You are on page 1of 26

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫املنظور الحضاري ملالك بن نبي كنظرية اجتماعية‪-‬تاريخية معيارية دولية‬

‫فريد‬
‫بغداد‬

‫مقدمة‬
‫ّك‬
‫ر ز املفكر الجزائري مالك بن نبي في دراساته –من خالل منظوره الحضاري‪ -‬جهوده على معرفة‬
‫مكامن الخلل في بنية ووظيفة اإلنسان واملجتمع‪ ،‬حيث اعتبرهما األساس في بناء الحضارة والدولة‪،‬‬
‫وكذلك في رقي الشعوب وتطورها‪ ،‬وقدرتها على تفادي االرتهان للقوى الخارجية عبر االستعمار‬
‫بمختلف أشكاله‪ ،‬وقد استخدم في منظوره الحضاري من أجل الوصول إلى نتائج ألبحاثه‪ ،‬وبغرض‬
‫َا‬
‫إيجاد حلول للمشكالت التي يمر بها العالم الثالث والعالم اإلسالمي‪ ،‬منهج معرفيا اعتمد بشكل‬
‫أساس على استقراء التاريخ والتأمل في فلسفته‪.‬‬

‫وفي هذا الجانب‪ ،‬نجد أن الظاهرة االستعمارية التي عايشها بن نبي دفعته إلى البحث في الأسباب‬
‫الحقيقية الكامنة وراء سيطرة الدول األوربية املستعِم رة على الواقع االجتماعي لدول العالم الثالث‪،‬‬
‫وخاصة في قارتي إفريقيا وآسيا‪ ،‬فكان أن غاص في جذورها التاريخية التي أدت باملجتمعات‬
‫املستعَم رة إلى السقوط في قبضة جحافل الجيوش األوربية الغازية‪ ،‬ومن هنا برزت ظاهرة أخرى‬
‫أدت إليها فصارت أهم بالتتبع والتمحيص لديه‪ ،‬إنها ظاهرة التخلف الحضاري للمجتمعات‬
‫األفروأسيوية‪.‬‬

‫وعلى هذا األساس‪ ،‬سنرتب بحثنا وفقا ألولويات دراسة بن نبي لألسباب املؤدية إلى نشوء الظاهرة‬
‫ًا‬
‫االستعمارية بوصفها نمط من أنماط ظاهرة الحرب‪ ،‬التي شكلت منطلقا للدراسات في حقل‬
‫ًا‬
‫العالقات الدولية في عشرينيات القرن املاضي وأساس للجدل الواقعي‪ -‬املثالي وما تاله من نقاشات‬
‫أخرى‪ ،‬فظاهرة الحرب االستعمارية تمثل وكنتيجة ملنهجية بن نبي التحليلية التي اقتفاها في‬
‫ًا‬
‫منظوره‪ ،‬انعكاس لظاهرة التخلف التي أصابت البلدان املستعَم رة منذ انفصالها عن الحضارة إلى‬
‫غاية وقوعها تحت سلطة الدولة االستعمارية‪ ،‬وكال الظاهرتين –االستعمار والتخلف الحضاري‪-‬‬
‫تندرجان ضمن ما أسماه بن نبي "مشكالت الحضارة"‪.‬‬
‫وكنتيجة لدراستنا ألهم متغيرات الظاهرتين؛ التخلف الحضاري واالستعمار ‪ ،‬وفقا للمنظور‬
‫الحضاري لبن نبي‪ ،‬ووصوال إلى استعراضنا ألهم االفتراضات النظرية التي يرتكز عليها هذا املنظور‪،‬‬
‫نخلص إلى الحلول التي طرحها بن نبي لوضع البلدان املتخلفة حضاريا على سكة التغيير واإلصالح‬
‫ّل‬
‫املفضي بها ألن تتحول إلى مجتمعات متحضرة‪ ،‬وهو ما د ل عليه بـ "شروط النهضة"‪ ،‬وبهذا يمكننا‬
‫أن نطرح الجدوى التنظيرية من إبراز املنظور الحضاري لبن نبي كنظرية اجتماعية‪ -‬تاريخية معيارية‬
‫دولية‪ ،‬وتأسيسا على ما سبق يمكننا أن نطرح اإلشكال التالي‪:‬‬

‫هل يمكن استخدام منظور مالك بن نبي الحضاري كإطار معرفي نظري عام وتفسيري في تحليل‬
‫الظواهر الدولية؟ وبالتالي كنظرية لها بناؤها املعرفي وافتراضاتها األساسية التي تشكل الصلب‬
‫النظري الذي ينطلق منه منظوره؟‬

‫املحور األول‪ :‬تفسير بن نبي لظاهرة التخلف الحضاري وأثرها على تطور املجتمعات‬

‫يعود بن نبي في تقصيه لألسباب الحقيقية الكامنة وراء ظاهرة الحرب االستعمارية إلى زمن هو أبعد‬
‫عن الحاضر بقرون ممتدة‪ ،‬تحديدا إلى النقطة الزمنية التي حدث فيها التحّو ل الذي أفقد اإلنسان‬
‫ّت‬ ‫ّل‬
‫املستعَم ر مقدرته على التصدي ملستعِم ره أو التخ ص منه‪ ،‬إنها لحظة في التاريخ الغابر ا سمت‬
‫ببداية التقهقر وأفول الحضارة‪ ،1‬ومعها بدأ ذلك اإلنسان يفقد معادلته االجتماعية التي تتيح له‬
‫تركيب عوامل حضارته املتمثلة في اغتنامه للوقت الضروري‪ ،‬بما يؤدي إلى تحكمه في مقّد رات‬
‫الطبيعة الكامنة تحت التراب والجاثمة فوقه‪ ،‬وعند هذه اللحظة يكتشف بن نبي األزمة في ضمير‬
‫وعقل اإلنسان املستعَم ر الذي بدأ يفقد مقدرته على إنتاج األفكار الضرورية التي يبني بها حضارته‪،‬‬
‫وأمام عجزه عن ذلك يلجأ إلى الحضارات األخرى ليتزود بأفكارها ومنتجاتها‪ ،‬فيستهلك بعضها‬
‫ويكّد س بعضها اآلخر ظنا منه أنه يستطيع بها بناء حضارة له‪ ،‬ولكن عبثا يحاول فالحضارة‬
‫ليست مولودا مشّو ها أو لقيطا‪ ،‬إنها بنيان أصيل وليست تكديسا ملنتجات اآلخرين كما يصف بن‬
‫نبي‪.‬‬

‫‪ 1‬يمّي ز بن نبي بين األسباب البعيدة والجوهرية للتقهقر الحضاري باعتباره ظاهرة كلية‪ ،‬وبين األسباب القريبة للظاهرة الجزئية‬
‫سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو دولية‪ ،‬حيث أنه يعيب على املؤرخين في دراستهم ألسباب انهيار اإلمبراطورية الرومانية ‪-‬مثال‪-‬‬
‫قصرهم ذلك على حيز جغرافي معين ال يتعدى حدودها مع القبائل الجرمانية التي غزتها‪ ،‬وعلى اللحظة التاريخية لهذا الغزو في القرن‬
‫الخامس ميالدي‪ ،‬في حين يرى أن الحقيقة الكامنة وراء انهيارها تعود زمنيا إلى القرن الثالث؛ حين هزمت القبائل الهونية الصينية‬
‫القبائل الجرمانية القاطنة على الحدود الروسية وأجلتها من بالدها‪ ،‬فبدأت سلسلة من األحداث املتتابعة امتدت ألكثر من قرنين من‬
‫الزمن أفضت في النهاية إلى أفول الحضارة الرومانية‪ ،‬وقد أورد هذا على سبيل املثال‪ ،‬حيث يرى بن نبي أن كل أسباب األحداث‬
‫التاريخية البارزة تتم وفق هذا النسق التاريخي‪ ،‬الذي تقف من خالله األسباب البعيدة خلف األسباب القريبة‪ ،‬مضفية عليها بذلك‬
‫تفسيرا ميتافيزيقيا أو كونيا‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬مالك بن نبي‪ ،‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،5‬تر‪ :‬عبد الصبور شاهين‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪،‬‬
‫‪ ،1986‬ص ص ‪.27 -26‬‬
‫‪ -1‬عناصر بناء الحضارة عند بن نبي‬

‫يذكر بن نبي كيف أنه‪ ،‬وفي الوقت الذي كانت فيه األمة اإلسالمية ممزقة من مغربها إلى مشرقها‪،‬‬
‫وكانت دولها عبارة عن أدوات لتنفيذ خطة االستعمار األوربي‪ ،‬الذي كانت تصغي بانتباه واهتمام‬
‫ألفكاره فيي بناء الحضارة وتقتفي خطاه ومناهجه‪ ،‬فأضحت بذلك من زبائن الحضارة الغربية تدفع‬
‫لها أموالها وأخالقها‪ ،‬كان اليابان في تلك اللحظة من التاريخ قد فكر في خطته تفكيرا علميا وخطط‬
‫لها تخطيطا فنيا ودرس الحضارة الغربية طبقا الحتياجاته وليس تبعا لرغباته‪ ،‬وبعث في أنفس‬
‫أفراد مجتمعه فكرة عاّم ة جعلت كل ياباني يرتبط بها ويعمل ملصلحته العامة‪ ،‬فبنى اليابان بذلك‬
‫مجتمعا متحضرا‪ ،‬وهنا يتساءل بن نبي ما الفرق بين سير اليابان وسير األمة العربية اإلسالمية في‬
‫طريق الحضارة؟ ليجيب عن ذلك بأن ما قامت به اليابان أثناء سيرها الحضاري يمثل عملية بناء‬
‫مجتمع‪ ،‬في حين أن ما قامت به األمة العربية اإلسالمية حينها هو تكديس لعناصر مجتمع‪ ،‬والفرق‬
‫بينهما هو أن البناء يصاحب مرحلة التطور والنمو‪ ،‬بينما يمثل التكديس ظاهرة اجتماعية تحدث في‬
‫عصور االنحطاط‪ ،‬وتتسم بوجود مجتمع ال يفكر وال ينظم أعماله وفق أفكار وقوانين وطبقا لخطة‬
‫مدروسة‪ ،‬وإنما مجرد مراكمة ألشياء‪ ،‬فالبناء وحده هو الذي يؤدي إلى الحضارة‪ ،‬وال يحصل ذلك‬
‫بتكديس منتجات الحضارة الغربية املستوردة التي من املستحيل أن تصنع حضارة‪ ،‬فالحضارة هي‬
‫التي تصنع منتجاتها وليس العكس‪.2‬‬

‫ودرءا ألي خلط بين عمليتي البناء والتكديس يطرح بن نبي سؤاال منطقيا‪ :‬من أين ُي بتدأ في عملية‬
‫بناء الحضارة؟ وفي بحثه عن الجواب يضع مقاربة كيميائية يحاول من خاللها تحليل عناصر‬
‫الحضارة على الطريقة التي يتم بها تحليل املاء إلى عناصر أولية (هيدروجين ‪ +‬أوكسيجين)‪ ،‬وبذلك‬
‫ومن خالل دراسة القانون الذي به يتركب هذان العنصران نحصل على املاء‪ ،‬يصف بن نبي عملية‬
‫التركيب هذه على أنها بناء وليست تكديسا‪ ،‬وعلى منوال هذه الطريقة حينما نحلل منتجات‬
‫الحضارة؛ ولنأخذ على سبيل املثال "ورقة"‪ ،‬فإنها تتكون من عناصر ثالثة‪ :‬اإلنسان الذي توّص ل إليها‬
‫بفكره وصنعها بيده‪ ،‬والعنصر الثاني وهو التراب‪ ،‬وقد تفادى بن نبي استخدام مفهوم "املادة"‪ ،‬ذلك‬
‫أن التراب هو شيء حيوي في املجتمع فهو يتصل باإلنسان من طريقين‪ ،‬عن طريق تشريع امللكية في‬
‫املجتمع الذي يحقق للفرد الضمانات االجتماعية‪ ،‬وعن طريق السيطرة التقنية واالستخدام التقني‬
‫الذي يتيحه علم التراب واملعلومات املرتبطة به كالكيمياء وغيرها‪ ،‬فالتراب يدخل في عناصر الورقة‬
‫بهذا املعنى املختلف عن مفهوم املادة‪ ،‬أما العنصر الثالث فهو الزمن الكافي الختمار فكرة ابتكار‬
‫الورقة‪ ،‬التي لم تتم قبل تاريخها املرتبط بنضوج وتراكم مجموعة من التجارب في مجال علم التراب‬
‫والنباتات‪ ،‬ومن هنا يمكن قياس هذا التحليل على أي منتوج من منتجات الحضارة‪:‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،2002 ،‬ص ص ‪.169 -165‬‬ ‫‪2‬‬
‫منتوج حضارة = إنسان ‪ +‬تراب ‪ +‬وقت‪ ،‬وبما أن الحضارة تمثل جميع منتجات شعب أو مجتمع ما‬
‫املادية والفكرية فإن املعادلة ستصبح كالتالي‪ :‬حضارة = إنسان ‪ +‬تراب ‪ +‬وقت‪.‬‬

‫ويخلص بن نبي في تحليله إلى نتيجة جوهرية مفادها أن أّي مجتمع وهو يخطط لبناء حضارة ال‬
‫ينبغي عليه التفكير في منتجاتها‪ ،‬وإنما في هذه العناصر الثالثة‪ :‬اإلنسان والتراب والوقت‪ ،‬وحينما‬
‫يتوصل إلى حّل لهذه املشكالت الثالث؛ بأن يبني اإلنسان بناًء متكامال ويعتني بالتراب و يحافظ على‬
‫الوقت‪ ،‬فإنه حينئذ يكون قد توصل إلى بناء أفضل مجتمع‪ ،‬وتكوين الحضارة التي في إطارها تتّم‬
‫للفرد سعادته بعد أن يحصل على جميع ضماناتها االجتماعية الكافية‪.3‬‬

‫‪ -2‬مفهوم بن نبي للحضارة واملجتمع املتحضر‬


‫ّل‬
‫ينطلق مالك بن نبي في فهمه للتخ ف بوصفه تفاوتا اقتصاديا بين الحضارات‪ ،‬حيث يتناوله كظاهرة‬
‫دولية‪ ،‬من وضعه في سياقه التاريخي العام ضمن إطار مشكلة الحضارة‪ ،‬أين يتموقع مجتمع ما في‬
‫مسار التاريخ‪ ،‬متسائال عن مكانته في تلك النقطة الزمنية‪ ،‬هل يوجد في مرحلة نمّو أم أوّج أم هو في‬
‫مرحلة تقهقر وانحطاط؟ ويتعامل بن نبي في هذا السياق مع املجتمع كوحدة تحليلية ينبغي أن نرى‬
‫في حيزها العالقات السببية التي تؤدي إلى نشوء الظاهرة محل الدراسة؛ سواء كانت اجتماعية أو‬
‫اقتصادية أو سياسية أو دولية‪ ،‬وبناء على تحليله ملشكالت املجتمع يضع بن نبي حلوله التي بإمكانها‬
‫إخراجه من مآزقه الحضارية وصناعة مكانة له ضمن املنتظم الحضاري الدولي‪.‬‬

‫يستبعد بن نبي اهتمامات األنثروبولوجيين بمفهومهم الواسع للحضارة‪ ،‬والذي يصل إلى حدود‬
‫اعتبارهم لها شكال من أشكال التنظيم للحياة البشرية‪ ،‬ويسلك طريقا تتوافق‪ ،‬على مضض‪ ،‬مع‬
‫شروط موضوعية تمليها مبادئ علم االجتماع‪ ،‬الذي قصر باحثوه مشاكل العالم الثالث املتعّد دة‬
‫والكثيرة على مصطلح (التخلف) فهم يحددونه ويقابلونه بمصطلح آخر يشير إلى الظاهرة العكسية‬
‫املتمثلة في (النمو)‪ ،‬وهنا يجد بن نبي العالم مقّس ما على يمين وشمال حٍّد أدنى افتراضي‪ ،‬اعتبره كافيا‬
‫لتلبية حاجات دولة متخلصة من جميع مظاهر التخلف‪ ،‬كنقص استخدام الطاقات االجتماعية‬
‫والبطالة واألمية ونقص الغذاء والفقر واألمراض الوبائية وغيرها‪ ،‬ويتمثل هذا الحد في متوسط‬
‫دخل الفرد‪ ،‬حيث يرسم هذا املتوسط حّد ين ملنطقتين ترتسمان على الخريطة كقاّر تين متباينتين‪،‬‬
‫تضّم إحداهما البلدان (األفروأسيوية) املشاركة في مؤتمر باندونغ (‪ ،)1955‬على وجه التقريب‪ ،‬وهي‬
‫املساحة املشكلة لنصف الكرة الجنوبي‪ ،‬في حين تشكل املنطقة األخرى البلدان املتقّد مة‪ ،‬تقريبا‪،‬‬
‫نصف الكرة الشمالي‪.4‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.172 -170 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬القضايا الكبرى‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر)‪ ،2000 ،‬ص ص‪.36-35 ،‬‬ ‫‪4‬‬
‫ويبّر ر بن نبي مقاربته هذه بكون مسألة تحديد الظواهر االقتصادية يتطلب بدرجة أولى تحديدا ملكان‬
‫ُّل‬
‫وقوع أسبابها وعواملها‪ ،‬فكّل مساحِة تخ ٍف أو نمٍّو من املؤكد أنها تضّم بداخلها حقيقتها االقتصادية‬
‫الخاصة بها‪ ،‬إلى جانب جميع االطرادات املتساوقة التي تفّس رها‪ ،‬وفقا لتحليل تاريخي يخّص منطقة‬
‫دراسة معينة‪ ،‬وعند هذه الزاوية يعمق بن نبي بحثه عن مفهوم الحضارة حيث يربطه بالنمّو‬
‫ّش‬
‫االقتصادي الذي حّق قته دول ال مال "أوربا وأمريكا الشمالية واليابان واالتحاد السوفياتي"‪ ،‬فيسعى‬
‫إلى الرجوع إلى الوراء إليجاد األسباب التاريخية التي أنتجت هذا الّن مو‪ ،‬ليجد أنها مقرونة بواقعة‬
‫اقتصادية بارزة على غرار اختراع اآللة البخارية أو اآللة الطابعة أو القطن املصقول كيميائيا أو‬
‫القنبلة النووية‪ ،‬أو غيرها من األزمنة والوقائع‪ ،‬باإلضافة إلى شخصية عبقرية اخترعت تلك اآلالت‬
‫ّن‬
‫واملنتجات وحركت الوقائع ‪ ،‬لتصنع "الّن مو االقتصادي"‪ ،‬الذي يعّد ه بن نبي على أ ه ظاهرة أوربية‪،‬‬
‫وهو ال يعدو أن يكون سوى فترة زمنية تعّب ر عن ظاهرة جزئية في سياق النمو العام للحضارة‬
‫األوربية داخل املكان والزمان‪ ،‬وهذا النمو يمثل املظهر املادي لهذه الحضارة ويعبر عن الظاهرة‬
‫الكلية املتمثلة في "حضارة أوربا"‪ ،‬التي تجسد الرحم الذي تتولد عنه كل جزئية من تفاصيل النمو‬
‫األخالقي واالجتماعي لإلنسان املنتمي إلى رقعتها الجغرافية‪.5‬‬
‫ّن‬
‫ويتجاوز بن نبي مسألة النمو املادي االقتصادي على أ ه ال يمثل لوحده تجسيدا للحضارة‪ ،‬حتى‬
‫يعطي مفهوما دقيقا لها‪ ،‬ويرى أن ذلك منوط بتحقق جملة شروط تتيح للمجتمع أن يؤدي واجبه‬
‫نحو الفرد‪ ،‬وعلى هذا األساس يصوغ مفهومه للحضارة‪" :‬الحضارة هي مجموع الشروط األخالقية‬
‫واملادية التي تتيح ملجتمع معين أن يقدم لكِّل فرد من أفراده‪ ،‬في كِّل طور من أطوار وجوِد ه‪ ،‬منذ‬
‫َة‬
‫الطفولة إلى الشيخوخة‪ ،‬املساعد الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه"‪ ،‬ويسترسل‬
‫بن نبي في تفسيره ملفهوم املساعدة الضرورية حتى يصبح أكثر وضوحا وأقدر على اإلقناع‪" :‬‬
‫فاملدرسة واملعمل‪ ،‬واملستشفى ونظام شبكة املواصالت‪ ،‬واألمن في جميع صوره عبر سائر تراب‬
‫القطر‪ ،‬واحترام شخصية الفرد‪ ،‬تمثل جميعها أشكاال مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر املجتمع‬
‫املتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه"‪.6‬‬

‫‪ -3‬عالقة الفرد باملجتمع في عملية تكوين الحضارة‬

‫ينظر بن نبي إلى مشكالت املجتمعات اإلنسانية من زاوية مغايرة للنظرة االقتصادية‪ 7‬التي تقسمها إلى‬
‫مجتمعات نامية وأخرى متخلفة على غرار ما تذهب إليه نظريات التبعية ونظام العالم‪ ،‬فهو يضع‬

‫‪ 5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.43 -40 ،‬‬


‫‪ 6‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ 7‬يــرى بن نــبي أن هنــاك تطــابق تــام بين خريطــة التطــور االقتصــادي منــذ الثــورة الصــناعية وفكــرة الحضــارة الغربيــة‪ ،‬ومــا ذلــك إال ألن‬
‫الظاهرة االقتصادية صورة للحضارة الغربيـة‪ ،‬ومراحـل هـذه الظـاهرة هي نفسـها مراحـل هـذه الحضـارة‪ ،‬للمزيـد أنظـر فصـل كيـف نبـني‬
‫مجتمعا أفضل؟ مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ‪.153‬‬
‫الفرد واملجتمع كأهم مستويين للتحليل‪ ،‬ومن ثم تأتي عالقة الفرد باملجتمع وفقا ملا يحققه له من‬
‫سعادة أو مصلحة‪ ،‬غير أن هذا التحليل النفسي –االجتماعي ال يكتمل إال في إطار األهداف العامة‬
‫للمجتمع التي تحددها الفكرة املتمركزة حول تطوره وُر قّي ه‪ ،‬هذه السعادة التي تربطها املنظورات‬
‫املادية بقيمة متوسط الدخل السنوي للفرد‪ ،‬والتي ترى أن دونها التردي في حضيض الشقاء‪ ،‬هي‬
‫حسب بن نبي ظاهرة غريبة وتفكير سطحي‪ ،‬إذ كيف يكون الوصول إلى متوسط دخل فردي ما‬
‫شرطا لبلوغ السعادة‪ ،‬على الرغم من أن دوال في العالم تتجاوز هذا املعّد ل بأضعاف غير أنها لم‬
‫تتخلص من مشكالت الفقر واألزمات االجتماعية التي تعاني منها فئات واسعة من مواطنيها‪ ،‬فلو كان‬
‫هذا االشتراط صحيحا فمن املفروض أن يحقق أوتوماتيكيا وبدون قيد أو شرط ظروف الحياة‬
‫السعيدة ألولئك املواطنين‪ ،‬ومع أن بن نبي ال يرفض مطلقا املقياس االقتصادي إال أنه ال يقبل به إال‬
‫مع جملة شروط‪ ،‬إضافة إلى أنه ال يعتبره السبب الرئيسي في مسألة التخلف‪ ،‬ويصل إلى كون السبب‬
‫األول في مشكالت املجتمعات اإلنسانية هو فقدانها ملفهوم مجتمع الحضارة الذي إذا افتقده اإلنسان‬
‫فإنه سيكون معّر ضا للحرمان من الضمانات االجتماعية‪ ،‬وأنه لتحقيق مجتمع أفضل ينبغي النظر في‬
‫أسلوب الحضارة التي بتحقيقها يكون اإلنسان قد ضمن جميع شروط الحياة‪ ،‬بما في ذلك األسباب‬
‫التي تؤدي إلى بلوغ متوسط الدخل الفردي املرتفع ومعه الخريطة االقتصادية ونتائجها االجتماعية‬
‫والثقافية أيضا‪ ،‬وعليه فإنه ينبغي البحث عن مسألة مشكالت املجتمعات اإلنسانية من زاوية‬
‫واحدة‪ ،‬فالنظر إليها من زوايا متعددة سيجعل األمور تتشعب‪ ،‬كما أن فقدان البوصلة والخروج عن‬
‫الجادة سيفضي إلى نتائج خاطئة‪ ،‬وتظل الزاوية املناسبة التي نبحث منها عن حل ملشكالت املجتمعات‬
‫اإلنسانية هي التي ننظر منها إلى كيف نبني مجتمعا أفضل؟ وهو ما يتطلب بناء مجتمع متحّض ر‪ ،‬وهذا‬
‫ما يعني أنه ينبغي أن نسعى إلى تكوين حضارة‪.8‬‬

‫إن بن نبي ال ينظر إلى الدولة من زاوية قوتها العسكرية كما يذهب إليه الواقعيون بمختلف‬
‫اتجاهاتهم التقليدية والجديدة‪ ،‬وال من جانب قوتها االقتصادية كما ينظر إليها الليبراليون‬
‫التعدديون‪ ،‬ولكن بناء على درجة التحضر التي بلغها مجتمع تلك الدولة‪ ،‬وهنا فإن بن نبي له رؤيته‬
‫الخاصة ملسألة التحضر التي يفسرها بناء على مفهومه للحضارة كما مّر معنا‪ ،‬حيث أنه يربطه بمدى‬
‫قدرة املجتمع على تخلصه من مختلف األزمات واملشاكل التي قد يتعرض لها إنسان ذلك املجتمع‪.‬‬

‫وفي هذا السياق نجد بن نبي يحلل الظاهرة الدولية من منطلق كونها جزءا من الظاهرة االجتماعية‬
‫الكلية التي تندرج تحتها جميع الظواهر السياسية واالقتصادية والدولية‪ ،‬وعلى هذا األساس فإنه‬
‫حتى وهو يتحدث عن وقائع دولية وينخرط في تفسيرها فإنه يستخدم املجتمع بوصفه وحدة‬
‫أساسية لتحليله‪ ،‬ال يعتبر الدولة مرجعا له‪ ،‬من زاوية أن الشعوب اإلفريقية واألسيوية التي كان‬
‫منهمكا بدراسة مشكالتها كانت تحت سيطرة دولة االستعمار‪ ،‬ولم تكن قد استقلت بعد‪ ،‬وهو الحال‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.163 -159‬‬ ‫‪8‬‬


‫الذي شهدته املنطقة العربية التي كانت عبارة عن شعب تحت حكم الدولة العثمانية ليجد نفسه‬
‫منقسما داخل دول رسمها االستعمار التقليدي الفرنسي والبريطاني؛ إما من خالل الغزو والتوسع أو‬
‫عبر اتفاق سايكس‪ -‬بيكو‪ ،‬كما أنه كان يهتم بدراسة تطور املجتمعات منذ بداية تقهقرها الحضاري‬
‫والذي بدأ قبل قرون أي قبل تشكل الدولة القومية بمفهومها الوستفالي‪ ،‬فكان يلجأ إلى ألفاظ‬
‫"املجتمع" أو "الشعب" أو "البلد" في تحليله ملا تخوضه املناطق املتقهقرة حضاريا في العالم والتي‬
‫تشغل جنوبه الجغرافي‪.‬‬

‫وفي هذا الجانب‪ ،‬يلفت بن نبي االنتباه إلى قضية جوهرية تتعلق بمعنى املجتمع‪ ،‬حينما يحاول إزالة‬
‫الوهم باملفهوم املجتزأ له‪ ،‬فاملجتمع كما يراه ليس عبارة عن مجموعة من األفراد يعيشون كما‬
‫يشاءون دون اعتبار للصالت التي تربط بينهم‪ ،‬فهذا ما يمكن أن نجده مع بداية تشكل املجتمعات أو‬
‫اندثارها وليس في مرحلة الحضارة‪ ،‬ويؤكد بن نبي على أن وظيفة املجتمع التاريخية تكمن في حفظ‬
‫وحماية كيان الفرد وما يقدمه وما يحققه له من راحة‪ ،‬إضافة إلى تحقيق أهداف جماعته التي‬
‫تتمايز عن أهداف مجتمعات الكائنات األخرى‪ ،‬في كون هذه األهداف تتجاوز مسألتي البقاء وحفظ‬
‫النوع‪ ،‬إلى مستوى تطور النوع ورقيه‪ ،‬وهو ما عّب ر عنه القرآن الكريم بقوله‪َ" :‬و اْب َت يَم ا آَت اَك الَّل ُه‬
‫ِف‬
‫ْر‬ ‫َّد َر آْل َر َة َو اَل َت َس َن َب َك َن ُّد ْن َي َو َأ ْح َك َم َأ ْح َس َن َّل ُه َل ْي َك َو اَل َت ْب ْل َفِغ َس َد َأْل‬
‫ِغ ا ا ِف ي ا ِض ۖ ‬ ‫ال ِإ ۖ ‬ ‫ن ِص ي ِم ال اۖ ِس ن ا‬ ‫ال ا ا ِخ ۖ ‬
‫ُمْل‬ ‫َّل اَل‬
‫ِإ َّن ال َه ُي ِح ُّب ا ْف ِس ِد يَن "‪ ،9‬فاملجتمع بهذا ليس تكديسا لألفراد بل هو بنيان من األفراد تجمعهم‬
‫ُف‬
‫أشياء مقدسة متفق عليها‪ ،‬وتؤلف بينهم فكرة عامة‪ ،‬فإذا ما قدت هذه الفكرة زالت معها جميع‬
‫الصالت التي تربط بينهم‪ ،‬ويتفكك بذلك املجتمع وتضيع مصالحه‪.10‬‬

‫وفي هذا الباب‪ ،‬يشابه مالك بن نبي بين مظاهر النمو العقلي عند الفرد وبين التطور النفسي‪-‬‬
‫االجتماعي للمجتمع‪ ،‬فيرى أن هذا األخير يمر بثالث مراحل‪ :‬مرحلة الشيء‪ ،‬مرحلة الشخص ثّم‬
‫مرحلة الفكرة‪ ،‬ويتميز كل مجتمع عن غيره من املجتمعات برجحان أحد هذه العوامل الثالث‪:‬‬
‫األشياء‪ ،‬األشخاص واألفكار‪ ،‬والتي تتشابك في إطار نشاط املجتمع املتناغم الذي ينطوي على‬
‫مسوغات وأنماط تنفيذية‪ :‬بواعث في املستوى األخالقي وأفكار تقنية‪ ،‬فاملجتمع املتخلف ال تعوزه‬
‫الوسائل املادية (األشياء) بقدر افتقاره لألفكار‪ ،‬ويظهر ذلك جليا في نمط استعماله لإلمكانيات‬
‫املتوفرة لديه بشكل متفاوت من الفاعلية وفي عدم مقدرته على توفير غيرها‪ ،‬وأيضا في عدم طرحه‬
‫ملشاكله حينما يحجم عن التصدي لها أو في طريقة طرحها من األساس‪.11‬‬

‫وفي اتجاه آخر‪ ،‬يؤكد بن نبي على أهم مرحلة في مراحل التطور التاريخي للمجتمع وهي مرحلة‬
‫املجتمع بعد التحضر –أي املجتمع خالل تقهقره‪ ،-‬إذ يميز املؤرخون في العادة بين مرحلة املجتمع‬

‫‪ 9‬سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.77‬‬


‫‪ 10‬مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪ 11‬مالك بن نبي‪ ،‬مشكلة األفكار في العالم اإلسالمي‪ ،‬تر‪ :‬د‪ .‬بسام بركة و د‪ .‬أحمد شعبو‪(،‬دمشق‪ :‬دار الفكر)‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص ‪.36‬‬
‫قبل التحضر ومرحلة املجتمع املتحضر فقط‪ ،‬ويذهلون عن مرحلة املجتمع بعد التحضر‪ ،‬فيبدو‬
‫لهم املجتمع أثناءها مواصال ملسيرته الحضارية‪ ،‬ولذلك فإن بن نبي يزعم أن هذا اللبس هو الذي‬
‫يؤثر سلبا على عملية طرح مشكالت البالد املتخلفة وبالتبعية على مسألة إيجاد حلول لها‪ ،‬وفي هذا‬
‫اإلطار يوضح بن نبي بأن مجتمع ما بعد التحضر هو مجتمع يشهد تقهقرا إلى الوراء بعد أن أضاع‬
‫بوصلته الحضارية‪ ،‬وهو ما حدث مع املجتمع اإلسالمي بانفصام دورته الحضارية‪ ،‬عند النقطة‬
‫التاريخية التي ابتدأ منها عصر ما بعد املوحدين الذي يمثل عصر التخلف الحضاري في العالم‬
‫اإلسالمي‪.12‬‬

‫املحور الثاني‪ :‬تفسير بن نبي لظاهرة االستعمار بوصفه سببا لعدم االستقرار في العالم‬

‫يبدأ اقتراب مالك بن نبي من الظاهرة الدولية‪ ،‬على غرار غيره من املفكرين في مدارس شتى داخل‬
‫حقل العالقات الدولية‪ ،‬بمسألة الّس لم واالستقرار في العالم‪ ،‬لكن بن نبي يرفض أن يقف على‬
‫الحياد في تعامله مع هذه املسألة التي تتسبب الحرب في غيابها؛ كما تزعم املنظورات الوضعية‬
‫الواقعية والليبرالية في تفسيرها ألسباب غياب االستقرار في النظام الدولي‪ ،‬من حيث أنها تستخدم‬
‫مصطلح "الحرب" كتصّو ر أنطولوجي "موضوعي ومحايد"‪ ،‬يؤشر على االختالل الحاصل في موازين‬
‫القوى عند الواقعين أو استمرار الندرة في املوارد املادية والسلع السوقية على وقع صرامة تمسك‬
‫الدولة القومية بسيادتها على حدودها وفق تصور الليبراليين التعدديين‪.‬‬

‫وفي هذا االتجاه ينسجم مالك بن نبي كثيرا مع منظورات ما بعد البنيوية والنقدية الدولية‪ ،‬في إدانتها‬
‫لظاهرة الحرب‪ ،‬وربطها بعامل الهيمنة‪ ،‬فهو يستخدم مصطلح "االستعمار" كمسعى الستيعاب‬
‫الظاهرة‪ ،‬ليس في حدودها "املوضوعية" كما تدعيه الوضعية‪ ،‬ولكن عبر االعتماد على أنطولوجيا‬
‫معيارية تحيل إلى أزمة أخالقية أصابت الحضارة الغربية فأفقدتها روح اإلنسانية ودفعتها إلى غزو‬
‫اآلخر وامتهان ثوابته وسلب مقدراته‪.‬‬

‫لكن بن نبي ال يولي األهمية القصوى لهذا العامل الخارجي املقتصر على تحريك القوى املهيمنة آللتها‬
‫العسكرية باتجاه بلدان هي أقل منها قوة مادية وقدرة تسلحية‪ ،‬إنه يبحث عن متغير جوهري خلق‬
‫هذه الظواهر واالنعكاسات لحرب استعمارية بين إنسانين بثقافتين وفكرين متمايزين‪ ،‬يعيشان في‬
‫بيئتين حضاريتين مختلفتين‪ ،‬ومن هذا املتغير تبدأ موضوعية بن نبي حينما يضع إصبعه على عوامل‬
‫ّف‬
‫حضارية أفقدت ميزان القوى بين هذين اإلنسانين توازنه‪ ،‬لُي دين اإلنسان املستعَم ر كونه و ر‬
‫ّل‬
‫ظروف تخ ق االستعمار وهّي أ ألسباب وجوده داخل بيئته النفسية واالجتماعية‪ ،‬حتى أضحى قابال‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.38 -37‬‬ ‫‪12‬‬


‫لوجوده وسيطرته على أرضه‪ ،‬قبل أن يحتله بجيوشه‪ ،‬وعند هذا الشرط النفسي‪ -‬االجتماعي تجد‬
‫الحرب االستعمارية مبررا لها وينعدم معها استقرار العالم حسب بن نبي‪.‬‬

‫أوال‪ :‬الظاهرة االستعمارية وأسبابها الجوهرية حسب بن نبي‬

‫ال تعكس "القابلية لالستعمار" كما صاغ بن نبي مفهومها عالقة املستعِم ر باملستعَم ر حال وجوده على‬
‫أرضه بقدر ما تجسد حالته النفسية وقد فقد مقوماته الحضارية حتى بدون احتالله ألرضه‪ ،13‬هذه‬
‫الحالة اجتاحت الشعوب اإلسالمية مع أفول حضارتها بعد نهاية عصر املوحدين‪ ،‬وأدت إلى انكفائها‬
‫إلى حياة بدائية تنعدم معها أسباب التطور ومظاهره‪ ،‬واكتفائها باستيراد أشياء الحضارات األخرى‬
‫واالقتباس من أفكارها‪ ،‬إنها تمتزج مع جمود إنسان ما بعد الحضارة وعدم فاعليته‪ ،‬وهي حالة‬
‫سيكولوجية ليس لالستعمار أي دخل في تكوينها‪ ،‬حتى بعد احتالله لبالده‪ ،‬ذلك أنه ال يمكن‬
‫لالستعمار بأي حال التأثير في قيمة اإلنسان األساسية التي ال تخضع لحكمه حتى وهو يحتل بجيوشه‬
‫أرضه ويحط من قيمة الخاضعين له‪ ،‬فالقابلية لالستعمار تتجلى عند املستعَم ر متى ما وقف عاطال‬
‫عاجزا وخامدا حتى واملستعِم ر ال يبدي تجاهه أي نوع من أنواع الضغط النفسي أو القهر االجتماعي‬
‫ّل‬
‫أو االستبداد السياسي‪ ،1‬بل إن املستعَم ر يس م زمامه ملستعِم ره طواعية ويستسلم ملصيره املحتوم‬
‫الذي يقرره له دون أدنى مقاومة منه‪" ،‬وعليه فإن االستعمار يمارس عمله وتأثيره بوصفه حقيقة‬
‫ّف‬
‫عندما يك النشاط كّف ا فعليا‪ ،‬وهو يمارسهما –عمله وتأثيره‪ -‬بوصفه أسطورة عندما ال يكون‬
‫ّل‬
‫سوى تع ة أو قناعا للقابلية لالستعمار"‪.14‬‬

‫وكنتيجة لتحليله للظاهرة االستعمارية يصل بن نبي إلى ما يشبه القانون‪" :‬إن حركة التاريخ ال تبدأ‬
‫باالستعمار بل بالقابلية له‪ ،‬فهي التي تدعوه"‪" ،‬ولكي نتحرر من (أثر) هو االستعمار‪ ،‬يجب أن نتحرر‬
‫من (سبب) هو القابلية لالستعمار"‪ ،‬ويذهب بن نبي أبعد من حدود التفسير للعالقة السببية التي‬
‫أوجدت الظاهرة االستعمارية ليصوغ عالقة سببية أخرى تتعلق بالتحرر من االستعمار‪ ،‬حيث أنه‬
‫يصف حدوث االستعمار (االحتالل) باللحظة السعيدة في حياة الشعوب كون املستعِم ر تسبب من‬
‫خالل أساليبه في البطش والنهب والقمع في إدراك اإلنسان القابل لالستعمار لقابليته له‪ ،‬والتي كان‬

‫‪ 13‬يعلل بن نبي استنتاجه هذا بما حدث مع اليمن الذي ورغم كونا حافظ على استقالله التام ولم يعرف االستعمار في تاريخه إال أنه‬
‫لم يستفد شيئا من استقالله‪ ،‬وبما أنه عاجز عن القيام بأي جهد اجتماعي فهو قابل لالستعمار في أي وقت‪ ،‬وكذلك كان الحال‬
‫بالنسبة للمغرب الذي لم يعتبر من استعمار الجزائر‪ ،‬رغم كونه يتواجد على حدوده الشرقية ألكثر من ثمانين سنة‪ ،‬إال أن الجيوش‬
‫الفرنسية فاجأته باحتاللها ألراضيه بداية من سنة ‪ ،1912‬وهذا ما يكشف صورة مختلفة بعض الشيء من صور القابلية‬
‫لالستعمار‪ ،".‬مالك بن نبي‪ ،‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪14‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫غافال عن تلّب سها به‪ ،‬وبذلك فإن املستعَم ر وهو يقاوم االستعمار بشتى الوسائل إنما ُي ظهر هذه‬
‫الحالة النفسية الرافضة لقابليته له والرضوخ لحكمه في سلوكه املصّر على طرده من أرضه‪ ،‬وعلى‬
‫هذا األساس فإن االستعمار يسهم في قلب التطور االجتماعي للمستعَم ر‪ ،‬الذي يجد نفسه مضطرا‬
‫ألن يتحرر من صفة أبناء املستعمرات امللتصقة به‪ ،‬ليقرر أن يصبح غير قابل لالستعمار ‪ ،‬وهكذا‬
‫فإن "االستعمار يدخل في حياة الشعب املستعَم ر بصفته عامال مناقضا يعينه على التغلب على‬
‫قابليته له‪ ،‬حتى إن هذه القابلية التي يقوم على أساسها االستعمار‪ ،‬تنقلب إلى رفض لذاتها في ضمير‬
‫املستعَم ر‪ ،‬فيحاول جهده التخلص منها"‪.15‬‬

‫ثانيا‪ :‬الفلسفة األخالقية الغربية التي أنتجت "الحالة االستعمارية" و"إرادة القوة" ضد اآلخر‬
‫غير الغربي‬

‫يؤكد مالك بن نبي على أن السياسة الدولية سيطرت عليها "إرادة القوة"‪ ،‬التي تعتبر مظهرا من‬
‫مظاهر القرن العشرين‪ ،‬وهي قانون للنفسية الغربية التي تتسّي د الحضارة اإلنسانية‪ ،‬هذه اإلرادة ما‬
‫هي إال تجلي لالنحطاط األخالقي الذي وصل إليه الغرب عبر مساره التاريخي املعكوس الذي أودى به‬
‫إلى دياجير عصور الظالم في القرون الوسطى‪ ،‬والتي بات يستلهم منها روح محاكم التفتيش وسيرة‬
‫فرسان الهيكل‪.16‬‬

‫وفي السياق يشدد مالك بن نبي على إحدى أهم أفكاره في رصده ملفارقة السلوك الغربي‪ ،‬فمن جهة‬
‫يجد أن الغرب لديه عبقرية صناعية‪ ،‬تعكس التطور العقلي والعلمي والتكنولوجي واالجتماعي الذي‬
‫بلغه اإلنسان األوربي‪ ،‬وفي املقابل‪ ،‬وبشكل لصيق لهذه العبقرية‪ ،‬هناك انحطاط أخالقي لدى هذا‬
‫اإلنسان‪ ،‬وللدول الغربية التي تسعى من خالل (إرادة القوة) لديها إلى غزو العالم واستعماره‬
‫والسيطرة عليه باستخدام أساليب تغلب عليها طباع االنتهازية والعنصرية واالحتقار واألخذ بالثأر‬
‫واالنتقام مسبقا‪ ،‬هذه املفارقة الغربية نتج عنها وضع شاذ بتداعياته السياسية التي يقتضيها من‬
‫ّل‬
‫تح ل يصيب (إرادة القوة) ما جعلها تنفصل إلى عزمين متضادين في اتجاهين متعاكسين‪ ،‬األول يمثله‬
‫الدفع الحضاري الناشئ عن الصناعة الغربية‪ ،‬وفي االتجاه اآلخر والوجهة األخرى نجد انطواء‬
‫وانكفاء تفرضه الفلسفة األخالقية الغربية املتردية‪ ،‬وضٌع متناقٌض جعل (قوة) الدول الكبرى في‬
‫العالم تدفعها نحو املستقبل‪ ،‬وفي الوقت نفسه ترتد بها (اإلرادة) بعنف إلى قوانين املاضي‪.17‬‬

‫‪ 15‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.94‬‬


‫‪ 16‬مالك بن نبي‪ ،‬فكرة اإلفريقية األسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ‪ ،‬تر‪ :‬عبد الصبور شاهين‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،2001 ،3‬ص ‪.35‬‬
‫‪ 17‬يرى بن نبي أنه إذا كانت العبقرية الصناعية للغرب قد حتمت االتجاه املنطلق للتاريخ ومنعته من الرجوع إلى الوراء‪ ،‬فقد اتضح‬
‫أن هذه العبقرية غير كافية لوحدها في تقدم حضارته‪ ،‬وبرهنت األحداث الدولية عن عجزها األخالقي في قيادة العالم‪ ،‬وحتى يمكن‬
‫للغرب تحمل أعباء هذه القيادة ال بد له من سلطة أخالقية ودفعة روحية‪ ،‬مما ال وجود له في عبقريته الصناعية‪ ،‬وال في مبادئه وال‬
‫في توجيهه‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.42 -38‬‬
‫ًة‬
‫ويورد بن نبي في سياق حديثه عن أسباب هذا الوضع املتناقض‪ ،‬مالحظ بخصوص وجود وهم لدى‬
‫الغرب حول نجاح وسيطرة عبقريته الصناعية‪ ،‬التي يتبادر لذهنه أنها وليدة سيطرة ونجاح قيمي‬
‫أخالقي‪ ،‬ويصف بن نبي هذا الوهم على أنه "وهم ميكانيكي"‪ ،‬يجعل العقل الغربي وثيق الصلة بنظامه‬
‫الثقافي‪ ،‬ما يؤدي به إلى أن يطلق حكما خاطئا يزعم من خالله وجود "فضائل خلقية جميلة" متوهمة‬
‫لديه‪ ،‬والتي ما هي في حقيقتها سوى فضائل داخلية أنانية ال إشعاع لها‪ ،‬فهي ال تفيض على عالم‬
‫اآلخرين‪ ،‬بل على العكس تماما‪ ،‬فإن هذا العالم غير األوربي يعاني من السقوط األخالقي للغرب‪،‬‬
‫الذي ينعكس على اإلنسان غير الغربي احتقارا وإذالال وعنفا وانتهازية وابتزازا واستنزافا لثرواته‬
‫واحتالال لبلدانه‪ ،‬فاإلنسان الغربي ال يحمل فضائله خارج نطاقه الجغرافي األوربي‪ ،‬أين ال يكون‬
‫إنسانا‪ ،‬بل أوربيا مجردا من إنسانيته‪ ،‬وهو ال يرى في اآلخرين أناسا‪ ،‬بل مجرد مستعَم رين‪ ،‬وهو‬
‫أينما حّل وارتحل خارج بالده ومهما كانت وظيفته أو مرتبته فهو ينشئ عن قصد أو بدونه ما يسمى‬
‫"حالة استعمارية" ‪.Situation coloniale18‬‬

‫وعلى هذا األساس يعتبر بن نبي أن هذه الحالة االستعمارية ال يمكن لألوربي أن يبني من خاللها‬
‫روابط صداقية وأخالقية خالصة‪ ،‬فهي تجعل عالقته مع املستعَم ر قائمة على ما ينتفع منه اقتصاديا‬
‫وإداريا واستراتيجيا‪ ،‬حيث أن األوربي ال يرى في اآلخرين سوى زبائن أو رعايا أو أقوام مستعَم رين‪،‬‬
‫أو أهدافا لفوهات أسلحته‪ ،‬وكنتيجة لهذه الفلسفة األخالقية الغربية املتردية‪ ،‬فإن تلك الروابط‬
‫غير املتوازنة والبعيدة عن كّل ندية أو احترام باعتباراتها االقتصادية الضيقة ال يمكنها أن تنتج خطا‬
‫سياسيا دوليا يتفق مع القيادة الروحية للعالم‪.19‬‬
‫ّل‬
‫املحور الثالث‪ :‬تغيير الفرد واملجتمع إلحداث النهضة الحضارية في املجتمع املتخ ف‬

‫يكمن هدف مالك بن نبي النهائي من املعرفة العلمية عامة‪ ،‬ومن مشروعه "شروط النهضة"‬
‫خصوصا‪ ،‬في تغيير واقع املجتمعات املتقهقرة واملتخلفة حضاريا‪ ،‬وتغيير أوضاع إنسان تلك‬
‫املجتمعات البائسة‪ ،‬وعلى هذا األساس نجده يجادل بأن حل املشكالت الحضارية ألي مجتمع تحتم‬
‫عليه أن يبصر مكانه من دورة التاريخ‪ ،‬وأن يدرك أوضاعه وما يصاحبها من عوامل انحطاط‬
‫ّط‬
‫وأسباب تقدم‪ ،‬حتى إذا ما تّم له ذلك أمكنه وقتها أن ي لع على عوامل نهضته وسقوطه‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصدد يحدد بن نبي نقطة انفصال العالم اإلسالمي عن طريقه الحضاري بواقعة صّف ين التي أبعدته‬
‫عن جو املدينة املنورة الحافل بهدي الروح وبواعث التقدم‪ ،‬وأدخلته في جو دمشق املليء بفتور‬
‫اإليمان ومظاهر الترف‪ ،‬كما أنه ينبه إلى مسألة هامة حينما ينصح بضرورة أن تنسجم أفكار املجتمع‬
‫وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تتطلبه املرحلة الحضارية التي يوجد فيها‪ ،‬قبل الذهاب إلى وضع‬
‫الحلول واملناهج‪ ،‬وأن يتجنب استيرادها فإن ذلك كفيل بمضاعفة مشكالته‪ ،‬حيث أن عالج أي‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪. 44 -43‬‬ ‫‪18‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص‪44‬‬ ‫‪19‬‬


‫مشكلة هو متعلق بعوامل نفسية ناتجة عن فكرة معينة‪ ،‬أدى انبثاقها إلى إحداث تغييرات في عمليات‬
‫التطور االجتماعي وفقا ملقتضياتها‪ ،‬ومن هنا تأتي ضرورة إدراك الفرق الشاسع بين مشاكل‬
‫الحضارة الغربية ومشاكل مغايرة لها تولدت في نطاق الدورة الحضارية اإلسالمية‪.20‬‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬نفهم من تصور مالك بن نبي ملسار عملية التغيير أن مكمن التفاوت بين املجتمعات‬
‫عبر العالم ال يتمثل في امتالك إحداها دون األخرى للقوة النووية التي تتيح لها فرض توازن معين‬
‫للقوى أو اكتساب قوة ردعية موازنة ومكافئة في إطار سباق نحو التسلح كما يتصور الواقعيون‪ ،‬أو‬
‫حتى في قدرة مجتمع ما على توفير كافة احتياجاته املختلفة التي تضمن له الرفاه وتجنبه الندرة‬
‫مثلما يذهب إليه الليبراليون‪ ،‬ولكن ذلك يكمن في تفوق بعض املجتمعات في إنتاج اإلنسان الذي‬
‫يتمكن من صناعة السالح النووي الرادع وتوفير االحتياجات املجتمعية املختلفة واملتنوعة‪ ،‬فالتركيز‬
‫إذن يكون على الشروط الضرورية والظروف الالزمة التي ينبغي للمجتمع توفيرها من أجل خلق هذا‬
‫اإلنسان املتمكن‪.‬‬

‫أوال‪ :‬تغيير املجتمع‬

‫يحاول مالك بن نبي إيجاد املخرج ملآزق املجتمعات األفروأسيوية التي كبلها االستعمار لعقود طويلة‪،‬‬
‫وفي خضم معاركها التي تواجهها بداية من تأسيس الدولة املستقلة بحثا عن أقوم السبل لإلقالع‬
‫االقتصادي والتنمية الشاملة‪ ،‬يطرح بن نبي مجموعة من املسائل التي يراها جديرة بالتصحيح‬
‫والتعديل‪ ،‬وذلك استنادا إلى منهجيته املقارنة بين ما حققته الشعوب املتفوقة حضاريا في هذا‬
‫الجانب‪ ،‬وبين ما تفتقد إليه املجتمعات البعيدة عن الحضارة ويحول دون تقدمها وتحّض رها‪.‬‬

‫‪ -1‬الفاعلية‪:‬‬

‫يرى بن نبي أن االختالف بين املجتمعات املعاصرة يكمن في ما يطبع النشاط االجتماعي من فاعلية‬
‫تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر‪ ،‬حيث تعد الفاعلية مقياسا للمستوى التاريخي للمجتمعات‪،‬‬
‫فهناك مجتمعات أكثر فاعلية من غيرها‪ ،‬وينفي بن نبي أن يكون هذا االختالف في الفاعلية مرتبطا‬
‫بالناحية العرقية كما ذهبت إليه النظرية العنصرية وفكرة رقّي األعراق؛ على غرار سمو العرق‬
‫اآلري في اإليديولوجيا النازية‪ ،‬ويؤكدعلى أن سبب التفاوت هو أن اإلنتاج االجتماعي يرتقي استنادا‬
‫لقانون الفاعلية التي تنمو مع تعّق د املصلحة‪ ،‬أي كلما كان النشاط الفردي موجها لسد حاجات‬
‫جماعية أو لتلبية املصلحة العامة‪.21‬‬

‫‪ 20‬مالك بن نبي‪ ،‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.66 -65‬‬
‫‪21‬مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.36 -35‬‬
‫وفي السياق يعتقد بن نبي أن ما يجعل املصلحة العامة تختلف باختالف العصور واملجتمعات هو‬
‫طريقة تعامل كل مجتمع مع الفرد من حيث إمداده بالضمانات االجتماعية عبر مختلف أطواره‬
‫العمرية‪ ،‬وفي هذا اإلطار يقّس م بن نبي املجتمعات املعاصرة إلى قسمين؛ املجتمع املصّن ع الذي يقع‬
‫ّخ‬
‫على خط (واشنطن‪ -‬موسكو )‪ ،‬حيث أن طاقة كل فرد يعيش فيه هي مس رة بشكل مباشر أو غير‬
‫ّل‬
‫مباشر ملصلحة عامة‪ ،‬وهذا ما يجعلها تتكفل للفرد بضمانات اجتماعية‪ ،‬أما املجتمع الثاني املتخ ف‬
‫الذي يوجد على خط (طنجة‪ -‬جاكرتا) فإّن إنتاجه االجتماعي ال يكفي ألن يقّد م للفرد أي ضمانة‬
‫اجتماعية‪ ،‬وبهذا فإن املجتمع األول أكثر فاعلية من املجتمع الثاني‪.22‬‬

‫وإذا كان املجتمع الرأسمالي يفسر الضمانات االجتماعية انطالقا من مصدرها فيعتبر أن (التنافس‬
‫والصراع الفردي) هو محرك الطاقات االجتماعية‪ ،‬ويفسرها املجتمع االشتراكي من حيث هدفها أي‬
‫بالصالح العام‪ ،‬فإن بن نبي يخرج بنظرية تفّس ر الفعالية االجتماعية وتتناسب أكثر مع املجتمعات‬
‫اإلسالمية لتكون بذلك بعيدة عن املنطق السياسي لكال املجتمعين الرأسمالي واالشتراكي‪ ،‬حيث يرى‬
‫أنها تصدر من دوافع القلب (الحالة النفسية) ومن مسوغات وتوجيهات العقل ومن حركات‬
‫األعضاء‪ ،‬فكل نشاط اجتماعي هو عبارة عن مركب من هذه العناصر‪ ،‬والفاعلية تكون أقوى في‬
‫املجتمع الذي ينتج أقوى الدوافع وأقوم التوجيهات وأنشط الحركات‪ ،‬ويربط بين املسوغات‬
‫واألسباب والدوافع القريبة والبعيدة التي تخلق النشاط االجتماعي بحالة خاصة يطلق عليها بن نبي‬
‫ّت‬
‫تسمية (التو ر)‪ ،‬والتي تمثل نشاط العقل والقلب (الضمير) الذي يدفع األعضاء لصنع املعجزات‪،‬‬
‫ويختلف هذا التوتر من مجتمع آلخر‪ ،‬فال تسير الحياة وفق نموذج موحد‪ ،‬فاملجتمع املاركسي في‬
‫االتحاد السوفياتي أبدع منتجاته تبعا لقواعد اجتماعية معينة ارتبطت بسنوات املخطط االقتصادي‬
‫األول‪ ،‬حيث طرحت سنة ‪ 1927‬فكرة التصنيع املوجه‪ ،‬وحددت لها مقاييس لتقسيم العمل‪ ،‬بمعدل‬
‫إنتاج للفحم الحجري قدره ‪ 5‬أطنان للعامل الواحد في اليوم الواحد‪ ،‬وهو مقياس علمي يستند‬
‫لحركات اليد وقوة عضالتها‪ ،‬غير أن عامل املناجم السوفياتي الشهير أليكسي ستاخانوف فّن د هذا‬
‫املقياس بإنتاجه لعشرة أطنان يوميا‪ ،‬لدرجة أنه خلق نظاما اقتصاديا عرف باسمه‪ ،‬واملجتمع العربي‬
‫ّل‬
‫قبل اإلسالم ولفترة تمتد ألربعة آالف سنة لم ينتج أكثر من عشرة مع قات شعرية‪ ،‬فقد كانت‬
‫الطاقات االجتماعية معطلة ومعدومة من التوتر الذي يدفع إلى اإلنتاج بقوة وحرارة‪ ،‬في حين تمكن‬
‫إنسان البيئة ذاتها بعد مجيء اإلسالم من أن يبني حضارة خالل نصف قرن‪ ،‬وهذا دليل على أن‬
‫اإلسالم جاء بمسوغات خلقت حالة التوتر في املجتمع الجديد‪.23‬‬

‫فقد أسهم اإلسالم في بناء املجتمع الناشئ وتأمينه‪ ،‬فنقله من حالة الفتور إلى حالة التوتر والحركة‬
‫في شكلها الراقي املتسامي عن طبائع الجاهلية القائمة على تقديم حظوظ النفس واألنانية التي‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪22‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.40 -37 ،‬‬ ‫‪23‬‬


‫تجسدت في اإلغارة والسلب والنهب‪ ،‬لتتحول في عهد اإلسالم إلى تعبير عن الـ (نحن) أو الجماعة‪،‬‬
‫لتجد البطولة مسوغاتها في عالم اآلخرين (املصلحة العامة)‪ ،‬وتأخذ معناها األسمى في بذل املال‬
‫والنفس (االستشهاد) في سبيل هللا والدفاع عن حياض الدين ووحدة األمة‪ ،‬حتى أن القرآن وصفهم‬
‫بأنهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)‪ ،‬وهو تعبير كامل ملسوغات البطولة أو التوتر‪.24‬‬

‫ويجادل بن نبي أن مشكلة العالم اإلسالمي املعاصر فيما يتصل بفكرة الفاعلية هي في أنه فقد‬
‫مسوغاته التي تحرك الطاقات االجتماعية وتدفع نشاطها إلى أعلى القمة في مستوى مصلحة‬
‫اآلخرين‪ ،‬حيث أن الفاعلية أو التوتر تشمل الواقع االجتماعي في جميع ظروفه التي تنشأ فيها وتزول‬
‫في ظروف أخرى‪ ،‬ويؤرخ بن نبي لبداية فقدان العالم اإلسالمي لتوتره الخالق الذي صنع املعجزات‬
‫ّل‬
‫بموقعة صفين التي خ فت دوافع سلبية وسط املجتمع اإلسالمي بدأت تنمو تدريجيا إلى غاية القرن‬
‫الثامن الهجري‪ ،‬حيث أخذت الحضارة اإلسالمية في األفول‪ ،‬فلم تستطع أن تدفع طاقاتها‬
‫االجتماعية من جديد‪ ،‬وانطفأت جذوتها الدافعة للضمير والعقل واليد‪ ،‬وأضحت دوافع الحياة‬
‫فاترة‪ ،‬ولم يعد للمصلحة العامة أي اعتبار وبذلك فقد املجتمع اإلسالمي مسوغات وجوده‪.25‬‬

‫‪ -2‬الفكرة العامة للمجتمع "اإليديولوجيا و‪/‬أو العقيدة الدينية"‬

‫على عكس بن خلدون الذي يرى بن نبي أن عمق فكرته حول "دورية الحضارة" يختفي خلف‬
‫مفهومه الضيق لنطاق الحضارة‪ ،‬الذي يرى ابن خلدون أنه مطابق لحدود العصبية األسرية التي قد‬
‫ًا‬
‫تعكس عناصر النفس اإلسالمية آنذاك‪ ،‬فإّن بن نبي ُي قّد م محمد صلى هللا عليه وسلم كعالم‬
‫ُخ‬
‫اجتماع سبق بن خلدون في إثباته بأن الفضائل ال لقية تمثل القوة الجوهرية في تكوين الحضارات‪،‬‬
‫غير أن هذه القيم تنتكس في عصور االنحطاط فينهار البناء االجتماعي بزوالها‪ ،‬حيث أنه ال يستمر‬
‫فقط بمقومات الفن والعلم والعقل‪ ،‬بل إن الروح وحده هو ما يتيح لإلنسانية أن تنهض وتتقدم‪،‬‬
‫ُف‬
‫وحيثما قد الروح سقطت الحضارة وانحطت‪.‬‬

‫وفي هذا السياق فإن بن نبي يفرق بين النزعة الفردية للدين والتي يصبح معها اإليمان فاقدا‬
‫إلشعاعه‪ ،‬وبين كون هذا الدين معبرا عن فكرة جماعية تعكس حالة انتشاره وحركته‪ ،‬ما يتيح له‬
‫بأن يقوم بدوره كمحرك للحضارة ودافع لها‪ ،‬ومرِّك ب للقيم االجتماعية‪ ،‬يجعلها تتحول من حالتها‬
‫الطبيعية إلى وضع نفسي زمني‪ ،‬وتصنع من اإلنسان العضوي وحدة اجتماعية‪ ،‬وتشكل من الوقت‬
‫الذي لم يكن قبلها سوى مدة زمنية مقدرة بساعات تمّر في ضياع‪ ،‬وقًت ا اجتماعيا مقدرا بساعات‬
‫ُت‬
‫عمل منتج‪ ،‬و نتج من التراب الذي كان في صورته الفردية غذاء لإلنسان في شكل استهالك بسيط‪،‬‬

‫‪ 24‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.42 -41‬‬


‫‪25‬‬
‫‪.‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪44 -42‬‬
‫اًل‬
‫مجا مجهزا ومكيفا تكييفا فنيا يلبي ضروريات الحياة االجتماعية املتعددة وفقا لظروف ومتطلبات‬
‫عملية اإلنتاج‪.26‬‬

‫وتبعا لذلك فإن مالك بن نبي يجادل بأن أّي حضارة؛ ما هي إال نتاج لفكرة جوهرية تدفع مجتمعا في‬
‫فترِة ما قبل التحضر ألن يدخل التاريخ‪ ،‬وأّن هذا املجتمع يبني نظامه الفكري على ضوء نموذجه‬
‫الحضاري األصلي املستمد من بيئته الثقافية التي تحمل خصائصه املميزة له عن غيره من الحضارات‬
‫األخرى‪ ،‬ويضرب مثاال على ذلك الفكرة املسيحية التي وضعت أوربا على سكة التاريخ‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي راحت تقتفي فيه أثر الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وعلى الرغم من أن املفكرين األوربيين استعادوا في‬
‫عصر النهضة اكتشاف التراث الفلسفي اإلغريقي‪ ،‬غير أنه لم يكن يخلو من الصبغة املسيحية التي‬
‫أضفتها عليه أفكار توماس اإلكويني‪ ،‬كما أن الحضارة اإلسالمية قبل ذلك كانت قد امتدت ألكثر من‬
‫ستة قرون من لدن محمد صلى هللا عليه وسلم إلى غاية سقوط بغداد‪ ،‬وحتى في مرحلة ما بعد‬
‫الحضارة اإلسالمية التي يؤرخ لها مالك بن نبي بسقوط الدولة املوّح دية‪ ،‬فإنه وخالل املّد‬
‫االستعماري األوربي فإن هذه الفكرة الدينية الدافعة هي التي سمحت للعالم اإلسالمي بمقاومة‬
‫العدوان واستعادة استقالله‪ ،‬وعموما فإن في فترة دخول مجتمع ما إلى التاريخ يكون لألفكار دور‬
‫وظيفي‪ ،‬حيث أن للحضارة مهمة معينة منوطة بها‪ ،‬كما أن املعجزات التاريخية الكبرى مرتبطة دوما‬
‫باألفكار املحفزة‪ ،‬فاإليديولوجيا السوفياتية هي التي أتاحت للمجتمع السوفياتي أن يكسر زحف‬
‫الجيش الهتلري في ستالينغراد‪ ،‬لتكون نقطة فارقة في قلب موازين القوى في الحرب العاملية الثانية‬
‫وبداية انتكاس قوة إمبراطورية الرايخ الثالث األملاني وتالشي إيديولوجيته النازية‪.27‬‬

‫‪ -3‬أهمية استغالل املجتمعات للوقت‬

‫يضرب بن نبي مثاال ألهمية الوقت في صعود الحضارات ورقيها بأملانيا الغربية عقب الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ ،‬فعلى الرغم من الدمار الذي خلفته فيها ومن احتاللها من قبل أربع دول‪ ،‬ومن أن نشاط‬
‫ًة‬
‫الشعب األملاني حقيق لم يبدأ إال مع سنة ‪ 1948‬التي كانت بمثابة نقطة الصفر ‪ ،‬التي انعدمت فيها‬
‫املقومات االقتصادية‪ ،‬إال أنه وبعد مرور عشر سنوات فقط تمكن الشعب األملاني من أن ينبعث‬
‫من املوت والدمار وينشئ صناعات ضخمة واقتصادا قويا‪ ،‬وفي تحليله لهذه الظاهرة يرى بن نبي أن‬
‫عوامل عّد ة تضافرت لتحقيق ذلك‪ ،‬غير أن أهمها هو الزمن‪ ،‬فقد فرضت الحكومة األملانية آنذاك‬
‫على املواطنين رجاال ونساء وحتى أطفاال التطوع يوميا ومجانا ملدة ساعتين خارج أوقات العمل من‬
‫أجل الصالح العام‪ ،‬وقد ُس ّم ي هذا اإلجراء ب "التجنيد العام ‪ ،" Roboter Arbeit‬ويشير بن نبي إلى أنه‬
‫باإلمكان إدراك قيمة الوقت وبشكل واضح في عودة الحياة االجتماعية واالقتصادية للمجتمع األملاني‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬شروط النهضة‪ ،‬تر‪ :‬عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الكتاب املصري‪ ،2011 ،‬ص‪.32‬‬ ‫‪26‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬مشكلة األفكار في العالم اإلسالمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.48 -41‬‬ ‫‪27‬‬
‫الذي فقد كل ما لديه من وسائل ولم يتبّق بحوزته سوى العناصر الثالث‪ :‬اإلنسان والتراب والوقت‪،‬‬
‫فأحسن استغاللها في بنائه الحضاري‪.28‬‬

‫وفي السياق يجزم بن نبي أنه "من الصعب أن يسمع شعٌب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت‬
‫الهارب"‪ ،‬ومن أجل أن ال يضيع وقت األمة الهارب صوب التاريخ هباء‪ ،‬فإن التربية هي أنجع وسيلة‬
‫لترسيخ فكرة الوقت لدى الشعوب العربية اإلسالمية‪ ،‬وفي هذا اإلطار ينصح بتخصيص نصف‬
‫ساعة يوميا لكي يؤدي الطفل واملرأة والرجل واجبا معينا‪ ،‬وهو ما سُي نتج تراكميا حصيلة سنوية‬
‫ُخ‬
‫من ساعات العمل ملصلحة الحياة االجتماعية في جميع مناحيها الذهنية وال لقية واملنزلية والفنية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬وبوسع نصف الساعة هذه أن تثّب ت عمليا فكرة الزمن في العقل اإلسالمي‪ ،‬ويصبح‬
‫ذلك بالتالي أسلوب حياة في املجتمع وسلوك أفراده إلى أن يصلوا إلى درجة االستغالل األمثل واألكفأ‬
‫للوقت‪ ،‬وسيرتفع بذلك الحصاد العقلي واليدوي والروحي لألمة‪ ،‬وفي النهاية فإّن هذه هي الحضارة‪.29‬‬

‫‪ - 5‬دور التضامن السلمي بين املجتمعات املتخلفة حضاريا في تخلص العالم من القابلية‬
‫لالستعمار والحالة االستعمارية‬

‫يتهم مالك بن نبي الفلسفة األخالقية الغربية للدول الكبرى بكونها تفتقد إلى "النور السامي" الذي‬
‫يبّص رها بجوانب املشكالت اإلنسانية للشعوب األفرو أسيوية‪ ،‬فهي تصر على أن تتلمسها بمنطقها‬
‫العقلي املجرد الذي أخفق في كشف البؤس اإلنساني لتلك الشعوب حتى من خالل عبقرية الغرب‪،‬‬
‫التي بوسعها فقط وبشكل حصري إدراك املشكالت اإلنسانية لدوله عبر ضوء خاص يجردها من‬
‫مظهرها اإلنساني وال ينظر إليها إال من خالل شكلها الكمّي الذي يعكس الجوانب االقتصادية‬
‫واالستراتيجية‪ ، 30‬وفي السياق فإن القوى الكبرى باتجاهاتها الرجعية‪ ،‬حاولت عبر ميثاق األمم‬
‫املتحدة ومنظمتها باعتبارها إحدى منتجاتها الحضارية التي تقتبس من فلسفتها األخالقية تلك‪،‬‬
‫اإلبقاَء على حالة شعوب املستعمرات حتى تظل غير راشدة وتفرض عليها وصاية "الكبار" في إدارة‬
‫شؤونها ومصالحها الخاصة‪.‬‬

‫ويعيب بن نبي على منظمة األمم املتحدة ارتهان آليات عملها إلى منطق القوة الذي يعكس رصيد‬
‫القوى الكبرى من القنابل الذرية املختزنة لديها‪ ،‬والذي يجرد هذه املنظمة من أي تقدم أخالقي قد‬
‫يحقق صالحيتها والغاية التي أنشئت من أجلها في تعزيز الحريات األساسية الواردة في إعالنها‬
‫َت‬
‫الشهير‪ ،‬املتمثلة في الحرية املتاحة لكل فرد‪ ،‬إضافة إلى مشكلة الحرية (االستقالل) التي حرم منها‬
‫الدوُل املتحضرة الدوَل املستعَم رة‪ ،‬وكان من املفروض أن تلعب هيئة األمم املتحدة دورها في فض‬
‫النزاع بينهما حول هذه القضية عبر تبوئها ملهمة الجزاء والتحكيم الدولي‪ ،‬أما وقد أصبحت هذه‬
‫مالك بن نبي‪ ،‬شروط النهضة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.189‬‬ ‫‪28‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.188 -187‬‬ ‫‪29‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬الفكرة اإلفريقية األسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪30‬‬
‫الهيئة تحت تصرف القوى الكبرى لضمان امتيازاتها‪ ،‬بدال من ضمان املصالح اإلنسانية الحيوية‪ ،‬فال‬
‫غرو أن توقف هذه املمارسات التطور التاريخي الذي يسعى ألن يحقق للعالم تنظيما فنيا للعالقات‬
‫اإلنسانية‪ 31‬ال يتيح ألي منظمة أو دولة أو مجموعة من الدول أن تقود نظاما عامليا ما وتكون حكما‬
‫في موقف دولي معقد وهي تصر على أن تنتهج فلسفة أخالقية منحطة‪ ،‬بل إنها ال تستطيع التغلب‬
‫على املصاعب املتصلة بالحالة االستعمارية التي تتركز فيها أزمة الشعوب املستعَم رة دون أن تتغلب‬
‫ُت‬
‫على عقدها النفسية الخاصة حيال هذه الشعوب‪ ،‬ولن تصل إلى تصفية األزمة دون أن خضع‬
‫عنصرها الجوهري لتحكيم أخالقي في النزاع بين املستعِم ر واملستعَم ر‪ ،‬ولن يتأتى ذلك إال بمساعدة‬
‫الطرفين على التخلص من مرض االستعمار والقابلية لالستعمار‪.32‬‬

‫وفي هذا اإلطار يرى بن نبي أن أي تقدم أخالقي في نمو "ضمير دولي" في العالم يعكس درجة كلية‬
‫للحضارة اإلنسانية‪ ،‬إنما تزيده تلك القوة التي تقر توازنا اجتماعيا وسياسيا ينسجم مع نمو عالم ال‬
‫ينبغي أن تعالج فيه املشكالت اإلنسانية بمنطق القوة وإنما بمنطق البقاء (قوة البقاء)‪ ،‬حذرا من‬
‫وقوع كارثة قد تسببها القوى الرجعية بوسائلها العنيفة التي تستهدف قهر واضطهاد الشعوب‬
‫املستعمرة‪ ،‬كما أن أي تقدم أخالقي في نطاق حياة دولية مشتركة مترابطة الصالت في ظل واقع‬
‫عالمي وثيق لن يجد صورته هذه إال من خالل تحكيم دولي ترضى جميع الدول والشعوب بكل حرية‬
‫عن فكرته وجزائه‪ ،33‬وفي هذا السياق فإن الصواريخ املوجهة والتسلح الذري ال يزيدان قوة الدول‬
‫الكبرى إال صوريا‪ ،‬فهناك دائما "قوة رادعة" هي من تلزم تلك القوى الكبرى حدودها وتوقف مدها‬
‫في بسط إمبراطوريتها االستعمارية‪ ،‬وذلك ما تجسده مطامح الشعوب اإلفريقية اآلسيوية و(إرادتها‬
‫في البقاء)‪ ، 34‬وليس من خالل الوسائل التي تمتلكها القوى الكبرى وتتحكم بها‪ ،‬فهي تبقى محدودة‬
‫َت‬
‫النطاق‪ ،‬فالقوى الحية في العالم هي وحدها من سيدفعه حتما ودوما إلى األمام‪ ،‬وهو ما جّس د واقعا‬
‫على األرض باعتزام الشعوب املستعمرة على بلوغ حريتها‪ ،‬وعند هذه النقطة احتدم الصراع وبلغت‬
‫األزمة التي تحكم التطور اإلنساني مداها‪ ،‬فمثلت هذه األزمة بيئة مالئمة لنشوء فكرة اإلفريقية‪-‬‬
‫األسيوية كإطار مقاوم للقوى الكبرى عبر وسائله السلمية‪ ،‬فهي بذلك إحدى مظاهر هذه األزمة‬
‫ّل‬
‫ونتائجها‪ ،‬وكذلك هي تمثل وسائل ح ها‪ ،‬بعد أن أضحى النظام االستعماري الذي كان في السابق رأس‬
‫مال العالم املتحضر تحديا‪ ،‬فأصبح العالم إزاء مواجهة‪ ،‬إنه صراع بين "املتحضرين" ممثال في تلك‬

‫‪ 31‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬


‫‪ 32‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ 33‬يقــول بن نــبي في هــذا البــاب "إن إرادة القــوى الكــبرى املجســدة في مــا تتمتــع بــه من حــق الفيتــو في املناقشــات الدوليــة تعتــبر في الواقــع‬
‫التي ــار املض ــاد الط ــراد الت ــاريخ‪ ،‬تي ــارا مض ــادا محمال بكل العناص ــر الس ــلبية ال ــتي تمتلكه ــا حض ــارة لم تس ــتطع أن تتغلب على مص ــاعبها‬
‫األخالقيـة‪ ،‬وهـذا الجمـود األخالقي كلـه هـو الـذي يضـغط على املصـير اإلنسـاني‪ ،‬معطال التـاريخ وتاركا األحـداث تجـري في مكانهـا"‪ .‬للمزيـد‬
‫أنظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ 34‬يقول بن نبي في هذا الباب‪" :‬إن إرادة الشعوب طاقة من طاقات الطبيعة التي تقلب التقديرات‪ ،‬طاقة ال يمكن أن يقاومها سد‪،‬‬
‫مهما كان متينا محكما‪ ،‬وإن انتصار إرادة هذه الشعوب على محاوالت الكبار لهو قدٌر حتٌم "‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫القوى الرجعية التي تريد عبر (إرادة القوة) لديها إعادة العالم إلى املاضي‪ ،‬وبين من يصفونهم هم‬
‫بـ"املتأخرين" (البلدان املستعَم رة)‪ ،‬والتي ما هي إال قوى متطلعة إلى املستقبل‪.35‬‬

‫وفي سياق عالج مشكلة االستعمار فإن بن نبي وهو يصف الحلول لها يولي اهتماما أقل للجوانب‬
‫االقتصادية والسياسية ويغلب عليها طريقة الحل التي تباشر املشكلة من عناصرها النفسية وتؤدي‬
‫إلى بناء عقلية عاملية جديدة وتخلق نوعا من القاسم املشترك في جميع املشكالت الثائرة بين‬
‫الشعوب‪ ،‬وعلى هذا األساس فإن الحل الذي يفضي إلى الفصل الضروري بين املستعِم ر واملستعَم ر‬
‫ينبغي أن ُي تبع باالتصال الضروري للدولتين االستعمارية واملستقلة اللتين فرقت بينهما ظروف‬
‫االستعمار والقابلية لالستعمار‪ ،‬وهكذا فإن الحل املزدوج الذي يقتضي انفصاال يعقبه اتصال‬
‫إنساني تصدر عن طبيعته جميع اإلمكانيات التي تسيطر على مستقبل العالم‪ ،‬يجعل الهدف من هذا‬
‫االتصال الذي ينبغي أن يكون في نطاق العالم بأسره وال يقتصر على بلد فقط‪ ،‬هو تحرير الخصمين‬
‫من مرض االستعمار حتى يكون مشروع الحل مؤثرا‪ ،‬ولكي يصفي تماما بقايا االستعمار يجب أن‬
‫يطّه ر ضمير الدول االستعمارية الذي سّم مته "ثقافة اإلمبراطورية"‪.36‬‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬يطرح مالك بن نبي فكرتي التضامن األفروأسيوي و "قوة عدم العنف"‪،‬‬
‫كدبلوماسية سلمية مشتركة تقوم بها الدول الضعيفة "اإلفريقية واألسيوية" للضغط على القوى‬
‫الكبرى املتصارعة بغرض ثنيها عن ممارساتها القائمة على الهيمنة والتسبب في حروب الوكالة التي‬
‫جّر ت الويالت على الشعوب اإلفريقية واألسيوية‪ ،‬حيث يرى بن نبي أن هذا النمط من الدبلوماسية‬
‫كفيل بوضع حد ملمارسات القوى الكبرى‪ ،‬وفي هذا اإلطار يجادل بن نبي أن اإلشكال األساس الذي‬
‫تسبب في نشوب الحرب الباردة وما تالها من تداعيات هو غياب الحوار بين طرفي "الستار‬
‫الحديدي"‪ ،‬اللذان آثرا أن يصّم ا آذانهما ويستسلما لحوار من نوع آخر‪ ،‬حوار قائم على منطق القوة‬
‫العسكرية واستعراضها خارج نطاقهما الجغرافي‪ ،‬وفي هذا الوقت قامت البلدان األفروأسيوية بطرح‬
‫حوار جديد على نقيض من الحوار السابق بين طرفي الستار الحديدي‪ ،‬إنه حوار يستمد فلسفته من‬
‫معارضة أملهاتما غاندي لالستعمار البريطاني‪ ،‬ويرتكز إلى قوة ليست من نوع قوته التي سلطها على‬
‫الشعب الهندي‪ ،‬إنها قّو ة (عدم العنف) التي أجبرت االستعمار البريطاني على االنسحاب وهي القوة‬
‫التي لم تحّر ر الهند فحسب‪ ،‬بل إّن ها صارت قانونا سياسيا قائما على قيم أخالقية‪ ،‬جّد د لها قيمتها‬
‫املنتقصة بسبب حضارة منحت األولوية للقّو ة املجردة‪ ،‬حتى أضحى االنتصار األخالقي الذي حققه‬
‫ّل‬
‫غاندي أعظم من النصر السياسي لدولة الهند املستقلة‪ ،‬ذلك أن هذا االنتصار أّر خ ل حظة التي‬
‫أصبح فيها مبدأ (عدم العنف) قوة سياسية عاملية‪.37‬‬
‫‪ 35‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.38 -36‬‬
‫‪ 36‬املرجع نفسه‪.52 ،51 ،‬‬
‫‪ 37‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪ . 58 -57‬وفي السياق يرى بن نبي أن الكلمة األخيرة للحوار بين (إرادة القوة) لدى الدول الكبرى و(مبدأ عدم‬
‫العنف) عند البلدان األفرو أسيوية ستكون لهذا األخير‪ ،‬ويفسر ذلك بكون الدول الكبرى حتى وهي تعمل من أجل الحرب فإن وسائل‬
‫وفي السياق يعتقد بن نبي أن مبدأ "عدم العنف" الذي تبنته البلدان األفرو أسيوية هو الذي وضع‬
‫لها موطئا داخل املحفل الدولي‪ ،‬وفسح لها املجال لصناعة التاريخ بعد أن كانت على هامشه‪ ،‬مجرد‬
‫شعوب ال يؤبه بها‪ ،‬إلى أن أصبحت مع تبنيها لهذه الفكرة‪ -‬املبدأ داخل األحداث‪ ،‬وبوسعها تغيير‬
‫األوضاع الدولية‪ ،‬من خالل حوار جديد يستبعد منطق الصراع بين القوى الكبرى التي تجّر العالم‬
‫ّل‬
‫ال محالة إلى الحرب دائما طبقا لسياسة (حافة الهاوية)‪ ،‬بل هو حوار ليس املتكلم فيه مس حا بقنابل‬
‫ذرية‪ ،‬وإنما بقوانين جديدة أخالقية وسياسية برهن غاندي على صالحيتها وتأثيرها‪ ،‬وأثبتت البلدان‬
‫األفرو أسيوية أنها بتبنيها لها بوسعها إعادة بناء االزدواج الجيوسياسي "الثنائية القطبية" بطريقة‬
‫غير مباشرة‪ ،‬على غير األوضاع التي ورثها العالم عن أوضاع القرن التاسع عشر التي هيمنت عليها‬
‫"الغريزة االستعمارية"‪ ،‬بل على خطة سياسية جديدة وتفسير آخر للحضارة‪ ،‬وجدت الشعوب‬
‫األفرو أسيوية نفسها فيه وقد انتصرت على العبودية املزدوجة التي يمثلها االستعمار والقابلية‬
‫لالستعمار‪ ،‬عبر مبدأ تركيب جديد للعالم‪ ،‬وبإمكانيات تعايش جديد يحمل بوضوح طابع عبقرية‬
‫هذه الشعوب‪ ،‬ويستند للشروط األخالقية لحضارة ال تكون بالضرورة تعبيرا عن القوة الصناعية‪،‬‬
‫بل تفرض دورا دوليا قائما على ندّي ة الشعوب األفرو أسيوية للقوى الكبرى‪ ،‬وحريتها في اختيار‬
‫طريقها الخاص بوسائلها املناسبة وقناعتها بأن هذا االختيار يتيح لإلنسانية فرصة جادة لتفادي‬
‫الحرب‪.38‬‬

‫وفي هذا الباب يرى بن نبي أن مؤتمر باندونغ(‪ ،)1955‬وعلى الرغم من كونه لم يحقق نتائجه عاجال‬
‫إال أنه أسس لسلوك جديد في النضال السياسي العالمي تبنته القوى اإلفريقية األسيوية‪ ،‬التي كانت‬
‫بمثابة حركٍة معاِر ضة في وجه محور واشنطن– موسكو املهيمنة على العالم‪ ،‬ومن ثّم فإن أسباب‬
‫التضامن اإلفريقي األسيوي تجد مبررا لها بداية في واقع الشعوب اإلفريقية األسيوية التي بدأت‬
‫تشعر منذ باندونغ بقيمة دورها في العالم وبالدوافع التي تحركها نحو فكرة التضامن‪.39‬‬

‫ثانيا‪ :‬تغيير اإلنسان‬

‫يسعى بن نبي بعد أن طرح أهمية تلبية املجتمع الحتياجات اإلنسان الضرورية كأولوية لبلوغ مرحلة‬
‫التحّض ر‪ ،‬إلى إقحام هذا اإلنسان في عملية تحّض ر املجتمع‪ ،‬ونقله من االنحطاط الذي صاحب‬
‫الحمالت االستعمارية التي اجتاحت أرضه‪ ،‬عبر جملة من التوجيهات تستهدف وظائفه الثقافية‬
‫والعملية واملالية‪.‬‬
‫القوة لديها تعمل من أجل السالم من حيث أنها تتسبب في الخوف لكال املعسكرين (الردع املتبادل)‪ ،‬وهو ما من شأنه أن يبطل تأثير‬
‫القوة ويمنعهما في النهاية من خوض الحرب‪ ،‬وهنا يكمل (مبدأ عدم العنف) السالم في العالم ويتممه حينما ُي بعد ساحة الحرب عبر‬
‫الحوار عن املنطقة األفروأسوية‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬مالك بن نبي‪ ،‬الفكرة اإلفريقية األسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.62‬‬
‫‪ 38‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.59 ،58‬‬
‫‪ 39‬مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.102‬‬
‫‪ -1‬توفير الضمانات االجتماعية الضرورية للفرد‬

‫كما رأينا سابقا أن بن نبي ينظر إلى مسألة التفاوت بين املجتمعات واألمم على الصعيد االجتماعي في‬
‫بعده الدولي‪ ،‬وليس إلى العالقات بين الدول وفق النمط الصراعي والتنافسي على القوة أو على‬
‫املوارد‪ ،‬وهذا ما تذهب إليه املنظورات الوضعية عبر منهجيتها املادية‪ ،‬نجده يركز كذلك على نمط‬
‫عالئقي دولي يمثل في عمقه تسابقا بين الشعوب عبر الزمن‪ ،‬ومن خالل معادالتها أو لنقل تركيبتها‬
‫الجينية االجتماعية حول التفوق في بناء وتنظيم مجتمعاتها‪ ،‬بالشكل الذي ينجم عنه ازدهارها‬
‫ورقيها واكتساب أفرادها للضمانات الضرورية نتيجة ملا تحققه من رفاه اقتصادي‪ ،‬كما أنها تتمكن‬
‫عبر نفسيتها غير القابلة لالستعمار من تطوير منظوماتها السياسية واالجتماعية واالقتصادية‬
‫والعسكرية واألمنية بما يتيح لها صد العدوان الخارجي وضمان األمن الداخلي وحمايته من جميع‬
‫املخاطر والتهديدات على اختالف أشكالها وأسبابها‪.‬‬

‫وفي هذا االتجاه‪ ،‬وعلى طول مضمار التنافس بين الشعوب سنجد مجتمعات في املقدمة وأخرى في‬
‫املنتصف وغيرها في مؤخرة الركب الحضاري‪ ،‬ويشبه هذا املخطط املستقى من منظور مالك بن نبي‬
‫الحضاري إلى حد بعيد العديد من املؤشرات التي تضعها بعض الجهات األكاديمية والحكومية‬
‫واملنظمات الدولية‪ ،‬حيث نجد مؤشرا للتنمية وآخر للسعادة‪ ،‬ومؤشر ثالث للتقدم االجتماعي‪ ،‬وهو‬
‫عبارة عن مقياس يحدد رفاهية املجتمعات بعيدا عن مغالطات ناتج الدخل القومي‪ ،‬حيث أنه يرتبط‬
‫باحتياجات كل فرد من أفراد مجتمع دولة معينة من دول العالم‪ ،‬تضمن له البقاء على قيد الحياة‬
‫كاملاء والغذاء واألمن‪ ،‬وأخرى تتيح له تحسين ظروف حياته كالصحة والتعليم والبيئة‪ ،‬والثالثة‬
‫تتعلق بالحرية وتوفر الفرص‪ ،‬وهي في مجملها ‪ 52‬مؤشرا فرعيا تمنح عبر نقطة إجمالية لكل دولة‬
‫مرتبتها بين الدول‪ ، 40‬وتعطي ملمحا عاما عن مدى تقدمها االجتماعي‪ ،‬وهو مؤشر يعكس طبيعة‬
‫التنافس الضمني غير املعلن‪ ،‬بين املجتمعات من زاوية تحضرها ورقيها وتقدمها االجتماعي‪ ،‬وليس‬
‫االقتصادي أو العسكري أو الدبلوماسي‪.‬‬

‫‪ -2‬توجيه الفرد‪ :‬الثقافة – العمل – رأس املال‬

‫ينطلق بن نبي في مسألة التوجيه من سعيه إليجاد حل ملشكلة اإلنسان أو الفرد بوصفه وحدة‬
‫أساسية لبناء املجتمع‪ ،‬ذلك أنه يؤثر في املجتمع عبر ثالث مؤثرات‪ ،‬بفكره أوال ثم بعمله ثم بماله‪،‬‬
‫ومن هنا فقد توصل بن نبي إلى ضرورة توجيه الفرد حتى يستكمل الشروط الضرورية لبناء مجتمع‬
‫متحضر تنسجم مع خصائصه االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -‬أ توجيه الثقافة‪ :‬يبدأ بن نبي في مسألة الثقافة من تحديد مفهومها الذي يراه مرتبطا بالسلوك‬
‫أكثر من ارتباطه باملعرفة‪ ،‬وهذا ما استنتجه من وجود تماثل في الرأي إزاء مشكالت الحياة عند‬
‫‪40‬‬
‫‪https://machahid24.com/eclairages/20881.html.‬‬
‫أفراد املجتمع الواحد‪ ،‬في حين أن اختالف السلوك يعد دليال على طابع الثقافة الذي يميز مجتمعا‬
‫ُخ‬
‫عن اآلخر‪ ،‬فالثقافة عنده هي مجموعة من الصفات ال لقية والقيم االجتماعية‪ ،‬وهي املحيط الذي‬
‫يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته‪ ،‬ويعكس حضارة مجتمع ما وخصائصه وتتشكل فيه كل جزئية‬
‫من جزئياته تبعا للغاية العليا التي يرسمها لنفسه‪ ،‬ولكي تقوم الثقافة بوظيفتها الحضارية البد من‬
‫تصفية العادات وجميع مناحي حياة املجتمع من عوامل االنحطاط القاتلة عبر طرح فكر جديد‬
‫يحطم األوضاع املتوارثة عن حقبة تقهقر املجتمع حتى يمكن وضعه في وضعية النهضة‪ ،‬ومن ثم‬
‫االتصال بمقتضيات املستقبل والتقدم نحو مدنية حديثة‪ ،‬وهذا ال يعني ضرورة وضع منهاج جديد‬
‫للتفكير مغاير لذلك الذي توصلت إليه البشرية‪ ،‬فهذا يحتاج إلى ثورة علمية قد ال نكون في استعداد‬
‫لها‪ ،‬وإنما يحتاج إلى تحديد محتوى الفكر الجديد من العناصر الضرورية والجوهرية للثقافة‪ ،‬التي‬
‫ّك‬
‫تغذي الحضارة كما يغذي الدم الجسم‪ ،‬وهي عبارة عن مر ب اجتماعي يحمل أفكار النخبة وأفكار‬
‫العاّم ة على حد سواء‪ ،‬بحيث تشكل العناصر الجوهرية للفكر الجديد دستور حياة املجتمع الذي‬
‫يجده بن نبي متكونا من أربعة عناصر هي‪:‬‬

‫‪ -‬األخالق التي تكّو ن الصالت االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -‬الجمال لتكوين الذوق العام‪.‬‬

‫‪ -‬املنطق العلمي الذي يفيد اإلنسان في استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من الوسائل‬
‫املستخدمة تفاديا لالفاعلية في العمل‪.‬‬

‫‪ -‬الفن التطبيقي املالئم لكل نوع من أنواع املجتمع‪ ،‬أو الصناعة بتعبير ابن خلدون‪ ،‬وهو ما‬
‫ندلل عليه بمفهوم التقنية أو التكنولوجيا في عصرنا هذا‪.‬‬

‫‪ -‬ب توجيه العمل‪ :‬ويتمثل في تسيير الجهود الجماعية وتركيزها في اتجاه واحد‪ ،‬فيضيف كل ذي‬
‫حرفة أو مهنة لبنة جديدة في البنيان الكلي للمجتمع‪ ،‬وهو تأليف إسهامات املجتمع لتغيير وضع‬
‫اإلنسان‪ ،‬ويقدم بن نبي الناحية التربوية للعمل على الناحية الكسبية التي تتطابق مع مفهوم تقسيم‬
‫العمل‪ ،‬ذلك ألن املجتمع الناشئ واملتدرج في طور الحضارة ينبغي له أن ال ينوء بأعباء تثقل كاهله‬
‫وال تتحملها إال املجتمعات التي بلغت مراحل متقدمة من التطور‪ ،‬ويصبح عندها كل جهد له أجر‬
‫يقابله‪ ،‬في حين أن العامل في املجتمع الناشئ عليه أن يشاطر مجتمعه سراءه وضراءه‪ ،‬فهو يرتبط به‬
‫أكثر من ارتباطه بصاحب العمل‪ ،‬وبهذا فإن توجيه العمل يجب أن يتبع منهجية واضحة كشرط عام‬
‫ذو أولوية‪ ،‬وبعدها يكون وسيلة خاصة لكسب املعاش وذلك ألن توجيه العمل حين يندمج مع‬
‫توجيه الثقافة وتوجيه رأس املال فإنه سيتيح مجاالت من املهن والحرف التي من شأن توسعها أن‬
‫تحّس ن من معيشة الفرد‪ ،‬وهكذا فإن املستوى املعيشي للمجتمع يرتفع بقدر التقدم الحاصل في‬
‫توجيه ثالثي الثقافة والعمل ورأس املال‪.41‬‬

‫ويرى بن نبي في هذا اإلطار أن اإلنسان يحمل في معادلته الشخصية معطيات تجربة اجتماعية تجعله‬
‫يتميز في مجتمعه عن اإلنسان في مجتمعات أخرى‪ ،‬وبذلك فإن تمثله النفسي لعناصر ثقافية معينة‬
‫يتلقاها من بيئته االجتماعية هو ما يتيح له امتالك عنصر الفعالية أو الحركة الدافعة من خالل‬
‫تنسيق حركي تآلفي للمقومات األولية (الفكر‪ ،‬اليد واملال)‪ ،‬والتي تشكل مجتمعة العمل املخزون‬
‫الذي يؤدي إلى نجاح الشخصية التي عن طريقها ينجح اقتصاد بلد معين‪ ،‬فعندما نجح االقتصاد‬
‫الروسي بعد الثورة البلشفية فليس ذلك لكون آالت جديدة بدأت تنتج في االتحاد السوفياتي بقدر ما‬
‫أن شخصية جديدة بدأت تنتج‪ ،‬أي تنسيقا جديدا لحركات العقل واليد واملال هو ما عكس تطور‬
‫االقتصاد السوفياتي‪.42‬‬

‫‪ -‬ج توجيه رأس املال‪ :‬يتحدث مالك بن نبي عن رأس املال بوصفه ظاهرة لها نتائج وانعكاسات‬
‫اجتماعية‪ ،‬فهو بذلك ال يذهب إلى ما ذهب إليه كارل ماركس من كون رأس املال آلة سياسية بيد‬
‫طبقة بورجوازية تسخرها من أجل اضطهاد طبقة أخرى هي البروليتاريا‪ ،‬وتندرج قناعته هذه في‬
‫إطار عقيدته الفكرية الراسخة بتمايز مشكالت املجتمع اإلسالمي عن مثيالتها في املجتمع األوربي‬
‫الختالف السياقات التاريخية في املجتمعين‪ ،‬وهو ينظر إلى رأس املال على أنه آلة اجتماعية تنهض‬
‫بالتقدم املادي‪ ،‬كما يميز بينه وبين الثروة التي توفر املكانة االجتماعية لصاحبها وترتبط باسمه وهو‬
‫يستخدمها في إطار حرفته املحلية بغرض سد حاجاته املحدودة‪ ،‬وتدّر له مكاسب غير متحركة وال‬
‫تدخل في الدورة االقتصادية‪ ،‬بينما يتميز عنها رأس املال بكونه منفصال عن اسم صاحبه‪ ،‬له قوة‬
‫مالية تتيح له تمويل الصناعة وتجارة التصدير واالستيراد وغيرها من املجاالت االقتصادية‪ ،‬بل‬
‫يتسع مجاله االجتماعي حسب حركته ونموه في محيط أكبر من الفرد ومن حاجاته الخاصة‪ ،‬إلى‬
‫محيط أوسع ينتقل فيه من بلد إلى آخر مقيما شبكة عالقات اقتصادية بين الدول‪ ،‬ليشكل قّو ة‬
‫ممّو لة‪ ،‬وهو من خالل تنقله هذا يخلق حركة ونشاطا ويوظف األيدي والعقول متعديا حدود‬
‫ميدانه الخاص إلى ميادين أوسع انتشارا وأعم فائدة لينشئ في تطوره هذا مفهوما اجتماعيا يسمى‬
‫الرأسمالية‪.43‬‬

‫خاتمة‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬شروط النهضة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.149 -146‬‬ ‫‪41‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬تأمالت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.59 -58‬‬ ‫‪42‬‬

‫مالك بن نبي‪ ،‬شروط النهضة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.154 -150‬‬ ‫‪43‬‬
‫استند املنظور الحضاري ملالك بن نبي في تناوله للظاهرة الدولية إلى جملة من االفتراضات‪ ،‬تمثل‬
‫الصلب أو القلب النظري الذي ينطلق منه هذا املنظور‪ ،‬وقد سبق وأن تناولناها بالتفصيل في متن‬
‫هذا البحث‪ ،‬وبغرض إبرازها يمكننا إجمالها في النقاط اآلتية‪:‬‬

‫‪ -1‬كل أسباب األحداث التاريخية البارزة تتم وفق نسق تاريخي‪ ،‬تقف فيه األسباب البعيدة خلف‬
‫األسباب القريبة‪ ،‬مضفية عليها بذلك تفسيرا ميتافيزيقيا أو كونيا‪ ،‬فعلى سبيل املثال تعود ظروف‬
‫تشكل الظاهرة االستعمارية إلى النقطة الزمنية التي حدث فيها تحّو ل تاريخي أفقد اإلنسان املستعَم ر‬
‫ّت‬ ‫ّل‬
‫مقدرته على التصدي ملستعِم ره أو التخ ص منه‪ ،‬إنها لحظة في التاريخ الغابر ا سمت ببداية التقهقر‬
‫وأفول الحضارة في مجتمع أسالف هذا اإلنسان‪.‬‬

‫‪ - 2‬أهم مرحلة في مراحل التطور التاريخي للمجتمع هي مرحلة املجتمع بعد التحضر –أي املجتمع‬
‫خالل تقهقره‪ ،-‬إذ يميز املؤرخون في العادة بين مرحلة املجتمع قبل التحضر ومرحلة املجتمع‬
‫املتحضر فقط‪ ،‬ويذهلون عن مرحلة املجتمع بعد التحضر‪ ،‬فيبدو لهم املجتمع أثناءها مواصال‬
‫ملسيرته الحضارية‪ ،‬وهذا اللبس هو الذي يؤثر سلبا على عملية طرح وتناول مشكالت البالد‬
‫املتخلفة‪ ،‬وبالتبعية على مسألة إيجاد حلول لها‪.‬‬

‫‪ -3‬أّي مجتمع وهو يخطط لبناء حضارة ال ينبغي عليه التفكير في منتجاتها‪ ،‬وإنما في هذه العناصر‬
‫الثالثة‪ :‬اإلنسان والتراب والوقت‪ ،‬وحينما يتوصل إلى حّل لهذه املشكالت الثالث‪ ،‬فإنه يكون قد‬
‫توصل إلى بناء أفضل مجتمع‪.‬‬

‫‪ - 4‬السبب األول في مشكالت املجتمعات اإلنسانية هو فقدانها ملفهوم املجتمع املتحضر‪ ،‬الذي إذا‬
‫افتقده اإلنسان فإنه سيكون معرضا للحرمان من الضمانات االجتماعية‪ ،‬ولبناء مجتمع أفضل‬
‫ينبغي النظر في أسلوب الحضارة التي بتحقيقها يكون اإلنسان قد ضمن جميع شروط الحياة‪.‬‬

‫‪ -5‬البناء وحده هو الذي يؤدي إلى املجتمع املتحّض ر‪ ،‬وال يحصل ذلك بتكديس منتجات حضارة‬
‫ُت‬
‫أخرى مستوردة‪ ،‬فمن املستحيل أن صنع حضارة بمنتجات غيرها من الحضارات‪ ،‬فاملجتمع‬
‫املتحضر هو الذي هي التي يصنع منتجاته وليس العكس‪.‬‬

‫‪" -6‬الّن مو االقتصادي"‪ ،‬هو ظاهرة جزئية في سياق النمو العام للحضارة الغربية داخل املكان‬
‫والزمان‪ ،‬وهو يمثل املظهر املادي لهذه الحضارة ويعبر عن الظاهرة الكلية املتمثلة في "حضارة أوربا‬
‫"‪ ،‬التي تجسد الرحم الذي تتولد عنه كل جزئية من تفاصيل النمو األخالقي واالجتماعي لإلنسان‬
‫املنتمي إلى رقعتها الجغرافية‪.‬‬
‫‪ -7‬الحضارة هي مجموع الشروط األخالقية واملادية التي تتيح ملجتمع معين أن يقدم لكِّل فرد من‬
‫َة‬
‫أفراده‪ ،‬في كِّل طور من أطوار وجوِد ه‪ ،‬منذ الطفولة إلى الشيخوخة‪ ،‬املساعد الضرورية له في هذا‬
‫الطور أو ذاك من أطوار نموه‪.‬‬

‫‪ -8‬االختالف الجوهري بين املجتمعات املعاصرة يكمن في ما يطبع النشاط االجتماعي من فاعلية‬
‫تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر‪ ،‬حيث تعّد الفاعلية مقياسا للمستوى التاريخي للمجتمعات‪،‬‬
‫فهناك مجتمعات أكثر فاعلية من غيرها‪.‬‬

‫‪ -9‬ينطلق بن نبي في مسألة توجيه الفرد‪ /‬اإلنسان من سعيه إليجاد حل ملشكلته بوصفه وحدة‬
‫أساسية لبناء املجتمع‪ ،‬ذلك أنه يؤثر في املجتمع عبر ثالث مؤثرات‪ ،‬بفكره أوال ثم بعمله ثم بماله‪،‬‬
‫ومن هنا فقد توصل بن نبي إلى ضرورة توجيه الفرد في هذه املؤثرات حتى يستكمل الشروط‬
‫الضرورية لبناء مجتمع متحضر ينسجم مع خصائصه االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -10‬ال يكتمل التحليل النفسي –االجتماعي الذي انتهجه بن نبي إال في إطار األهداف العامة للمجتمع‬
‫التي تحددها الفكرة املتمركزة حول تطوره وُر قّي ه‪ ،‬وهي تتمثل في الدين و‪/‬أو اإليديولوجيا‪ ،‬ما يتيح‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫لهذه الفكرة العامة بأن تقوم بدورها كمحرك للمجتمع فتكون دافع له‪ ،‬ومرِّك ب للقيم االجتماعية‪،‬‬
‫يجعلها تتحول من حالتها الطبيعية إلى وضع نفسي زمني‪ ،‬وتصنع من اإلنسان العضوي وحدة‬
‫اًل‬ ‫ُت‬ ‫ّك‬
‫اجتماعية‪ ،‬وتش ل من الوقت وقًت ا اجتماعيا مقدرا بساعات عمل منتج‪ ،‬و نتج من التراب مجا‬
‫مجهزا ومكيفا تكييفا فنيا يلبي ضروريات الحياة االجتماعية املتعددة‪.‬‬

‫‪ -11‬القابلية لالستعمار كما صاغ بن نبي مفهومها ال تعكس عالقة املستعِم ر باملستعَم ر حال وجوده‬
‫على أرضه بقدر ما تجسد حالته النفسية وقد فقد مقوماته الحضارية حتى بدون احتالله ألرضه‪.‬‬

‫‪ - 12‬السياسة الدولية سيطرت عليها "إرادة القوة"‪ ،‬التي تعتبر قانونا للنفسية الغربية التي تتسّي د‬
‫الحضارة اإلنسانية‪ ،‬هذه اإلرادة ما هي إال تجلي لالنحطاط األخالقي للحضارة الغربية‪ ،‬والذي‬
‫ينعكس على اإلنسان غير الغربي من خالل ما يسميه بن نبي ب ـ "الحالة االستعمارية" ‪.‬‬
‫ُت‬
‫‪ -13‬أّي منظمة دولية لن تصل إلى تصفية مشكلة االستعمار دون أن خضع عنصرها الجوهري‬
‫لتحكيم أخالقي في النزاع بين املستعِم ر واملستعَم ر‪ ،‬ولن يتأتى ذلك إال بمساعدة الطرفين على‬
‫التخلص من مرض االستعمار والقابلية لالستعمار‪.‬‬
‫َش‬
‫‪ -14‬عالج مشكلة االستعمار ينبغي أن يبا ر فيه من عناصرها النفسية بغرض بناء عقلية عاملية‬
‫جديدة تخلق نوعا من القاسم املشترك في جميع املشكالت الثائرة بين الشعوب‪ ،‬وعلى هذا األساس‬
‫فإن الحل يجب أن يفضي إلى الفصل الضروري بين املستعِم ر واملستعَم ر (عبر االستقالل)‪ ،‬على أن‬
‫ُي تبع باالتصال الضروري للدولتين االستعمارية واملستقلة اللتين فرقت بينهما ظروف االستعمار‬
‫والقابلية لالستعمار‪.‬‬

‫‪ - 15‬اإلشكال األساس الذي تسبب في نشوب الحرب الباردة وما تالها من تداعيات هو غياب الحوار‬
‫بين دول املعسكرين الشرقي والغربي‪ ،‬اللذان آثرا أن يصّم ا آذانهما ويستسلما إلى منطق القوة‬
‫العسكرية واستعراضها واستخدامها خارج نطاقهما الجغرافي‪.‬‬

‫‪ -16‬البلدان األفروأسيوية (املتخلفة حضاريا) فرضت‪ -‬عبر مؤتمر باندونغ وحركة عدم االنحياز‪-‬‬
‫حوار ا جديدا على نقيض من الحوار بين الواليات املتحدة واالتحاد السوفياتي (القوى الكبرى)‬
‫يرتكز إلى قوة غير صلبة‪ ،‬يسميها بن نبي قّو ة (عدم العنف)‪ ،‬وهي قانون سياسي قائم على قيم‬
‫أخالقية‪ ،‬منذ االنتصار األخالقي الذي حققه غاندي ضد االستعمار البريطاني‪ ،‬تحّو ل فيما بعد إلى‬
‫قوة سياسية عاملية‪.‬‬

‫‪ - 17‬مبدأ "عدم العنف" الذي تبنته البلدان األفرو أسيوية هو الذي وضع لها موطئا داخل املحفل‬
‫الدولي‪ ،‬وفسح لها املجال لصناعة التاريخ بعد أن كانت على هامشه‪ ،‬مجرد شعوب ال يؤبه بها‪ ،‬إلى أن‬
‫أصبحت مع تبنيها لهذه الفكرة‪ -‬املبدأ داخل األحداث‪ ،‬وبوسعها تغيير األوضاع الدولية‪ ،‬وهو مبدأ‬
‫يستند للشروط األخالقية لحضارة ال تكون بالضرورة تعبيرا عن القوة الصناعية‪ ،‬بل تفرض دورا‬
‫دوليا قائما على ندّي ة الشعوب األفرو أسيوية للقوى الكبرى‪ ،‬وحريتها في اختيار طريقها الخاص‬
‫بوسائلها املناسبة وقناعتها بأن هذا االختيار يتيح لإلنسانية فرصة جادة لتفادي الحرب‪.‬‬

‫‪ -18‬يطرح مالك بن نبي فكرتي التضامن األفروأسيوي و "قوة عدم العنف"‪ ،‬كدبلوماسية سلمية‬
‫مشتركة بين الدول الضعيفة (اإلفريقية واألسيوية) للضغط على القوى الكبرى املتصارعة بغرض‬
‫ثنيها عن ممارساتها القائمة على الهيمنة والتسبب في حروب الوكالة التي جّر ت الويالت على الشعوب‬
‫اإلفريقية واألسيوية‪ ،‬حيث يرى بن نبي أن هذا النمط من الدبلوماسية كفيل بوضع حد ملمارسات‬
‫القوى الكبرى‪.‬‬

‫‪ -19‬التضامن السياسي الدولي بين الدول الضعيفة‪ ،‬أّس س لسلوك جديد في النضال السياسي‬
‫العالمي تبنته القوى اإلفريقية األسيوية‪ ،‬حيث كان نضالها هذا بمثابة حركٍة معاِر ضة في وجه محور‬
‫واشنطن– موسكو املهيمن على العالم‪.‬‬

‫في ختام هذا البحث يمكننا من خالل ما تناولناه من منطلقات معرفية للمنظور الحضاري ملالك بن‬
‫نبي‪ ،‬وما استنتجناه من مرتكزات أساسية لبنائه املعرفي‪ ،‬من الناحية التنظيرية في حقل العالقات‬
‫ًة‬
‫الدولية‪،‬أن نخلص إلى أن بن نبي قّد م من خالل منظوره الحضاري نظري سوسيوتاريخية معيارية‬
‫دولية‪ ،‬اعتمد فيها على املنهج التاريخي في استقراء الوقائع التاريخية وإسقاطها على حاضر اإلنسان‬
‫ّظ‬
‫ومجتمعه‪ ،‬وربط أسباب حدوثها بمتغيرات اجتماعية‪ ،‬كما أنه و ف مفهومه للحضارة بغرض‬
‫تفسير التفاوت بين املجتمعات املتفوقة حضاريا واملجتمعات املتخلفة‪ ،‬وأرجع عوامل الظاهرة‬
‫االستعمارية في جوهرها إلى كونها انعكاسا للترّد ي النفسي‪-‬االجتماعي للشعوب املستعَم رة‪ ،‬وفي جانبها‬
‫الخارجي الذي اعتبره عامال ثانويا إلى متغيرات معيارية تستند إلى االنحطاط األخالقي للحضارة‬
‫الغربية التي سلطت آلتها العسكرية والثقافية الستعمار بلدان العالم الثالث‪.‬‬

‫لقد تناول بن نبي الظاهرة الدولية ضمن مجال معرفي أشمل من حقل العالقات الدولية‪ ،‬حيث أنه‬
‫استند إلى أدوات علم االجتماع من منطلق فلسفي تاريخي استقرائي‪ ،‬وأيضا في بعده العالمي الكوني‪،‬‬
‫من خالل تركيز نظره على ما ينشأ بين الشعوب واملجتمعات والبلدان من تفاعالت صراعية‬
‫(االستعمار) وتعاونية (التضامن األفروأسيوي)‪ ،‬واختالفات نفسية واجتماعية وتفاوت حضاري في‬
‫مختلف ميادينه الفكرية واالقتصادية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬لنستشرف بذلك‪ ،‬ومن خالله‪،‬‬
‫إطارا معرفيا قد يؤسس مستقبال لعلم اجتماع دولي؛ يأخذ على عاتقه مأل الفراغ الذي تشكل على‬
‫إثر الجدل املحتدم في حقل العالقات الدولية بين النظريات الكبرى طوال قرن من الزمن‪.‬‬

You might also like