You are on page 1of 283

‫الــقــسم الـــثـــاني‬

‫دور الرواية والقصة القصيرة‬


‫في التغيير السياسي‬
‫واالجتماعي في اليمن‬

‫المـــقـــدمـــة ‪:‬‬
‫تركــز الدراســة في هــذا القســم على الــدورـ الــذي اضــطلعت بــه األعمــال‬
‫الروائية والقصصية اليمنية في عملية التغيير السياسيـ واالجتماعي ‪ ،‬وهو الــدور الــذي تنبهت‬
‫إليه منذ وقت مبكر – معظم الكلمات التي قدمت لهذه األعمال ‪ ،‬فمن مقدمــة ( النــاب األزرقـ )‬
‫– مثالً نقتطف ‪ ":‬كما تشير هذه المجموعة أيضا َ إلى طبيعة الدور النضالي الذي اضطلعت بــه‬
‫القصة اليمنية ‪ ،‬في حشد الهمم وإيقاظ الوعي الجمــاهيري وإلهــاب الضــمائرـ الوطنيــة للنضــال‬
‫‪1‬‬
‫ضد القوى الرجعية واالستعمار في اليمن الطبيعية"‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) دار ابن خلدون ‪ /‬بيروت ‪1980‬م (ص‪) 7‬‬
‫ومن مقدمة ( اإلنذار الممزق ) نقتطف " على حــداثتها تعــد واحــدة من أبــرز الكتابــات األدبيــة‬
‫التي ساهمت بهذه الصورة أو تلك ‪ ،‬في التبشير باندالع ثورتيـ السادس والعشرين من ســبتمبر‬
‫والرابع عشر من أكتوبرـ الخالدتين ‪ ،‬وذلك بتنديدها فنيا ً باألوضــاعـ المجتمعيــة المتخلفــة آنــذاك‬
‫الــتي صــاغ خارطتهــا السياســية واالجتماعيــة واالقتصــادية والثقافيــة المســتعمرون اإلنجلــيز‬
‫وعمالؤهم في الداخل والخــارج " ‪ 1‬ومن مقدمــة ( ثــورة البركــان) نقتطــف " وفي أيامنــا الــتي‬
‫خلت قاسيناـ صنوفاًـ من اآلالم ‪ ،‬وكثيرا من الكبت في الرأي والقول والفعــل ‪ ،‬وقـدـ انطبــع كثــير‬
‫من ذلك في بعض القصص التي وردت في هذه المجموعة ‪ ،‬راسما ً فيها ما أحسست وما يحسه‬
‫كــل مــواطن في تلــك األيــام الســابقة من تــاريخ شــعبنا المجيــد ‪ ،‬أيــام الكفــاح من أجــل الحريــة‬
‫واالستقالل وقد وضعت ونشرتـ بعض هذه القصــص في ظـل تلـك الفــترة الكئيبـة ثم تفجـرت‬
‫الثــورة ‪ ،‬وعرفنــا صــنوفاًـ جديــدة من الكفــاح اإليجــابي وتضــحيات جمــة ‪ ،‬وبطــوالت خالــدة ‪،‬‬
‫وصمتت األقالمـ ‪ ،‬وخرست األلسن لتحل محلها طلقــات مــدافع البازوكــا ودويـ القنابــل ولعلعــة‬
‫الرصاص‪ ،‬ليسمع الغاصب صوت الشعب ( صوت الحق) ‪.2‬‬
‫ويتحددـ المجال الزمني للدراســة في هــذا القســم بــالفترة الممتــدة مــا بين نشــأة الروايــة والقصــة‬
‫القصيرة اليمنية منذ أواخر ثالثينات القرن العشرين وحتى وقتنا الراهن ‪.‬‬
‫ونتيجة لطول الفترة مجال لدراسة ‪ ،‬وتمفصلهاـ محطات شكلت نقاط تحول مهمة في تــاريخ‬
‫اليمن الحديث وفي فكر اإلنسان اليمــني الـذي عـايش ظرفـا ً تاريخيـا ً اختلفت طبيعتــة بــاختالف‬
‫الظرفـ السياسي واالجتماعي مــا بين واقعين مختلفين أحــدهما يقــع قبــل انفجــار ثــورة الشــمال‬
‫واستقالل الجنوب ‪ ،‬واآلخرـ يقع بعد انفجار ثورة الشمال واســتقالل الجنــوب ونتيجــة الختالف‬
‫الرؤية إلى هذا الواقع ‪ ،‬واختالف الغاية من وراء تصويره وإبرازـ مالمحــه بين كــاتب يســجل‬
‫لفترة ال يزال يحيا ظرفهـاـ ويضـطرب فيمـا يضــطرب فيــه واقعهـاـ الـذي يجــري عليـه أحــداث‬
‫روايته ‪ ،‬وكاتب يقف خارج فترته التي يدون لها موقف المتأمل الذي يتصور جريان األحــداث‬
‫ويتخيل التفاصيل من موقعه األمن ‪.‬‬

‫من هنا كان البد لهذه الدراسة من ‪:‬‬


‫‪ )1‬انتقاء عدد من الروايات والقصص القصيرة التي التقت فيها نماذج تصلح أن تنهض عينــة‬
‫ممثلة ومشبعة ‪ ،‬وتعميمها إلدارة حركة محاور هذا القسم عليهــا ‪ ،‬ومنهــا يتم اختيــار الوحــدات‬
‫التي يمكن إخضاعها لعملية الوصف والتحليل وفق منهج‬
‫يعتمد أسلوب تحليل المضمون الكيفي ‪ ،‬وهو منهج يهتم بدراســة المضــمون الظــاهر للخطــاب‬
‫ويتم استخدامه في وصف محتــوىـ مــادة هــذا الخطــاب وتحليلهــا بموضــوعية تامــة ‪ ،‬فال يتــأثر‬
‫الباحث بأهوائه الشخصية ودوافعه الخاصة ‪.3‬‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ ( االنذار الممزق ) د‪.‬م ‪1983‬م ‪( .‬ص‪) 10‬‬


‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير( ثورة البركان ) دار الهمداني ‪ /‬عدن ‪1983 /‬م ‪ ،‬ط‪( 2‬ص‪)7‬‬
‫‪ 3‬عبد الباسط محمد حسن ( أصول البحث االجتماعي ) دار التضامن ‪ /‬القاهرة ‪1982 ،‬م ط‪8‬‬
‫‪ )2‬اعتماد زمن الكاتب أساسا إلجراء حركة الدراسة خالل نماذجهــا المنتقــاه وذلــك لإلحاطــة‬
‫بالرؤىـ المختلفة وبلورتهاـ وفقا ً لزمن كاتبها وموقعه من الواقع الذي يجريـ عليه أحداثه ‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك ‪ ،‬ولكي يتم للدراســة غايــة اإلحاطــة بمحتــوىـ عنوانهــا المعلن لهــذا القســم ‪،‬‬
‫فإنها ستقيم حركتها فيه موزعه على النحو التالي ‪:‬‬
‫المــــدخــــل ‪ :‬دور الرواية والقصة القصيرة اليمنية في التغيير السياسي واالجتماعي ‪:‬‬
‫‪ )1‬الرواية والقصة القصيرة وعملية التغيير‬
‫‪ )2‬خصوصية الدور التغييريـ للرواية والقصة القصيرة اليمنية ‪.‬‬
‫ج) الواقع السياسي واالجتماعي هدف التغيير ‪.‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬الزمن السياسي واالجتماعي ‪:‬‬


‫أ) في األعمال التي تم وضعهاـ قبل ثورة الشمال واستقالل والجنوب ‪.‬‬
‫ب) في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثورة الشمال واستقالل والجنوب وتنقسم إلى ‪:‬‬
‫‪ -‬أعمال شغلت بالزمن السياسي واالجتماعيـ قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪.‬‬
‫‪ -‬أعمال شغلت بالزمن السياسي واالجتماعيـ بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الشخصيات وعالقتها بمكانها السياسي واالجتماعي ‪:‬‬
‫في األعمال التي تم وضعهاـ قبل ثورة الشمال واستقالل‬ ‫‪)1‬‬
‫الجنوب‪.‬‬
‫ب) في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب وتنقسم إلى‬
‫‪-‬أعمال اهتمت بالشخصيات وعالقتهاـ بالمكان قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫‪ -‬أعمال اهتمت بالشخصيات وعالقتها بالمكان بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‪.‬‬

‫‪:‬‬‫الفصل الثالث ‪ :‬الموضوع والغايات التغيرية‬


‫أوالً ‪ :‬المـــــــــوضـــــــــــوع ‪:‬‬
‫أ) في األعمال التي تم وضعهاـ قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‪.‬‬
‫ب )في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب وتنقسم إلى ‪:‬‬
‫‪ -‬أعمال اهتم موضوعهاـ بواقع ما قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‪.‬‬
‫‪ -‬أعمال اهتم موضوعهاـ بواقع ما بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الغــــــايــــــات التـــغــــيــــيرية‬
‫أ) تكوين الوعي الرافض‬
‫ب) إثارة الوعي بضرورة قيام الفعل الرافض ‪.‬‬
‫ج) تفعيل الوعي الرافض ‪.‬‬
‫د) تعزيز الوعي بأهمية الفعل الرافض ‪.‬‬
‫ه) إثارة الوعي بانحرافـ المسار ‪.‬‬
‫المــــدخــــل‬
‫دور الرواية والقصة القصيرة اليمنية في التغيير السياسي واالجتماعي ‪:‬‬

‫الرواية والقصة القصيرة وعملية‬ ‫‪)1‬‬

‫التغيير‬

‫ب) خصوصية الدور التغييري للرواية والقصة‬

‫القصيرة اليمنيةـ ‪.‬‬

‫ج) الواقع السياسي واالجتماعي هدف التغيير‬

‫دور الرواية والقصة القصيرة اليمنية في التغيير السياسي واالجتماعي ‪:‬‬


‫الرواية والقصة القصيرة وعملية التغيير ‪:‬‬
‫لقد سبقت الرواية في ظهورهاـ فن القصة القصيرة ‪ ،‬فالقصة القصيرة هي أحدث الفنون‬
‫األدبية ‪ ،‬إذ تم لموباسان اكتشافهاـ في منتصف القرن التاسع عشر ‪ ،‬ومــع ذلــك فــإن كال الفــنين‬
‫يكمل أحدهما اآلخر ‪ ،‬وهو تكامل تقيمه نقاط االفتراق بين هــذين الفــنين أكــثر ممــا تقيمــه نقــاط‬
‫االشتراكـ ‪.‬‬
‫فإذا كانا يشـتركان في بعض الســمات والطوابــع كالمرونــة وقابليـة التــداخل وفيـ كونهمـاـ فـنين‬
‫سرديين مصدرـ مادتهما واحد هو الحياة وحركة الواقع الحيــاتي ‪ ،‬فإنهمــا يفترقــان في رؤياهمــا‬
‫وفلسفتهما وفي الشكل والبنية وطبيعة الزوايا الملتفت إليها ‪ ،‬والوقائع المنتقاه ‪ ،‬وطبيعة تــرتيب‬
‫العناصرـ المكونة من حيث األولويــة واألهميــة ‪ ،‬ممــا ينعكس على هــذين الفــنين في مخرجهمــا‬
‫النهائي شكالً ومضمونا ً ‪.‬‬
‫فالرواية ‪ -‬التي تذهب في بناء عالمها‪ -‬المنتهية حركته بالضــرورة إلى معــنى‪ -‬إلى تنــاول‬
‫قطاعـ طولي من الحياة تتوغل أبعاده الزمنية عبر بنيتهــا األفقيــة ‪ ،‬وتســجلـ وقائعــه المنتقــاة أو‬
‫أحداثه التي تشكل نقاطـا ً مهمــة على طريــق إنمــاء حــدث يمــر بمراحــل من الصــعودـ والهبــوط‬
‫معتمدة في ذلك على مبـدأ التجميـع والحشـد ‪ ،‬لينتهي إلى نهايتـه المسـتقرة الـتي يسـتحيل معهـا‬
‫العالم الروائي المائج بالحركة والحياة إلى صفحة مختزلــة من صــفحات الخــبرة تلتمس لنفســها‬
‫مساحة من الذاكرة ‪ -‬هي فن مشابهة الواقع ال مطابقته ‪ ،‬ف " التعبير الــروائي يحــاول تك ـوير‬
‫التسطح الواقعي ‪ ،‬يدخل عليه زوايا أخرى للنظر ‪ ،‬ال يعود الواقع متجها َ خطيا َ وحيــداَ ‪ ،‬ولكنــه‬
‫‪1‬‬
‫يصبح مجموعة خطوط وألوان واتجاهات متعددة "‪.‬‬
‫وألنها كذلك فإن المساحة الفارقة التي يتضمنهاـ واقع المشابهة هي مســاحة االحتمــال لقيــام‬
‫الواقع المغاير ‪ ،‬حيث الواقع المرصــود الــذي عــادة مــا ينظرـ إليه بعيــون النقــد هــو هــدف هــذه‬
‫المغايرة ‪ ،‬فهاجس التغيير هو أساس موضوعي في فن الرواية ‪ ،‬وهو الهاجس المسيطرـ عليهــا‬
‫‪ ،‬فقد ظلت الرواية منذ أن وجدت الفضاء المتحررـ للتجــريب على مســتوىـ الشــكل ‪ ،‬ســوا َء في‬
‫بحثها الذاتي عن مالمح مائزة أو في بحثها الحــواري عــبر النــوعي ‪ ،‬ويبــدو أن خاصــية األفق‬
‫المفتوح التي انطوت عليها الرواية منذ البدايــة على مســتوىـ التشــكل والتحــولـ ‪ ،‬ومن منظــورـ‬
‫العالقة بغيرها من األنــواع ‪ ،‬هي الخاصــية الــتي جعلتهــا أرهــف من غيرهــا في التقــاط النــبرة‬
‫المتغــيرة لتعقــد األزمنة المتحولــة لعصــرناـ ‪ ،‬فحملت دائم ـا َ هــاجس التغيــير والتحــول بوصــفه‬
‫الحامل والمحمول في عالقات بنائها وظل هذا الهاجس موضوعها الــذي لم تكــف عن التهــوس‬
‫بــه على مســتوى الرؤيــة ‪ ،‬وحملهــا الــذي لم يفارقهــا على مســتوىـ البنــاء ‪ ،‬والمســافة بين هــذا‬
‫الهاجس ومبدأ الحوارية التي تبنى عليه الرواية بوصفه عنصرها التأسيسي هي نفسها المســافة‬
‫بين المبدأ ذاته ولوازمه التي تتحول بها الروايــة إلى فعــل كرنفــالي لألصــوات المقموعــة الــتي‬
‫تسعى إلى تدمير جدران السـجون المفروضة على اإلنسـان ‪ ،‬أو تحريـرـ اإلنسـان واإلبـداعـ من‬
‫كــل ألــوان الــتراتب القمعي ‪ ،‬فالروايــة هي فعــل التحــرر الــذي يمارســه القصــاص في بهجــة‬
‫كرنفالية تهدم جدران السجون وتنقض عالقات التراتب ‪ ،‬بما يطلق سراح المقمــوع والمكبــوت‬
‫‪2‬‬
‫والمسكوتـ عنه ‪.‬‬

‫‪ 1‬هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪1996‬م ط‪( 1‬ص‪) 13‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور( زمن الرواية ) دار المدى للثقافة ‪( .‬ص ‪) 260‬‬
‫وكون الرواية تستمد مادتها من الحراك االجتماعي والسياسي ألي مجتمع ‪ ،‬فإن عالقــة‬
‫جدلية من التأثير والتأثرـ تستمر ناشطة الوشائج بينها وبين المجتمع الذي تنبت فيه ‪ ،‬فكل تطورـ‬
‫اجتماعي أو سياسيـ هو منعكس عليها ومــؤثر على تطورهاـ وعلى تطــور األدب بعامــة ‪ ،‬وقــد‬
‫يكون هذا التأثير منصــبا َ على المضــامين والقضــايا المتناولــة ‪ ،‬أو منعكسـا َ من خالل األشــكال‬
‫والبنى الفنية ‪ ،‬فطبيعــة البنــاء الــروائي لــه عالقــة بالبنــاء االجتمــاعي الــذي يولــد فيه ‪ ،‬واألبنية‬
‫الروائية المختلفة تعكس تغييرات بنائية في مجتمعهاـ ‪ ،‬ويكون هذا االنعكاس أكثر وضــوحاَـ مــع‬
‫الروايــة الــتي تتســم " بمرونــة شــكلية هائلــة ســوا َء في التعبــير عن الفــرد وعن المجتمــع أو‬
‫االحتجــاج على الفــرد أو المجتمــع ‪ ،‬ولــذلك يصــفها نقادهــا بأنها نــوع ال يخضــع إلى قواعــد‬
‫ومواصــفاتـ وقــوانين ثابتــة ‪ ،‬وأن التغــير والتحــولـ والمرونــة الالنهائيــة هي أهم صــفاتها‬
‫خصوصا َ من حيث هي شكل مفتوح يظل دائمـا َ في حالــة صــنع ‪ ،‬فهي مغــامرات كتابيــة أكــثر‬
‫منها كتابة مغامرات " ‪ 1‬حتى يمكننا الذهاب في القول إلى أن األعمال الروائية لم تكن في جلها‬
‫إالَّ نماذج فنية تجسد بقوة لديناميات التغيــيرـ ‪ ،‬فــالحراكـ الــروائي يحيــل بالضــرورة إلى حــراك‬
‫اجتماعي وسياسيـ يسري في حـال تفاعــل متـوائم معــه ‪ ،‬فالروايـة العربيــة مثالَ س ظلت منـذ‬
‫بداياتهاـ " تسعى في إصــرارـ ال يلين إلى أن تكــون مــرآة المجتمــع المــدني الصــاعد ‪ ،‬وســالحه‬
‫اإلبــداعي في مواجهــة نقائضــه الــتي ال تــزال إلى اليــوم مقترنــة بتخلــف التعصــب والتســلط‬
‫‪2‬‬
‫والتطرف "‪.‬‬
‫وبينما ترتكز األعمال الروائية على مرتكز من الوعي الجمعي المتحقق بحركة المجتمع‬
‫الـذي تنشـأ ضـمن زمانـه ومكانـه االجتمـاعيين ‪،‬وفي الـوقت الـذي تشـكل فيـه حركتهـا ضـمن‬
‫ديناميــات التغيــير وأثرهاـ المتبلــور في الواقــع االجتمــاعي ‪ ،‬إذ هي تجربــة واقعــة في الــوعي‬
‫الجمعي وموقف نابع منه بالحتمية فال رواية بغير مجتمع تتشكل فيــه وال روايــة بال رؤيــة لمــا‬
‫يحدث فيه من تغييرات ‪ ،‬فإن حركة التغير االجتماعي الـتي تتجسـد عنهـا األعمـال الروائيـة ال‬
‫تشكل مجـرد موضـوعـ اجتمـاعي في تجربتهـاـ ‪ ،‬وإنما هي سـياق يحتضـنها تولـد فيـه وتتشـكلـ‬
‫وتنموـ متطورة ومطورة ‪ " ،‬فالرواية تبدأ حين يبدأ المجتمع الحديث في التكون ‪ ،‬عندما يتحول‬
‫المجتمع من جماعة مغلقة كلية متماثلة وثابتة إلى مجتمع مركب ومتفجــر ‪ ،‬مكــون من طبقــات‬
‫وفئات وإفرادـ ومصالح ومشاريع متعارضــة ومتصــارعة ‪ ،‬تبــدأ الروايــة عنــدما يفقــد المجتمــع‬
‫سكونه التقليدي وتراتـبيته وهامشية قواه ‪ ،‬ويبــدأ في التمــايز والتحــددـ تاريخيـاَـ واجتماعيـا َ " ‪، 3‬‬
‫تؤكــد على ذلــك طبيعــة التغيــيرات البنائيــة لمجتمعاتها الــتي تنبت فيهــا ‪ ،‬فهكــذا كــانت الروايــة‬
‫األوربية ‪ ،‬وهكذا كانت الرواية العربية " ملحمة الطبقة الوســطىـ ‪ ،‬ولكن في البحث عن هويــة‬
‫لها داخل مجتمع ينقسم على نفسه فيتمزقـ حاضره بين تقاليد ماضي ه وآفاق مستقبله بالقدر الذي‬
‫تتمزقـ به هوية هذا المجتمع بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثــالي منــاقض في وعــد المســتقبل ‪،‬‬
‫هذا البحث عن الهوية هو الذي جعل الرواية العربيـة تنطلـق من مفارقـة التغـير الـتي تفصـل‬
‫الماضي عن الحاضر من ناحية ‪ ،‬والحاضر عن تطلعات المستقبل من ناحية ثانيــة ‪ ،‬وفي هــذه‬

‫‪ 1‬المرجع ‪ ( .‬ص ‪) 52‬‬


‫‪ 2‬ا جابر عصفور ( زمن الرواية ) مرجع سابق (ص‪) 10‬‬
‫‪ 3‬هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مرجع سابق (ص‪) 11‬‬
‫المفارقة المزدوجة تقاطعت عالقات الذات القومية بتراثها العربي مع عالقتها بحاضر اآلخر (‬
‫الغربي ) داخل فضاء الرواية العربية ‪.1‬‬
‫وإذا كــانت الروايــة تكتســب أهميتها من كونهــا تــدون في العــادة التــاريخ اإلنســانيـ غــبر‬
‫الرسميـ ‪ ،‬إذ هي خطاب آخر ال يعلن عنه التاريخ السائد ‪ ،‬وهذه الحوادث المنسية التي ال تليق‬
‫بالتاريخ الرسمي ربما تقول بطريقتها هـذا التـاريخ اآلخر بكـنزه السـري للحيـاة العاديـة للبشـر‬
‫المخترقــة بالصــراعات الصــغيرة والكبــيرة والتغــريب الــذي يصــيبها ويملأ فراغ ـات التــاريخ‬
‫المعروفـ ‪ ،‬فيتحول بدوره إلى تاريخ ‪.2‬‬
‫فهي أيضا مهمة في ذاتها ‪ ،‬باعتبارها نصا إبداعيا ال يعكس وعي مؤلفه بواقعه فقط أو‬
‫بقدرة أداته المستخدمة ‪ -‬فالزبيريـ مثالَ " عندما كتب ( مأساة واق ألواق ) كــان قــد وصــل إلى‬
‫درجة عالية من النضج الفكري واألدبي ‪ ،‬أدرك معه محدودية دور الشعر مهما أعطاه صاحبه‬
‫من روحــه و حياتــه وثقافتــه ف ـأراد أن يجــرب هــذا الفن الســردي بتقنيــات تتناســب مــع وعيــه‬
‫وإحساسه بالمسؤولية تجاه قارئ يجهل التطور الــذي لحــق بعــالم الســرديات ‪ - 3‬وإنمــا تعكس‬
‫أيضا وعي جمهورها اآلخذ في االتساع يوما َ بعد يوم ‪.‬‬
‫غير أن أهميتها األكبر تكمن في كونها أنساقا ً أو أنظمة تؤسس لخطاب بقدر ما ينهض‬
‫دليالَ على الواقع ينهض أيضا مقياسا َ لطموح مفارقة هذا الواقــع ‪ ،‬فــالوعي الــذي كــان يترصــد‬
‫من الواقع عناصره السلبية يتحول في الرواية إلى وعي يشير إلى عناصر التغيير وضــروراته‬
‫‪ ،‬فيحاورـ نظمه المجتمعية ‪ ،‬ويناور قوانينــه التعبيريــة ويرصـدـ حركــة أفكــاره ومفاهيمــه الــتي‬
‫تفرزها متغيراته االجتماعية ‪ ،‬يستوي في ذلك اتفاقه مع مساراتها أو اختالفـه عنهـا ‪ ،‬فالروايـة‬
‫ال يتوقف عملها عند مجرد االكتفاء بتحقيق هــدف قــريب ‪ ،‬بــل تنشــط من خالل آلياتهــا وبناهــا‬
‫التكوينية كي تعمق أثرها عبر االمتــداد خالل منظومــة القيم الــتي تكمن وراء بنــاء المجتمعــات‬
‫وتطويرهاـ ‪.‬‬
‫ويساعد الروايـة وهي البنيـة التغييرية المتمـردة على القواعـد الجامـدة والمكبلـة ألشـكال‬
‫الخطــاب وبــنى التعبــير ‪ ،‬مــا تتســم بــه من كرنفاليــة هي أحــد أهم أســلحتها لتــدمير األنســاق‬
‫الأيديولوجيــه المغلقــة والجامــدة للعــالم الــذي تولــد فيــه ‪ ،‬حيث توضــع األطــرافـ المتجاوبــة‬
‫والمتنافرة في شبكة متوترة األبعـاد والمكونـات ‪ ،‬تظـل متواشجه الخيـوط موصـولة المكونـات‬
‫تتحطمـ فيها كل عالمات التراتب وألوان الحواجز ‪.4‬‬
‫ويساعد الرواية كي تصبح ذلك الفن الذي يتجاوز البـنى االجتماعيـة السـائدة ‪ ،‬ويحتضـن‬
‫عالما َ تتجلى فيه حركة القيم في صراعها المرتبط بـالمتغيراتـ االجتماعيـة والسياســية ‪ ،‬كونهـا‬
‫مضموناَـ قبل أن تكون شكالَ فنيا َ مما يمنحها إلى جانب حرية التشـكل مرونـة التنــوع واالمتـدادـ‬
‫كي تالمس أكثر المشكالت وأدقها ‪ ،‬ثم طبيعة بنيتها التكوينية التي تفرزهــا فنـا َ موضــوعياَـ فيــه‬
‫من الصـدق والجديـة والحيـاد المعتمـد على عنصـر القص المرتكـز ‪ -‬في أغلبـه ‪ -‬على منطـق‬
‫‪ 1‬جابر عصفور ( زمن الرواية ) مرجع سابق (ص‪)23‬‬
‫‪ 2‬أمينة رشيد ( تشظي الزمن في الرواية المعاصرة ) الهينة المصرية العامة للكتاب ‪1998‬م (ص‪)131‬‬
‫‪ 3‬مجموعة مؤلفين ( الثورة اليمنية سبتمبر – أكتوبر‪-‬ـ نوفمبر‪ -‬التحوالت السياسية واالجتماعية والثقافية ) وثائقـ ‪ ،‬وأبياتـ ندوة الثورة‬
‫اليمنية ‪ ،‬مركز الدارسات والبحوث اليمني ‪ /‬صنعاء في الفترة من ‪ 24 -23‬نوفمبر ‪2008‬م من دراسة للدكتور‪ /‬عبد العزيز المقالح بعنوان‬
‫( ثورة األدب وأدب الثورة ) (ص‪)23‬‬
‫‪4‬جابر عصفور ( زمن الرواية ) مرجع سابق ‪.‬‬
‫السببية ‪ ،‬وهو المنطق الذي يقترب بها من منطق التفسير التــاريخي لألحــداث ويحفــظ لهــا في‬
‫الوقت نفسه خصوصية النوع األدبي ببنيته التخييلية التي تؤثرـ عدم اإلفصاح المباشــر حيث "‬
‫يتوقـ األديب في رواياته إلى أن يشير إلى أمرما فال يفصح عنــه مباشــرة بــل يلمح إليه ‪ ،‬وهــذا‬
‫التلميح هو الرمز المقصود ‪ ،‬ويشكل هذا الرمز جزءا من أهم ركائز البناء النفسي لشخصــيات‬
‫الرواية ‪ ،‬وتصل الرواية إلى اإلتقان الفني بإبرازـ حدسها الرمزي " ‪.1‬‬
‫كما يساعد بناؤها المستعرض القائم على مبدأ تجميع الوقائع وحشدـ الجزئيات على تأكيد‬
‫شعورنا بانتمائناـ لعصرنا ‪ ،‬عصر التفوق العلمي والمعرفة دقيقة التخصص الــتي يصــبح معهــا‬
‫لكل جزء أهميته وحياته ‪ ،‬بل وتقوية شعورنا باألجزاء والمتناثرات من حولنا والهــوامش الــتي‬
‫يمكنها مع حركة هذا الفن وتحوله أن تنتقل في لحظة إلى مركز الحدث ‪.‬‬
‫كما أن هذا المبدأ من التجميع يعين الرواية على استيعاب مظاهرـ الحراك االجتمــاعي‬
‫والسياسي وعرض أسبابه وتفصـيالته كمـا يعكس إيقـاع الـزمن الخـارجي وتحوالتـه ‪ ،‬وتـأثيرـ‬
‫حركتــه على األفــراد والجماعــات من خالل إيقــاع الــزمن الــروائيـ وحركــة مجتمــع الروايــة ‪،‬‬
‫فسياســة الروايــة الــتي تقــوم فكرتهـاـ ‪ -‬في األســاس‪ -‬على إشــباع جهلنــا وفضــولناـ ‪ ،‬بــل وإزالة‬
‫الغشاوة عن أعيننا وتقديم صورة شاملة للواقع تغير نظرتنا لما يـرى منــه ‪ ،‬وتحولنــا إلى طاقـة‬
‫بحث ال تقتنع بمــا تــراه ‪ ،‬فليس الواقــع وفقـا َ لرؤيتهـاـ هــو هــذا الملمح المســطح والمصــمت من‬
‫العموم ‪ ،‬وإنما هنــاك دائمـا َ منــاطق تضــطربـ في معاناتهــا وتتــوارىـ بظلمتهــا ‪،‬منــاطقـ تختفي‬
‫بــدقائقها الصــغيرة وتفصــيالتها المهمــة ‪ ،‬تســتحق االستقصــاء والرصـدـ والتتبــع ‪ ،‬فهكــذا هي‬
‫الروايــة بنيــة ذات خصوصــية ال تتــوافر لغيرهــا من األنــواع األدبية ‪ ،‬فزمنهـاـ زمن اللحظــات‬
‫المتقدمة والفعل النامي المتطورـ زمن ينأي عن الثبات والجمود ‪ "،‬ولذلك تتبدىـ مالمح الحراك‬
‫االجتماعي فيها ويظهرـ تعاقب الزمن الخارجي على الفرد والجماعة داخل الرواية ‪ ،‬بــل وقــع‬
‫تحــوالت الــزمن الــروائي على تــداخل مســتويات النص ‪ ،‬فينفتح الفضــاء الــروائي ويتشــعب ‪،‬‬
‫وتحاولـ الشخوص أو الوظائفـ أن تغير من وضعها‪. 2‬‬
‫وتظهر القصة القصيرة وهي الفن السردي الذي يلتقي مع فن الرواية في عالقة تكاملية‬
‫ترتكزـ على نقاط االختالف واالفتراق رغم ما بينهما من منــاطق مشــتركة ‪ ،‬فالروايــة والقصــة‬
‫كما أسـلفنا فنـان قوامهما السـرد ومصــدرـ مادتهمـا واحــد هـو الحيـاة اإلنســانية وحركــة الواقـع‬
‫اإلنسانيـ تلك الحركة التي تطبعهـا بطـابع المرونـة والتجـدد وقابليـة التـداخل ‪ ،‬فمـع أن القصـة‬
‫القصيرة هي فن ذاتي يعبر بطريقة ما عن االجتزاء واالنتقاء ‪ ،‬ذلك االنتقاء الذي يسـتند بـدوره‬
‫إلى اختيار الذات وسطوتها أو إلى غنائية خاصة فإن للقصة القصــيرة وضعـيتها الخاصــة الــتي‬
‫تربطهاـ بشمولية الرواية وموضوعيتهاـ ‪.3‬‬
‫ونقاط االختالف تلك هي النقاط التي شكلت مدار الرؤية النقدية لفترة طويلة حيث لم يرى‬
‫النقاد القصة القصيرة إال من زاوية مقابلتها بالرواية ‪ ،‬رغم ما تتميزـ به من مقومات ذاتية ‪.‬‬

‫‪ 1‬د‪ .‬محبة حاج معتوق ( أثر الرواية الواقعية الغربية في الرواية العربية ) دار الفكر اللبناني ‪ /‬بيروت ‪1994‬م‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)28‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور ( زمن الرواية ) مرجع سابق (ص‪) 53‬‬
‫‪ 3‬خيري دومة ( تداخل األنواع في القصة القصيرة المصرية ‪1990 -1960‬م ‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ /‬القاهرة ‪1998‬م (ص‬
‫‪) .79‬‬
‫ولئن كانت فلسفة الرواية تقوم على تدوين حركة التاريخ اإلنساني غير الرسميـ عبر‬
‫زمن يستطيلـ ليحتوي حياة كاملة لشخصية أو لجيل أو لمجموعة أجيال ‪ ،‬معتمدة في ذلــك على‬
‫مبدأ التجميع والحشد واإلسهاب في التفاصيل إلرواء عطش القــارئ الشــغوف بــاالطالعـ على‬
‫حيوات إنسانية مختلفة ‪ ،‬وتقديم عالم فني هو في آخر األمر عالم مشابه للعالم الواقعي ‪ ،‬وحيــاة‬
‫ال تختلف كثيراَ عن الحياة الواقعية إالًّ من زاوية كونها حياة تنتهي بالحتمية إلى معنى تم بنــاؤه‬
‫عبر عمليــات مختلفــة من االنتقــاء واالســتبعادـ والحــذف والــترتيبـ وتوظيـفـ اآلليــات المشــكلة‬
‫واستثمار اإلمكانات التي يقدمها البناء الــروائي للكــاتب الحــاذق ‪ ،‬فـإن فلســفة القصــة القصــيرة‬
‫تقوم على منطق مغاير تماما َ ‪ ،‬فهي لم تنشأ‪ -‬كفن أدبي – إالَّ لتغطيــة تلــك اللحظــات والمواقـفـ‬
‫والوقــائع الــتي يتخطاهاـ البنــاء الــروائي ويتعــالى عليهــا حدثــه وهي لحظــات ومواقـفـ ووقــائعـ‬
‫يهددها الطمس نتيجة لعاديتها وبساطتها الظاهرة الــتي ال تثــير مــدون التــاريخ الرســميـ وغــير‬
‫الرسميـ ‪.‬إلى تسجيلها ‪.‬‬
‫فتأتي القصة القصيرة ‪ -‬التي ترى فلسفتها أن في الحياة لحظات عادية وبسيطة وعابرة‬
‫وربماـ هي في نظر الرجـل العـادي لحظـات تافهـة ‪ ،‬لكنهـا في نظـر المبـدع المرهـف لحظـات‬
‫عميقة مشبعة بمعنى كثيف وفريدـ ‪ -‬فتتلقف هذه اللحظات المنفلتة ‪ ،‬وتقبض عليهــا لتنتشــلها من‬
‫الضياع ‪ ،‬وتنقذها من الطمس والنسيان ‪ ،‬وتخلدها لوحات إنســانية خالــدة عــبر عمــل قصصــي‬
‫مثير ومدهش ‪.‬‬
‫وبينما تهتم الرواية ببناء الحــدث وتشــكيل الشخصــية وتتبــع أوصــافهاـ واستقصــاء مالمح‬
‫المكان وأوصافه ‪ ،‬تبني القصة القصيرة عالمها الخاص على معنى أثيري يستقطبهاـ ‪ ،‬فــالمعنى‬
‫هو المكون األساس المتحكم ببنيتها وحركة إيقاعها الذي ينسل خفيا َ ‪ ،‬إليه تــذهب كــل مكوناتهــا‬
‫التي تنشط متواثبـة في اتجـاه نقطـة كشـفه ‪ ،‬نقطـة التنـوير عنـد نهايتهـا الـتي تتشـكل ‪ -‬دومـا َ ‪-‬‬
‫مفارقة ومفاجئة ومنقلبة ‪ ،‬وتحرص القصة القصــيرة في ســعيها إلى مغزاهــا بقــوة على وحــدة‬
‫األثر واالنطباع الذي تكرس إلحداثه جميع عناصرها ‪ ،‬و تساعد على تحقيقه بنيتهــا القصــيرة‬
‫وإيقاعها المسيطر لحظة القراءة الــتي تتم في جلســة واحــدة على األكــثر ‪ ،‬هــذا األثر ال يتحقــق‬
‫موحداَ مع عالم الراوية بحكم احتوائها على وقائعـ كثيرة ‪ ،‬وشخصيات متعددة تتشعب عالقاتهــا‬
‫ضمن زمن ممتد ‪ ،‬ومع هذا التشــعب والتعــدد والحشـدـ يصـعب أن تشــكل لــدى جميــع القــراء ‪-‬‬
‫الذين تختلف مشاربهمـ وتراكماتهم ومواقفهم ‪ -‬أثراً واحداَ ‪.‬‬
‫والقصة القصيرة هي بناء رأسي يتنــاولـ قطاعـا َ عرضــيا َ من الحيــاة ‪ ،‬وتكتفي بتصــوير جــانب‬
‫واحد من حياة فرد أو زاوية من زوايا شخصية إنسانية ‪ ،‬أو موقفـ من مواق ـفـ الحيــاة ‪ ،‬تســلط‬
‫عليـه الضـوء دقيقا تمامـا َ كاألشـعة المقطعيـة ‪ ،‬والقـارئ يجـد نفسه ‪ -‬مـع وحـدة مقـام القـراءة‬
‫مضــافاَـ إليها قصـرـ النص‪ -‬متمكنـا َ من جميــع المعطيــات المقدمــة والمعروضــة فيهــا ‪ ،‬المكــان‬
‫بتفاصيله وحدوده ‪ ،‬والزمن الذي يصبح بين يديه تشـكيالَ مدهشـا َ ‪ ،‬إذ هـو حضـور آني للحظـة‬
‫قصيرة وعابرة قد غدت خالدة دائمة الحضورـ ‪ ،‬لتنبسط أمام ناظريه يتأملها ويفتش في خباياهـا‬
‫ليخرج في آخر األمر أكثر عطشا َ وشغفا ‪ ،‬فبنية القصة القصيرة بنيــة مراوغــة تــوهم بالكشــف‬
‫وغايتها اإلخفاء ‪ ،‬فهذا المكتــوب يخفي أكــثر ممــا يبــدي ويكشــف ‪ ،‬وهكــذا هــو الفن العظيم مــا‬
‫يقولــه " يســتمد قيمتــه ممــا ال يقولــه ممــا يــوحي بــه " الفن العظيم ‪ :‬هــو الــذي يــدرك روح‬
‫األشياء ‪ ،‬وهو الذي يدرك ما يربـطـ الفــرد بالكــل ‪ ،‬مــا يربـطـ كــل جــزء من اللحظــة بالديمومــة‬
‫األبدية " ‪ . 1‬وإذا كانت الرواية ابنــة اللحظــات المتعاقبــة تمامــا كــالنهر المتــدفقـ من المنبــع إلى‬
‫المصب ‪ ،‬وحيث االمتداد األفقي للمنظورـ والمتابعة المتعاقبة يكــون عــالم يتحقــق فيــه اإلشــباع‬
‫واالرتــواء ‪ ،‬ولـذلك تنتهي الروايـة إلى نهايتهـا المسـتقرة الـتي تسـتحيل بعـدها إلى صـفحة من‬
‫صفحات الخبرة المحتواة في الذاكرة ‪ ،‬فإن القصــة القصــيرة‪ -‬كمــا يــرى نقادهــا ‪ -‬ابنــة اللحظــة‬
‫العــابرة تمامـا َ كدوامــة طــرأت على جسد هــذا النهــر أو على صــفحته تشــكلها لحظــة محــدودة‬
‫المساحة قصيرة الـوقت مهــددة بـالأفول واالنطفـاء ‪ ،‬وحـدثهاـ الجـزئي ينشــأ مبتـورـ الصـالت ‪،‬‬
‫مقطوعا َ عما كان قبله أو ما يأتي بعده ‪ ،‬واالجتزاءـ هو أحد الحلــول الموضــوعية لبنــاء ســرديـ‬
‫يتــوزع بين رغبــتي الرصــد والتأمــل " ومــا يفرضــه هــذا التأمــل من تحديــد المســاحة الحاويــة‬
‫للتفاصــيل ذاك أن مســاحة تمتــد نحــو العمــق ليســت بحاجــة إلى مزيــد من التفصــيل الظــاهري‬
‫الضاج قدر حاجتها إلى التبصر العميق الصامت ‪.2‬‬
‫وتقوم البنية الروائية على توغل الزمن ‪ ،‬بينما تقوم البنية القصصية على توغل الشخصية‬
‫اإلنسانية التي تصور موقفها في لحظة من الوعي الحاد شديد الدقــة ‪ ،‬وشخصــيتها تختلــف عن‬
‫الشخصية في العمل الروائي فليس للقصة القصيرة ذلك البطل النموذج المعروفـ في الرواية "‬
‫ففي القصة القصيرة شخص عادي ومغمور ‪ ،‬فالقصة ال تتمركزه وإنما تتمركز المعنى ‪ ،‬وهــو‬
‫‪3‬‬
‫أحد اآلليات التي تؤدي إلى معنى "‬
‫ومبتدأـ هذه الشخصية ومصيرهاـ يقعان خارج الزمن المحدودـ باللحظــة المختــارة ‪ ،‬غــير أن‬
‫هــذه الشخصــية الــتي تظهــر تحت تهميشــها وانهزامهــاـ وانســحاقها واضــطرابها أحيانــا ً هي‬
‫شخصية مثيرة إلى حد بعيد ‪ ،‬تقدم لنا " انطباعا ً مثل االنطباعـ الذي كثيراً مــا نأخــذ ه من أنــاس‬
‫في حياتنا ‪ ،‬فهؤالء النــاس يــأتون من أوســاط ال نعرفهـاـ ‪ ،‬ويعيشــون معنــا فــترة من الــزمن ثم‬
‫يختفون إلى مكان غير معروفـ ‪ ،‬وال يتركون معنا إالَّ انطباعا ً يثبت حقيقة وجــودهمـ وشـعوراً‬
‫‪4‬‬
‫بحب االستطالعـ المحير الناتج من غموض بداية ونهاية وجودهم ‪.‬‬
‫وتسهمـ القصة القصيرة كما تسهم الرواية في إحداث تغييرات حقيقية على مســتوى الواقــع‬
‫االجتماعي والسياسيـ ‪ ،‬فكال الفنين مصدر مادتهماـ واحد هـو الحيـاة ‪ ،‬وحـراك الواقـع الحيـاتي‬
‫المعيش ‪ ،‬وعناصرـ التكوين وآليات البناء ‪ -‬رغم اختالف التوظي ـفـ بينهمــا ‪ -‬هي في جوهره ـاـ‬
‫واحدة ‪ ،‬وبقدر ما تمتلك الرواية والقصة القصيرة من أســاليب التمثيــل الكنــائي وآليــات اإليهــام‬
‫بالواقعـ التي تقوي الشعور بحقيقة ما يجري وواقعية ما يحدث ‪ ،‬بقدر مــا تمــدان أهــدافهما عــبر‬
‫خطوطـ مختلفة بعضها ينطلق في اتجاه الواقع الــذي تســعيان إلى تغيــيره عــبر تســليط الضــوء‬
‫على مناطقـ السواد والعتمة فيه ‪ ،‬ولفت االنتباه إلى مساوئه واقــتراح الحلــول أحيانًــا وعرضــهاـ‬
‫عرضا ً حاذقا ً ‪ ،‬وبعضهاـ اآلخر يمتد باتجاه واقع تسعيان إلى خلقه وتمكينه ‪.‬‬

‫‪ 1‬جان ماري جويو ( مسائل فلسفة الفن المعاصر ) دار التغطية العربية ‪ /‬بيروتـ د‪ .‬ت (ص‪) 14‬‬
‫‪ . 2‬حفيظة قاسم سالم من دراسة بعنوان ( بينية التكوين في القصة اللوحة ) مجلة كلية اآلداب جامعة الحديدة ‪ ،‬العدد الثاني ‪2011 /‬م ‪ .‬ص‬
‫‪15‬‬
‫‪ 3‬شاكر عبد الحميد ( األسس النفسية لإلبداع األدبي في القصة القصيرة خاصة ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ /‬القاهرة ‪1992‬م ‪.‬ص‬
‫‪431‬‬
‫آيان رايد ( القصة القصيرة ) ت‪ .‬منى نؤنس ‪ /‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1990‬م ‪.‬ص‪124‬‬ ‫‪4‬‬
‫فالشخصيات المعروضة والعالئقـ القائمة بينها والمكان الذي تتحركـ فيه والحوارات الــتي‬
‫تنشب بينها مهما تكون قريبة إلى الواقع ليست سوى عوالم افتراضية ‪ ،‬كما يطبعها هذا العــالم‬
‫التخيلي بهذه السمة ‪ ،‬ومن هنا فإن فرصة تغيير الواقع المحيط عبرهما تبــدو كبــيرة ‪ ،‬فمســاحة‬
‫الحريــة المتاحــة خاللهمــا تمكنهم ـاـ من طــرق مــا اليمكن طرقــه وتنــاول مــا ال يمكن تناولــه ‪،‬‬
‫فعرض الشخصية وهي تتفاعل مع األحداث وكيف يمكن أن تؤثر فيهــا وتحولهـاـ ‪،‬هي صـورة‬
‫حيه مقدمة كنمــوذجـ للفعــل اإليجــابيـ لإلنســان في واقعــه ‪ ،‬ذلــك الفعــل الــذي يــدفعنا لالنتفــاض‬
‫لنخرج مما نحن فيه ‪ .‬ومع كون القصة والروايــة فــنين يرتقيــان ويزدهــران حيث تســود حريــة‬
‫الرأي وقبولـ اآلخر ‪ ،‬فإنهما ال بد واجدان لنفسيهما مكانا ً تساعدهما في ذلك آلياتهما المخاتلــة ‪،‬‬
‫وما تتسمان به من توغل في الشــعبية والجماهيريــة ‪ ،‬فالشخصــياتـ المنتقــاة لعمــل قصصــي أو‬
‫روائيـ هي ‪ -‬في العــادة ‪ -‬من بين أوســاط بســطاء الطبقــة الشــعبية والمتوســطة ‪ ،‬وهي الطبقــة‬
‫االجتماعيــة األغلب وجمهــورـ القــراء يتشــكل في معظمــه من أبنائهــا ‪ ،‬ممــا يشــعرهم بقربهــا‬
‫وتمثيلهاـ لهم ‪ ،‬ويعززـ شعورهم بأهميــة دورهمـ ‪ ،‬إذ وهــذه الشخصــيات هي المجتمــع المتحــرك‬
‫والمسيطر في هذا العالم المعروض ‪ ،‬تؤثر وتتأثر وهذا العالم هو عالمهم ‪ ،‬أو هو يشبه عالمهم‬
‫الفعلي والحياتيـ الذي يضطربون في معاناته ‪ ،‬فما تعانيه هذه الشخصية هي معاناتهمـ وحركتها‬
‫هي حركتهم ‪ ،‬وما تفعله بالتأكيد ليس بعيداً عما يمكنهم فعله ‪.‬‬
‫كــذلك تصــويرـ المكــان بتفصــيالته الدقيقــة ‪ ،‬بحفــره وأوحالــه وذبابــه وقاذوراتــه ‪ ،‬أزقتــه‬
‫وحواريــه ‪ ،‬دروبــه وأحيائــه ومقاهيــه ‪ ،‬ومــا وراء جدرانــه المغلقـة ‪ ،‬ومعتقالتــه وســجونه هــو‬
‫مكانهم ‪ ،‬وما تخلص إليه حركة الناس هو نفسه الذي بإمكانهمـ أن يخلصواـ إليه ‪ ،‬هذا اإلحساس‬
‫بحميمة المكان يجعل للرواية أثراً أقوىـ ‪.‬‬
‫فالرواية والقصة القصيرة هما بالفعل المجال الحيوي لحركة األفــراد والمجتمعــات بتشــكيالتها‬
‫المختلفة ‪ ،‬وهما الساحة والفضاء الذي يتحرك فيه مجتمع ما بكــل تشــكيالته ‪ ،‬عمالــه وفالحــوه‬
‫وجنوده وصيادوه ومعلموه ومثقفوه ‪ .......‬الخ ‪.‬‬
‫فالفضــاء الكنــائي في هــذه األعمــال ‪ ،‬وفيـ الروايــة على وجــه الخصــوص لــه خصوصــية‬
‫أثيرية ‪ ،‬إذ هي تجسد وتصورـ أماكن تحتشد بالحركة والحياة ‪ ،‬هذه األمــاكن هي هــدف التغيــير‬
‫ومنبعه الحقيقي وأناسهاـ هم فعل التغيير وقوته بـل ومادتــه ‪ ،‬وبالتــالي فــإن هــذا الفضـاء يشــهد‬
‫حركة دائمة وتحوالً مستمراً ‪.‬‬
‫وتلعب اللغة القصصية والروائية ‪ -‬بما تتسم بــه من بســاطة وسالســة وتلقائيــة تمكنهــا من‬
‫الخوض في شــؤون الحيــاة اليوميــة ‪ ،‬وتفســح لهــا مكانـا ً أوســع بين بســطاء النــاس الــذين قــد ال‬
‫يمتلكون من أدوات التذوقـ الشعري ما يؤهلهم لتذوقه ‪ -‬دورها في ذلــك ‪ ،‬وببســاطة شــديدة هي‬
‫لغة داعمة لهم ‪.‬‬
‫فالرواية والقصة القصيرة تخاطبهمـ بلسانهمـ وبمستوى لغتهم التي يجيدون فهمهاـ والتعامل‬
‫معها ‪ .‬فقيمة أي نص أدبي ترد إلى " ما تتجسد به رؤاه في الحيــاة وبالحيــاة ‪ ،‬وإلى مــا يرســمه‬
‫القاص بواسطة معطيات الحياة الحية من عوالم إبداعية يراها ويحسها عامة أهل الحياة ‪ ،‬ألنها‬
‫متصلة بعواطفهم ومشاعرهمـ وبالواقع المحسوسـ في الكون الـذي ال يستعصــي على اإلدراك ‪،‬‬
‫وال يحتاج إلى انقطاع ودراسة قد يحــوالن بين الشــخص وبين أن يــدرك كثــيراً ممــا في الحيــاة‬
‫‪1‬‬
‫غير ما انقطع له واختص به "‬
‫خصوصية الدور التغييري للرواية والقصة القصيرة في اليمن ‪:‬‬
‫ونتيجة لما يتمتع به الخطاب الروائيـ والقصصي من إمكانات أصبحت معها " لغــة األدب ال‬
‫تنفر من الخوض في شــؤون الحيــاة العاديــة واليوميــة أو مشــاكل الطبقــات الــدنيا ‪ ،‬بــل تتســع‬
‫‪2‬‬
‫مفرداتها وأساليبها لتصويرـ كل زاوية والدخولـ إلى أزقة الحياة الشعبية "‬
‫وهي إمكانات غذته بها الرؤية الواقعية التي تحول إليها بعد بداياتـه الرومانسـية ‪ ،‬فـاألدب‬
‫الواقعيـ " كان وال يزال أدبا ً موجها ً مباشرة إلى القارئ ‪ ،‬ألنه يعالج قضاياه ومشاكله وأزماتــه‬
‫النفســية في مختلــف مراحــل حياتــه ‪ ،‬وهــذا األدب قــريب من مفهــوم القــارئ ألنــه يكتب عن‬
‫موضوعاتـ يعيشها في واقعه اليومي ال يمكن أن يتخطاها أو يتجاهلها ما دام اإلنسان حيا ً " ‪.3‬‬
‫فإنــه وحــده الخطــاب القــادر على أن يلعب دوراً مؤسسـاًـ لخلــق قاعــدة من جــودة االتصــال‬
‫وفاعليــة االســتجابة المتبادلــة بين األدب وجمهــورـ القــراء " فهــو من أكــثر العوامــل الفعالــة‬
‫والمؤثرة في أي مجتمع وتحديدـ نفســياته " ‪ 4‬بتجســده حركتــه واســتيعابه ظــواهره ‪ ،‬وهــو ‪ -‬بال‬
‫شك ‪ -‬ال يولد في فراغ ‪ ،‬وال يصنع نفسه منفصالً عن المهيئــات ‪ ،‬فال يمكن ألي عاقــل أن يفهم‬
‫لحظة ميالد فن كفن الروايــة أو القصــة القصــيرة وهي فنــون تســتقي مادتهــا من حركــة الحيــاة‬
‫وتفاعل الجمهورـ إالًّ من خالل كونها تجربة واقعـة في الـوعي الجمعي لمجتمـع مـا ‪ ،‬أو موقفـا ً‬
‫نابعا ً من هذا الــوعي أو رؤيـة لمـا يحــدث من تغيــيرات في البــنى االجتماعيـة والسياســية الـتي‬
‫يحتويهاـ ‪ ،‬فالروايــة والقصــة القصــيرة ال تنشــآن ضــمن عوامــل خارجــة عن الزمــان والمكــان‬
‫االجتماعيان ‪ ،‬وإنما تتشكالن ضمن دينياميات التغيير وأثرهــا المتبلــور في الواقــع االجتمــاعي‬
‫بمضامينها المختلفة ‪ ،‬فتأتيان مستجيبان لقوة تأثيرات خطابات أخرى تسبقهما أو تعاصــرهماـ ‪،‬‬
‫فالصيغـ الفنية القصصية والروائية ال تولد إال ضمن بنيات سياســية واجتماعيــة وثقافيــة تتــواءم‬
‫معها ‪ ،‬فهناك دوما ً عالقة تناظر حاصلة بين بنية الشكل الروائي والبنى المعاصرة له ‪.‬‬
‫وألن هذه البنى في المجتمع اليمني بــني شــديدة التقليديــة والصــالبة ‪ ،‬فــإن ظهــورـ مثــل هــذه‬
‫األبنية الفنية لم يتحقـق إالَّ بعـد أن تـآزرـ ‪ -‬وإن بشـكل غـير مقصـود ‪ -‬الشـعر بنوعيـه العـامي‬
‫والفصيح اآلخذ بأسباب الجديد مــع المقالــة عــبر الصــحافة ‪ ،‬الــتي لعبت دوراً مهمـا ً في تنشــيطـ‬
‫الهمم نحو حركة بعث جديدة وكانت وسيلة ناجحة لتغذية العقل وتربيــة الــرأي وإثــارة الفكــر ‪،‬‬
‫فهيأا معا ً الوعي الشعبي واألدبيـ لتقبل األدوار التي نهضت بمهامها الرواية والقصــة القصــيرة‬
‫في اليمن بعد ذلك ‪.‬‬
‫ومــع تفهمنــا حقيقــة أن التغيــيرـ الــذي تحدثــه الروايــة والقصــة القصــيرة ال يكــون مباشــرا‬
‫وسريعا ً ‪ ،‬ومع قناعتنا بحقيقة العالقة األكيدة بينهما والتغيــير الــذي يشــهد كـل يــوم تسـارعا ً في‬
‫مجتمعنا ‪ ،‬فإن هذا ال يصرف اعتقادنا إلى أن اتجاه التغييرـ يتخذ مساراً واحداً ‪ ،‬فقد يحدث أوالً‬
‫واع ‪ ،‬وقدـ يحدث فجأة ‪ ،‬وقد يحدث كحصيلة‬ ‫في وعي اإلنسان وتصوره وقد يحدث بشكل غير ٍ‬
‫‪ 1‬جابر عصفور ( زمن الرواية ) (ص‪) 111‬‬
‫‪ 2‬محمد زكي العشماوي ( األدب وقيم الحياة المعاصرة ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ ،‬اإلسكندرية ‪ ،‬د ‪ ،‬ت (ص‪) 186‬‬
‫‪ 3‬محبة حاج معتوق ( اثر الرواية الواقعية ) (ص‪) 15‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 28‬‬
‫آلالف ردود األفعال الصغيرة وما ينشأ عنها ‪ ،‬لكننا نعلم أكيداً أن التغيير الذي تحدثانــه في أي‬
‫مجتمع يوم أن تحدثانه يصبح ضاربا ً جذوره في أعماقه مما يكشف عن قدرة هذين الفــنين ليس‬
‫فقط في استيعاب حركة التغيير واحتواء ظوهراهاـ ‪ ،‬وإنما في هضمها وتمثلها وتغذيـة دوافعهـاـ‬
‫التي تدفعها نحو األمام واستقصاء معيقاتها والوقوف في وجه كوابحهاـ ‪.‬‬
‫وفيـ اليمن حيث تكشــف التجربــة الروائيــة والقصصــية عن عالقــة قويــة بحركــة التغيــير‬
‫االجتماعي السياسي ‪ ،‬وهي عالقة تشير إلى اكتساب هــذه التجربــة طابعــا سوســيولوجياـ يتمــيز‬
‫بتشابكه العضوي مــع الظــرف التــاريخي لهــذه الحركــة ‪ ،‬فــالتغييرـ في اليمن قــد أوجــد الروايــة‬
‫والقصة القصيرة اللتين استوعبتاه كما لم يســتوعبه فن آخــر حــتى تجســدتا بــه حالــة ممــيزة من‬
‫احتفاء الفن بالمتغيرات االجتماعية ‪ ،‬بل وحالة من سعيه إلى خلــق هــذه التغيــيرات وإحــداثها ‪،‬‬
‫فلم تكونا مجرد مستودعـ أو نموذج فـني يعكس هـذه التغـيرات ‪ ،‬وإنمـا تشـكلتا منبعـا َ ومصـدراَـ‬
‫لها ‪ ،‬وألنهماـ قد حددتا مجالهما الذي يضمن لهما حالــة من التجــاوب في بيئــة ذات خصوصــية‬
‫يمنية ‪.‬‬
‫فقــد ســعتا من تشــكيالتهماـ ‪ -‬في بــادئ أمرهمــا ‪ -‬إلى أن تصــبح هــذه التشــكيالت نموذجـا َ‬
‫الستيعاب الواقــع ومواءمـة حركتـه مـع مــا يتقبلــه من مســتويات فنيــة ‪ ،‬متنـازلتين في صـياغة‬
‫أهدافهماـ عن بعض القيم الفنية من أجل خلق أرضية من التقبل لــدى جمهــور القــراء ‪ ،‬فتــذرعتا‬
‫برؤىـ ال تقدم كثيراَ لمقاييس‬
‫األبنية الروائية والقصصية المتطورة ‪ ،‬كتلــك البــدايات الرومانســية المضــخمة بنقــد بعض‬
‫التقاليد والسلوكيات االجتماعية ‪ ،‬والهادفة إلى خلق مجتمع يتسم بعالقات إنسانية أفضل‪ ،‬والتي‬
‫نجــدها في ســياق القصــة القصــيرة والروايــة في مراحلهمــا األولى ‪ ،‬وهــو ســياق لم تنفــرد بــه‬
‫التجربة اليمنية ولم تختلف فيه عما جرى على المشهد األدبي في بقيـة األقطــار العربيــة حين "‬
‫كان األسلوب االبتداعي أو الرومانسي هو األسلوب الغالب على المشاعر واألذواق في الشرق‬
‫العربي في أوائل هذا القرن ‪ ،‬ألنه األسلوب الذي يجمع بين الفكر والعاطفة والخيال في صــور‬
‫جميلة عن الفن ‪ ،‬وألن حياتنا االجتماعية كانت ال تــزال بســيطة لم تتعقــد بعــد ‪ ،‬فال تحتــاج من‬
‫الكاتب التحليل والتعليل والكشف ‪ ،‬ثم كنا وكان النـاس يومئـذ انفعـاليين نتـأثر بسـبحات الخيـال‬
‫أكثر مما نتأثر بصـدق الواقــع ونطـربـ للصـورـ البيانيـة الـتي تهـز القلب والوجــدان أكـثر ممــا‬
‫نطرب للصورـ الواقعية التي تحرك العقل والذهن ‪.1‬‬
‫ثم أخذت تركز مضامينهاـ الموجهة إلى نقد العادات والتقاليد االجتماعية والوقوفـ في وجــه‬
‫الســلوكيات المرفوضــة من خالل تجــارب تهــدف إلى خلــق مجتمــع ينعم بعالقــات اجتماعيــة‬
‫وإنسانية أفضــل ممــا هي عليــه ‪ ،‬وإن ظلت الشخصــية فيهــا تمثــل فــرداَـ يعيش أزمتــه الخاصــة‬
‫وهمومه الذاتية بعيداَ عن التفاعل مع أحداث البيئة االجتماعية والتأثرـ بها ‪.‬‬
‫ثم أخذت تــدخل في قضـاياـ اجتماعيـة وسياســية هي أقــرب إلى القضـايا الحقوقيــة العامــة ‪،‬‬
‫هادفة من وراء عرضــها إلى نقــد واقــع هــذه القضــايا وإثــارة االنتبــاه إليهــا ‪ ،‬كحــق اليمــني في‬
‫الحرية وحق الفالح في العيش بسالم على أرضــه ‪ ،‬وحــق المــرأة في اختيــار شــريك حياتهــا ‪،‬‬
‫وحقها في التعليم والعمل ‪.‬‬
‫‪ 1‬عبد المحسن طه بدر ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر ‪1938 -1870‬م دار المعارف ‪ ،‬القاهرة ‪( .‬ص‪) 229‬‬
‫ثم تطور األمر لتصبح الزواياـ المتناولـة أكـثر تحديـداَ وتصـبح التنـاوالت ‪ -‬مـع اإلقـرار‬
‫بحال التباين بين الكتاب في مستوى اإلفادة من التكنيك القصصي والروائيـ ‪ -‬أكثر دقة ومهارة‬
‫حيث أخذ الكتاب يسلطون أضواءهم الكاشفة على حيــاة بعض الشــرائح االجتماعيــة حين تجلى‬
‫لهم أنه " في كل مجتمع أنواع من الناس ‪ ،‬وفي كل نوع أناس متشابهون فيمــا بينهم ‪ ،‬يتحــدون‬
‫في أحوال ميالدهم ونشأتهمـ ويتفقون في مصالحهم وحاجاتهم وأذواقهم وعاداتهمـ وثقافاتهم كمــا‬
‫يتفقون في بواطنهمـ ‪ ،‬فإذا رأى المرء واحدا منهم فقد رآهم جميعا َ " ‪ 1‬فظهر العمال والفالحون‬
‫والصيادون وتجلت حياتهم بما يعانون فيها من ظلم وقهـرـ ومــا ينشــدون من إنصــاف ‪ ،‬وتجــرأ‬
‫الكتاب حتى أخذ الواحد منهم يشير بإصبع اإلدانة إلى النظامـ االجتماعي والسياسي الذي غابت‬
‫عن برامجه كافة الضمانات التي تضمن للفقراء والمعدمين والعاجزين حياة كريمــة ‪ ،‬كــل هــذا‬
‫في أعمال جاءت نهاياتها في أغلب األحيان مضمنة بحلول مقترحة مبشرة ومتفائلة ‪.‬‬
‫كما لم تغفل هذه األعمال في معالجتها زواياهاـ تصوير بعض مظاهر الكفاح الوطنيـ الذي‬
‫خاضته الطبقات الشعبية ضد االحتالل البريطانيـ في الجنــوب ‪ ،‬مقدمــة خالل هــذه المعالجــات‬
‫شخصيات هي أقرب إلى النمـوذج االجتمــاعي الـذي يحمـل خصـائص طبقـة اجتماعيــة بـذاتها‬
‫ويعبرـ عن أفكارها وقيمهاـ ‪ ،‬ومن ثم يمكن أن يكون هذا النــوع من األعمــال مصــدراَـ ‪ -‬إلى حــد‬
‫‪2‬‬
‫ما ‪ -‬من مصادر التاريخ للحقبة الزمنية التي تقع فيها أحداثها‬
‫وقدـ حملت الرواية والقصة القصيرة اليمنية على الدوام هما َ اجتماعيا َ وسياســيا َ كشــفت‬
‫عنه عناوينهاـ بوضوح ‪ ،‬ووقفت على مشــكالت يعــاني منهــا النــاس ‪ ،‬معتمــدة في ذلــك على‬
‫إحساســهاـ العميــق بــالواقع الــذي تنتقي منــه تجاربهــا الــتي تعكســها بــوعي يمــتزج فيــه الهم‬
‫السياس ـيـ بــالهم االجتمــاعي لــدى كتابهــا الــذي عكســت كتابــاتهمـ عميــق االنتمــاء الوطــني‬
‫والتضامن االجتماعي ‪ ،‬وتحددت رؤيتهمـ في كون التغيير ال يتم عبر التأمل والعزلة ‪ ،‬وإنما‬
‫من خالل ممارسة الفكرة والســعي إلى ترجمتهـاـ لتخلــق الواقــع الــذي نريــد ونحلم ‪ ،‬والــذين‬
‫تفتقت أذهــانهم وتفتحت أعينهم خــارج نطــاق األدب الفــردي الســلطوي المتصــل بتصــوير‬
‫العالقات الشخصية ‪ ،‬ذلك األدب الذي ذهبت بعض الرؤى إلى كونه أدبا َ ال يصور المفهوم‬
‫‪3‬‬
‫الصادقـ للحياة وال يحمل القوة الخالقة التي تكمن وراء بناء المجتمعات وتطويرهاـ‬
‫فبعد ما اشتدت مآسي الواقع وعال بؤسه ‪ ،‬وانكشف بوضوحـ تخلـف وتسـلطـ وتـزمت نظــام‬
‫الحكم القائم عليه ‪ ،‬وسعيه الملح في الحفــاظ على حــال الثبــات االجتمــاعي والجمــودـ الفكــري ‪،‬‬
‫وعدم االعتراف بالواقعـ وما يعانيه ‪ ،‬تجلت لعيون هؤالء الكتاب أهدافهم بوضوح فاتجهوا إلى‬
‫زعزعة هذه الحال ‪ ،‬بااللتفات إلى الواقع وفضح ما فيــه من فســاد بــالنظر إلى مشــكالته نظــرة‬
‫فاحصة ‪ ،‬والتطلع إلى آفاق جديدة في محاولة منهم لتغيير الواقع وكشــف قيمــه الــتي عــاش في‬
‫ظلها النظام القديم ‪ ،‬وإحالة هذه القيم عبر المعالجات األدبية إلى قوة إيجابية دافعة نحو التحــرر‬
‫واالنعتاق ‪ ،‬ليعــود الفكــر حــراَ بعــد تقليديــة ‪ ،‬وواقعيـاَـ بعــد مثاليتــه الهروبيــة ‪ ،‬واالعتمــاد على‬
‫تجارب حياتية تكشف عري هذا الواقع وعفنه ‪ ،‬وتنظرـ إلى الجماعة اإلنسانية كعامل فعــال في‬

‫‪ 1‬د‪ .‬محمد غنيمي هالل ‪ ( .‬النقد االدبي الحديث ) دار نهضة مصر ‪ ،‬د‪ .‬ت (ص‪) 549،548‬‬
‫‪ 2‬محمد زكي العشماوي ( االدب وقيم الحياة المعاصرة ) مرجع سابق (ص‪) 118‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) دار الكلمة ‪ ،‬صنعاء ‪1985‬م ‪ ،‬ط‪( 2‬ص‪)270‬‬
‫التاريخ والتطورـ ‪ ،‬وهي الجماعــة الــتي رأى الكتــاب فيهــا تعزيــزاَـ لمــوقفهم الســاعي إلى قــول‬
‫الحقيقة الخالقة ‪ ،‬التي تمكنهمـ من بناء المجتمــع والمشــاركة في تطــويره ‪ ،‬فاألعمــال األدبيــة ال‬
‫ينظر إليها في ظروفـ كظروف المجتمــع اليمــني إالَّ من حيث اعتبارهــا أعمــاال تــؤديـ وظيفــة‬
‫اجتماعية وسياسية ‪ ،‬تنهض من خاللها عـامالَ من عوامــل التطــوير المجتمعي المحفــز لحركــة‬
‫التغيير والكفاح من أجل تحرير اإلنسان من قاهريه ‪ ،‬ووسيلة من وسائل بناء الحياة وتطويرهاـ‬
‫في مجتمع هو بأشد الحاجة إلى الجهود الموجهة لعملية التغيير والباعثة على الطاقــة اإليجابيــة‬
‫في النفوس عبر عرض النماذج البشرية المختلفة في تفاعلها وتجاوزها و انتصارها ‪.‬‬
‫ولــدى شخصــياتها المختــارة الــتي قــدمت رؤيــة واضــحة للشخصــية اليمنيــة ‪ ،‬في إحباطهــا‬
‫وعجزها وقمعها وفقرها وجهلها ومرضها وتعطلها وانهيارهاـ ومقاومتهاـ وتمردهاـ وتحررها ‪،‬‬
‫فأصبحتـ حياة هذه الشخصــيات صــورة من صــور المعانــاة واالضــطراب والســعي في البحث‬
‫عن هوية ‪ ،‬بل وغدت شهوة تغيير الحياة برمتها وقلب معادلتهــا لــدى بعضــها تعبــيراَ عن هــذه‬
‫الهوية ‪ ،‬وغداَ تغيير الواقع هو من يحقق لهــا هويتهــا حــتى أصــبحت خالل معالجتهــا الروائيــة‬
‫والقصصية ‪ -‬بأدوارها التي قامت بتأديتها والتي تكاد أن تصــبح أدواراِ نمطيــة ‪ -‬نمــاذج قويــة‬
‫للرفض ترقى بما اكتسبته من عمق معنويـ وأدبي إلى مستوىـ الرموز الخالدة ‪.‬‬
‫فالفالح ‪ :‬يتمسك بأرضه متحليا َ بالصبر ‪ ،‬متحديا َ ضغوطـ السلطات وتحدياتـ الطبيعــة‬
‫القاسية حتى إذا ما تفاقمت الظروفـ وتكالبت الضغوط ترك أرضه وقريته إلى مكان آخــر في‬
‫شكل من أشكال الــرفض ‪ ،‬ورغم أن صــلته بأرضــه ‪ -‬الــتي يظــل يتطلــع إلى أخبارهــا من كــل‬
‫القادمين منها ‪ -‬ال تنقطع أبــداَ ‪ ،‬كمــا أن صــلته بأهلــه تســتمر من خالل مــا يرســله من مــال من‬
‫غربته ‪ ،‬فـإن الموقـفـ من هـذا الحـل الـرافض قـد اختلـف إلى حـد التبـاين بين من يتوجـه إليـه‬
‫باإلدانة كما في معظم أعمال محمد عبدالوليـ ‪ ،‬ومن يتعاطفـ مع حاله كما في أعمال قصصــية‬
‫وروائية أخرى كقصة السؤال لكمال الدين محمد وقصة الكراتين لمحمد مثنى وغيرها ‪.‬‬
‫والمرأة ‪ :‬تظل تعمل طوال الوقت متحديــة كــل الظــروف ‪ ،‬صــابرة على بعــد زوجهـاـ ‪ ،‬تــربى‬
‫األبناء ‪ ،‬وتهتمـ باألرض وبأسرة الزوج في انتظار الفرج المتمثل بعودته ‪ ،‬ووضعها في القصة‬
‫والرواية اليمنية وضع مثير للتعاطفـ ‪.‬‬
‫والمثقف ‪ :‬وهو شخص يعاني من غياب الظرف الطبيعي الــذي يســتوعب وعيــه ‪ ،‬وهــو غــير‬
‫متوائمـ مع مجتمعه في الريف والمدينة ‪ ،‬رافض لكل ما فيه ‪ ،‬لكنه مع هذا الرفض يحمل رسالة‬
‫يؤديـ خاللها للقارئ دوراَ تنويرياَـ يضيء وعيــه بواقعــه ويوجــه طاقتــه اإليجابيــة ‪ ،‬وإن انتهى‬
‫في بعض األحيان إلى حال من الضياع الوجوديـ ‪.‬‬
‫ويظهرـ العمــال مسـلوبيـ الحقـوق ‪ ،‬محـاربين في وطنهمـ وفي أرزاقهمـ ‪ ،‬فســوا َء كـانوا من‬
‫أبناء الجنوب أو من أبناء الشمال الذين يظهرونـ خالل هذه األعمال وعيا َ واضحا َ بممارســات‬
‫التفرقة بين أبناء الشمال والجنوبـ ‪ ،‬تلك الممارسات التي كانت تذكي باشتدادها عميق قناعتهم‬
‫بواحدية الوطن أرضا َ وإنسانا َ ‪ .‬فهم يواجهون نفس التحــدي حيث االســتعمارـ يحــاول اســتبدالهم‬
‫وإحالل القادمين من أبناء الجاليات األجنبية في وظائفهم ‪ ،‬وهم دائما َ تجمعهمـ رغبــة االنتفــاض‬
‫على ما يواجهون من تحديات ‪ ،‬وفي كثــير من األعمــال يتحــرك هــؤالء العمــال لوضــع حســم‬
‫لمعاناتهمـ ‪ ،‬لتنتهي حركتهم إلى نمط من الكفاح البطولي في سبيل الجماعة ‪ ،‬ليصبح تصويرـ ما‬
‫يقومون به أو يقدمون على فعله نمطا َ من التعبير المرتــد إلى الحيــاة ليحث خطاهــا نحــو التقــدم‬
‫والتطور ‪.‬‬
‫وحتى االنتهازيين وتجــار الحــروب والخــائنين والمتــآمرين والخونة ‪ ،‬لم تغفلهم األعمــال‬
‫الروائية والقصصية بل سعت إلى كشفهم وتمزيق األقنعــة الــتي تتــوارى خلفهــا مالمح أوجههم‬
‫القبيحة ‪ ،‬وكان موقفـ هذه األعمال منهم محدداَ بصرامة ‪.‬‬
‫فأما الحاكم فهو سر المأساة وسببها األوحد ‪ ،‬وهو الخائن لشــعبه القاســي غــير الملتفت إال إلى‬
‫مصالحة ‪ ،‬المهمل لحقوق مواطنيه ومصالحهم المتعالي على عذاباتهم ‪ ،‬الجاهل القامع النزق ‪،‬‬
‫إنه باختصـار الكــابوس الـذي ال يـأتي ذكــره إالًّ واســتجلب معـه كــل معـاني القسـوة والبطش ‪،‬‬
‫وعماله هم سلطاته المتنفذه وأدواته التي يتنزل بها كالصواعق على أقوات الناس وأرزاقهمـ بل‬
‫ومصائرهمـ ‪.‬‬
‫وهم إلى جانب وعيهم بتعليمات الحـاكم وسـعيهمـ إلى تنفيـذ أوامـره ‪ ،‬هم أيضـا َ إقطـاعيون‬
‫يعون مصالحهم ‪ ،‬يملكون األرض ويستبدون بالبسطاءـ مضاعفين همهم و معاناتهم ‪.‬‬
‫هكذا كانت األعمال الروائيــة والقصصــية والتـزال نموذجــا فنيا يجســد لـديناميات التغيــير‬
‫بمضامينها المواكبة والمتجاوزة والتي صورت أحـداثا َ سياسـية مهمـة ‪ ،‬ودونت لمالمح الـزمن‬
‫السياسيـ الذي تتحرك فيه أحداثها ‪ ،‬مذكية من خالل ذلك الوعي بحقيقية‬
‫الواقع البــائس الحــزين ‪ ،‬حيث فســاد الســلطة وتعنتهـاـ وجهلهــا وســوء إدارتها همــا على الــدوام‬
‫أسباب تقف وراء استمرار المعاناة ‪ ،‬وكانت ميدانا َ اجتماعيا لممارسة الحرية ‪ ،‬وبــديالَ صــانعاَـ‬
‫للحريــة الغائبــة أكــثر من كونهــا مجــرد تعبــير يرصــد حركــة الواقــع كمــا هي عليــه ‪ ،‬فــالواقع‬
‫المصورـ فيها هو هدف لعملية التغيير التي يعلن عنها صراحة في بعض األحيان‬
‫وبذلك أسست هذه األعمال لخطاب يــدل على الواقــع ويفارقــه في نفس الــوقت ‪ ،‬فــالوعي الــذي‬
‫يتكشــف في الواقــع عناصــره الســلبية يتحــول فيهــا إلى وعي يبحث عن عناصــر التغيــير في‬
‫الواقع ‪،‬حتى وإن تمثل بإظهارـ حالة عدم االندماج بين شخصية العمــل وواقعهــا ‪ ،‬فــالتغيير هــو‬
‫أهم ما حرصت عليه هــذه األعمــال ‪ ،‬وهــو مــردد على لســان أكــثر من شخصــية فيهــا ‪ ،‬ونحن‬
‫كقراء نصل إلى قمة التعبيرـ المقاوم من خالل الواقع المتحرك والشخصية المتحركة فيه بتمرد‬
‫‪ ،‬والمتحولة بمقاومة ‪.‬‬
‫الواقع السياسي واالجتماعي هدف التغيير ‪:‬‬
‫لقد اجتذب الواقـع السياسـي واالجتمـاعي في اليمن كتـاب الروايـة والقصـة القصـيرة ‪ ،‬فال‬
‫تكاد رواية أو قصة تنشأ بعيداَ عن مالمح هذا الواقع ‪ ،‬أو تشغل بغـير مـا شـغل بـه سـوا َء قبـل‬
‫قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر أو بعد قيامهماـ ‪ ،‬فأبناء الطبقة المتوسطة الــتي تشــكل لب المجتمــع‬
‫اليمني وجماهيره العريضة ‪ ،‬هم من يتحركــون خالل هــذه األعمــال ومشــكالتهمـ الــتي يعــانون‬
‫منها في ريفهم أو مدنهم أو مهاجرهم ‪ ،‬وما يضطرم في دواخلهمـ من نــوازع التمــرد والــرفض‬
‫ورغبات التغيير هو ما انشغلت به هذه األعمال ‪ ،‬فمن هذه الطبقة جاءت الطليعة التي أيقضــت‬
‫فكر النضال ‪ ،‬ومن مجموعها اضطرمت حركة الكفاح الوطنيـ في ســبيل التحــرر‪ ،‬فكــان منهــا‬
‫العمال والفالحون والصيادون والطلبة في المدارس الذين انخرطواـ في تعــز وعــدن على وجــه‬
‫الخصوص في تنظيمــات وأحــزاب سياســية أمالَ في التضــامن ووحــدة الحركــة النضــالية لنيــل‬
‫الحرية واالستقالل ‪ ،‬فمن هذا الواقع االجتماعي ومن هذا الحراك السياسي اســتلهمت األعمــال‬
‫الروائيــة والقصصــية اليمنيــة مادتهــا وهــو مــا دونتــه هــذه األعمــال خالل صــفحاتها ‪ ،‬فقيــاس‬
‫أثرالواقـــع االجتمـــاعي والسياســـيـ المعيش باعتبـــاره المرجعيـــة األســـاس في تشـــكيل البـــنى‬
‫والمعالجات الروائية والقصصية ‪ ،‬يبدو أمراَ ممكنا َ مع ما سلف تقديمه غير أن قيــاس أثــر هــذه‬
‫البنى والمعالجات في عالمها الواقعيـ يبدو أكــثر صــعوبة ‪ ،‬ذاك أن انعكــاس الســياق الخــارجي‬
‫على البنى المعالجة الروائية والقصصية يشـكل مكونـا َ ثابتـا َ فيهـا ‪ ،‬ووجـودـ قـارا مسـطراَ على‬
‫مساحة من الورقـ ‪ ،‬واألمرـ ال يستدعي معه أكثر من دراسة المتخيــل الــروائي أو القصصــي ‪،‬‬
‫وفك شفرات بيئته الداخلية والوقــوف على عالئقــه الــتي يرتبــط بهــا مــع المــرجعي الحي الــذي‬
‫يحيل إليه‪.‬‬
‫بينما يشكل قياس أثر الرواية والقصة القصيرة في عالمهما الواقعيـ صعوبة من زاوية كون‬
‫هذا األثر مسألة دينامية متحركة ‪ ،‬وحركتها ال تنمو متصاعدة بالضرورة ‪ ،‬كمــا أنهمــا ال تنمــو‬
‫في اتجاه واحد ‪ ،‬مما يفرض على مستكنة حقيقة‬
‫هــذا التــأثير القيــام بدراســات ميدانيــة مختلفــة ‪ ،‬يتشــعب تنوعهــا إلى علــوم أخــرى كالتــاريخ‬
‫والجغرافيا والدراسات النفسية واالجتماعية التي تستهدف المهتمين فتستطلع آراءهم ووجهــات‬
‫نظرهمـ في مقدار و مدى التأثير الحاصل ‪.‬‬
‫ولكي تتغلب الدراســة على صــعوباتها ‪ ،‬فإنهــا ســتركن إلى حقيقــة تعلنهــا طبيعــة تشــكيل‬
‫األعمال الروائيــة والقصصــية اليمنيــة في مضــامينهاـ وبناهــا التكوينيــة ‪ ،‬تلــك هي حقيقــة كــون‬
‫الواقع المتحرك فيها والذي مثل تغييره همها األوحد وألجله وظفت إمكاناتها التكوينية هو واقع‬
‫له وجوده الموضوعي خارجهاـ ‪ .‬منطلقة إلى بلوغ غايتها من الوقوفـ على حقيقة الــدور الــذي‬
‫يمكن أن تكــون الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة قــد لعبتــاه في حركــة التغيــير السياســي‬
‫واالجتماعيـ عبر فرضيتين ‪ ،‬إحــداهما جزئيــة تقــوم على تأويــل النص الــروائي والقصصـيـ‬
‫عبر المزاوجة بين رصــد انعكـاس السـياقـ الخـارجي على النص وفــك شـفرات بيئتـه الداخليــة‬
‫بهدف الوصولـ إلى الكيفيــة الــتي يســتجيب بهــا النص الــروائي لواقعــه الــذي ينبت فيــه ‪ ،‬وهنــا‬
‫تظهر قراءة العناصر البانية من زمان ومكان وشخصياتـ ‪.‬‬
‫وثانيتهما كلية تفضي إليها الفرضية األولى ‪ ،‬وعليها تدير الدراسة حركتهاـ حيث تحــاول تلمس‬
‫التجليات الخاصة لشفرات النص الداخلية من أجل الوقوف على غاياته التغييرية ‪ ،‬وهنا تظهــر‬
‫الموضوعاتـ المطروقة وغاياتها المتدرجة ‪.‬‬
‫الفــصـــل األول‪:‬‬
‫الزمن السياسي واالجتماعي‬

‫‪ )1‬الزمن السياسي واالجتماعي في أعمال تم وضعها قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪.‬‬
‫‪ )2‬ال‪$$‬زمن السياسي واالجتم‪$$‬اعي في أعم‪$$‬ال تم وض‪$$‬عها بعد ث‪$$‬ورة الش‪$$‬مال واس‪$$‬تقالل الجن‪$$‬وب ‪ ،‬وهي‬

‫نوعان ‪:‬‬

‫أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬ ‫‪‬‬

‫أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬ ‫‪‬‬

‫الزمن السياسي واالجتماعي ‪:‬‬


‫يشكل الزمن السياسـي واالجتمـاعيـ أحـد أهم عناصـر الواقـع الـذي سـعت الروايـة والقصـة‬
‫القصيرة اليمنية من تصويره إلى تغييره ‪ ،‬وهو إلى جــانب كونــه يحــدد المســاحة الزمنيــة الــتي‬
‫يجري عليهــا الكــاتب أحداثــه ‪ ،‬يقــدم أيضـا َ صــورة عن طبيعــة وعي الكــاتب بمجريــات فترتــه‬
‫الزمنية وبعناصرـ الواقع الذي يسلط عليه الضوء ويبرزـ مالمحه ‪.‬‬
‫لكننا وبــالنظر إلى الخــط النــامي للــزمن السياسـيـ واالجتمــاعي في الروايــة والقصــة القصــيرة‬
‫اليمنية ‪ ،‬والذي يبدأ منذ نشأتهاـ في أواخر الثالثينات ويستمرـ حتى وقتنا الراهن – نجــد أن لهــذا‬
‫الزمن الممتد تفصيالت مهمة حددت لنا مسار الواقــع الموضــوعي خــارج الروايــة ‪ ،‬ونهضــت‬
‫محددات واضحة للواقع السياسي واالجتماعي الذي تجري خالله أحداثهما ‪.‬‬
‫وألجل ذلك كان البد لدراسة الزمن الجاري تحوله وامتداده ضمن واقعه المتشكل خالل الفــترة‬
‫ما بين النشأة وحتى وقتنا الراهن من التمحور حول هذه المحطات المهمة معتمدة في ذلك على‬
‫نماذجه الممثلة فكانت كالتالي‪:‬‬
‫الزمن السياسي واالجتماعي في األعمال الروائية والقصصية التي تم وضعها قبل ثورة الش!!مال‬ ‫‪)1‬‬
‫واستقالل الجنوب ‪.‬‬
‫وهذه أعمال يتحدد زمنها الدقيق بالفترة ما بعد ثورة ‪1948‬م وحتى قبيل انفج!!ار ث!!ورة س!!بتمبر‬
‫‪1962‬م في الشمال ‪ ،‬مضافاَ! إليها أعمال ثم إنتاجها أبان فترة النض!!ال الوط!!ني ضد االس!!تعمار‬
‫البريطاني في الجنوب وحتى إعالن االستقالل ‪.‬‬
‫وإما ما كتب من أعم!!!!ال قبل ه!!!!ذا الت!!!!اريخ فلم يكن س!!!!وى مح!!!!اوالت أولية للكتابة الروائية‬
‫والقصصية التي لم تنضج معالجاتها ولم تنفتح مضامينها لتستوعب قض!!ايا ومش!!كالت جوهرية‬
‫في الواقع السياسي! واالجتماعي! المعيش ‪ ،‬وإنما ظلت ت!!دور! مع رؤيتها الغارقة في رومانس!!يتها!‬
‫في فلك غايات محلقة في مثاليتها ومشكالت التشكل وجعا َ حقيقيا َ ألبناء الطبقات الشعبية ‪.‬‬
‫ونتيجة لقلة األعمال الممثلة للفترة المحددة لهذا المبحث ‪ ،‬فإن الدراسة ستعمد إلى توس!!يع عينتها‬
‫التي ستنتقي منها نماذجها لتشمل معظم األعمال التي تم إنتاجها خالل الفترة المحددة ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( مأس!!اة واق ال!!واق ) لمحمد محم!!ود الزب!!يري! ‪ ،‬ال!!تي تم إنتاجها خالل الف!!ترة‬
‫الزمنية المحددة فإن زمن وقوع اإلحداث فيها يتحدد بالفترة ما بين فشل انقالب ‪1948‬م وحتى‬
‫عام ‪1959‬م ‪ ،‬و ذلك بحسب إشارة الكاتب إلى آخر شهيد في س!!ياق الف!!ترة ال!!تي ي!دون أح!!داثها‬
‫‪،‬حيث يقول ‪ ":‬نهض آخر الشهداء ‪ ،‬زعيم حاشد حسين بن ناصر " ‪ ،1‬والذي كان استشهاد!ه في‬
‫عام ‪1959‬م " حينما ك!!ان اإلم!!ام أحمد يتلقى العالج في إيطاليا ‪ ،‬وين!!وب عنه في تس!!يير أم!!ور‬
‫الدولة ابنة ولي العهد محمد الب!!در ‪ ،‬تح!!رك الوط!!نيون بمن فيهم مش!!ايخ القبائل إلح!!داث تغي!!ير‬
‫سياسي! ‪ ،‬بالتنسيق! مع البدر نفسه ‪ ،‬بهدف إنهاء حكم اإلمام أحمد وإدخال إصالحات على النظام‬
‫السياسي! وعلى الحياة العامة ‪ ،‬إالًّ أن اإلمام أحمد عجل بعودته إلى اليمن ‪ ،‬واستطاع بسهولة أن‬
‫يقضي على ذلك التحرك ‪ ،‬وأن يذبح بعض قياداته "الشيخ حسين بن ناصر األحمر شيخ مشايخ‬
‫‪2‬‬
‫حاشد ‪ ،‬وابنه الشيخ حميد والشيخ عبد اللطيف بن قايد بن راجح أحد مشايخ خوالن "‬
‫ومروراَ بمجموعة ( أنت شيوعي ) لصالح ال!!دحان ‪ ،‬وهي مجموعة ألفت أعمالها خالل الف!!ترة‬
‫المحددة لهذا المبحث ‪ ،‬وتم نشرها ألول مرة في ع!!ام ‪1957‬م ‪ ،‬ف!!إن زمن األح!!داث فيها يتح!!دد‬
‫بالفترة ما بعد ثورة ‪1948‬م وحتى منتصف الخمسينات تقريبا َ فالك!!اتب يش!!ير إلى اش!!تراك والد‬
‫شخصيته في قصة ( شيء اس!!مه النف!!اق ) في انقالب ‪1948‬م ‪ ،‬ويق!!ول على لس!!انها " اش!!ترك‬
‫‪3‬‬
‫والدي في انقالب ‪48‬م وضحى! بماله وبما ملكت يداه ووصل! إلى أعماق حجة "‬
‫كما يشير في قصة ( أنت ش!!يوعي ) إلى ف!!رار! قي!!ادات االنقالب إلى مصر الث!!ورة ‪ ،‬وإلى تب!!دل‬
‫األحوال فيها بعد ثورتها! ‪ ،‬وإلى فيلم خمسيني! هو فيلم ( أمير االنتقام ) ‪.‬‬
‫فهذه دالالت زمنية تساق كلها خالل لحظة تفكير وتأمل يعيشها ( أحمد ) شخصية هذا العمل فقد‬
‫تذكر " أنه دخل فيلما َ اس!مه ( أم!ير االنتق!ام ) وتخيل ه!ذا الواقع م!رة أخ!رى ‪ ،‬يقهقه ق!ائالَ ‪ :‬ما‬
‫طار طير وارتفع إالًّ كما طار وقع ‪.‬‬
‫وعاد يفكر ‪ ...‬أهذه هي الحياة التي نحياها في بالدنا ه!!ذه ؟ وهل ه!!ذه بالد ؟ وهل ممكن قياس!!ها‬
‫بحي!!اة أس!!رة مص!!رية ريفية فقط ؟ الال‪ !...‬إن الف!!رق شاسع إنهم هنا يعيش!!ون بين ن!!ارين ‪ ،‬ن!!ار‬
‫الثالوث المرعب و الفقر والجهل والمرض ونار! الظلم ‪ ،‬بينما األسرة الريفية في مصر وخاصة‬
‫في هذا العهد الذي أزال اإلقط!!اع ووزع األراضي لتعيش بين جن!!تين ‪ ،‬جنة الع!!دل وجنة األمل‬
‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) دار الكلمة صنعاء‬
‫‪ 2‬مجموعة مؤلفين ( وثائق وادبيات ندوة الثورة اليمنية )سبتمبر واكتوبر ونوفمبر‪،‬ـ التحوالتـ السياسية واالجتماعية والثقافية )صنعاء ‪-23‬‬
‫‪24‬نوفمبر ‪ 2008‬م ‪ ،‬مركز الدراسات والبحوث اليمنية ‪ ،‬من دراسة للدكتور ‪ /‬أحمد قايد الصايدي بعنوان ( البعد التاريخي للثورة اليمنية‬
‫سبتمبر واكتوبرـ ‪.‬‬
‫‪ 3‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) دار البعث للطباعة والنشر ‪ /‬عدن ‪1957‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)27‬‬
‫والمستقبل ‪ ،‬ومن هو المسؤول عن ه!!ذا ؟ هل هو خم!!ول وت!!راخي الش!!عب ؟ وإذا ك!!انت الطبقة‬
‫الحاكمة فهل من العجز أن يصلحوا ؟ وإذا وجد من يصلحهم فهل يقبلون ؟‬
‫كال! في ال!!وقت الحاضر ‪ ....‬وألف كال وإالًّ لم!!اذا فر الزعم!!اء اليم!!نيون من اليمن إلى الق!!اهرة‬
‫وشتى! المهاجر ؟ أليس ألنهم حاولوا إصالح الجهاز الحكومي ؟ أليس ألنهم حاولوا! استبدال هذه‬
‫‪1‬‬
‫السياسة بسياسة أخرى أكثر عدالَ وتفاديا َ لحدوث االنقالب واكتساباَ! لرضا الشعب "‬
‫كما يشير إلى البعثات والمنح الدراسية إلى القاهرة التي كانت تمنح للطالب الم!!برزين من أبن!!اء‬
‫عدن ‪ ،‬وال نظن أن ذلك كان يحدث قبل عام ‪ 48‬م ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬وتهيأت البعثة اليمنية التي سوف!‬
‫ترسل إلى الخارج للسفر وكان أحمد أول من أدرج في قائمة المبع!!وثين ‪ ،‬ووصل مع بقية أف!!راد‬
‫‪2‬‬
‫البعثة إلى وطن األحرار إلى القاهرة "‬
‫ومجموعة ( الناب األزرق ) ألحمد محفوظ عمر التي تحمل داللة واض!!حة على انتم!!اء أعمالها‬
‫إلى الفترة المحددة لهذا المح!!ور ‪ ،‬حيث يش!!ير مق!!دم المجموعة إلى اكتس!!ابها! ط!!ابع التوثيق الف!!ني‬
‫والتاريخي ‪ ،‬إذ تضم بين دفتيها خمس قصص قصيرة نش!!رت خالل ف!!ترة الخمس!!ينيات ومنتصف‬
‫الستينيات في الص!!حافة المحلية ‪ ،‬أب!!ان النض!!ال الوط!!ني! ضد االس!!تعمار البريط!!اني! وحكم األئمة‬
‫ال!!رجعي ‪ 3‬وهي مجموعة تجلت أعمالها عن دالالت إض!!افية تؤكد ه!!ذا االنتم!!اء كقصة ( حس!!اب‬
‫الشعب ) ‪ 4‬التي تقف فيها مهزلة الحياة البرلمانية في كوليانية عدن قضية واضحة " ومعها ن!!رى‬
‫النائب البرلماني! بعد أن اعتمد في ص!!عوده إلى البرلم!!ان على الطبق!!ات الكادحة ‪ ،‬نج!!ده وقد تنكر‬
‫لتلك الطبق!!ات ‪ ،‬وغ!!دت بينه وبين الش!!عب و( أم ص!!لوح ) ه!!وة ال ت!!ردم إال ب!!الثورة " ‪ ، 5‬وقصة‬
‫( البيت السعيد ) التي نشرت في صحيفة األيام اليومية قبل االس!!تقالل ‪ 6.‬تع!الج قض!ية مهمة ذات‬
‫داللة واضحة على زمنها تلك هي قضية الضغوط ال!!تي ك!!ان يمارس!!ها الموظف!!ون األج!!انب على‬
‫أبن!!اء ال!!وطن األص!!ليين ‪ ،‬أولئك األج!!انب ال!!ذين ك!!انوا يتمتع!!ون في ظالل الحكم البريط!!اني!‬
‫بامتيازات! كثيرة وهي االمتيازات التي أثارت عدداَ من الكتاب ‪ ،‬فأنش!!أوا! على أح!!داثها أعم!!الهم ‪،‬‬
‫من ذلك قصة ( الب!!!!!ادي أظلم ) لمحسن حسن خليفة ‪ ،‬حيث ي!!!!!ؤرخ فيها المؤلف له!!!!!ذا الوضع‬
‫المقل!!وب فيق!!ول ‪" :‬وفي تلك الف!!ترة ك!!انت اإلدارة المدنية في البالد يرأس!!ها بريط!!انيون ‪ ،‬ولكن‬
‫معظم الوظائف األخرى كان يسيطر عليها إداريون هنود ‪ ،‬وك!ان كل ه!ؤالء الم!وظفين األج!انب‬
‫وفي! مجموعة ( اإلن!!ذار المم!!زق ) ألحمد‬ ‫‪5‬‬ ‫يكنون الكراهية والبغض ألهالي البالد الشرعيين "‬
‫محفوظ عمر ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪20،19‬‬


‫‪2‬المرجع نفسه (ص‪) 16‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( الناب األزرق ) دار ابن خلدون ‪ ،‬بيروت ‪1980‬م (ص ‪) 6‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص‪13‬‬
‫‪-25‬مجلة الثقافة الجديدة ‪ ،‬العدد األول يناير ‪ ،‬فبراير ‪1990‬م من مقال لعبدهللا علوان بعنوان ( تطور الوعي في قصص أحمد محفوظ عمر )‬
‫وزارة الثقافةواإلعالم عدن ص ‪64‬‬
‫‪46‬أحمد محفوظ عمر ( الناب األزرق ) مرجع سابق ص ‪5‬‬
‫‪ 5‬محسن حسن خليفة ( الزوجة المغرورة ) وزارة الثقافة واإلعالم ‪ ،‬عدن ‪1989‬م ص‪37‬‬
‫‪6‬أحمد محفوظ عمر (اإلنذار الممزق) مرجع سابق ص‪45‬‬
‫نلتقي إلى جانب صفحة تق!!ديم أعمالها ال!!تي أرخت لطبعتها األولى في ع!!ام ‪1960‬م ‪ -‬في داللة‬
‫واضحة إلى انتماء أعمالها إلى الفترة المح!!ددة له!!ذا المبحث ‪ -‬قض!!ية أخ!!رى ت!!دل على زمنها ‪،‬‬
‫تلك هي قض!!ية السياس!!ية البريطانية المتبعة في مس!!تعمرة ع!!دن والهادفة إلى إحالل الم!!وظفين‬
‫األج!!انب من بريط!!انيين وهن!!ود وص!!ومال! محل العمالة اليمنية ‪ ،‬ففي قصة ( لغة الك!!أس ) من‬
‫مجموعة (اإلنذار الممزق ) نلتقي تعب!!يراَ ناض!!حا َ بإحس!!اس الض!!يق والض!!جر! من واقع انتش!!ار!‬
‫العمالة األجنبية ‪ ،‬التي أخذت تزاحم بقوة أبناء ال!!وطن األص!!ليين وتن!!تزع! أق!!واتهم وأرزاقهم من‬
‫بين أيديهم ‪ ،‬ح!تى أص!بحت أبسط الوظ!ائف عس!يرة عليهم في وج!ود ه!ؤالء ال!دخالء ‪ ،‬فنس!مع‬
‫شخصية القصة تردد بخنق شديد " إنهم مجرمون من شذاذ اآلفاق يأتون من كل بقاع العالم لكي‬
‫يس!!لبونا لقمة العيش ال!!تي تض!!من لنا الحي!!اة ‪ ..‬ه!!ذه الحي!!اة ال!!تي تمتلئ بالمآسي! الدامية ‪ ،‬ح!!تى‬
‫وظيفة ك!!!اتب بس!!!يط يض!!!ايقوننا بها ‪ ،‬اللهم فاش!!!هد! " ‪ 6‬وفي قصة ( بقية الحس!!!اب ) من نفس‬
‫المجموعة نسمع هذا التساؤل ‪ " :‬لماذا نحن أصحاب هذه األرض ومالكها! نعيش عيشة التقشف‬
‫والحرمان ‪ ،‬بينما الضيوف! يمرحون في منازل فسيحة فخمة مجهزة بكل وسائل الس!!كن الحديثة‬
‫‪ ،‬ومنازلنا نحن على األصح ال يمكن أن يعيش فيها إال الحيوان " ‪1‬أما قصة ( اإلنذار المم!!زق )‬
‫‪ 2‬فتس!!جل لمحاولة بريطانيا في الخمس!!ينيات إقامة اتح!!اد الجن!!وب الع!!ربي بإخض!!اع! الس!!لطنات‬
‫للحماية البريطانية ‪ ،‬وفي! نفس المجموعة نلتقي داللة زمنية أخ!!!رى ‪ ،‬هي ورود! اسم ناصر! في‬
‫بعض أعمالها ‪ ،‬مما يدل على فترة طغيان المد الق!!ومي الع!!ربي بعد ث!!ورة يوليو ‪1952‬م وح!!ال‬
‫االلتف!!اف الش!!عبي في اليمن ح!!ول مب!!ادئ ث!!ورة يوليو! ‪ ،‬ال!!تي أث!!رت في طبيعة ال!!وعي والثقافة‬
‫السياس!!ية واالجتماعية في اليمن ‪ ،‬فبعد نجاحها ب!!رزت ثقافة ت!!دعو إلى التح!!رر الكامل من حكم‬
‫‪3‬‬
‫اإلمام واإلنجليز وإيجاد تغييرات في المجتمع على نطاق اإلنتاج والفكر والمساواة ‪.‬‬
‫وحول زعيمها ناصر ‪ ،‬فهو رمز النضال القومي والثورة لدى مثقفي تلك الف!!ترة بل وجماهيرها‬
‫‪4‬‬
‫العريضة فكادحي ( البيت السعيد ) يحملون اسم ناصر ‪.‬‬
‫وانتهاء بــ ( ثورة البركان ) لعبدهللا سالم ب!!اوزير ال!!تي أش!!ار مؤلفها في مق!!دمتها إلى أن الكث!!ير‬
‫من معان!!اة ف!!ترة ما قبل االس!!تقالل قد انطبع على أعمالها ‪ ،‬وأن بعض!!ها قد وضع ونش!!رفي تلك‬
‫الفترة المختلجة باألحداث ‪ ، 5.‬نلتقي ذات الداللة الزمنية التي أشرنا إليها في الس!!طور الس!!ابقة ‪،‬‬
‫حيث تحمل إح!!دى قصص المجموعة اسم (ناص!!ر) عنوان!ا َ لها ‪ ،‬وفيها! نقف على تجربة تس!!جل‬
‫معان!!اة الم!!واطن اليم!!ني في واقعه ‪ ،‬مع ذلك اإلج!!راء من حظر التج!!ول ال!!ذي ك!!انت تفرضه‬
‫السلطات البريطانية على‬

‫‪61‬أحمد محفوظ عمر ( اإلنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ .‬ص‪45‬‬


‫‪ 2‬ص‪61‬المرجع السابق‬
‫‪ 3‬ص‪ 15‬المرجع نفسه‬
‫‪ 4‬ص‪ 6‬الحكمة ( العدد السادس ‪ ،‬السنة األولى ‪ ،‬أكتوبر ‪1971‬م من المقال " اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين "‪ /‬عدن االفتتاح لعمر الجاوي‬
‫بعنوان ( ثقافة سبتمبر وأكتوبر)‪.‬‬
‫‪ 5‬ص‪35‬أحمد محفوظ عمر ( اإلنذار الممزق ) مرجع سابق ‪.‬‬
‫المواط!!نين في ع!!دن خالل ف!!ترة النض!!ال الوط!!ني! بعد انفج!!ار ث!!ورة أكت!!وبر! ‪1963‬م ‪ ،‬ونفس‬
‫القضية نلتقيها في قصتي! ( ثالثة أيام في السجن )‪ (1‬والزائر! )‪ 2‬من نفس المجموعة ‪.‬‬
‫أما مجموعة ( ممن!!وع ال!!دخول ) لعلي ب!اذيب ال!!تي اش!تملت على أعم!!ال قصص!ية نشر‬
‫معظمها! خالل حركة النض!!ال الوط!!ني! ضد االس!!تعمار! ‪ ،‬وهي أعم!!ال تجلت عن دالالت زمنية‬
‫‪3‬‬
‫تؤكد انتماءها إلى الف!!ترة الزمنية المح!!ددة له!!ذا المبحث من الدراسة ‪ ،‬كقصة ( تحيا مصر )‬
‫ال!!تي كتبها مؤلفها مت!!أثراَ بالمش!!اعر القومية المؤججة حينها بالع!!دوان الثالثي على مصر ع!!ام‬
‫‪1956‬م ‪ ،‬مصورة مرحلة من مراحل النضال القومي في ظل اإليمان بوحدة المصير! العربي ‪.‬‬
‫وأما عن ص!!ورة ه!!ذا ال!!زمن ومالمحه كما قدمته األعم!!ال الروائية والقصص!!ية الص!!ادرة عن‬
‫رؤية كتاب لواقع عاشوا حي!!اتهم في ظالله ‪ ،‬وس!!خروا أقالمهم لتتبع قض!!اياه ومعالجة مش!!كالته‬
‫ورصد! مجريات أحداثه ‪ ،‬فتبدو! على النحو التالي ‪:‬‬
‫‪ )1‬إنه زمن تشطيري! ‪ ،‬جزء من الوطن محتل وجزء معتل " ‪ ،4‬وفي قصة ( أنت شيوعي ) تتجلى‬
‫( عدن ) لوعي الكاتب مدينة ذات انتماء غ!!ير يم!!ني ‪ ،‬بينما ت!!دل تس!!مية ( اليمن ) على الش!!مال‬
‫وحده ‪ ،‬تقول شخصية العمل ‪ " :‬ووجدت نفسي وحيداَ في عدن " وكان أهلي وحي!!دين في اليمن‬
‫‪5‬‬
‫‪ ،‬وأبي وحيد في السجن "‬
‫‪ )2‬إنه زمن التأخر عن ركب األمم والشعوب ‪ ،‬بفعل نظام الحكم المتكلس المعزول ‪ ،‬العاجز أيض!!ا َ‬
‫عن التحرك مع حركة الزمن ‪.‬‬
‫وهو ‪ -‬أيضا ‪ -‬زمن تنبهت فيه كوكبة من المثقفين إلى حقيقة الغي!!!اب اليم!!!ني عن حركة‬
‫الت!!اريخ ‪ ،‬حيث اليمن بلد مجه!!ول ومغيب عن الوج!!ود! ‪ ،‬ليس على مس!!توى ال!!وعي الع!!ربي‬
‫وحسب وإنما على مستوى! الوعي اإلنساني! أيضا َ ‪ ،‬وهذا ما دفع الزبيري! في روايته إلى إطالق‬
‫اسم ( واق الواق ) علما َ عليها ولنستمع إلى هذا الحوار الناضح سخرية بين ( الع!!زي محم!!ود )‬
‫وعلماء األزهر لنقف على حجم هذا الغياب ‪ " :‬إن الذي يمنعنا من االن!!دفاع! معك إلى التص!!ديق!‬
‫بوجود! " واق ال!!واق " هو أننا نخشى أن يك!!ون أس!!لوبك الش!!اعري قد أفق!!دنا الق!!درة على النقد ‪،‬‬
‫ومن ثم أفقدنا القدرة على اليقين ‪ ،‬وأنا أريد أن أثير س!!ؤاالَ ال بد من إثارته وهو إذا ك!!انت مملكة‬
‫" واق ال!!!واق " موج!!!ودة فهي موج!!!ودة منذ الق!!!دم ‪ ،‬وقد اكتشف ك!!!ولمبس في عصر الس!!!فن‬
‫الشراعية قارة أمريكا ‪ ،‬فكيف ال يستطيع! العصر الحديث بكل ما يملكه من وسائل بحرية جوية‬
‫وأقما!ر ص!!ناعية أن يستكشف! وطنك! ه!!ذا اللغز ؟ أالًّ يمكن مثالَ أن نس!!ال الهيئ!!ات العلمية في‬
‫أمريكا ‪ ،‬تلك الدولة ال!!تي اس!!تطاعت أن تأخذ الص!!ور! التلفزيونية بواس!!طة أقمارها! الص!!ناعية‬
‫فجمعت بين السويس وقبرص وإيطاليا والنيل في ص!!ورة واح!!دة كما رأيناها في الص!!حف ‪ ،‬أال‬
‫‪6‬‬
‫يحتمل أن تكون قد أخذت صورة ( واق الواق ) فيما أخذته من صور أخرى في المعمورة ؟‬

‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) دار الهمداني للطباعة والنشر ‪ /‬عدن ‪1983‬م ‪ ،‬ط‪( 2‬ص‪) 7‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪)22‬‬
‫‪ 3‬علي باذيب ( ممنوعـ الدخول ) مؤسسة الصبان ‪ ،‬عدن ‪1968‬م (ص‪)7‬‬
‫‪ 4‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق) مرجع سابق (‪)218‬‬
‫‪5‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص‪)28‬‬
‫‪ 6‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 28‬‬
‫‪ )3‬إنه زمن الجمود الفكري والتأخر الثق!!افي ‪ ،‬فيه ك!!انت تك!!ال التهم الج!!اهزة ال!!تي تصك بطريقة ذكية‬
‫تت!!واءم مع حالة الجهل والتخلف! وما يفرزانه من وعي مت!!دن ‪ ،‬ح!!تى تتجلى تهم مرعبة ‪ ،‬تقض‬
‫مضاجع من تكال لهم ‪ ،‬كتهمة الشيوعية ‪ ،‬ال!!تي نلتقيها في قصة ( أنت ش!!يوعي ) " و في الي!!وم‬
‫الث!اني ط!رق ب!اب ال!بيت ال!ريفي ط!ارق وعن!دما فتح الب!اب وج!دها فص!يلة من الجن!ود قوامها!‬
‫عشرون جنديا َ ببنادقهم ودخلوا وطلبوا أحمد صائحين ‪ :‬فين الش!!يوعي ‪ ..‬يخل!!وه يج!!اوب المق!!ام‬
‫وأع!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!ادوا الص!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!وت م!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!رة أخ!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!رى ‪:‬‬
‫‪ --‬إيه ‪ ..‬أحمد ‪..‬أحمد الشيوعي ‪ ،‬وقال لهم أحمد ‪:‬‬
‫‪ -‬أعوذ باهلل من الشيوعية – أنا مسلم مثلكم ‪ ...‬ماذا حدث ؟‬

‫‪ -‬أنت كنت تسفه اإلمام موالنا أمس في بيت صهركـ الحاج أحمد يــا شــيوعي ‪،‬إيـه أنت‬
‫شيوعي ‪ ،‬فقال لهم أحمد باختصارـ ‪ :‬واآلن ‪ ..‬فأجابوه ‪" -:‬جاوب المقام الشريف !ولم‬
‫‪1‬‬
‫يدعو له فرصة الرد بل جروه "‬
‫فقد كانت التهمـة توظـفـ لتأديـة أكـثر من معـنى وبحسـب الحاجـة ‪ ،‬فهي عنـد االسـتعمار نعت‬
‫للقبائل المحاربة يعني االنحالل واإلرهاب ‪ ،‬وهي عند البرجوازيــة العربيــة والرجعيــة اليمنيــة‬
‫مبدأ مستوردـ ‪ ،‬وهي عند اإلمام إلحاد وردة تستوجب تطبيقـ حكم المرتد في الشريعة اإلسالمية‬
‫‪2‬‬
‫على من يتهم بها ‪.‬‬
‫‪ )4‬إنه زمن يبدو عليه تأثير المد القومي لث!!ورة يوليو! ‪1952‬م على األح!!رار والمناض!!لين‬
‫في اليمن ‪ ،‬وقد تجسد هذا التأثير في أكثر من ص!!ورة خالل األعم!!ال القصص!!ية ‪ ،‬وقد!‬
‫أش!!رنا إلى ه!!ذا في موضع س!!ابق ‪ ،‬غ!!ير أن الت!!أثير األك!!بر يكمن في اعتب!!ار الوح!!دة‬
‫العربية هدفا أسمى لحركة النضال التي تبدأ من اختيار نظام حكم يمثل الش!!عب ويحقق‬
‫له وحدته الوطنية ‪ ،‬يقول زعيم العدين الذي م!ات كم!داَ في الس!!جن ‪ " :‬ف!أي تفك!ير في‬
‫وحدة البالد العليا والسفلى المحتلة والمعتلة ‪ ،‬بل وأي تفكير في الوحدة العربية ‪ ،‬سوف!‬
‫تك!!!ون دعامته في المس!!!تقبل اختي!!!ار نظ!!!ام حكم ش!!!عبي يمثل الش!!!عب كله على أسس‬
‫ديمقراطية ‪ ،‬وي!!ترتب! على النظ!!ام ال!!ديمقراطي! الش!!عبي حي!!اة للمواط!!نين على ق!!دم‬
‫المس!!اواة في كل ش!!أن من ش!!ؤون الحي!!اة ‪ ،‬كما ي!!ترتب عليه أيضا ق!!درتهم! على تحقيق‬
‫الوح!!دة العربية ‪ ،‬إن نظ!!ام الحكم هو الض!!مانة الوحي!!دة الق!!ادرة على خلق ش!!عور! من‬
‫االطمئنان المطلق إلى العيش بأمان في ظل وحدة محلية في ال!!وطن الص!!غير! ‪ ،‬كما أنه‬
‫‪3‬‬
‫الضمانة الوحيدة التي تمكن الشعب وتتيح له أن يختار طريق الوحدة العربية "‬
‫إنه زمن حراك سياسي! وإض!!رابات ش!!ملت قطاع!!ات وش!!رائح مختلفة من أبن!!اء الجن!!وب ال!!ذين‬ ‫‪)5‬‬
‫أظهروا! خالل هذه الفترة وعيا َ بقيمة التض!!امن واالنتم!!اء للحركة الش!!عبية الجماعية ‪ ،‬وتص!!ور!‬

‫‪ 1‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص‪)23‬‬


‫‪ 2‬مجلة الحكمة العدد السادس ‪ ،‬السنة األولى ‪ ،‬أكتوبر ‪1971‬م ‪ ،‬اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ‪ /‬عدن ‪ ،‬من مقال لعمر الجاوي بعنوان‬
‫( منابع ‪ 14‬أكتوبر) (ص‪)6‬‬
‫‪ .3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 281،280‬‬
‫قصة ( اإلنذار الممزق ) ‪1‬موقفا َ بطوليا َ إلحدى القرى اليمنية التي تصدت بصمود كبير لمخطط‬
‫االس!!تعمار الس!!اعي بإخض!!اع الس!!لطات للحماية البريطانية إلى إقامة اتح!!اد الجن!!وب الع!!ربي ‪،‬‬
‫وفيها! يبين كيف أرسلت بريطانيا مفاوضها ليهدد شيخ القرية ال!!ذي رفض بإص!!رار! أمر الحماية‬
‫‪ ،‬ثم أرس!!لت إن!!ذارها إليه بض!!رورة اإلذع!!ان ‪ ،‬وإالًّ ف!!إن الحكومة البريطانية س!!تقوم بحملتها‬
‫العسكرية على القرية وأهلها ‪ ،‬غير أن كرامة شيخ القرية ووطنيته قد دفعت به إلى االس!!تجابة‬
‫إلى مالمح الجالسين في محله والتي كشفت عن حاله من االستنكار واإلصرار‪ ،‬مما أدى به إلى‬
‫تمزيق! اإلن!!!ذار متح!!!ديا َ بريطانيا وجيش!!!ها ق!!!ائالَ ‪ :‬بص!!!وت يخنقه الغيظ ‪ :‬نحن في االنتظ!!!ار‬
‫للترحيب بكم "‪ 2 .‬عاقداَ العزم على أن يعلم الطغاة أقسى الدروس ويضرب! لهم المثل في الدفاع‬
‫عن حرية الوطن مهما صغرت رقعته "‪ ، 3‬أما قصة ( الحاج س!!يف ) ‪ ،4‬فتع!!رض لبطولة س!!اع‬
‫بسيط تساومه الحكومة البريطانية لتخرق به إضراب عمال إحدى شركاتها ‪ ،‬وهنا يقع في محنة‬
‫االختيار! باألخص وأنه قد فقد عمله قبالَ بصورة جائرة ‪ ،‬لكن الكاتب ال!!ذي دأب على إالًّ يس!!جل‬
‫لبطلة بطولة تب!!دأ ذاتية وتنتهي فردية وإنما ي!!دفع به إلى انتم!!اء ع!!ام يش!!ارك خالله في بطولة‬
‫جماعية ‪ 5.‬قد آثر إنهائها بأن جعله يتخذ‬
‫قراره لصعب باالنضمام! إلى صفوف اآلخ!!رين ‪ ،‬وهو الق!!رار ال!!ذي ينتصر فيه للجماعة ال!!تي‬
‫تشترك! معه في همه ‪.‬‬
‫وفي! الشمال تجلي هذا الحراك لدى كوكبة ناضجة من المناضلين الذين اجتمعت فك!!رتهم!‬
‫على تحرير البالد ووح!!دتها! وعلى اختي!!ار نظ!!ام حكم مختلف ‪ ،‬وهو مس!!توى! من ال!!وعي تش!!هد‬
‫عليه أع!!داد الش!!هداء وطريقة التفك!!ير ال!!تي تجل!!وا عنها من خالل ع!!رض الك!!اتب ال!!ذي زامن‬
‫معظمهم! وكان قريباَ! إليهم ‪ ،‬وقد اتضح هذا القرب من خالل وصفه خصائص الشخصيات ال!!تي‬
‫تع!!رض لها ‪ ،‬وال!!تي ب!!دت مختلفة الطب!!اع ‪ ،‬وإن اتفقت في الفك!!رة واله!!دف! ‪ ،‬ومع أوص!!افها!‬
‫وحركتها تبدو الرواية نقالَ يكاد يكون حرفياَ! لما جرى ‪ ،‬فقد اتفقت هذه الشخص!!يات على ( عهد‬
‫ش!!رف ) أجلى بوض!!وح! لح!!ال االتف!!اق فيما بينها على مص!!لحة ال!!وطن قبل كل ش!!يء ‪6‬أما على‬
‫المستوى! االجتماعي فتبدو مالمح إضافية ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ -1‬إنه زمن عال فيه شأن األسرة والقبيلة في الشمال إلى الحد الذي جعل الك!!اتب ين!!دفع في‬
‫حديث خاص إلى قبائل وأسر بعينها ‪ ،‬فتظهر قبائل همدان وحاشد! ومراد وخوالن ‪ ،‬وأسرة‬
‫األحمر ‪ ،‬بل ويفرد لهذه القبائل وتلك األسر مساحة بارزة من صفحات روايته وفي! المقابل‬
‫يبدو دور الجماهير العريضة التي يتوجه إليها في عمله ‪ ،‬والتي تشكل ه!!دفا َ وع!!امالَ أساسا‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ عمر (اإلنذار الممزق ) مرجع سابق (ص‪) 15‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 15‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه (ص‪ 16‬أ‬
‫‪ 4‬علي باذيب ( ممنوع الدخول ) مرجع سابق( ص‪) 113‬‬
‫‪ 5‬مجلة الحكمة اليمانية العدد( ‪ )202/203‬السنة الرابعة والعشرين ‪ /‬أغسطس ‪1994‬م من مقال لمحمد علي يحيى عمر بعنوان ( مفهوم‬
‫البطولة واالنتماء في قصص علي باذيب ) اتحاد األدباء في الكتاب اليمنيينـ ‪ /‬صنعاء ‪( .‬ص‪)29‬‬
‫‪ 6‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪)281‬‬
‫ليبلغ غايته دوراَ ال يزال باهتا َ ‪ ،‬وربما! ك!!انت تلك حقيقة واقعية في واقع ش!!مال اليمن ح!!تى‬
‫تلك الفترة لم يرد الكاتب أن يتعالى عليها‪.‬‬
‫‪ -2‬إنه زمن الخوف المجتمعي ‪ ،‬وفقدان االستقرار! ف!!الهروب من واقع الش!!مال ال!!رازح تحت‬
‫طغي!!ان ح!!اكم ال يت!!واني عن نصب المش!!انق وتغذية الم!!ذابح بمزيد من ال!!دماء ‪ ،‬إلى الجن!!وب‬
‫الرازح تحت نير استعمار! ال يعرف من ه!!ذه األرض س!!وى كيف يس!!تنزف طاقاتها! ‪ ،‬ال يحقق‬
‫ألي من الشخصيات الهاربة درجة من االستقرار الم!!ادي أو النفسي ‪ ،‬فأحمد في قصة (تاكسي‬
‫لمن جاء تعبر ) يهرب إلى عدن بعد معاناة طويلة مع الفقر والظلم! واالستبداد ‪ ،‬لكنه يجد نفسه‬
‫فيها عاجزاَ عن مساعدة نفسه أو أسرته التي تركها تعاني ويالت الفقر والجوع ‪ " :‬تذكر كيف‬
‫م!اتت أمه ‪ ،‬وت!ركت خمسة أف!واه تحلم ب!الرغيف ص!باح مس!اء تعيش في غ!ير أمل ‪ ،‬اللهم إال‬
‫زرع تلك الحق!!ول المدرجة ال!!تي ي!!ذهب أك!!ثر من نصف غلتها إلى الحكومة " ‪ 1‬وه!!اهو يمثل‬
‫بين أيدينا يضطرب! تحت ضياعة ورتابة أوقاته يتسكع في شوارع! ع!!دن ال!!تي لم تمنحه س!!وى‬
‫حرية السقوط ‪ ،‬ليرتمي في نهاية يومه في وكر عاهرة قد منحتها السلطات ( ليسان ) لتمارس‬
‫مهنتها في اب!!تزاز البائس!!ين أمثاله من أبن!!اء الش!!مال المط!!رودين من وظ!!ائفهم! المهمش!!ين في‬
‫مجتمع يبدو وقد أخذت تتفشى في أوساط بعض ش!!رائحه قيم النفعية ‪ ،‬تخاطبه الع!!اهرة بعد أن‬
‫وجد رجالَ آخر يبيت في فراشها! ‪ ،‬فتق!!ول بلهجتها المحلية ‪ - " :‬أي!!وه! ك!!ذا يع!!ني فين ن!!روح ‪،‬‬
‫نم!!وت ج!!وع ! ‪ ،‬أنت بال ش!!غل ‪ ،‬وأني أص!!رف عل!!وك وبرضه أخادعك ‪ ،‬إيه وهللا ما ج!!زاء‬
‫المعروف! إال سبعة كفوف ‪ ،‬أني مالي ومالك ‪ ،‬هذا ش!!غلي من زم!!ان وأنت مغفل مش مخ!!دوع‬
‫ألنك ما فهمت أنك تعامل "‪ " .......‬وأنت تحسب أن اللقمة بتاجي لما حلقك بارد مبرد ‪ ،‬يا هللا‬
‫من اليوم لما بعد بكره إذا ما تحصل شغل يا أما ترفع نفسك من هنا أو تجلس تش!!تغل ( ش!!وكي‬
‫دار ) زيما كنت قبل ما يخرج ( البوسطى ) وباهبلك مش!!اهرة س!!تين ش!!لن وافقك ما وافقك في‬
‫‪2‬‬
‫ستين داهية "‬
‫‪ -3‬وهو زمن الخلط الفكري والتشوش الفقهي الذي يغلب أحيانا ً قيما َ زائفة ومب!!ادئ! ش!!ائهة‬
‫محاب!!اة للح!!اكم وتجنب!ا َ لس!!خطه وس!!خط! األسر وال!!بيوت المنتفعة من وراء اس!!تمرار! ه!!ذا‬
‫التش!!وش ‪ ،‬من ذلك ترس!!يخ طغي!!ان الح!!اكم ومعه ترس!!يخ تف!!اوت الطبق!!ات وتمايزها على‬
‫أسس عرقية والت!!ذرع بطاعة ولي األمر ‪ ،‬وتج!!ريم الخ!!ارجين عليه ‪ ،‬وعلى ما يرس!!يه من‬
‫فساد! مجتمعي يعلي من شأن األسر ويمنحها! حقوق التميز على جموع الش!!عب المطح!!ون ‪،‬‬
‫وألجل ذلك عال ص!!وت المناضل في شخص!!ية الزب!!يري مؤك!!داَ على ض!!رورة نقض ه!!ذه‬
‫المبادئ الخاطئة ‪ ،‬وعلى لسان اإلمام الهادي يس!!وق! قوله ‪ " :‬إن!!ني أعت!!بر ه!!ؤالء األح!!رار‬
‫خلف!!اني ( الحقيق!!يين ) وهم حملة رس!!التي! ‪ ،‬وإن كنت أنا في الحقيقة قد ذهبت إلى أبعد مما‬
‫ذهبوا إليه ‪ ،‬أتدرون إلى أية غاية ذهبت في تط!!بيق مب!!دأ الخ!!روج على الظ!!المين ؟ ق!!ررت‬

‫‪ 1‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص‪) 7‬‬


‫‪ 2‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص‪) 10،9‬‬
‫وه!!ذا ما س!!يندهش له رج!!ال السياس!!ية والفكر في عص!!ركم ‪ ،‬ق!!ررت في ص!!لب مب!!ادئي‬
‫‪1‬‬
‫األساسية أن اإلمام الجائر حده القتل "‬
‫وفي إشاعة اإلمامة أنها من ساللة أل البيت ‪ ،‬وأن هذا يكفي سببا َ لتجريم الخ!!ارجين عليها ‪،‬‬
‫يسوق! الزبيري! على لسان الش!هيد ناصر الق!ردعي قوله يس!تفتي اإلم!ام اله!ادي ‪ - " :‬مارأيك يا‬
‫أم!!ير المؤم!!نين األح!!رار في المب!!دأ ال!!ذي يعت!!بر من أص!!ول م!!ذهبك وهو مب!!دأ الخ!!روج على‬
‫الظالمين ‪ ،‬هل يمكن تطبيقه إذا كان الظالمون يعتبرون أنفسهم من ساللتك ؟ " ‪".........‬‬

‫ساللتي ‪ .....‬ساللتي ‪ ....‬؟ وهل لي أو لغيري ساللة تتميز بشريعة خاصة بهــا ‪ ،‬وهــل أنــزل‬
‫هللا على محمد عليه الصالة والسالمـ شــريعتين اثنــتين ‪ ،‬شــريعة لســاللته وشــريعة ألمتــه ‪ ...‬إن‬
‫مثل هذا الكالم ال يقوله الملحدون وال الوثنيون وال المجانين ‪.2‬‬
‫‪ -4‬وهو زمن إلى جانب كونه تشطيرياَـ ‪ ،‬هو أيضا زمن التفــرق بين أبنــاء الشــعب الواحــد إلى‬
‫فرقـ ومذهبيان ظلت تغذيها اإلمامة طوال فترة حكمهــا ‪ ،‬يخــاطب زعيم حاشــد اإلمــام علي بن‬
‫أبي طالب ‪ ،‬فيقول معرضا َ بالظالمين ‪ " :‬لقد اتخذوا من اســمك وقدســيتكـ في قلوبنــا أداة للعبث‬
‫وسالحاَـ للبطش بشعبنا وتمزيقــه واســتعباده فقســموناـ أقســاما ليضــربواـ بعضــنا ببعض ‪ ،‬نســبوا‬
‫البعض منا إليهم فقالوا زيدية ‪ ،‬ونسبوا البعض اآلخــر إلى غــيرهم فقــالوا شــافعية ‪ ،‬لقــد جعلــوا‬
‫الزيدية جنــوداَ لهم ينهبــون القســم اآلخــر باســمهم ‪ ،‬ويبطشــون بهم ويســتبيحون أمــوالهمـ ‪ ،‬وقــد‬
‫زعمــوا لنــا أنهم كفــار تأويــل وســلطوناـ عليهم ظلم ـا َ وعــدوانا َ ‪ ،‬إنهم يجيعونن ـاـ ويفقرونن ـاـ ‪ ،‬ثم‬
‫يسلحونناـ ويطلقونناـ كالوحوش الكاسرة النهمة على إخواننا وأبناء جلدتنا في بالدنــا الجنوبيــة ‪..‬‬
‫اســتعبدونا بالعقيــدة والفقــر ‪ ،‬واســتعبدواـ إخواننــا اآلخــرين بســالحنا ‪ ،‬وجعلــوا منــا أداة للنهب‬
‫‪3‬‬
‫والسلب "‬
‫‪ )5‬إنه زمن يشهد على حكم أفقد المجتمع كثيراَ من قيمه العربية والدينية األصلية حيث‬
‫تفشت فيه ‪ -‬بفعل القمع المفرط ‪ -‬قيم سلبية من الخيانة والخذالن والغــدر وبيــع الــذمم ‪ ،‬وألجــل‬
‫ذلك طفحت عاطفة الشاعر وانفعاله ‪ ،‬فأخذ ينشئ على يد أحــد الشــهداء متحفـا َ مصــمماَـ لمقــبرة‬
‫تبرز صورة ميتة عن الشعب الذي استكان واألسر التي خــذلت الثــوار وخــانت األمانــة منهــا ‪:‬‬
‫علماء صنعاء ‪ ،‬بيت آل شرفـ الدين ‪ ،‬وآل العمري ‪ ،‬وآل زبارة وغــيرهم ‪ .‬ومن عتــاب شــهيد‬
‫حاشد حميد األحمر ألشراف الجوف يذكرهمـ بالعهد الذي في أعناقهم نسوق ‪ " :‬إنني أشكو إلى‬
‫اإلمام الهادي ما فعله األشراف في الجوف معي ‪ ،‬إنني حينما اشتد الخطــر عل ًّى في المشــرق ‪،‬‬
‫قررت أن الجأ إلى شهامة أشراف الجوف ‪ ،‬وأن أضع رأسي وحيــاتيـ وحيــاة أســرتي كلهــا في‬
‫أيديهم ‪ ،‬ألني أعتقد أنهم قبائل أشــراف وأوفيــاء ‪ ،‬وأنهمـ سـيقاتلون في سـبيل الـدفاع عن كلمتهم‬
‫ووجههم وذمتهمـ ‪ ،‬وقــد أعطــونيـ وجــوههمـ وعهــودهمـ بأنــه لن ينــالني ســوء وال مكــروه ‪،‬‬
‫واعتبرت هذا عهداَ منهم ووجهاَـ شريفا َ لم يعطوه لي وحدي ‪ ،‬وإنما أعطوه لحاشــد كلهــا ‪ ،‬وقــد‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 201‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪)201،202‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 241‬‬
‫سلمت نفسي إليهم بناء على هــذه الثقــة ‪ ،‬وقــالوا أنهم ســيأخذون لي أمانــا من الحكومــة يصــون‬
‫‪1‬‬
‫وجوههمـ وشرفهم ‪ ،‬وقد أعطاهم الطغيان كلمة وسلمونيـ إليه ولكنه ذبحني "‬
‫ومن القيم التي رأى الكاتب تهددها في مجتمع مقموع قيمه نجــدة الملهــوف وحمايــة الالجئ‬
‫والوفــاءـ بالعهــد ورد الحــق إلى أصــحابه ‪ ،‬والشــجاعة واإلقــدامـ والتضــحية ‪ ،‬والرضــى بقليــل‬
‫الجزاء ‪ ،‬يقول ‪ :‬منوها َ إلى هذه القيم ومستنهضا َ همم القبائل على لسان اإلمام الهــادي ‪ " :‬أنت‬
‫قبيلي نعم ‪ ......‬وفي هذا فخر كبير‪ ،‬ومن أيد الحــق ورفــع رايــة العروبــة واإلســالم إلى أقطــار‬
‫المعمورة غير القبائــل ؟ إنهم الفئــة الــتي تعمــل لوجــه هللا ‪ ،‬وتبــذل أرواحهــا وأعمارهــا ‪ ،‬وتقيم‬
‫الممالك وتحمل أعباء المعارك ‪ ،‬وتسكب كل دم جديد في عروق المجتمع المتحضرـ كلما شــاخ‬
‫وأصــابه الهــرم ‪ ،‬ومــع ذلــك فهي تبقى راضــية بالقليــل من الجــزاء ‪ ،‬وبالخشــن من العيش‬
‫وبالشظف من الحياة ‪ ،‬وتظل مجندة بالفطرة والغريزة طوال العصورـ ‪ ،‬فهي الحامية المانعــة ‪،‬‬
‫وهي المعقل والحرزـ ‪ ،‬وهي السالح في يمين الشــعب يهــزه كلمـا ألمت بـه الملمــات ‪ ،‬ولوالهـا‬
‫لفني العرب وانقرضواـ ‪ ،‬وانحلت قواهم في ســمومـ المدنيــة وانســحقوا تحت أقــدامـ الغــزاة ‪ ،‬إن‬
‫القبائــل هي ينبــوع العروبــة تتفجــر بــه الصــحاريـ والجبــال منــذ القــدم ‪ ،‬يتــدفقـ كــالنهر العظيم‬
‫ويتسلل إلى كل مصــب من مصــباته في المــدنيات البابليــة واألشــورية والفينيقيـة والمصــرية ‪،‬‬
‫ويغذيهاـ بعناصر العروبة المتجددة القوية النامية على مر العصورـ ‪ ،‬حتى جــاء اإلســالم ووجــد‬
‫في هذه البالد قاعدة شعبية عريضة من العروبة القديمة األصيلة ‪ ،‬تجاوبت ســريعا َ مـع جيـوش‬
‫الفتح ‪ ،‬وطردت فلول الرومان والفرس ‪ ،‬واتحدت كلها والتحمت وانسجمت كمــاء البحــر تحت‬
‫‪2‬‬
‫راية واحدة "‬
‫هكذا تبدى لنا هذا الزمن بكل عيوبه ونواقصه ‪ ،‬وهكــذا ظهــرت أعمالــه المنشــأة في ظالل‬
‫فترته متحركة في مربــع السياسـية ‪ ،‬مركـزة رؤيتهـاـ على فسـاد األنظمــة االســتبدادية الحاكمــة‬
‫راصدة ممارستهاـ من منطقة قريبة ‪ ،‬يحتل منها اإلمام والمستعمرـ جانبا َ ‪ ،‬ويحتل الجانب اآلخر‬
‫المعارضون الرافضون والمتمردون الثائرون ‪.‬‬
‫وحركة األحداث في هذه األعمال ال تبتعد عن هذا المربع إالًّ لترتــد إليــه ‪ ،‬فقــد يــذهب الكــاتب‬
‫من عمله الروائيـ أو القصصي إلى رصـد معانــاة المجتمــع ومشــكالته ‪ ،‬غــير أن هـذه المعانـاة‬
‫وتلك المشكالت ال ينظر إليها إالًّ من زاوية كونها انعكاسا َ حتمي ـا َ لممارســات األنظمــة الفاســدة‬
‫وما يترتب عليها من ترد فكري وتراجع اجتماعي ‪.‬‬
‫وأما رؤيتها التغييرية ‪ -‬وهي ما ستتناوله الدراسة في فصل الحق منها ‪ -‬فقد اس!!تهدفت! في جلها‬
‫المواطن البسيط ‪ ،‬وتوجهت إليه تكوٍّ ن وعيه الرافض أو تثير هذا الوعي بض!!رورة القي!!ام بفعل‬
‫رافض ‪.‬‬

‫‪ )3‬الزمن السياسي واالجتماعيـ في أعمال تم وضعها بعد ثورة الشمال واستقالل لجنوب ‪:‬‬
‫‪ )1‬أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 205‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪) 206‬‬
‫ويتحــددـ الــزمن السياســي واالجتمــاعيـ الــذي اهتمت بــه هــذه األعمــال بــالفترة الواقعــة مــا بين‬
‫أربعينياتـ القــرن العشــرين وحــتى أواخــر الخمســينيات ‪ ،‬وهي تقريبـا َ نفس الفــترة الــتي دارت‬
‫عليها األحداث في الروايات واألعمال القصصية في المبحث األول من هــذا الفصــل ‪ ،‬لــوال أن‬
‫زمن الكاتب ‪ -‬الذي اعتمدناه أساسا ً للتمييز مختلف بينها ‪ ،‬فكتــاب هــذه األعمــال قــد وضــعوهاـ‬
‫أبان وجــودهمـ في زمن مــا بعــد ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب ‪ ،‬فقــد أرخت الطبعــة األولى‬
‫لرواية صــنعاء مدينــة مفتوحــة بعــام ‪1978‬م كمــا أرخت الطبعــة األولى لروايــة الرهينــة لعــام‬
‫‪1984‬م ‪ ،1‬وهكذا هو وضع بقية األعمال القصصية التي ستستندـ إليها الدراسة في هذا المبحث‬
‫‪ ،‬والتي دارت أحداثها في زمن يسبق وجودها ‪ ،‬لكنهم في انشغالهمـ بهـذه الفــترة الـتي اشـتركواـ‬
‫فيها مع كتاب سبقوهم ‪-‬‬
‫وهذه حالة ليست حكراَ على الرواية والقصة القصيرة اليمنية فمعظم القصص الجزائريــة الــتي‬
‫تنتمي إلى عهد االستقالل قد ظلت معالجتهــا ‪ -‬كمــا يفيــد عبــد المالــك مرتــاض ‪ -‬متــأثرة بــزمن‬
‫سابق لها هو زمن الثورة الجزائرية التي " ظلت تؤثر في الكتاب الجزائريين من الناشئة الذين‬
‫عــالجوا الكتابــة في العهــد المتــأخر ‪ ،‬بــل حــتى في من واكبوه ـاـ وعايشــوها ‪ ،‬فظلت تلتعج في‬
‫أخيلتهم ‪ ،‬ورسمهاـ يراود عواطفهم ‪ ،‬فتمدهاـ بالخيال الدافقـ وتزودهاـ باإللهام الطــافح ‪ ،‬وتــوحيـ‬
‫‪2‬‬
‫إليها باإلبداع واالبتكارـ "‬
‫لم يكونــواـ كتابـا َ مكــررين ‪ ،‬وإنمــا ســجلوا مواقــف مغــايرة من زمن الفــترة الــتي أدارواـ عليهــا‬
‫أحداثهم ‪ ،‬وهي مواقف سعوا من خاللها إلى غايات مغايرة‬
‫تشكلت من وحي وعيهم بحقيقة ما مضــى وطبيعــة الــزمن الــذي تواجــدواـ فيــه وإن اختلفت‬
‫عدسة الرؤية التي أبرزت هذا الواقع أكثر ظلمة وأشـدـ ســواداَ وزاويــة االنتقــاء ‪ ،‬فال يمنــع أن‬
‫يصبح الواقع االجتماعي الذي تعيشه طبقة السلطة وأربابـ الحكم وعمــالهم ونــوابهمـ في دائــرة‬
‫اهتمام هذا األعمال ‪ ،‬بل وفي صدارة اهتمـام بعضـها هادفـة من وراء ذلـك إلى تأكيـد القناعـة‬
‫بالثورة التي كان قيامها أمــراً ضــرورياَـ وملحـا َ قبــل كــل شــيء ‪ ،‬ثم تفعيــل وعي الــرفض لــدى‬
‫اإلنسان اليمني ودعوته إلى أن يفتح عينيه على واقعة حتى ال تتكرر مأساته به ثانيــة ‪ ،‬وألجــل‬
‫ذلك قد تجد هذه األعمال مع حرصها الشـديد على صـدقهاـ الـواقعي تـدخل أحيانـا ً ‪ -‬وهي تقـدم‬
‫الصورة البشعة لذلك الواقع ‪ -‬في ضروب تجسيمـ الحقائق وتفخيمهاـ ‪ ،‬لتحدث ما يشـبه الصـدمة‬
‫التي تستثير وعي هذا اإلنسان وتستفزـ استغرابه ‪ ،‬كيف كان يرضخ مستسلماَـ لواقــع يعلن بهــذه‬
‫الدرجة من القوة عن سوئه وترديه ‪.‬‬
‫وقدـ تبلغ هذه األعمال غايتها األعلى عنـد سـعيها إلى تعزيــز وعي اإلنسـان اليمـني بأهميـة‬
‫الفعل الرافض ‪ ،‬الذي ال يجب أن يســتبعدـ احتمــال اللجــوء إليــه ‪ ،‬وأن يظــل حاضــراَ في وعيــه‬
‫يستدعيه متى عنت الحاجة واقتضت الضرورة ‪ ،‬فالشعوبـ الحية ال تركن وال تتراخى ‪ ،‬وإنمــا‬
‫تظل حاضرة مؤمنة بقدرتها على صنع خالصها ‪ ،‬ونفض غبارها وتغييرـ معادلــة وجوده ـاـ في‬
‫أية لحظة مهما كانت الصعوبات ‪ ،‬فالرهينة يقيم خالصة على واقع كانت قد تزايدت قوة تأكيده‬
‫على استمرارـ أسره على أثر تمكين اإلمام أحمد بعد انتصاره على أحرار ‪1948‬م ‪.‬‬

‫‪ ? 1‬مجلة المعرفة العدد ( ‪25 /24‬مارس يونيوـ فرع اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين بتعز (ص‪)110،112‬‬
‫‪ 2‬عبد المالك مرتاض ( القصة الجزائرية المعاصرة ) المؤسسة الوطنية للكتاب ‪ /‬الجزائر ‪1990‬م (ص‪) 41‬‬
‫وقدـ اختارت الدراسة لبلورة فكرتهاـ خالل هذا المبحث روايتين هما ‪ :‬رواية الرهينة لزيد مطيــع‬
‫‪2‬‬
‫دماج ‪ 1‬ورواية صنعاء مدينة مفتوحة‬
‫لمحمد أحمد عبد الــولي ‪ ،‬وهمــا روايتــان تكمالن بعضــهما في تغطيــة قيم مجتمعين بينهمــا‬
‫قدر كبير من التفاوت ‪ ،‬هما مجتمع السلطة في روايـة الرهينـة ‪ ،‬ومجتمـع المواطـنين البسـطاء‬
‫في الريــف والمدينــة في روايــة صــنعاء مدينــة مفتوحــة ‪ ،‬وبــذلك تعطيــان رؤيــة متكاملــة عن‬
‫المجتمع اليمني بمختلف شـرائحه وفئاتـه بمــا في ذلــك مجتمــع الحكــام وأربـاب الســلطة ‪ ،‬فهـذا‬
‫المجتمع رغم انعزاله وانغالقه وعزلته فإنه موجودـ وقائم في سياق الفترة التي تســجل لهــا هــذه‬
‫األعمال ‪.‬‬
‫كما تغطيان حقبة زمنية تبدأ من أربعينيات القــرن العشــرين وتنتهيـ في أواخــر خمســينياته‬
‫عام ‪1958‬م تقريبا َ ‪ ،‬وهذه فترة تقع ما بين أخريات حكم اإلمــام يحــيى وكــل حكم اإلمــام أحمــد‬
‫تقريبا َ فيما عــدا ســنواته األخــيرة ‪ ،‬أمــا القصــة القصــيرة فنتيجــة لتطــور وعي الكتــاب ‪ -‬الــذين‬
‫سجلوا حضورهم على المساحة الزمنية القائمة بعد انفجار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب ‪-‬‬
‫بطبيعة البنية القصصية واختالفـ تعاملها مع الزمن بالقياس إلى التعامل الــروائي معــه ‪ ،‬حيث‬
‫الزمن فيه لحظة قصيرة ال تــتيح الفرصــة أمــام بنيتهــا ألن تحتــوي من المعطيــات ذات الداللــة‬
‫الزمنية التي تبني تحددها متعالقة بوضوح مع زمن الواقع من حولهــا كمــا في البنــاء الــروائي‪-‬‬
‫فإن الدراسة ستعتمد في اختيارها األعمال القصصية التي ســتركن إليهــا كنمــاذج ممثلــة ‪ -‬على‬
‫تواريخ صدورهاـ أوالَ ‪ ،‬وعلى طبيعة الزمن الذي تجري عليه أحداثها ‪.‬‬
‫ثانيا َ ‪ :‬مع التأكيد على أن األعمال القصصــية في طبيعتهــا – ال تقــدم " إجابــات محــددة ‪ ،‬لكنهــا‬
‫تثير قضاياـ معينة تبحث لنفسها عن حل على صعيد الواقع االجتماعي الــذي أوجــد هــذه القضــايا‬
‫وخلق تلك المواضيع الحياتية اليومية ‪ ، 3.‬وعلى أن هذه المعالجات إن صح لنا تعميم الحكم " ال‬
‫تحمـل أبعـاداً ومضـامين تاريخيـة اجتماعيـة واسـعة ‪ ،‬لكنهـا تتغلغـل في قـاع الحيـاة وشـوارعها‬
‫الخلفية التي تحمل الكثير من األسرار‪ ،‬وإشكاالتـ الحياة اليوميــة وإرهاصــاتـ الواقــع الــذي أخــذ‬
‫يتبدل ويتحولـ ويخرج عن القاعدة السائدة ‪ ،‬وهذا أمر طبيعي ينسجم مع مواصفات هذه األعمال‬
‫القصيرة ‪ .‬إنها مشاهد من الحياة من هنا وهناك ‪ ،‬قد تبدو مبعثرة ال يربطهاـ رابــط مــا ‪ ،‬لكننــا إذا‬
‫دققنــا في مجموعهــا وقرأناهــا على أنهــا حلقــات تكمـل الواحـدة منهــا األخـرى ‪ ،‬لوجـدناـ أن هــذه‬
‫األقاصيصـ قائمة على أساس الربط المحكم بين أجزائها ‪ ،‬تشكل الحاجــة والتطلــع إلى األفضــل‬
‫‪4‬‬
‫واألمثل معنى من معانيها الهامة "‬
‫وبداية برواية الرهينة حيث يتحدد الزمن السياسيـ واالجتماعي فيها بـأواخر حكم اإلمـام يحـيى‬
‫وبداية حكم اإلمام أحمد بما يعني أربعينياتـ القرن العشرين بما حفلت بــه من أحــداث محليــة ‪،‬‬
‫كانت البذور الحقيقة لحركــة التغيــير السياسـي في اليمن ‪ ،‬وقـدـ تحـددت المحطـة األخـيرة لهــذا‬
‫الزمن بإخفاق ثورة ‪1948‬م ‪ ،‬والتنكيل بأحرارها وانتصار اإلمــام أحمــد ‪ ،‬وهي المحطــة الــتي‬
‫شكلت نقطة زمنية فارقة ‪ ،‬أو هي النقطة الزمنية الــتي بــني عليهــا الكــاتب مفارقتــه العظيمــة ‪،‬‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) رياض المريس للكتب والنشر ‪ /‬بيروت ‪1997‬م ‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) دار العودة ‪ /‬بيروت ‪1986‬م‬
‫‪ 3‬عبدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الحشب ) د‪.‬م‪ /‬دمشق ‪1991‬م ‪ ،‬ط‪ 1‬من تقديم الدكتور‪ /‬أحمد على الهمداني للمجموعة (ص‪) 9‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 87‬‬
‫والتي نفذ منهـا إلى غايتـه التغيريـة ‪ ،‬فعلى الـرغم من سـيطرة شـعورـ الهزيمـة ‪ ،‬وتعاظمـه في‬
‫نفوس أبناء الشعب المكلوم ‪ ،‬يكون تحقق فعل الخالص بتنفيذ الرهينة قراره بــالفرار ‪ ،‬ليصــبح‬
‫هذا الفرار صورة نموذجية لفعل الخالص اإليجابي الذي يحدث في أحلك الظــروف ‪ ،‬وتصــبح‬
‫رواية الرهينة عمالَ " يــدور حــول الحريــة والخالص الفــردي ‪ ،‬وهي توضــح بجالء كيــف أن‬
‫‪1‬‬
‫اإلنسان يستطيع االحتفاظ بروحه المعنوية العالية بالرغم من األذى الملحق بجسمه وعقله "‬
‫وهو زمن يمكن تحديــده بدقــة من خالل مجموعــة المعطيــات ذات الداللــة الزمنيــة الــواردة في‬
‫الرواية ومنها ‪:‬‬
‫‪ -1‬الصورالمعلقة على جدار غرفة الدويدارـ عبادي ‪ ،‬الذي يظهرـ في الرواية شخصــية مهتمــة بمــا‬
‫يجري من أحداث عالمية ‪ ،‬يطلع عليها من خالل " الراديو"ـ ذلـك الجهـاز الـذي يتفـاخر بكونـه‬
‫الوحيد الذي يمكنه إدارته وتشغيلـ محطاته ‪ ،‬يقول الرهينة ‪ " :‬كان مزهــواَ بأنــه يعــرف الكثــير‬
‫مما أجهل ‪ ،‬فيزداد تعاليا َ عنــدما يكلمــني عن ســماعه ألخبــار العــالم من مــذياع النــائب ‪ ،‬وبأنــه‬
‫الوحيد الذي يقوم بتشغيل ذلك الجهاز الذي يلتف لسماعه حشد كبــير من النــاس داخــل القصــر‬
‫‪2‬‬
‫وخارج أسواره أيضا ً ‪ ،‬يعرف كل األوقات وجميع المحطات والرموزـ واأللغاز "‬
‫وهي صــورـ لشخصــيات ســجلت حضــورهاـ التــاريخي األبــرز خالل فــترة األربعنيــات من‬
‫القرن العشرين ‪ ،‬كصورة " هتلر " و "موسوليني " و " عمــر المختــار" ‪ ،‬يتحــدث الرهينــة‬
‫عن صاحبه الدويدارـ قائالَ ‪ " :‬كان يقول كالمعلم العارف ‪ :‬هذه صورة (الفوهر) هتلــر ‪ ..‬وهــذا‬
‫( موسوليني) ملك الطليان أما هذا الشيخ الوقورـ فهــو ( المختــار )‪ ..‬عمــر المختــار"ـ ‪ 3‬وكــذلك‬
‫يرد اسم المذيع " يونس بحري " الذي كان على ما يبدو يعلق على األحداث المهمة خالل هذه‬
‫الفترة من إذاعة برلين ‪.‬‬
‫وأسماء لفنانين يمنيين شهروا في تلك الفترة أمثــال ( القعطــبي و العنــتريـ و الماســي والشــيخ‬
‫علي أبو بكر ) ‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلشــارة إلى انشـغال اإلمـام أحمــد بقضــية األحـرارـ ‪ ،‬يخــاطب النـائب شــاعر اإلمــام قـائالَ ‪" :‬‬
‫وتعرفـ سيديـ انشغال موالنا حفظه هللا هذه األيام بقضية هؤالء الذين يدعون األحرار اليمنيين‬
‫في عدن "‪.‬‬
‫‪ -3‬قول الدويدارـ ( عبادي ) مخاطبـاَـ الرهينــة ‪ " :‬وأبــوك الهــارب يلهب الــدنيا بلســانه الطويــل على‬
‫‪4‬‬
‫اإلمام في الجرائد في عدن "‬
‫‪ -4‬مقتل اإلمام يحيى ‪ ،‬يقول الرهينة واصفا َ ما يحدث ‪ " :‬كان مقيــل اليــوم متــوتراَـ ‪ ،‬فالنــائب ظــل‬
‫خارجا َ داخالَ وحالته ليست مستقرة ‪ ،‬بل وحالة الضيوفـ المعتــادين في المقيــل أيضـا ً ‪ ،‬أدركت‬
‫بأن هناك شيئا َ ربما حــدث أو هــو في طريقــه للحــدوث قــد أزعج الجميــع ‪ ،‬قــال أحــد المقــربين‬
‫للنائب وقد تأكد من معرفته التامة لوجوه الموجدين ‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي حدث في صنعاء ؟‬
‫‪ -‬قتل اإلمام ‪.‬‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) ‪ ،‬من تعليقـ سلمى الخضراء الجيوسي على الرواية‬
‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 29‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ص‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع السابق (ص‪) 85‬‬
‫‪ -‬من قتله ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬حزب األحرار الدستوريين ‪.‬‬
‫‪ -5‬فشــل االنقالب وعــودة اإلمــام أحمــد منتصــراَ ‪ ،‬يقــول الرهينــة ‪ ":‬تــوهجت المدينــة والقــرى‬
‫المحيطة بها في الجبال والسـهولـ بأضـواء هائلـة على أسـطح المنـازل تـدل على وقـوعـ حـدث‬
‫هــام ‪ ،‬انتصـرـ اإلمــام الجديــد الســيف األمــير ‪ ،‬ولى العهــد الســابق على الدســتوريين األحــرار‬
‫‪2‬‬
‫الثوريين "‬
‫و الزمن السياسي واالجتماعيـ ألحـداث روايـة ( صـنعاء مدينـة مفتوحـة ) لمحمـد أحمـد عبـد‬
‫الولي يقع في الفترة ما بعد الزمن الــذي تغطيــة روايــة ( الرهينــة ) أي فــترة حكم اإلمــام أحمــد‬
‫ابتدا َء من إخفاق انقالب ‪1948‬م واقتحامه مدينــة صــنعاء ‪ ،‬وحـتىـ مـا بعــد النصـف الثــاني من‬
‫خمسينيات القرن العشرين ‪.‬‬
‫وهــو زمن يمكن تحديــده بدقــة من خالل مجموعــة المعطيــات ذات الداللــة الزمنيــة الواضــحة‬
‫ومنها ‪:‬‬
‫‪ ]1‬حـديث الصـنعانيـ عن انتهـاء الحـرب العالميـة الثانيـة الـتي لم تهـز صـنعاء كثـيراَ ‪ ،‬حيث‬
‫يقول ‪:‬‬
‫" ومــرت األحــداث الكبــيرة الــتي هــزت العــالم ولكنهــا لم تهــز مــدينتنا كثــيراَ ولم أشــعر أنــا‬
‫بوجودها "‪. 3‬‬
‫‪ ]2‬حديثه عن وقوعـ حادثة مقتل اإلمام يحيى وسقوط صنعاء ‪ ،‬حيث يقــول ‪ " :‬ففي ذات يــوم‬
‫سمعت أن " اإلمام " قد قتل ولم أبــك ولم أضــحك ألن ذهابــه أو وجــوده لم يكن يهمــني كثــيراَ‬
‫"‪ . 4‬ثم يضيفـ ‪ " :‬وتركت صنعاء بعد أن سقطت في يد اإلمام الجديد بعد أن تحطم كل شــيء‬
‫‪5‬‬
‫فيها حتى اإلنسان ‪.‬‬
‫‪ ]3‬تحديده بداية قصــته مــع اجتيــاح اإلمــام أحمــد لصــنعاء وهي قصــة يرويهـاـ قبيــل انتهــاء‬
‫الحدث الروائي ‪ ،‬حيث يقول ‪ ":‬بدأت قصتيـ يا بني منذ عشرة أعوام "‪.6‬‬
‫‪ ]4‬حديث نعمان وهو يصف خوف أهل قريته من تكرار مجاعة ‪1948‬م يقول ‪:‬‬
‫" وهكــذا لم تــنزل األمطــارـ ‪ ....‬وازداد خــوف النــاس أكــثر من ذي قبــل ‪ ،‬وبــدأ شــبح‬
‫المجاعة يعود إلى أذهانهم خاصة أن مجاعـة (‪1948‬م) مـا زالت ماثلـة في أذهــانهم ‪ ،‬ولم‬
‫يزل الكبار يذكرون كيف كانوا يأكلون ( العاص) وحده ‪ ....‬وكيف كانت حبــة ( الغــرب )‬
‫‪7‬‬
‫أغلى من الذهب "‬
‫‪ ]5‬إعالن بعض الشــركات في عــدن إفالســهاـ بعــد تصــريفـ عمالهــا مســلوبيـ الحقــوق ‪ ،‬يتحــدث‬
‫صاحب المقهى ( الحاج علي ) إلى نعمان ‪ ،‬فيقول مبرراَ عودة الصنعاني إلى معاقرة الخمــرة ‪" :‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 62‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪)177،176‬‬
‫‪ 3‬نفسه (ص‪) 187‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 47‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ص‪47‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه ص‪51‬‬
‫‪ 7‬نفسه ص‪46‬‬
‫أال تعلم لقد أقفلت الشركة أبوابها ‪ ،‬وأعلنت اإلفالس ‪ ،‬وطردت كل العمــال "‪ ".......‬ومنعت عنهم‬
‫‪1‬‬
‫مستحقاتهمـ ‪ ،‬وقدـ حاول الكثيرون الحصول عليها ‪ ،‬فكان الجواب أن الشركة قد أفلست "‬
‫‪ ]6‬إضراب العمال ومظاهراتـ الطلبــة ونــزول قــوات بريطانيــة جديــدة إلى المدينــة ‪ ،‬يحــدثنا‬
‫نعمان قائالَ ‪ " :‬عاد الجمال من عدن باألمس وحمل معه أخبارا كثــيرة ‪ ،‬إضــراباًت العمــال ‪...‬‬
‫والمظاهراتـ التي قام بها سكان المدينة ‪ ،‬ومقتل طالب في السادسة عشره من عمره في إحــدى‬
‫هذه المظاهرات ‪ ،‬ونزول قوات إنجليزية جديدة في المدينة " ‪.2‬‬
‫وكان هذا التصاعد قد سجل بداياته ‪ -‬كما هو معروف ‪ -‬في خمسينيات القرن العشــرين ‪ ،‬حيث‬
‫ظهرت النقابات العمالية في مستعمرة عدن ‪ ،‬وتشكل المؤتمرـ العمالي عام ‪1956‬م " وقدـ بــرز‬
‫الدور القيادي المؤثر للمؤتمرـ العمــالي في مناســبات وطنيــة وقوميــة عديــدة ‪ ،‬فقــد قــاد الحركــة‬
‫الوطنية ضد المخططات االستعمارية الهادفة إلى مضاعفة أعداد المهاجرين األجانب إلى عدن‬
‫من أجل إحداث تغيير في التركيبة الســكانية وتغليب العنصــر األجنــبي المضــمون الــوالء على‬
‫العنصــر اليمــني ‪ ،‬وناضــل ضــد القــوانين االســتعمارية المتضــمنة منــع اإلضــرابات العماليــة‬
‫‪3‬‬
‫واستبدالها بمبدأ التحكيم بين العمال وأرباب العمل " ‪.‬‬
‫وباستقراءـ األعمال القصصية الــتي يمكن تأطيرهــا ضــمن هــذا المبحث من الدراســة ‪ ،‬نجــد أن‬
‫القصص الــتي تضــمنت معطيــات زمنيــة تعين في تحديــد الــزمن السياســي واالجتمــاعيـ الــذي‬
‫أدارت عليه أحداثها تحديداَ دقيقا َ قليلة بشكل الفت ‪.‬‬
‫نذكر منها قصة الذماريـ التي نقرأ في بدايتهاـ ‪:‬‬
‫" صنعاء ‪1949‬م ‪ ...‬الدستور شخص مطلوب القبض عليه كافرـ ‪ ....‬قبيح المنظــر في شــكل‬
‫وحش يلبس أشكاالً مختلفة ‪ .....‬ربما يكون حليق الذقن لــه قرنــان في رأســه أو أكــثر ‪ ....‬يلبس‬
‫البنطلون لباس الفرنجة في بالد الكفــر ‪ .....‬بالد مــدخل ‪ ....‬ز ًّوجــه الدســتوريون بالشــورىـ في‬
‫عقل قصير " ‪ ،‬وقصة طاهش الحوبان التي حملت داللة زمنية واضحة ‪ ،‬يقول كاتبهــا ‪ " :‬لم‬
‫تمض سوىـ عدة أســابيع منــذ عــاد النقيب عبدهللا بن صــالح إلى داره بعــد عــام قضــاه في عــدن‬
‫هاربا َ من اإلمام يحيى ‪ ،‬وكان قد عاد إثر عفو عام صدر من اإلمام عن مجموعة من األحــرار‬
‫‪4‬‬
‫اليمنيين الفارين في عدن "‬
‫لكن هذا ال ينفي حقيقة أن هناك أعماالً قصصية كثيرة دارت أحـداثها في زمن اإلمامـة وإن لم‬
‫تحدد على صفحتها زمنه الدقيقـ ‪ ،‬فال ندري نحن في زمن اإلمام يحــيى أم زمن اإلمــام أحمــد ‪،‬‬
‫يعرف ذلك من تجاربها وقضاياها وطبيعة المشــكالت المعالجــة وبعض األعــراف الــتي كــانت‬
‫سائدة أيام اإلمامة ‪ ،‬وكذا بعض مسميات المناصب الحكومية التي تالشت بقيام الثــورة ‪ ،‬نــذكر‬
‫منها قصة الرهينة لرمزية اإلريانيـ حيث يدور حوار بين األم‬
‫وولدهاـ الذي أفصحت لــه عن ســبب حزنهــا ‪ -‬يكشــف عن حقيقــة الــزمن الــذي تنتمي إليــه هــذه‬
‫القصة ‪ ،‬وهو حوار جاء فيه ‪" :‬‬
‫وقع االختيارـ عليك ‪ ....‬ألنك وحيدي‬
‫‪ 1‬نفسه ص‪17‬‬
‫‪ 2‬نفسه(ص‪) 84،86‬‬
‫‪ 3‬نفسه (ص‪) 24‬‬
‫‪ 4‬مجموعة مؤلفين ( ندوة الثورة اليمنية سبتمبرـ ‪ ،‬أكتوبر ) من مقال للدكتور‪ /‬أحمد الصايدي ‪ /‬مرجع سابق ‪( .‬ص‪)69‬‬
‫أمسك بكتف أمه ‪.‬‬
‫االختيارـ وأي اختيار ‪ ...‬وع َّم تتكلمين ؟‬
‫لطمت خدها بيديها االثنتين ‪.‬‬
‫استدعاني والدك ليلة البارحة ليفضي إلي أن تستعدـ للسفر معه إلى عند اإلمام ألنه طلب رهينة‬
‫‪1‬‬
‫‪.‬‬
‫وقصتي (العم مسفر) لزين السقاف ‪ ،2‬و( العسكري ذبح الدجاجة ) لزيد مطيع دمــاج ‪3‬اللــتين‬
‫تكمالن بعضــهماـ في تغطيــة جــانب من حيــاة شــريحة اجتماعيــة ســجلت وجودهــاـ في زمن‬
‫اإلمامــة ‪ ،‬تلــك هي شــريحة عســاكر التنافيــذ ‪ .‬وأحــداث القصــتين تشــير إلى دورانهـاـ في زمن‬
‫اإلمامة ‪ ،‬تؤيد ذلك معطيات مختلفة وردت فيهما ‪ ،‬منها ظهور منصب العامل والعــدل والشــيخ‬
‫والحاكمـ وأجرة العسكريـ المحددة ‪ ،‬حيث نسمع على لسان العامــل الــذي يعــترض على رفــع‬
‫‪4‬‬
‫العسكريـ أجرته فيقول ‪ " :‬ولكنها األجرة المقررة من قبل الحكومة "‬
‫وهكذا هي قصة ( العائد من البحر ) ‪ 5‬تكتسب داللتهــا الزمنيــة من ذات المعطيــات الــتي تبــدو‬
‫مشتركة بين األعمال المنتميـة إلى هـذا المبحث ‪ ،‬فصـورة النظـام الظـاهرة فيهـا والـذي يسـلط‬
‫مشايخه على بسطاء الناس هي نفسها الصورة المتواردة في بقيــة األعمــال الــتي تشــترك معهـا‬
‫في إبراز هذه الظاهرة ‪ ،‬ونفس مسميات المناصب الحكومية تتكرر هنا أيضـا ً ‪ ،‬هــذا إلى داللــة‬
‫زمنية إضافية ترد في هذه القصة تحسم انتماء أحداثها إلى زمن اإلمامــة ‪ ،‬ضــمن الجــدل الــذي‬
‫نشب بين ( علي بن علي ) شخصية القصة والشيخ الذي جاء لتهديده ‪ " :‬اسمع يا شيخ ‪ ..‬أنــا ال‬
‫أعرفك ولم يكن بيني وبينك على ذلك أي عداوة فاتركني في حالي ولكنك نهبت أمــوال محمــد‬
‫حسن ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان ذلك صحيحا َ فأمامه الحكومة يطلبني فيها إلنصافه ‪.‬‬
‫‪ -‬ولكني شيخ هذه البالد وأمرها بيدي وأنا حامي رعيتها ‪..‬‬
‫‪ -‬مع احتراميـ لك يا شيخ إال أنني ال أحتكم إال بــأمر الحكومــة ‪ ...‬فــإذا كــان محمــد حســن يريــد‬
‫‪6‬‬
‫مقاضاتيـ فانا مستعد لذلك حتى عند األمام نفسه ؟ "‬
‫وتنفردـ قصة ( الليل ينصهر ببطء ) لمحمد مثنى ‪ 7‬بزمنهاـ غير المتكرر ‪ ،‬والتي تــدورـ أحــداثها‬
‫على آخر نقطة من لحظــات المعانــاة مــع نظــامـ اإلمامــة ‪ ،‬فقــد كــانت ليلــة خميس ‪ ،‬حين أضــاء‬
‫السمســرة انفجــار مــروع من الخلــف ‪ ...‬تاله انفجــار آخــر ‪ ...‬أعقبتــه ألأله بنفس طويــل من‬
‫البنــادق ‪ ،‬انفجــارات متواليــة كثــيرة ‪ ،‬وزمجــرة تنفض عن الليــل صــمته وســكونه من ألســنة‬
‫الجنــازير ‪ ،‬كــل العيــون الغافلــة في السمســرة بتعب اســتيقظت مفتوحــة بخــوف وبلــه لآلخــر‪،‬‬
‫تتواصــل االنفجــارات كسالســل الرعـد ‪ ،‬ويشـتغلـ الليـل بــالحرائق ‪ ..‬إنهــا الجحيم ‪ ....‬مــازالت‬
‫االنفجارات تذيب وجه الليـل في الخـارج ‪ ( ،‬ملهم ) يقلب األمــر بخـوف صــمت ‪ ...‬في البدايــة‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) دار الكلمة صنعاء ‪1979‬م‬
‫‪ 2‬المرجع السابق‬
‫‪ 3‬رمزية عباس االرياني ( عله يعود ) وزارة اإلعالم والثقافة ‪ ،‬صنعاء ‪1981 /‬م (ص‪)47‬‬
‫‪ 4‬زين السقاف ( العم مسفر ) دار الهمداني ‪1984‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)9‬‬
‫‪ 5‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص‪)24‬‬
‫‪ 6‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع السابق (ص‪) 33‬‬
‫‪ 7‬المرجع السابق (ص‪) 42‬‬
‫ظنها القيامة ‪ ...‬اإلمام الجديـد يـدمر بيـوت الخـارجين عن الطاعـة ربمـا ؟ وال يجـد اإلجابـة ‪..‬‬
‫األئمــة يلجــأون إلى استئصــال األعنــاق في مثــل هــذه الحالــة ‪ ..‬ولكن أي شــياطين تحــل اآلن‬
‫المدينة ‪...‬؟ كل األذان مرهفة ‪ ،‬والعيون في الكوات مشرئبة ‪ ،‬والليل ينصهرـ ببطء من حــرارة‬
‫الضوء واالنفجارات ‪ ،‬دخل ضابطـ يلهث بحثا َ ع ّم يبل به ريقه من الماء ‪...‬‬
‫سأله أحدهم ‪...‬؟ قال الضابط من خالل لهاثه "‪ .....‬اإلمــام الجديــد تحت االنقــاض ‪ ،‬أطفــأ‬
‫الضابطـ بعدها لهاثة بقليل من الماء ‪ ،‬وعاد مسرعا َ للخارج ‪ ،‬وقبـل أن يغيب قـال بنفس اللهـاث‬
‫‪1‬‬
‫" إنها الثورة " ثم انطوىـ بسرعة البرق عن األعين ثورة ‪ ...‬ثورة ؟‬
‫أما عن مالمح الزمن السياسي واالجتماعيـ لهذه الفترة من وجهه نظر كتــاب الروايــة والقصــة‬
‫القصيرة ‪ ،‬والتي يمكن الوقوف عليها وتتبعهاـ لتحديد الطبيعة السياسية لهذا الــزمن ‪ ،‬والوقــوفـ‬
‫على طبيعة القيم السائدة على المجتمع المنقسم إلى مجتمعين بينهما شديد التفاوت والتبــاين همــا‬
‫مجتمع السلطة ومجتمــع المحكـومين ‪ ،‬فهي على الـرغم من حقيقـة اختالفهــا بين زمـنيـ اإلمـام‬
‫يحيى واإلمام أحمد الذي يتشكل زمنه زمنا َ أشد تدميراَ وفتكـاَـ ‪ ،‬فـإن مـا بين الزمـنين من نقـاط‬
‫اشتراك قوية تجعــل منهمــا زمنــا واحــداَ ممتــداَ ‪ ،‬ممــا يفــرز هــذه المالمح من االختالف مالمح‬
‫واقعه على هامش الحركة الزمانية للزمن المتواثب على مساحة هذه المرحلــة من تــاريخ اليمن‬
‫الحديث ‪ ،‬من هذه المالمح ما يلي ‪:‬‬
‫‪ )1‬إنــه زمن الهــزائم السياســية الكبــيرة ‪ ،‬الموصــوم بعــار الهزيمــة ‪ ،‬يحــدثنا الرهينــة عن صــديقه‬
‫البورزان فيقول ‪ " :‬وصوتـ صديقي البورزان أحد أبطال هزيمة ( االنسحاب ) يعلو بنشيده‬
‫‪2‬‬
‫المنادي للهجومـ على الخصومـ وبإشارة النصر الذي لم يحدث "‬
‫‪ )2‬إنــه زمن التمــردات الــتي تحــولت معــه اليمن إلى ســجن كبــير ‪ ،‬يحــدث الدويــدار ( عبــادي )‬
‫الرهينــة قــائالَ ‪ ":‬وحالــة بلــدتكم ســيئة ‪ ،‬أمــا أعمامــك وأفــراد أســرتك اآلخــرون ففي الســجون‬
‫"‪ "......‬وال يوجد في دياركمـ سوى النساء واألطفــال الرضــع والســواري والعكفــة " ‪ ، 3‬ومــع‬
‫هــذا الــزمن اختلفت النظــرة إلى الســلطة ‪ ،‬ولــذلك كــانت الســجون وكــانت المعالجــات العنيفــة‬
‫والقامعة ‪ ،‬بل والممارسات اإلجرامية الوحشية ‪ ،‬يقول الرهينــة ‪ " :‬كنت أعـرف من خالل مــا‬
‫قد سمعته بأن ولي العهــد يحتفــظ بهــذه الحيوانــات الكاســرة في مطابقهـا الحديديــة المطلــة على‬
‫ساحة القصر لكي يتسلي بها عندما يلقي ‪-‬في بعض األوقات ‪ -‬ببعض خصــومه إلى أقفاصــهاـ ‪،‬‬
‫وبأنه كان يتلذذ برؤية ذلك المشهد الذي تقشعر له األبــدان ويشــيب لــه الولــدان على حــد تعبــير‬
‫‪4‬‬
‫جدتي رحمها هللا "‬
‫‪ )3‬إنه زمن تمثل على صفحته أصعب فترة من فترات التــاريخ اليمــني الحــديث ‪ ،‬حيث اليمن‬
‫دولة مغيبة عن الوجود الدولي ال تؤثر وال تتأثرـ ‪ ،‬فالحرب العالميــة تقــوم وتنتهيـ ‪ ،‬ولم يشــعر‬
‫بها اإلنسـان اليمـني المغيب عن خريطـة الوجـودـ اإلنسـاني ‪ ،‬والـزمن معطـل فيهـا ومتوقــف ‪،‬‬
‫واإلنسان حائر ال يعرف لغده طريقا َ ‪ ،‬يقول الصنعانيـ مخاطبا َ نعمان ‪ " :‬وكــل مــا كنت أريــده‬
‫هو أن تعود الحياة وتتطورـ حتى أحقق أحالمي ‪ ،‬وكنت في لحظات أراجع نفسي وأتساءل هــل‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه (ص‪) 59‬‬
‫‪2‬محمد مثنى ( رحلة العمر ) الهيئة العامة للكتاب ‪ /‬صنعاء ‪2001‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪) 45‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق (ص‪) 51‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 162‬‬
‫حقا َ أنني في الطريق الصحيح المؤدي إلى سعادتيـ التي أحلم بها ‪ ،‬وأجد أن كل الطرقـ المؤدية‬
‫إليه مغلقة ‪ ،‬وأنني واقفـ ال أسير ‪...‬‬
‫وسأستمرـ واقفا َ إن لم أغير نظرتي ‪ .....‬وخطتيـ ‪ ،‬وكنت كلما حاولت ذلك ‪ ...‬أتراجع ألني ال‬
‫استطيع أن أغير حياتي فأستسلم للواقع " ‪ ، 1‬واألرض مجديــة ‪ ،‬خاضــعة لضــربات الحــظ ‪،‬‬
‫إن أجدبت السماء ‪ ،‬عم القحط والجوع ‪ ،‬نقرأ في قصة ( العم مسفر ) وصفا َ إلحدى السنوات‬
‫المجدبة ‪ " :‬غـبر أن الحـال في تلـك السـنة كـانت شـديدة السـوء ‪ ،‬إذ تتـابعت مواسـمـ الجفـاف‬
‫وهــرب الخــير وتضــاءلت الحبــوب ‪ ،‬ونفقت الحيوانــات من شــح المــراعي وتكــاثرت أخبــار‬
‫األوبئة والمجاعــة ‪ ،‬بعــد أن تــرك اإلمــام الرعيــة والحبــوبـ للديــدان في المــدافن ‪ ، 2‬وثكلىـ "‬
‫تتحمل آالم النـاس فوقهــا ‪ ،‬وتتحمـل آالمهم تحتهـا ‪ ،‬إنهم أحيـاء وأمـوات في كـل جـزء " ‪، 3‬‬
‫والموت مطبق ‪ ،‬يحدث نعمان صديقه ‪ " :‬كل شيء يا صديقي صامت حزين كأنني في مقبرة‬
‫‪4‬‬
‫وحولي شواهد القبور المخيفة ‪ ،‬كم أكره المقابر وسكانهاـ ‪.‬‬
‫‪ )4‬إنه زمن تمد فيه الســلطة قبضــتهاـ إلى أبعــد القــرى فتخنقهــا ‪ ،‬وتــبز اللقمــة من أفــواه الجــائعين‬
‫البائسين الذين تسلط عليهم عمالها من الشيوخ وجابيي الضرائب والعســاكرـ خالقــة بــذلك أزمــة‬
‫حقيقية بين أبناء المجتمع الواحد ‪ ،‬وهذا ( علي بن علي ) في قصة العائد من البحر يقتــل ‪ -‬بعــد‬
‫أن يئس من إقامة العدل ‪ -‬شيخ القرية الـذي لم يتـوان عن مالحقتـه بـاألذىـ حـتى أنـه دبـر لـه‬
‫مكيدة سلبه فيها كل ما يملك " اقترب من الحاكم وبندقيته متدلية إلى اإلمام بيده تترنح ‪ ،‬وأشــار‬
‫الحاكم نحو عساكره فتحركوا نحو (علي بن علي ) ليطوقــوه ‪ ...‬ولمــا اقــتربوا منــه دوت طلقــة‬
‫‪5‬‬
‫نارية سقط على أثرها الشيخ مضرجا َ بدمه "‬
‫وهذا العسكري في قصة ( العسكري ذبح الدجاجــة ) يتــنزل كاللعنــة على أســرة بائســة ال‬
‫تملك قوت يومها بتهمة ال تعلم لها أساسا ‪ ،‬ويطالب عائلها بمــا ال يســتطيعـ ويجــبره على‬
‫ذبح دجاجته الوحيدة ‪.‬‬
‫وفيـ هذا الموقف الحــواري نســتمع لتوسـالت الرعــوي الــتي لم تثن إصـرارـ العسـكري ‪- " :‬‬
‫ولكن ليس لدي سواها ‪،‬‬
‫وهنا سكت العسكريـ وحملق فيه كمن يريد إخافته ثم قال بغضب ‪:‬‬
‫‪ -‬أتريد أن تقدم لي عصيداَ‬
‫‪ -‬هذا كل ما أملك ‪.‬‬
‫‪ -‬عليك اللعنة ‪ ...‬اذهب وأعد الدجاجة وإالًّ ‪....‬‬
‫‪ -‬ثم دفعه بيده صوب الفناء ‪ ...‬ولكن الرعوي عاد وهو يقول ‪ :‬حرام عليك ‪ ،‬ليس لدي سواها‬
‫‪ -‬ليست كبشا َ يا رعوي خيرة هللا عليك‬
‫‪6‬‬
‫‪ -‬ولكن وعدت ابني بشراء ثوب له للعيد من ثمنها‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 62‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪)112‬‬
‫‪ 3‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 47‬‬
‫‪ 4‬زين السقاف ( العم مسفر ) دار الهمداني ‪ ،1984‬ط‪( 1‬ص‪) 12‬‬
‫‪ 5‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص‪)13‬‬
‫‪ 6‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 59‬‬
‫لكن العسكري في هذا الزمن الغريب هو أيضا ً شخص ال يقل بؤساًـ عن غيره ‪ ،‬فهذا العم مسفر‬
‫في قصة ( العم مسفر) وهو أحد عساكر التنافيذ ‪ ،‬يجد نفسـه بعـد أن بلـغ منــه العمـر مبلغـه في‬
‫دولة يفتقر فيها اإلنسان ألبسط الحقوق وأقل الضمانات مضطراَـ للتفكــير في العـودة إلى العمـل‬
‫العسكريـ ‪ ،‬وهو التفكير الــذي يقــوده إلى القيــام برحلتــه الــتي تبلغــه مــع ســنه الكبــيرة مصــيره‬
‫المحتومـ ‪ ":‬األرجل النحيلة تخبط بنعالها بين األحجــار ‪ ....‬والجـو المحــروقـ من الجفــاف ينفث‬
‫وحشه وعطشا ‪ ،‬وفوق األكتاف تتعلق الزمزمياتـ وأكياس صغيرة فيها حبوب مقليــة ولقيمــات‬
‫من بقايا أرغفة جافة ‪-‬زاد الطريقـ ‪ -‬الذي كانت تمتد إليه األيدي بين الوقت واآلخرـ لتقضــم من‬
‫بقايا األرغفة أو تســحق بضــع حبــوب ‪ ،‬بينمــا يمضــي الكالم حثيـا َ ‪ ،‬غــذاء متصـالَ بين الجمــع‬
‫المتحــرك ‪ ،‬يحــاول العم مســفر أن يســاير الجمــع ‪ ....‬ويجــفـ حلقــه ‪ ....‬ويســتنجدـ بالزمزيــة‬
‫يستحلبهاـ رحيق الحياة ‪ ، ....‬ويداه ترتعشان وقلبـه يخفــق ‪ ،‬ويغلبـه التعب واإلرهـاق ‪ ،‬يتهـاوىـ‬
‫ككومة قش على الطريقـ ‪ ..‬يشهق ويردد الدعوات ويده على بندقيتة ‪ ..‬تمتد رجاله النحيلتــان ‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫وتسترخي أعضاؤه المكدودة "‬
‫وهذا العم مقبل في رواية ( صــنعاء مدينــة مفتوحــة ) ينظـرـ إلى العســكر " بمالبســهمـ المتباينــة‬
‫وفوطهمـ الممزقة ‪ ،‬والبنــادقـ القديمــة المصــدأة ‪ ،‬والعمــائم البيضــاء والســوداء الممزقــة المبللــة‬
‫واألحذية واألقدامـ العارية التي يسيرون بها ‪ ،‬هز رأسه ساخراَ ‪ ..‬جيش ‪ .....‬جيش بالدنــا الــذي‬
‫يدافع عن حــدودناـ ‪ ،‬قالهــا متهكمـا َ ‪ ..‬وأردف إن لهم الحــق أن يعــاملواـ الشــعب هكــذا ‪ ،‬ألنهم ال‬
‫يجدون شيئا َ ‪ ،‬وعلى كل واحد منهم أن يضمن لنفسه راتبه ‪ ،‬ويبحث عنـه لقمـة عيشـه "‪ ،2‬وهم‬
‫في رواية (الرهينة) يترقبون أوامر النائب المثمرة التي سيخرج بها من حفل ابتهاجه بوصولـ‬
‫ولــده ‪ " :‬كــانوا يشــاركون باالحتفــال بوصــول ابن النــائب ويتوقعــون في الصــباح أن يكــرمهمـ‬
‫النائب بأوامر نافعة على الرعية لتأخرهم عن تســديد الزكــاة ومحلقاتهــا ‪ ،‬وبــات كــل عســكري‬
‫‪3‬‬
‫منهم يحلم بأمر يأخذه على رعيته من منطقة يفضلها ويعرفـ مردود ذلك األمر "‬
‫‪ )5‬وهذا زمن تستبيح فيه السلطة كل المحرمات ‪ ،‬ويدها ال تزال ملطخة بجرائمه ـاـ في مدينــة‬
‫صــنعاء ‪ ،‬حيث تشــكلت مأســاة الصــنعاني ‪ ،‬وتحطمت مــع هــذه المأســاة قيم اإلنســان يقــول‬
‫الصنعانيـ ‪ " :‬وتركت صنعاء ‪ ...‬بعــد أن ســقطت بين يــدي اإلمــام الجديــد ‪ ،‬بعــد أن تحطم كــل‬
‫شــيء فيهــا ‪ ،‬حــتى اإلنســان ‪ ،‬نعم حــتى اإلنســان ذلــك الجبارالــذيـ صــنع المعجــزات ومــازال‬
‫يصنعهاـ ‪ ،‬تحطم تلك األيام في مدينتناـ ‪ ...‬وأصبح مجرد حيوان ينهش كــل مــا يــراه أمامــه دون‬
‫تمييز ‪ ....‬دون خوف ‪ ،‬ألن كل المعاني والقيم كانت قد تحطمت "‪ ، 4‬بل وتمــد أذرعهــا لتخنــق‬
‫كــل إشــراقة للنــور ‪ ،‬وهــذه ( زبيــد) مدينــة العلم والعلمــاء ‪ ،‬تغيب شمســها ويــذهب عنهــا العلم‬
‫والعلماء ‪ ،‬وهذا ( علي الزغير ) يحدثنا عما دار بينه وبين شيخ التقاه في صحن جــامع زبيــد ‪،‬‬
‫فيقول ‪ " :‬نظر إلي وأنا أقبل يده ‪ ...‬ثم أتاني صوته كأنه خارج من أعماق كهف عميق ‪ ...‬ماذا‬
‫تريد يا بني ؟؟‬
‫‪-‬إنني جديد هنا ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 12‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص‪) 71‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق (ص‪) 27،28‬‬
‫‪ 4‬زين السقاف ( العم مسفر ) مرجع سابق (ص‪) 7‬‬
‫‪ -‬إذن ‪..‬‬
‫‪ -‬ال أعرف ماذا أعمل ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا أتيت تعمل هنا ؟‬
‫‪ -‬ونظرتـ إليه في استغراب ‪ ...‬ولكنني أجبته ‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أتيت ال أتعلم‬
‫ففتح الرجل الشيخ ‪ ....‬عينيه الضيقتين‬
‫تتعلم ‪ ،‬تتعلم ‪ ...‬وماذا تتعلم ‪ ...‬وجعل يهز رأسه ‪ ..‬لقد ذهب العلم والعلماء ‪ ...‬يــا بــني ولم يبــق‬
‫‪1‬‬
‫هنا شيئا َ ‪ .‬ونظرـ إلي ‪ ...‬من الذي خدعك وقال لك أن هنا علم ‪".‬‬
‫وتستحيلـ إلى مدينة مقابر في ظالل هذا الحكم الذي ال يكف عن مطـاردة المتعلمين والـزج بهم‬
‫في سجونه ‪ ،‬يقــول ( علي الزغــير ) ‪ " :‬وفي صــحن المســجد الكبــير ‪ ..‬حيث ســمعت قصــص‬
‫آالف ممن كــانوا ينــامون ويتعلمــون في هــذا الصــحن ‪ .‬حكايــات ‪ ..‬بســيطة كبالدنــا ‪ ...‬عنيفــة‬
‫كبالنا أيضا ً ‪ .‬ناس بسطاء ‪ ...‬تكبدوا كل شيء من أجل العلم ‪ ..‬ثم قادهم علمهم ذلك إلى غياهب‬
‫السجون ‪ ..‬هنــاك في حجــة ‪ ..‬وفي صــعدة وفي غيرهــا من الســراديب الســوداء المظلمــة تحت‬
‫أرض بالدنا " ‪ ، 2‬وهي ترقدـ معزولــة خلــف أســوارها تلــك األســوار الــتي صــدت عن المدينــة‬
‫تدفقـ شعاع العلم الحديث ‪ ،‬خارج تلك األسوار القديمة الصلدة التي ما زالت تقاوم الزمن تقبــع‬
‫المقبرة ‪ ،‬ميدان واسع ال نهاية له ‪ ،‬كأن أموات العــالم كلــه متجمعــون هنــاك ‪ ،‬ومن فــوق ربــوة‬
‫عالية خارج ترى المكانين ‪ ،‬زبيد داخل سورها ‪ ،‬والمقابر بشواهدها وقببهاـ البيضاء ‪ ،‬مــدينتان‬
‫لألحيــاء ولألمــوات ‪ ،‬وأي إنســان ال يعــرف زبيــد ‪ ،‬ال يســتطيع أن يمــيز بين المــدينتين ألنهمــا‬
‫‪3‬‬
‫متشابهتان "‬
‫وهكذا هي الحياة معطلة في كل بقعة من هذه األرض ‪ ،‬كل ذلك بسبب الكارثة الكبيرة والكاتمة‬
‫على أنفاس الناس ‪ ،‬يحدثنا نعمان ‪ " :‬عادت زوجتي بعد أن وصلناـ إلى الوادي وتابعت المسـير‬
‫أنا ومحمد مقبل لنصل إلى ( المفاليس ) لعلنا نجد سيارة مسافرة إلى عدن ‪ ،‬وكان محمــد مقبــل‬
‫صامتا َ طوال الطريقـ ينظر إلى المياه ‪ ،‬ثم إلى األرض والســماء ‪ ،‬ويتمتم بكلمــات ثم يســكت ‪،‬‬
‫وتــابعت تمتمتــه حــتى أدركت أنــه يقــول ‪ " :‬إلى مــتى هــذا العــذاب يــا رب ؟ " ولم يكن يعــني‬
‫‪4‬‬
‫بالعذاب نزول األمطار ‪ ،‬ولكنه كان يعني بالعذاب الكبير الذي كان السبب األول لشقائنا ‪.‬‬
‫وإلى جانب كارثة اإلمامة تطل على الدوامـ كوارث أخرى تنتجها الطبيعة القاسية الــتي تظهــر‬
‫في رواية ( صنعاء مدينة مفتوحة ) معاديــة تشــارك في الفســاد واإلهمــال األمــامي ‪ ،‬وتمــارس‬
‫معه سطوتهاـ لتجهز على ما تبقى إلنسان هــذه األرض من صــبر وإرادة ‪ ،‬حين يجــد حياتــه في‬
‫قبضة عفريت ومعاشه في يد طبيعة ال ترحم ‪ ،‬فإن حبست الســماء مياههــا ع ّم الجفــاف محــوالَ‬
‫حياتــه إلى جحيم ‪ ،‬وإن اســتجاب الجــدب والقحــط ب ـ ّدل أخالقــه ليعــود إنســانا ً آخــر " لم تســقط‬
‫األمطارـ طوال شهر كامل ‪ ،‬وشعرـ الناس بالمأساة قد أصبحت حقيقية وأنه ال مفر منهــا ‪ ،‬وهنــا‬
‫نــرى الجشــع يظهــر ألول مــرة ‪ ،‬فهــؤالء النــاس الــذين كــانوا بــاألمس أصــدقاء يعيشــون ‪...‬‬
‫‪ 1‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 35‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) المرجع السابق (ص‪) 57،56‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪)19‬‬
‫ويتحدثون ويصلون قد انقلبــوا إلى أنــاس ال يعــرف بعضــهمـ بعضـا َ ‪ ،‬لقــد كــان كــل واحــد منهم‬
‫يخاف أن يطلب منه اآلخرنقوداَ لشــراء حبــوب ألســرته أو يســلفه قليالَ من الحبــوب المخزونــة‬
‫لديه ‪ ،‬وصارت األفواه التي تناديـ بالتعاون ضد الزنادقة والمــارقين أمثــالي ‪ ،‬تنــادي اآلن بــأن‬
‫يجنبها شر كل الناس "‪ ، 1‬وهنا ينشط العرافون والدجالون مستغلين الموقف لصــالحهمـ ‪ ،‬وهــذا‬
‫دجــال يــأتي لخــداع أهــل القريــة المترقــبين بصــبر لــنزول المطــر في روايــة ( صــنعاء مدينــة‬
‫مفتوحة ) ويوهمهمـ أن شخصا َ ما قد وضع فوق األكمة رسمه فيها ورقة تمنــع نــزول المطــر ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وأنه يعرفـ مكان هذه الرسمة إذا دفع له مبلغ معين من قبل الجميع "‬
‫لكن القـرويين الــذين لم يـترددوا في تصــديقه ودفعــوا لـه مــا أرادوا قــد خـاب ظنهم ‪ ،‬فلم تـنزل‬
‫األمطارـ ومضـىـ أســبوع تلــو اآلخــر " وبــدأ النــاس يهمســون قــائلين ‪ " :‬إن الرجــل قــد أخــرج‬
‫الرسمة من قميصه ‪ ،‬دون أن يراه أحد ‪ ،‬وبعد أسبوع ثان كان األمر حقيقة عند كل شخص في‬
‫القرية ‪ ،‬ولكن بعد أن ذهبت الرياالت إلى جيبه "‪ ، 3‬وإن أمطرت ‪ ،‬تحولت األمطارـ التي جهــد‬
‫الدعاء في طلبها وانقلبت جحيما َ كارثيا َ يقتل اإلنسان والحيوان ويجرف األرض في غيــاب تــام‬
‫للدولة وأجهزتها المسئولة ‪ " ،‬كل ذلك التلهف والترقب والــدعاء كلــه يــا صــديقي ذهب هبــا َء !‬
‫ألن األمطار لم تعد الخضرة إلى البراعم التي كانت قد بــدأت تتفتح فــوقـ المــدرجات ‪ ،‬بــل لقــد‬
‫حملت تلك المدرجات ورصتهاـ بعضها فوق بعض ‪ ،‬وحملت الطينة السمراء إلى الـواديـ ‪ ،‬لقـد‬
‫أصبحت األرض الخضراء تسيل فوقهاـ المياه ‪ ،‬لقــد خــرب كــل شــيء وذهب تعب األجــداد في‬
‫بناء المدرجات ‪ ...‬ربما إلى األبد "‪ ، 4‬هكذا يجرفـ السيل الحياة في هذه القرى البائسة فيحمــل‬
‫األشجارـ والماشية واألطفال ‪ ،‬وبدالَ من أن تتحرك الدولة لنجدة شعبها المنكوب ‪ ،‬يرسل اإلمام‬
‫عساكره بال خجل ‪ ،‬ليجبون الضرائب من أناس ال يمتلكون شيئا َ " لو ترى الخــراب الــذي ع ّم‬
‫هذه األرض المتألت عيناك بالدموع ولرثيتـ لحالـة هـذا الشـعب الـذي أنهكـه كـل شـيء حـتى‬
‫حكومته ‪ ،‬تصور ‪ ...‬وصل باألمس إلى قريتنا أكثر من عشرة عساكر من ( العكفة ) مع جابي‬
‫الضرائب ‪ ،‬وطلب من قريتناـ ضــرائب هــذا العــام ‪ ،‬بــل أنـه طلب ضــرائب األرض ونتاجهــا ‪،‬‬
‫أتتصور ذلك ‪ ،‬النــاس ال يجــدون نقــوداَ لشــراء حبــوب تقيهم عـامهم القـادم كلـه من المجاعـة ‪،‬‬
‫والحكومة تطالبهم بضرائب زرع لم يجنوه ن وضرائب على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات‬
‫‪5‬‬
‫يوم "‬
‫وفيـ مســتعمرة عــدن األمــر في هــذا التــوقيت لم يكن مختلفـا َ ‪ ،‬فسياســة المســتعمرـ الذاهبــة إلى‬
‫إغالق أبواب الرزق في وجــوه أبنــاء البلــد األصــليين وتســريحهم من أعمــالهم ‪،‬إلحالل عمالــة‬
‫أجنبية في وظائفهمـ الــتي يشــغلونهاـ تضــغط هي األخــرى متــآزرة مــع كــل الضــغوط الســابقة ‪،‬‬
‫ليستسلمـ اليمني في آخر أمره إلى الفراغ والبطالة حتى يجد نفسه وقـدـ أغلقت في وجهــه أبــواب‬
‫الحياة ‪ ،‬ال عمل وال غذاء وال مسكن ‪ ،‬وهــذا ( ســالم ) في قصــة ( البطانيــة ) لجعفــر حمــزة ‪،‬‬
‫يبرز نموذجاَـ لشاب يعاني هذا الظرفـ القاسي ‪ ،‬حتى أصبح أمر تغطيته جسده لتحقيق قليال من‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪)14‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 15‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه (ص‪)17‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ( ص‪)19‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق (ص‪)28‬‬
‫الدفء في الليالي الباردة مسألة حســابية معقــدة تتطلب منــاورة عقليــة بارعــة ‪ ،‬فهــو إن حــاول‬
‫تغطية جســده حــتى أخمص قدميــه بغطائــه القطــني المتآكــل الوحيــد انكشــف رأســه وجــزء من‬
‫صدره ‪ ،‬وإن حاول تغطية الجــزء األعلى من جســمه بــرزت قــدماه ونصـفـ ســاقيه ‪ ،‬حينئــذ ال‬
‫‪1‬‬
‫يسعه إال أن ينكمش على أحد جانبيه حتى تكاد ركبتاه أن تلتصق ببطنه "‬
‫وهذا نعمان يحــدثنا عن الموقــف المتبــدل في عـدن بعــد عودتــه من قريتــه المنكوبــة فيقــول ‪" :‬‬
‫وجلست على سريريـ أنظر حولي في اسـتغراب ‪ ،‬كـان كــل شـيء قـد تحـول في هـذه المــرة ‪،‬‬
‫الناس كل يجلس على سريره ينظــر إلى اآلخــر بفــراغ ‪ ،‬ومنهمـ من قــد نــام ‪ ،‬وآخــرونـ يقفــون‬
‫‪2‬‬
‫على باب المقهى ينظرون إلى الشارع ‪ ،‬وآخرون تمردواـ على كل شيء حتى على أنفسهم "‬
‫‪.‬‬
‫وهكذا تنسد جميع المنافذ فيضطرـ اليمني إلى الهجــرة الــتي جســدتها أعمــال روائيــة وقصصــية‬
‫كثيرة ‪ ،‬تقف في صدارتها أعمال الكاتب محمد أحمد عبد الولي ‪ ،‬في روايته يموتون غربــاء ‪،‬‬
‫وأعمال القصصية األخرى ‪ ،‬وفي صنعاء مدينة مفتوحة ‪ ،‬أيضـا ً نجــد عــدداَ من المهــاجرين أو‬
‫الذين قد سبق لهم أن هــاجروا ‪ ،‬وهــو عــدد يحكي كارثــة حقيقيــة ‪ ،‬فصــديق نعمــان مهــاجر في‬
‫فرنساـ ‪ ،‬وأخوة قد هاجر إلى جده ‪ ،‬وأبوه كان مهاجراَ ‪ ،‬والبحار قد جاب األرض ‪ ،‬وهو يعمــل‬
‫في السفن فتاة الجبل زوجهاـ مهاجر وال تعلم مــوطن هجرتــه ‪ ،‬ولم يبــق في القريــة إال الشــيوخ‬
‫والعجائزـ ‪.‬‬
‫والمهاجرـ الذي هذا وضع بلده يضطر ألن يقبل بأي عمل كان في غربتــه ‪ ،‬وهــذا محمــد مقبــل‬
‫يحدث نعمان فيقول ‪ " :‬لقد كنت مثلــك أحــاول أن أهــرب من واقعيـ ‪ ،‬حملت الســالح وقــاتلت‬
‫الناس ‪ ...‬ناس ال أعرفهم ‪ ،‬وال يعرفوننيـ ‪ ،‬ليست بيــني وبينهم عــداوة ‪ ،‬ولكــني قتلتهم ‪ ،‬قــاتلت‬
‫مع اإليطاليين ‪ ،‬وقــاتلت ضــدهم ‪ ،‬كنت أبيــع نفســي لمن يريــد شــراء أداة إلطالق الرصــاص ‪،‬‬
‫وكنت مستعداَ أن أبيع نفسي للشيطان ما دام سيدفع ثمنا َ مرتفعا َ ‪ ،‬كل ذلك يا نعمــان ألني أردت‬
‫أن أنسي أنني يمني ‪ ،‬ولكن الحقيقة هي أنني كنت أعمل كل ذلك ألنـني يمــني ‪ ،‬ألنــني أريــد أن‬
‫‪3‬‬
‫أنتقم من الذين شردوني ومزقوني وسرقوا أرضيـ ‪.‬‬
‫‪ )6‬هو زمن كانت تــدار فيــه شــؤون البالد بعشــوائية عجيبــة ‪ ،‬فال مؤسســات معروفــة وال‬
‫وزارات متخصصة وال إدارات تقوم بتأدية مهام محددة ‪ ،‬فشاعر اإلمام الذي يتمتــع بمكانــة‬
‫عظيمة لدية هو وسيلة اإلعالم الوحيدة ‪ ،‬فهوـ رجل وسيم ومرتـاحـ ولديـه من الرسـائل الـتي‬
‫كانت ترسلها إليه الشريفة حفصة العشرات بل المئــات " وتنهــال عليــه الهــدايا الثمينــة ممــا‬
‫جعله يعيش كاإلمام وولي عهده وأفضل منهما ‪ ،‬وأفضل من النــائب أيضـا ً " ‪ ، 4‬ومؤسســة‬
‫الصحة أو وزارتهاـ ليست سوى طبيب أجنبي وحيد في المدينة وربما في البالد كلها ‪ ،‬وهــو‬
‫ال يملك سوى حبة معروفة دواء للمريض ن ‪ ،‬يقول عنه الرهينة بعــد أن أخــذ إليــه صــاحبه‬
‫الدويدارـ المريض ‪ " :‬قال الطبيب األجنبي بعربيته المكسرة ‪ - :‬ما فيش خــوفـ واحــد حبــة‬
‫بعد أكل ‪ ،‬إن شاء هللا تمام بعدين ‪ ،‬ثــاني مــرة يجي عنــدي ‪ ،‬الزم أشــوفه ! "‪ ، "....‬أعدتــه‬
‫‪ 1‬كتاب الحكمة ( قصص يمنية مختارة ) اتحاد ادباء والكتاب اليمنيين ‪ /‬دار الحداثة – بيروت ‪1988‬م (ص‪)6‬‬
‫‪ 2‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪( .‬ص‪)85‬‬
‫‪ 3‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 38‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 69‬‬
‫إلى الطبيب عدة مرات ‪ ،‬فسمعت الكالم المكسر نفســه ‪ ،‬وحبــة العالج نفســها الــتي ال يملــك‬
‫سواها دواء للمريض "‪ ، 1‬ومؤسسة البريد هي عبــارة عن ســيارة بريــد وحيــدة ‪ ،‬أمــا بقيــة‬
‫المؤسساتـ فنسمع الرهينة يعطينا صورة عنها ‪ " :‬اتجه بي نحو البوابــة الرئيســية خــارجين‬
‫إلى ميدان ترابي تتوسـطه شــجرة ( طولقـة) عمالقـة تسـتظل تحتهــا جمــوع ( المشــارعين)‬
‫والمراجعين وطالبي الحاجات من النـائب ‪ ،‬وبجوارهـا منصـة حجريـة البنـاء (بالقضـاض)‬
‫الصلب المصنوع من النورة الملساء ‪ ،‬وخلفها تقبع عدة غرف تشرف على ممر واحد تظله‬
‫شرفة بسقفها وأعمدتها الخشــبية القديمــة والمتآكلــة ‪ ،‬ويطلــق عليــه النــائب ( المحكمــة ) أي‬
‫مكــان المواجهــة الخــاص بالنــائب وكتبتــه وبعض الحكــام الفقهــاء في الشــرع والقضــاء‬
‫وموظفيـ المالية وبقية المســتخدمين ألعمالــه المحـدودة ‪ ،‬وبين جمــوع الرعايـا والمواطـنينـ‬
‫‪2‬‬
‫وأصحاب المظالمـ "‬
‫وأما الطرق فمهملة إلى حدود بعيدة ونتيجة لوعورتهـاـ فــإن الســفر بســيارة هــو مغــامرة مميتــة‬
‫يصف لنا ذلك نعمان طريقه إلى عدن فيقول ‪ " :‬وانطلقت السيارة بسرعة ‪ ،‬كــأن مــاردا جبــارا‬
‫يطاردهاـ ‪ ،‬وكانت ترتفع وتنخفض وتصطدم بالحجارة وتغوص في أوحال وبرك ثم تميل على‬
‫جانبها ويمسكـ كل واحد منا نحن الذين فوق السيارة قلبه ويتمتمـ البعض بالفاتحة وآية الكرســي‪.‬‬
‫"‪ ".........‬ويبتسم ( الجروش بوي ) ‪ ،‬معاون السائق ! وهــو يختفي تحت الســيارة ليعمــل على‬
‫رفع العجالت المدفونة في الحفرة "‪ "......‬وتنطلق السيارة من جديد بعد أن خلصــت من فخهــا‬
‫األول ‪ ،‬لتقع في الفخ الثاني ‪ ،‬ونتساقط من جديد ‪ ،‬إن كل منــا يصــنع لــه مكانـا َ فــوق الســيارة ‪،‬‬
‫بحيث يستطيع ببساطة أن يقفز حين تميل السيارة إلى أحد جانبيها "‪ ، 3‬وأمــا مؤسســة الشــرطة‬
‫فنموذجـ من التخلف واالستقواء على المواطن بتجهيزاتهاـ الشحيحة والعتيقة ‪ ،‬يحدثنا الرهينــة ‪،‬‬
‫فيقول ‪ " :‬ووثبت إلى الشارع الخالي المقفر ‪ ،‬المقفلـة حـوانيت ســوقه بحسـب العـادة ‪ ،‬وبـالقوة‬
‫وقت صــالة المغــرب والعشــاء ‪ ،‬إذ ال يوجــد ســوى بعض ( القــوانين ) الشــرطة بإرشــاداتهم‬
‫النحاسية المتدلية من أعناقهمـ في شكل هالل مع زعيق صفارتهم النحاســية الموروثــة من عهــد‬
‫‪4‬‬
‫االحتالل التركي "‬
‫‪ )7‬وهــو زمن حكامــه منشــغلون بالملــذات غــارقون في المفاســد ‪ ،‬فنســاء بيت الحــاكم المكبوتــاتـ‬
‫يتقاطرن تباعا َ على غرفة الدويدارـ عبادي حــتى ال يتحــدد عملــه بخدمــة النــائب وحــده ‪ ،‬وإنمــا‬
‫يكون شغله الحقيقي " في الدهاليز والحجرات المغلقة في قلب الليل ‪ ،‬حيث حريم القصر إنــاث‬
‫الهثة تعتصرـ اللذة من أجسادهن أولئك الفتية التعساء "‪ ، 5‬وعلى ما يبدو فقد أصبح هــذا األمــر‬
‫مألوفاًـ بينهن ‪ ،‬وهذه الشريفة حفصة تدفع بغضب الرهينة إلى أوساطهن أثناء رحلة العــودة من‬
‫زيــارة بيت اإلمــام ‪ ،‬وتقــول ‪ " :‬حســدتمونيـ عليــه لجلوســه بجــواري ولم أحســدكن وهــو في‬
‫فراشكن كل ليلة ! ‪ ،‬قالت إحداهن ‪-‬وقدـ تمــالكت أعصــابها ‪ -‬ال تغــتري بأنــك الزليخــا ‪ ،‬زوجــة‬
‫‪6‬‬
‫عزيز مصر ! فأجابت الشريفة حفصة بسرعة ‪ - :‬وليس هو يوسفـ يا غبية ؟ "‬
‫‪ 1‬المرجع السابق (ص ‪)176،175‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪) 64‬‬
‫‪ 3‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 37،36‬‬
‫‪4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة) مرجع سابق (ص‪) 30‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ .‬من تعليق فاروق عبد القادر على تجربة الرواية (ص‪) 204‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه (ص‪) 130‬‬
‫وهذا الدويدارـ يعلق على أمر النائب سايسه الخاص بخياطة فرج البغلة والبهائم األخرىـ ‪ ،‬بعــد‬
‫حادثة الشـذوذ الغريبــة الــتي تلقى على أثرهــا ( الطبشــي العجــوز ) ركلــة من البغلـة الصــغيرة‬
‫القوية زعفرانة شجت رأسه األصلع فيقول ‪ - " :‬كان على النائب أن يأمر بخياطة فروج نســاء‬
‫‪1‬‬
‫القصر "‬
‫و تظهر مالمح هذا الفساد األخالقي في تلميحات الكاتب إلى شذوذهمـ الجنسي ‪ ،‬التي لم تستثن‬
‫حتى ولي العهد نفسه ‪ ،‬فاألطفال الــذين يعــودون إلى القلعــة يبــدو أنهم قــد تعرضــوا النتهاكــات‬
‫جسيمة يقول الرهينة ‪ " :‬كان بعض الرهــائن ممن مارســوا أعمــال ( الدويــدار ) ثم عــادوا إلى‬
‫( قلعة القاهرة ) مرة أخرى لبلوغهم الحلم كما يقول الفقيه ‪ ،‬يحكون أشياء غريبة وعجيبة علينا‬
‫‪ ،‬وكنت أالحظ أن معظم العائدين منهم إلى القلعــة قــد تغــيرت مالمحهم ‪ ،‬حيث غــدو مصــفريـ‬
‫الوجوه بالرغم من ظهورـ نعومة شاملة في أجســامهم مــع شــيء من الترهــل والــذبول في غــير‬
‫أونه ‪ ،‬كنت أالحظ أيضا ً اهتمام حرس القلعــة بهم ‪ ،‬هــؤالء نــاعمي الملمس رقيقي األصــوات ‪،‬‬
‫بمالبسهمـ النظيفة المرسلة حتى األرض ‪ ،‬وبتلك الكوافي المزركشة التي حاكتها نساء القصور‬
‫‪ ،‬فوضــعوها على رؤوســهم لتخفي شــعرهم المجعــد الممشــط الــذي تفــوح منــه رائحــة الــدهون‬
‫المعطرة التي يستنشقهاـ بلذة أفراد الحرس ‪ ،‬والفقيه أيضا ً الذي يبــالغ في مراعاتــه لهم بســماحة‬
‫‪2‬‬
‫أكثر مما يلزم "‬
‫والشاعر يحاول التحرش بالرهينة ‪ ،‬يحدثنا الرهينة فيقـول ‪ " :‬وتنبـه الشـاعر لوجـودي بجانبـه‬
‫‪3‬‬
‫فنظرـ إلي بعينيه الجاحظتين ثم هوى بيده على فخذي وفركــه بطريقــة لم تحــدث لي من قبــل "‬
‫وعندما تنبه الرهينة إلى ذلك حاول إبعاد يده أكثر من مرة ‪ ،‬لكنه ظل يعاودـ ما يفعله وهنا فكرـ‬
‫الرهينة بتركه ليرى ماذا يريد ‪ ،‬يقــول ‪ " :‬فكــرت هــذه المــرة بــأن أقنــع نفســي بــترك يــده على‬
‫فخذيـ ‪ ،‬أريد أن أعرف مراده ‪ ،‬ماذا يهدف في النهاية ‪ ،‬وهي تجربة البد أن أعرف غرضها ‪،‬‬
‫فأخذت أنامله في فخذي بما شاء لها المراد في حدود لم تعد معقولة من األدب ‪ ،‬ولو أنه لم يعــد‬
‫‪4‬‬
‫هناك أدب ما ‪ ،‬ولكني شعرت بأنه يسعى بأنامله وقد اطمأن لرضوخيـ إلى منطقة حساسة "‬
‫والدويدار الخاص بولي العهد يبدو‪ -‬أيضا‪ -‬موصوما َ بهذا العار يقول الرهينة ‪ " :‬اتجهت خلفه‬
‫والعبد األسودـ خلفنا ‪ ،‬كنت أالحظ حركات جسمه الرخو من خالل ثوبه الحريري الشفاف ‪ ،‬بيد‬
‫‪5‬‬
‫أنه لم يعد يتصنع تلك الحركات المائعة ‪ ،‬فقد أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية !"‬
‫‪6‬‬
‫ونعلم أن لإلمام ابنا َ غير شرعي ‪ " ،‬فتى وسيم في الثالثة عشرة من عمره "‬
‫وهــذا مجلس قــد أقامتــه الشــريفة حفصــة احتفــا َء بــابن أخيهــا العائــد من مصــر ‪ ،‬وقــد أعدتــه‬
‫بمستلزماته التي كان من بينها ( زجاجـات خمـرة أخرجتهـاـ من خزانتهـاـ الخاصـة ) ‪ ،‬وأمـا مـا‬
‫يحدث في هذا المجلس فمثيرـ للعجب من هؤالء الذين يدعون أنهم يقودون شؤون البالد ‪ ،‬وهم‬
‫في الحقيقة غارقون في لهوهم وعبثهم وتفلتهم ‪ ،‬فالكـل مقـدم على أن يعب من كاسـات الخمـرة‬
‫ما يشاء ‪ ،‬الشاعر ‪ ،‬وابن النائب وأصدقاؤه ‪ ،‬بل والنائب نفسه ‪ ،‬يحدثنا الرهينة قائالَ ‪ " :‬وخيــل‬
‫‪ 1‬نفسه (ص‪) 102‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 20‬‬
‫‪ 3‬لمرجع السابق (ص‪96‬ا )‬
‫‪ 4‬لمرجع نفسه (ص‪97‬ا )‬
‫‪ 5‬نفسه (ص‪) 122‬‬
‫‪ 6‬نفسه( ص‪) 122‬‬
‫إلي بأن النائب نفسه قد وصل فجأة وبيده زجاجة طويلة العنق بيضاء اللون والمحتوىـ ‪ ،‬وكنت‬
‫قد وقفت بهبالة احتراما َ لمقدمة كما تخيلت ‪ ،‬وقد جذبنيـ الشاعر من يــدي ألرتمي بجــواره كمــا‬
‫كنت ‪ ،‬وقدمـ لي كأسا َ أخرى أذكر أنني لم أستطيع اإلمساك بها ‪ ،‬فتركتهاـ بيده حتى ضجر منهــا‬
‫فشربها ‪ ،‬وجلس النائب والعرق يتصبب من صلعته إلى أوداجه المنفتحة ليبلل ذقنــه الخفيفــة ‪،‬‬
‫وصب له كأسا ً من زجاجته المفضلة ‪ -‬كما يبدو‪ -‬وعادلها بماء تحـولت الكـأس بعـدها إلى لــون‬
‫‪1‬‬
‫لبن بقر دسم "‬
‫أما ابن النائب ‪ ،‬فكان قد بلغ من مجلسه هذا غاية التهتك ‪ ،‬يقول الرهينــة ‪ " :‬لم أعــد أتــذكر من‬
‫مجلسنا سوى بعض لمحات ‪ ،‬كقيام ابن النــائب بــالرقص مقلــداَ ‪ ،‬كمــا قــال (لســامية جمــال ) و‬
‫(تحية كاريوكاـ ) كان يهز وسطه وقد أخذ ( لحفة ) أحد األصدقاءـ وربطها بخصره المكنز ‪ ،‬ثم‬
‫‪2‬‬
‫شعرت بأنه يغني لفريد األطرش "‬
‫وأمــا عن العالقـة الـتي تربـط بين اإلمــام وعمالــه ونوابـه ‪ ،‬فهي عالقـة تقـوم على الريبــة‬
‫والشك ‪ ،‬وانعدام الثقة ‪ ،‬فقــد " غــادر الســيف المدينــة ولم يــترك خــبراً ‪ ،‬إنــه ال يثــق بأحــد "‪، 3‬‬
‫والتحاســد والتبــاغض فـــ" الخيــل يأخــذها اإلمــام وولي عهــده وســيف اإلســالم األمــير إلى‬
‫قصورهمـ ‪ ،‬وال يبقون سوى بعض البغال والحمير "‪ 4‬والسيارة التي حملها ابن النائب معــه من‬
‫القاهرة ‪ ،‬يستولي عليها ولي العهد ‪ ،‬وهذا شاعر اإلمام يأتي على غير موعد مفاجــأة ‪ ،‬ويــدخل‬
‫المنظرة الخاصة بالنائب التي ال يدخلها أحد إال إذا كان رسوالَـ خاصا َ من اإلمام أو ولي عهــده‬
‫الســيف أو قادمـا َ ألمـرهمـ " عـبر الشــاعر عن اسـتياء ولي العهــد السـيف لـذلك المـوكب وتلــك‬
‫المظاهر البراقة الـتي رافقت المـوكب "‪ ".....‬كـان النـائب بـرغم ثخن جسـمه ‪ ،‬وبـرغم شـفتيه‬
‫المتدليتين إلى أسفل ذكيا َ بال شك ‪ ،‬وإالَّ لما أصبح نائبا َ لإلمام وعامالَ على هذه المدينــة المهمــة‬
‫وملحقاتهــا من أريــاف ونــواح و‪ ، ......‬تصــنع النــائب االســتغراب لهــذا الحــديث الــذي أثــاره‬
‫"‪ ".......‬ثم ابتسم متعجبا َ بعد برهة تفكير أوحى بهــا إلى الشـاعر ‪ " :‬السـيارة هي أصـالً هديــة‬
‫لموالنا ‪".........".‬‬
‫أما تجمهر الناس حول منزلي فهو لمجرد رؤية هذه السيارة العجيبة وليست لرؤيــتي أو لرؤيــة‬
‫ابني "‪ "........‬ثم توجه إلى خزانة وأخرج منها أشياء المعة بــبريقـ الــذهب والفضــة وقــدمها‬
‫‪5‬‬
‫للشاعر "‬
‫كما تقوم هذه العالقة على التنافس والمكرـ واقتنـاص الفـرص في اللحظـات المناسـبة ‪ ،‬فالنـائب‬
‫الذي كان الناس يتوقعون وصوله إلى ســدة الحكم بعــد مقتــل اإلمــام يحــيى واالضــطراب الــذي‬
‫شهدته البلد حينها يوعز إلى مؤيديه بالتجمع ‪ ،‬وهكذا كان كل واحد من رموز الســلطة في مثــل‬
‫هــذه الظــروفـ الحرجــة الــتي تشــهد اضــطرابات وتمــرداتـ واختالجــات يــوعز لمؤيديــه من‬
‫أصحاب المصالح بأن يتجمعواـ ويهتفوا له ليظهرـ مقدار ماله من تأييد ‪ ،‬فالكل طــامح في مزيــد‬
‫من السلطة ‪ ،‬فأمام قصرـ النائب تجمع مواطنو منطقته المحيطة بالمدينــة من رعايــاه وشــركائه‬

‫‪ 1‬نفسه (ص‪) 99‬‬


‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 99‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪)177‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪)25‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه (ص‪) 58‬‬
‫في األراضيـ وقلة من األنصار‪ ،‬بعضهم ببنــادقـ يحملونهــا على أكتــافهم بملــل والبعض اآلخــر‬
‫بعصي وفؤوس يتوكؤون عليها ‪ ،‬وكان هو من أرسل إليهم ليحضرواـ ويشرفوه " في مثل هــذه‬
‫األحداث واألزمات ‪ ،‬وهذه المواقـفـ الــتي يجب فيهــا الحــزم والصــرامة وإظهــارـ القــوة بكــثرة‬
‫األتباع النافعين ومع ذلك فقـد مـرت األمـور كمـا يهـوى ‪ ،‬فكـان تعليـل النـاس هـو بـأن النـائب‬
‫سيحسمـ األمور لصالحه أو لصالح السيف ولي العهد ‪ ،‬أو لصالح األحرار ‪ ،‬وقد اســتغل النــائب‬
‫َ ‪1‬‬
‫هذه التآويل المتنوعة وتركهاـ تسري وتشيع وارتاح لها كثيرا "‬
‫ومع كل ذلك فإن الموقف غير المأمون يستدعي التحفظ ‪ ،‬وهكذا كان النائب أكــثر تحفظ ـا َ ‪،‬‬
‫يعرف متى يمكن له الحديث ومتى يجب الصــمت ‪ " ،‬كــان كــل واحــد منهم يعــرف أنـه منطقــة‬
‫‪2‬‬
‫فاصلة بين الرعب واألمان "‬
‫يحكي لنا الرهينة عن موقف النائب في هذا الظرف فيقول ‪ " :‬كنت أجلس في مقيلي هذا بلــذة ‪،‬‬
‫وكان يدور حوار شـبه مكتـوم عن حـدث سـيقع ‪ ،‬كنت التقـط بعض العبـارات المتنـاثرة والـتي‬
‫كانت توحي لي بأن هناك شيئا َ سـيحدث ‪ ،‬وكـان كالم يـدور حـول قضـية األحـرارـ والدسـتورـ‬
‫وسيفـ اإلسالم األمير ولي العهد ووالـده اإلمـام الهـرم ‪ ،‬كـان النـائب أكـثر تحفظـا َ من غـيره ‪،‬‬
‫وربماـ لمركزه المرموق ولكون الحديث يجري في مكانه ‪ ،‬لكنه وبعد أن يخرج من كــانوا لديــه‬
‫يستغرقـ في تفكير عميق ‪ ،‬حتى أثناء قياميـ بتنظيف المكان من بقايا أوراقـ وعيدان القات التي‬
‫خلفها المريـدون ‪ ،‬وأخـذ ( المتافـل ) النحاسـية وأكـواب المـاء الفخاريـة وطي قضـيب المـدائع‬
‫ورميـ بقايا رماد البواريـ ‪ ،‬كان النائب يظل مستغرباَـ ومداعتــه مــا زالت قائمــة وأمامــه جهــاز‬
‫‪3‬‬
‫الراديوـ الكبير أو البطارية الكبيرة يقلب شوكته على محطات ربما تسعفه بأخبار يرتاح لها "‬
‫‪ )8‬وهــو زمن االنقســام االجتمــاعي ‪ ،‬يظهــر فيــه المجتمــع منقســما َ إلى قســمين بينهمــا شــديد‬
‫التفاوت والتباين واالنفصالـ يمثل القسم األول مجتمع السـلطة برموزهـاـ المختلفـة بـدءاَ باإلمـام‬
‫وانتهاء بأصغرـ عماله ‪ ،‬وهؤالء يشكلون أقلية اجتماعية بالقياس إلى المجتمع األوسع ( مجتمــع‬
‫الرعية ) ‪ ،‬وهو القسم األخر الذي ينضويـ تحت ظالله جميــع أبنــاء الشــعب بمختلــف شــرائحه‬
‫وطوائفه وفئاته ‪ ،‬ويشكل هذا القسم المجتمع المسحوقـ المهمش المسلوبة حقوقه ‪.‬‬
‫وأما عن مجتمع السلطة هذا ‪ ،‬فرواية ( الرهينة ) تسلط عليه ضوءاَ كاشفا َ ‪ ،‬ليحتل منهــا كامــل‬
‫المساحة تقريبا َ ‪ ،‬ويظهرـ هذا المجتمع مجتمعا َ انعزاليا َ بعالقات محدودة للغاية ‪ ،‬يسكن القصورـ‬
‫التي تحيط بتكويناتهاـ األسوار والجدران التي تشكل خلفها دهاليز من الخفــاء المثــير ‪ ،‬وتجــري‬
‫في داخلها ‪،‬ممراتها ‪،‬وغرفها ‪،‬مغــامرات تســيرهاـ أعــراف وتقاليــد وممارســات شــاذة وغريبــة‬
‫محجوبــة عن أعين النــاس " تلــك الحيــاة الخفيــة الــتي تــدل وحــدها على مــا كــان في اليمن من‬
‫انعزال واستبدادـ وتخلف "‪ ، 4‬يعلق الدكتورـ وهب رومية على هــذا العــالم قــائالَ ‪ " :‬في روايــة‬
‫(الرهينة) تدخل إلى عالم كثيف الحضور ‪ ،‬عالم فيـه كثـير من االختالف والتفـرد ‪ ،‬عـالم يبـدو‬
‫غريبا َ عليك وبعيداَ عنك ‪ ،‬ولكنك تكاد تجرم بأنك قــد رأيتــه أو ســمعت بــه من قبــل ‪ ،‬إنــه عــالم‬
‫الحكايات الموغلة في القدم حكاية بنت السلطان ‪ ،‬وجوارية وامرأته وما يتصل بهــذا العــالم من‬
‫‪ 1‬نفسه (ص‪) 181‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 98‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة) مرجع سابق (ص‪) 152‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 204‬‬
‫بشر يقومون على خدمته ‪ ،‬ويقعون على أطرافــه في العلن وفيـ صــمته في الســر ‪ ،‬ولكن عــالم‬
‫‪1‬‬
‫الرهينة يبرأ من الخرافة واألساطيرـ وافتعال األحداث ‪ ،‬إنه مشدود من أطرافه "‬
‫وهو عالم ال يمكن ألحد أن يطلع عليه أو يرتاده إال بشروطـ خاصة ‪ ،‬كــأن يكــون الدويــدار‬
‫دون سن الحلم أو يكون من العبيد المخصيين ‪ ،‬يحدث الفقيه تالميذه في القلعة قــائالَ ‪ - " :‬يقــوم‬
‫الدويدارـ حاليا َ بعمل (الطواشي ) ‪ ،‬وعنــدما تبــدو علينــا الحــيرة يقــول ‪ -:‬والطواشـيـ هم العبيــد‬
‫المخصيون ‪ ،‬فتزدادـ حيرة أكثر ‪ - ،‬والخصي هو من تضرب خصيته ‪ ،‬ونحتار أكثر أيضـا ً من‬
‫جديد متألمين لهذا العمل القاسي ‪ ،‬فيقــول ‪ - :‬لكي ال يمــارس عمالَ مشــينا َ ‪ ،‬جنســيا َ كمضــاجعة‬
‫نساء القصورـ ‪ ،‬أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقداَ لرجولته ‪ ،‬أي بمعنى آخر عاجزاَ "‪ ، 2‬لكن‬
‫إذا ما توافرت هذه الشروطـ ‪ ،‬فإن المكان ينفتح بكل مغاليقـه وبـدون تحفـظ ‪ ،‬يخـاطب الدويـدار‬
‫عبادي الرهينـة ‪ " :‬هـل تعــرف أننـا الوحيـدان في هـذا القصــر الـذي يحـق لنـا دخولـه في أي‬
‫‪3‬‬
‫وقت ؟ سوا َء كان ذلك يوم النساء أو يوم الرجال "‬
‫وألن هذه الشروطـ شروطـ يكون من الصعب التحقق من صحتها ‪ ،‬فإن الموقف يسمح بقبــول‬
‫احتمال حصول مثل تلك المغامرات الــواردة في تجربــة الروايــة ‪ ،‬والــتي يرتادهــا الدويــدارـ ثم‬
‫‪4‬‬
‫الرهينة ‪ ،‬يقول الرهينة للنائب ‪ ":‬لقد بلغت الحلم ‪ ،‬أو د أن أعود إلى قلعة الرهائن "‬
‫مع هذا القدر من االنعزالية يبدوـ الداخل إلى هذا المجتمع كالمفقود تماما َ ف " رهينة دماج‬
‫تحول القصر إلى حلقة حلزونية ‪ ،‬متاهة تاريخية واجتماعية ما إن يدخل أحــد إلى أول طريقهــا‬
‫‪5‬‬
‫حتى يضيع في سراديبها "‬
‫الخارج من هذه الدهاليز مولودـ ‪ ،‬كتب د‪ .‬أمين العويطي يقول ‪ " :‬أنت مع رهينة من نوع فريد‬
‫‪ ،‬لم يخطر على بال ‪ ،‬رهينة ترسف في أغالل القرون الوسطىـ في ليل اإلمامة البائد في اليمن‬
‫‪ ،‬والفجر يوشك أن يلوح ‪ ،‬والرهينة تدق بــاب الحريــة ركالَ بقــدمين يــدميهماـ قيــد ثقيــل ‪ ،‬ودقـا َ‬
‫‪6‬‬
‫بقبضتي يدين مغلولتين من أجل الوثوب بقفزة واحدة إلى أعتاب القرن العشرين "‬
‫والنساء في هذا المجتمع المغلق هنا من العجـائز أو العـوانس ‪ ،‬فهـذا مجتمـع ال يـرغب في‬
‫االقتراب منه أحد ‪ ،‬وألجل ذلك هن محرومات من أن يعشن حياة طبيعية كغيرهن من النساء ‪،‬‬
‫ولذلك تصبح طريقتهن في إشباع رغباتهن شبيهة بممارسة إناث العنكبوت ‪ ،‬فالدويدارـ تعتصر‬
‫طاقته نساء القصر حتى تخور قواه فيستسلم لمصيره المحتوم " فالكاتب ال يريد أن يــبين لنــا‬
‫ظلم الحكم األمامي وحسب ‪ ،‬ولكن يريد أن يكشف كيف يعمــل هــذا الحكم على شــل اإلرادات‬
‫ووقف المبادرات وتعطيلـ االستمتاع بالعيش ‪ ،‬فالحياة داخل القصر تخلو من لــذة العيش ‪ ،‬إنهــا‬
‫كدح ‪ -‬دائما َ ‪ -‬حتى أشكال ملذاتها الجنسية تغدو شقاء وعناء ‪ ،‬ألنهـا ترتبــط بطاحونـة الســلطة‬
‫وحجرـ رحاها الدائر دوما َ ليسحق هذه العالقة اإلنسانية الجميلــة "‪ ، 7‬فمن يــدخل مجتمعهن هــو‬
‫فرصة يجب اغتنامها ‪ ،‬حتى أن الرهينة يفضل أن تظل قدماه مقيـدتين على أن تطلقـان حـرتين‬
‫‪1‬المرجع السابق من تعليق الدكتور‪ /‬وهب رومية على الرواية (ص‪) 201‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 19‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 13‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪)145‬‬
‫‪ 5‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪2000‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪) 16‬‬
‫‪ 6‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 202‬‬
‫‪ 7‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص‪) 14‬‬
‫في هذا المكان ‪ ،‬وأما التفريط فيها فهو خيار غير مقبول ‪ ،‬وهذا ما نلمســه في تمســك الشــريفة‬
‫حفصة الشديد بالرهينـة ‪ ،‬الـذي ال يبـدو تمسـكا َ نابعـا َ من عالقـة الحب السـامية وإنمـا عن هـذه‬
‫الرغبة المجنونة ‪.‬‬
‫وهذا مجتمع يبدو شبيها َ ببيوت النحل تجد الجميع فيه يدور في فلك النائب وأسرته ‪ ،‬مسخراَ‬
‫طاقته لخدمتهما ‪ ،‬الحرس والجنـود والدويـدار والبـورزان والرهينـة ‪ ،‬كمـا يبـدو العامـل رجالَ‬
‫خامالَ وغافالَ عما يجري في مجتمع قصره من ممارسات ‪ ،‬فهــو دائمـا َ مبطــوح " أمــام النافــذة‬
‫‪1‬‬
‫المطلة على ساحة قصره وملحقاته ‪ ،‬كما هي عادة النواب واألمراء والسيوف "‬
‫كما تنشأ في بعض ليالي هذا المجتمع ليال حمراء وسهرات يعلــو فيهــا التهتــك وشــرب الخمــر‬
‫والممارسات المبتذلة الشاذة ‪ ،‬والغريب أن نساء القصر هن من يعددن لمثل هذه السهرات ‪.‬‬
‫إنه في آخر األمر مجتمــع غــريب على التركيبــة المجتمعيــة اليمنيــة المحافظــة ‪ ،‬مغلــق في‬
‫عيــون خارجــة وفي داخلــه ذروة التهتــك واالنحالل والســقوطـ ‪ ،‬وحــتى تلــك المحــاوالت الــتي‬
‫يحاول فيه الحكام إخــراج أبنــائهم خــارج البالد ليكتســبوا العلم والمعرفــة تبــدو محــاوالت غــير‬
‫مثمرة لرحالت مخفقة ‪ ،‬فابن النائب يعود من مصر غير آخذ مما فيها ســوىـ تقليــد الراقصــات‬
‫‪2‬‬
‫والمغنين "‬
‫وإما القسم الثــاني من المجتمــع الــذي يعيش على هــامش الحيــاة ‪ ،‬وهــو القســم الــذي اهتمت بــه‬
‫معظم األعمال القصصــية والروائيــة اليمنيــة ‪ ،‬وحــتى في روايــة ( الرهينــة) الــتي رأينــا هــذا‬
‫المجتمع يعيش على هامش مجتمعها المختار ‪ ،‬تأتي الوقائعـ التي تبني حدثها الروائي مضــخمة‬
‫بأنفاس أبناء هذا المجتمع المهمش فيها ‪ ،‬عبر حركة الرهينة والدويدارـ أينمــا ذهبــا‪ ،‬وفي تطلــع‬
‫الرهينة الذي لم يفتر شوقه وانتماؤه إلى المجتمــع خــارج القصــر ‪ ،‬فمنــذ اللحظــة األولى الــتي‬
‫وصل فيها إلى قصر النــائب ‪ ،‬ثم إلى غرفــة صــاحبه الدويــدارـ يتجــه صــوب النافــذة الصــغيرة‬
‫الوحيدة داخل الغرفة ويستريح مقرفصاَـ بجوارها ‪ ،‬وفي تتبعه وتصنته أخبار ما يحــدث خــارج‬
‫هذا المكان من أحداث مهمة ‪ ،‬وفيـ رفضه الرضوخ ‪ ،‬ورفضه انكسار نفســه ‪ ،‬وفي نفــوره من‬
‫تلك الصورة من التعامل المقنع باالستلطافـ من قبل نساء القصــر ‪ ،‬وفي صــرخة الدويــدار في‬
‫وجهة حينما هم بفرك قدميه ‪.‬‬
‫ويظهرـ هذا القسم من المجتمع مشموالَ بالمعاناة التي تعلن عن نفســها بقــوة وأفــراده هم من‬
‫الدهماء ‪ ،‬نسمع النائب في رواية الرهينة يبرر لشاعر اإلمام موقــف تجمهــرهم أمــام قصــره ‪،‬‬
‫فيقول ‪ " :‬أما تجهر الناس حول منزلي فهوـ لمجرد رؤية هذه السيارة العجيبة ‪ ،‬وليس لرؤيــتي‬
‫أو لرؤية ابــني ‪ ،‬وأنتم تعرفــون ســيدي أنهم من العــوام ‪ ،‬فال ســيد فيهم وال قــاض وال نقيب وال‬
‫‪3‬‬
‫حتى مجرد رعوي مزارع ‪ ،‬كلهم من أبناء الشارع والحواري في المدينة "‬
‫وغير محسوب حسابهم في أي أمر ‪ ،‬ووجودهمـ بالنسبة لمجتمــع الســلطة هــو كالعــدم تمامـا َ‬
‫وزيادتهم ال تشكل خوفـا َ ‪ ،‬فمواليــدهم ال يســجلون ‪ ،‬يخــاطب الرهينــة النــائب قــائالَ ‪ " :‬الفقهــاء‬
‫وبعض األعيــان في منطقــتي هم الــذين يؤرخــون لمواليــدهم في الكتب والمصــاحف القديمــة‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 83‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 99‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق (ص‪)85‬‬
‫الرثــة ‪ ،‬وبـأن أســرتي كغيرهــا من األسـر الزراعيـة ال تهتم إالَّ بتـاريخ مواسـمـ الزراعـة "‪، 1‬‬
‫وأحياؤهم متروكون لألوبئــة والمــوت الــذي يحصــدهم دون أن يــدخل في مســؤولية الحــاكم مــا‬
‫يحدث لهم ‪ ،‬فذاك قضاء وقدر ‪.‬‬
‫وكم من جنائز ‪ -‬كما يصف الرهينة ‪ -‬تمر من أبواب سور المدينة ‪ ،‬تشيعها كــل يــوم أصــوات‬
‫‪2‬‬
‫مع معلميهمـ من الفقهاء و طالبيـ الخير والمغفرة ‪.‬‬
‫هكذا تنتهي دائــرة هــذا الــزمن بين رؤيــتين تنازعتــا األعمــال المنتميــة إلى هــذا المبحث من‬
‫الدراسة ‪،‬إحداهما تذهب إلى تغليب منطق الواقع الذي يقلقها منه في لحظته الحاضــرة عودتــه‬
‫مرة أخرى إلى حال التراخي والصمت ‪ ،‬ذلك الصمت الذي وقفـ سـببا َ وراء اسـتمرارـ مأسـاته‬
‫قبالَ ‪ ،‬يخــاطب نعمــان في روايــة ( صــنعاء مدينــة مفتوحــة ) صــديقه واصــفا َ " وتنتهي من‬
‫الوادي ‪ ...‬الوادي الكبير ‪ ،‬حيث أحالم المئات قد دفنت ‪ ،‬ويحتفــظ الـواديـ بصـمته ‪ ،‬وباســمه "‬
‫‪3‬‬
‫وادي الصميتة "‬
‫فتغلـقـ دائــرة هــذا الــزمن على المــوت الــذي يقــف في قمــة هرمهــا المأســاوي ‪ ،‬لتقفـل بهــذا‬
‫اإلغالق وعي الرفض لدى اإلنسان اليمــني ‪ ،‬وهــو الــوعي الــذي يشــكل في نظــر هــذه الرؤيــة‬
‫الضمانة الوحيدة للحؤول دون إمكان تكرار المأســاة ‪ ،‬ففي ( صــنعاء مدينــة مفتوحــة ) تمــوت‬
‫هند التي ما كان يجب أن تموت ‪ " :‬ماتت " هند " وخيم على المــنزل في القريــة نفس الهــدوء‬
‫ونفس السكون لقد كانت ( الديناموـ ) الذي يسير كل شيء فيــه ‪ ،‬إن المــنزل يشــكو األلم ‪ ،‬وكــل‬
‫‪4‬‬
‫ركن فيه يردد لمسات يدها الحانية ‪ ،‬لقد كانت أما َ حتى للحجارة "‬
‫ويطارد الموت نعمان حتى يغلق في وجهــه أبــواب التفكــير في حــل الكارثــة ‪ " :‬يــا لهــا من‬
‫مجرمة هذه القمم ‪ ،‬تلتهم في أحضانها آالفا ً من التعساء يعيشــون بال حيــاة ‪ ،‬بال غــد ‪ ،‬حــتى بال‬
‫أمل ‪ ،‬إنهم يزرعون األرض ‪ ،‬ولكن ليطمعوا اآلخرين ‪ ،‬إن األرض ليســت بالنســبة لهم ســوىـ‬
‫‪5‬‬
‫قبر ‪ ،‬يدفنون فيه كل طاقتهم ثم كل جثثهم ‪" .‬‬
‫ويذهب تفاؤل الرؤية الثانية إلى فتح هذه الــدائرة على إمكــان الخالص من دائــرة المــوت عــبر‬
‫تعزيزـ الوعي بأهمية الفعل الرافض ‪ ،‬وهو الوعي الذي تضمنت به هذه الرؤيــة إمكــان تحقيــق‬
‫الخالص في أي ظرفـ كــان ‪ ،‬حــتى وإن كــان هــذا الخالص لن يتحقــق إالَّ بــالثورة ‪ ،‬فالرهينــة‬
‫يثورـ على أسره وينفذ قراره بالفرار رغم تشـبث الشـريفة حفصـة ومقاومتهـاـ محاولـة فـراره ‪،‬‬
‫يحــدثنا قــائالَ ‪ " :‬ووثبتـ قائمــة حيث أخــذت حجــراَ من األرض لتقــذفني بــه ‪ ،‬لكنــني كنت قــد‬
‫أطلقت لساقيـ العنان ‪ ،‬فابتعدتـ ‪ ،‬وانهالت خلفي الحجارة المقذوفة منها "‪ ، 6‬وعلي بن علي في‬
‫قصة ( العائد من البحر ) ينتهي به األمر إلى تصــويبـ بندقيتــه في وجــه شــيخ القريــة المتجــبر‬
‫وإردائه قتيالَ غير مبال بكل ذلك الحشــد المؤلــف من ممثلي الدولــة وكبــار القــوم والعســكرـ ‪" :‬‬
‫اقترب من الحاكم وبندقيته متدلية إلى اإلمام بيده تترنح ‪ ،‬وأشار الحاكم نحو عساكره فتحركــوا‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه(ص‪)55‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪)65‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 37‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪) 75‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق (ص‪) 89‬‬
‫‪ 6‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪) 198‬‬
‫نحـو علي بن علي ليطوقـوه ‪ ....‬ولمـا اقـتربواـ منـه دوت طلقـة ناريـة سـقط على أثرهـا الشـيخ‬
‫‪1‬‬
‫مضرجاَـ بدمه ‪.‬‬
‫ب)) أعمال اهتمت بالزمن السياسي واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‪.‬‬
‫يتحدد الزمن السياسيـ واالجتماعي لهذه األعمال بالفترة الواقعــة مــا بعــد انفجــار ثــورة الشــمال‬
‫واستقالل الجنوب حــتى وقتنـاـ الــراهن ‪ ،‬وهي فــترة طويلــة بالقيــاس للفــترة الداخلــة في اهتمــام‬
‫المعالجات الروائية والقصصية قبل هذين الحدثين ‪.‬‬
‫ونتيجة لطول الفترة الزمنية لهذا المبحث من الدراسة ‪ ،‬فإنها ســتعمد إلى التنقــل عــبر أعمالهــا‬
‫المحتشدة على ساحة زمنها لتأخذ منها ما يــبرز بوضــوح أهم مالمح هــذه الفــترة ‪ ،‬ويبلــور أهم‬
‫األهــداف المتضــمنة خالل التنــاوالت الروائيــة والقصصــية الــتي شــغلت بهــا ‪ ،‬وبدايــة بروايــة‬
‫( وسام الشرف ) ‪2‬لمحمد مثنى ‪ ،‬وهي الرواية التي التقت فيها الدراسة تغطية للمســاحة األكــبر‬
‫من زمن هذه الفترة وإلماما ً أوسع باألحداث والتغــيرات الــتي شــهدتها ‪ ،‬فيتحــددـ زمن األحــداث‬
‫فيها بالفترة الممتدة مما بعد حصار الســبعين وحــتىـ أواخــر الثمانينــات ‪ ،‬ومن المعطيــات الــتي‬
‫تعين داللتها الزمنية على تحديد الزمن الذي تجري على ساحاته أحداث الرواية ما يـــــلـــي ‪:‬‬
‫‪ ]1‬لم يرد في الرواية ما يشير إلى حدث الوحدة اليمنية التي تحققت عام ‪1990‬م ‪ ،‬وهو حــدث‬
‫محوريـ وتحوليـ كبير في تاريخ اليمن ما بعد ثوريتهـاـ ‪ ،‬ولم يكن لكــاتب يظهــر هـذا القــدر من‬
‫الرغبة في اإللمام والسعي إلى اإلحاطة أن يغفل مثل هذا الحدث المهم لوال أنه لم يدخل ضــمن‬
‫الزمن المختارـ ألحداث روائية ‪.‬‬
‫‪ ]2‬أننــا ظللنــا نضــطرب في ظالل الحــدث الــروائيـ فيهــا ضــمن زمن سياســي يحــرم الحزبيــة‬
‫ويطارد المتحزبين ‪ ،‬هذه الحزبية التي أصبحت معلنه متاحة وغير محظــورة فيمــا بعــد تحقيــق‬
‫الوحدة اليمنية ‪.‬‬
‫‪ ]3‬تتحدد بداية األحداث فيها بانتهاء القتال مــع الملكــيين الــذين حاصــروا صــنعاء ‪ ،‬وأرادوا‬
‫العودة باليمن إلى نظام الملكية وهـذا ( نـور ) بطـل الروايـة العائـد لتـوه من المعركـة يحـدث‬
‫أصدقاءه عنها فيقول ‪ " :‬لقد كان القتال في الليلتين األخــيرتين مــع الملكــيين الــذين بــدوا رغم‬
‫معرفتهم بالهزيمة المحققة أكثر شراسة "‪ ، 3‬ونسمع على لسان الراوي ‪ " :‬لم تمهلهم الساعة‬
‫الثامنــة من ليلــة الثــامن من فــبراير ‪1968‬م حــتى دوّى الرصــاص من أعــالي الجبــال ‪ ،‬ومن‬
‫مختلف جهات صنعاء مشتعالَ كأنما المدينة ترفل في عرس ‪ ....‬فذعر العمــال األربعــة الــذين‬
‫‪4‬‬
‫لم يكونوا على علم مسبق بذلك ‪ ،‬ولكن(نور) ضــحك وهــو يطمئنهم " إنــه رصــاص الفــرح‬
‫‪ ]4‬اإلشـارة إلى إشــاعة فكــرة ميالد دســتور جديــد يحـرم الحزبيــة سيفصــح عنـه بعـد مـرورـ‬
‫عشرين عامـا َ في إشــارة إلى دســتورـ ‪1948‬م ‪ ،‬حيث نقــرأ ‪ " :‬دســتور البالد الــذي هــو رهن‬
‫الوالدة الجديدة بعد أيام لتحريمـ الخوض في الحزبية ‪ ،‬وممارســتهاـ إلى األبــد ‪ ،‬وسيفصــح عن‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 71‬‬


‫‪ 2‬محمد مثنى (وسام الشرف ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪2002‬م‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ 23‬المرجع السابق (ص‪)9‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه (ص‪) 11‬‬
‫ذلك بعد عشرين عاما َ إالَّ ثالثين يوما َ وثالث ساعات وعشر دقائقـ على وجــه الدقــة ‪ ،‬جهــاراَ‬
‫‪1‬‬
‫نهاراَ مع إطاللة ذات صباح وبحرية مغالى فيها إلى درجة االفتراء "‬
‫‪ ]5‬اإلشارة إلى صدور قانون استثمارـ جديد يشجع المستثمرـ اليمني الوافد من المهجــر ويغريــه‬
‫‪2‬‬
‫باالستثمار في العاصمة صنعاء‬
‫‪ ]6‬اإلشــارة إلى صــدور قــانون التــأميم في الجنــوب ‪ ،‬وهــذا ( محبــوب المعســلي ) ملــك البن‬
‫والعسل يكتب لولده نور المتواجد في صنعاء ‪ ،‬فيخبره ع ّمًا جــرى ألســرته بعــد هــذا القــانون ‪،‬‬
‫قــائالَ ‪ " :‬ولــدي نــور ال يســعى اآلن إال أن أقــول لــك من حي " القلوعــة " بعــد أن أرغمتنــا‬
‫الحاجــة إلى بيــع الـذي تبقى لنــا من ســكن جميـل في ( خـورـ مكسـر) الـذي تعرفـه بالمتنفســات‬
‫والحديقة ‪ ،‬ذكريات حياتك يا نورـ تحت وطأة القفر ‪ ،‬هل تتصورـ أن يحدث مثل كــل هــذا لملــك‬
‫البن والعسل "‪ ".........‬البيوت على فكرة ‪ ،‬الثالث العمارات في حي المعلى قد أحيلت لحيــازة‬
‫‪3‬‬
‫الدولة الجديدة والحركة في عدن لم تعد ‪ ،‬فقد هرب منها الناس جميعا َ بعد رحيل اإلنجليز "‬
‫‪ ]7‬اإلشارة إلى المظاهرة الشهيرة في عدن ‪ ،‬والتي تم فيها إخراج العمــال والمــوظفين يهتفــون‬
‫بوجوب تخفيض رواتبهم ‪ ،‬وهذا الراوي يحدثنا ع ّما شاهده ( نــور) في شــوارعـ عــدن حينهــا ‪،‬‬
‫فيقول ‪ " :‬وقد صادفـ بعد أيام أن رأى جيشـا َ من المتظــاهرين يســدون الطرقــات في الشــوارع‬
‫واألحيــاء تســاندهمـ قــوات األمن والجيش في هتافيــة حافلــة " واجب علينــا واجب ‪ ،‬تخفيض‬
‫الراتب واجب " أعلنت عنه الجريدة الرسمية في اليوم التالي كأول طفـرة ظــافرة مباركـة في‬
‫‪4‬‬
‫تاريخ الثورات "‬
‫‪ ]8‬اإلشارة إلى األحداث التي تم فيها ‪ ،‬التخلص من بعض قيادات الدولة والحــزب ‪ ،‬بتصــفيتهم‬
‫من قبل الرفاق ‪ ،‬فمن حواربين ( نور ) و ( شفيقة ) آخر الجئة من الجنوب نقتطف ‪:‬‬
‫"‪ -‬ولكن قوليـ لي كيف حال أبو نضال ؟‬
‫‪ -‬هللا يرحمه ‪ ،‬لقد ودع الدنيا برصاص الرفاق‬
‫‪ -‬أبو نضال باعلي مات هو أيضا ً ؟‬
‫غاص قليالَ برأسه على األرض ‪.‬‬
‫‪ -‬أمعقول هذا ؟ ولكن متى كان هذا ؟‬
‫‪ -‬في أيـــام النحس إياهـــا ‪ ....‬عنـــدما فقـــدت األرض توازنهـــاـ والســـماء جاذبيتهـــا في عـــدن‬
‫‪5‬‬
‫والمنصورة "‬
‫‪ ]9‬اإلشــارة إلى انتفاضــة الصــيادين حين أفــاق ( نــورـ ) على إعالن المــذياع الــذي يســتنفر‬
‫العاصمة عدن على انتفاضة الصيادين ‪ ،‬وحاول أن يعرف حقيقة هذه االنتفاضة ف " قيل لــه‬
‫بهمس مــرعب وشــامت إنهم ثالثــة من الصــيادين ســجلوا تــاريخ البدايــة لالنتفاضــة ‪ ،‬وربمــا‬
‫النتفاضات أخرى قادمــة أبــداً من مدينــة عــدن ال يعلم منتهاهــا إالَّ هللا ‪ ،‬لقــد قــام هــؤالء الثالثــة‬
‫بتأميم هوريـ للصيد الذي يستفيد منه مالكه بــالربع ‪ ،‬في حين ثالثــة أربــاع المحصــول يــذهب‬

‫‪ 1‬نفسه (ص‪)55‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 65‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 97،96‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 124‬‬
‫‪ 1945‬المرجع نفسه(ص‪)109‬‬
‫إلى جيوبهم بالربع مثله ‪ ،‬لكن خير الثورة في أن ال شيء للبرجوازيين المستغلين يبقى وصــمة‬
‫في جبينهــا ‪ ،‬فقــد جعــل هــؤالء الصــيادين يســجلون ثــورة المبــادرة ‪ ،‬وقــد دون في مانشــيتات‬
‫الصــحف الصــباحية بالخــط األحمــر واألحــرف األولى ( مبــادرة الصــيادين المباركــة في يــوم‬
‫حافل ) وفي تعليق طريف إلحدى هذه الصحف ‪ " :‬إنه في يوم لن تغرب عنه الشمس أبداً كمــا‬
‫‪1‬‬
‫غربت شمس بريطانياـ "‬
‫‪ ]10‬اإلشارة إلى المرحلة المسماة بمرحلة إحراق المراحل ‪ ،‬وهي المرحلة التي أصــبح فيهــا‬
‫السباق مع الوقت محموماَـ ‪ ،‬حتى أن بلدية العاصمة صنعاء ‪ ،‬وبسبب الزحف المتســارعـ على‬
‫العاصمة من األرياف والمدن األخرى ‪ ،‬ألغت مخططهاـ المعد لخمس سنوات قادمــة ‪ ،‬وأحلت‬
‫‪2‬‬
‫محله مخططات جديدة وقتية وقصيرة لتتمكن من مواكبة هذا التسارع ‪.‬‬
‫‪ ]11‬اإلشارة عند منتصفـ الحدث الروائيـ إلى العيد الخامس عشر للثـورة بمـا يعـني أننـا في‬
‫عام ‪1977‬م ‪ ،‬فعندماـ كان ( نور) يسير في شارع القيادة الواســع ‪ ،‬راشــقت عيونــه األضــواء‬
‫الملونة والثريات المضـيئة " لم يفطن بـأن تلـك األضـواء والحركـة الكثيفـة كأنمـا عـرس في‬
‫الشـارع بأنـه سـبتمبرـ "‪ ".........‬فتـذكرـ بعـد جهـد وصـعوبة أن ليلـة الغـد سيشـعلون خمس‬
‫‪3‬‬
‫عشرة شمعة ويطفئونها "‬
‫‪ ]12‬اإلشارة إلى االنتخابات الثانيــة لمجلس الشــورىـ ‪ " :‬لــذلك صــحا النــاس مستبشــرين على‬
‫حقائق االنتخابات الديمقراطية الثانية لمجلس الشورىـ ‪ ..‬عنــدما رأوا صــورـ المرشــحين معلقــة‬
‫على األجــدرة وأبــواب المصــالح والمــدارس والنقابــات والجمعيــات والمستوصــفات وحوائــط‬
‫‪4‬‬
‫السجون و المستودعات و المعارض ومختلف نواحي العاصمة "‬
‫‪ ]13‬اإلشارة إلى الذكرى الثامنة عشــر للثــوارـ بمــا يعــني إننــا في عــام ‪1980‬م ‪ ،‬فنــور الــذي‬
‫يتطلع إلى تكريمه بوسام الشرفـ يستمع في نفس الليلة " الذاوية بأضواءـ وابتهاجــات الــذكرى‬
‫الثامنــة عشــر للثــورة من شاشــة التلفزيــون إلى صــوت المــذيع المبتهج الــذي كــان يتلــو أســماء‬
‫‪5‬‬
‫مكرمة بهذه المناسبة بأوسمة شرف البطولة للثورة من الدرجة األولى "‬
‫‪ ]14‬وتتحدد نهاية الزمن الذي يجري على ساحاته حدث الرواية بحركــة بطلهــا ومــا تقدمــه‬
‫هــذه الحركــة من دالالت زمنيــة ‪ ،‬فنحن نلتقي ( نــور) بطــل الروايــة في بــدايتها وهــو ينــوي‬
‫التوجه إلى الشمال للمشـاركة في الـدفاع عن الثـورة ‪ ،‬حينهـا كـان عمـره سـتة عشـر عامـا َ ‪،‬‬
‫يخاطبه والده الحاج محبوب المعسلي ‪ ،‬يومها ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬اسمع يا نور فــأنت لم تعــد طفالَ ‪،‬‬
‫وإنما في السادسة عشر من عمرك " ‪ ، 6‬ثم تنشر له لوحة في ملحق صــحيفة الثــورة ‪ ،‬وكــان‬
‫حينهــا لم يتعــد الخامســة والثالثين من عمــره ‪ 7.‬وفي حســبة بســيطة نعــرفـ إن الــوقت الــذي‬
‫انقضى ما بين مشاركته في الدفاع عن الثورة وبين نشر لوحة لــه في ملحــق صــحيفة الثــورة‬
‫هو تقريبا َ تسعة عشر عاما َ ‪ ،‬غير أننــا نعلم أنــه قــد زج بــه في المعتقــل ‪ -‬قبيــل نهايــة الحــدث‬
‫‪ 1‬نفسه (ص‪) 125‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 127‬‬
‫‪3‬محمد مثنى ( وسام الشرف) مرجع سابق (ص‪) 137‬‬
‫‪4‬المرجع السابق (ص‪) 146‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه (ص‪) 193‬‬
‫‪ 6‬نفسه (ص‪) 38‬‬
‫‪ 7‬نفسه (ص‪) 166‬‬
‫الروائيـ ‪ ،‬وبعد حادثة نشر لوحته في ملحق صـحيفة الثـورة ‪ -‬مـرتين ‪ ،‬ممـا يعـني أننـا نقـف‬
‫على أواخر فترة الثمانينات ‪ ،‬وهي الفترة التي تحـدد نهايــة الـزمن الــذي جــرى عليــه الحـدث‬
‫الروائيـ ‪.‬‬
‫وبالنسـبة للقصـة القصـيرة الـتي أجـرت حوادثهـاـ على مسـاحات زمن هـذه الفـترة ‪ ،‬فـإن‬
‫الوقوف على محدداتها الزمنية ال يكــون ‪ -‬بحكم تعاملهــا المختلـف مــع الـزمن ‪ -‬من خالل‬
‫المعطيات الزمنية ذات الداللة المحددة والمعلنة أحيانـا ً كــالتي وجــدناها في الروايــة ‪ ،‬وإنمــا‬
‫تتكشفـ هــذه المحــددات من خالل تجاربهــا المعالجــة والــتي تتنــاولـ قضــايا تشــير بقــوة إلى‬
‫فترتهاـ ففي قصة (الدائرة ) مثالَ ‪ :‬نطلع على تجربة تقف بتجسيدها لواقع المأساة المترتبــة‬
‫عن قرارـ حظر السفر على مواطنيـ الجنوب داللة على فترتهاـ الزمنية ‪ ،‬حين كان ( الحزب‬
‫) ممسكا َ بزمام السلطة هنــاك وفيهــا نقــرأ ‪ " :‬حمــل ( أبــو الصــبر ) جــوازـ ســفره وحمــد هلل‬
‫تعالى على أن جواز سفره جاهز وال ينقصه إالً تأشيرة الخروج "‪ ".....‬وما إن وصل حتى‬
‫طالعته جموع غفيرة من النــاس منتشــرين أمــام مبــنى اإلدارة ‪ ،‬كــان البعض منهم قــد جلس‬
‫تحت ظل سور وزارة الداخلية المقابل لها ‪ ،‬والبعض اآلخر كان خارجا َ من الصالة ملتمس ـا َ‬
‫لــه بعض التهويــة ‪ ،‬وعنــدما خطــا إلى داخــل الصــالة ورأىـ الجمــع الكبــير من المواطــنين‬
‫صدم ‪ ،‬فهذه الكثرة من الوجوه التي ارتسمت عليها المعاناة واالنتظــار الثقيــل قــد ثبطت من‬
‫‪1‬‬
‫همته وحدت من تفاؤله "‬
‫وفيـ قصة ( التفــاح المــر) نقــف على تجربــة تــدل على ذات الفــترة الزمنيــة بمــا تحكيــه من‬
‫معاناة البسطاء المحرومين من أبناء الجنــوب ‪ ،‬حيث خصــتهم الســلطات بأســواقـ تعربــد فيهــا‬
‫الريح ‪ ،‬خاوية إالً من كل ما يؤصل للشح والحرمــان والجــوع واالفتقــارـ ألبســط الضــروريات‬
‫التي تعين على استمرار الحياة ‪ ،‬بينما خصص للدبلوماسيين والمسئولين الكبار ســوقهم العــامر‬
‫والمكدس بأنواعـ الخضار والفواكه الــتي ينعمــون بهــا وحــدهم ‪ ،‬والــتي لم تــدخل حــتى ضــمن‬
‫خبرة الصغار من أبناء البسطاء ‪ ،‬حيث نسمع هذا الحــوار الــدائر بين الطفــل الــذي رأى تفاحــة‬
‫في يد طفل أخر يبدو أن أباه هو أحد هــؤالء الكبــار الممــيزين وبين والــده الحــائر أمــام إلحــاح‬
‫طفله على طلبه ‪:‬‬
‫" – أنا ما أحبك يا بابا ‪.‬‬
‫‪ -‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ليه يا ابني ؟‬
‫‪ -‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬ألنك لم تحضر لي تفاحة‬
‫‪ -‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ومن فين ؟ ‪ .....‬لقد دخلنا السوق ولم نجد شيئا َ ‪.‬‬
‫‪ -‬قال مشيراَ إلى جهة الطفل ‪.‬‬
‫‪ -‬وده ‪ ..‬من فين له ؟‬
‫‪ -‬قلت ‪:‬‬
‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الخشب) د‪ .‬م ‪ /‬دمشق ‪1991‬م (ص‪) 96،97‬‬
‫‪ -‬من أبيه ‪.‬‬
‫‪ -‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬وانته ليه ما عندك تفاحة ‪ ،‬هو أبوه مش زيك ؟‬
‫‪ -‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬ليه ؟‬
‫‪ -‬قلت في حيرة ‪:‬‬
‫‪ -‬هكذا ‪...‬‬
‫‪ -‬وسكت ابني لحظة ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬التفاح طعمه حلو يا بابا ؟‬
‫‪ -‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ...‬مر ‪.‬‬
‫‪ -‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬خالص ‪ ،‬أنا ما أشتيش ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬وانفلت مني وراح يلعب "‬
‫وفيـ قصة ( قف على جنب ) لزيد مطيــع دمــاج ‪ ،‬نقــف على تجربــة تنتمي فكرتهـاـ إلى قلــق‬
‫االعتقاالت غير المبررة ‪،‬التي كــانت خالل عقــدي الســبعينات والثمانينــات تشــكل ظــاهرة أمنيــة‬
‫خطــيرة ‪ ،‬تتضــمن حــاالت من االســتفزازـ الــذي تمارســه أجهــزة األمن ‪ -‬عــبر جنودهـاـ المكلفين‬
‫بحراسة المدن ‪ -‬مع المواطنين األبرياء ‪ ،‬وهذا مواطن ينصرف قافالَ إلى منزله بعد قيلولــة مــع‬
‫بعض الصحاب ‪ ،‬تفاجئه ثلة من الجنود ‪ ،‬تقوم بتوقيفه وتفتيش سيارته ‪ ،‬وحينم ـاـ وجــد أن األمــر‬
‫قد ينتهي إلى مجرد االبتزازـ المالي ‪ -‬إذ لم يجدوا بحوزته قرينة يستغلونها في إدانتــه ‪ -‬فكــر في‬
‫الهرب ‪ ،‬لكنه تراجع عن ذلك ‪ ،‬يقول ‪ " :‬توقعي كان أنني إذا أقدمت على ذلك فــإنهمـ على األقــل‬
‫سيقومون بإطالقـ زخات من أسلحتهم على الســيارة وعلى إطاراتهــا بالتحديــد ‪ ،‬وكنت على يقين‬
‫بأنهم سيبررون ذلك حتى ولو نتج عن تصــرفهمـ مقتلي ‪ ،‬بــأنني مخــرب خــارج عن القــانون ‪، ..‬‬
‫وقدـ عثر بداخل سيارتيـ على أسلحه ومنشوراتـ وخمور أيضا ‪ ،‬وبــأن أربعــة رفــاقـ كــانوا معي‬
‫في السيارة استطاعوا الفرار وما يزال رجال اآلمن يبحثون عنهم ‪ ،‬وربما قد عــثر على بعضــهمـ‬
‫‪2‬‬
‫وسيقدمونـ إلى محكمة أمن الدولة العليا "‬
‫أو من خالل مــا تتضــمنه ســياقاتها من تلميحــات تشــيرـ بقــوة إلى واقــع اجتمــاعي وسياســي‬
‫اختبره المجتمــع اليمــني خالل الفــترة الزمنيــة المحــددة لهــذا المبحث من الدراســة ‪ ،‬ففي قصــة‬
‫( الزهور تموت شنقاَ) مثالَ ‪ ،‬نقف على تلميح واضح إلى مخاطرة الفكــرة الشــيوعية في أرض‬
‫الجنوب ‪ ،‬ومسؤولية االنفراد بتطبيقهــا ‪ ،‬وصــعوبة مســار الحــزب الــذي تبــني تنفيــذها ‪ ،‬وقلـقـ‬
‫المجتمع غير المهيأة معطياته ال ستقبالها ‪ " :‬بعيداَ ‪ .....‬تعيش وجوداَـ ‪ ....‬انطلق ‪ .....‬ولكن أين‬

‫‪ 1‬عيدهللا سالم باوزير ( سقوط طائر الخشب ) مرجع سابق (ص‪) 41‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( أحزان البنت مياسه ) دار االداب ‪ /‬بيروت ‪1990‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)20‬‬
‫الفنار لعله ينير لنا السبيل والمسيرـ ‪ ...‬ودنوت فــوق الشــط أرقب اآلتي ومــا يحمــل ‪ ...‬بعيــداَ لم‬
‫يقــرب ‪ ...‬والســيرـ خطــأ ‪ .‬أصــرخ يــا رب األربــاب ‪ .....‬أهــو الربــان يقــود الســفينة إلى بــر‬
‫األمان ‪ ....‬لكنه يقودها خطأ في خطأ ‪ ....‬السير عكس تماما َ ‪ .....‬يــا ربــان البوصــلة معــك‪......‬‬
‫اتجاه الشمال ‪ ....‬أين الجنوب ‪ ....‬أين ‪.....‬؟ أين منك الشرق‪..‬‬
‫أين منــك ‪ ...‬؟ نــوركـ ال شــرقي وال غــربي ‪ ،‬ولكنــه نــور ســماوي ‪ ...‬الســفينة بال نــور ‪....‬‬
‫والفنــار بعيــد منــك ‪ ...‬ســترمي بــالقوم في ( بحــر لجي يغشــاه مــوج من فوقــه مــوج من فوقــه‬
‫سحاب ‪ ،‬ظلمات بعضها فوقـ بعض ) ‪ .....‬ارحمنا ستذهب وسنذهب معك ‪.‬‬
‫لم يسمع ‪ ،‬فاألمواج المتالطمة غلفت أذنيه ‪ :‬فلم يصل إليه الصوت ‪ ،‬والفنار بعيد ‪ ،‬والسير إليه‬
‫‪1‬‬
‫صعب ‪ ،‬والرؤية عكسية ‪ ( ...‬ومن لم يجعل هللا له نوراَ فماله من نور )"‬
‫وألجل ذلك ســتعتمد الدراســة تلــك التجــارب والتلميحــات الدالــة كمحــددات تسترشـدـ بهــا على‬
‫فترتهاـ الزمنية التي تجري عليها حوادثها ‪ ،‬ومنها تستنبطـ مالمح تلك الفترة ‪ ،‬تســاندهاـ في ذلــك‬
‫تواريخ أول صدور لألعمال التي تضمنت تجاربهاـ وسياقاتها هذه المالمح ‪.‬‬
‫ومن مالمح الــزمن السياســي واالجتمــاعي لهــذه الفــترة كمــا جســدتها األعمــال الروائيــة‬
‫والقصصية نذكر ‪:‬‬
‫‪ )1‬إنــه زمن تمــيزت بداياتــه بتشــابك الخطــوطـ واختالط الــرؤى بشــكل يصــعب معــه إمكــان‬
‫الوقوف على حدود فاصلة ومميزة بين المعطيات المتداخلــة ومــا تفــرزه من متغــيرات ‪ ،‬يقــول‬
‫هشـام علي ‪ " :‬لقـد كـانت األمـورـ في السـابق أكـثر تحديـداَ ‪ ،‬اإلمامـة ‪ ،‬االسـتعمار ثمـة تمـايز‬
‫ووضوح ‪ ،‬شعب مقابل قويـ استعمارية واستبدادية ‪ ،‬لكن األمر تغير بعــد ذلــك ‪ ،‬ثــورة وثــورة‬
‫مضادة ‪.‬‬
‫ثوار وقبائلـ ‪ ،‬مرتزقة وقوات عربية ‪ ،‬شمال وجنوب ‪ ،‬وحــدودـ وفواصــل ‪ ،‬ثــورة مغــدورة‬
‫بواسطة الثوار ‪ ،‬تــداخل األيــدولوجياـ والوطنيــة في مســيرة البحث عن مســار "‪ ، 2‬وفيـ قصــة‬
‫( الزهور تموت شـنقا َ ) نقـرأ ‪ " :‬وحينهـاـ تصـارع النفس كـوامن النزعـة الموعـودة كموميـا ء‬
‫فرعونيـ محنط الجثة المتهالكة ‪ ...‬هذا ما نؤكده ‪ ،‬والصوت يعيد ‪ :‬إنها جثة فقــط ‪ ،‬ونحن نؤكــد‬
‫إنها عفنة نخرة ‪ ،‬والصوت يعيد ‪ :‬إنها جثة وكفى ‪.‬‬
‫وتلهب الشمس الطريقـ ‪ ...‬وأقدام القادمين تتوضح كمســارـ كــوكب بعيــد لم يتم رصــده بدقــه‬
‫‪3‬‬
‫متناهية ‪ ..‬لكن ربما في الغد ‪ ....‬نرصده ‪.‬‬
‫وفيـ رواية ( وسام الشرف) يخــاطب ( نــور) (أمين الزئبــق) قــائال ‪ " :‬وعلى رغمــك في هــذا‬
‫‪4‬‬
‫البلد ال تستطيع أن تميز بين السير والمنامـ وال بين الحلم واليقظة "‬
‫ومع هذا الختالط الذي شاب بدايات هذه الفترة ‪ ،‬ظلت هناك نظرة تتشبث بتفاؤلها ‪ ،‬ففي رواية‬
‫( وسام الشــرف ) تبــدو صــنعاء عنــد هــذه البــدايات مدينــة تعــد بــالكثير إنهــا " صــنعاء الثــورة‬

‫‪ 1‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مطبعة الشريفين ‪ /‬القهرة ‪1981‬م (ص‪) 25‬‬
‫‪ 2‬هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر صنعاء ‪1996‬م (ص‪) 159‬‬
‫‪ 3‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار) مرجع سابق (ص‪) 24‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ( ص‪) 12‬‬
‫وصــنعاءـ المطــر والخضــرة والنــاس والمــدارسـ والحلم والتطلــع ‪ ،‬صــنعاء الحركــة والفعــل‬
‫‪1‬‬
‫واألمل ‪ ،‬إنها لتعد بالشيء الكثير "‬
‫وإذا ما ظهرت خالل مسارهاـ مالمح من تعطل أو تــأخر عن تحقيــق األهــداف المأمولــة ‪ ،‬فــإن‬
‫األمر ال يزال يلقى ما يستحقـ من التماس المبررات للثورة التي ال تزال وليــده ‪ " :‬لقــد طــرأت‬
‫أشياء وتبدلت أشــياء وثمــة أشــياء لم تتغــير ‪ ،‬ولكن ال أحــد يطــالب الثــورة الجنينيــة بانطالقــه‬
‫الصــاروخـ في اســتحداث التغيــير ‪ ،‬هــاهي األمــور تســير والحركــة بطيئــة بفعــل الحــرب الــتي‬
‫‪2‬‬
‫اصطنعهاـ األعداء ‪ ،‬ولكنها الحركة رغم كل شيء"‬
‫وهذا إبراهيم الكاف ‪ ،‬يرى أن انتصار الثورة هو فرصــة يتوجــه من خاللهــا داعيـا َ إلى تــرميم‬
‫الصدوعـ ومعالجة الجروح وتحقيق مزيد من الحرية ‪.‬‬
‫" تباشيرـ الفجر تغزو األفقـ ‪ ،‬وأنت ال زلت على السرير منطرحة ‪ ،‬تتسلل خيوطـ الشمس برقة‬
‫إلى غرفتــك ‪ ،‬تغمــرك ‪ ،‬تنتفضــين كعصــفورـ بللــه المطــر ‪ ،‬تتســاءلين في حــيرة مــا جــدوى‬
‫االنتظارـ ‪ ،‬يصل مسمعيك هاتف من واقع ماضــيك الحافــل بــالعبر ‪ ...‬يــتردد صــداه في أرجــاء‬
‫حاضركـ ‪ :‬انهضي ‪ ،‬أفسحيـ للشمس طريقا َ لتغــزو كــل الزنزانــات الرطبــة ‪،‬المظلمــة ‪ ،‬دعيهــا‬
‫‪3‬‬
‫تمتد إلى أعماقك تنظفها من المرارة واأللم "‬
‫غير أن هذا التفاؤل لم يســتمر طــويالَـ ‪ ،‬فســرعان مــا الحت بــوادرـ االنحــدار المنــذر بالتــدهور‬
‫والسقوطـ ‪.‬‬
‫‪ )2‬إنــه زمن اختالف التوجهــات بين الشــطرين ‪ :‬ففي الشــمال كــان النظــام الجمهــوريـ ‪ ،‬وكــانت‬
‫سياسة االنفتاح التي أعطت في البدايــة انطباعـا َ بانتعــاش حقيقي وثمــارـ ملموســة ‪ ،‬فقــد طــرأت‬
‫مستجدات كثيرة على مدينة صنعاء فمحالت فتحت أبوابها ودكـاكين جديـدة وأطفـال يتوجهـون‬
‫إلى المدارس في زيادة ملحوظة ‪ ،‬وفتياتـ صار لهن بعد الثورة حظ من التعليم ومدارس لمحــو‬
‫األمية ‪،‬‬
‫وشروع للمرأة في المشاركة في العمل ‪ ،‬وحركة من الوافدين الجـدد على العاصـمة ‪ ،‬والعمـال‬
‫الباحثين عن عمل والفالحين الباحثين عن أسواقـ جديدة ‪.‬‬
‫والتجــار البــاحثين عن توســيع ســبل تجــارتهمـ ‪ ،‬وحركــة للمواصــالت ‪ ،‬وبنــاء للمستوصــفات‬
‫ومرافق الخدمة العامة كالكهرباءـ ومصالح الجماركـ والضرائب ‪ ،‬وقدومـ الوافــدين من الخــارج‬
‫‪4‬‬
‫والتجارـ المستثمرين المغتربين اليمنيين والعرب واألجانب "‬
‫وســرعان مــا الحت " بــوادر المضــاربين الجــدد في السياسية بوجهه ـاـ القبلي والحــديث ‪،‬‬
‫والمضاربين في األراضي والمشايخ ‪ ،‬والوجاهات المتعددة والمصاهرات يجربــون حظــوظهم‬
‫في مضارباتـ أخرى أكثر حظا َ وإدرا ًراـ للربح السريع ‪ ،‬لذلك ظهرت الفتات لشــركات وبنـوكـ‬
‫جديدة ومساهمات وأسواقـ عجالن وضبعان وذهبـان سـوبر مـاركت ‪ ،‬وشـركات شـق الطـرق‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 42‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪) 24‬‬
‫‪ 3‬إبراهيم الكاف ( االنفجار ) دار الهمداني ‪1984‬م (ص‪) 59‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 62‬‬
‫وأوراق حظوظ لعب اليانصيب ‪ ....‬سوق وأسواقـ ما تشتهي األعين وتلذ القلوب وما ال تشتهي‬
‫‪1‬‬
‫في موجه المدينة الصاعدة "‬
‫وبالطبعـ فقد واكب ذلك ظهورـ النصابين والنشــالين والمحتــالين الــذين عــزوا العاصــمة من‬
‫كل حدب وصوب كما فطن الشحاذون إلى طرقـ ووســائلـ جديــدة كاســتئجارـ األطفــال‪ ،‬وصــنع‬
‫العاهات والكسـور واســتحداث العجـز‪ ،‬كمـا شـوهد على أطــراف أرصـفة التحريـر ومســاحاته‬
‫‪2‬‬
‫مجانين لم ير الناس أمثالهم قبل ذلك "‬
‫كما احتشد جمهـورـ من العــاطلين غــزا العاصـمة يشـاهدون هــذا الجنــون ‪ ،‬ثم يصــدر قــانون‬
‫استثماري جديد يغري المسـتثمرـ اليمـني الوافــد من المهجـر ‪ ،‬ثم برهــة من الهـدوء السـتقطاب‬
‫االستثماراتـ األجنبية ‪ ،‬ثم تبدأ المصانع المحلية ‪ ،‬لكنها المصانع التي ال تشكل نهضــة حقيقــة ‪،‬‬
‫" فمثالَ بعــد أن كــان مصــنعاَـ واحــدا يصــنع الزبــاديـ اللبن ‪ ،‬أضــحى لنــا منهــا ثالثــة مصــانع‬
‫بمسميات هندية وأخرىـ بالمحلية المحفوظة في المزاج التاريخي الشعبي ‪ ،‬كما أضحى لنا بــدالَ‬
‫من مصنع واحد لماء الصحة (شـمالن ) أضـحى لنــا منهــا أربعــة بنفس المســميات مـع إضــفاء‬
‫طابع الجبال والوديان التاريخية المعروفة ‪ ،‬بل وبعد أيام قالئل شـاهد النــاس من الزبـادي اللبن‬
‫الحقين الشــعبي في علب بالســتيكية صــغيرة ‪ ،‬كمــا فتحت النســاء ‪ ،‬أعينهن على تجربــة في‬
‫‪3‬‬
‫العصيد الجاهز المعلب من أحد المصانع األسيوية "‬
‫وراح رجال من وجهاء القبائــل ورجــالـ السياســية يجربــون حظــوظهمـ في أعمــال التجــارة‬
‫الــتي لم يعرفوهــا قبالَ ‪ ،‬وهكــذا تنحــرفـ هــذه الحركــة الموهمــة باالنتعــاش المشــبوبة بالريبــة‬
‫سريعاَـ ‪ ،‬فقد راحت العمارات والفلـل تكتسـح مسـاحة شاسـعة من األرض الزراعيـة ‪ ،‬وأخـذت‬
‫زحوفـ الهجرة من األرياف تغزو المدينة مما شكل ضغطا َ على العاصمة ألغت بلــديتها الكثــير‬
‫من مخططاتهاـ التي اقتضتها حاجة الطوارئـ المفاجئة للزمن الســريع ‪ ،‬واســتخدمتـ مخططــات‬
‫‪4‬‬
‫قابلة للقلب بحسب الطلب ‪.‬‬
‫" وخالصة األمر ونتيجة لكل ذلك االندفاعـ الذي لم يخطه أحد ‪ ،‬وإنما بفعــل حتميــة التطــور‬
‫التي كانت قاعدته المغيظة االنفتاح ‪ ،‬فقد أخذ كل شيء يسير إلى حيث ما هو مقدر له في األقل‬
‫‪5‬‬
‫القليل ومالم يكن مقدراَ له في األغلب األعم "‬
‫ونتيجة لسرعة هذا المسار الخرافيـ الراكض بسرعة جنونية أثري أناس ثــراء مفاجئ ـا َ حين‬
‫تحولت أراضي الدولة تحت سياسية استرضاءـ أطراف ومراكزـ القوى إلى غنيمة سهلة ‪ ،‬وهذا‬
‫نور يتطلع إلى شـارعـ الـدائري فيهيـأ لـه أنـه في مكـان ال يعرفـه بسـبب سـرعة إقامـة المبـاني‬
‫والمنشآت في العاصمة " التي تشهد من التوسع ما لم تشهده عاصمة في العالم ‪ ،‬إذ كان لبعض‬
‫العمارات أن تبـدأ في أول الشـهر كحفــر وقواعــد حــتى تتهيــأ في أواخـره للتشـطيب أو التسـليم‬
‫النهائي ‪ ....‬لم يكن من وقت هناك لسماسرة األراضي يضــيعونه وال لمنشــئي العمــارات الــتي‬
‫تتم في الغالب على أراض بال أوراقـ مضبوطة "‪ ، 6‬وقدـ روى أن هنــاك أنــاس " يطوفــون في‬
‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪) 63‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪) 63‬‬
‫‪3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 107‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 127‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ص‪) 128‬‬
‫‪ 6‬نفسه (ص‪) 205،206‬‬
‫كل ليلة بجهـة من أطـراف العاصـمة ‪ ،‬وكلمـا مشـوا على أرض جـرداء أو أرض زراعيـة فال‬
‫‪1‬‬
‫تصبح إالَّ بكرامة المسلح "‬
‫وسمع عن تجاوزاتـ كان يسمح فيها للبعض باالستيرادـ غير المشروطـ ‪ ،‬فاستوردتـ أطنانــا ً‬
‫من الحديد معفاة من الضرائب والجماركـ وأي مترتبات أخرى للدولة ‪ ،‬وعلى أثر هذه ظهــرت‬
‫أســماء كبــيرة ألغــوال وملــوكـ كملــوك المــاء ‪ ،‬وملــوكـ األراضــي ‪ ،‬وملــك الــذهب ‪ ،‬وملــوكـ‬
‫‪2‬‬
‫المشروبات الغازية ‪ ،‬وملوك الشمع "‬
‫ومع كل هذه المظاهر ظلت هناك مظاهر أخرى من عهود التخلف أقلقت األمن والســكنية ‪،‬‬
‫كما أقلقت االستثمارات األجنبية ‪ ،‬مثالَ حمل السالح والقتل والثأر ‪.‬‬
‫ثم بدأت مالمح الغالء والبيروقراطية والبطالة المقنعــة ‪ ،‬لينتهي شــمال اليمن إلى مجــرد ســوق‬
‫تـــذهب هويتـــه تحت مســـميات لمحـــال ومنتجـــات أجنبيـــة ‪ ،‬وظهـــرت بشـــكل جلي فـــوارق‬
‫الطبقات ‪،‬وبدأت تظهر مساحة آخذه في االتساع بين المترفين والفقراء ‪.‬‬
‫وقدـ روى أحـد المواطـنين أن أحـد المـترفين وفيـ " أيـام الجحيم هـذه قـد اشـترى بـأكثر من‬
‫مليون لاير قات فقط للمعزومين عنده في حفل زواج ابنه ‪ ،‬فضـالَـ عن لحــوم األبقــار والكبــاش‬
‫التي ظلت طيورـ الرخمة والنســورـ والصــقور وكالب المدينــة بالحاســة والشــم مجتمعــة تتغــذى‬
‫على بقاياها في إخاء ووئام بال عداء لمدة أسبوع ‪ ،‬وقال المــواطن الــراوي الــذي كــانت عيونــه‬
‫تغمض وتفتح كأنه في حلم ‪ :‬ولكنه قيل ربح ثالثة ماليين من إعانة الهبات "‪.3‬‬
‫كمــا ظهــرت في شــوارع صــنعاء ســيارات فارهــة بأحــداث المــوديالت يشــتريهاـ األثريــاء‬
‫‪4‬‬
‫لمالعبة أطفالهم في هذه الشوارعـ "‬
‫وفيـ مقابل هذه الحركات المتسارعة لصنعاء ‪ ،‬كانت عدن تعاني من ركود مميت وكان التأميم‬
‫الذي قتل الطموح وأدي إلى ركود الحياة فيها ‪ ،‬ففي قصة ( المومساتـ والمنظرون ) نقــرأ عن‬
‫تجربة تاجر محبط ‪ ":‬دخل معترك الحياة بهمة عاليـة ونشــاط ســخره للعمــل الــدؤوب ‪،‬وإيمــان‬
‫كامل بأن كفاحه اليوم سيؤمـن مستقبلة غداَ ‪ ..‬لكن وحسرتاه ‪ ...‬فلقــد أصــبح اليــوم مجــرد تــاجر‬
‫مهزومـ ‪ ،‬ضائع رصيده في حطام نفسي وفراغ مجهول ومصيرـ غـير معلـوم ‪ ،‬وذهن مشـتت ‪،‬‬
‫بيته مــؤمم والحـوانيتـ تحت الحراسـة ‪ ...‬وليس هنـاك من جنايــة اقترفهــا ســوى أنـه واحــد من‬
‫الحالمين بتحقيق مجتمع جديد يسوده اإلخاء والرفاهية والسلم والحب "‪. 5‬‬
‫كما أدى التــأميم إلى لجــوء العديــد من أبنــاء الجنـوب إلى الشــمال الـذين ضــاقت بهم ســبل‬
‫العيش هناك ‪ ،‬ووجدواـ أنفسهم فقراء دون مبرر يقبلونه ‪ ،‬فأسره المعســلي ملــك البن والعســل‬
‫في ( وسام الشرف ) قد أضحت أسرة بائسة تتبدل حالها بشكل كلي بعــد أن اســتولت حكومــة‬
‫الثورة على ممتلكاتها ‪ :‬وهذا (نور) يذهب لزيارة أهله في عــدن فيذهلــه مــا رآه من حالهــا ‪":‬‬
‫عندما ســلم على والــده الحــاج محبــوب ‪ ،‬كــان بيــدين مرتعشــتين وتعطفــات في ســائر الجســد‬
‫وغضون ونمش في الوجه ‪ ،‬كأنما شاخ دفعة واحدة على مدى ست سنوات فقــط منــذ تركــه ‪،‬‬

‫‪ 1‬نفسه (ص‪) 142‬‬


‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 125‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 205‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 234‬‬
‫‪5‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص‪) 54‬‬
‫لقد كان كل عضو في جسده مذل وممتهن ‪ ،‬وبائس أشد ما يكون البؤس ‪ ،‬وحتىـ صوته الــذي‬
‫كان آمراَ على الدوام وفتيا َ بهت هو األخر ‪ ،‬وأما أمه التي كانت رغم سنها المتعدية األربعين‬
‫في عنفوان الشباب ونضارته قبل تلك السنوات ‪ ،‬فلم يعرف منها شيئا َ عندما هب يقبلهــا ويلثم‬
‫‪1‬‬
‫منها الرأس والوجه والعيون "‬
‫‪ )3‬إنه زمن تأكدت خالله خيبة األمل ‪ ،‬وترسخ الشعورـ بعدم جدوى الثورة وعدم جدوى قيامهاـ ‪،‬‬
‫فهذه الثورات التي قامت لتحرير اإلنسان اليمني من ربقة الظلم واالستعبادـ ‪ ،‬قد تمت ســرقتها‬
‫وتغييرـ مسارها ‪ ،‬ففي رواية ( وسام الشرف ) يصرخ علوان بالحقيقة التي أدركهاـ مبكراَ ‪" :‬‬
‫أن الثورة والجمهوريــة لم تعيشــا في هــذا البلــد أكــثر من خمس ســنوات فقــط ‪ ،‬ثم رحلت مــع‬
‫أصحابهاـ الـراحلين "‪ "....‬لقـد كـان هنـاك ثـورة وهنـاك جمهوريـة في يـوم مـا ثم طـارت ‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫طارت ‪ ،‬أنهما في جيوب الرجعية اآلن "‬
‫وفيـ قصة السفر إلى زمن الضوء ) تتكشفـ الثورة وهما َ خادعا َ وتجربة صادمة ‪ ،‬فنقرأ ‪:‬‬
‫" ما أن احتوانيـ زمني الجديد حتى شعرت بأن كــل شــيء قــد توقـفـ عن الحركــة ‪ ،‬ورغم‬
‫انفصالي عن الزمن الذي جئت منه ‪ ،‬فإن إحساسي به لم تتغير‪ ،‬زمني الجديد ال تغطية الظلمــة‬
‫وال تضيئه الشمس ‪ ،‬ال تبدده الضوضاءـ وال يهدئه السكون ‪ ،‬زمن ككل األزمنــة ‪ ،‬بال لــون وال‬
‫طعم وال رائحة ‪ ،‬أذناي تسترقان أصداء الــزمن الــذي انفصــلت عنــه فيتكشــف شــعوري بــاأللم‬
‫والحزن ‪ ،‬من حزن ذاتي إلى حزن جماعي ‪ ،‬مشاعر تتصارع في داخلي تمزقني إربـا ً إربــأ ‪،‬‬
‫بصيص من أمل ‪ ،‬فرح لم تظهرـ تباشيره ‪ ،‬اختناق ال أجد لغة أعبر بها عنه سوىـ لغة الصــمت‬
‫‪3‬‬
‫"‬
‫وفيـ قصة ( الموت قبل الوجود ) ‪4‬نقرأ ‪ " :‬الوقت يتخذ ملفات متعرجة بين السنوات السالفة‬
‫والسنين الحالية ‪ ...‬والرجس يتطايرـ بين الفتنة واألسلوب ‪ ...‬حوادث التغيير الفكري والعقائدي‬
‫تتوسع وتتخذـ أقمصة وأقنعة عدة يحاولون بها ويفرشون لهــا ‪ ،‬وأذهــان الشــعب المغلــوب على‬
‫أمره تطرقـ حلول اليأس واالنهيار ‪ ،‬تتوالى بين الموت والهجــرة واالحــتراق بــاألحزان ونهب‬
‫‪5‬‬
‫الماضي الدفين الحالم باآلمال الجميلة والغرساتـ الباسقة "‬
‫وخيرهاـ لم يصل إلى أصحابها الحقيقــيين من بســطاء النــاس وفقــرائهمـ ‪ ،‬فال تـزال المعانـاة‬
‫وال يــزال البــؤس ‪ ،‬وال يــزال زوار الفجــر ‪ ،‬والســجون ‪ ،‬والمعتقالت ال تــزال فــاغرة أبوابهــا‬
‫تستقبل جحافل األبرياء المقتادين لمجرد األشباه فهــذا ( الجنــدي عبــده مقبــل ) يتهم بالشــيوعية‬
‫التي اليعرف حتى معناها ـ ويظل يديرها سؤاالَ في عقله ‪ ،‬فهذه التهمة لم يسمع عنهــا " أال من‬
‫إذاعة الملكيين حين كانوا يصرفون التهم مجانية يرومون بها المجمهرين في صنعاء ‪ ،‬فهل هم‬
‫( الملكيــون ) ! اســتبعد ذلــك بشــده ‪ ،‬لقــد تصــدت لهم القفــار واألطفــال والرجــال والجبــال ‪ ،‬أ‬
‫‪6‬‬
‫لجمهوريون ‪.‬؟‪" ....‬‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 120‬‬


‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 29‬‬
‫‪ 3‬صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) (ص‪) 79‬‬
‫‪ 4‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص‪) 1‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق (ص‪) 1‬‬
‫‪ 6‬محمد مثنى ( الرجل الحشرة ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪2001 /‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪) 71‬‬
‫وفيـ قصـة ( المـوت قبـل الرحيـل ) نقـرأ " البـاب يطـرق وضـرباتـ عنيفـة على البـاب ‪...‬‬
‫تنهض هي لتفتح الباب ‪ ،‬امرأته الشابة ‪ -‬فجأة ‪ -‬تكتحل عيناهــا بــالخوفـ ‪ ،‬وشــررـ يتطــاير من‬
‫وجوه األنفار الهاجمين عليه يحملونه معهم دون أدنى استفسار أو توضيح ‪.‬‬
‫يضيع بين سجون الرعب والتــدميرـ الجســدي ‪ ،‬وتنتهي معــالم أســرته ‪ ...‬ويبــدأ العــذاب اآلخــر‬
‫لزوجته وأطفاله ‪.‬‬
‫تمــر الســنوات الثالث ‪ ،‬وهم في بحث عنــه ‪ ،‬يطرقــون أبــواب الكبــار يستفســرون عنــه رؤيــة‬
‫الحق ‪ ،‬وهل وجدوا شخصاَـ رمي في سجونهمـ يحمل اســم(‪ ).......‬ويعتــذرون بنفس االبتســامة‬
‫المعدنيــة ‪ ....‬ال نعــرف عنــه شــيئا َ ‪ ،‬وربمــا أخطــأت في المجيء إلى هنــا ‪ ...‬وتــدورـ في حلقــة‬
‫‪1‬‬
‫مفرغة "‬
‫وال تــزال أجهــزة االســتخبارات ترصــد وتتعقب كــل من يعلى صــوته أو يــذكر النظــام بمــا‬
‫اليحب ‪ ،‬وفيـ قصة ( المخبر ) يعرض عبدهللا ســالم بــاوزير بأســلوبه الســاخر المحبب لحادثــة‬
‫طريفة يعود فيها المخبر شاهد إثبات على فساد النظام الذي يعمــل تحت إمرتــه ‪ ،‬ولنســتمعـ إلى‬
‫هذا الحوار الذي أداره الكاتب بين المدير والمخبر والمتهم ‪:‬‬
‫" أسمعنيـ ماذا قال ‪:‬‬
‫‪ -‬قال إن عدداَ كبيراَ من موظفي الدولة فاسدون ‪ ،‬وإن كل همهم هو نهب المال العام ‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا قال أيضا َ ؟‬
‫‪ -‬سمعته يقول إن العدالة مفقودة ‪ ،‬وإن بعض الموظفين ال ينظرون في حل قضاياـ المواطــنين إال‬
‫بعد استالم الرشوة منهم ‪ ،‬وإن بعض المسئولين الكبار يبسطون على أراضي الدولة بغير وجه‬
‫حق ‪ ..‬وإن ‪ ...‬وإن‬
‫‪ -‬رفع المدير يــده من على الورقــة الــتي ســجل عليهــا مــا يلفــظ بــه المخــبر ‪ ،‬ثم التفت إلى المتهم‬
‫الماثل أمامه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تلفظت بكل هذا الحديث ؟‬
‫‪ -‬نعم هذا ما قلته بالضبط ‪ ،‬ولكنني عندما كنت أتحدث بذلك لم أكن أقصد جمهوريتنا ‪ ،‬فلقــد كنت‬
‫أتحدث حينها عن جمهورية أخرى ‪.‬‬
‫‪ -‬قال المدير للمخبر ‪ :‬هل ذكر المتهم اسم جمهوريتنا على لسانه ؟‬
‫‪ -‬قال المخبر ‪ :‬ال لم يذكر اسم جمهوريتناـ ‪ ،‬ولكن كل هذه األوصــافـ الــتي ذكرهــا تنطبــق تمامـا َ‬
‫‪2‬‬
‫على جمهوريتنا ‪"...‬‬
‫وفيـ قصة ( قتل ولم يدفن ) نقرأ ‪ :‬التسابيح األولى تتهادى إلى أذنيه من مسجد القرية القريب ‪،‬‬
‫فنهض من فراشه ليجد امرأته آمنة قد سبقته مبكراَ لتعد اإلفطارـ وتجهز الماء ليتوضأـ ‪.‬‬
‫وفجأة ‪ ...‬دوت على الباب طرقات عنيفة انتفضت آمنة على أثرها ‪ ،‬وقدمت مفزوعــة ‪ ...‬فهــدأ‬
‫من روعها وخطا نحو البــاب مســتغرباَـ أمــر هــذا الطــارق المقلــق ‪ ،‬وفي هــذا الــوقت بالــذات ‪،‬‬
‫وخاصة أنهم لم يعتادواـ زواراَ في مثل هذه الساعة وفيـ مثل هذه األيام القلقة ‪.‬‬

‫‪ 1‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص‪) 5‬‬
‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير ( سفينة نوح ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪ ،2001‬ط‪( 1‬ص‪) 45‬‬
‫فتح الباب ‪ ...‬فإذا عيناه تكتحالن بمجموعة من الرجــال ملثمين ال يكــاد يلحــظ من وجــوههمـ إال‬
‫أعينهم ‪ ،‬التي كانت حينهــا تقــدح شــرراَ مســتطيراَـ ‪ ،‬وغضــبا َ يتقــد ‪ ،‬وأيــديهمـ تمســك مسدســات‬
‫شهرتهاـ في وجهه ‪ ،‬وواحد منهم قد أمسك برشاش خفيف ‪.‬‬
‫‪ -‬سألهم برباطة جأش معهودة ‪:‬‬
‫‪ -‬عمن تبحثون ‪.‬‬
‫‪ -‬رد عليه أقرب الخمسة أنفار إليه ‪.‬‬
‫‪ -‬عنك ‪ ،‬أليس اسمك علي ؟‬
‫‪ -‬أجاب‬
‫‪ -‬نعم !‬
‫‪ -‬إذن هيا بنا ‪ ...‬أنت مطلوب ‪....‬‬
‫‪ -‬ومن هم الذين يطلبونيـ ‪ ...‬وما األمر ‪ ....‬ومن أنا حتى أطلب ‪ ...‬؟‬
‫‪ -‬لم يجد إجابة ألسئلته القلقــة ‪ ..‬فقــد اقتيــد من معصــمه ‪ ..‬ووضـعـ المســدس في مــؤخرة رأســه ‪،‬‬
‫واقتادوه أمامهم إلى خلــف منزلــه حيث كــانت تقـف سـيارة جيب مطفــأة األنـوار ‪ ...‬فرمــوه في‬
‫‪1‬‬
‫الخلف بعد أن وضعواـ القيد في معصمه "‬
‫كمــا جــدت على الســاحة السياســية في ظــل األنظمــة شــديدة القمــع أســاليب أخــرى كأســلوب‬
‫التصفيات الجسدية الذي يمثل في قصة ( الموت قبل الوجود) أحد االحتماالت القريبــة لمصــير‬
‫معتقل ‪:‬‬
‫" إنــه المعتقــل أو ربمــا ســيحملونه إلى ناحيــة منعزلــة من أطــرافـ الشــعاب غــير المطروقــة ‪،‬‬
‫ويطلقون عليه بضع رصاصاتـ تنتزع حياته ‪ ،‬أو ربما حفروا له حفرة مســبقة ومــا بقي إال أن‬
‫يهيلوا التراب عليه "‪ 2‬ليس هذا فحسب ‪ ،‬فقد امتد األمر إلى تزييـفـ التـاريخ ونسـب البطــوالت‬
‫إلى غير أهلها‬
‫وهذا ( نور ) أحد أبطال معركة السبعين يعلم بموعد توزيع األوسمة تكريماَـ ألبطال الســبعين ‪،‬‬
‫فيذهب إلى مبنى القيادة " ولكنه حين صعد المبنى ومن طابقـ إلى طابق ومن بهو إلى بهو‪ ،‬فلم‬
‫يجد أحداً يسأله أو يقول له شيئا َ قدر ما وجد أرتاالَ من طيور الرخمــة ذات األلــوان المختلفـة ‪،‬‬
‫وكذا بعض البوم يحتالن نوافذـ وشــرفاتـ وثقــوب المبــنى ‪ ،‬لتخبــط بأجنحتهــا ومناقيرهــا اللــتين‬
‫أهالتــا عليــه وابالَ ‪ -‬من جــراء فزعهــا وتخبطهـاـ ‪ -‬من خرائهــا المعتــق والطــازجـ وبعضـاَـ من‬
‫بيوضهاـ المنقورة قيــد الفقس ‪ ،‬ليعــود ملطخـا َ بخالئــط فضــالتهاـ ‪ ،‬كأنمــا انــتزع من بيــارة ‪ ،‬ثم‬
‫يستمع من نفس الليلـة ‪ ،‬الذاويـة بأضـواء وابتهاجــات الـذكرىـ الثامنـة عشــر للثــورة من شاشـة‬
‫التلفزيون إلى صوت المذيع المبتهج الذي كان يتلو أسماء ال يعرفها وال يدري عنها شــيئا َ ‪ ،‬ولم‬
‫يسمع أو يقرأ بأنها قد شاركت في أي بطولة ‪ ،‬وهو الذي يعرف الكثــير ومن بين هــذه األســماء‬
‫اسم شاب وهو يرى صورته لم يتعد سنه العشرين ‪ ،‬وقد علق على ذلــك ضــاحكا َ البــد أن هــذا‬
‫‪3‬‬
‫الطفل قد دافع عن الثورة وهو خلية منوية في ظهر أبيه "‬

‫‪ 1‬منير حسين مسيبلي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق (ص‪) 76 ،66‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 1‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 193‬‬
‫ونفس الموضوعـ تناوله عبدهللا باوزيرـ في قصته الساخرة ( الحمار الحائز على الوســامـ ) حين‬
‫يتكتشفـ للجنة البحث في ادعاء " الحالمي " بأن الحمار هــو البطــل الــذي يســتحق الوســام ‪ ،‬إذ‬
‫كــان يحمــل المــاء على ظهــره للثــوار في الجبــال والكهــوف ‪ ،‬وحين همت اللجنــة بــالبحث عن‬
‫الحمار مستحق الوسامـ ‪ ،‬اهتدت بعد طول تقص إلى شيخ مسن أفاد بــأن الحمــار المقصــودـ قــد‬
‫استشهدـ بالقرب من مدينة صنعاء ‪ ،‬وهنا سأل أحد أفراد اللجنة وقد عظم الحمار في نظرها بعد‬
‫ما سمعته عنه من بطوالت ‪ ،‬إذا ما كان يعلم للحمار الشهيد أقارب يمكنهم تسلم الوســام عنــه ‪،‬‬
‫أفاد الشيخ قائالَ ‪ " :‬نعم أعرف أن للحمــار أخـا ً من الرضــاعة ‪ ،‬وهــو يعمــل اآلن في التهــريب‬
‫على الحدود لحساب إحدى القبائل " ‪ ،‬وهنــا انتقلت اللجنــة إلى مكــان إقامتــه وتم تقليــده " ذلــك‬
‫الوســام الرفيــع في حفــل مهيب حضــره عــدد كبــير من الحمــير والبغــال وحشــدـ من القبائــل‬
‫‪1‬‬
‫والمهربين وقطاع الطرق "‬
‫‪ )4‬إنــه زمن قمــع الحريــات ومطــاردة أصــحاب األفكــارـ والــرؤى المخالفــة ‪ ،‬حيث قضــت سياســية‬
‫النظامين في الشمال والجنوبـ بحظر العمل الحزبي ‪ ،‬وهو العمل الذي كــانت ممارســته تتم في‬
‫الشمال بشكل سريـ ‪ ،‬ففي رواية ( وسام الشرف ) نقرأ عن نادي التقدم الذي كان لــه أعضــاؤه‬
‫الذين يؤمونه " من القدماء والجدد الذين التحقوا به من مختلف األهواء واألفكــار والمشــارب ‪،‬‬
‫ومن غير السياسيين والمنتمين لألحزاب المعروفة للسلطة وللمنظماتـ الناشئة التي تعمل تحت‬
‫‪2‬‬
‫األرض "‬
‫ونقــرأ عن عيــون تبثهــا الســلطة لتمنــع المنتمين السياســيين من ممارســة لعبتهم الفكريــة‬
‫واإليديولوجيــة ‪ ،‬ومــع ذلــك نلتقي ( علــوان ) و ( كــردة) " لم يقلعــا عن عادتهمــا في اصــطياد‬
‫بعض العمال وبعض الطلبة والشباب ممن يظفرون بهم إلى اقتيادهمـ فرادى بعد ساعة الغروب‬
‫‪ ،‬وأحيانا ً في الليل إلى قهوة التيسير "‪ 3‬و ( علوان ) نفسه يقول ( لنور) " بأن ثمة اآلن منظمــة‬
‫للشباب ال يعرف الجني األزرق عنها شيئا َ منظمة تعمل تحت األرض في غاية الدقــة والســرية‬
‫‪4‬‬
‫"‬
‫أما في الجنوب ‪ ،‬فقد حالت القبضة األمنية القوية وشدة التعامل وصرامته ‪ ،‬التي كان يتمتع بها‬
‫الحزب دون ممارسة العمل الحزبي المعارض ‪.‬‬
‫وبلغ األمر أبعد من ذلك حين أصبح المناضلون الحقيقيون الــذين خــاطروا بــأرواحهمـ ‪ ،‬وبــذلوا‬
‫كل نفيس في سبيل إنجاح الثورة هدفا ألجهزة القمع ‪،‬تتعقبهم وتنكــل بهم وتطــاردهم لــتزج بهم‬
‫في غياهيب السجون متذرعــة بتهم كثــيرة ‪ ،‬منهــا النشــاط السياسـيـ غـير المشــروع واالنتمــاءـ‬
‫الحزبي غير المباح مطوقة محيط حياتهم بالعيون والمخبرين ‪ ،‬وهذا (نور) أحد أبطال السبعين‬
‫‪ ،‬يفاجأ بتفتيش منزله في غيابه ‪ ،‬فحينما عاد وجد غرفته قــد انقلب نظامهــا " اللوحــات مكدســة‬
‫على ظهورهاـ في أماكن متفرقة من الغرفة ‪ ،‬والكتب منزوعة من على األرفف ‪.‬‬
‫ومكومــة على ظهورهـاـ وجنوبهـاـ وعلى الحصــائرـ ‪ ،‬وبعض صــفحاتها منتوشــة ‪ ،‬الفرشــاة‬
‫واألصباغـ والحصائرـ مندوشة كأنما آالف الفئران قد غزت الغرفة ‪ ،‬وحين توجس السرقة ‪،‬‬
‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( سفينة نوح ) مرجع سابق (ص‪) 51 -49‬‬
‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 66‬‬
‫‪3‬المرجع السابق (ص‪) 66‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه (ص‪) 66‬‬
‫فلم يجد أنه قد حدث شيء من ذلك "‪ "........‬لقد كــانوا يريــدون أن يقولــوا فقــط على ســبيل‬
‫‪1‬‬
‫إيصال رسالة ما إليه في مهمة محدودة ‪ ...‬فقط للتأكد إن كان ال يتدخل فيما ال يعنيه "‬
‫كما يقبض عليه ويزج به في السجن مرتين رغم تأكيده لهم على إقالعه عن ممارسة العمل‬
‫الحربي ‪ ،‬ففجأة وجد نفسه في الغرفة التي بسعة مترين طول ومتر وخمسة وعشرين سنت‬
‫عرض كما قدر ‪ ،‬ولئن كان قد قال في حضرة الخمسة كما يتذكر ‪ .......‬بأنــه ألي األســباب‬
‫يقتادونه ‪ ،‬وأنه لم يفكر في يوم من أيامــه حــتى عنــدما غدرتــه هــذه األيــام فأرســلت لرأســه‬
‫‪2‬‬
‫الشيب المبكر ‪ ،‬لم يفكر مع ذلك باالنتماء الحزبي وال في السياسة "‬
‫وهــذا العم صــخر في قصــة ( الكرنفــال ) وهــو المناضــل القــديم ‪ ،‬يفضــي إلينــا بأمنيتــه‬
‫البسيطة وحلمه بحياة هادئة بعيـداَ عن قلـق االعتقـال ‪ ،‬في ليلـة كـان الجميـع يحتفلـون بعيـد‬
‫الثورة التي أفني أيامه في الدفاع عنها ‪ ،‬بينما كان هو يصارع في زنزانته ليلته األخيرة ‪" :‬‬
‫ليست مطالبنا كبيرة ‪ ،‬فقط لو يترك لنا الخيار في أن نحيا كما نريد وأن نحدد معالم الطريقـ‬
‫إلى المستقبل ‪ ،‬أن نجلس في بيوتنا في اطمئنان ونشربـ القهوة في هدوء ‪ ،‬فقط لو تعطى لنا‬
‫‪3‬‬
‫الحرية في أن نحب وطنناـ وأن نعبر عن هذا الحب "‬
‫‪4‬‬
‫ومن هؤالء المناضلين من اختفى ولم يعرف أحد مكانه كعلوان وكردة ‪.‬‬
‫ومنهمـ من يفقــد عقلــه نتيجــة لتزايــد الضــغوطـ وتكاثفهــا ‪ ،‬وكــثرة الــتردد على المعتقالت‬
‫‪5‬‬
‫ووحشية عذاباتها مثل الدباسيـ والسريحيـ ‪.‬‬
‫وهذا نور يعود من سجنه األول " محطما َ بشكل لم يسبق له نظيرـ كأول تجربة جادة وقاسية لــه‬
‫بعدها لن يسمح اإلنسان لنفسه أن يمارس السياسية ‪ ،‬وال يجب حــتى الحــديث عنهــا فض ـالَ عن‬
‫‪6‬‬
‫الخوض فيها "‬
‫وهكذا تنتهي أعمال هذه الفترة من معالجاتهاـ الــتي شــكل الواقــع فيهــا المرجعيــة األســاس الــتي‬
‫سلطت الضوء خاللها على الممارسات الفاسدة من قبل األنظمــة الــتي تــدعي ثوريتهـاـ ‪ ،‬والــتي‬
‫أدت إلى تفاقم المعاناة وتعقد المشكالت ‪ ،‬لتبلغ من هذه المعالجات غايتها التي تهدف إلى إثــارة‬
‫الوعي بانحراف مسار الثورة وتبدد أهدافها ‪.‬‬

‫‪1‬نفسه (ص‪) 74‬‬


‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪) 224‬‬
‫‪ 3‬سعيد عولقي ( الهجرة مرتين ) وزارة الثقافة والسياحة ‪ /‬عدن ‪ ،‬ط‪( 2‬ص‪) 55‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق (ص‪)195‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق (ص‪)164‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه (ص‪)191‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الشخصيات وعالقتها بمكانها السياسي واالجتماعي‬

‫في االعمال التي وضعت قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬ ‫‪)1‬‬

‫صورة المكان السياسي واالجتماعي‬ ‫‪‬‬

‫عالقة الشخصيات بالمكان السياسي واالجتماعي ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫في االعمال التي وضعت بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬ ‫‪)2‬‬

‫أ) في االعمال التي اهتمت بالمكان السياسي واالجتماعي مثل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬

‫‪ -‬صورة المكان السياسي واالجتماعي ‪.‬‬

‫‪ -‬عالقة الشخصيات بالمكان السياسي واالجتماعي‬

‫ب) في االعمال التي اهتمت بالمكان السياسي واالجتماعي بعــد ثــورة الشــمال واســتقالل‬

‫الجنوب ‪.‬‬

‫* صورة المكان السياسي واالجتماعي‬


‫* عالقة الشخصيات بالمكان السياسي واالجتماعي‬

‫أوالً ‪ :‬في األعمال التي وضعت قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪:‬‬
‫‪ -‬صورة المكان السياسي واالجتماعي ‪:‬‬
‫نعتمد الدراسة في تغطية مبحثيها لهذا الفصل على روايتي ( سعيد ) لمحمد علي لقمان و ( مأساة واق الواق ) لمحمد‬
‫محمود الزبيريـ ‪ ،‬كــون الروايــة األولى تركــز على المكــان من زاويتــه االجتماعيــة وتركـزـ الثانيــة عليــه من زاويتــه‬
‫السياسية ‪ ،‬هذا باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية المنتمية إلى مجموعات وضعت في المرحلة التاريخية الــتي‬
‫تحدد حركة الدراسة في هذا الفصل ‪ .‬وبداية برواية ( سعيد ) باعتبارهـاـ الروايــة األســبق من الناحيــة الزمنيــة ‪ ،‬فــإن‬
‫المكان الذي تتحركـ عليه وقائع الحـدث الـروائيـ هـو مسـتعمرة ( عـدن ) الـتي يـرد ذكرهـا صـراحة في الروايـة ‪ ،‬فـ‬
‫(سلمان ) والد ( سعيد ) بطل الرواية كان قد انخراط في الحــرب اإليطاليــة الحبشــية في إرتيريــا " وبعــد أن وضــعت‬
‫الحرب أوزارهاـ عاد إلى عدن واشترى بيوتا ً كثيرة وأسس تجارة واسعة النطـاق ‪ ،‬وعمـر داراً كبـيرة سـكن فيهــا مـع‬
‫أفراد عائلته" ‪ ، 1‬وزهراء خطيبة سعيد هي " أجمل بنات عدن قاطبة " ‪. 2‬‬
‫والسيد األعجم " ظهرت بركته وانتشرت أخباره في عدن " ‪ 3‬والناس في عدن يتحــدثون عن " قــرب زيــارة‬
‫الملك جورج الخامس إلى عدن "‪ ، 4‬كما يرد ذكر ( عدن ) صراحة في سياق ذكر أسماء بعض الشخصــيات‬
‫التي كانت تترأس بعض الــدوائر الرســمية فيهــا "‪ ، 5‬وفي عــدن أقيم " مهرجــان عظيم ســنة ‪1911‬م احتفــاالً‬
‫بتتويج جالله جورج الخامس ملك إنجلترا وإمبراطورـ الهند ‪ ،‬وقد أقلته الباخرة ( مدينة ) إلى عدن " ‪ ، 6‬كمــا‬
‫يرد ذكـر بعض أحيائهــا وحواريهــا ‪ ،‬كحـارة القطيــع أقـدم حــواري عـدن "‪ 7‬وجبــل شمسـان الـذي بـنيت دار‬
‫( سلمان ) من أحجاره السوداء‪ ، 8‬وواجهة دار سلمان تطل على طريق العيدروسـ ‪ ، 9‬ومدينــة التــواهي الــتي‬
‫تقاطر عليها أغنياء عدن وسادتهاـ ورجال المحميات المشهورين للحظوة بمقابلة جاللة الملك جورج الخــامس‬
‫‪ 10‬وقبر هابيل على سلسلة جبال المنصوري المعروفة بجبل حديــد الــذي ذهب الملــك جــورج لزيارتــه ورأى‬
‫النفق ومر بالعقبة إلى المعلى ‪ ، 11‬وحارة حسين التي تسكنها عائلة عبدهللا الجمال ‪ ،12‬وحينما شد سعيد رحال‬
‫السفر مر بطريق النفقين وبستان جبل حديد ‪ ،‬وذهب لرؤية الخنــدق الــذي يحيــط بعــدن من بحــر صــيرة إلى‬
‫بحر المعلى والذي أنشأته حكومة بريطانياـ في مكـان درب الحريـبيـ ‪ ،‬ثم مـر بطريـقـ بـاب السـلب بــالمجراد‬
‫الذي كان مقفراً إالّ من بضع عمارات ومقهى وإصطبلـ يبدل سواقوـ العربات فيــه خيلهم الــتي تجــر العربــات‬
‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪8‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ص‪9‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪9‬‬
‫‪ 5‬نفسه ص‪11‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪17‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ ،9‬نفسه ص‪6‬‬
‫‪ 10‬نفسه ‪ ،‬ص‪17‬‬
‫‪ 11‬نفسه ‪ ،‬ص‪18،19‬‬
‫‪ 12‬نفسه‪ ،‬ص ‪19‬‬
‫إلى قرية الشيخ عثمان ‪ ،1‬ثم زار بستان حسن وقبرـ الولي هاشم بحر ثم استأجر هجينا ً ركب عليــه إلى لحج ‪،‬‬
‫ومنها توجه إلى تعز التي لم يرد ذكرها إالّ في موضعين هذا ثانيهماـ ‪ ،‬أمــا األول فجــاء في معــرض الحــديث‬
‫عن مجلس سلمان الذي يستقبل فيه عمالءه وزبائنه كمصدر للقات المجلوب إلى عدن ‪ ، 2‬ثم إلى الحديدة التي‬
‫أقام فيها متجراً عظيما ً بمساعدة التجار الذين كانوا يعرفون والده ‪.3‬‬
‫‪ ‬أما عن صورة ( عدن ) السياسية واالجتماعية ‪ ،‬فمن الواضح أنه وحتى تلك الفترة كــان المكــان ال يــزال مســتقراً‬
‫تحت أقدام المحتل اإلنجلــيزي ‪ ،‬ولم تكن بعــد قــد نشــأت في ( عــدن ) حركــات تمــرد تعلن عن نفســها بوضــوح ‪،‬‬
‫فالملك جورج الخامس يأتي إلى عــدن ويزورهـاـ كمحميــة تابعــة ألمالك دولتــه ‪ ،‬والنــاس تســتجيب باالحتشــاد لــه‬
‫واالحتفــال بقدومــه ‪ ،‬حيث نقــرأ ‪ ":‬أقيم في عــدن مهرجــان عظيم ســنة ‪1911‬م ‪ ،‬احتفــاالً بتتــويج جاللــة الملــك‬
‫الخامس ملك إنجلترا وإمبراطور الهند ‪ ،‬وقدـ أقلته الباخرة ( مدينة ) إلى عدن ورافقت الرحلة الملكية عدة بــوارج‬
‫حربية ‪ ،‬وذهب من عدن إلى التواهي للحظوة بمقابلته أغنياء عدن وسادتهاـ ومناصــبهاـ ‪ ،‬وحض ـرـ هــذا االجتمــاع‬
‫رجال المحميات المشهورين في ذلك الزمان كالسلطان السر أحمد فضل محســن العبــدلي ســلطان لحج ‪ ،‬واألمــيرـ‬
‫شايف أمير الضالع ‪ ،‬والشــيخ علي مــانع أمــير الحواشــب ‪ ،‬والشــيخ علي محســن عســكر نقيب يــافع ‪ ،‬وآل فضــل‬
‫والعقارب "‪ ".........‬وقد رفعت األعالم وصدحتـ الموسيقا بالسالم ‪ ،‬واصطفت الجنــود وانفجــرت أفــواه المــدافع‬
‫بالتحية وتوافدت الوفــودـ من كــل فج ومكــان ‪ ،‬وقــد قــام النــاس على األقــدامـ وخطب الــوالي (جميس بــل ) مرحبـا ً‬
‫بالضيفين العظيمين تحت تمثال الملكة فيكتورياـ الذي أقيم في تلك السنة بمناسبة زيارة حفيدها لعدن ‪ ،‬وألن عــدن‬
‫أول مستعمرة ملكت في حكم الملكة المشار إليها ‪ ،‬ثم قام الملك ووعد أهالي عدن خـيراً ‪ ،‬ومن جملـة مـا قالـه أنـه‬
‫سيرفع مستوىـ المعارف في عدن وسوف يحتفظ بساحات التواهي المقابلة للهالل األحمر للرياضة ‪ ،‬وهناك اليوم‬
‫ثالثة بساتين للتنزه "‪ ".......‬تفرقت الجموع ‪ ،‬وركب الناس إلى عــدن مــرافقين الملــك لزيــارة الخزانــات األثريــة‬
‫"‪ ".....‬ثم عاد الملك إلى التواهي بطريقـ كنيسة الكاثوليكـ التي ســاعد على عمارتهــا ( اللــورد بالمرســتون ) ســنة‬
‫‪1840‬م أي في السنة الثانية بعد االحتالل ‪ ،‬وكانت عدن قد لبست في يوم زيارة الملك حلة قشيبة وتزينت ورفعت‬
‫األعالم وأقواس النصرـ في أكبر الطرقات "‪ ، " .......‬وتفرقـ الناس وال حديث لهم إالَّ مــا وعــدهم بــه جاللتــه من‬
‫‪4‬‬
‫رفع مستوى التعليم في عدن وإسعادـ العدنيين "‬
‫ومع بروزـ بعض المظاهر التي أخذت تنذر بسعي األجــانب الحــثيث إلى احتالل مكــانتهمـ من الســوق ومزاحمــة أبنــاء‬
‫الوطن األصليين في تجارتهم ووظائفهم ‪ ،‬نقرأ في الرواية ‪ " :‬كـانت عـدن في يســر في أوائـل هـذا القــرن ‪ ،‬فقــد كــان‬
‫أهلها العرب قابضين على زمام التجارة ‪ ،‬يملكون عشرات اآللــف من حيوانــات النقــل واألبقــار والمــاعز والضــان ‪،‬‬
‫يصرفون ما يكسبونه على راحتهم ورفاهيتهم ويدخرون أمواالً طائلة ألبنـائهم ‪ ،‬أمـا اليـوم فقـد تبـدلت الحـال وأصـبح‬
‫الناس في عدن في حالة أقرب إلى الفقر منهــا إلى الغـنى "‪ ، 5‬ويفنـد الكــاتب أســباب هــذا التبـدل في كـثرة مــا تســتنفذه‬
‫الكماليات من أموال ‪ ،‬وعدم توفيرـ حكومة المستعمرـ وسائل الكسب لسكان عــدن من المســلمين ‪ " ،‬فكــانت النتيجــة أن‬
‫المســلمين من ســكان عــدن أصــبحوا غالب ـا ً يتضــورون جوع ـا ً واســتثمر خــيرات البالد الرأســماليون من األجــانب ‪،‬‬
‫واألسباب الجوهرية للفقر الحاصل بين المسلمين هو نظام الحكم من جهة ‪ ،‬والجهل المنتشر وتفــرق الكلمــة ‪ ،‬فقــد آن‬
‫لعدن أن يكون لها مجلس تشريعي ومدرسـة عاليـة وبنـك قـومي وشـركاتـ تجاريـة وطنيـة تنهض بـالبالد من كبوتهـا‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪26‬‬
‫‪ 2‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪19،18،17‬‬
‫‪ 5‬نفسه ص‪3‬‬
‫وتنــافس الــدخالء الــذين أرهقــوا البالد وابتلعــوا مصــالحهاـ ويتحتم على من بقي من ذوي اليســار أن يفيقــوا من غفلتهم‬
‫ويقوموا بتشجيع شركات تجارية وقومية ‪ ،‬ويكفي هنا أن نشير إلى ما خسرته البالد إلضاعتها العمل الذي اســتحوذت‬
‫‪1‬‬
‫عليه شركة ( ديوجي دارس وولده ) ولو تضامن المقنطرون الوطنيون لما أضاعوا هذه الصفقة الرابحة "‬
‫إالَّ أن الوعي بخطر هذه المظاهر لم يظهرـ حتى تلك الفترة ما يثير قلق هؤالء األجانب من تحركات أبناء عــدن الــذين‬
‫انصرف اهتمامهم بشكل رئيس إلى محاولة الحفاظ على مكـانتهم التجاريـة وتثـبيت أقـدامهم فيهـا مـدفوعين بقلقهم من‬
‫فقدان مراكزهم ‪ ،‬وأن يسحب البساط من تحت أقدامهم ‪ ،‬وهو ما عبر عنه ســلمان في رده على السمســار الــذي بــادره‬
‫يقـول ‪ -":‬إن هـذا المشـتريـ هـو الخواجـة كاراكــا كانـدة ‪ ،‬وهــو عميلكم الــدائم يـا شــيخ سـلمان ‪ ،‬وهــو فـوقـ ذلـك من‬
‫المخلصين لكم ‪ ،‬فأجابه سلمان بصوت هادئ له نبرات حادة بقوله ‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نعرفه ونعرفـ أن هؤالء التجار األوربيين ال بد أن يستغنوا عنــا يومـا ً من األيــام بعــد أن تتوطــد‬
‫أقدامهم في هذه البالد وتنكشف لهم أسرار التجارة ‪ ،‬فصداقتهم لنا مؤقتة ‪ ،‬وسوفـ يذكر كالمي هــذا‬
‫من طالت أيام حياته ‪.‬‬
‫‪ -‬فقال السمسار‪ :‬وأني لهم ذلك ومثلكمـ لهم بالمرصاد ‪.‬‬
‫فابتسم سلمان ابتسامه صفراء واجابه ‪:‬‬
‫‪ -‬بل إن مثلي لن يعيش اال أمداً قصيراً ‪ ،‬فإنما أرى لهؤالء الخواجات وسائل هدامــة عديــدة تضــمن‬
‫‪2‬‬
‫فوزهمـ وتقهقرنا إذا لم تنتبه ‪.‬‬
‫وقد نجد في الرواية من يتجاوز مستوىـ هــذا الــوعي إلى مســتوى أعلى يــدعو إلى التســلح بالوســائلـ‬
‫التي تضمن التفوق ألبناء الوطن األصليين كالتســلح بــالعلم ونبــذ الخرافــات والتمسـكـ بالفضــائل ‪ ،‬بــل‬
‫وتكــوين موقــف سياســي من المســتعمر يقــوم على رفض دعــاوي االســتكانة والخضــوعـ والتــذرعـ‬
‫بالقدرية ‪ ،‬والدعوة إلى وحدة األمة اإلسالمية التي أخذ منها التمزق مأخذه حتى كــاد أعــداؤها يفتكــون‬
‫بها ‪ ،‬كسعيد الذي يظهر متميز بوعي أكثر نباهة ونضجا ً ‪ ،‬غير أن هذا الوعي يبدو – حتى تلك الفترة‬
‫– ال يــزال يبث أنــواره على مســاحات محــدودة من المكــان السياســي في عــدن ‪ ،‬حيث تظهــر معظم‬
‫شخصيات الرواية ضعف استجاباتها له ‪ ،‬كسلمان وزوجته نــور وابنهمـاـ حسـن ‪ ،‬والمجتمـع المحتشــد‬
‫لالحتفال باألجنبي ‪ ،‬والناس الذين اعتادواـ اللقاء ببعضهمـ في مجلس سلمان ‪ ،‬بينما يظهر القليلون فقــط‬
‫استجابة إيجابية إزاءه ‪ ،‬منهم عثمان وعائشة وزهراء ‪.‬‬
‫أما عن صورة عدن في تشكيلتهاـ االجتماعية الفريدة حينها ‪ ،‬فمن الواضح أنهــا تظهــر مدينــة ال تــزال‬
‫تحــوي بقيــة من تــرف ‪ ،‬فــدار ســلمان كــانت " قصــراـ مبني ـا ً من الحجــر األســود المجلــوب من جبــل‬
‫شمسان ‪ ،‬مؤلفا ً من طابقين ‪ ،‬ممتداً من أول الزقاقـ إلى آخره ‪ ،‬متركزاً بقعــة مســتطيلة الشــكل تكتنفهــا‬
‫من جوانبهــا األربعــة ‪ ،‬فلم تــترك لغــيره أرضـا ً يعمرهــا بقــرب داره ‪ ،‬تشــرف واجهتهـاـ على طريــق‬
‫العيــدروس ‪ ،‬وفي مقــدم هــذه الــدار رواقـ طويــل مفتــوح تهب عليــه الريــاح ‪ ،‬ويلعب النســيم بســتائره‬
‫المدالة وعلى نوافـذـ الغـرف الـتي وراءه وقـدـ بـدت مظـاهر الـترف على سـاكني هـذا القصـر ‪ ،‬ودلت‬
‫‪3‬‬
‫الحركة بين جوانبه ليالً ونهاراً على العمل والنشاطـ "‬

‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص‪3‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪6‬‬
‫أمـا مقعـده في بيتـه فهــو طويـل امتــدت على جوانبــه األرائــك الحريريـة وفي غرفــة فرشـت بالســجاد‬
‫الرومي الثمين وأثثت بالدواليبـ األبنوسية والمقاعد المصنوعة من خشب الساج ‪ ،‬وقدـ زنيت الجدران‬
‫بالرسومـ القديمة واألواني الصينية ‪ ،‬ووضعت على بعض الموائد أوان أثريــة من الصــفر والنحــاس ‪،‬‬
‫وقد هب النسيم بارداً يلطف من حرارة الصيف "‪ ، 1‬وهكذا هو مبرز القات الخاص به ‪ ،‬فــراش وثــير‬
‫وصندوق من األبنوس األسود من صنع ( منيبار ) في الهند ‪ ،‬ومداعة ثمينة وكوزـ ماء معطر وشــيء‬
‫من الثلج ‪ ،‬وكراس صفت ليجلس عليهــا األصــدقاء وعبـير عــود وعنــبر وعطــر تفـوح من جوانبــه ‪،‬‬
‫ومالبس عائشة اإلفرنجية الحديثة ‪ ،‬وحليهــا الذهبيــة الوهاجــة ‪ ،‬وســوارهاـ المرصــع بــالجوهر النفيس‬
‫والقرطان الثمينان على أذنيها ‪ ،‬وعقدها اللؤلؤ الذي اشتراه والدها من الهند بعشرة آالف روبية ‪ ،‬كــل‬
‫ذلك لم يحل دون شعورهاـ بتواضع لباسها أمام األخريــات ‪ ،‬تقــول ‪ ":‬كيــف الأحــزن وقــد رأيت بنــات‬
‫الناس يلبسن أفخر من لباسي " ‪، 2‬واألعراس وما تكشف عنه مظاهر الترف ‪ ،‬حيث نقرأ ‪ ":‬كان يوم‬
‫األحد يوما ً مشهوداًـ ‪ ،‬اجتمع فيه مئات الرجال في فسطاطـ من األخشاب والحصرـ ‪ ،‬وقدـ تــدلت األعالم‬
‫على جوانب السرادقـ المتسع ‪ ،‬وصفت الصناديق الخشبية ووضعت عليه األلواح ثم فرشتـ بالطنافس‬
‫والسجاد ‪ ،‬وجيء بالوسائد ثالثـا ً لالتكــاء عليهــا عنــد مضــغ القــات ‪ ،‬ومــدت الموائــد ووضــعتـ عليهــا‬
‫النارجيالت وكيزان المــاء وأوانيـ الثلج والزهــر ومجــامر العــود والعنــبرـ وأقبــل المــدعوون زرافــات‬
‫ووحداناـ إجابة لدعوة ( محسن الدالل ) إلى وليمة العرس التي أقامها لولده في ذلــك اليــوم ‪ ،‬وكــان قــد‬
‫خــرج أهــل العــريس من بيتهم بجــوار الشــيخ ســلمان ‪ ،‬وبمعيتهمـ بعــير يحمــل القــات مغطى بــاألثواب‬
‫المقصبة المعروفة بالطاس ‪ ،‬وقــد ألبس البعــير حزامـا ً من فضــة حــول عنقــه ‪ ،‬وخالخــل فضــية على‬
‫قدميه ومشىـ أمامه ( األخـدام ) الغجـر يضـربون بـالطبول ‪ ،‬والخيـل تلعب حولـه والجمـال تحـف بـه‬
‫والنساء يزغردن ‪ ،‬وحمل الحجام مجمرة يعبق منها عبير العود النقي وبيــده األخــرىـ مــاء ورد وآنيــة‬
‫تحتوي عدداً من البيض ‪ ،‬تكسر واحدة منها في كل منعطف يمر الموكب منــه ‪ ،‬وكــان الســرور باديـا ً‬
‫على وجوه القوم ‪ ،‬ووضع والد العريس تحت عمائم المطبلين قطع ـا ً من القصــب الجــاف في أطرافهــا‬
‫نقود من الفضة ‪ ،‬حتى وصــل المــوكب إلى الميــدان فتســابق الفرســان ولعبت الخيــل ثم تلتهــا الهجن ‪،‬‬
‫وتبارىـ الفرسان بفروسيتهمـ ‪ ،‬ولما انتهت هذه األلعاب يمم الركب المخدرة ‪ ،‬حيث لعب أهل العــريس‬
‫بالسيوفـ ‪ ،‬ونثرت النقود على رؤوسهم ‪ ،‬ثم قامواـ إلى مائدة هشامية فأكلوا ما لذ وطاب ‪ ،‬ولما شــبعوا‬
‫جلس العريس تحت ظل السيوفـ ‪ ،‬وأخذ األهل والمدعوون ينــثرون الــذهب والفضــة بســخاء وكــرمـ ‪،‬‬
‫هدية للعريس في إناء أعد لذلك الغرض ‪ ،‬فلم تكن تسمع إال أصوات الطبول وزغاري ـدـ النســاء ورنين‬
‫الدراهم ‪ ،‬وعاد المدعوون بعد الظهر للمقيل ‪ ،‬وأخذوا في مضغ القات وقدـ كاد السرادقـ يضيق بهم "‬
‫‪3‬‬

‫والناس في عدن يتنقلـون بالعربـات الـتي تجرهـا الجيـاد ‪ ،‬فعلى بـاب دار سـلمان الفخمـة وقفت بعض‬
‫العربات التي تجرها الجياد "‪ ، 4‬وعائشة تستقلها في زيارتها لزهراء ‪ ،5‬وسـعيدـ يبـدأ رحلتـه من عـدن‬

‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪6‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪7‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 5‬نفسه‪،‬ص‪15‬‬
‫على عربة يجرها حصان ‪ ،.‬ويبدوـ األمر على غير ذلك في المناطق القريبة من عدن ‪ ،‬كقريــة الشــيخ‬
‫عثمان الذي استأجر ( سعيد ) هجينا ً منها ركب عليه في رحلته إلى لحج ‪. 1‬‬
‫وأما لحج فيبدوـ أن جانبا ً من هذا الترف قد نالها أيضا ً ‪ ،‬فقد كانت " في نعمة والمياه دافقة واألراضــي‬
‫زراعة واألثمار يانعة والترفـ قد بلغ أقصاه وقد فرشت مبارز القات بالسجاد الروميـ الثمين وانبعثت‬
‫أزكى الــروائح من جوانبهــا ولبس األمــراء األقمشــة الثمينــة والحلي األلماســية والزمرديــة واألســلحة‬
‫‪2‬‬
‫المرصعة بغالي الجوهر ‪ ،‬وتفاخرواـ بالخيل المسومة والقصورـ العالية ‪" ،‬‬
‫وتظهر على ( عدن ) كمدينـة آهلـة بالسـكان عـدد من مظــاهر المدنيـة الحديثـة ‪ ،‬فقــد " تقــدمت تقـدما ً‬
‫محسوسا ً من حيث العمــران ‪ ،‬فطرقاتهـاـ مرصــوفة باإلســفلت ‪ ،‬وماؤهــا يجلب إلى الــدور باألنــابيب ‪،‬‬
‫والكهرباء تنير البالد ‪ ،‬وقد تحسنت قواعد التعليم ‪ ،‬ونظمتـ إدارة المعــارف ‪ ،‬وأصــلح المينــاء ‪ ،‬وزادـ‬
‫عدد البواخر الواصلة إلى عدن ‪ ،‬وتضاعف عدد السكان ‪ ،‬وقضـيـ على كثــير من األمــراض المعديــة‬
‫‪3‬‬
‫وعلى المالريا لما تقوم به الدوائر الصحية من وسائل الوقاية والمناعة "‬
‫غير أن هـذا التزايــد السـكاني الــذي يحكي عنـه المؤلــف لم يكن ليمتـد إلى خـارج عـدن من المنــاطق‬
‫القريبة ‪ ،‬فقد مرت العربة بسعيد " عن طريق باب السلب بالمجرادـ الذي كان مقفراً اللهم إالَّ من بضع‬
‫عمــارات لســكني الخيالــة من الجيش الهنــدي ومقهى على قارعــة الطريــق ‪ ،‬واصــطبلـ يبــدل ســواقوـ‬
‫العربات فيه خيلهم التي تجر العربات إلى الشيخ عثمان ‪ ،‬وقدـ بقيت الشــيخ عثمـان قريــة ال أهميــة لهـا‬
‫طوال هذه السنين يعتمد سكانها في معيشتهم على شركة الملح "‪. 4‬‬
‫و نساؤهاـ الالئي ال زلن يلتزمن الحجاب ‪ -‬حيث تصرح ( نــورـ ) بــأن زهــراء قــد فتنت ســعيدا وأخــاه‬
‫‪6‬‬
‫ألنها سافرة ومتبرجة وال تلتزم الحجاب ‪ - 5‬يسمح لهن بحضورـ حفل استقبال الملك جورج الخــامس‬
‫‪ ،‬وأهلها مهتمون بمبارزـ القات الذي يبدو أنه كان منتشراً بين مترفيها ‪ ،‬وهم عادة مــا يتــابعون كم من‬
‫الكميات ترد فيه كل يوم إلى عدن ‪.7‬‬
‫ويشيع في مجتمع هذا المكان االعتقاد بالخرافات واعتبارها جزءاً من العقيدة ( فنـور ) تعتقـد بـأن ســعيداً قــد‬
‫أفسد عقيدة ابنتها عائشة التي تصرح بعدم إيمانها بالدجالين ‪ ،‬فتصرخـ في وجههـا ‪ -":‬هـل أصـبحت تكفـرين‬
‫بأسماء هللا "‪ ،8‬والدجال الذي يقدم إلى مبرز القات يوزع بركاته على الحاضرين ‪ ،‬ويرفعـ يديه بالدعاء لهم ‪،‬‬
‫فيرفع معه الجميع أيديهم بابتهال وتضرع حتى صفق بيديه كداللــة على االنتهــاء وعلى الشــروع في قــراءة‬
‫الفاتحة ‪ ،‬ولم يغادر إالَّ وقدـ نفحة ( سلمان ) بهديــة ســنية ‪ ، 9‬وزوار األوليــاء الــذين يعفــرون جبــاههم بــتراب‬
‫القبور معتقدين أنهم بذلك يخففون من ذنوبهم ويحظون بالغفران ‪.10‬‬
‫كما يظهر هذا المكان محفوفا ً بجنسيات كثيرة ومختلفة ما بين عرب وهنود وبهرة وصومالـ وبينيان ويهود ‪،‬‬
‫ومن الواضح أن تمييزاً حاسما ً أخذ ينشأ بينها حتى أن تعبيرات مثل عربي من عــدن ‪،‬وعــربي من المخــاء ‪،‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪،‬ص‪26‬‬
‫‪ 2‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد) ‪،‬ص‪27‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪3‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪26‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪،‬ص‪10‬‬
‫‪ 6‬نفسه‪،‬ص‪18‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪،‬ص‪8‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪،‬ص‪10‬‬
‫‪ 9‬نفسه ‪،‬ص‪9‬‬
‫‪ 10‬نفسه ‪،‬ص‪26‬‬
‫والمسلمين من سكان عدن ‪ ،‬نجدها مبثوثة في سياق الرواية وهي تشــير ‪ -‬بال شــك ‪ -‬إلى التعبــيرات المقابلــة‬
‫من أجانب ويهود ونصارى ‪ ،‬وإن كانت هذه الجنسيات ‪ -‬قبل هذا التاريخ ‪ -‬أكثرقدرة على التعايش فيما بينها‬
‫‪ ،‬حيث نقرأ ‪ " :‬فقد كانت عدن في أول هذا القــرن غنيــة بأهلهــا وكــانت أكــثر العــائالت من العــرب والهنــود‬
‫والبهرة والصومال في نعيم وغنى ‪ ،‬وقــد اشــتهرـ العــدنيون بــالكرمـ والضــيافة واللطــف والنجــدة ‪ ،‬ولكن تلــك‬
‫العائالت التي تألقت نجومها في السنوات الماضية أصبح أبناؤهاـ اليوم في حالــة يــرثى لهــا من الفقــر والفاقــة‬
‫وقد انقرض أفرادها في أمد قصير "‪. 1‬‬
‫وتشكل اليمن بامتدادها واتساعها المكان االجتماعي والسياسيـ الذي جرت عليه األحداث المدونــة في روايــة‬
‫( مأساة واق الواق ) غير أن الجزء الشمالي منها يمثل المحتوىـ األهم فما تسترجعه شخصــيات الروايــة من‬
‫أحــداث هي أحــداث وقعت في الجــزء الــذي كــان واقعـاًـ تحت ظلمــة الحكم الكهنــوتي اإلمــامي ‪ ،‬أمــا الجــزء‬
‫الجنوبي فال يرد ذكره إالَّ في آخر الرواية ‪ ،‬حين يطل علينا بطــل من الجنــوب هــو ( الشــيخ عــواس ) الــذي‬
‫يعترض في حديثة على إخمال ذكره بين الناس ‪ ،‬وعدم إنصــافه في بطولتــه الــتي لم يجــد في بــني وطنــه من‬
‫يتحدث عنها ‪ ،‬حيث يقـول ‪ ":‬إن الحـاكم المسـتعمرـ تحـدى كرامـتيـ ذات يـوم ‪ ،‬وجـاء مـدالً بقوتـه وغـروره‬
‫وعساكره ‪ ،‬وفي يده حبل يهددني بأنه سيربطنيـ به ‪ ،‬وفيـ يده األخرى بندقيته ومن حوله جنــوده ومــا كــدت‬
‫‪2‬‬
‫أسمع تهديده حتى أطلقت عليه الرصاص وقتلته ‪ ،‬وانتقم الجنود حاالً وقتلونيـ ومنحونيـ شرف الشهادة "‬
‫أما عن صورة هذا المكان السياسي واالجتماعي ‪:‬‬
‫إنه مكان أشبه بمعبد في مذبح أسطوري ‪ ،‬الحاكم فيه إله ‪ ،‬والشعب كله قرب!!ان ي!!ذبح يومي!ا ً بال رحمة ‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫حتى يخيل لقارئ هذه الرواية من كثرة ما يطالع من الدماء المس!!فوكة والأع!!داد الكب!!يرة من الش!!هداء المتت!!الي‬
‫سقوطهم على طريق! الحرية أنه يسبح على صفحات هذه الرواية المدفوقة حروفها بالدم الف!!ائر في بح!!يرة من‬
‫دم ‪ ،‬وهاهم األئمة الظالمون يستحضرون فيتذكرون! فيما بينهم بعض ما اقترفوه في حق هذا الشعب المظلوم! ‪:‬‬
‫" قالت جمجمة منها لصاحبتها ‪:‬‬
‫‪ ......‬ومع ذلك فما جدوى ملكنا العريض الذي فرضناه بالسيف وباسم ال!!دين وبالعنعن!!ات! العائلية ‪ ،‬لقد‬ ‫‪-‬‬
‫سحقنا الشعب ‪ ،‬واعتصرنا ثروته ودمه ‪ ،‬وحكمناه طويالً ‪ ،‬قروناً! وقروناً! ‪ ،‬فلم نص!!نع له ش!!يئا ً ‪ ،‬وكل ما ك!!ان‬
‫يفعله أح!!دنا ويتركه من بع!!ده قبة مس!!جد يبنيها من م!!ال الش!!عب ‪ ،‬وض!!ريح يواصل به حكم الش!!عب روحي!ا ً ‪،‬‬
‫وإقطاعيات نخلفها ألبنائنا وذرارينا فالتجلب لهم غير الفقر والبؤس وغير الشعور! باالنفصال عن الشعب ‪.‬‬
‫قالت جمجمة ثانية ‪:‬‬
‫واألمر المخجل أن تأتي امرأة من الصليحيين ومن ص!!ميم ش!!عبنا فتخلف من آث!!ار اإلص!!الح والتعم!!ير‬ ‫‪-‬‬
‫والبر وتعبيد! الطرقات! مالم يصنعه عشرات من الملوك أمثالنا ‪.‬‬
‫وقالت جمجمة ثالثة ‪:‬‬
‫ولو كان األمر أيها الزمالء أمر تقص!!ير في إص!!الح ‪ ،‬له!!ان األمر ‪ ..‬ولكنا كنا نجعل نصب أعيننا أن‬ ‫‪-‬‬
‫نسحق الشعب ونلغي آدميته ونحطم كل رأس كريم من رؤوس! أبنائه ‪ ،‬إنني أعترف لكم بأني كنت قد أج!!برت‬
‫كل قبيلة أن ترهن أبناءها في سجوني! ‪ ،‬وح!!دث م!!رة أن أح!!رق مجه!!ول باب!ا ً خش!!بيا ً من أب!!واب عاص!!متي ‪،‬‬

‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ‪،‬ص‪23‬‬


‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ص‪285‬‬
‫فاتهمت قبيلة من القبائل وأخرجت ستين من أطفالها المرهونين عن!!دي فقطعت أي!!ديهم جميع!ا َ ‪ ،‬ومن المؤسف!‬
‫أن هذا الحادث لم يستطيع المؤرخون إخفاءه فسجلوه علينا ‪ ،‬فلم يرحمنا! هللا ‪ ،‬ولم يرحمنا! التاريخ ‪.‬‬
‫وقالت جمجمة رابعة ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأنا أع!!ترف لكم ب!!دوري! أن!!ني م!!رة في عهد وال!!دي وأنا ولي العهد يومئذ تملكت!!ني رغبة ش!!يطانية أن أعلن‬
‫جبروتي! وطغياني في سن مبكرة ‪ ،‬فنكلت في منطقة من من!!اطق! الش!!عب ‪ ،‬وقطعت! ألف رأس من ال!!رؤوس ‪،‬‬
‫وأصدرت أمري إلى ألف من األسرى أن يحمل كل منهم في يده رأسا من رؤوس إخوانهم المقطوعة وأم!!رت‬
‫أن يسير مع كل أسير جالد وسرت في هذا الموكب الحافل معتزاً ‪ ،‬فلما بلغت الميدان الذي يشرف! عليه قصر!‬
‫والدي طلبت منه أن يطل من شرفات القصر ‪ ،‬فلما رأيته مطالً أمرت األلف جالد أن يضرب كل منهم رأس‬
‫‪1‬‬
‫األسير الذي يحمل في يده رأسا ً ‪ ،‬فرأى والدي ألفي رأس تسقط دفعة واحد"‬
‫أو هو غابة محكومة بقانون مختل ‪ ،‬ال تجد معه الطريدة سبيالً للنجاة ‪ ،‬فشعب واق ال!!واق ال!!ذي يحكمه‬ ‫‪-‬‬
‫الوش!!اح يا جن!!اه ‪ ،‬ين!!تزع منه حق الحي!!اة وحق الص!!راع من أجل المحافظة عليها ‪ ،‬وهو مش!!مول ب!!الخوف‬
‫والرعب وفقدان الطمأنينة ‪ ،‬ومنكوب! بمشاعر الهوان والمذلة والعجز ‪ ،‬وبذلك يحدث فيهم هذا الح!!اكم الظ!!الم‬
‫" أشنع مسخ وأبشع وتش!!ويه وينحط بهم إلى ما هو أدنى من حي!اة الغابة ‪ ،‬إن حي!!وان الغابة يقتل ويقتل ويأكل‬
‫ويؤكل وتش!!يع فيه اإلباحية الدموية ‪ ،‬ولكنه حي!!وان ك!!ون تكوينا ليتكيف مع ه!!ذه الحي!!اة ‪ ،‬فليست له مش!!اعر‬
‫الخوف الدائم من خطر ق!!ادم! أو متوقع! ‪ ،‬إنما يخ!!اف عن!!دما يجابه الم!!وت ويالقيه ‪،‬ف!!الخوف اليعذبه وال يفسد‬
‫حياته التي يحياها ألنه إنما يجيء مع الم!!وت فال!!ذي يخ!!اف البق!!اء له ألنه يم!!وت أثن!!اء الخ!!وف ‪ ،‬وال!!ذي يحيا‬
‫يمارس حياة طبيعية خالية من الخوف ‪ ،‬أما شعب واق الواق فإن الوشاح وهو الح!!اكم الف!!رد الواحد القه!!ار له‬
‫وح!!ده حق ان!!تزاع الحي!!اة من أي ف!!رد من أف!!راد الش!!عب ‪ ..‬وحس!!به أن ي!!ذبح ع!!ددا من ض!!حاياه في وجبة من‬
‫وجباته وفي فترات مختلفة وعلى نحو كيفي إرهابي حتى يجعل الشعب يشعر بأنه يعيش في المج!!زرة فيع!اني!‬
‫نفس الرعب الذي يعانيه المحكوم عليه بالموت بفارق واحد وهو هذا ال!!رعب الينتهي بحل!!ول الم!!وت بل يظل‬
‫حيا خائفا ما دامت الحياة ذلك ألن الج!!زار ي!!ذبح من يذبحه ب!!دون محاكمة وال حكم وال ش!!هود! وال بين!!ات وهو‬
‫يعيد النظر في هذا فإن الذي يحاكم الخصوم يجب أن يكون له ق!!انون يل!!تزم به ‪ ،‬أو ش!!ريعة يق!!وم وج!!وده على‬
‫أساس منها فيحتكم إليها فيحاكم الن!!اس ‪ ،‬أما ال!!ذي يش!!عر ب!!أن وج!!وده في أساسه من!!اقض للش!!رائع والق!!وانين‬
‫فكيف يت!!أتى له أن يح!!اكم خص!!ومه وهو بعيد النظر ك!!ذلك ألن الطغي!!ان ال!!ذي يس!!تند في بطشه إلى ق!!انون‬
‫معروف أو شريعة ما فإنه يعطي الناس وسيلة ناجحة للش!!عور! ب!!األمن م!!اداموا! يل!!تزمون ش!!روط الحي!!اة ال!!تي‬
‫فرضها! ‪ ،‬ولكن الوشاح اليعين للناس ش!!روط! الحي!!اة واألمن ‪،‬ألنه يريد أن يقتلهم ب!!الخوف! والقلق ! فهو ي!!بيح‬
‫لنفسه أن يقتل من يشاء متى يشاء وبالطريقة التي يشاء ‪ ،‬وب!!دون أن ي!!ذكر دليالً أو س!!ببا ً ‪ ،‬أو يس!!مح لض!!حيته‬
‫بنوع من أنواع الدفاع أو الجدل أو المناقشة ‪ ،‬أو يس!!مح ألهله أو ألقاربه أو لمواطنيه أن يس!!ألوا أو يناقش!!وا! أو‬
‫يحتجوا ‪ ،‬بل إنه يعتبر األحجام عن تقديم النفس إلى المذبحة أكبر جريمة يستحق! بها صاحبها! القتل "‪. 2‬‬
‫إنه سجن كبير في مكان معزول وضائع عن خطوط! الخريطة وعلى ساحاته تجري جرائم بشعة ال يعلم عنها‬
‫العالم شيئا ً ‪ ،‬والناس فيه خاضعون منكبو الرؤوس! ‪ ،‬وعلى بوابته يقف سجان عتيد في يده س!!يف بت!!ارة ته!!وي‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ص‪114،113‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪237،236‬‬
‫ش!!فرتها على األعن!!اق بال رادع ‪ ،‬وفيه تنصب المش!!انق وتعد المقاصل ‪ ،‬وتهيأ المي!!ادين لإع!!دامات جماعية ‪،‬‬
‫وتجتاح القرى والمس!!اكن ب!!الجيوش الإمامية المس!!عورة ‪ ،‬وكأنما به!!ذا المك!!ان يحيا حالة ط!!وارئ! مس!!تديمة ‪،‬‬
‫فليس سوى اإلمام الذي يمتلك كل وسائل الفتك والتدمير! ‪ ،‬فيحيل المك!!ان كله مج!!ازر! وم!!ذابح ‪ ،‬والض!!حية هو‬
‫الشعب المسلوب ‪ ،‬المحظور! حقه في مقاومة الم!!وت ‪ ،‬وإن ح!!اول ذلك يك!!ون قد عجل بحتفه فال يجد ب!!داً من‬
‫مساومة الجالد واسترضائه كي يسن حد سيفه الذي ستذبح به ‪ ،‬يتح!!دث الجالد إلى والد الش!!هيد حميد فيق!!ول‬
‫‪ ":‬فلما رأيت ابنك يغمض عينيه ‪ ،‬أخذت يده بالقوة ووضعتها! على حد السيف ‪ ،‬فلما لمس السيف قال لي ‪:‬‬
‫اتق هللا يافالن ‪ ...‬هذا سيف قد صدئ ‪ ،‬فهو ال يقطع العجين فضالً عن لحم صلب في عنق ش!!اب ق!!وي‬ ‫‪-‬‬
‫خشن ‪.‬‬
‫قال الجالد ‪ :‬فقلت له ما أصنع ‪ ...‬إن هذا أمر شريف! ‪.‬‬
‫قال حميد ‪:‬‬
‫إن!ني س!أعطيك بعض النق!ود وس!أتنازل! لك عن بقية الوجب!ات األخ!يرة في حي!اتي مقابل أن تخت!ار س!يفا ً آخر‬
‫تذبحني به ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬ال أستطيع أن أغير السيف ولكنني! سأصلحه قليالً ‪ ،‬وأعطاني حميد شيئا ً من النقود التي‬
‫كانت معه ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬إن هذه النقود ال تكفي يا حميد ‪ ،‬قال حميد ‪ :‬اتق هللا ‪ ،‬إنني الأملك غيرها ‪ ،‬وقد! تنازلت‬
‫عن وجباتي! كلها ‪ ،‬قلت له ‪ :‬يا حميد يجب أن تعرف أنني ال أستطيع أن آخذ منك الوجبات كلها ‪ ،‬ألني أخشى‬
‫أن تموت من الجوع والمطلوب أن تموت من الذبح ‪ ،‬وهناك شيء آخر يا حميد ‪ ،‬هناك طريقة القتل ال بد لي‬
‫فيها من المساومة حتى وإن أصلحت السيف ‪ ،‬قال حميد ‪:‬‬
‫ماهي هذه الطريقة ؟‬ ‫‪-‬‬
‫قلت له ‪ -:‬هل تريد ضربة واحدة أم ثالثا ً أم سبعا ً أم عشراً ؟‬ ‫‪-‬‬
‫فامتقع لون حميد وقال ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫ليس عندي ما أعطيك غير مالبسي كلها فخذها ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قلت له ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫هذا ال يكفي ‪ ،‬ثم تركته وذهبت إلصالح السيف وجئت إليك أنت أبوه ولعلك ترحمه وترحم نفسك ‪ ،‬قال‬ ‫‪-‬‬
‫حسين بن ناصر! ‪:‬‬
‫ذلك هو اللون المتوحش من التعذيب ‪ ،‬يا أمير المؤمنين * ‪ ،‬وقد أعطيت الجالد كل ما كان عندي ‪ ،‬فلما‬ ‫‪-‬‬
‫هم باالنصراف! ضحك في وجهي ضحكة الس!!خرية ‪ ،‬وق!!ال لي ‪ :‬هللا يف!!رج عليك يا بن ناصر! ‪ ،‬ويحفظ موالنا‬
‫‪1‬‬
‫يا جناه ‪ ...‬إنني سأضرب! ابنك ضربة واحدة إذا استطعت ‪ ،‬وتركني! الجالد ومضى! "‬
‫ثم يضيف الوالد المنكوب ‪ ":‬دخل علي الجالد وفي يده الس!!يف ‪ ،‬وعلى فمه ابتس!!امه الظفر وق!!ال لي ‪ ":‬احمد‬
‫هللا يا شيخ حسين ‪ ...‬لقد فرج هللا على ابنك ‪ ،‬هللا يحفظ الوشاح يا جناه ‪ ،‬وأشار إلى السيف الذي في يده وقال ‪:‬‬
‫لي ‪ :‬انظر ‪ ...‬هذا هو السيف ‪ ...‬أال ترى أنني عند ذمتي ‪ ،‬وأنني قد أصلحته ‪ ،‬وكنت أستطيع أن أك!!ذب عليك‬
‫وعلى ابنك و التستطيعون أن تصنعوا بي شيئا ً ‪...‬‬

‫يقصد بأمير المؤمنين ‪ 0‬علي بن ابي طالب كرم هللا وجهه ‪ ،‬الذي تم استحضاره في المؤتمرـ الكبير الذي تخيله الكاتب‬ ‫‪1‬‬

‫? محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ص‪253،252‬‬


‫فأنتم بعد صدور األمر ملك لي أنا أذبحكم كيف أشاء ‪ ،‬وبالطريقة التي أشاء ‪ ،‬فم!!والي! هللا يحفظه وي!!ديم بق!!اءه‬
‫يعطي!!ني! الص!!الحية التامة ‪ ،‬ولك!!ني عن!!دي ذمة وض!!مير! وكلمة ش!!رف ‪ ،‬ومن أجل ه!!ذا تراني أع!!رض عليك‬
‫السيف وقد! غسلته لئال يشتد جزعك على رؤية الدم ‪ ..‬دم ابنك ‪ ،‬واستطرد الجالد يقول ‪:‬‬
‫" إنني يا شيخ حسين ما حزنت على إنسان قتلته كما حزنت على ابنك ‪ ،‬إنه شاب صغير! جداً ‪ ،‬إن!!ني أعتقد أنه‬
‫بريء‪ ،‬وإذا كان قد أذنب فهو في سن الطيش وسنه تغفر له ‪ ،‬ولكن أمر موالنا هللا يحفظه أمر محت!!وم ‪ ،‬ونحن‬
‫‪1‬‬
‫كلنا رعيته ‪ ،‬وملك يديه ‪ ،‬وعل كل حال فأنا يا شيخ حسين عبد مأمور "‬
‫وهو مقبرة كبيره تؤوي أحياء وهم في حقيقتهم أموات ‪ ،‬ولذلك تم تشييد مقابر لهؤالء األحياء في الع!!الم‬ ‫‪-‬‬
‫الآخر بهدف إبراز حقيقة هذا الشعب الميت ال!!ذي يخض!!عه الخ!!وف ويدفعه إلى االس!!تكانة عقب كل مج!!زرة ‪،‬‬
‫وهي مق!!ابر لم تس!!تثن منطقة أو قبيلة أو أس!!رة أب!!دت من ال!!ذل والخن!!وع م!!الم يكن منتظرا منها ‪ ،‬فيطل ق!!بر‬
‫صنعاء ‪ ،‬وقبر! آل شرف الدين ‪ ،‬وقبر آل العمري ‪ ،‬وقبر آل الشهاري! ‪ ،‬وقبر! الجبلي ‪ ،‬وقبر! الوش!!اح األك!!بر ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وقبر يحيى النهاري! ‪ ،‬وقبر! مراد ‪ ،‬وقبر بالد الرصاص ‪ ،‬وقبر! البيضاء ‪ ،‬وقبر رداع ‪ ،‬وقبر! الحجرية ‪.‬‬
‫وهو مكان ظاهره مش!!طور! إلى نص!!فين كب!!يرين ‪ ،‬نصف تس!!يطر! عليه اإلمامة ‪ ،‬ونصف يس!!يطر عليه‬ ‫‪-‬‬
‫االس!!تعمار ‪ ،‬والنظام!!ان يعيش!!ان حالة من حسن الج!!وار ‪ ،‬وباطنه مفتت ومج!!زأ! إلى ف!!رق! وش!!يع وم!!ذاهب‬
‫وتمايزات ما أنزل هللا بها من سلطان ‪ ،‬وهذا زعيم العدين الذي مات كمداً في الس!!جن يصف لنا ه!!ذا الوضع ‪،‬‬
‫فيقول ‪ ":‬إن هناك بين بالدنا العليا وبالدنا السفلى ‪ ،‬ثم بينهما معا ً وبيت تهامة ‪ ،‬نوع !ا ً من الش!!عور بالمذهبية ‪،‬‬
‫وهذا ليس مجرد ش!!عور فحسب ‪ ،‬بل هو متجسد في ف!!رض ن!!وع الحكم ال!!ذي ي!!دين به م!!ذهبا ً س!!كان المن!!اطق‬
‫العليا ‪ ،‬كما كان عهدي بهم من قديم ‪ ،‬وهو نظام اإلمامة الذي ال يدين به سكان المن!!اطق الس!!فلى وال يع!!ترفون‬
‫به ‪ ،‬ويش!!عرون تبع!ا ً ل!!ذلك أنه ال يمثلهم وال يع!!بر عنهم ‪ ،‬بل مف!!روض عليهم فرض!اً! ‪ ،‬وال ريب أن الح!!رص‬
‫على وحدة البالد يفترض أن يستبدل بهذا النظام نظام آخر يع!!بر عن الش!!عب كله ‪ ،‬وتتض!!اعف خط!!ورة ه!!ذا‬
‫النظام السياسي! العتيق إذا نظرنا نظرة شاملة إلى الجزء المستقل والجزء المحتل ‪ ،‬فإن سكان المناطق المحتلة‬
‫يشعرون كذلك بأن نظام اإلمامة نظام ين!!اقض م!!ذهبهم وعقي!!دتهم الدينية ‪ ،‬واالس!!تعمار! يس!!تغل ه!!ذا التن!!اقض‬
‫ويتخذه دريعة لتدعيم االتجاهات االنفصالية ‪،‬‬
‫وقد نشأ عن ه!!ذا النظ!!ام الم!!ذهبي تمي!!يز بين المواط!!نين في ن!!وع المع!!امالت الحكومية وفي ف!!رص العمل‬
‫‪3‬‬
‫والتوظيف! ‪ ،‬وفي! التشريعات! القضائية المشتقة من نظام اإلمامة ‪.‬‬
‫وهو مك!!ان تحكمه – بفعل سياسة ترس!يخ الجهل وت!!دعيم التخلف ‪ -‬أع!راف وقيم جاهلية‪ -‬فه!!ذه دي!ار‬ ‫‪-‬‬
‫( خ!!والن ) قد قتل داخل ح!!دودها! ( الق!!ردعي ) من قبيلة م!!راد ‪ ،‬مما يتس!!بب في وق!!وع وحشة بين القبل!!تين ‪،‬‬
‫وهذا خيال الكاتب ينطق ( القردعي ) الذي يحمل رسالة يق!!ول فيها ‪ ":‬إن!!ني أرجو من الزميل الع!!زي أن يبلغ‬
‫رسالتي إلى قبيلة مراد ‪ ،‬وأن يق!!ول لها ب!أني قد أس!!قطت كل حق لنا على خ!!والن ‪ ،‬وأن على قبيلة م!!راد أن ال‬
‫تنخ!!دع بمن يفسد بينها وبين جارتها خ!!والن ‪ ،‬فإننا إخ!!وة وأهل وع!!دونا واحد هو الظلم ‪ ،‬إن ال!!ذي قتل!!ني هم‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪254‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪223،112‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ص ‪280‬‬
‫الظالمون الكبار ‪ ،‬وهم الذين قتلوا أخي برصاص بنادقهم! ‪ ،‬وهو أسير في سجونهم ‪ ،‬وهم الذين غدروا بالشيخ‬
‫‪1‬‬
‫جارنا العظيم بعد أن أعطوه العهود والمواثيق! "‬
‫بل وتشهد! هذه القيم ‪ -‬داخل هذا المكان المرعب‪ -‬تبدلها األسوأ ‪ ،‬وه!!ؤالء أش!!راف الج!!وف يخ!!ذلون رجالً قد‬
‫منحوه األمان ويسلمونه إلى الطاغية ‪ ،‬وهذا نقيب األشراف الشريف الضميم يستنكر! ما فعلته قبيلته فيقول ‪:‬‬
‫" ماذا أص!اب عق!ول أش!راف الج!وف ح!تى يقبل!وا بتس!ليم رأس من رؤوس حاشد لجأ إليهم واحتمى! بش!رفهم‬
‫وشهامتهم! فيقدمونه إلى جزار متعطش لل!!دماء يذبحه ؟‪ ....‬إن الع!!رب ال يقبل!!ون ه!!ذا على أنفس!!هم ‪ ،‬ولو ك!!ان‬
‫الذي لجأ إليهم ألد أعدائهم ‪ ،‬أيخاف األشراف! من هذا الطاغية الذي يحكمهم وما قيمته وأهميته وخط!!ره ؟ إنه‬
‫ش!!يخ مسن ‪ ،‬وس!!يزول! قريب !ا ً وي!!زول! عرشه ‪ ،‬ويبقى األش!!راف وسط بحر من القبائل ال!!تي البد أن تك!!رههم!‬
‫وتحقد عليهم بس!!بب ه!!ذا الح!!ادث ‪ ،‬إن الطاغية ف!!رد زائل ‪ ،‬أما حاشد فهي خال!!دة باقية ‪ ،‬وعلى األش!!راف أن‬
‫‪2‬‬
‫يصفوا حسابهم! مع الطاغية الذي سود وجوههم وإال فالويل لهم والعار "‬
‫وتض!!!في! القصة القص!!!يرة ‪ -‬بحكم تعاملها المختلف مع المك!!!ان ‪ -‬مزي!!!داً من التفاص!!!يل على‬
‫صورة المكان التي التقينا تفصيالتها في األعمال الروائية السابقة ‪ ،‬فهي ت!!برز ص!!ورة مك!!برة‬
‫لمساحة محدودة من المكان أو قطاعا ً عرضيا ً يمنح تفصيالت ال تس!!فر عن دقتها! إالَّ لمثل ه!!ذه‬
‫الرؤية المركزة ‪ ،‬وهي صورة تصلح ألن تنهض نموذجاً! مصغراً! يخ!!تزل في خطوطه مالمح‬
‫المكان السياسي! واالجتماعي! الذي تنضوي! ضمن مساحاته ‪ ،‬وه!!ذا أمر يتكشف! بش!!كل أوضح‬
‫لدى تلك األعمال التي استطاعت أن تمتلك ناصية الرؤية القصصية ‪ ،‬وتحقق نضج تناولها! في‬
‫سياق تجربتها! المتط!!ورة ع!!بر ال!!زمن ‪ ،‬أما في تلك األعم!!ال ال!!تي تنسب إلى مراحل الب!!دايات‬
‫حيث الخلط ال يزال قائما ً بين مفه!!وم البن!!اء ال!!روائي ومفه!!وم البن!!اء القصصي ‪ ،‬ف!!إن األمر ال‬
‫يبدو على هذه الدرجة من الوضوح ‪.‬‬
‫ففي القصة (أنت ش!!!!!!!يوعي ) مثالً ‪ ،‬نلتقي مكان!!!!!!!ا ً متنقالً بين بيت في القرية ‪ ،‬ومدينة تعز‬
‫( مدرس!!تها! ربيت فيها ) وجمهورية مصر العربية ‪ ،‬وهو تنقل يمتد على ف!!ترة زمنية يمكن ان‬
‫يق!!وم على اس!!تطالتها ح!!دث في بن!!اء روائي! لكننا مع ذلك يمكن لنا أن نقع من ه!!ذا العمل على‬
‫مكان قد نعتمده مكانا ً محورياً! فيها ‪ ،‬ذاك هو هذا البيت ال!!ريفي المتواضع في القرية الص!!غيرة‬
‫في ضاحية من ضواحي صبر الذي يقدمه لنا الراوي في قوله ‪ ":‬يا لها من حياة ساذجة ! أناس‬
‫اتخ!!ذوا من جح!!ورهم الض!!يقة م!!أوى لهم وألبق!!ارهم وأغن!!امهم ومواش!!يهم يض!!طجعون حيث‬
‫تتب!!ول األبق!!ار والمواشي ‪ ،‬وحيث تتغ!!وط وتتجشأ ‪ ،‬كل ه!!ذا بينهم ‪ ،‬يش!!تمون ه!!ذه ال!!روائح‬
‫الكريهة ح!!تى ليخيل إليك أنهم يحي!!ون بح!!واس أربع م!!اتت حاسة الشم ! وإذا أت!!وا إلى المائ!!دة‬
‫سترى ما يدعو إلى البكاء على هذه األسرة ‪ ،‬ستراهم قد افترش!!وا الحص!!ير ‪ ،‬وال!!ذباب يتط!!اير!‬
‫في الفض!!!اء ليهبط على حافة الق!!!دور الخزفية ‪ ،‬وأحيان!!!ا ً يغطس وسط! الأكل وي!!!دخل ض!!!من‬
‫المأكوالت إلى البطون دون أن يشعروا! أو يحسوا ‪ ،‬ألنهم يعيشون في ظالم دامس إذا اس!!تثنينا‬

‫‪ 1‬نفسه ص‪203‬‬
‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪208‬‬
‫لمبة صغيرة يخرج منها ضوء باهت أحمر ‪ ،‬ال يعطي للناظر صورة واضحة لما ي!!دور! على‬
‫المائدة !‬
‫وإذا نظرت إلى الماء ستراه ملوثا ً باألوساخ! ‪ ،‬مليئا ً بالجراثيم ‪ ،‬والتي ال ترى واضحة النع!!دام‬
‫‪1‬‬
‫الضوء الكافي ‪ ،‬وألن األواني خزفية وليست زجاجية شفافة "‬
‫وتكشف لنا األلفاظ الدالة على الجمع في هذا الوصف! – الذي يق!!دم مكان!ا ً هو نم!!وذج مص!!غر‬
‫عن المكان السياسي واالجتماعي الف!!ارق في قذارته وأوحاله – عن ح!!ال ال تخص ً‬
‫بيت بعينها‬
‫‪ ،‬وإنما تشمل كل البيوت التي تنتمي الي هذا المكان ‪ ،‬ويتأكد ذلك في ق!!ول ال!!راوي ‪ ":‬في مثل‬
‫هذه البيوت عاش أحمد مع أبيه وأمه وإخوانه واخواته الصغيرات ‪ ،‬ومع اخته الكب!!يرة حمي!!دة‬
‫ومع األبقار والمواشي! "‪ 2‬غ!!ير أنه يمكننا أن نص!!نفه مكان!ا ً في قرية من ق!!رى الش!!مال الواقعة‬
‫تحت ظلم واستبداد اإلمامة ‪.‬‬
‫ومع أن المكان – وهو أحد عناصر الواقع السياسي! واالجتماعي الذي تهدف االعمال الروائية‬
‫والقصص!!!ية إلى تغي!!!يره – قد يتسع ويمتد! ليش!!!مل اليمن كله ش!!!ماله وجنوبه ‪ ،‬كما في قصة‬
‫( ش!!يء أس!!مه النف!!اق ) ‪ 3‬حيث نلتقي ش!!ابا ً ي!!زج بوال!!ده في س!!جن حجة الش!!تراكه في ث!!ورة‬
‫‪1948‬م ‪ ،‬فيتوجه إلى عدن ‪ ،‬وهناك يعاني ضغوطاً! كثيرة ‪ ،‬وتهدي!!دات! بإخراجه من المدرسة‬
‫التي كان طالبا ً فيها ‪ ،‬بينما تظل أسرته تضطرب تحت ويالت الجوع والفقر في قرية من قرى‬
‫الش!!مال ‪ ،‬لكنه – في كث!!ير من األحي!!ان – يحقق تم!!ايزه الواضح تبع !ا ً لوقوعه في قرية أو في‬
‫مدينة ‪ ،‬قريبا من مراكز تأثير األنظمة أو بعي!!داً عنها ‪ ،‬في الش!!مال حيث الرجعية المتخلفة ‪ ،‬أم‬
‫في الجنوب حيث بريطانيا! ابنة الغرب المتحضر ‪.‬‬
‫فالقرية في الش!!!!مال تظهر بمالمح مختلفة عن تلك ال!!!!تي تظهر بها قرية في الجن!!!!وب ‪ ،‬ففي‬
‫الش!!مال حيث المك!!ان اشد ظلمة وت!!أخراً! ‪ ،‬وحيث س!!طوة الحكم األم!!امي وقبض!!ته ‪ ،‬وقس!!وته‬
‫ووطأة ظلمه تمتد لتبلغ حتى تلك القرى البعي!!دة الرابضة في عزلتها وظالمها ‪ ،‬ع!!ادة ما تل!!وح‬
‫لنا صورة القرية وهي ص!!ابرة على بؤس!!ها! مستس!!لمة لرعبها وخوفها منطوية تحت ص!!متها ‪،‬‬
‫وهي الصورة ال!!تي نلتقيها في قصة ( أنت ش!!يوعي ) ال!!تي عرض!!نا لمقتطف منها في الس!!ياق‬
‫السابق ‪ ،‬وال!!تي تأص!!لت مالمحها بش!!كل أوثق في األعم!!ال القصص!!ية والروائية ال!!تي اهتمت‬
‫بالواقع االجتماعي والسياسي قبل الثورة واالستقالل ‪.‬‬
‫أما قرى الجنوب ‪ ،‬فتظهر ق!!رى تش!!تعل بمقاومة المحتل المغتصب ‪ ،‬وربما ك!!ان الس!!بب وراء‬
‫ذلك أن المس!!تعمر لم يكن مهتم!ا ً به!!ذه الق!!رى ل!!ذاتها ‪ ،‬وإنما ك!!ان يح!!اول إخض!!اعها وف!!رض‬
‫الحماية عليها لت!!أمين ( ع!!دن ) المين!!اء التج!!اري االهم لإمبراطوريتها! ال!!تي ال تغ!!رب عنها‬
‫الش!!مس ‪ ،‬ثم إن وعي أبن!!اء الجن!!وب بك!!ون ه!!ذا ال!!ذي ج!!اء ليف!!رض هيمنته ما هو إال غ!!ريب‬
‫ومحتل ‪ ،‬قد رفد قناعتهم بواجب المقاومة بيقين أكبر ‪ ،‬وطبعها! بط!!ابع الص!!البة والثب!!ات ‪ ،‬ولم‬
‫يكن الأمر كذلك عند أبناء الشمال ال!!ذي اس!!تطاع اإلم!!ام يح!!يى ومن بع!!ده أحمد أن يغ!!رر بهم‬
‫‪ 1‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪12‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪13‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫ويق!!وه عليهم حقيقة ‪ ،‬فيتزيأ! بأردية متنوعة تح!!ول دون تفك!!يرهم ب!!الخروج عليه ‪ ،‬منها أردية‬
‫الدين باعتباره ولي األمر والحاكم! بأمر هللا ‪ ،‬ومنها أردية الوطنية والسياسة باعتبار رأس ه!!ذا‬
‫النظام قد قاد حركة التحرر الوطني ضد الأتراك ‪.‬‬
‫وفي قصة ( الإن!!ذار المم!!زق ) نلتقي قرية تش!!تعل تحت وابل الق!!ذائف البريطانية بعد أن ق!!رر!‬
‫أهلها المقاومة ‪ ،‬ومزق شيخها إنذار الحكومة البريطانية باإلذعان ألمر الحماية أو ترقب حملة‬
‫عس!!كرية ‪ ،‬وص!!مم! أن يخ!!وض بتلك القرية ح!!رب مقاومة آل على نفسه فيها أن يعلم الطغ!!اة‬
‫أقس!ى ال!!دروس ‪ ،‬ويض!!رب لهم مثالً في ال!!دفاع عن حرية ال!!وطن مهما ص!!غرت رقعته ‪ ،‬و ‪-‬‬
‫فج!اة ‪ -‬ب!رزت ثالث ط!!ائرات في س!ماء القرية م!زقت ص!متها ‪ ،‬وأخ!ذت ترسل قنابلها! الثقيلة‬
‫وص!!واريخها المحرقة ‪ ،‬وتس!!قطها! على من!!ازل القرية المبنية من القش واللبن الق!!ديم المتآكل ‪،‬‬
‫وتحيلها إلى ركام ‪ ،‬ثم قفلت راجعة ‪ ،‬لكن الشيخ توقع أن ال يكتفي العدو ب!!ذلك ‪ ،‬أو أنه قد يتبع‬
‫ه!!!!ذه الغ!!!!ارة الجوية بعملية حربية أوسع ‪ ،‬فأخذ ينظم ص!!!!فوف رجاله للمعركة المص!!!!يرية‬
‫الحاسمة ‪:‬‬
‫" والتفت إلى رجاله ح!!!ائراً مش!!!دوها ً وهم في ش!!!به غيبوبة من ه!!!ول المص!!!اب ‪ ...‬رأى في‬
‫عيونهم سهوماً! ‪ ،‬وفي! قلوبهم! حقداً وكراهية ‪ ،‬وتملأ خاليا أذهانهم فكرة االنتقام ‪ ..‬وص!!اح فيهم‬
‫أن يس!!تعدوا لكل ط!!ارئ! جديد ‪ ...‬وب!!دأت الأي!!دي المعروقة تقبض بق!!وة على البن!!ادق الخش!!بية‬
‫القديمة ويحشونها بالرصاص ‪ ،‬وامتدت الأصابع تالمس الزناد استعداداً لمالقاة العدو الغ!!ازي‬
‫‪.‬‬
‫وكانت الرؤوس! تطل من بين الصخور في ترقب وتحفز ‪ ،‬ومع خيوط الفجر الأولى لتلك الليلة‬
‫المش!!ؤومة انتظم رتل طويل من الس!!يارات الكب!!يرة ال!!تي احتشد فيها جن!!ود كث!!يرون يحمل!!ون‬
‫أس!!لحة جدي!!دة وكث!!يرة ‪ ،‬وخلف ه!!ذه الس!!يارات مص!!فحة يختفي فيها القائد للفرقة ‪ ،‬وش!!ارف‬
‫الطابور العسكري القرية المدمرة ‪ ،‬ودقات! القلوب تكاد تعلو على ض!!جيج الس!!يارات ‪ ،‬وما إن‬
‫توسطها! الجنود حتى انهمر الرص!!اص من ج!!انب الم!!دافعين كالس!!يل ال!!دافق ‪ ،‬وتس!!اقط! جن!!ود‬
‫المعتدي إلى الأرض كسقوط أوراق! الشجر في فصل الخريف ‪.‬‬
‫واستمر إطالق النار بين الجانبين ‪ ،‬ولكن أين التعادل ؟ إن رجال القرية يملكون س!!الحا ً ق!!ديماً!‬
‫ومعدات قليلة بينما الخصم يملك الكثير من الأسلحة الحديثة ويتفوق! عدداً ايضا ً ‪ ،‬وما إن ب!!دأت‬
‫الش!!!مس تبسط رداءها المن!!!ير على جنب!!!ات المعم!!!ورة ح!!!تى خفت إطالق الن!!!ار من ج!!!انب‬
‫المدافعين وأطل قائد الحملة برأسة من خلف سيارته المصفحة ‪ ،‬وعندما تأكد من نجاح العملية‬
‫العسكرية نزل بحذر شديد يتأبط مدفعه الرشاش ‪ ،‬وتقدم بخطوات وئيدة وهو يح!اذر كل حركة‬
‫‪ ،‬وقام بجولة تفتيشية مع كبار قواده بين الجثث ‪ ،‬وأخذ يبحث عن شيء مجهول ‪ ،‬وك!!ان يقلب‬
‫كل جثة مجفية على وجهها بقدمه ح!!تى يتع!!رف على الش!!خص المطل!!وب وك!!ان بمعيته ذلك‬
‫الرسول الذي قام بتقديم اإلنذار إلى الشيخ ‪ ،‬وخلف صخرة كب!!يرة وقف القائد ف!!وق جثة يس!!قط‬
‫ال!!دم من أج!!زاء عدي!!دة منها ‪ ،‬لقد ك!!انت جثة الش!!يخ ‪ ..‬وقبل أن ينطفئ بريق عينيه إلى الأبد ‪،‬‬
‫دس الضابط! يساره في جيبه ثم أخذ يلوح بورقتين أمام عيني الشيخ ‪ ،‬وفهم الشيخ قصده ‪ ،‬فزاد‬
‫في ثورته ‪ ،‬وأراد أن يقوم فأخفق ألنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ‪ ،‬واحتشدت الآالم في رأسه ‪ ،‬ف!!أراد‬
‫أن يرفع يمنية إلى ش!!عر لحيته كعادته في الأزم!!ات ‪ ..‬ولكن الض!!ابط! أراد أن ينتقم من تلك اليد‬
‫التي مزقت الإنذار ‪ ،‬فأخذ يض!!حك بجن!!ون ‪ ،‬بينما مدفعه الرش!!اش يلفظ ما ببطنه من رص!!اص‬
‫على يمين الشيخ التي تفجرت شذروا!نا من الدماء ‪ ،‬واختلط! أزيز الرصاص بالضحك المجنون‬
‫‪1‬‬
‫‪ ..‬ولم تكن الورقتان سوى اإلنذار الممزق "‬
‫وفي قصة ( لم يكن مجنونا ً ) نرقب قرية من قرى! الجنوب تلتف بليلها الأسود الحالك وهدوئها‬
‫المخيف ‪ ،‬قد تأهب أهلها لمعركة وش!!يكة مع المحتل الأجن!!بي ‪ ،‬وه!!اهم يجتمع!!ون ح!!ول رزمة‬
‫من الحطب والن!!ار المتص!!اعدة في س!!احة القرية حيث تعقد اجتماع!!اتهم ‪ ،‬ون!!راهم! يرس!!مون‬
‫خطتهم ويوزعون الأدوار فيما بينهم ‪ ،‬ويكمنون! لعدوهم! في سفوح الجبال التي تط!!وق ق!!ريتهم!‬
‫في انتظار! إشارة بدء الهجوم ‪ ،‬لكن فجأة يشق سماء القرية قصف مدافع ثقيلة ‪ ،‬وبنادق! س!!ريعة‬
‫الطلقات ‪ ،‬وتق!!اوم! القرية بعتادها البس!!يط ‪ ،‬ويظهر أحد أبنائها واس!!مه ( عن!!تر) بطولة ن!!ادرة ‪،‬‬
‫حيث اعتمد حيلة أفقد بها العدو كل ذخيرته ‪ ،‬حين أطلق لحم!!اره العن!!ان وتركه يج!!وب أرج!!اء‬
‫الساحة محدثا ً جلبة كب!!يرة ظنها الع!!دو تحرك!!ات رج!!ال القرية " وك!!انت تلك المعركة الوهمية‬
‫التي خاضها العدو وخسر فيها كل شيء ‪ ،‬وخسرنا! نحن عنتر وحماره ‪...‬‬
‫وهنا لم يكن منا إال أن أمطرنا! العدو وابالً من الرصاص أخذ يرسله عليه رجالنا من كل اتج!!اه‬
‫‪ ،‬وك!!انت مفاج!!أة كب!!يرة له أفقدته الس!!يطرة على نفسه ‪ ،‬فلم يس!!تطع أن يص!!ور أم!!ام هجومنا‬
‫المف!!اجئ ‪ ،‬ف!!أركن إلى الف!!رار بعد أن خلف وراءه ع!!دداً كب!!يراً من القتلى والج!!رحى! ‪ ،‬وك!!ان‬
‫‪2‬‬
‫انتصاراً لم تشهد له القرية مثيالً من قبل "‬
‫وفي قصة ( البيت السعيد ) ‪ 3‬تخوض قرية معركتها! مع مدير مستبد ‪ ،‬امتدت أطماعه لتسلب‬
‫( العم س!!عيد ) حقه في بيته ال!!ذي دفن فيه جهد عم!!ره ح!!تى أقامه من اللبن الق!!ديم وتفنن في‬
‫تفصيله حسب معلوماته الهندسية ‪ ،‬فالطابق الأرضي! قسمة إلى ثالث غرف ضيقة وفي! أعاله‬
‫بنى كبن !ا ً ص!!غيراً ت!!دخل الش!!مس من بابه ونافذتيه الص!!غيرتين ‪ ،‬كل ذلك ليه!!رب من عش!!ته‬
‫الض!!يقة الرطبة ال!!تي ك!!ان وأس!!رته فيها ه!!دفا ً س!!هالً للأم!!راض فيجتمع أه!!الي القرية وتتوحد!‬
‫كلمتهم على طرد المدير وإعادة البيت لأصحابه ‪.‬‬
‫وتظهر مدينة ( ع!!!دن ) مدينة متم!!!يزة بمظاهرها الحض!!!ارية عن غيرها من الم!!!دن اليمنية‬
‫الأخ!!رى ‪ ،‬ففي ال!!وقت ال!!ذي ك!!انت مدينة تعز ال ت!!زال تقبع تحت تخلفها وتأخرها ‪ ،‬فمدرس!!تها!‬
‫الوحيدة ال تقدم للمتعلم سوى بعض العلوم السطحية ‪ ،‬وأحمد في قصة ( أنت شيوعي ) لم يكن‬
‫ينسى أن يبصق! عليها بصقة احتقار في نهاية كل ي!!وم دراسي ‪ ،‬نس!!معه يق!!ول ‪ -":‬تف!ا ً لك أيتها‬
‫‪4‬‬
‫المدرسة ! دخلتك وأنا جوعان ‪ ،‬وخرجت منك وأنا جوعان "‬
‫وهو دائم التساؤل عمَّا تقدمه هذه المدرسة من علوم ال تغني وال تسمن ‪.‬‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪17،16‬‬


‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪21،20‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪57‬‬
‫‪ 4‬صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪14‬‬
‫"‪ -‬هل هذا هو التعليم ؟ هل هذه هي أقصى! درج!!ات النج!!اح في ه!!ذا البلد ‪ .‬وهل من أتم تعليمه‬
‫يعد ناجحا ً في الحياة ؟‬
‫إن!!ني أك!!ره ه!!ذه المدرسة ؟ ويجب إنق!!اذاً لعقلي وروحي! ‪ -‬أن أتخلى عنها في أق!!رب فرصة ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وإذا واصلت التحصيل والدراسة ‪ ،‬و إذا اعتليت إلى أعلى قمم النجاح‪ -‬فهل هذا تعليم "‬
‫نجد مدينة ( ع!!دن ) تطل علينا ب!!وجهين ‪ ،‬الأول ‪ :‬تتمتع فيه بق!!در وافر من مظ!!اهر المدني!!ة‬
‫الحديثة ‪ ،‬فمدارس منظمة ‪ ،‬وزي مدرسي موحد ‪ ، 2‬وفتي!ات يلتحقن بالم!دارس ‪ ،‬ومواص!الت‬
‫عامة ‪ ،‬ومدارس ثانوية ‪ ،‬وكلية عدن والكلية الفنية ‪ 3.‬وسينما وشباك تذاكر ومدرسون أج!!انب‬
‫‪ 4‬وأرصفة للمارة ‪ ،‬ومستشفى! حديث ‪ ،‬وت!!راخيص بلدية لبعض المهن ‪ ،‬ومق!!اه ‪ ،‬وأعم!!دة ن!!ور‬
‫وكهرباء ‪ ،‬وتلفزيون و إدارة معارف وانتخابات كفلتها الدساتير البريطانية ‪ 5‬وشوارع! وأحي!!اء‬
‫تحمل أسماء محددة ‪ ،‬كالشيخ عثمان ‪ ،‬والشيخ الدويل ‪ ،‬وحي العيدروس ‪ ،‬وجمرك دار الأمير‬
‫والكيلو (‪ ، )6‬ومقهاية زكو ‪ ،‬وبستان الكمسري ‪ ،‬والسوق! الطويل ‪ ،‬وكريتر! وغير ذلك ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬تطل منه مالمح المستعمر ‪ ،‬فتبرز سجنا ً كبيراً يطوق أبنائه بحبال ال!!رق وقي!!ود! العبودي !ه ‪،‬‬
‫وفي قصة ( ثالثة أيام في السجن ) نلتقي هذا المعنى بوضوح ‪ ،‬فه!!ذا العامل في متجر للأقمشة يس!!رد‬
‫علينا ما ح!!دث له خالل ثالثة أي!!ام قض!!اها! مع سياس!!ية حظر التج!!وال ‪ ،‬ال!!تي ك!!ان يتبعها المس!!تعمر‬
‫إلطالة عمر بقائه ‪ ،‬بإذالل ابناء عدن والحد من تحركاتهم! والحؤول! دون تجمعاتهم! التي ينظم!!ون فيها‬
‫تظاهراتهم! ‪ ،‬فقد تلكأت لديه ثالث نساء وتباط!!أن في تحديد اختي!!اراتهن ‪ ،‬فأخذ يح!!ذرهن هلع!ا ً ب!أفول‬
‫الوقت وقرب! موعد ب!!دء الحظر ‪ ،‬لكنهن اس!!تمررن في تب!!اطؤهن ‪ ،‬ومع تعجبه عن أي الأم!!اكن ال!!تي‬
‫يمكن أن يقضين فيها سهراتهن التي يبتعن لها األقمشة في مثل هذه األوقات العص!!يبة ‪ ،‬فإنه يض!!عف‬
‫أمام رغبتهن ‪ ،‬يحدثنا بأسلوبه الساخر المعروف ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫" ولوال أن على وجوههن مسحة كبيرة من الجمال لكنت طردتهن في مثل تلك الساعة ‪ ،‬ولكن ص!!دق‬
‫من قال ‪ ":‬إن للجمال لهيبة " ‪ ...‬وهيبة الجمال ال شك وأنها ستبيتني! ه!!ذه الليلة في الس!!جن ! ولكن!!ني‬
‫تذكرت بأن أهل البلد جميعا ً مسجونون معي هذه الليلة ‪ ،‬فما جدوي هروبي من سجن آلخر ‪ ،‬ولكن!!ني!‬
‫قلت لنفسي بأن السجن الذي أبات فيه كل ليلة أهون علي من سجن ال أعرفه ‪ ،‬وفكرت! في الأمر ‪ ،‬فلو‬
‫شفع لهن جمالهن أن يتأخرن عندي بعض الوقت ‪ ،‬فإن صورتي! لن تشفع لي لدى جنود بريطانيا! ب!!أن‬
‫‪6‬‬
‫أتأخر بعد السادسة والنصف! ثانية واحدة "‬
‫وبعد أن ترجاهن في أن يستعجلن االنتقاء ‪ ،‬ثم هددهن بإغالق المتجر ‪ ،‬أخ!!ذن ما ي!!ردن وانص!!رفن ‪،‬‬
‫ليواجه هو الموقف مع جنود المستعمر ‪ ،‬يقول ‪ " :‬كان الشارع أمامي خالي!ا ً من كل ش!!يء ‪ ،‬وتوف!!يراً‬
‫للوقت أخذت أعدو بكل قوتي! لكي أصل قبل السادسة والنصف! ‪ ،‬وبينما! أنا أعدو شعرت ب!أن شخص!ا ً‬
‫ما يج!!ري خلفي ‪ ،‬لم أدر هل هو كلب أم جن!!دي بريط!!اني! واالثن!!ان عن!!دي س!!واء "‪ "......‬وبعد جهد‬

‫‪ 1‬صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪15‬‬


‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪45‬‬
‫‪ 3‬صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪36‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪38‬‬
‫‪ 5‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪12‬‬
‫‪ 6‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪23،22‬‬
‫كبير وص!لت إلى الم!نزل ودلفت إلى س!لمه الض!يق ‪ ،‬وجعلت أثب درجاته وأنا ألعن االس!تعمار! على‬
‫كل درجة أرتقيها ن وما إن وصلت الغرفة حتى هلل الرفاق! لمقدمي اذ أنهم ظنوا أن حادثا ً قد وقع لي‬
‫"‪. 1‬‬
‫وفي اليوم الثاني ‪ ،‬نطلع على المشهد اآلتي ‪:‬‬
‫" الس!!!!اعة السادسة مس!!!!ا ًء وجس!!!!مي النحيل يشق طريقة بص!!!!عوبة بالغة في أحد الأزفة بين الكتل‬
‫البشرية التي أخذت تهرول بخطى سريعة ‪ ،‬وكأن شخصا ً يسوقهم! سوقاً! ‪ ،‬أو كأنهم مشدودين! بخي!!وط!‬
‫ال ترى تش!!دهم بعنف وقس!!وة ‪ ،‬وبيمن!اي لفافة بها بعض الفواكه هي زادي لتلك الليلة ال!!تي سأقض!!يها‬
‫من السادسة والنصف! بين جدران منزلنا ‪.‬‬
‫ان!!دفعت في ذلك الزق!!اق ‪ ،‬وقد أخ!!ذت الح!!وانيت ال!!تي بج!!انبي على ط!!ول الطريق تغلق أبوابها في‬
‫عصبية واضحة ‪ ،‬وأخذ أحد بائعي الماء البارد يقذف بما تبقى من الماء على أرض الزقاق! ‪ ،‬وعين!!اه‬
‫تنظ!!ران في حس!!رة إلى خيط طويل من الم!!اء أخذ يه!!رول هو الآخر في خط متع!!رج لتدوسه النع!!ال‬
‫الوجلة في آخر رحلته ‪ ،‬وكان الناس في فترة سيرى! يختفون تدريجياً! ن ولم أصل ب!!اب الم!!نزل ح!!تى‬
‫لم يعد يس!!ير في الش!!ارع إال شخص!!ان أو ثالث أص!!روا على أن يس!!تمتعوا ب!!آخر دقيقة من ح!!ريتهم!‬
‫!"‪ ، 2‬بع!!!دها دلف إلى منزله ووجد! رفاقه مجتمعين ح!!!ول التلف!!!از ال!!!ذي ك!!!ان يبث ب!!!رامج أغلبها‬
‫مستوردة من بريطانيا كسائر أنظمة هذا البلد ‪ ،‬ثم توجه إلى النافذة وأخذ يشرف منها ‪ ":‬ك!!ان اله!!دوء‬
‫قد شمل كل ما أمامي من بيوت وشوارع! وفي! طرف! الشارع لمحت بق!!رة تس!!ير في اتج!!اهي ‪ ،‬ك!!انت‬
‫تس!ير في ه!دوء وثقة ‪ ،‬وتتبخ!تر في حرية واطمئن!ان ‪ ،‬وم!رت من أم!امي وفي! رأسي مقارنة عجيبة‬
‫بين الحي!!وان المطلق الحرية وبين الإنس!!ان المس!!جون ‪ ،‬وص!!دقوني لقد حس!!دتها! ‪ ،‬بل تحس!!رت على‬
‫نفسي من أن أعامل معاملة تقل عن تلك ال!!!تي تحظي بها البقر ‪ ...‬أرجعت رأسي من الناف!!!ذة عن!!!دما‬
‫‪3‬‬
‫لمحت سيارة عسكرية داخل ذلك الشارع "‬
‫وفي الي!!وم الث!!الث ك!!انت الجمعة ‪ ،‬والح!!وانيت! مغلقة كعادتها! في مثل ه!!ذا الي!!وم ‪ ،‬ومع أنه قد‬
‫أعتاد أن ال يغادر منزله في أيام العطل ‪ ،‬ويح!رص على ش!عور المتعة ال!ذي يمنحه إي!اه بق!اؤه‬
‫في منزله لي!!وم كامل ‪ ،‬ف!!إن ه!!ذه الليلة ‪ -‬ال!!تي مر منها س!!اعة فقط من حظ!ر التج!!وال ‪ -‬ك!!انت‬
‫مختلفة يحدثنا ‪ " :‬كان إحساسي هذه الليلة بأنني مسجون ينغص علي عطلتي هذه ‪ ،‬ويجعل!!ني‬
‫مبلبل الفكر ال أستقر على شيء " ‪ 4‬ونتيجة لشعوره بالأسر شعر بالعجز عن كل شيء ‪.‬‬
‫لكنه تحامل على نفسه ‪ ،‬والتقط قلما ً وحاول! أن يكتب شيئا ً ‪ ،‬يقول ‪ " :‬واحترت م!!اذا أكتب وأنا‬
‫في حالتي هذه ‪ ،‬ماذا أكتب وأنا مسجون بين جدران أربعة وقد! سلبت حريتي! ؟‬
‫وعجز فك!!ري عن أن يجد له موض!!وعاً! يطرقه ‪ ،‬بل لقد شل تفك!!يري ‪ ،‬وفق!!دت الق!!درة على‬
‫‪5‬‬
‫الكتابة ‪ ،‬حتى لو كتبت شيئا ً فستكون كتابتي ضعيفة تنقصها الحرية والطمأنينة "‬

‫عبدهللا سالم با وزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪24‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪25‬‬


‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪26‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪27 ،‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص ‪28،27‬‬
‫وتململ القلم في يده ‪ ،‬وبلغ به الكرب حداً دفع به إلى التفكير برميه ‪ ،‬وحينما! أطل من الناف!!ذة ‪،‬‬
‫رأى المدينة تسبح في لجة ‪ ،‬عميقة من الصمت ‪ ،‬يقول ‪ ":‬وبدا لي الش!!ارع كممر ض!!يق طويل‬
‫بأحد السجون المظلمة ‪ ،‬كما بدت لي البنايات الشاهقة صغيرة جداً ‪ ،‬تضاءلت أمام عيني حتى‬
‫أصبحت كزنزانات ضيقة ‪ ،‬ولمحت الس!!جان من بعيد يط!!رق! أرض الإس!!فلت بقدميه ‪ ،‬وتحطم‬
‫القلم ‪ ،‬ولكنني! لم أتاسف عليه ‪ ،‬فلم يكن له ج!دوى! بعد ذلك ‪ ،‬لقد كنت أوقن أن القلم لن يس!تطيع!‬
‫‪1‬‬
‫الآن أن يعمل شيئا ً مهما برع ‪ ،‬ومهما بلغت كلماته من القوة والشدة "‬
‫وتضيف! قصص أخرى مثل ( سالم كث!!ير ) ‪ 2‬و ( الزائر ) ‪ ،3‬و ( ناصر ) ‪ 4‬تج!!ارب مختلفة‬
‫عن تحول المدينة‪ -‬تحت ق!!انون حظ!ر التج!!وال‪ -‬إلى س!!جن خ!!انق ‪ ،‬فالمدينة في قصة ( س!!الم‬
‫كث!!ير ) ت!!زدحم باألج!!انب " وما أكثرهم في بل!!دنا " ‪ ، 5‬وت!!زدحم بأهلها ال!!ذين لم يعد يث!!ير‬
‫اهتمامهم اقتياد! الجنود المس!لحين ألي منهم ‪ ،‬تح!دثنا شخص!ية العمل فيها عن ح!!ديث دار بينها‬
‫وبين أحد ال!!زمالء ال!!ذي حكى لها عن واقعة اقتياده ‪ ،‬فق!!ال ‪ ":‬وق!!ادني جن!!ديان مس!!لحان إلى‬
‫الس!!يارة الص!!فراء ص!!فرة الم!!وت ‪ ،‬وألق!!وني ب!!داخلها وك!!أنهم! يلق!!ون بي في مغ!!ارة مظلمة ‪،‬‬
‫وتحركت السيارة وتحرك معها ذهني ‪ ".‬ت!!رى هل ص!!حيح س!!يعتقلونني ؟ "‪ "..........‬وب!!دأت‬
‫السيارة في تلك اللحظة تتجه بنا إلى شوارع! مزدحمة بالناس وكان أكثرهم ال يلقون إلينا ب !اال ‪،‬‬
‫فلقد اعت!!!ادوا على رؤية مثل ه!!!ذه المن!!!اظر! كل ي!!!وم ‪ ".............." ".......".‬ولما ت!!!وقفت‬
‫الس!!يارة أم!!ام أحد المعس!!كرات للجيش البريط!!اني توقف ش!!ريط! أفك!!اري ‪ ،‬وش!!عرت! ب!!الخوف‬
‫يس!!يطر! علي وهم يقودون!!ني! إلى بقعة متربة معرضة للش!!مس ض!!ربت حولها ش!!بكة هائلة من‬
‫األسالك الشائكة ‪ ،‬وقذفوا! بي وسط! مئات من المعتقلين ونفسي ت!زداد رهبة ‪ ،‬وقد أخ!ذت تتمثل‬
‫أمام عيني صور كثيرة للتعذيب ال!!ذي س!!أالقيه ‪ ،‬وذه!!ني! يس!!عى جاه!!داً لمعرفة األس!!باب ال!!تي‬
‫جعلتني من بين هؤالء المتعقلين دون أن أهتدي إلى شيء "‪. 6‬‬
‫وفي قصة ( ناصر! ) نق!!رأ ‪" :‬الس!!اعة الخامسة والنصف! مس!!ا ًء ‪ ،‬والمدينة ال زالت تقاس!ي من‬
‫وطأة ( حظر التجوال ) ال!!ذي فرض!!ته بريطانيا على البالد منذ أك!!ثر من عش!!رين يوم!ا ً ‪ ،‬وقد!‬
‫كانت الشوارع حينذاك تدفع الن!!اس دفع!ا ً إلى ش!!ارع المي!!دان ‪ -‬العصب الرئيسي! للبالد ‪ -‬وتمد‬
‫إليه خطوط !ا ً طويلة من الس!!يارات ليس لها آخر ‪ ,‬ك!!ان يعلو وج!!وههم جميع !ا ً ش!!عور! واحد ‪،‬‬
‫شعور بالإذالل والعبودية ‪ ،‬شعور! بالقيود التي التفت ح!!ول رق!!ابهم دون أن يس!!تطيعوا! الإفالت‬
‫منها ‪ ،‬وقد أخ!!ذوا يهرول!!ون ليلحق!!وا قبل أن تحل الس!!اعة السادسة بداية ميع!!اد حظر التجوال‬
‫الذي يمتد حتى الساعة الخامسة صباحا ً "‪. 7‬‬

‫‪ 1‬عبدهللا سالم با وزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪28‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪35‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪9‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص ‪36‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص ‪38،37،36‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫وفي قصة ( الزائر) نقرأ عن تجربة رجل يصاب بالزكام! فيذهب لزيارة الطبيب في عيادته ‪،‬‬
‫لكنه يصل في وقت كان الطبيب فيه قد غادر إلى المستشفى ‪ ،‬وعلى أمل عودته قرر االنتظار!‬
‫وحينما ط!!ال االنتظ!!ار ق!!رر الرجل الرحيل ‪ ،‬لكن دورية من الجن!!ود البريط!!انيين ك!!انت له‬
‫بالمرصاد! ‪ ،‬يحدثنا قائالً ‪ ":‬كان الهواء في الخارج شديداً وبارداً ولهذا فقد أحكمت اللث!!ام ح!!ول‬
‫رأسي ‪ ،‬وأخذت أضرب الأرض بقدمي متلمسا ً طريقي في تلك الرحبة الشاس!!عة كي أصل إلى‬
‫الطريق الع!!ام ال!!ذي يربط الش!!يخ بع!!دن حيث الس!!يارات هن!!اك رائحة غادية ‪ ،‬بينما أنا ك!!ذلك‬
‫واللثام حول رأسي وإذا بخاطر! يمر في ذهني ارتعدت له خوفاً! ‪ ،‬كان المك!!ان موحش!اً! والظالم!‬
‫ض!!ارب خيامه فيه ‪ ،‬وأنا بمف!!ردي وملثم ‪ ،‬ت!!رى م!!اذا س!!يكون لو لمحت!!ني دورية عس!!كرية‬
‫بريطانية مارة في ذلك الوقت ؟ ‪ ...‬ترى ماذا س!!تظن ‪ .‬س!!تطلق الن!!ار علي ال محالة ‪ ،‬وس!!رت‬
‫بيدي قشعريرة لتلك الخ!!واطر ‪ ،‬وه!داني! تفك!!يري س!!ريعا ً إلى أن أن!زع اللث!!ام من ح!!ول رأسي‬
‫واضعه على كتفي ‪ ،‬وارتحت لتلك الفكرة ولكن الخوف كان ال يزال مسيطراً علي ‪ ،‬وتع!!ثرت‬
‫قدماي مرات عديدة بقطع األحجار المتناثرة على الطريق أمامي ح!!تى ك!!دت أكب على وجهي‬
‫في إح!!داها ‪ ...‬وعلى حين غ!!رة وجهت إلي أن!!وار قوية أعمت عي!!ني ‪ ،‬ووقفت م!!ذعورا في‬
‫مكاني ‪ ،‬ال أستطيع حراكا ً ‪ ...‬ولم أشعر إال وأنا بين س!!يارتين من س!!يارات الدورية العس!!كرية‬
‫البريطانية ‪ ،‬وقد! تقافز منهما الجنود شاهرين بنادقهم! ورشاشاتهم! في وجهي ‪ ...‬وأحاط بي ستة‬
‫من الجنود كانت أسلحتهم تكفي لمواجهة مائة من أمثالي "‪. 1‬‬
‫وفي هذا الوجه منها يضيق! المكان بأهله فيكتم! على أنفاسهم بض!!يقه ‪ ،‬لنج!!دهم ي!!تزاحمون على‬
‫مس!!احات مح!!دودة منه في محاولة منهم لالحتي!!ال على ض!!يقه ‪ ،‬ففي ( بقية الحس!!اب ) تب!!ني‬
‫العائلة المكونة من ثالثة عشر ف!!رداً أربعة ( أكب!!ان ) على أرك!!ان المس!!احة الض!!يقة للمك!!ان‬
‫والمؤلف من ( مخ!!!!!زن ودارة ) ‪ ،‬كي تؤوي فيها بعض أفرادها! الم!!!!!تزوجين ‪ ، 2‬وفي! قصة‬
‫( ثالثة أي!!ام في الس!!جن ) تح!!دثنا شخص!!ية العمل عن مس!!كنها فتق!!ول ‪ ":‬فأم!!امي! بضع دق!!ائق‬
‫ستوصلني! إلى المنزل الذي نسكنه ‪-‬وأقول نسكنه بالجمع ‪ -‬لأنني لم أكن الوحيد ال!!ذي يس!!كنه ‪،‬‬
‫فهناك حوالي عشرة أشخاص آخرين بجانبي ‪ ،‬نحتل غرفة واحدة لن يزيد نصيب كل واحد منا‬
‫‪3‬‬
‫عن متر واحد فيما لو قسمت بيننا "‬
‫ويبدو هذا الضيق أشد وطأة على أبناء الشمال الذين وجدوا! في عدن ملجأ يفرون إليه من جور‬
‫الإمامة وظلمها! ‪ ،‬ففي قصة ( تاكسي لمن جاء تعبر ) نلتقي ( أحمد ) وهو أحد أبناء الش!!مال ‪،‬‬
‫وقد وفد على عدن يحدوه أمل في مساعدة أسرته البائسة ‪ ،‬فقد " ماتت أمه وتركت خمسة أفواه‬
‫تحلم بالرغيف صباح مس!!اء ‪ ،‬تعيش من غ!!ير أمل ‪ ،‬اللهم إال زرع تلك الحق!!ول المدرجة ال!!تي‬
‫ت!!!ذهب أك!!!ثر من نصف غلتها إلى الحكومة "‪ ، 4‬لكنه يجد نفسه ض!!!ائعا ً فيها ‪ ،‬يقضي نه!!!اره‬
‫يتسكع في شوارعها ومقاهيها ‪ ،‬ثم ي!!أوى إلى وكر ع!!اهرة في ش!!عب العي!!دروس! تق!!دم جس!!دها‬

‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪62،61‬‬


‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪61‬‬
‫‪ 3‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪24‬‬
‫‪ 4‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪7‬‬
‫لمن ي!!دفع م!!االً أك!!ثر ‪ ،‬وأما ما يتبقى له من راتبه ‪ ،‬فبالك!!اد يكفي متطلباته الحياتية الأخ!!رى ‪":‬‬
‫هكذا كان يستلم مشاهرته ويدفع! منها مائة شلن للمطعم والدوبي! ‪ ،‬وعشرين شلنا ً ت!!ذهب ما بين‬
‫سيجارة وس!!ينما ‪ ،‬وتس!تلم! هي ما تبقى من مش!اهرته ‪ -‬س!!تين ش!!لنا ً ‪ -‬لق!!اء أج!!رة منامه ‪ ،‬وأما‬
‫‪1‬‬
‫النقود التي يأخذها عن عمله أوقاتا ً إضافية ‪ ،‬فتذهب إلى زريبة القات "‬
‫وأما عن عالقة الشخصيات بالمكان السياسي! واالجتماعي! في هذا النوع من الأعمال ‪،‬‬
‫فبداية برواية سعيد التي تسلط الضوء على حياة أسرة عدنية تنتمي إلى شريحة التجار فيظهر‬
‫منها ومن حولها عدد من الشخص!!يات النموذجية ال!تي تق!!وم بتأدية أدوار مرس!ومة ‪ ،‬حدت من‬
‫تفاعلها وحيويتها ‪ ،‬ووقفت حائالً دون إمك!!ان إقامة معظم ه!!ذه الشخص!!يات عالق!!ات قوية مع‬
‫المكان ال!!ذي تتح!!رك عليه ‪ ،‬وظلت عالقاتها ال!!تي أقامتها! مع مكانها باهتة ال نلمس من خاللها‬
‫حبا ً وال كرها ً فس!!لمان هو نم!!وذج للت!!اجر الع!!دني الآتي ‪ -‬كغ!!يره من التج!!ار فيها ‪ -‬من منطقة‬
‫أخرى ن فهو ابن المخاء ‪ ،‬الذي اشترك في الحرب الإيطالية الحبشية ‪ ،‬فجمع أمواالً طائلة ‪ ،‬ثم‬
‫جاء إلى مستعمرة عدن ليستقر فيها ويقيم تجارته ‪ ،‬وهو ال يرى في عدن سوى منطقة تجارية‬
‫منها وع!!بر مينائها يتم له تص!!دير! البن اليم!!ني والس!!من الجبلي والجل!!ود الآتية إليه من مختلف‬
‫بقاع اليمن ‪ ،‬وإليها يستورد! التبغ الهندي والأزرق! والأقمشة ‪ ،‬ومن هنا فإن ما يقلقه منها ه !و ما‬
‫يقلق تجارته ‪ ،‬ول!!ذاك هو ال يخشى من مج!!رد تزايد الوج!!ود الأجن!!بي على ع!!دن ‪ ،‬وإنما ت!أتي‬
‫خشيته من احتمال إمكان استغناء هؤالء األجانب عن التعامل معه بعد أن تتوطد! اقدامهم فيها ‪،‬‬
‫وتتكشف! لهم أسرار تجارتها ‪. 2‬‬
‫وهو أب تقلي!!دي الفكر يختلف مع ابنه ( س!!عيد ) ال!!ذي يمثل أنموذج!!ا ً لجيل الش!!باب المتن!!ور‬
‫المثقف المؤمن بالإقناع والحوار ‪ ،‬وسعيد ( بطل الرواية ) هو الشخص!!ية الأشد انتم!!ا ًء للمك!!ان‬
‫الذي تعيش فيه والأكثر تفاعالً مع مايجري عليه ‪ ،‬فهو ال ي!!ألو جه!!داً إال بذله في س!!بيل إح!!داث‬
‫تغيير في وعي الناس ومنهم أسرته ‪ ،‬وهذا ما ت!!دل عليه حواراته الكث!!يرة داخل الرواية ‪ ،‬وهي‬
‫حوارات تحث على اتخاذ العلم سبيالً إلى إثبات الوجود على هذا المكان المتأهب لمنافسة قوية‬
‫من قبل الأجانب ‪ ،‬بدأت نذرها تلوح في الأفق ‪ ،‬واالعتماد على الذات ‪ ،‬وت!!رك الكسل والتواكل‬
‫‪ ،‬ونبذ الخرافات والتكاتف والتعاضد! لخلق وعي بأضرار! المس!!كرات وآثارها الم!!دمرة به!!دف‬
‫االنقطاع عنها ‪ ،‬وانقاذ شباب المجتمع منها ‪ ،‬وعدم التسليم ب!!دعاوى الخن!!وع والرض!ى بما هو‬
‫ق!!ائم من ظلم واس!!تبداد! ‪ ،‬ال!!تي تتن!!افى! مع روح العصر ‪ ،‬فنحن " في عصر محت!!اج إلى ش!!باب‬
‫نش!!!يط مفكر ‪ ،‬يعمل على رفع مس!!!توى! البالد وال ي!!!ركن إلى الخي!!!ال الس!!!احر ‪ ،‬فالحض!!!ارة‬
‫الحاضرة تتطلب الجد والكد والسير في ضوء الحقائق العلمية المالئمة لروح الدين الإس!!المي‬
‫ومقتض!!يات التم!!دن الص!!حيح "‪ 3‬وقد يمتد طموحه ليش!!مل توعية الن!!اس بض!!رورة المطالبة‬
‫بدستور! يضمن سعادة الجماعة ويحفظ حقوق الفرد ‪ ، 4‬ويتسع انتم!!اؤه ليش!!مل األرض العربية‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪6‬‬


‫‪ 2‬محمد علي ابراهيم لقمان( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪46‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪26‬‬
‫والإسالمية كلها ‪ ،‬فيدعو إلى وحدتها متألما ً على ما أصابها من الذل واالستكانة والهوان بسبب‬
‫التفرق الذي أغرى المستعمرين فتسابقوا على اقتسام! أراضيها! واستثمار خيراتها حتى أش!!بعوا‬
‫أهلها ظلما ً وعذابا ً ‪ ، 1‬وكذا هو عثمان شاب متنور مؤمن بالحوار والإقناع ‪ ،‬ومدرك للأخط!!ار‬
‫المحدقة بوطنه ‪ ،‬وهو يظهر تف!!!اعالً واض!!!حا ً مع ما تحفل به ع!!!دن من س!!!لوكيات مرفوضة‬
‫لش!!باب منح!!رف ‪ ،‬فيقف في وجه س!!الم وحسن الل!!ذين غيبت الخم!!رة عقليهما ‪ ،‬ح!!تى أخ!!ذوا‬
‫يعترضون طريق زهراء ‪:‬‬
‫"‪ -‬تبا ً لك من هماز مشاء بنميم ! اس!!كت ‪ ،‬ال أم لك ‪ ...‬قد س!!معت كل ش!!يء أيها ال!!وقح ‪ ،‬وإنك‬
‫لتستحق أن يستحق! رأسك ‪ ...‬ولكن ال بد من القضاء على جرائمك قبل ذلك "‪. 2‬‬
‫وهو يشرح للزهراء التي تظهر اس!!تنكارها! لما ت!!راه من انحالل أخالقي أخذ يتفشى بين ش!!باب‬
‫‪3‬‬
‫عدن فيتنقل ‪ -‬كمثقف متنور! ‪ -‬بين علوم التربية وعلم النفس وعلم االجتماع ‪.‬‬
‫وفي المقابل يقف سالم وحسن نموذجا ً للشباب الذي أغوته المغري!!ات ب!!االنحراف عن الطريق!‬
‫الس!!وي في مدينة تعج بالجنس!!يات الغريبة عنها ‪ ،‬ال!!تي يب!!دو أن وجودها! قد أس!!هم ب!!دوره في‬
‫شيوع هذه الظاهرة ‪ ،‬ونحن ال نراهما إال منش!!غالن بمل!!ذاتها ‪ ،‬وه!!ذا حسن ‪ -‬بعد أن تمكن منه‬
‫س!!!الم وج!!!ره إلى طريق! المج!!!ون والتهتك ‪ -‬يح!!!اول إغ!!!واء عاملة هندية ‪ ،‬فيقف له وال!!!ده‬
‫بالمرصاد! ‪ ،‬فبينما! كان سلمان منشغالً مع كاتبه الذي أخذ يدون في دف!!تره بيوعه ومش!!ترواته "‬
‫وقف ولده حسن بجانب هندية تغربل البن ‪ ،‬يغازلها من ط!!رف خفي ووال!!ده يرقبه من حيث ال‬
‫يشعر ‪ ،‬وأحس الخادم بذلك فأس!!رع ينبه حس!نا ً إلى الأمر الواقع ‪ ،‬ق!!ام س!!لمان متث!اقالً! مح!دوب‬
‫الظهر "‪ "......‬ولما رأى الهندية التي ك!!ان يغازلها ول!!ده نظر إليها ش!!زراً ‪ ،‬ف!أطرقت برأس!!ها‬
‫‪4‬‬
‫خوفا ً وحياء ‪ ،‬فهددها! بالطرد! إن عادت تتحدث إلى حسن "‬
‫أما ن!!ور فهي نم!!وذج لزوجة ت!!اجر تهتم بش!!ؤونه وتعمل على راحته ‪ ،‬لكنها ب!!الرغم مما تقدمه‬
‫من مجهود! خيري لبسطاء الناس في ع!!دن ‪ ،‬حيث " انص!!رفت نحو أعم!!ال الخ!!ير بكل قواها ‪،‬‬
‫فهي تعت!!ني بالمرضى واليت!!امى! والمس!!اكين " ‪ 5‬ف!!إن نظرتها المتعالية تش!!وش حسن تعالقها‬
‫وكم!!!ال انتمائها إلى المك!!!ان وأهله ‪ ،‬يكشف عن ذلك موقفها الم!!!ترفع من ( زه!!!راء ) ‪ ،‬حيث‬
‫أخذت تحذر ابنتها منها ‪ ،‬وتقول ‪ ":‬اح!!ذري زه!!راء لئال تغ!!رر بك ‪ ،‬فقد بلغ!!ني أنك تمت!!دحينها‬
‫كث!!يراً وتص!!افينها! ‪ ،‬ألم تعلمي أنها ليست من بيت يس!!اوي بيتك في العالء "‪ ، 6‬وهي تمثل جيل‬
‫مختلف عن جيل عائشة والزهراء اللتين تظهران وعيا ً أكبر لواقع المكان الذي تعيشان فيه ‪.‬‬
‫فعائشة والزهراء تتأثران بأفكار ( سعيد ) المتنورة ‪ ،‬وتتجاوبان مع هذه الأفك!!ار كل بطريقته!ا‬
‫الخاصة فعائشة تختلف مع والدتها ( ن!!ور ) ح!!ول أك!!ثر من قض!!ية ‪ ،‬منها االعتق!!اد بال!!دجالين‬
‫وبقدراتهم! على إشفاء المرضى! وحماية الناس ومنها النظر إلى الناس تبع!ا ً لما يمتلك!!ون ‪ ،‬فهي‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص ‪42‬‬


‫‪ 2‬محمد علي ابراهيم لقمان( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪28،27‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪9‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪10‬‬
‫وعلى خالف وال!!!دتها! ت!!!رى أن الفقر ال يش!!!كل عيب!!!ا ً ينتقص على أساسه من قيمة الإنس!!!ان ‪،‬‬
‫وزهراء تتصدى! لسالم وحسن حين حاوال اعتراض طريقها وتسدد ص!!فعة قوية في وجه س!!الم‬
‫‪ ،‬وهما دائمتا الرغبة في االس!!!تزادة من العلم والمعرفة ‪ ،‬وحينما! تتع!!!رض أس!!!رة ( س!!!لمان )‬
‫لضائقة مالية شديدة تتحرك الفتاتان للمساهمة في إنقاذ هذه الأسرة ‪. 1‬‬
‫ويظهر المجتمع الع!!دني في محيط تعامل ه!!ذه الشخص!!يات بتش!!كيلته االجتماعية الفري!!دة بين‬
‫جنس!!!يات متع!!!ددة ومس!!!تويات! اجتماعية مختلفة ‪ ،‬فهن!!!اك الأغني!!!اء والفق!!!راء ‪ ،‬والش!!!حاذون‬
‫والمشعوذون والمعفرون وجوههم بتراب قبور الأولي!اء ‪ ،‬والمنخرط!!ون المنغمس!!ون بما يحف‬
‫به المكان من مظاهر الفساد وال!!تردي الأخالقي ‪ ،‬وبعاداته وتقالي!!ده ال!!تي يظهر معظمها! س!!لبيا ً‬
‫وبحاجة إلى تكثيف جه!!ود التوعية ‪ ،‬وهي الغاية ال!!تي أنش!!ئت ألجلها الرواية ‪ ،‬ذلك أن ال!!وعي‬
‫القائم ال يتناسب ومقدارما يتعرض له المكان من خطر داهم ‪.‬‬
‫ويحضر! في رواي!!ة ( مأس!!اة واق ال!!واق ) حشد كب!!ير من الشخص!!يات ‪ ،‬منها المتخيل ومنها‬
‫المستحضر! من التاريخ القريب أو البعيد ن ومنها الشخصيات الأسطورية والدينية ‪ ،‬وهي تبني‬
‫تعالقها من المك!!ان بط!!رق مختلفة تبع !ا ً ل!!دورها ال!!ذي لعبته خالل تاريخه الق!!ريب أو البعيد أو‬
‫لأثرها الديني واالجتماعي أو النفسي فيه ‪.‬‬
‫‪ )1‬البطل والمكان ‪.‬‬
‫بطل الرواية هو ( العزي محمود ) وهو نفسه اسم كاتب هذا العمل ‪ ،‬مما يؤكد حقيقة كون‬
‫هذه الرواية تقوم على مب!!دأ الم!!زج بين الواقع الت!!اريخي الق!!ريب والبعيد ‪ ،‬وبين المتخيل ‪،‬‬
‫فتنطلق من الواقع إلى المتخيل ال لتس!!بح في ض!!باباته أو تحلق مع ش!!طحاته ‪ ،‬وإنما لتنبش‬
‫في ذاكرة ذلك الواقعي! وتستفز! حركته ‪ ،‬حتى يتحول هذا المتخيل مع تنامي حركة الح!!دث‬
‫إلى مجرد إطار أو محتوى تموج في داخله حركة حياة حقيقية لبشر حقيقين ‪.‬‬
‫وهو منتم إلى مكانة ال!!ذي أبعد عنه قس!!راً! ‪ -‬بعد فشل ‪1948‬م ‪ ،‬وتنكيل الإم!!ام أحمد بكل‬
‫أبطالها ‪ -‬على القاهرة ‪ ،‬لكنه مع هذا الإبعاد يجده مسكونا ً بمكانه ال!ذي ينتمي إليه ‪ ،‬ويه!زه‬
‫أن يخوض علماء الأزهر في كل قضايا! الدين والدنيا ‪ ،‬بينما ال يعرجون ولو عروج !ا ً على‬
‫قض!!ية وطنه ال!!ذي يعلو فيه ص!!وت الج!!رح والأنين ‪ ،‬ومن هنا تب!!دا حركة الح!!دث وتب!!دأ‬
‫الشخصية حركتها في اتجاه نقطة االنطالق! للبحث عن مكانها ال!!ذي تعتقد بوج!!ودة بق!!وة ‪،‬‬
‫نسمع ( الع!!زي محم!!ود ) يخ!!اطب علم!!اء الأزهر ق!!ائالً ‪ ":‬وقد! ق!!در لي أن أع!!رف وأق!!رأ‬
‫الكث!!ير عن (واق ال!!واق ) بل إن أول كلمة س!!معتها ووعيتها في حي!!اتي على لس!!ان أمي‬
‫وج!!دتي هي ه!!ذه الكلمة الس!!حرية وحينما كنت أحبو على الأرض ويل!!وث ال!!تراب ي!!دي‬
‫ومالبسي كانتا تقوالن لي هذا ت!!راب ط!!اهر ‪ ،‬لأنه من أرض واق ال!!واق وأن!!ني خلقت منه‬
‫وخلقت أمي وجدتي ‪ ،‬فأدخلت !ا في روعي دون قصد منهما أن تلك الأرض ال!!تي كنت أحبو‬
‫عليها هي بالنسبة لي الأم الأولى والكبرى ‪ ،‬ومن الج!!ائز أن الس!!يدتين كلتيهما توارثتا ه!!ذه‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪50‬‬
‫الأسطورة كفن من الفنون الشعبية الشائعة ولكنهما! لقنتانيها الكأسطورة بل كعقي!!دة وحقيقة‬
‫‪ ،‬ولذلك فإنما أنا أجاريكم وأجاملكم في تس!!ميتها! أس!!طورة ‪ ،‬وإال ف!!إنني أؤمن بها أك!!ثر من‬
‫إيماني بوجود! الشمس والقمر ‪،‬قد اك!!ون مخ!!دوعا َ في إيم!!اني ه!!ذا ‪ ،‬ولك!!ني أنا ال تهم!!ني‬
‫الحقيقة خ!!ارج نفسي ‪ ،‬وأنا أش!!عر أن ه!!ذا البلد ‪ -‬كما لقنت!!ني أمي على الأقل ‪ -‬هو التربة‬
‫الطاهرة الحبيبة التي جبل منها جسدي وصيغ من طينها قل!!بي وعقلي ‪ ،‬فهو وإن لم يكن له‬
‫وج!!ود! في خريطة الأرض موج!!ود في دمي وفي إحساسي ومتجسد في ه!!ذا الك!!ائن ال!!ذي‬
‫‪1‬‬
‫يحدثكم الآن بلسان عربي مبين‬
‫لكنه ومع هذا االعتقاد اليقيني يستبد به شعور! الخوف من تالشي صورة هذا المكان وتب!!دد‬
‫مالمحه من ذاكرته ‪ ،‬كما تالشت وتبددت من وعي الحاضر وذاكرته و أنزوت في ذاك!!رة‬
‫الت!!اريخ الإنس!!اني مج!!رد ص!!ورة لمك!!ان ن!!ابت على أرض يتأصل انتماؤها! مع اس!!تمرار‬
‫الجهل بها إلى عالم الأساطير! ‪ ،‬يحدثنا قائالً ‪:‬‬
‫" ما ك!!ادت تق!!وم حركة ‪ 48‬وتنتكس ح!!تى أص!!بت بإغم!!اءه الص!!لة بي!!ني وبين وط!!ني‬
‫وتاريخي! وخرجت إلى أهل الأرض ‪ ،‬فكنت أجزع حين ال أرى وطني في مس!!رح الزحف‬
‫التاريخي للبشر ‪ ،‬وال أرى الناس يعرفونه ‪ ،‬وال يشهدون له وج!!وداً إال اس!!مه الأس!!طوري!‬
‫الذي تناقلته كتبهم وأقاصيص أس!!الفهم ‪ ،‬من ثم أنك!!روا أن له وج!!وداً! حقيقي!ا َ ‪ ،‬ل!!ذا كاب!!دت‬
‫المرارة الرهيبة ‪ ،‬ودخلت في نقاش مع الناس كأنني مجن!!ون عقالء أو عاقل بين المج!!انين‬
‫"‪. 2‬‬
‫وحيث الواقع الق!!ائم ال ت!!دل حركته على وج!!ود ه!!ذا المك!!ان المنط!!وي بص!!مت على همه‬
‫وحزنه ‪ ،‬فإن البحث عنه ال بد أن ينطلق مرتاداً أشرعة الحلم محموالً على س!!فن الخي!!ال ‪،‬‬
‫فهناك حيث ترسو يمكن التماس الأدلة والقبض على البراهين ال!!تي ت!!دل عليه وعلى حقيقة‬
‫وجوده الفعلي ‪.‬‬
‫ومع ذك!!اء ه!!ذه الحيلة ال!!تي ذهب إليها المؤلف ‪ ،‬إال أننا نستش!!عر! كم الح!!زن ومق!!دار الألم‬
‫الذي أقل مركبه ليرسو عليها ‪ ،‬فهو الغريب المبعد الغ !ارق مكانه تحت رك!!ام ‪ ،‬ده!!ور من‬
‫النسيان ‪ ،‬كتب هشام علي يقول ‪ " :‬من االنقطاع الت!!اريخي إلى الض!!ياع الجغ!!رافي! ‪ ،‬ه!!ذه‬
‫هي قصة بطل ( مأساة واق الواق ) فالأمل الذي كان يح!!دوه في نهضة مرتقب !ة ينطفئ في‬
‫المهد عقب فشل حركة ‪1948‬م ‪ ،‬يخ!!رج البطل إلى الع!!الم منفي!!ا ً ومغترب!!ا ً ‪ ،‬وفي الغربة‬
‫يح!!اول أن ينس تلك الص!!ورة المؤلمة لبالده ال س!!يما أنه مولع بالمقارن!!ات التاريخية ‪ ،‬إنه‬
‫يرى العالم يتقدم ويسير! إلى االمام بقوة ‪ ،‬بينما ال تقف بالده في مكانها ‪ ،‬بل تن!!دفع مهرولة‬
‫إلى ال!!وراء ‪ ،‬تط!!ول س!!نوات الغربة ‪ ،‬وينسى! البطل ص!!ورة ال!!وطن تلك الص!!ورة الباهتة‬
‫المؤلمة ‪ ،‬وينسى الع!!الم وك!!ذلك موقع واق ال!!واق وال يبقى س!!وى الأس!!طورة ‪ ،‬إزاء قس!!وة‬
‫العالم المعاصر ال يكفي أن ينتمي شعب إلى بقعة من الأرض حتى تسمى وطناً! ‪ ،‬فجغرافيا‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪25‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪59‬‬
‫العالم تنهار أمام التقسيم الجديد للعالم إلى مناطق! نفوذ تظهر خريطة سياسية جدي!!دة للع!!الم‬
‫‪ ،‬تتجاوز الجغرافيا التقليدية ‪ ،‬جغرافيا! الأنهار والجب!!ال والح!!دود الثابت!ة ‪ ،‬فالع!!الم! يتح!!رك‬
‫وفقا ً لقانون جديد ‪ ،‬قانون ال!تراكم ‪ ،‬ق!انون ت!راكم ال!ثروة ‪ ،‬ق!!انون ت!!راكم التق!!دم ‪ ،‬وق!انون‬
‫تراكم التأخر أيضا ً ‪ ،‬يصبح الع!!الم دائ!رة واح!!دة المركز فيها قلب الع!الم ‪ ،‬حيث االقتص!اد‬
‫والقوة والنفوذ والب!اقي! المحيط ‪ ،‬وفي المحيط يج!ري تس!ويق البض!ائع ‪ ،‬اس!تثمار! الأرض‬
‫ونهبها ‪ ،‬ترسو سفن غريبة مختلفة الجنس!يات ‪ ،‬لتربط ه!ذا المحيط ب!المركز! ‪ ،‬م!اذا يك!ون‬
‫شأن البالد التي التدخل ضمن إطار هذا المحيط الخاص بالسيطرة على العالم ؟ تخرج من‬
‫جغرافيا الع!!!!الم المعاصر! وتتح!!!!ول إلى أرض الأس!!!!اطير ‪ ،‬تتح!!!!ول إلى مالعب للجن‬
‫والشياطين من البشر الذين يحجبون عنها الشمس ويخترقون أس!!رة الأحالم ‪ ،‬هك!!ذا تض!يع‬
‫بالد واق الواق وال يبقى منه سوى البالد الأسطورية "‪. 1‬‬
‫وهو بطل يتفاعل بإيجابية كب!!يرة مع مأس!!اة مكانه ال!!ذي ينتمي إليه ‪ ،‬فال يمنعه ما ي!!راه من‬
‫أحياء هذا المكان الذين أذلهم القمع وأخرسهم! الرعب حتى غدوا أمواتا ً فيه ‪ ،‬وإنما يذهب ‪-‬‬
‫إليق!!اظهم وإث!!ارة وعيهم بض!!رورة االنتق!!اض والقي!!ام بفعل ي!!برهن على حي!!اتهم وعلى‬
‫رفض!!هم ه!!ذا ال!!ذل المقيم ‪ -‬إلى رحلة خيالية يستنشد خاللها الع!!ون والمس!اندة من أولئك‬
‫الأحياء الخالدين ال!!ذين أبع!!دهم س!!يف الطغي!!ان الإم!!امي ‪ ،‬فيط!!رق! قب!!ورهم لي!ذكي بثب!!اتهم!‬
‫طاقته ويستنهض! هممهم ‪ ،‬كي يسهموا معه في إعادة الحياة وبث الروح في أجس!!اد أولئك‬
‫الموتى الذين ال تزال أق!!دامهم ت!!دب على س!!طح ه!!ذا المك!!ان وتج!!ول! في أرجائه ‪ ،‬نس!!معه‬
‫يحدث الشهداء ويطمئنهم! على تمسكة برسالته في مهمته ال!!تي ج!!اء من أجلها ‪ ،‬فيق!!ول ‪" :‬‬
‫إنني أخجل اآلن لو دخلت الجنة متخليا ً عن الرسالة التي ذبحتم أنتم من أجلها وذبح س!!واكم‬
‫من الشهداء الذين أنشد لقاءهم ‪ ،‬وسيعذبني! هذا الخجل ويحرم!!ني! طعم الجنة ‪ ،‬ولم أكن في‬
‫حاجة إلى الوقاحة قط كما أنا الي!!وم ‪ ،‬والحقيقة أني لو ملكت ه!!ذه الص!!فحة لاس!!تطعت الآن‬
‫أن أظفر بمتعة كبرى ‪ ،‬غير أنها متعة على حساب متعتكم أنتم ‪ ،‬فما أظنكم تس!!تريحون في‬
‫الف!!ردوس بمنظرزميل! لكم تخلى عن قض!!يتكم إيث!!اراً لراحته ‪ ،‬ومتعته ‪ ،‬إنه في ه!!ذا كمن‬
‫يبيع إخوته من جزار وينشد الغ!نى من ال!دم الح!!رام ‪ ،‬ولن يختلف ح!!الي عن ه!!ذا إال ب!أني‬
‫‪2‬‬
‫سأقبض الثمن مؤخراً وهو اختالف ال أهمية له "‬
‫ويتجاوب الشهداء مع مهمته ‪ ،‬يقول الشهيد حميد ‪:‬‬
‫" إن الذي ما تشتهيه نفوسنا هو النضال ال!!ذي س!!محت لنا الس!!لطات أخ!!يراً أن نمارسه في‬
‫‪3‬‬
‫الجنة ‪ ،‬إننا نريد المزيد من االتصال بشهدائنا! ونبعث برسائلنا إلى الشعب "‬
‫وحينما تس!!!أل الأم العظيمة الش!!!هيد جغم!!!ان عن المهمة ال!!!تي اس!!!تدعيت لأجلها ‪ ،‬ينبري‬
‫الشهيد المسمري! شارحاً! ‪ -" :‬الموضو!ع ي!ا أم!!اه يتلخص في أننا نريد أن نس!!اهم في إنقاذ‬
‫بالدنا من الظلم المت!!وحش ال!!ذي قتلنا وال!!ذي ال ي!!زال يواصل القتل ‪ ،‬لقد اض!!طر! زمالؤنا!‬
‫‪ 1‬هشام علي ( الخطاب الرائي في اليمن ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪145‬‬
‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪70‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪161‬‬
‫الأحرارأن يبعثوا إلينا واحداً منهم ليضع قضية البالد على بس!اط البحث مع كب!ار الش!هداء‬
‫وأن يرجعوا! في الأخير إلى أمير المؤمنين علي كرم هللا وجهه ‪ ،‬وبعض كب!!ار الرج!!ال في‬
‫الجنة ‪ ،‬واله!!دف الأك!!بر من ه!!ذه المحاولة أن يجتمع ش!!مل الش!!عب بجميع طوائفه وفئاته‬
‫على كلمة سواء"‪. 1‬‬
‫‪ )2‬الشخصيات المستحضرة من التاريخ القريب ‪ ،‬وهي قسمان ‪:‬‬
‫‪ -‬الشهداء والمضحون‬
‫‪ -‬الخونة والأفاقون! والمرتزقة ‪.‬‬
‫فأما الشهداء والمض!!حون ال!!ذين ب!!ذلوا دم!!اءهم ثمن!ا ً لتمس!!كهم برس!!التهم! وقض!!ية وطنهم ‪ ،‬فهم‬
‫شخصيات ال تزال أرواحهم معلقة بمكانهم الذي أبع!!دهم عنه الطاغية ‪ ،‬وه!!ذه لميس ابنة أس!!عد‬
‫الكامل تحلق بالعزي! محمود! فوق! سماء اليمن قائلة ‪ ":‬أال ترى هذه الغي!!وم المتلب!!دة الحم!!راء ؟‬
‫إنها قطرات من دماء الشهداء أحفادي باركتها! روح السماء ورفعتها! إلى الأفق فأصبحت بح!!راً‬
‫لجي!ا ً مس!!حوراً! في الفض!!اء كما تراها وقد س!!ألت هللا أن يخرج!!ني! من الجنة لأك!!ون ربانة ه!!ذه‬
‫الدماء أحرس طهارتها وأرعاها حتى ال تسقط قط!!رة منها إلى الأرض ‪ ،‬فتطؤها وتلوثها أق!!دام‬
‫المس!!تعبدين ‪ ،‬فتح!!زن ل!!ذلك أرواح الش!!هداء الأح!!رار ‪ ،‬وس !أظل على ذلك ح!!تى تتطهر طينة‬
‫‪2‬‬
‫بالدي ويتحرر العبيد من أحفادي "‬
‫وال ت!!زال تقيم تعالقها مع مكانها ال!!ذي أج!!برت على مغادرته ‪ ،‬منش!!غلة بهمة ومتجاوبة مع كل‬
‫داع يدعو إلى نصرته ‪ ،‬يقول الشهيد ( النعمان ) رئيس اللجنة التي استقبلت (العزي محم!!ود )‬
‫على مشارف! الجنة ‪ - ":‬إنكم ال تتصورون الصعوبات التي اعترضتني ‪ ..‬إن الن!اس في الجنة‬
‫في ش!!غل ش!!اغل بمل!!ذاتهم عن االس!!تماع إلى الكالم عن المش!!اكل ‪ ،‬بل إن الرأي الع!!ام هن!!اك‬
‫يستنكر بشدة أن يعمل أي ساكن من سكان الجنان على تعك!!ير ص!!فو النعيم ‪ ،‬ولم أجد لي عون!ا ً‬
‫حقيقيا ً متحمسا ً إال عند الشهداء فهم الذين تجيز لهم تقاليد الجنة أن يحتفظوا ب!!ذكريات حق!!وقهم‬
‫وقضاياهم ‪ ،‬ولكن بشرط أن اليمارسوا! العمل في هذا الش!!أن إال خ!!ارج الجنة أو ي!!وم الحشر ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫وقد يسمح لهم بأن يبعثوا أرواحهم إلى الدنيا تستطلع ما فعل أحبتهم من بعدهم "‬
‫وتحضر! منهم شخصيات كثيرة بأسمائها الحقيقية التي عرفت بها في حياتها ‪ ،‬مثل الشهيد عبد‬
‫الوه!!اب نعم!!ان ‪ ،‬والش!!هيد الموش!!كي ‪ ،‬والش!!هيد الع!!راقي الض!!ابط جم!!ال جميل ‪ ،‬والش!!هيد‬
‫القردعي ‪ ،‬والشهيد حسين الأحمر ‪ ،‬والشهيد! حميد الأحمر ‪ ،‬والشهيد! محمد ص!الح المس!!مري ‪،‬‬
‫والشهيد جغمان ‪ ،‬والأم العظيمة أم آل أبي دنيا ‪ ،‬وأس!!ماء أخ!!رى كث!!يرة ي!!رد ذكرها في س!!ياق‬
‫الرواية ‪.‬‬
‫وتقوم هذه الشخصيات بسرد تفاصيل تجربة معاناتها! مع الطغيان الإمامي ‪ ،‬من ذلك ‪ :‬مخاطبة‬
‫الشهيد حميد الإمام الهادي لظنه أنه يعرض به ‪ ،‬حيث يقول ‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪167‬‬


‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪48‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص ‪65‬‬
‫"‪ -‬أوقد انطلى عليك أيها الإمام العظيم ما أشاعه السفاحون ض!!دي من إش!!اعات ‪...‬؟ لقد ق!!الوا‬
‫عني أنني ناديت بطرد! الهاشميين من البالد وهذا بهتان مبين لفقوه عني ‪ ،‬بما كتبوا من رس!!ائل‬
‫باس!!مي ‪ ،‬بل وربما! زيف!!وا خطي ‪ ،‬ف !إن أس!!اس دع!!وتي هو التع!!اون بين جميع فئ!!ات الش!!عب‬
‫وقبائله من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ‪ ،‬وأنا ال أعت!!بر الهاش!!ميين إال ج!!زءاً اص!!يالً من‬
‫أبن!!اء الش!!عب لو ن!!ازعتني ال!!دنيا كلها عليهم لق!!اتلت في س!!بيل االحتف!!اظ بهم ‪ ،‬كما أقاتل من‬
‫ينازعني على جزء من أرض بالدي ‪ ،‬وأعتبر ه!!ذا وذاك غاص!!با ً معت!!ديا ً أثيم!ا ً ‪ ،‬إن!!ني ن!!اديت‬
‫وأنادي بالقضاء على الظلم والظالمين من أية أسرة ومن أية قبيلة ‪ ،‬حتى من أس!رتي! أو قبيل!تي!‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫وعادة ما تختتم هذه التجربة سردها برسالة توجهها إلى الأحي!!اء من ب!!ني قومها! أو قبيلتها! ال!!تي‬
‫تنسب إليها ‪ ،‬فتحمل ( الع!!زي محم!!ود! ) أمانة تبليغها ‪ ،‬فحميد ال!!ذي س!!اق تجربتها! في الس!!ياق‬
‫السابق يتجه إلى العزي محمود! ‪ ،‬ويقول له ‪ ":‬إنني أرجوك! أن تنشر هذا للشعب ح!!تى يع!!رف‬
‫جلية الأمر ‪ ،‬قال العزي ‪ :‬اطمئن إنني سوف! أفعل ‪ ،‬وسوف أكون لرسالتك ودمك ال!!زكي وفي!ا ً‬
‫‪2‬‬
‫"‬
‫والش!!هيد! الق!!ردعي من قبيلة م!!راد ‪ ،‬يق!!ول بعد س!!رده حقيقة مقتله ‪ ":‬إن!!ني أرجو من الزميل‬
‫العزي أن يبلغ رسالتي! إلى قبيلة مراد ‪ ،‬وأن يقول لها بأني قد أسقطت كل حق لنا على خ!!والن‬
‫‪ ،‬وأن على قبيلة م!!!راد أن ال تنخ!!!دع بمن يفسد بينها وبين جارتها! خ!!!والن ‪ ،‬فإننا إخ!!!وة وأهل‬
‫وع!!دونا واحد هو الظلم "‪ "....‬إن على م!!راد إذا أرادت أن تك!!ون وفية ل!!دمي إن تت!!آخي مع‬
‫خوالن وتتعاضد! ضد الظلم والطغيان ‪ ،‬إن أي مرادي من قبيلتي يعادي خ!!والن فهو ليس م!!ني‬
‫وال أنا منه "‪. 3‬‬
‫وألن الرسالة ترقى إلى مستوى تف!!وق فيه التجربة المس!!رودة ‪ ،‬قد يكتفي ش!!هيد ما لم تس!!مح له‬
‫الظ!!روف بس!!رد تفاص!!يل تجربته ‪ ،‬بإلغ!!اء رس!!الته ال!!تي يحمل الع!!زي محم!!ود! مهمة تبلغيها ‪،‬‬
‫وهذا ما فعله الشهيد الخادم غالب ‪ ،‬حيث قال ‪ -" :‬إنني قد ال أستطيع الحضور إلى االجتم!اع ‪،‬‬
‫فإذا لم أستطع ‪ ،‬ف!!أرجو من ض!!يفنا أن يحمل ه!!ذه البطاقة ‪ ،‬وأخ!!رج الش!!هيد بطاقته الشخص!!ية‬
‫وكتب فيها ما يلي ‪ ":‬إلى ال!!!ذين لم أعد أع!!!رفهم! ولم يع!!!ودوا يعرفون!!!ني ‪ ،‬إنكم تعيش!!!ون في‬
‫بحبوحة من دمي وفي دنيا عريضة من أرب!!اح مص!!رعي ‪ ،‬فهنيئ!!اً! مريئ!!ا ً " وتناولها الع!!زي‬
‫محمود وقال ‪ -:‬سوف أق!!دمها إلى ال!!ذين ال يعرفونك ولكنا ال نع!!ذرك أنت ورفيقك! في التخلف‬
‫‪4‬‬
‫عن االجتماع "‬
‫‪ -‬وأما الخونة والأفاقون والمرتزقة الم!!تربحون من دم!!اء الض!!حايا ‪ ،‬فيطل منهم الكث!!ير كالخونة‬
‫المعممين والقض!!!اة وأذن!!!اب الطغي!!!ان من الزرانيق ‪ ،‬وجواس!!!يس الطغي!!!ان والص!!!حفيون‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪199‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪199‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪203‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪211‬‬
‫المنحرفون ‪ ،‬وعلماء الس!!وء ‪ ،‬وفقه!!اء الزيدية والش!!افعية واالئمة الظ!!المون ‪ ،‬وأم!!ير! النهب ‪،‬‬
‫والوشاح ‪ ،‬وعماد الطغيان ‪.‬‬
‫وهم منازل من الع!!ذاب ‪ ،‬فجواس!يس! الطغي!!ان يش!تركون مع الطاغية في منزلته من الع!!ذاب ‪ ،‬لأنهم‬
‫ك!!انوا أدوات حق!!يرة في ي!!ده ‪ ،‬ك!!انوا عيونه ال!!تي يبصر بها " كنا نخ!!ون ش!!عبنا نطعن الأبري!!اء من‬
‫إخواننا ‪ ،‬ونزج بهم في السجون ونقدمهم! لل!!ذبح دون إس!!اءة منهم إلينا " ‪ ، 1‬وع!!ذاب المنح!!رفين من‬
‫الصحفيين مخفف بالقياس إلى غيرهم ‪ ،‬ألن الصحافة مهما بلغ انحرافها! وفسادها ال يمكن أن تك!!ون‬
‫شراً محضا َ "‪ ، 2‬وعلماء السوء لهم م!!نزلتهم الخاصة من الع!!ذاب ‪ ،‬تلتهمهم ناربيض!!اء ‪ ،‬ويغم!!رهم!‬
‫لهب هادئ يشبه النجوم ‪ ،‬لأنهم كانوا ينافقون الطغيان ‪ ،‬وهم يعترفون ‪ " :‬ونحن كنا نخضع ونتذلل‬
‫للطاغية أض!!عاف! ما كنا نخضع هلل ‪ ،‬ونخافه أك!!ثر مما نخ!!اف هللا ‪ ،‬فقد جعلن!!اه رب!ا ً ونحن ال ن!!دري‬
‫"‪ ، 3‬والقضاة المتعاونون مع الطاغية في جلد الشعب وإذالله بطونهم! منتفخة كأنها القب!!اب ‪ ،‬وت!!رى‬
‫مقارع النار تضرب هذه البطون فيتطاير! الشرر فيها "‪ ، 4‬وفقهاء الزيدية والشافعية يحترفون تحت‬
‫أك!!وام ملتهبة من كتبهم ال!!تي فرق!!وا الن!!اس بها ‪ ،‬ح!!تى ت!!ذوب أجس!!ادهم! ويتم م!!زج كل فقيهين مع!ا ً‬
‫ليصيرا كتلة واحدة ‪ ،‬وهم يسمعون كل فترة وأخرى إلى صوت يؤنبهم ‪ ،‬فيقول ‪ - " :‬هل أيقنتم أيها‬
‫البلة الأغبياء أنكم شعب واحد ؟ هل يستطيع أح!!دكم أن يم!!يز دمه أو لونه أو عرقه عما يحمله الآخر‬
‫من دم أو لون أو عرق ؟ إنكم لن تستطيعوا بغبائكم أن تفهم!!وا الوح!!دة االعتبارية للش!!عب فعاقبن!!اكم!‬
‫بهذا التوحيد الجثماني الشائه "‪ ، 5‬والأئمة الظالمون تتضخم جباههم في شكل مرعب ‪ ،‬ويسمع منهم‬
‫‪6‬‬
‫أنين موجع ‪ ،‬وهم يتذاكرون! باستمرار ظلمهم وجودهم الذي اقترفوه في حق الشعب "‬
‫وتتهيأ جهنم الس!!تقبال الوش!!اح ياجن!!اه بمط!!ارق جهنمية هائلة ترتفع وته!!وي! ‪ ،‬وحي!!ات تنتفض في‬
‫الأفق هابطة كما تنقض النسور على جيفة بعير ‪. 7‬‬
‫‪8‬‬
‫أما عماد الطغيان فقد أعد له عذابه الخاص عند الصنارة الجهنمية ‪.‬‬
‫وهم ضائقون بمكانهم! من جهنم ‪ ،‬ونادمون على ما اقترفوه ‪ ،‬ويتمنون لو ي!!ردوا! إلى مك!!انهم الأول ‪،‬‬
‫كي يكفروا عن ذنوبهم ‪ ،‬ويعيشوا! حياة سوية ‪ ،‬ولكن أنى لهم هذا ‪ ،‬ويقول العزي محم!!ود! لأح!!دهم ‪-‬‬
‫وقد ناشده أن يخرجه من مكانه ويأخ!!ذه معه ‪ -‬مبش!!راً " إن ش!!عبنا الي!!وم قد ص!!حا وأص!!بح يع!!رف‬
‫وجوه الجواسيس ‪ ،‬وأنا على يقين أنك لو خرجت إلى الوطن م!!رة أخ!!رى لن!!دمت على خروجك من‬
‫جهنم ‪ ،‬فإن الشعب قد أوشك أن يبطش بالجواسيس الخونة ويس!!ومهم الع!!ذاب واله!!وان ‪ ،‬ثم ي!!زفهم‬
‫إلى جهنم ‪ ،‬وستكون واحداً منهم ‪ ،‬فلو أخرجتك رجعت إلى حيث أنت بعد أن تالقي مزيداً من العار‬
‫والبوار ‪ ،‬وتخزي وجوه أهلك وأقاربك ‪ ،‬فابق حيث أنت "‪. 9‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪102‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪105‬‬
‫‪ 3‬ا محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق‪ ،‬ص‪109‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪109‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪111‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪112‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص ‪128‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص ‪133‬‬
‫‪ 9‬نفسه ‪ ،‬ص‪102‬‬
‫ج) الشخصيات من التاريخ الديني واالجتماعي ‪:‬‬
‫وأول ما يهل علينا من ه!!ذه الشخص!!يات ‪ ،‬الإم!!ام اله!!ادي يح!!يى بن الحس!!ين ‪ ،‬ال!!ذي يب!!ادر ب!!إعالن‬
‫براءته ممن يقترفون هذه المظالم ويدعون أبوته لهم ‪ ،‬فيقول ‪ -" :‬أعوذ باهلل من ( يا جناه ) وعرشه‬
‫الباغي ‪ ،‬إنه ليس من أهلي إنه عمل غير صالح ‪ ،‬ثم رفع الإمام الهادي ص!!وته منفعالً ق!!ائالً ‪ :‬عجب!ا ً‬
‫عجبا ً ! ماذا تستطيع الأيام أن تفعل ‪ ،‬من قال لكم أن مثل ه!!ذا الطاغية يمكن أن يعت!!بر من أبن!!ائي أو‬
‫من خلفائي ! إن من يقول هذا يشتمني دون أن ي!!دري ‪ ،‬ومن ق!!ال لكم أني جئت إلى ص!!عدة لتأس!!يس‬
‫عرش لأسرتي! أو ذريتي! ‪ ،‬وإذن فلماذا ث!!ار اإلم!!ام زيد على ب!!ني أمية ؟ وث!!ار! الإم!!ام الحس!!ين على‬
‫يزيد ؟ لقد ث!!ار آب!!ائي الأطه!!ار على ال!!ذين حول!!وا الخالفة إلى ملك يتوارثنه الأبن!!اء ويعتم!!دون على‬
‫القوة والسيف! ‪ ،‬ويعت!!برون الأمة تركة يرثونها عن آب!!ائهم ‪ ،‬كما يرث!!ون الض!!يعة أو الماش!!ية إن كل‬
‫الأصول في مذهبي الذي حملته إليكم تناقض أشد المناقضة وج!!ود! ه!!ذه الع!!روش الش!!يطانية الباغية‬
‫‪1‬‬
‫إنني أستغفر هللا وأبرأ إليه من هؤالء فليسوا مني وال أنا منهم "‬
‫واستحضار هذه الشخصية التي كان لها حض!!ورها! الفعلي على أرض ه!!ذا المك!!ان ‪ ،‬وإنطاقها! به!!ذه‬
‫الشهادة التي أدلت بها ‪ ،‬يمثل ذكاء كبيراً من كاتب هذا العمل الذي يعلم مقدار تأثيرها في نف!وس كل‬
‫من عمرت قلوبهم بحب آل البيت ‪.‬‬
‫ويحضر! الإمام زيد بن علي رضي هللا عنه ‪ ،‬وهو ال يكتفي ببراءته من هؤالء الطغاة كما فعل الإمام‬
‫الهادي ‪ ،‬وإنما يركز على جريمة هؤالء الطغاة في حق آل ال!!بيت ‪ ،‬إذ هم يس!!لبونهم قدس!!ية الش!!رف‬
‫الإنساني بادعائهم االنتساب إليهم ‪ " :‬إن هذا الشخص يدعى أنه من آل ال!!بيت ‪ ،‬وأدهى من ذلك أنه‬
‫يدعي الحكم بمذهب آل البيت ‪ ،‬فهو لايكتفي أن يكون طاغية كس!!ائر طغ!اة الأرض ال!ذين يبطش!ون‬
‫بالن!!اس ويرتكب!!ون الج!!رائم ويع!!ترفون للت!!اريخ ب!!أن ذلك على مس!!ؤوليتهم! الشخص!!ية ‪ ،‬أو على‬
‫مسؤولية القوانين التي يضعونها! أو يختارونها ‪ ،‬بل إنه يفعل أشنع ما يفعله الطغ!!اة ن ويس!!تتر! وراء‬
‫مبادئ الإسالم ‪ ،‬بل ويا لسخرية القدر ! إنه يستتر! وراء مذهبي أنا الذي قاتلت هش!!اما ً ح!!تى الم!!وت‬
‫لأنه طاغية ودعوت الناس إلى قتله وقتاله ‪ ،‬وقررت في مذهبي وجوب الخ!!روج على الظ!!المين من‬
‫أية ساللة وفي! أي عصر "‪. 2‬‬
‫وال يخفى على الق!!ارئ ما في ه!!ذا الكالم من ترك!!يز! على مب!!دأ الخ!!روج على الح!!اكم ‪ ،‬وحث على‬
‫الخروج على هذا الطاغية في رسالة تستمد قوتها! وتأثيرها من مرجعيتها! الكبيرة ‪.‬‬
‫أما الإمام علي كرم هللا وجهه ‪ ،‬فيكون تركيزه على قض!!ية أك!!ثر ش!!موالً ‪ ،‬إنها رس!!الة الإس!!الم ال!!تي‬
‫تقف ضد العصبيات القبلية والعائلية ‪ ،‬نسمعه يخاطب محدثة الذي استسمحه أن يتحدث ب!!الحق ضد‬
‫من ينتسبون إليه ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬أو تظنني كسرى! أو قيصر! حتى تتحرج من الصراحة ضد من ينتسب‬
‫إلى ‪ ..‬؟‬
‫ومالي وللنسب ‪ ،‬إن رس!!الة الإس!!الم ضد العص!!بيات القبلية والعائلية ‪ ،‬ولقد ق!!اتلت أنا أهلي بالس!!يف‬
‫وق!!اتلتهم! جنب!!ا ً إلى ج!!انب مع الأوس والخ!!زرج! ‪ ...‬أال ف!!اعلم أنكم أولى بي من أي ظ!!الم ي!!دعي‬

‫‪ 1‬محمد محود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪198،197‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪228،227‬‬
‫االنتساب إلي ‪ ،‬فإنه ليس في االنتساب إلي الأنبياء والص!!ديقين ما يعصم من الإثم أو من عقوبة الإثم‬
‫‪1‬‬
‫وعاره وشنار!ه لكان أبناء نبي هللا آدم جميعا َ في عاصم أبدي من المعصية أو من عقابها "‬
‫هكذا استحضر الك!!اتب ه!!ذه الشخص!!يات الدينية ‪ ،‬وهي شخصيات منتق!!اه بدقة ‪ ،‬إذ ك!!ان لها تعالقها‬
‫الخاص مع هذا المكان ‪ ،‬أما بمثولها! الحقيقي على أرضه جسداً وروحا ً أو بحض!!ورها! ال!!روحي! في‬
‫عقول قاطني!ه ونفوسهم! ‪ ،‬وهم من لم يعهدوا! أنفس!!هم إال مخلص!!ين في حب آل ال!!بيت معظمين لهم ‪،‬‬
‫ولأجل ذلك فإن تأثيرا أكبر ينتظر! أن يحدثه إنط!!اق ه!!ذه الشخص!!يات ‪ ،‬وبتلك الرس!!ائل المدونة في‬
‫سياق هذا العمل ‪.‬‬
‫كما يحضر عثم!!!ان بن عف!!!ان رضي هللا عنه وعبد المطلب بن هاشم جد الرس!!!ول عليه الص!!!الة‬
‫والس!!الم! ‪ ،‬غ!!ير أن حض!!ورهم! هنا ي!!أتي لل!!دفاع عن أنفس!!هم ودرء ما ينسب إليهم من اتهام!!ات ‪،‬‬
‫فالخليفة عثمان تالبسه تهمتان اقترفهما ‪ -‬من وجهة نظر الكاتب‪ -‬في حق سكان هذا المكان ‪:‬‬
‫الأولى ‪ :‬نشوء الفتنة الكبرى في أيام حكمه ‪ ،‬وأن اليمن!!يين ال يزال!!ون يع!!انون من آثارها الم!!دمرة ‪،‬‬
‫وهو يرد عن نفسه هذه التهمة مبرراً ‪ " :‬إن الفتنة الكبرى نشأت بسبب التناقض الشديد بين س!!جيتي‬
‫وبين طبيعة الحكم ‪ ،‬إن الذين بايعوني! لم تكن عندهم البصيرة النيرة ‪ ،‬فلم يعرفوني ولم ي!دركوا! ه!ذا‬
‫السر ‪ ،‬والحقيقة أنه حتى أنا لم أستطع أن أع!!رف نفسي ‪ ،‬ولم أتص!!ور م!!اذا يح!!دث من التفاعل بين‬
‫طبيعتي وطبيعة الحكم ‪ ،‬لقد كانت تلك تجربة جديدة عليّ ‪ ،‬بل كانت والدة أخرى ولدتها! من جديد ‪،‬‬
‫وتناولت الخالفة تتقمصني روح طفولة تغلب عليها السذاجة والطيبة وال!!براءة ‪ ،‬وما ك!!دت أم!!ارس‬
‫‪2‬‬
‫الحكم حتى أسلمت مقاليده إلى رهطي وأقاربي! من بني أمية ومن هنا نشأت الفتنة "‬

‫الثانية ‪ :‬الخطأ الذي ارتكبه بهدم قصر غمدان ‪ ،‬وتحول قاعدته بفعل هذا اله!دم إلى س!جون وكه!وف‬
‫رهيبة ‪ ،‬وهو ي!!رد على ذلك بقوله ‪ -":‬ولكن القصر لم يعد له وج!ود في بل!دكم لأن ع!!امالً من عم!!الي‬
‫هدمه خطأ ‪ ،‬ولهذا تراني عند سيف بن ذي يزن أتردد عليه كثيراً ‪ ،‬بعد أن جئت إليه م!!رة أ!عت!!ذر إليه‬
‫‪3‬‬
‫عن صنيع عاملي وقد أولعت بهذا القصر وصاحبه "‬
‫ويحضر! عبد المطلب ‪ -‬كأحد الأعراف التي تنسب إليها فئة ضخمة من اليمن!!يين ‪ ،‬كي ي!!درأ عن نفسه‬
‫ما يتهم به من سلبية أورثها! لأحفاده ‪ ،‬حين ترك الكعبة للغزاة ‪ ،‬وهو يقول في ذلك ‪ ":‬وأنا ماذا يعنيني‬
‫من هذا كله ؟ وما دخل!!ني فيه ‪ ،‬إن!!ني رجل مس!!الم ‪ ،‬وال أميل إلى الص!!راع ‪ ،‬وليس أدل ذلك من أن!!ني‬
‫ت!ركت الكعبة لحماية ربها وبحثت عن إبلي ‪ ،‬وقلت للغ!زاة أنا رب إبلي وللكعبة رب يحميها ‪ ،‬ك!ذلك‬
‫‪4‬‬
‫كنت وأنا في الدنيا ‪ ،‬فكيف تطمعون أن أعلن الحرب على مزاجي المسالم وأنا في دار السالم"‬
‫أما سيف بن ذي يزن وهو الشخصية الأسطورية التي يتفاخر اليمنيون بما أقدمت عليه ‪ ،‬فهو يحضر!‬
‫‪-‬أيضا ً ‪ -‬متهما ً بتوريثه هذا الشعب ما يسمي بالعقدة اليزنية التي دائما ً ما تش!!عرهم! ب!!العجز وانتظ!!ار!‬
‫المس!!اعدة من الغ!!ير وهي عق!!دة اس!!تفاض في تفس!!يرها وش!!رح أثارها على إخف!!اق ث!!ورة ‪1948‬م‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪242‬‬


‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪170‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪170‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪171‬‬
‫الضابط العراقي جمال جميل ‪ ،‬وبعد أن استمع سيف بن ذي يزن إلى ما قاله بدا عليه الض!!جر والقلق‬
‫‪ ،‬ثم قال ‪ - ":‬يؤسفني أن يتناول الن!اس ت!!اريخ عص!ري على ه!!ذا النحو ‪ ،‬وأن يفرض!وا! علينا وعلى‬
‫تاريخنا منطق عص!!!ورهم! المت!!!أخرة ومنطق! مب!!!ادئهم! ومس!!!تواهم في التط!!!ور! الحض!!!اري! "‪"....‬‬
‫فاألحباش لم يحاربونا! ولم يغزونا وحدهم ‪ ،‬إنما حاربونا! بهيبة وبنفوذ الدولة الك!!برى في الع!!الم يومئذ‬
‫‪ ،‬وهي دولة الروم!!!ان ‪ ،‬فك!!!أن من الط!!!بيعي أن نبحث لنا دولة حليفة تق!!!اوم بهيبتها المعنوية هيبة‬
‫الرومان ‪ ،‬والف!!رس لم يس!!اعدونا! في الواقع إالَّ مس!!اعدة رمزية قص!!دنا باس!!تقدامها! هيبتها المعنوية ال‬
‫قواتها العسكرية الفعلية ‪ ،‬فلم يكن معي يوم حررت بالدي إالَّ فلول هزيلة من سجناء الدولة الفارس!!ية‬
‫‪.‬‬
‫إننا نحن الذين حررنا وطننا ‪ ،‬ولنا شرف التحرير ‪ ،‬وكان العرب جميعا ً يفخرون بما ص!!نعناه ‪ ،‬ولم‬
‫يكن في عص!!!رنا من ينتقص من قيمة انتص!!!ارنا! بمثل ه!!!ذا اله!!!راء ال!!!ذي تس!!!مونه عق!!!دة يزنية‬
‫‪1‬‬
‫وتفرضون على مواقفنا! منطق ظروفكم ومصطلحاتكم في القرن العشرين "‬
‫والكاتب الذي ذهب إلى هؤالء مدفوعا ً بحيرة مما يراه من خنوع واستس!!الم طغى على ش!!عبه ح!!تى‬
‫قتل فيه إرادته وشوه إنس!!انيته ‪ ،‬يع!!ود وقد! دحض كل تلك األس!!باب ال!!تي تعلق األمر على األع!!راق‬
‫والوراثة ‪ ،‬كي ي!!زكي في ه!!ذا الش!!عب اإلحس!!اس ب!!أن ما يمر به م!!اهو إالَّ حالة عارضة وآيلة الى‬
‫الزوال ‪ ،‬ففي وعيه وإدراكه تكمن جذوة اإلرادة التي تفجر بركان الثورة ‪.‬‬
‫كما تحضر شخص!!!يات أخ!!!رى كث!!!يرة ال يتسع المج!!!ال للتفص!!!يل في حيثي!!!ات حض!!!ورها ‪ ،‬منها‬
‫الشخص!!!!يات المتخيلة من علم!!!!اء األزهر ‪ ،‬والشخص!!!!يات ال!!!!تي حض!!!!رت محكمة الحب ومنها‬
‫شخص!!يات نس!!ائية ك!!ان لهن دور م!!ؤثر في الت!!اريخ ال!!ديني والسياسي! واألدبي! ‪ ،‬مثل أس!!ماء ذات‬
‫النطاقين ورابعة العدوية ‪ ،‬وغزالة الخارجية ‪ ،‬وليلى العامرية ‪ ،‬وشخص!!يات من الت!!اريخ اإلنس!!اني‬
‫مثل نيرون ‪ ،‬وغير ذلك من الشخصيات التي تزدحم! بها الرواية ‪.‬‬
‫وتقوم القصة القص!!يرة في تش!!كيل شخص!!ياتها على توغل وج!!داناتها! الداخلية ‪ ،‬وهو التوغل ال!!ذي‬
‫ينعكس بشكل واضح على حركتها! في مجالها المكاني المحدود ‪ ،‬ويش!!تد! ت!!أثيره ح!!تى يش!!كل مالمح‬
‫ه!!ذا المج!!ال فيص!!بح ج!!زءًأ من تكوينها! النفسي ‪ ،‬فض!!يق! المك!!ان وتزاحمه وظلمته وقدمه وتش!!ققه‬
‫وقذارته هو انعكاس لتكوينها النفسي ‪ ،‬ودليل على ضيقها وتزاحم! همومها وقلقها وشقائها! وعذابها ‪،‬‬
‫وفي دراستنا لعالقة الشخصية القصصية بمكانها في القصة القص!!يرة المنتمية للف!!ترة المح!!ددة له!!ذا‬
‫المبحث ‪ ،‬نجد أن هناك نقاطا ً أساسية تجتمع عندها خطوط هذه العالقة منها ‪:‬‬
‫‪ ]1‬أن معظم الشخصيات تستشعر وضعها البائس المحزن في مكانها ‪ ،‬فسوا ًء كان المكان ض!!يقا ً أو‬
‫متس!!عا ً هو مك!!ان ق!!اس وض!!اغط ومحف!!وف بالتهديد والخ!!وف ومض!!مخ بمالمح الض!!جر والقتامة‬
‫والش!قاء ‪ ،‬وهو ع!ادة ال يمثل حماية للشخص!!ية من أن!!واء الخ!ارج المحيط ‪ ،‬وال ي!وفر! لها ق!!دراً من‬
‫األمان ‪ ،‬وإنما يمتد خوف الخارج ورعبه وتهديده ليتوغل مكانها الخاص ويقلق حياتها ‪.‬‬
‫ففي قصة ( س!!عيد الم!!درس ) لمحمد س!!عيد مس!!واط تظهر أوص!!اف! المك!!ان ض!!جر الشخص!!ية‬
‫وإحساسها! باالختن!!اق من ض!!يق الح!!ال المض!!روب! عليها وعلى أبن!!اء ش!!ريحتها من المدرس!!ين في‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪179 ، 180‬‬
‫ع!!دن خالل ف!!ترة الخمس!!ينات من الق!!رن العش!!رين ‪ ،‬فمس!!كنه ال!!ذي تستض!!يف جدرانه حش!!وداً! من‬
‫الصراص!!ير! (مخ!!زن ) مج!!دور! القاعة يش!!به خريطة للعمي!!ان " كله نت!!وء وحفر ‪ ،‬أما ( ال!!دارة )‬
‫فحدث وال حرج ‪ ،‬أكوام من الرمل كث!!يراً ما غ!!رقت ( قراحيفه ) فيها ‪ ،‬وج!!دران من الطين مأكولة‬
‫الساس هي في الواقع أشبه بلوحة نقوش ‪ ،‬يراها كل ص!!باح ومس!!اء ‪ ،‬وكث!!يراً! ما وقف! يتأملها حين‬
‫تقع عيناه عليها ‪ ،‬كلما أخ!!رج رأسه من فتحة قميصه ‪ ،‬عن!!دما يلبس ثيابه ‪ ،‬ف!!يرى خطوط!اً! خارجية‬
‫قريبة في تص!!ميمها! من خريطة الهند وص!!ورة ث!!ور ه!!ائج ال يع!!رف من كسر قرنه و‪ ......‬و‪......‬‬
‫وما الى ذلك ‪ ،‬فال ي!!دري أيعجب بها أم يعجب منها ‪ ،‬آلن أح!داً ممن في ال!!بيت لم يتعمد رس!مها! ولو‬
‫‪1‬‬
‫تعمد ما استطاع! "‬
‫وفي قصة ( بقية الحساب ) يضغط المكان من حول الشخصية عليها بإحساس الغربة ‪ ،‬إذ هي ترى‬
‫األجنبي يتوسع كل يوم مزحزحا ً أبناء البلد األص!!ليين ح!!تى ي!!بزهم من أم!اكنهم ‪ ،‬وي!!تربع! م!!دعوما ً‬
‫بسياسة استعمارية تمكنه وتمنحه صكوك االستحقاق الكامل ‪ ،‬نقرأ على لسان الشخص!!ية ‪ " :‬وكنت‬
‫كاتبا ً في إحدى اإلدارات الحكومية ‪ ،‬وفي! السنوات القليلة الماضية بدأ س!!يل من األج!!انب ‪ ،‬يفد على‬
‫إداراتنا من كل حدب وصوب! ‪ ،‬وكنت أتخيل هذه اإلدارة مزيجا ً من ألوان متع!!ددة ولغ!!ات مختلفة ‪،‬‬
‫ولسوء الحظ أن أحد الكتبة األجانب الذي عرف بميله الشديد وحبه المفرط لرج!!ال اإلدارة رقي إلى‬
‫م!!!دير ب!!!دالً من م!!!ديرنا األول ال!!!ذي ذهب إلى بالده بعد انته!!!اء مدته منذ ذلك الحين ‪ ،‬وأنا أرى‬
‫تحركات خطيرة في سماء حياتي العملية ‪ ،‬تحركات من ن!وع جديد أرى تعس!فا ً وض!غطاً! واس!تبداداً!‬
‫وتمي!!يزاً بين األف!!راد! ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين أيض!!ا َ وأنا أرى أص!!دقائي الق!!دامى يت!!وارون عن اإلدارة‬
‫ح!!املين بقية الحس!!اب ‪ ،‬وس!!رعان ما يحل محلهم أج!!انب حض!!روا! من بالدهم طبق!!ا ً لسياسة لعينة‬
‫حاكها الم!!دير المبجل ‪ ،‬وكنت فعالً أنتظر ه!!ذا ال!!دور ال!!ذي ك!!ان ينتظ!!رني بف!!ارغ الص!!بر ‪ ،‬وكلما‬
‫تذكرته يزداد قلبي وجيبا ً ‪ ،‬فأسال نفسي ب!!برود هل يس!!تطيع أن يط!!ردني في ي!!وم ما ؟ وهل ت!!راوده‬
‫الفكرة لتنفيذ هذه المهزلة ‪ .‬من الجائز أن يكون الجواب نعم ‪ ،‬يستطيع! ذلك وأك!!ثر من ذلك ‪ ،‬ألم يكن‬
‫‪2‬‬
‫هو المدير وحامل السلطة العليا في اإلدارة "‬
‫وبعد أن تتحقق كل مخاوفها! ‪ ،‬وي!!!دفع! إليها ببقية حس!!!ابها عن خ!!!دمتها الطويلة تنس!!!حب به!!!دوء ‪،‬‬
‫وتنزوي! مشمولة بإحباطها! وته!!دمها في مكانها الم!!تزاحم! الخ!!ائف ‪ ،‬نق!!رأ على لس!!انها ‪ " :‬قبعت في‬
‫وقت الظه!!يرة ‪ ،‬ب!!ركن قصي! من م!!نزلي وكنت مبه!!ور! األنف!!اس ألهث ك!!الثور الم!!ذبوح ‪ ،‬مش!!تت‬
‫األفكار ‪ ،‬ضائع الحواس ‪ ،‬وفي! أثناء هذا الشرود! الذهني كنت أنقل بصري إلى كل شيء في المنزل‬
‫‪ ،‬فأرى ع!ائلتي المكونة من ثالث عش!!رة نس!!مة ‪ ،‬وهي تس!ير هنا وهن!اك ‪ ،‬في!وحي! لي ه!!ذا المنظر‬
‫أنني أعيش حق!ا ً في ( الس!!وق! الطويل ) وه!!ذه الس!!رر المبع!!ثرة المهترئة الحب!!ال ال!!تي تش!!غل ثالثة‬
‫أرب!!اع الم!!نزل ‪ ....‬وه!!ذه ( األكب!!ان ) األربعة ال!!تي نص!!بت في كل ركن منه لبعض أف!!راد العائلة‬
‫المتزوجين ‪ ،‬كل هذا في منزل يحوي ( مخزنا ً ) و ( دارة ) فقط ‪ ...‬هذا عالوة على أرض الم!!نزل‬
‫‪3‬‬
‫المكتظة بشتى القاذورات وبراز األطفال التي أكل الزمن عليها وشرب "‬
‫‪ 1‬مجلة الحكمة ‪ .‬العدد ( ‪ )42‬اغسطس ‪ ،1975‬اتحاد االدباء والكتابـ اليمنيينـ‬
‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪62‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪61‬‬
‫ويصبح المكان في قصة ( تاكسي لمن جاء تعبر ) مثاال لالستغالل والضياع ‪ ،‬فهو وكر فسادي في‬
‫شعب العي!!دروس تض!!يع فيه الشخص!!ية بعي!!داً من مركز الن!!ور والحض!!ارة في ( ع!!دن ) ‪ ،‬نق!!رأ ‪":‬‬
‫يالهذا الظالم !أما آن له أن يزول ؟ يا لهذا الش!!قاء الج!!اثم ف!!وق حي!!اتي و كأنه س!!رطان ال ي!!رحم ! يا‬
‫لهذه الهموم السوداء والمخاوف التي تنتابني وتمتص قواي! ! يا لهذه األقدار! !يا لهذه الحي!!اة ‪ .‬أت!!رى‬
‫ولد الشقاء يوم مولدي! ؟ وهل أنا الوحيد الذي يشقى في هذا العالم ! ‪،‬‬
‫ومع ذلك المس!!اء الحالك البهيم ‪ ،‬ومع الظالم المخيم على المدينة ‪ ،‬ومع وحشة الك!!ون ‪ ،‬ك!!ان أحمد‬
‫يس!!رح في ه!!ذه الخ!!واطر! المفزعة كل له ذكرياته وخ!!واطره ‪ ،‬ولكن ما أقسى ه!!ذه الخ!!واطر! ال!!تي‬
‫ت!آلبت على أحمد ‪ ،‬وال!تي زجرها وهو ي!دلف باب!ا ً ص!غيراً فتحه ببطء ‪ ،‬ودخل في اطمئن!ان كالف!أر‬
‫الجبان يس!اق إلى المص!ير الحاسم ‪ ،‬وتوقف عند م!دخل الب!اب كي يخ!رج علبة الك!بريت ‪ ،‬وأض!اء‬
‫‪1‬‬
‫الشمعة التي على مدخل الباب كي تساعده على الوصول! ‪ ،‬ووصل! الى منتصف! الغرفة الحقيرة "‬
‫وفي ( ثالثة أي!!ام في الس!!جن ) يطغى على الشخص!!ية ش!!عور! ب!!اإلذالل واالض!!طهاد! وفي! مكانها ‪،‬‬
‫فعليها أن تعود إلى منزلها في ساعة يحددها الدخيل المحتل ‪ ،‬لذا تراها تشق طريقها مندفعة في أحد‬
‫األزقة الضيقة والمزدحمة بالكتل البشرية التي أخذت تهرول مس!!رعة كأنها مش!!دودة بعنف وقس!!وة‬
‫إلى خي!!وط! ال ت!!رى ‪ ،‬لتتحاشي ب!!ذلك الوق!!وع في قبضة جن!!ود المس!!تعمر ‪ ،‬وت!!رى! حالة الهلع تعم‬
‫الش!!!ارع وتس!!!يطر عليها ف!!!ترافق حركتها الوجلة حركة إغالق أب!!!واب المحالت الواحد تلو اآلخر‬
‫‪2‬‬
‫وبعصبية واضحة‬
‫وعندما تصل إلى منزلها المؤلف من غرفة يسكن فيها أك!!ثر من عش!!رة أش!!خاص نص!!يب كل واحد‬
‫منها ال يزيد عن م!!تر واحد ‪ ،‬وتح!!اول! أن تطل من الناف!!ذة وتنظر إلى ط!!رف الش!!ارع كتعب!!ير! عن‬
‫اختناقها وضيقها بمكانها المك!!دس ال!!ذي وص!!لت إليه بعد رحلة عودتها الش!!اقة ‪ ،‬يتص!!اغر الش!!ارع‬
‫ح!!تى يب!!دو كممر ض!!يق طويل بأحد الس!!جون المظلمة ‪ ،‬وتتض!!اءل العم!!ارات الش!!اهقة ح!!تى تغ!!دو‬
‫كزنزانات‬

‫ضــيقة ‪ ،‬ويلــوح المحتــل من بعيــد يطــرقـ أرض اإلســفلت بقدميــة الغليظــتين ‪ ،‬فتشــعرـ هي بضــآلتهاـ‬
‫وحقارتها حتى تحسد بقرة لمحت تسير في هدوء وثقة وتتحسرـ على نفسها من أن تعامــل معاملــة تقــل‬
‫‪3‬‬
‫عن تلك التي تحظى بها البقرة‬
‫وفي قصة ( الزائر ) يتجلى المكان المتسع مكانا ً خاليا ومظلما وموحشا ‪ ،‬يشعر الشخصــية بضــآلتها ‪،‬‬
‫ويثير فيها هواجس مرعبة ‪ ،‬فماذا لو وقعت في قبضة دورية بريطانية ‪ ،‬هل ستطلق عليها الرصاص‬
‫؟ الشك في ذلك ‪ ،‬وتتحقق هذه الهواجس ‪ ،‬وتفاجأ الشخصية بعين الــرعب مــاثالً أمامهــا ‪ ،‬تحــدثنا ‪" :‬‬
‫وعلى حين غرة وجهت إل ّي أنوار قوية أعمت عيني ‪ ،‬ووقفت مذهوالً في مكاني ال أستطيع حراكا ً ‪...‬‬
‫ولم أشعر إال وأنــا بين ســيارتين من ســيارات الدوريــة العســكرية البريطانيــة وقــد تقــافز منهــا الجنــود‬
‫شاهرين بنادقهم ورشاشــاتهمـ في وجهي ‪ ،‬وأحـاطـ بي سـتة من الجنـود كـانت أسـلحتهمـ تكفي لمواجهـة‬
‫مائة من أمثالي ‪ ،‬وأمسك بي أحدهم من الخلف وفرد ساعده حــول صــدري وشــدنيـ إليــه شــداً عنيفـا ً ‪،‬‬
‫‪ 1‬صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪25‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪28‬‬
‫بينما أفرد آخر ما بين قدمي حتى أوشكت أن أنشــطرـ شــطرين ‪ ،‬وجعــل يفتشــني تفتيشـا ً دقيقـا ً بقســاوة‬
‫‪1‬‬
‫وعنف ‪ ،‬وأخذت يداه تعبثان بي من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل "‬
‫‪ ]2‬أنها عادة ما تربط األوضاع الصعبة لمكانها الذي تعيش فيه بنظامي الحكم في الشمال والجنــوبـ ‪،‬‬
‫اللذين شكال عامالً يضــغطـ عليهــا بــالنفور والضــيق واالختنــاق ففي قصــة ( تاكســي لمن جــاء تعــبر )‬
‫تشــكل الظــروف الصــعبة المتســببة عن الضــرائب الباهضــة الــتي تفرضــها اإلمامــة على األرض في‬
‫مغادرة الشخصية قريتهاـ إلى عدن بحثا ً عن سبيل للرزق ‪ ،‬كما يشكل جنود اإلمامة الذين جروا عليهــا‬
‫العار ‪ ،‬عامل طرد وتنفير يلغي من ذهنها التفكير بالعودة ‪ " :‬تذكر كيف أعلمه الوافــدون من اليمن أن‬
‫العساكر ربضــت في دارهم خمســة أيــام ‪ ،‬تــدك الجــدران دكـا ً وتهــددهمـ بــالموت إن عجــزوا عن دفــع‬
‫(الفطرة ) و( الباطنية ) ‪ ،‬وتذكر كيف اضطرـ إلى تطليق زوجته من جراء جلوســهم في الــدار خمســة‬
‫‪2‬‬
‫أيام أعلنت بعدها الفضيحة "‬
‫وفي قصة ( الناب األزرقـ ) تحول واقعة اشتباك ( الحاج سعيد ) مع أحــد جنــود اإلمامــة دون تفكــيره‬
‫بالعودة إلى قريته ‪ ،‬وهــو يتــذكر كيــف أنــه ‪ " :‬عنــدما ذهب مــرة إلى عائلتــه في القريــة وجيبــه منتفخ‬
‫باألوراقـ المالية و( الرياالت ) ‪ ،‬وكيف تاهت هذه النقود بين المسؤولين ومن ينطق كلمــة حكومــة ‪...‬‬
‫وكيف اضطرفي النهاية ‪ -‬وعندما جاءوا على آخر ما يملك ‪ -‬أن يشتبك مــع أحــد الجنــود في معركــة‬
‫مصيرية ‪ ،‬واستطاع أن يدميه في عدة أماكن من جسمه ‪ ،‬وشد الرحال هربـا ً إلى هنــا ‪ ...‬وبقي يرســل‬
‫بين وقت وآخر نقوداً إلى أسرته دون أن يفكر في العودة إليها مرة أخرى طالمــا ( النــاب األزرق ) ال‬
‫ً ‪3‬‬
‫يزال مسيطراـ "‬
‫وفي قصة ( أنت شيوعي ) يشكل نظام اإلمامة المتخلف عامالً يضغط على الشخصية بمشاعر النفور‬
‫من مكانها الذي تجده مكانا ً ال يليق حتى لعيش الحيوان ‪ ،‬فجحورهم مأوى لهم ولحيواناتهم ‪ ،‬والقــذارة‬
‫والذباب ‪ ،‬والماء الملوث باألوساخـ والجراثيمـ والظالم الدامس ‪ ،‬إنهــا حيــاة لشــعب ال زال يعيش تحت‬
‫‪4‬‬
‫مستوى البشرية "‬
‫وفي ( بقية الحساب ) تشكل سياسة المستعمرـ عامل ضغط يسرح الشخصية من وظيفتها ليحل محلها‬
‫األجنــبي ‪ ،‬ويضــغط عليهــا في مســكنها الــذي يتحــول إلى مســاحة صــغيرة وضــيقة مكدســة بالبشــر‬
‫والقاذورات ‪ ،‬بينما األجنبي يرتع ويمرحـ في باقيـ المساحة التي تركت باتساعها وشساعتها له وحده ‪،‬‬
‫حتى نسمع الشخصية تقول ‪ " :‬وحبذا لو أن ضيفوناـ األعزاء تكرمـوا وأفسـحواـ لنـا بعض الشـيء في‬
‫الحياة ‪ ...‬ماذا سيخسرون ؟ ألسنا بشراً مثلهم لنا كل الحقوق التي لهم ؟ لم نأت من بالد بعيده ‪ ،‬لم نأت‬
‫‪5‬‬
‫من وراء الجبال بل نبعنا وعرفنا النور فيها وتغلغل اإليمان في صدورناـ من تربتها "‬
‫وفي قصة ( سالم كثير ) نجد المستعمر يضغطـ على أبناء البلد بالرصدـ والمراقبة والتتبع وأخذهم إلى‬
‫‪6‬‬
‫المعتقالت لتحقيق معهم دون أسباب واضحة "‬
‫وهكذا أينما بحثنــا في هــذه القصــص نجــد اإلمامــة والمســتعمر يشــكالن الســبب األوحــد للضــغط على‬
‫شخصياتهاـ وتنفيرها من أماكنها وتضييقـ الخناق عليها فيه ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪62،61‬‬
‫‪ 2‬صالح عبد دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجه سابق ‪ ،‬ص‪39‬‬
‫‪ 4‬صالح عبده دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ‪،‬ص‪14،12‬‬
‫‪ 5‬أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجه سابق ‪ ،‬ص‪61‬‬
‫‪ 6‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪،‬ص‪35‬‬
‫‪ ]3‬أنها على األغلب تتمسـك بمكانهـاـ ‪ ،‬وقـد تبقى فيـه على مضـض ‪ ،‬لكنهـا عـادة مـا تتطلـع منـه إلى‬
‫األفضل ‪.‬‬
‫ففي قصة ( االنذار الممزقـ ) تتمسك القرية بمكانها رغم علمهــا بمــا كــان يحــدق بــه من خطــر داهم ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وتصمد في الدفاع حتى آخر رصاصة تمتلكها ‪.‬‬
‫وفي قصة (المبروكـ )يجاهد الشاب المستنيرـ كي يعيد أهالي قريتــه إلى أمــاكنهم ‪ ،‬ويكشــف لهم حقيقـة‬
‫الزيف الذي أوقعهم في الروع وأدى بهم إلى ترك منازلهم ‪ ،‬فكان أن قــررـ العــودة ومواجهــة الموقــف‬
‫بحزم ‪ ،‬وبالفعل يتمكن من القبض على سبب هذا الروع وكشفه ومواجهته ‪ ،‬ولم يكن هذا السبب سوى‬
‫( المبروكـ ) الذي أوهم أهــالي القريــة بســكن العفــاريت في منــازلهمـ حــتى يتســنى لــه ابــتزاز أمــوالهم‬
‫وسرقة ممتلكاتهمـ ‪ ،‬بعدها عاد السكان إلى قريتهم وأشرقت الشمس عليهــا وســطح نورهـاـ يمأل أرجــاء‬
‫‪2‬‬
‫القرية طمأنينة وأمنا ‪ ،‬بينما رحل المبروكـ مجبراً وزحف أهالي القرية يستعبدون ما نهبه منهم "‬
‫وقد تبقى الشخصية في مكانها رغم رفضها لما فيه ‪ ،‬كما في قصة ( أنت شيوعي ) حيث نقــرأ ‪ ":‬إنــه‬
‫اآلن بحكم ثقافته العالية يعيش في بيتهم الريفي يرى الواقع أمامه وجها ً لوجه يســتمع قهقهتــه العاليــة ‪،‬‬
‫التي ليست قهقهة احتقار بل قهقهة إشفاق ‪ ،‬وكأنــه يصــرخ بــه ‪ :‬مالــك يــا أحمــد ‪ ...‬عــادت حليمــة إلى‬
‫‪3‬‬
‫عادتها القديمة "‬
‫وقد تعود إليه لتحدث تغييراً فيه ‪ ،‬كما في قصة ( الناب األزرق ) حيث اقتنع العم سعيد باالنخراطـ في‬
‫صفوف المدافعين عن الثورة والمشاركة في تدعيم النظام الجديد ‪ ،‬فـ" ماذا تساوي الحياة في ظل هـذه‬
‫األوضــاعـ الخانقــة ‪ ،‬فهــو ال يحيــا اآلن ‪ ..‬وإن كــان يعيش فعالً ‪ ...‬فالحيــاة ال تعــني لإلنســان أن يأكــل‬
‫ويشرب فقط ‪ ...‬وإنما تعني بالدرجة األولى االرتفاع عن مستوىـ الحيوان والشعور باآلدمية ويصون‬
‫‪4‬‬
‫كرامته وحقه فيها ‪ ،‬وإال فإن الموت أجدى مليون مرة له "‬
‫وربما حاولت أن تحسن أوضـاعها فيـه ‪ ،‬كمـا في ( الـبيت السـعيد ) إذ يحـاول رب األسـرة أن ينتقـل من‬
‫مسكنه غير الالئق إلى مسكن أفضل ‪ ،‬لكنه حينما يواجه بترصدـ المستغل وتتبعه إياه يقيمها ثــورة عليــه ‪،‬‬
‫‪5‬‬
‫لينتهي مطروداًـ غير مأسوف عليه ‪.‬‬
‫وقد تنتهي الشخصية من رفضها لمكانها إلى تدميره وهدمه كما في قصة ( تاكسي لمن جاء تعبر )‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬في األعمال التي وضعت بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪:‬‬
‫أ ) في األعمال التي اهتمت بالمكان السياسيـ واالجتماعي قبلهما ‪:‬‬
‫وتركز الدراســة في هــذا المبحث وتحت هــذا العنـوان على نقطـتين أساســيتين ‪ ،‬تتوقـفـ أوالهمـا على‬
‫مالمح المكان السياسي واالجتماعي في هذه االعمال ‪ ،‬وتكشف ثانيتهماـ على طبيعــة العالقــة الرابطــة مــا‬
‫بين الشخصيات والمكان ‪.‬‬
‫وأما عن صورة المكان السياسي واالجتماعي ‪ :‬فسوف تستعين الدراسة بروايتيـ ( الرهينة ) و ( صــنعاء‬
‫مدينة مفتوحة ) وهما الروايتان اللتان اختارتهما كي تمثالن – وفقا ً لمعيار زمن الكاتب – هــذا النــوع من‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪13‬‬


‫‪ 2‬عبدهللا سالم باوزير ( الرمال الذهبية ) مرجع سابق ‪،‬ص‪77‬‬
‫‪ 3‬صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪،‬ص‪19‬‬
‫‪ 4‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪43،42‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪57‬‬
‫األعمال الذي ينضوي تحت التصنيفـ المشار إليه ‪ ،‬والذي شكل أحد المحاورـ المهمة التي ارتكزت عليها‬
‫مباحث هذه الدراسة ‪ ،‬باإلضافة إلى جملة من األعمال القصصية التي تدخل ضمن هذا التصنيفـ ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( الرهينة ) فإن المكان فيها يبدو متفرداً ‪ ،‬وغير مكرر ظهوره في أية رواية أخــرى ‪ ،‬فهــو‬
‫السمة البارزة لهذه الرواية ‪ ،‬بل وهو من منح تجربتهاـ خصوصيتها ‪ ،‬ليس فقــط بمــا تحمــل هــذه التجربــة‬
‫من مالمح تدل على يمنية كاتبها وطريقته الخاصة في تناول موضــوعاته ‪ ،‬حيث بــرع زيـد مطيـع دمــاج‬
‫كما يقول الدكتور‪ /‬المقالح في ‪ ":‬مجال التقاط المالمح المهمــة في الخصوصــية المحليــة دون مباشــرة أو‬
‫افتعال ‪ ،‬فتحولتـ قصصه بفضل تلك السمة إلى لوحات ال تعكس الحياة المعاشة من حوله وحسب ‪ ،‬وإنما‬
‫ترسم المكان والزمان والطبيعة وتجعل القارئ ‪ ،‬أيا ً كان موقعــه في األرض يشــعر بأنــه يقــرأ لقــاص من‬
‫اليمن وليس من أية بقعة أخرى عربية أو غيرعربية " ‪ ،1‬ولكن أيضا ً كــون هــذا المكــان الــذي تــدور فيــه‬
‫أحداث الرواية يشكل مكانا ً مثيراً بسبب سريته ومحظورية اقتحامه ‪ ،‬فهــو مكــان ليس من الســهل ارتيــاده‬
‫والتحرك عبر تفاصيله ونقل ما يجري في داخله من خفايا ‪.‬‬
‫ثم إن هذا المصطلح ( الرهينة ) الذي تنير الرواية داللته التي تفارق بخصوصيتها اليمنيــة داللــة األســير‬
‫أو السجين بقدرما ‪ ،‬يشــكل بــؤرة جــذب قويــة تســتقطب الــوعي إلى االلتفــات إلى قــوة حضــور المكــان "‬
‫فالرهينة تحمل ارتباطاًـ سريا ً بالمكان وتحديداًـ لإلقامة ‪ ،‬وهو ما يفرض علينا اهتمام ـا ً خاص ـا ً بالمكــان ال‬
‫سيما أن الرهينة ليس سجينا ً بالمعنى المعــروفـ حيث يكــون الســجن فضــاء الســجين ‪ ،‬ولكن مــع الرهينــة‬
‫‪2‬‬
‫تكتشف تحول المكان إلى سجن ‪ ،‬ألن ارتباط الشخص به ارتباط إجباريـ وهنا تنتفي حرية االختيار "‬
‫وأحداث الرهينة تتحرك في معظمها في قصر النائب ‪ ،‬غــير أن هنــاك أحــداث تجــري في أمــاكن أخــرى‬
‫خارج القصر ‪ ،‬وهي األماكن التي بها يتحدد محتوى وقوعـ األحداث بمدينة تعــز ‪ ،‬قلعتهــا المطلــة ‪ " :‬كم‬
‫هي جميلة هذ المدينة ! شاهدتها ألول مرة عندما أخذت من قريــتيـ ووضــعتـ في قلعتهــا ( القــاهرة ) بين‬
‫‪3‬‬
‫رهائن اإلمام "‬
‫وبابها الكبير ‪ ،‬وشارعها المقفر ‪ ":‬وفيـ لحظة سريعة اندفعت إلى مؤخرة السيارة وكانت قــد مــرقت تــواً‬
‫من الباب الكبير للمدينة ‪ ،‬ووثبت إلى الشارع الخالي المقفر المقفلـة حـوانيت سـوقه بحسـب العـادة بـالقوة‬
‫وقت صالة المغرب والعشاء "‪ 4‬وسائلتها " المنحدرة من الجبل ‪ ،‬والتي تجري تجرف كل مخلفــات هــذا‬
‫‪5‬‬
‫العالم الصغيرـ من أوراقـ صفراء وأقمشة بالية تتكون من بقايا الثياب لبنات الجبل ونسائه "‬
‫ووادي الحوبان المتردد " في أهــازيج جنــد اإلمــام الجديــد وزواملهمـ تســتقبل عودتــه منتصــراًـ على ثــوار‬
‫‪6‬‬
‫‪1948‬م ‪ " :‬ياواديـ الحوبان توسع لجيش سيدي والمدافع "‬
‫والمكان في الرواية هو حلقة مستديرة على حصارها وشبه مغلقة على قمعها وموته ـاـ ‪ ،‬تبــدأ من الســجن‬
‫وتنتهي بالمقبرة ‪ ،‬وتنتقل عبر أماكن تتشكل كجــرز معزولــة ‪ ،‬مغلقــة بإحكــام في وجــه محيطهـاـ ‪ ،‬كقلعــة‬
‫القاهرة ( سجن الرهائن ) ‪ ،‬وبيت النائب ‪ ،‬وقصر ولي العهد ‪.‬‬
‫أو هي أماكن تتناسى حصارها ‪ ،‬وإغالقهــا خلــف ســور المدينــة المحيــط ‪ ،‬يمثلهــا الميــدان بجــانب قصـرـ‬
‫النائب الذي يحوي المحكمة ‪ ،‬والمدينة الــتي ال تــرى إال من بعيــد وعنــد االقــتراب منهــا للحظــة تتكشــف‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪12‬‬
‫‪ 2‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪20‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪17‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪130‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪64‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪190‬‬
‫بمالمح مختلفــة ‪ ،‬والشــوارع الضــيقة والمحــدودة تســتخدم فقــط كمســارب لهــرب الرهينــة في محاولتــه‬
‫األولى ‪ ،‬أو لعبورـ سيارة البريد الوحيدة في المدينة ‪ ،‬أوهي أماكن منفصلة عن هذا المحيط انفصاالً كليا ً‬
‫كالمقبرة التي تطل بقبورها الكثيرة كمحطة أخيرة لهذا المكان المتنقل ‪ ،‬لتتشكل منطقة انطالق جديدة إلى‬
‫مكان آخر غير معلوم قــد يكــون بدايــة مغــامرة مجهولــة لحيــاة تغــادر هــذه الحلقــة من الحصــار المختــومـ‬
‫بالموت ‪.‬‬
‫وبدءاَ بقصر النائب ‪ ،‬وهـو المكـان الـذي احتـوت غرفـه ودهـاليزه وممراتـه المسـاحة األكـبر من حركـة‬
‫الحدث ‪ ،‬فهذا المكان أوالً هو مكان يُحرص بشدة على سرية دواخله ‪ ،‬ولــذلك ال يســمح بالــدخول إليــه إال‬
‫وفقا ً لشروط خاصة ‪.‬‬
‫فالفقيه في سجن القلعة كان يردد على مسامع طالبه ‪:‬‬
‫"‪ -‬من شروطـ الدويدارـ أن يكون صبيا ً لم يبلغ الحلم "‬
‫هكذا كان يقول أستاذناـ ( الفقيه ) السجين أيضا ً معنا ‪ ،‬والمكلفـ بتعليمنا القــرآن والفــروض والطاعــة في‬
‫قلعة القاهرة معقل الرهائن ‪.‬‬
‫‪ -‬يقوم الدويدار! حاليا ً بعمل (الطواشي! )‬
‫وعندما تبدو علينا الحيرة يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬والطواشي! هم العبيد المخصيون ‪.‬‬
‫فتزداد حيرة أكثر ‪.‬‬
‫والخصي من تضرب خصيته ‪ ،‬ونحتار أكثر أيضا ً من جديد متالمين لهذا العمل القاسي فيقول ‪:‬‬
‫‪ -‬لكي ال يم!!ارس عمالً مش!!ينا ً ‪ ...‬جنس!!يا ً كمض!!اجعة نس!!اء القص!!ور ‪ ...‬أي بمع!!نى آخر يجب أن‬
‫ً ‪1‬‬
‫يكون فاقداً لرجولته ‪ ...‬أي بمعنى آخر عاجزا "‬
‫وإذا كان هذا الشرط هو مفتاح فهمنا له!!ذا الع!!الم الغ!!امض الغ!!ريب ‪ ،‬ف!!إن مدخله ال!!ذي يطل علينا‬
‫بقبو‪ -‬يعني فيما يعنيه االنقطاع عن العالم في المساحة قبل الول!!وج إليه ‪ ،‬واحتم!!ال الالع!!ودة لمن‬
‫تجبره الظروف! على اجتياز ه!!ذا القبو ‪ ،‬وأن الول!!وج إليه يس!!تدعي بالض!!رورة االنخف!!اض أس!!فل‬
‫السطح المرئي مما يطرح مزيداً من الخفاء والمواراة والسرية التي تعطي داللة على أهمية العالم‬
‫الذي نلج إليه ‪ ،‬و أهمية الحفاظ عليه خفي!ا ً وس!ريا ً متواري!اً! ‪ -‬يخ!تزل رس!الة ه!ذا الع!الم ال!داخلي‬
‫السفلي لهذا القصر بما يكتنفه من مظاهر القمع والكبت وما يفيض به من تفسخ ينداح محموم !اً! في‬
‫سرية وخفاء ‪.‬‬
‫ثم حمام تركي رغم خضوعه لقاع!!دة الت!!واري ال!تي تحكم تص!ميم! المك!!ان في كليته ‪ -‬إذ يق!ود إليه‬
‫سرداب فقباب وممرات كلها مرصوفة بالحجارة المربعة الس!!وداء وملحمة بالقض!!اض المص!!نوع‬
‫من الن!!!ورة البيض!!!اء ‪ - 2.‬فإنه ينفتح بكل مغاليقه في وجه من يق!!!وم بمهمة الدوي!!!دار ثم إس!!!طبل‬
‫مهجور فيه بغلتان فقط ‪ ،‬رائحته ذكرت الرهينة المشدود! إلى خارج ه!!ذا المك!!ان بس!!فل منزله في‬
‫‪3‬‬
‫الجبل ‪.‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪19،18‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪23‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫بع!!دها ن!!دخل مع الرهينة إلى قصر واسع تكونه ع!!دة قص!!ور منها الق!!ديم ومنها الجديد فيما يش!!به‬
‫تجمع س!!كاني مم!!يز عن محيطه ‪ ،‬له نظمه وعالقاته وطريقة حياته الرافلة بالنعمة ال!!تي تس!!بغها‬
‫السلطة على أصحابها! ‪ ،‬فقصر ألخت النائب المدللة الش!!ريفة حفصة ‪ ،‬و" حفصة مزه!!وة ب!!دارها‬
‫ً ‪1‬‬
‫ومناظرها! المفروشة بأفخر! السجاد والمطرزة بأحسن الطنافس النحاسية والفضية أيضا "‬
‫ثم قصر النائب المحفوف بالرفاهية ‪ ،‬وديوانه ذلك المكان الرائع المرتب في غاية النظ!!ام والنظافة‬
‫‪ ،‬ويحكي لنا الرهينة ما أطلع عليه منه في رحلته خالل القصر مع الدويدار ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬وأجلس!!ني‬
‫على مفرشة فارسية ‪ ،‬ثم أشعل لمبة غازية ‪ ،‬عرفت أنها ( لمبة األلف ) المضيئة بشعلتها الدائرية‬
‫التي ك!!ان ل!!دينا في منزلنا واح!!دة منها ‪ ،‬أخ!!ذها ج!!دي إلى ديوانه مع ( حملة لحج ) مع س!!عيد باشا‬
‫التركي ‪ ،‬وكانت تضاء لنا في ش!!هر رمض!!ان فقط ‪ ،‬وقد! أخ!!ذها العكفة والس!!واري فيما أخ!!ذوا من‬
‫‪2‬‬
‫بيتنا "‬
‫وفي رمض!!ان يتم!!يز بيت الن!!ائب ويختلف ‪ ،‬ف" هنا تغمرنا أن!!وار بيض!!اء لبنية الل!!ون ‪ ،‬وتعم كل‬
‫غرفة بواس!!طة ( األتاريك ) ذات الل!!ون الفضي الالمع ‪ ،‬ودي!!وان الن!!ائب مكتظ دائم !ا ً بالس!!مار! ‪،‬‬
‫وأحاديث تق!!ال كل ليلة تلوكها األلسن من الش!!عر واألدب والسياسة "‪ ، 3‬أما منظرته ففخمة بناف!!ذة‬
‫‪4‬‬
‫واسعة تطل على مساحة القصر وملحقاته ‪.‬‬
‫وهناك غرفة الدويدار ( عبادي ) ‪ ،‬بنافذة وحيدة وصغيرة ‪ ، .‬يصفها الرهينة ‪ ،‬فيقول ‪ ":‬ك!!ان قد‬
‫‪5‬‬

‫خ!!رج فج!!أة من الغرفة ف!!راش ص!!غير‪ ،‬قد ب!!رز التبن المحشو به من ثق!!وب ع!!دة ‪ ،‬ولح!!اف ش!!به‬
‫صوفي! أسود اللون معطف عند مرقد! رأسه ‪ ،‬ف!!وق مخ!!دة متس!!خة يكسل أن يغسل كيس!!ها القط!!ني‬
‫المزركش ‪ ،‬يحف بزاويته تلك صندوق خشبي ملون بأصباغ! رخيصة فقد وضعه بج!!انب الف!!راش‬
‫المه!ترئ! لمنعه من االن!!زالق أثن!اء الن!!وم ‪ ،‬ويس!!هل عليه فتحه م!!تى ش!اء ‪ ،‬ويحفظ بداخله مالبسه‬
‫‪6‬‬
‫وأشياءه االخرى "‬
‫وهن!!!اك المك!!!ان المعت!!!اد للعس!!!كر بج!!!وار! البوابة الرئيس!!!ية ‪ ، 7‬وغرفة ( الب!!!ورزان ) المم!!!يزة‬
‫‪8‬‬
‫باستدارتها! وترتيبها ونظافتها ‪.‬‬
‫فهذا المكان بالرغم من تعدد قصوره وغرفة فإنه يتشكل مكانا ً معزوالً لمجتمع منعزل عن المك!!ان‬
‫االجتماعي للمجتمع كله ‪ ،‬والحصار هو أهم ملمح لهذا المكان الذي يظهر حيزاً محاصراً! يحيا في‬
‫داخله مجتمع منقسم إلى قسمين ‪ ،‬قسم يحيا حصاراً إضافيا ً في جزره المعزولة مبتورة العالقات ‪،‬‬
‫فليس بين القلعة وبيت الن!!ائب س!!وى ممر ع!!ابر ‪ ،‬وك!!ذا هو الطريق بين بيت الن!!ائب وقصر! ولي‬
‫العهد ‪ ،‬وأما الطريق! من قصر ولي العهد إلى بيت الن!!ائب فهو ممر ع!!ابر احت!!وى محاولة اله!!رب‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪90‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪30‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪67‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪142‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪29،28‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪67‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪137‬‬
‫األولى ‪ ،‬وكذا هو الطريق من بيت النائب إلى المقبرة التي وقفت بين هذه األم!!اكن المنعزلة – في‬
‫مفارقة عجيبة – طريقا ً إلى المجهول ومنطلقا ً مهما ً إلى المك!!ان االختي!!اري! ‪ ،‬وقسم! ي!!دور! في فلك‬
‫القسم األول ويرتبط! ظهوره به ‪ ،‬وعليه ينعكس هذا الحص!!ار بأبشع ص!!وره ‪ ،‬فيحكم! حركته ويحد‬
‫من حريته ويكبل أقدامه بقيود الرهانة ‪.‬‬
‫ثم تأتي قلعة القاهرة ثاني أهم األماكن في الرواية ومنها انطلقت حركة الرهينة ‪ ،‬وهي عبارة عن‬
‫سجن محاط باألسوار! ‪ ،‬هو معقل الرهائن والمدافع! وبعض الحرس ‪ ،‬يطل على مدينة تعز ‪ ،‬وفيها‬
‫يتم تربية الرهائن على الخضوع! والطاعة ‪ ،‬فمهما يقول الفقيه يصيح الص!!غار! بنش!!يدهم المعت!!اد "‬
‫غفر هللا لك يا سيدنا ولوالديك مع والدينا! "‪ ، 1‬وهو نشيد يعني فيما يعنيه أن الصمت أولى وأل!!زم ‪،‬‬
‫كما يتم فيها إعداد الدوادرة واستقبال بعض الرهائن الذين مارسوا أعمال الدويدار! ‪ ،‬ثم عادوا إليها‬
‫م!!رة أخ!!رى لبل!!وغهم الحلم ‪ ، 2.‬وكل من فيها س!!جناء ح!!تى الفقيه نفسه ‪ " :‬هك!!ذا يق!!ول أس!!تاذنا‬
‫( الفقيه ) الس!!جين أيض!!ا ً معنا ‪ ،‬والمكلف بتعليمنا الق!!رآن والف!!روض والطاعة في قلعة الق!!اهرة‬
‫معقل الره!!ائن "‪ ، 3‬لكنها رغم ذلك تب!!دو س!!جنا ً أك!!ثر رحمة من بيت الن!!ائب ألن الره!!ائن فيها ال‬
‫يزالون في طور! اإلعداد كما أنها أكثر رحابة منه ‪ ،‬فهي تس!!مح على األقل بإطاللة تمتد على تلك‬
‫القرى المتناثرة على الجبال التي جاء منها الرهائن ‪ ،‬فقد كان الرهائن بعد أن ينفض!!وا من ال!!درس‬
‫" يتجه!!ون إلى الس!!ور المطل على المدينة يمرجح!!ون س!!يقانهم في اله!!واء وينظ!!رون! إلى األفق‬
‫‪4‬‬
‫البعيد ‪ ،‬كل يبحث عن قريته وراء الجبال "‬
‫‪5‬‬
‫ويطل قصر! سيف اإلسالم بساحته التي يتمخطر! فيها عكفته بزيهم! التقليدي وصياحهم الدائم ‪.‬‬
‫وال!!!ذي لم يفصل الك!!!اتب في وصف أقس!!!امه ومحتوياته ‪ ،‬ذاك أنه لم يبلغ منه إال حوشه وبه!!!وه‬
‫المكش!!وف ال!!ذي يتم الوص!!ول إليه ع!!بر ممر طويل ‪ ،‬وال!!ذي يعرضه من خالل مقارنته بقصر‬
‫النائب ‪ ،‬وهي المقارنة ال!!تي توضح جانب!ا ً من التم!!ايز المتحقق بفعل اختالف م!!راتب الس!!لطة ‪" :‬‬
‫اخ!!ترق بي مم!!راً ط!!ويالً ثم وص!!لنا! إلى بهو مكش!!وف تهمس فيه أص!!وات مي!!اه ( الش!!ذروان )‬
‫‪6‬‬
‫الصافية وسط! فسقية مدورة واسعة أكبر بكثير من فسقية قصر! النائب "‬
‫ثم إن ما وقف عليه من وصف! ه!!!!ذا القصر هو فقط ما ك!!!!ان يتطلع إلى رؤيته ‪ ،‬مما يتفق مع ما‬
‫ذهبنا إليه من كون الكاتب يذهب إلى تركيزحدثه واقتضاب أوص!!افه كأنما به ينظر من خالل ثقب‬
‫ص!!غير ض!!يق كترجمة إلحساسه بس!!يطرة الحص!!ار ‪ ،‬يق!!ول ‪ " :‬س!!أتعرف! على أش!!ياء جدي!!دة لم‬
‫أعرفها! من قبل ‪ ،‬س!!!أتعرف! على عكفة ولي العهد بلباس!!!هم! األزرق! وأس!!!لحتهم الحديثة األلمانية‬
‫الصنع ‪ ،‬كذلك عبيده السود المرد ذوي األنوف! الفطس واألجسام الطويلة المهابة !سأتعرف! أيض !ا ً‬
‫على األسود والضباع! والنمور! الكاسرة الرابضة في أقفاصها الحديدية داخل بهو قصر! ولي العهد‬
‫‪ ،‬وسأتعرف! ك!!ذلك على ذلك الحي!!وان العجيب ‪ ،‬ال!!ذي يطلقونه عليه اسم ( الوض!!يحي! ) أوالمه!!اة‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪21‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪،‬ص‪20‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪19‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪21‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪120‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪122‬‬
‫العربي ‪ ،‬والذي يق!!ال عنه بأنه له ق!!رن وعل ورأس مع!!زة وفم جمل وح!!وافر! حم!!ار وجسم بق!!رة‬
‫وذيل حصان ‪ ،‬وله جلد مل!!ون الش!!كل بجميع أل!!وان الحيوان!!ات ‪ ،‬وب!!أن مخلفاته من نفاي!!ات عجيبة‬
‫الشكل واللون ذات رائحة عطرية "‪1‬ويتجلى! لنا ه!!ذا القصر بعد ه!!ذه األوص!!اف المقتض!!ية س!!جنا ً‬
‫محفوف!اً! ب!!الرعب ‪ ،‬إذ ي!!ؤوي في داخله وحوش!اً! كاس!!رة من أس!!ود وض!!باع! ونم!!ور! ت!!ربض داخل‬
‫أقفاصها في انتظار! مسبعة قادمة ‪ ،‬فقد اعتاد وسيف اإلسالم إكرامها بمعارض!!يه ‪ " :‬كنت أع!!رف‬
‫من خالل ما قد سمعته بأن ولي العهد يحتفظ بهذه الحيوانات الكاس!!رة في مطابقها الحديدية المطلة‬
‫‪2‬‬
‫على ساحة القصر لكي يتسلى بها عندما يلقي بعض األوقات ببعض خصومة في أقفاصها! "‬
‫وتطل المدينة مكانا يتناسى الكاتب – تحت رؤيته المتباعدة والمأخوذة باالتس!!اع! – حص!!اره خلف‬
‫س!!وره الض!!خم المحيط ‪ ،‬فتب!!دو مدينة في غاية الجم!!ال ‪ ،‬لكنها س!!رعان ما تفقد ه!!ذا الملمح من‬
‫الجمال بمجرد االقتراب منها ‪ ،‬حيث تتكشف! مكانا ً موحشا ً كئيبا ً محاصراَ! بالفقر والعري! والموت‬
‫واألوبئة والقاذورات حتى آل الرهينة على نفسه أال يخرج إليها مرة أخرى ‪،‬يقول ‪ " :‬اتجهت مع‬
‫ص!!احبي! إلى وسط! المدينة ‪ ،‬ك!!ان الجو مفعم !ا ً برائحة الوب!!اء وأدخنة مط!!ابخ المن!!ازل ‪ ،‬الوج!!وه‬
‫ش!!احبة تعلوها مس!!حة ل!!ون أص!!فر مقيت وب!!اهت ‪ ،‬والبط!!ون منفوخة ليس ش!!بعا ً وإنما مرض !ا ً ‪،‬‬
‫واألق!!دام عارية لزجه ب!!الجروح! واألوس!!اخ ‪ ،‬جم!!وع منهكة من المتس!!ولين والمرضى! والمج!!انين‬
‫تص!!طدم! بهم في كل منعطف! وفي! كل زق!!اق! وفي! كل س!!احة وش!!ارع! ‪ ،‬ما ك!!ان أجملها من مدينة‬
‫بصباحها عندما نطل عليها من على أسوار! قلعتها القاهرة معقل الرهائن والم!دافع! حيث كنا نت!دلى‬
‫بأرجلنا من على أسوارها ‪ ،‬ونشاهد المآذن والقباب البيضاء والمنازل المرصوصة داخل الس!!ور‬
‫المنيع والهض!!اب والس!!هول! والجب!!ال المم!!دودة على م!!دى البصر ‪ ،‬لكنها اآلن ومن وس!!طها! وفي!‬
‫أحشائها عرفتها على حقيقتها ‪ ،‬إنها ب!!ؤرة للوب!!اء المميت ‪ ،‬مليئة بالمرضى! والمج!!انين وأص!!حاب‬
‫العاه!!ات والمع!!وقين والحك!!ام! الظ!!المين ‪ ،‬إنها مدينة تعيسة وبائسة غاية الب!!ؤس وكم تمر كل ي!!وم‬
‫جنائز الموتى من أبواب سورها! تشيعها أصوات األطف!!ال مع معلميهم من الفقه!!اء وط!!البي! الخ!!ير‬
‫‪3‬‬
‫والمغفرة "‬
‫أما شوارع المدينة ‪ ،‬فهي ضيقة ومحدودة وغير معبدة ‪ ،‬نلمس هذا من وصف! الرهينة أثناء زيارة‬
‫أسرة النائب لقصر ولي العهد ‪ ،‬حيث تعاني النسوة الغيثان واإلقالب رغم قصر المس!!افة لو قيست‬
‫‪4‬‬
‫باألمتار‬
‫فليس في ه!!ذه المدينة المهملة من ش!!وارع حديثة معب!!دة ‪ ،‬يصف لنا الرهينة رحلته إلى قصر! ولي‬
‫العهد ‪ " :‬م!!!رقت بنا الس!!!يارة من الب!!!اب الكب!!!ير للمدينة لكي نتس!!!لق بعد ذلك عقبة مرصوصة‬
‫‪5‬‬
‫بالحجارة السوداء ‪ ،‬شكلت بهذه الطريقة منذ مئات السنين ‪ ،‬من عهد الملكة أروى "‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪111‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪112‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪65‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪115‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪115‬‬
‫وهي ترسف! تحت تأخرها وظلمتها! ‪ ،‬لم تع!!!رف الكهرب!!!اء بعد إليها س!!!بيالً ‪ ،‬ففي رمض!!!ان توقد‬
‫( األتاريك! ) في بيت الن!ائب ‪ ،‬وه!ذه ال يمتلكها بس!طاء الن!اس ‪ ،‬فأس!رة الرهينة مثالً ك!انت تمتلك‬
‫واح!!داً منها حصل عليه ج!!ده من حملة لحج مع س!!عيد باشا ال!!تركي ‪ ،‬وك!!ان يس!!مح بإيق!!اده في‬
‫‪1‬‬
‫رمضان فقط ‪ ،‬ومع ذلك فقد جاء العكفة والسواري! وأخذوه مع ما أخذوه من بيت الرهينة ‪.‬‬
‫وعندما تحتفل المدينة بانتصار! اإلمام الجديد ( أحمد الوشاح ) على الدس!!توريين األح!!رار تت!!وهج‬
‫‪2‬‬
‫مع القرى المحيطة بها بمشاعل معجونة من رماد وجاز!‬
‫وتشكل المقبرة المحطة األخيرة للمكان المتنقل في هذه الرواية ‪ ،‬وهي تبدو متسعة تستقبل كل يوم‬
‫ض!!يوفا ً ج!!دد بفعل واقع الب!!ؤس وإهم!!ال الرعاية الص!!حية ال!!ذي يعيشه أهاليها ‪ ،‬ومع أن ص!!متها‬
‫مطبق لكنها تتش!!كل في الرواية منطلق !ا ً لهجره!!ذا الواقع المحاصر! ب!!الموت والم!!روق! منه ‪ ،‬ه!!ذا‬
‫الواقع ال!!ذي ك!!انت الش!!ريفة حفصة أحد أش!!راكه المقي!!دة ‪ ،‬يح!!دثنا الرهينة ‪ " :‬ومر ال!!وقت وك!!اد‬
‫الصمت أن يهجم علينا ‪.‬‬
‫قالت ‪:‬‬
‫إليك فكرة ؟‬ ‫‪-‬‬
‫كان الصمت يطبق على كل أرجاء المقبرة واألص!!يل! يك!!اد ينتهي بشمسه الحالمة الم!!ؤثرة المحببة‬
‫إلى نفسي ‪ ،‬ليت حياتنا كلها أصيل دائم ‪ ،‬نحلم فيه بمرح الحشائش ‪ ،‬وخيال وطموح!!ات! الس!!كارى!‬
‫وبحرارة توقد! أفكار! المقيلين بالقات ! أجبتها ‪:‬‬
‫نعم‬ ‫‪-‬‬
‫الهروب ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم‬ ‫‪-‬‬
‫ال يمكن !‬ ‫‪-‬‬
‫وما المانع ؟‬ ‫‪-‬‬
‫صمت لحظة ثم قالت بتحد سافروجاد ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫لن أتركك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هذه المرة سأفلت منك‬ ‫‪-‬‬
‫لن تستطيع‬ ‫‪-‬‬
‫تأملتها قليالً ‪ ،‬ثم قالت سافرة ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫هذا منك مجرد طموح ال تقوى على تنفيذه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بل تصميم!‬ ‫‪-‬‬
‫سأضطر! لرميك بالحجارة حتى أدميك‬ ‫‪-‬‬
‫حتى لو بالقنابل "‪"......‬‬ ‫‪-‬‬
‫لن أتركك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ستتركينني! كرها منك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪30‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪178‬‬
‫ووثبت قائمة حيث أخذت حجراً من األرض لتق!!ذفني به ‪ ،‬لكن!!ني كنت قد أطلقت لس!!اقي العن!!ان ‪،‬‬
‫فابتع!!دت! وانه!!الت خلفي الحج!!ارة المقذوفة منها ‪ ،‬لم أتوقف ب!!رغم إش!!فاقي عليها وعال ص!!ياحها‬
‫بص!!وتها! المبح!!وح ال!!ذي أحبه يط!!رق مس!!امعي! ‪ ،‬وتلقفت!!ني ظلم!!ات الجب!!ال المطلة على ال!!وادي‬
‫الموحش المنحدر إلى المس!!تقبل المجه!!ول ‪ ،‬وأنا أتوقع ص!!وتها! أو حج!!راً مق!!ذوفاً! منها س!!يقع على‬
‫‪1‬‬
‫ظهري ‪ ..‬لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤدي! إلى المستقبل ‪.‬‬

‫ويتجلى المكان في رواية ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مقبرة كبيرة " إنها مسكينة يا أصدقاء هذه األرض‬
‫‪2‬‬
‫‪ ،‬فهي تتحمل آالم الناس فوقهاـ ‪ ،‬وتحمل أآلمهم تحتها ‪ ،‬إنهم أحياء وأموات في كل جزء "‬
‫فالمكان السياسي هــو الــوطن المشــطور بين نظــامين جــاثمين ‪ ،‬اتفــق تأمرهــا على تــدميره وحصــاره‬
‫واستنزافـ مقدراته حتى استحال مكانا ً خانقـا ً مجــدبا ً طــارداً ألهلــه عــاجزاً عن كفــايتهم ‪ ،‬فســوا ًء كــان‬
‫المرء في الجنوب أوفي الشمال ‪ ،‬فإنه يعيش المأساة رغم طبيعة األرض المعطاءة ‪ ،‬والكرمـ متجــذر‬
‫في أخالق أهلها لكن هي الظروف الني انعكست على كل شيء ‪ ،‬دمرت كل جميل‬
‫" جبال لشمال ‪،‬آه ما أروعها ‪ ...‬حيث ينـام الثلج على القمم ‪ ..‬تـترقرق الغـدران ملتويـة كالثعبـان ‪ ،‬ثم‬
‫الغابات الخضراء ‪ ،‬واألراضيـ المنبسطة الالنهائية كلها يا أصدقاء سمراء غنية ‪ ،‬حبيبة ‪ ..‬الصــحراء‬
‫تــترامى في النهايــة في أحضــان البحــر ولكن يــد اإلنســان الخالقــة شــقت في تلــك الصــحراء واحــات‬
‫‪3‬‬
‫خضراء ‪ ،‬كنت أجد فيها المأوى والمأكل ألن األرض كريمة في بالدنا الشمالية ‪ ،‬وأهلها أكرم ‪.‬‬
‫وأما المساحة بينهما فليست سوى طريقا ً يوصل بين الجحيم والجحيم ‪ ،‬وهذا ( نعمــان ) بطــل الروايــة‬
‫يكتب إلى صديقه عن آخر مارأته عيناه في طريقـ مغادرته قريته إلى عدن ‪ ،‬فيقول ‪ ":‬وتغيب أشــجار‬
‫النخيل ‪ ،‬حين تقطــع الســيارة طريقهــا إلى قلب الصــحراء ولكن الجبــال ال تغيب ‪ ،‬إنهــا تقــف كالمــارد‬
‫كبيرة ‪ ،‬مخيفة سوداء ‪ ،‬بعد أن غابت عنها الشمس ‪ ،‬كأنها تذكرنا أنها موجودة فعالً ‪ ،‬وأن في داخلهــا‬
‫ذلك العلم الغريب المجهول ‪ ،‬ومما يزيد في رهبتهــا ياصــديقي ســكون الصــحراء ‪ ،‬هنــاك في الشــمال‬
‫الجبال والضوء والموت والسيل ‪ ...‬وهنا الرمال والسكون ‪ ،‬عالمان مختلفان ‪ ،‬يؤدي الثاني إلى األول‬
‫‪ ..‬ويهرب اإلنسان من األول عن طريق الثاني ‪ ،‬الصـحراء هي الطريـق يـا صـديقي إلى الجحيم ومن‬
‫‪4‬‬
‫الجحيم "‬
‫وعلى اتساعه وتنقله بين الصحراء والبحر والجبل ‪ ،‬وتغيرـ مالمحه إلى حدود التبدل أحيانا ً ‪ ،‬فإن كــل‬
‫بقعة يحتويهاـ تتشكل على مساحته محتوى للضياع والفراغ والخواء المحفوف بمالمح الموت وأشــباح‬
‫الهالك ‪ ،‬فمن الحوار الذي دار بين الصنعانيـ ونعمان نقتطف ‪:‬‬
‫" ‪ -‬لقد عدنا إلى الضياع من جديد ‪ ...‬حتى أنت ‪ ،‬وأشار بإصبعه حتى أنت هذه المرة ‪.‬‬
‫‪ -‬إن أمامنا العالم كله فلماذا تحزن ‪ ..‬وهز رأسه ‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫‪ - -‬نعم ‪ ...‬ولكن هذا العالم ليس هنا ‪ ...‬آه ما أتعسنا "‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪198،193‬‬

‫‪ 2‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪59‬‬


‫‪3‬إالمرجع السابق ‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪38‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪84‬‬
‫‪ -‬وأول ما يطل علينا منه مدينة عدن كمدينــة عصــرية ال تختلــف حركتهــا ‪ ،‬وزحــامـ شــوارعها‬
‫وأحياؤها عن كل مدن الــدنيا ‪ ،‬يحــدثنا نعمــان عنهــا ‪ ،‬قــائالً ‪ " :‬كــان الــوقت ليالً حين تــركت‬
‫سريري ‪ ..‬وكان الصنعاني قد تــرك المكــان ‪ ..‬وأحسســت أن التعب قــد زال ‪ ،‬فأخــذت حمامـا ً‬
‫بارداً وخرجت إلى الشارع كان الجو ما زال حاراً ‪ ،‬ورأيت الناس يمضون بسرعة ‪ ،‬وكــانت‬
‫السيارات تنطلق بسرعة أكثر ‪ ،‬وأمام دار السينما القريبة ‪ ،‬رأيت الناس يتزاحمون للدخول ‪..‬‬
‫وأصــواتـ الباعــة تعلــو على أصــوات المــتزاحمين وفيـ الناحيــة األخــرى من الشــارع كــانت‬
‫أصوات كثيرة ترتفع منادية على (الباصــات ) ( شــيخ شــيخ ) اركب ياحــاج ( معلى معلى ‪...‬‬
‫( تواهي ) ( معلى ) ( تواهي ) ‪ ..‬فتختلط األصوات بعضهاـ ببعض ‪ ،‬فيخرجـ شيء ممــزوجـ ‪،‬‬
‫شيء غريب ‪ ،‬تفوح منه رائحة العرق ‪ ..‬التعب ‪ ..‬يهدأ قليالً ‪ ،‬ثم يرسل صياحه من جديد ‪..‬‬
‫‪ -‬ويمضي بي الشارع حتى الميدان ‪ ...‬وفي ( مقهى زكــو) جلســت ألتنــاول كوبــا من الشــاي ‪..‬‬
‫كان الميدان أيضا ً مزدحمـاًـ ‪ ..‬تفــوح رائحــة األطعمــة من أحــد المطــاعم القريبــة من المقهى ‪،‬‬
‫وصوت بائع الحلوى يرتفع وينخفض مــرة أخــرى مناديـا ً على حالوتــه ‪ ،‬ومن بعيــد يرتفــع ‪،‬‬
‫أصوات المنـادين لسـيارات األجـرة ‪ ..‬تاكسـي ‪ ،‬تاكسـي ‪ ،‬وتختلـط األصـوات الـتي تـأتي من‬
‫الخارج باألصواتـ الكثيرة التي تحدث حولي ‪ ...‬فأغيب في دوامة ‪ ..‬فال أشعر بشيء ‪ ..‬سوى‬
‫الدوار ‪ ..‬ودقات عنيفة في الرأس ‪ ،‬فأتركـ المقهى قبل أن يأتي ما طلبته ‪ ،‬أين أذهب ؟ الفراغ‬
‫كله ‪ ..‬يحوطني ‪ ،‬فال أجد غير ( شارع السوق ) غداً األحد ‪ ،‬واليــوم أســتطيع أن أســهر حــتى‬
‫الصباح ‪ ،‬فالتفت مسروراً حين توصلت إلى هذه النتيجة ‪ ،‬ولكني أجد نفســي فجــأة وحيــداً في‬
‫‪1‬‬
‫الشارع والسيارات والناس واألصواتـ ‪ ..‬كلها سريعة ‪ ..‬حتى أنا كنت أجري كاآلخرين "‬
‫وهي تبدأ ظهورهاـ مكانا ً محببا ً إلى النفس ‪ " :‬تركت المدينة والحياة الصاخبة واألصدقاءـ ‪ ،‬تركت‬
‫كــل مــا يــدفعنيـ ويشــعرنيـ بالحيــاة "‪ ، 2‬وفيـ موضــع آخــر ‪ ":‬لن أبقى لحظــة ‪ ...‬ســوف أغــادر‬
‫القرية ‪ ..‬سأعود إلى المدينة ‪ ...‬إلى الصخب ‪ ...‬والدفء ‪ ...‬والصداقة ‪ ..‬إلى الحياة التي تشــعرني‬
‫باإلحساس بها "‪ 3‬وهي في البداية رغم أن مالمحها التي غدت منفرة بعـد ذلـك ( بعـد تبـدل وعي‬
‫الشخصية بالمكان ) تظهرـ مدينة يفضل نعمان البقاء فيها ‪،‬فحياتها ‪ -‬رغم ما تتسم به من ضــياع ‪-‬‬
‫هي الحياة التي تمأل حياته وتعيد إلى نفسه الثقة "‪، 4‬‬
‫لكنها تشهد بمرور الوقت حالة من التبدل ‪ ،‬تبعا ً لتبدل رؤية الشخصية وتبدل وعيها بهـا وبالمكـان‬
‫في عمومه ‪ ،‬فمرة نراها مدينة ساحقة للفرد يبتلعها بحرها غير عابئ بكــل األصــوات ليقــذف بهــا‬
‫زبداً خاويا ً على رمل الشاطئ الممتد ‪ " :‬كان القمر في الســماء يبــدد الســحب ليرســل إلينــا أشــعته‬
‫الالمعة وكانت األشعة تنعكس على صفحات المياه التي أمامنا ‪ ..‬فتضــيء كــل مــا حولنــا ‪ ،‬كــانت‬
‫هناك سيارات قليلة واقفة كل واحدة بعيدة عن األخرى ‪ ،‬وكنا نســمع نغمــات موســيقىـ وضــحكات‬
‫امرأة نشوىـ ‪ ..‬أو همسات حبيبين ‪ ،‬وكان البحر أحيانا ً يلتهم كل تلك األصوات داخل أمواجه التي‬
‫يرسلها بقوة أحيانا ً وبضــعفـ أحيانـا ً أخــرى ‪ ،‬وفي كال الحــالتين كــانت ( زبــد ةالمــاء ) تمتــد على‬

‫‪ 1‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪43‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪11‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪11‬‬
‫ساحة كبيرة فوقـ الرمال الصفراء النائمة " ‪ ، 1‬وهذا محمد مقبل يخاطب نعمان فيقول عن القريــة‬
‫‪ -" :‬أتريدنيـ أن أتــرك كــل هــذا النعيم ‪ ،‬هــذا الهــدوء المالئكي ألعــود إلى ضــجة الشــيطان ‪ ،‬إلى‬
‫‪2‬‬
‫الماخورة "‬
‫ومرة نراها مدينة تضغطـ على المرء وتطوقه بشعور الغربة ‪ ،‬حتى يبلغ منه ذلك الشــعور حــد ا‬
‫لرغبة في نسيان اسمه وعالمه وأصدقائه ‪.3‬‬
‫وثالثة نراها مدينة تضيقـ بأهلها ‪ ،‬لتعج بالبطالــة وتصــبح ملكـا ً للغربــاء ‪ ،‬الــذين أخــذوا ينافســون‬
‫أبناءها في أرزاقهمـ بدعم من المستعمرالذيـ دأبت سياسته على أن يشــدد قبضــته على أبنائهــا من‬
‫الشماليين على وجه الخصوص بإخالء وظائفهم ألجــانب يقــدمون من الهنـد والصـومال ‪ ،‬فسـكان‬
‫مقهى ( الحاج علي ) مثالً ‪ ،‬قد أصبحواـ كلهم بدون عمل " فصلوا وتوقفت األعمــال في كثــير من‬
‫‪4‬‬
‫الشركات "‬
‫ثم تصبح مدينة للضياع واالستسالمـ للخواء والتعفن فالصنعاني الذي فصل من عمله ‪ ،‬لم يعد يهتم‬
‫‪5‬‬
‫لشيء في حياته سوى النوم وأكل القات وشرب الخمر في حافة اليهودي ‪.‬‬
‫ونعمان الذي تبــدلت رؤيتــه للمدينــة بعــد مــا رآه في قريتــه من كــوارث أيقظت في داخلــه شــعوراً‬
‫بالمسؤولية كان غائبا ً قد أخذ يتلقف أخبار القرية من كل القادمين ‪ " :‬لقـد أدركت ألول مـرة مــدى‬
‫‪6‬‬
‫ارتباطي بالقرية "‬
‫وبعد مغادرة أصدقائه بفعل الظروف الضاغطة إلى دول بعيدة لم تعد عدن تمتلك ذلــك اإلغــراء ‪،‬‬
‫وتلك المتعة ف" الحياة في عدن فقدت جمالها وفقدت سحرهاـ لقد أصبحت اآلن ميتة "‪ ،7‬وفاطمــة‬
‫تلك الشابة العابثة أصبحت بعد فتاة الجبل السمراء التي حطمت كــل مقــاييس المتعــة ‪ ،‬امــرأة أقــل‬
‫من عادية ‪ ،‬لذلك يقرر نعمان دفن طاقته في العمل " عدت إلى العمل ‪ ..‬وحاولت أن أدفن فيه كــل‬
‫طاقتي ‪ ،‬ألنني أصبحت فجأة أشعر بمسؤوليتي أمام العائلة ‪ ،‬لذلك قررت أن أنقص من مصروفي‬
‫بقدر اإلمكان ‪ ،‬ال سينما وال حانة وال نساء ‪ ،‬والعمل والعمل وحدة فيه أجد السلوىـ وأدفن طــاقتي‬
‫‪8‬‬
‫"‬
‫لكن هذا القــرار لم يكن بيــده وحــده ‪ ،‬فقــد فــوجئ بفصــله من عملــه كــاآلخرين ‪ " :‬نعم ليس هنــاك‬
‫فائدة ‪ ،‬وها أنذا بعد هذه األيام والشهور أعيش بال عمل ‪ ، ...‬سوى الــذكرى ذكــرى أيــام القريــة ‪،‬‬
‫وزوجتيـ ‪ ...‬ثم عملي ‪ ،‬واآلن ما العمل ‪...‬؟ ال أكاد أصدق أنــني أعيش بال عمــل ‪،‬والتفت حــولي‬
‫ألرى كل واحد من هؤالء ‪ ..‬الذي كانوا باألمس يشــكون من إرهــاق العمــل ‪،‬وعــدم وجــود راحــة‬
‫كافية ‪ ،‬أجـدهم األن يشـكون من الفـراغ "‪ 9‬لم يسـتطع إزاء كـل هـذه الضـغوط أن يقـاوم انهيـاره‬
‫فيعود مرة أخرى إلى الحانة التي قطع على نفسه عهداً أال يعود إليها ‪ " :‬ووجدت نفسي فجأة أمام‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪48‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪44‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص‪40‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪75‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪39‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪39‬‬
‫‪ 9‬نفسه ‪86 ،‬‬
‫( حافة اليهودي ) ودفعتنيـ قــدماي إلى الــداخل وهنــاك ‪ ،‬وجــدت الصــنعانيـ يبتســم ‪ ،‬وهــو يــراني‬
‫وأشار إلي أن أجلس معه وحين جلست اتسعت ابتسامته وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬وأخيراً تغلبت على نفسك ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬كال ‪ ،‬فالقلق هو الذي قادني! إلى هنا ‪ ..‬لم أكن أدرى أين أسير فوجدت نفسي هنا "‬
‫‪2‬‬
‫وها هو يقضي أيامة الفارغة متنقالً بين عشة ( زينب ) فتاته الجديدة والمقهى والحانة "‬
‫وهكذا تتبدل ص!!ورة ه!!ذه المدينة ال!!تي غ!!دت في نظ!!رة مدينة بال قلب ت!!ؤوي أناس!ا ً بال قل!!وب‬
‫أيضا ً ‪ ":‬أما هنا يا صديقي فال ش!!يء س!!وى جسد ميت بال قلب ‪ ،‬مج!!رد آلة كب!!يرة تلتهم الن!!اس‬
‫والجبال والمعادن ‪ ،‬كل ش!!يء فيها س!!واء ‪ ،‬بال تمي!!يز ألنها كما قلت بال قلب مطلق!ا ً ‪،‬وأظن أن‬
‫‪3‬‬
‫جميع من فيها أيضا ً فقدوا قلوبهم "‬
‫وعلى اتساع هذه المدينة ‪ ،‬فإنها عاجزة عن اس!!تيعاب آم!!ال أبنائها ‪ " :‬مدينة كب!!يرة ج!!داً ‪ ...‬ح!!تى أن!!ني‬
‫أع!!!!!!!رف حقيقة خفاياها ‪ ،‬وفي! الليل تلمع المدينة تحت أض!!!!!!!واء ال نهائية ‪ ،‬ويلتهم البحر في أعماقه‬
‫ضجيجها ومآسيها ‪ ،‬كما يبتلع الن!!اس ال!!ذين فق!!دوا األمل في حي!!اة س!!عيدة "‪ ، 4‬وقاس!!ية ال ت!!رحم ‪ ،‬إنها "‬
‫كعمالق فتح ذراعيه القويتين ليخطف كل شيء في أعماقه ‪ ،‬ثم يبتلعها أو يق!!ذف بها إلى الخ!!ارج اله!!ائج‬
‫"‪ ، 5‬وأناسها! ضائعون محاصرون باأللم يرتمون على بعضهم! البعض كل يبحث عن الدفء عند اآلخر‬
‫‪ ،‬يقول نعمان ‪ " :‬هذا هو استنتاجي بعد كل ليلة ش!!اقة مرعبة ‪ ،‬ثم أجد نفسي بين أحض!!ان ام!!رأة ‪ ...‬من‬
‫هي ؟ ال أعرفها! مجرد امرأة وجدتها! في الطريق ‪ ،‬فأخذتها لكي أصب عليها لعناتي "‪. 6‬‬
‫وآالم الن!!اس فيها ال تنتهي ‪ " ،‬هنا نج!!تر ليالينا الس!!وداء ‪ ...‬تحت أض!!واء خافته في الجبل أو في السيس!!بان في‬
‫أحضان عاهرة أو في مضغ أعشاب خضراء من القات أو في احتس!!اء خم!!رة ال تنتهي كلما ش!!ربنا ازددنا ظمأ‬
‫"‪ ، 7‬وكلما حاول اإلنس!!ان إنه!!اء ألمه فيها بإية وس!!يلة انقلبت تلك الوس!!يلة إلى أداة إليق!!اده وإض!!رامه ‪ ،‬يح!!دث‬
‫نعمان نفسه ‪ " :‬دعني أنسيك آالمك ‪ ،‬إنه ن!!داء مغر ‪ ،‬ولك!!ني أمقته ‪ ،‬أل أدري لم!!اذا ؟ هل ألن!!ني أدوس بق!!دمي‬
‫هذه فتاة في عمر الربيع ‪ ،‬ولكني ال أصدق ‪ ،‬ألن المدينة بص!!متها! وض!!جيجها! ت!!دوس كل ليلة االف الفتي!!ات ‪..‬‬
‫كما أنها تسحقنا نحن الذين نتصبب عرقا ً طوال النهار "‪. 8‬‬
‫إنها في آخر األمر مدينة قاتلة ‪ ،‬نسمعه ي!!دعوها ت!!دمر أخ!!اه ‪ " :‬دعه يم!!وت هن!!اك في المدينة ‪ ،‬دعها تحطمه ‪،‬‬
‫إنها تنتقم لي ب!!دون أن تش!!عر ‪ ،‬آه يا فاطمة ‪ ،‬كم أنت جب!!ارة ‪ ...‬حطميه ال ت!!تركي! منه ش!!يئا ً "‪ 9‬ومحاص!!رة‬
‫بالموت المطبق من كل جانب ‪ ،‬وهي ال تختلف في ذلك عن غيرها من المدن اليمنية ‪ ،‬يقول نعم!!ان ‪ ":‬وهن!!اك‬
‫تحت هذه العشة التي أعيش فيها مع ( زينب ) تمتد إلى ماالنهاية إلى أطراف! البحر طي!!ور ال تنتهي ‪ ،‬وفي كل‬
‫يوم أشهد إنسانا ً جديداً يدفن "‪ "........‬هناك تمتد أمامي المقابر ‪ ،‬فأخالها! مدينة كبيرة ‪ ،‬ع!!امرة يعيش!!ها موتاها‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪43‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪83،82‬‬
‫‪ 3‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪75‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪75‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪76‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪76‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪77‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪78‬‬
‫‪ 9‬نفسه ‪ ،‬ص‪26‬‬
‫‪ ،‬وليست تلك القبور سوى مكان يأوون إليه حين يشعرون بالتعب ‪ ،‬إنها حياة ويزيدها صخبا ً وضجة األم!!وات‬
‫‪ ،‬والزبد األبيض الذي يمتد إلى أطرافها! ‪ ،‬حياة أشاهدها كما شاهدها من قبل ( البحار ) هناك في الش!!مال على‬
‫‪1‬‬
‫أبواب زبيد "‬
‫وتطل القرية ثاني األماكن المهمة في الرواية ‪ ،‬وهي قرية من قرى! الشمال اليمني ‪ ،‬تربض – على ما يب!!دو –‬
‫على أحد جبال الحجرية ‪ ،‬كما تدل على ذلك أسماء الشخصيات المنتمية إليها ‪ ( :‬محمد مقبل ‪ ،‬سيف ‪ ،‬نعمان ‪،‬‬
‫درهم ‪ ،‬علي األغبري ‪ ،‬الحاج مقبل ) وكونها! إحدى ق!!رى! الش!!مال اليم!!ني ‪ ،‬ف!!إن لها معاناتها! الخاصة في ظل‬
‫واقع سياسي! يختلف نوعا ً ما عن الواقع السياسي الذي تض!طرب! فيه مدينة ع!دن ‪ ،‬إذ هي ت!!دخل ض!من نط!!اق‬
‫نظام اإلمامة ال!ذي دأبت سياس!تة على إهم!ال الق!رى والم!دن اليمنية وس!لبها كامل حقوقها ‪ ،‬والنظر إليها على‬
‫أنها موطن لجباية األموال والضرائب مهما كانت الظروف! التي تمر عليها ‪:‬‬
‫" لو ترى الخراب الذي عم هذه األرض ‪ ...‬ألمتالت عيناك بالدوع! ولرثيت لحال ه!!ذا الش!!عب ال!!ذي أنهكه كل‬
‫شيء حتى حكومته ‪ ،‬تصور ‪ ..‬وصل باألمس إلى قريتنا! أكثر من عشرة " عساكر " من " العكفة " مع جابيي‬
‫الضرائب " وطلب من قريتنا ضرائب هذا العام ‪ ..‬بل أنه طلب ض!!رائب األرض ‪ ...‬وإنتاجها! ‪ ،‬أتتص!!ور! ذلك‬
‫‪ ،‬الناس ال يجدون نقوداً لشراء حبوب تقيهم عامهم القادم كله من المجاعة والحكومة تطالبهم! بضرائب زرع لم‬
‫‪2‬‬
‫يجنوه ‪ ..‬وضرائب على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات يوم "‬
‫كما أنها مك!!!ان له تم!!!يزه من حيث بيئته الطبيعية واالجتماعية المختلفة عن مدينة ع!!!دن ببحرها وش!!!واطئها!‬
‫ومجتمعها المتمدن ‪.‬‬
‫وتتجلى القرية ‪ -‬التي يغلب على مالمحها طابع البؤس والحزن والم!!وت وأش!!باح الهالك ‪ ،‬ففي لحظة وص!!ول!‬
‫نعم!!ان إليها ك!!انت هادئة ‪ ..‬ميتة ‪ ...‬ال حي!!اة فيها ألمثاله ‪ ، 3‬وح!!تى إقامته القص!!يرة فيها قد أص!!بحت كابوس!ا ً‬
‫ثقيالً عليه واصبح وجوده فيها شيئا ً ال فائدة منه ‪ ، 4‬وعند مغادرته كانت كئيبة محزونة " كانت األراضي! تبدو‬
‫كعجوز تحطم كل شيء فيها ‪ ،‬وبانت األخاديد على وجهها بشكل بشع ‪ ،‬وك!!انت األش!!جار الجميلة ال!!تي تغطي‬
‫قريتنا قد تحطمت بفعل الري!!!اح واألمط!!!ار ‪ ،‬فن!!!امت على ج!!!انبي الطريق! كجثث القتلى بعد معركة رهيبة ‪،‬‬
‫والمياه تشق طريقها وسط كل شيء حتى الصخر ‪ ،‬إن النعمة الوحي!!دة لألمط!!ار! هي أن كل امرأة تس!!تطيع! أن‬
‫تأخذ ماءها من أمام باب المنزل ‪ ،‬بدالً من ال!!ذهاب إلى الب!!ئر " ‪ ، 5‬من خالل منظ!!ورين ‪ ،‬بيئتها الطبيعية ال!!تي‬
‫تتقلب بين أحوال مختلفة من الجمال الطبيعي األخاذ ‪ ،‬والجدب الذي يولد الخوف والمجاعة فتعم الكارثة ال!!تي‬
‫لم تستثن حتى البهائم ‪.‬‬
‫فهي في طبيعتها جميلة " كان الوقت ليالً ‪ ،‬والقمر يرسل أشعته الفضية على قريتنا وعلى الجب!!ال المحيطة بها‬
‫‪6‬‬
‫فيصغ جماالً رائعا ً وهدوءاً غريبا ً جعلني أحس بالجمال الحقيقي لطبيعة بالدنا "‬
‫وتكون أجمل عند المطر ‪ ،‬إذ تتفجر المشاعر البكر التي لم تلوثها أدخنة المدينة ‪ ،‬ف يحدثنا نعمان ‪ " :‬ب!!األمس‬
‫أدركتني األمطار وأنا أنظر من األكمة إلى ال!!وادي األخضر تح!!تي والم!!درجات! الزراعية تكس!!وها! األعش!!اب‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪79،78‬‬
‫‪ 2‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪28‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪30‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪17‬‬
‫الخضراء التي تتفتح لموسم جديد ‪ ،‬ورأيت عدة فتيات في الوادي يمألن جرارهن من الماء العذب ‪ ،‬ولم أهرب‬
‫من األمطار! ‪ ،‬بل وجدت لذة ال حدود لها ‪ ،‬وأنا أرى الفتيات يتسابقن في اله!!روب واالختب!!اء ‪ ،‬وابتس!!مت رغم‬
‫أن!!ني كنت مبلالً والمي!!اه تغم!!رني! ‪ ،‬وش!!عرت بطفول!!تي! كلها تتجمع وتجعل!!ني أقفز وأج!!ري! وألعب بالمي!!اه ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ورفعت رأسي نحو السماء ‪ ،‬وفتحت قميصي! أستقبل به مياه األمطار قبل أن تصل إلى األرض "‬
‫لكن إذا ما انقطع المطر وشحت السماء أجدبت األرض مثيرة مشاعر الخ!!وف من شح المجاعة ‪ " :‬وهك!!ذا لم‬
‫تنزل األمط!!ار ‪ ..‬وازداد خ!!وف الن!!اس أك!!ثر من ذي قبل وب!!دأ ش!!بح المجاعة يع!!ود إلى أذه!!انهم ‪ ،‬خاصة وان‬
‫مجاعة ‪1948‬م ما زالت في أذه!!انهم ‪،‬ولم ي!!زل الكب!!ار ي!!ذكرون كيف ك!!انوا ي!!أكلون ( الع!!اص ) وح!!ده ‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫وكيف كانت حياة " الغرب" أغلى من الذهب "‬
‫غير أن األمطار! ‪ ،‬إذا ما سقطت فإنها ليس بالضرورة أن تكون حاملة للخير ‪ ،‬فقد يولد س!!قوطها كارثة عظيمة‬
‫‪3‬‬
‫‪ ":‬وهكذا ترى يا صديقي أن السيل ‪ ...‬األمطار! ‪ ...‬كانت ال تحمل الخير هذا العام ‪ ،‬بل إنها كانت فظيعة "‬
‫فس!!قوط! المطر تس!!بب بس!!يل ج!!رف أمامه األرض ‪ ،‬وه!!دم المن!!ازل على رؤوس أص!!حابها! " األمط!!ار! ‪...‬‬
‫األمطار ‪ ....‬لقد انقلبت إلى جحيم ‪ ،‬كل ذلك التلهف والترقب ‪ ...‬والدعاء ‪ ..‬كله يا صديقي ذهب هب!!اء ‪ ،‬إال أن‬
‫األمطار لم تعد الخضرة إلى البراعم التي كانت قد بدأت تتفتح فوق الم!!درجات ‪ ،‬بل لقد حملت تلك الم!!درجات‬
‫ورصتها! بعضها فوق بعض وحملت الطينة السمراء إلى الوادي ‪ ،‬لقد أصبحت األرض الخضراء تسيل فوقها‬
‫المياه ‪ ،‬لقد خرب كل شيء وذهب تعب األجداد في بناء هذه المدرجات ‪ ...‬وربما! إلى األبد ‪ ..‬باألمس خرجت‬
‫كعادتي إلى الجبل ‪ ،‬رغم أ األمطار! لم تنقطع منذ أس!!بوع ‪ ،‬ووج!!دت الطريق قد أص!!بح كله بركا ‪ ...‬من الطين‬
‫الذي حملته المياه من المدرجات ‪ ،‬ووجدت الجبل قد تغيرت مالمحه ‪ ..‬فأصبح مجرد أحج!!ار ص!!ماء ال حي!!اة‬
‫فيها ‪ ،‬ووجدت! أن فتاة الجبل لم تكن هناك ‪ ،‬وعدت إلى القرية لم أرها منذ أس!!بوع ‪ ..‬منذ ب!!دأت األمط!!ار‪ ،‬لبعد‬
‫منزلنا عن القرية كما تع!!رف ‪ ،‬أت!!دري ما رأيت ؟ ك!!انت خالية ‪ ...‬ح!!تى األطف!!ال لم يع!!ودوا! يمألونها! حي!!اة‬
‫بضجيهم ولعبهم ‪ ،‬بل إنني رايتهم! جالسين في وجوم ينظرون ناحية الجبل الصغير! ‪ ..‬حيث المن!!ازل القديمة ‪،‬‬
‫واستمريت في طريقي ووج!دت! أن جميع س!!كان القرية تقريب!ا ً ‪ ،‬قد ذهب!وا إلى تلك المن!ازل القديمة النائمة في‬
‫حضن الجبل الصغير ‪.‬‬
‫وأسرعت أنا أيضا ً إليها ‪ ،‬وسالت بعض من قابلتهم ‪ ،‬فقيل لي أن هناك منزالً قد انه!!ار ب!!األمس بفعل األمط!!ار!‬
‫‪4‬‬
‫الشديدة ‪ ،‬وقد دفن تحته حين انهار كل سكانه من النساء ‪ ،‬واألطفال "‬
‫حتى األطفال والبهائم يشملهم غضب السماء " ففي يوم من أيام الشهر الماضي خ!!رجت األغن!!ام والماش!!ية مع‬
‫صغار أطفال القرية إلى الجبل يرعونها ‪ ،‬خاصة وإن الجو ك!!ان ص!!افيا ً نوع!ا ً ما ‪ ...‬ولم يكن هن!!اك دليل على‬
‫أن األمط!ار قد تس!قط ‪ ،‬وغ!رهم الجو وجم!ال ال!وادي ‪ ..‬وخاصة وأن هن!اك بركة كب!يرة ص!نعتها! األمط!ار! ‪،‬‬
‫فنزلوا مع أغنامهم وماش!!يتهم إلى ال!!وادي ‪ ...‬وذهب!!وا إلى البركة يلعب!!ون ويس!!بحون ‪ ,‬ك!!أن كل ش!!يء عادي!ا َ ‪،‬‬
‫األغن!!ام في وسط ال!!وادي حيث وج!!دت الكث!!ير من األعش!!اب بفعل الطين ال!!ذي حمله الس!!يل من ف!!وق! الجبل ‪،‬‬
‫والصغار! في البركة يسبحون ‪ ...‬السماء صافية ‪ ..‬والجو هادئ ‪ ،‬وبدون مقدمة س!!مع األطف!!ال ه!!ديراً ص!!اخبا ً‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪17‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪29‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪19‬‬
‫يأتي من الناحية العليا من الوادي ‪ ،‬وخرج الصغار من البركة ه!!اربين إلى كل ناحية من ن!!واحي ال!!وادي ‪ ،‬ولم‬
‫يكن هناك وقت كاف ليسوقوا األغنام والماشية من داخل الوادي وأقبل السيل ‪ ....‬وفي! مقدمته ك!!انت األش!!جار‬
‫والماشية ‪ ...‬بل األطفال الذين خطفهم من القرى األخرى ومن ضفاف الوادي العليا ‪ ،‬وذهبت معظم حيوان!!ات‬
‫القرية ‪ ،‬وك!!!ذلك أخذ الس!!!يل ابن ( علي الزغ!!!ير) وابن ( مقبل الح!!!اج ) ال!!!ذين كانا من س!!!وء حظها ‪ ..‬ومن‬
‫إحساسهما بالواجب أن بقوا يكافحون! من أجل إخراج أغنامهم وماشيتهم من الوادي ‪ ،‬فكان أن ذهبوا أيض!!ا ً مع‬
‫السيل ‪ ،‬ح!!تى مالبس بعض الص!!غار! لم يرحمها! الس!!يل ‪ ،‬فع!!ادوا! عرايا يرتجف!!ون من ال!!برد والخ!!وف وك!!انت‬
‫‪1‬‬
‫دموعهم ال تهدأ "‬
‫وأما القرية من منظور! طبائع أهلها وعاداتهم ‪ ،‬فيجري! تكشفها ضمن رؤية تغلب عليها االنطباعات السلبية‬
‫‪ -‬فأهلها بائسون يعيشون على هامش الحياة ‪ ،‬وسرعان ما تذبل أيامهم " ح!!تى وال!!دي ‪ ...‬ذلك اإلنس!!ان‬
‫البسيط الذي كنت أحبه من قبل أص!!بحت أتحاشي مقابلته كث!!يراً ‪ ،‬خاصة وأنت تعلم موقفه من خالفي‬
‫مع أخي ( سيف ) ‪،‬‬
‫أما أمي المسكينة فهي تعيش على ه!!امش الحي!!اة ‪ ،‬لقد أص!!بحت يا ص!!ديقي عج!!وزاً محطمة بل إن!!ني‬
‫أخاف أن تفقد بصرها ‪ ،‬وهكذا نرى أن منزلنا أصبح يسوده الوجوم ‪ ...‬والحزن ‪.‬‬
‫أما زوجتي تلك الفتاة الجميلة ال!!تي همت بها حب!ا ً حين كنا ن!!رعى األغن!!ام على جب!!ال قريتنا ‪ ،‬وال!!تي‬
‫‪2‬‬
‫أثارت ضجة حتى تزوجيها ‪ ،‬فقد أصبحت اآلن عوداً يابسا ً ‪ ...‬الحياة فيه "‬
‫‪ ‬وهم هاربون متخلون ‪ ،‬وهذا والد نعمان يح!!دث زوجته العج!!وز! وزوجة ابنه الباكية ق!!ائالً ‪ -":‬ال‬
‫فائدة منهم إن طلعوا رجال ‪ ..‬فليفيدوا أنفسهم ‪ ..‬أما أنا فسأموت غداً ‪ ...‬وال أحد سيذكرني وأرى!‬
‫أن م!!وتي أمر محقق إن اس!!تمرت الح!!ال على م!!اهي عليه ‪ ،‬وأجابته أمي وال!!دموع تتس!!اقط من‬
‫‪3‬‬
‫عينيها الكفيفتين قائلة له ‪ : :‬هللا ‪....‬وال كأنهم يعرفوننا ! "‬
‫وح!!تى عن!!دما يطلب المس!!اعدة من ابنه اآلخر س!!يف ال يجيب على طلبه " لقد أراد وال!!دي أن ال‬
‫يجعلني أتحمل عبء األسرة وحدي فكتب ألخي أن يرسل له قليالً من النق!!ود ‪ .‬ح!!تى يس!!تطيع أن‬
‫يواجه المجاعة التي سببها عدم سقوط األمطار! ‪ ،‬ولكنه لم يرد بكلمة ‪ ...‬وهكذا ك!!ان على وح!!دي!‬
‫‪4‬‬
‫تحمل كل أعباء المجاعة لماذا ؟ ال أدري "‬
‫وكلهم مه!!اجرون أو قد جرب!!وا! الهج!!رة قبالً ‪ ،‬فوالد نعم!!ان قد قضي ش!!بابه مه!!اجرا ومحمد! مقبل‬
‫قضى حياته مهاجرا ‪ ،‬وحينما ع!اد إلى القرية لم يعد له أحد فيها ‪ ،‬يق!ول نعم!ان " إن محمد مقبل‬
‫يعيش معنا في الم!!!!نزل ‪ ..‬ف!!!!أنت تعلم أنه لم يتبق له من أهله بعد أن م!!!!اتت زوجته ‪ -‬وهو في‬
‫الح!!!رب –‪-‬وه!!!اجر ابنه الوحيد بحثا عنه ولم يعد ‪ ،‬واس!!!تولت الحكومة باسم الوقف! على كل‬
‫أمالكه ‪ ،‬أما داره فقد تهدم " ‪ ،5‬وس!يف قد ه!اجر إلى ج!ده ‪ ،‬وبي!وت القرية لم يعد فيها إال النس!اء‬
‫والعجائز " فال!!دار ال!ذي انه!!ار ليس فيه رجل واحد ‪ ،‬ألنهم كلهم في الخ!ارج ‪ ، ..‬كمعظم! من!!ازل‬
‫ق!!رى بالدنا ‪ ،‬هن!!اك ح!!ول ال!!دار المنه!!ار رأيت النس!!اء ‪ ،‬يبكين وجلس الش!!يوخ ف!!وق! ع!!دد من‬
‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪28‬‬
‫‪2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪13‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪14‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪25‬‬
‫الصخور يدعون ( هللا ) ان ينجي المدفونين تحت األنقاض ‪ ،‬وكان هناك خمسة رج!!ال فقط ‪ ،‬هم‬
‫كل من تبقى في القرية ‪.1‬‬
‫وحتى نعمان يعت!!بر مش!!اركته أهله هم!!ومهم انهزام!ا ً لنفسه ‪ ،‬ويص!!مم! على المغ!!ادرة " س!!أغادر‬
‫القرية ‪ ،‬ه!!ذا هو ش!!عاري! ‪ ،‬إن حي!!اتي أص!!بحت الج!!دوى منها هنا ‪ ،‬فال بد من الرحيل "‪ ، 2‬بل‬
‫وينوي الهجرة بعيداً‬

‫يخاطب صديقه قائالً ‪ " :‬واجعل رسائلكـ دائما ً مليئة بالحياة ‪ ،‬وصفـ لي ما سيحدث لك فربمــا ‪...‬‬
‫‪3‬‬
‫ربما فقط أهرب من حياتي وأرافقكـ "‬
‫‪ ‬ومتخلفون يسهل االحتيال عليهم وخــداعهم ‪ ،‬وهــذا أحــد المحتــالين يــدعى قدرتــه على كشــف‬
‫السر وراء ‪ ،‬احتبــاس المطــر وشــيوع الجــدب ‪ " ،‬فقــد ذهب ذلــك الرجــل إلى المســجد وأوهم‬
‫الناس أن شخصا ً ما قد وضع فوق األكمة رسمة وورقــة تمنــع نــزول المطــر ‪ ،‬وأنــه يعــرف‬
‫‪4‬‬
‫مكان هذه الرسمة إذا دفع له مبلغ معين من قبل الجميع "‬
‫وبعد أن دفع المبلغ ‪ ،‬وذبح خروف أبيض كما طلب " شـمر الرجـل سـاعده وبـدأ يحفـر ‪ ..‬ورأيت‬
‫أنه يحفر بخطة مرسومة ‪ ..‬والجموعـ من حولة تنظر بلهفة خاصة األطفال والنســاء ‪ ،‬بينمــا جلس‬
‫الكبار يتمتمون ‪ ...‬وينظرون إلى الرجل بأطرافـ عيونهم ‪ ....‬وأخــيراً أخــرج الرجــل من الــتراب‬
‫شيئا ً ما ‪ ..‬وسجد بنفس حركاته التمثيلية وصاح ‪ " :‬الحمد هلل ‪ ...‬الحمــد هلل ‪ ،‬أتى الفــرج وضــاعت‬
‫صيحته وسطـ صيحات الناس الذين أدركتهم المفاجــأة ‪ ،‬وضــحكت في نفســي ألنــني رأيت الرجــل‬
‫‪5‬‬
‫أمام عيني وهو يخرج تلك الرسمة "‬
‫‪ ‬وحيــاتهمـ فارغــة يمألونهـاـ باالنشــغال بتتبــع أخبــار اآلخــرين ‪ ":‬النــاس يــا صــديقي هم أنــاس‬
‫بالدنا ‪ ...‬بدون تفكير بدون أمــل في المســتقبل ‪ ،‬بــدون شــيء ‪ ،‬يــأكلون القــات ‪ ..‬مرتــاحون ‪،‬‬
‫والحديث لهم إال عن ( فالن ) الذي عاد إلى القرية وبجيبة الرياالت التي التنتهي ‪ ...‬وعن (‬
‫فالنه ) التي الحظوا أنها تنزين وتلبس مالبس نظيفــة رغم غيــاب زوجهــا عنهــا منــذ ســنوات‬
‫‪6‬‬
‫أربع "‬
‫والقرية بهم ( مقبرة للموتىـ ) الذين ال يستشعرون حياتهمـ إال بهذه القصص التي يختلقونها " أفواه‬
‫الموتى الــتي التصــمت والــتي تصــنع كــل يــوم قصــة جديــدة لتجــدد إحساســها ‪ ،‬على حســاب آالم‬
‫اآلخرين ‪ ،‬إن الحياة عند هؤالء الناس هي في موت اآلخرين ‪ ،‬وإن الطيب لديهم هو من يســرقهم‬
‫‪7‬‬
‫ويضحك على لحاهم البيضاء الوقورة "‬
‫وأما كرمهم فمجرد زيف ومحض ادعاء ‪.‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪19‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي )صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪10‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪12‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪15‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪16‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪،‬ص‪12‬‬
‫" المهم لم تسقط األمطار طوال شهر كامل ‪ ..‬وشعرـ الناس أن المأساة قد أصبحت حقيقية وأنــه ال‬
‫مفر منها ‪ ،‬وهنا تـرى الجشـع يظهـر ألول مـرة ‪ ..‬فهـؤالء النـاس الـذين كـانوا بـاألمس أصـدقاء‬
‫يعيشون ‪ ..‬ويتحدثون ويصلون قد انقلبوا إلى أناس ال يعرف بعضهم بعضــا ‪ ،‬لقــد كــان كــل واحــد‬
‫منهم يخاف أن يطلب منه اآلخر نقودا لشراء حبوب ألسرته أو يسلفه قليالً من الحبوب المخزونــة‬
‫لديه ‪ ،‬وصارتـ األفواه التي كانت تنادي بالتعاون ضد الزنادقة والمارقينـ أمثالي ‪ .‬تنادي اآلن بأن‬
‫يجنبها شر كل الناس ‪ ،‬آه لكم كنت أحب أن تكون هنا في القرية لعلك ترى كل مــادار ومــا ســوفـ‬
‫يدور ‪ ،‬تصور أن والدي ذهب يطالب بعض الناس دينا ً كان عليهم فأنكرواـ ‪ .‬بــل أشــد من ذلــك أن‬
‫شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت هللا الحرام أكثر من مرة ‪ ،‬أنكر جميع النقــود الــتي أرســلت‬
‫معــه من المهــاجرين بقريتنــا ‪ ،‬والــتي هي مرســلة بواســطته إلى زوجــاتهمـ وأوالدهمـ ‪ ،‬إن هنــاك‬
‫ً ‪1‬‬
‫عشرات غيرها من القصص التي تضحك وتبكي معا "‬
‫‪ ‬وتطل زبيد ثالث أهم األماكن التي ورد ذكرها في الرواية كمدينة منسية ‪ " :‬في كال الجــزأين‬
‫من المدينة ‪ ..‬خارج األسوارـ وداخلها ‪ ..‬تشهد حياة غريبة ‪ ،‬ولوال وجــودـ عــدد من الســيارات‬
‫التي تمر بزبيد في طريقها من الحديد ة إلى تعز وبالعكس لقلنا أنها مدينة تاريخية ‪ ..‬ال وجود‬
‫‪2‬‬
‫لها "‬
‫ومقطوعة عن تاريخهاـ ‪ ،‬غارقة في نوامهاـ ومواتها ‪:‬‬
‫" كانت ( زبيد ) منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم ‪ ..‬وظلت قرونا ً شــعلتها ‪ ،‬لكن حين أشــرفتـ‬
‫عليها كانت نائمة في وسط سهل ممتد ‪ ..‬مآذنها القديمة وبيوتهـا ذات البنـاء التـاريخي ‪ ،‬ثم عشـش‬
‫من اللبن وعشش أخرى من مخلفات الماشية وسعف النخيل ‪ ،‬وهناك خارج أسوار المدينة ‪ -‬تلــك‬
‫األسوار التي صدت عن زبيد غارات المتوحشــين وحفظت لهـا شـعلة العلم ‪ ،‬وهي األســوار الـتي‬
‫صدت عن المدينة تدفق شعاع العلم الحديث خارج تلك األسوار القديمة ‪ ..‬الصــلدة الــتي مــا زالت‬
‫‪3‬‬
‫تقاوم الزمن – تقبع ( المقبر ) ميدان واسع ال نهاية له ‪ ،‬كأن أموات العالم كله متجمعون هناك "‬
‫‪ ‬وزبيد من خالل الرؤية المتباعدة مدينتان يفصل بينهما سور‪ " :‬ومن فوقـ ربوة عاليــة خــارج‬
‫زبيد تــرى المكــانين ‪ ،‬زبيــد داخــل ســورهاـ ‪ ،‬والمقــابر بشــواهدهاـ وقببهــا البيضــاء ‪ ،‬مــدينتان‬
‫لألحيــاء واألمــوات ‪ ،‬وأي إنســان ال يعــرف زبيــد اليســتطيعـ أن يمــيز بين المــدينتين ألنهمــا‬
‫‪4‬‬
‫متشابهتان "‬
‫‪ ‬لكنك إذا ما اقتربت منها ‪ ،‬رأيت المشهد على حقيقته ‪.‬‬
‫" وحين ينزل اإلنسان من فـوقـ ذلـك التـل الـذي شـاهد فيـه المدينـة ألول مـرة بجزأيهـا ‪ ،‬يختلـف‬
‫‪5‬‬
‫المنظر ‪ ،‬ألنه يرى كل شيء عندئذ عن قرب "‬
‫فأهل المدينة فقراء و مشـردون يحــدثنا علي الزغـير فيقـول ‪ " :‬كــانت أبــواب الــدكاكين مقفلـة ‪،‬‬
‫وتحت ظالل بنيانها كــان أنــاس مهلهلــو المالبس قــذرو الخلقـة تفــوح من أجسـامهمـ رائحـة نتنــة ‪،‬‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪14‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪58‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪،‬ص‪56‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪58‬‬
‫ينــامون ‪ ،‬وقــد ارتســمت على شــفاههم بســمات ســعيدة ‪ ،‬لعلهم يحلمــون بحيــاة أفضــل ‪ ،‬وهنــاك‬
‫ظاهرة ‪ ...‬توجد بكل مدينة من مدن ساحلنا الذهبي الباكي ( ساحل تهامة )‬
‫‪1‬‬
‫فهناك يا أصدقاء تشاركـ المرأة الرجل كل شيء ‪ ..‬حتى تشرده "‬
‫وحياتهم فارغة ‪ ،‬نقرأ على لسان علي الزغير ‪:‬‬
‫‪ ":‬وولد النهار من جديد ‪ ،‬كان جديداً بالنسبة إلي ‪ ،‬ولكنه كــان قــديما ً ‪ ..‬ومــوغالً في القــدم لســكان‬
‫المدينتين ‪ ،‬ال يهتمون لو طلعت الشمس أو لم تطلع ‪ ..‬ألن حياتهم ‪ ،‬أصبحت يا أصــدقاء فارغــة ‪،‬‬
‫بال هدف ‪ ،‬أكل ونومـ ثم صالة " ‪ ، 2‬وهم خاملون وغير متحمسين لشيء ‪ " :‬داخل األسوارـ ‪ ،‬ينام‬
‫الناس ‪ ..‬يأكلون ‪ ،‬ويذهبونـ إلى مسجدها الكبير ليؤدوها بــدون حمــاس ‪ ..‬ثم يعــودون لينــاموا ‪ ،‬ال‬
‫تستطيع أن تحدد أين ينام الناس ففي كــل مكــان تــراهم متمــدين ‪ ...‬داخــل األســواق ذات الشــوارعـ‬
‫الحجرية ‪ ،‬والدكاكين المبنية من حجارة متراكبة فوق بعضها بدون تماســك ومن ســعف النخيــل ‪،‬‬
‫أو في المقاهي ‪ ،‬حيث السررـ الخشبية المربوطة بحبــال بــدالً من الكراســي وفيـ المســاجد وداخــل‬
‫الــبيوت ‪ ...‬أو على أســطحها ‪ ..‬وفي داراتهــا في كــل مكــان من المدينــة تــرى النــاس ينــامون‬
‫ويـأكلون ‪ ..‬ويصـلون ‪ ...‬وفي كـل مكـان تـرى النـاس عرايـا إال من مـئزر أبيض إلى الـركب ‪...‬‬
‫‪3‬‬
‫وقلنسوة مصنوعة من األلياف "‬
‫وهم تقريبا ً متعايشون مع الموت واألمواتـ ‪ " :‬والمدينة يــا أصــدقاء ‪ ..‬تحــترقـ من أشــعة الشــمس‬
‫وتحترقـ من الناس الذين ال يعملون وتحترق من الــدعوات الــتي تتصــاعد كــل يــوم إلى الســماء ‪..‬‬
‫حارة أحيانا ً وباردة أخرى ‪ .‬وخارج أسوار المدينة ‪ ..‬ترى الناس أيضا ً وسطـ شواهد المقــابر منهم‬
‫من يبكي ‪ ،‬ومنهم من يذهب يبحث عن من يريد أن يســتأجره ليقــرأ " القــرآن ‪ ،‬على قــبر ‪ ،‬وفي‬
‫الليل أو في النهار ينام الناس ‪ ..‬ويأكلون ويصلون فوق المقابر ‪ ...‬بل إن المقابر تشـهد في فـترات‬
‫من السنة أعياداً ‪ ،‬يشتركـ فيها الجميع ‪ ...‬ويجدون فيها المأكل والمشرب ‪ ،‬ثم في النهايــة يصــلون‬
‫‪4‬‬
‫على روح من كان السبب في إحياء الحفل "‬
‫وإذا ما حاولت أن تبحث عن ( زبيد ) مدينة العلم والعلماء ‪ ،‬فسوفـ يصدمك مــا تــراه ‪ ،‬وإن كــان‬
‫هــذا الــذي تــراه يبــدو غامضـا ً في بــادئ األمــر فحينمــا شــرع البحــار يســأل أحــد المتواجــدين في‬
‫المسجد ‪ ،‬عن طلبة العلم أثار الرد حيرته الشديدة " وقلت ألحدهم ‪ - :‬إن الذين يتلقون العلم هنــا‬
‫كثيرون أليس كذلك ؟؟ ونظرـ الذي سألته ‪ ..‬ثم هز رأسه ‪ ..‬قائالً ‪ ..‬إنك غريب ‪.‬‬
‫وهززت رأسي مجيبا ً ‪ ،‬فابتسم نحوي ‪ ..‬ووضعـ يده فوق كتفي ‪ ،‬وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ستدرك ذلك كله قريباًـ ‪ ..‬ال تتعجل‬
‫‪5‬‬
‫ومضى وتركني في حيرة ‪ ،‬ما لهؤالء الناس أال يريدون كالما ً ‪ ،‬أم فقدوا القدرة عليه ؟ "‬
‫لكن سرعان ما تتكشف حقيقة ذلك الغموض ‪ ،‬فقد تبدل حال المدينة ‪ ،‬فعندماـ أخــبر البحــار الشــيخ‬
‫الذي وجده في صحن المسجد بأنه جاء ليتعلم ‪ ،‬رد عليــه قــائالً ‪ " :‬تتعلم ‪ ..‬تتعلم ‪ ..‬ومــاذاـ تتعلم ‪،‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪57‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪57‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪59،60‬‬
‫‪ 5‬نفسه‪ ،‬ص‪61‬‬
‫وجعل يهز رأسه ‪ ،‬لقد ذهب العلم والعلماء يا بني ‪ ..‬ولم يبقى هنــا شــيئا ً ‪ ،‬ونظـرـ إلي ‪ ..‬من الــذي‬
‫‪1‬‬
‫خدعك وقال لك أن هنا علم ‪ ..‬من أين أتيت يا بني ! "‬
‫" وجعل يحدثني عن زبيد قائالً ‪ :‬إنها مدينة بسيطة كانت قديما ً يا بني عامرة بأشياء كثيرة ‪ ،‬كانت‬
‫المساجد ال كما تراها اليوم ( قذرة ) ال يعتني بها أحد ‪ ،‬كــانت قــديما ً تتألأل بــالنور ‪ ،‬وكــان طالب‬
‫العلم يفدون إليها من كل أنحاء اليمن ‪ ،‬و يجدون هنــا الخــير‪ ،‬كــانت األوقــافـ الــتي للمســاجد تــرد‬
‫أمواالً طائلة ‪ ،‬تكفي لكي يعيش الطالب هنا ويتعلم ما يريد ‪ ،‬أما اليوم ‪ ،‬فأين األرض يا بـني ؟ أين‬
‫األوقافـ لقد أخذتها الحكومة بدعوى أنها سـتتكفل بكـل شـيء ‪ ،‬فـذهبت األرض ‪ ،‬وذهب العلم فال‬
‫‪2‬‬
‫يستطيع الطالب إال أن ينفق على نفسه ولكن ال يوجد طالب اليوم "‬
‫وتبدل حال علمائها ‪ ،‬وهذا الشــيخ العــالم قــد امتهن مهنــة جديــدة ال عالقــة لهــا بــالعلم والعلمــاء ‪،‬‬
‫يحدثنا عنـه علي الزغــير ‪ ،‬فيقــول ‪ " :‬وعشــت يــا أصــدقائيـ مــع الرجــل العجــوزـ في بيتــه ‪ ،‬كــان‬
‫يعلمني قراءة القرآن وكان يغيب كثــيراً عن المــنزل ألنــه يــذهب إلى مــنزل الحــاكم ‪ ..‬وغــيره من‬
‫‪3‬‬
‫رجال حكومة حيث يسليهم بأحاديثه وحكاياته عن األقدمين "‬
‫ليس هذا فحسب ‪ ،‬بل إنه كان يدعي العمى في هذا الزمن الذي أعمى فيه هللا بصائرـ الحكام وأطفأ‬
‫عقولهم ‪:‬‬
‫" كان الشيخ يدعي العمى ويقول إنه ال يرى ‪ ،‬ولكن حياتي معه أثبتت العكس ‪ ،‬وقال مفسراً ذلك‬
‫‪ :‬عندما تعيش يا بني مع ناس أعمى هللا بصــائرهم ‪ ..‬يعيشــون في الفســق والفجــور ويــدعون أنهم‬
‫‪4‬‬
‫أتقياء ‪ ،‬البد وأن تعمى بصرك ‪ ،‬حتى تكشف حقيقتهم لتستطيع أن تعيش "‬
‫‪ ‬وأهل زبيد في هذا الزمن شحاذون وليسـواـ طالب علم ففي حـوار بين البحـار والشـيخ‪ " :‬لقـد‬
‫رأيت كثيرين اليوم يأخذون نصيبهم من األكل في صحن المسجد ‪ ،‬فمن هم إذن إذا لم يكونــوا‬
‫طالبا ً ‪.‬‬
‫اتسعت عينا الرجل الشيخ ‪ ،‬وهو يجيب ‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم أهالي المدينة يا بني ‪ ،‬وهذا الذي وزع اليوم هــو صــدقة من حــالكم المدينــة ‪ ...‬ألن إحــدى‬
‫ً ‪5‬‬
‫زوجاته قد ماتت باألمس ‪ ،‬فال تظن أنه للطلبة وأن أولئك طالبا "‬
‫وطالب العلم يصبح قلقا ً على مصيره كقلق علي الزغير الــذي يخــاطب نفســه ‪ " :‬أين أمضــي إذن‬
‫إذا لم أجد ماالً وملبساًـ وتعليما ً "‪ ، 6‬فهوـ يعلم من خالل ما ســمع من حكايــات عن مصــير من تكبــد‬
‫وا المعاناة مثله من أجل العلم " وفي صحن المســجد الكبــير ‪ ،‬حيث ســمعت قصــص اآلالف ممن‬
‫كانوا ينامون ويتعلمون في هــذا الصــحن ‪ ،‬حكايــات بســيطة كبالدنــا عنيفــة كبالدنــا أيضـا ً ‪ ،‬نــاس‬
‫بسطاء تكبدوا كل شيء من أجل العلم ‪ ،‬ثم قادهمـ علمهم ذلك إلى غياهيب السجون هناك في حجة‬
‫‪7‬‬
‫وفي صعدة ‪ ،‬وفيـ غيرها من السراديب السوداء المظلمة تحت أرض بالدنا "‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪62‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪63‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪64‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪62‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪62،‬‬
‫‪ 6‬نفسه‪ ،‬ص‪59،58‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪،‬ص‪59‬‬
‫هكذا يتبادل أحياء زبيد حيــاتهم مــع أمواتهــا ‪ " :‬ونــامت المدينــة ولكن المقــابر لم تنم ‪ ،‬لعلهــا تجــد‬
‫الحياة في الليل حيث ال يكون في تهامة أنجاس وال قيود ‪ ،‬لعل الموتى يجدون الحرية والتنفس في‬
‫الليل فقط ‪ ،‬مع كل هذا الكم من األلم يكتسيـ كــل شــيء حزنـا ً و‪ .........‬حــتى شــمس زبيــد كــانت‬
‫دامية وهي تخلق األفقـ الرملي ‪ ،‬يقولون هنا أنها تغــوص في الميــاه لكي تغســل جراحهــا ‪ ،‬كــانت‬
‫دماء الشمس تغمر الصحراء والمدينة والمقابر ‪ ،‬وكانت تتخلل مآذن المسجد ‪ ،‬وبيت الحاكم الــذي‬
‫يبدو كقلعة قديمة ‪ ،‬وكانت دماء أخرى ‪ ،‬لكنها سوداء تغرق قلب المدينة ‪ ،‬ماتت الشمس ‪ ،‬ومــاتت‬
‫معها حركات الناس في المدينة ‪ ..‬ولكنك تسمع همسات صغيرة ‪ ...‬تتحول إلى أنين كلها تــأتي من‬
‫‪1‬‬
‫خارج األسوارـ ‪ ...‬لعلها األموات تتحدث أو تبكي "‬
‫‪ ‬وحينما تغادر الرواية هذا المكان ال تنسى أن تضمخ أنظارناـ بمأساة إضــافية يعيشــها البســطاء من‬
‫أبناء زبيد المهمشين ‪ ،‬وهذا ما تسوقه الرواية على لسان البحار وهو يغادر زبيد ‪ ،‬حيث يقول ‪" :‬‬
‫ومضيت يا أصدقاء أقطع الطريقـ نحو الشمال ‪ ،‬وفي ذات ليلة مســودة ‪ ،‬أضــاء لي الطريـقـ وهج‬
‫أحمر ‪ ،‬يتصاعد إلى عنان السماء ‪ ..‬أهذه هي الحديدة ‪ ،‬تستقبلني باألنوار ‪ .‬وخطوت خطوات إلى‬
‫أبواب المدينة كــانت تنــام في ســهل ســاحلي ضــيق ‪ ..‬يحيــط بهــا البحــر والصــحراءـ تلتهم الجــزء‬
‫الخلفي منها ‪ ،‬وكانت تنقسم الى قسمين ‪ ،‬قسم مبني بالحجــارة واللبن حيث األســواق وبيت الحــاكم‬
‫ودار الضيافة ‪ ،‬والميناء القديم المهدم ومبنى كبير للسيارات ‪ ،‬وعدة مخازن كبيرة لتجارة الحديدة‬
‫‪ ،‬أما القسم اآلخر ‪ ،‬فهو مبنى كله من الحشيش وسعف النخيــل ‪ ،‬كــان ســكن ( األخــدام ) والطبقــة‬
‫الفقيرة ‪ ،‬ومـا أكثرهـا هنـاك ‪ ،‬وكـان القسـم اآلخـر الـذي اسـتقبلني بلهيبـه األحمـر المتصـاعد إلى‬
‫السماء كان يحترق ‪ ،‬وجلست يا أصدقاء على باب المدينة بعيــداً عن كــل شــيء ‪ ،‬عن الضوضــاء‬
‫والحريق والصراخـ ‪ ،‬كان كل شيء يحـترقـ وكـان الجميـع ينظـرون هــل باسـتطاعتهمـ أن يعملــوا‬
‫شيئا ً لوقف الحريق ‪ ،‬ويهــز معظمهمـ رؤوســهمـ قــائلين ‪ ...‬كال ‪ ...‬ال أمــل ‪ ،‬ولكن أتحــترق المدينــة‬
‫كلها ‪ ..‬فتعودـ الرؤوس تهتز مرة أخرى ‪ ..‬من قال ذلك ‪ ،‬إن الذي يحــترق دائمــا هــو ملــك الفقــراء‬
‫أما ملك األغنياء ‪ ، ....‬ويرتفع اللهب ‪ ،‬ويلتهم عششا ً أخــرى ‪ ..‬ويتصــارخ األطفــال والنســاء ‪ ،‬إن‬
‫كل ما كانوا يملكون يحترق اآلن ‪ ،‬حتى األمل ‪ ،‬ويمضيـ اللهب ولكنــه يــا أصــدقاءـ ال يقــترب إلى‬
‫‪2‬‬
‫القسم اآلخر من المدينة ‪ ،‬كأن هللا قد حصن ذلك القسم بقوة غيبية لكن العشش تحترق وتحترق ‪.‬‬
‫وتظهر صنعاء وهي المكان الذي حملت هذه الرواية اسمه عنوانا ً لها مدينة منكوبة بســقوطهاـ بين‬
‫يدي إمامها الجديد ‪ ،‬الذي افتتح فترة حكمه بالمجازر والمذابح ‪:‬‬
‫" كانت صنعاء حقا ً مدينة مفتوحة للغجر ‪ ،‬للهمج "‪ ، ".............‬وكانت صنعاء جميلة يا بني ‪...‬‬
‫والجبال تحيط بها من كل جانب واألشــجار الخضــراء تــرف في شــوارعها ومنازلهـاـ ‪ ،‬والشــمس‬
‫ترسل أشعتها من خلف السحب المجتمعة فوق ســماء المدينــة ‪ ،‬فتخــترقـ األشــعة تلــك الســحب ‪...‬‬
‫حمراء من الطين والدم ‪ ،‬لو لم تكن صنعاء مدينــة ممطــرة ‪ ..‬النمحت في تلــك األيــام من الوجــودـ‬
‫‪3‬‬
‫والحترقـ كل سكانها "‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪67‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪50،49‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪51‬‬
‫‪ -‬لقد تحطم كل شيء فيها حتى إنسانها " نعم حتى اإلنسان ذلك الجبار الــذي صــنع المعجــزات‬
‫ومازال يصنعها ‪ ،‬تحطم تلك األيام في مــدينتنا وأصــبح مجــرد حيــوان ‪ ،‬ينهش كــل مــا يــراه‬
‫‪1‬‬
‫أمامه ‪ ،‬دون تمييز ‪ ..‬دون خوف ‪ ،‬ألن كل المعاني والقيم كانت قد تحطمت "‬
‫‪ -‬وهكذا تجلي المكان الذي ‪ ،‬تحرك خالله الحدث الروائي في الشمال والجنــوب مكانـا ً محفوفـا ً‬
‫بــالموت حــافالً بتحــديات الهالك ومســاحة مغلقــة على خوائهــا وضــياعها وتخلفهــا ‪ ،‬لتــأتي‬
‫المناطق الحدودية ‪ ،‬آخر خطوطـ هذه اللوحة لتشكيل تحديا ً إضافياًـ لجحيم حقيقي يقــف مــا بين‬
‫الموت والموت ‪ ،‬نقرأ ‪ ":‬وكان محمد مقبــل صــامتا ً طــول الطريــق ينظــر الى الميــاه ‪ ،‬ثم إلى‬
‫األرض ‪ ...‬السماء ويتمتم بكلمات ثم يسكت ‪ ،‬وتابعت تمتمتــه حــتى أدركت أنــه يقــول ‪ ":‬إلى‬
‫متى هذا العذاب يا رب "؟ ولم يكن يعني بالعذاب نزول األمطار ‪ ...‬ولكنه كان يعــني العــذاب‬
‫‪2‬‬
‫الكبير الذي كان السبب األول لشقائنا "‬
‫كسـوقـ السـبت والمفـاليس والجمـركـ بينهمـا ‪ ،‬والمعاملـة الهمجيــة لعسـكراإلمام فيــه للغـادين‬
‫والرائحين ‪.‬‬
‫ووادي الصميته " ذلك الواديـ الذي يعيش ويعيش فيــه ســكانه بصــمت حــتى يخــال إلي أن ال‬
‫‪3‬‬
‫أحد يعيش فيه "‬
‫ومغامرة الموت على طريقه الوعرة " وانطلقت السيارة بسرعة ‪ ،‬كــأن مــارداً جبــاراً يطاردهــا ‪،‬‬
‫وكانت ترتفع وتنخفض ‪ ،‬وتصطدم بالحجارة وتغوص في أوحال ‪ ...‬وبرك ثم تميل على جانبها ‪،‬‬
‫ويمسك كل واحد منــا نحن الــذين فــوق الســيارة ‪ ،‬قلبــه ويتمتم البعض بالفاتحــة ‪ ،‬وآيــة الكرســي ‪،‬‬
‫وتغيب الشمس وراء األفق ‪ ،‬وتترك خلفها خطا ً دمويا ً على طول األفق البعيد ‪ ،‬ويرتفع من جانبي‬
‫صــوت ( الجــروش بــوي ) األســمر بأغنيــة يمنيــة حزينــة ‪ ،‬وألمح في عينيــه قصــته كلهــا بكلمــة‬
‫واحدة ‪ ..‬المأساة ‪ ..‬وترتفع مقدمة السيارة ‪ ،‬لتميل بعدها بكل قوتهاـ إلى اليمين ‪ ،‬ونتســاقطـ كلنــا من‬
‫فوقهاـ كأوراق الخريف ‪ ،‬وننجوـ من الموت بعد أن غرســت عجالت المقدمــة في حفــرة كبــيرة لم‬
‫يتبينها السائق ‪ ،‬ويسارع بعضناـ إلى مساعدته ‪ ،‬ورغم ذلك يرتفع صوته القوى ‪ ،‬باألغنية اليمنيــة‬
‫الحزينــة ‪ ،‬وتنطلـقـ الســيارة من جديــد بعــد أن خلصــت من فخهــا األول ‪ ..‬لتقــع في الفخ الثــاني ‪،‬‬
‫ونتساقط من جديد ‪ ،‬إن كل منا يصنع له مكانـا ً فــوق الســيارة ‪ ...‬بحيث يســتطيع ببســاطة أن يقفــز‬
‫حين تميل السيارة إلى أحد جانبيهاـ ‪ ،‬وننتهيـ من الـوادي ‪...‬الـوادي الكبـير حيث أحالم المئـات قـد‬
‫دفنت ‪ ،‬ويحتفظ الوادي بصمته وباسمه وادي الصميته "‬
‫وتتنوع األماكن في األعمال القصصية تحت هذا المبحث بتنوع تجاربها التي يخــتزل بعضــها في‬
‫مالمحه الصغيرة مالمح المكان األشمل ‪ ،‬الـوطن في صـراعه وقلقـه وظلمتـه وتخلفـه ‪ ،‬ويتـوزعـ‬
‫بعضها اآلخر مالمح صورة تسيطر عليها تقاسيم البؤس والظلم والجهــل والمــوت توزعـا ً يــوحى‬
‫برغبــة القبض على المكــان في كليتــه من خالل اإلمســاك بهــذه األمــاكن الــتي تشــكل بأبعادهــا‬
‫المحــدودة ‪ ،‬تفاصــيل صــغيرة على مســاحته ‪ ،‬فهي مــع تنوعهــا وتوزعهـاـ ضــمن تصــويرـ مفــرد‬
‫ومستقل ال تنبري للقارئ محطات منفصلة ال يربــط بينهــا رابــط ‪ ،‬وإنمــا تتشــكل في ذهن القــارئ‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪51‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪32‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪37،36‬‬
‫صورة كلية لمكان متصل ومتجانسـ تســود على إبــرازه ‪ ،‬وتركــيز الضــوء عليــه رؤيــة موحــدة ‪،‬‬
‫تسعى إلى إعادة اكتشافه وبلورتــه وتكــثيف الــوعي بــه لتبلــغ منــه غاياتهــا الــتي تنشــدها من وراء‬
‫إنشائها تجاربها التي عادة ما يتشكل فيها المكان عنصراً قصصيا ً له فرادته وتميزه ‪،‬‬
‫فالمكان الذي يحتل من سياق تجربة ( العم مسفر ) مساحة بــارزة يتجــاوزـ بحضــوره لقــوي دورة‬
‫التقليدي كمحتوىـ تجري على صفحته حركة الحدث ‪ ،‬وال يكتفي بمجردـ تشكله عنصراً تثير قسوة‬
‫العيش فيه حركة الشخصيات وتدفعهاـ إلى القيام بفعـل مـا ‪ ،‬وإنمـا ينـبريـ لعنـة تطاردهــا بالسـخط‬
‫والويل ‪ ،‬وتترصدهاـ بــالبرد والجــوع والجفــاف والمــوت المطبــق من كــل اتجــاه ‪ ،‬ومن أوصــافه‬
‫نقتطف ‪ ":‬القرى تقشعر جوعا ً وبرداً ‪ ،‬والجفاف هوة سحيقة تبتلــع الضــحايا ‪ ،‬والفقــراء يودعــون‬
‫القدر مصيرهمـ ‪ ،‬واألرض العطشىـ صارت كالقطة تأكل أوالدها الفاجعة ‪ ،‬طردت حــتى الــدموع‬
‫من العيون ‪ ،‬وأكلت األحزان القلوب "‪ "........‬الجـوع يحفـر المقـابر في بطـون الفقـراء ويحصـدـ‬
‫الوبــاء المواش ـيـ والــدواجن واألفــراخ ‪ ،‬تصــارع النــاس على األعشــاب وبقايــا أوراقـ الشــجر ‪،‬‬
‫األجساد تذوي واألسنان تصطك على فراغ قــاتم ‪ ،‬النـور يتآكــل في العيــون ويحتــل الفــراغ المقيم‬
‫‪1‬‬
‫النظرات بجزع ال يوصف ‪ ،‬إنه الجوع واإلمامـ والعسكر "‬
‫فهذه أوصافـ ‪ -‬كما نرى ‪ -‬مثقلة بالمعاناة ‪ ،‬وهي لم تختص بمكان بعينه إال من حيث كونــه مكانـا ً‬
‫ممثالً لبقية األمكنة التي تشترك معه في ذات المعاناة ‪ ،‬فهي إذن مأساة وطن بأكمله ‪ ،‬ويؤكــد على‬
‫ذلــك مــا ورد في المقتطــف الســابقـ من الفــاظ دالــة على الجمــع ( القــرى ‪ ،‬الضــحايا‪ ،‬الفقــراء ‪،‬‬
‫العيون ‪ ،‬األحزان ‪ ،‬القلوب ‪ ،‬المقابر ‪ ،‬بطون ‪ ،‬مواشـيـ ‪ ،‬دواجن ‪ ،‬أفــراخ ‪ ،‬النــاس ‪ ،‬األعشــاب ‪،‬‬
‫األجساد )‪.‬‬
‫وتختزل صورة القرية في قصة ( العائد من البحر ) صــورة المكــان األعم ‪ ،‬فهــو من حيث كونــه‬
‫مكانا ً طبيعيا ً ال يختلف عن غيره من األماكن في دنيا هللا ‪ ،‬نقرأ ‪ " :‬كان الفجر قد بزغ وبدأ القمــر‬
‫في االنسحاب من الكون تاركاًـ مكانه للشمس التي بــدأت أشــعتها الحمــراء تنســاب من قمم الجبــال‬
‫الخضراء‪ ،‬وتساقطت قطــرات النــدى من على األغصــان الهامــدة وبــدأت صــيحات الــديوك تعلــو‬
‫وزقزقــة العصــافيرـ ترتفــع في أرجــاء الجبــال وتــراكمت طبقــة من الــدخان الصــادرة من مطــابخ‬
‫البيوت تخترقـ األجواء ‪ ،‬وخرج كل إلى عمله في الحقول واألسواقـ "‪ ، 2‬لكنه يحفـل بالمنغصـات‬
‫التي تروعـ حياة اإلنسان وتقلق استقراره فيه ‪ ،‬فهو قطاعـ يحتضن قيما ً طغى عليها العسف والقهر‬
‫بالتبدل والتحول ‪ ،‬هي صورة من قيم المكان األكبر ‪ ،‬فالشيخ يضرب القرويين بعضهمـ ببعض ‪.‬‬
‫وبطانته تسانده في غيه وغلوائه ‪ ،‬والقرويون أذالء ال يخالفون له أمــراً ‪ ،‬بـل وال يتوانــون عن أن‬
‫يشهدوا لصالحه زوراً ‪ ،‬خوفا ً وتحاشياًـ ألذاه ‪.‬‬
‫أما ما يجريـ عليه من صراع فهو‪ -‬أيضاً‪ -‬صورة مصغرة عن الصراع الذي يمكن أن يحتــدمـ في‬
‫أي مكان من مساحة الوطن الكبير ‪ ،‬فالسبب قائمـ هنا وهناك ‪ ،‬ورموزـ السلطة بكــل مــا تمثلــه من‬
‫طغيان وجشع تضغطـ على المواطن البسيط المغلوب على أمره بكل وسائلهاـ الممكنة حتى ال تتيح‬
‫له فرصة يهنأ فيها عيشه وتهدأـ فيها روحه على أرضه التي قرر أن يستقر عليها بعد مــا لقيــه من‬
‫غربته الطويلة‬

‫‪ 1‬زين السقاف ( العم مسفر ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪15‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) ص‪50‬‬
‫وفي قصة ( خلف الشمس بخمس ) يوظفـ الكاتب مفردات مثل ‪ ( :‬النجم اليمـاني ‪ ،‬الجبـل الكبـير بحجم‬
‫الدنيا ‪ ،‬البركة الحجرية المقضضة بالنورة ‪ ،‬الســاقية ‪ ،‬صــباح ريفي نقي ‪ ،‬صــياح الديكــة ) الــتي تعــبر‬
‫عن جماله اإللهي الخالب ‪ ،‬وعن رغبة الشخصية في البقـاء عليـه ‪ ،‬لـوال أنـه مكـان حافـل بالمشـاحنات‬
‫التي ال ينهيها الزمن مهما تطاول ‪ ،‬وهي مشاحنات تقوم على أمـور تافهــة ‪ ،‬كالشـريعة الــتي نشــبت بين‬
‫أخيه وبين أحد أقاربه على قطعة أرض تهددها السيول بالجرف ‪ ،‬والتي أفقرت أخاه حتى لم يعد أطفالــه‬
‫يجدون ما يأكلونه ‪ ،‬وغيرت طباعه فصار عصبيا مثيراً للمشــاكل مــع أهــالي القريــة ‪ ،‬وهــو يســتمرـ في‬
‫توجيه الشتيمة واللعن ألخيه الذي ترك فرصة لغيره من المزارعين كي يسقوا من ميــاه البركـة أرضـهمـ‬
‫التي كانت أكثر عطشا ً والذي تختلف طباعه عنه ‪ ،‬فهو المسالم الذي ال تهدأ نفسه في مثل هــذه األجــواء‬
‫المعكرة ‪ ،‬والذي يفضل أن يترك المكان كله على أن يعيش في جحيمه المعتم ‪ ،‬فالمكان الذي ال يتحقــق‬
‫له استقرار فيه هو أولى بالهجرة والمغادرة ‪ ،‬وحينماـ اشــتد بــه الحــنين بعــد زمن طويــل أمضــاه في بالد‬
‫الضباب والصقيع ‪ ،‬تذكره بالده ‪ ( " :‬في بعــدان ) وهــو صــغيرـ عنــدما كــان يخيم الضــباب على الجبــل‬
‫ويسمونه الغمام أو ( العمياني ) ‪ ..‬كان يعــرف كغــيره من أطفــال القريــة أن ذلــك الضــباب يســرق آذان‬
‫األطفال ‪ ،‬فينزويـ في أسفل منزله المتواضع وفي حجر والدته بجوار ( الصعد ) والفرن ‪ ،‬وبالقرب من‬
‫البقرة والدجاج ‪ ..‬وهو مكان مظلم نهاراً لعــدم تــوافرـ النوافـذـ ومعتم ليالً أيضـا ً لوجــودـ ( قــزازة) ســراج‬
‫بســيطة من صــفيح العلب ‪ ،‬تنشــر الصــدى األســودـ أكــثر من انتشــار ضــوئها "‪ "........‬اشــتاق للشــمس‬
‫ولسعاتها على ظهره وهو يكب على وجه األرض يحرثهاـ مع بقية أفرادـ األسرة ‪ ،‬اشــتاق لرؤيــة النجــوم‬
‫المتأللئة وهو يقعد في السحر فوقـ بركة الماء ( المقضضة بالنورة ) لكي يفجرها لتستقي حقول أسرته‬
‫‪ ، 1 "..‬عاد ليجد قريته لم يتغير فيها شـيء ‪ ،‬نفس العوامــل المنفــرة ونفس المشــاحنات ‪ ،‬وحـتى أخيــه ال‬
‫يزال على شريعته مع ذلك القريب ‪ ،‬وهنا يقرر الهجــرة من جديــد ويفضــل اســتمرار ســواحه في أرض‬
‫الدنيا الواسعة ‪ ،‬وامتداد ضياعه في بحور العالم الكبير على أن يضيع عمره ويفنيه في مشاحنات فارغة‬
‫أو في شريعة مع أحد أقربائه على قطعة أرض صغيرة ‪ ،‬مهددة باالنجراف ‪.‬‬
‫ويرتبطـ المكان بعادات ومعتقدات بالية في قصة ( قــل لــه يــزورـ قــبريـ ) فقــد كــانت ابنــة علــوان ‪ ،‬ذات‬
‫األنف المعقوفة كمنقار بومة تقول ‪ " :‬بــأن هنــدا مصــابة بــريح حمــراء وقـدـ وعــدت أن تطــردـ الجن من‬
‫رأس (هند) بعد حفلة تحضير األرواح ‪ ،‬في البــدء يجب ذبح مــا عــز ســوداء ‪ ،‬تعــرى هنــد من مالبســها‬
‫وتكفن بكرش الذبيحة ‪ ،‬ثم ينثر الروث فوقهاـ بعد أن تكون قد امتدت فــوقـ ســرير عــال من الفــراش ‪ ،‬ثم‬
‫تطيب بــالبخور الجــاوي ‪ ،‬ويقــرأ القــرآن على رأســها ‪ ،‬وبعــون ابن علــوان ســتخرج جحافــل الجن من‬
‫‪2‬‬
‫روحها "‬
‫فمالمحه هي تجسيد لتلك المعتقدات ‪ ،‬فهند الــتي كــانت ضــحكتها ملء الحيــاة ‪ ،‬تــدوي في ســماء القريــة‬
‫وتصطدمـ باألكمة لتعود إلى الدار كأعذب لحن ‪ ،‬قد ابتلع الـوادي ضـحكتها ‪ ،‬وهـا هي ترقـد مشـلولة في‬
‫قرية مجدورة الوجه ‪ ،‬والموت ينسل إلى فراشهاـ مهدداً بإطفاء عينيها المرجانتين ‪ ،‬مؤزراًـ بمساء كــئيب‬
‫ومقبض ‪ ،‬وغرفتها مألى بالنساء الباكيات الالئي اختلطت دمــوعهن بــالهرد األصــفر ‪ ،‬وهي تعلم قــرب‬
‫أجلها ‪ ،‬فدواؤهاـ بعيد هناك حيث ( مسعد) في مدن تسكنها نساء وقحــات ‪ ،‬وجــوههن ملطخــة باألصــباغ‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الجسر ) مرجع سابق ‪27،26 ،‬‬


‫‪ 2‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق‬
‫وأظافرهن طويلة حادة كمخــالب القطـط ‪ ،‬متبرجـات يــذرعن الشـوارعـ ذهابـا ً وإيابـا ً الصـطيادـ الرجـال‬
‫بالقوة ‪.‬‬
‫وتغطي تجربة ( ثورة بغلة ) منطقة مختلفة من مساحة المكــان ‪ ،‬فيهــا تظهــر بجالء حــال النظــام الهــرم‬
‫بمؤسساته العاجزة بتشكيالتها المثيرة للضحك وممثليهاـ اآليلين إلى السقوط ‪.‬‬
‫فهذا ميدان في مدينة تعز التي تطل بقبابها ومآذنها البيضاء وسورهاـ الحجري القديم الــذي تكــون القلعــة‬
‫جزءاً منه ‪ ،‬تجتمع إليه حشود مختلفة كي تحتفل بعيد النصر الذي ال يعلم الراوي أي نصرـ هو وال متى‬
‫أو على من كان هــذا النصــر‪ ،‬فــيرى على ســاحته أفــراد فرقــة الموســيقا العســكرية بأجســامهم المهترئــة‬
‫وظهورهم المنحنيــة ‪ ،‬ولباســهمـ التقليــدي وســراويلهمـ الغــبراء وغــير المنســجمة ‪ ،‬وطرابيشــهمـ الحمــراء‬
‫بعثاكلها السوداء المتدلية ‪ ،‬وطبولهمـ وآالتهمـ النحاسية العتيقة ‪ ،‬وصبية حفاة أتوا من القلعة وقدـ وقفوا في‬
‫أماكنهم المخصصة لهم ‪ ،‬وبعضهمـ ال يجيد حتى كيف يمشي في صفوف منتظمــة ‪ ،‬وآخــرونـ هم طالب‬
‫المدرسة األحمديــة يلبســون ثيابـا ً بيضــاء من قميص وســروالـ قصــيرـ كــأنهم أجــانب ‪ ،‬جميعهم حفــاة إال‬
‫الصف األيمن منهم الذي سيمر من أمام المنصة ‪ ،‬وكان هــؤالء يمــرون من تحت قــوس النصـر المعلــق‬
‫على مدخل الميدان ويرددون األناشيد ‪ ،‬وحشـود من الجنـد النظــامي والـبرانيـ بضـباطهم وعــرائفهم قـد‬
‫استقروا في أماكنهم يصخبونـ بزواملهمـ ‪ ،‬وبجوارهمـ شوهدت مدافع قديمة تجرها البغال وعدة رشاشات‬
‫ميدانية وقفـ بجانبها ضباط وجنودـ الطبشـية وجمـاهيرـ من سـكان المدينـة ‪ ،‬وهنـاك في مكـان بـارز من‬
‫المنصة قد استقر بعض األجانب بوجوههمـ الحمراء ومالبسهم النظيفة ‪.‬‬
‫أما اإلمام فقد أعد له كرسي يتوسطـ المنصـة ‪ ،‬مصـنوعا ً من أخشـاب صـناديقـ بضـائع التجـار ‪ ،‬كي يقعـد‬
‫عليه كغول مهول بعمته وعثاكلها المميزة ‪ ،‬منتفخ الكرش واألوداج ‪ ،‬والميـدان قـريب من قصـرـ اإلمـام ‪،‬‬
‫وهو يستطيع أن يرقب من نافذة قصره توافد الجموع الــذين تنقلهم الســيارة الوحيــدة الــتي تعمــل كحافلــة ‪،‬‬
‫ويعلــو صــوت بوقهــا األجش وهي تشــق طريقهــا من المدينــة إلى ( العرضــي ) مقــر اإلمــام عــبر عقبــة‬
‫مرصوفة بالحجارة السوداء ويتحين الفرصة المناسبة لقدومــه وبعــد لحظــات ‪ " :‬اشــرأبت األعنــاق نحــو‬
‫قوس النصر الوحيد ‪ ،‬حيث شعر الجميع بأن اإلمام في طريقه الى الحضورـ ‪..‬‬
‫وتهادى موكبه التقليدي رويــداً رويــداً ‪ ،‬وظهـرـ من تحت بوابــة قــوس النصــر الوحيــد ‪ ،‬تحــف بــه ثلــة من‬
‫( العكفة ) حرسه الخاص بلباسهم األزرقـ المميز ‪ ،‬وبنــادقهمـ ( زاكي كــرام) األلمانيــة الصــنع ‪ ،‬وتتهــادى‬
‫الى مســامعنا زوامـل عكفتـه التوشــيحي الموســيقي اللفـظ "‪ ".......‬المظلــة المزركشـة بعثاكلهــا الحريريـة‬
‫الملونة المتدلية تعلـو رأسـه يحركهـاـ بـدوران مسـتمر عبـد أسـود يلبس زي العكفـة ‪ ،‬وعلى أنغـام الزامـل‬
‫التوشيحي غير الواضح من قبل عكفة اإلمام نزل من على صهوة جواده األسود ( الرعد) أمام المنصــة ‪،‬‬
‫أمام عرشه المصنوعـ من خشب صناديقـ بضائع التجار ‪ ،‬والذي يخالــه عرشـا ً ليسـتقر فيــه دون أن يكلـف‬
‫‪1‬‬
‫نفسه أي عناء بتحية يرد فيها على الناس سوى هز رأسه المثقل بالعمامة "‬
‫وتحتضــن صــنعاء في قصــة ( الــذماري ) قيم ـا ً تضــافـ إلى قيم المكــان بســلبها وإيجابه ـاـ ‪ ،‬فهي مدينــة‬
‫مغضوب عليها من قبل اإلمام الجديد ‪ ،‬وما زالت آثار النهب والسلب بادية على بيوتها وحوانيتهاـ ‪ ،‬ومــا‬
‫زال القلق والتوجسـ يداخل ســكانها ‪ ،‬فالــذماريـ الـذي عـاد من إيطاليــا بلباسـه الغـريب يجابـه بالريبــة ‪،‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( العقرب ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪26‬‬


‫فيــنزوي " في ركن مظلم في ( سمســرة وردة) بجــوار أنــاس مشــعثين من رجــال القبائــل الداخلــة إلى‬
‫‪1‬‬
‫صنعاء ‪ ،‬كم كان يود الحديث مع أي شخص لكنه صدم منذ أول وهلة بفظاظتهم فانقطع حديثه فترة "‬
‫وأهل صــنعاء يتحكم فيهمـ وفي تفكـيرهم إمــام مضـلل ‪ ،‬يقــدم لهم الدسـتور في صـورـ مختلفـة بين الكفـر‬
‫واإللحاد والكتاب الذي وضع ليعارض القرآن ‪ ،‬والدستوريون زنادقــة ‪ ،‬وأبنــاؤهم دســتوريون ‪ -‬أيض ـاً‪-‬‬
‫تمطرهم الشتائم وتتنزلـ على مفارقهم اللعنات ‪ ،‬وهذه وردة يبادرها الذماريـ بســؤاله مــا هــو في نظــرك‬
‫الدستور ‪ ،‬فترد متحيرة " يقال عنهم أنهم كفار ‪ ....‬أصدقاء الشيطان ‪ ..‬وقدـ خلفوا كتابـا ً يشــابه القــرآن ‪..‬‬
‫‪2‬‬
‫وزوجواـ الدستورـ بالشورى زواجاًـ غير شرعي "‬
‫وعلى الرغم من أن لصنعاء جانبا من حياتهــا يســمح لهــا فيــه بممارســة نشــاط تجــاري محــدودـ كتجــارة‬
‫األقمشــة ‪ ،‬وبيــع الفواكــه والبهــارات وبعض المكســرات ‪ -‬فهي المدينــة القديمــة الخاليــة من أي مظهــر‬
‫عصري " وكان سوق الملح هو السوق الذي تجد فيه الحوانيت خارج المنازل ‪ ،‬فأكثرـ حوانيت صــنعاء‬
‫كانت غرفا ً داخل منازل التجار ‪ ...‬التجارة فيها كانت من نــوع األســواقـ الشــرقية القديمــة الــتي وصــفها‬
‫الرحالة ( ماركوبولو ) في رحلته عــبر الشــرق ‪ ،‬كــان ســوق الملح قطعــة مصــغرة من أســواق بخــارى‬
‫وسمرقند القديمة "‪ - 4‬فإنها في حقيقتها لم تكن إال سجنا ً كبيراً محاطا ً بســور تــرابي يغلــق أبوابــه على‬
‫ساكنيها عند الغروب لتنام مبكرة يخنقها الــرعب ويجللهــا الخــوف كــأن نقمــا ســيداهما في الظالم ‪ ،‬وفي‬
‫أزقتها يعربد الغبار محتزماًـ بشتى أنواع القشاش والقاذورات ‪ ،‬وفي داخلها وقريب ـاًـ من مرك ـزـ الحكومــة‬
‫في باب السباح كان يقبع سجن الرادع بسوره المبني من الطين وبوابته الحجرية السوداء الــتي اكتضــت‬
‫أمامها جموع من الرجال والنساء ينشدون إيصال الغذاء أو الكساء لنزالء السجن ‪ ،‬بينمــا حــراس البــاب‬
‫يماطلون وال يسمحون بدخول الغذاء أو الكساء إال وقد دست الرشوة في أيديهم ‪.‬‬
‫وللسجن بوابة أخرى داخليـة ‪ ،‬عليهـا حـراس بعصـي غليظـة ‪ ،‬وصـياحهمـ يعلـو مزمجـراًـ ملء السـاحة‬
‫المتربة والحافلة بأكوام القاذورات وجيوشـ الذباب ‪ ،‬وهناك في داخل السجن توجد غرف محفورة داخل‬
‫األسوار كخلية نمل أو كحجور الفئران البرية ‪.‬‬
‫وتبرز تعز في قصة ( البشارة ) مدينة هرمة ‪ ،‬فشارعهاـ المعبد الوحيد خــال إال من دكــان ذلــك العجــور‬
‫الذي فغرفاه في مواجهة سورها بأحجاره الصامته كجماجم الموتى ‪.‬‬
‫وقلعتها الغافية في حضن جبل صبر ال تتثاءب إال مرة واحدة كــل عـام ‪ ،‬حينمــا يطلـق مــدفعها الــتركي‬
‫القديم صوته إيذانا ً باإلفطارـ أو اإلمساك ‪ ،‬وأما وجهها فيشبه وجوه سكانها الكالحة ‪.‬‬
‫فمنذ أن وطئت أرضهاـ قدما ( أحمد يا جناه ) وجثم على روحها كابوســه ‪ ،‬انحســر الخـير عنهـا ولم تعـد‬
‫السحب تحوم في قبة سمائها كما كانت ‪ ،‬لكنها مع مظهرها الهرم الكــئيب كـانت تحتضـن البشـارة بفعـل‬
‫قادم ‪ ،‬فشمسها تشع في كبد ســمائها الزرقــاءـ كنــار هللا الموقــدة ‪ ،‬وأرضــها تطهــو نــاراً ســتحرق كــل مــا‬
‫يعترض طريقهاـ ‪ ،‬وهاهي ترسل نذرها ناراً تشب في دكان ذلك العجوز الخرف مرمود العينين ‪ ،‬الــذي‬
‫ما يفتأ يدعو لإلمام الجديد بالنصرـ ‪ ،‬ويعلن استنكاره لما فعله األحــرار بوالــده العجــوزـ ‪ ،‬رغم مــا كــانت‬
‫تحل به من كوارث ‪ ،‬فقد كان " ينظر إلى الفراغ ويخرجـ بأصبعه الوسطىـ قذى الرمد من عينيه ‪ ،‬يفكـر‬
‫بما وصل إليه الحال ‪ ،‬فلم تعد الزبائن تأتي إلى دكانه ‪ ،‬والرسائل تنهال من القرية حيث هلك الــزرع في‬
‫أراضــيه الشاســعة وجفت ضــروع أبقــاره وأغنامــه ‪ ،‬راح نظــره يمشــط المكــان والبضــائع المكدســة ‪،‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪،‬ص‪101‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪108،107‬‬
‫وصورة اإلمام الجديد والتقويم ‪ ،‬تذكرأنه لم يــنزع ورقــة التــاريخ يــوم أمس ‪ ،‬قــام بصــعوبة من مقعــده‬
‫‪1‬‬
‫الخشبي ‪ ،‬نزع الورقة ‪ ،‬وقربهاـ من عينيه حتى كادت تالصق رموشه البيضاء "‬
‫فالتهمته والتهمت دكانه ببضائعه المغطاة بالغبارـ والنائمة بدون ترتيب على رفوفه ‪ ،‬كما التهمت صورة‬
‫االمام الجديد المعلقة على جدار الدكان بمحاذاة حزم التبن وسم الفئران ‪ ،‬التي كان ونيمـ الذباب قد غطى‬
‫زجاجها باألخص عند العينين والفم واألنفـ ‪ ،‬فبدا كبثورـ متقيحة قذرة ‪.. .‬‬
‫ويصبح للمكان شخصيته القصصية البارزة في قصة (األطفال يشيبون عنــد الفجــر ) حين يتجلى كغــول‬
‫فتاك فاغرفاه كمغارة سحيقة ‪ ،‬ليبتلع الطفولة ويسملـ عيــون الــبراءة ‪ ،‬أو كعمالق متــآمر يترصـدـ ســبعة‬
‫من الصغار بالفتك ‪ ،‬وينصب من حولهم شباك الموت ‪ " :‬فقــدوا الكثــير وعــددهم ســبعة وضــابطـ برتبــة‬
‫مالزم ثــان ‪ ،‬لكن هنــا ال يمكن أن تجــد فرق ـا ً بينهم ‪ ،‬فكلهم لم يعــرف الحالقــة بعــد ‪ ،‬ولم يتعــد أكــبرهم‬
‫السادسة عشرة ‪ ،‬الضابط نفسه كان بـاألمس طالبـا ً في الكليـة ‪ ،‬وهـو اآلن يقاتـل منـذ أن بـدأ الحصـار ‪،‬‬
‫المدفع أمامهم صغير في السن أيضا ً ‪ ،‬تسلموه قبل شهر وكان في صندوق ‪ ،‬لم يمض على صنعه ســوى‬
‫‪2‬‬
‫سنين في مثل عمر أصغرهمـ ‪ ،‬ولذا فهم من جيل واحد "‬
‫والكاتب الذي رسم لنا صورة المكان عبر وصف زهيــد أضــاف إليــه الكثــير من التكــثيفـ والعمــق ‪ ،‬قــد‬
‫استطاع أن يلج بنا إلى قلب الحدث ‪ ،‬ويحفزناـ كي نــرقب بقلــق مــع هــؤالء الصــبية ‪ -‬الــذين وضــعوا في‬
‫ظرف تفوق تحدياته احتمال سنينهم الغضة ‪ -‬هذا المكان الموحش ‪ ،‬ونتتبع بتعــاطف كبــير مجريــات مــا‬
‫تنضج به أشراكه من شر مميت ‪ ،‬حيث نقرأ ‪:‬‬
‫" الظالم أسود أسود أسود ‪ ،‬والليل بارد بارد بارد ‪ ،‬واألشباح تمأل المكان خوفا ً ‪ ،‬وطلقــات بعيــدة تــردد‬
‫الجبال والوديان صداها ‪ ،‬األسلحة تجمــدت فوقهـاـ األيــدي ‪ ،‬الــدم الحــار التحم بالقصــب البــارد ‪ ،‬حبــات‬
‫الرصاص كانت دافئة مثل القلوب القليلة التي تخفق في الربوة ‪ ...‬الليل طويل ‪ ،‬طويل ‪ ،‬والدقائقـ دهورـ‬
‫والساعات عصور ‪ ،‬هل يدرك أولئك معنى الموت ؟‬
‫األعين تدورـ بامتعاض عن المدينة التي تقبع وراءهم ‪ ،‬الربوة تشرف على سهل والســهل أجــرد أغــبر ‪-‬‬
‫ألوان الموت ‪ -‬ال لون آخر للسهل ‪ ،‬كل شــيء أغــبر ‪ ،‬النــاس ‪ ،‬والــتراب ‪ ،‬والصــخور‪ ،‬والشــجر القليــل‬
‫المتناثر ‪ ،‬العيون تتعـود على الظالم ‪ ،‬لكن الـبرد يجمـد الرؤيـا ولكنـه ال يبلـد اإلحسـاس ‪ ،‬كـانوا سـبعة‬
‫وضابطـ ‪ ،‬كانوا نعم سبعة وضــابطـ ‪ ،‬ولكن هــز الليــل رأســه بهــزء‪ ،‬ســبعة أمامــه بلــون الظالم ‪ ،‬والــبرد‬
‫يضحك باستهزاء وهو ينخر عظامهم التي لم تســتطع مالبس الجيش القليلــة أن تحمي اللحم الــذي يغطي‬
‫العظام ‪.‬‬
‫علب مبعثرة بعضها مليان والبعض اآلخر فــارغـ ومــا داخــل العلب يثــير الغثيــان بعــد أن جمــده الــبرد ‪،‬‬
‫كانوا يأكلون حتى ال يموتون جوعا ً ‪ ،‬كانوا يعرفون تماما أن الموت قادم لكن ال يريدون الموت جوعا ً ‪،‬‬
‫ولذا كانوا يأكلون في زاوية الخيمة ‪ ،‬نعم كانت لهم خيمة قديمة من بقايا ما تعطف بــه الصــليب األحمــر‬
‫ذات يوم لتوضع في مناطق دافئة تحمي المرضىـ من أشعة الشمس ‪ ،‬ولكن الذين في المدينة ال يفهمــون‬
‫الفرق بين خيمة وأخرىـ ‪ ،‬ولذا كانت الرياح قد مزقت الخيمة ‪ ،‬ولم يبق منها سوى نتف ترفعهــا الريــاح‬
‫لتذكر المجموعة ‪ ،‬بأنهم ال يزالون فوقـ الربوة ‪ ،‬وبجانب الخيمة كومة من الكدم تكــبر كــل يــوم ألنهم لم‬
‫يتعودواـ طعم الكدم الذي يشبه بقاياهم التي يتركونها في أي مكان ‪ ،‬كانوا سبعة وضابطـ ‪ ،‬الدفء الوحيــد‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪،‬ص‪101‬‬


‫‪ 2‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪66‬‬
‫في الخيمة ‪ ،‬هو أنهم جميعا ً معا ً ‪ ،‬انتقلت السيجارة من مكان إلى آخر‪ ،‬ضوؤها الخافت تخفيه أيديهم لئال‬
‫يكشف العدو مكانهم ‪ ،‬ولكي تدفئ الشعلة أيديهم المتجمدة "‪. 1‬‬
‫فهذا مكان رغم إدراكنا لكل أوصافه التي تناثرت عبر السياق متداخلة مع تنــامي حركــة الحــدث متوحــدة مــع تعــالي‬
‫شعور الشخصيات بنهايتهاـ القريبة ‪ ،‬وتزايدـ إداركها لما يخبئه لها هذا المكان من مصير كارثي ‪ ،‬فإننا ال نستطيعـ أن‬
‫نفرده جانبا ً أو نميزه كمكان يتمتع باالستقاللية بعيداً عما يجري عليه من أحداث ‪ ،‬فوصفـ المكــان الــذي ركــز على‬
‫تفاعل الشخصياتـ معه ‪ ،‬وقلقها مما يخبئه ‪ ،‬وترقبهاـ لما يمكن أن ينضح به ‪ ،‬قد نأى بــه عن أن يكــون مكانـا ً محايــداً‬
‫أو جامداً يصلح مادة لوصفـ تسجيلي ‪ ،‬وارتفع به ألن يصبح شخصية قصصية تؤدي دوراًـ مهمـا ً يتنـامى كشـفه مـع‬
‫تنامي حركة الحدث ‪ ،‬حتى انتهى في آخر أمره مكانا ً منسيا ً يؤوي على ربوتــه أطفــاالً منســيين ‪ " :‬وتنــاثرتـ القنابــل‬
‫وكانت هذه المرة قليلة ‪ ،‬ولكنها مركزة ‪ ،‬ولعلع الرصاص ‪ ،‬ولم يعد الليل بارداً ‪ ،‬ولم يعد الظالم أسودا ‪ ،‬كان الشفق‬
‫محمراً في األفق ‪ ،‬وقال أحد األعداء أنه شاهد الشفق يبكي في قلب الشمس قبل أن تشرق ‪ ،‬وكان البرد قد خجــل من‬
‫قسوته وحمل دثاره ومضىـ ‪ ،‬كان حزينا يبكي قسوته ‪ ،‬ففي الربوة وتحت خيمة لم يبق منها سوى أعمــدتها ‪ ،‬وتحت‬
‫‪2‬‬
‫األكياس كانوا ( سبعة وضابطـ ) "‬

‫وفيما يخص الكشف عن طبيعة العالقة الرابطة بين الشخصيات والمكان ‪:‬‬
‫فقد احتوت الرهينة على عدد كبير من الشخصـياتـ ‪ ،‬فهنــاك الرهينـة والدويـدار والنــائب وابنـه وأختــه الشــريفة‬
‫حفصة والزهراء وبقية النساء وفيـ القصــر‪ ، ،‬والبــورزان والطبشــي ‪ ،‬وهنــاك ولي العهــد واإلمــام و دوريــداره‬
‫وخادمة األسود ‪،‬وابنة غير الشرعي ‪ ،‬ونساوه وجنوده ‪ ،‬وهناك الرهائن في القلعــة والعائــدون إليهــا ‪ ،‬والجنــودـ‬
‫والفقيه ‪ ،‬وهناك أهالي المدينة أطفاال وكباراـ ‪ ،‬غــير أن الشخصــيات الــتي شــكلت حضــوراًـ كثيفـا ً داخــل الروايــة‬
‫محدودة ‪ ،‬ومعظمـ الشخصيات لم تظهرـ على صفحة األحــداث إال مــرة واحــدة ثم تختفي ‪ ،‬وهي على الــرغم من‬
‫أن ظهورها عابر فإنهاـ تضيء بإطاللتهاـ القصيرة ‪ ،‬جانبا ً مهما ً من جوانب الشخصيات كثيفة الحضــورـ ‪ ،‬وهــو‬
‫جانب لم يكن له أن يضاء إال بها ‪.‬‬
‫‪ ‬فدويـدارـ ولي العهـد بأوصـافه الـتي وردت في الروايـة يكشـف عن جـانب من تعامـل أربـاب‬
‫الحكم في دولة اإلمامة مع هــؤالء الصــغارـ ‪ ،‬هــذا الجــانب لم يتكشــف لنــا من خالل شخصــية‬
‫الدويدار عبادي ‪ ،‬يصف الرهينة هذا الدويدارـ قائالً ‪ " :‬واتجهت خلفه والعبــد األســود خلفنــا ‪،‬‬
‫وكنت أالحظ حركات جسمه الرخو من خالل ثوبه الحريريـ الشفاف ‪ ،‬يبدو أنه لم يعد يتصنع‬
‫‪3‬‬
‫تلك الحركات المائعة ‪ ،‬فقد أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية "‬
‫‪ ‬والرهائن العائدون إلى القلعة يكشفون عن جانب من واقع الرهـائن الـذين أخـذوا قبالَ ليعلمـوا‬
‫دوادرة في بيــوت أربــاب الســلطة " وكنت أالحــظ أن معظم العائــدون منهم إلى القلعــة قــد‬
‫تغيرت مالمحهم ‪ ،‬حيث غدو مصفري الوجوه بالرغم من ظهورـ نعومة شــاملة في أجســامهم‬
‫مع شيء من الترهل والذبول في غير أوانـه ‪ ،‬كنت أالحــظ أيضـا ً اهتمــام حــرس القلعـة بهم ‪،‬‬
‫هؤالء ناعمي الملمس ‪ ،‬رقيقي األصوات ‪ ،‬بمالبســهم النظيفــة المرســلة حــتى األرض وبتلــك‬
‫الكــوافيـ المزركشــة الــتي حاكتهــا نســاء القصــر ‪ ،‬فوضــعوها على رؤوســهم لتخفي شــعرهم‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبد الولي ( شيء اسمه الحنين ) دار العودة بيروت ‪1981 ،‬م ‪ ،‬ط‪ ،3‬ص‪98‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪98،97‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪101‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ص‪20‬‬
‫المجعد الممشط الذي تفوح منه رائحة الدهون المعطرة الــتي يستنشــقها بلــذة أفــراد الحــرس ‪،‬‬
‫والفقيه أيضا ً الذي يبالغ في مراعاته لهم بسماجة أكثر مما يلزم "‪3‬‬
‫مع مالحظة ما في هــذا الســياق من تلميح إلى شـذوذـ شخصـية الفقيــه ‪ ،‬الــذي لم يردعـه تفقهـه في‬
‫الدين ولم تقوم أخالقه معرفته بالحالل والحرام ‪.‬‬
‫وأما ظهور ابن اإلمام غير الشرعي ‪ ،‬ذلك الفتى الوسيم المدلل ‪ ،‬الــذي يتحــرك تحت هــذه الصــفة‬
‫بكل حرية في أرجاء القصــر ‪ ،‬بــل وعلى العكس من ذلــك فقــد غــدا هــو الممــيز لــدى اإلمــام على‬
‫مرأى ومسمع ‪ ،‬فيضيء لنا جانبا ً من شخصية اإلمام وجرأته في اقتراف المحرمات رغم ادعائــه‬
‫القداسة وتفاخره باالنتساب إلى آل البيت ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من هذا االحتشاد للعدد الكبير من الشخصيات التي تقيم بشكل دائم تقريبا ً في قصــور‬
‫وبيوت أرباب الحكم وأصحاب السلطة ‪ ،‬فإن معظم هذه الشخصياتـ يقع على هامش الواقــع الــذي‬
‫تعيش فيه ‪ ،‬والعالقات التي تقوم بينها هي أيضا ً عالقات تبنى على هامش الخــط األصــلي لعالقــة‬
‫وجودها داخل المكان ‪ ،‬فهي كلها موجودة هنا لتأدية أدوار منوطة بهــا ‪ ،‬وتظــل تــدور خاللهــا في‬
‫فلك مركزـ واحد ‪ ،‬تسخر طاقتهاـ لخدمته وتلبية طلباته وتنفيذ أوامــره ‪ ،‬تمامـا ً كم يحـدث في بيــوت‬
‫النمل ‪ ،‬حتى إذا ما استنفذت طاقتها وأكملت دورتها تم اسـتبدالهاـ بشـخوص أخــرى غيرهــا تــؤدي‬
‫نفس أدوارها ‪ ،‬فالدويدارـ حينما بلغ منه المرض مبلغة تم استبداله من قبــل نســاء القصــر والنــائب‬
‫بالرهينة ‪ ،‬يقول الرهينة ‪ " :‬مارست مع صاحبي جميــع هواياتــه ورذائلــه القــذرة ‪ ،‬وانــدمجت في‬
‫عالمه الغريب ‪ ،‬حتى كاد يغــار مــني ‪ ،‬فقــد تعلقت بي النســوة المتعــددات المــواهب والمتنــافرات‬
‫أشكاالً وألوانا ً وأعماراً ‪ ،‬وقدـ سئمن من صاحبي لســعاله الشــديد ونحولــه الشــاحب ‪ ،‬وخــوفهن من‬
‫ذلك المرض المرعب ‪ ،‬كنت أوهم نفسـي وباقتنـاعـ تـام بـأنني أدرأ عنـه أعبـاء لم يعـد قـادراً على‬
‫تنفيذها ومواكبة السير فيهــا ‪ ،‬كمــا كــان في أيامــه الســابقة ‪ ،‬ومــع ذلــك أحسســت باحتقــار لنفســي‬
‫‪1‬‬
‫ولمسلكي المشين "‬
‫وفي قلعة الرهائن مزيد من الصغارـ الذين يتم إعدادهم لتأدية أدوار الدوادرة الذين يُــرمى بهم بعــد‬
‫استنزاف صحتهمـ واستهالك طاقتهمـ في القلعة كصفحة تم طيهــا وتجربــة انتهت لتفتح البــاب أمــام‬
‫تجربة جديدة تتشكل على تفاصيلها مأساة طفل آخــر تشــبه مأســاة الدويــدار ( عبــادي) ‪ ،‬وتجربــة‬
‫الرهينــة الــتي ال تــزال في بــداياتها ‪ ،‬وفي المقابــل يبقى الحــاكم وأســرته في نقطــة الثبــات عنــد‬
‫المركز ‪ ،‬وهكذا تتراتب الدوائرـ حسب قربها وبعــدها عن هــذا المركــز ‪ ،‬ففي مركـزـ الــدائرة يقــع‬
‫النــائب وأســرته ‪ ،‬وحولــه تــدورـ دوائرعــدة ‪ ،‬أقربهــا من يقومــون ‪ -‬شخصــياـ ‪-‬على خدمــة النــائب‬
‫وأسرته كالدويدارـ والرهينة ‪ ،‬ثم من يقومون بعمليات التأمين والحراسة ‪ ،‬ونالحظـ أنه كلمــا ابتعــد‬
‫موقع الشخصية عن مركز الدائرة كلما اتســعت الــدائرة وخــف الحصــار ‪ ،‬وعلى العكس من ذلــك‬
‫كلما اقترب موقع الشخصية من مركز الدائرة كلما ضاقت أكثر دائرة الحصار يقول وهب رومية‬
‫‪ " :‬في رواية الرهينة تدخل إلى عالم كــثيف الحضــورـ ‪ ،‬عــالم فيــه كثــير من االختالف والتفــرد ‪،‬‬
‫عالم يبدو غريبا ً عليك وبعيداًـ عنك ‪ ،‬ولكنك تكاد تجزم بأنك قد رأيتــه أو ســمعت بــه من قبــل إنــه‬
‫عالم الحكايات الموغلة في القدم ‪ ،‬حكاية بنت السلطان ‪ ،‬وجواريه وامرأته وما يتصل بهذا العــالم‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪122‬‬


‫من بشر يقومون على خدمته ‪ ،‬ويقعون على أطرافه في العلن وفيـ صميمه في السر ‪ ،‬ولكن عالم‬
‫‪1‬‬
‫الرهينة يبرأ من الخرافة واألساطيروافتعالـ األحداث "‬
‫فالحصارـ أشد على نساء القصــر ‪ ،‬والدويــدار والرهينــة ‪ ،‬رغم مــا يبــدر من حركتهمــا الحــرة في‬
‫اطــار القصــر ‪ ،‬وهي الحركــة الــتي يــرى فيهــا الرهينــة أســراً مضــاعفا ً ‪ ،‬فهــو يقــاوم فــك قيــوده‬
‫المضروبة على قدميه بأمر من الشريفة حفصة مصرحاًـ ‪ " :‬السجين المقيد مرتــاح أكـثر ممن هم‬
‫طلقاء بال قيودـ في هذه المدينة ‪ ،‬بل وربمـاـ في البالد كلهــا " ‪ ، 2‬وألجــل ذلــك كــان ابتعــاده خــارج‬
‫دوائر هذا الواقع سبيله إلى حريته ‪ ،‬فهذا تشكيل يقوم على أهمية المركز وثباته ودونية العوارض‬
‫وتغيرها ‪ ،‬فمقتل اإلمام لم يغير من األمر شيئا ً وعلى العكس من ذلك فقد ترتب عليه صــعودـ إمــام‬
‫آخر عاد أشد شراسة وأعنف بطشا ً ‪ ،‬ومن الواضح أن الرهينة قد أدرك مقدار صعوبة خلخلة هذا‬
‫التشكيل العالئقي واستحالة هدمه ‪ ،‬وألجل ذلك كان سبيله إلى الخالص من شرك هـذا الواقــع هـو‬
‫خوض مغامرة الهرب ‪ ،‬واالبتعاد وإن إلى مكان غير معلوم ‪.‬‬
‫فكــل الشخصــياتـ في هــذا العمــل تبــدو رهــائن أوضــاع سياســية واجتماعيــة ذات طبيعــة شــديدة‬
‫الخصوصية ‪ ،‬وهذا ماالحظــه هشــام علي حين قــال ‪ " :‬وهكــذا تكشــف رهينــة دمــاج عن رهــائن‬
‫متعددين يمتلئ بها قصر النائب ‪ ،‬ولكن ليس على الطريقة اإلمامية ‪ ،‬وإنما هي رهائن تقيدها آليــة‬
‫‪3‬‬
‫نظام العيش في القصر وطبيعة القيم السائدة فيه "‬
‫فنحن في مجتمع هذه الشخصياتـ نقترب كثيراً من أجواء السجون ‪ ،‬حيث كثافة عدد الشخصــيات‬
‫في مساحة مكانية ضيقة يعطي إحساسا ً باختناقها وحصارها ‪ ،‬كما أن هــذه الشخصــيات ال تظهــر‬
‫إال في مساحات محاصرة باألســوارـ و الجــدران كالقلعــة وبيت النــائب وقصــر ولي العهــد ‪ ،‬وهي‬
‫أيضا ً شخصيات تحمل أسماء غيرمحددة ‪ ،‬تماما ً كالســجناء ( رهينــة وبــورزان ‪ ،‬ودويــدارـ اإلمــام‬
‫وولي عهده ‪ ،‬وابن اإلمام غـير الشـرعي ‪ ،‬وابن النـائب ‪ ،‬والجنـد ‪ ،‬والطبشـيـ ‪ ،‬ونسـاء القصـر ‪،‬‬
‫والنائب ‪ ،‬والفقيه ‪ ،‬والرهائن ) فطبيعة المهنة تغلب على حضورهاـ حــتى تســحقـ تفردهــا الــذاتي‬
‫وتمحو اسمها الخاص بها ‪ ،‬وحتى اسم الدويدار ( عبادي ) ‪ -‬وهو تقريبا ً االسم الوحيد الذي يظهر‬
‫على صفحة أحداث الروايـة باإلضـافة إلى اسـمي الشــريفة حفصـة والزهــراء ‪ -‬فإنـه اســم يـوحي‬
‫بالعموم واالقتران بالمهنة التي يؤديهاـ وما تتطلبه من خفة وطرافة وصغار ‪.‬‬
‫وهي دائما ً تتوقـ إلى الفضاءات المفتوحة ‪ ،‬فالرهائن في القلعة يدلون بأرجلهم من على ســورهاـ ‪،‬‬
‫وينظرونـ في امتداد األفق قراهمـ البعيدة والمعلقـة فـوق رؤوسـ الجبـال ‪ ،‬والشـريفة حفصـة تـرى‬
‫طوال الوقت بجانب النافذة ‪ ،‬والنائب منبطح أمام النافذة ال يبرح مكانه ‪ ،‬والرهينة تســتقطبه نافــذة‬
‫صغيرة في غرفة الدويــدارـ ‪ ،‬وهي النافــذة الــتي مثلت منفــذه الوحيــد كي يطــل على العــالم خــارج‬
‫القصر رغم ضيقه بالقياس لما كان في سجن القلعة ‪ ،‬حيث اإلطاللة األوســع على المدينــة ‪ ،‬فمنــذ‬
‫الوهلة األولى لوصوله نجده يندفع متجها ً صوب هذه النافذة في غرفة الدويدار ‪ ،‬نســمعه يحــدثنا ‪:‬‬
‫" اتجهت صوب النافذة الصغيرة الوحيــدة داخــل الغرفــة ‪ ،‬اســترحت مقرفصـاًـ بجوارهــا وأمعنت‬
‫‪4‬‬
‫النظر "‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪105‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪21‬‬
‫‪3‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪15‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪27‬‬
‫ويتكررـ هذا معه كلمــا شــعر بــاألرق والضــيق يقــول ‪ " :‬لم أنم تلــك الليلــة ‪ ،‬تقلبت من زاويــة إلى‬
‫أخرى ‪ ...‬أصلحت مخدتي تحت رأسيـ عدة مرات دون جــدوى ‪ ،‬قمت إلى النافــذة ‪ ..‬شــبه النافــذة‬
‫ألتأمل النجومـ وبصيصاًـ من ضوئهاـ ‪ ،‬مع أصوات متفرقة وبعيدة لكالب تنبح ‪ ..‬ولكن دون جدوىـ‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫أما النافذة هنا تصلح ألن تصبح محــور مقارنــة يحكي تطـورـ إحسـاس الحصـارـ في نفس الرهينــة‬
‫بين المكانين ‪ ،‬سجن القلعة الذي كان سوره يســمح بإطاللــة أوســع ‪ " :‬مــا كــان اجملهــا من مدينــة‬
‫بصباحها عندما نطل عليها من أسوار قلعتها القــاهرة معقــل الرهــائن والمــدافع ‪ ،‬حيث كنــا نتــدلى‬
‫بأرجلنا من على أسوارها ‪ ،‬ونشاهد المآذن والقباب البيضاء والمنازل المرصوصة داخــل الســور‬
‫‪2‬‬
‫المنيع والهضاب والسهولـ والجبال الممدودة على مدى البصر "‬
‫وبيت النائب الذي لم تتح منه إال نافذة صغيرة ال تسمح إال بتأمل بصيص من ضوء النجوم ‪ ،‬هــذا‬
‫اإلحساس بحصار المكان يتزايد بمرورـ الوقت حتى يمتد ليسيطرـ على الكاتب نفسه الذي يشــعرنا‬
‫من خالل حركة وقائعه الــتي تلهث متســارعة ‪ ،‬وتركــيزه على المهم منهــا في خــط تطــوير حدثــه‬
‫الروائي واستغنائه عن كثير من التفاصيل والزوائدـ ‪ ،‬وكأنه إنما يرى األحداث التي يدون لهــا من‬
‫خالل ثقب صــغير ال يســمح إال بمســاحة محــدودة من الرؤيــة تركــز على أهم الوقــائع ‪ ،‬وال يــتيح‬
‫للتفاصيل والزوائد أن ترى من خاللــه ‪ ،‬وهــذا مــا الحظــه هشــام علي حين قــال ‪ " :‬رهينــة دمــاج‬
‫تحول القصر إلى حلقة حلزونية ‪ ،‬متاهة تاريخية واجتماعية ‪ ،‬ما إن يــدخل أحــد إلى أول طريقهــا‬
‫حتى يضــيع في ســراديبهاـ ‪ ،‬وربمـاـ يكــون الكــاتب أيضـا ً ضــحية هــذه المتاهــة ورهينــة مســاراتهاـ‬
‫المعقدة ‪ ،‬فهو يقع رهينة لهذا الحصار التــاريخيـ الــذي يفرضــه على شخصــياته ‪،‬إن كلماتــه قليلــة‬
‫‪3‬‬
‫ومحدودة وأوصافه مختصرة حذرة كمن يمشي على طريق ويحرص على أال يحيد عنه "‬
‫وأينما وجدت الشخصية في هذا العمــل وجــدتها محاطــة بالجــدران والممــرات الضــيقة والــدهاليز‬
‫والمنافذـ المحصورة والمحددة ‪ ،‬فهذه شخصيات بينها شراكة في الرهانــة دليــل ذلــك تعاطفهــا مــع‬
‫الدويدار في موته ‪ ،‬فالبورزان اشتري له كفنا ً ‪ ،‬والشريفة حفصة عطرته بــروائح تطــوعت بهــا "‬
‫وكم كــانت ثمينــة لــديها ‪ ،‬وتحتفــظ بهــا لمناســبات أخــرى "‪ ، 4‬والطبشـيـ العجــوز مفــدوغ الــرأس‬
‫يحضر جنازته ‪ ،‬كما حضرت معظم نساء القصر وملحقاته ‪ -‬ممن عشن معه مغــامراتهن الليليــة‬
‫‪ -‬يتفرجن من بعيد "‪. 5‬‬
‫ومع ذلك ال تظهر هذه الشخصـيات مـع واقعهـاـ من الرهانـة على حـال واحـدة ‪ ،‬وإنمـا تنقسـم إلى‬
‫شخصيات قد استمرأت دورها ‪ ،‬فأخذت تسلك سلوكا ً توطدـ من خاللــه اســتالبها ‪ ،‬وتقــدم واجبــات‬
‫الخضوع والطاعة الستمرارها في أوضاعها ‪ ،‬ومنها شخصية النائب الــذي يظهـرـ رهينــة وضــع‬
‫سياسي يربط بقاءه في مكانه واستمرارـ امتيازه برضـىـ اإلمــام ووليـ عهــده ‪ ،‬وهــو يتقــرب إليهم‬
‫بكل وسيلة ممكنة ‪ ،‬ويتجنب كل ما يمكنه أن يتســبب في إثــارة اســتيائهمـ ‪ ،‬حــتى يتكشــف لنــا عن‬
‫حقيقة شخصية مستلبة عاجزة ال تملك من أمر نفســها شــيئا ً وهي مهــددة على الــدوامـ ‪ ،‬تســعى إلى‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪27‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪65‬‬
‫‪ 3‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪16‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪188‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪189‬‬
‫استقطاب كل من يمكنه أن يتسبب في قربهــا أو بعــدها عن اإلمــام وولي عهــده ‪ ،‬فهي تتنــازل عن‬
‫السيارة الــتي أدى احتشــادـ النــاس حولهــا عنــد وصــولهاـ إلى إثــارة اســتياء ولي العهــد ‪ ،‬كمــا تقــدم‬
‫لشاعراإلمام وولي عهده الخاص ‪ -‬الــذي تعلم مكانتــه عنــدهما ‪-‬الهــدايا الثمينــة الــتي تخرجهــا من‬
‫الخزانــة ‪ ،‬لتــأمن جانبــه وتضــمن قيامــه بإصــالح الموقــف وعــدم إيغــار نفس اإلمــام وولي عهــده‬
‫عليها ‪.‬‬
‫فالنائب في قصره ‪ -‬رغم ما يحف به من وسائل الراحة والرفاهيــة ‪ -‬ســجين في ســجن يضــم إليــه‬
‫مجتمــع مؤلـفـ من مجمــوع رهــائن مختلفــة بين مقمــوع كالنســاء ‪ ،‬ومســتلب كالدويــدارـ ومهــزومـ‬
‫كالبورزان ‪ ،‬ومستغل كالجنودـ المرهون خضوعهم بلحظـة رضـى من النـائب يسـلطهم فيهـا على‬
‫أقوات البسطاء ‪ ،‬ومتمصلح مبتز كالشاعر المرهون والؤه باستمرارانهيالـ المنح والعطايا ‪.‬‬
‫ومنها ( الدويدار ) وهي الشخصية األكثر مالزمة للنائب ‪ ،‬والتي تبـدوـ أشـد اسـتالبا ً من غيرهـا ‪،‬‬
‫فالدويدار يؤدي جميع المهام كآلة تؤديـ جميع األدوارـ ‪ ،‬وتقوم بما يطلب منها بدون اختيار ‪ ،‬حتى‬
‫تلك المهام الليلية التي تؤديهاـ مع نساء القصر ‪ ،‬والتي تمثــل إيغــاالً في اســتالبه ‪ ،‬وهــو يحــاول أن‬
‫يلتمس لنفسه مع حاله تلك ظرفاًـ من التكيف مع هذا الواقــع االســتالبي ‪ ،‬وهــذه غرفتــه تشــهد على‬
‫ذلك ‪ ،‬يصفها الرهينة ‪ " :‬توقفـ نظري عنــد بعض الصــور الــتي ألصــقها على الحائــط وال أدري‬
‫كيف استطاع لصقها ‪،‬وإن كان يخامرنيـ الشك بأنـه قـد اسـتعمل في ذلـك لعابـه ‪ ،‬صـور متكـررة‬
‫لفتيات جميالت ذهبيات الشــعر زرقـ العيــون ‪ ،‬لم أشــاهد لهن مــثيالً في حيــاتي ‪ ،‬وصــورـ أخــرى‬
‫‪1‬‬
‫لهتلر وموسوليني وعمر المختار "‬
‫ومع أنه من الواضح أن الدويدار لم يصل إلى حاله تلك من القبول واالستسالمـ للتآكل واالضمحالل‬
‫إال بمرورـ الوقت ‪ ،‬فحينما كان الرهينة عند أول مقدمــة يظهــر نفــوره من طريقــة نســاء القصــر في‬
‫اســتطالفه ‪ ،‬كــان الدويــدار يضــحك من ذلــك في إشــارة إلى أنهــا ردة فعــل أوليــة ســتزول بمــرورـ‬
‫الوقت ‪ ،‬فكأنماـ به قد مــر بهــا قبالً ‪ " :‬كنت أنكمش حين يـربتن على كتفي ‪ ،‬وأنفـر حين تمتـد أيــدي‬
‫بعضهن لقرص وجنتيـ أو فرك شفتي بتلذذ "‪ ، 2‬إال أنه قبل وفاته وخالل الفترة التي اشتد عليه فيها‬
‫المرض ‪ ،‬أظهر عدم رضاه عما وصل إليه حاله ‪ ،‬لكنـه كـان حينهـا قـد فقـد قدرتـه على الـرفض ‪،‬‬
‫فعندما هم الرهينة بفرك قدميه ‪ ،‬احتد في منعه لئال يكرر خطأه إذ كانت هذه إحدى مهامه التي يقوم‬
‫بها ‪ ،‬والتي لم يعفه منها النائب حتى في الوقت الذي اشـتد عليـه المـرض ‪ ،‬يقــول الرهينــة ‪ " :‬كـان‬
‫صاحبي يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلــة على ســاحة قصــره وملحقاتــه ‪ ،‬كمــا‬
‫هي عادة النواب واألمراء والسيوف ‪ ،‬سيوف اإلسالم الذين لم أعرف أحــداً منهم حــتى اآلن ‪ ،‬كنت‬
‫واقفا ً بجانب صاحبيـ والنائب يسحب نفسا ً من المداعة كالعادة ‪ ،‬وفنجان القهــوة أمامــه قــد بــرد "‪، 3‬‬
‫يقول الرهينة ‪ " :‬وقدـ قمت في ليلـة بفـرك قدميـه فصـاح بي بعصـبية والشـررـ يتطـاير من عينيـه ‪،‬‬
‫فامتنعت ! " ‪4‬ومنها ( البورزان ) وهي شخصــية فصــل الــراوي في أوصــافها الخارجيــة ‪ ،‬وشــرحـ‬
‫مظهرها الخارجي ليعطي إحساساًـ بتكيفها مع واقعها ومكانهاـ ‪ ،‬تحكي هذه الحــال غرفتهــا المرتيــة‬
‫بدقــة ‪ ،‬فهي " غرفــة مســتديرة مرتبــة ومنظمــة ونظيفــة ‪ ،‬وفراشــه معــد ولحافــه مطــروحـ بنظــام‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪29،28‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪22‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪83‬‬ ‫المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪83‬‬

‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪153‬‬


‫وصــناديقه الخشــبية الملونــة القديمــة وأدوات خاصــة معلقـة على الجــدران بــترتيب دقيــق ‪ :‬تشــكيل‬
‫وتماثــل دال على ذوق خــاص ‪ ،‬جــرة مــاء ‪ ،‬موقــد نــار ‪ ،‬وأوان فخاريــة نحاســية للطبخ ومغطــاة‬
‫بقوارات ‪ ،‬وبوقه النحاسي المزين بعـذبات متدليــة ومزركشــة ‪ ،‬فقــد علــق في مكـان لطيــف وغطي‬
‫بمنديل حريري شفاف " ‪ ، 1‬لكننا في حقيقة األمر ال نلتقي مع هذا المظهــر من التكيــف إال محاولــة‬
‫لالحتيال على حصارـ الهزيمة ‪ ،‬ومن الواضح أن البورزان يهرب من واقعه الحقيقي ومن المجتمع‬
‫خارج حدودـ دائرة القصر ‪ ،‬بتــدعيم انتمائــه إلى مكانــه الــذي يقيم فيــه ‪ ،‬وترســيخه بمظهــره المثــير‬
‫الجذاب ‪.‬‬
‫فليس االعتنــاء بالهنــدامـ ومكــان اإلقامــة إال انعكاسـاًـ لحالــة تشــرح في المقابــل اإلحســاس بــرفض‬
‫الخارج وعدم القدرة على التكيف مع هذا الخارج ‪ ،‬فهذا المكان مســتقره ‪ ،‬ال يســتريح في أرجائــه‬
‫إال أمثاله من المهـزومين الهـاربين من مواجهـة الحقيقـة المـرة للهزيمـة ‪ ،‬وألجـل ذلـك نجـد هـذه‬
‫الشخصية تعودـ في غرفتها ‪ -‬التي تحكي استدارتهاـ عن حــال الــدوران المفــرغ الــتي يعيشــها هــذا‬
‫الرجل المهزومـ بين الحين واآلخر‪ -‬إلى حقيتها المهزومة ‪ ،‬فترددـ قصص نصــر مزعــوم وأناشــيد‬
‫نصر لم يحدث ‪ ،‬يقول الرهينة ‪ " :‬وصوت صديقي البورزان أحــد أبطــال هزيمــة ( االنســحاب )‬
‫‪2‬‬
‫يعلو بنشيده المنادي للهجوم على الخصومـ ‪ ،‬وبإشارة النصر الذي لم يحدث "‬
‫وهؤالء العسكر يحاولون أيضا ً أن يخلقوا أجواء من التكيف مع مكانهم الذي أكــرهتهمـ الظــروفـ‬
‫على مالزمتــه ‪ ،‬ففي رمضــان وبعيــدا عن األســرة واألهــل " لــديهم مكــان معتــاد بجــوارـ البوابــة‬
‫الرئيسية ‪ ،‬قد هيأوه لهــذا الشــهر الكـريم ‪ ،‬ويـدور فيــه حـوار ســجال عن معـارك مبــالغ فيــه ضـد‬
‫‪3‬‬
‫األتراك والوهابيين والبريطانيين "‬
‫‪ ‬وشخصيات أخرى تظهرـ غير راضية عن واقعهاـ المعاصر ‪ ،‬فهي تقاومه ‪ ،‬وتحتال لكسره ‪،‬‬
‫ومنها الرهينة ونساء القصر ‪ ،‬والطبشي العجوز ‪.‬‬
‫فالرهينة يرفض االستسالم النهزامه ‪ ،‬ويظل طوال الوقت يقاوم كل المحاوالت الموجهة للضــغط‬
‫عليه باالنكسارـ وفقدان اإلرادة ‪ ،‬فمنذ وقوعه في قلعة الرهائن ‪ ،‬وهو يتطلع إلى مغـادرة المكـان ‪،‬‬
‫فينظر مع الصغار إلى تلك القرى البعيدة المعلقة على الجبال التي جاء منهــا ومعــه بقيــة الرهــائن‬
‫في القلعة ‪ ،‬وفي بيت النائب ‪ ،‬يرفض أوامر الشريفة حفصة بفك قيده ‪ ،‬ويصــرحـ عن رغبتــه في‬
‫مغادرة بيت النائب والعودة إلى قلعــة الرهـائن ‪ ،‬ويقــاوم اســتالب نفسـه والوقــوع في شـرك نســاء‬
‫القصر‪ ،‬وحتى حينما يتورطـ يظل شعوره بأن ما يقوم به هو فعل مشين مالزما له ‪.‬‬
‫ويبلغ منه رفضه المساس بكرامته إلى حد ضرب ابن اإلمام غير الشرعي ‪ ،‬ويسددـ صــفعته قويــة‬
‫في وجه شاعر اإلمام وولي عهده عندما حاول التحرش به ‪ ،‬كمــا تكــون لـه محاولــة أولى للهـرب‬
‫رغم شغفه الشديد بالشريفة حفصة ‪ ،‬فعندما كان يعمل في ديوان النائب بعيداً عنهــا يظــل يتشــوق‬
‫إليها ‪ ،‬نسمعه يقـول ‪ " :‬منـذ فـترة لم يعـد يطـرق أذنى ذلـك الـرنين السـاحر المبحـوح والصـادر‬
‫منـــك ‪ ،‬كم هـــو رائـــع ! في بالدي الـــتي حكيت لـــك عنهـــا العجـــاب استضـــعفوني واعتـــدوا‬
‫علي ‪،‬ومسخونيـ رهينة ودويداراـ في بالطك ‪ ،‬وخادمـا ً في ديــوان مقيــل أخيــك النــائب المحــترم ‪،‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪137‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ص‪162‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫ومع ذلك لكأن صوتك الرنان ينزلقـ برفق فيحول الصدى القاسي إلى موسيقىـ ذات نغم ( حــالي )‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫وبسبب هذا الشغف تفشل تلك المحاولة ويعودـ أدراجه خلفها ‪ ،‬يقول ‪ " :‬ومضيت بعدها بخطــوات‬
‫رتيبة كأنني أسير حرب ‪ ،‬وهي تخطو نحــو مــدخل القصــر ‪ ،‬ومــا إن دخلنــا من البوابــة الرئيســية‬
‫حتى قام بعض العسكر باحتجــازي عن أمــر صــدر من الشــريفة حفصــة !وقــام بعضــهمـ بــدق قيــد‬
‫‪2‬‬
‫حديدي على ساقي ثم انصرفت الشريفة حفصة نحو دارها "‬
‫ثم محاولته الثانية التي استطاع فيها أن يتغلب على شــغفه بالشــريفة حفصــة رغم إصــرارـ جهــدها‬
‫وإلحاحها عليه بالعودة معها ‪ ،‬لكنه ينتصرـ على هذا الضغط ويهرب ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫" لم أتوقفـ برغم إشفاقي عليها ‪ ..‬وعال صياحها بصوتهاـ المبحوح الــذي أحبــه ‪ ،‬يطــرق مســمعي‬
‫وتلقفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول ‪ ،‬وأنا اتوقعـ‬
‫صوتها أو حجراً مقذوفاـ منها سيقع على ظهري ‪ ..‬لكنني كنت قد قطعت مســافة كافيــة في طري ـقـ‬
‫جديــد مــؤد إلى المســتقبل ‪ ،‬مخلفــا ورائيـ صــوتها المبحــوح المحبب إلى قلــبي ‪ ،‬وذكريــاتيـ مــع‬
‫صاحبي المرحومـ والبورزان والطبشي الذي فدغت البغلة رأســه ‪ ،‬وزمالءه الجنــد المنشــدين ‪ :‬يــا‬
‫‪3‬‬
‫رهينة قد أمك فاقدة لك ‪ ..‬دمعها كالمطر "‬
‫ونساء القصر ‪ ،‬وهن تشــكيالت من مختلــف األعمــار واأللـوان ‪ ،‬محكــوم عليهن‪ -‬تبعـا ً لنـواميس‬
‫مجتمعهن الخاص بقيمه األبوية التسلطية ‪ -‬بالقبوع خلف جدران غرف القصرفيـ انتظــارـ تــآكلهن‬
‫وتبدد أيامهن ‪ ،‬فال يستطعن أن يحيين حياة طبيعية كالنساء خارج أسوار القصــر ‪ ،‬لكنهن يقــاومن‬
‫استالبهن بخرق المحظور واالحتيال على حصارـ المكان وكسر حاجز الرصد والرقابة المستمرة‬
‫من النائب الذي يظل بجـوارـ نافذتـه يـراقب مــا يجــري على سـاحة قصــره ‪ ،‬وهن يتقـاطرن تحت‬
‫أســدال الظلمــة على غرفــة الدويــدارـ ( عبــادي) ‪ ،‬وذهــابهن إليــه هــو شــكل من أشــكال مقاومــة‬
‫االستالب ‪ ،‬وإن مثل ‪ -‬كما اسلفنا‪ -‬إيغاالً في استالب الدويدارـ ‪ ،‬وهن بذلك يقــاومن تعفنهن وتآكــل‬
‫أيامهن وتحلل شبابهن بهذا السلوك المخترق ‪ .‬حتى غدا هذا الســلوك شــرعتهن الــتي يتحــدين بهــا‬
‫كبتهن والتي يقر بها جميع العاملين داخل القصر فيما عدا النائب الغافل عما يدورـ فيه ‪ ،‬فالدويدارـ‬
‫هو عند الجميع الدويدار الحالي تبعا ً لهذا السبب ‪ ،‬وفي حــوار الرهينــة معــه ع ّمــا فعلــه الطبشــي‬
‫جاء ‪ " :‬قلت لصاحبيـ ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ألومه إذا أقدم على ما أقدم عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬أتعني الطبشي العجوز ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪.‬‬
‫‪ -‬كان لديه في القصر عوانس كثيرات ‪.‬‬
‫‪ -‬إنه عجوز ولن تقبله أي واحدة منهن ‪.‬‬
‫‪ -‬كان سيجد ‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد ‪ ..‬وخصوصا ً بوجودكـ ووجودـ المتصابي البورزان وبقية العساكرـ الشبان ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪170‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪135‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ص‪198‬‬
‫‪ -‬ونسيت نفسك ‪ ...‬ألست منا ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬أنا هائم بواحدة فقط ‪ ..‬ولن أصل إليها مطلقا ً "‬
‫ويكشف هذا الحوار على أن األمر غير مقصور على الدويدارـ وحده ‪ ،‬وإنما يشترك معه فيــه كــل‬
‫الذكور المتواجدين في أرجاء القصر بمن فيهم العساكر الشبان المرابطين أمام بوابته ‪.‬‬
‫وفي الحوار الدائر بين نساء القصر أثناء عودتهن من قصرـ ولي العهد ‪ ،‬تقــول الشــريفة حفصــة ‪:‬‬
‫"‪ -‬حسدتمونيـ عليه لجلوسه بجواريـ ‪ ،‬ولم أحسدكن وهو في فراشكن كل ليلــة ! قــالت إحــداهن ‪،‬‬
‫وقد تمالكت أعصابها ‪:‬‬
‫‪ -‬ال تغتري بأنك الزليخا زوجة عزيز مصر ! فأجابت الشريفة حفصة بسرعة ‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬وليس هو يوسف يا غبية "‬
‫‪ -‬لكننا في آخر األمر نجـد هـؤالء النسـوة ‪ -‬رغم مقــاومتهن واقـع اســتالبهن داخــل قصــورهن‬
‫المحاطة بالحرس ‪ -‬يعشن قلقا ً يتولد عن هذه الطريقة الشــاذة من اإلشــباع ‪ ،‬وهــو قلــق يرجــع‬
‫أوالً إلى حال الحصار والرصدـ المفروض وإن كانت هذه الحال ‪ -‬كما راينا ‪-‬يجري تجاوزها‬
‫وفق اتفاق ضمني بين جميع األطرافـ العاملة والمتواجــدة في القصــر ‪ ،‬ثم إلى حــال التنــافس‬
‫الشديد على هذا المشترك ( الدويدار ) ‪.‬‬
‫فبسبب الظروفـ الخاصة التي تحياهـا هـؤالء النسـوة ‪ ،‬فـإن فـرص االلتقـاء بالـذكور محـدودة‬
‫للغاية ‪ ،‬ومن هنا يصبح كل من وجد في القصر منهم فرصة إشباع ممكنه ال يسهل عليهن تفويتها‬
‫‪.‬‬
‫والطبشــي العجــوز كغــيره من الجنــود ‪ ،‬بعيــد عن أســرته ‪ ،‬ومقضــي عليــه وفــق نــاموس إمــامي‬
‫بالحرمان الدائم ومالزمة القصر ‪ ،‬يحــاول أن يخــترق هــذا النــاموس بطريقتــه الشــاذة والغريبــة ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫فيبوء برفسة من البغلة ( زعفرانة ) شجت رأسه األصلع وأسالت دمه "‬
‫وأما العسكري الذي ضرب القيد على قدميـ الرهينة بأمر من الشريفة حفصة ‪ ،‬فيعبرـ عن رفضــه‬
‫القرار القهري بإبقائه داخل القصر في الوقت الذي أطلق زمالءه من العساكر وفي أيديهمـ أوامــر‬
‫من النائب يتنفذون بها على المواطنين البسطاء ‪ ،‬بالتعامل العنيف القاسي مــع الرهينــة الــذي كــان‬
‫يرفض االستسالم لقيده ‪.‬‬
‫هكذا نجد أن جميع الشخصيات التي تقاوم استالبهاـ داخل القصــر فيمــا عــدا الرهينــة ‪،‬قــد انطلقت‬
‫من قناعة كون هذه الحال الــتي تعيشــها ليســت حــاالً وقتيــة ‪ ،‬وإنمــا هي حــال مســتديمة ‪ ،‬تقتضــي‬
‫ابتداع حلول تتوافقـ مع واقع الحصار المقيم ‪ ،‬وألجل ذلــك جــاءت الحلــول عبــارة عن محــاوالت‬
‫إلشباع الحرمان باالختراقـ المتسربل بالطرقـ الساترة ‪.‬‬
‫وهكـــذا هي عالقـــات الشخصـــيات ببعضـــهاـ داخـــل القصـــر ‪ ،‬تقـــوم على النفعيـــة واالنتهازيـــة‬
‫واالستغالل وما يستتبعها من تنافس وتبــاغض ‪ ،‬باسـتثناء العالقــة القائمـة بين الرهينــة والدويــدارـ‬
‫عبادي ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪،‬ص ‪128‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪130‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪102 ،‬‬
‫فالرهينة ‪ -‬الذي تتعزز لديه القناعة بأن ظرفه الذي يمر به ما هو إال ظرف وقتيـ سيتم تجاوزه ‪-‬‬
‫يظهر تعاطفا شديداً مع حال الدويدارـ التي ماعاد باإلمكان تجاوزهاـ ‪.‬‬
‫كما يبدي الدويدارـ تفاعالً يكشف عن بوادر صداقة حقيقية ‪ ،‬وإن كــان يشــويهاـ بعض الغــيرة الــتي‬
‫أحيانا في نفس الدويدارـ ‪.‬‬
‫فنساء القصر يرتبطن مع الدويدار بعالقة قوامهاـ النفعية واالستهالكية المؤقتة الــتي تنتهي بانتهــاء‬
‫صالحيته وتستمر باستمرارها‪ ، 1‬بينما تكون عالقته بهن نوعا ً من تادية دور منــاط بــه ‪ ،‬مطلــوب‬
‫منه تاديته ‪ ،‬وهو الدور الذي ‪ -‬كما اسلفنا ‪ -‬يوطد بقيامه به الستالبه ‪.‬‬
‫وليس بينهن والنائب عالقة ظاهرة سوى أنهن يستغللن غفلته وانبطاحــه المســتمرـ بخمــول بجــوارـ‬
‫نافذته ‪ ،‬بينما تكون عالقتهن ببعضهن داخل القصر قائمــة على لتنــافس والتبــاغض ‪ ،‬فهن أوالً ال‬
‫يتمتعن بنفس المكانة ‪ ،‬فالشريفة حفصة بحكم ما تملكه تحظى بمكانة مميزة عنهن ‪ ،‬ثم إنهن لســن‬
‫على درجة واحدة من الجمال ‪ ،‬فالشريفة حفصة تبدو أكثرهن جماالً وبسبب جمالها استطاعت أن‬
‫تستقطب اهتمام الرهينة وأن تستحوذ على قلبه ‪ ،‬مما أوغر نفوس األخريات ضدها ‪.‬‬
‫وأما عن عالقات النائب باألطراف المختلفة ‪ ،‬فهي أيضا ً ال تخرج عن هــذا اطــار من االنتهازيــة‬
‫واالستغالل ‪ ،‬فعالقته بالدويدارـ هي عالقة السيد اآلمر بخادمه المطيع الذي يؤدي له جميع طلباته‬
‫‪ ،‬وعالقته باإلمام وولي عهده تقوم على الوالء الظاهر ‪ ،‬ومتى مــا ســنحت الفرصــة تكشــفت هــذه‬
‫العالقة عن حقيقتها ‪ ،‬وعالقته بشاعر اإلمام وولي عهده قائمــة على محــاوالت استرضــائه ‪ ،‬فهــو‬
‫يعلم مكانة هذا الرجل عند اإلمام ووليـ عهده وما يمكنــه أن يفعلــه ‪ ،‬كمــا يعلم مقــدار انتهازيتــه ‪،‬‬
‫ووضاعة أخالقه ‪ ،‬فهوـ يعرف متى يلقي بصنارته ‪ ،‬ولذلك أصبحت أمالكه تفوق ما يمتلكه اإلمام‬
‫وولي عهده ‪.‬‬
‫أما عن الجنـود ‪ ،‬فهم يرتبطـون مـع النـائب بعالقـة الطاعـة والخضـوعـ في سـبيل الحصـول على‬
‫الفرصة السانحة ‪ ،‬وانتظارـ لحظة رضى من النائب يمنحون فيها أوامر يتنزلون بهــا على مفــارق‬
‫البسطاء ‪.‬‬
‫ومعظم الشخصياتـ في رواية ( صنعاء مدينة مفتوحة ) شخصياتـ سلبية ‪ ،‬وهي تتشــكل عنصــراً‬
‫من عناصر الواقع االجتماعي والسياسيـ الذي يسعى هـذا النــوع من الروايــات إلى تفعيــل الـوعي‬
‫برفضه ‪ ،‬فهــذه الســلبية هي أحــد األســباب المهمــة الــتي تقــف وراء تفــاقم األوضــاع واســتمرارية‬
‫تدهورها في كل زمان ومكان ‪.‬‬
‫( فنعمان ) الشخصــية الرئيســية في هــذه الروايــة هــو نمــوذج حي على الســلبية واالنهــزام ‪ ،‬فهــو‬
‫يرفض الواقع في القرية ‪ ،‬وفي مدينة عدن وفي المناطقـ الحدودية بينهما ‪ ،‬لكنه مع ذلك لم يحاول‬
‫ترجمة هذا الرفض وبلورته في موقفـ يسعى إلى تغيير هذا الواقع ‪ ،‬وإنما اكتفى بالتبرم والتــأفف‬
‫وإظهار مشاعر النفور وعدم التكيف المضــمخة بمالمح التخلي والالمبــاالة ‪ ،‬ففي بدايــة الحــدث‬
‫الروائي يكون الهروب من عدن إلى القرية ‪ ،‬يخاطب صديقه قائالً ‪ " :‬لك هللا يا صديقي كم أذنبت‬
‫في حقي حين تركتني وحدي أسافرـ إلى القرية ‪ ،‬ناصحا ً إياي واصفا ً لي الهدوء الــذي ســيعود إلى‬
‫حياتي واألوقات التي قد تعيـد لي ثقــتي بالحيــاة " ‪ ،2‬فـالواقع في القريـة واقــع يتمـنى أال يتــذكره ‪،‬‬

‫‪ 1‬آمنة يوسف ( تقنيات السرد في الرواية والتطبيق ) ‪،‬ص‪99‬‬


‫‪ 2‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪6‬‬
‫يقول ‪ ":‬وال أطيل عليك فلقد وصلت القرية بعد يوم كامل من اإلرهاق ‪ ،‬آه كم أتمنى أال أتذكره ‪،‬‬
‫ألنه يذكرني بواقعيـ القذر الذي أعيش فيه ‪ ...‬ويعيش فيه كــل أبنــاء وطــنيـ ‪ ،‬ولكن مــالي وألبنــاء‬
‫وطني ‪ ..‬إنني أنا ؟ وأنا فقط من اهتم به " ‪ ، 1‬ويقول في موضع آخر ‪ " :‬أنا لم أكن أريد أن أعــود‬
‫إلى القرية ‪ ،‬حتى لو مات كل من فيها ‪ ،‬ماذا يهمني منهم ؟ ولمــاذا أعيش بينهم ؟ "‪ ، 2‬بــل ويصــل‬
‫األمر به إلى الذهاب في معالجة هــذه المشــاعر النــافرة إلى حلــول هروبيــة ألكــثر من مــرة ‪ ،‬ففي‬
‫القرية كان الهروب من مجتمعها إلى الجبل ‪ " :‬الناس يا صديقي هم أناس بالدنا ‪ ،‬بــدون تفكــير ‪،‬‬
‫بدون أمل في المستقبل بدون شيء ‪ ،‬يأكلون القـات ‪ ،‬مرتـاحون ‪ ،‬وال حـديث لهم إال عن ( فالن )‬
‫الذي عاد إلى القرية وبجيبه ( الرياالت ) التي ال تنتهي ‪ ،‬وعن (فالنة ) التي الحظــوا أنهـا تـتزين‬
‫وتلبس مالبس نظيفة رغم غياب زوجهاـ عنها منذ سنوات أربع ‪ ،‬أحاديث تصيبني بالغثيان ‪ ،‬كلمــا‬
‫استمعت إليها ‪ ،‬فأهرب من الناس ومن نفسي إلى الجبل ‪ ،‬وهنا أجد لحظــات جميلــة ســعيدة ‪ ،‬لكن‬
‫أيضا ً الفائدة منها "‪ ، 3‬ومن القرية كان الهروب الى مدينة عدن ‪ ":‬لم يبق سوى شهران وأغــادر‬
‫الجحيم إلى المدينة مرة أخرى " ‪ 4‬وفيـ موضع أخر نقرأ ‪ " :‬سأغادر القرية هذا هو شعاريـ ‪ ،‬إن‬
‫حياتي أصبحت ال جدوى منها هنا فال بد من الرحيل " ‪ ، 5‬وفيـ مدينة عدن حيث الحر والفــراغ ‪:‬‬
‫" أكتب إليك اآلن من عدن حيث الحر والفراغ ‪ ،‬أكتب إليك بعد أن نجوت من المــوت بأعجوبــة ‪،‬‬
‫نعم ‪ .‬كل شيء في بالدنا أصبح هذه األيام يــؤدي إلى المــوت ‪ ،‬األرض ‪ ،‬واألمطــارـ ‪ ،‬والجبــال ‪،‬‬
‫والصحراء ‪ ،‬وكل شيء "‪ . 6‬يكــون الهــروب إلى عــاهرة تســكن إحــدى بيــوت الصــفيح ‪ ":‬القمــر‬
‫يرسل أشعته ‪ ،‬فيبدو حزينا ً وحيداً ‪ ،‬بال رفيقـ ‪ ،‬ومن حـولي تنبعث ضـجة خافتـه ‪ ،‬إنهـا ( زينب )‬
‫عاهرتي الجديدة ‪ ،‬التي تحاول أن تنسينيـ حيــاتي ‪ ،‬ولكنهـاـ ال تســتطيع أن تنســى حياتهــا هي "‪، 7‬‬
‫ومن عدن يفكر بالهروب إلى فرنسا ‪ ":‬لم تخبرني إلى أين ســتذهب للعمــل ‪ ،‬كــل مــا ســمعته أنــك‬
‫ذاهب إلى فرنس ـاـ ‪ ،‬حيث وجــدت لــك عمالً ‪ ..‬ال تنســى ‪ ،‬واجعــل رســائلك دائم ـا ً مليئــة بالحيــاة ‪،‬‬
‫‪8‬‬
‫وصف لي ما سيحدث لك فربما ‪ ..‬ربما فقط أهرب من حياتي هذه وأرافقك "‬
‫وفي آخر األمر تشكل الشخصية نهايتها ونهاية الحدث الــروائيـ الهروبيــة ‪ ،‬فقــد اختلطت األمــور‬
‫وغدا الضياع واإلحباطـ والهزيمة عمالقة تجوب أرجاء النفس والمكان في رحلة تجري في أجواء‬
‫أقـــرب إلى الغيبوبـــة ‪ ،‬وفيهـــا تقـــف رغبـــة الهـــروب وإلى جوارهـــا تلـــوح أســـباب المأســـاة‬
‫( اإلنجليزواإلمامة ) بينما يظل حلم العودة إلى صنعاء يراود اللحظة الحرجة ‪.‬‬
‫وإذا كنا نصنف موقفـ هذه الشخصية بــالموقفـ السـلبي ‪ ،‬وهـو الموقــف الــذي تشــترك فيــه معظم‬
‫شخصيات الرواية ‪ ،‬بحيث يغدو مجتمع الرواية في كليته تقريبا ً مجتمعا ً سلبيا ً ‪ ،‬فإنه باإلضافة إلى‬
‫األسباب العامــة الــتي تقهــر الجميــع وتــرميـ بهم إلى بــراثن هــذه الســلبية ‪ ،‬قــد جعــل الكــاتب لكــل‬
‫شخصية أسبابهاـ التي تخص موقفها ‪ ،‬وإن كنا ال يمكننا أن نعد تلك األسباب أســبابا ً خاصـة إال من‬

‫‪ 1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪6‬‬


‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص‪8‬‬
‫‪ 3‬م المرجع السابق ‪،‬ص‪8‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪12‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪،‬ص‪10‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪30،‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪،‬ص‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪12‬‬
‫قبيل إنماء الحدث الروائي وتطويرـ الشخصية ‪ ،‬ذلك أن شخصياتـ الرواية ومجتمعهاـ في كليته ما‬
‫هي إال نماذج فنية لبشر من لحم ودم عاشوا معاناة الواقع المرصــود في الروايــة في زمن يتشــكل‬
‫نقطة سوداء معتمــة على صــفحة تاريخنــا الحــديث ‪ ،‬ومــع ذلــك فقــد وجب علينــا ونحن ننظــر في‬
‫طبيعة شخصيات ذلك الواقـع أن نتعـرض لتلـك األسـباب الـتي شـكلت موقـف كـل شخصـية على‬
‫حدة ‪ :‬فشخصية نعمان قد تشكلت سلبيتها نتيجة لكونها ‪:‬‬
‫‪ -‬شخصية تعاني من التيه وغياب الهدف ‪ ،‬فال تعلم لنفسـها ‪ -‬رغم مــا يحيـط بهــا من كــوارث ‪-‬‬
‫هدفا ً أو رسالة تؤديها في حياتها ‪ ،‬يخاطب صديقه قائالً ‪ " :‬كال يا صــديقي فالحيــاة الــتي تمأل‬
‫حياتي وتعيد لي ثقتي بنفسي هي حياتنا نحن معا ً في العمل الحقير الذي نعملــه وفيـ الســاعات‬
‫التي نقضيها معا ً في حافة ذلك اليهوديـ ‪ ،‬أو في بيت عــاهرة طيبــة وجميلــة ‪ ،‬أو في الشــاطئـ‬
‫الممتد إلى ماال نهاية حيث أصوات األمــواج تطغي على همســنا وعلى أصــوات أقــدامناـ الــتي‬
‫تقذف بعنف إلى البحر بزجاجات الخمرة الفارغة التي خلفها في الليلة السابقة عشــاق الوحــدة‬
‫وجمــال الشــاطئ مــع نســاء أو مــع أنفســهم أو في ســاعاتنا على ســرائرناـ الخشــبية في مقهى‬
‫( الحـــاج علي ) ( الخســـاف ) وقت الظهـــر ‪ ،‬ونحن نلـــوك تحت أســـناننا أعشـــاب القـــات‬
‫‪1‬‬
‫الخضراء ‪ ،‬المصفرة نوعا ً ‪ ،‬أو مع مناقشاتنا التي تخلقها فينا حرارة القات "‬
‫ولذلك هي تتسم بالتخلي ‪ ،‬وتعترفـ بتخليها دونمــا حــرج ‪ ،‬نســمعه يقــول ‪ " :‬مضــى أســبوعان‬
‫لوجوديـ في القرية ‪ ،‬وبدأ كل فرد فيهم يتحدث عني ‪ ،‬منذ أيام ســمعت أحــدهم يقــول إنــني أعامــل‬
‫والدي معاملة سيئة ‪ ،‬وإنني أرفض العمل معه في األرض ‪ ،‬وإنــني أيضـا ً أتــرك كــل تلــك المهــام‬
‫‪2‬‬
‫لزوجتي ‪ ،‬نعم يا صديقي أنا ال أعمل اآلن ‪ ،‬ألن العمل هنا يرهقني بل يقتلني "‬
‫وترى أن تفاعلها مع مشكالت األهل في القرية نوعا ً من االنهزامـ ‪ " :‬وخفت على نفسي أن أنهزم‬
‫‪3‬‬
‫ألن مشاركتي لهم في أي أمر معناه انهزامي ‪ ،‬وهذا ما ال أرضاه لنفسي "‬
‫وهي تصرح بعدم رغبتها في البقاء بينهم ‪ ،‬وتعلن ذلــك صــراحة على مســامعهم ‪ ،‬فنعمــان عنــدما‬
‫عاد من الجبل وسمع الحوار الذي يدورـ بين والده ووالدتــه وزوجتــه ‪ ،‬يصــرخ في وجــوههم حين‬
‫صمتوا إذ شعرواـ بقدومه ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬لماذا تتوقفون ؟ استمروا في أحاديثكمـ ‪ ،‬العنونيـ ‪ ،‬ألقوا جام‬
‫غضبكم على اطردونيـ ‪ ،‬إنني ال أريــد أن أعيش معكم " ‪ ، 4‬وحينمـاـ علم بحمــل زوجتــه اعــترف‬
‫لنفســه بعــدم قدرتــه على تحمــل مســؤولية ذلــك الجــنين ‪ ،‬يقــول ‪ " :‬إنــني اآلن فقــط أدرك أنــني ال‬
‫‪5‬‬
‫أستطيع أن أكون مسؤوالً عن إنسان أنا السبب في وجوده "‬
‫ويسيطرـ عليها شعور باالنسحاق والدونية ‪ ،‬يقول ‪ " :‬أما هنا يا صديقي فالشيء سوى جســد ميت‬
‫بال قلب مجرد آلة كبيرة تلتهم الناس والجبــال والمعــادن ‪ ،‬كــل شــيء فيهــا ســواء ‪ ...‬بال تميــيز ‪...‬‬
‫ألنها كما قلت بال قلب مطلقا ً ‪ ،‬وأظن أن جميع من فيها أيضا ً قد فقــدوا قلــوبهمـ "‪ ، 6‬ويقــول معــبراً‬
‫عن سيطرة هذا الشعور ‪ " :‬مضت أيام وأنا أفكــر ثم وأنــا ال أفكــر بــأن أشــياء بســيطة تصــنع منــا‬
‫مآسي ‪ ،‬وأشياء أكثر بساطة تحيلنا سعداء ‪ ،‬إذن ‪ ،‬فقد ماتت ( هند ) ‪ ،‬هــذا هــو اســتنتاجيـ األخــير‬
‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪7،6 ،‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪،‬ص‪9،8‬‬
‫‪3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪14‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص ‪14‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪18‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪75‬‬
‫بعد كل ليلة شاقة مرعبة ‪ ،‬ثم أجد نفسي بين أحضان امرأة ‪ ...‬من هي ؟ ال أعرفها ‪ ،‬مجرد أمــراة‬
‫وجدتها في الطريق فأخذتها لكي أصب عليها لعناتي ‪ ...‬وتمضيـ األيام ‪ ..‬لنجد في النهايــة مهزلــة‬
‫كبرى تحاك حولنا ‪ ،‬إنني ال أعرف كيف أعيش ألنــني لم أتعلم ذلــك إلى اآلن ‪ ،‬لــذلك أجــد أن كــل‬
‫صدمة قد تؤخرنيـ إلى الوراء ‪ ،‬وقدـ تقدمني خطوات ‪ ...‬ولكن الذي أعرفه اآلن تماما ً شيء واحــد‬
‫‪1‬‬
‫كان يردده الصنعانيـ من قبل ‪ ،‬أن نسكر ونسكر ثم ننسى أننا أحياء "‬
‫ويستبد بها شعور التبدد والعدمية ‪ ،‬حيث نقرأ ‪ ":‬وهناك تحت العشة التي أعيش فيهــا مــع (زينب)‬
‫تمتد إلى ماالنهاية إلى أطراف البحر ‪ ،‬طيــور ال تنتهي ‪ ،‬وفي كــل يــوم أشــهد إنســانا ً جديــداً يــدفن‬
‫وأتخيل كل إنسان في كفنه األبيض وجسده الهامد ( هندا ) وهي تضــم إليهــا اإلنســان الــذي ولدتــه‬
‫وماتت معه ابنها وابني ‪ ،‬عندئذ أشعر بالمأســاة ‪ ،‬ليســت مأســاتيـ أنــا وحــدي ‪ ،‬ولكنهــا مأســاة كــل‬
‫إنسان ‪ ،‬فأتألم وأبكي على كل إنسان يدفن هناك تحت نظري ‪ ،‬وأنـا ‪ ،‬أنـا اإلنســان ال أسـتطيع إال‬
‫أن أشاهد وأبكي ‪ ،‬أليس في استطاعتي أن أقــف أمــام المــوت صــائحا ً ‪ ،‬قــف مكانــك ال تحــاول أن‬
‫تأخذ البشر ‪ ،‬وإن أبى مسكت بحربتــه الــتي يحملهــا وانتزعتهــا ثم أغرســها في أعماقــه ‪ ،‬وأخلص‬
‫‪2‬‬
‫منه البشرية "‬
‫وهي شخصية سريعة النكوص ‪ ،‬فحينما يشهد نعمان تحوله اإليجــابيـ األهم ‪ ،‬وهــو التحــول الــذي‬
‫يحدث له بفعل ما أحدثته الكارثة في القرية ‪ ،‬والذي يكشف عنه الســياقـ اآلتي ‪ ":‬لقــد بكي والــدي‬
‫باألمس وجعل يشدني إليه ‪ ،‬إنني في نظره قد خلقت من جديد ‪ ،‬وكانت زوجتيـ تنظر إلينا ‪ ،‬وهي‬
‫تبتسم من خالل دموع الفرح النازلة من عينيها ‪ ،‬آه كم هي الحياة جميلة يا صديقي ‪ ،‬حين نعمــل ‪،‬‬
‫لقد كنت غبيا ً من قبل ‪ ،‬ولكن هذه الشهور الثالثة التي في القرية أعادت إلي شيئا ً من األمل ‪ ،‬ماذا‬
‫أقول لك يا صديقي ‪ ،‬هل أقول أن موت ( فتاة الجبل ) الســمراء قــد هــزني ‪ ،‬من أعمــاقي ‪ ،‬كــانت‬
‫جميلة ‪ ،‬وكنت أؤمن بــأن الجمــال ال يمــوت ‪ ،‬ولكنــه مــات ‪ ،‬ووجــدتـ أن األشــياء الــتي أؤمن بهــا‬
‫تتحطم الواحدة بعد األخــرى ‪ ،‬ذهبت مـني فاطمـة ‪ ،‬اختطفهـا أخي ‪ ،‬واختطــف القــدر مــني ( فتـاة‬
‫الجبل السمراء ) فال بد إذن أن أنتقم من االثنين بأن أعمل ‪ ،‬أن أعيــد مــا حطمــه الســيل ‪ ،‬أن أبــني‬
‫أرضننا من جديد ‪ ،‬وأن أخلق في قلب والدي أمالً جديداً بأنني أعظم من أخي "‪ ، 3‬ويقررأن يرمم‬
‫عالقته بــاآلخرين ‪ ،‬وأولهمـ ( ســيف ) أخــوه الــذي يجب أن يشــارك في تحمــل المســؤولية ‪ ،‬يقــول‬
‫نعمان ‪ " :‬ألن األشياء التي رأيتها في القرية تحتم علينا أن نتحد ‪ ،‬وهذا العام الــذي مــات فيــه كــل‬
‫الزرع ‪ ،‬وأصبح الخراب شيئا ً حقيقيا ً والمجاعة شيئا ً حقيقيـا ً ‪ ،‬يجب عليــه أن يشــاركنيـ في تحمــل‬
‫‪4‬‬
‫أعباء األسرة "‬
‫ويجهد باحثا ً عن هدف واضح لحياتــه يخــاطب الصــنعانيـ قــائالً ‪ -" :‬لمــاذا ال نفكــر أن اســتمرارـ‬
‫حياتنا بدون هدف ال جدوى منه ؟‬
‫‪ -‬من قال أنه ليس لحياتك هدف ‪ ...‬إنك تعمل لتأكل وترسل نقوداً ألهلك ‪ ،‬ثم تتمتع إن شئت‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪76،75‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪78‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪26‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪ -‬هل هذا هو هدف مشرف أن أعمل آلكل وأعمل ألطعم اآلخرين ‪ ،‬إن المشكلة ليست بسيطة ‪،‬‬
‫ولكنها تبدوـ لك أنت كذلك ‪ ..‬ألنك ال تعرفـ المشاكل وال تعرف في حياتك سوى األكل والنومـ‬
‫‪1‬‬
‫والسكر "‬
‫سرعان ما يفقد ثباته وقدرته على التمسك بموقفه التحولي ‪ ،‬وينهزمـ بســهولة أمــام ضــغوطـ الحيــاة‬
‫وإلحاح الصنعانيـ الذي يعاني هو اآلخر من الضياع ‪ ،‬ليعود إلى الحانة معتقداً أنه يجد فيها ســلواه‬
‫وراحته ‪ ،‬ليبدأ انحداره من جديــد يقــول ‪ " :‬ومــاذا أعمــل إذن هنـا ‪...‬إذا لم أســكر ؟ إنـني أريـد أن‬
‫أنسى ‪ ،‬أفهمت ؟ أنسى نفسي وعــالمي وأنســاك أيضـا ً ‪ ،‬من أنت ‪ ،‬من أين أتيت ‪ ،‬مااســمك ‪ ،‬ومن‬
‫‪2‬‬
‫أنا ‪ ،‬ومن أين أتيت ‪ ،‬وما اسمي ‪ ،‬كل هذا أريد أن أنساه "‬
‫ويستسلمـ بعدها لضياعه الالنهائي " تحدثني زينب ‪ :‬إنك تموت نفسك يا صــديقي ‪ ،‬فــالخمر تعبهــا‬
‫بال طعم ‪ ،‬والجسد تمضغه بال شهية ‪ ،‬حتى النوم ال تعرفه جيداً ‪ ،‬دعني أصـنع قليالً من الهــدوء ‪،‬‬
‫فأجيبها ‪ :‬إنني يا صديقي أريد أن أعيش ‪ ،‬أن أسكر وأضاجع ‪ ،‬وأنام واعمل كــل ذلــك لكي أعيش‬
‫‪3‬‬
‫"‬
‫ونعمان شخصية مضطربة العالقات ‪ ،‬يعاني من الغربة ‪ ،‬وفقدان القــدرة على التكيــف ‪ ،‬فمجتمــع‬
‫القرية مجتمع منفر ‪ ،‬يقول ‪ " :‬أنا ال أحب مجالسهمـ ‪ ،‬وال أحـاديثهم ‪ ...‬وال أحضـر معهم الصـالة‬
‫في المسجد ‪ ،‬ألنني ال أحب الصالة حتى صالة الجمعــة ‪ ،‬وإنــني فـوقـ ذلـك كلـه ‪ ،‬أحب أن أكــون‬
‫وحيــداً ‪ ،‬بال أي إنســان ‪ ،‬إنــني أكــره أيــا منهم يحــاول تعكــير حيــاتي الــتي رســمتهاـ "‪ 4‬وعــاداتهم‬
‫وطباعهم غير مستحبة لديه ‪ ،‬يقول " أما هنا ‪ ،‬فال شيء سوى النوم حتى منتصف النهار والكســل‬
‫وأكــل القــات وحيــداً ‪ ،‬حيث أنــني ال أحب الــذهاب إلى منــازل اآلخــرين ‪ ،‬حيث تجتمــع عشــائر‬
‫القرية ‪ ،‬ويتحدثون حديثا ً مســئما ً ‪ ،‬ال أعــرف منــه شــيئا ً "‪ . ".........‬حــتى والــدي ‪ ،‬ذلــك اإلنســان‬
‫ً ‪5‬‬
‫البسيط الذي كنت أحبه من قبل أصبحت أتحاشيـ مقابلته كثيرا "‬
‫وهو اليســتطيع أن يلتمس لنفــوره مــبرراً مقنعـا ً ‪ ،‬يقــول ‪ " :‬إنــني يــا صــديقي ال أســتطيعـ أن أجــد‬
‫لتصرفاتي تبريراً معقوالً ‪ ،‬إن الفارق بين جيل أنتمى إليه وجيل سكان القرية هو السبب أن حياتنا‬
‫‪6‬‬
‫معا ال تحتمل ‪ ،‬فال بد ألحدنا أن يخلي السبيل ‪ ،‬ولن نكون نحن "‬
‫وهو نافر من كل شيء حوله ‪.‬‬
‫ونـادراًـ مـا نجـده يحقــق مــع مكانـه اسـتجابة إيجابيـة ‪ ،‬من هـذا النـادر قولــه ‪ ":‬بــاألمس أدركتــني‬
‫األمطـار وأنـا أنظـر من ( األكمـه ) إلى الـوادي األخضـرـ تحـتي ‪ ،‬ومـدرجاتـ الزراعـة تكسـوهاـ‬
‫األعشاب الخضراء التي بدأت تتفتح لموسمـ جديد ‪ ،‬ورأيت عدة فتيات في الوادي يمألن جــرارهن‬
‫من الماء العذب ‪ ،‬ولم أهرب من األمطارـ بل وجدت لذة ال حدودـ لها وأنا أرى الفتيات يتسابقن في‬
‫الهروب واالختباء ‪ ،‬وابتســمتـ رغم أنــني كنت مبلالً والميــاه تغمــرني ‪ ،‬وشــعرت بطفولــتي كلهــا‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪45‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة)ـ مرجع سابق ص‪44‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪77‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪10‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪9‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫تتجمع وتجعلنيـ أقفز وأجري وألعب بالمياه ورفعت رأسي نحو السـماء ‪ ،‬وفتحت فمي أسـتقبل بـه‬
‫مياه األمطار قبل أن تصل إلى األرض "‪، 1‬‬
‫ووصفه إحدى ليالي القرية ‪ ،‬حيث نقرأ ‪ " :‬كــان الــوقت ليالً والقمــر يرســل أشــعته الفضــية على‬
‫قريتنا وعلى الجبال المحيطة ‪ ،‬فيصنعـ جماالً رائعا ً وهدوءاً غريبا ً جعلــني أحس بالجمــال الحقيقي‬
‫لطبيعــة بالدنــا ‪ ،‬كنت جالســا أنظــر إلى الســماء وإلى القريــة والجبــال ذات المــدرجات الزراعيــة‬
‫البديعة الهندسة ‪ ،‬وبجانبيـ زوجــتيـ ‪ ،‬تصــب لي قــدحا ً من ( القشــر) ‪ ،‬وأشــعة القمــر تنعكس على‬
‫وجهها األصفر الضعيف فتبدوـ لي جميلة إلى حدود بعيدة ‪ ،‬وبدا لي ثوبها األسود الحــزين آيــة في‬
‫الروعة والتناسق مع جسمها وأحسست أني أملك جماالً نادراً ‪ ،‬لم أشعر بوجوده من قبل ‪ ،‬وبدون‬
‫شعور وبعد أن غلبني سحر القمر والليل احتويتهاـ بين ذراعي وقبلتهاـ ‪ ..‬وأخذتها المفاجأة ‪ ،‬فأنا لم‬
‫أتعود أن أفعل ذلك ‪ ،‬بل إنني لم أشعرها مرة واحدة منذ سنوات ثالث بحبي لها ‪ ..‬فكان أن بكت ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وشعرت بدموعها الحارة تلهب صدريـ "‬
‫وأما عن عالقته بأصدقائه ‪ ،‬فمن الواضح أنها عالقة شديدة الحــذر والتحفــظ ‪ ،‬يقــول ‪ " :‬تســاءلت‬
‫كثــيراً قبـــل أن أكتب لـــك ‪ ،‬فأنـــا عــادة ال أحب مطلقـــا ً أن أكتب حــتى ألقــرب النـــاس إلي "‪، 3‬‬
‫ويعــترفـ ‪ ":‬فأنــا لم أتعــود أن أهب أصــدقائي الكثــير "‪ ، 4‬وتبلــغ عالقتــه مــع أخيــه ســيف حــدود‬
‫الكراهية بسبب التنافس على فتاة ليل يقول ‪ " :‬دعه يموت هناك في المدينة ‪ ،‬دعها تحطمه ‪ ،‬إنهــا‬
‫ً ‪5‬‬
‫تنتقم لي بدون أن تشعر ‪ ،‬آه يا فاطمة كم أنت جبارة ‪ ،‬حطميه وال تتركي منه شيئا "‬
‫وهو شخصية مشوشة العواطف ‪ ،‬فزوجته التي اقترن بها بعد أن هام بها حبا ً وأثار ضجة بزواجه منها‬
‫‪6‬‬
‫"‬
‫أصبحت عالقته بها شبه مقطوعة ‪ " :‬أو في حكم المقطوعة ‪ ،‬إننا ال نرى بعضنا إال في ساعات المســاء‬
‫وأحيانا ً ال أراها طوال النهار "‪ ، 7‬ولم يعد يعرفـ اآلن حقيقة مشاعره تجاهها " أما اآلن ‪ ،‬فأنا ال أعرف‬
‫ماهي تصرفاتيـ إزاء زوجتي ‪ ،‬لعل أهل القرية على حق في قولهمـ ‪ ،‬إنني ال أهتم بهــا ‪ ،‬ولكم تســاءلت ‪:‬‬
‫لماذا ال أحاول خلق ذلك الحب القديم ؟ ويكون جوابي سلبيا ً في معظمـ األوقات ‪ ،‬اليصــدقـ أن في داخلي‬
‫شيئا ً إزاءها "‪ ، 8‬وحينماـ يتعرف على فتاة الجبل ذات الجمال المثــير يقــرر ‪ " : :‬ولكــني كمــا تعــرفـ لن‬
‫‪9‬‬
‫أجعل عالقتي معها أكثر من تمتعي بجمالها ‪ ،‬ألن الحب يا صديقي ال أعرفه ‪ ،‬بل ال أحس بوجوده "‬
‫ويبرز هذا التشوش أكثر حينما تنمو عالقته بفتاة الجبل التي قرر أال يحبها ويشعرـ بخطورة ما ينشــأ في‬
‫داخله ‪ " :‬نعم يا صديقي إنني أشعر أن بداخلي شيئا يتحرك شيئا ً سيحطم حياتي كلهــا ‪ ،‬وربم ـاـ حيــاة من‬
‫أعيش بينهم "‪ ، 10‬وعندما تموت ‪ ،‬زوجتــه ( هنــد) ‪ ،‬رغم صــدمته الكبــيرة ‪ -‬إذ لم يكن ينتظــر منهــا هي‬
‫بالذات أن تموت ‪ -‬فإنه لم يستطيع أن يذرف ألجلها دمعه واحدة ‪ ،‬يقول ‪ ":‬يــا إلهي ! مــا الــذي حــدث ‪،‬‬

‫‪ 1‬نفسه ‪،‬ص‪10‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪16‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪17‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪26‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪10‬‬
‫‪ 9‬نفسه ‪ ،‬ص‪10‬‬
‫‪ 10‬نفسه ‪ ،‬ص‪9‬‬
‫العيــون تلتهمــني ‪ ،‬البــد أن أهــرب إلى أين ؟ ال بــد أن أبكي ‪ ،‬أبكي ‪ ،‬نعم ‪ ...‬إنــني لم أبــك حين علمت‬
‫بالخبر ‪ ،‬حقيقة لقد أصبت بالدهشة ‪ ،‬ألنني لم أكن أنتظرـ من ( هند ) بالذات أن تمــوت ‪ ،‬لكــني لم أبــك ‪،‬‬
‫لماذا ‪ ،‬البــد أن أبكي ‪ ،‬نعم ال بــد ‪ ،‬أيتهــا الــدموع لمــاذا ال تــنزلين ‪ ،‬إنــني أرجــوك ‪ ،‬ولكنهــا تــأبى ‪ ،‬هــل‬
‫جفوني مصنوعة من الزجاج ال تتأثر ‪ ،‬ورأيت قطرات من الــدموع تتسـاقط من عين الصــنعاني ‪ ،‬تـرى‬
‫ما الذي جعله يبكي ‪ ،‬إن الذي مات لم تكن زوجته ‪ ،‬بل زوجتيـ أنا ‪ ،‬ولم يكن طفله بل طفلي أنا ‪ ،‬فلمــاذا‬
‫يبكي إذن ؟ ال بد أن هناك أمرا ‪ ،‬نعم لعله تذكر زوجته ‪ ،‬إن ذلــك جــائز ‪ ،‬وهــذا البحــار أليس لديــه أحــد‬
‫‪1‬‬
‫يتذكره فيبكيـ ‪ ،‬لعلي أستطيع أن أجد من دموعمها مساعداً لدموعي أن تنزل "‬
‫ويظل يسائل نفسه ‪ ،‬إن كان يحبها حقا ً أم ال ‪ ،‬ويكتشفـ أنه بالفعل قد فقد حبها " آه لقد ثبتت الحقيقة إنني‬
‫ال أحبهــا "‪ "........‬هــل أصــنع لهــا ثمثــاالً في قلــبي حــتى أتــذكرها إلى األبــد ‪ ،‬وصــعقتنيـ هــذه الكلمــة‬
‫األخيرة ‪ ،‬أتذكرها ‪ ،‬أتراني سأتذكرها حقا ً ‪ ،‬أنا الذي لم أتكلم عنها مدة األشهر الخمسة التي قضــيتهاـ في‬
‫عدن ‪ ،‬كأنهــا لم تكن موجــودة في الحيــاة ‪ ،‬نعم لقــد كنت مقصــراً في حقهــا وهي حيــة ‪ ،‬ولكن مــا العمــل‬
‫اآلن ؟ وكيفـ أستطيع تـذكرها ؟ ونظــرت حــولي ‪ ،‬كــانت الوجــوه الــتي تحيطــني قــد تحـولت إلى ألــوان‬
‫شاحبة حزينة ‪ ،‬لماذا يحزن هؤالء؟ هل مات ألحدهم إنسان كان يحبه ؟ كان يحبه ‪ .‬نعم ‪ ،‬لقــد كنت أحب‬
‫( هند ) منذ زمن بعيد ولكن هذا الحب مات بعد فترة قصيرة ‪ ،‬لست أدري لماذا؟ أم ألن نساء المدينة قد‬
‫أثرن في إلى درجة نسيت فيها كيف تكون نساء القرية ‪ ،‬ولكن هل كنت أحب ( هندا ) ذلك سؤال البــد‬
‫أن أجيب عليه " ‪ ، 2‬ثم وبعدـ معاناة طويلة يكتشفـ حقيقة أخرى يقول ‪ " :‬ثم أنكب على الفراش ألغســله‬
‫بالدموع ‪ ،‬ويخلو المكان ‪ ،‬وأشعرـ أن جميع األخطاء التي ارتكبتها قد انزاحت ‪ ،‬إنني أسقطت دمعة على‬
‫( هند ) لم تكن شفقة أو رحمة ولكن دمعة حب ‪ ،‬فألول مرة أدرك مدى حاجتي لوجودهاـ ‪ ،‬لقد كانت كل‬
‫شيء في حياتي ‪ ،‬دون أن أحس بها " ‪ . 3‬وحينما تسأله ( زينب ) التي يقضي معها أيامه ‪ ،‬هــل يحبهــا ‪،‬‬
‫ً ‪4‬‬
‫يجيب ‪ " :‬كال فأنا ال أحب أحدا "‬
‫ويظهر الصنعانيـ ‪ -‬وهو إحدى الشخصيات المهمة في الروايــة ‪،‬حيث تشــكل الحادثــة التاريخيــة الــتي‬
‫ارتبطت بها مأساتهاـ والتي سميت بها الرواية ضابطاًـ تاريخيا ً لوقائعهاـ ‪ ،‬ورباطا يجمــع إليــه كــل خيــوط‬
‫المأساة المتشكلة على جسد الحــدث الـروائيـ ‪ -‬شخصــية تكتـوي بمــرارات السـلبية ‪ ،‬فبعــد أن دمــر بيتـه‬
‫ودكانه ‪ ،‬وقتلت زوجته وابنته الوحيــدة في صــنعاء ‪ ،‬خــرج إلى الشــارع منفعالً بصــدمته ‪ ،‬يقتــل ويقتــل‬
‫بدون تمييز ‪ " :‬فلم أستطع أن أمزق الواقع ‪ ،‬ألنه كان بشــعا ً رهيبـا ً ‪ ،‬نعم رهيبـا ً يــا بــني ‪ ،‬أن تنظـرـ إلى‬
‫أحب مخلوقات لديك مزقا ً دموية ‪ ،‬يشع من عينيها الرعب القاتل ‪ ،‬وأنت ال تستطيع إزاءها إال أن تغطي‬
‫عينيك وتهرب ‪ ،‬وهز رأســه بحــزن وانفعــال ‪ :‬وخــرجت أبحث عن انتقــام ‪ ،‬لقــد تحطم القيــد الــذي كــان‬
‫يقيدني ‪ ،‬وأصبحت طليقا ً ولكن بعد أن فقدت كل شيء ‪ ،‬وال أتصور من أين أتتني تلك القوة الرهيبة وأنا‬
‫أصارع أول إنسان قابلته ألنتزع منه أداة الموت ‪ ،‬بندقيتــه ‪ ،‬وبــدأت أطلــق النــار على كــل من أراه دون‬
‫تتميز ‪ ،‬كنت أريد أن أقتل و أقُتل ‪ ،‬لم أكن أنظر إلى صنعاء وهي تتــألم ‪ ،‬ألنــني كنت أتـألم أشــد منهــا ‪،‬‬
‫ولم أنظر إلى الجمــال والروعــة ‪ ، ..‬ولم تعــد أحالمي ملكـا ً لي ‪ ،‬ألنهــا كلهــا مــاتت ‪ ،‬بمجــردـ أن أدركت‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪11‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪73،72‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪72‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪74‬‬
‫الخرافة الكبيرة التي كنت أعيش فيهــا "‪ ، 1‬ثم يهــرب إلى عـدن معتقـداً أنـه من هنـاك يسـتطيع أن يقـاوم‬
‫بشكل أفضل ‪ ":‬خرجت من صنعاء يا بني ‪ ،‬وقـد رسـمت خطـة ألن أغـادر هـذه األرض ‪ ،‬وأشـارـ بيـده‬
‫مبينا ً ‪ ،‬وتلك هي الغلطة األولى الـتي ارتكبتهـا ‪ ..‬مغـادرتي لتلـك األرض ‪ ،‬وأشـارـ إلى الشـمال ‪ ،‬ألنـني‬
‫حسبت أنني أستطيع أن أنتقم حين أصل هنا "‪ 2‬لكنه سرعان ما يستسلم لإلحباط واليــأس ‪ ":‬ومضــت بي‬
‫الحياة ‪ ..‬كنت أعمل من قبل لكي أنتقم ‪ ،‬أما اآلن فقد أنســتني الحيــاة كــل شــيء ‪ ،‬وأصــبح لزامـا ً علي أن‬
‫‪3‬‬
‫أنسى مأساتي ألنها بسيطة بالنسبة لآلخرين "‬
‫ونحن نراه في البداية شخصا ً منطوياًـ على ذاته كتومـا ً حــذراً ‪ ،‬حــتى أن نعمــان يصــفه بالمنــافقـ ‪ " :‬أمــا‬
‫الصنعاني ‪ ،‬فلم أكن أتوقع أن أجد منه رسالة ‪ ،‬خاصة وأنه لم يكتب لي منذ مغــادرتيـ عــدن ‪ ،‬إنــه يقــول‬
‫أنه متشوق إلى لقائي ‪ ،‬لعنه هللا ‪ ،‬إنــه منــافق كبــير " ‪ ، 4‬ثم نجــده يقضــي أيامــه مــتردداًـ على الحانــة في‬
‫شارع اليهوديـ ‪ ،‬يصفه نعمان ‪ " :‬إنه كما تعرف رجل فوضويـ ‪ ،‬اليهتم بشيء ما في حياته سوى النوم‬
‫‪5‬‬
‫وأكل القات ‪ ،‬وشرب الخمر في حافة اليهودي "‬
‫ومن الواضح أن إدمانه البقاء في الحانة كان شكالً من أشكال الهروب ومحاولــة من محــاوالت النســيان‬
‫يقول نعمان ‪ " :‬وسمعت صوت الصنعانيـ وقد بدأ يسكرـ ‪ :‬لماذا تحاول أن تعود دائمـا ً كئيبـا ً ‪ ،‬فتفقــد لــذة‬
‫الحياة ‪ ،‬تمتع يا بني واضحك ‪ ،‬وإال فإن باب الحانـة مفتـوح ‪ ،‬فـاخرج إن أردت "‪ ، 6‬ومـع أنـه انفتح في‬
‫آخر أمره ‪ ،‬حتى أصبح نعمان ككتاب مفتوح ‪ ،‬يقول نعمان ‪ " :‬لقد أدركت فجــأة أن الصــنعانيـ إنســان ‪،‬‬
‫ً ‪7‬‬
‫وإنسان عميق أيضا ‪ ،‬إنه يتحدث إلي اآلن دون تردد ‪ ،‬لقد أصبح كتابا ً مفتوحا ً وكتابا ً ضخما "‬
‫فإن انفتاحه وإفصاحه عن حقيقة مأساته لم يأت إال بعــد أن أدرك أن هــذه المأســاة تســكنه حــتى في حــال‬
‫هروبه وسكره ‪ ،‬وبعد أن استفز بكلمة أطلقها نعمان حين قـال لـه ‪ ":‬إن المشـكلة ليسـت بسـيطة ولكنهـا‬
‫‪8‬‬
‫تبدو لك أنت كذلك ‪ ،‬ألنك ال تعرف المشاكل ‪ ،‬وال تعرف في حياتك سوى األكل والنومـ والسكر"ـ‬
‫وتتجلى سلبية البحار ( علي الزغير ) وهو ثــالث الشخصــيات المهمــة في الروايــة ‪ ،‬والــذي نقــل إلينــا‬
‫المأساة التي تعيشها ( زبيد) مدينة العلم والعلماء ! ‪ ،‬في تمضية عمره هاربا ً خارج الــوطن ‪ ،‬مهــاجراً‬
‫بعيداً عما يعج به من مأساة ‪ ،‬فقد كان بحاراً فوقـ إحدى بواخرـ شركة إنجليزية ‪ ،‬غــاب عن بالده مــدة‬
‫عشر سنوات ‪ ،‬أي منذ أن كان في العشرين من عمره ‪ ،‬وعمل في موقد الباخرة الــتي أعطتــه بشــرته‬
‫السمراء الجميلة وقدـ زار خالل رحالته معظم بالد العالم "‪ ،9‬وهو عندما يعــود ال يعلم شــيئا َ عن أهلــه‬
‫ووطنه ‪ ،‬يحدثنا نعمان ‪ " :‬ولكن الذي عرفته منه ‪ ،‬أنه ال يعرف عن مشاكلنا الوطنية شيئا ً ‪ ،‬بل ابتســم‬
‫حين قال له الصنعاني ‪:‬‬
‫‪ -‬هل كنتم مجموعة فوق! الباخرة ؟‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪79‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪50،51‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪51‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪52،51‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪45،44‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪52‬‬
‫‪9‬نفسه ‪،‬ص ‪45‬‬
‫‪ -‬كال ‪ ،‬فأنا ال أحب اليمنيين ‪ ،‬وسألته ‪ ..‬لماذا ؟ وأجابني بقوله ‪:‬إن اليمني ‪ ،‬ال تستطيع! أن تعيش‬
‫معه ‪ ،‬ألنه س!!يجعل حي!!اتكم كلها جحيم!ا ً ‪ ،‬وهو س!!يخلق لك المش!!اكل من ال ش!!يء "‪ ،1‬ومع أنه‬
‫كان ذلك الرجل الذي ذهب إلى زبيد ليطلب العلم قبل أن يه!!اجر ‪ ،‬لكنه وبعد عش!!رين س!!نة من‬
‫هجرته عاد ولم تقدم الغربة له شيئا ً ح!!تى الق!!راءة والكتابة ال يجي!!دها ‪ ،‬يق!!ول الص!!نعاني! ‪ ":‬إن‬
‫اإلنسان وخاصة من ذهبوا إلى الخارج يجدون هناك فرصاَ! كثيرة لكي يعمل!!وا ولكن انظر إلى‬
‫هذا ‪ ،‬وأشار إلى البح!!ار ‪،‬إنع ع!!اد دون أن يفه ش!!يئا ‪ ،‬إن ذلك يظه!!رمن أحاديثه ‪ ،‬ومن تقاس!!يم‬
‫وجهه ‪ ،‬وابتسم البحار ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬ال تظلمني! يا صديقي ‪ ...‬فأنا ال أعرف القراءة والكتابة ‪ ،‬حتى أتابع الحركة "‬

‫وسيف أخو نعمان ال يختلف في ضياعه عن اآلخ!رين ‪ ،‬فهو يتن!افس مع أخيه ليف!وز بع!اهرة ‪،‬‬
‫وهو صديق! الصنعاني! الذي يقضي معه أيامه في السقوط ‪ ،‬يقول نعمان عن الص!!نعاني! ‪ " :‬إنه‬
‫اآلن ينافقني! وأظن أن بينه وبين أخي سيف س!!وء تف!اهم ‪ ،‬ألنه يمت!دحني! كث!!يراً ‪ ،‬وأنت تع!!رف‬
‫موقفه من قض!!!يتنا! أنا وأخي ‪ ،‬وأنه ك!!!ان من ال!!!واقفين في ص!!!فه ‪ ،‬ألنه أحد أف!!!راد مجموعة‬
‫( سيف) التي تقضي س!!هراتها! الحم!!راء في ( السيس!!بان) عند فاطمة ‪ ،‬خاصة بعد أن اختطفها‬
‫أخي مني ‪ ،‬آه كلما تذكرت ذلك التهبت نفسي ‪ ،‬لقد ه!!زمت في تلك المعركة ال لش!!يء ‪ ،‬إال ألن‬
‫أخي كان يملك مبلغا ً من المال لم أملكه أنا "‪، 3‬‬

‫وهو شخص متخل عن أسرته ‪ ،‬متنصل عن مشكالتها التي تعانيها في قريتها ‪ ،‬يق!!ول نعم!!ان ‪،‬‬
‫لقد أخبرني! محمد مقبل " بأن أخي سيف أصبح هذه األيام ال يذهب إلى العمل كثيراً ‪ ،‬ح!!تى أنه‬
‫قد يفصل ‪ ،‬وأن فاطمة قد اس!!تحوذت على كل ما يملك ‪ ،‬نق!!وده لها ‪ ،‬ش!!بابه لها ح!!تى مالبسه ‪،‬‬
‫وأخبرني! أنه ترك ( المقهاية) وسكن في منزلها ‪ ،‬لقد أصبح س!!بة ‪ ،‬أما زوجته فقد ع!!ادت م!!رة‬
‫أخرى إلى منزلنا بعد أن نفد كل ما كانت تملكه من حبوب ‪ ،‬عادت مع ابنها الصغير واس!!تقبلها‬
‫أبي بدموعه "‪ ، 4‬ثم يغ!!ادر في آخر أم!!ره هارب !ا ً ناف!!ذاً بجل!!ده إلى بالد النفط ‪ " :‬أخي (س!!يف)‬
‫كنت أود أن أراه هنا ولك!!!ني وص!!!لت مت!!!أخراَ ‪ ،‬فقد فصل عن عمله بس!!!بب إهماله وبس!!!بب‬
‫االضطرابات ولم يجد بدأ من أن يغادر ( عدن ) فسافر إلى ( جدة ) لعله يجد هناك حظا ً أسعد‬
‫‪5‬‬
‫"‬

‫وهذه هي حال معظم الشخصيات في هذه الرواية ‪ ،‬فهي أما شخصيات أفنت ش!!بابها في الغربة‬
‫‪ ،‬ثم ع!!ادت في أخري!!ات أيامها مثل البح!!ار ‪ ،‬ووالد! نعم!!ان ‪ ،‬ال!!ذي ع!!اد من هجرته ض!!عيفا ً‬
‫محطما ً بعد أن استنفذ كل شبابه وطاقته في بالد اآلخرين ‪ ،‬يحدثنا نعم!!ان فيق!!ول ‪ ":‬أما وال!!دي‬
‫فقد أصبح المسكين ال يستطيع! التحدث معي ‪ ،‬إنني أرثي لحالة هذا اإلنسان القوي الجبار ال!!ذي‬
‫‪1‬نفسه ‪ ،‬ص‪53‬‬
‫‪2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق‪ ،‬ص‪54‬‬
‫‪3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪55‬‬
‫‪4‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ 5‬المنفسه ‪ ،‬ص‪25‬‬
‫م!!ارس حي!!اة عنيفة في بالد اآلخ!!رين حين ك!!ان في الخ!!ارج ‪ ،‬أص!!بح الي!!وم إنس!!انا ً محطم!ا ً ال‬
‫يستطيع تقويم حياته هو وحده "‪ 1‬ومحمد مقبل الذي أصبح اليوم يعيش في منزل نعم!!ان ‪ ،‬بعد‬
‫أن لم يتبق له أحد من أهله " بعد أن م!!اتت زوجته وهو في الح!!رب وه!!اجر ابنه الوحيد بحث!!ا ً‬
‫عنه ولم يعد ‪ ،‬واستولت! الحكومة باسم الوقف على كل أمالكه ‪ ،‬أما داره فقد ته!!دم "‪ ، 2‬ومعظم‬
‫شيوخ القرية ‪.‬‬

‫أو هي اآلن في الهجرة مثل صديق! نعمان وأخيه س!!يف وزوج فت!!اة الجبل الس!!مراء ‪ ،‬ومعظم‬
‫شباب القرية ‪ ، ،‬أو هي شخصيات تفكر في الهجرة مثل نعمان ‪.‬‬

‫والفقيه في صحن المسجد في زبيد الذي على ما يبدو كان معلما للقرآن ‪ ،‬ثم امتهن مهنة أخرى‬
‫تناسب األوضاع المقلوبة التي يعيشها الوطن ‪ ،‬فقد كان يغيب كثيراً عن الم!!نزل ‪ ،‬ألنه ي!!ذهب‬
‫إلى منزل الحاكم وغيره من رج!!ال الحكومة حيث يس!!ليهم بأحاديثه وحكاياته عن األق!!دمين ‪،‬‬
‫وهوي!!دعي العمى م!!بررا ذلك بقناعته ‪ " :‬عن!!دما تعيش يا ب!!ني مع أن!!اس أعمى هللا بص!!ائرهم‬
‫يعيش!!ون في الفسق والفج!!ور‪ ،‬وي!!دعون أنهم أتقي!!اء ‪ ،‬البد وأن تعمى بص!!رك! ح!!تى ال تكشف‬
‫‪3‬‬
‫حقيقتهم لتستطيع أن تعيش "‬

‫وأهالي زبيد هم أيضا أناس خاملون جاهلون قــذرواـ الخلقــة مهلهلــو المالبس " ينــامون وقــد ارتســمت‬
‫على شفاههم بسمات سعيدة ‪ ،‬وهم ال يعملون وحياتهم تســريـ بين النــوم واألكــل والــذهاب إلى مســجد‬
‫مــدينتهم الكبــير ثم يعــودون لينــاموا ‪ ،‬وال تســتطيعـ أن تحــدد أين ينــام النــاس ‪ ،‬ففي كــل مكــان تــراهم‬
‫متمددين داخل األسواقـ ذات الشوارع الحجرية ‪ ،‬والدكاكين المبنية من حجارة متراكبة فوق بعضها‬
‫بــدون تماســك ومن ســعف النخيــل أو في المقــاهي حيث الســرر الخشــبية المربوطــة بحبــال بــدالً من‬
‫الكراسي في المساجد وداخل البيوت أو على أسطحها ‪ ،‬وفي دارتها ‪ ،‬وفي كل مكان في المدينــة تــرى‬
‫الناس ينامون ويأكلون ويصلون ‪ ،‬وفي كل مكان تـرى النـاس عرايـا إال من مـئزر أبيض إلى الـركب‬
‫وقلنسوة مصنوعة من األلياف "‪ ، 4‬ومعظمهمـ يعتاش من الصدقاتـ على الموتىـ في المقابر والمســاجد‬
‫‪ ،‬وهم متعايشونـ مع هؤالء الموتى حتى أنهم أحيانا يقيمون بعض احتفاالتهم في المقـابر ‪ ،‬ففي" الليـل‬
‫أو في النهار ينام الناس ويأكلون ويصلونـ فــوق المقــابر ‪ ،‬بــل إن المقــابر تشــهد في فــترات من الســنة‬
‫أعيادا يشترك فيها الجميع ويجدون فيها المأكل والمشربـ ‪ ،‬ثم في النهاية يصــلون على روح من كــان‬
‫السبب في إحياء ذلك الحفل "‪ ، 5‬وهم صامتون حتى يشك المرء أنهم فقدوا القدرة على الكالم ‪. 6‬‬
‫أما النساء الالئي يظهرن في الرواية فجميعهن ضحايا هذا الواقع بمعطياته الزمانيــة والمكانيــة ‪ ،‬وهن‬
‫يستحققن العطف والرثاء ‪ ،‬ف (هند) تلك الفتاة التي أشعلت قلب نعمان حبا ً قد عادت عوداً يابسا ً بفعــل‬

‫‪ 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪39‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪10‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪25‬‬
‫?‬
‫‪ 3 4‬المرجع نفسه ‪،‬ص‬
‫?‬
‫‪4 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ 56‬نفسه ‪ ،‬ص‪58‬‬
‫المهام الثقيلة التي تؤديها بين رعاية األرض والــدار ووالــديـ نعمــان في القريــة اللــذين غــدت بالنســبة‬
‫إليهما أكثر فائدة من ابنيهما ‪. 1‬‬
‫يحدثنا نعمان قائالً ‪ ":‬إنني أعرف أن حبنا القديم لن يعود إلى الحيــاة ‪ ،‬ألنــه مــات بعــد زواجنـاـ ‪ ،‬ألنــه‬
‫كان مجرد رغبة عابرة انتهت ‪ ،‬إن الزواج والحب في بالدنا ليسـا سـوىـ مجـرد لعبـة الرجــل بــالمرأة‬
‫التي ليست سوى خادمة لألرض والبيت والزوج ‪ ،‬إنها مجرد زهرة تتفتح قليالً ثم تموت حين ينهكها‬
‫العمل ‪ ،‬وكذلك زوجتي كــانت ناضــرة كزهــرة ‪ ،‬فأصــبحت اآلن عــوداً يابسـا ً وأصــبحت رغم أنهــا لم‬
‫‪2‬‬
‫تتجاوز الخامسة والعشرين عجوزاً كأنها على أبواب قبرها ‪ ،‬إنها منهكة مريضة "‬
‫وهي صابرة وتعمل بصمت ‪ ،‬وكأن ما يجرى عليها هو ناموس قدريـ ليس لها أن تتبرم منه ‪ ،‬ومهمــا‬
‫فعل زوجهاـ هي راضية ومحبة ‪ ،‬وبابتسامتها تحيل كل شيء كئيب إلى جميل "‪ " 3‬البــد وأنهــا مــاتت‬
‫وهي تشكو من الجوع ‪ ،‬إنها تتحمل كل شيء من أجل سعادة اآلخرين ‪ ،‬كم كانت صموته ‪ ،‬التتحــدث‬
‫كثيراً ‪ ،‬ولكنهاـ تبتسم وال تتألم وال تشكو ‪ ،‬كانت في المنزل ‪ ،‬وكأنهــا ليســت موجـودة ‪ ،‬دون صــوت ‪،‬‬
‫دون ضجة ‪ ،‬حتى عندما نخلو كانت هادئة دائما ً ‪.:‬‬
‫هل أنت سعيدة ؟ فتهز رأسها ‪ ...‬كال‬
‫هل تشكين من شيء ؟ فتهز رأسهاـ ‪ ...‬كال‬
‫هل تردين شيئا ً ؟ فتهز رأسها ‪ ...‬كال‬
‫كانت تعمل في صمت‪ ،‬وتنام في صمت‪ ،‬وتبتسمـ في صمت‪ ،‬كانت مثل أرضــنا شــابة وخطهــا الشــيب‬
‫سريعا ً ‪ ،‬ولكنها تعمل في هدوء وصمت وال تتألم وال تشكو ‪ ،‬ولكنها تبتســم وتعمــل وتنتج بال توقــف ‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫وبال امتنان "‬
‫لكن هند التي كانت أما حتى للحجارة ‪ 5‬لم تمت ميتة صامتة ‪ ،‬بل كــانت وهي تمــوت تحــاول إن تبــدع‬
‫عملية خلق ‪ " :‬كانت مسرورة أنها ستلد ‪ ،‬وكانت تقول لي دائما ً إنها تتمنى أن تلد ( ولداً ) يكون مثلي‬
‫قويا ً ‪ ،‬وسيما ً ‪ ،‬ثم يموت كل ذلك التوقدـ والقوة الخارقة "‪ ".......‬كل ذلك النشاط يموت إنني ال أصــدق‬
‫ً ‪6‬‬
‫مطلقا "‬
‫ومع كل ذاك الصبر والعطاء لم تلق من زوجها ( نعمان ) إال اإلهمال والنكران ‪ ،‬يـؤنب نعمـان نفســه‬
‫فيقول ‪ " :‬يا الهي أكثر من عشر ساعات وهي ميتة في جيبي ‪ ،‬آه لقد ثبتت الحقيقة إنني ال أحبها أثنــاء‬
‫حياتها أو بعد موتها ‪ ،‬لقد ماتت ولكنها كانت تقــوم حــتى أثنــاء موتهــا بعمليــة خلــق كعملياتهــا الخالقــة‬
‫‪7‬‬
‫طول حياتها ‪ ،‬ولكن هذه العملية أدت إلى هزيمتها ألول مرة "‬

‫‪-6 1‬نفسه ‪ ،‬ص‪57‬‬


‫‪ 12‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪18 ،‬‬
‫‪2 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪30‬‬
‫‪ 34‬المرجع نفسه ‪74‬‬
‫‪45‬نفسه ‪ ،‬ص‪75‬‬
‫‪ 56‬نفسه ‪ ،‬ص‪71‬‬
‫‪ 7‬نفسه ص‪72‬‬
‫وفتاة الجبل السمراء ‪ ،‬في العشرين من عمرهــا ‪ ،‬ســمراء بلــون األرض الــتي تعيش فوقهـاـ ‪ ،‬ذات‬
‫شعرأسودـ كالليل ‪ ،‬وأنف مدبب حاد ‪ ،‬عليه سيماء الحزن الذي ترسله عيناها السوداوان الكبيرتــان‬
‫ذات الشــعاع الالمتنــاهي من الحنــان والرقــة ‪ ،‬وهنــاك شــفتاها الصــارمتان والرقيقتــان معـا ً ‪ ،‬أمــا‬
‫قوامها فال أستطيع تحديداً له ‪ ،‬إال أنه جميل ‪ ،‬رائع ‪ ،‬تحت ثوبهــا األســود الحــزين كحياتهــا ‪ ،‬هي‬
‫أيضا ضحية إهمال زوجهاـ الذي هاجر منذ أربع سنوات ‪ ،‬وال تعلم حتى مكانه ‪ ،‬يسألها نعمان ‪:‬‬
‫"‪ -‬متى يعود زوجكـ ؟ وخفضت وجهها نحو األرض ‪ ،‬وهي تجيب ‪:‬‬
‫‪-‬ال أدري‬
‫‪-‬أال يكتب لك ؟‬
‫‪-‬كال‬
‫‪ -‬أال تكتبين له ؟‬
‫‪-‬إنني ال أعرف أين هو حتى أكتب له ‪.‬‬
‫‪-‬ومن أين تأتيك المصاريف إذن ؟‬
‫‪-‬يرسل أخي لي أحيانا بعض النقود‬
‫‪-‬البد إذن أن حياتك صعبة نوعا ً ما ؟‬
‫‪-‬وابتسمتـ ‪ ...‬لماذا تظن ذلك ؟‬
‫وهززت كتفي دون أن أجيب ‪ ،‬واستمرتـ تنظر إلى األرض ‪ ،‬وتابعت ‪:‬‬
‫‪-‬إن حياتي ليست صعبة ‪ ،‬فأنا أعمل في األرض وفي البيت ‪ ،‬وأجد لقمة العيش دائمـا ً كــذلك أجــد‬
‫مالبسي من أخي أو من والدي ‪ ،‬أما زوجيـ فأنا لم أعد أهتم به ‪ ،‬ألنه ال يهتم بي ‪.‬‬
‫‪-‬لماذا ال تطلبين الطالق ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪-‬إن ذلك ليس بسيطاً‪ ،‬ألن األمر ليس في يدي‪ ،‬وهو ليس بالبساطة التي قد تتخيلها‬
‫وفي آخر األمر تلق حتفها مدفونة تحت حجارة الدار الذي هدمته الســيل على رؤوس أهلــه ‪ ":‬لقــد‬
‫‪2‬‬
‫ماتت ويا ليت موتها كان موتا ً عاديا ً ‪ ،‬بل لقد سلبها الموت أجمل ما فيها ‪ ،‬جمالها يا صديقي "‬
‫‪3‬‬
‫ووالدة نعمان عجوزة محطمة تعيش على هامش الحياة ونعمان يخاف عليها أن تفقد بصرهاـ‬
‫أما زينب فهي أيضا ضحية ‪ ،‬ألقت بها الظروف إلى مصــيرها البــائس ‪ ":‬إنهــا جميلــة نوعـا ً مــا ‪ ،‬في‬
‫الخامسة عشرة من عمرها ‪ ،‬لكنها الخريفـ ‪ ،‬ذات عيون ذابلة ‪ ،‬وشفاه صــفراء ميتــة ‪ ،‬وأنــف عــرف‬
‫‪4‬‬
‫رائحة الطين مراراً ‪ ،‬وأخيرا جسد تتمدد فوقه كل طبقات بالدنا ‪ ،‬وها أنذا آخذ دوريـ فوقه "‬
‫هكذا تظهر نساء البسطاء في الرواية يغلب عليهن الحزن ‪ ،‬وبعضهن يموت أو يسيطر عليه شــبح‬
‫الموت ‪.‬‬
‫باستثناء فاطمة التي تظهر في صورة امرأة لعوب تعبث بقلوب الرجال وتسلب أموالهم‪ ،‬فمن يدفع‬
‫‪5‬‬
‫أكثر يحظى بجسدها‪.‬‬
‫وعلى الجانب اآلخر ومن بين كل هذا البؤس والموت ‪ ،‬يطل مجتمـع مختلـف من النسـاء ‪ ،‬يـرفلن‬
‫في النعمة ‪ ،‬وتفوح منهن رائحة المتعة والحياة السـهلة " ‪ ،‬نســاء يشــبهن أولئــك اللــواتي التقينـاهن‬
‫قبالً في قصــر النــائب في روايــة ( الرهينــة ) كــامرأة العامــل الشــابة ‪ ،‬في الخامســة والعشــرين ‪،‬‬
‫‪11‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪23،22‬‬
‫‪22‬المرجع السابق ‪،‬ص‪32‬‬
‫‪ 33‬المرجع نفسه‪،‬ص ‪7‬‬
‫‪ 44‬نفسه ‪،‬ص‪77‬‬
‫‪5 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪24‬‬

‫‪139‬‬
‫تحاول اقتناص لحظة من المتعة مع البحــار ( علي الصــغير ) ‪ -‬الــذي جــاء ليعلمهــا وبقيــة النســاء‬
‫حفظ القرآن الكريم ‪ -‬خلسة من زوجهــا العجــوز ذي الســتين خريفـا ً ‪ ،‬وابنــة الحــاكم الجميلــة الــتي‬
‫تحاول نفس الفعـل ‪ ،‬يقـول (علي الزغـير) ‪ " :‬وتـرددتـ بعـد ذلـك على المـنزلين ‪ ،‬مـنزل العامـل‬
‫‪1‬‬
‫ومنزل الحاكم وفي كليهما كان لي سريرـ دافئ وامرأة تمنحني ما أشاء "‬
‫هكــذا حفلت هــذه الروايــة بعــدد من الشخصــياتـ يتســم أغلبهــا بالســلبية ‪ ،‬إذ هي تفقــد قــدرتها على‬
‫الصمود والمقاومة في أوضاع سياسية واجتماعية تفوق احتمالها ‪ ،‬وقد نجد ‪ -‬على نــدرة ‪ -‬بعض‬
‫هذه الشخصيات ال يزال يتحلى بروح المقاومــة واإليجابيــة منهــا ( الحــاج علي ) صــاحب المقهى‬
‫الذي ظل متمسكا ً بموقفــه الناصــح للشــباب بالمقاومــة وعــدم االستســالم ‪ ،‬وعــدم االكتفــاء بمجــرد‬
‫االنفعال ‪ ،‬فاخذ يحفزهم إلى ضرورة القيام بفعل ما ‪ ،‬وعندما سمع احتداد لصنعانيـ في حواره مع‬
‫( علي الزغير ) حين أخذ ينعته ومن معه ممن يهاجرون ‪ ،‬بأنهم السبب الرئيس في تــأخير قضــية‬
‫بلدهم الوطنية ‪ ،‬تدخل قائالً له ‪:‬‬
‫"‪ -‬وأنت ماهي األعمال التي قمت بها لوطنك ‪.‬‬
‫فأجبته * ‪ -‬أنه على األقل يشعر بأن عليه أن يعمل‬
‫‪ -‬ليس بالشــعورـ وحــده نســتطيع أن نخلص بالدنــا ‪ ،‬فأنــا منــذ عشــرين عامــا أمتلــك هــذه المقهى ‪،‬‬
‫ومرت علي الوجــوه الكثــيرة ‪ ،‬كلهــا كــانت تتحــدث أحيانــا ‪ ،‬وخاصــة عنــدما يــأكلون ( القــات ) ‪،‬‬
‫ويتحدثون يا بني عن الوطنيــة وعن بالدهم ‪ ،‬ولكــنيـ لم أر واحــداً منهم يحــاول أن يعمــل ‪ -‬فعالً ‪-‬‬
‫عمالً إيجابيـا ً لتحطيم الجمــود الــذي يســيطر على بالده ‪ ،‬نعم يــا نعمــان ليس شــعورناـ بــأن بالدنــا‬
‫‪2‬‬
‫مظلومة يكفي "‬
‫و ( محمد مقبل ) الذي يتمتع اآلن في القرية بطاقة إيجابية خالقة تدفع بنعمان إلى االســتغراب ‪":‬‬
‫إنه ينفعنا كثـيراً ‪ ،‬فهـو ال يسـأم العمـل مطلقـا ً ‪ ،‬إنـني ألعجب كيـف أسـتطاع أن يحبس هـذه القـوة‬
‫العملية الخالقة مدى عشر سنوات في ( عــدن ) بــدون عمــل ‪ ،‬إنــه يبتسـمـ كلمــا ســألته عن ذلــك ‪،‬‬
‫ويجيب قائالً ‪ ":‬نحن ال نعجز أبدا ‪ ....‬انظر إلى هذه القرية ‪ ،‬إن أجدادنا هم الذين حملوها إلى هنــا‬
‫في هذه المدرجات‪ ،‬وهي رغم السنين الطويلة ‪ ،‬ومازالت شابة تنتج كل عـام ‪ ،‬فلمـاذا تريـدنا نحن‬
‫‪3‬‬
‫أبناء هذه التربة أن نعجز"‬
‫وهو اليريد أن يترك القرية ويغادرها إلى عدن يــرد على ســؤال نعمــان قــائال ‪ ":‬كال إن المســجد‬
‫سيكون مكاني المفضل ‪ ،‬سأعمل وسأعيش وسأموت في هــذه القريــة ‪ ،‬لن أتركهــا بعــد اآلن ‪ ،‬لقــد‬
‫‪4‬‬
‫آمنت إن اإلنسان يجد الهدوء في آخر حياته "‬
‫وقد الحظ نعمان من حديثه " أن في صوته شيء جديد ‪ ...‬ينبئ عن الحزن واأللم ‪ ،‬كانت التجربة‬
‫‪5‬‬
‫التي يعيشها في القرية قاسية ‪ ،‬لكنها بالنسبة إليه كانت درسا ً ألنه أصبح أكثر جدية من ذي قبل "‬
‫ونسمع صوته يتردد على مسامع نعمان وهو في طريقه إلى عدن مغــادراً قريتــه ‪ " :‬عــد يانعمــان‬
‫‪6‬‬
‫وال تهرب ‪ ،‬سواء كنت في عدن أو في القرية ‪ ،‬فأنت تمارس المأساة "‬
‫وكما أشرنا في موضع سـابق من هـذه الدراسـة ‪ ،‬بـأن القصـة القصـيرة ‪ -‬بحكم بنيتهـا المركـزة ‪-‬‬
‫توجــه اهتمامهــا‪ -‬في بنــاء عالقــات شخصــياتهاـ مــع أماكنهــا الــتي تضــطربـ في داخلهــا ‪ -‬إلى‬
‫‪ 1 1‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪23‬‬
‫‪22‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪33‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪77‬‬
‫‪44‬نفسه ص‪24‬‬
‫‪5 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪65‬‬
‫‪66‬نفسه ‪ ،‬ص‪66‬‬

‫‪140‬‬
‫الوجدانات الداخلية لها ‪ ،‬فكـل مــايظهر من حركتهـاـ أو تفاعلهـا يصـب في طريــق هــدفها السـاعي‬
‫حثيثا ً عبر خط صارمـ اليقبل التزيد أو التلكؤ في اتجاه إجالء جوهرها العميق كشخصية إنســانية ‪،‬‬
‫أو في اتجاه الكشف عن المعنى اإلنساني العميق المتجلي عن تفاعلها في موقفها الذي تظهر فيه ‪.‬‬
‫فمن الشخصــيات من يحــاول قهــر نفســه كي تتكيــف مــع مكانهــا الــذي توجــد فيــه وتقبــل مســايرة‬
‫أوضاعه مهما كانت هذه األوضاع ‪ ،‬ومهما خسرت مــع محاولتهـاـ التكيــف من كرامتهــا وإرادتهــا‬
‫اإلنسانية ‪ ،‬فـ(حمادي الحــاج )‪ ،‬ومعــه بقيـة ســكان القريـة الــذين انسـحبواـ خـائفين وانصــرفوا عن‬
‫إكمال بناء بيت ( علي بن علي ) حينما علموا بتهديدات الشيخ له ‪،‬‬
‫في قصة ( العائد من البحر ) يعلم زيف وكذب ما يدعيه الشيخ وأعوانه ‪ ،‬لكنه يحاول إقنــاع (علي‬
‫بن علي ) بالخضــوع ألوامــره كونــه من يملــك الرعيــة أيض ـا ً ‪ ،‬فبعــد أن تــدخل ومعــه لفيــف من‬
‫القــرويين لفض الــنزاع بين علي بن علي والعســكري المرســل من الشــيخ يــدور بينهمــا الحــوار‬
‫التالي ‪:‬‬
‫"‪ -‬هل جننت يا ولدي ‪...‬؟‬
‫‪ -‬لم أجن‬
‫‪ -‬هل تريد جلب المصائب لنفسك ؟‬
‫‪ -‬دعك من الخوف يا عمي فما هو إال مجرد عسكري ( ضمرته ) وانتهىـ أمره ‪...‬‬
‫‪ -‬لست أعني العسكري ‪ ،‬وإنما أعني الشيخ ‪..‬‬
‫‪ -‬وماذا سيفعل الشيخ ؟‬
‫‪ -‬يا ولدي الشيخ يملـك نصـف هـذه األرض بمـا عليهـا من أشـياء ‪ ،‬حـتى الرعيـة هم ملـك‬
‫الشيخ يا ولدي ‪..‬‬
‫‪ -‬ولكنني لست من أمالكه ‪...‬‬
‫‪ -‬أعرف ذلك ولكنك تعيش فوقـ أرضه ‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أعيش على األرض التي عاش عليها أبي وجديـ ‪ ،‬إنها أرض هللا ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد عاش جدك على أرض يملكها جده وعاش أبوك على أرض يملكها أبوه ‪..‬‬
‫‪ -‬ولكنني لن أعيش مثلما عاشوا ويجب أن تفهم ذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬إذن بعنادك هذا ستجلب لنا الخراب والدمارـ وستحيل هذه القرية إلى بؤس وشقاء ‪.‬‬
‫‪ -‬أتخافونه إلى هذه الدرجة ؟‬
‫‪ -‬اسمع ياولديـ لقد كنت غائبا ً فترة طويلة ‪ ،‬أما نحن فعشناـ هنا ونعرفـ كل شيء ‪ ،‬فقم معي‬
‫أرض العسكري وسأتوجه معك إلى الشيخ ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬لن أذهب "‬
‫‪2‬‬
‫وحينما لم يستطيعـ إقناعه ‪ ،‬قال له بجزع " ‪ -‬انتهى األمر إذن ‪ ،‬فتحمل نتيجة عملك "‬
‫وحينما أفاد ( علي بن علي ) بأنه سيتحمل مسؤولية تصرفه ‪ ،‬قال لــه ‪ " :‬ولكنــك ســتجر علي‬
‫‪3‬‬
‫المشاكل والشيخ يترقب لي أدنى هفوة للبطش بي ‪" ...‬‬
‫وحينما خرجا ولم يجدا أحداً من العمال في أرض المبنى دار بينهما الحوار التالي ‪:‬‬
‫"‪ -‬هل رأيت ‪ ...‬لم يحضر أحد من عمالك ‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا ؟‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ص‪55،54‬‬


‫‪2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪55‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -‬ال تسلني ‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنيـ أسألك عن السبب‪.‬‬
‫‪ -‬ألنهم خافواـ ‪.‬‬
‫‪ -‬إلى هذه الدرجة ‪ ...‬يالكم من جبناء ‪ ...‬إلى هذه الدرجة !‬
‫‪ -‬ال تقل ذلك ‪ .‬إنك تحمل على كتفــك ســالح وعلى وســطكـ حزامـا ً مليئـا ً بالــذخيرة ‪ ،‬وخنجــراً‬
‫ذهبيا ً ‪ ،‬لكن هذا هو الواقع ‪.‬‬
‫‪ -‬دعك من ذلك‬
‫‪ -‬هذا هو الواقع ‪ ،‬وتأكد أن ذلك لن يفيدك في شيء ‪ ،‬فأنت وحيــد والشــيخ لديــه العشــرات من‬
‫أمثالك ‪ ،‬يحملون البنادق ويحتزمونـ بالذخيرة والخناجرـ المذهبة ‪.‬‬
‫‪ -‬الحق بجانبي يا عمي ‪.‬‬
‫وكأنما سئم حمادي الحاج كالمه ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع يا ولدي ‪ ...‬قم معي ونأخذ كبشا ً ونتوجه إلى دار الشيخ ‪.‬‬
‫‪ -‬لن أفعل ذلك ‪.‬‬
‫ً ‪1‬‬
‫‪ -‬اسمع مني ذلك ولن يضركـ شيئا "‬
‫وحينما اقترب موكب الشيخ ‪ ،‬ونزل الشيخ عن بغلته ‪ ،‬هــرول حمــادي الحــاج يقبــل ركبتيــه ‪،‬‬
‫فقال له الشيخ ‪ -" :‬وهل لديك يا حمادي بندقية مثلها؟‬
‫وبهت حماديـ الحاج لقول الشيخ فقال متلعثما ً ‪:‬‬
‫‪ -‬نحن رعيتك يا شيخنا ‪ ...‬وأنت حامينا ‪..‬‬
‫‪ -‬ولكني سمعت أن معك بندقية ‪...‬‬
‫‪ -‬ومن أين لي المال لذلك ‪..‬‬
‫‪ -‬من صهرك علي بن علي ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬ولكننا رعية ال نحمل السالح يا شيخنا "‬
‫ومنها من يحاول المقاومة ‪ ،‬ورفض قيم المكان السلبية التي ترسخت فيه ‪ ،‬متدرجاًـ في رفضه‬
‫عــبر المحاولــة المتعقلــة في إقنــاع النــاس ‪ ،‬وإجالء الحقيقــة أمــام أعينهم ‪ ،‬غــير أن صــعوبة‬
‫أوضاع الواقع قد ال تهيئ أحيانا ً لنجاح هذا األسلوب ‪ ،‬ومن هنا قد تلجــأ الشخصــية إلى إعالن‬
‫التمــرد الصــارخ ‪ ،‬واالنفجــارـ بثــورة عارمــة في وجــه الظــالم المســتبد ‪ ،‬كمــا انتهت الى ذلــك‬
‫شخصــية ( علي بن علي ) في قصــة ( العائــد من البحــر ) حين اجتثت روح الشــيخ من على‬
‫وجه المكان بطلقة نارية مدوية سقط على إثرها مضرجا ً بدمه "‪. 3‬‬
‫ومنها من يحاول اجتياز صــعوباتـ المكــان المطبــق عليهــا بامتحاناتــه العســيرة وإن بمغــامرة‬
‫صعبة كالتي خاضها العم مسفر حين قــرر ومعــه أصـحابه هـادي وغــثيم وناصـرـ العـودة إلى‬
‫العمل والعسكريـ ‪ ،‬رغم صعوبة تنفيذ هذا القرار باألخص وأنه قد تجاوزـ الستين من عمره ‪،‬‬
‫وهو ما أثار استنكار زوجته ( عاتكة ) ‪ ،‬نقرأ فيما دار بينهما من حوار ‪:‬‬
‫" نعم ‪....‬أدري أننا هالكان ال محالة ‪ ...‬ولكن ما العمل ‪.‬‬
‫وقبل أن يسمع الجواب ‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت ال تتركين لي وقتاًـ للتفكير ‪.‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ص‪56‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪58‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪71‬‬

‫‪142‬‬
‫‪ -‬وأي وقت هذا الذي تريده ؟‬
‫‪ -‬كنت باألمس أفكر طيلة الليل ‪ ..‬وهذا الصباح ‪.‬‬
‫ومقاطعه بسخرية ‪:‬‬
‫‪ -‬أي تفكير هذا ‪ ...‬تفكر وأنت نائم ! ربما في والئم الدجاج والخبز الدافئ وفتة البرالناعمــة‬
‫و‪....‬و‪......‬‬
‫‪ -‬دعينا من الكالم الفارغ ‪ ...‬سنموت جوعا ً !‬
‫نباح كالب يتردد من بعيد ‪...‬‬
‫‪ -‬ستنهش جثثنا ً الكالب ‪ ،‬وأنت قابعة هنا تلوكين كالما ً فارغا ‪.‬‬
‫وهي بأصابعها قاع اإلناء وتمصمصهاـ ‪:‬‬
‫‪ -‬حسن ! إالم توصلت بعد هذا التفكير؟‬
‫أطرق هنيهة ثم رفع رأسه ‪ ،‬وعالمات الحزم في جبينه ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قررت أمراً وال بد لي من تنفيذه !‬
‫توقفت برهة وقبل أن تسبقه بالسؤال ‪ ،‬واصل ‪:‬‬
‫‪ -‬عزمت أن أعود إلى عملي ‪.‬‬
‫‪ -‬أي عمل تعنى ؟ أتقصد أن تعود للعسكري ؟‬
‫وأضافت بحنق وفتور ‪:‬‬
‫‪ -‬هيه بعد هذا العمر ‪ ..‬وفي حالك هذه ‪.‬‬
‫‪ -‬أجل وسأزورهاديـ وغثيم وناصر لينضمواـ معي ‪ ..‬وليس غير هــذا طريق ـا ً للنجــاة من الهالك‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫لكن العم مسفراً أص َّر على تنفيذ ما عزم عليه مما أوقعه في مشقة كبــيرة ‪ ،‬أســلمته في آخــر أمــره‬
‫إلى نهايته ‪.‬‬
‫ومن الشخصيات من يفضل الهرب ومغادرة المكان الذي ال يوفر لهــا الراحــة واألمــان ‪ ،‬بــل وقــد‬
‫يصل بها األمر إلى التنازل عنه كلية ‪ ،‬كمــا في قصــة ( خلــف الشــمس نحبس ) ‪ ،‬فحينمـاـ انســاقت‬
‫قدما ً الرجل في السائلة العظمى المتجهة إلى بالد أخرى ‪:‬‬
‫" صاح به أخوه ‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين أنت ذاهب ؟‬
‫‪ ( -‬عصب ) ‪! ....‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول ؟‬
‫‪ ..... -‬خيرة البنادر ‪...‬‬
‫‪ -‬أخذته الحيرة وقد ترك ( مفرسه ) وانتصبـ ثم صاح ‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين يا مجنون ‪...‬؟‬
‫‪ -‬قلت لك إلى ( عصب ) ‪...‬‬
‫‪ -‬وتتركنيـ ؟‬
‫‪ -‬ستجد غيري ‪!...‬‬
‫‪ -‬واألرض ‪ ...‬والبيت ‪ ...‬والبقرة والثورة ؟!‬
‫‪ -‬كلها لك ‪...‬‬

‫‪ 1‬زين السقاف ( العم مسفر ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪15،14‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ -‬و( الشريعة ) التي نحن مع ابن عمك القذر المشاغل لنا ‪...‬؟‬
‫‪ -‬سيحلها وكيل الشريعة ‪..‬‬
‫‪ -‬يريد ماالً مقابل ذلك ‪! ...‬‬
‫‪ -‬دبر له ذلك ‪...‬‬
‫ولم يجب ‪ ،‬وقدـ فكر قليالً ومسح العرق عن جبينه ‪ ..‬ثم اندفع إثره قائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬سأحسب عليك كل غرامته ‪...‬‬
‫‪ -‬قلت لك بأن األرض وكل شيء لك ‪!..‬‬
‫‪ -‬لم ( تبصر ) بذلك بوثيقة شرعية عند الفقيه ‪ ...‬؟!‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬ال تحتاج لكل هذا ‪ ،‬فقد تنازلت لك عن كل شيء ‪" ....‬‬
‫ومنهــا من يشــتد بــه اليــاس مــع عذاباتــه فــيرىـ أن خالصــه لن يتحقــق لــه في مكانــه طالمــا وأن‬
‫المشكالت التي تؤرق مكانه التزال ماثلة ‪ ،‬فهند التي هاجر زوجهاـ بعيداً حــتى يئسـت من عودتــه‬
‫في قصة ( قل له يزو قبري ) تقع فريسة المرض في قرية ليس بهــا طــبيب ‪ ،‬ويزيــد من معاناته ـاـ‬
‫مع مرضها ذلك األسلوب من العالج المتخلف ‪ ،‬الذي تتبعه مشعوذة عجوز استقدمها أبوها معتقداً‬
‫بقدراتها الخارقة على شفاء المرضى ‪ ،‬نسمعها تــودع قريتهــا وتتشــوقـ إلى حيــاة أخــرى في عـالم‬
‫الموت ‪ -":‬افتحوا فردتيـ الشباك ‪ ،‬أريد أن أرى المطر آلخر مرة ‪ ...‬أشم رائحة الــتراب ‪ ..‬أنظــر‬
‫إلى الجبل ‪ ،‬أكمة قريتي ‪ ...‬افتحواـ ‪.‬‬
‫فُتح الشباك وكانت آخر قطرات المطر تتساقط بتكاسل ‪ ،‬سقطت أشــعة شــمس الغــروب على ميــاه‬
‫السوائل المنحدرة ‪ ،‬فأحالتهاـ إلى ثعابين فضية ‪.‬‬
‫‪ -‬الحمد هلل ‪ ..‬هذه آخر رائحة للمطر تدخل أنفي بعرف التراب ‪ .‬قريبا ً سأحضن تــراب قريــتيـ ‪.‬‬
‫اسمع يا ولد ‪ .‬أنا ‪ ..‬خالص ذاهبة إلى عالم آخر ‪.‬‬
‫‪ -‬إلى أين ؟‬
‫‪ -‬إلى الجنة ‪ ..‬أو إلى النار ‪ ،‬ال أدري ‪ ،‬سأبحث هناك عنه ‪ ،‬سأجده ‪ ،‬سأقتل جميــع الحوريــات ‪،‬‬
‫سأفني المومسات ‪ ،‬سأمنعه عن الشراب من مياه األنهار ‪ ،‬سأكون له برداً من النـار ‪ ،‬سـأنزع‬
‫‪2‬‬
‫قلبي من موضعه واضعه في مكانه "‬
‫ومنهم من تتبرع بغلة بخالصة الذي كان ميؤوساًـ منه ‪ ،‬ففي ( ثورة بغلة ) نقرأ ‪:‬‬
‫" في القلعــة عشــنا حياتنــا ‪ ..‬نتجــول بين أزقتهــا كســجناء ‪ ،‬وبقيــود حديديــة ‪ ..‬وتمنعنـاـ عن العــالم‬
‫الخارجي بوابة منيعة ‪ ،‬وعساكر غالظ الوجوه والقلوب ‪ ..‬نحن سجناء بقيود حديدية ‪ ،‬والنادرـ منا‬
‫ال قيود له ‪!!..‬‬
‫وربما أن السجين العادي يرتأى له الخالص من قيوده باألمل ‪ ..‬أما نحن كرهائن في حوزة اإلمام‬
‫فال أمل لنا ‪ ...‬ولو وجد فهو أمل بعيــد ‪ ..‬ألن علينــا أن ننتظــر مولــوداًـ جديــداً يخلصــنا ويشــب عن‬
‫‪3‬‬
‫الطوق ‪ ..‬ليحل محلنا ‪ !!..‬أما أن يكون الرهينة وحيد أبويه فسجنه مؤبد ‪!.‬‬
‫فحين ثارت البغلة في الميدان ‪ ،‬وهاجت ناسفة بهيجانها كل الزيف القــائم فيــه ‪ ،‬وقلبت رأســه على‬
‫عقبه ‪ ،‬وجد الرهينة الفرصة سانحة للهرب ‪ ،‬كي ينعم باإلقامة مع أسرته مـدى الحيـاة ‪ " :‬وجـدت‬
‫نفسي خارج الميدان ‪ ،‬وما زالت صورة رئيس حرس قلعة القاهرة أمام وجهي ‪ ،‬فقد أصيب بركلة‬
‫مباركة من حوافرـ البغلة ‪ ..‬أخمدت أنفاسه إلى األبد ‪..‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الجسر ) مرجع سابق ص‪20،19‬‬


‫‪ 2‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪40،39‬‬
‫‪ 3‬زيد مطيع دماج ( العقرب ) مرجع سابق ص‪22‬‬

‫‪144‬‬
‫وشعرت بقدمي تقودني نحو وادي الحوبان ‪ ،‬وبين آكامه وعمقه وأثله ‪ ،‬أجري منطلقا ً وبال توقــف‬
‫‪1‬‬
‫مخلفا ً ورائي كارثة ال أستطيع شرحها ألفرادـ أسرتي الذين سأنعم في البقاء بينهم مدى الحياة "‬
‫ومنهم من يعبر عن قناعته ‪ -‬التي ترى بأن القاعدة الميكافيليــة ( الغايــة تــبرر الوســيلة ) يمكن أن‬
‫تصبح شرعة سليمة في مكان مطوقـ بالموت والمشانق مثل سجن الــرادع في قصــة ( الــذماريـ )‬
‫الذي تحفل غرفه وتزدحم ساحته بأناس أبرياء تم اقيــادهم إليـه ‪ ،‬والــزج بهم في دهـاليزه المرعبـة‬
‫بدون دليل يدينهم ‪ -‬بفعل يترجمـ به عن موقفـه الـرافض لمـا يجـري ‪ ،‬فالشـيخ في قصـة الـذماري‬
‫يقنع مدير السجن بالتدليس على العامل الجديد ‪ ،‬واستغالل جهله ‪ -‬حين أمر باإلفراج عن الذماريـ‬
‫الذي لم يكن متحققا ً من شخصيته ومن تهمته التي بنيت على باطل‪ -‬في إنقاذ صديقه الذماري من‬
‫سجنه تحت تهمة كان يعلم مقدار صعوبة نجاته فيها من سيف اإلمام ‪ ،‬فالذماري الذي كان قلقا من‬
‫قبول مراجعته لدى العامل الجديد ‪ ،‬يلح بالسؤال على الشــيخ ‪ ":‬وفيـ يــوم ألح على صــديقه الشــيخ‬
‫بسؤال المدير وكان ( المقيل ) قد تأخر قليالً لتأخر قات الشيخ الذي هدأت أعصابه حــال وصــول‬
‫رسوله بالقات ‪ ،‬فقال الشيخ مخاطبا ً المدير ‪ ،‬وقد قام بتوزيع هباته من القات كالمعتاد ‪:‬‬
‫‪ -‬هل وصلت إفادة بخصوص ( الذماري ) ‪...‬؟‬
‫‪ -‬وصلت ‪ ..‬وتفيد باإلفراجـ عنه ‪.‬‬
‫‪ -‬هزته الفرحة وهنأه الجميع ‪ ،‬ولكن المدير قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لكنها معلقة بشرط الضمان والكفالة عنه ‪ ...‬ومغادرة صنعاء نهائيا ً ‪.‬‬
‫قال الشيخ بحماس ظاهر ‪:‬‬
‫‪ -‬ال يهم ذلك فأنا على استعداد للضمانة والكفالة عليه وبمغادرته صنعاء فوراًـ‬
‫‪ -‬وهل تضمن عليه بأن ال يعود إلى توريدـ الحبوب إلى صنعاء أو االتجار بها ‪..‬‬
‫واندهش الجميع لذلك بينما قال المدير ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد دهشت أنا أيضا ً من شرط العامل ‪ ،‬ولذلك أخرتها لدي حتى نجيب على العامل بأن الرجــل‬
‫ال يورد الحبوب ‪ ،‬وإنما قضــيته تختلــف عن ذلــك ‪ ،‬واحتــار الــذماري لهــذا الموقــف المفــاجئ‬
‫العجيب ‪ ،‬وقد شعر أن أمنية الرجل الوقورـ ببقائه تكاد تتحقق ‪ ،‬فنظر إلى الشــيخ فوجــده يفكــر‬
‫مليا ً ‪ ،‬وفجأة قال مخاطباًـ المدير ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ضمنت وكفلت على الذماري بما هو مطلوب منه ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن‬
‫‪ -‬لكن إذا أرجعت اإلفادة إلى العامــل ‪ ..‬فأنــا على يقين بــأن الــذماريـ ســيعرقلـ مــرة أخــرى إلى‬
‫األبد ‪..‬‬
‫وأنتم تعرفــون قضـيته تمامـا ً ‪ ،‬فال داعي للعـرض مـرة أخــرى على العامـل ‪ ،‬فربمــا يكــون هنــاك‬
‫ذماري آخر يورد الحبوب في سوق الطعام ‪ ،‬قد عرضت قضيته صــدفة عنــد العامــل الجديــد عنــد‬
‫وصول شكية األخير ‪ ،‬فهذا من حسن حظ صاحبناـ ‪.‬‬
‫اقتنع المدير بذلك ونظرـ إلى الذماري الذي تملمــل بــألم لمغــادرة صــنعاء ‪ ،‬وقــد اقــترب من الشــيخ‬
‫وهمس له قائالً‪:‬‬
‫‪ -‬لكن ما السبب لمغادرتيـ صنعاء ؟‬
‫‪ -‬وما الفائدة لبقائك ؟‬
‫‪ -‬أريد أن أعمل ؟‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( العقرب ) مرجع سابق ص‪22‬‬

‫‪145‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬لقد نفذت بجلدك وال داعي لبقائك "‬
‫أما الذماري الذي رأى في شرط العامل مغادرته صنعاء ظلما ً كبيراً وإشعاراً له بغربتــه فيهمــا فال‬
‫زال يحاول مع صديقه الشيخ ‪ -‬الذي كان يـرى أن في خروجـة من صـنعاء نجـاة لـه ‪ -‬كي يقنعـه‬
‫ببقائه فيها ‪ ،‬وحينما علم الشيخ سر إصراره على عدم مغادرتها وضعف إدراكه لما هو محدق به‬
‫من شر فيها ‪ ،‬اختلق كذبه ‪ ،‬دفعت به إلى التسليم بقرار المغادرة ‪:‬‬
‫" قال له صديقه الشيخ وقدـ تهيأ للنوم ‪:‬‬
‫‪ -‬ال تبدو عليك مالمح السعادة لمغادرتكـ السجن صباحا ً‬
‫‪ -‬لقد آلمني األمر بالمغادرة من صنعاء وكأنني أجنبي ‪.‬‬
‫‪ -‬قد يكون ذلك خيراً لك ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن عشت فيها لحظات سعيدة ‪.‬‬
‫‪ -‬في السجن ‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ .........‬وإنما في سمسرة وردة "‪"...........‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع رشوة العساكر لكي يسمحواـ لي بالبقاء في صنعاء ؟‬
‫‪ -‬لقد رفضت أن ترشو العامل وكاتبه من قبل ‪..‬‬
‫‪ -‬كان ذلك موقفا ً آخر ‪..‬‬
‫‪ -‬واآلن‬
‫‪ -‬في سبيل الحب ‪ ..‬ثم ما الضرر من بقائي ‪..‬‬
‫‪ -‬لم تخبرنيـ من قبل عن حبك هذا فمن هي ؟‬
‫‪ ( -‬وردة ) يا عزيزي ‪ ( ...‬وردة ) أو لم تسمع بها ‪...‬‬
‫‪ -‬أسمع وأعرف ( سمسرة وردة ) فقط ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد ماتت منذ زمن بعيد‪"........." .‬‬
‫ونهض وقد رافقه نفران من الحرس لكي يصحبوه إلى خارج صنعاء ‪ ،‬فخرج معهما من البوابة‬
‫الخارجية ‪ ،‬وعاد كمن تذكر شيئا ً نسيه ونادىـ على صديقه الشيخ الذي ما زال واقفا ً على البوابة ‪:‬‬
‫‪ -‬أصحيح ما قلت مساء البارحة عن ( وردة ) ؟‬
‫‪ -‬وضحك الشيخ مودعا ً ‪ ،‬قائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما قلت لك صحيحا ً ‪ ،‬وإذا أحببت التأكد فاسأل العساكرـ المرافقين لك ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫والتفت نحو العساكر المرافقين له ‪ ،‬فنهروه بسرعة العزم ‪ ،‬فأذعن "‬
‫ومن الشخص!!!يات من يظهر تكيف!!!ا ً مع مكانة بكل ما يحويه ه!!!ذا المك!!!ان من مالمح الق!!!ذارة‬
‫والعفونة ‪ ،‬مثل ذلك العجوز اإلمامي الخرف ‪ ،‬الذي يستمر في قصة ( البش!!ارة ) في لعن قتلة‬
‫اإلمام من الدس!!توريين ‪ ،‬ويتش!!فى بهم ويبشر ب!!ذبحهم على يد اإلم!!ام الجديد ‪ ،‬وتكيفه ن!!ابع من‬
‫كونه شخصا ً مغيبا ً تماما ً عن الوقت ومصابا ً بزكام يعيقه عن التنفس ‪ ،‬وعيناه مرمودتان ال‬
‫تمكنانه من رؤية الحقيقة بوضوح! ‪ ،‬ووجه!ه المجدورال تزال آثار عهود الظالم ماثلة عليه ‪.‬‬
‫وإما دكانه فمالمحه تشابهه ‪ ،‬فهو دكان هرم كأنه مقبرة عتيقة ‪ ،‬خال من الزب!!ائن ‪ ،‬وبض!!ائعه‬
‫التي يغطيها الغبار ترقد! فيه بغير ترتيب ‪ ،‬وفي داخله صورة لإلمام قد علقت بمحاذاة ح!!زم‬
‫التبن وسم الف!!ئران ‪ ،‬وقد! غطى ونيم ال!!ذباب زجاجها ‪ ،‬وطمس العين!!يين منها والفم والعمامة ‪،‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ص‪129،128‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪130،129‬س‬

‫‪146‬‬
‫فبدت وكأن بثوراً! متقرحة ‪ ،‬قد انفجرت فيها ‪ ،‬وهو يقبع فيه طوال ال!!وقت ‪ ،‬ويس!!تظل بظالمه‬
‫هارب!!!ا ً من أش!!!عة الش!!!مس ‪ ،‬مس!!!تنكراً! كل محاولة تق!!!وم لزعزعة الموقف! الالبد على هرمه‬
‫ورتابته ‪ ،‬نسمعه يقول ‪ " :‬لقد أفسدت الكتب عقولكم أيها الشباب‪ ،‬م!!اذا اس!!تفاد الدس!!توريون ؟‬
‫ما هو اله!!!دف من انتفاضة طالب الم!!!دارس ضد جاللة موالنا اإلم!!!ام الق!!!ديم ؟ لم!!!اذا ه!!!ذه‬
‫الفوضى ال!!تي عمت البالد في اآلونة األخ!!يرة "‪ ".......‬إن س!!يف الوش!!اح بت!!ار‪ ،‬لقد ذاق لحم‬
‫‪1‬‬
‫رقاب أعداء اإلمامه‪ ،‬نصرهللا إمامنا الجديد "‬
‫ومنها من يعلن رفضه لكل المعطي!!ات القائمة في مكانه وبش!!كل ص!!ريح ‪ ،‬ك!!ذلك الش!!اب في‬
‫قصة ( البشارة ) الذي يرد على العجوز! اإلمامي حين يسأله ‪:‬‬
‫"‪ -‬قل لي ماذا تريدون بالتحديد! ؟‬
‫‪-‬‬ ‫‪ "2-‬ثاء ‪ ،‬واو ‪ ،‬راء ‪ ،‬هاء ‪ .....‬وأن تموت‬
‫ومن الشخص!يات من يجد نفسه مض!طراً! إلى الص!مود! في وجه مكانه الع!دائي ‪ ،‬المعلن لنوايا‬
‫الفتك وشرور الدمار ‪.‬‬
‫كما في قصة ( األطفال يشيبون عند الفجر ) حيث يطبق المك!!ان على الص!!بية الص!!غار كفكي‬
‫كماشة ‪ ،‬فعلى الربوة البرد القارس والجوع ‪ ،‬والرصاص المباغت والقذائف تنهال من جهات‬
‫غير معلومة ‪ ،‬وتحت الربوة امتداد للصمت المميت ‪ ،‬وكأنما هن!!اك اتف!!اق ض!!مني بينهما على‬
‫الفتك به!!ؤالء الص!!غار ‪ " :‬األعين ت!!دور بامتع!!اض على المدينة ال!!تي تقبع وراءهم ‪ ،‬الرب!!وة‬
‫تشرف على سهل والسهل أجرد أغبر ‪ ،‬ألوان الموت ‪ ،‬ال لون آخر للسهل ‪ ،‬كل ش!!يء أغ!!بر ‪،‬‬
‫الناس ‪ ،‬التراب ‪ ،‬الصخور ‪ ،‬الشجر القليل المتن!!اثر! ‪ ،‬العي!!ون تتع!!ود! على الظالم ‪ ،‬لكن ال!!برد‬
‫يجمد الرؤيا! ‪ ،‬ولكنه ال يبلد اإلحساس ‪ ،‬كانوا سبعة وضابط! ‪ ،‬كانوا نعم سبعة وضابط ‪ ،‬ولكن‬
‫‪3‬‬
‫الليل هز رأسه بهزء "‬
‫ومع أن الصبية قد أبدوا شجاعة نادرة في مواجهة موقفهم الصعب ‪ ،‬فإن ه!!ذه الش!!جاعة وذلك‬
‫الص!!مود! قد انتهى ب!!الموقف! إلى نهاية مأس!!اوية فيها ينتصر! المك!!ان وتنه!!زم! إرادة اإلنس!!ان‬
‫وتسحق رغبته في االنتصار ‪ " :‬الدماء بركة حمراء ‪ ،‬وكانت أيديهم على البنادق والم!!دافع ‪،‬‬
‫لم تكن هناك ذخيرة ‪ ،‬وغطى العدو وجهه وهو يشاهد األطفال أمامه ‪ ،‬فوق! شفتي يحيى حزن‬
‫مؤلم ألنه لم يقاتل ح!!تى ينهيهم ‪ ،‬وفي! ش!!فتي علي ابتس!!امة ألن أمه ك!!انت تس!!قيه كأسا من لبن‬
‫الغنم ‪ ،‬وإما الضابط! فقد كان فاتح!ا ً ذراعيه ينظر إلى الس!!ماء طالب!ا ً أن تحفظ أطفاله ال!!ذين هم‬
‫في مثل عم!!ره ‪ ،‬تجمع!!وا ح!!ول المك!!ان ولم يص!!دق! أحد ما ي!!راه ‪ ،‬ك!!انوا س!!بعة من األطف!!ال‬
‫وضابط! وقد! شابوا عند الفجر ‪ ،‬ومن يومها لم يمر الشفق فوق! بالدنا ‪.‬‬

‫ب) صــورة المكــان ‪ :‬في األعمــال الــتي اهتمت بــالواقع السياســي واالجتمــاعيـ بعــد ثــورة الشــمال‬
‫واستقالل الجنوب ‪.‬‬
‫وهذه أعمال تتجلى عن أمكنة مغايرة تماما ً لألمكنة التي ظهرت في األعمــال الــتي اهتمت بواقــع مــا‬
‫قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪ ،‬فحالة الركــود والمــوات الــتي كــانت تكتســح المكــان في الجــزء‬
‫الشمالي الواقع تحت ظلم اإلمامة ‪ ،‬قد تبدلت إلى نقيضها تماما ً ‪ ،‬حيث نشهد مكانـا ً مشــحوناًـ بالحركــة‬

‫‪ 1‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق ‪،‬ص‪63‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪63‬‬
‫‪ 3‬محمد عبد الولي ( شيء اسمه الحنين ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪97‬‬

‫‪147‬‬
‫الفوضوية يجري عليه ســباق محمــوم على المــال والجــاه والســلطة بين القــوى المختلفــة الــتي تســعى‬
‫لتقوية مراكزها عند هذه الفرصة الذهبية التي توفرها هــذه الفــترة الحرجــة من االنتقـال بين واقعين ‪،‬‬
‫واقع العزلة المطبقة ليس عن العالم فقـط وإنمــا بين القــرى وبعضــهاـ البعض ‪ ،‬وواقــع االنفتــاح غـير‬
‫المشروطـ على العالم شرقه وغربه ‪ ،‬والتي شهدت اضطرابا ً سياسيا ً وتغييراًـ مستمراً للحكومات التي‬
‫ذهب بعضها بانقالب عسكري ‪.‬‬
‫وحالة الحركة التجارية النشطة لميناء عدن ‪ ،‬وما أضفته من أثر على حياة سكان المدينة الــتي تــوفر‬
‫لهـا قـدر من التحضــر والمدنيـة وجــانب من الحريــة الـتي كـانت الدسـاتيرـ البريطانيـة تكفلهــا لســكان‬
‫المحميات ‪ ،‬إذا ما قورنت بما كان قائما ً في الشمال ‪ ،‬قد تبــدلت ‪ -‬أيضــا ‪ -‬إلى نقيضــها تحت ســيطرة‬
‫الحــزب الواحــد وتشــديدـ قبضــته على مــدن وقــرى الجنــوب كلــه ‪ ،‬فقــد ســعى هــذا الحــزب إلى تنفيــذ‬
‫مشروعه السياسيـ عبر نظام اقتصاديـ صارم ‪ ،‬كتأميم الممتلكــات الخاصــة ومنــع االســتيراد وحظـرـ‬
‫التبادل التجاري ‪ ،‬وفرض طوق مشدد على ذلك ‪ ،‬وحصرـ شأن النشاط االقتصاديـ ممارسته وإدارته‬
‫‪ -‬إن كان هناك نشــاط اقتصــادي ‪ -‬على الحكومــة وحــدها ‪ ،‬حــتى لم يعــد بإمكــان األفــراد والشــركات‬
‫الخاصة ممارسة أي نــوع من النشــاط االقتصــاديـ ‪ ،‬ممــا أدى إلى هجــرة أصــحاب رؤوس األمــوال‬
‫وركــود حركــة االقتصــاد ‪ ،‬واضــطرارـ حكومــة الحــزب إلى االعتمــاد على دعم الــدول االشــتراكية‬
‫واستهالك ما تبقى مما وفرته مصادر الثروة القديمة وامتصاصه حتى العظم ‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك كلــه ‪ ،‬فإنــه يمكننــا الوقــوف على صــورة المكــان بتفصــيالتها الموزعــة بين األعمــال‬
‫الروائية والقصصية التي نبدأها برواية ( وسام الشرفـ )‬
‫فالمكان السياسي في رواية ( وسام الشرف ) هو مدينتاـ صنعاء وعدن تحت واقع التشــطير ‪ ،‬وتشــكل‬
‫منه مدينة صنعاء المحتوى الرئيس لجريان الحدث الروائيـ ‪ ،‬فهي تظهر بأحيائها المختلفة كــالتحرير‬
‫وباب السباح وشارعـ اإلذاعة وخزيمة وشارعـ القيادة ‪ ،‬وحي بــئر العــزب ‪ ،‬والــدائريـ ‪ ،‬والحصــبة ‪،‬‬
‫أما مدينة عــدن فينحسـرـ ظهورهــا على بعض األحيــاء ‪ ،‬كحي خــور مكســر ‪ ،‬وحي التــواهي ‪ ،‬وحي‬
‫المعلى ‪ ،‬وحي القلوعة ‪ ،‬ومدرسة البادريـ ‪.‬‬
‫وتظهر ‪ -‬أيضا ‪ -‬بعض األماكن المغلفة التي تنتقل بينها الشخصــيات في مدينــة صــنعاء ‪ ،‬منهــا قهــوة‬
‫التيسير قرب مبنى السينما ‪ ،‬ونــادى التقــدم ومطعمـ السـعادة خلـف أرصـفة التحريــر ‪ ،‬ومحـل الــذهب‬
‫الخاص بكريم عاطف إحدى شخصــيات الروايــة ‪ ،‬وهنــاك مبــنى اإلذاعــة الــذي تــرددت عليــه بعض‬
‫الشخصيات ‪ ،‬وكذا دار اإلصالح السياسي وقصــر دار البشـائر الـذي تحـول إلى سـجن يـؤوي خلـف‬
‫جدرانه المعارضين ‪،‬وأما عن مالمح المكان الذي يطل علينا من خالل هذه الرواية ‪ ،‬فهي كالتالي ‪:‬‬
‫‪ ]1‬إنه مكان ترسخ فيه قواعد الشطرية بشكل غير مسبوقـ ‪ ،‬فلم يقتصر على مجرد الدعاية السياســية‬
‫لكل من النظامين المختلفين ‪ ،‬وإنما غدا هناك سعي حثيث إلى ترجمة ذلــك االختالف في التوجهــات‬
‫الفكرية والسياسية ترجمة فعلية ‪ ،‬عبر خلق واقع يحمل من مالمح االختالف والتباين أكثر مما يحمل‬
‫من مالمح االتفاق والتقارب ‪ ،‬فصنعاء يغلب عليها طابع التحول السريع والحركة المتواثبة التي تدفع‬
‫بها إلى حدود التبدل الكامل ‪ ،‬فعماراتـ تقوم فيها مــا بين غمضــة عين وانتباهتهـاـ ‪ ،‬وشــوارعـ تشــق ‪،‬‬
‫وأســواقـ تفتتح ومحالت تجاريــة بال حصــر أو عــد ‪ ،‬ومدينــة تنمــو كعمالق شــب من الفــراغ ‪ ،‬فأخــذ‬
‫يكتسح بخطواته العريضة مساحات األرض الزراعية ‪ ،‬ويدمر الخضرة والعشب ويحل محلها الحديد‬
‫واإلسمنت ‪ ،‬ف ( نور) الذي كان يمشي مع حورية بين األعشاب التي تفترش الساحة الشاسعة خلــف‬
‫المبنى العتيق لإلذاعة ‪ ،‬تستوقفه صفوف من العمارات الحديثة ‪ ،‬قد اكتسحت فجــأة مســاحات العشــب‬

‫‪148‬‬
‫األخضر ‪ ،‬كما تلفت انتباهه نتوءات الحفر التي تبرزـ في وقت الغروب كأفواه حيوانات خرافية ‪ ،‬فال‬
‫‪1‬‬
‫تفتأ تتسع لتلتهم ما تبقى من مساحات الخضرة والعشب "‬
‫كما تلحــظ على ســاحاتها وشــوارعها ‪ -‬الــتي تتســع كــل يــوم ‪ -‬حركــة العاصــمة الــتي تمــوج بالبشـرـ‬
‫المتزاحمين على طرقاتهاـ والقادمين من الريف في هجرات واسعة ‪ ،‬وأولئكـ الفارين من قسوة النظــام‬
‫الشمولي في الجنوب ‪ ،‬والقادمين من خارج الوطن من التجــار والمســتثمرين ‪ ،‬ممــا يــدفع إلى حركــة‬
‫ناشطة لتعمير المدينة بالمساكن والفنادقـ حتى " ال يمضي يوم واحد دون أن تكــون هنــاك عمــارة قــد‬
‫شطبت أو عمارة قيد الحفر والتأســيس ‪ ،‬ليواكبهــا فتح عــدد من الــدكاكين ‪ ،‬وانتصــابـ عــدد آخــر من‬
‫الفتات النيون المضيئة ‪ ..‬التي ستبدو معها بعد أشهر قهوة التيسيرـ ليست آخر حدودـ العاصمة ‪ ،‬وإنما‬
‫في قلبها ‪ ،‬وانسياقا ً مع ذلك ‪ ،‬فقد كانت حركة الوافدين والالجئين السياســيين والتجــارـ من الجنــوب‬
‫والقبائل الذين هجرواـ مزارعهم أو يهجرونها في ازدياد ‪ ...‬لتستقبل العاصمة مع إشــراقة كــل صــباح‬
‫فيها وفوداـ أخرى جديدة بعضهم لم يتسن له من زحف الوقت إزالة غبــار األرض من أقدامــه الحافيــة‬
‫‪2‬‬
‫"‬
‫كما ظهرت مسميات متعجلة للشوارعـ واألحياء ‪ ،‬ففي محاولة للحاق بحركة البناء والتوســع الســريع‪،‬‬
‫ذهبت بلدية العاصمة إلى إطالق األرقامـ كمسميات للشوارع واألحياء ‪ ،‬فهذا شارع ‪ ،21‬وذاك شارع‬
‫‪3‬‬
‫‪27‬وأخر ‪ 43‬و ‪ 45‬و ‪ 59‬وهكذا‪............‬‬
‫وفي المقابل عادت ( عدن ) تلك المدينة العصرية الحيـة الناشـطة بتجارتهــا وحركـة مينائهـا ‪ ،‬مدينـة‬
‫ترضخ ‪ -‬مابين جبالها الجرداء وبحرها الطافح عليها قيظا ً وملوحة ‪ -‬تحت حالة من الركودـ المميت ‪،‬‬
‫فالشوارعـ والمباني هي نفسها في أيام االستعمار لم يزد عليها شارع أو مبنى ‪ ،‬والنشاط التجاريـ شبه‬
‫متوقفـ بعد أن آل كل شيء ‪ ،‬من الممتلكات والمحالت والمساكن إلى ملكية الدولة بعد صدورـ قــانون‬
‫التأميم ‪ ،‬وتبعاًـ لذلك توقفـ البناء واإلعمار بعد أن نفر منهــا أبناؤهــا الــذين كــانت لهم أنشــطة تجاريــة‬
‫وأمالك واسعة فيها ‪ ،‬واستمرت تقتات على ما تم إنجازه في أيام االستعمارـ ‪ ،‬وهــذا مـا توقعــه الحـاج‬
‫المعسلي في حديثه إلى ولده ( نور ) حيث قال ‪ " :‬فلســت أنــا مــع اإلنجلــيز في كــل مــا يفعلــون ‪ ،‬وال‬
‫عندما يتدخلون في شؤون البلد ‪ ...‬فيما يعنيهم عمله ومــا يعــني األهــالي ‪ ...‬فهــذا التــدخل أنــا أكرهــه‪،‬‬
‫وأمقته من الرجل األجنبي‪ ،‬ولكن يظل لهؤالء النــاس فضــيلة واحــدة‪ ...‬إنهــا الحركــة ‪ ،‬العمــل اللــذين‬
‫أحيوا بهما هذه الجزيرة الهامدة‪ ...‬أما ماعدا هذا ‪ ...‬فال ‪ ،‬ولكن لهــؤالء ولكن ‪ ...‬ولكن ‪ ...‬كــان يشــدد‬
‫على الكلمات ‪ ،‬ولكن بالثالث كأنها الطالق ‪ ،‬ولكن صدقنيـ ‪ ،‬ليصدقني كل هــؤالء ّ‬
‫الصـيع الــذين ال‬
‫يفرقون بين حالوة العلم وبركة الحركة ‪ ،‬وبين بطالة المصطلحات التي يلوكونها اآلن كاللبان ‪ ...‬بأن‬
‫هؤالء األجانب‪ ،‬وليكونوا المستعمرينـ كما يحلوا لكم‪ ...‬إن تركوا هذه الجزيــرة فإنهــا ستصــبح خــواء‬
‫وخرابا "‪ ".......‬وتأمل شيئا ً ما بهـدوء كأنمـا يسـتقرئ نبـوءة أكيـدة في الغيب ‪ ..‬ثم نـزع نظراتـه من‬
‫الزجاج ضاحكاًـ ‪ " :‬طيب وربي أنا أقولها هكذا ‪ ،‬وربيـ ‪ ..‬إن رحل هؤالء اإلنجليز عن هــذه ( مدينــة‬
‫البراكين والصيدـ ) فلن يأكل الناس بعدها غير ‪ ..‬ظل يتخبـط بحثـا ً عن كلمـة مناسـبة بهـدوء "‪".......‬‬
‫‪4‬‬
‫فقال ‪ :‬نفايات المصافيـ "‬
‫‪ ]2‬إنه في الوقت الذي يتشكل مساحة خانقــة تحاصـرـ المناضـلين الحقيقين وترصــدهم وتتبــع خطـاهم‬
‫حتى تلقي بهم إلى الجنون أو الضياع في شوارعـ المــدن ‪ ،‬أو الغيــاب في دهــاليز الســجون وغيــاهيب‬
‫المعتقالت بما يجريـ فيهــا من عــذابات مرعبــة ‪ ،‬أو التخلص منهم بالتصــفيات الدمويــة الــتي تتم‪ -‬في‬
‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪127‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪128‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪41،40‬‬

‫‪149‬‬
‫األغلب‪ -‬بطرق سرية وغامضة ‪ ،‬ينجلي ملعبا ً يرتع فيه المتمصلحونـ ويمرح على سـاحاته المـدعون‬
‫الزائفون من مجيدي اقتناص الفرص من رجال السياسة وأصحاب الوجاهات والمناصب الرفيعة في‬
‫الدولة ‪ ،‬ومراكز القوى القبلية والمشيخية والعســكرية ‪ ،‬فقصـرـ البشــائر الــذي قــامت الثــورة على من‬
‫كانوا فيه ‪ ،‬قد أصبح سجنا ً يــترددـ على زنزاناتــه الضــيقة المناضــلون الثوريــون بين الحين واآلخــر ‪،‬‬
‫وهذا ( نور ) يثير اقتياده إلى هذا القصر بتهمة االشتباه غير المبرر جدل المقارنــة الــذي يــذكي روح‬
‫المفارقة ‪ ،‬عند المقابلة بين بركته بمحيطها الدائريـ ومائها اآلسن اليوم وما كانت عليه في عهــد آخــر‬
‫األئمة الطغاة فقد تصور " بأن ماءهــا كــان صــافياًـ وعــذبا ً ‪ ،‬وعلى حوافهــا رتــل من أطفــال الطاغيــة‬
‫وفوقـ نوافيرهاـ أسراب من الطيور والحمامـ ‪ ..‬وربما أحاطت بالحواف شتالت من الزهورـ واألشجار‬
‫والخضرة ‪ ...‬ظل األطفال يلعبون ويصهبون بشقاوة بينها لتسخين أجســادهمـ ‪ ...‬ثم يغطســون في قلب‬
‫مياهها الصافية بمرح ‪ ...‬أليس ذلك جــزءا من فــردوس هللا المصــغرـ على األرض ! فتــأتيـ الثــورة ‪..‬‬
‫الثورة نفسها التي دافع عنها هو وسقط من أجلها البصير وحــزامـ اليعــربي وأطفــال وصــبية من البلــد‬
‫‪1‬‬
‫كثر لتلغي هذا الفردوس األمامي !؟ وتستبدله بفردوس استبداد أشد ! "‬
‫وهذا أحد اللصوص الذين ينظرون إلى الوطن من زاوية كونه مجموعة من اإلقطاعيات يســتثمرونها‬
‫ليحققوا بها مصالحهم األنانيــة الضــيقة ‪ ،‬لكنهم يتشــدقون بالوطنيــة كي يمــررواـ أطمــاعهم عــبر ســبل‬
‫يدعون فيها خدمة الوطن وحمايته يقول في تحذلق ألحد المناضلين الوطــنين ويــدعى رفيــق ‪ " :‬نحن‬
‫في الحقيقة وطنيين منذ نعومة أظفارنا ‪ ،‬ألننا قد تربينا في وحدة الكفاح ضــد اإلنجلــيز ‪ ،‬ونحن اليــوم‬
‫بعد أن شاءت أقدارناـ أن نكــون هنــا ‪ ،‬ولكننــا في الحقيقــة لســنا مــع " س" من النــاس وال مــع " ص"‬
‫وإنما هذا الوطن في الشمال والجنوب ‪ ...‬جنود ‪ ....‬جنود يا رفيق ‪ ...‬لذلك فإنا سنتوجه أينمــا يــدعونا‬
‫لحمايــة ســيادته ومجــده وليس من شــيء غــير ذلــك "‪ ، 2‬ويســتمر في التــذمر من أوضــاع الفســاد‬
‫والمفسدين حتى علق رفيقـ بقولة ‪ " :‬يا نور هذا بهيج ‪ ....‬بهيج حقيقي ‪ .....‬وليس باالسمـ فقط ‪ ،‬تــرى‬
‫‪3‬‬
‫هو يتحدث بكل هذا وهو أكبر ‪ -‬طبعا ً ما دون الكبار‪ -‬لص في البلد "‬
‫‪ ]3‬إن المكــان الــذي يكشــف عن حــال من تنــاقض المســار بين سياســة تقــود إلى الجمــود والركــود‬
‫االقتصاديـ ‪ ،‬يكشف ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن مستوى آخـر من حـال التبـدل الـداخلي الـذي تشـهده مـدن الشـمال‬
‫ومدن الجنوب كل على حده ‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي كانت صنعاء تسلخ جلدها وتبدل مالمحها متأهبة في اتجــاه طريـقـ الــثروة والمــال ‪،‬‬
‫فتظهر مدينة مجللة باألضواء والبهرجة والصخب ‪ ،‬وهذا ( نور ) يسير في شارع القيــادة فترشــق "‬
‫عيونه األضواء الملونة والثريات المضيئة ‪ ...‬لقد كان الشارع كأنه الظهر بأضوائه رغم إن الــوقت‬
‫ليالً ‪ ،‬لم يفطن بأن تلك األضواء والحركة الكثيفة ‪ ،‬كأنما عرس في الشارع بأنه سبتمبر ‪ ...‬إال عندما‬
‫رأى طوابير السيارات لنقل النســاء واألطفــال المــرحين وســطها ‪ ..‬إذ اعتــادوا على ذلــك كــل عــام ‪.‬‬
‫وحين اقترب من التحريرـ في طريقه إلى مطعم السعادة ‪ ،‬لم يستطع أن يشق طريقه ما بين الزحام إال‬
‫بصعوبة ‪ ،‬لقد كان الناس والسيارات ‪ ..‬الطبول وحلقات الرقص وحديدـ وأخشاب المنصة المتنــاثرة ‪،‬‬
‫وشموع الذكرىـ المعدة مسبقا ً ‪ 4"...‬وهو يصف لنا نشاط الحركة التجاريــة في مدينــة صــنعاء فيوقفنـاـ‬
‫على محالت جديدة تفتح ‪ ،‬ومســتويات لألجهــزة المنزليــة من أحــدث مــوديالت المصــانع العالميــة ‪،‬‬
‫وأسواقـ جديدة ‪ ،‬لبيع الفواكه والخضارـ ومدارس تبنى ومستوصفاتـ ‪ ،‬وحافالتـ ووسائل مواصــالت‬
‫جديدة ‪ ،‬ومرافقـ للخدمات العامة كالكهرباءـ والجمارك والضرائبـ و " فاتريناتـ الدعاية واإلعالنــات‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪229‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪217‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪217‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪137‬‬

‫‪150‬‬
‫‪ ،‬منها ماهو على نسيج الفاترينات القديمة ‪ ،‬ومنهاـ ما هو جديد باألضــواءـ والبلونــات الملونــة الــتي لم‬
‫يرهــا ســكان المدينــة من قبــل ‪ ..‬فاترينــات قديمــة تعلن عن مــواد المعيشــة والبقــاالت والمســتودعات‬
‫والغذاء ‪ ،‬وأخرىـ نيون ملون لأليسكريمـ وماء الصحة والبســكويت والمليم والزبــادي اللبن واألكيــاس‬
‫‪1‬‬
‫التي تطيرهاـ غضبات الرياح المتناوبة على العاصمة "‬
‫كانت عدن تبدل مالمحها في اتجاه آخر ‪ ،‬تظهر خالله مدينــة مســكونة بيوتهــا وشــوارعها بالصــبر ‪،‬‬
‫تنظر وقد أخرسها القمع إلى مسار حياتها الذي تسيره سياسة حزب يتفرد ويســتحكمـ ‪ ،‬وتتجــه بــه في‬
‫طريق مرسومـ نحو التراجع إلى مصير الفقر والكفاف ‪.‬‬
‫وهذا محبوب المعسلي ملك البن واللبان والعسل الذي تبدل كـل شــيء فيــه " لقـد كـان كــل عضـو في‬
‫جسده مذل وممتهن ‪ ،‬وبائس أشد ما يكون البؤس ‪ ،‬وحتىـ صــوته الــذي كــان آمــراً على الــدوام وفتيـآـ‬
‫بهت هو اآلخر "‪ 2‬يضطره الوضــع الجديــد الــذي أدى إلى فقــره بعــد كســاد تجارتــه وتــأميمـ عماراتــه‬
‫الثالث في حي المعلى ‪ -‬إلى نقل مكان إقامته من ( خور مكسر ) ذلك الحي الراقي بمساكنه الفســيحة‬
‫ومتنفساته وحدائقه إلى حي القلوعة البائس الفقــير ‪ ،‬المعــروف بمســاكنه الشــعبية الضــيقة ‪ ،‬والــتي لم‬
‫يكن يدور بخلده أو بخلد ابنه نور‪ -‬الذي كان يمــر على هــذا الحي عنــدما كــان طفالً " مــروراً عــابراً‬
‫دون أن يعمد ولو للحظة واحدة إلى المقارنة العابثة بين ما كان ومــا هــو كــائن اآلن ‪ ،‬ومــا ال يعــرف‬
‫على وجه التحديد ما سيكون "‪ -3‬أنه سيضطرـ إلى االنتقال إلى السكن فيه ‪.‬‬
‫وال تختلف صورة المكان في القصـة القصـيرة المنتميـة إلى هـذا المبحث عن صـورته في الروايـة ‪،‬‬
‫لوال أنه أشد تركيزاً وأكثر تنويعاًـ ‪ ،‬فيظهرـ المكان ‪ -‬الذي تختفي منه صورة القرية وتســتأثر المدينــة‬
‫التي ازدادت أهميتها كمكان للقــرار السياســي يحتضــن أهم األحــداث والوقــائعـ المــؤثرة على حركــة‬
‫الحياة في المجتمع الجديد بعد الثورة ‪ -‬بكامل المســاحة تقريبـا ً ‪ -‬رغم ترســيخ شــطريته مكانـا ً مختنقـا ً‬
‫موحداً لهم العذاب ‪ ،‬مفتوحة بوابته على كوابيس الرعب والقمع واالمتهان ‪ ،‬فمع تزايد ســلطة الدولــة‬
‫واشتداد قبضتهاـ االمنية وآلتها العسكرية التي سخرت لحمايتها ومع المواطـنين ‪ ،‬لم يعــد هنـاك جـدار‬
‫أو بيت أو حتى ليل يحمي ‪ ،‬فالحاكمـ قادر الن يمد أذرعه ويحكم قبضــته مهمــا ابتعــد المكــان وفي أي‬
‫وقت أراد ‪.‬‬
‫ففي قصة ( خطوات في الليل ) تظهر مدينة تعز ‪ ،‬وقد اكتنفهــا الــرعب وأحــاطت الوحشــة بمســاءتها‬
‫الحزينة التي عـادة مــا تــأتي مبكــرة كهمومهــا الكتيمــة ‪ ،‬وأمــا لياليهــا المرتعشــة البــاردة ‪ ،‬فتجثم على‬
‫صدرها ثقيلة وطويلة ‪ ،‬وعلى زوايـا شـوارعها المظلمـة الممتلئـة بـالحفر الـتي يضـيف إليهـا المطـر‬
‫خطــراً آخــر يكمن المخــبرون الــذين ال يجيــدون القــراءة ‪ ،‬يســتوقفون أناســها ويفتشــون في هويــاتهم‬
‫ويتعقبــون خطــواتهمـ ‪ ":‬كنت أعــرف ‪ ...‬بــأن المســاء يــأتي بــاكراً ‪ ،‬وكنت أعــرف بــأن الحــزن يــأتي‬
‫باكراً ‪ ...‬وحــدها فقــط ال تــأتي بــاكراً ‪...‬؟! تتبعــثرـ خطــاي ‪ ،‬الليــل القــادم من عمــق المدينــة يشــعرنيـ‬
‫بالوحشة ‪ ،‬تتوغل ساعاته مع خطواتي المبعثرة تجاه وجه المدينة النائمة ‪.‬‬
‫‪-‬شارع ‪ ،‬وآخر وأصل إلى البوابة "‬
‫‪-‬انت !‬
‫الصــوت النــاخر في العظم المتســوس يخــترقـ الليــل وصــمت المدينــة ‪ ،‬أتســمر في مكــاني ‪ ،‬للخــوف‬
‫وجهان ‪ ..‬وجه يجعلك تتصلب " كما أنا عليه اآلن" ‪ ،‬وآخر يجعلك تبــل الــثرى ‪ ...‬وفي كال األمــرين‬
‫أنت مقهور حتى العظم المتسوسـ !‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪،‬ص‪62‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪120‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪121‬‬

‫‪151‬‬
‫‪-‬أنت ‪ ...‬إلى أين ؟!‬
‫سؤال يبـدو سـاذجا ً ‪ ...‬التفت أنـا المتعب بترحـاليـ نحـو الصـوت ‪ ...‬كـان يقـف بجـانب الشـجرة على‬
‫الرصيف المظلم ‪ ..‬أخفت الظلمة تقاسيم الوجه ‪ ...‬عندما تقــدم انقشــت الظلمــة ليظهــر وجهـا ً معروفـا ً‬
‫وفكا ً متسوساًـ ‪ ...‬أغرت وقفتي تلك شهيته فزاد بالسؤال ‪.‬‬
‫‪-‬البطاقة ‪...‬؟‬
‫كان المعطف الكاكي ‪ ،‬والمقبض الخارج من خاصــرته دليالً ‪ ،‬إن لم أصــدق هــذا الوجــه المعــروقـ ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫والفك المتسوس ‪ ..‬قلب البطاقة ‪ ،‬وأعادها ‪ ،‬أدركت تماما ً أنه ال يقرأ !"‬
‫وأما أهلها المسكونون بالخوف والقهر ‪ ،‬فهم مترددون باستمرار بين غرف التحقيق وغرف االنتظار‬
‫‪ " :‬حالة أخرى مشابهة ‪ ..‬كانت غرفة االنتظارـ ملحقة بغرفة التحقيق ‪ ،‬وكانت الوجــوه يومهــا بــاردة‬
‫ومعروقة ‪ ،‬وضحكة الفك المتسوس تبث الرعب ‪ ..‬وكانت ساعات االنتظارـ قاسية ‪ ،‬نرقب القــادم من‬
‫خلـف البـاب المغلـق ونسـمع آهــات قادمـة من عمـق الظلمــة والخــوف وتبــدد إيقـاع ملـل الخــوف‬
‫والترقب صرخة قوية معلنة رحيل آخر ‪ ،‬ليحل محلة جديد منا "‪، 2‬‬
‫وفي مكان كهذا تطل السجون والمعتقالت ومصحات األمراض العقلية‬
‫ففي قصة ( أول المنتحرين ) نلتقي مكانا ً قلقا ً مضطرباًـ قد سيطرت عليه حالة الطــوارئـ المســتديمة ‪،‬‬
‫وعلى إثر ذلك تطل السجون المزدحمة بالمأخوذين بتهم ال يعلمون عنها شيئا ً ‪ ،‬حتى ال يجد الســجين‬
‫الجديد ( شخصية العمل ) مكانا ً خاليا ً ليلقي بنفسه فيه سوى الحيز الذي يشغله باب الغرفة أثناء فتحــه‬
‫وفيها نقرأ ‪ ":‬تم اعتقالي بطريقة عشوائية قبل ظهر ذلك اليــوم ‪ ،‬حيث اقتــادونيـ إلى الســجن ‪ ،‬من‬
‫مقر عملي بدون سبب سوى إن اسمي كان ما يــزال ضــمن القائمــة القديمــة الــتي تظهــر كلمــا دعت‬
‫الحاجــة إلى ذلــك ‪ ،‬وفق ـا ً لظــرف طــارئ أو حــادث يجتــاح البالد ‪ ،‬كمحاولــة انقالب مثالً أو اغتيــال‬
‫شخصية مهمة في الدولة أو لظهورـ منشورات ثورية في الشوارع أو أي شــيء آخــر كاختطــافـ ‪ ،‬أو‬
‫إعدام أو اغتيال شيخ كبير ظالم ‪.‬‬
‫وفي قصة ( القادم من خلف الغيوم ) يتحول المكان ‪ -‬الذي غدت فيــه المعتقالت والتصــفيات الدمويــة‬
‫حالً لكل من ال يرغب في وجوده – إلى مكان مظلم ملبد بالغيوم ‪ ،‬ويصبح السير فيــه مخــاطرة تنــذر‬
‫باحتماالت الموت الغامض ‪ ،‬وفيهاـ نقف على هذا المشهد ‪ ":‬السماء ملبدة بالغيوم ‪ ..‬يتحدثون بصــمت‬
‫وهم قابعون خلف الصخرة الواقعة في مدخل القرية ‪ ،‬كانت كلمات اآلمر تــرن في آذانهم ‪ ،‬تصــاحب‬
‫صوت الرعد الساكن فوقهم ‪ ":‬يجب أن ال تطأ قدماه أرض القريــة ‪ ،‬حــاولوا قتلــه وإخفــاء جثثــه لكن‬
‫بصــمت دون أن تشــعر القريــة بمــا حــدث ‪ ،‬الســماء ملبــدة بــالغيومـ ‪ ،‬وصــوتـ الرعــد ‪ ،‬يشــق ســكون‬
‫القرية ‪ ،‬والليل في أوج حلكته وهم يتهامسون في انتظار القادم ‪ ..‬كـان يسـير بهـدوء متجهـا ً صـوب‬
‫القريــة ‪ ..‬عشــر ســنوات وهــو يحلم وهــو مكبــل بــالقيود ‪ ،‬بتهمــة كاذبــة لفقت ألمرمــا ‪ ،‬يســير بهــدوء‬
‫وصوت الرعد يشق سكون الطريق ‪ ،‬أضاء الــبرق الطريـقـ ‪ ،‬فالحت الصــخرة لناظريــه من بعيــد ‪،‬‬
‫وغمرت الفرحة قلبه ‪ ..‬أسرع في خطواته يحاول الوصول إليهــا ليقبلهــا قبــل دخولــه القريــة ‪ ،‬يتــذكر‬
‫عندها أيام الطفولة وسنوات الصبا ‪.‬‬
‫توقف عن السير ‪ ،‬خيل إليه بأن هناك عيونا ً ترقبه ‪ ،‬سرت الرعدة في أوصاله ‪ ..‬تجمدت خطواتــه ‪،‬‬
‫وظل يرهف السمع ‪ ،‬ضاقت عينــاه وهــو يحــاول اخــتراق الظالم ‪ ،‬كــانت على بعــد عشــرة أقــدام من‬

‫‪ ? 1‬عزالدين سعيد أحمد ( خطوات في الليل دار الحادي للطباعة والنشر ‪/‬تعز ‪1993‬م ‪،‬ط‪ )2‬ص‪5،4،3‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪10‬‬

‫‪152‬‬
‫الصخرة ‪ ،‬ظل يصيخ السمع ‪ ،‬وأضاء البرق بقــوة ‪ ،‬وانكشــفت الصــخرة ولمح أشــباحا ً ســوداء قابعــة‬
‫‪1‬‬
‫قربها ‪ ،‬بدأ الموقفـ الغامض ينجلي "‬
‫وفي قصة( الحوش رقم ‪ )7‬تظهر مصحة األمــراض العقليــة ســجنا ً مثاليـا ً لكــل من يحــاول أن يتنفس‬
‫حريته أو ينشــد التغيــير والحيــاة في مكــان مكتســح بــالقمع واالضــطهاد ‪ ،‬فبســهولة تصــمه الســلطات‬
‫بالجنون وبسهولة يتم تكبيلــه واقتيــاده ‪،‬وتحت تهديــدات القمــع والتنكيــل تتخلى عنــه أســرته ( فعنــبر)‬
‫الذي قررـ أال يستمر في الغناء بنــا َء على رغبـة غـيره وتتخلىـ عنـه أســرته خوفـا ً من أن تطــال بقيــة‬
‫أفرادها يد السلطة المستبدة ‪ ،‬فيقول له والده ‪ " :‬ما دمت تغني وتسهرـ فلن يتسع لك مــنزلي ‪ ،‬اتركــنيـ‬
‫أعتني بإخوتك قبل أن تنتقل العدوى إليهم "يختار لنفسه طريقا مختلفا عن ذلك الطريـق الــذي اختـاره‬
‫زمالؤه ‪ ،‬فنراه في حوش العنبر حيث " الجميع يغط في نوم عميق ‪ ،‬البعض افترش ‪ ،‬أرض الحوش‬
‫الذي ينضح بالنتانة ‪ ،‬والبعض اآلخر فضل النـوم داخـل الغـرف رغم حـرارة يونيـوـ ‪ ( ،‬عنـبر) هـو‬
‫الوحيد الذي لم ينم ‪ ،‬فقد قرر أن يغني إرضا ًء لرغبته هــذه المــرة ‪ ،‬وليس لرغبــة أحــدا آخــر ‪ ،‬لمــا لم‬
‫يجد من يسمع غناءه أخذ يذرع الحوش جيئة وذهابا ً بطريقة يحاكي فيها زمالءه الذين اعتــادوا الســير‬
‫‪2‬‬
‫لتبديد الهم المتراكمـ في النفوس "‬
‫وتخــتزلـ قصــة ( المومســات والمنظــرون ) صــورة المكــان الــذي يضــيقـ ليتحــدد في حي من أحيــاء‬
‫الدعارة ‪ ،‬فحينماـ تنصب التبدالت الالمعقولــة المجــانين عقالء يقــودون البالد ‪ ،‬ويصــبح المهووســون‬
‫منظرين وأصحاب فلسفة ورؤيــة يســيرون بتأييــد مزيــف شــؤون اإلدارة والسياســة يختــل كــل شــيء‬
‫فيهــا ‪ ،‬وينتهي المكــان في كليتــه إلى حي صــغير يعج بالســقوطـ ويطفح بالقــذارة ‪ ،‬إليــه يقــذف كــل‬
‫المهمشين والمقموعين ومسلوبيـ الحقوق واإلرادة ‪ ،‬لينهزمواـ في أكواخ تواري ســوأتها خلــف أســتار‬
‫الظالم ‪ ،‬يؤدون أدوار مفروضة عليهم ‪ ،‬تسلب خاللها عفتهم ‪ ،‬وتبعثر كرامة اإلنســان فيهم ‪ ،‬يصــف‬
‫لنا الكاتب هذا المكان الذي آلت إليه شخصيات عمله بعد أن تحولت إلى ضحاياـ الهجمة الشرسة الــتي‬
‫يمارسها زبانية البطش المستغلين نفوذهم ومراكزهم للوصولـ إلى مآربهم الدنيئة ‪ ،‬ومتنفــذوـ الســلطة‬
‫من أصحاب العقد والنفوس المريضة والمتشربة بأفكارـ شاذة وغريبة ‪ ،‬فيقول ‪ ":‬األكــواخ المهزومــة‬
‫في جوف الظلمة العتيقة ‪ ،‬وقناديلـ معلقة في متن الليل الدامس تحملــك في أبعادهــا الشــاحبة لتتكــاثفـ‬
‫الظلمات والشحوبـ المرسوم ‪ ..‬وترسم صورة لشظف العيش وبدائية النفس المتعايشــة مــع مرضــهاـ‬
‫المتجمع فوقـ تلك األرض الصغيرة والمستحلة منها بقعة متعارفـ عليها بين الناس بحي المومسات ‪.‬‬
‫المومسات يتلقفن الزبائن في بهمة الليل على اختالف ألــوانهم ‪ ...‬وهن أيضــا مجموعــة متناقضــة من‬
‫األعمار ‪ ،‬وجوهن مليئة باإلحباط والبؤس والشقاء ومفرزة لمشاكل عديدة حملتهن وساقتهن إلى تلــك‬
‫البقعة المنعزلة عن البلد ‪.‬‬
‫وهنــاك في كــوخ مدســوس بين األكــواخ العديــدة ‪ ...‬ارتخت على ســريرها الخشــبي الفتــاة الجميلــة ‪،‬‬
‫والجديدة على مهنة الدعارة ‪ ،‬والقادمة غريبة إليها ‪ ،‬تعربدـ في ذهنها شتى األفكار المتأزمــة والقاتمــة‬
‫‪3‬‬
‫يظلها في أول أسبوع لها في حي المومسات "‬
‫وفي قصة ( الصبر في مدينة جميلة ) تطل مدينة إب مكانا َ مجهوالًـ ‪ ،‬اســمه لغــز غــامض ‪ ،‬وتاريخــه‬
‫غير مدون وال يعرف اسم بانيه ‪ ،‬إال أن جمال طبيعته ال يخفى على نــاظر ‪ ،‬فاألمطــارـ تهطــل عليــه‬
‫بغزارة ‪ ،‬وعلى مدرجات جباله ترقص الخضرة وســنابلـ الموسـمـ الشــاب متعانقــة كحوريــات ‪ ،‬وأمــا‬
‫كالبه الجرباء ‪ ،‬فتهرب إلى األزقة ‪ ،‬تاركة للمطر فرصة غسل وجه المدينة بهدوء ‪.،‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( العقرب) مرجع سابق ص‪97‬‬


‫‪ 2‬فاروق ناصر محمد (زمن العار ووجه الشمس الغارب ) دار االمل للطباعة والنشر ( ‪1985‬م ‪،‬ط‪،1‬ص‪74،73‬‬
‫‪ 3‬صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) مرجع سابق ‪ ،‬وزارة الثقافة والسياسية ‪/‬عدن ‪1992‬م‪ ،‬ص‪85‬‬

‫‪153‬‬
‫لكن إنسان هذا المكان يعيش كالفأر في أبنية قد ألغت من خريطتها النوافذـ ‪ ،‬منفصال عن ذلك الجمــال‬
‫الذي تحفل به مدينته ‪ ،‬تشبه حياته حياة إنسان الكهف ‪ ،‬ينام هاربـا ً من البــق والقمــل والبعــوض في‬
‫أكياس تغلق عليه من الداخل ‪ ،‬ويصحوـ على مشارعات مســتطيلة يــذهب عمــره هبــاء وال يبت فيهــا‬
‫أبدا ‪ ،‬نسمع شخصية العمل تصفـ مكان إقامتها فيه ‪ ،‬فتقوول ‪ ":‬الباب ال يتسـع لـدخول ابن آدم بحجم‬
‫إنسان مدينتنا طبعا ً !! ذكرنيـ ذلك بالعداء القائم بين عين اإلبرة والخيط الرفيع ‪.‬‬
‫من سعف النخيل وخشب السدر صنعت األسرة التي وضعت في طارودـ طويــل ‪ ،‬وعليهــا نــام زبــائن‬
‫الفندق ‪.‬‬
‫‪-‬الصبر مفتاح الفرج !‬
‫النوافــذ ال وجــودـ لهــا ‪ ،‬ســبق وأن ألغيت من خارطــة المبــنى ‪ ،‬ألن الطقس هنــا بــارد أحيانــا ‪ ،‬وألن‬
‫الرواد ألفوا النوم في أكياس من القماش المتين تغلق من الــداخل خوفـاًـ من البــق والقمــل والبعــوض ‪،‬‬
‫كما أكد ذلك الحاج صابرـ الذي ال يفــارق مقعــده الواقــع جــوار البــاب إال ألداء الصــالة الــتي دومـا ً ال‬
‫تــؤدى في أوقاتهـاـ أو قضــاء الحاجــة ‪ ،‬المداعــة جــزء من شــفتيه الجــافتين ‪ ،‬يمضــغ القــات ويحكي‬
‫الحكايات الطريفة والحزينة ‪ ،‬عن الناس والمدينة وقضايا العدل التي يسمعهاـ من رواد فندقه العديدين‬
‫"‪"......‬‬
‫سعال ‪ ...‬سعال ‪ ...‬صدر جاري يكاد ينفجر ‪......‬‬
‫‪-‬ماء ‪ ....‬ماء يا جماعة ‪ ....‬يا حاج صابر أين الماء ؟‬
‫جدران الفندق تردد شخير النيام الصاخب ‪ ،‬إنه عزف على آالت لم يكتشفها علماء األصوات بعد ‪.‬‬
‫أمسكت بخيط الظالم ومشيت متروبصا ً عبر الطارود الطويل ‪ ،‬وفي زاوية مجهولة قضيت حــاجتي‬
‫وعدت للنوم تاركا ً رائحة من روائح الناس خلفي ‪.‬‬
‫أسمع جاري الذي كان يسعل بشده قبل قليل ‪ ،‬يمارس الحب مع الوسادة ‪ ،‬وهناك آخر يحلم ‪ ..‬يصرخ‬
‫شاتما ً القاضي ووكيل الشريعة ‪.‬‬
‫‪-‬أســبوعـ يــا جماعــة ‪ ،‬مضــى أســبوعأ أنفقت خاللــه كــل مــا أملــك ‪ ،‬لقــد بعت أرضــي وذهبت قيمتهــا‬
‫رشوات ‪ ،‬سجنت خمس سنوات من أجل هذه القضية ‪ ،‬إن غريمي ذو جاه ومال ‪ ،‬وأنا ‪...‬‬
‫أسمعه يبكي ‪.‬‬
‫أشعر بجسم بارد يتحرك عند قدمي ‪ ،‬مددت يدي بخفة وأمســكت بــه ‪ ،‬حــاول المقاومــة ‪ ،‬ولكن بــدون‬
‫جدوي ‪...‬‬
‫‪1‬‬
‫– نم يا فأري العزيز في حضني ‪ ،‬هنا حيث الدفء ‪ ،‬حتى يأتي الصباح "‬
‫وفي قصة ( الجبل يبتسمـ أيضا ) يظهر المكان مدينة تعربد فيهــا األعاصــيرـ والزوابــع قاســية ســاحقة‬
‫للبسطاء محطمة ألحالمهم باالســتقرار ‪ ":‬الشــارع طويــل ‪ ،‬والرحلــة ‪ -‬بال محطــة عــبر امتداداتــه ‪-‬‬
‫أطول ‪ ،‬ثمة أكوام من الحجارة ‪ ،‬والعراقيلـ تسد منافذـ الشارع ‪ ..‬يتسلقها‪ ،‬وعمــارات تخطــف العين ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫لم تكتمل بعد ‪ ،‬وحريقـ الظهيرة المتحذلق بجلد األقدام العارية "‬
‫وهي تؤوي تفاوتا ً طبقيا ً مؤلما ً بين فقراء ‪،‬إذا ما استمر العيش بهم ‪ ،‬عاشوا مهــددين بعــدم االســتقرار‬
‫والمبيت في الشارعـ في أية لحظة قرر مالك العقار إخالءه ‪ ":‬كان أبوه مبروكـ قبل موته ‪ ..‬منــذ زمن‬
‫بعيد ‪ ..‬قال له ‪ :‬الدينا لخالقهــا واألرض والبشــر مــيراث هللا فلمــاذا العبث ‪...‬؟ وقــال ‪ ":‬أي عبث أن‬
‫يشتري المرء بيتا ً يــا أبي ‪...‬؟ وقــال هــو ‪ ":‬عين العبث ومعصــية المشــيئة ‪ ..‬حين تنــثر نقــود هللا في‬
‫بيوت هي مسخرة بالمجان ‪ ،‬كانت األيام متواضعة ‪ ،‬واللقمة بسيطة ‪ ،‬والتفكيرـ معصية يــا مصــلح ‪،‬‬
‫‪ 1‬منير حسن مسيبللي ( أطوار حلم االبحار ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪51‬‬
‫‪ 2‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪28،27‬‬

‫‪154‬‬
‫وحين ناءت أنفاسه بالبقاء ‪ ،‬تركها مبتسما ً ‪ ،‬وخرج منهـا بثالثـة لاير ‪ ..‬نثرتهـاـ المرحومـة على قـبره‬
‫بخوراً وثمراً "‪ ، 1‬وإذا ماتوا فهم ميتون باألمراض وسوء التغذية ‪ ،‬يلفظون أنفاســهم وهم يحلمــون‬
‫بقطرات الحليب تبلل شفاههم الجافة ‪ ،‬كما كان حلم ( حسن) قبل موته ‪ ،‬فقد " نازع قبل موته خمســة‬
‫أيام ‪ ،‬وقبل أن ينازع اشتهى لبن البقر وسألهم أثناء النزاع أن يبللوا شفتيه بقطرات منــه ‪ ،‬لكن الــزمن‬
‫زمن الجفاف وموت البركات ‪ ،‬وفقــر الغيث ‪ ،‬لفــظ أنفاســه ‪ ،‬وظلت عينــاه مفتوحــة ربمــا في انتظــار‬
‫قطرات اللبن "‪،2‬‬
‫وأغنياء يقيمون القصورـ والعمارات الشاهقة والفلل الــتي تشــمخ بأحجارهــا الجبليــة الملونــة في وجــه‬
‫الشمس ‪ ":‬مرة أخرى ترامى تحت رؤوس الشجر من لهيب الشمس وحماقة الزوابــع محتميـا ً وســار‬
‫متخفيا ً برأسه الذي تثقله اإلخفاقات ومئات األسئلة ‪ ...‬آالفها بال إجابــة ‪ ،‬إلى يمينــة ( فلــة ) المــدير ‪،‬‬
‫شمخت على أشعة الشمس بأصلب األحجار الجبلية الملونة ‪ ،‬بيضاء متوهجة كصفحة النهر الهاجعة‬
‫‪3‬‬
‫"‬
‫وفي قصة ( الموت قبل الوجودـ ) تتكشفـ الصورة عن مكان قد تبدلت مالمحه ضمن تحــول مجنــون‬
‫يحرق في طريقه األخضر واليابس ن حتى استحال إلى شرك للهالك ومعتقل كبير يفقد فيــه اإلنســان‬
‫مالمحــه ‪ ،‬وتشــنق على ســاحاته حريتــه ‪ ،‬فتغيم الرؤيــة ‪ ،‬وتغيب الثــوابت وتتمــاهيـ المحــددات ‪" :‬‬
‫الروائح الكريهة تحيط بالمدينة وأزقتها ‪ ،‬ووجدان البشر ولدم تغرق فيه مدينة الجمــال ليحلب الحــاكم‬
‫وجوده وأمره واستقالله وبقاءه ‪ ...‬واآلهة تحملها العقائر لتموت مع النكــران للحيــاة الحاليــة والطمث‬
‫الــذي يولــد مــع شــعلة كــانت الحلم لهم لتمــوت مــع النكــران للحيــاة الحاليــة ‪ ،‬والحب األخضــر‬
‫ألطفالهم ‪ ...‬األسماء تقذف بعيداً ‪،‬ويؤتي بأسماء جديــدة للشــوارعـ ‪ ،‬لألزقــة ‪ ،‬للمعاهــد ‪ ،‬ولإلنســان ‪،‬‬
‫والبلد تحمل أفواجا ً أخرى ال يعرفون من أين قدمواـ ‪ ،‬أو أي أرض بــرقت بهم ‪ ... ،‬التعبــير يتغــير‬
‫"‪ "......‬ماذا وجدت البارحة في أعشــاب القمح ‪ ...‬شــخص مقتــول مــنزوع الــرأس ‪ ..‬حادثــة الســيارة‬
‫الممتلئة باألطفال ‪ ...‬هــل حقـا ً حــادث ‪!....‬؟ مــاذا عن أخبــار الطــائرة ‪...‬؟ هــل انفجــرت ‪ ..‬أم تــوقيت‬
‫زمــني لمتفجــرات وضــعت فيهــا ‪...‬؟ مالمح وجزئيــاتـ جســمك هــل وجــدتهاـ بعــد خروجــكـ من‬
‫المعتقل ‪...‬؟ العيون تتفجر فيها ألف حكاية وحادثة ‪ ،‬تستشف منهــا دمعــة ألم وحــزن مكتــوم ‪ ...‬وحب‬
‫‪4‬‬
‫مذبوح وحياة مشنوقة "‬
‫وفي قصة ( السفر عبر الحلم واليقظة ) تبرز المدينة ‪-‬التي تبدو من معالمها أنها مدينة تعــز ‪ -‬لعيــون‬
‫أولئــك الــذين اســتدرجتهمـ بإغرائهــا فــالتحقواـ بهــا مخلفين وراءهم ريفهم بكــل مــا لحيــاة الريــف من‬
‫عالقات حميمة ‪ -‬مكانا يؤوي غرباء ‪ ،‬بارداً خاليا ً من اإلحساس ‪ ،‬في داخله يفقــد المــرء لــذة الشــعورـ‬
‫باالنتماء ‪ ،‬ويصبح مجرد فرد غريب فاقدـ ارتباطاته ‪ ،‬منسحقا كحشرة ‪ ،‬ضائعا كنفايــة تافهــة ‪ ،‬وهــذا‬
‫أحــدهم ال يعــرف عن نفســه إال أنــه " جســد في حاض ـرـ المدينــة يتــأزر ثوب ـا ً مهلهالً وبقايــا فــانالت‬
‫صــوفية ‪ ،‬ويتمعطــفـ لفــة قديمــة ‪ ،‬وروح في ماضــي القريــة ‪ ،‬وملكــة المــدرجات ‪ ،‬حمــل الفــأس‬
‫والمنجل ‪ ..‬حفر الشقوق الصــغيرة في بــاطن األرض ‪ ،‬وشــق الجــداول لعيــون الميــاه ‪ ،‬وقــديماًـ غــنى‬
‫لألرض والصخور والبيوت أسرار العشب والمطر "‪. "....‬‬
‫في زاوية الباب الكبير كان ضائعا ً كالنفاية ‪ ...‬قطعــة متحركــة قــدت من جبــل في شــكل آدمي ‪ ..‬أهــل‬
‫الحــارة ال يعلمــون من أي جبــل انحــدر ‪ ،‬وال زمن العاصــفة الــتي دحرجتــه إليهم ‪ ،‬وال أي واد قذفــه‬
‫كالرواسب العائمة ‪ ..‬كل ما يعرفونه عنه أنه رجل طيب ووادع يجيد الحراسة كالكالب األليفة ‪.‬‬
‫‪ 1‬محمد مثنى ( والحبل يبتسمـ ايضاً) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪57‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪75 ،‬‬

‫‪155‬‬
‫‪5‬‬
‫وهو يعرف أيضا أنهم أناس طيبون يقدمون له اللقمة والقهوة "‬
‫وللشخصيات تحت هذا المبحث طرقهاـ في بناء عالقاتها مــع أماكنهــا ‪ ،‬وفي تفاعلهــا مــع مــا تتضــمنه‬
‫هذه األماكن من معطيات ‪،‬وهو تفاعل ال يمثلها وحــدها كحــاالت فرديــة وحســب ‪ ،‬إانمــا يعكس حالــة‬
‫عامة لإلنسان بنماذجه المختلفة في تفاعله مع مكانه ومقدار ما يشهده هذا التفاعل من أنواء تؤثر فيــه‬
‫سلبا ً أو إيجابا‪.‬‬
‫ففي رواية ( وسام الشرف ) نلتقي عدداً كبيراَ من الشخصيات‪ ،‬كــان لكــل منهــا طريقتــه الخاصــة في‬
‫التفاعل مع مكانه الذي يتحرك فيه ‪ ( ،‬فنور ) بطل الرواية ‪ ،‬يستمر في تفاعله مع مكانــه الــذي ينتمي‬
‫إليه ‪ ،‬مشاركاـ في أحداثه مخلداَ هذه األحــداث في لوحــات فنيــة تســتخدم التقطيــع والرمــز واإليحــاء ‪،‬‬
‫وهي لوحـات تسـتلهم موضــوعاتها ممـا يحـدث على أرض الواقـع لكنهـا تتشـكل عـبر رؤيتـه الـتي‬
‫صقلتها مشاركاته الكثيرة حيث أدى دورة في الثورة األم ‪ ،‬وكان في طالئع الفدائيين ضد اإلنجليز ‪،‬‬
‫ثم التحق بجبهة الدفاع عن الثورة والجمهورية‬
‫وعند عودته من جبل األسودـ وحزيز بعد هزيمة الملكيين ‪ ،‬شرع ينظر في لوحاته ويتفقــد منهــا تلــك‬
‫التي أنجزها قبل قدومه من عدن وتلك التي رسمها عند قدومه إلى صنعاء قبــل التحاقــه كمتطــوعـ في‬
‫الدفاع عن الثورة ‪ ،‬ثم أخذ يكمل لوحته التي كان قـد بـدأها قبالً ‪ ،‬لحي المعلى في عـدن ‪ ،‬حيث بـدت‬
‫العمارات المتناسقة العالية مقلوبة أسـطحهاـ متجهـه نحــو األسـفل ‪ ،‬وقـدـ وقـفـ منهـا ضـابطـ إنجلـيزي‬
‫مهــزوزاً على جبــل هيــل الــذي يطــل على حي التــواهي ‪ ،‬ومن خلــف الضــباب الرمــاديـ المشــوب‬
‫باألزرقـ والبني يتوارى قرص الشمس كسيفا ً وغائما ً "**‬
‫وهو يجد نفسه ممتلئا ً باألمل ‪ ،‬وبطاقة تدفعه إلى إبداع مالم يبدعه قبالً ‪ ،‬فيشــرع في وضــع الخطــوطـ‬
‫األولى للوحته الجديدة ‪ ،‬حورية ( فتاة المطر ) اسم جميل ‪ ،‬وعنوان موسيقيـ ألجمل لوحة تكــافح من‬
‫أجل الخروج من قمقم الجدران ‪ ،‬والرنوـ إلى عالم الضوء والحب "‬
‫ويستشعرـ حالة من التواؤمـ واالنسجامـ مع طبيعة المكان حــتى أخــذ يــرقب بحب سالســل المطــر الــتي‬
‫أخذت تنقر زجاج النافذة بإيقاع موسيقىـ أخاذ منجذبا ً بشكل فطري إلى صوت تلك النقرات ‪ ":‬همس‬
‫لنفسه وهو يقترب من النافذة الجنوبية المطلة على السـاحة الشاسـعة الـتي وضـع جبهتـه في زجاجهـا‬
‫البارد ‪ ،‬وراح يتطلع إلى رؤوسـ األشجار الندية المهتزة في امتنان لألمطار التي غسلتها قبل لحظات‬
‫‪ ،‬وكذلكـ أعمل نظراته في فسحات العشب الالمع بالقطرات العالقــة ببعض كأنمــا يضــحك ممتنـا ً هــو‬
‫اآلخر من خالل رؤوسه المستقيمة ‪ ..‬لقد كان يابسا ً عندما رآه قبل أيام ومستسلما ً لضياعه وظمئــه في‬
‫قلب الساحات ‪ ،‬وفجأة يهطل المطر وبال مقدمات فينهضه مرتوياًـ وحيويا ً وأخضراـ "***‬
‫وهذه صنعاء تتجلى لناظرية " صنعاء الثورة وصنعاء المطــر والخضــرة والنــاس والمــدارس والحلم‬
‫والتطلع ‪ ،‬وصنعاء الحركة والفعل واألمل ‪ ،‬إنها لتعد بالشيء الكثير "***‬
‫وبعد عودته من جبهة الدفاع عن الثورة ‪ ،‬وقبل ذهابــه إلى المعســكر لتســليم المهمــات وإخالء طرفــه‬
‫كمجنــد " انتظــر بقيــة الــوقت يتملى بمنظــر الصــباح وحركــة المــارة واســتيقاظ األعشــاب وأغصــان‬
‫الخضــرة في الســاحات الخضــراء القريبــة ‪ ،‬وبعــد المقارنــة بين مــا رآه من قبــل التحاقــه بــالحرس‬
‫الوطني والمستجداتـ التي طرأت على المدينة من بعد ‪ ،‬كأنما يرى كل شيء اآلن ألول مــرة "‪"......‬‬
‫لقد كان كل شيء يتبدل ويتغير ويزحف على ما قبله في قلب المدينة ‪ ،‬ولكن أكثر ما استأثر باهتمامــه‬
‫من كل ما رأى هو لون الصباح الفضي ‪ ،‬وأشعة الشــمس الصــافية الــتي تتكــاثف في سالســل مشــعة‬

‫‪ 5‬امنير حسن مسيبلي (أطوار حلم االبحار ( مرجع سابق ‪ ،‬ص‪3،4‬‬

‫‪156‬‬
‫على أسطح البيوت والنوافذـ و ( التحرير) ورؤوسـ الناس المتوافــدين للعمــل بجالء وحيويــة ال كتلــك‬
‫األشعة المحروقة باالنفجارات "×××‬
‫لكن نور – الذي يظهر في بداية الرواية محبا ً لمكانه ‪ ،‬مفتونا ً بما فيه ‪ ،‬متحمسا ً لمالمحه التي وجــدت‬
‫عليه ‪ ،‬والتي كانت توحي له بأن حركة التغيير تشق طريقها نحو األفضل – يشهد شعوره بمكانــه‬
‫انحداراً في اتجاه السلب ‪ ،‬مما يوجـه تفاعلـه في هـذا االتجـاه التنـازلي الـذي يسـتمر مـع تقـدم حركـة‬
‫الحدث الروائي حتى يبلغ نقطة الصفر عند نهايته التي جاءت محصلة لهذه الحركة ‪.‬‬
‫حيث بدأ يداخل نفسه الشك مما تعكسه حركة التغيير من مظاهر مريبة على المكــان ‪ ،‬فالمكــان يشــهد‬
‫تبــدالً فوضــوياًـ وغــير مفهــوم ‪ ،‬وتظه ـرـ عليــه بــوادر تنــذر بخطــورة تهــدد مســار التغيــيرـ الثــوري‬
‫باالنحراف ‪ ،‬فصنعاء تتبدل مالمحها في اتجاه مــريب ‪ ،‬كأنمــا مــرده من جن عبقــر تحــل فيهــا ‪، 1‬‬
‫وجدرانهاـ قد اختلطت على مساحاتها األلوان األزرق واألحمر واألخضر و‪ ،........‬بما يشــي بخالف‬
‫فكري ينذر بصراع سياسيـ يطبخ سراً ‪ ،‬فذاك لون االشتراكية ‪ ،‬وذاك لــون الرأســمالية ‪ ،‬وذلــك لــون‬
‫القومية ‪ ،‬وكل يدعي لفريقه الحق الكامل ‪ ،‬وأسواقهاـ تتسع بسرعة الحرائق ‪ ،‬مما يشــي بنشــوء طبقــة‬
‫جديدة من المستغلين الذين أخذوا يمدون سيطرتهم على مساحات األرض والســماء فيهــا ‪ ،‬ومــع هــذا‬
‫االتساع ‪ ،‬فإن جيوش العاطلين ‪ -‬الذين ال يجــدون ألنفســهم من عمــل ســوى التســلي بــالنظر إلى مــا‬
‫يبدعه المجانين على أرصفة التحرير‪ -‬في تزايد مستمر ‪.‬‬
‫ومجانين صــنعاء يتكــاثرون بشــكل الفت ‪ ،‬ترصــدهم يــذرعون أرصــفتها وطرقاتهــا وميادينهــا جيئــة‬
‫وذهابا ً ‪ ،‬وهم أنواع مختلفة ‪ ،‬منهم من يمارس على هذه الطرقات هذيانه السياسي على إثر تعرضــه‬
‫لعذابات االعتقال فيظل يعلن على المسامع شعارات مبهمـة ‪ ،‬ومنــه من تبثهم السـلطة كعيــون لهــا في‬
‫أوساط الناس ‪ ،‬وهم يستمرون بأداء حركاتهم الغريبة ‪ ،‬ومنهمـ رفقاء نضال األمس ( كماجد اليعربي‬
‫) الذي ال يعرف حتى اآلن سبب كارثته ‪ ،‬والذي كــان يكثــف من جريــه على غــير العــادة ومن خلفــه‬
‫العاطلين والمسرحين من الخدمة ويتلفظ بكلمـات كالسـباب والشـتائم غـير الجليـة إلى أن سـمعوه في‬
‫أصيل يوم مشعث‬

‫‪2‬‬
‫يصرخ قائالً ‪ :‬ارحبوا سرق الملكية فوق سرقـ الجمهورية‬
‫ومساحات األرض الخضراء تكتسح بعمــارات عاليــة وفلــل فخمــة ‪ ،‬وشــوارعـ رئيســية وفرعيــة تمــد‬
‫أسـفلتها ملتهمـة التربـة وخصــوبتها ‪ ،‬ثم وابــل من الســيارات الفارهــة بمـوديالتـ مبهـرة من مختلــف‬
‫مصانع العالم ‪ ،‬حتى لم يعد الوطن مع كل هـذه البهرجـة المظهريـة للمكـان فيـه سـوى فقاعـة جوفـاء‬
‫غبية ‪ ،‬يرد ( نور ) على أمين الزئبق الذي حاول أن يستشعر فيه حماسة الوطني القديم ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫" – الوطن ‪ ...‬الـوطن ‪ ...‬ولمـاذا ؟ قـال نـور ذلـك ضـاغطا ً الكلمـات وعيونـه تتملى في نيـون ملـون‬
‫حديثا ( قطعة من سويسراـ ألحدث الساعات السويسرية ) "‪ "....‬ثم رفــع‬ ‫إلحدى المحالت المنشأة‬
‫صوته في القراءة بشكل مقصود ومحرف ‪ :‬قطعــة من سويســرا ألحــدث الفقــاقيع المريخيــة ‪ ،‬الــوطن‬
‫ألحــدث المــوديالت الوطنيــة ‪ ،‬هــل تــرى يــا صــاحبيـ من فــرق بين الفقــاقيع الــتي يخترعهــا هــؤالء‬
‫‪3‬‬
‫لمحالتهم وبين الفقاقيع الوطنية !؟"‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪89،88‬‬


‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪114،113‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪112‬‬

‫‪157‬‬
‫ثم تزداد الرؤية غيامه وتشوشاًـ ‪ ،‬ويصبح المستقبل شيئا ً يصعب التكهن بــه حين تبــدأ نــذر بتبــدل القيم‬
‫واختاللها ‪ ،‬وغلبة النفعية المادية والسقوطـ األخالقي تلوح في األفــق ‪ ،‬حــتى تســمع ( نــور ) يصــرح‬
‫‪1‬‬
‫بقوله إن هذا البلد ال تستطيع أن تميزفيه بين السير والمنام ‪ ،‬وال بين الحلم واليقظة "‬
‫فحورية تلك الفتاة التي أحب نورـ فيها براءتها ‪ ،‬والــتي لم يكمــل بعــد خطــوطـ لوحتهــا الــتي شــرع في‬
‫رسمها من قبل ‪ ،‬تنذر مالمحها بكارثة السقوط في وحل الرذيلة ‪ ،‬فهي تكثر من الخــروج وزيــارات‬
‫التفرطـة ‪ ،‬وتـداوم على فترينـاتـ قاصـد كـريم للمجـوهرات وقـدـ بـدت على مالمح وجههـا تشـوهات‬
‫وكدمات ‪ ،‬كما غزا جسمها االسترخاء والترهل والــذبول ‪ ،‬ثم أن نظرتهـاـ قــد اختلفت ‪ ،‬إذ هي تظهــر‬
‫قدراً كبيراً من التحلل من العذرية الرومانسية الحالمة ‪ ،‬وهــا هي تعــرض جســدها كمــادة لالســتهالك‬
‫لمن يدفع ‪ ، ،‬وهو ما يحدث لنور صدمة كبيرة " فقد أحس أنه لم يعد في موقف الطاووسـ المحلق في‬
‫‪2‬‬
‫سماوات الحب ‪ ،‬وإنما منكوب على رأسه وقدميه على أرض الواقع "‬
‫والخالة زهراء ‪ ،‬بدأت تفتح أعينها على ما يحفــل بــه المكــان من بهرجــة ‪ ،‬ومــا يملكــه اآلخــرون من‬
‫متاع وأجهزة حديثة ‪ ،‬ولم تعد تقتنع بما لديها ‪ ،‬وهي تدفع بزوجها الذي ظل يناضل رغبتها في اتجــاه‬
‫الوقوع في طريقـ االنحراف ‪.‬‬
‫ومحبوبة أيضا ً تغلب على نظرتها النفعية التي انعكست عن تبدل الواقع وتبدل مظــاهر المكــان فيــه ‪،‬‬
‫فلم تعد تؤمن بمشاعر الحب الرومانسية ‪ ،‬وإنما أخذت تسير حياتها ‪ ،‬وفق مبدأ يقــول " فأمــا الــزواج‬
‫وأما يومك يومك ‪ ،‬وليلتك ليلتك ‪ ،‬وساعة البسط ال تفوتك ‪ ،‬ولو كــان بقطــع رأســك "‪ ، 3‬وهكــذا يفقــد‬
‫وجهها حيويته وتظهـرـ عليــه كــدمات ونمــوش تعجــز المســاحيقـ عن إخفائهــا ‪ ،‬وحــتى شــفيقة تلــك‬
‫المناضلة القديمة التي أصبحت الجئة في صنعاء بعد هروبهاـ من سياســة الحــزب في عــدن – التســلم‬
‫من الوقوع في هذا الشرك مع مناضل قديمـ أيضا ً ‪.‬‬
‫هو (أمين الزئبق) القيادي الجبهويـ الذي تحول أيضا ً – إلى واحد من عسـس أجهــزة االسـتخباراتـ ‪،‬‬
‫وهو اليوم ناشط كبير في استقطاب المناضلين القدامى لتجنيدهم ‪ ،‬ومسخهم إلى أدوات تساعد السلطة‬
‫في قمعها للمعارضين ‪.‬‬
‫وأما قاصد كريم ‪ ،‬فقد كان لمحل مجوهراته أنشطة أخرى مشبوهة ‪ ،‬وقد اجتنح لهذه األنشطة غــرف‬
‫خاصة في مبــنى ممــيز من عــدة طوابــق من الحجــر المــوقص والطــوب األحمــر ‪ ،‬يقــع شــمال مبــنى‬
‫اإلذاعة العتيق ‪ ،‬غرفة أرادها " ما بين بهوين في مداخل مموهة ‪ ...‬بمعنى عندما تقدم الغزالة ‪ ،‬وأي‬
‫غزالـة مصــطادة من البــاب العمــوميـ للعمــارة ذات الشــقق المــؤجرة ‪ ..‬فإنهــا ستصــعدـ بعــد ذلــك في‬
‫الســاللم ‪ ،‬وأي ســاللم دون أن تعــرف أي أســرة إلى أي أســرة أخــرى هي ستصــعد ‪ ،‬و أي بــاب من‬
‫األبواب ستطرقه ‪ ،‬كلها أسر محترمة ‪ ..‬فضالَ عن أولئــك الــذين في الشــارع وعيــونهمـ على بعضــهم‬
‫البعض من التلصص على اللحظات المماثلة المختلسة ‪ ...‬لن يتبادر إلى ذهن أي عين من عيــونهم إال‬
‫أن ربة الصون والعفاف في طريقها من الباب العمومي إلى شقة أي ربة للصون والعفــاف مماثلــة ‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫والقاطنون من األسر الجديدة المتحررون إلى حد ‪ ...‬كثر كالجراد "‬
‫أما عدن فتظهر مدينة تشهد تحولهاـ العجيب إلى عجوز غبراء خاملة مقفرة شــوارعها إال من الكالب‬
‫الضالة ‪ ،‬وهذا نور يمشي في ظهيرة أحد األيام التي ذهب فيها لزيارة أسرته في عدن في حي المعلى‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪98‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪102‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪104،103‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪14،12،11‬‬

‫‪158‬‬
‫الذي كان دائما َ حيا ً عامراً بحركة التجــارة والســيارات والبشــر ‪ ،‬فتفــزع مشــيته طــابور الكالب الــتي‬
‫نبحث مستنكرة إقالقه هدوءها وراحتهاـ "‪. 1‬‬
‫لقد غــادر أهلهــا وأخلــوا محالتهم وصــفوا مصــالحهمـ فيهــا ‪ ،‬مهــاجرين إلى مــواطن أخــرى غيرهــا ‪،‬‬
‫يلتمسون فيها سبل الرزق والعيش الكريم ‪ .‬حتى أثارت شوارع المدينة الخاليــة في عقــل نــور ذكــرىـ‬
‫قديمة ‪ ،‬حين كان والده يردد على مسامعه قوله ‪ ":‬الحركة بركة والعمل رزقـ ومجلبة للعيش الفضيل‬
‫‪ ،‬ولن يعجن الناس شعاراتهمـ وأحالمهم ويأكلونها "‪. 2‬‬
‫وهو مع حبه الواضح لمدينة عدن ‪ ،‬موطن ذكرياته ومرابع طفولتــه ‪ ،‬بحرهـا المتــدفق دفئـا ً وحنانـاًـ ‪،‬‬
‫وشاطئـ ( خور مكسر) الذي حفر على وجهه أقدام طفولته ‪ ،‬وتلك الصخرة التي كان يقعد عليهــا مــع‬
‫شقيقه حبه الطفولي البريء‪ ،‬يراقب الزبد وتالطمـ األمواج ‪ ،‬فإنه عند زيارته األخيرة لها وجــد أشــياء‬
‫كثيرة فيه قد تبدلت بشكل غير مرغوب فيه ‪.‬‬
‫غير أن أكثر ما أثاره ‪ ،‬هو ذلك البؤس الذي أصاب عائلته بعد نجاح الثــورة على المســتعمرـ ‪ ،‬فوالــده‬
‫قد شاخ وافتقر دفعة واحدة ‪ ،‬وأمــه لم يبــق منهــا إال صــوتها ‪ ،‬وإخوتــه قــد عــادوا فقــراء يتقلبــون بين‬
‫الحرمان والشقاء ‪ ،‬وذلك البيت الشعبي الضيق الذي – انتقلت إليه أسرته في حي القلوعــة ‪ ،‬بعــد مــا‬
‫ألم بها من ظروف التبدل ‪.‬‬
‫" لفحت أنفه نسمة بــاردة برائحــة الســمك فاستنشــقتهاـ مطــوالً ‪ ...‬ثم راح يــدوس بأقدامــه على الرمــل‬
‫الناعم كيفما اتفق ‪ ...‬لقد كانت هنا أيام وذكرياتـ ال تزال محفورة كالوشم ‪ ،‬ســار بعــدها يضــرب كــل‬
‫يوم أنحاء من المدينة ‪ ،‬ويتوقفـ حيث كان له عبق من الطفولة والصــبا أريج ذكريــات هنــا ‪ ،‬وشــقاوة‬
‫طفولة هناك ‪ ،‬وعلى هامش الثورة والتصحيحـ والسياسية التي ما أثاره قط شــيء منهــا قــدر مــا أثــاره‬
‫بؤس أسرة المعسلي الــتي أضــحت بعــد أن كــانت في يــوم من األيــام ترفــل في نعيم كــان هنــا ‪ ،‬وقــد‬
‫اقتادتـاه فيمــا اقتادتـاه يومـا ً لحي المعلى ‪ ...‬فتوقــف قــرب الثالث عمــارات الالتي تـراءت لـه جميلـة‬
‫ومنسقة وشــاهقة أكــثر ممــا مضــى ‪ ..‬تلــك الــتي كــانت ملــك المعســلي ملــك البن واللبــان والعســل لــه‬
‫وإلخوانه أيضا ً ‪ ...‬ثم آلت إلى حيازة دولة الثورة ‪ ..‬فتأملها للحظات خاشعة ومــأخوذة ووقــورة ‪ ...‬ثم‬
‫‪3‬‬
‫قال بأسى دون أن يرفع نظراته منها ‪ " :‬لقد كانت لنا "‬
‫وهذه حال تثير في عقله تساؤالت حائرة ‪ ،‬تتردد إجاباتهاـ بين احتماالت متناقضة ‪ ،‬فـ" هل يكــون هللا‬
‫الواحد الذي أراد أن يكافئ قسوة التجارة وعنفها بقسوة أي شيء آخــر وعنفــه ‪ ..‬قــد يكــون الثــورة أو‬
‫غيرها ؟ ومسح دموعه ‪ ،‬لقد كان الحاج المعسلي يستخدمـ ما هو مشروع وغـير مشـروع في التجـارة‬
‫"‪ "......‬لعل هللا قد بعث هذه الضــراوة في الثــورة ‪ ...‬هــذه مقابــل ضــراوة الحجــارة في البن ‪ ،‬ولعلــه‬
‫‪4‬‬
‫الشيطان وحده الذي ‪"....‬‬
‫ومع تأكيده على وقوفه في صف الثورة ‪ ،‬وأن ثورة الجنوب قد حققت بعض المكتســبات ال يســتطيع‬
‫منكر إنكارهـا ‪ ،‬كالسـيطرة على كامـل تـراب اليمن الجنوبيـة في دولـة واحـدة ‪ ،‬وإنهـاء المحميـات ‪،‬‬
‫ومقاطعات السلطنات التي كان يستحوذـ عليها شرذمة من الســالطين المتحكمين ‪ ،‬والنهــوض بــالمرأة‬
‫وارثة الحريــة واالنطالق ‪ ،‬فــإن ذلــك لم يمنعــه من التصــريح بتســاؤالته المضــمخة بمعــانيـ الــرفض‬
‫لبعض ما يحدث هنـاك ‪ ،‬فنسـمعه يتسـاءل مسـتثاراًـ بتلـك العمـارات المؤممـة الـتي أخـذ ينظـر إليهـا‬
‫والحسرة تمأل قلبه ‪ ،‬فيقول ‪ ":‬ولكن هل كان يتوجب القيــام بتــأميم العمــارات وتنفــير النــاس ؟ وســار‬
‫يهذي بعد ذلك في شوارع المعلى الخلفية بعد أن نزع نظراته بقسوة من العمارات ‪ ،‬هل كان يتــوجب‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪34‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪37‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص ‪38،37‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع السابق ‪ ،‬ص‪32‬‬

‫‪159‬‬
‫ذلك !؟ بدالً من أن تســتفز هــذه الثــورة العمــال والفالحين والمجتمــع مثالً في ثالثمائــة كيلــو مــتر من‬
‫ً ‪1‬‬
‫األرض بالفؤوس في وادي حضرموتـ مثالً ‪ ...‬مثال "‬
‫ثم يلمح إلى انحراف المسار الثوريـ وغياب الرؤية والهدف بسوق تلك الواقعة المثيرة للغرابة والتي‬
‫شاهدها بأم عينيه تجري في شوارع عدن ‪ ،‬حين تفاجأ بجيش من المتظــاهرين يســدون الطرقــات في‬
‫الشــوارعـ واألحيــاء تســاندهم قــوات األمن والجيش يهتفــون ( واجب علينــا واجب تخفيض الــرواتب‬
‫‪2‬‬
‫واجب ) "‬
‫وهكذا يستمر المكان ‪ -‬الــذي تضــطربـ في أرجائــه الشخصــية ‪ -‬في تأديــة دورة المــؤثر على تنــامي‬
‫تفاعلها من خالل ما يكشف من مظاهر وما يتضمن في معطيات ‪ ،‬حتى ينتهي بهــا إلى حقيقتهــا الــتي‬
‫تقنع بها ‪ ،‬فما كان شكا ً يصبح مع نمو الحدث واستمرار التفاعل يقينا ً راسخا ً ‪.‬‬
‫فنور الذي بدا متفائالً بما يعكسه المكــان من مالمح التغيــير ‪ ،‬ثم أخــذ الشــك يتســرب إلى نفســه شــيئا ً‬
‫فشيئا ً ‪ ،‬حتى تجلت أمام ناظريه حقيقة البشاعة التي أخذت تتأصل في قلب المكان مع انحراف مســار‬
‫التغيير الثوري ‪ ،‬ليتكشف مكانا ً ضــاغطا َ يــدفع بــه دفعـاًـ قويـا ً في اتجــاه إحباطــه ويأســه ‪ ،‬فلم يعــد‬
‫المكان فضاء للحرية واالنطالقـ كما كان يؤمل ومعه كل المناضلين ‪ ،‬وإنما غــدا أشــبه بســجن خــانق‬
‫يحاصر حركته ويقيد حريته ‪ ،‬فمسكنه الذي يتم تفتيشه في غيابه واقع تحت المراقبة وبإمكانهم اقتياده‬
‫في أية لحظة من النهار أو الليل ‪ ،‬ففي إحدى الصباحات " وبعد أن دلك أسنانه وغسل وجهه وتنــاول‬
‫وجبة من البصل المحروق من الفاصوليا في مطعم السعادة ‪ ،‬كـان اثنـان من العيـون ‪ -‬كمـا قـدر‪ -‬في‬
‫انتظاره خارج المطعم "‪ "......‬وعندما خرج بسرعة أمسكا به من قبضتيـ يديه وســاعديه ‪ ،‬ودون أن‬
‫يتيحا له لحظة من الكالم أو التساؤل اقتاداه إلى سيارة جيب حبة وربع ياباني بها ثالثة من الحــرس‬
‫المسـلحين "‪ ، 3‬وحركتـه مرصـودة فيـه حـتى أصـبح يحـاذر إضـاءة المصـباح ‪ ،‬فحين أعلنت سـاعة‬
‫التحرير الثانية عشرة " أطفأ السيجارة وأطفأ النور في إحساس ال يخيب من أن العيــون الســاهرة في‬
‫‪4‬‬
‫ضروب التحرير الشك تتطلع إلى النور المشتعل في الغرفة "‬
‫ومطعم السعادة الذي كان حافالً بالرفاق ‪ ،‬عـاد خاليـا ً بفعــل تتبـع األجهـزة األمنيـة لهم ‪ ،‬فبعضـهمـ قـد‬
‫اختفى بطريقة غامضة كالدباسي والسريحي ‪ ،‬وبعضهمـ زج به في المعتقل كعلوان ‪ ،‬وبعضهم رحل‬
‫كعبد الواحد ‪ ،‬وبعضهمـ يرى مجنونا ً في ميدان التحريرـ كماجد اليعربيـ ‪.‬‬
‫وهو دائم الزيارة للمعتقل ‪ ،‬حتى كان به وهم يأخذونه إليه – يتأهب لزيارة أصدقائه ‪ ،‬لوال أن جــدت‬
‫على هذا المعتقل في اآلونة األخيرة أشكال من التعذيب اليقدم على ممارستها حتى الوثنيين أو عبدة‬
‫‪5‬‬
‫النارمن المجوس "‬
‫وفي الطريقـ إلى المعتقل ‪ ،‬يستخدم المكان ساحة للتمويه ‪ ،‬حين تأخذ السيارة التي تحمله طريقهــا في‬
‫‪6‬‬
‫شوارع وأحياء وأزقة متشعبة ‪ ،‬تموه إدراكه فال يعرف من أين جاء وال إلى أين سيصل "‬
‫فهذا مكان يصعب على المرء الصمود فيه ‪ ،‬وألجل ذلك نشــهد ( نــور) يتــدرج نحــو نقطــة انهيــاره ‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫فيعتزل الصحاب ‪ ،‬ويفقد لذة الحياة ‪ ،‬حتى يصبح للماء عنده طعم الطين والتراب "‬
‫" لقد كان محطما ً بما فيه الكفاية ‪ ،‬ومهانا ً ومذالً إلى أبعد ما كان يتصور بطل أن يجد نفســه فجــأة في‬
‫هذا الهول من المأزقـ ‪ ،‬وبعد أن كان ينتظر أو ال ينتظر في كل أيامه التي مضــت حــتى كلمــة شــكر‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪21،20،19‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪89‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪88،99‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪114،113‬‬
‫‪ 5‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪112‬‬
‫‪6‬المرجع السابق ‪،‬ص‪102‬‬
‫‪ 7‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪102‬‬

‫‪160‬‬
‫أي شكر على التضحية وليس وســام الشــرفـ "‪ 1‬ثم تــأتي لحظــة إعالن تكــريم المناضــلين من أبطــال‬
‫الثورة وأبطالـ السبعين ‪ ،‬فيتأهب معتقداً أنه أحــدهم ‪ ،‬وهنــا اجتمــع الصــحاب وراحــواـ يعــدون شــرابا ً‬
‫وعشــا ًء احتفــاالً بالوســامـ المنتظـرـ ‪ ،‬ثم ذهب إلى مبــنى القيــادة لالطمئنــان فقــط ‪ ،‬لكنــه يكافــأ مكافــأة‬
‫أخرى ‪ ،‬فحين صعد طوابق المبنى لم يجد أحدا يسأله أو يقول له شيئا ً " قدرـ ما وجد أرتاالً من طيور‬
‫الرخمة ذات األلوان المختلفة ‪ ،‬وكذا بعض البوم يحتالن نوافذ وشرفات وثقــوب المبــنى ‪ ..‬ولتتخبــط‬
‫بأجنحتها ومناقيرها اللتين أهالتا عليه وابالً من جراء فزعها وتخبطهـاـ من خرائهــا المعتــق والطــازجـ‬
‫وبعض بيوضها المنقورة قيد الفقس ‪ ،‬ليعود ملطخا ً بخالئط فضــالتهاـ ‪ ،‬كأنمــا انــتزع من بيــارة ‪ ،‬ثم‬
‫يستمع في نفس الليلة الذاوية بأضواءـ وابتهاجات الذكرى الثامنة عشر للثورة من شاشة التلفزيون إلى‬
‫صوت المذيع المبتهج ‪ ،‬الذي كان يتلو أسماء مكرمة بهذه المناسبة بأوسمة شرف البطولة للثــوارـ من‬
‫‪2‬‬
‫الدرجة األولى ‪ -‬إلى أسماء ال يعرفها وال يدري عنها شيئا ً "‬
‫هكذا تنتهي هذه الشخصية مستسلمة ليأسها منطوية على هزائمها ‪ ،‬ال تجد أمامها سوىـ أعمالها الفنية‬
‫التي رافقتها طوال حياتها والتي برزت تجسيداً واضحاًـ ألهمية المكان وأثره ‪ ،‬حيث تحول كل ما دار‬
‫عليه من أحـداث ‪ ،‬ومــا حفــل بـه من مظـاهر ‪ ،‬ومــا احتضــن من تجــارب لشخصــيات عاصـرتهاـ في‬
‫حياتها إلى لوحات فنية تخلد هذه األحداث كمدركات مكانية حافلة باللون والخط والظالل ‪.‬‬
‫فألن مالمح هذا المكان يطغى عليها النقص لم تكتمل جميع اللوحات ‪ ،‬وألن األمل مســمول في وجــه‬
‫هذا المكان ‪ ،‬سملت عيون هذه اللوحات ‪ ،‬وألن كل ما في هــذا المكــان شــائه ال يســتحق إال الطمس ‪،‬‬
‫كان ذلك الفعل الذي اتخذته من لوحاتها ‪:‬‬
‫" أغطش الفرشــاة في الصــبغة الحمــراء ‪ ،‬وأخــذ يطــرطشـ بهــا في وجــوه الثالث على غــير هــدى ‪،‬‬
‫ويرسمـ أقواساًـ صغيرة فيها وأشكال همزات صغيرة أيضا ً أراد بها تكثيف خربشات الغضون والنمش‬
‫‪ ،‬وقدـ تساقطت من ســرعة الفرشــاة والخطــوط نقطـا ً من األصــبغة الحمــراء ‪ ،‬تم ينتبــه لهــا كلطخــات‬
‫وانفرشت ما بين العيون والوجوه واألقواس والهمزات كأنما دمــوع ‪ ،‬وحين انتهى من الرســم وضــع‬
‫‪3‬‬
‫شخطات في األسفل عند األقدام كأنما لمدينة عاهرة يقفن عليها البغايا "‬
‫لكن هذا الفعل لم يكن الفعل الذي تبلغ به الشخصية موقفها الذي ينهى عــذاباتها ‪ ،‬ولم يكن بإمكانــه أن‬
‫ينهى تفاعلهــا ‪ ،‬فال تــزال تعيــد النظــر في مالمح وخطــوطـ تلــك اللوحــات باحثــة فيهــا عن جواهرهـاـ‬
‫الخالدة واألصلية ‪.‬‬
‫ولشخصيات القصة القصيرة – أيضا ً – طرقها الخاصة في بناء عالقاتها مع أمكنتها ‪.‬‬
‫ففي قصة ( خطوات في الليل ) ‪ 4‬نلتقي شخصية يختزل تكوينهـاـ صــورة كــل الحــزاني والطيــبين من‬
‫أناس المدينة التي تنتسب إليها ‪ ،‬فهي محبة لمدينتها ‪ ":‬بيني وبين هذه المدينة عشق ال ينتهي ‪ ،‬حتى‬
‫نكاد نتوحد ألمـا ً وفجيعــة "‪ ،5‬ومتوحــدة بهــا ‪ ،‬متعبــة وحزينــة ‪ ،‬ومقهــورة وخائفــة ‪ -‬تمامـاً‪ -‬مثلهــا "‬
‫ترتعش المفاصل بفعل نسمات خفيفة تهب مع الليل الجــاثم على صــدريـ وقلب المدينــة ‪ ،‬وعواصــف‬
‫من الخوف تجتاح كلينا "‪ ".....‬هذا الجسد المتعب وهــذه المدينــة أيضـا ً مثلي تمامـا ً ‪ - ،‬قلت كالنــا ‪...‬‬
‫واحد ‪ ...‬أنا وهذه المدينة "‪ "....‬وأذكر بأني كنت وحيداً وحزيناًـ والمدينة مثلي حزينة ‪"........" !....‬‬

‫‪،1‬نفسه ‪ ،‬ص‪104،103‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص ‪124‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪124‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق‪ ،‬ص ‪123‬ـ‪122‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪123‬‬

‫‪161‬‬
‫والليــل والمطــرـ المتســاقط علي وعلى صــدر المدينــة أيضــا ً "‪ "..........‬وتفتح زوجــتيـ ‪ ....‬خائفــة‬
‫‪1‬‬
‫مثلي ‪ ....‬وهذه المدينة ! "‪ "........‬هي مثلي ومثل هذه المدينة ‪ ....‬جميعنا ً ‪ ...‬خائف ومقهور "‬
‫والمدينة التي تظهر في هذا العمــل مهجــورة ‪ ،‬صــامته ‪ ،‬ال صــوت فيهــا ســوى وقــع خطــوات رتيبــة‬
‫ومخيفة كإيقاع ساعة قديمة لجندي بمعطف كاكي وفك متسوس يتتبع خطــوات الشخصــية ‪ ،‬تجتاحهــا‬
‫البرودة وعواصف الخوف ‪ ،‬ويجثم على صدرها ليل أسود ثقيل ‪ ،‬لم تختلف حالهــا ع ّمــا كــانت عليــه‬
‫قبالً بل ربما هي اآلن أشد سوءاً مما كانت عليه ‪ " :‬يأتي األمر مع هــذا الليــل وصــمت المدينــة أكــثر‬
‫فزعا ً مما كان عليه في تلك األيام " ‪2‬وكما كانت محكومة بجاهل متخلف ال يصدق إال عصاه الغليظة‬
‫التي يخرس بها كل األلسـنة ‪ ،‬هي كــذلك محكومــة بعصـابة جهـل وتخلــف ‪ ":‬حــل في عمــق الــذاكرة‬
‫األلم ‪ ..‬كان اآلخــر أيضـا ً ال يقــرأ ‪ ،‬ويصـرـ على تكــذيب الصــفحات المســودة ‪ ،‬ويــدمغ الليــل بعصــاه‬
‫‪3‬‬
‫الغليظة "‬
‫وأما صوت المغني الذي يتردد بين حين وآخر ليكسر صمت المدينة ‪ ،‬فهو جـرس إنـذار ينبــه أناسـها‬
‫إلى عدم االكتفاء بذلك االنتفاض الــذي حــدث حين تفجــرت الثــورة ‪ ،‬ألن الثــورة عمــل دائب وتغيــير‬
‫مستمر ‪ ،‬وألن األوضاع على ما يبدو لم تتغير بل ربما ازدادت سوءاً ‪.‬‬
‫ولذلك كانت األغاني منتقاه بشكل يشير بقوة إلى هذه الغاية ‪ ،‬وهو صوت تشعر معه الشخصــية بأنهـا‬
‫ليست وحيدة ‪ ،‬وأن حزنهاـ وحزن مدينتها البد أن ينتهي في يوم من األيــام ‪ ،‬تقــول كلمــات األغنيــة‬
‫األولى ‪:‬‬
‫وعاد وجه الليل عابس‬ ‫يا قافلة عاد المراحل طوال‬
‫واستنفريـ كل الفوارس‬ ‫يا قافلة رصي صفوف الرجال‬
‫‪4‬‬
‫ال تأمنوا شر الدسائس‬ ‫قولي لهم ‪ :‬عاد الخطر ما يزال‬
‫وتقول كلمات األغنية الثانية ‪:‬‬
‫هذه األخبار من دار اليقين‬ ‫يا حزاني يا جميع الطيبين‬
‫بالعشاياـ الصفر بالصبح الحزين‬ ‫قررواـ الليلة أن يتجروا‬
‫‪5‬‬
‫من شعاع الشمس ما يكفي سنين‬ ‫فافتحواـ أبوابكم واختزنوا‬
‫ومع هذا الصمت المطبق والخوفـ والرصدـ والمعتقالت ‪ ،‬تظـل الشخصـية متمســكة باألمــل ‪ ،‬وتظـل‬
‫تعمل ليالً ‪ ،‬ترص حروفـ النور على آلة مهترئة ينساب صوتها عبر أزقة المدينة الخائفة دافئا ً حنونا ً‬
‫‪ ،‬حتى إذا ما أطل الصبح ‪ ،‬وشق شعاع الشمس امتدادات األفق ‪ ،‬رن صوت قادم من أزقــة المدينــة ‪،‬‬
‫وأوحالها ‪ ،‬لطفل ينادي ‪ :‬الصحيفة ‪ ،‬والصحيفة ‪ " :‬للصبح وجه آخر ‪ ،‬مع وحل المدينــة ‪ ،‬وآهــات‬
‫المتعبين ! " آه يا حزاني يا جميع الطيبين " ‪ ،‬رنين الطفــل القــادم من األزقــة ووحــل المدينــة يبعث‬
‫على االنتعاش ‪ .‬وأنهض مسرعا ً على نداء الصوت ‪..‬‬
‫‪ -‬الصحيفة ‪ ....‬الصحيفة ‪.‬‬
‫أخطف منه النسخة األولى ‪ ...‬أشعر بدفئها وأبدا أتصــفح األســطر كمــا لــو كنت ال أعرفهـاـ ‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫بعض من الفرحة تسلل مع شعاع الشمس القادم وهذا الفجر "‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪124‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪123‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪190 ،‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪162‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪245‬‬
‫‪ 6‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪190‬‬

‫‪162‬‬
‫وتظهر الشخصية في قصة ( الصبر في مدينة جميلة ) قدراً عاليا ً من السلبية حين تنتهي إلى‬
‫إقامة عالقتها مع مكانها وفقا ً لمنطق يجنح إلى التعايش السلبي مع ما يحف بــه المكــان الــذي‬
‫تقيم فيه من مظاهر القبح والبشاعة ‪ ،‬تحدثنا قائله ‪ ":‬أمسكت بخيط الظالم ومشيت متروبصاًـ‬
‫عبر الطارودـ الطويل ‪ ،‬وفيـ زواية مجهولة قضيت حــاجتي وعــدت الى النــوم تاركـا ً رائحــة‬
‫من روائح الناس خلفي "‪ ".......‬أشعر بجســم بــارد يتحــرك عنــد قــدمي ‪ ،‬مــددت يــدي بخفــة‬
‫وأمسكت به ‪ ،‬حاول المقاومة ‪ ،‬ولكن بدون جدوى ‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬نم يا فأري العزيز في حضني ‪ ،‬هنا حين الدفء ‪ ،‬حتى يأتي الصباح "‬
‫لكنها على الرغم من سلبيتهاـ ‪ ،‬فإنها ال تغادرنا إال وقدـ أثارت فينا روح المفارقة الناجمــة عن‬
‫تلك المقابلة التي تقيمها مـا بين صـورة المكـان الـذي تقدمـه ‪ ،‬وصـورة ناسـه المقيمين فيـه ‪،‬‬
‫وهي المقابلة التي تشكلت عليها تجربة هذا العمل ‪.‬‬
‫فالمدينة – في طبيعتها الجغرافية – غاية في الجمال ‪:‬‬
‫" المدينة صغيرة جميلة ‪ ،‬قابعة فوقـ ربوة خضراء بقلب تفوح منه عطور وريحان ‪ ،‬سنابلهاـ‬
‫ذهبية مائجة ‪ ،‬نسمات صباحهاـ ندية "‪ ".......‬األمطار تهطل بغزارة على المدينة وجباله ـاـ ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ترقص سنابل قمح الموسم الشابة في المدرجات المتعانقة فوق بعضهاـ كحوريات "‬
‫أما أناسها فهم واجمون بوجوههمـ المتغضنة الشاحبة ‪ ،‬التي حفــر القبح على صــفحتها شــقوقا ً‬
‫تحيل ابتساماتهم إلى تكشيرات ذئاب جائعة ‪ ،‬ودواخلهمـ جافة مســكونة بالجــدب ‪ ،‬وأعمــارهم‬
‫تفنى في أتون المشارعات والمراجعات حتى أن من وقع أقدامهمـ شارع الشــيطان المنبطح‬
‫أمام دار الحكومة ‪:‬‬
‫" تجاعيد الوجوه تحيل االبتسامات إلى تكشيرات ذئاب جائعة أسنانهم الشــبيهة بأصـواتـ آلـة‬
‫خياطة ‪ ،‬أخــال أصــواتهمـ تخــرج من آبــار جافــة مســكونة "‪ "........‬لــون النــاس يختلــف عن‬
‫مدينتهم ‪ ،‬ألنهم كشاحنات مينــاء المخــاء القديمــة ‪ ،‬وجــوههمـ شــاحبة وأجســامهمـ نحيلــة ‪ ،‬أمــا‬
‫‪3‬‬
‫مشاكلهم فهي كثيرة معقدة النهاية لها "‬
‫فعجيب أمر هذه المدينة الصــابرة ‪ ،‬كيــف تكــون بكــل هــذا الجمــال األخــاذ ‪ ،‬وتحتضــن‪ -‬في‬
‫الوقت نفسه ‪ -‬كل هذا القبح ؟ كيف ال تهب وتنفضه عنها ؟ كيــف ال يــؤثرـ جمالهــا في نفــوس‬
‫أهلها ؟ كيف يتحركون بين كل هذا الجمال المثير وال تستجيب له أنفسهم‬
‫وفي قصة ( القادم من خلف الغيوم ) نلتقي شخصية تنتصر على خوفهاـ في مكانها المــوحش‬
‫المظلم على بوابة قريتهاـ ‪ ،‬بمواجهة مصــدرـ ذلــك الخــوف ‪ " :‬خيــل إليــه بأنــه يســمع صــوت‬
‫خطــوات قادمــة ‪ ...‬تصــلبت أصــابعه على الزنــاد ‪ ،‬وتجهم وجهــه ‪ ،‬وبــدأ ينظــر أصــحاب‬
‫الخطوات ‪ ،‬أضاء البرق المكان بقوة ‪ ،‬وتبين عدد األشباح المتربعة ‪ ،‬كانوا سبعة منطلقين‬
‫نحوه بعد أن أضــيئت المنطقــة بلمعــان الــبرق ‪ ،‬شــد الزنــاد بقــوة وهــو يحــرك البندقيــة يمينـا ً‬
‫وشماالَ ‪ ،‬ساد السكون ‪ ،‬وبدأ المطــر يــنزل بغــزارة ‪ ،‬وهــو متصــلب وبندقيتــه مصــوبة نحــو‬
‫الصخرة والدخان يخرج منها ‪ ..‬انقشــعت الغيــوم ورأى األشــباح مجندلــة على األرض الــتي‬
‫‪4‬‬
‫ارتوت "‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪241‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪192‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪193‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪148‬‬

‫‪163‬‬
‫وفي قصــة ( المومســات والمنظــرون ) نلتقي نموذجـاًـ لشخصــيات هي ضــحايا وجودهــا في‬
‫مكان يستأسد فيــه القهــر ويتعملــق التســلط والخــداع ‪ ،‬لكنهــا على الــرغم من انخراطهــا في‬
‫طريق فرض عليها ليرسخ لضياعها وغرقهاـ في يأســها وإحباطهــا ‪ ،‬فإنهــا ال تــزال قــادرة‬
‫على تلمس ما بقي من كرامتهاـ ‪ ،‬فتساندـ بعضها كي ترمم شقوق أنفسها ‪.‬‬
‫وتنتصرـ على تهدمها ‪ ،‬سـاعية إلى خالصـهاـ ‪ ،‬متعاليـة على مـا مضـى من تجربتهـا البائسـة‬
‫المحطمة ‪ ،‬متجــاوزة ذلــك الطريــق الــذي فــرض عليهــا ‪ ،‬فمن وكــر الــدعارة ‪ ،‬ذلــك المكــان‬
‫الحافل بالقذارة والسقوط ‪ ،‬يأتي هذا الفعل المنتقض ليردم هوة التبعثر والضياعـ ‪:‬‬
‫" اللقاء متقارب ‪ ...‬المكان لم يكن مهيأ لمثل هذه الجلسة وهذا النقاش ‪ ..‬الوجهان متقــابالن ‪،‬‬
‫األعمار مجرد ندبات بسيطة خطها الزمن ‪ ،‬االجتماع ‪ ..‬كل واحــد رمتــه مأســاة إلى حضــن‬
‫الرذيلة ‪ ...‬وهي ‪ ....‬و‪ ....‬هو ‪ ،‬يدها تحت ذقنهاـ ‪ ،‬وهي ساهمة معه في كلماتـه ‪ ،‬واســتطراده‬
‫المؤلم عن نواقيس البداية المهلكة للحكايات الكثيرة التي تلم بالجميع ‪ ...‬ومــاهوـ إال واحــد من‬
‫مليون محبط بالعذاب والتسخير والمشقة "‪ "......‬فلتمحي دموعك ‪ ،‬ولتحــرقي كــل مــا جلبتــه‬
‫مهنة الدعارة القذرة والموسومة بها أفعالهم النتنة ‪ ...‬ولتذهبيـ معي "‪ ".....‬جرحي كجرحــك‬
‫ال ينــدمل ‪ ،‬فجــرح الكرامــة ‪ ،‬ســيظل يــنزفـ إلى أن يــرى مصــرعـ الظالم والمتســلطين على‬
‫رقاب البشر ‪ ،‬والمستغلين نفوذهم للوصولـ إلى مآربهمـ الدنيئة ‪ ،‬لن يندمل الجرح ولن يطيب‬
‫إال مــتى أشــرقت اإلشــراقة الحقيقــة وأعــادت الــروح إلى األرض ‪ ،‬واغتســلت الوجــوه بمــاء‬
‫السماء المملوء بالحب واإلخاء – ونبذت األشرار المتلذذين بلعق دماء الناس الطيبين ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫فلتذهبي معي ‪ ...‬ولنبعد عن هذا الحي الحالك ولنخط السير معا ً ‪ ...‬هيا ‪ ...‬هيا "‬
‫وفي قصــة ( في الحــوش رقم ‪ )7‬اليــؤدي الــزج بالشخصــية – الموصــومة ظلمــا ً وبهتانــا ً‬
‫بالجنون – في مصحة عقليــة إلى انقطاعهــا عن الغنــاء ‪ ،‬وإنمــا نلقاهــا مســتمرة في غنائهــا ‪،‬‬
‫تصدح يصوتها – الذي صار أكثر تميزاً – من داخل حوش المصــحة ‪ ":‬اســترق الســمع إلى‬
‫الغناء الذي تبينه أكثر كلما قطعت السيارة مسافة أكثر إلى األمام ‪ ،‬نظر الى مرافقيه فبــادراه‬
‫باالبتســام وهمــا يشــيران لــه إلى بوابــة المصــحة الــتي ابتعلت الســيارة ‪ ،‬فاحتضــنته الســاحة‬
‫وأشجار الريحان ‪ ،‬وصار صــوته ممــيزاً دون غــيره من المغنــيين ‪ ،‬وكــان يتعمــد أن يرســل‬
‫‪2‬‬
‫صوته شطرـ الحوش رقمـ (‪" )7‬‬
‫وفي قصة ( أول المنتحــرين) تثــور الشخصــيات داخــل الســجن متخــذه موقفـا ً جماعيـا ً تغــير‬
‫مصيرها ‪ ،‬حين اخترقت حواجز المكــان وأســواره بمســاعدة الجنــود الــذين فــروا أيضـا ً بعــد‬
‫انضمامهم إلى فريق السجناء ‪.‬‬
‫أما ( علي ) الشخصية الرئيسية ‪ ،‬فقد حكمت على نفســها بالبقــاء في الزنزانــة الــتي انســحب‬
‫اليهــا بهــدوء رغم ســنوح فرصــة الهــرب بعــد انتحــار مــدير الســجن ‪ ،‬وهــو حكم لــه أبعــاده‬
‫العميقة ‪ ،‬فــذاك هـو المصـير الــذي تســتحقه هــذه الشخصــية المتخليــة عن تاريخهــا النضــالي‬
‫والوطنيـ الطويل ‪ ،‬والمتخذة موقفا ً مهادنا ً يمسك العصا من المنتصف ‪.‬‬
‫" وقف المدير فجأة في صحن السجن المرصوفـ بالحجــارة الصــماء ‪ ..‬وفيـ يــده مسدســه ‪،‬‬
‫وصاح بي ‪:‬‬
‫‪ -‬أستاذ علي ‪!........‬‬
‫‪ -‬نعم ‪!...‬‬
‫‪ 1‬منير حسن مسيبلي ( اطوار حلم االبحار ) مرجع سابق ‪،‬ص‪62،55‬‬
‫‪ 2‬صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪91‬‬

‫‪164‬‬
‫هل هرب المساحين ؟‬ ‫‪-‬‬
‫كما قلت لي ‪ ...‬نعم !‬ ‫‪-‬‬
‫والحرس ‪....‬؟‬ ‫‪-‬‬
‫أيضا ً كما يبدو ‪!....‬‬ ‫‪-‬‬
‫والكتبة في القصر ‪..‬؟؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولم يبق سواناـ ؟؟!‬ ‫‪-‬‬
‫نعم ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تحفزت عندما أشهر مسدسه ‪ ..‬لم يكن أمــامي أي مفــر للنجــاة من إصــابته المباشــرة إذا اقــدم‬
‫على ضغط الزناد ‪....‬‬
‫ودوت طلقة نارية ‪ ..‬هزت بصداها صحن الســجن المرصــوفـ بالحجــارة الصــماء وجوانبــه‬
‫الرفيعة ‪ ..‬كانت الطلقة قد استقرت في صدغه األيمن ‪ ..‬وخــر صــريعا ً كلــوح خشــبي محــدثا ً‬
‫صوتا ً رنانا ً على قارعة صحن السجن المرصوفـ بالحجارة الصماء ‪...‬‬
‫اتجهت إلى باب زنزانتي المنفردة التي أكل درف بابها الدهر وشـرب عليهـا ‪ ،‬وهجعت فيهــا‬
‫‪1‬‬
‫خامداً "‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( العقرب ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪142،141‬‬

‫‪165‬‬
‫الـفصـل الـثالــث‬

‫الموضوع والغايات‬
‫التـغـيـريــة‬

‫أوالً ‪ :‬موضوع الرواية والقصة القصيرة اليمنية ‪:‬‬


‫لقد اســتوعبت الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة أهم الموضــوعات الــتي شــغل بهــا‬
‫المجتمــع اليمــني خالل فتراتــه المختلفــة ‪ ،‬فكــانت معظم موضــوعاتهاـ تــدور حــول قضــايا‬
‫اجتماعية وسياسية تتصل بمشكالت حقيقية يعاني منــه المجتمــع في الريــف والمدينــة حــال‬
‫وقوعه تحت أنظمـة سياسـية عكسـت بقـوة آثارهـا على األوضـاع االجتماعيـة وعلى حيـاة‬
‫الناس بمختلف شرائحهم ‪ ،‬كما استوعبت ذات الكاتب الذي ظل يحاول الــتزام الموضــوعية‬

‫‪166‬‬
‫والحيادية في تعاملــه مـع موضــوعه المختـار أو قضـيته المنتقــاة الــتي تمثــل أيضـا ً قضـية‬
‫مجتمع هو ينتمي إليه بقوة ‪ ،‬لكنه قد يخفق في بعض األحيان فيعجز عن تنحيــة ذاتــه الــتي‬
‫تفرض حضورها على أعماله ‪ ،‬والتي تظهر متأثرة بقوة الزمن الذي وضــعت فيــه القصــة‬
‫والروايــة ‪ ،‬ويظــل الجــدل بين ذات الكــاتب بمــا تمثلــه هــذه الــذات من فكــر ووجــدان وبين‬
‫الموضوع المتناول بما يتضمنه من إحــاالت على الواقــع ومتغيراتــه المختلفــة ‪ ،‬وفي كثــير‬
‫من األحيان نجد الــذات وقــد وقعت رهنـا ً لإلحبــاط واليــأس والتشــاؤمـ لشــعورهاـ بمحدوديــة‬
‫قدرتهاـ على تغيــير واقــع مجتمعهــا المحفــوف بصــورـ القمــع ووأد التطلعــات ‪ ،‬وإلحساســها‬
‫بخلل العالقات التي تحكم حركة المجتمع من حولها ‪ ،‬وخلل عالقتها به ‪ ،‬ومن هنا نجد بأن‬
‫صوت الذات قد يرتفع ويعلوـ في بعض األحيان حتى يغيب موضوعية هــذه األعمــال وفي‬
‫أحيان أخرى نجدها تــذهب إلى الحلم حيث يصــبح الحلم تقنيــة فنيــة تســتطيعـ أن تحقــق بهــا‬
‫ومن خاللها ماال يمكنها تحقيقيه على أرض الواقع ‪ ،‬فتخلق عبره عالقاتها وعالقات الواقع‬
‫المحيط في محاولة منها اللتماس حالة من التوازن تســتطيع معــه أن تســتمر في ممارســتهاـ‬
‫حياتها ‪.‬‬
‫ومع إن األعمال الروائية والقصصية اليمنيــة ال تفـرز ‪ -‬إإل فيمــا نـدر – قيمـا ً معينــة يمكن‬
‫الوقوف عليهــا كحــدودـ فاصــلة لتصــنيفـ هــذه األعمــال بحســب موضــوعهاـ ‪ ،‬حيث يكــون‬
‫حضــورـ الموضــوعـ االجتمــاعي إلى جــانب الموضــوعـ السياســي والعكس ‪ ،‬فــإن تصــنيفها‬
‫بحسب موضوعها يكون خاضعا ً لغلبة بروز مالمح أي من الموضوعين على اآلخر ‪ ،‬مــع‬
‫األخــذ بعين االعتبــار أن هــذا الــبروزـ ال يقلــل من أهميــة حضــورـ الموضــوعـ اآلخــر ‪،‬‬
‫فالموضوعـ السياسي ال تتم معالجته بمعزل عن تأثيره على حياة بسطاء الناس في المجتمــع‬
‫‪ ،‬والموضــوع االجتمــاعي ال ينشــأ متناســيا تــأثير األوضــاعـ السياســية وإســهامها في خلــق‬
‫مشكالت يعاني منها أبناء المجتمع ‪.‬‬
‫تبعا َ لهذا المنطلقـ ‪ ،‬فإن معالجتناـ الموضوع في الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة ســتلتزمـ‬
‫معيار الزمن الذي وضعت فيه الرواية ‪ ،‬زمن الكاتب حيث – كمــا أســلفنا – يشــكل الــزمن‬
‫معياراَ محدداَ لطبيعة تناول الكاتب لموضوعه ‪ ،‬فاألعمــال الــتي توضــع في خضــم زمنهــا‬
‫المحفوف بكثير من المشكالت والمخــاطرـ هي – بال شــك – تختلــف عن تلــك الــتي تتنــاول‬
‫موضوع زمن قد تجاوزته وتحررتـ من ضــغوطه وتهديداتــه ‪ ،‬إذ تنعكس حضــور الــزمن‬
‫الــواقعيـ على الموضــوعـ المتنــاول كمــا ينعكس على حضــور الــذات ‪ ،‬ودرجــة انفعالهــا‬
‫بموضوعها ودرجة تحسبها للمخــاطر المحدقــة ‪،‬ومقــدار الحريــة الممنوحــة للحــديث حــول‬
‫موضوع ما في زمنه أو في زمن آخر قد تجاوزه ‪ ،‬وعلى هذا فـإن تنـاول الموضـوعـ سـيتم‬
‫عبر المحاورـ اآلتية ‪:‬‬
‫الموضوع السياسي واالجتماعي في األعمال القصصية والروائية التي وضعت في زمن ما قبل‬
‫ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪:‬‬
‫وسوف تستعين الدراســة في هــذا الموضــع بروايــتي ( ســعيد) ‪ ،‬و ( مأســاة واق الــواق )‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬وبأعمال قصصية أخرى‬

‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان المحامي ( سعيد ) المطبعة العربية ‪ /‬عدن ‪1939‬م ‪.‬‬
‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( واق الواق ) مرجع سابق‬

‫‪167‬‬
‫وأمــا حضــورـ روايــة ( ســعيد ) فــذلك ألنهــا تســهم بالمشــاركة مــع روايــة ( مأســاة واق‬
‫الواق ) في تقديم صــورة واضــحة عن مســتوى وعي الروايــة اليمنيــة لواقعهــا االجتمــاعي‬
‫والسياسي والدورـ الذي يمكن أن تلعبه في التأثير على المجتمع بهدف تغييره ‪.‬‬
‫فالروايتــان تغطيــان موضــوعين منفصــلين يمثالن الموضــوعين األهم ‪ ،‬اللــذين اســتمر‬
‫حضورهما مجتمعين في تجربة الروايــة اليمنيــة بعــد ذلــك ‪ ،‬فروايــة ســعيد تبــني تجربتهـاـ‬
‫خالصة للموضوع االجتمــاعي ‪ ،‬إذ تركــز على قيم المجتمــع اليمــني في الجنــوب ومظــاهرـ‬
‫سلوكياته في أواخر الثالثينيات ‪ ،‬بينما تبني رواية ( مأســاة واق الــواق ) تجربتهــا خالصــة‬
‫للموضوع السياسي ‪ ،‬إذ تركزـ على األوضاعـ السياســية في شــمال اليمن بعــد إخفــاق ثــورة‬
‫‪1948‬م ‪ ،‬وهذه حالة ال نكاد نصادفها في تجربة الرواية اليمنية في فتراتهاـ الالحقة ‪ ،‬والتي‬
‫كما – أسلفنا – يجتمع فيها الموضوعان االجتماعي والسياســي إلى حــد االمــتزاج ‪ ،‬وبدايــة‬
‫برواية ( سعيد) التي قدم لها كاتبها بنبذة عن واقع عــدن االجتمــاعي في أواخــر الثالثينيــات‬
‫تحت عنــوان ( عــدن بين األمس واليــوم ) حيث بــدأ حديثــه عن تبــدل حــال أبنــاء عــدن‬
‫( العدنيين ) من الغنى إلى الفقر خالل الفترة التي تسجل عليها الرواية أحــداثها ‪ ،‬يقــول ‪" :‬‬
‫كانت عدن في يسر في أوائل هذا القرن ‪ ،‬فقد كان أهلها العرب قابضين على زمام التجارة‬
‫يملكون عشرات اآلالف من حيوانــات النقــل واألبقــار والمــاعز والضــان ‪ ،‬ويصــرفون مــا‬
‫يكسبونه على راحتهم ورفاهيتهمـ ‪ ،‬ويدخرون أمواالً طائلة ألبنــائهم ‪ ،‬أمــا اليــوم فقــد تبــدلت‬
‫‪1‬‬
‫الحال ‪ ،‬وأصبح الناس في عدن في حالة هي أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى‬
‫وهو اليغفل اإلصــالحات الــتي قــامت بهــا حكومــة بريطانيــا ‪ ،‬لكنــه يــرى أنهــا إصــالحات‬
‫ناقصة ‪ ،‬كانت نتيجتها أن أبناء عدن قد وجدواـ أنفسهم فقــراء ‪ ،‬نســمعه يقـول ‪ " :‬وال مــراء‬
‫أن عدن قــد تقــدمت تقــدما ً محسوسـا ً من حيث العمــران ‪ ،‬فطرقاتهـاـ مرصــوفة باإلســفلت ‪،‬‬
‫وماؤهاـ يجلب إلى الدور باألنابيب ‪ ،‬والكهربــاء تنــير البالد ‪ ،‬وقــد تحســنت قواعــد التعليم ‪،‬‬
‫ونظمت إدارة المعـــارف ‪ ،‬وأصـــلح المينـــاء وزاد عـــدد البـــواخرـ الواصـــلة إلى عـــدن ‪،‬‬
‫وتضاعفـ عدد السكان ‪ ،‬وقضى على كثير من األمراض المعدية وعلى المالريا لمــا تقــوم‬
‫به الــدوائر الصــحية من وســائل الوقايــة والمناعــة ‪ ،‬ولكن كــل هــذه اإلصــالحات ال تــزال‬
‫ناقصة نقصا ً فاضحا ً لعدم اعترافها بتوفيرـ وسائل الكسب وأسباب الرخاء ‪ ،‬فكــانت النتيجــة‬
‫أن المســلمين من ســكان عــدن أصــبحوا غالبـا ً يتضــورون جوعـا ً و اســتثمر خــيرات البالد‬
‫‪2‬‬
‫الرأسماليون من األجانب "‬
‫كما يشرح في هذه المقدمة األسباب الجوهرية للتبدل غير المرغوب فيها ويحصرها في ‪:‬‬
‫‪ -1‬كثرة الكمالي!ات وما تس!تنفذه من أم!وال الع!دنيين " ال!تي تتس!رب إلى الخ!ارج ثمن!ا ً‬
‫للس!!!يارات والب!!!نزين ‪ ،‬وكهرب!!!اء! وثلج ‪ ،‬وس!!!ينما! ‪ ،‬وماله وأث!!!واب ال تعيش إالًّ أيام!!!ا ً‬
‫‪3‬‬
‫معدودات ثم تصبح موضة قديمة ‪ ،‬ومشروبات روحية ومكيفات أخرى ‪.‬‬
‫‪ -2‬نظام الحكم الذي أباح للدخالء منافسة أبناء عدن األصليين الذين أرهقوا البالد وابتلع!!وا‬
‫مصالحها! ‪.‬‬
‫‪ -3‬الجهل المنتشر بين الناس ‪ ،‬وبين النساء على وجه الخصوص ‪ ":‬أما الجهل بين النس!!اء‬
‫فحدث وال حرج ‪ ،‬فإنهن يعتقدن بسفاسف األمور من زار وحروز! وتمائم! ون!!ذور وزي!!ارات‬
‫‪ 1‬محمد علي إبراهيم لقمان المحامي ( سعيد ) مرجع سابق (ص‪)3‬‬
‫‪ 2‬محمد علي إبراهيم لقمان (سعيد ) مرجع سابق (ص‪) 3‬‬
‫‪3‬المرجع السابق (ص‪) 3‬‬

‫‪168‬‬
‫وأضرحة ‪ ،‬ولطالما شددن الرحال إلى البلدان المج!!اورة ليت!!داوين من العقم أو الهس!!تيريا أو‬
‫‪1‬‬
‫حتى من الداء السكري! والتدرن الرئوي عند أضرحة األولياء !!"‬
‫‪ -4‬ت!!أخر التعليم في ع!!دن ‪ ،‬وع!!دم ج!!دوى! ما يفعله الع!!دنيون ال!!ذين اهتم!!وا في الس!!نوات‬
‫األخيرة بالتعليم " فبعثوا! بأوالدهم! إلى بغداد والقاهرة والهند وإنجلترا! ‪ ،‬ولكن هذه الجهود لم‬
‫تثمر الثمر النافع لعدم وجود! مدرسة عالية في عدن تمكن خريجيها! من االلتحاق بالجامع!!ات‬
‫رأسا ً ‪ ،‬فيضطر! التالميذ من عدن لصرف! عشرات السنين في الخارج الرتش!!اف! المع!!ارف!‬
‫مبتدئين من أولها ‪ ،‬وهذا ال يستطيع! تحمله والصرف! عليه األغنياء ‪ ،‬أما الفقراء فال يقدرون‬
‫‪2‬‬
‫على شيء منه ‪ ،‬واألغنياء ال يريدون مفارقة أبنائهم "‬
‫وتب!!ني! الرواية تجربتها! على موض!!وع! اجتم!!اعي ‪ ،‬فيتم تس!!ليط الض!!وء على القيم الس!!لبية‬
‫والسلوكيات غير المرغوب فيها ‪ ،‬وال!!تي تفشت – كما ي!!رى الك!!اتب – في أوس!!اط! المجتمع‬
‫العدني ‪ ،‬إلث!!ارة االنتب!!اه إليها وتك!!وين وعي يقف منها موقف! ال!!رفض ويس!!عى! إلى تجنبها ‪،‬‬
‫وتحمل الرواية ( سعيد ) رسالتها! ‪ ،‬وهي رس!!الة تخلص إلى ك!!ون الش!!باب هم أمل أية أمة ‪،‬‬
‫وخالصها! ال يكون إال بجهودهم! المخلصة ومثابرتهم! ‪ ،‬فإذا ما ضاع الشباب ‪ ،‬ضاعت األمة‬
‫‪.‬‬
‫وسعيد! شاب " في أطروان شبابه ‪ ،‬جميل الطلعة وس!!يم! ًّ‬
‫المحيا ‪ ،‬كث!!ير النش!!اط ذكي الف!!ؤاد ‪،‬‬
‫عليه سيماء الطهر والصالح ‪ ،‬ترعرع في بيت نعمة ونشأ في أحضان الترف ‪ ،‬وك!!ان محط‬
‫آمال والده ‪ ،‬فجاءه باألساتذة وغذاه بالمعرفة ‪ ،‬فشب محبا ً للعلم مغرم!ا ً ب!األدب كث!ير البحث‬
‫منقبا ً عن الحكمة ‪ ،‬يشعر بحاجة أبناء وطنه إلى العلوم والمعارف! ‪ ،‬ويرى! بنظره الث!!اقب أن‬
‫‪3‬‬
‫البد من يوم يندم فيه العدني على إهماله لدور العلم ومعاهد! الثقافة "‬
‫يهاجر إلى الشمال كي يحقق ذاته ‪ ،‬ويثبت ألبيه – الذي أوغر الحاسدون صدره عليه بسبب‬
‫" اندفاعه في النقد المر على بعض المعتق!!دات وتس!!فيهه آلراء بعض الن!!اس "‪ -4‬كفاءته في‬
‫تحمل المس!!ؤولية ‪ ،‬وهن!!اك في الش!!مال وفي ( الحدي!!دة ) على وجه التحديد ‪ ،‬يقيم متج!!راً‬
‫عظيما ً بمساعدة التج!!ار ال!!ذين ك!!انوا على معرفة بوال!!ده ‪ ، 5.‬ولكن وال!!ده افتق!!ده فأرسل! إليه‬
‫يطلب عودته ‪ ،‬ورغم موافقته على الع!!!ودة إال أن " حرب!!!ا ً انفج!!!رت في البلق!!!ان ‪ ،‬وطلبت‬
‫الحكومة العثمانية تجنيد بعض الشباب من اليمن ‪ ،‬وأجبر! حاكم الحدي!!دة س!!عيداً على مرافقة‬
‫الجنود إلى أرويا ‪ ،‬وعبثا ً حاول سعيد الخالص "‪. 6‬‬
‫ونتيجة لما يتم!!يز به من ص!!فات يتف!!رد بها على أقرانه ‪ ،‬لم تصل الفرقة إلى المدينة إالًّ وقد‬
‫أصبح من ضباط الجيش وأركان حرب القائد العثماني ‪ ،‬ثم اشترك في الحرب وجاهد جه!!اد‬
‫األبطال في عدة مواقع حربية حتى سقط جريحا ً ‪.‬‬
‫وبعد توقف الحرب رأى األطباء ض!رورة بعثه إلى ب!رلين للعالج وهن!اك بقى س!نتين درس‬
‫فيهما فلس!!فة األخالق ‪ ،‬واألدي!!ان واالقتص!!اد! والحق!!وق! ‪ ،‬وع!!اد إلى األس!!تانة ح!!تى ق!!ررت‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه (ص‪) 4‬‬


‫‪2‬المرجع نفسه (ص‪)3‬‬
‫‪3‬نفسه (ص‪) 25‬‬
‫‪ 4‬نفسه (ص‪)26‬‬
‫‪ 5‬محمد علي إبراهيم لقمان المحامي ( سعيد ) مرجع سابق (ص‪) 27‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق (ص‪) 27‬‬

‫‪169‬‬
‫الوزارة إرساله إلى الشرق للدعاية لطرابلس الغرب ال!!تي س!!طا عليها الطلي!!ان ‪ ،‬فس!!افر! إلى‬
‫العراق والهند ‪ ،‬وقام! بدوره خير قيام ‪.‬‬
‫لكنه عندما ذهب إلى ( بمباي ) علم أن والده قد أصبح في ح!ال ي!رثى لها بس!بب س!لوكيات‬
‫أخيه ( حسن ) الذي كان شابا ً غراً مستهتراً ‪ ،‬مدمنا ً الخمرة ‪ ،‬مستغالً أسوأ استغالل من قبل‬
‫( سالم ) الذي نشأت لديه بسبب وضعه ‪ .‬االجتماعي وسوء تربيته نزعات شيطانية خبيثة ‪.‬‬
‫كما علم ب!أن محاكمة قريبة س!!تعقد لوال!ده في قض!ية اتهم فيها ب!التزوير ‪ ،‬وهنا ق!!رر الع!ودة‬
‫فوراً! إلى عدن ‪ ،‬وبعودته تم إنقاذه والده وإثبات حقوق أسرته ‪.‬‬
‫ومع سطحية الع!!رض وبس!!اطة حبكة الرواية ورومانس!!ية نهايتها ‪ ،‬فإنها تق!!دم لنا في طريق!‬
‫بنائها الكثير مما يلزمنا كي نحيط بواقع المجتمع العدني في تلك الفترة ‪ ،‬من ذلك ‪:‬‬
‫‪ ]1‬أن هذا المجتمع كان مجتمعا َ يعج باألجانب الذين وجدوا! في ع!دن مدينة تجارية يحقق!ون‬
‫فيها أحالمهم فع!!!دن كما يق!!!ول المؤلف ك!!!انت " نقطة ال!!!دائرة لليمن والحج!!!از والس!!!ودان‬
‫‪1‬‬
‫والصومال والحبشة وجنوب الجزيرة العربية "‬
‫وأن سكان عدن لم يتضجروا! منهم إال بعد أن تبدى خطر منافس!!تهم الشرسة لهم في أرزاقهم‬
‫‪ ،‬وه!!ذا ك!!اتب الرواية يع!!دد أس!!ما ًء بعض!!ها يش!!ير إلى ع!!ائالت هندية يعت!!بر ك!!اتب الرواية‬
‫أبناءها من العدنيين ‪ ،‬حيث يقول ‪ ":‬وكانت التجارة بأي!!دي الع!!دنيين الع!!رب ال!!ذين ك!!ان لهم‬
‫الق!!دح المعلى واليد الط!!ولي! والغ!!نى ال!!وافر والنعيم المقيم ‪ ،‬وك!!ان ي!!ترأس أك!!ثر ال!!دوائر‬
‫الرسمية أبناء الع!!دنيين ‪ ،‬كالس!!يد خ!!ان به!!ادر رس!!تم! علي الح!!اكم في محكمة ع!!دن ‪ ،‬وخ!!ان‬
‫بهادر علي إبراهيم لقمان مدير إدارة األرباح السنوية ‪ ،‬وخان صاحب السيد حمود بن حسن‬
‫مدير المعارف ‪ ،‬وعبد الحبيب رئيس الجمرك ‪ ،‬وخان بهادر عبد القادر مكاوي رئيس إدارة‬
‫البلدية ‪ ،‬والحاج عبدهللا خليفة مدير الش!!ؤون الص!!عبة ‪ ،‬وخ!!ان ص!!احب يوسف! خ!!ان رئيس‬
‫البورت‪.‬‬
‫‪ ]2‬أن أبناء عدن كانت لهم تجارة ناشطة في بلدان عربية وش!!رقية ‪ ،‬منها الع!!راق والك!!ويت‬
‫والهند ‪ ،‬وه!!ذا س!!لمان يتح!!دث عن حاله ‪ ،‬فيق!!ول ‪ ":‬ولما افتق!!دت الي!!وم أوراقي ال!!تي تثبت‬
‫براءتي من ديون شركة اللؤلؤ في بمباي والكويت ‪ ،‬وحقوقي! في بساتين الثمر في البصرة "‬
‫‪2‬‬

‫‪ ]3‬أن أبناء عدن كانوا يرون في مشاركتهم في حروب الدولة العثمانية شرفا ً لهم ‪ ،‬نق!!رأ ‪":‬‬
‫وقد! كان سعيداً محبا ً للدولة العثمانية ‪ ،‬وقد كان يرغب في أن تتكاتف! هذه الدولة مع الع!!رب‬
‫‪3‬‬
‫لرفع شأن اإلسالم "‬
‫وقد! نجد ما يش!!ير إلى أن اش!!تراكهم في الح!!روب هو الس!!بب ال!!ذي يقف وراء ال!!ثروة ال!!تي‬
‫يجمعونها! ‪ ،‬نقرأ عن ( سلمان ) والد س!!عيد ‪ " :‬ك!!ان س!!لمان عربي!ا ً ج!!اء من المخ!!اء بعد أن‬
‫جمع ث!!!روة طائلة في ش!!!رخ ش!!!بابه من الح!!!رب اإليطالية الحبش!!!ية في إيطاليا ‪ ،‬وبعد أن‬
‫وضعت الحرب أوزارها عاد إلى عدن واشترى بيوتا ً كث!!يرة وأسس تج!!ارة واس!!عة النط!!اق‬
‫‪4‬‬
‫وعمر داراً كبيرة سكن فيها مع أفراد عائلته "‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه (ص‪)9‬‬


‫‪ 2‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد) مرجع سابق (ص‪)35‬‬
‫‪3‬المرجع السابق (ص‪)43‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه (ص‪)6‬‬

‫‪170‬‬
‫‪ ]4‬أن المجتمع الع!!!دني يظهر بقيم زائفة دخيلة ‪ ،‬فالتف!!!اوت الطبقي حاض!!!ر‪ ،‬وهن!!!اك أسر‬
‫رفيعة وأخرى وضيعة ‪ ،‬ومعيار! هذا التقسم هو المستوى! الم!!الي له!!ذه األسر ‪ .‬وه!!ذا ح!!وار‬
‫يدور! بين ( سالم ) الذي صرح ( لحس!!ن) عن رغبته في ال!!زواج بأخته عائشة ‪ ،‬يكشف عن‬
‫هذا الملمح االجتماعي ‪ -" :‬صدقت يا حسن ‪ ،‬فال يعرف س!!عير الن!!وى إال من ذاق اله!!وى ‪،‬‬
‫وإن الحب الذي طرق! قلبك قد طرق! قلبي مثله ‪.‬‬
‫‪ -‬حتى أنت يا سالم ؟‬
‫‪ -‬نعم يا حسن‬
‫‪ -‬ولكنك متزوج !‬
‫‪ -‬الزواج ش!!يء والحب ش!يء آخر ‪ ،‬وأنا على اس!!تعداد ألن أطلق زوج!!تي الحاض!رة إذا‬
‫وصلت إلى مالكة وحبيبة قلبي !‬
‫‪ -‬ومن هي ؟‬
‫‪ -‬هي أختك عائشة ‪.‬‬
‫في!!ذهب حسن منفعالً ‪ ،‬وقد ث!!ارت في نفسه مراحل الغضب عن!!دما ت!!ذكر أن س!!الما ً وض!!يع‬
‫األصل ‪ ،‬فقال له ‪:‬‬

‫أتتجاسرـ أن تتطاولـ إلى عائشــة ‪ ،‬أمــا تــدري أن في وســعها أن تخنقــك لــو ســمعت كالمــك‬
‫‪1‬‬
‫هذا ‪ ،‬وكيف ترضىـ بك وأنت مجهول األصل ؟ "‬
‫‪]5‬أنه مجتمع ال تزال تبدو عليه مظاهر الترف والرفاهية ‪ ،‬يحدثنا كــاتب الروايــة واصــفا ً ‪:‬‬
‫" اتخذ سلمان لنفسه مقعداً على فراش وثير واضــعاًـ تحت مرفقــه األيســر بعض األرائــك ‪،‬‬
‫وبجانبه كمية من القات المجلوب من مدينة تعز ‪ ،‬وأمامه صندوق من األبنوس األســودـ من‬
‫صنع منيبار في الهند ‪ ،‬وبقربه مداعته الثمينة وكوز مــاء معطــرة وشــيء من الثلج ‪ ،‬وقــد‬
‫وضعت الكراسـيـ في تلــك الغرفــة الواســعة وجلس عليهــا عــدد من األصــدقاءـ واألضــيافـ‬
‫وفاح في جوانب ( المبرز) عبير العود والعنبرـ والعطر وأخذ المقيلــون في مضــغ القــات ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ثم شرعوا يتحدثون عن الكمية التي وردت منه في ذلك اليوم‬
‫وهكذا هو مقعده في بيته ‪ " :‬جلس سلمان على مقعــد طويــل امتــدت على جوانبــه األرائــك‬
‫الحريرية وفي غرفة فرشتـ بالسجاد الرومي الثمين وأثثت بالــدواليبـ األبنوســية والمقاعــد‬
‫المصنوعة من خشــب الســاج ‪ ،‬وقـدـ زينت الجــدران بالرســوم القديمــة واألواني الصــينية ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫ووضعتـ على بعض الموائد أوان أثرية من الصفر والنحاس "‬
‫وهذه عائشة عابسة ‪ ،‬ووالدها يسألها عن سبب عبوسهاـ فترد ‪ - " :‬كيف ال أحــزن‬
‫وقدـ رأيت بنات الناس يلبسن افخر من لباس " ‪ ،4‬هذا في الوقت الذي كانت ترتــديـ فيــه‬
‫‪5‬‬
‫عقد من اللؤلؤ يخطف البصر اشتراه والدها من الهند بعشرة آالف روبية ‪.‬‬
‫كما يظهر هذا الترف من وصف الكاتب للباسها حيث بـرزت " وقـد ارتـدت ثوبـا ً‬
‫إفرنجيــا ً على زي القــرن التاســع عشــر يســتر الســاعدين والســاقين ‪ ،‬ووضــعت على‬
‫صــدرهاـ زهــرة حمــراء من الــورد الصــناعي ولبســت بعض الحلي من الــذهب الوهــاج‬
‫‪ 1‬نفسه(ص‪)33‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 8‬‬
‫‪ 3‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد) مرجع سابق (ص‪) 6‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪)8‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه (ص‪) 8‬‬

‫‪171‬‬
‫يكسو صدرهاـ العاجي ‪ ،‬وإسوارة مرصعة بالجوهرـ النفيس وعلى أذنيها قرطان ثمينــان‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫حتى زهراء التي يصفها الكاتب بــالفقر وضــيقـ الحــال ‪ ،‬نراهــا " وقـدـ لبســت على‬
‫جيدها عقدا من اللؤلؤ الصناعي فيه حبــات من الــذهب ‪ ،‬وعلى معصــميها ســواران من‬
‫‪2‬‬
‫الذهب أهدتهما لها سعاد "‬
‫ويظهرـ هذا الترف في تعدد ألوان الطعام الذي أعدته ( نور) لضيوفـ زوجهــا ( ســلمان ) ‪:‬‬
‫" ‪ -‬نعم ‪ ،‬فقــد ذبحنــا خــروفين وســبعا َ من الــدجاج وســمكا ً ‪ ،‬وطبخنــاـ كثــيراً من األرز‬
‫والعيش ‪ ،‬وسنقدم لكم عسالً مما وصلنا اليوم مــع الهــدايا ‪ ،‬ولــدينا بعض الســلل من الخــوخ‬
‫‪3‬‬
‫البيضانيـ والتين والعنب الصنعاني "‬
‫‪ ]6‬إنــه مجتمــع ال تــزال تظهرفيــه جماعــة من اليهــود ‪ ،‬ويظه ـرـ اليهــودي تــاجرا مرابيــا‬
‫ومستغال ‪ ،‬وهذا حسن وسالمـ قد ركبا وذهبــا إلى أحــد اليهــود فاقترفنـاـ منــه ألفي ربيــه بربــا‬
‫ً ‪4‬‬
‫فاحش اشترط عليهما أن يخصمه مقدما "‬
‫‪ ]7‬إنه مجتمع ينتشر بين أوساطه االعتقاد بالدجل والشعوذة ‪ ،‬فبينما اتخذ سلمان مكانــه من‬
‫مقيله الذي اجتمع إليـه عـدد من األصــدقاء واالضــيافـ ‪ -‬فجــأة ‪ -‬قـدم رجــل قصــير القامـة‬
‫عريض المنكبين بدين الجسم يحمل مسبحة سوداء تفوح من أردائــه رائحــة منعشــة ‪ ،‬ولمــا‬
‫توسطـ الغرفة أدنــاه سـلمان منـه وقـدم لـه شــيئا ً من القـات ‪ ،‬وقــام النــاس يقبلـون يـده وهـو‬
‫يباركهمـ ويرفع يديه بالدعاء لهم ‪ ،‬ألنه كــان الســيد األعجم الــذي ظهــرت بركتــه وانتشــرتـ‬
‫أخباره في عدن حتى لم تبق عاقر إالَّ حملت وال مجنون إالَّ رجــع إلى صــوابه وال مصــاب‬
‫بصرعـ أو داء إالَّ شـفاه هللا ببركتـه ! وبعـد لحظـة رفـع يديـه فرفـعـ الجميـع أيـديهم بابتهـال‬
‫وتضرع حتى صفق داللة على االنتهاء فقرأ الفاتحة ‪ ،‬وغادرهم السيد وقـدـ نفحـه سـلمان‬
‫‪5‬‬
‫بهدية سنية "‬
‫وعندما مرضت زهراء استدعى أبوها رجالً من أهل هللا لو صف دواء وكتابة حرز لها ‪،‬‬
‫فقدم الرجل ووضع " يده على كتاب كان يتأبطه وأخرج مسبحة طويلة وأخذ يغمغم ويعزم‬
‫ويتلوـ أموراً غير واضحة حتى تصبب العــرق من جســمه ‪ ،‬فقــال ‪ :‬إن هــذه البنيــة أصــيبت‬
‫بمس من شيطان بين طريقين وهي تحمل لبنا ً أو بيضا ً ‪ ،‬فقالت أمها لقد صدق الســيد ‪ ،‬فــإن‬
‫زهراء عادت بشيء من اللبن والبيض من بيت خالتها سعاد قبل بضعة أيام ‪ ،‬وهي طريحة‬
‫الفراش منذ ذلك اليوم ‪ ،‬وقد وقفت بسبب الزحامـ أمــام دار الشــرطة حيث مفــترق الطــرق ‪،‬‬
‫فطلب السيد من أهل زهراء ديكا ً أبيض اللون وزعفرانا ً ومسكا ً ووعد أن يكتب لهــا حــرزاً‬
‫‪6‬‬
‫ومحواًـ وأمرهم أن يحجبوها عن كل إنسان ثالثة أيام !"‬
‫ليس هذا فحسب ‪ ،‬بل يبدو أن أ فكارا غريبة وبدعا ً قد أخــذت طريقهــا إلى عقــول النــاس‬
‫ونفوســهمـ ‪ ،‬وهــو موقـفـ يلتقي فيــه نــور على البــاخرة العائــدة إلى عــدن بشــيخ الطريقــة‬
‫المرجانية ‪ ،‬والتي ‪ -‬كما يقول المؤلف ‪ -‬كان لها مركزها في عدن ‪ ، 7‬حيث أخبره الشيخ‬
‫بأنــه عائــد من الهنــد بعــد زيــارة الــولي المشــهورـ في دلهي ( نظــام الــدين أوليــاء ) وهــذه‬
‫‪ 1‬نفسه (ص‪.) 9‬‬
‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 13‬‬
‫‪ 3‬نفسه (ص‪) 7‬‬
‫‪ 4‬نفسه (ص‪) 37‬‬
‫‪ 5‬نفسه (ص‪) 9‬‬
‫‪ 6‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق (ص‪)20‬‬
‫‪ 7‬المرجع السابق (ص‪) 43‬‬

‫‪172‬‬
‫الطريقة ‪ -‬على ما يبدو من الحوار الذي دار بينهمــا ‪ -‬تــرى وجــوب االستســالم لإلنجلــيز‬
‫وعدم المطالبة باالستقالل حتى يظهر المهدي المنتظر ‪ ،‬يردد هذا الشــيخ قــول أحــد كبــار‬
‫شيوخ الطريقة فيقـول ‪ " :‬اعلم يـا رجـل أن اإلنجلـيز يملكـون الـدنيا بـدون منـازع حـتى‬
‫‪1‬‬
‫يخرج المهدي المنتظر فال تقاومهم "‬
‫أما موضوع رواية ( مأساة واق الواق ) فهـوـ موضــوع سياسـيـ بالدرجــة األولى يتمحــورـ‬
‫حول ما تعانيه اليمن من قمع سياسي وما يقاســيه أحرارهــا من اضــطهاد وقتــل وتنكيــل في‬
‫ظل استبداد الحكم األمامي الكهنوتيـ ‪ ،‬فالكاتب الذي عاش ظــروفـ اليمن ومآســيه في تلــك‬
‫الفترة لم يستطيعـ أن يعزل قلمه ع َّما يجري حوله ‪.‬‬
‫وإذا كانت اليمن قد عانت الكثــير من المشــكالت االجتماعيــة المنعكســة عن طبيعــة النظــام‬
‫السياسيـ الجاثم عليها ‪ ،‬وهي المشكالت التي احتلت مركزاً مهما ً من اهتمام كتــاب الروايــة‬
‫بعــد ذلــك ‪ ،‬فــإن الكــاتب الــذي عــاش ظــروف اليمن ومآســيه في تلــك الفــترة المظلمــة من‬
‫تاريخه ‪ ،‬وشهد ما حدث لثوار ‪1948‬م من قتل وتنكيل ‪ -‬وهو الحدث الجوهري الذي فجــر‬
‫الطاقة اإلبداعية لخياله الروائي ‪ -‬قد ارتأىـ أن موضوعاًـ كموضوعـ روايته يقــف على قمــة‬
‫الموضوعاتـ المهمة في ظرفها التاريخي ‪ ،‬وألجل ذلك كان االنصرافـ إليــه دون غــيره "‬
‫وإذن فال ينبغي أن أطلب إلى كاتب ما أن يعــالج لنـا قضــايا اجتماعيــة ونحن نناضــل أعظم‬
‫‪2‬‬
‫النضال من أجل التحرر السياسي قبل أي شيء "‬
‫ونحن إذا ما حاولنا البحث عن سبب االلتفات إلى هذا الموضوعـ سنجد بأنه كان مسببا ً أوالً‬
‫بما يحدث في اليمن من قمع وتنكيل ومجازر وتعذيب تزايد مداه وارتفعت حدته بعد فشــل‬
‫ثورة ‪1948‬م الدستورية ‪ ،‬وما نال هذه الثورة من تشــويه ومــا طــال شــهداءها من تنكيــل ‪،‬‬
‫حيث قام اإلمام أحمد مع من يسانده بشن حملة شــعواء تســتعطفـ أبنــاء الشــعب إزاء جــرأة‬
‫الثوار في أقدامهمـ على قتل إمام طاعن في السجن ‪ ،‬وتشهرـ بقتلته ( شهداء الثوار ) مستغالً‬
‫الوازع الديني الــذي كــان يلـوح بـه في الـوقت الــذي يريــد والمناسـبة الــتي يشــاء ‪ ،‬فهـؤالء‬
‫الثائرون لم يكونوا – وفقا ً لحملته – سوى مختصرين للقرآن الكريم ‪ ،‬وثانيا‬
‫بما لقيه من خضوع واستسالم صادم ‪ ،‬وخيبة أمل سيطرت على أبناء الشــعب اليمــني كلــه‬
‫إثر فشل االنقالب ‪ ،‬حتى كادت تميت فيهم إرادة الحياة ‪ ،‬وثالثا‬
‫بما قابله من جهل عربي وتغافل دولي لما يجريـ في اليمن من مذابح تقشعر لها األبدان ‪.‬‬
‫ومن هنا فقد كان للكاتب أن يعبر عن موقفه مما جرى ويجــري فيبحث في األســباب ويفنــد‬
‫النتائج ‪ ،‬مشيراً إلى المتسببين ‪ ،‬موجها ً االتهام واللومـ إلى أطرافـ مختلفة شهدت الحـدث ‪،‬‬
‫كان أوسعهاـ الشعب اليمني بزخمه وامتداده ‪.‬‬
‫وألن الموضوع متصل بالتجربة الشخصية للكاتب باعتبــاره أحــد النــاجين من أحــرار هــذا‬
‫االنقالب ‪ ،‬فقد انعكس ذلك على طريقة تناوله موضوعه ‪ ،‬حيث نلمس في أكثر من مــوض‬
‫ع ارتفاع صوت الذات إلى الحد الذي يشوش على موضوعية هــذا العمــل ‪ ،‬وهــو مــا أكــده‬
‫الدكتورـ عبد الحميد إبراهيم في تقديمه للرواية حيث يقول ‪ ":‬إن الزبيريـ يــذكر في مقدمــة‬
‫ديوانه ( ثورة الشعر ) أنه جــرب اســتعطاف اإلمــام ومدحــه بقصــائد حــاول من خاللهــا أن‬
‫يشرح مآسي المواطنين ‪ ،‬وأنه جرب وسيلة الدين الذي كان يتسترـ اإلمام تحته ‪ ،‬ودعــا إلى‬
‫إصالحه عن طريـقـ الــدين حــتى يقتنــع بهــا المواطنــون ‪ ،‬ولكن شــيئا ً من ذلــك لم يصــلح ‪،‬‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه (ص‪)44‬‬
‫‪ 2‬عبد المالك مرتاض ( القصة الجزائرية المعاصرة ) المؤسسة الوطنية للكتاب ‪ /‬الجزائر ‪1990‬م ‪( .‬ص‪)18‬‬

‫‪173‬‬
‫فاإلمامـ ماض في غلوانه ‪ ،‬ال يقتنع بمديح أو استعطافـ ‪ ،‬المواطنونـ ماضون في سباتهم ال‬
‫يسمعون لصوت سوى صوت اإلمام ‪ ،‬ولكن كل هذه المحاوالت لم تذهب عبثا ً ‪ ،‬فقد أعطته‬
‫اليقين الثوري وأقنعته بأن كل طريقـ مسدود ‪ ،‬سوى طريقـ الثورة ومن هنا جاءت الرواية‬
‫تحمل أفكاره بعد تجربة طويلة ‪ ،‬وبعد تعثرات هنا وهناك ‪ ،‬فهو يحاول فيهــا أن يســتعرض‬
‫تاريخ بالدة ‪ ،‬وأن يحلل ثوراتها وأن يكشفـ عن أسباب فشلها ‪ ،‬وأن يضــع يــده على عقــدة‬
‫‪1‬‬
‫اليمنيين التي ترسبت خالل التاريخ "‬
‫وهو الصوت الذي نلتقيه في أكثر من موضع في سياق الرواية ‪ ،‬منها تلــك المواضــع الــتي‬
‫يستعرض فيها صنوفـ العذاب الذي يلقاه الظالمون والبغاة في جهنم ‪ ،‬ومــع أن اســتناده في‬
‫ذلك على قاعدة الجزاء من جنس العمل ‪ ،‬قد جعل ذلك العذاب مبرراً ‪ ،‬غير أننا نلمس ذلــك‬
‫في تفننه في ابتداع أساليب العـذاب تفننـا ً يحيـل الخيـال الـروائيـ في هـذا العمـل إلى مجـرد‬
‫خيال تنفيسي ينتقم خالله لنفسه الجريحة ولشعبه المكلوم ‪ ،‬مما يعطي انطباعا ً بغلبــة الــذات‬
‫التي كانت تبحث عبر هذه الصــورـ المبتكــرة ع َّما يشــفي غليلهــا ممن تســببوا في مأســاتها ‪،‬‬
‫كأن يعد لإلمام موضعا ً فريداً في جهنم أسماه الصنارة الجهنمية ‪ ،‬وهي جبل عــال يخــترق‬
‫أجواء الفضاء ‪ ،‬في شكل صنارة محمية معقوفة في أعالها كأنما التوت من حرارة النار‪، 2‬‬
‫وفيهاـ يمارس لون من العذاب المخصوص ‪ ،‬في " بحيرة من شوب الجحيم يقــذف الزبانيــة‬
‫فيها جثــة الطاغيــة ‪ ،‬فتغــوص ثم تظهــر ‪ ،‬ويبــدوـ أنهــا غاصــت ألن عيــون النظــارة كــانت‬
‫شاخصة إلى سطح البحيرة ‪ ،‬وما هــو إالًّ قليــل حــتى تظهـرـ الجثــة وقـدـ حــال لونهــا وتغــير‬
‫صـنعت على‬ ‫وأصبحت كأنها كتلة من العجين الرخو ‪ ،‬وهنا مد أحد الزبانية ملعقة ضــخمة ُ‬
‫شكل وحش ‪ ،‬وأخذت أحشاء هذه اآللة تدق دقا ً عنيفا ً ثم وقفت وتقيأت قطعــة "‪ " .......‬إنــه‬
‫وجه الطاغية ومالمحه وجسمه كله تحول إلى شكل لاير نمسـوي – وهـو العملـة المتداولـة‬
‫في مملكة هذا الحاكم ‪ ،‬وقد كتبت علي أحد وجهي هذه القطعة ‪ :‬الطبعة الواحــدة والســتون‬
‫‪3‬‬
‫بعد األلف !"‬
‫ومنه أيضا ً ما نجده من انفعال ترتفع حدته بشكل مثير للتساؤل عند الحديث عن أسر‬
‫بعينها ‪ ،‬وما حدث لشهدائها من تنكيل ‪ ،‬ومنه أسرة ( آل األحمر ) التي ميزهــا الكــاتب عن‬
‫غيرها ‪ ،‬وأفردـ لها صفحات خاصة من المديح والتمجيد ‪ ،‬ومثل ذلك حديثه الممجد بحماس‬
‫كبــير لبعض القبائــل دون غيرهــا ‪ ،‬وهــو تمجيــد يتكــرر وروده في أكــثر من موضــع من‬
‫الروايــة ‪ ،‬وفي المقابــل ال نجــد على صــفحات الروايــة مســاحة تختص بجمــوع البســطاء‬
‫أصحاب المصلحة الحقيقية من وراء عمليات التغيــير ‪ ،‬والشــريحة الــتي يمكنهــا وبإرادتهــا‬
‫وحدها أن تجرف كل الصخورـ التي تقف في الطريقـ مما يعطي صورة واضــحة عن فكــر‬
‫الكاتب التقليدي واعتقاده بصوت األسرة والقبيلة وترجيحــه على أي صــوت أخــر ‪ ،‬وبــذلك‬
‫تكون الرواية قد تعالت على الطبيعة األخرى لليمن أرضا ً وإنسانا ً ‪ ،‬تلك التي تؤكد بقــوة أن‬
‫اليمن ليست كلها تشكيالت قبلية وأسرية كما نلمس هــذا الحس الــذاتي الضــاغط في إغفالــه‬
‫ذكر تمردات بعض المناطق خارج دائرة اهتمامه ‪ ،‬والتي بادرت إلى مقاومة الطغيان قبــل‬
‫غيرها ‪ ،‬وإغفاله حدث مهم كثورة ‪1955‬م التي لم تحتل من روايته مكانتهـاـ الــتي تســتحقها‬
‫رغم أنها تقع ضمن محتوىـ الفترة التي يجري عليه الحدث الــروائي ‪ ،‬وكــذا إهمالــه مكانــه‬

‫‪1‬محمد الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 15،14‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪) 133‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 135‬‬

‫‪174‬‬
‫شهدائهاـ الذين قـاموا بــأدوار ال يمكن إغفالهـا ‪ ،‬ومنهم الشـهيد ( أحمـد يحــيى الثاليــا) الــذي‬
‫تثيرقلة حضوره في سياق السرد الروائيـ وتأخير ذكره تســاؤل القــارئ ‪ ،‬حــتى يهيــأ لــه أن‬
‫الكاتب نفسه قد تنبـه إلى ذلـك فتـداركـ األمـر وذكـره مـرتين قبيـل بلـوغ الروايـة نهايتهـا ‪،‬‬
‫إحداهما في ذيل صف طويل من الشهداء ‪ ،‬حيث يقول ‪ " :‬وأذكر من شهداء الثــورة الثانيــة‬
‫الشهداء ‪ :‬يحيى بن أحمد السياغي وشقيقه حمودـ الســياغي ‪ ،‬ومحمــد حســين عبــد القــادر ‪،‬‬
‫وعبد الرحمن الغولي ‪ ،‬وعلي حسن المطــري ‪ ،‬ومحمـدـ ناصــر الجــدري ‪ ،‬وعبــد الــرحمن‬
‫باكر ‪،‬وعلي حمود السمة ‪ ،‬وقائــد أحمــد معصــار ‪ ،‬وحســين الخبــاني ‪ ،‬ومحســن الصــعر ‪،‬‬
‫وأحمد الدفعيـ ‪ ،‬وأحمد الثاليا وغيرهم " ‪ ، 1‬واألخــرىـ حين أبــرزه وهــو ينــبريـ متحمسـا ً‬
‫داعيا ً الشعب اليمني إلى نصرة قبيلـة خـوالن ‪ ،‬وهي القبيلـة الـتي اسـتأثرت بعنايـة الكـاتب‬
‫وحماسته ‪ ،‬ومعها قبيلتي همدان وحاشدـ ‪ ،‬حيث يقول ‪ " :‬وهنا نهض ألول مــرة قائــد ثــورة‬
‫‪1955‬م الشهيد أحمد يحيى الثاليا ‪ ،‬فقال‪ :‬أراكم يا إخوتي قد ذهبتم بعيداً عن الخنجــر الــذي‬
‫ينهش صدر الشعب وهو الوشاح يا جناه ‪ ،‬إنه يعلنها اليوم حربا ً شعواء على خوالن الباسلة‬
‫‪2‬‬
‫المناضلة ‪ ،‬فلماذاـ ال تصدرواـ قراراً إلى الشعب كي يتحرك مع هذه القبيلة األبية "‬
‫وربماـ يبرر موقف الزبيريـ من الثاليا ‪ ،‬أنه كان على رأس من وقف ضد انقالب ‪1955‬م‬
‫‪ ،‬يقــول الــدكتورـ أحمــد قايــد الصــايديـ ‪ " :‬وقــد تســبب االنقالب بحــدوث صــدع في جســم‬
‫الحركة الوطنية ‪ ،‬فقد وقـفـ بعض رجاالتهـا إلى جـانب االنقالب ‪ ،‬في حين وقـف بعضـهم‬
‫اآلخر ضد االنقالب ‪ ،‬وكان على رأس من وقــف ضــد االنقالب محمــد محمــود الزبــيريـ ‪،‬‬
‫الذي انسجم موقفه مع موقف مصر ‪ ،‬فقد خشيت مصر وخش ـيـ المعارضــون لالنقالب من‬
‫‪3‬‬
‫شخصية اإلمام عبدهللا بن يحيى الذي كان في نظرهم رجل أمريكا في اليمن "‬
‫وعلى الــرغم من هـــذا التغليب للجـــوانب الذاتيــة على الســـياق الســردي الـــتي نـــالت من‬
‫موضوعية هذا العمل ‪ ،‬فإن الكاتب قد أظهر درجة من الــوعي بــدواعي الموضــوعية الــتي‬
‫يقوم عليها هذا النوع من األعمال األدبية ‪ ،‬فحبكة هذا العمــل مصــاغة بطريقــة تكشــف عن‬
‫قدر من الحرفية ‪ ،‬ففي المنطقة ما بين غياب الوعي تحت تأثير عملية التنــويم المغناطيس ـي‬
‫وبين االستفاقة ‪ ،‬تم االطالع على جميع الوقائع التي تــواردت تباعـا ً خالل أســلوب الســرد‬
‫االسترجاعيـ وهو األسلوب الذي اعتمد عليه الســياقـ الســردي في كليتــه ‪ ،‬كمــا أن تمســك‬
‫الكاتب بربط األسباب بالمسبباتـ كعماد تقوم عليه حبكة هذا العمــل ‪ ،‬قــد شــكل رافــداً يــدعم‬
‫موضوعيته ويؤدي دوره في بلوغ غاية اإلقناع بفكرتة وبآلية تناوله ومنطقـ عرضه ‪ ،‬ممـا‬
‫خلــق قــدراً مقبــوالً من التــوازن بين الجــانبين ‪ .‬فربــط األســباب بالمســببات كــان أحــد أهم‬
‫وأبرزـ جوانب الموضوعية فيه وهو الربط الذي نلتقيه في مواضع مختلفة منه ‪ ،‬من ذلك ‪:‬‬
‫‪ ‬إنشاء العمل على فكرة الرحلة الخيالية ‪ ،‬وهي الفكرة التي مكنته من حرية الحركة ‪ ،‬والتنقل‬
‫ع!!بر الزم!!ان ال!!ذي استحضر منه شخص!!ياته ذات المواقف! التاريخية الخال!!دة ‪ ،‬وأما المث!!ير‬
‫المباشر! لقيام هذا العمل على فكرة الرحلة الخيالية ‪ ،‬فكان ‪:‬‬
‫‪ -1‬المناس!!بة الدينية المح!!ددة بليلة الق!!در بما تث!!يره ه!!ذه الليلة من روحاني!!ات عالية وتجلي!!ات‬
‫تتسامى! لتبلغ عوالم الروح ‪ ،‬وهي مناسبة تداخلت مع تك!!وين الك!!اتب الثق!!افي ‪ ،‬ال!!ذي يش!!كل‬
‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪)226‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪)283 ،284‬‬
‫‪ 3‬مجموعة مؤلفين ( وثائقـ وأدبيات ندوة الثورة اليمنية سبتمبر ‪ ،‬أكتوبر ‪ ،‬نوفمبر ن التحوالتـ السياسية واالجتماعية والثقافية )‬
‫صنعاء ‪23/24‬نوفمبر ‪ 2008‬م ‪ ،‬مركز الدراسات والبحوث اليمني ‪ /‬صنعاء من دراسة لـــ‪.‬أ‪.‬د‪ .‬أحمد قايد الصايدي بعنوان ( البعد‬
‫التاريخي للثورة اليمنية – سبتمبر وأكتوبرـ ‪ .‬ص‬

‫‪175‬‬
‫التراث األدبي منه جانبا ً مهم !ا ً ‪ ،‬حيث التقى في موروثة األدبي ما يحت!!وي حالته من الس!!مو‬
‫الروحي! والتجلي المتسامي ‪ -‬كمسلم يتأثر بقداسة هذه الليلة ‪ -‬ضمن ق!!الب قصصي! خي!!الي‬
‫يرتكز! على أرضية دينية كما في رسالة الغف!!ران ألبي العالء المع!!ري ‪ ،‬يرف!!ده عمل ت!!راثي‬
‫آخر يستند إلى أرضية من الخيال الغرائ!!بي تمثله رحالت الس!!ندباد في ألف ليلة وليلة ‪ ،‬ه!!ذا‬
‫باإلضافة إلى وجود عمل قصصي! ح!!ديث في أدبنا اليم!!ني ‪ ،‬ارت!!اد ه!!ذه المنطقة من الخي!!ال‬
‫الغرائبي! في فترة الخمسينيات ‪ ،‬ذاك هو قصة ( إنسي في عالم الجن ) التي كتبها (دن!!دان) ‪.‬‬
‫‪ )2 .‬وجوده خالل ف!!ترة إنش!!اء ه!!ذا العمل في ( أرض الكنانة ) ‪ ،‬وارتي!!اده الج!!امع األزهر‬
‫بحكم تنشئته الدينية ‪ ،‬فكان له أن يستغل ه!!ذا المك!ان ‪ -‬بماله من مكانة في نف!!وس المس!لمين‬
‫في شتى بقاع األرض ‪ -‬ويحرك بطل روايته منه مستثاراً بما رآه من جهل عربي وإسالمي‬
‫ودولي! بما يحدث في اليمن من كوارث عظيمة ‪ ،‬كان من المتوقع! أن تقوم الدنيا لها وال تقعد‬
‫‪ ،‬باألخص وأنه قد تبادر إلى علم الجامعة العربية ما يحدث في اليمن ‪ ،‬فأرس!لت! وف!!دها إلى‬
‫الري!!اض في محاولة منها للت!!دخل في الص!!راع بين النظ!!ام الجديد وبين المط!!الب ب!!العرش‬
‫( اإلمام أحمد بن يحيى حميد الدين ) ‪.1‬‬

‫فافتعــل لقــاء بين بطــل روايتــه وبين شــيوخ األزهــر لــيرتكن عليــه في كشــف مفارقتــه‬
‫العظيمة ‪ ،‬حيث شيوخ وعلماء األزهر يحيطون علما َ بكل ما يجــري على أرض اإلســالم ‪،‬‬
‫بل ويتعدىـ األمر إلى اإلحاطة بأمور تتعلق بأمم بعيدة ‪ ،‬لكنهم ‪ -‬ومن خالل حديثهم الدائر‪-‬‬
‫لم يتطرقواـ إلى مــا يجــري على أرض اليمن من مــآثم ‪ ،‬وفجــائع عظيمــة " سـمعهمـ العـزي‬
‫محمــود يتحــدثون عن قضــاياـ الــدنيا واآلخــرة ‪ ،‬ويخوضــون في مشــاكل األمم البعيــدة‬
‫والقريبــة ‪ ،‬ويضــعون كــل هــذه المشــاكل في معــايير اإلســالم ‪ ،‬ويقضــون فيهــا قضــاءهمـ‬
‫ويصــدرون فيهــا فتــاواهم ‪ ،‬ويعلنــون في ثقــة واعــتزاز بــأن اإلســالم يجب أن يعــني بكــل‬
‫صغيرة وكبيرة وأن يصدر فيها حكم هللا ‪.‬‬
‫وعجب العزي محمودـ لسعة االطالع عند هؤالء العلمــاء ‪ ،‬ولشــعورهمـ الغيــور المرهــف‬
‫إزاء كل مأساة إنسانية على وجه األرض ‪ ،‬مأساة الكونغوـ مثالَ ‪ ،‬ومأساة التفرقة العنصرية‬
‫في جنـوب أفريقيـا ‪ ،‬ومأسـاة الهنـودـ الحمـر في أمريكـا ‪ ،‬وحـتى محنـة األخالق في فنـادق‬
‫الشرق األقصىـ التي تعرض لها الصحفي أنيس منصور أصدرواـ فيها فتاواهم ‪.‬‬
‫ولم يبق مكان في األرض إالَّ طارت إليه المناقشة وصدرت إليه األحكام ‪ ،‬وتطلعـ العــزي‬
‫محمودـ إلى هؤالء واستشـرقـ أحـاديثهم الجريئـة المنـيرة ‪ ،‬وانتظـر أن يتحـدثوا عن بالده‬
‫وفيهاـ أحداث ضخمة تعتبر موضوعا َ خصبا َ ألحكــام هللا ‪ ،‬ولكن الحــديث يمضــي ويمضــي‬
‫‪2‬‬
‫ويكتسح آفاق األرض وينتهي منها ويعلن الختام "‬
‫ومن هنا شرع يحرك بطل روايته لمبادرتهمـ بالحديث عن ( واق الواق ) ‪ ،‬تلــك الجزيــرة‬
‫التي ظل يبحث عنها الســندباد في أســفاره الطويلــة ولم يجــدها ‪ ،‬مــدعيا َ في مفارقــة يثيرهــا‬
‫ساخرة مستفزة بأنها بلده الضائعة ‪ ،‬ومن هنا كان اســتخدامه هــذا الترمــيز الســاخر عنوانـا َ‬
‫لعمله وسيلة الستفزاز القارئ ( صاحب الشأن ) الذي يتوجه إليه بهذا العمــل ‪ ،‬فيحثــه على‬

‫‪ 1‬مجموعة مؤلفين ( وثائق وادبيات ندوة الثورة اليمنية سبتمبرـ وأكتوبر) من مقال د‪ .‬قايد الصايدي ‪ ،‬مرجع سابق (ص‪)53‬‬
‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق)( ص‪)22،21،‬‬

‫‪176‬‬
‫ضرورة التحــرك والقيــام بفعــل يــبرهن بــه عن رفضــه لهــذا الــذي يجــري ‪ ،‬وهــو أســلوب‬
‫معروفـ في أدب الزبيري القائل ‪:‬‬
‫قدرت على حمل العصا األجساد‬ ‫و إذا ثوت تحت الضلوع بهائم‬
‫فــــ ( واق الــواق ‪ /‬اليمن) تعيش مأســاة مضــاعفة ‪ ،‬تتحــدد مالمحهــا أوالَ في مجهوليــة‬
‫الوجــودـ الجغــرافي والتــاريخ لهــذا البلــد ‪ ،‬فــاليمن هي البالد المغيبــة الغائبــة على خريطــة‬
‫الوجودـ المعاصر ‪ ،‬وهو الغياب الذي يمتد ليلقى بظلمته الكثيفة على األعمــاق الســحيقة من‬
‫التاريخ ‪ ،‬فذلك الحضــور القــوي الــذي كــان في التــاريخ البعيــد قــد غيب هــو أيضـا ً ‪ ،‬حيث‬
‫امتدت ظالمات الغياب واكتسحت بكثافتهاـ كــل نقطــة إشــراق ‪ ،‬ليغــدو ذلــك التــاريخ البعيــد‬
‫مجــرد ضـرب من ضـروبـ األسـاطيرـ ‪ ،‬وألجــل ذلـك تكـون رحلــة البحث منبتــة في عـالم‬
‫خيــالي غرائــبي أقــرب إلى عــوالم األســاطيرـ ‪ ،‬حيث ال يمكن الوصــولـ إلى تلــك الجزيــرة‬
‫المكتنفة بالظلمة والغائبة تحت ظالل األساطيرـ إالَّ بهذه الوسيلة الغرائبية ‪ ،‬وهكذا نهضــت‬
‫فكرة الرحلة مبرراَ للتحليق في عوالم الغيب البعيدة ‪ ،‬التي من خاللها نسج الكاتب طريقــه‬
‫إلى غايته التي تبلغ حد إثارة الوعي بضرورة قيام الفعل الرافض ‪.‬‬
‫أما عن رحلة العودة إلى التاريخ البعيد الممتد حتى فأرـ سبأ الــذي هــدم الســد العظيمـ ‪ ،‬فقــد‬
‫كان لها ما يبررها أيضا ً ‪.‬‬
‫فكاتب العمل يذهله ما يرى خضوع وتخاذل استشرى في نفوس اليمنيين حتى يبدو لنفسه‬
‫الحائرة المضطربة وكأنه قد غدا سمة في شخصياتهمـ ‪ ،‬وهو يتوجه إلى التــاريخ باحث ـا َ عن‬
‫مبرر يقف وراء هذا الجانب السلبي من الشخصية اليمنية الذي أعياه تفسيره ‪ ،‬فأخ ـذـ يســلط‬
‫الضوء على مناطق السواد من هذا التاريخ الــتي ربمــا تكشــف عن ســبب مقنــع يقــف وراء‬
‫هذه الظاهرة الكارثية ‪.‬‬
‫وهنا يلتقي بشخصيات تاريخية عرف لها التاريخ مواقف مشرفة ‪ ،‬لــوال أنــه يرك ـزـ على‬
‫هدفه متحركا َ وفق رؤية تشاؤمية تشعرنا باقترابها من رؤيا المذهب الطبيعيـ للشـر الكـامن‬
‫في الطبيعية البشرية ‪ ،‬إذ يدفعـه هـذا اإلحسـاس المتنـامي إثـر عجـزه عن التمـاس تفسـير‬
‫منطقي مقبول يفسر تلك الحالة من الخنــوع ‪ ،‬فتظهـرـ الشخصــيات الــتي يــرى الكــاتب أنهــا‬
‫مسؤولة ع ًّمــا مــنيت بــه الشخصــية اليمنيــة اليــوم ‪ ،‬حيث يقــوم مخاطبـا َ ســيف بن ذي يــزن‬
‫وعثمان بن عفان وعبد المطلب بن هاشم ‪ ،‬وهي الشخصيات التي ظهرت متهمــة بجنايتهــا‬
‫على الشخصــية اليمنيــة ‪ ،‬فيقــول " إننــا خلفــاؤكم في أرضــنا ‪ ،‬ورثنــا أعــراقكم ودمــاءكم‬
‫وأدواءكمـ ومشاكلكمـ وخالفاتكمـ وأخطاءكم وصوابكم ‪ ،‬لقد انحدرت إلينا حياتكمـ كلهــا عــبر‬
‫األجيال وتطورتـ في كل عصر ‪ ،‬وأضيف إليها رواســب كــل جيــل مــرت بـه ‪ ،‬ولم تصــل‬
‫إلينا إال بعد أن بلغ العسر فيها والتعقيد مبلغا َ ال بـد لنـا معـه من مناقشـة الممثلين الرئيسـيين‬
‫‪1‬‬
‫لكل تيارات األجيال منذ حضارتنا األولى حتى اليوم "‬
‫وتحضر الشخصيات في قفص االتهام ‪ ،‬كل يبوء بتهمته ‪ ،‬فالضابط العراقيـ جمال جميــل‬
‫يواجه سيف بن ذي يـزن قـائالَ ‪ " :‬إنــك تنكـر التقليــد على شــعبك وتنكــر تشــاغله عن بنـاء‬
‫حضارته باالتجاه إلى الرومان والفــرس ولكنــك تنس مســؤوليتكـ الكــبرى ‪ ،‬إنــك اســتقدمت‬
‫الفــرس إلى بالدك وســممت روح الشــعب باالتكاليــة ‪ ،‬وتــركت فيــه عقــدة االعتمــاد على‬
‫اآلخــرين في حــل مشــاكله ‪ ،‬وقــد رأيت آثــار هــذه العقــدة بنفس عــام ‪48‬م فقــد كــان الثــوار‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪)171‬‬

‫‪177‬‬
‫يسـيطرون على البلـد سـيطرة تامـة ‪ ،‬ولكنهم كـانوا يشـعرون شـعوراَـ غريبـا َ بـأن الجامعـة‬
‫العربية يجب أن تحضرـ إلى عاصمة الثورة ولو لمجرد الضيافة ‪ ،‬بل وكانوا يصرونـ على‬
‫‪1‬‬
‫أن يشترك في حكومة الثورة وزراء من دول الجامعة "‬
‫ويحضر عبد المطلب بن هاشم مدافعا َ عن نفسه من تهمة التخاذل التي شملته مــع غــيره ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬وإنا ماذا يعنينيـ من هذا كله ‪ ،‬ومــا دخلي فيــه ‪ ،‬إنــني رجــل مســالم ‪ ،‬وال أميــل إلى‬
‫الصــراع ‪ ،‬وليس أدل على ذلــك من أنــني تــركت الكعبــة لحمايــة ربهــا وبحثت عن إبلي ‪،‬‬
‫وقلت للغزاة أنا رب إبلي وللكعبة رب يحميها ‪ ،‬كذلك كنت وأنا في الـدنيا فكيـف تطمعـون‬
‫أن أعلن الحرب على مزاجي المسالم ‪ ،‬وأنا في دار السالم ‪...‬؟ كال يا أبنائي كال " ‪.‬‬
‫ويحضر عثمان بن عفــان الــذي قــام عاملــه بهــدم قصـرـ غمــدان جهالَ منــه ‪ ،‬إذ اعتقــد أن‬
‫اإلسالم يهدم ما قبله حتى الحضارة والعمران ‪ ،‬فنسـمع على لســان العـزي محمــود ‪ " :‬إن‬
‫الهدم كان خطــأ جســيما َ وال شــك ‪ ،‬وكــان في لحظــة من لحظــات الحمــاس األهــوج ‪ ،‬ولكن‬
‫األفظع من ذلك أن تتحول قاعدة القصر إلى سجون وكهـوف رهيبــة ‪ ،‬وأن يـذهل الحكــام ‪،‬‬
‫وتنحطـ مشــاعرهم وآدميتهم ‪ ،‬فلم يســتطيعواـ أن يتــذكروا مجــداَ وال أن يــروا عــبرة ‪ ،‬وإنمــا‬
‫تتلمس أيديهم كالعميان ترابا َ وحجارةَ في أصول هذا القصر ‪ ،‬فال يجــدون فرقـا َ بينهــا وبين‬
‫القيــود ‪ ،‬ولقــد جعلــوا منــه ســجونا َ تعتــبر مقــبرة لألحيــاء ‪ ،‬وتمــر على الحكــام العشــرات‬
‫والعشــراتـ من الســنين ‪ ،‬فال يخجلــون من التــاريخ وال ينظــرونـ إلى الهــوة الشاســعة الــتي‬
‫‪2‬‬
‫تفصل بين آدميتهم وآدمية الذين بنوا هذا القصر منذ قرون بعيدة ‪.‬‬
‫أما فأر السد فيأتيـ حضوره بداع من دواعي التتبع واالستقصاءـ الذي ال يترك ســببا َ مهمــا‬
‫كان صغره ‪ ،‬فهوـ يعاقب في جهنم ليس فقــط بتهمــة إقدامــه على هــدم ســد مــأرب العظيم ‪،‬‬
‫وإنما أيضا ً من سنه شرعة الهدم والتخريبـ ‪ ،‬إذ أن معظم الذين حكمــوا مــأرب خالل ألــف‬
‫‪3‬‬
‫عام اضطلعواـ بمهمة التخريب المستمر تشبها َ به ‪.‬‬
‫أمــا عن قاعــدة الجــزاء من جنس العمــل الــتي يتجلى فيهــا إدراك الكــاتب ألثــر اســتغالل‬
‫الوازع الديني على شعب مجهل ‪ ،‬فأخذ يقارع الطغيان بوسـيلته الــتي ظــل يســتغلها ويلـوح‬
‫بها طوال فترة حكمه ‪ ،‬كما يتجلى خيال القاص في أبدع صوره ‪ ،‬حيث يفــرد لكــل شــريحة‬
‫ظالمة طريقة من العذاب تخصها وتتناسب مع طبيعــة الظلم الــذي كــانت تمارســه ‪ ،‬ونحن‬
‫نلمس أثر رحله اإلسراء والمعراج وما شاهده الرسول عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وأطلع عليه‬
‫في السماوات العال ‪ -‬كما تحكي ذلك كتب السيرة ‪ -‬فيما أبدعه خيال الكــاتب من اســتنباط‬
‫شكل العقوبة ونوعها ونوع الجرم المقترف ‪ ،‬في مقياس يوحي بالدقة والعــدل ‪ ،‬وإن ســعى‬
‫الكاتب قصداَ إلى المبالغة أحيانا ً في تصويرـ عذابات هؤالء الظالمين ‪ ،‬كأسلوب من أساليب‬
‫الردع لمن ال يزال يدأب دأبهم أو يقتفي أثرهم أوال ‪ ،‬ثم للتنفيس عن نفسه المكلومة والتلذذ‬
‫بسوقـ عذاباتهم حركة وصوتاَـ في محاولة لتحقيق ما لم يتحقق على أرض الواقع ‪ ،‬فالخونة‬
‫المعممون والقضاة الذين كــانوا يتظــاهرون بالــدين فيلبســون العمــائم واألحزمــة والخنــاجرـ‬
‫ليكســبواـ أنفســهم مظهــراَـ من الحصــافة ‪ ،‬بينمــا هم يضــطهدونـ البســطاء والمــزارعين ‪،‬‬
‫ويأكلون الرشــوة ويضــللون الجنــود والقبائــل ويســلطونهمـ على إخــوانهم األبريــاء العــزل ‪،‬‬
‫ويضــربون القبائــل ببعضــهاـ ‪ ،‬كــان جــزاؤهمـ أنهم " يقومــون ثم ينصــرعون ويقومــون‬

‫‪ 1‬المرجع السايق ‪( .‬ص‪)175،174‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه‪( .‬ص ‪)170‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق‪( .‬ص ‪)124‬‬

‫‪178‬‬
‫وينصرعون "‪ ".........‬على رؤوسهم عمائم من اللهب وفيـ أوســاطهمـ أحزمــة من الحيــات‬
‫رؤوســهاـ تشــبه الخنــاجر ( الجنــابي ) فهي تطعنهم وتنهشــهمـ فيســقطون على األرض ‪ ،‬ثم‬
‫‪1‬‬
‫تتداخل جراحهم فوراَـ فينهضون على أقدامهمـ من جديد ‪ .....‬وهكذا "‬
‫وأذنــاب الطغيــان من الزراني ـقـ الــذين تحولــوا من مجلــودين إلى جالدين بعــد أن تكيفت‬
‫جثثهم العنيدة مع بيئة اإلذالل الرهيب الذي أنزله بهم ( الوشاح يا جناه) حــتى تعايشــوا مــع‬
‫الفئران واألقذار ‪ ،‬ففسدت ذممهم وضمائرهمـ حتى أصبحواـ مخلوقات كأنما صــنعتهاـ روح‬
‫الوشاح ‪ ،‬فلما ُز ًّج باألحرار إلى سجونهم لم يجد الوشاح أفضــل منهم ســفاحين يــذبحون لــه‬
‫األحرار ‪ ،‬فعذابهمـ أن وضعت على أقــدامهم وأيــديهم وأعنــاقهم أغالل من نــار ‪ ،‬وســخرت‬
‫لعذابهم مخلوقاتـ نارية بشعة تشبه الفئران " وإن كان يبدو عليهــا أنهــا لهب ‪ ،‬وكــانت هــذه‬
‫المخلوقــاتـ تنــدفع إلى أفــواه هــؤالء القــوم ‪ ،‬فســرعان مــا تتحــول طبيعــة أجســامهمـ بفعــل‬
‫االحــتراق ‪ ،‬ويمســخون إلى صــور فــئران كبــيرة فظيعــة ثم يعــودون إلى ســابق صــورهم‬
‫‪2‬‬
‫اآلدمية ‪ .......‬وهكذا ‪.‬‬
‫أما الشــيخ الخــائن الــذي يظهـرـ العنايــة بالصــالة ‪ ،‬وهــو شــيخ ســوء ذليــل مــرتش ِ ‪ ،‬بــاع‬
‫ضميره للطاغية العماد ومن بعده ابنه الوشاح ‪ ،‬وما يزال الطغاة يطمعون في شــرائه كلمــا‬
‫دعتهم الحاجــة إلى خيانــة أو جريمــة ‪ ،‬والــذي أبلــغ زبانيــة العــذاب بموتــه القــريب فأخــذوا‬
‫يعدون العدة الستقباله ويصنعون لـه آلـة رهيبـة للتعـذيب تشـبه أمـاكن الصـالة سـخرية بـه‬
‫واحتقاراَ لصالته ‪ ،‬يخــاطب أحــد الزبانيــة العــزي محمــود ‪ ،‬قــائالَ ‪ -" :‬تعــال معي ‪ ،‬انظــر‬
‫هاهو أوالَ مكان الوضوء مملو ًء بماء الحميم ‪ ،‬وسيأتيـ هذا الشـيخ الخـائن فيتوضـآ فيشـوي‬
‫الحميم أعضاء وضوئه ‪ ،‬فتتساقط ثم تعود وسيظل في تعذيب الوضــوء أعوامــا وأعوام ـا ً ‪،‬‬
‫ثم ينتقل إلى هذا المحراب الجهنمي ‪ ،‬انظر إليه فإنــك ال تــراه محرابـا ً ‪ ،‬وإنمــا هــو صــورة‬
‫للطاغية صيغت صياغة جهنمية لتكون صنما ً يعبده هذا الشيخ العبد ‪ ،‬فينحنيـ كالراكع ومــا‬
‫هو براكع ‪ ،‬ثم يخر كالساجدـ وما هو بساجد ‪ ،‬وتمتد يد الصنم الجهنميــة فتجــذب الشــيخ من‬
‫رأسه ليركع للصنم ويقبل ركبتيـه ‪ ،‬كمـا كـان يفعـل في الـدنيا حينمـا يجيء الطاغيـة فيقبـل‬
‫‪3‬‬
‫ركبتيه راكعا ً ثم يبيع شرف قبيلته ويقبض الثمن بخسا ً حقيراً دراهم معدودات "‬
‫أمــا األئمــة الظــالمون ‪ :‬الــذين فرضــوا ملكهم بالســيف وباس ـمـ الــدين ‪ ،‬فســحقوا الشــعب‬
‫واعتصرواـ ثروته ودمه ‪ ،‬وحكموه قروناًـ دون أن يصنعواـ له شيئا َ ‪ ،‬وكل مــا يفعلــه أحــدهم‬
‫أن يــترك من بعــده قبــة مســجد يبنيهــا من مــال الشــعب وضــريح يواصــل بــه حكم الشــعب‬
‫وإقطاعياتـ يخلفونها ألبنائهم ‪ ،‬فقد رآهم العزي محمــودـ " قبابـا ً شــنيعة شــاهقة تشــبه قبــاب‬
‫المساجد الكبيرة ‪ ،‬ودناـ منها فلما سدد نظرة إليها إذا بــه يراهــا جمــاجم آدميــة تضــخمت في‬
‫شكل مرعب ‪ ،‬وتراجعـ قليالَ من صــدمة الفــزع ثم تشــجع وأقــدمـ فســمعهاـ تئن أنينــا موجعـا َ‬
‫‪4‬‬
‫وتتشاكى فيما بينها وتتذكرـ ماضيها "‬
‫وهذا أمير النهب الذي حرض القبائل على نهب العاصمة وغرر بها ‪ ،‬فأباح لهم األمــوال‬
‫واألعراض واألرواح البريئة ‪ ،‬وهو األخ الذي ذبحه اإلمام أحمد بعد ذلك بتهمة االشــتراك‬
‫في ثورة ‪1955‬م ‪ ،‬والتي اشترك فيها للتخلص من سلطان أخيــه وليتمكن من نهب الشــعب‬
‫بطريقة مستديمة منظمة ‪ ،‬قد عاد لهبا ً مخيفا ً يتهادى من بعيد ‪ ،‬وقد أخــذ يــدنو شــيئا َ فشــيئاَـ ‪،‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪( .‬ص ‪)95،94‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪)97‬‬
‫‪ 3‬ا محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق(ص‪) 101 ،100‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪)112‬‬

‫‪179‬‬
‫فلما وقع في متناول البصر تأمله العزي محمود " فإذا هو لهب طويل متراكم بعضــه فــوقـ‬
‫بعض إلى ما يتجاوزـ مد البصر في األفق ‪ ،‬وهذه الكتلــة الضــخمة من اللهب كلهــا محمولــة‬
‫على رأس إنســان من المعــذبين ‪ ،‬وتــبين أن اللهب منــدلع من أثــاث وأدوات ال يــأتي عليهــا‬
‫الحصر ‪ ،‬وهي مختلفة األنواع واألشــكال واألحجــام منهــا الســجادات والمــراتب والوســائدـ‬
‫والكنب واألبواب والمالبس واألحذية وغيرها ‪ ....‬وغيرها ‪ ...‬أصبحت كلها مركومة على‬
‫رأس هذا المخلوق التعس بطريقة فوضــوية غـير منتظمــة وهــو يصــيح ويتــأوه ‪ ،‬ال يــدري‬
‫‪1‬‬
‫الناظر إليه أيتألم لشدة العبء الذي يحمله ‪ ،‬أم لهول الحريق الذي يطبق على جثته "‬
‫أمــا أولئــك الــذين يحتشــدون يطلقــون الهتافــات المؤيــدة لطــواغيت الظلم واالســتبداد فلهم‬
‫نصيبهمـ من العذاب ‪ ،‬هاهي أصوات " تشــبه الهتافــات الثوريــة تــدوي كالرعــد القاصـفـ ‪،‬‬
‫وفجأة ظهـرت جمـوع غفـيرة تزحـفـ وشـعورهاـ منكوشـة وألسـنتهاـ مندلعـة إلى صـدورهاـ‬
‫واللهب يتطاير من عيونها وخياشيمهاـ ‪ ،‬فلمــا بصــرت بحامــل األخشــاب واألبــوابـ عرفتــه‬
‫على الفور ‪ ،‬وانـدفعت إليــه كـالوحوشـ ‪ ،‬ولم تكن األصــوات واضـحة الداللـة إالَّ أن بعض‬
‫أصوات منها كان يعلو أحيانا ً فتنجليـ معانيه منها صوت يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا! السبيال ‪ ،‬ربنا آتهم ض!!عفين من الع!!ذاب والعنهم!‬
‫لعنا ً كبيراً ‪ ،‬ومنها صوت يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ربنا هؤالء أضلونا! فآتهم! عذابا ً ضعفا ً من النار ‪. 2 " ....‬‬
‫وهذا فأر السد ومن تبعه من أفواج المخ!!ربين يس!!رد عقابه بلس!!انه فيق!!ول مخاطب!ا ً الع!!زي‬
‫محم!!ود! ‪ ":‬أنا محس!!وبك ف!!أر سد م!!أرب الش!!هير ‪ ،‬وه!!ؤالء تالمي!!ذي وخلف!!ائي ‪ ،‬إننا عوقبنا‬
‫وكلفنا أن نظل أبداً نهدم هذا الجبل الجهنمي ‪ -‬وأش!!ار إلى جبل هن!!اك ش!!اهق رهيب ‪ -‬على‬
‫أن نقرضه بأفواهنا! ‪ ،‬ونحفر في أعماقه جحوراً تتغلغل حتى تنفذ إلى الجانب اآلخر ‪ ،‬وم!!تى‬
‫بلغنا بجهدنا الجهيد نهاية هذه المهمة انفجرت بح!!يرة من الجحيم محج!!وزة وراء ه!!ذا الجبل‬
‫فدكته دكا ‪ ،‬واكتسحتنا معه ‪ ،‬وصهرتنا ‪ ،‬ثم ال تلبث سنة الجحيم أن تعي!!دنا إلى خلقنا األول ‪،‬‬
‫ً ‪3‬‬
‫وتعيد! بناء الجبل من جديد ‪ ...‬هكذا عذابا ً مكرراً معاداً أزليا "‬
‫أما ( الوش!!اح يا جن!!اه ) وهو ح!!ارس اإلم!!ام أحمد ‪ ،‬ال!!ذي تط!!ورت مهمته إلى جالد ي!!ذبح‬
‫األبرياء ممن يأمره مواله اإلمام أحمد ب!!ذبحهم ‪ ،‬فقد رآه الع!!زي محم!!ود " وك!!انت ص!!ورته‬
‫غ!!ير واض!!حة ‪ ،‬فإنما هو كتلة من اللحم المح!!ترق! المس!!موم! وال يخ!!رج أنينه وص!!ياحه إالَّ‬
‫‪4‬‬
‫مبعثراً من شقوق جسده المتصدع ‪.‬‬
‫أما عماد الطغيان فقد استعرضنا! عقابه سلفا ً في الصنارة الجهنمية ص‪.135‬‬

‫وبالنس!!بة لألعم!!ال القصص!!ية القص!!يرة المنتمية إلى ه!!ذه الف!!ترة وما دار في تناوالتها! من‬
‫موضوعات! ‪ ،‬فقد كان لها إسهامها ً في تقديم ص!!ورة عن الواقع االجتم!!اعي والسياسي ال!!ذي‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه (ص‪) 118‬‬


‫‪ 2‬نفسه (ص‪) 120‬‬
‫‪ 3‬الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق (ص‪) 123‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق (ص‪) 130‬‬

‫‪180‬‬
‫تب!!ني تجاربها! هادفة إلى تغي!!يره ‪ ،‬فلم يختلف حالها كث!!يراً عمَّا قدمته الدراسة في ص!!فحاتها‬
‫السابقة ‪ ،‬فيما يخص الموضوعات التي دارت حولها التناوالت الروائية ‪.‬‬
‫وألن القصة القص!!يرة بن!!اء يح!!رص بق!!وة على وح!!دة األثر ‪ ،‬ال!!تي هي " من خص!!ائص‬
‫البن!!اء األساس!!ية والنت!!اج الط!!بيعي ل!!وعي الك!!اتب بحرفته ومهارته في توظيف! كل عناصر‬
‫األقصوصة لخلق ه!!ذا األثر " ‪ ، 1‬فإنها ال يمكنها أن تتن!!اول موض!!وعاً! يحت!!وي! حي!!اة كاملة‬
‫كما في البناء الروائي ‪ ،‬وإنما ال بد لكاتبها من دقة االنتقاء و" وأن يختار دائما ً الزاوية ال!!تي‬
‫‪2‬‬
‫يتناولها! منها "‬
‫فقد وجدت على مس!!احة ه!!ذه الف!!ترة قصص مختلفة بعض!!ها يل!!تزم الترك!!يز على قض!!ية‬
‫تس!!!جل انتماءها الواضح إلى موض!!!وع بعينه ‪ ،‬مثل قصة ( س!!!عيد الم!!!درس ) ال!!!تي تق!!!دم‬
‫تجربتها! صورة عن الظرف! االجتماعي واالقتصادي الذي تحياه شريحة اجتماعية في مدينة‬
‫ع!!دن في ف!!ترة الخمس!!ينات ‪ ،‬تلك هي ش!!ريحة المدرس!!ين ‪ ،‬ومن رؤية ترتكز على التجربة‬
‫الشخصية لكاتبها الذي ينتمي إلى هذه الشريحة ‪ ،‬فمسكنه " ( مخزن ) مج!!دور القاعة يش!!به‬
‫خريطة للعميان ‪ ،‬كله نتوء وحفر ‪ ،‬أما ( الدارة ) فحدث وال حرج ‪ ،‬أك!!وام من الرمل كث!!يراً‬
‫‪3‬‬
‫ما غرقت ( قراحيفه ) فيها ‪ ،‬وجدران من الطين مأكولة الساس "‬
‫وكرسيه الذي يقعد عليه اليوم ليص!!حح دف!!اتر! طالبه هو " ص!!ديقه في عهد الدراسة ‪ ،‬كث!!يراً‬
‫ما سهر معه ليالي االمتحان وكث!!يراً! ما أوسع ص!!دره لفانوسه ال!!ذي عاصر جدته المرحومة ‪،‬‬
‫وكتبه المدرسية التي لم تكن تصله إالًّ بقائمة من األسماء في أغلفتها وأوراقها! ‪ ،‬وها هو الي!!وم‬
‫وبعد ما يق!!رب من ثالث س!!نوات يع!!ود فيلق!!اه ‪ ،‬وقد أنهكت قوائمه روم!!اتيزم ال!!زمن فأفقدته‬
‫إح!!دى أرجله وع!!اثت باس!!تقامته المتزنة ال!!تي عه!!دها ص!!احبنا " ‪ ،4‬وراتبه ال يك!!اد يغطي‬
‫مصروفات األسرة ‪ ،‬ويوم ( المشاهرة ) هو ي!وم الك!وابيس ‪ ،‬ففي غفوته القص!يرة ت!راءت له‬
‫خص!!ومة مع الداللة حين خصم ربي!!تين من ( الهفت!!ه) ومناقشة ح!!ادة مع أخيه ال!!ذي يصر في‬
‫‪5‬‬
‫كل مناسبة على إشعاره بقرب الفصل الدراسي! الجديد وما يستتبعه من مصروفات ‪.‬‬
‫ومثل قصة ( إنسي في ع!!الم الجن ) ال!!تي تجسد تجربتها! رغبة كاتبها في تغي!!ير كث!!ير من‬
‫القيم االجتماعية التي شاعت في فترة الخمسينيات في أوساط المجتمع الع!!دني ‪ ،‬وهي تجربة‬
‫تقوم على رحلة خيالية يقوم بها رجل من اإلنس إلى مدينة ( عجاب الزمان ) في ع!!الم الجن‬
‫‪ ،‬فيس!!!تمر ط!!!وال رحلته في عقد مقارناته بين المجتمعين وهي مقارن!!!ات يؤكد خاللها على‬
‫تقدم مجتمع الجن وتف!!وق! قيمه في مقابل ت!!أخر مجتمع اإلنس وتخلف! قيمه ‪ ،‬ومنها نقتطف "‬
‫إلى أحد ‪ ،‬ولم يحقق نظ!!ره في‬ ‫مررت مع ( ض!!وء المك!!ان ) بين رهط من الجن ‪ ،‬فلم يلتفت ًّ‬
‫ش!!خص س!!وى طفل ص!!غير السن ‪ ،‬ابتسم لما ش!!اهدني! ولكن س!!رعان ما التفت إلى لعبه و‬
‫رفاقه ‪ ،‬أدرك القوم بثاقب الفكر ما يجول في نفسي من الخوف ‪ ،‬وبما أش!!عر به من الغربة ‪،‬‬

‫‪ 1‬مجلة فصول سبتمبر ‪ ، 1982‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ ،‬من ‪ 8‬مقال لصبري حافظ بعنوان ( خصائص األقصوصة البنائية ) ‪.‬‬
‫(ص‪)22‬‬
‫‪ 2‬فرانك أوكو نورا ( الصوت المنفرد ) ترجمة د‪ .‬محمود الربيعي ‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ /‬القاهرة ‪1993‬م ‪ ،‬ط‪(، 1‬ص‪)16‬‬
‫‪ 3‬مجلة الحكمة العدد (‪ )42‬أغسطس ‪1975‬م اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ‪ /‬عدن ‪( ،‬ص‪)12‬‬
‫‪ 4‬مجلة الحكمة العدد ‪ 42‬أغسطس ‪1975‬م ‪ ،‬مرجع سابق (ص‪)10‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ص‪10‬‬

‫‪181‬‬
‫وعرفوا! أن أقل حركة مفزعة قد تهد كياني وتزعزع! ثقتي بنفسي وتقتل!!ني ‪ ،‬فلزم!!وا! اله!!دوء‬
‫‪1‬‬
‫ولم يعيروني! التفاتهم لئال يؤثر ذلك على ثباتي أو يقلق بالي فأتعثر في سيري! "‬
‫وبعضها! اآلخر – الذي يمثل االتجاه األب!!رز للمعالج!!ات القصص!!ية له!!ذه الف!!ترة – يق!!وم‬
‫على قاعدة المزج بين الموض!!وعين السياسي واالجتم!!اعي! ‪ ،‬ولكنه الم!!زج ال!!ذي ي!!راعي‬
‫طبيعة البناء القصصي للقصة القصيرة وما يتطلبه من تركيز! التجربة المنتقاة على قض!!ية‬
‫يرجح انتماؤها! إلى الموضوع بعينه بينما يتوارى الموضوع! اآلخر ويتنحى إلى الخلف فال‬
‫يكون ظهوره إالَّ مبرراً ‪ .‬من ذلك قصة ( ش!!يء اس!!مه النف!!اق ) ال!!تي يتم ترك!!يز معالجتها‬
‫على مرض اجتماعي يبدو كان ظ!!اهراً في تعامل بعض تج!!ار ع!!دن وعالقتهم! ببعض!!هم!‬
‫البعض ‪ ،‬ذاك هو ما يبديه ه!!ؤالء التج!!ار األص!!دقاء! من مش!!اعر ال!!ود لبعض!!هم! في أي!!ام‬
‫الصفاء ‪ ،‬والتي تتكشف! مظهراً خادعا ً في أوقات الش!!دة ‪ ،‬حيث تتب!!دل القيم ويظهر التخلي‬
‫والخذالن ‪ ،‬غير أن شخصية العمل ‪ -‬ال!!تي ك!!انت دائمة الخالف مع وال!!دها بس!!بب إهمالها‬
‫المظ!!اهر الدالة على احترامها! له!!ؤالء التج!!ار ‪ -‬ال يتم لها اكتش!!اف! حقيقة ه!!ذا الم!!رض‬
‫المستش!!ري! بين ه!!ؤالء الن!!اس إالَّ بعد أن دخل وال!!دها الس!!جن بس!!بب اش!!تراكه في ث!!ورة‬
‫‪1948‬م ‪ ،‬نقرأ على لسان ( أحمد ) شخصية العمل ‪:‬‬
‫" اشترك والدي في انقالب ‪ 48‬وضحى! بماله وبما ملكت ي!!داه ‪ ،‬ووصل! إلى أعم!!اق حجة‬
‫‪ ..‬ووقفنا! أنا وأمي وأخوتي وجدي وج!!دتي وجه!ا ً لوجه!ا ً أم!!ام ش!!بح الفقر والج!!وع ‪ ،‬وكنت‬
‫آنذاك في المدرسة الثانوية "‪ ".......‬وأصبحت! م!رة أخ!رى مه!دداً ب!الخروج! من المدرسة ‪،‬‬
‫وكنت جريئا ً نوعا ً ما ‪ ،‬ففكرت أن ألبي أص!!دقاء كث!!يرين من األثري!!اء ‪ ،‬لم!!اذا ال التجئ إلى‬
‫أح!!دهم وأش!!رح له األمر الواقع وأطلب منه المعونة ‪ ...‬لم!!اذا ؟ نعم لم!!اذا؟ أو لم يقل لي أبي‬
‫في يوم ما " ما أحد يستغني عنهم " وذهبت إلى أحدهم ‪ ،‬وقابلته في مكتبه األنيق بعد إج!!راء‬
‫التمهيد للمقابلة ‪ ،‬وبعد إج!راء الرس!!ميات س!!اد المكتب جو من الس!كون وكنت بين كل لحظة‬
‫وأخ!!رى! انتظر منه أن يس!!أل عن حالتنا أو أن يعزينا! على األقل ‪ ،‬ولكنه لم يفعل ‪ ...‬وأخ!!يراً‬
‫تجرأت ‪ ،‬فش!!رحت! له كل ش!!يء ‪ ،‬وذكرته بتلك الص!!داقة ‪ ،‬ولكنه لم يأبه لكالمي !! وقلت له‬
‫أن يتكرم! أو يتعطف! بتحويل بعض الش!!يء إلى أس!!رة أحد أص!!دقائه المنك!!وبين ولو س!!لفه أو‬
‫منحة ‪ ،‬ولكنه شمخ بأنفه وقال في لهجة كلها ازدراء ‪:‬‬
‫‪ -‬ومن يض!!!من لي ؟ أب!!!وك محب!!!وس ‪ ،‬وأرض!!!كم ما فيش ‪ ،‬وأنت يعلم هللا أي مس!!!تقبل‬
‫ينتظ!!رك! ‪ ،‬وأدخل ي!!ده في جيبه وأخ!!رج لي نصف روبية ‪ ،‬أي وهللا نصف روبية ‪ ،‬أخ!!ذتها‬
‫‪2‬‬
‫مضطراً! وانصرفت "‬
‫ومنه قصة ( تاكسي لمن جاء تعبَّر ) ال!!تي تع!!الج قض!!ية ش!!اب ش!!مالي يعيش في ع!!دن في‬
‫فترة الخمسينيات ‪ ،‬تضيق به سبل العيش ليقع في شرك عاهرة ال ت!!رحم ‪ ،‬مب!!دأها في حياتها‬
‫من يدفع الم!!ال يحظ ب!!الفراش تمام!ا ً كالتاكسي لمن ج!!اء تعبَّر ‪ ،‬وه!!ذه قض!!ية تب!!ني انتماءها‬
‫ال!!دقيق إلى الموض!وع االجتم!اعي لكن ظ!!روف! المعان!!اة ال!تي يعيش!!ها ه!!ذا الش!اب ‪ ،‬تظهر‬
‫منعكسة عن الوضع السياسي! ‪ .‬فحياته الفارغة مع ظ!!روف! العيش الض!!اغطة في أوض!!اع!‬
‫سياسية تسعى إلى تسريح أبن!اء ال!!وطن من وظ!!ائفهم تدفعه إلى الوق!وع! في ه!ذا الفخ ‪ ،‬نق!!رأ‬
‫‪ 1‬عبد الحميد إبراهيم ( ألوان من القصة اليمنية المعاصرة ) دار العودة ‪ /‬بيروت ‪1981‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)26‬‬
‫‪ 2‬صالح عبد الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق (ص‪)29،27‬‬

‫‪182‬‬
‫فيها ‪ " :‬تعطل عن العمل ‪ ،‬وذات مساء عاد من الس!!وق ‪ ،‬فوج!!دها في أحض!!ان رجل آخر ‪،‬‬
‫وك!!انت ص!!دمة ثانية ‪ ،‬وكما انس!!حب الوفد! الفرنسي في ذلك الي!!وم بال!!ذات من اجتم!!اع هيئة‬
‫األمم المتحدة انسحب أحمد إلى خارج البيت بأحسن نظ!!ام ‪ ،‬لقد هاله منظر الرجل الس!!مين ‪،‬‬
‫وتخيل نفسه وهو ‪ -‬أي أحمد‪ -‬يصارعه فيصرع ‪ ،‬وجلس أم!!ام الب!!اب في االنتظ!!ار! ‪ ،‬نعم !‬
‫وأين يذهب وهو الذي يعيش عالة عليها ‪ ،‬ولكنه البد أن يحتج ‪.‬‬
‫وعندما خرج الرجل السمين دخل وبدأ في تقديم احتجاجه ‪:‬‬
‫‪ -‬هكذا تعملي يا سعاد ‪ ،‬تاكسي لمن جاء تعبَّر ! وهللا إننا مخدوع ومظل!!وم ‪ ،‬كنت أعاملك‬
‫كزوجة ‪ ،‬وكنا أزواج!اً! ولكن بال عقد بال ق!!اض ‪ ،‬بال أي حاجة ‪ ،‬ولكن هك!!ذا الج!!زاء ‪ ....‬آه‬
‫‪1‬‬
‫حتى أنت يا سعاد ؟!!"‬
‫وفي! قصة ( بقية الحساب ) يسيطر! الموضوع السياسي ‪ ،‬حيث سلطات المس!!تعمر تك!!رس‬
‫الستقدام األجانب إلى عدن كي يحلوا محل أبناء البلد األصليين ‪ ،‬فهذا رجل يتم استبعاده من‬
‫وظيفته بقرار جائر وبدون سابق إنذار ‪ ،‬ليفاجأ باستالم بقية حسابه ثمن!ا ً للم!!دة الطويلة ال!!تي‬
‫قضاها! في خدمة الشركة ‪ ،‬يق!ول ‪ " :‬وفي ه!ذا الي!وم ذهبت ألخذ بقية الحس!اب ‪ ،‬وكم ك!انت‬
‫دهش!!تي كب!!يرة عن!!دما رأيت أحد األج!!انب يحتل مكت!!بي ‪ ،‬وبه!!ذه الس!!رعة ‪ ،‬مكت!!بي ال!!ذي‬
‫عاصرني ع!دة س!نوات ش!هدت أثناءها ألوان!ا ً من حي!اتي الحافلة كش!ريط طويل من المآسي‬
‫المختلفة ‪ ،‬وها أنا اليوم أغادر للم!!رة األخ!!يرة ‪ ،‬أغ!!ادر في إج!!ازة طويلة الم!!دى بال نهاية ‪،‬‬
‫وبدأت شفتاي تختلجان واعتلى وجهي إربداد مخيف ‪ ،‬وأخ!!ذت أحملق في وجهه المغضن ‪،‬‬
‫وهو يناولني حسابي األخير ‪ ،..‬فكنت ت!!ارة أرسل نظ!!رات الحقد والبغض!!اء! وت!!ارة نظ!!رات‬
‫التوسل والرج!!اء ولكن أي رج!!اء " ‪ ، 2‬وال يطل الموض!!وع االجتم!!اعي فيها إالَّ من زاوية‬
‫انعكاس هذا الوضع المقلوب على حياة أسرة عدنية بسيطة ‪ ،‬هي نموذج لكل األسر أمثالها ‪،‬‬
‫ذات ال!!دخل المح!!دود وإلجالء المفارقة العظيمة ال!!تي ق!!امت عليها ه!!ذه القصة ‪ ،‬ففي مقابل‬
‫توافد! هؤالء األجانب وانفتاح عدن بساحاتها! الواسعة في وجوههم ‪ ،‬نلتقي أسرة عدنية تعيش‬
‫من أزمة السكن ذروتها ‪ ،‬تح!دثنا شخص!ية العمل فتق!ول ‪ " :‬قبعت في وقت الظه!يرة ب!ركن‬
‫قصي! من م!!نزلي ‪ ،‬وكنت مبه!!ور! األنف!!اس الهث ك!!الثور الم!!ذبوح مش!!تت األفك!!ار! ض!!ائع‬
‫الحواس ‪ ،‬وفي! أثناء هذا الشرود! الذهني كنت أنقل بص!!ري إلى كل ش!!يء في الم!!نزل ف!!أرى‬
‫عائلتي المكونة من ثالث عشرة نسمة وهي تسير هنا وهناك ‪ ،‬فيوحي لي ه!!ذا المنظر أن!!ني‬
‫أعيش حقا ً في ( السوق الطويل ) ‪ ،‬وهذه السرر المبعثرة المتهرئة الحبال ال!!تي تش!!غل ثالثة‬
‫أرب!!اع الم!!نزل ‪ ،...‬وه!!ذه ( األكب!!ان ) األربعة ال!!تي نص!!بت في كل ركن منه لبعض أف!!راد‬
‫‪3‬‬
‫العائلة المتزوجين ‪ ،‬كل هذا في منزل يحوي ( مخزنا َ ) و( دارة ) فقط "‬
‫هكذا أسهمت المعالجات الروائية والقصصية له!ذه الف!ترة في ط!رق! موض!وعات! مهمة‬
‫س!!!لطت الض!!!وء على مش!!!كالت البس!!!طاء وهم!!!ومهم! ‪ ،‬وس!!!اعدت في كشف مفاسد الواقع‬
‫االجتماعي والسياسي! بهدف تكوين وعي الرفض لدى هؤالء البس!!طاء ال!!ذين ي!!دفعون الثمن‬
‫غاليا ً من أقواتهم ومعاشهم! ‪ ،‬وإثارتهم كي ينتفضوا على هذه األوضاع المقلوبة ‪.‬‬

‫‪1‬المرجع السابق (ص‪)8،9‬‬


‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( اإلنذار الممزق ) مرجع سابق (ص‪)63‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق (ص‪)61‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ ]2‬الموضوع! السياسي! واالجتماعي! في األعم!!ال القصص!!ية والروائية ال!!تي وض!!عت بعد‬
‫ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫أ) أعم!!ال روائية وقصص!!ية اهتمت ب!!الواقع السياسي واالجتم!!اعي! قبل ث!!ورة الش!!مال‬
‫واستقالل الجنوب ‪:‬‬
‫وه!!ذه أعم!!ال لها ظرفها الت!!اريخي! الخ!!اص ‪ ،‬إذ هي تش!!تغل بقض!!ايا اإلنس!!ان اليم!!ني‬
‫ومش!!كالته ال!!تي ك!!ان يع!!اني منها زمن اإلمامة ‪ ،‬دافعها إلى ه!!ذا االش!!تغال غايتها التغييرية‬
‫الس!!اعية إلى تفعيل وعي ال!!رفض في ذهن اإلنس!!ان وتعزيز قناعته بأهمية الفعل ال!!رافض ‪،‬‬
‫وذلك من خالل تنشيط ذاكرته وإثارتها! بذلك الواقع المؤلم ال!!ذي ك!!ان ومنذ وقت ليس بالبعيد‬
‫حقيقة حية وحاضرة ‪ ،‬ثم استهجانها فك!!رة أن تمر ف!!ترة من ت!!اريخ إنس!!ان ه!!ذه األرض لقي‬
‫فيها ألوان من العذاب لم يلقها أحد قبله وال بعده ‪ .‬دون أن يشار إليها ‪.‬‬
‫ففي عهد القمع األمامي والتسلط االستعماري! لم يكن باإلمكان تس!!ليط الض!!وء على قض!!ايا‬
‫اإلنسان واضطرابه في واقعه الصعب وألس!!باب كث!!يرة أهمها أنه ك!!ان في ش!!غل عن تبصر‬
‫حقيقة حياته ‪ ،‬فهو في كد دائم وسعي الهث يصارع! من أجل تأمين قوت يومه الذي تتنازعه‬
‫في الشمال أياد كث!!يرة تب!!دأ من اإلم!!ام والعامل والمخمن وتنتهي! بالعس!!كري ‪ ،‬وفي الجن!!وب‬
‫تزاحمه عليه جنس!!يات أجنبية كث!!يرة ما بين هن!!ود وص!!ومال وبنجاله وأورب!!يين ‪ ،‬أت!!اح لها‬
‫المستعمر! فرض العمل واالس!!تثمار! والبق!!اء ‪،‬أما وقد! ق!!امت الث!!ورة وانتهت عه!!ود التس!!لط‬
‫واالس!!تبداد ‪ ،‬ف!!إن على األقالم إالَّ تغفل تلك الص!!فحة الدامية من ت!!اريخ ش!!عبها ‪ ،‬وأن تغمس‬
‫ألسنتها في مادتها الثرية التي تشكل إحدى الصفحات المهمة في ذاكرة كتابها الذي ال يُستبعد!‬
‫أن يكونوا! قد عايشوها أو خبروا! عن قرب من اكتوي بمعاناتها! ‪ ،‬لتبنى ركنا ً ركينا ً في خ!!برة‬
‫األجيال القادمة ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( الرهينة ) فهي تع!!الج‪ -‬رغم تمح!!ور أح!!داثها ح!!ول شخص!!ية فردية هي‬
‫الرهينة بطل العمل ‪ -‬موض!!وعا ً تمتد خيوطه إلى أك!!ثر من بعد ‪ ،‬في!!برز البعد السياسي من‬
‫كون الرهانة موضوعاً! مرتبطاً! بأوضاع سياسية معينة عاش!!تها اليمن في عهد اإلمامة القلق‬
‫المضطرب! ‪ ،‬والتي اتخذت سياستها من الرهانة وسيلة تضمن بها استمرار! بقائها على س!!دة‬
‫الحكم ‪ ،‬فك!!انت تن!!تزع من األسر الكب!!يرة ومش!!ايخ القبائل ال!!تي ترت!!اب منها أحد ص!!غارها‬
‫لتتخ!!ذه رهينة تض!!من بوقوعه تحت تص!!رفها! خض!!وع تلك األسر والقبائل ‪ ،‬وإذعانها ال!!ذي‬
‫يؤكد استمرار والئها ‪.‬‬
‫ومن هنا يمكن أن ينظر إلى هذه التجربة بأبعد من كونها رواية تتناول حركة ش!!خص هو‬
‫الرهينة ‪ ،‬وتقلبه في حالته المتم!!ردة بين األحج!!ام واإلق!!دام ‪ ،‬وإنما يمكن أن ينظر إليها على‬
‫أن الرهينة ليست صورة بطل الرواية وحده ‪ ،‬وإنما هي ص!!ورة المجتمع اليم!!ني في كليته ‪،‬‬
‫المجتمع الواقع رهينة لنظام اإلمامة المستبد ‪ ،‬يقول هشام علي ‪ ":‬ولهذا يمكن أن نقرأ رهينة‬
‫دم!!اج في مس!!تويات متع!!ددة ‪ ،‬وأن نتج!!اوز! فض!!اء الحكي المح!!دود داخل القصر ‪ ،‬لتص!!بح‬
‫اليمن كلها فض!!!اء للرواية ‪ ،‬ويص!!!بح اليم!!!نيون جميعهم ره!!!ائن اللحظة التاريخية في ه!!!ذا‬
‫‪1‬‬
‫الوطن "‬

‫‪ 1‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪2000‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)17‬‬

‫‪184‬‬
‫ويتخذ! البعد االجتماعي لنفسه في موض!!وع الرواية مس!!ارين تتضح من اختالف اتجاههما‬
‫عمق المفارقة ال!!تي يتجلى معها المجتمع اليم!!ني في كليته رهينة ض!!خمة ‪ ،‬فالس!!جان ال!!ذي‬
‫يدفعه الخوف من تمرد شعبه إلى التفنن في أساليب قمعه ‪ ،‬هو أيضا ً يحيا س!!جن خوفه وتحيا‬
‫معه أسرته سجنا ً مشابها َ ‪ ،‬وهكذا ال تستثني حالة الرهانة هذه أحداً ‪.‬‬
‫وأما المس!!ار األول فيتجه إلى المجتمع خ!!ارج مجتمع الس!!لطة ‪ ،‬وهو المجتمع المش!!مول‬
‫بحالة التهديد والقلق من انتزاع أبنائه في أية لحظة يرتئي الس!!لطان ذلك ‪ ،‬ومن ه!!ذا المس!!ار‬
‫تطل لنواظرنا أحزان األمهات الثكالى المفزوعات الالئي انتزع جنود اإلمامة صغارهن من‬
‫أحض!!انهن ‪ ،‬يق!!ول الرهينة ‪ " :‬ت!!ذكرت أمي ال!!تي ه!!ربت بي من ( عكفة ) و ( س!!واري! )‬
‫سيف اإلسالم األمير ولي العهد بين مزارع القصب والذرة خوف!ا ً من خطفي في تلك األثن!!اء‬
‫ألسجن كرهينة ‪ ،‬ومع ذلك فقد انتزعت من حضنها بقوة وقسوة لم تعهدها المس!!كينة من قبل‬
‫‪ ،‬وأركبت ف!وق حص!ان مق!وس الظهر يخص وال!دي وأس!رته إلى المدينة "‪ ، 1‬ه!ذا الح!زن‬
‫الذي تحول عند العساكر! ‪ -‬الذين ‪ -‬كما يبدو ‪ -‬قد أدرك!!وا! مق!!دار ما يحف!!ره في نفس الرهينة‬
‫من ألم ‪ -‬إلى زامل أخذوا يرددونه على مسامعه كلما رأوه في شكل من أشكال االستفزاز! ‪":‬‬
‫‪2‬‬
‫يا دويدار! ‪ ،‬قدامك فاقده لك ‪ .‬دمعها كالمطر ! "‬
‫ومما يضاعف الهم االجتم!!اعي الن!!اجم عن ه!ذه الوس!يلة السياس!!ية البلي!دة ‪ ،‬وق!وع! ه!!ؤالء‬
‫الصغار! بين يدي سلطان ال ي!رعى هلل حق!ا ً وال ذمة ‪ ،‬فه!ؤالء الص!غار ي!دخلون بانض!مامهم!‬
‫إلى قص!!ور الحك!!ام ع!!والم مغلقة معزولة فال يعلم ما يالقونه إالَّ هللا ‪ ،‬وه!!ذا الرهينة يصف‬
‫دويدار! قصر! سيف اإلسالم ‪.‬‬
‫وصفا يشي بما قد يكون قد تعرض له من انته!!اك فاضح ‪ ،‬فيق!!ول ‪ " :‬اتجهت خلفه والعبد‬
‫األسود! خلفنا ‪ ،‬كنت أالحظ حركات جسمه الرخوة من خالل ثوبه الحريري! الشفاف ‪ ،‬يب!!دو‬
‫‪3‬‬
‫أنه لم يعد يتصنع تلك الحركات المائعة فقد أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية ! "‬
‫وأما المس!!ار اآلخر فيتجه إلى مجتمع الس!!لطة حيث القص!!ور والبواب!!ات والعس!!اكر! ‪ ،‬حين‬
‫نلتقي انقالب السحر على الساحر ‪ ،‬فهذه المجتمعات التي يوحى انغالقها! وعزلتها بحصانتها‬
‫ومنعتها! ‪ ،‬تبدو هي األخرى واقعة ضمن صورة من ص!!ور! الكبت والقمع األب!!وي ال تختلف‬
‫في جوهرها عن الرهانة ‪ ،‬فـ " رهينة دم!!!!اج تح!!!!ول القصر إلى حلقة حلزونية ‪ ،‬متاهة‬
‫‪4‬‬
‫تاريخية ‪ ،‬واجتماعية ‪ ،‬ما إن يدخل أحد إلى أول طريقها حتى يضيع في سراديبها! "‬
‫ويتبل!!ور البعد الت!!اريخي في ك!!ون الرواية ‪ -‬على ما ح!!وت من قيم فنية ‪ -‬تس!!جل لظ!!اهرة‬
‫سياسية اجتماعية كانت قائمة ح!!تى الت!!اريخ الق!!ريب من عهد اإلمامة ‪ ،‬وهو البعد ال!!ذي دفع‬
‫بسلمى الخضراء الجيوسي! ‪ -‬كما تصرح لص!!حيفة ‪26‬س!بتمبر‪ -‬إلى اختي!ار ه!ذه الرواية ‪،‬‬
‫ذاك أنها تنط!!!وي! على معرفة عالمية بالتج!!!ارب المتف!!!ردة لعصر مضى ‪ ،‬وهي في الحقيقة‬
‫الرواية الرابعة ال!!تي أع!!دتها ( بروتا ) عن وج!!وه الحي!!اة العربية ال!!تي تالشت الي!!وم ‪ ،‬ولقد‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪)162‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪)162‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه (ص‪)122‬‬
‫‪ 4‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪2000‬م ‪ ،‬ط‪( 1‬ص‪)16‬‬

‫‪185‬‬
‫وجدت أن أمثال هذه الروايات غنية جداً بالمعلومات ‪ ،‬التي إما أن تكون غ!!ابت عن ال!!ذاكرة‬
‫‪1‬‬
‫أو أنها ظهرت في كتاب ذات طبيعة علمية وال يستثيرها سوى عدد قليل من القراء "‬
‫وهكذا هو بن!!اء الس!!رد في كتاب!!ات زيد مطيع دم!!اج " يق!!وم دائم!ا ً أو في الغ!!الب على ه!!ذا‬
‫‪2‬‬
‫التضافر بين السرد والتاريخ "‬
‫أما البعد اإلنساني! فيتمثل في حالة الره!!ائن األطف!!ال المن!!تزعين من أج!!واء أس!!رهم الدفيئة‬
‫إلى س!!جن القلعة حيث القس!!وة والعس!!كر! والبن!!ادق ‪ ،‬ثم فج!!أة يؤخ!!ذون دون أن يستش!!اروا!‬
‫كالعبيد تماما ً إلى قصور أرباب الحكم ورموز! السلطة ‪ ،‬وهناك يسحق ما تبقى من إنسانيتهم‬
‫" فالحياة في داخل القصر تخلو من لذة العيش ‪ ،‬إنها كدح دائم ‪ ،‬حتى أشكال ملذاتها الجنسية‬
‫تغدو ش!!قاء وعن!!اء ‪ ،‬ألنها ترتبط بطاحونة الس!!لطة وحجر! رحاها ال!!دائر دوم!ا َ ليس!!حق ه!!ذه‬
‫‪3‬‬
‫العالقة اإلنسانية الجميلة "‬
‫وهكذا يجدون أنفسهم مجرد أدوات يتم استخدامها لتأدية جميع المهام حتى الفاضحة منها ‪،‬‬
‫فإذا ما استنزفت قواهم وخارت عزيمتهم قذف بهم ليالق!!وا حتفهم وحي!!دين بال رحمة ‪ ،‬فه!!ذا‬
‫الدويدار! السابق ال يعفى من أداء مهمته في فرك قدمي! الحاكم وهو في أصعب حاالته ‪ ،‬لكنه‬
‫حينما يقع فريسة الم!!رض ال يجد من يهتم ألم!!ره س!!وى ص!!ديقه الرهينة ‪ "،‬ك!!ان ص!!احبي‬
‫( الدويدار الحالي ) قد زاد لونه ش!!حوبا َ وجس!!مه ه!!زاالً وأص!!بح س!!عاله الح!!اد يوقظ!!ني! من‬
‫من!امي أك!ثر من م!رة في كل ليلة ‪ ،‬ك!ان يس!عل ح!تى يك!اد يغمى عليه ‪ ،‬وال يفيق إالَّ بعد أن‬
‫‪4‬‬
‫أضمه إلى صدري ويداي مطبقتان على صدره المتهاوي! نتيجة لذلك السعال"‬
‫وحينما! يموت الدويدار! ال يمشي في جنازته س!!وى من هم على ش!!اكلته من ال!!واقعين تحت‬
‫س!!نابك الرهانة بص!!ورها! المختلفة " رقد! ص!!احبي! الدوي!!دار! الح!!الي ‪ ،‬ورق!!دت! معه رقدته‬
‫األخيرة ‪ ،‬ميت!ا ً ك!!ان وهام!!داً ‪ ،‬ب!!ارد الجسم وبش!!كل أوحش!!ني! "‪ "........‬احتض!!نته وغس!!لته‬
‫بنفسي ‪ ،‬وهو عار شبه هيكل عظمي بجلده الباهت اللون الذي تبرز كل نت!!وءات العظ!!ام من‬
‫‪5‬‬
‫خالله "‬
‫ويلفت االنتباه لدى هذا الموقف! األخير من حياة الدويدار ‪ ،‬حالة الغياب التام ألس!!رته ال!!تي‬
‫لم نجدها عند مرضه أو في جنازته ‪ ،‬مما يعني أن ه!!ذه األسر قد اس!!تقر في وعيها العميق ‪،‬‬
‫أن طفلها المأخوذ! منها عنوة كي يص!!بح رهينة لن تك!!ون له ع!!ودة إليها أب!!داً ‪ ،‬فكيفت حياتها‬
‫ليس على غيابه فقط ‪ ،‬وإنما أيض!!!!ا ً على فق!!!!دان األمل في عودته ‪ ،‬فكأنما! قد وهبته هبة أو‬
‫قرباناً! يشبه تماما ً تلك القرابين التي كان يق!دمها ق!دماء المص!ريين ل!نيلهم مع الف!ارق العظيم‬
‫بين الموقفين ‪.‬‬
‫هك!!ذا يكشف لنا موض!!وع الرهينة عن أبع!!اده المختلفة ‪ " ،‬والواقع أن أهمية الرهينة ال‬
‫تكمن في تاريخيتها وحسب ‪ ،‬على ال!!رغم من أهمية البعد الت!!اريخي فيها ‪ ،‬فالرواية ال تق!!دم‬
‫ش!!هادة تاريخية عن ف!!ترة من الحكم في اليمن ولكنها تح!!ول ه!!ذه المرحلة من الت!!اريخ إلى‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق‪ (-‬ص‪)203‬‬


‫‪ 2‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص‪)7‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق (ص‪)14‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪)146‬‬
‫‪ 5‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪)188‬‬

‫‪186‬‬
‫قض!!ية إنس!!انية عامة ‪ ،‬والرهينة المحاصر في القصر يتح!!ول إلى حالة إنس!!انية مع!!برة عن‬
‫‪1‬‬
‫تعليق الحرية وما يتبع ذلك من تعليق العيش والحب والحياة "‬
‫واختيار الكاتب لهذا الموضوع قد أثار – على ما يبدو – الكثير من التساؤالت التي تتجه‬
‫إلى العالقة الشخصية للك!!اتب بموض!!وعه ‪ ،‬وهو ما أش!!ار إليه ال!!دكتور عبد العزيز المق!!الح‬
‫حين قال ‪ ":‬منذ صدور! ( الرهينة ) والتساؤل! ال يكاد يتوقف عن وج!!ود مالمح لس!!يرة ذاتية‬
‫‪2‬‬
‫‪ ،‬وهل هي سيرة الكاتب نفسه ‪ ،‬أم سيرة متخيلة "‬
‫وإذا كان طرق! مثل هذا التساؤل ‪ -‬وإن دل على مقدار ما بلغه هذا العمل من الص!!دق‬
‫ال!!واقعي ‪ -‬يفتح الب!!اب أم!!ام ط!!رق! ذات الس!!ؤال مع كل عمل روائي يقع على مس!!احة من‬
‫الصدق عند القارئ ‪ ،‬وهذا أمر غير مقب!!ول مع عمل نعلم يقينا أنه ق!!ائم على التخيل ‪ ،‬وعلى‬
‫إيهام القارئ بواقعية ما يحدث فيه ‪ ،‬هذا أوالً ‪:‬‬
‫ثم إن هذا العمل صادر! عن كاتب مل!!تزم بقض!!ايا ش!!عبه وأمته ‪ ،‬وال يس!!تبعد! أن تك!!ون ه!!ذه‬
‫إحدى قضاياه ‪ ،‬فكان هذا اللق!!اء الجميل عند مش!!ارف الت!!اريخ هو ش!!كل من االل!!تزام األدبي‬
‫لمثقف يمني عاش أزمنة الثورة وتحوالتها! ‪ ،‬فامتزجت! ذاكرته بذاكرة الوطن وانفتحت آفاقه‬
‫وغاياته لذلك التاريخ ال!!ذي يتش!!كل ويتك!!ون بما يض!!يفه الس!!ارد من مع!!ان ودالالت إلى تلك‬
‫‪3‬‬
‫األحداث والوقائع "‬
‫لكننا في الحقيقة نجد أن لهذا السؤال المطروق وجاهته من عدة زوايا! ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬ما أنارته ه!!!ذه التجربة من زوايا! ظلت مجهولة على عم!!!وم ال!!!وعي المجتمعي ‪،‬‬
‫حيث ارتادت دهاليز عالم خاص مغلق وغامض ومع!!زول لم يكن مس!!موحاً! لأحد أن يخترقه‬
‫‪ ،‬وتغلغلت تفاص!!يله المحرجة بأس!!لوب يتسم بالحص!!افة المح!!يرة ‪ ،‬أو المؤي!!دة الحتم!!ال أن‬
‫تكون تجربة الرواية إحدى التجارب الشخصية لكاتبها ‪.‬‬
‫ثانيتهما! ‪ :‬محدودية ع!!دد األش!!خاص ال!!ذين اس!!تقرت في وعيهم ه!!ذه التجربة أو عايش!!وها‬
‫بشكل شخصي كما في تجربة الرواية ‪ ،‬فعلى الرغم من كون الرهانة مثلت مشكلة اجتماعية‬
‫حقيقية هددت كل من اس!!تظلهم! حكم اإلمامة في تلك الف!!ترة ولم تس!!تثن أح!!داً إالَّ أن تفاص!!يل‬
‫تجربتها! لم تصبح مشاعا ً في وعي الناس ‪ ،‬فالذين مروا بهذه التجربة وعايشوها بشكل فعلي‬
‫هم ‪ -‬بال شك ‪ -‬أعداد مهما اتسعت تظل محدودة ‪ ،‬فكم هم الذين اس!!تطاعت قص!!ور! الحك!!ام‬
‫وأصحاب السلطة ورموزها! أن تستوعبهم! بين جدرانها ‪.‬‬
‫غير أن هذا العدد على محدوديته ال يقلل من حجم المشكلة وجسامة وطأتها! ‪ ،‬ألجل ذلك‬
‫كله قد ن!!ذهب إلى أنه ربما يك!!ون الك!!اتب قد ع!!اش ه!!ذه التجربة بش!!كل شخصي وأخجلة‬
‫االعتراف بذلك ‪ ،‬أو ربما عايش عن قرب من عاشها أو قد تكون أحداث الرواية كما ي!!ذهب‬
‫إلى ذلك الدكتور! المقالح ‪ ":‬استحضار! لماضي منصرم له في نفس الكاتب حضور من ن!!وع‬
‫خاص ‪ ،‬وال تخلو أعمال زيد القصصية األخرى من اس!!ترجاعات غامضة ‪ ،‬ومماطلة لع!!الم‬
‫‪4‬‬
‫الطفولة المترع بالذكريات! واألحزان "‬

‫‪ 1‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص‪)45‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق( ص‪)13‬‬
‫‪ 3‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مرجع سابق (ص‪)11‬‬
‫‪ 4‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق (ص‪)13‬‬

‫‪187‬‬
‫وأيا ما كان األمر ‪ ،‬ف!!إن األهم أن موض!!وع! ه!!ذه التجربة وبالطريقة ال!!تي تمت معالجته قد‬
‫كان أحد الموضوعات المهمة والمثيرة في نفس الوقت ‪ ،‬كتب أمين العيوطي! لمجلة الع!!ربي‬
‫يق!!ول ‪ " :‬أنت مع رهينة من ن!!وع فريد ‪ ،‬لم يخطر لك على ب!!ال ‪ ،‬رهينة ترسف! في أغالل‬
‫القرون الوسطى! في ليل اإلمامة البائ!!دة في اليمن ‪ ،‬والفجر يوشك أن يل!!وح ‪ ،‬والرهينة ت!!دق‬
‫باب الحرية ركالً بقدمين يدميهما قيد ثقيل ودق!اً! بقبض!!تين مغلول!تين من أجل الوث!وب بقف!!زه‬
‫واح!!دة إلى أعت!!اب الق!!رن العش!!رين " ‪ ، 1‬وم!!روراً برواية ( ص!!نعاء مدينة مفتوحة ) ال!!تي‬
‫تتن!اول تجربتها موض!وعا ً سياس!يا ً تتجلى مالمحه من خالل األوض!اع االجتماعية المتردية‬
‫التي ينعكس عليها في شمال الوطن وجنوبه ‪ ،‬وهو موضوع يشكل قاسما ً مش!!تركا ً بين ع!!دد‬
‫من الروايات اليمنية التي أنشئت بعدها ‪ ،‬حيث تتك!!الب ظ!!روف! القمع األم!!امي واالس!!تغالل!‬
‫االستعماري والظروف الطبيعية القاسية على سحق اإلنسان اليمني وقتل الروح فيه ح!!تى ال‬
‫يبقى في حياته سوى صور الموت وأشباح الدمار ‪ ،‬وهذا ( نعمان) بطل الرواية ‪ ،‬يكتب إلى‬
‫صديقه من مدينة عدن " حيث الحر والفراغ ‪ ،‬أكتب إليك بعد أن نجوت من الموت بأعجوبة‬
‫‪ ...‬نعم ‪ ...‬كل شيء في بالدنا أص!بح ه!ذه األي!ام ي!ؤدي إلى الم!وت ‪ ،‬األرض ‪ ،‬األمط!ار ‪،‬‬
‫الجبال ‪ ،‬الصحراء ‪ ،‬وكل شيء " ‪ ، 2‬وهي الصور التي يضل يتقلب فيها متنقال ساعيا باحثا‬
‫آمال في الوصول من سعيه إلى حال أفضل ليجد الواقع يش!!مله بمأس!!اته ويتعقبه أينما ذهب ‪،‬‬
‫تستوي! في ذلك مدينة تاريخية كصنعاء التي تم تدميرها على يد جي!!وش اإلم!!ام أحمد ‪ ،‬مه!!ذا‬
‫الص!!نعاني يحكي لنعم!!ان بطل الرواية كيف س!!حقت أحالمه البس!!يطة في العيش بس!!الم مع‬
‫أسرته الصغيرة ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫" ذات ي!!وم رأيت المعركة على أب!!واب ص!!نعاء ‪ ....‬إذن ف!!الوداع ألحالمك ‪ ،‬هك!!ذا قلت‬
‫لنفسي ‪ ،‬وحين عدت إلى المنزل رأيت زوجتي! وفي! عينيها نوع من التساؤل والخوف ‪.‬‬
‫وكذلك كانت ابنتي الصغيرة متشبثة بمالبس أمها تطلب الحماية كلما سمعت أص!!وات‬
‫الرصاص تتص!!اعد في أرج!!اء المدينة وش!!ددت على يد زوج!!تي ‪ ،‬وهمست لها في حب ‪" :‬‬
‫إنهم لن يمس!!ونا! ألننا لم نعمل لهم أي ش!!يء "‪ ".........‬واش!!تعلت المدينة ذات ي!!وم وابت!!دأت‬
‫تلتهم منازلها! النيران ‪ ،‬وذهبت أجري ألرى ما حل بدكاني! ‪ ،‬وهناك كانت البقايا تتحدث عن‬
‫الوحشية ‪ ،‬ورأيت الجيش الغ!!ازي ‪ ،‬مج!!رد أن!!اس ال يعرف!!ون س!!وى النهب ‪ ،‬ك!!ان ش!!عارهم‬
‫قائدهم! " ص!!نعاء مدينة مفتوحة "‪ "........‬وان!!دفعت ال نقد ما اس!!تطيع من بقايا أحالمي ‪،‬‬
‫ونسيت كل شيء حولي ‪ ،‬الرصاص والهمج والنار ‪ ،‬وكنت أجري هنا وهناك ‪ ،‬ألعن كل ما‬
‫قابلته ‪ ،‬وكل من قابلته ‪ ،‬ك!!!انت ص!!!نعاء حق!!!ا ً مدينة مفتوحة للغجر ‪ ...‬للهمج ‪ ،‬وش!!!عرت‬
‫بالتعب ‪ ،‬وشعرت! أن لي بيتا ً وعائلة وطفلة جميلة انه!!ار مس!!تقبلها بانهيار ما كنت أملكه من‬
‫م!!ال ‪ ،‬وأحسست ب!!برودة تس!!ري! في داخلي حين تص!!ورت أنه قد يح!!دث لم!!نزلي ما ح!!دث‬
‫ل!!دكاني ‪ ،‬وكنت عندئذ بعي!!داً عن الم!!نزل ‪ ،‬ف!!أطلقت س!!اقي لل!!ريح دون أن أعبأ بمن أق!!ابلهم!‬
‫"‪ ، ".........‬ووص!لت! يا ب!!ني إلى الم!نزل ‪ ،‬وقد! ه!!دني التعب ‪ ،‬وهنا تجم!!دت ق!دمي! ‪ ،‬ك!!ان‬
‫المنزل مهدما ً ‪ ،‬محطما ً ‪ ،‬كان هناك عدوانا ً قد ح!!دث ‪ ،‬ودخلت الم!!نزل ‪ ،‬ب!!ان كل ش!!يء في‬
‫الداخل مبعثراً ممزقا ً ‪ ،‬السرير والمالبس ‪ ، .....‬وبحثت عن زوجتي وطفل!!تي "‪"..........‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪( .‬ص‪) 202 -201‬‬
‫‪ 2‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪)30‬‬

‫‪188‬‬
‫أصبت بصدمة عنيفة وأنا أرى زوجتي وطفل!!تي ‪ ،‬وقد م!!زق جس!!ميهما! الرص!!اص وال!!دماء‬
‫تتدفق! حارة ثائرة ‪ ،‬ورأيت في نظرتيهما الخ!!وف ‪ ،‬الغضب ‪ ،‬ك!!انت الطفلة متمس!!كة بأمها ‪،‬‬
‫ال تريد فكاكا ً ‪ ،‬واألم متش!!بثة بها أيض!ا ً ‪ ،‬وك!!انت مالبس األم ممزقة ‪ ،‬ك!!أن ع!!دوانا ً أبشع قد‬
‫وقع عليها "‪ . 1‬أو حاض!!رة حديثة كمدينة ع!!دن ال!!تي لم تكن في ذلك ال!!وقت رغم ش!!هرتها‬
‫وشهرة مينائها المفتوح على العالم إالَّ مدينة معطلة ‪ ،‬وهذا نعمان يخاطب صديقه ‪ ،‬فيق!!ول ‪:‬‬
‫" إن سكان مقهى الحاج علي أصبحوا كلهم تقريبا ً بدون عمل ‪ ،‬فقد فصلوا! وتوقفت! األعم!!ال‬
‫في كث!!ير من الش!!ركات ‪ ،‬وأس!!مع بعض الحكاي!!ات ال!!تي ق!!ام بها العم!!ال ‪ ،‬ولكنك تع!!رف أن‬
‫ه!!ؤالء العم!!ال ليس ل!!ديهم أي تنظيم! حقيقي يس!!تطيع أن يق!!ودهم ‪ ،‬ويحقق لهم أي انتص!!ار ‪،‬‬
‫فذهب الكثيرون ضحايا لإلضرابات " ‪. 2‬‬
‫أو مدينة علم وعلم!!!!اء كمدينة زبيد ‪ ،‬وه!!!!ذا البح!!!!ار يحكي رحلته إليها وقد! تب!!!!دل حالها‬
‫وصارت! مدينة للموت ليس إالَّ ‪ ":‬ومن فوق! ربوة عالية خارج (زبي!!د) ت!!رى المك!!انين ‪....‬‬
‫زبيد داخل سورها ‪ ....‬والمقابر! بشواهدها! ‪ ...‬وقببها! البيضاء ‪ ،‬مدينتان لألحي!!اء واألم!!وات‬
‫‪ ،‬وأي إنسان ال يعرف زبيد ‪ ،‬ال يستطيع أن يميز بين المدينتين ألنهما متش!!ابهتان "‪"........‬‬
‫والمدينة يا أصدقاء تحترق! من أشعة الشمس وتحترق من الناس الذين ال يعملون ‪ ،‬وتح!!ترق‬
‫من الدعوات التي تتصاعد كل يوم إلى السماء حارة أحيانا ً وباردة أخ!!رى ‪ ،‬وخ!!ارج أس!!وار!‬
‫المدينة ترى الناس أيضا ً وسط! شواهد المقابر ‪ ،‬منهم من يبكي ‪ ،‬ومنهم! من يذهب يبحث عن‬
‫من يريد أن يس!!تأجره ليق!!رأ ( الق!!رآن ) على ق!!بر ‪ ،‬وفي! الليل أوفي النه!!ار ‪ ،‬ين!!ام الن!!اس‬
‫ويأكلون ويصلون! فوق المقابر ‪ ،‬بل إن المقابر تشهد في فترات من السنة أعياداً يشترك! فيها‬
‫الجميع ‪ ،‬ويجدون فيها المأكل والمشرب! ‪ ،‬ثم في النهاية يصلون على روح من ك!!ان الس!!بب‬
‫في إحياء ذلك الحفل " ‪ . 3‬أو قرية حزينة تنام على جبال الحجرية تط!!وي! جوعها وهمها ‪،‬‬
‫وهذا نعمان يكتب إلى صديقه يقول ‪ ":‬لو ترى الخراب ال!!ذي عم األرض ‪ ،‬المتألت عين!!اك‬
‫بالدموع! ‪ ،‬ول!!رثيت لحالة ه!!ذا الش!!عب ال!!ذي أنهكه كل ش!!يء ح!!تى حكومته ‪ ،‬تص!!ور وصل‬
‫باألمس إلى قريتنا! أكثر من عشرة ( عس!اكر ) من ( العكفة ) مع ج!ابي الض!رائب ‪ ،‬وطلب‬
‫من قريتنا ض!!رائب ه!!ذا الع!!ام ‪ ...‬بل إنه طلب ض!!رائب األرض وإنتاجها! ‪ ،‬أتتص!!ور! ذلك ‪،‬‬
‫الناس ال يجدون نقوداً لشراء حبوب تقيهم عامهم الق!!ادم كله من المجاعة والحكومة تط!!البهم‬
‫‪4‬‬
‫بضرائب زرع لم يجنوه ‪ ،‬وضرائب! على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات يوم "‬
‫ومع أن معالجة ه!!!ذا الموض!!!وع! تنهض نموذج!!!اً! فني!!!ا ً ل!!!ذلك الج!!!دل المحت!!!دم بين ال!!!ذات‬
‫والموضوع! ‪ ،‬ال!!ذي يبلغ احتدامه ح!!داً من ال!!ذوبان ال!!ذي يص!!عب معه الوق!!وف على ال!!ذات‬
‫مستقلة عن موض!!وعها ‪ ،‬فال!!ذات والموض!!وع! يظه!!ران هنا في حالة انص!!هار ت!!ام ‪ ،‬فإننا قد‬
‫نلتقي مظهراً بسيطا ً من ارتفاع صوت الذات في مواضع قليلة ‪ ،‬من ذلك ‪:‬‬
‫‪ -1‬السخط المعه!!ود! عن ه!!ذا الك!!اتب في معظم أعماله القصص!!ية والروائية وال!!ذي يت!!نزل به‬
‫على مفارق اآلباء ‪ ،‬يق!!ول ‪ " :‬ح!!تى وال!!دي ذلك اإلنس!!ان البس!!يط ال!!ذي كنت أحبه من قبل ‪،‬‬

‫‪ 1‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع السابق (ص‪)49،50،51‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق (ص‪)40‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه (ص‪)57‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪)28‬‬

‫‪189‬‬
‫أصبحت أتحاشى مقابلته كثيراً "‪ ، 1‬وحديثه عن حياة البؤس والشقاء التي يعيشها الن!!اس في‬
‫قريته هو حديث مضمخ بمشاعر النفور ليس فقط من األوضاع وحدها ‪ ،‬ففي خطاب نعم!!ان‬
‫نق!!رأ‪ " :‬لقد وص!!لت القرية ‪ ،‬بعد ي!!وم كامل من اإلره!!اق ‪ ،‬آه كم أتم!!نى أن ال أت!!ذكره ألنه‬
‫يذكرني! ب!واقعي! الق!ذر ال!ذي أعيش فيه ‪ ،‬ويعيش فيه كل أبن!اء وط!ني "‪ ، 2‬وإنما ‪ -‬أيض!ا ً –‬
‫منهم ‪ " :‬أنا لم أكن أريد أن أعود إلى القرية ‪ ،‬حتى لو مات كل من فيها ‪ ،‬م!!اذا يهم!!ني منم ؟‬
‫ولماذا أعيش بينهم ‪ ،‬الناس يا صديقي هم أناس بالدنا ‪ ،‬بدون تفكير بدون أمل في المستقبل ‪،‬‬
‫بدون شيء ‪ ،‬ي!!أكلون الق!!ات مرت!!احون ‪ ،‬وال ح!!ديث لهم إالَّ عن فالن ال!!ذي ع!!اد إلى القرية‬
‫وبجيبه الرياالت التي ال تنتهي وعن فالنة التي الحظ!!وا أنها ت!!تزين وتلبس مالبس نظيفة ‪،‬‬
‫رغم غي!!اب زوجها عنها منذ س!!نوات أربع ‪ ،‬أح!!اديث تص!!يبني بالغثي!!ان كلما اس!!تمعت إليها‬
‫‪3‬‬
‫فأهرب من الناس ومن نفسي إلى الجبل "‬
‫‪ -2‬التعب!!يرات ال!!تي تش!!ير إلى ت!!أثير النظرية الفكرية ال!!تي اعتقد بها على رؤيته لبعض‬
‫الشعائر! الدينية ‪ ،‬فهو يصرح بكرهه للص!!الة ‪ ،‬وال يجد فيها إالَّ فراغ!ا ً يمأل فراغ!ا ً ‪ " :‬أنا ال‬
‫أحب مجالس!!!هم ‪ .....‬وال أح!!!اديثهم! ‪ ،‬وال احضر معهم الص!!!الة في المس!!!جد ألني ال أحب‬
‫الصالة حتى صالة الجمعة ‪ ،‬وأنا فوق! ذلك كله أحب أن أكون وحيداً ‪ ،‬بال أي إنسان ‪ ،‬إن!!ني‬
‫‪4‬‬
‫أكره أيا ً منهم يحاول تعكير حياتي التي رسمتها "‬

‫‪ -3‬التأثر باالعتقادات السلبية للمجتمع ‪ ،‬حيث يسوق علينا الواقعــة الــتي جــرف الســيل‬
‫فيها الخادم إلى سوق السـبت وفيهـاـ يظهـر تـأثره باعتقـاد المجتمـع وتصـوره ‪ ،‬ألبنـاء هـذه‬
‫الشـريحة حيث جـرى االعتقـاد أنهم كثـيراً مـا يؤخـذواـ بالحمـاس الـذي قـد يغيب في بعض‬
‫المواقفـ عقولهم ‪ ،‬وهي واقعة على الرغم من مأساويتها فإن التصــور قــد تكفــل بتضــمينهاـ‬
‫بحس السخرية غير المقبول هنا ‪ ،‬نقرأ في سرد الواقعة ‪ " :‬أما القصة الثانية فقد حدثت في‬
‫اليوم التالي حين كان الوادي ممتلئا وكان قد قلب إحدى الســيارات الــتي كــانت في طريقهــا‬
‫إلى " المصلى " تحمل تنــك مليئــة بالجــاز ‪ ،‬وحملت الميــاه هــذه التنــك معهــا ‪ ،‬وكــان على‬
‫الشاطئـ أحد (األخدام) ‪ ،‬فرأى تنك الجاز تتدحرج فوقـ المياه ‪ ،‬وكان ال يخاف الســيل مثــل‬
‫كثيرين من ( أخدام ) بلــدنا ‪ ،‬فغــاص حــتى منتصــفه يلتقــط التنــك ‪ ،‬ويخرجهـاـ إلى الضــفة‬
‫ويتركها ‪ ،‬ليعود ويلتقط غيرها ‪ ،‬وكان كلما ازدادت عــدد التنــك الــتي يلتقطهــا أزداد طمعـا ً‬
‫في أن يلتقط غيرها ‪ ،‬خاصة وأن سعر الجـاز قـد ارتفـع النقطـاع الطريـقـ بين ( عـدن ) و‬
‫( الداخل ) ‪ ،‬وقبلـ أن يتم العشر تنك ‪ ،‬كان السيل قد التهمه ‪ ،‬فقــد شــعر الرجــل بــالتعب فلم‬
‫‪5‬‬
‫يستطيعـ المقاومة ‪ ،‬والتقطت جثته في ( سوق السبت )"‬
‫‪ -4‬الموقفـ االنسحابي الذي ينتهي إليه بطــل الروايــة ‪ ،‬والــذي يمكن أن ينهض ملم ًحــا من‬
‫ذاتية الكاتب الذي عادة ما تنتهي شخصياته في معظم أعماله إلى نهاية انسحابية ‪ ،‬وإن‬
‫كان لهذه النهاية ما يبررها في هــذه الروايــة ‪ ،‬حيث تنتظم حركــة أحــداثها ثنائيــة الحلم‬
‫والموت ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق (ص‪)7‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه (ص‪)6‬‬
‫‪ 3‬نفسه (ص‪)9‬‬
‫‪ 4‬نفسه (ص‪)9‬‬
‫‪ 5‬محمد أحمد عبد الولي ) صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق (ص‪)32‬‬

‫‪190‬‬
‫فكل إطالله للحلم تجابه بوثبة قاسية للموت ‪ ،‬فنعمان الذي كان يحلم بالعودة إلى قريتــه‬
‫ليرتاح من ضغوط المدينة ‪ ،‬وجد الموت ينشــب أظفــاره في قلب كــل بــادرة للحيــاة فيهــا ‪،‬‬
‫والصنعاني حطم الموت المدمر في صنعاء كل أحالمه في لحظة غضــب أرعن من اإلمــام‬
‫أحمد ‪ ،‬والبحار ( علي الزغير ) تالشى حلمه في الحصول على علم جيد بمجرد ذهابه إلى‬
‫زبيد التي تحولت من مدينة العلم إلى مدينة الموت المقيم ‪ ،‬حـتى غـدا هـذا العمـل في كليتـه‬
‫صورة من هــذه المقابلــة الضــدية بــاألخص ‪ ،‬إذا مــا قابلنــا بين بدايــة الروايــة الــتي تتشــكل‬
‫بتشكل حلم بطلها بنهايتهاـ التي تنتهي بانسحابه واستسالمه للموت ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد استطاع الكاتب أن ينهض بموضوعه المتناول ليجعل منه شاهداً واقعياًـ‬
‫على فترتــه باعتمــاده أوال على جزئيــات ووقــائع تكتســب موضــوعيتها من حقيقــة عالقــة‬
‫اإلنسان المحصور ما بين المطرقة والسندان بواقعه ‪ ،‬والذي يبــدو ‪ -‬رغم انهزامــه في كــل‬
‫مرة ‪ -‬مرتبطا ً به ارتباطاًـ عضويا ً فسيولوجيا ً ‪ ،‬فهكذا هو األمر وهكذا يكون وال شيء غــير‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ولكي يــتيح الكــاتب لمعالجتــه أن تتحــول إلى صــورة كليــة شــاملة مــأخوذة من زوايــا‬
‫ومناطق مختلفة في خليط تتعرىـ خالله النفــوس ويتكشـفـ مجتمــع يحيــا حالــة من االنهيــار‬
‫التام ‪ ،‬اتخذ من الخطاب الذي تتم كتابتــه لحظــة بلحظــة ليتم إرســاله إلى صــديق غــادر إلى‬
‫فرنساـ وسيلة تتيح لهذا الموضوعـ أن يعدد جزئياته ويفرعهــا ويتنقــل بهــا عــبر مكــان أكــثر‬
‫اتساعا َ ‪ ،‬كما أعفته من التماس الحتمية السببية الرابطــة للوقــائع المتفرقــة والمنميــة للحــدث‬
‫خالل البناء الروائي سوى ما يكفيــه لهــذه الوقــائعـ من روابـطـ كــان محورهــا الــرئيس تنقــل‬
‫الراويـ ( بطل الرواية ) بين الشخصيات وعبر حواراته التي يديرها معها ‪.‬‬
‫وتشتركـ القصة القصيرة المنتمية إلى هذا المحور من الدراسة مع الرواية في كثير من‬
‫الموضــوعات الــتي تتناولهــا في معالجاته ـاـ ‪ ،‬ذاك أن الواقــع الــذي تســتمدان منــه مادتهمــا‬
‫واحد ‪ ،‬غير أن للقصة القصيرة طريقتها في تناول الموضوعات كمــا أن لهــا موضــوعاتهاـ‬
‫التي تستقطبها والتي تنفرد بها معالجاتهاـ ‪.‬‬
‫فنحن نقــف مــع القصــة القصــيرة ‪ -‬بحكم بنيتهــا المركــزة ‪ -‬على منطقــة من المــزج‬
‫الكثيف الذي تتداخل خالله الموضوعات وتتماهىـ إلى الحد الذي ال يســمح بترســيم الحــدود‬
‫وإقامة الخطوطـ بينها ‪ ،‬حتى يصبح الموضوع السياسي اجتماعيا ً والعكس ‪.‬‬
‫ثم إن تسليطهاـ الضـوء على زاويـة واحـدة من قضـية جزئيـة ‪ ،‬ومـا يسـتدعيه ذلـك من‬
‫تركيزـ وتكــثيف بقــدر ممــا يــثري خبرتنـاـ ويمنحنــا شــعوراًـ بالســيطرة على كامــل المســاحة‬
‫المكانية والزمانية التي تجري عليها أحداثها ‪ ،‬بقدر ما يتيح لها فرصة إضاءة نقــاط يتعــالى‬
‫على إضاءتها البنــاء الــروائيـ ‪ ،‬فموضــوعـ مثــل العالقــة المأزومــة بين المــواطن وعســاكر‬
‫اإلمامة ‪ ،‬قد عرضت له في معرض تناولها أكثر من رواية يمنيــة ‪ ،‬كمــا عالجتــه أكــثر من‬
‫قصة قصيرة ‪ ،‬ومع تقارب ما قدمته هذه التناوالت عن صــورة هـذه العالقــة بمـا يضـمخهاـ‬
‫من مشاعر نابعة من حقيقة الشرخ الهائل الـذي صـنعته اإلمامـة ورسـخت لـه ‪ ،‬فإنـه يظـل‬
‫للقصة القصيرة بصمتهاـ الخاصة فيه ‪ ،‬فقصة ( العم مسفر ) لزين السقاف مثالً ‪ :‬تقدم لهذا‬
‫الموضــوعـ معالجتهــا الفريــدة ‪ ،‬حين اتخــذت لنفســها زاويــة أنــارت من هــذه القضــية بعــداً‬
‫جديداً ‪ ،‬فعرضت علينــا جانبـا ً كثيفـا ً من معانــاة المنتســبين إلى هــذه المهنــة ‪ ،‬لم يكن لنــا أن‬

‫‪191‬‬
‫نستشــعره بغــير هــذا العــرض ممــا أدى إلى تبــدل مشــاعرنا تجــاههم حــتى وجــدناـ أنفســنا‬
‫نتعاطفـ معهم تعاطفا ً حقيقيا ً ‪.‬‬
‫فالعم مسفر هو أحد عساكر التنافيذ أيام اإلمام ‪ ،‬وجد نفسه وقد استهلكت اإلمامة شــبابه‬
‫مقــذوفا ً على قارعــة الجــوع بال ضــمانات أو حقــوق ففكــر في الــذهاب إلى المركـزـ ليطلب‬
‫عودته إلى العمل العسكري مرة أخرى ‪ ،‬غير أن هذه الفكرة ‪.‬‬
‫ونتيجة لبعد الطريق بين القرية والمركز ‪ ،‬ولشدة وعورتها وثقل الرحلة على ســنة الكبــيرة‬
‫– كانت الفكرة التي أودت بحياته ‪ ،‬نقرأ ‪:‬‬
‫" ويحاولـ العم مسفر أن يساير الجمع ‪ .....‬ويجف حلقــة ويســتنجدـ بالزمزميــة ‪ ،‬يســتحلبهاـ‬
‫رحيق الحياة ‪ ،‬ويداه ترتعشان وقلبه يخفق ‪ ،‬ويغلبه التعب واإلرهاقـ ‪ ،‬يتهاوىـ ككومــة قش‬
‫على الطريــقـ ‪ ..‬يشــهق ويــردد الــدعوات ويــده على بندقيتــه ‪ ...‬تمتــد رجاله النحيلتــان‬
‫‪1‬‬
‫وتسترخي أعضاؤه المكدودة "‬
‫ومع كون هذا الموضوع هو موضوعـ سياسي بالدرجـة األولى ‪ ،‬يتعلـق بسياســية دولـة‬
‫تحقر شعبها وتبتزه ‪ ،‬وتسعىـ إلى ترسيخ الفرقة بين أبنــاء الشــعب الواحــد بتســليطـ بعضــهمـ‬
‫على بعض ‪ ،‬فإنه تجلى خالل هذه المعالجة موضوعا َ اجتماعيا ً أيضا ً ‪ ،‬من زاوية اســتجابة‬
‫أبناء هذه المهنة للسياسية التي يتبعها النظامـ في هذا الشأن ‪ ،‬حين أخذوا يوطــدون بســلوكهم‬
‫العدوانيـ المريب تجاه المواطن لشرخ يتحول مع تناسي صــالت وروابــط هــذه المهنــة إلى‬
‫شرخ يضرب في قلب المجتمــع ‪ ،‬ويفت في عضــده ‪ ،‬وألجــل ذلــك لم تكن إزالتــه مرتبطــة‬
‫بزوال النظام الذي أوجده ‪.‬‬
‫ثم من حيث كــون أبنــاء هــذه المهنــة لم تكن لهم في تلــك الفــترة من الضــمانات االجتماعيــة‬
‫والتأميناتـ التي تكفل لهم حياة كريمة بعد تسريحهم من مهنتهم ‪.‬‬
‫وفيـ قصة ( العسكري ذبح الدجاجــة ) لزيــد مطيــع دمــاج ‪ ،‬نلتقي هــذا الموضــوع وقــد‬
‫تجســد في صـورة غـدت أيقونــة ترمـز إلى هـذه العالقـة المأزومـة الــتي تمــد بأذرعهــا إلى‬
‫الموضوع السياسي ‪ ،‬باعتبار العسكري هو رمز السلطة ‪ ،‬والدجاجة هي كل وف ـرـ األســرة‬
‫ومدخرهاـ ضمن حالة الفقر العميم ‪ ،‬وهي العالقــة الــتي يســعى الكتــاب من خالل معالجتهــا‬
‫عبر أكثر من تجربة قصصية إلى تفعيل وعي الرفض لكل القيم السـلبية الـتي تبـنى عليهـا‬
‫أو تنجم عن هذه العالقة ‪.‬‬
‫والقصة تحكي تجربتهاـ كيف تســتكثر الســلطة الظالمــة على المــواطن امتالك أي شــيء‬
‫مهما كان بسيطا ً ‪ ،‬وكيف يتنزل عسكرها كاللعنات على مفارق الفالحين ‪ ،‬لينــتزعوا عنــوة‬
‫ممتلكاتهمـ كي يرسخواـ لعبوديتهمـ ويشعروهم بــأنهم ومـا ملكــوا ملكـا ً للحــاكم وحـده ‪ ،‬ونحن‬
‫عادة مع معالجة القصة القصيرة لتجارب هـذا الموضـوع نشـهد موقفـا ً مضـمخا ً بالسـخرية‬
‫نتتبع خالله إصرار العسكري الجائع على ذبح الدجاجة عشــاء لــه ‪ ،‬وتنحي األســرة جانبـا ً‬
‫تــرقب بخــوف ووج ـلـ عمليــة المطــاردة الــتي تــترك خاللهــا الدجاجــة تخــوض معركتهــا‬
‫المصيرية مع العسكريـ ‪ ،‬وهي المعركة التي تنتهي عادة بخيبة أمل األســرة وحزنه ـاـ على‬
‫هزيمة دجاجتها ‪ ،‬ففي القصة المشار إليها سابقا ً ‪ ،‬نقــرأ ‪ " :‬اتجــه العســكريـ نحــو الدجاجــة‬
‫التي كانت تغفو فوق أحد عيدان الحطب المشوكة ‪ ،‬وحاول اإلمســاك بهــا ولكنهــا أجفلت ثم‬
‫قفزت نحو الباب هاربة ‪ ،‬فحاول اللحاق بها ولكنه تعثر في عتبة البــاب فكــاد أن يقــع على‬

‫‪ 1‬زين السقاف ( العم مسفر ) دار الهمداني ‪1984‬م‪ ،‬ط‪( ، 1‬ص‪)17‬‬

‫‪192‬‬
‫األرض لوال أن أمسك بعارض الباب ‪ ،‬بينمــا كــانت بندقيتــه قــد ارتمت من على كتفــه إلى‬
‫األرض فلم يعرها انتباها ً ‪ ،‬وقد ازداد غيظه من الدجاجة فاتجه نحوها وهي تصــيح ‪ ،‬ولمــا‬
‫اقترب منها ‪ ،‬وثب عليها ولكنهــا مــرقت من بين يديــه بينمــا ســقطت عمتــه وتــدحرجتـ في‬
‫الوحل فلم يعرهــا انتباهـا ً أيضـا ً ‪ ،‬بــل زاد في غضــبه فاتجــه صــوب الدجاجــة مــرة ثالثــة ‪،‬‬
‫وحاصرها في زاوية في عرض المنزل وأطبق بيده عليها حتى كتم أنفاسها ‪ ،‬ورجع نحو (‬
‫الرعوي ) وعينيه تقدحان بالشرر بينما كــان األخــير قــد أخــذ البندقيــة من األرض ثم لحــق‬
‫بالعمامة في تدحرجها ‪ ،‬فالتقطها وبدأ في تنظيف ما علق بها من الوحل ‪ ،‬ومد ( الرعوي )‬
‫يده بالبندقيـة نحو العسكريـ الذي جذبها منه ‪ ،‬ثم أخذ عمته وهو يلهث ‪ ،‬واتجه نحو الزوجة‬
‫‪ ،‬وصاح بها وهو يعطيهاـ الدجاجة قائالً ‪ - :‬قســماًـ باهلل – إن لم تــذبحيها ألنحــر هــذه البقــرة‬
‫اآلن ‪.‬‬
‫وارتاعـ الرعوي وزوجته لقــول العســكري ‪ ،‬فمــا كــان من الرعــوي إال أن خــاطب زوجتــه‬
‫بحسرة قائالً ‪ - :‬أمري هلل ‪ ،‬اذبحيها يا امرأة وأمري هلل ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬وحاولت الزوجة أن تتردد ولكنهاـ انصاعت بإشارة صارمة من زوجها "‬
‫وفيـ قصة ( العم مسفر ) حيث تشكل هذه المطاردة حلم ليلته األخيرة نقرأ‪:‬‬
‫" صوت المرأة العجوزـ يعلو في أذنه وهي تصرخ في أطفالها ليطاردوا الديك األحمــر‬
‫فوقـ السطوح ‪:‬‬
‫‪ -‬عشاء للعسكري يا أوالد !‬
‫الصبية الحفاة يتصايحون ‪ ....‬يتراكضون ‪ ....‬القرية كلها تتبارىـ لتهيئة الطعام للشــاوش‬
‫مسفر ‪ ،‬الدخان يتصــاعد من تنــورـ المــنزل والكــل منهــوكـ ‪ ،‬والعم مســفر وحــده قــابع في‬
‫صدر الديوان ‪ ،‬يمسك بيده فنجان قهوة القشر وباليدـ األخرى ‪ ،‬قصبة المداعــة المنصــوبة‬
‫في وسط الديوان والدخان يتصاعد ليغمــره بفــرح طفــولي ‪ ،‬وانتظــار لذيــذ لوجبــه الغــذاء‬
‫يدغدغ جوفه فيبث الطمأنينة في نفسه فيمد ساقاًـ ‪ ،‬ويتأمل في دخــان المداعــة ‪ ،‬وأصــوات‬
‫الصـبية تتعـالى في الخـارج مختلطـة بأصـواتـ الـديك األحمـر فـوقـ السـطوح ‪ ،‬ويتكـاثر‬
‫الهرج ‪ ،‬ويعلوـ الصراخ ‪ ،‬ويسلب الفضول طمأنينة العم مسفر ‪ ،‬يقوم ملسوعا ً إلى النافــذة‬
‫يتبين األمر ‪ ،‬يهبط الديك في نفس اللحظة على أطراف النافذة ‪ ،‬يتطلع إلى الصــبية أســفل‬
‫الدار وعيونهم معلقة تتابع الديك ‪ ،‬بهدوء يشمر العم مسفر عن ســاعده رافع ـا ً كم القميص‬
‫إلى أعلى ‪ ،‬الديك المطارد متعلق بطرفـ الشباك يلهث من التعب ‪ ،‬ويــد متلصصــة تــدلف‬
‫بهدوء لتمسك به ‪ ،‬وعيون الصبية وعيون كثيرة ‪ ،‬تشخص بلهفة ‪ ،‬وبسمة مــاكرة ترتس ـمـ‬
‫فوقـ شفتي العجوزـ ‪ ،‬واليد تمتد لتقارب عنق الديك وأصوات الصبية تتعالى داوية ونقرة‬
‫‪.‬‬ ‫في ظاهر اليد الممدودة قوية ومفاجئة كطلقة صــائبة ‪.‬‬
‫‪ )2‬وموضوع كموضوع االستغالل الذي يتعرض لـه لمــواطن البســيط من قبـل أصـحاب‬
‫النفوذ ‪ ،‬فنجد تفصيالته موزعة بين تناوالت القصة القصــيرة الــتي أضــاءت جوانبــه في‬
‫أكثر من تجربة ‪ ،‬فالعسكريـ في قصة ( العسكري ذبح الدجاجــة ) لم يــأت ليحــل خالفـا ً ‪،‬‬
‫وإنمــا جــاء مســتغالً شــكوىـ تافهــة من ( مســعد النجــار ) بجــاره الرعــوي ليحقــق مآربــه‬
‫الخاصة ‪ ،‬التي وقع معها الرعوي حائراً بين الرمضاء والنار ‪ ،‬العسكري يبتزه من جهــة‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق( ص‪)29‬‬

‫‪193‬‬
‫ويهدده بمزيد من االبتزاز ‪ ،‬والشيخ يستمر في مراباته مستغالً حاجة المواطن وعجــزه ‪،‬‬
‫فبعد أن سمع الرعوي تهديد العسكريـ الذي التهم دجاجته الوحيدة ‪:‬‬
‫" – هل اشتريت لي ( القات ) ألقيل به‬
‫‪ -‬ليس لدي قات‬
‫‪ -‬هه‪....‬أتريد أن تعيد الكرة مرة ثانية‬
‫‪ -‬ولكن ليس لدي قات وأقسمـ على ذلك‬
‫‪ -‬وبصوت غاضب قال العسكري ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ينفع معكم إال القوة ‪ ....‬قم واشتري لي قاتا ً وال تدفعنيـ الستعمال العنف معك ‪ ،‬فأنــا‬
‫‪1‬‬
‫منهك من الطريق "‬
‫‪ -‬انطلق مسرعا ً إلى عدل القرية ‪:‬‬
‫"‪ -‬أريد شراء قات منك‬
‫‪ -‬هل جننت يا هذا ‪ ،‬أتريدنيـ أن أتلفه وما زالت غصونه صغيرة‬
‫‪ -‬إنه العسكريـ‬
‫وما أن سمع ( العدل ) ذلك حتى قام من مكانه ‪ ،‬وخرج معه صوب مدرج زراعي صــغير‬
‫قد امتأل بشجيراتـ القات خلف منزله ‪ ،‬وشرعـ في قطف األغصان التي بانت له كبيرة ‪ ،‬ثم‬
‫قال متذمراً ‪:‬‬
‫‪ -‬اليأتي منكم سوى المتاعب ‪...‬‬
‫‪ -‬وماذا جنيت‬
‫‪ -‬ولم يحبه بل ناوله حزمة القات وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬اعلم أن ثمن هذه الحزمة رياالن ‪...‬‬
‫‪ -‬ونهض الرعوي من على الحجر الذي جلس عليه ثم قال محتجا‬
‫‪ -‬إنه ال يساوي رياالً واحداً ‪...‬‬
‫‪ -‬ولم يجبه العدل ‪ ،‬بل خطف حزمة القــات من يــد الرعــوي ‪ ،‬واتجــه نحــو منزلــه وهــو‬
‫يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬إذاً اذهب عني وابحث لعسكريك عن قات ‪...‬‬
‫‪ -‬يوجد منه الكثير في قرية ( جلب ) وهو صالح للقطف ‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنها بعيد ‪...‬‬
‫‪ -‬وماذا أفعل لك ؟‬
‫‪ -‬ولحق به وقد غلب على أمره وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬سأدفع لك ما قلت به‬
‫‪2‬‬
‫وابتسمـ العدل لسماع ذلك وناوله حزمة القات "‬
‫لكن الرعوي لم ينته همه بعد ‪ ،‬وال يزال مهموماًـ بأجرة العسكري التي وجد فيها ( العــدل )‬
‫فرصة أخرى لمزيد من المراباة ‪ ،‬يشرحها الموقفـ الحواري التالي ‪:‬‬
‫" ‪ -‬كم أدفع أجرة العسكريـ ؟‬
‫ألم تتفقوا ؟‬ ‫‪-‬‬
‫ال‬ ‫‪-‬‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص‪)30‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق (ص‪) 30،31‬‬

‫‪194‬‬
‫ادفع ريالين كغيرك من الرعية‬ ‫‪-‬‬
‫إذاً أقرضنيـ الريالين‬ ‫‪-‬‬
‫الحق ورائيـ إلى البيت‬ ‫‪-‬‬
‫ودخال المنزل ثم اتجه العدل صوب صندوقه الخشبي حيث فتحــه وأخــرج‬ ‫‪-‬‬
‫ريالين وقال ‪:‬‬
‫يبقى عندك لي خمسة رياالت ‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكنها أربعة رياالت فقط‬ ‫‪-‬‬
‫ال تعارضنيـ إن لم يرضك ذلك ‪ ......‬فقد قلت خمسة رياالت ‪......‬‬ ‫‪-‬‬
‫ال داعي لقد قبلت وأمري إلى هللا ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأخذ الرعوي القات واألجرة ‪ ،‬واتجــه صــوب منزلــه وهــو يلعن ( مســعد‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫النجار )‬
‫‪ -‬وكما تحكي هذه القصة مقدار ما حل ( بالرعوي ) من دمار ‪ ،‬تحكي قصة ( العائد من‬
‫البحر ) دماراً أكبر يتعرض له ( علي بن علي ) من قبل شيخ قريته الجشع ‪ ،‬الــذي يمعن‬
‫في اســتعدائه مســتثاراً بقيامــه بشــراء أرض من أحــد األهــالي كي يفلحهــا ويبــني عليهــا‬
‫منزالً ‪ ،‬مستغالً جبروته ونفاذ ســلطته على الفالحين الضــعفاء ‪ ،‬عامــداً إلى حيلــة يحــاول‬
‫فيها تجريد هذا العائد اآلمل في االستقرار بعد غربته الطويلة من كل ما يملك ‪.‬‬
‫وفيهاـ نقرأ ‪ " :‬وفيـ منتصف المقيل قال الوكيل ليبدد الصمت مخاطبا ً الشيخ ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد علمنا يا شيخ أن ( علي بن علي ) يريد شراء أرض هنالــك ليفلحهــا ‪ ،‬وقـدـ رحب‬
‫الرعية بأن يبيعوا له ‪...‬‬
‫‪ -‬وكأنما بهت الشيخ لذلك ‪ ،‬فقال غاضبا ً ‪...‬‬
‫‪ -‬يشتري أرضا َ ‪...‬؟ هل بلغت به الجرأة إلى هذا الحد ؟‬
‫‪ -‬لقد عرض عليهم أي ثمن يريدونه ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن باع له أرضا ً ‪...‬؟‬
‫‪ -‬لم يبع إلى اآلن سوى ( محمد حسن ) فقط‬
‫وتجهم وجه الشيخ وتنــاول ورقــة في يــده ثم كتب فيهــا ‪ ،‬وهــو يقــول مــا يكتبــه بصــوت‬
‫غاضب ‪ :‬ينفذ عسكري حاالً على محمد حسن إلحضاره ‪.‬‬
‫وأمضي الورقة بعصبية ثم طواها بينما كــانت أعنــاق عســكره ترتفــع ‪ ،‬وكــل يتمــنى أن‬
‫يرميها الشيخ إليه ‪ ...‬وطوحت يده بالورقة إلى عسكري من خبرته وقال ‪:‬‬
‫اآلن احضره على وجه السرعة‬
‫وانطلقـ العسكري كالبرقـ وقد أخذ بندقيته ‪ ،‬وما كــاد الليــل يخيم بظالمــه على تلــك الجبــال‬
‫حتى دخــل العســكريـ ومعــه الرعــوي المــدعو ( محمــد حســن ) يلهث وعلى وجهــه أمــارة‬
‫الفزع ‪ ،‬فرمىـ لحفته في األرض واتجه مسرعا ً صـوب الشـيخ وارتمىـ على ركبتيـه يقبلهـا‬
‫بحرارة ‪ ،‬بينما كانت يدا الشيخ تهوي على ظهره العاري وهو يقول مازحا ً ‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬مازال جلده قوياًـ كجلد الثور "‬
‫وبوصول ( محمد حسن ) إلى ديوان الشيخ تبدأ مناورة تهديديه مضمخة بحس االســتخفاف‬
‫بعقل هذا الرعوي الضعيفـ ‪ ،‬فما كاد يدخل القات إلى فمه حتى بادره الشيخ قائالً ‪:‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪( ،‬ص‪)32،31‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪( ،‬ص‪)45،46‬‬

‫‪195‬‬
‫" –كيف حال ( علي بن علي )؟‬
‫‪-‬على ما يرام يا شيخنا ‪.‬‬
‫وصمت الشيخ بينما قال الرعوي متسائالً ‪:‬‬
‫‪-‬لماذا أنفذت علي عسكري يا شيخنا ‪ ،‬وأنا رعويك المطيع المخلص ؟‬
‫‪-‬أريد أن أراك فقد اشتقت لذلك‬
‫وقهقه الحاضرون بينما ابتسم الرعوي بسذاجة واضحة ‪ ،‬ولكن الشيخ صاح به ‪:‬‬
‫‪-‬لقد بعت لعلي بن علي أرضا ً ‪ ....‬هه ‪....‬‬
‫وذابت ابتسامة الرعوي ‪ ....‬ووجمـ وقد أحس بالحرج ولكنه تشجع وقال ‪:‬‬
‫‪-‬لقد كنت محتاجا ً يا شيخنا ‪.‬‬
‫وكأنماـ زاد قولــه الشــيخ غضـبا َ على غضـب ‪ ،‬فصـاح بــالجميع متسـائالً أرايتم ‪..‬؟ أنــا هـل‬
‫اختفيت من الوجودـ يا محمد حسن ‪!.‬؟‬
‫‪-‬ال سمح هللا بذلك يا شيخنا‪.‬‬
‫‪ -‬أال تدري أنني أعين كل محتاج ‪ .‬من يكون علي بن علي هذا ‪ ،‬ووجمـ الحاضرون والشيخ‬
‫ثائر يهدد ويرعد ويتوعد ‪ ،‬ثم هدأ وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬بكم بعت له القصبة‬
‫‪ -‬بأربعين رياالً يا شيخنا ‪.‬‬
‫‪ -‬كنت سأدفع لك في القصبة خمسين رياالً‬
‫لم أكن أعرف ذلك ‪ ،‬وكنت أحسب أنك ستدفع لي ما دفعت ألحمد ناجي جاريـ في األرض‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬وكم دفعت ( ألحمـــــــــــــد نـــــــــــــاجي ) يـــــــــــــا ( محمـــــــــــــد حســـــــــــــن ) ؟‬
‫لقد قال أنك دفعت له خمسة رياالت ثمن القصبة‬ ‫‪.‬‬
‫‪ -‬كذاب ‪ ...‬عليه اللعنة أيكذب علي ؟‬
‫وهنا تدخل الوكيل ألول مرة وقال مخاطبا ً الرعوي ‪:‬‬
‫‪ -‬ربما لم تسمعه جيداً ‪ ،‬فقد دفعنــا لــه خمســين ريــاالً في القصــبة الواحــدة ‪ ،‬وربمـاـ ســمعت‬
‫الخمسين على أنها خمسة‬
‫‪ -‬ولكني متأكد من قوله ‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لست متأكدا ‪ ،‬بل غبيا ً‬
‫ولم يكن بيد الرعوي إال أن يسلم باألمر الواقع ‪ ،‬فانمكش في زاويته وقد جف حلقه ‪ ،‬فرمىـ‬
‫بالقات من فمه والعرقـ يتصبب من جبينه " ‪. 1‬‬
‫ولكي تتم الحيلة حبك شباكها ‪ ،‬البــد من إشــعارـ الرعــوي بالجريمــة الكــبرى الــتي اقترفهــا‬
‫حينما باع أرضه لعلي بن علي ‪ ،‬وهذا دور يقوم به‪ -‬هنا‪ -‬وكيل الشيخ‬
‫" وبعدـ أن خال المكان قال الوكيل مخاطبا ً الشيخ بصوت أراد به أن يسمعه الرعوي ‪:‬‬
‫‪-‬أنا متأكد أن ( محمد حسن ) رعوي طيب ويحبك كثيراً ‪.‬‬
‫وهنا صاح الرعوي في شبه بكاء ‪:‬‬
‫‪-‬نعم لقد خدمته ‪ ،‬وخدمت والده هللا يرحمه ‪ ،‬وأنا دائما ً تحت الخدمة وصاح الوكيل بغضب‬
‫‪...‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪( ،‬ص‪)47،48‬‬

‫‪196‬‬
‫‪-‬اسكت وال تتكلم أبداً‬
‫وحول الوكيل نظره عن الرعوي ‪ ،‬ثم قال مخاطباًـ الشيخ ‪:‬‬
‫‪-‬إنه مستعد أن ينفذ ما تقول له ‪..‬‬
‫‪ -‬أنا مستعد يا شيخنا لكل ما تأمر به ‪ ،‬فأنا رعويك المطيع ‪...‬‬
‫‪1‬‬
‫‪-‬لقد قلت لك اسكت وإالَّ أخرجتك من المكان "‬
‫وهكذا يستدرج الرعوي ليصبح األداة التي ينفذ بها الشيخ حيلته القاضية باتهام (علي بن‬
‫علي ) بنهب أرضه ‪ ،‬وهنا تبدأ المعركة الحقيقية بين الشيخ وعلي بن علي الــذي يــرفض‬
‫هذا االستعداء غير المبرر‪ ،‬ويطلب برغم تدخل األهالي ال قناعه بالتراجع أمــام جــبروت‬
‫الشيخ والمثولـ أمام الحكومة ‪ ،‬فحينماـ أرسل الشيخ عسكري إليه ‪ ،‬امتنع عن مرافقتــه إلى‬
‫منزل الشيخ وهنا تدخل عمه ( حمادي الحاج ) قائالً ‪:‬‬
‫" –ال يصح ذلك ‪ ...‬اذهب مع العسكريـ إلى عند الشيخ ‪...‬‬
‫‪ -‬وهل نهبت أرض ( محمد حسن ) يا عمي ؟‬
‫‪ -‬اذهب وقل الحقيقة للشيخ ونحن سنتشهد بذلك معك ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬لن أذهب إال إلى الحكومة "‬
‫لكن مثوله أمام الحكومة ‪ -‬الممثلة هنا بالحاكمـ ‪ -‬لم تســتطيع أن تــرد لــه حقـا ً ‪ ،‬بــاألخص‬
‫وأن الشيخ الذي قضت حيلته االستعانة بمن يتكفل بتغيير الواقع على األرض‪ ،‬وإزالــة كــل‬
‫الدالئل التي تثبت ملكية ( علي بن علي ) لألرض المشتراة ‪ ،‬وتخويفـ األهالي ‪ ،‬وتهديدهم‬
‫كي يمتنعوا عن اإلدالء بشهاداتهم ‪ ،‬أمام الحاكم ‪ ،‬قد أغلق في وجهــه كــل الســبل ‪ ،‬فلم يبــق‬
‫أمامه سوى سبيل قتل الشيخ والتخلص من ظلمة واستعدائه ‪ ،‬فحينما خرج الحـاكم لمعاينـة‬
‫الموق ـفـ ‪ ،‬وطلب من ( علي بن علي ) أن يريــه منزلــه ‪ ،‬ذهــل ( علي بن علي ) حينمــا لم‬
‫يجد لمنزله أثراً ‪ ،‬وهنا صاح الحاكم ‪:‬‬
‫"‪ -‬أين دارك يا علي بن علي ‪...‬؟‬
‫وتلعثمـ علي بن علي وقال وهو تائه ‪:‬‬
‫‪ -‬هنا كانت داري يا سيدي الحاكم ‪.‬‬
‫‪ -‬وأين ذهبت ‪...‬؟‬
‫‪ -‬ال أدري ‪..‬‬
‫وهنا قال الشيخ مخاطبا ً الحاكم وهو يبتسم‪:‬‬
‫‪ -‬وهل حدثكم علي بن علي أنه يملك داراً هنا يا سيديـ الحاكم ؟‬
‫‪ -‬نعم يا شيخ مصلح وقد خرجت على هذا األساس ‪!! ...‬‬
‫‪ -‬هذه أرضي يا سيدي الحاكم أزرعها منذ األزل ‪...‬‬
‫وهنا صاح علي بن علي والدموعـ تكاد تخرج من عينيه ‪..‬‬
‫‪ -‬لقد خرب الشيخ داري يا سيدي الحاكم ‪.‬‬
‫وأجابه الحاكم بهدوء‬
‫‪ -‬وأين آثارها ‪ ..‬ال بد من حجارة أو خشب لتثبت ذلك يا علي بن علي ‪!...‬‬
‫وتلفت غلي بن علي بين القوم عساه يجد أثراً لداره تحت أقدامهم دون جدوىـ فقال بتأثر‪:‬‬
‫‪ -‬ال أدري يا سيدي الحاكم ولكن كلهم يعرفونـ ذلك ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪( ،‬ص‪)48،49‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪53‬‬

‫‪197‬‬
‫وقاطعه الشيخ قائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬يا سيدي الحاكم ‪ ...‬اسال أي رعوي هنــا عن ذلــك ‪ ...‬إذا أخــبرك أحــد بــأن لعلي بن علي‬
‫داراً هنا ‪ ،‬فأنا مستعد أن أعطيه داري وكل ما أملك‬
‫وقال الحاكم مخاطبا ً الجموع ‪:‬‬
‫ماذا تقولون ؟‬
‫‪ -‬ال نعرف علي بن علي هذا وال يملك هنا داراً ‪.‬‬
‫وأظلمت الــدنيا في عين علي بن علي عنــدما ســمعهم يقولــون ذلــك ‪ ،‬وتلفت حولــه فلمح‬
‫( محسن ) بين الجموع تكاد تذرفـ من عينيه الدموع ‪ ،‬فقال بتأثر مخاطبا ً الجموع ‪:‬‬
‫‪ -‬يا لكم من جبنــاء ‪ ،‬إلى هــذه الدرجــة تخــافون الشــيخ ‪ ..‬إلى درجــة قــول الباطــل وشــهادة‬
‫الزورـ ‪ ...‬أالَّ تعرفونني ‪...‬؟‬
‫ولم يجبه أحد ‪ ،‬فوجه كالمه نحو محسن قائال ‪ :‬أال تعرفنيـ يا محســن ‪ ....‬يــا لــك من بــائس‬
‫مسكين ‪.‬‬
‫ولم يجبه محسن بل خرج من بين الصفوف مهروالًـ نحو الطاحون ‪ ،‬وألقى علي بن علي‬
‫نظرة على دار حمادي الحاج فوجدها هامدة ال حياة لها ‪ ،‬و سمع صوت الطاحون يــدوي ‪،‬‬
‫محدثا ً ذلك الصوت المتقطع ‪ ،‬واقترب من الحاكم وبندقيته متدليــة إلى اإلمــام بيــده تــترنح ‪،‬‬
‫وأشارـ الحاكم نحو عساكره فتحركوا نحو علي بن علي ليطوقوه ‪ ...‬ولما اقتربوا منــه دوت‬
‫‪1‬‬
‫طلقة نارية سقط على أثرها الشيخ مضرجا ً بدمه‪.‬‬
‫وأما عن موضوع الهجرة ‪ ،‬ومغادرة القريــة واألهــل ‪ ،‬ومشــقة االســتمرار والبقــاء في‬
‫ظل ضغوط األنظمة وفسادهاـ ‪ ،‬وهو موضوع الرواية اليمنية األثير ‪ ،‬فإن للقصة القصــيرة‬
‫منه منطقتها الخاصة التي تتواجد على مسـاحاتهاـ ‪ ،‬ففي الـوقت الـذي انصـرفـ فيـه اهتمـام‬
‫الروايــة على الحــدث باعتبــاره محــورـ البنــاء الــروائي ‪ ،‬ركــزت القصــة القصــيرة على‬
‫الوجــدانات الداخليــة للشخصــية ‪ ،‬وتعمقت اضــطرابها وتقلبهــا ‪ ،‬لتضــيء لنــا بــذلك نقاط ـا ً‬
‫إضافية ‪ ،‬فمن قصة ( غداً تهطل األمطار ) لعلي صالح عبدهللا ‪ ،‬نقتطف ‪:‬‬
‫" األرض تبحث عن نفسها في جوف السماء فال تجدها ‪ ،‬والعيون تباشر وظائفها بال هدف‬
‫‪ ،‬نظراتها دوائرـ مفرغة في الشكل ‪ ،‬رحلة ماجالن ‪ ،‬نقطة البداية والنهايــة ‪ ،‬والجــوهرـ بال‬
‫معنى ‪ ،‬واألفكارـ ترسل ما يطرأ عليها إلى المركز ‪ ،‬فال تجد ما يشــفي غليلهــا ‪ ،‬والبســمات‬
‫تحجبها ظالل األلم الرتيبة ‪ ...‬والظمأ والجــوعـ الوحيــدان اللــذان يعمالن عمــل الســيف في‬
‫الرقاب ‪ ،‬فتشرئب األعناق إلى السماء داعية ‪ ،‬تواقــة إلى الرحمــة ‪ ،‬الرحيــل ‪ ،‬فكــرة وليــدة‬
‫اليأس والقنوط ‪ ،‬خاتمة الرواية لم تكتمل بعد ‪ ،‬تظل تبحث عن موضــع لنفســها بين أحــرف‬
‫آلــة الطباعــة الصــماء ‪ ،‬يــتردد الكــاتب ولكنــه ال يغض الطــرف عنهــا ‪ ،‬يمعن النظــر في‬
‫ســطورهاـ حــائراً ‪ ،‬فتظــل الروايــة ماثلــة إزاءه بال نهايــة "‪ ، ".......‬يحــاول اإلجابــة على‬
‫السؤال الماثل بين السطور ولكن الخوار يداخله والضعف ينال منه ‪ ،‬وعلى بعد أمتار قليلة‬
‫تظهر فجأة هوة سحيقة بال قرار ‪ .....‬أصوات متواشجة متناقضة تصيح في أذنــه ‪ ،‬ســر‪....‬‬
‫توقف‪...‬ـ امض ‪ ،‬تدفعه عنها لم يبق إالَّ النزر اليسير سيسقط ال محالة أثره ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫اليرى أو يبصر ؟ األبيض واألسود في عينيه لون واحد "‬
‫ومن قصة ( الليل ينصهر ببطء ) لمحمد مثنى نقتطف ‪:‬‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪70،71‬‬
‫‪ 2‬علي صالح عبدهللا ( وجه حبيبتي ‪ ،‬والوجه االخر ) دار الفارابي ‪ ،‬بيروتـ ‪1980‬م ط‪ ، 1‬ص‪49‬‬

‫‪198‬‬
‫" فقدت الحياة مآثرها ‪ ،‬ولم يعد شيئا ً يوحي فيها بالحياة ‪ ،‬أخ ‪ ...‬لقد مضــت على هربــه من‬
‫القرية سنوات ‪ ،‬وذلك الكائن الذي تركه يركض في أحشاء الزوجة ‪ ،‬ال يعــرف من رؤيتــه‬
‫أكثر من ساعات مخضلة بالخوفـ يلوذ خاللها باآلكام كأنه قرد من قرودـ الجبال ‪.‬‬
‫سنوات من الفرقة والشوقـ ‪ ...‬وتستيقظ في دواخله لمحات من المواجع تضيئه لحظات ‪ ،‬ثم‬
‫تفلت كالســديم ‪ ....‬ويصــغي لداخلــه ‪ ....‬أكــل هــذا بســبب العســاكرـ والجبــاة ‪ ،‬وعصــيهم‬
‫الغليظـــة ‪ ،‬ومـــع ذلـــك يضـــللون اإلمـــام ؟ أخ‪ .....‬ال أدري ‪ ....‬لقـــد دارت الـــدنيا تقلبت‬
‫الموازين ‪ ...‬الحريق في داخله ‪ ،‬وأشـواق مغلفـة ‪ ،‬ولكنـه ال يعـثر على مخـرج ‪ ،‬وتمضـيـ‬
‫‪1‬‬
‫السنين العجاف شحيحة باردة كيدية اللتين افتقرتاـ إلى حرارة الفأس منذ زمن بعيد "‬
‫هكذا شكلت المعالجات الروائيـة والقصصـية تحت هـذا المبحث إضـافة نوعيـة إلى تجربـة‬
‫الكتابة الروائية والقصصــية في اليمن ‪ ،‬حيث طــرقت هــذه المعالجــات موضــوعات لم تكن‬
‫مطروقة قبالً ‪ ،‬واستوعبت قضاياـ لم تكن مستوعبة ضمن المعالجات الروائيــة والقصصــية‬
‫قبل ذلك ‪ ،‬وأظهرت قدراً من الهدوء والبعد عن االنفعال الذي سمح لها بأن تتعمق وتتوغل‬
‫وتضــيء زوايــا جديــدة ‪ ،‬تعــددت على أثرهــا المضــامين وزوايــا الــرؤى وااللتقــاطـ بين‬
‫مضامين أفاض فيها التناول الروائيـ ‪ ،‬ومضامين أشار إليها أو دل عليها ‪ ،‬أو ترك المجـال‬
‫فيها للمعالجات القصصــية تعمــل فيهــا عملهــا وتســلك خاللهــا ســبلها بين الكشــف والتعمـقـ‬
‫والتوغل إلكمال ما نقص من خطوطـ المشهد ‪ ،‬ضــمن قاعــدة من المــزج بين الموضــوعين‬
‫السياسيـ واالجتماعي ‪.‬‬
‫‪ )2‬أعمــال روائيــة وقصصــية اهتمت بــالواقعـ السياســي واالجتمــاعي بعــد ثــورة الشــمال‬
‫واستقالل الجنوب‬
‫وهــذه أعمــال أنشــأت تجاربهــا ضــمن واقعهــا االجتمــاعي والسياسـيـ المحفــوف بالشــك‬
‫المطبوعـ بالتشوشـ وانعدام الوضوح ‪ ،‬وهي إذ تسلط أضواءها الكاشفة على واقع ال تزال‬
‫تختلج في مجريات أحداثه وال يزال كاتبها يعافرـ صعوباته وتحدياته ‪ ،‬ولسان حاله يقــول‬
‫ما أشبه اليوم بالبارحة ‪.‬‬
‫فقد كتب عليه كما كتب على كل أبناء جيله أن يعيش ظرفـاًـ سياســيا ً واجتماعيـا ً مشــابها ً‬
‫لذلك الظرف الذي عاشه كتاب الرواية والقصة القصيرة مـع أبنـاء جيلهم في واقـع مـا قبـل‬
‫انفجــار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب ‪ ،‬بــل ربمــا هــو أقســى وأصــعب حيث تحــرص‬
‫األنظمة ( المسماة ثورية وحديثة ) في سعيها إلى قمع شــعوبهاـ وخنــق حرياتهــا إلى اقتنــاء‬
‫كل جديد ومحدث من آالت القمع والتتبع ‪ ،‬وألجل ذلك ‪ -‬ومع ارتفاع الشعور بخيبة الرجاء‬
‫‪ -‬يعود صوت السياسة ليحتل مكانه من جديد في تناوالت هذه ‪ ،‬فيعلوـ حينا ً ويتوارى خلف‬
‫األساليب التضمينية والرامزة حينا ً آخر‪.‬‬
‫وســوف تعتمــد الدراســة في إشــباع موضــوعهاـ لــدى هــذه المبحث على روايــة ( وســامـ‬
‫الشرف ) لمحمد مثنى باعتبار تجربتهاـ المعالجة تقوم على تغطية مســاحة واســعة من زمن‬
‫هذه الفترة ‪ ،‬كما تطرق قضاياـ متعددة مثلث القضايا األهم في واقعها‬

‫السياسيـ واالجتماعي ‪ ،‬باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية التي شهدت خالل الفترة‬
‫المحددة لهذا المحور من الدارسة تطوراً وتنامياًـ مطرداً ‪.‬‬

‫‪ 1‬ص‪ 48،49‬محمد مثنى ( رحلةالعمر )الهيئة العامة للكتاب ‪ /‬صنعاء ‪2001‬م ط‪1‬‬

‫‪199‬‬
‫وموضوعـ رواية ( وسام الشــرف ) هــو موضــوع سياسـيـ ‪ ،‬يســلط فيــه الكــاتب ضــوءا‬
‫كاشفا على مالمح انحراف مسار التغيير وتبدد أهداف الثورة في الشمال والجنوب ‪.‬‬
‫فلم تعد الثورة تشكل‪ -‬وفقا ً لرؤية أغلب أعمال هــذه الفــترة‪ -‬محطــة انطالق نحــو تغيــير‬
‫إيجــابي ينتقــل بالشــعب اليمــني نحــو األفضــل ‪ ،‬وإنمــا غــدت محطــة يقعــد إليهــا أصــحاب‬
‫الحسابات المصلحية الضيقة يراجعــون مقاســمهمـ ومغــانمهمـ ‪ ،‬وأصــبحت حركتهــا المختلــة‬
‫حينا ً وغــير المحســوبة أحيانـا ً أخــرى وبــاالً على هــذا الشــعب حين انتهت إلى مجــرد نقلــة‬
‫مفرغة نحو مجتمع استهالكي محمومـ ‪ ،‬يركض في ظــل سياســة االنفتــاح في اتجــاه تطــور‬
‫شكلي تحكمه النفعية البحتة ‪ ،‬وال يضع لإلنسان وتغييره والوصول به إلى مستوىـ معيشــي‬
‫وثقافيـ أفضل مكانا ً من مساحاته الــتي انشــغلت بظــواهر ســلبية بعضــها يمتــد بخيوطــه إلى‬
‫تاريخناـ البائد ‪ ،‬وبعضــها يبــني تشــكله على إيقــاع عصــرنا الحــديث ‪ ،‬وهي الظــواهرـ الــتي‬
‫شــكلت مــادة خصــبة نهلت منهــا الروايــة والقصــة القصــيرة ومنهــا اختــارت موضــوعاتهاـ‬
‫ومضامينها ‪.‬‬
‫وبدءاَ برواية ( وسامـ الشرف ) التي احتوى سياقهاـ حشداً من هذه الظواهر الــتي تم تقــديمها‬
‫من خالل مضامين لقضايا حقيقيــة مســت وبشــكل مباشــر اإلنســان البســيط الثــائر الحقيقي‬
‫والمناضلـ ضد الظلم واالستبداد واالستغالل ‪ ،‬والذي يزداد كل يوم انسحاقاًـ وضــياعا ً ‪ ،‬من‬
‫هذه القضايا ‪:‬‬
‫‪ )1‬انحراف المسارـ التغيــيري للثــورة في الشــمال والجنــوب رغم اختالف النهج السياســي‬
‫لنظامين يوصم أحدهما بالراديكالية ‪ ،‬ويتشدقـ ثانيهما بالتقدمية ‪.‬‬
‫ففي الشــمال كــانت سياســية االنفتــاح توقــع أنغامهــا المرتبكــة على أوجــاع البســطاء الــذين‬
‫فوجئوا بحركة محمومة لمجتمع يتوجه في هجــرات جماعيــة نحــو العاصــمة صــنعاء الــتي‬
‫كانت تستقبل مع إشراقة كل صباح وفوداًـ جديدة ‪،‬‬
‫و تركض الهثة كي تستوعب ضغط السيل البشري المتدفق عليها ‪،‬‬

‫فالفالحون يبحثون عن أسواق جديــدة لبضــائعهم ‪ ،‬والتجــارـ يبحثــون عن ســبل لتوســيع‬


‫تجـــارتهم ‪ ،‬والمشـــايخ والوجاهـــات يجربـــون أنشـــطة جديـــدة من تجـــارة األراضـــي‬
‫والمضــاربة بهــا ‪ ،‬و قــد " يتنــازعون أرضـا ً أو أكــثر ‪ ،‬وكــل منهم يملــك نفس بصــائرـ‬
‫‪1‬‬
‫الملكية ‪ ،‬فيتراشقون بالمدافعـ الرشاشة ليخيف كل منهم اآلخر "‬

‫ومع تزايد الوافدين الجدد كثر العاطلون في رصيف التحرير ‪ ،‬فهناك طابورـ طويل منهم ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫بعضه قد استسلمـ بعد أن أعيته البطالة للهذيان والجنون ‪.‬‬
‫‪ ،‬وانتشرت السلع المستوردة حتى غدت صنعاء مجرد سوق اســتهالكيـ كبــير ‪ ،‬وبــرز‬
‫‪3‬‬

‫االستقواء على بسطاء الناس ظاهرة واضحة ‪ ،‬وهذه مجموعة من البشر قــد هــرعت ببقايــا‬
‫عظامها هربا ً من سيارة مسرعة يقودها طفل ‪ ،‬كانت ستدهسهمـ " قــال أحــد الهــارعين إنهــا‬
‫من نوع الشبح التي لم يكن قد رآها أحد من قبل ‪ ،‬وإنما سمع عن مثل هــذا االســم في قائمــة‬
‫‪4‬‬
‫الموضة األحدث للسيارات التي أضحت تستخدمـ في بالدنا "‬
‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪154‬‬
‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ( ص‪)115‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق (ص‪)202‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه (ص‪)234‬‬

‫‪200‬‬
‫وقال آخر " لم يكن ينقصنا في هذا البلد إالَّ أن يهبر هؤالء الهمج البقايــا من جلودنــا‬
‫ويشترون بها سيارات الشبح لمالعبة أطفــالهم "‪ ، 1‬وكــثرت التجــاوزات وهــاهم النــاس‬
‫يرقبون أحد الواصلين يحمل أمراً ال يرد في ورقة رسمية ومختومة بلون كلــون الشــمع‬
‫األحمر ‪ :‬يسمح للمذكورـ فاعل خــير باســتيراد أربعمائــة ألــف طن من الحديــد معفى من‬
‫الجمارك والضريبة لبناء أعمال خيرية وبملحوظة ملحقة في أسفل الورقــة ال يعرفــون‬
‫من وضعهاـ " كما يعفى من أي مترتبات أخــرى للجهــات أو الدولــة ‪ ،‬وقـدـ علــق أحــدهم‬
‫على اآلمر قائالً في تندر " لــو أن فاعــل الخــير هــذا ســيعمر الكــرة األرضــية كلهــا لمــا‬
‫احتاج إلى أربعمائة ألف طن من الحديد "‪ ، 2‬ثم أخذت موجه الغالء التي تفتعلها جماعة‬
‫من المضاربين بأقوات الناس ‪ 3.‬تشتد ‪ ،‬وبرز الغــنى المفــاجئ ألنــاس " يــدخلون بغــبرة‬
‫أقــدامهم الحافيــة من مختلــف األطــراف في العاصــمة ليالً ثم يتجولــون في المصــالح‬
‫والمنشآت الحكومية الحديثة صباحاًـ بحواالتهم ومن أي أحد حتى في زئبقات ســجاير ال‬
‫ترد ‪ ....‬فيكونون في األيــام القليلــة التاليــة لهــا في ‪ -‬أنحــاء العاصــمة المتســعة بالحركــة‬
‫والتطور‪ -‬بصوالين من السيارات آخر موديل ‪ ....‬فضالً عن النعمة السريعة التي تطردـ‬
‫من وجوههمـ الغبار‪ ،4‬وتراجع سعر العملة ‪، 5،‬وتبدى التفاوت الطبقي بأوضح صــوره‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫فغدت صنعاء مدينة يجهلها حتى القاطنين فيها ‪.‬‬
‫وفيـ عدن كانت قضية أخرى نجمت عن تطبيقـ سياســية النظــامـ الشــمولي الــتي عملت‬
‫على تنفيذ حلول اقتصادية غــير مقبولــة ‪ ،‬كــان أهمهــا تــأميم الممتلكــات ووضــعها تحت‬
‫حيازة الدولة ‪ 7.‬مما تسبب في ‪:‬‬
‫‪ -1‬جمود حركة السوق وركود االقتصادـ ف " بدالً من أن تستنفر هــذه الثــورة العمــال‬
‫والفالحين والمجتمع في ثالثمائة كيلومترـ من األرض بالفؤوس في وادي حضرموت‬
‫"‪ ، 8‬قــامت بتــأميم العمــارات والمعامــل والمصــانعـ الصــغيرة ‪ ،‬بــل وشــجعت على‬
‫حركات هي أقرب إلى الفكاهة منها إلى تنفيذ رؤية سياسية أو مشروعـ وطــنيـ ‪ ،‬مثــل‬
‫انتفاضة الصيادين الثالثة التي ذكرتها الدراسة في موضــع ســابق منهــا ‪ ،‬ومثــل تلــك‬
‫التظاهرة التي أخذت تسد الشوارعـ ‪ ،‬وتهتف مسنودة باألمن والجيش ‪ " :‬واجب علينا‬
‫‪9‬‬
‫واجب تخفيض الرواتب واجب "‬
‫ب ) مغادرة الكثيرين من أصحاب رؤوسـ األموال إلى الشمال ‪ ،‬هربا ً من جــبروت‬
‫النظام ذي القبضة الحديديــة ‪ ،‬ففي هــذه الحقبــة " وفي الجــانب اآلخــر من اليمن ‪...‬‬
‫كانت العاصمة التاريخية تستفيد ‪ -‬لمن يشــاهد ذلــك ‪ -‬من أخطــاء جزئهــا الثــاني في‬
‫حركتهاـ النشطة المتسعة من جراء االنفتاح ‪ ،‬الذي اتخذته كأفضل وســيلة لالســتفادة‬
‫‪10‬‬
‫والرد واإلغاضة في نفس الوقت "‬

‫‪ 1‬نفسه( ص‪)235‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص‪146‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪201‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪146‬‬
‫‪ 5‬نفسه ص‪203‬‬
‫‪ 6‬نفسه ص‪206‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪203‬‬
‫‪ 8‬نفسه ‪ ،‬ص‪124‬‬
‫‪ 9‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع السابق ص‪124‬‬
‫‪ 10‬المرج السابق ص‪126‬‬

‫‪201‬‬
‫يخاطب ( الحاج محبوب المعسلي ) ولده ( نور) متحدثا ً عن عدن في ظل هــذه السياســة ‪":‬‬
‫أتوقع أن يهرب منها حتى اللذين سنوا قانون الحيازة الجديد ‪ ،‬وإنه ليساورني في هذه األيام‬
‫مــا قلت لــك في األيــام األخــيرة عنــدما كنت بيننــا ‪ ،‬ولعلــك تتــذكر جيــداً من أن النــاس في‬
‫‪1‬‬
‫المطاف األخير ستحال إلى نفايات المصافي "‬
‫ج) وقوع من بقي منهم تحت طائلة الفقر غير المبرر والذي كانت أسرة محبــوب المعســلي‬
‫‪2‬‬
‫نموذجاـ بارزا عليه‬
‫‪ )2‬اعتماد النظامين في الشمال والجنوب في ترســيخ بقائهمــا على آليــات القمــع السياسـيـ‬
‫بين تكميم األفــواه وإصــدارـ دســتورـ يحــرم الخــوض في الحزبيــة ‪ ، 3.‬ولجــوء الناشــطين‬
‫الحزبيين إلى العمل السري ‪ ،‬ففي " هذه الفترة رأى ( نور) ( علوان وكــردة ) و ( رفيـقـ‬
‫وخالد المهيــوب ) كــل على طريقتــه وفيـ عجلــة من أمــره يتصــيدون العمــال والطلبــة أو‬
‫الشباب كل بمفــرده ‪ " ... " ،‬فيأخــذونهمـ إلى قهــوة التيســير أو غيرهــا ليشــربوا الشــاي‬
‫الملبن ‪ ،‬ويقولون لهم من خلف سحاب الدخان ما قال لــه علــوان الــذي ال زال يتــذكره بال‬
‫نسيان وإن بشيء مختلف ‪ ،‬وفقا ً لأليديولوجيات التي يتقنها كل واحد ‪ ،‬وال بأس أن يكــون‬
‫‪4‬‬
‫عامل القهوة ‪ 0‬معروفـ مرهف اآلذان ومفتح العيوب يصغي ويستوعب ذلك "‬
‫وهذا ( نور ) يعبر عن التزامه اإلقالع عن الحديث في السياسة بعد ما رآه من عــذابات ‪،‬‬
‫فقد أدرك أن ما يتحدث به راكبو سيارة األجرة التي كان يستقلها " ما هــو إالًّ في السياســة‬
‫وهو من وقع على نفسه في ورقة شهادة الخروج بخط يده وتوقيعـه المفخم الواضـح ‪" :‬أ ن‬
‫ال أتدخل فيما ال يعنيني "‪ ،5‬وحينماـ تم اقتيــاده من قبــل ثالثــة من الحـرس المسـلحين ‪ ،‬ظــل‬
‫‪6‬‬
‫يردد " واهم من يظن أني أثرثر حتى في األحالم عن السياسة "‬
‫وتتبع مناضليـ الثورة ومالحقتهمـ والزج بهم في الســجون والمعتقالت ‪ ،‬فقــد بــدأت الســلطة‬
‫‪7‬‬
‫تبث عيونها المريبة في كل مكان‬
‫في المقهى حيث النادل كله عيون راصدة وآذان صــاغية ‪ ، 8‬وفي الشــارع حيث المخــبرين‬
‫يمارسون كمجانين أفرزتهم الحقبة هـذيانهمـ السياسـي ‪ ،9‬وقــرب المــنزل ‪ ،‬وبجــوار المطعم‬
‫‪10‬‬
‫يقف اثنان يرصدان حركة المتتبع كجزء من واجبهما اليومي‬
‫حتى غدا المرء مقيداً في بيته ‪ ،‬وهذا نــور يــدلف إلى الحمــام دون أن يشــعل نــوره ويتجنب‬
‫إشعال نور الغرفة ‪ ،11‬ويطفئـ السيجارة مطوقا ً بإحساس ال يخيب من أن العيون الساهرة ‪-‬‬
‫ال شك ‪ -‬تتطلع إلى آية بادرة نور من غرفته ‪12،‬وحمالت تفتيش المنــازل تشــن في غيــاب‬
‫أصحابهاـ حتى غدت كالزيارات المعتادة ‪. 13‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪96،97‬‬


‫‪ 2‬نفسه ‪ .‬ص‪96‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪72‬‬
‫‪ 5‬نفسه ص‪202‬‬
‫‪ 6‬نفسه ص‪190‬‬
‫‪ 7‬نفسه ص‪66‬‬
‫‪8‬ا محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪66‬‬
‫‪ 9‬المرجع السابق ص‪115‬‬
‫‪ 10‬المرجع نفسه ص‪190‬‬
‫‪ 11‬نفسه ص‪209‬‬
‫‪ 12‬نفسه ص‪162‬‬
‫‪ 13‬نفسه ص‪163‬‬

‫‪202‬‬
‫ثم تجلت ظاهرة أخرى هي غيــاب بعض الصــحاب وبطريقــة غامضــة ‪ ،1‬يخــاطب أحــدهم‬
‫( نور ) حينما وجد السؤال يعلو وجهه ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬كردة منذ غيابك لم يعد أحد يعرف عنــه‬
‫‪2‬‬
‫شيئا ً ‪ ،‬وعلوان شرف بيت خاله "‬
‫تم تكـــرار حمالت االعتقـــاالت واقتيـــادـ مناضـــلي الثـــورة الحقيقين وتعـــذيبهم بـــدون تهم‬
‫واضحة ‪ ،‬وهذا ( نور) يقبض عليه ليجــد نفســه بعــد دوران التمويــه في نفس المكــان الــذي‬
‫اقتيد إليه قبالً وفي الغرفة التي بسعة مترين طول ‪ ،‬ومترـ وخمسة وعشــرين ســنت عــرض‬
‫– كما قدر ‪ 3 -‬ثم يعرض على ضابط التحقيق الذي يبادر بالســؤال ‪ - " :‬كم تبقى معــك من‬
‫المنشوراتـ التي قمت بتوزيعهاـ ؟ كان صوت الضابطـ الــذي نــزل على أذنيــه بمثابــة الهــزة‬
‫األرضية وقد قلب يديه ‪ ،‬وهز رأسه كالمنصعق بلدغة كهرباء ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬أي منشـورـ يـا حضـرة ‪ ...‬فليس لي في المناشـير نصـيب وال أيضـا ً في السياسـة ‪ ،‬فقـال‬
‫المحقق بعد ضحكة مختصرة ساخرة وخفيفة ‪ - :‬هه ليس لك في المناشــيرـ وال في السياســة‬
‫التي ظللت تتمنجه بها لسنوات في ظل تسامح األمن وصبره هه ؟‬
‫‪ -‬أنا ؟‬
‫‪ -‬نعم أنت ‪ ،‬والدالئل كثيرة ‪ ،‬ولكن إذا لم تعترف ‪ ...‬فسأعرفـ كيــف أجعلــك ترضــع الليلــة‬
‫من لبن أمك "‪. "........‬‬
‫‪ -‬أنا ال اعرف أي شيء عن كل هذا ‪ ،‬ولكن إذا كان بأيديكمـ أي شيء أدان به فرقبتيـ سدادة‬
‫يــا حضــرة ‪ ...‬ولم يعــرف بــأي صــفة يخاطبــه كونــه أعمى من لعبــة الخــرق المعصــوبة‬
‫"‪".............‬‬
‫‪ -‬أنظر أنا لست بخائف من آبائكم ‪ ،‬ورأى رتبة النسر الطائر المنقوشة على كتفيــه بغمامــة‬
‫عندما فتح عينيه ‪ ،‬وقد أمر‬
‫الضابطـ الجندي أن يبطحه على ظهره أيضا ً ويرفع قدميه ‪ ...‬ففعل ‪ ،‬وانهالت العصي على‬
‫حفى قدميه ‪ ...‬حتى أحس بالنار تشتعل في كل عضو من جسده ‪.‬‬
‫‪ -‬أتعترف اآلن ‪ ....‬أم بعد أن تكسرـ عظمتي ساقيكـ ؟ فصرخـ بألم وهو يتوسل ‪.‬‬
‫‪ -‬ياحضرة الضابط أنا عمــري وهللا مـا حملت منشـوراًـ وال مارسـت أي سياســة إال عنــدما‬
‫كنت طفالً ‪ ،‬وضدـ اإلنجلــيز ‪ ،‬أمــا بعــدها فلم أعــد أعــرف شــيئا ً عــدى جبهــة ‪ ، ....‬وأحس‬
‫عندها باإلغماءة من شدة وطأة األلم ‪ ،‬فلم يكمل وكان يريــد أن يقــول جبهــة القتــال ‪ ،‬ولكنــه‬
‫استسلم لإلغماءة ‪ ،‬فقال الضابط للجندي ‪ " :‬ارفعه ورش على وجهه المــاء حــتى تــرى أي‬
‫جبهة ؟ وحين أفاق قال وهو ينتزع نفســه من اشــتعال الحريــق في قدميــه ‪ ،‬وإحســاس بثقــل‬
‫جسده ولسانه وشعور بأذى المنــة ‪ -‬الــذي تجنبــه طــوال المــدة ‪ -‬للثــورة في أن يقــول ألحــد‬
‫وبصوتـ ‪ ":‬أنا كنت أحد جنود الثورة " ‪ ،‬ولكنه اآلن يجد الضرورة للتلفظ بما لم يقله حتى‬
‫لنفسه ‪.‬‬
‫‪ -‬أقصــد جبهــة القتــال من أجــل الثــورة ‪ ،‬وقــد هطلت من عينيــه دمــوع وانبعثت من جســده‬
‫قشعريرة لحظتها كانت أشد من أي وطأة ألم ‪.‬‬
‫‪ -‬جبهة القتال من أجل الثورة هه !؟ قالها الضابطـ بنفس السخرية السابقة ‪ ....‬ولكنه أضافـ‬
‫‪:‬‬

‫‪ 1‬نفسه ص‪163‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص‪165‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪244‬‬

‫‪203‬‬
‫‪ -‬إن من قائل من أجل الثورة ‪ ...‬ال يتـدنى إلى أســاليب المنشــورات والمــؤامرات بعــد ذلـك‬
‫العمل الشريف ‪ ،‬خذه اآلن وسأعرفـ كيف أجعله غــداً يرضــع حقيقــة من لبن أمــه ‪ ،‬إن لم‬
‫يأتي وقد اعترف كم وزعـ من المنشوراتـ وإلى أي الفصــائل اليســارية ينتمي ‪ ...‬خــذه رغم‬
‫أننا نعرف كل شيء ‪ ،‬خاطب الضابط الجندي ‪ ،‬فرفعة الجندي بانفعال كأنما يرفع ديكا ً أعد‬
‫‪1‬‬
‫للذبح "‬
‫هكذا يتعرض هؤالء المناضلين لضغوط الســلطة وعــذابات المعتقالت دونمــا ذنب اقــترفوه‬
‫سوى أنهم دافعواـ بشــرف في ســبيل انتصــارـ الثــورة ‪ ،‬وهي ضــغوط وعــذابات قــد أســلمت‬
‫الكثير منهم إلى الجنون بينما استسلم آخرون لإلحباط واليأس ‪ ،‬كما توضح‬
‫الرواية ف (ما جد العربي ) رفيقـ ( نور ) في جبهة القتـال هـو اآلن مجنـون على أرصـفة‬
‫التحريرـ ‪ ،‬فـ " كيف تدهور بعد أن أبدى كل تلك الشجاعة والبطولة والــذي كــان سيحصــل‬
‫على وسامـ رفيع للجمهوريــة الفتيــة مــع مرتبــة الشــرف الرفيعــة هي األخــرى بال منــازعـ ‪،‬‬
‫ً ‪2‬‬
‫ولكنه اآلن يتدحرج بين األرصفة دون أن يميز شيئا "‬
‫فهل يكون مصيره هو نموذج للمصيرـ المجهول المنتظر لكـل من هم أمثالـه ‪ ، .‬وهـذا نــور‬
‫‪3‬‬

‫تقذف به هــذه الضــغوطـ إلى بــراثن اإلحبــاط فيلطخ لوحاتــه الــتي أمضــي في إبــداعها وقتـا ً‬
‫طويالً ‪ " :‬أغطس الفرشاة في الصبغة الحمراء ‪ ،‬وأخذ يطرطش بها في وجوه الثالث على‬
‫غير هـدى ويرسـمـ أقواسـا ً صـغيرة فيهـا وأشـكال همـزات صـغيرة أيضـا ً أراد بهـا تكـثيف‬
‫خربشات الغضون والنمش ‪ ،‬وقد تساقطت من سرعة الفرشاة والخطوط نقطا ً من األصبغة‬
‫الحمراء لم ينتبه لها كلطخات وانفرشت ما بين العيون والوجوه واألقواسـ والهمزات كأنمــا‬
‫دموع ‪ ،‬وحين انتهى من الرسم وضع شخطات في األسفل عند األقدام كأنما لمدينــة عــاهرة‬
‫‪4‬‬
‫يقفن عليها البغايا ‪" .‬‬
‫وإما أولئك الذين تشعر السلطات بخطرهم عليها ‪ ،‬فإن التخلص منهم وتصفيتهمـ هــو الحــل‬
‫‪5‬‬
‫األمثل وهذا أبو نضال يلقى حتفه على يد الرفاقـ في عدن‬
‫‪ )2‬تعمــد تزييــف الحقــائق التاريخيــة ‪ ،‬ونســب البطــوالت إلى غــير أصــحابها ‪ ،‬حــتى أن‬
‫بعضهمـ تتنافى سنه الصغيرة وإمكان قبــول احتمــال مشــاركته في الحــدث الــذي تنســب‬
‫‪6‬‬
‫إليه المشاركة في صنعه ‪" .‬‬
‫‪)4‬غلبة التفكير النفعي وإحالل القيم السلبية ‪ ،‬ف ( حورية ) تســقط أمــام إغــراءات المــال ‪،‬‬
‫وحين نظر إليها نور ‪ ،‬لم ير ذلك الوجه الطفولي البريء ‪ " :‬وإنما تــراءى لــه وجههـاـ من‬
‫‪7‬‬
‫خلف المغمق كوجه مومس "‬
‫وهكذا هي ( محبوبة ) حاول أن يظهر اهتمامه بها بعد أن مر وقت طويــل على لقائهمــا "‬
‫‪8‬‬
‫لكن المرأة عبرت في أبهتها من قربة دون أن تعيره نظرة من نصف عين"‬
‫والخالة زهراء ما عادت راضـية عن عيشـتها ‪ ،‬وهي تلح على زوجهـا وتضـغط عليـه كي‬
‫تدفعه إلى االنحرافـ والسرقة ‪ ،‬نسمعها تخاطبه ‪ " :‬كل الناس تعيش عيشة متنفسة متوسعة‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪128-126‬‬


‫‪2‬المرجع السابق ص‪85‬ا‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ص‪85‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪248‬‬
‫‪ 5‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪109‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق ص‪193‬‬
‫‪ 7‬المرجع نفسه ص‪132‬‬
‫‪ 8‬نفسه ص‪232‬‬

‫‪204‬‬
‫من خارج مرتباتهــا إال أنــا في هــذا الــبيت المنحــوس ‪ ،‬على المــرتب الــذي ال يكفي لتأكيــل‬
‫ثالث دمم من عشرين سنة ياناصر‪...‬ـ عشرين سنة وأنت معطى للدنيا قفاك ‪ ،‬بدل وجهــك ‪،‬‬
‫وتجهش كأنما ستبكي ‪ - :‬الناس معها غساالت ‪ ،‬وأنا أغسل بيدي ‪ ،‬الناس امتلكت "‪".......‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬قولي اسرق وسكهينا ‪.‬‬
‫‪ -‬ما قلت شيء ‪ ،‬ولكن تفعل ما يفعل الناس ‪ ،‬وأنت اليــوم أمين صــندوق ‪ ،‬ومثلــك مثلهم ‪...‬‬
‫من جيزهم ‪ ،‬ترد جاهشة ‪.‬‬
‫‪ -‬يا امرأه من ثالثة شهور وأنا أقول لــك إني مش أمين صــندوقـ وال يحزنــون ‪ ...‬ســلمونيـ‬
‫أمين عهد ‪ .....‬أمين عهد ‪ ...‬يومية فهمتيها و إالَّ بعد عشر سنين ‪ ...‬أجلس أقريهاـ لك ‪.‬‬
‫‪ -‬أمين عهد ‪ ...‬أمين صندوقـ ‪ .....‬مدير ‪ ....‬خازن النار ما يهمني ‪ ...‬أنا يهمني فقــط أكــون‬
‫مثل الناس ومن جيزهم "‪.1‬‬
‫هكذا تجلى الواقع السياسيـ واالجتماعي من خالل هذه الرواية مزدحماًـ بالوقائع محتشــداً‬
‫بقضايا تصـلح ألن تقـف كـل جزئيـة فيهـا أساسـا ً لعمـل قصصــي يتعمـق معانيهـا ويتوغـل‬
‫بواطنهاـ ‪ ،‬وهذا هو ما قامت به القصة القصيرة التي اتخــذ بعض تجاربهــا من هــذه الوقــائع‬
‫السريعة مرتكزاً تبنى عليه أحداثا ً متكاملة ‪.‬‬
‫فمجموعة ( أطوارـ حلم اإلبحار) ‪ -‬مثالً ‪ -‬تشكل كل تجاربهاـ‬
‫المنشأة تحت غاية إثارة الوعي بــذلك الهم الكبــير الــذي احتــوىـ اليمن بشــطريه بعــد نجــاح‬
‫ثوريته ‪ ،‬ذاك هو ضياع الثورة وتبددـ أهــدافها تحت إصــرار أصــحاب األفكــار الملونــة في‬
‫الجنوب على سرقتهاـ واالنفراد بتوجيه دفتها ‪ -‬على جانب من تلك القضايا التي أشرناـ إليها‬
‫سابقا ً في الرواية المدروسة ‪.‬‬
‫ففي قصة ( الموت قبل الوجــود ) نقــف على جــانب واقــع التبــدل المجهض ألحالم الشــعب‬
‫المغلوب الذي وجد نفسه يفكر بنفس الوســائل الــتي كــان يجــد فيهــا حلــوالً لمشــكالته قبال ‪،‬‬
‫وفيهاـ نقرأ ‪:‬‬
‫" الوقت يتخذ ملفات متعرجة بين السنوات السالفة والســنين الحاليــة ‪ ،‬الــرجس يتطــايرـ بين‬
‫الفتنة واألسلوب ‪ ...‬حوادث التغيير الفكري والعقائدي تتوسع وتتخذ أقمصة وأرديــة عــدة ‪،‬‬
‫يحاورون بها ويفرشــون لهــا ‪ ،‬وأذهــان الشــعب المغلــوب على أمــره تطــرق حلــول اليــأس‬
‫واالنهيــار ‪ ،‬تتــوالى بين المــوت والهجــرة واالحــتراقـ بــاألحزان ‪ ،‬ونهب الماضــي الــدفين‬
‫‪2‬‬
‫الحالم باآلمال الجميلة والغرسات الباسقة "‬
‫بل ويعانيـ مشكالت أكبر من تلك التي كــان يعانيهــا قبالً ‪ ،‬مشــكالت تتــوزع مــا بين التتبــع‬
‫والترصد والمعتقالت ‪ ،‬والتصفياتـ الدموية ‪ ،‬وفي نفس القصــة نقــرأ ‪ " :‬الــروائح الكريهــة‬
‫تحيط بالمدينة وأزقتهاـ ‪ ،‬ووجــدان البشــر ‪ ،‬والــدم تغــرق فيــه مدينــة الجمــال ليجلب الحــاكم‬
‫وجوده وأمره و اســتقالله ‪،‬وبقــاءه ‪ ،‬واآلهــة تحملهــا لتمــوت مــع النكــران للحيــاة الحاليــة ‪،‬‬
‫والطمث الذي يولد من شعلة كانت الحلم لهم والحب األخضرـ ألطفــالهم ‪ ...‬األســماء تقــذف‬
‫بعيداً ‪ ،‬ويؤتى بأسماء جديدة للشوارعـ لألزقة ‪ ،‬للمعاهد ‪ ،‬ولإلنسان ‪ ،‬والبلــد تحمــل أفواجـاـ‬
‫أخرى ال يعرفون من أين قدمواـ أو أي أرض برقت بهم ‪ ...‬التعبير يتغــير ‪ ...‬الكلمــة لألخــذ‬
‫للعطاء ‪ ...‬للضمير ‪.‬‬
‫‪ 1‬نفسه ص‪207،208‬‬
‫‪ 2‬منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم االيجار ) مرجع سابقا ً ص‪3‬‬

‫‪205‬‬
‫المدينة ذات اليوم الجديد تمتلئ بالصراخ والعويلـ والنواح ‪ ..‬القتل ‪ ،‬التسمم الفكري ‪ ،‬حــتى‬
‫النساء أصبحن يقذفن باألطفال قبل الميالد ‪ ...‬يا للعار ‪...‬؟ لماذا ‪....‬؟‬
‫العلماء ينحتون بين الماضي والحاضر ‪ ،‬فكانوا مذبذبين ال إلى هــؤالء وال إلى هــؤالء ‪.....‬‬
‫الصراعات تتمحور حول القوة والعقيدة والغرض ‪ ....‬لكن التغيير سائر يحرق األخض ـرـ ‪،‬‬
‫ويرفعـ األحمر ‪ ،‬ويكتسح السواد ‪ ،‬عبارات وجود حتمي ‪ ...‬الشعب تتناهى منه أصوات ‪...‬‬
‫همسات ‪ ،‬الويل يعم البالد ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرهــا – ليــذوقواـ العــذاب‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫وفيـ قصة ( الزهور تموت شنقا ً ) نقرأ عن هذا الجموح السياسي األرعن ‪:‬‬
‫" السوقـ يعج بالمزايدين ‪ ،‬وتظهـرـ بين الجمــوع صــورـ عديــدة وافتهــا المطبعــة اليــوم ‪...‬‬
‫وكانت تتسم معــالمهم ‪ ،‬أنهم بين األطفــال العـابثين ‪ ....‬بين نسـاء قاصـراتـ ‪ ....‬أم شـباب‬
‫مهووسـ لم يستطع شاهد عيان كان موجوداًـ أن يتحقق من هويتهم ‪ ،‬ولون بشــرتهمـ ضــاع‬
‫بين ألــوان الطباعــة الســريعة واألصــباغ الرديئــة المجلوبــة ‪ ،‬فلهــذا ظهــرت ألــوانهم بين‬
‫‪2‬‬
‫األحمر واألصفرـ واألسمر واألبيض "‬
‫وفيـ قصة ( أطوار حلم اإلبحار ) نقف على مواجهة صريحة من كاتبها يدعونا فيهــا إلى‬
‫ترك االستمرارـ في مخادعة النفس ‪ ،‬فالحقيقة قد أعلنت عن نفسها بقوة حيث نقرا ‪:‬‬
‫" وتتوه األقدامـ فوق مربعــات شــطرنجية تــوحي بالهزيمــة المبكــرة ‪ ،‬وانــدحارـ الــبزوغ ‪،‬‬
‫وتجدفـ األماني في رحم اللحظــة الحرجــة الــتي مــنيت بهــا أرواحهمـ ‪ ،‬والمشــاهدـ كثــيرة‬
‫حين تلم بها عقولنا ‪ ،‬لكننا نأباها مــرغمين أنفســنا بأنهــا خــداع وجــوالت تصــنف ببراعــة‬
‫لنشنق التطلع إلى الحقيقة ومجابهتها بكــل أعـذارهم والتمحــورـ الـدائري المتأبــط السـراب‬
‫واألخيلة الكاذبة المتعلقة بالحجج ‪ ،‬وما أكثر الحجج المتهالكة الكاذبة نشفي بها أنفســنا من‬
‫مرض تعودنا عليه ‪ ،‬ومهادنته بالحلم من موجات البحورـ الكثيرة المليئة بالقهر واإلحبــاط‬
‫‪3‬‬
‫والغرقـ "‬
‫وتركزـ قصة ( قتل ولم يدفن ) على ما أبدعه هذا التوجه أحادي الرؤية من أســاليب التتبــع‬
‫والتصفيات الدموية ‪ ،‬وفيها نقرأ ‪:‬‬
‫" القرية كادت تخلو معظم منازلهــا من الرجــال ‪ ..‬الرجــال تــاهوا منــذ زمن الــويالت الــتي‬
‫عمت هــذه الناحيــة ‪ ،‬البعض رمي في العــالم الســفلي ‪ ،‬واآلخــرون رحلــوا إلى النــواحي‬
‫األخرى ‪ ....‬والبعض انتهت لهم الحياة على يد عتاة التحقيق المســتهجن وقساوســة التفكــير‬
‫اإللحادي واالستهجان واالستنتاج والتأمل الديالكتيكيـ ‪ ...‬المنازل المهجورة ما زالت قائمــة‬
‫تصفر الرياح في منافذها ومخارجهاـ تحكي وتسطرـ بشاعة ما وصلت إليــه تلــك القريــة من‬
‫‪4‬‬
‫استنكال واستنزاف "‬
‫وتضيءـ لنا قصة ( خطوات في الليـل ) جانبـا ً من معانـاة النـاس مـع أجهــزة االســتخبارات‬
‫التي شغلت ‪ -‬طوال الفترة ما بين نجاح الثورة وقيــام الوحــدة ‪ -‬بعمليــات الرصــد والتتبــع ‪،‬‬
‫وفيهاـ نقرأ ‪:‬‬
‫" تتبعثرـ خطاي ‪ ...‬الليل القادم من عمق المدينــة يشــعرني بالوحشــة ‪ ،‬تتوغــل ســاعاته مــع‬
‫خطواتيـ المبعثرة تجاه وجه المدينة النائمة ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص‪3،4‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ص‪27‬‬
‫‪ 3‬منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار ) مرجع سابق ص‪33‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪65‬‬

‫‪206‬‬
‫‪ " -‬شارع ‪ .‬وآخر وأصل البوابة "‬
‫أمني النفس وأبعد هم المدينة والليل ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت !‬
‫الصوت الناخر في العظم المتسوس يخترق الليــل وصــمت المدينــة ‪ ،‬أتســمر في مكــاني ‪...‬‬
‫للخوف وجهان ‪ ....‬وجه يجعلك تتصلب " كما أنا عليه اآلن " وآخر يجعلك تبل الثرى ‪....‬‬
‫وفيـ كال األمرين أنت مقهور حتى العظم المتسوس !‬
‫‪ -‬أنت ‪ ...‬إلى أين ؟‬
‫سؤال يبدو ساذجا ً ‪ ...‬التفت أنا المتعب بترحالي نحو الصوت ‪ ،‬كــان يقــف بجــانب الشــجرة‬
‫على الرصيفـ المظلم ‪ ...‬أخفت الظلمة تقاسيم الوجه ‪ ،‬عندما تقدم انقشــعت الظلمــة ليظهــر‬
‫وجها ً معروقا ً وفكاًـ متسوسا ً ‪ ....‬أغرت وقفتي تلك شهيته فزاد بالسؤال ‪:‬‬
‫‪ -‬البطاقة ‪! ....‬‬
‫كان المعطــف الكــاكي ‪ ....‬والمقبض الخــارج من خاصــرته دليال إن لم أصــدق هــذا الوجــه‬
‫المعـــروقـ والفـــك المتســـوسـ ‪ " ...‬قلب البطاقـــة ‪ ،‬وأعادهـــا ‪ ....‬أدركت تمامـــا ً أنـــه ال‬
‫‪1‬‬
‫يقرأ‪"...........،‬‬
‫وفيـ قصة ( الجسر) نطلع على جانب من عذابات غرف التحقيق ولحظاتهاـ المؤلمــة ‪،‬‬
‫حيث نقرأ ‪:‬‬
‫" وتتألمـ لجار لك في زنزانة يئن أول المســاء‪ ،‬ويصــيح بصــوت مبحــوح يصــك أذنيــك من‬
‫هول ما يقاسيه ‪ ،‬وتتألم أكثر عندما يهمد في آخر المساء ‪.‬‬
‫وتسمع وإياه صوت نباح كلب متشرد تتمنى أن تكون هو ‪ .....‬هذا الكلب الشــريد ‪ ،‬وفعالًـ‬
‫أحسد مع جاري ذلك الكلب الشــريد ‪ ،‬أحســده ألنــه رغم جوعــه وتعرضــه للمخــاطر ينبح‬
‫بصــوته العــادي ‪ .....‬حــتى الحشــرة في مواجهتهــا للحيــاة ومخاطرهــا ‪ ،‬أعتقــد بأنهــا لن‬
‫تتعرض ألذى أكبر مما تعرضت له وتعرض له جاري في الزنزانة المجــاورة ‪ ،‬وأمثالنـاـ‬
‫في عشرات بــل مئــات الزنزانــات "‪ ، 2‬أمــا ع َّما لقيــه المناضــلون الثوريــونـ من إرهــاب‬
‫وتعذيب ‪ ،‬فتحكيه قصة (الجندي عبــده مقبــل) الــذي شــارك في فــك الحصــار عن مدينــة‬
‫صنعاء ‪ ،‬وتعلق مختاراً سبعين يوما ً على الجبــال المميتــة ‪ ،‬وكــان شــعاره الجمهوريــة أو‬
‫الموت ‪ ،‬يفاجأ ‪ -‬أثناء خروجــه من المعســكر ليملي ناظريــه بمالمح صــنعاء المنتصــرة ‪،‬‬
‫صنعاء التي اســتقبلته ورفاقــه بمشــاعل النصــر ‪ -‬برصــاص يطلــق في اتجاهــه مســتهدفاًـ‬
‫حياته ‪ ،‬يحدث نفسه مستغرباًـ " كان يمكن لواحدة منهــا فقـط أن تخلــع عينيـك المفتوحـتين‬
‫وترسلكـ إلى حيث ال تعلم يا عبده مقبل ‪ ،‬ربما تركت جثتك للكالب "‪. 3‬‬
‫وحينماـ داهمته األسئلة عن مصدرهاـ ‪ ،‬لم يجد إجابــة شــافية " الملكيــون " ؟!اســتبعد ذلــك‬
‫بشــدة ‪ ،‬لقــد تصــدت لهم القفــار واألطفــال والرجــالـ والجبــال ‪ ،‬أ لجمهوريــون يطلقــون‬
‫الرصاص على أنفسهم ؟ إذا ولكن أي شياطين اآلن تحل في المدينــة !؟ ال ‪ :‬إجابــة شــافية‬
‫وحقيقية ‪ ،‬ولكن حينما ارتدى بدلته العسكرية واعتمر رشاشه وقبعته تحسبا‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫قال أحد أعوان القائد ‪ " :‬حسن يا عبده مقبل يبدو أنك من الشيوعيين "‬

‫‪ 1‬عزالدين سعيد احمد ‪ 0‬خطوات في الليل ‪ 9‬دار الحادي للطباعة والنشر ‪ /‬تعز ‪1993/‬م ط‪ 2‬ص‪5-3‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة اإلعالم والثقافة ‪ /‬صنعاء ‪1986‬م ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( الرجل الحشرة ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪2001‬م ‪،‬ط‪ ، 1‬ص‪75‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪75‬‬

‫‪207‬‬
‫وهذا ( العم صخر ) في قصة الكرنفــال وهــو المناضــل القــديم ‪ ،‬يكابــد ليلتــه األخــيرة في‬
‫زنزانة ضيقة ال يعلم سببا ً لرميه فيها ‪ ،‬وفيـ الوقت الذي تشتعل في ذهنه تساؤالت كثــيرة‬
‫عن جدوىـ ما قدم ‪ ،‬وعن فرحته المسروقة ‪ ،‬وسنواتـ عمره الذاويــة ‪ ،‬وذكريــات نضــاله‬
‫المنسية ‪ ،‬كان الناس يحتفلون مبتهجين بعيد الثورة ‪ ،‬وهنا ال يبقى في قناعته من كل ذلك‬
‫شيء ‪ ،‬فقط حقيقة واحدة تؤصل لوجودها في ذهنه ‪ ":‬عاجز ومصــاب ‪ ،‬عالجــك معــدوم‬
‫وشفاؤكـ مستحيل ‪ ،‬كل ما تمتلك أن تقدمه هو الثرثرة والخمول ‪ ،‬حياتــك صــارت عبئـا ً ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فلماذا ال تفسح الطريق"‪ "........‬فاهدأ وتشجع ومت كما يمت الناس الطيبون "‬
‫وتوقفنا قصة ( الحديقة ) على تجربة تبين من خاللها التأثيرات السلبية لسياسة االسترضاء‬
‫التي اتبعتها حكومات الشمال مع مراكز القوى وأصــحاب النفــوذ القبلي والمشــيخيـ ‪ ،‬وهي‬
‫السياسة التي جعلت منهم حجراً عثراء في طريق التطورـ والتقدم ‪.‬‬
‫فأطفــال الحي أخــذوا ينســجون أحالمهم حــول الخرابــة الــتي ســتتحولـ إلى حديقــة غنــاء ‪،‬‬
‫باألخص وأن ( مرزوق ) وهو األكبر سنا ً ‪ ،‬قــد أخــبرهم بــذلك ‪ ،‬فمن حــالم بســورهاـ الــذي‬
‫سيكون مثل سور الصين العظيم ‪ ،‬ومن حالم بنافورتها التي تزفـرـ المــاء الملــون إلى عنــان‬
‫الســماء ‪ ،‬ومن حــالم ببحيرته ـاـ الــتي يغطس فيهــا معــه كــل الرفــاق ‪ ،‬ومن حــالم بــالحلوى‬
‫واأليسكريم الذي سيباع في بوفيتها و‪ ، .........‬وهكذا استغنىـ األطفال عن حكايــا األمهــات‬
‫وهدهداتهن ‪ ،‬كما استغنواـ عن عشاء تلك الليلة ‪ ،‬فقد ناموا مبكــرين دون أن يثقلــوا بطــونهم‬
‫‪ "2 .‬بالخبز ‪ ...‬لقد كانت بطون األطفال في هذه الليلة مثقلة بشيء ال يعرفونه‬
‫غير أن ثلة من وجهـاء البلـد تحرسـهم البنـادق قـد جـاءوا يحيطـون بالحديقـة ‪ ،‬يخططونهـاـ‬
‫ويرصدونها ‪ ،‬ثم بعد أيام دلفوا فيها وأخذوا يذرعون مســاحاتهاـ ويمــدون حبــالهم وعصــيهم‬
‫ويشيرون بأيديهمـ وأصابعهم إلى المواقع ‪ ،‬حينها حدث األطفال أنفسهم بأن هؤالء ليسوا إال‬
‫مجموعة من رجال الحكومة جاءت لتخطط إلنشاء الحديقــة ‪ ،‬لكن ثمــة حركــة من الرجــال‬
‫المختصمين بـأمر الحديقـة غـير مسـتحبة ‪ ...‬إذ الحـظ األطفـال أن فيهـا من الشـد والجـذب‬
‫والخشــونة وذلــك مــالم يكونــواـ يتمنونــه وال يحبــذون رؤيتــه في طــاقمـ المحبــة المختص ‪،‬‬
‫ومعهمـ جنود من الحكومة كان شغبا ً غـير واضــح ‪ ،‬ولكنهم ســمعوا الســمين األكـثر وجاهــة‬
‫يقول للرجــل الــذي بآثــار الجــدري الملــتئم في وجهــه األكــثر نحافــة واألقــل منــه وجاهــة "‬
‫حق‪ ....‬حق وال فيها شيء ‪ ،‬وكل واحد فينا يأخذ حقه " ‪ .‬ولكن الرجل الذي بآثار الجــدري‬
‫واألكثرـ نحافة ‪ ،‬نظر إليه بحقد وتحد الحظه األطفال كالشرر األحمر يتطايرـ من عيونه ‪...‬‬
‫قال بصوت أعلى ‪ ":‬ما هو الحق يا شيخ أنــا آخــذ العظمــة وتأخــذ اللحم ؟ " ‪ " ...‬من ؟‪.....‬‬
‫لما ترى " قالها السمين المتأنق بحدة لحظها سعيد ومرزوق‬
‫وفرحـــان في وجهـــه ‪ ...‬لكن الرجـــل المعمم والـــذي بأكمـــام واســـعة ال يلتفت إلى أي من‬
‫المختصمين ‪ ،‬وإنما يمد حباله وينقل العالمات ويسوي األشياء بســرعة ‪ ،‬كــان كنحلــة تطــيرـ‬
‫في ضوء الشمس وتتحركـ لتنجز مهمتها بإخالص ومحبة ‪ ،‬جعل أنظار األطفـال تتجـه إليـه‬
‫دون غيره كفارس مخلص ‪ ،‬خفتت األصوات لحظــة ‪ ،‬ثم احتــدت ‪ ،‬لم يفهم األطفــال من كــل‬
‫ذلك شيئا ً ‪ ،‬نظراتهمـ وأعماقهم مع الفارس المخلص ‪ ،‬لكن شــيئا ً مــا أنجلــط فجــأة وتفرقــع في‬
‫الهواء من يد الرجل الطيب ‪ ،‬كان بدويـ رصاصة جدير بأن يجفل الطيور في أوكارها ‪.‬‬

‫‪ 1‬سعيد عولقي ( الهجرة مرتين ) دار الفارابي ‪ /‬بيروت ‪1980‬م ‪ .‬ص‪55‬‬


‫‪ 2‬محمد مثنى ‪ 0‬الرجل الحشرة ) مرجع سابق ص‪9‬‬

‫‪208‬‬
‫خلد األطفال بذعر في أحضــان أمهــاتهم لليــال طويلــة ‪ ،‬ســمعواـ فيهــا أنين ســالي الكلب‬
‫حقيقة وهو يخفض رأسه إلى األرض ‪ ،‬وحلموا بالرعد الــذي يفتح فمــه بألســنة اللهب فيعقبــه‬
‫طوفــان المطــر الــذي يغــرق المدينــة ‪ ،‬بعــد ســنوات نســوا ذعــرهم فعــادواـ ليواصــلواـ لعبهم‬
‫‪1‬‬
‫وقفزهمـ ‪ ،‬لكنهم شاهدواـ الساحة وقد عمرت بالبيوت والحواجزـ والخرائب "‬
‫كما ركزت القصة القصــيرة على كثــير من القضــايا االجتماعيـة الــتي أرادت التنويـه إليهـا‬
‫وتفعيل وعي الرفض تجاهها ‪ ،‬منها قضاياـ التأمينات والضمان االجتماعي ‪ ،‬كمــا في قصــة‬
‫( المروحة ) التي نلتقي فيهــا العجــوز ســليمان الصــياد ‪ ،‬الــذي كــان في شــبابه ينطلــق قبــل‬
‫شروقـ الشــمس صــادحاًـ بأغنيتــه المفضــلة متوجهـا ً صــوب البحــر يعــافرـ أمواجــه ويــركب‬
‫أخطاره فـ " منذ سنوات عشر كان يتفجر قوة وفتوة ‪ ،‬يسير بال قميص أكثر األوقات ‪ ،‬مثل‬
‫غالبيــة الصــيادين عنــدنا ‪ ...‬فخــوراًـ بالنصــف األعلى من جســده الــذي لوحــه وهج الشــمس‬
‫المحرقة وزادته ملوحة البحر سمرة قاتمة وصالبة " ‪ ، 2‬قد تحــول بفعــل شــيخوخة الجســد‬
‫وغياب الضمان االجتماعي إلى متسول يتقصد الناس ‪ ،‬تنخر رأسه المتعب همــوم العيش ‪،‬‬
‫وهاهو " يجلس بين األحذية ‪ ،‬ووجهة معفر بتراب السنين الكثيرة ‪ ،‬ولعابه المختلط بــدقيق‬
‫تبغ ملتوت داكن اللون ‪ ،‬ينحدر من خلف شــفته الســفلى ‪ ،‬ويســيح على الجــانب األيســر من‬
‫فكــه ‪ ،‬ولســانه يتحلب الســائل بين فــترة وأخــرىـ ‪ ....‬عينــاه تثقبــان بالط الغرفــة بنظــرات‬
‫منطفئة ‪ ،‬ورأسه الذي وخطه الشيب منكس إلى أسفل ‪ ...‬وهو يجوب بذكرياته فــوقـ أطالل‬
‫رحالت عمره الغابرة ‪ ،‬أصبح مجهوالً بين هؤالء الناس ‪ ،‬يتسقط مــا تجــودـ بــه األيــدي من‬
‫قطع النقود الصغيرة ‪ ،‬ويكابـدـ الفقــر والمغبــة " ‪ ، 3‬نعم ‪ ،‬عشــر من الســنوات بــدلن حالــه ‪،‬‬
‫وأجبرنه على أن يتعيش الضياع في غفلة من قانون الضمان االجتماعي المحفوظ في قلب‬
‫أوراقـ صدئة ‪ .‬وقضية العدالة االجتماعية فحال التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع الواحــد‬
‫تستحقـ االلتفات إليها ‪ ،‬وتناولهاـ عبر معالجات تثير الوعي بها وتعززـ قناعته بأهمية اتخــاذ‬
‫فعل يحول دون استمرارهاـ ‪.‬‬
‫وفيـ قصة ( المجنـون ) نلتقي تجربـة تعـالج هـذه القضـية وتتخـذـ منهـا فعلهـا الـرافض‬
‫بطريقتهاـ الخاصة ‪.‬‬
‫فالحصاد الــذي تم جمعــة في جــرن القريــة يــدل بقــوة على هــذا التفــاوت الطبقي الــذي‬
‫يستتبعه بالطبع تفاوت في الحقوق والمكانة ‪ ،‬فهناك من يملك أرضا ً كثــيرة ‪ ،‬وهنــاك ‪ -‬وهم‬
‫األغلب ‪ -‬من يملكون أرضا ً أقل ‪ ،‬فقد " تجمع في ذلك المجران كل محاصيل أهالي القريــة‬
‫في وقت واحد ‪ ،‬وكان كل فالح قد وضع محصول أرضـه في مكـان معلـوم ومعـروف من‬
‫المجران بحسب العادة المتوارثة ‪ ،‬وكان المحصول محاطاًـ برزم معصوبة من قصب الذرة‬
‫لكي ال تشد ســنبلة من كومــة إلى أخــرى ‪ ...‬األكــوام ذات الحجم الصــغير هي األكــثر وهي‬
‫السائدة ‪ ،‬أما األكوام الكبيرة جــداً ‪ ،‬فهي قليلــة ‪ ،‬ومــع ذلــك فهي تطغي بمســاحتهاـ على تلــك‬
‫األكوام الكثيرة العدد "‪" ......‬‬
‫في القريــة يوجــد الشــيخ ‪ ....‬وكومتــه معروفــه في المجــران بكــبر حجمهــا واحتاللهــا‬
‫لمساحة واسعة ‪ ...‬كذلك يوجد ( عدل القرية ) وكومته تقترب في حجمها من كومة الشيخ‬
‫‪ ...‬يوجـــد أيضـــا ً في القريـــة ( العاقـــل ) وبعض األعيـــان من كبـــار المـــالكين ‪ ،‬وتـــأتي‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( الرجل الحشرة ) مرجع سابق ص‪23،24‬‬


‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( المروحة ) دار ابن خلدون ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬لبنان ‪1974 ،‬م‪ ،‬ص‪5‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( المروحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪4‬‬

‫‪209‬‬
‫محاصيلهمـ بعد الشيخ والعدل ‪ ،‬وفي القرية فقيه القرية الذي يقوم بتدريسـ األطفــال ‪ ،‬ولــه‬
‫مردودـ ال باس به من المحصول قد كــوره في كومــة منحــازة على جــانب من المجــران ‪،‬‬
‫هــؤالء يحتلــون بمحاصــيلهم المســاحة الثانيــة من المجــران ‪ ...‬أمــا بقيــة المســاحة فهي‬
‫مخصصـــة لصـــغار المـــزارعين مالكـــا ً أو إجـــراء أو شـــركاء ‪ ،‬حيث تشـــكل كومـــات‬
‫محاصيلهمـ أحجامـا ً صــغيرة متفاوتــة نســبيا ً ‪ ،‬ثم تــأتي في زوايــا المجــران بعض األكــوامـ‬
‫األصــــغر حجمــــا ً ربمــــا ال تلفت النظــــر ‪ ....‬وهي لفئــــة ( المزاينــــة ) و( الدواشــــن)‬
‫و( واألخدامـ ) وهذه الفئة تحصل على تلــك الغالل من عملهــا الــذي تؤديــه لســكان القريــة‬
‫طول العام " ‪. 1‬‬
‫هذا التفاوت الذي ال يقبله عقل وال يقيمــه منطــق قــد دفــع ( بحمــادي ) وهــو المجنــون فاقــد‬
‫العقل إلى حله وإزالته ‪ ،‬وهاهوـ يتوسط جــرن القريــة " واالبتســامة المحببــة مــا زالت على‬
‫شفتيه ‪ ،‬ونظره يتجول بين أكوام الذرة المتنافرة األحجام ‪ ،‬هذه كومة كبيرة وتلك صــغيرة‬
‫وأخرىـ أصغر فاصغرـ ‪ ،‬وانهال بكل طاقته وقوته على األكوام المتفرقة يساويها بيديه لكي‬
‫‪2‬‬
‫يدمجها مع بعضها البعض وتصبح كومة واحدة "‬
‫وعن قضية المهمشين ( األخدام ) تلك الفئة التي ال يزال الناس ينظرون إليها نظرة ازدراء‬
‫‪ ،‬ويتحاشـونـ التعامـل معهـا ويـأنفون توطيـد الصـالت بهـا ‪ ،‬تحـدثنا قصـة ( الكشـك ) عن‬
‫( هديش حسن ) ‪ ،‬وهو أحد األميين الذين حرمتهمـ قســوة الحيــاة من فرصــة التعلم فتــأبطواـ‬
‫المكانس مهنة آبائهم وأجدادهم من قبل ‪ ،‬فـ" عنــدما تحــدب ظهــر أبيــه ‪ ،‬والتصــقت عيونــه‬
‫باألرض بحيث لم يعد ينظر أمامه أكثر من خطوات دفع نظره ذات مرة في وجهه عنــوة ‪،‬‬
‫وقال كمن يلقي حكمة في جملة وجيزة ‪ :‬هديش ‪ ....‬هديش ‪ ...‬انظـر هــذه مكنســتين قـوة ‪...‬‬
‫محشوة ( بالثر ) العريض ‪ ...‬مليئة وخاصة ‪ ،‬صنعتها يا هديش أمك عندما كــانت عروس ـا ً‬
‫رحمها هللا ‪ ،‬وال زالت تذكرني بها حــتى اآلن ‪ ...‬أغمض نصــف عينيــه ‪ ،‬هــديش ‪ ،‬ال أرى‬
‫فيك إالَّ رجالً ومن خيرة الرجال ‪ ،‬ثم نكس الرجــل بصــره ولم يــزد ‪ ،‬وتحســس هــو ظهــره‬
‫الذي كاد أن يتحدب هو اآلخر ‪ ،‬وحين أوطــأه المــوت فجــأة في أحــد الشــوارعـ المظلمــة ‪...‬‬
‫جبهته السمراء الملوحة ‪ ،‬لم تستسلمـ أبداً إلسفلت الشارع والسقوطـ ‪ ،‬بــل ظــل يقــاوم ويســند‬
‫صدره بالمكانس ‪ ...‬وحين حملـوه كـانت المكـانس على جانبيـه مسـجاة بحسـرة كـأحلى مـا‬
‫تجود بها آصل الرفيقات "‪. 3‬‬
‫بني ( هـديش كشــك أحالمـه الــذي ســيبيع فيــه األرز والــدقيق والقمح والحلــوى ‪ " :‬اليـوم‬
‫وضع على ذلك الكشك اللمسات األخيرة ‪ ،‬وحدق للمرة الخمسين في مختلــف الجــوانب ‪،‬‬
‫القوائم ‪ ،‬والدائرة ‪ ،‬وكــل شــيء يخطــف العين ‪ ...‬األخــدام في حــارة جــابر لم يعهــدوا في‬
‫الحي مثله ‪ ،‬تال بعض األدعية التي يحفظهــا عن الفقهــاء بتكســيرـ واضــح ‪ ،‬ومســح بيديــه‬
‫على وجهه كما يفعلون عقب الدعاء "‪. 4‬‬
‫وألنه ‪ -‬مثل كل أبناء شريحته ‪ -‬اعتادوا أن يقيموا مساكنهمـ المشكلة من الحشــيش وهياكــل‬
‫السيارات القديمة في معابر السيول ‪ ،‬وهي األماكن الوحيدة الخالية الــتي يتركهــا اآلخــرون‬
‫لهم يكتوون بكوارثهاـ ‪ .‬فحين زمجـرت السـماء وأرعـدت ‪ ،‬وقـذفت وابالً من ويلهـا لم يفـق‬
‫هــديش ‪ ،‬ومعـه جيـوش من األخـدام إالَّ على الكارثــة ‪ ،‬عنـدها " كـانت الشـمس قـد فتحت‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة اإلعالم والثقافة ‪1986‬م‪ ،‬ط‪ ، 1‬ص‪52،51‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪58،57‬‬
‫ً‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( والجبل يبتسمـ أيضا ) دار العودة م بيروت ‪1978‬م ص‪22،21‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص‪19‬‬

‫‪210‬‬
‫عيونها على قرية جابر ‪ ،‬فتوهجت برك المياه وأضاءت البيوت الخيشية والهياكل الســابحة‬
‫بوضوحـ ‪ ،‬وعاد األصيل أكثر إشراقاً‪.‬ـ‬
‫ظل ( هديش حسن ) معلقا ً في السيارة الــتي نقلــوه تــواً إليهــا كســحابة مهــددة في بحــور من‬
‫الظالم ‪ ...‬لقد قذفته الحياة اآلن ‪ ...‬كما يقــذف البحــر في هياجــه أســماكا ميتــة ‪ ،‬ولم تصــدق‬
‫عيناه التي ظلت معلقة في حطام الكشك العائم كنقطة واهية حميمــة ‪ ...‬كــل مــا يحــدث اآلن‬
‫‪1‬‬
‫"‬
‫وقضايا المرأة الكثيرة ‪ ،‬كتزويجها رغما ً عنها وبوعد من والدها وهي ال تزال في المهد‬
‫أحيانا ً ‪ ،‬وهذا ما تقدمه تجربة ( أو تعود أمه ) لعبد المجيد القاضي ‪ ،‬حيث تنتزع سعاد من‬
‫زوجهاـ ووليدها بخدعة أراد فيها أهلها تصويب خطأ ‪ ،‬وتنفيذ وصية كــان قــد كتبهــا والــدها‬
‫في وريقة صغيرة قبل أن يرحل ‪ ،‬وهي تعبر عن رفضها هذا التصـرفـ الـذي يجعـل منهـا‬
‫مخلوقاًـ بال رأي وال إرادة فتقول ‪ -" :‬أنا ملك نفسي يــا "ســرحان" لم تلــدني نعجــة " ‪ ، 2‬أو‬
‫تزويجها من رجل يكبرها سنا ً ‪ ،‬يدفعها االشمئزازـ منه إلى طريق الرذيلة ‪ ،‬بينما يظــل هــو‬
‫يتجرع الهوان بصمت ‪ ،‬ففي قصة ( القسط األخير ) نقرا ‪:‬‬
‫" إلى الشيطان ‪ ،‬اذهبي أيتها العاهرة ‪ ..‬جعل يصرخ في نفســه والثــورة الكبيتــة تتــأجج في‬
‫صدره الالهث المتحشرج ‪ ،‬إلى الشيطان ‪ ،‬اذهبي أيتها األفعى الماجنة المستهترة ‪ ،‬اغربي‬
‫عن وجهيـ ‪ ،‬إني ألعنك اذهبي ولكنك لن تعثري عما يلزمك أن تحمليه إليــه ‪ ،‬ليس ثمــة مــا‬
‫تحملينه إليه إالَّ جسدك الرخيص ‪ ،‬إمــا المــال فلقــد أفلســت ‪ ،‬حملــتي ثــروتي إليــه كالنملــة‬
‫السوداء ‪ ،‬ولكنه كان كالنار يلتهم األخضر واليابس ويــذروهاـ رمــاداً مــع الــريح ‪ ،‬لقــد كنت‬
‫على علم بعالقتك اآلثمة به ‪ ،‬ومع ذلك كنت أغض الطرفـ متجاهالً حــتى مــا وضــح منهــا‬
‫وضوحـ الشمس ‪ ،‬ذلك حرصا ً على سعادتيـ الوهمية معك كي ال تهجرينيـ وتتركيـنيـ أكابـد‬
‫من بعدك ‪ ،‬كنت تبيعيني جسدك لقاء ما تدفعينه ثمنا ً للجســد اآلخــر ‪ ،‬كــانت الغــيرة كالنــار‬
‫تشتعل في نفسي ‪ ،‬ولكنــك كنت تعـرفين كيــف تطمرينهـاـ بوحـل همســاتك وقبالتـكـ الزائفـة‬
‫الباردة برود الجثة الهامدة "‪.3‬‬
‫أو تزويجهاـ طفلة صغيرة ‪ ،‬ففي قصة ( الليل كالغول يفترس الشمس )‬
‫نقرأ ‪:‬‬
‫" في ثوب الزفاف األبيض الناصع رفلت ( نعمــة ) الصــغيرـ ة ‪ ،‬وعلى صــخب األغنيــات‬
‫واألهــازيج رفعهــاـ الكبــار على المنصــة ‪ ،‬في تلــك اللحظــات كفت الريــاح عن مطــاردة‬
‫الصغارـ ‪ ...‬فاستيقظت الشمس وفرحـ األصيل ‪ ،‬ولذلك انتفض األطفال في الخلف وأرســلوا‬
‫مرحهمـ ‪.‬‬
‫نظر الكبار في عيني ( نعمة ) ‪ ...‬فرأواـ دموعا ً لؤلؤية صغيرة حبيسة ‪ ...‬فأكدواـ أنها دموع‬
‫الفرح ‪ ،‬كانت زغاريد ‪ ،‬وكان غنــاء وصـخب ‪ ،‬لكن األذنــان الصــغيرتان تظـل مشـدودتان‬
‫إلى وصوصت العصافير وأصوات الحمائم في الخلف وال تستوعب شيئا ً من ذلك الضجيج‬
‫‪ ،‬ترهق أذنيها أكثر ‪ ...‬تعــرف اآلن ‪ ....‬واحــد من األطفــال ســيرتكن جانبـا ً ‪ ،‬ثم يقلــد ( ابن‬
‫آوي ) وحينذاك تذعر األصوات الموصوصة وتلوذـ بعيداً بالفرار ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪24‬‬


‫‪ 2‬عبد المجيد القاضي ( حمامة في عش صقر ) وزارة الثقافة واإلعالم ‪ /‬عدن ص‪22‬‬
‫‪ 3‬عبد المجيد القاضي ( حمامة في عش صقر ) مرجع سابق ص‪99‬‬

‫‪211‬‬
‫قريبة حميمة كانت األصوات ‪ ،‬لقد وصوصت حتى األمس هي أيضا ً وغردت ومشت على‬
‫أربع كما تفعل كلبة القريــة ( محروســة ) ‪ ،‬ولكن لمــاذا اآلن ‪ ...‬؟ إنهــا ال تســتطيع أن تفهم‬
‫شيئا ً ‪ " ...‬رشواـ عطور الكاذية " ‪ ،‬صرخ ( اإلمبر يفاير) بالقرب‬
‫تحس اآلن برغبة في البكاء ‪ ،‬ورغبة في الهرب ‪ ،‬األصوات الصـغيرة في الخـارج تـدفعهاـ‬
‫‪1‬‬
‫النسمات للداخل ‪ ،‬واألذنان الصغيرتان مرهفتان كأنما عقدتا وفاقاًـ معها "‬

‫ثانيا ً ‪ :‬الغايات التغييرية للرواية والقصة القصيرة اليمنية‬


‫يتنــاول هــذا المبحث الحــدود القصــوىـ للغايــات التغييريــة للروايــة والقصــة‬
‫القصــيرة اليمنيــة ‪ ،‬وهي حــدود محكومــة بــالظرف الزمــاني الــذي ولــدت فيــه هــذه‬
‫القصص والروايات ‪ ،‬والذي يعكس أثره على موضوعهاـ وفضائهاـ المكاني وحركــة‬
‫أحداثها وطبيعة شخصياتها ‪.‬‬
‫وباعتبــار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب الحــدثين األهم في تــاريخ اليمن‬
‫الحديث ‪ ،‬وهذا ما تؤكد عليـه األعمــال الناشــئة في الفــترة مــا بعــدهما ‪ ،‬والــتي تبــنى‬
‫موضوعاتهاـ وحركة عوالمها على مبــدأ كونهمــا حــدثين يفصــالن بين واقعين ‪ ،‬يقــع‬
‫األول قبلهماـ ‪ ،‬و يقع اآلخــر بعــدهما ‪ ،‬فــإن طبيعــة تــأثير غايــات هــذه األعمــال على‬
‫الواقع االجتماعي والسياسي تتحدد وفقا ً لهذين التاريخيين ‪ ،‬كما تتحدد نوعية العوالم‬
‫التي تشكل هذه األعمال‪ ،‬فهي أما عوالم تنتمي إلى زمن ما قبل ‪1962‬م و ‪1967‬م ‪،‬‬
‫أو عوالم تنتمي إلى زمن ما بعد ‪1962‬م و ‪1967‬م ‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك فإن هذا المبحث سينقسم وفقا ً لطبيعة الغايات التغييرية التي تنشدها األعمال‬
‫الروائية والقصصية إلى خمسة أقسام هي ‪:‬‬

‫‪ -1‬أعمال تكتفي من إنشاء تجاربهــا بغايــة تنتهي عنــد حــدود تكــوين وعي رافض لما‬
‫يجــري في واقعهــا من تجــاوزاتـ ‪ ،‬وهي غايــة تــوافر عليهــا جــانب من األعمــال‬
‫الروائية والقصصية الــتي تم وضــعهاـ قــل انفجــار ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب‬
‫وعند بواكيرـ الكتابة الروائية وريادة الكتابات القصصية للقصة القصــيرة على وجــه‬
‫التحديــد ‪ ،‬ومنهـاـ روايــة ( ســعيد ) لمحمــد علي لقمــان ‪ ،‬و ( حصــان العربــة ) لعلي‬
‫محمد عبده ‪ ،‬وأعمال قصصية تضمنتهاـ المجاميع األولى كـ ( أنت شيوعي ) لصالح‬
‫دحان و ( الرمال الذهبية ) و ( ثــورة البركــان ) لعبدهللا ســالم بــاوزير ‪ ،‬و ( ممنــوع‬
‫الدخول ) لعلي باذيب ‪ ،‬و ( اإلنــذار الممــزق ) و ( النــاب األزرق ) ألحمــد محفــوظ‬
‫عمر ‪.‬‬
‫وبدايــة بروايــة ( ســعيد ) الــتي تشــكلت بنيتهــا ذات التيمــة البســيطة وانطلقت رؤيتهـاـ الى‬
‫موضوعها ذي المضمون الواضح – الذي يراعي مستوى الوعي الثقافي عن الناس‬
‫حينها ‪ -‬من منطلق تحقيق هذه الغايــة من تكــوين الــوعي الــرافض ‪ ،‬فلكي تنجح في‬
‫تكوين رأى ما من أية قضية ال بد لك من معرفــة الطريقــة المثلى الــتي تخــاطب بهــا‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( والجبل يبتسمـ ايضا ً ) مرجع سابق ص‪96،97‬‬

‫‪212‬‬
‫الناس وتثر التفاتهم ‪ ،‬وهذا ما تتوخاه هذه الرواية التي تكشف معالجتهاـ عن مســتوى‬
‫وعي مؤلفها الدقيق لهذه القضــية ‪ ،‬فــالمؤلفـ ‪ -‬الــذي أراد لعملــه أن ينتهي في كليتــه‬
‫إلى رسالة اجتماعية تدق جرس إنذار بخطر قريب يدهم المجتمع الغافل وعيه عمــا‬
‫يختلج فيه من تجـاوزاتـ ونـواقص ‪ ،‬ومــا يحــدق بـه من أخطـارـ وجب التنويــه إليهــا‬
‫وإبرازها ‪ ،‬وتضغطـ في طريق تكوين وعي يرفض كــل ذلــك – قـد قــدم أفكــره فيهــا‬
‫بطريقة سهله وغير مستعصية على الفهم ‪ ،‬وهــذا مــا الحظــه الــدكتور‪ /‬عبــد الحميــد‬
‫إبراهيم ‪ ،‬حيث قال ‪ " :‬والمؤلف يعتصر فيها كل شيء ويقدمه جاهزاَ للقارئ ‪ ،‬دون‬
‫‪1‬‬
‫أن يترك له شيئا ً عصيا ً يحاول أن يستكشفه "‬
‫وعلى هذا األساس تتشكل غاية الرواية عبر جزيئاتهاـ التي تضمنها السياقـ ومنها ‪:‬‬
‫‪ - 1‬نبذ الجهل والتوعية بأهمية العلم ‪ ،‬وهذه جزئية نجدها مبثوثة في مناطق متعددة من‬
‫السياق الروائي من ذلك قول الراوي يتحدث عن العائالت العدنية ‪ ":‬فقــد كــانت عــدن في‬
‫أول هذا القرن غنية بأهلها ‪ ،‬وكانت أكثر العائالت من العــرب والهنــودـ والبه ـرة والصــومالـ‬
‫في نعيم وغنى ‪ ،‬وقد اشتهرـ العدنيون بالكرمـ والضيافة واللطف والنجدة ‪ ،‬ولكن تلك العائالت‬
‫التي تألقت نجومهاـ في السنوات الماضية أصبح أبناؤهــا اليــوم في حالــة يــرثي لهــا من الفقــر‬
‫والفاقة وقد انقرض أفرادها في أمد قصيرـ ‪ ،‬لأن اآلبــاء خلفــوا أمــواالً طائلــة لألبنــاء الــذين لم‬
‫‪2‬‬
‫تتثقف عقولهم ‪ ،‬فبددوا تلك الثروات في الحانات وبيوت الدعارة "‬
‫وهو يتحدث عن سعيد بطل الرواية ‪ ،‬فيقول أنه كان " يشعر بحاجة أبناء وطنه إلى العلــوم‬
‫والمعارفـ ‪ ،‬ويرىـ بنظره الثاقب أن البد من يوم يندم فيه العدني على إهمالــه لــدور‬
‫‪3‬‬
‫العلم ومعاهدـ الثقافة "‬
‫وهذا جبل شمسان تصفر رياحه معلنة على مسامع العدنيين ما أصــابه من الكــدر والغضــب‬
‫‪4‬‬
‫لوصولهمـ إلى ذلك الحد من الجهل المشين "‬
‫وهذا نداء موجه إلى األمهات جاء فيه ‪ " :‬أيتها األمهات ‪ ،‬مــا هكــذا تكــون التربيــة ‪،‬‬
‫إنما التربية الصالحة هي مراقبة أخالق األبناء والبنات ‪ ،‬وإرشــادهم وتشــديد النك ـير‬
‫في أغالطهم بغــير إجحــاف ‪ ،‬وتثقيــف عقــولهم وصــقلها بــالعلم وفــراقهم في ســبيل‬
‫المعرفة إلى الجامعات في الخارج حتى يعــودواـ وقــد اســتعدوا للــزمن وفهمــوا كيــف‬
‫يدرأون عن أنفسهم عاديات الأيام ويجتنبون مايسودـ الوجه ويقود المــرء إلى الهاويــة‬
‫‪5‬‬
‫"‬
‫‪ ]2‬نبذ االعتقاد بالخرافات التي على ما يبدو كانت شائعة بين النــاس في زمن إنشــاء‬
‫الرواية ‪ ،‬وقدـ أوردنا في موضع ســابق من هــذا البحث وقــائع اشــتمل عليهــا الحــدث‬
‫الروائي قد جسدت ذلك بوضوح ‪ ،‬منها تلك الواقعة الــتي قــدم فيهــا أحــد المشــعوذين‬
‫‪6‬‬
‫على مجلس قات ‪ ،‬ولم يخرج حتى بلغ غايته من ابتزاز المقيلين فيه ‪.‬‬
‫غير أن هناك مواقفـ واضـحة من هـذه الظـاهرة تسـجلها بعض شخصـياتـ الروايـة‬
‫منها عائشة التي تناضل في سبيل إقناع والدتها بترك هذه االعتقادات ‪ ،‬ويكش ـفـ لنــا‬

‫‪ 1‬عبد الحميد ابراهيم ( القصة اليمنية المعاصرة ‪1976 -1939‬م ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 128‬‬
‫‪ 2‬محمد علي ابراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪23‬‬
‫‪ 3‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع السابق ص ‪25‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص‪37‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ص‪37‬‬
‫‪ 6‬نفسه ص‪9‬‬

‫‪213‬‬
‫الموقف الحواريـ التالي عن جانب من هــذا الموقـفـ الــرافض ‪ ،‬حيث تبادرهــا أمهــا‬
‫بالسؤال ‪ -" :‬هل استصحبتـ حرزك الذي خسرت عليه عشرات الربيــات ‪ ،‬فســكتت‬
‫عائشة ‪ ،‬ثم قالت ‪ -:‬إن النــافع هــو هللا وحــده ‪ ،‬وال خــوف علي إن لم اتخــذ حــرزاً ال‬
‫فائدة منه سوى الكسب للدجال الذي كتبه !‬
‫فاستثشاطت نور غضبا ً لهذا التصريح وقالت لعائشة ‪:‬‬
‫‪ -‬هل أص!!!بحت تكف!!!رين بأس!!!ماء هللا ؟ ألم تك!!!وني! أخ!!!وف الن!!!اس من الصراص!!!ير‬
‫والفراشات والوزغ والعضاء والجرذان ‪ ،‬وأنه لم ينفعك دواء طبيب من الحمى سوى‬
‫‪1‬‬
‫هذا الحرز الثمين ؟ فاحذري جحود فضل أولياء هللا !"‬
‫وهن!!اء ج!!اء رد عائش !ة محص!!نا ً ب!!العلم ‪ ،‬مس!!تنداً في تفس!!ير ما ألم بعائشة إلى رؤية‬
‫علمية ‪ ،‬تقول ‪ -":‬أما خوفي! من الصراص!!ير! وغيرها ‪ ،‬ف!!إن أخي س!!عيدا أفهم!!ني! أن‬
‫تلك عادة اكتسبتها لمجرد استلفات نظرك نحوي واكتساب عطفك وحن!!وك! ‪ ،‬والحمى‬
‫‪2‬‬
‫زالت بتعاطي الكينا التي كان يأتيني بها سعيد "‬
‫وحينما مرضت زهراء ‪ ،‬ولجأ والدها إلى الشعوذة سبيال للعالج ‪، 3‬‬
‫وقفت عائشة ترفض بق!وة ه!ذه الخراف!ات ‪ " :‬ولما دخلت عليها وج!!دت النوافذ! مغلقة‬
‫وال!!دخان يك!!اد أن يخنق المريضة لكثافته وحرار!ته ‪ ،‬ورأت حالتها من!!ذرة ب!!الخطر‬
‫الش!!!ديد ‪ ،‬ووصل عندئذ السيد الط!!!بيب ‪ ،‬فما ك!!!ان من عائشة إال أن تنفجر في وجهه‬
‫تهدده بالشرع والق!!انون على انتحال!ه الطب وتعريضه خطيبة أخيها للم!!وت ‪ ،‬فخ!!اف‬
‫السيد الطبيب ‪ ،‬وغادر البيت يجر أذياله من شدة الهلع ‪ ،‬واس!!تغرب! أهل ال!!بيت ج!!رأة‬
‫عائشة التي كانت ترغي وتزبد حنًقا على أولئك القوم البسطاء ال!!ذين يقتل!!ون أبن!!اءهم‬
‫‪4‬‬
‫بمثل هذه الخرافات "‬
‫ومنها ( س!!عيد ) الشخص!!ية ال!!تي ت!!برز في الرواية نموذجا للش!!اب المتعلم اإليج!!ابي‬
‫الذي يسجل لنفسه موقفا واض!!حا مما يح!!دث وي!!ؤثر! فيمن هم حوله فيتخ!!ذون موقفه ‪،‬‬
‫وهو ينتقد زوار ق!!بر ال!!ولي ( الس!!يد هاشم بحر ) على انح!!راف مفه!!ومهم! عن ه!!ذه‬
‫الزي!!ارات ‪ ،‬حيث يق!!ول ‪ ":‬ولكنهم! ترك!!وا! الفض!!ائل واتبع!!وا! الش!!هوات ‪ ،‬وجعل!!وا من‬
‫الزيارات وسيلة القتراف! المنكرات واجتراح الموبقات مخمنين أنهم بتعف!!ير جب!!اههم‬
‫‪5‬‬
‫بتراب القبور سوف! يغفر هللا لهم تلك الذنوب التي ال تغسلها مياه البحار "‬
‫‪ ]3‬التنويه إلى ما يضطرب فيه المجتمع من شرور التهتك واالنجراف! خلف الملذات‬
‫وهذا ( عثمان ) يسال ( سعيد ) عمَّا ألم بأخيه حسن فيقول ‪ " :‬كان عه!!دي بحسن أنه‬
‫ذكي الفؤاد ‪ ،‬فما الذي طرأ على أخالقه حتى أفسدها ؟‬
‫‪ -‬إنهم رف!!اق! الس!!وء ياعثم!!ان ‪ ،‬إنها البيئة الفاس!!دة والأمه!!ات الج!!اهالت والغ!!رور‬
‫الممق!!!وت والع!!!ادات الرديئة ال!!!تي تس!!!ري! في الش!!!باب كما يس!!!ري السم في الجسم‬

‫‪ 1‬نفسه ص‪10‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص‪10‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪20‬‬
‫‪ 4‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص‪20‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ص‪26‬‬

‫‪214‬‬
‫الص!!!حيح ‪ ،‬فيقضي عليه القض!!!اء الم!!!برم ‪ ،‬بل هو الجهل المخيم على ه!!!ذا ال!!!وطن‬
‫‪1‬‬
‫البائس المحكوم عليه بالموت العاجل !"‬
‫وه!!!ذه زه!!!راء تتص!!!دى! لش!!!ابين تعرضا لها في طريق! عودتها إلى منزلها ‪ ،‬وك!!!ان‬
‫أص!!!غرهما ثمال قد لعبت الخم!!!رة برأسه وهي تح!!!دث عثم!!!ان في أمرهما قائلة ‪" :‬‬
‫وإنني ال أب!!الي بعش!!رة من أمث!!ال ه!!ؤالء المهابيل ال!!ذين ذهبت أعم!!ارهم في الإدم!!ان‬
‫على مضغ الق!!ات وش!!رب ال!!دخان والمس!!كرات ح!!تى اص!!فرت وج!!وههم وذبلت‬
‫أجسامهم وترهلت أبدانهم واسودت أسنانهم وعميت أبصارهم بسبب ال!!دخان المنبعث‬
‫إلى عيونهم في الغرف المظلمة ‪ ،‬وأنت يا عثمان قد أحسنت صنعا ً بمقاطعتك القات "‬
‫‪2‬‬

‫ويشير عثمان إلى ما ينفقه أهالي عدن على القات والمسكرات ق!!ائالً ‪ " :‬فقد أثبت لي‬
‫أن أه!!!الي ع!!!دن يص!!!رفون على الق!!!ات ما يق!!!رب من مائة ألف روبية في الس!!!نة‬
‫ويصرفون على المسكرات عشرة أض!!عاف ه!!ذا المبلغ ‪ ،‬والخمر مح!!رم عليهم بنص‬
‫دينهم ‪ ،‬ولطالما! فكر س!!عيد في سن ق!!انون يمنع ش!!رب الخمر بين المس!!لمين ‪ ،‬ولكن‬
‫العدنيين يحتاجون إلى التكتل والتعاضد لإفهام الناس وجوب االنقطاع عن المسكرات‬
‫‪3‬‬
‫والمكيفات "‬
‫ونس!!مع عثم!!ان يش!!رح للزه!!راء في محاض!!رة طويلة عن أثر البيئة والتربية في‬
‫‪4‬‬
‫توجيه السلوك ‪.‬‬
‫‪ ]4‬التوعية بفض!يلة االعتم!!اد على ال!!ذات والإخالص في العمل ونبذ التكاسل ‪ ،‬وه!!ذا‬
‫سعيد يخاطب عائشة ق!!ائالً ‪ -" :‬ال يا عائشة ‪ ،‬إن الحاجة أم االخ!!تراع ف!!دعيني اعتمد‬
‫ً ‪5‬‬
‫على نفسي ‪ ،‬فإن من يعتمد على غيره ال يفلح أبدا "‬
‫ويتحدث عن ساكني ( الشيخ عثم!!ان ) ‪ " :‬وقد بقيت الش!!يخ عثم!!ان قرية ال أهمية لها‬
‫طوال هذه السنين يعتمد سكانها في معيشتهم! على شركة الملح ‪ ،‬وهم لو انصرفوا! إلى‬
‫العمل لأ مكنهم أن يعيش!!وا! في أس!!عد ح!!ال ‪ ،‬ولكن الب!!ؤس إذا خيم على ق!!وم اجت!!احهم‬
‫‪6‬‬
‫حتى ليصعب قيامهم من تحت أنقاضه "‬
‫‪ ]5‬رفض بعض العادات االجتماعية التي كانت سائدة حينها كالزواج المبكر ‪ ،‬نس!!مع‬
‫( سلمان ) يخاطب زوجته ( نور ) التي ألحت عليه بطلب زواج ابنها حسن ‪ ،‬فيق!!ول‬
‫‪ " :‬ال!!زواج الب!!اكر يا ن!!ور ي!!ودي بص!!حة الش!!اب وبزوجته ‪ ،‬آلن جس!!ميهما لم يتم‬
‫نموهما الط!!بيعي! ‪ ،‬فيقضي! ذلك على الزوجة ع!!ادة بفقر ال!!دم والإجه!!اض ‪ ،‬وأك!!ثر‬
‫الوفيات بين النساء هي بسبب هذه العادة السخيفة ‪ ،‬ولقد قال علم!!اء النفس أن ال!!زواج‬
‫الباكر المزدوج ينتهي بالطالق! في أس!!رع حين لحص!!ول التن!!افس بين ال!!زوجين على‬
‫‪7‬‬
‫السيطرة ‪ ،‬فهذه الأسباب هي التي تعيقني عن تنفيذ رغبتك "‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪12‬‬


‫‪ 2‬نفسه ص‪24‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪24‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪29‬‬
‫‪ 5‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص‪15‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق ص‪26‬‬
‫‪ 7‬المرجع نفسه ص‪7‬‬

‫‪215‬‬
‫وتقييم الناس من خالل ما يمتلكون من مال ‪ ،‬فزه!!راء ال!!تي تق!!ول عائشة أنها " مث!!ال‬
‫العفة والنزاهة والشرف ‪ ،‬وهي أجمل بنات عدن قاطبة ومن ذا يل!!وم ( س!!عيد ) على‬
‫‪1‬‬
‫حبه لها وهي من عائلة كريمة وإن كانت فقيرة "‬
‫هي غ!!ير مرض!!ية بالنس!!بة لن!!ور كونها من أس!!رة فق!!يرة ‪ ،‬نس!!معها تح!!ذر عائشة ‪" :‬‬
‫فاحذري! زهراء لئال تغرر بك فقد بلغني أنك تمتدحينها! كث!!يراً وتص!!افينها ‪ .‬ألم تعلمي‬
‫‪2‬‬
‫أنها ليست من بيت يساوي بيتك في العالء ؟ "‬
‫‪ ]6‬التنويه إلى خطر الوجود! الأجنبي ‪ ،‬والوقوف ضد الدعوات المهادنة لالستعمار ‪.‬‬
‫وهذا سلمان يرد على السمسار! الذي أخذ يثني على أحد العمالء الأج!!انب‪ ،‬فيق!!ول ‪" :‬‬
‫‪ -‬إن ه!!ذا المش!!ترى! هو الخواجة كاريكا! كان!!دة ‪ ،‬وهو عميلكم ال!!دائم يا ش!!يخ س!!لمان‬
‫وهو فوق! ذلك من المخلصين لكم ‪ ،‬فأجابه سلمان بصوت هادئ له نبرات ح!!ادة بقوله‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نعرفه ونعرف! أن هؤالء التجار االوربيين ال بد أن يستغنوا عنا يوم !ا ً من الأي!!ام ‪،‬‬
‫بعد أن تتوطد أق!!دامهم! في ه!!ذه البالد ‪ ،‬وتتكشف! لهم أس!!رار التج!!ارة ‪ ،‬فص!!داقتهم! لنا‬
‫مؤقتة ‪ ،‬وسوف يذكر كالمي هذا من طالت أيام حياته‬

‫فقال السمسارـ ‪ :‬وأنى لهم ذلــك ومثلكمـ لهم بالمرصــادـ ‪ ،‬فابتســم ســلمان ابتســامة‬
‫صفراء وأجابه ‪:‬‬
‫‪ -‬بل إن مثلي لن يعيش إال أم!!داً قص!!يراً ‪ ،‬ف!إني أرى له!!ؤالء الخواج!!ات وس!!ائل هدامة‬
‫‪3‬‬
‫عديدة تضمن فوزهم وتقهقرنا إذا لم نتنبه "‬
‫وأما عن توعية الن!!اس بتلك الحرك!!ات المدعومة من قبل اإلنجل!!يز وال!!تي ت!!دعو إلى‬
‫مهادنتهم ‪ ،‬فنقرأ عن لقاء ( سعيد ) ‪ -‬أثناء عودته إلى عدن ‪ ،‬على السفينة ( ساليسيت‬
‫) الش!!هيرة بال!!ديك الفضي ‪ -‬بش!!يخ الطريقة المرجانية ‪ ،‬وهي الطريقة ال!!تي ك!!ان لها‬
‫ف!!روع في أم!!اكن كث!!يرة ولها مركز في ع!!دن ‪ ،‬حيث أخذ يحدثه عما ينزله الطلي!!ان‬
‫بعرب طرابلس من فضائع ‪ ،‬فدار بينهما حوار يطلعنا عليه السياق التالي ‪:‬‬
‫" تأثر الشيخ ‪ ،‬فقال ‪ :‬هللا يؤيدهم هناك ويؤيدنا! هنا‬
‫فقال سعيد ‪ :‬وهال أنتم يا موالنا قائمون بحركة أيضا ً ؟‬
‫‪ -‬نحن ال ننصح بمثل ذلك ‪ ،‬لأن أحد كب!!ار أهل هللا ك!!ان يس!!كن في ( ح!!اجي ) في بالد‬
‫الصومال ‪ ،‬وجاء مرة إلى ( بربرة ) فقابله رجل مهم من رؤساء الصومال! ‪ ،‬وقال له‬
‫ياش!!!يخ موسى! ما ق!!!ولكم في الح!!!رب بج!!!انب ال!!!وداد محمد بن عبدهللا حسن الث!!!ائر‬
‫الص!!ومالي ‪ ،‬فق!!ال له الش!!يخ موسى! ‪ :‬اعلم يا رجل أن الإنجل!!يز يملك!!ون ال!!دنيا ب!!دون‬
‫منازع حتى يخرج المهدي المنتظر فال تقاومهم ‪ ،‬وهكذا كان ف!!إن ال!!وداد غ!!الب على‬
‫أمره كما تعلم ‪- ،‬وكيف حق للش!!يخ موسى! وهو كما ت!!ذكرون من أهل هللا أن يخ!!ذل‬
‫جهاداً في سبيل هللا ويمنع الرئيس المذكور من الأخذ بناصر! الوداد المجاهد ؟‬
‫‪ -‬آلن الوقت لم يحن للجهاد‬

‫‪ 1‬نفسه ص‪8‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص‪10‬‬
‫‪ 3‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص‪5‬‬

‫‪216‬‬
‫أتعتقدون بوجوب االستسالم! وعدم المطالبة باالستقالل حتى يخرج المهدي ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن كيف نستطيع! أن نساعد المهدي ضد الب!!وارج الحربية والم!!دافع والقنابل وغ!!ير‬ ‫‪-‬‬
‫ذلك ؟‬
‫هللا هللا ‪،‬إن هللا يسلحه بقول " كن " فإذا قال للشيء كن كان ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فاستغرب سعيد وقال ‪ :‬ولكن محمداً صلى هللا عليه وس!!لم لم يعطه هللا ه!!ذا الس!!الح ‪،‬‬
‫واضطره إلى المهاجرة من وطنه إلى الحرب والنض!!ال! والج!!دال ح!!تى ش!!جت رأسه‬
‫‪1‬‬
‫الشريفة وكسرت! ثنيتاه ‪ ،‬فهل يكون المهدي أحب إلى هللا من محمد ؟"‬
‫ويستمر! الح!وار ط!ويالً يفند فيه ( س!عيد ) آراء الش!يخ المختلفة ‪ ،‬ح!ول أم!ور كث!يرة‬
‫منها ‪:‬‬
‫إن ال!!!!!!!!!!!!!دنيا ال فائ!!!!!!!!!!!!!دة منها فما الفائ!!!!!!!!!!!!!دة من االس!!!!!!!!!!!!!تقالل إذن ‪.‬‬
‫وحول اتخاذه زهد الرسول عليه الصالة والس!!الم دليالً على خن!وعهم واستس!!المهم! ‪،‬‬
‫وحول ما يتعلق بالمهدي من خوارق! ‪ ،‬حتى ينتهي الحوار إلى حكاية الشيخ الغرائبي!ة‬
‫ال!!تي س!!اقها على مس!!امع س!!عيد حيث ق!!ال ‪ ":‬فقد ج!!اء عن أحد أهل هللا أنه لما س!!مع‬
‫بحديث " الهمة اسم هللا األعظم "‬
‫ق!!رر! أن ي!!ذهب وي!!تزوج ببنت ملك البالد فطلب الملك ج!!واهر كث!!يرة من س!!رندي!ب ‪،‬‬
‫فس!!افر الرجل ‪ ،‬وهن!!اك ج!!اء إلى البحر ‪ ،‬وع!!زم على نزحه ‪ ،‬فخ!!افت الحيت !ان على‬
‫نفس!!!!ها إن هو فعل ‪ ،‬فش!!!!كت إلى ربها ف!!!!أوحى! إليها أن تعطي الرجل ما ش!!!!اء من‬
‫‪2‬‬
‫الجواهر فأعطته وذهب بها وتزوج! ببنت الملك ‪ ،‬وقد! روى! الجبلي هذا الخبر‪.‬‬
‫استغرب سعيد ه!!ذه الحكاي!!ات وأدرك! أننا في عصر محت!!اج إلى ش!!باب نش!!يط مفكر‬
‫‪3‬‬
‫يعمل لرفع مستوى! البالد وال يركن إلى الخيال الساحر "‬
‫‪ ]7‬الدعوة إلى تفهم روح العصر والأخذ بأسباب العلم الحديث ‪ ،‬يقول ( س!!عيد ) ‪" :‬‬
‫إن الحضارة الحاضرة تتطلب الجد والكد والسير! في ض!!وء الحق!!ائق العلمية المالئمة‬
‫لروح الدين الإسالمي ومقتضيات! التمدن الصحيح "‬
‫يخاطب (عثمان) زهراء قائالً ‪ ":‬إنك تعلمين يا زهراء أن االخالق هي ولي!!دة التربية‬
‫‪ ،‬ولكن أساتذتنا ومعلمينا! في عدن ال يهتمون بعلوم التربية والأخالق ويحرمون علوم‬
‫‪4‬‬
‫الفلسفة ‪ ،‬حتى لقد سمعت عالما ً كبيراً ينتقد على سعيد درسه لعلم الفلسفة "‬
‫ونسمع الراوي! يق!!ول ‪ ":‬إن للتم!!دن مقتض!!يات ‪ ،‬وإن من متطلب!!ات العصر الحاضر‬
‫التخصص في العلوم والفنون وارتش!!اف! لب!!ان العل!!وم الجدي!!دة ودرس عل!!وم الأخالق‬
‫والنفس واالجتم!!اع! ‪ ،‬ول!!ذلك ال بد لنا في ع!!دن من مدرسة عالية ‪ ،‬بل كلية إذا أمكن ‪،‬‬
‫وشد الرح!!!ال إلى الجامع!!!ات في الخ!!!ارج قبل أن يعم الفقر البالد ونص!!!بح ال نملك‬
‫‪5‬‬
‫شروي نقير ‪ ....‬والعلم وحده يكفل لنا السعادة واالحتفاظ! بها "‬

‫‪1‬المرجع السابق ص‪45‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ص‪46‬‬
‫‪ 3‬محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) مرجع سابق ص‪46‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص‪25‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ص‪23‬‬

‫‪217‬‬
‫هك!!ذا اكتفت ه!!ذه الرواية من معالجتها موض!!وعها االجتم!!اعي ب!!التوقف عند غاية‬
‫تكوين الوعي الرافض ‪ ،‬وهي غاية توقفت عندها مجموعة من المعالجات القصص!!ية‬
‫التي وضعت خالل الف!!ترة المح!!ددة له!!ذا البحث ‪ ،‬فمن الغاي!!ات المتش!!كلة عن معالجة‬
‫بعض القض!!!ايا االجتماعية تحت ه!!!ذه الرؤية ‪ ،‬غاية تك!!!وين وعي رافض لتلك القيم‬
‫النفعية التي تس!!للت إلى أوس!!اط! المجتمع اليم!!ني حينها ‪ ،‬ف!!زيفت الكث!!ير من أخالقياته‬
‫وشوهت قيمة الإنسانية الراقية ‪ ،‬كقيمة الصداقة التي ينوه ك!!اتب قصة ( ش!!يء اس!مها‬
‫النفاق ) إلى ما داخلها من تش!!ويه ‪ ،‬فبعد أن لقى مع أس!!رته ما لقيه من أص!!دقاء وال!!ده‬
‫أثناء وقوعه في الأسر ‪ ،‬يعود والده غير مسلح بقناعة االنتقام أو الث !أر لنفسه ب!!التخلي‬
‫عن ه!!ؤالء الأص!!دقاء في أوق!!ات ش!!دتهم ‪ ،‬وإنما يس!!تمر في تعامله ال!!راقي! معهم ‪،‬‬
‫مستنداً إلى ما يمليه عليه ضميره ‪ ،‬وما تقتض!!يه قيم الص!!داقة الحقة وأخالقياتها وه!!ذا‬
‫ما انتهت اليه قناعة ( أحمد ) شخص!!ية العمل ‪ ،‬ال!!ذي ك!!ان له موقف! مختلف من ذلك‬
‫قبالً ‪ ،‬فنسمعه يقول ‪ " :‬أما أنا فلم أنسهم ولن أنسى أبداً منظر النهر والزجر! والتحقير‬
‫‪ ،‬ولن أنس!!!!ى منظر النصف روبية ‪ ،‬لن أنسى ش!!!!يئا ً فأنا – والحمد هلل – من ال!!!!ذين‬
‫يتمتعون بذاكرة قوية "‪ "....‬ولكن أبي يأبى النس!!يان* ‪ ،‬وي!!أبى أن يعت!!بر ويتعظ ‪ ،‬فقد‬
‫نكب الدهر بأحد أصدقائه‪ ،‬وشتت أس!!رته بعد موته وأتى إليه أحد أبن!!اء ذلك الص!!ديق‬
‫بثياب رثة وحذاء قد أكل الدهر عليه ‪.‬‬
‫وشرب ‪ .‬ووجه قد كساه الغبار ‪.‬‬
‫ولم يزج!!!ره وال!!!دي ‪ .‬ولم يمد له نصف روبيه ‪ ،‬وإنما أكرمه وأع!!!زه وواس!!!اه بمبلغ‬
‫محترم‬
‫ولأول مرة في حي!!اتي أدركت أن أبي لم يخطئ ‪ ،‬بل أنه يعمل وفق!ا ً لخطة مرس!!ومة‬
‫‪1‬‬
‫يضعها له ضميره الذي لم يمت ‪ ،‬ضميره الحي "‬
‫وقيمة الحب الص!!ادق ال!!ذي غ!!دا مع ه!!ذه النفعية المقيتة – ال!!تي ت!!ذهب غاية ه!!ذه‬ ‫‪‬‬
‫التج!!ارب إلى تش!!كيل وعي يرفض!!ها – مرض !ا ً ال بد للإنس!!ان من الش!!فاء منه ‪ ،‬ففي‬
‫قصة ( الكافر! ) نسمع ( أحمد ) شخصية العمل الذي خاض مع الحب مغامرة ص!!عبة‬
‫‪ ،‬يقول ‪ -" :‬أنا لم أعد أؤمن بالحب ‪ ،‬وإذا أحببت س!!أحب على الطريقة الحديثة ‪ ،‬حب‬
‫على أساس المادة ‪ ...‬سأحب كما يجب الآخ!!رون في ه!!ذا ال!!زمن ‪ ...‬ولكن ليس كمثل‬
‫هذا الحب الذي كاد أن يهلكني "‪ ، 2‬وهنا يتوجه ال!!راوي! المش!!ارك لي!!بين لنا مأس!!اوية‬
‫هذه القناعة ‪ ،‬بذلك التحول الكوني الذي يصفه في قوله ‪ " :‬وقبل أن أنهض التفت إلى‬
‫الناف!!ذة ‪ ،‬ك!!انت الش!!مس قد اختفت تمام!ا ً ‪ ،‬وك!!ان الظالم حين!!ذاك قد أخذ يزحف على‬
‫‪3‬‬
‫الكون زحفا ً حثيثا َ "‬
‫وقيمة الحرية ال!!تي يمكن للفتي!!ات المتعلم!!ات أن يفهمنها بطريقة خاطئة ‪ ،‬ففي قصة‬ ‫‪‬‬
‫( طريق! الخطيئة ) تش!!ترط! ( ابتس!!ام ) على ( أحمد ) ال!!ذي تق!!دم لخطبتها أن يمنحها‬
‫حرية الدخول والخروج! كيفما شاءت ومتى شاءت ‪ ،‬وهو الشرط ال!!ذي وج!!ده ص!!عبا ً‬
‫‪ 1‬صالح عبد دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ص‪30‬‬
‫*يقصد المؤلف هنا نسيان أصدقائه‬
‫‪ 2‬عبد هللا سالم باوزير ( ثورة البركان )دار الهمداني للطباعة والنشر ‪ /‬عدن ص‪99‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ص‪99‬‬

‫‪218‬‬
‫على نفسه ‪ ،‬إذ للمجتمع عادات وتقاليد من الواجب عليه احترامها! فكان ذلك سببا ً في‬
‫إحجامه عن االستمرار في هذه الخطبة ‪ ،‬لكنه يكتشف! في آخر الأمر أن هذا الشرط لم‬
‫يكن إال نتيجة للجهل المس!!!يطر على تفكيرها ‪ ،‬فابتس!!!ام ال!!!تي رفض!!!ته زوج!!!ا ً ‪ ،‬قد‬
‫ارتضت به خاطئ!!!ا ً ‪ ،‬فبعد أن عقد موعد اللق!!!اء في طريق! الخطيئة ‪ ،‬يستقل الش!!!ابان‬
‫( أحمد ) وصديقه السيارة ترافقهما فتات!!ان إح!!داهما (ابتس!!ام) ال!!تي لم يكن أحمد يعلم‬
‫أنها في رفقته ‪ ،‬وتأخ!!ذهم عجالت الس!!يارة إلى ذلك الفض!!اء الشاسع في ( س!!احل‬
‫أبين ) ‪ ،‬وهنا التفت أحمد في حي!!!اء إلى الجسم ال!!!ذي يش!!!اطره الس!!!يارة ‪ ،‬وقد! ألجم‬
‫الخوف لسانه ‪ ،‬وعاله ارتباك مفاجئ لم يدري ما سببه ‪ ،‬وك!!ان كلما ه َّم أن يرفع إليها‬
‫رأسه خفضه إلى الأرض ‪ ،‬والفتاة جالسة بارتباك ال تدري م!!اذا تفعل ‪ ،‬وم!!رت ف!!ترة‬
‫من الس!!كون ‪ ،‬لم يقع نظر أح!!دهما على وجه الآخر ‪ ...‬ولما رفع ( أحمد ) عينيه إلى‬
‫الفتاة لم يصدق ما رأى ‪ ،‬فلم تكن الفتاة التي أمامه س!!وى ( ابتس!!ام ) ‪ ...‬ابتس!!ام! الفت!!اة‬
‫المثقفة التي رفضته زوجا ً لها ‪ ...‬وارتضت به خاطئا ً في طريق الخطيئة " ‪. 1‬‬
‫وقيمة التراحم االجتم!!اعي ومس!!اندة الفق!!راء ‪ ،‬حيث نلتقي في قصة ( بائعة الخم!!ير )‬ ‫‪‬‬
‫تجربة تسعى إلى غاية تكوين وعي يرفض استغالل الفقراء واإلساءة إليهم ‪ ،‬في ظل‬
‫هذه الحال من فق!دان ال!تراحم االجتم!اعي في مجتمع يحيا تفاوت!ا ً طبقي!ا ً ‪ ،‬بين أغني!اء‬
‫ينعمون بكل ما حال وطاب من مل!!ذات الحي!اة ‪ ،‬وفق!راء يبوؤون بحرم!انهم وج!وعهم!‬
‫يقتاتون بصمت ألم الإساءة إليهم وانتهاك! كرامتهم! بل و أعراضهم ‪ ،‬فالرجل صاحب‬
‫المتجر ذو المظهر الخ!!ادع بالص!!الح والتق!!وى " في ح!!والي الخامسة والأربعين من‬
‫عمره ‪ ،‬ذو لحية مهيبة ‪ ،‬وعلى راسه عمامة جليلة "‪ ، 2‬يس!!تدرج الطفلة الفق!!يرة ال!!تي‬
‫انسرب إلى نفسها اليأس من كساد بضاعتها ‪ ،‬حتى أخذت تفكر م!!اذا س!!تقول لوال!!دتها!‬
‫المريضة عند عودتها بال نقود ‪ ،‬وكيف! ستدفع ثمن ما استدانته من سكر ودقيق لصنع‬
‫الخمير ‪ ،‬ويستدعيها! إلى متجره موهما ً إياها بشراء بعض خميرها ‪ ،‬فيطلب منه!!ا عد‬
‫ه حتى يدفع ثمنه ‪ ،‬وتقعد الفتاة على شوال البس!باس وبينما هي منهمك!ة بالعد ‪ ،‬يغلق‬
‫باب المتجر " ولم تدر إال وقد لف الظالم الدكان برداء حالك حتى تعذر عليه!!ا رؤية‬
‫الخمير ‪ ،‬ووقفت مذعورة ‪ ،‬وهي لم تعد ت!رى أمامها س!وى عي!ني الرجل ال!ذي هجم‬
‫عليها تلك اللحظة ك!!الثور اله!!ائج ‪ ...‬وخ!!ارت قواها دفعة واح!!دة ‪ ....‬ووقعت على‬
‫الش!!وال وقد! أحست بالبس!!باس ينهد من تحتها ‪ ،‬حينها ه!!وى الرجل بجس!!مه عليها ‪...‬‬
‫وأفاقت بعد شبه غيبوبة وقفت في تخ!!اذل وفي رأس!ها ما يش!به ال!دوار وبجس!مها! آالم‬
‫مبرحة ‪ ،‬وقفت وقد أصبحت غ!!ير ق!!ادرة على التفك!!ير ‪ ...‬وم!اذا عس!!اها أن تفكر ‪...‬‬
‫هل تشكوه ؟ أم تصرخ ؟ وماذا س!!يجدي ص!!راخها! غ!!ير كلم!!ات االزدراء أو الش!!ماتة‬
‫من الن!!اس ‪ ...‬وفطنت إلى أن أمها اآلن في انتظارها! ‪ ...‬وفي انتظ!!ار! الغ!!داء ‪ ،‬وقبل‬
‫أن تقف على رأي ‪ ،‬مد لها الرجل ورقة نقدية من فئة الخمسة ش!!!لنات ‪ ،‬أخ!!!ذتها منه‬
‫وحملت معها طبق الخمير وهي تعلم جي!!داً أنه اليريد خم!!يراً ‪ ...‬بل إنه لم ي!!دعها إال‬
‫لذلك الشيء الذي أخذه إلى غير رجعة ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪43‬‬
‫‪ 2‬عبد هللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ص‪105‬‬

‫‪219‬‬
‫لقد ك!!!انت مغفلة إذ أنها لم تفطن من أول الأمر ‪ ...‬ثم أخ!!!ذت تخطو في خطا متع!!!ثرة‬
‫إلى باب ال!!دكان ‪ ...‬ودلف إلى ال!!دكان تلك اللحظة ش!!اب مر بجانبها وس!!معت الرجل‬
‫يخاطبه ‪:‬‬
‫" اجلس يا بني ريثما أصلي الظهر وأعود " ‪. 1‬‬ ‫‪-‬‬
‫وحينما ع!!!!!ادت إلى منزلها ك!!!!!انت قد أدركت حقيقة قادتها! بعد ذلك إلى طريق! آخر‬
‫‪،‬استبدلت فيه طبق الخمير بجسدها التي أخذت تبيعه للناس كما كانت ت!!بيع الخم!!ير ‪،‬‬
‫قالت لها أمها "‪ -‬مالك يا بنيتي ‪ ....‬ألم تبيعي شيئا ً اليوم‬
‫وأجابتها الفتاة في حدة وانفعال ‪:‬‬
‫الناس يا أماه لم يعودوا! يري!!دونني أن أبيع لهم خم!!يراً ‪ ،‬الن!!اس يري!!دون ش!!يئا ً آخر ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫يريدونني! أن أبيع لهم شرفي! ‪ ...‬يريدون شرفي يا أماه ‪....‬‬
‫أتسمعين‬ ‫‪-‬‬
‫وش!!رعت البنت تبكي وعين!!ا ً أمها ت!!دوران في محجريهما! وكأنها! تريد تفس!!يراً لكالم‬
‫ابنتها ‪ ،‬وأضافت! البنت ‪:‬‬
‫بعته لهم يا أماه ‪ ...‬وسأبيعه لأنهم يريدون مني ذلك ‪ ،‬س!!أبيعه لكي نعيش ‪ ،‬لكي نعيش‬ ‫‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫يا أماه "‬
‫وغي!!اب ق!!انون الض!!مان االجتم!!اعي ‪ ،‬والق!!وانين الحامية للأس!!رة ‪ ،‬فقصة ( جري!!رة‬ ‫‪‬‬
‫الع!!دل ) تن!!اقش قض!!ية أس!!رية تس!!عى من خاللها إلى غاية تك!!وين وعي رافض لتلك‬
‫المعالجات الناقصة التي قد تدفع إلى مشكالت أكبر من المشكلة الحقيقة ‪ ،‬فالمرأة التي‬
‫ب!!دأت تع!!اني بعد م!!وت وال!!دها من انح!!راف زوجها! المش!!ين حين أراد أن يحيلها إلى‬
‫بغي يتاجر بجسدها وي!!تربح من ورائه ‪ ،‬ته!!رب من بيت الزوجيه ‪ ،‬وت!!رفض الع!!ودة‬
‫إليه ‪ ،‬ض!!!!!امة أوالدها اليها ‪ ،‬وهنا تب!!!!!دأ قض!!!!!يتها! تشق طريقها في أروقة العدالة‬
‫والمحاكم ‪ ،‬لكن هذه العدالة تحكم عليها بالنش!!وز! ‪ ،‬تق!!ول ‪ " :‬إن العدالة ال!!تي ح!!رمت‬
‫على الزواج الحالل حتى أعول أطف!!الي ‪ ،‬بل جعلت!!ني " ناش!!زاً " بينما أهملت رعاية‬
‫‪3‬‬
‫أطفالي ولم تيسر لي العيش الشريف ‪ ...‬هل هذه عدالة ؟"‬
‫وهي نفس العدالة ال!!تي حبست زوجها بعد أن تخلى عن س!!داد النفق!!ة الش!!هرية ‪ ،‬ولم‬
‫توفر لها بديالً ‪ ،‬تحكي المرأة ص!!احبة المش!!كلة في تجربة ه!!ذه القصة فتق!!ول ‪ " :‬ولم‬
‫يدفع زوجي! النفقة الش!!هرية المق!!ررة ‪ ،‬بل أص!!حب رفضه ب!آلاف األع!!ذار معلالً كل‬
‫ذلك بقلة راتبه وت!!!راكمت االش!!!هر عليه ‪،‬و مثل أم!!!ام المحكمة ‪ ،‬وعجز عن تس!!!ديد‬
‫الديون ‪ ،‬وأودع السجن لهذا السبب ‪ ،‬ولكن ماذا يفيدني سجنه ؟ إنه س!!جين الآن ‪ ،‬ذلك‬
‫حسن ‪ ،‬لكن ما مصير أطفالي ؟ وما مصيري أنا ؟ لم أتل!ق عون!ا ً من المحكمة بل إنها‬
‫‪4‬‬
‫أدت واجبها كامالً حسب قولها! ‪ ،‬وذلك بحبس زوجي "‬
‫ونتيجة لفق!!دان الض!!مان االجتم!!اعي ال!!ذي يحمي الأس!!رة من الوق!!وع! من الم!!زالت‬
‫والمخاطر! ‪ ،‬لم تجد المرأة بدا ‪ -‬بعد أن جربت أعماالً كثيرة لم يكن عائدها كافيا ً لس!د‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص‪107‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ص ‪109‬‬
‫‪ 3‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ص‪30‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص ‪29‬‬

‫‪220‬‬
‫الرمق ‪ -‬من الوقوع! في قعر الرذيلة ‪ ،‬تصف لنا هذا الوق!!وع ‪ ،‬قائلة ‪ " :‬ب!!دأت ق!!دماي‬
‫تس!!!يران في الطريق! المغ!!!اير لكل القيم الش!!!ريفة ‪ ،‬وب!!!دأت أعمل كل ليلة مع كل من‬
‫يملك سيارة مارة مثلك تماما ً ‪ ،‬عارضة جسدي مقابل دريهمات تش!!بع بط!!ون أطف!!الي‬
‫وتط!!رد! عنهم الحاجة ‪ ...‬وفي! كل م!!رة يلمس ي!!دي رجل ما ‪ ،‬أتخيل ص!!ورة أبي تسد‬
‫على كل ف!!راغ ‪ ،‬وهو يوص!!يني! وكلمة الش!!رف تم!!وت ف!!وق! ش!!فتيه ‪ ،‬ولكن مباش!!رة‬
‫‪1‬‬
‫أتذكر حاضري! المذل وأستشعر آالمي كلها فأدوس بقدمي على كل شيء ‪".‬‬
‫تكوين وعي رافض لالنج!!راف وراء إدم!!ان الخم!!رة والمس!!كرات ‪ ،‬ففي قصة ( لعنة‬ ‫‪‬‬
‫الكأس ) يفقد على شخصية العمل استقراره الأسري ‪ ،‬ويطلق زوجته مج!براً ‪ ،‬ويك!اد‬
‫يفقد حياته على يد مدمن آخر كان قد اتخذ من مشاركته مس!!كنة ملجأ له بعد أن ط!!رده‬
‫والده نتيجة تعاطيه الخمرة ‪ ،‬فحين تنحى ذلك الصديق بزجاج!!ات الخم!!رة إلى مكان !ه‬
‫الذي اعتاد أن يقبع فيه ‪ ،‬ويس!!تمتع! بخمرته ‪ ،‬لحقه علي ال!!ذي اس!!تبد به ش!!عور! الظمأ‬
‫إليها ‪ ،‬أمالً في أن يشاركه بعض ما يشربه ‪ ،‬وحينما ناوله الزجاجة خط!!رت في باله‬
‫فكرة نفذها على الفور ‪ ،‬يقول ‪ " :‬ولعب الشيطان برأسي وزين لي فكرة ط!رأت على‬
‫فك!!ري حين!!ذاك ‪ ،‬وما أن ق!!اربت العالمة ح!!تى أمسك بالزجاجة بش!!دة بعنف ‪ ،‬فأقنعته‬
‫أنني لم أصل بعد إلى العالمة المحددة ‪ ...‬واقتنع وبدأ يرقب بص!!بر! نافذ ‪ ...‬وح!!اولت‬
‫أن أنفذ الفكرة التي م!!رت بي ‪ ...‬فأخ!!ذت الزجاجة ‪ ،‬وج!!ريت لعلي أجد مكان !ا ً أختفي‬
‫فيه بين تلك الأك!!!وام الرملية وأش!!!رب ما بالزجاجة من ش!!!راب وظننت أن المس!!!الة‬
‫ستنتهي بالمزاح كما هو الحال بيننا ‪ ،‬ولكنه تبعني وبي!!ده الأخ!!رى الزجاجة الفارغة ‪،‬‬
‫وهو يغم!!رني! بما عن له من س!!باب ‪ ،‬وما أن وص!!لت إلى رب!!وة مرتفعة ح!!تى قع!!دت‬
‫خلفها أشرب بينما صدري! يهبط ويعلو من شدة الجري ‪ ...‬وفجأة شعرت بش!!يء ثقيل‬
‫يه!!!!وي على رأسي وبم!!!!ادة لزجة تنس!!!!اب على وجهي وتختلط! بقط!!!!رات الخمر‬
‫المتس!!اقطة على مالبسي ‪ ،‬وقبل أن أغيب عن الوج!!ود ودع!!ني بعب!!ارات غليظة من‬
‫‪2‬‬
‫أقذع السباب "‬
‫لكنه في آخر أمرة يقر بخطر هذا الشراب ودوره في تدمير سعادته ‪ ،‬فنسمعه يخاطب‬
‫صديقه الذي جاء ليطمئن عليه ‪ " :‬لن أعود لشربه مرة أخ!!رى ‪ ،‬كن يا ص!!ديقي على‬
‫يقين من ص!!دق ق!!ولي ‪ ،‬فلقد حطم ه!!ذا الش!!راب س!!عادتي المنزلية ‪ ،‬وك!!ان الس!!بب‬
‫‪3‬‬
‫المباشر لهذه المهزلة التي وقعت لي "‬
‫وتبين لنا قصة ( السكران ) كيف تذهب الخمرة العقل حتى ال يعود المرء ق!!ادراً على‬
‫التمي!!!!يز بين طفلته وأية أن!!!!ثى أخ!!!!رى ‪ ،‬وكيف! تقف الخم!!!!رة بداية لسلس!!!!لة من‬
‫االنحرافات الخلقية التي تتردى فيها شخصية ه!!ذا العمل ‪ ،‬حين تهمل ال!!بيت والأس!!رة‬
‫وتتدهور! حالتها المادية حين أخ!!ذت الخم!!رة تس!!تنزف كل الم!!دخول ‪ ،‬وت!!تراكم! عليها‬
‫الديون ‪ ،‬حتى تجد نفسها في آخر الأمر تأوي إلى الشارع تمام !ا ً مثل كالبه الش!!اردة ‪،‬‬
‫فبينما يغرق الرجل‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪31‬‬


‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ص ‪59 ،58‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ص ‪59‬‬

‫‪221‬‬
‫( السكران ) ‪ -‬في ه!ذا العمل – في س!!كره يبصر أمامه ش!!بحا ً لفت!!اة في مقتبل العمر‬
‫تسير أمامه ‪ ،‬لينقض عليها لكنها تدفعه وتفلت من بين يديه ‪ ،‬وت!!روح في الع!!دو وهو‬
‫يعدو خلفها‪ ،‬وفجأة تمر سيارة مسرعة لترديه قتيالً ‪ " :‬وفي الصباح لم يبك عليه أحد‬
‫سوى شخص واحد تقرحت عيناه بمن البكاء عليه ‪ ،‬ذلك الشخص هو تلك الفت!!اة ال!!تي‬
‫‪1‬‬
‫أراد اغتصابها! تلك الليلة ألنها ابنته "‬
‫ومن الغايات المتشكلة عن الموضوع السياسي تحت هذا المبحث ‪ ،‬ما يلي ‪:‬‬
‫** التنويه إلى خطر ظاهرة التوافد! غير المسبوق للأج!!انب إلى مدينة ع!!دن وتك!!وين‬
‫وعي رافض لما يحدث من مزاحمتهم! ألبناء البلد األصليين في وظائفهم وتج!!ارتهم ‪،‬‬
‫تروي علينا شخص!!ية قصة ( بقية الحس!!اب ) جانب !ا ً من ه!!ذا الوضع ‪ ،‬فنق!!ول ‪ ":‬فقد‬
‫كنت كاتبا ً بسيطا ً في إحدى اإلدارات الحكومية ‪ ،‬وفي السنوات القليلة الماض!!ية ‪ ،‬ب!!دأ‬
‫سيل من األجانب يفد على إدارتنا من كل ح!!دب وص!!وب! ‪ ،‬وكنت أتخيل ه!!ذه اإلدارة‬
‫مزيجا ً من ألوان متعددة ولغ!!ات مختلفة ‪ ،‬ولس!!وء الحظ أن أحد الكتبة األج!!انب ال!!ذي‬
‫عرف بميله الشديد وحبه المفرط لرجال الإدارة رقي! إلى مدير بدالً من مديرنا! الأول‬
‫ال!!ذي ذهب إلى بالده بعد انته!!اء مدته ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين وأنا أرى تحرك!!ات خط!!يرة‬
‫في سماء حياتي العملية ‪ ،‬تحركات من نوع جديد ‪ ،‬أرى تعس!فا ً وض!غطا ً واس!تبداداً ‪،‬‬
‫وتمييزا بين االفراد! ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين أيض!ا ً ‪ ،‬وأنا أرى أص!!دقائي! الق!!دامى يت!!وارون‬
‫عن الإدارة ح!!املين بقية الحس!!اب ‪ ،‬وس!!رعان ما يحل محلهم أج!!انب حض!!روا! من‬
‫بالدهم طبقا ً لسياسة لعينة حاكها المدير المبجل ‪ ،‬وكنت فعالً أنتظر ه!!ذا ال!!دور ال!!ذي‬
‫كان ينتظرني بفارغ الصبر ‪ ،‬وكلما تذكرته يزداد قلبي وجبيا ً ‪ ،‬فأسال نفسي ب!!برود! ‪:‬‬
‫هل يس!!تطيع! أن يط!!ردني في ي!!وم ما ‪ ،‬وهل ت!!راوده الفك!!رة لتنفيذ ه!!ذه المهزلة ؟ من‬
‫الجائز أن يكون الج!!واب نعم ‪ ،‬يس!!تطيع! ذلك وأك!!ثر! من ذلك ‪ ،‬ألم يكن هو الم!!دير ‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫وحامل السلطة العليا في الإدارة "‬
‫وفي (لعنة الكأس ) يحدثنا الراوي عن الإدارة التي يعمل فيها ( علي ) كاتب!ا ً عادي!ا ً ‪،‬‬
‫وكيف أنها تكتظ بالكتبة الهندوس الذين تزخر بهم البالد ‪ ،‬والذين جاءوا من كل حدب‬
‫وصوب ‪ ،‬حتى أن عليا ً كان العربي الوحيد الذي يعمل بينهم ‪ ،‬ومع ذلك هم يستمرون‬
‫‪3‬‬
‫في مضايقته ويسعون! إلى التخلص منه في أقرب فرصة سانحة "‬
‫وفي قصة (اللص والضمير! ) تكون ه!ذه المزاحمة من قبل الأج!!انب س!ببا ً في لج!!وء‬
‫أحدهم إلى احتراف السرقة حين أقفلت أبواب ال!!رزق في وجهه ‪ ،‬وفيها! نق!!رأ ‪ " :‬وأنا‬
‫لم أصبح نشاالً إال بعد أن قاسيت آلام الجوع والتش!!رد! وبعد أن رفض!!ني! الجميع ‪ ،‬كم‬
‫ً ‪4‬‬
‫من شركة رفضت! توظيفي! وطرقت كل أبواب الرزق فلم أجد عمال "‬
‫‪ .‬التنويه إلى تلك الممارس!!ات الإرهابية ال!!تي ك!!ان المس!!تعمر! يمارس!!ها! على أبن!!اء‬
‫الوطن األصليين ‪ ،‬ففي قصة ( سالم كثير ) يصاب أحدهم ( شخص!!ية العمل ) بحكة‬
‫في أذنه اليم!ني مما جعله يك!!ثر في رفع ي!!ده إلى أذنه ‪ ،‬وقد نجم عن ه!!ذا أن تلقى ه!ذا‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪33‬‬
‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( االنذار الممزق ) مرجع سابق ص ‪22‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪45‬‬
‫‪ 4‬صالح عبده الدحان ( أنت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪42‬‬

‫‪222‬‬
‫الرجل سالمات كثيرة حتى من أناس ال يعرفهم! ‪ ،‬فقط هم يظنون أنه يحييهم ‪ ،‬غير أن‬
‫المس!!تعمر! بعقليته البلي!!دة فكر في أن ه!!ذا الرجل ث!!ائر وله ص!!لة بجمع من الث!!وار ‪،‬‬
‫ودليل ذلك أن مخ!!برهم قد راه يوم!ا ً يس!!لم عليهم ‪ ،‬وك!!ان ذلك – في نظ!!رهم! – كافي!ا ً‬
‫العتقاله ‪ ،‬نقرأ فيها ‪ " :‬وقادني جنديان مسلحان إلى السيارة الصفراء ص!!فرة الم!!وت‬
‫‪ ،‬ألقوني بداخلها ‪ ،‬وكأنهم يلقون بي في مغ!!ارة مظلمة ‪ ،‬وتح!!ركت الس!!يارة وتح!!رك‬
‫معها ذهني ‪ " :‬ترى ؟ هل صحيح س!!يعتقلونني ؟ لقد ق!!ال لي أح!!دهم عند ب!!اب ال!!بيت‬
‫بأن ذلك مجرد إجراءات بسيطة وس !أعود بع!!دها ‪ ،‬ولكن كل من اعتقل!!وه من قبل قيل‬
‫له نفس هذا الكالم ‪ ،‬وقد! مرت عليهم الآن شهور! طويلة دون أن يعودوا! إلى منازلهم! ‪،‬‬
‫ولكن هل أنا المقص!!!ود حق!!!ا ً أم أن هن!!!اك مج!!!رد خطأ ‪ ،‬فأنا لست ممن تبحث عنه‬
‫بريطانيا! ‪ ،‬إذ ليس لي أي نش!!اط سياسي أمارسه عملي !ا ً ‪ ،‬ص!!حيح أن!!ني أتع!!اطف مع‬
‫الثوار ‪ ،‬ولكن ذلك شعور! عام ‪ ،‬شعور كل فرد عرف بريطانيا! على حقيقتها ‪ ،‬ش!!عور‬
‫‪1‬‬
‫كل الشعب فهل كل من يحمل هذا الشعور! يزج به في السجون "‬

‫‪ )2‬أعم‪$$‬ال تصل غايتها إلى إث‪$$‬ارة ال‪$$‬وعي بض‪$$‬رورة قي‪$$‬ام الفعل ال‪$$‬رافض ‪ :‬وه‪$$‬ذه غاية‬
‫تتوافر! عليها بعض األعمال الروائية والقصص!!ية ال!!تي تم وض!!عها! قبل انفج!!ار ث!!ورة‬
‫الش!!مال واس!!تقالل الجن!!وب ‪ ،‬ذاك أنها أوال غاية تثويرية لعبت دورا محف!!زا النفج!!ار‬
‫الثورة من حيث كون هذه الغاية قد ش!!هدت تح!!وال واض!!حا! ت!!رجمت له كل الرواي!!ات‬
‫واألعمال القصصية التي وضعت بعد انفج!!ار الث!ورة ‪ ،‬وهي األعم!ال ال!تي تح!!ركت‬
‫تجاربها تحت قلق من نوع مختلف ‪ ،‬ذاك أن كتابها ومنذ ذلك الت!!اريخ ينطلق معظمهم‬
‫من مب!!دأ اعتب!!ار ح!!دث انفج!!ارالثورة واالس!!تقالل الح!!دث األهم في الت!!اريخ اليم!!ني‬
‫الح!!ديث كله ‪ ،‬والمكتسب األغلى ال!!ذي ف!!رض حض!!وره الق!!وي على كل تن!!اوالتهم ‪،‬‬
‫فعليه أخذوا يبنون تجاربهم! ويشكلون! عوالمهم التي تمثلت غايات أخرى انعكست عن‬
‫واقع التحول السياسي واالجتماعي الذي ش!هدته اليمن بعد الث!ورة ‪ ،‬ومع قلة األعم!ال‬
‫التي ذهبت إلى هذه الغاية بالقياس إلى األعم!!ال ال!!تي اكتفت من إنش!!ائها بغاية تك!!وين‬
‫ال!!وعي ال!!رافض‪ ،‬وذلك نتيجة لظ!!روف! الجهل والقمع والخ!!وف! ال!!تي ك!!انت تكتنف‬
‫طريق ه!!ذه األعم!!ال وتح!!دق! بكتابها ‪ ،‬ف!!إن ذلك الينفي وجودها! وأهمية ال!!دور ال!!ذي‬
‫قامت به في تحفيز النفوس وتوجيه األوضاع نحو الحل الثوري ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( مأس!!اة واق ال!!واق ) ال!!تي تمثلت الواقع قبل الث!!ورة واالس!!تقالل ‪ ،‬وش!!قت‬
‫طريقها إلى الوج!!ود في ظ!!روف ذلك الواقع ‪ ،‬كما ك!!ان كاتبها أحد الشخص!!يات ال!!تي لعبت‬
‫دورا مهما في األح!!!داث حينها وعايشت مش!!!كالت ال!!!وطن وقض!!!اياه ‪ ،‬فرص!!!دت الحركة‬
‫الجدلية بين الواقع واإلنس!!!!!!ان متفهمة إقدامه وإحجامه ‪ ،‬متلمسة أس!!!!!!باب تفاعله ودواعي‬
‫تقاعسه ‪ ،‬ف!!إن غايتها التغييرية تب!!دأ تكش!!فها من قيامها! على رؤية حلمية فحين تختنق الحي!!اة‬
‫بظالم!!ات الواقع وقي!!وده قد يص!!بح اللج!!وء إلى الحلم مهربا مناس!!با إلنش!!اء واقع تتنفس في‬
‫فضاءاته حياة أخرى بديلة باس!!تفزاز! ال!!وعي الن!!ائم أو الغافل بص!!دمة قوية تعمل على إفاقته‬

‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪،38‬‬

‫‪223‬‬
‫على حقيقة ال!!وطن المغيبة عنه لينضح في وجهه به!!ذه الحقيقة الم!!رة المؤلمة ‪ ،‬حيث اليمن‬
‫بكل ماله من مجد وت!!!اريخ طويل ليس س!!!وى بلد ض!!!ائع تائه مجه!!!ول الهوية تماما كتلك‬
‫الجزيرة الوهمية التي ظل السندباد! يبحث عنها في رحالته ‪ ،‬والتي دل عليها عن!وان الرواية‬
‫ال!ذي يشق ببنيته الس!اخرة المس!تفزة أول خط!وة في اتج!اه غايتها التغييرية ‪ ،‬ونحن في ه!ذا‬
‫العمل نقف على رؤية حلمية تغييرية مس!!كونة بهم!!وم! ال!!وطن مض!!مخة بأوج!!اع! الواقع ‪ ،‬ال‬
‫يحلق الحلم فيها مبتع!!دا وإنما يرتد إلى ه!!ذا الواقع فيتش!!كل عام!!دا في ص!!لب مادته وج!!وهر!‬
‫روحه " فليس هذا الحلم سوى مشروع للتغيير مش!روع! ينشأ في ذهن الش!اعر وينفح ويك!بر!‬
‫في كل ما يسرد على مسامعهم! ‪ ،‬ألم تكن المشاريع الكبرى في التاريخ مج!!رد أحالم في أول‬
‫األمر ولكنها حتى ترتبط! ب!!الواقع ال تغ!!دو مج!!رد أض!!غاث بل تص!!بح دافعا للتغي!!ير وه!!ذا ما‬
‫‪1‬‬
‫قصد! إليه الزبيري! في بحثه الحالم عن بالد واق الواق"‬
‫وقد! أتاحت الرؤية الحلمية لهذا المؤرق بقض!!ايا وطنه ومش!!كالت ش!!عبه على أن يحقق م!!الم‬
‫يستطيع! تحقيقه على أرض الواقع من المساءلة والمحاسبة والبحث عن إجابا ألس!!ئلة مح!!يرة‬
‫والنبش في أدمغة وبط!!ون من يمتلك!!ون اإلجابة الش!!افية والوق!!وف على األس!!باب وال!!دوافع‬
‫وراء الكثير من السلوكيات االجتماعية والممارسات السياسية التي تسببت في ض!!ياع ش!!عبه‬
‫وامتداد! معاناته ‪ ،‬كما أتاحت له هذه الرؤيه أن يبث لواعج نفسه واختالج فكرة ‪ ،‬وأن يكشف‬
‫ويعري! ويفضح ويجلي حقائق لش!!عب ي!!درك مق!!دار ما يس!!تبد به من جهل ‪ ،‬ويص!!وب رؤى‬
‫ويصحح قناعات ومفاهيم ويدحض عن األذهان ما يالبس!!ها من ش!!كوك إزاء بعض المواقف!‬
‫ال!!تي ت!!آزرت عوامل مختلفه داخلية وخارجية كي تحيطها بض!!بابات الغم!!وض وغيام!!ات‬
‫الشك ال!!تي غلفت حقيقتها وك!!ادت أن تطمس!!ها! طمسا ‪ ،‬كل ذلك في خط!!وه تمهيديه يبلغ بها‬
‫غايته الكبرى المعتمدة على هذا الوعي الجديد الرافض لكل ما هو قائم والمتشكل خالل ه!!ذا‬
‫المجهود! التمهيدي! ركيزة لها ‪ ،‬حتى إذا ما أراد بعده أن يص!!رح بغايته ويض!!غط ال!!وعي في‬
‫اتج!!اه بلوغها غ!!دا ذلك م!!بررا بما اتبعه من أس!!لوب مت!!درج في منطق إقناعه ‪ ،‬ومن هنا‬
‫يمكن له!!ذا المبحث أن يبل!!ور لمراحل ت!!درج الك!!اتب كي يبلغ غايته الك!!برى من تح!!ريض‬
‫الشعب الذي يتوجه إليه في هذا العمل في كليته إلثارة وعيه بض!!رورة القي!!ام بفعل رافض ‪،‬‬
‫وهي كتالي ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬الذهاب إلى تشكيل وعي اإلنسان بواقع بلده وبحقيقه ما يجري فيها عبر خطوات منها‬
‫‪:‬‬
‫‪ )1‬إثارة ال!!وعي بقض!!يه مجهولية اليمن وعزلتها وبترها! ليس من عص!!رها وعالمها الك!!وني فقط‬
‫وإنما من عالمها العربي الذي تنسب إليه وينسب إليها عبر تس!!ليط ض!!وء كاشف على حقيقه‬
‫‪ -‬رغم اهميتها البالغة ‪ -‬تب!!دو غائبه بش!!كل كلي عن وعي اإلنس!!ان في اليمن ‪ ،‬ال!!ذي ع!!اش‬
‫حقبه طويله حياة من العزلة المطبقة جعلته يتحرك خارج الوقت وبعيدا عن خارطة الوج!!ود‬
‫اإلنساني! ‪ ،‬فكل دقيقه من سني حكم اإلمام يحيى مثال ‪ " :‬كانت طاحونة هائلة تس!!حق عظ!!ام‬
‫الش!!عب وتنهش لحمه وتف!!ري جل!!ده وت!!ترك! لها س!!مة مس!!تديمة في خالي!!اه وفي! دمه وفي‬
‫أعصابه وفي صحته العقلية والنفسية وفي قدرته على مواجهة المستقبل البعيد ‪ ،‬فالشعب في‬

‫‪ 1‬هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ /‬صنعاء ‪1996‬م ‪ ،‬ط‪،1‬ص‪148‬‬

‫‪224‬‬
‫عهده حي ك!!الميت وميت ك!!الحي لم يدعه يحيا إال في ج!!انب تافه حق!!ير من حياته ‪ ،‬وهو أن‬
‫يجمع له ثروة يخلفها ألسرته فلم يس!!مح أن تب!!نى مدرسة أو مستش!!فى أو يعبد طريق! ‪ ،‬بل لم‬
‫يكن يسمح للمؤسسات العالمية أن تقاوم وباء من األوبئة أو مجاعة من المجاعات التي كانت‬
‫تحصد األلوف من أبن!اء الش!عب الفينة بعد الفينة ‪ ،‬ك!ان حليف الج!راد وال!تيفوس والج!دري‬
‫والمجاعات والظالم! والجهل والس!!جون واألغالل ‪ ،‬وقد! ربى خالل حكمه المش!!ؤوم! الطويل‬
‫جيال من الن!!!اس ال يملك!!!ون أي خ!!!برة في الحي!!!اة وفي! معايشه البشر إال خ!!!برة الحرك!!!ات‬
‫الغريزية من المشي والقعود وحمل األحجار واالثقال واالنحناء لعبء النير وااللت!!واء تحت‬
‫السياط والفرار من الوطن لكسب القوت والخ!!وف والنف!!اق والمحافظة على رمق الحي!!اة في‬
‫خدمه ع!!دو الحي!!اه ‪ ،‬وهن!!اك فئه قليله من الن!!اس كس!!بت خ!!برة في ش!!يء واحد فحسب وهو‬
‫التفنن في وس!!ائل تع!!ذيب الش!!عب وص!!ناعة القي!!ود له ونهبه عن طريق! الرش!!وة واالختالس‬
‫والمحاكمات! المأجورة والضرائب الدينية وااللتزام!!ات ‪ ،‬وفئه أخ!!رى لم يس!!تطع أن يش!!ملها‬
‫هذا الشؤم فواص!!لت! حياتها عن طريق! الوراثة لتج!!ارب اآلب!!اء في الزراعة والعل!!وم! الدينية‬
‫‪1‬‬
‫واآلداب القديمة "‬
‫وهذه الحقيقة هي وضع بالده الصادم! ‪ ،‬ومكانتها! المغيبة تاريخا وواقعا! معاصرا! ‪،‬‬
‫وتلك هي حقيقه الحالة االغترابية ال!!تي يج!!دها اليم!!ني أمامه إذا ما خ!!رج خ!!ارج‬
‫وطنه الصغير! حيث يفاجأ أنه يعيش وهما كب!يرا يعتقد بت!اريخ بالده المجيد ‪ ،‬بينما‬
‫ذلك التاريخ يعود وهما وخياال أسطوريا ‪ ،‬ويكتشف! أن ذلك البعد الذي في اعتقاده‬
‫لم يعد موجودا! على خارطة الوجود ‪ ،‬وأن بل!!ده غ!!دا بل!!دا مختفيا مطموسا ض!!ائعا‬
‫هائما في ع!!!الم خي!!!الي وعلى أرض ال توجد إال في القصص الخيالية ‪ ،‬فه!!!ؤالء‬
‫ش!!!!يوخ األزهر وعلم!!!!اؤه وهم المع!!!!ول عليهم ‪ -‬بفعل مكانة األزهر وتاريخه ‪-‬‬
‫االهتمام بشؤون األمة ‪ ،‬يهتمون بكل ش!!أن يخص األمم القريبة والبعي!!دة ‪ ،‬بينما ال‬
‫تكون اليمن ذلك البلد الموجوع الن!!ازف واح!!دة منها ‪ ،‬فال تش!!كل في وعي أح!!دهم‬
‫هما أو حتى وجودا! يستحق! االهتمام " سمعهم! العزي محمود يتحدثون عن قض!!ايا‬
‫الدنيا واآلخرة ويخوضون في مشاكل األمم البعيدة و القريبة ‪ ،‬ويض!!عون كل ه!!ذه‬
‫المش!!اكل في مع!!ايير! اإلس!!الم ويقض!!ون فيها قض!!اءهم ويص!!درون فيها فت!!اواهم‬
‫ويعلنون فيها في ثقه واعتزاز بأن اإلسالم يجب أن يعنى بكل صغيرة وكبيرة وأن‬
‫يصدر! فيها حكم هللا ‪ ،‬وعجب الع!!زي محم!!ود! لس!!عه االطالع عند ه!!ؤالء العلم!!اء‬
‫ولش!!عورهم! الغي!!ور! المرهف إزاء كل مأس!!اة إنس!!انيه على وجه األرض ‪ ،‬مأس!!اة‬
‫الكونغو! مثال ‪ ،‬ومأس!!اة التفرقة العنص!!رية في جن!!وب أفريقيا ‪ ،‬ومأس!!اة الهن!!ود‬
‫الحمر في أمريكا ‪ ،‬وحتى محنة األخالق في فنادق الشرق األقصى! ال!!تي تع!!رض‬
‫لها الصحفي أنيس منصور! أصدروا! فيها فتاواهم ‪ ،‬ولم يبقى مكان في األرض إال‬
‫ط!!ارت إليه المناقشة وص!!درت! إليه األحك!!ام ‪ ،‬وتطلع الع!!زي محم!!ود إلى ه!!ؤالء‬
‫واستشرف أحاديثهم الجريئة المث!!يرة ‪ ،‬انتظر أن يتح!!دثوا! عن بالده وفيها! أح!!داث‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪135،134‬‬

‫‪225‬‬
‫ض!!خمة تعت!!بر موض!!وعا! خص!!با ألحك!!ام هللا ‪ ،‬ولكن الح!!ديث يمضي ويمضي‬
‫‪1‬‬
‫ويكتسح آفاق األرض وينتهي! منها ويعلن الختام "‬
‫ف " أين ت!!راه ال!!وطن ؟ هل تض!!يع جغرافية البالد كما ض!!اع الت!!اريخ من قبل ؟‬
‫ف!!أرض الجن!!تين ال!!تي مألت ص!!در الع!!الم في ي!!وم من األي!!ام تتح!!ول إلى أرض‬
‫‪2‬‬
‫مجهولة الموقع والتاريخ "‬
‫‪ )2‬التأكيد على أن التغيير لن يك!!ون إال من ال!!داخل ‪ ،‬ومن هنا يتح!!رك الس!!ؤال األول في‬
‫ض!!مير! ه!!ذا العمل ‪ ،‬فهل تك!!ون إع!!ادة ه!!ذا ال!!وطن إلى مكانه على خارطة الوج!!ود!‬
‫اإلنساني بالتواكل والخنوع! وانتظار تحرك اآلخ!!رين ؟ يح!!دثنا بطل الرواية ق!!ائال ‪" :‬‬
‫فج!!دير باإلنس!!ان ال!!ذي نبت في تربة أرضه أن يحمل في ب!!ذور خالي!!اه ج!!نين وطنه‬
‫الكب!!ير وكل ما هو في حاجه إليه أن ال يخ!!ون الحقيقة ‪ ،‬فينح!!رف! عن مهمته في ه!!ذا‬
‫الوج!!!!ود! بل عليه أن يضع نفسه في بيئة الن!!!!واميس الطبيعية لتطلق عواملها فيه كما‬
‫تفعل بنواة الثم!!رة تحت ال!!تراب ‪ ،‬وليست الخيانة في رأيي إال خيانة المخل!!وق لطاقته‬
‫الهائلة ال!!تي تكمن فيه ‪ ،‬فن!!واة الثم!!رة ال!!تي تس!!قط في التربة وال تنغ!!رس فيها خائنة‬
‫لجنينها الض!!خم ال!!ذي تحمله ‪ ،‬وب!!دال من أن ت!!ؤدي! دورها! وتتفاعل مع أرض!!ها! األم‬
‫‪3‬‬
‫تضع نفسها لعبة في يد األطفال والمجانين يتراشقون بها في عرض الطريق "‬
‫فانتظار العون من اآلخر ال يحل مشكله أبدا ‪ ،‬ألن ه!ذا اآلخر المنتظر ‪ -‬بال ش!ك‪-‬‬
‫لن تحركه إال مصالحه وما يتحقق له من من!!افع فأمريكا " قد اليك!!ون لها مص!!لحه‬
‫في اكتش!!اف! ه!!ذا البلد الغ!!امض إال في ال!!وقت المناسب لها ‪ ،‬فربما! ك!!انت ت!!رى‬
‫بعيونها! العلمية أن في جوانح أرض واق ال!!واق ث!!روات س!!رية أو ذهبا أو ب!!تروال‬
‫فال يوثق! برأي الهيئات العلمية في هذا المج!ال " ‪ " ...‬وأمر بريطانيا! كأمريكا! في‬
‫ه!!ذا الش!!أن ‪ ،‬قد ال يك!!ون من مص!!لحتها! أن توجه أنظ!!ار الع!!الم إلى اكتش!!اف بلد‬
‫األساطير! واألسرار! حتى يأتي الوقت المناسب لها فتستغله على انفراد ‪ ،‬ثم هي قد‬
‫تكون واض!عه ي!دها الخبيثه على ه!ذا البلد أو ج!زء من ه!ذا البلد وهي تمتصه في‬
‫هدوء فلماذا تثير إليه اهتمام العالم ! " ‪ ،4‬أما روسيا! لو أنها استطاعت " أن تتسلل‬
‫من محبسها وأن تضع قدمها أو ت!!دس أنفها في أرض واق ال!!واق لكتمت أنفاس!!ها‬
‫من ش!!ده الف!!رح ول!!ترفقت في كل خطواتها وتحركاتها! ح!!تى ال يش!!عر أحد ‪ ،‬وهي‬
‫بعد ذلك أقدر الدول قاطبة على األساليب السرية ‪ ،‬ولو استعان بها الوشاح ح!!اكم‬
‫واق الواق وطلب منها معونة فنية لصناعة طاقية إخف!!اء ي!!دفن بها ش!!عبه في مزيد‬
‫‪5‬‬
‫من الخفاء والغموض لبادرت روسيا! وأعطته ما يريد "‬
‫‪ )3‬إن التأكيد على أن التغ!!ير هو مس!!ؤوليه كل إنس!!ان ينتمي إلى ه!!ذا المك!!ان ‪ ،‬وأن‬
‫التراخي والخنوع ليس باألمر الهين ‪ ،‬وهذا التاريخ يشهد على ذلك واألق!!دار كلها‬
‫تدفع الشعب ألن يعتمد على نفسه ‪ ،‬يقول العزي محم!!ود! قبل أن يش!!رع في رحلته‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪22،21‬‬


‫‪ 2‬هشام علي ( الخطاب الروائي في اليمن ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪145‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪26‬‬
‫‪ 4‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪29‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪29‬‬

‫‪226‬‬
‫‪ " :‬لو كنت ذاهبا إلى وطني! فال يهمني أن ال أعود منه ‪ ،‬أما وأنا ذاهب إلى مك!!ان‬
‫آخر ولو في الجنة فأني أشفق أن أتخلى عن المعركة التي سخرت عمري لها ‪ ،‬ثم‬
‫هو ال يشرفني! أن أكون متطفال على الشهداء بدون اس!!تحقاق ودون أن أدفع الثمن‬
‫الذي دفعوه " ‪ 1‬فهؤالء الشهداء ومبادؤهم! " وأهدافهم! المحددة ومثلهم! العليا ال!!تي‬
‫م!!اتوا ألجلها ‪ ،‬كل ه!!ذه االعتب!!ارت هي ص!!احبة الحق األول في تقرير مص!!ير‬
‫‪2‬‬
‫بالدنا على النحو الذي يقرره الشهداء أنفسهم "‬
‫وأما اإلمساك بالعصا من المنتصف! ‪ ،‬فإن جزاءه أال يس!!تحق! الم!!رء جنة وال ن!!ار "‬
‫ولكن إيق!!!افهم بين الطمع في الجنة والهلع من الن!!!ارهو في حد في ذاته ع!!!ذاب أشد‬
‫آالف المرات من العذاب الذي ك!!انوا يجبن!!ون في ال!!دنيا عن المس!!اهمة في المع!!ارك‬
‫خوفا! منه " ‪ ، 3‬وهللا س!!بحانه وتع!!الى! قد " أمر الن!!اس بالجه!!اد وب!!النهي عن المنكر‬
‫بالدفاع! عن النفس والشرف! ‪ ،‬فإذا هم استس!لموا! لل!!ذل والع!!ار ولم يس!!تجيبوا ألمر هللا‬
‫فهم يستحقون أن يكونوا عبيدا ‪ ،‬واذا ك!!ان هللا جل وعال ال يس!!اعد العبيد األذالء وهو‬
‫خالقهم وموجدهم فكيف تريد من الدول أن تساعدهم " ‪ 4‬ف " من ك!!ان في ي!!ده الحق‬
‫‪5‬‬
‫فال يمكن أن يكون ضعيفا ‪ ،‬فإن الحق فوق! القوة "‬
‫وحي!!اة اليم!!ني ال يختلف همها عن الهم في جهنم ال!!تي ق!!ام بزيارتها! الع!!زي محم!!ود ‪،‬‬
‫فاليمني! " يعيش في جحيم من القلق واألسى والحزن على بالده وعلى مصير القض!!ية‬
‫‪6‬‬
‫التي ال يزال يحمل عبء رسالتها! رسول جهنم بجديد من الهم "‬
‫وال بد لهذا الشعب البائس من صحوة ألنه " بس!!كوته عن قتل واحد من بنيه إنما يع!!ني‬
‫بموقفه ه!!ذا أنه قد أقر مب!!دا اإلباحية لل!!دماء ومنح الح!!اكم حق ال!!ذبح لمن يش!!اء وم!!تى‬
‫يشاء " ‪ ،7‬وحق الحي!!اة ش!!يء مق!دس " بل هو أق!دس المقدس!ات ‪ ،‬ف!!اذا تن!!ازل الش!!عب‬
‫لحاكمه عن هذا الحق ‪ ،‬وسمح له أن يقتل إنسانا واح!!دا ‪ ،‬فقد تن!!ازل عن قدس!!يه الحي!!اه‬
‫ذاتها لحاكمه ‪ ،‬ويس!!توي في ذلك أن يزهق الح!!اكم روحا! واح!!دة أو آالف األرواح ألن‬
‫قدسيه الحياة تسقط لمج!!رد قتل اإلنس!!ان الواحد ومن قتل نفسا فكأنما! قتل الن!!اس جميعا‬
‫‪8‬‬
‫"‬
‫فهذا نظام ال يتحرك مع الزمن وال يتيح للشعب أن يختار وكل الذين يؤي!!دون بق!!اءه هم‬
‫في الواقع يح!!اولون توطيد! ح!!اجز أب!!دي يمنع الش!!عب اليم!!ني عن تحقيق أمانيه ‪ ،‬و "‬
‫ن!!واميس الت!!اريخ واالجتم!!اع ال تف!!رق بين الجاهل والع!!الم ‪ ،‬إن عقوبة الجهل به!!ذه‬
‫‪9‬‬
‫األمور! هي الموت ‪ ،‬وسم الحية ال يفرق بين من يعرف الحية ومن يجهلها "‬
‫‪ )4‬االستناد! في كشف حقيقه ما جرى ويجري على أرض اليمن من ظلم وقمع وعبث‬
‫ب!!!العقول وإش!!!اعة روح الفرقة المذهبية إلى ش!!!هادات حية تتسم بق!!!در كب!!!ير من‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪52‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪64‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪81‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪81‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص‪81‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص‪157‬‬
‫‪ 8‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪158‬‬
‫‪ 9‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪157‬‬

‫‪227‬‬
‫المصداقية ل!!دى شخص!!يات لها ق!!در كب!!ير من الموثوقية ‪ ،‬أو هي تكتسب موثوقية‬
‫شهادتها! من دورها التي لعبته في األحداث ‪ ،‬ومن هذه الشهادات ‪:‬‬
‫‪ )1‬شهادات الشهداء الذين قدموا أرواحهم! فداء لهذا الوطن ‪ ،‬ومن تضحيتهم! التي‬
‫قدموها! تكتسب ش!!هاداتهم! مص!!داقيتها ‪ ،‬حيث ب!!ذل النفس والتض!!حية ب!!الروح‬
‫هي أسمى ما يستطيع المرء تقديمه ‪ ،‬وت!!أتي ش!!هادات الش!!هداء لفضح حق!!ائق‬
‫تاريخية يقرعون بها مسامع األحياء المغيبين الماضين في سباتهم! ال يسمعون‬
‫سوى صوت اإلمام ‪ ،‬وشهاداتهم! على هذا النحو تسهم بخالص الوطن وهداية‬
‫الن!!اس الى ن!!ور الحقيقة ‪ ،‬ثم أن حض!!ور ه!!ؤالء األطه!!ار يس!!تفز في األحي!!اء‬
‫الشعور! بالمسؤولية إزاء دمائهم التي سفكت ظلما وعدوانا‬
‫‪ )2‬شهادات المجرمين في حق الشعب ال!!ذين أفس!!دوا حياته وعك!!روا ص!!فو أيامه‬
‫بألوان الش!!قاء ‪ ،‬وتكتسب ش!!هادات ه!!ؤالء مص!!داقيتها! من ك!!ونهم شخص!!يات‬
‫لعبت دورا حقيقيا في حياة الن!!اس ‪ ،‬ثم من ك!!ون ه!!ذه الش!!هادات تص!!در! عنهم‬
‫وهم في أس!!وأ ح!!االتهم من الن!!دم والتض!!رع تحت وقع الع!!ذاب الجهنمي كما‬
‫تخيل الكاتب ‪ ،‬ومن بين هذه الشخصيات شخصيه اإلمام نفسه ‪.‬‬
‫االستناد! في الحكم على اإلمام ونظامه الفاسد إلى حكم شرعي يصدر! عن مرجعية‬ ‫‪)5‬‬
‫دينية كب!!!يرة لها ثقلها في الت!!!اريخ اإلس!!!المي ‪ ،‬ولها مكانتها العظيمة في قل!!!وب‬
‫اليمنين تلك هي شخصية علي كرم هللا وجه ‪ ،‬وقد! استدعى الكاتب هذه الشخص!!ية‬
‫العظيمة دون غيرها من الشخصيات ليدحض بحكمها ادعاء اإلمام االنتس!!اب إلى‬
‫آل بيت النبي عليه الصالة والسالم والحكم بمذهبهم! ‪ ،‬وهو االدع!!اء ال!!تي اس!!تغلته‬
‫اإلمامه ال!!تي تعلم بمق!!ام بيت الن!!بي في نف!!وس اليم!!نين لتوطيد حكمها ‪ ،‬واكتس!!اب‬
‫مكانة وص!!لت بها إلى ح!!دود القداسة ‪ ،‬اعتقد فيها اليم!!نيون بحرمة الخ!!روج على‬
‫حكمها ‪ ،‬ففي مؤتمر عظيم حضره كل شهداء واق الواق ‪ ،‬وعلماؤها ‪ ،‬ومفكروها‬
‫‪ ،‬يتم تصويب هذا االعتقاد عبر محكمة تق!!ام لمحاكمة الطاغية غيابيا وهي محكمة‬
‫يرأسها! اإلمام علي كرم هللا وجهه ويك!!ون الم!!دعي الع!!ام فيها اإلم!!ام زيد بن علي‬
‫رضي! هللا عنه ‪.‬‬
‫وعبر هذه المحاكمة يتدرج األمر في اتج!!اه ن!!زع ه!!ذا الش!!رف عن اإلم!!ام الظ!!الم‬
‫ب!!دءا بإقامة مقابلة بين أفعاله وادع!!اءه ش!!رف االنتس!!اب آلل بيت الن!!بي ‪ ،‬فنس!!مع‬
‫اإلمام زيد بن علي رضي! هللا عنه يقول ‪ " :‬إنه يوجد في ش!!عوبنا! الي!!وم في الحي!!اه‬
‫ال!!دنيا ش!!عب ع!!ربي مح!!روم من حق الحي!!اة على وجه األرض ‪ ،‬س!!لبه ه!!ذا الحق‬
‫شخص واحد اغتصب الحكم ب!!القوة والعنف! واإلره!!اب والخديعة ‪ ،‬ومن المخجل‬
‫والمحزن أن هذا الشخص يدعي أنه من آل البيت وأدهى من ذلك أنه يدعي الحكم‬
‫‪1‬‬
‫بمذهب آل لبيت "‬
‫ثم يستمر! يع!!دد فض!!ائع الطاغية ال!!ذي يبطش ويقتل ويس!!فك ال!!دماء متس!!ترا! وراء‬
‫مبادئ اإلس!!الم ‪ ،‬بل وتتجلى المفارقة األعظم في ك!!ون ه!!ذا الطاغية يتس!!تر وراء‬

‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪227‬‬

‫‪228‬‬
‫مذهب اإلم!!ام زيد بن علي ال!!ذي قاتل هش!!اما بن عبد الملك ودعا الن!!اس للخ!!روج‬
‫عليه وقتاله ألنه طغى ‪.‬‬
‫فلم يسلب هذا الطاغية شعبه حق الحياة فقط بل وحاول أن يسلب آل بيت الرس!!ول‬
‫قدس!!ية ش!!رفهم! اإلنس!!اني! وما يفعله ‪ -‬من وجهة نظر االم!!ام زيد ‪ -‬هو أخطر مما‬
‫فعله هش!!!ام بن عبد الملك بجثته حين أخرجها من قبرها وص!!!لبها! وأحرقها ‪ ،‬ذاك‬
‫أنه يستهدف! الوجود! األكبر آلل ال!!بيت ‪ ،‬إنه مب!!دؤهم ‪ ،‬فينسب كل إثم يرتكبه إليهم‬
‫‪ ،‬وأشد من خطر ال!ذين يطلب!ون الحكم باسم آل ال!بيت كالعباس!يين والقرامطة فهو‬
‫يح!!ارب اسم هللا وش!!ريعته ويحقر الهاش!!ميين ‪ ،‬ويالحق آل ال!!بيت ب!!األذى ‪ ،‬من‬
‫خالل ممارس!!!ته لس!!!لطته اآلثمة باسم الوراثة العائلية ‪ ،‬فهل يرضي آل ال!!!بيت أن‬
‫يتحولوا! إلى أسر كسروية أو قيصرية تتوارث ملكية الشعوب ؟‬
‫وألجل ذلك يتم في ه!!!ذه المحكمة تق!!!ديم ه!!!ذا الطاغية للمحاكمة غيابيا ‪ ،‬هو ومن‬
‫ومعه ممن س!!ار على طريقة الحكم المت!!وارث من آبائه وأش!!باهه وأش!!باه أبيه من‬
‫الحكام المتسترين وراء آل البيت ‪ ،‬ومع كثرة ج!!رائم ه!!ذا الطغي!!ان ف!!إن المحاكمة‬
‫ستقتصر! على تهمتين ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬الكيد ضد مقدسات آل البيت ‪ ،‬وعند هذه التهمه يستعرض اإلم!!ام زيد بن‬
‫علي مفارقات هذا النظام ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬لقد زعم هذا الحاكم ( الوشاح يا جن!!اه ) بأنه‬
‫ينتسب إلى مذهبي ‪ ،‬وهذه الدعوة تعتبر سخرية واحتقارا وأذى ألقدس ما أقدسه ‪،‬‬
‫ذاك أن ألمع المب!!!!!ادئ في ت!!!!!اريخي هو األمر ب!!!!!المعروف والنهي عن المنكر‬
‫ووجوب! الخروج على الظالمين فما أفظعه من كيد وس!!خرية أن ي!!زعم الظ!!المون‬
‫العتاة بأنهم يلتزمون م!!ذهبي وأنا ال!!ذي ال يع!!ني وج!!ود م!!ذهبي أك!!ثر ما يع!!ني إال‬
‫إلغاء وجود هؤالء الظالمين وتطهير! األرض من وجودهم! "‪.1‬‬
‫فهذا الحاكم يقتل كل من يحاول التقريب بين الفئات التي بذر الطغيان بذور الفرقة‬
‫واالنقسام! بينها ‪ ،‬ويسعى إلى الكيد لألبرياء والبسطاء! من آل البيت ‪،‬فيوهمهم ب!!أن‬
‫وجودهم مستمد من وجوده ‪،‬وأن تهديد بقاءه هو تهديد لبقائهم ‪ ،‬فيفصلهم! بذلك عن‬
‫بقية أبناء الشعب ‪ ،‬ويزج بهم في معركة أبدية مع الماليين ‪،‬وينتهي اإلمام زيد من‬
‫عرضه ه!!!ذه التهمة بقوله ‪ " :‬ل!!!ذلك ف!!!إني إذ أدين ه!!!ذا الطغي!!!ان بجريمة الكيد‬
‫لمقدساتنا وألبنائنا ‪ ،‬وأطالب بتوقيع! أقصى! عقوبة علي!!ه‪ ،‬أدعو األح!!رار األذكي!!اء‬
‫والعلماء من أبنائنا إلى أن تتولى صفوة منهم عالج هذا الجرح العميق الذي أحدثه‬
‫الطغي!!ان في قلب الش!!عب ب!!الطرق الناجحة ‪ ،‬وأن تخ!!زي وجه الطغي!!ان ووجه‬
‫الشيطان بإثبات وجودها! في قلب الش!!عب ‪ ،‬وبإثب!!ات أن ه!!ذا الطاغية ليس منا وال‬
‫يمت إلى رسالتنا من قريب أو من بعيد " ‪.2‬‬
‫والثانية ‪ :‬حرمان الشعب من حق الحياة ‪:‬‬
‫بعد أن يقدم المدعي كيف حرم الش!!عب من حق الحي!!اة في بلد يحكمه ق!!انون أس!!وأ‬
‫من قانون الغاب ‪ ،‬فقانون الغاب يحفظ للحيوان حق الصراع والقتال واله!!رب في‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪229-230‬‬


‫‪ 2‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪234‬‬

‫‪229‬‬
‫حال الضعف ‪ ،‬وبذلك تحتفظ حيوانات الغاب بفطرتها! ال!!تي فطرها هللا عليها دون‬
‫أن ينالها مسخ وال تشويه " ولكن شعب واق الواق الذي يحكمه ( الوشاح يا جناه)‬
‫محروم! من حق الحياة ومحروم من حق الصراع على الحي!!اة ‪..‬إن ه!!ذا الح!!اكم ال‬
‫يقتل الن!!اس جميعا وال يف!!نيهم ‪ ،‬وال يس!!تطيع! ذلك بطبيعة الح!!ال ‪ ،‬ولكنه يفعل بهم‬
‫شيئا يساوي قتلهم جميعا ‪ ..‬إنه ينتزع من كل فرد من أف!!راد الش!!عب حق الحي!!اة ‪،‬‬
‫وحق الص!!راع من أجل المحافظة على الحي!!اة فيش!!ملهم ب!!الخوف وال!!رعب وفقد‬
‫الطمأنينة على األمن والبقاء ‪ ،‬وينكبهم بمشاعر اله!!وان والمذلة والعبودية والعجز‬
‫أم!!ام ف!!رد واحد منهم ‪ ،‬وب!!ذلك ين!!تزع خص!!ائص فط!!رتهم وآدميتهم! ويح!!دث فيهم‬
‫‪1‬‬
‫أشنع مسخ وأبشع تشويه ‪ ،‬وينحط! بهم إلى ما هو أدنى من حياة الغاب "‬
‫والشعب الذي ينتزع منه حق الحياة " ال يستطيع أن يحتفظ لنفسه بشيء وراء هذا‬
‫الحق الم!!نزوع! ‪ ،‬فالش!!رف وال!!دين والكرامة والذمة والحرية والم!!روءة واألرض‬
‫والمسكن والملبس ولقمة العيش ‪،‬كلها أشياء أقل من الحياة ‪ ،‬الش!عب ال يملك ش!يئا‬
‫منها إال ما رضي له الطاغية أن يملك ‪ ،‬ف!!!!!دعك من التعليم والعالج وض!!!!!روب‬
‫اإلص!!الح ومط!!الب الحي!!اة الكث!!يرة ال!!تي تك!!افح من أجلها ش!!عوب األرض ‪ ،‬فتلك‬
‫‪2‬‬
‫تفاهات تافهة إلى جانب حق الحياة "‬
‫وفي! آخر الح!!ديث يع!!بر عن حيرته كيف يمكن للعدالة أن تخ!!ترع عقوبة تك!!افئ!‬
‫بشاعة ما فعله اإلمام وجسامته ‪ ،‬ثم ينتهي إلى قوله " وس!!وف! أت!!رك لك يا أبت!!اه يا‬
‫أمير المؤم!!نين مهمة العث!!ور على طريقة ناجحة للتعب!!ير عن العدالة ال!!تي ترضي!‬
‫‪3‬‬
‫هللا ورسوله وترضي! الشعب "‬
‫فاإلمام! علي الذي يرى أن رسالة اإلسالم ضد العصبيات القبلية والعائلية ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫"ولقد قاتلت أنا أهلي بالسيف ‪ ،‬وقاتلتهم! جنبا إلى جنب مع األوس والخزرج! ‪ ..‬أال‬
‫فاعلم أنكم أولى بي من أي ظالم يدعي االنتساب إلي ‪ ،‬فإنه ليس في االنتس!!اب إلي‬
‫أو إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شافع يش!!فع له ‪ ،‬بل إن فيه زي!!ادة في الحجة‬
‫ومض!!اعفة للمالمة والعقوبة ‪ ،‬ولو ك!!ان في االنتس!اب إلى األنبي!اء والص!!ديقين ما‬
‫يعصم من اإلثم أو من عقوبة اإلثم وع!!!اره وش!!!ناره لك!!!ان أبن!!!اء ن!!!بي هللا آدم في‬
‫‪4‬‬
‫عاصم أبدي من المعصية أو من عقابها "‬
‫وبعد نقاش طويل وج!!دل دار بين المنص!!ور! ال!!ذي أب!!دى اس!!تعداده في ال!!دفاع عن‬
‫الوشاح وبين اإلمام علي تخلص المحاكمة إلى ‪:‬‬
‫‪ )1‬حكم اإلمام علي بإسقاط شرعية الخالفة عن اإلمام ‪:‬‬
‫" إن الوشاح ياجناه ليس خليفة شرعيا ‪ ،‬وال حاكما شعبيا واليمثل سلطة دينية‬
‫وال دنيوية ‪ ،‬وإنما هو رجل اس!!!تولى! على أم!!!وال الش!!!عب بالحيلة والوراثة‬
‫المجرمة واإلره!!اب ‪ ،‬وس!!فك ال!!دماء ‪ ،‬وهو اليجمع ش!!روط الخالفة الدينية‬
‫والشروط! الحكم الحديث ‪ ،‬وهو ي!!رتكب الفض!!ائع والمنك!!رات! ‪ ،‬ويحمي! نفسه‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪،‬ص ‪236‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪238 ،‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪239‬‬
‫‪ 4‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪242‬‬

‫‪230‬‬
‫من الش!!عب بال!!دول األجنبية ‪ ،‬ويع!!رض البالد ألخط!!ار التحصى وإذا ك!!ان‬
‫يجني على الشعب كله بصفة عامة ‪ ،‬فهو يجني على آل البيت بصفة خاصة "‬
‫‪1‬‬

‫‪ )2‬إباحة الخروج والثورة عليه ‪:‬‬


‫" مثل هذا الحاكم اليعتبر! الخروج والتمرد والث!!ورة عليه جريمة وإنما يعت!!بر‬
‫أم!!را بمع!!روف ونهيا عن منكر ‪ ،‬وجه!!ادا في س!!بيل هللا ‪ ،‬ومثل ه!!ذا األمر‬
‫‪2‬‬
‫نهض به شهداء آل بيتي واستحقوا مكان القدسية عند هللا والناس "‬
‫ثانيا ‪ /‬التوجه إلى الشعب بتشكيالته العش!!ائرية والقبلية والمناطقية وتحريضه‬
‫على االنتفاض وض!!رورة القي!!ام بفعل رافض يتعهد تغي!!ير ه!!ذا ال!!ذي يج!!ري‬
‫على أرضه ‪.‬‬
‫وهو تحريض يتراوح ما بين أسلوب التلميح االستفزازي! الساخر الذي يت!!دنى‬
‫بإنسان هذه األرض وينحدر بمكانته حتى يبلغ بها مراتب تأنفها كرامته وتنفر‬
‫منها إنسانيته ‪ ،‬وأسلوب التصريح المباشر الذي يدفع دفعا نحو ضرورة القيام‬
‫بفعل يبرهن فيه على رفضه ‪.‬‬
‫فمجهوليته تجعل منه مخلوقا غريبا مش!!كوكا! في أم!!ره إذا ك!!ان من األجن!!اس‬
‫اآلدمية أم مخلوقا! من ن!!!!!!وع آخر ألفته التكوين!!!!!!ات األولى لألرض وتركته‬
‫كمتحف للنم!!اذج القديمة من مخلوق!!ات هللا ‪ ،3‬أم قد يك!!ون الحلقة المفق!!ودة في‬
‫‪4‬‬
‫دراسة الجنس البشري! أو غيره من األجناس‬
‫وخنوعه والمباالته تجعالنه أق!!رب إلى األم!!وات منه إلى األحي!!اء ‪ ،‬ف " كل‬
‫شعوب ا ألرض تحل مشاكلها في األرض وال تالحق شهداءها بالمتاعب إلى‬
‫الجنة ‪ ،‬ويب!!دو! على ه!!ذا أن أحي!!اء ش!!عبكم أشد موتا من األم!!وات " ‪ ، 5‬أو أن‬
‫الشهداء " قد يكونون أكثر حي!!اة من األحي!!اء ‪ ،‬وقد! يكون!!ون أق!!در على إيج!!اد‬
‫معجزة‪.6‬‬
‫وجبنه وتخليه وتراجعه ينح!!در بمقامه ليص!!بح أجبن من النس!!اء ‪ ،‬بل ويجعل التعويل على‬
‫مواقفها! أج!!دى من التعويل على رجاله ‪ ،‬يخ!!اطب الش!!هيد ( نعم!!ان ) ( حميد آل األحمر )‬
‫قائال ‪ " :‬فماذا فعلت معكم حاشد يا حميد ؟ إن!!ني أنص!!حكم أن التس!!تنجدوا! بالرج!!ال ‪ ،‬ف!!إن‬
‫بعض رج!!ال قب!!ائلكم ي!!بيعون أنفس!!هم وقب!!ائلهم! ورؤس!!اءهم وعه!!ودهم بال!!دراهم ‪ ،‬اترك!!وا‬
‫الرجال وابحثوا! عن امرأة واحدة مثل ( أم آل أبي دنيا ) "‪ "...‬إن في هذه الم!!رأة ع!!زاء لنا‬
‫‪7‬‬
‫عن كل الرجال "‬
‫وشهداؤه خجلون منه يتسترون وراء ( واق الواق ) حتى في الجنة ‪ ،‬ألن شعبهم لم يستطع‬
‫الوفاء بدينه ويرفع رؤوسهم بعمل مجيد‪.8‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪،‬ص ‪266‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪266‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪،‬ص‪37‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪38‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪66‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص ‪80‬‬
‫‪ 7‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪166‬‬
‫‪ 8‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪65‬‬

‫‪231‬‬
‫وسكوته عن قتل أبنائه ‪ ،‬وقبوله المساومة بدمائهم! ينحدر بهذا الشعب إلى مس!!توى‬
‫الحيوان ‪ ،‬يقول الشهيد ( نعمان ) ‪:‬‬
‫" لقد ذبح!!!ني الطاغية الكب!!!ير في أرض حاشد أو ق!!!ريب منها ‪ ،‬وقد! رأى الطاغية أنه لم‬
‫يتحرك لمصرعي رجل من رجاالت الشعب وال قبيلة من قبائله ‪ ،‬وأن أبناء الش!!عب تلق!!وا‬
‫خبر نهايتي كما تتلقى السائمة خبر مصرع واحدة منها ‪ ،‬إنه موقف واح!!د‪ ،‬موقف! الش!!عب‬
‫وموقف الس!!!ائمة ‪ ..‬بل قد يك!!!ون األمر أس!!!وأ من ذلك فالس!!!وائم ت!!!ذبح لبالهتها فقط ‪ ،‬أما‬
‫اآلدميون في بالدنا فإنهم! يذبحون ألنهم منافقون وأنانيون وألنهم بله ومجانين ‪ ،‬لو أنكرت‬
‫هم!!دان في ذلك الحين البعيد مص!!رعي ‪ ،‬بل لو س!!ألت عن الس!!بب وط!!البت ببين!!ات الحكم‬
‫وحيثياته وأدلته لت!!وقفت يد الج!!زار عن ال!!ذبح ‪..‬ولت!!بين للج!!زار أنه ال يملك قطعانا من‬
‫الش!!!ياه ‪ ،‬وإنما يحكم ش!!!عبا من األح!!!رار ‪ ،‬ولو ح!!!دث ذلك ما قتل حميد وال وال!!!ده وال‬
‫عبداللطيف وال غيرهم ‪ ،‬أال ترون بعد ه!!ذا أن حمي!!دا قتل ي!!وم قتلت ؟ إن الش!!عب بس!!كوته‬
‫عن قتل واحد من بنيه إنما يع!!ني بموقفه ه!!ذا أنه قد أقر مب!!دأ اإلباحية لل!!دماء ومنح الح!!اكم‬
‫حق الذبح لمن يشاء ومتى يش!!اء ‪ ..‬وه!!ذا يع!!ني ب!!الطبع أن الش!!عب قد ص!!بغ نفسه بص!!بغة‬
‫الماشية متجنس بجنسيتها! ورضي أن يكون له مصير كمصيرها وبالهة كبالهتها وأص!!بح‬
‫‪1‬‬
‫لسان حال كل فرد من أبنائه يقول للحاكم الجزار ‪ :‬إن لك الحق أن تذبحني! متى شئت "‬
‫وأما انقسامه واختالفه وتن!!احره إلى فئ!!ات وطوائف تجاوبا مع دع!!اوى زائفة من المذهبية‬
‫أو الساللية أو غيرها ‪ ،‬فيجعله يتدنى بعقله إلى أدنى من عقول الحش!!رات ‪ " :‬إن الحج!!ارة‬
‫الصماء في بالدكم والتراب والنبات والحيوانات أهدى منكم وأدنى إلى الرشد والحق فإنها‬
‫كلها تنطق بالوحدة وتذعن لناموسها وسلطانها ‪ ،‬فال توجد في أرضكم! حجرة يقال لها إنها‬
‫زيدية أو ش!!!افعية ‪ ،‬كما ال توجد حش!!!رة تقبل أن تنتمي أو تتعصب لإلم!!!ام زيد أو لإلم!!!ام‬
‫‪2‬‬
‫الشافعي! "‬
‫ويتخذ! التحريض باألسلوب المباشر والص!!ريح ص!!ورا! مختلفة كمخاطبة كل قبيلة ب!!أخص‬
‫ص!!فة ل!!ديها ‪ ،‬أو اس!!تنهاض قيم النخ!!وة والش!!هامة فيها ‪ ،‬أو مالها من م!!آثر تفتخر بها بين‬
‫القبائل ‪ ،‬أو مخاطبتها بلس!!ان أحد أبنائها ال!!ذي ق!!دمتهم ش!!هداء في س!!بيل الحرية ‪ ،‬يخ!!اطب‬
‫أهل رداع فيقول ‪ " :‬يا أهل رداع لقد أصبحتم! قوة شريفة رهيبة من قوى التحرر ‪ ،‬فما لكم‬
‫وجمتم! واستسلمتم والدنيا تغلي من حولكم ‪..‬؟ ألم تكون!!وا! أنتم من ع!!والم اليقظة وال!!وعي "‬
‫‪ ،3‬ويخاطب أهل الحجرية فيقول ‪ " :‬يا أحرار الحجرية ‪ .‬لقد كنتم أنتم وما تزالون المشعل‬
‫األول للحرية واألح!!رار‪ !،‬في أحض!!انكم ول!!دت القض!!ية ‪ ،‬وعلى أكت!!افكم! ق!!امت دعائمها ‪،‬‬
‫وبعد ربع قرن من كف!!احكم وجه!!ادكم! وس!!هركم! المتصل تج!دون الثم!!رة يانعة ‪ ،‬واألس!!لحة‬
‫‪4‬‬
‫قاطعة واألضواء ساطعة فإذا بكم تتمطون وتذهبون إلى مضاجعكم! "‬
‫ويخاطب! أهل البيضاء ‪ ،‬قائال ‪ " :‬يا رجال البيضاء لقد عرف الكثيرون منكم بالد الع!!الم ‪،‬‬
‫وعرف!وا! كيف تعيش األمم ‪ ،‬فعليكم مس!ؤولية ك!برى نحو إخ!وانهم! في ق!بيلتهم وفي غيرها‬
‫من القبائل ‪ ،‬عار عليكم أن يتح!!رك الج!!يران وأنتم ني!!ام ‪ ،‬وأن يكبل إخ!!وانكم ب!!القيود وأنتم‬
‫‪ 1‬المرجع نفسة ‪ ،‬ص‪156 ،157‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪،‬ص‪122‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪222‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪223‬‬

‫‪232‬‬
‫طلقاء أحرار ‪ ،‬إنكم معروفون بأنكم متضامنون متحدون ومتع!!اونون أينما حللتم ‪ ،‬ولكن ال‬
‫يكفي أن تتع!!اونوا فيما بينكم فقط ‪ ،‬بل عليكم أن تض!!عوا! أي!!ديكم في أي!!ادي القبائل األخ!!رى‬
‫‪1‬‬
‫وأن تكونوا يدا واحدة في خدمة الشعب وإنقاذ الوطن مما يعانيه "‬
‫ويذكر! أهل بالد الرصاص بمقتلة شيخهم ( حس!!ين الرص!!اص ) غيلة وغ!!درا ‪ ،‬فيق!!ول ‪" :‬‬
‫أنتم تعرف!!ون كيف غ!!در به الغ!!ادرون ووض!!عوه في الس!!جن بعد أن اطم!!أن إليهم ووثق!‬
‫بعه!!ودهم وم!!واثيقهم ‪ ،‬إن العص!!افير والغرب!!ان تالحق من يأخذ واح!!دا منهم وقد تقاتله‬
‫بأجنحتها! ومناقيرها! بق!!در ما تس!!تطيع! ‪ ،‬أ فيأخذ الطاغية الغ!!ادر رئيس!!كم العظيم البطل وال‬
‫‪2‬‬
‫ينبض فيكم عرق وال يتحرك فيكم رجل "‬
‫ويخاطب! مراد بلسان الشهيد ( أحمد القردعي ) فيقول ‪ " :‬يا قبيلة م!!راد يا أس!!ود المش!!رق!‬
‫أنتم تعرف!!ون ب!!راءتي من كل ذنب ومع ذلك اعت!!دى الظ!!الم الطاغية علي وحبس!!ني س!!بع‬
‫سنوات ولم يكفه حبسي ‪ ،‬فطلب أوالدي! وحبسهم! ثم أمر زبانيته فقتلوني غدرا بالرص!!اص‬
‫‪3‬‬
‫‪ ،‬وكان المصحف! في يدي ‪ ،‬كنت أسيرا واألسير! اليقتله اليهود وال النصارى! "‬
‫اإلنسان الحر ال يقبل العبودية ‪ ،‬و " األحرار! هم الجماعة الذين يرفض!!ون أن يكون!!وا عبي!!دا‬
‫أو يسلكون مس!!لك العبيد ‪ ،‬فيتم!!ردون على الظ!!المين ويعارض!!ونهم وينتق!!دونهم وي!!أمرونهم!‬
‫بالمعروف وينه!!ونهم! عن المنكر " ‪ ،4‬وهو ال يب!!ايع وثنا يعتقد ب!!أن الس!!ماء تفض!!لت به عليه‬
‫وأن بركاته من بركات السماء وأن حكمه مفروض باسم الحق اإللهي وأنه يقرب شعبه الذي‬
‫ي!!زداد ارت!!دادا إلى عه!!ود العبودية زلفة إلى هللا " ‪ ، 5‬وإنما يتم!!رد عليه ويقاومه " باأللس!!نة‬
‫واألقالم! وبواسطة التنظيم! والتجمع للقوى الشريفة في كل طبقات الش!!عب وفئاته ف!!إن لم يجد‬
‫ه!!ذا فإنه يوجد فيهم أحيانا من يس!!تخدم! العنف عند الض!!رورة القص!!وى وعلى مس!!ؤوليته‬
‫‪6‬‬
‫الخاصة الفردية "‬
‫والحر يفضل الموت على االستسالم! لهذا الطاغية ‪ ،‬وهذا القردعي يق!!ول‪ ":‬لم تعرف!!وني في‬
‫حياتكم الدنيا إل مشردا أو سجينا تنصب لعن!!ات الطاغية وأذنابه على رأسي ‪ ،‬ولك!!ني عشت‬
‫حياتي كلها شريفا حرا أبيا لم أساوم! ولم أضعف ولم أسلم نفسي إلى يد الطغيان يتالعبون به‬
‫‪7‬‬
‫وفض!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!لت! أن أم!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!وت في المعرك!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!ة"‬
‫‪ .‬وأما القبائل التي تخاذلت عن نصرة األح!!رار وجبنت ‪ ،‬فإنها التس!!تحق إال التع!!ريض وأن‬
‫يخلد ذكرها بعارها أبد الدهر ‪ ،‬ومن هنا ج!اءت فك!رة تلك المق!برة الفنية الهادفة والمص!ممة‬
‫في الجنة من قبل الشهيد الفنان أحمد حسن الحورش ‪ ،‬وهي مقبرة يص!!رح الك!!اتب باله!!دف‬
‫من ورائها فيقول ‪ " :‬والهدف من وراء هذه الفكرة هو إبراز صورة ميتة عن الش!!عب ال!!ذي‬
‫أسلمه للطغاة يذبحونه في حجة " ‪ ، 8‬فيأتي أوال قبر صنعاء ‪ ،‬وقد! وقف عليه الشهيد العالمة‬
‫الكبير السيد حسين الكبسي ‪ ،‬وسمعوه يقول ‪ " :‬يرحمك هللا يا عاصمتنا الفقيدة الشهيدة ‪ ،‬لقد‬

‫‪ 1‬المرجع نفسة ‪222 ،‬‬


‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪221‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪220‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪200‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص‪157،156‬‬
‫‪ 6‬نفسه‪112 ،‬‬
‫‪ 7‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص ‪163‬‬
‫‪ 8‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪200‬‬

‫‪233‬‬
‫حررناك! من كابوس الطغيان وأردنا! لك السعادة والرفاهية واالزدهار! ‪ ،‬وجعلناك! مقرا ألول‬
‫دس!!تور في جزي!!رة الع!!رب‪ ،‬وأول حكومة دس!!تورية فيها ‪ ،‬وك!!ان عن!!دك الطع!!ام واألم!!وال!‬
‫واألسلحة والحرية والدستور! وشرف! البعث واالنطالق! ومولد! النور ومشرق! الحياة ‪ ،‬وك!!ان‬
‫أهلك يستطيعون ال!!دفاع عنك من بي!!وتهم! ال باألس!!لحة ال!!تي وزعناها فحسب بل وبالحج!!ارة‬
‫والعصي! ‪ ،‬ولكنك كنت عمي!!اء ال تبص!!رين ال تس!!معين ش!!يئا وال تتح!!ركين ‪ ،‬وك!!ان أهلك‬
‫‪1‬‬
‫متفرقين مشتتين ال يجتمع لهم رأي وال هوى "‬
‫ثم يبين كيف كان يمكن لصنعاء أن تصبح لو أنها دعمت وآزرت ثورة الدستور! ‪ ":‬لقد‬
‫مر عليك منذ تركن!!اك! زه!!اء اثنا عشر عاما ‪ ،‬فلو عاشت حكومة الدس!!تور لك ه!!ذه األع!!وام‬
‫النتش!!رت فيك عش!!رات من الم!!دارس الحديثة والمص!!انع والص!!ناعات والمكتب!!ات واألندية‬
‫األدبية والرياضية والمؤسسات االجتماعية ‪ ،‬وربما! بنيت لك خالل هذه الفترة جامعة ولكان‬
‫كث!!ير من ش!!باب جيلك ال!!راهن في الجامع!!ات أو المص!!انع أو المعاهد ولكنت الي!!وم مق!!را‬
‫للهيئ!!ات العربية والعالمية ‪ ،‬وال نعق!!دت فيك دورات الجامعة العربية والهيئ!!ات التابعة لها ‪،‬‬
‫وألقبل! عليك الس!ياح من أنح!اء الع!الم وأص!بحت من أش!هر المص!ايف العالمية ‪ ،‬ولكن أنت‬
‫اآلن ما أنت ‪..‬؟ أال تخجلين ‪..‬؟ إنه ال توجد فيك مدرسة ابتدائية أو ثانوية ب!!المعنى الص!!حيح‬
‫يا ص!!نعاء ‪..‬إنما يحكمك اآلن وح!!وش من الس!!جانين والمرتش!!ين واللص!!وص! رغما عنك ‪،‬‬
‫ولو كانت بقيت لك حكومة الدستور لكنت أنت وس!ائر! الم!!دن تنتخ!!بين الحك!ام والم!وظفين ‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ولكنت أنت التي تديرين شؤونك! بنفسك "‬
‫ويتوجه على علمائها فيقول ‪ " :‬أيها العلماء التعساء ‪ ..‬أين أمركم بالمعروف ونهيكم عن‬
‫المنكر ‪ ،‬أين مب!!دأ الخ!!روج على الظ!!المين ؟ من ق!!ال لكم أن ه!!ذا ال!!ذي تخافونه وترهبونه‬
‫مس!!تخلف! من عند هللا ‪ ..‬من ال!!ذي اس!!تخلفه عليكم غ!!ير النهب واإلره!!اب والقي!!ود وإباحة‬
‫األعراض واألموال والدماء ‪ ،‬من الذي بايعه غير الرعب والخوف! وقطع! الرؤوس! ؟ الشك‬
‫أنه دنس قدس!!!ية األمانة واغتصب مكانها الرفيع ‪ ..‬أليس له أن يقيم فيها ولو يوما واح!!!دا ‪..‬‬
‫كيف ينطلي عليكم أيها العلماء أن األحرار األبرار بغ!!اة ؟ إذن فقول!!وا على الحس!!ين بن علي‬
‫أنه من البغاة ألنه خرج على يزيد ‪ ،‬وقولوا! على يزيد بن علي أنه من البغاة ألنه خ!!رج على‬
‫‪3‬‬
‫هشام بن عبدالملك "‬
‫ثم تأتي مقبرة آل شرف الدين والشهيد! محمد بن عبدالقادر واقف! عليها ‪ ،‬وقد استغرق‬
‫يقول موبخا ‪ " :‬أيتها األسر التي تأكل من دماء ذويها‪ ..‬اخجلي وليتمزق! أديم الوج!!وه‬
‫من الحياء والندم! ! البأس أن تعيشي ولكن البأس كل البأس والعار كل العار أن يجبن‬
‫الرجال ‪ ،‬ويعجزوا! عن كل عمل ونضال! وتعب!ير! عن الس!خط والوف!اء! الص!ادق! ‪ ،‬فال‬
‫يع!!!بروا! عن وج!!!ودهم إال بأخذ المرتب!!!ات أو الخض!!!وع! ال!!!ذليل المهين مجانا بحجة‬
‫‪4‬‬
‫الخوف من البطش وهو عذر أقبح من ذنب "‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪193‬‬


‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪213‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص ‪214‬‬
‫‪ 4‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪215،214‬‬

‫‪234‬‬
‫ثم قبر آل العمري ال!!ذي وقف! عليه حس!!ين بن علي عالمة ص!!نعاء ص!!امتا يش!!ير إلى‬
‫عب!!ارة مكتوبة على ه!!ذا الق!!بر مختومة بعب!!ارة ملخصة " ال يل!!دغ الم!!ؤمن من جحر‬
‫‪1‬‬
‫مرتين "‬
‫ثم قبر آل زبارة ‪ ،‬فق!!بر ش!!هارة ‪ ،‬فق!!بر الجبلي ‪ ،‬وق!!بر الوش!!اح األك!!بر ‪ ،‬وق!!بر يح!!يى‬
‫النه!!اري! وق!!بر م!!راد وق!!بر! بالد الرص!!اص ‪ ،‬وق!!بر البيض!!اء ‪ ،‬وق!!بر! رداع ‪ ،‬وق!!بر!‬
‫الحجرية ‪ ،‬وكل يعير بنقيصته ويستفز! بما أذهب من كرامته ‪.‬‬
‫وهن!!اك مواقف أخ!!رى لقبائل خ!!ذلت بنيها منها موقف! أش!!راف الج!!وف المخجل حين‬
‫لجأ إليهم الشهيد (حميد آل األحمر ) ‪ ،‬معتقدا بأنهم أشراف أوفياء وأنهم س!!يقاتلون في‬
‫س!!بيل ال!!دفاع عن كلمتهم ووجههم وذمتهم ‪ ،‬وقد أعط!!وه العهد ب!!أن لن يناله س!!وء وال‬
‫مكروه ‪ ،‬ف " كيف يغدر العربي بمن لجأ إليه ‪ ،‬وإن كان األشراف! مخدوعين مثلي ‪،‬‬
‫وكان الطغيان خدعهم ونكث بعهده معهم ‪ ،‬وأخزى! وج!!وههم! فعليهم! حينئذ أن يأخ!!ذوا‬
‫من الطاغية حقهم وحقي ‪ ،‬وأن ينتص!!فوا لي وألنفس!!هم ‪ ،‬وأن يكون!!وا! ي!!دا واح!!دة مع‬
‫‪2‬‬
‫حاشد وبكيل وخوالن ونهم ومراد والزرانيق! والحجرية وإب "‬
‫وهذا الشريف! الضميم يع!!بر عن خجله مما فعلته قبيلته ‪ " :‬إن الع!!رب ال يقبل!!ون ه!!ذا‬
‫على أنفسهم ‪ ،‬ولو كان الذي لجأ إليهم ألد أعدائهم ‪ ،‬أيخاف األشراف! من هذا الطاغية‬
‫الذي يحكمهم ‪ ،‬وما قيمته وأهميته وخطره ؟ إنه ش!!بح مسن ‪ ،‬وس!!يزول! قريبا! وي!!زول‬
‫عرشه ‪ ،‬ويبقى األش!!!راف وسط بحر من القبائل ال!!!تي البد أن تك!!!رههم! وتحقد عليهم‬
‫بس!!!بب ه!!!ذا الح!!!ادث ‪ ،‬إن الطاغية ف!!!رد زائل ‪ ،‬أما حاشد فهي خال!!!دة باقية ‪ ،‬وعلى‬
‫األشراف أن يصفوا حسابهم مع الطاغية الذي سود وجوههم ‪ ،‬وإال فالويل! لهم والعار!‬
‫‪3‬‬
‫"‬
‫ولكن ال!!!وقت لم يفت والفرصة الت!!!زال س!!!انحة فمن أيد الحق " ورفع راية العروبة‬
‫واإلسالم إلى أقطار المعم!!ورة غ!!ير القبائل ‪ ،‬إنهم الفئة ال!!تي تعمل لوجه هللا ‪ ،‬وتب!!ذل‬
‫أرواحها وأعمارها ‪ ،‬وتقيم الممالك وتحمل أعباء المعارك ‪ ،‬وتس!!كب كل دم جديد في‬
‫‪4‬‬
‫عروق المجتمع المتحضر! كلما شاخ وأصابه الهرم "‬
‫وخ!!!والن ال!!!تي قتل الش!!!هيد الق!!!ردعي على أرض!!!ها! نهضت اآلن ووقفت في وجه‬
‫الطغيان ‪ ،‬وتمردت وكانت هذه أول مرة " تس!!تطيع! قبيلة أن ت!!رفض األوامر! وت!!دافع‬
‫عن نفسها الدفاع المش!روع ‪ ،‬ال!دفاع ال!ذي تقدسه كل الش!رائع والق!وانين ‪ ،‬وما دامت‬
‫‪5‬‬
‫خوالن قد استطاعت أن تفعل ذلك فتستطيعه قبائل أخرى ما من ذلك بد "‬
‫ومراد يمكنها أن تفعل ما فعلته خوالن ‪ ،‬يخاطبها العزي محمود! قائال " إن من الع!!ار‬
‫أن تتح!!رك خ!!والن وأنتم ني!!ام ‪ ،‬ض!!عوا أي!!ديكم في يد الش!!رفاء من مش!!ايخ خ!!والن‬
‫وطه!!!روا المش!!!رق! من الظلم ومن الخيانة والخونة قياما ب!!!واجب األمر ب!!!المعروف‬
‫‪6‬‬
‫والنهي عن المنكر "‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪،‬ص‪216‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪216‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪218‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪205 ،‬‬
‫‪ 5‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪208‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪206‬‬

‫‪235‬‬
‫وأشراف الج!!وف يمكنهم أن يح!!ذوا ح!!ذو خ!!والن " وهل يعجز األش!!راف أن يقوم!!وا‬
‫بهذا الدور وهذا ال!!واجب متع!!اونين مع القبائل األخ!!رى ؟ وإن أقل م!!ايطلب منهم أن‬
‫يثبتوا آدميتهم! ووجودهم! بالمطالبة بحق الحياة والوقوف في وجه الجزار كلما أراد أن‬
‫يذبح آدميا " ‪ ، 1‬فال بقاء في الحقيقة لمن يخاف ويجبن " إذا كان هن!!اك حيف فث!!وروا!‬
‫عليه ‪ ،‬وإذا كان هناك أصنام حاكمة باسم الم!!ذهب فحطموها! ‪ ،‬أما أن تمزق!!وا! أنفس!!كم‬
‫‪2‬‬
‫فهذا هو الغباء الذي ما بعده غباء "‬
‫والبد من توحيد الصف لمواجهة الطاغية ال!!ذي " اس!!تطاع! بمف!!رده أن يجعل الش!!عب‬
‫عاجزا عن التجمع حول قيادة قوية تقف ضده ‪ ،‬وإذا كانت تلك هي المعض!!لة الرئيسة‬
‫‪ ،‬فإن مهمتنا المقدسة أن نبحث للشعب عن طريقة أو حيلة أو معج!!زة يس!!تطيع بها أن‬
‫يلتف حول قيادة ما ‪ ،‬وتتجمع قواه في سبيل الخالص من الوضع الخ!!انق ال!!ذي يعيش‬
‫فيه " ‪ ، 3‬ف " أين هذا الشعب الذي يحكمه الوشاح ‪ ،‬أين علم!!اؤه وأين أذكي!!اؤه ‪ ،‬أين‬
‫رؤساؤه ؟ كيف ي!تركون ه!ذا الطاغية يس!تبيح ال!!دماء الغالية الخط!!يرة بم!بررات من‬
‫هذا الس!!خف وه!!ذا اله!!راء ‪ ،‬أليس في الش!!عب كله من يضع ح!!دا له!!ذه الم!!ذابح وه!!ذه‬
‫المه!!!ازل " ‪ ،4‬لينتهي األمر في آخر العمل إلى عهد ش!!!رف يجمع عليه الص!!!ديقون‬
‫والش!!هداء ‪ ،‬ك!!ان من أهم بن!!وده ‪ " :‬إلغ!!اء نظ!!ام اإلمامة حرصا على اس!!تبداله بنظ!!ام!‬
‫يمثل الش!!!عب على أسس ديمقراطية س!!!لمية ويطمئن المواط!!!نين في المن!!!اطق العليا‬
‫والس!!فلى وفي! الج!!زء المحتل والمعتل إلى العيش على ق!!دم المس!!اواة الكاملة في ظل‬
‫وح!!دة ش!!املة كما يطمئن المواط!!نين إلى إمك!!ان الس!!ير في طريق! الوح!!دة العربية‬
‫‪5‬‬
‫وتحقيق خطواتها! األولى في االنضمام! إلى الجمهورية العربية المتحدة "‬
‫وعلى ه!!ذه الغاية من إث!!ارة ال!!وعي بض!!رورة قي!!ام الفعل ال!!رافض تش!!كلت ع!!دد من‬
‫األعمال القصصية ال!!تي تح!ركت تجاربها في معض!!مها خالل الموض!!وع! السياسي! ‪،‬‬
‫من ذلك ‪:‬‬
‫قصة ( أنت شيوعي ) التي تعلن تجربتها! عن هذه الغاية صراحة ‪ ،‬من خالل بدايتها‬
‫ال!!تي تعلن تأييد التغي!!ير الحاصل في مصر بفعل الث!!ورة ‪ ،‬وال!!تي تث!!ير خالل س!!ياقها‬
‫تساؤالت عمن هو المس!!ؤول! عن األوض!!اع المتردية في اليمن ‪ ،‬لتنتهي إلى اإلش!!ارة‬
‫بأصابع االتهام إلى طبيعة النظام القائم الذي الترى أمال في إمكان إص!!الحه ‪ ،‬وت!!رى‬
‫أن الث!!ورة ص!!ارت ض!!رورية " لن يص!!لحوا ‪ ،‬إنهم بحاجة ماسة إلى تكليف الش!!عب‬
‫باتخاذ وسائل أخرى تطردهم! وتعزلهم بعي!!دا عن محيط السياسة في اليمن ‪ ...‬نعم ! !‬
‫‪6‬‬
‫"‬
‫وفي قصة ( الغ!!ول ) تتجسد ه!!ذه الغاية في موقف هند ال!!تي تج!!رأت على اقتح!!ام‬
‫مكمن الغول الذي أخاف أهالي القرية وبث في نفوسهم الرعب ‪ " :‬فلم تفكرهند كثيرا‬
‫‪ ،‬ووجدت نفسها دون أن تدري أمام باب المغارة ‪ ،‬إن القوة العجيبة ال!!تي تس!!تطيع أن‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪221‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪209‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪،‬ص ‪112‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪80،79‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪269 ،‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪281 ،‬‬

‫‪236‬‬
‫تعبر عنها بكلماتها البسيطة قد دفعت بهند تلك الم!!رأة المحطمة الض!!عيفة الفق!!يرة إلى‬
‫ب!!اب من س!!يطر خوفه على قل!!وب رج!!ال قريتنا " ‪ ،1‬بل ومواجهته والتص!!دي! له في‬
‫معركة انتهت بقتله ‪ ،‬نس!!معها تعلن في وجهه ‪ " :‬إنك لست س!!وى مخل!!وق! تافه ص!!نع‬
‫اآلخرون أسطورتك فصدقتها أنت ‪ ،‬وصدقها األغبياء في القرية ‪ ،‬إن!!ني س!!آخذ قلبك‬
‫س!!واء أتركت!!ني به!!دوء أم ال ‪ ،‬إني مس!!تعدة آلخذ ما أريد ب!!القوة ‪ ..‬هجم الغ!!ول وكله‬
‫‪2‬‬
‫خوف ‪ ،‬وقتلته هند وفي عيونها روعة اإلنسان في قمة شجاعته "‬
‫وفي قصة ( الحاج سيف )‪ 3‬تتشكل هذه الغاية في موقف! ساع بس!!يط ي!!رفض إغ!!راء‬
‫وظيفة جدي!!دة تع!!رض عليه بعد أن أعيته الحيلة في الحص!!ول على وظيفة إثر ط!!رده‬
‫من عمله في إح!!دى الش!!ركات ‪ ،‬ذاك أنه اكتشف أن الع!!رض الجديد إنما أريد به شق‬
‫صفوف العمال المضربين ‪.‬‬
‫وفي قصة ( الن!!!اب األزرق ) تتحقق ه!!!ذه الغاية من خالل موقف! ( الح!!!اج س!!!يف )‬
‫ال!!ذي تح!!دى ذاته ‪ ،‬وانتصر! على خوفه وت!!ردده ‪ ،‬وتج!!اوز عادته من الخ!!وض في‬
‫أحاديث فارغه خالل جلسات المقيل المتك!!ررة ‪ ،‬واتخذ ق!!راره باالنض!!مام! الى الث!!وار‬
‫الم!!دافعين عن الجمهورية في جب!!ال الش!!مال واالنخ!!راط! في ص!!فوفهم ‪ ،‬وحينما أخذ‬
‫الجن!!دي المكلف ين!!ادي بأس!!ماء المتط!!وعين ‪ ،‬ولم يكن اسم الح!!اج س!!عيد بين ه!!ذه‬
‫االسماء ‪ ،‬ذاك أنه لم يذهب لتسجيل اس!!مه ل!!دى الهيئة الوطنية ‪ -‬كما فعل االخ!!رون ‪-‬‬
‫بل اعترض طريق السيارة التي تحملهم ‪ ،‬ووقف لها كالج!!دار‪ ،‬وان!!دس مع من فيها "‬
‫اتجهت األنظار إلى الحاج سعيد ‪ ،‬وعلت الوجوه عالمات االستفهام ‪ ،‬وتق!!دم الجن!!دي‬
‫بضع خط!!وات إلى الس!!يارة وس!!أله عن س!!بب مجيئه ‪ ..‬وعن ع!!دم تس!!جيل اس!!مه‬
‫كاآلخرين ‪ ،‬ولكن الحاج سعيد لم يجر جوابا ألن المتاعب الجسمية والنفسية والفكرية‬
‫قد أحالته إلى صنم متحرك ‪ ..‬ولكن الجندي أبلغه أسفه لع!!دم القب!!ول ‪ ..‬وأمر الس!!يارة‬
‫بإعادته إلى المدينة‪ ..‬كيف يع!!ود ؟ وم!!اذا س!!يقولون عنه ؟ ه!!رب من المعركة ؟ جبن‬
‫عن النض!!ال ؟ وكيف! يقنع ض!!ميره باألع!!ذار ؟ اس!!ئلة كث!!يرة م!!رت بذهنه كش!!ريط!‬
‫س!!!ينمائي! درامي ‪ ..‬ولم يش!!!عر إال وهو يص!!!رخ في وجه الجن!!!دي ك!!!المجنون ‪ -:‬ال‬
‫تستطيع أن تمنعني أنت أو أي قوة أخ!!رى مهما عظم ش!!أنها من أداء واج!!بي المق!!دس‬
‫‪4‬‬
‫نحو بلدي ‪ ،‬فليذهب العرف والتقاليد والقوانين إلى الجحيم "‬
‫وفي قصه (حس!!اب الش!!عب) تأخذ ه!!ذه الغاية وجهة جماعية ‪ ،‬حين تت!!آزر! جم!!وع‬
‫الش!!عب ‪ ،‬وتعقد عزمها على إس!!قاط الن!!ائب المنتخب الن!!اكث بعه!!ده ‪ ،‬المخيب آلم!!ال‬
‫منتخبيه المس!!تغل لثقتهم كي يصل إلى مآربه الخاصة ‪ ،‬وفيها! نق!!رأ ‪ " :‬وب!!دأت بعض‬
‫الصحف الحرة تهاجمه وتنتقده انتقادا مرا ‪ ،‬وساد التذمر الس!!خط كل طبق!!ات الش!!عب‬
‫‪ ..‬وقرب موعد االنتخابات بعد خمس سنوات من توليه منصبه ‪ ..‬وعدل عن ترش!!يح‬
‫نفسه في ب!!!ادئ األمر ‪ ،‬ولكنه وافق! عن!!!دما س!!!مع سماس!!!رته وأذنابه المق!!!ربين إليه‬
‫يزعم!!!ون أنه لم ي!!!زل يتمتع بحب الش!!!عب وعطفه وثقته وص!!!دق! زمالئه مصاصي!‬
‫‪ 1‬محمد محمود الزبيري ( مأساة واق الواق ) مرجع سابق ‪،‬ص‪22،21‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪206‬‬
‫‪ 3‬صالح عبده دحان ( انت شيوعي ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪20‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبد الولى (االرض ياسلمى) دار االداب ‪ /‬بيروت ‪1966،‬م ‪،‬ص‪17‬‬

‫‪237‬‬
‫الدماء ‪ ،‬وخاصه عندما رأى أكداس الذهب بين يديه والعمارات! الشاهقة أم!!ام عينيه ‪،‬‬
‫وأخذ كعادته ينثر نقوده هنا وهناك لغرض الدعاية ‪ ..‬وظن أن الشعب ستغريه النق!!ود‬
‫وما درى أنه أعد العدة لليوم المنشود! ‪ ،‬وعند فرز! األص!!وات أغمي عليه عن!!دما رأى‬
‫أن اس!مه في الم!ؤخرة بين الفاش!لين‪ ،‬وخ!رج يجر أذي!ال الهزيمة بينما أف!راد الش!عب‬
‫يالحقونه بالشماتة فجرى إلى سيارته وسط! الجم!!وع بعنف وغيظ وأخذ ب!!وق س!!يارته‬
‫‪1‬‬
‫يلعلع بشده ‪ ،‬وضغط على محرك السيارة لعل أصوات الشماتة ال تصل إلى أذنه‬
‫وفي قصه ( ال!!!بيت الس!!!عيد ) تتجلى ه!!!ذه الغاية في تلك االنتفاضة الجماعية ال!!!تي‬
‫حركها ( العم س!!عيد ) واحتشد! إليها جميع الم!!وظفين ح!!تى نجح!!وا بتك!!اتفهم ووح!!دة‬
‫مواقفهم بطرد ذلك المدير المستبد ‪ ،‬الذي أقلق هدوء القرية وسلب العم س!!عيد س!!عادته‬
‫وحول حياه أسرته إلى جحيم ‪ ،‬فبعد أن فقد العم سعيد طفله األول بسبب س!!لبه مس!!كنه‬
‫ولجوئه إلى مسكن غير مالئم ‪ ،‬وبعد أن عنت نذر تشير إلى إمكان فق!!ده طفله اآلخر‬
‫‪،‬وجد أنه البد له من القي!!ام بفعل لمواجهة ه!!ذا الظلم الواقع عليه ‪ ،‬وهنا خ!!رج متجها‬
‫الى مكتب الم!!!دير " وأم!!!ام مكتب الم!!!دير تهالك على أول كرسي! ص!!!ادفه أمامه ‪..‬‬
‫وتجمع زمالؤه حوله وقد راعهم منظره ‪ ..‬فرفع عينيه إلى وجوههم! وقال بألم ‪:‬‬
‫‪ -‬طفلي ناصر مريض ‪ ..‬تركته في البيت يعترك مع الحمى ‪ ..‬هل يرضيكم هذا ؟‬
‫وجال ببصرة في الوجوه المحيطة به ‪ ..‬فقرأ وقع كالمه في عيونهم ‪ ..‬كان التج!!اوب‬
‫معه كامال ‪ ..‬ثم حول بص!!رة إلى مكتب الم!!دير ‪ ،‬فنهض مس!!رعا وتن!!اول قض!!يبا! من‬
‫الحديد وجرى! إلى الباب ورفسه بقسوة ‪ ،‬و انفتح الباب وظهر! المدير خلف مكتبه وقد!‬
‫ارتس!!!مت في ح!!!دقتي عينيه حركة المباغتة وانقلبت ه!!!ذه الحركة إلى خ!!!وف يهز‬
‫أعماقه وهو ي!!رى العم س!!عيد أمامه ممس!!كا بالقض!!يب وقد ت!!وارت من وجهه س!!يما‬
‫الوداعة ‪ ،‬وأس!!قط بص!!رة خلف العم س!!عيد ‪ ،‬ف!!رأى! غرفة مكتبه تض!!يق ب!!الموظفين‬
‫الذين احتشدوا! حاملين العصي والحجارة وعيونهم! تكاد تثقب وجهه ‪ ،‬وش!!عر الم!!دير‬
‫بالخوف واالرتباك! يسريان في جس!!ده ‪ ،‬فل!!زم! الص!!مت برهة وم!!رت لحظ!!ات طويله‬
‫عليه كأنها دهر ح!!اول أثناءها أن ي!!زاول دبلوماس!!يته كالع!!ادة ‪ ،‬فتس!!اءل وهو يكسو‬
‫صوته بهدوء ‪ - :‬ماذا جرى ؟‬
‫ولم يجد جوابا بل أن لغة العيون كانت ص!اخبه وتك!اد! تخ!رق طبل!تي أذنيه فع!اد م!رة‬
‫أخرى يتساءل ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا جرى ؟ اذا كانت القضية تتعلق بمش!!كله ال!!بيت فها هو المفت!!اح ؟ وأخ!!رج مفتاحا‬
‫من جيبه ووض!!!عه على المكتب أمامه ولم يلتقطه أحد أو ي!!!رد على كالمه ‪ ..‬وش!!!عر‬
‫باالرتباك يتضخم في نفسه ‪ ..‬وبأن أنفاسه تك!!اد تخنقه ‪ ..‬فوجه كالمه ه!!ذه الم!!رة إلى‬
‫العم سعيد وقال بهدوء مصطنع! ‪:‬‬
‫‪ -‬خذ مفت!!اح بيتك يا عم س!!عيد وانص!!رف! من مكت!!بي أنت وزمالءك وهنا تح!!رك العم‬
‫س!!عيد خط!!وتين تج!!اه المكتب ‪ ،‬ثم رفع القض!!يب وخبط به خبطه قويه ف!!وق! المكتب‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪،‬ص‪17‬‬

‫‪238‬‬
‫تن!!اثرت على أثرها األقالم الملونة ‪ ،‬وتس!!اقطت! الدوس!!يهات على األرض وتط!!ايرت‬
‫األوراق ‪ ،‬وقال بصوت غاضب للمدير الذي انكمش فوق كرسيه‬
‫لن تخ!!رج ه!!ذه الم!!رة من ال!!بيت فحسب ‪ ..‬ولكن س!!تخرج من القرية كلها ‪ ..‬وال!!وقت‬ ‫‪-‬‬
‫المحدد لخروجك! هو اآلن ‪ ..‬والموت في انتظارك إذا كابرت‬
‫واتسعت حدقتا! عينيه خوفا! ودهشة وسألة بتلعثم ‪:‬‬
‫هل تدرك مغبه عملك يا عم سعيد ؟‬ ‫‪-‬‬
‫ورد عليه بسخرية ‪:‬‬
‫أنا أدرك هذا ولكنك ال تدرك مغبة مماطلتك! أنت في الذهاب‬ ‫‪-‬‬
‫ثم تق!!دم الى الم!!دير وهو ج!!الس على كرس!!يه وص!!فعه على وجهه ‪ ،‬ثم أمسك بتالبيبه‬
‫وأوقفه على قدميه ‪ ..‬وهمس في أذنه ‪:‬‬
‫اخرج اآلن فالسيارة التي ستنقلك إلى حيث جئت في انتظارك! ورد المدير وهو يرتعد‬ ‫‪-‬‬
‫‪:‬‬
‫ولكن أرجو أن تمهلني حتى أنقل جميع أثاثي من البيت‬ ‫‪-‬‬
‫فقال له العم سعيد ساخرا ‪:‬‬
‫لن تأخذ شيئا من هنا ‪ ..‬لقد اشتريت كل محتاجاتك! من دمنا وعرقنا ‪ ..‬وستخرج ناجيا‬ ‫‪-‬‬
‫بنفسك واندفع يجره من تالبيبه وهو يسير خلفه كالشاة واألص!!وات! الث!!ائرة تتفرقع في‬
‫أذنيه كالرعد وعيناه زائغتان وأعصابه تالفة ‪ ،‬وفجأة وجد نفسه أم!!ام الس!يارة الكب!!يرة‬
‫ال!!!تي تحمل القمامة كل ي!!!وم ‪ ..‬ف!!!زاد ذع!!!ره والتفت إلى العم س!!!عيد وهمس في أذنه‬
‫متوسال ‪:‬‬
‫ليس من المعقول أن أعود إلى الوزارة بهذه السيارة ‪ ،‬ولكن العم س!!عيد دفعه بق!!وة إلى‬ ‫‪-‬‬
‫ظهر السيارة الكبيرة وهو يقول له ‪:‬‬
‫مكانك هنا يا سيادة المدير ‪ ..‬بجانب الق!!اذورات ‪،‬وقفز الس!!ائق إلى عجلة القي!!ادة ينفخ‬ ‫‪-‬‬
‫فيها حرارة الحركة ‪ ..‬وألول م!!رة ت!!رى القرية الهادئة رجالها يس!!يرون خلف س!!يارة‬
‫كبيرة ‪ ،‬وفيها رجل وسيم وقد تلطخ وجهه بالقاذورات! ‪ ..‬والرجال يزفونه بسيل كبير‬
‫من الشتائم ويرمونه بالحج!ارة والق!اذورات! ‪ ،‬وغ!ابت الس!يارة الكب!يرة عن األبص!ار‬
‫‪1‬‬
‫تدب فوق الرمال بإعياء شديد "‬
‫وفي قصة ( أم صلوح ) تظل هذه الغاية أنشودتها ال!!تي ترددها على مس!!امع كل جيل‬
‫يمر بها ‪ ،‬فنسمعها! بعد أن أفضى! إليها كل الشباب بأحالمهم الصغيرة ‪ ،‬تحثهم قائلة ‪:‬‬
‫" ‪ -‬كنت أظنكم أرفع تفك!!!يرا من ه!!!ذا ‪ ،‬وأن أه!!!دافكم! أس!!!مى و أنبل من كل ه!!!ذه‬
‫التراه!!ات ‪ ..‬كنت أظن ه!!ذه األوراق! البيض!!اء ال!!تي تحملونها كش!!هادات هي نتيجة‬
‫لكف!!اح طويل مرير ‪ ،‬ص!!قل أذه!!انكم و أش!!عركم! ب!!واقعكم المكبل ‪ ،‬وكنت أريد واح!!دا‬
‫منكم ينظر إلى وراء هذه األحالم بمنظ!!ار التف!!اؤل ‪ ،‬ال أن تثبت دع!!ائم أدران التواكل‬
‫والضعف ‪ ،‬كنت أريد واحدا منكم يمسح عني آيات الشقاء ‪ ..‬وذلك بالتفكير في حالتي‬
‫التعيسة ‪ ..‬وما حالتي هذه يا أوالدي إال جزء بس!!يط من ش!قاء اآلالف من ب!ني وطنكم!‬
‫الذين يعيشون كل يوم ‪ ..‬بل كل دقيقة على أعصابهم! ‪ ..‬البد أن تكونوا! القدوة الحس!!نة‬
‫‪ 1‬علي باذيب ( ممنوعـ الدخول ) مؤسسة الصبان ‪ /‬عدن ‪1968‬م ‪،‬ص‪113‬‬

‫‪239‬‬
‫التي تبصر عامة الناس بمصدر ألمهم وتعاستهم! ‪ ،‬لقد كان آب!!اؤكم! خ!!ير منكم فب!!الرغم‬
‫من جهلهم المطبق ‪ ،‬إال أن وطنيتهم! كانت دوما أنظف من وطنية الكثيرين الزائفة في‬
‫ه!!ذه األي!!ام " ‪ " ....‬ك!!انت وطنية آب!!ائكم وطنية أنظف من وط!!نيتكم! ‪ ،‬ألنها ك!!انت‬
‫إيجابية صرفة ‪ ،‬كان ردهم على كل مش!!روع س!!ريعا! وبطريقة قوية ت!!رده ناكسا على‬
‫عقبيه " ‪ " ....‬واليوم! وأنا أسمع المشاريع التي تضع حدا ألمني!!اتكم! القومية والوطنية‬
‫تنفذ بسهولة ‪ ،‬وال نسمع شيئا ممن يدعون الوطنية سوى كتابة العرضحاالت المطولة‬
‫‪ ،‬ورفع االنكس!!!ارات العدي!!!دة من على الص!!!حف ‪ ..‬ه!!!ذه أم!!!انيكم ال!!!تي تبعث على‬
‫الس!!!خرية ‪ ،‬وإنكم تتش!!!بثون بالقش!!!ور! وتهمل!!!ون اللب ‪ ،‬وأما أمني!!!تي أنا فهي أن أجد‬
‫وض!!عا! آخر غ!!ير ه!!ذا يكفل لي وألمث!!الي من المع!!وزين الض!!مان المعيشي وال!!رقي!‬
‫‪1‬‬
‫االجتماعي وحرية الكلمة ‪ ،‬وتصفية تربتي! من كل معتد أثيم‬
‫وفي قصة ( اإلنذار المم!!زق ) تتجلى ه!!ذه الغاية في موقف ش!!يخ القرية ال!!ذي رفض‬
‫الحماية وم!!زق ان!!ذار المس!!تعمر! في وجهة رس!!وله ال!!ذي ج!!اء يحمل إن!!ذار الحكومة‬
‫المهدد للقرية بالدمار والهالك إن لم تخضع لقبول الحماية ثم أعاده اليه ممزقة ‪ ،‬وقال‬
‫‪2‬‬
‫له ‪ " :‬بصوت يخنقه الغيض نحن في االنتظار للترحيب بكم‬
‫( وفي! قصة ثالثة أي!!!ام في الس!!!جن ) نلتقي ه!!!ذه الغاية عند نهايتها ال!!!تي تظهر فيها‬
‫شخص!!ية العمل – بعد أن ع!!انت من فق!!دانها الق!!درة على اإلب!!داع نتيجة لش!!عورها‬
‫باألسر وتكبيل الحرية – غ!!ير آس!!فة على س!!قوط القلم من ي!!دها وتحطمه تحت ق!!دمي‬
‫الجن!!دي الغليظ!!تين ‪ ،‬ذاك أنها قد أيقنت أن القلم لن يس!!تطيع اآلن أن يعمل ش!!يئا مهما‬
‫ب!!رع ‪ ،‬ومهما بلغت كلماته من الق!!وة والش!!دة ‪ ،‬نس!!معها تق!!ول ‪" :‬وع!!دت إلى فراشي!‬
‫يائسا قنوطا ‪ ،‬وفيما كان ج!!ذعي يته!!اوى! على الف!!راش إذ ت!!رامى إلى س!!معي ص!!وت‬
‫انفجار قوي ألجم لس!!اني أتت به الري!!اح من مك!!ان ليس ببعيد عن منزلنا ‪ ،‬وهنا أيقنت‬
‫‪3‬‬
‫بأن ذلك أبلغ من القلم وأقوى! من الكلمة ‪ ..‬ونمت ليلتها نوما عميقا "‬
‫وفي قصة ( ناصر! ) تتجلى ه!!!ذه الغاية عند نقطة نهايتها حينما أطلق بإص!!!رار على‬
‫وليده اسم ( ناصر! ) ‪ ،‬فأحمد الذي خرج ليحضر طبيبا لزوجته التي ك!انت تع!اني من‬
‫اآلم المخاض ‪ ،‬خ!!رج في وقت ك!!انت الس!!لطات البريطانية قد أعلنت حظر التج!!ول ‪،‬‬
‫مما تسبب في القبض عليه وإخضاعه لتحقيق طويل ‪ ،‬وحينما عاد إلى منزله ‪ ،‬ك!!انت‬
‫الس!!!اعات ‪..‬قد فعلت فعلها في غيابه ‪ ،‬فما إن وصل إلى بيته ح!!!تى انفجر كل من فيه‬
‫قائال ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ماتت زوجتك!‬
‫وكاد أن يغمى عليه لدى سماعه ذلك الخبر ‪ ،‬ل!!وال أن ت!!رامى إلى س!!معه ص!!وت وليد‬
‫شق س!!كون ذلك الليل وب!!دد وحش!!ته ‪ ،‬ص!!وت الهب األمل فيه و أع!!اد إليه ص!!وابه ‪،‬‬
‫صوت أعاد إليه روحه ‪ ،‬ودلف يركض إلى وليده وصوت! أمه الباكي يردد وراءه ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا نسميه يا أحمد ؟‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبد الولى (االرض ياسلمى) دار االداب ‪ /‬بيروت ‪1966،‬م ‪،‬ص‪17‬‬
‫‪ 2‬أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪45‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪16‬‬

‫‪240‬‬
‫وهتف أحمد في صوت مشبع باألمل و الحب ‪ ..‬والقوة ‪ ..‬ويداه تحتضنان وليده ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬نسميه ناصر ‪ ..‬ناصر ‪ ..‬يا أماه "‬
‫وفي قصة ( الهدية ) تتحقق ه!!!!ذه الغاية في نج!!!!اح تحريك الجم!!!!وع وحشد طاقاتها!‬
‫لمقاطعة االنتخابات التي غدت مفرغة من مضمونها في ظل نظام اس!!تعماري! مس!!تبد‬
‫‪ ،‬ف " ما إن أشرقت ش!!مس ص!!باح الي!!وم الث!!اني ح!!تى امتألت ش!!وارع المدينة بع!!دد‬
‫كبير من السيارات ‪ ،‬أخذت ترسل من مكبرات الصوت التي تحملها هتاف!!ات عدي!!ده ‪،‬‬
‫ترفع أناسا وتضع آخ!!رين ‪ ،‬تش!!يد بفالن وتستص!!رخ! الن!!اس أن ينتخب!!وه ‪ ،‬وتس!!وق!‬
‫س!!يارات أخ!!رى أناسا يقبض!!ون بعد اإلدالء بأص!!واتهم ثمن ما أدل!!وا به ‪ ،‬وفي خضم‬
‫الزحام ب!!رزت س!!يارة المقاطعة وقد! احتشد على س!!طحها الواسع محمد ورفاقه ال!!ذين‬
‫أخذو يهتفون لمقاطعة االنتخاب!!ات ‪ ،‬وحث الن!!اس على ع!!دم اإلدالء بأص!!واتهم ‪ ،‬ومع‬
‫بروز سيارة المقاطعة احتدمت الهتافات بين مؤيدي! االنتخابات ومعارضيها ‪ ،‬وألهب‬
‫محمد بصوته القوي حماس كثير من الناس الذين اجتمعوا حول الفريقين ‪ ،‬وقد! أخ!!ذوا‬
‫‪2‬‬
‫يهتفون خلف محمد بهتافات معادية لالنتخابات "‬
‫أما عن معالجات الموض!!وع االجتم!!اعي ال!!تي تمثلت ه!!ذه الغاية ‪ ،‬فهي قليلة بالقي!!اس‬
‫إلى تلك التي تمثلتها معالجات الموضوع السياسي ‪ ،‬وربما يرجع الس!!بب في ذلك إلى‬
‫طبيعة فكر المرحلة التي تغلب عليها الطابع السياسي! ‪ ،‬ومن التجارب ذات المضمون‬
‫االجتم!!!اعي ال!!!تي تمثلت ه!!!ذه الغاية ‪ :‬قصة ( تاكسي لمن ج!!!اء تع!!!بر ) حيث ينهي‬
‫( أحمد شخصية القصة ) صراعة مع نفسه ومع الع!!اهرة ال!!تي اس!!تبدلته ب!!آخر ‪ ،‬ب!!أن‬
‫هدم باب الوكر الخشبي على رأسها ‪ ،‬وانطلق! يبحث لحياته عن حل آخر ‪ ،‬وفيها نقرأ‬
‫‪ " :‬ورفض أن ينهي حياته بيديه عندما بدأت ال!!دماء تتص!!اعد من مرق!!دها الب!!ارد إلى‬
‫كل شريان من جسمه لتشعره بالثورة ولتحفزه بأن ال يستسلم ‪..‬‬
‫وبعد خروجه ‪ ..‬وبحركة عنيفة أوصد! باب الوكر الخش!!بي الص!!غير فته!!دمت فردت!!اه‬
‫ووقعتا! على رأسها ‪ ،‬وخرت صريعه تتلوى من األلم ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫وتركها وخرج يمشي في الشارع الطويل الممتد عساه أن يجد لنفسه حال "‬
‫وقصة ( الم!!بروك! ) حيث يواجه س!!عيد خ!!وف القرية ال!!تي هج!!رت مس!!اكنها! بفعل‬
‫جريء يقطع خالله الشك باليقين ‪ ،‬ويضع حدا لتمادي الخداع واستغالل جهل األهالي‬
‫وإيمانهم بالخرافات ‪ ،‬فقد قرر س!!عيد أن يع!!ود إلى بيته في القرية ليكشف لهم زيف ما‬
‫يتوهمون ‪ ،‬وبالفعل ذهب إلى هن!!اك واس!!تعد للم!!بيت ‪ ،‬لكن ‪ -‬فج!!اءة ‪ -‬وبعد أن أس!!لم‬
‫جفنيه للنوم هب مذعورا " إذ أحس بجلبة كب!!يرة داخل ال!!بيت ‪ ،‬وك!!أن زل!!زاال ألم به ‪،‬‬
‫فاألواني! تتقاذف فيه ‪ ،‬واألحجار! تتخطى! النوافذ! لتستقر على رأسه ‪ ،‬وما إن رفع يديه‬
‫الى رأسه حتى أعادها وهي مخضبه بالدماء ‪ ،‬فادفع في رعب إلى الباب ليفتحه ح!!تى‬
‫أحس بيد س!!!وداء تنقض على رأسه وتوس!!!عه لكما ‪ ،‬وآلمه الض!!!رب وك!!!اد أن يفقد‬
‫صوابه ‪ ،‬ولكنه أحس وكأن عصا غليظة تلوح أم!!ام ناظريه ‪ ،‬ف!!انقض فج!!أة على ذلك‬

‫‪ 1‬أحمد محفوظ عمر ( الناب االزرق ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪75-78‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪35‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪13‬‬

‫‪241‬‬
‫الشبح األسود! الذي أمامه و أنشب أظ!!افره في عنقه دون أن يعي ش!!يئا ‪ ،‬وهاله الش!!بح‬
‫المخيف المنتصب أمامه فانتفض رعبا وتراجع إلى الخلف قليال ‪ ،‬ولكن العصا كادت‬
‫تهوى على رأسه ‪ ،‬فأستجمع شجاعته وشدد! الخن!!اق ح!!ول رقبة ذلك الش!!بح ‪ ،‬ثم لكمه‬
‫لكمة قوية أطاحت بالعصا من يده وانطرح بعدها الشبح على األرض ‪.‬‬
‫وهنا تعجب الشاب عندما الحت له أصابعه وقد صبغت بلون أسود ‪ ،‬ولكن دهش!!ته لم‬
‫تدم طويال وذلك عندما اتجه ببصرة إلى عنق ذلك الشبح ‪ ،‬وقد! ظه!!رت آث!!ار أص!!ابعه‬
‫على رقبته بيضاء من غير سوء ‪ ،‬فعرف! سعيد بأن ذلك الش!!بح لم يكن س!!وى ش!!خص‬
‫طلى جس!!مه األبيض بس!!ائل أس!!ود ‪ ،‬واس!!تراح الكتش!!افه الحقيقة ‪ ،‬وبعد أن اس!!تعاد‬
‫أنفاسه عاد إلى ذلك الجسم الملقى ‪ ،‬و تنتشله عن األرض وه!!وى! عليه يش!!بعه بقبضه‬
‫ي!!!ده القوية لكما قويا إلى أن ته!!!اوى ذلك الش!!!خص من ش!!!دة اإلعي!!!اء ‪ ،‬وهنا س!!!حبه‬
‫ليتفرس فيه على ضوء المصباح ‪ ،‬وهاله ما رأى ‪ ،‬فلم يكن ذلك الشخص ال!!ذي أمامه‬
‫إال الم!!بروك! وقد! طلى جس!!مه األبيض بالس!!واد! ‪ ،‬كما ارت!!دى ثيابا س!!وداء جعلت منه‬
‫‪1‬‬
‫شبحا مخيفا في ظلمة الليل "‬

‫‪ ]3‬أعمال تسعى إلى غاية تفعيل الوعي الــرافض ‪ ،‬وهي أعمــال أثبتت وجوده ـاـ في‬
‫زمن ما بعد ‪1962‬م و‪1967‬م ‪ ،‬غير أن أحداثها تجريـ كلها في زمن مـا قبـل هـذين‬
‫التاريخين ‪ ،‬وهي أعمال يحركها قلق النكوص والعودة بحركة الزمن نحـو الـوراء ‪،‬‬
‫وهو قلق له ما يبرره ‪ ،‬إذ تعرضت الثورة اليمنية في الشــمال والجنــوبـ إلى أخطــار‬
‫كثيرة ‪ ،‬كان أولها خطـر مـؤازرة األنظمـة الرجعيـة في المنطقـة ‪ -‬الـتي يقلقهـا قيـام‬
‫نظام جمهوريـ في هذا الجزء من الجزيرة العربية ‪ -‬للقوى الملكية كي تســتردـ نظــام‬
‫الحكم الذي انتزع منها ‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك اتجه هذا النوع من األعمال إلى ذلك الزمن البائد يعرض ما كان من‬
‫معاناة الشعب اليمني على جميع المسـتوياتـ االجتماعيـة والسياســية واالقتصــادية ‪،‬‬
‫بهــدف الحفــاظ على جــذوة الــوعي الــرافض ‪ ،‬وهــو الــوعي الــذي أدى تراكمــه إلى‬
‫انفجار الثورة ‪ ،‬وتعزيزـ القناعــة بــالثورة من خالل ســوق صــور المعانــاة الــتي كــان‬
‫يضــطرب فيهــا اإلنســان اليمــني في ظالل األنظمــة االســتبدادية ‪ .‬وبدايــة بروايــة‬
‫( صــنعاء مدينـة مفتوحــة ) ‪-‬وهي الروايــة الــتي تم اختيارهـا لتمثيــل هـذا النــوع من‬
‫الغايات باإلضافة إلى عدد من األعمال القصصية ‪ -‬فهي تسعى إلى غايتها التغييرية‬
‫باالستناد إلى واقع ما قبل الثورة ‪ ،‬وتسليط الضوء على جوانب المعاناة فيه باعتباره‬
‫دليالً مرجعياًـ على حقيقية التجربــة يمنح غايــة الروايــة مصــداقيتهاـ ‪ ،‬وتصــوير هــذه‬
‫المعاناة من زواياها المختلفة السياسية واالجتماعية واإلنســانية ‪ ،‬في رســالة مفادهــا‬
‫أن بلوغ تلك األوضاع ذلك الحد الموغل في مأســاويته لم يكن أالَّ بســبب االســتمرار‬
‫في خداع الوعي ‪ ،‬وإقناعه بشعور وهمي من الرضى والقبول ‪ ،‬وهو الشــعور الــذي‬
‫أدى إلى حالة من االستسالمـ والتراخي أدت بــدورها إلى تمــادي الطغيــان ‪ ،‬وتمــادي‬
‫األوضاع الفاسدة وتفاقمـ المعاناة المترتبة عليها ‪ ،‬فاألوضاعـ السيئة ال تربــو وتســتمرـ‬
‫إالَّ في بيئة يشيع فيها الخضوع ويطغي عليها شعورـ االستسالمـ ‪ .‬يتحدث الشيخ الذي‬

‫‪ 1‬عبدهللا سالم باوزير ( ثورة البركان ) مرجع سابق ‪،‬ص‪28‬‬

‫‪242‬‬
‫التقى به البحار في صــحن المســجد في زبيــد فيقــول ‪ " :‬فــأنتمـ الشــباب ال تعرفــونـ‬
‫لحياتكم معنى ‪ ،‬لقد فقدتم أشياء كثيرة ‪ ،‬ألنكم فقدتم حريتكم ‪ ،‬يــا بــني لكي تتعلم البــد‬
‫أن تصبح حراً ‪ ،‬إنك لست حراً ‪ ،‬هناك جدار أسود كبير ‪ ،‬أهدم هذا الجدار ثم جئــني‬
‫‪1‬‬
‫وأنا أعلمك معنى الحياة "‬
‫ولأن هذه الرواية يحرك تجربتهاـ قلق العودة إلى الحال السابقة وتكرار المأساة ‪ ،‬فإن‬
‫معاناة الواقــع السياســي واالجتمــاعي واإلنســانيـ في زمن اإلمامــة لم تــرد فيهــا على‬
‫سبيل السرد التاريخيـ لمــا حصــل أو التســجيل لألحــداث والوقــائع المذكيــة لمشــاعر‬
‫الحزن واأللم ‪ ،‬وإنما وردت نموذجاًـ لواقع حقيقي عشناه ‪ ،‬يصلح مثاالً يمكن إسقاطه‬
‫على اللحظة التاريخية التي يعيشها أبناء اليمن في زمن إنشاء الروايــة وفيـ األزمنــة‬
‫بعــدها ‪ ،‬بــاألخص وأن التحــول الثــوريـ الــذي حــدث في اليمن لم يقابــل بمشــاعر‬
‫الرضى والترحــابـ من قبــل الجــيران والقــوى الرجعيــة في الــداخل ‪ ،‬الــتي نشــطت‬
‫جهودها محاولة إعادة عجلة الزمن وحركة التاريخ في اتجاه الوراء ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن غاية الرواية ال تتجاوزـ نقطة تفعيل الــوعي الــرافض ‪ ،‬إذ‬
‫هي لم تتضمن فعالً رافضا ً حقيقيا ً ملموسا ً وحاسما ً كذلك الفعل الذي نلتقيه في رواية‬
‫الرهينة ‪ ،‬حيث كان الهرب هو الفعل الــرافض الــذي حســم التجربــة ‪ ،‬وأنهى معانــاة‬
‫الرهينة ‪ ،‬فإنها لم تترك وسيلة إال واستعانت بها لبناء غايتها وتغذيتها بكل الحيثيــات‬
‫الالزمة ‪ ،‬كتسليط الضوء مركزاً على مناطق السواد والظلمة والعتمة في المجتمع ‪،‬‬
‫حــتى لم يــرد في الروايــة موقــفـ إال وانتمى إلى هــذه المنطقــة الحالكة ‪ ،‬وتجميــع‬
‫المواقف وشحذـ طاقتها الكامنة لتغذية هذه الغاية ‪ ،‬وحشد الوقائعـ الجزئيــة بتفاصــيلها‬
‫المتنوعة لتغطية مختلــف جوانبهـاـ وزواياهـاـ ‪ ،‬مؤكــدة بــذلك على أن تلــك األوضــاع‬
‫المأســاوية المحبطــة ‪ ،‬والــواردة مالمحهــا خالل المواق ـفـ والجزيئــات والتفاصــيل‬
‫المتضمنة في هذه الرواية ‪ ،‬لم يكن لها أن تنتهي لــوال أن تــوافر وعي حقيقي اسـتمر‬
‫تنامي رفضه حتى بلغ ذروته عند فعل االنتفاض ‪ ،‬وألجــل ذلــك يبــدأ كــاتب الروايــة‬
‫يشــق طريقــه إلى غايتــه من نقطــة تصــويب مفــاهيم الــرفض ‪ ،‬وتفعيــل مفهومــه‬
‫الصحيح ‪ ،‬الــذي يتســبب غيابــه أو تشوشــه في شــيوع حالــة من الغفلـة والالمبــاالة ‪،‬‬
‫يخاطب نعمان صديقه قائالً ‪ " :‬وال أطيل عليك فلقد وصــلت القريــة بعــد يــوم كامــل‬
‫من اإلرهاق ‪ ،‬آه كم أتمنى أن ال أتذكره ألنه يذكرنيـ بواقعي القذر الذي أعيش فيه ‪،‬‬
‫ويعيش فيه كل أبناء وطنيـ ‪ ،‬ولكن مالي وألبناء وطنيـ ‪ ...‬أنني أنا ؟؟ وأنــا فقــط من‬
‫‪2‬‬
‫أهتم به ‪".‬‬
‫فليس من الوعي الرافض أن نهرب من مشكالتنا ‪ ،‬يقول الصـنعانيـ ‪ " :‬خـرجت من‬
‫صنعاء يا بني وقد رسمت خطة أن أغادر هذه األرض ‪ ،‬وأشارـ بيــده يمين ـا ً ‪ ،‬وتلــك‬
‫هي الغلطــة األولى الــتي ارتكبتهـاـ ‪ ...‬مغــادرتيـ لتلــك األرض وأشــارـ إلى الشــمال ‪،‬‬
‫ألنني حسبت أنني أستطيع أن أنتقم حين أصل إلى هنا ‪ ،‬ومضــت بي الحيــاة ‪ ...‬كنت‬
‫أعمل من قبل لكي أنتقم ‪ ،‬أما اآلن فقد أنستني الحياة كل شيء ‪ ،‬وأصــبح لزام ـا ً علي‬
‫أن أنسي مأساتي ‪ ،‬ألنها بســيطة بالنســبة لآلخــرين " ‪ ، 3‬وهــذا محمــد مقبـل يحــدث‬

‫‪ 1‬محمد أحمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص ‪62‬‬
‫‪ 2‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪6‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪51‬‬

‫‪243‬‬
‫نعمــان وهــو يرافقــه في طريـقـ عودتــه إلى عــدن ‪ ،‬فيقــول " التنســوا أنتم ‪ ،‬إن هــذه‬
‫األرض لن تنفصـــل عنكم مهمـــا هـــربتم منهـــا ‪ ،‬إنهـــا جـــزء منكم تطـــاردكـم‪ ،‬وال‬
‫تســتطيعون منهــا فكاك ـا ً ‪ ،‬أنتم يمــنيون في كــل أرض وتحت كــل ســماء ‪ ،‬لقــد كنت‬
‫مثلك ‪ ،‬أحاول أن أهرب من واقعيـ ‪ ،‬حملت السالح وقاتلت الناس ‪ ،‬ناس ال أعــرفهم‬
‫وال يعرفــونيـ ‪ ،‬ليس بيـني وبينهمـ عـداوة ‪ ...‬ولكـني قتلتهم ‪ ،‬قـاتلت مـع الإيطـاليين ‪،‬‬
‫وقاتلت ضدهم ‪ ،‬كنت أبيــع نفســي لمن يريــد شــراء أداة إلطالق الرصــاص ‪ ،‬وكنت‬
‫مستعداً أن أبيع نفسي للشيطان مادام سـيدفع ثمنـا ً مرتفعـا ً ‪ ،‬كـل ذلـك يـا نعمـان ألني‬
‫أردت أن أنسـى أنـني يمـني ‪ ،‬ولكن الحقيقـة هي أنـني كنت أعمـل على ذلـك ألنـني‬
‫يمني ‪ ،‬ألنني أريد أن أنتقم من الذين شردونيـ ومزقونيـ وسرقواـ أرضي ‪ ،‬أردت أن‬
‫أنتقم منهم ‪ ،‬ولكني أخطات الطريقـ ‪ ،‬أما اآلن فأنا أعرف الطريــق ولن أخطئ ‪ ،‬إن‬
‫ما يؤلمني حقا ً هو أنني أدركت الحقيقية متــأخراً ‪ ،‬لكــني أحمــل األمــل ‪ ،‬في أنكم أنتم‬
‫جيل هذا الوقت ستدركونـ الحقيقــة ســريعا ً عــد يــا نعمــان وال تهــرب ســوا ًء كنت في‬
‫‪1‬‬
‫عدن أو في التربة ‪ ،‬فأنت تمارس المأساة "‬
‫وليس من الــوعي الــرافض أن نتنصــل عن تحمــل المســؤولية الملقــاة على عاتقنــا ‪،‬‬
‫نســمع نعمــان يتحــدث عن علي الزغــير ‪ ،‬فيقــول ‪ " :‬وأخــبرني أنــه قــد زار خالل‬
‫رحالتــه معظم بالد العــالم ‪ ،‬ولكن الــذي عرفتــه منــه ‪ ،‬أنــه ال يعــرف من مشــكالنا‬
‫‪2‬‬
‫الوطنية شيئا ً ‪ ،‬يهربون ثم يأتون ليقولوا أنهم بكل بساطة ال يحبون اليمنيين "‬
‫وهذا صــاحب المقهى الحــاج علي يقــول ‪ " :‬إن االنســان ‪ ..‬وخاصــة من ذهبــوا إلى‬
‫الخارج يجدون هناك فرصا ً كثــيرة ‪ ،‬لكي يعملــوا ولكن انظــر إلى هــذا ‪ ،‬وإشــار الى‬
‫البحار ‪ ،‬إنه عــاد دون أن يفقــه شــيئا ً ‪ ...‬إن ذلــك يظهـرـ من أحاديثــه ‪ ...‬ومن تقاســيم‬
‫‪3‬‬
‫وجهه "‬
‫وليس منه أيضا ذلك الشعور الذي يضمخ أحاديثنا التنفيسية بــالمرارة الــتي نلوكهــا‬
‫في مقايلنــا مــع أوراقـ القــات ‪ ،‬نســمع الحــاج علي يــردد ‪ " :‬ليس بالشــعورـ وحــده‬
‫نستطيع أن نخلص بالدنا ‪ ،‬فأنا منذ عشرين عامــا أمتلــك هــذا المقهى ‪ ،‬ومــرت علي‬
‫الوجــوه الكثــيرة ‪ ،‬كلهــا كــانت تتحــدث أحيانـا ً ‪ ،‬وخاصــة عنــدما يــأكلون " القــات "‬
‫يتحــدثون يــا بــني عن الوطنيــة وعن بالدهم ‪ ..‬ولكــني لم أر واحــداً منهم يحــاول أن‬
‫يعمــل ‪ -‬فعالً‪ -‬عمالً إيجابيــا ً لتحطيم الجمــود الــذي يســيطر على بالده ‪ ...‬نعم يــا‬
‫‪4‬‬
‫نعمان ‪ ،‬ليس شعورناـ بأن بالدنا مظلومة يكفي "‬
‫فمحاولة الخالص من نظام الإمامة ‪ ،‬ومن المعاناة االجتماعية والسياســية والإنســانية‬
‫التي تسببت بها ‪ ،‬لم تكن لتنتهي إال بذلك الوعي الرافض الذي رأينا نماذجــه مبثوثــة‬
‫هنا وهناك عبر مواقفـ مختلفة لأنـاس مختلفين ‪ ،‬وهـو الـوعي الـذي يحـرص كـاتب‬
‫هــذا العمــل على الحفــاظ عليــه مضــطرما ً من خالل تســليط الضــوء على أبــرز مــا‬
‫يستقطب شعورـ الرفض من مالمح الواقع ومعطياته ‪ ،‬فكان ‪:‬‬
‫رفض الواقع التشطيري الذي نلمس انعكاس عذاباته على مجتمع العــاملين من أبنــاء‬ ‫‪)1‬‬
‫الشمال في عدن والذين يشعرون بحقارة العمل الذي يقومون به ‪ ،‬وضياع حقوقهم ‪،‬‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪83‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص ‪53،54‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ 4‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪54‬‬

‫‪244‬‬
‫بل وضــياعـ الهــدف من وجــودهم ‪ ،‬وهــذا الصــنعاني يحــاور نعمــان الــذي عــبر عن‬
‫انسراب الشعور بالهامشية والدونية إلى نفسه ‪ ،‬فيقول ‪ -" :‬من قال أنــه ليس لحياتــك‬
‫هدف ‪ ،‬إنك تعمل لتأكل وترسلـ نقودا لأهلك ‪ ،‬ثم تتمتع إن شئت‬
‫هل هذا هو هدف مشرف أن أعمل آلكل وأعمل لأطعم الآخرين ‪ ،‬إن المشكلة ليست‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫بسيطة ولكنهاـ تبدو لك أنت كذلك "‬
‫وعلى الأســر في مجتمــع الريــف ‪ ،‬حيث نشــعر ‪ -‬رغم قــرب المســافة ‪ -‬بــذلك البعــد‬
‫النفسي الشاسع بين قرية في الشمال وعــدن كمدينـة جنوبيــة ‪ ،‬نلمســه في اسـتعدادات‬
‫السفر ‪ ،‬وفي مرافقة المودعين حتى المناطق الحدودية ‪ ،‬ونلمسه في عذابات أب وأم‬
‫يشعران بغياب ولديهما وما يستتبع هذا الغياب من تقصــيرـ وتخـل ‪ ،‬ينقــل لنــا نعمــان‬
‫جانبــا من حــوار دار بين والديــه ‪ - " :‬ال فائــدة منهم ‪ ،‬إن طلعــوا رجــال فليفيــدواـ‬
‫أنفسهم ‪ ،‬أما أنا فسأموت غداً ‪ ...‬وال أحد سيذكرني ‪ ،‬وأرى أن موتي أمر محقــق إن‬
‫اســتمرت الحــال على مــا هي عليــه ‪ ،‬وأجابتــه أمي والدموع تتســاقطـ من عينيهــا‬
‫‪2‬‬
‫الكفيفتين قائلة له ‪ :‬هللا ‪! ....‬وال كأنهم يعرفونناـ "‬
‫وعلى العائــــدين الــــذين يتلقفهم عســــكر الجمــــرك باالســــتهزاء والســــخرية ‪ ،‬فهم‬
‫المزفرون ‪ ،‬والذين يخشى منهم على عرش موالنا الإمام كما يقول العسكري ‪ ،‬نقــرأ‬
‫على لسان نعمان ‪ " :‬وصلت الراهدة ‪ ،‬ووقفـ على أبواب الجمــرك بعض الجنــود ‪،‬‬
‫وقــال أحــدهم ‪ " :‬مــاه ‪ ...‬أنتم مزفــرين ؟ وأجبتــه دون أن أحــاول النظــر إليــه ‪ :‬نحن‬
‫عمال ‪ ،‬كنا ضد االستعمار ‪ ،‬وقهقه البغي ‪ " :‬عا تعملوا إضراب ضــد موالنــا ‪ ...‬عا‬
‫يوديكم حجة "‪ ، 3‬ولذلك وجب توقيفهم وتفتيشهم يتحدث محمد مقبل عن تجربته مــع‬
‫عسكر الجمرك فيقول ‪ ":‬كنت قد تركت السيارة في سوق الســبت ‪ ،‬بعــد أن عجــزت‬
‫عن مواصلة السير حتى المفاليس لوجودـ سيل قويـ في ذلــك اليــوم ‪ ،‬كنت أحمــل في‬
‫يدي مالبس قليلة وإبريق شاي كنت قد أخذتــه من عــدن كهديــة لــك ‪ ،‬وحين وصــلت‬
‫إلى المفاليس قابلنيـ هذا العسكري وسألني ‪ :‬هل أتيت من عدن ؟ وهززت رأسي إذ‬
‫أنــني كنت في غايــة التعب ‪ ،‬وحين أدرك ذلــك تقــدم مــني وطلب أن يفتشــني لأدفــع‬
‫الضريبة على ما أحمله ‪ ،‬وشرحتـ له أنني ال أحمل سوى مالبســي وذلــك الإبريــق ‪،‬‬
‫ولكنه رفض إال أن يفتشني ‪ ،‬وبدوري رفضــت أن أســمح لــه ‪ ،‬ونــادى على زمالئــه‬
‫العساكر حيث قادوني إلى بيت رئيس الجمرك فوقـ الجبل ‪ ،‬وكنت متعبا ً جداً ‪ ،‬حــتى‬
‫أنني عندما وصلت هناك كنت أشعر بأنه سيغمى علي ‪ ،‬ووقفنا أمــام رئيس الجمــرك‬
‫الذي كان متكئا ً يمضغ قاته وأمامه "مداعة " كبيرة مزينة بأنواع من الرسوم ونظــر‬
‫إلي باحتقار ‪ ،‬وأشار بيده إلى العسكريـ كأنه يسأل عن قضيتيـ ‪ ،‬وأخبره بما حدث ‪،‬‬
‫فنظر إلي مرة أخرى ثم قال من وراء ( القات ) المحشو في فمه‬
‫لماذا ال تدفع له ؟‬ ‫‪-‬‬
‫أجبته ‪ ،‬ولماذاـ ادفع له ؟‬ ‫‪-‬‬
‫وركز عينيه في وجهي وأعاد نفس نظرة االحتقــار ‪ ،‬وأحسســت بالكراهيــة تملأني ‪،‬‬
‫وكدت أبصق في وجهه لوال أن العسكريـ كان واقفا ً خلفي ‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪45‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪13‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص ‪93‬‬

‫‪245‬‬
‫من أين أتيت ؟‬ ‫‪-‬‬
‫من عدن‬ ‫‪-‬‬
‫ماذا تحمل ؟‬ ‫‪-‬‬
‫وأشرت إلى ما في يدي من أشياء ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أال تحمل غيرها ؟‬ ‫‪-‬‬
‫كال ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫لماذا ؟‬ ‫‪-‬‬
‫وبحركة احتقار أجبته ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫لأنني فقير مشرد ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وابتسم ابتسامة نصر ‪ ،‬وهز رأسه وهو يقول ‪ :‬إنكم دائما ً تدعون الفقــر ‪ ....‬مــع أنكم‬ ‫‪-‬‬
‫تملكــون مــال قــارون ‪ ،‬وأجبتــه نعم نحن لســنا فقــراء بــل أغنيــاء ‪ ،‬ولكن الآخــرين‬
‫والآخرين دائما ً يسرقونناـ بأسماء كثيرة ‪ ،‬ولكنه قاطعني بأن أشار إلى العســكريـ أن‬
‫يفتشني ‪ ،‬ولما لم يجد شيئا ً نفخ مأمور الجمرك الدخان من فمه بقوة ثم أشار إلينا أن‬
‫ننصرف إال أن العسكري أوقفنيـ قائالً أمام المأمور ‪:‬‬
‫حق العكفة يا خبير ‪ " ...‬الأجرة "‬ ‫‪-‬‬
‫واستعذت باهلل في ذلك الوقت‪ ،‬نهرب من الشيطان يظهـرـ لنــا عفــريت ‪ ،‬ولم أجاوبــه‬ ‫‪-‬‬
‫لكنه وبكل بساطة شدني و المأمور يتفرج على ذلك ‪ ،‬ولكــني أيض ـا ً أصــررت أن ال‬
‫أدفع للعسكري أي شيء وتدخل المأمور ‪ ،‬و أمر أن أدفع للعسكري وابتســمتـ لكــني‬
‫في الحقيقة كنت أتمزق غيظا َ ‪ ،‬ونظرتـ إلى المأمورـ ‪ ،‬وصحت فيه ‪ :‬لماذا أدفع له ؟‬
‫إنني لم أقل لـه أن يـأتي بي إلى هنــا ‪ ،‬وقـد أخبرتــه من البدايـة أنـني ال أملــك شـيئا ً ‪،‬‬
‫ولكنه رفض وقادنيـ إلى هنا ‪ ،‬أتعبــني وأتعب نفســه ‪ ،‬إن من حقي أنــا أن أطلب بـأن‬
‫يدفع لي ثمن تعبي ‪ ،‬ال أن أدفع له أنا ثمن تعبي وتعبه ‪ ،‬ولكنه قاطعنيـ صائحا ً ‪:‬‬
‫يا عسكري خذ الإبريق منه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وبوحشية انتزع العسكري الإبريق من يدي ومضى ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وخرجت من بيت المــأمور وأنــا ألعن الإبريــق والعــالمـ والحكومــة وكــل شــيء حــتى‬
‫نفسي ‪ ،‬لكني حين وصلت الجمرك ‪ ،‬رأيت عدداً من العسكر يضربون أحد الفالحين‬
‫‪ ،‬كــان قــد رفض أن يعيطهمـ أجــرتهم ‪ ،‬وحمــدت هللا على أن قضــيتي لم تصــل إلى‬
‫الضرب ‪ ،‬وهكذا تركونيـ خاليا ً ولــولم يكن في يــدي الإبريــق النــتزعوا مالبسـيـ من‬
‫‪1‬‬
‫يدي ‪ ،‬بل ال أستغرب ان يتنزعوا مالبسي هذه التي ألبسها ‪".‬‬
‫رفض غياب الدولة وإهمالها للخدمات والمنافع العمومية ‪:‬‬ ‫‪)1‬‬
‫يحدثنا نعمان ‪ " :‬ولم نجد سيارة في المفاليس وكان علينا أما أن ننتظـرـ إلى أن تــأتي‬
‫إحدى الســيارات ‪ ،‬أو أن نتــابع ســيرنا حــتى ( ســوقـ الســبت ) لعلنــا نجــدها هنــاك ‪،‬‬
‫ولكني شعرت أن محمد مقبل ال يستطيعـ مواصلة السير فانتظرنا ‪ ،‬وكان محمد مقبل‬
‫ينظر إلى الجمرك ‪ ،‬ثم يبتسم ويعلقـ ســاخراً " إنهــا زريبــة حيوانــات ‪ ،‬ثم يشــير الى‬
‫‪2‬‬
‫الحمير الواقفة أمام الجمرك ‪ ،‬ويقول انظر ‪ ،‬إنها إكسبرس اليمن السريع "‬

‫‪ 1‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص ‪35 -33‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص ‪33‬‬

‫‪246‬‬
‫ويصف ما رآه ‪ " :‬ورأيت في الــوادي ســيارة حمــول كبــيرة انقلبت وغــاص الجــزء‬
‫الأمــامي منهــا في رمــال الــوادي وطينـه وأصــبح انتشــالها أمــراً صــعبا ً لعــدم وجــود‬
‫رافعــات في بالدنــا كلهــا ‪ ،‬ال في الــوادي وحــده ‪ ،‬وإخراجهــا الآن يحتــاج إلى أيــدي‬
‫‪1‬‬
‫عاملة كثيرة ‪ ،‬وصاحب السيارة ال يملك أجراً يدفعه لهذه الأيادي "‬
‫وليست المشكلة في سـقوط المطـر وإنمـا في أمـر أكـبر منـه بكثـير ‪ ،‬أمـر يلمح إليـه‬
‫محمد مقبل ويفهم حقيقته نعمان الذي يحـدثنا قــائالً ‪ " :‬وتـابعت المســير أنـا ومحمـدـ‬
‫مقبل لنصل إلى المفاليس لعلنــا نجــد ســيارة مســافرة إلى عــدن ‪ ،‬وكــان محمــد مقبــل‬
‫صامتا ً طول الطريق ينظر إلى المياه ‪ ،‬ثم إلى الأرض والســماء ‪ ،‬ويتمتمـ بكلمــات ثم‬
‫يسكت ‪ ،‬وتابعت تمتمته حتى أدركت أنه يقـول ‪ " :‬إلى مــتى هــذا العــذاب يا رب ؟ ‪،‬‬
‫ولم يكن يعني بالعذاب نزول االمطــار ولكنــه كــان يعــني العــذاب الكبــير الــذي كــان‬
‫‪2‬‬
‫السبب الأول لشقائنا "‬
‫ج) رفض المنطــق السياســي البليــد الــذي يحــرم العســكر حقــوقهم ‪ ،‬ويســلطهمـ على‬
‫البسطاء من الفالحين كي ينالوا هذه الحقوق منهم ‪ ،‬خالقا ً بذلك فجوة نفســية وشــرخاًـ‬
‫عميقا ً بين العسكري الذي يستحق العطف والرثاء والمواطن البسيط الــذي ليس بيــده‬
‫حول وال قوة ‪ ،‬نسمع نعمان يقول ‪ ":‬وهز محمد مقبل رأسه وهو ينظر إلى العســكر‬
‫بمالبسهم المتباينة وفـوطهم الممزقـة والبنـادقـ القديمـة المصدأة ‪ ،‬والعمـائمـ البيضـاء‬
‫والسوداء الممزقة والمبللة والأحذية والأقدام العارية الـتي يسـيرون بهــا ‪ ،‬هــز رأســه‬
‫ســاخراً ‪ :‬جيش ! جيش بالدنــا الــذي يــدافع عن حــدودناـ ‪ ،‬قالهــا متهكم ـا ً ‪ ،‬وأردف ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لهم الحق في أن يعـاملواـ الشـعب هكــذا لأنهم ال يجــدون شــيئا ً وعلى كــل واحـد‬
‫‪3‬‬
‫منهم أن يضمن لنفسه راتبه ‪ ،‬ويبحث عن لقمة عيشه "‬
‫د) رفض التفاوت الطبقي بين أبنــاء الــوطن الواحــد ‪ ،‬يحــدثنا البحــار على الزغــير ‪،‬‬
‫فيقـــول ‪ ":‬وجلســـت يـــا أصـــدقاء على بـــاب المدينـــة بعيـــداً عن كـــل شـــيء ‪ ،‬عن‬
‫الضوضاء ‪ ،‬والحريقـ والصراخ ‪ ،‬كان كل شيء يحــترقـ ‪ ،‬وكــان الجميــع ينظــرون‬
‫هــل في اســتطاعتهم أن يعملــوا شــيء لوقــف الحريــق ‪ ،‬ويهــز معظمهمـ رؤوســهم‬
‫قائلين ‪ ...‬كال ‪ ...‬ال أمل ‪ ،‬ولكن أتحترق المدينــة كلهــا ؟ فتعــود الــرؤوسـ تهــتز مــرة‬
‫أخرى ‪ " :‬من قال ذلك ! إن الذي يحترقـ دائما ً هو ملك الفقــراء ‪ ،‬أمــا ملــك الأغنيــاء‬
‫فال يحترقـ " ‪ ،‬وأهز رأسيـ ‪ " :‬إنها دائما ً نفس القصة الأغنياء ‪ ،‬والفقــراء ‪ ،‬ويرتفــع‬
‫اللهب ‪ ،‬ويلتهمـ عششا ً أخرى ‪ ..‬ويتصارع الأطفال والنساء ‪ ،‬إن كل ما كانوا يملكونه‬
‫يحترق الآن ‪ ،‬حتى الأمل ‪ ،‬ويمضيـ اللهب ‪ ،‬ولكنه يــا أصــدقاء ال يقــترب إلى القســم‬
‫الآخر من المدينة ‪ ،‬وكأن هللا قد حصن ذلك القسم بقوة غيبية ‪ ،‬لكن العشش تحترق ‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫وتحترقـ "‬
‫هـ ) رفض الغرق واالنجرافـ مع حالة الضياع والتبدد ‪ ،‬فهذا نعمان يصد محاوالت‬
‫الصنعاني الغارق في ضياعه استقطابه إلى حالتــه الماضــية مــع الضــياع والتبــدد ‪،‬‬
‫فيقول ‪ - " :‬ال تحاول يــا عزيــزي أن تــدفعني ‪ ،‬فـإنني حقـا ً أشــعر أن هنــاك تغــيراً ‪،‬‬
‫فساعدني على أن أتغير ‪ ،‬ال على أن استمر في الماضي التافه "‪ " ......‬وحاولت أن‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ص ‪31‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص ‪32‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص ‪35‬‬
‫‪ 4‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص ‪67‬‬

‫‪247‬‬
‫أعرف هــل أجــد حقيقــتي في هــذه الحانــة وسـطـ هــؤالء النــاس والــدخان والكــؤوسـ‬
‫‪1‬‬
‫"‪ "......‬لماذا ال نفكر أن استمرار حياتنا بدون هدف ال جدوى منه "‬
‫و ) رفض قتــل أحالم البســطاء ‪ ،‬يحــدثنا الصــنعانيـ عن حياتــه بعــد مــا حــل بهــا ‪،‬‬
‫فيقول ‪ " :‬إن حياتنا ليس فيها أي تشوق ‪ ،‬لأنها مثل حياة كل يمني ‪ ،‬ولكني أكرهها ‪،‬‬
‫ونظر إلي هذه المرة بحقــد ‪ ،‬وتفتحت عينــاه الصــغيرتان ‪ :‬نعم يــا بــني ‪ ،‬إن الإنســان‬
‫حين يكره شيئا ً ما كراهية مطلقــة ‪ ،‬يكــره نفســه أيضـا ً ‪ ،‬حــاولت أن أنتقم لنفســي من‬
‫الذين صنعواـ مأساتنا كلنا ‪ ،‬ولكني لم أستطيع إال أن أنتقم من نفسي ‪ ،‬لأني فكرت في‬
‫أن أعمل وحدي ‪ ....‬وأنتقم وحدي ‪ ،‬ليس هنا قوة ‪ -‬و ضــرب المائــدة بيديــه ‪ -‬ســوى‬
‫‪2‬‬
‫قوة الجوع ‪ ،‬وأنا وأنت واآلخرين ‪ ،‬ومن المؤسف أن أدرك ذلك مؤخراًـ "‬
‫ز) رفض الوضع البائس للمرأة ودورـة حياتها المتكررة في الريف ‪ ،‬يحــدثنا نعمــان‬
‫عن زوجته ( هند ) فيقول ‪ " :‬يا صديقي ‪ ،‬إنني تائه ‪ ،‬ال أدري ما الــذي أعملــه ‪ ،‬إن‬
‫زوجتي ليست في جمــال فتــاة الجبــل الســمراء ‪ ،‬ولكنهـاـ بســكوتهاـ وحزنهـاـ الــدفين ‪،‬‬
‫وبوجههـا الأصــفر الضــعيفـ تقلب حيــاتي رأسـا ً على عقب ‪ ،‬إنــني أعــرف أن حبنــا‬
‫القديم لن يعود إلى الحياة ‪ ،‬لأنـه مـات بعـد زواجنـاـ ‪ ،‬لأنـه كــان مجـرد رغبــة عـابرة‬
‫وانتهت ‪ ،‬ان الزواج والحب في بالدنا ليسا ســوىـ مجــرد لعبـة الرجــل بــالمرأة الــتي‬
‫ليست سوى خادمة للأرض والبيت والزوج ‪ ،‬إنها مجرد زهرة تتفتح قليالً ثم تموت‬
‫حين ينهكها العمل ‪ ،‬وكذلك هي زوجتيـ ‪ ،‬كانت ناضرة كزهرة فأصبحت ال آن عوداً‬
‫يابسـا ً ‪ ،‬وأصــبحت رغم أنهــا لم تتجــاوز الخامســة والعشــرين عجــوزاً ‪ ،‬كأنهــا على‬
‫‪3‬‬
‫أبواب قبرهاـ ‪ ،‬إنها منهكة مريضة "‬
‫ص) رفض واقع الموت الذي تمتد يده الغليظة لتسلب الحياة ممن يحبها ‪ ،‬فهند الــتي‬
‫كانت إما ً حتى للحجارة ‪ ،‬والتي لم ينتظر منها نعمــان أن تمــوت ‪ ،‬فقــد كــانت تعمــل‬
‫في اليوم أكثر من عشرين ساعة فال تتــأثر وال تشــكو ‪ ،‬كــانت تعمــل في الــبيت وفي‬
‫‪4‬‬
‫الحقل وفي كل مكان "‬
‫إنها تتحمل كل شيء من أجل سعادة الآخــرين ‪ ،‬وكــانت صــموته ال تتحــدث كثــيراً ‪،‬‬
‫ولكنها تبتسم ‪ ،‬وال تتـألم وال تشـكو ‪ ،‬كـانت في المـنزل ‪ ،‬وكأنهـاـ ليسـت موجـودة ‪،‬‬
‫دون صوت ‪ ،‬دون ضجة ‪ ،‬حــتى عنــدما نخلــو كــانت هادئــة دائمـا ً "‪ ".........‬كــانت‬
‫تعمــل في صــمت وتنــام في صــمت وتبتســم في صــمت ‪ ،‬كــانت مثــل أرضــنا شــابة‬
‫وخطها الشيب سريعا ً ولكنها تعمل في هدوء وصــمت وال تتــألم وال تشــكوـ ‪ ،‬ولكنهــا‬
‫‪5‬‬
‫تبتسم وتنتج بال توقف وبال امتنان "‬
‫قد قتلها الجوع ووقعت صريعة للموت كما وقعت األرض صريعة لقوى الطبيعــة "‬
‫فهل أدركت هند أن دورها هي أيضا ً مع األرض ‪ ،‬البد أنها ظنت ذلــك ‪ ،‬فــذهبت يــا‬
‫للمأساة ‪ ،‬ستعود الأرض غــداً ‪ ،‬ســتنتج من جديــد ‪ ،‬ولكن هــل سـتعودـ هنـد ‪ ،‬البــد أن‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪44 -43‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ص ‪45‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص ‪18‬‬
‫‪ 4‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص ‪72‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ص ‪74‬‬

‫‪248‬‬
‫تعود " ‪ ، 1‬لكن هند وهي تموت " كانت تقوم حتى أثناء موتها بعملية خلق كعملياتهاـ‬
‫‪2‬‬
‫الخالقة طوال حياتها "‬
‫ومع أن الكاتب يتجاوز برفضه ‪ -‬عنــد هــذه النقطــة ‪ -‬حــدود الــوعي ‪ ،‬حين يــرفض‬
‫األقدار ويتساءل أسئلة يتمادى فيها إلى حدود غير مقبولة "‪ ،3‬فإنه في الحقيقة ‪ -‬يلقي‬
‫بكامل لومه على األوضاعـ السياسـية الــتي تســببت في الفقـر والجـوع والقحــط الـذي‬
‫أودى بحياة هند ‪.‬‬
‫وأما نقطته التي انتهى إليها من عمله ‪ ،‬فقد تشكلت ‪ -‬مع تبــني هــذه الروايــة ‪-‬غايتهــا‬
‫من تفعيل الــوعي الــرافض في كــل تفصــيالتها ‪ ،‬حــتى امتــدت غايــة مضــمنة داخــل‬
‫السياق الروائي في كليته – نقطة قوية أعملت عملهـا في إضـرامـ وعي الـرفض ‪ ،‬إذ‬
‫ينبت قرار العودة ورفض الهروب عبر مساحات الحلم الذي غرق فيه بطل الروايــة‬
‫عند نهايته المستسلمة إلى السقوط والــذهاب في غيبوبـة هي أشــبه بغيبوبـة المــوت ‪،‬‬
‫فهذه النهاية الهروبية كانت النقطة الأقوىـ في الرسالة التي تقدمها الروايــة ‪ ،‬فهــؤالء‬
‫الذين ينفقون عمرهم في المغالطة والثرثرة والالمباالة والتهرب والتنصــل يفشــلون‬
‫في آخر الأمر في مقاومة ضعفهم ‪ ،‬وهم يموتون عند نهايتهمـ ‪ ،‬غير أن نهــايتهم تلــك‬
‫تتشكل ضياعا ً مضاعفا ً ‪ ،‬وهذا نعمان ينتهي من تجربته نهاية هي أقرب الى غيبوبــة‬
‫الموت ‪ ،‬وهو في حالة المغيبة يحاول أن يحقق ما لم يسـتطع تحقيقـه أثنــاء حضــوره‬
‫الواعي ‪ ،‬وها هو يحلق بخياالت العودة إلى الشمال مع الصنعاني ‪ " :‬كانت الســيارة‬
‫تقطــع الطري ـقـ إلى الراهــدة وقــد تمــدد عليهــا الصــنعانيـ ‪ ،‬وكنت أنظــر إلى جبــال‬
‫الشمال وفيـ قلبي أغنية عذبة ‪ ،‬اليهم سأعود مرة أخرى إلى عدن ويبتسم الصــنعاني‬
‫‪....‬‬
‫ماه يا نعمان ‪ ....‬شنعاودـ ال صنعاء ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم يا عزيزي سنعود إلى صنعاء ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ماه شايقولوا علينا ‪ ....‬مزفرين ؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪4‬‬
‫دعهم يا عزيزي يقولون ما يشاؤون ‪ ،‬لقد قمنا بقليل من واجبنا "‬ ‫‪-‬‬
‫فكأنمــا بكــاتب هــذا العمــل قــد أراد أن يقــول ‪ ،‬إن العمــر ال يســعف وال يجب تبديــد‬
‫أوقاته ‪ ،‬فما يمكن حصوله اليوم قد ال يمكن حصوله في الغــد ‪ ،‬ومن لم يهتـد ويصـل‬
‫إلى وعيه المطلوب في الوقت المناسب ‪ ،‬فقد فوت على نفسه فرصة ثمينة ‪ ،‬قد ينــدم‬
‫عليهــا ويــذهب باحث ـا ً عن تعويضــها في مســاحات الــوهم ‪ ،‬كمــا فعل نعمــان بطــل‬
‫الرواية ‪ ،‬لكن الحقيقة أن ال فائدة ترجى من وعي يحدث في غير أوانه ‪ ،‬وفي وقت‬
‫نصبح فيه فاقدي القدرة على التفاعل والتجاوب ‪.‬‬
‫واالمر ال يقتصر في هذا العمل على هذا المستوى من التعبير الضمني ‪ ،‬وإنما يمتــد‬
‫الى مســتوى آخــر من التعبــيرـ فيــه يتم الإعالن صــراحة وبشــكل مباشــر عن غايــة‬
‫الرواية وفيـ أكثر من موضع ‪ ،‬منها ‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ص ‪74‬‬


‫‪ 2‬نفسه ص ‪72‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص ‪73‬‬
‫‪ 4‬محمد عبد الولي ( صنعاء مدينة مفتوجة ) مرجع سابق ص ‪93‬‬
‫‪52‬‬

‫‪249‬‬
‫‪ )1‬دعوة محمد مقبل إلى ضرورة وعينا بحقيقة أنفسنا ‪ ،‬يقــول ‪ ":‬إننــا ال نســتطيعـ عمــل‬
‫شيء لأنفسنا وال لأرضنا وال حتى لهؤالء العساكر إذا لم نخلق من جديد ‪ ،‬نخلق كــل‬
‫شيء ‪ ،‬الناس والأرض والواديـ ‪ ،‬حتى أنفسنا ‪ ،‬إننا ال نستطيعـ أن نعيش مع الحمــير‬
‫في حظيرة واحدة ‪ ،‬وال أن نعامل معاملة الحمــير ‪ ،‬يجب أن نجــد لأ نفســنا مفهومـا ً ‪،‬‬
‫وأن نعرف حقيقتنــا " ‪ ، 1‬وفي أمنياتــه الكثــيرة الــتي يصــرح بهــا ‪ " :‬نعمــان ‪ ،‬إنــني‬
‫أتمنى أن ال أموت حتى أرى بالدنــا هــذه مثــل تلــك البلــدان الــتي زرتهـاـ ‪ ،‬أتمــنى أن‬
‫تكــون كالحبشــة أو كليبيــا أو كتركيــا ‪ ،‬أتمــنى أن أرى الطريــق مرصــوفة وخطــوط‬
‫السكك الحديدية تخترق جبالنا كتلك التي تخترق جبال الحبشــة ‪ ،‬وأرى الســدود على‬
‫وادينا هذا وغيره من أودية بالدنا الكثــيرة ‪ ،‬فال يمــوت الســيل وال تضــيع مياهنــا في‬
‫الصحراء ‪ ،‬وال يلتهم السيل أطفالنا وما شيتنا وأرضنا ‪ ،‬أتمــنى أن أرى بالدنــا كبالد‬
‫الآخرين ‪ ،‬أتمنى أن ال أموت حـتى أشـاهد ذلـك " ‪ ، 2‬وفي أمنيـة نعمـان واستشـرافه‬
‫حين رأى من بين مناظر الموت " صورة أخرى تظهر من خالل هذا الضباب الذي‬
‫أعيشه ‪ ،‬إنه شعبنا ‪ ،‬أتراه سينتصـرـ هــو الآخــر على المــوت ‪ ،‬على النســيان ‪ ،‬أتــراه‬
‫سيبني من جديد مآثره وســدوده ‪ ،‬أتــراه ســيتحدىـ القــدر ويقــف أمامــه هازئـا ً ‪ ،‬إنــني‬
‫‪3‬‬
‫أؤمن بذلك أحيانًأ "‬
‫‪ )2‬دعوة نعمان إلى الاتحاد بعــد مــا رآه في قريتــه ‪ ،‬يقــول مــبرراً ‪ " :‬ألن الأشــياء الــتي‬
‫رأـيتها هنا في قريتناـ تحتم علينا أن نتحد " ‪ ، 4‬ودعوته إلى ضرورة البحث عن عمل‬
‫وطني صحيح ‪ ،‬يقــول ‪ " :‬طــبيعي أن أومن أن بالدنــا واحــدة ال يفرقهــا اســتعمارـ أو‬
‫استبداد ‪ ،‬وأن العمل من أجل القضاء على واحد فيهــا ‪ ،‬هــو بالتــالي العمــل من أجــل‬
‫القضاء على اآلخر ‪ ،‬ولكن ال أجد هنا عمالً وطنياًـ صحيحا ً " ‪ ، 5‬وقوله " أريد عمالً‬
‫آخر يطمئن نفسي وروحي وكيانيـ ‪ ،‬عمالً أشــعر بــأنني إنســان كبــير يفكــر ‪ ،‬إنســان‬
‫يتضامن مع الجميع ‪ ،‬الحب ‪ ،‬والحب هو ما أريـده ‪ ،‬حب اإلنســان ألخيــه اإلنسـان ‪،‬‬
‫والعمل ‪ ،‬العمل من أجل بناء ما تعفن من أنفسنا ومن أرضنا " ‪ ، 6‬واتفاق الصنعانيـ‬
‫مع نعمان على ضرورة التضامن ‪ ،‬يقول ‪ " :‬لكن يــا بــني يجب أن نعــترفـ أن ك ـل‬
‫إنسان ال يستطيع أن ينتقم لوحده ‪ ،‬ولكننا كلنا مجتمعين مع مآسينا ‪ ،‬نستطيعـ أن ننتقم‬
‫"‪.7‬‬
‫‪ )3‬دعــوة علي الزغــير إلى العلم الــذي يمكنــه أن يغــير هــذه األوضــاعـ الصــعبة ‪،‬‬
‫يقول ‪ ":‬وتساءلت لو كان الناس الذين يتعلمون بهذا القــدر لمــا كــانت بالدنــا هكــذا ‪،‬‬
‫على الأقل هناك أناس محطمون أو يثورون على واقعهمـ "‪. 8‬‬
‫‪ )4‬دعوة نعمان إلى تشكيل حركة توجه حركــة العمــال وتنظم إضــراباتهم في عمــل‬
‫جمــاعي ‪ ،‬فبعــد أن تم فصــل الكثــير من العمــال ( ســكان مقهى الحــاج علي ) من‬
‫أعمــالهم ‪ ،‬نســمعه يقــول ‪ ":‬ولكنــك تعــرف أن هــؤالء العمــال ليس لــديهم أي تنظيم‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص‪52‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ص ‪36‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ص ‪27‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص ‪79‬‬
‫‪ 5‬نفسه ص ‪52‬‬
‫‪ 6‬محمد أحمد عبدالولي ( صنعاءمدينة مفتوحة ) مرجع سابق ص ‪52‬‬
‫‪ 7‬المرجع السابق ص‪52‬‬
‫‪ 8‬المرجع نفسه ص ‪60‬‬

‫‪250‬‬
‫حقيقي ‪ ،‬يســتطيع أن يقــودهم ويحقــق لهم أي انتصــارـ ‪ ،‬فــذهب الكثــيرون ضــحايا‬
‫‪1‬‬
‫لإلضرابات "‬
‫‪)5‬تطلع نعمان إلى قيادة واحدة قوية تقود حركة الجماهير إلى طريق الحرية ‪ ،‬يقول‬
‫‪ ":‬هنا الناس المســتعدون للعمــل ‪ ،‬ولكن ليس هنــا القيــادة الــتي تقــرر "‪ "....‬ولكن يا‬
‫صديقي أين زعماؤنا ‪..‬؟؟ أين من يقود هذه الجماهير إلى طريقـ الجنة ‪ ،‬إن األســئلة‬
‫ترتسم على طريقنا فال نجد لها إجابة ‪ ،‬أنتم يامن تركتم بالدكم وجمــاهيركمـ ‪ ،‬مــاهي‬
‫‪2‬‬
‫األعمال التي عملتموها غير الهروب ‪ ،‬نعم الهروب من واقعكمـ "‬
‫هكـذا تم انشـاء هـذه الغايـة وتم تأكيـدها عـبر ذلـك الـوعي المتـأجج بـالرفض داخـل‬
‫الرواية وهو الوعي الذي يسعى إلى تفعيل وعي الــرفض في أوســاط المجتمــع الــذي‬
‫تسعى الرواية إلى خلقه مجتمعا ً نموذجياًـ يبلغ منه وعي الرفض ذروة فاعليتــه وقمــة‬
‫جاهزيته ‪.‬‬
‫وهكذا تسنى لهذه الرواية أن تســلط ضــوءها على المنطقــة الأهم من تــاريخ مجتمــع‬
‫ينشد الحياة والفاعلية والتحول ‪ ،‬وهي هنا شديدة الحرص على بقاء هذه المنطقة منه‬
‫حية ونابضة ‪ ،‬بل ومضطربة بوعي الرفض ‪ ،‬فال تزال التحديات وال تــزال نــوازع‬
‫السـيطرة ورغبـات االسـتغالل تطـل بين الحين واآلخـرـ لتنظـر مـدى تهيـؤ الموقـف‬
‫ومناسبة الظرف ‪.‬‬
‫وتحت هذه الغاية من تفعيل الوعي الرافض انشئت أعمال قصصــية مختلفــة ‪ ،‬ننتقي‬
‫منها ‪:‬‬
‫قصة ( الأطفال يشيبون عند الفجر ) التي انتهت تجربتهاـ إلى هذه الغاية من تفعيل‬
‫وعي الرفض لكل بادرة تحاول المساس بمكتسب الثورة والنظام الجمهــوريـ ‪ ،‬فهــذه‬
‫مكتسبات لم يتم تحقيقها بسهولة ‪ ،‬وإنما سألت ألجلها دمــاء عزيــزة ‪ ،‬كــان من بينهــا‬
‫دماء أطفال وطن أجبرته الظروف على أن يستعين بهم ‪ ،‬ويلقي بأحمال المسؤولياتـ‬
‫الثقــال على كــواهلهم ‪ ،‬إنهم أطفــال ســلبت طفــولتهمـ وتبعــثرت أجســادهمـ الغضــة‬
‫وأحالمهم البريئــة على ســفوح الجبــال ‪ ،‬استصــرخهم وطنهمـ فمــا خــذلوه ‪ ،‬وإنمــا‬
‫صمدوا واستبسلوا كمـا يصـمد االبطـال العظـام ‪ ،‬أطفـال " فقـدوا الكثـير ‪ ،‬وعـددهم‬
‫سبعة وضابطـ برتبة مالزم ثان ‪ ،‬ولكن هناك ال يمكنك أن تجد فرقــا ً بينهم ‪ ،‬فكلهم لم‬
‫يعرف الحالقة بعد ‪ ،‬ولم يتعد أكبرهم السادسة عشرة ‪ ،‬الضــابط نفســه كــان بــالأمس‬
‫طالبا ً في الكلية ‪ ،‬وهو الآن يقاتل منذ أن بدأ الحصار ‪ ،‬المدفع أمــامهم صــغيرـ الســن‬
‫أيضا ً ‪".‬‬
‫وقصة ( خلف الشمس بخمس ) التي تسعى إلى غايــة تفعيــل وعي الــرفض لتلــك‬
‫الحلول الهروبية والأنانية ‪ ،‬التي ينفـذ من خاللهـا المـرء بجلـده تاركـا ً أرضـه وأهلـه‬
‫يكتوون بنيران الظلم وويالته ‪ ،‬فهذا رجل يغادر قريته هاربـا ً من مشـكالته ‪ ،‬متحلالً‬
‫من مســؤولياته فينتقــل عــبر البحــر بين دول كثــيرة في أوربــا وأفريقيــا وأمريكــا‬
‫الالتينية ‪ ،‬وال يعود إلى وطنه إال حينما استشــعرـ إحســاس السـأم والملــل الــذي طغى‬
‫على حياته الفارغة ‪:‬‬

‫‪ 1‬نفسه ص ‪40‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص ‪53‬‬

‫‪251‬‬
‫" لقد قرر واقتنـعـ حيث ضــاق بــالبرد والثلج والصــقيع والضــباب والأمطــار الدائمــة‬
‫الــتي تكتم الأنفــاس ‪ ،‬ضــاق بالملــل والفــراغ الــذي يعيش فيــه عــاطالً بال عمــل ‪.....‬‬
‫منتظراً إصالح سفينته التي يعمل عليها في حوض السفن المزدحمـ القريب من ميناء‬
‫( ليفربــول ) ‪ ......‬اشــتاق إلى الشــمس ولســعاتها على ظهــره وهــو يكب على وجــه‬
‫الأرض يحرثها مع بقية أفراد أسرته ‪ .....‬اشتاق لرؤية النجوم المتأللئة ‪ ،‬وهــو يقع ـد‬
‫في السحر فوق بركة الماء ( المقضضة بالنورة ) لكي يفجرها لتستقي حقول أســرته‬
‫" ‪ 1‬لكنه حينما عاد وجد وطنه أســوأ ممـا كـان عليـه قبـل أن يغـادره ‪ ،‬فيتخــذ قــراره‬
‫بالفرار مرة أخرى متبوعا ً بذات اللعنة التي أطلقها خلفه أخوه في المرة السابقة ‪:‬‬
‫" أحس بلذة عندما وجد نفسه تلقائيا ً بمئزر من السرة إلى الركبــة ‪ ،‬كمـا علمـه الفقيـه‬
‫في الــزمن الغــابر ‪ ...‬وانســابت قــدماه نحــو ( الســائلة ) العظمى كمــا حــدث لــه في‬
‫الماضي ‪ ...‬تذكر يوم رحيله البكر ‪ ...‬وصاح به أخوه ‪:‬‬
‫إلى أين يا مجنون ؟‬ ‫‪-‬‬

‫وتمهل قليالً وفيـ مخيلته سمسرة السبيل وصاحـبتها وابنتهاـ الجميلة التي كان يــود أن‬
‫تكون زوجا ً له ‪ ...‬قال مجيبا ً ‪:‬‬
‫" عصب "‬ ‫‪-‬‬
‫عصب ؟؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫لقد انتهت ( عصب ) منذ سنين ‪!! ...‬‬ ‫‪-‬‬
‫لم تنته يا مجنون ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫والتقفته رهبة الجب!!ال المش!!رفة على ال!!وادي ‪ ...‬وس!!مع ص!!وت أخيه يق!!ول بص!!وت‬ ‫‪-‬‬
‫مبحوح‬
‫‪2‬‬
‫خلف الشمس بخمس ‪ .....‬؟! "‬ ‫‪-‬‬
‫وقصة ( العسكري ذبح الدجاجة ) تس!!عى إلى ه!!ذه الغاية عن طريق ع!!رض ص!!ورة‬
‫للمعان!!اة الم!!رة ال!!تي ك!!ان يعانيها الإنس!!ان اليم!!ني في حياته في ظل دولة الطغي!!ان‬
‫الإمامي ‪ ،‬ليس فقط لتأكيد أحقية الث!!ورة في إزالة ذلك النظ!!ام ‪ ،‬أو التأكيد ض!!رورات‬
‫التغي!!!ير باس!!!تدعاء ما مضى ‪ ،‬وإنما أيض!!!ا ً لإن!!!ارة الحاضر ب!!!ذلك الماضي التعيس‬
‫للحؤول دون تكراره ‪ ،‬فالنظام الذي لم يحقق لشعبه أمنه واس!تقراره ‪ ،‬وتق!وم! سياس!!ته‬
‫على أس!!اس أن ال!وطن ليس س!وى مس!احة لجباية االم!وال وملء الخ!زائن ‪ ،‬فيس!!لط‬
‫على مواطنيه مبتزين كثر تحت مسميات متعددة ما بين عساكر ومخم!!نين ومثم!!رين‬
‫وكش!!افين وحك!!ام أو عم!!ال وش!!رائع! ومغ!!ارم! ال نهاية لها ‪ ،‬هو نظ!!ام غ!!ير جدير‬
‫باالستمرار! ‪.‬‬
‫وطبيعة العالقة بين المواطن ونظام الحكم كما تظهر في هذا العمل تشبه تمام!ا ً عالقة‬
‫الص!!ياد بالطري!!دة ‪ ،‬فهو يتحين أق!!رب الف!!رص للإيق!!اع بها ‪ ،‬ح!!تى إذا ما وقعت أجهز‬
‫عليها بال رحمة وال شفقة ‪ ،‬فالرعوي! الذي اتهمه جاره بأن دجاجته قد نقرت ولده يقع‬

‫‪ 1‬محمد عبد الولي ( شيء اسمه الحنين ) دار العودة ‪ /‬بيروت ‪ ، 1987‬ص ‪90‬‬
‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( الجسر ) وزارة االعالم والثقافة ‪ /‬صنعاء ‪1986‬م ‪ ،‬ط‪ ،1‬ص ‪48‬‬

‫‪252‬‬
‫‪ -‬في ظل ه!!ذه السياس!!ية من تحين الف!!رص ‪ -‬في موقف ال يحسد عليه ‪ ،‬فأثن!!اء الأخذ‬
‫والرد بينه وبين الفالحين ال!!ذين أخ!!ذوا ينص!!حونه م!!رة بال!!ذهاب إلى العامل وأخ!!رى!‬
‫بدفع أجرة العسكري ‪ ،‬اقترب أحدهم منه قائالً ‪:‬‬
‫"‪ -‬يا جماعة ‪ ....‬التطولوا الحكاية ‪ ...‬آجر العسكري وأسلم نفسك المتاعب ‪...‬‬
‫ومن أين لي الأجرة‬ ‫‪-‬‬
‫اقترضها! من " العدل "‬ ‫‪-‬‬
‫وهل يرضيك أن أؤجر العسكري! باطالً بباطل ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولم يجبه بل نظر إليه بحدة وصاح غاضبا ً ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قم صل الظهر ‪ ..‬فأنت معاند وتريد! جلب المشاكل لنفسك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وسكت الجميع عن!!دما خ!رج العس!!كري من داخل المس!!جد ح!!امالً بندقيته ومن ورائ!ه‬ ‫‪-‬‬
‫( عدل )‬
‫القرية بعمته البيض!اء ولفيف من الق!رويين ع!!راة الظهر والص!!در ‪ ،‬وق!ال " الع!!دل "‬
‫مخاطبا ً العسكري ‪:‬‬
‫هذا ضالتك المنشودة ‪ ...‬أريه أمر " العامل "‬ ‫‪-‬‬
‫ألم تره أنت ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم ولكن ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫وقاطعه العسكري بحدة وهو يقول ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكنك ماكر ‪ ...‬تريد هذا ( الرعوي ) أن يتعبني ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وابتسم العس!!كري وهو ينظر إلى الرع!!وي وابتسم! الجميع بينما ك!!ان " الع!!دل " قد‬ ‫‪-‬‬
‫تصنع االبتسامة ‪ ،‬وقد! أحس بالجرح فقال ‪:‬‬
‫‪ -‬ليس لي دخل بينكما ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن العسكري تجاهل قوله واقترب من " الرع!!وي " وهو ي!!ربت على كتفه‬ ‫‪-‬‬
‫ثم قال ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫إنه رعوي طيب ‪ ،‬سيذبح لي دجاجة للغداء "‬ ‫‪-‬‬
‫وتس!!!!!عى قصة ( العم مس!!!!!فر ) إلى تفعيل وعي ال!!!!!رفض بموقف الدولة‬ ‫‪-‬‬
‫الالمس!!ؤول تج!!اه موظفيها! الع!!املين في جه!!از الحكومة ‪ ،‬وليس العم مس!!فر س!!وى‬
‫نموذج لكل العاملين في خدمة الحكومة بال ضمانات أو تأمين!ات ‪ ،‬ف!العم مس!فر ال!ذي‬
‫عركته مهنة العس!!كرة ‪ ،‬وغلبه ال!!زمن والم!!رض " فع!!اد إلى قريته وآوى إلى كوخه‬
‫الحجري في الجبال البعيدة متحس!راً! على والئم ال!دجاج لي!!ؤنس مكره!ا ً وح!!دة زوجه‬
‫عاتكة بعد أن رحل ص!!!!الح ابنهما الوحيد إلى خ!!!!ارج البالد منذ س!!!!نوات وانقطعت‬
‫أخباره ‪ ،‬كان يعيش على بعض مكيال من الحبوب يستحلبها الأرض الجافة الش!!حيحة‬
‫‪ ،‬وعلى المعاش البائس الحقير ال!!ذي بقي من خدمة أربعين عام!ا ً ‪ ،‬وال يمال حوص!!لة‬
‫‪2‬‬
‫دجاجة "‬
‫يسلم إلى مصيره وهو يحاول أن يجد لحياته الشقية مخرجا ً ‪.‬‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ص ‪27‬‬


‫‪ 2‬زين السقاف ( العم مسفر ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪11‬‬

‫‪253‬‬
‫وفي قصة ( الليل ينصهر ببطء ) تتبل!!ور! ه!!ذه الغاية عند تع!!الي مش!!اعرنا الرافضة‬
‫لتلك الحالة من القمع ال!!تي ترسخ في الإنس!!ان مش!!اعر الخ!!وف ‪ ،‬فتشل تفك!!يره وتقتل‬
‫قدرته على الإبداع ‪ ،‬وتسلم روحه إلى الخواء لينطوي بتهدمه وتالشي إنس!!انيته ش!!يئا ً‬
‫من مجموع أشياء فارغة ‪ ،‬وهذا ( ملهم ) إن لم يسعفه النوم في ليله الجاثم المتطاول‬
‫" يغمس ريش!!ته القص!!بية في ق!!ارورة ال!!دواة الأس!!ود ‪ ،‬وي !دون ش!!كوى في ال!!ورق‬
‫بالنس!!خي أو الرقعة على طريقته ‪ ،‬أو يكتب خ!!واطر! أو يرسم! أش!!كاالً لكائن!!ات غريبة‬
‫وخطوط!!!ا ً أش!!!به بالهلوس!!!ات ‪ ...‬ولكنه غالب!!!ا ً مايضيق بالكتابة والرسم ‪ ...‬فينحي!‬
‫الريشة جانبا ً ‪ ،‬ويمزق! الأوراق! ثم يستسلم! للنوم ‪ ...‬وأحياناً! يلذ لعينيه أن تظلا ترقب!!ان‬
‫الظه!!يرة والف!!راغ ‪ ...‬وتستأنس!!ان! ب!!التطلع إلى الحف!!اة المتن!!اثرين مثله على الكراسي!‬
‫كالنفايات بتعب ‪ ...‬ثم يس!!تعيدها! عن!!دما يحس بتعب ‪ ...‬في!!دون بريش!!ته ش!!يئا ً ما على‬
‫ال!!!ورق ‪ ،‬وبعد لحظة يحس بتعب فيخفيه أو يمزقه "‪ ، "......‬وعن!!!دما يحس الم!!!رء‬
‫بش!!يء من ه!!ذا القبيل فم!!اذا عساه أن يفعل ‪..‬؟ يغ!!ني أو يبكي أو يتلمس الأش!!ياء ‪...‬‬
‫يس!!أل نفسه ‪ ،‬وتعجز اللس!!ان عن الكالم ‪ ،‬ش!!فتاه ترتجف!!ان لكن الغن!!اء ح!!رام والبك!!اء‬
‫معص!!ية ‪ ...‬والش!!كاوي ال يلتفت إليها أحد ‪ ...‬يتث!!اءب يفغ!ر ف!!اه ثم يغلقه ‪ ...‬يمطمط‬
‫يديه وقدميه طلبا ً للنوم كالعادة ‪ ،‬لكن النوم ال يأتي ‪ ..‬يحاول التسلي ب!!النظر إلى موقد‬
‫السمس!!!رة الع!!!تيق ودكة الحج!!!ارة المهلهلة ‪ ...‬ق!!!وائم الكراسي المليئة باالنح!!!دار!‬
‫والنتوءات كأشباح متآكلة ‪ ...‬أشياء تافهة أتى عليها البلى والص!!دى وطواها الزم!!ان‬
‫‪1‬‬
‫كما طوى حياته البيضاء بغمامة داكنة "‬

‫‪ )4‬أعمال تسعى غايتها إلى تعزيز الوعي بأهمية الفعل الرافض ‪.‬‬
‫وهي أيضا َ أعمال انبت وجودها! في زمن ما بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪،‬‬
‫غ!!ير أن أح!!داثها تج!!ري في زمن ما قبل ه!!ذا الت!!اريخ ‪ ،‬وهي أعم!!ال يحركها! قلق‬
‫االكتفاء بمجرد تحقق قناعة الرفض ‪ ،‬ال!!ذي قد ي!!ؤدي االكتف!!اء بها إلى ع!!دم حص!!ول‬
‫تغيير حقيقي ‪ ،‬فكم من أجيال ظلت تقتات رفضها وتبرمها! ليالً ونهاراً بينما اس!!تمرت‬
‫الأوضاع تسري في طريقها إلى التفاقم ‪ ،‬فتلك إذن غاية تتجاوزها هذه الأعمال إلى ما‬
‫هو أعلى منها ‪ ،‬إذ تش!!!حذ طاقتها في اتج!!!اه تعزيز ال!!!وعي بما ي!!!ترجم له!!!ذه القناعة‬
‫ويتوجها! بفعل حقيقي يح!!دث تغي!!يراً يلمس أث!!ره الن!!اس على أرض الواقع ‪ ،‬وهي إذ‬
‫ترمي إلى ه!!ذه الغاية تل!!وح بإن!!ذارات إمك!!ان حص!!ول فعل رافض في وجه أنظمة ما‬
‫بعد الثورة واالستقالل ‪.‬‬
‫وس!!!وف تعتمد الدراسة في ه!!!ذا الموضع على رواية الرهينة باعتبارها رواية تمثل‬
‫ه!!ذه الغاية بق!!وة ال تض!!اهيها! فيها رواية أخ!!رى ‪ ،‬بالإض!!افة إلى ع!!دد من الأعم!!ال‬
‫القصصية التي ترجمت تجاربها! لهذه الغاية ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( الرهينة ) التي تتشكل تجربتها تحت شعور! القلق من فتور! الإحس!!اس‬
‫بأهمية الفعل ال!!رافض ‪ ،‬وال!!تي تس!!عى إلى غاية ك!!برى مفادها تعزيز! ال!!وعي بأهمية‬

‫‪ 1‬محمد مثنى ( رحلة العمر ) الهيئة العامة للكتاب ‪ /‬صنعاء ‪ ، 2001‬ط‪ ، 1‬ص ‪46،47‬‬

‫‪254‬‬
‫الفعل الرافض الذي ال بد له أن يظل حاضراً وغير مستبعد! ‪ ،‬فال تفتر القناعة بأهميته‬
‫مهما كانت إحباطات الظروف المحيطة وصعوبتها ‪ ،‬فهذا الرهينة يتخذ قراره بالفعل‬
‫الذي اعتق فيه نفسه وأطلق حريته في ظرف هو من أحلك الظ!!روف وأش!!دها وط!!أة‬
‫في تاريخ إنسان هذه الأرض ‪ ،‬حيث الطاغية المستبد يع!!ود منتص!!راً! بعد أن أثخن في‬
‫شعبه وأغرق سيفه الآثم بدماء أحرار ‪1948‬م " وأباح صنعاء للنهب والسلب والقتل‬
‫والدمار " ‪ ، 1‬ليعلو بعودته شعور! الهزيمة الذي اكتسحت مراراتها! العق!!ول والنف!!وس‬
‫‪ ،‬حتى عاد الشعب المقموع البائس أحد المحتفلين بهذه المج!!زرة ‪ ،‬وأخذ يتج!!رع ب!!ألم‬
‫أوجاعه ‪ ،‬ويض!!غط! بص!!بر على جروحه ال!!تي ال ت!!زال نازفة ‪ ،‬مرغم!!ا ً على إيق!!اد‬
‫مشاعل النصر المزعوم ‪ ،‬مجبراً على إظهار شعور االبتهاج بعودة الطاغية المس!!تبد‬
‫" توهجت المدينة والقرى المحيطة بها في الجبال والسهول بأضواء هائلة على سطح‬
‫المنازل ‪ ،‬ت!!دل على وق!!وع ح!دث ه!!ام ‪ ،‬انتصر الإم!ام الجديد ‪ ،‬الس!يف الأم!ير ‪ ،‬ولي‬
‫العهد السابق ‪ ...‬على الدستوريين الأحرار الثوريين " ‪. 2‬‬
‫في هذه اللحظة التاريخية الحرجة لشعب منكسر بائس موجوع ‪ ،‬وحاكم يتف!!اخر ملء‬
‫الفضاء بانتصاره وإذالل شعبه ‪ ،‬ينفذ الرهينة قراره الجريء ب!!الفرار ‪ ،‬لتص!!بح غاية‬
‫روايته هذه رسالة تنتفض منطلقة من تحت الموت والرماد! ‪ ،‬وورقة يلوح بها الك!!اتب‬
‫في وجه كل الطغاة والمستبدين ال!!ذين ال يخلو منهم زم!!ان أو مك!!ان ‪ ،‬وال!!ذين تص!!ور‬
‫لهم أحالمهم البليدة ‪ ،‬أنهم كلما أمعنوا في إذالل شعوبهم وأثخنوا فيها ونكل!!وا! ودم!!روا‬
‫كلما هزموا إرادة الإنسان في نفوسها وكسروا! همتها ‪ ،‬والإنسان ‪ -‬تبع!ا ً له!!ذه الغاية ‪-‬‬
‫قادر على أن يقلب حركة تاريخه رأسا ً على عقب ‪ ،‬وأن يغير مص!!يره كلية في لحظة‬
‫يتكشف له مقدار ما يقع عليه من ظلم ‪ ،‬عند هذه اللحظة نج!!ده ينتقض متحسس!ا ً حقيقة‬
‫استالبه ‪ ،‬مستشعراً تغييب إرادته ‪ ،‬فيندفع غير عابئ بكل الن!!ذر والمح!!اذير! ‪ ،‬متوجه‬
‫في طريق! ال يحيد عنها يسترجع عبرها حريته ويعيد إلى ذاته كرامتها! وإنسانيتها ‪.‬‬
‫وألن اليمني ‪ -‬كما يشير ال!!روائي – ت!!أبى نفسه االس!تمرار! في الخض!وع! ‪ ،‬فإنه م!!تى‬
‫أراد أن ينتقض على ظلمه وخض!وعه ال ينتظر ح!تى تحين اللحظة ‪ ،‬وإنما يق!دم على‬
‫فعله الرافض مباشرة وبدون تردد ‪.‬‬
‫نعم فشلت ثورة ‪1948‬م ‪ ،‬غير أن فشلها ال يمثل نهاية المطاف ‪ ،‬فإرادة الإنسان تظل‬
‫أقوى من كل هزيمة ‪ ،‬وانتصار! الطغاة مهما أوهم بالقوة والعظمة فإنه يظل انتصاراً‬
‫خاويا ً أجوفا ً ‪ ،‬في داخله يكمن الخرق وعمق الهزيمة ‪ ،‬وهذا الرهينة يسجل انتص!!اراً‬
‫لإرادة الإنسان يعلو به على االنتصار المزعوم للطاغية ‪ ،‬ومن هذا المك!!ان المحاصر‬
‫بالتحلل والتعفن ‪ ،‬والمختوم بالموت والمق!!ابر يمكن أن تتش!!كل عمق المفارقة ‪ ،‬ح!!تى‬
‫تصبح المقبرة منطلقا ً حيا ً لحياة جديدة " ووثبت! قائمة حيث أخذت حج!!راً من الأرض‬
‫لتقذفني به ‪ ،‬لكنني كنت قد أطلعت لساقي العن!!ان ‪ ،‬فابتع!!دت وانه!!الت خلفي الحج!!ارة‬
‫المقذوفة منها ‪ ،‬لم أتوقف برغم إشفاقي عليها ‪ ،‬وعال صياحها! بصوتها المبحوح الذي‬
‫أحبه يطرق! مسامعي! ‪ ،‬وتلقفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر‬
‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪188‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص ‪187‬‬

‫‪255‬‬
‫إلى المستقبل المجهول ‪ ،‬وأنا أتوقع صوتها! أو حجراً مقذوفاً! منها س!!يقع على ظه!!ري‬
‫‪ ...‬لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جدي!!دة مؤدية إلى المس!!تقبل ‪ ،‬مخلف !ا ً‬
‫ورائي ص!!!وتها! المبح!!!وح المحبب إلى قل!!!بي ‪ ،‬وذكري!!!اتي! مع ص!!!احبي! المرح!!!وم‬
‫والبورزان والطبشي! الذي فدغت البغلة رأسه ‪ ،‬وزمالءه الجند المنش!!دين ‪ :‬يا رهينة‬
‫‪1‬‬
‫قد أمك فاقدة لك ‪ ...‬دمعها كالمطر! "‬
‫تقول سلمى الخضراء الجيوسي ‪ ،‬إن الرهينة تعالج بصورة أساس!!ية الفظاظ !ة وع!!الم‬
‫االستغالل الذي يب!!دو ض!!منه مص!!ير الإنس!!ان مرهون!ا ً ب!!الآخرين ‪ ،‬ومع ذلك فهي في‬
‫ال!!وقت نفسه عمل ي!!دور ح!!ول الحرية والخالص الف!!ردي ‪ ،‬وهي توضح بجالء كيف‬
‫أن الإنس!!!ان يس!!!تطيع االحتف!!!اظ بروحه المعنوية العالية ب!!!الرغم من الأذى المحلق‬
‫بجسمه وعقله " ‪ ، 2‬ويقول سليمان العيسي ‪ " :‬وحسنا ً فعل حين ختم قصته بتجاوز (‬
‫‪3‬‬
‫العفن ) إلى غير رجعه "‬
‫وإذا ما س!ألنا أنفس!!نا ونحن نقف على ه!!ذه الغاية العالية أو الس!!امية عن تلك الأس!!باب‬
‫التي ارتفعت بوعي الرهينة إلى الحد الذي أدى به إلى القيام بفعله الجريء الرافض (‬
‫الف!!رار) لوج!!دنا أن الس!!بب المباشر ال!!ذي زوده بقوة اليقين ‪ ،‬وع!!دم ال!!تردد في تنفيذ‬
‫ق!!!رار الف!!!رار عند س!!!نوح أول فرصة ل!!!ذلك ‪ ،‬هو المص!!!ير! ال!!!ذي لقيه ص!!!احبه‬
‫( الدوي!!دارعبادي ) والمعان!!اة ال!!تي ش!!هدها في أخري!!ات أيامه ‪ " :‬ك!!ان ص!!احبي‬
‫( الدويدار! الحالي ) قد زاد لونه شحوبا ً وجسمه هزاالً ‪ ،‬وأصبح سعاله الحاد يوقظني‬
‫من منامي أكثر من مرة في كل ليلة ‪ ،‬ك!!ان يس!!عل ح!!تى يغمي عليه ‪ ،‬وال يفيق إال بعد‬
‫أن أضمه إلى صدري! ويداي! مطبقتان على صدره المتهاوي نتيجة لذلك الس!!عال "‪، 4‬‬
‫ومع كل هذه المعان!!اة فإنه ال يعفى من مهامه المفروضة عليه ‪ ،‬ب!!األخص تلك المهمة‬
‫الرخيصة ‪ ،‬حين يقوم بفرك قدمي! النائب " وكم كنت أود مس!!اعدة ص!!احبي في عمله‬
‫ه!!ذا الممل ‪ ،‬إش!!فاقا ً م!!ني عليه ‪ ،‬ولكن!!ني! كنت أمقت ذلك العمل ال!!رخيص ‪ ،‬وكنت‬
‫أحتقره وال يمكن أن أتصور نفسي أقوم به في أي ظرف! من الظروف! ‪ ،‬وكنت أع!!ود‬
‫‪5‬‬
‫مع صاحبي! المنهك إلى الغرفة وأساعده في إصالح فراشه بعد أن كان يساعدني "‬
‫غ!!ير أن ه!!ذا الفعل وإن ك!!ان له س!!ببه المباشر! ال!!ذي وقف خلفه مش!!كالً دافعه الق!!وي‬
‫لإنجازه ‪ ،‬فإنه قد تم التمهيد له بأفعال تشكل رساالت صغرى! هي غايات صغرى! في‬
‫طريقه ‪ ،‬غاي!!!ات تعلو خاللها إرادة الإنس!!!ان ‪ ،‬إذ بإمكانه أن يظل محتفظ!!!ا ً بج!!!ذوة‬
‫ال!!!رفض في داخله ‪ ،‬وبإمكانه مقاومة انهزامه وقتل إرادة الإنس!!!ان فيه مهما ك!!!انت‬
‫صعوبة التحديات التي يواجهها ‪.‬‬
‫فالرهينة لم تنكسر! إرادة ال!!رفض فيه يوم !ا ً ولم تتس!!لل إلى نفسه االس!!تكانة إلى ق!!دره‬
‫كرهينة ‪ ،‬لقد ظل محتفظ!ا ً ط!!وال ال!!وقت بج!!ذوة رفض واقع تحوله إلى رهينة ‪ ،‬وهو‬
‫ال!!رفض ال!!ذي نقف على مالمحه منذ أن انتقل إلى بيت الن!!ائب ‪ ،‬في!!وم أن وصل إلى‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ص ‪.198‬‬


‫‪ 2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪202‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ص‪203‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص ‪406‬‬
‫‪ 5‬زيد مطيع دماج ( الرهينة ) مرجع سابق ص ‪152‬‬

‫‪256‬‬
‫هناك وبلغ غرفة صاحبه الدويدار! ‪ ،‬نجده يندفع إلى النافذة الوحي!!دة في ه!!ذه الغرفة ‪،‬‬
‫كتعبير تلق!!ائي عن نفسه الرافضة واقع الحص!!ار المض!!روب عليها " اتجهت ص!!وب‬
‫النافذة الصغيرة الوحيدة داخل الغرفة استرحت مقرفصا بجوارها " ‪1‬وحين أخذ ينتقل‬
‫مع ( الدوي!!دار ) بين غ!!رف القصر وقفنا على رفضه المتمثل في نف!!وره واش!!مئزازه‬
‫من تص!!رف نس!!اء القصر معه " كنت أنكمش حين يربتن على كتفي وأنفر حين تمتد‬
‫‪2‬‬
‫أيدي بعضهن لقرص وجنتي أو فرك شفتي بتلذذ "‬
‫ثم تم!!رده على الش!!ريفة حفصة " ال أدري كيف راود ذه!!ني قسم عظيم ب!!أن ال أع!!ود‬
‫إلى دار الشريفة حفصة مهما ط!!ال القيد " ‪ ، 3‬ورفضه تنفيذ أمرها بفك قي!!ده ومقاومة‬
‫العس!!!كري المكلف ب!!!ذلك ‪ ،‬ألنه وجد أن ه!!!ذا القيد يش!!!كل حماية له من االس!!!تغالل‬
‫واالبتزاز! الذي تتم ممارسته من قبل حريم الن!!ائب " واقنعت! نفسي وص!!ممت على ما‬
‫اقتنعت به ‪ ،‬ح!!اول العس!!كري إخض!!اعي ب!!القوة ‪،‬ووض!!عني على الأرض ‪ ،‬لكن!!ني‬
‫ق!!اومت ‪ ،‬ونش!!بت بي!!ني وبينه معركة اس!!تخدمت فيها كل ما اس!!تطعت من وس!!ائل ‪،‬‬
‫بالأظافر! ‪ ،‬وب!!رمي! الحص!ا على عيونه ‪ ،‬وب!!العض بالأس!!نان لكنه ك!!ان مستثاراً أك!!ثر‬
‫م!!ني لع!!دم خروجه مع زمالئه ‪ ،‬فصب غض!!به علي وتحملت من ركالت ولطم!!ات‬
‫صلفه ‪ ،‬ومن عسكري غاصب لعدم خروجه بأمر على رعوي ولبقائه الوحيد بال أمر‬
‫‪4‬‬
‫"‬
‫ثم استشعاره المفاجئ لمقدار وض!!اعه مهنة الدوي!!دار ال!تي تمسخ إنس!!انية ص!!احبها ‪،‬‬
‫وتحوله إلى آلة ت!!ؤدي! خ!!دمات مختلفة للجميع كل بحسب حاجته ‪ ،‬ح!!تى الخ!!دمات‬
‫الليلية لنساء القصر ‪ ،‬فعندما! ذهب إلى قصر ولي العهد ‪ ،‬ورأى! ح!ال دوي!دار! الس!يف‬
‫والتي يت!!بين لنا من وص!!فه له ‪ ،‬حين ق!!ال ‪ " :‬كنت أالحظ حرك!!ات جس!!مه الرخو من‬
‫خالل ثوبه الحري!!ري! الش!!فاف ‪ ،‬يب!!دو أنه لم يعد يتص!!نع تلك الحرك!!ات المائعة ‪ ،‬فقد‬
‫‪5‬‬
‫أصبحت منتظمة لديه وطبيعية وعادية ! "‬
‫ثم تنبهه للكلمة الأخيرة في عبارة الدوي!!دار! ال!!تي أطلقها ‪ ،‬حين أف!!اد بأنه ليس مس!!تحبا ً‬
‫أن يك!!ون الدوي!!دار من الره!!ائن ‪ – " :‬ألنهم س!!يئون ومشاكس!!ون ويهرب!!ون دائما !‬
‫طرقت مسامعي بانتباه كلمته الأخيرة فابتسمت! "‪. 6‬‬
‫ثم تع!!الي ش!!عوره بن!!ذر س!!قوطه واس!!تالبه ‪ " :‬مارست مع ص!!احبي! جميع هواياته‬
‫ورذائله الق!!ذرة ‪ ،‬وان!!دمجت في عالمه الغ!!ريب ح!!تى ك!!اد يغ!!ار م!!ني ‪ ،‬فقد تعلقت بي‬
‫النس!!وة المتع!!ددات الم!!واهب والمتن!!افرات أش!!كاالً وألوان!ا ً واعم!!اراً ‪ ،‬وقد س!!ئمن من‬
‫ص!!احبي! لس!!عاله الش!!ديد ونحوله الش!!احب ‪ ،‬وخ!!وفهن من ذلك الم!!رض الم!!رعب‬
‫" ‪ " ......‬وكنت أوهم نفسي وباقتن!!اع ت!!ام ب!!أنني أدرأ عنه أعب!!اء لم يعد ق!!ادراً على‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪27‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪22‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص ‪27‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص‪78‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪ ،‬ص ‪122‬‬
‫‪ 6‬زيد مطيع دماج (الرهينة ) مرجع سابق ص ‪122‬‬

‫‪257‬‬
‫تنفي!!ذها ومواكبة الس!!ير فيها كما ك!!ان في أيامه الس!!ابقة ‪ ،‬ومع ذلك أحسست باحتق!!ار‬
‫‪1‬‬
‫لنفسي ولمسلكي المشين "‬

‫هذا الشعور يفقده حتى قدرته على الغناء " ح!!اولت ذات ص!!باح أن أش!!دو وأنا منف!!رد‬
‫بأغنية من قريتي! ولم أستطع ‪ ،‬وحاولت أيض !ا ً أن أص !فر بفمي بلحنها فتع!!ثرت! ‪ ،‬ال‬
‫‪2‬‬
‫أدري ما الذي جعلني أفقد حتى مجرد الإحساس بالسعادة لأستقبل يوما ً جديداً آخر "‬
‫ثم انتقامه من االبن الش!!رعي ل!ولي العهد عن!دما س!!حبه إلى بركة المي!!اه ‪ ،‬واس!!تكباره‬
‫فعلته ‪ " :‬كنت أتوقع مثالً أن تلتهمني وحوش سيف الإسالم وولي العهد الكاس!!رة وأنا‬
‫أتفرج عليها ! لكنني لم أتوقع أن يؤذيني! صبي طفل مدلل بهذه الطريقة " ‪. 3‬‬
‫ثم محاولة الهرب الأولى التي فشلت بسبب ضعفه أمام تمسك الش!!ريفة حفصة بعودته‬
‫‪ ،‬وتصوير عودته المنكسرة المهزومة كعودة أسير حرب " ومضيت! بعدها بخطوات‬
‫‪4‬‬
‫رتيبة كأنني أسير حرب "‬
‫‪5‬‬
‫ثم طلبه الصريح إلى النائب برغبته في العودة إلى قلعة الرهائن ‪.‬‬
‫ثم فرحته بمقتل الإم!!!ام وترك!!!يزه على أن النصر الأهم ال يكمن في قتله وإنما في قتله‬
‫‪6‬‬
‫بأيد يمانية " لقد قتل الإمام وهذا هو المهم ‪ ،‬وبأيد! يمانية وهذا هو الأهم "‬
‫ثم رفضه المشاركة في إسراج مش!!اعل النصر للإم!!ام الجديد " كنت قد رفضت بش!!دة‬
‫أن أعجن الرم!!اد بالك!!از واش!!عله رم!!زاً النتص!!ار الإم!!ام الجديد ‪ ،‬ولكن غ!!يري من‬
‫‪7‬‬
‫المتطوعين قاموا بالمهمة "‬
‫ثم تنبهه إلى رس!!الة الدوي!!دار! المعلنة من خالل ص!!راخه في وجهه ب!!أال يتن!!ازل عن‬
‫إحساسه بذاته وعزة نفسه ‪ ،‬وأن يحفظ لها جذوة إرادتها ‪ ،‬وأال يق!!دم على أفع!!ال تن!!ال‬
‫منها حتى ال يجد نفسه وقد بلغ مبلغه من المهانة والذل واالنكسار! ال!!تي أودت به إلى‬
‫مصيره في آخر الأمر ‪ ":‬وقد! قمت في ليلة بف!!رك قدميه فض!!اح بي بعص!!بية والش!!رر!‬
‫‪8‬‬
‫يتطاير من عينيه ‪ ،‬فامتنعت !"‬
‫وأخيراً الهرب وفي! التوقيت المختار بمهارة عالية بلغت بغاية هذا العمل ذروتها! ‪.‬‬
‫هكذا ك!!ان ترك!!يز! زيد مطيع دم!!اج على بل!!وغ عمله غايته من رفض كل ما يمكنه أن‬
‫يستلب إرادة الإنسان ويحوله إلى رهينة ‪ ،‬وقد أكسب عمله هذا دالالت عامة تتج!!اوز‬
‫الإطار الزمني الذي يتحدث عنه ‪ ،‬لأنها ليست مجرد رواية لوقائع! حدثت في الماضي‬
‫‪9‬‬
‫‪ ،‬إنها حكاية تنسج من مادة التاريخ خيوطاً! تمتد في اتجاه المستقبل ‪.‬‬
‫وقد تمثلت هذه الغاية الكثير من الأعمال القصصية ‪ ،‬ننتقي منها ‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪105‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪176‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص ‪124‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص ‪135‬‬
‫‪ 5‬نفسه ‪145‬‬
‫‪ 6‬نفسه ‪ ،‬ص ‪179‬‬
‫‪ 7‬نفسه ‪ ،‬ص ‪187‬‬
‫‪ 8‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪153‬‬
‫‪ 9‬هشام علي ( السرد والتاريخ في كتاباتـ زيد مطيع دماج ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫قصة ( العائد من البحر ) ‪ ،‬فبعد أن ح!!اول ( علي بن علي ) شخص!!ية القصة أن يلجأ‬
‫إلى قانون الدولة ليحميه من جور الشيخ ‪ ،‬وجد أن هذا القانون غير ق!!ادر! على حمايته‬
‫في ظل هيمنة الشيخ وتمادي! ظلمه وقهره للناس ‪ ،‬وهو ما ألجمهم عن ش!!هادة الحق ‪،‬‬
‫فحينما خرج الحاكم ليعاين الموقف! على الأرض ‪ ،‬صاح بعلي بن علي ‪:‬‬
‫" ‪ -‬أين دارك يا علي بن علي ؟‬
‫هنا كانت داري يا سيدي الحاكم ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأين ذهبت ؟‬ ‫‪-‬‬
‫ال أدري‬ ‫‪-‬‬

‫وهنا قال الشيخ مخاطباًـ الحاكم ‪ ،‬وهو يبتسم ‪:‬‬


‫هل حدثكم علي بن علي على أنه يملك داراَ هنا يا سيدي الحاكم ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم يا شيخ مصلح وقد! خرجت على هذا االساس ‪!!.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هذه أرضي! يا سيدي الحاكم أزرعها منذ الأزل ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وهنا صاح علي بن علي والدموع تكاد تخرج من عينيه ‪:‬‬
‫لقد خرب الشيخ داري يا سيدي الحاكم ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأجابه الحاكم بهدوء ‪.‬‬
‫وأين آثارها ‪ ...‬البد من حجارة أو خشب لتثبت ذلك يا علي بن علي ‪! ..‬‬ ‫‪-‬‬
‫وتلفت علي بن علي بين القوم عساه أن يجد أثراً لداره تحت أقدامهم دون جدوى فقال‬
‫بتأثر ‪..‬‬
‫ال أدري يا سيدي الحاكم ‪ ،‬ولكن كلهم يعرفون ذلك ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫يا سيدي الحاكم اسأل أي رع!!وي هنا عن ذلك ‪ ...‬إذا أخ!!برك أحد ب!!أن لعلي بن علي‬ ‫‪-‬‬
‫دار هنا ‪ ،‬فأنا مستعد أن أعطيه داري وكل ما أملك ‪ ،‬وقال الحاكم مخاطباً! الجموع ‪:‬‬
‫ماذا تقولون ؟‬ ‫‪-‬‬
‫ً ‪1‬‬
‫ال نعرف علي بن علي هذا ‪ ،‬وال يملك هنا دارا "‬ ‫‪-‬‬
‫عن!!!!!!!!دها لم يكن أمامه من حل كي يتخلص من الظلم الواقع عليه إال أن يتخلص من‬
‫ش!!يخ القرية الظ!!الم ‪ ":‬اق!!ترب من الح!!اكم وبندقيته متدلية إلى الأم!!ام بي!!ده ت!!ترنح ‪ ،‬و‬
‫أشار الحاكم نحو عساكره ‪ ،‬فتحركوا! نحو علي بن علي ليطوقوه ‪ ...‬ولما اقتربوا منه‬
‫‪2‬‬
‫دوت طلقة نارية سقط على إثرها الشيخ مضرجا ً بدمه ‪"...‬‬
‫وفي قصة ( طاهش الحوبان ) تتجلى هذه الغاية من خالل تسليط الضوء على تجربة‬
‫نشهد فيها كيف يمكن للإنسان أن يهزم الخوف وينتصر! على الرعب والم!!وت ‪ ،‬فه!!ذا‬
‫النقيب ( عبدهللا بن صالح ) الذي عاد لتوه من عدن التي أمضى فيها ردحا ً من الوقت‬
‫هارب!!ا ً من الإم!!ام ‪ ،‬ذاك أنه أدرك أن مكانه الحقيقي ال!!ذي يس!!تطيع! أن ينجز فيه فعالً‬
‫ملموسا ً هو الش!!مال ‪ ، 3.‬يرسل إليه ولي العهد – ال!!ذي أراد التخلص منه وك!!ان يعلم‬
‫بوجود طاهش في الحوبان ال ينجو منه أحد ‪ -‬رسوالً! يطلب منه الحض!!ور ليالً ودون‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪70،71‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪71‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪36‬‬

‫‪259‬‬
‫إبط!!اء ‪ ،‬فأس!!رع في التح!!رك إلجابة ولي العهد ‪ ،‬ورغم المح!!اذير! ال!!تي أعلنت عنها‬
‫أسرته‪ ،‬يرفض التراجع ويصر على المسير ليالً ‪ ،‬بل ومواجهة الوحش في عقر داره‬
‫وقطع لسانه دليالَ على هزيمته ‪ ،‬وبالفعل تح!!دث المواجهة ويكتب فيها النصر للنقيب‬
‫‪ ،‬وبعد أن قتله تقدم من الطاهش ليقطع لسانه كدليل يفخر به دائم!ا ً ‪ ،‬ولكن ال!!وحش ما‬
‫زال يتلوى ويعاني! من سكرات الموت ‪ ،‬فخاف ( النقيب ) على يده إذا أدخلها في فمه‬
‫أن يطبق عليها ‪ ،‬ول!!ذا فقد أدخل م!!ؤخرة بندقيته في فم ( الط!!اهش ) فالكها بين فكيه‬
‫حتى كاد أن يوقع النقيب أرضا ً ‪ ...‬وهنا ولأول م!!رة يب!!دي الت!!ابع حركة واعية فيأخذ‬
‫حجراً كبيرة ويقذف بها داخل فم الوحش وكانت المفاجأة عندما تح!!ولت تلك الحج!!رة‬
‫إلى رم!!ال داخل فكيه ‪ ،‬ولم يجد النقيب ب!!داً من االنتظ!!ار! ح!!تى م!!ات ( الط!!اهش )‬
‫وانقطعت منه الحركة فقطع لس!!!انه ‪ ...‬وتح!!!رك النقيب مع تابعه نحو تعز وقد! ب!!!دأ‬
‫‪1‬‬
‫يشدو مغنيا ً ‪ ،‬والتابع يردد بعده ذلك "‬
‫وفي قصة (ث!!ورة بغلة ) يش!!كل الك!!اتب غايته من تعزيز! الفعل ال!!رافض ع!!بر تجربة‬
‫تق!!وم على واقعه س!!اخرة مث!!يرة للض!!حك ‪ ،‬فيها يعهد الك!!اتب إلى بغلة بالقي!!ام بفعل‬
‫يرفض كل هذا الزيف المتمثل في احتشاد الحتفال بعيد نصر مزع!!وم ‪ ،‬فقد حض!!رت‬
‫فرقة الموس!!يقا العس!!كرية ‪ ،‬والره!!ائن من القلعة ‪ ،‬وطلبة المدرسة الأحمدية ‪ ،‬وبعض‬
‫الأجانب س!!فراء وخ!!براء ‪ ،‬وحش!!ود! من الجند ( النظ!!امي ) و ( ال!!براني ) بض!!باطهم!‬
‫وعرائفهم ‪ ،‬وقد! أخذت كل فرقة مكانها من الميدان الترابي الذي أخ!!ذه الإم!!ام غص!!با ً‬
‫من مواط!!نين ك!!انوا يزرعونه ض!!من حق!!ولهم ‪ ،‬كما تواف!!دت! جم!!اهير من البشر من‬
‫مختلف المناطق! المج!!اورة ‪ ،‬ومن س!!كان المدينة حيث ص!!ادف ي!!وم – عيد النصر –‬
‫ي!!وم س!!وق! المدينة الأس!!بوعي ‪ ،‬حضر كل ه!!ؤالء كي يش!!اهدوا احتف!!ال موالنا الإم!!ام‬
‫الناصر بي!!!وم عيد النصر ‪ ....‬عيد انتص!!!اره ‪ ،‬ال أدري على من تم ذلك النصر ‪...‬؟‬
‫هل على حركة الأح!!رار والدس!!تور والش!!ور!ى ؟ أم على هتلر وموس!!وليني ‪ ،‬ال!!ذي‬
‫‪2‬‬
‫يصادف اليوم ذكرى انتصار دول الحلفاء على دول المحور "‬
‫حيث تض!!طرب بغلة تجر أحد الم!!دافع القديمة ‪ ،‬وتزمجر بص!!هيل م!!رعب على إثر‬
‫عزف الفرفة المتأكلة بصخب ‪ " :‬وحاولت أكثر من يد من أفراد الطبشية أن تمتد إلى‬
‫عنانها لكي تسكت وتخمد نفورها ‪ ،‬ولكن دون ج!!دوى ‪ ...‬ك!!ان ذلك قد زاد في رعبها‬
‫فتمادت ‪ ،‬وتمادي! بغلة في مخاوفها يحدث كارثة ‪ ،‬وقد أحدثتها ‪ ،‬حيث رفست طبش!!يا ً‬
‫كهالً في رأسه فخر ص!!ريعا ً ‪ ،‬وق!!ام! زمالؤه بحمية لقتلها بالرص!!اص ‪ ،‬لكنهم تهيب!!وا‬
‫موقف الإمام ‪.‬‬
‫وصاح الإمام وقد! وقف! بكرشه الذي يتوسطه خنجره الذهبي ‪:‬‬
‫عليكم بها ‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتك!!الب الجند من مختلف رتبهم على البغلة وم!!دفعها الق!!ديم المج!!رور خلفها ‪ ..‬لكنها‬
‫زادت نف!!وراَ وعن!!اداً بص!!البة هوج!!اء كأنها وحش كاسر يتم حص!!اره ‪ ...‬وزاد! من‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ‪،‬ص ‪40،41‬‬


‫‪ 2‬زيد مطيع دماج ( العقرب ) دار العودة ‪ /‬بيروتـ ‪1982‬م‬

‫‪260‬‬
‫هيجانها كون الم!!دفع الق!!ديم مربوط!ا ً خلفها حيث أح!!دث أض!!راراً! جس!!اما ً بالجند ‪...‬‬
‫وانطلقت بين الحشود! والمدافع! يترنح خلفها بوحشية مرعبة ‪.‬‬
‫لم يبق سوى االمام في منصته مع حرسه وحاشيته وبعض الأجانب يلتقط!!ون ص!!وراً‬
‫‪1‬‬
‫رائعة كذكرى لن تتكرر "‬
‫وفي قصة ( البشارة ) يبني الكاتب غاية تجربته من تعزيز الوعي بأهمية الفعل‬
‫الرافض ‪ ،‬بالتعبير الصريح مرة ‪ ،‬فنقرأ ‪ – " :‬الليونة مع الظالم جريمة ‪ ،‬الث!!ورة هي‬
‫الحل ‪ ،‬الثورة ترياق لداء الطغيان ‪ ،‬اقتربت الساعة ‪ ...‬هيئوا أنفسكم " ‪ ، 2‬والمضمن‬
‫مرة أخرى ‪ ،‬فال!!ذين يتش!!دقون بحب الإم!!ام ويحرص!!ون على بق!!اء الح!!ال على ما هو‬
‫عليه ‪ ،‬هم من الجهلة والمتخلفين ‪ ،‬الذين عميت أعينهم عن رؤية الحقيقة ‪ ،‬فالعجوز ‪-‬‬
‫دائم العبث بمنخريه ‪ -‬تش!!ير مالمحه وأوص!!اف! دكانه إلى الواقع الق!!ذر ال!!ذي يتمسك‬
‫ببقائه ‪ ،‬فعيناه مصابتان بالرمد ووجهه مج!دور ‪ ،‬وهو خ!رف ال ف!رق! بينه وبين علبة‬
‫التونة المحشورة على رف في دكانه ‪ ،‬وبضائعه مغطاه بالغبار تنام دون ترتيب على‬
‫الرفوف! ‪ ،‬وحتى صورة الإمام المعلقة بمحاذاة ح!!زم التبن وسم الف!!ئران " غطى ونيم‬
‫الذباب زج!!اج الص!!ورة ‪ ،‬خاصة هن!!اك عند العي!!نين والفم والعمامة ‪ ،‬فب!!دا كأنه بث!!ور‬
‫متقيحة في الوجه "‪. 3‬‬
‫ل!!!!ذلك ك!!!!ان البد من التخلص من ه!!!!ذا الواقع المعيق المتحجر بكل ما فيه من عفن‬
‫وق!ذار!ة ‪ ،‬فبينما العج!وز! في دكانه ومش!رب! المداعة مغ!!روس بين ش!!فتيه ‪ ،‬والم!!ذياع‬
‫بج!!واره ص!!امت كمن!!دوب الإم!!ام في الجامعة العربية " س!!قطت جم!!رة من ( ب!!وري‬
‫المداعة ) ووقعت! على أوراق اللفافة ‪ ،‬صوت المداعة الرتيب نقيق ضفادع ‪ ،‬الكالب‬
‫المس!!عورة تتع!!ارك! في الش!!ارع ‪ ،‬اش!!تعلت الن!!ار في الأوراق وامت!!دت ألس!!نتها إلى‬
‫ص!!فائح الكيروس!!ين القريبة ‪ ،‬ثم التهمت بقية الأش!!ياء وص!!عدت نحو ص!!ورة االم!!ام‬
‫الجديد ‪ ..‬ب!!دأت تأكل الإط!!ار الخش!!بي للص!!ورة ‪ ،‬وبلمح!!ة عين التهمت الجسد ‪ ،‬ثم‬
‫الرأس ‪.‬‬
‫سقطت الصورة كتلة من رماد ‪ ..‬خرجت الصراصير! من مخابئها وتبعتها! الفئران ‪..‬‬
‫راحت تهوي ك!!أوراق! يابسة وتس!!تقر! بال أنف!!اس وسط لهب الن!!ار المحرقة ‪ ،‬أجه!!زت‬
‫ألسنة النيران على البضائع المحيطة ب!العجوز! ال!ذي ك!ان محش!وراً بينها ‪ ،‬حاص!رته‬
‫من كل االتجاهات ‪ ،‬تخبّط كقطة انتهت من ممارسة الحب ‪.‬‬
‫ال!!دخان س!!حب س!!وداء ‪ ،‬دوت االنفج!!ارات انقلب الم!!ذياع وت!!دحرج! ح!!تى اس!!تقر في‬
‫الخارج ‪ ،‬وهناك حيث كان الشاب الوسيم! واقفا ً ‪ ...‬انطلق صوت الم!!ذياع عالي!ا ً يعلن‬
‫‪4‬‬
‫الخالص "‬
‫وفي قصة ( الذماري! ) تأني هذه الغاية من ذلك الفعل الذي قام به صديقه الش!!يخ حين‬
‫اس!!تغل عي!!ون العدالة العمي!!اء في إطالق س!!راح ال!!ذماري! وتخليصه من تهمة ظالمة‬
‫كانت ستؤدي! بحياته ‪ ،‬قادته إليها نفس العيون العمياء للعدالة يحدثنا ( الذماري ) عن‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪29،28‬‬
‫‪ 2‬عبد الفتاح عبد الولي ( البشارة ) وزارة الثقافة واالعالم م صنعاء ‪1985‬م ‪ ،‬ط‪ ، 1‬ص‪67‬‬
‫‪ 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪63‬‬
‫‪ 4‬عبدالفتاح عبدالولي ( البشارة ) مرجع سابق ‪ ،‬ص‪69،68‬‬

‫‪261‬‬
‫هذا الموقف ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬قال الشيخ مخاطباً! الم!!دير ‪ ،‬وقد ق!!ام بتوزيع! هباته من الق!!ات‬
‫كالمعتاد ‪:‬‬
‫هل وصلت إفادة بخصوص ( الذماري )‬ ‫‪-‬‬
‫وصلت ‪ ....‬وتفيد بالإفراج عنه ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫هزته الفرحة وهنأه الجميع ‪ ،‬لكن المدير قال ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكنها معلقة بشرط الضمان والكفالة عنه ‪ ...‬ومغادرة صنعاء نهائيا ً ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫قال الشيخ بحماس ظاهر ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫ال يهم ذلك ‪ ،‬فأنا على استعداد للضمانة والكفالة عليه ‪ ،‬وبمغادرته صنعاء فوراً ‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫وهل تضمن عليه بأن ال يعود إلى توريد! الحبوب إلى صنعاء أو االتجار بها ‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫واندهش الجميع لذلك ‪ ،‬بينما قال المدير ‪:‬‬
‫لقد دهشت أنا أيض!!ا ً من ش!!رط ( العامل ) ‪ ..‬ول!!ذلك أخرتها ل!!دى ح!!تى نجيب على‬ ‫‪-‬‬
‫( العامل ) بأن الرجل ال يورد! الحبوب وإنما قضيته تختلف عن ذلك ‪.‬‬
‫واحتار ( الذماري! ) لهذا الموقف المفاجئ العجيب وقد ش!عر أن أمنية الرجل الوق!ور!‬
‫ببقائه تكاد تتحقق ‪ ،‬فنط إلى الشيخ فوجده يفكر مليا ً ‪ ،‬وفجأة قال مخاطباً! المدير ‪:‬‬
‫لقد ضمنت وكفلت على الذماري بما هو مطلوب منه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكن ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكن إذا رجعت الإفادة إلى العامل ‪ ...‬فأنا على يقين بأن الذماري! سيعرقل! مرة أخ!!رى‬ ‫‪-‬‬
‫وإلى الأبد ‪ ...‬وأنتم تعرف!!ون قض!!يته تمام !ا ً فال داعي للع!!رض م!!رة أخ!!رى للعامل ‪،‬‬
‫فربما يكون هناك ( ذماري! ) آخر يورد! الحبوب في سوق! الطعام قد عرضت قضيته‬
‫صدفة عند العامل الجديد عند وصول شكية الأخير ‪ ،‬فهذا من حسن حظ صاحبنا! ‪...‬‬
‫اقتنع المدير بذلك ونظر إلى الذماري الذي تململ بألم لمغادرته ص!!نعاء ‪ ،‬وقد! اق!!ترب‬
‫من الشيخ وهمس له قائالَ ‪:‬‬
‫لكن ما السبب لمغادرتي! صنعاء ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وما الفائدة لبقائك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أريد أن أعمل ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫لقد نفذت بجلدك ال داعي لبقائك "‬ ‫‪-‬‬

‫‪ )5‬أعمال تسعى إلى إثارة الوعي بحقائق انحراف المسار‬


‫وهذه أعمال انبت وجودههاـ في زمن ما بعد الثــورة ‪ ،‬وأحــداثها تجــري في واقــع مــا‬
‫بعد الثورة أيضا ً ‪ ،‬وهي أعمال يحركها قلق انطفاء الوعي باســتمرار الــرفض الــذي‬
‫قد يؤدي إلى مزيد من انحراف مسار الثــورة وإحبــاط غاياتهــا التغييريــة ‪ ،‬بــالأخص‬
‫وأن هذه األعمال تركز عدستها على حركة تلك السياسات ذات الجهــود الممنهجــة ‪،‬‬
‫والســاعية بمســار الثــورة إلى االنحــرافـ الفعلي ‪ ،‬ومن هنــا فهي توظــفـ طاقاتهــا‬
‫وتسخر إمكاناتهاـ مركزة على كشف االختالالت وإبراز االنحرافات النابتة في مسار‬
‫خط التغيــير السياسـيـ واالجتمــاعي بهــدف التنويــه إليهــا وإثــارة الــوعي بهــا كي يتم‬

‫‪ 1‬زيد مطيع دماج ( طاهش الحوبان ) مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.128 -129‬‬

‫‪262‬‬
‫تدارك الموقف قبل تفاقم الأوضاع وصعوبة السيطرة عليها ‪ ،‬وحـتى ال يجـد الشـعب‬
‫اليمني نفسه يعيش مرة أخرى في مأساة جديدة ‪.‬‬
‫وبداية برواية ( وسام الشرف ) كنموذج للأعمال الروائية التي انتظمتهاـ هذه الغاية ‪،‬‬
‫فإننا نلتقي تشــكلها خالل جزئياتهــا المبثوثــة على طــوال السـياق الــروائي ‪ ،‬من هــذه‬
‫الجزئيات ‪:‬‬
‫‪ ]1‬التأكيد على أن المناضــلين الــذين انخرطــواـ في صــفوف الــدفاع عن الجمهوريــة‬
‫( الجمهوريين ) لم ينخرطوا في ذلك باذلين الأرواح والأنفس إال ألنهم كانوا مؤمنين‬
‫بقضية شعب أرادوا له النهوض والتطور‪ ،‬أما أولئك الـذين ذهبــوا للـدفاع عن عـودة‬
‫الملكيــة ( الملكيــون ) فقــد كــانوا محكــومين بــرؤاهم الضــيقة وأحالمهم الصــغيرة‬
‫ومصــالحم الأنانيــة ‪ ،‬قــال عبــد الــرؤوفـ يخــاطب ( نــور) الجنــدي العائــد من جبهــة‬
‫القتال ‪ ":‬أتعبــوكم الملكيــون بأســلحتهم الأمريكيــة المتطــورة ؟ فــردـ الجنــدي بكلمــات‬
‫مقتضية ‪ " :‬نعم ولكن ليس لديهم قضية ‪ ،‬وأنزل العامل حميد ( السريحي ) نظراته‬
‫من الســقف مغتصــبا ً لســانه على المشــاركة في الحــديث كمجــاراة في مقــام الضــيف‬
‫الجديد ‪ :‬يا ورع ‪ ،‬أمطرواـ المدينة وهي بعيــدة بــداناتهم ‪ ،‬فكيــف بالرجــال الــذين هم‬
‫في الجبهــة المتقدمــة ؟ مطمــط ( الدباس ـي ) شــفتيه المتــدليتين ألســفل كشــفتي عجل‬
‫سيامي قائالً ‪ ":‬كل شيء يهون يا جماعة ‪ ...‬مادام الموت أو الحيــاة من أجــل الثــورة‬
‫أمنـا ً جميعـا ً ‪ ...‬ألم يقــل الراديـوـ من أن الثــورة ســتخلص الشــعب من الفقــر والجهــل‬
‫‪1‬‬
‫والمرض "‬
‫‪ ]2‬التنويه إلى أن آخر حرب شريفة خاضها الشرفاء من المناضلين في اليمن كــانت‬
‫حرب السبعين وألجل ذلــك لم تعــد هنــاك ضــرورة إلى حمــل الســالح ‪ ،‬وإنمــا يلــزم‬
‫التوجه نحو بناء الــوطن وإعمــاره ‪ " :‬أفــرغ ( نــور ) آخــر رصاصـة لـه من خـزان‬
‫الذخائر ‪ ،‬وهز اآللي في يده كأنمــا يتأكــد من فراغــة ‪ ...‬ثم تطلــع إلى العمــال بعيــون‬
‫فرحــة وقــال بصــوت ال يخلــو من الغبطــة ‪ :‬أتمــنى بعــد اليــوم أن ال تنطلــق في هــذه‬
‫المدينة رصاصة ‪ ،‬وكانت الساحة من خالل النسمات الليلية ال تزال تع بق بشيء من‬
‫رائحة البارودـ ‪ :‬لقد شبعنا من هذه الروائح ‪ ...‬نأكل على روائح االنفجــارات ونتنفس‬
‫روائح البارودـ ‪ ،‬وننظر إلى أشعة الشمس فنراها بلون البارود ‪ ...‬ســنتين في الجبــال‬
‫والسهول والجحورـ ‪ ...‬حتى عرقنا الذي كنا نستنشـقه بلـون آخـر أضـحت لـه روائح‬
‫‪2‬‬
‫الحديد والبارودـ "‬
‫‪ ]3‬إن قيام الثورة اليمنية في الشمال والجنوب قد جاء نتيجة لضرورة ملحة تطلبتهــا‬
‫رغبة التغييرـ ‪ ،‬غير أن تلك الأهداف الناصعة التي قامت لأجلها قد تالشت بــاكراً في‬
‫زحام التآمر وهوجاء التسابق على اقتسامـ الغنيمــة ‪ ،‬وهــذا ( نــور ) يــرد على ســؤال‬
‫( علوان ) ‪ -" :‬ولكن هل تعتقدون بــأن مــا كنتم مســتعدين إلزهــاق الــروح من أجلــه‬
‫باق اآلن ؟ فهـز نـور رأسـه في تعجب ودهشـة ‪ ...‬ولأول مـرة يوجـه إليـه مثـل هـذا‬
‫السؤال كانفجار مدفع ولو أنه سئل مثل هذا السؤال ‪ ،‬أو وجــه لغـيره من الشــباب في‬
‫جبهات القتال ‪ ...‬لسارت المعارك ربما في غير تلــك الوجهــة الــتي انتهت بــالأمس ‪.‬‬
‫ولم يتركــه ( علــوان ) للتلجلج والحــيرة ‪ ،‬وإنمــا تــابع كــالعليم المتأكــد " إن الثــورة‬
‫‪ 1‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪10‬‬
‫‪ 2‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص‪12‬‬

‫‪263‬‬
‫والجمهوريــة لم تعيشــا في هــذا البلــد أكــثر من خمس ســنوات فقــط ‪ ،‬ثم رحلتــا مــع‬
‫أصحابها الراحلين " وكمن لم ينتظرـ أي إجابة من تلميذ مستجد راح يشفط الــدخان ‪:‬‬
‫" لقد كان هناك ثورة وهناك جمهورية في يوم ما ‪ ..‬ثم طارت ‪ ..‬طارت ‪ ،‬إنهمــا في‬
‫‪1‬‬
‫جيوب الرجعية اآلن "‬
‫‪ ]4‬التأكيد على واحدية الهدف ووحدة الشعب في الشمال والجنوب ‪ ،‬وحرصــه على‬
‫إنجـاح الثـورة والـدفاع عن الجمهوريـة بمواجهـة الـدعاوى الزائفـة الـتي سـعت إلى‬
‫تفتيت وحدة الوجدان اليمني إزاء الثـورة والجمهوريــة ‪ ،‬وأخـذت تبث ســموم الفرقـة‬
‫بين أبناء الوطن الواحد بأن تنسب شرف الدفاع عن الثورة والجمهورية إلى منــاطق‬
‫بعينها ‪ ،‬وتسلب المناطقـ الأخرى هذا الشرف ‪ ،‬فأبناء الجنوب كــانت لهم – أيض ـا ً –‬
‫مشاركتهمـ الفاعلة في إفشال مؤامرة اإلحاطة بالثورة واالرتــداد بهــا ‪ ،‬وفــك حصــار‬
‫السعبين عن صنعاء الأبية ‪.‬‬
‫وهذا ( نور محبوب المعسلي ) رغم تحــذير والــده وخوفــه عليــه ‪ -":‬يا نــور ولــدي‬
‫وانت تذهب وترحل عن عيني إلى وجهة ال أعرف إن كانت واضــحة أو مجهولــة ‪،‬‬
‫وفي الوقت الذي ال يعــرف أي منــا إن كنــا ســنلتقي بعــد هــذا أو لن يتمكن أحــدنا من‬
‫رؤية اآلخر " ‪ ، 2‬يرحل إلى الشــمال لاللتحــاق في صــفوف المــدافعين عن الثــورة ‪،‬‬
‫وبعد أن أعلن النصر يتوجه إلى صنعاء ‪ ،‬وهــذا ( علــوان ) يعــرف الصــحابة بــه ‪،‬‬
‫فيقــول ‪ - " :‬نــور ‪ ...‬نــور محبــوب المعســلي ‪ ،‬قبــل شــهرين فقــط كــان عائــداً من‬
‫الجبال ‪ ...‬من متطوعي الوطن رغم إرادة أبيه ‪ ،‬وأحد أبطال معاركـ السبعين يــوم "‬
‫‪.3‬‬
‫‪ ]5‬التأكيــد على انحــراف مســار الثــورة وتبــدد أهــدافها تحت ســنابك الصــراعات‬
‫والمعارك السياسية التي احتدمت بين الأطرافـ المتنازعــة على الســلطة ‪ ،‬بينمــا بــاء‬
‫البســطاء من أبنــاء الشــعب وأصــحاب المصــلحة الحقيقيــة من قيــام الثــورة بالخيبــة‬
‫والخســران ‪ ،‬وترصــد الرويــة مظــاهر االنحــراف الــتي يمكن بلورتهــا من خالل‬
‫المستويات الآتية ‪-:‬‬
‫ا) المستوىـ السياسي ‪:‬‬
‫وقد تم التركيز في هذا المستوى على المظاهرـ الآتية ‪:‬‬
‫قمع الحري!!!ات ‪ ،‬ويتجلى من خالل تح!!!ريم! العمل الح!!!زبي ومنع التعددية ‪ ،‬وتكميم‬ ‫‪-1‬‬
‫أف!واه المعارض!!ين وإقص!!ائهم ‪ ،‬ومالحقتهم وال!زج بهم في الس!!جون والمعتقالت بتهم‬
‫جاهزة ‪ ،‬فأغلب الشخص!!يات ال!!تي ظه!!رت في ه!!ذا العمل ال!!روائي! قد ذاقت من ه!!ذه‬
‫الويالت ألوانا ً ‪.‬‬
‫فن!ور يتك!رر س!جنه وي!تردد على المعتقل ألك!ثر من م!رة ح!تى امتنع عن أي ح!ديث‬
‫يمت بصلة للسياسة‪ ، 4.‬وعلوان يزور! المعتقل لعدة أيام ويرمي! به بعدها كالنفاية ‪، 5‬‬
‫وكردة لم يعد أحد يع!!رف عنه ش!!يئا ً ‪ ، 6‬والس!!ريحي! يب!!دو ه!!ذه الأي!!ام مثل قط كس!!يح‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪29‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ص ‪53‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪55‬‬
‫‪ 4‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪215،224‬‬
‫‪ 5‬المرجع السابق ص ‪233،236‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه ص ‪195‬‬

‫‪264‬‬
‫ي!!ائس ‪ ،1‬وأبو نض!!ال قد تمت تص!!فيته من قبل الرف!!اق! في الجن!!وب ي!!وم أن فق!!دت‬
‫الأرض توازنها! في عدن والمنصورة ‪ ، 2‬وبعضهم! ينفر ‪ -‬نتيجة لهذه الضغوط ‪-‬بعيداً‬
‫‪ ،‬كعبد الواحد وعبد ال!!رؤوف الل!!ذين ه!!اجروا! إلى من!!ابع النفط ‪ ، 3‬وقد! تنشط أحيان !ا ً‬
‫محاوالت جادة الس!!تقطابهم! كي يعمل!!وا في جه!!از االس!!تخبارات! ‪ ،‬وه!!ذا أمين الزئبق‬
‫المناضل الق!!!ديم في الجبهة في ع!!!دن قد تم اس!!!تقطابه ‪ ،‬وأخذ ينشط في اس!!!تقطاب‬
‫اآلخرين ‪ ،‬نسمعه يحاول إقناع ( نور ) باالنضمام إليه ‪ ،‬فيق!ول ‪ -" :‬ل!ذلك أخترتك يا‬
‫ن!ور كما اختارتك! الجبهة من قبل في ع!دن لتك!ون أحد مناض!ليها ‪ ،‬وحين رم!اه ن!ور‬
‫بنظرات كالوخز! مستفسراً عن فلسفته الجديدة التي لمح بها أكثر من مرة في مح!!اذرة‬
‫من التصريح الواضح الذي كان نور في كل مرة يتحاشاه "‪. " ......‬‬
‫بوض!!وح يا ن!!ور وبص!!راحة ‪ ..‬أنت مثقف وف!!اهم ‪ ،‬وأهم من كل ذلك جبه!!وي! س!!ابق‬ ‫‪-‬‬
‫‪ ، ...‬فلماذا ال تكون اآلن معنا في جبهة الوطن !؟ ‪ ،‬وجعل أمين وهو يقول ذلك ربطة‬
‫جديدة من فئة المائة لاير تس!!قط منه كأنما أطارتها المالوي بغ!!ير قصد ‪ ...‬ثم أض!!اف‬
‫– وهو يعيده إلى جيبه ‪ -‬أنت وطني! يا نور في التحليل الأخير ‪ ..‬ف!!إلى م!!تى س!!تهرب‬
‫‪4‬‬
‫من الوطن ؟"‬
‫غياب مشروع! الدولة والذهاب في تقوية مركز الحاكم إلى استرضاء مراكز الق!!وى‬ ‫‪-1‬‬
‫القبلية والمشيخية على حساب بس!طاء الن!اس ‪ ،‬ال!ذين وج!دوا وطنهم يس!لب من تحت‬
‫أيديهم ويتحول! إلى غنيمة تتقاسمها هذه القوى بعيداً عنهم ‪.‬‬
‫فقد طغت أس!!طورة التوسع في امتالك مس!!احات الأراضي ‪ ،‬وتب!!ديل مع!!الم المك!!ان‬
‫وف!رض مب!دأ س!يادة ما غ!دا واقع!ا ً فعلي!ا ً على الأرض ‪ ،‬وتحويل مس!ارات الش!وارع‬
‫والمخططات بما يتوافق! ومصالح هذه القوى ‪.‬‬
‫فقد روى ال!!رواة " ب!!أنهم ي!!رون في الليل أناس!!ا ً في مالمحهم ش!!كل الوجاهة ‪ ،‬وفي‬
‫عيونهم نظرات التسلط ‪ ،‬وهم بمالبس خضر وعمائم كالمباركين الذين ال يحض!!رون‬
‫وال يراهم الن!!اس إال من أي!!ام الكرام!!ات ‪ ،‬و ألنهم ك!!ذلك فال ي!!رون وج!!وههم! حقيقة ‪،‬‬
‫وإنما أطيافهم وأشباحهم! بالنيابة يطوف!!ون في كل ليلة بجهة من أط!!راف! العاص!!مة ‪...‬‬
‫وكلما مش!!!وا على أرض ج!!!رداء أو أرض زراعية فال تص!!!بح إال بكرامة المس!!!لح‬
‫وجاهزة من كله ‪ ،‬ابتدا ًء من القواعد والأعمدة وانتهاء بالتش!!طيب! النه!!ائي كأنما الجن‬
‫‪5‬‬
‫تساندهم بالطالسم "‬
‫وهذا نور يحدث حورية عن ه!!ول ما رأى من الح!!رب وعن أولئك ال!!ذين م!!اتوا وهم‬
‫يحلمون برؤية وجه الوطن بعد الحرب ‪ ،‬تس!!توقفه بعض ص!!فوف العم!!ارات الحديثة‬
‫التي اكتسحت مساحة من مساحة العشب واالشجار التي رآها من قبل وأخ!!رى مقامة‬
‫لم تكتمل بفعل أكوام الحجارة واالخشاب والحديد! ونت!!وءات الحفر ال!!تي ت!!برز ك!!أفواه‬
‫حيوانات خرافية طافية بفعل الغروب ‪ ...‬فال تكاد ه!ذه بعد أي!ام أن تبتلع هي الأخ!!رى‬

‫‪ 1‬نفسه ص ‪85‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص‪109‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪230‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪214،214‬‬
‫‪ 5‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪245‬‬

‫‪265‬‬
‫مساحة من الأشجار والعشب ‪ ،‬وقد! حز ذلك في نفسه ‪ ،‬وش!!عر باالنقب!!اض ج!!راء ذلك‬
‫الغول ‪ ،‬ولكنه بصمت كالنار الهادئة ال!!تي تمتص ض!!حيتها! بش!!فافية دون أن يحس به‬
‫أحد ودون أن يفشي لها ما ال تريد أو تحب أن تسمعه ‪ ،‬وحين ك!ان ق!رص الش!مس قد‬
‫زحف وهو على وشك الغط!!وس خلف جبل الن!!بي ش!!عيب وب!!دأ ش!!عاع الش!!مس في‬
‫البهوت ‪ ..‬فقد انعطفا في طريق العودة "‪ "...‬في شارع معاكس كان قد مشى هو فيه‬
‫وخبره قبل ذلك كثيراً ‪ ،‬ولكنهما اصطدما! بمنزلين عشوائيين أقيما من الروث والطين‬
‫ومن ط!!!ابق واحد كح!!!اجز يس!!!دان الش!!!ارع مما يشي بإلغائه ‪ ،‬وتعديله في اس!!!تدارة‬
‫حلزونية تؤدي! بعد ذلك إلى شارع صغير وضيق آخر بشكل كاريكاتيري مضحك ‪.‬‬
‫الذي سيعرف بعد ذلك بأسابيع من ه!ذه الليلة ب!أن البلدية قد عدلته وألغته من المخطط‬
‫الك!!ائن إلى ش!!يء لن يك!!ون ‪ ،‬بن!!اء على الأوامر بض!!غط! من أحد الوجه!!اء والمق!!ربين‬
‫‪1‬‬
‫لسدة الحكم "‬
‫‪ -3‬تزييف! الحق!!!!ائق التاريخية وفق رؤية سياس!!!!ية تس!!!!عى بالدتها إلى شق الصف‬
‫وخلق صدع في قلب الوحدة الوطنية بإعالء شأن مناطق على حساب من!!اطق أخ!!رى‬
‫وتوطيد! ذلك عبر الخطاب السياسي والإعالمي ‪ ،‬فنور الذي كان يتوقع! أن ي!!رد أس!!مه‬
‫ضمن الأسماء المعلن حيازتها! للأوسمة ‪ ،‬يستمع إلى أسماء تت!وارد على لس!ان الم!ذيع‬
‫عبر شاشة التلفزيون ال عالقة لها بح!رب الس!بعين ‪ ،‬بل وبعض!ها! ال يتناسب س!نه مع‬
‫ادعاء شرف المشاركة في هذه الحرب ‪.2‬‬
‫وبالطبع فإن هذا الشرف المزع!!وم يس!!تتبعه س!!يل من االس!!تحقاقات! ‪ ،‬فذاك ك!!ان أب!!وه‬
‫مناضالً وذاك كان عمه وآخر خاله وهكذا حتى ظلت المناصب المهمة ت!!دور! في فلك‬
‫مربع يضم أسر وأس!!!ماء بعينها ض!!!من نظ!!!ام الحكم بوالئها! اس!!!تمراره ‪ ،‬وض!!!منت‬
‫باستمراره استقواءها وأمان مصالحها! ‪.‬‬
‫ب) على المستوى االجتماعي ‪:‬‬
‫وقد! تم التركيز! في هذا المستوى على ‪:‬‬
‫‪ ]1‬غلبة النفعية وبروز! قيم سلبية جديدة تجلت من خالل مظاهر مختلفة من اس!!تحالل‬
‫أموال الدولة بغير وجه حق والرشوة والواسطة والنصب واالحتيال! ‪ ،‬فقد كان الن!!اس‬
‫في ص!!نعاء ي!!رون أن!اس " ي!دخلون بغ!برة أق!!دامهم الحافية من مختلف الأط!راف! في‬
‫العاص!!!!مة ليالً ثم يتجول!!!!ون في المص!!!!الح والمنش!!!!آت الحكومية الحديثة ص!!!!باحا ً‬
‫بحواالتهم ‪ ،‬ومن أي أحد حتى زئبقات سجاير ال ترد فيكونون في الأي!!ام القليلة التالية‬
‫لها في أنحاء من العاص!!مة المتس!!عة بالحركة والتط!!ور بص!!والين من الس!!يارات آخر‬
‫موديل ‪ ....‬فضالً عن النعمة السريعة التي تطرد من وجوههم! الغبار " ‪. 3‬‬
‫كما رؤي بعضم يع!!رض ورقة في وزارة االقتص!!اد! والتج!!ارة تس!!مح له باس!!تيراد‬
‫أربعمائة ألف طن من الحديد معفى من الض!!رائب والجم!!ارك وأية مترتب!!ات أخ!!رى‬
‫‪4‬‬
‫للدولة ‪.‬‬
‫‪ 1‬المرجع السابق ص ‪6،5‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه ص ‪193‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪146‬‬
‫‪ 4‬المرجع السابق ص ‪146‬‬

‫‪266‬‬
‫‪ ]2‬اتساع الهوة االقتصادية في ظل حركة السوق المريبة بين أبن!!اء المجتمع الواحد ‪،‬‬
‫وب!!روز الف!!وارق الطبقية بش!!كل غ!!ير مس!!بوق! ‪ ،‬فقد ظهر في الس!!وق مل!!وك وأغ!!وال‬
‫ومس!!تثمرون كب!!ار ‪ ،‬وك!!ثر! في المقابل الش!!حاذون ‪ ، 1‬وان!!زوى الموظف!!ون ب!!دخول‬
‫محدودة ال تكاد تسد الرمق ‪ ،‬وهذا نور يحاول تك!!ييف مص!!روفاته مع م!!رتب أقص!!اه‬
‫عشرة دوالرات في الشهر ‪ ،‬فيكتفي بوجبة واحدة في اليوم ‪ ، 2‬وأما الخالة زهراء فقد‬
‫أخذت تحث زوجها! المراسل على السرقة ‪ ،‬فت ق!!ول له ‪ -":‬ما قلت ش!!يء ولكن تفعل‬
‫‪3‬‬
‫ما يفعل الناس وأنت اليوم أمين صندوق ‪ ،‬ومثلك مثلهم ‪ ...‬من جيزهم "‬
‫‪ ]3‬االقرار بحقيقة انعدام حصول تغيير حقيقي على المستوى! االجتماعي ‪ ،‬فال ي!!زال‬
‫الجهل ‪ ،‬وال يزال الثأر وحمل السالح ‪ ،‬فعندما صرح ( شاكر البط!!الي ) ب!!أن أهم ما‬
‫يس!!عى إليه هو " القض!!اء على انتقامية الثأر الشرسة في بالدنا اليمن ‪ ...‬ه!!ذه الع!!ادة‬
‫الكافرة في سلوك مس!لمين يتش!دقون ب!ديانتهم! القوية ل!دين الإس!الم ال!ذي يلعن ويمقت‬
‫ذلك لدرجة أن أنطق ذلك التصريح كهل من القبائل ‪ ،‬فهب يقبله وهو يبكي ناطق!!ا ً بعد‬
‫خ!!رس دام عشر س!!نوات ‪ ،‬إثر فقدانه ألعز ثالثة من أبنائه الثمانية عشر ‪ ،‬وهو يري‬
‫الحاض!!!رين لبطاقة حديثة عائلية له ولأوالده ال!!!ذين ازدادوا تس!!!عة على م!!!دى عشر‬
‫س!!نوات من زوجتيه االثن!!تين ليص!!بحوا مع ب!!دل ال!!ذين فق !دهم درزنين ‪ ،‬وكل ذلك ال‬
‫لشيء إال ليزيد نس!!له تحس!!با ً من أي ث!!أر آخر ولكي يكون!!وا ك!!الجراد في الأخذ بحقهم‬
‫من جهة ومن جهة أخ!!رى في التناسل ح!!تى يش!!كلوا ‪ -‬إن ش!!اء هللا‪ -‬قبلية مس!!تقلة ‪،‬‬
‫فكلما قضى! جراد منهم انبعثت منه طائفة من الجراد إلى ما يشاء هللا لهذا البلد والث!!أر‬
‫"‪. 4‬‬
‫وفي موضع آخر نش!!هد ( ن!!ور ) بعد أن أغفى قليالً مع ته!!اوي! عجالت الحافلة ال!!تي‬
‫يس!!تقلها ‪ ،‬يتيقظ على ص!!وت اص!!طكاك عجالتها ‪ ،‬حيث ك!!ادت تص!!طدم! برتل من‬
‫الث!!يران والبقر الالتي قطعن الش!!ارع ‪ ،‬وانتظر " ح!!!تى ع!!!بر آخر ث!!!ور مع الزامل‬
‫والطبل اللذين كانا يص!!!طحبان القطيع ‪ ،‬ولم يمض إال وقت قليل من حيرته في ماهية‬
‫‪5‬‬
‫هذا االحتفال بالقطيع ‪ ..‬حتى قال السائق ‪ :‬هذه هجر قتل "‬
‫وهذا المسيوآلر أحد المستثمرين يغادر اليمن مفزوعا ً ‪ ،‬بتلك الزخ!!ات من الرص!!اص‬
‫وأصوات الق!!ذائف ال!!تي س!!معها في الليل!!تين الل!!تين قض!!اهما في الفن!!دق ‪ ،‬رغم الجهد‬
‫الذي بذله خادم الفن!دق في توض!يح مص!در الرص!اص ‪ ،‬ففي الم!رة الأولى ب!رر ذلك‬
‫بحادث عارض ‪ ،‬وفي! الليلة الثانية أفاد بأن " ما حدث ال يتعدى مزحة إخافة ‪ ،‬تحدث‬
‫أحيانا ً بين مضاربي! الأراضي! ال!ذين يتن!ازعون أرض!ا ً أو أك!ثر وكل منهم يملك نفس‬
‫‪6‬‬
‫بصائر الملكية ‪ ،‬فيرتشقون بالمدافع! الرشاشة ليخيف كل منهم اآلخر "‬
‫ج] على المستوى االقتصادي! ‪:‬‬
‫تم التركيز! على ‪:‬‬
‫‪ 1‬المرجع نفسه ص‪62‬‬
‫‪ 2‬نفسه ص ‪225‬‬
‫‪ 3‬نفسه ص‪208‬‬
‫‪ 4‬نفسه ص ‪150‬‬
‫‪ 5‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ص ‪206‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق ص ‪154‬‬

‫‪267‬‬
‫‪ ]1‬أضرار سياسة االنفتاح االقتصادي غير المدروس! ال!!تي أدت إلى تف!!اقم الأوض!!اع!‬
‫حتى صعبت الحياة في وجه البسطاء ‪ ،‬وكذا سياسة الح!!زب االقتص!!ادية في الجن!!وب‬
‫التي اعتمدت بشكل أساس على تأميم الممتلكات ‪ ،‬مما جعل من الثورة إنجازاً قاسياً! ‪.‬‬
‫يتساءل نور المعسلي قائالً ‪ " :‬هل يكون هللا الواحد وحده ال!!ذي أراد أن يك!!افئ قس!!وة‬
‫التجارة وحذفها! بقسوة أي شيء آخر وعنفه ‪ ...‬قد يكون الث!!ورة أو غيرها ؟ "‪........‬‬
‫" لعل هللا قد بعث هذه الضرورة في الثورة ‪ ...‬هذه مقابل ض!!راوة الحج!!ارة في البن‬
‫ولعله الش!!يطان وح!!ده ال!!ذي ‪ .......‬لم يكمل ‪ "......" ،‬ولكن هل ك!!ان يت!!وجب القي!!ام‬
‫بتأميم العمارات وتنفير الناس ؟‬
‫وس!!!ار! يه!!!ذي بعد ذلك في ش!!!وارع! المعلى الخلفية بعد أن ن!!!زع نظراته بقس!!!وة من‬
‫العمارات ‪ .‬هل كان يتوجب ذلك !؟ بدالً من أن تستنفر هذه الثورة العم!!ال والفالحين‬
‫والمجتمع مثالً في ثالثمائة كيلو م!!تر من الأرض ب!!الفؤوس في وادي حض!!رموت ‪...‬‬
‫مثالً ‪ ....‬مثالً ‪ ...‬ذلك مج!!رد مثل من عش!!رات من الفعالي!!ات ؟ عند ذلك ابتسم عن!!وة‬
‫‪ ...‬ابتسامة مسحوبة بمشقة من الصدر ‪ ،‬وهو يستعيد كلمات والده الحاج المعسلي ‪...‬‬
‫الحركة بركة والعمل بركة والعمل رزق ومجلبة للعيش الفض!!يل ‪ ،‬ولن يعجن الن!!اس‬
‫‪1‬‬
‫شعاراتهم! وأحالمهم ويأكلونها "‬
‫‪ ]2‬التراجع السريع لسعر العملة ‪ ،‬وإخفاق الحكومة في حل المش!كالت االقتص!ادية‬
‫‪2‬‬

‫‪ ،‬نسمع حواراً يدور! على الحافلة بين بعض الركاب ‪ -" :‬وهللا ما عاد نخاف من شيء‬
‫ه!ذه الأي!ام إال من مناقشة الحكومة لمعان!اة المواط!نين ‪ ...‬توقف! لحظة ريثما يس!يطر!‬
‫على أنفاس عجزه الالهث ‪ ،‬ثم أردف في سلم الباص وهو ينزل ‪:‬‬
‫‪ -‬هي الآفة ‪ ،‬فكلما تكلمت عن المعاناة أص!!بحنا على مص!!يبة أشد من المعان!!اة ‪ ،‬ن!!زل‬
‫القبيلي العجوز وهو يداري بقايا أنفاسه المنفعلة ‪ ..‬فقال الشاب الموظف! المراجع عن‬
‫الترقية ‪ ،‬وهو يتبعه ‪:‬‬
‫‪ -‬وهللا إنه الحق ‪ ،‬فإذا أراد الناس أن يكون هللا رحيما ً بهم في ق!!در الغالء ‪ ،‬أن يطلب!!وا‬
‫من ه!!!ذه الحكومة أن تكف عن التكلم عن معان!!!اة المواط!!!نين ‪ ،‬وإال أن نطلب من هللا‬
‫‪3‬‬
‫الرحمة باالستقالة "‬
‫وقد نشطت التجارب القصصية التي توافرت على ش!!روط! االنتم!!اء إلى ه!!ذا المبحث‬
‫من الدراسة لتقف على نق!!اط من ه!!ذا االنح!!راف! أض!!اءت خاللها من!!اطق! جدي!!دة ‪ ،‬لم‬
‫تش !تمل عليها المعالج!!ات الروائية أحيان !ا ً ‪ ،‬أو تض!!منتها! كوق!!ائع! ص!!غيرة في س!!ياق‬
‫أبنيتها الحديثة أحيانا أخرى ‪ ،‬فأتت القصة القصيرة لتس!!لط عليها أض!!واءها المرك!!زة‬
‫ولتبرزها! تجارب مستقلة ومكتملة ‪.‬‬
‫فقصة ( السفر إلى زمن الضوء ) – مثالً‪ -‬تصور! هذا االنح!!راف بأس!!لوب رم!!زي ‪،‬‬
‫حيث نلتقي الرجل الذي اعتقد يوما ً أنه خرج إلى زمن الض!!وء يكتشف! أن ش!!عوره ال‬
‫ي!!زال مكتنف !ا ً بأزمنة الظالم ‪ " :‬ما إن احت!!واني زم!!ني الجديد ح!!تى ش!!عرت ب!!أن كل‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه ص ‪124‬‬


‫‪ 2‬نفسه ص ‪203‬‬
‫‪ 3‬محمد مثنى ( وسام الشرف ) مرجع سابق ‪204‬‬

‫‪268‬‬
‫شيء قد توقف! عن الحركة ‪ ،‬ورغم انفصالي عن الزمن الذي جئت منه فإن إحساسي‬
‫به لم يتغير ‪ ،‬زم!!ني الجديد ال تغطيه الظلمة وال تض!!يئه الش!!مس ال تب!!دده الضوض!!اء‬
‫وال يهدئه السكون ‪ .‬زمن ككل الأزمنة بال لون وال طعم وال رائحة ‪ ،‬أذن!!اي تس!!ترقان‬
‫أصداء الزمن الذي انفصلت عنه فيكتنف شعوري األلم والحزن ‪ .‬من ح!!زن ذاتي إلى‬
‫حزن جماعي "‪ ، 1‬وإنه ال يزال يقطن مكانه الذي تفوح منه النتانة ممتزجة ب!!روائح‬
‫قديمة من أزمنة غ!!!!ابرة ‪،‬وتغيرعليه فيه أف!!!!واج البع!!!!وض وتهاجمه جي!!!!وش النمل‬
‫مخترقة كل تحصيناته ‪ ،‬وأنه صار يحيا حياة يأنف الحيوان أن يحياها ‪:‬‬
‫" تناولت الطبق البالستيكي الذي تراكمت فوقه أوساخ السنين ‪ ،‬نظرت إلى ما بداخله‬
‫‪ ،‬هممت أن أعي!!ده ‪ ،‬لكن هاتف !ا ً حف!!زني على تن!!اول بعض منه عل !ه يقي!!ني الم!!وت ‪،‬‬
‫تناولت اللقمة الأولى والثانية ‪ ،‬وقبل تناولي! اللقمة الثالثة ورد إلى مس!!معي م!!واء قطة‬
‫أنهكتها معركة ال!!!!والدة ‪ ،‬رميت لها بعض الطع!!!!ام ‪ ،‬اعتق!!!!دت حينئذ أنها س!!!!تهرع‬
‫اللتقاطه ‪ ،‬لكنها أخذت تنظر إليه دون أن تقترب منه‬
‫هنيهة وع!ادت إلى مكانها ‪ ،‬وأخ!ذت تقضم رأس أحد ص!غارها وهو لم!ا ّ ير الن!ور ‪،‬‬
‫بحركة ال شعورية التهمت الطبق ‪ ،‬وتمنيت لو كانت الكمية أكبر ‪.‬‬
‫عاد إلى مسمعي وقع الأقدام التي تخيفيني دوما ً ‪ ،‬تهي!!أت للع!!ودة إلى المك!!ان ‪ ،‬قبل أن‬
‫أتوارى خلف الباب الهرم "‪ "....‬ارتديت أحسن ما عندي وتابعت الضوء وهو يتسلل‬
‫‪2‬‬
‫من إحدى فتحات الباب ‪ ،‬أشعلت سيجارة وسافرت مع دخانها إلى زمن الضوء "‬
‫وفي قصة ( الأض!!واء الملونة ) ‪ ،‬يتكشف النصر الث!!وري ص!!ورة من ص!!ور الزيف‬
‫والمزايدة الكاذبة ‪ ،‬فمن وسط! المكان الذي يتباهى ببهرجة أض!!وائه وص!!خب أناش!!يده‬
‫المحتفلة بعيد الثورة التي احتشد إليها الكب!!ار ممن تجلى لعي!!ونهم! النصر الث!!وري! نبعا‬
‫ثريا ي!!دفق! عليهم وح!!دهم! بالعوائد والفوائد ‪ ،‬ي!!برز الب!!ؤس بأبشع ص!!وره ‪ ،‬ويظهر!‬
‫الوجه الآخر لحقيقة ه!!ذه البهرجة الخادعة ‪ ،‬حيث نجد أس!!راب المتقص!!دين وجحافل‬
‫الجائعين وهو يترقبون ما تجود به أي!ادي ه!ؤالء المتفض!!لين ‪ ،‬ويتلقف!ون ما يق!!ذف به‬
‫إليهم غرورهم وتجبرهم! ‪ ،‬هؤالء الذين خنقوا الث!!ورة ‪ ،‬واب!!تزوا! نص!!رها! ‪ ،‬وحولوها‬
‫إلى ملك خاص بهم ‪ ،‬فاستأثروا! بخيرها حتى استنزفت تحت أطم!!اعهم ال!!تي ال تنتهي‬
‫حين غدت البقرة الحلوب التي ال يغادرهم! خيرها إلى غيرهم ‪.‬‬
‫وتجسد قصة ( ال!!ركض ) وبأس!!لوب رم!!زي تلك الحالة من مغالطة الجم!!اهير اتق!!اء‬
‫غض!!بها ‪ ،‬وع!!دم ( إخالص النوايا ال!!تي أدت إلى ت!!أخير تحقيق الوح!!دة اليمنية ) أحد‬
‫أهم أه!!داف الث!!ورة والحلم ال!!ذي ظل الإنس!!ان اليم!!ني ي!!ركض خلفه كي يتخلص من‬
‫عذابات االنش!!طار! والتم!!زق! ال!!ذي ألقى بتبعاته على حي!!اة الأس!!رة اليمنية في الش!!مال‬
‫والجن!!وب ‪ ،‬وفيها! نق!!رأ ‪ " :‬أحس أن!!ني ‪ -‬دونها ‪ -‬بال عي!!نين ‪ ...‬بال ش!!فتين ‪ ...‬بال‬
‫مالمح على الإطالق ‪ ،‬يتعمق ش!!عوري بالغربة ‪ ،‬وب!!أنني! مص!!لوب على ج!!دار القهر‬
‫والقلق "‪. " ....‬‬
‫لماذا طال فراقنا! ‪ -‬هكذا ‪ -‬يا ترى ؟! " ‪"..........‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ 1‬صالح باعامر ( دهوم المشقاصي ) وزارة الثقافة والسياحة ‪ /‬صنعاء ‪1992‬م ‪ ،‬ط‪، 1‬ص ‪79‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق ص‪81‬‬

‫‪269‬‬
‫عندما أحرق الأشرار س!!فائننا ‪ ،‬ذات ليلة ‪ ،‬أغرقوها في نهر المدينة قبل أن تس!!افر! بنا‬ ‫‪-‬‬
‫إلى المستقبل ‪ ،‬اضطررنا! إلى االفتراق! " ‪. "...........‬‬
‫كان ذلك هو قدرنا! أن نظل ‪ -‬منذ ذاك ‪ -‬منفصلين نوقد! الن!!ار لنض!!يء لإنس!!انا الب!!ائس‬ ‫‪-‬‬
‫طريق الخالص "‬
‫وكنا نقاسي كثيراً من الجوع والعطش ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نعم يا حبيبتي ‪ .‬لقد كان النهر مليئا َ بالتماسيح المفترسة ‪ ،‬كانت تحتكر كل ش!!يء لها ‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫وكان مفروضا ً علينا أن نظل محرومين من خيراتنا ‪.‬‬
‫فهل ينتهي الفراق ؟!‬ ‫‪-‬‬
‫ال بد أن ينتهي ‪ ،‬بالرغم من أن المخلوقات! الش!!ريرة ال زالت تتك!!اثر! وتح!!اول أن تسد‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫علينا منافذ! الأمل "‬
‫بينما سعت تجارب قصصية أخ!!رى إلى كشف خ!!داع الأنظمة في الش!!طرين وس!!عيها!‬
‫إلى توطيد! الفرقة بإذكاء الصراع بين أبناء الوطن الواحد ‪ ،‬الذي كان يصل في بعض‬
‫الأحيان إلى المواجهات الدموية المسلحة ‪ ،‬ففي ( السحب المسافرة ) نقرا ‪:‬‬
‫" تذكرت أنني حملت السالح واتزرت! بالذخيرة في ي!!وم من الأي!!ام ‪ ،‬وواجهتك! ولكن‬
‫ليس به!!دف قتلك ‪ ،‬وإنما لأع!!انق وجهك الملطخ ب!!العرق وال!!دم ‪ ،‬وألشم! أنفاسك ح!!تى‬
‫وإن كانت عابقة بالبارود! ‪ ....‬هذه حربنا وسيلة إلعادة رب!!اط الحب في معمع!!ان ال!!دم‬
‫والع!!!رق! وال!!!دموع ‪ ،‬نجعلهم يعتق!!!دون أننا نصل إلى حد المواجهة بالس!!!الح عن!!!دما‬
‫نتحارب ‪ ...‬لكننا نحول الحرب التي يبتغون لنا من خلفها الدمار ‪ ،‬إلى فرصة إلع!!ادة‬
‫إصالح ما عطب في الشريان الممتد بين قلبينا ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫نتبادل الحب في زمن الحرب "‬
‫وعلى مس!!!توى فس!!!اد الأنظمة وممارس!!!تها الخاطئة االنتقامية أحيان!!!ا ً ‪ ،‬فقد تن!!!اولت‬
‫القصص الكثير من القضايا كتسليط هذه األنظمة أجه!!زة اس!!تخباراتها على مواطنيها‬
‫وتتبع المعارض!!ين وال!!زج بهم في الس!!جون وتص!!فيتهم! أحيان!!ا ً ‪ ،‬وتزييف! الحق!!ائق‬
‫التاريخية بنسب البطوالت إلى غير أصحابها! ‪ ،‬وتقييد الحريات ومنع المواط!!نين من‬
‫السفر ‪ ،‬والعمل بسياسات اقتصادية خاطئة ضاعفت من معاناة المواطن حتى شوهت‬
‫الثورة ‪ ،‬وشوهت أهدافها ‪ ،‬كل ذلك بهدف إثارة وعي الناس بانحراف مس!!ار التغي!!ير‬
‫السياسي واالجتم!اعي ال!ذي ألجله ق!امت الث!ورة ‪ ،‬وهي تج!ارب قد عرض!نا لها في‬
‫مواضع سابقة من هذه الدراسة ‪.‬‬

‫‪ 1‬إبراهيم الكاف ( االنفجار ) دار الهمداني ‪ /‬عدن ‪ 1984‬م ‪.‬‬


‫‪ 2‬محمد صالح حيدرة ( السحب المسافرة ) دار ابن خلدون ‪ /‬بيروت ‪1980 /‬م‬

‫‪270‬‬
‫الخاتمة ‪:‬‬
‫هكذا أنهت هذه الدراسة رحلتها المتتبعة للدورالذي لعبتة الرواية والقصة القصيرة اليمنيــة‬
‫في التغيير السياسيـ واالجتماعي خالل الفترة الممتدة منذ أربعينيات القرن العشرين وحــتى‬
‫وقتناـ الراهن ‪ ،‬وهو الدورـ الذي تجلت مالمحه القوية عبر مباحثها المختلفة ‪ ،‬التي خلصــت‬
‫إلى النتائج اآلتية ‪:‬‬
‫‪ -1‬إن تجارب الرواية والقصة القصيرة اليمنية قد تجلت عن معالجــات تكشــف عن مقــدار‬
‫واضح من االهتمام بحركة الواقع السياسي واالجتماعيـ للمجتمع من حولها في فتراتــه‬
‫المختلفة ‪.‬‬
‫‪ -2‬إنه على الرغم من أن طبيعة األبنية الروائية والقصصــية تــدون في تكويناته ـاـ للتــاريخ‬
‫اإلنسانيـ غير الرســميـ ‪ ،‬فإنــه يمكننــا الوقــوفـ من خالل معالجاتهـاـ ذات الخصوصــية‬
‫اليمنيــة على مالمح الواقــع السياسـيـ واالجتمــاعي الــذي صــورته من خالل عناصــره‬
‫المجسدة فيها ‪.‬‬
‫‪ -3‬إن الواقع السياسي واالجتماعي لفترة ما قبل الثورة واالستقالل يفرض حضور القــوي‬
‫عليها ويحتل مساحة بارزة من معالجاتها ‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫إن الواقع السياسي واالجتماعي الذي تكشف عن مالمحه هذه المعالجات ‪ ،‬يبدوـ ‪ -‬رغم‬ ‫‪-4‬‬
‫اختالف طبيعته ما بين واقع يقع قبل حدثي الثورة واالستقالل ‪ ،‬وواقـعـ يقــع بعــد هــذين‬
‫الحدثين – واقعا تجتمع مالمحه المشتركة عند انعكاسات فساد األنظمة وســوء إدارته ـاـ‬
‫لشؤون البالد ‪.‬‬
‫إن هذه المعالجات تظهر درجة عالية من االلتزام الواقعيـ بقضايا المجتمع ومشكالته ‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫حتى أن سياقاتها قد تضمنت محددات زمنية معلنة أو مضمنة تحدد بوضــوح أو تكتفي‬
‫باإلشارة إلى الفترة التي تجري عليها أحداث تجاربهاـ ‪.‬‬
‫إن صورة الــزمن السياســي واالجتمــاعيـ قبــل الثــورة واالســتقالل تكتســب مصــداقيتها‬ ‫‪-6‬‬
‫الواقعية من واقع االتفاق الــذي تظهرعليــه مالمحهــا خالل األعمــال الــتي وضــعت في‬
‫زمنها أو في زمن بعده ‪ ،‬وإن تجلت األعمال النابتة في الــزمن بعــدها عن مســتوى من‬
‫الكشف أعلى وأعمق ‪ ،‬بحكم موقع الكاتب الذي يقف خارج زمن لم يعد يعبــأ لتهديداتــه‬
‫وقمعه ‪.‬‬
‫إن من أهم مالمح الزمن السياسي لفترة ما قبل الثورة واالستقالل كما تجلت عنها هــذه‬ ‫‪-7‬‬
‫األعمال ‪ ،‬ما يلي ‪:‬‬
‫أوال ‪ /‬على المستوى السياسيـ ‪:‬‬
‫‪ -1‬إنه زمن تشطيريـ يحفل بالهزائم السياسية الكبيرة ‪.‬‬
‫‪ -2‬إنه زمن يمثل أحلك فترات التاريخ اليمني الحديث ‪ ،‬كــانت اليمن فيــه دولــة مغيبــة‬
‫عن الوجودـ الدولي ‪ ،‬متخلفة عن الركب الثقافي ‪ ،‬تعــاني حالــة صــعبة من الجمــودـ‬
‫والتكلس الفكري‪.‬‬
‫‪ -3‬إنه زمن اإلدارة العشوائية وإهمال مصــالح البالد والعبــاد في ظــل حكـام منشــغلين‬
‫بالملذات غارقين في المفاسد ‪.‬‬
‫‪ -4‬إنه زمن يتضمن حالــة مختلفــة من الــوعي بين أبنــاء الشــمال الــذين تســبب الجهــل‬
‫العميم في إخفاق مشروعهمـ الثوري ‪ ،‬وبين أبناء الجنوب الذين تدفع بهم سياسة‬

‫المستعمر من التضييق عليهم وإغالق أبواب الرزق في وجوههم إلى مستوى من‬
‫الوعي الناضج بضرورات التضامن والتكاتفـ واالنتماء إلى حركة شعبية جماعية‬
‫‪ -5‬إنه زمن حراك سياسي واضــطرابات شــملت قطاعــات وشــرائح مختلفــة من أبنــاء‬
‫الجنــوب الــذين ‪ -‬على مــا يبــدو‪ -‬لم يكونــواـ منقطعين عن عــالمهم ومــا يشــهده من‬
‫حركات تنشط في اتجاه التحرر ‪ ،‬كما تظهر خالل هذا الزمن تأثيرات المد القومي‬
‫لثورة يوليو ‪1952‬م ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ /‬على المستوى االجتماعي ‪:‬‬
‫‪ -1‬إنه زمن عال فيه شأن األسرة والقبيلة في الشمال ‪ ،‬وتزاي ـدـ فيــه الخــوف المجتمعي‬
‫وفقدان االستقرار‪.‬‬
‫‪ -2‬إنـه زمن الخلـط والتشـوش الفقهي الـذي يغلب قيمـا زائفـة ومبـادئ مشوشـة أذكت‬
‫الفرقة وأوقدت األحقاد بين أبناء المجتمـع الواحـد ‪ ،‬فانقسـمواـ إلى جـانب انقسـامهم‬
‫الكبير بين سلطة ورعية إلى فئات ومذاهب وطوائف تستعلي على بعضهاـ البعض‬

‫‪272‬‬
‫‪ -3‬إنه زمن يقف شاهدا على أنظمة حكم متجبرة أفقدت الشعب الكثير من قيمه الدينية‬
‫والعربية األصيلة ‪.‬‬
‫‪ -8‬إن صورة المكان السياسي واالجتماعي لهذه الفترة ال تكاد تنفصل عن صورة الزمــان‬
‫فيــه ‪ ،‬وإن عكســت مالمح هــذا المكــان جانبــا من االختالف بين مــدن وقــرىـ الشــمال‬
‫ومدينة عدن وقرى الجنوب ‪:‬‬
‫فقسوة الحكم اإلمامي وقبضــته الفتاكــة تقضــي على مــدن الشــمال بالعزلــة الخانقــة‬
‫والصـمت المطبـق ‪ ،‬الـذي يمتـد ليكتسـح تلـك القـرى البعيـدة المعلقـة على رؤوسـ‬
‫الجبال والقابعة بصبر على على ظلمها وظالمها‪ ،‬في الوقت الذي تتجلى فيه‬
‫قرى الجنوب ثائرة تشتعل في مقاومة الغازي المحتل ‪.‬‬

‫‪ -9‬إن المكان في الشمال يظهرـ أشبه ما يكون بمذبح أسطوري الحاكم فيه إله والشعب كله‬
‫قربان يذبح كل يــوم بال رحمــة ‪ ،‬أو هــو مكــان محكــوم بقــانون أدنى من قــانون الغــاب‬
‫يظهر خالله الشعب كله فريسة ال تمتلك حقوق الدفاع عن حياتها ‪.‬‬
‫‪ -10‬إنه سجن كبير في مكان معزولـ وضائع من خطوط الخريطة يــؤوي في داخلــه أحيــاء‬
‫هم في حقيقتهم أموات ‪ ،‬تسيطرـ على مقاليد أمور حياتهم أعراف وقيم جاهلية ‪.‬‬
‫‪ -11‬إنه مكان تطل منه أماكن مفتوحة ومغلقة مشمولة بالمعاناة ‪ ،‬لم تنجو من ذلك قصورـ‬
‫الحكـام وبيـوتهم الـتي تظهـر أمـاكن معزولـة لمجتمـع منعـزل عن المكـان االجتمـاعي‬
‫للمجتمع كله ‪ ،‬فالحصار هو أهم ملمح لهذا المكان ‪.‬‬
‫‪ -12‬إنه يتجسدـ محتوى للضياع ومساحة مغلقة على خوائهــا وضــياعهاـ وحصــارهاـ ‪ ،‬حــتى‬
‫يعود على قاطنيه لعنة تطاردهمـ بالويل والثبور وتترصدهمـ بالبرد والجوع والقحط ‪.‬‬
‫‪ -13‬إنه مكان يضغط على الشخصيات بالنفور والضــيق واالختنــاق ‪ ،‬ويعجــز عن احتــواء‬
‫آمال أبنائه الذين يفضل بعضه الهرب والتخلي ‪ ،‬وهو ال يظهر بطبيعته األخــاذة إال في‬
‫مواضــع قليلــة ومن خالل رؤيــة متباعــدة أحيانــا ‪،‬فــإذا مــا تم االقــتراب تكشــفت حقيقــة‬
‫مالمحه البشعة والحافلة بالعريـ والجوع والشقاء ‪.‬‬
‫‪ -14‬إن مدينــة عــدن تبــدو مكانــا ممــيزا في األعمــال الروائيــة والقصصــية ‪ ،‬وهي تطــل‬
‫بوجهين ‪:‬‬
‫األول تظهر فيه ‪:‬‬
‫‪ -1‬مكانا آهال بالسكان ‪ ،‬تحف بجنسيات كثيرة من عرب وهنودـ وبهرة وصــومال وبينيــان‬
‫ويهودـ ‪ ،‬قد أخذ يشق تلك الحالة من التعايش التي كانت تحياها قبل هــذا التــاريخ تميــيز‬
‫حاسم يفرق ويسد ‪.‬‬
‫‪ -2‬مكانا يتمتع بقدر من مظاهر المدنية الحديثـة ‪ ،‬ويبـدو حــتى نهايــة األربعينيـاتـ اليـزال‬
‫مستقرا تحت أقدام المحتل األجنبي ‪ ،‬كما التزال بقية من ترف بادية عليه ‪ ،‬وتشيع بين‬
‫سكانه حالة من االعتقاد بالخرافاتـ وكرامات األولياء واعتبارها جزءا من العقيدة ‪.‬‬

‫الثاني ‪:‬‬
‫تطل منه مالمح المستعمرـ ‪ ،‬وحركة النضال الوطني الذي تجتاح شــوارعها مؤججــة بضــغوط‬
‫المستعمر وتضييقه على أبنائها في أرزاقهمـ وحريتهم‬

‫‪273‬‬
‫‪ -15‬إن الزمن السياسي واالجتماعي في األعمال التي اهتمت تجاربها بواقع ما بعد الثــورة‬
‫واالستقالل يظهر بمالمح مغايرة ‪ ،‬وإن اشــترك مــع مالمح الــزمن الواقــع قبــل الثــورة‬
‫واالستقالل في حال احتفال كل من الزمنين بصور بالمعاناة ‪ ،‬التي ربمــا كــانت أقســى‬
‫مع خيبة األمل التي رافقت انحراف مسار الثورة وتبدد أهدافها يوما بعد يوم ‪.‬‬
‫‪ -16‬إن من أهم مالمح هذا الزمن كما تجلت عنها األعمال الروائية والقصصية ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -1‬إنه مكان ترسخ عليه قواعد الشطرية وبشكلـ غير مسبوق ‪ ،‬فلم يعد األمر مقتصرا‬
‫على مجرد الدعاية السياسية لكل من النظامين وإنمــا غــدا هنــاك ســعي حــثيث إلى‬
‫ترجمة ذلك االختالف في التوجهات الفكرية السياسية ترجمة فعلية عبر خلق واقع‬
‫يحمل من مالمح االختالف والتباين أكثر مما يحمل من مالمح التالقي والوفاقـ ‪.‬‬
‫‪ -2‬إنــه في الــوقت الــذي يتشــكل فيــه مســاحة خانقــة تحاصــرـ المناضــلين الحقيقين‬
‫وترصدهم وتتبع خطاهمـ حتى تلقي بهم إلى الجنون والضياع في شوارعـ المــدن أو‬
‫الغياب في دهاليز السجون وغياهيب المعتقالت بما يجري فيها من عذابات مرعبة‬
‫‪ ،‬أو التخلص منهم بالتصــفيات الدمويــة الــتي تتم ‪ -‬في األغلب – بطــرقـ ســرية‬
‫وغامضة ‪ ،‬ينجلي ملعبــا يرتــع فيــه المتمصــلحون ويمــرح المــدعون الزائفــون من‬
‫مجيدي اقتناص الفرص من رجال السياسة وأصحاب الوجاهة والمناصبـ الرفيعة‬
‫ومراكزـ القوى القبلية والمشيخية والعسكرية ‪.‬‬
‫‪ -3‬إنه يكشــف عن حــال من تنــاقض المســار بين سياســة نظــامين يــذهب أحــدهما إلى‬
‫االنفتاح االقتصاديـ ويتبع اآلخر سياســة تقــود إلى الجمــود والركــودـ االقتصــاديـ ‪،‬‬
‫وهو تنــاقض تنعكس آثــاره في ملمح من التبــدل الــذي تشــهده مــدن الشــمال ومــدن‬
‫الجنوب كل على حدة ‪.‬‬
‫‪ -4‬إنه رغم واقع االختالف البادي عليه ‪ -‬تحت التوجهــات المرســخ اختالفهــا لقواعــد‬
‫الشطرية ‪ -‬مكانا مختنقا بالهم موحدا العــذاب ‪ ،‬مفتوحــة بوابتــه على على كــوابيس‬
‫الرعب والقمع واإلذالل ‪.‬‬
‫‪ -5‬إنه مكــان مختــل يضــطربـ في داخلــه أنــاس مســلوبوـ الحقــوق واإلرادة ‪ ،‬خــائفون‬
‫ومقموعون ‪ .‬وعليه سيطرت حالة الطوارئ المستديمة ‪ ،‬والحركة في داخله تلــوح‬
‫باحتماالت لنذر غامضة ومموهة ‪ ،‬ومن هنا تطل السجون والمعتقالت ومصــحات‬
‫األمراض العقلية ‪ ،‬وتنشطـ المطاردات والتتبع والتعقب‪.‬‬
‫‪ -6‬إنــه مكــان يســحق البســطاء وتتعملــقـ في داخلــه أغــوال تتحكم بــأرزاقـ النــاس‬
‫وأقواتهم ‪ ،‬وهو يؤويـ تفاوتا طبقيا تتسع هوته كل يوم ‪.‬‬
‫أما عن طبيعة العالقة التي تقيمها الشخصيات مع أماكنها التي تظهر ‪ -‬أحيانــا ‪ -‬غــير مكتفيــة‬
‫من حضورها بأدوارهاـ التقليديــة الــتي تنحســر بهــا إلى مجــرد مســاحة تحتــويـ الوقــائعـ البانيــة‬
‫للحدث أو مجــال يحتضــن حركــة الشخصــيات‪ ،‬وإنمــا تلعب أدوارا أهم قــد تصــل خاللهــا هــذه‬
‫األمــاكن ألن تصــبح شخصــية فنيــة لهــا تأثيرهــا القــوي على توجيــه حركــة الحــدث وســلوكـ‬
‫الشخصيات التي تتحركـ على مساحاتهاـ ‪.‬‬
‫ومن هنا فإن طبيعة تعــالق الشخصــيات مــع أماكنهـا تكشــف عن درجــات من التفاعـل تتفــاوت‬
‫خالل مستويات مختلفة من السلبية واإليجابية ‪ ،‬وذلك على النحو التالي ‪:‬‬

‫‪274‬‬
‫‪ -1‬إن أغلب قاطني هذه األمــاكن هم ضــحايا مــا تنضــح بــه عليهم من مآســي تتســبب بهــا‬
‫الطبيعة حينا واألنظمة الفاسدة أحيانا أخرى ‪،‬وبعضهم يظهر تعايشا غريبا مع الموت‬
‫واألموات ‪.‬‬
‫‪ -2‬إن بعض هــذه الشخصــيات يفضــل الصــمود والمقاومــة ورفض القيم الســلبية الــتي‬
‫ترسخت في أماكنها بإعالن تمردها الصارخ الذي يبلغ حد االنفجار بثورة عارمــة في‬
‫وجه المتسببين بالظلم أو في وجه أماكنها المتسمة بالعدائية ‪.‬‬
‫‪ -3‬إن بعض هذه الشخصيات يحــاول تجــاوزـ ضــغوطـ المكــان الناضــح عليهــا بامتحانــاتـ‬
‫عسيرة وإن بمغامرة صعبة قد تودي بحياتها ‪.‬‬
‫‪ -4‬إن منهــا من يظهــر تكيفــا مــع مكانــه بكــل مــا يحويــه هــذا المكــان من مالمح القــذارة‬
‫والعفونة ‪ ،‬وبعضهاـ يظهر وقد استمرأ حالة استالبه فيسلك سلوكاـ يوطد فيه لمزيــد من‬
‫هذا االستالب ‪.‬‬
‫‪ -5‬إن منها من ينتهي واقعا تحت بــراثن اإلحبــاط واليــأس واالغــتراب ‪ ،‬ومنهــا من يــرى‬
‫خالصه بالتخلي واالنسحاب أو بالمغـادرة بعيــدا خـارج حصـار المكــان الــذي يتســبب‬
‫عليها بالهم والعذاب ‪ ،‬ومنها من يتطلــع إلى هــذا الخالص في العــالم اآلخــر بعيــدا عن‬
‫واقعه الحياتي المعيش بمحدداته الزمانية والمكانية ‪.‬‬
‫‪ -6‬إن معظم الشخصــياتـ النســائية تظهــر ضــحايا القيم الســلبية ألماكنهــا االجتماعيــة‬
‫والسياسية المحاصرة ‪ ،‬وهي تستحقـ العطف والرثــاء ‪ ،‬فجــانب منهن يعمــل بصــمت‬
‫وكأن ما يجري عليه هو ناموس قدريـ ليس له أن يتبرم منه ‪ ،‬وجانب آخر يقبع خلــف‬
‫جدران القصور واألسوار ينظر أيامه الذاهبة وشبابه الذاوي حتى تستحيل حياتـه رغم‬
‫ما ترفل فيه من نعمة ويسر إلى تعاسة وشقاء ‪.‬‬
‫‪-17‬إن هذه األعمال قد استوعبت أهم الموضوعات التي شغل بها المجتمع اليمني خالل فتراته‬
‫المختلفة ‪ ،‬فكانت معظم موضوعاتها تدور حول قضايا اجتماعية أو سياسية تتصــل بمشــكالت‬
‫حقيقية يعاني منها المجتمع في الريف والمدينة حال وقوعــه تحت أنظمــة عكســت بقــوة آثارهــا‬
‫على األوضاع االجتماعية وعلى حياة الناس بمختلف شرائحهمـ ‪.‬‬
‫‪-18‬إن هذه األعمال قد استوعبت ذات الكاتب الذي ظل يحاول التزام الموضوعية والحيــاد في‬
‫تعامله مع موضوعه المختار أو قضيته المنتقاة التي تمثل أيضا قضــية مجتمــع ينتمي إليــه وإن‬
‫أخفــق في بعض األحيــان عن تنحيــة ذاتــه الــتي تفــرض حضــورها على أعمالــه والــتي تظهــر‬
‫متأثرة بقوة الزمن الذي وضعت فيه القصة أو الرواية ويظل الجدل بين ذات الكاتب بمــا تمثلــه‬
‫من فكر ووجدان وبين الموضوعـ المتناول بما يتضمنه من إحاالت على الواقع ومتغيراته ‪.‬‬
‫‪-19‬إن هذه األعمال ال تفرز‪ -‬إال فيما ندر ‪ -‬قيمـا معينــة يمكن الوقــوف عليهــا كحــدود فاصـلة‬
‫لتصنيفها بحسب موضوعها ‪ ،‬حيث يكون حضورـ الموضــوع السياســي إلى جــانب الموضــوع‬
‫االجتماعي والعكس ‪.‬‬
‫‪-20‬إن األعمال التي توضعـ في خضم زمنهاـ المحفوف بكثير من المشــكالت والمخــاطرـ هي ‪-‬‬
‫بال شك ‪ -‬تختلــف عن تلــك الــتي تتنــاول موضــوعـ زمن قــد تجاوزتــه وتحــررت من ضــغوطه‬
‫وتهديدا‪ ،‬إذ ينعكس حضور الزمن الواقعي على الموضوعـ المتناول كمــا ينعكس على حضــورـ‬
‫الــذات ودرجــة انفعالهــا بموضــوعها ودرجــة تحســبها للمخــاطر المحدقــة ‪ ،‬ومقــدار الحريــة‬
‫الممنوحة للحديث حول موضوع ما في زمنه أو في زمن آخر قد تجاوزه ‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫‪-21‬إن أغلب هــذه األعمــال قــد شــغلت معالجاتهــا بموضــوعات شــغل بهــا الواقــع السياســي‬
‫واالجتماعي قبل الثورة واالستقالل ‪ ،‬دافعها في ذلك االشتغال غايتها التغييرية الساعية إما إلى‬
‫تفعيل وعي الرفض في ذهن اإلنسان اليمني أو تعزيزـ قناعتــه بأهميــة الفعــل الــرافض ‪ ،‬وذلــك‬
‫من خالل تنشيط ذاكرته وإثارتها بذلك الواقع المؤلم الــذي كــان ومنــذ وقت ليس بالبعيــد حقيقــة‬
‫حية حاضرة ‪ ،‬ثم استهجانها فكرة أن تمر فترة من تــاريخ إنســان هــذه األرض لقي فيهــا ألوانــا‬
‫من العذاب لم يلقها أحد قبله وال بعده دون أن يشار إليها ‪.‬‬
‫‪-22‬إن هذه األعمال تحرص بشدة وهي تعالج موضوعاتها على غايات محددة تبغي الوصــول‬
‫إليها من وراء إنشاء تجاربها‪ ،‬فتصوير الواقع لم يكن إال بهدف تغييره وتطويره ‪ ،‬وهي غايات‬
‫انقسمت على إثرها هذه األعمال إلى ‪:‬‬
‫‪ -1‬أعمــال تكتفي من إنشــائها تجاربهـاـ بغايــة تنتهي عنــد حــدود تكــوين وعي رافض لمــا‬
‫يجري في واقعها من تجاوزات ‪ ،‬وهي تكتفي بمجرد وصولها إلى منطقة تــدق عنــدها‬
‫جرس إنذار بالخطرـ الذي يدهم المجتمــع الغافــل وعيــه عمــا يختلج فيــه من تجــاوزات‬
‫تنوه إليها وتبرزها ‪.‬‬
‫‪ -2‬أعمـال تصـل غايتهـا إلى إثـارة الـوعي بضـرورة قيـام الفعـل الـرافض ‪ ،‬وهـذه غايـة‬
‫تثويرية لعبت دورا محفزا لألوضاع وموجهاـ لها نحو الحل الثوري ‪.‬‬
‫‪ -3‬أعمال تسعى غايتها إلى تفعيل الوعي الرافض ‪ ،‬وهذه أعمــال يحركهـاـ قلــق النكــوص‬
‫والعودة بحركة الزمن نحو الوراء ‪ ،‬وهو قلق له ما يبرره إذ تعرضــت الثــورة اليمنيــة‬
‫في الشمال والجنوب إلى أخطار كثيرة كان أولها خطر مؤازرة األنظمــة الرجعيــة في‬
‫المنطقة للقوى الملكية كي تسترد مكانتها التي انتزعت منها ‪.‬‬
‫‪ -4‬أعمال تسعى غايتها إلى تعزيزـ الوعي بأهمية الفعــل الــرافض ‪ ،‬وهي أعمــال يحركهــا‬
‫قلق االكتفاء بمجرد تحقق قناعة الرفض الذي قد يؤديـ االكتفاء بهــا إلى عــدم حصــول‬
‫تغيير حقيقي ‪ ،‬فكم من أجيال ظلت تقتات رفضهاـ وتبرمهاـ ليال ونهارا بينمــا اســتمرت‬
‫األوضاع تسريـ في طريقها إلى التفاقم ‪ ،‬فتلك إذن غاية تتجاوزها هذه األعمال إلى ما‬
‫هــو أعلى منهــا ‪ ،‬إذ تحشــد طاقتهــا في اتجــاه تعزيــز الــوعي بمــا يــترجمـ هــذه القناعــة‬
‫ويتوجهـاـ بفعــل حقيقي يحــدث تغيــيرا يلمس النــاس أثــره على أرض الواقــع ‪ ،‬وهي إذ‬
‫ترمي إلى هذه الغاية تلوح بإنذارات إمكان حصول فعل رافض في وجه أنظمة ما بعد‬
‫الثورة واالستقالل ‪.‬‬
‫‪ -5‬أعمال تسعى غايتها إلى إثارة الوعي بحقائق انحراف المســار ‪ ،‬وهي أعمــال يحركهــا‬
‫قلق انطفاء الوعي باستمرار الرفض الـذي قـد يــؤدي إلى مزيــد من انحـراف المســار‬
‫الثوري وإحباطـ غاياتــه التغييريــة ‪ ،‬بــاألخص وأن هــذه األعمــال تركــز عدســتها على‬
‫حركة تلك السياسات ذات الجهــود الممنهجــة والسـاعية بمسـار الثــورة إلى االنحـرافـ‬
‫الفعلي ‪ ،‬ومن هنـــا فهي توظـــفـ طاقاتهـــا وتســـخر إمكاناتهـــا مركـــزة على كشـــف‬
‫االختالالت وإبرازـ االنحرافات النابتة في مسار خــط التغيــير الثــوري بهــدف التنويــه‬
‫إليها وإثارة الوعي بها كي يتم تدارك الموقفـ قبل تفاقم األوضــاع وصــعوبة الســيطرة‬
‫عليها ‪ ،‬وحتى ال يجد الشعب اليمني نفسه يعيش مرة أخرى مأساة جديدة ‪.‬‬

‫‪276‬‬
277
‫قائمة المصادر والمراجعـ ‪:‬‬
‫أوال ‪ /‬المصادر ‪:‬‬

‫إبراهيم الكاف ( االنفجار ) دار الهمداني ‪ ،‬عدن ‪1984 ،‬م‬ ‫‪-1‬‬


‫أحمد محفوظ عمر‬ ‫‪-2‬‬
‫‪ ( -‬الناب األزرق ) دار ابن خلدون ‪ ،‬بيروت ‪1980 ،‬م‬
‫‪ ( -‬اإلنذار الممزقـ ) د ‪ .‬م ‪1983،‬م ط‪3‬‬
‫‪ ) -‬المروحة ) دار ابن خلدون للطباعة والنشرـ ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬لبنان ‪1974 ،‬م‬
‫رمزية عباس اإلرياني ( عله يعود ) وزارة اإلعالم والثقافة ‪ ،‬صنعاء ‪1981‬م‬ ‫‪-3‬‬
‫زيد مطيع دماج‬ ‫‪-4‬‬
‫‪ ( -‬الرهينة ) رياض الريس للكتب والنشرـ ‪ ،‬بيروت ‪1967 ،‬م ط‪2‬‬
‫‪ ( -‬طاهش الحوبان ) دار الكلمة ‪ ،‬صنعاء ‪1979 ،‬م‬
‫‪ ( -‬العقرب ) دار العودة ‪ ،‬بيروت ‪1982 ،‬م‬
‫‪ ( -‬الجسر ) وزارة اإلعالم والثقافة ‪ ،‬صنعاء ‪1987 ،‬م‬
‫‪ ( -‬أحزان البنت مياسة ) دار اآلداب ‪ ،‬بيروت ‪1990 ،‬م‬
‫زين السقاف (العم مسفر ) دار الهمداني ‪1984 ،‬م‬ ‫‪-5‬‬
‫سعيد عولقي ( الهجرة مرتين ) وزارة الثقافة والسياحة ‪ ،‬عدن ‪1980‬م ط‪2‬‬ ‫‪-6‬‬
‫صالح با عامر ( دهوم المشقاصي )وزارة الثقافة والسياحة ‪ ،‬صنعاء ‪1982 ،‬م ط‪1‬‬ ‫‪-7‬‬
‫صالح عبده دحان ( أنت شيوعي ) دار البعث للطباعة والنشر ‪ ،‬عدن ‪1983‬م ط‪2‬‬ ‫‪-8‬‬
‫عبدالفتاح عبدالولي ( البشارة ) وزارة الثقافة واإلعالم ‪ ،‬صنعاء ‪1985 ،‬م‬ ‫‪-9‬‬
‫عبدهللا سالم با وزيرـ‬ ‫‪-10‬‬
‫‪ ( -‬الرمال الذهبية ) منشورات الصبان ‪ ،‬عدن ‪1965 ،‬م‬
‫‪ ( -‬ثورة البركان ) دار الهمداني ‪ ،‬عدن ‪1983 ،‬م ط‪2‬‬
‫‪ ( -‬سقوط طائرـ الخشب ) د ‪ .‬م ‪ .‬دمشق ‪1991 ،‬مط‪1‬‬
‫‪ ( -‬سفينة نوح ) مركزـ عبادي للدراسات والنشر ‪ ،‬صنعاء ‪2001 ،‬م ط‪1‬‬
‫عبدالمجيد القاضي ( حمامة في عش صقر ) وزارة الثقافة واإلعالم ‪ ،‬عدن ‪ ،‬د ‪ .‬ت‬ ‫‪-11‬‬
‫عز الــدين ســعيد أحمــد ( خطــوات في الليــل ) دار الحــادي للطباعــة والنشـرـ ‪ ،‬تعــز ‪،‬‬ ‫‪-12‬‬
‫‪1993‬م‬
‫علي باذيب ( ممنوعـ الدخول ) مؤسسة الصبان ‪ ،‬عدن ‪1968،‬م‬ ‫‪-13‬‬
‫علي صالح عبدهللا ( وجه حبيبتي والوجه اآلخر ) دار الفارابي ‪ ،‬بيروت ‪1980،‬م‬ ‫‪-14‬‬

‫‪278‬‬
‫فاروق علي ناصر ( زمن العار ووجه الشــمس الغــارب )دار األمــل للطباعــة والنشــر‬ ‫‪-15‬‬
‫‪1985‬م ط‪1‬‬
‫محسن حسن خليفة ( الزوجة المغرورة ) وزارة الثقافة واإلعالم ‪ ،‬عدن ‪1989‬م‬ ‫‪-16‬‬
‫محمد أحمد عبد الولي‬ ‫‪-17‬‬
‫‪ ( -‬األرض يا سلمى )دار اآلداب ‪ ،‬بيروت ‪1966 ،‬م‬
‫‪ ( -‬شيء اسمه الحنين ) دار العودة ‪ ،‬بيروت ‪1978‬م‬
‫‪ ( -‬صنعاء مدينة مفتوحة ٍ) دار العودة ‪ ،‬بيروت ‪1998 ،‬م‬
‫محمد صالح حيدرة ( السحب المسافرة )دار ابن خلدون ‪ ،‬بيروت ‪1980‬م‬ ‫‪-18‬‬
‫محمد مثنى‬ ‫‪-19‬‬
‫‪ ( -‬في جوف الليل )‬
‫‪ ( -‬والجبل يبتسم أيضا ) دار العودة ‪ ،‬بيروتـ ‪1978‬م‬
‫‪ ( -‬الرجل الحشرة ) مركز عبادي للدراسات والنشر ‪ ،‬صنعاء ‪2001‬م ط‪1‬‬
‫‪ ( -‬رحلة العمر ) الهيئة العامة للكتاب ‪ ،‬صنعاء ‪2001‬م ط‪1‬‬
‫‪ ( -‬وسامـ الشرف ) مركزـ عبادي للدراسات والنشرـ ‪ ،‬صنعاء ‪2002 ،‬م ط‪1‬‬
‫محمد علي إبراهيم لقمان ( سعيد ) المطبعة العربية ‪ ،‬عدن‪1939‬م‬ ‫‪-20‬‬
‫محمد محمود الزبيريـ ( مأساة واق الواق )دار الكلمة ‪ ،‬صنعاء ‪1985‬م ط‪2‬‬ ‫‪-21‬‬
‫منير حسن مسيبلي ( أطوار حلم اإلبحار ) مطبعة الشريفين ‪ ،‬القاهرة ‪1981‬م‬ ‫‪-22‬‬

‫ثانيا ‪ /‬المراجع ‪:‬‬

‫آمنة يوسف ( تقنيــات الســرد في الروايــة والتطــبيق )دار الحــوار ‪ ،‬الالذقيــة ‪ ،‬ســوريا‬ ‫‪-1‬‬
‫‪1996‬م‬
‫أمينة رشيد ( تشظي الزمن في الروايــة المعاصــرة ) الهيئــة المصــرية العامــة للكتــاب‬ ‫‪-2‬‬
‫‪1998‬م‬
‫جابر عصفور ( زمن الرواية ) دار المدى للثقافة والنشر ‪ ،‬دمشق ‪،‬سوريا ‪9991 ،‬م‬ ‫‪-3‬‬
‫خيري دومة ( تداخل األنواع في القصة القصيرة المصرية ‪1990 – 1960‬م) الهيئة‬ ‫‪-4‬‬
‫المصرية العامة للكتاب ‪ ،‬القاهرة ‪1998‬م‬
‫شاكر عبدالحميد ( األسس النفسية لإلبداع األدبي في القصة القصيرة خاصة ) الهيئــة‬ ‫‪-5‬‬
‫المصرية العامة للكتاب ‪ ،‬القاهرة ‪1992 ،‬م‬
‫شفيع السيد ( اتجاهات الرواية المصرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى ســنة ‪1967‬م)‬ ‫‪-6‬‬
‫دار المعارفـ ‪ ،‬مصرـ ‪1978 ،‬م‬
‫عبدالباســط محمــد حســن ( أصــول البحث االجتمــاعي ) دار التضــامن ‪ ،‬القــاهرة ‪،‬‬ ‫‪-7‬‬
‫‪1982‬م ط‪8‬‬
‫عبدالحميد إبراهيم‬ ‫‪-8‬‬
‫‪ ( -‬القصة اليمنية المعاصرة ‪1939‬م ‪1976-‬م ) دار العــودة ‪ ،‬بــيروت ‪1977،‬م ط‬
‫‪1‬‬
‫‪ ( -‬ألوان من القصة اليمنية المعاصرة ) دار العودة ‪ ،‬بيروت ‪1981 ،‬م ط‪1‬‬

‫‪279‬‬
‫‪ -9‬عبدالمحسن طه بدر ( تطورـ الرواية العربيــة الحديثــة في مصـرـ ‪1870‬م – ‪1938‬م )‬
‫دار المعارفـ ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪ .‬ط‪5‬‬
‫‪ -10‬مجموعــة مــؤلفين ( وثــائقـ وأدبيــات الثــورة اليمنيــة ســبتمبرـ ‪ ،‬أكتــوبر ‪ ،‬نوفمــبر ‪،‬‬
‫التحوالت السياسية واالجتماعية والثقافية ‪ ،‬صنعاء ‪ 24- 23‬نوفمــبرـ ‪2008‬م) مركــز‬
‫الدراسات والبحوث اليمني‬
‫‪11‬محبــة حــاج معتــوق ( أثــر الروايــة الواقعيــة الغربيــة في الروايــة العربيــة ) دار الفكــر‬
‫اللبناني ‪ ،‬بيروتـ ‪1994 ،‬م ط‪1‬‬
‫‪12‬محمد زكي العشماوي ( األدب وقيم الحياة المعاصرة )‬
‫‪13‬محمد غنيمي هالل ) النقد األدبي الحديث ) دار نهضة مصر د ‪ .‬ت‬
‫‪14‬هشام علي‬
‫‪ ( -‬الخطـــاب الـــروائي في اليمن ) مركزعبـــاديـ للدراســـات والنشـــر ‪ ،‬صـــنعاء ‪،‬‬
‫‪1996‬م‬
‫‪ ( -‬السرد والتاريخ في كتابات زيد مطيع دماج ) مركزـ عبادي للدراسات والنش ـرـ ‪،‬‬
‫صنعاء ‪ 2000 ،‬م ‪،‬ط‪1‬‬
‫المراجع المترجمة ‪:‬‬
‫‪ -1‬آيــان رايــد ( القصــة القصــيرة ) ت ‪ .‬مــنى مــؤنس ‪ ،‬الهيئــة المصــرية العامــة للكتــاب‬
‫القاهرة ‪1990 ،‬م‬
‫‪ -2‬فرانك أوكونور ( الصوت المنفرد ) ت ‪ .‬محمــودـ الــربيعي ‪ ،‬الهيئــة المصــرية العامــة‬
‫للكتاب ‪ ،‬القاهرة ‪1993‬م ط‪1‬‬
‫ثالثا ‪ /‬الدورياتـ ‪:‬‬

‫مجلة الثقافة العد األول ‪ ،‬يناير ‪ ،‬فبرايرـ ‪ 1990‬م وزارة الثقافة واإلعالم ‪ ،‬عدن‬ ‫‪-1‬‬
‫مجلة الحكمة العدد السادس ‪ ،‬السنة األولى ‪ ،‬أكتوبر ‪1971‬م ‪ ،‬اتحاد األدباء والكتاب‬ ‫‪-2‬‬
‫اليمنيين ‪ ،‬عدن‬
‫مجلة الحكمة العدد ‪ 42‬أغسطس ‪1975‬م ‪ ،‬اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ‪ ،‬عدن‬ ‫‪-3‬‬
‫مجلة الحكمة العدد ‪/202‬ـ ‪ ،203‬السنة الرابعة والعشرون ‪ ،‬أغسطس ‪1994‬م ‪ ،‬اتحاد‬ ‫‪-4‬‬
‫األدباء والكتاب اليمنيين ‪ ،‬صنعاء‬
‫كتاب الحكمة ( قصص يمنية مختارة ) اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ‪ ،‬دار الحداثــة ‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫بيروت ‪1988 ،‬م‬
‫مجلــة المعرفــة العــدد ‪،24‬ـ ‪ ،25‬مــارس يونيــو ‪1996‬مفــرع اتحــاد األدبــاء والكتــاب‬ ‫‪-6‬‬
‫اليمنيين ‪ ،‬تعز‬
‫مجلة فصول ‪ ،‬سبتمبر ‪1982‬م الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪.‬‬ ‫‪-7‬‬

‫‪280‬‬
‫تركز الدراسة في هذا القسم على الدور الــذي لعبتــه األعمــال الروائيــة والقصصــية في عمليــة‬
‫التغيير خالل الفترة الممتدة ما بين نشأة هذين الفنين وبــاألخص منــذ أواخــر األربعينــات ‪ ،‬ذاك‬
‫أن األعمال الروائية والقصصية قبل ذلك لم تكن ســوى محــاوالت أوليــة لم تنضــج معالجاتهـاـ‬
‫ولم تنفتح مضامينها لتســتوعب قضــايا ومشــكالت جوهريــة في الواقــع السياســي واالجتمــاعي‬
‫المعيش‬
‫وحتى وقتنا الراهن ‪ ،‬وألن ثورة سبتمبر واستقالل الجنوب هما الحــدثان األهم في ســياق هــذه‬
‫الفترة حيث يتشكل بناء عليهما واقعان األول يقع قبلهماـ والثــاني يقــع بعــدهما ‪ ،‬فقــد اعتبرتهمــا‬
‫الدراسة حدثان محوريان لتقسيم مباحثها خالل فصولهاـ فكان منها مــا يــدرس الواقــع السياســي‬
‫واالجتمــاعيـ المتنــاول في هــذه األعمــال قبــل الثــورة واالســتقالل ‪ ،‬ومنهـاـ مــا يــدرس الواقــع‬
‫السياسي واالجتماعي بعد الثورة واالستقالل ‪.‬‬
‫وقد درست ذلك من خالل تسليط الضوء على عناصر هذا الواقع باعتباره الواقع المراد تغييره‬
‫‪ ،‬فدرستـ الزمان والمكان وعالقة الشخصيات به ‪ ،‬ودرستـ الموضوعات والغايات التغييرية‬
‫مستندة في هذا التقسيم إلى معيار ضابط هو زمن الكاتب ‪ ،‬ذاك أنها تــرى أن الرؤيــة وأســلوب‬
‫التناول يختلفان ليس فقط باختالف ظروف الواقع ‪ ،‬وإنما أيضا باختالف موقع الكاتب من تلــك‬
‫الظروفـ ‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس تشكلت فصول ومباحث هذه الدراسة ‪ ،‬فكانت على النحو اآلتي ‪:‬‬

‫المدخل ‪:‬‬
‫وقد حمل عنوان ( دور الرواية والقصة القصيرة اليمنية في التغيير السياســي واالجتمــاعيـ ) ‪،‬‬
‫وتناول المباحث اآلتية ‪:‬‬
‫‪ -1‬الرواية والقصة القصيرة وعملية التغيير‬
‫‪ -2‬خصوصية الدور التغييريـ للرواية والقصة القصيرة اليمنية‬
‫ج‪ -‬الواقع السياسيـ واالجتماعي هدف التغييرـ‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫ويحمل عنوان ( الزمن السياسيـ واالجتماعي ) ‪ ،‬ويتناولـ ‪:‬‬

‫‪281‬‬
‫‪ -1‬الزمن السياسي واالجتماعيـ في األعمال التي تم وضعهاـ في األعمال التي تم وضــعها‬
‫قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫‪ -2‬الزمن السياسي واالجتماعيـ في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثـورة الشـمال واسـتقالل‬
‫الجنوب ‪ ،‬وهي قسمان ‪:‬‬
‫‪ -‬أعمال شغلت بالزمن السياسيـ واالجتماعي قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫‪ -‬أعمال شغلت بالزمن السياسيـ واالجتماعي بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫وفي هذا الفصل عمدت الدراسة إلى استجالء المحددات الزمانية المعلن عنهــا أو المضــمنة في‬
‫األعمال التي اشتمل عليها كل مبحث على حــدة ‪ ،‬ثم انتهت إلى بلــورة مالمح الــزمن السياســي‬
‫واالجتماعي للفترة مجال الدراسة المحددة فيه ‪ ،‬وفقا لرؤية كتابهــا ولمــوقعهمـ من الــزمن الــذي‬
‫يجرون عليه أحداث تجاربهمـ ‪.‬‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬


‫ويحمل عنوان ( الشخصيات وعالقتها بمكانهاـ السياسي واالجتماعي ) ‪ ،‬ويتناول ‪:‬‬
‫‪ -1‬المكان السياسي واالجتماعي في األعمال التي تم وضعهاـ قبل ثورة الشــمال واســتقالل‬
‫الجنوب ‪ ،‬ويدرس هذا المبحث ما يأتي ‪:‬‬
‫‪ -‬صورة المكان السياسي واالجتماعي‬
‫‪ -‬الشخصيات وعالقتها بمكانها السياسيـ واالجتماعي‬
‫‪ -2‬المكان السياسي واالجتماعي في األعمال التي تم وضعهاـ بعد ثورة الشــمال واســتقالل‬
‫الجنوب ‪ ،‬وهي قسمان ‪:‬‬
‫‪ .‬أعمال شغلت بالمكان السياسيـ واالجتماعي قبل ثورة الشــمال واســتقالل الجنــوب ‪ ،‬ويــدرس‬
‫هذا القسم ‪:‬‬
‫‪ -‬صورة المكان السياسي واالجتماعي‬
‫‪ -‬الشخصيات وعالقتها بمكانها السياسيـ واالجتماعي‬
‫‪ .‬أعمال شغلت بالمكان السياسيـ واالجتماعي بعـد ثــورة الشــمال واســتقالل الجنــوب‪ ،‬ويــدرس‬
‫هذا القسم ‪:‬‬
‫‪ -‬صورة المكان السياسي واالجتماعي‬
‫‪ -‬الشخصيات وعالقتها بمكانها السياسيـ واالجتماعي‬

‫الفصل الثالث ‪:‬‬


‫ويحمل عنوان ( الموضوعـ والغايات التغييرية )‪ ،‬ويتناولـ ‪:‬‬
‫أوال ‪ /‬الموضوع السياسي واالجتماعي في ‪:‬‬
‫‪ -1‬األعمال التي تم وضعها قبل ثورة الشمال واستقالل الجنوب‬
‫‪ -2‬األعمال التي تم وضعها بعد ثورة الشمال واستقالل الجنوب ‪ ،‬وهي قسمان ‪:‬‬
‫‪ -‬أعمــال شــغلت بالموضــوع السياســي واالجتمــاعيـ في واقــع مــا قبــل الثــورة‬
‫واالستقالل‬
‫‪ -‬أعمال شغلت بالموضوع السياسي واالجتماعيـ في واقع ما بعد الثورة واالستقالل‬
‫ثانيا ‪ /‬الغايات التغييرية للرواية والقصة القصيرة اليمنية ‪ ،‬وهي كاآلتي ‪:‬‬

‫‪282‬‬
‫تكوين الوعي الرافض‬ ‫‪-1‬‬
‫إثارة الوعي بضرورة قيامـ الفعل الرافض‬ ‫‪-2‬‬
‫وهما غايتان تمثلتهما األعمال الروائية والقصصية التي وضعت قبل الثورة واالستقالل‬
‫تفعيل الوعي الرافض‬ ‫‪-3‬‬
‫تعزيزـ الوعي بأهمية الفعل الرافض‬ ‫‪-4‬‬
‫وهما غايتان تمثلتهما األعمال الروائية والقصصية التي وضعت بعد الثورة واالستقالل‬
‫لكنها اشتغلت بالواقعـ االجتماعي والسياسي قبل هذين الحدثين‬
‫إثارة الوعي بانحراف المسارـ‬ ‫‪-5‬‬
‫وهي غاية توجهت إليها معظم األعمال الروائية والقصصية الــتي وضــعت بعــد الثــورة‬
‫واالستقالل واشتغلت بالواقعـ السياسي واالجتماعي المتغير بعد هذين الحدثين ‪.‬‬

‫وقدـ انتهت الدراسة إلى خاتمة دونت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها ‪ ،‬ومنها ‪:‬‬
‫‪ -1‬إن تجارب الروايــة والقصــة القصــيرة اليمنيــة قــد تجلت عن معالجــات تكشــف عن‬
‫مقدار واضح من االهتمام بحركة الواقع السياسي واالجتماعي للمجتمــع من حولهــا‬
‫في فتراته المختلفة ‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الواقع السياسي واالجتماعي الــذي تكشــف عن مالمحــه هــذه المعالجــات يبــدو ‪-‬‬
‫رغم اختالف طبيعته ما بين واقع يقع قبل الثورة واالستقالل وواقعـ يقــع بعــد هــذين‬
‫الحدثين المهمين – واقعا تجتمع مالمحــه المشــتركة عنــد انعكاســات فســاد األنظمــة‬
‫وسوء إدارتهاـ لشؤون البالد‪.‬‬
‫‪ -3‬إن المكان السياسي واالجتماعيـ الذي تجري عليه هذه األعمــال أحــداثها يظهــر في‬
‫األغلب األعم بمالمح سلبية ‪ ،‬كما تظهرـ الشخصيات طرقا من التفاعل معه ومع ما‬
‫يجري عليه تختلف ضمن درجات متفاوتة بين السلبية واإليجابية ‪.‬‬
‫‪ -4‬إن هذه األعمال قد استوعبت أهم الموضوعاتـ التي شغل بها المجتمع اليمني خالل‬
‫فتراته المختلفة ‪ ،‬فكانت معظم موضوعاتها تدورـ حول قضــاياـ اجتماعيــة وسياســية‬
‫تتصل بمشكالت حقيقية يعاني منها المجتمع في الريف والمدينة حــال وقوعــه تحت‬
‫أنظمة عكست بقوة آثارها على األوضــاع االجتماعيــة وعلى حيــاة النــاس بمختلــف‬
‫شرائحهمـ ‪.‬‬
‫‪ -5‬إن هذه األعمال تظهر درجــة عاليــة من االلــتزام بقضــايا المجتمــع وتحــرص بشــدة‬
‫أثناء معالجتها موضوعاتهاـ على غايات محددة تبغي الوصول إليها من وراء إنشــاء‬
‫تجاربهاـ ‪ ،‬فتصويرـ الواقع لم يكن إال بهدف تغييره وتطويره ‪.‬‬

‫‪283‬‬

You might also like