!ون ب!!راءتي من كل ذنب ومع ذلك اعت!!دى الظ!!الم الطاغية علي وحبس!!ني س!!بع
سنوات ولم يكفه حبسي ،فطلب أوالدي! وحبسهم! ثم أمر زبانيته فقتلوني غدرا بالرص!!اص
3
،وكان المصحف! في يدي ،كنت أسيرا واألسير! اليقتله اليهود وال النصارى! "
اإلنسان الحر ال يقبل العبودية ،و " األحرار! هم الجماعة الذين يرفض!!ون أن يكون!!وا عبي!!دا
أو يسلكون مس!!لك العبيد ،فيتم!!ردون على الظ!!المين ويعارض!!ونهم وينتق!!دونهم وي!!أمرونهم!
بالمعروف وينه!!ونهم! عن المنكر " ،4وهو ال يب!!ايع وثنا يعتقد ب!!أن الس!!ماء تفض!!لت به عليه
وأن بركاته من بركات السماء وأن حكمه مفروض باسم الحق اإللهي وأنه يقرب شعبه الذي
ي!!زداد ارت!!دادا إلى عه!!ود العبودية زلفة إلى هللا " ، 5وإنما يتم!!رد عليه ويقاومه " باأللس!!نة
واألقالم! وبواسطة التنظيم! والتجمع للقوى الشريفة في كل طبقات الش!!عب وفئاته ف!!إن لم يجد
ه!!ذا فإنه يوجد فيهم أحيانا من يس!!تخدم! العنف عند الض!!رورة القص!!وى وعلى مس!!ؤوليته
6
الخاصة الفردية "
والحر يفضل الموت على االستسالم! لهذا الطاغية ،وهذا القردعي يق!!ول ":لم تعرف!!وني في
حياتكم الدنيا إل مشردا أو سجينا تنصب لعن!!ات الطاغية وأذنابه على رأسي ،ولك!!ني عشت
حياتي كلها شريفا حرا أبيا لم أساوم! ولم أضعف ولم أسلم نفسي إلى يد الطغيان يتالعبون به
7
وفض!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!لت! أن أم!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!وت في المعرك!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!ة"
.وأما القبائل التي تخاذلت عن نصرة األح!!رار وجبنت ،فإنها التس!!تحق إال التع!!ريض وأن
يخلد ذكرها بعارها أبد الدهر ،ومن هنا ج!اءت فك!رة تلك المق!برة الفنية الهادفة والمص!ممة
في الجنة من قبل الشهيد الفنان أحمد حسن الحورش ،وهي مقبرة يص!!رح الك!!اتب باله!!دف
من ورائها فيقول " :والهدف من وراء هذه الفكرة هو إبراز صورة ميتة عن الش!!عب ال!!ذي
أسلمه للطغاة يذبحونه في حجة " ، 8فيأتي أوال قبر صنعاء ،وقد! وقف عليه الشهيد العالمة
الكبير السيد حسين الكبسي ،وسمعوه يقول " :يرحمك هللا يا عاصمتنا الفقيدة الشهيدة ،لقد
233
حررناك! من كابوس الطغيان وأردنا! لك السعادة والرفاهية واالزدهار! ،وجعلناك! مقرا ألول
دس!!تور في جزي!!رة الع!!رب ،وأول حكومة دس!!تورية فيها ،وك!!ان عن!!دك الطع!!ام واألم!!وال!
واألسلحة والحرية والدستور! وشرف! البعث واالنطالق! ومولد! النور ومشرق! الحياة ،وك!!ان
أهلك يستطيعون ال!!دفاع عنك من بي!!وتهم! ال باألس!!لحة ال!!تي وزعناها فحسب بل وبالحج!!ارة
والعصي! ،ولكنك كنت عمي!!اء ال تبص!!رين ال تس!!معين ش!!يئا وال تتح!!ركين ،وك!!ان أهلك
1
متفرقين مشتتين ال يجتمع لهم رأي وال هوى "
ثم يبين كيف كان يمكن لصنعاء أن تصبح لو أنها دعمت وآزرت ثورة الدستور! ":لقد
مر عليك منذ تركن!!اك! زه!!اء اثنا عشر عاما ،فلو عاشت حكومة الدس!!تور لك ه!!ذه األع!!وام
النتش!!رت فيك عش!!رات من الم!!دارس الحديثة والمص!!انع والص!!ناعات والمكتب!!ات واألندية
األدبية والرياضية والمؤسسات االجتماعية ،وربما! بنيت لك خالل هذه الفترة جامعة ولكان
كث!!ير من ش!!باب جيلك ال!!راهن في الجامع!!ات أو المص!!انع أو المعاهد ولكنت الي!!وم مق!!را
للهيئ!!ات العربية والعالمية ،وال نعق!!دت فيك دورات الجامعة العربية والهيئ!!ات التابعة لها ،
وألقبل! عليك الس!ياح من أنح!اء الع!الم وأص!بحت من أش!هر المص!ايف العالمية ،ولكن أنت
اآلن ما أنت ..؟ أال تخجلين ..؟ إنه ال توجد فيك مدرسة ابتدائية أو ثانوية ب!!المعنى الص!!حيح
يا ص!!نعاء ..إنما يحكمك اآلن وح!!وش من الس!!جانين والمرتش!!ين واللص!!وص! رغما عنك ،
ولو كانت بقيت لك حكومة الدستور لكنت أنت وس!ائر! الم!!دن تنتخ!!بين الحك!ام والم!وظفين ،
2
ولكنت أنت التي تديرين شؤونك! بنفسك "
ويتوجه على علمائها فيقول " :أيها العلماء التعساء ..أين أمركم بالمعروف ونهيكم عن
المنكر ،أين مب!!دأ الخ!!روج على الظ!!المين ؟ من ق!!ال لكم أن ه!!ذا ال!!ذي تخافونه وترهبونه
مس!!تخلف! من عند هللا ..من ال!!ذي اس!!تخلفه عليكم غ!!ير النهب واإلره!!اب والقي!!ود وإباحة
األعراض واألموال والدماء ،من الذي بايعه غير الرعب والخوف! وقطع! الرؤوس! ؟ الشك
أنه دنس قدس!!!ية األمانة واغتصب مكانها الرفيع ..أليس له أن يقيم فيها ولو يوما واح!!!دا ..
كيف ينطلي عليكم أيها العلماء أن األحرار األبرار بغ!!اة ؟ إذن فقول!!وا على الحس!!ين بن علي
أنه من البغاة ألنه خرج على يزيد ،وقولوا! على يزيد بن علي أنه من البغاة ألنه خ!!رج على
3
هشام بن عبدالملك "
ثم تأتي مقبرة آل شرف الدين والشهيد! محمد بن عبدالقادر واقف! عليها ،وقد استغرق
يقول موبخا " :أيتها األسر التي تأكل من دماء ذويها ..اخجلي وليتمزق! أديم الوج!!وه
من الحياء والندم! ! البأس أن تعيشي ولكن البأس كل البأس والعار كل العار أن يجبن
الرجال ،ويعجزوا! عن كل عمل ونضال! وتعب!ير! عن الس!خط والوف!اء! الص!ادق! ،فال
يع!!!بروا! عن وج!!!ودهم إال بأخذ المرتب!!!ات أو الخض!!!وع! ال!!!ذليل المهين مجانا بحجة
4
الخوف من البطش وهو عذر أقبح من ذنب "
234
ثم قبر آل العمري ال!!ذي وقف! عليه حس!!ين بن علي عالمة ص!!نعاء ص!!امتا يش!!ير إلى
عب!!ارة مكتوبة على ه!!ذا الق!!بر مختومة بعب!!ارة ملخصة " ال يل!!دغ الم!!ؤمن من جحر
1
مرتين "
ثم قبر آل زبارة ،فق!!بر ش!!هارة ،فق!!بر الجبلي ،وق!!بر الوش!!اح األك!!بر ،وق!!بر يح!!يى
النه!!اري! وق!!بر م!!راد وق!!بر! بالد الرص!!اص ،وق!!بر البيض!!اء ،وق!!بر! رداع ،وق!!بر!
الحجرية ،وكل يعير بنقيصته ويستفز! بما أذهب من كرامته .
وهن!!اك مواقف أخ!!رى لقبائل خ!!ذلت بنيها منها موقف! أش!!راف الج!!وف المخجل حين
لجأ إليهم الشهيد (حميد آل األحمر ) ،معتقدا بأنهم أشراف أوفياء وأنهم س!!يقاتلون في
س!!بيل ال!!دفاع عن كلمتهم ووجههم وذمتهم ،وقد أعط!!وه العهد ب!!أن لن يناله س!!وء وال
مكروه ،ف " كيف يغدر العربي بمن لجأ إليه ،وإن كان األشراف! مخدوعين مثلي ،
وكان الطغيان خدعهم ونكث بعهده معهم ،وأخزى! وج!!وههم! فعليهم! حينئذ أن يأخ!!ذوا
من الطاغية حقهم وحقي ،وأن ينتص!!فوا لي وألنفس!!هم ،وأن يكون!!وا! ي!!دا واح!!دة مع
2
حاشد وبكيل وخوالن ونهم ومراد والزرانيق! والحجرية وإب "
وهذا الشريف! الضميم يع!!بر عن خجله مما فعلته قبيلته " :إن الع!!رب ال يقبل!!ون ه!!ذا
على أنفسهم ،ولو كان الذي لجأ إليهم ألد أعدائهم ،أيخاف األشراف! من هذا الطاغية
الذي يحكمهم ،وما قيمته وأهميته وخطره ؟ إنه ش!!بح مسن ،وس!!يزول! قريبا! وي!!زول
عرشه ،ويبقى األش!!!راف وسط بحر من القبائل ال!!!تي البد أن تك!!!رههم! وتحقد عليهم
بس!!!بب ه!!!ذا الح!!!ادث ،إن الطاغية ف!!!رد زائل ،أما حاشد فهي خال!!!دة باقية ،وعلى
األشراف أن يصفوا حسابهم مع الطاغية الذي سود وجوههم ،وإال فالويل! لهم والعار!
3
"
ولكن ال!!!وقت لم يفت والفرصة الت!!!زال س!!!انحة فمن أيد الحق " ورفع راية العروبة
واإلسالم إلى أقطار المعم!!ورة غ!!ير القبائل ،إنهم الفئة ال!!تي تعمل لوجه هللا ،وتب!!ذل
أرواحها وأعمارها ،وتقيم الممالك وتحمل أعباء المعارك ،وتس!!كب كل دم جديد في
4
عروق المجتمع المتحضر! كلما شاخ وأصابه الهرم "
وخ!!!والن ال!!!تي قتل الش!!!هيد الق!!!ردعي على أرض!!!ها! نهضت اآلن ووقفت في وجه
الطغيان ،وتمردت وكانت هذه أول مرة " تس!!تطيع! قبيلة أن ت!!رفض األوامر! وت!!دافع
عن نفسها الدفاع المش!روع ،ال!دفاع ال!ذي تقدسه كل الش!رائع والق!وانين ،وما دامت
5
خوالن قد استطاعت أن تفعل ذلك فتستطيعه قبائل أخرى ما من ذلك بد "
ومراد يمكنها أن تفعل ما فعلته خوالن ،يخاطبها العزي محمود! قائال " إن من الع!!ار
أن تتح!!رك خ!!والن وأنتم ني!!ام ،ض!!عوا أي!!ديكم في يد الش!!رفاء من مش!!ايخ خ!!والن
وطه!!!روا المش!!!رق! من الظلم ومن الخيانة والخونة قياما ب!!!واجب األمر ب!!!المعروف
6
والنهي عن المنكر "
1المرجع السابق ،ص216
2المرجع نفسه ،ص216
3نفسه ،ص218
4نفسه 205 ،
5محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص208
6المرجع السابق ،ص206
235
وأشراف الج!!وف يمكنهم أن يح!!ذوا ح!!ذو خ!!والن " وهل يعجز األش!!راف أن يقوم!!وا
بهذا الدور وهذا ال!!واجب متع!!اونين مع القبائل األخ!!رى ؟ وإن أقل م!!ايطلب منهم أن
يثبتوا آدميتهم! ووجودهم! بالمطالبة بحق الحياة والوقوف في وجه الجزار كلما أراد أن
يذبح آدميا " ، 1فال بقاء في الحقيقة لمن يخاف ويجبن " إذا كان هن!!اك حيف فث!!وروا!
عليه ،وإذا كان هناك أصنام حاكمة باسم الم!!ذهب فحطموها! ،أما أن تمزق!!وا! أنفس!!كم
2
فهذا هو الغباء الذي ما بعده غباء "
والبد من توحيد الصف لمواجهة الطاغية ال!!ذي " اس!!تطاع! بمف!!رده أن يجعل الش!!عب
عاجزا عن التجمع حول قيادة قوية تقف ضده ،وإذا كانت تلك هي المعض!!لة الرئيسة
،فإن مهمتنا المقدسة أن نبحث للشعب عن طريقة أو حيلة أو معج!!زة يس!!تطيع بها أن
يلتف حول قيادة ما ،وتتجمع قواه في سبيل الخالص من الوضع الخ!!انق ال!!ذي يعيش
فيه " ، 3ف " أين هذا الشعب الذي يحكمه الوشاح ،أين علم!!اؤه وأين أذكي!!اؤه ،أين
رؤساؤه ؟ كيف ي!تركون ه!ذا الطاغية يس!تبيح ال!!دماء الغالية الخط!!يرة بم!بررات من
هذا الس!!خف وه!!ذا اله!!راء ،أليس في الش!!عب كله من يضع ح!!دا له!!ذه الم!!ذابح وه!!ذه
المه!!!ازل " ،4لينتهي األمر في آخر العمل إلى عهد ش!!!رف يجمع عليه الص!!!ديقون
والش!!هداء ،ك!!ان من أهم بن!!وده " :إلغ!!اء نظ!!ام اإلمامة حرصا على اس!!تبداله بنظ!!ام!
يمثل الش!!!عب على أسس ديمقراطية س!!!لمية ويطمئن المواط!!!نين في المن!!!اطق العليا
والس!!فلى وفي! الج!!زء المحتل والمعتل إلى العيش على ق!!دم المس!!اواة الكاملة في ظل
وح!!دة ش!!املة كما يطمئن المواط!!نين إلى إمك!!ان الس!!ير في طريق! الوح!!دة العربية
5
وتحقيق خطواتها! األولى في االنضمام! إلى الجمهورية العربية المتحدة "
وعلى ه!!ذه الغاية من إث!!ارة ال!!وعي بض!!رورة قي!!ام الفعل ال!!رافض تش!!كلت ع!!دد من
األعمال القصصية ال!!تي تح!ركت تجاربها في معض!!مها خالل الموض!!وع! السياسي! ،
من ذلك :
قصة ( أنت شيوعي ) التي تعلن تجربتها! عن هذه الغاية صراحة ،من خالل بدايتها
ال!!تي تعلن تأييد التغي!!ير الحاصل في مصر بفعل الث!!ورة ،وال!!تي تث!!ير خالل س!!ياقها
تساؤالت عمن هو المس!!ؤول! عن األوض!!اع المتردية في اليمن ،لتنتهي إلى اإلش!!ارة
بأصابع االتهام إلى طبيعة النظام القائم الذي الترى أمال في إمكان إص!!الحه ،وت!!رى
أن الث!!ورة ص!!ارت ض!!رورية " لن يص!!لحوا ،إنهم بحاجة ماسة إلى تكليف الش!!عب
باتخاذ وسائل أخرى تطردهم! وتعزلهم بعي!!دا عن محيط السياسة في اليمن ...نعم ! !
6
"
وفي قصة ( الغ!!ول ) تتجسد ه!!ذه الغاية في موقف هند ال!!تي تج!!رأت على اقتح!!ام
مكمن الغول الذي أخاف أهالي القرية وبث في نفوسهم الرعب " :فلم تفكرهند كثيرا
،ووجدت نفسها دون أن تدري أمام باب المغارة ،إن القوة العجيبة ال!!تي تس!!تطيع أن
1المرجع نفسه ،ص221
2نفسه ،ص209
3نفسه ،ص 112
4نفسه ،ص80،79
5نفسه 269 ،
6نفسه 281 ،
236
تعبر عنها بكلماتها البسيطة قد دفعت بهند تلك الم!!رأة المحطمة الض!!عيفة الفق!!يرة إلى
ب!!اب من س!!يطر خوفه على قل!!وب رج!!ال قريتنا " ،1بل ومواجهته والتص!!دي! له في
معركة انتهت بقتله ،نس!!معها تعلن في وجهه " :إنك لست س!!وى مخل!!وق! تافه ص!!نع
اآلخرون أسطورتك فصدقتها أنت ،وصدقها األغبياء في القرية ،إن!!ني س!!آخذ قلبك
س!!واء أتركت!!ني به!!دوء أم ال ،إني مس!!تعدة آلخذ ما أريد ب!!القوة ..هجم الغ!!ول وكله
2
خوف ،وقتلته هند وفي عيونها روعة اإلنسان في قمة شجاعته "
وفي قصة ( الحاج سيف ) 3تتشكل هذه الغاية في موقف! ساع بس!!يط ي!!رفض إغ!!راء
وظيفة جدي!!دة تع!!رض عليه بعد أن أعيته الحيلة في الحص!!ول على وظيفة إثر ط!!رده
من عمله في إح!!دى الش!!ركات ،ذاك أنه اكتشف أن الع!!رض الجديد إنما أريد به شق
صفوف العمال المضربين .
وفي قصة ( الن!!!اب األزرق ) تتحقق ه!!!ذه الغاية من خالل موقف! ( الح!!!اج س!!!يف )
ال!!ذي تح!!دى ذاته ،وانتصر! على خوفه وت!!ردده ،وتج!!اوز عادته من الخ!!وض في
أحاديث فارغه خالل جلسات المقيل المتك!!ررة ،واتخذ ق!!راره باالنض!!مام! الى الث!!وار
الم!!دافعين عن الجمهورية في جب!!ال الش!!مال واالنخ!!راط! في ص!!فوفهم ،وحينما أخذ
الجن!!دي المكلف ين!!ادي بأس!!ماء المتط!!وعين ،ولم يكن اسم الح!!اج س!!عيد بين ه!!ذه
االسماء ،ذاك أنه لم يذهب لتسجيل اس!!مه ل!!دى الهيئة الوطنية -كما فعل االخ!!رون -
بل اعترض طريق السيارة التي تحملهم ،ووقف لها كالج!!دار ،وان!!دس مع من فيها "
اتجهت األنظار إلى الحاج سعيد ،وعلت الوجوه عالمات االستفهام ،وتق!!دم الجن!!دي
بضع خط!!وات إلى الس!!يارة وس!!أله عن س!!بب مجيئه ..وعن ع!!دم تس!!جيل اس!!مه
كاآلخرين ،ولكن الحاج سعيد لم يجر جوابا ألن المتاعب الجسمية والنفسية والفكرية
قد أحالته إلى صنم متحرك ..ولكن الجندي أبلغه أسفه لع!!دم القب!!ول ..وأمر الس!!يارة
بإعادته إلى المدينة ..كيف يع!!ود ؟ وم!!اذا س!!يقولون عنه ؟ ه!!رب من المعركة ؟ جبن
عن النض!!ال ؟ وكيف! يقنع ض!!ميره باألع!!ذار ؟ اس!!ئلة كث!!يرة م!!رت بذهنه كش!!ريط!
س!!!ينمائي! درامي ..ولم يش!!!عر إال وهو يص!!!رخ في وجه الجن!!!دي ك!!!المجنون -:ال
تستطيع أن تمنعني أنت أو أي قوة أخ!!رى مهما عظم ش!!أنها من أداء واج!!بي المق!!دس
4
نحو بلدي ،فليذهب العرف والتقاليد والقوانين إلى الجحيم "
وفي قصه (حس!!اب الش!!عب) تأخذ ه!!ذه الغاية وجهة جماعية ،حين تت!!آزر! جم!!وع
الش!!عب ،وتعقد عزمها على إس!!قاط الن!!ائب المنتخب الن!!اكث بعه!!ده ،المخيب آلم!!ال
منتخبيه المس!!تغل لثقتهم كي يصل إلى مآربه الخاصة ،وفيها! نق!!رأ " :وب!!دأت بعض
الصحف الحرة تهاجمه وتنتقده انتقادا مرا ،وساد التذمر الس!!خط كل طبق!!ات الش!!عب
..وقرب موعد االنتخابات بعد خمس سنوات من توليه منصبه ..وعدل عن ترش!!يح
نفسه في ب!!!ادئ األمر ،ولكنه وافق! عن!!!دما س!!!مع سماس!!!رته وأذنابه المق!!!ربين إليه
يزعم!!!ون أنه لم ي!!!زل يتمتع بحب الش!!!عب وعطفه وثقته وص!!!دق! زمالئه مصاصي!
1محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ،ص22،21
2المرجع السابق ،ص206
3صالح عبده دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ،ص20
4محمد أحمد عبد الولى (االرض ياسلمى) دار االداب /بيروت 1966،م ،ص17
237
الدماء ،وخاصه عندما رأى أكداس الذهب بين يديه والعمارات! الشاهقة أم!!ام عينيه ،
وأخذ كعادته ينثر نقوده هنا وهناك لغرض الدعاية ..وظن أن الشعب ستغريه النق!!ود
وما درى أنه أعد العدة لليوم المنشود! ،وعند فرز! األص!!وات أغمي عليه عن!!دما رأى
أن اس!مه في الم!ؤخرة بين الفاش!لين ،وخ!رج يجر أذي!ال الهزيمة بينما أف!راد الش!عب
يالحقونه بالشماتة فجرى إلى سيارته وسط! الجم!!وع بعنف وغيظ وأخذ ب!!وق س!!يارته
1
يلعلع بشده ،وضغط على محرك السيارة لعل أصوات الشماتة ال تصل إلى أذنه
وفي قصه ( ال!!!بيت الس!!!عيد ) تتجلى ه!!!ذه الغاية في تلك االنتفاضة الجماعية ال!!!تي
حركها ( العم س!!عيد ) واحتشد! إليها جميع الم!!وظفين ح!!تى نجح!!وا بتك!!اتفهم ووح!!دة
مواقفهم بطرد ذلك المدير المستبد ،الذي أقلق هدوء القرية وسلب العم س!!عيد س!!عادته
وحول حياه أسرته إلى جحيم ،فبعد أن فقد العم سعيد طفله األول بسبب س!!لبه مس!!كنه
ولجوئه إلى مسكن غير مالئم ،وبعد أن عنت نذر تشير إلى إمكان فق!!ده طفله اآلخر
،وجد أنه البد له من القي!!ام بفعل لمواجهة ه!!ذا الظلم الواقع عليه ،وهنا خ!!رج متجها
الى مكتب الم!!!دير " وأم!!!ام مكتب الم!!!دير تهالك على أول كرسي! ص!!!ادفه أمامه ..
وتجمع زمالؤه حوله وقد راعهم منظره ..فرفع عينيه إلى وجوههم! وقال بألم :
-طفلي ناصر مريض ..تركته في البيت يعترك مع الحمى ..هل يرضيكم هذا ؟
وجال ببصرة في الوجوه المحيطة به ..فقرأ وقع كالمه في عيونهم ..كان التج!!اوب
معه كامال ..ثم حول بص!!رة إلى مكتب الم!!دير ،فنهض مس!!رعا وتن!!اول قض!!يبا! من
الحديد وجرى! إلى الباب ورفسه بقسوة ،و انفتح الباب وظهر! المدير خلف مكتبه وقد!
ارتس!!!مت في ح!!!دقتي عينيه حركة المباغتة وانقلبت ه!!!ذه الحركة إلى خ!!!وف يهز
أعماقه وهو ي!!رى العم س!!عيد أمامه ممس!!كا بالقض!!يب وقد ت!!وارت من وجهه س!!يما
الوداعة ،وأس!!قط بص!!رة خلف العم س!!عيد ،ف!!رأى! غرفة مكتبه تض!!يق ب!!الموظفين
الذين احتشدوا! حاملين العصي والحجارة وعيونهم! تكاد تثقب وجهه ،وش!!عر الم!!دير
بالخوف واالرتباك! يسريان في جس!!ده ،فل!!زم! الص!!مت برهة وم!!رت لحظ!!ات طويله
عليه كأنها دهر ح!!اول أثناءها أن ي!!زاول دبلوماس!!يته كالع!!ادة ،فتس!!اءل وهو يكسو
صوته بهدوء - :ماذا جرى ؟
ولم يجد جوابا بل أن لغة العيون كانت ص!اخبه وتك!اد! تخ!رق طبل!تي أذنيه فع!اد م!رة
أخرى يتساءل :
-ماذا جرى ؟ اذا كانت القضية تتعلق بمش!!كله ال!!بيت فها هو المفت!!اح ؟ وأخ!!رج مفتاحا
من جيبه ووض!!!عه على المكتب أمامه ولم يلتقطه أحد أو ي!!!رد على كالمه ..وش!!!عر
باالرتباك يتضخم في نفسه ..وبأن أنفاسه تك!!اد تخنقه ..فوجه كالمه ه!!ذه الم!!رة إلى
العم سعيد وقال بهدوء مصطنع! :
-خذ مفت!!اح بيتك يا عم س!!عيد وانص!!رف! من مكت!!بي أنت وزمالءك وهنا تح!!رك العم
س!!عيد خط!!وتين تج!!اه المكتب ،ثم رفع القض!!يب وخبط به خبطه قويه ف!!وق! المكتب
238
تن!!اثرت على أثرها األقالم الملونة ،وتس!!اقطت! الدوس!!يهات على األرض وتط!!ايرت
األوراق ،وقال بصوت غاضب للمدير الذي انكمش فوق كرسيه
لن تخ!!رج ه!!ذه الم!!رة من ال!!بيت فحسب ..ولكن س!!تخرج من القرية كلها ..وال!!وقت -
المحدد لخروجك! هو اآلن ..والموت في انتظارك إذا كابرت
واتسعت حدقتا! عينيه خوفا! ودهشة وسألة بتلعثم :
هل تدرك مغبه عملك يا عم سعيد ؟ -
ورد عليه بسخرية :
أنا أدرك هذا ولكنك ال تدرك مغبة مماطلتك! أنت في الذهاب -
ثم تق!!دم الى الم!!دير وهو ج!!الس على كرس!!يه وص!!فعه على وجهه ،ثم أمسك بتالبيبه
وأوقفه على قدميه ..وهمس في أذنه :
اخرج اآلن فالسيارة التي ستنقلك إلى حيث جئت في انتظارك! ورد المدير وهو يرتعد -
:
ولكن أرجو أن تمهلني حتى أنقل جميع أثاثي من البيت -
فقال له العم سعيد ساخرا :
لن تأخذ شيئا من هنا ..لقد اشتريت كل محتاجاتك! من دمنا وعرقنا ..وستخرج ناجيا -
بنفسك واندفع يجره من تالبيبه وهو يسير خلفه كالشاة واألص!!وات! الث!!ائرة تتفرقع في
أذنيه كالرعد وعيناه زائغتان وأعصابه تالفة ،وفجأة وجد نفسه أم!!ام الس!يارة الكب!!يرة
ال!!!تي تحمل القمامة كل ي!!!وم ..ف!!!زاد ذع!!!ره والتفت إلى العم س!!!عيد وهمس في أذنه
متوسال :
ليس من المعقول أن أعود إلى الوزارة بهذه السيارة ،ولكن العم س!!عيد دفعه بق!!وة إلى -
ظهر السيارة الكبيرة وهو يقول له :
مكانك هنا يا سيادة المدير ..بجانب الق!!اذورات ،وقفز الس!!ائق إلى عجلة القي!!ادة ينفخ -
فيها حرارة الحركة ..وألول م!!رة ت!!رى القرية الهادئة رجالها يس!!يرون خلف س!!يارة
كبيرة ،وفيها رجل وسيم وقد تلطخ وجهه بالقاذورات! ..والرجال يزفونه بسيل كبير
من الشتائم ويرمونه بالحج!ارة والق!اذورات! ،وغ!ابت الس!يارة الكب!يرة عن األبص!ار
1
تدب فوق الرمال بإعياء شديد "
وفي قصة ( أم صلوح ) تظل هذه الغاية أنشودتها ال!!تي ترددها على مس!!امع كل جيل
يمر بها ،فنسمعها! بعد أن أفضى! إليها كل الشباب بأحالمهم الصغيرة ،تحثهم قائلة :
" -كنت أظنكم أرفع تفك!!!يرا من ه!!!ذا ،وأن أه!!!دافكم! أس!!!مى و أنبل من كل ه!!!ذه
التراه!!ات ..كنت أظن ه!!ذه األوراق! البيض!!اء ال!!تي تحملونها كش!!هادات هي نتيجة
لكف!!اح طويل مرير ،ص!!قل أذه!!انكم و أش!!عركم! ب!!واقعكم المكبل ،وكنت أريد واح!!دا
منكم ينظر إلى وراء هذه األحالم بمنظ!!ار التف!!اؤل ،ال أن تثبت دع!!ائم أدران التواكل
والضعف ،كنت أريد واحدا منكم يمسح عني آيات الشقاء ..وذلك بالتفكير في حالتي
التعيسة ..وما حالتي هذه يا أوالدي إال جزء بس!!يط من ش!قاء اآلالف من ب!ني وطنكم!
الذين يعيشون كل يوم ..بل كل دقيقة على أعصابهم! ..البد أن تكونوا! القدوة الحس!!نة
1علي باذيب ( ممنوعـ الدخول ) مؤسسة الصبان /عدن 1968م ،ص113
239
التي تبصر عامة الناس بمصدر ألمهم وتعاستهم! ،لقد كان آب!!اؤكم! خ!!ير منكم فب!!الرغم
من جهلهم المطبق ،إال أن وطنيتهم! كانت دوما أنظف من وطنية الكثيرين الزائفة في
ه!!ذه األي!!ام " " ....ك!!انت وطنية آب!!ائكم وطنية أنظف من وط!!نيتكم! ،ألنها ك!!انت
إيجابية صرفة ،كان ردهم على كل مش!!روع س!!ريعا! وبطريقة قوية ت!!رده ناكسا على
عقبيه " " ....واليوم! وأنا أسمع المشاريع التي تضع حدا ألمني!!اتكم! القومية والوطنية
تنفذ بسهولة ،وال نسمع شيئا ممن يدعون الوطنية سوى كتابة العرضحاالت المطولة
،ورفع االنكس!!!ارات العدي!!!دة من على الص!!!حف ..ه!!!ذه أم!!!انيكم ال!!!تي تبعث على
الس!!!خرية ،وإنكم تتش!!!بثون بالقش!!!ور! وتهمل!!!ون اللب ،وأما أمني!!!تي أنا فهي أن أجد
وض!!عا! آخر غ!!ير ه!!ذا يكفل لي وألمث!!الي من المع!!وزين الض!!مان المعيشي وال!!رقي!
1
االجتماعي وحرية الكلمة ،وتصفية تربتي! من كل معتد أثيم
وفي قصة ( اإلنذار المم!!زق ) تتجلى ه!!ذه الغاية في موقف ش!!يخ القرية ال!!ذي رفض
الحماية وم!!زق ان!!ذار المس!!تعمر! في وجهة رس!!وله ال!!ذي ج!!اء يحمل إن!!ذار الحكومة
المهدد للقرية بالدمار والهالك إن لم تخضع لقبول الحماية ثم أعاده اليه ممزقة ،وقال
2
له " :بصوت يخنقه الغيض نحن في االنتظار للترحيب بكم
( وفي! قصة ثالثة أي!!!ام في الس!!!جن ) نلتقي ه!!!ذه الغاية عند نهايتها ال!!!تي تظهر فيها
شخص!!ية العمل – بعد أن ع!!انت من فق!!دانها الق!!درة على اإلب!!داع نتيجة لش!!عورها
باألسر وتكبيل الحرية – غ!!ير آس!!فة على س!!قوط القلم من ي!!دها وتحطمه تحت ق!!دمي
الجن!!دي الغليظ!!تين ،ذاك أنها قد أيقنت أن القلم لن يس!!تطيع اآلن أن يعمل ش!!يئا مهما
ب!!رع ،ومهما بلغت كلماته من الق!!وة والش!!دة ،نس!!معها تق!!ول " :وع!!دت إلى فراشي!
يائسا قنوطا ،وفيما كان ج!!ذعي يته!!اوى! على الف!!راش إذ ت!!رامى إلى س!!معي ص!!وت
انفجار قوي ألجم لس!!اني أتت به الري!!اح من مك!!ان ليس ببعيد عن منزلنا ،وهنا أيقنت
3
بأن ذلك أبلغ من القلم وأقوى! من الكلمة ..ونمت ليلتها نوما عميقا "
وفي قصة ( ناصر! ) تتجلى ه!!!ذه الغاية عند نقطة نهايتها حينما أطلق بإص!!!رار على
وليده اسم ( ناصر! ) ،فأحمد الذي خرج ليحضر طبيبا لزوجته التي ك!انت تع!اني من
اآلم المخاض ،خ!!رج في وقت ك!!انت الس!!لطات البريطانية قد أعلنت حظر التج!!ول ،
مما تسبب في القبض عليه وإخضاعه لتحقيق طويل ،وحينما عاد إلى منزله ،ك!!انت
الس!!!اعات ..قد فعلت فعلها في غيابه ،فما إن وصل إلى بيته ح!!!تى انفجر كل من فيه
قائال :
-لقد ماتت زوجتك!
وكاد أن يغمى عليه لدى سماعه ذلك الخبر ،ل!!وال أن ت!!رامى إلى س!!معه ص!!وت وليد
شق س!!كون ذلك الليل وب!!دد وحش!!ته ،ص!!وت الهب األمل فيه و أع!!اد إليه ص!!وابه ،
صوت أعاد إليه روحه ،ودلف يركض إلى وليده وصوت! أمه الباكي يردد وراءه :
-ماذا نسميه يا أحمد ؟
1محمد أحمد عبد الولى (االرض ياسلمى) دار االداب /بيروت 1966،م ،ص17
2أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجع سابق ،ص45
3المرجع السابق ،ص16
240
وهتف أحمد في صوت مشبع باألمل و الحب ..والقوة ..ويداه تحتضنان وليده :
1
-نسميه ناصر ..ناصر ..يا أماه "
وفي قصة ( الهدية ) تتحقق ه!!!!ذه الغاية في نج!!!!اح تحريك الجم!!!!وع وحشد طاقاتها!
لمقاطعة االنتخابات التي غدت مفرغة من مضمونها في ظل نظام اس!!تعماري! مس!!تبد
،ف " ما إن أشرقت ش!!مس ص!!باح الي!!وم الث!!اني ح!!تى امتألت ش!!وارع المدينة بع!!دد
كبير من السيارات ،أخذت ترسل من مكبرات الصوت التي تحملها هتاف!!ات عدي!!ده ،
ترفع أناسا وتضع آخ!!رين ،تش!!يد بفالن وتستص!!رخ! الن!!اس أن ينتخب!!وه ،وتس!!وق!
س!!يارات أخ!!رى أناسا يقبض!!ون بعد اإلدالء بأص!!واتهم ثمن ما أدل!!وا به ،وفي خضم
الزحام ب!!رزت س!!يارة المقاطعة وقد! احتشد على س!!طحها الواسع محمد ورفاقه ال!!ذين
أخذو يهتفون لمقاطعة االنتخاب!!ات ،وحث الن!!اس على ع!!دم اإلدالء بأص!!واتهم ،ومع
بروز سيارة المقاطعة احتدمت الهتافات بين مؤيدي! االنتخابات ومعارضيها ،وألهب
محمد بصوته القوي حماس كثير من الناس الذين اجتمعوا حول الفريقين ،وقد! أخ!!ذوا
2
يهتفون خلف محمد بهتافات معادية لالنتخابات "
أما عن معالجات الموض!!وع االجتم!!اعي ال!!تي تمثلت ه!!ذه الغاية ،فهي قليلة بالقي!!اس
إلى تلك التي تمثلتها معالجات الموضوع السياسي ،وربما يرجع الس!!بب في ذلك إلى
طبيعة فكر المرحلة التي تغلب عليها الطابع السياسي! ،ومن التجارب ذات المضمون
االجتم!!!اعي ال!!!تي تمثلت ه!!!ذه الغاية :قصة ( تاكسي لمن ج!!!اء تع!!!بر ) حيث ينهي
( أحمد شخصية القصة ) صراعة مع نفسه ومع الع!!اهرة ال!!تي اس!!تبدلته ب!!آخر ،ب!!أن
هدم باب الوكر الخشبي على رأسها ،وانطلق! يبحث لحياته عن حل آخر ،وفيها نقرأ
" :ورفض أن ينهي حياته بيديه عندما بدأت ال!!دماء تتص!!اعد من مرق!!دها الب!!ارد إلى
كل شريان من جسمه لتشعره بالثورة ولتحفزه بأن ال يستسلم ..
وبعد خروجه ..وبحركة عنيفة أوصد! باب الوكر الخش!!بي الص!!غير فته!!دمت فردت!!اه
ووقعتا! على رأسها ،وخرت صريعه تتلوى من األلم .
3
وتركها وخرج يمشي في الشارع الطويل الممتد عساه أن يجد لنفسه حال "
وقصة ( الم!!بروك! ) حيث يواجه س!!عيد خ!!وف القرية ال!!تي هج!!رت مس!!اكنها! بفعل
جريء يقطع خالله الشك باليقين ،ويضع حدا لتمادي الخداع واستغالل جهل األهالي
وإيمانهم بالخرافات ،فقد قرر س!!عيد أن يع!!ود إلى بيته في القرية ليكشف لهم زيف ما
يتوهمون ،وبالفعل ذهب إلى هن!!اك واس!!تعد للم!!بيت ،لكن -فج!!اءة -وبعد أن أس!!لم
جفنيه للنوم هب مذعورا " إذ أحس بجلبة كب!!يرة داخل ال!!بيت ،وك!!أن زل!!زاال ألم به ،
فاألواني! تتقاذف فيه ،واألحجار! تتخطى! النوافذ! لتستقر على رأسه ،وما إن رفع يديه
الى رأسه حتى أعادها وهي مخضبه بالدماء ،فادفع في رعب إلى الباب ليفتحه ح!!تى
أحس بيد س!!!وداء تنقض على رأسه وتوس!!!عه لكما ،وآلمه الض!!!رب وك!!!اد أن يفقد
صوابه ،ولكنه أحس وكأن عصا غليظة تلوح أم!!ام ناظريه ،ف!!انقض فج!!أة على ذلك
241
الشبح األسود! الذي أمامه و أنشب أظ!!افره في عنقه دون أن يعي ش!!يئا ،وهاله الش!!بح
المخيف المنتصب أمامه فانتفض رعبا وتراجع إلى الخلف قليال ،ولكن العصا كادت
تهوى على رأسه ،فأستجمع شجاعته وشدد! الخن!!اق ح!!ول رقبة ذلك الش!!بح ،ثم لكمه
لكمة قوية أطاحت بالعصا من يده وانطرح بعدها الشبح على األرض .
وهنا تعجب الشاب عندما الحت له أصابعه وقد صبغت بلون أسود ،ولكن دهش!!ته لم
تدم طويال وذلك عندما اتجه ببصرة إلى عنق ذلك الشبح ،وقد! ظه!!رت آث!!ار أص!!ابعه
على رقبته بيضاء من غير سوء ،فعرف! سعيد بأن ذلك الش!!بح لم يكن س!!وى ش!!خص
طلى جس!!مه األبيض بس!!ائل أس!!ود ،واس!!تراح الكتش!!افه الحقيقة ،وبعد أن اس!!تعاد
أنفاسه عاد إلى ذلك الجسم الملقى ،و تنتشله عن األرض وه!!وى! عليه يش!!بعه بقبضه
ي!!!ده القوية لكما قويا إلى أن ته!!!اوى ذلك الش!!!خص من ش!!!دة اإلعي!!!اء ،وهنا س!!!حبه
ليتفرس فيه على ضوء المصباح ،وهاله ما رأى ،فلم يكن ذلك الشخص ال!!ذي أمامه
إال الم!!بروك! وقد! طلى جس!!مه األبيض بالس!!واد! ،كما ارت!!دى ثيابا س!!وداء جعلت منه
1
شبحا مخيفا في ظلمة الليل "
]3أعمال تسعى إلى غاية تفعيل الوعي الــرافض ،وهي أعمــال أثبتت وجوده ـاـ في
زمن ما بعد 1962م و1967م ،غير أن أحداثها تجريـ كلها في زمن مـا قبـل هـذين
التاريخين ،وهي أعمال يحركها قلق النكوص والعودة بحركة الزمن نحـو الـوراء ،
وهو قلق له ما يبرره ،إذ تعرضت الثورة اليمنية في الشــمال والجنــوبـ إلى أخطــار
كثيرة ،كان أولها خطـر مـؤازرة األنظمـة الرجعيـة في المنطقـة -الـتي يقلقهـا قيـام
نظام جمهوريـ في هذا الجزء من الجزيرة العربية -للقوى الملكية كي تســتردـ نظــام
الحكم الذي انتزع منها .
وبنا ًء على ذلك اتجه هذا النوع من األعمال إلى ذلك الزمن البائد يعرض ما كان من
معاناة الشعب اليمني على جميع المسـتوياتـ االجتماعيـة والسياســية واالقتصــادية ،
بهــدف الحفــاظ على جــذوة الــوعي الــرافض ،وهــو الــوعي الــذي أدى تراكمــه إلى
انفجار الثورة ،وتعزيزـ القناعــة بــالثورة من خالل ســوق صــور المعانــاة الــتي كــان
يضــطرب فيهــا اإلنســان اليمــني في ظالل األنظمــة االســتبدادية .وبدايــة بروايــة
( صــنعاء مدينـة مفتوحــة ) -وهي الروايــة الــتي تم اختيارهـا لتمثيــل هـذا النــوع من
الغايات باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية -فهي تسعى إلى غايتها التغييرية
باالستناد إلى واقع ما قبل الثورة ،وتسليط الضوء على جوانب المعاناة فيه باعتباره
دليالً مرجعياًـ على حقيقية التجربــة يمنح غايــة الروايــة مصــداقيتهاـ ،وتصــوير هــذه
المعاناة من زواياها المختلفة السياسية واالجتماعية واإلنســانية ،في رســالة مفادهــا
أن بلوغ تلك األوضاع ذلك الحد الموغل في مأســاويته لم يكن أالَّ بســبب االســتمرار
في خداع الوعي ،وإقناعه بشعور وهمي من الرضى والقبول ،وهو الشــعور الــذي
أدى إلى حالة من االستسالمـ والتراخي أدت بــدورها إلى تمــادي الطغيــان ،وتمــادي
األوضاع الفاسدة وتفاقمـ المعاناة المترتبة عليها ،فاألوضاعـ السيئة ال تربــو وتســتمرـ
إالَّ في بيئة يشيع فيها الخضوع ويطغي عليها شعورـ االستسالمـ .يتحدث الشيخ الذي
242
التقى به البحار في صــحن المســجد في زبيــد فيقــول " :فــأنتمـ الشــباب ال تعرفــونـ
لحياتكم معنى ،لقد فقدتم أشياء كثيرة ،ألنكم فقدتم حريتكم ،يــا بــني لكي تتعلم البــد
أن تصبح حراً ،إنك لست حراً ،هناك جدار أسود كبير ،أهدم هذا الجدار ثم جئــني
1
وأنا أعلمك معنى الحياة "
ولأن هذه الرواية يحرك تجربتهاـ قلق العودة إلى الحال السابقة وتكرار المأساة ،فإن
معاناة الواقــع السياســي واالجتمــاعي واإلنســانيـ في زمن اإلمامــة لم تــرد فيهــا على
سبيل السرد التاريخيـ لمــا حصــل أو التســجيل لألحــداث والوقــائع المذكيــة لمشــاعر
الحزن واأللم ،وإنما وردت نموذجاًـ لواقع حقيقي عشناه ،يصلح مثاالً يمكن إسقاطه
على اللحظة التاريخية التي يعيشها أبناء اليمن في زمن إنشاء الروايــة وفيـ األزمنــة
بعــدها ،بــاألخص وأن التحــول الثــوريـ الــذي حــدث في اليمن لم يقابــل بمشــاعر
الرضى والترحــابـ من قبــل الجــيران والقــوى الرجعيــة في الــداخل ،الــتي نشــطت
جهودها محاولة إعادة عجلة الزمن وحركة التاريخ في اتجاه الوراء .
وعلى الرغم من أن غاية الرواية ال تتجاوزـ نقطة تفعيل الــوعي الــرافض ،إذ
هي لم تتضمن فعالً رافضا ً حقيقيا ً ملموسا ً وحاسما ً كذلك الفعل الذي نلتقيه في رواية
الرهينة ،حيث كان الهرب هو الفعل الــرافض الــذي حســم التجربــة ،وأنهى معانــاة
الرهينة ،فإنها لم تترك وسيلة إال واستعانت بها لبناء غايتها وتغذيتها بكل الحيثيــات
الالزمة ،كتسليط الضوء مركزاً على مناطق السواد والظلمة والعتمة في المجتمع ،
حــتى لم يــرد في الروايــة موقــفـ إال وانتمى إلى هــذه المنطقــة الحالكة ،وتجميــع
المواقف وشحذـ طاقتها الكامنة لتغذية هذه الغاية ،وحشد الوقائعـ الجزئيــة بتفاصــيلها
المتنوعة لتغطية مختلــف جوانبهـاـ وزواياهـاـ ،مؤكــدة بــذلك على أن تلــك األوضــاع
المأســاوية المحبطــة ،والــواردة مالمحهــا خالل المواق ـفـ والجزيئــات والتفاصــيل
المتضمنة في هذه الرواية ،لم يكن لها أن تنتهي لــوال أن تــوافر وعي حقيقي اسـتمر
تنامي رفضه حتى بلغ ذروته عند فعل االنتفاض ،وألجــل ذلــك يبــدأ كــاتب الروايــة
يشــق طريقــه إلى غايتــه من نقطــة تصــويب مفــاهيم الــرفض ،وتفعيــل مفهومــه
الصحيح ،الــذي يتســبب غيابــه أو تشوشــه في شــيوع حالــة من الغفلـة والالمبــاالة ،
يخاطب نعمان صديقه قائالً " :وال أطيل عليك فلقد وصــلت القريــة بعــد يــوم كامــل
من اإلرهاق ،آه كم أتمنى أن ال أتذكره ألنه يذكرنيـ بواقعي القذر الذي أعيش فيه ،
ويعيش فيه كل أبناء وطنيـ ،ولكن مالي وألبناء وطنيـ ...أنني أنا ؟؟ وأنــا فقــط من
2
أهتم به ".
فليس من الوعي الرافض أن نهرب من مشكالتنا ،يقول الصـنعانيـ " :خـرجت من
صنعاء يا بني وقد رسمت خطة أن أغادر هذه األرض ،وأشارـ بيــده يمين ـا ً ،وتلــك
هي الغلطــة األولى الــتي ارتكبتهـاـ ...مغــادرتيـ لتلــك األرض وأشــارـ إلى الشــمال ،
ألنني حسبت أنني أستطيع أن أنتقم حين أصل إلى هنا ،ومضــت بي الحيــاة ...كنت
أعمل من قبل لكي أنتقم ،أما اآلن فقد أنستني الحياة كل شيء ،وأصــبح لزام ـا ً علي
أن أنسي مأساتي ،ألنها بســيطة بالنســبة لآلخــرين " ، 3وهــذا محمــد مقبـل يحــدث
1محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص 62
2محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص 6
3المرجع السابق ،ص51
243
نعمــان وهــو يرافقــه في طريـقـ عودتــه إلى عــدن ،فيقــول " التنســوا أنتم ،إن هــذه
األرض لن تنفصـــل عنكم مهمـــا هـــربتم منهـــا ،إنهـــا جـــزء منكم تطـــاردكـم ،وال
تســتطيعون منهــا فكاك ـا ً ،أنتم يمــنيون في كــل أرض وتحت كــل ســماء ،لقــد كنت
مثلك ،أحاول أن أهرب من واقعيـ ،حملت السالح وقاتلت الناس ،ناس ال أعــرفهم
وال يعرفــونيـ ،ليس بيـني وبينهمـ عـداوة ...ولكـني قتلتهم ،قـاتلت مـع الإيطـاليين ،
وقاتلت ضدهم ،كنت أبيــع نفســي لمن يريــد شــراء أداة إلطالق الرصــاص ،وكنت
مستعداً أن أبيع نفسي للشيطان مادام سـيدفع ثمنـا ً مرتفعـا ً ،كـل ذلـك يـا نعمـان ألني
أردت أن أنسـى أنـني يمـني ،ولكن الحقيقـة هي أنـني كنت أعمـل على ذلـك ألنـني
يمني ،ألنني أريد أن أنتقم من الذين شردونيـ ومزقونيـ وسرقواـ أرضي ،أردت أن
أنتقم منهم ،ولكني أخطات الطريقـ ،أما اآلن فأنا أعرف الطريــق ولن أخطئ ،إن
ما يؤلمني حقا ً هو أنني أدركت الحقيقية متــأخراً ،لكــني أحمــل األمــل ،في أنكم أنتم
جيل هذا الوقت ستدركونـ الحقيقــة ســريعا ً عــد يــا نعمــان وال تهــرب ســوا ًء كنت في
1
عدن أو في التربة ،فأنت تمارس المأساة "
وليس من الــوعي الــرافض أن نتنصــل عن تحمــل المســؤولية الملقــاة على عاتقنــا ،
نســمع نعمــان يتحــدث عن علي الزغــير ،فيقــول " :وأخــبرني أنــه قــد زار خالل
رحالتــه معظم بالد العــالم ،ولكن الــذي عرفتــه منــه ،أنــه ال يعــرف من مشــكالنا
2
الوطنية شيئا ً ،يهربون ثم يأتون ليقولوا أنهم بكل بساطة ال يحبون اليمنيين "
وهذا صــاحب المقهى الحــاج علي يقــول " :إن االنســان ..وخاصــة من ذهبــوا إلى
الخارج يجدون هناك فرصا ً كثــيرة ،لكي يعملــوا ولكن انظــر إلى هــذا ،وإشــار الى
البحار ،إنه عــاد دون أن يفقــه شــيئا ً ...إن ذلــك يظهـرـ من أحاديثــه ...ومن تقاســيم
3
وجهه "
وليس منه أيضا ذلك الشعور الذي يضمخ أحاديثنا التنفيسية بــالمرارة الــتي نلوكهــا
في مقايلنــا مــع أوراقـ القــات ،نســمع الحــاج علي يــردد " :ليس بالشــعورـ وحــده
نستطيع أن نخلص بالدنا ،فأنا منذ عشرين عامــا أمتلــك هــذا المقهى ،ومــرت علي
الوجــوه الكثــيرة ،كلهــا كــانت تتحــدث أحيانـا ً ،وخاصــة عنــدما يــأكلون " القــات "
يتحــدثون يــا بــني عن الوطنيــة وعن بالدهم ..ولكــني لم أر واحــداً منهم يحــاول أن
يعمــل -فعالً -عمالً إيجابيــا ً لتحطيم الجمــود الــذي يســيطر على بالده ...نعم يــا
4
نعمان ،ليس شعورناـ بأن بالدنا مظلومة يكفي "
فمحاولة الخالص من نظام الإمامة ،ومن المعاناة االجتماعية والسياســية والإنســانية
التي تسببت بها ،لم تكن لتنتهي إال بذلك الوعي الرافض الذي رأينا نماذجــه مبثوثــة
هنا وهناك عبر مواقفـ مختلفة لأنـاس مختلفين ،وهـو الـوعي الـذي يحـرص كـاتب
هــذا العمــل على الحفــاظ عليــه مضــطرما ً من خالل تســليط الضــوء على أبــرز مــا
يستقطب شعورـ الرفض من مالمح الواقع ومعطياته ،فكان :
رفض الواقع التشطيري الذي نلمس انعكاس عذاباته على مجتمع العــاملين من أبنــاء )1
الشمال في عدن والذين يشعرون بحقارة العمل الذي يقومون به ،وضياع حقوقهم ،
1المرجع نفسه ،ص83
2نفسه ،ص 53،54
3نفسه ،ص55
4محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ،ص 54
244
بل وضــياعـ الهــدف من وجــودهم ،وهــذا الصــنعاني يحــاور نعمــان الــذي عــبر عن
انسراب الشعور بالهامشية والدونية إلى نفسه ،فيقول -" :من قال أنــه ليس لحياتــك
هدف ،إنك تعمل لتأكل وترسلـ نقودا لأهلك ،ثم تتمتع إن شئت
هل هذا هو هدف مشرف أن أعمل آلكل وأعمل لأطعم الآخرين ،إن المشكلة ليست -
1
بسيطة ولكنهاـ تبدو لك أنت كذلك "
وعلى الأســر في مجتمــع الريــف ،حيث نشــعر -رغم قــرب المســافة -بــذلك البعــد
النفسي الشاسع بين قرية في الشمال وعــدن كمدينـة جنوبيــة ،نلمســه في اسـتعدادات
السفر ،وفي مرافقة المودعين حتى المناطق الحدودية ،ونلمسه في عذابات أب وأم
يشعران بغياب ولديهما وما يستتبع هذا الغياب من تقصــيرـ وتخـل ،ينقــل لنــا نعمــان
جانبــا من حــوار دار بين والديــه - " :ال فائــدة منهم ،إن طلعــوا رجــال فليفيــدواـ
أنفسهم ،أما أنا فسأموت غداً ...وال أحد سيذكرني ،وأرى أن موتي أمر محقــق إن
اســتمرت الحــال على مــا هي عليــه ،وأجابتــه أمي والدموع تتســاقطـ من عينيهــا
2
الكفيفتين قائلة له :هللا ! ....وال كأنهم يعرفونناـ "
وعلى العائــــدين الــــذين يتلقفهم عســــكر الجمــــرك باالســــتهزاء والســــخرية ،فهم
المزفرون ،والذين يخشى منهم على عرش موالنا الإمام كما يقول العسكري ،نقــرأ
على لسان نعمان " :وصلت الراهدة ،ووقفـ على أبواب الجمــرك بعض الجنــود ،
وقــال أحــدهم " :مــاه ...أنتم مزفــرين ؟ وأجبتــه دون أن أحــاول النظــر إليــه :نحن
عمال ،كنا ضد االستعمار ،وقهقه البغي " :عا تعملوا إضراب ضــد موالنــا ...عا
يوديكم حجة " ، 3ولذلك وجب توقيفهم وتفتيشهم يتحدث محمد مقبل عن تجربته مــع
عسكر الجمرك فيقول ":كنت قد تركت السيارة في سوق الســبت ،بعــد أن عجــزت
عن مواصلة السير حتى المفاليس لوجودـ سيل قويـ في ذلــك اليــوم ،كنت أحمــل في
يدي مالبس قليلة وإبريق شاي كنت قد أخذتــه من عــدن كهديــة لــك ،وحين وصــلت
إلى المفاليس قابلنيـ هذا العسكري وسألني :هل أتيت من عدن ؟ وهززت رأسي إذ
أنــني كنت في غايــة التعب ،وحين أدرك ذلــك تقــدم مــني وطلب أن يفتشــني لأدفــع
الضريبة على ما أحمله ،وشرحتـ له أنني ال أحمل سوى مالبســي وذلــك الإبريــق ،
ولكنه رفض إال أن يفتشني ،وبدوري رفضــت أن أســمح لــه ،ونــادى على زمالئــه
العساكر حيث قادوني إلى بيت رئيس الجمرك فوقـ الجبل ،وكنت متعبا ً جداً ،حــتى
أنني عندما وصلت هناك كنت أشعر بأنه سيغمى علي ،ووقفنا أمــام رئيس الجمــرك
الذي كان متكئا ً يمضغ قاته وأمامه "مداعة " كبيرة مزينة بأنواع من الرسوم ونظــر
إلي باحتقار ،وأشار بيده إلى العسكريـ كأنه يسأل عن قضيتيـ ،وأخبره بما حدث ،
فنظر إلي مرة أخرى ثم قال من وراء ( القات ) المحشو في فمه
لماذا ال تدفع له ؟ -
أجبته ،ولماذاـ ادفع له ؟ -
وركز عينيه في وجهي وأعاد نفس نظرة االحتقــار ،وأحسســت بالكراهيــة تملأني ،
وكدت أبصق في وجهه لوال أن العسكريـ كان واقفا ً خلفي .
245
من أين أتيت ؟ -
من عدن -
ماذا تحمل ؟ -
وأشرت إلى ما في يدي من أشياء . -
أال تحمل غيرها ؟ -
كال ... -
لماذا ؟ -
وبحركة احتقار أجبته : -
لأنني فقير مشرد . -
وابتسم ابتسامة نصر ،وهز رأسه وهو يقول :إنكم دائما ً تدعون الفقــر ....مــع أنكم -
تملكــون مــال قــارون ،وأجبتــه نعم نحن لســنا فقــراء بــل أغنيــاء ،ولكن الآخــرين
والآخرين دائما ً يسرقونناـ بأسماء كثيرة ،ولكنه قاطعني بأن أشار إلى العســكريـ أن
يفتشني ،ولما لم يجد شيئا ً نفخ مأمور الجمرك الدخان من فمه بقوة ثم أشار إلينا أن
ننصرف إال أن العسكري أوقفنيـ قائالً أمام المأمور :
حق العكفة يا خبير " ...الأجرة " -
واستعذت باهلل في ذلك الوقت ،نهرب من الشيطان يظهـرـ لنــا عفــريت ،ولم أجاوبــه -
لكنه وبكل بساطة شدني و المأمور يتفرج على ذلك ،ولكــني أيض ـا ً أصــررت أن ال
أدفع للعسكري أي شيء وتدخل المأمور ،و أمر أن أدفع للعسكري وابتســمتـ لكــني
في الحقيقة كنت أتمزق غيظا َ ،ونظرتـ إلى المأمورـ ،وصحت فيه :لماذا أدفع له ؟
إنني لم أقل لـه أن يـأتي بي إلى هنــا ،وقـد أخبرتــه من البدايـة أنـني ال أملــك شـيئا ً ،
ولكنه رفض وقادنيـ إلى هنا ،أتعبــني وأتعب نفســه ،إن من حقي أنــا أن أطلب بـأن
يدفع لي ثمن تعبي ،ال أن أدفع له أنا ثمن تعبي وتعبه ،ولكنه قاطعنيـ صائحا ً :
يا عسكري خذ الإبريق منه . -
وبوحشية انتزع العسكري الإبريق من يدي ومضى . -
وخرجت من بيت المــأمور وأنــا ألعن الإبريــق والعــالمـ والحكومــة وكــل شــيء حــتى
نفسي ،لكني حين وصلت الجمرك ،رأيت عدداً من العسكر يضربون أحد الفالحين
،كــان قــد رفض أن يعيطهمـ أجــرتهم ،وحمــدت هللا على أن قضــيتي لم تصــل إلى
الضرب ،وهكذا تركونيـ خاليا ً ولــولم يكن في يــدي الإبريــق النــتزعوا مالبسـيـ من
1
يدي ،بل ال أستغرب ان يتنزعوا مالبسي هذه التي ألبسها ".
رفض غياب الدولة وإهمالها للخدمات والمنافع العمومية : )1
يحدثنا نعمان " :ولم نجد سيارة في المفاليس وكان علينا أما أن ننتظـرـ إلى أن تــأتي
إحدى الســيارات ،أو أن نتــابع ســيرنا حــتى ( ســوقـ الســبت ) لعلنــا نجــدها هنــاك ،
ولكني شعرت أن محمد مقبل ال يستطيعـ مواصلة السير فانتظرنا ،وكان محمد مقبل
ينظر إلى الجمرك ،ثم يبتسم ويعلقـ ســاخراً " إنهــا زريبــة حيوانــات ،ثم يشــير الى
2
الحمير الواقفة أمام الجمرك ،ويقول انظر ،إنها إكسبرس اليمن السريع "
1محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص 35 -33
2المرجع السابق ص 33
246
ويصف ما رآه " :ورأيت في الــوادي ســيارة حمــول كبــيرة انقلبت وغــاص الجــزء
الأمــامي منهــا في رمــال الــوادي وطينـه وأصــبح انتشــالها أمــراً صــعبا ً لعــدم وجــود
رافعــات في بالدنــا كلهــا ،ال في الــوادي وحــده ،وإخراجهــا الآن يحتــاج إلى أيــدي
1
عاملة كثيرة ،وصاحب السيارة ال يملك أجراً يدفعه لهذه الأيادي "
وليست المشكلة في سـقوط المطـر وإنمـا في أمـر أكـبر منـه بكثـير ،أمـر يلمح إليـه
محمد مقبل ويفهم حقيقته نعمان الذي يحـدثنا قــائالً " :وتـابعت المســير أنـا ومحمـدـ
مقبل لنصل إلى المفاليس لعلنــا نجــد ســيارة مســافرة إلى عــدن ،وكــان محمــد مقبــل
صامتا ً طول الطريق ينظر إلى المياه ،ثم إلى الأرض والســماء ،ويتمتمـ بكلمــات ثم
يسكت ،وتابعت تمتمته حتى أدركت أنه يقـول " :إلى مــتى هــذا العــذاب يا رب ؟ ،
ولم يكن يعني بالعذاب نزول االمطــار ولكنــه كــان يعــني العــذاب الكبــير الــذي كــان
2
السبب الأول لشقائنا "
ج) رفض المنطــق السياســي البليــد الــذي يحــرم العســكر حقــوقهم ،ويســلطهمـ على
البسطاء من الفالحين كي ينالوا هذه الحقوق منهم ،خالقا ً بذلك فجوة نفســية وشــرخاًـ
عميقا ً بين العسكري الذي يستحق العطف والرثاء والمواطن البسيط الــذي ليس بيــده
حول وال قوة ،نسمع نعمان يقول ":وهز محمد مقبل رأسه وهو ينظر إلى العســكر
بمالبسهم المتباينة وفـوطهم الممزقـة والبنـادقـ القديمـة المصدأة ،والعمـائمـ البيضـاء
والسوداء الممزقة والمبللة والأحذية والأقدام العارية الـتي يسـيرون بهــا ،هــز رأســه
ســاخراً :جيش ! جيش بالدنــا الــذي يــدافع عن حــدودناـ ،قالهــا متهكم ـا ً ،وأردف .
نعم ،لهم الحق في أن يعـاملواـ الشـعب هكــذا لأنهم ال يجــدون شــيئا ً وعلى كــل واحـد
3
منهم أن يضمن لنفسه راتبه ،ويبحث عن لقمة عيشه "
د) رفض التفاوت الطبقي بين أبنــاء الــوطن الواحــد ،يحــدثنا البحــار على الزغــير ،
فيقـــول ":وجلســـت يـــا أصـــدقاء على بـــاب المدينـــة بعيـــداً عن كـــل شـــيء ،عن
الضوضاء ،والحريقـ والصراخ ،كان كل شيء يحــترقـ ،وكــان الجميــع ينظــرون
هــل في اســتطاعتهم أن يعملــوا شــيء لوقــف الحريــق ،ويهــز معظمهمـ رؤوســهم
قائلين ...كال ...ال أمل ،ولكن أتحترق المدينــة كلهــا ؟ فتعــود الــرؤوسـ تهــتز مــرة
أخرى " :من قال ذلك ! إن الذي يحترقـ دائما ً هو ملك الفقــراء ،أمــا ملــك الأغنيــاء
فال يحترقـ " ،وأهز رأسيـ " :إنها دائما ً نفس القصة الأغنياء ،والفقــراء ،ويرتفــع
اللهب ،ويلتهمـ عششا ً أخرى ..ويتصارع الأطفال والنساء ،إن كل ما كانوا يملكونه
يحترق الآن ،حتى الأمل ،ويمضيـ اللهب ،ولكنه يــا أصــدقاء ال يقــترب إلى القســم
الآخر من المدينة ،وكأن هللا قد حصن ذلك القسم بقوة غيبية ،لكن العشش تحترق ،
4
وتحترقـ "
هـ ) رفض الغرق واالنجرافـ مع حالة الضياع والتبدد ،فهذا نعمان يصد محاوالت
الصنعاني الغارق في ضياعه استقطابه إلى حالتــه الماضــية مــع الضــياع والتبــدد ،
فيقول - " :ال تحاول يــا عزيــزي أن تــدفعني ،فـإنني حقـا ً أشــعر أن هنــاك تغــيراً ،
فساعدني على أن أتغير ،ال على أن استمر في الماضي التافه " " ......وحاولت أن
1المرجع نفسه ص 31
2نفسه ص 32
3نفسه ص 35
4محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص 67
247
أعرف هــل أجــد حقيقــتي في هــذه الحانــة وسـطـ هــؤالء النــاس والــدخان والكــؤوسـ
1
" "......لماذا ال نفكر أن استمرار حياتنا بدون هدف ال جدوى منه "
و ) رفض قتــل أحالم البســطاء ،يحــدثنا الصــنعانيـ عن حياتــه بعــد مــا حــل بهــا ،
فيقول " :إن حياتنا ليس فيها أي تشوق ،لأنها مثل حياة كل يمني ،ولكني أكرهها ،
ونظر إلي هذه المرة بحقــد ،وتفتحت عينــاه الصــغيرتان :نعم يــا بــني ،إن الإنســان
حين يكره شيئا ً ما كراهية مطلقــة ،يكــره نفســه أيضـا ً ،حــاولت أن أنتقم لنفســي من
الذين صنعواـ مأساتنا كلنا ،ولكني لم أستطيع إال أن أنتقم من نفسي ،لأني فكرت في
أن أعمل وحدي ....وأنتقم وحدي ،ليس هنا قوة -و ضــرب المائــدة بيديــه -ســوى
2
قوة الجوع ،وأنا وأنت واآلخرين ،ومن المؤسف أن أدرك ذلك مؤخراًـ "
ز) رفض الوضع البائس للمرأة ودورـة حياتها المتكررة في الريف ،يحــدثنا نعمــان
عن زوجته ( هند ) فيقول " :يا صديقي ،إنني تائه ،ال أدري ما الــذي أعملــه ،إن
زوجتي ليست في جمــال فتــاة الجبــل الســمراء ،ولكنهـاـ بســكوتهاـ وحزنهـاـ الــدفين ،
وبوجههـا الأصــفر الضــعيفـ تقلب حيــاتي رأسـا ً على عقب ،إنــني أعــرف أن حبنــا
القديم لن يعود إلى الحياة ،لأنـه مـات بعـد زواجنـاـ ،لأنـه كــان مجـرد رغبــة عـابرة
وانتهت ،ان الزواج والحب في بالدنا ليسا ســوىـ مجــرد لعبـة الرجــل بــالمرأة الــتي
ليست سوى خادمة للأرض والبيت والزوج ،إنها مجرد زهرة تتفتح قليالً ثم تموت
حين ينهكها العمل ،وكذلك هي زوجتيـ ،كانت ناضرة كزهرة فأصبحت ال آن عوداً
يابسـا ً ،وأصــبحت رغم أنهــا لم تتجــاوز الخامســة والعشــرين عجــوزاً ،كأنهــا على
3
أبواب قبرهاـ ،إنها منهكة مريضة "
ص) رفض واقع الموت الذي تمتد يده الغليظة لتسلب الحياة ممن يحبها ،فهند الــتي
كانت إما ً حتى للحجارة ،والتي لم ينتظر منها نعمــان أن تمــوت ،فقــد كــانت تعمــل
في اليوم أكثر من عشرين ساعة فال تتــأثر وال تشــكو ،كــانت تعمــل في الــبيت وفي
4
الحقل وفي كل مكان "
إنها تتحمل كل شيء من أجل سعادة الآخــرين ،وكــانت صــموته ال تتحــدث كثــيراً ،
ولكنها تبتسم ،وال تتـألم وال تشـكو ،كـانت في المـنزل ،وكأنهـاـ ليسـت موجـودة ،
دون صوت ،دون ضجة ،حــتى عنــدما نخلــو كــانت هادئــة دائمـا ً " ".........كــانت
تعمــل في صــمت وتنــام في صــمت وتبتســم في صــمت ،كــانت مثــل أرضــنا شــابة
وخطها الشيب سريعا ً ولكنها تعمل في هدوء وصــمت وال تتــألم وال تشــكوـ ،ولكنهــا
5
تبتسم وتنتج بال توقف وبال امتنان "
قد قتلها الجوع ووقعت صريعة للموت كما وقعت األرض صريعة لقوى الطبيعــة "
فهل أدركت هند أن دورها هي أيضا ً مع األرض ،البد أنها ظنت ذلــك ،فــذهبت يــا
للمأساة ،ستعود الأرض غــداً ،ســتنتج من جديــد ،ولكن هــل سـتعودـ هنـد ،البــد أن
248
تعود " ، 1لكن هند وهي تموت " كانت تقوم حتى أثناء موتها بعملية خلق كعملياتهاـ
2
الخالقة طوال حياتها "
ومع أن الكاتب يتجاوز برفضه -عنــد هــذه النقطــة -حــدود الــوعي ،حين يــرفض
األقدار ويتساءل أسئلة يتمادى فيها إلى حدود غير مقبولة " ،3فإنه في الحقيقة -يلقي
بكامل لومه على األوضاعـ السياسـية الــتي تســببت في الفقـر والجـوع والقحــط الـذي
أودى بحياة هند .
وأما نقطته التي انتهى إليها من عمله ،فقد تشكلت -مع تبــني هــذه الروايــة -غايتهــا
من تفعيل الــوعي الــرافض في كــل تفصــيالتها ،حــتى امتــدت غايــة مضــمنة داخــل
السياق الروائي في كليته – نقطة قوية أعملت عملهـا في إضـرامـ وعي الـرفض ،إذ
ينبت قرار العودة ورفض الهروب عبر مساحات الحلم الذي غرق فيه بطل الروايــة
عند نهايته المستسلمة إلى السقوط والــذهاب في غيبوبـة هي أشــبه بغيبوبـة المــوت ،
فهذه النهاية الهروبية كانت النقطة الأقوىـ في الرسالة التي تقدمها الروايــة ،فهــؤالء
الذين ينفقون عمرهم في المغالطة والثرثرة والالمباالة والتهرب والتنصــل يفشــلون
في آخر الأمر في مقاومة ضعفهم ،وهم يموتون عند نهايتهمـ ،غير أن نهــايتهم تلــك
تتشكل ضياعا ً مضاعفا ً ،وهذا نعمان ينتهي من تجربته نهاية هي أقرب الى غيبوبــة
الموت ،وهو في حالة المغيبة يحاول أن يحقق ما لم يسـتطع تحقيقـه أثنــاء حضــوره
الواعي ،وها هو يحلق بخياالت العودة إلى الشمال مع الصنعاني " :كانت الســيارة
تقطــع الطري ـقـ إلى الراهــدة وقــد تمــدد عليهــا الصــنعانيـ ،وكنت أنظــر إلى جبــال
الشمال وفيـ قلبي أغنية عذبة ،اليهم سأعود مرة أخرى إلى عدن ويبتسم الصــنعاني
....
ماه يا نعمان ....شنعاودـ ال صنعاء ؟ -
نعم يا عزيزي سنعود إلى صنعاء . -
ماه شايقولوا علينا ....مزفرين ؟ -
4
دعهم يا عزيزي يقولون ما يشاؤون ،لقد قمنا بقليل من واجبنا " -
فكأنمــا بكــاتب هــذا العمــل قــد أراد أن يقــول ،إن العمــر ال يســعف وال يجب تبديــد
أوقاته ،فما يمكن حصوله اليوم قد ال يمكن حصوله في الغــد ،ومن لم يهتـد ويصـل
إلى وعيه المطلوب في الوقت المناسب ،فقد فوت على نفسه فرصة ثمينة ،قد ينــدم
عليهــا ويــذهب باحث ـا ً عن تعويضــها في مســاحات الــوهم ،كمــا فعل نعمــان بطــل
الرواية ،لكن الحقيقة أن ال فائدة ترجى من وعي يحدث في غير أوانه ،وفي وقت
نصبح فيه فاقدي القدرة على التفاعل والتجاوب .
واالمر ال يقتصر في هذا العمل على هذا المستوى من التعبير الضمني ،وإنما يمتــد
الى مســتوى آخــر من التعبــيرـ فيــه يتم الإعالن صــراحة وبشــكل مباشــر عن غايــة
الرواية وفيـ أكثر من موضع ،منها :
249
)1دعوة محمد مقبل إلى ضرورة وعينا بحقيقة أنفسنا ،يقــول ":إننــا ال نســتطيعـ عمــل
شيء لأنفسنا وال لأرضنا وال حتى لهؤالء العساكر إذا لم نخلق من جديد ،نخلق كــل
شيء ،الناس والأرض والواديـ ،حتى أنفسنا ،إننا ال نستطيعـ أن نعيش مع الحمــير
في حظيرة واحدة ،وال أن نعامل معاملة الحمــير ،يجب أن نجــد لأ نفســنا مفهومـا ً ،
وأن نعرف حقيقتنــا " ، 1وفي أمنياتــه الكثــيرة الــتي يصــرح بهــا " :نعمــان ،إنــني
أتمنى أن ال أموت حتى أرى بالدنــا هــذه مثــل تلــك البلــدان الــتي زرتهـاـ ،أتمــنى أن
تكــون كالحبشــة أو كليبيــا أو كتركيــا ،أتمــنى أن أرى الطريــق مرصــوفة وخطــوط
السكك الحديدية تخترق جبالنا كتلك التي تخترق جبال الحبشــة ،وأرى الســدود على
وادينا هذا وغيره من أودية بالدنا الكثــيرة ،فال يمــوت الســيل وال تضــيع مياهنــا في
الصحراء ،وال يلتهم السيل أطفالنا وما شيتنا وأرضنا ،أتمــنى أن أرى بالدنــا كبالد
الآخرين ،أتمنى أن ال أموت حـتى أشـاهد ذلـك " ، 2وفي أمنيـة نعمـان واستشـرافه
حين رأى من بين مناظر الموت " صورة أخرى تظهر من خالل هذا الضباب الذي
أعيشه ،إنه شعبنا ،أتراه سينتصـرـ هــو الآخــر على المــوت ،على النســيان ،أتــراه
سيبني من جديد مآثره وســدوده ،أتــراه ســيتحدىـ القــدر ويقــف أمامــه هازئـا ً ،إنــني
3
أؤمن بذلك أحيانًأ "
)2دعوة نعمان إلى الاتحاد بعــد مــا رآه في قريتــه ،يقــول مــبرراً " :ألن الأشــياء الــتي
رأـيتها هنا في قريتناـ تحتم علينا أن نتحد " ، 4ودعوته إلى ضرورة البحث عن عمل
وطني صحيح ،يقــول " :طــبيعي أن أومن أن بالدنــا واحــدة ال يفرقهــا اســتعمارـ أو
استبداد ،وأن العمل من أجل القضاء على واحد فيهــا ،هــو بالتــالي العمــل من أجــل
القضاء على اآلخر ،ولكن ال أجد هنا عمالً وطنياًـ صحيحا ً " ، 5وقوله " أريد عمالً
آخر يطمئن نفسي وروحي وكيانيـ ،عمالً أشــعر بــأنني إنســان كبــير يفكــر ،إنســان
يتضامن مع الجميع ،الحب ،والحب هو ما أريـده ،حب اإلنســان ألخيــه اإلنسـان ،
والعمل ،العمل من أجل بناء ما تعفن من أنفسنا ومن أرضنا " ، 6واتفاق الصنعانيـ
مع نعمان على ضرورة التضامن ،يقول " :لكن يــا بــني يجب أن نعــترفـ أن ك ـل
إنسان ال يستطيع أن ينتقم لوحده ،ولكننا كلنا مجتمعين مع مآسينا ،نستطيعـ أن ننتقم
".7
)3دعــوة علي الزغــير إلى العلم الــذي يمكنــه أن يغــير هــذه األوضــاعـ الصــعبة ،
يقول ":وتساءلت لو كان الناس الذين يتعلمون بهذا القــدر لمــا كــانت بالدنــا هكــذا ،
على الأقل هناك أناس محطمون أو يثورون على واقعهمـ ". 8
)4دعوة نعمان إلى تشكيل حركة توجه حركــة العمــال وتنظم إضــراباتهم في عمــل
جمــاعي ،فبعــد أن تم فصــل الكثــير من العمــال ( ســكان مقهى الحــاج علي ) من
أعمــالهم ،نســمعه يقــول ":ولكنــك تعــرف أن هــؤالء العمــال ليس لــديهم أي تنظيم
1المرجع السابق ص52
2المرجع نفسه ص 36
3المرجع نفسه ص 27
4نفسه ص 79
5نفسه ص 52
6محمد أحمد عبدالولي ( صنعاءمدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص 52
7المرجع السابق ص52
8المرجع نفسه ص 60
250
حقيقي ،يســتطيع أن يقــودهم ويحقــق لهم أي انتصــارـ ،فــذهب الكثــيرون ضــحايا
1
لإلضرابات "
)5تطلع نعمان إلى قيادة واحدة قوية تقود حركة الجماهير إلى طريق الحرية ،يقول
":هنا الناس المســتعدون للعمــل ،ولكن ليس هنــا القيــادة الــتي تقــرر " "....ولكن يا
صديقي أين زعماؤنا ..؟؟ أين من يقود هذه الجماهير إلى طريقـ الجنة ،إن األســئلة
ترتسم على طريقنا فال نجد لها إجابة ،أنتم يامن تركتم بالدكم وجمــاهيركمـ ،مــاهي
2
األعمال التي عملتموها غير الهروب ،نعم الهروب من واقعكمـ "
هكـذا تم انشـاء هـذه الغايـة وتم تأكيـدها عـبر ذلـك الـوعي المتـأجج بـالرفض داخـل
الرواية وهو الوعي الذي يسعى إلى تفعيل وعي الــرفض في أوســاط المجتمــع الــذي
تسعى الرواية إلى خلقه مجتمعا ً نموذجياًـ يبلغ منه وعي الرفض ذروة فاعليتــه وقمــة
جاهزيته .
وهكذا تسنى لهذه الرواية أن تســلط ضــوءها على المنطقــة الأهم من تــاريخ مجتمــع
ينشد الحياة والفاعلية والتحول ،وهي هنا شديدة الحرص على بقاء هذه المنطقة منه
حية ونابضة ،بل ومضطربة بوعي الرفض ،فال تزال التحديات وال تــزال نــوازع
السـيطرة ورغبـات االسـتغالل تطـل بين الحين واآلخـرـ لتنظـر مـدى تهيـؤ الموقـف
ومناسبة الظرف .
وتحت هذه الغاية من تفعيل الوعي الرافض انشئت أعمال قصصــية مختلفــة ،ننتقي
منها :
قصة ( الأطفال يشيبون عند الفجر ) التي انتهت تجربتهاـ إلى هذه الغاية من تفعيل
وعي الرفض لكل بادرة تحاول المساس بمكتسب الثورة والنظام الجمهــوريـ ،فهــذه
مكتسبات لم يتم تحقيقها بسهولة ،وإنما سألت ألجلها دمــاء عزيــزة ،كــان من بينهــا
دماء أطفال وطن أجبرته الظروف على أن يستعين بهم ،ويلقي بأحمال المسؤولياتـ
الثقــال على كــواهلهم ،إنهم أطفــال ســلبت طفــولتهمـ وتبعــثرت أجســادهمـ الغضــة
وأحالمهم البريئــة على ســفوح الجبــال ،استصــرخهم وطنهمـ فمــا خــذلوه ،وإنمــا
صمدوا واستبسلوا كمـا يصـمد االبطـال العظـام ،أطفـال " فقـدوا الكثـير ،وعـددهم
سبعة وضابطـ برتبة مالزم ثان ،ولكن هناك ال يمكنك أن تجد فرقــا ً بينهم ،فكلهم لم
يعرف الحالقة بعد ،ولم يتعد أكبرهم السادسة عشرة ،الضــابط نفســه كــان بــالأمس
طالبا ً في الكلية ،وهو الآن يقاتل منذ أن بدأ الحصار ،المدفع أمــامهم صــغيرـ الســن
أيضا ً ".
وقصة ( خلف الشمس بخمس ) التي تسعى إلى غايــة تفعيــل وعي الــرفض لتلــك
الحلول الهروبية والأنانية ،التي ينفـذ من خاللهـا المـرء بجلـده تاركـا ً أرضـه وأهلـه
يكتوون بنيران الظلم وويالته ،فهذا رجل يغادر قريته هاربـا ً من مشـكالته ،متحلالً
من مســؤولياته فينتقــل عــبر البحــر بين دول كثــيرة في أوربــا وأفريقيــا وأمريكــا
الالتينية ،وال يعود إلى وطنه إال حينما استشــعرـ إحســاس السـأم والملــل الــذي طغى
على حياته الفارغة :
1نفسه ص 40
2نفسه ص 53
251
" لقد قرر واقتنـعـ حيث ضــاق بــالبرد والثلج والصــقيع والضــباب والأمطــار الدائمــة
الــتي تكتم الأنفــاس ،ضــاق بالملــل والفــراغ الــذي يعيش فيــه عــاطالً بال عمــل .....
منتظراً إصالح سفينته التي يعمل عليها في حوض السفن المزدحمـ القريب من ميناء
( ليفربــول ) ......اشــتاق إلى الشــمس ولســعاتها على ظهــره وهــو يكب على وجــه
الأرض يحرثها مع بقية أفراد أسرته .....اشتاق لرؤية النجوم المتأللئة ،وهــو يقع ـد
في السحر فوق بركة الماء ( المقضضة بالنورة ) لكي يفجرها لتستقي حقول أســرته
" 1لكنه حينما عاد وجد وطنه أســوأ ممـا كـان عليـه قبـل أن يغـادره ،فيتخــذ قــراره
بالفرار مرة أخرى متبوعا ً بذات اللعنة التي أطلقها خلفه أخوه في المرة السابقة :
" أحس بلذة عندما وجد نفسه تلقائيا ً بمئزر من السرة إلى الركبــة ،كمـا علمـه الفقيـه
في الــزمن الغــابر ...وانســابت قــدماه نحــو ( الســائلة ) العظمى كمــا حــدث لــه في
الماضي ...تذكر يوم رحيله البكر ...وصاح به أخوه :
إلى أين يا مجنون ؟ -
وتمهل قليالً وفيـ مخيلته سمسرة السبيل وصاحـبتها وابنتهاـ الجميلة التي كان يــود أن
تكون زوجا ً له ...قال مجيبا ً :
" عصب " -
عصب ؟؟ -
نعم ... -
لقد انتهت ( عصب ) منذ سنين !! ... -
لم تنته يا مجنون ... -
والتقفته رهبة الجب!!ال المش!!رفة على ال!!وادي ...وس!!مع ص!!وت أخيه يق!!ول بص!!وت -
مبحوح
2
خلف الشمس بخمس .....؟! " -
وقصة ( العسكري ذبح الدجاجة ) تس!!عى إلى ه!!ذه الغاية عن طريق ع!!رض ص!!ورة
للمعان!!اة الم!!رة ال!!تي ك!!ان يعانيها الإنس!!ان اليم!!ني في حياته في ظل دولة الطغي!!ان
الإمامي ،ليس فقط لتأكيد أحقية الث!!ورة في إزالة ذلك النظ!!ام ،أو التأكيد ض!!رورات
التغي!!!ير باس!!!تدعاء ما مضى ،وإنما أيض!!!ا ً لإن!!!ارة الحاضر ب!!!ذلك الماضي التعيس
للحؤول دون تكراره ،فالنظام الذي لم يحقق لشعبه أمنه واس!تقراره ،وتق!وم! سياس!!ته
على أس!!اس أن ال!وطن ليس س!وى مس!احة لجباية االم!وال وملء الخ!زائن ،فيس!!لط
على مواطنيه مبتزين كثر تحت مسميات متعددة ما بين عساكر ومخم!!نين ومثم!!رين
وكش!!افين وحك!!ام أو عم!!ال وش!!رائع! ومغ!!ارم! ال نهاية لها ،هو نظ!!ام غ!!ير جدير
باالستمرار! .
وطبيعة العالقة بين المواطن ونظام الحكم كما تظهر في هذا العمل تشبه تمام!ا ً عالقة
الص!!ياد بالطري!!دة ،فهو يتحين أق!!رب الف!!رص للإيق!!اع بها ،ح!!تى إذا ما وقعت أجهز
عليها بال رحمة وال شفقة ،فالرعوي! الذي اتهمه جاره بأن دجاجته قد نقرت ولده يقع
1محمد عبد الولي ( شيء اسمه الحنين ) دار العودة /بيروت ، 1987ص 90
2زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة االعالم والثقافة /صنعاء 1986م ،ط ،1ص 48
252
-في ظل ه!!ذه السياس!!ية من تحين الف!!رص -في موقف ال يحسد عليه ،فأثن!!اء الأخذ
والرد بينه وبين الفالحين ال!!ذين أخ!!ذوا ينص!!حونه م!!رة بال!!ذهاب إلى العامل وأخ!!رى!
بدفع أجرة العسكري ،اقترب أحدهم منه قائالً :
" -يا جماعة ....التطولوا الحكاية ...آجر العسكري وأسلم نفسك المتاعب ...
ومن أين لي الأجرة -
اقترضها! من " العدل " -
وهل يرضيك أن أؤجر العسكري! باطالً بباطل . -
ولم يجبه بل نظر إليه بحدة وصاح غاضبا ً . -
قم صل الظهر ..فأنت معاند وتريد! جلب المشاكل لنفسك . -
وسكت الجميع عن!!دما خ!رج العس!!كري من داخل المس!!جد ح!!امالً بندقيته ومن ورائ!ه -
( عدل )
القرية بعمته البيض!اء ولفيف من الق!رويين ع!!راة الظهر والص!!در ،وق!ال " الع!!دل "
مخاطبا ً العسكري :
هذا ضالتك المنشودة ...أريه أمر " العامل " -
ألم تره أنت ؟ -
نعم ولكن ... -
وقاطعه العسكري بحدة وهو يقول : -
ولكنك ماكر ...تريد هذا ( الرعوي ) أن يتعبني . -
وابتسم العس!!كري وهو ينظر إلى الرع!!وي وابتسم! الجميع بينما ك!!ان " الع!!دل " قد -
تصنع االبتسامة ،وقد! أحس بالجرح فقال :
-ليس لي دخل بينكما . -
ولكن العسكري تجاهل قوله واقترب من " الرع!!وي " وهو ي!!ربت على كتفه -
ثم قال :
1
إنه رعوي طيب ،سيذبح لي دجاجة للغداء " -
وتس!!!!!عى قصة ( العم مس!!!!!فر ) إلى تفعيل وعي ال!!!!!رفض بموقف الدولة -
الالمس!!ؤول تج!!اه موظفيها! الع!!املين في جه!!از الحكومة ،وليس العم مس!!فر س!!وى
نموذج لكل العاملين في خدمة الحكومة بال ضمانات أو تأمين!ات ،ف!العم مس!فر ال!ذي
عركته مهنة العس!!كرة ،وغلبه ال!!زمن والم!!رض " فع!!اد إلى قريته وآوى إلى كوخه
الحجري في الجبال البعيدة متحس!راً! على والئم ال!دجاج لي!!ؤنس مكره!ا ً وح!!دة زوجه
عاتكة بعد أن رحل ص!!!!الح ابنهما الوحيد إلى خ!!!!ارج البالد منذ س!!!!نوات وانقطعت
أخباره ،كان يعيش على بعض مكيال من الحبوب يستحلبها الأرض الجافة الش!!حيحة
،وعلى المعاش البائس الحقير ال!!ذي بقي من خدمة أربعين عام!ا ً ،وال يمال حوص!!لة
2
دجاجة "
يسلم إلى مصيره وهو يحاول أن يجد لحياته الشقية مخرجا ً .
253
وفي قصة ( الليل ينصهر ببطء ) تتبل!!ور! ه!!ذه الغاية عند تع!!الي مش!!اعرنا الرافضة
لتلك الحالة من القمع ال!!تي ترسخ في الإنس!!ان مش!!اعر الخ!!وف ،فتشل تفك!!يره وتقتل
قدرته على الإبداع ،وتسلم روحه إلى الخواء لينطوي بتهدمه وتالشي إنس!!انيته ش!!يئا ً
من مجموع أشياء فارغة ،وهذا ( ملهم ) إن لم يسعفه النوم في ليله الجاثم المتطاول
" يغمس ريش!!ته القص!!بية في ق!!ارورة ال!!دواة الأس!!ود ،وي !دون ش!!كوى في ال!!ورق
بالنس!!خي أو الرقعة على طريقته ،أو يكتب خ!!واطر! أو يرسم! أش!!كاالً لكائن!!ات غريبة
وخطوط!!!ا ً أش!!!به بالهلوس!!!ات ...ولكنه غالب!!!ا ً مايضيق بالكتابة والرسم ...فينحي!
الريشة جانبا ً ،ويمزق! الأوراق! ثم يستسلم! للنوم ...وأحياناً! يلذ لعينيه أن تظلا ترقب!!ان
الظه!!يرة والف!!راغ ...وتستأنس!!ان! ب!!التطلع إلى الحف!!اة المتن!!اثرين مثله على الكراسي!
كالنفايات بتعب ...ثم يس!!تعيدها! عن!!دما يحس بتعب ...في!!دون بريش!!ته ش!!يئا ً ما على
ال!!!ورق ،وبعد لحظة يحس بتعب فيخفيه أو يمزقه " ، "......وعن!!!دما يحس الم!!!رء
بش!!يء من ه!!ذا القبيل فم!!اذا عساه أن يفعل ..؟ يغ!!ني أو يبكي أو يتلمس الأش!!ياء ...
يس!!أل نفسه ،وتعجز اللس!!ان عن الكالم ،ش!!فتاه ترتجف!!ان لكن الغن!!اء ح!!رام والبك!!اء
معص!!ية ...والش!!كاوي ال يلتفت إليها أحد ...يتث!!اءب يفغ!ر ف!!اه ثم يغلقه ...يمطمط
يديه وقدميه طلبا ً للنوم كالعادة ،لكن النوم ال يأتي ..يحاول التسلي ب!!النظر إلى موقد
السمس!!!رة الع!!!تيق ودكة الحج!!!ارة المهلهلة ...ق!!!وائم الكراسي المليئة باالنح!!!دار!
والنتوءات كأشباح متآكلة ...أشياء تافهة أتى عليها البلى والص!!دى وطواها الزم!!ان
1
كما طوى حياته البيضاء بغمامة داكنة "
)4أعمال تسعى غايتها إلى تعزيز الوعي بأهمية الفعل الرافض .
وهي أيضا َ أعمال انبت وجودها! في زمن ما بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب ،
غ!!ير أن أح!!داثها تج!!ري في زمن ما قبل ه!!ذا الت!!اريخ ،وهي أعم!!ال يحركها! قلق
االكتفاء بمجرد تحقق قناعة الرفض ،ال!!ذي قد ي!!ؤدي االكتف!!اء بها إلى ع!!دم حص!!ول
تغيير حقيقي ،فكم من أجيال ظلت تقتات رفضها وتبرمها! ليالً ونهاراً بينما اس!!تمرت
الأوضاع تسري في طريقها إلى التفاقم ،فتلك إذن غاية تتجاوزها هذه الأعمال إلى ما
هو أعلى منها ،إذ تش!!!حذ طاقتها في اتج!!!اه تعزيز ال!!!وعي بما ي!!!ترجم له!!!ذه القناعة
ويتوجها! بفعل حقيقي يح!!دث تغي!!يراً يلمس أث!!ره الن!!اس على أرض الواقع ،وهي إذ
ترمي إلى ه!!ذه الغاية تل!!وح بإن!!ذارات إمك!!ان حص!!ول فعل رافض في وجه أنظمة ما
بعد الثورة واالستقالل .
وس!!!وف تعتمد الدراسة في ه!!!ذا الموضع على رواية الرهينة باعتبارها رواية تمثل
ه!!ذه الغاية بق!!وة ال تض!!اهيها! فيها رواية أخ!!رى ،بالإض!!افة إلى ع!!دد من الأعم!!ال
القصصية التي ترجمت تجاربها! لهذه الغاية .
وبداية برواية ( الرهينة ) التي تتشكل تجربتها تحت شعور! القلق من فتور! الإحس!!اس
بأهمية الفعل ال!!رافض ،وال!!تي تس!!عى إلى غاية ك!!برى مفادها تعزيز! ال!!وعي بأهمية
1محمد مثنى ( رحلة العمر ) الهيئة العامة للكتاب /صنعاء ، 2001ط ، 1ص 46،47
254
الفعل الرافض الذي ال بد له أن يظل حاضراً وغير مستبعد! ،فال تفتر القناعة بأهميته
مهما كانت إحباطات الظروف المحيطة وصعوبتها ،فهذا الرهينة يتخذ قراره بالفعل
الذي اعتق فيه نفسه وأطلق حريته في ظرف هو من أحلك الظ!!روف وأش!!دها وط!!أة
في تاريخ إنسان هذه الأرض ،حيث الطاغية المستبد يع!!ود منتص!!راً! بعد أن أثخن في
شعبه وأغرق سيفه الآثم بدماء أحرار 1948م " وأباح صنعاء للنهب والسلب والقتل
والدمار " ، 1ليعلو بعودته شعور! الهزيمة الذي اكتسحت مراراتها! العق!!ول والنف!!وس
،حتى عاد الشعب المقموع البائس أحد المحتفلين بهذه المج!!زرة ،وأخذ يتج!!رع ب!!ألم
أوجاعه ،ويض!!غط! بص!!بر على جروحه ال!!تي ال ت!!زال نازفة ،مرغم!!ا ً على إيق!!اد
مشاعل النصر المزعوم ،مجبراً على إظهار شعور االبتهاج بعودة الطاغية المس!!تبد
" توهجت المدينة والقرى المحيطة بها في الجبال والسهول بأضواء هائلة على سطح
المنازل ،ت!!دل على وق!!وع ح!دث ه!!ام ،انتصر الإم!ام الجديد ،الس!يف الأم!ير ،ولي
العهد السابق ...على الدستوريين الأحرار الثوريين " . 2
في هذه اللحظة التاريخية الحرجة لشعب منكسر بائس موجوع ،وحاكم يتف!!اخر ملء
الفضاء بانتصاره وإذالل شعبه ،ينفذ الرهينة قراره الجريء ب!!الفرار ،لتص!!بح غاية
روايته هذه رسالة تنتفض منطلقة من تحت الموت والرماد! ،وورقة يلوح بها الك!!اتب
في وجه كل الطغاة والمستبدين ال!!ذين ال يخلو منهم زم!!ان أو مك!!ان ،وال!!ذين تص!!ور
لهم أحالمهم البليدة ،أنهم كلما أمعنوا في إذالل شعوبهم وأثخنوا فيها ونكل!!وا! ودم!!روا
كلما هزموا إرادة الإنسان في نفوسها وكسروا! همتها ،والإنسان -تبع!ا ً له!!ذه الغاية -
قادر على أن يقلب حركة تاريخه رأسا ً على عقب ،وأن يغير مص!!يره كلية في لحظة
يتكشف له مقدار ما يقع عليه من ظلم ،عند هذه اللحظة نج!!ده ينتقض متحسس!ا ً حقيقة
استالبه ،مستشعراً تغييب إرادته ،فيندفع غير عابئ بكل الن!!ذر والمح!!اذير! ،متوجه
في طريق! ال يحيد عنها يسترجع عبرها حريته ويعيد إلى ذاته كرامتها! وإنسانيتها .
وألن اليمني -كما يشير ال!!روائي – ت!!أبى نفسه االس!تمرار! في الخض!وع! ،فإنه م!!تى
أراد أن ينتقض على ظلمه وخض!وعه ال ينتظر ح!تى تحين اللحظة ،وإنما يق!دم على
فعله الرافض مباشرة وبدون تردد .
نعم فشلت ثورة 1948م ،غير أن فشلها ال يمثل نهاية المطاف ،فإرادة الإنسان تظل
أقوى من كل هزيمة ،وانتصار! الطغاة مهما أوهم بالقوة والعظمة فإنه يظل انتصاراً
خاويا ً أجوفا ً ،في داخله يكمن الخرق وعمق الهزيمة ،وهذا الرهينة يسجل انتص!!اراً
لإرادة الإنسان يعلو به على االنتصار المزعوم للطاغية ،ومن هذا المك!!ان المحاصر
بالتحلل والتعفن ،والمختوم بالموت والمق!!ابر يمكن أن تتش!!كل عمق المفارقة ،ح!!تى
تصبح المقبرة منطلقا ً حيا ً لحياة جديدة " ووثبت! قائمة حيث أخذت حج!!راً من الأرض
لتقذفني به ،لكنني كنت قد أطلعت لساقي العن!!ان ،فابتع!!دت وانه!!الت خلفي الحج!!ارة
المقذوفة منها ،لم أتوقف برغم إشفاقي عليها ،وعال صياحها! بصوتها المبحوح الذي
أحبه يطرق! مسامعي! ،وتلقفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر
1زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ،ص 188
2المرجع السابق ص 187
255
إلى المستقبل المجهول ،وأنا أتوقع صوتها! أو حجراً مقذوفاً! منها س!!يقع على ظه!!ري
...لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جدي!!دة مؤدية إلى المس!!تقبل ،مخلف !ا ً
ورائي ص!!!وتها! المبح!!!وح المحبب إلى قل!!!بي ،وذكري!!!اتي! مع ص!!!احبي! المرح!!!وم
والبورزان والطبشي! الذي فدغت البغلة رأسه ،وزمالءه الجند المنش!!دين :يا رهينة
1
قد أمك فاقدة لك ...دمعها كالمطر! "
تقول سلمى الخضراء الجيوسي ،إن الرهينة تعالج بصورة أساس!!ية الفظاظ !ة وع!!الم
االستغالل الذي يب!!دو ض!!منه مص!!ير الإنس!!ان مرهون!ا ً ب!!الآخرين ،ومع ذلك فهي في
ال!!وقت نفسه عمل ي!!دور ح!!ول الحرية والخالص الف!!ردي ،وهي توضح بجالء كيف
أن الإنس!!!ان يس!!!تطيع االحتف!!!اظ بروحه المعنوية العالية ب!!!الرغم من الأذى المحلق
بجسمه وعقله " ، 2ويقول سليمان العيسي " :وحسنا ً فعل حين ختم قصته بتجاوز (
3
العفن ) إلى غير رجعه "
وإذا ما س!ألنا أنفس!!نا ونحن نقف على ه!!ذه الغاية العالية أو الس!!امية عن تلك الأس!!باب
التي ارتفعت بوعي الرهينة إلى الحد الذي أدى به إلى القيام بفعله الجريء الرافض (
الف!!رار) لوج!!دنا أن الس!!بب المباشر ال!!ذي زوده بقوة اليقين ،وع!!دم ال!!تردد في تنفيذ
ق!!!رار الف!!!رار عند س!!!نوح أول فرصة ل!!!ذلك ،هو المص!!!ير! ال!!!ذي لقيه ص!!!احبه
( الدوي!!دارعبادي ) والمعان!!اة ال!!تي ش!!هدها في أخري!!ات أيامه " :ك!!ان ص!!احبي
( الدويدار! الحالي ) قد زاد لونه شحوبا ً وجسمه هزاالً ،وأصبح سعاله الحاد يوقظني
من منامي أكثر من مرة في كل ليلة ،ك!!ان يس!!عل ح!!تى يغمي عليه ،وال يفيق إال بعد
أن أضمه إلى صدري! ويداي! مطبقتان على صدره المتهاوي نتيجة لذلك الس!!عال "، 4
ومع كل هذه المعان!!اة فإنه ال يعفى من مهامه المفروضة عليه ،ب!!األخص تلك المهمة
الرخيصة ،حين يقوم بفرك قدمي! النائب " وكم كنت أود مس!!اعدة ص!!احبي في عمله
ه!!ذا الممل ،إش!!فاقا ً م!!ني عليه ،ولكن!!ني! كنت أمقت ذلك العمل ال!!رخيص ،وكنت
أحتقره وال يمكن أن أتصور نفسي أقوم به في أي ظرف! من الظروف! ،وكنت أع!!ود
5
مع صاحبي! المنهك إلى الغرفة وأساعده في إصالح فراشه بعد أن كان يساعدني "
غ!!ير أن ه!!ذا الفعل وإن ك!!ان له س!!ببه المباشر! ال!!ذي وقف خلفه مش!!كالً دافعه الق!!وي
لإنجازه ،فإنه قد تم التمهيد له بأفعال تشكل رساالت صغرى! هي غايات صغرى! في
طريقه ،غاي!!!ات تعلو خاللها إرادة الإنس!!!ان ،إذ بإمكانه أن يظل محتفظ!!!ا ً بج!!!ذوة
ال!!!رفض في داخله ،وبإمكانه مقاومة انهزامه وقتل إرادة الإنس!!!ان فيه مهما ك!!!انت
صعوبة التحديات التي يواجهها .
فالرهينة لم تنكسر! إرادة ال!!رفض فيه يوم !ا ً ولم تتس!!لل إلى نفسه االس!!تكانة إلى ق!!دره
كرهينة ،لقد ظل محتفظ!ا ً ط!!وال ال!!وقت بج!!ذوة رفض واقع تحوله إلى رهينة ،وهو
ال!!رفض ال!!ذي نقف على مالمحه منذ أن انتقل إلى بيت الن!!ائب ،في!!وم أن وصل إلى
256
هناك وبلغ غرفة صاحبه الدويدار! ،نجده يندفع إلى النافذة الوحي!!دة في ه!!ذه الغرفة ،
كتعبير تلق!!ائي عن نفسه الرافضة واقع الحص!!ار المض!!روب عليها " اتجهت ص!!وب
النافذة الصغيرة الوحيدة داخل الغرفة استرحت مقرفصا بجوارها " 1وحين أخذ ينتقل
مع ( الدوي!!دار ) بين غ!!رف القصر وقفنا على رفضه المتمثل في نف!!وره واش!!مئزازه
من تص!!رف نس!!اء القصر معه " كنت أنكمش حين يربتن على كتفي وأنفر حين تمتد
2
أيدي بعضهن لقرص وجنتي أو فرك شفتي بتلذذ "
ثم تم!!رده على الش!!ريفة حفصة " ال أدري كيف راود ذه!!ني قسم عظيم ب!!أن ال أع!!ود
إلى دار الشريفة حفصة مهما ط!!ال القيد " ، 3ورفضه تنفيذ أمرها بفك قي!!ده ومقاومة
العس!!!كري المكلف ب!!!ذلك ،ألنه وجد أن ه!!!ذا القيد يش!!!كل حماية له من االس!!!تغالل
واالبتزاز! الذي تتم ممارسته من قبل حريم الن!!ائب " واقنعت! نفسي وص!!ممت على ما
اقتنعت به ،ح!!اول العس!!كري إخض!!اعي ب!!القوة ،ووض!!عني على الأرض ،لكن!!ني
ق!!اومت ،ونش!!بت بي!!ني وبينه معركة اس!!تخدمت فيها كل ما اس!!تطعت من وس!!ائل ،
بالأظافر! ،وب!!رمي! الحص!ا على عيونه ،وب!!العض بالأس!!نان لكنه ك!!ان مستثاراً أك!!ثر
م!!ني لع!!دم خروجه مع زمالئه ،فصب غض!!به علي وتحملت من ركالت ولطم!!ات
صلفه ،ومن عسكري غاصب لعدم خروجه بأمر على رعوي ولبقائه الوحيد بال أمر
4
"
ثم استشعاره المفاجئ لمقدار وض!!اعه مهنة الدوي!!دار ال!تي تمسخ إنس!!انية ص!!احبها ،
وتحوله إلى آلة ت!!ؤدي! خ!!دمات مختلفة للجميع كل بحسب حاجته ،ح!!تى الخ!!دمات
الليلية لنساء القصر ،فعندما! ذهب إلى قصر ولي العهد ،ورأى! ح!ال دوي!دار! الس!يف
والتي يت!!بين لنا من وص!!فه له ،حين ق!!ال " :كنت أالحظ حرك!!ات جس!!مه الرخو من
خالل ثوبه الحري!!ري! الش!!فاف ،يب!!دو أنه لم يعد يتص!!نع تلك الحرك!!ات المائعة ،فقد
5
أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية ! "
ثم تنبهه للكلمة الأخيرة في عبارة الدوي!!دار! ال!!تي أطلقها ،حين أف!!اد بأنه ليس مس!!تحبا ً
أن يك!!ون الدوي!!دار من الره!!ائن – " :ألنهم س!!يئون ومشاكس!!ون ويهرب!!ون دائما !
طرقت مسامعي بانتباه كلمته الأخيرة فابتسمت! ". 6
ثم تع!!الي ش!!عوره بن!!ذر س!!قوطه واس!!تالبه " :مارست مع ص!!احبي! جميع هواياته
ورذائله الق!!ذرة ،وان!!دمجت في عالمه الغ!!ريب ح!!تى ك!!اد يغ!!ار م!!ني ،فقد تعلقت بي
النس!!وة المتع!!ددات الم!!واهب والمتن!!افرات أش!!كاالً وألوان!ا ً واعم!!اراً ،وقد س!!ئمن من
ص!!احبي! لس!!عاله الش!!ديد ونحوله الش!!احب ،وخ!!وفهن من ذلك الم!!رض الم!!رعب
" " ......وكنت أوهم نفسي وباقتن!!اع ت!!ام ب!!أنني أدرأ عنه أعب!!اء لم يعد ق!!ادراً على
257
تنفي!!ذها ومواكبة الس!!ير فيها كما ك!!ان في أيامه الس!!ابقة ،ومع ذلك أحسست باحتق!!ار
1
لنفسي ولمسلكي المشين "
هذا الشعور يفقده حتى قدرته على الغناء " ح!!اولت ذات ص!!باح أن أش!!دو وأنا منف!!رد
بأغنية من قريتي! ولم أستطع ،وحاولت أيض !ا ً أن أص !فر بفمي بلحنها فتع!!ثرت! ،ال
2
أدري ما الذي جعلني أفقد حتى مجرد الإحساس بالسعادة لأستقبل يوما ً جديداً آخر "
ثم انتقامه من االبن الش!!رعي ل!ولي العهد عن!دما س!!حبه إلى بركة المي!!اه ،واس!!تكباره
فعلته " :كنت أتوقع مثالً أن تلتهمني وحوش سيف الإسالم وولي العهد الكاس!!رة وأنا
أتفرج عليها ! لكنني لم أتوقع أن يؤذيني! صبي طفل مدلل بهذه الطريقة " . 3
ثم محاولة الهرب الأولى التي فشلت بسبب ضعفه أمام تمسك الش!!ريفة حفصة بعودته
،وتصوير عودته المنكسرة المهزومة كعودة أسير حرب " ومضيت! بعدها بخطوات
4
رتيبة كأنني أسير حرب "
5
ثم طلبه الصريح إلى النائب برغبته في العودة إلى قلعة الرهائن .
ثم فرحته بمقتل الإم!!!ام وترك!!!يزه على أن النصر الأهم ال يكمن في قتله وإنما في قتله
6
بأيد يمانية " لقد قتل الإمام وهذا هو المهم ،وبأيد! يمانية وهذا هو الأهم "
ثم رفضه المشاركة في إسراج مش!!اعل النصر للإم!!ام الجديد " كنت قد رفضت بش!!دة
أن أعجن الرم!!اد بالك!!از واش!!عله رم!!زاً النتص!!ار الإم!!ام الجديد ،ولكن غ!!يري من
7
المتطوعين قاموا بالمهمة "
ثم تنبهه إلى رس!!الة الدوي!!دار! المعلنة من خالل ص!!راخه في وجهه ب!!أال يتن!!ازل عن
إحساسه بذاته وعزة نفسه ،وأن يحفظ لها جذوة إرادتها ،وأال يق!!دم على أفع!!ال تن!!ال
منها حتى ال يجد نفسه وقد بلغ مبلغه من المهانة والذل واالنكسار! ال!!تي أودت به إلى
مصيره في آخر الأمر ":وقد! قمت في ليلة بف!!رك قدميه فض!!اح بي بعص!!بية والش!!رر!
8
يتطاير من عينيه ،فامتنعت !"
وأخيراً الهرب وفي! التوقيت المختار بمهارة عالية بلغت بغاية هذا العمل ذروتها! .
هكذا ك!!ان ترك!!يز! زيد مطيع دم!!اج على بل!!وغ عمله غايته من رفض كل ما يمكنه أن
يستلب إرادة الإنسان ويحوله إلى رهينة ،وقد أكسب عمله هذا دالالت عامة تتج!!اوز
الإطار الزمني الذي يتحدث عنه ،لأنها ليست مجرد رواية لوقائع! حدثت في الماضي
9
،إنها حكاية تنسج من مادة التاريخ خيوطاً! تمتد في اتجاه المستقبل .
وقد تمثلت هذه الغاية الكثير من الأعمال القصصية ،ننتقي منها :
258
قصة ( العائد من البحر ) ،فبعد أن ح!!اول ( علي بن علي ) شخص!!ية القصة أن يلجأ
إلى قانون الدولة ليحميه من جور الشيخ ،وجد أن هذا القانون غير ق!!ادر! على حمايته
في ظل هيمنة الشيخ وتمادي! ظلمه وقهره للناس ،وهو ما ألجمهم عن ش!!هادة الحق ،
فحينما خرج الحاكم ليعاين الموقف! على الأرض ،صاح بعلي بن علي :
" -أين دارك يا علي بن علي ؟
هنا كانت داري يا سيدي الحاكم . -
وأين ذهبت ؟ -
ال أدري -
259
إبط!!اء ،فأس!!رع في التح!!رك إلجابة ولي العهد ،ورغم المح!!اذير! ال!!تي أعلنت عنها
أسرته ،يرفض التراجع ويصر على المسير ليالً ،بل ومواجهة الوحش في عقر داره
وقطع لسانه دليالَ على هزيمته ،وبالفعل تح!!دث المواجهة ويكتب فيها النصر للنقيب
،وبعد أن قتله تقدم من الطاهش ليقطع لسانه كدليل يفخر به دائم!ا ً ،ولكن ال!!وحش ما
زال يتلوى ويعاني! من سكرات الموت ،فخاف ( النقيب ) على يده إذا أدخلها في فمه
أن يطبق عليها ،ول!!ذا فقد أدخل م!!ؤخرة بندقيته في فم ( الط!!اهش ) فالكها بين فكيه
حتى كاد أن يوقع النقيب أرضا ً ...وهنا ولأول م!!رة يب!!دي الت!!ابع حركة واعية فيأخذ
حجراً كبيرة ويقذف بها داخل فم الوحش وكانت المفاجأة عندما تح!!ولت تلك الحج!!رة
إلى رم!!ال داخل فكيه ،ولم يجد النقيب ب!!داً من االنتظ!!ار! ح!!تى م!!ات ( الط!!اهش )
وانقطعت منه الحركة فقطع لس!!!انه ...وتح!!!رك النقيب مع تابعه نحو تعز وقد! ب!!!دأ
1
يشدو مغنيا ً ،والتابع يردد بعده ذلك "
وفي قصة (ث!!ورة بغلة ) يش!!كل الك!!اتب غايته من تعزيز! الفعل ال!!رافض ع!!بر تجربة
تق!!وم على واقعه س!!اخرة مث!!يرة للض!!حك ،فيها يعهد الك!!اتب إلى بغلة بالقي!!ام بفعل
يرفض كل هذا الزيف المتمثل في احتشاد الحتفال بعيد نصر مزع!!وم ،فقد حض!!رت
فرقة الموس!!يقا العس!!كرية ،والره!!ائن من القلعة ،وطلبة المدرسة الأحمدية ،وبعض
الأجانب س!!فراء وخ!!براء ،وحش!!ود! من الجند ( النظ!!امي ) و ( ال!!براني ) بض!!باطهم!
وعرائفهم ،وقد! أخذت كل فرقة مكانها من الميدان الترابي الذي أخ!!ذه الإم!!ام غص!!با ً
من مواط!!نين ك!!انوا يزرعونه ض!!من حق!!ولهم ،كما تواف!!دت! جم!!اهير من البشر من
مختلف المناطق! المج!!اورة ،ومن س!!كان المدينة حيث ص!!ادف ي!!وم – عيد النصر –
ي!!وم س!!وق! المدينة الأس!!بوعي ،حضر كل ه!!ؤالء كي يش!!اهدوا احتف!!ال موالنا الإم!!ام
الناصر بي!!!وم عيد النصر ....عيد انتص!!!اره ،ال أدري على من تم ذلك النصر ...؟
هل على حركة الأح!!رار والدس!!تور والش!!ور!ى ؟ أم على هتلر وموس!!وليني ،ال!!ذي
2
يصادف اليوم ذكرى انتصار دول الحلفاء على دول المحور "
حيث تض!!طرب بغلة تجر أحد الم!!دافع القديمة ،وتزمجر بص!!هيل م!!رعب على إثر
عزف الفرفة المتأكلة بصخب " :وحاولت أكثر من يد من أفراد الطبشية أن تمتد إلى
عنانها لكي تسكت وتخمد نفورها ،ولكن دون ج!!دوى ...ك!!ان ذلك قد زاد في رعبها
فتمادت ،وتمادي! بغلة في مخاوفها يحدث كارثة ،وقد أحدثتها ،حيث رفست طبش!!يا ً
كهالً في رأسه فخر ص!!ريعا ً ،وق!!ام! زمالؤه بحمية لقتلها بالرص!!اص ،لكنهم تهيب!!وا
موقف الإمام .
وصاح الإمام وقد! وقف! بكرشه الذي يتوسطه خنجره الذهبي :
عليكم بها .. -
فتك!!الب الجند من مختلف رتبهم على البغلة وم!!دفعها الق!!ديم المج!!رور خلفها ..لكنها
زادت نف!!وراَ وعن!!اداً بص!!البة هوج!!اء كأنها وحش كاسر يتم حص!!اره ...وزاد! من
260
هيجانها كون الم!!دفع الق!!ديم مربوط!ا ً خلفها حيث أح!!دث أض!!راراً! جس!!اما ً بالجند ...
وانطلقت بين الحشود! والمدافع! يترنح خلفها بوحشية مرعبة .
لم يبق سوى االمام في منصته مع حرسه وحاشيته وبعض الأجانب يلتقط!!ون ص!!وراً
1
رائعة كذكرى لن تتكرر "
وفي قصة ( البشارة ) يبني الكاتب غاية تجربته من تعزيز الوعي بأهمية الفعل
الرافض ،بالتعبير الصريح مرة ،فنقرأ – " :الليونة مع الظالم جريمة ،الث!!ورة هي
الحل ،الثورة ترياق لداء الطغيان ،اقتربت الساعة ...هيئوا أنفسكم " ، 2والمضمن
مرة أخرى ،فال!!ذين يتش!!دقون بحب الإم!!ام ويحرص!!ون على بق!!اء الح!!ال على ما هو
عليه ،هم من الجهلة والمتخلفين ،الذين عميت أعينهم عن رؤية الحقيقة ،فالعجوز -
دائم العبث بمنخريه -تش!!ير مالمحه وأوص!!اف! دكانه إلى الواقع الق!!ذر ال!!ذي يتمسك
ببقائه ،فعيناه مصابتان بالرمد ووجهه مج!دور ،وهو خ!رف ال ف!رق! بينه وبين علبة
التونة المحشورة على رف في دكانه ،وبضائعه مغطاه بالغبار تنام دون ترتيب على
الرفوف! ،وحتى صورة الإمام المعلقة بمحاذاة ح!!زم التبن وسم الف!!ئران " غطى ونيم
الذباب زج!!اج الص!!ورة ،خاصة هن!!اك عند العي!!نين والفم والعمامة ،فب!!دا كأنه بث!!ور
متقيحة في الوجه ". 3
ل!!!!ذلك ك!!!!ان البد من التخلص من ه!!!!ذا الواقع المعيق المتحجر بكل ما فيه من عفن
وق!ذار!ة ،فبينما العج!وز! في دكانه ومش!رب! المداعة مغ!!روس بين ش!!فتيه ،والم!!ذياع
بج!!واره ص!!امت كمن!!دوب الإم!!ام في الجامعة العربية " س!!قطت جم!!رة من ( ب!!وري
المداعة ) ووقعت! على أوراق اللفافة ،صوت المداعة الرتيب نقيق ضفادع ،الكالب
المس!!عورة تتع!!ارك! في الش!!ارع ،اش!!تعلت الن!!ار في الأوراق وامت!!دت ألس!!نتها إلى
ص!!فائح الكيروس!!ين القريبة ،ثم التهمت بقية الأش!!ياء وص!!عدت نحو ص!!ورة االم!!ام
الجديد ..ب!!دأت تأكل الإط!!ار الخش!!بي للص!!ورة ،وبلمح!!ة عين التهمت الجسد ،ثم
الرأس .
سقطت الصورة كتلة من رماد ..خرجت الصراصير! من مخابئها وتبعتها! الفئران ..
راحت تهوي ك!!أوراق! يابسة وتس!!تقر! بال أنف!!اس وسط لهب الن!!ار المحرقة ،أجه!!زت
ألسنة النيران على البضائع المحيطة ب!العجوز! ال!ذي ك!ان محش!وراً بينها ،حاص!رته
من كل االتجاهات ،تخبّط كقطة انتهت من ممارسة الحب .
ال!!دخان س!!حب س!!وداء ،دوت االنفج!!ارات انقلب الم!!ذياع وت!!دحرج! ح!!تى اس!!تقر في
الخارج ،وهناك حيث كان الشاب الوسيم! واقفا ً ...انطلق صوت الم!!ذياع عالي!ا ً يعلن
4
الخالص "
وفي قصة ( الذماري! ) تأني هذه الغاية من ذلك الفعل الذي قام به صديقه الش!!يخ حين
اس!!تغل عي!!ون العدالة العمي!!اء في إطالق س!!راح ال!!ذماري! وتخليصه من تهمة ظالمة
كانت ستؤدي! بحياته ،قادته إليها نفس العيون العمياء للعدالة يحدثنا ( الذماري ) عن
1المرجع السابق ،ص29،28
2عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) وزارة الثقافة واالعالم م صنعاء 1985م ،ط ، 1ص67
3المرجع السابق ،ص 63
4عبدالفتاح عبدالولي ( البشارة ) مرجع سابق ،ص69،68
261
هذا الموقف ،فيقول " :قال الشيخ مخاطباً! الم!!دير ،وقد ق!!ام بتوزيع! هباته من الق!!ات
كالمعتاد :
هل وصلت إفادة بخصوص ( الذماري ) -
وصلت ....وتفيد بالإفراج عنه ... -
هزته الفرحة وهنأه الجميع ،لكن المدير قال : -
لكنها معلقة بشرط الضمان والكفالة عنه ...ومغادرة صنعاء نهائيا ً : -
قال الشيخ بحماس ظاهر : -
ال يهم ذلك ،فأنا على استعداد للضمانة والكفالة عليه ،وبمغادرته صنعاء فوراً .. -
وهل تضمن عليه بأن ال يعود إلى توريد! الحبوب إلى صنعاء أو االتجار بها .. -
واندهش الجميع لذلك ،بينما قال المدير :
لقد دهشت أنا أيض!!ا ً من ش!!رط ( العامل ) ..ول!!ذلك أخرتها ل!!دى ح!!تى نجيب على -
( العامل ) بأن الرجل ال يورد! الحبوب وإنما قضيته تختلف عن ذلك .
واحتار ( الذماري! ) لهذا الموقف المفاجئ العجيب وقد ش!عر أن أمنية الرجل الوق!ور!
ببقائه تكاد تتحقق ،فنط إلى الشيخ فوجده يفكر مليا ً ،وفجأة قال مخاطباً! المدير :
لقد ضمنت وكفلت على الذماري بما هو مطلوب منه . -
لكن . -
لكن إذا رجعت الإفادة إلى العامل ...فأنا على يقين بأن الذماري! سيعرقل! مرة أخ!!رى -
وإلى الأبد ...وأنتم تعرف!!ون قض!!يته تمام !ا ً فال داعي للع!!رض م!!رة أخ!!رى للعامل ،
فربما يكون هناك ( ذماري! ) آخر يورد! الحبوب في سوق! الطعام قد عرضت قضيته
صدفة عند العامل الجديد عند وصول شكية الأخير ،فهذا من حسن حظ صاحبنا! ...
اقتنع المدير بذلك ونظر إلى الذماري الذي تململ بألم لمغادرته ص!!نعاء ،وقد! اق!!ترب
من الشيخ وهمس له قائالَ :
لكن ما السبب لمغادرتي! صنعاء . -
وما الفائدة لبقائك . -
أريد أن أعمل . -
1
لقد نفذت بجلدك ال داعي لبقائك " -
1زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ،ص .128 -129
262
تدارك الموقف قبل تفاقم الأوضاع وصعوبة السيطرة عليها ،وحـتى ال يجـد الشـعب
اليمني نفسه يعيش مرة أخرى في مأساة جديدة .
وبداية برواية ( وسام الشرف ) كنموذج للأعمال الروائية التي انتظمتهاـ هذه الغاية ،
فإننا نلتقي تشــكلها خالل جزئياتهــا المبثوثــة على طــوال السـياق الــروائي ،من هــذه
الجزئيات :
]1التأكيد على أن المناضــلين الــذين انخرطــواـ في صــفوف الــدفاع عن الجمهوريــة
( الجمهوريين ) لم ينخرطوا في ذلك باذلين الأرواح والأنفس إال ألنهم كانوا مؤمنين
بقضية شعب أرادوا له النهوض والتطور ،أما أولئك الـذين ذهبــوا للـدفاع عن عـودة
الملكيــة ( الملكيــون ) فقــد كــانوا محكــومين بــرؤاهم الضــيقة وأحالمهم الصــغيرة
ومصــالحم الأنانيــة ،قــال عبــد الــرؤوفـ يخــاطب ( نــور) الجنــدي العائــد من جبهــة
القتال ":أتعبــوكم الملكيــون بأســلحتهم الأمريكيــة المتطــورة ؟ فــردـ الجنــدي بكلمــات
مقتضية " :نعم ولكن ليس لديهم قضية ،وأنزل العامل حميد ( السريحي ) نظراته
من الســقف مغتصــبا ً لســانه على المشــاركة في الحــديث كمجــاراة في مقــام الضــيف
الجديد :يا ورع ،أمطرواـ المدينة وهي بعيــدة بــداناتهم ،فكيــف بالرجــال الــذين هم
في الجبهــة المتقدمــة ؟ مطمــط ( الدباس ـي ) شــفتيه المتــدليتين ألســفل كشــفتي عجل
سيامي قائالً ":كل شيء يهون يا جماعة ...مادام الموت أو الحيــاة من أجــل الثــورة
أمنـا ً جميعـا ً ...ألم يقــل الراديـوـ من أن الثــورة ســتخلص الشــعب من الفقــر والجهــل
1
والمرض "
]2التنويه إلى أن آخر حرب شريفة خاضها الشرفاء من المناضلين في اليمن كــانت
حرب السبعين وألجل ذلــك لم تعــد هنــاك ضــرورة إلى حمــل الســالح ،وإنمــا يلــزم
التوجه نحو بناء الــوطن وإعمــاره " :أفــرغ ( نــور ) آخــر رصاصـة لـه من خـزان
الذخائر ،وهز اآللي في يده كأنمــا يتأكــد من فراغــة ...ثم تطلــع إلى العمــال بعيــون
فرحــة وقــال بصــوت ال يخلــو من الغبطــة :أتمــنى بعــد اليــوم أن ال تنطلــق في هــذه
المدينة رصاصة ،وكانت الساحة من خالل النسمات الليلية ال تزال تع بق بشيء من
رائحة البارودـ :لقد شبعنا من هذه الروائح ...نأكل على روائح االنفجــارات ونتنفس
روائح البارودـ ،وننظر إلى أشعة الشمس فنراها بلون البارود ...ســنتين في الجبــال
والسهول والجحورـ ...حتى عرقنا الذي كنا نستنشـقه بلـون آخـر أضـحت لـه روائح
2
الحديد والبارودـ "
]3إن قيام الثورة اليمنية في الشمال والجنوب قد جاء نتيجة لضرورة ملحة تطلبتهــا
رغبة التغييرـ ،غير أن تلك الأهداف الناصعة التي قامت لأجلها قد تالشت بــاكراً في
زحام التآمر وهوجاء التسابق على اقتسامـ الغنيمــة ،وهــذا ( نــور ) يــرد على ســؤال
( علوان ) -" :ولكن هل تعتقدون بــأن مــا كنتم مســتعدين إلزهــاق الــروح من أجلــه
باق اآلن ؟ فهـز نـور رأسـه في تعجب ودهشـة ...ولأول مـرة يوجـه إليـه مثـل هـذا
السؤال كانفجار مدفع ولو أنه سئل مثل هذا السؤال ،أو وجــه لغـيره من الشــباب في
جبهات القتال ...لسارت المعارك ربما في غير تلــك الوجهــة الــتي انتهت بــالأمس .
ولم يتركــه ( علــوان ) للتلجلج والحــيرة ،وإنمــا تــابع كــالعليم المتأكــد " إن الثــورة
1محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص 10
2محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص12
263
والجمهوريــة لم تعيشــا في هــذا البلــد أكــثر من خمس ســنوات فقــط ،ثم رحلتــا مــع
أصحابها الراحلين " وكمن لم ينتظرـ أي إجابة من تلميذ مستجد راح يشفط الــدخان :
" لقد كان هناك ثورة وهناك جمهورية في يوم ما ..ثم طارت ..طارت ،إنهمــا في
1
جيوب الرجعية اآلن "
]4التأكيد على واحدية الهدف ووحدة الشعب في الشمال والجنوب ،وحرصــه على
إنجـاح الثـورة والـدفاع عن الجمهوريـة بمواجهـة الـدعاوى الزائفـة الـتي سـعت إلى
تفتيت وحدة الوجدان اليمني إزاء الثـورة والجمهوريــة ،وأخـذت تبث ســموم الفرقـة
بين أبناء الوطن الواحد بأن تنسب شرف الدفاع عن الثورة والجمهورية إلى منــاطق
بعينها ،وتسلب المناطقـ الأخرى هذا الشرف ،فأبناء الجنوب كــانت لهم – أيض ـا ً –
مشاركتهمـ الفاعلة في إفشال مؤامرة اإلحاطة بالثورة واالرتــداد بهــا ،وفــك حصــار
السعبين عن صنعاء الأبية .
وهذا ( نور محبوب المعسلي ) رغم تحــذير والــده وخوفــه عليــه -":يا نــور ولــدي
وانت تذهب وترحل عن عيني إلى وجهة ال أعرف إن كانت واضــحة أو مجهولــة ،
وفي الوقت الذي ال يعــرف أي منــا إن كنــا ســنلتقي بعــد هــذا أو لن يتمكن أحــدنا من
رؤية اآلخر " ، 2يرحل إلى الشــمال لاللتحــاق في صــفوف المــدافعين عن الثــورة ،
وبعد أن أعلن النصر يتوجه إلى صنعاء ،وهــذا ( علــوان ) يعــرف الصــحابة بــه ،
فيقــول - " :نــور ...نــور محبــوب المعســلي ،قبــل شــهرين فقــط كــان عائــداً من
الجبال ...من متطوعي الوطن رغم إرادة أبيه ،وأحد أبطال معاركـ السبعين يــوم "
.3
]5التأكيــد على انحــراف مســار الثــورة وتبــدد أهــدافها تحت ســنابك الصــراعات
والمعارك السياسية التي احتدمت بين الأطرافـ المتنازعــة على الســلطة ،بينمــا بــاء
البســطاء من أبنــاء الشــعب وأصــحاب المصــلحة الحقيقيــة من قيــام الثــورة بالخيبــة
والخســران ،وترصــد الرويــة مظــاهر االنحــراف الــتي يمكن بلورتهــا من خالل
المستويات الآتية -:
ا) المستوىـ السياسي :
وقد تم التركيز في هذا المستوى على المظاهرـ الآتية :
قمع الحري!!!ات ،ويتجلى من خالل تح!!!ريم! العمل الح!!!زبي ومنع التعددية ،وتكميم -1
أف!واه المعارض!!ين وإقص!!ائهم ،ومالحقتهم وال!زج بهم في الس!!جون والمعتقالت بتهم
جاهزة ،فأغلب الشخص!!يات ال!!تي ظه!!رت في ه!!ذا العمل ال!!روائي! قد ذاقت من ه!!ذه
الويالت ألوانا ً .
فن!ور يتك!رر س!جنه وي!تردد على المعتقل ألك!ثر من م!رة ح!تى امتنع عن أي ح!ديث
يمت بصلة للسياسة ، 4.وعلوان يزور! المعتقل لعدة أيام ويرمي! به بعدها كالنفاية ، 5
وكردة لم يعد أحد يع!!رف عنه ش!!يئا ً ، 6والس!!ريحي! يب!!دو ه!!ذه الأي!!ام مثل قط كس!!يح
1المرجع السابق ص 29
2المرجع نفسه ص 53
3نفسه ص55
4محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص 215،224
5المرجع السابق ص 233،236
6المرجع نفسه ص 195
264
ي!!ائس ،1وأبو نض!!ال قد تمت تص!!فيته من قبل الرف!!اق! في الجن!!وب ي!!وم أن فق!!دت
الأرض توازنها! في عدن والمنصورة ، 2وبعضهم! ينفر -نتيجة لهذه الضغوط -بعيداً
،كعبد الواحد وعبد ال!!رؤوف الل!!ذين ه!!اجروا! إلى من!!ابع النفط ، 3وقد! تنشط أحيان !ا ً
محاوالت جادة الس!!تقطابهم! كي يعمل!!وا في جه!!از االس!!تخبارات! ،وه!!ذا أمين الزئبق
المناضل الق!!!ديم في الجبهة في ع!!!دن قد تم اس!!!تقطابه ،وأخذ ينشط في اس!!!تقطاب
اآلخرين ،نسمعه يحاول إقناع ( نور ) باالنضمام إليه ،فيق!ول -" :ل!ذلك أخترتك يا
ن!ور كما اختارتك! الجبهة من قبل في ع!دن لتك!ون أحد مناض!ليها ،وحين رم!اه ن!ور
بنظرات كالوخز! مستفسراً عن فلسفته الجديدة التي لمح بها أكثر من مرة في مح!!اذرة
من التصريح الواضح الذي كان نور في كل مرة يتحاشاه ". " ......
بوض!!وح يا ن!!ور وبص!!راحة ..أنت مثقف وف!!اهم ،وأهم من كل ذلك جبه!!وي! س!!ابق -
، ...فلماذا ال تكون اآلن معنا في جبهة الوطن !؟ ،وجعل أمين وهو يقول ذلك ربطة
جديدة من فئة المائة لاير تس!!قط منه كأنما أطارتها المالوي بغ!!ير قصد ...ثم أض!!اف
– وهو يعيده إلى جيبه -أنت وطني! يا نور في التحليل الأخير ..ف!!إلى م!!تى س!!تهرب
4
من الوطن ؟"
غياب مشروع! الدولة والذهاب في تقوية مركز الحاكم إلى استرضاء مراكز الق!!وى -1
القبلية والمشيخية على حساب بس!طاء الن!اس ،ال!ذين وج!دوا وطنهم يس!لب من تحت
أيديهم ويتحول! إلى غنيمة تتقاسمها هذه القوى بعيداً عنهم .
فقد طغت أس!!طورة التوسع في امتالك مس!!احات الأراضي ،وتب!!ديل مع!!الم المك!!ان
وف!رض مب!دأ س!يادة ما غ!دا واقع!ا ً فعلي!ا ً على الأرض ،وتحويل مس!ارات الش!وارع
والمخططات بما يتوافق! ومصالح هذه القوى .
فقد روى ال!!رواة " ب!!أنهم ي!!رون في الليل أناس!!ا ً في مالمحهم ش!!كل الوجاهة ،وفي
عيونهم نظرات التسلط ،وهم بمالبس خضر وعمائم كالمباركين الذين ال يحض!!رون
وال يراهم الن!!اس إال من أي!!ام الكرام!!ات ،و ألنهم ك!!ذلك فال ي!!رون وج!!وههم! حقيقة ،
وإنما أطيافهم وأشباحهم! بالنيابة يطوف!!ون في كل ليلة بجهة من أط!!راف! العاص!!مة ...
وكلما مش!!!وا على أرض ج!!!رداء أو أرض زراعية فال تص!!!بح إال بكرامة المس!!!لح
وجاهزة من كله ،ابتدا ًء من القواعد والأعمدة وانتهاء بالتش!!طيب! النه!!ائي كأنما الجن
5
تساندهم بالطالسم "
وهذا نور يحدث حورية عن ه!!ول ما رأى من الح!!رب وعن أولئك ال!!ذين م!!اتوا وهم
يحلمون برؤية وجه الوطن بعد الحرب ،تس!!توقفه بعض ص!!فوف العم!!ارات الحديثة
التي اكتسحت مساحة من مساحة العشب واالشجار التي رآها من قبل وأخ!!رى مقامة
لم تكتمل بفعل أكوام الحجارة واالخشاب والحديد! ونت!!وءات الحفر ال!!تي ت!!برز ك!!أفواه
حيوانات خرافية طافية بفعل الغروب ...فال تكاد ه!ذه بعد أي!ام أن تبتلع هي الأخ!!رى
1نفسه ص 85
2نفسه ص109
3نفسه 230
4نفسه 214،214
5محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق 245
265
مساحة من الأشجار والعشب ،وقد! حز ذلك في نفسه ،وش!!عر باالنقب!!اض ج!!راء ذلك
الغول ،ولكنه بصمت كالنار الهادئة ال!!تي تمتص ض!!حيتها! بش!!فافية دون أن يحس به
أحد ودون أن يفشي لها ما ال تريد أو تحب أن تسمعه ،وحين ك!ان ق!رص الش!مس قد
زحف وهو على وشك الغط!!وس خلف جبل الن!!بي ش!!عيب وب!!دأ ش!!عاع الش!!مس في
البهوت ..فقد انعطفا في طريق العودة " "...في شارع معاكس كان قد مشى هو فيه
وخبره قبل ذلك كثيراً ،ولكنهما اصطدما! بمنزلين عشوائيين أقيما من الروث والطين
ومن ط!!!ابق واحد كح!!!اجز يس!!!دان الش!!!ارع مما يشي بإلغائه ،وتعديله في اس!!!تدارة
حلزونية تؤدي! بعد ذلك إلى شارع صغير وضيق آخر بشكل كاريكاتيري مضحك .
الذي سيعرف بعد ذلك بأسابيع من ه!ذه الليلة ب!أن البلدية قد عدلته وألغته من المخطط
الك!!ائن إلى ش!!يء لن يك!!ون ،بن!!اء على الأوامر بض!!غط! من أحد الوجه!!اء والمق!!ربين
1
لسدة الحكم "
-3تزييف! الحق!!!!ائق التاريخية وفق رؤية سياس!!!!ية تس!!!!عى بالدتها إلى شق الصف
وخلق صدع في قلب الوحدة الوطنية بإعالء شأن مناطق على حساب من!!اطق أخ!!رى
وتوطيد! ذلك عبر الخطاب السياسي والإعالمي ،فنور الذي كان يتوقع! أن ي!!رد أس!!مه
ضمن الأسماء المعلن حيازتها! للأوسمة ،يستمع إلى أسماء تت!وارد على لس!ان الم!ذيع
عبر شاشة التلفزيون ال عالقة لها بح!رب الس!بعين ،بل وبعض!ها! ال يتناسب س!نه مع
ادعاء شرف المشاركة في هذه الحرب .2
وبالطبع فإن هذا الشرف المزع!!وم يس!!تتبعه س!!يل من االس!!تحقاقات! ،فذاك ك!!ان أب!!وه
مناضالً وذاك كان عمه وآخر خاله وهكذا حتى ظلت المناصب المهمة ت!!دور! في فلك
مربع يضم أسر وأس!!!ماء بعينها ض!!!من نظ!!!ام الحكم بوالئها! اس!!!تمراره ،وض!!!منت
باستمراره استقواءها وأمان مصالحها! .
ب) على المستوى االجتماعي :
وقد! تم التركيز! في هذا المستوى على :
]1غلبة النفعية وبروز! قيم سلبية جديدة تجلت من خالل مظاهر مختلفة من اس!!تحالل
أموال الدولة بغير وجه حق والرشوة والواسطة والنصب واالحتيال! ،فقد كان الن!!اس
في ص!!نعاء ي!!رون أن!اس " ي!دخلون بغ!برة أق!!دامهم الحافية من مختلف الأط!راف! في
العاص!!!!مة ليالً ثم يتجول!!!!ون في المص!!!!الح والمنش!!!!آت الحكومية الحديثة ص!!!!باحا ً
بحواالتهم ،ومن أي أحد حتى زئبقات سجاير ال ترد فيكونون في الأي!!ام القليلة التالية
لها في أنحاء من العاص!!مة المتس!!عة بالحركة والتط!!ور بص!!والين من الس!!يارات آخر
موديل ....فضالً عن النعمة السريعة التي تطرد من وجوههم! الغبار " . 3
كما رؤي بعضم يع!!رض ورقة في وزارة االقتص!!اد! والتج!!ارة تس!!مح له باس!!تيراد
أربعمائة ألف طن من الحديد معفى من الض!!رائب والجم!!ارك وأية مترتب!!ات أخ!!رى
4
للدولة .
1المرجع السابق ص 6،5
2المرجع نفسه ص 193
3محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص 146
4المرجع السابق ص 146
266
]2اتساع الهوة االقتصادية في ظل حركة السوق المريبة بين أبن!!اء المجتمع الواحد ،
وب!!روز الف!!وارق الطبقية بش!!كل غ!!ير مس!!بوق! ،فقد ظهر في الس!!وق مل!!وك وأغ!!وال
ومس!!تثمرون كب!!ار ،وك!!ثر! في المقابل الش!!حاذون ، 1وان!!زوى الموظف!!ون ب!!دخول
محدودة ال تكاد تسد الرمق ،وهذا نور يحاول تك!!ييف مص!!روفاته مع م!!رتب أقص!!اه
عشرة دوالرات في الشهر ،فيكتفي بوجبة واحدة في اليوم ، 2وأما الخالة زهراء فقد
أخذت تحث زوجها! المراسل على السرقة ،فت ق!!ول له -":ما قلت ش!!يء ولكن تفعل
3
ما يفعل الناس وأنت اليوم أمين صندوق ،ومثلك مثلهم ...من جيزهم "
]3االقرار بحقيقة انعدام حصول تغيير حقيقي على المستوى! االجتماعي ،فال ي!!زال
الجهل ،وال يزال الثأر وحمل السالح ،فعندما صرح ( شاكر البط!!الي ) ب!!أن أهم ما
يس!!عى إليه هو " القض!!اء على انتقامية الثأر الشرسة في بالدنا اليمن ...ه!!ذه الع!!ادة
الكافرة في سلوك مس!لمين يتش!دقون ب!ديانتهم! القوية ل!دين الإس!الم ال!ذي يلعن ويمقت
ذلك لدرجة أن أنطق ذلك التصريح كهل من القبائل ،فهب يقبله وهو يبكي ناطق!!ا ً بعد
خ!!رس دام عشر س!!نوات ،إثر فقدانه ألعز ثالثة من أبنائه الثمانية عشر ،وهو يري
الحاض!!!رين لبطاقة حديثة عائلية له ولأوالده ال!!!ذين ازدادوا تس!!!عة على م!!!دى عشر
س!!نوات من زوجتيه االثن!!تين ليص!!بحوا مع ب!!دل ال!!ذين فق !دهم درزنين ،وكل ذلك ال
لشيء إال ليزيد نس!!له تحس!!با ً من أي ث!!أر آخر ولكي يكون!!وا ك!!الجراد في الأخذ بحقهم
من جهة ومن جهة أخ!!رى في التناسل ح!!تى يش!!كلوا -إن ش!!اء هللا -قبلية مس!!تقلة ،
فكلما قضى! جراد منهم انبعثت منه طائفة من الجراد إلى ما يشاء هللا لهذا البلد والث!!أر
". 4
وفي موضع آخر نش!!هد ( ن!!ور ) بعد أن أغفى قليالً مع ته!!اوي! عجالت الحافلة ال!!تي
يس!!تقلها ،يتيقظ على ص!!وت اص!!طكاك عجالتها ،حيث ك!!ادت تص!!طدم! برتل من
الث!!يران والبقر الالتي قطعن الش!!ارع ،وانتظر " ح!!!تى ع!!!بر آخر ث!!!ور مع الزامل
والطبل اللذين كانا يص!!!طحبان القطيع ،ولم يمض إال وقت قليل من حيرته في ماهية
5
هذا االحتفال بالقطيع ..حتى قال السائق :هذه هجر قتل "
وهذا المسيوآلر أحد المستثمرين يغادر اليمن مفزوعا ً ،بتلك الزخ!!ات من الرص!!اص
وأصوات الق!!ذائف ال!!تي س!!معها في الليل!!تين الل!!تين قض!!اهما في الفن!!دق ،رغم الجهد
الذي بذله خادم الفن!دق في توض!يح مص!در الرص!اص ،ففي الم!رة الأولى ب!رر ذلك
بحادث عارض ،وفي! الليلة الثانية أفاد بأن " ما حدث ال يتعدى مزحة إخافة ،تحدث
أحيانا ً بين مضاربي! الأراضي! ال!ذين يتن!ازعون أرض!ا ً أو أك!ثر وكل منهم يملك نفس
6
بصائر الملكية ،فيرتشقون بالمدافع! الرشاشة ليخيف كل منهم اآلخر "
ج] على المستوى االقتصادي! :
تم التركيز! على :
1المرجع نفسه ص62
2نفسه ص 225
3نفسه ص208
4نفسه ص 150
5محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص 206
6المرجع السابق ص 154
267
]1أضرار سياسة االنفتاح االقتصادي غير المدروس! ال!!تي أدت إلى تف!!اقم الأوض!!اع!
حتى صعبت الحياة في وجه البسطاء ،وكذا سياسة الح!!زب االقتص!!ادية في الجن!!وب
التي اعتمدت بشكل أساس على تأميم الممتلكات ،مما جعل من الثورة إنجازاً قاسياً! .
يتساءل نور المعسلي قائالً " :هل يكون هللا الواحد وحده ال!!ذي أراد أن يك!!افئ قس!!وة
التجارة وحذفها! بقسوة أي شيء آخر وعنفه ...قد يكون الث!!ورة أو غيرها ؟ "........
" لعل هللا قد بعث هذه الضرورة في الثورة ...هذه مقابل ض!!راوة الحج!!ارة في البن
ولعله الش!!يطان وح!!ده ال!!ذي .......لم يكمل "......" ،ولكن هل ك!!ان يت!!وجب القي!!ام
بتأميم العمارات وتنفير الناس ؟
وس!!!ار! يه!!!ذي بعد ذلك في ش!!!وارع! المعلى الخلفية بعد أن ن!!!زع نظراته بقس!!!وة من
العمارات .هل كان يتوجب ذلك !؟ بدالً من أن تستنفر هذه الثورة العم!!ال والفالحين
والمجتمع مثالً في ثالثمائة كيلو م!!تر من الأرض ب!!الفؤوس في وادي حض!!رموت ...
مثالً ....مثالً ...ذلك مج!!رد مثل من عش!!رات من الفعالي!!ات ؟ عند ذلك ابتسم عن!!وة
...ابتسامة مسحوبة بمشقة من الصدر ،وهو يستعيد كلمات والده الحاج المعسلي ...
الحركة بركة والعمل بركة والعمل رزق ومجلبة للعيش الفض!!يل ،ولن يعجن الن!!اس
1
شعاراتهم! وأحالمهم ويأكلونها "
]2التراجع السريع لسعر العملة ،وإخفاق الحكومة في حل المش!كالت االقتص!ادية
2
،نسمع حواراً يدور! على الحافلة بين بعض الركاب -" :وهللا ما عاد نخاف من شيء
ه!ذه الأي!ام إال من مناقشة الحكومة لمعان!اة المواط!نين ...توقف! لحظة ريثما يس!يطر!
على أنفاس عجزه الالهث ،ثم أردف في سلم الباص وهو ينزل :
-هي الآفة ،فكلما تكلمت عن المعاناة أص!!بحنا على مص!!يبة أشد من المعان!!اة ،ن!!زل
القبيلي العجوز وهو يداري بقايا أنفاسه المنفعلة ..فقال الشاب الموظف! المراجع عن
الترقية ،وهو يتبعه :
-وهللا إنه الحق ،فإذا أراد الناس أن يكون هللا رحيما ً بهم في ق!!در الغالء ،أن يطلب!!وا
من ه!!!ذه الحكومة أن تكف عن التكلم عن معان!!!اة المواط!!!نين ،وإال أن نطلب من هللا
3
الرحمة باالستقالة "
وقد نشطت التجارب القصصية التي توافرت على ش!!روط! االنتم!!اء إلى ه!!ذا المبحث
من الدراسة لتقف على نق!!اط من ه!!ذا االنح!!راف! أض!!اءت خاللها من!!اطق! جدي!!دة ،لم
تش !تمل عليها المعالج!!ات الروائية أحيان !ا ً ،أو تض!!منتها! كوق!!ائع! ص!!غيرة في س!!ياق
أبنيتها الحديثة أحيانا أخرى ،فأتت القصة القصيرة لتس!!لط عليها أض!!واءها المرك!!زة
ولتبرزها! تجارب مستقلة ومكتملة .
فقصة ( السفر إلى زمن الضوء ) – مثالً -تصور! هذا االنح!!راف بأس!!لوب رم!!زي ،
حيث نلتقي الرجل الذي اعتقد يوما ً أنه خرج إلى زمن الض!!وء يكتشف! أن ش!!عوره ال
ي!!زال مكتنف !ا ً بأزمنة الظالم " :ما إن احت!!واني زم!!ني الجديد ح!!تى ش!!عرت ب!!أن كل
268
شيء قد توقف! عن الحركة ،ورغم انفصالي عن الزمن الذي جئت منه فإن إحساسي
به لم يتغير ،زم!!ني الجديد ال تغطيه الظلمة وال تض!!يئه الش!!مس ال تب!!دده الضوض!!اء
وال يهدئه السكون .زمن ككل الأزمنة بال لون وال طعم وال رائحة ،أذن!!اي تس!!ترقان
أصداء الزمن الذي انفصلت عنه فيكتنف شعوري األلم والحزن .من ح!!زن ذاتي إلى
حزن جماعي " ، 1وإنه ال يزال يقطن مكانه الذي تفوح منه النتانة ممتزجة ب!!روائح
قديمة من أزمنة غ!!!!ابرة ،وتغيرعليه فيه أف!!!!واج البع!!!!وض وتهاجمه جي!!!!وش النمل
مخترقة كل تحصيناته ،وأنه صار يحيا حياة يأنف الحيوان أن يحياها :
" تناولت الطبق البالستيكي الذي تراكمت فوقه أوساخ السنين ،نظرت إلى ما بداخله
،هممت أن أعي!!ده ،لكن هاتف !ا ً حف!!زني على تن!!اول بعض منه عل !ه يقي!!ني الم!!وت ،
تناولت اللقمة الأولى والثانية ،وقبل تناولي! اللقمة الثالثة ورد إلى مس!!معي م!!واء قطة
أنهكتها معركة ال!!!!والدة ،رميت لها بعض الطع!!!!ام ،اعتق!!!!دت حينئذ أنها س!!!!تهرع
اللتقاطه ،لكنها أخذت تنظر إليه دون أن تقترب منه
هنيهة وع!ادت إلى مكانها ،وأخ!ذت تقضم رأس أحد ص!غارها وهو لم!ا ّ ير الن!ور ،
بحركة ال شعورية التهمت الطبق ،وتمنيت لو كانت الكمية أكبر .
عاد إلى مسمعي وقع الأقدام التي تخيفيني دوما ً ،تهي!!أت للع!!ودة إلى المك!!ان ،قبل أن
أتوارى خلف الباب الهرم " "....ارتديت أحسن ما عندي وتابعت الضوء وهو يتسلل
2
من إحدى فتحات الباب ،أشعلت سيجارة وسافرت مع دخانها إلى زمن الضوء "
وفي قصة ( الأض!!واء الملونة ) ،يتكشف النصر الث!!وري ص!!ورة من ص!!ور الزيف
والمزايدة الكاذبة ،فمن وسط! المكان الذي يتباهى ببهرجة أض!!وائه وص!!خب أناش!!يده
المحتفلة بعيد الثورة التي احتشد إليها الكب!!ار ممن تجلى لعي!!ونهم! النصر الث!!وري! نبعا
ثريا ي!!دفق! عليهم وح!!دهم! بالعوائد والفوائد ،ي!!برز الب!!ؤس بأبشع ص!!وره ،ويظهر!
الوجه الآخر لحقيقة ه!!ذه البهرجة الخادعة ،حيث نجد أس!!راب المتقص!!دين وجحافل
الجائعين وهو يترقبون ما تجود به أي!ادي ه!ؤالء المتفض!!لين ،ويتلقف!ون ما يق!!ذف به
إليهم غرورهم وتجبرهم! ،هؤالء الذين خنقوا الث!!ورة ،واب!!تزوا! نص!!رها! ،وحولوها
إلى ملك خاص بهم ،فاستأثروا! بخيرها حتى استنزفت تحت أطم!!اعهم ال!!تي ال تنتهي
حين غدت البقرة الحلوب التي ال يغادرهم! خيرها إلى غيرهم .
وتجسد قصة ( ال!!ركض ) وبأس!!لوب رم!!زي تلك الحالة من مغالطة الجم!!اهير اتق!!اء
غض!!بها ،وع!!دم ( إخالص النوايا ال!!تي أدت إلى ت!!أخير تحقيق الوح!!دة اليمنية ) أحد
أهم أه!!داف الث!!ورة والحلم ال!!ذي ظل الإنس!!ان اليم!!ني ي!!ركض خلفه كي يتخلص من
عذابات االنش!!طار! والتم!!زق! ال!!ذي ألقى بتبعاته على حي!!اة الأس!!رة اليمنية في الش!!مال
والجن!!وب ،وفيها! نق!!رأ " :أحس أن!!ني -دونها -بال عي!!نين ...بال ش!!فتين ...بال
مالمح على الإطالق ،يتعمق ش!!عوري بالغربة ،وب!!أنني! مص!!لوب على ج!!دار القهر
والقلق ". " ....
لماذا طال فراقنا! -هكذا -يا ترى ؟! " ".......... -
1صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) وزارة الثقافة والسياحة /صنعاء 1992م ،ط، 1ص 79
2المرجع السابق ص81
269
عندما أحرق الأشرار س!!فائننا ،ذات ليلة ،أغرقوها في نهر المدينة قبل أن تس!!افر! بنا -
إلى المستقبل ،اضطررنا! إلى االفتراق! " . "...........
كان ذلك هو قدرنا! أن نظل -منذ ذاك -منفصلين نوقد! الن!!ار لنض!!يء لإنس!!انا الب!!ائس -
طريق الخالص "
وكنا نقاسي كثيراً من الجوع والعطش . -
نعم يا حبيبتي .لقد كان النهر مليئا َ بالتماسيح المفترسة ،كانت تحتكر كل ش!!يء لها ، -
وكان مفروضا ً علينا أن نظل محرومين من خيراتنا .
فهل ينتهي الفراق ؟! -
ال بد أن ينتهي ،بالرغم من أن المخلوقات! الش!!ريرة ال زالت تتك!!اثر! وتح!!اول أن تسد -
1
علينا منافذ! الأمل "
بينما سعت تجارب قصصية أخ!!رى إلى كشف خ!!داع الأنظمة في الش!!طرين وس!!عيها!
إلى توطيد! الفرقة بإذكاء الصراع بين أبناء الوطن الواحد ،الذي كان يصل في بعض
الأحيان إلى المواجهات الدموية المسلحة ،ففي ( السحب المسافرة ) نقرا :
" تذكرت أنني حملت السالح واتزرت! بالذخيرة في ي!!وم من الأي!!ام ،وواجهتك! ولكن
ليس به!!دف قتلك ،وإنما لأع!!انق وجهك الملطخ ب!!العرق وال!!دم ،وألشم! أنفاسك ح!!تى
وإن كانت عابقة بالبارود! ....هذه حربنا وسيلة إلعادة رب!!اط الحب في معمع!!ان ال!!دم
والع!!!رق! وال!!!دموع ،نجعلهم يعتق!!!دون أننا نصل إلى حد المواجهة بالس!!!الح عن!!!دما
نتحارب ...لكننا نحول الحرب التي يبتغون لنا من خلفها الدمار ،إلى فرصة إلع!!ادة
إصالح ما عطب في الشريان الممتد بين قلبينا .
2
نتبادل الحب في زمن الحرب "
وعلى مس!!!توى فس!!!اد الأنظمة وممارس!!!تها الخاطئة االنتقامية أحيان!!!ا ً ،فقد تن!!!اولت
القصص الكثير من القضايا كتسليط هذه األنظمة أجه!!زة اس!!تخباراتها على مواطنيها
وتتبع المعارض!!ين وال!!زج بهم في الس!!جون وتص!!فيتهم! أحيان!!ا ً ،وتزييف! الحق!!ائق
التاريخية بنسب البطوالت إلى غير أصحابها! ،وتقييد الحريات ومنع المواط!!نين من
السفر ،والعمل بسياسات اقتصادية خاطئة ضاعفت من معاناة المواطن حتى شوهت
الثورة ،وشوهت أهدافها ،كل ذلك بهدف إثارة وعي الناس بانحراف مس!!ار التغي!!ير
السياسي واالجتم!اعي ال!ذي ألجله ق!امت الث!ورة ،وهي تج!ارب قد عرض!نا لها في
مواضع سابقة من هذه الدراسة .
270
الخاتمة :
هكذا أنهت هذه الدراسة رحلتها المتتبعة للدورالذي لعبتة الرواية والقصة القصيرة اليمنيــة
في التغيير السياسيـ واالجتماعي خالل الفترة الممتدة منذ أربعينيات القرن العشرين وحــتى
وقتناـ الراهن ،وهو الدورـ الذي تجلت مالمحه القوية عبر مباحثها المختلفة ،التي خلصــت
إلى النتائج اآلتية :
-1إن تجارب الرواية والقصة القصيرة اليمنية قد تجلت عن معالجــات تكشــف عن مقــدار
واضح من االهتمام بحركة الواقع السياسي واالجتماعيـ للمجتمع من حولها في فتراتــه
المختلفة .
-2إنه على الرغم من أن طبيعة األبنية الروائية والقصصــية تــدون في تكويناته ـاـ للتــاريخ
اإلنسانيـ غير الرســميـ ،فإنــه يمكننــا الوقــوفـ من خالل معالجاتهـاـ ذات الخصوصــية
اليمنيــة على مالمح الواقــع السياسـيـ واالجتمــاعي الــذي صــورته من خالل عناصــره
المجسدة فيها .
-3إن الواقع السياسي واالجتماعي لفترة ما قبل الثورة واالستقالل يفرض حضور القــوي
عليها ويحتل مساحة بارزة من معالجاتها .
271
إن الواقع السياسي واالجتماعي الذي تكشف عن مالمحه هذه المعالجات ،يبدوـ -رغم -4
اختالف طبيعته ما بين واقع يقع قبل حدثي الثورة واالستقالل ،وواقـعـ يقــع بعــد هــذين
الحدثين – واقعا تجتمع مالمحه المشتركة عند انعكاسات فساد األنظمة وســوء إدارته ـاـ
لشؤون البالد .
إن هذه المعالجات تظهر درجة عالية من االلتزام الواقعيـ بقضايا المجتمع ومشكالته ، -5
حتى أن سياقاتها قد تضمنت محددات زمنية معلنة أو مضمنة تحدد بوضــوح أو تكتفي
باإلشارة إلى الفترة التي تجري عليها أحداث تجاربهاـ .
إن صورة الــزمن السياســي واالجتمــاعيـ قبــل الثــورة واالســتقالل تكتســب مصــداقيتها -6
الواقعية من واقع االتفاق الــذي تظهرعليــه مالمحهــا خالل األعمــال الــتي وضــعت في
زمنها أو في زمن بعده ،وإن تجلت األعمال النابتة في الــزمن بعــدها عن مســتوى من
الكشف أعلى وأعمق ،بحكم موقع الكاتب الذي يقف خارج زمن لم يعد يعبــأ لتهديداتــه
وقمعه .
إن من أهم مالمح الزمن السياسي لفترة ما قبل الثورة واالستقالل كما تجلت عنها هــذه -7
األعمال ،ما يلي :
أوال /على المستوى السياسيـ :
-1إنه زمن تشطيريـ يحفل بالهزائم السياسية الكبيرة .
-2إنه زمن يمثل أحلك فترات التاريخ اليمني الحديث ،كــانت اليمن فيــه دولــة مغيبــة
عن الوجودـ الدولي ،متخلفة عن الركب الثقافي ،تعــاني حالــة صــعبة من الجمــودـ
والتكلس الفكري.
-3إنه زمن اإلدارة العشوائية وإهمال مصــالح البالد والعبــاد في ظــل حكـام منشــغلين
بالملذات غارقين في المفاسد .
-4إنه زمن يتضمن حالــة مختلفــة من الــوعي بين أبنــاء الشــمال الــذين تســبب الجهــل
العميم في إخفاق مشروعهمـ الثوري ،وبين أبناء الجنوب الذين تدفع بهم سياسة
المستعمر من التضييق عليهم وإغالق أبواب الرزق في وجوههم إلى مستوى من
الوعي الناضج بضرورات التضامن والتكاتفـ واالنتماء إلى حركة شعبية جماعية
-5إنه زمن حراك سياسي واضــطرابات شــملت قطاعــات وشــرائح مختلفــة من أبنــاء
الجنــوب الــذين -على مــا يبــدو -لم يكونــواـ منقطعين عن عــالمهم ومــا يشــهده من
حركات تنشط في اتجاه التحرر ،كما تظهر خالل هذا الزمن تأثيرات المد القومي
لثورة يوليو 1952م .
ثانيا /على المستوى االجتماعي :
-1إنه زمن عال فيه شأن األسرة والقبيلة في الشمال ،وتزاي ـدـ فيــه الخــوف المجتمعي
وفقدان االستقرار.
-2إنـه زمن الخلـط والتشـوش الفقهي الـذي يغلب قيمـا زائفـة ومبـادئ مشوشـة أذكت
الفرقة وأوقدت األحقاد بين أبناء المجتمـع الواحـد ،فانقسـمواـ إلى جـانب انقسـامهم
الكبير بين سلطة ورعية إلى فئات ومذاهب وطوائف تستعلي على بعضهاـ البعض
272
-3إنه زمن يقف شاهدا على أنظمة حكم متجبرة أفقدت الشعب الكثير من قيمه الدينية
والعربية األصيلة .
-8إن صورة المكان السياسي واالجتماعي لهذه الفترة ال تكاد تنفصل عن صورة الزمــان
فيــه ،وإن عكســت مالمح هــذا المكــان جانبــا من االختالف بين مــدن وقــرىـ الشــمال
ومدينة عدن وقرى الجنوب :
فقسوة الحكم اإلمامي وقبضــته الفتاكــة تقضــي على مــدن الشــمال بالعزلــة الخانقــة
والصـمت المطبـق ،الـذي يمتـد ليكتسـح تلـك القـرى البعيـدة المعلقـة على رؤوسـ
الجبال والقابعة بصبر على على ظلمها وظالمها ،في الوقت الذي تتجلى فيه
قرى الجنوب ثائرة تشتعل في مقاومة الغازي المحتل .
-9إن المكان في الشمال يظهرـ أشبه ما يكون بمذبح أسطوري الحاكم فيه إله والشعب كله
قربان يذبح كل يــوم بال رحمــة ،أو هــو مكــان محكــوم بقــانون أدنى من قــانون الغــاب
يظهر خالله الشعب كله فريسة ال تمتلك حقوق الدفاع عن حياتها .
-10إنه سجن كبير في مكان معزولـ وضائع من خطوط الخريطة يــؤوي في داخلــه أحيــاء
هم في حقيقتهم أموات ،تسيطرـ على مقاليد أمور حياتهم أعراف وقيم جاهلية .
-11إنه مكان تطل منه أماكن مفتوحة ومغلقة مشمولة بالمعاناة ،لم تنجو من ذلك قصورـ
الحكـام وبيـوتهم الـتي تظهـر أمـاكن معزولـة لمجتمـع منعـزل عن المكـان االجتمـاعي
للمجتمع كله ،فالحصار هو أهم ملمح لهذا المكان .
-12إنه يتجسدـ محتوى للضياع ومساحة مغلقة على خوائهــا وضــياعهاـ وحصــارهاـ ،حــتى
يعود على قاطنيه لعنة تطاردهمـ بالويل والثبور وتترصدهمـ بالبرد والجوع والقحط .
-13إنه مكان يضغط على الشخصيات بالنفور والضــيق واالختنــاق ،ويعجــز عن احتــواء
آمال أبنائه الذين يفضل بعضه الهرب والتخلي ،وهو ال يظهر بطبيعته األخــاذة إال في
مواضــع قليلــة ومن خالل رؤيــة متباعــدة أحيانــا ،فــإذا مــا تم االقــتراب تكشــفت حقيقــة
مالمحه البشعة والحافلة بالعريـ والجوع والشقاء .
-14إن مدينــة عــدن تبــدو مكانــا ممــيزا في األعمــال الروائيــة والقصصــية ،وهي تطــل
بوجهين :
األول تظهر فيه :
-1مكانا آهال بالسكان ،تحف بجنسيات كثيرة من عرب وهنودـ وبهرة وصــومال وبينيــان
ويهودـ ،قد أخذ يشق تلك الحالة من التعايش التي كانت تحياها قبل هــذا التــاريخ تميــيز
حاسم يفرق ويسد .
-2مكانا يتمتع بقدر من مظاهر المدنية الحديثـة ،ويبـدو حــتى نهايــة األربعينيـاتـ اليـزال
مستقرا تحت أقدام المحتل األجنبي ،كما التزال بقية من ترف بادية عليه ،وتشيع بين
سكانه حالة من االعتقاد بالخرافاتـ وكرامات األولياء واعتبارها جزءا من العقيدة .
الثاني :
تطل منه مالمح المستعمرـ ،وحركة النضال الوطني الذي تجتاح شــوارعها مؤججــة بضــغوط
المستعمر وتضييقه على أبنائها في أرزاقهمـ وحريتهم
273
-15إن الزمن السياسي واالجتماعي في األعمال التي اهتمت تجاربها بواقع ما بعد الثــورة
واالستقالل يظهر بمالمح مغايرة ،وإن اشــترك مــع مالمح الــزمن الواقــع قبــل الثــورة
واالستقالل في حال احتفال كل من الزمنين بصور بالمعاناة ،التي ربمــا كــانت أقســى
مع خيبة األمل التي رافقت انحراف مسار الثورة وتبدد أهدافها يوما بعد يوم .
-16إن من أهم مالمح هذا الزمن كما تجلت عنها األعمال الروائية والقصصية ما يلي :
-1إنه مكان ترسخ عليه قواعد الشطرية وبشكلـ غير مسبوق ،فلم يعد األمر مقتصرا
على مجرد الدعاية السياسية لكل من النظامين وإنمــا غــدا هنــاك ســعي حــثيث إلى
ترجمة ذلك االختالف في التوجهات الفكرية السياسية ترجمة فعلية عبر خلق واقع
يحمل من مالمح االختالف والتباين أكثر مما يحمل من مالمح التالقي والوفاقـ .
-2إنــه في الــوقت الــذي يتشــكل فيــه مســاحة خانقــة تحاصــرـ المناضــلين الحقيقين
وترصدهم وتتبع خطاهمـ حتى تلقي بهم إلى الجنون والضياع في شوارعـ المــدن أو
الغياب في دهاليز السجون وغياهيب المعتقالت بما يجري فيها من عذابات مرعبة
،أو التخلص منهم بالتصــفيات الدمويــة الــتي تتم -في األغلب – بطــرقـ ســرية
وغامضة ،ينجلي ملعبــا يرتــع فيــه المتمصــلحون ويمــرح المــدعون الزائفــون من
مجيدي اقتناص الفرص من رجال السياسة وأصحاب الوجاهة والمناصبـ الرفيعة
ومراكزـ القوى القبلية والمشيخية والعسكرية .
-3إنه يكشــف عن حــال من تنــاقض المســار بين سياســة نظــامين يــذهب أحــدهما إلى
االنفتاح االقتصاديـ ويتبع اآلخر سياســة تقــود إلى الجمــود والركــودـ االقتصــاديـ ،
وهو تنــاقض تنعكس آثــاره في ملمح من التبــدل الــذي تشــهده مــدن الشــمال ومــدن
الجنوب كل على حدة .
-4إنه رغم واقع االختالف البادي عليه -تحت التوجهــات المرســخ اختالفهــا لقواعــد
الشطرية -مكانا مختنقا بالهم موحدا العــذاب ،مفتوحــة بوابتــه على على كــوابيس
الرعب والقمع واإلذالل .
-5إنه مكــان مختــل يضــطربـ في داخلــه أنــاس مســلوبوـ الحقــوق واإلرادة ،خــائفون
ومقموعون .وعليه سيطرت حالة الطوارئ المستديمة ،والحركة في داخله تلــوح
باحتماالت لنذر غامضة ومموهة ،ومن هنا تطل السجون والمعتقالت ومصــحات
األمراض العقلية ،وتنشطـ المطاردات والتتبع والتعقب.
-6إنــه مكــان يســحق البســطاء وتتعملــقـ في داخلــه أغــوال تتحكم بــأرزاقـ النــاس
وأقواتهم ،وهو يؤويـ تفاوتا طبقيا تتسع هوته كل يوم .
أما عن طبيعة العالقة التي تقيمها الشخصيات مع أماكنها التي تظهر -أحيانــا -غــير مكتفيــة
من حضورها بأدوارهاـ التقليديــة الــتي تنحســر بهــا إلى مجــرد مســاحة تحتــويـ الوقــائعـ البانيــة
للحدث أو مجــال يحتضــن حركــة الشخصــيات ،وإنمــا تلعب أدوارا أهم قــد تصــل خاللهــا هــذه
األمــاكن ألن تصــبح شخصــية فنيــة لهــا تأثيرهــا القــوي على توجيــه حركــة الحــدث وســلوكـ
الشخصيات التي تتحركـ على مساحاتهاـ .
ومن هنا فإن طبيعة تعــالق الشخصــيات مــع أماكنهـا تكشــف عن درجــات من التفاعـل تتفــاوت
خالل مستويات مختلفة من السلبية واإليجابية ،وذلك على النحو التالي :
274
-1إن أغلب قاطني هذه األمــاكن هم ضــحايا مــا تنضــح بــه عليهم من مآســي تتســبب بهــا
الطبيعة حينا واألنظمة الفاسدة أحيانا أخرى ،وبعضهم يظهر تعايشا غريبا مع الموت
واألموات .
-2إن بعض هــذه الشخصــيات يفضــل الصــمود والمقاومــة ورفض القيم الســلبية الــتي
ترسخت في أماكنها بإعالن تمردها الصارخ الذي يبلغ حد االنفجار بثورة عارمــة في
وجه المتسببين بالظلم أو في وجه أماكنها المتسمة بالعدائية .
-3إن بعض هذه الشخصيات يحــاول تجــاوزـ ضــغوطـ المكــان الناضــح عليهــا بامتحانــاتـ
عسيرة وإن بمغامرة صعبة قد تودي بحياتها .
-4إن منهــا من يظهــر تكيفــا مــع مكانــه بكــل مــا يحويــه هــذا المكــان من مالمح القــذارة
والعفونة ،وبعضهاـ يظهر وقد استمرأ حالة استالبه فيسلك سلوكاـ يوطد فيه لمزيــد من
هذا االستالب .
-5إن منها من ينتهي واقعا تحت بــراثن اإلحبــاط واليــأس واالغــتراب ،ومنهــا من يــرى
خالصه بالتخلي واالنسحاب أو بالمغـادرة بعيــدا خـارج حصـار المكــان الــذي يتســبب
عليها بالهم والعذاب ،ومنها من يتطلــع إلى هــذا الخالص في العــالم اآلخــر بعيــدا عن
واقعه الحياتي المعيش بمحدداته الزمانية والمكانية .
-6إن معظم الشخصــياتـ النســائية تظهــر ضــحايا القيم الســلبية ألماكنهــا االجتماعيــة
والسياسية المحاصرة ،وهي تستحقـ العطف والرثــاء ،فجــانب منهن يعمــل بصــمت
وكأن ما يجري عليه هو ناموس قدريـ ليس له أن يتبرم منه ،وجانب آخر يقبع خلــف
جدران القصور واألسوار ينظر أيامه الذاهبة وشبابه الذاوي حتى تستحيل حياتـه رغم
ما ترفل فيه من نعمة ويسر إلى تعاسة وشقاء .
-17إن هذه األعمال قد استوعبت أهم الموضوعات التي شغل بها المجتمع اليمني خالل فتراته
المختلفة ،فكانت معظم موضوعاتها تدور حول قضايا اجتماعية أو سياسية تتصــل بمشــكالت
حقيقية يعاني منها المجتمع في الريف والمدينة حال وقوعــه تحت أنظمــة عكســت بقــوة آثارهــا
على األوضاع االجتماعية وعلى حياة الناس بمختلف شرائحهمـ .
-18إن هذه األعمال قد استوعبت ذات الكاتب الذي ظل يحاول التزام الموضوعية والحيــاد في
تعامله مع موضوعه المختار أو قضيته المنتقاة التي تمثل أيضا قضــية مجتمــع ينتمي إليــه وإن
أخفــق في بعض األحيــان عن تنحيــة ذاتــه الــتي تفــرض حضــورها على أعمالــه والــتي تظهــر
متأثرة بقوة الزمن الذي وضعت فيه القصة أو الرواية ويظل الجدل بين ذات الكاتب بمــا تمثلــه
من فكر ووجدان وبين الموضوعـ المتناول بما يتضمنه من إحاالت على الواقع ومتغيراته .
-19إن هذه األعمال ال تفرز -إال فيما ندر -قيمـا معينــة يمكن الوقــوف عليهــا كحــدود فاصـلة
لتصنيفها بحسب موضوعها ،حيث يكون حضورـ الموضــوع السياســي إلى جــانب الموضــوع
االجتماعي والعكس .
-20إن األعمال التي توضعـ في خضم زمنهاـ المحفوف بكثير من المشــكالت والمخــاطرـ هي -
بال شك -تختلــف عن تلــك الــتي تتنــاول موضــوعـ زمن قــد تجاوزتــه وتحــررت من ضــغوطه
وتهديدا ،إذ ينعكس حضور الزمن الواقعي على الموضوعـ المتناول كمــا ينعكس على حضــورـ
الــذات ودرجــة انفعالهــا بموضــوعها ودرجــة تحســبها للمخــاطر المحدقــة ،ومقــدار الحريــة
الممنوحة للحديث حول موضوع ما في زمنه أو في زمن آخر قد تجاوزه .
275
-21إن أغلب هــذه األعمــال قــد شــغلت معالجاتهــا بموضــوعات شــغل بهــا الواقــع السياســي
واالجتماعي قبل الثورة واالستقالل ،دافعها في ذلك االشتغال غايتها التغييرية الساعية إما إلى
تفعيل وعي الرفض في ذهن اإلنسان اليمني أو تعزيزـ قناعتــه بأهميــة الفعــل الــرافض ،وذلــك
من خالل تنشيط ذاكرته وإثارتها بذلك الواقع المؤلم الــذي كــان ومنــذ وقت ليس بالبعيــد حقيقــة
حية حاضرة ،ثم استهجانها فكرة أن تمر فترة من تــاريخ إنســان هــذه األرض لقي فيهــا ألوانــا
من العذاب لم يلقها أحد قبله وال بعده دون أن يشار إليها .
-22إن هذه األعمال تحرص بشدة وهي تعالج موضوعاتها على غايات محددة تبغي الوصــول
إليها من وراء إنشاء تجاربها ،فتصوير الواقع لم يكن إال بهدف تغييره وتطويره ،وهي غايات
انقسمت على إثرها هذه األعمال إلى :
-1أعمــال تكتفي من إنشــائها تجاربهـاـ بغايــة تنتهي عنــد حــدود تكــوين وعي رافض لمــا
يجري في واقعها من تجاوزات ،وهي تكتفي بمجرد وصولها إلى منطقة تــدق عنــدها
جرس إنذار بالخطرـ الذي يدهم المجتمــع الغافــل وعيــه عمــا يختلج فيــه من تجــاوزات
تنوه إليها وتبرزها .
-2أعمـال تصـل غايتهـا إلى إثـارة الـوعي بضـرورة قيـام الفعـل الـرافض ،وهـذه غايـة
تثويرية لعبت دورا محفزا لألوضاع وموجهاـ لها نحو الحل الثوري .
-3أعمال تسعى غايتها إلى تفعيل الوعي الرافض ،وهذه أعمــال يحركهـاـ قلــق النكــوص
والعودة بحركة الزمن نحو الوراء ،وهو قلق له ما يبرره إذ تعرضــت الثــورة اليمنيــة
في الشمال والجنوب إلى أخطار كثيرة كان أولها خطر مؤازرة األنظمــة الرجعيــة في
المنطقة للقوى الملكية كي تسترد مكانتها التي انتزعت منها .
-4أعمال تسعى غايتها إلى تعزيزـ الوعي بأهمية الفعــل الــرافض ،وهي أعمــال يحركهــا
قلق االكتفاء بمجرد تحقق قناعة الرفض الذي قد يؤديـ االكتفاء بهــا إلى عــدم حصــول
تغيير حقيقي ،فكم من أجيال ظلت تقتات رفضهاـ وتبرمهاـ ليال ونهارا بينمــا اســتمرت
األوضاع تسريـ في طريقها إلى التفاقم ،فتلك إذن غاية تتجاوزها هذه األعمال إلى ما
هــو أعلى منهــا ،إذ تحشــد طاقتهــا في اتجــاه تعزيــز الــوعي بمــا يــترجمـ هــذه القناعــة
ويتوجهـاـ بفعــل حقيقي يحــدث تغيــيرا يلمس النــاس أثــره على أرض الواقــع ،وهي إذ
ترمي إلى هذه الغاية تلوح بإنذارات إمكان حصول فعل رافض في وجه أنظمة ما بعد
الثورة واالستقالل .
-5أعمال تسعى غايتها إلى إثارة الوعي بحقائق انحراف المســار ،وهي أعمــال يحركهــا
قلق انطفاء الوعي باستمرار الرفض الـذي قـد يــؤدي إلى مزيــد من انحـراف المســار
الثوري وإحباطـ غاياتــه التغييريــة ،بــاألخص وأن هــذه األعمــال تركــز عدســتها على
حركة تلك السياسات ذات الجهــود الممنهجــة والسـاعية بمسـار الثــورة إلى االنحـرافـ
الفعلي ،ومن هنـــا فهي توظـــفـ طاقاتهـــا وتســـخر إمكاناتهـــا مركـــزة على كشـــف
االختالالت وإبرازـ االنحرافات النابتة في مسار خــط التغيــير الثــوري بهــدف التنويــه
إليها وإثارة الوعي بها كي يتم تدارك الموقفـ قبل تفاقم األوضــاع وصــعوبة الســيطرة
عليها ،وحتى ال يجد الشعب اليمني نفسه يعيش مرة أخرى مأساة جديدة .
276
277
قائمة المصادر والمراجعـ :
أوال /المصادر :
278
فاروق علي ناصر ( زمن العار ووجه الشــمس الغــارب )دار األمــل للطباعــة والنشــر -15
1985م ط1
محسن حسن خليفة ( الزوجة المغرورة ) وزارة الثقافة واإلعالم ،عدن 1989م -16
محمد أحمد عبد الولي -17
( -األرض يا سلمى )دار اآلداب ،بيروت 1966 ،م
( -شيء اسمه الحنين ) دار العودة ،بيروت 1978م
( -صنعاء مدينة مفتوحة ٍ) دار العودة ،بيروت 1998 ،م
محمد صالح حيدرة ( السحب المسافرة )دار ابن خلدون ،بيروت 1980م -18
محمد مثنى -19
( -في جوف الليل )
( -والجبل يبتسم أيضا ) دار العودة ،بيروتـ 1978م
( -الرجل الحشرة ) مركز عبادي للدراسات والنشر ،صنعاء 2001م ط1
( -رحلة العمر ) الهيئة العامة للكتاب ،صنعاء 2001م ط1
( -وسامـ الشرف ) مركزـ عبادي للدراسات والنشرـ ،صنعاء 2002 ،م ط1
محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) المطبعة العربية ،عدن1939م -20
محمد محمود الزبيريـ ( مأساة واق الواق )دار الكلمة ،صنعاء 1985م ط2 -21
منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار ) مطبعة الشريفين ،القاهرة 1981م -22
آمنة يوسف ( تقنيــات الســرد في الروايــة والتطــبيق )دار الحــوار ،الالذقيــة ،ســوريا -1
1996م
أمينة رشيد ( تشظي الزمن في الروايــة المعاصــرة ) الهيئــة المصــرية العامــة للكتــاب -2
1998م
جابر عصفور ( زمن الرواية ) دار المدى للثقافة والنشر ،دمشق ،سوريا 9991 ،م -3
خيري دومة ( تداخل األنواع في القصة القصيرة المصرية 1990 – 1960م) الهيئة -4
المصرية العامة للكتاب ،القاهرة 1998م
شاكر عبدالحميد ( األسس النفسية لإلبداع األدبي في القصة القصيرة خاصة ) الهيئــة -5
المصرية العامة للكتاب ،القاهرة 1992 ،م
شفيع السيد ( اتجاهات الرواية المصرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى ســنة 1967م) -6
دار المعارفـ ،مصرـ 1978 ،م
عبدالباســط محمــد حســن ( أصــول البحث االجتمــاعي ) دار التضــامن ،القــاهرة ، -7
1982م ط8
عبدالحميد إبراهيم -8
( -القصة اليمنية المعاصرة 1939م 1976-م ) دار العــودة ،بــيروت 1977،م ط
1
( -ألوان من القصة اليمنية المعاصرة ) دار العودة ،بيروت 1981 ،م ط1
279
-9عبدالمحسن طه بدر ( تطورـ الرواية العربيــة الحديثــة في مصـرـ 1870م – 1938م )
دار المعارفـ ،القاهرة ،د .ت .ط5
-10مجموعــة مــؤلفين ( وثــائقـ وأدبيــات الثــورة اليمنيــة ســبتمبرـ ،أكتــوبر ،نوفمــبر ،
التحوالت السياسية واالجتماعية والثقافية ،صنعاء 24- 23نوفمــبرـ 2008م) مركــز
الدراسات والبحوث اليمني
11محبــة حــاج معتــوق ( أثــر الروايــة الواقعيــة الغربيــة في الروايــة العربيــة ) دار الفكــر
اللبناني ،بيروتـ 1994 ،م ط1
12محمد زكي العشماوي ( األدب وقيم الحياة المعاصرة )
13محمد غنيمي هالل ) النقد األدبي الحديث ) دار نهضة مصر د .ت
14هشام علي
( -الخطـــاب الـــروائي في اليمن ) مركزعبـــاديـ للدراســـات والنشـــر ،صـــنعاء ،
1996م
( -السرد والتاريخ في كتابات زيد مطيع دماج ) مركزـ عبادي للدراسات والنش ـرـ ،
صنعاء 2000 ،م ،ط1
المراجع المترجمة :
-1آيــان رايــد ( القصــة القصــيرة ) ت .مــنى مــؤنس ،الهيئــة المصــرية العامــة للكتــاب
القاهرة 1990 ،م
-2فرانك أوكونور ( الصوت المنفرد ) ت .محمــودـ الــربيعي ،الهيئــة المصــرية العامــة
للكتاب ،القاهرة 1993م ط1
ثالثا /الدورياتـ :
مجلة الثقافة العد األول ،يناير ،فبرايرـ 1990م وزارة الثقافة واإلعالم ،عدن -1
مجلة الحكمة العدد السادس ،السنة األولى ،أكتوبر 1971م ،اتحاد األدباء والكتاب -2
اليمنيين ،عدن
مجلة الحكمة العدد 42أغسطس 1975م ،اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ،عدن -3
مجلة الحكمة العدد /202ـ ،203السنة الرابعة والعشرون ،أغسطس 1994م ،اتحاد -4
األدباء والكتاب اليمنيين ،صنعاء
كتاب الحكمة ( قصص يمنية مختارة ) اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ،دار الحداثــة ، -5
بيروت 1988 ،م
مجلــة المعرفــة العــدد ،24ـ ،25مــارس يونيــو 1996مفــرع اتحــاد األدبــاء والكتــاب -6
اليمنيين ،تعز
مجلة فصول ،سبتمبر 1982م الهيئة المصرية العامة للكتاب . -7
280
تركز الدراسة في هذا القسم على الدور الــذي لعبتــه األعمــال الروائيــة والقصصــية في عمليــة
التغيير خالل الفترة الممتدة ما بين نشأة هذين الفنين وبــاألخص منــذ أواخــر األربعينــات ،ذاك
أن األعمال الروائية والقصصية قبل ذلك لم تكن ســوى محــاوالت أوليــة لم تنضــج معالجاتهـاـ
ولم تنفتح مضامينها لتســتوعب قضــايا ومشــكالت جوهريــة في الواقــع السياســي واالجتمــاعي
المعيش
وحتى وقتنا الراهن ،وألن ثورة سبتمبر واستقالل الجنوب هما الحــدثان األهم في ســياق هــذه
الفترة حيث يتشكل بناء عليهما واقعان األول يقع قبلهماـ والثــاني يقــع بعــدهما ،فقــد اعتبرتهمــا
الدراسة حدثان محوريان لتقسيم مباحثها خالل فصولهاـ فكان منها مــا يــدرس الواقــع السياســي
واالجتمــاعيـ المتنــاول في هــذه األعمــال قبــل الثــورة واالســتقالل ،ومنهـاـ مــا يــدرس الواقــع
السياسي واالجتماعي بعد الثورة واالستقالل .
وقد درست ذلك من خالل تسليط الضوء على عناصر هذا الواقع باعتباره الواقع المراد تغييره
،فدرستـ الزمان والمكان وعالقة الشخصيات به ،ودرستـ الموضوعات والغايات التغييرية
مستندة في هذا التقسيم إلى معيار ضابط هو زمن الكاتب ،ذاك أنها تــرى أن الرؤيــة وأســلوب
التناول يختلفان ليس فقط باختالف ظروف الواقع ،وإنما أيضا باختالف موقع الكاتب من تلــك
الظروفـ .
وعلى هذا األساس تشكلت فصول ومباحث هذه الدراسة ،فكانت على النحو اآلتي :
المدخل :
وقد حمل عنوان ( دور الرواية والقصة القصيرة اليمنية في التغيير السياســي واالجتمــاعيـ ) ،
وتناول المباحث اآلتية :
-1الرواية والقصة القصيرة وعملية التغيير
-2خصوصية الدور التغييريـ للرواية والقصة القصيرة اليمنية
ج -الواقع السياسيـ واالجتماعي هدف التغييرـ
281
-1الزمن السياسي واالجتماعيـ في األعمال التي تم وضعهاـ في األعمال التي تم وضــعها
قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب
-2الزمن السياسي واالجتماعيـ في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثـورة الشـمال واسـتقالل
الجنوب ،وهي قسمان :
-أعمال شغلت بالزمن السياسيـ واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب
-أعمال شغلت بالزمن السياسيـ واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب
وفي هذا الفصل عمدت الدراسة إلى استجالء المحددات الزمانية المعلن عنهــا أو المضــمنة في
األعمال التي اشتمل عليها كل مبحث على حــدة ،ثم انتهت إلى بلــورة مالمح الــزمن السياســي
واالجتماعي للفترة مجال الدراسة المحددة فيه ،وفقا لرؤية كتابهــا ولمــوقعهمـ من الــزمن الــذي
يجرون عليه أحداث تجاربهمـ .
282
تكوين الوعي الرافض -1
إثارة الوعي بضرورة قيامـ الفعل الرافض -2
وهما غايتان تمثلتهما األعمال الروائية والقصصية التي وضعت قبل الثورة واالستقالل
تفعيل الوعي الرافض -3
تعزيزـ الوعي بأهمية الفعل الرافض -4
وهما غايتان تمثلتهما األعمال الروائية والقصصية التي وضعت بعد الثورة واالستقالل
لكنها اشتغلت بالواقعـ االجتماعي والسياسي قبل هذين الحدثين
إثارة الوعي بانحراف المسارـ -5
وهي غاية توجهت إليها معظم األعمال الروائية والقصصية الــتي وضــعت بعــد الثــورة
واالستقالل واشتغلت بالواقعـ السياسي واالجتماعي المتغير بعد هذين الحدثين .
وقدـ انتهت الدراسة إلى خاتمة دونت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها ،ومنها :
-1إن تجارب الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة قــد تجلت عن معالجــات تكشــف عن
مقدار واضح من االهتمام بحركة الواقع السياسي واالجتماعي للمجتمــع من حولهــا
في فتراته المختلفة .
-2إن الواقع السياسي واالجتماعي الــذي تكشــف عن مالمحــه هــذه المعالجــات يبــدو -
رغم اختالف طبيعته ما بين واقع يقع قبل الثورة واالستقالل وواقعـ يقــع بعــد هــذين
الحدثين المهمين – واقعا تجتمع مالمحــه المشــتركة عنــد انعكاســات فســاد األنظمــة
وسوء إدارتهاـ لشؤون البالد.
-3إن المكان السياسي واالجتماعيـ الذي تجري عليه هذه األعمــال أحــداثها يظهــر في
األغلب األعم بمالمح سلبية ،كما تظهرـ الشخصيات طرقا من التفاعل معه ومع ما
يجري عليه تختلف ضمن درجات متفاوتة بين السلبية واإليجابية .
-4إن هذه األعمال قد استوعبت أهم الموضوعاتـ التي شغل بها المجتمع اليمني خالل
فتراته المختلفة ،فكانت معظم موضوعاتها تدورـ حول قضــاياـ اجتماعيــة وسياســية
تتصل بمشكالت حقيقية يعاني منها المجتمع في الريف والمدينة حــال وقوعــه تحت
أنظمة عكست بقوة آثارها على األوضــاع االجتماعيــة وعلى حيــاة النــاس بمختلــف
شرائحهمـ .
-5إن هذه األعمال تظهر درجــة عاليــة من االلــتزام بقضــايا المجتمــع وتحــرص بشــدة
أثناء معالجتها موضوعاتهاـ على غايات محددة تبغي الوصول إليها من وراء إنشــاء
تجاربهاـ ،فتصويرـ الواقع لم يكن إال بهدف تغييره وتطويره .
283